وتكونون لي شهوداً
الأب يوحنا عيسى"وتنالون قوة من الروح القدس لتكونوا لي شهوداً"، وردت هذه العبارة في سفر أعمال الرسل حيث يسأل التلاميذ الرب يسوع عن زمن استعادة الملك إلى إسرائيل فيجيبهم يسوع قائلاً:"ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي حددها ألآب بذات سلطانه. ولكن الروح القدس ينزل عليكم فتنالون قوة وتكونون لي شهوداً في أورشليم وكل اليهودية والسامرة، حتى أقاصي الأرض"، ذاك هو "مكان" شهادة الرسل.
وفيما أدع المقطع الأول من هذا المحور، سأتطرق إلى المقطع الثاني ألا وهو " وتكونون لي شهودا". فأتحدث، في القسم الأول من هذا المقال عن التلاميذ بمثابة شهود يسوع المسيح. أما في القسم الثاني، فسأتناول الكلام عن المؤمنين وبالذات الشباب اليوم، كونهم شهود يسوع المسيح الحي في عالم اليوم
01 التلاميذ الأولون شهود يسوع المسيح أمسثمة أناس كثيرون شهدوا يسوع المسيح. والمقصود بعبارة "شهد" رأى، سمع. فالشاهد هو من شهد أي رأى وسمع ومن ثم أخبر بما رأى وسمع.
أجل شهدوه، وهو يعيش بين ظهرانيهم، يعمل، يعلم، يصنع العجائب والآيات لأهل زمانه. يقول يسوع لمعاصريه:"حينئذ تقولون: لقد أكلنا وشربنا أمامك، ولقد علمت في ساحاتنا. فيقول لكم: لا أعرف من أين أنتم، إليكم عني يا فاعلي السوء جميعاً!" (لوقا 13/ 26-27).
وبهذا المعنى أيضاً، شهده التلاميذ. فإذا هو إنسان مثل سائر الناس. يأكل ويشرب، يفرح ويحزن، يسير وينام، يغضب ويتعب.كما انهم شهدوه أيضاً وهو يصنع الخير لأهل زمانه، هذا الخير المتمثل بالعجائب والآيات التي اجترحها يسوع، مما قاد هؤلاء التلاميذ إلى اكتشاف ما في هذا الإنسان من اختلاف: اختلاف في شخصه، اختلاف في أسلوب حياته واختلاف في طريقة تعليمه، الأمر الذي أثار إعجاب واستغراب التلاميذ ومعاصريه على حد سواء.
ولكن لا يمكننا اعتبار هؤلاء الناس معاصري يسوع شهوداً له، بمعناه الخاص، ذلك أن الشاهد يجب أن يكون قد تتلمذ ليسوع وكان شاهداً لقيامته.
أما الاثنا عشر، وهم شهود القيامة، فقد أقامهم الرب يسوع شهوداً له بقوله لهم:"وتكونون لي شهوداً". ومن الجدير بالذكر والملاحظة ان هذا التكليف- وهو أمر أساسي للغاية لفهم هذا النص، يأتي على أثر القيامة وبعد أن أنهىوا مرحلة التلمذة وآمنوا بالقيامة.
فمن المعروف ان يسوع قد دعا، قبل القيامة، اثني عشر شاباً للتتلمذ له. وقد اختارهم مختلفين، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. فقد كانوا مختلفين في الطبائع، مختلفين في الاتجاهات الفكرية والسياسية وكذلك مختلفين في الطبائع والنفسيات. ولكنه جعل من هؤلاء واحداً إذ بناهم على وحدة المحبة والإيمان:"أحبوا بعضكم بعضاً" وآمنوا بالله وآمنوا بي"
ولقد لبى هؤلاء الشباب دعوة يسوع بالالتحاق والالتصاق به. فدخلوا في مدرسته حيث أمضوا فيها ثلاث سنين أعدهم يسوع فيها للرسالة التي كانت تنتظرهم، هذه الرسالة التي يأمرهم بها، إبان إحدى الظهورات، لحملها إلى العالم أجمع. وبهذا الأمر الصادر من الرب يسوع، يحولهم من تلاميذ إلى رسل. فالمرء يبقى تلميذاً طالما لم يرسله الرب.
