عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - د. هاشم نعمة

صفحات: [1]
1
تأثير الديمقراطية وعدم الاستقرار السياسي والاستقطاب على النمو الاقتصادي: رؤى نظرية*
                                                                                   
جاكوب دي هان
كليمنس سيرمان
ترجمة: هاشم نعمة


    ما دفعني لترجمة هذه الرؤى النظرية هو أنها تلامس الوضع في العراق على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي خصوصا بعد عام 2003، حيث تتحدث الحكومات المتعاقبة منذ عشرين سنة عن التنمية والاستثمار، ولكنها تخلق في الوقت نفسه بيئة طاردة للتنمية والاستثمار الداخلي فما بالك بالاستثمار الخارجي، نتيجة عدم وضوح سياستها التنموية وتبني نهج المحاصصة الطائفية - الإثنية المولد للفساد المالي والإداري والمعيق الأكبر للتنمية بأبعادها الشاملة.
 
1- الديمقراطية
    طُرحت العديد من وجهات النظر بشأن العلاقة بين الحريات الديمقراطية والنمو الاقتصادي. فبعد سيروي وإنكيليس نحن نصف المواقف النظرية المختلفة مثل رؤى "الصراع"، و"التوافق" و "الشك" على النحو الآتي.
     الشيء الأساسي بالنسبة إلى رؤية الصراع هو الادعاء بأن النمو الاقتصادي يُعاق من قبل المؤسسات الديمقراطية للدولة. بكلمات أخرى، تعد الديمقراطية والنمو الاقتصادي ذات اهتمامات متضاربة. وعلى حد تعبير بهاجواتي: "يطرح الاقتصاد السياسي للتنمية اختيارا قاسيا بين التطوير السريع (الذاتي) والعملية الديمقراطية". من وجهة النظر هذه، يتطلب النمو الاقتصادي السريع نظاما سلطويا يقمع الحقوق المدنية والسياسية الأساسية. إن الحجج التي تم طرحها لدعم وجهة النظر هذه  تتلخص بالآتي:
    يجادل هنتنغتون أن المؤسسات السياسية في البلدان النامية تكون ضعيفة وهشة. أضف إلى ذلك، الضغط الهائل على الحكومة التي أنشأها نظام ديمقراطي وتضخم مصادر عدم الاستقرار الحالية. وبسبب توفر قدر أكبر من القنوات التي من خلالها يمكن لمجموعات الضغط أن تعبر عن مطالبها، وبسبب أن السياسيين يجب أن يلبوا هذه المطالب للبقاء في السلطة، لذلك يذهب الجدل الى أن النظام الديمقراطي يصبح بسرعة مثقلا بالأعباء. إضافة إلى ذلك، أن كثيرا من المجتمعات النامية محاصرة بالصراعات الداخلية الناتجة من عدم التجانس المناطقي والديني والإثني والطبقي والتي سوف تظهر إلى العلن في الديمقراطيات. النظم السلطوية هي أكثر قدرة على كبح المعارضة والصراع التخريبي.
    ليست الحجة الأولى موجهة حقا ضد الحريات الديمقراطية، لكنها مجرد دعوة إلى الاستقرار السياسي. في الواقع، هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن عدم الاستقرار السياسي قد يُعيق النمو الاقتصادي. فقط إذا كان من الممكن إثبات أن الدول الديمقراطية هي أكثر عدم استقرار من الناحية السياسية. ليست الحجج الأخرى ضد الديمقراطية هي بالضرورة قاطعة. أولا، قد يُجبر الطغاة أيضا على اتباع سياسات انتهازية إذا كان بقاؤهم في المنصب مهددا. ثانيا، لا تكون النظم السلطوية متجانسة. في حين أن الارتباط الواضح للنمو الاقتصادي المرتفع بنظم سلطوية قد اقترح من تجربة عدد من النظم غير الديمقراطية "تكنوقراطية" (مثل كوريا الجنوبية وتايوان)، من الواضح أن هناك الكثير من الأمثلة المعاكسة مثل "كلبتوقراطية"* و| أو نظم سلطوية غير كفوءة قاد حكمها إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي. ثالثا، يمكن أن يعني الاستبداد الحكم التعسفي والتدخل غير المبرر، مما قد يعوق النمو الاقتصادي. أخيرا، من الملاحظ في ما يتعلق بالحجة الأخيرة، قد يتم الرد عليها، بأن الدولة القوية والدولة السلطوية لا تكون بالضرورة الشيء نفسه.
     لا يتوقف بعض مؤيدي رؤية التوافق عند مجرد مناقشة رؤى أتباع منظور الصراع، ولكن على العكس من ذلك يجادلون بأن الحكومة الديمقراطية هي الأنسب لتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة والمنصفة. ومن وجهة نظرهم، أن العمليات الديمقراطية ووجود الحريات المدنية والحقوق السياسية تولد ظروفا أكثر ملاءمة للنمو الاقتصادي. وتكون التعددية الاقتصادية ضرورية للنمو الاقتصادي، وتكون التعددية السياسية شديدة الأهمية لبقاء التعددية الاقتصادية وقابلية نموها. على الرغم من أن (بعض) أنصار وجهة نظر التوافق يدركون بأن الحكم الاستبدادي يمكن أن يُحدث في بعض الحالات معدلا أعلى للنمو الاقتصادي في المدى القصير، لكن يُنظر إلى الحكم الديمقراطي على أنه أكثر ملاءمة للنمو المستدام والمنصف على المدى البعيد.
    أخيرا، يشك المؤلفون الذين يشتركون في ما يمكن تسميته بالرؤية المتشككة، في وجود أي علاقة نظامية بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. وبكلمات أخرى، أن السياسة وحدها لا تهم كثيرا. الأهم من ذلك، ربما، نوع السياسات المتبعة والترتيبات المؤسسية مثل طبيعة النظام السياسي الحزبي (حزبين إزاء التعددية الحزبية) والاستقرار السياسي الذي قد لا يكون مرتبطا بمسألة الديمقراطية في حد ذاتها.
   
2- عدم الاستقرار السياسي والاستقطاب
     حديثا، جرى إثراء الأدب الاقتصادي بدراسات فحصت التأثيرات السلبية لعدم الاستقرار السياسي على النمو الاقتصادي. هناك العديد من التفسيرات النظرية التي تفترض وجود علاقة سلبية بين عدم الاستقرار السياسي ونمو الناتج الوطني. ويمكن تقسيم هذه النظريات أساسا إلى مجموعتين رئيستين: تسمى الأولى برؤية "السياسات المعاكسة"، وتتميز الثانية ببـرهان "الاضطرابات الاجتماعية".
     يتمثل الجانب المركزي في دراسات المجموعة الأولى في الادعاء بأن سياسات اقتصادية معينة يمكن أن تضر النمو الاقتصادي. وفي ما يتعلق بأصل السياسات المعاكسة هذه، يمكن تمييز مدرستين فكريتين. تشدد المدرسة الأولى على الأفق الزمني للسياسيين ودرجة الاستقطاب في المجتمع (رؤية قصر النظر والاستقطاب)، بينما تركز المدرسة الأخرى على الخلافات داخل الحكومة (ضعف المنهاج الحكومي).
     وفقا للدراسات القائمة على "رؤية قصر النظر والاستقطاب" يكون السياسيون على استعداد لتعزيز السياسات التي تخدم مصالحهم أو مصالح مؤيديهم، والتي قد تكون أقل فائدة لرفاهية مواطنيهم. وتعتمد أرجحية هذه السياسات السلبية على الأفق الزمني للسياسيين ودرجة الاستقطاب في المجتمع. ويمكن ذكر العديد من الأمثلة.
    عرض أليسينا وتابيليني نموذجا من حزبين مفاده أن عدم اليقين بشأن السياسات المالية للحكومات العمالية والرأسمالية المتعاقبة يؤدي إلى هروب رأس المال الخاص مما يقلل من الاستثمار المحلي، وبالتالي النمو الاقتصادي في البلدان النامية.  ويؤدي عدم اليقين هذا إلى تصاعد أرجحية تغيير الحكومات ودرجة عالية من الاستقطاب بين الأحزاب السياسية.
     بصورة مماثلة، عرض أليسينا وتابيليني في نموذج الحزبين ما يتعلق بقرارات الموازنة الحكومية، حيث يكون مستوى عجز الميزانية مرتفعا في حالة سرعة تغير الحكومة وفي المجتمعات شديدة الاستقطاب. وفي نموذج مماثل بشأن الدَّين العام، عرض بيرسون وسيفنسون كيف أن الحكومة المحافظة التي تفضل تقليل الإنفاق العام لكن تعرف أنه من المحتمل أن يتم استبدالها من قبل حكومة عمالية مع أولويات مختلفة، سوف تزيد من الاقتراض العام، وبالتالي الحد من مساحة المناورة لخليفتها. وقد أشار بلانشارد وفيشر الى أن التخفيضات الضريبية خلال إدارة ريغن في الثمانينيات كانت أيضا مدفوعة من قبل هذه الاعتبارات. مهما كان السبب، قد يؤدي العجز المرتفع والدائم إلى إعاقة النمو الاقتصادي.  كما أشار فيشر، من المحتمل أن يكون عجز الميزانية المرتفع مرتبطا بشكل سلبي مع التراكم الرأسمالي، وبالتالي النمو الاقتصادي، لسببين؛ الأول هو المزاحمة. والثاني هو أنه، مثل معدل التضخم، يشير العجز إلى أن الحكومة تفقد السيطرة على اجراءاتها. في الواقع، ذكر ايسترلي وريبيلو أن هناك علاقة متينة بين فائض الميزانية الحكومي والاستثمار الخاص والنمو الاقتصادي.
        قد تعود جذور مستويات التضخم المرتفعة أيضًا إلى عدم الاستقرار السياسي والاستقطاب. فقد قال إدواردز وتابيليني: "ليس هناك شك في أن السلطات الأرجنتينية، على سبيل المثال، لديها فكرة واضحة عن عواقب تسريع نمو الائتمان المحلي على التضخم وميزان المدفوعات وهروب رأس المال وهلم جرا. فهم ما زالوا يعرفون هذه العواقب واختاروا المضي قدما. لماذا؟" يعتمد جوابهم على نموذج الشهرة العائد إلى بيرسون وتابيليني وكما يأتي: أولا، تواجه الحكومات في المجتمعات المستقطبة صعوبات كبيرة في تخفيض التضخم من خلال زيادة مكافحته المقرون بسمعتها. ثانيا، سيكون التضخم أعلى عندما يكون احتمال إعادة انتخاب الحكومة الحالية قليلا. لماذا ينتهج السياسي بعد كل ذلك سياسات مؤلمة إذا كانت فرصة جني الثمار ضئيلة؟ على نفس المنال، عرض كوكيرمان وإدواردز وتابيليني أن كثرة تكرار تغير الحكومة مقرونا بالاستقطاب السياسي لهما تأثير سلبي على فعالية الحكومة في رفع الضرائب. وجادل هؤلاء الكتّاب أن إصلاح النظام الضريبي غير الفعال يحتاج إلى الوقت والجهد. سوف لا تحاول الحكومة الحالية تنفيذ هذا الإصلاح إذا هي تعرف بأن منافسيها السياسيين سيستفيدون من تحسن جمع الضرائب في المستقبل القريب. ومع ذلك، تعتمد الحكومة بشدة على "ضريبة التضخم" لتمويل نفقاتها. وفيما إذا تكون المستويات العالية للتضخم ضارة بالنمو الاقتصادي، هذا الأمر ليس مؤكدا في المرحلة الحالية من النقاش. لكن ما زال فيشر يجال بقوة بأن النمو الاقتصادي يرتبط بعلاقة سلبية مع التضخم.
    المدرسة الثانية، تؤيد ما يعرف في الأدب بفرضية "الحكومة الضعيفة"، إذ تختلف عن المدرسة الأولى بناحيتين؛ الأولى، تركز هذه الدراسات على التأثير السلبي للصراعات داخل الحكومة بدلا من التركيز على العواقب السلبية للصراع السياسي بين الحكومات المتعاقبة. الثانية، تعتبر معرفة الترتيب المؤسسي للتمثيل الانتخابي أساسية في تفسير جزء من السلوك السلبي للسياسيين. ويجادل بوبر أن النظام الانتخابي التمثيلي النسبي يقود إلى حكومات ضعيفة هي أكثر عرضة لتقديم التنازلات أمام الضغط السياسي لجماعات المصالح الخاصة. وهو يجادل بأن هذا النظام يُمَّكن العديد من الأحزاب الصغيرة أو جماعات المصالح من أن تتمثل في البرلمان، حيث "يمكنها أن تمارس تأثيرا كبيرا - وحاسمًا في كثير من الأحيان - بصورة غير مناسبة على تشكيل الحكومة واستقالتها وهكذا على كل قراراتها". وجادل روبيني وساكس أن ارتفاع عدد الأحزاب المؤتلفة في الحكومة يجعل المفاوضات على نحو متزايد أكثر صعوبة للتوصل إلى قرارات سياسية، وسينتج هذا سياسات تكون بشكل متزايد دون المستوى الأمثل. علاوة على ذلك، يذهب الجدل، الى أن هذه السياسات ستواجه مخاطر أكبر لتكون دون المستوى الأمثل في فترة الصعوبات الاقتصادية. وفقا لروبيني وساكس، يمكن أن يفسر هذا لماذا استغرق الأمر من معظم دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي لديها حكومات ائتلافية متعددة الأحزاب وقتا أطول بكثير لتقليل عجز الميزانية الحكومية في الثمانينيات مقارنة بالبلدان ذات أغلبية الحزب الواحد أو الحكومة الرئاسية.
      الحجر الأساس في رؤية "الاضطرابات الاجتماعية" هو الادعاء أن النمو الاقتصادي يتأثر سلبا نتيجة الاضطرابات الاجتماعية - السياسية. ويشير الجدل النظري في هذه الدراسات إلى أن الاضطرابات الاجتماعية - السياسية تخلق حالة من عدم اليقين والتي يفترض أن يكون تأثيرها سلبيا على النمو الاقتصادي المستدام. وفي أوقات الحروب الأهلية والثورات والانقلابات العنيفة يمكن للمرء أن يتوقع خسارة الممتلكات. علاوة على ذلك، من المحتمل أن يكون هناك نزوح سكاني. وفي مناقشة كواسي فوسو لتأثيرات الانقلابات العسكرية في أفريقيا جنوب الصحراء، ذكر: "من المعتاد أيضا أن تتولى حكومة جديدة السلطة من خلال الوسائل القسرية لإخضاع أعضاء النظام القديم أو حتى أولئك المرتبطين به عن بُعد، للتحقيق باسم القضاء على الفساد، أو مصادرة الكثير من ممتلكاتهم أو سجنهم لفترة وجيزة أو ربما إعدامهم. وبالتالي، فإن غياب سيادة القانون والحريات وحماية الممتلكات الخاصة والتبادل السوقي من المرجح أن تصاحب عدم الاستقرار السياسي". وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه عند انتهاء الحرب الأهلية و/ أو الملاحقات القضائية، ستكون هناك حاجة إلى الوقت لبناء الثقة في الحكومة بحيث لن تتكرر أشكال مماثلة من الانتهاكات في المستقبل. ومع ذلك، فإن الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الأقل عنفا مثل الإضرابات وأعمال الشغب والمظاهرات السياسية يتم تنفيذها للإضرار بأداء النمو، لأنها تخلق حالة من عدم اليقين. وعلى الرغم من أن الأدب المتعلق بالاضطرابات الاجتماعية-السياسية اجمع على الادعاء بأن الاضطرابات يكون لها تأثير سلبي، لكن لا توجد نظرية متفق عليها تشرح لماذا وكيف يقلل عدم اليقين من اتجاهات الإنتاج الوطني.
     يناقش كواسي فوسو بأن الاضطرابات الاجتماعية وانتهاكات "الحقوق المدنية" تجعل الناس ومعظمهم من المثقفين يقررون مغادرة البلد، مما يتسبب في حدوث ما يسمى "نزيف الأدمغة". وتجدر الإشارة إلى أنه وفقا لنظرية النمو الكلاسيكية الجديدة القياسية (المعيارية) سيكون لهذا الأمر تأثير مهم على النمو فقط إذا غادر عدد كبير من العمال أو نزحوا داخل البلد. ومع هذا، وفقا لنظرية النمو الجديدة فإن أعدادا قليلة ولكنها ذات نوعية مهمة، فقد يكون لنزيف الأدمغة تأثيرات سلبية مهمة على النمو.
     لا يزال يركز معظم الأدب المتعلق بعواقب الاضطرابات الاجتماعية - السياسية على التأثيرات السلبية في تكوين رأس المال. يجادل بارو بأن الزيادة في تعزيز حقوق الملكية، من وجهة نظر المستثمرين، تبدو مثل تخفيض معدلات الضرائب الهامشية. إذ يؤدي هذا التخفيض في معدلات الضرائب الهامشية إلى زيادة في معدلات النمو والتوفير. وبطريقة مماثلة، يجادل فينيريس وجوبتا بأن عدم اليقين بشأن الحق في التمتع بالدخل المستقبلي المتأتي من الادخار يقلل الحافز لدى الجمهور لادخار الدخل الحالي. وبالتالي، فإن الاضطرابات الاجتماعية - السياسية التي تزيد من عدم اليقين بشأن حقوق الملكية المستقبلية لديها تأثير سلبي على الادخار ومن ثم الاستثمار.
     وفقا لنظريات تمويل الشركات المعيارية المتعلقة بالاستثمار، فإن مزيدا من عدم اليقين بشأن صافي العائدات المستقبلية، الذي ينتج في هذه الحالة من الاضطرابات الاجتماعية، يجعل المستثمرين يطلبون عائدات أعلى على استثماراتهم. وإذا افترض المرء في الوقت الحالي أن العدد الإجمالي لفرص الاستثمار سيكون ثابتا مع مرور الوقت، فإن الطلب على عائدات أعلى يعني ضمنا عددا أقل من المشاريع الاستثمارية المجدية اقتصاديا. في الواقع، يذكر شنايدر وفراي بأن الاضطرابات السياسية تقلل بشكل كبير من تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وتكون التأثيرات السلبية للاضطرابات الاجتماعية على الاستثمار مهمة، بسبب أن الارتباط بين النمو والاستثمار هو على الأرجح أقوى علاقة ارتباط تم اكتشافها في أدبيات النمو التجريبية. يقول بلومستروم وليبسي وزجان: "يمكن أن يتفق بشكل عام الاقتصاديون والمؤرخون الاقتصاديون على افتراض أنه على المدى البعيد، لا يحدث نمو اقتصادي سريع دون استثمارات كبيرة في رأس المال الثابت". ويقود مباشرة الافتراض القائل إن الاضطرابات الاجتماعية-السياسية تكون ضارة بالنسبة إلى الاستثمار، إلى الافتراض بأن ذلك يكون أيضا ضارا بالنسبة إلى النمو.   
     مع ذلك، قد لا يزال يجري التقليل من شأن تأثير الاضطرابات الاجتماعية - السياسية على الاستثمار ومن ثم على النمو، من قبل الأدبيات المعيارية. وفقا لبينديك وسوليمانو يكون الاستثمار الكلي حساسا جدا لحالة عدم اليقين، بسبب عدم تناسق رد فعل الاستثمار على الصدمات. ويجادل هؤلاء الكتّاب أن الصدمة الإيجابية يتبعها دخول شركات جديدة إلى السوق، ومشاركة الأرباح بين جميع الشركات، ولكن في الصدمات السلبية تعاني فقط الشركات القائمة. وبالنظر إلى أن الاستثمار في الغالب لا رجوع فيه، ينبغي للمرء أن يستنتج أن دخول السوق يكون فقط مجديا اقتصاديا عندما تكون العائدات المتوقعة إيجابية. وعلى المستوى الإجمالي، من شأن ذلك أن يؤدي إلى حساسية عالية للغاية للاستثمار في ما يتعلق بحالة عدم اليقين، يتضمن ذلك عدم اليقين الناشئ من الاضطرابات الاجتماعية - السياسية.
 
* كلبتوقراطية، مصطلح يوناني يقصد به الحكومة التي يستخدم قادتها الفاسدون السلطة السياسية لمصادرة ثروة الناس والأراضي التي يحكمونها، عادة عن طريق اختلاس الأموال الحكومية أو اختلاسها على حساب أوسع السكان. وتعني الثيفوقراطية حرفيا حكم السرقة وهو مصطلح يستخدم بشكل مرادف للكلبتوقراطية. وتتمثل إحدى سمات السرقة الاجتماعية والاقتصادية السياسية في أنه لا يوجد في كثير من الأحيان إعلان عام يشرح أو يعتذر عن الاختلاس، ولا يجري توجيه أي تهم أو عقوبات قانونية ضد الجناة. (المترجم) عن  Kleptocracy - Wikipedia
 
الترجمة عن كتاب: Jakob de Haan and Clemens Siermann, The Impact of Democracy and Political Instability on Economic Growth: a Review (Holland: University of Groningen, 1994).                               

   


2
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية*
                                                               
                                                                                                                     
د. هاشم نعمة
مقدمة
        الهجرة السكانية قديمة قدم وجود الإنسان على الأرض، وهي تحدث استجابة لأسباب متعددة، مثل البحث عن موارد معيشية وحدوث الكوارث الطبيعية، والتغيرات المناخية، والحروب، والاضطهاد الإثني والديني والمذهبي. واستجابة لدوافع اقتصادية مثل البطالة والبحث عن عمل وحياة أفضل. ولأسباب سياسية خصوصا التعرض للقمع السياسي والفكري ومصادرة الحريات في ظل النظم المستبدة وغيرها. لكن الانتقال من المرحلة الاقطاعية إلى الرأسمالية في أوروبا على وجه الخصوص والتوسع الرأسمالي العالمي خصوصا الاستعماري منه زاد من أعداد المهاجرين على نحو كبير، سواء على صعيد الهجرة الداخلية مثل الهجرة الريفية - الحضرية أو الهجرة الحضرية - الحضرية أو على صعيد الهجرة الدولية. كذلك تنوعت أنماط الهجرات واتجاهاتها وتعقدت تأثيراتها المتبادلة الاقتصادية والاجتماعية والديمغرافية والثقافية سواء في البلدان المرسلة للمهاجرين أو المستقبلة لهم.
    ارتبط ظهور الرأسمالية وخاصة في مرحلتها التجارية بالاكتشافات الجغرافية في القرن السادس عشر، وما نتج عن هذه الاكتشافات من هجرات ضخمة من أوروبا نحو ما سُمي بالعالم الجديد، الأمريكيتين وأستراليا ونيوزلندا. واستمرت هذه الهجرات في مرحلة الرأسمالية الصناعية التي ظهرت في القرن التاسع عشر نتيجة الثورة الصناعية في بريطانيا. لكن بعد النمو الاقتصادي الذي شهدته بلدان أوروبا الغربية في ستينيات القرن العشرين تباطأت الهجرة من أوروبا إلى العالم الجديد، بل أصبحت مقصدا رئيسا للمهاجرين القادمين خصوصا من البلدان النامية نتيجة تعمق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين هذه البلدان والبلدان المتقدمة.
    سنركز في هذا المقالة على فحص العلاقة البنيوية بين الرأسمالية كنظام وبين الهجرة خصوصا الدولية منها وآليات عملها. وكيف أن الرأسمالية تخلق شروط الهجرة وتديمها وكيف تُسهم الأخيرة في إدامة الرأسمالية. وسنتناول الجانب النظري الذي يمهد لتفسير هذه العلاقة وفهمها، ونبحث في الهجرة القسرية: تجارة الرقيق، والحرب والهجرة، والليبرالية الجديدة والهجرة، والليبرالية الجديدة والهجرة المصرية مثالا، وأخيرا تأثيرات الهجرة في البلدان المتقدمة.
 
   الجانب النظري
       اشار كارل ماركس في القرن التاسع عشر إلى أن البرجوازية (الطبقة الصناعية)، في بحثها عن الأرباح واستخلاص الفائض من البروليتاريا (الطبقة العاملة)، ستوسع آفاقها الجغرافية جاذبة بلدان الهامش نحو نظامها باعتبارها مزودا لليد العاملة الرخيصة والمواد الخام(1). وهذا ما حصل فعلا على نطاق واسع، عن طريق استعمار البلدان الأوروبية المباشر لكثير من البلدان، خصوصا النامية منها.     
       كذلك ذكر ماركس بأنه في مجرى عملية تراكم رأس المال فإن مشكلة تقييم العمل لها علاقة بالتغير التقني الذي يخلق "جيشا احتياطيا" من العمالة العاطلة عن العمل أو "سكان فائضين نسبيا" ويزيد من الصراع الطبقي. لذلك، من الممكن المناقشة بأن التغير التقني هو متغير حاسم في خلق شروط الهجرة في ظل الرأسمالية من خلال خلق العمل الفائض. هذا هو السبب في أن كتلة كبيرة من العمالة المهاجرة المحلية والدولية تكون عمالة فائضة تبحث عن عمل وظروف حياة أفضل في بلدان المقصد.
     في عملية الإنتاج الرأسمالي تخلق القوى العاملة المزيد من القيمة التي تستخدم في استبدال القوى العاملة في دائرة دائمة التوسع من الإنتاج السلعي. ويعتبر ماركس التراكم الرأسمالي، من خلال السعي لإنتاج فائض القيمة وتوسيعه، القوة الدافعة للرأسمالية. لذلك، فإن هجرة العمالة من وجهة نظر ماركسية هي عامل ضمني في عملية الإنتاج السلعي الرأسمالي، وهي تلعب دورا مركزيا في التراكم الرأسمالي وفي النموذج المركزي الإمبريالي للتراكم الرأسمالي. وبقدر ما تساهم العمالة المهاجرة والأنشطة الاقتصادية التي تنطوي عليها عمليات الهجرة في تراكم رأس المال، بقدر ما تصبح الهجرة جزءا حيويا من القوة الدافعة للرأسمالية(2). وهكذا يتضح الترابط البنيوي بين الرأسمالية والهجرة الدولية .
     يترافق توسع رأس المال عالميا مع هجرة كل من العمالة الماهرة والعمالة غير الماهرة كي يؤدي دوره في انتاج القيمة في النموذج المركزي الإمبريالي للتراكم الرأسمالي. لذلك، يطوف رأس المال العالم للبحث عن فرص الاستثمار ويتحرك العمال للبحث عن عمل أفضل وتحسين ظروف معيشتهم. ومع ذلك، يواجه العمال معوقات أكثر في حركتهم من رأس المال. لا يذهب رأس المال فقط إلى العمالة في البلدان الأجنبية فهو يجند أيضا العمالة من البلدان الأجنبية، وبهذه الطريقة يديم بروليتاريا العمالة والصراع الطبقي على الصعيد العالمي(3).
      كان مفهوم "الدفع – الجذب" غالبا ما يستخدم في تعليل أسباب الهجرة والذي يخص الهجرة الداخلية والدولية في المجتمعات الصناعية والريفية. وعلى قاعدة هذا المفهوم يهاجر الأشخاص إلى المناطق التي تتوفر فيها فرص عمل أفضل من أماكن إقامتهم. وفي برنامج بحث لجنة "التغيير العالمي وحركية السكان"، عُدّ هذا المفهوم قديما من بعض النواحي وبسيط جدا في هذه الأيام لتفسير الهجرة التي لها علاقة بالشرط المالي وبالنشاطات الإنتاجية. فقد نشأت أيضا حركية السكان في السنوات القليلة الماضية من الاستهلاك والترفيه والسياحة والبحث عن أسلوب حياة جديد(4)، حتى خارج البلدان المتقدمة، وهذا يمكن أن ينطبق على ما يُسمى بهجرة المتقاعدين خصوصا إلى البلدان الأوروبية المتوسطية والتي تكون في كثير من الأحيان موسمية.
    تتضمن الهجرات عملية مزدوجة من التحويلات الاقتصادية. فمن ناحية، فهي تمثّل نقلا للعمالة من مجتمعات الأصل إلى الاقتصاديات المتطورة. ومن ناحية أخرى، تشكل التحويلات والسلع والخدمات التي يرسلها المهاجرون نقلا معاكسا يُسهم بإعادة الإنتاج الاجتماعي للمهاجرين وعائلاتهم ومجتمعاتهم. ويربط هذا النظام المزدوج للتحويلات الاقتصادية إعادة إنتاج قوى العمالة المهاجرة في أماكن الأصل مع إعادة إنتاج رأس المال والاقتصاد في مجتمعات المقصد، لذلك، يُسهم في إعادة إنتاج الرأسمالية كنظام اقتصادي منتج وعالمي.
    في الحالة الأولى، عندما تشترك العمالة المهاجرة في العملية الإنتاجية فإنها تُصبح جزءا من عولمتها. وهنا تقع أهميتها بأنها تمثّل قوى عاملة تتجلى مساهمتها على حد سواء في آليات سوق العمل وفي الإنتاج والنمو الاقتصادي في المجتمعات المتقدمة، وتُسهم في توليد الفائض الاقتصادي اللازم للحفاظ على إعادة إنتاج رأس المال المتوسع. وفي الحالة الثانية، فإن التحويلات المالية هي صندوق للأجور وظيفته إعادة إنتاج القوى العاملة الضرورية والمتاحة لنمو رأس المال وتراكمه(5). هذه القوى العاملة تكون في البلدان المرسلة للمهاجرين خصوصا النامية منها.
     كذلك تُسهم الهجرة في خفض تكاليف إعادة إنتاج القوى العاملة بالنسبة إلى رأس المال، خصوصا، الشبكات الاجتماعية التي تديم الهجرة في اتجاه واحد، فإنها من ناحية أخرى تُسهم بجزء من تكاليف إعادة إنتاج القوى العاملة من خلال التحويلات إلى العائلات ومجتمعات الأصل(6)، وهذا ما نلاحظه في مجتمعات البلدان المرسلة الرئيسة للعمالة مثل مصر والمغرب وتونس وغيرها.
 
الهجرة القسرية
    1- تجارة الرقيق
     الاتجار بالبشر ظاهرة لا إنسانية قديمة اقترنت بالانقسام الذي حدث في المجتمعات إلى فئات مالكة وأخرى غير مالكة أو معدمة. وكانت معروفة من قبل عدة شعوب أوروبية، مثل الرومان وآسيوية مثل العرب والأتراك والفرس والهنود. وهناك من يرى بأن العبودية وتجارة الرقيق تمثل الجذور التاريخية للاتجار بالبشر الذي يمارس حالياً.
      يُعدّ كارل ماركس وفردريك أنجلز من أبرز من أهتموا بدراسة نظام الرق في المجتمعات القديمة، حيث بيّنا أن الحضارة الإنسانية اعتمدت في مرحلة من مراحلها على العمل العبودي لتجاوز معالم المشاعية البدائية المتميزة بغياب الملكية الخاصة(7).
       تحفزت وتيرة تجارة الرقيق إلى حد كبير في العصر الحديث، وخاصة من غرب أفريقيا إلى الأمريكيتين ومنطقة الكاريبي، بعد أن بدأ المستعمرون البرتغاليون والإسبان السيطرة على أغنى الموارد الطبيعية في أمريكا. وعلى الرغم من وجود عدم اتفاق حول حجم هذه التجارة، لكن التقديرات الأكثر شهرة تذكر بأن حوالي ألفين من الرقيق كانوا يُنقلون سنويا بالسفن إلى أمريكا في القرن السادس عشر. وقد قفز هذا الرقم كثيرا إلى عشرين ألفا في السنة في القرن السابع عشر، حيث اكتسبت مزارع السكر في البرازيل ومنطقة الكاريبي زخما. وقد ثبت أن القرن الثامن عشر كان علامة فارقة في الاستعباد، حيث ارتفعت الأرقام السنوية إلى 55000 في بداية القرن وإلى 88000 في نهايته. وبعد أن انتهت تجارة الرقيق عبر الأطلسي في القرن التاسع عشر، فإن ما بين 10-12 مليون أفريقي استعبدوا في المزارع والمناجم الأمريكية(8). وهناك من قدر بأن ما بين 15-20 مليون أفريقي نقلوا عبر المحيط الأطلسي. وترفع تقديرات أخرى العدد إلى 50 مليونا(9). على الرغم من أن هذا العدد قد يكون مبالغا فيه، إذا أخذنا في الاعتبار البطء الشديد لنمو السكان خلال تلك الفترة.
إضافة إلى ذلك، ربما وقع ضحية تجارة الرقيق ما يصل إلى عشرة ملايين في شمال إفريقيا وغربها، حيث استمرت هذه التجارة بالرغم من عدم شرعيتها إلى القرن العشرين(10)، علما أن هذه المناطق كانت خاضعة للاستعمار الأوروبي. 
    وطيلة ثلاثة قرون، كان الرقيق يمثل أهم صادرات أفريقيا، والتي مارسها البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون والسويديون والدنماركيون. وفي القرن السابع عشر، أصبحت التجارة بالإنسان الأسود أمراً معترفاً به، ونوعاً من النشاط التجاري. وهذا واضح من تصريح دار تماوث وزير المستعمرات البريطانية عام 1775، الذي قال فيه "إننا لا نستطيع أن نسمح للمستعمرات أن توقف أو تقاوم- إلى أي حد- تجارة مربحة لهذه الدرجة لشعبنا"(11). ورغم تحريم بريطانيا لتجارة الرقيق فيما بعد طبقاً لقانون 1807، إلا أن هذا لم يؤثر كثيراً، فقد اندفعت دول أخرى لهذه التجارة.
    لقد تعرض السود إلى أسوأ ما يمكن أن يعامل به بنو الإنسان، حتى في المناطق التي نقلوا لها قسراً، حيث كانوا يعاملون بالقسوة والتمييز العنصري، ويعتبر وضعهم في أمريكا الجنوبية أكثر حظاً، حيث اختلطوا بالسكان، لكن في أمريكا الشمالية، لم يحدث هذا وكانوا يباعون ويشترون مع الأرض. ففي عام 1705، صدر قانون امتلاك السود واعتبارهم جزءا من الممتلكات الشخصية، إلى أن الغي قانون الرق عام 1865، بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في أمريكا(12) لكن مع ذلك استمر التمييز العنصري ضدهم على أشده إلى أن بدأ يخف نسبيا في العقود الأخيرة نتيجة النضالات التي خاضها السكان السود للمطالبة بالمساواة، ودعم القوى التقدمية على المستوى الداخلي والعالمي لهذه المطالب العادلة.
    وحاليا يُقدر تقرير مؤشر الرق العالمي لعام 2023 عدد الأشخاص الذين عانوا الرق المعاصر بخمسين مليون إنسان خلال عام 2021. وبيّن أن الفئات الأكثر تعرضا للرق المعاصر، جاء على رأسها النساء والأطفال والمهاجرون. ويؤكد التقرير أن العمالة المهاجرة باتت أكثر عرضة للعمل الإجباري بمقدار ثلاثة أضعاف بالمقارنة بالعمالة غير المهاجرة. ومن أسباب الرق المعاصر بحسب التقرير ارتفاع معدلات الفقر المدقع والهجرة القسرية، وبيّن أن هذين الأمرين ساهما معا بنصيف وافر في زيادة المخاطر المتصلة بالرق المعاصر. وكذلك سياسات الهجرة الصارمة للدول، وخاصة الأوروبية منها، التي أفضت إلى تعريض المهاجرين والنازحين لمزيد من مخاطر الاستغلال. وتؤدي ممارسات الشراء التي تتبعها الحكومات والشركات الغنية إلى تفاقم الاستغلال في البلدان المنخفضة الدخل التي تُمثّل الخطوط الأمامية لسلاسل التوريد العالمية. ويشدد التقرير على "تغلغل الرق المعاصر في الصناعات التي تعمل في القطاع غير الرسمي، والتي توُظّف أعدادا أكبر من العمالة المهاجرة وتوجد في مناطق تتسم بمحدودية الرقابة الحكومية"(13). وهكذا نرى بعد تحريم الرق في أشكاله التقليدية، انبثقت أشكال أخرى من الرق في مجرى النظام الرأسمالية وآليات عمله.
 
2- الحرب والهجرة
     بما أن الحروب هي وسيلة من وسائل النظام الرأسمالي للسيطرة السياسية والاقتصادية وتوسيع نفوذه واسواقه على المستوى العالمي، فلا بد من أن تكون لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهجرة العمالة وتدفق اللاجئين. وهناك أمثلة كثيرة يمكن إيرادها لتأكيد هذه الفكرة.
    لم يسبق لمجموعة مهاجرة في التاريخ الأمريكي أن أكدت أو كانت قادرة على أن تؤكد مطلبا تاريخيا بمنطقة أمريكية مثل ما يستطيع المكسيكيون والمكسيكيون – الأمريكيون تأكيده. كانت تكساس ونيومكسيكو وأريزونا وكاليفورنيا ونيفادا ويوتاه جميعها تقريبا جزءا من المكسيك إلى أن خسرتها نتيجة حرب تكساس 1835- 1836 والحرب الأمريكية - المكسيكية 1846- 1848. وقد دخلت القوات الأمريكية المكسيك وعاصمتها، والحقت نصف أراضيها بالولايات المتحدة. لذلك لا ينسى المكسيكيون هذه الأحداث. ومن المفهوم تماما، أن يشعروا أن لديهم حقوقا خاصة في هذه المناطق خلافا للمهاجرين الآخرين(14). لذلك وصلت أعداد المهاجرين المكسيكيين في الولايات المتحدة إلى الملايين سواء المهاجرين بطريقة نظامية أو غير نظامية. ويمكن أن يكون هذا الحيف أحد الأسباب لضعف اندماجهم في المجتمع الأمريكي. 
    كانت إحدى الأفكار المطروحة بعد الحرب العالمية الثانية بخصوص إيطاليا هي التقليل من السكان المسببين للفوضى، أي المطالبين بحقوقهم في العمل عبر تشجيع الهجرة. فقد استخدمت أموال خطة مارشال الأمريكية في إعادة بناء البحرية التجارية الإيطالية "لمضاعفة أعداد المهاجرين الإيطاليين الممكن نقلهم لما وراء البحار سنويا"، واستخدمت الأموال أيضا في إعادة تدريب العمال الإيطاليين "بحيث يصبحون أكثر قبولا في البلدان الأخرى". لذلك أقر الكونغرس الأمريكي مخططات "بهدف نقل المهاجرين من إيطاليا لأماكن في العالم غير الولايات المتحدة". واختارت بعثة مشروع مارشال أمريكا الجنوبية ذات "المناطق الأقل تطورا نسبيا"، وكانت البرازيل من أوائل المتلقين لهذه المساعدات عام 1950(15).
     ونتيجة الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، والتدخل العسكري الأمريكي والأوروبي المباشر في الحرب في سوريا، أسفر ذلك عن هجرة قسرية ضخمة في المنطقة لا مثيل لها في تاريخها الحديث، حيث تدفق الملايين من اللاجئين داخل المنطقة وخارجها. مما أحدث تغيرات كبيرة في البنية الديمغرافية والاقتصادية - الاجتماعية لبلدان المنطقة.
     لذلك لا غرابة أن تشهد المنطقة العربية مستويات غير مسبوقة من الهجرة الدولية. ففي عام 2021 استضافت البلدان العربية أكثر من 41 مليون مهاجر ولاجئ. وخلال الفترة نفسها، بلغ عدد المهاجرين من الدول العربية نحو 33 مليونا، 44 في المائة منهم يقيمون في المنطقة العربية(16).
 
الليبرالية الجديدة والهجرة
     استتبعت الليبرالية الجديدة الكثير من "التدمير الخلاّق"، ليس فقد للأطر المؤسساتية السابقة (إذ تحدت حتى الأشكال التقليدية لسيادة الدولة)، بل أيضا لتقسيمات العمل، والعلاقات الاجتماعية، وخدمات الرعاية الاجتماعية، والتركيبات التكنولوجية المختلفة، وطرق الحياة، والتفكير والتكاثر، والارتباط بالأرض والعادات الشعورية والوجدانية(17)، لا غرابة في ذلك، لأنها أيديولوجية تهدف إلى تشكيل العالم وفق منظورها وربطه بالمتروبول.
     تعاني الليبرالية الجديدة من إشكالات في موقفها من الهجرة، إذ يذكر دينيس كانتربري "تتميز الرأسمالية النيوليبرالية بنزعتين متناقضتين تجاه الهجرة الوافدة – هما زيادة الهجرة وفي الوقت نفسه تقييدها. الأمثلة التي تُبرز هذا التناقض هي أعمال إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في تقييد الهجرة الوافدة، مستهدفة على نحو محدد بلدانا فقيرة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأماكن أخرى. والدعوة في الوقت نفسه إلى زيادة الهجرة المنظمة". ويضيف "هناك بُعد آخر للتناقض وهو أن الرأسمالية النيوليبرالية تعزز الهجرة المنظمة بحيث يجري تفضيل فقط المهاجرين الذين يتوفرون على المال والمهارات العالية للقبول في البلدان الغنية"(18). ويشير نعوم تشومسكي إلى أن أنبياء الليبرالية الاقتصادية لم يفكروا بالسماح "بالانتقال الحر لقوة العمل... من مكان لآخر"، والذي هو أحد أسس حرية التجارة التي أكد عليها آدم سميث(19). ويقول صموئيل هنتنغتون: في عالمنا المعاصر، يأتي التهديد الأكبر لأمن الأمم المجتمعي من الهجرة. وتستطيع البلدان أن تواجه ذلك التهديد بإحدى طرق ثلاث أو توليفة منها. وهي: هجرة ضئيلة أو لا هجرة، هجرة دون اندماج، أو هجرة مع الاندماج(20). علما أن هذه الطرق الثلاث قد جربت، لكن نتائجها لم تكن دائما تتوافق مع ما تخطط له البلدان المتقدمة.
 
    وهناك دليل آخر على تناقض الليبرالية الجديدة تجاه الهجرة، فقد "تمثّل خط الصدع الرئيسي في قضية الهجرة بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة في تقرير التنمية البشرية لعام 2009، وفي النقاش حول الاتجاهات الجديدة والتفكير بشأن التأثير التنموي للهجرة في ظل الرأسمالية النيوليبرالية... لقد اتخذت إسرائيل والولايات المتحدة خطوات منحطة لبناء جدران عازلة لمنع دخول العمالة المهاجرة الفلسطينية والإفريقية والمكسيكية، على التوالي، في حين استثمر الاتحاد الأوروبي ملايين اليوروات في ليبيا، كي يراقب هذا البلد البحر المتوسط لإبعاد العمالة المهاجرة الأفريقية عن الاتحاد الأوروبي"(21).
     ويذكر كانتربري "أجبرت سياسات التكيف الهيكلي النيوليبرالية البلدان النامية على الانخراط في ما يسمى بـ"ترشيد" مؤسسات الدولة لتقليل تكاليف تشغيلها. وباتت سياسة الهجرة الآن شكلا من أشكال "الترشيد" ولكن تشمل البلد بأكمله بدلا من أن تشمل مؤسسة معينة مملوكة للدولة"(22). وهذا دليل على عمق اختراق سياسات الليبرالية الجديدة لسيادة البلدان.   
      واكتشفت المؤسسات الرأسمالية أن الحراك العالمي لرأس المال يتطلب بالمثل حراكا عالميا للعمالة كي يستطيع توظيفها أينما ذهب؛ إذ يتحدث البنك الدولي عن الفقراء، ويقول إن حل مشاكلهم هو الدخول في السوق العالمية في حين أنه يهدف في الحقيقة لمساعدة الحراك العالمي لرأس المال على خلق حراك عالمي مثيل في صورة عمالة دولية رخيصة سهلة التحرك من مكان إلى آخر يستطيع رأس المال جلبها معه أينما ذهب. إذا حدث ما يأمل فيه البنك الدولي، فإنه يكون بذلك قد ساعد على تكوين بروليتاريا عالمية(23). وهذا هو ما يحدث على أرض الواقع.
        يمكن أن تستمر في السنوات القادمة حركية السكان بسبب توسع الفجوة في معدل النمو السكاني بين الدول المتقدمة والدول النامية. يحدث هذا خصوصا مع ظهور فكرة "بدون حدود" العائدة للعولمة التي خلقت عدم توازن جديد بين الدول الغنية والدول الفقيرة. وبالإضافة إلى عدم التوازن القديم والجديد في الثروة انبثق عدم توازن ديموغرافي. ينتج عن هذا الوضع عدم توازن في سوق العمل في اتجاه معاكس، حيث يكون الطلب في قطاعات معينة أعلى على نحو مهم من العرض(24)، وهذا ما تشهده العديد من البلدان خصوصا في أوروبا الغربية، مثل ألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها.
      تشكلت مع العولمة أشكال جديدة من التفاوت الاجتماعي التي لا تتوافق مع كلا من الاشكال التقليدية للاستبعاد الاجتماعي أو على الأقل استمرار البنى الاجتماعية التقليدية أو ما قبل الحديثة. ففي العولمة، يتشكل الفقر والعمالة غير المستقرة، في هذه الحالة فإن المهاجرين، هو ليسوا نتيجة استبعادهم من سوق العمل (البطالة والجيش الاحتياطي الصناعي الخ)، لكن على العكس هم نتيجة الطريقة التي جرى بها ضمهم ودمجهم في عالم العمل، على وجه التحديد كعمالة مهاجرة. المسألة هي انهم عمالة ضعيفة أو عالية التأثر جرى دمجها بالقطاعات الاقتصادية الديناميكية. وبالمعنى الدقيق للكلمة، هذه عملية متناقضة فهي تحفز على الدمج والاستبعاد الاجتماعي في الوقت نفسه. في المجتمع الدولي، لم يُعدّ يُشكل وضع الأقلية الاجتماعية (حالة المهاجرين) خطر استبعادهم الاقتصادي المحتمل، بل أصبح الشرط الضروري لاندماجهم الجزئي والهش. إذ يجري في النظام الاقتصادي العالمي، وبهذه الطريقة، إعادة انتاج رأس المال، والتراكم والنمو الاقتصادي على قاعدة إعادة انتاج حالة التفاوت الاجتماعي اللانهائية والذي هو في هذه الحالة أيضا أساس استغلال العمالة المهاجرة(25)، والعامل على خلق ديمومتها.
       وفي هذا الاطار من المفيد الإشارة إلى أن انهيار الاتحاد السوفيتي قدم وسائل جديدة لتعميق انقسام الشمال - الجنوب داخل المجتمعات الغنية على نحو أشد. فخلال إضراب عمال الاشغال العامة في ألمانيا في أيار 1992، حذر رئيس شركة ديملر – بنز من أن رد الشركة على الإضراب قد يتمثّل بنقل مصانع سيارات مرسيدس إلى أماكن أخرى، ربما إلى روسيا نظرا لتوفرها على العمال المدربين المتعلمين الأصحاء والمطيعين(26). وهذا يمثّل عملية استغلال جلية من خلال دفع أجور أقل لهم مقارنة بنظرائهم في ألمانيا.
 
الليبرالية الجديدة والهجرة المصرية مثالا
      ولدت مبادئ الليبرالية الجديد التي فرضت قسرا على البلدان النامية نتائج كارثية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والديمغرافي. وتمثل أحد التداعيات في تنامي تيارات الهجرة الداخلية خصوصا الهجرة الريفية - الحضرية والهجرة الخارجية، وأبرز مثل على ذلك في المنطقة العربية يتمثّل في مصر كونها أكبر بلد عربي مرسل للعمالة المهاجرة سواء على المستوى العربي أو الدولي.
      فقد تلقت البلدان العربية 57,9 مليار دولار من تحويلات مهاجريها عام 2020، أي بنسـبة 8 فـي المائـة مـن تدفقـات التحويلات العالميـة(27). واحتلت مصر المرتبة الأولى عربيا؛ إذ تلقت 29,6 مليار دولار من التحويلات في هذا العام(28).
    إن المصاعب الاقتصادية التي جلبتها الليبرالية الجديدة واشتراطاتها الاقتصادية الهادفة إلى تحجيم وظائف الدولة الاقتصادية والاجتماعية أدت بدورها إلى مزيد من التحولات الطبقية في التشكيلات الاجتماعية للدول الوطنية، الأمر الذي أفضى إلى تزايد الهجرات الجماعية القسرية لأسباب اقتصادية - سياسية أمنية(29). وهذه الحالة تنطبق على البلدان العربية التي اتبعت هذا النهج ومنها مصر.     
    توفر مصر مثالا نموذجيا لفحص العلاقة بين تبني الليبرالية الجديدة والهجرة. فقد كانت نموذجا إقليميا للإصلاح القائم على الليبرالية الجديدة، وفي الواقع، تم إدراج الحكومة المصرية في زمن الرئيس حسني مبارك باعتبارها واحدة من أفضل عشر حكومات في العالم في مجال تنفيذ الإصلاحات، وذلك من قبل البنك الدولي. ومن السبعينيات فصاعدا، أنتج التحرير الاقتصادي ضغطا مستمرا على معظم المصرين، مع تفاوت في تأثيراته استنادا إلى الحالة الاجتماعية-الاقتصادية. وكانت إحدى نتائج هذه السياسة ارتفاعا كبيرا في مستوى الهجرة الداخلية والدولية(30).
     فقد أدى الضغط الشديد على سكان الريف الناتج من الإصلاح النيوليبرالي إلى المساهمة بشكل حاسم في حركات السكان هذه. وتؤكد دراسة هجرة الأطفال غير الموثقة من منطقة الدلتا في مصر من جانب منظمة إنقاذ الأطفال في المملكة المتحدة في عام 2012 هذه العلاقة. وقد ركز مشروع الدراسة على القرى التي ينطلق منها عدد متزايد من القاصرين غير المصحوبين بوالديهم والذين حاولوا عبور البحر المتوسط إلى إيطاليا أو إلى بلدان أوروبية أخرى. وسجل الباحثون شهادات قرويين في العيون في محافظة البحيرة. وقد اكتشفوا بأن إيجار الفدان الواحد ارتفع إلى 6000 جنيها مصريا بعد أن كان في السابق مستقرا نسبيا عند 500 جنيه مصري. وارتفعت أثمان الأسمدة بشكل حاد أيضا، في حين انخفضت أسعار المنتجات المصرية الموجهة إلى التصدير بشدة. النتيجة، هو أن الشباب تركوا العمل الزراعي بصفة متزايدة وتوجهوا إلى السفر إلى الخارج. وباتت التنمية يُنظر لها بشكل سلبي من قبل السكان المحليين. وقد لاحظت المنظمة أن الأراضي المتاحة للزراعة تقل بطراد مما يدفع بالمزيد من الشباب إلى الهجرة إلى الخارج وتحفيز المزيد من البناء على الأراضي الزراعية(31)، ومن ثم تراجع الإنتاج الزراعي.
 
تأثيرات الهجرة في البلدان المتقدمة
       باتت الهجرة الدولية جزءا مهما من المشهد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي في البلدان المتقدمة المستقبلة للمهاجرين، لذلك لا بدّ أن تنتج عنها تأثيرات عميقة الأثر في بنية مجتمعات هذه البلدان على مستويات عدة.
    توضح المعطيات الآتية أطروحة الدور المركزي الذي تبدأ الهجرة الدولية في توليه في هيكلة المجتمعات المتقدمة. إذ تُظهر ديموغرافية هذه المجتمعات الفشل البنيوي الواضح في توليد العمالة المنوط بها ملء الوظائف التي يحتاجها النمو الاقتصادي الديناميكي لهذه المجتمعات على نحو يومي. وفي مواجهة عدم التوازن البنيوي بين الآليات الديموغرافية الداخلية والنمو الاقتصادي، كان الحل يتمثّل في اللجوء إلى هجرة العمالة الوافدة بأعداد كبيرة، في المقام الأول، من البلدان النامية التي تعيش وضعا ديموغرافيا مختلفا.
     ستحدث منافذ مختلفة في سوق العمل في سياق استقطاب المهن متأت من العولمة الاقتصادية في المجتمعات المتقدمة والتي يُفضل في الغالب إدخال العمالة المهاجرة فيها، والتي تكون في كثير من الحالات غير موثقة، فهي لا تتوافر على أدوات اجتماعية وسياسية ضرورية للمواجهة وإعادة التفاوض بشأن شروط انعدام أمن العمل وثباته، والتي تسود في هذه الأقسام من سوق العمل(32).
      يعزز النمو الاقتصادي استهلاكا جديدا وأنماطا أخرى من أساليب الحياة. وتؤثر النزعة الفردية وعمليات التغيير في الأدوار المنزلية والعائلية، جنبا إلى جنب مع زيادة دمج المرأة في الحياة العامة والعمل، وتتضمن تحررا وانعتاقا مؤكدين من السلاسل القديمة التي ربطت النساء بالعمل المنزلي.
    تفتح هذه التغيرات الاجتماعية أيضا المجال لزيادة اندماج العمالة المهاجرة، رجالا ونساء، في هذه الأنشطة المتنوعة المرتبطة بإعادة الإنتاج الاجتماعي للسكان الأصليين. من هذا المنظور، تساعد أيضا الهجرة الدولية على إدامة التغيرات الاجتماعية والثقافية والديموغرافية التي تميز المجتمعات المتقدمة الحالية. فعلى سبيل المثال، تتوقف رعاية الأطفال وكبار السن، كخدمات منزلية بحد ذاتها، عن كونها مهمة المرأة المحلية، وتصبح عملا سلعيا يقوم به المهاجرون، لكن وفقا للشروط التي تمليها مرونة العمل وإلغاء القيود التنظيمية التعاقدية في المجتمعات ما بعد الصناعية(33). ونحن نعرف أن هذه البلدان تعاني نقصا كبيرا في العمالة في هذه المجال، وكذلك في مجال الخدمات الصحية، ومجالات أخرى مثل التكنولوجيا، مما تطلب في بعض البلدان مثل ألمانيا وفرنسا إقرار سياسات لقبول العمالة المهاجرة ومنحها إقامات لفترات طويلة. ففي الأولى يتقاعد سنويا مئات الآلاف. وإذا لم يتغير شيء، تتوقع وزارة العمل الألمانية نقصا قدره 7 ملايين عامل بحلول عام 2035. سيكون نقص الموظفين على حساب الرفاهية وقدرة الصناعة الألمانية التنافسية. ولتعويض هذا النقص، تريد ألمانيا جذب 400 ألف عامل إضافي سنويا من الخارج(34).
    إذن، لا مفرّ من الاستعانة بالهجرة الوافدة خصوصا من البلدان النامية التي تشهد فيضا في القوى العاملة، نتيجة لضعف اقتصاداتها، لكن المشكلة تتمثل في صعوبة الاتفاق على سياسات موحدة بين بلدان الاتحاد الأوروبي، فمع صعود اليمين المتطرف والذي يتخذ من الهجرة والأجانب ورقة انتخابية رابحة، تتردد بعض الحكومات الأوروبية في تبني سياسة هجرة واضحة وتتبنى إجراءات خجولة في هذا الجانب.
        من جانب آخر، تشدد الرؤى النظرية الفردية ما بعد الصناعية، على سيولة الهويات الاجتماعية - الثقافية، وتقترح أبعادا متعددة للمؤشرات الاجتماعية – الثقافية، وأنواعًا أخرى من الاندماج، فالمجتمعات المتقدمة لا تتطلب، وعلى نحو متزايد، هويات عرقية معينة، أو توجهات جنسية، أو حالات زوجية، أو أفضليات دينية أو سلوكيات عائلية تكون على صلة وثيقة بعضها ببعض. وفي الواقع، تشدد هذه المقاربات، في كثير من الأمثلة، على أنّ ثمة تيارًا واحدًا سائدًا (أو حتى تياريْن أو ثلاثة تيارات محددة)، وتعبّر، على نحو أقل بكثير، عن السمات المعتادة لكثير من البلدان الغربية(35). وتعكس هذه المقاربة واقع الحال في كثير من البلدان الأوروبية، خصوصًا الغربية منها، حيث يزداد التنوع الاجتماعي والثقافي بفعل مكون الهجرة الوافدة المستمر. 
     وأخيرا، ثمة دليل قوي على العلاقة البنيوية بين النظم الرأسمالية والهجرة الدولية، فقد ارتبطت فكرة إرجاع عدد من العمال المهاجرين إلى بلدهم الأصلي، بإعادة هيكلة الصناعات على المستوى الدولي. وهي فكرة ليست جديدة بل تناولتها كثير من الدراسات وذلك قبل الوقف الرسمي للهجرة في معظم بلدان أوروبا الغربية بعد عام 1974، ففي تقرير قدم للمجلس الأوروبي في كانون الأول/ ديسمبر 1973 يرد ما يأتي: "إن الصناعات في البلدان المتقدمة، خصوصا الصناعات التي تستخدم عددا كبيرا من العمال المهاجرين، ملزمة بمحاولة إقامة مصانع في الدول المصدرة لليد العاملة على أساس أن لا يكون إنتاج هذه المصانع مرتبطا بيد عاملة متخصصة جدا. فنظرا لكون مستوى الأجور في هذه الدول أقل ارتفاعا مما هو عليه في بلداننا، نظن أن المخطط المقترح يمكن تحقيقه بالنسبة لبعض الصناعات دون أن تتعرض هذه الأخيرة لأية خسارة"(36). لكن هذه الفكرة لم تتطور، إلا ابتداء من عام 1974 نتيجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية العميقة في البلدان المتقدمة خصوصا في أوروبا الغربية، ومحاولتها إيجاد مخارج لهذه الأزمة من خلال إعادة هيكلة الصناعات على المستوى الدولي.
   
     
الهوامش
1-   ورويك موراي، جغرافيات العولمة: قراءة في تحديات العولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، ترجمة سعيد منتاق، سلسلة عالم المعرفة 397، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2013، ص 42.
2-   Dennis C. Canterbury, Capital Accumulation and Migration, Leiden: Brill, 2012, pp. 30-32.
3-   Ibid, pp. 30-32.
4-   مجموعة من الباحثين، دراسات اجتماعية – اقتصادية معاصرة، ترجمة هاشم نعمة فياض، بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2015، ص 249.
5-   Alejandro I. Canales, Migration, Reproduction and Society: Economic and Demographic Dilemmas in Global Capitalism, Leiden: Brill, 2020, 135-136.
6-   p. 164.
7-   الحسين بو لقطيب، "أوضاع الرقيق في المجتمع العربي الوسيط"، النهج، العدد 32، السنة 1990، ص 140.
8-   Charles H. Parker, Global Interactions in Early Modern Age, 1400-1800, Cambridge: Cambridge University Press, 2020, p. 115.
9-   هاشم نعمة فياض، أفريقيا: دراسة في حركات الهجرة السكانية، سبها ـ ليبيا: مركز البحوث والدراسات الأفريقية، 1992، ص 21-24.
10-   Parker, p. 115.
11-   فياض، أفريقيا، ص 21-24.
12-   المصدر نفسه، ص 21-24.
13-   هيئة التحرير، "مؤشر الرّق العالمي 2023"، حكامة، العدد 7، المجلد الرابع، خريف 2023، ص 236-239.
14-   صموئيل ب. هنتنغتون، من نحن؟ التحديات التي تواجه الهوية الأمريكية، ترجمة حسام الدين خضور، دمشق: دار الرأي للنشر، 2005، ص 235.
15-   نعوم تشومسكي، سنة 501 الغزو مستمر، ترجمة مي النبهان، دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 1996 ص 75.
16-   الإسكوا، الأمم المتحدة، الاستعراض السادس للمؤتمر الدولي للسكان والتنمية في المنطقة العربية، بيروت، 2023، ص 35.
17-   ديفيد هارفي، الليبرالية الجديدة (موجز تاريخي)، ترجمة مجاب الإمام، السعودية: مكتبة العبيكان، 2008، ص 15-16.
18-   Canterbury, p. 173.     
19-   تشومسكي، ص 22.
20-   هنتنغتون، ص 187.
21-   Canterbury, p. 175.     
22-   Canterbury, p. 174.     
23-   أشرف منصور، الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2008، ص 336-337.
24-   مجموعة من المؤلفين، ص 252-253.
25-   Canales, p. 1
26-   تشومسكي، ص 100.
27-   الإسكوا، الأمم المتحدة، معالجة قضايا الهجرة في المنطقة العربية، بيروت، 2023، ص 4.
28-   ESCWA, Situation Report on International Migration 2021 Building forward better for migrants and refugees in the Arab region, UN, 2022, p. 148.
29-   لطفي حاتم، المنافسة الرأسمالية وسمات بنيتها الأيديولوجية، القاهرة: دار الحكمة، 2017، ص 126.
30-   هاشم نعمة فياض، العلاقة بين الهجرة الدولية والتنمية من منظور البلدان المرسلة للمهاجرين، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022، ص 103-104.
31-   المصدر نفسه، ص 105-106.
32-   Canales, pp. 205-206.
33-   Canales, p. 207.
34-   هاشم نعمة فياض، موضوعات اجتماعية - اقتصادية معاصرة مع التركيز على حالة العراق، بغداد: دار أهوار للنشر والتوزيع، 2024، ص 128.
35-   Caroline B. Brettell & James F. Hollifield (eds.), Migration Theory: Talking Across Disciplines, London: Routledge, 2015, 80.
36-   عزيز صدقي، "حول إشكالية عودة وإعادة دمج العمال المغاربة المهاجرين في الاقتصاد الوطني المغربي"، النهج، العدد 16، لسنة 1987، ص 114.
* نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 442، كانون الثاني 2024.

3
تناقضات منهج الليبرالية الجديدة تجاه الهجرة
ترجمة د. هاشم نعمة
      تناقش المؤسسات المالية الدولية المهيمنة التي تتبنى الليبرالية الجديدة، وصانعو السياسات والأكاديميون زيادة الهجرة، في إطار تحرير السوق لتغذية النموذج الإمبريالي المتمركز حول تراكم رأس المال. وبالرغم من ذلك، فإن رغبة النخب الحاكمة في زيادة الهجرة هي عامل حاضر دائما في تاريخ الرأسمالية. وكما لاحظ إيمانويل نيس (2007) بأن الزيادة في تجارة العمل على المستوى الدولي هي موضوع متكرر في الرأسمالية، والتي كانت واضحة خلال العصر الفيكتوري، عندما كانت التجارة العالمية في العمل تأتي في المرتبة الثانية بعد التجارة في التمويل. لكن في الفترة الحالية من الرأسمالية النيوليبرالية تكمن المشكلة في أن المنظرين والممارسين النيوليبراليين ليسوا صادقين مع عقيدتهم لأنهم لا يفضلون بصدق الحركة غير المقيدة للأشخاص على مستوى العالم.
     تتميز الرأسمالية النيوليبرالية بنزعتين متناقضتين تجاه الهجرة الوافدة – هما زيادة الهجرة وفي الوقت نفسه تقييدها. الأمثلة التي تُبرز هذا التناقض هي أعمال إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي في تقييد الهجرة الوافدة مستهدفة على نحو محدد بلدان فقيرة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأماكن أخرى. والدعوة في الوقت نفسه إلى زيادة الهجرة المنظمة، وهناك مجموعة معقدة من المؤسسات الدولية والأكاديميين والبرامج البحثية والتقارير والوصفات السياسية وصانعي السياسات. هذه المجموعة  مكرسة أيضا لتسهيل تدفقات رأس المال دون عوائق على الصعيد العالمي في خدمة الرأسمالية النيوليبرالية. وهناك بُعد آخر للتناقض وهو أن الرأسمالية النيوليبرالية تعزز الهجرة المنظمة بحيث يجري تفضيل فقط المهاجرين الذين يتوفرون على المال والمهارات العالية للقبول في البلدان الغنية. 
     يعكس هذا التناقض انفصالا بين السياسة والاقتصاد في ظل العولمة النيوليبرالية. إذ يبدو أن هناك فارق زمني بين القاعدة الاقتصادية والنظام السياسي بشأن مسألة الهجرة الوافدة. بينما تتطلب المنفعة الاقتصادية النيوليبرالية توظيف العمالة المهاجرة الرخيصة لتخفيض تكاليف الإنتاج وتحفيز الربح ، نجد النظام السياسي الذي أقيم لتسهيل سير عمل القاعدة الاقتصادية بسلاسة  يقوم بإقامة الحواجز أمام دخول المهاجرين. 
     تفرق الحجج لصالح العمالة المهاجرة بين المهاجرين: العمال في البلدان المرسلة، والعمال في البلدان المستقبلة كمجموعات مختلفة من الناس بطبيعتها. هذا الاختلاف مصطنع نظرا لأن الدور الوحيد للعمال في الاقتصاد الرأسمالي سواء كانوا مهاجرين أو بقوا في البلدان المرسلة أو الوافدين الجدد في البلدان المستقبلة، هو بيع قوة عملهم إلى الرأسمالي الذي يدفع أجورا أعلى.
     يتوزع العمال في العالم على نحو هذه الطريقة التي لاحظها فليب ماتن حيث في عام 2006 "نحو 40 في المئة منهم كانوا يعملون في الزراعة، و20 في المئة في الصناعة، و40 في المئة في الخدمات." في ذلك الوقت، "نحو 60 في المئة من حوالي 100 مليون من العمال المهاجرين في العالم" كانوا "في البلدان المتطورة أو الصناعية، وكان توزيعهم يختلف بشكل واضح عن العمال المولودين في البلد." في الواقع، كان نحو 10 في المئة من المهاجرين في البلدان الصناعية يعمل في الزراعة، و40 في المئة في الصناعة، و50 في المئة في الخدمات، في حين كان فقط 3 في المئة من العمال المولودين في البلد في الزراعة، و25 في المئة في الصناعة و72 في المئة في الخدمات.
     بالنظر إلى توزيع القوى العاملة على مستوى العالم، لماذا تعمل الرأسمالية النيوليبرالية على تعزيز التأثير الإنمائي للهجرة في حين يقيم بالتزامن مع ذلك بعض البلدان والمناطق جدران الفصل وإجراءات أخرى لمنع دخول المهاجرين؟ ما هو الدافع وراء زيادة الهجرة المنظمة والحد من الهجرة في الوقت نفسه؟ من دون شك، هذه العملية مدفوعة بدافع الربح من قبل كل من الشركات التي توظف العمالة المهاجرة وتلك التي لا تعمل ذلك. فالشركات التي توظف العمالة المهاجرة تعمل ذلك لتخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة الربح، في حين أن الشركات التي لا توظف العمالة المهاجرة تريد لحد منها حتى تصبح أكثر قدرة على المنافسة مقابل الشركات التي توظف العمالة المهاجرة. 
     أجبرت سياسات التكيف الهيكلي النيوليبرالية البلدان النامية على الانخراط في ما يسمى بـ "ترشيد" مؤسسات الدولة لتقليل تكاليف تشغيلها. وباتت سياسة الهجرة الآن شكل من أشكال "الترشيد" ولكن تشمل البلد بأكمله بدلا من أن تشمل مؤسسة معينة مملوكة للدولة. وقد جرى تنفيذ إجراءات كثيرة في المؤسسات العامة في السبعينيات والثمانينيات والتي أدت إلى تسريح ملايين العمال من وظائفهم، بهدف خفض التكاليف وزيادة الأرباح.   
     بالطريقة نفسها كان من المفترض أن تصبح فيها المؤسسات العامة "ضعيفة وخالية من العوائق" من خلال سياسات "الترشيد"، المقصود أن البلد ككل، يعني المجتمع والاقتصاد، يجب أن يصبح ""ضعيف وخالي من العوائق" من خلال سياسات الهجرة. وهذا يعني أنه لا ينبغي أن يكون هناك مهاجرون في الاقتصاد يدعمهم دافعو الضرائب من خلال البرامج الاجتماعية. لقد ولّد جدل "ترشيد" ركوب المهاجرين في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة حركات مناهضة للهجرة تتبنى كراهية الأجانب ورهاب الإسلام، وعلى العكس من تأييد الهجرة الكبيرة.
      لا يأخذ هذا الشكل من "ترشيد" الاقتصاد والمجتمع في الاعتبار مساهمات المهاجرين الذين يتقاضون أجورا زهيدة في تخفيض تكاليف الشركات التي تقوم بتوظيفهم، الحقيقة بأن مشغليهم قادرون على بيع منتجات المهاجرين بأسعار منخفضة لأنهم يدفعون لهم أجورا قليلة. وهي لا تأخذ في الاعتبار حقيقة أن العمال المهاجرين هم من يدعمون أسعار المواد الغذائية المنخفضة في البلدان الغنية والتي تدعم أيضا المستهلكين على نحو مباشر في هذه الدول. 
    أيضا، هناك مسألة المنافسة الرأسمالية بمعنى أن بعض الشركات تميل أكثر إلى تشغيل أصناف معينة من العمالة المهاجرة خصوصا المهاجرين غير الشرعيين، مما يمنحها ميزة قلة التكاليف مقارنة بتلك الشركات التي لا تكون في وضع لتعمل الشيء نفسه. الشركات الأخيرة هي الأكثر تشددا في معارضة العمالة الوافدة. هكذا أذن هناك أقسام وقطاعات من رأس المال توظف العمالة المهاجرة وأخرى تمقت ذلك.
      تمثّل خط الصدع الرئيسي في قضية الهجرة بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة في تقرير التنمية البشرية لعام 2009، وفي النقاش حول الاتجاهات الجديدة والتفكير بشأن التأثير التنموي للهجرة في ظل الرأسمالية النيوليبرالية، ويتمثل ذلك في الإجراءات المتناقضة التي تقوم بها النخب الحاكمة في إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتقييد الهجرة الوافدة. لقد اتخذت إسرائيل والولايات المتحدة خطوات منحطة لبناء جدران عازلة لمنع دخول العمالة المهاجرة الفلسطينية والأفريقية والمكسيكية، على التوالي، في حين استثمر الاتحاد الأوروبي ملايين اليوروات في ليبيا كي يراقب هذا البلد البحر المتوسط لإبعاد العمالة المهاجرة الأفريقية عن الاتحاد الأوروبي.

الترجمة من كتاب: Dennis C. Canterbury, Capital Accumulation and Migration (Leiden/ Boston: Brill, 2012).                                                                                     
       

4
     
العلاقة بين الديمقراطية والتنمية مع التركيز على حالة البلدان النامية

د. هاشم نعمة
                                   
      ظلت العلاقة المعقدة بين الديمقراطية والتنمية مثار بحث سواء على المستوى الأكاديمي أو مستوى المنظمات الدولية المتخصصة. ويحتدم النقاش ويتعقد البحث أكثر خصوصا عند تناول هذه العلاقة في إطار البلدان النامية؛ نظرا لأن مسار بناء الديمقراطية ومقدماته وعوامله وتحولاته وفق النموذج الغربي خصوصا في أوروبا، قد بُحث لفترة طويلة ومع ذلك فهو لا يزال يُبحث، وهذا هو ديدن المعرفة. أما في البلدان النامية التي لا تزال تجربتها في التحول الديمقراطي حديثة العهد، ومن ثم فإن معطياتها التجريبية والنظرية المشتقة من هذا التحول لا تزال أيضا في طور البحث والاستنتاج ولو بمديات أقل، بل أن هناك بلدانا نامية أخرى لا تزال لم تشهد هذا التحول وتعيش في ظل نظم مستبدة، هذه البلدان هي أيضا موضع بحث في سياق هذه العلاقة بين التحول الديمقراطي والاستبداد والتنمية.
     تهدف هذه المقالة البحث في هذه العلاقة من خلال التعرف موجزا على تطور الديمقراطية، وتناول الجانب النظري ذي العلاقة، وفحص الدولة الهشة، وبعض الدروس المستخلصة، وإلقاء الضوء مع شيء من التركيز على تجربة البلدان النامية، وأخيرا التوقف عند تجربة العراق. نأمل أن تُسهم هذه المقالة في توضيح بعض جوانب هذه العلاقة الشائكة واستخلاص بعض الدروس لعلها تكون نافعة.

نبذة عن تطور الديمقراطية

       تُعد اليونان القديمة (خصوصا أثينا) على نطاق واسع المكان الذي نشأت فيه الديمقراطية الغربية والفكر السياسي، وكلمة ديمقراطية تمت صياغتها من الكلمتين اليونانيتين demos تعني "الشعب" و kratia تعني "الحكم". نظريا، كان هذا يعني حكم الشعب للشعب عكس حكم الفرد (الأوتوقراطية) أو حكم الأقلية (الأوليغارشية)، أي على شكل ديمقراطية مباشرة، حيث يمكن لجميع المواطنين أن يتكلموا ويصوتوا في الجمعية العامة. عمليا، لم تشمل الديمقراطية الأثينية بالمساواة وحق الانتخاب جميع الأشخاص، لذلك سُمح للمواطنين الذكور فقط بالمشاركة المباشرة، ونخبة سياسية صغيرة، واستُثنيت غالبية عامة الناس المتكونة من النساء والرقيق والمقيمين الأجانب. في الواقع، لم تشمل الديمقراطية اليونانية معظم العناصر الرئيسة للديمقراطية الحديثة – المساواة لجميع الأشخاص قبل القانون وحق الانتخاب. وبالتالي، مثّلت المشاركة المباشرة في الحكومة من قبل قلة خاصة فحوى الديمقراطية الأثينية(1) . وعند عرض هذه التجربة لابد من أخذ السياق التاريخي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في الاعتبار ودوره في نشأة هذه التجربة وتطبيقاتها.
     وبعد قرون تلت، شهدت إنكلترا تحولا بطيئا من المجتمع الزراعي إلى الديمقراطية البرلمانية. وفي فرنسا، كانت هناك حاجة إلى ثورة لإزالة العقبات من أمام الديمقراطية. وفي ألمانيا، أدى نضال الاشتراكيين الألمان في البداية إلى قيام جمهورية فايمار، وهي محاولة هشة لديمقراطية برلمانية والتي ثبت عدم قدرتها على الصمود أمام الكساد الكبير والنازية. واستمر النضال من أجل قيام ديمقراطية دائمة بعد الحرب العالمية الثانية، وأدى ذلك إلى قيام نموذج ديمقراطي ناجح في ألمانيا الغربية. وفي هولندا، لم يُقر حق الاقتراع العام حتى عام 1919، وفقط في عام 1922 ثبت في الدستور حق النساء في التصويت. ويلقي بارينغتون مور الضوء على الظروف التاريخية التي حدثت فيها هذه التحولات، في أوروبا وأماكن أخرى، ويبيّن الدور الأساس الذي لعبته المجموعات الاجتماعية في العمليات السياسية هذه(2). طبعا، كان لعصر النهضة بدءا من القرن الرابع عشر وعصر التنوير الفكري والديني في القرن الثامن عشر اللذين شهدتهما أوروبا والتحولات الاجتماعية - الاقتصادية التي تلت ذلك وتمثلت في زوال الإقطاع وصعود البرجوازية التجارية ومن ثم الصناعية دورا أساسيا في نشوء الديمقراطية الليبرالية وتطورها وتعززها.
     هناك العديد من الطريق لفهم الديمقراطية التي تُرتكب باسمها في كثير من الأحيان أكبر الانتهاكات. بالنسبة إلى الإغريق القدماء، تعني الديمقراطية "حكومة الشعب"، كما اشرنا. وبالنسبة إلى مونتسكيو تتضمن الديمقراطية توزيع سلطات الدولة لتأسيس توازن بين هذه السلطات. مع ذلك، بالنسبة إلى البلدان النامية، على سبيل المثال، بلدان أمريكا اللاتينية، أصبحت الديمقراطية تعني فقط حق أي شخص بالإدلاء بصوته بحرية في الانتخابات. لم يُمارس في الحقيقة هذا الحق بشكل كامل وأسوأ من ذلك، أن الناخبين في الغالب ليس لديهم خيارات حقيقية. وعندما يجري النضال من أجل الديمقراطية في سياق إقليمي من التدخل الأجنبي المستمر تقريبًا، فإن النتائج، تميل إلى التطور نحو أشكال أكثر تعقيدًا من الهيمنة(3) سواء الداخلية منها المتمثلة بالأحزاب السياسية والمجموعات الاجتماعية والاقتصادية والدينية المهيمنة أو الجهات الخارجية متمثلة بالدول الغربية خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي لها تاريخ طويل في التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان وتغيير نظمها السياسية بالقوة كما حصل في دعمها الانقلاب الدموي في تشيلي عام 1973 ضد حكومة منتخبة دمقراطيا؛ لأنها تعارض توجهات الولايات المتحدة في الهيمنة، وهذا مجرد مثال.
 
في الجانب النظري

     لاحظ عالم الاجتماع الأمريكي سيمور ليبسيت لأول مرة عام 1959 بأن الديمقراطية ترتبط بالتنمية الاقتصادية. هذه الملاحظة ولدت كما كبيرا من البحث في موضوعات السياسة المقارنة ذات العلاقة. فقد جرى دعم هذه الفكرة والاعتراض عليها، ومراجعتها وتوسيعها، وإهمالها وإنعاشها. وعلى الرغم من إعلان الخروج بخلاصات من هذا النقاش إلا أنه لم تظهر نظرية ولا حقائق واضحة حول هذه العلاقة(4).
     ظلت العلاقة بين الديمقراطية والتنمية مثارا للنقاش وسط العلماء ويبدو أن هناك وجهات نظر مختلفة بشكل أساسي بشأن تأثير هذا التفاعل. من ناحية، يناقش بعض المنظرين بأن الديمقراطية والتنمية الاقتصادية يعزز كل منهما الآخر. من ناحية ثانية، يرى آخرون بأن الديمقراطية تضر بالتنمية. وما يزال البعض يؤيد فكرة عدم وجود علاقة ملموسة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. علما أنه في العقود الثلاثة الأخيرة، حاول العديد من الباحثين تأكيد مواقفهم بشأن هذه العلاقة، لكن انتهوا إلى استنتاجات متباينة.
    يجادل بعض المنظرين أن الحكومة الديمقراطية هي الأنسب لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. إضافة إلى ذلك، فإن العمليات الديمقراطية ووجود الحريات السياسية تولد الظروف الاجتماعية التي تكون ملائمة أكثر للتقدم الاقتصادي؛ إذ يستنتج البعض بأن هناك علاقة ثابتة وإيجابية بين التنمية الاجتماعية - الاقتصادية والديمقراطية، وهذا واضح من حالة كثير من الدول التي مرت بالتجربة الديمقراطية.       
    هناك مقاربة واسعة الانتشار تعتبر أن الديمقراطية هي ثمرة للتنمية الاجتماعية -الاقتصادية. ومن بحوث تجريبية لمجموعة مختلفة من البلدان خلصت إلى أن التنمية الاقتصادية تتضمن التصنيع والتحضر (ارتفاع نسبة سكان المدن) ومستويات عالية من التعليم وزيادة منتظمة في الثروة الإجمالية للمجتمع، وتكون هذه الشروط أساسية لديمقراطية مستدامة. وعلى الرغم من اتفاق هؤلاء المنظرين بأن الديمقراطية تتطلب مسبقا مستوى معينا من التنمية الاقتصادية، ولكن لا يوجد اجماع واضح حول هذا المستوى ونمط التنمية الذي يخدم هذا الهدف، مع أنه يوجد اعتقاد واسع بأن الفقر يشكل عقبة أساسية أمام التنمية الاقتصادية والديمقراطية.
     إنّ نظرة عابرة للعالم ستظهر أن البلدان الفقيرة تميل لتكون ذات نظم مستبدة، بينما الدول الغنية تميل لتكون ذات نظم ديمقراطية، (توجد دول غنية لكنها ذات نظم مستبدة وهذا ينطبق على الدول ذات الاقتصاديات الريعية خصوصا) مع ملاحظة بأن الديمقراطية ترتبط بدون شك مع مستوى معين من التنمية الاقتصادية. ومع أخذ الأهمية المركزية للتنمية الاقتصادية بالاعتبار، ينبغي التمييز بين آليتين قد ولدتا هذه العلاقة وذلك بالتساؤل فيما إذا كانت البلدان الديمقراطية قد انبثقت على الأرجح من تطور اقتصادي في ظل نظام دكتاتوري أو ظهرت لأسباب أخرى غير التنمية، والملاحظ أنه تستمر الديمقراطية على الأرجح في البلدان التي كانت متطورة بالفعل(5). ومن الضروري الأخذ في الاعتبار عند التحليل، تجربة النمو الاقتصادي للفترة السابقة من الحكم الاستبدادي عند تقييم "نقطة البداية" للديمقراطيات الجديدة مقارنة بحالات الديمقراطيات الأكثر استقرارا(6). وكما لاحظ البولندي برزيورسكي وآخرون فانه يبدو من المعقول الافتراض أن الفقر يولد الفقر والدكتاتورية. كما أن انتشار فكرة التنازل عن ميزة من أجل الحصول على ميزة أخرى بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية لا يبدو سليما.
    تعكس العلاقة القوية بين الديمقراطية والتنمية حقيقة أن التنمية تفضي إلى الديمقراطية. لكن يثار سؤال لماذا تقود التنمية بالضبط إلى الديمقراطية؟ هذا ما جرت مناقشته بصورة مكثفة من قبل الباحثين. بالطبع لم يكن نشوء المؤسسات الديمقراطية تلقائيا وذلك عندما يحقق بلد ما مستوى معينا من الناتج المحلي الإجمالي. ثم أن التنمية الاقتصادية تجلب تغيرات اجتماعية وسياسية وبالتالي تفضي إلى الديمقراطية إلى الحد الذي تخلق طبقة وسطى كبيرة ومتعلمة وواضحة، وأن يرافق ذلك حدوث تحول في قيم الناس ودوافعهم.
     ولكن إذا كان لنظرية التحديث من أي قوة تنبؤية، فلا بد أن يكون هناك مستوى معين من الدخل يؤشر نسبيًا إلى أن البلد سيتخلص من ديكتاتوريته. ومن الصعب على المرء أن يعثر على هذا المستوى: حتى وسط البلدان التي تفي بنظرية التحديث؛ إذ يكون مدى الدخل واسعا جدا، حيث يمكن للدكتاتوريات الاستمرار. علما أنه تطورت نظم مستبدة قليلة على مدى فترة طويلة، وحتى لو تحول معظمها في النهاية نحو الديمقراطية، لكن لا يوجد مستوى معين من الدخل يمكن على ضوئه توقع متى يجب أن يحدث ذلك التحول(7)؛ إذ أن هذا التحول يرتبط بجملة من المتغيرات ذات التأثيرات المتبادلة الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية والبيئية الخارجية والتي قد تساعد هذا التحول أو تعيقه.
    الدرس الأكثر أهمية الذي تعلمناه أن البلدان الثرية التي تميل أن تكون ديمقراطية ليس لأن نشأة الديمقراطية جاءت نتيجة التنمية الاقتصادية في ظل الدكتاتوريات ولكن بسبب - كيفما نشأت- أن الديمقراطيات من المرجح أكثر أن تبقى على قيد الحياة في المجتمعات الثرية. يمكن أن تفتح التنمية الاقتصادية إمكانيات التحول إلى الديمقراطية، عندما تكون ظروف الديمقراطية ناضجة، وأما الصراعات السياسية فتكون نتيجتها غير معروفة. لذلك من الصعب كشف أي عتبة للتنمية من شأنها أن تجعل نشوء الديمقراطية أمرا متوقعا. باختصار، يبدو أن نظرية التحديث تتوفر على القليل من القوة التفسيرية، إن وجدت مثل هذه القوة(8) أصلا.
    أثيرت بعض الأسئلة ذات البعد التاريخي مثل من يسبق أولا الديمقراطية أم التنمية؟ وهل أن الديمقراطية شرط مسبق للنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي؟ وهل ستكون الديمقراطية فقط قابلة للتطبيق وتتعزز عندما يكون هناك مستوى معين من التنمية قد انجز؟ وهل يجب أن تكون المجتمعات مؤهلة للديمقراطية أو تكون كذلك من خلال تطبيق الديمقراطية؟ وهل تكون التنمية الاقتصادية مستدامة بدون التطور السياسي والعكس بالعكس؟
     من ناحية أخرى، تظهر العلاقة الطردية في الاقتصاد الريعي ما بين الاعتماد القوي للدولة في إيراداتها على النفط مثلا وضعف القاعدة الاقتصادية التي تجمع الافراد للمطالبة بحقوقهم السياسية. وبما أنهم لا يساهمون في الدخل لذا يصبحون اقتصاديا وبالتالي سياسيا رعايا يسعون وراء منافع فردية أثناء قيام الدولة بإعادة توزيع الريوع النفطية في شكل إنفاق حكومي هدفه الأساس الحفاظ على الأوضاع الراهنة وتناسب القوى السائدة وتأبيدها(9)، وهذه تُعد من العوامل المهمة في إعاقة التحول إلى نظام ديمقراطي حقيقي كما في حالة العراق. علما أنه لا يكون النضال من أجل الديمقراطية يتعلق فقط بإقامة نظام سياسي، بل يكون الأمر الحاسم قيام ديمقراطية دائمة.
     لا بد من التذكير بأن وجود اقتصاد متنوع كأساس يساعد على إقامة ديمقراطية حقيقية لا يعني أن دول الإنتاج ذات الاقتصاديات غير الريعية هي دول تشهد ازدهارا ديمقراطيا، ولكنها الأقدر على التحول نحو الديمقراطية من البلدان النفطية(10). وهذا يتفق مع ما أشرنا إليه أعلاه.
     في الواقع، وجد أن استمرار الديمقراطيات من السهل جدا توقعه. على الرغم من أن بعض العوامل الأخرى تلعب أدوارا، إذ أن معدل دخل الفرد هو إلى حد بعيد أفضل مؤشر على بقاء الديمقراطيات على قيد الحياة. تستمر الديمقراطيات في المجتمعات الثرية على الرغم مما يحدث لها، بينما تكون الديمقراطيات هشة في البلدان الفقيرة. ولكن لا يحكم دائما عليها بالموت. ويساعد التعليم على استمرارها بشكل مستقل عن الدخل، ويجعلها التوازن بين القوى السياسية أكثر استقرارا. وتكون المؤسسات أيضا مهمة: فتتوافر الديمقراطيات الرئاسية على احتمال أقل للاستمرار في ظل جميع الظروف التي يمكننا أن نلاحظها مقارنة بالديمقراطيات البرلمانية(11) التي هي أكثر شيوعا على ما نعتقد.
     هناك سببان واضحان لقيام الديموقراطية قد يكونان مرتبطين بمستوى التطور الاقتصادي: قد يزداد احتمال قيام الديمقراطية مع تطور البلدان اقتصاديا، أو بعد قيامها لأي سبب من الأسباب، وقد تتوافر الديمقراطيات على احتمال أكثر للاستمرار في البلدان المتطورة. علما أنه يُدعى التفسير الأول "ذاتي النمو" ويُدعى الثاني "خارجي المنشأ"(12).
    أخيرا، هناك عوامل أخرى تؤثر في البناء الديمقراطي منها: الارث السياسي، أي هل كان البلد مستقلا أم خضع للسيطرة الاستعمارية (في كثير من الدول كانت الديمقراطية من ارث الاستعمار لكنها لم تستمر)، والتاريخ السياسي للبلد وعدد المرات التي حكم فيها من قبل النظم المستبدة، والبنية الطبقية والدينية والمذهبية والبنية الإثنية واللغوية، والبيئة السياسية الدولية ونسبة النظم الديمقراطية في العالم خلال فترة معينة وغيرها.
 
الدول الهشّة

 عندما نعالج الدول الهشّة(13) فإنه من الخطأ الفادح تجاهل أهمية الشرعية؛ إذ إما بسبب نقص الشرعية تصبح الدولة هشة، وإما لأنه يجب بناء دولة قابلة للحياة وبالتالي شرعية في بلد ما بعد الصراع. في الوقت نفسه، علينا التأكد من أن المؤسسات تتلقى الإشارات من المجتمع وتستجيب لها على نحو كاف. لذلك من المهم ليس فقط دعم القدرات الفنية للبرلمانيين، لكن مساعدتهم أيضا لزيادة شرعيتهم كممثلين من خلال محاسبة ناخبيهم لهم على أفعالهم. من الأهمية بمكان عدم التقليل من مخاطر الاستعانة بمصادر خارجية في ما يخص مهام ومسؤوليات الحكومة الرئيسة. ومن الطبيعي أن تكون الخدمات الأساسية عاجلة، لكن ينبغي أن تؤخذ الشرعية في الاعتبار في ضمان استلامها(14) من قبل المواطنين. وهذا الحالة تنطبق على العراق، حيث أن نقص أو انعدام الخدمات الأساسية يضعف شرعية النظام السياسي.
      يُعد نسبيا تقدم الديمقراطية هدفا جديدا في التعاون الإنمائي، إذا فُهم بالمعنى الدقيق للكلمة، فهو يعني التطور السياسي. لكن ينبغي أن يميز بوضوح تعزيز الديمقراطية عن حقل تقوية نظام الإدارة العامة، حيث للأخيرة تاريخ طويل في التعاون الإنمائي. يظل في الواقع كثير مما يُطلق عليه حاليا بتعزيز الديمقراطية في سياق برامج الحوكمة الجيدة ذات الطبيعة التقنية: المساعدات الانتخابية ودعم الخبراء والدعم المادي للمؤسسات ذات العلاقة مثل البرلمان(15)، وهو غير كاف لتعزيز الديمقراطية في البلدان النامية.
     هناك من يرى أن إجراء الانتخابات خلال عمليات الإصلاح الأولية يعمل عمليا على إبطائها؛ لسبب بسيط يتمثّل في أنه في البيئات ذات الدخل والتعليم المنخفضين جدا، تميل الانتخابات إلى أن تطغى عليها الأجندات الشعبوية. وستنتصر الشعبوية تقنيا على الاستراتيجيات الأكثر تطورا في هذه البيئات(16)، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك ومنها ما يجري في العراق.

بعض الدروس

     في الواقع، تستمر الدكتاتوريات لسنوات في بلدان كانت ثرية، استنادا إلى معايير المقارنة ذات العلاقة. ومهما كانت العتبة التي من المفترض أن تؤدي التنمية عندها إلى حفر قبر النظام المستبد، إلا أنه من الواضح أن الديكتاتوريات لا بد أن تكون قد مرّت بهذه العتبة وهي في وضع جيد. علما أنه ازدهرت أيضا الدكتاتوريات في سنغافورة وتايوان وإسبانيا والمكسيك وبلدان أخرى لسنوات عديدة بعد أن ارتفع الدخل فيها فوق 5000 دولار، هذا الدخل الذي لم يكن لدى أستراليا وبلجيكا وفرنسا وألمانيا الغربية وإيسلندا وإيطاليا وهولندا والنرويج بحلول عام 1951. وهناك دكتاتوريات استمرت على الرغم من الاحتمال القائل أنه ينبغي ان تتحول إلى الديمقراطية، إذ جرى توقع ذلك استنادا إلى مستوى التنمية وحده(17). وهذا يُظهر مدى تعقد العلاقة بين التحول الديمقراطي والتنمية وارتباطه بعوامل أخرى أكثر تشعبا.
     فُرضت الديمقراطية في بعض البلدان من قبل دول الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية. تشمل هذه البلدان ألمانيا الغربية التي بحسب التوقع كان ينبغي أن تصبح ديمقراطية بحلول عام 1952، واليابان التي أصبحت ديمقراطية عام 1965(18)، علما أنه ذُكر هذان المثلان مرارا في خضم احتلال العراق من قبل أمريكا وبريطانيا لتبرير الاحتلال وفرض ما ادعي أنه ديمقراطية.
     حاليا، من الممكن أكثر مقارنة بالسابق قياس التغيرات الرئيسة والمدى الذي تقدمت فيه بلدان معينة. فقد جعل التحليل المتعدد المتغيرات من استطلاعات القيم ذلك ممكنا لفهم التأثير النسبي للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأشارت النتائج إلى خلاصة تقول بأن التنمية الاقتصادية تفضي إلى الديمقراطية بقدر ما تحدث من تغييرات هيكيلية معينة (خصوصا صعود قطاع المعرفة) وتغييرات ثقافية معينة. كما تؤثر الحروب، والاضطهاد والتغييرات المؤسساتية، وقرارات النخب وقادة معينين في ما يحدث، لكن تعد التغييرات البنيوية والثقافية عوامل رئيسة في نشوء الديمقراطية واستمرارها.
      وهناك من يرى أنه من أجل تعزيز الديمقراطية نحتاج أن نتعلم من أخطاء الماضي. ولا يمكن للدمقرطة أن تتعزز بالاعتماد على النماذج الغربية فقط. إذ أن الدعم المؤثر للدمقرطة ينبغي أن يركز على المبادئ الديمقراطية العامة في سياق اجتماعي - اقتصادي، سياسي معين.
     في الهند مثلا، لم تتغير بشكل جذري نسبة السكان الذين يمكن تصنيفهم كفقراء بالمقياس المطلق منذ الاستقلال. يعني هذا أن التجربة الهندية لا تؤكد توقع الأداء الجيد للنظم الديمقراطية في جميع الأحوال بشأن الرفاه الاجتماعي. إذ من ناحية بُعد النمو تبدو الصورة أكثر تعقيدا قليلا: حيث كان هناك تأكيد على التصنيع، ولكن بسبب المعدل المنخفض للنمو في القطاع الزراعي، كانت النتيجة الإجمالية نموا ضعيفا إلى حد ما.
      لم تعتمد كوريا الجنوبية على الاطلاق في بداية التصنيع على الديون الخارجية أو الاستثمارات الأجنبية، وبدلا من تطبيق توصيات صندوق النقد الدولي الدوغمائية (المتزمتة)، اختارت قيادة كوريا الجنوبية تبني استراتيجية تنمية خاصة بها. وتميزت سياساتها البديلة باستبدال الواردات مترافقة مع ترويج أو تعزيز مكثف للصادرات، وكلها مدعومة بتدخل الدولة القوي كمخطط وقائد ومحفز التنمية. وفيما بعد، جرى فتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة من أجل جذب رأس المال، وكان الهدف من ذلك هو توجيهه نحو الشركات، حيث يمكنها بلورة نقل التكنولوجيا والمساعدة على بناء قدرات تكنولوجية محلية(19). وكانت النتيجة تحقيق تطور اقتصادي وصناعي لافت، وأصبحت الشركات الكورية تستحوذ على عدد غير قليل من المشاريع الصناعية في العديد من البلدان ومنها العراق، حيث على سبيل المثال أن الشركة الرئيسة التي عُهد إليها بإنشاء ميناء الفاو هي كورية. على الرغم من أن هذا التطور لم يكن بعيدا عن الازمات التي هي سمة النظام الرأسمالي، كما حدث في أزمة عام 1998 في منطقة شرق آسيا، حيث أن كوريا الجنوبية جزء منها.

البلدان النامية

    ينبغي علينا أن ندرك أن الحد من الفقر البنيوي لا يمكن تحقيقه دون ديمقراطية حقيقية. لكن هذا لا يعني فرض الديمقراطية بالقوة، أو الترويج لإرساء الديمقراطية كحل سريع لمشاكل التنمية المعقدة. وينبغي أن يشجع التعاون الإنمائي ويدعم عمليات التغيير والتحرر السياسيين الناشئة في البلدان النامية والتي ستساهم في نهاية المطاف بوجود عالم مستدام مع فقر أقل ومزيد من المساواة. للقيام بذلك، هناك حاجة إلى التركيز على زيادة وصول الفقراء أنفسهم إلى هذه العمليات والمشاركة فيها. لقد حان الوقت لفاعلي الديمقراطية والتنمية لتوحيد جهودهم .إذ يتطلب هذا النوع من التعاون الإنمائي مؤسسات سياسية، وطموحات واقعية، واستراتيجية تتناسب مع الحقائق السياسية على الأرض. في الواقع، يتطلب الأمر، عين على الإصلاحات الديمقراطية الضرورية وعين على ميزة الديمقراطية. وفي السياق العالمي المضطرب الذي نعيش فيه خصوصا، فإن أوروبا ملزمة بأن تفعل أكثر بكثير مما فعلت حتى الآن؛ إذ أن مصداقية جهودها الإنمائية على المحك(20) في الوقت الحاضر في ما يخص دعم البلدان النامية أكثر من أي وقت مضى.
    لا توجد علاقة تلقائية بين الشكل الديمقراطي للنظام وإجراءات تحسين الرفاه الاجتماعي للجماهير.  تتوافر الديمقراطية على إمكانات في هذا الصدد، والتي قد تتكشف أو لا تتكشف، وهذا يعتمد على عدد من العوامل من بينها الأكثر أهمية، الموارد والقوة والوعي والتنظيم والتأثير السياسي للقوى الشعبية. وينبغي أن يُنظر إلى هذا الأمر في ما يتعلق بطابع النخب وقوتها، التي تتعاون غالبا في تحالف مهيمن. ويكون وضع النخبة الزراعية ذا أهمية خاصة، بسبب من أنها قد تمنع إجراء الإصلاح في المناطق الريفية، والذي غالبا ما يكون حيويا لتحسين الرفاهية بشكل عام(21) ويمكن مقارنة ذلك بالعقبات الإدارية والاجتماعية التي واجهت تطبيق قانون الإصلاح الزراعي في العراق الذي شرع عام 1958.
    عندما يشرع النظام العسكري في تبني نسخة من النمو المركزي الذاتي والذي يكون موجها بشكل خاص إلى النخبة، في جانب كل من العرض (التركيز على السلع الاستهلاكية المعمرة) والطلب (التصنيع ذو رأس المال الكثيف مع تحقيق معظم الفوائد لطبقة قليلة من الموظفين والعمال المهرة وذوي الياقات البيضاء). فإن هذا يعني أن الغالبية الفقيرة من السكان لم تكن تشارك حقا في عملية التنمية؛ إذ أن الاحتياجات الأكثر إلحاحا بالنسبة لهذه الغالبية هي الصحة الأساسية والسكن والتعليم وفرص عمل مجزية(22).
      هناك مشكلة أخرى تثار بشأن برهان الاستقرار. فعلى سبيل المثال، يكون في الغالب الاستقرار في الشرق الأوسط إما ظاهريا وإما هشا في أفضل الأحوال. إن القيام بإصلاحات ديمقراطية سيمكن بلدان المنطقة من الارتباط مع عالم آخذ في العولمة. وكما في أماكن أخرى، فإن الدمقرطة تُشكل شرطا أساسيا للعدالة والازدهار في هذه المنطقة. اليوم، وبعد الفشل في العراق، نحن نشهد إعادة التأكيد على الاستقرار كهدف رئيس. ولكن يمكن فقط أن يكون للاستقرار معنى عندما يستند إلى التنمية والسلام والأمن. لذلك ستزيد في النهاية الإصلاحات الديمقراطية الحقيقية من داخل المجتمعات الاستقرار الحقيقي(23) . وما اندلاع الانتفاضات الشعبية في عدد من البلدان العربية، بدءا من عام 2011، إلا محاولات أولية لإقامة نظم ديمقراطية في المنطقة العربية، وعلى الرغم من الفشل الذي أحاط بتحقيق أهدافها فيمكن القول أنها تمثّل بروفات أولية تنبئ بحدوث تحولات أكثر عمقا واتساعا مستقبلا.
      إذا كانت مؤسسات دولية خصوصا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد أدت دورا في دفع بعض النظم العربية التي لجأت إليها بهدف جدولة ديونها والحصول على قروض وتسهيلات اقتصادية، للسير في طريق التعددية السياسية والانفتاح السياسي، وذلك باعتبار أن هذه المؤسسات تشدد على مسائل مثل حقوق الإنسان وسيادة القانون والشفافية، إلا أنه في المقابل، فإن سياسات التكيف الهيكلي التي اضطرت النظم المعنية لتنفيذها بحسب وصفات الجهتين وبضغوط منهما قد كان لها تأثيراتها السلبية في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الدول المعنية، حيث أدت إلى تزايد حدة مشكلة البطالة، وتفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، وتدهور معيشة قطاعات واسعة من المواطنين وخصوصا الفقراء ومحدودي الدخل. ونظرا لذلك فقد ترتب على هذه السياسات اندلاع تظاهرات وأعمال عنف في العديد من الدول، اصطلح على تسميتها بـ "إضرابات صندوق النقد"، ما دفع النظم الحاكمة إلى اتخاذ إجراءات غير ديمقراطية بهدف مواجهة هذه الاحتجاجات الجماعية، والاستمرار في تنفيذ السياسات المعنية(24). وهذا ما فاقم الأوضاع أكثر وعجل باندلاع الانتفاضات العربية المشار إليها.
      في البلدان الأفريقية، وبسبب تقصير أداء جميع المؤسسات الرسمية بشكل نظامي في نظر التوقعات الشعبية، سوف يسد الناس الثغرات المؤسساتية بالعلاقات غير الرسمية. وكما في أماكن أخرى، تقرر فعالية الديمقراطية مقدار المساحة المتبقية للمؤسسات غير الرسمية لتقويض التنمية المستدامة والمنصفة(25). وينطبق هذا الحال على العراق، حيث تقوض المؤسسات غير الرسمية ومنها المليشيات أي تنمية حقيقية بمعناها الشامل.
     طالما طُرح سؤال هل التدخل الخارجي وتعزيز الديمقراطية يتوافقان في ما بينهما على طول الخط؟ إن المساعدات الإنمائية في نموذجها التقليدي من شأنها أن تقوض الديمقراطية بدلا من تعزيزها فعليا؛ بسبب من أن مثل هذه المساعدات تقدم في الغالب في ظل شروط غير شرعية، فعلى سبيل المثال، جعل المساعدات هذه عرضة للنقاش واتخاذ القرار بشأنها في الهيئات الوطنية مثل البرلمان، كما وضح ذلك إنيك فان كيسيل في بحثه حول مستقبل الديمقراطية في إفريقيا(26)  وهذا ينطبق أيضا على بلدان أخرى خارج القارة.
      في ضوء مشكلات التنمية المعقدة، وعدم المساواة والاستبعاد الاجتماعي والعنف والإفلات من العقاب التي ابتليت بها أمريكا اللاتينية. سيتعين على الديمقراطيات في المنطقة إيجاد الحلول لهذه المشكلات قريبا إذا هي أرادت الاستمرار. وعندما لا يستطيع عدد كبير من الشباب المشاركة في التقدم الاقتصادي، فهم ليس لديهم ثقة في المؤسسات الرسمية الحاملة للديمقراطية. وإذا ترك التهميش دون معالجة، فإنه سيقود إلى المزيد من العنف والاجرام المؤسساتي. إن منع ذلك هو أكبر تحد لبقاء الديمقراطية في أمريكا اللاتينية(27) التي شهدت نظمها السياسية تقلبات ما بين الدكتاتورية والديمقراطية بتأثير العوامل الداخلية والخارجية.
     هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن العامل المهم لاستقرار النظام هو أيضا توزيع الدخل بين المجموعات المختلفة. ويمكن أن يحفز التفاوت الكبير في الدخل في ظل النظم الدكتاتورية، الحركات التي تجذبها وعود المساواة في الديمقراطية. وقد تسعى المجموعات الاجتماعية المهيمنة في ظل الديمقراطية إلى اللجوء إلى الاستبداد عندما يمارس الفقراء حقوقهم السياسية- سواء في شكل حق الاقتراع أو حرية تأسيس الجمعيات- التي تنتج منها الضغوط  المطالبة بالمساواة.
     لسوء الحظ، يكاد يكون من المستحيل اختبار هذه الفرضيات. إذ أن أفضل معطيات متوفرة بشأن توزيع الدخل العائدة إلى دينينجر وسكوير عام 1996، لا تزال بعيدة عن الاكتمال وتجمع بين الأرقام التي جرى جمعها بطرق مختلفة. وبالنسبة إلى كثير من البلدان الأخرى، فإن المعلومات إما غير متوفرة على الاطلاق، وإما متوفرة فقط لسنوات متفرقة وبشكل غير مُنظم(28) . وهذا ما يعيق التحليل المنهجي والخروج بخلاصات أكثر موثوقية.
     هناك حاجة لإلقاء نظرة نقدية على الحكومة وأعمال مانحيها، وعند الضرورة، اتخاذ خطوات لضمان أن التعاون من أجل التنمية لا يُضعف المؤسسات الديمقراطية الوطنية أكثر. وإذا أثر هذا الجانب في التعاون الإنمائي، فإن المساعدة ستكون في الواقع غير مسؤولة(29) ، لأنها تمثُل تدخلا في الشؤون الداخلية.
 
العراق
    بالنسبة إلى العراق، فقد جاءت تجربته الديمقراطية المتعثرة إثر احتلال، وكان البلد قبل ذلك منهكا بسبب الحروب الداخلية والخارجية والعقوبات القاسية التي فرضتها الأمم المتحدة بعد غزو الكويت من قبل نظام صدام حسين عام 1990؛ إذ انتشر الفقر على نطاق واسع وتراجعت الخدمات الأساسية والتعليم والصحة. ونتيجة تبني نهج المحاصصة الطائفية والإثنية الحاضن للفساد المالي والإداري بعد سقوط النظام عام 2003، لذلك لم تنطلق تنمية اجتماعية - اقتصادية حقيقية ترافق التغيير السياسي وتعززه نحو بناء نظام ديمقراطي على الرغم من ارتفاع عائدات العراق من النفط، بل ظلت أغلب المصانع معطلة والزراعة تتراجع، وتعزز التفاوت الطبقي وانتعشت الفئات الطفيلية وتفتت النسيج الاجتماعي وضعفت الهوية الوطنية أمام انتعاش الهويات الفرعية، الطائفية والإثنية والقبلية والمناطقية. وكل هذه الأمور لا بد أن ترتبط بعلاقة عكسية سلبية مع تعزيز الديمقراطية وتزيد من تعثرها وتشوهها.
     ونحن نعرف من تجارب المجتمعات أنه كلما انتشر الفقر والعوز وضعف الأمن فإن المطالبة بالحريات والحقوق السياسية تتراجع، وتصبح الأولوية لمتطلبات الحياة الأساسية. وقد لاحظنا ذلك من شعارات انتفاضة تشرين 2019، التي ركزت في مضمونها على العدالة الاجتماعية ولم تركز على تعزيز الديمقراطية كنظام. بل هناك من يبحث عن منقذ حتى لو كان مستبدا عندما تتردى الأوضاع، وتجربة تونس شاهد على ذلك، إذ مهد ضعف التنمية الاجتماعية-الاقتصادية إلى عودة الاستبداد.
    من جانب آخر، بات الريع النفطي عائدا مباشرا للدولة العراقية يمثّل المفترق الأساس في الفلسفة الاقتصادية-السياسية، وهو أما السير في طريق التنمية والتحديث والتحول من المجتمعات ما قبل الرأسمالية إلى حالة اجتماعية-اقتصادية جديدة تتمثل بآفاق دولة المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية ونشوء الدولة الديمقراطية الحديثة أو الغاء الهياكل المؤسسية والتمحور حول نمط انتاج يعتمد الريع النفطي أداة لمركزة السلطة الذي يزيد من استبدادها(30). وهذا هو المتحقق في الواقع في مجرى التراجع في مجال حقوق الإنسان وحرية التعبير وقمع الحريات.
    وعلى الرغم من كثرة الحديث عن إعادة الإعمار في العراق، إلا أن ما تحقق حتى الآن محدود ومتواضع بكل المقاييس. ومن أسباب ذلك أن هناك مشكلات ارتبطت بعملية إعادة الإعمار ذاتها، وخصوصا في ما يتعلق بخطط إعادة الإعمار، وعمليات تميلها وإدارتها، ناهيك عن حجم الفساد المرتبط بهذه العملية. وهذه الأوضاع خلقت مشكلات وتحديات تُعقد بكل تأكيد عملية بناء مؤسسات ديمقراطية(31). وقد ثبت أن نهج المحاصصة الطائفية - الاثنية هو الحاضنة الأهم لتوليد الفساد الإداري والمالي وانتشاره في مفاصل الدولة والمجتمع، وأن مكافحته سوف لن يكتب لها النجاح  - بل الحديث عنها مجرد للاستهلاك – في ظل هذا النهج وباستخدام أدواته نفسها.
 
   الهوامش


 (1) European Parliamentarians with Africa, Democracy: Cornerstone for Development, Amsterdam: 2012, p. 15.
 (2) Bert Koenders, Democracy Meets Development in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 104.
  (3)Victor Manuel Figueroa Sepulveda (ed.), Development and Democracy: Relations in Conflict, Leiden/ Boston: Brill, 2017, p. 112.
(4) Adam Przeworski et all., Democracy  and Development, Cambridge University Press, 2000, pp.78-79.
5)) Ibid., p. 78.
6)) Georg Sorensen, Democracy, Dictatorship and Development: Economic Development in Selected Regimes of the Third Word (Hampshire/ London: Macmillan, 1990(, p. 177.
7)) Przeworski et all., p. 97.
(8) Ibid., p. 137.
(9) صالح ياسر حسن، الريوع النفطية وبناء الديمقراطية الثنائية المستحيلة في اقتصاد ريعي، بغداد، مركز المعلومة للبحث والتطوير، 2013، ص 173.
(10) المرجع نفسه، ص 174.
(11) Przeworski et all., p. 137.
 (12)Ibid., p. 88.
(13) لمقارنة مفهوم الدولة الفاشلة ومقررات فشلها، راجع: هاشم نعمة فياض، دراسات في الدين والدولة، بغداد، المركز العراقي للدراسات والبحوث المتخصصة، 2018، ص 101-106.
(14) Koenders, p. 117.
15)) Bert Koenders & Cor Beuningen, "Democracy, Nation Building and Development", in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 82.
)16) Paul Collier, "Fragile States", in Democracy and Development, Amsterdam, KIT Publishers, 2008, p. 93.
 (17) Przeworski et all., p. 94.
18)) Ibid., p. 87.
)19) Cristina Recendez Guerrero, Economic Growth, Democracy and the Construction of Citizenship in South Korea, in Development and Democracy: Relations in Conflict, Leiden/ Boston, Brill, 2017, pp. 109-110.
(20) (20) Koenders, p. 103.
(21) Sorensen, p. 166.
(22) Ibid., p. 181.
(23) Koenders, pp. 109-110.
(24) حسين توفيق إبراهيم، العوامل الخارجية وتأثيراتها في التطور الديمقراطي في الوطن العربي، في الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكيك، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، ص147 - 148.
(25) Koenders, p. 112.
(26) Koenders & Beuningen, p. 73.
(27) Koenders, p. 113.
(28) Przeworski et all, p. 117.
(29) Koenders, p. 115.
(30) حسن، ص 182.
(31) إبراهيم، ص 155.





5
الليبرالية الجديدة وتناقضاتها

خيمينا دي لا بارا
ر.أ. ديلو بونو
ترجمة: د. هاشم نعمة

    عندما أضطر التوسع الرأسمالي العالمي للتعامل مع فترات الركود المتكررة خلال السبعينيات، جرى نشر استراتيجية جديدة لتوسيع تغلغله في الأسواق الوطنية. وقد أدى هذا إلى مواجهة بين احتياجات رأس المال العابر للحدود واحتياجات تشكيلات أمريكا اللاتينية غير المتكافئة والمتخلفة. ومع استثناءات قليلة، أدت الأزمة التي تلت ذلك في نموذج اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي لإحلال الواردات إلى فرض تعديل هيكلي على النحو الذي تمليه القوى الاقتصادية العظمى الأساسية. وتشير هذه الأزمة الناتجة داخل الدولة التنموية والكوربوراتية إلى أن موجة أخرى من الإصلاحات كانت وشيكة.
     تشكلت الخلفية الجديدة للتنمية من ظهور تكتل قوي من الشركات الضخمة العابرة للوطنية التي أطلق عليها المنظر الأرجنتيني أتيليو بورون "لوياثانس الجديد" (2000). يُتوقع الآن من الدول ذات السيادة في أمريكا اللاتينية أن تتكيف مع "الحقوق الطبيعية" لرأس المال العالمي. وفي وقت لاحق، كان من الواضح أن إعادة الهيكلة العالمية للتراكم الرأسمالي في السبعينيات قد مثّل بداية لما نعرفه الآن بـ "العولمة" في حين أصبحت السياسات الاقتصادية والسياسية التي دعمتها تُعرف بالليبرالية الجديدة. في ظل الليبرالية الجديدة، اعتبر دعم الدولة بعد إصلاحها مرادفا لوعود التنمية للجميع، وظروف معيشية افضل وزيادة مستويات الاستهلاك الشخصي. وستكون الوسيلة لتحقيق ذلك هي السوق، وسيتم إقصاء الدولة التمثيلية لتأكيد سلبية المجتمع المدني وحرمة حقوق الملكية الخاصة باعتبارها أفضل طريقة لتجربة الحقوق الفردية.
     مع استثناءات قليلة، مثل دولة جزيرة كوبا، أصبحت الليبرالية الجديدة بسرعة متوطنة في أمريكا اللاتينية. وفي أعقاب فترتين من حكم المحافظين الجدد في عهد رولاند ريغان، أصدر عضو في الإدارة التي خلفت جورج بوش (الأب) ما أصبح يعرف باسم "إجماع واشنطن"، أي مجموعة من المبادئ التوجيهية للشكل الجديد لحكم الدولة الذي تضمن: الانضباط المالي؛ إعادة تنظيم أولويات الانفاق العام؛ إصلاح الضريبة؛ تحرير معدلات الفائدة؛ أسعار صرف تنافسية؛ تحرير التجارة؛ تحرير الاستثمار الأجنبي المباشر الداخل؛ الخصخصة؛ رفع القيود؛ وتعزيز جميع حقوق الملكية (واشنطن 2002). في الواقع، أصبح التراجع الجذري عن المبادئ اليكنزية يُمثل الشكل الوحيد الممكن للتطور الديمقراطي.
      بالطبع، لم تكن عملية قبول إملاءات واشنطن سلمية ومتناسقة. كانت الليبرالية الجديدة قد فُرضت أولا عن طريق التجريب وتحت تهديد السلاح في حالة شيلي في عام 1973. وفي أوائل الثمانينيات، خضعت البلدان المثقلة بالديون للتكيف الهيكلي كشرط للحصول على قروض جديدة من أجل بقائها. وعملت المبادرات الجديدة لواشنطن على توحيد هذه السياسات الليبرالية الجديدة وترسيخها من خلال سياسات التجارة والاستثمار "التفضيلية" التي بلغت ذروتها في مجموعة كاملة من اتفاقيات التجارة الحرة شبه الإقليمية والثنائية التي كانت اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية أولها.
     سعت الليبرالية الجديدة إلى خلق الأساطير الخاصة بها بشأن توزيع الثروة، وإحياء الفكرة التي فقدت مصداقيتها فعليا القائلة بأن الرأسمالية تصحح نفسها بنفسها وتتطور نحو المزيد من المساواة. ما تم تفسيره على أنه عدم مساواة متأصلة سيظل عند مستوى "مقبول"، كما تقول الخرافة، وسيعمل "سحر السوق" على تسخير التقنيات الجديدة والقوية التي من شأنها تحقيق أفضل عالم ممكن لعدد أكبر من المواطنين. و تحت العبارات الأيديولوجية المتناغمة، سعى إجماع واشنطن لتسهيل الوصول إلى الموارد الطبيعية والمواد الخام الرخيصة في المنطقة، مع التركيز المتزايد على الطاقة. كما اقترحت سياسات تجارية مصممة للاستفادة من هيمنة الولايات المتحدة على التكنولوجيا والمعلومات لتعميق هيمنتها على اقتصادات أمريكا اللاتينية الناشئة. ويسعى الجيل الجديد من مبادرات التجارة العالمية إلى تجريد الدول الوطنية من عمليات صنع القرار الأساسية الخاصة بها، ووضعها في أيدي مؤسسات فوق وطنية وغير ديموقراطية مثل مؤسسات التمويل العالمية والشركات فوق الوطنية، وإخضاعها لآليات التحكم التي تعمل خارج نطاق المؤسسات الوطنية. في هذا السيناريو، وبما إن الكثير من الشركات فوق الوطنية لديها ميزانيات أكبر بكثير من معظم دول أمريكا اللاتينية، فستكون التباينات واضحة إلى حد كبير. باختصار، كان هذا بمثابة هجوم رأسمالي عالمي يهدف إلى تكريس "حقوق" رأس المال على حساب الحقوق البشرية والبيئية لشعوب المنطقة وخارجها.
     تمثّل التناقض الواضح لهذه العملية بالفصل العالمي لصنع القرار الاقتصادي عن آليات المشاركة الديمقراطية. ويُمنع المواطنون الذين صوتوا في الانتخابات على نحو متزايد من ممارسة تأثيرهم على السوق التي على العكس من ذلك استجابت لإملاءات الشركات الأجنبية الكبيرة. لقد ركزت الليبرالية الجديدة بدقة على تفكيك جميع أنظمة وقدرات التدخل لدى الدول الوطنية، مدعية أن "السوق الحرة" لا يمكن أن تتسامح مع أي شكل من "تدخل الدولة" في الشؤون الاقتصادية. وباسم الحرية، سيحل الاقتصاد محل السياسة. في حين يجادل بورون بأنه كان هناك دائما اهتمام معين بالمساواة في المبادئ الغربية الديمقراطية منذ أفلاطون، لكن الليبرالية الجديدة كانت تطمح لتحقيق حالة من عدم الاكتراث الكامل بالتوزيع الاجتماعي للثروة، وبالتالي خلق التناقض الكامن وراء الادعاءات الديمقراطية المنسوبة للسياسات الليبرالية الجديدة. ومن خلال تجاهل القبول المتزايد للحقوق الأساسية، فقد صادرت الليبرالية الجديدة بشكل أساسي حق ممارسة المواطنة بصورة فعلية لدى قطاعات اجتماعية بأكملها. 
     لم تتعرض الليبرالية الجديدة الأرثوذكسية للهجوم من قبل المؤسسات العالمية إلا بعد اندلاع أزمات متعددة في عام 2008، وذلك في محاولة لإعادة الاستقرار للرأسمالية. وبدأ معظم القوى الغربية الرئيسة في سياق الأزمة المالية التحمس بشكل انتقائي لأراء الكينزية الجديدة. تكليف الدولة بدور الإنقاذ المالي لتلك الكيانات نفسها التي تسببت في الأزمة في المقام الأول من خلال تكهناتها المتهورة. ولم يكن هذا سوى نصف الصورة، لأنه بدلا من ضمان العمل والأجر المعيشي للتخفيف من الاتجاه المزمن نحو الإنتاج الزائد وتقلص الطلب الكلي، جرت المحاولة لجعل العمال يتحملون عبء خطة الإنقاذ من خلال خفض الأجور، وتراجع الإنفاق الاجتماعي، والسياسة المالية التراجعية والبطالة والقمع. وقد أبقى هذا الإحياء الجزئي للتفكير الكينزي السليم الاقتصاد العالمي في وضع صعب، في حين أظهر إلى أي مدى باتت الدولة بعيدة عن المبادئ الديمقراطية لتمثيل مصالح الأغلبية.

الترجمة من كتاب: Victor Manuel Figueroa Sepulveda (ed.), Development and Democracy: Relations in Conflict (Leiden/ Boston: Brill, 2017).                                                                             

6
تزايد حاجة أوروبا للعمالة المهاجرة
ترجمة: د. هاشم نعمة
     بسبب معاناة ألمانيا وفرنسا من نقص العمالة، فإنهما تخططان لسد هذا النقص من خلال المهاجرين. فسوق العمل الألماني يشبه الجبن ذي ثقوب. وفقا لأحدث الأرقام الصادرة عن وزارة الاقتصاد والخزانة الألمانية، هناك أكثر من 20,000 وظيفة شاغرة في دور  حضانة الأطفال، و 10,000 وظيفة شاغرة تعود لسائقي الشاحنات و 100,000 وظيفة شاغرة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وفي الأسبوع الماضي، أفاد موقع الأخبار الإنكليزي Wired  أن مصنع تسلا الجديد في براندنبورغ لا يواكب السرعة في عمله بسبب نقص الموظفين، وأن ظروف العمل تجعل الموظفين يبحثون بسرعة عن وظيفة أخرى. ويبدو أن أحدث نقص صارخ يتمثّل في نقص أطباء الأطفال؛ إذ أن مستشفيات الأطفال الألمانية لديها، بالكاد، القدرة على مساعدة جميع الأطفال الذين يعانون من التهابات الجهاز التنفسي.
     في كل عام، يتقاعد مئات الآلاف من  طفرة المواليد في ألمانيا (بعد الحرب العالمية الثانية)*. وإذا لم يتغير شيء، تتوقع وزارة العمل نقصا قدره 7 ملايين عامل بحلول عام 2035. سيكون نقص الموظفين على حساب  الرفاهية وقدرة الصناعة الألمانية التنافسية. ولتعويض هذا النقص، يريد الائتلاف (الحكومي)** في برلين جذب 400 ألف عامل إضافي سنويا من الخارج.
      يبدو هذا الطموح رائعا. لقد وصل إلى ألمانيا ما يقدر بنحو 1.2 مليون شخص هذا العام (حتى نوفمبر/تشرين الثاني)، وبالكاد استطاعت البلديات الألمانية إيوائهم. وجاء أكثر من مليون لاجئ إلى ألمانيا من أوكرانيا منذ نهاية شباط| فبراير. علاوة على ذلك، يقول الوزير هوبرتوس هيل (العمل، الحزب  الديمقراطي الاجتماعي)، إن مجموعة صغيرة فقط من طالبي اللجوء قدمت للحصول على مساعدات اجتماعية. ويريد هيل والوزراء المعنيون روبرت هابيك (الاقتصاد، الخضر) ونانسي فايسر (الشؤون الداخلية، الحزب الديمقراطي الاجتماعي) وبيتينا ستارك واتزينغر (التعليم، الحزب الديمقراطي الحر) جذب الأشخاص المتعلمين.
متاعب أقل
    على غرار المثال الكندي، تريد ألمانيا توظيف العمالة المهاجرة الوافدة من الخارج، على وجه التحديد في القطاعات التي يوجد فيها نقص حاليا. كما يمكن للمعني (المهاجر)*** حامل دبلوم في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أن ينتقل إلى ألمانيا دون متاعب كثيرة. وبالنسبة إلى العمال الذين ليس لديهم دبلوم، فتَمكُّنهم من اللغة الالمانية سيجعل بناء حياتهم في المانيا أسهل. إن سد هذه الوظائف الشاغرة في ألمانيا سيتطلب تجنيدا مكثفا من الخارج. 
     هناك قدر كبير من التأييد لنية حكومة شولتس.  يبدو أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي / الاتحاد الاجتماعي المسيحي المعارضين مستعدان أيضا لدعم مشروع القانون الذي سينظر البرلمان في إمكانية إقراره  في كانون الثاني| يناير. صحيفة التابلويد بيلد التي لا تتردد عادة في الكتابة ضد المهاجرين، تكتب بشكل معتدل نسبيا عن "الأجانب" الذين يريد الائتلاف "جلبهم" إلى ألمانيا. وبالتالي فإن نقص الموظفين يمثّل مشكلة تؤثر على الجميع بدرجات متفاوتة؛ على سبيل المثال، نقص في القدرة الاستيعابية لدور حضانة الأطفال أو عدد رحلات القطارات التي يتم إلغاؤها بسبب نقص السائقين.
      يرى جيرالد كناوس، خبير الهجرة وأحد مهندسي ما يسمى بصفقة تركيا في عام 2015، أن نية حكومة شولتس تمثّل فرصة. "يجب على ألمانيا إبرام معاهدة  وذلك للحد، في الوقت نفسه، من الهجرة غير الشرعية. على سبيل المثال، يمكن أن تُعرضَ  على بلدان العبور مثل تونس أو المغرب وبلدان المنشأ تنظيم هجرة منظمة، وهذا من شأنه أن يسهل القدوم إلى ألمانيا للمتمتعين بالتعليم أو بالمهارات اللغوية. وفي المقابل، يمكن لتلك الدول  وبسهولة أن تستعيد طالبي اللجوء الذين رُفضت طلباتهم".
    تعاني ألمانيا، مثل باقي الدول الأوروبية الأخرى، من سياسة الترحيل. وفي نهاية المطاف، يتم إرجاع  عدد قليل فقط من طالبي اللجوء الذين تم رفض طلباتهم إلى بلدانهم الأصلية. وقد أطلق ائتلاف برلين للديمقراطيين الاجتماعيين والخضر والليبراليين، في اتفاقه الائتلافي، "حملة إخلاء تعسفية ". بالمناسبة، لم يعد الائتلاف يرغب بتسمية "ترحيل" الأشخاص ، بل "إرجاع" حيث أن المصطلح الأخير أكثر إنسانية قليلا.
الأحزاب اليمينية والناخبون
    بعد فترة وجيزة من تقديم حكومة شولتس خططها، والتي من المفترض أن يُقرَّها البرلمان في كانون الثاني| يناير، أعلنت فرنسا أيضا عن نيتها جذب مزيد من العمال المهاجرين؛ إذ تريد الحكومة الفرنسية منح "بضعة آلاف إلى عشرات الآلاف"  من تصاريح الإقامة المؤقتة للمهاجرين الذين يمكنهم العمل، من بين مجالات أخرى، في قطاعي الخدمات والبناء.
      تستهدف الخطة الأشخاص الذين لا يحصلون تلقائيا على اللجوء في فرنسا، لكنهم في الواقع يتمتعون، في كثير من الأحيان، بوضعية اللجوء، حسبما قال وزير العمل أوليفييه دوسوبت في إعلانه في أوائل تشرين الثاني| نوفمبر في محطة إذاعة فرانس إنفو. وذكر كمثال على ذلك مهاجرين من بلدان مثل سوريا وأفغانستان.
    كما يمكن للمهاجرين الموجودين بالفعل في فرنسا الذين يعملون بشكل غير مُصرَّح به في القطاعات التي تعاني من نقص الموظفين، التقدم بطلب للحصول على تصريح الإقامة هذا. في المجموع، يعمل ما يقدر بنحو 400,000 إلى مليون مهاجر غير شرعي في فرنسا. على عكس ألمانيا، ستكون تصاريح الإقامة من حيث المبدأ لمدة عام واحد، ولا يمكن لمَّ شمل الأسرة. وخلال هذه السنة، يمكن لهؤلاء العمال المهاجرين التقدم بطلب للحصول على تصريح الإقامة لسنوات عدة، وبعد ذلك يتعين عليهم أيضا إجراء اختبار لغوي.
سياسة الهجرة الأوروبية
   على الرغم من أن مدة الخطة الفرنسية أقصر بشكل ملحوظ من مدة الخطة الألمانية، إلا أن الوزراء المعنيين كانوا حذرين في قراراتهم. ولتجنب غضب الأحزاب اليمينية والناخبين، أكد دوسوبت ووزير الداخلية جيرالد دارمانين، في كل مقابلة، أن الخطة لا تعني أن المهاجرين غير الشرعيين ستجري مساعدتهم على نطاق واسع للحصول على أوراق الإقامة الدائمة. ويتناسب هذا النهج مع وجهة نظر دارمانين القائلة بأن الدولة يجب أن تكون "لطيفة مع [المهاجرين] اللطيفين، ولئيمة مع اللئيمين."
     قد تعني خطط ألمانيا المتقدمة - التي يتعين عليها أولا العثور على 400,000 شخص مؤهل سنويا - وخطة فرنسا الحذرة اتجاها جديدا في سياسة الهجرة الصعبة في أوروبا.
      يقول كناوس: "الحديث عن الهجرة في أوروبا مستمر في دوائر ميؤوس منها منذ سنوات. ببساطة لا يوجد توافق في الآراء بين الدول الأعضاء، ويبدو أنه لا توجد مصلحة في إيجاد حلول مشتركة اليوم كما كانت قبل خمس سنوات." وبهذا المعنى، فإن الوضع أسوأ مما كان عليه قبل خمس سنوات، كما يقول كناوس، لأن المهاجرين يُرفضون على الحدود الخارجية ومن الشواطئ الأوروبية يُعيدونَهم إلى البحر. وهذا "الصد التعسفي" يَنتهك القانونَ الدولي. وقد انتهى الأمر بفرونتكس، وكالة الحدود الأوروبية، إلى أزمة هوية مطلقة، وفقا لكناوس، لأن المنظمة تُراقب بينما حقوق الإنسان تُنتهك.
   يعتقد كناوس أن الخطة الألمانية يمكن أن تكون مشروعا تجريبيا لأوروبا، إذا تكلَّلت ببعض النجاح. "من المهم أن تُثبت مجموعة من الدول الأعضاء أن الهجرة القانونية والمنظمة أمر ممكن. هذا ممكن - ولكن إذا كنا ننتظر مشروع قانون ناجح في بروكسل، فهذا يعني أننا في انتظار جودو Godot".****
* المترجم
*** المترجم
** المترجم
**** جودو هي مسرحية لسمويل بيكيت. المترجم
الترجمة عن: NRC Handelsblad, 16 December 2022.


7
صعود الليبرالية الجديدة وسقوطها

ترجمة: هاشم نعمة

    يقول المؤرخ غاري غيرستل أن النظام النيوليبرالي الذي بدأ في عهد ريغان قد انتهى. فقد مارس الرئيس الديمقراطي كلينتون الضغط حتى أكثر من أسلافه الجمهوريين من أجل رفع القيود.
   هل كان بيل كلينتون أكثر أهمية بالنسبة إلى الليبرالية الجديدة من رونالد ريغان؟ هل كان الرئيس الديمقراطي في التسعينيات أكثر تأثيراً في نجاح الليبرالية الجديدة من سلفه الجمهوري في الثمانينيات؟
     في الكثير من المقالات والكتب، يُنسب هذا الدور الأكثر أهمية إلى ريغان. ولكن بعد قراءة كتاب "صعود النظام النيوليبرالي وسقوطه" للمؤرخ الأمريكي غاري غيرستل،* يمكنك بسهولة أن تستنتجَ أن كلينتون هو، في الواقع، بطل الليبرالية الجديدة. خاصة إذا قمتَ، مثل غيرستل، بالتمييز بين الأيديولوجيا والتطبيق العملي في نظام سياسي - اقتصادي. مثل هذا النظام هو، بحكم تعريفه، تفاعل بين الأيديولوجيا والسياسة والتنفيذ، والذي يمتد لفترة أطول من أربع سنوات بين دورتين انتخابيتين. في تعريف غيرستل، لا يمكنك التحدث عن نظام اقتصادي سياسي إلا إذا تم تبني تغيير كبير من قبل الخصم السياسي.
     لم تصبح الصفقة الجديدة للرئيس فرانكلين روزفلت في الثلاثينيات نظامًا سياسيًا اقتصاديًا في هذا النهج إلا بعد الحرب، عندما واصل الرئيس الجمهوري دوايت أيزنهاور (من 1953 إلى 1961) السياسة الاجتماعية. كان هذا هو الوقت الذي نظمت فيه حكومة الولايات المتحدة الاقتصاد وقدمت الشركات والنقابات تنازلات اجتماعية. ووفقًا لغيرستل، فإن إحدى اللحظات الرئيسة في فترة الصفقة الجديدة هذه هي الاتفاقية الجماعية التي أبرمها كبار مصنعي السيارات الثلاثة مع النقابات في عام 1950. لقد أصبح ذلك مثالاً للعديد من الحلول الوسط بين رأس المال والعمل. كما أجبر تهديد الشيوعية الشركات الكبيرة على تحسين وضع العمال في الولايات المتحدة من خلال تحسين الأجور وظروف العمل. وهكذا بدأ صعود الطبقة الوسطى الأمريكية الكبيرة.
     بحسب تحليل غيرستل، أدى سقوط الشيوعية إلى ظهور الليبرالية الجديدة في أوائل التسعينيات. ليس كثيرًا لأنه - على حد تعبير فرانسيس فوكوياما في ذلك الوقت – بالإمكان إعلان نهاية التاريخ، بل لأنه لم تبق سوى أيديولوجية واحدة مهيمنة. وذلك لأن رجال الأعمال الأمريكيين شعروا بالحرية في كسر التحالف مع النقابات. وانتقل الكثير من الإنتاج إلى بلدان خارج الولايات المتحدة، ونمت الفوارق في الدخل بسرعة.
     في الثمانينيات، في عهد رونالد ريغان، أصبحت أفكار الليبرالية الجديدة بالفعل مهيمنة في واشنطن العاصمة. لقد قلَّص ريغان سلطة الحكومة وخفَّض الضرائب بوتيرة قياسية، مما أفاد الشركات والأثرياء على وجه الخصوص. كان ريغان قد استوحى توجهاته هذه بشكل مباشر من المنظرين الأيديولوجيين فريدريش هايك وميلتون فريدمان ومراكز الفكر التي تبنت أفكارهم منذ أواخر الستينيات. كما نجح في دمج هذا مع أفكار الحركة المحافظة المسيحية. وفقًا لغيرستل، غالبًا ما وُصفت الليبرالية الجديدة خطأً بأنها حركة محافظة.

اندماج الحركات

      يجادل غيرستل بأن الحركات المختلفة التي، للوهلة الأولى، ليس لها علاقة تذكر ببعضها البعض قد اندمجت في نظام نيوليبرالي. كما يشير إلى "اليسار الجديد" الذي يناضل من أجل الحقوق المدنية الفردية منذ أواخر الستينيات، وإلى حركة المستهلكين التي أصبحت منذ ذلك الحين أكثر نشاطًا في الولايات المتحدة من أجل حقوق المستهلك الفردية أو الطوباويون التكنولوجيون الذين اعتقدوا أن التكنولوجيا ستؤدي إلى تحرير الفرد، وبالتالي فهذا سيحدد طريقة تفكير العديد من رواد الاعمال في وادي السليكون.  ويشير، أخيرًا، إلى صعود المواطنين الكوزموبوليتانيين (الكونيين) الذين يرون العالم وطنًا لهم أكثر من الأمة التي ينتمون إليها. وهذا أنتج نخبة لها نفس الخصائص في العديد من العواصم؛ تتحرك بسهولة في جميع أنحاء العالم وهي من دعاة العولمة.
      لهذا السبب بالتحديد، يعتقد أنه ليس من المستغرب أن تشهد الليبرالية الجديدة ذروتها بشكل خاص في ظل إدارة كلينتون. ففي حكومته، اجتمع ممثلو النخبة العالمية وفتحوا الحدود. وتم تمرير أكبر قوانين إلغاء القيود خلال فترة حكمه. هكذا حصلت البنوك ومؤسسات مالية أخرى وشركات الاتصالات والتكنولوجيا على فرصة لكي تصبح طاغوتا تهيمن على أسواقهم.

      تطرق غيرسيل، في كتابه، قليلا إلى باقي العالم، لكنه ركز ،بشكل أساسي، على التاريخ الأمريكي الحديث. ومع ذلك، فكتابه هو تحليل قيِّم للعقود السابقة، لأنه غالبًا ما يختار منظورًا مختلفًا قليلاً عن المعتاد لأحداث حدثت مؤخرًا.

     لقد انتهى النظام النيوليبرالي. وبهذا، لا يريد غيرستل منح الكثير من الفضل لترامب. فهذا الأخير، يكتب غيرسل، لم يفعل أكثر من دفع الباب المفتوح لكي ينفتح أكثر. فالانكماش الحقيقي بدأ مع الأزمة المالية لعام 2008؛ إذ دعا الرئيس أوباما الاقتصاديين النيوليبراليين من إدارة كلينتون لمكافحة تلك الأزمة. وقد جرى إنقاذ البنوك من خلال السماح للبنوك الأقل تضرراً بالسيطرة على المنافسين الأضعف. وهذا أدى بقطاعات واسعة من المجتمع إلى زيادة النفور وعدم الثقة بالشركات الكبرى. فازدادت مناهضة العولمة منذ عام 2008، حيث بدأ كل من الشركات والمستهلكين في إثارة تساؤلات حول الحدود المفتوحة.
    أين نقف الآن؟ يحاول غيرستل، بحذر، أن يصف الدعم الحكومي الهائل، خلال أزمة كورونا، كظاهرة لنظام جديد. لكن في مشهد سياسي شديد الاستقطاب، قد يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى يتبنى جانب واحد من الطيف السياسي مبادئ الطرف الآخر. نحن ننتظر نظامًا جديدًا، حيث تسود في الوقت الحالي فوضى بشكل خاص ومن داخلها يتعين على الحكومات والشركات أن تجد طريقها.

* مؤرخ وأكاديمي أميركي، أستاذ في جامعة كيمبريدج.

الترجمة عن: NRC Handelsblad, 25 November 2022





8
قراءة في كتاب "لماذا فشلت الليبرالية"
د. هاشم نعمة
   بعد تفكك المنظومة الاشتراكية  وانتهاء الحرب الباردة  عام 1990 اعتبر الغرب أن ذلك يمثل نجاحا باهرا ونهائيا للرأسمالية الليبرالية والتي يجب أن يعمم نموذجها على باقي مناطق العالم مترافقا مع العولمة التي تهدف لإلغاء الحدود الوطنية أمام حركة السلع ورؤوس الأموال. لذلك كتب فوكوياما كتابه "نهاية التاريخ". ولقد نشرت كتب غير قليلة تحلل تناقضات النظام الرأسمالي الليبرالي والمشكلات البنيوية الكبيرة التي يواجهها على الصُعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ومن هذه الكتب "لماذا فشلت الليبرالية" الذي اخترنا تقديم قراءة عنه لمؤلفه باتريك دينين، أستاذ العلوم السياسية والدراسات الدستورية في جامعة نوتردام في الولايات المتحدة، ترجمة يعقوب عبد الرحمن والصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، 483، أبريل 2020.
يضم الكتاب سبعة فصول إضافة إلى المقدمة والخاتمة، عالجت: الليبرالية غير المستدامة، توحيد الفردية والدولتية، الليبرالية بوصفها مناهضة للثقافة، التكنولوجيا وفقدان الحرية، الليبرالية ضد العلوم الإنسانية، الأرستقراطية الجديدة، وامتهان المواطنة. يقع الكتاب في 239 صفحة.
                                                     نهاية الليبرالية   
   
في المقدمة التي جاءت بعنون "نهاية الليبرالية" يذكر المؤلف، بأنه يعتقد قرابة 70 في المئة من الشعب  الأمريكي حاليا أن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ، كما يعتقد نصف السكان أن أفضل أيام بلادهم قد ولت إلى غير رجعة. ويعتقد معظم هؤلاء المواطنين أن أطفالهم سيكونون أقل ازدهارا، وأنه ستتاح لهم فرص أقل من تلك التي أُتيحت للأجيال السابقة. وتُظهر كل مؤسسة حكومية مستويات منخفضة من ثقة عامة المواطنين فيها، وينعكس التشاؤم العميق تجاه السياسة في الانتفاض على جميع الطيف السياسي ضد النخب السياسية والاقتصادية. إن الانتخابات التي كان يُنظر إليها في يوم من الأيام باعتبارها احتفالات عامة منظمة تنظيما جيدا تستهدف إضفاء الشرعية على الديمقراطية الليبرالية، تعتبر على نحو متزايد دليلا على نظام مزوَّر مُحكم وفاسد. من الواضح للجميع أن النظام السياسي مُعطَّل والنسيج الاجتماعي يهترئ، خصوصا مع تزايد الفجوة بين الأثرياء الذين يملكون والمهمشين الذين لا يملكون، ومازال الخلاف العميق قائما حول دور أمريكا في العالم (ص 28).
    تعتبر الدعوة إلى علاج أمراض الليبرالية من خلال تطبيق المزيد من الإجراءات الليبرالية بمثابة إلقاء مزيد من الزيت على نار مستعرة. ذلك لن يؤدي إلا إلى تعميق الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
   يشارف مواطنو الديمقراطيات المتقدمة على الثورة ضد حكوماتهم، ضد "المؤسسة" وضد السياسيين الذين اختاروهم بأنفسهم باعتبارهم قادة لهم وممثلين عنهم. إذ تنظر الأغلبية الساحقة إلى حكوماتها باعتبارها بعيدة عنها وغير مستجيبة، وواقعة في قبضة الأغنياء، وتحكم فقط لمصلحة الأقوياء. فقد بشرت الليبرالية في مستهل عهدها باقتلاع طبقة ارستقراطية قديمة باسم الحرية؛ ولكن بينما تزيل كل آثار نظام قديم، فإن ورثة أسلافهم المناهضين للأرستقراطية المستبشرين يعتبرون استبدالها نوعا جديدا من الأرستقراطية التي ربما تكون أكثر فتكا (ص 32).
    حاجج ماركس ذات مرة بأن أكبر مصدر للسخط الاقتصادي لم يكن بالضرورة هو عدم المساواة بل الاغتراب- انسلاخ العامل عن المنتج وما يصاحب ذلك من فقدان أي صلة بغاية وهدف جهود الفرد. لا يحافظ اقتصاد اليوم على هذا الاغتراب ويوسع نطاقة فقط، بل يضيف له شكلا جديدا وعميقا من الاغتراب الجغرافي، والفصل المادي بين المستفيدين من الاقتصاد المعولم عن أولئك الذين تخلَّفوا عن الركب.
     علما أن ماركس يشير إلى أن التسوية التي هي حقيقة المساواة في عملية التبادل تنتهي إلى أن تقطع كل علاقة اجتماعية حقيقية بين الأفراد وتجعل العلاقة الوحيدة بينهم هي علاقتهم باعتبارهم أجسادا. هكذا يختزل التبادل السلعي الأفراد إلى أجسادهم بعد أن يلغي وجودهم الاجتماعي بالكامل(1).
    ويبرز المؤلف القول بأن الليبرالية تركتنا في حالة هشة تكون فيها مجالات الحياة التي يُفترض أن تحررنا خارجة تماما عن سيطرتنا. يشير هذا إلى أن الفرد كان طوال الوقت "أداة" للنظام الليبرالي، وليس -كما كان الاعتقاد- أن الأمر عكس ذلك.
     الخطوة الأكثر تحديا والتي يجب أن نتخذها هي رفض الاعتقاد أن أمراض المجتمع الليبرالي يمكن إصلاحها من خلال تحقيق الليبرالية. السبيل الوحيد للتحرر من الحتميات والقوى التي لا يمكن التحكم فيها والتي تفرضها الليبرالية هي التحرر من الليبرالية نفسها. 
   إن أكبر تهديد حالي لليبرالية لا يكمن خارجها أو بعيدا عنها ولكن في داخلها. تنبع قوة هذا التهديد من الطبيعة الجوهرية لليبرالية، مما يعتقد أنها نقاط قوتها بالذات – بصفة خاصة إيمانها بقدرتها على تصحيح نفسها وإيمانها بالتقدم والتحسين المستمر- ما يجعلها غير قادرة إلى حد بعيد على إدراك أعمق نقاط ضعفها، حتى التدهور الذي تلحقه بنفسها (ص 51-52).
                                               الليبرالية غير المستدامة

    تحوم الآن شكوك متزايدة حول ما إذا كان الوعد بالنمو يمكن أن يستمر إلى الأبد. فقد واجهت البشرية القيود التي فرضتها الطبيعة، حيث تصبح تكاليف النمو الاقتصادي لحقبة بلغت قرنين واضحة بصورة متزايدة في التغير المناخي المتسارع اليوم.
    انكبت الليبرالية في المجالين المادي والاقتصادي على استنزاف مستودعات المواد الموجودة منذ الأزل في سعيها لإخضاع الطبيعية. وبغض النظر عن البرامج السياسية لقادة اليوم فإن استنزاف مزيد من ذلك هو برنامج لا نزاع فيه. لا تعمل الليبرالية إلا عن طريق الزيادة المستمرة للسلع الاستهلاكية، ومن ثم بالتوازي مع التوسع المستمر لغزو الطبيعة والسيطرة عليها. لا يمكن أن يطمح أي شخص في الوصول إلى منصب في القيادة السياسية من خلال المطالبة بوضع حد للاستنزاف المستمر للطبيعة وضبط النفس.
    لا ينجم التوسع في الأسواق وتشييد البنى التحتية الضرورية لهذا التوسع عن "ترتيب عفوي" بل يتطلب الأمر وجود بنية لدولة شاملة ومتنامية، والتي تستلزم بدورها في بعض الأحيان انتزاع الخضوع من المشاركين المتمرّدين أو العازفين من النظام. في بداية الأمر يُبذل هذا الجهد على مستوى الاقتصاد الوطني، حيث يتعين على الدولة تطبيق عقلنة وفرض أسواق حديثة عديمة الشخصية. غير أنه في نهاية المطاف يصبح هذا المشروع محركا أساسيا للإمبريالية الليبرالية، وهي ضرورة يبررها، من بين آخرين، جون ستيوارت ميل في بحثه "اعتبارات بشأن الحكومة التمثيلية" والتي يدعو فيها إلى إكراه الشعوب "غير المتحضرة" على أن تعيش حياة اقتصادية منتجة، حتى لو كان من خلال "إجبارها على ذلك بالقوة"، بما في ذلك من خلال مؤسسة "العبودية الشخصية" (ص 71).
   إن الثقافة السليمة تشبه الزراعة السليمة، فهي شكل واضح من أشكال البراعة الإنسانية، الزراعة التي تأخذ في الاعتبار الظروف المحلية للمكان تستهدف الحفاظ على خصوبة التربة على مر الأجيال، ومن ثم يجب أن تتعامل مع الحقائق الطبيعية الموجودة، لا أن تتعامل مع الطبيعة باعتبارها عقبة أمام نيل الشهوات غير المحدودة. تعمل الزراعة الصناعية الحديثة وفق النموذج الليبرالي الذي يتضمن التغلب على الحدود الطبيعية من خلال تبني حلول قصيرة الأجل والتي سوف تترك آثارها على أجيال المستقبل. تشمل هذه الحلول إدخال الأسمدة القائمة على المشتقات النفطية التي تزيد من غلة المحاصيل، ولكنها تسهم في وجود مناطق تفتقر إلى الأكسجين في البحيرات والمحيطات. وكذلك استخدام المحاصيل المهندسة وراثيا والتي تشجع على زيادة استخدام مبيدات الأعشاب والحشرات والتي لا يمكن احتواء اتجاهاتها الوراثية أو التنبؤ بها. واستخدام المضادات الحيوية للماشية والتي ساعدت على تسارع الطفرات الوراثية للبكتيريا، ومن ثم قللت من فائدة هذ الأدوية للبشر. ويعتمد هذا النهج على القضاء على الثقافات الزراعية الموجودة. ويزعم أنه يتطلع إلى المستقبل، بيد أنه عالق في الحاضر بعمق. 
   في الوقت الذي يتجادل فيه الفاعلون السياسيون الرئيسون بشأن ما إذا كانت الدولة الليبرالية أو السوق هي التي تحمي المواطن بنحو أفضل، فإنهما يتعاونان في نزع أحشاء الثقافات الحقيقية. إذ يعزز كلٌّ من الهياكل القانونية الليبرالية ونظام السوق بنحو متبادل تفكيك التنوع الثقافي لمصلحة ثقافة أحادية قانونية واقتصادية، أو على نحو أكثر دقة، مناهضة أحادية للثقافة، حيث يصبح الأفراد المحررون والمزاحون من تواريخ وممارسات معينة، قابلين للاستبدال داخل نظام سياسي-اقتصادي يتطلب أجزاء قابلة للاستبدال عالميا (ص 98).
   يتم تجنب إلقاء اللوم على الفيسبوك باعتباره سببا في تفشي وباء الشعور بالوحدة. ويُذكر عوضا عن ذلك أن الفيسبوك، والتقنيات المشابهة له، قد يسّرت أو حتى مكنت من نزعة موجودة مسبقا تتمثل في الرغبة الدفينة لدى الأمريكيين منذ أمد بعيد في أن يكونوا مستقلين وأحرارا. وهكذا يعتبر الفيسبوك أداة تستثير الشعور بالوحدة من مجموعة أعمق من الالتزامات الفلسفية والسياسية وحتى اللاهوتية. كما يشير ماركي "الوحدة هي واحدة من أول الأشياء التي ينفق الأمريكيون أموالهم لتحقيقها... نحن نشعر بالوحدة لأننا نريد أن نكون وحيدين. نحن جعلنا أنفسنا وحيدين". ويكتب قائلا إن تقنيات مثل الفيسبوك "هي منتج ثانوي لرغبة وطنية طويلة الأمد في الاستقلال". تلك الرغبة هي في حد ذاتها نتيجة لإعادة تعريف طبيعة الحرية (ص 116-117).
                                                      التعليم

    يهجر الطلاب وأعضاء هيئة التدريس على حد سواء التركيز على العلوم الإنسانية. ويشعر الطلاب في خضم حريتهم على نحو متزايد بأنه ليس لديهم خيار سوى متابعة أكثر التخصصات عملية، والابتعاد عن الموضوعات التي يمكن أن يجذبهم إليها الفضول الطبيعي المتأصل لديهم، خضوعا لمتطلبات السوق. وليست هناك أي غرابة في أن عدد التخصصات في الإنسانيات مستمر في الانخفاض على نحو كبير.
   أولئك الذين هم في وضع أفضل للدفاع عن دور الإنسانيات في قلب العلوم الإنسانية -أعضاء هيئة التدريس- يتحسرون من ناحية على هذا الانهيار، لكنهم ينحون باللائمة على المسؤولين وعلى "النيوليبرالية". وهم يفشلون في رؤية أن التعامل مع العلوم الإنسانية هو انعكاس أكثر عمقا للنظام الليبرالي أكثر من كونه موقف مقاومة. فشل أعضاء هيئة تدريس العلوم الإنسانية في تحدي الاتجاهات الليبرالية السائدة، فضلا عن مقاومتها، ناتج عن عجز واسع النطاق في التشخيص السليم لمصدر القوى التي تصطف ضد العلوم الإنسانية.
    ومع ذلك يلتفت المرء من حوله باحثا من دون جدوى عن رئيس جامعة أو عميد كلية -خصوصا في صفوف النخبة- يقر بوجود مسؤولية كبيرة من جانب مؤسساتهم عن فشلنا وفشل طلابنا أيضا بحسب المؤلف. في نهاية المطاف كان الخريجون البارزون في مؤسسات النخبة في الولايات المتحدة هم من احتلوا الأماكن المرموقة في المؤسسات المالية والسياسية العليا في جميع أنحاء البلاد، والذين كانوا مسؤولين عن التعجيل بالأزمة الاقتصادية. احتل خريجو مؤسسات النخبة أماكن القوة والنفوذ في النظام الاقتصادي للبلاد. ويتساءل المؤلف، ماذا عن هؤلاء الخريجين الذين ساعدوا في تعزيز بيئة من الجشع وخطط الثراء السريع؟ هل نحن مطمئنون تماما أنهم لم يعوا جيدا الدروس التي تعلموها في كلياتهم؟ (ص 138).
     إن النظام التعليمي الذي تحوَّل إلى أداة ليبرالية، هو أيضا في نهاية المطاف الخلق المنهجي لأرستقراطية جديدة للقوي ضد الضعيف. ذروة الليبرالية في نهاية المطاف هي مجتمع طبقي عميق، وهي حالة يبدي إزاءها الليبراليون مشاعر الأسى حتى وهم يسهمون بطرق متعددة في استمراريتها، بصفة خاصة من خلال مؤسساتها التعليمية. وهكذا فإن نجاح الليبرالية يعزز ظروف فشلها: فبعد أن ادعت أنها أدت إلى سقوط الحكم الأرستقراطي العائد للأقوياء ضد الضعفاء، فإنها تبلغ أوجها بأرستقراطية جديدة، أكثر قوة، والتي تقاتل بلا توقف من أجل الحفاظ على هياكل الظلم الليبرالي.
                                                الليبرالية وعدم المساواة

    هذا هو أكثر الرهانات جوهرية لليبرالية: استبدال نظام غير عادل وظالم بنظام آخر يحافظ على عدم المساواة، والذي يتحقق ليس من خلال القمع والعنف ولكن من خلال الإذعان الكامل من قبل المواطنين، ويستند إلى التقديم المستمر للازدهار المادي المتزايد بالإضافة إلى الاحتمال النظري لقابلية الانتقال ما بين الطبقات.
    يواصل الليبراليون التقليديون اليوم تقديم هذه التسوية ليس باعتبارها مقبولة فقط ولكن باعتبارها تستحق الاحتفاء. فبعد قرون من جون لوك، لخص الرئيس جون كندي هذا الرهان بالوعد بأن "مدا مرتفعا يرفع كل القوارب"، وقد ردد صدى هذه المقولة في كثير من الأحيان الرئيس رونالد ريغان. كانت أطروحة لوك تقول إن النمو الجاري والمستمر للثروة والازدهار يمكن أن يكون بديلا للتماسك الاجتماعي والتضامن. كما فهم الليبرالي فريدريك حايك، إن المجتمع الذي يحتضن "التقدم الاقتصادي السريع" سوف يشجع بالضرورة عدم المساواة.
   يعترف حايك بأن المجتمع الليبرالي سيولد قدرا من عدم المساواة مساويا لما ولده النظام السابق الذي حل محله، أو حتى أكثر من ذلك، ولكن وعد التغيير والتقدم المستمرين سوف يضمن أن الجميع يدعم النظام الليبرالي. إنه واثق بأنه حتى عدم المساوة الضخمة المحتملة – التي تفوق بكثير الاختلافات بين الفلاح والملك- سوف يؤدي على الرغم ن من ذلك إلى تأييد عالمي تقريبا لمثل هذا النظام السياسي والاقتصادي.
   بالإضافة إلى مواجهة تناقص احتمالات أن تخلق رأسمالية السوق رخاء متزايدا لكل المجتمع. أثبتت السنوات الأخيرة، منطقا مدعاة للمفارقة داخل رأسمالية السوق – بالتحديد الجهود الدائمة لكبح الأجور إما من خلال أيجاد أسواق جديدة منخفضة الأجور وإما استبدال البشر بالآلات- سوف يختزل بنحو متزايد كل أنماط العمل ما عدا القليل منها إلى الأعمال الشاقة والمهينة. وقد أدى هذا الاعتراف إلى العودة إلى الرهان الأساسي للوك بأن النظام الذي يوفر الراحة المادية، بغض النظر عن اتساع حجم عدم المساواة، وغياب احتمالات النمو والحراك والتنقل بين الطبقات، من شأنه مع كل ذلك أن يرضي معظم أفراد المجتمع.  وأحدث التأملات عن المذهب الليبرالي عند لوك هو للاقتصادي تايلر كوين، الذي يعكس كتابه "الوسط قد انتهى" الخطوط الأساسية لحجة لوك. إذ يشير إلى أن الليبرالية والرأسمالية تديمان أشكالا ضخمة ودائمة من عدم المساواة، والتي يمكن أن تجعل أدوقة العصور الماضية يشعرون بالخجل أمامها، فإن كوين يحاجج بأننا في نهاية حقبة فريدة من نوعها في التاريخ الأمريكي، زمن يسود فيه إيمان على نطاق واسع بالمساواة النسبية ومصير مدني مشترك، ودخول عصر نرى فيه بشكل فاعل كيف تُخلق أمتان منفصلتان. لكن كوين يخلص مع ذلك في الفصل الختامي المعنون "عقد اجتماعي جديد" إلى أن الليبرالية ستستمر في التمتع بدعم واسع النطاق (ص 149-151).
   يدعي بعض الكتاب أن عدم المساواة العميقة يمكن تخفيفه من خلال تقديم النصح الأخلاقي، بينما يزعم آخرون أن الحكومة يمكنها أن تحل محل المجتمع المدني، وأن تعيد بناء الأسرة التي نزعت الليبرالوقراطية أحشاءها. ينظر كل من الجانبين إلى عدم المساواة بين الأجيال على اعتبار أنه انحراف، بدلا من إدراك أنه إنجاز أساسي للنظام الليبرالي.
   وإزاء ذلك يبرز المؤلف حقيقة أن الأرستقراطية الصناعية في عصرنا الحاضر، بعدما افقرت الفئات التي تستغلها تتخلى عنهم في وقت أزماتهم، وتتركهم أمام أبواب المؤسسات الخيرية العامة يتسولون طعامهم. هناك علاقات منتظمة بين العامل والسيد، ولكن لا يوجد ارتباط حقيقي بينهما.
                                                  تعمق التفاوت الطبقي
      حاجج جون ستيورات ميل بأنه في المجتمعات الأقل تقدما، يمكن أن يكون الاستعباد الخالص للسكان المتخلّفين ضروريا حتى يمكن وضعهم على المسار الصحيح للتقدم التدريجي بدرجة كافية. هذا يعني، إجبارهم على العمل والاهتمام بالإنتاج الاقتصادي أكثر من النشاطات التي ليس لها عائد. ويعقب المؤلف على ذلك بالقول كان مجتمعنا ذات يوم مشكلا على أساس المنفعة للكثير من الناس العاديين، ويتشكل اليوم إلى حد بعيد لمصلحة القلة من الأقوياء. 
    يُحَّدد مجتمعنا بنحو متزايد من خلال الرابحين والخاسرين اقتصاديا، حيث يحتشد الرابحون في المدن الغنية والمقاطعات المحيطة بها، بينما يظل الخاسرون إلى حد كبير في أماكنهم ويغمرهم اقتصاد عالمي يكافئ النخبة المعرفية راقية التعليم بينما يقدم فتات الخبز لأولئك المنسيين في "الولايات المنسية" التي تقع بين الشرق والساحل الغربي للولايات المتحدة. الاتجاهات التي لاحظها روبرت رايش وكريستوفر لاش منذ عقود مضت، واللذان انتقدا بقسوة "انشقاق الناجحين" و"ثورة النخبة"، أصبحت في الوقت الحالي ذات طابع مؤسسي من خلال الأسرة، والحي السكني، والمدارس، وتُستنسخ من خلال التعاقب الجيلي. يتلقى أطفال أولئك الناجحين إعدادا للدخول إلى الطبقة الحاكمة، بينما يكون أولئك الذين يفتقرون إلى تلك المؤهلات أقل قدرة على توفير الشروط الأساسية اللازمة لدفع أطفالهم إلى المستويات العُليا وأقل معرفة بها (ص 158). 
                                                     تقييد الديمقراطية
    تعتبر الديمقراطية أداة مشرعنة مقبولة فقط مادامت ممارساتها توجد داخل الافتراضات الليبرالية وتدعمها على نطاق واسع. عندما ترفض أغلبيات ديمقراطية  جوانب من الليبرالية- كما فعل ناخبون في جميع أنحاء أوروبا الغربية وأمريكا في السنوات الأخيرة- فإن مجموعة متنامية من الأصوات البارزة تنتقد الديمقراطية وعدم حكمة الجماهير. لقد قيمت النخب الأمريكية بشكل دوري إمكانية تقييد الديمقراطية بشدة، معتقدين أن الديمقراطية ستقوض السياسات التي يفضلها الخبراء. أصبح هؤلاء الذين يؤيدون توسيع الليبرالية إلى ما وراء حدود الدولة القومية، ومن ثم السياسات التي تزيد من التكامل الاقتصادي والمحو الفعال للحدود، مناصرين على نحو متزايد لتقييد الديمقراطية. أحد أولئك الخبراء المختصين هو جيسون برينان الذي حاجج في كتابه "ضد الديمقراطية" بأن الناخبين معلوماتهم مغلوطة باستمرار بل هم جاهلون، وأن الحكومة الديمقراطية سوف تعكس أوجه القصور لدى الناخبين في نهاية المطاف. يعتقد الليبراليون الآخرون من ذوي الميول الليبرتارية أنه عندما تهدد الديمقراطية الالتزامات الجوهرية لليبرالية، فقد يكون من الأفضل التفكير ببساطة في وسائل التخلي عن الديمقراطية. وبدل من ذلك دعا برينان إلى الحكم من قبل "إبستوقراطية" وهي نخبة حاكمة تتمتع بمعرفة مجرَّبة لتحكم بكفاءة وفعالية الدولة الليبرالية والرأسمالية الحديثة والنظام الاجتماعي (161-165).
   ويلفت المؤلف الانتباه إلى مسألة هامة وهي أن من الغريب، وربما من الخطأ، مناقشة "الكفاءة الديمقراطية" للعامة من الناس في أمريكا، بالنظر إلى أن نظام الحكم الذي صُمّم بوضوح من قبل واضعيه لم يُقصد أن يكون ديمقراطيا. جادل واضعو الدستور والمدافعون عنه باسم القانون الأساسي برفضهم الصريح فكرة أن الدستور سوف يؤدي إلى الديمقراطية. لقد سعوا إلى إقامة جمهورية، وليس دمقراطية. كما كتب جيمس ماديسون في "فدِرِاليست 10": "من هنا فقد كانت الديمقراطيات مسارح للاضطرابات والمنازعات أكثر من أي وقت مضى: دائما ما وجدت متعارضة مع الأمن الشخصي أو حقوق الملكية؛ وكانت بوجه عام قصيرة في فترة حياتها بمثل ما كانت متسمة بالعنف في موتها. لقد أخطأ الساسة النظريون الذين رعوا هذا النوع من الحكم، بافتراض أنه باختزال البشر إلى مساواة تامة في حقوقهم السياسية، فإنهم في الوقت نفسه سوف يتساوون مندمجين في ممتلكاتهم وآرائهم وأهوائهم" (ص 170).
                                                        خاتمة
    يستنتج المؤلف في الخاتمة، لقد فشلت الليبرالية لأن الليبرالية قد نجحت. وهي تًصيّر نفسها مكتملة، تنتج الليبرالية أمراضا متوطنة بنحو أسرع وأكثر انتشارا من قدرتها على انتاج حُجب لتغطيتها. النتيجة هي التعتيم المستمر والمنهجي في السياسات الانتخابية والحوكمة والاقتصاد وفقدان الثقة بل بالشرعية بين المواطنين، والتي تتراكم ليست باعتبارها مشكلات محددة و منفصلة يجب حلها داخل الإطار الليبرالي بل باعتبارها أزمات مترابطة بعمق بالشرعية ودلائل مُنذرة بحلول نهاية الليبرالية.
   إن "الأزمة التي تواجه العالم الغربي ليست مؤقتة وإنما هي علامة على تغير عميق يشمل النظام الاقتصادي والاجتماعي بأكمله وستكون لها نتائج بعيدة المدى". تلك هي أطروحة كتاب "حالة تأزم" الذي نشره البولندي زيغمونت باومان والإيطالي كارلو بوردوني عام 2014 (2).
    بحسب المؤلف، يجب الاعتراف بإنجازات الليبرالية، ويجب تجنب الرغبة في "العودة" إلى حقبة ما قبل الليبرالية. يجب أن نبني على تلك الإنجازات مع التخلي عن الأسباب الأساسية لفشلها. لا يمكن أن تكون هناك عودة إلى الوراء، فقط تحرك إلى الأمام.
    وعلى الرغم من ذلك، فمن المرجح من الدروس المستفادة من داخل هذه المجتمعات أن تنشأ نظرية سياسية ما بعد ليبرالية قابلة للحياة، والتي تبدأ بافتراضات أنثروبولوجية مختلفة اختلافا جذريا، ولا تنشأ من حالة مفترضة للطبيعة أو تنتهي بدولة سوق ممتطيتين للعالم.  ومع زوال النظام الليبرالي سوف يُنظر إلى الثقافات المضادة لها باعتبارها ضروريات (ص 196-197).
  هكذا نرى على الرغم من أهمية الكتاب في تشخصيه لأزمات النظام الرأسمالي البنيوية في ظل الليبرالية فإن المؤلف لم يطرح بديلا نظريا واضحا ولم يعول على أهمية الصراع الطبقي والاجتماعي في إيجاد هذا البديل ويبدو أنه لا يعد الاشتراكية بديلا قادما للنظام الرأسمالي بكل أزماته المتراكمة.
     الهوامش
(1)   أشرف منصور، الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2008، ص 66.
(2)   سعد البازعي، "العقل الأوروبي... قرن من الأزمات"، الشرق الأوسط، 4 تموز 2022.

