الحرب ... والاصدقاء .. والضياع ج/ ٢ - ٢
هذا هو الجزء الثاني
كانت خالة فيوليت في حالة غير اعتيادية تبدو مرعوبة لقد عرفت هذا السيّدة تقريباً العمر كله ولكني لم أراها بهذا المنظر من قبل
قلت : خالة فيوليت ماذا جرى واين ثامر
أجابتني وهي تبكي وبصوت يجرح القلب ويهدم الروح
وقالت : انه في غرفته اصعد ياابني عنده وانا سأغسل وجهي وقد طبخت الدولمه لكم
قلت : واين عمو جرجيس
قالت : انه في العمل وهو مشغول وزعلان ومكسور القلب بسبب ثامر
ادركت أن الامر صعب وتوجهت الى الطابق العلوي من الدار حيث غرفة ثامر وأنا قلق ومتردد وحاىر .
فتحت باب الغرفة بهدوء ودخلت وكان ثامر في فراشه ولم يعلم انني موجود .
قلت : ثامر انهض يارجل فأنا هنا والوالدة قد طبخت دولمة مصلاوية وانت غارق في النوم
فتح عينه وابتسم لكن ابتسامته كانت غير اعتيادية ولا تشبه أيامنا السابقة
وقال : اتمني أن نخرج قليلاً وناكل خارج البيت
قلت : انت مجنون انها دولمة ومصلاوية وتريدني أن لا أكل هنا
قال : أرجوك افهمني أنا اريد ان أتنفس وأتجول في شوارع الكرادة والمسبح
قلت : حسناً ياملعون لقد حرمتني من اكلتي ولكن انا لا أنسى ها .. ها وقلت له سأنتظرك تحت
قال : اعطيني عشرة دقايق
نزلت تحت وكانت خالة فيوليت في المطبخ مشغولة
قلت : خالة لاتتعبي نفسك سنخرج قليلاً فثامر يريد ان يتمشى قليلاً
تركت كل شى من يدها وبسرعة وبصوت خافت
قالت : اسمع يابني يجب ان تساعدني فانت لنا بمحبة ومعزة ثامر والرب يعلم هذا
يجب أن يغير ثامر أفكاره الاخيرة ويعود الى الكلية ( الادارة والاقتصاد ) فهذا ما نريد له انا وزوجي ولكن منذ أن زارني اخوتي من الموصل وتحدثوا معه اصبح معجباً ومحباً للحياة العسكرية .
وقالت : أن اخي ناجي ضابط برتبة عقيد واخي صبحي ضابط برتبة نقيب وانت تعلم أهل الموصل ومحبتهم للحياة العسكرية
قلت : نعم اعلم ذلك
قالت : لقد نصح اخوتي ابني ثامر ان يدخل الكلية العسكرية ويتخرج ضابط ويكون له في المجتمع والدولة وزن وهيبة واسم محترم
وقالوا له ماذا ستفعل بالتجارة والإدارة .
وقالوا له : أن الرجال قد خلقهم الله للملابس العسكرية والمستقبل كله هو للجيش
وقالوا له : سنكون فخورين ان تكون ضابط وترفع اسمنا فانت جذورك من الموصل وهكذا يجب أن تكون ونحن سنكون معك في كل خطوة وفي كل ما تحتاج .
وقالت : أن اخواني وثلاثة من اولاد أعمامي وخالي في الموصل كلهم ضباط في الجيش لهذا أنا وعمو جرجيس قررنا ترك مدينة الموصل منذ سنوات وأتينا الى بغداد كي ابعد ابني عن الحياة في الموصل
وإن يتعلم مهنة زوجي لأنها بسيطه وزوجي يملك محلات بيع الأقمشة وحياتنا جيدة ومستقبلنا ومستقبله مضمون والحمدلله.
كانت وهي تتكلم وأنا كانني في حلم مخيف وفي دنيا اخرى ومع ناس مختلفين هذا العائلة الراقية المحترمه التي تعيش بحب ومودة مع البعض والتي عشت عمري حولهم كيف ياربي تتبدل أمورها هكذا .
قلت لها : لا اعرف ماذا أقول لك أن ما اسمع غير معقول كيف حدث هذا التغير وبهذا السرعة
قالت : أن اخواني رجال ذو شخصية حديدية ويعرفون ويعلمون كيف يتكلمون ويسرقون قلبك وعقلك وعطفتك فهم في مهمة ويبحثون ويجندون ضباط من مجتمعنا لان القيادة تؤمن وبشدة وبقوة بأهل الموصل .