وفي مدرسة يسوع هذه، أصغوا إلى هذا المعلم وهو يكلمهم عن الله وعن صفاته: عن محبته، عن طيبه، عن حنانه، عن غفرانه وعن رحمته. أصغوا إليه وهو يكلمهم عن هذا الأب وملكوته وعن متطلباته وضرورة الدخول فيه عبر الإيمان والتوبة والولادة الجديدة. كما أصغوا إليه وهو يكلمهم عن ضرورة إتباعه في حمل الصليب، صليب الحب وليس صليب الخشب أو الذهب، هذا الصليب الذي سيحملونه هم أيضاً، على غرار معلمهم وسيدهم يسوع المسيح.
لقد كان هذا الإصغاء، ولاشك، طريقاً إلى قبول يسوع وقبول كلام الله والعمل به في حين ان ثمة أناس رفضوه كما رفضوا كلامه، هذا الرفض الذي انقلب إلى عناد.
وبهذا يشبه هؤلاء التلاميذ ذاك الرجل الحكيم الذي بنى بيته على الصخر بعكس أولئك الذين يسمعون كلامه ولا يعملون به فيشبهون ذاك الرجل الذي بنى بيته على الرمل.
كما ان هذا التكليف يأتي على أثر إيمان التلاميذ بقيامة الرب يسوع، هذا الحدث الذي كشف هوية يسوع المسيح الحقيقية والكاملة كونه الرب، المسيح، المخلص وليس فقط يسوع أو ذاك الرابي الذي كان يعلم، وبالتالي غير نظرة الرسل إلى المسيح تغييراً جذرياً.
صحيح ان التلاميذ لم يروا يسوع بعيون الجسد وهو يقوم من بين الأموات, لا ولا رأوه بهذه العيون إبان مختلف الظهورات. وكم تمنوا أن يروه قائماً هكذا، الأمر الذي جعلهم يترددون طويلاً في الإيمان بالقيامة. إلا أنهم توصلوا إلى معرفة الرب يسوع القائم عن طريق الإيمان الذي إن هو إلا رؤية من خلالها رأى التلاميذ المسيح قائماً وذلك عبر الإيمان. وهكذا أدرك التلاميذ بأن معرفة الرب يسوع تتطلب منهم عين الإيمان وليس عين الجسد.
لهذا الإيمان شهد الرسل، بقوة وشهادة الروح القدس، للعالم آنذاك، هذا العالم الذي كان مكوناً من اليهود والوثنيين.
02 التلاميذ شهود يسوع المسيح اليوم.وما يقال عن الشهود أمس، يقال أيضاً عن الشهود اليوم. فما زال يسوع المسيح يقيم من كل المؤمنين وبالتالي من كل الشباب شهوداً له بقوله لهم:"وتكونون لي شهوداً". وهذا إن دلّ على شيء، فإنما يدل على أن شخص يسوع المسيح وليس شيئاً أو شخصاً آخر يشكل محور شهادة التلاميذ.
أجل يشهد التلاميذ، وبالتالي الشباب اليوم، وهم شباب المسيح، لشخص يسوع المسيح: يشهدون لإنسانيته وما في هذه الإنسانية من سعة أفق مدهشة ومذهلة في التفكير والقلب. ويكفي مثل السامري الصالح ليدلل على هذه السعة في الأفق. وكذلك يشهدون لإلوهيته وهو الكلمة المتجسد الذي إنما جاء ليكشف الله الأب ومحبة "الابن الوحيد الذي في حضن ألآب هو أخبر" )يوحنا 1/18).
ويشهد التلاميذ لأحداث حياته من الميلاد والعماد والتجلي والصلب ولاسيما القيامة، هذا الحدث المركزي والمؤسس الذي حمله التلاميذ بشرى إلى العالم آنذاك معلنين ان المسيح "قام ... حقاً قام". وقد صاروا شهوداً لهذا الحدث. وما الاثنا عشر، قبل كل شيء، إلا شهود لقيامة الرب يسوع.
وكذلك يشهدون لصفاته: لمحبته، لجرأته، لشجاعته، لصراحته، لصدقه ولرباطة جأشه. وأخيراً يشهدون لقيمه ومبادئه المرتكزة على المحبة والسلام والحق والحقيقة والحنان والرحمة.
وهنا يطرح السؤال ذاته: ترى، لماذا على التلاميذ وبالتالي على الشباب أن يشهدوا للمسيح؟ وجواباً على هذا السؤال نقول بأن على التلاميذ أن يشهدوا للمسيح ليس فقط لأنهم يؤمنون به ويكنون له كل الحب، وإنما لكيما يعرفه العالم ويؤمن به ويحبه كما هو يحب العالم، من أجل أن يتخذه مخلصاً، معلماً، نموذجاً ومثالاً يقتدي ويحتذي به. ان العالم المتخبط اليوم في الظلمة والصراعات والنزاعات والحروب يحتاج إلى مثل هذا المثال وهذا النموذج.