         
     
   




     
   

9
عصر التنوير والجغرافيا

د. هاشم نعمة
كثيرا ما تم إرجاع  أصول الجغرافيا الحديثة إلى عصر التنوير. فالكتابات البارزة للكتاب الجغرافيين رسمت في هذه الفترة  ملامح الجغرافيا الحديثة، وكان هؤلاء قد كتبوا بعقلية عصر التنوير. وهناك أعمال جغرافية أخرى في هذا العصر اندمجت على نحو كبير جدا مع حركة التنوير طوال القرن الثامن عشر، إذ تحررت المعرفة الجغرافية من السياقات الاجتماعية والثقافية السابقة التي انتجت في ظلها. بالتأكيد، شهد عصر التنوير إنتاج كتب جغرافية عالمية متعدد الأجزاء. والملاحظ أن التركيز الذي ظهر لأول مرة لتفسير العلوم الطبيعية عائد إلى الفيلسوف إيمانويل كانت (1724-1804) وبشكل واضح في عمله عام 1757 المعنون "موجز ونشرة لدورة محاضرات في الجغرافيا الطبيعية"، حيث درَّس الجغرافيا الطبيعية في جامعة كونسبرغ  في بروسيا مدة أربعين عاما من 1756-1796. وقد رأى كانت بالتأكيد  في الجغرافيا وسيلة لتوحيد التعلم، بهذا المعنى، من الممكن الادعاء أن فهمة للجغرافيا كان وثيق الصلة بشأن تفسير التجريبية  empiricism  العقلانية كأساس للمعرفة. وهناك ادعاء آخر يساق في هذا المجال يشير إلى أن مفهوم كانت للطبيعية باعتبارها نظاما ديناميكيا كان حجر الأساس في عمل الكسندر فون همبولت (1769-1859) خصوصا في تركيبه تساؤلات القرن التاسع عشر وتغيير التصور الجغرافي حيث يكمن هنا كشف الجذور الحقيقية للجغرافيا الحديثة، لكن هذا لا يعني صحة كل ما طرحه في هذا الميدان. وفي كتابه الجغرافي الضخم "الكون" يشير الى أن جوهر مشروعه هو "توضيح التواصل الداخلي بين العام والخاص."
من الواضح من خلال التأملات الأولية أن العلاقات بين الجغرافيا وحركة التنوير كثيرة ومتنوعة. إذ كانت المعرفة الجغرافية جزءا فاعلا في معرفة التنوير. وفي مرحلة معينة من العلاقات الإمبريالية الأوروبية مع بقية العالم، تذكرنا تلك المرحلة بالطرق التي كان من خلالها التنوير والمعرفة الجغرافية مرتبطين بمفاهيم الامبراطورية.
الاعتراف بأن المعرفة الجغرافية، إذا جاز التعبير، كانت موجودة في كل مكان، ولكن ليست هي نفسها في كل مكان خلال عصر التنوير، إذ طرحت أسئلة منهجية ومفاهيمية ليس فقط حول طبيعة المعرفة الجغرافية لكن أيضا حول جغرافية المعرفة.
بحث الجغرافيون في أثر أصول المعرفة الحديثة بما فيها الجغرافيا خلال عصر التنوير. وفي وقت أحدث، جرت مراجعة الفكرة القائلة أن عصر التنوير ظاهرة أوروبية متأصلة. ففي بعض الكتابات في سبعينيات القرن العشرين وفي عمل لاحق، جرت مراجعة هذه الفكرة بطريقتين رئيستين. إذ جرى إيلاء اهتمام إلى أداء حركة التنوير في السياق الوطني خارج أوروبا، بشكل ملحوظ في الأمريكيتين. بالإضافة إلى ذلك، تم إيلاء المزيد من الاهتمام وبشكل مفصل إلى جغرافيات عصر التنوير في داخل أوروبا. فعلى سبيل المثال، كشف التحليل كيف أن أفكار التنوير نوقشت على نطاق واسع في أطراف أوروبا في اليونان وإيطاليا وبولندا وهنغاريا وروسيا وليس فقط داخل "القلب" الفرنسي. ويرد في كتاب "التنوير في السياق الوطني" الصادر عام 1981، تحرير بورتر وتيش، وهو عمل رئيس في هذا الميدان، أن الحسابات التقليدية لم تكن تقدر الموقع الجغرافي والاجتماعي والسياسي للتنوير على نحو كاف كحركة ثقافية. يهدف الكتاب إلى فهم معنى التنوير في مجموعة من السياقات الوطنية، من خلال النظر في تجربة انكلترا واسكتلندا وفرنسا وهولندا وسويسرا وإيطاليا وألمانيا والنمسا وبوهيميا والسويد وروسيا وأمريكا. ومن دون سرد الادعاءات الخاصة بكل كاتب ساهم في تأليف هذا الكتاب، لكن يلزم استدعاء أرضية أفكار التنوير في ظروف اجتماعية واقتصادية وجغرافية معينة. فقد ساعدت الاختلافات الوطنية في استقبال هذه الأفكار سياسيا وتعليميا وشعبيا وعلى مستوى المؤسسات على تشكيل طبيعية مقاومة التنوير.
في الوقت الذي يمثل السياق الوطني للتنوير ميزة مهمة، إلا أنه بعيد عن أن يمثل الكلمة الأخير في جغرافية التنوير. إذ يحجب أحيانا حجم التحليل التباين الموجود داخل أمة معينة في إنتاج أفكار التنوير واستقبالها، وهنا لا نضيف شيئا جديدا لحقيقة أن فكرة الأمة نفسها كانت غير مؤكدة خلال هذه الفترة. وفي الواقع، تظهر الكثير من المقالات نزعة لإضفاء السمة الوطنية الأساسية للتنوير، إما من ناحية تحديد مميزات أو خصائص بلد معين أو الأخذ في الاعتبار حياة المفكرين الكبار الذين عاشوا في تلك الفترة.
يتم التعبير عن الجغرافيا هنا بوضوح، إما كمسألة موقع أو كمسألة مقياس واحد خاص بهذه الأمة أو تلك. ومع ذلك، تفهم الكثير من هذه الاعتبارات أفكار التنوير من حيث تباين استقبالها، إلا إنها لا تزال تصورها بشكل أساسي باعتبارها تجربة أوروبية وأمريكية شمالية. لكن مؤخرا أصبح واضحا على نحو متزايد أن التنوير الأوروبي تشكل أساسا من خلال التعامل مع أجزاء أخرى من العالم، وبشكل ملحوظ مع الأمريكيتين ككل ومع المحيط الهادئ. وعلى مستوى آخر، وفر الاستعمار ما أطلق عليه نيكولاس ديركس "مسرح لمشروع التنوير"، ولكن أكثر من ذلك، فقد تشكل التنوير نفسه أيضا بقوة من خلال الاتصال بالغرباء الآخرين. إذ تطلب الاتصال بالعالم الجديد لا الاعتماد على الجغرافيا كحيز وطني أو كفرع تخصصي ولكن كمجموعة من أفكار معينة وممارسات تشكلت من قبل شعوب وبيئات مختلفة. لكن هذا لا يتعارض مع فكرة أن تكون هناك جغرافيات وطنية للتنوير. فتفسير طبيعة التنوير في إنكلترا، على سبيل المثال، يسلط ضوءا مهما على طبيعية المجتمع الإنكليزي في القرن الثامن عشر وعلى الدور الحاسم الذي لعبه الفلاسفة الإنكليز في القرن السابع عشر في "أصول" فكر التنوير. وبالنظر إلى العلاقات بين الأماكن، من خلال استدعاء أفكار التنوير نفسها حيث يتم تحديد مواقعها وبأنها تتوافر على تاريخ اجتماعي وجنساني وحضور للمعاني التنازع عليها للجغرافيا والتنوير، شدد روبرتسون على كل من الطبيعية العالمية والمحلية للتنوير في فحصه للصلات بين اسكتلندا ونابولي في إيطاليا على سبيل المثال.
هذه الاعتبارات حول الطبيعة العالمية والمحلية المترابطة للتنوير – أي أنه لم يكن فقط ظاهرة وطنية -  تعزز شكوك بعض الباحثين بالفكرة القائلة بأن وعي التنوير نفسه كان إلى حد ما وعيا جغرافيا مستندا على تميز جزء من العالم يسمى “أوروبا”. كما أنهم يدعون في هذا السياق إلى المزيد من الفحص المفصل وعلى وجه التحديد لكيفية صنع التميز وليس فقط باعتباره مسألة وعي.


10
شر الاستعمار لا يغتفر

ترجمة: د. هاشم نعمة

يعني استعمار جزر الهند الشرقية الهولندية العنف الهيكلي. ولهذا السبب، فإن اعتذار مارك روته (رئيس الوزراء الهولندي الحالي)(1) غير كاف، وفقا  لغويناوان محمد(2).
لا أتذكر التاريخ بدقة. ولكن بالعودة إلى الوراء، أدرك أنه لا بد أنه كان في وقت ما في شباط/ فبراير 1948. كان عمري سبع سنوات. في الليلة السابقة، كنت قد سمعت الراشدين يتحدثون عن شيء أطلقوا عليه اسم "هدنة". والآن أدرك أنهم لا بد أنهم كانوا يتحدثون عن اتفاق رينفيل، الذي كان يهدف إلى وضع حد للصراع المسلح بين مملكة هولندا وجمهورية إندونيسيا.
كان الجانبان يعلمان أن وقف إطلاق النار هذا لا يمكن أن يدوم أبدا. ولكن على الأقل كان الجو سلميا ليوم واحد. على أي حال، لم يكن هناك إطلاق نار في الليلة السابقة. كان هناك شعور عابر بالارتياح. كان الناس مبتهجين، ولكن كان هناك أيضا شعور غريب بعدم الارتياح.
سار الجنود الهولنديون في الشوارع في سيارات جيب مفتوحة وهم يحملون البنادق. في الوقت نفسه، كان سكان مدينتنا يعلقون بالفعل أعلاما حمراء وبيضاء على أبوابهم. حتى أنهم شعروا بالثقة الكافية للالتقاء في مجال مفتوح. ذهبت إلى هناك مع أمي. لم يبد أحد خائفا. في وقت ما، انطلق الناس معا يغنون أغنية "في 17 أغسطس| آب". كانت تلك أغنية ثورية جديدة، لم يعرفها سوى عدد قليل من الناس. ومع ذلك، رأيت امرأة، صديقة أمي والقادمة من منفاها في ديغول، تغني والدموع في عينيها.

سقوط قتلى

ولكن في النهاية، تبين أن اليوم لم يكن سلميا كما بدا لأول وهلة. عندما عدنا من الاحتفال في الميدان في فترة ما بعد الظهر، سمعنا من مدبرة المنزل سامبيات أن جنودا هولنديين يحملون البنادق جاءوا يقتحمون المنزل. بعد إزالة الأعلام الورقية للجمهورية الجديدة من سياجنا، أجبر جندي سامبيات على ابتلاع اثنين منها. ثم غادروا مرة أخرى.
في المساء، أخبرتني أمي أن الجنود الهولنديين أطلقوا النار على أربعة شبان في حقول الأرز في وقت سابق من بعد ظهر ذلك اليوم. ولم يكن هناك قتال. قالت أمي: "لم يكونوا حتى حزبيين". ومنذ ذلك الحين فصاعدا، أخذت كلمة "هدنة" معنى مختلفا تماما في منزلنا.
بعد قرن كامل تقريبا، في عام 2022، أدلى رئيس الوزراء الهولندي مارك روته ببيان نيابة عن حكومته. قال فيه: "عن العنف المنهجي من جانبنا، وهو عنف لم يتم الاعتراف به بالكامل حتى الآن، أقدم اعتذارا عميقا للشعب الإندونيسي نيابة عن الحكومة الهولندية".
أستطيع أن أفهم لماذا قدم هذا الاعتذار، لكنني لا أعرف ما إذا كان الشخص المناسب لتقديمه. ولد روته في عام 1967، بعد أكثر من عشرين عاما من محاولة هويب فان موك، نائب الحاكم العام لجزر الهند الشرقية الهولندية، خنق قيام الجمهورية الجديدة وممارسة العدوان العسكري ضد السكان. لا أعرف ما إذا كان روته لديه فهم جيد لتاريخ إندونيسيا وتعقيده. وهو ينتمي إلى جيل نشأ بعد سنوات من أمر الكابتن ريموند ويسترلينغ، القائد السيئ السمعة للقوات الخاصة (DST) التي تم نشرها ضد الانتفاضة، بتنفيذ الاعدامات السريعة بمئات الإرهابيين(3) في سولاويزي، والذي حاول القيام بانقلاب عسكري آخر ضد الحكومة الإندونيسية في عام 1950.
أفضل أن لا أرى اعتذار روته على أنه سياسة دون ضمير حي، بل باعتباره عملا سياسيا بالوكالة إذا صح التعبير. إنه ذنب بدون ألم. ففي نهاية المطاف، ليس لحكومته أي دور في هذا الفصل البشع من تاريخ هولندا الاستعماري، ويمكنه أن يقول بحق إن تاريخنا المتشابك، مثل غيره من التواريخ، كان بمثابة مسلخا في استعارة غامضة من هيغل ومن يدري بالضبط أين يقع هذا المسلخ.

عيب أساسي

نحن نصنع التاريخ ونخزن الذكريات الجماعية. لكن التأريخ له عيب أساسي: فهو يتطلب استخدام الكلمات والأسماء. وهو يستند إلى افتراض أن هناك اتفاقا عاما على معنى تلك الكلمات والأسماء: "الهولنديون" و "الإندونيسيون" و العنف".
يقوم المؤرخون بربطها معا لصنع قصص وإعطاء معنى لقيمة حرية الإنسان. إنهم يريدون أن يصدقوا أن الكلمات التي يستخدمونها ستؤدي إلى توافق في الآراء بشأن معناها. لكن اللغة معقدة.
تعني كلمة "هولندي" شيئا ما فقط إذا قارنته بشيء "غير هولندي" - وهذا لا حدود له. لن تتمكن أبدا من تحديد ما قد تعنيه كلمتا "الهولندي" و"الإندونيسي" بشكل كامل. لا يمكنك تعريف كلمة من خلال البحث عنها في القاموس أو في ويكيبيديا. كل كلمة تبقى دائما صعبة المنال. الهويات والأسماء والتسميات هي دائما عملية متحركة.
لذلك لا أقول شيئا جديدا عندما أقول إن كلمة "هولندي" في الأربعينيات من القرن الماضي كانت تعني شيئا مختلفا عما عليه في عام 2020. إن العلاقة بين الحكومة الحالية في لاهاي وويسترلينغ -الذي حاول بالمناسبة أن يصبح مغني أوبرا بعد تركه الجيش -هي تجريد كامل.
سألني أستاذ في جامعة ليدن(4) كان يعرف أن الحكم الاستعماري قد أرسل والدّي إلى المنفى إلى بابوا في الثلاثينيات وأعدم والدي في عام 1947، سألني ذات مرة: "هل ما زلت تكره الهولنديين؟"
"أنا لا أصدق ذلك"، أجبت مندهشا إلى حد ما.
أجاب: "سألتك لأننا نحن الهولنديين ما زلنا نكره الألمان".
كان الأستاذ شخصا مهذبا جدا. كان من غير المألوف بالنسبة له أن يستخدم كلمة “كراهية” للإشارة إلى الألمان. ولكن كيف يمكنني الحكم على مدى شدة الألم والإذلال والصدمة التي يعيشها المرء في ظل القمع النازي؟
"تجاربنا مختلفة"، أجبت.
التجارب دائما شخصية ومختلفة. كلها تتشكل من عالم محدود وغير دائم. لا أعتقد أن هناك شيئا اسمه "ذاكرة جماعية" يسجل فيها التاريخ بطريقة صحيحة. هذا ينطبق بشكل خاص على ما يمكن وصفه بأنه "عنف شديد" في الماضي. كلما سمعت أشخاصا يجلسون لتقييم ما حدث في الماضي، أسمع بيتا من شعر شيريل أنور يتردد في رأسي: "نحن – الكلاب التي يتم اصطيادها – لا نرى سوى أجزاء من القطعة التي نلعب فيها".

لا عشاء   

ومع ذلك، عندما يسألني شخص ما عن رأيي في بيان روته، أقول: "نعم، أنا أؤمن بالمغفرة". على الرغم من طبيعة الاعتذار الهولندي بصفته اختراع مفاهيمي، أتذكر دائما ما فعله مونجينسيدي. قائد حرب العصابات الشاب في ماكاسار الذي سامح الجنود الهولنديين قبل أن يعدموه في 5 سبتمبر/ أيلول 1949.
ولكن ماذا تعني عبارة "العنف الهيكلي المتطرف" في الواقع؟ الثورة ليست حفلة عشاء، كما قال ماو تسي تونغ ذات مرة. إنها تنطوي على الطموح والقتل. ينطبق هذا أيضا على سياسة القمع المعادية للثورة. في التاريخ الحديث للصين والجزائر وإندونيسيا، يمتلك الثوار وأعداؤهم مسالخهم الخاصة بهم. هذا لا يعني أن كل شيء غامض ولا يمكن الحكم عليه.
من الواضح بالنسبة لي ما تعنيه عبارة "العنف الهيكلي": فهي تشير إلى الاستعمار نفسه. الاستعمار مؤسسة شريرة، مبنية على الغطرسة والجشع، تستند إلى "أيديولوجية" استخدمت لتبرير معاملة الإندونيسيين (والعديد من الشعوب الأخرى في أماكن أخرى) على أنهم أقل من البشر وكعبيد لا ينتمون إلى البشر.
ولا أستطيع أبدا أن أغفر ذلك.

(1) المترجم
 (2) غويناوان محمد هو كاتب إندونيسي ومؤسس مشارك لمجلة تيمبو النقدية.
 (3)  هم ثوار يناضلون من أجل نيل استقلال بلدهم، ولكن ينعتون بالإرهابيين من قبل القوى الاستعمارية. (المترجم)
 (4) ليدن، جامعة عريقة في هولندا عمرها خمسة قرون تهتم بالدراسات العربية والإسلامية. (المترجم)
الترجمة عن: 25 Maart 2022 NRC Handelsblad


11
الكتابات الماركسية الجديدة
ترجمة: د. هاشم نعمة

تطورت الكتابات الماركسية الجديدة كمدرسة فرعية داخل الماركسية بقصد العودة إلى نسختها الكلاسيكية في تحليل التخلف في العالم الثالث*. ويُعرف التخلف الاقتصادي كعملية تكون سمتها الغالبة هي التدفق المستمر للفائض الاقتصادي المتولد في الهامش نحو الاقتصاديات الرأسمالية المتطورة. وتتميز الاقتصاديات المتخلفة بانخفاض معدل دخل الفرد وبمعدلات تراكم بطيئة. ويشرح بول باران بأن البلدان المتخلفة لديها أسوأ عالمين، الإقطاعي والرأسمالي، بحيث تسير عناصر استغلال الإقطاعية جنبا إلى جنب مع الرأسمالية. منذ أن توقفت الرأسمالية كقوة تقدمية، بات التطور الرأسمالي في الأطراف لا يمكن توقعه، إذ تهدر فئة مالكي الأرض الكثير من الفائض في استهلاك الكماليات، ويستثمر الرأسمال الأجنبي في المعتاد في استخراج المواد الأولية مثل التعدين والزراعة التجارية، وتهتم فئة التجار المحليين بالاستثمارات التي تتوفر على مخاطر قليلة نسبيا وذات عائد سريع.
حدد اندريه فرانك بعض مميزات الرأسمالية التي تسبب التخلف في بلدان العالم الثالث: استغلال الفائض من قبل فئة قليلة؛ استقطاب النظام الرأسمالي نحو مراكز المتروبول والتوابع في الهامش؛ واستمرار الطبيعة الأساسية للنظام الرأسمالي التي تتضمن استمرار هاتين السمتين حتى أثناء المرور بتغيرات ظاهرية متواصلة. وهو يؤكد بأن استخلاص الفائض من قبل الطبقة الرأسمالية يتم في الغالب من خلال التجارة. النتيجة، انتقد منظرون ماركسيون جدد فرانك لفشله في توفير تحليل طبقي للبنى الاجتماعية-الاقتصادية للهامش.
يشرح فرانك العلاقة بين المركز والهامش، ونتائجها على النحو التالي: يصادر المتروبول الفائض الاقتصادي من توابعه ويوجهها لتنميته الاقتصادية. وتبقى التوابع متخلفة بسبب نقص الوصول إلى فائضها ونتيجة الاستقطاب نفسه وتناقضات الاستغلال التي يدخلها المتروبول ويحافظ عليها في البنية الاقتصادية المحلية للتوابع. تكون التنمية الاقتصادية والتخلف وجهين متناقضين لعملة واحدة. كلاهما يمثل النتيجة الضرورية والتعبير المعاصر عن التناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي العالمي. لا تتصف التنمية الاقتصادية والتخلف بسمات نسبية وكمية فقط، ففي أحدهما توجد تنمية اقتصادية أكثر من الآخر؛ تكون التنمية الاقتصادية والتخلف ذات سمات جذرية ونوعية، إذ أن كل منهما يختلف بنيويا عن الآخر، وذلك بسبب علاقته بالآخر. لقد نشأت في وقت واحد العملية التاريخية نفسها المتمثلة بتوسع الرأسمالية وتطورها عبر العالم واستمرت تولد كل من التنمية الاقتصادية والتخلف البنيوي.     
يشرح سمير أمين أن التخلف يتجلى بتدفق الفائض من خلال التجارة ومن خلال تشويه النمو الصناعي واضعافه في الأطراف. ويستغل المركز الأطراف ويحجب التنمية فيها من خلال هيمنة الاستثمارات في القطاعات الحديثة، والسيطرة على بنيتها واستخلاص الفائض على شكل أرباح تعاد إلى المركز، وكذلك من خلال التراكم البدائي المستمر الذي يتمثل في استخلاص الفائض عبر التبادل غير المتكافئ في التجارة العالمية.
يفسر أمين كذلك جوهر الصراع الطبقي ضمن تمييز المركز-الأطراف على النحو التالي: هذا يعني أنه في الاقتصاد ذاتي المركز autocentric economy** هناك علاقة عضوية بين مكوني التناقضات الاجتماعية، البرجوازية والبروليتاريا أنهما مندمجان في واقع واحد وهو الدولة. أما في الاقتصاد الخارجي فلا يمكن إدراك وحدة الأضداد هذه في السياق الوطني. هذه الوحدة تحطمت، ولا يمكن اكتشافها إلا على المستوى العالمي. ويعني التبادل غير المتكافئ بأن مسألة الصراع الطبقي يجب أن تؤخذ في الاعتبار بالضرورة على المستوى العالمي، وبأن المشكلات الوطنية لا يمكن اعتبارها ظواهر ثانوية مقترنة بالمسألة الأساسية المتمثلة بالصراع الطبقي المحض.
وعلى الرغم من تباين المساهمات الماركسية الجديدة من ناحيتي المحتوى والتركيز بدرجة معينة، إلا أنها تتفق بشأن الانقسام إلى مركز وأطراف، وبأن المركز يهيمن في النهاية على التجارة والاستثمار في الإنتاج، والذي يمنع بالتالي نشوء رأسمالية تنافسية محلية في الأطراف. لذلك، يجب أن تستبدل الوضعية الحالية بأخرى جديدة عبر الثورة الاشتراكية التي سوف تخلق ظروف التنمية الشاملة.
من ناحية أخرى، يجادل بيل وارن بأن العلاقة بين الدول المتقدمة والدول النامية أفادت الغالبية العظمى من سكان العالم، وأن عددا مهما من دول الأطراف قد تقدمت بنجاح عبر التصنيع من خلال نقل رأس المال والتكنولوجيا، والتنمية الرأسمالية الوطنية السريعة. يشرح كذلك أن هناك دليلا متوافرا على وجود تنمية مستقلة بنحو متزايد في العالم الثالث تماشيا مع أربعة معايير للتصنيع المستقل: إنتاج موجه لسوق السكن بشكل أساسي؛ إنتاج متنوع يشمل السلع الرأسمالية؛ تحكم في المالية المحلية؛ ابتكارات تكنولوجية محلية. وبالتالي، فهو يرفض برهان الماركسيين الجدد المتعلق باستغلال الإمبريالية وطابعها المتراجع. وهو، في الواقع، يشيد بالإمبريالية لدورها في التصنيع الأساسي والتحول الرأسمالي في العالم الثالث وهو يقترح كذلك أن معوقات التنمية لا تنشأ من العلاقات الحالية بين الامبريالية والعالم الثالث، ولكن تنشأ من الظروف الداخلية للعالم الثالث نفسه.
ينتقد وارن لينين على عكسه النظرية الماركسية بشأن المهمة التاريخية للإمبريالية كالآتي: إن وجهة نظر الماركسية التقليدية تجاه الإمبريالية باعتبارها تقدمية تم عكسها من قبل لينين في عمله “الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية”، إذ قلب بشكل مؤثر وجهة نظر ماركس وانجلز حول صفة التوسع الإمبريالي، وأطلق لينين عملية أيديولوجية محت من الماركسية أي أثر للرأي القائل بأن الرأسمالية يمكن أن تكون أداة للتقدم الاجتماعي حتى في المجتمعات السابقة للرأسمالية.
يدافع وارن بالقول أن الإمبريالية تمثل جسرا للاشتراكية. ويبدو أنه يعتقد أنها تقوم بـ “مهمتها التاريخية” في تهيئة الأرضية لتحول النظام الحالي نحو نظام اشتراكي. لهذا السبب، لم ينتقد حتى الجوانب السلبية للإمبريالية ويضع اللوم على بلدان العالم الثالث.

* مثلا تم تطوير الإطار الهيكلي للمفاهيم الماركسية لتحلل الهجرة المعاصرة في البلدان الأقل نموا. (المترجم)
** يعني سمير أمين أنه في الاقتصاد ذاتي المركز يمكن أن يستمر التراكم دون توسع خارجي، وهو اقتصاد يمكن فيه استيعاب العلاقات الأساسية للنظام دون مراعاة العلاقات الخارجية. (المترجم)

الترجمة عن كتاب: Addis Alem balema, Economic Development and Democracy in Ethiopia (Erasmus University Rotterdam: 2003).                                                                                         
 


12
ملاحظات في العلاقة بين الديمقراطية والتنمية

د. هاشم نعمة

    لاحظ عالم الاجتماع الأمريكي سيمور ليبسيت لأول مرة عام 1959 بأن الديمقراطية ترتبط بالتنمية الاقتصادية. هذه الملاحظة ولدت كما كبيرا من البحث في موضوعات السياسة المقارنة ذات العلاقة. فقد جرى دعم هذه الفكرة والاعتراض عليها، ومراجعتها وتوسيعها، واهمالها وانعاشها. وعلى الرغم من إعلان الخروج بخلاصات من هذا النقاش إلا أنه لم تظهر نظرية ولا حقائق واضحة حول هذه العلاقة.
    ظلت العلاقة بين الديمقراطية والتنمية مثارا للنقاش وسط العلماء ويبدو أن هناك وجهات نظر مختلفة بشكل أساسي بشأن تأثير هذا التفاعل. من ناحية، يناقش بعض المنظرين بأن الديمقراطية والتنمية الاقتصادية يعزز كل منهما الآخر. من ناحية ثانية، يرى آخرون بأن الديمقراطية تضر بالتنمية. وما يزال البعض يؤيد فكرة عدم وجود علاقة ملموسة بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية. علما أنه في العقود الثلاثة الأخيرة، حاول العديد من الباحثين تأكيد مواقفهم بشأن هذه العلاقة، لكن انتهوا إلى استنتاجات  متباينة. 
   يجادل بعض المنظرين أن الحكومة الديمقراطية هي الأنسب لتعزيز النمو الاقتصادي المستدام. إضافة إلى ذلك، فإن العمليات الديمقراطية ووجود الحريات السياسية تولد الظروف الاجتماعية التي تكون ملائمة أكثر للتقدم الاقتصادي، إذ يستنتج البعض بأن هناك علاقة ثابتة وإيجابية بين التنمية الاجتماعية -الاقتصادية والديمقراطية، وهذا واضح من حالة  الكثير من الدول التي مرت بالتجربة الديمقراطية.       
   هناك مقاربة واسعة الانتشار تعتبر أن الديمقراطية هي ثمرة للتنمية الاجتماعية -الاقتصادية. ومن بحوث تجريبية لمجموعة مختلفة من البلدان قام بها ليبسيت خلص فيها إلى أن التنمية الاقتصادية تتضمن التصنيع، التحضر (ارتفاع نسبة سكان المدن)، مستويات عالية من التعليم وزيادة منتظمة في الثروة الاجمالية للمجتمع، وتكون هذه الشروط أساسية لديمقراطية مستدامة. وعلى الرغم من اتفاق هؤلاء المنظرين بأن الديمقراطية تتطلب مسبقا مستوى معينا من التنمية الاقتصادية، ولكن لا يوجد اجماع واضح حول هذا المستوى ونمط  التنمية الذي يخدم هذا الهدف، مع أنه يوجد اعتقاد واسع بأن الفقر يشكل عقبة أساسية أمام التنمية الاقتصادية والديمقراطية.
    إن نظرة عابرة للعالم ستظهر أن البلدان الفقيرة تميل لتكون ذات أنظمة مستبدة، بينما الدول الغنية تميل لتكون ذات أنظمة ديمقراطية،( توجد دول غنية لكنها ذات أنظمة مستبدة وهذا ينطبق على الدول ذات الاقتصاديات الريعية خصوصا) مع ملاحظة بأن الديمقراطية ترتبط بدون شك مع مستوى معين من التنمية الاقتصادية. ومع أخذ الأهمية المركزية للتنمية الاقتصادية بالاعتبار، ينبغي التمييز بين آليتين قد ولدتا هذه العلاقة وذلك بالتساؤل فيما إذا كانت البلدان الديمقراطية قد انبثقت على الأرجح من تطور اقتصادي في ظل نظام دكتاتوري أو ظهرت لأسباب أخرى غير التنمية، والملاحظ أنه تستمر الديمقراطية على الأرجح في البلدان التي كانت متطورة بالفعل. وكما لاحظ البولندي برزيورسكي وآخرون فانه يبدو من المعقول الافتراض أن الفقر يولد الفقر والدكتاتورية. كما أن انتشار فكرة التنازل عن ميزة من أجل الحصول على ميزة أخرى بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية لا يبدو سليما     .
    تعكس العلاقة القوية بين الديمقراطية والتنمية حقيقة أن التنمية تفضي إلى الديمقراطية. لكن يثار سؤال لماذا تقود التنمية بالضبط إلى الديمقراطية؟ هذا ما جرى مناقشته بصورة مكثفة من قبل الباحثين. بالطبع لم يكن نشوء المؤسسات الديمقراطية تلقائيا وذلك عندما يحقق بلد ما مستوى معينا من الناتج المحلي الإجمالي. ثم أن التنمية الاقتصادية تجلب تغيرات اجتماعية وسياسية وبالتالي تفضي إلى الديمقراطية إلى الحد الذي تخلق طبقة وسطى كبيرة ومتعلمة وواضحة، وأن يرافق ذلك حدوث تحول في قيم الناس ودوافعهم.
    أثيرت بعض الأسئلة ذات البعد التاريخي مثل من يسبق أولا الديمقراطية أم التنمية؟ وهل الديمقراطية شرط مسبق للنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي؟ وهل ستكون الديمقراطية فقط قابلة للتطبيق وتتعزز عندما يكون هناك مستوى معين من التنمية قد انجز؟ وهل يجب أن تكون المجتمعات مؤهلة للديمقراطية أو تكون كذلك من خلال تطبيق الديمقراطية؟ وهل تكون التنمية الاقتصادية مستدامة بدون التطور السياسي والعكس بالعكس؟   
    حاليا، من الممكن أكثر مقارنة بالسابق قياس التغيرات الرئيسة والمدى الذي تقدمت فيه بلدان معينة. فقد جعل التحليل المتعدد المتغيرات من استطلاعات القيم ذلك ممكنا لفهم التأثير النسبي للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأشارت النتائج إلى خلاصة تقول بأن التنمية الاقتصادية تفضي إلى الديمقراطية بقدر ما تحدث من تغييرات هيكيلية معينة (خصوصا صعود قطاع المعرفة) وتغيرات ثقافية معينة. كما تؤثر الحروب، والاضطهاد والتغيرات المؤسساتية، وقرارات النخب وقادة معينين في ما يحدث، لكن تعد التغيرات البنيوية والثقافية عوامل رئيسة في نشوء الديمقراطية وبقائها.
    وهناك من يرى أنه من أجل تعزيز الديمقراطية نحتاج أن نتعلم من أخطاء الماضي. ولا يمكن للدمقرطة أن تتعزز بالاعتماد على النماذج الغربية فقط. إذ أن الدعم المؤثر للدمقرطة يجب أن يركز على المبادئ الديمقراطية العامة في سياق اجتماعي اقتصادي سياسي معين. علما أنه عندما  نتعامل مع الدول الهشة  فإنه من الخطأ الفادح نكران أهمية الشرعية، إذ أن نقص الشرعية يعد سببا لهشاشة الدولة.
    في الهند مثلا، لم تتغير نسبة السكان الذين يمكن تصنيفهم كفقراء بالمقياس المطلق بشكل جذري منذ الاستقلال. يعني هذا أن التجربة الهندية لا تؤكد توقع الأداء الجيد للأنظمة الديمقراطية بشأن الرفاه الاجتماعي في جميع الأحوال. إذ من ناحية بعد النمو تبدو الصورة أكثر تعقيدا قليلا: حيث كان هناك تأكيد على التصنيع، ولكن بسبب المعدل المنخفض للنمو في القطاع الزراعي، كانت النتيجة الإجمالية نموا ضعيفا إلى حد ما.
   بالنسبة إلى العراق، فقد جاءت تجربته الديمقراطية المتعثرة إثر احتلال، وكان البلد قبل ذلك منهكا بسبب الحروب الداخلية والخارجية والعقوبات القاسية التي فرضتها الأمم المتحدة بعد غزو الكويت من قبل نظام صدام حسين، إذ انتشر الفقر على نطاق واسع وتراجعت الخدمات والتعليم والصحة. ونتيجة تبني نهج المحاصصة الطائفية والإثنية الحاضن للفساد المالي والإداري بعد سقوط النظام، لذلك لم تنطلق تنمية اجتماعية-اقتصادية حقيقية ترافق التغيير السياسي وتعززه نحو بناء نظام ديمقراطي على الرغم من ارتفاع عائدات العراق من النفط، بل ظلت أغلب المصانع متعطلة والزراعة تتراجع، وتعزز التفاوت  الطبقي وتفتت النسيج الاجتماعي وضعفت الهوية الوطنية أمام انتعاش الهويات الفرعية، الطائفية والإثنية والقبلية والمناطقية. وكل هذه الأمور لابد أن ترتبط بعلاقة عكسية سلبية مع تعزيز الديمقراطية وتزيد من تعثرها وتشوهها.
    ونحن نعرف من تجارب المجتمعات أنه كلما انتشر الفقر والعوز وضعف الأمن فإن المطالبة بالحريات والحقوق السياسية تتراجع وتصبح الأولوية لمتطلبات الحياة الأساسية. وقد لاحظنا ذلك من شعارات انتفاضة تشرين 2019، التي ركزت في مضمونها على العدالة الاجتماعية ولم تركز على تعزيز الديمقراطية كنظام. بل هناك من يبحث عن منقذ حتى لو كان مستبدا عندما تتردى الأوضاع، وتجربة تونس شاهد على ذلك، إذ مهد ضعف التنمية الاجتماعية-الاقتصادية إلى عودة الاستبداد.
     أخيرا، هناك عوامل أخرى تؤثر في البناء الديمقراطي منها: الارث السياسي، أي هل كان البلد مستقلا أم خضع للسيطرة الاستعمارية (في كثير من الدول كانت الديمقراطية من ارث الاستعمار لكنها لم تستمر)، والتاريخ السياسي للبلد وعدد المرات التي حكم فيها من قبل الأنظمة المستبدة، والبنية الدينية والمذهبية والبنية الإثنية واللغوية، والبيئة السياسية الدولية ونسبة الأنظمة الديمقراطية في العالم خلال فترة معينة وغيرها.


13
العلاقة بين الهجرة الدولية والتنمية

د. هاشم نعمة
عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت صدر كتاب العلاقة بين الهجرة الدولية والتنمية من منظور البلدان المرسلة للمهاجرين بداية هذا العام، للأكاديمي والباحث د. هاشم نعمة فياض. ويقع الكتاب في 351 صفحة.
  باتت العلاقة المعقدة بين الهجرة الدولية والتنمية تحظى بالمزيد من البحث على المستوى الأكاديمي وعلى مستوى الدول والمنظمات المهتمة بهذا الموضوع؛ لكن يلاحظ أن هذا الاهتمام لا يزال ضعيفًا ولا يرقى إلى أهمية الموضوع في العالم العربي، على الرغم من أن هذه المنطقة تشترك بقوة في هذا الصنف من الهجرة وتتأثر بنتائجه الكثيرة والمترابطة. وهذا الكتاب مساهمة في سد بعض النقص في هذا الحقل.
   تتركز فرضيات الكتاب في نقطتين: الأولى، على الرغم من مشاركة ملايين المهاجرين في الهجرة الدولية، إلا أن هذا الحجم الكبير لا يتلاءم مع إسهام هذا الصنف من الهجرة في دعم التنمية بشكل أساس في البلدان المرسلة للمهاجرين. الثانية، إذا ما استُثمر عنصر الهجرة الدولية بشكل مناسب يمكن أن يكون أحد العوامل المحفزة للتنمية ، إلا أنه لا يكون بديلا لها.
    يبحث الكتاب في فصوله الستة، إضافة إلى مقدمة وخلفية نظرية في اتجاهات الهجرة الدولية ببعديها الزماني والمكاني على المستويين العالمي والعربي، ومقررات الهجرة الدولية على مستويي البلدان المرسلة للمهاجرين والمستقبلة لهم. ويحلل إشكالية العلاقة بين الهجرة والتنمية، وتحويلات المهاجرين وعلاقتها بالتنمية. ويعالج تأثيرات الهجرة الدولية خصوصًا في جانبيها الاقتصادي والاجتماعي. ويتطرق إلى معالجات تتعلق خصوصًا بتنظيم الهجرة الدولية والاتفاقيات الدولية الخاصة بها واندماج المهاجرين. 
    من خلال الرصد والتحليل الذي جرى في ثنايا فصول الكتاب، نلاحظ  أن الهجرة الدولية باتت مكونا مهما من مكونات العلاقات الدولية سواء كانت هذه العلاقات اقتصادية أو سياسية أو ثقافية. وهذا يؤكد ما جرى توقعه في الخلفية النظرية بأن البرجوازية في النظام الرأسمالي في بحثها عن الأرباح واستخلاص الفائض من الطبقة العاملة، ستوسع آفاقها الجغرافية جاذبة بلدان الهامش نحو نظامها باعتبارها مزودا لليد العاملة الرخيصة والمواد الخام، وهذا ما حصل فعلا على نطاق واسع، عن طريق استعمار كثير من البلدان، خصوصا النامية منها، من قبل البلدان الأوروبية.
    لفترة طويلة، لم تعالج العلاقة بين الهجرة والتنمية بطريقة صحيحة على مستوى البلدان المرسلة للمهاجرين، إذ تحلل الدراسات بصفة أساسية تأثيرات الهجرة في بلدان المقصد، وفي حالات نادرة جدا تحلل هذه التأثيرات في البلدان المرسلة للمهاجرين. فقط  ثمة عدد محدود من الدراسات عالج تأثيرات الهجرة على الأجور والتفاوت، والنمو والرفاه الاجتماعي، والتأثيرات الاجتماعية التي تشمل صحة الأطفال، والتعليم ودور المرأة، وتأثير المهاجرين العائدين الذين اكتسبوا خبرة في بلدان المقصد، إضافة إلى العلاقة بين الهجرة والتجارة.
    يقود نقص التنمية إلى الهجرة، لكن تؤثر الهجرة أيضاً في نقص التنمية، ففي الدول التي تشهد زيادة في الدخل والإنتاج الزراعي تعكس الهجرة النجاح، وتستطيع تحويلات المهاجرين أن تجد الأرض الخصبة للمساهمة في التنمية. لكن في الاقتصاديات الراكدة والمخربة نتيجة فشل الأسواق، تعكس الهجرة التنمية الفاشلة، ومن المرجح أن تكون تأثيراتها الايجابية أكثر محدودية.
   الهجرة ليست علاجا للتنمية ولا شؤما عليها. لكن هناك طرقا لتعزيز مساهمة الهجرة في التنمية الاقتصادية في المناطق المرسلة للمهاجرين. هذه حقيقة، خصوصاً بالنسبة إلى الهجرة الدولية؛ لأن تحويلات المهاجرين تميل لتكون أكثر من تلك العائدة إلى الهجرة الداخلية.
   توجد علاقة ذات حدين بين الهجرة والتنمية، فهناك علاقة إيجابية وأخرى سلبية، حيث يمكن للهجرة أن تكون سبباً ونتيجة للتخلف في الوقت نفسه، بينما يزداد التخلف أو يقل نتيجة الهجرة، لذلك لا يمكن رؤية الهجرة بشكل مطلق على أنها عقبة في وجه التنمية أو إحدى استراتيجيات تحقيقها، إذ يعتمد تأثيرها على التنمية في الدول والمجتمعات كل على حدة، وعلى البيئات السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية لتلك المجتمعات التي تحدث فيها الهجرة، وكذلك يعتمد تأثيرها على خصائص المهاجرين وسلوكياتهم.
   من الواضح أن هناك عددا من الدراسات عالج موضوع العلاقة بين الهجرة والتفاوت أو عدم المساواة، وعلى الرغم من حقيقة أن الهجرة متجذرة بعمق في التفاوت المحلي إضافة إلى التفاوت العالمي، لكن ليس بالضرورة أنها تعمل على تقليل هذا التفاوت. إجمالا، هناك القليل من الاتفاق في الأدب الذي يعالج هذا الموضوع، إذ ثمة نتائج متباينة حول كيفية تأثير الهجرة في التفاوت، حيث تعتمد الدراسات بدرجة كبيرة على نمط التباين الموجود الذي يجري تحليله والمعطيات المتوفرة حوله وحجم التحليل، وأي ضعف في هذه العناصر يمكن أن يؤثر في النتائج التي تخرج بها دراسة التفاوت.
   ومن وجهة نظر النظام العالمي، فإن الهجرة الدولية تعد شكلا من أشكال التبادل غير المتساوي، فهي تعزز التنمية في البلدان التي يكون وضعها الاقتصادي جيدا في الأصل. وهي نظام لعرض العمالة. وبهذا المعنى، فالمهاجرون قوة عاملة مثل كل القوى العاملة، يجب أن يعاد إنتاجها. لكن ما يميز نظام عرض القوى العاملة الدولية عن عرض القوى العاملة المحلية، هي أن عملية إعادة إنتاج الأولى تحدث عبر الحدود الوطنية.
   هناك وجهتا نظر متعارضتان بشأن تأثير التحويلات في التنمية تسودان في الأدب الحالي المتعلق بالموضوع: واحدة متفائلة وأخرى متشائمة. يعتقد مؤيدو وجهة النظر المتفائلة بأن التحويلات يمكن أن تحفز التنمية بشكل مباشر أو غير مباشر. أما المدافعون عن وجهة النظر المتشائمة، فهم يسلطون الضوء على التأثيرات العكسية للتحويلات في التنمية.
    تتمثل المنافع الرئيسة للتحويلات (المحتملة والحقيقية) بالنسبة إلى البلدان المرسلة للعمالة في: تسهيل قيود التبادل الخارجي وتحسين ميزان المدفوعات، زيادة استيراد السلع الرأسمالية والمواد الأولية الموجهة للتنمية الصناعية، زيادة في عرض المدخرات والاستثمار في تكوين رأس المال والتنمية، التخفيف من تأثيرات ارتفاع الأسعار، خلق إضافات صافية للموارد، ارتفاع مباشر في المستوى المعيشي لمستلمي التحويلات، تحسن في توزيع الدخل  بالنسبة إلى الفقراء| المهاجرين الأقل مهارة.
     ثمة مسألة غاية في الأهمية تتمثل بتحقيق أقصى قدر ممكن من التأثيرات التنموية من التحويلات. وهي تشمل توفير الخيارات للأفراد لتمكينهم من استخدام هذه الموارد الخاصة لدعم الاستثمارات التنموية، ويكون في مركز ذلك الاهتمام البنية التحتية والطاقة الإنتاجية. علما أن تدفقات التحويلات هذه لا تستبدل الدور التنموي للخدمات الاجتماعية العامة، والتنمية الصناعية، والاستثمار في قطاع الصادرات، لأن هذه القطاعات تلعب دورا محوريا في الاقتصاد الوطني.
   إن الجدل الدائر في العديد من الدوائر الاقتصادية والسياسية في البلدان المرسلة للعمالة حول مكاسب ومغارم هجرة العمالة إلى البلدان العربية النفطية، يدور بصفة أساسية حول آليات تدفق وأنماط استخدام واستيعاب تحويلات العاملين في البلدان النفطية، إذ إن الحجم المطلق لتحويلات العاملين بالخارج لا يمثل بالضرورة رصيدا ايجابيا لمجهودات وبرامج التنمية في البلدان المرسلة للعمالة في ظل الآليات والأنماط السائدة لاستخدام هذه التحويلات. فهناك العديد من المظاهر السلبية والتشويهات التي لحقت بأنماط الاستهلاك والاستيراد والاستثمار في البلدان المرسلة للعمالة، ما يؤثر تأثيرا بالغا في أولويات برامج التنمية ونمط تخصيص الموارد في هذه البلدان.
   نعتقد أن فرضيات الدراسة قد تحققت، إذ على الرغم من مشاركة ملايين المهاجرين في الهجرة الدولية على المستويين الإقليمي والعالمي، ومنها الهجرة من البلدان العربية، إلا أن هذا الحجم الكبير لا يتلاءم مع إسهام هذا الصنف من الهجرة في دعم التنمية بشكل أساس في البلدان المرسلة للمهاجرين. وقد تبيّن من البحث أنه إذا ما استثمر عنصر التنمية الكامن في الهجرة الدولية بشكل مناسب فإنه يمكن أن يكون أحد العوامل المحفزة للتنمية، إلا أنه لا يكون بديلا منها.   
     أخيرا، يحتاج موضوع العلاقة بين الهجرة والتنمية على مستوى العالم العربي إلى مزيد من الجهود البحثية وبطريقة مركبة لكشف الإمكانيات الحقيقية الكامنة للاستفادة من موارد الهجرة في التنمية وتلافي السلوك الضار لهذه الموارد على الاقتصاديات الوطنية في البلدان المرسلة للمهاجرين، ويفترض أن يكون هناك تعاون وتنسيق بين البلدان العربية المرسلة والمستقبلة للمهاجرين لإدارة الهجرة بما يجعلها أحد مكونات التنمية المستدامة.




14
عصر عدم الاستقرار القادم في أمريكا

ترجمة: د. هاشم نعمة

   لماذا يمكن أن تصبح قريبا الأزمات الدستورية والعنف السياسي هي القاعدة
    عندما أدى جو بايدن اليمين الدستورية كرئيس قبل عام، تنفس الكثير من الأميركيين الصعداء. وكان الرئيس دونالد ترامب قد حاول سرقة الانتخابات، لكنه فشل. وكان التمرد العنيف الذي حرض عليه في 6 يناير/كانون الثاني 2021 قد هز النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة حتى النخاع، لكنه تركه واقفا في النهاية.
    ولكن بعد مرور عام على رئاسة بايدن، لم يتراجع التهديد الذي تتعرض له الديمقراطية الأميركية. وعلى الرغم من نجاة المؤسسات الديمقراطية الأميركية من رئاسة ترامب، إلا أنها ضعفت بشدة. وعلاوة على ذلك، تحول الحزب الجمهوري إلى قوة متطرفة معادية للديمقراطية تعرض النظام الدستوري الأميركي للخطر. إن الولايات المتحدة لا تتجه نحو الاستبداد على الطريقة الروسية أو الهنغارية، كما حذر بعض المحللين، بل نحو شيء آخر: فترة طويلة من عدم استقرار النظام، تتميز بأزمات دستورية متكررة، وعنف سياسي متزايد، وربما فترات من الحكم الاستبدادي.
نجاة بأعجوبة

   في عام 2017، حذرنا في مجلة فورين أفيرز من أن ترامب يشكل تهديدا للمؤسسات الديمقراطية الأمريكية. كان المتشككون ينظرون إلى قلقنا على مصير الديمقراطية الأميركية باعتباره تنبيه لخطر بدون داعي. فقد ظل النظام الدستوري الأميركي مستقرا لمدة 150 عاما، وتشير أبحاث العلوم الاجتماعية إلى أن الديمقراطية من المرجح أن تستمر. إذ لا توجد ديمقراطية ناضجة - أو قديمة - مثل ديمقراطية الولايات المتحدة قد تعرضت للانهيار التام.
    لكن ترامب أثبت أنه مستبد كما هو معلن. وباتباع قواعد اللعبة لهوغو شافيز في فنزويلا، ورجب طيب أردوغان في تركيا، وفيكتور أوربان في هنغاريا، عمل ترامب على إفساد وكالات الدولة الرئيسة وتخريبها لأغراض شخصية وحزبية وحتى غير ديمقراطية. فقد تعرض المسؤولون الحكوميون المسؤولون عن إنفاذ القانون والاستخبارات والسياسة الخارجية والدفاع الوطني والأمن الداخلي وإدارة الانتخابات وحتى الصحة العامة لضغوط للعمل ضد منافسي الرئيس.
    ومع ذلك، عمل ترامب أكثر من تسييس مؤسسات الدولة. وحاول سرقة الانتخابات. فقد أمضى ترامب - الرئيس الوحيد في تاريخ الولايات المتحدة الذي رفض قبول الهزيمة- أواخر عام 2020 وأوائل عام 2021 في الضغط على مسؤولي وزارة العدل والحكام والمشرعين في الولايات ومسؤولي الانتخابات على مستوى الولايات وعلى المستوى المحلي، وأخيرا نائب الرئيس مايك بنس،* لإلغاء نتائج الانتخابات بشكل غير قانوني. وعندما فشلت هذه الجهود، حرض حشدا من مؤيديه على السير في مبنى الكابيتول الأميركي ومحاولة منع الكونغرس من التصديق على فوز بايدن. إن هذه الحملة التي دامت شهرين للبقاء في السلطة بشكل غير قانوني تستحق أن يطلق عليها اسم: محاولة انقلاب.
    كنا نخشى، فشل الحزب الجمهوري في تقييد ترامب. وفي سياق الاستقطاب السياسي الشديد، توقعنا أن الجمهوريين في الكونغرس "من غير المرجح أن يسيروا على خطى أسلافهم الذين كبحوا جماح نيكسون". إذ أن ترجيح الولاء الحزبي من قبل مؤيدي ترامب على الالتزامات الدستورية، والخوف من التحديات الأولية أدى إلى التقويض من فعالية نظام تحكم أقوى بشأن إساءة استخدام سلطة الرئاسة: العزل. فقد تجاوزت انتهاكات ترامب انتهاكات نيكسون من ناحية حجم الأوامر. لكن عشرة فقط من الجمهوريين الـ 211 في مجلس النواب صوتوا لعزل ترامب في أعقاب الانقلاب الفاشل، وصوت سبعة فقط من أصل 50 جمهوريا في مجلس الشيوخ لإدانته.
    نجت الديمقراطية الأمريكية من ترامب – ولكن بالكاد. وقد تم إضعاف سلوك ترامب الاستبدادي جزئيا من قبل مسؤولين عموميين رفضوا التعاون مع انتهاكاته، مثل سكرتير ولاية جورجيا، براد رافنسبرجر، أو الذين رفضوا التزام الصمت بشأنها، مثل ألكسندر فيندمان، المتخصص في مجلس الأمن القومي. وقد عرقل العديد من القضاة، بمن فيهم بعض القضاة الذين عينهم ترامب نفسه، جهوده لإلغاء الانتخابات.
    كما لعبت الأحداث الطارئة دورا في هزيمة ترامب. إذ كان وباء كوفيد-19 بمثابة "لحظة كاترينا"**. وكما أدى سوء تعامل الرئيس جورج دبليو بوش مع آثار إعصار عام 2005 إلى تآكل شعبيته، ربما كانت استجابة ترامب الكارثية للوباء حاسمة في منع إعادة انتخابه. ومع ذلك، كاد ترامب أن يفوز. وكان من شأن تحول ضئيل في التصويت في جورجيا وأريزونا وبنسلفانيا أن يضمن إعادة انتخابه، الأمر الذي من شأنه أن يعرض الديمقراطية لتهديد خطير.
    وعلى الرغم من نجاة الديمقراطية الأمريكية من رئاسة ترامب، إلا أنها أصيبت بجروح بالغة بسببها. إذ في ضوء إساءة استخدام ترامب الشنيعة للسلطة، ومحاولته سرقة انتخابات عام 2020 وعرقلة الانتقال السلمي، والجهود الجارية على مستوى الولايات لتقييد الوصول إلى صناديق الاقتراع، خفضت مؤشرات الديمقراطية العالمية سلم الولايات المتحدة بشكل كبير منذ عام 2016. واليوم، فإن نتيجة الولايات المتحدة في مؤشر الحرية العالمي لفريدوم هاوس أصبح على قدم المساواة مع بنما ورومانيا، وأقل من الأرجنتين وليتوانيا ومنغوليا.
تصاعد التهديدات

    لم تنه هزيمة ترامب في انتخابات عام 2020 تهديد الديمقراطية الأمريكية. لقد تطور الحزب الجمهوري إلى حزب متطرف ومعادي للديمقراطية، أشبه بحزب فيديس الهنغاري من أحزاب يمين الوسط التقليدية في أوروبا وكندا. بدأ التحول قبل ترامب. فخلال رئاسة باراك أوباما، نظر كبار الجمهوريين إلى أوباما والديمقراطيين باعتبارهم يشكلون تهديدا وجوديا، وتخلوا عن معايير ضبط النفس لصالح التصلب الدستوري - استخدام نص القانون لتقويض روح القانون. فقد دفع الجمهوريون بموجة من الإجراءات على مستوى الولايات تهدف إلى تقييد الوصول إلى صناديق الاقتراع، والأكثر غرابة، رفضوا السماح لأوباما بملء الشاغر في المحكمة العليا بعد وفاة القاضي المساعد أنطونين سكاليا في عام 2016.
    تسارع التطرف الجمهوري في عهد ترامب، لدرجة أن الحزب تخلى عن التزامه بقواعد اللعبة الديمقراطية. إذ يجب على الأحزاب الملتزمة بالديمقراطية، على الأقل، أن تفعل شيئين: قبول الهزيمة ورفض العنف. وابتداء من تشرين الثاني/نوفمبر 2020، لم يفعل الحزب الجمهوري أي منهما. رفض معظم القادة الجمهوريين الاعتراف بشكل لا لبس فيه بفوز بايدن، إما بتبني "الكذبة الكبيرة" لترامب علنا أو تمكينها من خلال صمتهم. وأيد أكثر من ثلثي الأعضاء الجمهوريين في مجلس النواب دعوى قضائية رفعت أمام المحكمة العليا سعيا لإلغاء انتخابات عام 2020، وفي مساء يوم 6 يناير/كانون الثاني،
صوت 139 منهم ضد التصديق على الانتخابات. كما رفض كبار الجمهوريين شجب العنف بشكل لا لبس فيه. ولم يحتضن ترامب الميليشيات المتطرفة وحرض على التمرد في 6 كانون الثاني/يناير فحسب، بل عرقل الجمهوريون في الكونغرس في وقت لاحق الجهود الرامية إلى إنشاء لجنة مستقلة للتحقيق في التمرد.
   وعلى الرغم من أن ترامب حفز على هذا التحول نحو الاستبداد، إلا أن التطرف الجمهوري كان مدفوعا بضغط قوي من الأسفل. إذ أن الناخبين الأساسيين للحزب هم من البيض والمسيحيين، ويعيشون في الضواحي والمدن الصغيرة والمناطق الريفية. ولا يقتصر الأمر على تراجع المسيحيين البيض كنسبة مئوية من الناخبين، بل إن التنوع المتزايد والتقدم نحو المساواة العرقية قد قوضا أيضا وضعهم الاجتماعي النسبي. ووفقا لمسح أجري عام 2018، يقول ما يقرب من 60 في المئة من الجمهوريين إنهم "يشعرون وكأنهم غرباء في بلدهم". يعتقد الكثير من الناخبين الجمهوريين أن بلد طفولتهم يؤخذ منهم. وكان لهذا الفقدان النسبي المتصور للوضع تأثير متطرف: فقد وجد مسح أجري عام 2021 برعاية معهد أمريكان إنتربرايز أن 56 في المئة من الجمهوريين وافقوا على أن "طريقة الحياة الأميركية التقليدية تختفي بسرعة كبيرة لدرجة أننا قد نضطر إلى استخدام القوة لوقفها".
     تسارع تحول الجمهوريين نحو الاستبداد منذ رحيل ترامب عن البيت الأبيض. ومن أعلى إلى أسفل، تبنى الحزب الكذبة القائلة بأن انتخابات عام 2020 قد سرقت، لدرجة أن الناخبين الجمهوريين يعتقدون الآن بأغلبية ساحقة أنها صحيحة. وفي معظم أنحاء البلاد، عرّض السياسيون الجمهوريون الذين رفضوا علنا هذه الكذبة أو أيدوا إجراء تحقيق مستقل في تمرد 6 يناير/كانون الثاني حياتهم السياسية للخطر.
    وقد شن الحزب الجمهوري هجوما كبيرا على المؤسسات الديمقراطية على مستوى الولايات، مما زاد من احتمال حدوث سرقة للانتخابات في المستقبل. ففي أعقاب حملة ترامب "أوقفوا السرقة"، أطلق أنصاره حملة لاستبدال مسؤولي الانتخابات على مستوى الولايات وعلى المستوى المحلي الذين صادقوا على انتخابات عام 2020 - من سكرتاري الولايات إلى ضباط  دوائر الأحياء - بموالين لترامب الذين يبدون أكثر استعدادا لإسقاط فوز الديمقراطيين. كما اعتمدت المجالس التشريعية للولايات الجمهورية في جميع أنحاء البلاد تدابير لتقييد الوصول إلى صناديق الاقتراع وتمكين المسؤولين على مستوى الولاية من التدخل في العمليات الانتخابية المحلية - تطهير قوائم الناخبين المحلية، والسماح بتخويف الناخبين من قبل مجموعات المراقبين البلطجية، ونقل أو تقليل عدد مراكز الاقتراع، وربما رمي بطاقات الاقتراع أو تغيير النتائج. ومن الممكن الآن أن تستخدم الهيئات التشريعية الجمهورية في ولايات متعددة في ساحة المعركة، ادعاءات تزوير لا أساس لها، بموجب تفسير فضفاض لقانون العد الانتخابي لعام 1887، لإعلان فشل الانتخابات في ولاياتها وإرسال قوائم بديلة من الناخبين الجمهوريين إلى الهيئة الانتخابية، وبالتالي مخالفة التصويت الشعبي. ويمكن لمثل هذا التصلب الدستوري أن يؤدي إلى سرقة الانتخابات.
    لم يفعل مجتمع الأعمال الأميركي، الذي كان تاريخيا دائرة انتخابية جمهورية أساسية، الكثير لمقاومة التحول نحو الاستبداد في أوساط الحزب. وعلى الرغم من أن غرفة التجارة الأميركية تعهدت في البداية بمعارضة الجمهوريين الذين رفضوا شرعية انتخابات عام 2020، إلا أنها عكست مسارها في وقت لاحق. ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز، فإن غرفة التجارة، جنبا إلى جنب مع الشركات الكبرى مثل بوينغ ، فايزر ، جنرال موتورز، فورد موتور، ايه تي اند تي، ويونايتد بارسل سيرفيس، تمول الآن المشرعين الذين صوتوا لإلغاء الانتخابات.
     إن التهديدات التي تتعرض لها الديمقراطية الأميركية تتصاعد. فإذا فاز ترامب أو جمهوري من التفكير نفسه بالرئاسة في عام 2024 (مع أو بدون تزوير)، فمن شبه المؤكد أن الإدارة الجديدة سوف تسيس البيروقراطية الفدرالية وتستخدم الأدوات الحكومة ضد منافسيها. فبعد تطهير قيادة الحزب إلى حد كبير من السياسيين الملتزمين بالمعايير الديمقراطية، يمكن للإدارة الجمهورية المقبلة أن تعبر الحدود بسهولة إلى ما أطلقنا عليه بالاستبداد التنافسي - وهو نظام توجد فيه انتخابات تنافسية ولكن إساءة استخدام سلطة الدولة تميل إلى الجهة التي تعمل ضد المعارضة.
معوقات الاستبداد

    على الرغم من أن تهديد انهيار النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة حقيقي، فإن احتمال الانزلاق نحو نظام استبدادي مستقر، كما حدث، على سبيل المثال، في هنغاريا وروسيا، لا يزال منخفضا. إذ تمتلك الولايات المتحدة العديد من العقبات أمام سلطوية مستقرة والتي لا توجد في حالات التراجع الأخرى. خذ هنغاريا تحت قيادة أوربان. فبعد فوزه في الانتخابات في عام 2010 على أساس برنامج قومي عرقي، قام أوربان وحزبه فيديس باختيار المحاكم والهيئات الانتخابية، وقمع وسائل الإعلام المستقلة، واستخدما التزوير، وأقر لوائح انتخابية جديدة، وغيرها من الخدع القانونية للتفوق على المعارضة. وقد حذر بعض المراقبين من  أن طريق أوربان إلى الاستبداد يمكن تكراره في الولايات المتحدة.
    لكن أوربان تمكن من تعزيز سلطته لأن المعارضة كانت ضعيفة وغير شعبية ومنقسمة بين الأحزاب اليمينية المتطرفة والاشتراكية. فضلا عن ذلك، ومع خروج البلاد مؤخرا فقط من الحكم الشمولي، كان القطاع الخاص ووسائل الإعلام المستقلة في هنغاريا أضعف بكثير من نظيراتها الأميركية. ولا تزال قدرة أوربان على السيطرة بسرعة على 90 في المئة من وسائل الإعلام الهنغارية - بما في ذلك أكبر صحيفة يومية مستقلة وكل الصحف الإقليمية - غير واردة في الولايات المتحدة. وكان الطريق إلى الاستبداد أكثر سلاسة في  روسيا، حيث كانت وسائل الإعلام والمعارضة أضعف مما كانت عليه في هنغاريا.
    وعلى النقيض من ذلك، فإن الجهود الرامية إلى ترسيخ الاستبداد في الولايات المتحدة سوف تواجه العديد من العقبات الشاقة. الأول هو وجود معارضة قوية. وخلافا للدول الأخرى التي تتراجع عن الديمقراطية، بما في ذلك هنغاريا والهند وروسيا وتركيا وفنزويلا، تتمتع الولايات المتحدة بمعارضة موحدة تتمثل بالحزب الديمقراطي. فهي منظمة تنظيما جيدا وممولة تمويلا جيدا وقابلة للتطبيق انتخابيا (فازت بالأصوات الشعبية في سبع من الانتخابات الرئاسية الثمانية الأخيرة). فضلا عن ذلك، وبسبب الانقسامات الحزبية العميقة والجاذبية المحدودة نسبيا للقومية البيضاء في الولايات المتحدة، فإن المستبد الجمهوري لن يتمتع بمستوى الدعم الشعبي الذي ساعد في دعم الحكام المستبدين المنتخبين في أماكن أخرى. بل على العكس من ذلك، فإن مثل هذا المستبد سوف يواجه مستوى من المنافسة المجتمعية لم يسبق لها مثيل في الديمقراطيات المتراجعة الأخرى. وكما قال روبرت كاغان، قد يسعى الجمهوريون إلى التلاعب بانتخابات ذات نتائج متقاربة في عام 2024 أو إلغائها، ولكن مثل هذا الجهد من المرجح أن يؤدي إلى احتجاجات هائلة وربما عنيفة في جميع أنحاء البلاد.
    كما ستواجه حكومة جمهورية مستبدة وسائل إعلام أقوى وأكثر استقلالية، وقطاعا خاصا، ومجتمعا مدنيا. وحتى أكثر الحكام المستبدين الأميركيين لن يتمكنوا من السيطرة على الصحف الكبرى وشبكات التلفزيون والحد بشكل فعال من مصادر المعلومات المستقلة، كما فعل أوربان والرئيس الروسي فلاديمير بوتن  في بلديهما.
    وأخيرا، فإن المستبد الجمهوري الطموح سوف يواجه قيودا مؤسسية. وعلى الرغم من تسييس القضاء الأميركي بشكل متزايد، إلا أنه لا يزال أكثر استقلالية وقوة بكثير من نظرائه في الأنظمة الاستبدادية الناشئة الأخرى. بالإضافة إلى ذلك، توفر الفدرالية الأمريكية ونظام إدارة الانتخابات اللامركزي للغاية حصنا ضد الاستبداد المركزي. إذ تخلق السلطة اللامركزية فرصا للمخالفات الانتخابية في الولايات الحمراء وبعض الولايات الأرجوانية، لكنها تزيد من صعوبة تقويض العملية الديمقراطية في الولايات الزرقاء.*** وبالتالي، حتى لو تمكن الجمهوريون من سرقة انتخابات عام 2024، فمن المرجح أن تكون قدرتهم على احتكار السلطة على مدى فترة طويلة من الزمن محدودة. قد لا تكون أميركا ذات نظام ديمقراطي متين بعد الآن، ولكنها تظل غير مضيافة للاستبداد.
مستقبل غير مستقر

    وبدلا من الاستبداد، يبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو نظام غير مستقر. ومن شأن مثل هذا السيناريو أن يتسم بأزمات دستورية متكررة، بما في ذلك الانتخابات المتنازع عليها أو المسروقة والصراع الحاد بين الرؤساء والكونغرس (مثل الإقالة والجهود التنفيذية لتجاوز الكونغرس)، والقضاء (مثل الجهود الرامية إلى تطهير المحاكم أو اختيارها)، وحكومات الولايات (مثل المعارك الضارية حول حقوق التصويت وإدارة الانتخابات). ومن المرجح أن تنتقل الولايات المتحدة ذهابا وإيابا بين فترات الديمقراطية المختلة وفترات الحكم الاستبدادي التنافسي التي يسيء خلالها شاغلو المناصب استخدام سلطة الدولة، ويتسامحون مع التطرف العنيف أو يشجعون عليه، ويعملون ضد منافسيهم في اللعبة الانتخابية.
    وبهذا المعنى، قد لا تشبه السياسة الأميركية روسيا بل جارتها أوكرانيا، التي تأرجحت لعقود بين الديمقراطية والسلطوية التنافسية، اعتمادا على القوى الحزبية التي سيطرت على السلطة التنفيذية. وفي المستقبل المنظور، لن تنطوي الانتخابات الرئاسية الأميركية على الاختيار بين المجموعات السياسية المتنافسة فحسب، بل ستشمل أيضا خيارا أكثر جوهرية حول ما إذا كانت البلاد ستكون ذات نظام ديمقراطي أم نظام مستبد.
    وأخيرا، من المرجح أن تتسم السياسة الأميركية بالعنف السياسي المتزايد. إذ غالبا ما يولد الاستقطاب والمنافسة الحزبية الشديدين العنف، وفي الواقع، شهدت الولايات المتحدة ارتفاعا دراماتيكيا في عنف اليمين المتطرف خلال رئاسة ترامب. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ربما لا تتجه نحو حرب أهلية ثانية، إلا أنها قد تشهد تزايدا في الاغتيالات والتفجيرات وغيرها من الهجمات الإرهابية؛ انتفاضات مسلحة؛ هجمات الغوغاء؛ ومواجهات عنيفة في الشوارع – التي غالبا ما يتم التسامح معها وحتى التحريض عليها من قبل السياسيين. وقد يشبه هذا العنف ما عانته إسبانيا في أوائل الثلاثينيات، أو أيرلندا الشمالية أثناء الاضطرابات، أو الجنوب الأميركي أثناء إعادة الإعمار وبعدها.
    لا تزال الديمقراطية الأميركية في خطر. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لن تتبع على الأرجح مسار روسيا بوتين أو حتى هنغاريا في عهد أوربان، إلا أن الصراع المستمر بين قوى الاستبداد وقوى الديمقراطية قد يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام المنهك -والعنف- لسنوات قادمة.
* قال بنس في 5 شباط| فبراير 2022، "الرئيس ترامب مخطئ. ليس لدي الحق في رفض نتائج الانتخابات. الرئاسة ملك الشعب الأمريكي والشعب الأمريكي وحده" وكان، يتحدث، ردا على التصريحات التي أدلى بها ترامب في 6 كانون الثاني| يناير 2022، وقال فيها إنه كان بإمكانه قلب نتيجة الانتخابات لو كان يريد ذلك .(المترجم)
* * نسبة إلى إعصار كاترينا. (المترجم)
*** الولايات الحمراء هي التي يصوت فيها أغلب الناخبين للحزب الجمهوري، أما الولايات الزرقاء فيصوت فيها أغلب الناخبين للحزب الديمقراطي، وفي الولايات البنفسجية لا يوجد تفوق لأحد الحزبين أي تجمع ناخبي الطرفين. (المترجم)

الترجمة عن: Foreign Affairs, 20 January 2022.



 




 

 



15
364 ألف مدني ضحايا حرب أمريكا على الإرهاب

ترجمة: د. هاشم نعمة

  تعترف الولايات المتحدة بأن غارتها بطائرة بدون طيار في كابول قد انحرفت عن هدفها. قرأت كارولين رويلانتس* في تقارير جديدة عن عدد القتلى المدنيين في حروب أمريكا.
  العودة إلى الموت والدمار. كما لاحظت، اعترفت الإدارة الأمريكية يوم الجمعة بأن الضربة الأخيرة بطائرة بدون طيار في أفغانستان لم تقتل أي من المتطرفين على الإطلاق، ناهيك عن منع هجوم جديد "وشيك". وبدلاً من ذلك، لقي عشرة مدنيين، بينهم سبعة أطفال، مصرعهم في 29 أغسطس / آب 2021، وتولى الجنرال ماكنزي، قائد القيادة المركزية الأمريكية، الإقرار بـ "المسؤولية الكاملة".
  عادة، تحتاج واشنطن إلى وقت لا نهاية له للاعتراف بمثل هذا "الخطأ" – قتل موكب زفاف في اليمن بدلاً من طابور من المتطرفين- إذا أقر الاعتراف به على الإطلاق. الأمريكيون ليسوا وحدهم بأي حال من الأحوال في هذا الأمر، خذوا قتل المدنيين في هجوم شنته القوات الجوية الهولندية على الحويجة (العراق) في عام 2015**، والذي تمت مناقشته في هذه الصحيفة في تشرين الأول| أكتوبر 2019، وقد اعترفت الحكومة بالتورط به في وقت لاحق فقط. لكن بعد عشرة أيام من هجوم  الطائرة بدون طيار، قدمت صحيفة نيويورك تايمز صورة لما حدث بالفعل - لم يكن متطرفًا يحمل القنابل، ولكن قتل عامل طوارئ بالماء وغاز الطهي - ولم يكن لدى واشنطن من مخرج.
   قُتل الكثير من المدنيين في "الحرب على الإرهاب"، الحرب التي شنها الرئيس بوش الابن على الإرهاب الإسلامي رداً على هجمات القاعدة في 11 أيلول| سبتمبر. أكثر بكثير مما كنت أعتقد، وربما أنت أيضًا. في تقرير جديد (1 أيلول| سبتمبر)، يُحصي مشروع "تكاليف الحرب" بجامعة براون ما مجموعه 363,939 إلى 387,072 حالة وفاة لمدنيين نتيجة الحرب المباشرة (ليس بسبب المرض أو الجوع) منذ 11 سبتمبر في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا واليمن وغيرها من مناطق الحرب ما بعد 11 سبتمبر. هذا هو على الفور أكبر عدد من قتلى الحرب؛ أكثر ممن قتلوا من مقاتلي المعارضة الذين جاؤوا في المركز الثاني (296,858 – 301,933) أو قتلى الشرطة والجيش الوطنيين أي حلفاء الولايات المتحدة الذين احتلوا المركز الثالث (204,645 – 207,845). 
   ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُنسب جميع الوفيات وسط المدنيين إلى الطائرات الأمريكية بدون طيار. أيضًا هناك أعمال عنف أخرى مرتبطة بالحرب - فكر في القصف الجوي الذي طال الدولة الإسلامية - والمعارضين أو الحلفاء (انظر الحويجة). إذ في وقت سابق من هذا الشهر، قدرت مجموعة أبحاث "الحروب الجوية" Airwars عدد القتلى المدنيين الناتج من الهجمات الأمريكية بنحو 22000، وربما ضعف ذلك.
   تمنح السلطات الأمريكية العليا الإذن على نحو متزايد لما تعتبر في الواقع عمليات قتل خارج نطاق القضاء. في ولايته الثانية، ضيق الرئيس أوباما من معايير استخدام القوة المميتة ضد الإرهابيين المشتبه بهم في أماكن أخرى. ثم جاء ترامب، الذي وسّع هذه المعايير على الفور مرة أخرى. وقد أدى ذلك إلى جعل عمليات الإعدام هذه طبيعية وزيادة في عدد القتلى المدنيين. ووفقًا لمكتب الصحافة الاستقصائية في لندن، سمح أوباما بـ 1878 هجوم بطائرات بدون طيار خلال السنوات الثماني التي قضاها في السلطة. بينما كان ترامب مسؤولاً عن 2243 هجوم بطائرات بدون طيار في العامين الأولين من رئاسته.
   كان بايدن يدرس المعايير لفترة من الوقت - هل يجب أن تكون أكثر صرامة أو حتى أكثر مرونة مما هي عليه الآن؟ يتم الآن تنفيذ الهجمات في حوالي عشر دول - هل ينبغي أن يكون هناك المزيد من الهجمات، ربما في إفريقيا حيث أصبح أيضًا تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة أكثر نشاطًا؟ وقد دعا عدد كبير من منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الأخرى بايدن إلى إنهاء هذه الهجمات والتي لا تحل في نهاية المطاف أي شيء كما ثبت في أفغانستان.
  ومنذ ذلك الحين، اتبعت المزيد من الدول خطى أمريكا: إسرائيل وتركيا وإيران على سبيل المثال لا الحصر.
 * كارولين رويلانتس، هي خبيرة في شؤون الشرق الأوسط.
**  بحسب التقديرات الأمريكية قُتل 70 مدنيا في الحويجة، وكان القصف قد استهدف مخزن قنابل تابع لداعش كما ذكر، لذلك قررت هولندا إجراء تحقيق مستقل عام 2020، لكنه مازال بطيئا ويتعرض إلى معوقات.( المترجم)

الترجمة عن: NRC Handelsblad 20 September 2021
 



16
لماذا يحب الطغاة الانتخابات كثيرا؟

ترجمة: د. هاشم نعمة
تُجرى الانتخابات في كل مكان تقريبًا، لكن هذا لا يعني أن الديمقراطية تتقدم، إذ بالنسبة إلى الأنظمة المستبدة، فإن لانتخابات توفر لها المصداقية والوصول إلى المساعدات المالية.
قبل ثلاثين عامًا، بعد انتهاء الحرب الباردة، كانت أجزاء واسعة من العالم تتطلع إلى الغرب كمصدر للإلهام، مع نظرة تشوبها الغيرة من ازدهاره الذي يحسد عليه. ولكن الآن، وفقًا لمنظمة فريدوم هاوس الرسمية، فإن عدد البلدان المحكومة بنظم ديمقراطية في العالم آخذ في التراجع بالفعل للعام الخامس عشر على التوالي.
لا يعني ذلك قلة في إجراء الانتخابات. على العكس تماما، لم يتبق سوى عدد قليل جدًا من البلدان التي لم تجر فيها انتخابات مطلقًا. وقد أبدت الأنظمة المستبدة إعجابًا بهذا الأمر، على الرغم من أنها عادة ما ترتب الأمر بطريقة تجعلها متأكدة من الفوز. "بهذه الطريقة يأملون في اكتساب المزيد من الشرعية لحكوماتهم"، كما يقول دانيال كالينجيرت، الذي أجرى أبحاثًا عن الديمقراطية لصالح فريدوم هاوس ويعمل الآن في كلية بارد في نيويورك. "جميع الدول شبه المستبدة تجري في الوقت الحاضر انتخابات وحتى العديد من الدول غير الحرة تفعل ذلك."
من روسيا وكوريا الشمالية وإيران إلى كثير من البلدان في أماكن أخرى في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا، تُجرى انتخابات أو شيء يشبه ذلك على الأقل. وغالبًا ما يسيطر القادة على وسائل الإعلام، وإذا لزم الأمر يسجنون سياسيي المعارضة مع بعض الترهيب للناخبين ليتمكنوا عادةً من الحصول على النتيجة "المناسبة". في بلد مثل زيمبابوي، هناك تلميحات في مثل هذه الحالات إلى أن المنازل ستُحرق إذا لم يصوت الناس للرئيس أو لحزبه. يسمى هذا الأسلوب بـ "هز علب الثقاب". إنه ناجح لأن الكثيرين ما زالوا خائفين من هجمات الحرق المتعمدة المدمرة السابقة ذات التوجه السياسي. وإذا لزم الأمر، فإنهم يزوّرون نتائج الانتخابات.
قال عالم السياسة البريطاني نيك تشيزمان، الأستاذ بجامعة برمنغهام والمؤلف المشارك لكتاب "كيف تزوّر الانتخابات": "بالنسبة إلى الزعماء المستبدين، يمكن أن تكون الانتخابات وسيلة لجعل أنظمتهم أكثر استقرارًا". "إذا لعبتَ الأمرَ بشكل مفيد قليلاً، يمكنك تقسيم المعارضة في بلدك". والمثال الكلاسيكي على ذلك هو الرئيس الكيني موي الذي تمكن في التسعينيات من تقسيم المعارضة الموحدة باستراتيجية مدروسة.
تحب الأنظمة المستبدة الانتخابات لأنها تزيد من مصداقيتها الدولية. إذ يسهل عليها هذا التأهل للحصول على المساعدات المالية. يقول تشيزمان، المتخصص في شؤون إفريقيا: "في بلدان مثل إثيوبيا ورواندا، يتم التلاعب بالانتخابات بشكل متكرر على نطاق واسع". "يواصل الرئيس الرواندي كاغامي الانتصار بأغلبية غير معقولة. ومع ذلك، فهو ليس مستبعدًا دوليًا تقريبًا مثل إريتريا، على سبيل المثال، التي لا تجري انتخابات".
                                                 انتخابات مزيفة
 من خلال رفض الغرب انتقاد أنظمة مثل نظام كاغامي بسبب مثل هذه الانتخابات المزيفة، يقول تشيزمان إن الغرب يقوض مصداقيته ومصداقية الديمقراطية التي يروج لها. "إذا كنت تدعم بنشاط المعارضة في فنزويلا لأن الانتخابات لم تكن نزيهة، ولكن ليس في رواندا أو أوغندا، حيث أصبح الرئيس الأوتوقراطي موسيفيني حليف مفيد للغرب ضد الإرهاب، فسوف يلاحظ الناس أنك تكيل بمعايير مزدوجة وتعرف دول مثل روسيا والصين كيف تستغل ذلك جيدًا. هذا التناقض ضار للغاية".
كما خسر الغرب، في بعض الحالات، الفضل في الديمقراطية من خلال الضغط من أجل إجراء انتخابات في دول لم تكن ظروفها ناضجة لها. يقول تشيزمان: "إذا قمت بذلك على عجل، كما هو الحال في أفغانستان والصومال، فإن الانتخابات يمكن أن تخلق مشاكل أكثر مما تحل". هناك شيء مشابه يلوح في الأفق الآن في ليبيا، حيث من المقرر إجراء الانتخابات الرئاسية في 24 كانون الأول| ديسمبر*. لم تتفق الأحزاب بعد على قانون الانتخابات ولا تزال البلاد تعج بالميليشيات المسلحة التي أوضحت أنها لن تقبل سوى فوز مرشحها. لذلك يبدو من المحتمل أن تندلع معارك جديدة.
يدرك كالينجيرت أيضًا أن الانتخابات يمكن أن تأتي بنتائج عكسية إذا لم يدرك الخاسرون النتيجة**. في الوقت نفسه، يشير إلى أن الانتخابات غالبًا ما تكون أهون الشرين. "يبقى السؤال: وإلا كيف ستختار القادة؟" في الانتخابات، يحصل المزيد من الناس على فرصة لاختيار ما يفضلونه. "في أفغانستان، بدون انتخابات، يكون البديل مجلس شيوخ القبائل، في حين حصلت النساء والشباب على فرصة التصويت".
                                             المفاجآت غير مستبعدة أبدا
على الرغم من ذلك، لا يمكن استبعاد المفاجآت في الانتخابات، كما يقول كالينجيرت. في دولة سريلانكا المستبدة بشكل متزايد، خسر الرئيس آنذاك راجاباكسا بشكل مفاجئ أمام منافسه في عام 2015، وفي زامبيا هزم مرشح المعارضة هاكايندي هيشيليما هذا الصيف الحاكم المستبد إدغار لونغو حيث كانت النتيجة مفاجأة للجميع. في ليبيريا وسيراليون، بعد الانتخابات التي أعقبت حربًا أهلية طويلة، بدأت عملية التحول الديمقراطي.
هناك اتجاه جديد مقلق من المنظور الغربي، تمثل في أنه بعد الانتخابات التي تواجه في حد ذاتها اختبار النقد، بدأت الحكومات في تغيير مسارها، كما هو الحال في المجر وبولندا والهند والبرازيل. فهي توسع صلاحيات الحكومة وتؤثر على استقلالية القضاء وتحد من حرية الصحافة. يقول كالينجيرت: "الديمقراطية تتآكل من الداخل".
ومع ذلك، يعتقد كالينجيرت وتشيزمان أن المستقبل للديمقراطية. وفقًا لـتشيزمان، يبدو أن الدول الديمقراطية تتطور بشكل أفضل على المدى البعيد من الدول ذات النظم المستبدة. يقول كالينجيرت: "تحاول دولة مثل الصين، بالطبع، إبراز قوتها الاقتصادية في الخارج، لكن ليس لديها نموذج يمكنها تصديره، ولا توجد لديها خلفية أيديولوجية يمكنها أن تلهم الآخرين بها. إنها مجرد دولة يحكمها أشخاص أقوياء".
 * تم تأجيل الانتخابات وليس من المعروف متى تجرى.(المترجم)
 ** هذا الوضع ينطبق على الأحزاب التي تراجعت نتائجها كثيرا في انتخابات مجلس النواب العراقي والتي جرت في 10 تشرين الأول| أكتوبر 2021، إذ رفضت النتائج وهددت بالتصعيد والآن يبدو أنها قبلت بالأمر الواقع بعد مصادقة المحكمة الإتحادية على نتائج الانتخابات.(المترجم)
الترجمة عن: NRC Handelsblad, 8 december 2021


17
لماذا يفشل التدخل الأمريكي دائمًا في الشرق الأوسط؟

ترجمة: د. هاشم نعمة

  التدخل الأجنبي والنتائج غير المقصودة تضمن فشل التدخلات الأمريكية. هذا ما قرأته كارولين رويلانتس* في كتاب "خسارة اللعبة الطويلة.**"
   كما وعدتُ، أعود إلى كتاب فيليب غوردون عن محاولات أمريكا الفاشلة خلال السبعين عاما الماضية لتغيير الواقع غير المرغوب فيه في بعض بلدان الشرق الأوسط (بما في ذلك أفغانستان)، أي تغيير النظام وتشكيله. يطلق على هذا التدخل بجلب الديمقراطية أو معالجة انتهاكات حقوق الإنسان، ولكنه غالبا ما يتعلق بالمصلحة الخاصة مثل القضاء على الخصوم المزعجين وتهديدهم المتصور. ويفلت حلفاء أمريكا دائما من الانتهاكات التي يرتكبونها طالما أنهم يشترون الكثير من الأسلحة الأمريكية أو يدعمون واشنطن. سأسمي فقط دول الخليج العربي والأردن، وماذا عن السيسي في مصر وسجناؤه السياسيين الستون ألفا؟
   لا يعني ذلك أنني أدعو إلى تغيير النظام هناك! وقد عنون غوردون كتابه بـ "خسارة اللعبة الطويلة: الوعد الكاذب بتغيير النظام في الشرق الأوسط"، وكانت وجهة نظره أن التدخلات الأمريكية تفشل دائما. غوردون نفسه هو الآن عضو في مجلس العلاقات الخارجية، ولكن بصفته مسؤولا حكوميا، كان آخر منصب له هو منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط من 2013 إلى 2015، فقد حضر مداولات رفيعة المستوى بشأن مثل هذه التدخلات.
   مثال غوردون الأول هو إيران في عام 1953، حيث جرى الانقلاب على رئيس الوزراء مصدق، الذي قاده الشاه مباشرة، إلى الخميني والجمهورية الإسلامية، لذلك لم يكن ذلك نجاحا حقا. كما أن الكتاب يغطي أفغانستان في مرحلتين، الأولى من 1980 إلى 1989 والأخرى من 2001، والتي انتهت للتو إلى فوضى عارمة. وكذلك العراق ومصر وليبيا وسوريا. تختلف التدخلات الأمريكية، بالطبع، اختلافا كبيرا، من الغزو الكارثي للعراق للإطاحة بصدام حسين على أسس زائفة إلى الدعم المالي وتسليح المعارضة الضعيفة والمنقسمة ضد الرئيس السوري الأسد. وفي النهاية، وعلى الرغم من دعم واشنطن بقيمة مليارات الدولارات لكنها لم تؤد إلى سقوط الأسد لأنه لم يكن هناك خليفة مستقر وجاهز. لم يرد أوباما أن يسمع شيئا عن عمل عسكري أمريكي كما حدث عام 2011 في ليبيا بالاشتراك مع الحلفاء. ويعتقد غوردون، أنه محق في ذلك، فكل الدلائل تشير إلى أن الأمر في سوريا سينتهي بنسخة أكثر كارثية من ليبيا بعد القذافي.
    أوجه التشابه الهامة بين هذه التدخلات المختلفة تتمثل في فشلها. البداية تكون سهلة، لكن بعد ذلك ينشأ فراغ وصراع على السلطة وتدخل أجنبي معيق، انظر العراق، انظر أفغانستان، انظر ليبيا، وانظر أيضا إلى سوريا دون سقوط الأسد. للعملاء، سواء أكانوا حكوميين جدد أو مجموعات معارضة، مصالح خاصة بهم لا تتطابق مع مصالح الراعي الأمريكي. وهناك أيضا قانون النتائج غير المقصودة - استنتج الجيش الأمريكي أن إيران كانت الفائز الوحيد في القضاء على صدام. وأدى سقوط القذافي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة بأكملها، مما تطلب مزيدا من التدخل الغربي؛ حيث باتت الجماعات الإرهابية القديمة والجديدة تستفيد من الوضع. من المهم أيضا أن واشنطن ليست لديها دراية كافية بالمنطقة مما سمح بخسارتها المناورة. كما أن هذا الأمر يكلف الكثير من المال أكثر مما كان يعتقد في الأصل.
   يقول غوردون إن إغراء التدخل لن يزول أبدا. "ولكن يمكن القول بأمان أن مثل هذا المسعى سيكون أكثر تكلفة، وأقل نجاحا، ومن المرجح أن تكون له عواقب غير مقصودة أكثر مما يدرك المدافعون عنه أو هم على استعداد للاعتراف به". نأمل أن يقرأ هذا الكتاب جميع كبار المسؤولين الأمريكيين (السابقين) الذين لا يزالون غير قادرين على مقاومة الدعوة إلى تغيير النظام في إيران. 

 * كارولين رويلانتس هي خبيرة في شؤون الشرق الأوسط.
** نشر الكتاب في 6 تشرين الأول 2020، الناشر: دار سانت مارتينز، نيويورك.(المترجم)

الترجمة عن: NRC Handelsblad, 30 Augustus 2021



18
في جنوب العراق، يعيشون على النفط ويموتون بسببه

ترجمة: د. هاشم نعمة

      يعتمد جنوب العراق على النفط، وهو يعاني بشكل كبير من غاز آبار النفط الذي يُحرق ويلوث الهواء. الشباب على وجه الخصوص معنيون بذلك. "إنه لأمر مرعب أن يعتمد اقتصادنا على النفط وأنه لا توجد خطة بديلة".
   صادق طاهر ضاحي يسير في بستانه في قرية نهران عمر العراقية، في أمسية دافئة في أيلول. من فوق أشجار النخيل تسمع زقزقة مئات من طيور السنونو. ولكن إذا استمعت جيدًا، فسوف تسمع أيضًا زئير اللهب. إنه يأتي من حقل نفط خلف الأشجار مباشرة. من صف من مشاعل الغاز، تنبعث أعمدة النار الكثيفة. لذلك أسود بعض النخيل نتيجة ذلك.
   يقول ضاحي البالغ من العمر 52 عامًا: "في البداية، كان هنا الكثير من الأشجار، لكن تم حرقها جميعًا". وحسب المزارع، فإن الحكومة العراقية لم تتدخل إلا عندما امتدت النيران إلى منزله. "منذ ذلك الحين، انخفض حرق الغاز، لكن حقلي دُمّر وماتت حيواناتي، بعضها من النار، والبعض الآخر من الغازات السامة ".
    يقول ضاحي أن الناس يموتون أيضًا نتيجة الانبعاثات، ويشير إلى المنازل البعيدة: "في كل أسرة تقريبا في هذه القرية في محافظة البصرة، يموت شخص بسبب سرطان الرئة أو مرض رئوي آخر. قبل ثماني سنوات، فقد هو أيضا ابنه بسبب مرض السرطان. كان عمره آنذاك ستة عشر عاما. ما زلنا نحتفظ  بملابسه وكتبه. لقد كان أفضل طالب في صفه ".
   هناك عدد قليل من الأماكن على وجه الأرض حيث لا يمكن تجنب الآثار المدمرة للوقود الاحفوري كما هو الحال في جنوب العراق. وفي البصرة، ترتفع درجات الحرارة بمعدل سبع مرات أسرع من أي مكان آخر في العالم. ففي الصيف، ترتفع بشكل منتظم فوق الخمسين درجة مئوية. الهواء ملوث للغاية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى غاز الميثان المنبعث من حرق الغاز. الأنهار تجف وهي مليئة بالنفايات الصناعية العائدة إلى  شركات النفط. ونتيجة لذلك، تم نقل أكثر من 100 ألف شخص إلى المستشفى بسبب التسمم في عام 2018، وفي قرية مثل نهران عمر، يعاني 6 في المئة من السكان من السرطان - ما يقرب أكثر من خمسة أضعاف المعدل العالمي.
   في الوقت نفسه، هناك عدد قليل من الأماكن التي تعتمد على الوقود الاحفوري مثل البصرة. وتشكل صادرات النفط من المحافظة أكثر من 95 بالمئة من عائدات الحكومة العراقية. عندما انخفض الإنتاج خلال ذروة جائحة كورونا، بات أكثر من خمسة ملايين عراقي تحت خط الفقر. لكن بدلاً من الاستثمار في الصناعات البديلة، انتظرت الحكومة العراقية أن يتعافى سعر النفط. نتيجة لذلك، وفقًا للبنك الدولي، يظل العراق الدولة الأسوأ استعدادًا والأكثر هشاشة في العالم في مرحلة تحول الطاقة.
   ومع ذلك، يجب أن يحين زمن هذا الانتقال، وهذا ما سيؤكده قادة العالم مرة أخرى يوم الأحد خلال قمة المناخ التي تستمر أسبوعين في غلاسكو*. وفقًا للعلماء، يمكن أن يقتصر الاحترار العالمي على 1,5 درجة فقط إذا كان العالم يستهلك نفطا أقل بأربعة أضعاف في عام 2050 مما هو عليه الآن. ولكن ماذا تعني هذه المهمة للدول المنتجة للنفط مثل العراق؟ وهل يمكن تصور مستقبل بدون نفط لسكان البصرة؟

                                                 لا درس في الاستدامة

    في أحد الفصول الدراسية بجامعة البصرة للنفط والغاز، هناك ستة طلاب على استعداد لمناقشة هذا الموضوع. لكنهم لم يسمعوا قط بقمة غلاسكو. تقول سلمى محمد البالغة من العمر 22 عامًا: "لا تتحدث وسائل الإعلام العراقية أبدًا عن تغيّر المناخ. علاوة على ذلك، فإن مناهجهم الدراسية بالكاد تولي أي اهتمام له. "ليس لدينا أساتذة متخصصون في الطاقة المستدامة."
    هذا لا يعني أن الشباب غير معنيين بتغير المناخ. قال مصطفى نائل، 22 عاما، "لا نفكر في  شيء غيره، لأننا في البصرة نعيش عواقبه كل يوم". "إنه لأمر مرعب أن نرى أن اقتصادنا بأكمله يعتمد على النفط وأن العراق ليس لديه خطة بديلة ". مريم نهاد ، 21 عامًا ، تومئ برأسها. "نحن قلقون بشأن وظائفنا ومستقبلنا. ربما يمكننا الاستمرار في الضخ لمدة 15 عامًا أخرى، ولكن ماذا يحدث بعد ذلك؟ "
     إن للطلاب أفكارهم الخاصة بشأن الاستدامة. على سبيل المثال، تتحدث سلمى عن حملات زرع الأشجار، وتدافع طالبة أخرى، تدعى أم البنين، عن المزيد من الاستثمارات في ضغط الغاز (والذي يمكن استخدامه لتخزين الغاز الذي يتم حرقه الآن) ويتحدث مصطفى عن جعل عملية استخراج النفط أكثر استدامة. يقول: "لقد قرأت كثيرًا عن ذلك عبر الإنترنت". "نحصل على معلوماتنا بأنفسنا".
    لكن عراق بدون وقود أحفوري؟ "هذا لا يمكن تصوره". هذا ما يتوقعه مصطفى، خصوصا في العقود القادمة. ويرى أن هذا الهدف مبني أكثر من اللازم على المكانة المتطورة للبلدان المتقدمة. لا تنسى  أن التصنيع في أوروبا بني على الوقود الاحفوري. لا يمكنكم أن تتوقعوا منا تخطي تلك المرحلة. هذا يتطلب الكثير من الوقت والمال ".
   وهذه هي أيضًا رسالة وزير المالية العراقي علي علاوي، الذي حذر في مقال رأي نُشر مؤخرًا في صحيفة الغارديان البريطانية من أن العراق لا يمكنه التعامل مع تحول الطاقة بمفرده ويحتاج إلى مزيد من الدعم لتنويع اقتصاده. هذا الاقتراح ليس جديدًا، لأنه بالفعل في قمة المناخ في كوبنهاغن عام 2009، وعدت الدول الأكثر ثراءً بأن تخصص 100 مليار دولار سنويًا، اعتبارًا من عام 2020، لمساعدة البلدان النامية في تحول طاقتها. في الواقع، لا تزال الدول الأغنى تعاني من نقص 20 مليار، ويرجع ذلك أساسًا إلى أن الولايات المتحدة لا تفي بوعودها.
    بالإضافة إلى الطلبات، جاء علاوي بوعوده الخاصة. على سبيل المثال، أعلن الوزير هذا الشهر أن العراق يريد إنهاء حرق الغاز قبل عام 2025 ووعد بمزيد من الاستثمارات في الطاقة الشمسية. يأتي ذلك جزئيًا من شركات أجنبية، بما في ذلك شركة توتال الفرنسية للطاقة التي وقعت عقدًا بقيمة 27 مليار دولار مع الحكومة العراقية في بداية أيلول - بما في ذلك إنشاء حقل عملاق للألواح الشمسية في البصرة.
    لم يعلن بشكل علني المحتوى الدقيق لصفقة توتال. فالشركة نفسها تتحدث فقط ، في بيان صحفي، عن الاستثمارات في الاستدامة، لكن رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ذكر أن شركة توتال ستضاعف إنتاجها ثلاث مرات تقريبًا في أحد حقول النفط في البصرة من 85,000 إلى 210,000 برميل يوميًا.

                                                         على جثتي

    قال مصطفى جبار سند، الناشط البارز في البصرة، الذي أدلى بتعليق نقدي بشأن صفقة توتال على صفحته في الفيسبوك في أيلول، إن أولئك الذين يطرحون أسئلة يمكن أن يتوقعوا مشاكل. بعد فترة وجيزة، أطلق شقيق وزير النفط النار على سيارته. وقال سند في مكتبه بالبصرة وهو يعرض لقطات بالفيديو للهجوم بواسطة هاتفه "يريدون قتلي". "وهم يفلتون من العقاب. وتم الافراج عن شقيق الوزير فور اعتقاله ".
     هذا يظهر أن النخبة السياسية في العراق مستعدة للقيام بأي شيء لحماية مصالحها النفطية. وبحسب رجل الأعمال محمد صادق، فإن هذا هو السبب الحقيقي في أن تحول الطاقة في العراق سيستغرق بعض الوقت. "لا يهمني كم من الوقت، لأنني خلال ذلك سأكون تحت التراب!"، وهو يضحك في بهو فندق في البصرة.
     يعرف صادق كيف تسير الأمور لأنه هو نفسه عمل لمدة 35 عامًا في شركة نفط البصرة، أكبر شركة نفط عراقية. ويقسم أنه لم يكن فاسدًا أبدًا، لكن بقية أماكن العمل تفعل ذلك. "في العراق، يفكر الجميع بقضاياه الخاصة، لا أحد يفكر في المصلحة الوطنية، هذا هو السبب في أن سياسيينا لا يهتمون بتغير المناخ ". قال الرجل ذو الشارب.
    ويعرف صادق أن شركات النفط العالمية تستفيد من هذا التراخي الفاسد. لقد شاهد ذلك مرات عديدة: عقودها مليئة ببنود مفصلة حول الاهتمام بالمناخ، ولكن من الناحية العملية، يتم التجاوز على القواعد بسهولة طالما أن الشركات تجري الاتصالات اللازمة مع السلطات العراقية. "بهذه الطريقة يمكن للجميع الاستمرار في جني الأموال."
    إذا حدث تغيير في البصرة، فمن المرجح أن يأتي من الأسفل. في خريف عام 2018، على سبيل المثال، نزل آلاف الأشخاص إلى الشوارع للمطالبة بمياه شرب نظيفة وتوزيع أكثر عدلاً لموارد النفط. كانت المظاهرات تمهيدًا لانتفاضة على مستوى البلاد بعد عام. ونتيجة لذلك سقطت الحكومة العراقية ودُعي لانتخابات مبكرة مطلع الشهر الجاري. وفي البصرة من بين آخرين انتخب الناشط مصطفى جبار سند الذي انتقد صفقة توتال عضوا في البرلمان.

                                                  أرض خصبة

    تقول فدوى توما، ناشطة المناخ التي بدأت حملتها بعد أن أصيبت والدتها بالسرطان: "هناك تغيير يحدث في العقلية ". تقول من مكتبها: "قبل بضع سنوات، لم يكن الناس يهتمون كثيرًا بالمناخ، لأن هناك ما يكفي  من المشاكل في البصرة". "ولكن الآن بعد أن تجاوزت، في الصيف، درجات الحرارة الخمسين  درجة مئوية ، زاد عدد المنتفضين أكثر فأكثر".

   ومع ذلك، وفقًا لتوما، لا يمكن لهذه المقاومة من الأسفل أن تنمو إلا إذا توفر المزيد من البدائل الاقتصادية لصناعة النفط. تقول: "نحن بحاجة إلى الاستثمار في السياحة والزراعة". "لأنه فقط إذا تم إنشاء المزيد من فرص العمل خارج قطاع النفط، يمكن للناس تصور مستقبل مختلف".
   إن الماضي يظهر أن هذا ممكن، هذا ما يعرفه قاسم المشاط، المهندس الزراعي البالغ من العمر 57 عامًا، يسير بجانب النباتات في حديقة وسط البصرة وإناء الري بيده، ويتذكر طفولته. يقول: "كانت لدينا أخصب تربة في العراق". "كانت الأنهار صافية لدرجة أنه يمكنك الشرب منها وكانت الحقول مليئة بآلاف أشجار النخيل. تمورنا صُدرت إلى جميع أنحاء العالم ".

   في محاولة لتقريب هذا العالم قليلاً، قدم المشاط اقتراحًا إلى مكتب الأمم المتحدة في البصرة. فكرته: أن يقوم كل ساكن في المحافظة بزراعة سبع أشجار. يقول المشاط بفخر: "وزير البيئة يأخذ اقتراحي إلى قمة المناخ في غلاسكو". "الآن نأمل أن يفعلوا شيئًا به. لأن زراعة 28 مليون شجرة هو عمل الحكومة وليس عمل المواطنين ".

    ومع ذلك، فقد بدأ بالفعل المزارع ضاحي في قرية نهران عمر من بستانه، يشير إلى قطعة أرض بور بجوار أشجار النخيل السوداء، حيث يبرز، من الأرض، ساق أخضر فاتح لشجرة نخيل. يقول: "لقد زرعناها هذا الربيع". "لن أستعيد ابني، لكن بهذه الطريقة نحاول إعادة الحياة إلى هنا".

* عُقد مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (كوب 26) في غلاسكو في بريطانيا في الفترة 31 تشرين الأول- 12 تشرين الثاني 2021. (المترجم)

الترجمة عن: NRC Handelsblad, 28 Oktober 2021



19
يمكنك أن تشعر بجفاف الدلتا في العراق من حليب الجاموس

ترجمة: د. هاشم نعمة

    كانت أهوار جنوب العراق مهد الحضارة الإنسانية، إلا أن تغير المناخ و"الإدارة السيئة للمياه" يهددان هذا النظام البيئي الفريد.
  رعد حبيب الأسدي يحدق إلى الأمام مباشرة وهو ينزلق بزورقه الخشبي عبر هور الجبايش. يعلم الناشط المناخي العراقي أن هناك ثعابين سامة بين القصب، ولكن هناك أنواع من الطيور يتوق إلى رؤيتها. "هناك، هناك،  الطائر الرفراف!" يصرخ بحماس. "وهل تراه هناك؟ هذا هو طائر القصب البصري، الذي يسبت في كينيا ".
    كل حيوان يجعل قلب الأسدي ينبض بسرعة. في الشهر الماضي، كما يقول، رأى، لأول مرة، فأر نسوكيا المهدد بالانقراض (نيسوكيا بوني). قال الرجل البالغ من العمر 29 عامًا ذو اللحية والعيون الداكنة: "لم أصدق عيني". "كنا نبحث عن هذا الجرذ لمدة أربعين عامًا. والآن لدي صورته، هذا دليل على أنه لا يزال موجودا!"
   عند سؤاله عن مصدر حبه للأهوار، ظل الأسدي صامتًا للحظة. ثم قال: "إنها رابطة صوفية". "لا يمكنك أن تفهم ذلك حتى تكون قد ولدت مثلي بين الجاموس. إذن فأنت تنتمي إلى الماء وإلى الحيوانات ".
    يعتبر الأسدي نفسه من عرب الأهوار، وهم أقلية عرقية في جنوب العراق. عاش أسلافه في هذه الأهوار منذ آلاف السنين، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات. حتى أنهم قد ينحدرون من السومريين الذين اخترعوا  الكتابة وأنشأوا أول حضارة بشرية (حوالي 4000-2000 قبل الميلاد). في عام 2016، أضيفت أهوار بلاد ما بين النهرين، بما في ذلك هور الجبايش، إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي.
   في الوقت نفسه، لهذا التراث التاريخي قيمة بيئية لا تقدر بثمن. تعتبر هذه الأهوار هي الأكبر مساحة في الشرق الأوسط وهي ضرورية للنظام الهيدرولوجي العراقي وللنظام البيئي البحري للخليج العربي. لا يعيش هنا أكثر من 30,000 من الجاموس فحسب، بل يعيش أيضًا عدد لا يحصى من الأنواع المحمية من الأسماك والثعابين والقوارض. بالإضافة إلى ذلك، تكون الأهوار مكان استراحة للطيور المهاجرة من جميع أنحاء العالم.

                                                     حقول النفط

     لكن كل هذا معرض لخطر الزوال، كما يتضح عندما يبحر الأسدي بزورقه إلى أطراف الهور ويربطه في سهل جاف. شقوق عميقة تشق الأرض المحروقة. يلوح عمود طويل من الدخان في الأفق. يقول الأسدي: "هذه هي حقول النفط في غرب القرنة". "من هنا تبدأ مشاكلنا".
    يقرع الأسدي باب العائلة الوحيدة التي ما زالت قادرة على البقاء هنا. مجموعة من الجاموس تحت أشعة الشمس أمام كوخها المسقوف بالقصب. في الداخل، يرقد عجل جاموس حديث الولادة على الأرض. بجانبه، امرأة ترتدي ثيابًا سوداء تجلس بين أواني حليب الجاموس، الذي تصبه في إناء كبير لصنع الجبن. بدأت مئات من الذباب الصغير بالفعل بالتذوق.
   "الحياة صعبة هنا" تتمتم المرأة التي تقدم نفسها على أنها أم أياد. تعجن بمهارة حليب الجاموس السميك في خصلات طويلة من الجبن. "قبل بضع سنوات كانت المياه مباشرة أمام منزلنا ، لكنها الآن تجف وتصبح أكثر ملوحة. إنها ستقتل جاموسنا وتنتج حليبًا فقيرًا. يمكنك تذوق ذلك من الجبن ".
     في زاوية الكوخ، يجلس سجاد يونس البالغ من العمر 19 عامًا على سجادة ويحدق إلى الأمام مباشرة. شعره ممشط إلى الخلف بالجيل. يقول المراهق بفخر عن تسريحته: "لقد عملتها في المدينة". "يعيش العديد من أصدقائي الآن هناك. يتعين علي البقاء هنا لمساعدة  والدّي. ولكن سأغادر في أسرع وقت ممكن".

                                                 انحسار المياه

     ليست هذه هي المرة الأولى التي تجف فيها الأهوار، كما يقول الأسدي. ويشير إلى هضبة حجرية على بعد مسافة قليلة. يقول: "كانت المدرسة التي درس فيها والدي موجودة هناك". "هذه جزر صغيرة بها مبان من القصب في كل مكان، تمامًا مثل البندقية! حتى أنه كان هناك قارب يعمل كمستشفى يأتي لزيارتك ".
     صدام حسين وضع حد لذلك. لم يثق ديكتاتور العراق بالثوار الشيعة الذين بدأوا هنا خلال الحرب العراقية- الإيرانية (1980-1988) وقرر معاقبة عرب الأهوار بشكل جماعي. في أوائل التسعينيات، قام بتجفيف المنطقة عن طريق تحويل مياه نهري دجلة والفرات بشبكة واسعة من السدود والقنوات. في الوقت نفسه، قام بقصف السكان.
    فر تقريبا كل عرب الأهوار، ما يقرب من ربع مليون شخص. وجفت 90 في المائة من الأهوار ومات حوالي 100,000 من الجاموس. لم يجرؤ والدا الأسدي على العودة حتى عام 1999 وكانوا من الأوائل. يتذكر قائلاً: "كنت آنذاك في الثامنة من عمري. كانت المنطقة تبدو صحراء."
   ومع ذلك، عادت الحياة ببطء. بعد سقوط صدام عام 2003، فتح عرب الأهوار السدود وبدأت المنطقة تغمر مرة أخرى. اتضح أن بذور النبات الجافة كانت قادرة على الإنبات. وفي وقت قصير جدًا، خرج القصب من القاع مرة أخرى، وتبعت بقية الطبيعة ذلك.
     لكن الأسدي يخشى أن تختفي الأهوار، هذه المرة،  إلى الأبد. يقول خبير البيئة، الذي قام بحملة من أجل الأهوار منذ أن كان عمره 16 عامًا وأسس منظمته الخاصة لهذا الغرض في عام 2015: "كان الدمار الذي سببه صدام مروعًا، لكننا على الأقل تمكنا من إعادة توجيه المياه في ذلك الوقت". "أما الآن فهذا غير ممكن، لأن المياه العذبة تنفذ ببطء."
    هذا النقص في المياه العذبة له أسباب عديدة. إذ ترتفع درجات الحرارة في العراق سبع مرات أسرع من أي مكان آخر في العالم. ونتيجة لذلك، يقل تساقط الأمطار وتتبخر المياه من الأهوار بشكل أسرع، مما يؤدي إلى الجفاف والتملح. هذا الأخير يعززه ارتفاع مستوى سطح البحر في جميع أنحاء العالم، مما يتسبب في تقدم المياه المالحة من الخليج العربي نحو الأهوار.

                                                  مشاريع السدود

    كان عام 2021 أيضًا عامًا جافًا بشكل استثنائي في المنطقة بأكملها. في إيران نزل الناس إلى الشوارع للمطالبة بمياه الشرب النظيفة، وفي العراق ارتفعت درجة الحرارة بشكل منتظم فوق 50 درجة مئوية في الصيف، وفي سوريا سُجل أسوأ جفاف منذ 70 عامًا. وحذرت وكالات الإغاثة هذا الصيف بأن في البلدين الأخيرين وحدهما، يواجه 12 مليون شخص خطر ندرة المياه والمحاصيل المخيبة للآمال.
     في العراق وسوريا، تفاقم الجفاف بسبب مشاريع السدود الكبيرة في إيران وتركيا. على سبيل المثال، فإن سد إيلسو في جنوب شرق تركيا، والذي دخل حيز التشغيل في عام 2020، يمكن أن يخفض مياه نهر دجلة بشدة لدرجة أن العراق يفقد نصف إمداداته المائية، وفقًا لوزير الموارد المائية العراقي السابق. قال الأسدي "هذا لا يحدث فقط في العراق". انظر فقط إلى معركة المياه بين مصر والسودان. في كل مكان نرى أن الجفاف يؤدي إلى بقاء الأصلح ".
     لكن وفقًا لتون باينينس، وهو ناشط مناخي بلجيكي مقيم في العراق وأحد مؤسسي مجموعة عمل "أنقذوا نهر دجلة"، يرى أن الحكومة العراقية كثيرًا ما تلقي اللوم في مشكلة المياه على السدود الأجنبية. يقول: "هذه أيضًا طريقة للتهرب من المسؤولية الخاصة". المشكلة الأكبر هي إدارة المياه السيئة في العراق. يمكن لبنية تحتية أفضل أن تحدث فرقًا حقًا، لكن هذا لا يحدث، كل مرة، بسبب الفساد والافتقار التام لرؤية بعيدة المدى".
    ومع ذلك، فإن باينينس أكثر تفاؤلاً قليلاً من الأسدي في ما يخص مستقبل الأهوار. وأن السنتين الماضيتين، وفقًا له، أقل جفافا نسبيًا مقارنة مع الجفاف الشديد لهذا العام. علاوة على ذلك، يعتقد أنه يمكن توفير الكثير من المياه بسلسلة من الإجراءات غير المعقدة للغاية، مثل إدخال تقنيات زراعية أكثر اقتصادا، وإعادة استخدام المياه الصناعية وإنشاء محطات تحلية المياه.
                                                  السياحة البيئية

    فمن المهم بشكل خاص أن لا يغادر عرب الأهوار بشكل جماعي. "إن  هذا النظام البيئي يعتمد على السكان الذين اعتنوا به منذ آلاف السنين"، كما يقول باينينس، الذي يدعو بالتالي إلى السياحة البيئية، على نطاق صغير، في المنطقة لتزويد السكان المحليين بمنظور اقتصادي. وهناك ميزة إضافية تتمثل في أن عرب الأهوار يمكنهم أن يعلموا الزائرين كيفية التعامل مع الطبيعة. هذا بالتأكيد ليس ترفا لا لزوم له في العراق ".
    خارج بلدة الجبايش، المستوطنة الصغيرة التي تقع في قلب الأهوار، بدأ الأسدي بالفعل متحفه الخاص. يعرض في قاعة كبيرة من القصب جميع مجموعاته من السنوات الست الماضية، من الزوارق القديمة والملابس التقليدية إلى الطيور المحنطة. أمام المتحف ترى تمثالا لجاموس، وفي الخلف علق لوحات للجاموس. يضيف : "يبقى  حيواني المفضل."
    لم يتلق الأسدي أي مساعدة من الحكومة حتى الآن. ويقول أن السلطات المحلية تسخر منه بالأخص وتحاول الحصول على المال بمجرد أن يستقبل زوارًا أجانب. ويقول الناشط: "إنهم لا يفهمون لماذا يعد تغير المناخ هاما. لهذا السبب قاموا بنشر إشاعات بأنني مهووس بالجاموس".
   يبدو أن الأسدي لا يهتم لذلك. ويخلص إلى أن "هؤلاء الناس يعتقدون أن الله خلق العالم ولذا فإن كل شيء  سيكون على ما يرام، لكنني أفضل أن أفكر أن الله أعطانا دماغًا حتى نتمكن من حماية مخلوقاته".

الترجمة عن: 2021 NRC Handelsblad 14 Oktober




20
الفكر الإسلامي ... قراءة معاصرة
د. هاشم نعمة
   نُشرت كتابات غير قليلة بشأن التجديد في الفكر الإسلامي. وقُدمت قراءات جديدة وفق منهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، من منطلق أن هذا التجديد بات حاجة ملحة تتطلبها تطورات الحياة المعاصرة في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية وحتى الروحية منها، لكن القليل من هذه الكتابات الجادة عالجت الموضوع من داخل المنظومة الفكرية الإسلامية وباستخدام منهجياتها العقلية وليس من خارجها. وينطبق هذا الأمر على كتابات الباحث الإسلامي الجاد أحمد القبانجي؛ لذلك اخترنا تقديم قراءة عن أحد كتبه الموسوم "الإسلام المدني"، الصادر عن مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2009. يقع الكتاب في 484 صفحة.
    يضم الكتاب سبع مقالات كما يسميها الكاتب، وهي ليست مقالات كما هو متعارف عليه ولكنها في الواقع فصول مطولة تتضمن عناوين فرعية كثيرة وجاءت تحت العناوين الرئيسة الآتية: المباني النظرية للمجتمع الديني والمدني، المجتمع المدني وحقوق الإنسان، الحريات السياسية والدينية في المجتمع المدني، الإسلام والنظام الديمقراطي، الإسلام المدني، تطبيق الشريعة أم سيادة القانون، حق الحكومة لمن... لله أم للناس؟ القسم الأول، حق الحكومة لمن... لله أم للناس؟ القسم الثاني.
                                                        مقدمة
    يشير المؤلف في المقدمة بأنه إذا تجاوزنا الرؤية المثالية للسلفيين إزاء التراث والحضارة الإسلامية في الماضي البعيد وما تتضمنه من انغلاق فكري تجاه الحضارة البشرية الجديدة، وتحركنا لدراسة النموذج الحضاري الذي أفرزته التجارب الحديثة بلغة واقعية وأدوات عقلية، أمكننا التوصل إلى قناعة نظرية وعملية بأطروحة "المجتمع المدني" فيما تمثله من انسجام مع مبادئ الدين وحقوق الإنسان والقيم الإنسانية العليا، ويتركز موضوع هذا الكتاب بالحديث عن هذه الأطروحة الحضارية وما تتضمنه من مفاهيم ومبادئ، وما تقوم عليه من أسس ومرتكزات فكرية وفلسفية من قبيل: الديمقراطية، حقوق الإنسان، الفردية، دور المؤسسات والأحزاب، الليبرالية وأمثال ذلك... (ص 11).
    ويرى أن مقولة "الإسلام المدني" تقع مقابل ما يسمى بـ "الإسلام التقليدي" و"الإسلام السياسي"، وأن من خصائص الإسلام المدني ومقوماته محورية العلاقة القلبية مع الله (أي التجربة الدينية)، وما يترتب على ذلك من قبول مبدأ التعددية الدينية وصلاحية العقل البشري للتشريع بما ينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان والحضارة الجديدة، ومن خلال هذا البحث يتبيّن بطلان ادعاءات انصار الإسلام السلفي والإسلاك السياسي وعدم انسجام ادعاءاتهم  مع العقل البشري المعاصر وما أفرزه التطور الحضاري من قيم ومبادئ وثقافة إنسانية (ص 13). 
   ويستشهد القبانجي بقول سعيد البزاز الوارد في مقدمة كتاب "في الطبيعة الشرية" لعلي الوردي، بأن لابد أولا من الانتقال من الآخرة المعنوية المجردة التي يمثلها الانتماء القلبي وحسب إلى الآخرة المادية التي يمثلها التكامل والتضامن الاجتماعي الذي انتجته المدنية، فالآخرة المعنوية قد تدع المجموع متشبثا بأذيال الوهم، سواء كان وهم القوة أم وهم النصر، أم وهم التفوق، أم وهم النقاء.  في حين أن الآصرة المادية ونتائجها تفرض نظاما كاملا للحياة، تتأسس فيه علاقات إنتاج تتجاوز النمط البدائي إلى ما هو مؤهل لتكوين مجتمع مركب تتقابل فيه المنافع والحاجات والواجبات والحقوق، وهو أمر يحفز الدافع الفردي في الأداء، ويخلق مقاييس للتفوق تتناسب مع الكفاءة ونوع الخدمة العامة ودرجتها فينصف الجهد بدلا من أن يجري المنح المجاني للمراتب على أساس النسب والنقاء القبلي المزعوم (ص 19-20).   
     لا ثبات مطلق في جميع موارد الشريعة، بل إن الإسلام قد جاء بسلسلة من القضايا والقيم العامة دون أن يجعلها في إطار معيّن وقالب خاص. ومجرد أن يتحرك النبي محمد في أجواء خاصة من أعراف القبائل العربية وينزل القرآن على مجتمع تحكمه تقاليد بدوية وتكون أحكامه منسجمة مع ظروف ذلك المجتمع القديم، لا يعني بالضرورة أن مثل هذه الأحكام دائمة ومطلقة ويجب على كل مجتمع بشري أن يكيّف نفسه مع هذه الأحكام والقوانين، لأن المفروض أن تنسجم القوانين مع المجتمع وحاجاته وثقافته لا أن ينسجم المجتمع مع تلك القوانين.
                                                  حقوق الإنسان
   اعتاد أصحاب العقل السلفي السني والشيعي على النظر إلى حقوق الأنسان المطروحة من قبل الأمم المتحدة، بنظرة سلبية وأنها حقوق زائفة ما أنزل الله بها من سلطان، وأن المسلمين غير محتاجين للاعتراف بهذه الحقوق، فالدين الإسلامي والشريعة السماوية لم تترك شيئا من حقوق الإنسان المشروعة إلا ذكرتها، أي أن ما كان صحيحا من الحقوق المذكورة في لائحة حقوق الإنسان فقد ورد في الشريعة السماوية حتما، وما لم يرد فيها فهو باطل ولا حاجة لنا به.
    ومنهم من تحرك نحو الاستفادة من هذه اللائحة بعد أن لم يجد ما توقعه من حقوق في مفاهيمنا الدينية، وعمل على التوفيق بينها وبين مبادئ الدين الإسلامي وسماها "حقوق الإنسان الإسلامية" و يلاحظ مثل هذا التحرك في أروقة منظمة المؤتمر الإسلامي أيضا.
    خلاصة القول، يؤكد المؤلف إننا لا نرى أي تعارض بين الحقوق الفطرية للإنسان المذكورة في لائحة حقوق الإنسان وبين الحقوق المذكرة له في الشريعة الإسلامية، ولو تعارضت هذه الحقوق مع الحقوق الواردة في الفقه وفتاوي علماء المسلمين لوجب الأخذ بمعطيات حقوق الإنسان العالمية لتطابقها مع الفطرة والوجدان من جهة، ولكون فتاوي الفقهاء لا تمثل الوحي في الحقيقة، بل هي فكر بشري وصياغة فقهية لما فهمه هؤلاء الفقهاء من النصوص الدينية التي قد تكون واردة في قضية خارجية معينة وليس لبيان حقيقة مطلقة وقانون أبدي يتعالى على الزمان والمكان. إن ما يقرره الفقهاء من فتاوي في هذا الميدان هي أحكام ظنية واجتهادية قد تخطيء وقد تصيب (ص 85-86).
    فمثلا في مسألة المرتد عن الإسلام يصرح صاحب الجواهر والمحقق الحلي في الشرائع: لو حصلت للمسلم شبهة في دينه حتى وإن كان متولدا في بلاد الغرب ولم تسنح له الفرصة في تعلم العقائد الإسلامية وأنكر على أثرها بعض العقائد المتسالم عليها بين المسلمين فيجب قتله بمجرد رجوعه إلى بلاد المسلمين حتى لو تاب ورجع إلى الإسلام وتبرأ من قولته الشنيعة ألف مرة!! (ص 135-136).
   علما أن القرآن لا يتعرض لهذه المسألة اطلاقا مع أنه بيّن حكم ما هو دونها في الخطورة والأهمية كحد الزاني والسارق والقاذف وغيرهم، وفي المقابل نقرأ العديد من الآيات التي تؤكد حرية الإنسان في المعتقد والدين من قبيل: "لا إكراهَ في الدينِ قد تبيّنَ الرشدُ من الغيّ" (ص 407).
   والغريب أن هؤلاء الفقهاء ومن تابعهم من الإسلاميين الأصوليين برغم التزامهم بمثل هذه الفتاوي المخجلة، لازالوا يتشدقون بأن الشريعة الإسلامية قد أقرّت للإنسان والبشرية أجمع جميع الحقوق المشروعة أكثر مما ذُكر في لائحة حقوق الإنسان العالمية وأفضل !!
                                              الحريات السياسية والفكرية
    لم يكن نمط الحريات السياسية مطروحا في أجواء الفقه الإسلامي بمثل هذه الصياغة الحقوقية والفلسفية الحالية. ومن هنا تعتبر هذه المسألة من المسائل المستحدثة في الفقه الإسلامي حيث ينبغي على الفقهاء دراستها في إطار مفاهيم جديدة عن الحرية والعدالة ووفق مقاييس تنسجم مع تطور الآفاق المعرفية للإنسان المعاصر. أما الحرية المتداولة في التراث الديني فهي حرية من نمط آخر، يُراد بها، في الكتب والدراسات الفلسفية والكلامية الحرية إزاء الجبر والتي تعني "الاختيار" في دائرة الفعل الإنساني، فيبحث هناك عن أن الإنسان هل هو حر في أفعاله، أو مجبور عليها كما في مذهب المجبرة؟ (ص 113). 
     ويطرح المؤلف مسألة هاما تتعلق بالمعتقدات الدينية التي تحولت إلى تابو وخطوط حمراء لا تسمح للفكر أن يتحرك ويطرح علامات استفهام حول أية مفردة من مفردات العقيدة مهما كانت صغيرة. وقد لبس رجال الدين ورموز المؤسسة الدينية ثياب حراس العقيدة وشرطة السلطة الدينية التي لا تقل استبدادا وتعسفا عن السلطة الرسمية وعملوا على إسكات علامات الاستفهام التي تمسّ من قريب أو بعيد امتيازاتهم واعتباراتهم القدسية التي اكتسبوها من خلال التخلف العام وتراجع الوعي لدى غالبية الناس. ومن هنا يفقد الإنسان حريته طواعية بعد أن فقدها إزاء السلطة الزمنية كرها (ص 122-123).
   ويستشهد الباحث بالنائيني الذي يذكر إن  الاستبداد الديني أخطر أشكال الاستبداد، بل إن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني حيث إن الأول يفتقر إلى المقومات الكفيلة بالحفاظ عليه، فهو مهدّد دائما بالانهيار لأدنى سبب، في حين أن الأمة تكون في الثاني مضلّلة ومخدوعة وتحسب أن ما يصدر عن رجل الدين المستبد من لوازم الدين، بينما هو نزعة فردية يتظاهر بها المتلبسون بزي الرئاسة الروحية بعنوان الدين، والفئات غير الواعية من الناس تطيعهم باندفاع وثقة (123-124).
   وكما يشير المفكر نصر حامد أبو زيد إن: "من أهم التحديات التي تواجهها مجتمعاتنا العربية فيما يتعلق بالإسلام ذلك الاستخدام الأيديولوجي النفعي للإسلام لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعة فئوية أو سياسية أو شخصية"(1).   
   ينطلق الإصلاح الحقيقي من تشغيل الناس لعقولهم والتحرك في خط الوعي. ومن هنا كان الإسلام المدني كما يذكر المؤلف متناغما مع العقل ومتطابقا مع الوعي بينما نرى أن أغلب رجال الدين في التيار السلفي والسياسي يسعون دائما إلى التعتيم على الوعي وقولبة الذهنية المسلمة بقوالب جامدة على النصوص من خلال عملية غسل دماغ رهيب مستخدمين أدوات دينية صارمة لا تسمح للعقل أن يتحرك ولا للفكر أن يطرح علامات استفهام حول الحالة الثقافية المزرية والانحطاط الأخلاقي والسياسي للمسلمين (ص 236-237).
     إن أتباع الديانات المختلفة في بداية ظهورها كانوا يعيشون الانفتاح على الآخر والحوار معه من أجل تحويل الدعوة الجديدة إلى واقع حي، ولكن هذه الحالة الحضارية تأخذ بالنضوب والفتور حالما يتحول الدين من إيمان قلبي مشحون بالعواطف الدينية والقيم الأخلاقية إلى هوية شخصية للفرد والمجتمع ويصبح الإسلام في المجتمعات الإسلامية عبارة عن عنصر من عناصر الهوية المجتمعية، وتتحول المؤسسات الدينية إلى كيانات رسمية تهدف إلى الاحتفاظ  بوجودها وقداسة أفرادها من خلال الدفاع عن الدين بما هو دين الهوية لا بما هو إيمان قلبي يدعو الإنسان إلى الانسجام مع خط الرسالة والقيم الأخلاقية.
   إن النصوص الدينية جاءت لمعالجة بعض العقبات والمشاكل التي كانت تعيشها المجتمعات القديمة وتتحدث في خطابها الديني بلغة ذلك العصر بكل ما يحفل به من ثقافات وعلاقات وتقاليد وأعراف. أما الدين الإسلامي فلم يلزمنا بالتعبد بكل ما ورد في الشريعة حتى مع تغيّر مقتضيات الزمان والمكان والعرف، وبديهي أن الأحكام الشرعية إنما ترد على موضوعاتها المعينة لها بالخصوص، فاذا تغيّر الموضوع يتغير الحكم، أي أن الموضوع علّة للحكم كما هو ثابت  في البحوث الفقهية (ص 135-136).
     الخطأ الذي وقع فيه أصحاب العقل الأصولي هو أنهم جرّدوا الأحكام الشرعية من مكانها الواقعي الذي شُرعت له وأرادوا زرعها في أجواء متباينة تماما عن الأجواء المناسبة لها، والسبب الذي دفعهم إلى الوقوع في هذه الفوضى الفقهية وجمودهم على النصوص هو عدم تمييزهم بين الدين والشريعة، فكما يرون أن الدين الإسلامي يصلح لكل زمان ومكان فكذلك الشريعة الإسلامية.
    إن القيم والتصورات وأساليب الادراك والتقييم وأنواع السلوك المتولدة عن الخطاب القرآني تختلط في الحياة العملية (بواسطة أداء الطقوس الفردية والجماعية) بقيم وتصورات الرأسمال الرمزي القديم السابق على القرآن والسائد في الجزيرة العربية. إنها تختلط به من أجل تشكيل عادات متأصلة وجبَّارة تمتلك الفرد أكثر مما يمتلكها وتشكل نوع حركاته ومواقفه الجسدية ومخياله أنها تحد من حريته في الفكر والممارسة(2).
  الرؤية الأخيرة للدين تجتمع مع مبدأ "التعددية" في واقع المجتمع المدني فليس هناك عداء مع أحد من المذاهب والأديان الأخرى فكلها تصل إلى الحق، أي أن الإيمان المبني على أساس التجربة القلبية يستوعب في دائرته التعددية في المذاهب والأديان. وهذا لا يعني النسبية في الحق كما يتوهم اتباع التيار السلفي أو الأصولي، بل النسبية في فهم الحق. فالمسلم له قناعاته ومعتقداته ولكنه مع ذلك لا يرى في إيمان الآخرين بدينهم ومذهبهم مندوحة ولا يتهمهم بالكفر والشر وأنهم اتباع الباطل ومن أهل النار وما شاكل ذلك، لأن لكل طائفة دينية أدلتهم وقناعاتهم التي توصلهم إلى الحق لو تحركوا بدافع الوجدان وعنصر الخير في واقع الإنسان (ص 229-230).   
                                            الإسلام والنظام السياسي
     لم يرد في القرآن تأكيد وتقرير أسلوب نظام الحكم، بل ورد التأكيد على العدالة في الحكم، وكان القرآن لا يرى في تعيين أسلوب نظام الحكم أنه من شؤون الدين، بل يرى أن توضيح القيم والمثل المرتبطة بالحكومة هي من شأن الوحي والدين.
   عندما كان النبي محمد في مكة ولمدة ثلاثة عشر عاما لم تنزل عليه آية واحدة تتحدث عن أمور سياسية وشريعة معاملاتية رغم أن ثلثي القرآن نزل في هذه الفترة بالذات. ألا يعني هذا أن مسألة النظام السياسي في الإسلام ليست من ذاتيات الدين وغير صادرة عن الله، بل تمثل حالة طارئة على الدين خاضعة للظروف الخارجية والمتغيرات الاجتماعية؟ ( ص 458).
    في السابق لم يكن الفرد يدعي أن له حقا في السلطة والنظام السياسي سوى ما يراه أهل الحل والعقد في عملية الشورى والتي تقترب كثيرا من النظام الارستقراطي وحكومة الاشراف والنبلاء أو الحكماء والفلاسفة بحسب نظرية افلاطون، ولكن المتغيرات الكثيرة التي عاشتها المجتمعات البشرية في العصور المتأخرة خلقت مفاهيم جديدة وحقوقا مستحدثة ومصالح اجتماعية لم تكن في السابق، وبما أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد، كما يقول الفقهاء، فالأحكام التي كانت صالحة لمجتمعات ماضية سوف لا تكون كذلك لمجتمعات لاحقة نظرا لتغير المصالح والمفاسد في هذه المجتمعات، وهذا يعني تبدل موضوعات الأحكام وبالتالي يستدعي تبدل الأحكام نفسها.
    كان مفهوم النظام الديمقراطي مغيبا عن دائرة المفكر فيه لدى الذهنية المسلمة، ولذلك لا نجد لهذه الكلمة عينا ولا أثرا في التراث العربي الإسلامي على الرغم من انتقال كم هائل من علوم اليونان ومصطلحاتهم الفلسفية إلى أجواء الفكر الإسلامي في العصور الأولى للنهضة الحضارية للمسلمين. أما بالنسبة إلى علماء التيار الإسلامي التجديدي فلا يرون أن الديمقراطية تتقاطع مع الإسلام، بل العكس من ذلك، فهي الأسلوب الوحيد الذي يحقق أكبر قدر من العدالة ومراعاة حقوق الإنسان.
    مفهوم الطاعة المطلقة للسلطان وتسويغ الخنوع والاستبداد هو ما قرره أحمد بن حنبل في فتواه: "من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه برا كان أو فاجرا فهو أمير المؤمنين" (ص 418).     
    مثلا رأينا الحكومة الإسلامية في أفغانستان بعد استيلاد طالبان على الحكم في الفترة 1996-2001، تقتصر في تطبيق وتجسيد العدالة الإسلامية على فرض العزلة على النساء ومنع الموسيقى والجلد وقطع الأيدي وقطع الرؤوس للمخالفين في ظل استمرار نزف الدم والحروب الداخلية بين الأحزاب الإسلامية والفئات المتناحرة على السلطة حتى زاد عدد القتلى والجرحى والخراب الاقتصادي أضعافا مضاعفة عما كان عليه الشعب الأفغاني في عهد الحكم الماركسي (ص 223). وها هي طالبان تعود إلى الحكم بعد إعلان الولايات المتحدة سحب قوتها، وهناك خشية كبيرة من ممارستها نفس النهج الوحشي.
    على صعيد التشريع والقول بوجود قواعد كلية في الشريعة تكفي لسدّ الفراغ القانوني في عملية التشريع والتقنين في الحكومة الإسلامية، فمن الواضح أن جميع ما ذكر من قواعد وأصول كلية هي قواعد وأصول عقلية متوفرة لدى جميع دوائر التشريع والتقنين في المجتمعات البشرية، فلسيت هي إسلامية بالأصل حتى يقال بأن الشريعة الإسلامية جاءت بكل صغيرة وكبيرة في مجال التشريع ولا حاجة لأعمال الفكر والعقل في هذا المجال، فمن لا يعلم من العقلاء أن قاعدة "أوفوا بالعقود" هي قاعدة يسير عليها جميع عقلاء العالم في جميع المجتمعات من أول التاريخ البشري ولحد الآن.
    ويثير المؤلف مسألة هامة وهي أن القانون الأفضل هو الذي يراعي العدالة بشكل أفضل، والعدالة هي المطلوب بالأصل، والقانون بمثابة آلية وأسلوب لإحقاق الحق. وهذا لا يعني أن الشريعة المذكورة في كتب الفقه بإمكانها تطبيق العدالة المطلقة على أرض الواقع وأنها هي الأفضل بشكل مطلق كما يزعم اتباع التيار الأصولي، لأن مقتضيات الواقع المتغيّر قد تفرض حلولا وأحكاما تنسجم مع معايير العدالة بشكل أفضل من الأحكام الشرعية حيث نلاحظ مثلا وجود بعض التمييز في الأحكام الشرعية بين الرجل والمرأة وبين المسلم وغير المسلم، والسادة والعبيد وغير ذلك، وهذه الأمور لا تتطابق مع معطيات القانون المدني الحديث الذي ينطلق من أرضية للحقوق الاجتماعية والسياسية تقوم على المساواة بين أفراد المجتمع (ص 245-246). 
    إن القرآن نفسه نسخ بعض احكامه وجاء بأحكام أخرى في فترة زمنية وجيزة نظرا لتغير الظروف والحالات في دائرة العلاقات الاجتماعية والسياسية للمجتمع الإسلامي الأول. حتى عدّ السيوطي في الاتقان واحدا وعشرين موردا من موارد النسخ في القرآن، ووصل عددها عند ابن الجوزي 247، وعند ابن حزم 214، وعند ابن بركات 210 موردا. والقرآن يصرح بجواز النسخ حيث يرد: "ما نَنَسخ من آية أو نُنسِهَا نأتِ بخير منها أو مِثلها". وقد ورد عن علي بن أبي طالب قوله لقاض: "اتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت" (ص 255-257).
     هناك خلط موهن في كتابات الإسلاميين بين خاتمية الدين وخلوده وبين تاريخية الشريعة حيث ظنوا أن الدين الإسلامي لكونه خالدا وأبديا إلى يوم القيامة. فكذلك الشريعة الإسلامية صالحة لجميع المجتمعات البشرية إلى يوم القيامة، وهذا اشتباه كبير ولا دليل عليه، وحتى عندما نلاحظ  أدلة هؤلاء الكتاب نرى أنهم يستدلون على استمرارية الشريعة الإسلامية بمسألة الخاتمية وخلود الدين، وهذا هو منشأ الخطأ والخلط.
                                                  ولاية الفقيه
    إن المستفاد من عدم بحث علماء الإسلام نظرية ولاية الفقيه في كتبهم العقائدية والفقهية، بل عدم قبول الكثير منهم بهذه النظرية، أن هذه المسألة لا تشكل أصلا من أصول الدين ولا فرعا من فروعه، ولكن أنصار الإسلام السياسي سعوا بجدية إلى إقحام هذه المسألة في الدين وما هي من الدين لإضفاء شيء من القداسة الدينية عليها. إذ يقول الخميني في كتابه الحكومة في الإسلام "وكمقدمة للبحث أرى من الضروري الإشارة إلى أن الحكومة الإسلامية امتداد لحاكمية الله، وامتداد للولاية والسلطة التكوينية وربوبية الله" (ص 330-331).
   في الفكر الشيعي لا تستمد سلطة نائب المعصوم وولي الأمر في عصر الغيبة من الأمة، إنما سلطته إلهية، بحيث أن الرادّ عليه رادا على الإمام المعصوم، والراد عليه كالراد على الله وهو على حدّ  الشرك بالله، ورغم أن الأمة هي التي تساهم في عملية اختيار الإمام الاّ أنه بعد هذا الاختيار سيأخذ موقعه وإمامته باعتباره نائبا للإمام المعصوم ووكيلا عنه (لا عن الناس!) في إدارة شؤون الأمة مما يعني أن السلطة ستكون مستمدة من سلطة الله الذي هو مصدر كل السلطات.
     فإذا علمنا أن الخط السياسي لتحرك المسؤوليين والأحزاب وطبقات الشعب لابد وأن يكون وفق ما يراه المرجع صلاحا للأمة، ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمة من الناحية السياسية كما يقول محمد باقر الصدر، فحينئذ ندرك جيدا أبعاد الحكم الفردي والاستبدادي الذي تصوغه لنا هذه النظرية الدينية حيث تتحول جميع المؤسسات والأحزاب والفئات السياسية إلى كيانات رسمية محنطة في قوالب معينة لرؤية فقهية اجتهادية واحدة لا تسمح للفكر أن يتحرك من موقع النقد والاعتراض، وليس لجهة أو فئة قانونية حق محاسبة المرجع ومراقبته ومؤاخذته، فلا يسأل عن شيء وهم يُسألون.   
     بما أن الحكومة تستلزم التصرف بأموال الناس وتقييد حريتهم وتحديد حقوقهم فالأصل الأولي في هذه المسألة أن "لا ولاية لأحد على أحد" و"الناس مسلطون على أموالهم" كما ورد في القواعد الفقهية، فلا حكومة لأحد على أحد ألا برضا نفسه وطيب خاطره، وهو معنى أن الحكومة يجب أن  تكون برضا الناس وموافقتهم لتكون مشروعة (ص 390).
     عند البحث في هذه المسألة من جذورها التصورية نرى أن عنصر الاستبداد كامن في جذور النظرية وفي تصور دعاة الحق الالهي في السلطة حيث يقررون حقيقة أن ولاية الفقيه ليست من نوع الوكالة أو النيابة عن الأمة أو عن المعصوم، بل هي من نوع ولاية العقلاء على المحجورين أو ولاية الكبير والقيّم على الصغار! يقول الخميني : "ولاية الفقيه أمر اعتباري جعله الشارع كما يعتبر الشرع واحدا منا قيمّا على الصغار، فالقيّم على شعب بأسره لا تختلف مهمته عن القيم على الصغار إلا من ناحية الكمية" (ص 422-423).
   ويذكر القبانجي التهافت السافر في مواد الدستور الإيراني الذي يقرر منهاجه أن السيادة لله وحده، ومن جهة أخرى يفوض أمر هذه السيادة لرجال الدين، وفي ذلك يقول عبد الله أحمد النعيم: تعكس المادة الرابعة وغيرها من مواد الدستور الإيراني غموض موقف الشريعة من مبدأ السيادة، فمن جهة نجد أن المادة الثانية تذهب إلى أن الجمهورية الإسلامية هي نظام يقوم على الاعتقاد بأن "لا إله إلا الله، وأن السيادة لله وحده، وقبول حكمه، وضرورة إطاعة أوامره" ومن جهة أخرى نجد أن السيادة التي يفرد الله وحده بها يترجمها الدستور إلى وصاية علماء الدين، وبالتالي يثور السؤال: ما جدوى الحديث عن سيادة الله وحده إن كان البشر هم الذين يمارسونها عملا؟ (ص 463).
      لم يكن الاقتصاد الإسلامي في المشروع الإيراني بأحسن حالا من الموقف العسكري حيث وجد المسؤولون الإيرانيون أنفسهم مضطرين إلى اتباع سياسية النظام الرأسمالي الحر الذي يقوم على الفائدة الربوية في البنوك وخصخصة المصانع والشركات الحكومية وبيعها إلى القطاع الخاص. وفي السياسية أيضا تم الابتعاد عن المبادئ والأصول الدينية واتخاذ عنصر المصلحة، أي مصلحة النظام كمعيار للعلاقات الرسمية مع الدول الأخرى والتغافل أو الغاء ما طرحه الخميني من شعارات في أول الثورة من الاعتماد على الشعوب والاهتمام بمصلحة المستضعفين في العالم وتصدير الثورة وأمثال ذلك، وحلت محلها التعامل مع الدول على أساس المصالح لا على أساس المبادئ. وليس من المعلوم أنه سيأتي يوم تتبدل فيه المصلحة وإذا بإيران تقيم علاقات مع أمريكا وإسرائيل، ويتساءل لمؤلف هنا: ماذا بقي من أسلمة النظام أو ما هي الغاية من الحكومة الإسلامية إذا كانت تعتمد في جميع أمورها وشؤونها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على محور المصلحة؟ (ص 224-225).
الهوامش
1-   نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل، ط 1 (الدار البيضاء| بيروت: المركز الثقافي العربي، 2010)، ص 27.
2-   محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، ط 3 (بيروت: مركز الانماء القومي، 1998)، ص 103.
   