قلت : هكذا إذن
قالت : نعم وقد اعطوه وعداً بالمساعدة في دخول الكلية العسكرية
وهنا توقفنا عن الحديث بعد أن سمعنا صوت اقدام ثامر وهو متوجه نحونا
وقال : وهو لا ينظر في وجه أمه سنخرج قليلاً
قالت خالة فيوليت : يابني انت تعبان وصديقك هنا وأنا قد طبخت لكم وأتمنى أن تبقوا معي كي اتسلى معكم ونتحدث
قال : وبصوت هادي انني بحاجة كي اخرج
قالت : إذن ليكون الرب معاكم وصلواتي لأمنا مريم كي تحفظكم
خرجنا من البيت وقررنا ان نتمشى الى مطعم السندباد في منطقة المسبح ونتكلم بحرية
قلت له : هذا اول مرة اراك تتكلم مع أمك وانت لا تنظر في وجهها
قال : انا احترم وأحب وأقدس أمي وابي ولكن هذه الأيام علاقتنا أصبحت متوترة وكلما اتحدث مع أمي تبكي فلم أستطيع النظر في وجهها قبل قليل .
قلت : وسمعت انك قررت ترك الكلية فبماذا تفكر يارجل
قال: اسمعني جيداً فانت وآشور وفريد وانطون اخواني وانا احبكم ولكن انت الأقرب الى عقلي وقلبي
قلت : إذن اشرح لي وانا استمع
قال: أنا وكما تعلم كنت أحب أن ادخل كلية التربية الرياضية ولكن لم يحدث وحياة التجارة لا تعجبني أنا ابحث عن شغلة رياضية فيها حركة فيها قوة فيها مرونة ومراوغة وخفة وتدريبات بدنية خاصة .
قلت : وما هي هذا الشغلة ياستاذ
قال : انها الكلية العسكرية فأنا ساجد كل ما اريد وكل ما أتمنى فيها وخالى ناجي أعطني وعداً ان يقبلونني وانا فعلاً قد ذهبت وسجلت اسمي وتطوعت وسوف التحق بعد أربعة ايام .
قلت : هل انت مجنون ولماذا وكيف
وقلت : أن البلد في حالة حرب والاوضاع أصبحت مخيفة وكل ما نتمناه هو الخلاص والبقاء احياء في هذه الفترة وقرارك هذا سخيف وغير مقبول وغير منطقي وانت بهذا تجرح شعور وأماني أمك وأبوك
وقلت : اسمع ياصديق العمر ان الوعود من خوالك لا تهمني ولا اعترف فيها
ولكن كلمة من عمو جرجيس وخالة فيوليت حول مستقبلك لا أبدلها بكل الحياة العسكرية
فانت اخي وأنا كما تعلم اكره الحرب وضياع. مستقبلنا وحرق طاقتنا وموت شبابنا فيها .
قلت : اننا في بداية الحرب ياستاذ وما عملته هو الانتحار بعينه ويبدو ان هذه الحرب التي لا اعترف فيها أصلاً ستطول وستحرق الأخضر واليابس وانت تفكر بالتطوع .
وقلت له : بربك هل تكلمت مع انطون بهذا الموضوع
قلت هذا وهو لم يرد بكلمه او بحرف
فكنت اريد ان اعرف هل تدخل انطون في قرار التحاق ثامر بالجيش
وكنا قد وصلنا الى مطعمي المفضل ( السندباد ) واشترينا الهمبرغر وجلسنا نأكل ولم نتكلم ولا بحرف واحد وكنت أنا انظر اليه دون أن يعلم كي ارى تفاصيل وجهه وكي ارى هل اصابت كلاماتي عقله وهل ستنفذ عباراتي في قلبه
وهو لم يرفع راْسه حتى للحظه وينظر في وجهي .
تابعنا المسير وفي طريقنا الى البيت كنّا لا نتكلم وهو يضع يداه في جيبه وينظر الى السماء وكأنه يطلب ويصلى
وأنا على نار اريد ان اعرف ماذا سيكون القرار ولكن تركته يفكر وبعد نصف ساعة ونحن نتمشى حاولت تغير الموضوع
وقلت : لنذهب ونلعب كرة المنضدة ونتسلى قليلاً ونأخذ فريد وآشور ونذهب الى بيتنا ونشرب الشاي الاثوري المعروف
قلت هذا لأنني اعلم انه لا يريد الذهاب الى بيتهم ولا يريد ان يواجه أمه وابوه .