ومن المعروف ان شهادة المؤمنين وبالتالي الشباب تتوجه إلى العالم بأسره. وأعني بذلك إلى كل أولئك الذين هم في داخل الكنيسة وهم ليسوا دوماً بالشهود الحقيقيين. كما أنها تتوجه إلى من هم خارجها سواء كانوا مؤمنين أم لا.
ولكي يصدق العالم هؤلاء الشهود، عليهم أن يعيشوا المسيح، كل المسيح، وأن يعايشوا الإنجيل، كل الإنجيل وليس فقط جانباً أو زاوية من زوايا الإنجيل بحيث يرى الناس فيهم المسيح حياً وحاضراً وكذلك يرون الإنجيل حياً فيهم.
وبوسع التلاميذ أن يعايشوا المسيح في الحياة اليومية من خلال معايشتهم لصفاته وقيمه ومبادئه. وكذلك يعايشوه في الليتورجيا حيث يدور محورها حول شخص يسوع وحول أحداث حياته: الميلاد، العماد، التجلي، الصلب والقيامة.
ومتى ما عايش التلاميذ يسوع المسيح حملوه في داخلهم، ومتى ما حملوه في داخلهم، إذ ذاك استطاعوا أن يحملوه إلى الخارج. وأدوا الشهادة له. تلك هي ميزة المسيحيين وبالتالي الشباب، إذ هم وحدهم قادرون على حمل المسيح وإعطائه للعالم، كما حملته مريم وأعطته للعالم.
وبوسع المؤمنين وبالتالي الشباب أن يؤدوا هذه الشهادة بطرق ثلاث: بالحياة والكلام والدم.
الشهادة بالحياة أي الشهادة التي تتجسد فعلياً وعملياً في المواقف والتصرفات والأحكام والأفعال والأعمال، بكلمة، تلك التي تنعكس في السلوكية كلها. وهكذا يكون المسيحيون شهود المسيح، شهود قيامته من بين الأموات، شهود انتصار الحياة على الباطل. وهكذا ينبذ المسيحيون في حياتهم الكذب والرياء والخداع والحق والكراهية والخيانة، ويعيشون في الصدق والإخلاص والمحبة. وهذه الشهادة هي أصدق وأبلغ من ألف كلام أو مقال أو كتاب.
الشهادة الثانية هي شهادة الكلام. وتبتدئ بالأجوبة إلى أسئلة أولئك الذين يسألوننا عن إيماننا بصورة صحيحة. لذا على المسيحي أن يتسلح بالثقافة لئلا يبدو ضعيفاً وعاجزاً. كما ان قناعاته ينبغي أن تبدو قادرة على تعبير الواقع وإنارة تصورات الآخرين ومفاهيمهم. كما تشمل استخدام الوسائل الإعلامية الحديثة، مثلاً، وكافة تقنيات الاتصال (الصحافة، النشر، الوسائل المسموعة والمرئية) لإيصال البشرى الإنجيلية. وهناك المشاركة الفعلية والمباشرة في أنشطة التثقيف المسيحي والتنشئة الدينية وتهيئة الموعوظين والمساهمة في خدمة الكنائس الأخرى على طريق الدعوات الكهنوتية والرهبانية والعلمانية المختصة.
أما النوع الثالث فهو الشهادة بالدم. والمقصود به الاستعداد لتحمل الضيق والاضطهاد وحتى الموت، إذا اقتضى الأمر، في سبيل الإيمان بالمسيح، كالشهداء الذين بذروا الحياة بدمائهم. لأن المسيحي ليس من علم وعاش وحسب، وإنما من تألم أيضاً من أجل المسيح. ولكني أتجاوز ذلك فأقول: ليست الشهادة قبول الموت الطبيعي في سبيل المسيح حسب، بل هي الموت الدائم أيضاً... عن النفس، عن الخطيئة، عن الأنانية، عن الكبرياء، عن الاستعلاء، عن الاستغلال، عن الجشع، عن الطمع. إنها النضال أيضاً من أجل الحق باسم يسوع وإنجيله. فهو، بالنسبة إلى المؤمن بالمسيح، لاسيما إذا أوصل هذا النضال صاحبه إلى تحمل الأذى والقمع، أو الموت، في جسده ونفسه، شهادة واستشهاد حق.