   
   
       

21
التطرف اليميني بات مقبولا على نطاق واسع في هولندا

ترجمة: د. هاشم نعمة

    لم يعد التطرف اليميني، على عكس الماضي، يؤدي إلى العزلة الاجتماعية. إذ باتت أفكاره لها صدى في السياسة، بحسب طالبة الدكتوراه نيكي ستركنبورخ. 
    يُسأل الناشط اليميني المتطرف هانز عما سيغيره في هولندا إذا وصل إلى السلطة. "إذا اضطررت إلى تطبيق كل آرائي العرقية، هاها فسيكون ذلك حقًا حمام دم كامل." تتنهد صديقته وهي تهز رأسها من على الأريكة ، "لا أعتقد أنك ستكون قائدًا محبوبًا أيضًا."
   إنه مشهد من الكتاب الجديد للصحفية السابقة ستركنبورخ، المعنون "لكن لا يمكنك قول ذلك". تصف فيه أن أشخاصًا مثل هانز انتهى بهم الأمر إلى عزلة اجتماعية قبل 25 عامًا. يُظهر البحث العلمي أن أعضاء الأحزاب اليمينية المتطرفة والراديكالية السابقة مثل مركز الديمقراطيين وحزب المركز 86 (تأسس هذا الحزب عام 1986 وحُل عام 1998)(1)غالبًا ما فقدوا وظائفهم وزوجاتهم، ولم يبق لهم سوى القليل من الأصدقاء.
    وتشير ستركنبورخ، التي ستدافع عن درجة الدكتوراه عن اليمين الراديكالي والمتطرف في هولندا يوم الأربعاء، إلى أن هذا الأمر بات مختلفا في الوقت الحاضر. كان هانز في الماضي عضوًا في مجموعات النازيين الجدد مثل اتحاد الشعب الهولندي والدم والشرف. اليوم، هو ناشط مستقل يشارك في جميع أنواع الاحتجاجات اليمينية المتطرفة. في إحدى المرات، حاول هو وأصدقاؤه منع حافلة مجموعة عمل إلغاء بيت الأسود (هي مجموعة عمل هولندية تسعى لإلغاء ما تعتبره تفسيرا عنصريا خلال احتفالات بابا نويل السنوية بعيد الميلاد)(2). بعد بضعة أسابيع، شارك في مظاهرة مناهضة للفاشية وذلك لإثارة الشغب.

                                                     لم نتوقع منك ذلك

     
يحكي هانز في الكتاب أن مديره في العمل شاهده في إحدى المظاهرات في التلفزيون، لكن هذا لم يسبب له أي مشاكل. "أوه، لم نكن نتوقع منك ذلك". وبحسب ستركنبورخ، فإن هذا ينطبق على معظم عشرات النشطاء الذين تحدثت إليهم. وهي تقول: "إن بيئتهم تشجعهم بدلاً من أن تثبط عزيمتهم". ستركنبورخ هي نائب رئيس قسم التحليل في المنسق الوطني للأمن ومكافحة الإرهاب. وهي ترى من خلال احتجاجات كورونا، أن هناك دليلا إضافيا على ادعائها بأن المتطرفين اليمينيين مقبولون على نطاق واسع اليوم؛ هناك، يسير المواطنون المحترمون بشكل أخوي إلى جانب أعضاء في مجموعات يمينية متطرفة مختلفة وهم يصرخون "نحن هولندا".

                                         المتظاهرون المناهضون لكورونا


   تقول ستركنبورخ: "كان ذلك غير وارد في التسعينيات". تشير إلى مقتل ماريان فاتسترا في عام 1999 في كولوم في مقاطعة فريسلاند. إذ سعى مركز الديمقراطيين والحزب الوطني الجديد إلى الانضمام إلى السكان الذين كانوا يبحثون عن الجاني في مركز لطالبي اللجوء. هؤلاء الناس لم يكونوا سعداء على الإطلاق بذلك؛ لأنه لا أحد يريد أن يُحسب على هذه الجماعات.

    وبحسب ستركنبورخ، لا يزال عدد الناشطين اليمينيين المتطرفين في هولندا لا يزيد عن 250. لكن التصريحات المتطرفة من قبل السياسيين، وفقًا للباحثة، أخرجتهم من عزلتهم. لا يتردد صدى أفكارهم فقط مع الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل حزب الحرية ومنتدى الديمقراطية، ولكن أيضًا مع أكبر حزب حكومي هو حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية. (هو حزب رئيس الوزراء الحالي مارك روته الذي هو في هذا المنصب منذ عشر سنوات، وحصل حزبه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في آذار| مارس 2021 على أكبر عدد من المقاعد لكن ذلك لا يؤهله لتشكيل الحكومة بمفرده إلا ضمن إتلاف يضم أحزاب أخرى)(3).

   في مجلس النواب، تمت مناقشة العلاقة المزعومة بين الشعوب ونسبة الذكاء، ويبدو أن الوزير ستيف بلوك (وزير الخارجية السابق)(4) اشار في اجتماع خاص إلى أن الشعوب المختلفة لا يمكنها العيش معًا، وقد طرح رئيس حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية السابق كلاس دايكهوف، خططًا لمعاقبة الأشخاص في الأحياء التي تعاني من مشاكل بشكل أكثر صرامة.
     في عملها الجديد في المنسق الوطني للأمن ومكافحة الإرهاب، قالت ستركنبورخ إنها ستبقى بمعزل عن التحليلات السياسية بشأن اليمين المتطرف. إذ أن مبدأ البحث العلمي هو أنك لا تؤذي من تتحدث معه. لذلك أنا لا أقول "شكرًا لك على إخباري بكل شيء عن اليمين المتطرف والراديكالي وبعد ذلك سأعمل لصالح الحكومة".

1- المترجم
2- المترجم
3- المترجم
4- المترجم

الترجمة عن: NRC Handelsblad 18 Mei 2021




22
المنبر الحر / رأسمالية الكوارث
« في: 17:17 20/06/2021  »
رأسمالية الكوارث
د. هاشم نعمة
   طالما حظي النظام الرأسمالية الحديث والمعاصر بالكثير من البحث والدراسة من جانب المفكرين والباحثين في شتى صنوف المعرفة. ومن هذه الكتابات الرائدة ما كان استباقيا أي توقع ما يحصل من تفاعلات وافرازات نتيجة هيمنة النظام الرأسمالي اقتصاديا وسياسيا على أرجاء واسعة من العالم. وتأتي في الصدارة كتابات كارل ماركس وفردريك أنجلز وخصوصا في المؤلف الأشهر رأس المال. وأيضا في كتابات الماركسيين الجدد وما حفلت فيه من تحليلات واستنتاجات لما تفرزه هيمنة النظام الرأسمالي من  استغلال لمآسي الشعوب وكوارثها.
     ومن بين الكتب المهمة ذات المنحى اليساري، كتاب "رأسمالية الكوارث: كيف تجني الحكومات والشركات العالمية أرباحا طائلة من ويلات الحروب ومصائب البشرية"، لمؤلفه الصحفي الأسترالي الجنسية الألماني الأصل أنتوني لوينشتاين، ترجمة أحمد عبد الحميد، والصادر ضمن سلسلة عالم المعرفة في تشرين الثاني| نوفمبر 2019، التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت. يقع الكتاب في 439 صفحة.
    ينقسم الكتاب إلى جزأين يضمان سبعة فصول أضافة إلى المقدمة والخاتمة. وقد عالجت فصول الكتاب الآتي: باكستان وأفغانستان: البحث عن حرب جديدة، اليونان: نحن مجرد أرقام ولسنا بشرا، هايتي: إن قال أحد هنا إنهم حصلوا على مساعدة، فتلك أكذوبة، بابوا غينيا الجديدة: اكسروا عظامنا ولكنكم لن تُحطّموا أرواحنا أبدا، الولايات المتحدة: أرض الأحرار صارت دولة السجون، المملكة المتحدة: إنها الاستعانة بمصادر خارجية للعنف، أستراليا: إن كان قلبك ينبض، فلديك وظيفة في سيركو.
                                                         مقدمة
    يكشف الكتاب الوجه القبيح للنظام الرأسمالي، ويُسقط القناع الذي يتخفى وراءه هذا النظام لكي يستمر في ممارساته لاستغلال الشعوب الضعيفة في العالم، والاستفادة من المآسي الإنسانية للاجئين والكوارث الطبيعية والحروب والصراعات من أجل التربُّح، ومواصلة النهب الممنهج لخيرات هذه الشعوب ومواردها، واستنزاف ثرواتها الطبيعية لمصلحة الحكومات الغربية والشركات المتعددة الجنسية.
   هذا الكتاب يهدف إلى إحداث صدمة، واستفزاز، وإماطة اللثام عن عالم تطور خُلسة، ولكنه يهدف أيضا إلى الإصرار على أن البدائل ممكنة، هذا ما يقوله مؤلفه.
     الحقيقة أن الكاتبة الكندية نعومي كلاين كانت أول من صاغ  مصطلح "رأسمالية الكوارث"، وذلك في كتابها الأفضل مبيعا عام 2007، بعنوان "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث"؛ ففي هذا الكتاب ترى كلاين أن برامج الخصخصة، وتخفيف الرقابة الحكومية أو إلغاءها، والاستقطاعات الكبيرة في الإنفاق الاجتماعي غالبا ما تُفرض بعد وقوع كوارث ضخمة، سواء كانت هذه الكوارث طبيعية أو من صنع الإنسان، حيث "يحدث هذا كله قبل أن يتمكن ضحايا الحرب أو الكارثة الطبيعية من تجميع أنفسهم والمطالبة بما هو لهم"(ص 18).
    عندما شارك مات تايبي في "تظاهرة العمل"، التي نظمتها "حركة احتلوا وول ستريت" المناهضة للرأسمالية عام 2012، قال في كلمته للمتظاهرين: "هذه المؤسسة المالية العملاقة تُعَد الرمز المطلق لنوع جديد من الفساد على أعلى المستويات في المجتمع الأمريكي: فهذا الفساد يميل إلى خلق مصاهرة بين السلطة التي تكاد تكون بلا حدود للحكومة الفدرالية والمصالح المالية الخاصة التي يتنامى تركَّزُها وباتت غير مسؤولة على نحو متزايد"(ص 14).
    يجوب صندوق النقد الدولي كل بقاع العالم، بمؤازرة من النخب الغربية والدول ذات التسليح القوي، سعيا وراء خصخصة مواردها وحثها على فتح أسواقها أمام الشركات المتعددة الجنسيات، والحقيقية أن المقاومة لهذا الدواء المر هي السبب الوحيد الذي أدى إلى أن تصبح مساحات كبيرة من أمريكا اللاتينية أكثر استقلالية منذ عام 2000. والخصخصة الجماعية التي تنشا نتيجة ذلك – وهي ما تعد حجر الزاوية في السياسية الخارجية الأمريكية- تَضمن تفشي الفساد في أنظمة الحكم الأوتوقراطية. وتعرض برقيات ووثائق الخارجية الأمريكية التي سربها موقع "ويكيليكس"، أمثلة لا حصر لها في هذا الشأن، من بينها تلك التسريبات المتعلقة بمصر إبان حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. والبنك الدولي متورط في ذلك بالقدر نفسه، وهو بالمثل فوق المحاسبة؛ ففي عام 2015، اعترف البنك بأنه لم يكن لديه أدنى فكرة عن أعداد الأشخاص الذين أُجبروا على ترك أراضيهم حول العالم من جراء سياساته الخاصة بإعادة التوطين. هذه المسألة لم تحتل عناوين الأخبار بالقدر الكافي ولم يحرك أحد ساكنا. 
    إن النجاح الاستثنائي الذي حققه كتاب الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، بعنوان "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"،(1) والذي يجادل فيه بأن الخلاف الاجتماعي هو النتيجة المحتملة لازدياد عدم المساواة، يشير إلى أن عموم الناس يعرفون أنه توجد مشكلة، وأنهم يبحثون عن تفسيرات واضحة لها (ص 17).
    الادعاء القائل بأن "العالم ساحة معارك" يعكس أيديولوجية عسكرية سلك نهجها كل من الإدارات الديمقراطية والجمهورية في الولايات المتحدة. وتعززت وجهة النظر هذه من خلال وثائق ويكيليكس التي نُشرت عام 2010، والتي كشفت عن عدد كبير من عمليات قتل وقعت في السابق ولم يُبلَّغ عنها، وقد ارتكبتها قوات مخصخصة تابعة لأجهزة مخابراتية وأمنية كانت تعمل في مناطق الصراع في أفغانستان والعراق. ومثل هؤلاء الأشخاص الأشباح يعملون في الظل في عشرات الدول، حيث يرتكبون عمليات الخطف، والاستجواب، والقتل لأشخاص يشتبه فيهم ومن دون أي مراقبة. إن شركات المرتزقة، المبررة من قبل الدولة بحجة أنها ضرورية لمكافحة الإرهاب، قد أُدمجت تماما في حرب أمريكا التي لا نهاية لها.
   من الصعب إغفال استنتاج يمكن أن نخلص إليه مفاده أن الحروب غالبا ما تندلع للسبب الرئيس ذاته المتمثل في تحرير أسواق جديدة وطيعة، ومع احتمال أن تستمر الحرب على الإرهاب عقودا، فلن يكون ثمة نقص في الأعمال التي يمكن تأمينها. وحتى الأمم المتحدة ذاتها تعتمد بنحو متزايد على شركات مرتزقة غير خاضعة للمساءلة، مثل "دين كورب"، وشركة "جي فور إس" وهما شركتان لديهما سجلات مريبة.
                                                أفغانستان وباكستان
    قبل غزو أفغانستان عام 2001 بقيادة الولايات المتحدة، كانت طالبان هي التي تحكم البلاد. وكان نظام طالبان همجيا، ولكن لم يمنعه ذلك من التفاوض مع شركة الطاقة الأمريكية "أونوكال" بشأن إدارة خط أنابيب تركمانستان – باكستان - الهند والذي يمر عبر البلاد؛ فقلما كان التطرف حجر عثرة أمام رأسمالية الكوارث. وبعد الغزو باتت أفغانستان هي المكان المثالي لازدهار اقتصاد الحرب. والواقع أن هذا الخط والذي كان من المقرر افتتاحه عام 2018، كان القصد من إنشائه نقل الغاز من بحر قزوين في نطاق استمرارية حديثة لطريق الحرير.
   كان لشركة "دين كورب" حضور كبير في أفغانستان والعراق، حيث استحوذت على نسبة 96 في المئة من عائداتها السنوية البالغة 3 مليار دولار من الحكومة الأمريكية. وحدث هذا على الرغم من إخفاق الشركة في تنفيذ أي آليات جادة بشأن التشاور مع السكان المحليين الذين كانوا يعملون لديها، واعتمدت، بدلا من ذلك، على إقامة علاقات خاصة والتي تضمنت استمرار المحسوبية والمحاباة. لقد باتت الخصخصة راسخة للغاية في الدولتين إلى درجة أن موضوع إسناد الخدمات العامة المتأثرة إلى مؤسسات عامة نادرا ما يُطرح حتى للمناقشة في دوائر الحكومات الغربية.
   لقد أحدث الاحتلال الأمريكي لأفغانستان تغيرا عميقا في البلاد، وكان في معظمه تغيرا نحو الأسوأ، ففي مدينة قندهار اليوم نخبة أفغانية أَثرت بفعل الاحتلال الأمريكي، وتتوجس خفية من المستقبل.
    الصورة الأكبر كانت تتمثل في ان حامد كرزاي قد نُصّب رئيسا لأفغانستان عام 2004 من خلال انتخابات غير ديمقراطية، ثم أُعيد انتخابه في تصويت صوري زائف عام 2009 مقوض بعمليات تزوير لأصوات الناخبين، وهو ما ثبت عبر أدلة واسعة الانتشار. وكان انتخاب المرشح البديل لكرزاي عام 2014 عملية ملتوية أدت إلى حالة من عدم اليقين، على الرغم من انتصار الزعيم المؤيد لأمريكا، أشرف غاني، والذي رتبت له الولايات المتحدة.
   هناك طرق لا تحصى استخدمتها واشنطن بعد 11 سبتمبر 2001 وكذلك الأفغان للقتال في معارك محلية، والقضاء على أعداء في حين خلقت أعداء جدد، وضمنت انبعاث حركة طالبان المهزومة وعودة الروح إليها. ويكتب أناند جوبال "صارت الدولة متورطة في الجريمة، وتحولت إلى واحدة من أكثر الدول فسادا في العالم، فاسدة تماما مثل أمراء الحرب الذين سعت إلى تطويقهم وإجهاضهم" (ص 49).
   ازدهرت رأسمالية الكوارث أيضا في باكستان، جارة أفغانستان. فهنا أيضا، كانت الأعمال المتعلقة بالأمن الخاص والمعلومات الاستخباراتية قد توسعت بنحو كبير منذ هجمات 11 سبتمبر، لاسيما أن الصراع الداخلي العنيف كان يغذي الوحش الكامن في الشركات العسكرية الخاصة. وقد ساعد على ذلك التقاطع المألوف حاليا بين الحكومة والمؤسسات العسكرية والمتربحين، ويذكر المؤلف: أطلعني صحافي بارز في كراتشي على قائمة تضم اثنين وستين من كبار الشخصيات السابقين في الجيش الباكستاني ممن يعملون الآن لدى الشركات العسكرية الخاصة، ولكنهم حافظوا على صلات وثيقة مع زملائهم القدامى (ص 75).
     استطاعت الشركات العسكرية الخاصة أن تنمو في باكستان لأنها كانت خاضعة بالكاد للنظم والقوانين. إذ نشرت صحيفة "إكسبرس تربيون" عنوانا رئيسا مدويا يقول "الشركات الأمنية الخاصة تعمل بموجب قانون الغابة"(ص 76) حيث زعمت الصحيفة أن ما لا يقل عن 500 من هذه الشركات تعمل في باكستان. كما أفادت تقديرات بأنه كان يوجد ما يصل إلى 300 ألف من العاملين في مجال الأمن الخاص هناك.
                                                      اليونان
    إن منطق التقشف أعطى تفويضا بشيطنة أقليلة عاجزة عن الدفاع عن نفسها. وأكملت رأسمالية الكوارث المهمة. حيث أفسدت كلا من المُهمشين وهؤلاء الذين يسعون إلى ظلمهم. وفي اليونان نجد أن كثيرا من الحكومات قد ارتبطت بعلاقات وثيقة مع الشركات إلى درجة يستحيل معها وجود سياسة تتسم بالشفافية.
    يوثق المؤلف حجم المعاناة التي يعيشها اللاجئون المحتجزون في اليونان وفي لقاء مع بعضهم في أحد مراكز الاحتجاز يذكر: قال لنا هؤلاء "نحن نعاني هنا" وفي يونيو عام 2014 حدث إضراب جماعي عن الطعام احتجاجا على أمر وزاري جديد يسمح باحتجاز اللاجئين إلى أجل غير مسمى، ودعمته بصورة غير رسمية تلك التعليمات القاسية التي أصدرها الاتحاد الأوروبي. وجاء في جزء من بيان عام 2013 أصدره اللاجئون ما يلي: "مع استمرار الاحتجاز المنهجي والمفتوح، نحن نتعرض للذبح على يد الحكومة اليونانية. إنهم يُضيعون حياتنا، ويغتالون أحلامنا وآمالنا داخل السجون. وهذا يحدث بينما لم يتركب أي واحد منا أي جريمة"(ص 90).
    ويشير المؤلف: في أثناء إقامتي في اليونان تحدثت إلى عدد لا حصر له من الصحافيين الذين أخبروني بأن مشكلة خصخصة نظام احتجاز اللاجئين قلما حظيت بالاهتمام المطلوب في وسائل الإعلام المحلية. "يجب أن تتحمل الدولة المسؤولية عن توفير الرعاية الصحية والأمن لأن الدولة هي من تسجن هؤلاء الأشخاص"، هكذا حاججت كوتسيوني (ص 100).
    الواقع أن أعمال المراقبة والتوثيق للمهاجرين قد ولدت صناعة كبيرة. وتولى الاتحاد الأوروبي  مسؤولية العمل مع شركات قد كانت لديها الرغبة القوية في تطوير التوسع في طرق تُستخدم في التصدي للجحافل اليائسة من المهاجرين. ص 123
    كان المواطنون اليونانيون يعرفون حق المعرفة كيف سببت سياسة التقشف تدمير نظام الرعاية الصحية لديهم. كما أن السياسات النيوليبرالية(2) أثرت في المهاجرين وعامة السكان على حد سواء، ذلك أن التخفيضات الهائلة لرأسمالية الكوارث في الخدمات العامة والاجتماعية قد أنتجت قلة من الفائزين.
    ولعل من السخرية أنه في بلد تهيمن عليه رأسمالية الكوارث إلى هذا الحد، أبدى حزب الفجر الجديد الفاشي معارضة تتسم بقوة البلاغة للخصخصة، ولكن في الواقع إنه يؤيد كل رأسمالي كبير في اليونان. وفي البرلمان صوت أعضاء الحزب ضد فرض ضريبة زهيدة على أصحاب السفن. علما كانت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية قد ساندت بنحو علني حزب الفجر الجديد ونهجه الفاشي.
    رأسمالية الكوارث التي تتخفى وراء ستار التقشف سببت ضررا اجتماعيا غير مسبوق. فقد ارتفعت معدلات الانتحار في اليونان، حيث وجدت دراسة أجرتها جامعة بوتسماوث أن 551 رجلا قتلوا أنفسهم "فقط بسبب التقشف المالي" إبان الفترة 2009-2010. وواصلت هذه الأرقام ارتفاعها في السنوات التالية.
   باتت روسيا بوتين رمزا للإعجاب لدى أقصى اليمين في أوروبا، من فرنسا إلى المجر واليونان والمملكة المتحدة. وبالنسبة إلى البعض في أوروبا، كان النظر إلى الشرق، باتجاه الصين وروسيا والشرق الأوسط، ورفض منطق بروكسل، احتمالا جذابا على نحو متزايد.
    بيد أن رياح التغيير هبت في اليونان، إذ إن الفوز الساحق وغير المسبوق الذي حققه حزب "سيريزا" من تيار اليسار في الانتخابات عام 2015 كان بمنزلة توبيخ لسنوات سياسة التقشف الملهمة من الاتحاد الأوروبي، في حين تعثرت الأحزاب القديمة. وفي ليلة الانتخابات نشر حزب "بوديموس" اليساري الإسباني تغريدة جاء فيها: "أخيرا، أصبح لدى اليونانيين حكومة، لا مبعوث للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل" (ص 95). فقد كانت الانتخابات نقطة تحول هائل بالنسبة إلى بلد لم يحدث قط أن اختار سكانه، وبنحو جاد، سياسة تقدمية بمثل هذه الأعداد الضخمة. فبعد عقود تُجوهلت فيها مصالحهم، استطاع حزب "سيريزا" الاستفادة من موجة الاستياء في أوساط الشباب - الذي وصل معدل البطالة وسطهم إلى 60 في المئة- واستثمار هذا الاستياء ضد الفساد والتهرب الضريبي من جانب الأقلية الحاكمة.
                                                       هايتي
    كان أعضاء أسرة دوفاليه الحاكمة معادين بإخلاص للشيوعية أثناء الحرب الباردة، ولذلك أغدقت عليهم واشنطن الدعم المالي بسخاء. وبفضل الدعم المالي والعسكري الذي كانت توفره القوة الكبرى حُكمت هايتي بقبضة من حديد، حيث سُحقت المعارضة، وكُممت الصحافة، كما قُتل عدة آلاف من الأشخاص. وبعد أن أخذ بيبي دوك زمام الحكم من والده وأعلن نفسه "رئيسا مدى الحياة"، بدأ تنفيذ سياسات نيوليبرالية بلا رحمة، وهو ما أدى  إلى أن ترسخ الدولة حالة الفقر.
    وقد كتب شفارتز أن هايتي لديها تاريخ قاتم عقودا طويلة من غزو المنظمات غير الحكومية للبلاد، وهو شيء مماثل للمبشرين. وفي الثمانينيات، تحولت هذه المنظمات إلى حكومة أمريكية كاملة، وإلى مقاولي مساعدات إنسانية. ولم يطرأ سوى تحسن قليل من ذلك الوقت.
     بدأ تقريبا الاندفاع المحموم من قبل الشركات الخاصة بمجرد انتهاء الزلزال الذي ضرب البلاد عام 2010، وهو ما كان يعني في نهاية المطاف أن نسبة مئوية صغيرة للغاية فقط من مساعدات مالية بقيمة 1,8 مليار دولار، قدمتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، قد وصل إلى جيوب المواطنين العاديين، وفي "قمة هايتي"، التي عقدت بفندق فاخر في ميامي، بعد شهرين من الزلزال، راحت شركات مقاولات خاصة، من بينها شركة "تريبل كانوني" - التي استحوذت على عقد شركة "بلاك ووتر" سيئة السمعة في العراق في عام 2009- راحت تتزاحم من أجل اغتنام الفرص.
   رأت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية أن هناك فرصا لمساعدة الشركات في كل منهما على جني أرباح عن طريق بناء مصانع ملابس لشركات مثل "وول مارت" في مناطق فقيرة في هايتي. وكان هذا كله بالضبط أحدث تجسيد لنموذج قديم منهك أخفق في تقديم فوائد طويلة الأمد إلى السكان المحليين، ولكنه قدم، بدلا من ذلك، عمالة رخيصة إلى الشركات المتعددة الجنسية.
                                                   بابوا غينيا الجديدة
    في هذا البلد، تأجج الغضب تجاه منجم بانجونا منذ ميلاده في أواخر الستينيات، وهو الغضب الذي كان يعزى جزئيا إلى استغلال شركات أسترالية لمعادن البلد طوال عقود. وبحلول عام 1975، عندما حصلت بابوا غينيا الجديدة على استقلالها من أستراليا، كان التشغيل الكامل للمنجم هو أكبر كاسب في البلاد لا يعتمد على المساعدات. وقد اسهم المنجم بنسبة 20 في المئة من الميزانية الوطنية للدولة، على الرغم من أن المنجم كان، في الوقت ذاته، يدمر أي فرصه لاستدامة الموارد. غير أن مواطني بوجانفيل التي يقع فيها المنجم، وعلى الرغم من معاناتهم من الدمار البيئي، قد حصلوا على أقل من 2 في المئة من الأرباح لمساعدة مجتمعاتهم.
     لسوء الحظ أنه من اليوم الأول للاستقلال، فإن بابوا غينيا الجديدة كانت تملك القليل من القدرة على المساومة في تعاملاتها مع شركات التعدين والأخشاب الأجنبية التي كانت متحمسة لاستغلال الموارد الطبيعية الوفيرة في البلاد. حيث أدت المرحلة الانتقالية إلى سن قوانين متساهلة منحت الشركات الأجنبية نفوذا هائلا لم تكن ثمة ضرورة له مكنها من السيطرة على دولة غير منظمة إلى حد كبير.
   في أواخر الثمانينيات، استمر الغضب الهادئ في الغليان، وطالب جيش بوجانفيل الثوري بالاستقلال عن بابوا غينيا الجديدة، وبوضع نهاية للضرر البيئي الذي سببه المنجم. وقد أُغلق المنجم عام 1989 بعد عمليات تخريب مستمرة نفذها الجيش الثوري، غير أن الصراع المرير استمر ثماني سنوات أخرى، والذي أسفر عن مقتل ما بين 15-20 ألفا من السكان المحليين (نحو عُشر سكان البلاد)، حيث كان معظم هذه الوفيات ناتجة أساسا عن الحصار الذي فرضته بابوا غينيا الجديدة والقتال. كما تعرض إقليم بوجانفيل لدمار اقتصادي. وكان هذا ثمن الضربة التي وجهها الجيش الثوري ضد الاستعمار متعدد الجنسيات، وهو مثال نادر لشركة تعدين -بوجانفيل للنحاس المحدودة- كانت مرغمة على قبول الهزيمة على الرغم من حصولها على الدعم من حكومتين.
    كان هذا شكلا من أشكال رأسمالية الكوارث: شركات مفترسة - مدعومة بأموال المساعدات الأجنبية والامتيازات الضريبية، ومعزولة عن الفحص والتدقيق من جانب وسائل الإعلام أو النقد  السياسي- كانت تعمل فقط لتحقيق المنفعة لأصحاب المصلحة الدوليين، ومنعت أمة من الممارسة الفعلية لاستقلالها.
    إن وجود بابوا غينيا الجديدة المستقلة حقا لم يتحقق عام 1975. ذلك أن رأسمالية الكوارث كانت مترسخة وتضرب بجذورها في النظام الجديد منذ البداية، وهو ما تتحمل أستراليا مسؤولية كبيرة عنه. لكن استقلال البلاد في القرن الحادي والعشرين ممكن بالتأكيد.
                                                 الولايات المتحدة
     تحبس أمريكا نسبة من سكانها في سجن كبير، تعد الأعلى بالمقارنة بأي دولة أخرى في العالم. فهي تعكف على تشغيل نظام يتسم بشيطنة الأمريكيين الأفارقة والمهاجرين على نطاق غير مسبوق. ففي غصون ثلاثين عاما، ارتفع عدد سكان السجون من 300 ألف إلى أكثر من مليوني شخص.
   من جانبها رأت شركات السجون الخاصة في ذلك كله فرصة فريدة لجني أرباح مالية هائلة من وراء ذلك الانفجار في أعداد الرجال والنساء خلف قضبان السجون. وقد مُني اعتقاد في أوساط الحزبين الجمهوري والديمقراطي بأن الحبس الجماعي ربما يكون الحل لمشاكل أمريكا الاجتماعية بالفشل الذريع- ولكن لا تخبر بذلك الشركات التي تجني أرباحا. علما تزايد عدد السجون الخاصة في جميع أنحاء البلاد عشرين ضعفا منذ التسعينيات.
   أحد آثار رأسمالية الكوارث هو الحد من الرقابة الهامشية للولاية، وهو ما سمح لمسؤولين بإبرام تعاقدات خارجية للحصول على خدمات كانت ذات مرة تحت سيطرتها.
    استخدمت "الصناعات الإصلاحية في ولاية واشنطن" نزلاء السجون أنفسهم لصنع الملابس والأثاث، وسُمح بتقييد السجناء بسلاسل إلى المقاعد. وذُكر بشكل عرضي أن الشخص المذنب قادر على الجلوس والعمل بسهولة تحت قيد كامل. رغم الاعتراف بأن نزلاء السجون كانوا يتقاضون أجورا زهيدة للغاية مقابل أداء عملهم.
   النظام متلاعب به ليُفيد شركات مثل "سي سي أيه" وهناك أمثلة أكثر مما يمكن الاستشهاد به هنا لإظهار عدم استعداد الشركة لفرض الحد الأدنى من معايير الرعاية، بينما كان تزييف السجلات من الأمور الشائعة. إذ داب مركز الاحتجاز التابع لهذه الشركة ووزارة الأمن الداخلي عل رفض التحقيق في انتهاكات مستمرة بحق المحتجزين، ومن ثم انفضت قضايا من دون عقاب، وكانت تتضمن حالات ولادة لسجينات قبل الموعد المحدد للوضع، لأن حراس الشركة قد تجاهلوا صرخاتهن طلبا للمساعد( ص 261).
   إن إمكانية إصلاح جاد للأحكام ظلت بعيدة المنال، لأن مقاولي السجون يمارسون ضغطا على مشرعين لحملهم على إصدار أحكام قضائية أكثر صرامة، وهو ما يؤدي إلى تحسين عائداتهم.
                                                  المملكة المتحدة   
     في المملكة المتحدة، خفضت الحكومات المتعاقبة من المعونة القانونية لطالبي اللجوء وتركت الآلاف منهم من دون أن تكون لديهم فرصة حقيقية للنجاح فالنظام مصمَّم لضمان ترك طالبي اللجوء في طي النسيان، بينما يعمل على إثراء ذلك العدد الذي لا حصر له من الشركات التي تتربح منه.
   وكانت مارغريت تاتشر قد جادلت بسذاجة أو خبث، بأن الخصخصة كانت علاجا ناجعا لمجتمع محطم، وأن المديرين سيصبحون منارات مضيئة للفضيلة. وقد أظهرت الإخفاقات الكارثية لطبقة الأعمال العالمية أثناء الأزمة المالية عام 2008 الخطر الذي يمثله تنفيذيون مجهولو الهوية كانوا يديرون العالم. 
   "جي فور إس" شركة عملاقة، حيث تعمل في 125 دولة ولديها 657 ألف موظف، والتي تضمن عملها حراسة السجناء في سجون تديرها إسرائيل في فلسطين. وفي عام 2014، توقعت الشركة تحقيق نمو ضخم في الشرق الأوسط، خصوصا في مصر وبلدان الخليج.
   عام 2013 كشفت "مؤسسة الاقتصاد الجديد" أن بريطانيا قد شهدت في الآونة الأخيرة أكبر انخفاض في مستويات المعيشة منذ العهد الفيكتوري، وهو ما أثر بشدة في عمال القطاع العام والنساء. وكانت الحقائق البسيطة لهذا التقشف المجنون كافية للإشارة إلى أن شيئا ما كان خاطئا بشكل مروع في السياسية الحديثة.
     إن تقديم المنافسة في السوق بوصفها أولوية على جودة الرعاية الصحية قد بات هو الإعداد الافتراضي للقوى التي تدفع من أجل خصخصة وكالة الخدمة الصحية الوطنية، وذلك في مواجهة المعارضة القوية من الخبراء الطبيين والجمهور.
   تجدر الإشارة إلى أن الديمقراطيين الأحرار حاولوا إظهار معارضة شديدة للاتجاه المتنامي لرأسمالية الكوارث. ففي  عام 2014 تعهد الحزب بحماية غابات بريطانيا من الخصخصة، لكن تصريحاتهم البلاغية في هذا الصدد لم تتوافق مع الواقع. وفي العام نفسه، سُرّب ملف أظهر أن واحدا من كل خمسة سياسيين من المحافظين والديمقراطيين الأحرار تلقى تبرعات من أفراد كانوا يحثون على خصخصة وكالة الرعاية الصحية.
    يمكن القول بأن النموذج الديمقراطي الغربي المتمثل في بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا لم يكن ديمقراطيا على الإطلاق. وهو بذلك يحرم ملايين الأشخاص عن طريق الحد من الخيارات والمناقشات الاقتصادية. وكان نعوم تشومسكي صائبا حين جادل بأن "الولايات المتحدة لديها بنحو أساسي نظام قائم على حزب واحد والحزب الحاكم هو حزب مجتمع الأعمال"(ص 286).
                                                       أستراليا
   في غضون أكثر من عقدين، زادت كمية الأموال التي جمعها المقاولون بنحو كبير. فقد كانت هذه هي الظروف المثالية لازدهار رأسمالية الكوارث. ذلك أن شركات دولية مثل "سيركو" و"جي فور إس" - وهي شركات متعددة الجنسيات ليست لديها مساءلة فعليا في البرلمان الأسترالي - قد باعت كفاءتها لحكومات أسترالية متعاقبة، على الرغم من أنها أخفقت بشكل روتيني في توفير الرعاية لموظفيها أو لطالبي اللجوء. وبينما كانت هذه الشركات تمارس ضغوطا خلف الكواليس للحصول على مزيد من العمل فإنها لم تضطلع بدور مباشر في السياسات الأسترالية المحلية. وكان هذا شيئا نموذجيا ونمطيا بالنسبة إلى الثقافة المعولمة للشركات. المسؤولية النهائية عن المخالفات والانتهاكات تقع على مسافة تبعد آلاف الكيلومترات في بريطانيا. وهو ترتيب مناسب لكل من الشركات والحكومة.
    في أستراليا لدى شبكة أستراليا الحديثة لطالبي اللجوء تاريخ دنيء. إذ إن وضعها بوصفها دولة استعمارية ارتكبت أعمال إبادة ضد سكانها الأصليين يفسر جزئيا المخاوف من الغرباء غير البريطانيين.
    صدرت أستراليا ثقافة مخصخصة إلى مراكز الاحتجاز في الخارج. فقد أدارت شركة "سيركو" بعض المرافق في جزر كوكس، في حين حصلت شركة "جي فور إس" في البداية على عقد لإدارة موقع في جزيرة مانوس. وكان سكان جزيرة ناورو يتقاضون أربعة دولارات في الساعة من شركات المقاولات للعمل في أحد المركز هناك - وهو أقل عشر مرات من الأجر بالساعة الذي كان يحصل عليه مواطنون أستراليون في المرفق نفسه.
   وكانت شركة "ترانسفيلد" تجني أموالا أكثر كلما طال بقاء اللاجئين وراء القضبان. وفرضت الشركة سياسة شديدة القسوة على موظفيها العاملين في جزيرتي ناورو ومانوس، حيث أخبرتهم بأن ثمة إمكانية لإقالتهم من العمل بناء على من يتابعهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو لكونهم جزءا من جماعة أو حزب معارض لسياسات أستراليا تجاه اللاجئين.
   منذ عام، كانت أربع شركات قد حصلت على أكثر من 5,6 مليار دولار من العمل في صناعة الاحتجاز. وفي تصريحات نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" كشف ريتشارد هاردينج الذي شغل منصب كبير مفتشي السجون لمنطقة غربي استراليا، عن جوهر المشكلة بقوله: "هذه الشركات العالمية مثل سيركو هي أقوى من الحكومات التي تتعامل معها"(ص 340).
    ذلك أن كل واحد من اللاجئين يمثل قيمة نقدية. كما أن قضاء شهور وسنوات في مكان بعيد، يديره في كل يوم حارس غير مبالٍ أو عنصري وظفته شركة خاصة، ضاعف من الشعور باليأس. فاللاجئون من التاميل والأفغان والعراقيين، من بين جنسيات أخرى، انتقلوا من جحيم سلطوي واستبدادي إلى متاهة بيروقراطية، في بلد افترضوا خطأ أنه عادل وديمقراطي.
   ويختتم المؤلف الكتاب بالقول "رأسمالية الكوارث هي أيديولوجيا عصرِنا لأننا سمحنا لها بأن تكون كذلك. ولكن بوسعنا تغيير ذلك. ينبغي أن يكون هدفنا هو إيجاد نظام اقتصادي أكثر مساواة وديمقراطية تُمثلنا تمثيلا حقيقيا (ص 374)."
الهوامش
1-   للمزيد راجع: توماس بيكيتي، رأس المال في القرن الحادي والعشرين، ترجمة وائل جمال وسلمى حسين (القاهرة: التنوير، ب. ت).
2-   للمزيد حول الليبرالية الجديدة راجع: أشرف منصور، الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية، ط 1 (القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2008)،خصوصا الفصل السابع المعنون خرافة السوق ذاتي التنظيم، ص 317-337.
 

23
شركات النفط تتعرض الآن لضغوط من جميع الجهات

ترجمة: د. هاشم نعمة

    يتزايد الضغط على عمالقة النفط والغاز من قبل المستثمرين والبنوك وحتى من الوكالة الدولية للطاقة لزيادة عملية الاستدامة في مجال الطاقة بسرعة. 

      يتنامى في المجتمع حاليًا عدم الثقة في النوايا الحسنة لشركات صناعة النفط والغاز. ألا تعرض العالم للخطر باستراتيجيات أعمالها أم يمكنها تقديم مساهمة مهمة في حل أزمة المناخ؟
   في الحياة الواقعية، تتعرض الشركات العاملة في مجال الطاقة "الأحفورية" لوصمها بالعار بنحو متزايد وتُجبر على مواجهة الشباب المهتمين الذين يخرجون إلى الشوارع بأعداد كبيرة، والمنظمات البيئية التي ستلجأ إلى المحاكم لملاحقة هذه الشركات. وحتى الحلفاء القدامى، المستثمرون، يتشككون بنحو متزايد فيما إذا كانت أموالهم "في النفط" لا تزال آمنة.
   في هذا الأسبوع  كان ثمة هجومًا إضافيا مباشرًا من قبل الوكالة الدولية الطاقة ذات النفوذ الكبير (IEA). هذه المنظمة التي دائما ما ترضي الصناعة الأحفورية، تأسست قبل نصف قرن لمنع إمدادات النفط من التعرض للتعثر المستمر. لكن في التقرير المعنون "صفر فقط لعام 2050"، دعت الوكالة الدولية الطاقة شركات النفط إلى التوقف عن البحث عن حقول غاز ونفط جديدة، لأنه لم يعد من الممكن استخدامها. أي إذا أرادت البشرية الاحتفاظ بفرصة للحد من الاحترار العالمي بدرجة ونصف مئوية كحد أقصى في نهاية القرن.   
   لقد هز هذا الهجوم من قبل الوكالة الدولية الطاقة عالم النفط. ففي الماضي، طالبت الجماعات البيئية فقط في مقترحاتها الأكثر جذرية بإنهاء فوري للبحث عن موارد نفط وغاز جديدة. وفجأة جاء هذا الطلب من داخل ذات الدائرة.
   صُدم العديد من الخبراء وقالوا إن اقتراح الوكالة الدولية للطاقة كان غير مجدٍ. كانت توقعات الوكالة الدولية للطاقة السابقة بعيدة كل البعد عن الدقة، كما كتب المحلل اليميني فيل فلين في موقع إنفستينج دوت كوم على الإنترنت. ووفقًا لنائب رئيس معهد البترول الأمريكي، فإن أي خارطة طريق لانبعاثات صفرية صافية ستشمل "الابتكار المستمر واستخدام الغاز الطبيعي والنفط".
   لقد استجابت شركات النفط ببطء شديد للتغييرات الضرورية في الماضي، كما كتب جريج موتيت. وهو خبير بريطاني في تحول الطاقة في المعهد الدولي للتنمية المستدامة ذي الشهرة الواسعة .(IISD) علما أن "بريتيش بتروليوم BP هي شركة النفط الوحيدة التي لديها هدف محدد قصير الأجل لتخفيض إنتاج النفط. لكن الأمر استغرق 23 عامًا حتى وصلت الشركة إلى ذلك. لأنه في وقت مبكر من عام 1997، قالت الشركة إنها تأخذ مسألة تغيّر المناخ على محمل الجد. لذا فهي بطيئة للغاية. ولا تزال شركات النفط تنكر عن علم أو بغير علم، خطورة أزمة المناخ والدور الذي تلعبه منتجاتها فيها".

                                            أسئلة المناخ والمساهمون


   ومع ذلك، فإن السؤال يتمثل في ما إذا كان بإمكان القطاع الحفاظ على هذا الموقف الدفاعي لفترة طويلة. كان هذا واضحًا بالفعل خلال اجتماع مساهمي شركة شل عبر الإنترنت هذا الأسبوع. خلال الاجتماع الذي استمر ثلاث ساعات تقريبًا، كان ثمة نقاش بالكاد حول الموضوعات المألوفة مثل توزيع الأرباح أو سعر السهم أو سعر النفط. كانت أسئلة المستثمرين تدور اكثر حول الطاقة المتجددة والاحتباس الحراري وانبعاثات مجموعة شل من ثاني أكسيد الكربون.
   بدأ الاجتماع بداية رائعة يوم الثلاثاء بخطاب ألقاه رئيس مجلس إدارة شل المنتهية ولايته تشارلز هوليداي. ذكر فيه كيف أنه قبل ست سنوات، عندما طُلب منه تولي المنصب، أمضى ثلاثة أشهر في جولة في مجموعة شل الدولية. في سنغافورة دخل في حديث مع موظف، إذ سأله "ماذا تريد مني أن أفعل عندما أصبح مديرا؟" لم يكن على رجل شل أن يفكر طويلا. إذ أجاب، "ابنتي البالغة من العمر 13 عامًا تخجل من أن والدها يعمل في شركة شل. أريدك أن تغير ذلك".
    شعر هوليداي أن مهمته قد أنجزت. قال إن شركة شل قد تغيرت بالفعل. خذ على سبيل المثال خطة التحول التي يجب على شركة النفط والغاز جعلها خالية من الانبعاثات خلال ثلاثين عامًا. "إذا كانت تلك المرأة البالغة من العمر 19 عامًا موجودة هنا، فسأعطيها خطتنا الانتقالية وأقول: اقرئي هذا. ربما تريدي  أن تتبعي خطى والدك ".
    لكن جزءًا مهتما من المساهمين طالب يوم الثلاثاء باستدامة أسرع مما تقترحه شركة شل في خطة التحول. كانت خيبة أمل كبيرة لمجلس الإدارة، وفقًا لشركة شل، أن الحركة "الزائدة عن الحاجة" لحركة (أتبع هذا) Follow This، والتي تدعو شركات النفط إلى الامتثال لاتفاقية باريس، تلقت دعمًا من ما لا يقل عن 30 في المائة من المساهمين. هذه النسبة هي ضعف ما كان عليه الحال عام 2020.
      شل ليست استثناء. إذ تضاعف أيضًا عدد المستثمرين الذين يطالبون بخطوات إضافية نحو الاستدامة في فترة زمنية قصيرة في شركة بريتيش بتروليوم البريطانية. كذلك تم في كونوكو فيليبس الأمريكية دعم اقتراح قدمته حركة (أتبع هذا) هذا الشهر من قبل غالبية المساهمين.
     "إننا نطلق على هذا التحول أوقات مهمة"، يقول الأستاذ الجامعي في روتردام، ديرك لورباخ، المتخصص في التحولات الاجتماعية والاقتصادية، ووفقا له، يمكن التنبؤ بالأنماط في وقت مبكر. "يمكنك أن ترى أن النظام يتعطل ويتعرض لمزيد من الضغط. قد يستغرق ذلك وقتًا طويلاً، ولكن عند نقطة معينة ينشأ توتر داخلي ثم تختفي الشرعية الاجتماعية". يرى لورباخ أن هذا يحدث في صناعة النفط، ولكن أيضًا في الزراعة وصناعة السيارات التي حاولت إيقاف التغيير "بفضائح انبعاثاتها.
    وفقًا للورباخ، يبدأ التحول عادةً هامشيا. "بدأت حركة (اتبع هذا) صغيرة جدًا في اجتماعات المساهمين في شركات النفط. إن القليل من الذين لديهم تحليل جيد طويل الأمد هم بذور التغيير. هذا في حد ذاته ليس تحولا، تمامًا كما كان عليه الحال في عدد قليل من الألواح الشمسية. لكن هذه التطورات جزء من عملية بحث اجتماعي عن نظام مختلف ".
    يمكن أن يؤدي هذا إلى ولادة شركات جميلة من جديد. تحاول بعض الشركات تأخير هذا التحول لأطول فترة ممكنة، ولكن هناك أيضًا أمثلة لشركات بدأت عملية التحول الخاصة بها. مثل أورستيد وشركة المناجم الهولندية التي تطورت إلى شركة متخصصة في المواد الكيميائية الدقيقة (قطاع من الصناعات الكيميائية يهتم بتصنيع المواد عالية الجودة مثل الأدوية والمنظفات والأصباغ والالكترونيات وغيرها)*، بينما استبدلت شركة أورستيد الدنماركية النفط والغاز باستخدام طواحين الرياح.
    وفقًا لرئيس شركة شل فان بيردن، لا يوجد تحول حقيقي حتى الآن. ففي مقابلة معه في موقع بلومبرج غرين عام 2020، سُئل عما إذا كان يرى التطورات الحالية في سوق الطاقة على أنها "تحول فوضوي". هذه العملية هي خوفه الكبير. يقول فان بيردن ، مشيرًا إلى أزمة كورونا: "ما يحدث الآن فوضوي، لكنه ليس تحولا".
    لخفض استخدام الوقود الأحفوري بمقدار الربع  كما يقول، "هناك حاجة إلى إجراءات صارمة. عليك أن تحبس الناس. عليك إغلاق الاقتصاد. إنه يوضح حجم التحدي، ومدى تعقيده، وماذا ستكون العواقب إذا كنت تريد حقًا التخلص من النفط والغاز بطريقة مبسطة".

                                               مخاوف بشأن الأصول العالقة


    سواء كان الأمر بسيطًا أم لا، يفقد النفط والغاز ببطء موقع قوتهما في عالم الطاقة. هذا الأمر مرئي أيضًا من قبل المستثمرين. منذ أكثر من عشر سنوات، بدأت كاربون تراكر Carbon Tracker، وهي مؤسسة فكرية مالية مستقلة، في التحذير من الأصول المتعثرة، والمخاطرة في الاستثمار في الوقود الأحفوري الذي لن يتم تعويضه أبدًا. كان الأمر مضحكا بعض الشيء، حتى حذر مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، البنك المركزي البريطاني، في تشرين الأول| أكتوبر 2015 من الأزمات المالية بسبب تغيّر المناخ.
     بعد كارني، يشير البنك المركزي الهولندي أيضًا بانتظام إلى مخاطر تغيّر المناخ. ففي مقابلة مع صحيفة NRC، حذر أولاف سليبن عضو مجلس إدارة البنك الأسبوع الماضي من التغييرات المفاجئة إذا لم تسرع هولندا في سياستها المناخية. "بصفتنا أوصياء على الاستقرار المالي في هولندا، فإننا نشعر بالقلق حيال ذلك".
     نشر موقع بلومبرج يوم الأربعاء الماضي تحقيقًا في استثمارات البنوك في الطاقة. وجاء في العنوان: "لقد دعمت البنوك دائمًا الوقود الأحفوري على حساب المشاريع الخضراء - حتى هذا العام". فمنذ إبرام اتفاقية باريس للمناخ عام 2015، تم إنفاق ما لا يقل عن 3000 مليار يورو على الوقود الأحفوري، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف ما تم إنفاقه على المبادرات المستدامة. لكن المؤسسات المالية الكبرى البالغ عددها 140 مؤسسة التي شملتها الدراسة التي أجراها بلومبرج قد استثمرت بالفعل 203 مليار دولار (166 مليار يورو) في الطاقة المتجددة هذا العام - مقابل 189 مليار دولار للمشاريع الأحفورية. يقول محللون إن ذلك قد يكون نقطة تحول. علما في عام 2021 تم الاستثمار في الطاقة المستدامة بقدر ما تم استثماره في الطاقة الأحفورية.
    قال موتيت الخبير في المعهد الدولي للتنمية المستدامة: "المشكلة في البلدان الغنية والاقتصادات الناشئة ليست نقص الاستثمار في الطاقة، ولكن الاستثمار في الأنواع الخاطئة من الطاقة". "كلما كانت الإشارات أوضح من الحكومات والمؤسسات مثل الوكالة الدولية للطاقة، زاد تركيز المستثمرين على الطاقة المتجددة. وفقًا لبحث علمي حديث فإن التكاليف المطلوبة لهدف 1,5 درجة مئوية تتوافق تقريبًا مع المبلغ الذي يجب ألا نستثمره بعد الآن في الوقود الأحفوري ".
    كما يتعين على المستثمرين المؤسسيين الهولنديين مثل صناديق التقاعد أن يحسبوا بنحو متزايد استثماراتهم في عالم النفط. إن ترك أو إلقاء نظرة انتقادية هو الآن سياسة صندوق الرعاية الصحية،  ثاني أكبر صندوق معاشات تقاعدية. ففي عام 2019 وحده باع الصندوق حصصًا في أكثر من 50 شركة نفط وغاز، بما في ذلك إكسون موبيل وغازبروم وبتروبراس. وقالت جوان كيليرمان رئيسة صندوق التقاعد: "نحن ندرك أن شل رائدة في هذا العالم". ومع ذلك ، "لا نعتقد أن استراتيجية شل تذهب بعيدًا بما فيه الكفاية".
    لذلك صوت صندوق الرعاية الصحية (لأول مرة) لصالح حركة (أتبع هذا) وضد خطة التحول التي قدمتها شل لمساهميها للحصول على المشورة كأول مرة. حازت هذه الخطة على دعم ما يقرب من 90 في المائة من المساهمين. وفقًا لرئيس مجلس الإدارة هوليدي، هذا "دليل قاطع على الدعم" لإدارة شل.
    كانت نتيجة التصويت الثاني دعم بنسبة 30 بالمائة لاقتراح حركة "اتبع هذا". من الناحية العملية، يتطلب هذا تقييدا سريعًا للانبعاثات، الأمر الذي من شأنه أن يغيّر من استراتيجية شل بشكل كبير. تقول الشركة نفسها إنها ستكون محايدة مناخياً بحلول عام 2050، لكنها ليست ملتزمة بخفض الانبعاثات السابقة. بعد الاجتماع، صرحت شل في بيان مكتوب بأنها "أحيطت علما" بنتائج كلا التصويتين. في غضون ستة أشهر، تهدف مجموعة شل إلى الوصول إلى "فهم كامل" لأسباب حصول حركة (أتبع هذا) على الكثير من الدعم. وسيتبع ذلك تقديم "تقرير رسمي للمستثمرين".

                                               لا تزال الحكومات مترددة


    على الرغم من مشكلة المناخ الملحة، فإن الحكومات المسؤولة في النهاية عن الحد من غازات الاحتباس الحراري، تتخلى عن الإجراءات الصارمة. وفقًا للبروفيسور ديتليف فان فورين من أوتريخت ، المنتسب أيضًا إلى وكالة التقييم البيئي الهولندية، يجب اتخاذ الإجراءات بسرعة للبقاء في حدود 1,5 درجة مئوية من الاحترار. وقال مؤخرًا في سيمنار (أتبع هذا): "مع انبعاثات سنوية تبلغ 43 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون عام 2019، يتبقى لدينا حوالي عشر سنوات"، لتحقيق الهدف.
    السؤال ليس ما إذا كان ذلك ممكنًا من الناحية الفنية، كما يقول خبير المعهد الدولي للتنمية المستدامة ، موتيت. وفقا له، فإن سيناريوهات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ وتقرير الوكالة الدولية للطاقة الأخير يظهران أن ذلك ممكن. "السؤال هو ما إذا كان ذلك ممكنًا من الناحية السياسية. تظهر دول مثل الدنمارك وكوستاريكا وأيرلندا أن ذلك الأمر ممكن ".
     لكن العديد من الحكومات لا تزال مترددة في التعامل مع صناعة الوقود الأحفوري. وهذا يفسر أيضًا الدعاوى القضائية العديدة ضد شركات النفط: إذا لم تقم الحكومة بذلك، فسيقوم بها المواطن من خلال المحاكم. في قضية أورخندا، خلص القاضي إلى أن الدولة الهولندية لم تفعل ما يكفي لحماية مواطنيها من آثار تغيّر المناخ. في ألمانيا، قضت المحكمة الدستورية بأنه يجب على الحكومة بذل المزيد من الجهد للحفاظ على حياة البلاد للأجيال القادمة. وقالت المحكمة إن ألمانيا ستطلق كميات كبيرة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري حتى عام 2030 بحيث أنه في الوقت التالي "ستتعرض تقريبا كل أنواع الحريات التي تحميها الحقوق الأساسية للخطر". كما أن شركات النفط تقف أو وقفت أمام المحاكم في النرويج وبلجيكا والولايات المتحدة. والأربعاء المقبل سيصدر الحكم في الدعوى القضائية التي رفعتها حركة الدفاع عن البيئة (في هولندا)** ضد شركة شل. ( صدر الحكم من محكمة لاهاي في 26 مايس| أيار 2021 وطلب من شل أن تتخذ على الفور تدابير للحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون)*** إن من مطالبات الحركة البيئية أن تجعل مجموعة شل عملياتها التجارية تتماشى مع اتفاقيات باريس.
    يجد لورباخ أنه من المدهش أن الحركة البيئية لم تعد وحيدة. من سيكون القوة الدافعة وراء تحول الطاقة؟ "يمكنك الآن رؤيتها قادمة من جميع الجهات. قبل عشرين عامًا، كان قطاع الطاقة شيئًا ينظمه بضع مئات من المهندسين الرجال". يلعب عالم المال الآن دورًا، والقضاء والنقابة أيضًا. و"يعمل اتحاد نقابات العمال في هولندا الآن على خطة مستقبلية خضراء لشركة تاتا ستيل Tata Steel. وأصبح المجتمع نفسه ذا أهمية متزايدة وذلك باشتراكه في النقاش بشأن المناخ ".
    الحجة التي سمعناها كثيرًا بأننا ما زلنا بحاجة إلى النفط والغاز لعقود لاستمرار العالم لا تترك انطباعًا لدى لورباخ. "هذه هي رواية شركات الطاقة لدعم موقفها. يمكن أن تستمر التطورات بسرعة إذا زاد الدعم العام لها. الالتزام السياسي آخذ في الازدياد، ويتم تطوير التكنولوجيا... هذا هو بالضبط ما أظهرته وكالة الطاقة هذا الأسبوع ".
     يوافق جريج موتيت ذلك. ويكتب: "مثل الأنظمة الطبيعية، تمتلك الأنظمة البشرية نقطة تحول". "أعتقد أن سيناريو الوكالة الدولية للطاقة الجديد سيجعل العالم أقرب خطوة إلى نقطة التحول المجتمعي، حيث لن يطرح أحد فكرة الاستثمار في الطاقة الأحفورية."

* المترجم
** المترجم
*** المترجم

الترجمة عن: NRC Handelsblad 22-23 Mei 2021






24
المنبر الحر / الفقر كأيديولوجيا
« في: 20:54 03/05/2021  »
الفقر كأيديولوجيا
ترجمة: د. هاشم نعمة

    يتضمن مفهوم الفقر أحكاما معيارية تتعلق بالهوية الاجتماعية ضمن رؤية ما يجب أن يشكل نظامًا اجتماعيًا عادلًا. في الواقع أن تحديد الهوية الاجتماعية عادة ما يكون مرتبطًا بالسياسات الفعلية ووسائل الدعم الاجتماعي، أنه يقع أيضًا في ميدان الاقتصاد السياسي ويخضع لعلاقات القوة التي تتغلغل فيه. تنطبق هذه النقطة على جميع الإحصاءات الاجتماعية إلى الحد الذي تعتمد فيه على الأصول الاجتماعية والمؤسسية. ومع ذلك، تعتبر إحصاءات الفقر أيديولوجية على وجه الخصوص بالنظر إلى الدور المركزي الذي تلعبه فكرة الفقر في الأيديولوجيات المعاصرة المرتبطة بالتطور الرأسمالي.

   إن عدم تسييس ظاهرة الفقر، سواء من ناحية المفاهيم أو المقاييس نفسها أو من ناحية طريقة توظيفها في مختلف برامج التنمية، يعمل على حجب هذه الطبيعة الأيديولوجية المتأصلة. علاوة على ذلك، فإن محاولات الابتعاد عن الجوانب المالية لا تحل مشكلة عدم التسييس ولكن يمكن القول إنها تزيدها تعقيدا وتعسفا وغموضا. وقد أدى توافق الآراء في مختلف اجندات التنمية العالمية، ولا سيما الأهداف الإنمائية للألفية وأهداف التنمية المستدامة (العائدة للأمم المتحدة)* إلى خنق النقاش السياسي، ومن ثم منح اليد العليا للأصوات الأكثر قوة من الناحية المؤسسية والسياسية ضمن هذه الصراعات السياسية.

   على وجه الخصوص، تم تنظيم مشروع إنشاء إحصاءات الفقر العالمية بطرق مختلفة لإضفاء الشرعية على المرحلة الأخيرة الخبيثة من الرأسمالية التي يشار إليها بشكل مختلف باسم "الليبرالية الجديدة" أو بشكل أكثر تلطيفًا باسم "العولمة". تشير الليبرالية الجديدة نفسها إلى المشروع السياسي لرأسمالية عدم تدخل الدولة. ومع ذلك، فقد امتزجت مع توجهات متزايدة ذات سمات محافظة والتي تكاد تكون فيكتورية بطبيعتها، من حيث أنها تركز على تأديب سلوك الفقراء في كثير من الأحيان، بأسلوب العقاب. في حين أن هذا الدافع  من التدخل ذي السمة العنصرية ليس ليبراليًا بشكل خاص، إلا أنه يتناسب مع ما يعرضه كيلي بوضوح على أنه الطريقة التي اعتمد بها المشروع النيوليبرالي الجديد على سلطة الدولة وتدخلها بدرجات كبيرة. والسبب في ذلك يعود إلى أن المشروع النيوليبرالي كان موجهًا بشكل أساسي نحو حماية حقوق الملكية الخاصة (إنشاءها واستخدامها بحرية، بما في ذلك الأصول المالية). وبالتالي فإنه يتضمن أيضًا سمات محافظة، لا سيما فيما يتعلق بحماية النظام الطبقي السائد على عكس الليبرالية الكلاسيكية التي كانت أكثر ثورية في سعيها إلى تفكيك النظام الأرستقراطي القديم.

    شهدت الفترة النيوليبرالية المعنية تعرض أجزاء كبيرة من جنوب العالم لأزمات عميقة ومتكررة
وتنفيذ برامج التكييف الهيكلي لأكثر من عقدين، إلى أن سمحت ظروف زمن الازدهار منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فصاعدًا ببعض التأجيل لهذه البرامج، وإن كان ذلك ضمن بيئة متغيرة تتسم بحركة رأس المال عبر الوطني بالكامل ووفرة التمويل. هذا هو النظام الجديد الذي تسعى الأيديولوجية السائدة إلى إضفاء الشرعية عليه من خلال سرديات الفقر. إذ جرى استخدام بيانات الفقر بطرق مشكوك فيها في كثير من الأحيان لتعزيز السرديات السائدة لهذا الماضي القريب كواحدة من آليات التحرير التدريجي المؤقت، وبالتالي فإن السياسات التي جاءت معها كانت واحدة من السياسات الناجحة لكن بحذر. في الواقع يمكن القول أن أعدادًا كبيرة من الناس حول العالم لا يشعرون أن هذا هو الحال، لذلك فإن هذا يغذي لديهم ردود الفعل السياسية ضد هذه الرؤية. ومع ذلك، تشير الاتجاهات الأخيرة إلى أن الحركات الشعبوية اليمينية الصاعدة كانت أكثر نجاحًا في التقاط هذا الشعور من اليسار (مع بعض الاستثناءات). لذلك فإن هذا التوجه له تأثير في تعزيز التوجهات المحافظة التي تتماشى بشكل مثير للسخرية مع المشروع النيوليبرالي، على الرغم من أن الكثيرين يزعمون أن هذا يمثل موتا لليبرالية الجديدة. 
 
   تتمثل المسألة الكبيرة الأخرى أيضا في هذه الفترة بالصعود الدراماتيكي للصين التي تقدم سردًا أيديولوجيًا مختلفًا. في الواقع، يجري تنظيم إحصاءات الفقر في الصين لدعم التنمية الحكومية. علما هناك بعض الجدل بشأن ما إذا كان ينبغي اعتبار الصين ذات توجه نيوليبرالي. لكن لم يكن لذلك تأثير كبير في المزيد من دراسات الاقتصاد السياسي وتأثيراتها على السياسة الاقتصادية الفعلية، حيث لا تعتبر الصين ذات توجه نيوليبرالي بالمعنى التقليدي. ومع ذلك  فقد تم نسج قصة الصين في الخطاب السائد عن الفقر بدرجة كبيرة من خلال التأكيد على تحريرها من اقتصاد ماوي مغلق. علما تتجنب هذه الرواية عمومًا الإرث والسيطرة المستمرة للدولة بدرجات قوية والنزعة التنموية التي تقودها والتي تفسر جزءًا كبيرًا من تجربة الحد من الفقر في البلاد (ومن المفارقات، أن سيطرة الدولة يتم استحضارها عندما يجري انتقاد البلد بسبب التلاعب بالعملة أو التجارة).
     
     تتعلق المسألة المركزية الأخرى بالتركيز على المقاييس المطلقة المستخدمة في جداول أعمال التنمية العالمية الحالية - بما في ذلك ما يسمى بالمقاييس متعددة الأبعاد - وهو نتاج تحيز السياسة نحو استهداف الفقراء في توفير الخدمات الاجتماعية. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن العديد من هذه المقاييس قد جرى تصميمها لدعم هذا  الغرض. ومع ذلك، فإن السبب الأكثر دقة هو أن المفاهيم والمقاييس المطلقة ليست مناسبة تمامًا لتعكس قيمة أشكال التدابير الأكثر عالمية. علما يجري تبني أولوية سياسة الانتفاع على حساب المساواة، من خلال معالجة الفقر أولاً بدلاً من معالجة الآثار المؤسسية التي تحدثها هذه النفعية والتي تميل إلى تشجيع الفصل العنصري على حساب التضامن العابر للطبقات.
 
    في الواقع، في ظل المناخ السياسي العالمي الحالي، يكمن الخطر في أن التوجه الأيديولوجي المحافظ المذكور أعلاه يصبح أسلوبا عقابيًا بصورة متزايدة باستخدامه أساليب استهداف الفقراء والتي من المفارقات كانت قد طورتها حكومات "اليسار الجديد" السابقة. هناك بالفعل مؤشرات على ذلك، ربما تم تمثيلها بشكل مثير للإعجاب من قبل إدارة ترامب.  وذلك من خلال استبدال المقاييس الحالية للفقر في الولايات المتحدة بمقاييس "الاستهلاك"، أي تلك المستخدمة بكثرة في برامج التحويلات النقدية في البلدان النامية (أي التحويلات المرسلة من المهاجرين في الخارج)**. فقد ادعت الإدارة مؤخرًا أنه لا يوجد أكثر من 250,000 شخص يعيشون في ظروف الفقر المدقع في الولايات المتحدة، إزاء تقدير بلغ 18,5 مليون ورد في تقرير للأمم المتحدة أو تقديرات تعداد الولايات المتحدة لعام 2016 البالغة 41 مليون شخص يعيشون في فقر (ليس فقرًا مدقعًا). إن التحرك الفاعل للقضاء على التوثيق الإحصائي الرسمي للفقر في الولايات المتحدة هو جزء من الجهود التي يبذلها الجمهوريون في الكونغرس لإضافة متطلبات العمل بالنسبة إلى الأشخاص الذين يتلقون قسائم الطعام، والمساعدات الطبية، وإعانات الإسكان، ومن ثم العمل على إجراء تخفيضات في المساعدات الاجتماعية بشكل عام. في المملكة المتحدة، هناك اتجاه مماثل لجعل الائتمان الشامل الذي يجمع ست مزايا مختلفة، يتمثل بدفع مبلغ شهري واحد، ليصبح ذلك وبصورة متزايدة أسلوبا عقابيًا وأيضًا وسيلة لخفض فوائد الرعاية الاجتماعية بصورة مؤثرة. في الواقع أن "الائتمان الشامل" يشبه فكرة الدخل الأساسي الشامل ويوضح السهولة التي يمكن بواسطتها بأسلوب خبيث تخريب الأفكار السياسية العائدة لليسار الاشتراكي الديمقراطي من قبل اليمين. وبهذا المعنى، فإن التحيزات في مفاهيم الفقر ومقاييسه، والتي قد تبدو في بعض الأحيان غير ضارة، يمكن أن تتحول بسرعة إلى منحدرات خطرة عندما يتغير المناخ السياسي. لذلك علينا أن نأخذ التحيزات الضمنية على محمل الجد.

    يتمثّل الدليل الآخر في أن مقاييس الفقر المطلقة ليست مناسبة تمامًا لتعكس الانتاج الديناميكي للفقر ضمن عمليات التحول الهيكلي الحديثة، وذلك لعدة أسباب تتعلق أساسا بالطبيعة النسبية للفقر في العصر الحديث. والنتيجة هي أن مثل هذه المقاييس المطلقة تنزع بصورة عامة إلى التقليل من شأن تزايد الفقر بمرور الوقت. إن عدم الملاءمة هذا يرتبط جزئيًا بالتعسف المتأصل في الاختيار الذي يتضمنه قياس الفقر، وهي معضلة متأصلة ومستعصية يجب الاعتراف بها علنًا بدلاً من الافتراض أنها يمكن أن تنتهي من خلال التطور التقني.

    مع ذلك، فإن الأمر الأكثر أهمية هو أن الاتفاق الحالي لفهم الفقر المدقع وقياسه، بما في ذلك
المقاييس متعددة الأبعاد، مثل تلك التي تم تبنيها رسميًا من قبل الأهداف الإنمائية للألفية ثم أهداف التنمية المستدامة، لا تزال متجذرة إلى حد كبير في تصور الحد الأدنى من الاكتفاء المعيشي، على الرغم من إدراج بعض المؤشرات عن عدم المساواة في أهداف التنمية المستدامة. في حين أن هذا التوجه لا يزال ساريًا في سياقات معينة أخرى، لا سيما فيما يتعلق بالمجاعات المعاصرة (مع التنبيه إلى أن تقييمات الجوع هي أيضًا نسبية وتعسفية). علما تغيرت سمات  الاحتياجات الاجتماعية الأساسية بشكل عام - غالبًا بشكل جذري - ضمن التحولات المرتبطة عادةً بالتطور الرأسمالي الحديث، والتحول الديموغرافي والتحولات الأخرى ذات الصلة، جنبًا إلى جنب مع تطور المعايير الأساسية المرتبطة مثلا بمعرفة القراءة والكتابة ومستويات التعليم، أو متوسط العمر المتوقع والجوانب صحية.

    على سبيل المثال، من النتائج الأخرى، هي استمرار ظاهرة الجوع على الرغم من ارتفاع الدخل وتراجع فئة قليلي الدخل، وهي من بين مظاهر التنافر الأخرى أو عدم الانسجام التي كانت موضوعا لنقاشات متكررة في العقود الأخيرة. فبدلاً من إلقاء اللوم على الفقراء بسبب خيارات الاستهلاك السيئة، فإن التفسير الأكثر وضوحًا لهذا التنافر هو أن خطوط الفقر لا تواكب ببساطة التحولات الجارية في الاحتياجات الاجتماعية، حيث تكتسب الاحتياجات غير الغذائية الأسبقية بصورة متزايدة على الاحتياجات الغذائية. لذلك يتم الحد من استهلاك الطعام، لأنه من الاحتياجات التي يمكن الحد منها، مقارنة بغيرها من الاحتياجات الأكثر مرونة. وهذا هو الحال عندما يجري خصوصا تحويل سبل العيش إلى نقود وسلع بالكامل، كما هو الحال عمومًا في المناطق الحضرية. ونتيجة لذلك، يمكن أن يحدث استهلاك غير كافٍ للأغذية في سياقات بعيدة عن وضعية الكفاف في الوقت الذي يمكن للدخل أن يسمح تقنيًا باستهلاك كافٍ للغذاء، بعيدًا عن الاحتياجات الأخرى. وبالتالي، فإن خطوط الفقر المتأصلة في مفهوم الحاجة إلى الغذاء تميل إلى التقليل من أهمية هذه التحولات بمرور الوقت. 

    بعبارة أخرى، فإن المعايير التقليدية المستخدمة حاليًا في هذه المقاييس المطلقة (للفقر)*** يتم تعريفها بصورة ضئيلة للغاية لدرجة أنها تصبح قديمة أساسا بمرور الوقت في مجرى التحولات الهيكلية المرتبطة بالتنمية، خصوصا التحضر. لذلك، قد يكون تراجع معدلات الفقر، بدرجة أقل أو أكثر، انعكاسًا لواقع تأخر المقاييس المعيارية بصورة متزايدة عن مواكبة تطور الاحتياجات الاجتماعية الملحة للفقراء. إن هذه المسألة تعد مشكلة خصوصا عندما يتم استخدام هذه المعايير لتحديد عتبات "إخراج" الفقراء من نطاق الدعم والمساعدة. في الواقع، يمكن إثارة نقطة مماثلة تتعلق بالعتبات المستخدمة للتمييز بين البلدان المنخفضة الدخل والبلدان المتوسطة الدخل، وهي أن هذه العتبات منخفضة للغاية، ومن ثم تعطي مظهرًا زائفًا لما يسمى بالانتقال إلى الشريحة الدنيا للبلدان ذات الدخل المتوسط.

* المترجم
** المترجم
*** المترجم

الترجمة عن كتاب:
Andrew Martin Fischer, Poverty as Ideology: Rescuing Social Justice from Global Development Agendas (Crop: 2018).


     

   

     

     
     
       


25
الانتعاش الاقتصادي العالمي وشيك، ولكن ليس في البلدان الفقيرة

ترجمة وإعداد: د. هاشم نعمة

   تشير التوقعات الاقتصادية إلى أن الضرر الناجم عن أزمة كورونا ليس بنفس مستوى الضرر الذي تسببت فيه الأزمة المالية لعام 2008. لكن هذا ينطبق بشكل خاص على البلدان الغربية.

  التعافي الاقتصادي العالمي من أزمة كورونا جار، لكن توزيعه غير متساو؛ إذ البلدان النامية والناهضة على وجه الخصوص هي الأكثر تضررا من البلدان الصناعية. نشر ذلك صندوق النقد الدولي (IMF) في تقريره نصف السنوي عن آفاق الاقتصاد العالمي، والذي صدر يوم الثلاثاء 6 نيسان| أبريل 2021.

  تحسنت الآفاق الاقتصادية العالمية بشكل طفيف، لكن التباينات بين الدول تبدو كبيرة؛ إذ تأتي الولايات المتحدة في المقدمة، ومن المرجح أن تعوض الضرر الناجم عن كورونا هذا العام. أما بالنسبة إلى معظم البلدان الأخرى، يحدث هذا لكنه سيتأخر كثيرا. وستعمل إسبانيا أو إيطاليا، بقطاعيهما السياحيين الكبيرين في هذا الاتجاه، لكن ذلك يمتد إلى عام 2023 على الأقل.

    وبحسب صندوق النقد الدولي، في العام الماضي، تم تقديم مبلغ هائل قدره 16 ألف مليار دولار (13500 مليار يورو) من المساعدات الاقتصادية من قبل جميع دول العالم - في شكل مساعدات أو على سبيل المثال، بصورة تأخير دفع الضرائب. بدون هذا الدعم، لكان معدل الركود الذي حدث (بلغت نسبة الانكماش الاقتصادي العالمي 3,3 في المائة) أكبر بثلاث مرات.

    بالنسبة إلى البلدان الغربية، فإن الأضرار التي لحقت بها أقل من الأضرار التي تسببت بها الأزمة المالية لعام 2008. ومع اقتراب التعافي، فإن وضع البلدان الناهضة والنامية يتسم بالخطورة بدرجة أكبر؛ إذ هناك خطر يتمثل في أن أسعار الفائدة في البلدان الصناعية التي ظلت منخفضة للغاية في الوقت الحالي، سترتفع مع تقدم الانتعاش الاقتصادي. يمكن أن يحدث هذا بشكل خاص في الولايات المتحدة. في هذه الحالة، يمكن أن تتوجه التدفقات المالية الدولية إلى البلدان الغربية، مما يتسبب في جفاف التمويل في البلدان الناهضة، ومن ثم حدوث أزمات.

                                                 الانتعاش غير المتكافئ

   قالت جيتا جوبيناث كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي يوم الثلاثاء 6 نيسان| أبريل 2021، إن هذا الانتعاش غير المتكافئ هو ما يقلق صندوق النقد الدولي. ويقدر تراجع رفاهية الفرد بسبب الوباء بمتوسط 2,3 في المئة في البلدان الغربية، و 4,7 في المائة في البلدان الناهضة (وحتى 6,1 في المائة إذا لم يتم تضمين الصين) و 5,7 في المائة في البلدان النامية. ولأول مرة منذ مطلع القرن، يظهر المزيد من الفقراء المدقعين في جميع أنحاء العالم، حوالي 95 مليون مقارنة بالتنبؤات السابقة للوباء.

   في العام الماضي، وافقت مجموعة العشرين (أهم البلدان بالنسبة للاقتصاد العالمي) بالفعل على وقف سداد ديون البلدان ذات الدخل المنخفض. وهذا الأسبوع، تم إدراج هذه المسألة على جدول أعمال الاجتماع الربيعي الذي تعقده مجموعة العشرين وصندوق النقد الدولي.

    كما أن زيادة مقدار حقوق السحب الخاصة (SDRs) من صندوق النقد الدولي التي تتمتع بها البلدان  مطروحة الآن على طاولة النقاش. وتتكون حقوق السحب الخاصة- وهي العملة الاحتياطية لصندوق النقد الدولي- من سلة من العملات القوية (الدولار واليورو والجنيه والين والرينمينبي الصيني). وتتمتع كل دولة من الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي بإمكانية الوصول إلى مقدار من حقوق السحب الخاصة، والتي تكون بمثابة ضمان لقرض سريع يمكنها الحصول عليه من الصندوق، دون شروط كثيرة.

    قد يكون كثير من البلدان النامية والناهضة في ورطة بسبب الوباء وبسبب قروضها المستحقة بالفعل من العملات القوية أو قد تحتاج إلى مزيد من التمويل في المستقبل. ويمكن أن تؤدي زيادة مقدار حقوق السحب الخاصة التي تشكل أساسًا نوعًا من احتياطي النقد الأجنبي الإضافي إلى التخفيف من أعباء هذه البلدان.

    تتمثل النقطة المهمة في أن حقوق السحب الخاصة يتم توزيعها بما يتناسب مع حجم اقتصادات البلدان الأعضاء. لذلك سينتهي الأمر بالبلدان ذات الدخل المنخفض بحصولها على 21 مليار دولار من مجموع 650 مليار دولار تعهدت مجموعة العشرين بدفعها لصندوق النقد الدولي مؤخرا.

    قالت كبيرة الاقتصاديين جوبيناث إن السيناريوهات الاقتصادية في جميع أنحاء العالم تعتمد بشكل كبير على مسار الوباء ومعدلات التطعيم. فالأهم هذا العام، وفقًا لصندوق النقد الدولي، هو تلقيح أكبر عدد ممكن من الأشخاص في أسرع وقت ممكن. سيتم في معظم البلدان الصناعية، الانتهاء من هذه العملية بحلول صيف هذا العام. لكن لن تكون كثير من البلدان النامية مستعدة لذلك حتى نهاية عام 2022.

    طالبت جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية في خطاب ألقته يوم الاثنين 5 نيسان| أبريل 2021 بإقرار حد أدنى لضريبة الشركات على مستوى العالم. إذ ترغب الولايات المتحدة في أن تقوم بلدان مجموعة  العشرين ذات الاقتصاديات الأكثر أهمية في العالم، بمناقشة هذا الموضوع في اجتماعها هذا الأسبوع.

    يرتبط الاقتراح هذا بخطة إدارة بايدن الضخمة المخصصة للبنية التحتية التي خُصص لها 2300 مليار دولار أمريكي والتي سيجري تمويلها من خلال زيادة الضرائب على الشركات الأمريكية. لذلك، يجب رفع ضريبة الشركات في الولايات المتحدة من 21 في المائة إلى 28 في المائة. ويمكن أن يساعد تحديد حد أدنى لمعدل الضريبة العالمي على الشركات في منع الشركات الأمريكية من اللجوء إلى البلدان الأخرى إذا تم رفع معدل الضريبة في الولايات المتحدة.

  على الرغم من أن صندوق النقد الدولي يؤيد تحديد حد أدنى للضريبة على مستوى العالم وفقًا لجوبيناث، فإن هذا يهدف أساسًا لمنع التهرب الضريبي ولضمان قدرة الدول على تمويل نفسها بشكل كافٍ. وأشارت إلى أن التخفيض الضريبي الأمريكي في عام 2017 في عهد ترامب، أعاد عددًا قليلا من الشركات إلى الولايات المتحدة مما كان متوقعًا. على العكس من ذلك، قد تؤدي الزيادة  في الضريبة إلى انتقال أعداد أقل من الشركات خارج الولايات المتحدة.

   بالنسبة إلى هولندا، يقدر الصندوق بأن النمو الاقتصادي سيكون بنسبة 3,5 في المائة هذا العام. وهذه النسبة أكثر بكثير مما توقعه مكتب التخطيط المركزي الهولندي الأسبوع الماضي، والذي جاء عند 2,2 في المائة فقط. علما ليس في الغالب أن تختلف التوقعات كثيرًا فيما بينها.

الترجمة: عن NRC Handelblad, 7 April 2021



26
المنبر الحر / نكران الثقافات
« في: 18:24 05/04/2021  »
نكران الثقافات
د. هاشم نعمة
    نتيجة استمرار تيارات الهجرة في السنوات الأخيرة وخصوصا اللجوء من البلدان النامية ومنها البلدان العربية إلى البلدان الأوروبية، أثار هذا الموضوع الكثير من النقاش في الأوساط الإعلامية والسياسية والشعبية وحتى الأكاديمية وتركز حول اندماج المهاجرين وآفاقه ومعوقاته في مجتمعات بلدان الاستقبال. ومساهمة في إطلاع القارئ على جانب من الأبحاث الأكاديمية الجادة التي عالجت هذا الموضوع، أخترنا تقديم قراءة عن كتاب "نكران الثقافات" لمؤلفه عالم الاجتماع الفرنسي هوغ لاغرانج، ترجمة الباحث سليمان رياشي، والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2016. يقع الكتاب في 399 صفحة.
     يضم الكتاب أثني عشر قسما أو ما يشبه الفصول تتناول إضافة إلى مقدمة المترجم والمدخل الآتي: الصدام وارتداداته في الشمال، الارتدادات في الجنوب، بطالة انتقائية وتمييز، الانحرافات والدراسة والإرث العائلي، العائلات الأفريقية في فرنسا والتقاليد، الجيل الثاني أمام الحداثة، الذكورية والثقافة الفرعية والانحراف، السياسات المناطقية والتنوع الثقافي، السياسات الحضرية والاختلاط الاجتماعي، نشاط النساء والتمكين، الإدراج، خلاصة وملحق.
    يعالج الكتاب مشكلة اندماج المهاجرين العرب والأفارقة والآسيويين في البلدان الأوروبية، خصوصا فرنسا. فهو يعكف، على دراسة وتحقيب الهجرات المتتالية في ضوء حاجة الاقتصاد الفرنسي إلى اليد العاملة الأجنبية خلال فترة الازدهار الاقتصادي التي أعقبت الحرب العلمية الثانية. ويتبنى المؤلف مصطلح "العقود الثلاثة المجيدة" إشارة إلى فترة الازدهار وكذلك فترات الركود وتفاقم مشكلات البطالة وتبدّل المزاج الرسمي والشعبي تجاه الهجرة والمهاجرين، ويتناول بالتفصيل تطورات السياسية الرسمية وفق تعاقب "اليسار" و"اليمين" على السلطة ونقاط التقاطع والفصل بينهما، مشيرا إلى حدود التمايز كلما وجد إلى ذلك سبيلا.
    يشير المؤلف في المقدمة إلى أن الطبقات الشعبية المحلية المهددة بالبطالة وبهشاشة أوضاعها وبتدني مداخيلها وحقوقها التقاعدية، تبدي غضبها الذي يستهدف، من ضمن آخرين، مهاجري الجنوب، فيصبح هؤلاء أكباش فداء ويتلقون مباشرة، عبر ردّات الفعل الكارهة للأجانب، الاحتجاج السياسي الجمعي. علما، في أوروبا، تجلت صدمة العولمة بصعود السياسات الهوياتية وإقفال الحدود وتطوير أيديولوجيا أمنية. وفي العقود الأخيرة، كنا شهودا على تزايد حدة كراهية الأجانب، وعلى تطور حركات شعبوية تنتمي إلى أقصى اليمين. ونما التمييز في الأحياء السكنية مع تزايد الاستقطاب والتمسك بالعادات، وضَعُفَ الاختلاط في الأماكن العامة (ص 23).
     من أجل فهم الإشكالات في أحياء المهاجرين، برز تفسيران في فرنسا. الأول يدّعي أن هذه المناطق قد تكون مسرح تفكك العائلات وتبدل أوجه التضامن التي تتعذر معالجتها من خلال المساعدة الاجتماعية السخية: أزمة في السلطة الأبوية، إفراط في التساهل التربوي، نقص الرغبة في الدراسة، بوصفها عوامل شائعة ناجمة عن ذلك التفكك.
    أما التفسير الثاني فيشدّد على الانطواء على الذات بين المهاجرين القادمين من أفريقيا وتركيا على نحو خاص. إن هذا التفسير يضع في المقدمة خطر الانحرافات الجماعاتية، فيرى فيها بذور الاحتجاج على القانون العام والقيم الجمهورية. ووفق هذا الفهم، فإن هذه الأحياء تخضع شيئا فشيئا للعادات والتقاليد القادمة من مكان آخر والتي تعتبر غير متلائمة مع المبادئ الأساسية للمجتمعات الغربية. وهذا في نظر السكان الأصليين تعبير عن رفض الاندماج لا يمكن التساهل معه: فالجماعات المهاجرة أو المتحدرة عن الهجرة تكون مذنبة لعدم "سلخها ذاتها" عن ثقافتها الأصلية، وبقائها خاضعة لما يُفترض أنه إيعازات صادرة عن عادات وممارسات مناقضة جذريا للمعايير الأولية لمجتمع الاستقبال.
      إن شعور أوروبا بأنها تتعرض لاجتياح الجنوب وجد سنده بالقلق أمام عالم مفتوح، وقد انتشر هذا الشعور وأثّر بشدة في الرأي العام كما في المشرّعين المدفوعين بحرصهم على مراعاة قلق المحيط، فأخذوا بالعبارة الشهيرة لميشال روكار "لا تسطيع فرنسا أن تستقبل كل بؤس العالم"، متناسين القسم الثاني من العبارة "... ولكن عليها أن تعرف أن تأخذ حصتها بنزاهة" (ص 65).
      لقد تطور شيء من جنون الحصار، وأصبحت شنغن(1) شعارا لأوروبا- القلعة، ووافقت الأحزاب كافة، باستثناء أقصى اليسار والخضر، بهذا القدر أو ذاك، على الإقفال التام للحدود(2). وبدل أن يدفع الاتحاد الأوروبي باتجاه السياسات الأكثر تقدما، بات القاسم المشترك الأصغر هو القاعدة. في أيامنا هذه، كما في روما القديمة، هناك دوائر من الهشاشة المتنامية: في المركز هناك وطنيو البلاد، ثم الرعايا الأوروبيون، يليهم المقيمون من خارج الاتحاد الأوروبي، ثم القادمون من خارج الاتحاد وغير المقيمين، ثم طالبو اللجوء...الخ. وفي نهاية الإطار الخارجي، على الحافة القصوى يقف المهاجرون غير القانونيين (الذين من دون وثائق).
     في فرنسا، كان الأجانب الأكثر شبابا حاضرين بنسب مرتفعة في سجلات العاطلين عن العمل في الأحياء الفقيرة. وبصرف النظر عن أصولهم، وصلت معدلات بطالة الشباب إلى نسب تبعث على الدوار في الأحياء الحساسة(3) منذ نهاية الثمانينيات. وهذا يعني في الواقع أن معظمهم متحدرون من المهاجرين.  لقد دفعت العائلات المهاجرة الضريبة الأقسى للانكماش. وعلى الرغم من الإنكار إلا في صفوف اليمين المتطرف، فقد بدأت تُمارس أفضلية التوظيف الوطني بصورة مواربة ولكنها شديدة الوضوح. ففي كل مكان بدأت البطالة تتخذ شكلا مكانيا واثنيا.
     في الأحياء الحساسة يحاول الناس تجنّب الاختلاط الإثنوثقافي أكثر مما يتجنبون الاختلاط الاجتماعي. وبحسب المؤلف، نحن لسنا بمواجهة تمايز كان دائما موجودا بدرجة تقل أو تزيد بين الأحياء الغنية والأحياء الفقيرة، ولكننا أمام رحيل اجتماعي اصطفائي ضّخم الفصل العرقي. إن تحليل الديناميات الديمغرافية للفترة 1990-1999 يظهر ما يتعدى التمزق الاجتماعي: تراجع ديمغرافي في مناطق، وارتفاع نسبة السكان المتحدرين من الهجرة الأفريقية. وفي السين أفال عاشت الأحياء التي شهدت نموا ديمغرافيا قويا بين 1975-1982، المحصلة الأكثر سلبية للهجرة خلال 1990-1999. ومن أصل خمسين تجمعا سكانيا في فال دو سين، حيث أجرى الباحث الاستقصاء، فإن الأحياء التي خسرت سكانا هي تلك الأكثر ازدحاما بـ "المهاجرين".  إذ يجري ترك أحياء الرسامين ميليه وديغاس، والأطباء كلود برنار، وغيرها (ص 132).
    وضع الغوت دور وهو حي شعبي ليس استثنائيا، إنما هو عنوان لحي شعبي في مدينة كبيرة، حيث يعيش الكوادر وأصحاب المهن الثقافية أو الفنية على مقربة من العائلات المهاجرة من أصل أفريقي من دون أن يتشارك أطفالهم المدارس نفسها ولا أمكنة الترفيه نفسها.
  في تقرير عن الشرطة والأقليات سلط جوبار وليفي الضوء على فوارق مهمة مرتبطة بالملبس والمظهر العرقي وبمزيج من الاثنين في عمليات المراقبة على الطريق العام في باريس قريبا من محطات القطار وفي أمكنة العبور الكثيف. أما تحليلات جوبار المنطلقة من أسماء العائلات وعلاقتها بمخالفات الإهانة والتمرد في محكمة مولان، فتظهر تمييزا في إدانات "السود" و"المغاربيين" الذين ينالون عقوبات بالسجن أطول بمرتين تقريبا مما يناله "الأوروبيون" على المخالفات نفسها. وهذا تحيز ظاهر ومهم. لكن هذه الدراسة حول أحكام العدالة لا تظهر تحيزا ثقافيا واضحا في الأحكام عندما يتم الأخذ في الاعتبار الظروف الخاصة بكل وضع: السوابق، المثول أمام المحكمة من عدمه.
    يرسم الفصل المكاني للأجانب بدقة شديدة خريطة اضطرابات عام 2005 في فرنسا، في الواقع لم تكن معنية بهذه الاضطرابات جميع أحياء السكن الاجتماعي ذات النسب العالية من عائلات الأجانب الكبيرة الحجم، أو ممّن هم دون سن العشرين. وإذا اعتمدنا فصل السكان الأجانب في أحياء المدن الحضرية الحساسة، بوصفه مؤشرا للاضطرابات، يمكن أن نستخلص أن احتمال حصول اضطرابات ينخفض إلى النصف في المدن التي يضعف فيها الفصل، ويصل إلى 80 في المئة في المدن التي يرتفع فيها نسبيا مؤشر انفصال سكان الأحياء الحضرية الحساسة عن باقي المدن. ولكن الفصل والعزل لا يستنفدان فهم المصاعب الدراسية وانحرافات الأطفال والمراهقين المتحدرين من الهجرات الأفريقية والتركية.
     يتناقض بقوة توزيع مرتكبي الجنح المفترضين، وكذلك الفجوة في الإنجازات المدرسية في الصف السادس، تبعا لأوضاع الأهل الاجتماعية والمهنية. فالمراهقون الذين يعاني آباؤهم من بطالة دائمة، أو عاطلون عن العمل في أعمار تقل عن الستين عاما، يفوق مستوى انحرافاتهم على نحو محسوس انحرافات أولئك الذين يتحدّر أهلهم من أوساط شعبية غير هشة، بل حتى أولئك الذين آباؤهم من الكوادر المهنية أو من أصحاب المهن الوسيطة. وبعد امتحانات البروفيه(4) في المدارس، فإن أكثر من 30 نقطة من النسبة المئوية، تفصل معدل نجاح أبناء الكوادر والمهن الوسيطة، عن الأطفال الذين يعيش آباؤهم في حال بطالة أو المعلنون أنهم عاطلون أو متقاعدون.   
    يطرح المؤلف فرضية تتعلق بالفروق بين الشبان المتحدرين من الهجرة الأفريقية والهجرة الآسيوية إلى فرنسا، ويتساءل لماذا نحن أمام تضخم الإخفاقات من جهة، وتضخم النجاحات المدرسية والاجتماعية-الاقتصادية من جهة أخرى؟ الجواب معقد، كما يقول. ولكن إذا أخذ في الاعتبار مراهقين قادمين من أوساط اجتماعية متشابهة، يبدو من الصعوبة تجنب أسئلة الدوافع والقيم. ويقول على مستوى التعميم الشديد هذا، نجدنا مرغمين على صوغ فرضية التوجه نحو "النجاح المدرسي" المدعومة ثقافيا لدى الآسيويين. توجه من هذا النوع لا نجده على هذا المستوى لدى الأفارقة. فقد أظهرت دراسات عديدة أن الشبان الآسيويين يستفيدون من عادات عائلية شديدة التضامن، وفي الوقت نفسه شديدة التطلب من كل أعضائها، وهي مؤاتية للنجاح المدرسي (ص 171).   
     أفترض أن الشعور بالمهانة وغياب الاعتراف يكتسبان قوة خاصة، لأن أوجه اللامساواة المرتبطة بالاستحقاق والجدارة في مجتمعاتنا، كما يذكر المؤلف، تقوم على أساس كونها عادلة، بينما النجاح في مباراة المساواة والجدارة مرسوم سلفا جزئيا، بسبب العوامل المورثة: الجنس، الوسط الاجتماعي، والأصل الثقافي. وبقدر تدخّلها باكرا، وتركها حيزا ضيقا لعمل كل فرد، تكرّس اللامساواة الصعوبات المدرسية المبكرة. 
    ارتبطت البطالة الضخمة والانتقائية بمكان السكن والأصول العرقية، حيث انخفضت معدلات النشاط، وازدادت تبعية سكان الأحياء الحسّاسة لتغيير مواقعهم الاجتماعية. كما أن اشتداد الفصل بين بعض مجموعات المهاجرين- وخصوصا المجموعات المغربية والتركية وسود الساحل في أفريقيا من جانب، والسكان المحليين من جانب آخر- قوى التباين في العادات والسلوك. أليس هذا ما يشرح عميقا كيف أن الأحياء الحضرية الحساسة، وكذلك المعازل في المدن الخاضعة للفصل في أمريكا الشمالية قبل ثلاثين عاما، تشكل أماكن تَمركُز الاضطرابات الحضرية.
     تطورت منذ ثلاثة عقود نزعة تجدُّد التقليد في أوساط الجيل الثاني من المهاجرين من أفريقيا الساحل وتركيا والمغرب على نحو خاص. على الصعيد الديني، كما في موضوع الزواج وتصوّر الأدوار ذات العلاقة بالجنس، فإن العديد من متحدري المهاجرين تبنوا مواقف مغرقة في تقليديتها، عابرين في الاتجاه المعاكس طريق جيل آبائهم في سبعينيات القرن العشرين. الشبان ممن هم في حال إخفاق دراسي على نحو خاص، محشورون في توتر مزدوج: إنهم مهمشون وغير موثوق بهم في المجتمع، وعليهم أن يستعيدوا احترامهم لأنفسهم. ومن أجل ذلك عليهم تأكيد ذواتهم في مواجهة المجتمع الذي يحط من قدرهم. وهذا يحرّك فيهم التأكيد الهوياتي والديني(5).
   خلال عقدين أو ثلاثة، نرى أن مدن الهجرة لم تتحول إلى الفردانية الحديثة، بل على عكس ذلك باتت معوقات الحرية فيها مقبولة على نطاق واسع من الجيل الجديد، كما لو كانت أمرا طبيعيا.
   للمقارنة، طور وليام ويلسون القريب من الديمقراطيين، في كتاب له صدر عام 1987، تحليلات كان لها تأثيرا قويا في الولايات المتحدة. لقد رفض فكرة أن الانحرافات في المعازل تحيل إلى تعطل وظيفي نوعي في العائلات السوداء، مع أنه سجل تشوهات قوية فيها. لقد الحّ حينها على واقع أن تفكك هذه العائلات يتم بقدر ما تختفي مواقع العمل في مراكز المدن، حيث يسكن السود الفقراء، وحيث الطبقة الوسطى السوداء كانت تهجر الأحياء الآخذة في التحول إلى معازل. وقد اعتبر التغيرات في بنية الاستخدام عاملا مقررا في تفكك العائلة هذا. وكانت قراءته متركزة أولا على العوامل الاقتصادية (ص 251-252).
   إن السمات الخاصة للمجتمعات الأوروبية التي كانت مضمرة، وقليلا ما كانت مرئية، ولكن الحاضرة حتى في المجتمعات المنسجمة مثل السويد وفرنسا غداة الحرب العالمية الثانية، باتت اليوم منظورة من خلال حضور المهاجرين من ثقافات أخرى.
   في الثمانينيات، حاول اليسار في فرنسا الذي كان في السلطة أن يواجه، وبحق، قضايا البطالة والعجز التربوي والنقص في الاختلاط الاجتماعي في الأحياء. واستهدف وضع القواعد لسياسة تستهدف معالجة هذه النواقص عبر تشجيع مشاركة السكان. وبما يشبه قطيعة شبه جذرية مع التفسيرات التي تركز على البعد الفردي للانحرافات، فإن جزءا من اليسار ركز مبكرا على موضوع الأمكنة، فشار إلى إهمال الأحياء التي يجب النهوض بها، وتوفير أجوبة تشاركية تعتمد تفعيل مسؤوليات القائمين على الأمن والسلامة كافة، ومسؤولي السكن والمدارس، وبطبيعة الحال الشرطة والعدالة. إنها سياسات تعتمد مجموعة مهمة من إجراءات المساعدة على إيجاد الوظائف المخصصة للمناطق المأزومة.
    وبحسب المؤلف هناك العوائق الاجتماعية القوية التي لم نستطع أو بالأحرى لم نرد التطرق إليها في التقارير الرسمية. فسبب الإخفاق النسبي لسياسات المدينة يتمثل برفض الفصل بين أهداف الاختلاط الاجتماعي والاختلاط الثقافي، على ما في ذلك من استخفاف بساكني الأحياء الفقيرة والعائلات المهاجرة وأطفالها. فمع اتساع المسافة الفاصلة والإقصاء يستحيل الدمج (ص 294).
   واحد من عوامل إخفاق التمكين غير ناجم عن عجز في الوسائل، بل عن فقدان ثقة المستفيدين المحتملين الذين لا يشكّلون جزءا من الترتيبات الاجتماعية. وتصدم السياسات المحلية اليوم بارتياب الفاعلين المحليين المنبثقين عن المجتمع المدني، وهو ارتياب يتأتّى من الادراك السلبي المتكوّن لديهم من السياسة الشاملة تجاه مهاجري الجنوب. ويتساءل المؤلف، "هل في الإمكان أن نطور عملية  الاندماج ونحن نشهر في وجه المرشحين للهجرة إلينا تهديدات الإقصاء؟" ( ص 321).
    بقي معدل الامتناع عن التصويت في الانتخابات في مدن المهاجرين قويا. إن نتائج الانتخابات المناطقية لعام 2010 التي تشكل امتدادا لحالة الامتناع عن التصويت في الانتخابات السابقة، يجب أن تُوقظ المجتمع الفرنسي أكثر مما تفعل السياسات المحروقة، كما كتب لوك برونر. فمع معدلات امتناع تتجاوز الـ 70 في المئة من المسجّلين، عبّر سكان الأحياء الحساسة عن شعورهم بأنهم خارج الحياة الانتخابية وخارج النظام السياسي وخارج فرنسا.
    مع نهاية القرن الماضي باتت البلدان الأوروبية، وبدرجات متفاوتة، مجتمعات متعددة ثقافيا وتمتلك قوة محدودة وترى ميزتها المقارنة تخسر وسط عالم متعدد الاقطاب. فهذه المجتمعات لم تعد تمتلك الانسجام الذي صنعه التاريخ من خلال إعادة التشكُّل وسياسات الدمج التعسفية. وحملت الهجرات الحديثة من الجنوب تقاليد متباينة. ويشير المؤلف، نلاحظ في أوروبا خلال العقود الأخيرة ردتَي فعل: تتمثل الأولى بكونها ردة فعل على التحديث الذي تسرّب إلى العادات في عموم القوس العربي-الإسلامي. ويمكن إدراك ردة الفعل هذه، في جزء كبير منها، بوصفها ردة فعل لاحقة على السيطرة الاستعمارية ورفض الصدارة الغربية. أما ردة الفعل الثانية، فتتمثل في حركة انكفاء أخلاقي تنتشر في هذه المنطقة والبلدان الغربية أيضا. وقد تزاوجت هذه العوامل عبر التوترات بين المهاجرين والسكان الأصليين في أوروبا. وفي هذا السياق عفى الزمن على نماذج الاندماج الأوروبية الي شكّلت مرجعية الدولة-الأمة المنسجمة، وكانت حصيلة التاريخ في القرنين الماضيين.
  يرى البعض أن الشبان المغاربيين غير مندمجين، بل يصعبون على الاندماج. ويرى آخرون، على عكس ذلك، وهم صراحة من دعاة التعدد الثقافي، يؤكدون أن الاندماج الثقافي للشبان المتحدرين من هجرة المغرب العربي(6) أمر منجز. ومن أجل دعم هذا التأكيد، يشيرون إلى الموقع الذي لا يمكن تجاهله والذي يحتله الشبان المغاربيون في بعض المجالات مثل الراب والهيب هوب والبريك دانس والكوميديا، وفي ميادين الرياضة، وبدرجة متواضعة في مجال السينما والأدب، حتى لو كان اختراقهم للحياة السياسية وللتلفزيون حديث العهد. ولكن، وفق هؤلاء الكتّاب، فإن الاندماج الثقافي للشبان المتحدرين من الهجرة لا يعني اندماجا كاملا، لأن الأبعاد المختلفة-الاقتصادية والسياسية والثقافية- ليست مترابطة بصورة طبيعية.  ويؤكد د. بيروني أن ما يفصل بين المهاجريين المغاربيين والسكان الأصليين، ليس العجز عن الاندماج الثقافي، بل عن الاندماج الاقتصادي والسياسي (ص 325-326).
    يبدو ضروريا أن نكفّ عن التفكير كما يقول المؤلف باعتبار خصوصيات مجتمع الاستقبال مسألة قابلة للتعميم. فمعاييرنا هي معايير خاصة بالحداثة الغربية، وهي ليست حتى تعبيرا عن العالمية. كما أن المعايير الثقافية للمجتمعات التي قَدِمَ منها المهاجرون لها أيضا خاصياتها. ثم إن الهجرة ليست مواجهة بين مجتمعين، بل مشكلة جماعات وجب عليها عندما غادرت بلدانها، أن تُعيد بناء أشكال جديدة من المخالطة الاجتماعية (ص 360).
   إن ترميم الصلات وتعزيزها بين سكان مدن الهجرة والمؤسسات يفترضان مسبقا اعترافا سياسيا، وبالتالي نقديا. وما يجزّئ المجتمع هو أزمة ثقة المهاجرين بالمؤسسات وبالمواطنين الآخرين. فسلطة الخطاب المعادي للأجانب، وأشكال الأفضلية، وأشكال التمييز، واتساع عمليات التدقيق تبعا للون البشرة (سود) و(عرب)، أمثال فاقعة محفورة عميقا في الممارسات الإدارية. ويذكر المؤلف، يُظهر سلوكنا اليومي أننا لا نريد سكن الأحياء ذاتها، ولا تلقي العلاج في المشافي ذاتها، ولا إرسال أطفالنا إلى مدارس "هؤلاء الناس" ذاتها. والمسافات التي يحتفظ بها السكان الأصليون، بصورة متعمدة بهذا القدر أو ذاك، حيال المهاجرين القادمين من جزر الأنتيل وأفريقيا وتركيا، والذين استقروا في أرضنا منذ أجيال عدة أحيانا، ساهمت فعليا في التقليل من جودة الخدمات، خصوصا المدارس في أحياء المهاجرين. ولن يكون في المستطاع التغلب على هذه العوائق إلا بصورة غير مباشرة، عبر التشجيع، وباتباع سياسة عامة تعير اهتماما للفروق الثقافية، وتطوير نخبة مهاجرة في هذه الأحياء أو في جوارها.
الهوامش
1-   تضم منطقة شنغن حاليا 26 دولة أوروبية، وقد الغت هذه الدول التنقل فيما بينها بجوازات السفر، أي أصبحت دولة واحدة لهذا الغرض، وتعود تسميتها إلى توقيع الاتفاقية في شنغن في لوكسمبورك عام 1985.
2-   حول تناقض السياسة الأوروبية بشأن الهجرة، راجع: محمد الخشاني، "التحولات الديموغرافية في البلاد العربية واتجاهات الهجرة إلى أوروبا"، استشراف للدراسات المستقبلية، الكتاب الخامس (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 30-58.
3-   المناطق الحضرية الحسّاسة، تسمية أُعطيت للأحياء التي كانت موضوع سياسات المدينة.
4-   المقصود امتحانات نهاية المرحلة المتوسطة.
5-   للمزيد راجع: فرايزر إيغرتون، الجهاد في الغرب: صعود السلفية المقاتلة، ترجمة فادي ملحم (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)، خصوصا الفصل الثاني الذي يعالج مسألة اغتراب المهاجرين في بلدان الهجرة، ص 39-76.
6-   للمزيد حول الهجرة من المغرب العربي إلى أوروبا راجع: هاشم نعمة فياض، هجرة العمالة من المغرب العربي إلى أوروبا: هولندا نموذجا، دراسة تحليلية مقارنة (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2012)، ص 26-48.   
   

   

27
مفاهيم نظرية في الهجرة الطلابية
د. هاشم نعمة
 
    الهجرة السكانية قديمة قدم وجود الإنسان، إلا أن نظرياتها تُعدّ جديدة. ففي الخمسينيات من القرن العشرين، انتقلت نظريات الهجرة من النماذج الميكانيكية البحتة إلى نظريات أكثر تطورا. وعلى الرغم من أن كارل ماركس لم ينشر أي نظرية خاصة بالهجرة، فإن أعماله تتضمن مفاهيم مفصلة حول نزوح العمل نحو المدن. كذلك أشار إلى أن البرجوازية (الطبقة الصناعية)، في بحثها عن الأرباح واستخلاص فائض القيمة من الطبقة العاملة ستوسع آفاقها الجغرافية جاذبة بلدان الهامش نحو نظامها باعتبارها مزودا لليد العاملة الرخيصة والمواد الخام، وهذا ما حصل فعلا على نطاق واسع من خلال الاستعمار. إلا أن الملاحظ أن نظريات الهجرة الجديدة اهتمت بالتنظير لهجرة العمالة غير الماهرة، في حين ظلت هجرة الكفاءات تعاني من نقص التنظير وينطبق هذا أكثر على الهجرة الطلابية. ولعل ذلك يعود إلى أن هجرة العمالة غير الماهرة كانت بأعداد ضخمة، بينما ازدادت أهمية الصنفين الآخرين من الهجرة من الناحية الكمية والنوعية في السنوات الأخيرة.

     كانت الحركية الدولية للطلاب، قد ازدادت منذ عام 2000؛ إذ ارتفعت أعدادهم، عالميا، من 2,1 إلى 4,5 مليون، خلال الفترة 2000-2012(1). وثمة اتجاه متزايد للطلاب العرب للدراسة في الخارج؛ إذ أرتفع عددهم من 160,419 عام 1998 إلى 281,575 عام 2011(2) وإلى 323,340 عام 2013(3). نحاول هنا تسليط الضوء على بعض المفاهيم النظرية المتعلقة بالهجرة الطلابية على قلتها.

              ثمة نقاشات نظرية متباينة تحاول فهم الهجرة| الحركية الدولية للطلاب. وقد لخص كلير مايج Clare Madge وآخرون هذه النقاشات في ثلاثة مسارات رئيسة: يرتبط المسار الأول بحركية الطلاب الحديثة من خلال منظور أدب الهجرة، ويكتشف المسار الثاني الهجرة الطلابية الدولية ISM بوصفها جزءا من الحركية الكلية وعولمة التعليم العالي، بينما يركز الثالث على القضايا البيداغوجية التي تنشأ عن حركية الطلاب(4) المتزايدة على المستوى الإقليمي والعالمي.
اُستخدمت نظريات الطرد والجذب لتفسير الهجرة الطلابية. ووفقا لنظرية الطرد، توفرت للبلدان النامية خيارات قليلة بعد نيلها الاستقلال في الستينيات غير بعث الطلاب للدراسة في الجامعات الأجنبية. حينذاك، كان معظم البلدان تعاني من نقص العمالة الماهرة التي تحتاجها للعمل في الوظائف الحكومية، والجامعات، والقطاعات الأخرى. في حين كانت البلدان ذات الحجم السكاني الكبير، خصوصا تلك التي كانت مستعمرات بريطانية، لديها جامعة أو جامعتين عند الاستقلال، ومعظمها لديها عدد قليل من حاملي الدكتوراه، ولا تقدم تدريبا متقدما؛ لذلك، ومن أجل تعزيز التنمية رأت البلدان النامية أن الدراسة في الخارج تعتبر وسيلة لتنمية رأس مالها البشري. ولإنجاز ذلك، استثمرت الكثير في منح الدراسات العليا في الستينيات لتمكن الآلاف من مواطنيها من دراسة المرحلة الثالثة في بلدان الشمال.
   في نهاية السبعينيات، برزت أدلة متنامية تشير بأن كثيرا من الطلاب الذين تمتعوا بالمنح الدراسية لم يعودوا إلي بلدانهم الأصلية بعد إكمال دراستهم. النتيجة، تنامي القلق بأن الدراسة في الخارج باتت"تستنزف" قادة المستقبل من البلدان النامية(5) بما فيها العديد من البلدان العربية ومنها العراق.
             هذه النتيجة تتوافق مع اُستخدم الاقتصاد السياسي، على نحو واسع، لتحليل هجرة الطلاب باعتبارها نزيفا للعقول خلال الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. إذ يُنظر إلى الطلاب على أنهم يمثلون بوادر الهجرات الماهرة؛ حيث إن لتحركاتهم تأثيرات أكبر من مجرد اشتراك عدد منهم فيها. ويُنظّر هذا المنهج لكل من مكان الإرسال والاستقبال بالتزامن، وضمن الإطار التحليلي ذاته. إذ يربط التفاوت البنيوي الذي يدفع إلى الهجرة أماكن الإرسال والاستقبال، ربطا عضويا. ويمتد هذا التفاوت إلى الماضي، ويستفيد من التكوين التاريخي، خصوصا من السيطرة الاستعمارية؛ حيث يتوجه طلاب المستعمرات السابقة إلى البلدان التي كانت تمثّل مراكز الإمبريالية، وهذه الحالة تديم التفاوت الذي نشأ خلال الفترة الاستعمارية. لذلك، يناقش بيتر كيل Peter Kell وجيليان فوغل Gillian Vogl بأن القوى الاستعمارية السابقة، استخدمت هذه الارتباطات مصدرا للطلاب الدوليين للحفاظ على هيمنتها، وعلى تبعية جديدة للمستعمرات السابقة؛ إذ يأتي كثير من الطلاب، الذين يختارون الدراسة في فرنسا مثلا، من البلدان الفرانكفونية، والتي كانت مستعمرات فرنسية(6)، كما هي الحال بالنسبة إلى بلدان المغرب العربي.
               كذلك عولجت الهجرة الطلابية العابرة للحدود الوطنية، أيضا، من خلال الاتحادات الطلابية العابرة لهذه الحدود، والتي توفر الصلات على المستوى المحلي، وعلى مستوى الشتات، وظلت قيد البحث باعتبارها وحدات من الهجرة العابرة للحدود الوطنية، وجهات فاعلة سياسيا عبر هذه الحدود. تدمج هذه الاتحادات الفضاءات الاجتماعية المتعددة في الحرم الجامعي، وهي تسمح بملاحظة كيفية تشكل التوجهات المختلفة وديناميات السلطة أو النفوذ ما أسمته سيلا بن حبيب  Seyla Benhabib الخطابات العابرة للحدود لتكرار الديمقراطية(7)؛ أي إمكانية  نقل التجارب الديمقراطية من البلدان المتقدمة إلى بلدان الأصل عبر الهجرة الطلابية. وهذه مسألة يتداخل فيها الكثير من العوامل البنيوية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تخص مجتمعات الأصل، ولا يمكن النظر إليها بهذه البساطة.
    من جانب آخر، حللت دراسات الحركات الاجتماعية، الاتحادات الطلابية كعوامل سياسية مؤثرة في مقاومة الطغيان والاضطهاد في سياقات جيوبولتيكية مختلفة. وسلط علماء الهجرة الضوء أيضا على التأثير الإيجابي للطلاب المهاجرين في العملية الديمقراطية في بلدانهم الأصلية.
    يمثّل رسم خريطة خطابات الاتحادات الطلابية العابرة للحدود الوطنية بشأن الديمقراطية، ومتابعة نتائجها تحديا منهجيا. وأثبت البحث أن المهاجرين يعززون نقل الديمقراطية على المستوى غير السياسي. ومن خلال عمليات التبادل المنظر لها في أدب التحولات الاجتماعية، فإن هذا التواصل يمكن أن تنتج عنه تأثيرات متعددة وبعيدة المدى(8) في بلدان الأصل.   
    عندما يناقش منظرو رأس المال البشري المحفزات الكامنة لقرار الهجرة، يشيرون غالبا إلى أن التعليم يفتح العالم للأفكار ولفرص التقدم. ووفقا لهؤلاء، يُنظر إلى الهجرة باعتبارها حسابا اقتصاديا مصمما لتعزيز وزيادة كامل إمكانيات المهاجر، إلى الحد الأقصى، خصوصا باستخدام المهاجر للتحصيل الدراسي، ومستوى المهارة والعمل لكسب أجور أعلى، ومن ثم تحسين مستواه المعيشي. هذا الإطار يفترض أن العمالة العالية المهارة تنجذب نحو العمل في المراكز الصناعية والاقتصادية، حيث الوظائف مضمونة نسبيا، مقارنة بحالة عدم الهجرة. إذ يجلب التعليم باعتباره رأس مالا بشريا عائدا كبيرا إلى الذين يمارسون مهاراتهم خلف الحدود(9).
     لكن لا يعمل معظم المهاجرين بشكل طليق عالميا، حتى أولئك المتسلحين برأس المال الاقتصادي والبشري المهمين، إذ تتشكل وتتحدد أعمالهم واختياراتهم من جانب العلاقات الاجتماعية، إضافة إلى السياقات الثقافية والسياسية-الاقتصادية التي تؤطر حياتهم. حيث يبقي كثير منهم على شبكات اقتصادية واجتماعية قوية عابرة للحدود، ويتواصل بشكل متكرر ويسافر إلى بلده الأصلي خلال دراسته في الخارج(10).
    يشير العلماء إلى أن الدراسة في الخارج تمثّل إستراتيجية مهمة للحركية الاجتماعية، والهيبة، والتقدم الوظيفي عالميا، بالنسبة إلى كثير من العائلات الآسيوية. إلا أن وجهة النظر هذه تختلف بعض الشيء عن السياق الأوروبي الذي يقترح بأن المحفزات الأصلية للدراسة في الخارج تتراوح بين ممارسة الفردانية عبر التجربة الشخصية، والبحث عن الغنى الثقافي واكتساب مهارات معينة مثل التمكن من اللغات أو الرغبة بالسفر.
     تم التركيز قليلا في الأبحاث المعاصرة على قرارات الهجرة، إذ جرى التركيز أكثر على الحركية الدولية للطلاب بعد حصولهم على الشهادة الجامعية، والانجاز المهني المبكر للعلماء. وقد أكد البحث إن الروابط الاجتماعية مثل الشراكة والأبوة أو الأمومة يمكن أن تكون مؤثرة للغاية في قرارات الحركية المرتبطة بتحقيق الانجاز المهني؛ إذ يكافح كثير من الباحثين الشباب للموازنة بين رغبتهم في تحقيق الإنتاج العلمي الأفضل ووضع عائلاتهم وحياتهم الشخصية(11).
    يمكن أن تتباين الهجرة الطلابية تبعا لعدد من الموجهات التي تساعد في فهم تنوع أنماطها. وتتمثل واحدة من القضايا الاصطلاحية المثارة، في ما إذا يمكن التمييز بين "هجرة" و"حركية". إذ من المؤكد، ينزع الأدب والنقاش السياسي بصفة متزايدة في أوروبا، لتفضيل المصطلح الأخير. على اعتبار أن الحركية تلقي الضوء أيضا على الحركة المتضمنة بالهجرة، بدلا من التمييز بين أماكن الإرسال والاستقبال ووجهات نظرهم(12).
   أخيرا، تبقى الدراسة في الخارج ضرورة معرفية وعلمية، للاستفادة منها في نقل المعارف والخبرات الجديدة على أن تكون ذات منافع متبادلة، وأن لا تكون على حساب استنزاف كفاءات البلدان النامية. وعلى الأخيرة أنجاز تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عميقة كي تكون مركز جذب لطلابها الدارسين في الخارج.
    نظرا لتنوع أصناف الهجرة الطلابية وتعقد مساراتها في ظل العولمة، فهي تستدعي توجيه المزيد من الجهد العلمي المستمر على مستوى الجامعات ومراكز الأبحاث للتعمق في البحث والتنظير لإنتاج ما هو جديد لفهم وتفسير آليات عمل هذه الظاهرة بشكل أفضل.
الهوامش
1- OECD, International Migration Outlook 2014, pp. 26-30.
2- Samia Satti O. M. Nour, Migration of International Students and Mobilizing Skills in the MENA Region, Working Paper Series (Maastricht: 2014), p. 11.
3- الإسكوا والمنظمة الدولية للهجرة، تقرير حالة الهجرة الدولية لعام 2017، الهجرة في المنطقة العربية وخطة التنمية المستدامة لعام 2030 (2018)، ص 44-45.
4- Russell King & Parvati Raghuram, “International Student Migration: Mapping the Field and New Research Agendas,” Population, Space and Place, vol. 19, no. 2 (March| April 2013), p.128.
5- Mary M. Kritz, “International Student Mobility and Tertiary Education Capacity in Africa”, International Migration, vol. 53, no. 1 (2015), pp. 31-32.
6- Parvati Raghuram, “Theorising the Space of Student Migration,” Population, Space and Place, vol. 19, no. 2  (March| April 2013),  pp. 144-145.
7- Tamirace Fakhoury, “Transnational Immigrant Narratives on Arab Democracy: The Case of Student Associations at UC Berkeley,” International Migration, vol. 53 no. 3 (2015), p. 10.
8- Ibid., p. 10.
9- John A. Arthur, African Diaspora Identities: Negotiating Culture in Transnational Migration (Lanham: Lexington Books: 2010), pp. 42-43.
10- Kate Geddie, “The Transnational Ties that Bind: Relationship considerations for Graduating International Science and Engineering Research Students”, Population, Space and Place, vol. 19, no. 2, March| April (2013), p. 198.   
11- Ibid., p. 199.
12- King and Raghuram, p. 129.   

 


28
العشيرة والدولة في بلدان عربية وإسلامية

  د. هاشم نعمة
   أثارت موضوعة العلاقة بين العشائر| القبائل والدولة خصوصا في البلدان النامية ومنها العربية الكثير من النقاش في أوساط الباحثين والأكاديميين والكتاب في السنوات الأخيرة، وذلك في ظل العودة القوية للانتماءات الفرعية القبلية والإثنية والدينية والطائفية التي شهدتها بلدان عربية ومنها العراق. وفي محاولة للتعرف على جانب من هذه النقاشات اخترنا تقديم قراءة عن كتاب "العشيرة والدولة في بلدان المسلمين"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2019. يضم الكتاب أحد عشر بحثا قيما كُتبت بمنهج أكاديمي، لمجموعة من الباحثين العرب والأجانب، وتندرج البحوث في قسمين: الأول، العشائر| القبائل، الإسلاموية والدولة، ويضم ثلاثة بحوث، والثاني، العشائر والقبائل في مناطق النزاعات، ويضم بقية البحوث. الكتاب من تحرير وإشراف الدكتور هشام داوود، وترجمة رياض الكحال ونبيل الخشن ومراجعة سعود المولى. ويقع الكتاب في 336 صفحة.
     يشير داوود في المقدمة إلى أن الكتاب يطمح إلى تقديم توصيف خصوصي لكل حالة تندرج ضمن الإطار العام المذكور، وهو كتاب مؤلف بطريقة تسعى إلى الإضاءة، والإضاءة هنا ضرورية وغير مسبوقة، على بعض جوانب المسألة العشائرية في المجتمعات العربية والإسلامية المنخرطة اليوم في صراعات ونزاعات عنيفة. عمل الكتاب بداية على تحليل العشيرة| القبيلة بوصفها بنية مجتمعية سياسية، وعلى تبيان على ماذا تقوم "استمرارية" هذا الثابت العشائري و| أو تبيّن أنه كان على قطيعة مع ما عرفناه منه في القديم. ثم انصب الاهتمام على تحليل العلاقة بين العشائر| القبائل والدول من جهة، وبينها والحركات الإسلامية المحلية والعالمية من جهة ثانية.
                                             العشائر| القبائل والدولة
    شجعت القوى الاستعمارية في المغرب والسودان الهويات القبلية بشكل رسمي، ونجحت بشكل بارع في تشكيل إدارة عشائرية بهدف كبح جماح الحركات الوطنية. وبنتيجة ذلك، فإن الحكومات التي تشكلت في تلك البلدان بعد نيلها الاستقلال أعلنت قطيعة أيديولوجية مع الماضي الاستعماري بحلّ العشائر| القبائل بصفتها ترتيبا إداريا. مع ذلك، احتفظت الهويات العشائرية بأهميتها السياسية على الصعيدين المحلي والإقليمي.
   قد تكون العشيرة| القبيلة في بعض الظروف المعاصرة عنصرا مؤسسا يحفظ هوية وطنية عصرية وليس ذخيرة من الماضي فحسب، أو أثرا بدائيا للتنظيم الاجتماعي، كما يشعر أبناء المدن العرب غير المتحدرين من شبه الجزيرة العربية. وقد تعايشت عشائر الشرق الأوسط إما مع السلطة الملكية أو الدولتية، وإما استُخدمت كممالك معارضة. وشكل زعماء العشائر| القبائل في الماضي أحيانا سلالات ملكية في الشرق الأوسط، لكنها مع ذلك لم تكن تُدار بحسب المبادئ العشائرية.
    تستند دول عدة حاليا كما في السابق إلى العشائر بدل معارضتها. فقد أكد معمر القذافي أنه صاغ هويات ليبية جديدة. مع ذلك، فإن المنظومة السياسية والأمنية في ليبيا ارتكزت دائما على التوازن بين جماعات قبلية، تماما كما كانت عليه الحال في عهد الملك إدريس السنوسي  (حكم 1951-1969) ومن سبقه في الحقبتين العثمانية والاستعمارية.
   يذكر ديل ف. إيكلمان أسر لي وزير خارجية دولة في شبه الجزيرة العربية، بأنه فخور بمنشئه في مجتمع عشائري، وبأن موظفي وزارته هم في أغلبيتهم من العشيرة نفسها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الوفد المرافق لتنقلات ملك الأردن في الخارج؛ ففيه تمثيل للعشائر الأردنية الرئيسة والحمولات الفلسطينية والأقليات العرقية والطائفية للبلد.
    دافع محمد سياد بري (الذي حكم الصومال بين 1969-1991) وصدام حسين (الذي حكم العراق بين 1979-2003) عن القوانين التي تمنع أن يذكر أمام الملأ العشيرة| القبيلة والهويات العشائرية| القبلية للفرد، مع أنهما بقيا طوال عهديهما مدركين بعمق أهمية تلك الروابط.  ص 24 وقد عاد الأخير لإنعاش هذه الروابط فيما بعد كما سنرى لاحقا.
    قضى المرجع محمد صادق الصدر (1943-1999) وقتا طويلا في العمل مع عشائر جنوب العراق(1)، وفي التوفيق بين العرف العشائري والشريعة (يُنظر كتابه: فقه العشائر). وفي رأي بارام، "كان ذلك مقاربة منه لتقوية سنده الشعبي أكثر من كونه حركة دينية"(ص 33).
    ربما كانت العشائر أكثر مناعة إزاء الحركات الدينية الأصولية. وكما لاحظ أندرو شرايوك، فإن العشائر الأردنية ما دامت تربط الإسلاميين بالفلسطينيين، فإنها لن تتأثر بالتطرف الديني. وعلى الرغم من الجهود المبذولة من بضع جماعات دينية، خصوصا الأخوان المسلمين، لتكييف البنى العشائرية والعمل ضمن تلك البنى، تبقى العشائر الأردنية منيعة نسبيا من تأثيرهم. في ما يعتقد بأنه الصورة الإجمالية الأكثر كمالا حول عشائر العراق المعاصر. تتوافق هذه النتيجة تماما مع دور الزعماء العشائريين| القَبَليين في مناطق أخرى من العالم وتلمح للأهمية المحدودة التي توليها الأوساط العشائرية للزعماء الجهاديين.
    إذا كانت القبائل والسلطة القبلية في إيران قد تزعزعتا بشكل قوي ومنظم في القرن العشرين ما قبل الثورة، فإنهما تلقيان في الأقل انبثاقا موقتا منذ الثورة الإيرانية. لن تُضع السلطات الثورية من جانبها فرصة، عن قناعة أو عن حذر، لمدح القبائل، وذهب الخميني إلى درجة وصفهم بـ "كنوز الثورة" و "ذخائر الثورة" (ص 49).
    لم يدم مع ذلك شهر العسل هذا سوى مدة من الزمن، بحسب جان بيير ديغار. فبعد عشرين عاما من تأسيس الجمهورية الإسلامية، تم توطين بدو إيران الرحل بشكل شبه كامل -والكثير من تنقلاتهم قد استُبدل بحركات انتجاع لقطعان الماشية يرافقها الراعي فحسب- ونزع عنهم الطابع القبلي، بعد تدمير مؤسساتهم التقليدية بشكل شبه كامل أو إهمالها.
    في الجزائر لا تتمتع أشكال التنظيمات القبلية (عرش، قبيلة) سوى بوزن هامشي في الحياة السياسية، وتمثل أنواع التنظيمات العشائرية الأقلية في الجزائر حاليا؛ والمجتمع الجزائري هو مجتمع خال من العشائرية في أغلبه. إن السياسات الاستعمارية (حرب، نزع الملكيات العقارية، بروليتاريا) وسياسات ما بعد الاستقلال قد أدت إلى اختفاء القبائل في مقاطعات الشمال، بينما لا تزال أشكال التنظيم العشائري موجودة في المناطق الجنوبية وهي مناطق قليلة السكان.
    خلال حقبة الحزب الواحد (جبهة التحرير الوطنية) من عام 1962 إلى عام 1989، بقيت الخطابات الأيديولوجية مبهمة نوعا ما في ما يتعلق بالقبائل في الجزائر. كانت ترفض فكرة أن شعب الجزائر هو شعب قبلي، لكن "القيم القبلية" كانت توسم بالكمال المثالي، أو بشكل دقيق، القيم الاجتماعية التي كانت تُنسب إلى التنظيم القبلي. ففي اجتماع سياسي عام 1968، صرح الرئيس هواري بومدين بأن جزائر القبائل لم تكن سوى ابتكار استعماري.
    في شباط| فبراير 2004، وضعت يومية وهران في عنوان رئيس أن قبائل تيديكلت تدعم الرئيس بوتفليقة. وفي شباط| فبراير 2005، وفي ملف لمجلة الإكسبرس خاص بالشبكات في الجزائر، يرد هذا المقطع "ليذهب إلى الجحيم من لا توجد عنده قبيلة يتكئ عليها!" (ص 64).
   في الحقيقة، لا يعني اعتماد الأشخاص لمرجعية العالم القبلي بأن هذا الأخير موجود بشكل ملموس. لكن الاستخدام العام لتلك المفردات يحضّ على الاعتقاد بأنها في آن واحد جواب لأسباب خيالية وملموسة. يؤدي هذا الإقرار بالنتيجة إلى التساؤل عن أسباب استمرارية أو تذكية مشاعر الانتماء القبلي. إن تنشيط حجة القبيلة يظهر بشكل خاص في ظروف انتقالية محددة، لإرساء أشكال من التعبئة الجماعية، وإعطائها الشرعية. ولا يترتب على ذلك أن القبيلة تبدي تعبئة سياسية دائمة.
   ويذكر يزيد بن هونات، ليست الجزائر البلد الذي تتمتع فيه القبائل بوزن على الساحة السياسية، على الرغم من مقدرتها على ذلك محليا في مناطق السهول العالية والمناطق الصحراوية. إذ تبقى الحقيقة العشائرية مختلفة تماما عن تلك التي تتناقلها وسائل الإعلام.
                                        العشائر والقبائل في مناطق النزاعات
   في أفغانستان، لم يكن الدخول في الحرب الأهلية اعتبارا من عام 1979 يدل على "عودة القبلية"، بل إنه شجع على بروز نخب جديدة استمدت شرعيتها من الإسلام أو من القومية العرقية. تعتبر الحرب ناقلة للتسييس: لم تكن تدار الحرب من زعماء القبائل بل بشكل أساسي من علماء دين يرأسون أحزابا سياسية وقادتهم الميدانيين. في المحصلة، كان دور القبائل في الاضطرابات السياسية خلال السنوات الثلاثين الماضية محدودا، وأي تاريخ معاصر لأفغانستان يعتبر القبيلة لاعبا مرجعيا في اللعبة السياسية هو تاريخ لا سند له بحسب جيل دورونسورو.
    تتشكل النواة الأولى لطالبان من الملالي، الذين كانوا غالبا في المدارس نفسها وتناهض أيديولوجيتهم الأصولية القانون القبلي. وخلال الفترة التي كانت فيها طالبان في السلطة (1996-2001)، كانت علاقاتها بزعماء القبائل سيئة عموما. ويلاحظ أن أشكال التضامن المحلي داخل طالبان هي أكثر تعبوية من الانتماء إلى إثنية البشتون في حد ذاتها. وقد شكلت طالبان مجموعات محاربة من قبائل مختلفة، وكانت تعير أهمية للخريطة القبلية والعرقية لتوسيع نفوذها.
    حاولت الولايات المتحدة -أسيرة الإدراك الخاطئ للقبائل- استخدام هذه الأخيرة ضد طالبان، لكن ما يمكن أن يبدو اعترافا أو تدعيما للسلطة القبلية، يعمل في الواقع كتبعية تؤدي في نهاية المطاف إلى تدمير النظام القبلي. في الواقع، تُفرض هذه المحاولات على القبائل التي لا تستطيع التشكيك في ممثلي الدولة، ولا معارضة طالبان. لكن سواء عادت طالبان إلى كابل أو أن حلا سياسيا آخر برز على السطح بعد مغادرة قوات التحالف، فإن موقع القبائل في اللعبة السياسية لن يكون إلا هامشيا، وبشكل أساس كشبكة تضامن في المؤسسات أو كلاعب في ألعاب سياسية محدودة جدا.
   في باكستان، إن دعم كامل القبائل تقريبا لعناصر القاعدة بشكل فاعل أو سلبي قد شكل عنصرا ظرفيا مواتيا لحركة طالبان على اعتبار أن عناصر القاعدة كانوا يحظون بمكانة الضيوف. إن الانحياز إلى الطرف الضعيف من وجهة نظر البشتون يقوي الإحساس بالشرف عند الفرد.
    أعاد المجتمع القبلي هيكلة نفسه حول المقاتلين الذين نجحوا حيث أخفقت الحكومة والمؤسسات التقليدية، وتوصلوا إلى إرساء جيوب سلطة بديلة. لقد راهنوا على غضب الجماهير إزاء الفوضى العامة والجريمة وأصبحوا بذلك سلطة أخلاقية بديلة. لقد استُبدلت البنية القبلية ببنية دينية مفروضة، هي نفسها مبنية على تفسير محلي للشريعة التي تولي أهمية كبيرة للعرف السائد محليا. لقد أسس طالبان باكستان مراكز بديلة للإدارة القضائية وفض النزاعات، ودفن دور الأعيان القبليين حين أعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية جنوب وزيرستان في آذار| مارس 2006.
     لقد نُقِض العقد الاجتماعي القبلي، ويعتبر أفول الأعيان المحليين أحد التغييرات الرئيسة في المناطق القبلية المذكورة. فمنذ عام 2004، اغتيل عدة مئات من الأعيان المحليين في وزيرستان بسبب الاشتباه فيهم بالتجسس لمصلحة الولايات المتحدة أو الحكومة الباكستانية، وغادر كثيرون المنطقة ولجأوا إلى المدن. ويؤكد أفراد نخب البشتون الذين يرفضون قبول التغيير الاجتماعي بأن النسيج الاجتماعي القبلي لا يزال على حاله، وسيعاد العمل به حين يتم التخلص من طالبان. تجسد هذه النخبة القيادية فكرة الإبقاء على نظام يفاقم الفقر ويحرم الشعب من نيل فرصته في الارتقاء الاجتماعي. وبحسب مريم أبو ذهب، يمثل الجهاد في نظر الشباب القبليين المهمشين وسيلة لتطوير السلطة الحالية التي لا يمكن تقويضها في رأيهم بطريقة أخرى.
   في اليمن، بغض النظر عن الادعاء بالانتساب إلى سلسلة النسب البعيدة -التي هي بلا شك "وليدة الخيال" إلى حد بعيد- فإن النظام القبلي اليمني يبدو أقل تأثرا "بعلاقات الدم" منه إلى الانتماء إلى إقليم جغرافي محدد لم تتطور حدوده في نهاية المطاف إلا قليلا خلال قرون عديدة. يلاحظ بول دريش في هذا الصدد مدى غياب خطاب الغزو عند القبائل اليمنية. ومن ثم يشكل استقرار الإقليم وما ينجم عنه من استقرار لأسماء الأمكنة خاصية يمنية تمنح علماء الآثار والتاريخ معلومات قيمة.
   وعلى الرغم من استناد القبلية إلى قانون شديد الترابط يسمح بالإجابة عن حالات عديدة، فإنها تبقى من وجهة نظر عدد لا بأس به، مرتبطة بـ "الفوضى" وغياب النظام. في هذا الخصوص، تبقى الخطابات السائدة للدولة مزدوجة المعنى وتجعل من القبيلة مصدر عجز السلطة عن السيطرة على أراضي البلاد وتأمين الخدمات العامة لمواطنيها، في الوقت الذي ساهم فيه النظام باستمرارية المتغير القبلي في النظام السياسي.
   في هذا المنحى كانت الاستمرارية بين نظام الإمامة السابق، الذي كان هو أيضا رهن حماية القبائل إلى حد بعيد، والجمهورية واضحة. إن انحياز تلك القبائل القاطنة في المرتفعات إلى جانب الجمهورية خلال الحرب الأهلية هو الذي منح الاستقرار للنظام المؤسساتي ورسخ النظام الجمهوري في الستينيات. منذ ذلك الحين، تم إدراج البنى القبلية، أو في الأقل بنى القبائل القاطنة في المرتفعات، في النظام السياسي، مستفيدة من نظام زبائني تطور خلال عهد علي عبد الله صالح. وبعيدا من تقدمية سلفه إبراهيم الحمدي الذي اغتيل عام 1977، أو النظام الاشتراكي لليمن الجنوبي الذي جعل من النخب التقليدية تجسيدا للتخلف، دعم صالح مباشرة البنى القبلية.
    إذا، يتحمل القادة السياسيون من دون شك، وفي طليعتهم صالح قسطا من المسؤولية في استمرار تلك الصورة. لم يتوقفوا قط في الواقع عن استخدام القبائل وتحويلها إلى وسطاء ورهانات لسلطتهم في آن واحد. ففي لقاء شهير خصصه لمجلة أسبوعية سعودية عام 1986، أكد صالح: "تشكل الدولة جزءا من القبائل، وشعبنا اليمني هو تجمع قبائل" (ص 124). لقد وضع بهذا الشكل متغيّر القبيلة في صلب هوية بلده.
    مع ذلك، لا يمكن اختزال المجتمع اليمني بمجرد ديناميات دولة ذات نظام جمهوري تستغل القبائل وتستغلها القبائل؛ تلك القبائل المتحدرة بشكل أساسي من مرتفعات اليمن الشمالية الغربية. إذ، إن هيمنة هذه المناطق القبلية على باقي المناطق ليست كاملة. على الرغم من غياب الإحصاءات الجدية حول الموضوع، فمن الممكن أن لا يخص الواقع العشائري في النهاية سوى أقلية عددية. فمن الحجرية في جبال تعز حتى المناطق الحضرية مثل عدن وصنعاء مرورا بحضرموت وتهامة، هناك بنى أخرى راسخة تستحق من دون شك أن يوليها الباحثون عناية أكبر.
    لقد تراجعت المرجعية القبلية إلى حد بعيد، لأسباب تاريخية وديمغرافية، في اليمن المنخفض حول مدينة تعز وفي عدن وريفها. إذ، شجعت الهجرات الداخلية والخارجية إلى منطقة تعز المزدحمة بالسكان، وإلى الحجرية، على نشوء أشكال بديلة للتنظيم، وعلى تكوّن الهويات المحلية حول وحدات حضرية صغيرة.
    هناك علامة أخرى على أزمة الزعامة القبلية، إذ لم تضع انتفاضة عام 2011 المناوئة لنظام صالح الشخصيات القبلية البارزة في الواجهة. فوجدت تلك الشخصيات نفسها تلهث وراء الانتفاضة، أو تحاول أن تجير لمصلحتها حركة بدأها شباب المدينة بشكل أساسي. ولم يلق اقتراح الوساطة في آذار| مارس 2011 الصادر عن صادق الأحمر شيخ مشايخ حاشد أي صدى حقيقي وهذا له مدلوله. وهكذا فالمجتمع اليمني ليس قبليا فحسب، بل متأثر أيضا بالدرجة نفسها بمراجع عدة متعلقة بالهوية، لا تنافس أو لا تلغي بعضها بعضا بالضرورة، وإنما تزيد من تعقيده وغناه، كما يشير لوران بونفوا.
     في ليبيا، كان نظام القذافي يعمل وفق صيغة تستبعد كل أشكال المأسسة، إذ لجأ النظام، من أجل شرعنة سلطويته الشعبية وشخصنته، إلى تطوير خطاب معاد للدولة وترويج ثقافة تحدي الدولة. كان هذا المفهوم النافي للدولة يُستكمل ويُسوغ بإشادة ملتبسة بالقبيلة، تزدري في الوقت نفسه الحقائق القبلية التي تنتقد بأنها بالية. وفي الممارسة العملية، كان أدوات التحكم المؤسساتية وتفكيك هيكليتها يعوض، جزئيا، بتسليم وسائل الاتصال بالسكان والتفاوض معهم لجهاز قبلي، تناط به بهذه الطريقة وظيفة سياسية غير مسبوقة على هذا المستوى. وبهذا فإن تفكيك هيكلية أدوات التحكم المؤسساتية والاستعانة بأدوات مستمدة من الواقع القبلي كانت العناصر المكملة لإستراتيجية هيمنة غرضها تحاشي المجتمع المدني، بحسب علي بن سعد.
   عند اشتداد موجة الاحتجاج التي اجتاحت تونس ثم مصر، تحدث القذافي عن الهوية القبلية كنقيض للمجتمع المدني. ففي 28 كانون الثاني| يناير 2011، أعلن القذافي في خطاب متلفز "إن مفهوم المجتمع المدني غير قابل للتطبيق في ليبيا". فليبيا طبقا للقذافي، "مدنية بالكامل" على عكس الغرب حيث يتميز "مجتمع حكومي رسمي عن مجتمع مدني (يتشكل) من مؤسسات غير حكومية" (ص 182).
    شكل كثير من الشبان المثقفين، الذين درسوا في الخارج أو الذين قدموا خصيصا من بلاد الشتات كي ينظموا إلى حركة الاحتجاج، إطار الحركة وواجهتها في أثناء شهورها الأولى. وحين فُرض على السكان طريق الكفاح المسلح، ظلت الحركة الثورية تنظم على قاعدة خليط اجتماعي واسع لا وزن فيه للأصل قبلي، كما يشهد على ذلك تشكيل الكتائب، وهي وحدات مقاتلة ثائرة ذات مستوى يماثل السرية.
   بينما يدفع عدم اليقين الليبيين إلى الرجوع إلى البنى القبلية وبنى الجماعات، بما يشمل الرجوع إليها مع إعادة بنائها، تظهر الكيانات المحلية في يومنا هذا على الأرض كأجهزة وحيدة للإدارة. وقد فرضت نفسها على هذا النحو لأن الهبة الشعبية كانت بفعل عمليات تعبئة متفرقة على أساس مناطقي، لم يترك لها التدخل الأجنبي، السريع والقوي، وقتا كافيا كي تتحد. وتحاول هذه الكيانات، أن تموقع نفسها، وأن يكون لها وزن لدى حكومة طرابلس الجديدة. ويؤدي هذا الوضع من عدم اليقين ومن إعادة التشكيل غير المستقرة للحقل السياسي والاجتماعي إلى زيادة حدة التنافس بين الجماعات من أجل الوصول إلى قنوات السلطة الوطنية مستعينة في ذلك بتعبئة الانشقاقات الفئوية التي كان نظام القذافي يستخدمها.
    في العراق، لم ينجح التحديث في إزالة العشيرة من المشهد الاجتماعي والثقافي(2)، مع أنه أضعف العشيرة وأرغمها على التراجع إلى المقام الثاني، بحيث وجدت نفسها محرومة من دورها السياسي. ولم تكن الدولة العراقية تتقبل إخضاع الفرد سياسيا لبنى أخرى غير الدولة ذاتها.
    مع الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، كان الملاحظ أن الطابع العشائري يعاد فرضه من فوق (أي من السلطة) على المسرح السياسي والاجتماعي. وكان ضم الأفراد إلى عدد من أجهزة الدولة ووحدات النخبة من الجيش يجري أساسا بمراعاة الأصول العشائرية والجهوية، إلى حد أن وحدات عسكرية وأجهزة شرطة واستخبارات أصبحت متطابقة على نحو تام تقريبا مع العشيرة. ولئن كانت الستينيات والسبعينيات قد تزامنت مع مرحلة إخضاع العشيرة للدولة والتي أطلق عليها هشام داوود "دولنة العشائر"، فإن الثمانينيات والتسعينيات دشنت "إعادة عشرنة الدولة" (ولا سيما في وظائفها الإكراهية). وقد رافق هذا المنحى الاجتماعي-السياسي عامل ذو مغزى، هو نشر أدبيات كثيرة ذات طابع نصف علمي، في عهد صدام حسين من أجل الإشادة بدور العشائر.
    في الحقيقة، اعتُرف علنا بدور العشائر وشيوخها أثر غزو الكويت وانتفاضة 1991. ولئن كانت الثمانينيات مؤشرا على عودة العشائر إلى المسرح السياسي، فإن ذلك لم يكن يسمح بعد بتأكيد أن الواقع العشائري كان يحدد بنية الشأن العام. وقد كانت التسعينيات، مرحلة الانتقال الرمزية التي كان شيوخ العشائر خلالها يقدمون الولاء لصدام حسين، هي الحقبة التي شكلت فيها العشائرية الركيزة الرابعة لنظام البعث، بعدما أضيفت إلى نوع من الإسلام المسيس وإلى العروبة والماضي المجيد لبلاد ما بين النهرين. ونتيجة لذلك، استعاد كبار رجال الدولة أسماءهم المرتبطة بعشائرهم. وسمح تراخي القيود هذا باكتشاف أن عددا كبيرا من عناصر الحرس الجمهوري الخاص، ومن المسؤولين في الأجهزة الأمنية، ومن أفراد الحرس الشخصيين المقربين من صدام، أضافوا لقب "الناصري" إلى أسمائهم (وهذا اللقب مشتق من البو ناصر، وهي عشيرة صدام حسين).
    بعد احتلال العراق عام 2003، وبعد شهور من التأرجح، لم تكن القوات الأمريكية خلالها قد وضعت في حسابها المتغير العشائري، عادت العشيرة إلى الظهور، ليس كأداة للحكم، بل كبنية اجتماعية-سياسية يُستند إليها في الاستراتيجيا العسكرية. وفي تشرين الثاني| نوفمبر 2003، أي مع بروز أولى المصاعب الحقيقية، تضمن مستند صادر عن قيادة القوات الأمريكية في العراق، وصفا لإمكانيات العشائر في إطار سياسة إعادة الإعمار، ولكن هذه المرة بطريقة فيها مبالغة.
    كُلف المقدم آلن كينغ، بالاتصال بالعشائر، وعيّن رئيسا لمكتب الشؤون العشائرية (المسمى رسميا مكتب التوعية الريفية). وحاول أثناء وجودة في العراق ما بين آذار| مارس 2003 وتموز| يوليو 2004، أن يقيم بشتى الوسائل علاقات تعاون مع كبار الزعماء العشائريين في منطقة بغداد.
     حاول رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، استخدام التجربة الأمريكية مجددا، لكن بدرجة أقل من النجاح. كان يشاهد يوميا لدى شيوخ العشائر،وكانت حكومته توزع الأموال بسخاء وتقدم الدعم السياسي للأشخاص الأكثر إخلاصا (كانوا يسمون مجالس الإسناد). في المقابل، كان المالكي يتوقع بالطبع الإخلاص والولاء لشخصه وسياسته. إلا أن المالكي، مع أنه كان يمثل الدولة العراقية على مستوى معين، كان يبدو في الحقيقة زعيما للطائفة الشيعية. وقد أدت لعبة الهويات السياسية هذه، التي كان منطلقها المركز إلى تشويش العلاقة بين العاصمة والضواحي العشائرية، ما دفع عددا من العشائر العربية في المناطق السنية إلى إتباع سياسة التسويف والمماطلة، بينما انضم عدد آخر من العشائر (الأصغر حجما) بشكل كلي أو جزئي إلى داعش.
     وفي الخلاصة يذكر داوود "تظل العشيرة، في نظر السلطات السياسية والعسكرية وكذلك التحالف الدولي (ولا سيما الولايات المتحدة)، فاعلا مفيدا على الصعيد المحلي أو في الحالة المعاكسة، فاعلا يزعزع استقرار النظام المحلي. وتحتاج عشائر اليوم، كي ترسخ دورها كفاعل، إلى دعم الدولة إذا كانت الدولة تتمتع بالوجود والهيمنة، وإلا فإنها ستحتاج إلى دعم القوى الأخرى في المنطقة، وربما إلى دعم مباشر من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة"(ص 228).
   وأخيرا، يشير سعود المولى في خلاصة نظرية إلى أن الأشكال الطائفية والعشائرية السائدة في المشرق العربي كما في المغرب ليست علاقات مترسبة من الماضي، متناقضة مع الأنماط السياسية والاقتصادية السائدة، بل على العكس من ذلك تماما، فهي علاقات سياسية واقتصادية مباشرة في آن واحد. ذلك أن هذه الكيانات لا تقوم على علاقات إنتاج محددة بل على علاقات رواج. ولم ينشأ في هذه الكيانات نشاط رأسمالي، بل إن علاقات الإنتاج القديمة دُمّرت ولم تُستبدل، أي إنه لم يجر الانتقال من نمط إنتاج إلى نمط آخر، ولم يكن لعملية الاستبدال تلك منحى تكثيف الأنشطة الإنتاجية وتحديثها، بل على العكس تماما من ذلك.
الهوامش
1- للمزيد حول العشائر العراقية راجع: عبد الجليل الطاهر، العشائر العراقية (بيروت: مكتبة الحضارات، 2011).
2- للمزيد حول دور العشيرة في العراق راجع: هشام داوود، "المجتمع والسلطة في العراق المعاصر"، في المجتمع العراقي: حفريات سوسيولوجية في الإثنيات والطوائف والطبقات (بغداد| بيروت: معهد الدراسات الإستراتيجية، 2006)، خصوصا الصفحات 167-191.
   