وفعلاً عجبته الفكرة وقلت في نفسي اشكرك يا رب فقد سكت ثامر دهراً ونطق خيراً
وبعد أن سهرنا معاً كان ثامر قلق وغير مرتاح عكس طبيعته
ثم قال :لابد أن اذهب الى البيت
وقلت له : اراك غداً ولكنه وهو يبتعد عن بيتنا لم يرد ولم ينظر في وجهي الا انه رفع يداه للتحية
هنا علمت انه في ورطة وانه يعلم ألان انه قد استعجل وتطوع في الجيش
ومن يدخل ويسجل اسمه في الكلية العسكرية صعباً جداً ان يتراجع ويترك الدوام وهنا كانت المصيبة .
مرت الأيام والتحق ثامر وتخرج ضابط في صنف الدروع
وكان يأتي في إجازات ونكون معاً
ولكن أمه وابوه كانوا في حالة غير جيدة وغير طبيعية وغير مريحة ولم يتقبلوا ولو ليوم واحد دخول واختيار ابنهم الوحيد هذه الطريق الصعب .
وفي احد ايام الصيف وكنت راجعاً الى بيتنا من العمل حيث كنت الوحيد الذي يعمل من بين اصدقاءي وذلك بسبب وفاة والدي
رأيت اشور ينتظرني على راس الشارع فخفت كثيراً وتسارعت دقات قلبي وكأنني او احد أفراد عائلتي في خطر او شى قد حصل او سيحصل وهو ينتطر كي يبلغني رسالة او خبر
قلت : لماذا انت هنا وماذا تريد ( خون ) ياأخي
قال : اسمع واصبر ولا تتكلم فنحن في الشارع وانت معروف والجميع مراقب
قلت : تكلم
قال : و بصوت خافت ثامر
قلت : ماله
قال : لا تتكلم بصوت عالي وانتبه اننا في الشارع سنذهب الى بيتكم ولكن من الشارع الثاني ونتكلم
قلت : حسناً
ونحن نسير وبعد أن غيرنا الطريق الى بيتنا
قال : ان ثامر قد استشهد ؟
قلت : ماذا وكيف
لم أتمالك نفسي حاولت ان اصرخ واصرخ واركض واذهب بعيداً واختفي كي ابكي لوحدي لكن اشور كان ماسكاً بيدي
ويقول : أنتبه لا تتصرف بصورة غير اعتيادية
وصلنا الى بيتنا وكانت أمي وأختي وبعض الجيران يبكون جلست معهم لمدة نصف ساعة وأنا حزين وصورة ثامر وايامنا وذكرياتنا في بالي
صعدت الى غرفتي ونظرت الى صورنا ونحن صغار في المتوسطة والإعدادية والفرق الرياضية
وصليت طالباً له الرحمة وبكيت كثيراً لوحدي
حضرنا الصلاة على روحه الطاهرة في كنيسة القلب الاقدس الكلدانية المعروفة
وكانت خالة فيوليت وعمو جرجيس جالسين صامتين مكسورين متحطمين روحياً وجسدياً في الصف الاول مع بعض الاقارب وكانوا في حالة حزينة وكانت خالة فيوليت تبدو وكأنها كبرت خمسين سنة في يوم واحد
وانا وآشور وفريد ( تغيب انطون ) خلفهم تماماً وكلنا في دهشة وصدمة وحيرة من امرنا وما قد يحصل وما قد يأتي علينا وَمَا يجرى حولنا وَمَا قد يحدث لنا . وما يخفي القدر لنا وكيف ستكون أيامنا. واين ستكون نهايتنا ؟
فقد كنّا خمسة ثامر قد استشهد انطون قد تعوق ولا نعلم ما هو الاتي.
بقيت على اتصال مع عمو جرجيس وقد ابلغني انه باع جميع ما يملك في بغداد
وزوجته أصبحت مريضة جداً بل وشبه مشلولة وسيرحل مع زوجته الى الموصل كي تكون قريبة من اَهلها. وكي يعتنون بها .
اما ليلة توديعي لهم فسوف لا ولن اكتب عنها أبداً لانها ذكريات مريرة ومريرة جداً
انها الحرب ... والاصدقاء .. والضياع كي .. لا .. ننسى
الله يرحم صديق عمري واخي وحبيبي ثامر
والرحمه وكل الحب لعائلته ان كانوا ولازالوا معنا
فقدت الاتصال معهم بسبب مغادرتي بغداد الى ايران في عام ١٩٨٤
نهاية الجزء الثاني / الجزء الثالث سيكون عن اشور
جاني / ديتروت في December 2015