   


29
قراءة في كتاب "الجهاد في الغرب: صعود السلفية المقاتلة"*
       د. هاشم نعمة
    بات تكرر وقوع الأعمال الإرهابية في البلدان الغربية خصوصا في أوروبا من قبل الجماعات الإسلامية المتشددة، يستقطب الكثير من الاهتمام من قبل الكتاب والصحفيين والسياسيين والرأي العام، لكن ثمة القليل من الأبحاث الأكاديمية الرصينة التي تعمقت في تحليل الأسباب الجذرية لصعود الجماعات السلفية المقاتلة في الغرب. وإسهاما في هذا النقاش الهام اخترنا تقديم قراءة عن الكتاب المذكور لمؤلفه الباحث الدكتور فرايزر إيغرتون، ترجمه عن الإنكليزية فادي ملحم والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017. اتبع المؤلف منهجا أكاديميا في التحليل والاستنتاج، واستند إلى الكثير من المصادر ذات الصلة، إذ غطت 60 صفحة من صفحات الكتاب البالغة 288.
    يضم الكتاب مقدمة وستة فصول وخاتمة. وجاءت عناوين الفصول على النحو الآتي: مُلّا مجنون أم مقاتل من أجل الحرية؟، ما هي مشكلة هؤلاء الناس، يأخذنا إلى كل مكان: دور المخيال السياسي، وسائط المعلومات الشاملة وتكوين المجتمع المقاتل، حركة الانتقال من الفعلي إلى الأيديولوجي، لماذا أنا؟ دور السرديات الأوسع والوسطاء.
    يذكر المؤلف في المقدمة أن هذا الكتاب يهتم أساسا بالسلفية المقاتلة في الغرب. ويلامس أيضا قضايا أخرى ذات علاقة بالإرهاب. فالإرهاب خصوصا نموذجه هذا، يشكل موضوع الساعة. وهو يدخل ضمن إطار منهجي محدد، تقوم فيه ظواهر قليلة بأسر الخيال الشعبي لمدة طويلة. فالسلفية المقاتلة  أصبحت واحدة من أبرز الظواهر المثيرة للجدل في الحياة السياسية المعاصرة، بعدما حفّزتها بشكل خاص هجمات 2001 في الولايات المتحدة، وزادها قوة المزيد من القتل في مدريد ولندن وأمستردام وباريس. ودعمتها قصص عن كثير من التهديدات الأخرى التي يُنوى تنفيذها، أو التي حيل بينها وبين التنفيذ. لكن على الرغم من ذلك، وربما بسبب خطورة هذا الموضوع، لا تزال الخلافات حوله مستعرة في مسائل مختلفة مثل دور الدين، وتأثير المظالم السياسية، ومستوى الاندماج الاجتماعي، وطبيعة تهديد هذا النوع من الإرهاب ومداه. هذا ما نلمسه في الواقع، حين نجد أن معظم المحللين في هذا المجال لا يتفق في شأن أبرز العناصر المكونة للسلفية المقاتلة، والتهديد الذي تشكله.
                                                      تفسير الدّين   
   يدّعي السلفيون المقاتلون أن ما يحركهم أو يحفزهم هو تعاليم الإسلام، ويشددون على أنهم يعيشون ويموتون من أجل الواجب الديني. يبدو أن أفعالهم تعطي مصداقية أكبر لمزاعم كهذه، مع وجود كثير من الأمثلة عن نساء ورجال مصممين على الذهاب إلى الموت، بسبب اعتمادهم تفسيرا معيّنا للإسلام.
    المشكلة هنا تكمن أن الاقتباس من الإسلام أو من أي دين آخر، يعني أن هذا الدين هو كيان من السهل تحديده وفهمه، في حين توجد مجموعة من النصوص التي تشكل معا تعاليم العقيدة الإسلامية، من الضروري تفسيرها وتحليلها أيضا. إذ إن من الممكن تفسير الآيات العنيفة التي يدّعي السلفيون المقاتلون أنها غير قابلة لأي تفسير بديل، بشكل مختلف، كما هو الحال في كل المفاهيم الدينية التي تعتمد على النص والدروس التاريخية، وذلك أمر يمكن أن يتسبب في اختلافات كبيرة. فعلى سبيل المثال، يشدد الشيخ المصري محمد سيد طنطاوي على السياق الذي وردت فيه هذه الآيات؛ فبالنسبة إليه وإلى آخرين، لا يمكن حمل هذه الآيات على محمل مستقل، عمومي وشامل، بل يُنظر إليها في سياقها التاريخي. فهي لا تدعو إلى شن حرب متواصلة على غير المسلمين، لكنها تسمح للنبي محمد بالدفاع عن نفسه في المدينة.
    منذ مئات السنين كان المسلمون يعيشون في وئام اجتماعي وسياسي واقتصادي مع جيرانهم اليهود والمسيحيين، حيث تُظهر معاملة المسلمين لليهود بأن التسامح الديني(1) كان هو القاعدة وليس الاستثناء. وتُعتبر الأندلس المثال الواضح على هذا الأمر، وهناك غيره من الأمثلة: العباسيون في بغداد، والفاطميون في القاهرة، والعثمانيون (الذين استقبلوا اليهود السفرديم المطرودين من إسبانيا عام 1492).
              ويرى المؤلف أن البحث في النصوص والتعاليم الدينية، للحصول على تفسيرات مباشرة عن الإرهاب يُعد أسلوبا غير مفيد؛ فبالإمكان إيجاد كثير من الدعوات التي ترفض العنف، إلى جانب تلك التي تدعو إلى العكس. وتتوافر لكل منها حجج متباينة كليا. بالنسبة إلى السلفية المقاتلة، يقع دور الدين في السردية الخاصة التي يُبلّغ عنها الشرع، من دون أن يوجبها، لكنها تصاغ لديهم وفقا لأشكال الفهم السياسي الذي يريده المقاتلون. ويجب فهم الجوانب الدينية والسياسية للقتال على أنها موجودة في سردية خاصة جدا، ترى في الغرب عدوا للأمة التي يشكل المقاتلون جزءا منها، الأمر الذي يستدعي بحسب تأويلهم ردا عنيفا جدا.
                                                              الاغتراب البنيوي
              منذ حوالي نصف قرن، أعطى روبرت نيسبت دورا مركزيا لـنظرية الاغتراب في علم الاجتماع المعاصر، واعتبر أنها "وصلت إلى درجة كبيرة من الأهمية." ويُعتبر هذا الادعاء صحيحا في كثير من الكتابات عن السلفية المقاتلة في الغرب اليوم. ويصف كثير من الكتّاب مبدأ الاغتراب بأنه حاسم وخطِر لفهم هذه الظاهرة. لكن لسوء الحظ لم يجر توضيح معنى الاغتراب دائما، ولا الأثر المحتمل الذي يسببه. وهناك في الحقيقة شقان رئيسان في عملية التنظير للاغتراب في السلفية المقاتلة، الفردي والبنيوي.
                ويؤكد المؤلف أن الفكرة القائلة إن الاغتراب البنيوي يفسّر الانتقال إلى الراديكالية، ثم التشدد والقتال لاحقا، تحظى بدعم ملحوظ يتجاوز دعم الاغتراب الفردي. ويعتمد هذا التفسير عدد من المحللين الأكثر دراية في مجال السلفية المقاتلة. وهو تفسير يعتمد بقدر كبير على فكرة الاغتراب الجيلي التي تشدد على جذب السلفية المقاتلة فئة الذكور من الشباب على نطاق واسع. ويشير التحليل المستند على الجيل إلى أن جاذبية السلفية المقاتلة تكمن في الأوضاع غير المسبوقة التي يعيشها شباب هذه الفئة. وبحسب أوليفيه روا هناك ثلاث فئات: الجيل الثاني من الشبّان الذكور، والشبّان الذين جاءوا إلى الغرب من شمال أفريقيا أو منطقة الشرق الأوسط للعمل أو الدراسة، والمتحولون دينيا من (الأقليات العرقية غير المسلمة، مجرمون سابقون من ذوي البشرة السمراء أو من منطقة الكاريبي والذين أسلموا في السجن، مدمنون على المخدرات وجدوا في الإسلام خلاصا من الإدمان، أو أشخاص انظموا إلى رفاقهم المسلمين بعد تبنّيهم الكفاح والقتال). وهم عادة يعتنقون نمط الحياة الغربي، ويبتعدون عن التيار الرئيس للمسلمين.
              يجد المقاتلون أنفسهم بعيدين في الوقت نفسه عن جيل أهلهم، وعن المجتمع الأوسع الذي يعيشون فيه. وفي هذا يقول روا: نحن لا نتعامل مع ردة فعل جماعة مسلمة تقليدية، بل مع إعادة صياغة دينية ملائمة لثورة عامة يقوم بها جيل هائم، يتأرجح بين جذوره الثقافية والحياة الغربية. ويصف معلق آخر "الراديكاليين اليوم بالسلالة الجديدة. وهم لا يثورون ضد مجتمعهم فحسب، بل ضد جماعتهم الخاصة نفسها، وزعمائها التقليديين"(ص57- 58).
              لا يتفق المحللون الذين يعتمدون نهج الاغتراب البنيوي بشأن السبب الذي يدفع هؤلاء الشبّان إلى الشعور بالاغتراب. فيرى معظمهم أن المسلمين الغربيين(2) يعانون الرفض العرقي، وأن السلفية المقاتلة تقدم إليهم ملجأً من هذه المعاناة.
              تشكل فكرة الإقصاء العرقي في المجتمعات التي يعيشون فيها، والتي شهدت ولادة كثيرين منهم، الجانب الأكثر شعبية في منهج "الاغتراب البنيوي". من المرجح أن يكون المهاجرون السابقون قد تعرضوا لمثل هذه المعاناة، لكن شعورهم بها لم يكن على قدر شعور أبنائهم الذين يمتلكون توقعات بمستقبل أفضل، تفوق كثيرا توقعات آبائهم. فالأبناء الذين ولدوا في المجتمع الغربي لم يتوقعوا أن يتعرضوا للإجحاف الذي تعرّض له آباؤهم، ولم يقبلوه. وقام بعض الكتّاب والمحللين بشرح تفصيلي لهذا الإقصاء، فقدم كيبيل مثالا جيدا عن هذه الفكرة بقوله "لا دماء مسلمي شمال أفريقيا التي سُفكت فيما هم يقاتلون مع الجيش الفرنسي في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا العَرق الذي بذله العمال المهاجرون منهم، خلال عيشهم في أحول سيئة جدا لإعادة أعمار فرنسا (وأوروبا) في مقابل أجور زهيدة بعد عام 1945، لا تلك الدماء ولا هذا العَرق ساعدا أولادهم على الشعور بأنهم مواطنون في فرنسا أو في أوروبا"(ص 60).
    وفقا لهذه المقاربة تُثبت السلفية المقاتلة فاعليتها؛ فهي تقدم هوية إلى أشخاص يتساءلون عن الهوية الخاصة بهم، بعدما شك فيها الآخرون وازدروها. أما في الحلقات السلفية، فيتم تذكيرهم دائما بأن عرقهم يتفوق على جنسيتهم، وبأن مسقط رأسهم أو عرقهم أو دينهم، أهم من البلد الذي يعيشون فيه. ويردّ هؤلاء الشبان على لغز اللاأدري، فيكتشفون لأنفسهم هوية جديدة، مؤكدة للذات وعابرة الأوطان، وهي أنهم مسلمون.
    بحسب هذه المقاربة المهمة، يعتمد الكثير من الكتّاب المعروفين في هذا المجال الفكرة القائلة إن النقص في الهوية يدفع نسبة من الشبان المسلمين إلى البحث عن هوية بديلة، أو يحملها على تقبل بديل يُقدَم إليهم. ويرى خوسروخافار أن الاغتراب يقود إلى التطابق مع أقلية مسلمة راديكالية، ومن ثمة إلى شعور بالصداقة والتعاطف القويين مع مسلمين آخرين يعانون الظلم والاستبداد في مكان آخر من العالم. ومعاناة المسلم وتهميشه في المجتمع، يتراءيان له كانعكاس لمعاناة المسلمين في العالم كله. وتقوم أسباب المعاناة هذه، وهي الالتزام بالإسلام الحق، وعدوانية الغرب تجاه الإسلام والمسلمين، بترسيخ تصور ما عن علاقة نقية بين أبناء الدين الواحد. ويرى المؤلف أن شعبية هذه المقاربة الرائجة، والمعرفة الكبيرة التي يتمتع بها دعاتها، يجب ألا تحجبا المشكلات الكبيرة التي تلتبس بها. وهي مشكلات، في حال اجتماعها، تقوّض جديا مفهوم الاغتراب كتفسير وحيد لنهج الكفاح المتسم بالقتال.
    عالج ماركس ودوركهايم (الذي يستخدم مصطلح التفكك الاجتماعي)، وسارتر وغيرهم مسألة الاغتراب وقاموا بدراسات تطبيقية على نحو مفيد حول مفهومه. لكن ما قام به أولئك الكتاب اللامعون، يختلف اختلافا كبيرا عن استعمال كثيرين اليوم لمفهوم الاغتراب في سياق الحديث عن السلفية المقاتلة. فنادرا ما يوضح مستعملو هذا المفهوم اليوم ما الذي يريدون قوله حين يطبقونه على هذه الظاهرة. وليس المقصود هنا أن الاغتراب لا يشكل أحد العوامل التي يمكن أن تساهم في التشدد، بل الإشارة إلى أن استعمالاته السابقة، لا تُظهر ماهيته بوضوح، أو كيف يعمل ويؤثر.
    يشدد المؤلف على أنه قُدم القليل من الأدلة التجريبية لدعم الادعاءات التي تقول إن الشعور بالاغتراب يؤدي دورا أساسيا في السلفية المقاتلة. ولم يُنجز أي تحقيق منهجي حول طريقة وأشكال اغتراب السلفيين، وكيف أصبحوا كذلك، أي حول الادعاء التفسيري الرئيس الذي يقدمه كثير من المحللين.
   يوضح بيب في تقرير منهجي عن الانتحاريين، إن قليل من هؤلاء كانوا "مهمشين اجتماعيا، ومجرمين مجانين، أو حتى فاشلين... ذلك أن معظمهم يمتلك شخصية تتناسب مع شخصية معاكسة تماما: فهم طبيعيون من الناحية النفسية، ويتمتعون بأوضاع اقتصادية تفوق المتوسط في مجتمعاتهم، ويندرجون جيدا في الشبكات الاجتماعية"( ص 67).
    يقود هذا الأمر إلى نقطة فلسفية أوسع. فالاغتراب هو حالة معقدة ومتباينة ومتغيرة إلى حد كبير. وهو موجود بدرجات؛ إذ يختلف في البنية والعمق لدى الأفراد المختلفين، ولدى الفرد الواحد أيضا، في الوقت نفسه. فالقول إن أحدهم يشعر بالاغتراب هو اختصار لشيء أكثر تعقيدا. وإذا كان من الضروري التعاطي مع هذا التعقيد في التحليل أو غيره، فيجب إدراكه إدراكا كاملا والتبصر فيه. وهذه مهمة صعبة جدا، في نظر المؤلف، ولم تحصل في الكتابات الخاصة بالسلفية المقاتلة.
                                               دور المخيال السياسي
     لم يكن أبادوراي أول من أشار إلى دور المخيال وأهميته السياسية؛ ففي كتابه (الجماعات المتخيلة)، يصف بندكت أندرسون كيف سهّل التقارب بين الرأسمالية وتكنولوجيا الطباعة على الناس -أولئك الذين لم يلتقوا من قبل، ومن غير المرجح أن يلتقوا في المستقبل- عملية تخيّل أنفسهم جزءا من الجماعة نفسها، على الرغم من إقامتهم في أماكن متباعدة، ومن اعتمادهم أساليب حياة مختلفة. ووفقا للمنطق الذي يعتمده أندرسون، يمكن أن تقود هذه التغيرات في الأوضاع الكامنة إلى صعود أوهام سياسية بديلة، وهذا مهم جدا لفهم السلفية المقاتلة اليوم.
   يذكر المؤلف أنه يجدر التشديد هنا أن المخيال السياسي ليس رحلة في الخيال، لكنه غير محدد ماديا. هناك أوضاع مختلفة تحدد كيف ينظر الأفراد إلى العالم، وكيف يعتبرون أنفسهم جزءا من هذا العالم. فمن خلال النقل الشامل للأخبار والحوادث بـ "اللغة المحلية أو القومية"، أصبح بإمكان الناس اعتبار أنفسهم فرنسيين أو ألمانا مثلا، وإضفاء هوية مشتركة على الآخرين في أماكن بعيدة، وفيما يتعلق بالأمة المقاتلة وليس بالدولة-الأمة، أصبح السؤال: ما هي العوامل التي تُسهل على الأفراد بناء المخيال السلفي المقاتل؟ إن المخيال السياسي السلفي يشتد حين يتخيل المجاهد نفسه مدافعا عن المسلمين في العالم. ويتكون هذا المخيال ويصير فاعلا عندما تجتمع حوادث عالمية منوعة، وتتداخل مع حوادث محلية. وأصبح هذا ممكنا في المرحلة الراهنة من الحداثة المعولمة.
     كتب الكثير من الكتّاب عن التحول الدراماتيكي بين الزمان والحيّز (الفضاء المكاني)، وتأثير هذا التحول ما بين الحيّز والمكان. واعتمد هؤلاء الكتّاب عل ما سبق من الكتابات. وكان كارل ماركس قد توقع  منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، "قضاء الزمان على الحيّز" لأن "رأس المال يخترق بحكم طبيعته أي حاجز في الحيّز المكاني ... للسيطرة على الكرة الأرضية وأسواقها". وفي منتصف القرن الماضي وصف مارتن هايدغر مرحلة بروز "اللامسافة" و"إلغاء كل إمكان لبعد المسافة"(ص 84).  وقبل نصف قرن، كان من الممكن اعتبار هذه التأكيدات سابقة لأوانها. لكن الكثير منها تحقق، نتيجة تغير العلاقة بين الفضاء والمكان.
    يُعتبر الحنين إلى الماضي، أمرا شائعا في جميع المجتمعات. ومن الممكن ألا ينجم هذا الحنين مباشرة عن ذكريات موضوعية بالكامل، لكنه يتشكل من ذاكرة حوادث معيشة ومختارة، وينمو بتأثيرها. يرتبط الأمر كثيرا بالإعلام وحركة الانتقال اللذين ينشآن سياسية حنين تعتمد على شيء آخر غير التجربة. في الواقع ينطبق هذا الوضع على السلفية المقاتلة، إذ تقود ظاهرة اضمحلال الحدود الجغرافية (نزع الصفة الإقليمية) إلى تصور مجتمع سياسي بلا حدود إقليمية. ومع تراجع أهمية الموقع الجغرافي، أصبح بالإمكان خلق موقع جغرافي خيالي، حيث لا تعود هوية المرء مرتبطة بالمكان الذي، ما عاد بدوره، مرتبطا بمعرفة المرء وخبراته. لا يعتبر السلفي المقاتل -وهو نتاج المخيال السياسي- أن الأمة من وحي الخيال. علما تأتي فكرة الأمة، وهي مركزية في مشروع السلفية المقاتلة، من وهم يقود إلى الحنين، لكنه حنين بلا ذاكرة. وتسمح حركات الانتقال الكبرى للناس بتغيير مستمر في هوياتهم، وتعرضهم لمجموعة أكبر من الاحتمالات التي يمكن أن تؤثر في مخيالهم السياسي. وليس هناك أفضل من السلفية المقاتلة لإظهار هذه الصورة.
    إن التصورات السياسية للسلفيين المقاتلين في الغرب اليوم ليست حنينا إلى عالم تركوه وراءهم، بل هي إعادة تخييل لعالم لم يشاهدوه من قبل، وليس موجودا إلا في مخيلتهم الجمعية. وتُعتبر وسائل المعلومات الشاملة العامل الأساس في هذه العملية، وهي التي تسهل إنشاء مشروع سياسي منفصل عن تجربة حية أو معيشة. فلم يكن أعضاء مجموعة هوفستاد (نسبة إلى مدينة لاهاي) يهتمون كثيرا بالحوادث الجارية في المغرب، مسقط رأس معظم آبائهم، إلا إذا تلاءمت مع نظرة السلفية المقاتلة، وشكلت جزءا من معركة وجودية بين الإسلام والغرب، إذ كانت اهتماماتهم عالمية أكثر منها محلية.
                                                تكوين المجتمع المقاتل
     يقول أحد المحللين، الذي أنجز بحوثا كثيرة عن المواقع السلفية على الإنترنت: إن "التواصل مع متعاطفين آخرين ينشىء نوعا من المجتمع الافتراضي، وشعورا بالوحدة والانتماء إلى جماعة وقضية. ويعكس ظهور المواقع المقاتلة على الإنترنت، خصوصا غرف التواصل بلغات أخرى غير العربية، كالإنكليزية والفرنسية والهولندية والسويدية: أولا، حاجة (المجاهدين في الشتات) إلى أن يكونوا جزءا من المجتمع الجهادي. ثانيا، أهمية الإنترنت في إنشاء مثل هذه المجتمعات" (ص 128). ويؤدي الدخول إلى المنتديات المقاتلة ومجموعات التواصل، إلى المشاركة في مجتمع محدد، وتأكيد هوية هذا المجتمع، وهوية الفرد كونها جزءا منه. هذه ظاهرة وصفها القليل من المحللين، ومنهم سيجمان  الذي قال: "ما عاد المجتمع الافتراضي مرتبطا بأي دولة أو شعب، ويتوافق هذا الوضع مع الأمة السلفية الأسطورية"(ص 129).
     لا تعود سطحية المعرفية الدينية إلى فقر فكري لدى السلفيين المقاتلين، ولا إلى العقيدة التي يعتمدونها، لكنها تُظهر أن ارتباط أكثر الغربيين الذين ينضمون إلى هذه العقيدة، إنما هو ارتباط عاطفي وليس فكريا. والصور هي التي تشجع عملية الارتباط وتمكّن لها.
    تعتبر حالات الانتقال الكثيرة في حياة السلفيين المقاتلين جزءا مهما من الإجابة عن لغز انتمائهم. فانخلاعهم المكاني يعزز من إمكان اعتمادهم رؤية للعالم غير منتمية إلى مكان أو إقليم. وساهم ذلك في تمكينهم من تخيّل أنفسهم جزءا من جماعة عالمية تتجاوز سواها من الجماعات وتتخطاها. الرؤية غير المنتمية إلى أي أرض أو إقليم، التي يعتمدها السلفيون المقاتلون، هي رؤية في شأن مجتمع افتراضي منفصل بشدة عن تصورات الأرض| الإقليم، ومثل هذا المجتمع هو أمة متخيَّلة. ولا يهتم السلفيون المقاتلون الغربيون بتقسيم العالم بلدانا أو انتماءات إقليمية؛ فعالمهم ينقسم إلى "مسلمين وكفار".
    لا يبدو غريبا القول إن اهتماماتهم ليست إقليمية؛ إذ لا تنحصر أهمية هذه البلدان في أراضيها الإقليمية. فالدفاع عن أفغانستان والعراق والبوسنة، في نظرهم ليس دفاعا عنها كبلدان في ذاتها، بل هو دفاع عن الكيان الذي تشكل جزءا منه. وما يهم هنا هو الأمة وضرورة الدفاع عنها.
   لم تظهر السلفية المقاتلة من العدم؛ فهي فرع أيديولوجي منبثق من ثقافات مسلمة أوسع، ولا يُمكن فهمها دون فهم تلك الثقافات، أو من دون فهم السياق الذي يضع المقاتلون أنفسهم فيه. ينطبق هذا مثلا على المتمردين في العراق كما يسميهم المؤلف، أولئك الذين يبنون على السرديات الثقافية الشائعة بين سكان المناطق التي يسعون إلى الحصول على الدعم منها. ويستعينون بموضوعات سياسية وعاطفية لها حضورها في ثقافات العرب والمسلمين وتقاليدهم في العراق(3) والعالم. وتعتمد روايات المتمردين على ثلاث مسائل: الإذلال والعجز بسبب التواطؤ والخلاص بالإيمان والتضحية.
الهوامش
1- للمزيد حول التسامح واللاتسامح في التراث الإسلامي، راجع: محمد أركُون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق هاشم صالح،  ط 4، بيروت، دار الطليعة، 2009، ص 229-271.
2- حول وضع المسلم الغربي| وضع المسلم العربي راجع: تهامي العبدولي، أزمة المعرفة الدينية، ط 2، دمشق، الأكاديمية الثقافية العربية الآسيوية ودار البلد، 2005، ص 60-64.
3- للمزيد راجع العمل الهام: فالح عبد الجبار، دولة الخلافة التقدم إلى الماضي ("داعش" والمجتمع المحلي في العراق)، ط 1، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، خصوصا الفصل التاسع: شيوخ وعشائر، دولة الخلافة والمجتمع التقليدي، ص 259-325.


         
                         

30
الظاهرة الدينية من علم اللاهوت إلى علم الأديان المقارن
       د. هاشم نعمة
    طالما كانت العلاقة بين الأديان وخصوصا ما يُطلق عليها بالأديان السماوية مثارا للجدل منذ تاريخ بعيد إلى وقتنا الحاضر، لكن يجري النقاش في غالب الأحيان من منطلقات تعبر عن الخلفية الدينية للمحاور؛ لذلك كثيرا ما اكتنف الحوار التحيز الضيق وتفضيل دين على آخر، أو تفضيل مذهب على آخر، وهذا كثيرا ما غذى ويغذي التطرف الديني والمذهبي والطائفي الذي نعيش فصولة المدمرة والمروعة حاليا على يد الجماعات الإسلامية المتطرفة التي تدعي امتلاكها الحقيقة الدينية كاملة. وإسهاما في النقاش حول هذا الموضوع الهام اخترنا تقديم قراءة عن كتاب "الظاهرة الدينية من علم اللاهوت إلى علم الأديان المقارن" لمؤلفه حمّادي المسعودي، وهو باحث تونسي متخصص في الدراسات المقارنة للأديان، الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط| بيروت، 2018. يقع الكتاب في 336 صفحة. أتبع المؤلف في كتابه هذا منهجا أكاديميا، وتميز بالحياد والموضوعية على الرغم من حساسية البحث في هكذا حقول معرفية خصوصا في عالمنا العربي.
   يضم الكتاب المذكور أربعة فصول ومقدمة عالجت: مدخل نظري: من علم اللاهوت إلى علم الأديان، العهد القديم في النصوص الإسلامية، العهد الجديد في النصوص الإسلامية، متخيل النبوة وعالم ما بعد الموت في الأديان الكتابية، وخاتمة.
   يشير المؤلف في المقدمة إلى أن من لا يقارن لا يعرف، وستظل نظرته ضيقة للأمور ومحصورة بنطاق تراثه ودينه فقط، ولكن للأسف إن البحوث المقارنة وكذلك التعليم المقارن بين الأديان والثقافات المختلفة ليست واردة الآن في مجال التقسيم الشائع للموضوعات الدراسية ولا في برامج التعليم الثانوي ولا حتى الجامعي. كل جهة تكتفي عموما بتدريس دينها أو تراثها كأنه حقيقة مطلقة ولا شيء غيره في العالم! ولهذا السبب يستخدم المتطرفون نصوصا موضوعة بمنأى عن أي تحليل نقدي من أجل خلع المشروعية على الحروب المتكررة بين أعداء في المجتمع نفسه، أو بين دول مختلفة.
                                                      مدخل نظري
    إن مرحلة اندماج الذات في موضوعها لم تدُم نتيجة تقدم الفكر البشري، فانفصلت الذات عن الموضوع، وصار الإنسان ينظر إلى المقدس باعتباره مسألة مستقلة جديرة بالدراسة العلمية، فنشأ منذ القرن التاسع عشر علم الأديان المقارن، والدراسات المقارنة في الأديان، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، والأنثربولوجيا الدينية... وقد بينت جميع هذه المباحث كيف تحولت الظاهرة الدينية من شعور كامن في ذات الإنسان تجاه المقدس إلى دراسة علمية لذلك الشعور الخفي. 
   علم اللاهوت مداره خطاب الإنسان حول الله، وهو ينطلق من مسلمات وبديهيات يتبناها العالِمُ في هذا المجال، دون أن يعتريه فيها شك ولا تسأل، ويعتقد هذا العالِمُ أن الديانة التي يعتنقها هي وحدها التي تتصف بالحق والصدق والأصالة، وما سواها باطل وكذب أو مقتبس من نصوص دينية سابقة، أو هو كلام مُحرف، وبعبارة أخرى يمكن أن نقول: إن علم اللاهوت علم معياري تكون نزعته مشروطة دائما بالإيمان بحقائقه الخاصة به، فيكون بذلك مُقصِيا غيره بطبيعته، وهم لئن اتسم بنزعة عقلية جدالية في معالجة مواضيعه فإنه يدور في فلك الوثوقية والدفاع والتبرير والتمجيد. ص
   أما مصطلح علم الأديان فيرجع الاستعمال الأول له إلى المفكر الألماني ماكس ملر عام 1867. وفي الفترة نفسها نادى أ. بورنوف في فرنسا بتأسيس علم الأديان، وقد ألف كتاب أسماه بـ "علم الأديان". والملاحظ أن المفكرين الفرنسيين كانوا يميلون إلى استعمال مصطلح "تاريخ الأديان" ثم مصطلح "التاريخ المقارن للأديان".
   ويذكر المؤلف أن موضوع علم الدين| تاريخ الأديان| التاريخ المقارن للأديان لا يتعلق بإبداء الرأي في مدى تقدم الفكر البشري نحو اكتساب حقيقية ما ورائية أو لاهوتية، وإنما يسعى على النقيض من ذلك إلى تجاوز المعطى التجريبي للوقائع الدينية ليُدرك الفهم الداخلي للمقدس المعيش، لذلك كان ينطلق من دراسة مختلف الأنظمة الدينية المعروفة؛ لكي يَدرُسَ بناها الأساسية من طقوس وأساطير وعقائد ورموز؛ ليدرك في النهاية تحليل المضامين التي يعيشها الإنسان المتدين ذاتيا، فهو يهتم بجميع ما آمن به الإنسان في مجال المقدسات (ص 24).
   ويثير المسعودي نقطة في غاية الأهمية تشير إلى أن دارس الأديان الذي يتبنى المنهج المقارن عليه أن ينتبه إلى ما يمكن أن يكون كامنا في الكثير من أوجه الائتلاف من تنافر؛ لأن الكثير من عناصر التماثل الظاهر تحمل دلالات تباين داخلي؛ ذلك أن الدين للاحق إذا ما اكتفى بتكرار الدين السابق جزئيا أو كليا انصهر فيه، وفقد شروط بقائه جزئيا أو كليا، وأن كل الدين نشأ في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية وجغرافية مخصوصة تأثر بها، وفعلت فيه، فولد مُحمّلا بأماراتها، معبرا عن أحلام الناس وآمالهم ورؤاهم الموصولة بالوجود وبوضع الإنسان في الكون وبعلاقته بالمعبود، فلئن قالت الديانات التوحيدية الكبرى (اليهودية والمسيحية والإسلام) بالإله الواحد، فإن تصورها لهذا المعبود الواحد كانت مختلفة فيه اختلافها في طريقة عبادته حتى أن الكثير من الجدل وسوء التفاهم والخلاف نشأ من هذا التصور.
   لكن الاختلاف بين الأديان لا يتبيّن فقط عندما نقارن دينا بدين آخر؛ بل يمكن أن يتجلى لنا عند مقارنة فرقة بأخرى، أو مذهب بمذهب آخر، وفي هذه الحالة يكون الاختلاق كامنا في الدين الواحد، وهو اختلاف يرجع إلى اختلاف الرؤى والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في قراءة النصوص الدينية المؤسسة، كما قد يرجع، بالنسبة إلى الكثير من الفرق الإسلامية، إلى تسييس الدين، أو توظيف الديني في السياسي، ويُعد هذا من أخطر التوجهات التي يمكن أن ينزلق فيها الفكر الديني، وتنشأ عنها نزاعات وحروب دامية.
   إن البحث المقارن ينبغي على دارسه؛ لكي يكون بحثا موضوعيا، أن يلتزم بالحياد الديني أثناء إجراء المقارنة بين دين وآخر، أو بين ظاهرة وظاهرة دينية أخرى تنتمي إلى دين مخالف، وهذا يقتضي من الباحث المقارِن أن يتخلى عن نزعة المفاضلة بين الأديان، فلا يمجد دينا ويهجو دينا آخر، ولا يقول بأصالة الأول واقتباس الثاني من الديانات السابقة وتحريفه.
    وينبه المؤلف إلى وقوع أصحاب مصنفات الفرق في التراث الإسلامي في مزالق أيديولوجية وعقدية عندما تكلموا في كتبهم على أديان الآخر المخالف في الملة، فحصروا الصحة والحقيقة والشمول في الإسلام، ونعتوا الأديان الأخرى بالتحريف والباطل والمحدودية، متخذين من دين الذات معيارا به تُقاس سلامة الديانات الأخرى وجدواها وإيمان أتباعها، غير عابئين بمختلف الظروف التي نشأت فيها تلك الأديان، ولا المراحل التاريخية التي مرت بها، على الرغم من أنهم كانوا يؤمنون بأن الأديان التوحيدية الكبرى لها مصدر واحد، وأن الوحي، الذي ابتدأ مع أنبياء بني إسرائيل واختتمه نبي الإسلام، هو الوحي عينه.
    وقد رأى الكثير من الباحثين العرب المسلمين والمستشرقين شبها كبيرا بين علم اللاهوت الغربي وعلم اللاهوت الإسلامي، فكلا العلمين ينهض على الإيمان وإبعاد الشك وعلى التفسير والاستدلال والتمجيد والدفاع واعتماد النصوص المقدسة وسنّة القدماء مصادر لمباحثهم وردودهم.
  والملاحظ أن مصنفات علم الكلام(1) ومصنفات الملل والنحل لم ترقَ بالبحث في الأديان إلى تأسيس علم خاص
 بهذا المجال المعرفي، على الرغم من أصحابها عالجوا بإسهاب الأديان الكتابية وغير الكتابية، ولم ينشأ، إلى يومنا هذا، علم للأديان ولا للأديان المقارنة في العالم العربي والإسلامي، على الرغم من حاجة مجتمعات هذه البلدان المؤكدة لهذا العلم. 
                                      العهد القديم في النصوص الإسلامية 
    ورد لفظ "التوراة" 17 مرة في القرآن المدني، ومرة واحدة في القرآن المكي، والقرآن عندما يُطلق هذا اللفظ إنما يقصد الخمسة الأولى من أسفار (العهد القديم)، وهي التكوين، والخروج، والعدد، واللاويون، والتثنية، والتوراة تعني عند المفسرين المسلمين الوحي المنزل على النبي موسى، والعودة إلى هذه الأسفار مهمة جدا في فهم المسلمين للنص القرآني؛ لأن نصوصها حاضرة بكثافة عجيبة فيه من جهة، ولأننا نرى، من جهة أخرى، أنه لا يوجد نص ينهض من فراغ، وأن النص الديني بصفة عامة، والنص المقدس بصفة خاصة، نص تتداخل فيه النصوص والثقافات والحضارات، وهو دائم الانفتاح على مطلق الدلالات.
    أسندت جميع النصوص الدينية القديمة فعل الخلق إلى ذات متعالية ليست من جنس البشر (الإله إنليل في الثقافة السومرية، الإله مردوخ في الثقافة البابلية...). لكن ينبغي أن نلاحظ أن عملية خلق الكون في النصوص القديمة كانت نابعة من الحركة المادية والفعالية الحياتية للآلهة؛ فالإله يتحرك ليصنع أو يخلُق في النصوص السومرية والبابلية. أما في النصوص التوراتية والقرآنية، فإن عملية الخلق كانت نتيجة الكلمة الخلاقة والأمر الإلهي "كُن فيكُن" (ص 74).
   يبدو الإله التوراتي إلهاً شديد الشهوة للحم المشوي، مشتهيا رائحة البخور تعبقُ في "قُدس الأقداس". وهكذا خلق الإنسان آلهته صورة منه ترتد إليه كل حين في شهواته وحواسه وأفعاله وطلباته، ولكي يُضفي على هذه المطالب شرعية فتجد سبيلها إلى التنفيذ أسقطها على الآلهة وصعّدها إلى السماء.
    أما الإله القرآني فلم يكن مفرطاً في طلباته القُربانية، وقد يكون ذلك راجع إلى وعيه بفقر المؤمنين، فلم يسُنَّ لهم سوى أضحية سنوية بمناسبة فريضة الحج تكون من الغنم أو المعز أو الإبل أو البقر. وطقوس هذه الأضحية لا تتم في فضاء المؤسسة الدينية كما هو الشأن في القرابين التوراتية، وإنما تُمارس في الفضاء العادي للعائلات.
   كثيرا ما تتبدى لنا في التوراة خاصة، وفي العهد القديم عامة، إن الفاعل ذا القرار هو النبي موسى وليس الإله يهوه، حيث يقوم النبي بدور المُعدّل بين الإله والشعب، ويحُدُّ من جبروت الذات المتعالية، فهل هي حكمة الأنبياء التي فاقت الحكمة اليَهوهية (نسبة إلى يهوه) أو هي حكمة مؤلفي النصوص المقدسة اليهودية التي اجتهدت لتكون العلاقة بين النبي والشعب متينة جدا؟ فالنبي في هذه الأمثلة يبدو أقرب إلى الشعب من الإله وأمتَنَ صلة بهم منه، لذلك كان يسعى إلى إبطال القرار الإلهي القاضي بإفناء الشعب.
   لقد أضفى الإنسان على الإله في النصوص المقدسة صفات البشر، لذلك يظل الكائن المتعالي قريبا جدا من الذات البشرية. وقد يعبّر ذلك عن مرحلة من تاريخ البشر لم يتخلص الإنسان فيها من التصور المادي الحسي لمعبوده؛ لذلك صاغ إلهه على شكل صورة مزدوجة تجمع بين الإنسان والإله. فاليهود لم يعرفوا في أسفارهم المقدسة التمثل المتعالي للإله؛ إذ بقي هذا التصور حسيا تجسيديا لم يرق إلى التمثل الذهني المجرد. ويؤكد هذا المنحى في تصور الإله طلبهم من موسى أن يُريهم الله رؤية عينية. وقد عبد اليهود آلهة في صورة مجسّدة حتى بعد تعرفهم إلى الإله يهوه إله الإنقاذ والخلاص (عبادة العجل أثناء غياب موسى).
                                     العهد الجديد في النصوص الإسلامية

    إن جوهر المسيحية في القرآن هو بشرية عيسى، وقد أكدها الوحي الإسلامي بشدة، فهو بشر ينحدر من سلالة البشر شأنه شأن آدم، فهو ابن مريم، كائن مخلوق وعبد مربوب. ما ورد في القرآن على لسان عيسى ينفي عنه وعن أمه الألوهية، ويبرز منزلته الحقيقية، وهو هنا لا يعلم الغيب إلا ما يعلّمه الله، وهو لا يُعلّم الناس إلا ما أُمِرَ به. ومصيره البعث يوم القيامة بعد موته، لكن دوره في العقاب والثواب منفيّ، وهو لن ينهض بإدانة الناس في الآخرة مثلما تذهب إلى ذلك المسيحية الإنجيلية؛  لأن الحساب موكول إلى الله وحده. لقد نقل القرآن عيسى من مرجعية مسيحية هو مركزها وحجر الزاوية فيها إلى مسيحية قرآنية لا يمثل فيها سوى عبد مربوب مكرم بالنبوة، فيكون القرآن بذلك قد قوض أسس مرجعية لتنهض على أنقاضها مرجعية جديدة صلتها بالنص الأصلي غير متينة.
   ويحول القرآن نهاية عيسى تحويلا جذريا ويوجهها وجهة أخرى تختلف تماما عن تلك التي رسمتها الأناجيل، فيُخالف نصوص العهد الجديد والرؤية اليهودية في هذا المآل الذي صار إليه عيسى عندما ينفي أن تكون نهايته بتلك الطريقة، ويرسم له نهاية يُقوض فيها أسس المرجعيتين اليهودية والمسيحية، ويُحمّلها أبعادا غير تلك التي أرادتها النصوص المسيحية، فالمسيح لم يقتُله اليهود، ولا هم صلبوه، (ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم) وإنما نجا من الموت صلبا  ورفعه الله إليه فانتصر على الأعداء المناوئين، لكنه لم ينتصر على الموت، ولم يقهره مثلما تذهب المسيحية إلى ذلك.
    ويرفض القرآن مقولة التثليث التي تؤمن بها المسيحية،رفضا قاطعا، وإن  كان يفهم التثليث على غير ما تقصده المسيحية من هذا المصطلح. فالقرآن يُفند مقولتين جوهريتين في المسيحية: البنوّة والتثليث. وقد ربط الإسلام الولد أو الابن بضرورة وجود علاقة جنسية بين الذكر والأنثى لكي تنشأ الولادة، فالعلاقة إذا علاقة بيولوجية جسدية، وهذا ما لا يمكن أن يكون مقبولا في التصور القرآني لله، فالله في المنظور الإسلامي لا يمكن أن يكون له ولد| ابن لأنه ليس له زوجة أو صاحبة. لقد فهم المسلمون معنى البنوة في دلالتها الحقيقية البيولوجية، بينما أكد المسيحيون أنهم لا يقصدون هذا المعنى عندما يتكلمون على البنوة. 
   إن علماء اللاهوت المسيحيين، وهم يدرسون المسيحية من خلال القرآن، يتصورون أن محمدا كان يعتمد، أثناء حديثه عن المسيح، على النصوص الإنجيلية القانونية، وعلى ما صدر عن المجامع الكنسية من قرارات، لذلك نسبوا إليه تحريف هذه النصوص وتشويهها. لكن ما هو مغيّب في هذا التصور أن النصوص الإنجيلية المكتوبة لم تكن متوافرة بكثرة في البيئة التي نزل فيها الوحي الإسلامي، وما يمكن أن يكون شائعا في الأوساط العربية آنذاك هو ما كان يتناقل مشافهة من التراث الديني المسيحي، ويبدو من خلال كلام القرآن عن المسيحية أن ما كان يُتداول من هذه الديانة لم يكن ينتمي إلى النصوص الإنجيلية القانونية وحدها، وإنما اشتمل حتى على النصوص غير القانونية مثل إنجيلي الطفولة وتوما، واحتوى كذلك على مقولات بعض المفكرين والفرق المسيحية. 
    إن أسّ الإيمان المسيحي وجوهره ليسا كتابا مقدسا ولا شريعة، وإنما شخص يسوع المسيح الذي يمثّل الله ويبرزه ويكشف عنه بطريقة نهائية. ويذكر هانس كينغ أن هذه الرؤية المسيحية، التي تجعل من المسيح جوهر الإيمان دون الكتاب المقدس، تمثّل فارقا جوهريا بين المسيحيين والمسلمين، فالمسيح يحتل لدى أتباعه منزلة القرآن لدى المسلمين، فهو "كلام الله المتجلي بشكل بشري" (ص 127).
   من البيّن أن كل قراءة تتأثر بالمحيط الثقافي الذي نشأت فيه، ولا يشذ القرآن عن هذه القاعدة، فما كان قد حدث داخل الكتاب المقدس حدث كذلك في القرآن؛ إذ لم يقع الاكتفاء بتقبل تقليد قديم صافيا وببساطة، وإنما تم تحيينه وإعادة تأويله على ضوء التجارب الحاضرة، فقد طبق محمد على حاضره الخاص ما سمع حول يسوع تماما كما طبّق المسيحيون عددا من نصوص العهد القديم على المسيح (النبوات)، وكان معناها الأصلي مختلف تماما، وعظمة يسوع كلها تكمن، لدى محمد، في كون الله عمل بواسطته باعتباره عبدا مُرسلا من الله.
   فقد حمَّل الإسلام المفاهيم المألوفة في الديانتين السابقتين مضامين جديدة من ناحية، وأبطل الكثير من المقولات الدينية السابقة خاصة في الديانة المسيحية من ناحية ثانية، فالقرآن يعيد الإطار العام الذي توافر في الديانتين السابقتين، لكن الإطار المُعاد يُملأ بمضامين جديدة، لذلك لن يكون مجرد استرجاع للقديم بقدر ما هو صياغة جديدة للعديد من التصورات الدينية السابقة، فهو يعدّل الرؤى حول العالم والألوهية والنبوّة واليوم الآخر، ويسترجع شخصيات العهد القديم والعهد الجديد طبقا لتصور جديد ينأى بها عن التصور الديني السابق، وهذا التصور الجديد لا يمكن أن يُعزا إلى سوء فهم للدينين السابقين، ولا معرفة محمد السطحية بالكتاب المقدس كما ذهب إلى ذلك كارل بركلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية). 
   ويحلل المؤلف مكونا مفصليا هاما في الأديان، عندما يشير إلى أن الأسطورة تمثّل شكلا ثابتا في كل دين، فلا يمكن أن نتصور ديانة خارج الأسطورة، وهي بنية أساسية في كل دين، لكنها تختلف باختلاف الديانات والبيئة الثقافية التي نشأ فيها كل دين، فلكي يكون للدين أتباع لا بد من أن يُبنى على جملة من التصورات يكون للمتخيّل حظ وافر فيها، تبدأ في الغالب بربط علاقة تواصل مع عالم الغيب ودنيا الشهادة من خلال الوحي أو الإلهام، وقد تتدعّم بالمعجزات والخوارق ومختلف تجليات العجيب النازل من السماء، والمجترح على وجه الأرض، فإذا كانت الأسطورة مكونا أساسيا من مكونات النص الدينيّ، هل لهذا النص أن ينهض إذا ما عَمَدنَا إلى نزع الأسطورة عنه ولم نُبق منه إلا ما يتناغم ومقتضيات التاريخ والواقع؛ أي ما يكون مدركا بالعقل خاضعا لمبدأ السببية: عليّة الحدث، وهي القاعدة الجوهرية التي يُقيم عليها العلم في العصر الحديث تصوره للعالم؟ (ص 144) يتساءل المسعودي.
                                                      متخيل النبوّة 
     إن الخيال هو مصدر كل وحي، وليست الذات الإلهية هي التي توحي إلى الأنبياء، وإنما ذات النبي هي التي تلهم، ولما كان الوحي إلهاما اختلفت مادته من نبي إلى آخر باختلاف المزاج والثقافة والوضع الاجتماعي والاقتصادي والبيئة لدى لكل واحد من الأنبياء، وقد لون كل نبي الوحي بلونه الخاص، وأضفى عليه بعضا من ذاته، فإذا كان النبي "ذا مزاد مرح تُوحى إليه الحوادث التي تعطي الناس الفرح مثل الانتصارات والسلام... وعلى العكس منذ ذلك إذا كان النبي ذا مزاج حزين تُوحى إليه الشرور كالحرب والعذاب" (ص 212). 
   تتجلى الاستقلالية الذاتية العجيبة في شخصية المسيح من خلال النظر في مرجعيات الكلام الذي يخاطب به أتباعه، فبينما يسعى غيره من الأنبياء إلى تأكيد أن ما يتفوهون به  ذو مصدر آلهيّ متعالٍ ليضفوا على خطابهم مصداقية، فإننا لا نجد في حال المسيح مثل هذا العناء، فهو لا يحيل إلى مرجعية متعالية؛ بل أنه يؤكد أن الكلام كله نابع من ذاته، والأفعال صادرة عن إرادته، والمعجزات آتية عنه دون أن يرجعها إلى قوة خارجة عن ذاته، لذلك نجد تواترا للعبارات الآتية: الحق أقول لكم ... أما أنا فأقول... (ص 231)
     يمكن أن نميّز في كلام الأنبياء بين مستويين من القول: ما هو صادر عن الذات الإلهية؛ أي الوحي أو الكلام المقدس. وما هو صادر عن النبيّ الإنسان؛ أي الكلام البشري، لكن هذا الفصل غير جائز في حال المسيح؛ ذلك أن كل ما يصدر عنه مقدس. وظاهرة الفصل جلية بوضوح في الإسلام بين كلام الله| القرآن وكلام النبي| الحديث، حتى أن محمدا نفسه كان ينبّه على هذا الفصل عندما نهى بعض أصحابه عن تدوين ما كان يتفوّه به في أحواله العادية؛ أي عندما يكون في غير حالات الوحي، خوفا من أن يلتبس كلامه ويختلط بالقول الإلهي. وعلى الرغم من أن السنة النبوية المحمدية تفسّر في العديد من نصوصها كلام الله، ظل القرآن أعلى منزلة والمصدر الأول في الأحكام والتشريعات والأخلاق والعبادات، لذلك ظل الفاصل المادّي قائما بينها وبين نص الوحي.
    تذكر مصنّفات علوم القرآن ثلاثة آراء تحدد مختلف المواقف حول مصدر الوحي، يقول أولها بألوهية المصدر لفظا ومعنىً، والثاني بألوهية المعنى وبشرية اللفظ، والثالث بألوهية المعنى ومَلَكية اللفظ (اللفظ صاغه المَلكُ). ويذكر المؤلف إلى أن ما يهمّنا من هذه الآراء القول الثاني، وفيه أن القرآن نزل معنى على محمد، وأنه صاغ تلك المعاني بلغة العرب (ص 239-240).
    ومن الجدير بالذكر، عالج الفيلسوفان الفارابي وابن سيناء مسألة النبوة، وكلاهما يرجع الدور الأساس في بلوغ هذه المرتبة إلى عمل القوة الإدراكية "الباطنة" المسماة بـ "المتخيلة". ذلك يعني أن مفهوم النبوة في فلسفتيهما يختلف عن مفهومها الإسلامي الصافي(2).
                                                        خاتمة
    في الخاتمة يتوصل المؤلف إلى خلاصة هامة وهي ضرورة استفادة الدراسات العربية والإسلامية من مناهج العلوم الإنسانية بصفة عامة، ومن منهج علم الأديان المقارن بصفة خاصة، بعد أن أضحى من اليقين أن النص القرآني والنصوص التي دارت عليه في مختلف الحقول المعرفية نُصوص جامعة احتوت داخلها على روافد نصّية مختلفة المرجعيات والثقافات. وقد صار من اليقين أيضا أن فهم النصّ القرآني والنصوص الحوافّ يقتضي العودة إلى نصوص سابقة تاريخيا للتراث العربي والإسلامي لتبيّن النصوص المستحضرة من ثقافات أخرى وكيفية استحضارها والتحويلات التي أُلحقت بها لتنسجم وطبيعة الثقافة والبنية الاجتماعية والاقتصادية التي انتقلت إليها تلك النصوص.
   إن الأديان يستعير بعضها من البعض الآخر، وأنها تشتمل على قواسم مشتركة دون أن ينصهر أحدها في الآخر، وأن الحقيقة الدينية ليست مطلقة، لذلك لا يمكن أن تكون مقصورة على دين دون دين، وأن كل دين يحمل جوانب من الحقيقة وليس كل الحقيقة. ومن شأن هذا التصور أن يجعل قارئ النصوص المقدسة متفهما لما بداخلها من تشابه وتباين دون السقوط في الأحكام المعيارية الممجّدة لدين الذات والمستهجنة لدين "الآخر". وهذا يمثّل أحد الأسس، التي ينهض عليها العلم المقارن للأديان، وهو الحياد الديني الذي بغيابه تغيب الدراسة العلمية الموضوعية للمسألة الدينية (ص 296).
    أخيرا، نحن إزاء بحث أكاديمي قيّم بذل فيه الباحث جهدا كبيرا في التحليل والمقارنة والاستنتاج وعاد إلى الكثير من المراجع ذات الصلة، وهو جدير بالقراءة المتمعنة خصوصا في ظل أوضاعنا  الحالية التي يسود فيها التزمت الديني والمذهبي والطائفي.   
1- للمزيد حول علم الكلام راجع: حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية، المجلد الثاني، الجزائر| بيروت، دار الفارابي، 2002، ص 389-441.
2- المصدر نفسه، المجلد الرابع، ص 255، وللمزيد راجع الصفحات 255-259   
         

31
قراءة في كتاب "كركوك: جدل الأرقام والسرديات
مأزق الانتخابات في سياق تحولات ديموغرافية حالة انتخابات مجلس المحافظة"*
                                                                                                           
د. هاشم نعمة
    كُتب لملف كركوك أن يكون من الملفات الساخنة، والذي يدور الصراع بشأنه على خلفيات طبقية-اجتماعية وقومية وسياسية وحزبية وفئوية وشخصية، بدلا من أن تكون كركوك نموذجا للتنوع الثر القومي والديني وللتعايش والسلم الاجتماعي.
   ونظرا إلى أهمية هذا الملف على صُعد متعددة، ولما يختزنه من صراعات قد تتفجر في أوقات ما، ولتسليط الضوء على هذه المسألة الشائكة، اخترنا تقديم قراءة عن الكتاب المذكور لمؤلفه الدكتور خليل فضل عثمان، وهو أكاديمي وباحث، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018، لعل ذلك يُسهم في حدث الفاعلين السياسيين على إيجاد تفاهمات حقيقية تصب في مصلحة سكان كركوك خصوصا، ومصلحة العراق عموما، وتخرج هذه المسألة من المأزق الحالي. يقع الكتاب في 196 صفحة. أتبع المؤلف في كتابه هذا منهجا أكاديميا، وتميز بالحياد على الرغم من حساسية هذا الملف.
   يضم الكتاب توطئة ومقدمة وستة فصول وخاتمة وتوصيات بعنوان بحثا عن مخرج من النفق المظلم. وجاءت عناوين الفصول على النحو الآتي: كركوك وتحولات الدولة والهوية في العراق، وكركوك في متاهات التغيير الديمغرافي، وصعود لجنة المادة (140) وهبوطها، واتجاهات النمو السكاني في كركوك، وكركوك في سرديات المظلومية والظالِمِية العراقية، وجدليات الانتخابات وحق الاقتراع.
    يذكر المؤلف في التوطئة إن القضايا التي أرخت بظلالها على العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد بعد عام 2003 كثيرة ومتنوعة. ولكن أيا من هذه القضايا لم تُثِر قدرا من الاهتمام، بل والمخاوف على مصير العراق برمته، كما أثارته مسألة كركوك. فالصراع على محافظة كركوك، الذي طالما أججته مزاعم متنافسة في شأن هويتها، يضرب بجذوره عميقا في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. وقد وجد هذا الصراع تربة خصبة في أجواء الانقسام السياسي الحاد الذي ساد البلاد، منذ الإطاحة بنظام صدام حسين؛ بحيث باتت مسألة كركوك محل تجاذب ومزايدات بين غرماء العملية السياسية في العراق. إن مساعي الأطراف السياسية الكردية منذ عام 2003 الرامية إلى ضم كركوك إلى إقليم كردستان، قد اصطدمت بأنواع متعددة من الرفض من العرب والتركمان والحكومة المركزية. ومع تصلب مواقف الأطراف المتنازعة، تنامت المخاوف من أن تتحول كركوك إلى برميل بارود مهيأ للانفجار في أي وقت.
    يشير عثمان إلى أن الحديث عن انتخابات مجلس محافظة كركوك يتسم بمسحة من الخيبة؛ إذ إنه يفصح عن فشل متكرر في إجراء هذه الانتخابات جراء انعدام التوافق بين مكوناتها، فقد أطلت كركوك على كل موسم انتخابي ما بعد 2003 عقبة كأداء يستعصي حلها، فكان التأجيل غالبا ملاذا لاذت به الحكومات المتعاقبة بسبب عجزها عن التوصل إلى صيغة ترضي جميع الأطراف، وتتيح إجراء  انتخابات لمجلس المحافظة.
    إن استمرار رواسب الانتماءات ما قبل الوطنية خلال العهد الملكي، لم يتطور إلى نكوص تام نحو الهويات الفرعية. كان الزمان زمان طغيان الأيديولوجيات الراديكالية، بطبعتيها القومية والماركسية، على وقع انتصار الثورات الاشتراكية في العديد من البلدان، واتساع رقعة حركات التحرر الوطني. ولئن دل صعود الأيديولوجيات الراديكالية في العراق على شيء، على مستوى ديناميات حراك الهويات وتصادمها وتفاعلها في تلك الحقبة، فإنما يدل على تقدم الانتماءات الفكرية على الهويات الفرعية ما قبل الوطنية.
   وعن الأحداث الدموية التي عرفتها كركوك يوم إحياء الذكرى السنوية الأولى لثورة 14 تموز، يذكر المؤلف "يمكننا الجزم بأن كما هائلا من الأحقاد الطبقية كان يعتمل ويفور في ذاك اليوم المأساوي من تموز| يوليو 1959 في صدور مرتكبي العنف بحق التركمان. فلقد شكل التركمان تاريخيا عماد طبقة كبار ملاك الأراضي والتجار وشريحة المتعلمين في كركوك، وكان بينهم عدد لافت من الموظفين في مكاتب شركة نفط العراق في كركوك، في حين أن أكثرية الكرد فيها كانوا من الفلاحين المعدمين أو العمال الكادحين من أصول ريفية" (ص 38).
   دخلت كركوك دائرة الجدل حول الفدرالية الذي أججه إقرار النظام الفدرالي في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية عام 2004، ومن ثم في الدستور العراقي الدائم عام 2005 شكلا تنظيميا إداريا للبلاد. وفي حين استمر الكرد في المطالبة بضم كركوك إلى إقليم كردستان، تصاعدت في الوسط التركماني المطالبات بتحويل كركوك إلى إقليم خاص، أو أن تكون ضمن إقليم تركماني على شكل قوس يمتد من تلعفر في محافظة نينوى على الحدود العراقية-السورية حتى مندلي في محافظة ديالى على الحدود العراقية-الإيرانية، مرورا بكركوك وطوزخورماتو في محافظة صلاح الدين، ويُعرف باسم "تركمن إيلي" أي "وطن التركمان". في المقابل، مال العرب في كركوك إلى رفض الفدرالية بشدة، خشية ضم كركوك إلى إقليم كردستان. وهكذا بدت كركوك في خضم هذا الجدل شكلا حادا من أشكال تحكم الهويات الفرعية في مجريات الحياة السياسية والاجتماع السياسي في عراق ما بعد 2003، وسعيها المحموم لتأكيد وجودها وإلغاء كل ما عداها.
                                                   التغيير الديمغرافي
   التغيير الديمغرافي في كركوك فعل سياسي؛ أي هو نتاج سياسة مرسومة بقصد إعادة تشكيل الخريطة السكانية للمحافظة. فعلى الرغم من وجود اتفاق باعتماد سياسة ممنهجة كانت ترمي إلى "تعريب" كركوك، لكن الرؤى تتباين حول نقطة البداية التي شرعت فيها مشاريع التغيير الديمغرافي في كركوك. فلقد تبنى بعض الأكاديميين والسياسيين الكرد والغربيين موقفا يعزو الزيادة في نسبة العرب في كركوك إلى السياسات الحكومية المقصودة، والتي سعت لضمان سيطرة الحكومة المركزية على نفط كركوك عبر توطين العرب وتشجيعهم على الاستقرار فيها.
   وفقا لهذا المنظور الموغل في هواجس مُستلة من عصر القوميات، بكل ما يضج فيه من سرديات مظلومية الأنا الجمعية بحسب المؤلف، يجري شطب كل العوامل الأخرى التي قد تكون مثّلت حوافز لانتقال أشخاص وعائلات من شتى مناطق العراق إلى كركوك من قبيل فرص العمل المجزية التي خلقها اكتشاف النفط في كركوك عام 1927، أو النقل الوظيفي، أو للاستفادة من كفاءات إدارية في إدارة ثروة وطنية.
    لا شك اعتمد نظام البعث سياسات مختلفة لتغيير الواقع الديمغرافي في كركوك لصالح العرب، بما في ذلك تقديم حوافز ترمي إلى تشجيع أعداد كبيرة من العرب، ومعظمهم من السكان الشيعة في جنوب العراق ووسطه، على الانتقال إلى كركوك والإقامة فيها. وفي أواسط السبعينيات، وتحديدا عقب انهيار الحركة الكردية المسلحة، اعتمدت الحكومة العراقية إجراءات توخت تغيير الحدود الإدارية لكركوك، ومن ثم تركيبتها السكانية. وأضفت سلسلة من المراسيم الجمهورية على هذه التعديلات الإدارية غلالة من الشرعية القانونية. 
   إلى جانب ذلك، وزعت السلطات على أعتاب التعداد السكاني العام عام 1997 استمارات "تصحيح القومية" على السكان الكرد والتركمان  والكلدو-آشوريين في مسعى يرمي إلى إجبارهم على تغيير قوميتهم إلى العربية. وكان الطرد من البيوت جزاء الرافضين ملء تلك الاستمارات. وقدمت الحكومة حوافز لتشجيع سكان كركوك على "تصحيح قوميتهم" إلى العربية.
   في أعقاب سقوط نظام صدام حسين، باتت كركوك أسيرة هذا الماضي الأليم. وساد التباهي بالقوة العددية للمكونات السكانية. وجاء ذلك موصولا بتنامي الرغبة في أوساط الكرد والتركمان خصوصا، في تصحيح ما جرى من تغييرات ديمغرافية إبان حقبة حكم حزب البعث.
  ما أن سقطت مدينة كركوك بلا قتال في أيدي قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني في 10 نيسان| أبريل 2003، حتى بدأ الكرد بالتدفق إلى المحافظة. ولم تسلم كركوك من حالات السلب والنهب التي شهدتها مناطق واسعة من العراق في أعقاب سقوط النظام. وتواردت تقارير في تلك الفترة عن عمليات طرد وتهجير قسريين للعرب من بعض مناطق المحافظة. وشهدت كركوك تدفقا آخر للكرد في الفترة التي سبقت انتخابات كانون الثاني| يناير 2005، والتي شملت ثلاثة اقتراعات متزامنة لاختيار أعضاء كل من الجمعية الوطنية الموقتة، ومجالس المحافظات، والمجلس الوطني الكردستاني الذي هو بمنزلة السلطة التشريعية في إقليم كردستان. وقدم الحزبان الكرديان الرئيسان جملة من الحوافز لإقناع المهجرين من أكراد كركوك بالعودة إلى المحافظة. 
                                               لجنة المادة (140)
    في ضوء المرارات الذي خلفته محاولات "تعريب" كركوك وما صاحبها من انتهاكات وتهجير، وحتى القتل، لم يكن مستغربا أن تحتل مسألة كركوك، وغيرها من المناطق التي باتت تُعرف لاحقا بـ " المناطق المتنازع عليها"، موقعا متقدما في المداولات التي شهدها العراق لصياغة دستور دائم بعد عام 2003. وأفلحت ضغوط الأكراد، وتجاوب أطراف شيعية فاعلة في العملية السياسية، في إدخال مادة في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي أُقر في آذار| مارس 2004، دستورا موقتا للبلاد إلى حين صياغة الدستور الدائم الذي جرى الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول| أكتوبر 2005 تعالج التغيير الديمغرافي في كركوك. لذلك سعت المادة (58) من قانون إدارة الدولة لإزالة ما لحق كركوك وغيرها من المناطق من إجحاف، تمثل بالتغيير الديمغرافي إبان النظام السابق، وأدرجت سلسلة إجراءات لمعالجة هذا الإجحاف.
    لم يكن أمام السلطات العراقية متسع من الوقت لتطبيق كل بنود المادة (58) قبل سن دستور دائم. كما أن مؤسسات الدولة كانت منهكة ومتهالكة وتفتقر إلى الموارد والكفاءات اللازمة لتطبيقها، فضلا عن طبيعة الماد الخلافية، وما تثيره من حساسيات. وكذلك تداعي الوضع الأمني. وهكذا جرى ترحيل المادة (58) إلى الدستور العراقي الدائم. فقد ألزمت المادة (140) السلطة التنفيذية في العراق بتنفيذ كل بنود المادة (58) وحددت لذلك سقفا زمنيا هو 31 كانون الأول| ديسمبر 2007.
   وبغية تنفيذ المادة (140) شُكلت "لجنة المادة 140" في 9 آب| أغسطس 2006 بموجب الأمر الديواني رقم (46) الذي أصدره رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. وشكلت اللجنة من 9 أعضاء، وهم 3 كرد و3 شيعة بينهم تركمانيان و2 سنة عرب وواحد كلدو-آشوري. وفي بداية تأسيس اللجنة كان يترأسها الأستاذ حميد مجيد موسى (سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حتى المؤتمر الوطني العاشر) ثم رأسها لاحقا الأستاذ رائد فهمي وزير العلوم والتكنولوجيا الأسبق. وقد طرأت عدة تغيرات على هذه التركيبة على مر السنين.
    وأدت الخلافات بين مختلف الأطراف حول صلاحية العمل بالمادة عقب التاريخ المنصوص عليه لإنهاء عملها إلى توقف اللجنة فعليا عن إصدار قرارات، باستثناء القرار رقم (7) الصادر بتاريخ 12 تموز|يوليو 2009 القاضي بـ "إعادة الراغبين من العوائل المُرَحلة والمُهَجرة والمُهاجرة الذين رُحلوا وهُجروا من المناطق المشمولة بأحكام المادة (140) من الدستور في وسط وجنوب العراق نتيجة سياسات النظام السابق" (ص 87).
   إن المدة الزمنية التي حُددت لتنفيذ المادة لم تكن كافية على الإطلاق لحل القضايا والملفات التي توخت حلها في إطار مسار قانوني ودستوري معقد من أبرز سماته - شأنه في ذلك شأن أي مسار قضائي أو شبه قضائي- البطء في التنفيذ. كما أن ربط كركوك بمناطق متنازع عليها غير مُحددة بدقة جعل حل موضوع كركوك أشد تعقيدا. فالمادتان (58) و(140) لا تشيران إلى حدود المناطق المتنازع عليها، بحيث لا شيء يمنع منطقيا إدراج مناطق أخرى في العراق، ليست موضع مطالبات كردية، ضمن المناطق المتنازع عليها. وقد تحولت اللجنة بمرور الزمن إلى هيكل فارغ يشله انعدام المخصصات المالية. فاللجنة التي يرأسها حاليا هادي العامري لم تعقد اجتماعا لها منذ أكثر من سنتين (وقت صدور الكتاب).
                                         جدلية الانتخابات وحق الاقتراع
    يزداد سؤال أوزان المكونات ثقلا في المواسم الانتخابية، فالجدل بشأن التركيبة الديمغرافية في كركوك انسحب جدلا وخصاما ونزاعا حول تحقيق تمثيل مُنصِف للمكونات في مجلس المحافظة، وتحديث سجلات الناخبين في المحافظة، وتحديد من يحق له أن يدلي بصوته في انتخابات أو استفتاء يُجرى فيها. فالنزاع حول حق الاقتراع في كركوك، بكل ما يتسم به من تعقيد، يغدو شائكا أكثر لأن من المنطقي جدا افتراض أن قوائم الناخبين نفسها المُستَخدمة في الانتخابات ستُعتَمَد أيضا في الاستفتاء المثير للجدل على الوضع النهائي لكركوك. وأدى الجدل المحتدم المتواصل حول حق الاقتراع دورا في استثناء المحافظة من انتخابات مجالس المحافظات في عامي 2009 و2013، بحيث إنها لم تشهد إجراء انتخابات لمجلس المحافظة منذ عام 2005. لم يكن ذلك مفاجئا في عراق ما بعد 2003، حيث الهويات والانتماءات الضيقة لا تصغي سوى لهواجسها ومخاوفها، وحيث يسود مفهوم ضيق للتمثيل في المجالس المُنتَخبة يُنظَر وفقا له إلى الممثلين المنتخبين على أنهم يعملون لصالح مجموعاتهم العرقية والطائفية بدلا من الصالح العام وعموم الناخبين في دوائرهم الانتخابية.
    وعند إمعان النظر في عدد المسجلين في قوائم المستفيدين من الحصص التموينية في محافظة كركوك يُلاحظ أنه شهد ارتفاعا قدره 438001 شخص بين كانون الأول| ديسمبر 2003 ونيسان| أبريل 2009. والمُلاحظ أن وتيرة التسجيل في بعض مراكز التموين سجلت ارتفاعا كبيرا خلال هذه السنوات الست، علما أن هذه القوائم هي من يتم اعتمدها في سجل الناخبين نظرا إلى عدم وجود تعداد سكاني عام جديد في العراق منذ عام 1997.
    وتبدت مؤشرات على مظاهر شابت هذا النمو في سجل الناخبين في كركوك. فوفقا لبيانات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، شهد سجل الناخبين في كركوك خلال عملية التحديث التي أجريت قبل الاستفتاء على الدستور في تشرين الأول| أكتوبر 2005 زيادة بمعدل 45% مقارنة بالمعدل العام للزيادة في البلاد البالغ 8,2%. وتواصلت المخالفات في تحديث السجل في الفترة الفاصلة بين الاستفتاء على الدستور وانتخابات مجلس النواب في كانون الأول| ديسمبر 2005، ففي 7 تشرين الثاني| نوفمبر 2005، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أن تدقيقا لسجلات الناخبين في كركوك كشف عن وجود قرابة 86 ألف اسم أضيف "بأساليب لا تتواكب مع الإجراءات المعتمدة، وقد وجدت المفوضية أن هذه العملية هي محاولة متعمدة لتزوير العملية الانتخابية" (ص 162). وأعلنت المفوضية أنها سوف تزيل تلك الأسماء من سجل الناخبين في كركوك.
   إن إلقاء نظرة فاحصة على جدول سجل الناخبين، يتبين أن عددا من المراكز شهد قفزات هائلة في التسجيل، وخصوصا بين عامي 2004 و2005. أما الصورة الكلية للتغيرات التي طرأت على أعداد الناخبين المسجلين في كركوك، فلا تبعث على الاطمئنان؛ إذ شهد عدد الناخبين المسجلين ارتفاعا بمعدل 27,99% بين كانون الثاني| يناير 2005 وأيلول| سبتمبر 2005.  وهذه القفزة لا يمكن بأي حال أن تكون ناجمة عن زيادة طبيعية في عدد السكان؛ بحيث تُضاف أسماء الأفراد الذين يبلغون السن القانونية للاقتراع إلى سجل الناخبين، وإنما هي إلى حد بعيد، نتاج للزيادة المفاجئة في عدد السكان الناجمة عن عودة المُهجرين الذين رُحلوا إبان حكم صدام حسين.
    يحيلنا ذلك كله، معطوفا على الكم الهائل من حالات الخلل التي اعترت عملية تحديث سجل الناخبين إلى فرضية حدوث محاولات مُمنهجة لزيادة عدد الناخبين المسجلين، لا بل حشو سجل الناخبين. وما قامت به مفوضية الانتخابات قبيل انتخابات 15 كانون الأول| ديسمبر 2005 من شطب أسماء وجدت خللا فنيا في تسجيلها كان قاصرا عن تبديد هذا الانطباع بعدم عدالة عمليات التسجيل ونزاهتها؛ لأنه إجراء لا يعالج كثيرا من أساليب الغش وحالاته التي لجأ إليها بعضهم في تسجيل الناخبين. هذا فضلا عن أن المفوضية لم تعتمد آلية لتحديد الأشخاص الحقيقيين - والمفترض أنهم كُثُر-  الذين يحق لهم الاقتراع في كركوك، والذين ارتكبوا أخطاء غير متعمدة في ملء استمارات التسجيل أدت إلى شطبهم من السجل.
    أُنشئت لجنة برلمانية بعنوان "لجنة المادة 23 من قانون انتخاب مجالس المحافظات"، وضمت نائبين كرديين، ونائبين عربيين، ونائبين تركمانيين، ونائبا مسيحيا واحدا، للعمل على تنفيذ بنود المادة، تتضمن مراجعة البيانات الديمغرافية الخاصة بكركوك، بما فيها السجل الانتخابي. إلا أن اللجنة التي اتفِق على أن تتخذ قراراتها بالتوافق أخفقت في تقديم تقرير موحد إلى مجلس النواب، لعدم تمكن أعضائها من تجاوز الاختلافات والتباينات في مواقفهم حول طرق حل الملفات العالقة، ومن ثم عمد ممثلو كل مكون على حدة تقديم تقرير منفصل، يتضمن رؤى المكون (بالأحرى رؤى النخب السياسية التي تدعي تمثيلها للمكونات) حول هذه الملفات ومقترحات لسبل معالجتها.
    في أتون متقد بلهيب الاتهامات المتبادلة بالغش والتزوير للتأثير في عمليات الاقتراع، ما جعل من المتعذر شمول كركوك في أي انتخابات تالية لمجالس المحافظات. وكان الدفع في اتجاه استثناء كركوك من الانتخابات اللاحقة صادرا عن كيانات وشخصيات تمثل المكونين العربي والتركماني، في حين أن الموقف الكردي ظل مصرا على شمول كركوك في انتخابات مجالس المحافظات أسوة بسواها من المحافظات.
    يختتم المؤلف الكتاب بالقول "أمام هذا الواقع الذي تتحول فيه الدورات الانتخابية لمجالس المحافظات في العراق إلى مناسبات لإعادة إنتاج المأزق الكركوكي على نحو أشد تعقيدا، نجد أنفسنا أمام سؤال ملح أشد من أي وقت مضى: هل من سبيل لإخراج كركوك من أعتى مآزقها؟" (ص 175).
* نشرت القراءة في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 413-414، تموز| يوليو 2020
   
 
 
   
 
   
   
   

32
العدالة الاجتماعية... مقاربات فكرية*
                                                                                           
د.هاشم نعمة
                                                      مقدمة                           
    العدالة الاجتماعية مصطلح واسع الاستخدام، يتضمن مسائل خلافية على مستوى المفهوم والتطبيق. وهو محل لصراع فكري وأيديولوجي، منذ وقت بعيد، لأنه يعكس جانبا هاما من الصراع ذي المضامين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لذلك نراه قد انعكس في كتابات مفكرين وباحثين من فروع معرفية مختلفة ممن اهتموا بهذه الموضوعة وما يرتبط بها من مفاهيم. الغرض من هذه المقالة هو مناقشة أبرز المقاربات الفكرية لهذه الموضوعة، لعلها تكشف لنا عن بعض المضامين الفكرية والأيديولوجية التي ارتبطت بها.
    هناك الكثير من التعاريف للعدالة الاجتماعية، لكن اخترنا هنا أيراد تعريف الأمم المتحدة لعله يضمن منحى محايدا؛ إذ فسرت مفهوم العدالة الاجتماعية عام 2006، باعتباره توزيعا منصفا ورحيما لثمار النمو الاقتصادي. وإن هذه العملية يجب أن تضمن احترام النمو المستدام الذي يندمج مع البيئة الطبيعية،  وترشيد استخدام الموارد غير المتجددة، وأن تتمكن أجيال المستقبل من التمتع بأرض جميلة ومعطاء.  بعد ذلك تم تحديد ست نقاط خلل رئيسة، والتي يمكن أن تضعف بشدة من استمرارية العدالة الاجتماعية والسلام. تشمل هذه النقاط، التفاوت في توزيع الدخل والممتلكات، فرص الحصول على العمل، والمعرفة، والصحة والأمن الاجتماعي، بالإضافة إلى المشاركة والارتباط المدنيين.
   وقد نجحت الجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة عام 2014، من الوصول إلى إجماع إقليمي حول تعريف العدالة الاجتماعية، يشمل حقوق متساوية والوصول إلى الموارد والفرص للرجال والنساء، مؤكدة على الاهتمام الخاص بإزالة العوائق التي تعيق تمكين المجموعات المحرومة من استثمار إمكانياتها للمشاركة في صنع القرار الذي يحكم حياتها. في هذا التعريف تتركز العدالة الاجتماعية في مبادئ المساواة والإنصاف والحقوق والمشاركة(1). وهكذا نرى أن هذا التعريف ذو طابع قانوني، وبالرغم من أهميته الراهنة إلا أنه لا يعكس الأسباب الحقيقية للتفاوت الاقتصادي والاجتماعي الذي هو جذر ضعف أو انعدام العدالة الاجتماعية.
     وفقا لتايلر وسميث (1998)، هناك علاقة قوية بين تصور أو فهم العدالة الاجتماعية وبين شعور الناس وحكمهم على ما هو "صواب" و"خطأ"، "أخلاقي" و"غير أخلاقي". فعندما يشعر الناس أن القرارات عادلة، فهم يكونون سعداء للتعاون مع بعضهم البعض، يدعمون المجموعة ويقبلون قرارات السلطة، وعندما يشعر الناس بالظلم والحيف، فإن استجابتهم يمكن أن تكون الاحتجاج أو الثورة أو التخريب.(2) وهناك الكثير من الأمثلة عبر التاريخ بمراحله المختلفة تؤكد هذا الاستنتاج.
                                               المقاربة الليبرالية         
    الليبرالية رؤية للإنسان والمجتمع والسياسة والاقتصاد، وهي تعتمد في رؤيتها هذه على نظرة خاصة للإنسان تتصف بكونها ذرية أو تفتيتية، حيث ترد المجتمع إلى أفراد، وتنظر إلى هؤلاء الأفراد على أنهم ذرات مستقلة عن بعضها. ولا تختزل المذاهب الليبرالية المجتمع إلى أفراده وحسب، بل هي كذلك تحمل تصورا خاصا عن الفرد. فالفرد لديها كائن بيولوجي بصفة رئيسية، يصدر عنه سلوكا مشروطا بالرغبة في حفظ بقائه. ولذلك كانت نظريات توماس هوبز (1588-1679) وجون لوك (1632-1704) حول الطبيعة البشرية الإرهاصات الأولى لعلم النفس التجريبي في القرن التاسع عشر(3) وما تلاه من كتابات سارت على ذات النهج.
    مجتمع القرن السابع عشر الذي عاش فيه هوبز ولوك هو أول مجتمع يضفي على الرغبة قيمة ملزمة وينظر إليها على أنها عقلانية ومشروعة. والسبب في ذلك يرجع إلى أن الظرف الاجتماعي والتاريخي آنذاك كان في حاجة إلى تبرير التغيرات الجديدة الحادثة على مستوى الاقتصاد والتي كانت تتطلب من الفرد الزيادة الكبرى في ثروته والسعي نحو الحصول على المزيد منها باستمرار، ذلك لأن قيم الزهد والتقشف والقناعة والرضا بالقسمة والنصيب لم تكن تصلح في مجتمع برجوازي ناشئ يسعى لزيادة الثروة. وبذلك كان النظام الاقتصادي الناشئ بحاجة إلى محفزات فردية للعمل، ولم يكن هناك أصلح من النظرة الليبرالية عن الطبيعة الإنسانية باعتبارها رغبة لا متناهية، والتي تترجم اجتماعيا إلى الرغبة في الامتلاك اللامحدود(4) والتراكم المستمر للثروات.
    تضم الليبرالية الاقتصادية في إطارها الواسع الفكر السياسي لليبراليين الإنكليز في القرن السابع عشر، وعلى رأسهم توماس هوبز وجون لوك، والاقتصاد السياسي الكلاسيكي وخاصة مدرسة آدم سميث التي تضم ريكاردو وجيمس ميل وإبنه جون ستيوارت ميل وتوماس هل جرين، كما تضم الاقتصاد النيوكلاسيكي كله المعروف بالمدرسة الحدية(5) ابتداء من بداياته الأولى لدى المدرسة النمساوية التي أسسها كارل منجر ويوجين فون بوم، والجيل الثاني من هذه المدرسة والذي يضم فون ميسز وهايك، ومؤسسي الاتجاه النيوكلاسيكي من غير النمساويين أمثال جيفونز ومارشال في انكلترا ووالراس في العالم الناطق في الفرنسية، بالإضافة إلى المدرسة الأمريكية في الاقتصاد النيوكلاسيكي والتي تضم جون بيتس كلارك وميلتون فريدمان وبول صامو يلسون(6).     
    لقد أسس العقد الاجتماعي(7) لنظام سياسي يتساوى فيه الناس (المواطنون) أمام القانون، أي يتساوون في التمتع بالحقوق السياسة من دون تمييز بحسب الدين أو الجنس أو الأصل الاجتماعي. لكن الليبرالية التي اهتدت إلى هذا الحل، الذي فتح الباب أمام التطور الديمقراطي، تركت مسألة الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية للمنافسة، أي لم تؤمن للجميع الحقوق الاجتماعية بمثل ما أمنت الحقوق السياسية. لذلك كان للماركسية الفضل في أنها شددت على أن المواطنة التي تساوي المساواة السياسية لا تكتمل إلا بالمساواة الاجتماعية، أي المساواة في الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية(8). وسنعود إلى المقاربة الماركسية للعدالة الاجتماعية بشيء من التوسع.
    عالج مفكرون معاصرون العدالة الاجتماعية باعتبارها فرعا للتوزيع. واحد من الأنصار الأكثر شهرة لهذه الفكرة هو جون رولز في كتابة "نظرية العدالة"؛ إذ اعتبر فكرة العدالة إنصافا وكانت مركز نظرته الفلسفية للعقد الاجتماعي. وقد طور بعض المنظرين أكثر هذه الفكرة عن طريق ربطها بالحاجيات التي يحتاج إلى توزيعها وأنماط هذا التوزيع. وآخرون ناقشوا بأن العدالة الاجتماعية تتطلب التخلص من الهيمنة المؤسساتية والظلم(9) الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
    يقول رولز في هذا الصدد "أردتُ التوصل إلى تصور في العدالة يقدم بديلا نظاميا معقولا عن المذهب النفعي، الذي ساد بشكل أو بآخر لفترة طويلة في التقليد الأنكلو-ساكسوني من التفكير السياسي. والسبب الرئيس الذي دفعني لإيجاد مثل هذا البديل هو الضعف، كما أعتقد، في العقيدة النفعية كأساس للمؤسسات الديمقراطية الدستورية. على وجه الخصوص، لا أعتقد أن المذهب النفعي يستطيع تقديم تفسير مرض للحقوق والحريات الأساسية للمواطنين كأفراد أحرار ومتساوين، وهو متطلب ذو أهمية أولى مطلقة من أجل تفسير المؤسسات الديمقراطية"(10). وقد تصدى للمذهب النفعي بالنقد أيضا مفكرون وباحثون كُثر خصوصا الباحثين الماركسيين.
    ويشير رولز إلى أن العدالة إنصافا ليست نظرية تعاقدية تامة؛ إذ أنه من الواضح أنه يمكن التوسع بالفكرة التعاقدية إلى اختيار نظام أخلاقي كامل، بمعنى نظام يتضمن مبادئ جميع الفضائل وليس العدالة فقط. إن الوضع الأصلي(11) هو الوضع الاجتماعي المبدئي المناسب الذي يضمن أن تكون الاتفاقات الأساسية التي يتم التوصل إليها منصفة. هذه الحقيقية هي التي تقود إلى تسمية "العدالة إنصافا". ومن ثم يعد الوضع الأصلي، هو التأويل الفلسفي الأكثر تفضيلا لوضع الاختيار المبدئي من أجل تحقيق الغرض وهو القيام بصياغة نظرية في العدالة(12).
   بوصف رولز مفكرا أمريكيا معاصرا، فإن نظريته عن العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن السياق الليبرالي الغربي العام، ولاسيما أنها "صورة للمذهب الليبرالي السياسي"، كما يشير إلى ذلك. فقد أدت الليبرالية، بفعل تناقضاتها وفلسفتها النفعية، إلى تعاظم كثير من مظاهر الظلم المتمثل في التفاوت الحاد بعد تصاعد التوجه الليبرالي الجديد وبداية التراجع عن برامج الرعاية الاجتماعية. وبات كل من الاستقرار الاجتماعي والسياسي، موضع قلق مما دفع رولز إلى التفكير بنموذج تعاقدي جديد، يتم التوافق فيه على مبادئ عامة للعدالة التي يرجى من العمل وفقا لمقتضياتها، التخفيف من حدة المظالم المتراكمة، بالانتقال بفلسفة العقد الاجتماعي إلى مستوى أكثر تجريدا عبر ما سماه "الوضع الأصلي"(13) ، وهذا التجريد يجعل من كتاباته في العدالة الاجتماعية هلامية وغير ملموسة.
    إن تأثير كانت في رولز وجهه نحو اتخاذ موقف "الأنانة" أو "الذاتية الحتمية" الذي يفيد التركيز الحصري على المجتمع الأوروبي-الأمريكي واتخاذ نظرة محدودة إلى الواقع الإنساني ككل؛ فهو يسعى فحسب إلى معالجة الصعوبات التي يعانيها المجتمع الليبرالي من دون أن يأخذ بالاعتبار كون هذا المجتمع لا يشكل سوى جزء من العالم المتعدد الثقافات.
    العدالة مرتبطة ارتباطا وثيقا بموازين القوى في المجتمع، أي طبيعة العلاقات الاجتماعية. الاستغلال، واستغلال دول لأخرى، والرأسمالية المعولمة والمتوحشة كما نعيشها اليوم، هي كلها شرور تسكت عنها نظرية رولز للعدالة وتُغّيبها عن النقاش، مثلما أنها لا تخصص سوى حيز ضيق للفئات الاجتماعية الثلاث الراجحة في النقاشات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية: "الأعراق-الطبقات-النوع"(14).
   مثّل السجال الفكري بين الماركسيين وأنصار نظرية رولز واحدا من أغنى النقاشات في الفلسفة السياسية المعيارية في العقود الثلاثة الأخيرة. فبعد نشر كتاب نظرية العدالة لرولز اعتبر الكتاب اليساريون (ولا سيما الفلاسفة الماركسيين) أن منظور رولز لم يذهب بعيدا كفاية، ما جعل تصوره للعدالة التوزيعية على وجه الخصوص، محور هجوم شرس. إذ أكد المعارضون الماركسيون لرولز أن مقترحاته المؤسساتية لا تمثل سوى تبريرات للترتيبات الاجتماعية القائمة، ما دامت اقتراحاته للمؤسسات العادلة لا تُبنى سوى على إجراءات "إعادة توزيع الدخل"، لا على "إعادة توزيع رأس المال"(15). 
     ظل التناغم الليبرالي الداخلي غير متحقق دائما، ولم تكن البدائل المطروحة لحل المشكلات الناجمة عن مبدأ عدم تدخل الدولة بمنأى عن التناقضات، ولاسيما أن تطبيق مبدأ عدم التدخل على المستوى الاقتصادي من شأنه التأثير سلبا في قيمة المساواة التي لا شك في أن عدم مقاربها يفقد قيمة الحرية معناها، ويحول دون الانتفاع منها. الأمر الذي جعل مشكلات الليبرالية وتناقضاتها مرتبطة، في جانب كبير منها، بالاقتصاد وعلاقته بالدولة؛ إذ يجب أن تمتنع الدولة عن التدخل في الشؤون الاقتصادية، وفق مبدأ "دعه يعمل"، وهو ما من شأنه العمل وفقا لقوانين السلوك البشري التي تمتلك آلياتها التنظيمية الطبيعية. ويسري ذلك على السوق التي تنظم ذاتها تلقائيا وفقا لآلياتها، ولاسيما آليتي العرض والطلب. لذا لا حاجة، والحال هذه، إلى تدخل الدولة لأن "يدا خفية" بحسب تعبير آدم سميث (1723-1790)، من شأنها تحقيق العدل والخير الكلي للمجتمع من دون أن يكون ذلك من ضمن مقاصد المشاركين في النشاط الاقتصادي، فهم يتصرفون بدافع الحرص على مصالحهم الخاصة، لا الحس بقيم التضامن والغيرية. فكل شيء ما عدا الجيش ومؤسسات إنفاذ القانون يجب أن يترك لاتفاق وتعامل المواطنين، والذي عبر سميث عن إمكان الوصول إلى أبعد منه، عندما قال إن "الدولة تحتمل قدرا كبيرا من الدمار"(16). لقد أثبتت الأزمة المالية والاقتصادية التي اندلعت عام 2008 والتي ما زالت تداعياتها مستمرة بطلان نظرية الليبرالية الجديدة، بل ظهرت أصوات حتى الرسمية منها في الولايات المتحدة وبلدان أوروبية تطالب بالمزيد من تدخل الدولة لوقف تداعيات الأزمة.
    عالجت نظريات الحركات الاجتماعية الجديدة على وجه الخصوص شروط تشكل الهوية الجماعية، وانبثاقها والعمل الجماعي لحركات العدالة العالمية في العالم المعاصر. هذه النظريات ظهرت استجابة للتغيرات في الأهداف، والاستراتيجيات. وقد ظهر جمهور أنصار الحركات الاجتماعية نتيجة للعولمة ذات التوجه الليبرالي الجديد. وعلى الرغم من أن الحركات الاجتماعية قد لا تزال تسعى من أجل الأهداف السياسية والاجتماعية، لكن بالنسبة إلى الحركات الاجتماعية الجديدة هناك تأكيد كبير على بناء الهويات الجماعية وإضفاء الشرعية عليها من اجل التضامن، وتقوية العزيمة للتعبير عن المقاومة. وقد جرى التنظير للقاعدة التنظيمية للحركات الاجتماعية الجديدة والذي أشار بأنها أكثر تشتتا، وتنوعا، وسيولة وتعقيدا في بنيتها مقارنة بالهياكل الأكثر تحديدا وثباتا العائدة للمنظمات الحركية السابقة مثل الحركات العمالية(17) وغيرها من الحركات على المستوى الوطني والعالمي.     
                                                المقاربة الماركسية
     حديثا، كان هناك الكثير من الجدل تركز بشأن ماركس والعدالة الاجتماعية؛ إذ أصبحت مسألة ما إذا كان ماركس لديه نظرية بشان العدالة الاجتماعية أم لا مسألة مركزية في النقاش. حتى الآن، تركز كثير من النقاش عموما بشأن تفسير وتعريف ضيق جدا للعدالة. لذلك، كان هذا التعريف هو الذي قرر مسار مناقشة هذه الموضوعة، بداهة.
   هناك من يرى أن ماركس لم يناقش العدالة بحد ذاتها، إذ لا توجد نظرية موسعة بشأنها، لكنه استخدم مصلحات أخلاقية مثل "نهب"، "سرقة" "استغلال"، وهكذا، لوصف استيلاء الرأسمالي على فائض القيمة. ومن خلال استخدام أوصاف الإدانة الأخلاقية يمكن أن نرى نظرية ضمنية للعدالة الاجتماعية تستند إلى معاير أخلاقية متعالية وعالمية تتعلق بالأحكام الاجتماعية ونقدها. علما أن ماركس انتقد العدل وصلته القريبة بالآليات القسرية لأجهزة الدولة، وانتقد فكرة حياد الدولة، وذلك عندما تستند مبادئ العدل على معايير أخلاقية، غير قانونية، وعامة(18).

     وإذا عدنا إلى البيان الشيوعي الذي كتبه ماركس وانجلز والذي صدر عام 1848 واخترنا منه بعض المقولات، نرى أنها تشير إلى مفاهيم ترتبط بصميم العدالة الاجتماعية منها: "البرجوازية... حولت الطبيب ورجل القانون والكاهن والشاعر والعالم، إلى أجراء في خدمتها."، "الفروق في الجنس والسن لم يعد لها شأن مجتمعي بالنسبة إلى الطبقة العاملة، لم يعد هناك سوى أدوات عمل تختلف كلفتها باختلاف السن والجنس."، "العامل، ما أن يستغلّه صاحب العمل، وما أن يدفع له أجره، حتى تنقض عليه القطاعات الأخرى من البرجوازية: مالك البيت والبقال والمرتهن إلخ..."، "الشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها، هو تكديس الثروة في أيدي خواص، تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور."، "الشيوعية لا تجرد أحدا من تملك منتجات مجتمعية، بل تنتزع فقط القدرة على استعباد عمل الغير بواسطة هذا التملك"(19).

    انتقد ماركس نظرية الدولة العائدة إلى هيغل في "مساهمة في نقد فلسفة القانون لهيغل" (1843) و كانت هذه واحدة من أولى كتاباته الرئيسة والتي ركز فيها على تأسيس نظريته في العدالة الاجتماعية. ووفقا لماركس، لم يبحث هيغل أبدا في طبيعة الدولة الحديثة في المجتمع الليبرالي، لكنه فقط حلل مفهوم أو جوهر الدولة كما هو متصور في الوعي، وكما هو فكرة مثالية في العقل. وإن هيغل لم ير التناقضات العميقة بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي. وبواسطة دمج العناصر الطبقية للمجتمع المدني بالوظائف المختلفة للدولة، يفترض هيغل بأنه تغلب على التضاد في وحدة الدولة وانسجامها(20).
     رفض ماركس في كتاباته الأولى كلا من المثالية السياسية لهيغل والنظرية الليبرالية والحقوق الطبيعية لهوبز ولوك، عندما بدأ بتطوير الخطوط العريضة لنظريته، بشأن العدالة الاجتماعية. وفي نقده الدقيق للحقوق الطبيعية والتحرر السياسي، سيرفض ماركس الحقوق الاقتصادية والملكية، في حين يقبل الحقوق السياسية للمواطنين والمشاركة في الدولة الليبرالية كبداية للتحرك نحو رؤية أوسع واشمل لتحرر الإنسان ونيل حقوقه. وإن روح الأخلاق التي توحد المواطنين مع الجنس البشري ليست هي الدولة الليبرالية، وإنما الاشتراكية والديمقراطية. وسيستخدم ماركس رؤيته هذه في الديمقراطية في وضع نظريته في القانون الطبيعي والعدالة الاجتماعية(21)، علما أن ماركس استخدم التعريف القانوني الأول للعدالة، الذي طوره لوك، والذي يؤكد الحقوق الطبيعية والعدالة القانونية كأساس في نقده الجوهري في رأس المال، في حين استخدم الفلسفة المتعلقة بالعدالة الاجتماعية كأساس أيضا في نقده الدائم لرأس المال من خلال كتاباته(22) الغزيرة والتي غطت موضوعات كثيرة.   
     قضى ماركس كثير من وقته في الرد على لوك وغيره من الكتاب بشأن طبيعة الدولة البرجوازية ليبيّن عدم جدوى أي تحرر سياسي أو سن قوانين تتعلق بالمواطنة بالنسبة إلى حالة اليهود؛ إذ ذكر أن أي حرية في فرنسا أو ألمانيا لن تكون سوى تحرر السوق ورأس المال تجاه زيادة الإنتاجية والتفاوت الطبقي. تركيز ماركس كان واضحا؛ إذ الغرض الحقيقي من وراء نقده لتحرر اليهود هو إيصال رسالة بأن الحقوق الطبيعية للإنسان والتحرر السياسي، هي ببساطة أمور قليلة جدا. وإن التحرر السياسي يختزل الإنسان، من جانب كعضو في المجتمع المدني، مستقل وكفرد أناني، ومن جانب آخر، يختزله إلى مواطن، شخص معنوي. في النهاية، هم (يقصد اليهود) فقط يتحررون إنسانيا نحو شكل جديد من العبودية الاقتصادية أو الإكراه الاقتصادي، وبأن الحيف أو الظلم لا يعكس حقيقة وصدق الإنسانية. كان ماركس واضحا عندما قال إن فشل الثورة الفرنسية يقع في الرغبة بتغيير طبيعة القوانين والحقوق في الدولة، لكن ترك العلاقات الاجتماعية للمجتمع المدني دون تغيير. ويشير إلى أن المشاركة الكاملة للناس تحدث فقط  من خلال تجاوز تناقضات الليبرالية، عندما يشارك كل عضو في المجتمع في الحياة الاقتصادية والسياسية بشكل كامل، وعندما يكون هناك توازن منسجم بين الحاجيات الإنسانية والقوة مع مجتمع أخلاقي (فضيلة) وديمقراطية. لقد شكلت نظرية الحقوق السياسية وحقوق الإنسان الأولية فقط بداية بحث ماركس للعدالة الاجتماعية(23) والتي يشير كثير من كتاباته إليها ضمنا.
    خلال حياة ماركس، سيوسع فهمه لحقوق الإنسان وتحرره، وهو يتحرك من الحقوق السياسية للمواطنين (الاجتماع وحرية التعبير وحرية الفكر)، إلى الحقوق الاقتصادية للمجتمع الديمقراطي (حقوق متساوية، توزيع عادل يستند إلى حاجيات الإنسان، الحق في إنشاء تعاونيات، ملكية العمال)، إلى الحقوق الاجتماعية للاشتراكية (التعليم، دولة الرعاية الاجتماعية، الضمان الاجتماعي، والبنية الاقتصادية التحتية). وبأن الحقوق تشكل الجزء الأساسي من العدالة الاجتماعية، وهي لا تهبط من الله، ولكنها موجودة في الطبيعة الأخلاقية والديمقراطية الاقتصادية والسياسية. وتكون الحقوق بدون المجتمع المدني جزءا من تحرر الإنسان التي تؤكد على الحرية باعتبارها تقرير مصير مبدع وخلاق في مكان العمل والمشاركة الديمقراطية. وعلى الرغم من أن الحقوق تعد مهمة عند ماركس منذ وقت مبكر، لكنها تمثل فقط جزءا صغيرا من نظريته الواسعة بشأن العدالة. وقد أهتم كثيرا ببحث التضمينات الواسعة للقانون الطبيعي العلماني. على الرغم من أنه لم يستخدم التعبير ربما بسبب دلالاته اللاهوتية والفلسفية(24) لأن مفهوم العلمانية نشأ في البداية في داخل الكنيسة ولكنه تطور وتخلص فيما بعد من مضامينه السلبية.           
   ربما في إمكان المرء القول إن ما يؤسس الاشتراكية، في نظر غرامشي، ليس التحول الاشتراكي بالمعنى الاقتصادي -أي الاقتصاد المخطط والمملوك للمجتمع- على الرغم من أن ذلك هو بوضوح أساسها وإطارها، وإنما ما يؤسسها هو التحول الاشتراكي بالمعنى السياسي والاجتماعي؛ أي ما قد أطلق عليه عملية تشكيل عادات الإنسان الجمعي التي ستجعل السلوك الاجتماعي تلقائيا، لكنه واع أيضا، وتنفي الحاجة إلى جهاز خارجي يفرض تلك القيم(25). ويمكن أن نقول إن هذه الرؤية تنطبق على تجربة البلدان الاشتراكية، وهي أحد أسباب فشلها.

    في الفكري الكلاسيكي القديم، كان يتعذر التمييز بين المجتمع المدني والدولة، حيث إن كليهما يُشير إلى نموذج من الترابط السياسي يحكم الصراع الاجتماعي. وكان هيغل في مقدمة النقاد الأوائل الذين ركزوا على اللامساواة والصراعات التي احتدمت بين المصالح السياسية داخل المجتمع المدني، وتطلبت رقابة دائمة من الدولة كي يبقى المجتمع "مدنيا". وقد تناول ماركس هذا الموضوع بشكل أوسع، ورأى أن المجتمع المدني ما هو إلا أداة ثانية لتوسيع نطاق مصالح الطبقة السائدة في ظل الرأسمالية. وتلاه في ذلك غرامشي الذي "قد يكون بمفرده هو المسؤول عن إحياء مصطلح المجتمع المدني في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية". ومع أن غرامشي عبّر عن فكره في إطار الماركسية، إلا أنه توصل إلى بعض النتائج المختلفة عن معلّمه الفكري. فالمجتمع المدني من وجهة نظر غرامشي هو موقع التمرد ضد ما هو تقليدي، بالإضافة إلى كونه ساحة لإقامة هيمنة ثقافية وأيديولوجية، تتجلى من خلال العائلات، والمدارس، والجامعات، ووسائل الإعلام والجمعيات الطوعية أيضا. وقد بلغ المجال العام أعلى مستويات الوضوح في أوروبا خاصة، من خلال عمل يورغن هابرماس الذي جمع بين التقليد الماركسي الذي يكشف عن الهيمنة في المجتمع المدني والتقليد الليبرالي الذي يؤكد على دوره في حماية الاستقلال الفردي، وحاك نسيجا من هذه الخيوط المختلفة في سلسلة معقدة من البُنى النظرية حول "الفعل التواصلي" و"الديمقراطية الاستطرادية" و"استعمار عالم الحياة". فبالنسبة إلى هابرماس وآخرين من المنظرين النقديين، يعرف المجتمع المدني السليم بأنه المجتمع "الذي يسيّره أفراده من خلال معانٍ مشتركة" تُرسى ديمقراطيا عن طريق بُنى تواصلية في المجال العام. وتتردد أصداء هذه الأفكار اليوم لدى مُنظرين وناشطين يساريين يعتبرون المجتمع المدني حلبة للسياسة التقدمية أي أنه "الأساس الاجتماعي لمجال عام ديمقراطي يمكن من خلاله تفكيك ثقافة اللامساوة"(26)، لذلك يتم التركيز على العمل وسطه في النضالات المطلبية والسياسية من قبل قوى اليسار العالمي.
                                                        التفاوت
    عندما تُبحث العدالة الاجتماعية، لا بد من بحث التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، لأنه يشكل جوهر هذه الموضوعة، ومؤشرا بالغ الأهمية على مدى تحقق العدالة الاجتماعية من عدمه. وعبر التاريخ تم بحث التفاوت من زوايا مختلفة، ومن مفكرين وباحثين مختلفين، انطلاقا من مرجعيات فكرية متعددة تعكس جانبا من الصراع ذي الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وسنركز هنا على مشهد التفاوت في الفترة المعاصرة.   
    على الرغم من أن مسألة كيفية قياس التفاوت في الثروة والدخل تبقى أيضا موضوعا للنقاش. لكن هناك اتفاق واسع بأنه بعد فترة من انخفاض التفاوت استمرت حوالي أربعين سنة خلال القرن الماضي، كان التفاوت قد شهد ارتفعا حادا في الولايات المتحدة في الثلاثين سنة الماضية(27). فقد قال ألن غرينسبان الرئيس السابق للبنك المركزي الأمريكي (2007) "إن تزايد النمو كان في مصلحة الفئات ذات الدخول العالية في المقام الأول، أما العمال الذين يحصلون على دخول لا تزيد على المتوسط المتعارف عليه فإنهم في وضع لا يحسدون عليه أبدا. إن هذه الظاهرة يمكن أن تؤدي إلى توترات اجتماعية عظيمة، لا بل يمكن أن تفضي إلى انقلابات اقتصادية جذرية"(28). وجاء هذا التحذير قبل اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية بقليل عام 2008.
    وفي ألمانيا، في الوقت الذي كشف فيه استطلاع للرأي على أن ثمانين في المئة من رؤساء الشركات يؤكدون أن الأمور تتسم بالعدالة في ألمانيا، يرى ثلاثة أرباع المواطنين أن الأوضاع  السائدة لا تتسم بالعدالة أبدا. ويرى أحد ممثلي "مراكز الرأي" في برلين ما يراه المواطنون. ويبني هذا الشخص، وجهة نظره هذه على الأحاديث الكثيرة التي أجراها مع كبار موظفي الشركات. فوفق وجهة نظره، فإن كثيرا من هؤلاء فقدوا الروح الضرورية لمشاركة المجتمع في أحاسيسه. فهدف هؤلاء الرؤساء يتمحور حول الربح -في المقام الأول- ونادرا ما يدور حول المسؤولية الاجتماعية. وحين يلومهم المرء على طرائق تفكيرهم هذه، فإنهم يبررون موقفهم بزعم مفاده أنهم: مجبرون على الانصياع لحركة أسواق المال(29). وهذه الحالة لا تنطبق على ألمانيا فقط، وإنما تنطبق على البلدان الرأسمالية عموما خاصة بعد تبني مذهب الليبرالية الجديدة.
      وعلى مستوى العالم وخصوصا النامي منه، تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن حوالي ملياري شخص يعيشون حالياً في أوضاع هشة، متأثرة بالنزاعات، منهم أكثر من 400 مليون تتراوح أعمارهم بين 15 و 29 سنة. كما تشير إلى أن خلق فرص عمل وتوفير نوعية أفضل من المهن وتحسين فرص الوصول إلى الأشغال لـ40 في المئة ممن هم في أمس الحاجة للعمل، كفيل بزيادة الدخل العام والمساهمة في بناء مجتمعات أكثر تماسكاً وإنصافاً، عصيّة على الصراعات العنيفة وقادرة على التصدي للتحديات التي تلي الصراعات.

    علما أنه لا يمكن أن يُدرَس الفقر منفصلا عن العدالة الاجتماعية، سواء تم التركيز على المقاربة النفعية "توافر الخيرات" أم على المقاربة الاقتدارية "توافر القدرات". وإذا لم يكن في الإمكان تجاهل أبعاد الفقر الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، فإن فهم الظاهرة فهما سليما يهدف إلى إلغائها أو الحد منها على الأقل، باعتبارها مسألة سياسية. يعني وجود الفقر يمثل فشل السياسة أو انعدامها، فما عسى أن يكون فشل السياسة غير انعدام العدالة الاجتماعية على وجه الخصوص؟(30).   

     هناك من يرى أن التفاوت الاقتصادي يمثل إشكالية بالنسبة إلى العدالة، ما لم تضبط أو توازن تأثيراته من قبل قوى أخرى. القوى الأخرى يمكن أن تشمل الضريبة وأنظمة تحويل الملكية التي تضمن معيارا أساسيا لائقا للحياة للجميع (وتخفض التفاوت بشكل مباشر)، سياسات الاقتصاد الكلي التي تعزز العمالة الكاملة، القوانين التي تحدد أو تقيد المبالغ التي يمكن أن ينفقها المرشحون في الانتخابات، أو القوانين التي تحدد حقوق الملكية وتجعل صفقات الأسواق قانونية وبطرق تمنع التفاوت الحالي، من أن يمنع الأقل ثروة من المنافسة اقتصاديا(31) وبالتالي زيادة مستوى التفاوت.
     إن إعادة توزيع الاستهلاك، هي حاجة ملحة في مجتمعات فيها ناس كُثر غير قادرين على كسب دخل كاف لحمايتهم من العوز، كما بينت تجربتا الأرجنتين والبرازيل الحديثتان فإن السياسات الاجتماعية التي تدعم استهلاك الفقراء، يمكن أن يكون لها أثر قوي في الحد من الفقر، لكن إعادة توزيع الاستهلاك ليس لها أثر يمكن تمييزه في توزيع إمكانيات كسب الدخل.
    إذن، هناك حاجة لإعادة صياغة أجندة البحث المتعلق بتوزيع الدخل؛ إذ إن التركيز شبه الحصري على إعادة التوزيع من خلال الضرائب والتحويلات يعد عملا مضللا فكريا وسياسيا، ما نحتاج لفهمه هو كيف يتغير توزيع إمكانيات الكسب مع الوقت، ولماذا تستمر حالة عدم مساواة إمكانيات الكسب بعناد لفترات زمنية طويلة؟ نحن بحاجة للتركيز ليس على "إعادة التوزيع" بل على المساواة، كما أن مثل هذا التركيز يستدعي فحص جميع السياسات العامة وليس فقط سياسات التوزيع التي تهدف التأثير في عمليات توزيع الدخل المستقبلية. إن الشعارات الصائبة هي "النمو الداعم للفقراء"، "تنمية مع مساواة". إذ يلزم التفكير بسياسات التنمية التي تركز على زيادة دخل الفقراء(32) وعدم استبدالها بسياسات مساعدة الفقراء.
                                                      ***           
    أخيرا، بالنسبة إلى العراق فإن الأحزاب الإسلامية الحالية لا تؤمن بالعدالة الاجتماعية لا من حيث المفهوم ولا من حيث التطبيق، وذلك استنادا إلى مرجعيتها الفكرية، والدليل على غياب العدالة الاجتماعية اندلاع انتفاضة تشرين الأول 2019 العارمة التي هزت بعمق كامل المنظومة السياسية والفكر الاجتماعي، وتخطت البُعد الطائفي لتؤكد أن البُعد الطبقي هو مفتاح التغيير. إن إلحاح الحزب الشيوعي العراقي على طرح هذه الموضوعة أمر صائب، لكن بدون أن تتغير موازين القوى لصالح القوى المدنية الديمقراطية يصعب الحديث عن تحقيق جوانب أساسية من العدالة الاجتماعية، ويبقى الضغط الشعبي والاحتجاج والتظاهر أساليب لابد من ممارستها لإجبار القوى المتنفذة على تبني -على الأقل- بعض السياسات الداعمة للعدالة الاجتماعية ومن ثم تقليل مستوى الفقر والعوز.         
الهوامش
1- ESCWA, Social Justice Matters: A View from the Economic and Social Commission for Western Asia, Beirut: 2019,  pp. 3-4.
2- Paul Kriese & Rondall E. Osborne (eds.), Social Justice, Poverty and Race, Amsterdam/New York: Rodopi, 2011, p. 44.
3- أشرف منصور، الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية، ط 1، القاهرة: رؤية، 2008، ص 19-20.
4- منصور، ص 21.
5- تذهب نظرية المنفعة الحدية إلى أن أول وحدة من السلعة تحوز على أعلى قيمة؛ إذ يكون الاحتياج لها شديدا وبالتالي يكون سعرها أعلى، ويقل احتياج الفرد مع الوحدة الثانية والثالثة من السلعة نفسها، وبالتالي تقل قيمة كل وحدة زائدة حتى نصل إلى وحدة أخيرة تحوز على أقل نفع، وبالتالي أقل سعر ممكن تصوره. ويذهب الاقتصاد النيوكلاسيكي إلى أن الإنتاج ينظم حسب أقل سعر وفق هذه النظرية. راجع منصور، ص 117-118. 
6- منصور، ص 14-15.
7- نسبة إلى كتاب جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي الذي صدر عام 1762.
8- عبد الإله بلقزيز، "في الماركسية: مراجعات أولية"، النهضة، العددان 17-18 شتاء-ربيع 2019، ص 62-63.
9-  ESCWA, pp. 3-4.
10- جون رولز، نظرية في العدالة، ترجمة ليلى الطويل، دمشق: وزارة الثقافة، 2011، ص 12.
11- للمزيد حول الوضع الأصلي راجع أيضا: جون رولز، العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، ط 1، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص 105-111.
12- رولز، نظرية في العدالة، ص 45-46.
13- محمد عثمان محمود، العدالة الاجتماعية الدستورية في الفكر الليبرالي السياسي المعاصر: بحث في نموذج رولز، ط 1، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014، ص 55-56.
14- مراد دياني، حرية- مساواة- اندماج اجتماعي: نظرية العدالة في النموذج الليبرالي المستدام، ط 1، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2014، ص 153، 155-156.
15- دياني، ص 135-136.
16- محمود، ص 61-62.
17- David Fasenfest (ed.), Engaging Social Justice: Critical Studies of 21st Century Social Transformation, Leiden|Boston: Brill, 2009, p. 51.
18- Georg E. McCarthy, Marx & the Ancients, Savage, MD: Roman & Littlefield, 1990, pp. 249, 251.
19- كارل ماركس وفريدريك أنجلز، بيان الحزب الشيوعي، ترجمة عصام أمين عن الألمانية، 1987.
20- Georg E. McCarthy, Marx and social Justice, Leiden: Brill, 2018, p. 106.
21- Ibid., pp. 108-109.
22- Ibid., p. 111.
23- Ibid., pp. 148-150.
24- Ibid., p. 151.
25- إريك هوبزباوم، "غرامشي والنظرية السياسية"، ترجمة محمود هدهود، تبيُن، العدد 26، المجلد 7، المجلد الثامن، خريف 2018، ص 120.
26- راجع: مايكل إدواردز، المجتمع المدني: النظرية والممارسة، ترجمة عبد الرحمن عبد القادر شاهين، ط 1، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، ص 24، 26-28.
27- Helen M. Stacy & Win-Chiat Lee, Economic Justice: Philosophical and Legal: Perspectives, Dordrecht: Springer, 2013, pp. 161-162.
28- أولريش شيفر، انهيار الرأسمالية: أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود، ترجمة عدنان عباس علي،عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2010، ص 311.
29- شيفر، ص 322.
30- للمزيد حول الفقر راجع: منوبي غبّاش، "فكرة الفقر وواقع الفقراء"، عُمران، العدد 30، خريف 2019، ص 82-83 وما بعدهما.
31- Helen M. & Win-Chiat, pp. 161-162.
32 - أدام بسيفورسكي، "الديمقراطية وإعادة التوزيع والمساواة،" ترجمة حسن بحري كامل، الثقافة العالمية، العدد 170، مايو-يونيو 2013، ص 77-78.
 


33
قراءة في كتاب "الجيش والسياسة... إشكاليات نظرية ونماذج عربية"*
                                                                                     
د. هاشم نعمة
   كثيرة هي الكتب التي عالجت موضوعة الجيش والسياسة في العالم العربي، ومنها ما صدر في العراق أو خارجه، خصوصا بشأن ثورة 14 تموز عام 1958، ولكن يندر أن نعثر على كتب تناولت الجانب النظري لهذه الموضوعة المفصلية. لذلك اخترنا تقديم قراءة عن الكتاب المذكور لمؤلفه الدكتور عزمي بشارة، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017. يقع الكتاب في 224 صفحة. يضم الكتاب ثلاثة فصول تناولت: الجيش والحكم عربيا: إشكاليات نظرية، وفشل بوتقة الصهر العسكرية وبروز الولاءات ما قبل الوطنية في الجيش، الحالة السورية، وتحولات الجيش المصري.
    يذكر المؤلف في المدخل بأن الكتاب يبحث في العلاقة بين الجيش والسياسة، ويتناول هذه العلاقة، وتحديدا تدخل الجيش في الحكم، لا بوصفها خطأ أو عارضا من عوارض الابتلاء العربي، بل بوصفها نتاجا لمراحل تاريخية ولطبيعة الدولة العربية وصيرورة نشوئها وبنيتها وعملية التحديث فيها.
                                            الإطار العام
     تنطلق الدراسة من فرضية مؤداها أنه لا يوجد جدار فاصل بين الجيش والسياسة بحكم تعريفهما. وللجيوش في الدول النامية والمستقلة حديثا دور في بناء الدولة، وفي فرض تماسكها قبل أن تنجز مرحلة بناء الأمة. وتُظهر الدراسة نتائج استمرار الجيش في الحكم من دون أن تُنجز عملية بناء الأمة، إذ يتحول في هذه الحالة إلى قوة قمعية، تدافع عن النظام القائم، أي عن سلطتها وامتيازاتها، وتفرض الوحدة من الأعلى، أو خارج المكونات الاجتماعية، من دون إنجاز عملية بناء الأمة.
    يصل منظرو التحديث في شأن حكم الضباط، من أمثال مانفريد هلبيرن (المتخصص بالشرق الأوسط) وشيلز وهنتنغتون، إلى درجة أنهم ينسبون إلى العسكر دورا تاريخيا نهضويا؛ إذ يشبههم هنتنغتون ببروتستانت غرب أوروبا من ناحية تقديمهم قيم الاستقامة والولاء الوطني، وهي التي يمكن تسميتها بمناقبية جيل الضباط في مراحل مبكرة من بناء الدولة الوطنية. أدى مثل هؤلاء الضباط دورا في البرازيل والمكسيك في نهاية القرن التاسع عشر، واعتمد حلفاؤهم من الإنتليجنسيا الفلسفة الوضعية في تنمية المجتمعات المتخلفة. فالانتقال من الملكية التقليدية إلى بريتورية(1) الطبقة الوسطى يتوسطه العسكر أيضا كأكثر القوى حداثة وتماسكا في بيروقراطية الملكيات المركزية. في هذه الحالة تقع الملكيّة عادة ضحية هؤلاء الذين قوتهم وعززت نفوذهم خدمة لأهدافها، ويؤدي الضباط دورا تحديثيا في البداية؛ إذ يقومون بإصلاح اجتماعي-اقتصادي وعملية اندماج وطني وتوسيع المشاركة السياسية، ليس بوسائل ديمقراطية، بل من خلال تعبئة الجماهير سياسيا، الأمر الذي جرى في بدايات حكم الضباط في العراق ومصر والجزائر، وحتى في سوريا في المراحل الأولى للانقلابات؛ إذ سمحت في مراحلها الأولى (قبل حكم البعث) بنوع من التعددية السياسية.
     وبحسب هنتنغتون، يبدو تدخل الجيش في السياسة جزء لا يتجزأ من التحديث السياسي بغض النظر عن القارة أو البلد. ولا يقبل البحث عن أسباب الانقلاب في الجيش نفسه، أو في أخلاقيات الخدمة المدنية فيه وخلفيات الضباط الاجتماعية، خلافا لمجهود يانوفيتس في علم الاجتماع العسكري. ففي رأيه أن أسباب الانقلاب ليست عسكرية، ولا يجدر بالباحث أن يحاول تشخيصها في المؤسسة العسكرية ذاتها،. فالأسباب، في رأيه، سياسية وكامنة في "بنية المجتمع المؤسسية". التدخل العسكري في السياسة عنده تعبير عيني عن ظاهرة عامة في المجتمعات غير المتطورة. ففي هذه المجتمعات تفتقر السياسة إلى الاستقلالية والتماسك والقدرة على التكيف، وتصبح جميع القوى الاجتماعية والمجتمعات متورطة مباشرة بالسياسة العامة. والمجتمعات ذات الجيوش المسيسة، مصابة بالتسييس في مكوناتها الاجتماعية كلها. ولهذا يظهر الجيش البريتوري في التاريخ. حيث لا تهتم قطاعات المجتمع المختلفة بالسياسة المتعلقة بمهماتها، أو بمصالحها مباشرة فحسب، بل أيضا بالسياسة بشكل عام. ويرى بشارة ربما يُتكأ على هذا التحليل من دون تمحيص لتبرير تدخل الجيش بالسياسة بصفة عامة وبالحكم بصفة خاصة، في كثير من دول العالم وفي البلدان العربية. ويشير بأن هذا التحليل ليس صحيحا ولا محايدا. وإن سبب تورط الجيش في السياسة هو هشاشة بنية الدولة ومؤسساتها وضعف الوحدة الداخلية في كيان لم يستقر كدولة حديثة بعد. وتتجلى الهشاشة هذه في العزوف عن السياسة.
    ويذكر المؤلف أن الجيوش العربية بُنيت في ظل مراحل الاستعمار القصيرة نفسها، حيث تحكمت ببنيتها مقاربات دول الانتداب وفهما لبنية المجتمعات العربية، ولا سيما بنيتها الطائفية والقبلية. ويستثنى الجيشان العراقي والجزائري من ذلك إلى حد بعيد؛ إذ استقل العراق مبكرا، ونشأ تواصل فعلي بين ضباطه وضباط الجيش العربي، أما الجيش الجزائري(2)، فظل حتى حكم الرئيس الشاذلي بن جديد استمرارا لجيش التحرير. وقام الشاذلي بمحاولة بنائه على أسس عصرية.
   إن المشكلة في حالة البلدان النامية، ولا سيما البلدان العربية، هي أن تطبيق "الاستقلالية المهنية" للجيش قد يكون مجرد زعم، لتحقيق استقلالية جيش فعلا عن المؤسسة السياسية، حيث يكون وزير الدفاع نفسه عسكريا، ويتصرف الجيش بميزانيته من دون رقيب أو حسيب ويدير علاقات حتى مع الخارج من دون المرور بالحكومة، ويصبح جل همه الحفاظ على امتيازاته التي ربما تتسع لتشمل إقرار سياسات الحرب والسلم. وهي ظاهرة عرفتها مصر في ظل حكم حسني مبارك.
    معلوم أن قيادات الجيش في الدول الديمقراطية غالبا ما تكون مطلعة على قضايا السياسة الخارجية والداخلية، وقادرة على إجراء تقويمات وتوقعات، ربما يُطلب رأيها المتخصص بهذه القضايا، لكن الجيش يأتمر بأوامر مؤسسات منتخبه، تمثّل سيادة الدولة. والفرق بينه وبين الحكومة أنه يخدم سيادة الدولة بغض النظر عمن انتُخب للحكم، أي إن الحكومة بالنسبة إليه لا تتغير بتغير الحزب الحاكم. إذ ليس الموضوع تسييس الجيش بقدر ما هو خضوعه لحكومة منتخبة، سواء أكان مسيسا أم لا. ومن المفترض التمييز بين تسييس الجيش وتحزبه؛ فمن الممكن أن يكون الجيش مسيسا، بفعل تسييس قادته، أو أفراده بوصفهم مواطنين، لكن لا يجوز أن يكون متحزبا، حيث يسمح للعمل والتنافس الحزبيين في داخله. 
     إذا كان خطر الدولة الثكنة،أي عسكرة المجتمع قائما في الدول المتطورة، فإن الخطر في الدول ذات البنية المتخلفة معكوس، ويتجلى بضعف المؤسسات وعدم تمكن المجتمع من إنتاج وحدته بالتفاعل الجدلي مع مؤسسات الدولة، إلى درجة فرض النظام عليه من خارجه. فالتماسك الوطني ليس بنيويا داخل المؤسسات، ولا ينبع منها. هنا يُفرض فرضا عبر تمثله بواسطة الجهاز الأكثر تنظيما وهو الجيش؛ أي يصبح الجيش التجسيد الحقيقي للدولة، وليس ذلك كونه عسكريا، بل لأنه المؤسسة الوطنية الأقوى والأكثر حداثة وتنظيما. وهي تظهر كذلك خصوصا بعد حصول تطورين: الأول، إضعاف البنى والمؤسسات التقليدية؛ والثاني، فشل المؤسسات السياسية الحديثة مثل الأحزاب والبرلمانات الحديثة التكوين في ملء فراغ الشرعية، والحفاظ على تماسك المجتمع والدولة الحديثة التكوين، والتي نشأت قبل عملية بناء الأمة.
    في رأي بشارة يخلق الميل إلى التدخل منذ تأسيس الجيوش الحديثة وارتباطها بفكرة الدولة؛ إذ بدت كأنها تمثل الدولة في مقابل الجماعات والفئات، والواحد في مقابل التعدد، والنظام في مقابل التشتت والمصلحة العامة في مقابل المصالح الجزئية للقوى الاجتماعية والسياسية. وهي فوق كل هذا، تملك القوة. والحقيقة أن هذا قد يكون صحيحا إذا كانت مهمة الجيش مؤقتة لتحقيق السلم الأهلي، حيث يضع نفسه في خدمة الدولة بعد تنفيذها. ومن دون ذلك يفصل خيط رفيع بين ادعاء الجيش أنه يمثل المصلحة العامة، وأن يصبح هو المصلحة العامة، وبين ادعائه أنه يُجسد الدولة وأن يكون هو جسدها، وبين تمثيل الوحدة الوطنية في مقابل التعددية، أو أن يدّعي أنه هو "الواحد الأحد".
    الأمر مرتبط إلى حد بعيد بتماسك الدولة ووحدتها في تركيبها وتعدد وظائفها ومؤسساتها. فالدولة الهشة غير المستقرة والضعيفة المؤسسات، تدفع الجيش إلى أن يجسد كيانها من خارجها لفرضه بالقوة.
     ارتبطت انقلابات الضباط الصغار الراديكاليين المتأثرين بالأيديولوجيات التي افتتحتها ثورة 1952 في مصر بأزمة المرحلة الليبرالية وهشاشتها، وعدم تمكّن النظام التعددي الحزبي من الاتفاق على السقف الوطني المتعلق بطبيعة البلد ونظام الحكم، كي تُدار التعددية في إطار الاتفاق الدستوري، والعجز عن حل المسألة الزراعية وقضية الفلاحين، والفشل في مواجهة الاستيطان الصهيوني في فلسطين الذي تجلى في هزيمة عام 1948. المشكلة هي أن حتى في حالة الإخلاص فعلا لقضية بناء الدولة الوطنية والتحديث، كما في حالتي عبد الناصر وهواري بومدين، ونضيف نحن هنا عبد الكريم قاسم، يصعب جسر الفرق بين الطموح والواقع، وبين حجم الأهداف غير المحددة ومستوى القائد وكفاءته والقدرات المحددة لأي إنسان، بين شعبيته الحقيقية وتمثيله للعموم وضيقه بأي منافس، بين الواحدية المزعومة والنزعات الفردية مثل الميل إلى الشعبوية وحب الظهور وتقديس الشخصية والارتياب والشك برفاق الدرب.
    يرى المؤلف يصعب التوصل إلى نظرية وقانون يضبطان علاقة الجيش بالحكم وتصرفه فيه؛ فالجيوش تختلف باختلاف المراحل التاريخية ودرجة تطور المجتمعات والعقائد السائدة وبنية الجيش الاجتماعية وغيرها. وعلى الرغم من إعجاب أمثال بكر صدقي وحسني الزعيم وحتى جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، وأديب الشيشكلي وإن كان بدرجة أقل، بأنموذج أتاتورك وتقليده في بعض الأمور، فإن الفرق شاسع بين قيادة جيش تقود حملة عسكرية ضد الاحتلال وتؤسس جمهورية حديثة قوامها نخب حديثة صاعدة داخل النظام نفسه كما في حالة أتاتورك، وأخرى مؤلفة من ضباط راديكاليين من الرتب الوسطى والدنيا في انقلابها على النظام الملكي ثم في سلسلة منازعاتهم وتنافسهم على القيادة والرئاسة.
                                                  نماذج عربية
    في البريتورية الأوليغارشية، حين تحكم البلاد طغمة من أصحاب النفوذ، الضباط أو غيرهم، يأخذ الصراع على السلطة شكل انقلابات بلاط يُستبدل فيها حاكم من الطغمة نفسها بحاكم آخر(3). ويأتي التهديد الأكبر لهذه الطغمة من نشوء فئة الضباط المتعلمين المدرّبين، وتوسع الفئات الاجتماعية التي يتحدرون منها، لتشمل فئات اجتماعية لم يصل أبناؤها إلى هذه المراتب في الماضي. الضباط في هذه الحالة هم أكثر الفئات حداثة في المجتمع، إضافة إلى المثقفين، ويتحالفون مع الإنتليجنسيا ضد الأوليغارشيا. هنا يجري الانتقال من انقلابات البلاط إلى الانقلابات الراديكالية أو الإصلاحية. هكذا يمكن، على سبيل المثال، صوغ الفرق بين الصراعات النخبوية في العراق قبل ثورة 14 تموز عام 1958 وبعدها.
     لقد ارتبط الانقلاب الأول في تاريخ العسكرية العربية الجديدة بعد انهيار الدولة العثمانية، ونشوء نظام الدول المستقلة (سياسيا بموجب معاهدات)، أو الواقعة تحت الحماية والانتداب في المنطقة، بالعسكرية العراقية.  إنه انقلاب بكر صدقي عام 1936(4) الذي تلقى دعم جماعة "الأهالي". حيث بعد وفاة الملك فيصل الأول عام 1933 حصل فراغ في الحكم، وازدادت قوة رؤساء الوزارات، فاحتدم الصراع على هذا المنصب في الوقت ذاته. كان هذا حال صراع ياسين الهاشمي على النفوذ مع الملك غازي وحكمت سليمان.
   يمثل انقلاب بكر صدقي أول محاولة من النخب السياسية العراقية للزج بالجيش في خلافاتها والاستعانه به لحسمها. فالأحزاب السياسية في العهد الملكي مثال مهم لنخب سياسية غير ناضجة، ولا تتحلى بالمسؤولية الوطنية للقيام بدور تحديثي، فقسم كبير من أفرادها لم يكن سوى روابط مصالح وشخصيات اجتمعت في أحزاب لغرض المشاركة في الحكم، وليس بهدف تنفيذ برنامج أو مشروع. وهو سلوك الأعيان السياسي بعد الاستقلال. هذا في مرحلة كانت فيها الأحزاب الحقيقية أيديولوجية الطابع ومُنعت من العمل، ويأتي في مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي.
    في حالة ضباط ثورة 14 تموز 1958(5)، يمكن القول إنهم جميعهم اتفقوا بدرجات متفاوتة على الدعوة للقومية العربية. وكان عبد السلام عارف أكثرهم حماسة للوحدة، أما عبد الكريم قاسم ومحي الدين عبد الحميد، فمالا إلى قومية أكثر ليبرالية وإلى التشديد على الوحدة الوطنية العراقية. ويبدو من مذكرات عبد الوهاب الأمين تحديدا أن مجموعة ضباط 14 تموز كانت تؤمن فعلا بحكم ديمقراطي برلماني، وبالحاجة إلى الانتقال إليه بعد القضاء على النظام الملكي وإقامة حكومة مدنية مؤقتة. كما أن تلك المجموعة أيدت سياسة عدم الانحياز خارجيا، وفي الواقع تشابهت إلى حد ما مع الضباط الأحرار في مصر، سواء في إيمانهم (أو للدقة ادعائهم الإيمان) بالديمقراطية، أو في تنكرهم لها لاحقا. لم يكن للضباط أيديولوجيا محددة، فبعضهم كان متأثرا بفكر الحزب الوطني الديمقراطي الليبرالي التوجهات، كما في حالة عبد الكريم قاسم ومحيي الدين عبد الحميد، وبعضهم بالفكر القومي العربي المشرب بالإسلام مثل عبد السلام عرف وناظم الطبقجلي ورفعت الحاج سري الذي كان معارضا لتأثيرات الحزب الشيوعي العراقي على عبد الكريم قاسم، وكان وصفي طاهر وإسماعيل علي قريبين من الشيوعيين، ووسيطين بينهم وبين عبد الكريم قاسم، أما صالح مهدي عماش فكان متأثرا بفكر البعث. وكذلك في حالة الضباط الأحرار المصريين، كان الصراع بينهم صراعا على الزعامة.     
     في سوريا، استند حزب البعث في انقلابه عام 1963 إلى نخب عسكرية تنتمي في جذورها إلى الريف السوري. وكانت هذه النخبة التي يحصرها حنا بطاطو في ضباط اللجنة العسكرية البعثية الذين تقلدوا مناصب قيادية في الحزب والدولة بين عامي 1968 و1969 من طوائف مختلفة، ومن محافظات مختلفة، لكن أغلبيتها من أصول ريفية، أكانوا ملاكا كبارا أم متوسطين أم فلاحين صغارا.
    وبشأن الجيش العقائدي يُمكن تقسيم هذه المرحلة إلى مراحل فرعية عدة متداخلة. لكن المؤلف ركز علي فترتها التكوينية والمؤسسية نظرا إلى ما لها من دور مؤثر في التطورات اللاحقة للمؤسسة العسكرية السورية وعلاقتها بالمجتمع، ونظّر لها التقرير العقائدي للمؤتمر القومي السادس لحزب لبعث عام 1963 تحت اسم "بعض المنطلقات النظرية"، بعد حسم الصراع مع الناصريين واحتكار السلطة. وجرى تجسيد هذه الصيغة النظرية بشكل مؤسسي في ما عُرف بـ "تبعيث الجيش" وفق عقيدة رسمية قومية. أما الضباط المهنيون الذين رفضوا الانتماء الحزبي، فاعتُبروا "رفاق سلاح" لا "رفاق عقيدة". وسرعان ما فُككت مجموعات "رفاق السلاح"، أو أُحيلت إلى مواقع مكتبية وتدريبية هامشية. وبحلول النصف الأول من الثمانينيات، لم يبق منهم إلا عدد محدود للغاية.
  في بلاد الانقلابات العسكرية، مثل العراق وسوريا، لم يحكم الجيش الدولة في العقود الأخيرة. والضباط الذين قاموا بالانقلاب الأخير في كل من العراق (1968) وسوريا (1970)، جعلوا نصب أعينهم أن يكون انقلابهم آخر الانقلابات، وذلك ببناء جيش مستقر ذي تراتبية هرمية واضحة وموال للنظام، ويخضع لرقابة أجهزة استخبارات حديثة ومتطورة، وتتغلغل فيه منظمات الحزب الحاكم. ويشرك النظام ضباط الجيش الكبار في بعض المشاورات، ويُعيّن بعضهم في مناصب سياسية بعد إنهاء الخدمة، أو خلال خدمتهم كما في عضوية القيادة القطرية لحزب البعث في سوريا، المهم أنه يشركهم في حصة من الثروة والنفوذ، ويُغدق عليهم ويمنحهم امتيازات كثيرة تضمن ولاءهم، كذلك يُفسح المجال للرتب الأدنى (يصح هذا في حالة سوريا) للاستفادة من شبكات الفساد، والتهريب وغيره.
   في مصر لم يهدف جمال عبد الناصر إلى إقامة دكتاتورية عسكرية، بل أراد حكما جمهوريا شعبويا مسنودا من الجيش. ولأنه أدرك من تجربته الخاصة أهمية الجيش السياسية ودوره الانقلابي المحتمل، رغب في إبعاد الجيش عن التدخل المباشر في السياسة. أما الضباط الذين انتقلوا إلى العمل السياسي من مجموعة الضباط الأحرار، فطلب منهم خلع بزاتهم العسكرية. لكنه خلافا لمحمد نجيب، لم يرغب في عودة كاملة للجيش إلى الثكنات وإقامة حكم مدني تمثيلي. ويلخص هذا الموقفُ المركّب التناقض التاريخي الرئيس لعلاقة الجيش بالسياسة في مصر منذ ثورة يوليو (1952). إذ بقى السياسيون في عهود يوليو عسكرا بثياب مدنية، لكن الجيش كمؤسسة يفترض ألا يتدخل في السياسة، بل يبقى على ولائه لهؤلاء العسكر السابقين، فهو الضامن الرئيس لاستقرار النظام. وانعكس هذا التناقض في شكل صراعات قادت العسكريين السابقين في الحكم إلى محاولة تأسيس قواعد شعبية من خارج الجيش تشبه الحزب السياسي للنظام. فأقام الضباط الأحرار الاتحاد الاشتراكي العربي عام 1962. وفي الحالتين السورية والعراقية، كما في الحالة المصرية، يمكن القول إن الجيش كان خاضعا للحكام المدنيين من أصول عسكرية، لكنه في العراق وسوريا مسيس وحزبي.
     لاحقا قام أنور السادات بمتابعة تعزيز مكانة مؤسسة الرئاسة وصلاحياتها على حساب الجيش، فغير قادته بشكل متواتر لم تعرفه مصر من قبل. وما لبث النظام أن احتاج الجيش في ضبط المعارضة بعد اتفاقيات كامب ديفيد، أو ما سُمي ناصريا "بالجبهة الداخلية"، وهي تسمية تشي بأن البلاد في مرحلة حرب في الداخل والخارج.
   في عهد مبارك جرت تسوية كبرى صار بموجبها وزير الدفاع الرجل القوي داخل الجيش فحسب. ونشأ كيان سياسي للضباط غايته الحفاظ على الامتيازات التي تتعلق بالجيش واقتصاده ومواقع ضباطه المتقاعدين الذين يُعينون في مناصب رسمية. في المقابل، تُرك للرئيس شؤون حكم مصر، وإدارة البلاد بالتعاون مع المخابرات والمؤسسة الأقوى في الداخل، أي الأجهزة الأمنية التابعة لوزارة الداخلية. ولم ينف هذا للحظة أن الجيش ظل القوة الرئيسة، وصاحب المقدرة إذا أراد تفعيل قوته(6)، كذلك ظل الأكثر شعبية لدى الجمهور لابتعاده عن السياسة. هذا البعد، إضافة إلى الانغلاق الذي يمنع عين الجمهور الفاحصة من نقده، سمحا له بالحفاظ على صورة "طاهرة" خلافا لصورة أجهزة الأمن الأخرى، ودوائر السلطة في الحزب والعائلة الحاكمة، الملطخة بالحقائق والشائعات عن ممارستها، ذلك لأنها في تماس مباشر مع الشعب.
الهوامش
1- التسمية تعود إلى المصطلح الروماني في وصف الحرس البريتوري المرابط في روما، الذي كان يتدخل في السياسة فيُنصب القياصرة ويعزلهم. راجع الهامش في الكتاب نفسه، ص 56.
2- كان لموقف الجيش الجزائري دورا حاسما في استقالة عبد العزيز بوتفليقة في 2 نيسان 2019، بعد احتجاجات شعبية واسعة رفضت ترشيحه للرئاسة لفترة خامسة.
3- يمكن عد الانقلاب العسكري الذي أطاح بعمر البشير في 11 نيسان 2019، بعد احتجاجات شعبية حاشدة طالبت برحيل النظام وإقامة دولة مدنية ديمقراطية من هذا النوع من الانقلابات.
4- حول انقلاب بكر صدقي وموقف الحزب الشيوعي العراقي منه، راجع: حنا بطاطو، العراق، الكتاب الثاني، الحزب الشيوعي العراقي، ترجمة عفيف الرزاز، بيروت، 1992، ص 93-98.
5- للمزيد حول ثورة 14 تموز 1958، راجع: حنا بطاطو، العراق، الكتاب الثالث، الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار، 1992.
6- ما يؤكد هذا أن الجيش فعل دوره وعزل الرئيس محمد مرسي عام 2013، بعد مظاهرات حاشدة طالبت برحيله، وأنتخب عبد الفتاح السيسي رئيسا عام 2014، وكان قائدا عاما للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع في عهد مرسي.


 
 


34
قراءة في كتاب "نحو نقد العقل الإسلامي"*
                                                                                                     
د. هاشم نعمة
   من المعروف أن المشروع الفكري الكبير للمفكر الجزائري اللامع محمد أركون تمحور حول نقد العقل الإسلامي. وقد صدرت له العديد من الكتب المهمة في هذا المجال. واخترنا هذا الكتاب الذي يحتوي خمس دراسات من آخر وأحدث ما كتبه، بحسب الباحث هاشم صالح الذي ترجم وقدم لهذا الكتاب، إضافة إلى ترجمته كتب أخرى ضمن هذا المشروع. وتتأكد جدة موضوعات الكتاب من أن طبعته الأولى صدرت في تموز| يوليو 2009 عن "دار الطليعة" في بيروت، في حين توفي محمد أركون في أيلول| سبتمبر 2010. يقع الكتاب في 310 صفحة.
    إضافة إلى المقدمة العامة المطولة والمهمة التي كتبها صالح بعنوان "محمد أركون ومشروعه الفلسفي الكبير: تفكيك الانغلاق التاريخي" يضم الكتاب خمسة فصول عالجت: التاريخ النقدي العميق للفكر بصفته أشكلة لمفهوم الحقيقة؛ مفهوم العقل الإسلامي؛ مسألة الحقوق الإنسانية في الفضاء التاريخي المتوسطي؛ بلورة لمفهوم ما معنى كلمة "إسلام" عبر التاريخ منذ لحظة القرآن وحتى اليوم؟ والأديان التوحيدية على أفق عام 2008.
   ويرى المترجم أن مشروع المستقبل ليس نقد العقل العربي، كما يرى محمد عابد الجابري على الرغم من التقدير لجهد المحاولة ولبعض النقاط الإيجابية فيها. إنما هو مشروع نقد العقل الإسلامي التقليدي. لأنه لا يوجد شيء اسمه عقل عربي أو تركي أو إيراني وإنما يوجد عقل إسلامي أو ديني بالأحرى مثلما يوجد عقل علمي أو فلسفي أو وضعي، وبينهما قطيعة الحداثة. وبالتالي فالعقل البشري واحد عند جميع الشعوب. فقط هناك شعوب تحررت من العقل اللاهوتي الغيبي الطائفي القديم كشعوب أوروبا الغربية مثلا، وشعوب لم تتحرر منه بعد. وهذه هي حالتنا. وبالتالي فالشعوب تمر بعدة مراحل من التطور العقلي والفكري. آخرها المرحلة العلمية الفلسفية وهي أعلى درجات العقلانية. ويرى أن الجابري لم يتجرأ على مواجهة المشكلة اللاهوتية وجها لوجه فقرر خوض المعركة مع العقل العربي لا العقل الإسلامي. وهذا الموقف مفهوم لأن للسلفيين التقليديين سطوة على الشارع ويستطيعون تهديد أي مثقف وتخويفه. ويقول ثم إنه، مع احترامي له، لا يمتلك التكوين المنهجي الكافي ولا العدة المفهومية والمصطلحية للقيام بنقد العقل الديني في الإسلام. ويرى أن أركون وحده من بين كل المثقفين المسلمين أو العرب يمتلك ذلك.
    في الواقع، إن هدف أركون الأخير هو التوفيق بين الإسلام والحداثة مثلما فعل أبن رشد في وقته عندما وفق بين الإسلام والفلسفة الارسطوطاليسية، ومثلما فعل فلاسفة التنوير في أوروبا عندما أجبروا المسيحية ورجال الدين على تقديم تنازلات كبيرة للعقل والحداثة العلمية الصاعدة. ولكنهم لم يستطيعوا التوصل إلى هذا المكسب الكبير إلا بعد أن فككوا اللاهوت المسيحي القديم وكشفوا عن تاريخيته وشروطه البشرية. ومعلوم أن هذا اللاهوت كان يقدم نفسه وكأنه إلهي معصوم تماما كالفقه القديم في الإسلام. ومعلوم أيضا أن اللاهوت القديم يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة، المقدسة المتعالية، التي لا تُناقش ولا تُمس.
     يشير أركون إلى أن موضوع الفصل الأول يستحق أن يعالج مجددا ليس فقط من قبل البحث العلمي الأساسي والمحترفين من حراس الحقيقة الدينية والحقيقية الميتافيزيقية الكلاسيكية (أي رجال الدين والفلاسفة التقليديين)، وإنما أيضا من قبل المواطنين. فالحقيقة تخص الجميع. ومعلوم أن هؤلاء المواطنين مدعون بانتظام للتصويت من أجل انتخاب ممثلي الشعب وخلع المشروعية على السلطة السياسية على كافة المستويات...الخ. وبالتالي فإن لهم الحق في معرفة الحقيقة أو المشاركة في صياغتها وبلورتها. إن كلمة الحقيقة تدعى في اللغة اليونانية "أليتيا"، أي ما هو غير مخبوء، أو ما يحيلنا إلى الفكرة المتكررة للمكشوف المعرى. والحقيقة موجودة في كل فكر ديني، وقد استعيدت بواسطة أدوات أخرى للبحث والتفكير من قبل الفكر الحديث الذي يعتقد أن الله هو موضوع للمعرفة من جملة موضوعات أخرى. وبالتالي فهناك فرق بين الفكر الديني والفكر العلمي أو الفلسفي الحديث من مسألة الحقيقية.
    يقول المؤلف بصفتي مؤرخا للفكر الإسلامي فإني أعترف بأني كنت قد واجهت مشكلة الحقيقة الدينية  بالمعنى الكبير والمثالي المطلق للكلمة في مواجهة الحقيقة العلمية والفلسفية عندما تعمقت في دراسة المرحلة الكلاسيكية من تاريخ الفكر العربي الإسلامي (750-1300 ميلادية). والشيء الذي يدعو للعجب والمفارقة هو أن هذه المجابهة الخصبة بين كلتا الحقيقتين في تلك المرحلة البعيدة من التاريخ قد توقفت مع انتصار الفكر السكولائي التكراري وبخاصة اللامبالي بصعود الحداثة في أوروبا منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا. فقد تغلبت الحقيقة الدينية كليا على الحقيقة الفلسفية أو العلمية في العالم العربي والإسلامي منذ الدخول في عصر الاجترار والانحطاط. وهذه المفارقة تحولت إلى تراجيديا جماعية في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين مع ظهور أشكال الأصولية "للحقيقة" الدينية. وهي أشكال ظلامية متعصبة أدت إلى كوارث في الداخل والخارج.
    ينبغي العلم بأن تسميات سنّة، شيعة، معتزلة، أهل الحديث، أهل الرأي، جهمية... الخ، كانت تدل في البداية على مواقف فكرية متحركة لا جامدة ولا ثابتة. لقد كانت تدل على مواقف متغيرة طبقا لرهانات الصراعات الدائرة على مسألة "الحقيقية الدينية" أو "الدين الحق". كما كانت هذه الفرق تتموضع داخل فضاءات سياسية في طور التشكل إبان القرون الأولى للإسلام. ولم تجمد ولم تثبت كليا إلا لاحقا.
   الواقع أن العقل الإسلامي كان تعدديا في البداية وجدليا تفاعليا(1)، وكان مرتبطا بالواقع الاجتماعي والتاريخي بل وحتى الجغرافي. وذلك لأن العقول المتنافسة الأكثر نشاطا ظهرت بشكل خاص في منطقة إيران- العراق- سوريا بين القرنين الأول والخامس للهجرة. واللافت للانتباه هنا أن الغرب الإسلامي لم يُصب إلا بشكل مؤقت وعابر بالتوتر الإبداعي والثقافي الخلاق على عكس منطقة الشرق الأوسط التي عاشت هذا التوتر بشكل أكثر قوة وكثافة. والشيء اللافت جدا أيضا للانتباه هو أن انبعاث الهوية اللغوية والثقافية لإيران بدءا من القرن الحادي عشر الميلادي من جهة، ثم السياسة السنية للسلجوقيين من جهة أخرى، كانا قد حبذا حصول الانقسام الشيعي| السني وظهور الارثوذكسية السنية والشيعية المنفصلتين. وبالتالي فالانغلاق لم يأت من طرف واحد وإنما من طرفين. وعندئذ أصبح العقل الإسلامي أحادي المذهب، فقيرا مدقعا. وذلك على عكس الفترة الكلاسيكية حيث كان لا يزال تعدديا خصبا يسمح بحرية الاختلاف والتنوع والمعارضة.
                                               قراءة الإسلام السياسي       
   إن الإسلام السياسي الحالي يدعي الانتماء إلى نظام عقلي يحيلنا إلى مدونات الاعتقاد الإسلامي القديمة الخاضعة هي أيضا إلى ضغوط وجودية بالأخص أيديولوجية من الحذف والانتخاب والاختيار داخل التراث الإسلامي. أنه، أي الإسلام السياسي والحركات السلفية المرتبطة به، يحيلنا إلى تراث مبتور ومبتسر وجزئي أكثر ما يحيلنا إلى العقل الكلاسيكي المبدع. أنه يحيلنا إلى العقل التكراري الاجتراري الذي ساد عصور الانحطاط والذي تلا المرحلة الكلاسيكية المبدعة.
    هكذا نلاحظ أن الإسلام السياسي يعاني من قطيعتين كبيرتين: قطيعة مع عصر النزعة الإنسانية العقلانية التي تألقت آنذاك لفترة، وقطيعة مع أفضل ما أنتجته الحداثة الأوروبية منذ القرن السادس عشر وحتى اليوم.
    ويشدد أركون بالقول ينبغي العلم بأن الإسلام السياسي الراديكالي السائد حاليا جاهل تماما بالمكتسبات الفكرية الهائلة للعقل الحديث. إن هذا الإسلام السلفي الراديكالي المغرق في طقوسيته الشعائرية، إن هذا الإسلام التبسيطي، الدوغمائي، الذي فرض نفسه على المجتمعات العربية والإسلامية بعد السبعينات من القرن الماضي يريد أن يقنعنا بأنه سيعيد الإسلام "الحقيقي الصحيح" المتضمن في القرآن والسنة النبوية إلى سابق عهده ومجده. وهذا المزعم الأسطوري أو غير الواقعي الذي يستعصي على التحقيق التاريخي يرتكز على عدة مسلمات تخص بالدرجة الأولى المكانة التاريخية للمدونة الكبرى للاعتقاد الإسلامي أي: القرآن، والسنة النبوية، زائد الشريعة. وهكذا يعودون بنا إلى الوراء بعيدا: أي إلى عصر الفتنة الكبرى التي اندلعت بين المسلمين الأوائل. إن الماضي البعيد لا يزال حيا ومنتعشا في أذهان المسلمين حتى اليوم، أو قل في المخيال الديني الجماعي لهم. لا يزال الماضي هو الذي يتحكم بالحاضر وليس الحاضر بالماضي على عكس ما هو سائد في الأمم المتطورة.
    لا بد من دراسة العلاقة التفاعلية الوثيقة بين تقهقر الحياة الفكرية والعلمية في العالمين العربي والإسلامي ككل من جهة، والصعود الهائل للحركات الأصولية الشعبوية الفاقدة لأي مشروع سياسي حديث من جهة أخرى. يذكر أركون  لا نستطيع هنا أن نوفي هذا الموضوع الشاسع حقه من البحث والدراسة. سوف نكتفي فقط برسم الخطوط العريضة لكيفية اكتشافه: أي اكتشاف هذا المجال المجهول من تاريخ المجتمعات المجبولة حاليا بالظاهرة الإسلامية بكثافة هائلة وأكثر من أي وقت مضى. إنها مجبولة بالحدث الإسلامي أكثر مما هي مجبولة بالحدث القرآني بكثير، لأن ما يؤثر عليها هو التراث الإسلامي المتأخر بالدرجة الأولى وليس القرآن والتراث الكلاسيكي المبدع. فالحركات الأصولية تنسب نفسها إلى ابن تيمية عموما والتراث المتأخر لا إلى العقل الإسلامي الكلاسيكي التعددي الغني فكريا وثقافيا والذي ساد حتى موت ابن رشد.
         يؤكد المؤلف ينبغي أن نفهم الوضع في شموليته، أن ندرس ونحلل آثار التناقضات الناتجة عن الحداثة وذلك عبر تجلياتها من خلال الثقافات المختلفة التي لا تستقبلها بشكل متساو أو بنفس الحماسة والتمثل والهضم كما يفعل الغرب. من خلال هذا التحليل المعمق نلاحظ أن الابستيمولوجيا التاريخية تأخذ كل أهميتها وصحتها ومتانتها. ينبغي العلم بأن التعصب السياسي الأعمى للأصولية المتسمة بالإرهاب في "الإسلام" ما هو إلا عبارة عن تجسيد تراجيدي لما يدعوه أركون بالتثليج الأيديولوجي. بمعنى أن الأصولية ناتجة عن جمود الفكر في الإسلام طيلة قرون عديدة. وهو تثليج أو جمود يحصل في البلدان التي تشكل اختلافها أو خصوصيتها بواسطة حكايات تأسيسية أسطورية قومية أو دينية هي أكثر استلابا للذاكرة الجمعية والفردية مما هي تحريرية.
                                     جمود الفكر الإسلامي وتجلياته   
   يفترض عدم الخلط هنا بين العقل الإسلامي الكلاسيكي والعقل الكلاسيكي في السياقات الإسلامية. فالأول ديني محض، أما الثاني فيشمل الديني وغير الديني، ومجمل ما يدعى بالعلوم العقلية وبالتالي الفلسفة والعلوم الطبيعية والدنيوية غير الدينية. إن هذا العقل الكلاسيكي لا يقوم بمواجهة صدامية ضد العقل الديني ولكنه يتمايز عنه من حيث استقلاليته الذاتية النسبية بالقياس إلى الوحي. هذا الوحي ينحصر أساسا بالعلوم المدعوة دينية أو نقلية أي تقليدية. ويمكن للعقل الديني أن يذهب إلى حد الاشتباه بعلم الكلام لأنه في نظرة  يعطي مكانة زائدة عن الحد للعقل الارسطوطاليسي المنطقي. يضاف إلى ذلك أن العقل الديني الإسلامي يدين الفلسفة بخصوص موضوعات معينة كقدم العالم والسببية ومكانة النفس بعد الموت والقوة المفكرة والعقل. أنظر كتاب أبو حامد الغزالي الشهير "تهافت الفلاسفة" الموجه ضد الفارابي وابن سينا أساسا.(2)   
      يقوم العقل اللاهوتي بتلاعب يتمثل في الافتراض بوجود استمرارية بنيوية وتماثلية معنوية بين الزمكان الأولي الأصلي الذي لُفظت فيه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لأول مرة، وبين الزمكانات المتغيرة أو الظروف الاجتماعية المتغيرة التي يتم فيها الاستشهاد بهذه الآيات والأحاديث على مر التاريخ بعد أن أصبحت نصوصا مكتوبة. هنا يقوم المسلم التقليدي بعملية الانتقال والمطابقة وكأن الأمر طبيعي لا غبار عليه. إنه يقوم به من دون طرح أي سؤال على شروط إمكانيته وصحته وبالأخص صلاحيته. يتساءل أركون، لماذا أقول ذلك؟ لأنهم عندما يستشهدون بآية قرآنية أو حديث نبوي فإنهم ينتقلون فجأة من حالة الكلام الحي المتفجر المرتبط بتجربة داخلية فريدة لا تُختزل ولا تُعاد ولا تُستعاد (هي هنا تجربة النبي الذاتية عندما كان يتلفظ بهذه الآيات والأحاديث لأول مرة ضمن ظروف مختلفة عن كل ما حصل لاحقا) إلى حالة مختلفة تماما. كما أنها تجربة فريدة من نوعها ولا تتكرر لأنها مرافقة لعمل جماعي محدد، هي هنا تجربة النبي التاريخية وأتباعه. يتم الانتقال من حالة هذا الكلام الحي المتفجر إلى حالة المضامين المحفوظة عن ظهر قلب أو المسجلة كتابيا والتي يستشهد بها المسلمون بعد موت النبي بألف وأربعمائة سنة! هنا يحصل إسقاط لهذا الكلام النبوي الحي على تجارب وحالات وأزمنة أخرى ذات حيثيات وأبعاد مختلفة بالضرورة. 
    كلما فقد العقل الإسلامي الكلاسيكي قواعده الاجتماعية الحضرية الموجودة في المدن والأطر السياسية لتحققه زاد انتشار الدين الشعبي. المقصود بالأطر السياسية لتحققه هنا المراكز السياسية الكبرى للإمبراطورية العربية الإسلامية كبغداد والري وسواهما. وكانت قوية نسبيا ومشعة ثقافيا إبان العصر الكلاسيكي قبل أن تفقد رونقها وتدخل في عصر الانحطاط لاحقا. بعد أن فقد العقل الإسلامي الكلاسيكي دعم الطبقات البرجوازية التجارية السائدة في منطقة إيران-العراق والأندلس في القرن التاسع والعاشر للميلاد ساد التدين الشعبي الفقير ثقافيا. وهكذا بدءا من القرن الثالث عشر راح المجال الفكري للعقل الإسلامي الكلاسيكي يضيق ويتقلص لكي يحل محله عقل مدرسي تكراري اجتراري.  وهذا العقل الضيق المفتقر فكريا راح يدير شؤون الدين الشعبي المختزل أكثر فأكثر في تجلياته الطقسية الشعائرية العبادية الخاصة بكل فئة عرقية- ثقافية.
   يذكر المؤلف ينبغي تسجيل ملاحظة مهمة : وهي أن السلالة الصفوية التي حكمت إيران بين 1501-1786 كانت معاصرة للسلالتين العثمانية والمغولية. وقد فعلت مثلهما عندما أممت الدين أو صادرت المذهب الشيعي. وعلى هذا النحو أصبح الدين الإسلامي بكلا مذهبيه تابعا للدولة. وأصبح رجال الدين الشيعة المسيطرون في خدمة السلطة والدولة الصفوية تماما كما حصل في الجبهة السنية. ولكن معارضة الفقهاء الشيعة للمتصوفة "والفلاسفة" السائرين في خط الحكمة الإشراقية لم تمنع هؤلاء الأخيرين من المحافظة على أماكن كلامهم وتعليمهم ومدارسهم. وهذا لم يحصل في الجبهة السنية، حيث في جهة الأندلس والمغرب الكبير منع الفقهاء المالكيون أي تدريس للفلسفة وأي ذكر لابن رشد. وعلى هذا النحو ترسخ في إيران أكثر من الأوساط السنية ذلك الانقسام الدائم بين المعرفة الظاهرية والمعرفة الباطنية، بين الكلام العقلاني والعرفان الروحاني. أما التمييز بين العقل والنقل والإشراق- العرفان- الباطن بصفته خطا ثالثا ومستوى معينا من مستويات المعرفة فقد تقلص وذبل وأصبح عبارة عن حد فاصل معرفي وأيديولوجي. وهذا يعني أن الفلسفة العقلانية على الطريقة الارسطوطاليسية والرشدية اختفت من إيران أيضا ولم تبق إلا الفلسفة الإشراقية التي تعتمد على الشطحات الخيالية أكثر مما تعتمد على العقل.
    ينبغي الإشارة أيضا إلى المسؤولية الثقيلة التي تتحملها الدولة العثمانية. فقد اكتفت خلال حكمها بتعميم فقه المذهب الحنفي على شتى أرجاء الإمبراطورية الواسعة، متجاهلة بذلك أهمية الثورات السياسية والتشريعية والفكرية والعلمية التي حصلت في أوروبا إبان تلك الفترة والتي أعطتها الوسائل الضرورية لتفوقها على العالم الإسلامي ولتوسعها في العالم. بمعنى آخر فإن الإمبراطورية العثمانية لم تفعل شيئا يذكر للسير على درب الحضارة والعلم والفلسفة والتقدم. وبالتالي فهي المسؤولة عن حالة التأخر المريعة لتركيا وغير تركيا بالقياس إلى أوروبا. لقد أكتفت طيلة أربعة قرون بالتكرار والاجترار في معظم الأحيان. لذلك فتركة السلطنة العثمانية ثقيلة جدا. ويرى أركون أن هذا ما صعب من عملية العلمنة التي تبناها أتاتورك.
   بالنسبة إلى ألإسلام لم تستطع لا الكتابة الإيمانية ولا الكتابة العلمية النقدية حتى الآن أن تفرضا إشكاليات جديدة وموضوعات مبتكرة قادرة على تجاوز المواقع التراثية القديمة الراسخة، وذلك عكس ما حصل لليهودية والمسيحية بنسختيها الكاثوليكية والبروتستانتية في النطاق الحضاري المتقدم والمسارات التاريخية لأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. فهاتان الديانتان استفادتا كثيرا من هذه الإشكاليات والموضوعات التجديدية ومن تطبيق المناهج الحديثة عليهما إلى درجة أن القراءة التنويرية العقلانية تغلبت على القراءة التراثية القديمة لديهما. وهذا لم يحصل في الإسلام للأسف حتى الآن. لذلك اضطرت المسيحية أن تهضم عدة ثورات فكرية وعلمية وفلسفية في حين توقف الإسلام عن التطور منذ القرن الثالث عشر ولم يهضم أي شيء جديد تقريبا.
   ينبغي العلم أن القرآن صامت(3) منذ عام 632 ميلادي، تاريخ وفاة النبي. ولكن الأجيال المتلاحقة من المسلمين أو الفاعلين الاجتماعيين هي التي تجبره على النطق ويتكلم. إنهم يجبرونه على التكلم لتلبية رغباتهم وآمالهم وهمومهم الملحة العاجلة المفروضة عليهم من قبل التاريخ. لذلك يُسقطون عليه رغباتهم وأمانيهم وتصوراتهم وهلوساتهم سواء كانت موجودة فيه أم لا. وهذه التفسيرات والتصورات الفردية أو الجماعية تأتي لكي تضخم إلى ما لا نهاية تلك المدونة النصية الكبرى للحدث الإسلامي.
  نحن نشهد عودة الشعبوية الدينية أكثر مما نشهد انبثاق ثقافة جديدة عن الأديان أو معارف جديدة مضيئة محصلة عن طريق العلوم الاجتماعية والإنسانية في مجال الأديان خصوصا. نحن نشهد عملية تفكيك وإعادة تركيب للعقائد الدينية حيث إن الوظائف الأيديولوجية أو الديماغوجية الارتكاسية للتدين تتغلب أكثر فأكثر على تعميق القيم الروحية والأخلاقية.
   فيما يخص علم التاريخ النقدي الاسترجاعي، فقد حصلت محاولات جادة وواعدة في الساحة العربية الإسلامية مع مسكويه ثم بالأخص مع ابن خلدون ولكنها أُجهضت للأسف في نهاية المطاف مثلما حصل للفلسفة. وعندما اكتشف المستشرقون ابن خلدون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، صُدموا وذُهلوا ولم يكادوا يصدقون ما يقرأون من كنوز معرفية. وراحوا يحتفلون به بصفته المفكر العبقري الذي مهد الطريق لعلم الاجتماع والانثربولوجيا. 
   أخيرا، هؤلاء الذين يحنون إلى الوراء، إلى ذلك العصر الذهبي للعلوم الدينية، يجهلون هنا أيضا معنى المشروع الكبير لنقد العقل الإسلامي وضرورة المرور به بأي شكل من الأشكال. فالاجتهاد القديم لم يعد نافعا ولا كافيا على الإطلاق. وحده نقد العقل الإسلامي بالمعنى التفكيكي والأركيولوجي العميق قادر على مواجهة المشاكل المطروحة الآن على المجتمعات العربية والإسلامية.
الهوامش
(1) للمزيد راجع: حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية: المعتزلة، الأشعرية، المنطق، المجلد الثاني، وتبلور الفلسفة، التصوف، إخوان الصفا، المجلد الثالث، ط 2 (الجزائر| بيروت: المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار| دار الفارابي، 2002).   
(2) للمزيد راجع: حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية: الكندي- الفارابي- ابن سينا، المجلد الرابع، ط 2 (الجزائر| بيروت: المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار| دار الفارابي، 2002).
(3) كان علي بن أبي طالب هو من أعلن مفهوم "المصحف الصامت"، أي المنطوق بتأويل الرجال، في رده على مبدأ "لا حكم إلا لله" الذي رفعه من رفضوا قبول التحكيم في معركة صفين.
   

35
العالم العربي
دراسات في المتغيرات السكانية ونظرياتها

د. هاشم نعمة

   عن دار غيداء للنشر والتوزيع في عمان| الأردن، صدر مؤخرا كتاب بعنوان "العالم العربي:
 دراسات في المتغيرات السكانية ونظرياتها"، للباحث د. هاشم نعمة فياض. يقع الكتب في 337 صفحة من القطع الكبير.

    تتزايد الحاجة باستمرار إلى البحوث المعمقة في مجال الدراسات السكانية في العالم العربي. نظراَ إلى أن فهم آليات المتغيرات السكانية وتأثيراتها المترابطة والمتبادلة التأثير في البنى الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية يمثل محوراً رئيسياً بالغ الأهمية في بناء رصيد معرفي يساهم في رسم وتنفيذ وتقييم أي خطط علمية مدروسة لانطلاق التنمية الاجتماعية - الاقتصادية الشاملة للقضاء على ظاهرة الفقر والعوز ونقص الخدمات الصحية والتعليم... والمنتشرة بدرجات متفاوتة في الدول العربية.
     يتكون الكتاب من أربعة فصول، هي في الأساس بحوث أكاديمية كُتبت في أوقات مختلفة، وارتأينا جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول المتخصصين والباحثين والقراء عموما.
    يدرس الفصل الأول نظرية التحول الديمغرافي، المفهوم والتطبيق: دراسة تحليلية مع إشارة خاصة إلى الدول العربية، ويضم مقدمة والدراسات السابقة المتعلقة بالموضوع وعرض لأبرز النظريات السكانية ذات العلاقة ويتضمن تحليل أفكار ومراحل نظرية التحول الديمغرافي، والتحول الديمغرافي في الدول العربية، ومدى تطابق التحول الديمغرافي في الدول النامية والعربية مع النظرية، والنقد الموجه إلى النظرية المؤيد والمُعارض، ثم ينتهي الفصل بخلاصة  تلخص أبرز نتائج التحليل.
         يبحث الفصل الثاني في تطور مستوى الخصوبة السكانية في حالة العراق؛ إذ تقوم الدراسة بتحليل التغيرات التي حدثت في ذلك المستوى زمانياً ومكانياً خلال العقود الأخيرة. وذلك بالنّظر إلى التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والحروب الداخلية والخارجية التي شهدها البلد طوال هذه العقود؛ والتي لابدّ أن تؤثر في سلوك الخصوبة، وتنعكس على التنمية. وتدرس التوزيع الجغرافي للخصوبة على مستوى الحضر والريف، والمحافظات، كما تعمل على تعليل التباين في هذا التوزيع أن أمكن ذلك. وتبحث في المتغيرات المتبادلة التأثير، التي حدّدت سلوك الخصوبة، والتي تتمثّل في التالي: الزواج، والبنية العمرية، والهجرة الداخلية والخارجية، والوفيات، والسياسة السكانية، وحجم الأسرة، ووضعية المرأة، والتعليم، والمهنة، والدين، والحروب. وهي تستخدم نظرية التحول الديمغرافي للاستفادة منها في التحليل والاستنتاج. وقد أجرت الدراسة مقارنات بين البلدان العربية والنامية والمتقدمة؛ من أجل كشف أوجه الشبه والاختلاف في تطور الخصوبة، والعوامل المؤثرة فيها. وخرجت في النهاية بخلاصة.
   أما الفصل الثالث فيهدف إلى رصد وتحليل حجم واتجاهات هجرة الكفاءات من البلدان العربية والتحولات التي شهدتها في السنوات الأخيرة، ويفحص مقرراتها، وتأثيراتها. ويطرح عددا من المعالجات للتعامل مع هذه الظاهرة. وتكمن أهمية الدراسة في إنه في السنوات الأخيرة، ومع حدوث تحول كمي ونوعي كبير في بنية تيارات الهجرة لصالح هجرة الكفاءات؛ وبما أن هذه الهجرة بدأت تستقطب البحث على مستوى مؤسسات البحث العلمي والمنظمات العالمية المهتمة بالهجرة، لذلك فإن البلدان العربية بحاجة إلى مزيد من البحث المعمق لهذه الهجرة، لأنها باتت تشترك ـ بقوة ـ في تياراتها وتتأثر في نتائجها الكثيرة المتشابكة والمتبادلة التأثير، والتي تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر ـ وإنْ بدرجات متفاوتة ـ في إعاقة التنمية الاجتماعية - الاقتصادية التي تنشدها هذه البلدان.
  ويحلل الفصل الرابع أسباب موجات الهجرة السكانية التي أعقبت غزو الكويت واتجاهاتها وأنماطها وتأثيراتها ويفحص خصوصا ما تركته من تغيرات في البنى السكانية والاقتصادية والاجتماعية في بلدان الخليج العربي، والدول المرسلة للمهاجرين. وكمقدمة تساعد البحث في الوصول إلى نتائجه جرى التعرف على حجم العمالة المهاجرة وبنيتها وأهميتها من الناحية الاقتصادية لبلدان الخليج العربي ولبلدانها الأصلية.   
 



36
دراسات في الدين والدولة
د. هاشم نعمة
  عن المركز العراقي للدراسات والبحوث المتخصصة في بغداد صدر كتاب بعنوان "دراسات في الدين والدولة" للباحث د. هاشم نعمة فياض. يقع الكتاب في 208 صفحة من القطع الكبير. يضم الكتاب مجموعة من الدراسات الاجتماعية-السياسية المتعلقة بالدين والدولة والتي كانت موضوعاتها في السنوات الأخيرة مثار اهتمام سواء على مستوى الرأي العام أو على مستوى البحث الأكاديمي في العالم العربي خصوصا. وهي تعالج الفكر الطائفي والدولة، التطرف الديني، الحركات الدينية والنهج البراغماتي، نقد العقل الديني، العلمانية، الدولة المدنية الديمقراطية، الفدرالية، الحركة الشيوعية في العراق، المؤسسات المالية وعلاقتها بالدولة في البلدان الرأسمالية، الليبرالية الجديدة والوظيفة الأيديولوجية للدولة، القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية، آفاق ومحددات الإسلام السياسي في بلدان الانتفاضات الشعبية، والتفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية. هذه الدراسات كُتبت في أوقات مختلفة، وارتأينا جمعها في كتاب واحد لتكون في متناول الباحثين والدارسين والقراء عموما. وأدناه موجز لموضوعات الكتاب.
     أثار موضوع ادلجة الدين وتسيسه وتوظيفه للدفاع عن مصالح طبقية وفئوية وشخصية الكثير من الحوار والنقاش على المستوى الفكري والسياسي والثقافي، وذلك بغية تحليل وفهم وتفسير هذه الظاهرة، ومدى انعكاساتها وتجلياتها وتأثيراتها في صيرورة تطور المجتمعات، وبناها السياسية في البلدان العربية والإسلامية. ولعله من المفيد هنا لفهم سياق تطور هذه الظاهرة وانعكاساتها، تحليل الخلفيات التاريخية والاجتماعية- السياسية والفكرية التي غذتها وما زالت تغذيها، وتأثيرات ذلك في بناء الدولة. وهذا ما حاولت دراسة "الفكر الطائفي والدولة" معالجته.
    شغلت موضوعة التطرف الديني الكثير من اهتمامات الباحثين والمفكرين في العلوم الاجتماعية والإنسانية في السنوات الأخيرة، استنادا إلى مرجعيات ومنهجيات مختلفة، سواء على مستوى العالم أو على مستوى المنطقة العربية، نتيجة تصاعد موجة التطرف الإسلامي بشكل غير مسبوق. لذلك تبنت دراسة " التطرف الديني ... جذوره الفكرية وأبرز تجلياته" تحليل صيرورة الجذور الفكرية للتطرف الإسلامي وأبرز تجلياته المعاصرة، لعل هذا يساعدنا في فهم بعض أسباب تطور هذه الظاهرة وتفكيك خطابها.

     نمت الحركات الدينية الإسلامية بشقيها السني والشيعي، بشكل ملحوظ، في العالم العربي والإسلامي، في العقود الأخيرة، نتيجة العديد من الأسباب، وعلى الرغم من تعدد هذه الحركات، إلا أن هناك ما هو مشترك في مرجعيتها الفكرية وفي خطابها السياسي، لكن ما يثير الملاحظة، هو تغير خطابها بحسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما عالجته دراسة "الحركات الدينية بين الخطاب الأصولي والنهج البراغماتي".

       يشكل النقد مكونا مهما من مكونات الإنتاج الفكري والإبداعي، ودونه يصيب الركود والجمود المنظومات الفكرية والمعرفية ومنها الفكر الديني. وقد كرس مفكرون وباحثون جهودهم العلمية لنقد الفكر الديني ومنه الإسلامي لجعله متوافقا مع متطلبات وتطورات الحياة المعاصرة وما تشهده من تغيرات وتحولات سريعة في فترات قصيرة فما بالك عبر فترات طويلة الأمد. ومن هؤلاء المفكر محمد أركون الذي كرس حياته العلمية المديدة حتى وفاته عام 2010 لمشروع نقد العقل الإسلامي وتجديده مستخدما المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ومن كتب أركون المهمة "قضايا في نقد العقل الديني... كيف نفهم الإسلام اليوم؟"، والذي ارتأينا تقديم قراءة عنه؛ لأنه في نظرنا كتاب قيم جدير بالقراءة المتمعنة.

    تجري عملية منظمة ومقصودة في أحيان غير قليلة لتشويه مفهوم العلمانية وإلحاق النعوت السلبية به بدوافع سياسية أو أيديولوجية أو دون قصد نتيجة قلة الإطلاع على تجليات العلمانية في تجاربها المطبقة في الكثير من البلدان. وهذا ما يجعل مفهومها يشوبه الكثير من الضبابية في نظر العموم. وفي محاولة لاستجلاء جوانب من صيرورة العلمانية وأبعادها الفكرية والاجتماعية والسياسية تأتي دراستنا "في صيرورة العلمانية... محاولة في الفهم" لعلها تسهم بما هو مفيد في هذا الجانب الهام.   
   تكتسب موضوعة بناء الدولة المدنية الديمقراطية في بعدها النظري والتجريبي أهمية  استثنائية في واقع العراق الحاضر. حيث يدور الصراع على أشده سلماَ وعنفاَ بين القوى السياسية من أجل إعادة بناء الدولة العراقية، وفق مصالحها الطبقية والطائفية والقومية والإقليمية والدولية. ولذا حري بنا ونحن نتبنى المشروع الوطني الديمقراطي الذي يمهد الطريق لبناء أسس هذه الدولة، أن نتعمق ببحث هذه الموضوعة للتعرف على سيناريوهات التحول الديمقراطي ومقومات الدولة المدنية الديمقراطية ومعوقاتها. وهذا ما درسته موضوعة "الدولة المدنية الديمقراطية- مقوماتها ومعوقاتها".
      تهدف دراسة "الدولة المدنية الديمقراطية بديل الدولة الفاشلة" إلى تسليط الضوء على بعض المفاهيم النظرية المتعلقة بالدولة وعلاقتها بالمجتمع في البلدان النامية، ومعاينة الدولة الفاشلة من حيث المفهوم والمقررات، وتفحص بعض مقومات الدولة المدنية الديمقراطية لإنتاج نوع من المقارنة بين الدولتين، لتأكيد أن خيار الدولة المدنية هو الممكن والوحيد لإنقاذ الدولة العراقية من الانحدار أكثر في صنف الدولة الفاشلة التي تنطبق الكثير من مميزاتها عليها حاليا.       
    تحتل مسألة الفدرالية، حيزاً مهما، من اهتمامات القوى والأحزاب السياسية على شتى مشاربها، ومرجعياتها الفكرية، وكذلك الرأي العام العراقي. وقد برزت بقوة، بعد تغيير النظام، عام 2003، والسير في العملية السياسية، وأصبحت جزءاً من الصراع الدائر حول إعادة بناء الدولة العراقية، وتحقيق المكاسب لهذا الطرف أو ذاك في هذا البناء الجديد. ويبدو هناك تشوش وعدم وضوح على مستوى المفهوم والصلاحيات التي تتمتع بها الأقاليم الفيدرالية لا على صعيد الرأي العام فقط بل على صعيد القوى والأحزاب السياسية ونخبها. ومن هنا تأتي أهمية الحاجة للمزيد من البحث المعمق في محاولة لفهم مفهوم الفدرالية ومسيرة تطبيقها وتطورها سواء على مستوى تجربة الدول المتقدمة أو النامية أو العراق. وهذا ما تناولته بالبحث دراسة "الفدرالية: المفهوم والتطبيق".
     تكتسي أهمية خاصة قراءة كتاب "من أرشيف جمهورية العراق الأولى: الحركة الشيوعية في تقارير مديرية الأمن العامة 1958-1962 دراسة تاريخية سياسية" لأنه يؤرخ بالوثائق لفترة عاصفة من تاريخ العراق التي أعقبت ثورة 14 تموز 1958 والتي ارتبطت بتنامي دور الحزب الشيوعي  الجماهيري ومحاولة سلطة عبد الكريم قاسم تحجيم هذا الدور والذي ساهم بدوره في نجاح انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 ووأد  الجمهورية الأولى. إن هذه التداعيات السياسية وما تلاها ساهمت بدرجة كبير في رسم ملامح التطور السياسي المضطرب في  العراق خلال العقود اللاحقة وإلى الوقت الحاضر.
      تأتي أهمية كتاب "انهيار الرأسمالية... أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود"، في تقديرنا من أن مؤلفه يؤمن بالعدالة الاجتماعية في ظل النظام الرأسمالي. وبذلك فهو من الناحية الأيديولوجية لا يمكن وصفه خصماً أو متحاملاً على هذا النظام كما درجت العادة على وصف الكتاب والمفكرين الماركسيين في تصديهم لتحليل الأزمات البنيوية للرأسمالية. ومع ذلك يقر المؤلف أنه مهما اختلفت الأجوبة حول أسباب الانهيار الاقتصادي الذي حدث عام 2008 فإن ثمة حقيقة لا اختلاف عليها أبداً: وهي أن العصر الذهبي، الذي تمتعت به البلدان الصناعية الغربية منذ التسعينات، قد صار في ذمة التاريخ. وإن النظام الرأسمالي المحرر من القيود يقف الآن على عتبة الهاوية.
   تكمن أهمية قراءة كتاب "الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية" في المنهج العلمي الأكاديمي الذي اتبعه المؤلف في التحليل المعمق والاستنتاج. وقد جاءت الأزمة المالية والاقتصادية وتداعياتها العاصفة التي يمر بها العالم والتي بدأت من الولايات المتحدة وانتقلت إلى بقية الدول في نفس عام صدور الكتاب (2008) لتؤكد صحة الاستنتاجات التي خرج بها المؤلف بالرغم من أنه لم يعالجها. وبهذا يعد الكتاب مصدرا مهما للأكاديميين والباحثين والدارسين وعموم القراء المهتمين بهذا الموضوع.

     طرح اندلاع الانتفاضات الشعبية في العديد من البلدان العربية الكثير من الأسئلة ذات الأبعاد النظرية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية عن أسباب اندلاعها وقواها الفاعلة وتزامنها في هذا الوقت بالتحديد. وبما أن الانتفاضات يقتضي دراستها بأبعادها المتعددة المركبة والمتبادلة التأثير التي خلقت حالة التراكم الذي أدى إلى اندلاعها وتسهيلا للبحث يمكن تناول بعض محاورها الهامة مثل المحور الذي تم اختياره عنوانا للدراسة "القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية".
    أثار صعود قوى الإسلام السياسي، في الانتخابات التي أعقبت نجاح الانتفاضات في إسقاط بعض رؤوس الأنظمة في البلدان العربية أو صعودها في الانتخابات التي تلت إجراء بعض الإصلاحات الدستورية والسياسية؛ العديد من الأسئلة، والكثير من النقاشات حول أسباب ونتائج وآفاق تطور هذه الظاهرة، ولامست هذه النقاشات المرجعية الفكرية للإسلام السياسي فيما يتعلق بموقفه من الدولة وشكل بنائها. وهذا ما حاولت دراسة "آفاق ومحددات الإسلام السياسي في بلدان الانتفاضات الشعبية" مناقشته.
      حظيت الانتفاضات التي اندلعت في عدد من البلدان العربية باهتمام وتفاعل وردود أفعال إقليمية ودولية واسعة ربما لم تحدث بهذا المستوى لأي من الانتفاضات والثورات التي سبقتها على المستوى العربي. لذلك ارتأينا في دراسة "التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية" تحليل هذا العامل الذي سيبقى مؤثرا بقوة على المدى القريب والمتوسط بالأخص على الرغم من أن العوامل الداخلية تبقى المحرك الأساس فيما حدث ويحدث.



37
في صيرورة العلمانية... محاولة في الفهم
د. هاشم نعمة
    بات مفهوم العلمانية من أكثر المفاهيم التي تثير الالتباس والتشوش والخلط على المستوى الفكري والديني والسياسي والاجتماعي والثقافي، خصوصا في ظل تبني الكثير من القوى والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني فكرة بناء دولة مدنية ديمقراطية، سواء على مستوى العالم العربي عموما أو العراق خصوصا. وذلك نتيجة الفشل الذريع -على كافة الصعد- الذي منيت به تجارب الأحزاب الإسلامية التي استلمت السلطة أو شاركت فيها في بعض البلدان العربية والإسلامية. وتجري عملية منظمة ومقصودة في أحيان غير قليلة لتشويه المفهوم وإلحاق النعوت السلبية به بدوافع سياسية أو أيديولوجية أو دون قصد نتيجة قلة الإطلاع على تجليات العلمانية في تجاربها المطبقة في الكثير من البلدان. وهذا ما يجعل مفهومها يشوبه الكثير من الضبابية في نظر العموم. وفي محاولة لاستجلاء جوانب من صيرورة العلمانية وأبعادها الفكرية والاجتماعية والسياسية تأتي دراستنا هذه لعلها تسهم بما هو مفيد في هذا الجانب الهام.   
                                    في أصل مفهوم العلمانية
    استخدمت كلمة علماني في اللغة الرومانية "سيكلوم" بمعنى الزمني، والدنيوي، والمتغير والنسبي وما شابه ذلك للإشارة إلى معنى العالم أو الدنيا. أما في السياق اليوناني فقد استخدمت بمعنى الزمن والدهر أو الحقبة من الزمن. وقد استُعمل نعت علماني، ومنذ وقت مبكر داخل الكنيسة،(1) للدلالة على طبقة رجال الدين الذين يقومون على خدمة الشؤون الدنيوية لعامة المتدينين، وذلك تميزا لها عن طبقة الرهبان والقساوسة المتفرغين لشؤون العبادة بصورة كاملة وبمعزل عن الشؤون الدنيوية. ولكن بدءا من القرن السادس عشر بدأت كلمة علمانية تتخلص تدريجيا من حمولتها السلبية منذ مرحلة النشأة، فلم يعد إذن نعت علماني يحيل على ما هو أقل مكانة روحية أو منزلة دينية واجتماعية، بل صار يدل على ما هو جليل ورفيع: أي المدني، الدنيوي، الزمني، النسبي، مقابل ما هو كنسي وديني مما بدأ يفقد شحنته الإيجابية شيئا فشيئا. ومنذ القرن الثامن عشر، شاع المصطلح على نطاق واسع، واتسع ليدل على انتقال شخص من المشغل الديني إلى المدني، ثم اكتسب المصطلح فيما بعد معنى اجتماعيا وسياسيا واضحا.(2) وهذا يشير بوضوح إلى أن المفاهيم يمكن أن تتغير دلالاتها وفقا للتغيرات التي تحدث في البنية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تنشأ فيها وتتفاعل معها.   
   إن مفهوم العلمانية لا ينفصل عن جملة مفاهيم فلسفية أخرى، تتكامل معه وتُتممه، وينسج معها خطاب التنوير الليبرالي في أشكاله المختلفة والمتطورة، من قبيل مفاهيم الملكية، والمواطنة، والتعاقد الاجتماعي، والتسامح، والحرية، والتقدم. وقد تكاملت هذه المفاهيم في دائرة التاريخ الأوروبي، وعكست ملامح لا حصر لها من الصراع التاريخي والنظري في أوروبا. وقد توج هذا الصراع بالثورة الفرنسية في مجال الصراع السياسي التاريخي، كما توج بفلسفة التنوير النقدية في مجال تاريخ الفلسفة. وكان لكل من فلسفة التنوير والثورة الفرنسية نتائجهما المعروفة في التاريخ الواقعي، وتاريخ الأفكار والعلوم والفنون في أوروبا الحديثة والمعاصرة.
    أما في العالم العربي فقد استعمل مفهوم العلمانية لأول مرة في دلالته الفلسفية التنويرية، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.(3) ومنذ ذلك الحين ما زال موضوعا للسجال السياسي والفكري المتشعب بين مؤيديه وخصومه من القوى الأصولية والمحافظة.
                                      صيرورة العلمانية
     العلمانية في الممارسة والفكر لم تولد جاهزة كأي تجربة إنسانية، وإنما مرت بالكثير من المخاضات والصراعات ذات الأبعاد الطبقية والفكرية وذلك تبعا للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نشأت في ظلها وأثرت وتأثرت فيها.
    العلمانية هي نتاج عملية تمايز اجتماعي بنيوي وتغير في أنماط الوعي كصيرورة تاريخية، وهي صيرورة تمر بها المجتمعات كافة. وطبيعة صيرورة العلمنة التي مرت بها المجتمعات هي التي تحدد ليس طبيعة العلمانية التي تنتج فيها، وموقعها ومدى هيمنتها فحسب، بل طبيعة أنماط التدين أيضا.
    تنحو العلمانية إلى جعل مرجعيتها مرجعية قيمية ومعنوية "معيارية" غير دينية. وتشمل الصيرورة التي تقود إلى هيمنة هذا الموقف في الفكر والسياسة والعلم والاقتصاد، كما تمر عبرها القيم والأخلاق، وكذلك المؤسسات والممارسة الاجتماعية.
     في الحداثة وحدها سميت هذه الصيرورة "علمانية" أو "علمنة" بالمعنى الضيق للكلمة. بينما هي، جزء من صيرورة تاريخية تسبق الحداثة. إنها صيرورة تاريخية طويلة تمتد إلى ما قبل تسميها عملية علمنة، تماما كما تعود أصول الدولة الحديثة إلى نويات الدولة المركزية، ولاسيما في القرن السادس عشر إلا أن تطور الدولة عملية تاريخية طويلة. لذلك فالعلمانية صيرورة تاريخية من التمايز في مجالات المعرفة، وفي البنى الاجتماعية، والممارسة الاقتصادية والعلمية والسياسية. وهي تتخذ شكل انعطاف حاد عشية العصر الذي نسميه الحداثة، وذلك بسبب الثورات العلمية والصناعية والتحولات السياسية والاجتماعية الكبرى(4) والتي كانت تتفاعل مع التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى التي شهدتها تلك الفترة.
    بالنسبة إلى تجربة الغرب، يناقش ستيف بروس بأن تراجع الانتماء الكنسي ومواظبة الحضور إلى الكنيسة يمكن تفسيره بالتغيرات التي رافقت انبثاق المجتمع الحديث. وهناك خصوصا ثلاثة عوامل اجتمعت لتجعل الغرب علمانيا بصورة رئيسية، وهي تتمثل في: التشظي الاجتماعي؛ تفكك العلاقات الاجتماعية القديمة والعقلنة.
    بالنسبة إلى التحول الأول في الأوضاع الاجتماعية، يحدده بروس بالتحول من الجماعات المتماسكة المغلقة، والقرى إلى مجتمع مجزأ متنوع، إلى الدولة القومية الحديثة. هذا التشظي يتوافر على عدد من العناصر. ففي الجماعات الإقطاعية ما قبل الحديثة، كانت الكنيسة مسؤولة عن عدد من النشاطات الرئيسية. فهي مسؤولة عن التعليم، والشؤون الاجتماعية، والرعاية الصحية، ولها آراء مؤثرة في العمليات الاقتصادية. ومع قدوم التحديث أصبحت هذه النشاطات تدريجيا من اختصاص المتخصصين. لذلك فقدت الكنيسة سيطرتها الشاملة. وقد تولى المهنيون مثل المعلمين، والممرضات، والأطباء، والعاملين في المجال الاجتماعي مسؤولية العمل في المجالات التي كانت في السابق من مسؤولية الكنيسة. وباتت المعايير المهنية التي يعمل وفقها هؤلاء المهنيون مطابقة للتوجه العلماني.
     إلى جانب تشظي الأدوار هذا بدأ الناس ينقسمون إلى مجموعات طبقية أكثر تحديدا. بينما في عصر الإقطاع، كانت تقسيمات المجتمع ثابتة ومعترف بها. وعلى الرغم من وجود تفاوت كبير في نوعية الحياة لكن كان الكل يعيش على مقربة من الآخر. ومع قدوم التحضر (توسع المدن) والتصنيع، بدأ المجتمع بالتشظي. وسيكون هناك ناس ينتمون إلى طبقات مختلفة ويعملون في أماكن مختلفة؛ لاسيما الطبقة العاملة التي ملأت المصانع.
    وقد أثرت التغيرات الاجتماعية في البنية العقلية للسكان. حيث قاد التصنيع إلى انهيار النظام الإقطاعي وبالتالي تقدم شعور أكبر بالمساواة والديمقراطية. كذلك فإن انهيار المجتمع الإقطاعي ذي التراتبية الصارمة حيث تتوفر فيه الكنيسة على الدور المهيمن والقوي، ولد التشظي الاجتماعي الذي سار يدا بيد مع مبدأ الفردية والمساواة.(5)
     يناقش بروس أيضا بأن معظم الناس لم يتخلوا عن الدين لأنهم درسوا داروين، أو تعاطفوا مع غاليلو أو اقتنعوا بالانتقادات الموجهة للكتاب المقدس. لأنه عندما جرت النقاشات الفكرية حول العلاقة بين سفر التكوين والتطور، كان هؤلاء قلة مختارة. لكن هذا لا يعني بأن العلم لم يكن له تأثير على الكنيسة. ما حدث في الواقع أن العقلية العلمية همشت الكنيسة، لأن هذه العقلية تتعامل بعمليات السبب والتأثير. وتبحث عن الأجوبة والحلول التي هي بالكامل تعود إلى عالم الطبيعية، وتهجر العوالم الخارقة للطبيعة.(6)
    من الشائع وصف المجتمعات الغربية بأنها علمانية، إذ يفترض الزعماء الدينيون، والصحفيون، والسوسيولوجيون والسياسيون وغالبية الناس الذين لهم مصلحة عابرة في هويتهم الدينية والثقافية، بأن الغرب علماني. طبعا، هناك استثناءات ملاحظة عن هذا السياق، حيث تتحدد الأقليات خصوصا الجاليات المهاجرة بأن لها هويات دينية قوية. وهذه تبقى استثناءات على اعتبار أن الغرب يُعد علمانيا بشكل رئيس. هناك في الواقع ثلاثة أمور تُقصد عادة عندما يتم وصف الغرب بأنه علماني:
   الأول، هو استمرار تراجع المؤسسات  المسيحية، حيث أن عدد الأشخاص الذين يذهبون إلى الكنيسة كل يوم أحد في تراجع. وبجانب التراجع العددي هذا، هناك تراجع في الوضع الاجتماعي لهذه المؤسسات. فمن النادر أن يتم استشارة الزعماء الدينيين كأصوات عامة وبشكل رسمي.
     الأمر الثاني، هو الحديث بطريقة علمانية في الفضاء العام. المقصود هنا أن النقاشات تجري في الغالب على أساس تصورات علمانية في الإعلام، والمدارس والجامعات، وبشكل عام بين الناس وفي أماكن العمل والمنازل. لذلك غالبا ما يتم التعامل مع الدين كقضية رأي خاص وليس كحقيقة عامة. لقد قاد التمييز بين المعتقدات الدينية الخاصة والحقائق العامة إلى استبعاد اللاهوت، باستثناء عدد قليل من القضايا مثل الزواج وتعميد الأطفال ودفن الأحباب التي تتم في الكنيسة. حتى التفجيرات التي شهدتها بعض البلدان الغربية تجري مناقشة أسبابها على أساس علماني. تعزى أسباب هذا التطور غالبا إلى صعود شأن الفلسفة الليبرالية والمناهج العلمية الحديثة الناجمة عن عصر النهضة وحركة التنوير الفلسفية. علما كانت معتقدات المفكرين الليبراليين والعلماء الغربيين البارزين في الغالب مسيحية، ولكنهم هم أنفسهم قوضوا القوة الفكرية لمسيحية القرون الوسطى.
   الأمر الثالث الذي يوصف فيه الغرب بأنه علماني، يتمثل في الملاحظات النقدية التي توجه إلى الهيئات الدينية والزعماء الدينيين. فقد جعلت علمانية الغرب منه استثناء بالنسبة إلى الاتجاهات الدينية في بقية العالم. إن استدعاء العلمانية الغربية هنا هو في جزء منه لعقد مقارنة بمناطق أخرى. حيث مازالت المسيحية تمثل قوة ثقافية وسياسية في الكثير من بلدان أفريقيا، وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. فضلا عن ذلك تنمو في هذه البلدان، ولا تتراجع، في تباين ملحوظ مع ما يحدث في الغرب. ويتمتع الإسلام  بقوة كبيرة في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية في البلدان الأفريقية والآسيوية الأخرى وفي بلدان الشرق الأوسط(7) التي هي في الغالب بلدان عربية.
    ويمكن  أن نستخلص من ذلك، إن العلمانية هي الثمرة الطبيعية لتطور الحضارة، وما يرافقها من ارتفاع في مستوى استخدام العقل، وتراكم المعرفة وترسيخ الميول والمشاعر الدنيوية والمادية. فهي لا تتحقق بقرار رسمي وإنما تواكب نمو المدنية. ويمكن القول أن العلمنة تنحو في الحالتين إلى أن تكون التعبير عن نمط  من العقلانية يعكس حركة الحياة الجديدة، عقلانية السياسة والتنظيم الجماعي، وعقلانية الوعي وتنظيم الحياة. إنها التعبير عن تعاظم استخدام العقل والملكات الإنسانية الأخرى.(8)
    مع ذلك لم تكن العلمانية نسخة واحدة طبقت في الدول الغربية، إذا نرى هناك تباينات في هذا التطبيق، بحسب الظروف السياسية والاجتماعية في كل بلد، فمثلا لا يزال نظام التعليم الهولندي الرسمي يتوفر على مدارس ذات توجه كاثوليكي وبروتستانتي وأخرى ليس لها توجه ديني، علما يحق لجميع الطلاب الدراسة في جميع هذه المدارس بغض النظر عن خلفياتهم الدينية، مع هذا تظل هولندا بلدا علمانيا. كذلك ما زالت ملكة بريطانيا تترأس الكنيسة مع أن هذا البلد من أكثر البلدان الأوروبية علمانية. ونجد في الدستور الإيطالي واليوناني نصوصا تخص الدين، ولكن في كل الأحوال يظل هذان البلدان علمانيين.
                                        التأطير النظري
     غدت مناقشة انبثاق العلمانية في الغرب من خلال دراسة التاريخ الاجتماعي من أكثر الطرق شيوعا. ويكون في قلب هذا النقاش الكثير أطروحة العلمانية. وقد كان الشكل المعاصر لنظرية العلمانية قد طور خلال الستينات والسبعينات من القرن العشرين من قبل علماء مثل بيتر بيرغر وبريان ولسون، على الرغم من أنه يمكن القول بأن النظرية تعود إلى القرن التاسع عشر وإلى شخصيات مؤثرة مثل كارل ماركس، ودوركهايم، وكمت. وأكثر حداثة، فإن صاحب الدليل الموثق والواضح لأطروحة العلمانية هو ستيف بروس(9) الذي سبق ذكره. وجوهر ما يناقشه هو أن تراجع المسيحية يعود إلى التغيير الاجتماعي الذي مرت به المجتمعات الأوروبية، علما يعتقد ماركس أن العلمانية ولدت في الرأسمالية لكنها تكتمل فقط في مرحلة الشيوعية.
      تتسق نظرية العلمانية مع نظرية الحداثة التي تقوم على نحو ما يقول منظروها في العصر الحديث، بدءا بهيغل ومرورا بماكس فيبر، وانتهاء بمدرسة فرنكفورت، وخصوصا في جيلها المتأخر مع هابرماس، على عقلنة المنظورات والسلوكيات الفردية، وما يصاحب ذلك من عقلنة البنى العامة للمجتمع، لصالح نظرة وضعية، أي الانتقال نحو العلمانية باعتبارها قرين العقلنة بمعناها الواسع.
      وتتأسس النظرية على أطر نظرية تحدد بموجبها هوية ومضمونا للديني والعلماني على السواء، فهي تعيد رسم حدود الدين وتضبط مجالات فعله مثلما ترسم حدود العلماني ومواقع اشتغاله، فهي مثلا تحدد حضور الدين في ما يسمى بالحقل الخاص، مقابل مجال عام محكوم بالقيم العلمانية،(10) كما أشرنا إلى ذلك.¬¬¬¬¬¬
     والعلمانية من وجهة نظر فيبر ليست مجرد تحول في مستوى الوعي والمنظورات، بل هي، أولا وقبل أي شيء، حركة تاريخية كاسحة وجامحة تربك مختلف البنى الاجتماعية والاقتصادية السائدة. فهي ليست مجرد رؤية للكون ذات منحى دهري تبناها بعض المفكرين والفلاسفة، ولكنها بالدرجة الأولى هي تجسيد حي ومتلاحق لدهرنة البنى الاجتماعية والاقتصادية. ويرى فيبر أن العصر الحديث في جوهره عصر علماني، ليس لأن ثمة مجموعة من الفلاسفة أو المفكرين قد نادوا بالعلمانية، بل لأن البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا تستطيع بطبعها أن تتعايش مع المؤسسات الدينية.(11) علما لا زالت طروحات فيبر تتمتع بأهميتها وتعد مرجعا للكثير من دارسي العلمانية.
    لقد طرحت العلمانية، كنظرية، بمعنيين؛ الأول إجرائي سياسي، يتعلق بتنظيم العلاقة بين الدين والدولة عموما ومضمونه الحقيقي نزع القدسية عن نشاط وممارسة الدولة والحكام، وإخضاعهما للمناقشة العقلية والمسؤولية والمحاسبة. والثاني فلسفي يفيد إدارة الرأسمال الفكري وتنظيم العلاقات داخل العقل نفسه بين مصادر القيم والرموز المختلفة القديمة والحديثة، الدينية والعلمية، الروحية والمادية.(12)       
     ويذكر برهان غليون "إذا كانت العلمانية كواقعة تاريخية تعكس تطور نمط معين من العقلنة الموضوعية والعملية في الممارسة الاجتماعية السياسية، فإن العلمانية كنظرية أو كمفهوم إجرائي ليست إلا محاولة لإجلاء حقيقة هذه العقلنة وتبيان أسبابها ومآلها".(13)
    الواقع الذي تسعى العلمانية كنظرية ووسيلة فهم أن تدلنا عليه، والتي تحاول بوصفها برامج تغيير وإصلاح، أن تساعدنا على تنظيمه والتغلب عليه، ليس هذا الواقع هو النشاط الديني، الذي تقوم بتنظيمه المفاهيم والمعايير والقيم والعلوم الدينية. ولكنه واقع الخلط بين الدين والسياسة، بما هم خلط غير منتج ومظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية السياسية القرسطوية، ومصدر من مصادر فسادها وخراب الدولة فيها. ويتجلى هذا الخلط في إدخال المعايير والقيم الدينية في الممارسة السياسية، كما تجلى في تداخل سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، والتضحية بالحريات المدنية لصالح سيطرة السلطة الروحية، وما نجم عن كل ذلك من حروب مدمرة دينية ودينية- سياسية استنزفت الجهد البشري على مدى قرون طويلة(14) سواء في أوروبا أو في مناطق أخرى.
    هذا لا يعني أبدا أن نظرية العلمانية التي وجدت في السياق الغربي لا يمكن تطويرها وتعديلها لتأخذ في الاعتبار البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية للمجتمعات المختلفة التي تروم تبني العلمانية ومنها المجتمعات العربية والإسلامية.
    وعن العلاقة بين الديمقراطية والعلمانية، لم يتردد الباحث البريطاني فراد هليداي في القول لا توجد ديمقراطية دون علمانية. أما الفيلسوف الأمريكي جون رولز، فقد جعل من العلمانية رافعة ضرورية من روافع النظام الديمقراطي القائم على ما أسماه "الوفاقات المعقدة"، في حين شدد زميله رتشارد رورتي على أهمية العلمانية باعتبارها مرتكزا أساسيا لتأسيس فضاء عام مفتوح، بعيدا عن الغيبيات واصفا إياها بالقوة "الكابحة للحوار".(15)
    إذن، لا يمكن أن يكون النظام ديمقراطيا دون أن يكون علمانيا، ولكن ليس العكس صحيحا، فيمكن أن يكون النظام علمانيا دون أن يكون ديمقراطيا، ولنا في تجارب كثيرة دليلا على ما نقول، مثل الأنظمة الاشتراكية السابقة التي كانت علمانية إلى أقصى الحدود، ونظام بورقيبة في تونس، ودكتاتوريات عديدة في العالم تبنت العلمانية.   
                                  العلمانية والعالم العربي
      كانت أوروبا منذ القرن السادس عشر تتسلق سلم الاكتشافات العلمية، والابتكارات الفكرية، والمأسسة السياسية، والتنمية الاقتصادية، أما العالم العربي فقد كان يتراجع. ومنذ أواسط القرن التاسع عشر بدأت أوروبا بامتلاك تأثير ثقافي ملموس في المنطقة. لذلك عند هذه النقطة دخل مفهوم العلمانية النقاش الفكري، ومن هناك بدأ نموذج ثقافي جديد بالدخول حيث تم تبنيه من قبل المتحمسين والمعجبين بالغرب أو أنه فُرض بالقوة من قبل السلطات الاستعمارية. وعلى الرغم من أن القوى الأوروبية الاستعمارية مثل فرنسا وبريطانيا جاءت إلى العالم الإسلامي بدوافع طموحاتها الإمبريالية، لكنها كانت موضع إعجاب من قبل نخبة تتكون بشكل رئيس من مثقفين ذوي تعليم غربي، وذلك في سبيل إحراز التقدم العلمي والثقافي في نظرهم. وقد تركز النقاش الأول حول العلمانية في العالم العربي بشكل رئيس حول العلاقة بين الدين والدولة، وحول مدى ملاءمة النجاحات الأوروبية في العلوم والتكنولوجيا وأسلوب الحكم(16) للمنطقة. 
    بات فكر التنوير واحدا من الأطر النظرية المرجعية الموجهة للفكر العربي المعاصر. وقد بلور المصلحون المصريون والشوام في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، اختيارات فكرية تدعو إلى قيم التنوير، وتسلم بأهمية مفاهيم ومبادئ عصر التنوير، في تطوير الفكر العربي والواقع العربي، وذلك انطلاقا من دورها العام في تطور الفكر الإنساني.
    ومن أبرز هؤلاء المثقفين المتحمسين لفكر التنوير يمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر فرج أنطون، وشبلي شميّل، وأديب إسحاق، وسلامة موسى، ولطفي السيد، وعلي عبد الرازق، وطه حسين. وقد ساهم كل هؤلاء بدرجات متفاوتة في إنجاز تأويل إيجابي لفكر التنوير داخل فضاء الفكر العربي المعاصر(17) على الرغم من أن بعضهم قد تراجع عن بعض مواقفه نتيجة الهجوم والتهديد اللذين شنتهما القوى الأصولية ضدهم مثل طه حسين وعباس محمود العقاد.   
    فيما يتعلق بمدى ملاءمة العلمانية للعالم العربي يذكر عزمي بشارة إذا كانت العلمانية تقوم على فهم الظواهر بقوانينها، والتعامل مع الدنيا من دون الحاجة إلى إقحام الغيب، وإذا كان تجليها يتمحور حول قضية التعامل مع الدولة بموجب آليات السياسة الدنيوية، حيث لا تسيّرها اعتبارات دينية. وإذا كانت نتاج صيرورة تمايز في الوعي، وبين المؤسسات تسمى العلمنة، فإنها بمعانيها هذه ليست خاصية ثقافية للغرب. والفرق بين المجتمعات العربية والإسلامية بهذا الخصوص هو في نمط حصول هذا التمايز، لا في وجود أو عدم وجود تمايز في الوعي والمؤسسات بين الديني وغير الديني. فالتمايز بين المجالات الاجتماعية والمؤسسات، والتفكير العلمي والديني، من علامات التطور عموما، لا من علامات التطور في أوروبا وحدها.(18) وهذه نظرة منطقية تتقاطع مع ما تطرحه القوى الأصولية بأن العلمانية خاصية غربية ولا يمكنها أن تتلاءم مع العالم العربي.     
     ويذهب محمد أركون أبعد من ذلك، إذ يشدد أنه ينبغي أن نتجنب خطأ شائعا جدا في الأدبيات الاستشراقية، وعند المسلمين على السواء، والذي يقول بأن الإسلام لم يعرف أبدا في تاريخيه التفريق بين الزمني والروحي. هذه فكرة منغرسة في نفوس المستشرقين وعند الجمهور الغربي ككل. يجب التخلص فورا من هذه النظرية.
    لقد وجدت في السابق في المجتمعات المدعوة إسلامية تجارب يمكن أن نصنفها بالعلمانية. لكن هذه التجارب لم تصل إلى درجة الوعي الواضح بذاتيتها، ولم تلق في يوم من الأيام لها تنظيرا.
    إن الإشكال النظري الذي طرحته مسألة إعادة إنتاج نموذج "تجربة مكة والمدينة" لم يُحل أبدا في تاريخ الإسلام بالشكل المشروع ومن وجهة نظر ثيولجية. هذا ما يدعو إلى التأكيد بأن السلطة على مدار التاريخ الإسلامي كله كانت سلطة زمنية مضبوطة أو "موجهة" من قبل السيادة الدينية. هذه حقيقة مهمة جدا عكس التصورات الكبرى التي رسخت في أذهان الجماعات الإسلامية،(19) وخصوصا أحزاب الإسلام السياسي وفي مقدمتها الأخوان المسلمون الذين يعدون العودة إلى الخلافة الإسلامية هدفهم الأسمى. 
    كانت الدولة الإسلامية في البداية تبحث عن تسويغ ديني. هذا لا شك فيه، لكن في الواقع، أن تلك الدولة هي في الأساس علمانية بحسب تعبير أركون، أهم هذه الأمثلة تلك الرسالة المتعلقة بإنشاء الدولة وبنيانها والتي كتبها ابن المقفع عام 750 م. ورسالته هذه ليست إلا استلهاما لتنظيم الدولة الساسانية التي وجدت قبل الإسلام بزمن بعيد. وفي الواقع، فالدولة العباسية المؤسسة عام 750 م ليست إلا صورة منسوخة عن بنية الدولة الساسانية.
    يحدد ابن المقفع في هذه الرسالة بنى الدولة ومؤسساتها، أي بنى الدولة العباسية وذلك دون الرجوع إلى الدين. يتناول الكاتب قضايا محسوسة ومادية تماما مثل أسلوب حكم سوريا والعراق، وكيفية إعادة الأمن إليهما، وقد نتج عن ذلك قرارات تخص الجيش والشرطة والقضاء. إن ابن المقفع يشرح ذلك بكلمات وتعابير وضعية تماما ودون الاستعانة بالفكرة الوهمية للقانون الإسلامي. إننا هنا بإزاء وثيقة تاريخية لا تُدحض تبين كيفية نشوء الدولة الجديدة التي واجهت مشاكل عديدة خاصة بأية دولة جديدة. حدث هذا ضمن منظور علماني بحت(20) بحسب الباحث نفسه الذي يرى أن الإسلام يقبل العلمانية.
     وفي هذا السياق يشير سمير أمين في مناقشته لـ "الطوبى العلمانية والطوبى الإسلامية"، إلى أنه قد تبلور في تاريخ الإسلام اندماج السلطة والدين، وكذلك تأويل جديد للإسلام يجعله أيديولوجيا دنيوية إلى جانب كونه عقيدة دينية. وعلى ضوء هذا الواقع أقيمت مؤسسة دينية شبيهة إلى حد كبير بمؤسسة الكنيسة، مكونة من علماء وفقهاء ورجال دين بأشكالهم المختلفة. إلا أن هذه المؤسسة نبعت مباشرة من السلطة عينها. فيعود المزج بين الدين والدولة إلى هذه العصور، لا إلى ما سبقها من تاريخ الإسلام.(21) وهذه الرؤية تنفي ما يروج له الكتاب الإسلاميون بأن تاريخ الإسلام لم يعرف مؤسسة دينية شبيهة بالكنيسة، ولذلك لم تظهر العلمانية في المجتمعات الإسلامية كما ظهرت في الغرب لأن هذه المجتمعات ليست بحاجة لها.
     ويذكر رجل الدين المتنور أحمد القبانجي بأنه لا بد من استحضار العلمانية ومقولة فصل الدين عن السياسة والاعتقاد بأن الحكومة بشرية وزمنية، وأن الدين ليس من شأنه التدخل فيما هو دنيوي لأن الأمور الدنيوية من الاقتصاد والسياسة تعود للبشر بما هم بشر عقلاء يتحركون في دائرة إشباع رغباتهم وحاجاتهم الدنيوية بأدوات العقل والعلم بدون الحاجة إلى الاستمداد من الدين والوحي.
    وليس فقط أن الإنسان المعاصر لا يحتاج إلى تعليمات الدين والشريعة في إطار التقنين والتشريع، بل إن ذلك غير ممكن إطلاقا، لأن الدين يتضمن أمورا ثابتة ويهتم بحاجات الناس المشتركة والفطرية والتي ترتفع فوق الزمان والمكان، في حين أن حاجات الإنسان الدنيوية وعلاقاته الاجتماعية والاقتصادية - التي تُسن القوانين على ضوئها- متغيرة باستمرار وداخلة ضمن الزمان والمكان. ولهذا لا بد من الاعتماد على أدوات العقل والعلم في تشخيص هذه الحاجات والعمل على مواجهة المشكلات ومعالجة المتغيرات بروح متحركة تنطلق من دراسة الواقع المتغير وحاجات الفرد والمجتمع الدنيوية، وصياغة قوانين ومقررات تتواءم مع هذه الحاجات وتنسجم مع هذه المتغيرات في حركة الحياة(22) المتجددة دائما خصوصا في ظل تسارع التطورات العلمية والتكنولوجية العاصفة مقارنة بحالة الركود التي كانت تعيشها المجتمعات الإنسانية في السابق.
    نرى الجماعات الإسلامية الأصولية ترفض العلمانية وتعدها انحرافا وكفرا عن صحيح العقيدة الإسلامية، وأنها لا يمكن أن تنسجم مع البنية الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية للمجتمعات العربية والإسلامية، على اعتبار أن منشأ العلمانية غربي، وكأن الحضارات في تاريخها لم تعرف الأخذ والعطاء والتلاقح الثقافي المثمر. وهو ما تؤكد عليه هذه الجماعات ذاتها وتتفاخر به باستمرار بأن الحضارة الأوروبية أخذت الكثير من الحضارة العربية الإسلامية. فإذا كانت هذه الحضارة قد أعطت فلماذا لا يمكن لها أن تأخذ؟ إذا افترضنا أن العلمانية خاصية غربية وهذا ما لا يتفق حوله جميع الباحثين، إن محاججة هذه الجماعات ضد العقل والمنطق والتاريخ.
     فيما يخص إدعاء الجماعات الإسلامية أن العلمانية في الغرب مقرونة بالإلحاد، نورد هنا مثالا من بريطانيا التي يُعتقد في كثير من الأحيان أنها واحدة من البلدان الأكثر علمانية في أوروبا الغربية، لكن يُظهر الإحصاء السكاني الذي أجرته الحكومة عام 2001، أن 72% من السكان يصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون، بل في بعض المناطق، مثل شمال شرق وشمال غرب انكلترا، هذه النسبة ترتفع إلى 80% و78% على التوالي. على العكس من ذلك، يذكر 15,5% بأن لا دين لهم. وأظهرت دراسة في 1999-2000 صورة مشابهة لهذه المعطيات على مستوى أوروبا.(23)
     نرى باستثناء التبرير التاريخي المباشر الذي يعلل فيه السلفيون موقفهم من الغرب، لا نجد في نصوصهم أي محاولة في تأسيس موقف نظري نقدي من فلسفة التنوير في أوروبا، وغالبا ما كان يتم في نصوصهم هجاء هذه الفلسفة، أكثر من نقدها بأساليب النقد الفلسفي والمناظرة العقلية، وهذه مسألة واضحة في نصوص جمال الدين الأفغاني وسيد قطب(24) وغيرهم من أقطاب المفكرين الإسلاميين.     
     إن هذه الجماعات تنطلق من نظرة سكونية إلى بنية المجتمع وكأنها بنية ثابتة على الدوام، ولا يمكن لها أن تتغير على الرغم من التطورات الهائلة التي شهدها العالم في المجالات الفكرية والعلمية والتكنولوجية والتي لا يمكن لأي مجتمع أن يبقى بمنأى عنها.
     تفترض المقاربة التجريبية استمرار سير المجتمع طبقا للقواعد الجارية من اللحظة المدروسة. إلا أن التاريخ يثبت عدم ثبات تلك القواعد التي تحكم المجتمع. فما كان يبدو "طوباويا" في عصر، ومتناقضا تماما مع قواعد سير المجتمع وبالتالي مستحيل الإنجاز، يصبح ممكنا في عصر تال. فمثلا: إذا كان أحد قد تقدم باقتراح العمل طبقا لمبدأ الحرية الفردية والانتخاب من أجل اختيار مؤسسة الحكم في القرن الثالث عشر في أوروبا أو الشرق الإسلامي أو الصين لكان هذا الاقتراح قد وسم بطابع طوباوي أكيد، وغير واقعي، بل متناقض مع "طبيعة البشر"... الخ. بيد أن العمل حسب هذه القواعد قد أصبح الآن طبيعيا!(25) بل أكثر من ذلك، أن الأحزاب الإسلامية سنية كانت أم شيعية التي كانت ترفض الديمقراطية كنظام حكم اضطرت إلى إدخالها في برامجها السياسية منذ التسعينات من القرن الماضي، ووصل بعضها إلى السلطة في بعض البلدان العربية عن طريق آليات ديمقراطية غربيةّ خصوصا الانتخابات! ولكنها ظلت تنظر إلى الديمقراطية كآليات فقط للوصول إلى السلطة وترفض فلسفتها في مجمل نواحي الحياة.
    في الواقع، هناك عوامل كثيرة تقف وراء تراجع العلمانية في العلم العربي، إلا أن هناك عاملا مهما ساعد على إحداث هذا التراجع يعود إلى أن الفكر العلماني لم يظهر في سياق أو أعقاب حركة فكرية فلسفية نقدية شاملة، حركة أعملت أدواتها النقدية في شتى المجالات، في القيم والدين والسياسة والاجتماع؛ وحاولت أن تصل إلى فهم أعمق للقضايا المختلفة التي ترتبط بهذه المجالات، وأن تستشف العناصر المكونة لطبيعة القيم والدين والسياسة. باختصار، إن العلمانية ظهرت في ظل شروط لم تساعد على ربط فهمنا لها بفهم متطور لطبيعة السياسة والاجتماع وما يتصل بهما(26) من علاقات متبادلة التأثير.
     إذن نحن بحاجة إلى العلمنة التي تعتمد مبدأ النقد، وتشكل رغبة في تعقل شروط السلطة، مع توجه عام يتوخى تأسيس المجال السياسي كمجال معرفي مستقل عن الافتراضات الإيمانية الغيبية، تعتبر مطلبا سياسيا تاريخيا ملحا بالنسبة إلى واقع صراعات السلطة في العالم العربي. أما الوعي بدلالتها الفلسفية والتاريخية فإنه يدعم المسعى للديمقراطية، ويساهم في تأصيل معاني الديمقراطية بالتفكير في طبيعة الدولة، أسسها ومقوماتها، من أجل أن نتمكن من بناء فلسفة سياسية تفهم وتعقل المجال السياسي في واقعنا، وهو ما يعني نفي المفارقات التي يكرسها الفكر السياسي العربي بإغفاله مبدأ مقاربة القضايا السياسية في جذورها وضمن شروطها الخاصة والعامة.(27)
   أخيرا هل نحن في العراق بحاجة للعلمانية؟ نعم بما أن مشروعنا الوطني الديمقراطي يتمثل ببناء دولة مدنية ديمقراطية، الدولة التي تعلي من قيم المواطنة والمساواة والعدالة الاجتماعية وتحفظ للدين مكانته وتبعده عن التلوث بأدران المصالح الحزبية والفئوية والشخصية الضيقة. هذه الدولة لا يمكن لها أن تقوم بمهامها هذه بفعالية إذا لم تتبن العلمانية التي هي تجربة إنسانية قابلة للتطور والتكيف والإغناء.
الهوامش
1-   ذكر ذلك أيضا الباحث فالح عبد الجبار في إحدى المقابلات التلفزيونية.
2-   راجع رفيق عبد السلام، في العلمانية والدين والديمقراطية: المفاهيم والسياقات، ط 1، الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات، 2008، ص 20.
3-   راجع كمال عبد اللطيف، التفكير في العلمانية... إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي، ط 1، القاهرة: رؤية للنشر والتوزيع، 2007، ص 54.
4-   راجع عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الأول، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، ص407-408.
5-   Graeme Smith, A Short History of Secularism, London|New York: I. B. Tauirs, 2008, pp. 45-46.
6-   Graeme, p. 49.
7-   Graeme, pp. 1-6.
8-   راجع برهان غليون، نقد السياسة: الدولة والدين، ط 5، الدار البيضاء| بيروت: المركز الثقافي العربي، 2011، ص 332.
9-   Graeme, p. 42.
10-   عبد السلام، ص 23-26.
11-   عبد السلام، ص 67-68.
12-   غليون، ص 332.
13-   غليون، ص 326.
14-   غليون، ص 328-329.
15-   عبد السلام، ص 67-68.
16-   Azzam Tamimi, Islam and Secularism in the Middle East, London: Hurst and Company, 2000, p. 17.
17-   عبد اللطيف، ص 27.
18-   عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، الجزء الثاني، ط 1، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015، ص 54-55.
19-   راجع محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، ط 3، بيروت: مركز الإنماء القومي، المركز الثقافي العربي، 1998، ص 280-281.
20-   أركون، ص 295-296.
21-   سمير أمين وبرهان غليون، حوار الدولة والدين، ط 1، الدار البيضاء| بيروت: المركز الثقافي العربي، 1996، ص 101-102.
22-   راجع أحمد القبانجي، الإسلام المدني، ط 1، بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 2009، ص 25-26.
23-   Graeme, pp. 1-6.
24-   عبد اللطيف، ص 31.
25-   أمين وغليون، ص 84-85.
26-   عادل ضاهر، الأسس الفلسفية للعلمانية، ط 2، بيروت: دار الساقي، 1998، ص 6.
27-   عبد اللطيف، ص 93-94.



38
الدولة المدنية الديمقراطية بديل الدولة الفاشلة*
  د. هاشم نعمة
         يحتدم الصراع على أشده سلما وعنفا في العراق بين الأحزاب والقوى والكتل المتنفذة منذ سقوط النظام عام 2003 على شكل بناء الدولة، وتخلط المفاهيم والمسميات عن هذا الشكل عن قصد أو بدونه، وقد ساهمت في ذلك طريقة تغيير النظام بواسطة الاحتلال، حيث افتقد هذا التغيير للمشروع الوطني الديمقراطي، وكذلك ضبابية بعض مواد الدستور الذي أقر عام 2005، والثغرات التي تضمنها، لذلك تحاول كل جهة تفسير مواقفها تجاه هذه القضية الأساسية بناءً على مرجعياتها الفكرية والسياسية ومنحدراتها الطبقية والاجتماعية. هذه المقالة مساهمة لتسليط الضوء على بعض المفاهيم النظرية المتعلقة بالدولة وعلاقتها بالمجتمع في البلدان النامية، ومعاينة الدولة الفاشلة من حيث المفهوم والمقررات، وتفحص بعض مقومات الدولة المدنية الديمقراطية لإنتاج نوع من المقارنة بين الدولتين، لتأكيد أن خيار الدولة المدنية هو الممكن والوحيد لإنقاذ الدولة العراقية من الانحدار أكثر في صنف الدولة الفاشلة التي تنطبق الكثير من مميزاتها عليها حاليا.       
                                       مفاهيم نظرية
     انطلق جويل مغدال عند مقاربة الدولة والمجتمع في كتاباته من تساؤل عن عجز الدول النامية عن تحقيق تطلعات شعوبها بعد الاستقلال، فتوصل إلى أن قدرة الدولة على الضبط الاجتماعي، وفرض السياسات على القيادات المجتمعية التقليدية تدعم قوتها في مواجهة المجتمع، مقابل ما يفرضه واقع ضعف الدولة من اعتماد سياسات هدفها البقاء والحفاظ على الوضع الراهن. وأكد في مراجعته للنظرية أن الدولة ليست ذلك الكيان الهيراركي الموحد، وإنما تتضمن عناصر للقوة تتكامل بهدف التحكم في القوى الاجتماعية التقليدية التي تتحدى سلطتها. وبالتالي، تتبع الدولة سياسات إدماجية أو إقصائية بهدف مواجهة هذه التكوينات الاجتماعية، وضبط حركتها. ويرتبط عدم الاستقرار لدى مغدال باختلال علاقات القوة بين الدولة والتكوينات الأولية في المجتمع، في إطار الدولة الضعيفة والمجتمع القوي، حيث تخفق الدولة في تحقيق الضبط الاجتماعي، وتقع في علاقات صراعية مع المجتمع الذي يبدأ في تشكيل مؤسسات موازية للدولة، لملء مساحات الفراغ الناجمة عن ضعف الدولة، فتحاول هذه تعويض ضعفها بممارسات تعسفية.

     هناك نموذج الدولة الفاشلة في الدول النامية، وتعزى التسمية إلى خصائص هذه الدول، ومنها: المالك|العامل، ويقصد بها الانقسامات الطبقية التي تم التعبير سياسيا عنها بتأسيس الأحزاب العمالية والاشتراكية. إلا أن هذه الانقسامات اكتسبت زخما متصاعدا عقب نهاية الحرب الباردة بانتشار الفقر عالميا. ويترتب على ذلك أن المجتمعات في الدول النامية تتسم بانقسامات اجتماعية متقاطعة ومتداخلة، لأنها تتصف بالتعددية المعقدة ذات الأبعاد الإثنية، والطائفية، والدينية، واللغوية، الأمر الذي أدى إلى إخفاق سياسات الصهر التي اتبعتها النظم الحاكمة، بعد الاستقلال لتحييد آثار التعددية، وإلى إخفاق وظيفة الاندماج الاجتماعي(1).  ويتجلى هذا بوضوح في بعض البلدان العربية التي تشهد نزاعات إثنية ودينية وطائفية مدمرة.

     تستهدف القوى الساعية إلى التفكيك نقل الصراع في داخل النظام الواحد؛ فإحياء الهويات العرقية يعجل في زوال الدولة الوطنية لتغليب الكيانات الإثنية المتعددة، ولا يدور الصراع غالبا بين القوى الإثنية في شأن خلافات حضارية أو رؤى حداثية، بقدر ما يكون للاستئثار بسلطة الدولة. وربما يبدو نقل الصراع إلى داخل الدول بعد تفكيكها أمرا ممكنا، وأداته إذكاء العوامل الكامنة لإحداث التناقضات المجتمعية المحلية، باعتبار أن نشوء بعض هذه البلدان ومجتمعاتها لم يكن قائما على الأسس التقليدية الراسخة في بناء الدول ومجتمعاتها، الأمر الذي أضعف ترابط نسيجها الاجتماعي وتوازناتها المجتمعية، ونقع في بعض هذه البلدان على تباينات قومية أو عرقية أو دينية أو طائفية. وعند سيادة حكم الأغلبية الإثنية، الذي ربما يرافقه إقصاء الآخر، لا تُعد هذه السياسات حلا لنظام الحكم، بقدر ما تزيد المشكلة تعقيدا بفعل تنامي سيطرة أحد هذه التكوينات على نظام الحكم والمجتمع المدني، وغالبا ما تقود هذه السيطرة إلى إحدى حالات الاستبداد(2) والتي سادت في الكثير من البلدان النامية ومنها البلدان العربية.

    تعكس البنية الاجتماعية، أكثر أو أقل، الملامح المميزة للبنية الاقتصادية. ولأن الاقتصاد في الدول النامية يتميز بالطابع الثنائي، أي التعايش الغريب أو الشاذ بين أسلوب الإنتاج ما قبل الرأسمالي وأسلوب الإنتاج الرأسمالي، تكون بنية المجتمع غير متجانسة بشدة. فالقطاعان الاقتصاديان المتناقضان مع مميزاتهما المختلفة بدرجة كبيرة هما، القطاع ما قبل الرأسمالي والقطاع الرأسمالي، يمثلان قطبين متعارضين مع ممارستهما قوة الجذب والطرد فيما بينهما، فيؤدي هذا إلى وجود أصناف لا تحصى من التكوينات الاجتماعية.
    يتناقض ذلك كله على ما يبدو، لكن في الواقع يتوافق مع قلة الوضوح في الحدود الطبقية، وبالتالي تخلف الوعي الطبقي أيضا. في الواقع، سيكون من الخطأ الاستنتاج أن بقاء عدد كبير من مكونات المجتمع ما قبل الرأسمالي، أو حتى من حصتها الكبيرة نسبيا في المجتمع ككل، يجعلنا أمام صنف من المجتمعات غير المتمايزة، وبأنها أكثر تجانسا من المجتمعات المتقدمة. فتعايش القطاعين يشير إلى درجة لا تضاهى من عدم التجانس مقارنة بتاريخ المجتمعات الأوروبية، بمعنى أن القطاع ما قبل الرأسمالي الذي تجسد في قرون من التخلف تمكن من البقاء في قطاعات كبيرة من المجتمع، بينما في المجتمعات الغربية المتقدمة ظهرت المكونات الحديثة أو بالأحرى الجديدة والأكثر تقدما إلى حيز الوجود، بشكل معتاد من داخل المجتمع، من خلال التحول التدريجي للمجتمع، حيث اصطدمت أولا بالمكونات القديمة كلها التي ما زالت مسيطرة ( ليس متفوقة في العدد فحسب بل في السلطة كذلك) قبل أن تتمكن من الوصول إلى السلطة. هذه السلطة تأكد ثباتها بعدما نمت القوى الجديدة، نتيجة تعمق المزيد من التحولات في بنية المجتمع. فكان نشوء "القطاع الاجتماعي الحديث" ووصوله إلى السلطة مرتبطين ارتباطا وثيقا بتحول القطاع "التقليدي"، ومن ثم  أصبح القطاع "الحديث" مهيمنا وله اليد الطولى(3)، أي أن هذه العملية نجمت عن تراكمات موضوعية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.               
    إذن، ظهرت في الدول النامية عناصر المجتمع الحديث إلى حيز الوجود، كقاعدة عامة، لا من التطور الذاتي الداخلي للمجتمع بواسطة الانفصال التدريجي عن المجتمع القديم، بل مثل الأشكال الرأسمالية الجديدة للاقتصاد، فرضت من الخارج، من دون أن تكون لها أي علاقة عضوية سابقة، نشأت في مفاصل بنية المجتمع القديم بعيدا عن تدخل البيئة الخارجية. إن اختراق الرأسمالية الأجنبية، الذي أخذ طريقه عموما من خلال أوضاع العدوان الاستعماري، عوق التطور الطبيعي والتحول للمجتمعات الأصلية، جاعلا من المتعذر قطعا أن تأخذ هذه العملية مجراها وتتطور بوتيرة تقررها القوانين الداخلية وتطورها(4)، وهذا ينطبق بدرجة غير قليلة على موضوع بحثنا.
    هناك فرضية مضمونها أن في الاقتصاد الريعي لن يكون في الإمكان بناء أي تجربة ديمقراطية بالمعنى المتعارف عليه عالميا، فالتناقضات بين الديمقراطية والاقتصاد الريعي تناقضات بنيوية وليست عابرة لأنها تتعلق ببنية الدولة الريعية وطبيعتها التي لا تولد المقومات لبناء الديمقراطية. فقد بينت التجربة التاريخية أن الاقتصاد الريعي يؤدي إلى تراجع تدريجي للاقتصاد الإنتاجي الزراعي والصناعي، وإلى تدني أهمية العمال الزراعيين والصناعيين الأمر الذي يفضي موضوعيا إلى ضعف القوى الاجتماعية المساندة لاستراتيجية التنمية والتقدم الاجتماعي(5)، ومن ثم ضعف القوى المساندة لبناء دولة مدنية ديمقراطية.     
    بعد المنعطفات السياسية التي ينجم عنها تغير النظام السياسي فإن ارتفاع مستوى التغيير الاجتماعي يفضي إلى توليد مطالب ومهام جديدة، غالبا ما لا تتناسب مع إمكانيات النظم الجديدة، مما يتسبب في إحداث مشاكل الاندماج التي تكون شديدة الحدة قد تصل إلى درجة المواجهات المسلحة. يبقي مثل هذا الوضع المجتمعات مجرد رعايا لا تشارك بشكل حقيقي في العملية السياسية، لا سيما في ظل ضعف مؤسسات الدولة، الأمر الذي يشكل تربة خصبة للعودة إلى الانتماءات الأضيق، وتكريس العزلة، وتبلور الاستقطاب، وتلاشي الطابع التعددي لصالح الأحادية، ومن ثم تحفيز العنف(6)، لذلك قد تواجه تلك المجتمعات خرائط إثنية، ودينية، وقبلية جديدة. وهذا ينطبق بدرجة غير قليلة على الوضع في العراق نتيجة غياب المشروع الوطني الديمقراطي لبناء الدولة بعد تغيير النظام الاستبدادي.         
                                   مفهوم الدولة الفاشلة
    بدأ استخدام مصطلح الدولة الفاشلة أكاديميا في التسعينيات من القرن الماضي، بالتعريف الذي قدمه (هيلمان) و(رانتر) عام 1993 للتعبير عن فشل الدولة، وذلك بعجزها عن القيام بوظائفها على مستويات مختلفة. ووفقا لهذا التعريف، صنف الباحثان الدولة الفاشلة إلى ثلاث مجموعات؛ تضم الأولى دولا انهارت فيها المؤسسات الحكومية بالفعل (مثل الصومال). ومجموعة ثانية تشهد حالة من الصراع الداخلي الحاد (مثل إثيوبيا). ومجموعة ثالثة تفتقر إلى القدرة على الإدارة الكفوءة للدولة، وتحديدا الجمهوريات الناتجة عن تفكك الإتحاد السوفيتي ويوغسلافيا. وقد أثار هذا التعريف حالة من الجدل الأكاديمي حول المفهوم، وهل الفروق بين تلك المجموعات الثلاث تتيح وضعها جميعا في إطار تصنيف واحد، أم أنه يمكن تصنيفها بأنها دول ضعيفة أو هشة، أو فاشلة أو غير ذلك من الاجتهادات التي جعلت المفهوم أكثر غموضا عند أول ظهور له؟
    هناك العديد من التعريفات للدولة الفاشلة لا يتسع لمجال لذكرها جميعا هنا، يمكن من خلالها استخلاص الخصائص الأساسية للدولة التي يمكن أن توصف بالفشل وهي: وجود تحديات داخلية حادة تهدد بقاء الدولة ذاتها، أو بقاء نظامها السياسي؛ وجود حالة من العنف السياسي الشامل، أو صراع مسلح لا تتمكن الحكومة من احتوائه؛ وجود عجز في مؤسسات الدولة للقيام بوظائف الحكم، أو عجزها عن تأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية للمواطنين، مثل النظام، والأمن، والسلام، والاستقرار... إلخ؛ وجود تشكك في قدرة النظام الحاكم على تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية. ولكن هذا لا يعني خلو هذا المفهوم من الإشكاليات(7). مع ملاحظة أن معظم هذه الخصائص إن لم تكن جميعها على الرغم من الإشكاليات المثارة بصددها تنطبق على حالة الدولة العراقية حاليا.
                                   مقررات فشل الدولة
     إن تعدد وتقاطع الهويات الفرعية في المجتمع، وإخفاق الدولة في أداء وظائفها بإدارة التعددية، لا سيما مع فشل نماذج الصهر الاجتماعي، يؤديان لفقدان ثقة المواطن في الدولة، وارتكانه لهوية جماعته الفرعية العرقية، أو المذهبية، أو الدينية، بما يؤدي لشيوع التعارض في المصالح المولد للعنف. وتتصاعد حدة هذه المعضلة مع تلاشي الولاء للدولة والمواطنة، وتصاعد الولاءات القومية، والدينية، والمذهبية، والقبلية كتعويض عن الولاء للوطن، وكإطار للحفاظ على وجود المواطن وأمنه، بما يؤدي لتفكيك المجتمع لوحدات متناحرة تتقاتل على تقسيم مناطق النفوذ، والسلطة والثروة.
    ويتمثل البعد الأكثر خطورة في معادلة العنف الهوياتي في ضعف الدولة، وتصاعد أوجه الخلل الهيكلي في أدائها لوظائفها، أو انحيازها لصالح أحد الفرقاء المتصارعين، بحيث تتورط في دوامة العنف الهوياتي كأحد أطرافه، بما يفقدها رأسمالها السياسي القائم على الحياد المفترض في إدارة الصراعات المجتمعية.
   ويرى (أمارتيا صن) أن الهوية الجماعية تقود إلى العنف فقط عندما تقترن برؤية منفردة بامتلاك الحقيقية المطلقة، والرؤية المتعالية للذات مقابل الأخر، بينما تتوارى الانتماءات الإنسانية المتعددة على اتساعها في خضم تلك الرؤية الأحادية. كما أن اختزال الهوية في البعد العقائدي القائم على الانغلاق على الذات يؤدي لتهيئة المجال لتأجيج العنف عل أساس الهوية(8)، كأن تكون قومية أو دينية أو طائفية أو مناطقية، وهذا ما نلاحظه في العراق خصوصا بعد سقوط النظام السابق.   
     إن تفكيك الدولة سيواجه بحالة هلامية الدولة، حيث يصعب معها بناء نظام سياسي، ولا سيما في حالة غياب البنى المؤسسية، وتزداد هذه الحالة تعقيدا عندما يكون بناء ذلك النظام من خارج الدولة وليس من داخلها. بمعنى آخر، أن دخول متغيرات خارجية (الرأسمالية الجديدة) بالمساهمة في تفكيكك الدولة في إحدى مراحل تاريخ بنائها كما في العراق، ليس بالضرورة أن يكون بمقدور تلك القوى إعادتها وفقا لغايات رأسمالية حداثية، كما تشير خطاباتها المعلنة؛ إذ تعطي هذه الخطابات أحيانا دلالات خاطئة (مضللة) حول مسألة الحرية والديمقراطية وسيادة مفاهيم الدولة الحديثة، إنما الأكثر احتمالا في حالة غياب مفهوم الدولة ومؤسساتها هو سيادة حالة عدم التوازن في المتضمنات الرئيسة لمكون الدولة في المدى المنظور في أقل تقدير(9). وهذا ما تمر به الدولة العراقية نتيجة افتقاد الكتل السياسية المتنفذة رؤية حداثية لبناء دولة المؤسسات دولة المواطنة الحقة بكل متضمناتها الدستورية والقانونية.     
    أدت محاولات فرض الديمقراطية عن طريق لاحتلال في العراق إلى تعقيدات لا نهاية لها. فعملية التحول الديمقراطي لها معطياتها وشروطها الداخلية التي يتعين توفيرها وإنضاجها، وهو ما يستغرق فترة زمنية طويلة نسبيا، خاصة في دولة مثل العراق تتسم بتنوع بنيتها العرقية والدينية والطائفية من ناحية، وطول فترة التسلط والاستبداد فيها من ناحية أخرى. كما أن مجرد الإطاحة بنظام متسلط في المنطقة لا يعني النجاح التلقائي في إحداث التحول الديمقراطي، حيث إن أحد العوامل الحاسمة في هذا السياق هو مدى نجاح قوة التدخل في إعادة بناء وهيكلة مؤسسات الدولة ووضع البنية الأساسية للتحول الديمقراطي، وهو أمر تحكمه اعتبارات عديدة، في مقدمتها الأوضاع الداخلية في العراق(10) وأهداف وغايات المحتل الأساسية وهنا ينطبق الأمر خصوصا على الولايات المتحدة الأمريكية.
   على الرغم من كثرة الحديث عن إعادة الأعمار في العراق، إلا أن ما تحقق على أرض الواقع محدود ومتواضع بكل المقاييس. وإذا كان هذا الأمر يمكن تفسيره في ضوء الأوضاع الأمنية، إلا أنه لا ينفي حقيقة أن هناك مشكلات ارتبطت بعملية إعادة الأعمار ذاتها، وبخاصة ما يتعلق بخطط إعادة الأعمار، وعمليات تمويلها وإدارتها، ناهيك عن حجم الفساد المرتبط بهذه العملية. وهذه الأوضاع خلفت مشكلات وتحديات جديدة تعقد بكل تأكيد عملية بناء مؤسسات ديمقراطية(11) فاعلة ومعبرة شرعيا أصدق تعبير عن توجهات وطموحات وأماني المجتمع العراقي الذي عانى لعقود من تسلط الأنظمة المستبدة.
    فيما يخص حنين قوى الإسلام السياسي للخلافة بحسب برهان غليون، فقد ساهم ارتباط الدولة العربية بالتبعية والخوف وعدم الاستقرار، فما كان لهذه الدولة، كما تجسدت بالفعل، أي كدولة القهر والحزب الواحد والإحباط، أي دولة نفي الحرية وتجديد مفاهيم التمييز والاستعباد، أن تقضي على ذكرى الإمبراطورية العربية الإسلامية القديمة. ولكنها عملت بالعكس على إحيائها وإضفاء طابع أكثر مثالية عليها بقدر ما كانت الدولة الوطنية تظهر العجز المزدوج عن شروط الاندماج الحقيقي في الحضارة(12) الإنسانية والحداثة سياسيا واجتماعيا وثقافيا وحل مشاكل الأمن الداخلي والخارجي والرد على العدوان بأشكاله المختلفة.
    ومن نافلة القول إن بناء شرعية السلطة على الدين، يضع المجال السياسي خارج أي نوع من أنواع التعاقد الذي يقوم عليه قوام الدولة الحديثة، ويقضي -حكما- بإخضاعه إلى فئة تستأثر به دون غيرها بحجة إنفرادها بهذا الحق الديني. وإذا كان الأمر يتعلق هنا بنظم سياسية معدودة فهو يتعلق أيضا بفريق كبير من المعارضة السياسية يكاد برنامجه يُختصر في شعار بناء الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة. وهكذا، إذا كانت السلطة الثيوقراطية تصنع عوائق في وجه أي انتقال ديمقراطي باسم الدين، فإن بعضا من المعارضة يساعدها في تغذية تلك العوائق وإعادة إنتاجها للسبب نفسه! وفي الحالتين، فإن الخاسر الأكبر هو إمكانية تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي يكون محط توافق(13)على المستوى السياسي والاقتصادي الاجتماعي من قبل جميع القوى والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
    تثير إشكالية القطيعة والتواصل بين الدولة الحديثة في العراق والبنية العشائرية جدلا فكريا قبل أن يكون بحثا اجتماعيا. فقد استمرت روح العشيرة في العراق في التحكم نسبيا في العلاقات الاجتماعية بما هو خارج حدود المدن الرئيسة، وصمدت باعتبارها رابطة تضامنية، وتعززت في الظروف السياسية التي شهدها العراق بعد عام 1980 باندلاع الحرب العراقية-الإيرانية، وبشكل خاص حرب عام 1991 التي نتجت عن غزو الكويت، حيث تداعى الأمن وتقلصت سيطرة الدولة لتنكفئ في بغداد وبعض مراكز المدن، فعادت الدولة لترعى شيوخ العشائر ووجوهها البارزة ولتبعث تضامن القبيلة باعتبارها رابطة لها وظيفة اجتماعية وقيمية في الدفاع عن المخاطر الخارجية والداخلية. وبعد عام 1991، أعيد تشكيل ثقافة الانتساب القبلي والبحث عن الأصول والأنساب، وإعطاء أدوار محددة لرؤساء القبائل، داخل البنية العشائرية في قضايا تتعلق بفض المنازعات والخلافات المحلية، وتشجيع قيادات شابة جديدة في أن تأخذ دورها داخل النسق الاجتماعي(14). وهذا ينطبق على ما أطلق عليه الباحث العراقي كريم حمزة بـ "تخادم الدولة والمشيخة"(15). وقد تعزز هذا الاتجاه أكثر بعد تغيير النظام عام 2003 وما أعقبه من انهيار مؤسسات الدولة أو تراجع دورها وضعف الأمن والاستقرار مما أدى إلى الاحتماء بالعشيرة للمحافظة على الوجود. وقد عززت الكتل السياسية المتنفذة هذا التوجه من خلال استثمار العلاقات العشائرية وتوظيفها سياسيا للفوز في الانتخابات المحلية والبرلمانية من خلال شراء الأصوات بشكل يكاد يكون علنيا.   
   قد تحجم فئات مجتمعية عن المشاركة في الحياة العامة مثل الشباب، أو تواجه عقبات تحد من مشاركتها مثل المرأة. وفي كلتا الحالتين يصبح من الصعوبة إفراز كوادر قيادية، فمشاركة الشباب والمرأة هي جزء لا يتجزأ من تأهيلهم لتحمل مسؤولية قيادة مجتمعاتهم. ومن الملاحظ في البلدان العربية ضعف دور الشباب وعزوفه عن المشاركة، حيث أدى الميراث السياسي إلى غياب الاندفاع للمشاركة، وهي مشكلة لا تقتصر على تولي المناصب الرسمية أو المشاركة في الحياة السياسية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى البعد عن ممارسة العمل التطوعي، إيمانا منهم بأن معايير الولاء تسمو على معايير الكفاءة والأداء، وهو الأمر الذي أدى في النهاية إلى غياب النخب الشابة عن المؤسسات السياسية والمجتمعية، أو تسطيح فكر هذه النخب في حالة انضمامها إلى أي إطار مؤسسي. وينطبق المنطق ذاته على المرأة التي لا تزال تناضل من أجل الحصول على حقوقها، حيث لا تزال الثقافة العربية تحتوي في أجزاء منها على مثبطات للإبداع(16) مرتكنة إلى مرجعيات دينية وتقليدية ومناطقية والتي تقلص في النهاية من مساحة مشاركة المرأة بشكل فاعل اجتماعيا وسياسيا حتى لو اعتلت مناصبَ عليا تشريعية وتنفيذية في مؤسسات الدولة، ومثال العراق واضح في هذا المجال حيث يتعامل معظم الكتل السياسية المتنفذة وخصوصا الإسلامية منها مع دور المرأة لملء المناصب المتولدة عن نظام الكوتا.
                                 في مقومات الدولة المدنية
    لعل التوجهات الأساسية للفكر الغربي ابتداء من القرن السابع عشر (لوك، هوبز، كانت، سبينوزا، روسو، فيخته، ... إلخ) كانت تصب في التفكير في كيفية نزع الطابع المطلق عن السياسة وفصل اللاهوتي عن السياسي حتى لا يتدثر ويتعلل به، ثم في كيفية ربط السياسة وقضايا المجتمع بمبدأ التعاقد (لا بمبدأ الاستلهام العلوي) وإدراج القضايا السياسية في نطاق التشريع والقانون أو الانتقال من المنظور اللاهوتي السياسي إلى المنظور التشريعي القانوني، وبالتالي تحويل المشروعية الثقافية من الأعلى إلى الأسفل ومن السماء إلى الأرض، أي إلى التاريخ الحي وربطها بالشرعية التمثيلية والقانونية والمواطنة وسيادة الشعب(17). وقد ساهم ماركس مساهمة كبرى في هذا الميدان، لكن منهجه في التحليل استند إلى المادية التاريخية وليس إلى التصورات المثالية. ولم تمر هذه الأفكار من دون مقاومة شديدة من قبل الكنيسة والشرائح المحافظة، ولكن في النهاية انتصرت هذه الأفكار بعد أن جرت غربلة التراث الديني ونقده بمنهج تاريخي، أي نزع الطابع المقدس عنه ومن ثم تحييد الدين عن السياسة. وقد مثل هذا نقلة نوعية كبرى ساهمت في إرساء أسس الدولة المدنية والتي احتاجت إلى وقت طويل كي تترسخ في البنية السياسية والاجتماعية والثقافية. 
    والدليل على ذلك فقد استغرق ترسيخ مبادئ الديمقراطية والحرية في بريطانيا والولايات المتحدة فترة طويلة قبل إنشاء المؤسسات الديمقراطية. وتوضح دراسة التاريخ الأمريكي أن مائة وخمسون عاما من البناء البطيء لمؤسسات ديمقراطية محلية في المستعمرات الثلاث عشرة قد سبقت صياغة دستور شبه ديمقراطي. ومر قرن وربع قرن أخرى قبل أن يتم تحقيق ما يمكن أن يطلق عليه "ديمقراطية كاملة". وطوال هذه الفترة كانت الديمقراطية للأقلية من البيض الذكور الذين كانوا يتمتعون بحق المواطنة(18)، أي كان هناك تمييز مؤسساتي جنسي على مستوى البيض وعنصري ضد المواطنين السود والملونين.
   إن ما نشاهده من مرجعية ليبرالية عقائدية، ومنها الحريات الفردية، الاجتماعية منها والاقتصادية في ممارسة الغرب وامتداداته الحضارية للديمقراطية أحيانا، هي مسألة تاريخية تعود إلى أن الديمقراطية تطورت في العصر الحديث في مجتمعات ذات مرجعية ليبرالية، الأمر الذي جعل الممارسة الديمقراطية في هذه الدول تتأثر باختيارات وعقائد المجتمعات التي نشأت فيها، ولذلك فإنه من الطبيعي أيضا أن تتأثر مرجعية الممارسة الديمقراطية باختيارات وعقائد المجتمعات الأخرى التي تنتقل اليوم إلى نظم حكم ديمقراطي.
   وإذا كانت للمجتمعات تفضيلاتها، فإن نظام الحكم الديمقراطي له بالضرورة مقوماته أيضا، ولذلك فإنه لا بد لكل شعب يريد تفكيك الاستبداد أن يقوم مفكروه وقادته السياسيون بإجراء مقاربات جوهرية تزيل التعارض بين ما يسمى ثوابت مجتمعهم ومقومات نظام الحكم الديمقراطي، وذلك بالتركيز على جوهر كل منهما بعد إزالة ما علق بكل منهما من شوائب الممارسة التاريخية(19) المتراكمة نتيجة قرون من هيمنة الثقافة الدينية التراثية النصية المحافظة دون أن تخضع للنقد المنهجي التاريخي لترك ما بات في عداد التراث الميت الذي لا يواكب تطور الحياة ومستجداتها.
   من المقومات الرئيسة لبناء الدولة المدنية الديمقراطية وجود المجتمع المدني الذي يعد بمؤسساته أحد أعمدة النظام السياسي والمجتمعي. ولا توجد ديمقراطية حقيقية بدون دور فعال لهذه المؤسسات، وهذا الدور لا يقتصر على خدمة المجتمع فحسب، بل يتعدى ذلك إلى إفراز الكوادر القيادية وتدريبها على القيادة، ليصبح المجتمع المدني المخزن الذي لا ينضب للقيادات الجديدة، والمصدر المتجدد لإمداد المجتمع بهم. إلا أن هذا الدور، بالرغم من أهميته، لم يتم الاهتمام به بالقدر الكافي، في ظل المناخ السياسي السلبي الذي كان سائدا قبل مرحلة الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية. وقد ساعد على ذلك القيود القانونية التي عرقلت حركة هذه المؤسسات، ما جعل بعضها يدخل في معركة مع النظم الحاكمة لإثبات شرعيته، واتجه البعض الآخر إلى الخنوع. وقد أدى هذا في نهاية الأمر إلى  تركز مهام مؤسسات المجتمع المدني في الجانب الخيري والحقوقي، وهو الأمر الذي أضفى عليها نوعا من الهشاشة انعكست بصورة أو أخرى على المهام المنوط بها تنفيذها(20)، علما أن هذه المؤسسات استُغلت على نطاق واسع من قبل الحركات الإسلامية في النشاطات المشار إليها لتوسيع قاعدتها الاجتماعية خصوصا وسط الفئات الفقيرة.
    تبنى كثير من المفكرين الحديث عن العدالة الاجتماعية ومؤشراتها، بحسبانها هدفا أسمى، يتوخى النظام الديمقراطي تحقيقه داخل المجتمع. وثمة عدد من المؤشرات المهمة الدالة على مدى تحقق العدالة الاجتماعية منها: المساواة في توزيع الدخل، بناء على تصنيفات كالوضع الاجتماعي والاقتصادي، والمهنة، والنوع. والمساواة  في توزيع فرص العمل؛ ففي الدول المتقدمة والنامية، على حد سواء، صار توزيع فرص العمل هو المحدد الأساسي لتوزيع الدخل، وهو المؤشر الرئيس للعدالة الاجتماعية. والمساواة في حق وإمكانية الحصول على المعرفة، وهي ما يتعلق بمعدلات دخول المدارس والجامعات، وما يتعلق بجودة التعليم في المؤسسات والمناطق المختلفة، بحسبان التعليم مصدر الحصول على العمل ومؤشر على الحراك الاجتماعي. والمساواة في توزيع الخدمات الصحية، والأمن الاجتماعي، وتوفير البيئة الآمنة، وجودة هذه الخدمات. والمساواة في فرص المشاركة المدنية والسياسية، فطريقة تنظيم السلطة وتوزيعها بين مؤسسات المجتمع المختلفة تؤثر في كيفية رؤية المواطنين، وإيجاد مكانهم في السلم الاجتماعي، ومؤشر على العدالة الاجتماعية وجودا وعدما.
     غير أنه من المهم الإشارة إلى أن العدالة الاجتماعية لا تعني المساواة المطلقة، أي أنها لا تعني المساواة الحسابية في حصص أفراد المجتمع من الدخل أو الثروة. فمن الوارد أن تكون هناك فروق في هذه الحصص، بالتوافق مع الفروق والقدرات الفردية بين الناس. بيد أنه من المهم أن تكون اللا مساواة بين الناس في الدخل أو الثروة مقبولة اجتماعيا، بمعنى أنها تتحدد وفق معايير بعيدة عن الاستغلال والظلم، ومتوافق عليها اجتماعيا(21)، على الأقل في مرحلة معينة. وهذا ما لا نلاحظه مثلا في العراق، حيث اتسعت الفجوة بين الثراء والفقر لذلك انعكست في اتساع نطاق الاستياء الشعبي، وترسخ الفساد المالي والإداري في جميع مفاصل الدولة، وفي هذه الحالة لا يمكن الحديث عن العدالة الاجتماعية مع ارتفاع معدل الفقر وتفشي وباء الفساد بمختلف تلاوينه.               
    فيما يتعلق بالجدل الدائر في الأوساط السياسية والأكاديمية حول طبيعية التغيير الديمقراطي في العالم العربي، وحدود دور كل من العوامل الداخلية والخارجية في هذه العملية. وبالرغم من أن هذه الإشكالية ليست جديدة، إلا أنها اكتسب زخما كبيرا عقب هجمات 11 أيلول| سبتمبر 2001، فبرز تيار عريض في الأوساط السياسية والأكاديمية الأمريكية راح يؤكد أن سياسات وممارسات النظم التسلطية الاستبدادية في الشرق الأوسط هي المسؤولة عن خلق بيئات ملائمة لتفريخ المتطرفين والإرهابيين الإسلاميين الذين يناصبون الولايات المتحدة، والغرب عموما، العداء، ومن ثم فإن تحقيق الديمقراطية في هذه المنطقة يمثل مدخلا أساسيا لمحاصرة جماعات التطرف والعنف والإرهاب وتجفيف منابعها(22). طبعا هذا الطرح لا يمثل الحقيقية كاملة، فكما هو معروف فقد رعت ودعمت الدول الغربية خصوصا الولايات المتحدة الأنظمة المستبدة، واستثمرت التطرف الديني لتوظفه ضمن سياستها المسماة بـ "احتواء الشيوعية" خصوصا في فترة الحرب الباردة وما دعم التطرف الديني في أفغانستان وغض النظر عنه في عدد من الدول إلا أحد أبرز الأمثلة على هذه السياسة.       
    دليل آخر في هذا الاتجاه، هو أن القوميين المتشددين في عهد الرئيس (جورج دبليو بوش) رأوا إن انشغال الولايات المتحدة في العراق ليس لإقامة جنة عدن للديمقراطية ولكن لهزيمة المتمردين الإرهابيين. ونموذجهم في ذلك أفغانستان. لكن ازدراء بوش الطويل لفكرة بناء بلد والفشل الأولي لدفع مرؤوسيه لوضع خطة لإعادة بناء العراق كل ذلك جعله يقع في خانة القوميين المتشددين(23)، أي لم يعد بناء نظام ديمقراطي في العراق من أولوياته.
                                                  استنتاجات
-   قادت التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أعقبت تغيير النظام عام 2003، وصراع الكتل المتنفذة على السلطة والثروة والتي افتقدت المشروع الوطني الديمقراطي لبناء الدولة العرقية إلى إنتاج ما يُطلق عليه بالأدبيات السياسية بالدولة الفاشلة.
-   لا سبيل لوقف انحدار الدولة العراقية أكثر في هذا الصنف من الدولة دون رؤية واضحة لبناء أسس دولة مدنية ديمقراطية إتحادية تعتمد المواطنة، تكون بدايتها القطيعة التامة مع نظام المحاصصة الطائفية-الإثنية المنتج المستمر للأزمات والفشل.
-   لا بد أن يرافق التحول الديمقراطي تحول من الاقتصاد الريعي الأحادي الجانب إلى اقتصاد إنتاجي متنوع زراعي صناعي، لأن ذلك سيعزز هذا التحول اجتماعيا وسياسيا.
-   هناك قطاعات واسعة من الجماهير غير المنظمة تتوق لبناء الدولة المدنية، لكن خلط المفاهيم والمسميات بصددها عن قصد والذي تتبناه القوى الإسلامية يخلق نوعا من الضبابية حول  مفهومها، لذلك هناك ضرورة موضوعية لا تقبل التأجيل وهي أن ينسق جميع القوى والأحزاب والشخصيات ذات التوجهات المدنية الديمقراطية جهودها في سبيل خلق تحالف واسع لتغيير موازين القوى في الانتخابات القادمة ولو نسبيا.
الهوامش
1-   راجع محمد عبد الله يونس، "إشكالية الاختزال: الاتجاهات الجديدة لظاهرة عدم الاستقرار داخليا وخارجيا"، ملحق اتجاهات نظرية، السياسة الدولية، العدد 197 (يوليو 2014)، ص 8-9.
2-   سالم توفيق النجفي، أزمة الدولة القومية المعاصرة.. التفكيك والاندماج، في الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكيك (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص 13.
3-        Jozsef Nyilas (ed.),Theory and Practice of Development in The Third World, translated from Hungarian (Budapest: 1977), p. 125.
4-   Nyilas, pp. 125-126.
5-   صالح ياسر، "الريوع النفطية وبناء الديمقراطية - الثنائية المستحيلة"، الثقافة الجديدة، العدد، 363 (كانون الثاني 2014)، ص 39-42.
6-   مي مجيب، "الاستبعاد البنيوي: الانتماءات الأولية كمدخل للعنف بين الدولة والمجتمع"، ملحق اتجاهات نظرية، السياسة الدولية، العدد 193 (يوليو 2013)، ص 9.
7-   دلال محمود السيد، متلازمة التدهور: بحثا عن مقاربة نظرية لفشل الدولة في الشرق الأوسط، ملحق تحولات إستراتيجية، السياسة الدولية، العدد 208 (أبريل 2017)، ص 7.
8-   أمارتيا صن، الهوية والعنف: وهم المصير الحتمي، ترجمة سحر توفيق، عالم المعرفة (الكويت، يونيو 2008)، نقلا عن مجيب، ص 12.
9-   النجفي، ص 19-20.
10-   علاء عبد الحفيظ، "التحول الديمقراطي في الدول النامية والسلام الدولي"، السياسة الدولية، العدد 181 (يوليو 2010)، ص 16.
11-   حسنين توفيق إبراهيم، "العوامل الخارجية وتأثيرها في التطور الديمقراطي في الوطن العربي"، في الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكيك،  (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص 155.
12-   راجع برهان غليون، نقد السياسة: الدولة والدين، ط 5 (الدار البيضاء| بيروت: المركز الثقافي العربي، 2011)، ص 206.
13-   عبد الإله بلقزيز، "الانتقال الديمقراطي في الوطن العربي: العوائق والممكنات"، في المسألة الديمقراطية في الوطن العربي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2000)، ص 143.
14-   صباح ياسين، "صحوة العشائر العراقية... خلفيات المشهد: اغتيال الدولة وتغريب المجتمع"، في العراق تحت الاحتلال تدمير الدولة وتكريس الفوضى، ( بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص 198، 202-203.
15-   للمزيد راجع كريم حمزة، "تاريخ الاستخدام السياسي للهوية المحلية العشائرية في العراق: تخادم الدولة والمشيخة"، عُمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، العدد 19 (2017)، ص 89-118.
16-   داليا رشدي، "اختلال الهياكل: متى تنشأ أزمة القيادة في النظام السياسي؟" ملحق اتجاهات نظرية، السياسة الدولية، العدد 196 (أبريل 2014)، ص 11.
17-   محمد سبيلا، "في الأسس الفكرية لليبرالية"، قضايا معاصرة، العدد الثاني (ربيع 2017)، ص 15.
18-   عبد الحفيظ، ص 16.
19-   علي خليفة الكواري، "نحو مفهوم جامع للديمقراطية في البلدان العربية"، في الدولة الوطنية المعاصرة: أزمة الاندماج والتفكيك، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008)، ص 103-104.
20-   رشدي، ص 10.
21-   حسن سلامة،" السيطرة البديلة: الارتباط بين غياب العدالة الاجتماعية والعنف الانتقالي"، ملحق اتجاهات نظرية، السياسة الدولية، العدد 193 (يوليو 2013)، ص 16.
22-   إبراهيم، ص 145.
23-   مجموعة من الباحثين، دراسات اجتماعية-اقتصادية معاصرة، ترجمة هاشم نعمة فياض (بغداد: دار الرواد، 2015)، ص 52.


39
الحركات الدينية بين الخطاب الأصولي والنهج البراغماتي
د. هاشم نعمة
نمت الحركات الدينية الإسلامية بشقيها السني والشيعي، بشكل ملحوظ، في العالم العربي والإسلامي، في العقود الأخيرة، نتيجة العديد من الأسباب التي لا يتسع المجال لتحليلها هنا، وعلى الرغم من تعدد هذه الحركات، إلا أن هناك ما هو مشترك في مرجعيتها الفكرية وفي خطابها السياسي، لكن ما يثير الملاحظة، هو تغير خطابها بحسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وقد يبتعد خطابها خصوصا السياسي منه، قليلا أو كثيرا عن مرجعيتها الفكرية، بعد أن يخضع للتبرير والتسويغ. وعلى الرغم من أن هذا الاتجاه لا تنفرد به هذه الحركات، ففي حالات غير قليلة تكون هناك مسافة بين المرجعية الفكرية والخطاب السياسي للأحزاب والحركات العلمانية، أيضا. ويمكن أن يندرج ذلك ضمن ما يوصف بالمهام الاستراتيجية والمهام التكتيكية. لكن تكون المفارقة أكبر وأشد بالنسبة إلى الحركات الدينية لأن مرجعيتها الفكرية تؤمن بالثابت والمطلق وليس بالمتحرك والنسبي.

مقدمات تمهيدية
     
إذا عُدنا إلى الوراء، تبدو نفعية أحمد بن حنبل (164- 241 هـ)، مؤسس التيار المتشدد في الإسلام السني واضحة في موقفه من مخالفيه، فقد سكت عن انتهاكات الخليفة جعفر المتوكل تجاه أهل المذاهب والأديان الأخرى. وأجاز الصلاة خلف الفاجر والفاسق. وحاول تصفية خصومه بهدوء، من مسلمين وغير مسلمين. ومع أنه إذا رأى مسيحيا أغمض عينيه، إلا أنه كان يقبل التداوي من طبيب مسيحي (1). وسنلاحظ أن هذا النهج النفعي سيسم الحركات الدينية طيلة القرون اللاحقة.
قبل القرن العشرين، احتفظ كل من المذهب الشيعي والمذهب السني بتفكيره السياسي التقليدي الموروث - مبدأ (الإمامة) الشيعي ومبدأ (الخلافة) السني - سواء في النظرية أو في التطبيق. فمبدأ (الإمامة) الكلاسيكي يحصر الشرعية بـ (الإمام الثاني عشر)، أي المهدي المنتظر. وبالمقابل، يثبت مبدأ (الخلافة) شرعية الحاكمية في شخص عربي من قريش. ولم يواجه هذان المبدأن إلا تحديا من جانب أقلية صغيرة، تمثلت بالخوارج الذين كانوا يدعون إلى حق جميع المسلمين في تولي منصب (الخليفة) أو (الإمام) بصرف النظر عما إذا كانوا ينحدرون من قريش أو لم يكونوا (2). بيد أن هناك أمثلة شتى على قبول "العلماء" و"المجتهدين"، بعد قرون، بالحكام الفعليين الذين لم تتوفر فيهم مثل تلك المعايير، وقد ملأت الأمثلة صفحات التأريخ السياسي السني والشيعي منذ القرون الوسطى حتى أواخر القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين (3). ويمثل هذا بجلاء موقفا براغماتيا واضحا تجاه السلطة السياسية ونفوذها، ومن ثم يضعف هذا الموقف من الخطاب والمرتكزات الفكرية للإسلام السياسي المعاصر، الذي يؤكد دائما على وجود نموذج خالص للحكم يمكن تمثله من تاريخ الإسلام.
من جانب آخر، تكمن فكرة التعارض، من وهم التلازم بين عصرية المعرفة و"عصرنة" التراث. علما وحدها السلفية الحديثة تأخذ بهذا التلازم، عمليا، حين هي تستدرج مفاهيم الماضي إلى الحاضر على أساس الزعم بأن معارف عصرنا كلها موجودة هي ذاتها في الماضي، ومنقولة عنه بلغة الحاضر، وأن ليس شيء منها لم يوجد في التراث. إن الدعوة إلى "تحديث" التراث بمعنى تماثل مفاهيم الماضي مع مفاهيم الحاضر، هي بصرف النظر عن ابعادها الطبقية، متعارضة بل متناقضة، من الناحية الفلسفية، مع الاتجاه المادي التاريخي، كمنهج، في فهم علاقة الحاضر بالماضي، ثم علاقته بالتراث. الكشف عن الاتجاه الفلسفي الذي تتضمنه هذه الدعوة ينطوي على نظرة ميتافيزيقية (سكونية) إلى التاريخ تضعه في حلقة مفرغة، في حين أن المنهج المادي التاريخي ينظر إليه في حركة حلزونية صاعدة تخضع للقوانين العامة لحركة تطور المجتمعات البشرية بما يتداخل فيها من القوانين الداخلية لتطور كل مجتمع على حدة (4)، أي لا توجد مجتمعات معينة تشذ عن قوانين التطور الاجتماعي العامة هذه كونها تعتنق دينا أو معتقدا معينين.
ورغم الموقف "النفعي" الواضح من التراث – او ربما بسببه - لا يتورع الخطاب الديني عن التفاخر بالجانب الذي يرفضه من التراث. ولكن هذا التفاخر ينحصر في مجال المقارنة بين أوروبا القرون الوسطى وبين حضارة المسلمين، وكيف تأثرت أوروبا بمنهج التفكير العقلي عند المسلمين خاصة في مجال العلوم الطبيعية. وهذا يعد مبررا يطرحه الخطاب الديني يسمح للمسلمين بـ "استيراد الثمرات المادية" للتقدم الأوروبي والثورة الصناعية بوصفها "بضاعتنا رُدّت إلينا". لكننا لا نأخذ عنها سوى ذلك من "كفر"، المقصود هنا العلمانية، لأن أوروبا قطعت ما بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله الإسلامية. وهكذا يخضع الإنجاز الأوروبي لمثل ما خضع له التراث من انتقائية ونفعية (5)، تتصور أنها تستطيع أخذ ما تريد وترك ما لا تريد بغض النظر عن فعل قوانين التطور الاجتماعي التي تحكم مسيرة المجتمعات الإنسانية سواء كانت إسلامية أم غير إسلامية وإن بدرجات.
نجد تناقضا شبيها، عند المفكر الإسلامي سيد قطب الذي يرحب بالعلم والمنهج العلمي ويقول بوجود صلح قديم بين المنهج الإسلامي وبين العلم والحضارة الصناعية. في الواقع يذهب سيد قطب إلى أبعد من ذلك في افكاره التوفيقية؛ فيرد المنهج العلمي التجريبي إلى روح الإسلام ويعتبر الإسلام الأساس الذي قامت عليه النظرة التجريبية الحديثة. لكن بعد مفاخرته هذه نراه يرفض رفضا باتا أهم النتائج التي توصل إليها هذا المنهج لأنها تتناقض مع العقائد الدينية. أنه يرفض نظرية التطور العضوي مع أنها توجت البحوث العلمية في علم الحياة، ونظرية فرويد مع أنها من اهم النتائج التي توصلت إليها البحوث العلمية في مجال الدراسات النفسية. ويرفض الماركسية مع أنها أهم نظرية شاملة في العلوم الاجتماعية والاقتصادية في العصور الحديثة. لذلك نراه يرد على كل ما تمخض عن المنهج العلمي من نُظم ونظريات علمية وسياسية واقتصادية واجتماعية ذلك على الرغم من يقينه أن الجذور التاريخية لكل ذلك تمتد إلى المنهج الإسلامي (6). علما أن كتابات سيد قطب التي تتسم بالتطرف، تعد مصدرا مهما للتثقيف من قبل الحركات الإسلامية السلفية السنية مثل الأخوان المسلمين والشيعية مثل حزب الدعوة ومنظمة العمل الإسلامي.
بحسب نصر حامد أبو زيد فإن القراءة التوفيقية بين الحداثة والدين هي قراءة تلفيقية، وهو يعتبر أن رواد النهضة الفكرية الدينية لم يتحلوا بالجرأة الكافية لقطع الحبل بين الحداثة والدين. ويرى أن مراجعة الأسس الفكرية للتأويل هي التي ستعيد فتح باب الاجتهاد والقضاء على الأوهام والخرافات. واعتبر أن المؤسسة الدينية المهيمنة تتجاهل سياق النص والظروف الموضوعية المحيطة به، وتلجأ إلى الإرهاب الفكري لردع أي محاولة للنقد أو لفضح التناقضات في خطابها الديني. فكل شيء يتم تبريره عبر المبدأ الأساس، أي "الحاكمية الإلهية" التي تنفي استعمال العقل البشري، وهو مفهوم صاغه أبو الأعلى المودودي الباكستاني، وتبناه سيد قطب جاعلا منه ركيزة لفكر الأخوان المسلمين (7)، وتبنته الحركات الدينية الأخرى، ايضا.
إن من خصائص الأزمة العامة المستحكمة في الحيات العربية الراهنة وأعراضها صعود وانتشار وهيمنة تيارات فكرية ارتدادية لا عقلانية تتناول فكريا وفلسفيا جميع المسائل من مواقع العداء للعقل والتقدم والعلم. وفي الواقع تقوم بعض هذه التيارات، عن وعي تام، بالتنظير الفلسفي والفكري العام لنوع من اللاعقلانية القروسطية السابقة على الحداثة في حياتنا باستخدام ذكي احيانا وغير ذكي في أحيان أخرى، لآخر ما انتجته اللاعقلانية الأوروبية في مرحلة ما بعد الحداثة من أدوات فكرية ومفاهيم فلسفية وتصورات نظرية (8)، لذلك نراها تقع في تناقضات كثيرة على مستوى الفكر والخطاب.
لقد حدث تغير فيما يخص الإسلام السياسي المعاصر أو الحركات الأصولية. فهذا الإسلام لم يعد يهتم بتطوير الفعالية الفكرية والتفسيرية للدين كما كان يفعل الإسلام الكلاسيكي. فالعمل السياسي هو الأهم بالنسبة إلى الإسلام المعاصر، إنه يتغلب على كل اعتبار آخر؛ إنه يتغلب على ضرورة إبداع فكري مرافق للممارسة الدينية أو الشعائرية، كما ويتغلب على أولوية البُعد الروحي المؤدي إلى التواصل مع الله. إن الحركات الأصولية الحالية لم تعد تفكر إلا بالقوة والسلطة، أو الوصول إلى السلطة بأي شكل. وهنا تحصل القطيعة بينها وبين الإسلام الكلاسيكي الذي شهد تعددية عقائدية بين مختلف المذاهب الإسلامية من سنية وشيعية ومعتزلة وفلاسفة... إلخ. هذا كله انتهى بالنسبة إلى الإسلام المعاصر (9)، الذي تبنت بعض فصائله المتطرفة (10) إقامة الدولة الإسلامية بالقوة المسلحة وببحور من الدماء والدمار الشامل لمقومات الحضارة. وهذا ما تفعله "داعش" و"القاعدة" اللتان تناسلتا فكريا مما يسمى بالحركات الإسلامية المعتدلة مثل "الأخوان المسلمين".
وبحسب برهان غليون، الحقيقة أن العلاقة بين الدين والدولة كانت في التاريخ الإسلامي علاقة تعايش لا اندماج. وكانت علاقة صعبة أيضا ولم تكن انصهارا أو ارتباطا عضويا كما يبدو الأمر. فقد أدى إخضاع الدين للدولة، منذ البداية إلى إنكفائه على المجتمع والجماعة والتجائه إليهما في مواجهة الدولة ونقله الجزء الأكبر من مهام السياسة وبرامجها وأهدافها إلى الجماعة والأمة حتى صارت هذه الأخيرة أكثر تحريكا للمشاعر من الدولة، بل فوق الدولة.
وبالعكس من ذلك، كان تحويل الدين إلى دولة، وبالتالي إخفاقه في تنظيم وتسيير منابع الايمان والفضيلة الأخلاقية هو الذي أدى في الغرب المسيحي، وكرد فعل اجتماعي، إلى انتزاع السياسة من الدين، وتركيزها كليا في الدولة. وهكذا صرنا نميّز بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني (11). طبعا إلى جانب ما ذُكر، هناك اسباب أخرى مهمة  قادت إلى هذا التحول منها الصعود الاقتصادي للبرجوازية في أوروبا وتطلعها إلى احتلال مواقع في السلطة السياسية تتناسب مع هذا الصعود، وكذلك النزاعات الطائفية الدموية المدمرة بين الكاثوليك والبروتستانت والتي امتدت طويلا، وساهمت في خلق قناعة بضرورة تحييد الدين وتبني العلمانية.
إن من أهم التحديات التي تواجه مجمعاتنا ذلك الاستخدام الإيديولوجي النفعي للإسلام لتحقيق مصالح وغايات ذات طبيعية فئوية أو سياسية أو شخصية. وسواء تم هذا الاستخدام من قبل جماعات سياسية بعينها، أو من قبل أنظمة وسلطات سياسية فاقدة للشرعية الاجتماعية والسياسية والقانونية، فالنتيجة واحدة: تحويل الإسلام إلى أداة من الأدوات واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية (12)، تحت الشعار الذي يرفع دائما من قبل الحركات الإسلامية بأن الإسلام دين ودولة.
من خلال إلقاء نظرة على بعض التحولات التي شهدتها خطابات الحركات الدينية وممارساتها، سيتبيّن لنا بجلاء أن هدف هذه الحركات الرئيس هو السلطة، وهو هدف دنيوي، ولكن يتم تغليفه بإطار ديني لاستغلال ما يتمتع به الدين من هيبة ومكانة، وما له من مواقع قوية في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية والإسلامية.

تجربة العراق

في الجانب الشيعي، يُذكر أن محمد باقر الصدر وضع تسعة أسس يقوم عليها الحزب الإسلامي، وهو حزب الدعوة، عُرفت بالأسس، ووصفت أيضا بالمرتكزات النظرية. من هذه الأسس التسعة ما يتعلق بالدولة الإسلامية، وهنا يرد بأن كل دولة لا تقوم على عقيدة أو قاعدة الإسلام هي دولة كافرة، مثل الدولة الشعبية والرأسمالية، والحكم على المسلمين هو القضاء عليها بالطرق التبشيرية السلمية أو الجهادية المسلحة. كذلك على المسلمين هدم الدول اللائي بلا عقيدة، قامت على أهواء الحكام، فهي دول كافرة أيضا. أما الدولة المرضية فهي القائمة على عقيدة الإسلام. ويغلب على الظن أنها الحاكمية نفسها. لكن الصدر لم يتحدث عن نوع تلك الدولة، هل هي تقوم على الشورى أم ولاية الفقيةّ! وكيف سيكون التجاذب فيها بين المذاهب، فمن دون النظر في هذه الأمور تبقى الدولة الإسلامية غير متحققة (13) من الناحية العملية. علما أن حزب الدعوة ظل بعد تأسيسه العام 1959 ولسنوات ذا نظرة عالمية فيما يخص أهدافه، لكن فيما بعد بات تركيزه محليا يخص العراق. وعلى الرغم من أن هذه المرجعية، لا تقر الديمقراطية، فقد ادخل حزب الدعوة تغييرا في برنامجه بقبول ممارسة آليات الديمقراطية، كما فعلت العديد من الحركات الإسلامية في العالم العربي في التسعينات. وبعد تغيير النظام العام 2003، دخل حزب الدعوة مع الأحزاب الشيعية الأخرى العملية السياسية بقوة، وبسبب من حيازته على رئاسة الوزراء لأكثر من ثلاث دورات انتخابية تغلغل في جميع مفاصل الدولة، لذلك بات يتمتع بالسلطة والثروة والنفوذ القوي، وهي أمور تتعارض بالأساس مع مرجعيته الفكرية القائمة على قيام الدولة الإسلامية.
وفي الجانب السني، فإن أول محاولة لتأسيس تنظيم سلفي كانت في بداية الستينات من القرن الماضي، عندما عَمِد مجموعة من السلفيين، إلى تأسيس "جماعة الموحدين" السلفية، متأثرين بتجربة الإخوان المسلمين التي أنتجت الحزب الإسلامي في العام 1960. وقد عمد التنظيم في وقت لاحق إلى إنشاء تنظيم عسكري ضم بعض القيادات العسكرية والأمنية السلفية، كما عمد من خلال تلك القيادات إلى إدخال بعض الطلبة من السلفيين إلى الكلية العسكرية. وإن بعضا من أولئك الضباط، خصوصا في الحرس الجمهوري، كانوا مشاركين في انقلاب 17 تموز 1968 (14) الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة.
لكن ظلت الدعوة السلفية في العراق محدودة ليس في مدى انتشارها وحسب، وإنما في طبيعة الخطاب النظري الذي تعتمده أيضا. فقد ظل تأثير علماء الدين في السعودية حاضرا بقوة، باتجاهاته المختلفة: الخط الرسمي، والخط الحركي، والتيار الإصلاحي المتمثل بسلمان العودة وسفر الحوالي (15).
وفي مواجهة مرحلة ما بعد تغيير النظام السابق العام 2003، وبحسب رشيد الخيون، كان الحزب الإسلامي العراقي أكثر القوى السنية الدينية هدوءا واتزانا؛ حيث لم يغوه شعار المقاومة المسلحة تحت ضغط القوى القومية والدينية العربية، ومنها الأقرب إليه من جماعات إخوان المسلمين في مصر والأردن، بل كان على خلاف مع تشدد "هيأة علماء المسلمين" تجاه الواقع السياسي، والمشاركة فيه. وقد برر الحزب مشاركته في الحكومة بالآتي: "قررنا المشاركة على أساس أن غيابنا هو ضرر أكبر، متمثل بغياب دور السنة العرب عن المشاركة في تشكيل مستقبل العراق، في هذه المرحلة الحرجة من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يفقدنا التأثير المباشر لإحباط المساعي التي تريد إضفاء الشرعية على إبقاء المحتل في عراقنا الحبيب. وهذا يدفع بضرر أصغر هو المشاركة بهذه الحكومة الانتقالية الجديدة، وسنعمل على إسداء النصيحة لهذه الحكومة والتفاعل معها بطريقة تخدم مصالح شعبنا..."، علما أن الحزب أصدر بيانا يوم الإعلان عن الحكومة المؤقتة في 1 حزيران 2004، برئاسة إياد علاوي، شاكيا من أنها حكومة علمانية (16). إذن، تغير الخطاب السياسي للحزب خصوصا، بعد 2003، وانخرط بقوة في العملية السياسية، وتبوء قادته مناصب عليا في الحكومة ومجلس النواب ومؤسسات الدولة الأخرى،  ومارس هذا الحزب نهجا براغماتيا في الجمع بين السلطة والنفوذ والمال، فيما تدعو مرجعيته الفكرية إلى إقامة الخلافة الإسلامية التي لا جامع يجمعها مع الديمقراطية. إذن تنظر الحركات السلفية إلى الديمقراطية كآلية للوصول إلى السلطة وليس كمنظومة فلسفية تؤطر التطور السياسي والاقتصادي والثقافي والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان للمجتمعات الإنسانية.
لقد تعرض السياسي العراقي ذو الايديولوجيا الدينية في الشهور الأولى من الاحتلال الأمريكي للعراق إلى تناشز معرفي حاد بين منظومته القيمية التقليدية القائمة على رفض القيم الغربية الديمقراطية المؤمنة بتداول السلطة وحتمية الحكم بحسب الشريعة الإسلامية وحدها، وبين سلوكه المتعطش للسلطة والمضطر لمجاراة الشعارات الديمقراطية.
إن هذا التناشز الحاد ما كان له أن يُحلّ أو يخفض من الناحية السيكو - سياسية إلا على يد أفراد بمواصفات شخصية محددة، شكلوا بسلوكهم النفعي نخبة سريعة النمو خارج الهوية الوطنية العراقية، سيّست بسرعة الموروث المتخلف الكامن في الهوية الطائفية بشقيها (17) الشيعي والسني من خلال تبني نظام المحاصصة الطائفية الذي يضمن لهذه النخبة الاحتفاظ بمواقعها السياسية والاجتماعية والطبقية في جميع مفاصل الدولة والمجتمع.

ثلاثة نماذج إقليمية

في إيران، ساهم قيام دولة إسلامية بعد نجاح الثورة الشعبية العام 1979 في التأثير في موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط، وغذّى نمو الحركات الإسلامية شيعية كانت أم سنية، بل أصبح هذا النموذج من الدولة ملهما لبعض الحركات الإسلامية. وهذا يستدعي تقييم التجربة في جانب الفكر والخطاب.
أعلن الامام الخميني في نظريته "ولاية الفقيه" نقل صلاحيات وسلطات الإمام المهدي المنتظر كلها إلى الولي الفقيه بما في ذلك حق إقامة الحكومة الإسلامية مكان الإمام الغائب. وبعد نجاح الثورة، أُدخلت نظرية ولاية الفقيه في الدستور الإيراني حيث أسس الخميني أول مرة في التاريخ حكومة إسلامية في دولة مدنية حديثة. ولم تكن مساهمة الخميني تقتصر على هذا فحسب، إذ أعلن أن الولي الفقيه الذي يرأس حكومة إسلامية تصبح سلطته نافذة على سائر الفقهاء الآخرين. وخطوة الخميني هذه شكلت ضربة قاسية للمرجعية الشيعية (18). علما أن هذه النظرية لم تكن محل إجماع من قبل مراجع الشيعة، وبقيت موضع نقاش على اعتبار أنها لا تتلاءم بشكل كامل مع أصول عقيدة الشيعة الإمامية.
وفي محاولة للتكيف مع مستجدات الحياة على مستوى الفكر والممارسة وللتخفيف من حدة التناقض بين المرجعية الفكرية والخطاب السياسي، يطرح بعض المفكرين الإيرانيين أفكارا تتناول هذا الجانب، منهم محمد جواد لاريجاني المختص في الفلسفة الغربية وهو على دراية واسعة بها، ومؤلف كتاب "التدين والحداثة"، ويمكن إجمال آرائه في ثلاثة جوانب دينية واجتماعية سياسية وفلسفية هي: مشروعية الحكومة الإسلامية وفعاليتها المستمدة من جدل الفلسفة والسياسة والدين والواقع؛ تبدل علوم الدين وخضوعها لاجتهاد وتحيين مستمرين عبر مختلف العلوم والمعارف؛ مستقبل الثورة والحكومة الإسلامية وولاية الفقيه.
لم يكن بوسع لاريجاني أن يفكر في حلول لهذه الجوانب إلا عبر انجاز مفاهيمي حداثي من جهة وعبر توظيف وإقحام. فمن وجهة نظره، لا يمكن أن يحدث فعل دون إيجاد صلة ضرورية بين التحولات المعرفية التي تحدث في العالم والقضايا العملية المطروحة في إيران، ومن ثم لا بد من توظيف يبدأ بزرع الفلسفة في علم الكلام أو تحويل المعارف وطلب إقحامها في الدين عموما. وما دام الأمر يتعلق بتسيير الحياة فإن الايديولوجيا الأساسية المتمثلة بالربط بين المعارف تصبح مشروعة تماما، على الرغم من أن الأمر لم يكن يهم تدبير شؤون الناس بقدر ما يكون توظيف المعارف الحديثة لتدبير شؤون الدين وحل أزمته (19) التي تستعصي كلما ظل فهم النصوص الدينية جامدا وبعيدا عن الأخذ بعين الاعتبار الإطار التاريخي الذي انتجت فيه.
في مصر، يُجمع السواد الأعظم من شيوخ السلفية السياسية على تحريم المشاركة السياسية على أرضية الديمقراطية التي تتراوح نظرتهم إليها من اعتبارها كفرا صريحا إلى اعتبارها أداة لا باس بها من أجل "تحقيق غايات أخرى". ولعل أهم هذه الغايات الأخرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتطبيق الشريعة.  بيد أن ما يبدو محيرا هو قبول السلفيين بالمشاركة السياسية واستخدام أدواتها وهي التي كانت مرفوضة بل محرمة ثولوجيا وفقهيا. فكان الموقف من دخول الانتخابات وتكوين الأحزاب وعقد التحالفات السياسية، مرفوضا ومحرما والذي وصل عند بعضهم إلى درجة الشرك (20). وهنا يكمن النهج النفعي بشكل واضح.
في الواقع، كانت الحركات السلفية أكثر التيارات الإسلامية معارضة لانتفاضة 25 يناير في مصر. وكانت هذه المعارضة جزءا من فكرها الذي يرفض أي خروج على الحاكم. حيث صرح ياسر برهامي، أحد زعماء الدعوة السلفية قائلا: "نرى عدم المشاركة في تظاهرات الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير. وكلام المشايخ واضح جدا وذلك لأن الأوضاع مختلفة بين مصر وتونس". كذلك قال محمد عبد المقصود، أحد كبار رجال التيار السلفي، في عقب اندلاع الانتفاضة: "نحن نحرم الخروج الذي يسفك دماء ويؤدي لفساد. وتحريم الخروج بدأه القرطبي والنووي وابن حزم وذلك لدرء الفتن". كما أصدر الداعية السلفي محمد السيوطي بيانا في 5 شباط/ فبراير يعارض التظاهرات ويدعو إلى طاعة الحكام "وإن بلغوا في العسف والجور حد ضرب الرعية وأخذ أموالهم"، وأضاف داعيا إلى قتال المتظاهرين: "يجب قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام" (21) والمقصود هنا بكل وضوح طاعة حسني مبارك.
بيد أن الموقف قد تغير بشكل جذري في مرحلة ما بعد الانتفاضة في مصر، وهو تغيير وإن لم يصرِّح به قادة التيار السلفي إلا أن ممارساتهم وأفعالهم تدل وتبرهن عليه. فالشيخ عبد المنعم الشحات الذي لا يمل من التصريح برفض الديمقراطية باعتبارها "حراما وكفرا"، في حين أنه كان أول من استخدم أدواتها حين خاض الانتخابات البرلمانية من أجل الحصول على مقعد برلماني. جاء تبرير هذا التحول تحت ذريعة القاعدة الذهبية "المصالح والمفاسد" التي باتت أشبه بحصان طروادة الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام السلفيين للحضور في المجال العام (22). وتتوج ذلك بتشكيل الأخوان المسلمين لحزبهم "الحرية والعدالة" في العام 2011، وتشكيل التيار السلفي لحزب النور الذي حصد حوالي ربع المقاعد البرلمانية في أول انتخابات، وهو الذي لم يؤيد الانتفاضة الشعبية ولم يشارك فيها.
في تونس، على الرغم من سبق حركة النهضة إلى المزاوجة بين الإسلام ومكتسبات الحداثة، وتشريعها قيام دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، وإقرارها بضرورة تداول السلطة، وبضرورة إقامة العدالة الاجتماعية، وتأمين حقوق المواطنة، فإنها لم تعبر صراحة عن التخلي عن عدد من المبادئ الأساسية التوجيهية التي تضمنتها أدبياتها عند تأسيسها في مطلع الثمانينات، فوثيقة "الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة النهضة التونسية" الصادرة في حزيران/ يونيو 2012، استبقت على محتوى التصور الفكري والعقدي والأصولي الذي اعلنه مؤتمر عام 1986 لحركة الاتجاه الإسلامي (حركة النهضة حاليا)، بل اعتُبر هذا البيان "وثيقة رسمية من جملة الوثائق التي تحدد هوية الحركة". وبذلك فإن التصور الوارد في الوثيقة فيه تلبيس للديني بالدنيوي وتعامل مع المجتمع بتنويعاته المختلفة وفق خلفية عقائدية منغلقة، ومقاييس معيارية ميتافيزيقية تبقى محل خلاف، ولا تتماشى ومبدأ المواطنة والحرية الفكرية باعتبارها شأنا شخصيا، لذلك تعتبر هذه النصوص متأخرة عن حركة المجتمع وغير منسجمة مع خط التحديث الإسلامي الذي تدعي النهضة الريادة فيه (23). على الرغم مما اعلنته حركة النهضة مؤخرا عن رغبتها بالتحول إلى حزب سياسي، وفصلها بين الجانب الدعوي والسياسي غير أن اختبار حقيقة هذا التوجه تبقى على المحك في خضم ميدان الممارسة والصراع والعمل السياسي والاجتماعي المحتدمين.
وفي ما يخص الموقف من حقوق المرأة، فإن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، أعلن في بعض المناسبات أن حركته لن تعمل على إقرار مبدأ تعدد الزوجات، لكنه صرح في مناسبات أخرى بموقفه الأصلي المؤيد لتعدد الزوجات. ولا يُعد هذا غربيا عنه؛ ذلك أنه يسعى إلى أن يحقق المعادلة الصعبة، وهي إرضاء المجتمع التونسي من جهة، وتطمين المرأة بشكل خاص، وعدم التصادم مع النص القرآني الذي يجيز التعدد من جهة أخرى. وهذا ما جعل معارضيه يصفون موقفه بالارتباك والالتباس، ويعللونه برئاسته لجنة الدفاع عن تعدد الزوجات خارج تونس (24). وهذا الموقف في حقيقته لم يكن ارتباكا بقدر ما هو يعكس موقفا براغماتيا للاستفادة من الأجواء التي وفرتها الانتفاضة الشعبية وسقوط نظام ابن على المستبد لحصد المزيد من المكاسب السياسية ومن ثم التمتع بالسلطة والنفوذ.
ومن جانب آخر، ومن خلال الممارسة السياسية لممثلي حركة النهضة، فهم وإن دافعوا خلال الحملة الإنتخابية التي سبقت انتخابات 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2011 عن مكاسب المرأة وقانون الأحوال الشخصية والدولة المدنية؛ فإن نائبات الحركة في المجلس التأسيسي فاجأن الجميع بالتصويت ضد حق المرأة في أن تترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، وذلك في سياق مناقشة اللجنة المتخصصة بشروط الترشح للرئاسة (25). وهذا مؤشر إلى ما اشرنا إليه بالنهج البراغماتي الذي تمارسه الحركات الدينية ومنها النهضة.
أخيرا، إن تبرير التباعد بين الخطاب والمرجعية الفكرية عند الحركات الدينية، وتأويل النصوص ومراجعة المتفق عليه، بهدف ما يسمى بـ "الإصلاح الديني"، فإنه في الواقع يكون أقرب إلى الإفساد منه إلى الإصلاح: ذلك لأنه جانب الصواب في تشخيص الداء، وهو تغلغل ما يوصف بـ "نظرية الحتمية الدينية" في وعي المسلمين وتمكُّنها منه، وما أدى إليه ذلك من الابتعاد عن المنهج التاريخي في تحصيل العلم، واستنباط قوانين التطور السياسي والاجتماعي (26). إذن، المطلوب دراسة التراث الإسلامي دراسة شاملة بمنهج تاريخي نقدي، لغربلته وتمييز الصالح منه عما تجاوزه الزمن وصار في عداد التراث الميت والمعيق للتطور.

استنتاجات

- يساهم ضعف البنية الاجتماعية - الاقتصادية والسياسية والثقافية، وغياب التنمية المستدامة في المجتمعات العربية والإسلامية، في ديمومة الحركات الإسلامية، ويعطيها مادة للتوظيف الديني والسياسي.
- تتمثل الإشكالية الأساسية بعدم إقرار الحركات الدينية الأصولية بتاريخية النصوص الدينية، ومناسبة ظهورها، وبحركة وتغيّر الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي للمجتمعات العربية والإسلامية زمانيا ومكانيا.
- إن التبرير الذي تلجأ له الحركات الدينية بالنبش بالتراث من أجل تعليل شقة التباعد بين خطابها الأصولي وخصوصا السياسي منه ومرجعيتها الفكرية، يُضعف مع مرور الوقت من مصداقيتها، ويعمل على تقليص نفوذها الاجتماعي والسياسي والثقافي.
- سيخلق التوظيف المستمر للدين بالسياسة، مزيدا من التعقيدات على مستوى الخطاب والمرجعية الفكرية، وسيؤسس ويراكم مزيدا من المطالبات لتحييد الدين عن السياسة ومن ثم فصلهما مستقبلا.
- تقع على عاتق الكتاب والباحثين اليساريين والديمقراطيين مهمة كشف وإبراز التناقض الذي تقع فيه الحركات الدينية في محاولتها تأويل وتبرير تعارض خطابها السياسي مع مرجعيتها الفكرية، وتبيان أن جذر هذا التعارض يعود إلى محاولات هذه الحركات الوصول إلى السلطة بأي ثمن.
- يمثل مصطلح "دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية" الذي تتبناه بعض الحركات الدينية، محاولة للالتفاف على هدف قيام دولة مدنية ديمقراطية، لأنه بدون هذا التلازم، يمكن أن تكون الدولة المدنية مستبدة سواء بغطاء ديني أو عسكري أو غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) راجع: رشيد الخيون، الأديان والمذاهب بالعراق، ط 2 (كولونيا، بغداد: 2007)، ص 447.
(2) واضح إن ظهور الخوارج يعبر عن موقف سياسي واجتماعي وطبقي، إضافة إلى الأسباب الأخرى، وهو رفض حصر السلطة والنفوذ في قريش، والدليل على ذلك، ما ورد في نهج البلاغة حيث أن علي بن أبي طالب اشار إليهم بـ "اعراب بكر وتميم"، أي ينحدرون من هاتين القبيلتين وليس من قريش.   
(3) راجع: فالح عبد الجبار، العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني، ترجمة أمجد حسين (بيروت، بغداد: 2010)، ص 467 - 468.
(4) للمزيد راجع: حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية - الإسلامية، المجلد الأول، ط 2 (الجزائر: 2002)، ص 33 - 34.
(5) راجع: نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ط 3 (الدار البيضاء، بيروت: 2007)، ص 43.
(6) راجع: صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، ط 10 (بيروت: 2009)، ص 29 - 30.
(7) زياد حافظ، "المفكرون العرب الجدد في الإسلام"، الآداب، العدد 7 - 8 تموز/ يوليو - آب/ اغسطس (2009)، ص 63.
(8) راجع: صادق جلال العظم، ذهنية التحريم، ط 5 (دمشق: 2007)، ص 154
(9) راجع: محمد أركُون، قضايا في نقد العقل الديني، ط 4 (بيروت: 2009)، ص 174.
(10) حول التطرف الديني راجع مقالنا "التطرف الديني ... جذوره الفكرية وأبرز تجلياته"، الثقافة الجديدة، العدد 378 - 379 تشرين الثاني 2015، ص 93 - 103.
(11) برهان غليون، نقد السياسة: الدين والدولة، ط 5 (الدار البيضاء، بيروت: 2011)، ص 99 - 100.
(12) راجع: نصر حامد أبو زيد، التجديد والتحريم والتأويل بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، ط 1 (الدار البيضاء، بيروت: 2010)، ص 27.
(13) راجع: رشيد الخيون، تاريخ الإسلاميين وتجربة حكمهم في العراق، في مجموعة مؤلفين، الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي... اتجاهات وتجارب (بيروت: 2013)، ص 664.
(14) راجع يحيى الكبيسي، السلفية في العراق: تقلبات الداخل وتجاذبات الخارج في الظاهرة السلفية ... التعددية التنظيمية والسياسات (الدوحة: 2014)، ص 98.
(15) يحيى الكبيسي، ص 108.
(16) رشيد الخيون، تاريخ الإسلاميين وتجربة حكمهم في العراق، ص 656 - 658.
(17) فارس كمال نظمي، الأسلمة السياسية في العراق... رؤية نفسية، ط 1 (بغداد: 2012)، ص 19 وما بعدها، وقارن مقالنا "الفكر الطائفي والدولة"، الثقافة الجديدة، العدد 367 تموز 2014، ص 8 - 18.
(18) فرح كوثراني، محمد مهدي شمس الدين ونقد ولاية الفقيه، في مجموعة مؤلفين، ص 282 - 285.
(19) راجع: تهامي العبدولي، أزمة المعرفة الدينية، ط 2 (دمشق: 2005)، ص 239 - 240.
(20) راجع: خليل العناني، التيارات السلفية في مصر: تفاعلات الدين والأيدولوجيا والسياسة في مجموعة مؤلفين، ص 137 - 138.
(21) راجع: محمد السيد سليم، الأداء السياسي للتيارات الإسلامية في مصر منذ ثورة 25 يناير، في مجموعة مؤلفين، ص 415 - 416.
(22) خليل العناني، ص 137 - 138.
(23) راجع: أنور الجمعاوي، الإسلاميون في تونس وتحديات البناء السياسي والاقتصادي للدولة الجديدة: قراءة في تجربة حركة النهضة، في مجموعة مؤلفين، ص 475 - 476.
(24) راجع حمادي ذويب، الإسلاميون في تونس وقضايا المرأة بين مطرقة النص وسندان الواقع، في مجموعة مؤلفين، ص 530.
(25) المصدر نفسه، ص 535 - 536.
(26) حازم قنديل "الحتمية الدينية والمنهج التاريخي"، الآداب، مصدر سابق، ص 88.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة"
العدد 386   
كانون الثاني 2017


40
       
     
التصحر يعيق  التنمية في العالم العربي...أبعاده البيئية والاقتصادية والاجتماعية

    صدر عن دار غيداء للنشر والتوزيع بعمّان| الأردن عام 2017، كتاب بعنوان " التصحر يعيق  التنمية في العالم العربي...أبعاده البيئية والاقتصادية والاجتماعية"، تأليف الباحث د. هاشم نعمة فياض. يقع الكتاب بـ 270 صفحة من القطع الكبير. وأدناه موجز الكتاب.
                                                 
   يتكون الكتاب من مقدمة وخمسة فصول، عالج الفصل الأول مدخلا لدراسة التصحر شمل تعريف التصحر، مؤشرات التصحر، حالات التصحر، درجة خطورة التصحر. ودرس الفصل الثاني تطور التصحر في العالم العربي. وفي الفصل الثالث تم تحليل العوامل الطبيعية (المناخ، التعرية، النباتات والحيوانات، الرمال المتحركة) والعوامل البشرية (الضغط السكاني، نمط استخدام الأرض الذي يشمل: الأفراط في قطع الأشجار، الضغط الرعوي، الضغط الزراعي، مشكلة تملح التربة) المسببة للتصحر. وبحث الفصل الرابع نتائج التصحر البيئية والاقتصادية والاجتماعية وتأثيراتها على عملية التنمية. وأما الفصل الخامس فدرس بالتفصيل أساليب مختلفة لمكافحة التصحر شملت: المسح البيئي، حماية الغابات، ضبط الزراعة البعلية، ضبط الاستخدام الرعوي، ضبط استخدام المياه، وقف التعرية، تثبيت الرمال المتحركة، استخدام أساليب زراعية جديدة، وخفض فقد وهدر المواد الغذائية.

    في السنوات الأخيرة، باتت ظاهرة التصحر تستفحل في العالم العربي، بأبعادها البيئية والاقتصادية والاجتماعية. لذلك فهي تمثل أحد المعوقات الجدية أمام التنمية المستدامة التي ترنو لها البلدان العربية. علما أن اغلب المناطق المعرضة للتصحر تقع في الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي.

   كان راب أول من عرف التصحر بمفهومه الشامل عام 1974 بأنه يمثل "انتشار الظروف والحالات البيئية الشبيهة بتلك السائدة في الصحراء في المناطق الجافة وشبه الجافة؛ نتيجة تأثير الإنسان والتغيرات المناخية". وقد بقي تعريف التصحر لفترة غير قلية أيضا موضع نقاش من قبل هيئات الأمم المتحدة المعنية، غير أن احدث تعريف اقر عام 1994 ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر ينص : التصحر يعني تدهور الأرض في المناطق القاحلة وشبه القاحلة و في المناطق الجافة و شبه الرطبة الذي ينتج من عوامل مختلفة تشمل التغيرات المناخية والنشاطات البشرية.

     تتمثل أهم المؤشرات الطبيعية  للتصحر في : غزو الكثبان الرملية للأراضي الزراعية، تدهور الأراضي الزراعية المعتمدة على الأمطار، تملح التربة، إزالة الغابات وتدمير النباتات الغابية، انخفاض كمية ونوعية المياه الجوفية والسطحية، تدهور المراعي، انخفاض خصوبة الأراضي الزراعية، اشتداد نشاط التعرية المائية والهوائية، زيادة ترسبات السدود والأنهار واشتداد الزوابع الترابية وزيادة كمية الغبار في الجو.  ويمكن استخدام هذه المؤشرات وغيرها في تعيين حالة أو وضعية التصحر في المناطق المختلفة من بلداننا العربية. وقد حددت الأمم المتحدة أربع حالات للتصحر هي: التصحر الشديد جدا، التصحر الشديد، التصحر المعتدل، التصحر الطفيف.

    شهدت ظاهرة التصحر انتشارًا واسعًا في العالم العربي على وجه الخصوص؛ بسبب الإفراط في استغلال الموارد الطبيعية، خصوصًا المائية والأرضية (مراع وغابات وأراض زراعية) وذلك طوال حقب عديدة، ومما زاد في اتساع رقعة التصحر هشاشة النظم البيئية وسيادة المناخ الجاف وقلة المياه. لذلك بات تدهور الأراضي نتيجة التصحر مشكلة مهيمنة خلال عقد التسعينات؛ حيث أغلب الأراضي إما تصحرت أو باتت معرضة للتصحر. إذن يجتاح التصحر الأرض في البلدان العربية بهذه المعدلات المتسارعة في الوقت الذي يتطلب زيادة الإنتاج الزراعي والحيواني لتأمين جزء مهم من الأمن الغذائي على الأقل لمواجهة النمو السكاني وارتفاع مستويات المعيشة.

    يعاني جميع البلاد العربية من مشكلة الجفاف، ولاسيما من الحساسية المفرطة للتصحر. وتساهم الفترات الجافة التي تحدث من وقت لآخر، في إشاعة ظروف التصحر؛ إذ تؤدي إلى تناقص الغطاء النباتي ومن ثم تعرية وجرف التربة، وانخفاض المواد العضوية والمعدنية وبكلمة أخرى انخفاض الطاقة الحيوية للأرض بشكل حاد، خاصة عندما تكون هناك كثافة سكانية عالية واستخدام مفرط للأرض. ورغم استمرار التصحر، سواء في الفترات الجافة أو الرطبة، إلا أن أثره يكون أكثر خطورة في الفترات الجافة.

    تنشط عملية تعرية التربة حينما يضمحل الغطاء النباتي أو يزول، فتنكشف الطبقات العليا السطحية من التربة، وتتعرض لجرف المياه، وأكتساح الرياح. وبما أن الأراضي في البلدان العربية الصحراوية أو المتصحرة هي أراضٍ قاحلة فهي معرضة بصورة دائمة لتأثير التعرية المائية والهوائية. وتؤدي 
تعرية وجرف التربة إلى إزالة الطبقة الخصبة والتي من الصعب تعويضها خلال فترة زمنية قصيرة. وهذا أحد الأسباب التي تقف أمام تطور الإنتاج الزراعي ومن ثم توسع التصحر.

    لعل المناطق المتصحرة والأكثر عرضة للتصحر في العالم العربي هي المراعي الطبيعية التي
تمتد على مساحات شاسعة، وقد أدى الرعي الجائر إلى اختفاء النباتات المفضلة للرعي والأقل مقاومة
وحلت محلها النباتات الأقل استساغة والأكثر مقاومة للرعي. ومع استمرار الرعي المكثف وإجبار الحيوانات على استغلال هذه النباتات المتدنية بيئيًا، أصبحت أراضي المراعي شبه عارية وتدهورت نباتاتها وتربتها.

    تنتشر الرمال المتحركة في معظم أرجاء العالم العربي، وهي تغزو المناطق المجاورة، عاملة على إشاعة التصحر، وتسبب مشاكل بيئية واقتصادية واجتماعية وعمرانية. وفي الوقت نفسه، فإن الرمال المتحركة الناتجة من زوال الغطاء النباتي تعد واحدة من أخطر نتائج التصحر نتيجة تأثيراها السلبية على كل الجوانب الحيوية للحياة.

     أجمع المؤتمرون في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالتصحر، إن السبب الرئيسي في تطور عملية التصحر هو النشاطات البشرية التي تعمل على تعطيل الأنظمة البيئية في الأراضي الجافة وشبه الجافة. أي بمعنى آخر، أن التصحر ظاهرة بشرية بالدرجة الأولى، وأن الإنسان هو صانع التصحر. إن ما يؤكد دور الإنسان الرئيسي في صنع التصحر هو أن للأنظمة البيئية في المناطق الجافة وشبه الجافة قابلية على التكيف حتى مع تأثيرات فترات الجفاف الطويلة؛ حيث عندما تعود الأمطار إلى وضعها الأعتيادي ينمو النظام البيئي بدون أي تغير ظاهر.

     حدد مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالتصحر أرقاماَ حرجة للكثافة السكانية الريفية كمؤشر على الضغط السكاني على الأرض؛ فأعتبر 7 نسمة في كم² في المناطق الجافة، و20 نسمة في كم² في المناطق شبه الجافة، كحد أقصى لا يجب أن تتعداه. وإذا طبقنا ذلك على الكثافة الريفية في العالم العربي، نجد أن الكثير منها قد فاق هذه الأرقام.

    يقصد بالضغط الرعوي تحميل أراضي المراعي عددا من الماشية أو أنواعا معينة منها لا تتفق وطاقة هذه المراعي على تغذيتها. والملاحظ أن تصحر الأراضي الرعوية لا يؤثر في الإنتاج الحيواني فقط لكنه يعجل بحدوث سلسة من الوقائع تؤثر في كل النظام البيئي، مثل قلة أو زوال الغطاء النباتي، وما يصاحبه من تعرية التربة وزيادة خطر انجرافها. وهذا غالبا ما يقود إلى انخفاض في الإنتاجية الأولية بشكل يتعذر معالجته. ومن ثم يضعف من إمكانية البيئة على التعويض النباتي.

    يقصد بالضغط الزراعي تكثيف استخدام الأرض بالزراعة أو تحميل التربة اكثر من طاقتها الحيوية، حيث يؤدي ذلك إلى حدوث تدهور في التوازن البيئي وإشاعة التصحر. وهناك اشكال متعددة لاستخدام الأرض تسهم بهذه النتيجة.

   في الواقع يعد تملح التربة من المشكلات الكبرى التي واجهت الزراعة المروية عبر تاريخ المجتمعات الزراعية، ومنها المجتمعات العربية التي تتوفر على أنهار مهمة وخصوصا، في المناطق التي تقل فيها الأمطار بحيث لا يمكن الأعتماد عليها في إدامة النشاطات الزراعية. وهو -أي تملح التربة- من المسببات الرئيسية التي تدعم تمدد التصحر في العالم العربي بنسب متفاوتة. ويتركز انتشار الترب المتأثرة بالملوحة في المناطق الجافة وشبه الجافة، إذ قدرت مساحتها في العالم العربي بـ 8,35 مليون هكتار. وتؤثر ملوحة التربة في الإنتاج الزراعي، حيث تتراوح معدلات الإنتاج بين صفر و40% في التربة الشديدة الملوحة، وصفر في التربة الشديدة الملوحة جدا.

     للتصحر العديد من النتائج ذات التأثير المتبادل، أبرزها النتائج البيئية والاقتصادية والاجتماعية، والتي قد تتفاوت أبعادها وحدتها من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى من مناطق العالم العربي؛ بسبب الاختلاف النسبي في العوامل الطبيعية والبشرية المؤثرة، والتباين في البنية الاجتماعية-الاقتصادية ومصادر الدخل الوطني.

    تتمثل النتائج البيئية للتصحر بأشكال متعددة، وهي تعبير عن اختلال النظم البيئية، حيث أن استخدام الإنسان للموارد الطبيعية هو استهلاك لموارد البيئة، ومن ثم فإن نوعية الاستخدام وكثافتها إما أن تؤدي إلى تدهور البيئة أو تحافظ على توازنها. وتلاحظ مظاهر تدهور البيئة ومنها التصحر في مناطق عديدة من العالم العربي. ويتمثل ذلك في تدهور الحياة النباتية والحيوانية وتدهور التربة والمراعي وتقلص الأراضي الزراعية أو التي يمكن استصلاحها، ونقص في المياه وتدهور نوعيتها وخصوصا أرتفاع نسبة ملوحتها وزحف الرمال وزيادة العواصف الغبارية.

   تتمثل النتائج الاقتصادية المباشرة للتصحر بما حددته الأمم المتحدة في مسحها لحالة البيئة في العالم حيث ورد : يؤثر تدهور الأرض وتصحرها في قدرة البلدان على إنتاج الأغذية، وينطوي بالتالي على تخفيض الإمكانيات الإقليمية والعالمية لإنتاج الأغذية، كما انهما يسببان أيضا في إحداث العجز الغذائي في المناطق المهددة، مع ما لذلك من آثار على الاحتياطات الغذائية وتجارة الأغذية في العالم. ونظرا لأن التصحر ينطوي على تدمير للحياة النباتية ونقصان مجموعات نباتية وحيوانية كثيرة، فهو أحد الأسباب الرئيسية لخسارة التنوع البايولوجي مما يقلل من فرص إنتاج الأغذية. وهذه الاستنتاجات تنطبق على مناطق عالمنا العربي.

   تتمثل النقطة الأولى للانطلاق في تقييم التأثيرات الاجتماعية للتصحر في معرفة عدد السكان الذين يعيشون في المناطق الجافة ومعدل نموهم. أما الخطوة التالية فتتمثل في تحديد توزيع تأثيرات التصحر وسط سكان هذه المناطق، بسبب أن ليس كل الذين يسكنون هذه المناطق سوف يتأثرون بالتصحر. وهناك ارتباط وثيق بين الهجرة والتصحر، ظهرت نتائجه في العالم العربي، وقد تسبب في نزوح قسري من الريف إلى المدن، مما أدى إلى معاناة المهاجرين التي تجلت في عدم القدرة على التأقلم مع ضرورات السكن في المدن، والإجهاد الاجتماعي للتجمعات السكانية. علما تتفاقم آثار تدهور الأرض وتصحرها في سنوات الجفاف وهذا يدفع المزيد من الناس لترك أراضيهم  والهجرة أو اللجوء إلى مناطق أو بلدان أخرى. فقد قُدر أن ملايين من سكان العالم العربي في القسم الأفريقي قد تأثروا بهذه الأوضاع البيئية وأصبحوا لاجئين حيث أخذ يطلق عليهم بـ "اللاجئين البيئيين" ومن البلدان التي تأثرت بشدة بهذه الظاهرة الصومال والسودان وموريتانيا.

    رغم إدراك خطورة التصحر، إلا ان وسائل مكافحته في بلداننا العربية لم ترق بعد إلى مستوى التهديد الذي يمثله على شتى الأصعدة البيئية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والحضارية والسياسية. لذا بات من الضروري إعطاؤه مكان الصدارة في خطط التنمية. تتطلب مكافحة التصحر وضع خطط واضحة المعالم تتضمن أهداف مباشرة تتمثل في وقف تقدمه واستصلاح الأراضي المتصحرة وأخرى تشمل إحياء خصوبة التربة وصيانتها في المناطق المعرضة للتصحر. ويتطلب الأمر تقويم ومراجعة الخطط بصورة مستمرة لتلافي ما هو غير صالح ونظرة بعيدة المدى وإدارة رشيدة لموارد البيئة الطبيعية على جميع المستويات وتعاون عربي وإقليمي ودولي فعال مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود حلول سريعة لهذه المشكلة.

    يمكن أن تختلف وسائل مكافحة التصحر من بلد عربي إلى آخر باختلاف مسببات وسرعة عمليات التصحر ونتائجها ولكن هناك أوجه شبه فيما بينها منها المسح البيئي الذي يتم من خلاله تقدير الطاقة الحيوية للأرض ويعد المقدمة الضرورية لأي خطط تستهدف مكافحة التصحر. وبما أن بلداننا العربية بصورة عامة تفتقر إلى الأبحاث والدراسات والمعطيات التفصيلية الدقيقة عن طبيعة النظام البيئي من ناحية وأبعاد مشكلة التصحر وتطورها من ناحية أخرى، لذا والحالة هذه فإن الأمر يقتضي الاسراع بإجراء المسوحات البيئية ووضع نتائجها أمام الباحثين والمخططين قبل الإنطلاق في مكافحة التصحر.
   بما أن عملية قطع الأشجار والشجيرات تساند عماية التصحر، لذلك أصبحت صيانة وحماية وتنمية الغابات أسلوبا مهماَ لمكافحة التصحر. ويبدو ان حماية الغابات وإعادة تشجيرها كأسلوب لمكافحة التصحر لا تزال في طور التجربة في البلدان العربية. حيث رغم المشاريع المنفذة أو التي في طور التنفيذ فهي تعتبر أعمالا متواضعة بالمقارنة مع التدمير الذي حصل والحاصل في الغابات. ويفترض أن يكون هناك تعاون عربي أوثق في هذا المجال خصوصاَ إذا عرفنا أن بعض البلدان العربية تعوزها الموارد المالية لتنفيذ مشاريع صيانة الغابات.
     من أجل ضبط الزراعة المعتمدة على الأمطار، فإن الأمر يتطلب الحد من توسع هذا النوع من الزراعة تجاه الأراضي الأقل ملائمة من ناحية كمية الأمطار الساقطة. إذ أن هذا التوسع يؤدي إلى تدهور التربة والنظام البيئي. ويعزى التوسع هذا إلى ضغط النمو السكاني المستمر. وقف هذه الظاهرة يمكن معالجته من خلال تحسين الأساليب الزراعية، واستخدام ما يناسب المناطق الجافة وشبه الجافة منها.

    إن الطريقة التي تدار بها المراعي تحدد إلى حد بعيد كفاءتها الإنتاجية وصيانتها. فباستثناء ما تتعرض له المراعي من تكرار الجفاف، فإن كل المشكلات الأخرى التي تواجه تنميتها الطبيعية يمكن معالجتها عن طريق الإدارة العلمية، والتي تضع المراعي الطبيعية في إطار منظومة التنمية المستدامة بيئيا. وهناك العديد من الإجراءات التي يمكن تبنيها ومن أهمها: تطبيق اساليب الاستثمار والإدارة المحسنة للمراعي من خلال الاستزراع الموسع (بالشتل والبذر) وتطبيق التقنيات المختلفة لزيادة الانبات والنمو والإنتاج باستخدام طرق معينة للحراثة، والاستغلال الرشيد لمياه الأمطار، واستخدام التقنيات الملائمة لتثبيت الرمال. والتحسين الوراثي لأصناف الحيوانات المحلية الواعدة بالانتخاب أو التهجين لزيادة الكفاءة الانتاجية مع الحفاظ على القدرة على التأقلم مع الظروف البيئية في مناطق الانتشار التقليدية. وتعزيز القدرات البشرية في المجالات المشار إليها، وخدمات التوعية والإرشاد.

     باتت ندرة المياه العذبة من أخطر المشاكل التي تعانيها منطقتنا العربية. وربما تشكل إدارة المياه المستخدمة في الزراعة أكثر التحديات جسامة فيما يخص استدامة استخدام الموارد الطبيعية، إذ تستحوذ الزراعة على نسبة عالية جدا، من استخدام المياه، نحو 78% من مجموع سحب المياه العذبة في بلدان منطقة الشرق الأدنى وشمال أفريقيا. علما في كثير من بلدان هذه المنطقة، تتجاوز نسبة المياه المستخدمة في الزراعة 100% من الموارد المائية المتجددة.

     بما أن سوء استخدام المياه هو أحد مسببات التصحر، لذلك فإن مكافحة هذه الظاهرة تقتضي الحرص الشديد في استخدامها، وذلك من خلال إتباع وسائل ري وصرف اكثر فعالية مثل الري بالتنقيط الذي ثبتت فعاليته في بعض البلدان. كذلك يمكن التوسع في أسلوب الري بالرش الذي بدوره يقلل من المياه المستخدمة والعمل على تقنينها في المناطق المروية وفق حاجة المحصول وطبيعة تركيب التربة حتى لا يؤدي الإفراط في استخدامها إلى تملح التربة وتغدقها.

     تكون طريقة الارواء كفوءة أيضا، عندما لا تتسبب في أي زيادة في مستوى المياه الجوفية، ومن ثم زيادة كمية الأملاح التي تتراكم في التربة، وانخفاض في إنتاجية الأراضي المزروعة، وهذا يعني أن اختيار طريقة الري الكفوءة يتوقف على ما تحققه من توازن في قيم الاحتياجات المائية الفعلية وبين كمية المياه التي يتم تجهيزها بشكل يوفر محتوى من الرطوبة للتربة.

     من الإجراءات التي تساهم بفعالية في استخدام المياه بكفاءة عالية وتكافح التصحر: استنباط اصناف من الحبوب وانواع وراثية من مختلف المحاصيل تتسم بكفاءتها العالية في استعمال المياه وتحمل الجفاف والحرارة المرتفعة وذات كفاءة عالية في الاستفادة من ارتفاع تركز ثاني أكسيد الكربون. وإعداد سيناريوهات تركيب المحاصيل بما يتناسب مع ترشيد استخدام المياه وتعظيم الاستفادة من وحدة المياه المستخدمة وتنظيم الدورات الزراعية ومواعيد الزراعة. وتنظيم الدورات التدريبية وإعداد الكوادر ورفع كفاءة المختصين والمعنيين في قطاعات المياه والأراضي لمجابهة آثار التغير المناخي، وأثره على الأمن الغذائي للبلدان العربية.

     تعد المياه الناتجة عن معالجة الصرف الصحي مصدرا مهما في الدول التي تعاني ندرة المياه، خصوصا أن نظم المعالجة الحديثة قادرة على إنتاج المياه المعالجة للشرب حسب معايير منظمة الصحة العالمية، علما يجري استخدامها حاليا بالزراعة والمطلوب التوسع بهذا الاستخدام.

    من الإجراءات التي تحد من التعرية المائية والهوائية إقامة الأحزمة الواقية ومصدات الرياح حول مناطق الزراعة المروية والمطرية بقصد تخفيف أثر الرياح على التربة. وتحسين المراعي من ناحيتي حماية أراضيها من التعرية وإضافة نباتات رعوية معمرة تتيح نمو الكلأ في السنوات شحيحة المطر خاصة. وترك فضلات المحاصيل الزراعية منشورة فوق سطح التربة خاصة في أوقات الأمطار حيث تساهم المواد العضوية بأكبر نسبة في تماسك التربة. كذلك يجب الابتعاد عن الحراثة العميقة لأنها تؤثر في تماسك التربة. وهناك طرق أخرى لوقف التعرية قد تختلف نسبيا من بلد عربي إلى آخر تبعا لتباين نوع التعرية والتربة والتضاريس وكميات الأمطار الساقطة وغيرها.
     يمثل استخدام النمذجة الرياضية في دراسة الظواهر الطبيعية أحدى الخطوات الأولى لنمذجة التعرية الريحية في المنطقة العربية، إلا أنه لم يتم اعتماد وتطبيق نموذج رياضي يساعد في تقدير شدة حركة التربة بفعل الرياح وكمية التربة المنجرفة من منطقة معينة. يفترض بالبلدان العربية الاستفادة من هكذا ابحاث متطورة، علما أنها تمتلك الكوادر وخصوصا، المتخرجة من الكليات والمعاهد الزراعية الكثيرة. 
    بما أن الرمال تغطي مساحات واسعة من العالم العربي، وهي تمثل أحد العوامل التي تساهم في اتساع التصحر، لذا يقتضي الأمر التصدي لانتشارها والعمل على تثبيتها بل وزراعتها كي تتحول إلى مصدر يسهم في زيادة الانتاج. وتتبع أساليب مختلفة لتثبيت الرمال في البلدان العربية، منها إقامة الحواجز ومصدات الرياح وإقامة اسيجة من سعف النخيل لتقليل طاقة نقل الرياح وتغطية الكثبان الرملية بالنباتات الميتة واستخدام المواد النفطية والكيمياوية والطرق الميكانيكية مثل فرش طبقة من النشارة أو التبن على الأرض مع القار. وتستخدم أيضا الطرق البيولوجية والتي تعد واحدة من أفضل الطرق لحماية المناطق المأهولة بالسكان من حركة الرمال من خلال زراعة الأشجار، والشجيرات، والحشيش،  وغيرها. وهناك أمثلة جيدة على تثبيت الرمال في العديد من البلدان العربية.

     من الأساليب الزراعية التي تحد من الضغط على الأراضي الزراعية وتساهم في زيادة الإنتاج الزراعي وتحد بالتالي من التصحر هي زراعة المحاصيل المعدلة وراثيا. وكانت مصر أول بلد عربي استخدم هذا النوع من الزراعة على مستوى تجاري. حيث وافقت الحكومة على زراعة الذرة الصفراء المقاومة للحشرات. وبدأت زراعة القطن المعدل وراثيا في السودان، وبلغ نحو 92% من القطن المزروع في السودان عام 2013 من هذه السلالة. ومن الأساليب الزراعية الأخرى المهمة استخدام نظام اقتصاديات الزراعة الحيوية-الملحية، وتعود أهمية ذلك إلى أن التصحر يرتبط بدائرة الفقر وأنظمة الزراعة الهامشية. وهناك ست مجموعات مختلفة من الأنظمة الحيوية-الملحية تم تجريبها في شبه الجزيرة العربية لتوفير فرص كسر دائرة الفقر، وزراعة الصحراء وإصلاح الأراضي المتملحة.




41
قراءة في كتاب "قضايا في نقد العقل الديني"
                                                                                     
 د. هاشم نعمة
      يشكل النقد مكونا مهما من مكونات الإنتاج الفكري والابداعي، ودونه يصيب الركود والجمود المنظومات الفكرية والمعرفية ومنها الفكر الديني. وقد كرس مفكرون وباحثون جهودهم العلمية لنقد الفكر الديني ومنه الإسلامي لجعله متوافقا مع متطلبات وتطورات الحياة المعاصرة وما تشهده من تغيرات وتحولات سريعة في فترات قصيرة فما بالك عبر فترات طويلة الأمد. ومن هؤلاء المفكر محمد أركون الذي كرس حياته العلمية المديدة حتى وفاته عام 2010 لمشروع نقد العقل الإسلامي وتجديده مستخدما المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. كذلك من الذين بحثوا بعمق بهذه الموضوعة صادق جلال العظم، ونصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، ومحمد شحرور وغيرهم. ورغم أن أبحاثهم القيمة تهدف إلى نفض الغبار عن التراث الإسلامي وغربلته لإبراز ما هو مشرق وصالح وترك ما عفى عليه الزمن وبات في عداد التراث الميت، رغم ذلك نجد القوى المحافظة والسلفية تشهر في وجوههم التكفير لتلجم كل تفكير حر متفتح.
   ومن كتب أركون المهمة "قضايا في نقد العقل الديني.. كيف نفهم الإسلام اليوم؟" ترجمة وتعليق هاشم صالح، والذي ارتأينا تقديم هذه القراءة عنه. يضم الكتاب الموضوعات الآتية: إشارات تمهيدية، مقدمة المترجم، كيف ندرس الإسلام اليوم؟، خرق الحدود التقليدية، زحزحتها عن مواقعها، تجاوزها، الإسلام المعاصر أمام تراثه والعولمة، إضاءة الماضي لفهم الحاضر وفهم المستقبل، التسامح واللا تسامح في التراث الإسلامي، الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر، تشكّل الأصولية، التفاوت التاريخي، وتوليد فكر نقدي جديد عن التراث، المثقفون العرب والغرب: عصر التنوير، الحداثة، وما بعد الحداثة، الظاهرة الأصولية وإشكالاتها. الكتاب صادر عن دار الطليعة، ببيروت، الطبعة الرابعة، 2009، عدد الصفحات 335. أنه كتاب قيم جدير بالقراءة المتمعنة.
      يلح أركون على دراسة الظاهرة الدينية كموضوع نظري والاهتمام بدراستها اهتماما شديدا في المجتمعات الإسلامية عربية كانت أم غير عربية. وهذه القضية العاجلة لا تنطبق على المجتمعات الغربية المعاصرة كما المجتمعات الإسلامية. لماذا؟ لأن هذه المجتمعات الأوروبية او الغربية تجاوزت الحالة الدينية للوجود وانتقلت إلى المرحلة العلمانية الحديثة. فقد حجم الفعل التاريخي للبرجوازية من التجاوزات السياسية أو النفسية-الاجتماعية للمؤسسات الدينية، أو قل لجمها وأوقفها عند حدها. ثم تلتها البروليتاريا وزادت في تحجيم التجاوزات الأيديولوجية للدين المسيحي.   
     إذا نظرنا إلى التاريخ نلاحظ أن الفلسفة قد تحدّت اللاهوت لفترة طويلة من الزمن ونافسته من أجل السيطرة العقلانية على الحقيقية. لقد مثلت الفلسفة الجهد الكبير الذي بذله العقل من أجل التوصل إلى استقلالية ذاتية كلية في أعماله النقدية. فالتراث الديني كان يفرض مقولاته بشكل قاطع ويشل العقل عن العمل تقريبا، حتى نهضت الفلسفة واستطاعات أن تحرر العقل من اسر القيود. وكان ذلك في العصر الكلاسيكي الأوروبي على يد ديكارت وسبينوزا وكانت... ثم ظهرت العلوم الإنسانية بعدئذ وساعدت الفلسفة على القيام بعملها، بل كادت أن تحل محلها مؤخرا. واضطر علم اللاهوت ذاته إلى استخدام مقولات العقل النقدي ومنهجياته لكي لا يبدو متخلفا أو منقطعا عن العصر. وكل ذلك تحت ضغط العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية. هذا في حين أن اللاهوت الإسلامي لا يزال غاطسا في مناخ القرون الوسطى.
     فقد أُتيح لأوروبا ما لم يُتح لغيرها. أُتيح لها الامتياز التاريخي في أن تكون أول مكان في العالم، بل والمكان الوحيد، الذي جرت فيه مواجهة طويلة وحاسمة بين نموذجين، الأول الدين بصفته ذروة روحية تخلع الشرعية على الدولة أو السلطة، أما النموذج الثاني فهو السياسة الدنيوية التي تبحث عن شرعيتها الكاملة في التصويت العام. وانتهى الصراع لصالح النموذج الثاني الذي يدعى بنظام الحداثة. فقد انتصر فلاسفة التنوير على رجال الدين في أوروبا. 
    إن المكتسب العلمي الذي حقتته الحداثة لا يزال يُشكل اللا مفكر فيه بالنسبة إلى لفكر الإسلامي المعاصر. المقصود بالنسبة للفكر كما يمارسه علماء الدين المسلمون في وقتنا الحاضر. كما ويشكل اللا مفكر فيه بالنسبة لكل أولئك (من مسلمين وغير مسلمين) الذين لا يزالون منغلقين داخل ما كان قد دعاه أركون بالسياج الدغمائي المغلق. ويقصد به السياج المشكل من العقائد الإيمانية الخاصة بكل دين والتي أُبقيت بمنأى عن كل تفحص نقدي أو علمي بسبب استخدام استراتيجية الرفض من قبل المؤمنين التقليديين. المقصود بذلك رفض العلم بحجة أنه اختزالي، والتأكيد على الطابع الذي لا يُختزل للروحانيات، ثم رفض الحق في الاختلاف الديني، أي في اعتناق دين آخر، ثم تغليب الوحي على كل معرفة بشرية.. إلخ. 
     ينبغي التخلى عن التحقيبات الزمنية الخادعة التي تفرضها علينا الكتب المدرسية، بل وحتى الكثير من الدراسات الأكاديمية والجامعية. فهي تسجننا داخل تحقيب ايديولوجي لتاريخ الفكر العربي-الإسلامي. ويعتقد الباحث أنه ينبغي تطبيق علم الاجتماع والأنثربولوجيا التاريخية على تاريخ الفكر الإسلامي لكي نتوصل إلى تحقيب آخر أكثر مصداقية وقربا من حقائق التاريخ والتركيبة الفعلية لهذه المجتمعات. هناك استمرارية ابستمولوجية بين أول تبلور لصيغة الإسلام في القرون الهجرية الأولى وبين الصيغة التي يتخذها الخطاب الإسلاموي الأصولي السائد حاليا. وهي استمرارية طويلة جدا وتلفت الانتباه حقا. المقصود هنا أن التدجين الاجتماعي للفرد الإسلامي لا يزال مستمرا حتى اليوم كما كان عليه الحال قبل ألف وأربعمائة سنة! وأن أنماط الإدراك والتصور، وأنماط المحاججة والتأويل ورؤية العالم لا تزال هي هي. بمعنى يمكننا التحدث عن "ابستميه" أصولية مدهشة في استمراريتها وطول أمدها وقدرتها على الانبعاث والتجييش حتى الآن. علما أن مصطلح "ابستميه" كان ميشيل فوكو قد بلوره لتحقيب الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة وحتى اليوم. وقد ترجمه هاشم صالح بنظام الفكر العميق أو الأركيولوجي.
    الدراسات والمنهجيات التي ينتجها علم الاجتماع التاريخي قادرة على تعرية اللغة القديمة لكتب التراث الإسلامي وتفكيك بنيتها الداخلية، والكشف عن حجم الأسطرة أو الأدلجة التي تمارسها تحت عباءة المفردات والمصطلحات الدينية. وهي مفردات تبدو ظاهريا منزهة ولا غبار عليها، ولكنها في الواقع تخفي تحتها كل لعبة الهيمنة والسيطرة. والدليل على أن الخطاب التراثي أو الديني القديم كان ينطوي على شحنات أيديولوجية أو مضامين سلطوية مقنَّعة ومخفية جيدا تحت رداء المعجم الديني، هو أن خَلَفه الخطاب الأصولي الحالي يستخدم الطريقة نفسها.
    إن التراث ليس إلا معنى واحدا من جملة معان أخرى، وأنه ليس أزليا ولا أبديا. وإنما قد يتعرض للتحول، والتجدد، والتغيّر بفعل العوامل التاريخية. وبالتالي فإن تطبيق منهجية النقد التاريخي على التراث العربي-الإسلامي سوف يثير هزة كبيرة. وبالتالي فإن التحرير الكبير لجماهير المسلمين لن يحصل إلا بعد دفع هذا الثمن.
    يرفض الكثير من المسلمين المتخصصين بالعلوم الدقيقة تطبيق المناهج النقدية الحديثة على التراث. إنهم يرفضون تطبيقها خارج نطاق اختصاصاتهم العلمية (كالفيزياء، والكيمياء...). والشيء المدهش واللافت للانتباه هو تكاثر عدد الأصوليين في أوساط المهندسين والأطباء والفيزيائيين...إلخ. فكان الاعتقاد السائد أن التخصص العلمي يبعد عن التعصب فإذا به يُقرّب منه، بحسب تعبير أركون. والمقصود بكلمة أصولي هنا ذلك الشخص الذي يرفض وضع أصول "الإيمان" على محك النقد والدراسة التمحيصية.   
    إذا لم يعد المؤرخ إلى الماضي البعيد فإنه لن يفهم الحاضر القريب. ينبغي القيام بهذا العمل الضروري والحاسم من أجل إعادة تأويل كل معجم المفاهيم والمصطلحات الموروث عن الماضي، أي كل التراث الديني في الواقع. ونعلم أن هذا المعجم مستعاد من قبل الحركات الشعبوية والإسلاموية الحالية دون أي تأويل أو تفكير أو تجديد، أنه مستعاد كما هو بشعاراته وألفاظه وأوامره ونواهيه! إذا لم نقم بهذا المسح التاريخي الشامل للماضي فإننا لن نستطيع تجديد النقاشات الجارية حاليا حول الفصل بين الدائرة الروحية| والدائرة الزمنية، بين المقدس| والدنيوي، بين المشروعية العليا| والسلطة السياسية. 
   تقوى المسلمين الأوائل وغيرتهم الشديدة على النبي وورعهم، كلها اشياء أدت إلى محو الصفة التاريخية عن هذه الشخصية وتحويلها إلى شخصية تقديسية مضخمة لا علاقة لها بالتاريخ تقريبا. وقد تولدت هذه الشخصية الجديدة في زحمة الصراع الحامي الذي دار بين مختلف الفئات الإسلامية في العصور الأولى. وبالتالي من الأفضل والأهم أن ندرس كيف تركبت تلك الصورة الأسطورية، بمعنى أن ندرس استراتيجيات الصراع على السلطة بين المسلمين الأوائل، وإبداع خيالهم الخلاق الذي ركب تلك الصورة التبجيلية المزيَّنة، وحاجات الأوساط الاجتماعية والمؤسسات الجديدة التي كانت قد أخذت تظهر في تلك الفترة والتي كانت بحاجة إلى تركيب هذه الصورة "الفوق تاريخية" للنبي. علما أن القرآن والأحاديث النبوية تشير بوضوح إلى الطابع البشري لشخصية النبي محمد. 
     لقد وصلت الأمور من التأزم إلى درجة لم نعدْ نستطيع أن نكتفي فيها بمجرد "إصلاح ديني" يتم داخل الأطر التقليدية لإصلاح القرن التاسع عشر. لا. نحن الآن بحاجة إلى ثورة فكرية حقيقية تذهب إلى أعماق الأشياء وتغيّر منظورنا جذريا للتراث. وهكذا بدلا من أن يستمر التراث كقوة معيقة تشدنا إلى الخلف في كل مرة، يُصبح قوة تحريرية تُساعدنا على الإقلاع والانطلاق الحضاري. ولكن هذا لن يتم قبل القيام بمسح تاريخي شامل للتراث. وهذا ما فعله أركون منذ أكثر من اربعين سنة من خلال مشروعه "نقد العقل الإسلامي" بالمعنى الألسني والتاريخي والأنثربولوجي والفلسفي لكلمة نقد.
     إن تأجيل نقد التراث الإسلامي يفسح المجال لنشر رواسب العصور الوسطى على مستوى شعبي واسع وتعميمه في كل البلدان العربية والإسلامية. ويساهم في هذا النشر النظام التعليمي السائد الذي يتعارض مع المكتسبات الأكثر رسوخا لعقل التنوير وفلسفته. وهذا ما اطلق عليه بالاستخدام الأيديولوجي للتراث. فالتراث ليس مدروسا لذاته ومعروضا ضمن سياقه التاريخي وإمكانياته، وإنما يعودون إليه لتلبية حاجات الحاضر ولتقويله ما لا يستطيع قوله، وهنا تكمن المغالطة التاريخية أو الإسقاط بالمعنى الحرفي للكلمة.   
    لا يمكن أن تدحض كلام السلفيين المعاصرين بالنظريات الفلسفية الغربية. يُمكن أن تدحضه بكلام الشق الثاني من التراث الإسلامي ذاته، هذا الشق الذي بُتر وحُذف منذ أكثر من عشرة قرون بحد السف... وهذا البتر هو الذي أدى إلى انهيار العقلانية العربية-الإسلامية في العصر الكلاسيكي، بعد أن كانت قد شهدت صعودا رائعا ومدهشا.                       
    كيف يمكن أن نفسر انبثاق الإسلام من جديد كنموذج أعلى للعمل التاريخي في عصرنا الحاضر، نموذج تتبعه الملايين وتعتقد بصلاحيته المطلقه حتى في هذا القرن الحادي والعشرين. بل إن الجماهير الشعبية تُطالب بهذا "الإسلام" بكل حماسه وعنف، إنها تطالب به اليوم أكثر من أي وقت مضى، وفي مختلف البيئات والأوساط الاجتماعية، وعلى قاعدة التصور الأسطوري لا التاريخي للقرآن والحديث النبوي. يقول الباحث لا يمكننا أن نجيب عن هذا السؤال إلا إذا أجرينا دراسة مقارنة مع ما يدعونه بالاستثناء المسيحي. فالمقارنة هي التي تضيء الحالتين. وبالمقارنة تتبين الأشياء. وهنا نكتشف نواقص التاريخ العام للأديان، هذا التاريخ الذي يكتفي بالسرد الوصفي المتسلسل لوقائع التجليات اليهودية، والبوذية، والمسيحية، والإسلامية... للعامل الديني.
     أن نفكر ولو للحظة واحدة بالانعكاسات المدمرة الناتجة عن القراءة الحرفية الفظَّة للقرآن، هذه القراءة التي تفرضها اليوم الحركات الإسلاموية المتطرفة. وهي إذ تفرضها تمنع التطور أو تشل حركة المجتمعات الإسلامية، عربية كانت أم غير عربية، عن هذا التطور. إنها تجمد النص في لحظة معينة وتحول بالتالي دون انخراط هذه المجتمعات في العصر الحاضر أو إيجاد صيغة توفيقية مناسبة للتصالح مع الحداثة العالمية.
     لماذا ننطلق من الظاهرة الإسلامية ومن تلك الفترة بالذات؟ ليس من أجل دحض قطب الجهاد عن طريق الدفاع عن إسلام أصلي، صحيح، يختلف عن الإسلام الأصولي الجهادي. وبحسب تعبير أركون، فنحن لسنا من دعاة التبجيل والتبرير. ولا نعتقد بوجود مثل هذا النموذج الإسلامي الأصلي الذي يمكن أن يشكل البديل الفعال والوحيد لنموذج الحداثة. هذا يعني أن التمييز بين الإسلام الحقيقي أو الأصلي والإسلام الجهادي العنيف لا يصمد أمام الامتحان على عكس ما يدعي التبجيليون المسلمون. فالصيغ الأصولية أو الجهادية للإسلام كانت متضمَّنة في النصوص التأسيسية.
      كانت المحاولات الأكثر تعقيدا واصطناعا للتوفيق بين تعاليم الوحي الديني وتعاليم الفلسفة الإغريقية قد جرت على يد ابن رشد بالنسبة إلى المسلمين، وموسى بن ميمون بالنسبة إلى اليهود، وتوما الأكويني بالنسبة إلى المسيحيين الكاثوليك. (الأول توفي عام 1198 م، والثاني عام 1204 م، والثالث عام 1274 م).
    لقد رفض التراث السني هذا الخط الفكري وفضّل التركيز على صورة الإسلام الإخائي الودي، والطقسي الشعائري، والشعبي. وأما التراث الشيعي فقد اتبع خط الفلسفة الإشراقية أو الصوفية-الباطنية. أما اليهود فقد وجدوا لهم ملجأ وملاذا في الدين الحاخامي والطقسي الشعائري المتأثر قليلا أو كثيرا بالصوفية الباطنية (أي تفسيرهم للتوراة صوفيا ورمزيا كما كان يفعل الأقدمون). وحدهم المسيحيون الأوروبيون واصلوا مسيرة التقدم عن طريق مقارعتهم أو مواجهتهم المستمرة للنجاح المتزايد للبحث الفلسفي والاكتشافات العلمية. وبالتالي فقد تجددت عقيدتهم بسبب هذه المقارعة أو بسببها. وهذا ما لم يتح لليهود أو للمسلمين أو للمسيحيين الشرقيين. ثم ظهر مارتن لوثر لكي يحدث انشقاقا داخل المسيحية عندما وضع حدا للأستاذية العقائدية الكاثوليكية وأعطى الفرد المسيحي حق تأويل الكتابات المقدسة بنفسه أي بدون المرور بهرمية الكنيسة أو رجال الدين. ويعتبر المؤرخون أن المذهب البروتستانتي يُشكل المرحلة الأولى من مراحل الخروج على الدين الكهنوتي التقليدي.
    الفترة الطويلة الممتدة من القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر من حياة المجتمعات العربية والإسلامية كانت قد أُهملت دراستها زمنا طويلا. وعندما كان يتحدث المؤلفون عنها فإنهم كانوا يفعلون ذلك بشكل سطحي في الكتب المدرسية قائلين بأنها عصر انحطاط، أو سبات طويل، أو جمود أو عودة إلى الخرافات الشعبية. لا ريب في أنها احتوت كل ذلك، ولكنها تستحق دراسة معمقة وشاملة. لماذا تستحق كل هذا الاهتمام؟ لأن المجتمعات العربية والإسلامية الراهنة ناتجة عنها مباشرة. وبالتالي فلا يُمكن فهم المشاكل الحالية إن لم تُفهم تلك الفترة. وفي زمن الامبراطورية العثمانية الطويل لم يضاف شيئا جديدا إلى الثقافة أو الحضارة أو الفكر. ولم يساهم الأتراك في تشكيل الحداثة التي ابتدأت انطلاقتها في ذلك الوقت، وإنما ظلوا على هامش التاريخ مكتفين بقمع الشعوب الإسلامية الأخرى التي تشكل الامبراطورية، ومكتفين باستغلالها وجبي الضرائب الباهظة منها.
     لو نجح التنوير الإسلامي، لما ظهرت الأصولية وملأت الشارع والبيت والمدرسة والجامعة وكل شيء... لو أن الحداثة الفكرية – حتى في صيغة القرن التاسع عشر- استطاعات أن تفكك أطر الفكر التقليدي لما شهدنا انتشار هذه الممارسات المتطرفة والخطابات العتيقة في الوقت الحاضر. والدليل على ذلك أن المسيحية الأوروبية عاجزة عن توليد حركات أصولية بمثل هذا الحجم والضخامة. لماذا؟ لأن عقل التنوير مر من هنا، ولأن منهجية النقد التاريخي أصابت المسيحية في العمق وعزَّلتها ونفضت عنها ركام القرون. وهذا ما لم يستطع النهضويون العرب أو المسلمون أن يفعلوه بالنسبة إلى التراث الإسلامي. رغم الاحترام لجهودهم وجهود شخصية كبرى مثل طه حسين. وبالتالي فالتنوير الإسلامي لا يزال أمامنا وليس خلفنا. ينبغي الإشارة أنه بعد ظهور حركة الإخوان المسلمين في الثلاثينات من القرن العشرين، فإن المثقفين الحداثيين خافوا وتراجعوا. وراحوا يقدمون التنازلات للتيار التبجيلي التقليدي الذي أخذ يكتسح الشارع. هذا ما تجلى في كتابات العقاد بل وحتى في كتابات طه حسين. 
      لقد حدث تغير فيما يخص الإسلام السياسي المعاصر أو الحركات الأصولية. فهذا الإسلام لم يعد يهتم بتطوير الفعالية الفكرية والتفسيرية للدين كما كان يفعل الإسلام الكلاسيكي. فالعمل السياسي هو الأهم بالنسبة إلى الإسلام المعاصر؛ إنه يتغلب على كل اعتبار آخر؛ إنه يتغلب على ضرورة إبداع مرافق فكري للممارسة الدينية أو الشعائرية، كما ويتغلب على أولوية البُعد الروحي المؤدي إلى التواصل مع مطلق الله. إن الحركات الأصولية الحالية لم تعد تفكر إلا بالقوة والسلطة، أو الوصول إلى السلطة بأي شكل. وهنا تحصل القطيعة بينها وبين الإسلام الكلاسيكي الذي شهد تعددية عقائدية مدهشة بين مختلف المذاهب الإسلامية من سنية وشيعية ومعتزلة وفلاسفة... إلخ. كما وتميز الإسلام الكلاسيكي بانفتاح فكري وعقلي عالي المستوى، وباهتمامه الكبير بالتجربة الروحية الصوفية. هذا كله انتهى بالنسبة إلى الإسلام المعاصر.
      ينبغي أن يرى الباحثون الغربيون الذين اهتموا بدراسة الأصولية الإسلامية في السنوات الأخيرة، أن عنف الأصولية السياسية (سواء كانت مكسوة بالغلاف الديني أو لا) ليس فقط مرتبطا بعوامل داخلية غير مُسيطر عليها، وإنما أيضا يُمثل ردا على القوى التفكيكية للعولمة المفروضة من قبل استراتيجيات التوسع الاقتصادي والتكنولوجي للقوى الكبرى؟
    لا ينبغي للمؤرخ بعد الآن أن يهتم فقط بالسلطة المركزية وكتابة تاريخها وتاريخ القطاعات المدجنة التابعة لها، وإنما عليه أن يكتب تاريخ من لا تاريخ لهم: كل الفئات المهمشة والتي كانت حتى أمد قريب خارجة عن نطاق السلطة المركزية.
    إن إعادة دمج "الفئات المهمشة" داخل التاريخ العام للمجتمعات العربية والإسلامية يتيح لنا أن نفهم بشكل أفضل هذه الحركات الشعبوية الإسلاموية. كما ويتيح لنا أن نوسع التحليل ونفهم سبب استخدام الإسلام في فترات متقطعة وعلى مدار التاريخ كسلاح سياسي.
     بما أن الإسلام يُعتبر من قِبل الباحثين الغربيين بمثابة المثال المضاد للمسيحية، أي الذي لا يقبل إطلاقا التفريق بين الدين والسياسية. وهي نظرة مفروضة من قِبل الأصوليين الإسلاميين والأدبيات الاستشراقية في آن معا، وبخاصة الأدبيات السياسية التي انتشرت مؤخرا كالفطر في فرنسا والولايات المتحدة وغيرها عن "الإسلام الراديكالي". فهي تدعم تلك الفكرة القائلة بأن الإسلام دين ودنيا بشكل لا ينفصم. وهذا ما تُؤكده الحركات الأصولية ذاتها وإن يكن لأسباب أخرى. فالأدبيات السياسية الأوروبية تعتبر ذلك نقصا في الإسلام أو عرقلة للتطور. في حين أن الحركات الأصولية تعتبر ذلك علامة على اكتمال الإسلام وتفوقه على المسيحية. فالإسلام في رأي أركون يسمح بالعلمنة والحرية والتمييز بين الدين والسياسة عل عكس ما يتوهم الجميع. 
     
         
     
           

42

    صدر عن دار الرواد المزدهرة ببغداد عام 2015، كتاب يحمل عنوان "دراسات اجتماعية-اقتصادية معاصرة" لمجموعة من الباحثين، ترجمة د. هاشم نعمة فياض، ومما ورد في الكتاب:

 

    في السنوات الأخيرة، نُشرت بحوث ودراسات ومقالات معمقة وذات مستوى أكاديمي، وفق منهجيات متعددة، بالأخص باللغة الانكليزية، عالجت مواضيع مختلفة تندرج ضمن الدراسات الاجتماعية- الاقتصادية، على مستوى العراق، والعالم العربي، والعالم، ومواكبة لما يكتب، وحرصا على الإطلاع عليها، قمنا بترجمة عدد منها في فترات مختلفة، لعلنا نساهم في سد بعض النقص في المكتبة العربية في المواضيع المبحوثة. وتسهيلا للاستفادة منها من قبل الباحثين والدراسين والقراء عموما، ارتأينا جمعها ونشرها في هذا الكتاب. وقمنا بترتيب محتويات الكتاب بحسب معالجته للجوانب التاريخية والسياسية والاقتصادية والبيئية والسكان والهجرة. وقد حرصنا على تثبيت المراجع والمصادر المترجم عنها بلغتها الأصلية في نهاية كل موضوع، بشكل يسمح لكل من يرغب بالاستزادة بالرجوع إليها.

     بالجانب التاريخي، وفي كتاب "المدينة في بلاد ما بين النهرين قديما" يرد بأن دراسة المدن في هذه المنطقة يفترض أن تأتي في مقدمة أولويات المؤرخين المهتمين بحضارتها، إلا أن عددا قليلا منهم أعطى اهتماما خاصا لهذا الموضوع، علما كانت المدينة لآلاف السنين تقرر اوجه حضارة ما بين النهرين. ولم تشهد هذه المنطقة فقط انبثاق أول حضارة مدنية في التاريخ بل كانت كذلك ذات مجتمع أكثر حضرية (مدينية) في زمانها. 

     وفي كتاب "الحياة اليومية في بلاد ما بين النهرين قديما"، يتبين أن البنية الاجتماعية والطبقية في بلاد ما بين النهرين كانت تقوم على الاقتصاد حيث ينقسم المجتمع إلى مجموعتين الأولى تضم أولئك الذين يملكون وبالأخص الأراضي والثانية تضم التابعين إلى الأثرياء من الفقراء والمعدمين. وفي مجال الابتكار تفوق البابليون على جيرانهم في الشرق الأدنى القديم في معرفتهم بالفلك والرياضيات. واحتفظ البابليون والآشوريون بسجلات مفصلة لملاحظاتهم عن مواقع وحركات الأجرام السماوية وغير ذلك من الإنجازات العلمية.

     بالجانب السياسي، يضم الكتاب عددا من الدراسات والمقالات منها ما تخص السياسة الرسمية المعلنة للدول الغربية تجاه الحرب العراقية-الإيرانية وهي البقاء على الحياد وعدم تزويد كلا الطرفين بالأسلحة. لكن هذه السياسة كانت منافقة لان الواقع كان غير ذلك تماما. فقد كانت الدول الغربية تزود الطرفين بالأسلحة لكي تتواصل الحرب أو تنتهي بدون نصر واضح لأي طرف. وهذا ما يتم كشفه بالأدلة الموثقة. ومقالة "صدام يغتال رجل دين" التي تبين كيفية تصفية صدام حسين لمعارضيه.

    وتبرز مقالة "أولوية بوش في العراق ليست الديمقراطية"، أن الديمقراطيين والمحافظين الجدد خارج الإدارة الأمريكية كانوا يعتقدون بأن أمريكا يمكن أن تكون في أمان إذا سارت بقية دول العالم على المفهوم الأمريكي. وطبقا لذلك فهم يفضلون نشر المزيد من القوات الأمريكية وصرف المزيد من الأموال من أجل بناء عراق مستقر وديمقراطي، في حين لا يشاطر القوميون المتشددون هذه الرؤية وهم يعتقدون بأن أمن أمريكا يتطلب في المقام الأول هزيمة أعدائها واجتثاث التهديدات التي تواجهها.

    ويرد في كتاب "أمريكا عند مفترق طرق.."، أن منظري الفكر المحافظ الجديد اقترحوا في السنوات التي كانوا فيها خارج السلطة قبل انتخابات عام 2000 أجندة السياسة الخارجية الأمريكية التي تتضمن تغيير الأنظمة والهيمنة المُحسنة والتفرد الأمريكي لتكون علامة فارقة في السياسة الخارجية لإدارة بوش.
 
    وتعالج دراسة "الفدرالية في أوروبا وأمريكا اللاتينية.." تجارب الفدرالية مع التركيز على الجانب النظري، علما أن هذا النظام حظي بقدر كبير من المعالجة والاهتمام في السنوات الأخيرة. رغم أن المؤسسات الفدرالية لم تكن بالتأكيد جديدة، لكنها أصبحت أكثر بروزاً نتيجة تأثيرات مترابطة لأربعة اتجاهات واسعة الانتشار ومتزامنة تقريباً: الدمقرطة، الليبرالية الاقتصادية، اللامركزية ومساوئ النزاعات الداخلية المسلحة.

    وتفحص مادة "النفط والفدرالية.. حالة نيجيريا" السعي لتطبيق النظام الفدرالي كوسيلة لدمج المكونات السكانية المختلفة في المجتمعات التي تتميز بالتنوع من أجل بناء نظام حكم موحد، وفي نفس الوقت بقاء الهويات الإثنية تتمتع باستقلالها، وهنا يتم التركيز على العلاقة بين عوائد النفط والفدرالية.
    ويتضح من كتاب "ظاهرة طالبان .. أفغانستان 1994-1997"، أنه منذ أن اجتذبت طالبان اهتماما دوليا نشر الكثير عن اصلها وتوجهاتها وإمكانياتها. وعبر الكثير من المراقبين عن آرائهم في قوة وضعف طالبان. لكن لم تنشر دراسة شاملة، حول هذه الظاهرة الجديدة، التي ظهرت بشكل مفاجئ في الأفق الأفغاني.  لذلك تعرض الدراسة تقييما لأصل حركة طالبان وأسباب نجاحها وإخفاقاتها وتأثير التقسيم الإثني على مستقبل أفغانستان.
    وفي كتاب" السياسة الأوروبية في تحول" يرد بأنه جرى تحديث المؤسسات السياسية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية حيث تحولت السلطة من البرلمان إلى المؤسسات التنفيذية. على افتراض أن ذلك يساهم في سرعة وتماسك صناعة القرار السياسي. وقد صممت البرلمانات لتمثل مختلف المصالح لخلق نوع من التوازن في المجتمع.   
   وبحثت دراسة "القوة السياسية لوسائل الإعلام الاجتماعية.." في انتشار الانترنت منذ أوائل التسعينات، حيث نمت شبكات السكان المرتبطة به في العالم من ملايين قليلة إلى مليارات. وخلال نفس الفترة، أصبحت وسائل الإعلام الاجتماعية حقيقة من حقائق الحياة بالنسبة للمجتمع المدني على مستوى العالم، مع إعطاء أمثلة من بلدان مختلفة عن مساهمة هذه الوسائل في تغيير الأنظمة السياسية.

    وفي دراسة "فهم ثورات 2011 .. ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط "يتم التعمق في بحث أسباب موجة الانتفاضات التي اجتاحت الشرق الأوسط ويشار إلى أن لها تشابها ملحوظا مع الزلازل السياسية التي حدثت في الماضي، مثل ما حدث في أوروبا عام 1848. لكن انتفاضات عام 2011 قاتلت شيئا مختلفا تماما يتمثل بدكتاتوريات "سلطانية". ورغم أن هذه الأنظمة تبدو وطيدة، في الغالب، لكنها في الحقيقة تكون شديدة التأثر، بسبب من أن الاستراتيجيات التي استخدمها للبقاء في السلطة جعلتها هشة، وغير مرنة.

     وبالجانب الاقتصادي، بحث كتاب "الدولة والمجتمع: مسألة التحول الزراعي في العراق.." دور الدولة في التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدها الريف العراقي والمجتمع العراقي بشكل عام منذ بداية القرن العشرين. ويحاول المؤلف تحديد مدى تدخل الدولة في التحول الزراعي واكتشاف تأثير الدولة في صياغة شبكة العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المناطق الريفية. ويبين كيف أن التحول الزراعي هو جزء من عملية اكبر للتحول البنيوي تتضمن تغيرات كبيرة في اهتمامات الدولة وعلاقاتها بالتنمية الاقتصادية والقطاع الزراعي.  لقد شجعت الدولة توغل الرأسمال الخاص في الزراعة بواسطة توفير محفزات مختلفة. وهذا لم يأخذ طريقه بدون تدمير الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية لبرامج الإصلاح الزراعي.

    وعالجت مادة "الاقتصاديات العربية.. الشفافية والعولمة وأزمة المياه " المؤتمر العالمي الذي عقد تحت عنوان "التطورات الاقتصادية الجديدة وتأثيراتها على الاقتصاديات العربية" والذي بحث في المحاور الرئيسية الآتية: العولمة والإقليمية، أزمة المياه والبيئة، التغيرات التكنولوجية والنتائج الاقتصادية لعملية السلام.

    وفي مادة "ملاحظات في جغرافية التنمية والتخلف" تمت الإشارة إلى أنه منذ فترة طويلة اهتم الجغرافيون وعلماء الاجتماع الآخرون بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي الموجود سواء بين الدول أم بين المناطق. وقد ساهمت اعمالهم في فهمنا للتنمية، لكن المساهمة المميزة للجغرافيين تتحدد بأنهم ينظرون لعملية التنمية بإطارها الواسع والشامل والذي يدمج الخاصيات البشرية والبيئية للبلد مع إرثه التاريخي الفريد وعلاقاته مع البلدان الأخرى.

     وتُظهر مقالة "العولمة تعمّق عدم التوازن" بأن للعولمة منافع كثيرة بالنسبة للبعض ولكن بالنسبة لغالبية سكان العالم تعني فقط مزيداً من الفقر. وبأن خصخصة قطاع المعرفة لا يقود بصورة اوتوماتيكية إلى المنافسة. فكثير من التحولات قادت في السنوات الماضية إلى المزيد من احتكار المعرفة. 

     وتناولت دراسة "رأسمالية الدولة عصر يتشكل .." التطورات الأخيرة التي اعقبت الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، حيث في الولايات المتحدة، وأوروبا، والكثير من دول العالم المتقدم، تهدف الموجة الأخيرة لتدخل الدولة التخفيف من أضرار الركود الاقتصادي العالمي الحالي واستعادة الاقتصاديات المريضة لعافيتها. في حين أن طبيعة التدخلات المماثلة في الدول النامية حيث تسيطر الدولة بقوة على الاقتصاد تشير إلى رفض إستراتيجي لعقيدة السوق الحرة.

     وبحثت دراسة "الرأسمالية وعدم المساواة"، في تزايد التفاوت، في كل مكان من العالم الرأسمالي ما بعد الصناعي. ورغم اعتقاد الكثيرين في صفوف اليسار، فإن هذا التفاوت لا ينتج من السياسة، ولا السياسة من المتوقع بمقدورها أن تعكس ذلك، لأن المشكلة ذات جذور أكثر عمقا. حيث أن التفاوت يكون نتاجا حتمي للنشاط الرأسمالي، وتوسع تكافؤ الفرص يزيد منه فقط.

     وفي جانب البيئة والتنمية، لخصت مادة "التنمية المستديمة في المناطق الجافة" البحوث التي قدمت في المؤتمر العالمي حول التنمية الصحراوية في دول الخليج العربي، حيث توزعت البحوث إلى ثمانية محاور؛ شملت الأفاق العالمية والإقليمية، الخليج وتأثير الحرب، تقييم السيطرة على تذرية الرمال والكثبان الرملية والاستشعار عن بعد وتطبيق نظام المعلومات الجغرافية، تقييم وإدارة وتحسين الأراضي الهامشية، إدارة وتحسين المياه والتربة، إدارة وحماية التنوع البايولوجي (الأحيائي) والتنمية الاجتماعية-الاقتصادية.

    وتناولت مادة "الملامح المميزة لمشاكل البيئة في المرحلة الحالية" ما تميزت به العقود الأخيرة، من التدهور الحاد في مكونات البيئة الطبيعية؛ لذلك تظهر الأهمية الاجتماعية والاقتصادية الجديدة لمشاكل البيئة أن علاقات الانسان بالطبيعة قد دخلت في مرحلة من التطور ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى حاضر ومستقبل الاجيال القادمة، إضافة الى آفاق تنمية القوى المنتجة على المستوى الوطني والعالمي، ومن هنا تأتي المطالبة بسياسات لحماية البيئة تأخذ في الاعتبار الجانب السياسي الدولي منها.

    وحللت دراسة "المتغيرات المناخية الأخرى.." عملية خفض انبعاثات مواد الكربون الممتص الخفيف (يعرف الكربون الأسود) والغازات التي تكون الأوزون مجتمعة، هذه الملوثات التي تشكل تأثيراتها المدفئة حوالي 40-70% من تلك العائدة لثاني أكسيد الكربون. إن الحد من وجودها في الغلاف الجوي هو أسهل وأرخص، وهذا الاقتراح يمكن تحقيقه من الناحية السياسية أكثر مقارنة بالمقترحات المألوفة أكثر لإبطاء تغير المناخ وسيكون له تأثيراً فورياً.

     وفي جانب السكان والهجرة، عالج كتاب "أوروبا: قارة واحدة وعوالم مختلفة.." التطورات الديمغرافية في أوروبا في المستقبل التي سوف يكون لها تأثيرٌ رئيسيٌ على الظروف الاقتصادية والاجتماعية. فازدياد شيخوخة السكان مثلا سيؤثر في أنماط الاستهلاك وطلب الرعاية الاجتماعية والتقاعد وعرض العمل. ونمو السكان له تأثير على ظروف البيئة الطبيعية وعلى سوق السكن بينما الزيادة في السكان ذوي الأصول الأجنبية سوف يكون لها نتائج اجتماعية بعيدة المدى. وتمت مناقشة سيناريوهين للسكان للنصف الأول من القرن الواحد والعشرين شملت 33 بلدا أوروبيا.

     وحلل كتاب"المهاجرون والتمييز العنصري.. الجزائريون في فرنسا 1900-1962" بعمق العلاقة المتبادلة بين الاستعمار والهجرة. حيث درس وضعية الجزائريين في فرنسا من ناحية الهوية الوطنية والجذور التاريخية للعنصرية تجاههم. فخلال العقود الأخيرة أصبحت الهجرة إلى فرنسا، واندماج الأقليات الاثنية، والعنصرية موضوعات مركزية في السياسة الفرنسية. ويدور النقاش السياسي المكثف حول مستقبل الأقليات الإثنية (العرقية) وهل سوف تندمج تدريجيا في المجتمع الفرنسي أو تكون جيوب عسيرة الهضم تهدد وحدة الشعب الفرنسي.

     وأشارت مقالة "الهجرة السكانية وتجارة البشر في الشرق الأوسط" إلى أن الهجرة في هذه المنطقة نادرا ما تحظى بتغطية الإعلام الغربي، حيث يرتبط "الشرق الأوسط" بشكل نموذجي بقضية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وجيوبولتيك النفط أو أكثر حداثة بالحرب في العراق. هدف هذه المقالة  اثبات أن هناك اهتماما متزايدا في المنطقة بموضوع الهجرة خصوصا تجارة البشر منها.

    وعالجت مقالة "الهجرة السكانية وظاهرة العولمة" التغيرات التي حدثت في طبيعة حركية السكان بين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين مدعومة بشكل رئيسي بالعولمة الجارية ونتائجها غير المباشرة السياسية والتكنولوجية والاقتصادية. فقد شهدت علاقات المناطق التي كانت مرتبطة مع بعضها بواسطة الهجرة الدولية توسعا وباتت أكثر تعقدا من خلال أشكال مختلفة من حركية السكان نتجت عن التغيرات في أسلوب الحياة والاستهلاك والتحولات الاقتصادية والسياسية.
 


43
التطرف الديني .. جذوره الفكرية وأبرز تجلياته*
                                                                                                  د.هاشم نعمة
     شغلت موضوعة التطرف الديني الكثير من اهتمامات الباحثين والمفكرين في العلوم الإجتماعية والإنسانية في السنوات الأخيرة، استنادا إلى مرجعيات ومنهجيات مختلفة، سواء على مستوى العالم أو على مستوى المنطقة العربية، نتيجة تصاعد موجة التطرف الإسلامي بشكل غير مسبوق. هذه الموجة التي مهدت لها وغذتها ظاهرة العودة إلى الدين بدءا من سبعينات القرن العشرين تقريبا. ورغم تعدد أشكال التطرف الديني، إلا أن ما تم التركيز عليه خص الإرهاب، خصوصا، المسلح منه المتمثل بالقتل العمد الذي يطال القوات المسلحة والمدنيين الأبرياء على نطاق واسع على يد الجماعات الإسلامية المسلحة التي ترفع شعار بناء الدولة الإسلامية والعودة إلى الخلافة من خلال الجهاد، وبالأخص منظمة القاعدة وتنظيم داعش أو ما يسمى بالدولة الإسلامية في العراق والشام وبوكو حرام في نيجيريا. ونحاول هنا تحليل صيرورة الجذور الفكرية للتطرف الإسلامي وأبرز تجلياته المعاصرة، لعل هذا يساعدنا في فهم بعض أسباب تطور هذه الظاهرة وتفكيك خطابها.
                                         جذور السلفية
     مفهوم السلفية المتعارف عليه بين أوساط السلفيين، حاليا، في حقيقته، ضارب في جذوره في أعماق التاريخ الإسلامي، وساهم في توليد أيديولوجية متطرفة أخذت أبعادا سياسية خطيرة ازدادت تشددا مع تقدم الزمن إلى أن وصلت ذروتها في أقصى مظاهر العنف والدموية على يد الجماعات الإسلامية المسلحة المنادية بالجهاد في سبيل الله تحت راية هذا المفهوم. وبالعودة إلى الوراء، فقد كان لأحمد بن حنبل الذي عاش في بغداد في الفترة (164-241 هـ) الدور البارز في صناعة هذا الفكر وشحنه بقوى التطرف مكنته من الحفاظ على بقائه وضمان صيرورته للوصول إلى مرحلة محمد بن عبد الوهاب ومن ثم إلى عصرنا الحالي.
    الحقيقة التي يرفض تاريخنا الاعتراف بها تكمن في أنه عندما اعتمد ابن حنبل على أصول الشافعي الذي تتلمذ على يده في قراءة النص وجعل السنة وحيا ثانيا وتمسكه بتفسير التنزيل بالنص فقط، فقد أسهم بشكل كبير في الحجر على العقل. وتبعه ابن تيمية الذي عاش في الفترة (661- 728 هـ) ضمنها الفترة العصيبة التي تمثلت بالغزو المغولي، ونهب بغداد وسقوط الخلافة العباسية. وقد ألف ابن تيمية الكثير من الكتب، وجاءت أكثرها للرد على الصوفية أو الشيعة أو الأشاعرة، أكد فيها على عقيدته المبنية على منهج السلف بالاكتفاء بالنص، وعدم إعمال العقل إلا في حدود ما تسمح به النصوص دون تجاوزها. لكن هناك كتابات أخرى سخرها للحديث عن الجهاد والتكفير، وتعتبر مرجعا ملهما للحركات السلفية الجهادية المعاصرة، من بينها مجموع فتاواه الضخم،(1) وبالأخص المجلد الحادي والعشرين الذي تحدث فيه عن الجهاد. وألف كتابا آخر بعنوان "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" والكتاب رغم صغر حجمه إلا أن له عظيم الأثر على الفكر السلفي الجهادي المعاصر، لأنه يتناول علاقة الأمير برعيته في ظل الشريعة، ويشدد على تطبيق الحدود بشكل حرفي، ويولي بالمقابل موضوع الجهاد اهتماما مميزا ويعظم من شأنه.(2)
     لذلك، فابن تيمية حسب تعبير عزمي بشارة، ينتمي إلى نمط تفكير فقهي يرى أنه لا توجد معايير أخلاقية يحاسب بموجبها الفعل؛ فثمة دائما مبدأ ما في الشريعة الدينية يشتق منه ما يجب عمله، وتخضع له الأخلاق. وثمة أنماط أخرى من التدين الشعبي والمؤسسي وحتى الأصولي تنطلق في فهمها للدين من منطلقات أخلاقية، أو على الأقل تمنح القرار الأخلاقي استقلالية أكبر.
     والهدف السياسي المتطرف هو الذي ينفي الواقع المناقض للفكرة. ويُعدّ للساعين إليه بديلا للأخلاق، ويشغل مكانة مبدئها الأعلى، بحيث تشتق منه، أو هو هدف يخضع الأخلاق له بصورة كاملة، بحيث لا يتمتع المعيار الأخلاقي بأي استقلالية عن الهدف السياسي.(3) وهناك من يرى أن تطرف ابن حنبل أسهمت به طريقة الخلفاء العباسيين في فرض عقيدة المعتزلة التي تبنوها بالأخص المأمون بالقوة رغم عقلانيتها؛ ولهذا سميت في التاريخ محنة ابن حنبل لأنه رفض الرضوخ لهذا الفرض وسجن، مما خلق تعاطفا معه من قبل الناس. أما تطرف ابن تيمية ربما يعزى بأنه كان رد فعل ونتاجا لمرحلة تاريخية محددة تمثلت بمتطلبات مقاومة الغزو المغولي، لذلك يفترض أن يُقرأ بهذا الإطار لا أن تنسحب مقولاته على كل العصور كنصوص مقدسة مجردة من تاريخيتها ومغذية للتطرف.
                                         الوهابية والقطبية
    تزعم الحلقة التالية من تاريخ الفكر التكفيري محمد بن عبد الوهاب، الذي عاش في الفترة (1703-1792 م) بمنطقة نجد. ويعتبر مؤسس التيار الوهابي السلفي الذي تبناه آل سعود فيما بعد. ويعتبر كتابه "التوحيد" أهم الكتابات التأسيسية لمذهبه، إذ حظي بالشهرة والانتشار والجاذبية بين أوساط الجماعات السلفية، على الرغم من غياب أي تجديد جذري فيه. والكتاب مليء بالاستشهادات والاقتباسات التي تؤكد مرجعيته الحنبلية المتشددة.
    يبدو التناقض ظاهرا في المذهب الوهابي الذي يشدد من جهة على التوحيد والإخلاص لله وحده، والبراء من كل من حكم عليهم بالكفر أو النفاق ومعاداتهم بالقلب واللسان والفعل؛ غير أنه من الناحية السياسية، نراه يتراخى في إظهار الرفض والتمرد على الحكام، بل يوصي بالصبر على جورهم وإتباع أوامرهم وتقديم فروض الولاء والطاعة لهم. ومرد ذلك أنه وافق على أن يتم تبني مذهبه تحت راية السيف لبناء مملكة تتخذ هذا المذهب كأيديولوجيا تؤسس كل سياسة المملكة وتشريعاتها، بالمقابل اشترط أن تضمن هذه السلطة استمرارية هذا المذهب. لكن تم من جهة أخرى صرف كل الطاقات التكفيرية ضد كل من هم خارج هذه الدائرة الأيديولوجية، مع أن هذا المد التكفيري لم يتجاوز في البداية السعودية، ثم اتسع ليصل العالم كله بظهور السلفية الجهادية.
    إن التطور الذي ساهم في بروز السلفية الجهادية كتيار جديد نتج عن امتزاج عناصر أساسية من المذهب الوهابي السلفي بعناصر أساسية من الفكر الأيديولوجي لسيد قطب. وقد أدت عملية المزاوجة والتوفيق هذين بين أيديولوجيا الحاكمية لسيد قطب وعقيدة "الولاء والبراء" الوهابية إلى خلق ديناميكية حركية في الجماعات الإسلامية، ضد الآخر مسلما كان أم غير مسلم، إذ يكفي فقط أن يكون خارج دائرة الجماعة كي يُحكم عليه بالكفر والردة سواء كان هذا الآخر فردا أو مؤسسة أو هيئة حكومية، وبعدها عرف هذا الثنائي السلفي- القطبي تطورا جديدا بتكفير المجتمعات والدول المعاصرة ممن لا يؤمنون بهذه الأيديولوجيا بما في ذلك المجتمعات الإسلامية، والحكم عليها بالجاهلية والإفتاء بجواز سفك دماء أفرادها،(4) وهذا ما نفذته وتنفذه الجماعات الإسلامية المسلحة حاليا. ومن المعروف أن السلفية التقليدية لا تسمح بالخروج على الحكام حتى لو كانوا ظالمين، في حين تبنت السلفية الجهادية مبدأ الخروج على الحكام.
    وربطا بذلك، وعلى الجانب الشيعي، كانت ثقافة حزب الدعوة، وهو حزب إسلامي عقائدي، من الكتب ذاتها التي يتثقف بها الإخوان المسلمون، وهي من تأليف قادة الإخوان المسلمين، حيث أن جانبا كبيرا من التثقيف الحزبي كان يجري بمطالعة كتب سيد قطب: في معالم الطريق، وفي ظلال القرآن، ومؤلفات أبي الأعلى المودودي، وهو من أعلام المسلمين الهنود المعروفين. وهذا يعني أن الحاكمية، بحسب المنطق السني موجودة في اهداف هذا الحزب.(5) ومعروف أن سيد قطب يعد من منظري الإخوان المسلمين، وقد شكلت كتاباته الأساس الفكري للجماعات الإسلامية التي تتبنى العنف. ويقر بعض قادة حزب الدعوة أن مفهوم الحاكمية أخذ حيزا مهما من النقاش داخل الحزب. ولكن رغم هذا الاشتراك في المفهوم إلا أنه لم يخف فيما بعد التباين والافتراق العميقين في التوجهات الأيديولوجية بين هذين الطرفين السني والشيعي، وهذا ما أسهم في زيادة حدة التطرف الطائفي وانتقاله إلى المجال العام.
                                          التقديس واستبعاد العقل 
    بحسب محمد أركون، إن مسألة التسامح في الإسلام مطروحة في الواقع المعاش بشكل ضمني، ولكن غير منظّر لها من وجهة نظر نقدية. بمعنى أنه لا توجد كتب (أو قوانين) تنصّ عليها في اللغات الإسلامية كالعربية والفارسية...الخ. لماذا هذا النقص؟ لأنها تدخل في دائرة اللا مفكر به بالنسبة للفكر الإسلامي الذي يظل واقعا تحت تأثير المناخ العقلي للقرون الوسطى. وهي ليست المسألة الوحيدة التي يستحيل التفكير فيها وإنما هناك مسائل أخرى عديدة جدا يستحيل التفكير فيها حتى الآن، لأن ذلك يعتبر انتهاكا للمحرمات أو "المقدسات" وما أكثرها!(6) والتي يجري ترديدها يوميا على مسامع الناس  بالأخص في المساجد ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية.   
     إذن يجرى تحويل أقوال السلف واجتهاداتهم إلى "نصوص" لا تقبل النقاش، أو إعادة النظر والاجتهاد. بل يذهب الخطاب الديني إلى التوحيد بين تلك الاجتهادات وبين الدين في ذاته. وبعبارة آخرى يقوم الخطاب الديني باستثمار آلية "التوحيد بين الفكر والدين" في توظيف هذه الآلية. أما بالنسبة لآلية " تفسير الظواهر بردها إلى مبدأ واحد"، فإنها موجودة بذاتها في ذلك الجانب من التراث الذي يستند إليه الخطاب الديني المعاصر. ومن الواضح أن الخطاب الديني يتعمد تجاهل جانب آخر من التراث، يناهض هذه الآلية، وهذا في حقيقته يمثل "موقفا" نفعيا أيديولوجيا من التراث، موقفا يستبعد منه "العقلي" والمستنير ليكرس الرجعي "المتخلف". والحقيقية أن هذا الموقف النفعي من التراث في الخطاب الديني يساعده في توظيف آلية "إهدار البعد التاريخي" للتراث.
    وقد كان الأمويون- لا الخوارج على عكس ما يروج له الخطاب الديني المعاصر- هم الذين طرحوا مفهوم "الحاكمية" بكل ما يشتمل عليه من دعوى فعالية النصوص في مجال الخصومة السياسية وخلافات المصالح، حيث احتاج النظام الأموي إلى تثبيت شرعيته على أساس ديني يتلاءم مع مبدأ "الحاكمية" الذي غرسه، فكانت مقولة "الجبر"التي تسند كل ما يحدث في العالم- بما في ذلك أفعال الإنسان- إلى قدرة الله الشاملة. ثم تحول هذا المبدأ من بعد، وتطور مع تطور الفكر الأشعري، في سياق تطور حركة الواقع والفكر، حتى أنتهى إلى إهدار قانون "السببية". وإذا كان الفكر الأشعري قد حاول في مجال الفعل الإنساني أن يقيم نسبة ما بين الفاعل والفعل أطلق عليه اسم "الكسب" فإنه في مجال الطبيعية، يجعل العمل لله مباشرة.(7)   
    إن العقل الإسلامي الأرثوذكسي هو الذي خلع القدسية على التراث المبلور بشكل بشري-تاريخي. ثم يعود هذا التراث في خط الرجعة بدوره لكي يخدم العقل الأرثوذكسي، وذلك عن طريق المحافظة الصارمة على هذه المسلمات البديهية. وتتم هذه المحافظة عن طريق إلزام كل مؤمن بتقديم الطاعة لنظام العقائد واللا عقائد المحددة في كل عقيدة أرثوذكسية.
    إن البنية الدامجة، الشمولية المعقدة لهذا النظام هي التي تتيح سجن العقل داخل السياج العقائدي المنغلق. وفي الواقع هذا السياج متشكل ومهيمن في جميع الأديان التوحيدية. ويصبح العقل فيه خاضعا للتراث الأرثوذكسي "أو الرسمي" المقدس. ويتحكم فيه هذا التراث ويسيطر عليه أكثر فأكثر كلما مر الزمن وزاد من تقديس هذا التراث ونزع كل صبغة تاريخيه عنه. وعندئذ يخضع العقل البشري لجدلية صارمة تفصل بين المسموح التفكير به والمستحيل التفكير به.
    والحقيقية بالنسبة لهذا العقل، هي واحدة لا تتجزأ. فهي فريدة من نوعها ومعصومة ومقدسة ومصونة إلى يوم الحساب. وبالتالي فهي تستحق، من منظور اصحابها أن يضحى من أجلها بكل التضحيات. ولذا فإنهم يلجأون من أجلها إلى العنف المباشر، دون أي تردد أو تعقل. العنف مرتبط بالتقديس والتقديس مرتبط بالعنف، وكلاهما مرتبطان بالحقيقة أو بما يعتقدان أنه الحقيقة. والحقيقة مقدسة وتستحق أن يسفك من اجلها الدم!(8) وهذا ما تستند إليه الجماعات الإسلامية المسلحة حاليا في تبريرها الإيغال في صنوف التعذيب والقتل البربرية واللا إنسانية. 
     كان العالم أبو بكر الرازي (865-923 م) الذي تناول المقدس والأوصياء عليه، قبل قرون، قد اصاب كبد الحقيقة عندما تحدث حديثا ينطبق على الكثير من أصحاب الفتاوي في وقتنا الحاضر الذين يصدرون الفتاوي عن جهل ويساهمون في سفك دماء الأبرياء، مبررين ذلك بما ورد بالتراث الإسلامي. وهذا يتبين من نصه المدهش الآتي: "إن أهل الشرائع أخذوا الدين عن رؤسائهم بالتقليد، ودفعوا النظر والبحث عن الأصول، وشددوا فيه ونهوا عنه، ورووا عن رؤسائهم أخبارا توجب عليهم ترك النظر ديانة، وتوجب الكفر على من خالف الأخبار التي رووها. من ذلك ما رووه عن أسلافهم أن: الجدل في الدين والمراء فيه كفر، ... وإياكم والتعمق فإن من كان قبلكم هلك بالتعمق. إن سئل أهل هذه الدعوى عن الدليل على صحة دعواهم، استطاروا غضبا، وهدروا دم من يطالبهم بذلك، ونهوا عن النظر، وحرضوا على قتل مخاليفهم. فمن أجل ذلك اندفن الحق أشد اندفان، وانكتم أشد انكتام... وإنما أتوا من هذا الباب من طول الإلف لمذهبهم، ومر الأيام، والعادة واغترارهم بلحى التيوس المتصدرين في المجالس: يمزقون حلوقهم بالأكاذيب والخرافات، وحدثنا فلان عن فلان بالزور والبهتان؛ وبرواياتهم الأخبار المتناقضة".(9)
                                                     الإرهاب
    يمكن القول إن نقطة البدء في فهم تصاعد الإرهاب تتمثل في فهم مسألة انتشار الكراهية في المنطقة العربية، هذا  الاصطلاح ذاته، تعرض للكثير من التنظير، خاصة من قبل علماء النفس، ذلك أنه من المفاهيم التي ترتبط بمكونات فكرية ونفسية. فمن أكثر التعريفات الشائعة للكراهية أنها تعبير عن طبيعة المشاعر الإنسانية التي قد تنفر من الآخر أيا كانت طبيعته شخصا، مؤسسة، دولة، سياسة معينة، مذهبا، ...الخ. وتتجلى الكراهية في مظاهر متعددة، مثل خطابات الازدراء، والتكفير، والتخوين للآخر، انطلاقا من انتمائه، الديني أو العرقي، أو السياسي، أو الجغرافي، أو الطبقي، أو الثقافي، أو المهني...الخ، وتنتقل في مرحلة أخرى إلى سلوك عدواني تجاه الآخرين.(10) وما يهمنا هنا الكراهية الناتجة بسبب الانتماء الديني أو الطائفي والتي يمارس على اساسها الإرهاب بكل اشكاله والذي يعد التجلي الأبرز والأخطر للتطرف الإسلامي في عصرنا الراهن.
     يمثل الإرهاب أحد اشكال العنف، وكان الاختلاف بائنا بين المشتغلين بعلوم السياسة والاجتماع، وفقهاء القانون، وسائر المعنيين بالشأن الإرهابي حول مدلول الإرهاب، وسماته، وبواعثه، والحقبة التاريخية التي تؤرخ لبزوغ تلك الظاهرة، واستشراء مظاهرها، واستفحال خطرها. إن هذا الاختلاف حول مدلول الإرهاب وتاريخه، لا يعود فحسب إلى الخلط بين مفهومي الإرهاب والعنف، وإنما قد يعود كذلك إلى اختلاف المرجعيات الأيديولوجية، أو الدينية، أو الانتماءات القومية للباحثين، أو حتى اختلاف المصالح بين الدول، بل وتباين الرؤى السياسية بين الجماعات والتنظيمات الفرعية المشكلة للمجتمع الواحد، ولا سيما ذلك الاختلاف القائم في كثير من النظم بين النخبة الحاكمة والفئات المعارضة لها على نحو قد يؤدي إلى نعت كل الفرقاء للآخرين بالإرهاب.(11) فعلى سبيل المثال، نعت ولفترة غير قليلة كفاح حركات التحرر الوطنية من أجل استقلال دولها وتحرر شعوبها بالإرهاب من قبل الدوائر الاستعمارية المعادية لهذا التحرر، وكذلك من قبل الفئات الاجتماعية-السياسية التي ترتبط مصالحا بهذه الدوائر.
   ومن أبرز الأمثلة للتعريف القانوني للإرهاب القرار رقم 49|60 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1994، حيث قدم توصيفا للإرهاب، مفاده: إن الأعمال الإرهابية التي تهدف إلى إشاعة الرعب في صفوف العامة، أو جماعة من الأشخاص، أو حتى أشخاص محددين، تحقيقا لأهداف سياسية، هي أعمال لا يمكن تبريرها، مهما تكن المبررات التي تتذرع بها، أو تستند إليها، سياسية أو فلسفية، أو عقائدية، أو عرقية، أو دينية، أو غير ذلك من الذرائع.(12) وإلى جانب هذا التعريف، هناك عدد من التعريفات الأخرى الصادرة عن دول أو منظمات أو باحثين متخصصين تصب في محاولة إيجاد تعريف شامل للإرهاب، لذلك يظل هذا المصطلح في طور عملية التعريف لتعدد وتداخل وتعقد العوامل الداخلة فيه كما أشرنا.         
    يتفق الكثير من المحللين على أن الانتقال النوعي من الإرهاب القديم إلى الإرهاب الحديث تم خلال تسعينات القرن العشرين وتحديدا بالهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك عام 1993، ثم هجوم جماعة أوم شينريكيو الدينية اليابانية على مترو الأنفاق في طوكيو باستخدام غاز السارين السام عام 1995. ومن أبرز خصائص الإرهاب الجديد التعصب الديني المتجسد غالبا في الجماعات الإسلامية المتطرفة.(13) ومن أجلى مظاهره ما تنفذه داعش والقاعدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبوكو حرام في نيجيريا من قتل همجي، والذي توسع نطاقه في الأخيرة ليشمل الدول الأفريقية المجاورة في الفترة الأخيرة.   
                                                 تجربة العراق
     في الجانب الشيعي، قيل أن محمد باقر الصدر وضع تسعة أسس يقوم عليها الحزب الإسلامي، وهو حزب الدعوة، عُرفت بالأسس، ووصفت أيضا بالمرتكزات النظرية. من هذه الأسس التسعة ما يتعلق بالدولة الإسلامية، وهنا يرد بأن كل دولة لا تقوم على عقيدة أو قاعدة الإسلام هي دولة كافرة، مثل الدولة الشعبية والرأسمالية، والحكم على المسلمين هو القضاء عليها بالطرق التبشيرية السلمية أو الجهادية المسلحة. كذلك على المسلمين هدم الدول اللائي بلا عقيدة، قامت على أهواء الحكام، فهي دول كافرة أيضا. أما الدولة المرضية فهي القائمة على عقيدة الإسلام. ويغلب على الظن أنها الحاكمية نفسها. لكن الصدر لم يتحدث عن نوع تلك الدولة، هل هي تقوم على الشورى أم ولاية الفقيةّ! وكيف سيكون التجاذب فيها بين المذاهب، فمن دون النظر في هذه الأمور تبقى الدولة الإسلامية غير متحققة(14) من الناحية العملية.
    وفي الجانب السني، لم يعرف العراقيون السلفية الجهادية قبل عام 2001، فلم تظهر أية مؤشرات حقيقية على تأثر السلفيين العراقيين بالتطورات المتعلقة بالتنظيرات السلفية، وإن كان البعض يشير إلى تأثر على المستوى الفردي بالهجرة والتكفير. ولكن هذا التأثر الفردي ظل محدودا ولم يتحول إلى ظاهرة. صحيح أن عقد الثمانينات شهد بعض التفجيرات التي استهدفت محال بيع المشروبات الروحية، وبيع التسجيلات الموسيقية، لكن ذلك ظل لا يعبر عن اتجاه منهجي واسع النطاق.
    كان النموذج الأول الذي نقل تجربة جماعات الجهاد الإسلامي، إلى العراق، هو تنظيم "أنصار الإسلام" الذي أنشأه الملا فاتح كريكار في السليمانية. وقد أعلن عن تشكيله في كانون الأول| ديسمبر 2001 نتيجة اندماج ثلاث مجموعات هي "جند الإسلام" و"حركة التوحيد" و"حماس الكردية". واتخذ التنظيم من منطقتي الطويلة والبيارة، قرب الحدود العراقية-الإيرانية، مكانا له. وقد قام أربعة من أنصاره بأول عملية مسلحة عام 2001 عندما قاموا بمهاجمة أحد الأندية التي تقدم المشروبات الروحية بالمتفجرات، في بغداد، وقد قُتل في هذه العملية أحد المنفذين المدعو ظافر الدباش، وتم إلقاء القبض على الثلاثة الآخرين، وحُكم عليهم بالإعدام.(15)       
      إذا كان من الأسباب الرئيسية التي اسهمت في نمو التطرف الإسلامي قد تمثل في فشل الدولة الوطنية التي اعقبت نيل الاستقلال الوطني في سائر البلدان العربية حيث قام النظام السياسي للدولة على الاستبداد وغياب التعددية والعدالة والمساواة والتهميش والإقصاء الاجتماعي والسياسي، ففي حالة العراق فإن التحول الحاسم في نشوء وتوسع وتوطد نفوذ الجماعات الإسلامية المتطرفة جاء بعد احتلال العراق في 9 نيسان 2003، حيث تفاعلت جملة من الأسباب في صنع ونمو التطرف من أبرزها الاحتلال نفسه الذي مثل انتهاكا صارخا لسيادة دولة رغم كل التبريرات التي قيلت لتسويغه، حل المؤسسات العسكرية والأمنية، بناء العملية السياسية على أساس المحاصصة الطائفية- الإثنية، وما رافقها من نهج طائفي في إدارة مؤسسات الدولة، غياب المشروع الوطني الديمقراطي لبناء الدولة المدنية التي يشعر فيها المواطنون بأنهم متساوون بالحقوق والواجبات، تعمق الاستقطاب الطائفي المجتمعي وبروز الإنتماءات الفرعية بقوة إلى السطح، التدخلات الإقليمية الواسعة واستقواء أحزاب السلطة بدعم الخارج، كل ذلك أسهم في نشوء ردة فعل قوية وخلق حواضن اجتماعية واسعة للجماعات الإسلامية المتطرفة مثل "تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين" وسليلته فيما بعد الدولة الإسلامية (داعش) وغيرها من الجماعات المسلحة. ولم تنفع كل الإجراءات الأمنية في الحد من نفوذ هذه الجماعات؛ لأنها كانت قاصرة على هذا الجانب، واستندت على بعد طائفي، ولم ترافقها معالجات جذرية سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، ضامنة لمبدأ المواطنة، بل مع مرور الوقت سيطر تنظيم داعش على مساحات شاسعة من العراق. 
    كان وما زال العنف هو الوسيلة الأولى والوحيدة لهذه الجماعات في تنفيذ ما تراه جهادا وواجبا شرعيا، وقد وجدت في بعض الفتاوي إباحة للقتل حتى لو كان السبب الاختلافات الفقهية، وكذلك الفتاوي التي تجيز قتل الكفار الأصليين، وهم في حالة العراق القوات الأجنبية، أو "الكفار" المرتدين، أي المتعاونين، وأن أدى ذلك إلى قتل "الترس"، أي "معصومي الدم" من المسلمين الأبرياء الذين يمكن أن يسقطوا عرضا، نتيجة العنف المستخدم. ومن المعروف أن "مسألة الترس" تعود في جذورها إلى ابن تيمية، والتي قال بها أثناء غزو المغول(16) وتبنتها الجماعات الإسلامية المسلحة الحالية بنطاق أوسع وبأبشع أشكالها نتيجة استخدامها التكنولوجية المتطورة التي تتيح لها قتل أكبر عدد من الناس، والتي لم تكن متوفرة زمن ابن تيمية!
                                                بوكو حرام
      أعلن عن ظهور حركة بوكو حرام في نيجيريا للمرة الأولى في تموز|يوليو 2009، رغم أن بدايات تأسيسها تعود إلى تاريخ أسبق. وقد ثار جدل واسع حول جذور هذه الحركة، ومصادر قوتها في جذب أعداد كبيرة من الشباب إلى صفوفها في شمال البلاد. ويمكن فهم أيديولوجية حركة"بوكو حرام" من تفسير اسمها. فكلمة "بوكو" تعني بلغة الهوسا "الغرب" أو "الأجنبي". أما حرام، فتعني محضورا أو ممنوعا، وبالتالي فإن اسم الحركة يعني أن الوافد الأجنبي أو الغربي محرم. لذلك، يجب استبعاد كل مكونات الدولة الحديثة، والعودة إلى الدولة الإسلامية في هيئتها التي كانت عليها في الماضي. حيث ترى الحركة أن القيم الإسلامية تتعارض مع القيم الغربية، وأن الأمة الإسلامية تتعرض لمخاطر كثيرة نتيجة التأثيرات الغربية التي تعد مصدرا للشر. ولكبح جماح هذا الشر، لابد من القضاء على مؤسسات الدولة الحديثة، مما يفسر استهداف مراكز الشرطة والمؤسسات الحكومية والمنشآت الرسمية أهدافا للتدمير من قبل "بوكو حرام".(17) أي أن الحركة ترفض العلمانية، والديمقراطية، والتعليم الغربي، والغربنة، وتشكل كل هذه محاور رئيسية في فكرها. وهي بذلك تتوافق فكريا مع تنظيم القاعدة المتطرف. والدليل على ذلك إعلان الحركة أنها قد التحقت بتنظيم القاعدة.
    إذن ترتكز الملامح الفكرية للحركة حول عدد من الأصول الفكرية، أهمها العمل على تأسيس دولة إسلامية فى نيجيريا بالقوة المسلحة، والدعوة إلى التطبيق الفورى للشريعة الإسلامية فى جميع الولايات النيجيرية، وليس تطبيق الشريعة فى الـولايات الاثنتى عشرة الشمالية، وكذلك عدم جواز العمل فى الأجهزة الأمنية والحكومية فى الدولة. وتدعو إلى تغيير نظام التعليم فى نيجيريا. وبشكل عام، فإن فكر بوكو حرام هو فكر أقرب إلى التكفير.(18)
    منذ تموز| يوليو 2009، شرعت الحكومة النيجيرية بحملة كبيرة ضد الأرهاب المتمثل في بوكو  حرام في شمال البلاد والعاصمة أبوجا. لكن هذه المحاولات فشلت للتصدي للإرهاب بدرجة كبيرة.(19) وفي مايس| مايو 2010، تم الإعلان من قبل ولاية بورنو بأن بوكو حرام تعد منظمة غير شرعية.(20)
   وقد أعلن زعيم الحركة "أبو بكر شيكاو" عن قيام "دولة إسلامية" في الأراضي التي استولت عليها في شمال شرقي نيجيريا، حيث صرح الرجل فى مقطع فيديو "نحن في دولة خلافة إسلامية، وليست لنا علاقة بنيجيريا، ونحن لا نؤمن بهذا الاسم". ولم يذكر شيكاو ما إذا كانت الخلافة هي جزءا من دولة الخلافة التي أعلنها تنظيم "الدولة الإسلامية" في أجزاء من العراق وسوريا، أم لا،(21) ولكن في 7 آذار|مارس 2015 بث تسجيل صوتي نسب للرجل يعلن فيه مبايعته لزعيم داعش أبو بكر البغدادي. 
      ويلاحظ أن صعود "بوكو حرام" كان تعبيرا عن مجموعة من المشكلات المحلية المرتبطة بالواقع التاريخي، والإثني، والاقتصادي، والسياسي في شمال البلاد، أكثر من كونه صرعا "دينيا"، وأن مطالبة بوكو حرام بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع ولايات الشمال كانت محاولة لتأكيد الهوية الدينية لهذا الإقليم، إلا أن الأساليب التي اعتمدتها الحكومة في التعامل مع الصراعات الطائفية، وفي مواجهة حركة بوكو حرام، عكست حالة الضعف وسوء التخطيط التي تتسم بها أعمال هذه الحكومة، مما زاد من إصرار بوكو حرام على مواصلة عملياتها ضد مؤسسات الحكم والكنائس، وفتح مجالا للتدخلات الخارجية، خاصة الأمريكية والأوروبية، في شؤون نيجيريا، بل في منطقة غرب أفريقيا ككل، خاصة بعد ما هددت الحركة في شباط| فبراير 2012، باستهداف المصالح الأمريكية في البلاد، بسبب ما وصفته بالتدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية.(22) والملاحظ أن التدخل الخارجي قد يساعد في الحد من توسع نفوذ الجماعات المتطرفة مرحليا إلا أنه يساهم في انتشار أفكار التطرف على اعتبار أن هذا الدعم موجه لمساندة حكومات لا تمتلك قاعدة اجتماعية واسعة وشرعيتها باتت محل تساؤل.
  يلعب البُعد الدينى والعرقى!(23) دوراً فى تنامى حركة بوكو حرام، وانتشارها بصورة واضحة، خاصة فى ظل الاشتبكات الدينية والعرقية فى البلاد، حيث تطرح بوكو حرام نفسها كمدافع عن الإسلام والمسلمين ضد المسيحيين، مما خلق نوعا من التعاطف من بسطاء المسلمين، سرعان ما يترجم إلى تقديم المساعدة، أو حتى الانخراط في الحركة،(24) علما يتركز المسلمون في شمال البلاد والمسيحيون في جنوبها والذي يعد أكثر تطورا من الشمال.
 إن معالجة التوترات والنزاعات والتطرف والعنف الدينيين في نيجيريا لا تكفي معها الحلول الأمنية فقط، وإنما تحتاج إلى حزمة من الإصلاحات البنيوية العميقة الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية والثقافية وتحقيق العدالة الاجتماعية، بشكل متوازن، في  مجتمع يتسم ببنية إثنية معقدة، ومحاربة الفساد المتفشي، وخاصة ما يتعلق بالمورد الأهم وهو النفط، وإعلاء قيم المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان، والابتعاد كليا عن توظيف النزاعات الدينية والإثنية لأغراض سياسية وانتخابية واقتصادية وإقليمية كون النظام في نيجيريا فدراليا.
الهوامش   
1-   نشرت هذه الفتاوي في السعودية عدة مرات.
2-     راجع محمد شحرور، الدين والسلطة.. قراءة معاصرة للحاكمية، ط 1، بيروت، 2014، ص 65-70، وحول السلفية قارن حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية، المجلد الأول، ط 2، الجزائر، 2002، ص 28-37.   
3-   عزمي بشارة، " في ما يسمى التطرف"، سياسات عربية، العدد 14، أيار| مايو 2015، ص 18.
4-   محمد شحرور، مصدر سابق، ص 71-77.
5-     راجع رشيد الخيون، "تاريخ الإسلاميين وتجربة حكمهم في العراق"، في: الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي...اتجاهات وتجارب، ط 1، بيروت، 2013، ص 644.
6-   راجع محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني... كيف نفهم الإسلام اليوم، ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط 4، بيروت، 2009، ص 230.
7-   راجع نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، ط 3، الدار البيضاء| بيروت، 2007، ص 39-41، وللمزيد حول الفكر الأشعري راجع حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية، المجلد الثاني، ط 2، الجزائر، 2002.   
8-     محمد أركون، مصدر سابق ، ص 232-234.
9-   النص مع بعض الإختصار نقلا عن صادق جلال العظم، ذهنية التحريم..، ط 5، دمشق، 2007، ص 229-230.
10-   خالد حنفي علي، "البيئات الحاضنة للكراهية في المنطقة العربية"، اتجاهات نظرية، ملحق السياسة الدولية، العدد 199 يناير 2015، ص 4.
11-   أحمد محمد وهبان، "اتجاهات تحليل ظاهرة الإرهاب..الأصول التاريخية والمفاهيمية"، السياسة الدولية، العدد 199، يناير 2015، ص 22-24.
12-   المصدر نفسه، ص 33.
13-   المصدر نفسه، ص 22-24.
14-   رشيد الخيون، مصدر سابق، ص 664.
15-   راجع يحيى الكبيسي، "السلفية في العراق: تقلبات الداخل وتجاذبات الخارج"، في: الظاهرة السلفية.. التعددية التنظيمية والسياسات، ط 1، الدوحة، 2014، ص 101- 105.
16-   المصدر نفسه، ص 109.
17-   أميرة عبد الحليم، "الغرب الأفريقي: نيجيريا بين الداخل الديني والخارج النفطي"، السياسة الدولية، العدد 188، أبريل، 2012، ص 142. وللمزيد حول نشأة وتطور وفكر بو كو حرام راجع Marc-Antoine Perouse de Montclos, Boko Haram.. Islamism, politics, security and the state in Nigeria, Leiden, 2014.
18-   علي بكر، "القاعدة" الأفريقية: مستقبل تنظيم "بوكو حرام" في شمال نيجيريا، 4-12-2011، مجلة السياسة الدوليةhttp://www.siyassa.org.eg/NewsContent/2/100/1962/%D8%AA%D8%AD%
19-   Hussein Solomon, “The African state and the failure of US counter-terrorism initiatives in Africa: The cases of Nigeria and Mali”, South African Journal of International Affairs, vol. 20, No. 3, 2013, pp. 427-428.
20-   Europa Puplications, Africa South of the Sahara, London, 2011, p. 937.
21-   علي بكر، "بوكو حرام والخلافة الإسلامية.. التأثيرات الداخلية والإقليمية"، السياسة الدولية، 10-10-2014،  http://www.siyassa.org.eg/NewsContent/2/105/4894
22-   أميرة عبد الحليم، مصدر سابق،  ص 143-145.
23-   للمزيد حول البنية الإثنية والدينية في نيجيريا راجع كتابنا نيجيريا: دراسة في المكونات الاجتماعية-الاقتصادية، الذي سيصدر قريبا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت| الدوحة.
24-   علي بكر، "بوكو حرام والخلافة الإسلامية"، مصدر سابق.
* الثقافة الجديدة، العدد 378-379 تشرين الثاني 2015

         

44
الرأسمالية وعدم المساواة*

ترجمة: د. هاشم نعمة
                                                                                           
     هيمنت على النقاش السياسي الأخير في الولايات المتحدة الأمريكية والدول الديمقراطية المتطورة الأخرى قضيتان هما: تنامي التفاوت الاقتصادي وحجم التدخل الحكومي لمعالجته. وقد اظهرت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2012 والمعارك المتعلقة بمسألة "حافة الهاوية المالية" بأن القضية المركزية لليسار اليوم تتركز على زيادة الضرائب الحكومية والانفاق، كمقدمة لعكس التفاوت الطبقي المتزايد، في حين تتركز القضية المركزية لليمين على تخفيض الضرائب والانفاق، أوليا لتعزيز الدينامية الاقتصادية. وكل طرف يقلل من شأن أو من قلق مخاوف الطرف الآخر، ويبدو أن كل طرف يعتقد بأن سياساته التي يرغب بتنفيذها هي كفيلة بتعزيز الرخاء والاستقرار الاجتماعي. لكن كلاهما على خطأ.
     في الواقع، التفاوت، يزداد في كل مكان من العالم الرأسمالي ما بعد الصناعي. لكن بالرغم من اعتقاد الكثيرين في صفوف اليسار، فإن هذا التفاوت لا ينتج من السياسة، ولا السياسة من المتوقع بمقدورها أن تعكس ذلك، لأن المشكلة ذات جذور أكثر عمقا ومن العسير تعريفها بشكل عام. حيث أن التفاوت يكون نتاجا حتمي للنشاط الرأسمالي، وتوسع تكافؤ الفرص يزيد منه فقط – بسبب من أن بعض الأشخاص والمجموعات يكونون ببساطة قادرين بشكل أفضل من الآخرين على استغلال الفرص للتطور والتقدم الذي توفره الرأسمالية. ورغم ما يعتقده الكثير في صفوف اليمين، فإن مشكلة التفاوت هذه هي مشكلة كل شخص ليس فقط أولئك الأشخاص الذين يعملون بشكل سيء أو أولئك الملتزمون أيديولوجيا بالمساواة- بسبب من أن اليسار إذا لم يعالج، تفاقم التفاوت وعدم الثقة بالاقتصاد فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تأكل النظام الاجتماعي ويولد ردود فعل شعبية عنيفة ضد النظام الرأسمالي ككل.
     خلال القرون القليلة الأخيرة، ولّد انتشار الرأسمالية قفزة هائلة في التقدم الإنساني، وأدى إلى ارتفاع مستويات المعيشة بشكل لا يمكن تصوره وإلى تنمية غير مسبوقة لكل انواع الإمكانيات البشرية. ولكن أنتجت الدينامية الفعلية للرأسمالية عدم الأمان جنبا إلى جنب مع إنتاجها للمنافع، ولذلك واجه تقدمها دائما مقاومة. في الواقع، الكثير من التاريخ السياسي والمؤسساتي للمجتمعات الرأسمالية كان قد شهد محاولات لتخفيف أو اخماد الشكاوي من حالة عدم الأمان، لكن فقط كان إنشاء دولة الرفاه الاجتماعي الحديثة في منتصف القرن العشرين، قد مكن الرأسمالية والديمقرطية في النهاية من أن تتعايشا في وئام نسبي.
     في العقود الأخيرة، نتج عن التطورات التي حصلت في قطاعات التكنولوجيا، والمال، والتجارة الدولية موجات وأشكال جديدة من عدم الأمان في الاقتصاديات الرأسمالية القائدة، جاعلة الحياة تتسم بعد المساواة ومشكوك فيها بشكل متزايد ليس فقط بالنسبة إلى الطبقات ذات الدخل المنخفض والطبقة العاملة بل يشمل ذلك الكثير من أفراد الطبقة الوسطى كذلك. لقد أنكر اليمين إلى حد كبير وجود المشكلة، في حين طالب اليسار باجتثاثها من خلال العمل الحكومي، وبغض النظر عن التكاليف، فإن كلا النهجين غير قابل للاستمرار أو من غير الممكن تطبيقهما على المدى البعيد. إن الأنظمة السياسة الحاكمة المعاصرة في الدول الرأسمالية تحتاج إلى القبول بفكرة أن التفاوت وعدم الأمان سيستمران كونهما نتيجة حتمية لعمليات السوق، وأن تجد طرق لحماية المواطنين من عواقبهما- في حين تظل الرأسماية، بصورة من الصور، تحتفظ بالدينامية التي تنتج المنافع الاقتصادية والثقافية الواسعة في المقام الأول.
                                       تسليع وتهذيب
      الرأسمالية نظام من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية يتميز بالملكية الخاصة، وتبادل السلع والخدمات بحرية من قبل الأفراد، واستخدام آليات السوق للسيطرة على إنتاج وتوزيع السلع والخدمات. بعض عناصر الرأسمالية كانت موجودة في المجتمعات البشرية منذ عصور، ولكن فقط في القرنين السابع عشر والثامن عشر، برزت الرأسماية بقوة في أجزاء من أوروبا وفروعها في أمريكا الشمالية. وخلال التاريخ، كانت معظم الأسر تستهلك معظم الأشياء التي تنتجها وتنتج معظم ما تستهلكه. وفقط من هذه النقطة بدأت غالبية السكان في بعض البلدان تشتري معظم الأشياء التي تستهلكها وتفعل ذلك بالعائدات التي تحصل عليها من بيع معظم ما تنتجه. 
     إن نمو توجه الأسر إلى السوق وما اطلق عليه لاحقا بـ "المجتمع التجاري" ترتبت عليه آثار عميقة في كل أوجه النشاط البشري من الناحية العملية. فقبل الرأسمالية، كانت الحياة تحكم من خلال المؤسسات التقليدية التي همشت اختيارات وقدرات الأفراد إلى بنى طائفية، وسياسية، ودينية مختلفة. وقد أبقت هذه المؤسسات عملية التغيير في اضيق الحدود، ومنعت الناس من تحقيق الكثير من أوجه التقدم ولكن أيضا حمتهم من الكثير من تقلبات الحياة. وقد منح ظهور الرأسمالية الأفراد المزيد من  السيطرة والمسؤولية على حياتهم الخاصة من أي وقت مضى- ولكنها قدمت على حد سواء التحرر و الفزع، مما سمح بحدوث كل من التقدم والتراجع.
     التسليع – التحول من نشاطات لغرض الاستخدام الخاص إلى نشاطات لغرض البيع في السوق المفتوحة- سمح للناس باستخدام وقتهم بصورة أكثر فعالية، متخصصين في إنتاج ما هو جيد نسبيا وشراء أشياء أخرى من الناس الآخرين. وقد استخدمت الأشكال الجديدة من التجارة والصناعة تقسيم العمل لإنتاج الأدوات المنزلية الشائعة بأسعار رخيصة وأيضا وفرت مجموعة من المنتجات الجديدة. وكانت النتيجة، كما لاحظ المؤرخ جان دي فريس ما يسميه المعاصرون بـ "نهضة الميل إلى العقل"- توسع الاحتياجات الشخصية والنظرة الشخصية الجديدة للضرورات. هذا التوسع المستمر في الاحتياجات كان موضع نقد الرأسمالية من روسو إلى ماركوز باعتباره يمثل سجن البشر في قفص من الرغبات غير الطبيعية. لكن هذا التوسع قد أشاد به أيضا المدافعون عن السوق من فولتير فصاعدا باعتباره يوسع من مدى القدرات البشرية. إذ يمثل من وجهة النظر هذه، تنمية الاحتياجات والضرورات الأسمى والإيفاء بها، جوهر الحضارة.
    بسبب من إننا نميل للتفكير في السلع باعتبارها أشياء مادية ملموسة،  فنحن كثيرا ما نغفل مدى الإبداع وعلى نحو أكثر التوزيع الرخيص للسلع الثقافية الجديدة التي وسعت نطاق ما يمكن أن يطلق عليه وسائل التثقيف الذاتي. وتاريخ الرأسمالية يشمل أيضا تاريخ توسع المواصلات، والمعلومات، و التسلية- أشياء يقتضي التفكير بها وحولها.
     وقد كانت من بين السلع الحديثة الأولى الكتب المطبوعة (في المقام الأول،عادة الكتاب المقدس)، حيث تراجعت اسعارها وزادت وفرتها وكانت اهميتها  من الناحية التاريخية، هامة جدا أكثر بكثير كما يقال من انتشار ماكنة الاحتراق الداخلي. وهكذا، ومع انتشار ورق الصحف، أيضا، جعل ذلك من الممكن ظهور الصحف والمجلات. وهذه أدت بدورها، إلى ظهور أسواق جديدة للمعلومات والأعمال لجمع وتوزيع الأخبار. في القرن الثامن عشر، كان وصول الأخبار من الهند إلى لندن يستغرق شهورا؛ في حين، تحتاج إلى لحظات حاليا. وقد جعلت الكتب والأخبار من الممكن توسيع ليس فقط وعينا لكن أيضا تصوراتنا، وإمكانياتنا على التعاطف مع الآخرين وتصور العيش لأنفسنا وفق طرق جديدة. وهكذا، مهدت الرأسمالية والتسليع لكل من الجانب الإنساني ولأشكال جديدة من الابتكار الذاتي.
     خلال القرن الأخير، توسعت وسائل الثقافة من خلال اختراع تسجيل الصوت، والفيلم، والتلفزيون، ومع انتشار الانترنت وأجهزة الكمبيوتر المنزلية، انخفضت تكاليف اكتساب المعرفة والثقافة بشكل دراماتيكي. وقد وفر توسع وسائل الثقافة الإمكانية ليكون هناك تقريبا توسع لا يمكن تصوره في ميدان المعرفة.
                                                 قضايا العائلة
     قادت الرأسمالية إلى توفر فرص أكثر لتنمية القدرات البشرية، مع ذلك، لم يكن كل شخص قادرا على الاستفادة الكاملة من هذه الفرص أو التقدم حتى لمرة واحدة. حيث منعت العوائق الرسمية أو غير الرسمية التي تعيق تحقيق المساواة في الفرص، تاريخيا، فئات مختلفة من السكان على سبيل المثال، - النساء، والأقليات، والفقراء- من الاستفادة بشكل كامل من إيجابيات الرأسمالية. ولكن مع مرور الوقت، قلت أو زالت هذه العوائق بشكل تدريجي، في العالم الرأسمالي المتقدم، بحيث باتت الآن الفرص متاحة أكثر فيما يتعلق بالمساواة، من أي وقت مضى. لذلك، يستمد التفاوت الموجود حاليا، بدرجة أقل من حالة الفرص غير المتكافئة مقارنة بما تلعبه الكفاءة غير المتكافئة من دور في استثمار الفرص. وتنجم القدرة غير المتكافئة، في المقابل، من الاختلافات في الامكانيات البشرية الكامنة التي تبدأ مع الأفراد وفي الطرق التي من خلالها تمكن وتشجع العائلات والمجتمعات الطاقات البشرية على النمو.
    دور العائلة في تشكيل كفاءة الشخص وميوله للاستفادة من وسائل الثقافة التي توفرها الرأسمالية من الصعب المبالغة به. فالعائلة ليست فقط وحدة للاستهلاك والتكاثر البيولوجي. ففيها أيضا يجري الإعداد الرئيسي للأطفال إجتماعيا، وحضاريا، وتربويا، وفيها يتم تطوير العادات التي تؤثر في مصائر الأطفال اللاحقة كأشخاص وكفاعلين في السوق. 
                                           دينامية وانعدام الأمان
    في معظم التاريخ، كان المصدر الأولي لانعدام الأمان البشري يتمثل في الطبيعة. في مثل هذه المجتمعات، كما لاحظ ماركس، كان النظام الاقتصادي يتسم بالاستقرار والركود. أما في المجتمعات الرأسمالية، فهو على العكس، موجه نحو الابتكار والدينامية، لخلق معرفة جديدة، ومنتجات جديدة، وطرق جديدة للإنتاج والتوزيع. كل هذه المتغيرات حولت مصدر عدم الأمان من مجال الطبيعة إلى مجال الاقتصاد.
      وقد لاحظ هيغل في عشرينات القرن التاسع عشر بأن وضع الرجال في المجتمع التجاري كان يستند إلى نموذج المعيل - ربة البيت، حيث أرتبط شعور المرء بقيمة ذاته والاعتراف من قبل الآخرين بالحصول على الوظيفة. وهذا فرض مشكلة، بسبب أنه في السوق الرأسمالي الديناميكي، كانت امكانية حدوث البطالة غير مشكوك فيها. لذلك فإن تقسيم العمل الذي نتج عن السوق كان يعني بأن الكثير من العمال الذين يمتلكون مهارات وكانوا متخصصين بشكل عال باتوا مؤهلين للعمل في مجال ضيق فقط. وقد خلق السوق تحولا في الحاجيات وزاد من الطلب على منتجات جديدة، وهذا يعني انخفاض الطلب على المنتجات القديمة. وبات الرجال الذين كانت حياتهم مكرسة إلى دورهم في إنتاج المنتجات القديمة بدون عمل وبدون تدريب يسمح لهم بالحصول على عمل جديد. وقادت مكننة الإنتاج أيضا إلى فقدان الوظائف. ومنذ البدايات الأولى، اتسم ابتكار وإبداع الرأسمالية الصناعية بانعدام الأمان بالنسبة إلى القوى العاملة. 
      رسم ماركس وانجلز الدينامية الرأسمالية، وانعدام الأمان، وتحسن الاحتياجات، وتوسع الإمكانيات الثقافية في البيان الشيوعي:
   "البرجوازية، باستثمارها السوق العالمية، طبَّعت الإنتاج والاستهلاك، في جميع البلدان، بطابع كوسموبوليتي، وانتزعت من تحت أقدام الصناعة أرضيتها القومية وسط غم الرجعيين الشديد.  فالصناعات القومية الهرمة دُمرّت و تدمَّر يوميا لتحل محلها صناعات جديدة، أصبح اعتمادها مسألة حيوية بالنسبة إلى جميع الأمم المتحضرة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية، بل المواد الأولية من أقصى المناطق، صناعات لا تُستهلك منتجاتها، في البلد نفسه فحسب، بل أيضا في جميع أنحاء العالم. فمكان الحاجات القديمة، التي كانت المنتجات المحلية تسدُّها، تحُل حاجات جديدة تتطلب لإشباعها منتجات أقصى البلدان والأقاليم. ومحل الاكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والإنعزال القديم، تقوم علاقات شاملة في كل النواحي، وتقوم تبعية متبادلة شاملة بين الأمم".
     في القرن العشرين، سيوسع الاقتصادي جوزيف شومبيتر هذه النقاط مع ملاحظته بأن الرأسمالية تميزت بـ "التدمير الخلاق" حيث حلت منتجات وأشكال جديدة من التوزيع والتنظيم محل الأشكال القديمة. على عكس ماركس، الذي رأى بأن مصدر هذه الدينامية يتمثل في سعي الرأسمال للتراكم      (على حساب، الطبقة العاملة)، ركز شومبيتر على دور المقاول أو المتعهد كونه مبتكر والذي عرض السلع الجديدة واكتشف أسواق وأساليب جديدة.
     قادت الدينامية وانعدام الأمان اللتان نشأتا في القرن التاسع عشر في الرأسمالية الصناعية إلى إنشاء مؤسسات جديدة من أجل تقليل حالة عدم الأمان، تشمل هيئات ذات مسؤولية محدودة، لتقليل مخاطر المستثمِر، والنقابات العمالية، لتعزيز مصالح العمال؛ وجمعيات المساعدة المتبادلة، لتوفير القروض وتأمين الدفن؛ والتأمين على الحياة التجارية. وفي العقود الوسطى من القرن العشرين، واستجابة للبطالة الضخمة والحرمان الناتجين عن الكساد الكبير ( والنجاح السياسي للشيوعية والفاشية، الذي اقنع العديد من الديمقراطيات بأن الكثير من انعدام الأمان يشكل تهديدا للديمقراطية الرأسمالية نفسها)، تبنت الديمقراطيات الغربية دولة الرفاه الإجتماعي. حيث ابتكرت دول مختلفة مجموعة معينة من البرامج، وكذلك تبنت دول الرفاه الإجتماعي الجديدة في العموم وبشكل جيد، برامجا تشمل التأمين لكبار السن والبطالة وإجراءات مختلفة لدعم الأسر.
     إن توسع دولة الرفاه الإجتماعي في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية أخذ طريقه في الوقت الذي كانت فيه الاقتصاديات الرأسمالية في الغرب تشهد نموا سريعا. لذلك جعل نجاح الاقتصاد الصناعي من الممكن سحب الأرباح والأجور للأغراض الحكومية من خلال فرض الضرائب. ساعد أيضا التركيب السكاني لفترة ما بعد الحرب، حيث ساد نموذج المعيل-ربة البيت للعائلة، باعتدال معدلات المواليد العالية مما خلق نسبة ملائمة بين العمالة النشطة والمعالين. وتوسعت فرص التعليم، كما قبلت جامعات النخبة بشكل متزايد الطلاب على قاعدة تحصيلهم الأكاديمي وإمكانياتهم، وبات المزيد والمزيد من الناس يواصل دراسته في معاهد التعليم العالي. وبدأت تسقط عوائق مشاركة النساء والأقليات الكاملة في المجتمع كذلك. ونتيجة لكل هذا كان هناك توازن مؤقت شهدت خلاله الدول الرأسمالية المتقدمة نموا اقتصاديا قويا، ومعدل تشغيل عال، ومساواة اجتماعية- اقتصادية نسبية. 
                                  الحياة في الاقتصاد ما بعد الصناعي 
    كل هذا التقدم، قد تظلل بمميزات الرأسمالية الدائمة المتسمة بالتفاوت وانعدام الأمان. عام 1973، لاحظ السسيولوجي دانيال بيل بأنه في العالم الرأسمالي المتقدم، كانت المعرفة، والعلم، والتكنولوجيا تقود التحولات إلى ما يصطلح عليه بـ "المجتمع ما بعد الصناعي." كما حلت الصناعة في السابق محل الزراعة كمصدر رئيسي للعمل، ناقش دانيال بيل، بأن قطاع الخدمات قد حل الآن محل الصناعة. في مرحلة ما بعد الصناعة، في الاقتصاد القائم على المعرفة، يعتمد إنتاج السلع المصنعة على المدخلات التكنولوجية أكثر من اعتماده على مهارات العمال الذين بنوا وركبوا المنتجات فعليا. هذا يعني انخفاضا نسبيا في الحاجة إلى القيمة الاقتصادية لعمال المصانع الماهرين وشبه الماهرين - كما حصل في السابق انخفاض في الحاجة إلى قيمة العمال الزراعيين. في مثل هذا الاقتصاد، تضم المهارات المطلوبة المعرفة العلمية والتكنولوجية والقدرة على التعامل مع المعلومات. في غضون ذلك، فاقمت ثورة تكنولوجيا المعلومات التي اجتاحت الاقتصاد في العقود الأخيرة، من هذه الاتجاهات فقط. 
     تأثيرنا الحاسم في صعود الاقتصاد ما بعد الصناعي تم استنادا إلى وضعية وأدوار الرجال والنساء. وقد استندت الميزة النسبية للرجال في الاقتصاديات ما قبل الصناعية والصناعية في جزء كبير منها على قوتهم البدنية الأقوى- شيء ما بات الطلب عليها الآن أقل من أي وقت مضى. أما النساء، فعلى العكس، سواء بسبب وضعهن البيولوجي أو بسبب التنشئة الاجتماعية، يتوفرن على ميزة نسبية فيما يتعلق بالمهارات البشرية والمعية عاطفية، جعلتهن يصبحن بشكل متزايد أكثر أهمية في اقتصاد يتوجه إلى الخدمات البشرية أكثر من توجهه إلى إنتاج الحاجيات المادية. وقد توسع جزء من الاقتصاد الذي تستطيع النساء المشاركة فيه، وأصبح عملهن أكثر قيمة- يعني هذا أن الوقت الذي ينفق في المنزل بات الآن على حساب الإمكانيات الأكثر ربحا المتأتية من قوة العمل المدفوعة الأجر.
     لقد قاد هذا إلى زيادة استبدال نموذج الأسر ذات المعيل الذكر- ربة البيت الأنثى بنموذج الأسر ذات الدخل المزدوج. وقد مال كلا من المؤيدين والمنتقدين لتوجه النساء نحو الاقتصاد المدفوع الأجر إلى المبالغة بالدور الذي لعبته في هذا التحول النضالات الايديولوجية المستندة إلى نظرية المساواة بين الجنسين، في حين قللوا من أهمية الدور الذي لعبته التغيرات في طبيعة الإنتاج الرأسمالي. حيث أصبح ممكنا جزئيا إعادة توزيع العمالة النسائية من الأسرة من خلال وجود سلع جديدة خفضت من وقت العمل المنزلي الضروري (مثل مكائن الغسل، المجففات، غسالات الأواني، سخانات المياه، المكانس الكهربائية، أفران الميكروويف). وأدى الجزء الأكبر من الوقت المخصص لنشاط التسوق، بدوره، إلى طلب جديد على السلع الاستهلاكية الموجهة للأسرة التي تحتاج إلى عمل أقل (مثل الأطعمة المعبئة والمعدة) وتوسع المطاعم والأكلات السريعة. وقد قاد هذا إلى تسليع الرعاية، بحيث بات الشباب، وكبار السن، والعجزة يتطلعون بشكل متزايد لا إلى الأقرباء بل إلى المرافقين المدفوعي الأجر.
                                            تزايد التفاوت
     هذه الاتجاهات الاجتماعية لفترة ما بعد الصناعة كان لها تأثيرا كبيرا على التفاوت. حيث أن جزءا اساسيا من الأسر التي تكون في النهاية المنخفضة للسلم الاقتصادي، لم يتضاعف دخلها على الإطلاق- لأنه رغم نمو الأجور النسبية للنساء إلا أن الأجور النسبية للأشخاص الأقل تعليما والطبقة العاملة شهدت انخفضا، هذه الأخيرة قد ينظر إليها على أنها أقل وأقل صلاحية للزواج. وفي الغالب، تجعل محدودية رأس المال البشري مثل هؤلاء الرجال أقل قابلية للتوظيف وتجعلهم أيضا مرغوب بهم أقل من بين رفاقهم، وأيضا، تتدهور في بعض الأوقات الصفات الشخصية للرجال الذين يعدون في عداد البطالة بشكل دائم. ومع قلة اللجوء إلى طاولة المفاوضات، يعتبر مثل هؤلاء الرجال أقل ضرورة- جزئيا لأن المرأة تستطيع أن تعتمد الآن على التموين من دولة الرفاه الاجتماعي كمصدر إضافي مستقل من الدخل، رغم أنه ضئيل.
    في الولايات المتحدة، من بين التطورات اللافتة أكثر في العقود الأخيرة كان التقسيم الطبقي لأنماط الزواج وسط طبقات المجتمع ومجموعاته الإثنية المختلفة. فعندما خففت قوانين الطلاق في الستينات من القرن الماضي، حدث ارتفاع في معدلات الطلاق وسط جميع الطبقات. لكن في الثمانينات، نشأ نمط جديد يتمثل في انخفاض الطلاق وسط فئات السكان الأكثر تعليما، في حين استمرت معدلات الطلاق في الارتفاع وسط فئات السكان الأقل تعليما. إضافة إلى ذلك، كانت الفئات الأكثر تعليما والتي تعمل بشكل جيد أكثر فرصتها في الزواج أكثر احتمالا، في حين كانت الفئات الأقل تعليما فرصتها بالزواج أقل احتمالا. ونظرا لدور العائلة باعتبارها حاضنة للرأسمال البشري، فإن مثل هذه الاتجاهات تمتلك تأثيرات ممتدة مهمة على عدم المساواة. وقد أظهرت الكثير من البحوث بأن الأطفال الذين يتربون من قبل الآب والأم في رابطة مستمرة فهم  من المحتمل أكثر أن يطوروا الانضباط الذاتي والثقة بالنفس اللذان يجعلانهم ناجحين في حياتهم، في حين الأطفال –خصوصا الأولاد- الذين يتربون في أسر وحيدة الآب أو الأم ( أو أسوأ من ذلك، الأسر التي تكون فيها للأم سلسلة من العلاقات المؤقتة) فإن ذلك يتوفر على خطر أكبر من النتائج السلبية.     
    كل ذلك أخذ طريقه خلال فترة زيادة فرص المساواة للوصول إلى التعليم وزيادة التقسيم الطبقي المتعلقة بمكافآت عالم التجارة أو السوق، كلاهما زاد من أهمية رأس المال البشري. ويتمثل العنصر الأول من رأس المال البشري في القدرة المعرفية: سرعة المقدرة العقلية أو الأفكار، القدرة على الاستدلال وتطبيق أنماط مستمدة من الخبرة، والقدرة على التعامل مع التعقيدات العقلية. أما العنصر الثاني فيتمثل في المهارات الشخصية والاجتماعية: الانضباط الذاتي، الأصرار، والمسؤولية. ويتمثل العنصر الثالث بالمعرفة الفعلية. كل هذه العناصر تصبح بشكل متزايد حاسمة للنجاح في السوق أو عالم التجارة في الفترة ما بعد الصناعية. وقد لاحظ الاقتصادي برنك ليندسي في كتابه الذي صدر حديثا "الرأسمالية الإنسانية"، بأنه بين 1973-2001، كان متوسط النمو السنوي للدخول الفعلية فقط 0,3 بالمائة بالنسبة إلى الأشخاص في خمس الجزء السفلي من توزيع الدخل في الولايات المتحدة، مقارنة مع 0,8 بالمائة بالنسبة إلى الأشخاص في الخمس المتوسط، و1,8 بالمائة بالنسبة إلى أولئك الأشخاص في الخمس الأعلى من توزيع الدخل. وتسود أيضا، أنماط مشابهة إلى حد ما في الكثير من الاقتصاديات المتقدمة الأخرى.
     لم تتسبب العولمة بهذا النمط المتزايد من العوائد غير المتكافئة لرأس المال البشري لكنها عززته. وقد ميز الاقتصادي مايكل سبنس بين "سلع قابلة للتداول" والخدمات، التي يمكن استيرادها وتصديرها بسهولة، وسلع"غير قابلة للتداول" لا يمكنها ذلك. وعلى نحو متزايد، تستورد السلع القابلة للتداول والخدمات إلى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة من المجتمعات الرأسمالية الأقل تقدما، حيث تكون كلفة العمل أقل. وبما أن السلع المصنعة والخدمات الروتينية تكون مصادرها خارجية، لذلك تشهد أجور غير الماهرين وغير المتعلمين نسبيا في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة المزيد من الانخفاض، إلا إذا تمكن هؤلاء الأشخاص بطريقة أو بأخرى من العثور على فرص عمل مجزية في القطاع غير القابل للتداول. 
                                      تأثير التمويل الحديث
      تزايد التفاوت، في غضون ذلك، قد ترافق مع تزايد عدم الأمان وقلق الناس بات أكبر بشأن السلم الاقتصادي. وكان أحد الاتجاهات الذي ساهم في هذه المشكلة هو تمويل الاقتصاد،(أي الاعتماد على حركة توظيف رؤوس الأموال السريعة أكثر من الاعتماد على الاقتصاد الإنتاجي، المترجم)، في بادئ الأمر نشأت في الولايات المتحدة، ما وصفه الاقتصادي هايمان منسكي بـ "رأسمالية إدارة الأموال" وأطلق الخبير المالي الفريد رابابورت على هذه الوضعية بـ "رأسمالية الوكالة."
    في وقت متأخر من الثمانينات، كان التمويل عنصرا أساسيا في اقتصاد الولايات المتحدة. وكانت تجارة الأسهم والسندات (سوق الأوراق المالية) تتكون من المستثمرين الأفراد، الكبار أو الصغار، الذين يضعون نقودهم في اسهم وسندات الشركات اعتقادا منهم بوجود فرص جيدة للربح على المدى الطويل. أيضا كان رأس المال الاستثماري متوفرا من البنوك الاستثمارية الرئيسية في وول ستريت ونظرائها من البنوك الأجنبية. كل ذلك بدأ يتغير بسبب أن رؤوس الأموال الكبيرة أصبحت متوفرة للاستثمار ليتم التعامل بها من قبل مديري الأموال المهنيين بدلا من مالكي رؤوس الأموال أنفسهم. 
     أحد مصادر رأس المال الجديد هذا كانت صناديق التقاعد. حيث  في العقود التي اعقبت الحرب، عندما ظهرت الصناعات الأمريكية الرئيسية في الحرب العالمية الثانية كاحتكارات تمثل القلة مع منافسة محدودة وأسواق كبيرة ومتوسعة في البلاد وخارجها، سمحت لها ارباحها وآفاقها المستقبلية بتبني خطط التقاعد المحددة لفائدة العاملين، مع المخاطر التي تنطوي عليها والتي تتحملها الشركات نفسها. ومن السبعينات فصاعدا، وبسبب من أن الاقتصاد الأمريكي أصبح أكثر تنافسية، باتت أرباح الشركات غير مؤكدة أكثر، وحاولت الشركات ( فضلا عن مؤسسات القطاع العام المختلفة) تحويل الخطر من خلال وضع صناديق التقاعد التابعة لها بأيدي مدراء الأموال المهنيين، الذين توقعوا توليد ارباح إضافية منها. لذلك أصبح دخل التقاعد للعاملين الآن لا يعتمد على أرباح أصحاب العمل لكن يعتمد على نصيبهم من صناديق التقاعد.
    كان هناك مصدر أخر لرأس المال الجديد يتمثل بالجامعات ومنح المنظمات غير الربحية الأخرى، التي نمت في البداية بفضل التبرعات لكنها توقعت مزيدا من النمو وبشكل متزايد اعتمادا على أداء استثمارتها. وأتى مصدر أخر لرأس المال الجديد من الأشخاص والحكومات في العالم النامي، حيث قاد النمو الاقتصادي السريع، مترافقا مع ميل أو استعداد كبير للتوفير والرغبة في آفاق الاستثمار الأمن نسبيا، إلى حدوث تدفقات مالية كبيرة نحو النظام المالي للولايات المتحدة. 
    لقد حفزت هذه الفرص الجديدة جزئيا، البنوك الاستثمارية التقليدية في وول ستريت لتحويل نفسها علنا إلى شركات تداول - وهذا يعني، أنها، بدأت في الاستثمار ليس فقط بأموالها الخاصة لكن أيضا بأموال الناس الآخرين- وربطت مكافآت شركائها وموظفيها بالأرباح السنوية. كل ذلك خلق نظاما ماليا تنافسيا عاليا، يسيطر عليه مدراء الاستثمار المتعاملون برؤوس الأموال الكبيرة المقامرة، التي توظف على اساس قدرة المدراء المفترضة للتفوق على أقرانهم. وقد قادت بنية المحفزات في هذه البيئة مدراء الصناديق أو الأموال إلى محاولة تعظيم العائدات قصيرة الأجل، وهذه العملية تجري وصولا إلى المسؤولين التنفيذيين في الشركات. وقد خلق الأفق الزمني المتقلص إغراءا لزيادة الأرباح بشكل فوري على حساب الاستثمارات الطويلة الأجل، سواء في البحث والتنمية أو في تحسين مهارات القوى العاملة في الشركات. وبالنسبة إلى المدراء والموظفين، كانت النتيجة زبد مستمر يزيد من إمكانية فقدان العمل وانعدام الأمن الاقتصادي.
                                       التباين في تحصيل المجموعات
    في دول أوروبا الغربية (على وجه الخصوص دول أوروبا الشمالية) التي تتوفر على  مستويات أعلى بكثير من المساوة مقارنة بالولايات المتحدة تميل إلى أن يكون سكانها أكثر تجانسا من الناحية الإثنية. في حين، جعلت الموجات الأخيرة من الهجرة الداخلة الكثير من المجتمعات المتقدمة ما بعد الصناعية أقل تجانسا من الناحية الإثنية، حيث يبدو تقسيمها أيضا وعلى نحو متزايد على طول خطوط المجموعات، إذ تظهر بعض المجموعات المهاجرة أنماطا مرضية أكثر مقارنة بالسكان الأصليين، في حين يكون أداء مجموعات أخرى أسوأ. في المملكة المتحدة، مثلا، يميل أداء أطفال المهاجرين الصينيين والهنود ليكون أفضل من أداء السكان الأصليين، في حين، يميل أداء أطفال المهاجرين السود من الكاريبي والباكستانيين ليكون أسوأ. في فرنسا، يميل أداء المنحدرين من فيتنام  ليكون أفضل، في حين يميل اداء أولئك المنحدرين من شمال افريقيا ليكون أسوأ. في إسرائيل، يميل أداء أطفال المهاجرين الروس ليكون أفضل، في حين يميل أداء أطفال المهاجرين من أثيوبيا ليكون أسوأ. في كندا، يميل أداء أطفال الصينيين والهنود ليكون أفضل، في حين يميل أداء ذوي الأصول الكاريبية والأمريكية اللاتينية ليكون أسوأ. يمكن تفسير الكثير من هذا التباين في التحصيل الدراسي من خلال التباين في الخلفيات الطبقية والثقافية للمجموعات المهاجرة في بلدانها الأصلية. ولكن بسبب من أن الجاليات نفسها تكون بمثابة ناقلة أو حاضنة لرأس المال البشري، لذا يمكن للأنماط هذه أن تستمر عبر الزمان والمكان.
   في حالة الولايات المتحدة، تلعب الهجرة الداخلة دورا أكثر في مفاقمة حالة التفاوت، إذ تميل الدينامية الاقتصادية للبلاد، والانفتاح الثقافي، والموقع الجغرافي لجذب بعض المهاجرين الأفضل والألمع تعليما وكذلك أولئك الأقل تعليما. وهذا يعمل بدوره على رفع وخفض الدخل في السلم الاقتصادي.
                                 لماذا لا يكون التعليم دواء شافيا؟
     تنامي التعرف على زيادة التفاوت الاقتصادي والتراتب الإجتماعي في المجتمعات ما بعد الصناعية من الطبيعي أن يقود إلى مناقشات حول ما الذي يكن عمله حيال ذلك، وفي السياق الأمريكي، يكون  الجواب تقريبا من جميع الجهات بسيطا: التعليم.
    يركز أحد خيوط هذا المنطق على الدراسة في الكلية. فهناك فجوة متنامية في فرص الحياة بين الأشخاص الذين أكملوا الكلية وأولئك الذين لم يكملوها، ويوجد برهان حول هذه الوضعية، لذلك يجب أن يتوجه أكبر عدد من الناس قدر الإمكان إلى الدراسة في الكليات. لسوء الحظ، رغم أن نسبة عالية من الأمريكيين يواصلون دراستهم في الكليات، لكن ليس بالضرورة أنهم يتعلمون أكثر. حيث أن عددا متزايدا منهم يكون غير مؤهل للعمل بمستوى شهادة الكلية، ويترك الكثير منهم الكلية بدون اكمال درجاتها العلمية، ويحصل آخرون على الدرجات العلمية لكن معاييرها تكون أقل بكثير مما كان يتم فهمها على أنها شهادة جامعية.
    لكل هذه الأسباب، يبدو أن التفاوت في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة ينمو وبشكل حتمي، على الأقل في الوقت الراهن. في الواقع، تشير احدى أقوى نتائج البحث الإجتماعي والعلمي المعاصر إلى أن الفجوة بين الدخول العالية والمنخفضة للأسر قد ازدادت، وبأن فجوة التحصيل الدراسي وإنجاز العمل بين أطفال هذه الأسر قد ازدادت أكثر.
                                        ما الذي يجب عمله؟
      تستمر الرأسمالية في الوقت الحاضر بإظهار فوائد ملحوظة وفرصا مستمرة أكبر بالنسبة إلى التهذيب الذاتي والتنمية الشخصية. ومع ذلك، تأتي الآن أكثر من أي وقت مضى، تلك الإيجابيات مترافقة مع سلبيات، خصوصا تنامي التفاوت وانعدام الأمان. وكما لاحظ ماركس وانجلز بشكل دقيق، أن ما يميز الرأسمالية عن الأنظمة الإجتماعية والاقتصادية الأخرى هي " الثورة المتواصلة في الإنتاج، الاضطرابات المتواصلة في جميع الأوضاع الإجتماعية، وعدم اليقين الدائم والهياج."
    تتمثل احدى العلاجات المحتملة لمشكلات تنامي التفاوت وعدم الأمان ببساطة بإعادة توزيع الدخل من أعلى الاقتصاد إلى أسفله. مع ذلك، تتوفر هذه الطريقة على عقبتين. تتمثل الأولى في أنه بمرور الوقت، تؤكد القوى التي تقود تعاظم التفاوت ذاتها. وتتمثل العقبة الثانية في أنه عند نقطة معينة، ينتج عن إعادة التوزيع استياء كبير يعيق القوة المحركة للنمو الاقتصادي. وتكون درجة معينة من إعادة توزيع الدخل ما بعد السوق من خلال فرض الضرائب ممكننة وضرورية، ولكن لا يمكن تفادي النزاع، ومن ثم، فإن ذلك لن يحل المشاكل الأساسية.
    يتمثل التحدي الذي يواجه السياسة الحكومية في العالم الرأسمالي المتقدم في كيفية المحافظة على معدل من الدينامية الاقتصادية يعمل على توفير منافع متزايدة للجميع في حين تستمر الحكومة في معالجة إدارة دفع ثمن برامج الرعاية الإجتماعية المطلوبة بنجاح لجعل حياة المواطنين من الممكن احتمالها في ظل ظروف تنامي التفاوت وانعدام الأمان. وستتعامل بلدان مختلفة مع هذا التحدي بطرق مختلفة، بسبب اختلاف أولوياتها، وتقاليدها، وحجمها ومميزاتها الديمغرافية والاقتصادية. لكن يمكن أن تكون نقطة البداية المفيدة رفض كل من سياسة الامتيازات وسياسة الاستياء وتبني رؤية حصيفة لما تنطوي عليه الرأسمالية في الواقع، خلافا لتمجيد متعبديها وشيطنة منتقديها.
المقالة بقلم البروفسور د. جيري مولر، من مواليد عام 1954، أستاذ التاريخ في الجامعة الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأمريكية، مؤلف كتاب "العقل والسوق: الرأسمالية في الفكر الغربي." 
الترجمة عن مجلة:Foreign Affairs, Volume 92, Number 2, March| April 2013.   
 *نشرت في مجلة "الثقافة الجديدة"، العدد 373، أيار 2015.       


45
ملاحظات في جغرافية التنمية والتخلف

ترجمة: د. هاشم نعمة
    منذ فترة طويلة اهتم الجغرافيون وعلماء الاجتماع الآخرون بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي الموجود سواء بين الدول أو بين المناطق. وقد ساهمت اعمالهم في فهمنا للتنمية، بتعريفها عموما بأنها عملية من خلالها تُحسن الدولة الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها وكذلك معرفة حصيلة هذه العملية. وتبنى العلماء من مختلف التخصصات مثل الاقتصاديين، والسسيولوجيين، والانثربولوجيين ومن علم السياسة وجهات نظر مختلفة لدراسة التنمية؛ لكن المساهمة المميزة للجغرافيين تتحدد بأنهم ينظرون لعملية التنمية بإطارها الواسع والشامل والذي يدمج الخاصيات البشرية والبيئية للبلد مع إرثه التاريخي الفريد وعلاقاته مع البلدان الأخرى.
      وبالرغم من أن المصطلح يستخدم على نطاق واسع، لكن مفهوم التنمية باعتباره عملية قد تغير عبر الوقت ولا يزال مثيرا للجدل للغاية. وكانت فكرة التنمية قد أصبحت فكرة عامة في الخمسينات من القرن العشرين عندما بدأ الكثير من المستعمرات السابقة بالحصول على استقلاله. وبالنسبة لهذه البلدان، فإن نجاح خطة مارشال في أوروبا التي اعقبت الحرب العالمية الثانية أصبحت نموذجا يحتذى به. كنتيجة، ركزت التنمية في الخمسينات والستينات على نمو الناتج الوطني الإجمالي لكل شخص من خلال الاستثمار في القطاعات الاقتصادية الرئيسية ومشاريع البنية التحتية، التبادل التقني، والتعويل على الأسواق المفتوحة. طريقة التنمية هذه أو هذا النموذج  اصطلح عليها بـ "التحديث" وكانت قد ارتبطت باسماء علماء مثل والتر روستو، الذي كتب مقالة مؤثرة للغاية بعنوان "مراحل التنمية الاقتصادية" عام 1959. 
     في السبعينات بات واضحاً، بأنه بالرغم من جهود عقود من الزمن، لم يشهد الكثير من بلدان العالم الثالث نمط التنمية المتوقع بحسب نظرية التحديث. في الواقع، في العديد من هذه البلدان، ساءت أوضاع الفقر والتفاوت. وبدأت مجموعة اخرى من العلماء تؤكد بأن التحديث ببساطة قد عزز من الأنماط التاريخية الاستعمارية، لأن الطريق الوحيد للبلدان الفقيرة لتنمية رأسمالها المستثمر كان يتمثل في الاستمرار في تصدير المحاصيل الزراعية والمواد الخام إلى الدول الصناعية. وقد أكد الكتاب مثل فرانك بأن هذا الوضع قد اطلق عملية التخلف بسبب من أن اسعار صادرات القطاع الأولي من البلدان الفقيرة كانت تتجه للانخفاض عبر الوقت، في حين هذه البلدان مضطرة لدفع اسعار عالية مقابل الواردات الصناعية من الدول الصناعية. وقد استخدم والرشتاين هذا الإطار ليتوصل إلى أن "النظام العالمي" يضم المركز، وشبه الهامش والهامش، مكانيا يتمثل نمط الدول الصناعية  "أو المركز" بالدول التي تطورت على حساب العالم الثالث أو بلدان "الهامش" التي تزود هذه الدول بالمواد الخام. أما بلدان شبه الهامش فكانت تلك التي تشترك بمميزات مشتركة مع كلا المجموعتين من الدول. واستنادا إلى فرانك ووالرشتاين، فإن طبيعة النظام العالمي تقضي على جهود بلدان الهامش لتنمية اقتصادياتها.
    هذا النقد الموجه لمشروع التحديث اصطلح عليه بأشكال مختلفة منهج البنيوية، التبعية أو منهج الأنظمة العالمية. وهو يقترح أنه بدلا من نمو الصادرات الأولية، ينبغي أن تسعى بلدان الهامش لتصبح معتمدة على نفسها في إنتاج السلع المصنعة بواسطة فرض ضرائب عالية أو تعريفات على السلع الصناعية المستوردة، مترافقة مع تأميم الصناعات الرئيسية كوسيلة لكسر دائرة الاعتماد على دول المركز. وعلى نطاق أوسع، يستخدم مصطلح البنيوية، في الوقت الحاضر، للإشارة إلى أي منهج يقر بأن التفاوت في التنمية ناجم عن النظام العالمي المترابط والذي تكون فيه التنمية في بعض البلدان على حساب البلدان الأخرى. ومقالة غرانت وناجمان المعنونة "إعادة قياس التنمية غير المتوازنة في غانا والهند"، مثال جيد لوجهة النظر هذه، حيث أشار الباحثان بأن اتجاهات العولمة المعاصرة فاقمت عمليات التنمية غير المتوازنة في غانا والهند. 
   في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات نتج عن انهيار الإتحاد السوفيتي التحول إلى نهج السوق الحرة في الكثير من البلدان الاشتراكية والشيوعية السابقة. وقد سقط نموذج الدولة المركزية للتنمية الذي دعا له البنيويون باتجاه زيادة الاستياء، وتحول سياسة التنمية إلى الليبرالية الجديدة، مع التأكيد على خفض حجم الحكومة، وخصخصة الصناعات التي تملكها الدولة، والتوقف عن ضبط الاسعار والمساعدات، وتعزيز الصادرات من خلال تخفيض قيمة العملة. هذه الحزمة من الوصفات السياسية، اصطلح عليها بالتكيف الهيكلي، قد دُعمت بقوة من قبل الوكالات الدولية المانحة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باعتبارها إجراءات صعبة ولكنها تمثل "دواءا" ضروريا لتمكين البلدان النامية من تقوية اقتصادياتها. في الوقت الحاضر، وبعد أكثر من عشرين سنة على برامج التكيف الهيكلي ظهرت فقط نتائج مشكوك فيها في معظم الحالات، لذلك بدأت بالتزايد الانتقادات الموجهة لهذا النهج.
     أخيرا، اقترح عدد متنامي من العلماء مناهجا بديلة للتنمية تتجاوز ثنائية البنيوية مقابل الليبرالية الجديدة. مقالة آ. ببنغتون ود. ببنغتون المعنونة "بدائل التنمية: الممارسة، المعضلات، والنظرية"، تفحص معرفة التنمية البديلة. حيث ينتقد الباحثان نظريات التنمية البديلة بالقول بأن علماء التنمية يجب عليهم التعامل مع السياسة العالمية الحقيقية. هذه المقالة أيضاً تتناول دور المنظمات غير الحكومية في عملية التنمية. البعض يسأل فيما إذا يمثل تزايد دعوات المشاركة والبحث عن بدائل للتنمية تغييرا حقيقيا، أو أنه مجرد إعادة تعبئة بسيطة لمفهوم التنمية دون معالجة القضايا البنيوية الأساسية للتفاوت والفقر. 
    رد فعل آخر على فشل الإصلاح الاقتصادي المستند إلى الليبرالية الجديدة كان قد تمثل في صعود "الجغرافية الاقتصادية الجديدة". والمفارقة الكبيرة هي أن أكبر عدد من العلماء الباحثين في هذا الحقل الفرعي الذي برز بسرعة هم اقتصاديو التنمية، وليس الجغرافيون. وقد دعا الاقتصاديون العاملون في هذا الميدان إلى إعادة اكتشاف أهمية الجغرافية وهم يستخدمون هذا المنهج لتفسير لماذا يشهد بعض مناطق العالم الجنوبية أداءا باهتا في التنمية رغم الاصلاح الاقتصادي المستند إلى الليبرالية الجديدة. ويشير الكثير من الجغرافيين بأن هذا المنهج يمكن أن يحيل اساس الاختلاف في أداء التنمية إلى "الطبيعة". وهذا يمثل مشكلة بسبب أنه يحجب التباينات القوية الموجودة داخل وبين الدول، والعلاقات التجارية غير العادلة، التي تمتلك تأثيرا هائلا على مسارات التنمية. هذه البراهين المعارضة ملخصة بشكل دقيق بمقالة بعنوان "الجغرافية، الثقافة، والنماء" للباحث اندريس أوبنهايمر.
    من هذه القراءات يصبح واضحا بأنه لا توجد نظرية واحدة يمكن أن تفسر بشكل كامل لماذا توجد تباينات جغرافية في التنمية عبر العالم. ومع ذلك، اخذ هذه النظريات مجتمعة، يزودنا بمادة غنية عن الكثير من العوامل التي تساهم في التنمية، وكذلك يفيدنا بتعريف هذه العملية الذي يوصف بالمهمة المعقدة، ويستفزنا للاستمرار بالبحث في هذا الميدان الهام.

الترجمة عن كتاب:  William G. Moseley et al.,(eds.)The Introductory Reader in Human Geography (Malden, Oxford, Victoria: Blackwell Publishing, 2007)             
         

46
الفكر الطائفي والدولة*
د. هاشم نعمة
      أثار موضوع ادلجة الدين وتسيسه وتوظيفه للدفاع عن مصالح طبقية وفئوية وشخصية الكثير من الحوار والنقاش على المستوى الفكري والسياسي والثقافي، وذلك بغية تحليل وفهم وتفسير هذه الظاهرة، ومدى انعكاساتها وتجلياتها وتأثيراتها في صيرورة تطور المجتمعات، وبناها السياسية في البلدان العربية والإسلامية. وتم ذلك وفق مناهج متباينة، ساهم بعضها عن قصد أو بدونه  في اخفاء الخلفية الاجتماعية- الاقتصادية- السياسية الحقيقة لبروز الطائفية عبر مراحل تاريخها الطويل. وقد توسع النقاش والبحث بمديات أوسع، بعد أن وصلت إلى السلطة احزاب الإسلام السياسي، في بعض البلدان العربية التي شهدت سقوط رؤوس انظمتها، نتيجة الانتفاضات التي اندلعت فيها. هذا المعطى الجديد ساهم في المحصلة النهائية، في إعاقة إعادة بناء الدولة على أساس مدني ديمقراطي، ولعله من المفيد هنا لفهم سياق تطور هذه الظاهرة وانعكاساتها، تحليل الخلفيات التاريخية والاجتماعية- السياسية والفكرية التي غذتها وما زالت تغذيها، وتأثيرات ذلك في بناء الدولة.
    بدايات الإسلام السياسي
       بدأ التيار الأصولي أو السلفي يترسخ وينتصر منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وهو ليس من اختراع اليوم. فالأصوليون الحاليون لهم جذور في الماضي. وهم يترعرعون داخل أرضية مؤاتية ومناسبة، أرضية تم التمهيد لها منذ زمن طويل. من هنا يكمن سر قوتهم وانتشارهم السريع. إن الاتجاه الذي انتصر عبر التاريخ تمثل في المذاهب السنية من جهة والمذاهب الشيعية من جهة اخرى. ولكن المذهبين السني والشيعي تعرضا لجمود خطير أو لتقلص فكري خطير بدءا من القرن المذكور، على حد تعبير محمد أركون. واستمر ذلك حتى يومنا هذا. وهذا الانغلاق التاريخي لم يدرس بشكل علمي من قبل المفكرين المسلمين.
     والملاحظ لا تزال أصول الفقه وأصول الدين تدرس حتى اليوم في كليات الشريعة والمعاهد التقليدية كما كانت تدرس في القرون الوسطى! بل أن هذه الأصول كانت تدرس في العصور الوسطى الأولى بشكل أفضل مما هي عليه اليوم. لأنه كانت تحصل آنذاك مناظرات بين المذاهب الشافعي والحنفي والمالكي، بل وحتى بين المذهبين السني والشيعي، وظلت المناظرات تحصل بشكل سلمي حتى القرن العاشر الميلادي، أي أثناء الفترة التعددية المبدعة من عمر الحضارة العربية- الإسلامية. ثم اختفى الحوار السني- الشيعي بعد القرن الحادي عشر وانتصار السلاجقة الأتراك الذين دشنوا العزلة التاريخية بين المذاهب الإسلامية، واقفلوا باب الاجتهاد وقضوا على التعددية العقائدية. ولذلك يؤرخ لعصر الانحطاط ببداية عهدهم)1) والذي استمر إلى وقتنا الحاضر، ويتجلى بالأخص في التقوقع المذهبي والطائفي وأخطر ما فيه استثماره لتحقيق أغراض سياسية- اجتماعية نفعية.
    وحسب الباحث الإسلامي أحمد الكاتب، هناك انقسام آخر في بنية المجتمع، نتج لا بسبب الاستبداد، بل بسبب الفكر الطائفي الذي يمزق الناس بين شيعة وسنة. مصدره ينبع من الفكر القديم الموروث، الذي هو فكر ميت حاليا. يعتمد على معارك تاريخية منقرضة وبائدة. إنه صراع وهمي، أسبابه سياسية مصلحية، وبالتأكيد لا دينية. حيث أن الإيمان بنظرية تاريخية، حول أحقية فلان بالخلافة على فلان، منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة، لا يستدعي الخلاف مع الآخرين. وربما كان "رجال الدين" بالمعنى المتعارف عليه اجتماعيا، أي رجال المذاهب وسدنة الفكر القديم، أبعد الناس عن عملية الإصلاح، خصوصا إذا كانت تلك العملية تهدد مصالحهم الاقتصادية والسياسية.(2) وهذا إقرار واضح من باحث متمرس بالبعد السياسي والاجتماعي والاقتصادي للطائفية.     
       بدأت ارهاصات الإسلام السياسي بعد ما سمى بالصحوة الإسلامية التي قادها جمال الدين الأفغاني(3) وتلامذته مثل محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي  وغيرهما، غير أن الأول لم يكن ينادي بالدولة الإسلامية أو ما يعبر عنه بالإسلام السياسي الذي تتبناه الأحزاب الإسلامية كإيديولوجية، بل كان يدعو إلى نظام الخلافة العثمانية ويؤيدها مع الدعوة إلى بعض الاصلاحات. ولكن بعد أن رأي رجال الاصلاح أن هذه الصحوة لا بد لها من إيديولوجية تقوم بتأطير المسلمين وأفكارهم، وبعد أن أدركوا جيدا أن الإسلام التقليدي لا يتوافر على عناصر التحضر وأهمها تشكيل الدولة الإسلامية، عملوا على أدلجة الدين والبحث في التراث عن مقدمات وعناصر تشكيل النظام السياسي الإسلامي.
     إن أول من طرح هذا المشروع هو عبد الأعلى المودودي الباكستاني الذي عاش الصراع الديني الهندي الباكستاني المرير وطرح مسألة الدولة الإسلامية التي تقوم على أساس تطبيق الشريعة مقابل الحركات العلمانية في الهند التي تبنت الطابع الغربي في صياغة نظامها ودساتيرها. ومنه انتقل المشروع إلى مصر حيث تبنته حركة الأخوان المسلمين وبعض المفكرين الإسلاميين أمثال سيد قطب ومحمد قطب ومحمد الغزالي وغيرهم من رموز الإسلام السياسي.
      وبالنسبة للشيعة فقد بدأ الإسلام السياسي بالتحرك والنمو من خلال كتابات محمد باقر الصدر والسيد حسين فضل الله وعلي شريعتي والخميني الذين دعوا إلى إقامة الدولة الإسلامية بعد أن وجدوا أن التشيع التقليدي لا يكفي لممارسة دور الريادة والقيادة في اطار التنافس الحضاري بين الشرق والغرب. وكان التشيع التقليدي عازفا عن تولي السلطة وهمه الأول ترسيخ عقائد الشيعة والرد على خصومهم من الوهابية، و بدأ علماء الدين المشار إليهم بالدعوة إلى تشكيل حكومة ونظام سياسي يستوحي مقوماته من النصوص الدينية والتراث الإسلامي، بعد ورود الثقافات والايديولوجيات إلى البلاد الإسلامية وتأثر الكثير من المثقفين بها وامتدادها في الوسط الجماهيري وخاصة بالنسبة إلى انتشار الفكر الشيوعي، أحس هؤلاء العلماء بضرورة وجود ايديولوجية إسلامية أي أدلجة الدين تصد هذا التيار وتملأ الفراغ الفكري والعقائدي لدى الشباب.(4) لذلك تأسست أحزاب إسلامية شيعية وسنية على أساس طائفي مستفيدة من هذه المرجعية الفكرية الدينية كما في الحالة العراقية.
     والملاحظ أن الإسلام السياسي في العراق لم يستطع في العقود الخمسة الأولى من عمر الدولة العراقية تشكيل بنية سياسية مؤثرة، بل أن تأثيراته انحبست في المناسبات الدينية والمدارس الفقهية والفتاوي الشرعية. وساهمت تأثيرات الأحزاب السياسية العلمانية على الكتل الشعبية في صياغة هوية وطنية عراقية شكلت سدا كبيرا أمام نمو وتطور الطائفية السياسية(5) في تلك الفترة.
      ساهم ظهور الأحزاب الإسلامية بإذكاء الطائفية وتعميقها، وبما أن الطائفية فعل تفتيتي، فهي لا تتوقف عن ممارسة فعاليتها عند نقطة معينة محددة، قد تبدأ من نقطة ما، لكنها تنفجر ما لم يتم محاصرتها بأسرع وسيلة. المهم أن الطائفية تمارس تفتيتها لكل ما هو بناء ونظام حتى تصل إلى الإنسان ذاته فتشطره إلى نصفين، قوتين متقاتلتين تبادلا للسيطرة والعنف. والملاحظ في البداية كان الارتداد إلى الأصول والجذور، إلى "التراث" الذي يمثل بالنسبة للبعض حماية من عراء الهزيمة، وكان عند البعض الأخر موضوعا للتأمل والدراسة والتساءل. ومع تنامي فعل التفتيت الطائفي ينحسر كل تيار في خندق خطاب مغلق لا يعترف بالخطاب الآخر ولا يدخل معه في حوار مباشر. في الخطاب الطائفي النقيض – الذي يحمل شعار الإسلام- تنعكس كل الصور، وتتضخم الأنا تعويضا عن الهزيمة والتبعية، وتتحدد الهوية على أساس "الدين"، ويتم اضطهاد الآخرين(6) باعتبارهم اعداء وأحد اسباب تخلف الأمة وإعاقة نهوضها.
     يمكن القول أن الطائفية هي نتاج تفاعل عوامل سياسية- اقتصادية- اجتماعية ذات مساس مباشر بحياة الفرد اليومية، امتزجت مع تهديدات أمنية للهوية الثقافية للمجتمع، وتراكم مشاعر العجز والإحساس بالضعف، والفشل، والإحباط، والخوف أو انعدام الشعور بالأمن . لتشكل توجهات اجتماعية تعصبية نحو الآخرين الذين يختلف معهم الطائفي في تفسير المعتقدات الدينية. وهي حالة تتمسك بتفسير مدرسة فقهية واحدة للدين، بوصفه التفسير الوحيد المعبر عن اساسيات الدين. والطائفية كظاهرة اجتماعية وحركة سياسية لا يمكن عزلها عن موجة التدين و التأسلم، أي استخدام الدين في السياسة لتحقيق اغراض دنيوية لاعلاقة لها بالدين، أو حسابات الآخرة.(7) ولهذا نرى النخب السياسية الطائفية تسعى من اجل تحقيق المزيد من المكاسب السياسية، وتوظيفها للحصول على المزيد من المكاسب المادية لتقوية نفوذها الاجتماعي وموقعها الطبقي، وهذا المسار ببساطة يتنافى مع الجانب الروحي المفترض المتمثل بطلب دخول الجنة!     
   
الطائفية والدولة العراقية
     بعد قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921، ورغم ان العراق نال استقلاله من بريطانيا عام 1932، إلا أن السياسة الداخلية كانت في العهد الملكي حتى ثورة 14 تموز 1958 تدار من قبل البريطانيين والضباط العثمانيين السابقين، السنة، والعائلة المالكة (الشريفيين). في حين أن نواحي عديدة من الحياة السياسية العراقية في ظل الحكم الملكي، كانت تعكس الدوافع المختلفة لهذه المجموعات الثلاث، فإنها كانت تتشاطر قدرا من المصلحة المشتركة في محاولتها تحجيم موقع الإسلام الشيعي في العراق. واستمرت محاولة الدولة لتحجيم الإسلام الشيعي بعد سقوط الملكية عام 1958، لتبلغ هذه المحاولة ذروتها في ظل البعث(8) عبر إقامة دولة بوليسية شمولية سيطرت على كل مفاصل المجتمع. رغم أن هذا التحجيم خف كثيرا في السنوات الأولى لثورة 14 تموز، وهذا يعود إلى التغيرات التي حدثت في بنية النظام السياسي، وتوجهات قيادة الثورة غير الطائفية، وإلى تنامي دور اليسار الواسع وبالأخص الحزب الشيوعي العراقي في الساحة السياسية. 
     وحسب حنا بطاطو من الحقائق المثيرة للاهتمام، والنابعة من تجاور الملامح الدينية والاجتماعية للعراق في العهد الملكي في العشرينات من القرن الماضي كانت درجة القربى القائمة بين الولاء الطائفي والموقع الاجتماعي في أجزاء مختلفة من جنوب البلاد ووسطها. وباختصار فإن ثنائية السنة-الشيعة توافقت إلى درجة غير ضئيلة مع الانشقاق الاجتماعي الاقتصادي العميق الجذور. ولا يمكن تأكيد أو انكار أن التباينات الطبقية هنا كانت هي الأصل، وكانت التباينات الدينية هي الفرع. وقد تغيرت اتجاهات علاقة الطوائف بالطبقات، خلال العقد الأخير من العهد الملكي. فبين سنتي 1947-1958 وصل أربعة من الشيعة إلى منصب رئاسة الوزراء. والواقع أن ارتفاع الموقع الاقتصادي للشيعة هو ما يفسر إلى حد كبير التغير الذي حصل في منزلتهم الاجتماعية، وهو ما دفع في الوقت نفسه باتجاه زيادة حصتهم في سلطة الدولة. ومع هذا أن التماثل بين الانقسامات الطائفية والطبقية لم يكن كاملا أبدا، فكان هناك سنة فقراء جدا، وأن هؤلاء وفقراء الشيعة كانوا إخوة في الشدة.(9) وهذا يعكسه بجلاء التعايش والتمازج الاجتماعي السلميين لجميع المكونات الدينية في عموم العراق.
    إذن لا يمكن انكار أن المسألة الطائفية لها جذورها العميقة في تشكيل الدولة العراقية الحديثة عام 1921، حيث ولدت ككيان هش متصدع لم يمتلك أسسا للاندماج الوطني، مما انعكس في ممارسات ذات طبيعة طائفية تم التعبير عنها بسبل الحرمان والاحتكار والاقصاء، انبتت في جسد الدولة، ونخرت في نسيجه الوطني، وأضعفت من وحدة المجتمع واستقراره. إن الإقرار بذلك هو البداية الصحيحة للحل المتمثل في إعادة بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة تعتمد المواطنة، ونظام حكم ديمقراطي يلتزم بتحقيق المساواة بين مختلف العراقيين، بغض النظر عن انتمائهم الديني والقومي والسياسي، ويقوم على أساس الوحدة الوطنية والعدالة ودولة القانون والمساءلة.(10) هذا التوجه في بناء الدولة والنظام السياسي يعكسه بوضوح المشروع الوطني الديمقراطي الذي طرحه الحزب الشيوعي العراقي منذ عام 2007، والذي لم تتعامل معه الكتل السياسية الطائفية المتنفذة بجدية؛ لأنه يقف بالضد من مصالحها القائمة على تعميق الاستقطاب الطائفي واستثماره سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
      ولحسن الحظ لا يوجد ذكر أو إشارة إلى السنة أو الشيعة في أي من الدساتير العراقية، بما فيها الأخير الذي أقر عبر استفتاء شعبي عام 2005، فهاتان الكلمتان بالتحديد هما في طي الكتمان أو الخفاء، كما لو كانت الهوية الطائفية مخجلة ومشينة. وكانت التصورات التوحيدية المستندة إلى العروبة تنزع الشرعية ايضا عن كل خطاب طائفي. ساهم الجميع إذن في تواري الهويات الطائفية التي اخذت تميل إلى الاضمحلال دونما إقصاء واستهجان. لكن التضامن المحلي والعائلي والعشائري سيظل هو المنحى الرئيسي لطائفية غير معترف بها، حيث  سيسهم ذلك التضامن أيضا في حجبها وإخفائها. و لم يطالب النظام السياسي الذي أنشئ عام 1921 على نحو صريح، بأي شكل من أشكال التمييز الطائفي. وهكذا ففي داخل تصور هوية الدولة العراقية كمنت قواعد تمييز غير معترف به، بحيث لا بد من النبش عميقا للعثور على آثاره الجلية. والواقع أن التمييز الطائفي لم يكن متخفيا وراء نظام سياسي قام بمأسسة التمييز فحسب، بل كان محظورا عن أنظار أجيال بكاملها أيضا سواء من المستفيدين منه أو من ضحاياه،(11) لكنه سيظهر بقوة إلى السطح بعد سقوط النظام عام 2003 نتيجة تفاعل جملة من العوامل المحفزة له.   
      بعد سقوط النظام، عمقت سياسة الولايات المتحدة من الانقسامات الطائفية والإثنية، عندما بادرت إلى تشكيل مجلس الحكم على هذا الأسس، وكأن المجتمع العراقي ينقسم إلى كتل سنية وشيعية وكردية متجانسة وثابتة لا تعرف الحراك الاجتماعي والسياسي والطبقي داخلها، وهو منطق يخالف قوانين حركية البنية الاجتماعية- الاقتصادية وصراعاتها في أي مجتمع دع عنك مجتمع يمر في طور الانتقال إلى الحداثة. إن هذا التقسيم لم يأت اعتباطا، وإنما الغرض منه اضعاف النسيج الاجتماعي، وتفكيك بنية الدولة العراقية، وتحويلها إلى دولة طوائف ضعيفة بحيث تظل هذه الطوائف أو بالأحرى قياداتها تحتاج دائما لدعم الولايات المتحدة، التي تظل ممسكة بكل خيوط اللعبة تحقيقا لمصالحها الجيواستراتيجية في العراق والمنطقة.   
     وبعد تعاقب الحكومات العراقية التي قادتها الأحزاب الإسلامية، واستمرار هذه الأحزاب ممسكة بالسلطة، وهذا ما عكسته نتائج الانتخابات البرلمانية لعام 2014، ومن أجل الهروب من مواجهة المشاكل الاجتماعية الفعلية للمجتمع في لحظة تطوره الملموسة، تؤسس إيديولوجيا الخطاب الطائفي نسقا مجردا، وتساهم بالتالي في تعطيل حركية الواقع الاجتماعي وفهم تناقضاته الكبرى من خلال التأكيد الدائم، بشكل مضمر تارة ومكشوف تارة أخرى، على أن مشكلة العراق اليوم هي مشكلة طائفية وليس مشكلة سياسية – اجتماعية، وأن حلها يعني حلا لكل مشكلات العراق الأخرى. هكذا يتم اختزال الأسئلة المتعلقة بالأزمة المجتمعية والسياسية العميقة في جواب أحادى الجانب هو " التمييز الطائفي" و "مظلومية الطائفة"، و " التوازن الطائفي"، وان إلغاء هذا التمييز وهذه المظلومية كفيل بحل مشكلات العراق !.(12) هذا الخطاب، في الواقع، يعيد إنتاج الطائفية ولا يمكن أن يكون ابدا حلا لها.
    وعن علاقة الدولة بالطوائف، تسعى النخب السياسية الطائفية أن تكون الطوائف كيانات مستقلة منغلقة قائمة بذاتها، ولا تقوم علاقات اجتماعية سوى بين الطوائف، ولا يمكن لمثل هذه العلاقات أن تتحدد إلا كعلاقات طائفية. وهي في وجودها الكياني هذا بالذات بحاجة إلى الدولة التي تؤمن لها ديمومة وجودها. إذن الدولة في هذا المنطق الطائفي، تكون شفيعة الطوائف، وكفيلتها. والدولة بدورها، تكون بحاجة إليها، فلو لم تكن الطوائف، لما وجدت الدولة(13) الطائفية بالطبع. هكذا يعزز كل طرف وجود الآخر تبادلا للمصلحة. 
      تعد المسألة الطائفية في العراق إحدى العقبات الرئيسية التي تقف أمام التجانس الاجتماعي والإجماع الوطني، والوفاق السياسي، والتي تعرقل التوصل إلى مصالحة وطنية حقيقية تنهي الأزمة الوطنية العميقة، وإلى إعادة بناء الدولة والمجتمع. والطائفية بمعنى المذهبية العقائدية بحد ذاتها، كتعبير عن اجتهاد أو رؤية محددة في الدين، قد لا تكون هي المشكلة، إذا ما تم النظر إليها في حدود التنوع والتعدد المذهبي، لكنها تغدو مشكلة خطيرة حين تتحول إلى نظام سياسي يلغي أو يضعف الهوية الوطنية، ويقوم على أساس المحاصصة، دون اعتبار لمفهومي المواطنة والشراكة وحقوقهما وواجباتهما. ولقد اثبتت التجارب أن نظاما قائما على المحاصصة الطائفية السياسية يؤدي لا محالة إلى خلق حالة طائفية بكل أشكالها الفردية والمؤسساتية والثقافية والاجتماعية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من سلوكيات وتحيزات واصطفافات، تتجاوز الحياة الشخصية والخيارات الفردية، لكي تنعكس في النشاط العام وميادين العمل على شكل احتكاكات وأحيانا صراعات قاتلة(14) وهذا يتمثل بوضوح في الحالة العراقية الراهنة بكل تجلياتها.
     إن حل مشكلة هوية الدولة في العراق تكمن في تبني المشروع الوطني الديمقراطي الذي يؤسس لدولة مدنية ديمقراطية تعددية. ومن المفيد في هذا الصدد أن نذكر من التجارب السابقة لنا أن العلمانية لم تكن مجرد تعبير عن رغبة مزاجية لبعض الأفراد أو المجموعات الفكرية أو السياسية، بقدر ما كانت عبارة عن حل عملي فرضته الحروب الدينية التي شهدتها عموم أوروبا في القرنين السادس والسابع عشر. حيث مرت القارة على امتداد مائة وثلاثين سنة متتالية (1559-1689) أي منذ ظهور البروتستانتية في شمال أوروبا، ثم محاولة امتدادها نحو الوسط، باضطرابات سياسية وحروب دينية مفزعة. ففي فرنسا مثلا امتدت حروبها بين 1562- 1598 قبل أن تتجدد مرة أخرى في القرن السابع عشر، مخلفة وراءها ركاما هائلا من القتل والتدمير والانتقام المتبادل بين الكاثوليك والطائفة البروتستانتية الكالفينية. لذلك كانت العلمانية في صورتها العامة عبارة عن تسويات تاريخية فرضتها هذه الحروب.(15) وإلى جانب هذه الحروب، هناك عوامل أخرى تمثلت في التحولات البنيوية التي شهدتها البنية الاجتماعية-الاقتصادية، وصعود البرجوازية التجارية وثم الصناعية وانتهاء دور الإقطاع كل هذه العوامل مهدت لتبني الدول الأوروبية للعلمانية وتحييد الدين عن السياسة.
مشروع تقسيم العراق
     تصاعدت في دوائر أمريكية دعوات إلى "تقسيم هادئ" للعراق على أساس طائفي وإثني. وطرح جون بايدن مشرعه المعروف بتقسيم العراق إلى ثلاثة اقاليم شيعي وسني وكردي. ويثور السؤال التالي: ما هي فرص أن يثبت تقسيم "هادئ" للعراق أنه اقل عنفا من تقسم الهند عام 1947؟ الذي ما زالت نتائجه تتفاعل إلى الآن، وبالأخص تأزم العلاقات الدائم بين الهند والباكستان، إذ يرى الكثير من خبراء العلاقات الدولية أن هذا التقسيم يعد بمثابة الخطوة الأولى في تأجيج العنف على نطاق أوسع يشمل العراق والدول المجاورة.
      تاريخيا لم تكن الكيانات الإدارية التي شملت عراق اليوم مستندة إلى هوية طائفية وإثنية. ومن غير الممكن في أي فترة معينة خلال 1300 عام من حكم الإمبراطورية الإسلامية الحديث عن كيانات إدارية معترف بها بأنها شيعية أو سنية أو كردية خالصة. لذلك لم يكن للولايات الثلاث العراقية في العهد العثماني مظهر طائفي خاص علما أنها دامت ثلاثين عاما فقط!. وكان في بغداد شيعة أكثر مما كانوا في البصرة، بينما كانت الموصل أساسا ولاية تضم الكرد والعرب والتركمان والإيزيديين والمسيحيين وآخرين. وعندما فكر البريطانيون قليلا إبان الحرب العالمية الأولى في الفصل بين ولايتي البصرة وبغداد، كان تفكيرهم يرتبط بأهمية البصرة الاستراتيجية بوصفها المدخل إلى الهند، ولم يكن له أي شأن بالحسابات الطائفية(16) آنذاك.
      إن عدم الفصل بين ما هو طائفي ومذهبي وما هو إستراتيجي وسياسي من شأنه أن يشعل المنطقة العربية ويقلبها رأسا على عقب. فالخلط المتزايد بين الاختلافات السياسية والخلافات المذهبية والعقائدية من شأنه أن يفتت النسيج الاجتماعي بشكل قد يصعب التخلص من آثاره سريعا كما يحدث في العراق منذ عام 2003. ومن شأن بناء الهويات السياسية على أسس طائفية ومذهبية أن يعمق الخلافات الإقليمية التي سيصبح تجسيرها لاحقا أمرا في غاية الصعوبة خاصة مع إراقة الدماء الكثيرة.
   والآن لم يعد الفصل بين البعدين الداخلي والخارجي للمسألة الطائفية أمرا ممكنا بعدما تداخلا وتشابكا طيلة الفترة الماضية. لذا لم يكن غريبا أن يصف بعض الساسة والباحثين الغربيين ما يحدث الآن في المشرق العربي باعتباره انهيارا لترتيبات معاهدة سايكس- بيكو التي جرى الاتفاق عليها قبل قرن تقريبا وكانت سببا في ظهور النظام العربي بصورته الراهنة(17) وما رافق هذا النظام من صراعات ابرزها ما يتعلق برسم الحدود التي رسمت بشكل اعتباطي يلبي المصالح الجيواستراتيجية للدولتين المستعمرتين بريطانيا وفرنسا.
  نموذجان
      يعد النموذج اللبناني الذي يتبنى الطائفية السياسية، نموذجا صارخا من حيث تداعياته المدمرة على بناء مؤسسات الدولة والمجتمع، وإنتاجه المستمر للأزمات السياسية والأمنية والمجتمعية، علما هناك في الكتل الطائفية المتفذة في العراق من يعتبر هذا النموذج مثاليا، في حل اشكاليات توزيع السلطة والثروة والنفوذ! لذلك، من الناحية العملية، فإن تجربة العملية السياسية في العراق بعد سقوط  النظام باتت تسير باتجاه لبننته، لأن هذا النموذج يخدم مصالح النخب السياسية الطائفية، ويعطيها المزيد من النفوذ والقوة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. فما هي جذور ومكونات هذا النموذج؟   
    من المعروف في الستينات اخذت الجماهير في لبنان تشعر بوطأة الصراع الطبقي بصورة متزايدة ومتبلورة وحادة. علما أنه ينتمي الكثير من المسلمين إلى الطبقة الكادحة والفقيرة وإلى الشريحة الدنيا من متوسطي الحال، بينما يشعر المسيحيون أن النظام الاجتماعي القائم هو نظامهم باعتبار أنهم المستفيدون منه أكثر من غيرهم في تسخيره لخدمة مصالحهم. ومن المسلم به أن الفئات الإسلامية المرتاحة ماديا والمشاركة في الاستفادة من النظام القائم تقوم بدور هام في لترويج لشعارات سياسية-اجتماعية  مثل "بناء الجسور بين الطبقات" و"التفاهم والأخوة والمحبة". وحين تترجم هذه الشعارات إلى لغة الدين والطائفية تكون النتيجة الحوار الإسلامي- المسيحي، والتوافق بين الطوائف. وهذا الحوار هو محاولة تفاهم بين قيادات لشرائح اجتماعية –مسيحية ومسلمة- تملك الثروة ووسائل إنتاجها في البلاد وهي بذلك متنفذة ومسيطرة. والغاية النهائية من كل هذه الجهود هي المحافظة على النظام الطائفي القائم بكل مضامينه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية باسم الدين وغير الدين، وتغطية للصراع الطبقي المحتدم في المجتمع اللبناني وتحويلا للأنظار عنه،(18) رغم أنها لم تنجح دوما في هدفها هذا.

      وقد أخذ الجميع من إيديولوجي البرجوازية اللبنانية بمقولة، أن لبنان فريد من نوعه، في تركيبه الطائفي. حيث أن الفريد غير قابل للتغيير أو التغير، إنه الجوهر ابدا. لا يدخل في دائرة العام، ولا في دائرة عقله، فله عقله دون غيره. الم يكن بيار الجميٍل يردد دوما (الصيغة الصيغة، إنها فريدة حرام أن تتغير).

    لكن بعد سنوات من الحرب الأهلية، وبعد أن عجزت القوى الفاشية من فرض نظامها، أخذت تتأكد، في صيرورة هذه الحرب، ضرورة تغيير النظام السياسي القائم، كشرط لانتهاء الحرب، وأخذت مقولة الفرادة، تفقد وظيفتها في الدفاع عن هذا النظام، وفي الاسهام في تأمين ديمومته، من حيث أنها، في حقل الدلالات المحددة بحقل الصراعات السياسية الإيديولوجية الطبقية، وبتطوره، بدأت ربما تعني التحنط في صيغة جامدة.(19) غير أن اتفاق الطائف عام 1989 الذي نجح في وقف الحرب الأهلية، لكنه لم يعالج اسبابها الحقيقة والكامنة في بنية النظام السياسي وأزماته، الناتجة من تبني نهج الطائفية السياسية في الحكم، لذلك نرى الوضع اللبناني هشا ومتوترا باستمرار وقابلا للاشتعال على نطاق أوسع، وما يتم التوصل إليه من حلول بين النخب السياسية الطائفية إنما هو محاولة تجميل مؤقت للنظام الطائفي.

     إما في نموذج الإسلام الشيعي الإيراني الذي اقيم بعد سقوط نظام الشاه عام 1979 على أساس طائفي، حيث ينص الدستور الإيراني على تبني المذهب الجعفري، فقد اصبحت الدولة خادمة المؤسسة الدينية لأنه لها السلطة العليا، وبما أن منصب القائد العام أهم من منصب رئيس الجمهورية وللأول حق عزل الثاني، أي أن الدولة أداة المؤسسة الدينية. على هذا الأساس فإن مهمة المؤسسة الدينية هي ترويض الدولة أولا لخدمة استمراريتها، والدولة في تحالف مع المؤسسة تؤمن كذلك استمرارية الأولى، والشعب يخضع لترويض مضاعف، من جهاز الدولة والمؤسسة الدينية في نفس الوقت، وكلاهما يبرر شرعيته ويؤكدها بطريقته في حال التنابذ.
       تثبت المؤسسة الدينية لأتباعها أنها لا تتحرك في السياسة ولكنها تنقلب عليها متى ضيموا، وبهذا المعنى فهي تحافظ على أهمية رمزية في وعي الشعب الإيراني وعمق استراتيجي في التحولات الاجتماعية والسياسية، إنها تعلو على الزمان، فالقائد وجماعته من خارج الزمان لا يخطئون ولكن السياسي ضرورة أن يخطئ، ولا بد من رده عن خطئه. حيث يكون ذلك أكثر المواقع لاستمراريتها، إنه موقع الفاعل الرقيب، يدير المتغيرات دون ان يتغير.
     امتلاك المؤسسة الدينية كل وسائل السلطة ليس عمليا وليس في صالحها، فهناك قيادة عامة وخاصة، أي قيادة الولي المطلقة وقيادة رئيس الجمهورية المقيدة. يسعى ذلك لجعل الأولى مقدسة، والثانية مكشوفة مفضوحة، تنتخب الثانية فتتكشف كل خفاياها وعيوبها، وتمتنع الأولى عن ذلك لأنها هبة الله!.(20) علما أن الخميني قد عدل من أفكاره عن الحكومة والحكم نتيجة لممارسته قيادة الثورة أولا، ثم الدولة - طوال عشر سنوات- ثانيا، إلا أنه حافظ على تصوراته الأساسية عنهما: فالقائد حاكم مطلق تتجمع في يده السلطات كلها، ويتدخل في الشؤون العامة جميعا، رغم وجود أجهزة متخصصة لها. وفي الواقع لم يكن اعترض الخميني على إضافة "الديمقراطية" إلى اسم الجمهورية الإسلامية اعتراضا شكليا، عندما صرح بأنه لا معنى لإضافة هذه الصفة، لأن الإسلام ديمقراطي بطبعه، بل هو اعتراض فكري اساسا، فالديمقراطية تستند على تفويض الشعب، بينما حصل هو على تفويضه من الله!(21).     

      لهذا النموذج تناقضاته الداخلية ونقاط ضعفه، ابرزها انعدام التعددية السياسية، مما يعني أن النظام مع مرور الوقت يبدأ بفقد شرعيته، ويزيد هذا من المطالب بالتغيير، وما الحركات الاحتجاجية التي شهدتها إيران في السنوات القريبة الماضية، والتي قمعت بشدة إلا تعبير عن بوادر تفجر هذه التناقضات التي إن عادت يمكن أن تكون أكثر جذرية، ويمكن أن لا تطالب بإصلاح النظام من داخله فقط وإنما بتغييره ببديل مدني ديمقراطي.

الهوامش
1-   للمزيد راجع محمد أركون، قضايا في نقد العقل الديني، ترجمة هاشم صالح، ط 4، بيروت، 2009، ص 327-330.
2-   راجع مقابلة مع أحمد الكاتب، مجلة الآداب البيروتية، العدد 7-8 تموز 2009، ص75- 78.
3-   كان الأفغاني غير متزمت في عقيدته الدينية وفي سلوكه، والملاحظ أن أصحابه ومريديه كانوا من أديان وطوائف شتى، فكان فيهم المسيحي واليهودي والبهائي والازلي والسني والشيعي والمجوسي والملحد. وكان على الرغم من أصله الشيعي لا يتعصب للتشيع تعصبا أعمى بل هو ينتقد السنة مثلما ينتقد الشيعة. راجع علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 3، 2004، ص 350-351. 
4-   للمزيد راجع أحمد القبانجي، الإسلام المدني، ط 1، بيروت، 2009، ص 215- 231.
5-   راجع لطفي حاتم، "جذور الإسلام السياسي في العراق وتياراته"، الثقافة الجديدة، 324، السنة 2008، ص 28.
6-   للمزيد راجع نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف ... قراءة في خطاب المرأة، ط 4، بيروت، 2007، ص 55-73.
7-   راجع موسى الحسيني، "الطائفية في الوطن العربي: تعريفها وأسبابها"، المستقبل العربي، العدد 408، شباط| فبراير 2013، ص 195-197.
8-   راجع اسحق النقاش، شيعة العراق، ترجمة عبد الاله النعيمي، ط 1، دمشق، 1996، ص 145-146. وبالعودة إلى الوراء، زمن الدولة العثمانية، يذكر على الوردي عندما فتحت المدارس الحديثة في العهد الحميدي لم يدخل الشيعة أبناءهم فيها، لسببين الأول كانت الدولة لا تحبذ دخول الشيعة إلى المدارس لكي لا يطمحوا بالوظائف الحكومية، وكان الشيعة من جانبهم بالأخص علماء الدين يحرمون المدارس ويعدونها مفسدة للدين والاخلاق، غير أن هذا الموقف قد تغير فيما بعد، حيث أسست في البداية مدارس جعفرية خاصة. وفي هذا الصدد يقول كامل الجادرجي في مذكراته "كانت الطائفة الشيعية تعد في زمن السلطان عبد الحميد - والحقيقة في زمن الدولة العثمانية- أقلية تنظر إليها الدولة بعين العداء، فلم تفسح لها مجالات التقدم في أية ناحية من نواحي الحياة. ولا يقبل منها فرد في وظائف الدولة إلا ما ندر وعند الضرورة القصوى. وحتى في مدارس الدولة الاعدادية القليلة كانت توضع العراقيل في طريق دخول أبناء هذه الطائفة فيها فأدى ذلك كله بطبيعة الحال إلى انعزالها وسلوكها الاعمال الحرة كالتجارة والصناعة والزراعة وما إلى ذلك من أعمال لا علاقة لها بالحكومة..." راجع علي الوردي، مصدر سابق، ص 292-295.   
9-   للمزيد راجع حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، الكتاب الأول، ترجمة عفيف الرزاز، ط 1، بيروت، 1990، ص 65-71.
10-   صلاح النصراوي، "المصالحة والوفاق الوطني في العراق .. دروس من تجارب الآخرين"، السياسة الدولية، 177، يوليو 2009، ص 249.
11-   راجع جان بيير لويزار،" الحد الطائفي للمسألة العراقية"، في كتاب المجتمع العراقي حفريات سوسيولوجية في الإثنيات والطوائف والطبقات، ط 1، بغداد- بيروت، 2006، ص 210- 218
12-   لنحذر... الطائفية لن تكون أبدا خيارا نصطف معه!، لجنة العمل الفكري المركزية، آذار 2013.
13-   للمزيد راجع مهدي عامل، في الدولة الطائفية، ط 3، بيروت، 2003، ص 20-22.
14-   صلاح النصراوي، مصدر سابق، ص 248- 249.
15-   راجع رفيق عبد السلام، في العلمانية والدين والديمقراطية.. المفاهيم والسياقات، ط 1، الدوحة، 2008، ص 26-27. من المفيد أن نذكر هنا أن الفيلسوف الهولندي سبينوزا تصدى في كتابه "رسالة في اللاهوت والسياسة" الذي نشر عام 1670 دون أن يحمل اسم المؤلف، لنقد الفكر الديني من داخله وبنصوصه، وشمل ذلك التوراة والانجيل، وعالج تأسيس الشروط الفعلية للدولة الحديثة التي تضمن حرية الاعتقاد وحرية التفلسف. وقد تعرض لهجمة شديدة من قبل الكنيسة الكاثوليكية والأوساط اليهودية والقوى الرجعية، ونعت بالملحد رغم أنه لم يكن كذلك. للمزيد راجع أحمد العلمي، "المسألة الدينية في فلسفة سبينوزا"، مدارات فلسفية، 18 لسنة 2009، ص 121-137.
16-   راجع ريدار فيسير، الهوية الطائفية والصراع الإقليمي في العراق: وجهة نظر تاريخية، في كتاب العراق تحت الاحتلال، ط 1، بيروت، 2008، ص 181-184.
17-   خليل العناني، "الانقسامات الطائفية والدينية في دول الثورات العربية"،شؤون عربية، 154 صيف 2013، ص 121.
18-   للمزيد راجع صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، ط 10، بيروت، 2009، ص 44.
19-   مهدي عامل، مصدر سابق، ص 5-6.
20-   راجع تهامي العبدولي، أزمة المعرفة الدينية، ط 2، دمشق، 2005، ص 112-117
21-   راجع سليم عبد الأمير حمدان، "الإسلام- الدين والسياسة: الموقف الشيعي"، الثقافة الجديدة، 295، لسنة 2000، ص 82-83.
 




47
         
بيان صادر عن اجتماع لجنة التنسيق بين الأحزاب الوطنية العراقية في هولندا



       عقدت لجنة التنسيق بين الأحزاب الوطنية العراقية في هولندا يوم 19 حزيران 2014 اجتماعا كرس لدراسة التطورات الخطيرة والمتسارعة الحاصلة في بلدنا جراء احتلال داعش والقوى المتحالفة معه عدة  محافظات ومدن وعلى اكثر من محور وما تبعه من انهيار عسكري سريع ومفاجئ.  إن هذا التداعي يعد محصلة لعوامل وثيقة الصلة بالاوضاع السياسية والاقتصادية وانعدام الثقة بين الاطراف السياسية والفتور الحاصل بين الاقليم والمركز وتعمق النتائج المدمرة لنهج المحاصصة الطائفية وسياسة الاقصاء والتهميش واستشراء الفساد بكافة انواعه  واختلاق الازمات اضافة  الى التدخلات الاقليمية والتي لا تنسجم مع مصالح شعبنا.

    إن لجنة التنسيق بين الاحزاب تهيب بكافة الاحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والقوات المسلحة  والقوى الامنية المحلية والبيشمركة الى الارتقاء الى مستوى التحديات التي تواجه بلدنا  لكسر شوكة قوى الارهاب تزامنا بتوفير المستلزمات السياسية للحل وذلك  لتجنب انزلاق بلدنا إلى اتون حرب اهلية. اننا في الوقت الذي ندين الارهاب نرى ضرورة معالجة التدهور الحاصل في العملية السياسية والابتعاد عن سياسة الاقصاء والتهميش، واحترام الدستور واقامة حكومة وحدة وطنية وباقصى سرعة للخروج من الفراغ الدستوري وايلاء الاهتمام بالمواطنين وصيانة ارواحهم وتجنيبهم اثار المعارك العسكرية،  ومحاسبة جميع المسؤولين عما حدث في المؤسسة العسكرية والامنية، دون الاكتفاء بمحاسبة عدد من الضباط، وتقديم المساعدات الانسانية العاجلة لمئات العوائل النازحة.

     ونناشد  الدول الاوروبية والعربية والاسلامية ومنظمات حقوق الانسان الدولية وخاصة في هولندا  بالاسراع بالقيام بدورهم الانساني بارسال المساعدات الانسانية  من   الطعام والدواء وتوفير المستلزمات السكنية السريعة والمعونات الصحية للاطفال والنساء والرجال المسنيين.

     كذلك تقف لجنة التنسيق بين الاحزاب الوطنية العراقية  ضد التجييش الطائفي لكافة الاطراف، وتثني على موقف المرجعية الهادف الى وحدة الشعب العراقي والوقوف ضد الارهاب، ونطالب بالابتعاد عن تسييس فتوى المرجعية الدينية في التطوع لدعم القوات المسلحة ضد الارهاب، وندين التصريحات الطائفية  والشوفينية التي اصبحت مصدرا لارهاب المواطنين واضعاف معنوياتهم.

   وتطالب ايضا لجنة التنسيق بضرورة المحافظة  وتامين الامان والسلام لمكونات الشعب العراقي الاصيلة   المتواجدة في مناطق الصراعات وخاصة من المسيحيين (الكلدانيين والاشوريين والسريانيين) والايزيديين والصابئة المندائيين والشبك والكاكائيين وغيرهم من المكونات التي تشكل القزح العراقي الجميل. 
   
    واتفقت لجنة التنسيق في الاسراع  باجراء الاتصالات من اجل كشف  الاوكار والخلايا النائمة لداعش وتحركاتهم في المملكة الهولندية، واتخاذ الاجراءات  للحفاظ على شبيبتنا من الامراض والسموم الفكرية للارهاب.

-الاتحاد الوطني الكردستاني
-الحزب الشيوعي الكردستاني
-الحزب الديمقراطي الكردستاني
-المجلس الاعلى الاسلامي
-الحزب الشيوعي العراقي
-الاتحاد الاسلامي الكردستانى
- وحضر ضيوف الاجتماع
-التيار الديمقراطي العراقي
-حركة التغييرالكردية/

 


48
بلاغ عن الملتقى الفكري السادس لمنظمات الحزب الشيوعي خارج الوطن
    نظمت لجنة العمل الفكري لمنظمات الحزب الشيوعي العراقي خارج الوطن في الفترة 30 أيار -      1 حزيران 2014، في مدينة كولن الألمانية، الملتقى الفكري السادس، بحضور ممثلين عن منظمات السويد وبريطانيا والمانيا وهولندا والدنمارك وبولندا. وتدارس الملتقى موضوعة " الطائفية السياسية ودورها في إعاقة بناء الدولة المدنية الديمقراطية " والتي تضمنت المحاور التالية:                       
-   مفهوم الطائفية السياسية، تحليل جذورها الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية.
-   الإسلام السياسي، أسباب صعوده، نتائجه، آفاقه ومحدداته، ومدى تأثير ذلك على الأوضاع في بلادنا.
-   الاقتصاد العراقي كونه اقتصاداً ريعياً، دوره في النظام الطائفي، وكيف يساهم في الهيمنة الطائفية.
-   المشروع الوطني الديمقراطي، كبديل لمشروع الطائفية السياسية، مقوماته الفكرية، والسياسية، والاجتماعية والاقتصادية.
    أُفتتحت جلسات الملتقى بالوقوف دقيقة صمت تمجيداً لشهداء حزبنا والحركة الوطنية، والإستماع الى كلمة منظمة الحزب الشيوعي العراقي في ألمانيا، وكلمة لجنة العمل الفكري لمنظمات الخارج، ورسالة لجنة العمل الفكري المركزية التي تمنت للملتقى النجاح والمساهمة الجادة في اثراء المساهمات والمناقشات والجدل في هذه الموضوعة الهامة.  وأشارت إلى إنه لأمر طيب ان تنعقد هذه الفعالية للمرة السادسة على التوالي، الأمر الذي يؤكد على حيوية القضايا المطروحة واصرار الرفاق والرفيقات العاملين في المجال الفكري على عقد هذه الفعاليات، رغم كل الصعوبات، لتكون ليس مجرد فعاليات استعراضية تقليدية، بل محطات مهمة للقاء و تبادل الرؤى والافكار وتقديم مقاربات واجتهادات تعكس التنوع الثري لفكرنا ضمن اطار الوحدة.
   حظيت مجموعة المداخلات التي قدّمت والتي عالجت العديد من المحاور المطروحة ومن زوايا وتحليلات متنوعة، بنقاشات جادة، أضفت على اجواء الملتقى الاغناء والحيوية.
وفي الختام قيم المشاركون عالياً الملتقى الفكري السادس والجهود التي بذلت لعقده، وتقديم الشكر الى منظمة الحزب في ألمانيا على استضافته.
لجنة العمل الفكري لمنظمات الخارج
2 حزيران 2014



49
الدولة المدنية الديمقراطية- مقوماتها ومعوقاتها
                                                                                                 
د. هاشم نعمة
                                                                                                                     
      تكتسب موضوعة بناء  الدولة المدنية الديمقراطية في بعدها النظري والتجريبي أهمية  استثنائية في واقع العراق الحاضر. حيث يدور الصراع على أشده سلماَ وعنفاَ بين القوى السياسية من أجل إعادة بناء الدولة العراقية، وفق مصالحها الطبقية والطائفية والقومية والإقليمية والدولية. ولذا حري بنا ونحن نتبنى المشروع الوطني الديمقراطي الذي يمهد الطريق لبناء أسس هذه الدولة، أن نتعمق ببحث هذه الموضوعة للتعرف على سيناريوهات التحول الديمقراطي ومقومات ومعوقات الدولة المدنية الديمقراطية، وأن نعمل على التثقيف بها على أوسع نطاق ممكن مقابل نقيضتها دولة المحاصصة الطائفية-الإثنية، في ظل بنية اجتماعية -اقتصادية متخلفة، وغياب يكاد يكون تاماً لثقافة البناء الديمقراطي، نتيجة العزلة التي عاشها العراق وهيمنة فكر الحزب الواحد.
     تاريخيا لم يجرب العراق مشروعا ديمقراطيا بالمعنى الدقيق للكلمة. لقد عانى من اجله طويلا، وتحول من حيث كونه قيمة وغاية إلى جزء جوهري في وعيه السياسي، لكنه لم يتغلغل في وعي الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية إلى ما يمكنه أن يكون مرجعية فكرية وسياسية واجتماعية وأخلاقية. أي أن الديمقراطية من حيث كونها مبدأ لم تتحول إلى جزء من تاريخ الدولة. على العكس كانت الدولة في صراع عنيف مع مبدأ الديمقراطية. مما جعل منها محل تخوين وتجريم افقدها القدرة على النمو الطبيعي، كما افقد القوى السياسية قدرة استيعاب مضمون الديمقراطية بالشكل الذي يجعلها معقولة ومقبولة. وفي هذا يكمن أحد الأسباب التاريخية والسياسية والأيديولوجية الكبرى لهزيمة المشروع الديمقراطي في العراق، كما تكمن فيه أيضا مقدمات التعقيد الهائل للانتقال إليها(1) بعد سقوط النظام بواسطة العامل الخارجي.
تعريف الديمقراطية
      تعبر الديمقراطية عن مفهوم تاريخي اتخذ أشكالاَ وتطبيقات متعددة في سياق تطور المجتمعات والثقافات. وتقوم فكرتها الأساسية على حكم الشعب وممارسته الرقابة على الحكومة. ويتمثل جوهر الديمقراطية في توفير وسيلة منهجية وحضارية لإدارة المجتمع السياسي بغية تقدم المجتمعات. وظهرت في شكلها المبكر مع ازدهار الحضارة الإغريقية ونشوء دولة المدينة. ومورست بشكل مباشر واقتصرت على الأقلية من الأحرار دون العبيد والنساء وفي ظروف عدم الفصل بين السلطات. وظهرت الديمقراطية الحديثة نتيجة الأفكار التي انبثقت عن فترة النهضة الأوروبية. ولم تظهر بالمعنى الليبرالي إلا في القرن الثامن عشر عندما بشر المفكرون الغربيون بفكرة المساواة.(2) وكان روبرت دال من أهم دارسي الديمقراطية المعاصرة في الغرب قد أعاد تعريفها بأنها نظام حكم الأكثرية. ويرى أن هذا النظام يتميز بخاصيتين أولهما أتساع حقوق المواطنة لتشمل كافة المكونات السكانية وثانيهما يتضمن حق المواطن في تنحية أعلى مسؤول في الدولة من منصبه من خلال التصويت في الانتخابات.(3)
      إن الحديث عن تبلور مفهوم تاريخي للديمقراطية ينبغي ألا يقود إلى النظر إلى الديمقراطية كنموذج نظري جاهز يمكن تطبيقه في أي مكان. حيث لا تزال الديمقراطية تخضع للظروف التاريخية وتتكيف مع معطياتها. لذلك فهي مفهوم حي متغير ومتبدل يعكس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمعات ويبرز مطالبها.

    والديمقراطية مسيرة طويلة ومستمرة وليست نظاماَ يولد منذ البداية كاملاَ وأن هناك خطوات ومراحل يمكن ملاحظتها في التطور الديمقراطي ومن المفيد جداَ للبحث العلمي ألا يتجاهلها ولا ينكر أي عنصر مهما كان بسيطاَ وجزئياَ في مسيرة التحول.(4) وتتطلب الديمقراطية فترة نضوج مناسبة وصبراَ ونفساَ أطول في حالة المجتمعات الأقل تطوراَ مثل العراق.

سيناريوهات التحول الديمقراطي
    لا يوجد طريق واحد لإنجاز التحول الديمقراطي، فالتجارب السياسية في جنوب وشرق أوروبا، وجنوب شرق آسيا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، في العقود القليلة الماضية، تشير إلى طرق ومداخل مختلفة. كما أن الدراسات الأكاديمية انتهت إلى تقديم قائمة طويلة من الأسباب التي تفسر الانتقال إلى الديمقراطية في تلك التجارب. ولعل تعدد العوامل المؤثرة في عمليات الانتقال، وتفاوت آثارها باختلاف المكان والزمان يفسران إلى حد كبير ظهور أكثر من سيناريو للتغيير والانتقال للديمقراطية.
   
      فهناك مدخل الخروج من الاستعمار إلى الحكم الديمقراطي مباشرة، كما حدث في الهند وماليزيا. وقد شهدت هذه الحالات بعض أعمال العنف بشكل دوري. إلا أن نجاح العملية السياسية وقادة الاستقلال واختياراتهم استطاع منع انفجار الاوضاع وفشل الانتقال. أما المدخل الثاني، فهو الانتقال التدريجي من نظام حكم الفرد أو القلة إلى نظام ديمقراطي. وقد شهدت معظم هذه الحالات اعمال عنف بدرجات متفاوتة. إلا أن توافق قادة الانتقال، ونجاح التحول الديمقراطي، وبناء مؤسسات الحكم الديمقراطي، أسهمت في استقرار الأمور. ويتمثل المدخل الثالث، في انهيار نظم حكم الفرد أو القلة، وإقامة نظام ديمقراطي. وعادة ما يصحب هذا قدر من العنف. فانهيار أنظمة الحكم القديمة عادة ما يتم من خلال التظاهرات والاحتجاجات قد تتطور في بعض الحالات إلى أعمال عنف، وثورات مسلحة وانقلابات عسكرية.(5) ويندرج سقوط النظام في الحالة التونسية والمصرية والليبية ضمن هذا المدخل. وهناك المدخل الرابع، وهو التدخل الخارجي الذي يتضمن صورا متعددة، منها الضغوط الدبلوماسية والاستخباراتية، والأدوات الاقتصادية المشروطة، والتدخل العسكري المباشر لتغيير نظام الحكم. وغالبا ما يترتب على استخدام هذا الأسلوب الكثير من أعمال العنف(6) كما حدث ويحدث في افغانستان والعراق، وهو دليل على صعوبة نجاح هذا المدخل وخاصة في الدول النامية. 

      لذلك فإن بناء الدولة المدنية الديمقراطية في العراق لابد أن يعكس سمات البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية للمجتمع وتوازن القوى السياسية، وتكون له خصوصية بقدر معين تتناغم مع هذه البنية، والتي يعاد تشكيلها كلما تعمقت مسيرة البناء الديمقراطي.   

المقومات

    عندما نتحدث عن المقومات السياسية- الاجتماعية لبناء الدولة الديمقراطية فهذا يعني بشكل عام مجموعتين من العوامل: العوامل الذاتية والموضوعية. الأولى تعين للحركة أهدافها وقيمها التي تناضل من أجل تحقيقها وتغيير الواقع الموضوعي للوصول إليها. أما الثانية التي لا تقوم أي حركة متميزة ومنظمة من دونها أي البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تخلق الحركة وتشترط  تطورها وتعين آفاق عملها. ويكمل هذان العاملان بعضهما بعضاَ كما يتوقف أثر كل واحد على الآخر. وإذا لم يجتمعا معا لا يمكن إحداث أي تقدم حقيقي على هذه الجبهة. فقد يسمح النضج النظري والسياسي بإحداث تغييرات ديمقراطية سريعة تساهم في إعادة تنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والتقليل من الفوارق الطبقية أي في تغيير الشروط الموضوعية لممارسة الديمقراطية. وعلى العكس قد تساهم الظروف الموضوعية المفاجئة أو الناشئة من تراكمات بطيئة في إحداث طفرة فكرية. وهذا يعني أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق دون محتوى اجتماعي واقتصادي وثقافي خاص بها.(7) وبهذا الصدد يذكر الدكتور عامر حسن فياض بأن ضعف الطبقة الوسطى في العراق يجعل مقومات وجود واستمرار البناء الديمقراطي ضعيفة وهو ما يضع أمام استيطان الديمقراطية الليبرالية في البلاد شرطين هما (الوعي) الذي يضطلع به المثقفون وشرط الحكم ومؤسساته الديمقراطية المصاغة وفق الصيغة الدستورية البرلمانية.

     وهناك مقومات عامة مشتركة أخرى بين أنظمة الحكم الديمقراطية. وهذه قادرة على استيعاب ثوابت المجتمعات التي تتخذ من الديمقراطية منهجا ونظام حكم. وتتمثل هذه في أربعة:

     أولها، الشعب مصدر السلطات نصا وروحا وعلى أرض الواقع، وأن لا تكون هناك بشكل ظاهر أو مبطن وصاية لفرد أو لقلة على الشعب أو احتكار للسلطة أو الثروة أو النفوذ.

    ثانيها، المواطنة الكاملة المتساوية الفاعلة، واعتبارها مصدر الحقوق ومناط الواجبات من دون تمييز بسبب الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي أو الجنسي أو أي اعتبار سياسي أو اجتماعي آخر. ويذكر ماكيفر بهذا الصدد أن مبدأ المواطنة هو أهم اكتشاف تحقق في أوروبا، وبفضله تحولت الصراعات المدمرة والحروب الأهلية بين الشيع الدينية إلى صراع سلمي.(8) علما إن ميلاد مبدأ المواطنة في الغرب تم بشكل تدريجي من خلال الثورات السياسية والثقافية والاجتماعية المتتالية التي امتدت ثلاثة قرون على الأقل. وتميزت عملية البناء هذه بالصراعات بين مختلف القوى المتعارضة المكونة للمجتمعات الأوروبية، مثل التجار ورجال الدين وغيرهم. فالمواطنة من حيث هي حركة تاريخية تهدف باستمرار إلى توسيع مساحة مشاركة المواطن في الحياة العامة.(9) وتؤكد تجربة العراق"استحالة نجاح أي نهج يقوم على الاستئثار والاقصاء والتهميش. كذلك عدم إمكان اقامة دولة القانون والمؤسسات من دون اعتماد المواطنة المبرأة من ادران التخندق الطائفي".(10)

    ثالثها، التعاقد المجتمعي المتجدد الذي يتم تجسيده في دستور ديمقراطي ملزم لكل مواطن، بما فيهم الحاكمين. ويتجلى ذلك المبدأ في المشاركة الفاعلة للمواطنين في وضع الدستور وتعديله وفقا لاحتياجات الاجيال المتعاقبة. وفي العادة يوضع الدستور من قبل جمعية تأسيسية منتخبة. (11) إن الدستور الديمقراطي ليس مثالياَ ولا هو نموذج موحد في جميع الدول الديمقراطية على الرغم من اعتماده على المبادئ الديمقراطية ومراعاته لتطورات الفقه الدستوري بل يجب أن يكون عقداَ سياسياَ واجتماعيا يراعي الواقع ويأخذ في الاعتبار ضرورات التوافق السياسي. فلكل مجتمع ظروفه الخاصة ومرجعياته الثقافية. كما أن لكل مرحلة من مراحل الممارسة الديمقراطية ظروفها الخاصة ومتطلباتها. والدستور يجب أن يكون محصلة توافق على قواسم مشتركة من خلال عملية التفاوض السياسي بين القوى المقتنعة بضرورة السيطرة على مصادر العنف والساعية إلى إدارة أوجه الاختلاف سلمياَ وفق شرعية دستورية تحتكم جميع الأطراف لها.(12)

   رابعها، الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتحقيق التوازن بينها. بحيث تستطيع كل سلطة أن توقف الأخرى. لاسيما السلطتين التشريعية والتنفيذية عند حدودها إذا ما تجاوزت حدود سلطتها القانونية. أما السلطة القضائية فيمكن أن يكون دورها أوسع وأقوى في وجه السلطتين التشريعية والتنفيذية بالنسبة للأولى عن طريق الرقابة على دستورية القوانين والثانية عن طريق مراقبة مشروعية الأعمال الإدارية وعندها يتحقق قول مونتسكيو " السلطة توقف السلطة" وهو القائل أيضاَ " إذا اجتمعت سلطتان أو أكثر في يد واحدة انعدمت الحرية ولو كانت في يد الشعب ذاته". ولم تأخذ الدساتير الحديثة بنمط واحد في توزيع السلطات إذ جرى الأخذ بأنماط  تتناسب مع الفكر الدستوري السائد في كل دولة حسب ظروفها السياسية والاقتصادية  والاجتماعية وقد حل محل الفصل التام بين السلطات أشكال أخرى حديثة تقوم على فكرة التعاون بين السلطات وهي تتفاوت في أظهار القوة أو التوازن فيما بينها. لكن هذا لا يعني أن للجهة القوية سلطة رئاسية على السلطات الأخرى.(13)

    خامسها، ممارسة الديمقراطية داخل الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وفيما بينها. وهي ضمان لممارسة الأحزاب المحتمل وصولها إلى السلطة، للديمقراطية. وهي كذلك مؤشر على إمكانية تجذر الممارسة الديمقراطية في المجتمع واستيعابها في الثقافة السياسية قيمة ومعيارا أخلاقيا. نظرا لما توجده هذه الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني من رأي عام مستنير وما تشيعه من قيم التسامح وقبول الآخر والاحتكام إلى نتائج الممارسة الديمقراطية ومنها الانتخابات(14). وقيام الأخيرة بممارسة الرقابة على السلطات الثلاث.

     قد لا يكون هناك خلاف في أن وجود الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ليس مجرد مسألة عددية، وإنما مسألة نوعية. إذ ترتبط أولا، بمستوى الوعي والنضج السياسي والفكري والتنظيمي لهذه الأحزاب والمنظمات. ثانيا، بمدى فهم طبيعية المرحلة التاريخية للمجتمع ومدى استجابتها إلى مختلف التحديات الداخلية والخارجية. أي مدى قدرة هذه القوى على إعادة تشكيل بنى المجتمع ومؤسساته السياسية والاجتماعية والثقافية التي تضمن تفعيل الأسلوب الديمقراطي وفق المعايير الدولية. وثالثا، إعادة تأسيس منظومة قيمية وسلوكية حول آليات المشاركة في السلطة السياسة. كما تنتج عنها شبكة من التوازنات والتحالفات الجديدة بين القوى السياسية حسب تنوع مرجعياتها الفكرية والأيديولوجية(15). وإذا تحقق ذلك فإنه يضمن نجاح بناء أسس الدولة المدنية الديمقراطية.

    وفي حالة العراق، وكما يحدد المشروع الوطني الديمقراطي للحزب الشيوعي العراقي، يتطلب الأمر العمل الجاد لبناء اوسع تحالف سياسي بين القوى والاحزاب والكتل، التي تتوافق على المفردات الاساسية لهذا المشروع لإقامة الدولة الديمقراطية الفيدرالية. وكذلك يتطلب اصلاح العملية السياسية وتطويرها، بتخليصها من المرتكزات والتوجهات والممارسات الطائفية، وتوسيع قاعدتها الاجتماعية عبر الانطلاق بثبات على طريق المصالحة الوطنية، ومعالجة الملفات وإصدار القوانين الاساسية واتخاذ الاجراءات ذات العلاقة بروح الحرص على المصالح العليا للشعب والوطن.
    واعتماد اسلوب الحوار والمرونة والتنازلات المتبادلة من قبل جميع الأطراف، بعيداً عن لغة التشدد ونزعة التفرد والتحسس المفرط إزاء النقد، وصولاً إلى إعادة بناء وتعزيز الوحدة الوطنية وتحقيق التوافقات الوطنية التي تقتضيها ظروف بلادنا الدقيقة. فخلاف هذا النهج لا يقود سوى إلى مزيد من الاستقطابات والاحتقانات الطائفية والحزبية الضيقة(16)، التي تنسف اسس بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
المعوقات

       بعد سقوط النظام عام 2003، عززت سياسة الولايات المتحدة من الانقسامات الطائفية والإثنية، عندما بادرت إلى تشكيل مجلس الحكم على هذا الأسس، وكأن المجتمع العراقي ينقسم إلى كتل سنية وشيعية وكردية متجانسة وثابتة لا تعرف الحراك الاجتماعي والسياسي والطبقي داخلها، وهو منطق يخالف قوانين حركية البنية الاجتماعية- الاقتصادية وصراعاتها في أي مجتمع دع عنك مجتمع يمر في طور الانتقال إلى الحداثة.
     اثبتت التجارب أن نظاما قائما على المحاصصة الطائفية السياسية يؤدي لا محالة إلى خلق حالة طائفية بكل أشكالها الفردية والمؤسساتية والثقافية والاجتماعية، بكل ما ينطوي عليه ذلك من سلوكيات وتحيزات واصطفافات، تتجاوز الحياة الشخصية والخيارات الفردية، لكي تنعكس في النشاط العام وميادين العمل على شكل احتكاكات وأحيانا صراعات قاتلة(17) وهذا يتجلى بوضوح في حالة التجربة العراقية.
     من جانب آخر، فإن ارتفاع مستوى التغيير الاجتماعي يفضي إلى توليد مطالب ومهام جديدة غالبا ما لا تتناسب مع إمكانيات النظم الجديدة، مما يتسبب في إحداث مشاكل الاندماج التي تكون شديدة الحدة قد تصل إلى المواجهات المسلحة. ولاسيما في ظل ضعف مؤسسات الدولة، الأمر الذي يشكل تربة خصبة للعودة إلى الانتماءات الأضيق، وتبلور الاستقطاب، وتلاشي الطابع التعددي لصالح الأحادية، ومن ثم تحفيز العنف (18). لذلك يمكن أن تواجه تلك المجتمعات خرائط إثنية ودينية وطائفية جديدة كما في العراق.         
      إذا تتمثل البداية الصحيحة للحل في تبني المشروع الوطني الديمقراطي من قبل القوى والأحزاب السياسية، الذي يؤسس لبناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تعتمد المواطنة، وتلتزم بتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بين مختلف العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية والقومية والسياسية. إلا أن التجربة تؤكد طيلة الأحدى عشرة سنة من سقوط نظام البعث، بأنه لا يمكن أن تبنى دولة مدنية ديمقراطية- كما حدد ذلك التقرير السياسي للمؤتمر الوطني التاسع للحزب الشيوعي العراقي عام 2012- في ظل "ممارسات، تعكس منحى خطيرا يضيق بالآخر المختلف، ويسعى إلى مصادرة الحريات العامة والشخصية، في انتهاك جلي للدستور ومبادئ حقوق الإنسان والأعراف والمواثيق الدولية ذات العلاقة. وهذا لا يستقيم مع الدعوات إلى إقامة دولة المؤسسات والقانون المدنية الديمقراطية"(19). كذلك من معوقات بناء هذه الدولة الجدية كما جاء بنفس التقرير "السعي لفرض الرأي الواحد، وتنميط المجتمع وتأطيره وفق طروحات "الإسلام السياسي"، ومارسة الارهاب الفكري باشكاله المختلفة، ومصادرة الرأي الآخر، وتشجيع وادامة النزعات الطائفية والمناطقية والعشائرية، على حساب مبدأ المواطنة والشراكة الوطنية"(20). وهذا يضع على عاتق القوى الوطنية الديمقراطية بكافة مشاربها مهام كبيرة للنهوض بها كي تكون بديلا سياسيا واجتماعيا وثقافيا مقنعا لنظام المحاصصة الطائفية-الإثنية، لإنقاذ العراق من مخاطر جدية تهدد مستقبله ككيان سياسي وكوجود اجتماعي.
     ومن جانب آخر، وفيما يتعلق بالإشكالات التي تواجه النظام الفدرالي وبالأخص التباين حول الصلاحيات بين الحكومة المركزية والأقاليم. فمن الجدير بالإشارة أن هذه الإشكالات تكاد تكون سمة النظام الفدرالي حتى في الدول المتقدمة حيث من الصعوبة منع تداخل الصلاحيات بشكل تام ولكن يكمن الفرق في آليات حل هذه الإشكالات. وبهذا الصدد يذكر الرفيق حميد مجيد موسى، أنه من الضروري " الانتباه إلى أن الفدرالية لا تبنى دفعة واحدة وبقرار فوقي بعيدا عن واقع الظروف الموضوعية. وليس بالضرورة أن يكون تحويل الصلاحيات للأقاليم بمستوى واحد ووتيرة واحدة وبوقت واحد، وإنما المطلوب مراعاة القدرة الاستيعابية للصلاحيات (من حيث توفير البنى التحتية/ الكادر/ وغيرها من المستلزمات اللوجستية والبشرية). ولهذا فإن التدرج التصاعدي في تحويل السلطات والصلاحيات ضرورة موضوعية للبناء السليم لمنظومة العلاقات المنظمة لصلاحيات السلطات الاتحادية والأقاليم وما بينهما"(21). وهذا يعني أن بناء النظام الديمقراطي الفدرالي عملية تراكم مستمرة وأن أي إشكالات تبرز في مسيرة هذا البناء لا سبيل لحلها إلا بالحوار فقط.

نشرت المقاله في الأصل في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 364-365 لسنة 2014.
   
    الهوامش
1-   ميثم الجنابي، فلسفة الهوية الوطنية (العراقية)، 2012، ص 94-95.
2-    عبد الوهاب حميد رشيد، العراق المعاصر، 2002، ص 31-32.
3-   علي خليفة الكواري، "مفهوم الديمقراطية المعاصرة"، في كتاب المسألة الديمقراطية في الوطن العربي، 2000، ص 16.
4-   برهان غليون، "منهج دراسة مستقبل الديمقراطية في البلدان العربية"، نفس الكتاب، ص 240.
5-   اتجاهات نظرية، ملحق مجلة السياسة الدولية، يوليو 2013، ص 31-32.
6-   المصدر نفسه، ص 31-32.
7-   برهان غليون، مصدر سابق، ص 243.
8-   على خليفة الكواري، "نحو مفهوم جامع للديمقراطية في البلدان العربية"، في كتاب الدولة الوطنية المعاصرة وأزمة الاندماج والتفكيك، 2008، ص 110-113.
9-   مصباح الشيباني، " الثورة العربية الراهنة وتحديات البناء الديمقراطي" شؤون عربية، 147 خريف 2011، ص 149.
10-   الحزب الشيوعي العراقي، وثائق المؤتمر الوطني التاسع، 2012، ص 56.
11-   على خليفة الكواري، "نحو مفهوم جامع للديمقراطية في البلدان العربية"، مصدر سابق، ، ص 110-113.
12-   علي خليفة الكواري، "مفهوم الديمقراطية المعاصرة"، مصدر سابق، ص 37-38.
13-   بشرى العبيدي، "مبدأ الفصل بين السلطات"، الثقافة الجديدة 321، لسنة 2007، ص 54.
14-   على خليفة الكواري، "نحو مفهوم جامع للديمقراطية في البلدان العربية"، مصدر سابق، ص 110-113.
15-   مصباح الشيباني، مصدر سابق، ص 148
16-   المشروع الوطني الديمقراطي للحزب الشيوعي العراقي، 2007.
17-   صلاح النصراوي، "المصالحة والوفاق الوطني في العراق "، السياسة الدولية، 177 يوليو 2009، ص 248- 249.
18-   اتجاهات نظرية، مصدر سابق، ص 9.
19-   الحزب الشيوعي العراقي، وثائق المؤتمر الوطني التاسع، مصدر سابق، ص 33.
20-   المصدر نفسه، ص 33.
21-   حميد مجيد موسى، الثقافة الجديدة، 329-330، لسنة 2009، ص 145.


50

السيد رئيس الوزراء نوري المالكي المحترم
السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي علي الاديب المحترم
السيد وزير الخارجية هوشيار الزيباري المحترم
بواسطة سفير جمهورية العراق هولندا الدكتور سعد العلي المحترم

تحية طيبة

    نحن منظمات وجمعيات المجتمع المدني العراقية العاملة على الساحة الهولندية فوجئنا بقرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بغلق الدائرة الثقافية في هولندا، علما لم يمض وقت إلا بالقصير على فتحها، وجرى ذلك بعد مطالبات من منظمات الجالية العراقية بضرورة تواجدها. ولم نجد أن هناك أي مبرر معقول لهذا القرار. كنا نأمل أن تكون هذه الدائرة نافذة للتواصل الثقافي والأكاديمي والحضاري مع المجتمع الهولندي . وأن تقدم خدماتها العلمية للطلبة العراقيين الذي يواصلون دراستهم في هذا البلد.  ونود أن نذكر أن فتح الدائرة الثقافية جرى صرف الكثير من الأموال عليه وهي مازالت في طور التشكل ولم تعطي ثمارها بعد. وترى هذه المنظمات ان عملية الغلق هذه هي واحدة من اعمال هدر اموال  العراق وعدم الاكتراث بشئوون الجالية العراقية.

    عليه نطلب منكم التراجع عن قراركم هذا بغلق الدائرة الثقافية بل توسيعها بفتح مركز ثقافي فيها، اسوة ببقية الدول الأخرى بغية اطلاع الهولنديين على  المعالم الحضارية والثقافية لشعب العراق، وبغير ذلك سوف نضطر لإيصال صوتها للرأي العام العراقي والعالمي احتجاجا على  هذا الاجراء الذي يعبر عن عدم  اهتمام الدولة ومؤسساتها برعاية شئوون مواطنيها في الخارج.
 
المنظمات والجمعيات الموقعة 

لجنة تنسيقية قوى وشخصيات  التيار الديمقراطي في هولندا
المعهد الكوردي للدراسات والبحوث في هولندا
إتحاد الجمعيات الديمقراطية العراقية في هولندا( البلاتفورم):
1        اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في هولندا
2        جمعية النساء العراقيات في هولندا
3        الفيدرالية المندائية في هولندا
4        رابطة المرأة العراقية في هولندا
5        جمعية البيت العراقي في لاهاي
6        النادي الثقافي والاجتماعي في دلفت وضواحيها
7        المنتدى الثقافي الديمقراطي في روتردام
8        منظمة النصير الديمقراطي في هولندا
9        صندوق دعم عوائل الشهداء
10      مؤسسة تموز للتنمية الاجتماعية
11    المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الانسان في هولندا
12   النادي الثقافي المندائي في دنهاخ
13   الجمعية الثقافية المندائية في دنهاخ
14   رابطة بابل للكتاب والصحفيين والفنانيين العراقيين في هولندا
15   نادي الفكر الحر في بريدا
 


51
آفاق ومحددات الإسلام السياسي في بلدان الانتفاضات الشعبية
                                                                                                                           د. هاشم نعمة
     طرح صعود قوى الإسلام السياسي، في الانتخابات التي اعقبت نجاح الانتفاضات في اسقاط بعض رؤوس الأنظمة في البلدان العربية أو صعودها في الانتخابات التي تلت إجراء بعض الإصلاحات الدستورية والسياسية، كما في حالة المغرب؛ طرح العديد من الأسئلة، وأثار الكثير من النقاشات وسط  المفكرين والباحثين والأكاديميين حول أسباب ونتائج وآفاق تطور هذه الظاهرة، ولامست هذه النقاشات المرجعية الفكرية للإسلام السياسي فيما يتعلق بموقفه من الدولة وشكل بنائها.
     في الواقع، لم يكن هذا الصعود مفاجئا، بل كان متوقعا قبل اندلاع الانتفاضات، في ظل موجة العودة  إلى الدين التي شهدتها مجتمعات البلدان العربية والإسلامية، منذ نهاية السبعينات، وأوائل الثمانيات من القرن الماضي. هذه الظاهرة تلاحظ على مستوى الخطاب والممارسة الدينيين؛ وكأي ظاهرة اجتماعية تقف من وراء صعودها مجموعة متشابكة ومتداخلة من العوامل السياسية والاجتماعية-الاقتصادية والتاريخية والثقافية، وهذه لا بد أن تكون حاضرة في سياق التحليل المعمق والاستنتاج. ورغم إننا في هذه المقالة ليس بصدد تحليل عوامل هذا الصعود السابق للانتفاضات؛ لكن يمكن أن نشير إلى بعض عوامله الأساسية المتمثلة بطول حكم الأنظمة المستبدة التي سدت كل إمكانيات التغيير السلمية، وفشل المشروع القومي العربي بتلاوينه المختلفة، وبالأخص الذي وصل إلى السلطة، وتراجع نفوذ اليسار العربي، وغياب تنمية اجتماعية –اقتصادية، ثقافية حقيقية، وسلوك الدول الغربية المنافي للديمقراطية في دعمها الواضح لهذه الأنظمة، رغم رفعها شعارات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وانهيار منظومة البلدان الاشتراكية نتيجة تفاعل أسبابها الداخلية بالأساس، وما خلفه هذا الانهيار من خيبة أمل واسعة وسط الشعوب، وتراجع نفوذ اليسار عالميا، إضافة لعوامل أخرى.
      تزايدت ظاهرة تدين الوعي الجمعي في المجتمعات العربية، ولامس ذلك منظومة المعايير والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية، وهو ما لا يعني بالضرورة ازدياد مخزون القيم الأخلاقية وإنما بالأساس اللجوء للهيرومنطقيا في تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية بحيث يصبح كل ما هو اجتماعي سياسي، قابعا تحت سلطة التفسير الديني وتحت هيمنة شيوخه ودعاته وفتاواهم، ناهيك عن الانفصام الملحوظ بين الدين والتدين، والقيم والسلوك. وتم توظيف المفاهيم والمصطلحات الدينية على المستوى السياسي إلى أبعد الحدود. وعادت شعارات "دولة الإيمان" تتعامل بمسميات قيمية لمصالح دنيوية شرط أن يكون "رجال الدولة من رجال الإيمان"(1). ويمكن أن نجد تفسيرا لهذه العودة في مقولة ماركس بأن الدين هو زفرة المضطهدين وعزاء لمشكلة الحرمان الاجتماعي الذي تلجأ له الطبقات المسحوقة تعويضا عما يلحق بها من ضيم اجتماعي في عالم "لا قلب له".
      والملاحظ أن معظم الحركات الإسلامية الحالية في الشرق الأوسط، هي فروع أو هي سليلة حركة الأخوان المسلمين في مصر، بدأت كأحزاب مشغولة بقضية واحدة تتمثل بالاهتداء بالشريعة الإسلامية وتطبيقها. وفي بداية التسعينات، ولأسباب مختلفة في كل حالة، بدأت تركز بشكل متزايد على الاصلاح الديمقراطي، وألزمت نفسها علانية بأنها ستكون بديلا للسلطة القائمة، وطالبت بسيادة الشعب واستقلال القضاء. وقالت بأن الإسلاميين لم يكونوا وسوف لن يكونوا ليبراليين. وبقت هذه الأحزاب تعتمد على الفئات المحافظة اجتماعيا، وهي بشكل ثابت تتبنى أفكارا يعتبرها معظم الأمريكيين بأنها ممقوتة ضمنها موقفها من حقوق المرأة وبأنها ينبغي أن تكون محدودة والفصل بين الجنسين(2).
      نجاح الحركات الإسلامية في تبوؤ الصفوف الأمامية للمعارضة وتقديم أنفسها كبديل حيوي وحيد للأنظمة العاجزة ساهمت فيه أيضا سياسات تلك الأنظمة. فخلال العديد من الفترات إبان الحرب الباردة شجعت ودعمت عدة حكومات، بما فيها الجزائر، والأردن، ومصر، وتركيا، وإسرائيل، الإسلاميين كنقيض في مواجهة الحركات الشيوعية والوطنية. وعلى الأقل حتى اندلاع حرب الخليج، كانت السعودية ودول خليجية أخرى تمد الإخوان المسلمين وحركات إسلامية أخرى في دول عديدة بأموال طائلة. إن قدرة الجماعات الإسلامية في التقدم على المعارضة تحسنت أيضا نتيجة قمع الحكومات للمعارضة العلمانية التي ليس لها غطاء مثل الذي تتمتع به الحركات الإسلامية، ومن ثم فإن قوة الأصوليين ترتبط بعلاقة عكسية مع قوة الأحزاب العلمانية والديمقراطية الوطنية(3).   
      في حالة انتفاضة البحرين التي بالرغم من جذرها الاجتماعي والاقتصادي الناجم عن البطالة والفقر والتهميش وتردي الأوضاع المعيشية وسط الشيعة خصوصا، فإنها ألبست لبوسا طائفيا، نتيجة العديد من الأسباب منها حرص النظام على تأكيد هذا الجانب للقول بأن هذه الانتفاضة تهدد وحدة المجتمع البحريني، علما، في البداية، رفع المتظاهرون شعارات تطالب بإصلاحات دستورية، ولكن عندما تدخلت قوات درع الجزيرة لقمع الانتفاضة، صعد المتظاهرون من مطالبهم بإسقاط الملكية.
       أدت ثلاثة عقود من التمييز في عهد الاستقلال إضافة إلى التركة الاستعمارية، إلى تكريس الانقسام الطائفي بين السنة والشيعة، مع شعور ترسخ لدى الشيعة بأنهم مهمشون وضحية التمييز، بالإضافة لقمع السلطة لليسار طوال السبعينات والثمانينات، مما أدى إلى تراجعه. لقد أفرزت هذه الوضعية قوى سياسية وقيادات دينية تستند إلى الطائفة، بل حتى إلى المدرسة الفكرية في الطائفة نفسها. ومن هنا عندما دشنت المرحلة  الجديدة، بعد تولي الملك الحالي للسلطة عام 1999، تشكلت التنظيمات السياسية الرئيسية استنادا إلى الطائفة أو الخط الفكري في الطائفة، حيث تشكلت جمعية الوفاق كأقوى تنظيم سياسي مستندة إلى ولاية الفقيه، فيما تشكلت جمعية العمل الإسلامية، استنادا إلى مرجعية آية الله الشيرازي (الولاية المشروطة)، وجمعية التجديد استنادا إلى خط سفارة المهدي. وعلى الجانب السني، تشكلت جمعية المنبر الإسلامي لتمثل الأخوان المسلمين، وجمعية الأصالة لتمثل السلفيين، وجمعية الوسط لتمثل خط الوسط، اما التيار الوطني الديمقراطي ممثلا في جمعية العمل وجمعية المنبر التقدمي والتجمع القومي وجمعية الوسط، فقد استقطبت القلة في أوساط الطبقة الوسطى(4). وقد انعكست حدة الاستقطاب الطائفي سلبا على مجمل الحركة الجماهيرية، وعلى مجمل حركة المعارضة، في تبني مشروع وطني ديمقراطي عابر للطوائف، يهدف إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية، وهذه الحالة شبيهة بالعراق بعد سقوط النظام عام 2003! حيث اعاق الاستقطاب الطائفي وتبني نظام المحاصصة الطائفية والإثنية، إعادة بناء الدولة العراقية على أساس المشروع الوطني الديمقراطي.
ما بعد الانتفاضات   
     كما هو معروف، لم يشارك تيار الإسلام السياسي في تفجير هذه الانتفاضات بل التحق بها متأخرا، بعد أن ظهرت مؤشرات أولية على نجاحها. وقد تبنت الانتفاضات منطلقات سياسية واجتماعية واقتصادية ولم تكن مرجعيتها دينية. وعلى الرغم من طابعها الليبرالي الغالب، إلا ان مسارها اتخذ فيما بعد اتجاها مختلفا، ببروز حضور واضح على المستوى السياسي للتيار الإسلامي بكل فصائله.
     ففي مصر استحوذ الإخوان المسلمون والسلفيون على ثلثي مقاعد مجلس الشعب والشورى، وتقاسمت باقي القوى الثلث الباقي. وفي تونس حصل حزب حركة النهضة، ذو المرجعية الإسلامية، على 90 مقعدا في المجلس الوطني التأسيسي أي بنسبة 41,4%(5). وتعود أهم أسباب هذا التحول إلى أن معظم الجماهير التي شاركت في الانتفاضات، والتي تنتمي إلى طبقات وفئات اجتماعية عرضية لم تكن مسيسة، وبمعنى أدق لم تكن منخرطة في تنظيمات حزبية ذات أطر تنظيمية منضبة وتمتلك برامجا محددة، في حين نجد أن الإخوان المسلمين أكثر التنظيمات انضباطا، ولهذا استطاعوا تعبئة جماهيرهم في الانتخابات. وهذا يؤكد دور التنظيم الحزبي، الذي جرى التقليل من اهميته في مجرى الانتفاضات ونشوة انتصارها، وتحدث البعض عن ضرورة تجاوزه، إذ لا يكفي أن يكون الوضع مهيأ للتغيير، وهناك جماهير عريضة تسند هذا التغيير بدون أن تكون هناك ادوات تنظيمية فاعلة. 
       وقد أثارت تصريحات بعض قيادات التيار الإسلامي في مصر، قضايا خلافية وفي مقدمتها مسألة الدولة المدنية والدولة الدينية. وبعض هؤلاء القادة انتقدوا الأولى على أساس أنها تخالف الإسلام بالقول أن الإسلام دين ودولة. وإذا كان بعض أعضاء الإخوان المسلمين يحاول التوفيق بين مصالح الدولة المدنية والإسلام، فإن حزب النور السلفي قد أعلن صراحة أنه لا يقبل مصطلح الدولة المدنية من الأساس؛ لأنها تساوى في رأي قادته الدولة العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة.
     وقد تدخلت مؤسسة الأزهر بثقلها الديني، في محاولة لفك الألتباس والخلط الحاصل بين السياسة والدين وبين الدولة والدين؛ فأعلنت في بيان التوافق الصادر عن المجتمعين من علماء دين ومفكرين ومثقفين "أن الإسلام لم يعرف ما يسمى بالدولة الدينية". وأكدت هذه الوثيقة على وجوب التفريق بين الدين والسياسة، وأن المؤسسات الدينية، لا ينبغي لها أن تتحول إلى أداة في الصراعات والمصالح السياسية. وقد دفع هذا الموقف بعض التيارات الإسلامية إلى المطالبة بتحدي سلطة الأزهر الدينية وحتى الوطنية(6)، والسعي للسيطرة على قرارها من خلال تغلغل أتباعها في هذه المؤسسة التي تتسم بالوسطية في فهمها الإسلام.
      في هذا الصدد يذكر المفكر محمد عابد الجابري أن (ليس في القرآن قط، وهو المرجع المعتمد أولا وأخيرا، ما يفيد بأن الدعوة المحمدية دعوة تحمل مشروعا سياسيا معينا). لذلك هو يتحفظ على الروايات التي تفيد بأن الدعوة المحمدية كانت ذات مشروع سياسي واضح يتمثل في إنشاء دولة عربية رافقها منذ منطلقها وبقيت محتفظة به تعمل من أجله إلى أن حققته. وهذا لا يمنع من وجهة نظره من قراءة الدعوة المحمدية قراءة سياسية من نوع ما. ذلك لأن خصوم هذه الدعوة، وهم الملأ من قريش، قد قرؤوها منذ البداية قراءة سياسة فمارسوا السياسة ضدها. إنهم رأوا فيها دعوة تستهدف الإطاحة بما كان يشكل أساس كيانهم الاقتصادي، وبالتالي سلطتهم السياسية. لذلك لم يكن من الممكن أن تبقى الدعوة المحمدية "سلبية" أمام ممارسة قريش السياسة ضدها، بل لا بد أن تحاربها بنفس سىلاحها، أو على الأقل كان لا بد لها من أن تجعل السلاح السياسي من جملة أسلحتها (7). إذن اختيار الدعوة الإسلامية لسلاح السياسة لم يكن مقررا سلفا وإنما فرض عليها، وبتقديرنا، أن تحفظ الجابري هنا على هذه الروايات هو أقرب إلى نفيها، لأنه احالنا إلى القرآن الذي لا يمكن مقارنة مرجعيته بروايات دونت في فترات متأخرة، هذا الحذر عند الجابري مرده عدم الرغبة بالاصطدام المباشر مع الأوساط الدينية، وكذلك، لأن الموروث الديني يشغل مساحة مهمة في بنية ثقافة المجتمع، ونجد الحذر  أيضا عند مفكرين ومثقفين آخرين في المغرب العربي عندما تلامس نقاشاتهم المقدس الديني.
     ويذكر المفكر نصر حامد أبو زيد أن "ليس هناك شكل للدولة لا في الأحاديث ولا في القرآن، شكل الدولة الذي أقامه العرب كان هو شكل الدولة السائدة في ذلك العصر وهي الإمبراطورية" وإلى أي حد كانت هذه الإمبراطورية محكومة طبقا لما يتصور البعض بالإسلام، يجيب بالنفي أي لم تكن محكومة بالإسلام. ويشير إلى أنه طوال الوقت كان هناك صراع بين الفقهاء وبين الخلفاء حيث كثير من الفقهاء الأوائل رفضوا أن يشتغلوا عند السلاطين(8).
      في تونس، نجد راشد الغنوشي قد أوضح أن حركة النهضة "أكدت فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالدين التزامها بمقومات الدولة المدنية الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها، غير ما تستمده من قبول شعبي تفصح عنه صناديق الاقتراع... كما أكدت قاعدة المواطنة والمساواة بين الجنسين اساسا لتوزيع الحقوق والواجبات، لتأكيدها لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان"(9). وبهذا يعد موقف حركة النهضة على مستوى الخطاب متقدما مقارنة ببقية الأحزاب الإسلامية، لكن هذا لم يمنع من اتهام القوى المدنية واليسارية حركة النهضة بأنها تسعى للهيمنة على كل مفاصل الدولة من خلال تعيين اتباعها في المواقع الحساسة.
       لذلك، لا زالت هناك نقاط خلاف تعيق المصادقة على المسودة الثانية للدستور التونسي منها ما تعترض عليه  قوى من المعارضة ضمنها اليسارية مثل "تأسيسا على ثوابت الإسلام" وبأن هناك تشابه "موجود من حيث الفلسفة، وليس من حيث تطابق المصطلحات" مع الدستور الإيراني.(10)
     وبالنسبة لسوريا كان الإخوان المسلمون قد اصدروا "عهدا وميثاقا" في آذار 2012، من بنوده الأساسية: إقامة دولة مدنية حديثة تقوم على دستور مدني منبثق عن إرادة أبناء الشعب السوري، قائم على توافقية وطنية، تضعه جمعية تأسيسية منتخبة انتخابا نزيها يحمي الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات من أي تعسف أو تجاوز، ويضمن التمثيل العادل لكل مكونات المجتمع(11). لكن ما يثير المخاوف اصرار الإخوان على فرض مرشحهم لرئاسة الحكومة المؤقتة غسان هيتو بطريقة فرض الأمر الواقع، مثلما عمل الإخوان في مصر، الذين قالوا في البداية أنهم لا ينون تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية. 
الخلافة الإسلامية
     لا يزال حكم الخلافة الإسلامية هدفا رئيسيا لمعظم تيارات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وقد جاء أوضح تعبير عن هذا الهدف بعد انتفاضة 25 يناير في مصر على لسان محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين، الذي عبر في آخر رسائله الإسبوعية عام 2011، عن أن إعادة إحياء الخلافة الإسلامية هي الهدف الأعظم للإخوان المسلمين، التي تؤهل المسلمين لـ "أستاذية العالم". وأعرب بديع عن اعتقاده في أن ثورات الربيع العربي قد جعلت هذه الغاية أقرب إلى التحقيق. وتحدث بطريقة مشابهة حمادي الجبالي رئيس الوزراء السابق والأمين العام لحركة النهضة في تونس عن الخلافة الإسلامية، حين خاطب، في منتصف تشرين الثاني| نوفمبر 2011، مجموعة من أنصار حزبه في مدينة سوسة التونسية، قائلا: "أنتم الآن أمام لحظة تاريخية، أمام لحظة ربانية، في دورة حضارية جديدة إن شاء الله، في الخلافة الراشدة السادسة إن شاء الله).
     ونتيجة للاعتراضات الحادة من قبل القوى اليسارية والليبرالية في البلدين، حدث تراجع عن موقف الإخوان وحركة النهضة عن موضوع الخلافة، وحاولا وضعه في إطار السعي للتقارب بين الدول العربية الإسلامية. وفي الواقع إن الحديث عن إحياء الخلافة، كالحديث عن إحياء الموتى، وفيه إشغال للشعوب عن قضاياها الداخلية الملحة(12). وهو محاولة لترحيل أسباب عدم تحقيق انجازات ملموسة على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، إلى تمزق قوة الأمة الإسلامية، وعدم توحدها على المستوى السياسي.
     ولعل من المفيد هنا أن نطرح السؤال الآتي: وفق أي منهج أو مذهب إسلامي ستقام الخلافة الإسلامية هذه؟ حسب نصر حامد أبو زيد لا يوجد نموذج إسلامي واحد بل نماذج إسلامية مختلفة، في اندونيسيا، وأفريقيا، والهند، والشرق الأوسط، وأمريكا، وأوروبا، ولهذا لا نستطيع أن نتكلم عن إسلام واحد لا في الواقع الراهن ولا في التاريخ.     
     ومع هذا لعل الظاهرة الجديرة بالمتابعة من قبل الباحثين هي الانخراط المتزايد للتيارات الإسلامية في الأجندة المحلية، فضلا عن تزايد النزعات البراغماتية لديها، وهي نزعة تغلب مصلحة الحزب أو الدولة على أي اعتبار آخر. ففي الحالة التي عمل فيها الإسلاميون كأحزاب سياسية معترف بها قانونا أو واقعا، كانوا يتحركون في الغالب على خلفية ترسيخ مكاسبهم السياسية داخل حدود دولهم أو في الحد الأدنى الحفاظ عليها أولا وقبل كل شيء، وفي الحالات التي وصلوا فيها إلى الحكم رجحت عندهم الشؤون المحلية على اعتبارات الأيديولوجيا والعقيدة. مثلا في المغرب يبدي حزب العدالة والتنمية الإسلامي ميلا متزايدا نحو الأجندة الوطنية المحلية، مع سعي حثيث نحو الاندراج الهادئ ضمن النظام الملكي على أمل أن يسمح له بتسلم "إدارة الحكم"(13)، وهو أكثر من ذلك حريص جدا على تأكيد طابعه المغربي الخالص،(14) وهذا ما يؤكده خطابه السياسي اليومي بعد أن وصل إلى الحكم. لذلك نتوقع أن يتراجع هدف الخلافة الإسلامية أكثر، كلما غاصت التيارات الإسلامية أكثر في وحول السلطة والدولة والثروة المتحركة. وإن بقى سيكون مجرد حلم رومانسي يدغدغ مخيلة بعض قادة الإسلاميين.   
نماذج الحكم المحتملة
     نموذج الدولة الدينية: يتمثل هذا النموذج بالدولة الكهنوتية أو الثيوقراطية، حيث ينقسم المجتمع إلى فئتين متمايزتين: حاكمة ومحكومة. تستمد الفئة الحاكمة سلطتها من أساس إلهي، مما يجعل إرادتها تسمو على إرادة المحكومين. إن صعود التيار الديني في الانتخابات وبالأخص صعود التيار السلفي المتشدد في حالة مصر مثلا، جعل بعض الباحثين يطرح احتمالية هذا السيناريو، بحيث تفضي هذه الحقائق إلى قيام دولة دينية تأخذ بنموذج يمكن وصفه بـ "الإيراني- الوهابي"، يأخذ من النموذج الإيراني الشيعي سمة وجود مرجعية عليا، يمكن أن تمثلها جماعة الإخوان المسلمين وهيكلها التنظيمي، وعلى قمته المرشد العام، ويأخذ من النموذج الوهابي السني فكرة "تطبيق الحدود" في الإسلام. وقد ازدادت المخاوف من هذا السيناريو مع الشكوك المصاحبة لتوجهات الإخوان والسلفيين في المجال العام.
      يبدو هذا السيناريو بعيدا عن الواقع في الأمد المنظور، حيث سيظهر الإخوان مرونة سياسية كبيرة تفضي إلى تعامل واقعي مع المعطيات السياسية الإقليمية والدولية، خاصة مع تراجع الأوضاع الاقتصادية، والحرص على كسب الشارع السياسي من خلال محاولة الاستجابة لمتطلباته اليومية، وإنعاش الاقتصاد أكثر من الميل إلى الصدام في أمور تبدو وكأنها تسحب من رصيده الشعبي، كفرض الحجاب، أو التعنت في الالتزامات الشرعية على غير المسلمين والتضييق على الحريات مثلا. بالإضافة إلى دور القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، التي ترى في هذا السيناريو تأثيرا مباشرا في مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل(15). ثم أن هذا السيناريو يصدم بمعارضة شديدة من قبل القوى المدنية الديمقراطية التي لا يستهان بقوتها، والتي اصدمت مع التيار الإسلامي في أكثر من مجال و عبرت بوضوح عن مخاوفها من أخونة الدولة والمجتمع. وقد حشدت قواها تحت اسم حركة "تمرد" للنزول إلى الشارع في 30 حزيران| يونيو الماضي 2013 للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة.
     النموذج التركي: لهذا النموذج خصوصيته، فقد أتى بعد مرحلة من العلمنة المتشددة على يد أتاتورك وخلفائه. وبقدر ما ساهم بدرجة ما، وكرد فعل في تقوية الهوية الإسلامية لدى القطاعات المهمشة وأبناء الطبقة الوسطى، بقدر ما زرع ثقافة تؤمن بخطورة تطابق الدين مع الدولة، يتبناها قطاع لا بأس به من المجتمع ومن ثمة لا يمكن لأي من الدول العربية التي فاز فيها التيار الإسلامي في الانتخابات أن تقترب من النموذج التركي إلا بحساب. نجد أردوغان على مستوى الخطاب قد تحدث عن دولة علمانية ومواطنين مسلمين، أو حكم مدني لا يحتقر الهوية الإسلامية، ولا يطبق الشريعة كما هي.
       تبدو تونس تحديدا هي الأقرب لاقتفاء النموذج التركي في ما لو استمر تقدم الإسلاميين في الانتخابات وهذا مستبعد. فقد عاشت تونس في ظل خطاب علماني منذ الاستقلال ولديها نسبة كبيرة من السكان ارتبطت بالثقافة الغربية والحداثة، رغم أن حركة النهضة تعلن بوضوح تبنيها لهذا النموذج.
     أما الأخون المسلمون في مصر، فقد رفضوا تصورات أردوغان عن نموذج الحكم الإسلامي المطلوب، وأعلنوا بوضوح تمسكهم بتطبيق الشريعة سواء لأن تلك هي قناعات الجناح المحافظ داخل الجماعة وحزبها الحرية والعدالة،- رغم أنه يرد في برنامج الحزب ذكر الدولة المدنية كهدف- أو لخوفهم من التحدي الذي يفرضه السلفيون الذين حصلوا على 27% من مقاعد البرلمان والأكثر تمسكا بالتطبيق الحرفي لأحكام الشريعة(16).
     يبدو أن النموذج التركي الذي لم يترسخ بعد بحكم قصر فترة تواجده في السلطة، يواجه الآن تحديا كبيرا يتمثل في الاحتجاجات الشعبية الواسعة وغير المسبوقة التي اندلعت في 27 أيار 2013 والتي ضمت مكونات اجتماعية وسياسية مختلفة، من بينها يساريين وماركسيين، ورفعت شعارا كثيرا ما تردد هو (معا ضد الفاشية)، وهي تنم عن استياء القوى العلمانية من سياسة الحكومة التي تسير في تجاه تعديل الدستور نحو نظام رئاسي، وضد التسلط والتضييق على الحريات، وبأن اردوغان بات يمثل مصالح الفئات البرجوازية الإسلامية الصاعدة. ولم يكن في الحقيقية مشروع البناء على متنزه تقسيم في أسطنبول إلا مجرد محفز أطلق المشاعر المكبوتة، وإن نجحت هذه الاحتجاجات في تحقيق مطالبها أو جزء مهم منها فإن ذلك سيساهم بدرجة مهمة في خفوت لمعان هذا النموذج الذي سوق له البعض ليكون بديلا لبعض أنظمة ما بعد الانتفاضات، على الأقل من الناحية النظرية، وسيشكل خيبة أمل كبيرة لمعظم التيارات الإسلامية في المنطقة العربية التي تفاخرت به، وسيؤثر على مستقبلها السياسي.
      مهما تكن النتائج، إلا أن الشيء المتفق عليه أن صورة هذا النموذج قد اهتزت، نتيجة القسوة والعنجهية والغرور التي تعامل بها أردوغان مع المحتجين حيث وصفهم بأنهم "خونة ومتآمرون معهم في الخارج" وأن "هذه المؤامرة احبطت وهذا السيناريو أصبح في سلة المهملات قبل البدء بتطبيقه"، هذا الخطاب في الواقع، لا يختلف عن خطاب قادة الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط عندما يواجهون احتجاجات شعبية.
    النموذج الباكستاني: يبدو هذا النموذج هو الأكثر قربا مما يمكن أن يسقط فيه الإخوان المسلمون في مصر، وتشير السوابق إلى أن هذا التحالف يكون ممكنا دائما مع العسكر، ولكن من المحتمل ايضا أن يتم تقويضه بسبب انعدام الثقة بين الطرفين. فقد كانت تجربة حركة الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر، بالتحالف مع الإخوان لفترة قصيرة بين 1952- 1954 من أجل مواجهة القوى السياسية المدنية، دليلا على انتفاء العقبات التي تحول دون تحالفهما. ولولا محاولة الإخوان المبكرة الهيمنة على الحكم وتهميش العسكريين لدام هذا التحالف فترة أطول. وقد تعرضت المؤسسة العسكرية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي تسلم إدارة البلاد بعد 11 شباط| فبراير 2011، لهجوم قاس وعنيف من القوى الليبرالية. فيما نجد أن تيار الإخوان يبدو أكثر مهادنة معها، ومستعد أكثر من غيره لإبرام صفقة تضمن مصالح المؤسسة العسكرية(17).
     النموذج الوهابي (السعودي): هذا النموذج خاص جدا ولا يشكل اغراءً حقيقيا لأي من الانتفاضات في البلدان العربية، وهناك من يرى أن ليبيا يمكن أن يلائمها هذا النموذج، ونحن نستبعد ذلك لأسباب منها تباين البنية المذهبية؛ حيث يسود المذهب المالكي في ليبيا وبقية دول المغرب العربي، علما أن الوهابية التي تستند للمذهب الحنبلي، لم تنجح منذ نشأتها في الجزيرة العربية في التمدد خارجها، لأسباب منها التشدد الذي تتسم به قراءتها للشريعة الإسلامية. كذلك هناك سبب آخر مهم يتمثل بحصول القوى والأحزاب المدنية في أول انتخابات جرت في ليبيا على حوالى نصف مقاعد البرلمان.
     نموذج الدولة المدنية الديمقراطية: في كل الأحوال، تبقى كل الاحتمالات قائمة في العالم العربي، نحو تطور ديمقراطي يستند بالأساس إلى دولة المواطنة المتساوية، وعدالة اجتماعية طال زمن انتظارهما، يساهمان في إرساء اسس هذا النموذج، علما من المتوقع على نطاق واسع أن تفشل التيارات والأحزاب الدينية في تقديم حلول حقيقية لمشاكل الشعوب على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي والسياسي، وهذا ما بدأت مؤشراته واضحة في خيبة أمل قطاعات واسعة من الجماهير من أداء هذه الأحزاب.
    آفاق الإسلام السياسي
      للاقتراب أكثر من معرفة آفاق الإسلام السياسي لا بد من تحليل رؤيته للشريعة والتراث. حين يظهر السلفيون، الإصرار على رؤية الحاضر من خلال الماضي، دون العكس، أي نقل افكار الماضي ذات الأبعاد الاجتماعية الماضوية التي تجاوزها التطور التاريخي، ليحلوها محل الأبعاد الجديدة المتصلة بمنجزات تطور الحاضر، إنما هم ينطلقون، حقيقة، من الموقع الذي تحتله في هرمية البنية الاجتماعية الحاضرة، طبقة معينة يعبرون هم عن أيديولوجيتها، إما لأنهم في موقعها الطبقي نفسه أو لسبب آخر يتعلق بتكوينهم الفكري ونوعية الوعي السياسي والطبقي عندهم. المقصود بذلك أن المضمون الحقيقي لرؤيتهم الفلسفية إلى التراث، أي دعوتهم إلى اسقاط الماضي على الحاضر، هو مضمون ترتبط جذوره بتربة الحاضر، وهو صيغة من صيغ الصراع الأيديولوجي، ويمثل استنجادا بالأفكار المحنطة في متحف "الماضي" لتثبيت موقع طبقي متزعزع في بنية اجتماعية تتصدع تحت مطرقة الحاضر(18). وتأكيدا لذلك كشفت التقارير الأخيرة أن بعض قادة الإخوان المسلمين في مصر هم من شريحة المستثمرين الكبار في عهد مبارك ولا زالوا كذلك.
       يذكرنا ذلك، بقناعة (ماكس فيبر) الراسخة مفادها عجز الدين- مهما كانت درجة عقلنته وتماسكه الداخلي- عن مقاومة ضغوطات الواقع الحديث ومغرياته، بل إنه يرى أن الدين كلما نزع أكثر نحو العقلنه، ازدادت علاقته بالعالم الخارجي توترا، ومن ثم تتسع الهوة بينه وبين عالم مادي مغموس بروح الصراع والمنافسة لا يقيم وزنا للمشاعر الدينية والأخلاقية. وبالتوازي مع ذلك، فكلما اتسعت مظاهر الترشيد والعقلنة في البنى الاقتصادية والاجتماعية، انفكت هذه الأخيرة عن الموجهات الدينية. ويشدد فيبر على أنه يتعذر التعايش بين المسلمات الدينية والنظام الرأسمالي الحديث القائم على روح الصراع والاستئثار(19).   
       لذلك، ما زالت الحركات الإسلامية في نظر قطاع واسع من النخب العلمانية متهمة في صدق نيتها تجاه الديمقراطية، وهو ما دفعها إلى توضيح موقفها تجاه هذه القضية من خلال مجموعة من الأعمال والتنظيرات، يصب أغلبها في الاحتفاء بالبعد الأدائي والتقني للديمقراطية، ويقصي بعدها الفلسفي. ومن بين الاسماء الفكرية، التي ساهمت نوعيا في هذا الحراك: حسن الترابي، وأحمد الريسوني، وراشد الغنوشي، وغازي صلاح الدين، وعبد السلام ياسين، وأقصى ما تطلبه هذه الفئة من الإسلاميين  من الديمقراطية، مع وجود قناعة بالشورى- التي بقت تاريخيا في إطار المبادئ العامة ولم تتعداه إلى النظم والإجراءات- جملة من الأدوات والإجراءات، حيث يتقلص مفهومها إلى صيغ واشكال تنفيذية. 
      إن التحفظ والتردد اللذين أبدتهما الحركات الإسلامية تجاه الديمقراطية بمعناها العام يرجعان في الأساس إلى شروطها الفلسفية، وخاصة ما يتعلق بمبادئ: الحرية، ووضعية القوانين، والمساواة. وقد أثارت هذه المبادئ، ولا تزال كثيرا من التحديات للحركات الإسلامية، خاصة بعد التطورات القيمية والسياسية والثقافية التي شهدها العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، بحكم الاحتكاك بالغرب، والانفتاح الثقافي والتعطش للحداثة(20)، والذي تعجز الحركات الإسلامية عن تلبيته أو مجاراته بحكم انشدادها لجمود النصوص.   
      إن ما نشهده حاليا ليس بالفعل "حقبة إسلامية" شكلا ومضمونا. فمن حيث الشكل، فإن ما نشهده فعليا هو ما يمكن تسميته "حالة صعود إسلامية". ويطرح في هذا السياق عدد من الأسئلة؛ هل يمكن لهذا الصعود أن يستقر في بنية السياسة العربية، سواء على مستوى الدول أو الإقليم، ليصبح ذا حضور ممتد يتيح الحديث عن "حقبة إسلامية" فعلية على الأقل من ناحية الامتداد الزمني لوجود الأحزاب الدينية في الحكم؟ ما هي العوامل التي قد تعزز من هذا الحضور أو تحول دونه، سواء داخل بنية الأحزاب المعبرة عنه، أو في البيئة المحيطة بها؟ وهل يمكن أن يطور هذا الصعود آليات للتوافق مع بيئته الداخلية والخارجية؟ أم ستكون العلاقة بينه وبين هاتين البيئتين أو احدهما على الأقل صراعية؟(21).
      تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة بعمق، المزيد من الجهد البحثي، ولكن يمكن القول أن التفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الجارية، وما أفرزته من نتائج في البلدان التي  حقق فيها الإسلاميون الأغلبية في الانتخابات، وتوازن القوى السياسية والاجتماعية، تشير إلى حدوث تراجع في نفوذ الإسلاميين؛ وهذا ما أظهرته الحالة المصرية بتراجع كبير للإخوان في انتخابات طلاب الجامعات والصحفيين والصيادلة. وبتراجع شعبية حزب أردوغان إلى 35% مقارنة بنحو 50% خلال انتخابات 2011 التشريعية، بحسب استطلاع نشرته مؤخرا صحيفة "توداي زمان" القريبة من الحكومة(22). وبتراجع شعبية حزب العدالة والتنمية المغربي. لذلك ستضطر القوى الإسلامية أمام ضغط الشارع والقوى المدنية الديمقراطية لأجراء بعض التعديلات على شعاراتها وبرامجها، بعد أن تخفق في تحقيق شيء ملموس على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، وأنه من المستبعد جدا أن تقبل الجماهير بعد الآن الاذعان لأي شكل من اشكال الاستبداد السياسي أو الديني، وبعد بضع سنوات من الآن من المرجح أن تبدأ الكفة تميل تدريجيا لصالح القوى المدنية الديمقراطية، مع إمكانية وجود تبان بهذا القدر أو ذاك بين البلدان في تطور هذه المسيرة غير السهلة. أما على مستوى التعامل مع البيئة الخارجية، فقد سلكت القوى الإسلامية منحى براغماتيا واضحا في مد جسور تعاونها مع الدول الغربية التي كانت تسميها لوقت قريب بقوى الكفر، وهذه الحالة تنطبق بوضوح على مصر وتونس.
     من جانب آخر، وعلى المدى الأبعد نسبيا، يفرض واقع الحياة المتغير صعوبات كبيرة لا يمكن تجاوزها في مصالحة السياسة مع الدين. فالسياسة ميدانها النسبي والمتغير، وتستخدم وسائل المساومة والحلول الوسط، أما الدين أي دين فميدانه المطلق والثابت. لذلك دفعت البشرية خسائر فادحة خلال قرون عندما تعاملت مع حل المشاكل السياسية والاقتصادية الاجتماعية من منظور النص الديني، وخير مثال على ذلك، الحروب الدينية الدموية التي دارت رحاها في أوروبا، وبالأخص بين الكاثوليك والبروتستانت، بدءا من القرن السادس عشر، إلى أن وصلت الأطراف المتصارعة إلى قناعة بضرورة تحييد الدين عن السياسة، وكان هذا الصراع المرير أحد العوامل المهمة التي ساهمت في فصل الدين عن الدولة رسميا.
الهوامش
1-   راجع خالد الحروب نقلا عن مصطفى مرسي، "هل الإسلام السياسي قادر على التعامل مع مشكلات الحكم المعاصر؟"، شؤون عربية، العدد 150، 2012، ص 27-28.
2-   للمزيد راجع Shadi Hamid, “The Rise of Islamists” Foreign Affairs”, Vol. 90, No. 3, May| June 2011, pp. 40-47.
3-   راجع صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة مالك شهيوة ومحمود خلف، بنغازي، 1999، ص 223-224.
4-   راجع عبد النبي العكري "الحركة الجماهيرية في البحرين: الآفاق والمحددات"، في مجموعة مؤلفين، الديمقراطية والتحركات الراهنة للشارع العربي، بيروت، 2007، ص 141- 143.
5-   مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 25.
6-    المصدر نفسه، ص 29-30.
7-   للمزيد راجع محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي "محدداته وتجلياته"، ط 5، الدار البيضاء، 2000، ص 23.
8-   راجع نصر حامد أبو زيد، "مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر"، محاضرة، الثقافة الجديدة، 338 لسنة 2010، ص101- 123. 
9-   مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 29.
10-   الشرق الأوسط، 30|3| 2013.
11-   الشرق الأوسط، 28|3| 2013.
12-   مصطفى مرسي، مصدر سابق، ص 32-33.
13-   فاز الحزب المذكور بالأغلبية في الانتخابات الأخيرة التي جرت بعد أن تم إجراء استفتاء شعبي على الدستور الجديد في 1 تموز|يوليو 2011 والذي أقر بغالبية كبيرة، ونص على اختيار رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات ويتمتع بصلاحيات أوسع من السابق بعد أن رحلت بعض من صلاحيات الملك له رغم أن الأخير ظل يتمتع بصلاحيات هامة،  وتشكلت حكومة ائتلافية برئاسة حزب العدالة والتنمية وأحزاب أخرى غير إسلامية منها حزب التقدم والاشتراكية الذي شارك في الحكومة بأربعة وزراء.   
14-   رفيق عبد السلام، في العلمانية والدين والديمقراطية، الدوحة، 2008، ص 128.
15-   راجع تحولات استراتيجية، ملحق السياسة الدولية، 187، يناير 2012، ص 8-9.
16-   تحولات استراتيجية، ملحق السياسة الدولية، 188، أبريل 2012، ص 17- 38. 
17-   المصدر نفسه، ص 39-40.
18-   راجع حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية- الإسلامية، المجلد الأول، ط 2، الجزائر، 2002، ص 28-37.
19-   رفيق عبد السلام، مصدر سابق، ص 68-69.
20-   امحمد جبرون، الإسلاميون في طور تحول: من الديمقراطية الأدائية إلى الديمقراطية الفلسفية، الدوحة، 2013، ص 3-6.
21-   تحولات استراتيجية، 187، يناير 2012 ، ص 4.
22-   الشرق الأوسط، 21-6-2013.

       

52
فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (3-3)

ترجمة: د. هاشم نعمة

                                                    ما بعد الثورات

      من المرجح أن يصاب أولئك الذين يأملون في تحقيق انتقال سريع نحو ديمقراطية مستقرة في تونس ومصر بخيبة أمل. حيث أن الثورات ليست سوى بداية لعملية طويلة. وحتى بعد  الثورة السلمية، فهي تأخذ بشكل عام نصف عقد لتعزيز أي نوع من أنواع الأنظمة المستقرة. وفي حالة نشوب حرب أهلية أو ثورة مضادة، فإن إعادة بناء الدولة تظل بحاجة إلى وقت أطول.

      بشكل عام، بعد أن تنتهي فترة شهر عسل ما بعد الثورة، تبدأ الانقسامات تظهر إلى السطح في صفوف المعارضة. وعلى الرغم من أن تنظيم انتخابات جديدة يعد خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن الحملات الانتخابية ومن ثم القرارات التي تتخذ من قبل المشرعين الجدد سوف تفتح النقاش حول الضريبة ونفقات الدولة، والفساد، والسياسة الخارجية، ودور الجيش، وسلطات الرئيس، والسياسة الرسمية تجاه الشريعة وعلاقتها بالممارسة العملية، وحقوق الأقليات وهكذا. وبما أن المحافظين، والشعبويين، والإسلاميين، والمصلحين الذين يتبنون التحديث يتنافسون بشراسة من أجل الوصول للسلطة في تونس، ومصر، وربما في ليبيا، فمن المحتمل أن تواجه هذه الدول لفترات طويلة تغيرات سريعة ومفاجئة في الحكومات وانتكاسات سياسية – بشكل يشبه ما حدث في الفلبين والكثير من دول أوروبا الشرقية بعد حدوث ثوراتها.

      لقد دعمت بعض الحكومات الغربية لفترة طويلة ابن علي ومبارك كحصون للوقوف في وجه المد المتصاعد للإسلام المتطرف، والآن يخشى من أن تتمكن المجموعات الإسلامية من تولي المسؤولية. الأخوان المسلمون في مصر هم أفضل المجموعات المعارضة تنظيما، وهم سيكسبون في الانتخابات العامة، خصوصا إذا نظمت بوقت مبكر، قبل أن تتأسس أحزاب أخرى. وبعد الحدث التاريخي للثورات في الأنظمة السلطانية ينبغي التخفيف من هذه المخاوف إلى حد ما. حيث لا يوجد مؤشر بأن سقوط أي سلطان في الثلاثين سنة الأخيرة – يشمل هايتي، والفلبين، ورومانيا، وزائير، وأندونيسيا، وجورجيا، وقيرغيزستان- قد أدى إلى صعود أيديولوجيا أو حكومة متطرفة. وبدلا من ذلك، وفي كل حالة، كانت النتيجة النهائية ديمقراطية ناقصة– في كثير من الأحيان فاسدة وعرضة للتوجهات الاستبدادية، لكنها غير عدائية أو متطرفة. 

     ما حدث يمثل تحولا كبيرا في التاريخ العالمي. بين عامي 1949 و1979، كل ثورة قامت ضد نظام سلطاني – في الصين، وكوبا، وفيتنام، وكومبوديا، وإيران ونيكاراغوا- نتج عنها حكومة شيوعية أو إسلامية. وفي ذلك الوقت، فضل معظم المثقفين في الدول النامية النموذج الشيوعي للثورة ضد الدول الرأسمالية. وفي إيران كانت هناك رغبة في تفادي النموذج الرأسمالي  والشيوعي وبسبب تزايد شعبية السلطة التقليدية لرجال الدين الشيعة أدى ذلك إلى صعود حكومة إسلامية للحكم. ومنذ الثمانينات لا النموذج الشيوعي ولا النموذج الإسلامي اجتذبا الكثير من الناس. حيث بات كلاهما ينظر لهما على نطاق واسع بفشلهما في تحقيق النمو الاقتصادي وإقامة نظام للمساءلة الشعبية. كلا هذين الهدفين الرئيسيين يتم تبنيهما من قبل جميع الثورات الأخيرة التي اندلعت ضد الأنظمة السلطانية.

     لا شيء يحفز على تغيير النظام مع ارتفاع معدلات البطالة، وقد دعا البعض في الولايات المتحدة الأمريكية لتبني مشرع ماريشال في الشرق الأوسط لدعم استقرار المنطقة. لكن في عام 1945، كان لأوروبا تاريخ من الأنظمة الديمقراطية قبل ذلك الوقت، وكان تدمير البنية التحتية المادية بحاجة لإعادة البناء. في حين أن اقتصاديات تونس ومصر غير مصابة بأذى وقد سجلت حديثا نموا ممتازا، لكنهما بحاجة لبناء مؤسسات ديمقراطية جديدة. وتوجيه الأموال إلى هذه الدول قبل أن تشكل حكومات عرضة للمساءلة سيشعل فقط الفساد ويقوض تقدمها نحو الديمقراطية.

    ما هو أكثر من ذلك، إن الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى تتمتع بمصداقية  قليلة في الشرق الأوسط لأنها دعمت ولفترة طويلة الدكتاتوريات السلطانية. وأي جهود لتوظيف المساعدة لدعم مجموعات معينة أو التأثير في النتائج الانتخابية من المرجح أن تثير شكوكا. ما يحتاجه الثائرون من الخارج هو الدعم الصريح للعملية الديمقراطية، والرغبة في قبول جميع المجموعات التي تمارس العمل وفق القواعد الديمقراطية، والاستجابة الإيجابية لأي طلبات لتقديم المساعدة التقنية في بناء المؤسسات.

       إن أكبر خطر تواجهه تونس ومصر الآن يمثل بمحاولات تحرك الثورة المضادة والمتمثلة بالقوى المحافظة في الجيش، وهي مجموعة غالبا ما سعت للمطالبة بالسلطة عقب زوال السلطان. حدث هذا في المكسيك بعد الإطاحة بدياز، وفي هايتي بعد رحيل جان كلود دوفالييه، وفي الفلبين بعد سقوط ماركوس. وبعد أن أجبر سوهارتو على مغادرة السلطة في اندونيسيا، استعمل الجيش قوته في اتخاذ إجراءات صارمة ضد الحركات المطالبة بالاستقلال في تيمور الشرقية، التي احتلتها اندونيسيا منذ عام 1975.

     في العقود الأخيرة القليلة، انتهت محاولات الثورات المضادة (كما في الفلبين في 1987-1988 وهايتي عام 2004) نهاية غير مرضية بدرجة كبيرة. فلم تتمكن من عكس المكاسب الديمقراطية أو قيادة الأنظمة التي اعقبت الأنظمة السلطانية لتكون في احضان المتطرفين – المتدينين أو غيرهم.

     مع ذلك، فإن مثل هذه المحاولات تضعف الديمقراطيات الجديدة وتشغلها عن القيام بالاصلاحات التي تشتد الحاجة إليها. وهي يمكن أن تدفعها إلى اتخاذ ردود فعل متشددة أيضا. إذا حاول الجيش في تونس ومصر المطالبة بالسلطة أو أعاق الإسلاميين من المشاركة في النظام الجديد، أو سعت الملكيات في المنطقة للمحافظة على أنظمتها مغلقة من خلال ممارسة القمع بدلا من انفتاحها من خلال تنفيذ الاصلاحات، في هذه الحالة، فإن القوى المتشددة فقط هي التي ستعزز من قوتها. وعلى سبيل المثال، كانت المعارضة في البحرين تسعى من أجل إجراء اصلاحات دستورية، لكن كان رد فعلها تجاه الإجراء السعودي لقمع محتجيها هو المطالبة بالإطاحة بالملكية في البحرين بدلا من إصلاحها.

      يتمثل التهديد الرئيسي الأخر للديمقراطيات في الشرق الأوسط بالحرب. تاريخيا، تتصلب الأنظمة الثورية في مواقفها وتصبح أكثر تطرفا استجابة لحالة الصراع أو النزاع الدولي. فلم يكن سقوط الباستيل بل كانت الحرب مع النمسا هي التي سمحت لليعاقبة المتطرفين بالوصول إلى السلطة خلال الثورة الفرنسية. وبشكل مشابه، كانت الحرب العراقية-الإيرانية قد اعطت آية الله روح الله الخميني الفرصة للتخلص من العلمانيين المعتدلين في إيران. في الواقع، يمكن لحالة واحدة أن تجعل المتطرفين يخطفون ثورات الشرق الأوسط وهي إذا زاد توتر النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين فسيؤدي ذلك إلى تصعيد العداء بين مصر وإسرائيل، وسيقود إلى تجدد الحرب.

     على الرغم مما ذكر آنفا، لا يزال هناك سبب للتفاؤل. قبل عام 2011، كان الشرق الأوسط يبرز على الخارطة باعتباره المنطقة الوحيدة المتبقية في العالم الخالية تقريبا من الديمقراطية. يبدو أن ثورتي الياسمين والنيل قد بدأتا بمهمة تغيير كل ذلك الوضع. ومهما كانت النتيجة النهائية، فإنه يمكن قول الكثير: بأن حكم السلاطين قد وصل إلى نهايته.
_______________

    المقالة بقلم جاك غولدستون وهوعالم أمريكي في علم الاجتماع والسياسة، متخصص في الحركات الاجتماعية، والثورات والسياسات العامة، نشر تسعة كتب تأليفا أو تحريرا وحوالي مائة مقالة بحثية، ويعمل حاليا أستاذا في مدرسة السياسات العامة في جامعة جورج ماسون.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 90, Number 3, May\June 2011 

 نشرت في مجلة الثقافة الجديدة العدد 357-358 نيسان- أيار 2013.


53
فهم ثورات 2011
ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (2-3)

ترجمة: د. هاشم نعمة
صخرة القصبة

      تمثل الثورات التي تنتشر في الشرق الأوسط انهيارا للأنظمة السلطانية الفاسدة على نحو متزايد. وبالرغم من نمو اقتصاديات المنطقة في السنوات الأخيرة، إلا أن المكاسب لم تستفد منها غالبية الجماهير، وبدلا من ذلك، تكدست الثروات بيد عدد قليل من الأثرياء. وقد ذكر أن مبارك وعائلته أنشأوا ثروة تتراوح ما بين 40 إلى 70 مليار دولار، ويزعم بأن 39 من الموظفين ورجال الأعمال المقربين من جمال بن مبارك قد جمعوا ثروات تبلغ في المتوسط أكثر من مليار دولار لكل واحد منهم. وفي تونس، اشارت برقية دبلوماسية أمريكية تعود لعام 2008 نشرها موقع ويكيليكس إلى حالة انتشار الفساد، وحذرت بأن عائلة ابن علي أصبحت ذات سلوك لصوصي إلى حد بعيد وبأن الاستثمارات الجديدة وخلق فرص العمل يجري التضييق عليهما وأن تباهي عائلته قد أثار غضبا واسع النطاق.

     وقد تضرر السكان الحضر الذين أرتفع عددهم بسرعة في الشرق الأوسط من تدني الأجور ومن اسعار المواد الغذائية التي ارتفعت بنسبة 32% في السنة الأخيرة لوحدها، استنادا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة. لكن ليس من البساطة القول أن مثل ارتفاع الأسعار هذا، أو نقص النمو، يشعل هكذا ثورات؛ لكن استمرار الفقر على نطاق واسع وغير المخفف عنه وسط تزايد الثراء الفاحش ساهم في اندلاع الثورات. 

      كما أن  هناك سخطا ناجما عن ارتفاع معدلات البطالة، التي تنتج جزئيا من ارتفاع نسبة السكان من فئة الشباب في العالم العربي. فقد تراوحت نسبة الشباب البالغين الذين تتراوح اعمارهم بين 15-29 سنة من مجموع السكان البالغة اعمارهم أكثر من 15 سنة بين 38% في البحرين وتونس وأكثر من 50% في اليمن (مقارنة مع 26% في الولايات المتحدة الأمريكية). لم تكن نسبة الشباب في الشرق الأوسط مرتفعة بصورة ملحوظة فقط، لكن نمت اعدادهم بسرعة خلال فترة قصيرة. فمنذ العام 1990، ارتفع عدد السكان الشباب في الفئة العمرية 15-19 سنة بنسبة 50% في ليبيا وتونس، و65% في مصر، و125% في اليمن.

       نتيجة سياسات التحديث التي تبنتها الحكومات السلطانية، تمكن الكثير من هؤلاء الشباب من الالتحاق بالجامعات، خصوصا في السنوات الأخيرة. ففي الواقع، ارتفعت نسبة الالتحاق بالجامعات في المنطقة في السنوات الأخيرة، بأكثر من ثلاثة اضعاف في تونس، وأربعة اضعاف في مصر، وعشرة اضعاف في ليبيا.       

     سيكون من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، لأي حكومة أن توفر فرص عمل كافية لمواكبة هذا الطلب المتزايد على العمل. و كانت المشكلة من الصعب السيطرة عليها، خصوصا، في الأنظمة السلطانية. وكجزء من استراتيجية الرعاية، فقد قدم ابن علي ومبارك الدعم الحكومي لفترة طويلة للعمال والعائلات من خلال برامج مثل صندوق العمل الوطني في تونس – الذي يدرب العمال، ويوفر فرص العمل ويمنح القروض- وفي مصر تمثلت بسياسة ضمان توفير فرص العمل لخريجي الجامعات. لكن شبكات الأمان هذه انخفضت نفقاتها تدريجيا في العقد الأخير. علاوة على ذلك، كان التدريب المهني ضعيفا، وقد تمت السيطرة بإحكام على وسائل الحصول على فرص العمل في القطاع العام والخاص من قبل الفئة المرتبطة بالنظام. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع البطالة وسط الشباب بشكل لا يصدق في الشرق الأوسط: حيث وصل معدلها إلى 23%، وهو ضعف المعدل العالمي، عام 2009. إضافة إلى ذلك، كانت البطالة وسط المتعلمين أسوأ من ذلك: ففي مصر، يزداد احتمال عدم حصول خريجي الجامعات على وظائف إلى عشرة اضعاف مقارنة بأولئك الذين يتمتعون بمستوى التعليم الابتدائي فقط.

    في الكثير من الاقتصاديات النامية، يوفر القطاع غير الرسمي متنفسا للبطالة. مع ذلك، جعل السلاطين في الشرق الأوسط حتى هذه النشاطات صعبة المنال. بعد كل هذا، اندلعت الاحتجاجات بعد أن ضحى الشاب التونسي محمد بو عزيزي بنفسه وهو بعمر 26 سنة والذي لم يتمكن من الحصول على عمل رسمي، وكانت عربته التي يبيع بها الفواكه قد صودرت من قبل الشرطة. وكان الشباب المتعلم والعمال في تونس ومصر قد نظموا احتجاجات وإضرابات محلية لسنوات من أجل جلب الانتباه إلى البطالة المرتفعة، وانخفاض الأجور، ومضايقات الشرطة والفساد الحكومي. لكن في هذا الوقت، باتت احتجاجاتهم مشتركة وامتدت إلى الفئات السكانية الأخرى.

     إن استحواذ هذه الأنظمة على الثروة والتمادي في الفساد أساءا بشكل متزايد لجيوشها. لأن كل من ابن علي ومبارك قدما من المؤسسة العسكرية؛ وفي الواقع، مصر حكمت من قبل ضباط سابقين منذ عام 1952. وفي كلا البلدين، كان الجيش ينظر إلى مكانته بأنها في تراجع. وقد سيطر قادة الجيش في مصر على بعض الأعمال التجارية المحلية، لكنهم كانوا مستاءين بشدة من جمال مبارك، الذي كان ولي عهد حسني مبارك. وهو كمصرفي، فضل بناء نفوذه من خلال الأعمال التجارية والسياسيين المقربين بدلا من بنائه من خلال الجيش، وقد كسب أولئك المرتبطون به أرباحا ضخمة من الاحتكارات الحكومية ومن التعامل مع المستثمرين الأجانب. وفي تونس، أبقى أبن علي الجيش على مبعدة لضمان أن لا تكون له طموحات سياسية. وقد سمح لزوجته وأقربائها أن يبتزوا أموالا بطريقة غير مشروعة من رجال الأعمال التونسيين وبناء القصور على شواطئ البحر. نتيجة استياء الجيش، في البلدين، كان هناك احتمال قليل بقيامه بقمع الاحتجاجات الجماهيرية؛ حيث لا يريد الضباط والجنود قتل أبناء بلدهم فقط من أجل بقاء ابن علي ومبارك وعائلاتهم ومفضليهم في السلطة.

       وقد حدث تخل مماثل عن النظام من قبل أقسام من الجيش الليبي، وأدى ذلك إلى فقدان القذافي وبسرعة السيطرة على مناطق واسعة من البلاد. وحتى كتابة هذه السطور، استخدم القذافي المرتزقة وسخر الولاءات القبلية التي أخرت سقوطه. وفي اليمن، ظل صالح واقفا على قدميه، بالكاد، نتيجة المساعدات الأمريكية المقدمة له لدعم مناهضته للإرهابيين الإسلاميين وبسبب الانقسامات القبلية والمناطقية وسط معارضيه. ومع ذلك، إذا توحدت المعارضة، يبدو أنها تفعل ذلك، وإذا احجمت الولايات المتحدة الأمريكية عن دعم نظامه القمعي على نحو متزايد، فإن صالح يمكن أن يكون السلطان القادم الذي سيطاح به.

                                                  حدود الثورات

      حتى كتابة هذه السطور، لم تشهد السودان وسوريا والأنظمة السلطانية الأخرى في المنطقة، احتجاجات شعبية واسعة. ومع ذلك، فإن فساد البشير وتركز الثروة في الخرطوم بات يواجه بتحد. إن أحدى المبررات التاريخية لحكمه – إبقاء كل السودان تحت سيطرة الشمال-  وقد تلاشت هذه السيطرة مؤخرا مع تصويت جنوب البلاد في كانون الثاني| يناير 2011 لصالح الاستقلال. وفي سوريا، احتفظ الأسد حتى الآن بدعم وطني بسبب سياساته المتشددة تجاه إسرائيل ولبنان. أنه لا يزال يحتفظ ببرامج عمل حكومية كبيرة والتي ابقت السوريين في موقف سلبي لعقود، لكنه لا يملك قاعدة اجتماعية كبيرة لدعم حكمه وهو يعتمد على نخبة قليلة، والتي بسبب فسادها على نحو متزايد باتت معروفة بسوء سمعتها. وعلى الرغم، من الصعب القول كيف أن صمود النخبة والجيش يمكن أن يدعما البشير والأسد، لكن من المرجح أن كلا النظامين هما اضعف مما يبدوان عليه ويمكن أن يتدهور وضعهما بسرعة في مواجهة احتجاجات ذات قاعدة جماهيرية واسعة.

       من المرجح أكثر أن تبقى الأنظمة الملكية في المنطقة في السلطة. هذا ليس بسبب عدم مواجهتها مطالبات بالتغيير. ففي الواقع، تواجه بلدان المغرب، والأردن، وعُمان، والأنظمة الملكية في الخليج العربي نفس تحديات البنية السكانية، والتعليمية، والاقتصادية التي تواجهها الأنظمة السلطانية، ويجب عليها تنفيذ اصلاحات لمواجهة ذلك. غير أن الأنظمة الملكية تتوافر على ميزة مهمة: تتمثل في مرونة بناها السياسية. حيث يمكن للملكيات الحديثة أن تحتفظ بسلطة تنفيذية مهمة، في حين تتنازل عن السلطة التشريعية إلى برلمانات منتخبة. وفي اوقات الاضطرابات، من المرجح أكثر أن تطالب احتجاجات الجماهير بتغييرات تشريعية بدل المطالبة بالتخلي عن النظام الملكي. وهذا يعطي الملكيات مجالا أكبر للمناورة لتهدئة الناس. فعلى سبيل المثال، في مواجهة الاحتجاجات عام 1848، وسّعت الملكيات في ألمانيا وإيطاليا، دساتيرها، وقللت من سلطة الملك المطلقة، ووافقت على إجراء انتخابات المجالس التشريعية كثمن لتفادي مزيد من المحاولات لتصعيد الثورة.       

      علاوة على ذلك، في الأنظمة الملكية، يمكن في ظل النظام الوراثي أن يتم التغيير والإصلاح بدل هدم كامل النظام. وبما أن الوراثة العائلية تتوفر على شرعية وبالتالي قد يكون مرحبا بها بدلا من سيادة الخوف، كما في الدولة السلطانية النموذجية. فعلى سبيل المثال، في المغرب عام 1999، استحسن الجمهور تولي الملك محمد السادس العرش مع أمال كبيرة بالتغيير. وفي الواقع، حقق محمد السادس في بعض الانتهاكات القانونية للنظام السابق وعمل على تعزيز حقوق المرأة بعض الشيء. وقد هدأ من الاحتجاجات الأخيرة في المغرب بالوعد بأجراء اصلاحات دستورية رئيسية.(4) من المرجح أن يتمكن الحكام من البقاء في السلطة في البحرين، والأردن، والكويت، والمغرب، وعُمان، والسعودية، إذا رغبوا بتقاسم السلطة مع مسؤولين منتخبين أو أن يقوموا بتسليم زمام الأمور إلى أحد أعضاء العائلة من الشباب الذي يباشر اجراء إصلاحات مهمة.

      على الأرجح، النظام الذي يتفادى حدوث تغيير هام في بنيته في المدى القريب يتمثل في النظام الإيراني. رغم أن إيران ينطبق عليها مفهوم النظام السلطاني أيضا، إلا أنها تختلف في العديد من النواحي: فهي لا تشبه أي نظام آخر في المنطقة، حيث أن تبني آيات الله ايديولوجية شيعية معادية للغرب وتبني القومية الفارسية قد لاقتا دعما كبيرا من الناس العاديين. وهذا ما يجعل من إيران أكثر شبها بدولة الحزب الواحد مع تمتع النظام بدعم قاعدة جماهيرية. أيضا تقاد إيران من قبل مجموعة تضم العديد من القادة الأقوياء، وليس من قبل قائد واحد فقط: المرشد الأعلى علي خامنئي، الرئيس محمود أحمدي نجادي، ورئيس البرلمان علي لاريجاني. وبالتالي لا يوجد سلطان واحد فاسد أو غير كفوء تتركز عليه نقمة المعارضة. أخيرا، يتمتع النظام الإيراني بدعم الباسيج، وهي ميليشيا ملتزمة ايديولوجيا، والحرس الثوري، الذي يتشابك بعمق مع الحكومة. لذلك، تتوفر فرصة قليلة بتخلى هذه القوى عن النظام في مواجهة احتجاجات واسعة.
 
_________________________________________
     المقالة بقلم البرفسور جاك غولدستون وهو عالم أمريكي في علم الاجتماع والسياسة، متخصص في الحركات الاجتماعية، والثورات والسياسات العامة، نشر تسعة كتب تأليفا أو تحريرا وحوالي مائة مقالة بحثية، ويعمل حاليا أستاذا في مدرسة السياسات العامة في جامعة جورج ماسون.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 90, Number 3, May\June 2011 

هوامش المترجم

4- تم اجراء استفتاء شعبي على الدستور الجديد في 1 تموز| يوليو 2011 والذي أقر بغالبية كبيرة ونص على اختيار رئيس الحكومة من الحزب الفائز في الانتخابات ويتمتع بصلاحيات أوسع من السابق بعد أن رحلت بعض من صلاحيات الملك له رغم أن الأخير ظل يتمتع بصلاحيات هامة، علما أن هذه الانتخابات  قاطعتها حركة 20 يناير التي انبثقت في سياق اندلاع الانتفاضات في البلدان العربية ورفعت شعار "الشعب يريد اسقاط الفساد" وفي الفترة الأخيرة تراجعت نشاطاتها بشكل ملحوظ.

نشرت في مجلة الثقافة الجديدة العدد 357-358 نيسان- أبريل 2013.


54
فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (1-3)

   ترجمة: د. هاشم نعمة
       تحمل موجة الثورات(1) التي تجتاح الشرق الأوسط تشابها ملحوظا مع الزلازل السياسية التي حدثت في الماضي، مثل ما حدث في أوروبا عام 1848. إن ارتفاع اسعار المواد الغذائية وارتفاع معدلات البطالة اشعلا احتجاجات شعبية امتدت من المغرب إلى عُمان. وكما حدث في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفيتي عام 1989. فإنه نتيجة خيبة الأمل، وانتشار الفساد في ظل أنظمة سياسية لا تستجيب لمطالب الجماهير قادت هذه الأوضاع إلى حدوث انشقاق وسط النخب وسقوط أنظمة قوية في تونس ومصر وربما في ليبيا. لم يكن عاما 1848 و1989 هما المقياس الدقيق لأحداث الشتاء الماضي. حيث أن ثورات عام 1848 سعت لإسقاط الأنظمة الملكية التقليدية، وتلك التي حدثت عام 1989 كان هدفها الاطاحة بالحكومات الأشتراكية. في حين تقاتل ثورات عام 2011 شيئا مختلفا تماما يتمثل بدكتاتوريات "سلطانية". رغم أن هذه الأنظمة تبدو وطيدة، في الغالب، لكنها في الحقيقة تكون شديدة التأثر، بسبب من أن الاستراتيجيات التي تستخدما للبقاء في السلطة جعلتها هشة، وغير مرنة. وليس من قبيل الصدفة أنه رغم الاحتجاجات الشعبية التي هزت الكثير من بلدان الشرق الأوسط، إلا أن الثورتين اللتين نجحتا حتى الآن – تلك التي اندلعت في تونس ومصر- كانتا ضد أنظمة سلطانية حديثة.

       من أجل أن تنجح الثورة يجب أن تجتمع مجموعة من العوامل تمهد لذلك النجاح: توفر قناعة بأن الحكومة ظالمة وأن لا سبيل لمعالجة ذلك الوضع إلى حد بعيد، وأن استمرار وجودها بات ينظر له على نطاق واسع بأنه يهدد مستقبل البلاد؛ ابتعاد النخب (خصوصا من العسكر) عن الدولة وأن تكون غير مستعدة للدفاع عنها؛ استياء القاعدة العريضة من السكان، وجود توتر اثني وديني بين المجموعات السكانية،(2) ضرورة أن تعبأ الطبقات الاجتماعية-الاقتصادية طاقاتها؛ وعلى القوى الدولية إما أن ترفض التدخل للدفاع عن الحكومة أو تقيدها عن استخدام اقصى قوتها للدفاع عن نفسها.

      من النادر أن تنتصر الثورات لأنه نادرا ما تتزامن مثل هذه الشروط. تنطبق هذه الحالة خصوصا على النظام الملكي التقليدي والدول ذات نظام الحزب الواحد، والتي يسعى قادتها في الغالب للحفاظ على الدعم الشعبي من خلال المناشدة لاحترام التقاليد الملكية أو القومية. إن النخب التي كثيرا ما اثرت من هذه الحكومات، سوف تتخلى عنها فقط إذا تغيرت ظروفها أو تغيرت أيديولوجية الحكام بدرجة كبيرة. و في جميع الحالات، تقريبا، من الصعب تحقيق تعبئة شعبية ذات قاعدة عريضة لأن ذلك يتطلب ردم الهوة التي تتمثل في تباين المصالح بين فقراء المدن والريف، والطبقة الوسطى، والطلاب، والمهنيين، والمجموعات الإثنية والدينية المختلفة. التاريخ حافل بالحركات الطلابية، والاضرابات العمالية والانتفاضات الفلاحية التي قمعت بسهولة وذلك لأنها ظلت تمثل ثورة لمجموعة واحدة، بدلا من تمثيلها لتحالف واسع. أخيرا، هناك دول أخرى غالبا ما تدخلت لدعم الحكام المحاصرين من أجل استقرار النظام الدولي.(3)

      إضافة إلى ذلك هناك نوع آخر من الدكتاتورية التي غالبا ما تثبت بأنها أكثر عرضة للسقوط وتتمثل بالنظام السلطاني. مثل هذه الحكومات تنشأ عندما يوسع القائد القومي من سلطاته الشخصية على حساب المؤسسات الرسمية. ولا تتبنى الدكتاتوريات السلطانية ايديولوجية معينة وليس لها هدف أخر سوى الاحتفاظ بسلطاتها الشخصية. ويمكنها أن تبقي على بعض النواحي الرسمية للديمقراطية – مثل الانتخابات، الأحزاب السياسية، الجمعية الوطنية، أو الدستور- لكنها تحكم فوق كل هذه المؤسسات بواسطة تنصيب أشخاص داعمين مذعنين لها في المواقع الرئيسية، وفي بعض الأوقات بواسطة اعلان حالة الطوارئ، حيث تبرر ذلك بالخوف من الأعداء في داخل البلاد أو خارجها.

       من وراء الكواليس، يمتلك مثل هؤلاء الدكتاتوريين بشكل عام ثروات ضخمة، والتي يستخدمونها لشراء ولاء المؤيدين ومعاقبة المعارضين. ولأنهم بحاجة للموارد لتغذية ماكنة المحسوبية العائدة لهم، فإنهم يعززون عادة التنمية الاقتصادية، من خلال التوسع في التصنيع، السلع، الصادرات، والتعليم. وهم يسعون أيضا لإقامة العلاقات مع الدول الأجنبية، بحثا عن الاستقرار الموعود في التبادل الخارجي وما يجلبه من المساعدات والاستثمار. على أية حال معظم الثروة التي تأتي إلى البلاد، تتسرب إلى السلطان والمقربين منه.

       يسيطر السلاطين الجدد على النخب العسكرية في بلدانهم من خلال إبقائها مقسمة. عادة، تنقسم قوات الأمن إلى العديد من القيادات (الجيش، القوة الجوية، الشرطة، المخابرات) وتقوم قيادات كل هذه الأقسام بتقديم تقاريرها مباشرة إلى الرئيس. ويتحكم الرئيس بالاتصالات التي تجري بين هذه القيادات، وبين الجيش والمدنيين، ويتحكم بالعلاقات مع الحكومات الأجنبية، عمليا هذه الإجراءات تجعل السلاطين هم الأساس في التنسيق بين القوات الأمنية وتوجيه المساعدات الأجنبية والاستثمارات. ولتعزيز المخاوف من أن المساعدات الخارجية والتنسيق السياسي سيتوقفان في حالة غيابهم، فإن السلاطين عادة ما يتحاشون تحديد الخلفاء الذي من الممكن أن يخلفوهم.

      ومن أجل إبقاء الجماهير غير مسيسة وغير منظمة، يتحكم السلاطين بالانتخابات والأحزاب السياسية ويقدمون المساعدات للسكان في ما يخص السلع الأساسية مثل الكهرباء، الغازولين، والمواد الغذائية. وعندما يترافق هذا الأسلوب مع الإشراف على الإعلام واستخدام الإرهاب، تضمن هذه الممارسات بشكل عام بقاء المواطنين معزولين وفي موقف سلبي.

      ومن خلال اتباع هذا الأسلوب، تمكن السلاطين سياسيا وببراعة من مراكمة ثروات هائلة في جميع انحاء العالم وتركيز السلطة بأيديهم بدرجة كبيرة. وكان من بين الحالات الأكثر شهرة في التاريخ الحديث حالة بورفيريو دياز في المكسيك، ومحمد رضا شاه بهلوي في إيران، وأسرة سوموزا الحاكمة في نيكاراكوا، وأسرة دوفالييه الحاكمة في هاييتي، وفرديناند ماركوس في الفلبين، وسوهارتو في اندونيسيا.

     ولكن مثل ما تعلم جميع هؤلاء السلاطين، كذلك وجد الجيل الجديد من السلاطين في الشرق الأوسط - بضمنهم بشار الأسد في سوريا، وعمر البشير في السودان، وزين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن- بأن السلطة عندما تكون متمركزة جدا يمكن أن يكون من الصعب المحافظة عليها.

نمور من ورق

     ورغم كل محاولات الدكتاتوريات السلطانية لدعم وضعها، إلا أن لديها نقاط ضعف كامنة تزيد فقط مع مرور الوقت. ويجب أن يقيم السلاطين توازنا دقيقا بين إثراء أنفسهم ومكافأة النخبة: فإذا كافأ الحاكم نفسه وأهمل النخبة، فإن حافزها الرئيسي لدعم النظام سيزول. ولكن عندما يشعر السلاطين بأن وضعهم أصبح أكثر رسوخا ولا يمكن الاستغناء عنهم، يصبح فسادهم في كثير من الأحيان وقحا ويتركز وسط دائرة داخلية صغيرة. وعندما يحتكر السلطان المساعدات الخارجية والاستثمار أو يصبح مقربا جدا من حكومات أجنبية لا تحظى بشعبية، يمكن له في هذه الحالة أن يفرط بالنخبة والمجموعات الشعبية إلى أبعد حد.

     في الوقت الذي ينمو فيه الاقتصاد ويتوسع التعليم في ظل حكم الدكتاتور، يزداد عدد الأشخاص الذين لديهم تطلعات أكبر ويصبحون أكثر تعبيرا تجاه حساسية التدخلات المتمثلة بسياسة الهيمنة وإساءة استعمال السلطة. وإذ ينمو عدد السكان الكلي بسرعة، تستأثر النخبة بحصة الأسد من المكاسب الاقتصادية، في نفس الوقت يزداد التفاوت والبطالة. ومع ارتفاع نفقات المساعدات والبرامج الأخرى التي يستخدمها النظام لاسترضاء المواطنين، والحفاظ على الجماهير غير مسيسة فإن ذلك يضع المزيد من الضغط على النظام. وعندما تبدأ الاحتجاجات، قد يقدم السلاطين على إجراء اصلاحات أو يوسعون من المنافع المادية أو منافع الرعاية – كما عمل ماركوس في الفلبين عام 1984 لتجنب تصاعد الغضب الشعبي. لكن ماركوس فهم عام 1986، أن هذه الإجراءات عادة ما تكون غير فعالة بمجرد أن يبدأ الناس بالمطالبة بإصرار بنهاية حكم السلطان.

      تتفاقم نقاط ضعف الأنظمة السلطانية مع تقدم عمر الزعيم، حيث تصبح مسألة خلافته أكثر حدة. في بعض الأوقات، يكون الحكام السلاطين قادرين على تسليم القيادة إلى أعضاء من عائلاتهم من الشباب. هذا ممكن فقط عندما تعمل الحكومة بفعالية ولديها نخبة تدعمها (كما حصل في سوريا عام 2000، عندما سلم الرئيس الأسد السلطة إلى أبنه بشار) أو في حالة وجود بلد آخر يدعم النظام (مثل ما حصل في إيران عام 1941، عندما ساعدت أو روجت الحكومات الغربية لخلافة رضا شاه من قبل أبنه محمد رضا بهلوي). وفي حالة تسبب فساد النظام بنفور نخبة البلد منه فعليا، فإنها في هذه الحالة قد تتحول عنه وتحاول منع انتقال الخلافة إلى العائلة، وتسعى لاستعادة السيطرة على الدولة (كما حدث في اندونيسيا أواخر التسعينات، عندما وجهت الأزمة المالية الآسيوية ضربة إلى آلية المحسوبية التي كان النظام يتبعها).

     هناك شيء أساسي جدا يعمل ضد رغبة السلطان في الانتقال السلس للسلطة، يتمثل في أن معظم الوزراء والموظفين الكبار الآخرين يعملون بالتطابق جدا مع رئيسهم التنفيذي من أجل بقائه في السلطة وعدم سقوطه. على سبيل المثال، حاول الشاه عام 1978 تفادي الثورة بواسطة استبدال رئيس وزرائه، شاهبور بختيار، وتعيين نفسه رئيسا للوزراء لكن هذا الإجراء لم ينجح؛ حيث سقط النظام بالكامل في السنة التالية. في النهاية، مثل هذه التحركات لا ترضي مطالب الجماهير المعبأة التي تبحث عن تغييرات اقتصادية وسياسية رئيسية، ولا ترضي كذلك طموحات الفئات الحضرية والمهنية التي تنزل إلى الشارع للمطالبة بالمشاركة بحكم الدولة.

      علاوة على ذلك، هناك قوات الأمن. وبواسطة تقسيم بنيتها القيادية يمكن أن يقلل السلطان من التهديد الذي تشكله. لكن هذه الاستراتيجية أيضا تجعل قوات الأمن أكثر عرضه للانشقاق في حالة اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية. إذ أن عدم وجود قيادة موحدة يؤدي إلى حدوث انقسامات داخل الأجهزة الأمنية؛ ثم أن النظام في الحقيقة لا يستند إلى أي ايديولوجية جذابة وهو غير مدعوم من قبل مؤسسات مستقلة تضمن بأن الجيش لديه دافع أقل لإخماد الاحتجاجات. ويمكن أن يقرر الكثير من أفراد الجيش بأن خدمة مصالح البلاد ستكون افضل في حالة تغيير النظام. وإذا تخلى قسم من القوات المسلحة عن النظام – كما حدث تحت حكم دياز، وشاه إيران، وماركوس، وسوهارتو- فإنه يمكن أن تنهار الحكومة بسرعة مذهلة. في النهاية، في الوقت الذي يظل فيه الحاكم مرتبكا، مقتنعا بأنه لا يمكن الاستغناء عنه وأنه في حصانة، يجد نفسه وبشكل مفاجئ معزولا وبلا سلطة.

      غالبا ما تظهر مؤشرات ضعف السلطان فقط في وقت لاحق. رغم أنه من السهولة تحديد انتشار حالات الفساد، والبطالة، وأسلوب الحكم الفردي، لكن إلى أي مدى تعارض النخب النظام، الاحتمال الأقوى، بانشقاق الجيش غالبا ما يصبح واضحا فقط عندما تندلع الاحتجاجات على نطاق واسع. وبعد كل ذلك، لدى النخب والقادة العسكريين كل الأسباب لإخفاء مشاعرهم الحقيقية حتى تنشأ اللحظة الحاسمة، ومن المتعذر معرفة أي استفزاز سيؤدي إلى تحرك شامل للجماهير، بدلا من التحرك على المستوى المحلي. وبالتالي سيكون انهيار الأنظمة السلطانية سريعا وغالبا ما يشكل صدمة.

      طبعا، في بعض الحالات، لا ينشق الجيش على الفور على الرغم من بدء التمرد. على سبيل المثال، ما حدث في نيكاراغوا في أوائل السبعينات من القرن الماضي، حيث كان اناستاسيو سوموزا قادرا على استخدام القوات الموالية له في الحرس الوطني لإخماد التمرد ضده. لكن حتى في حالة توفر الفرصة للنظام للاعتماد على القطعات الموالية في الجيش، فإنه نادرا ما يتمكن من البقاء. ببساطة يبدأ النظام بالتفكك بوتيرة أبطأ، مع نشوء حالة خطيرة من سفك الدماء أو حتى نشوب حرب أهلية تنتج من السير في هذا الطريق. لكن نجاح سوموزا عام 1975 لم يدم طويلا؛ حيث نتج عن تزايد قسوته وانتشار الفساد تمرد أوسع في السنوات التالية. وبعد حدوث بعض المعارك الضارية، بدأت حتى القوات الموالية له سابقا بالتخلي عنه، وفي النهاية هرب سوموزا من البلاد عام 1979.

      أيضا، يمكن للضغط الدولي أن يحول الموقف. فقد تمثلت الضربة النهائية لحكم ماركوس بسحب الولايات المتحدة بشكل كامل دعمها له بعد ادعاء ماركوس بالفوز في الانتخابات الرئاسية المشكوك في نتائجها والتي نظمت عام 1986.
_____________________
   المقالة بقلم البرفسور جاك غولدستون، وهو عالم أمريكي في علم الاجتماع والسياسة، متخصص في الحركات الاجتماعية، والثورات والسياسات العامة، نشر تسعة كتب تأليفا أو تحريرا وحوالي مائة مقالة بحثية، ويعمل حاليا أستاذا في مدرسة السياسات العامة في جامعة جورج ماسون.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 90, Number 3, May-June 2011

هوامش المترجم
1- ما حدث يمثل انتفاضات شعبية واسعة ضمت قوى اجتماعية عريضة ولم تكن لها قيادة موحدة وبرنامج متفق عليه وهذا ما جعل الفترة التي اعقبت سقوط قيادات الأنظمة وما اصطلح عليها بالفترة الانتقالية تمر بمخاضات عسيرة نتيجة الصراع الذي اشتعل حول شكل بناء الدولة الجديدة، وهذا يختلف عن الثورات بالمفهوم المتعارف عليه والتي تتوفر على قيادة موحدة وبرنامج سياسي- اجتماعي- اقتصادي يتسم بالعمق تسعى لتطبيقه بعد سقوط النظام.
2- لم يكن وجود التوتر الاثني والديني شرطا دائما من شروط الثورة، فقد نجحت ثورات في مجتمعات لم تشهد مثل هذا التوتر.
3- في الواقع وكما يشهد التاريخ، من أجل تأمين مصالح هذه الدول التي يهددها نجاح الثورات، كما حدث عندما تدخلت الدول الأوروبية عسكريا ضد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا.

                فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (1-3)
   ترجمة: د. هاشم نعمة
       تحمل موجة الثورات(1) التي تجتاح الشرق الأوسط تشابها ملحوظا مع الزلازل السياسية التي حدثت في الماضي، مثل ما حدث في أوروبا عام 1848. إن ارتفاع اسعار المواد الغذائية وارتفاع معدلات البطالة اشعلا احتجاجات شعبية امتدت من المغرب إلى عُمان. وكما حدث في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفيتي عام 1989. فإنه نتيجة خيبة الأمل، وانتشار الفساد في ظل أنظمة سياسية لا تستجيب لمطالب الجماهير قادت هذه الأوضاع إلى حدوث انشقاق وسط النخب وسقوط أنظمة قوية في تونس ومصر وربما في ليبيا. لم يكن عاما 1848 و1989 هما المقياس الدقيق لأحداث الشتاء الماضي. حيث أن ثورات عام 1848 سعت لإسقاط الأنظمة الملكية التقليدية، وتلك التي حدثت عام 1989 كان هدفها الاطاحة بالحكومات الأشتراكية. في حين تقاتل ثورات عام 2011 شيئا مختلفا تماما يتمثل بدكتاتوريات "سلطانية". رغم أن هذه الأنظمة تبدو وطيدة، في الغالب، لكنها في الحقيقة تكون شديدة التأثر، بسبب من أن الاستراتيجيات التي تستخدما للبقاء في السلطة جعلتها هشة، وغير مرنة. وليس من قبيل الصدفة أنه رغم الاحتجاجات الشعبية التي هزت الكثير من بلدان الشرق الأوسط، إلا أن الثورتين اللتين نجحتا حتى الآن – تلك التي اندلعت في تونس ومصر- كانتا ضد أنظمة سلطانية حديثة.

       من أجل أن تنجح الثورة يجب أن تجتمع مجموعة من العوامل تمهد لذلك النجاح: توفر قناعة بأن الحكومة ظالمة وأن لا سبيل لمعالجة ذلك الوضع إلى حد بعيد، وأن استمرار وجودها بات ينظر له على نطاق واسع بأنه يهدد مستقبل البلاد؛ ابتعاد النخب (خصوصا من العسكر) عن الدولة وأن تكون غير مستعدة للدفاع عنها؛ استياء القاعدة العريضة من السكان، وجود توتر اثني وديني بين المجموعات السكانية،(2) ضرورة أن تعبأ الطبقات الاجتماعية-الاقتصادية طاقاتها؛ وعلى القوى الدولية إما أن ترفض التدخل للدفاع عن الحكومة أو تقيدها عن استخدام اقصى قوتها للدفاع عن نفسها.

      من النادر أن تنتصر الثورات لأنه نادرا ما تتزامن مثل هذه الشروط. تنطبق هذه الحالة خصوصا على النظام الملكي التقليدي والدول ذات نظام الحزب الواحد، والتي يسعى قادتها في الغالب للحفاظ على الدعم الشعبي من خلال المناشدة لاحترام التقاليد الملكية أو القومية. إن النخب التي كثيرا ما اثرت من هذه الحكومات، سوف تتخلى عنها فقط إذا تغيرت ظروفها أو تغيرت أيديولوجية الحكام بدرجة كبيرة. و في جميع الحالات، تقريبا، من الصعب تحقيق تعبئة شعبية ذات قاعدة عريضة لأن ذلك يتطلب ردم الهوة التي تتمثل في تباين المصالح بين فقراء المدن والريف، والطبقة الوسطى، والطلاب، والمهنيين، والمجموعات الإثنية والدينية المختلفة. التاريخ حافل بالحركات الطلابية، والاضرابات العمالية والانتفاضات الفلاحية التي قمعت بسهولة وذلك لأنها ظلت تمثل ثورة لمجموعة واحدة، بدلا من تمثيلها لتحالف واسع. أخيرا، هناك دول أخرى غالبا ما تدخلت لدعم الحكام المحاصرين من أجل استقرار النظام الدولي.(3)

      إضافة إلى ذلك هناك نوع آخر من الدكتاتورية التي غالبا ما تثبت بأنها أكثر عرضة للسقوط وتتمثل بالنظام السلطاني. مثل هذه الحكومات تنشأ عندما يوسع القائد القومي من سلطاته الشخصية على حساب المؤسسات الرسمية. ولا تتبنى الدكتاتوريات السلطانية ايديولوجية معينة وليس لها هدف أخر سوى الاحتفاظ بسلطاتها الشخصية. ويمكنها أن تبقي على بعض النواحي الرسمية للديمقراطية – مثل الانتخابات، الأحزاب السياسية، الجمعية الوطنية، أو الدستور- لكنها تحكم فوق كل هذه المؤسسات بواسطة تنصيب أشخاص داعمين مذعنين لها في المواقع الرئيسية، وفي بعض الأوقات بواسطة اعلان حالة الطوارئ، حيث تبرر ذلك بالخوف من الأعداء في داخل البلاد أو خارجها.

       من وراء الكواليس، يمتلك مثل هؤلاء الدكتاتوريين بشكل عام ثروات ضخمة، والتي يستخدمونها لشراء ولاء المؤيدين ومعاقبة المعارضين. ولأنهم بحاجة للموارد لتغذية ماكنة المحسوبية العائدة لهم، فإنهم يعززون عادة التنمية الاقتصادية، من خلال التوسع في التصنيع، السلع، الصادرات، والتعليم. وهم يسعون أيضا لإقامة العلاقات مع الدول الأجنبية، بحثا عن الاستقرار الموعود في التبادل الخارجي وما يجلبه من المساعدات والاستثمار. على أية حال معظم الثروة التي تأتي إلى البلاد، تتسرب إلى السلطان والمقربين منه.

       يسيطر السلاطين الجدد على النخب العسكرية في بلدانهم من خلال إبقائها مقسمة. عادة، تنقسم قوات الأمن إلى العديد من القيادات (الجيش، القوة الجوية، الشرطة، المخابرات) وتقوم قيادات كل هذه الأقسام بتقديم تقاريرها مباشرة إلى الرئيس. ويتحكم الرئيس بالاتصالات التي تجري بين هذه القيادات، وبين الجيش والمدنيين، ويتحكم بالعلاقات مع الحكومات الأجنبية، عمليا هذه الإجراءات تجعل السلاطين هم الأساس في التنسيق بين القوات الأمنية وتوجيه المساعدات الأجنبية والاستثمارات. ولتعزيز المخاوف من أن المساعدات الخارجية والتنسيق السياسي سيتوقفان في حالة غيابهم، فإن السلاطين عادة ما يتحاشون تحديد الخلفاء الذي من الممكن أن يخلفوهم.

      ومن أجل إبقاء الجماهير غير مسيسة وغير منظمة، يتحكم السلاطين بالانتخابات والأحزاب السياسية ويقدمون المساعدات للسكان في ما يخص السلع الأساسية مثل الكهرباء، الغازولين، والمواد الغذائية. وعندما يترافق هذا الأسلوب مع الإشراف على الإعلام واستخدام الإرهاب، تضمن هذه الممارسات بشكل عام بقاء المواطنين معزولين وفي موقف سلبي.

      ومن خلال اتباع هذا الأسلوب، تمكن السلاطين سياسيا وببراعة من مراكمة ثروات هائلة في جميع انحاء العالم وتركيز السلطة بأيديهم بدرجة كبيرة. وكان من بين الحالات الأكثر شهرة في التاريخ الحديث حالة بورفيريو دياز في المكسيك، ومحمد رضا شاه بهلوي في إيران، وأسرة سوموزا الحاكمة في نيكاراكوا، وأسرة دوفالييه الحاكمة في هاييتي، وفرديناند ماركوس في الفلبين، وسوهارتو في اندونيسيا.

     ولكن مثل ما تعلم جميع هؤلاء السلاطين، كذلك وجد الجيل الجديد من السلاطين في الشرق الأوسط - بضمنهم بشار الأسد في سوريا، وعمر البشير في السودان، وزين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، وعلي عبد الله صالح في اليمن- بأن السلطة عندما تكون متمركزة جدا يمكن أن يكون من الصعب المحافظة عليها.

نمور من ورق

     ورغم كل محاولات الدكتاتوريات السلطانية لدعم وضعها، إلا أن لديها نقاط ضعف كامنة تزيد فقط مع مرور الوقت. ويجب أن يقيم السلاطين توازنا دقيقا بين إثراء أنفسهم ومكافأة النخبة: فإذا كافأ الحاكم نفسه وأهمل النخبة، فإن حافزها الرئيسي لدعم النظام سيزول. ولكن عندما يشعر السلاطين بأن وضعهم أصبح أكثر رسوخا ولا يمكن الاستغناء عنهم، يصبح فسادهم في كثير من الأحيان وقحا ويتركز وسط دائرة داخلية صغيرة. وعندما يحتكر السلطان المساعدات الخارجية والاستثمار أو يصبح مقربا جدا من حكومات أجنبية لا تحظى بشعبية، يمكن له في هذه الحالة أن يفرط بالنخبة والمجموعات الشعبية إلى أبعد حد.

     في الوقت الذي ينمو فيه الاقتصاد ويتوسع التعليم في ظل حكم الدكتاتور، يزداد عدد الأشخاص الذين لديهم تطلعات أكبر ويصبحون أكثر تعبيرا تجاه حساسية التدخلات المتمثلة بسياسة الهيمنة وإساءة استعمال السلطة. وإذ ينمو عدد السكان الكلي بسرعة، تستأثر النخبة بحصة الأسد من المكاسب الاقتصادية، في نفس الوقت يزداد التفاوت والبطالة. ومع ارتفاع نفقات المساعدات والبرامج الأخرى التي يستخدمها النظام لاسترضاء المواطنين، والحفاظ على الجماهير غير مسيسة فإن ذلك يضع المزيد من الضغط على النظام. وعندما تبدأ الاحتجاجات، قد يقدم السلاطين على إجراء اصلاحات أو يوسعون من المنافع المادية أو منافع الرعاية – كما عمل ماركوس في الفلبين عام 1984 لتجنب تصاعد الغضب الشعبي. لكن ماركوس فهم عام 1986، أن هذه الإجراءات عادة ما تكون غير فعالة بمجرد أن يبدأ الناس بالمطالبة بإصرار بنهاية حكم السلطان.

      تتفاقم نقاط ضعف الأنظمة السلطانية مع تقدم عمر الزعيم، حيث تصبح مسألة خلافته أكثر حدة. في بعض الأوقات، يكون الحكام السلاطين قادرين على تسليم القيادة إلى أعضاء من عائلاتهم من الشباب. هذا ممكن فقط عندما تعمل الحكومة بفعالية ولديها نخبة تدعمها (كما حصل في سوريا عام 2000، عندما سلم الرئيس الأسد السلطة إلى أبنه بشار) أو في حالة وجود بلد آخر يدعم النظام (مثل ما حصل في إيران عام 1941، عندما ساعدت أو روجت الحكومات الغربية لخلافة رضا شاه من قبل أبنه محمد رضا بهلوي). وفي حالة تسبب فساد النظام بنفور نخبة البلد منه فعليا، فإنها في هذه الحالة قد تتحول عنه وتحاول منع انتقال الخلافة إلى العائلة، وتسعى لاستعادة السيطرة على الدولة (كما حدث في اندونيسيا أواخر التسعينات، عندما وجهت الأزمة المالية الآسيوية ضربة إلى آلية المحسوبية التي كان النظام يتبعها).

     هناك شيء أساسي جدا يعمل ضد رغبة السلطان في الانتقال السلس للسلطة، يتمثل في أن معظم الوزراء والموظفين الكبار الآخرين يعملون بالتطابق جدا مع رئيسهم التنفيذي من أجل بقائه في السلطة وعدم سقوطه. على سبيل المثال، حاول الشاه عام 1978 تفادي الثورة بواسطة استبدال رئيس وزرائه، شاهبور بختيار، وتعيين نفسه رئيسا للوزراء لكن هذا الإجراء لم ينجح؛ حيث سقط النظام بالكامل في السنة التالية. في النهاية، مثل هذه التحركات لا ترضي مطالب الجماهير المعبأة التي تبحث عن تغييرات اقتصادية وسياسية رئيسية، ولا ترضي كذلك طموحات الفئات الحضرية والمهنية التي تنزل إلى الشارع للمطالبة بالمشاركة بحكم الدولة.

      علاوة على ذلك، هناك قوات الأمن. وبواسطة تقسيم بنيتها القيادية يمكن أن يقلل السلطان من التهديد الذي تشكله. لكن هذه الاستراتيجية أيضا تجعل قوات الأمن أكثر عرضه للانشقاق في حالة اندلاع الاحتجاجات الجماهيرية. إذ أن عدم وجود قيادة موحدة يؤدي إلى حدوث انقسامات داخل الأجهزة الأمنية؛ ثم أن النظام في الحقيقة لا يستند إلى أي ايديولوجية جذابة وهو غير مدعوم من قبل مؤسسات مستقلة تضمن بأن الجيش لديه دافع أقل لإخماد الاحتجاجات. ويمكن أن يقرر الكثير من أفراد الجيش بأن خدمة مصالح البلاد ستكون افضل في حالة تغيير النظام. وإذا تخلى قسم من القوات المسلحة عن النظام – كما حدث تحت حكم دياز، وشاه إيران، وماركوس، وسوهارتو- فإنه يمكن أن تنهار الحكومة بسرعة مذهلة. في النهاية، في الوقت الذي يظل فيه الحاكم مرتبكا، مقتنعا بأنه لا يمكن الاستغناء عنه وأنه في حصانة، يجد نفسه وبشكل مفاجئ معزولا وبلا سلطة.

      غالبا ما تظهر مؤشرات ضعف السلطان فقط في وقت لاحق. رغم أنه من السهولة تحديد انتشار حالات الفساد، والبطالة، وأسلوب الحكم الفردي، لكن إلى أي مدى تعارض النخب النظام، الاحتمال الأقوى، بانشقاق الجيش غالبا ما يصبح واضحا فقط عندما تندلع الاحتجاجات على نطاق واسع. وبعد كل ذلك، لدى النخب والقادة العسكريين كل الأسباب لإخفاء مشاعرهم الحقيقية حتى تنشأ اللحظة الحاسمة، ومن المتعذر معرفة أي استفزاز سيؤدي إلى تحرك شامل للجماهير، بدلا من التحرك على المستوى المحلي. وبالتالي سيكون انهيار الأنظمة السلطانية سريعا وغالبا ما يشكل صدمة.

      طبعا، في بعض الحالات، لا ينشق الجيش على الفور على الرغم من بدء التمرد. على سبيل المثال، ما حدث في نيكاراغوا في أوائل السبعينات من القرن الماضي، حيث كان اناستاسيو سوموزا قادرا على استخدام القوات الموالية له في الحرس الوطني لإخماد التمرد ضده. لكن حتى في حالة توفر الفرصة للنظام للاعتماد على القطعات الموالية في الجيش، فإنه نادرا ما يتمكن من البقاء. ببساطة يبدأ النظام بالتفكك بوتيرة أبطأ، مع نشوء حالة خطيرة من سفك الدماء أو حتى نشوب حرب أهلية تنتج من السير في هذا الطريق. لكن نجاح سوموزا عام 1975 لم يدم طويلا؛ حيث نتج عن تزايد قسوته وانتشار الفساد تمرد أوسع في السنوات التالية. وبعد حدوث بعض المعارك الضارية، بدأت حتى القوات الموالية له سابقا بالتخلي عنه، وفي النهاية هرب سوموزا من البلاد عام 1979.

      أيضا، يمكن للضغط الدولي أن يحول الموقف. فقد تمثلت الضربة النهائية لحكم ماركوس بسحب الولايات المتحدة بشكل كامل دعمها له بعد ادعاء ماركوس بالفوز في الانتخابات الرئاسية المشكوك في نتائجها والتي نظمت عام 1986.
_____________________
   المقالة بقلم البرفسور جاك غولدستون، وهو عالم أمريكي في علم الاجتماع والسياسة، متخصص في الحركات الاجتماعية، والثورات والسياسات العامة، نشر تسعة كتب تأليفا أو تحريرا وحوالي مائة مقالة بحثية، ويعمل حاليا أستاذا في مدرسة السياسات العامة في جامعة جورج ماسون.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 90, Number 3, May-June 2011

هوامش المترجم
1- ما حدث يمثل انتفاضات شعبية واسعة ضمت قوى اجتماعية عريضة ولم تكن لها قيادة موحدة وبرنامج متفق عليه وهذا ما جعل الفترة التي اعقبت سقوط قيادات الأنظمة وما اصطلح عليها بالفترة الانتقالية تمر بمخاضات عسيرة نتيجة الصراع الذي اشتعل حول شكل بناء الدولة الجديدة، وهذا يختلف عن الثورات بالمفهوم المتعارف عليه والتي تتوفر على قيادة موحدة وبرنامج سياسي- اجتماعي- اقتصادي يتسم بالعمق تسعى لتطبيقه بعد سقوط النظام.
2- لم يكن وجود التوتر الاثني والديني شرطا دائما من شروط الثورة، فقد نجحت ثورات في مجتمعات لم تشهد مثل هذا التوتر.
3- في الواقع وكما يشهد التاريخ، من أجل تأمين مصالح هذه الدول التي يهددها نجاح الثورات، كما حدث عندما تدخلت الدول الأوروبية عسكريا ضد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا.
__________
نشرت في مجلة الثقافة الجديدة العدد 357-358 نيسان- أيار 2013


55
   التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية (3-3)

                                                                                                                             د. هاشم نعمة


تركيا

      خرجت الحكومة التركية من انتفاضتي تونس ومصر بأقل الخسائر والأضرار بعدما كشفت عن موقفها منذ البداية في رفض بقاء الرئيسين التونسي والمصري في السلطة، لكنها لم تحسم موقفها من الانتفاضة الليبية إلا بعد مطالبتها القذافي بالرحيل. أما في الحالة السورية فإنها فؤجئت بالانتفاضة بعدما كان الرئيس بشار الأسد يطمئنها أن سوريا محصنة ووضعها في مأزق بسبب تصاعد الاحتجاجات مع تعنت الاستجابة للمطالب الشعبية.(1) وعلى عكس تعاملها مع الحالة التونسية والمصرية، وبما يقترب من الحالة الليبية قليلا، تعتقد أنقرة، بما لها من معطيات موضوعية وجيوسياسية، وبما لها من ثقل ومن علاقات مع سوريا،(2) أنها قد تكون قادرة على اقناع الأسد باستخدام النصيحة أو بالضغط كي يقود عملية تحول سياسية حتى لا تدخل سوريا والمنطقة، في حالة من الفوضى فتتكبد تركيا خسائر كبيرة لما لهذا السيناريو من انعكاسات سلبية عليها، ولذلك فإن موقفها من الأزمة السورية أتسم بالتدرج.(3) حيث بدأ من مرحلة النصح والإرشاد والتي كانت من أبرز سماتها المطالبة بتشكيل حكومة جديدة تضم الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية الفاعلة كافة، ووقف العنف ضد المدنيين والتراجع عن خيار الحسم الأمني والعسكري، كذلك العمل على تسريع الإصلاحات الدستورية والسياسية والاجتماعية والتعامل بجدية مع مطالب الأكراد.    

       أما المرحلة الثانية فقد كانت مرحلة إعادة تقييم الوضع، وأبرز سماتها سلسلة من التصريحات السياسية تحذر من الحل الأمني والتهديد بعواقب وإجراءات ضدها، انتهاء بمرحلة التحول والضغط، التي تجسد فشل أنقرة في إقناع دمشق بأخذ نصائحها وتوصياتها، واختيار أنقره دعم المعارضة بفصائلها وأطيافها كافة لعقد اجتماعات لها في تركيا. ولمزيد من الضغط على السلطة السورية أعلن في أسطنبول في 2 تشرين الأول| أكتوبر 2011، تأسيس المجلس الوطني السوري. ودعا  رئيس الوزراء التركي أردوغان في نفس الشهر الأسد للتنحي عن السلطة، وفرضت تركيا عقوبات اقتصادية ومالية على سوريا. وأعلن أن تركيا ستواصل فرض العقوبات وتزيدها تدريجيا.(4)  
   يمكن تلخيص دوافع الموقف التركي بما يلي: الحفاظ على الصيغة التوافقية بين المبادئ وتحقيق المصالح والمحافظة على الرصيد الشعبي لحزب العدالة والتنمية الذي أيد بقوة الانتفاضة السورية. وعدم تجاوب الرئيس السوري مع النصائح التركية. ومخاوف انهيار السلطة وما يعقبه من فوضى وتداعيات ذلك على الصعيد الإقليمي من الناحية الأمنية والسياسية والاقتصادية. وخشية تعزيز وجود حزب العمال الكردستاني وعملياته انطلاقا من سوريا. والخوف من تقسيم سوريا وانفصال الأكراد.  وتدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا وما يشكله من تداعيات اقتصادية واجتماعية وأمنية.(5) ثم أن موقف تركيا هذا يسير في تجاه موقف الدول الغربية ولا يتقاطع معه. وهي غير مستعدة للتضحية بمصالحها الاستراتيجية مع الدول الغربية التي هي أكثر أهمية وديمومة مقارنة بمصالحها مع نظام مستبد لابد أن يتغير. وهي تسعى جاهدة منذ سنوات للدخول في الإتحاد الأوروبي. وما زالت عضوا في حلف الناتو الذي دخلته عام 1952. وما زالت حريصة على البقاء فيه رغم صعود حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية للحكم الذي اعتمد سياسة يمكنه أن  يختلف مع الغرب في أمور معينة دون المساس بالتحالف الاستراتيجي.  
     وكان وزير خارجية تركيا أحمد أغلو قد صاغ خطوط فكر الحكومة الاستراتيجي مستندا على موقع تركيا الاستراتيجي  ودورها في السياسة الدولية، والذي يعتمد مقاربة جيوبوليتيكية ترى أن السياسية الخارجية للدولة هي محصلة لتفاعل ثلاثة أبعاد هي: التاريخ السياسي، الهوية الثقافية، الجغرافية السياسية والاستراتيجية للدولة والإقليم المجاور.  
    وكان هناك تردد في موقف تركيا من الرئيس الليبي، إذ كانت العلاقات معه طيبة، لأنه سمح باستثمارات تركية في ليبيا بلغت ثلاثين مليار دولار في سوق التشييد والبناء والعقارات. ولكن إزاء تدهور الأوضاع، بدأت أنقرة تدعو القذافي للتنحي عن الحكم. وفي شهر مايس| مايو، أغلقت تركيا سفارتها  في طرابلس، واعترفت بالمجلس الانتقالي في ليبيا. وكان هذا الاعتراف الذي تأخر بعض الوقت ضرورة حيوية لساسة تركيا في الشرق الأوسط. وقد سارع وزير خارجية تركيا بحسم الموقف بزيارة بنغازي وتقديم الدعم المالي الفوري لتوفير السيولة النقدية لدفع رواتب وأجور العاملين.(6)
       من هنا يتبن لنا أن السياسة التي تبنتها تركيا جعلت منها لاعبا إقليميا ودوليا رئيسيا لا يمكن تجاوزه في المنطقة بخلاف الدور الذي كان تلعبه قبل مجيء حزب العدالة والتنمية للحكم حيث كانت القرارات الاستراتيجية يتم البت بها من قبل العسكر الذي تم أضعاف دوره وباتت القرارات المهمة يبت فيها مجلس الوزراء.          
    إيران
      اسهمت الانتفاضات في زيادة الاشتباك بين دول الخليج العربي وإيران، وانتقل بعد الانتفاضة السورية إلى توتر عربي-إيراني نتيجة دعم إيران للنظام السوري، بشكل افقدها جزءا كبيرا من شعبية تمتعت بها سابقا ضمن اتجاهات الرأي العام العربي. حيث انتقلت إيران من الهجوم الاستراتيجي إلى مرحلة الدفاع عن مواقعها، ليس ضد أمريكا وإسرائيل، بل ضد انتفاضة شعبية تهدد مواقعها ونفوذها.    
      تشعر إيران بأن التغيير في سوريا يستهدفها جيوستراتيجيا إذ يكسب اللاعبون الآخرون نقاط قوة، في حين تعجز هي –بسبب طبيعة نظامها- عن تجيير هذا التغيير لصالحها أو على الأقل الحد من الخسائر.
      وتؤشر جميع المعطيات إلى أن الدور الإيراني سيتقوقع في المنطقة، وسيعتاش على حكومات قريبة منه مذهبيا، دون أن يعني استدامة هذا الدور، خاصة في ظل الاختلالات البنيوية التي تعيشها إيران داخليا، وتأثير انحسارها الخارجي على قوة النظام في مواجهة المعارضة الداخلية التي يفترض أنها سوف تتعزز نتيجة لتأثير الانتفاضات العربية وفشل السياسة الخارجية الإيرانية.(7)  
     إن محددات الموقت الإيراني من الانتفاضة السورية تمليها اعتبارات المصالح الاستراتيجية والأمن القومي والتنافس والصراع الإقليمي على النفوذ في المنطقة بالأخص مع السعودية واعتبارات الصراع مع الدول الغربية وبالأخص مع الولايات المتحدة(8) والمرجعية المذهبية ومقدار توظيفها لصالح الاعتبارات أعلاه وليست لها أي علاقة بما يسمى بالمبادئ الإسلامية في نصرة الشعوب المستضعفة والمظلومة؛ وأوضح دليل موقفها من النظام السوري الذي يضطهد شعبه في الوقت الذي أيدت فيه الانتفاضات في البلدان العربية الأخرى.
أهم الاستنتاجات
-   لم يكن المحيط الإقليمي والدولي مهيئا لتبني موقف واضح من الانتفاضات التي فاجأته لذلك اتسم رد فعله في البداية بالارتباك والتردد والانتظار.
-   وفي النهاية موقف الخارج وتدخله املتهما مصالح الدول وخشيتها من أن تخرج الانتفاضات عن مسارات يصعب التحكم بها. وقد جارى موقفها مسيرة تطور الانتفاضات وأثر في مجراها ونتائجها بدرجات متفاوتة.
-   تعتمد درجة تأثير الخارج في تشكيل النظم السياسية التي تعقب نجاح الانتفاضات على طبيعة المرحلة الانتقالية وتفاعلاتها وتوازن القوى السياسية والاجتماعية ودرجة تماسك النسيج الاجتماعي الداخلي.
-   من السابق لأوانه الحديث عن ظهور تكتلات إقليمية جديدة بين الدول التي نجحت فيها الانتفاضات قبل اكتمال تحولات المرحلة الانتقالية.
-   لم تحدث انعطافات مهمة في السياسة الخارجية للدول التي نجحت فيها الانتفاضات وفي معظمها تسير على وتيرة السياسة السابقة نفسها.
-   مهما كانت درجة تأثير سياسة الولايات المتحدة والدول الأوروبية في مجرى ونتائج الانتفاضات فإنها لا يمكن أن تحتفظ بالنفوذ السابق نفسه في المنطقة بعد أن أصبح الرأي العام قوة مؤثرة في معادلة صنع القرار السياسي.
الهوامش
1-   معمر فيصل سليم خولي، مصدر سابق،  ص 161- 163.
2-    العلاقة المميزة بين تركيا وسوريا من أبرز إنجازات حزب العدالة والتنمية الخارجية. حيث تحولت العلاقة بين الدولتين إلى علاقة إستراتيجية، وتم حل العديد من المشكلات العالقة بينهما. وتم عام 2009 إنشاء مجلس تعاون إستراتيجي يضم 16 وزيرا من البلدين. وبلغ عدد الاتفاقات التي وقعتها  سوريا مع تركيا في الجلسة الأولى للمجلس الإستراتيجي  قرابة 56 اتفاقية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاستثمار والمياه والمصارف، وغيرها. وتم تنفيذ كل هذه الاتفاقيات في الوقت المحدد لها تماما، وهو ما يلفت لمدى أهمية الالتزام بين الدولتين وجدية العلاقة بينهما. راجع معمر فيصل سليم خولي، مصدر سابق، ص 159-161.
3-   علي حسين باكير، محددات الموقف التركي من الأزمة السورية الأبعاد الآنية والانعكاسات المستقبلية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2011، ص 7.
4-   راجع معمر فيصل سليم خولي، مصدر سابق، ص 161- 163.
5-   راجع خالد عبد العظيم، "العثمانية الجديدة..." السياسة الدولية، العدد 187، 2012، ص 23-26.  
6-   المصدر نفسه، ص 23-26.
7-   المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مصدر سابق، ص 20-31.
8-   قال محسن رضائي أمين سر مصلحة تشخيص النظام في أيران إن "سوريا والعراق وإيران وأفغانستان يشكلون حزاما من الذهب في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة تسعى بجميع الوسائل إلى امتلاك القرار في دول هذا الحزام" أنظر جريدة الشرق الأوسط عدد 19-8-2012.


 


56

  التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية (2-3)

                                                                                                                                      د. هاشم نعمة

روسيا

     كانت روسيا ومازالت تفضل أن تكون علاقاتها مع الأنظمة العربية مستقرة. فاستقرارها يعزز الاستقرار في المناطق الجنوبية منها. لذلك لم تعلن روسيا تأييدا واضحا للانتفاضة في أي بلد عربي، فقد التزمت الصمت إزاء الأحداث لحين نضجها وإزاحة السلطة الحاكمة، كما في تونس ومصر. في حين نجد أنها وقفت موقف الحياد أو المتابع من الحالة البحرينية واليمنية. والمؤيد بوضوح للنظام في ليبيا وسوريا، مع اختلاف نمط ودرجة التأييد. ولكن مع الحرص في الوقت ذاته على بقاء قنوات اتصالها مفتوحة مع المعارضة الليبية والسورية. وفيما بعد إذا كان التوازن هو السمة الغالبة على موقف روسيا من الانتفاضة الليبية، فإن دعمها للنظام السوري أوضح ما يكون، حيث أبدت دعما دبلوماسيا وعسكريا له في مواجهته للاحتجاجات الشعبية.   

     وينظر للدعم الروسي للنظام السوري بأنه منسجم مع السياق العام لطبيعة علاقاتهما التحالفية منذ عام 1970، فسوريا تضمن لروسيا مصالحها ونفوذها في مواجهة التنافس الغربي على منطقة الشرق الأوسط.  ومن بين دوافع روسيا من الانتفاضات بالأخص الحالة السورية يمكن ذكر: البحث عن دور ينطلق من حسابات المصالح القومية، ودروس الحالة الليبية حيث أن انهيار حكم القذافي أشر إلى انتهاء النفوذ الروسي في ليبيا، ولم يعد عليها بفائدة حيث تم كل شيء باسم حلف الناتو. وهو ما قد يضع ليبيا لمدة لا بأس بها ضمن نسق أمني واستراتيجي يسيطر عليه الغرب. والخوف من الإسلام السياسي وتأثيره على المسلمين في روسيا. ومن وصول قطار التغيير إلى إيران والقوقاز وآسيا الوسطى التي تعد منطقة إستراتيجية حيوية لروسيا في صراعها على النفوذ مع الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي.  لذلك يعد العالم العربي بمثابة خط الدفاع عن آسيا الوسطى والقوقاز.(1)

      إن الموقف الروسي من الانتفاضات بالأخص الانتفاضة السورية قد اثر سلبا في علاقتها مع العالم العربي على المستوى الرسمي والشعبي. حيث أن استمرار الخسائر البشرية بهذا الحجم واستمرار النظام السوري بهذا القمع الممنهج ضد المطالبين بالتغيير ينظر له  بأنه ناتج عن الدعم الروسي للنظام وتعطيل محاولات مجلس الأمن لتبني قرارات تساهم في اضعافه ومن ثم تغييره. و سيساهم هذا الموقف بعد نجاح الانتفاضات بتراجع نفوذ روسيا في المنطقة ومن ثم  يكون دورها ضعيفا في التأثير في مجرى التحولات السياسية والاقتصادية التي تعقب هذا النجاح. وهذا يعكس في جانب منه توجهات السياسة الداخلية في روسيا حيث يتم التضييق على فسحة الديمقراطية لذلك لم تؤيد روسيا أي تيارات أو حركات تريد بناء نظام ديمقراطي في أي بلد. ويعكس أيضا ضعف حساباتها الاستراتيجية وقلة مرونة سياستها الخارجية مقارنة بسياسة الدول الغربية التي تتسم بالبراغماتية. 

دول الخليج العربي

      هناك نقاط تشابه واختلاف في موقف دول الخليج العربي من الانتفاضات رغم التطابق الكبير في بنية نظمها السياسية القائمة على الوراثة التقليدية. ورغم انضوائها تحت مضلة مجلس التعاون الخليجي إلا أن المراقب يرصد اختلاف في وجهات النظر وفي المواقف إزاء قضايا معينة طبقا للحسابات الداخلية والإقليمية والدولية لكل بلد ومنها مثلا الموقف من هذه الانتفاضات. لذا فإن المواقف وحجم التدخل تباين من دولة لأخرى. فنرى السعودية أكبر دول المجلس لم تؤيد أي انتفاضة باستثناء الانتفاضة السورية وهذا راجع في الأساس إلى حسابات جيوستراتيجية تهدف لإضعاف دور إيران المنافسة لها في المنطقة وعزلها حيث يعد النظام السوري أقوى حلفائها. ومن جهة أخرى سلطت الانتفاضات الضوء بشكل مباشر على ضعف البنية السياسية لهذه الدول وعكست الحاجة ألى إجراء اصلاحات سياسية ودستورية ديمقراطية. وربما ساهم هذا في بناء موقفها تجاه ما يحدث لامتصاص جزء من ردة فعل الشارع الخليجي والظهور بالمساند للمطالب الشعبية في البلدان العربية.

     ورغم ادعاء دول الخليج العربي في البداية أنها غير معنية برياح التغيير، وأن لديها حصانة خاصة ضد حركة الاصلاح الديمقراطي، إلا أن الحقيقة عكس ذلك تماما. فرياح التغيير طرقت أبوابها، وتعاملت مع ما حدث عام 2011 بجدية تامة خاصة بعد أن رأت ما يحدث في البحرين.(2) لذلك بعد اندلاع الانتفاضة في تونس ثم مصر وليبيا وامتدادها إلى اليمن، أدركت جميع دول الخليج أنها ليست بعيدة عن "الربيع العربي". ولأول وهلة اتخذت موقفا متحفظا متمثلا في اعتبار المشكلة داخلية، مع الاعراب عن الأمل في حل الأزمة سلميا، وحث الولايات المتحدة-وفق بعض التقارير- على عدم التخلي عن الرئيس مبارك. ووصل الأمر إلى اقتراح تعويض مصر عن المعونة الأمريكية إذا لزم الأمر.(3)
       
     وكانت انتفاضتا تونس ومصر ملهمتين لقطاعات شعبية واسعة في الخليج خاصة فئة الشباب وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وجرت محاولات عديدة في العالم الافتراضي، وعلى ارض الواقع لنقل هذه التجارب والدعوات لمسيرات شعبية ورفع مطالب اصلاحية،  اصدمت جميعا بالحالة الخليجية، حيث قوى البقاء والاستمرار أقوى بكثير من قوى الاصلاح والتغيير، وحيث وظفت الحكومات مواردها وإمكانياتها الضخمة، بما في ذلك خلق 130 الف وظيفة جديدة معنية بالأمن وحدها من أجل منع انتقال عدوى التغيير إلى المنطقة(4) واتخاذ قرارات سريعة لدعم القدرة الشرائية للمواطنين تمثلت بزيادة 
 الرواتب والمنح والامتيازات.

   وحرصت دول الخليج العربي، الغنية بالنفط، على دعم التيارات الإسلامية في المنطقة. وهذا الدعم يساهم في اضعاف دور القوى والأحزاب الديمقراطية ومن ثم يقلل من إمكانية وصولها إلى السلطة. فأنظمة الخليج تجد من السهل عليها أن تتعامل ولو بحذر مع حكومات تقودها أحزاب دينية معتدلة مثل الأخوان المسلمين والتي يمكن تعديل مواقفها للقبول بشرعية الأنظمة الحاكمة بدل التعامل مع حكومات تقودها أحزاب وطنية ديمقراطية تهدف إلى تنفيذ اصلاحات سياسية ودستورية جذرية باتجاه بناء دولة مدنية ديمقرطية تضعف من شرعية الأنظمة الوراثية. لذا رأينا أول زيارة يقوم بها الرئيس المصري محمد مرسي إلى الخارج كانت إلى السعودية والإدلاء بتصريحات ذات توجه طائفي تهدف إلى تعزز شرعية النظام السعودي.

      أكثر الدول الخليجية التي تفاعلت بقوة مع الانتفاضات هي قطر وقد جاء قرارها بالمشاركة في التدخل الدولي من خلال الناتو في ليبيا بمثابة تحول في سياستها التي كثيرا ما اعتمدت دبلوماسية الوساطة ومحاولة الظهور بمظهر الوسيط المحايد. وقدمت قطر للمنتفضين دعما ماليا ومعنويا كبيرا، وتغطية قناة الجزيرة التي سلطت الضوء على الممارسات الوحشية لنظام القذافي. وكانت قطر من أولى الدول التي اعترفت بالمجلس الانتقالي الليبي، واستضافت أول مؤتمر دولي لإعادة إعمار ليبيا بعد مقتل القذافي.

      ونتيجة الدور الذي لعبته قطر وقناة الجزيرة في دعم الانتفاضات، تتعرضان لاتهامات علنية بالتدخل في شؤون هذه الدول. ويمكن الإشارة إلى محدد مهم للسياسة الخارجية القطرية يتمثل في رغبة قطر في تحقيق المكانة الإقليمية والدولية، من خلال الخروج من دائرة الهيمنة السعودية على دول الخليج العربي. وقد انتهجت قطر واحدة من أكثر السياسات الخارجية ابتكارا في المنطقة من خلال الجمع بين متناقضات والمحافظة على شبكة تحالفات واسعة في الوقت نفسه.(5)

      وبعد نجاح الانتفاضات أعلنت السعودية وقطر والإمارات العربية عن اتجاهها لتقديم ودائع في البنوك المركزية، ودعم المشروعات الصغيرة، وذلك للمساعدة على مواجهة البطالة التي ارتفعت معدلاتها بنسب كبيرة، تجاوزت 20% في المتوسط، نتيجة ما صاحب الانتفاضات من آثار سلبية على مصادر الدخل القومي، مما تسبب في تراجع معدلات النمو الاقتصادي إلى أرقام سالبة بلغت 4,3% في مصر حتى حزيران|يونيو 2011، فضلا عن تراجع الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي المصري بنحو 11 مليار دولار منذ بداية الانتفاضة قي 25 كانون الثاني|يناير 2011.(6)

     وبالنسبة لانتفاضة اليمن ونتيجة الجوار الجغرافي المباشر لها مع دول الخليج العربي وخشية من أن انهيار النظام ستعقبه حالة من الفوضى، ستكون لها تداعيات مباشرة  أمنية وسياسية وإنسانية على هذه الدول أقلها تدفق اللاجئين بأعداد كبيرة إليها. ورغبة منها في المساهمة في إعادة تشكيل البنية السياسية لـتأمين جوارها الاستراتيجي لذلك حرصت دول الخليج أن يكون التحول في اليمن سلميا وتدريجيا مع خروج رأس النظام من السلطة دون أي متابعات قانونية؛ لذلك طرحت مبادرتها التي لاقت القبول من اغلب أطراف المعارضة ومن النظام في حين رفضتها قطاعات واسعة من المنتفضين لأنها أبقت كامل النظام السابق عدا رأسه.  ومع أن هذا لم يكن مطلب المنتفضين لكن لا يمكن التقليل منه لأن اضطرار الرئيس علي صالح للتنحي جاء انصياعا لقوة  ضغط الانتفاضة.

الهوامش

1-   للمزيد راجع معمر فيصل سليم خولي، "تأثير الانتفاضة الشعبية في سورية على العلاقات التركية الروسية"، شؤون عربية، العدد 150، 2012، ص 168-176.
2-   للمزيد راجع عبد الخالق عبد الله، انعكاسات الربيع العربي على دول مجلس التعاون الخليجي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2012، ص 7.
3-   عزمي خليفة، "التأرجح: موقف دول الخليج من ثورة 25 يناير في مصر"، السياسة الدولية، العدد 187، 2012، ص 50-51.
4-   عبد الخالق عبد الله، مصدر سابق، ص 7.
5-   مروة فكري، "ما بعد القوة الناعمة: السياسة القطرية تجاه الثورات العربية"، السياسة الدولية، العدد 187، 2012، ص 162-163.
6-   حمدي عبد العظيم، المال والسياسة: التمويل الخارجي للتفاعلات الانتقالية داخل الدول العربية"، السياسة الدولية، العدد 186، 2011، ص 76.



57
التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية (1-3)

                                                                                                                                        د. هاشم نعمة

مقدمة عامة    

      حظيت الانتفاضات التي اندلعت في عدد من البلدان العربية باهتمام وتفاعل وردود أفعال اقليمية ودولية واسعة ربما لم تحدث بهذا المستوى لأي من الانتفاضات والثورات التي سبقتها على المستوى العربي. رغم أن هذا حدث بدرجات متفاوتة وبصفة تدريجية تماشى مع تطور ونضوج مقدمات التغيير في هذه البلدان. وهذا ينطبق على الدول في المحيط الإقليمي  وبالأخص العربية أو الدولي. ولأهمية العامل الإقليمي والدولي ودوره في الـتأثير في مجرى الانتفاضات وفي نتائجها الآنية والمستقبلية إيجابا وسلبا ارتأينا تحليل هذا العامل الذي سيبقى مؤثرا بقوة على المدى القريب والمتوسط بالأخص رغم أن العوامل الداخلية تبقى المحرك الأساس فيما حدث ويحدث. 

      عند بداية انفجار الانتفاضات على شكل حركات احتجاجية، لم يكن للخارج تصور واضح دقيق ومتكامل عن إمكانيات تطور تلك الحركات، لذلك ظل الموقف الخارجي متذبذبا وغير حاسم. ولم تحسم تلك المواقف إلا حينما بدا للجميع أن الحركة تحولت إلى انتفاضة، وأن المطالب تصاعدت إلى القمة. عندئذ أصبحت مواقف الخارج أوضح في الوقوف في الأغلب مع المنتفضين. ونجد الموقف أوضح في حالتي تونس ومصر عنه في حالة ليبيا. وربما يمكن تفسير ذلك بأهمية النفط الليبي، وبخاصة للدول الأوروبية والمتوسطية. وعندما تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية، طلبت القوى الدولية موافقة جامعة الدول العربية(1) لتضفي على هذا التدخل طابعا شرعيا وهذا يمكن اعتباره أحد دروس احتلال العراق وما واجهه من رفض على مستوى الرأي العام العربي بالأخص حيث أن الانتفاضات بحد ذاتها دشنت عهد قوة الرأي العام وتأثيره في مسار الأحداث وصناعة القرار السياسي.

     وفي الوقت الذي وقف فيه الرأي العام العربي، بشدة ضد التدخل الأمريكي في العراق.  ساهم التعاطف الشعبي مع الانتفاضة الليبية في تعديل المواقف من التدخل الخارجي، وحتى تأييده. وهذا دليل واضح على أن  موقف الرأي العام لا يبقى ثابتا ويمكن أن يتغير طبقا للتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

      لم تعبأ الانتفاضات كثيرا بحسابات القوى الخارجية، ولا تعول في الغالب على دعم هذا الطرف أو ذاك بالأخص في بداية انطلاقها بل على العكس قد كشفت الحالات التونسية والمصرية والليبية أن القوى الغربية تمثل عقبة في وجه المنتفضين، إما بسبب دعمها للأنظمة المستبدة أو نتيجة لصمتها على ما تقترفه من جرائم في حق مواطنيها. وقد أسقطت الانتفاضات كل أقنعة الزيف والازدواجية الأخلاقية والقيمية الغربية بعد أن وصل الأمر أحيانا إلى حد التواطؤ الصريح في دعم بقاء هذه الأنظمة على حساب قيم ومبادئ الحرية والديمقراطية كما كان الحال في تونس حين عرضت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل إليو ماري تدريب الشرطة التونسية لقمع المتظاهرين.(2) وبعد أن ايقنت فرنسا نجاح الانتفاضة عادة وعدلت من موقفها واستفادة من هذا الدرس في ليبيا حيث كانت أشد القوى الغربية تأييدا للتدخل للإطاحة بالقذافي.

      انحصرت التغيرات الجيوستراتيجية التي احدثتها الانتفاضة الليبية في تحول موقف الدول الغربية التي شاركت في مهمة حلف الناتو، وذلك بحكم أنها كانت على علاقات سياسية، واقتصادية، وثيقة بنظام القذافي؛ إذ منحها الاستثمارات النفطية والاقتصادية. وعليه؛ فقد كانت  عمليات الناتو جزءا من حماية هذه الامتيازات، وتعزيزا لنفوذ فرنسا التقليدي في أفريقيا بعد أن شكل القذافي عائقا أمام توجهاتها(3) من خلال توطيد علاقاته مع الدول الأفريقية ودعم بعضها ماديا ومع شعور فرنسا بتراجع نفوذها في مستعمرتها السابقة وبالأخص في الجانب السياسي والثقافي مع توسع وانتشار استخدام اللغة الانكليزية.

بالنسبة للاعبين الدوليين ودرهم في التأثير في مجرى الانتفاضات ونتائجها نورد هنا أبرزهم.       

الولايات المتحدة الأمريكية

     حكمت موقف الولايات المتحدة إزاء الانتفاضات وستبقى كذلك مصالحها الاستراتيجية في المنطقة والتنافس الدائر بينها وبين القوى الكبرى الأخرى وبالأخص روسيا والصين؛ وأن ما يبدو تغييرا في سياستها هو نابع من قناعة أن الوقوف بوجه الانتفاضات وبالأخص التي نضجت مقدمات نجاحها يعني المجازفة  بتراجع تأثيرها ونفوذها في المرحلة التي ستعقب سقوط هذه الأنظمة. ومن قناعة أخرى تشير إلى أن هذه الأنظمة باتت غير قابلة للتطور وأدت مهمتها واستهلكت قياداتها وهي تساهم في نمو ظاهرة التطرف الديني والعداء إلى الولايات المتحدة. وهذه السياسة اتسمت بالمرونة مقارنة بروسيا وليس بالمبادئ وهي تعبير أمين عن مصالح الشركات الاحتكارية الكبرى والمتعددة الجنسية.

      ودعما لقولنا نودر هنا قول الدبلوماسي الأمريكي جايمس لاروكو والذي يعبر عن وجهة النظر الأمريكية الرسمية "سواء كنا نتحدث عن تونس أو مصر أو غيرها من دول المتوسط العربية وحتى فيما وراء ذلك. فإن الولايات المتحدة غالبا ما كانت تختار المصالح على حساب القيم. اني أقر بذلك في شكل كامل. إلا أن هذا يمكن ويجب أن يتغير الآن... لقد وفرت شعوب المنطقة فرصة للولايات المتحدة لكي تكون شريكة كاملة، في الشرق الوسط الجديد، وسيتطلب ذلك  تعديلا في سياستنا، وأنا متأكد من أننا سنقوم بذلك".(4) من هذا النص يتبين أن الولايات المتحدة كانت في حالة ترقب إزاء الانتفاضات ليتضح لها ميزان القوى الداخلي كي تعدل سياستها بما يتوافق بشكل كامل مع مصالحها. وهي في الواقع تفضل التعامل مع انظمة مستبدة تتسم بمركزية القرار بدل التعامل مع أنظمة ديمقراطية يملك فيها الرأي العام دورا مؤثرا في توجهات صانعي القرار السياسي والاقتصادي. أما الحديث عن القيم فهو النفاق بعينه  لأن تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية يشير إلى أنها  لم ترسم ابدا في أي مرحلة من مرحلها على أساس قيم الحرية والديمقراطية التي تتحدث عنها. 
       
     إذاً بعد أن بدأت الولايات المتحدة تستوعب صدمة الانتفاضات عكفت دوائرها البحثية والسياسية والاستخباراتية على بلورة إستراتيجية جديدة متكاملة للتعاطي مع الواقع الجديد، تكفل لها حماية مصالحها وتحسين صورتها في الشارع العربي، كما تتضمن برنامجا لدعم الانتفاضات والأنظمة الناتجة عنها عبر التحرك في ثلاثة اتجاهات: اقتصادي وسياسي وثقافي.

    في الاتجاه الاقتصادي، عمدت الإدارة الأمريكية إلى مساندة الديمقراطيات الوليدة في مصر وتونس على تجاوز التداعيات الاقتصادية السلبية للانتفاضات، فأعلن أوباما إسقاط بلاده ملياري دولار من ديون مصر وتونس مناصفة كما حث المؤسسات الاقتصادية الدولية على تقديم الدعم والشراكة التجارية للبلدين وضخ الاستثمارات لهما. وفي قمة الثماني في فرنسا في آذار| مايس 2011، دعي رئيسا الحكومتين الانتقاليتين في تونس ومصر وأمين الجامعة العربية للمشاركة في بحث خطة دول الثماني لدعم الدول العربية الطامحة للديمقراطية، وتعهد البيان الختامي للقمة بتقديم 20 مليار دولار لدعم مصر وتونس.

    وفي الاتجاه السياسي ومع نزوع السياسة المصرية الجديدة، نحو تبني نهج مستقل حيال إيران والقضية الفلسطينية، هرعت الإدارة الأمريكية لصياغة الخطط الكفيلة بكبح جماح تلك السياسة. وبالتوازي حرص أوباما على مد جسور الثقة مع الأنظمة العربية الجديدة وإظهار دعمه الواضح للانتفاضات، كما جدد التزام بلاده بتحريك عملية السلام في الشرق الأوسط استنادا لمبدأ الدولتين.

      وفي الاتجاه الثقافي، ظهرت مقترحات أمريكية بضرورة التعاطي مع العرب من منظور مغاير للصورة النمطية السائدة في الغرب، والتي طالما روجت لفكرة بأن الشعوب العربية غير ثورية لا تتوق للديمقراطية والتغيير، كما ظهرت طروحات أمريكية بضرورة مراجعة التصنيفات الأمريكية التقليدية للقوى السياسية الفاعلة في البلدان العربية ما بين "معتدلة" و"غير معتدلة" وتبني معيار جديد يصنفها إلى "قوى شرعية" وأخرى "غير شرعية".(5) ولو تم اعتماد هذا التصنيف حقيقة فإنه سيمثل تغيرا مهما تجاه الأنظمة المستبدة التي لازالت الولايات المتحدة تدعمها.
 
     ومثلت الانتفاضة الليبية اختبارا للإستراتيجية الأمريكية. فقد كان الصمت أولا. ثم مع تصدع النظام  بدأت البيانات تصدر على استيحاء، تعبر عن اهتمام، ثم قلق، ثم استنكار لما يحدث في ليبيا من قمع المتظاهرين، ثم مناشدات لضبط النفس، ولوقف العنف. ومع أن تطورات الأوضاع في ليبيا تشير بأن السكان المنتفضين سيتعرضون لمذبحة ولن اتنتهي إلا بإسقاط النظام، كان الموقف الأمريكي متأخرا وضعيفا.
   
     واستمرارا لهذا الموقف، تبنت الولايات المتحدة سياسة عدم تصدر المشهد فيما يتعلق بعملية اعادة الاعمار في ليبيا، مثلما فعلت في الحملة العسكرية للناتو التي مهدت لسقوط القذافي. كما قامت الإدارة الأمريكية بالإفراج عن مليار ونصف مليار دولار من الأموال الليبية المجمدة في البنوك الأمريكية دون تقديم مساعدات مالية أخرى، أسوة بالدول الحليفة الأخرى التي قدمت مساعدات للثوار الليبيين، في ظل رفض الرأي العام الأمريكي تمويل إعادة اعمار جديدة في الشرق الأوسط بعد تجربتي العراق وأفغانستان، وهو ما وضع قيودا على طبيعة الدور الأمريكي وقدراته في التأثير في مسار الوضع في ليبيا.(6)

     عدم قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بمتطلبات ما بعد الانتفاضات ناتج من الأزمة المالية والاقتصادية. وهم ما أكدته وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون/ حيث قالت في 16 آب| أغسطس 2011 إن الولايات المتحدة قد تخسر فرصتها في إعادة رسم السياسات في الشرق الأوسط، إذا تسببت ضغوط الميزانية في تقييد الدعم الأمريكي للقوى الديمقراطية الناشئة في دول، مثل مصر وتونس. وأضافت: "الولايات المتحدة أمامها فرصة في الوقت الراهن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولكنها غير واثقة من أنها ستتمكن من انتهازها، لأنها لا تملك الموارد لذلك".(7) وينبغي أن ينظر للتصريح هذا بأنه موجه أيضا للرأي العام الأمريكي والقوى السياسية الداخلية التي تعارض تقديم المساعدات.   

      إن حجم التأثير والنفوذ الذي ستتمتع به الولايات المتحدة في ترتيب الأوضاع في البلدان التي أطيح بأنظمتها سيتوقف بدرجة كبيرة على طبيعة المرحلة الانتقالية وتفاعلاتها السياسية-الاجتماعية لبناء دولة مدنية ديمقراطية، وعلى المنظومة السياسية التي تدير الحكم ومتانة النسج الاجتماعي  وبعده عن النزاع الديني والطائفي والعرقي الذي يشكل مدخلا سهلا للتدخل في الشؤون الداخلية من خلال شعور قادة المكونات السكانية والسياسية المتنازعة بأنهم بحاجة للدعم الخارجي لتقوية مواقعهم في أرض النزاع وهذه ما عكسته تجربة العراق المريرة.   

الهوامش
 
1-   راجع مصطفى علوي، "كيف يتعامل العالم مع الثورات العربية؟"، السياسة الدولية، العدد 184، 2011، ص 36-41.
2-   راجع خليل العناني، "الثورة المصرية..التداعيات الإقليمية والدولية"، شؤون عربية، العدد 145، 2011، ص 79-81
3-   المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، التوازنات والتفاعلات الجيوستراتيجية والثورات العربية، الدوحة، 2012، ص 9-10.
4-   جايمس لاروكو، "الولايات المتحدة والثورات العربية"، شؤون الأوسط، العدد 138، 2011، ص 54-59. جايمس لاروكو مدير مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الإستراتيجية، جامعة الدفاع الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية، وسفير سابق في الكويت، كما عمل في السفارة الأمريكية في تل أبيب.
5-   راجع بشير عبد الفتاح، "أمريكا والربيع العربي"، شؤون عربية، العدد 146، 2011، ص 66-67.
6-   راجع عصام عبد الشافي، "العامل الدولي: تراجع الدور الأمريكي في البيئة الإستراتيجية الجديدة"، السياسة الدولية، العدد 186، 2011"، ص 91.
7-   المصدر نفسه، ص 92.




58
اعلان عن مؤتمر التيار الديمقراطي العراقي في هولندا


     استكمالا لاستحقاقات تأسيس التيار الديمقراطي العراقي في هولندا والذي عقد مؤتمره التأسيسي في شهر مايس 2011 سيعقد المؤتمر الأول للتيار الديمقراطي يوم السبت الموافق 3 تشرين الثاني 2012 وبهذه المناسبة يشرفنا دعوتكم لحضور المؤتمر للمساهمة بمناقشة الوثائق المقدمة من اجل توسيع وتطوير نشاطات التيار على الساحة الهولندية بما يعزز ويدعم التيار الديمقراطي في داخل الوطن وانتخاب لجنة تنسيق جديدة.

جدول عمل المؤتمر

-   الاستقبال                                                                             13:00- 13:15
-   كلمات الافتتاح                                                                       13:15-13:30
-   مناقشة التقرير الإنجازي                                                          13:30- 14:30
-   مناقشة ورقة العمل.                                                                14:30- 15:00
-   مناقشة التقرير المالي                                                              15:00- 15:30
-   استراحة لمدة  15 دقيقة
-   انتخاب لجنة التنسيق الجديدة                                                     15:45- 18:00

مع خالص تقديرنا

لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي في هولندا

عنوان القاعة
Van Royenstraat 2
2273 VD Voorburg
De Groene Loper

المكان قريب جدا من موقف الترام خمس دقائق مشيا
للوصول ترام رقم 2 من المحطة المركزية - دنهاخ المتجه إلى
Leidschendam
Mgr. Van Steelaan  والنزول في الموقف
والدخول في الشارع  الذي يتصل بالشارع الذي توجد به القاعة
للمزيد من المعلومات يرجى الاتصال بالأرقام التالية:
0643525313 
0627621171   
0616481231

أو المراسلة على ايميل التيار: tdiholland@gmail.com


 


   

59
المنبر الحر / النفط والفدرالية
« في: 19:20 09/04/2012  »
النفط والفدرالية

ترجمة: د. هاشم نعمة

     كثيرا ما تم السعي لتطبيق النظام الفدرالي كوسيلة لدمج المكونات السكانية المختلفة في المجتمعات التي تتميز بالتنوع من أجل بناء نظام حكم موحد، وفي نفس الوقت بقاء الهويات الإثنية تتمتع باستقلالها، وقد سعى عدد من المحاولات لتحقيق الوحدة في التنوع في كثير من المجتمعات المتنوعة كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية، الهند، البرازيل وعدد كبير من الدول الأخرى. ولم تكن نيجيريا استثناءا من ذلك.

     تطور الوحدة في التنوع في الدولة الوطنية من خلال تقوية التماسك السياسي هذا الأمر لم يكن هدفا سهلا حيث تختلف درجة النجاح من دولة إلى أخرى استنادا إلى ما تتميز به السلطة الداخلية، ومرحلة التطور الاقتصادي وطبيعة القيادة السياسية المنتمية لمكونات المجتمع المختلفة.

     تشترك الوحدات السياسية بوظائف ومسؤوليات محددة لكن الصراع الحاسم من أجل الهيمنة على الساحة السياسية يكون مصدرا منتظما للخلاف في أي نظام فدرالي، وأحدى النواحي التي يكون الصراع حولها شديدا هي الناحية المالية حيث تتقرر الأهداف النهائية للسياسية المالية. 

      في نيجيريا، التمازج التاريخي للظروف الاقتصادية والسياسية خول الحكومة الاتحادية سلطة جمع الجزء الأعظم من إيرادات البلاد وتقسيمها فيما بين إداراتها وبين مختلف المستويات الحكومية. وتشكل عملية انجاز تحويل الإيرادات ما بين الحكومية في النظام الفدرالي النيجيري جوهر هذه الورقة، خصوصا، في ضوء التغيرات السياسية والاقتصادية المعقدة، وتأثير عائدات النفط على التنمية على المستوى الوطني والإقليمي.  وقد خلق الاقتصاد القائم على النفط  في نيجريا فجوة مالية واضحة بين المناطق المنتجة وغير المنتجة للنفط حيث تمنح إيرادات الدولة من قبل الحكومة الإتحادية ويفرض توظيفها للتنمية والتطور اعباء أساسية على المناطق القليلة المنتجة للنفط التي يجب أن تدعم التنمية دون أن تحصل على منفعة أو رعاية كافية. هذه المسألة تعد أساسية لفهم أن الاحتياجات الدائمة للجنس البشري (كون مجموعة اثنية معينة تشكل أقلية أو أكثرية في نظام سياسي معين مثل نيجيريا) لا يمكن أبدا أن تلبى بتبني فلسفة توزيع الثروة الوطنية استنادا إلى المجموعة (الإثنية) أو التفاوتات الإقليمية (هناك صورة تبدو من عدم المساواة في المواطنة داخل البنية الإثنية للنظام السياسي). فمن المهم بالنسبة لنيجريا وصانعي قرارها السياسي تسخير طاقاتها باتجاه تبني الإنصاف في توزيع الموارد المالية والعمل على وحدة المجموعات الإثنية من أجل مصلحة كل الشعب. في الوقت الذي يسمح فيه بالاختلافات، يجب علينا أيضا أن نمعن النظر من أجل العمل على رعاية بعضنا البعض، خصوصا، رعاية المناطق القليلة المنتجة للنفط. وقد علمنا أحد رؤوساء نيجيريا الأوليين الرئيس اوبافيمي اولو بأن في الفدرالية الحقيقية، يجب أن تعامل كل مجموعة اثنية مهما كانت صغيرة مثل أي مجموعة اثنية كبيرة. إن من الأمور المستعصية على الحل في النظام الفدرالي في نيجيريا هي تعدد الأنماط الإثنية التي تمثل مصالح المجموعات ودورها في ماكنة صنع السياسة الفدرالية حيث لا ينظر إلى توزيع الإيرادات كمهمة اقتصادية، بل كمعركة حول من الذي يحصل على كمية من موارد البلاد. هذا الملمح التنافسي الخاص المتعلق بنظام توزيع الموارد في نيجيريا قد عمل لغير صالح مناطق إنتاج النفط القليلة، رغم مساهمتها الرئيسية في الثروة الوطنية.

                                       الفدرالية المالية في نيجيريا

     فيما يخص آلية توزيع الإيرادات في نيجيريا، ذكر اوسثيمر بأن الجانب المالي في النظام الفدرالي ثبت بأنه يشكل مسألة شائكة ويعكس بشكل واضح الرغبة في التمتع بالسلطة من قبل كل منطقة. تاريخيا، أيد النيجيريون من المناطق الغربية والشمالية الأغنى زيادة استخدام آلية الاشتقاق (أي تحديد نسبة معينة من الموارد للمناطق التي تنتج فيها، المترجم). وقد قاوم سياسيو المنطقة الشرقية إلى حد كبير هذا الإتجاه، على الأقل حتى بعد أن تعزز الشكل الدستوري لنيجيريا. لكن فقط بعد الاكتشافات الكبيرة للنفط في المنطقة الشرقية التي بدأت في أواخر الخمسينات من القرن الماضي بدأ الشرقيون يفضلون آلية الاشتقاق. في عام 1953، كانت مبادئ الاشتقاق تستند مائة بالمائة على مبدأ عدم سيطرة القبائل الرئيسية على إنتاج النفط الخام (كانت نسبة 100% من توزيع الإيرادات لكل منطقة تستند إلى الاشتقاق) وخلال فترات ازدهار اقتصاد المحاصيل النقدية، استفادت المناطق الشمالية والغربية بالأخص مما ورد في الدستور الذي ينص بأن أي منطقة تقرر تسليم مواردها سوف تعود لها نسبة 50% من عائدات أي من الضرائب التي تتسلمها الحكومة الإتحادية المتعلقة بأي استخراج للمعادن في تلك المنطقة. تتباهى نيجيريا لتطبيقها النموذج الفدرالي الأمريكي. لكن الجانب المالي في فدرالية نيجيريا يتناقض بشكل حاد مع ما معمول فيه في الولايات المتحدة الأمريكية. إذ تطبق الأخيرة فدرالية مالية تنافسية بشكل أساسي حيث أي شيء يعود إلى دائرة اختصاص الولاية، فيما إذا كان نفط أو أي مصدر آخر يعود لها. الشيء نفسه يطبق في كندا. في نيجيريا، عندما أصبح النفط  أكثر الموارد القابلة للنمو في الثروة الوطنية، طرحت مسوغات سياسة تقول بأنه من غير العدل أن تعطى موارد النفط إلى الولايات أو المناطق لتكون لها حصة الأسد في أموال ريع مواردها، حيث ستجعل مثل هذه الأموال الضخمة وبشكل دائم المناطق المحظوظة بالموارد أكثر تطورا على حساب المناطق المبتلاة بالفقر في البلاد. لذلك، تم تبني توزيع العائدات المالية  بشكل نسبي. وقد انخفضت النسبة من عام 1954 حتى الآن:عام 1954 (100%)، 1958 (50%)، 1970 (45%)، 1975 (20%)، 1981 (2%)، 1992 (1,5%)، 1994 (3%)، وفي الفترة 1994-1995 رفعت النسبة في مسودة الدستور إلى 13%.

      في المجتمع الرأسمالي، سواء كان النظام فدراليا أم لا، فإن الأمر الذي لا يمكن الدفاع عنه ويعتبر مضلا أو مخادعا هو الاصرار بشدة على اقتسام ثروة ولاية أخرى على أي أساس كان بدلا من القواعد التي تسمح بها اللعبة الرأسمالية. في هذا النوع من المجتمع، يحق تماما لكل ولاية الاحتفاظ بأي ثروة تعود لها إما عن طريق ما بذلته من جهد في ايجادها أو عن طريق تنميتها بمهارتها أو براعتها أو أن الثروة تعود لها كونها هبة من دون مساعدة الطبيعة. في الفدرالية الحقيقية، ينبغي تبني مبدأ الاشتقاق في تخصيص الموارد.

       من ناحية أخرى، سيعاني النظام الفدرالي في نيجيريا إذا أخذت موارد السنة المالية من النفط أو أي مورد آخر على أساس التفضيل المستمر لمصالح أقلية من دون مراعاة مصالح أقلية أخرى ومن ثم زيادة مخاوف الابتعاد عن تبني العدل والإنصاف لخلق توازن في بنية النظام الفدرالي. من الضروري لصانعي القرار السياسي في نيجيريا، العمل على موازنة حالة عدم المساواة المتأصلة في توزيع الإيرادات بين مستهلكي هذه الإيرادات الرئيسيين (الغالبية مناطق غير منتجة للنفط) ومنتجي الإيرادات (مناطق قليلة منتجة للنفط) على المستوى الفدرالي. حيث تساهم الولايات القليلة المنتجة للنفط بمعظم إيرادات الخزينة الإتحادية. هذا الإجراء قد يقلص عدم المساواة الهيكلية في نظام توزيع الإيرادات الفدرالية لكن من ناحية أخرى، يبدو أن النظام لا يحس بالظروف البيئية والاجتماعية-الاقتصادية في المناطق المنتجة للنفط.

      من وجهة النظر العلمية المتعلقة بالتأثيرات البيئية والاجتماعية-الاقتصادية لاستخراج النفط في المناطق النهرية في نيجيريا، يشير انغاي بأنه رغم أن النفط خلق ازدهارا اقتصاديا لكل الدولة، لكنه نتجت عنه مشكلات بيئية واجتماعية-اقتصادية ذلك أن قاطني المناطق الايكولوجية للأراضي النهرية في نيجيريا حيث ينتج النفط يكونون بوضوح أكثر ضحايا الأضرار البيئية والاجتماعية-الاقتصادية الناتجة عن استخراج وانسكاب النفط الذي يجري يوميا في البلاد.
 
     أيضا، بول كولير من منظمة العمل الدولية نورنا بملاحظة تقول بأن ثروة الحلم التي تتمثل بالنفط كانت توزع بشكل غير متساوي. حيث كانت الوضعية الاجتماعية-الاقتصادية للسكان تتقرر بواسطة حصولهم على الأراضي في حين استحوذ استخراج النفط على أجزاء من الأراضي الواسعة التي يعتمد عليها السكان الريفيون. وقد عزز التصدير السريع للنفط فعليا من انخفاض دخل المناطق الريفية؛ ببساطة، كان المرء يتوقع ارتفاع دخل هذه المناطق.

    في الحقيقة، المرء ليس لديه خيار سوى الاتفاق مع الناقد الاجتماعي البارز يوسيوفو بالا اسمان الذي يزعم بأن البترو-نايرا (نايرا هي العملة النيجيرية، المترجم) لم يكن ينعم على (المنتجين النيجيريين) بأساسيات الوجود  وبدلا من ذلك أصبحت وفرته جزءا من عملية حرمانهم من فوائد ما ينتجونه حيث استمر فقرهم. 

الترجمة من كتاب: ِAugustine Ikein et al, Oil, Democracy, and The Promise of True Federalism in Nigeria, 2008. 
           

60
في هولندا ندوة حول كتاب جديد للفنانة التشكيلية عفيفة لعيبي

     بمناسبة صدور كتاب جديد  حول الفنانة التشكيلية عفيفة لعيبي بعنوان  "عفيفة العيبي سيرة ذاتية عبر لوحة" تقيم لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي بالاشتراك مع النادي الثقافي المندائي في دنهاخ (لاهاي) ورابطة المرأة العراقية وجمعية النساء العراقيات في هولندا ندوة يقدم فيها الكاتب الأستاذ جاسم المطير قراءة للكتاب.  وسيتم التوقيع على الكتاب. يدير الندوة الأستاذ نهاد القاضي.

     يتناول الكتاب السيرة الذاتية للفنانة عفيفة العيبي عبر البعض من الكتابات النقدية واللقاءات على صفحات البعض من الصحف والمجلات العربية والأجنبية وعبر الصور الشخصية واللوحة.
والكتاب باللغتين العربية والأنكليزية ويحتوي على مجموعة جيدة من اعمالها الفنية التي ترتبط بمراحل مختلفة من حياتها.

المكان: النادي الثقافي المندائي في دنهاخ (لاهاي)
التاريخ: الجمعة 23 آذار مارس 2012
الوقت: تفتح القاعة الساعة السابعة مساءا وتبدأ الندوة الساعة السابعة والنصف.

الدعوة عامة

العنوان
Ivoorhorst 155
2592 TH Den Haag
للوصول إلى القاعة من المحطة المركزية في دنهاخ ترام رقم 6 المتوجه إلى
Leidsenhaagen
للمزيد من المعلومات يرجى الاتصال بالرقم:    0640329472


61
القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية 3-3

                                                                                                                   د. هاشم نعمة
                                           دور الجيش
      من بين العديد من العوامل التي تؤثر في نجاح الانتفاضات في البلدان العربية، يبرز دور الجيش، ليس لأنه القوى المنظمة الأقدر على حسم مسيرة الانتفاضة أو الثورة، وضبط إيقاع الأحداث والتطورات المتلاحقة كحماية الثوار من بطش القوى المناهضة للانتفاضة فحسب، ولكن لكونه كذلك الأكثر جاهزية لحماية الانتفاضة ذاتها من أي ثورات مضادة، والتصدي لمحاولات سرقتها من قبل العناصر أو الدوائر الموالية للنظام.
     في انتفاضة تونس، لعب الجيش دورا مفصليا في إنجاحها، حيث التزم الحياد إبان تحول الحالة الثورية إلى فعل ثوري، ولم يتدخل إلا لحفظ الأمن والحيلولة دون انهيار الدولة. وأستند هذا الموقف من جانب الجيش على ركائز شتى، أهمها: استياء الجيش من سياسة الإضعاف والتهميش المتعمدين له من قبل بن علي لمصلحة الأجهزة الأمنية الأخرى، التي كان يحتمي بها. وفي اللحظات الأخيرة من عمر النظام، تحول موقف الجيش إلى الانحياز للانتفاضة، خاصة مع موقف قائد الجيش البري الجنرال رشيد بن عمار، الذي حاصرت دباباته قصر قرطاج، مما أجبر الرئيس المخلوع على الفرار.( ) إذن لعب الجيش دورا حاسما في منع سقوط مزيدا من الشهداء والجرحى. رغم أن الجيش التونسي لم يمارس أدوارا سياسية مباشرة منذ استقلال البلاد في عام 1956 خلافا لما عليه الحال في العديد من البلدان العربية.
     في مصر، سلكت الأمور مسلكا مشابها إلى حد كبير، وإن اختلفت كثيرا طبيعة الجيش المصري وتكوينه وعلاقته بالسياسة، خصوصا في ظل اتصال عسكر مصر بالسلطة السياسية منذ ثورة 1952. وكان واضحا للعيان منذ اندلاع الانتفاضة، وعقب استدعاء الجيش لملأ  الفراغ الذي خلفه انسحاب الشرطة، أن الجيش وضع مسافة بينه وبين القيادة السياسية، وحرص على أن يتدخل في لحظة احتدام الأزمة لإقناع الرئيس مبارك بالتنحي لوقف تدهور الأوضاع. وبشكل عام، كان موقفه متوازنا طيلة الوقت، وإن مال في بعض الأحيان إلى الشارع ومطالبه.( )
     ولكن هل يمكن فهم موقف الجيش في مصر وتونس من الانتفاضة دون أخذ البعد الدولي بعين الاعتبار دون التقليل من وطنية هذه الجيوش. فمعروف أن للجيش المصري علاقات قوية مع مراكز القرار السياسي والعسكري في الولايات المتحدة خصوصا بحكم المساعدات العسكرية السنوية التي يتلقاها من هذه الدولة. والدورات العسكرية التي يذهب لها ضباط الجيش وبالأخص كباره إلى هذا البلد. وهذه الحالة يمكن أن تنطبق على الجيش التونسي بالأخص في علاقاته مع فرنسا. لذلك من الأرجح أن موقف الجيش الحيادي أرادته الدول الغربية أيضا كي تكون يده نظيفة من قمع الانتفاضة ومن ثم يمكن أن يعول عليه كقوة منظمة للسيطرة على الأوضاع خوفا من انهيارها بالأخص في مصر وما تتمتع به من موقع إستراتيجي في مجاورتها لإسرائيل والخوف على أمنها. في حين أن هذا الحياد لم يحدث في انتفاضات اليمن وليبيا بل حدث انقسام في صفوف الجيش حيث مالت بعض الوحدات العسكرية للانتفاضة وأخرى للنظام وفي حالة سوريا لا زالت مؤشرات الانشقاق في صفوف الجيش محدودة. وإضافة إلى العوامل القبلية في حالة اليمن وليبيا والطائفية في حالة سوريا التي حكمت موقف الجيش من الانتفاضة فيمكن أن يكون غياب أو ضعف علاقة الجيش بالمؤسسات الغربية عاملا ساهم في هذا الموقف الذي آخر انتصار الانتفاضات في هذه البلدان.
                                             استنتاجات
-   يحتدم الكثير من النقاش الآن حول ما ستفرزه الانتفاضات من نتائج على صعيد التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ورغم انه من المبكر جدا الخروج باستنتاجات محددة حيث أن الانتفاضات لا تزال في طور الحدث غير المكتمل لكن من المؤكد إن البلدان العربية قد بدأت مرحلة جديدة من الحراك السياسي والاجتماعي والتغيير وسوف لا تعود إلى أوضاعها السابقة وأن قطار التغيير قد انطلق بالرغم من اختلاف سرعته من بلد إلى آخر.
-   الانتفاضات في البلدان العربية عملية موضوعية تاريخية نتجت عن التراكم الكمي الذي لا بد أن ينتج عنه تحول نوعي . وهذا يؤكد بأن لا توجد شعوب تعيش خارج التاريخ وثبت بطلان مقولة "الاستثناء العربي" القائلة أن المجتمعات العربية عصية على التغيير للانتقال إلى مجتمعات مدنية ديمقراطية نتيجة عوامل موروثة دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية. هذه المقولة التي تبنتها بعض الأوساط الفكرية الغربية وتأثرت بها بعض الأوساط العربية.
-   يكون المستوى السياسي في البنية الاجتماعية أول المستويات تأثرا بفعل الثورة وقابلية للتغيير. حتى وأن تطلب التغيير فيه مدى زمنيا أبعد مما يتوقعه عادة من يصنعون الثورة. ومن المفهوم أن الجانب الاقتصادي يشهد التغيير نفسه بعد السياسي وإن بإيقاع أبطأ من الأول، لأن الديناميات الاقتصادية موضوعية جدا وحيز التدخل في قوانينها ممكن لكنه أقل بكثير مما هو في السياسة حيث مساحة الإرادة أوسع. لكن نظيرتها في المجال الاجتماعي والثقافي تأخذ زمنا أطول قد يستغرق جيلا أو جيلين قبل أن تبدأ الإفصاح عن نتائجها.( )
-   هناك حقيقة يجب التوقف عندها لتبيان أن الأسباب الحقيقة الكامنة للانتفاضات لم تكن تتمثل بوسائل الإعلام الاجتماعية حيث شهد التاريخ الإنساني الكثير من الانتفاضات والثورات رغم غياب هذه الوسائل في وقتها. نعم استخدمت هذه الوسائل للوصول إلى أوسع الجماهير وتوسيع النقاش وسطها وتحشيدها للانتفاضة والتغلب على رقيب السلطة. ويؤكد قولي هذا أن هناك العديد من الأمثلة لناشطين استخدموا وسائل الإعلام الاجتماعية بمهارة لكن نشاطاتهم فشلت، كما جرى في بيلاروسيا في آذار( مارس) 2006. وفي انتفاضة الحركة الخضراء في إيران، خلال حزيران (يونيو) 2009. وانتفاضة أصحاب القمصان الحمر في تايلاند عام 2010.( )

-   كانت سعة المشاركة الشعبية في الانتفاضات حيث ضمت كل طبقات وشرائح المجتمع والتنظيمات السياسية والنقابية والمهنية عنصر قوة عجل  بسقوط رأس النظام في تونس ومصر. لكن هذه السعة تحمل في أحشائها مخاطر الانقسام فيما يخص مسار التوجه لإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية حيث الكثير من المنتفضين كان هدفه الأساس سقوط النظام دون التفكير في النظام البديل ويزيد المسألة التباسا غياب قيادة موحدة للانتفاضة تمتلك برنامجا محددا للمرحلة الانتقالية على الأقل.

-   عدم رفع شعارات معادية إلى الدول الغربية وإسرائيل ينم عن فهم الجماهير بأن هذه الشعارات تستخدمها الأنظمة الأستبدادية للاستهلاك الإعلامي ولتبرير قمع أي توجه نحو التغيير دون إغفالها أن سياسة هذه الدول تحاول التكيف مع مرحلة الانتفاضات لضمان مصالحها في المرحلة اللاحقة. ومن ثم كانت شعارات المنتفضين تعطي الأولوية للوضع الداخلي الذي يشكل إعادة بنائه عاملا أساسيا لإقامة علاقات دولية تتسم بالندية والمصالح المتبادلة.

-   لا يزال خطر الثورة المضادة قائما في ظل بطء التحولات وإعاقتها ولجوء المحتجين للتظاهر بين الحين والآخر للضغط  من أجل الإسراع في انجاز التحولات. وتراهن فلول النظام السابق والتي لا تزال تتحل مواقع قوية في مؤسسات الدولة والمجتمع على عنصر الوقت لتراجع المد الثوري ومزاج الجماهير نحو التغيير.
-   ما حدث يشير أن الإسلام السياسي ابتعد، بدرجة كبيرة، عن رفع شعاراته بشكل مباشر وإلى مسايرته للشعارات التي رفعتها القوى الوطنية والديمقراطية أملا  في استثمار فرص العمل السياسي التي تتيحها له أوضاع ما بعد سقوط الأنظمة أو إصلاحها. أما الفكر الإسلامي المتطرف مثل تنظيم القاعدة فقد وضع في مأزق حقيقي. فرغم أعماله العنيفة المعتمدة على الإرهاب والقتل لم يستطع التأثير في سياسة أي بلد بينما مظاهرات سليمة أسقطت أنظمة قمعية بوليسية.
-   سيتأثر الوضع في العراق أكثر بما تحققه الانتفاضات في البلدان العربية من نجاحات وبالأخص عندما تتحول إلى ثورات حيث تتعمق  التحولات في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ولذلك فإن مقولة "الربيع العربي" حدث بالعراق أولا ولا يمكن أن يتكرر هي مقولة مردودة على أصحابها من وجهة النظر الموضوعية والتاريخية لأن الأسباب الموضوعية للإصلاح والتغيير في العراق ناضجة وربما أكثر من بعض البلدان العربية.
-   ربما لن يتكرر نموذج التغيير على الطريقة التونسية والمصرية في البلدان العربية الأخرى على الأقل في المدى المنظور نتيجة عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية وإقليمية ودولية تجعل لهذه البلدان خصوصيتها في التغيير.
-   رغم الطابع الايجابي للعامل الإقليمي والدولي ودوره في نجاح التغيير الذي يساهم في عزلة النظام السابق لكن عندما يكون دوره عسكريا كما حدث في ليبيا فهذا يحمل مخاطر التأثير المباشر في التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمرحلة ما بعد سقوط النظام وبناء دولة مدنية ديمقراطية مستقلة.
-   هناك دول تتجه للإصلاح السياسي التدريجي مثل المغرب وإلى حد ما الأردن حيث تغيير النظام لم يطرح إلى الآن من قبل المحتجين ويمكن أن تكون الدول الغربية قد فكرت بهذا النموذج لدول الخليج العربي خوفا من التغيرات العاصفة التي يمكن أن تهدد إمدادات النفط لها من هذه المنطقة الحيوية.

_____________________________________________
  - للمزيد راجع بشير عبد الفتاح، الأدوار المتغيرة للجيوش في مرحلة الثورات العربية، ملحق السياسة الدولية، العدد 184، 2011، ص 7-8.
  - نفس المصدر، ص 7-8.
  - للمزيد راجع عبد الإله بلقزيز، السياسي والاجتماعي والثقافي في الثورة، شؤون عربية، العدد 146، 2011، ص 23- 24.
  - للمزيد راجع مقالنا المترجم "القوة السياسية لوسائل الإعلام الاجتماعية" المنشور في مواقع الانترنت.


62
القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية 2-3

                                                                                                                            د. هاشم نعمة
    القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية

      عند بحث الانتفاضات لا ينبغي تناسي عامل تراكم النضالات من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتي بدأت منذ سنوات في تونس ومصر وبلدان عربية أخرى من خلال سلسلة من التحركات الاحتجاجية والإضرابات والاعتصامات  التي قادتها الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية وإن كانت بادوار مختلفة والتي ساهمت في صنع الحدث فحدث كهذا لا يمكن أن يكون مقطوع الجذور عن مقدمات هذا التراكم.

        لتحليل القوى الاجتماعية التي ساهمت بفعالية في  الانتفاضات لابد من النظر إلى مجمل اللوحة الاجتماعية دون اختزال الدور بمكون دون آخر. فهناك فئتان ساهمتا بفعالية أولا الشباب المتعلم، غير المنظم حزبيا، ولكن الذي تفاعل سريعا مع نشاطات الأحزاب والنقابات التي لعبت دورا كغطاء لهذه الحركة، وأعطاها الزخم اللازم للاستمرار والتعبئة والتأطير. وثانيا شرائح العمال، المنتمية للنقابات  أو غير المنتمية، والتي أغلفها الكثير من المحللين في محاولة واعية أو غير واعية لطمس بعدها الطبقي. إذن، ما حدث في تونس ومصر حركتان اجتماعيتان اندمج بروعة فيهما البعد الطبقي الكلاسيكي مع البعد المدني الجديد.( ) وكانت الشعارات التي رفعت في البداية ذات طابع اجتماعي ولكن مع استخدام العنف ضد المتظاهرين سرعان ما تطورت إلى شعارات سياسية حيث تم التركيز على العلاقة بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
     دخلت النقابات بقوة على خط الأحداث، عندما أعلنت نقابة المحامين عن إضراب يوم الخميس 9 كانون الثاني/ يناير 2011 ليوم واحد. ونجح هذا الإضراب في إقحام الحركة النقابية في الأحداث، وصدر البيان الأول للاتحاد العام التونسي للشغل يوم 11/01/2011، والذي يقر فيه بمشروعية المطالب المرفوعة، ويطالب السلطات الرسمية بالاستجابة لهذه المطالب.( ) صحيح أن الشباب انتفض بشكل غير منظم، ولكن ما لبثت النقابات العمالية أن قامت بتنظيم الانتفاضة ونقلها من مدينة إلى أخرى. لقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل بارعا في التعامل مع النظام: ففي شمال تونس، وخاصة في العاصمة، كان قياديوه يتفاوضون مع النظام، بينما في الجنوب كانوا يعارضونه.أما الإتحاد العام لطلبة تونس، وهو خليط من مجموعات يسارية وإسلامية معارضة، فقد لعب دورا أساسيا في تعبئة طلاب الجامعة ضد النظام. وكان دور نقابة المحامين، مهما ورائدا في توسيع التظاهرات من تظاهرات شابة إلى تظاهرات تشمل كافة الأعمار وبالأخص في العاصمة.( )
      وإضافة إلى عنصر الشباب الذي لعب دورا بارزا في الانتفاضة في تونس لعبت الأحزاب السياسية دورا مهما والتي انضمت مبكرا إلى المتظاهرين والمحتجين، في مناطق البلاد، ثم في العاصمة مثل الحزب الديمقراطي التقدمي وحزب التجديد. كما لعب التيار الإسلامي دورا مميزا في مناطق القصرين وجندوبة والكاف وسيدي بوزيد، وبعض المجموعات اليسارية، مثل حزب العمال الشيوعي، والتكتل الوطني الديمقراطي.  وأسهمت قيادات الأحزاب القانونية وغير القانونية في دعم التحركات إعلاميا وسياسيا، فيما لعبت المواقع الاجتماعية مثل الفيسبوك دورا حاسما في توفير المادة الإعلامية للفضائيات ووسائل الإعلام.

      لقد لعبت الجمعيات الحقوقية والأهلية غير الحكومية دورا مساعدا للنقابات والأحزاب المعارضة وتجلى ذلك بقيام منظمات حقوق الإنسان في تونس وفي الخارج بمواكبة الانتفاضة ونشر معلومات موثقة عن حجم الخسائر البشرية، وبتحفيز القوى العالمية الأهلية والسياسية الرسمية على اتخاذ مواقف حازمة من النظام. ومن هنا فإن من أهم مواصفات المجتمع المدني الحي تعاضد النقابات والأحزاب مع الجمعيات الأهلية.( )

     وفي مصر عندما بدأ دور حركات التغيير، التي يطلق عليها الحركات الاحتجاجية، يزداد منذ عام 2005، استهان كثير من السياسيين والمراقبين بها. كان ذلك عندما دعا بعضهم إلى إضراب عام في 6 نيسان (أبريل) 2006، وأسسوا حركة أخذت من ذلك اليوم اسما لها.  وقد أسهمت في توفير الأجواء التي خلقت نموذجا جديدا للتغيير في مصر، بعد أقل من خمسة أعوام.

      وقد شهدت تلك الفترة تنامي حركات احتجاجية شتى يعتمد معظمها على الشباب، بالرغم من أن بدايتها كانت تقليدية على أيدي سياسيين كانت لهم تجاربهم في أحزاب وحركات سياسية ومنظمات مدنية في الحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" التي أعلنت في نهاية عام 2004، وكانت بداية لنمط جديد في العمل العام في مصر، يختلف عن الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في شكله وطابعه واتجاهه.

   بدأت الانتفاضة في مصر بتحرك مجموعة شبابية (6 أبريل) التي نشأت بتفاعلها مع حركة الإضراب العمالية في المحلة الكبرى. وتحولت عن طريق الشبكات الاجتماعية (الفيسبوك وتويتر) إلى مجموعات متعاضدة، استطاعت باستخدام العالم الافتراضي تعبئة آلاف المتظاهرين من يوم 25 كانون الثاني| يناير 2011، ومن ثم قامت الأحزاب والنقابات المصرية برفع مستوى التعبئة إلى حد التحدث عن مسيرات مليونية في كل من القاهرة والإسكندرية والسويس، وغيرها. وهنا حالة يتعاظم فيها السياسي والحقوقي المدني على حساب الأيديولوجي. لقد ظن الكثير من الأنظمة وبعض المفكرين العرب والغربيين أن الشارع لا يعبئه إلا الإسلام السياسي. لكن أظهرت الحالتان التونسية والمصرية أن الإسلاميين قوى مهمة، ولكن ليست الوحيدة، وأن قوتها تجاوزت تبسيطية شعار "الإسلام هو الحل" لتطرح قضايا الحرية والديمقراطية كمثيلاتها من الأحزاب المعارضة.( ) 
 
   ولم يتخلف عن تأييد الانتفاضة سوى قيادة المؤسسات الدينية الرسمية، وإن كانت دعوتهم لم تلق تأييدا من جانب المنتمين إليها. حيث انخرط في التظاهرات قيادات أزهرية وكنسية، رغم مواقف قيادتها من الانتفاضة، وتراوح موقف الجماعات السلفية بين تأييد النظام والتزام الصمت.

     وعلى مستوى النقابات والاتحادات المهنية والعمالية وغيرها من التنظيمات، فرغم التأييد الواسع النطاق لأعضاء النقابات المهنية للانتفاضة منذ بدايتها، فقد عارض الانتفاضة رؤوساء مجالس بعض النقابات، وأبرزها نقابات المحاميين والصحفيين والفنانين. وتوضح المفارقة بين موقف القيادات النقابية وقاعدتها، حيث جاء بعضها بدعم من النظام، وكذلك بالرغم من اندماج قطاعات عريضة من العمال في الانتفاضة، فقد ظل الاتحاد العام للعمال- بطابعه الحكومي- كما هو متوقع مؤيدا للنظام، لكن قدم العمال إسهاما بارزا تمثل في العصيان المدني الذي عجل بسقوط النظام، وغابت عن تأييد الانتفاضة، الاتحادات الصناعية والغرف التجارية، وانخرط معظم رجال الأعمال في تأييد النظام، وشارك بعضهم في الجرائم التي ارتكبها الحزب الوطني ضد المنتفضين.( ) وهذا يعكس البعد الطبقي لهذه المواقف من الانتفاضة.

      لقد ساهمت تلك السمات في نجاح الانتفاضتين حيث هبت العاصفة من داخل العالم الافتراضي على النظام السياسي المتجمد الذي لم يتوقعها. غير أنها سرعان ما تحولت إلى عبء عليها تبدى في بطء حركتها أو عدم جذريتها، ذلك أن الأفكار، مهما كانت جاذبيتها، لا تستطيع سوى أن تلهم وتحفز ولكنها لا تستطيع أن تحكم وأن بناء  نظام جديد يظل بحاجة إلى قيادة مباشرة في عالم واقعي وليس افتراضيا، وهي القيادة غير القائمة. ومن ثم كانت مفارقات ما حدث يوم 25 يناير بالذات دفعت البعض للقول بأن ما حدث نصف ثورة لأنها لم تتسلم الحكم والقيادة.( )

      أما الانتفاضات والحركات الاحتجاجية التي شهدتها البلدان العربية الأخرى فرغم دوافعها العامة التي تشترك بها مع كل البلدان العربية من حيث تسلط الأنظمة الأستبدادية وغياب الحريات والتداول السلمي للسلطة ونهب الموارد العامة والفساد الإداري والمالي والسياسي والإقصاء والتهميش لكنها امتلكت سمات خاصة. ففي اليمن وبسبب بنية المجتمع حيث يكون للقبيلة حضورا قويا على المستوى الاجتماعي والسياسي وامتداده إلى بنية الجيش إضافة إلى العوامل الدولية والإقليمية المتمثلة بالمبادرة الخليجية التي تهدف لتجنب سقوط النظام على الطريقة التونسية والمصرية خوفا من انتشار ذلك النموذج في دول الجوار أي الخليجية بالتحديد سلكت الانتفاضة مسلكا آخر.  وفي البحرين فإن الاحتجاجات بالرغم من جذرها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي فقد لبست طابعا طائفيا وهذا ما صب في مصلحة النظام الحاكم حيث استثمر ذلك للتلويح بخطر تمزق المجتمع نتيجة الصراع الطائفي رغم مشاركة الكثير من المكونات الأخرى في التظاهرات منها اليسار ومكونات من السنة وهتاف المتظاهرين "لا سنية ولا شيعية فقط  بحرينية".

     في الأردن ضمت المسيرات في قلب العاصمة أغلب القوى السياسية المنادية بالإصلاح والفاعلة بالشارع، سواء من الأحزاب مثل حزب الوحدة الشعبية، والحزب الشيوعي، والبعث الاشتراكي، أو من حركة المعارضة الكبرى في البلاد جماعة الإخوان المسلمين، أو القوى المعارضة الجديدة، مثل حركة المعلمين والمتقاعدين العسكريين، والقومي التقدمي، وحركة "جايين" (الحملة الأردنية للتغيير).( )  وقد ارتفع سقف المطالب من إسقاط الحكومة وحل البرلمان إلى رفع شعارات تطالب بملكية دستورية وأحداث تغييرات  جوهرية في بنية النظام السياسي وليس شكلية تتمثل بتغيير الحكومات كما حصل في فترات سابقة.

    وفي المغرب فقد عرفت حركة 20 فبراير، التي تكونت من ناشطين على الفيسبك ومدونين، نفسها بأنها حركة سلمية مستقلة عن الأحزاب والتنظيمات السياسية والدينية والنقابية في الداخل والخارج، واعتبرت نفسها معبرا تلقائيا عن تطلعات فئات واسعة من المجتمع. وإذا كان الإعلان عن تأسيس الحركة قد قوبل بدعم بعض النخب والأحزاب السياسية والهيئات النقابية والمدنية، مثلما هو الشأن بالنسبة لأحزاب اليسار الديمقراطي وتنظيماتها وجمعياتها الموازية، وفصائل من شبيبة أحزاب الإتحاد الاشتراكي والعدالة والتنمية ونقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وجماعة العدل ولإحسان ذات التوجه الإسلامي، فقد ساد طابع من الحذر والشك والتحفظ مواقف غالبية الأحزاب السياسية، سواء المشاركة في الحكومة أو المعارضة، حيث اعتبرتها شكلا من التقليد لما يحدث في مناطق أخرى.

     إن النقاشات التي أعقبت احتجاجات 20 فبراير في المغرب، وما سبقها من تحولات في مناطق عربية أخرى، تنطوي على أهمية كبرى، بالنظر إلى كونها أعادت موضوع الإصلاح والتغيير بقوة إلى الواجهة، وسمحت ببروز أصوات وتصورات نخب كثيرا ما ظلت مغيبة عن النقاش العام، نتيجة التهميش والإقصاء الذي عانته. كما سمحت أيضا بتجاوز طرح النقاشات داخل مجالس النخب السياسية والحزبية أو المثقفة إلى حديث يومي لمختلف فئات ومكونات المجتمع المغربي.( )

      يبدو أن التغيير في المغرب يتجه نحو نموذج الإصلاح السياسي التدريجي  ويتوقف نجاح هذا النموذج إلى حد بعيد على قبول وتطبيق الإصلاحات الدستورية والسياسية التي استهلت بالاستفتاء الشعبي على الدستور الجديد الذي أقر بغالبية ساحقة في1 تموز| يوليوز 2011 والذي قاطعته حركة 20 فبراير وبذلك لم يكن بالإمكان معرفة وزنها الجماهيري. وطبقا للدستور الجديد يتم اختيار رئيس الوزراء من الحزب الفائز في الانتخابات ويتمتع بصلاحيات أوسع من السابق بعد أن رحلت بعض من صلاحيات الملك له رغم أن الأخير ظل يتمتع بصلاحيات مهمة. كذلك توسعت صلاحيات البرلمان في التشريع والمراقبة. وفي تقديرنا يعود هذا الاتجاه إلى أن المغرب كان يتمتع بهامشا مهما من الحريات منها حرية التعبير وحرية الصحافة. وبعد الإصلاحات السياسة في بداية التسعينات سيطر تحالف القوى اليسارية الذي تشكل من حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية (الحزب الشيوعي المغربي) على البرلمان وشكلوا الحكومة وإلى الآن.

___________________________________________________

  - ساري الحنفي، ثورتا الياسمين والميدان: قراءة سوسيولوجية، إضافات، العدد 13، 2011، ص 6.
  - للمزيد راجع العربي صديقي، تونس: ثورة المواطنة.. "ثورة بلا رأس"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، www.dohainstitute.org
  - ساري الحنفي، ص 6-7.
  - نفس المصدر، ص  7.
  - نفس المصدر، ص  7.
  - محمد عوض وآخرون، الانتقال إلى الديمقراطية في الوطن العربي، المستقبل العربي، العدد 388، 2011، ص 65.
  - صلاح سالم، مسارات وآفاق موجة التحرر العربي!، شؤون عربية، العدد 146، 2011، ص 36
  - محمد أبو مازن، الصفقة المزدوجة: التغيير في الأردن، السياسة الدولية، العدد 184، 2011، ص 81.
  - للمزيد راجع إدريس لكريني، محاسبة الديمقراطية: التداعيات المحتملة لاحتجاجات حركة 20 فبراير في المغرب، السياسة الدولية، العدد 184، 2011، ص 91-92.


63
القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية 1-3

                                                                                                                            د. هاشم نعمة
                                                                                                           
      طرح اندلاع الانتفاضات الشعبية في العديد من البلدان العربية الكثير من الأسئلة ذات الأبعاد النظرية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية عن أسباب اندلاعها وقواها الفاعلة وتزامنها في هذا الوقت بالتحديد. وبما أن الانتفاضات حتى التي نجحت في إسقاط قيادات الأنظمة الاستبدادية لا تزال في طور الحدث غير المكتمل المتمثل في بناء أسس دولة مدنية ديمقراطية. إذن تبقى الإجابة عن هذه الأسئلة عملية مستمرة ومفتوحة ولا تكتمل لحظتها إلا بتعمق مسيرة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تصب في ذات الهدف. وبما أن الانتفاضات يقتضي دراستها بأبعادها المتعددة المركبة والمتبادلة التأثير التي خلقت حالة التراكم الذي أدى إلى اندلاعها وتسهيلا للبحث يمكن تناول بعض محاورها الهامة مثل المحور الذي تم اختياره عنوانا.
                                         مفاهيم نظرية
      من بين النقاشات الفكرية والسياسية الدائرة الآن حول الانتفاضات تلك التي تردى بأن المفاهيم النظرية الحديثة والمعاصرة لا تسعفنا كثيرا في تفسير وتحليل أسبابها وتوقع حدوثها والقوى الفاعلة فيها وملامح المرحلة الانتقالية التي تعقب نجاحها. وهذه في تقديرنا لا تأخذ في الاعتبار كثيرا السمات العامة للبنية الاجتماعية-الاقتصادية الطبقية في البلدان العربية حيث هناك تماهٍ في الحدود بين الفئات والطبقات الاجتماعية. وهذا عائد إلى أن هذه المجتمعات لم تشهد تحولات اجتماعية واقتصادية عميقة تساهم في تشكيل ملامح هذه الفئات والطبقات. وهذا ينعكس بالتأكيد على الأدوار السياسية التي تضطلع بها سواء في زمن الأنظمة الاستبدادية أو بعد سقوطها.
     اعتبر ماركس استخدام الأساليب السلمية أو العنفية أثناء الثورة مسألة تتعلق بالإستراتيجية والتكتيك التي تسعى لتحقيق أهداف الثورة. إذ تحدد الشروط  الاجتماعية والتاريخية في مكان وزمان معينين الأساليب التي يتعين استخدامها، وإن لم يسقط إمكانية استخدام العنف.( ) وفي حمأة الصراع الأيديولوجي، ظهر الكثير من الأطروحات الماركسية التي تجعل من الحركات الاجتماعية المحرك الفعلي للتاريخ مزيلة عنها تهمة "الجريمة" ومدرجة إياها في الشروط الموضوعية لبناء المجتمع الاشتراكي. فهذه روزا لوكسمبورغ تقول إن "الحركات الشعبية ناجمة عن قوة طبيعية تجد منبعها في الصراع الطبقي للمجتمع العصري"، فالأمر لا يتعلق بجماهير مجرمة، بل بنتاج موضوعي لفصول من الاستغلال والتوزيع غير العادل للثروات.( ) إن التراكم المعرفي الذي نتج في مجال الحركات الاجتماعية الاحتجاجية لم يسلم كثيرا من الأيديولوجيا؛ فالحركات الاجتماعية ظلت لزمن بعيد مصطبغة برهانات الصراع الدائر سابقا بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، مما أنتج قراءات ماركسية أكثر انتصارا للحركات الاجتماعية، باعتبارها صراعا طبقيا وجسرا نحو التغيير، وأخرى رأسمالية لا ترى فيها إلا "عدوا احتياطيا" يتوجب التخلص منه في أقرب فرصة تتيحها شروط التاريخ. بل إن تحليل الحركات الاجتماعية في الأدبيات الفرانكفونية ظل إلى حدود سبعينات القرن الماضي مرتبطا بالمقاربة الماركسية( ) التي تسربت إلى العلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بالأخص ولا تزال تستخدم كمنهج للتحليل حتى بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
    ونجد (زيجمونت) في مراجعته لنظريات الثورة، بعد هبوب رياح التغيير على أنظمة الحكم في أوروبا الشرقية، يفرق بين الثورة السياسية التي تتعلق بتغيير طريقة إدارة الحكم وتأثيره في النظام الاجتماعي، وبين الثورة النظامية التي تتعلق بتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية التي يقوم عليها النظام. وقد جعل هذين النوعين نمطين مثاليين تقع الحالات الواقعية للثورات على الخط الواصل بينهما.( )
      منذ عام 1995، بدأ بوردو ينظر للحركة الاجتماعية الجديدة، ويناضل في أطرها المختلفة. مقدما بذلك النموذج الناصع للمثقف العضوي بالمفهوم الغرامشي، رافضا الليبرالية الجديدة كليا، ودليله في هذه المعركة ما انتهى إليه من مقاربات سوسيولوجية وما يؤمن به من التزام سياسي. ففي ذات السنة، عمل على تأسيس الحركة الاجتماعية الأوروبية بعيدا عن الأحزاب التقليدية، بما فيها الأحزاب القادمة من اليسار. فما ألفه من الكتب العميقة، جعله ينتصر للحركات الاجتماعية الجديدة، محتجا على العولمة والرأسمالية المتوحشة.( )
    هذا يؤكد أن الاهتمام النظري بالانتفاضات والحركات الاحتجاجية لم يكن غائبا تماما كما يدعي البعض وبأن حدوثها لا يشكل "صدمة نظرية" بسبب عدم توقعها في هذا الوقت بالتحديد. حيث يرى صادق جلال العظم بأنه "ليس من مهمات الفكر السياسي أن يتنبأ أو يصدر أحكاما قاطعة. فهو يمكنه أن يكون دقيقاً ومنظماً وعلمياً بقدر نسبي. ويمكنه أن يرصد عوامل الظواهر والحوادث وخلفياتها، ويقدم بعض التوقعات. أما التنبؤ فنادراً ما يكون صحيحا، إلا بالمصادفة."( ) ولكن هل نحن بحاجة لتطوير مفاهيمنا النظرية استنادا لما يستخلص من دروس الانتفاضات؟ نعم لأن المفاهيم النظرية تتطور وتغير أو تعدل من مضمونها ومن أشكال تطبيقها تاريخيا مع تطور الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي أنتجها كما تتطور مع تبدل المكونات التي تدخل فيها والحاجات الجديدة التي ترد عليها حسب برهان غليون.
     بالنظر إلى التطورات التي تشهدها المنطقة العربية، نجد أنها تستدعي مجموعة من المفاهيم النظرية، مثل مفهوم الثورة والعدوى والحروب الثورية، والتي ساد اعتقاد بين المتخصصين بأن نجمها قد أفل. حيث كان هناك تيار من الأكاديميين قبل اندلاع الانتفاضات يفضل تصنيف النظم السياسية العربية على أنها من النظم المستقرة. ولكن حالة الثورة تفيد بأن حالة الاستقرار تلك، والتي استمرت في بعض الحالات ما يزيد على 40 سنة، لم تعبر عن استقرار حقيقي، بقدر ما عبرت عن حالة من الركود، وأن تغيير الحكومة أو النظام ليس بالضرورة مؤشرا على عدم الاستقرار، بل قد يعبر عن حالة من الاستقرار السياسي الحقيقي في النظام، كما هو حال النظم الديمقراطية، فعدم التغيير في العديد من الدول العربية عبر عن غياب استقرار سياسي حقيقي فيها( ) وليس العكس.     
     ساهمت بعض المفاهيم دون توقع انفجار الانتفاضات. بعد أن تمادى التحليل في تركيب ترسانة من المفاهيم التي لا يقارب مجتمعا عربيا دون الاستعانة بها. وهكذا تم مثلا  ترويج مفهوم "التجانس المجتمعي| الثقافي" بصفته شرطا مسبقا كي يحدث التغيير. كما تم البناء على "المقولة" التي ترى أن القرب الجيو- إستراتيجي من مركز الصراع العربي-الإسرائيلي يحفظ للأنظمة سلامتها ويقيها من السقوط تحت ضغط  شعوبها. استندت نظرية التجانس "الثقافي" إلى معطى مفترض يتمثل في أن التجانس المجتمعي هو شرط  لا بد منه كي تتوافر إمكانات التغيير السياسي في المجتمعات العربية. وبالاستناد إلى هذا المنطق، لم يكن تغيير السلطة مدرجا من تحت ما دامت الغالبية الساحقة من المجتمعات العربية "مركبة" من مكونات "موروثة"، مثل القبيلة والإثنية والطائفة. وهذه التكوينات، بحسب المنطق نفسه، كابحة للتغيير لأن ديناميتها الأساسية انقسامية عمودية من جهة أولى، وتتمثل من جهة ثانية، في إعادة إنتاج بسيطة لشروط استمرارها على حالها.
     هذا المفهوم يتم إسقاطه على الدينامية الاجتماعية وعلى مكوناتها دونما اعتبار للتحول الحاصل في البنية الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية والثقافية والذهنية في المجتمعات العربية. والمفهوم في هذا المعنى لا تاريخي لأنه يتعامل مع المكون "الثقافي" بصفته ثابتا ومحددا لهذه المجتمعات؛ كيف يمكن لهذه المكونات أن تبقى ثابتة على الرغم من انتشار آليات السوق والتعليم الحديث ووسائل التواصل والهجرة من الريف إلى المدن والاندماج في بنية السلطة؟ ولماذا يبقى المكون "الثقافي" منطلقا للتحليل فيما آليات التمييز والعزل والتهميش الاجتماعي والسياسي هي التي تكون موضع الشكوى؟( ) إذن هذا المفهوم ينظر للبنية الاجتماعية ككتلة جامدة بعيدة عن التطور والتحول وبهذا المعنى يخرجها من سياق التحليل المادي العلمي بمجالاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.   

___________________________________

  - للمزيد راجع محمد صفار، إدارة مرحلة ما بعد الثورة.. حالة مصر، السياسة الدولية، العدد 184، 2011، ص 19.
  - للمزيد راجع عبد الرحيم العطري، سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية، إضافات، العدد 13، 2011 ص 20.
  - نفس المصدر، ص 18-19.
  - محمد صفار،مصدر سابق، ص 19.
  - عبد الرحيم العطري، ص 28.
  - للمزيد راجع  www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?aid
  - للمزيد راجع إيمان أحمد رجب، اتجاهات نظرية، ملحق السياسة الدولية، العدد 184، 2011، ص 4-5.
  - للمزيد راجع جاك أ. قبانجي، لماذا "فاجأتنا" انتفاضتا تونس ومصر؟ مقاربة سوسيولوجية، إضافات، العدد 14، 2011، ص 18-19.

64
يوم الشهيد تحية وسلام          بك والنضال تؤرخ الأعوام   
           
     تقيم منظمة الحزب الشيوعي العراقي ومنظمة الحزب الشيوعي الكردستاني وصندوق دعم عوائل الشهداء وملتقى الأنصار البيشمركة في هولندا احتفالية استذكارية بمناسبة يوم الشهيد الشيوعي، وبهذه المناسبة ندعوكم للمساهمة بحضور هذه الفعالية وذلك يوم السبت الموافق 11 شباط 2012.
الدعوة عامة
الـــــــــــــــــوقت : الثانية عصراً
الـــــــــــــــعنوان :اسم القاعة
De Groene L oper             
        Van Royenstraat 2           
2273 VD Voorburg         
المكان قريب جدا من موقف الترام خمسة دقائق مشياً
للوصول ترام رقم 2 من المحطة المركزية – دنهاخ المتجه الى
 والنزول في الموقف Leidschendam   
 والدخول في الشارع Mgr.Van steelaan
  الذي يتصل بالشارع الذي توجد به القاعة .Jan Mulder straat
للمزيد من المعلومات يرجى الانصال بالأرقام التالية :
0643525313

65
     
  تأجيل حفل توقيع الرواية الجديدة "القوقص" للروائي الأستاذ جاسم المطير 

   الأخوات والأخوة الأعزاء بسبب ظروف فنية طارئة تقرر تأجيل حفل توقيع الرواية الجديدة "القوقص" للروائي الأستاذ جاسم المطير والذي كان من المقرر تنظيمه يوم الأحد الموافق 5 شباط 2012 في أمستردام.
نعتذر عن هذا التأجيل الخارج عن إرادتنا.
مع خالص التقدير والاحترام
لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا
 

66
بيان  صادر عن قوى التيار الديمقراطي العراقي في أوروبا


    عقد في العاصمة السويدية ستوكهولم في 11-12-2011، لقاء تشاورياً جمع ممثلي قوى التيار الديمقراطي في كل من هولندا والدنمارك والسويد، إضافة إلى ممثلي اللجنة التحضيرية للتيار الديمقراطي في النرويج. تدارس المجتمعون سبل تنشيط العمل الديمقراطي العراقي في البلدان الأوربية. إضافة إلى تعضيد التوجهات السياسية والاجتماعية والثقافية بما يخدم حركتها ويسهم في دعم العمل الديمقراطي في العراق.

    أكد المجتمعون على أهمية العمل والتنسيق المشترك فيمـا بين قوى التيار وتوسيع نشاطه ليشمل جميع الديمقراطيين في بلدان المهجر. على أن تتم العناية الخاصة بالجهد النوعي الإعلامي، كتنظيم الاعتصامات والمظاهرات وإصدار البيانات وغيرهـا من الأنشطة ذات التأثير  المحلي والدولي.  ومن جانب آخر  أكد ممثلو قوى التيار على العمل المشترك مع مختلف منظمات المجتمع المدني والقوى والأحزاب والشخصيات الوطنية والديمقراطية المنضوية تحت التيار والمساندة لنشاطه.  والتي تؤمن بالديمقراطية فكراً وممارسة، والمؤمنة بضرورة إخراج العراق من محنته  وأزماته المعقدة التي يواجهها  بسبب الطائفية وسياسة المحاصصة وحالة الفساد المستشري الذي طال جميع مرافق الحياة، إضافة للإرهاب المبرمج الذي يحصد مئات الأرواح البريئة.

    وتم التأكيد في الإجتماع على أهمية الإستمرار في بذل الجهود المشتركة من أجل تشكيل لجنة تنسيق للتيار الديمقراطي على صعيد أوروبا. مع تبادل الخبرة في تجربة عمل التيار ومراعاة ظروفه في الدول المختلفة. وتعرض المجتمعون إلى الدور الذي تلعبه المعلوماتية الثقافية في تنشيط العمل الديمقراطي المشترك،  وبهذا أقترحوا أنشاء موقع اليكتروني خاص بالتيار الديمقراطي يكون نواة لمركز صحافي  لجميع قوى التيار في الخارج. على أن تتم الاستفادة في المرحلة الحالية من موقع التيار الديمقراطي في هولندا لنشر كل نشاطات وفعاليات التيار في أوروبا.

ستوكهولم
11-12-2011،

لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولـندا
تيار الديمقراطيين العراقيين في الدنمارك «العراق يستحق الأفضل»
لجنة تنسيق قوى التيار الديمقراطي في السويد / استوكهولم
ممثلو اللجنة التحضيرية للتيار الديمقراطي في النرويج

67
     
بيان التيار الديمقراطي العراقي في هولندا حول التفجيرات الأخيرة

     في أجواء مشحونة سياسيا وأمنيا تأتي التفجيرات الإرهابية الدامية التي هزت العديد من مناطق بغداد يوم الخميس 22 كانون الأول 2011 والتي روعت أبناء شعبنا الأبرياء وراح ضحيتها الكثير من الشهداء والجرحى وخسائر مادية جسيمة لتضيف بعدا جديدا لاستعصاء  وتعقد العملية السياسية ولتؤكد من جديد عدم جدية الكتل السياسية المتنفذة في السلطة على حل مشاكلها بروح وطنية تخدم مصالح العراق حاضرا ومستقبلا. إن الصراع اللا مبدأي على السلطة والنفوذ والثروة والتخندق الحزبي والطائفي والقومي والمناطقي الضيق يضع البلاد على حافة الهاوية ويزيد بدورة من حدة الاستقطاب الطائفي الذي يمكن أن يمهد لحرب أهلية لا تعرف نتائجها إذا ما تم تجاهل تحكيم العقل وطرح المعالجات السريعة التي تستند على الثوابت الوطنية وليس على استقواء طرف ضد آخر. ومن هنا تأتي الحاجة الملحة لعقد مؤتمر وطني يضم كل الأطراف المشاركة في السلطة أو التي خارجها لدراسة السبل والآليات الكفيلة بمعالجة الاختلالات البنيوية الخطيرة في العملية السياسية وطرح بدائل تستند إلى المشروع الوطني الديمقراطي غير القائم على المحاصصة الطائفية والقومية.
     في الوقت الذي ندين هذه التفجيرات الإجرامية والجهات الجبانة اليائسة التي تقف من ورائها والتي لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكون لها انتماءا حقيقيا لتربة هذا الوطن نحمل الكتل السياسية المتنفذة المسؤولية في خلق هذه الأجواء المشحونة التي ينتعش فيها الإرهاب ونطالب الجهات الأمنية المسؤولة تحمل مسؤوليتها في حماية أرواح وممتلكات المواطنين والتصدي للإرهاب بكل أشكاله.
    ونتوجه إلى أبناء  شعبنا الوفي لليقظة والحذر مما يخطط  له وعدم الانجرار لردود أفعال يريدها من يخطط وينفذ هذه العمليات الإرهابية لتفتيت وحدة البلاد وإدخالها في أتون حرب داخلية طاحنة تدمر كل منجزات العراق الحضارية والثقافية.
    نتقدم بأحر التعازي لذوي الشهداء ونتمنى للجرحى الشفاء العاجل.
لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا
23-12-2011 

68
في هولندا مناظرة حول آفاق النظام الفدرالي في العراق
ينظم التيار الديمقراطي العراقي في هولندا مناظرة حول آفاق النظام الفدرالي في العراق.
يستضيف فيها كل من:
-   الأستاذ جاسم المطير
-   د. تيسير الآلوسي
-   الأستاذ شاخوان الحاج سعيد
-   د. هاشم نعمة
-   الأستاذ نهاد القاضي (إدارة المناظرة)
للحديث حول المحاور التالية:
-   مفهوم وتطبيقات النظام الفدرالي من منظور التجارب العالمية.
-   تجربة إقليم كردستان وعلاقته بالحكومة الاتحادية.
-   آفاق تطبيق النظام الفدرالي في محافظات العراق الأخرى.
                                     الدعوة عامة
لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا
الوقت: الجمعة الموافق 2 كانون الأول| ديسمبر 2011، تفتح القاعة الساعة 19:00 وتبدأ المناظرة الساعة 19:30
المكان: قاعة النادي الثقافي المندائي في دنهاخ (لاهاي)

العنوان
Ivoorhorst 155
2592 TH  Den Haag
للوصول إلى القاعة ترام رقم 6 من المحطة المركزية في دنهاخ والمتوجه إلى
Leidschendam—Leidsenhage
 والنزول في منطقة
 Reigers bergen weg
للمزيد من المعلومات يمكنكم الاتصال بالرقم: 0640329472 أبو سيزار





69

قراءة في كتاب "الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية" 3-3


                                                                                                                       د. هاشم نعمة

     آخر فصول الكتاب وهو السابع يحمل عنوانا ذا دلالة هامة وهو "خرافة السوق ذاتي التنظيم". حيث يذكر الكاتب إلى أنه بعد عقود من الاعتقاد في أن نجاح السوق الحرة ونجاح عمليات التحول إلى اقتصاد السوق يعتمد على إخراج الدولة من كل المجال الاقتصادي وتركه حرا من سيطرتها، يعود البنك الدولي إلى رشده فجأة ويهتدي إلى حقيقة ويقول: "في غياب مؤسسات تمنح سندات ملكية الأراضي ضمانا لحقوق الملكية لا يستطيع الفقراء استخدام أصول قيمة من أجل الاستثمار والنمو"، لاحظ أن الفقراء سيقومون بالاستثمار لا بالعمل مستخدمين سندات ملكية الأراضي وكأنهم مضاربين في سوق العقارات؛ كثيرا ما نجد في تقارير البنك الدولي تعبيرات بلهاء مثل هذه. ويستمر البنك في القول: "وفي غياب مؤسسات قضائية قوية تنفذ العقود يجد منظمو المشروعات أن كثيرا من أنشطة الأعمال محفوفة بمخاطر مفرطة. وفي غياب مؤسسات فعالة لتنظيم الإدارة تكبح جماح المديرين، قد تبدد الشركات موارد المساهمين. هذه المؤسسات هي مؤسسات الدولة، والبنك بذلك يركز على ضرورة ضمان الدولة للسوق الحرة، ويطلب منها تشريعات وقرارات وإدارة تسهل آلياتها ؛ والملاحظ أن هذا السوق لن يعد بذلك حرا بل سوف يكون مفروضا من الدولة مثله مثل الأنظمة الشمولية تماما.
    يريد البنك الدولي من الدولة أن تقوم بوظائف الدولة الليبرالية في القرن التاسع عشر، وعلى الأخص النموذج الإنكليزي. والملاحظ أن هذا النموذج تعرض للنقد من قبل معظم المفكرين اليساريين وأولهم ماركس حيث وجه النقد لعملية تكوين السوق الحرة، إذ كان معاصرا لها ومتابعا لوقائعها يوميا، وبالإضافة إلى مؤلفاته المهمة، كانت تعليقاته تنشر على القوانين والتشريعات الموضوعة لخدمة السوق الحرة في الصحف التي كان يكتب بها. وكذلك المفكر الإنكليزي هارولد لاسكي وكارل بولاني وآخر نقاد هذا النموذج هو جون جراي.
      الحقيقة أن الرأسمالية العالمية تقدم نفسها الآن في صورة مؤسسات مالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن تغيرا جذريا قد حدث لها. فبعد أن كانت الدول الاستعمارية هي التي تباشر عملية التوسع الرأسمالي العالمي منذ القرن السابع عشر وذلك عن طريق التدخل المباشر بالجيوش، استغنت الرأسمالية الآن عن الاستعمار كأسلوب في الانتشار وظهرت بدلا منه المؤسسات المالية العالمية. والمهمة الأساسية لهذه المؤسسات هي نقل رأس المال من مركز النظام الرأسمالي إلى أطرافه إما بشكل قروض أو استثمار مباشر وجعل هذه الأطراف مجالا خصبا لتحقيق الأرباح التي تصب كلها في المركز. وهذا ما جعل عدد من الاقتصاديين مثل سمير أمين وإرنست ماندل وديفيد هارفي يصفون الأرباح الطائلة للاستثمار المباشر وخدمة الدين بأنها شكل جديد من أشكال الخراج تدفعها الأطراف التابعة للمراكز المسيطرة. 
     أصبح تعامل المؤسسات المالية الرأسمالية العالمية مع الأطراف التابعة لها مباشرا دون وسيط من أي دولة رأسمالية معينة، فهي بذلك ممثلة لرأس المالي العالمي، وأصبحت هي التي تباشر عملية الربط بين المراكز الرأسمالية الغنية والأطراف الفقيرة. وأدواتها الأساسية في التحكم هي السياسة النقدية التي تفرضها على الدول المدينة. وقد شاع في الآونة والأخيرة استخدام كلمة "الكازينو" أي نادي القمار، أو "رأسمالية الكازينو" لوصف أنشطة رأس المال العالمي من المضاربات الشبيهة بلعبة القمار. ولأن المؤسسات هذه تنسق فيما بيتها وترتبط مع بعضها بسياسات خاصة فهي في الحقيقة تشكل ساحة عالمية للمضاربات، إنها ليست سوى ناديا للقمار الدولي يحاول إعادة بناء الدولة كي يضمن عمل اقتصاد السوق.
    يشير بولاني إلى أن اقتصاد السوق لا يكون ذاتي التسيير وفقا لقوانين خاصة به إلا بفضل تشكل المجتمع كله على أساس أنه مجتمع سوق. لكن ماذا يحدث عندما يتحول السوق إلى سوق عالمي؟ سوف تظهر ضرورة أن تنظم جميع المجتمعات في العالم نفسها وفق هذا السوق العالمي، وهذا ما يريده البنك الدولي في تقريره.   
     الحقيقة أن ما يحتاجه السوق العالمي هو سلعا ذات طابع تكنولوجي ورفاهي عالي، وهي مواصفات ليست موجودة في منتجات الدول الفقيرة، نظرا لاحتكار التكنولوجيا والأسرار الصناعية من قبل الدول الكبرى تحت ادعاء قوانين الملكية الفكرية. إذا لم يتمكن الفقراء من إنتاج سلع عالية التكنولوجيا والجودة لن يتمكنوا من دخول السوق العالمي. البنك الدولي إذن يعصف بالنظريات الأخرى القائلة إن الطريق نحو التنمية يتمثل في تحقيق الاكتفاء الذاتي النسبي والتنمية بمصادر وإمكانيات محلية وبناء علاقات اقتصادية متوازنة.
      لقد اكتشفت المؤسسات الرأسمالية أن الحراك العالمي لرأس المال يتطلب بالمثل حراكا عالميا للعمالة كي يستطيع توظيفها أينما ذهب؛ حيث يتحدث البنك الدولي عن الفقراء ويقول أن حل مشاكلهم هو الدخول في السوق العالمي - بعد أن كانت نظريات التنمية تضع علاج مشكلة الفقر في تصنيع المجتمع وتحديثه- في حين أنه يهدف في الحقيقية مساعدة الحراك العالمي لرأس المال بخلق حراك عالمي مثيل في صورة عمالة دولية رخيصة سهلة التحرك من مكان لآخر يستطيع رأس المال جلبها معه أينما ذهب. إذا حدث ما يأمل فيه البنك الدولي من أن يكون فقراء العالم متاحين أمام رأس المال الدولي باعتبارهم عمالة دولية رخيصة، فإنه يكون بذلك قد ساعد على تكوين بروليتاريا عالمية.
    وفي خاتمة الكتاب يخرج المؤلف بخلاصة هامة تقول: يجب أن يكون المجتمع نفسه هو المتحكم في مصيره ولا يتركه للمصالح الربحية لرجال الأعمال والاستثمارات الخاصة. إذا كان المجتمع هو صاحب المصلحة في توفر الوظائف والسلع، فلماذا يفرض على هذه المصلحة أن تحقق عرضا ودائما بتوسط فئة قليلة من رجال الأعمال تسعى لتنمية أرباحها الشخصية؟ إن توفر الوظائف والسلع هدف اجتماعي، فلماذا نترك الخاص يتحكم فيما هو اجتماعي؟ أيجب أن تتحقق الأهداف الاجتماعية دائما بتوسط المصلحة الخاصة؟ إن ما هو اجتماعي يجب تحقيقه وإدارته اجتماعيا.
   


70

قراءة في كتاب "الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية" 2-3

                                                                                                                                   د. هاشم نعمة

     يلمح آدم سميث إلى أن حرية التجارة والحرية الاقتصادية بوجه عام هي السبيل نحو إقامة سلام عالمي، ذلك لأن الاحتكارات التجارية هي السبب الرئيسي في الصراعات المسلحة بين القوى الأوروبية في المستعمرات، وإن إتاحة الحرية المطلقة للتجارة أمام الجميع سوف تحل التنافس الشريف محل الصراع الاستعماري. وكانت فكرة سميث هذه هي التي التقطها كانت وأسس عليها كتابه "مشروع للسلام الدائم". ويستمر المدافعون عن العولمة الآن في التركيز على نفس هذا الربط  بين الأفكار، مركزين على أن الحرية الاقتصادية هي السبيل للقضاء على الصراعات وتوحيد العالم، لكنهم يعتمدون على الحقيقة المؤلمة بأن الحرية الاقتصادية التي يقصدونها هي حرية الاحتكارات عابرة القوميات في العمل أينما شاءت وكيفما شاءت دون قيود، وأن السلام العالمي الذي يقصدونه هو في حقيقته أمنا عالميا لرأس المال، وأن توحيد العالم الذي يقصدونه هو توحيده تحت راية رأس المال العالمي.
     وقد أوصى سميث بأن تصبح المستعمرات سوقا مشتركا بين كل القوى الاستعمارية وهذا هو المعنى الحقيقي لفكرة العولمة التي يتم الدعوة لها الآن على أنها سوق حرة عالمية. بحيث تكون القوة الاستعمارية الأكبر، أي الأكفأ والأقدر على المنافسة بتعبير سميث، هي الأنجح في المستعمرات. ولا شك أن هذه السياسة كانت مفيدة لبريطانيا في عصر سميث، لأن بريطانيا كانت قادرة بالفعل آنذاك على منافسة القوى الاستعمارية الأخرى في مستعمراتها.  وبذلك نرى كيف أن السياسات الليبرالية الاقتصادية تصدر دائما من القوي اقتصاديا بهدف منحه حرية للحركة. وهذا المعنى الحقيقي لليبرالية الاقتصادية الآن؛ إنها ليبرالية بين الأقوياء، لا بين الأقوياء والضعفاء.
     إن السوق العالمي هو السوق الذي تتحكم به الشركات العابرة للقوميات والقارات والاحتكارات العالمية، السوق العالمي للأوراق المالية الذي تسيطر عليه المؤسسات المالية لرأس المال الدولي: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. هذا السوق لا ينتهي بالسلع الاستهلاكية، بل يبدأ بالمال وينتهي بالمال، المال الزائد بالطبع؛ وتتمثل وظيفته الأساسية في إنتاج المزيد من النقود عن طريق النقود بصرف النظر عن الطريقة التي تزداد بها.
   في الفصل الثالث يشير المؤلف بأن علم الاقتصاد منذ النصف الثاني من القرن العشرين بات يسيطر عليه اتجاه يسمى بالاقتصاد النيو كلاسيكي، وهو اتجاه يختزل العملية الاقتصادية إلى آليات السوق من عرض وطلب، وينظر إلى السوق على أنه مجال مستقل بذاته ومسيرا ذاته بذاته، عازلا بذلك أي تأثير من المجتمع أو بنائه السياسي؛ كما ينظر هذا الاتجاه إلى المجتمع ذاته على أنه ليس إلا ملحقا للسوق، ويقدم هذا الاقتصاد توصياته بحيث يتم تنظيم المجتمع بكيفية تضمن استقلال السوق وسيره وفق قوانينه الخاصة التي يعتقد في انفصالها عن البناء الاجتماعي. وقد تحول الاتجاه الكلاسيكي الجديد في الاقتصاد إلى عقيدة ورؤية للعالم تبنتها المنظمات المالية والسياسية الدولية من الأمم المتحدة إلى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وكانت هذه العقيدة هي ما يكمن تحت برنامج التحرير الاقتصادي والخصخصة والتحول إلى اقتصاد السوق الحرة والتي فرضتها تلك المنظمات الدولية على العالم النامي والدول الاشتراكية سابقا.   
      إن المشكلة الأساسية التي تعاملت معها الليبرالية الجديدة، والتي ورثتها من الاقتصاد الكلاسيكي الجديد، هي مشكلة القيمة الزائدة: كيف تبرر استحواذ الرأسمالي على تلك القيمة الزائدة التي تسميها ربحا؟ كيف تبرر أرباح الرأسمالية؟ إن تبرير حصول الرأسمالي على الربح من أهم القضايا الحساسة بالنسبة لأي أيديولوجيا مبررة للرأسمالية، وذلك نظرا لأن قضية القيمة الزائدة كانت محل نقد ماركس حيث أعلن منذ أربعينات القرن التاسع عشر أن القيمة الزائدة نتاج للعمل البشري وحده، لكن يستحوذ الرأسمالي عليها بفضل موقعه الحاكم والمسيطر في العملية الإنتاجية، وبفضل علاقة التراتب الطبقي بين رأس المال والعمل المأجور، وبالتالي نظر ماركس إلى القيمة الزائدة على أنها نتاج عمل غير مدفوع الأجر.
     الحقيقة أن الاتجاه الليبرالي في الاقتصاد السياسي لم يكن من إبداع المدرسة النمساوية أو الاقتصاد النيوكلاسيكي، بل إن لهذا الاتجاه جذوره لدى بعض المفكرين الاقتصاديين من القرن التاسع عشر، الواقعين بين ريكاردو من جهة ومنجر وجيفونز ووالراس من جهة أخرى، وهي الفترة الممتدة من عشرينات إلى ستينات القرن التاسع عشر. ومن بين هؤلاء صمويل بايلي ورامزاي ومكالوش روشر. وقد تناول ماركس أعمالهم بالنقد وأسماهم "الاقتصاديون المبتذلون".
    يذهب هايك إلى أن التخطيط  يعتمد على المعرفة الشاملة والكلية بكل تفاصيل الموضوع المراد تخطيطه، وبما أنه لا يمكن الوصول إلى مثل هذه المعرفة نظرا لأنها لا متناهية في التفاصيل والجزئيات، ونظرا لمحدودية المعرفة البشرية والجهل الطبيعي للأفراد، فلا يمكن أن يكون هناك تخطيط، والأفضل أن يترك المرء الأحوال على ما هي عليه، أي يترك نظام السوق الحرة وفق آلياته التلقائية لأنها وحدها الكفيلة بأحداث الرفاهية للجميع وإدخال التوازن بين الناس ومن الواضح كيف تختلط النزعة السفسطائية عند هايك بنزعة قدرية تسلم بالقوانين الحتمية لاقتصاد السوق، ونزعة لا أدرية تنكر إمكان وجود أهداف اجتماعية مستقلة عن المصالح الشخصية. 
     إن فكرة سيادة المستهلك خرافة، لأن السيادة الحقيقية للمؤسسة الاحتكارية وما تنتجه من سلع. ليس المستهلك سوى نتاج الممارسات التسويقية للشركات من دعاية وإعلان وما يصاحبها من دراسات في علم النفس وعلم التسويق. عندما يتحدث الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد عن سيادة المستهلك ويتخذونه النقطة الأساسية في التحليل الاقتصادي فهم بذلك يسيرون في نفس الطريق الأيديولوجي الذي رسمه النظام الرأسمالي، إذ يتم نفاق المستهلك وإيهامه بأنه هو السيد. إن اتخاذ المستهلك عنصرا أساسيا في التحليل يعني أن الاقتصاديين الكلاسيكيين الجدد قد أخذوا صنيعة أيديولوجية زائفة للنظام الرأسمالي كمبدأ في التحليل. صحيح أن المستهلك موجود بالفعل، وصحيح أن سلوكه قابل لأن يقاس ويحلل، إلا أنه السطح الظاهري الأيديولوجي للمجتمع الرأسمالي كما ذهب ماركس من قبل، لا حقيقته الباطنة.
     إن السبب الرئيسي الذي يكمن خلفه هجوم فبلن على مبدأ الملكية الخاصة هو تحولها في عصر الصناعة الكبيرة إلى ملكية غيابية حيث يعرفها بأنها: ملكية أي عنصر إنتاجي من قبل شخص أو عدة أشخاص لا يعملون مباشرة في تشغيله. وحسب هذا التعريف فإن الأسهم والسندات والأنصبة والمال السائل المستثمر في المشاريع كلها وسائل للحصول على ملكية غيابية؛ وأي مشروع مملوك لأناس لا يعملون في تشغيله وإدارته مباشرة هو ملكية غيابية. ووفق هذا التعريف فإن الجانب الأكبر من الاقتصاد المعاصر يعد ملكية غيابية.
    الملكية الغيابية هي ملكية خاصة عند بعد هي السيطرة على عناصر الإنتاج عن بعد. وينتج عن حق ملكية أي عنصر من عناصر الإنتاج حق المالك في أن يحجب هذا العنصر عن توظيفه وإبقائه بعيدا عن استفادة المجتمع منه، ويؤدي ذلك بالتالي إلى البطالة. فالبطالة وفق هذا التحليل ناتجة عن سيطرة الملكية الخاصة على عناصر العملية الإنتاجية، ويكون الحق في استبعاد الآخرين عن الملكية الخاصة هو حق في استبعاد المجتمع كله عن الاستفادة من عناصر الإنتاج الخاضعة للملكية الخاصة. وفي أسلوب تهكمي وساخر يقول فبلن إن الحق الطبيعي للاستثمار هو الحق في فرض البطالة على المجتمع.
     الحق الطبيعي في الملكية الخاصة أصبح هو الحق في طرد العمال للمحافظة على الربح، وتسمى السياسة المنظمة في طرد العمال باسم في غاية الوجاهة والعلمية: "مرونة هيكلية في البناء الوظيفي للمؤسسة". وهذا هو مصير النظام الذي يسمح للملكية الخاصة بالسيطرة على عناصر الإنتاج  التي هي ملك للمجتمع كله. تستولي الاحتكارات على ثروة المجتمع وقواه الإنتاجية ثم تدعي أنها ملكية خاصة وتدافع عن نفسها وفق هذا المبدأ. إن الملكية الخاصة التي قصدها مشرعو القرن الثامن عشر والتي تجسدت كمبدأ في دساتير وقوانين الغرب هي الملكية الصغيرة بما فيها الملكية العينية.
     من هم أصحاب الملكية الغيابية؟ هم فئة في المجتمع أطلق عليها فبلن أسم "الطبقة المترفة"، وهي الطبقة صاحبة الإمكانات المالية الضخمة التي تستطيع بها شراء ممتلكات وعناصر إنتاج لا تنشغل مباشرة بالعمل فيها أو إدارتها بل توظف من يعمل فيها ويديرها عنها. وهي تحصل من ممتلكاتها الواسعة التي لا تعرف عنها شيئا على دخل حر أي دخل لم تكن منشغلة مباشرة في إيجاده بل يصنع لها وهي غائبة. ولا يمكن أن ينفق مثل هذا الدخل الذي أتى بهذه الطريقة إلا على الاستهلاك الترفي. 
    ينتج عن الاستثمارات والائتمان زيادة في الثروة النقدية فقط، وزيادة في القوة الشرائية المباشرة والحالية، لا زيادة في الإنتاج الذي لا يأتي مباشرة بل في المستقبل القريب أو البعيد. يشير فبلن بذلك إلى تناقض بين الاستثمار والإنتاج، حيث يكون لكل منهما منطق مختلف وحركة مختلفة؛ فالاستثمار ذو طابع نقدي وعوائده نقدية وتزيد القوة الشرائية في الحال، أما الإنتاج فليس شرطا فيه أن ينطوي على نقد مستثمر فيه، فالمهم في الإنتاج الموارد الطبيعية والبشرية الموظفة فيه مع المهارة التقنية التي تديره.
      لا يستطيع النظام الرأسمالي تجنب الأزمة عندما يكون معدل التطور التكنولوجي أبطأ من معدل زيادة رؤوس الأموال، وهذا هو السبب في أن الدول الرأسمالية تولي اهتماما كبير بالأبحاث العلمية، لأن مصير النظام الرأسمالي متعلق بإيجاد طرق تكنولوجية جديدة تمكنه من توظيف رؤوس أموال جديدة وزيادة الإنتاجية وبالتالي تفادي الأزمة.
     إن رائد الصناعة كان ظاهرة موجودة بالفعل في بداية الثورة الصناعية، لكن مع تطور الاقتصاد لم تعد له مثل تلك الأهمية، ذلك لأن دوره انتهى أو كاد في مجال الاقتصاد ككل مثلما انتهى دور الملك في النظام السياسي الغربي أو الجنتلمان الإنكليزي أو الكهنوت المسيحي. ويذهب فبلن أن العادة المستقرة والمتوارثة عبر أجيال عديدة هي السبب وراء استمرار النظر إلى رجل الصناعة على انه الفاعل الأول في الاقتصاد. فدائما ما تعيش المؤسسة أو الفكرة أو الاعتقاد الاجتماعي فترة أطول من قاعدتها المادية وحواملها الاجتماعية؛ هذا بالإضافة إلى أن الخطاب السياسي والإعلامي السائد لا يزال يعطي الإيحاء للناس بأهمية ما يسمى رائد الصناعة، فهو يعمل على استمرار مؤسسة رائد الصناعة على المستوى الأيديولوجي.
     تشكل الاعتبارات الربحية عائقا أمام تطور إدخال التكنولوجيا الحديثة للبلاد النامية. فإذا رأى المستثمر في الدول النامية أن إدخاله التكنولوجيا الحديثة لن يحقق له ربحا ماليا يظل يستخدم الهيكل الصناعي القديم مبقيا على تكنولوجيا الإنتاج في مستوى متخلف. هذا بالإضافة إلى أن ما يسمى بهجرة رؤوس الأموال من الغرب إلى الدول النامية نظرا للمردود الربحي العالي في هذه الدول يثبت أطروحة فبلن حول إعاقة الاعتبارات الربحية لتطور تكنولوجيا الإنتاج، ذلك لأن رؤوس الأموال تميل إلى الانتقال إلى المناطق التي تشهد تركيبا عضويا بسيطا لرأس المال الثابت، أي المناطق ذات التكنولوجيا الأدنى، لأن بساطة العملية الإنتاجية بها تجعل المردود الربحي لرأس المال أعلى، نظرا لانعدام التكاليف التكنولوجية بها. وبالتالي يعمل رأس المال المهاجر على الحفاظ على الوضع المتأخر لأساليب الإنتاج في هذه المناطق، لأن تأخرها هذا هو مصدر ربحه الأعلى الذي لا يستطيع تحقيقه في بلده ذات التركيبة التكنولوجية العالية. إذن الاعتبارات الربحية تعيق تطور أساليب الإنتاج، إذ تشكل قيدا عليها. وبذلك يضفي فبلن بعدا جديدا على نظرية ماركس القائلة أن علاقات الإنتاج، ومن بينها أسلوب توزيع الثروة، يعيق تقدم قوى الإنتاج.
     لقد اختفى الطابع الفردي للمشروع الفردي الرأسمالي وتحول إلى مشروع مخطط؛ صحيح أن هذا التخطيط يتم في ظل مؤسسات احتكارية بهدف الربح، إلا أن هذه المسألة يجب أن لا تشتت انتباهنا عن ضرورة سيطرة المجتمع على اقتصاده والتي يجب أن تأخذ شكل إدارة مخططة ديمقراطية للاقتصاد. ويكشف تحليل فبلن هذا عن صدق تحليلات ماركس المشابهة الذاهبة إلى تزايد الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج في ظل الرأسمالية مما يضغط على الإطار القانوني للملكية الخاصة.
     هناك حاجة متزايدة لدعم الدولة لرجال الأعمال، وذلك لأن مشروعا رأسماليا يظل مقيدا بما يحيط به من تقاليد المجتمع وقيمه الأخلاقية، وهذا ما يدفع رجال الأعمال لأن يطلبوا دعما من الدولة، أي تصريحا بأن يعملوا تحت مظلتها وباسمها. وفي هذه الحالة يكتسبون شرعية ويتفادون التعارض بين مشروعاتهم والقيم الاجتماعية. وكأن فبلن يتنبأ بما سوف يحدث من تحالف بين الرأسمالية والدولة في عصر رأسمالية الدولة الذي بدأ في الظهور بعد تطبيق السياسات الكنزية. 
      وبالتالي تتفق مصالح الدولة القومية مع مصالح رجال الأعمال، ويصبح الهدف الأساسي لرجل السياسة الإمبريالي توسيع وتعظيم فرص رجال الأعمال في الخارج، أي توسيع نطاق ملكيتهم الغيابية على نطاق عالمي. يقول فبلن: "وبتوجيه طفيف للشعور القومي يصبح المواطنون الأوفياء مقتنعين بأن هذه المكاسب الخارجية لرجال الأعمال سوف تفيد وبطريقة ما المجتمع ككل".


71

قراءة في كتاب "الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها الاقتصادية" 1-3


                                                                                                                      د. هاشم نعمة
     صدر كتاب بالعنوان المذكور للدكتور أشرف منصور عام 2008، يتكون من مقدمة وسبعة فصول غطت العناوين: الليبرالية بين الفلسفة والاقتصاد وآدم سميث والليبرالية الاقتصادية والاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي ونزعة الشك في ليبرالية هايك والنقد السوسيولوجي لليبرالية الاقتصادية والنقد الاقتصادي لليبرالية الاقتصادية وخرافة السوق ذاتي التنظيم. ويقع الكتاب في 359 صفحة. الناشر دار رؤية للنشر والتوزيع في القاهرة.
       في تقديرنا تكمن أهمية هذا الكتاب في المنهج العلمي الأكاديمي الذي اتبعه المؤلف في التحليل المعمق والاستنتاج. وقد جاءت الأزمة المالية والاقتصادية وتداعياتها العاصفة التي يمر بها العالم والتي بدأت من الولايات المتحدة وانتقلت إلى بقية الدول في نفس عام صدور الكتاب لتؤكد صحة الاستنتاجات التي خرج بها المؤلف بالرغم من أنه لم يعالجها. وبهذا يعد الكتاب مصدرا مهما للأكاديميين والباحثين والدارسين وعموم المثقفين المهتمين بهذا الموضوع.
     يشير المؤلف في المقدمة إلى أن الأوضاع الجديدة لتطور الرأسمالية التي يجمعها مصطلح "العولمة" تدفعنا لإعادة قراءة تراث الفكر الليبرالي. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الأيديولوجيا الليبرالية التي ظهرت في أوروبا منذ القرن السابع عشر في شكل نظريات سياسية على يد توماس هوبز وجون لوك وانتقلت إلى الاقتصاد السياسي الكلاسيكي على يد آدم سميث يعاد ظهورها من جديد الآن قي شكل ما يسمى بالليبرالية الجديدة. تكشف هذه الظواهر الجديدة أن هناك عودة قوية لتبرير التوسع الرأسمالي وإلغاء دور الدولة عن طريق الليبرالية الجديدة التي هي إحياء لليبرالية القرن التاسع عشر والتي نقدها ماركس وغيره من رواد الفكر الاجتماعي مثل دوركايم وفبلن. والهدف الأساسي لهذه الدراسة هو توضيح الدلالات المعاصرة للنقد الذي وجه للأيديولوجيا الليبرالية عبر تاريخها، وصلاحية هذا النقد في فهم ودراسة الليبرالية الجديدة وتوظيف العولمة الاقتصادية لها.
     قدمت الليبرالية تعريفات للفرد والحرية والعدالة، والحقيقة أنها لم تكن سوى انعكاسا لاقتصاد السوق الرأسمالي. وقد ذهب ماركس إلى أن جميع الحقوق الليبرالية تختزل في حق الملكية. فالحرية هي حرية التملك، والمساواة هي تساوي الأفراد في سعيهم نحو التملك، والأمن هو المناخ الذي يضمن للفرد حمايته لملكيته والحصول على المزيد منها.
     منذ السبعينات من القرن الماضي انتهى عصر رأسمالية الدولة والديمقراطية الاشتراكية وذلك بإعادة إحياء الأفكار الليبرالية التقليدية في صورة ما يعرف بالليبرالية الجديدة التي بدأ ظهورها في الغرب في هذا العقد وانتقلت إلى العالم الثالث منذ أواسط الثمانينات، وكانت بداية لشكل جديد من  الأيديولوجيا المدعمة والمبررة للتوسع العالمي للرأسمالية وهي العولمة. فما أسباب هذا التحول؟
    يجمع كثير من المفكرين على أن أسباب هذا التحول تتمثل في أزمات عديدة تعرضت لها دولة الرفاهية الاجتماعية في الغرب وبرامج الديمقراطية الاشتراكية. فمنذ السبعينات تفاقمت مشكلة البطالة وزاد الكساد ولم يجد رأس المال فرصا جديدة للاستثمار. ومن جانب آخر زاد حجم وتعقد آلة الدولة البيروقراطية حتى أصبحت عبئا على رأس المال نفسه الذي كان من المفترض أن تخدمه. الأسباب السابقة ليست أسبابا رئيسية بل ثانوية مباشرة. أما السبب الرئيس وغير المباشر فهو القانون الذي استنتجه ماركس وصاغه بدقة وهو ميل معدل الربح نحو الهبوط  كلما تقدمت وسائل الإنتاج والتكنولوجيا وكلما زاد توسع الاستثمار العالمي.
     لم تكن النيات الطيبة والأهداف الإنسانية وراء ظهور الليبرالية، بل كان ظهورها مشروطا بالتغيرات الاجتماعية التي بدأت في أوروبا  القرن الخامس عشر والتي أدت إلى صعود طبقة البرجوازية. فعلى الرغم من اعتماد الليبرالية على أسس فلسفية، إلا أن لهذه الأسس قاعدتها الاجتماعية التي انطلقت منها.
     وقد وضعت الليبرالية الحرية في مفهوم الحق الطبيعي ووضعت فكرة النظام في مفهوم العقد الاجتماعي. والملاحظ  كيف أن خطا واحدا يربط  بين المفهوم الليبرالي عن الطبيعة الإنسانية وحاجاتها، واختزال هذه الحاجيات إلى المال، واختزال المال للمجتمع كله إلى أفراد؛ وهذا يدل على الصلة القوية بين الأساس الفلسفي لليبرالية والجانب الاقتصادي منها.
    كذلك فإن النظرة الليبرالية تجاه الطبيعة الإنسانية باعتبارها رغبة لا متناهية، والتي ترجمت إلى الرغبة اللا متناهية في الامتلاك والاستحواذ اللانهائي في عصر الليبرالية التقليدية ما بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، ترجمت مرة أخرى في القرن العشرين إلى التصور الاستهلاكي عن الرغبة؛ وتحولت الرغبة بذلك من رغبة لا متناهية في الامتلاك إلى رغبة لا متناهية في الاستهلاك. لقد كان التعليم الليبرالي حول الحاجات والرغبات خادما لأيديولوجيا الملكية الخاصة في عصر صعود الرأسمالية، ولأيديولوجيا الاستهلاك في عصر الإنتاج السلعي الكمي الموسع. وبذلك أبدل المجتمع الاستهلاكي قضية المساواة ونقلها من المجال الاجتماعي والسياسي إلى المجال المادي الاستهلاكي.
     ويتعمق الكتب في تحليل الانتقادات العديدة التي تعرضت لها نظرية الحق الطبيعي أهمها نقد إدموند بيرك في أواخر القرن الثامن عشر، ونقد هيغل في أوائل القرن التاسع عشر، ونقد المفكر القانوني هالويل في النصف الأول من القرن العشرين. حيث ينتقد بيرك مفهوم الحق الطبيعي باعتباره مفهوما ميتافيزيقيا.
    كما أدى تجمد المبادئ الليبرالية في صيغ قانونية شكلية وتحولها إلى أيديولوجيا تبريرية أن أصبحت فكرة الحق الطبيعي في التملك الخاص مبررا للنظام الرأسمالي والاستغلال الذي يمارسه. إن مبدأ الملكية الذي تكلم عنه لوك في القرن السابع عشر يختلف تماما عن مفهوم الملكية في القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد كان لوك يقصد المكية الصغيرة التي تمكن المرء من تلبية احتياجاته، وتختلف هذه تماما عن مفهوم الملكية الاحتكارية لعمل الغير ولوسائل الإنتاج في الاقتصاد المعاصر.
     ويذهب ماركس إلى أن مفاهيم الحق الطبيعي كانت بالفعل تعبيرا صادقا عن البرجوازية ورؤيتها للعالم وللمجتمع، وعن وضعها الطبقي ومشروعها في تغيير العلاقات الاجتماعية والنظام الإقطاعي القديم، إذ لم تكن هذه المفاهيم مجرد أكاذيب أو أوهام. لكن مصداقيتها ومشروعيتها ليست مطلقة  بل هي صادقة ومشروعة طالما كانت تعبيرا عن فكر الطبقة التي تتبناها وعن أوضاعها الاجتماعية الواقعية ومشروعها السياسي، إلا أنها تحولت إلى مفاهيم أيديولوجية عندما حاولت البرجوازية فرضها على باقي طبقات المجتمع واستخدامها لفرض سيطرتها وكبت التناقضات الطبقية والتعتيم عليها. وبذلك تحولت فكرة الحق الطبيعي من قوة تحرر إلى قوة هيمنة، والسبب أنها استخدمت لتبرير حق التملك الخاص لعمل الغير ولوسائل الإنتاج، وتحول الحق الطبيعي للفرد في حياة ومأوى وعمل وحماية إلى حق طبيعي في الاستحواذ اللانهائي على الملكية والثروة، وبالتالي على عمل الآخرين.
      الحقيقة أن جميع النضالات الاجتماعية في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت نضالات باسم الحقوق الاجتماعية، مثل حقوق العمال والفلاحين والزنوج وسكان المستعمرات والطلبة والنساء والأقليات في كل مكان. فعندما تحصل فئة اجتماعية على حقوقها باعتبارها فئة يحصل أفرادها بالتالي على حقوقهم الفردية؛ لكن العكس ليس صحيحا، لأن حصول الأفراد على حقوق فردية لن ينهي التمييز والتحيز ضد الفئة التي ينتمون إليها أبدا. والحقيقة أن الالتفاف حول الحقوق الاجتماعية بإتاحة شيء من الامتيازات للأفراد كانت الأسلوب المفضل للنظم الحاكمة، وقد حدث ذلك في الرأسماليات الغربية من إعطاء مكاسب مادية وامتيازات تأمينية للعمال، ورفع الحد الأدنى لأجور النساء التي كانت أقل من أجور الرجال، وإتاحة الفرصة للزنوج كأفراد في الصعود الاجتماعي مع عدم انتهاء التمييز العنصري ضدهم بالكامل وبقاء أوجه اللامساواة على حالها.
     إن فهم الحق الطبيعي على أنه حق فردي يجعل نظريات الحق الطبيعي شكلية وصورية ومجردة وبدون مضمون عيني حقيقي، لأنها تركز على الفرد فقط. ولا يتحقق المضمون العيني للحق الطبيعي إلا عندما يُفهم على أنه حق اجتماعي.
     يتحدث هوبز عن العامة بقوله أن هؤلاء ترضيهم الاعتقادات الدينية وتجعلهم يقبلون بأوضاعهم، ولذلك سوف يكون من الأسهل جعلهم يقبلون السلطة بالعقل، أي من منطلق كونها تعبيرا عن العقلانية ، وتكون السلطة كذلك عندما تكون ضامنة لحقوق الملكية الخاصة. وكل ما على السلطة أن تفعله إزاء العامة هو تحرير جزء من وقت عملهم ليتلقوا التوجيهات من هؤلاء الذين يتولون مهمة تبرير السلطة أمامهم. وتعد وجهة نظر هوبز هذه إعلانا مبكرا وبسيطا عن المهمة الأيديولوجية للسلطة في ظل الرأسمالية وعن الوظيفة الأيديولوجية للدولة، إذ نجد في نظرية هوبز الشكل الأولي الجنيني لما سيتطور بعد ذلك في صورة وسائل الإعلام الحديثة ومهمتها الأيديولوجية في الهيمنة. 
     يقول ماركس بأن هذه التسوية التي هي حقيقة المساواة في عملية التبادل، مع تنحيتها للمعايير وطابعها الشكلي المادي، تنتهي إلى أن تقطع كل علاقة اجتماعية حقيقية بين الأفراد وتجعل العلاقة الوحيدة بينهم هي علاقتهم باعتبارهم أجسادا. هكذا يختزل التبادل السلعي الأفراد إلى أجسادهم بعد أن يلغي وجودهم الاجتماعي بالكامل، وهنا تتحقق نظرية هوبز عمليا، والذاهبة إلى أن حركة المجتمع هي الحركة المادية لأجساد الأفراد المكونين له.
     كان اكتشاف الاقتصاديين الكلاسيكيين لتعارض المصالح بين الطبقات المختلفة هو البدايات الأولى لمفهوم الصراع الطبقي الذي سيتطور من قبل ماركس؛ وتبقى للاقتصاديين الكلاسيكيين مأثرة اكتشافهم الأول لتعارض المصالح بين الطبقات؛ ولهذا السبب كان اقتصادهم السياسي علميا، لأنهم عندما لاحظوا تناقضا اجتماعيا لم يتجاهلوه أو يعتموا عليه كما سيفعل الاقتصاديون بعد هام 1830 والاقتصاديون الكلاسيكيون الجدد ابتداء من 1871 وحتى الآن.


72
في هولندا ندوة التيار الديمقراطي العراقي حول الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية




     نظم التيار الديمقراطي في هولندا بتاريخ 23 أيلول| سبتمبر 2011 ندوة حول الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية والتي أطلق عليها البعض الربيع العربي. حيث نجحت في تونس ومصر وليبيا في إسقاط قيادات الأنظمة الاستبدادية التي اضطهدت وجوعت شعوبها وغيبت حقوق الإنسان بينما  مازالت الانتفاضات والاحتجاجات متواصلة في اليمن وسوريا والبحرين وبلدان عربية أخرى.
  لكي نتعرف اكثر على هذه الثورات والانتفاضات الشعبية، استضاف التيار الديمقراطي الاستاذ الاديب الكاتب جاسم المطير رئيس لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا والدكتور هاشم نعمة سكرتير التيار لغرض تسليط الضوء أكثر على هذه الثورات. وبدأ الحديث الاستاذ الكاتب والاديب جاسم المطير حول موضوع (المخزون الديمقراطي والمخزون الديني في الثورة العربية المعاصرة ) ونوجزه فيما يلي:
حيث قال: في الشهور الستة الماضية كنا نسمع أو نقرأ بمقالات تحذر من احتمالات خمود قوى الشارع العربي المنتفضة بعد وقت قصير في المستقبل القريب، أو من احتمال انطفاء سراج الحرية الذي أشعلته ثورتا تونس ومصر، كما كنا نلمح وما زلنا نأخذ الحذر والخشية  في كتابات بعض الكتاب الوطنيين في مصر و في العراق ،خصوصا عمّا قد يرافق عملية الثورة الجارية في خمسة بلدان عربية من أوضاع سياسية - اجتماعية مرتبكة واحتمال تكرار نشوء حالة مما أطلقت عليها كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة  اسم (الفوضى الخلاقة) وهي حالة مصحوبة بتدهور امني وأعمال إرهابية ومن نهوض في الحركة الإسلامية والطائفية والعشائرية،  كما حصل في العراق وأفغانستان. فهل هذا الخوف من التغيير وما بعده أمر مشروع أم أنه دفاع غير مباشر، عن بقاء الظلم الاجتماعي في الشعوب العربية من التمتع بالحرية والديمقراطية وإعلاء حقوق الإنسان وتحرير المرأة.
وتسائل الاستاذ جاسم عن امكانية وجود بلد في العالم تحوّل نحو الديمقراطية وحققها عمليا من دون أن يكون قد مر بصعاب وحروب وصراعات وعثرات وأخطاء دفع ثمنها غاليا ..؟ واجاب بان الحاجة الماسة الى نظرة ثاقبة في واقع الشعوب العربية، ويحتاج إلى نظرة شاملة لمصادر ونتائج الثورة الجديدة في الشارع العربي.
تتوارد افكار لبعض المراقبين السياسيين ان اعمال العنف في الربيع العربي يمكن ان تجر الشعوب الى الفوضى  ويقول ان العراقيين يهمهم مايحدث من الانتفاضات في بلدان الشرق الاوسطية وشمال افريقيا وخاصة البلدان التي كانت تحت سوط الانظمة الدكتاتورية منذ السبعينات من القرن الماضي، حيث كان النظام العراقي البائد شريكا مع هذه الانظمة ولكن سقوط النظام العراقي اختلف عن سقوط هذه الانظمة وذلك بالغزو الامريكي. حيث ان الطابع السلمي هو الغالب على هذه الثورات والانتفاضات الخمس إلا أنها جميعا جوبهت بالعنف من قبل حكام الأنظمة فأوجدت حالة جديدة مع تطور مسار الثورات إذ تحولت الثورة الليبية السلمية إلى ( حرب أهلية ) تطلبت إسنادا دوليا من الحلف الأطلسي. كما تحولت الثورة اليمنية والثورة السورية إلى ما يشبه بالحرب الأهلية ولكن المهم  ان هذه الثورات  نالت اعترافا شرعيا من قبل الرأي العام العالمي ومن الكثير من المنظمات الدولية ومنظمات حقوق الإنسان.
وأشاد بالذكر بان التأثير الايجابي قد حقق وقعا كبيرا على قوتين أساسيتين من قوى الشارع العربي المنتفض والثائر وهما:
1-القوى الديمقراطية التي انتشرت شعاراتها وأهدافها في اغلب عناصر الهيكلية الجديدة المحيطة بالدولة القديمة وبقادتها الجدد الذين راحوا يعلنون في تصريحاتهم وبرامجهم عن تمسكهم بالمؤسسات الديمقراطية
2-  القوى الإسلامية التي انتشرت شعاراتها في كل الدول الثائرة الخمس. بعض تلك الشعارات كان سلفيا واغلبها حمل آمال المسلمين على إيجاد وخلق ( بنية سياسية إسلامية مؤسسية ) قائمة على الدعوة إلى الحرية انطلاقا من مفهوم (محدد) بذهنها للحرية
 وتطرق في مجال آخر أن تغيير الأوضاع الحالية في العالم العربي يحتاج احد أمرين:
               1 - انقلابات عسكرية جديدة تقضي على الحكومات العربية الراهنة رحمة بشعوبها وإشفاقا عليها،  ولما كان الانقلاب العسكري مستحيلا والأحزاب السياسية الديمقراطية والشيوعية مقيدة أو ضعيفة أو تابعة للنظام الدكتاتوري، كما هو الحال في سوريا مثلا كان لابد من معجزة لتحقيق هذه الانقلابات والسؤال من يصنع المعجزة..؟ باعتبارها شيئاً خارقاً في أذهان الحركات الإسلامية المضطهدة في مصر وتونس وسوريا بشكل خاص، لا تأتي إلا من الله والسماء .. بينما كانت القوى الديمقراطية والتقدمية والشيوعية تنتظر حصول (معجزة) من حركة تطور الزمن وما يحمله العصر من رياح التغيير في كل العالم التي ادت إلى القناعة في البلدان الخمسة أن الخلاص من بؤس واقعها يحتاج إلى (معجزة). ان المعجزة التي حصلت في تونس مثلا لا هي بأمرٍ نازلٍ من السماء ولا هي تابعة لقدرات هذه الدولة الأجنبية أو تلك،  بل هي انطلقت من هموم الصدور التونسية انطلقت من نار التهمت جسد محمد البوعزيزي في شارع من شوارع تونس على حين غرة ( تلك هي طبيعة الثورة تأتي في ساعة غفلة). وانفجرت (ثورة سلمية)  في الشارع التونسي عام 2011  كانت بمثابة الابنة البارة للثورة الفرنسية عام 1789 المطالبة بالحرية وباحترام حقوق  الإنسان.
ويرى الاستاذ جاسم المطير أن الثورات الجديدة في تونس ومصر  قامت من دون مساعدة من الخارج فأنها تتجه اتجاها ربما يكون أكثر استقلالا من ليبيا التي وجدت نفسها بحاجة إلى مساعدة حلف الناتو والى العون الفرنسي – البريطاني ، العسكري والسياسي
ليس من المستبعد أن تغرق الثورات في البلدان الثلاثة الأنفة الذكر في حالات جديدة لا تخلو من الصراع بين قوتين شعبيتين:  الأولى تريد الحرية والديمقراطية.  والثانية تريد الحرية وفق مقاسها وتوصيفها ولا تريد الديمقراطية إلا بحدود إجازات أحزابها الإسلامية وبحدود الانتخابات . 
القوة الشعبية الأولى من قوى الشارع العربي الجديد تريد تقويض الاستبداد كله الى الأبد وإشادة نظام ديمقراطي فيه الكثير من شروط النموذج الغربي للحرية والديمقراطية. تريد الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية
بينما القوة الشعبية الرئيسية الثانية وهي القوى الإسلامية على تنوع أحزابها تريد حرية عملها ونشاطها لكنها ترفض كل فائض في الممارسة الديمقراطية سوى ما يؤمن لها حريتها، تريد إخضاع الشكل الديمقراطي إلى استبداد من نوع مبطن بالدين وغيره.
ويقول هناك نوعين من متطلبات الحرية والديمقراطية وفي ظل نموذجين يتصارعان على الساحة :
(أ‌) النموذج الأول يستند ويقوم على خارجية التغيير الديمقراطي كما هو الحال في أفغانستان والعراق تحت أشكال من الهيمنة والنفوذ الأمريكي.
(ب‌) النموذج الثاني يستند ويقوم على داخلية التغيير الديمقراطي في تونس ومصر.
في محور دور التيار الديمقراطي في الثورات العربية الجديدة في الدول الخمس..؟ كان جوابه ينبغي علينا العودة إلى تجارب الثورات السابقة في العالم. مثلا الثورة الأمريكية التي انتصرت في عام 1776 كانت (ثورة سياسية) ضد الاستعمار البريطاني أبدلت سلطة استعمارية قديمة بسلطة النخب الرأسمالية الجديدة. وثورة العشرين في العراق كانت (ثورة سياسية) ضد الاحتلال البريطاني أبدلت هيمنته المباشرة بهيمنة (تعاهديه) أشهرها معاهدة 1930.  ثورة 1952 في مصر بانقلاب عسكري فوقي أبدلت النظام الملكي بنظام جمهوري غير ديمقراطي دفع بقوى وأحزاب القومية العربية إلى التعصب، وثورة 14 تموز في العراق ثورة سياسية ضد الوجود الاستعماري وأحلافه العسكرية أبدلت قاعدة الحكم الملكي القمعي بنظام حكم عسكري فردي كان من نتائجه إعداما تاما للحرية والديمقراطية لخمسة عقود متتالية. و ثورة أكتوبر عام 1917 هي الثورة الوحيدة ذات عنوانين (سياسية واجتماعية) أبدلت نظاما قيصريا إقطاعيا بنظام اشتراكي
وقال: أن ثورة يناير المصرية – كمثال - لم تكن لها قيادة قادرة علي استلام السلطة،  بل أنها انطلقت من حقيقة ( أن المعرفة قوة ) وهي مقولة فرانسيس بيكون  1561 -  1626 الفيلسوف ورجل الدولة والكاتب الإنجليزي، المعروف بقيادته للثورة العلمية عن طريق فلسفته الجديدة القائمة على " الملاحظة والتجريب ".
وفي صياغ آخر تطرق الاستاذ المطير ان حسم قضية من يقود السلطة الجديدة لإطفاء هواجر الأرض المحررة من بقايا  الدكتاتوريات لم يتم بعد. هذا يعني أن الصراع بين القديم والجديد،  بين الدولة المدنية والدولة الدينية سيظل قائما إلى  حين من  الزمان ، تتواصل فيه إرادة (الثورة – المعجزة)  كما سماها الماركسي السلوفييني (سلافوي جيجك ) مما يعني إلقاء مسئولية عدم انعزال التيار الديمقراطي في البلدان العربية عن قيمة وقدرة وطبيعة (الرأي العام الالكتروني) صانع الثورات الجديدة في عالم جديد النوع
التصدي لهذا الخطر ضروري وملح لكي لا تُسرق الثورات أو يجرى حرفها عن أهدافها، يفرض على التيار الديمقراطي في العالم العربي  التصرف المتواصل والاستناد إلى علم الاجتماع والى ملء أذهان الجماهير خصوصا الشباب بأهمية الاشتغال على تحويل (الثورة السياسية) الجديدة إلى (ثورة اجتماعية جديدة)  براقة تقوم على تأمين العدالة الاجتماعية 
التيار الديمقراطي في البلدان العربية يواجه صراعا خفيا ،أيضاً، من جانب الفكر الرأسمالي العالمي القائم على الصراع بين (الايدولوجيا والتكنولوجيا) تحت ظل نظرية (نهاية التاريخ) قدّمها الأميركي فرنسيس فوكوياما  مستهدفا القضاء على رؤية الماركسية وأدواتها المنهجية في العمل الجماهيري. الموقف الرأسمالي العالمي هذا ناتج من أن التيار الديمقراطي  في اغلب البلدان العربية، حاله مثل حال التيار الديمقراطي في العراق، هو تيار مستقل عن النفوذ الأجنبي، وهو تيار يساري وسطي  ليس متطرفا يلتقي مع عدد واسع من التيارات والأحزاب اليسارية في دول الغرب الرأسمالي .
وكانت خلاصة رؤية الاستاذ المطير الشخصية حول العلاقة التنافسية بين التيارين الإسلامي والديمقراطي احددها كالآتي: سيظل التيار الإسلامي في اتجاه ماضوي تتعمق فيه  أزماته في المستقبل لأنها  ستظل حاملة أشكالا متعددة من أساليب  قمع (الآخر)  ، بينما المسيحية حققت ازدهارا اجتماعيا حين انفصلت عن الدولة في أوربا  ابتداء من مطلع القرن العشرين.
 بمعنى أن هذا التيار الإسلامي  يبقى خارج حركة التاريخ المعاصر ويبقى متصارعا مع المجتمع الدولي ومع الدول الكبرى ومع دولة إسرائيل . لا يمكن له أن يتخلص من أزماته إلا بتغيير رؤيته (المطلقة ) الجامدة ، إلى رؤية (نسبية) متحركة.
يبقى الشارع العربي في المستقبل عاملا حاسما في مسيرة الثورة العربية الراهنة بعد أن غدا قوة جبارة قادرة على إسقاط أنظمة الدكتاتورية الشمولية وسيظل هذا الشارع مكافحا ضروريا  بشرطين رئيسيين أولهما هو تحول الثورة السياسية الحالية إلى ثورة اجتماعية تقضي على البطالة والتخلف الاقتصادي والجهل والمرض. الثاني هو فصل الدين عن الدولة وهو وحده الذي يؤمن ازدهار الإسلام بين الناس.

وبعدها جاء دور الدكتور الباحث هاشم نعمة الذي تحدث حول( القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية )
ونوجز محاضرته بما يلي:
من بين النقاشات الفكرية والسياسية الدائرة الآن حول الانتفاضات تلك التي تردى بأن المفاهيم النظرية الحديثة والمعاصرة لا تسعفنا كثيرا في تفسير وتحليل أسبابها وتوقع حدوثها والقوى الفاعلة فيها وملامح المرحلة الانتقالية التي تعقب نجاحها. اعتبر ماركس استخدام الأساليب السلمية أو العنيفة أثناء الثورة مسألة تتعلق بالاستراتيجية والتكتيك التي تسعى لتحقيق أهداف الثورة. إذ تحدد الشروط  الاجتماعية والتاريخية في مكان وزمان معينين الأساليب التي يتعين استخدامها. ومنذ عام 1995، بدأ بوردو ينظر للحركة الاجتماعية الجديدة. مقدما بذلك النموذج الناصع للمثقف العضوي بالمفهوم الغر امشي، رافضا الليبرالية الجديدة كليا. ففي تلك السنة بالذات، عمل على تأسيس الحركة الاجتماعية الأوروبية بعيدا عن الأحزاب التقليدية. هذا يؤكد أن الاهتمام النظري بالانتفاضات والحركات الاحتجاجية لم يكن غائب تماما كما يدعي البعض وبأن حدوثها لا يشكل "صدمة نظرية" بسبب عدم توقعها في هذا الوقت بالتحديد.
    ساهمت بعض المفاهيم دون توقع انفجار الانتفاضات الشعبية. حيث تم ترويج مفهوم "التجانس المجتمعي/الثقافي" بصفته شرطا مسبقا كي يحدث التغيير. كما تم البناء على "المقولة" التي ترى أن القرب الجيو- إستراتيجي من مركز الصراع العربي-الإسرائيلي يحفظ للأنظمة سلامتها و يقيها من السقوط تحت ضغط  شعوبها.
    عند بحث الانتفاضات لا ينبغي تناسي عامل تراكم النضالات من أجل الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتي بدأت منذ سنوات في تونس ومصر وبلدان عربية أخرى.  ولتحليل القوى الاجتماعية التي ساهمت بفعالية في  الانتفاضات لابد من النظر إلى مجمل اللوحة الاجتماعية دون اختزال الدور بمكون دون آخر. فهناك فئتان ساهمتا بفعالية أولا الشباب المتعلم، غير المنظم حزبيا، ولكن الذي تفاعل سريعا مع نشاطات الأحزاب والنقابات التي لعبت دورا كغطاء لهذه الحركة، وأعطاها الزخم اللازم للاستمرار والتعبئة والتأطير. وثانيا شرائح العمال، المنتمية للنقابات  أو غير المنتمية، والتي أغلفها الكثير من المحللين في محاولة واعية أو غير واعية لطمس بعدها الطبقي.
      لقد ساهمت تلك السمات في نجاح الانتفاضتين في تونس ومصر حيث هبت العاصفة من داخل العالم الافتراضي على النظام السياسي المتجمد الذي لم يتوقعها. غير أنها سرعان ما تحولت إلى عبء عليها تبدى في بطء حركتها أو عدم جذريتها، ذلك أن الأفكار، مهما كانت جاذبيتها، لا تستطيع سوى أن تلهم وتحفز وأن بناء نظام جديد يظل بحاجة إلى قيادة مباشرة في عالم واقعي، وهي القيادة غير القائمة.
      من بين العديد من العوامل التي تؤثر في نجاح الانتفاضات في الدول العربية، يبرز دور الجيش، ليس لأنه القوة المنظمة الأقدر على حسم مسيرة الانتفاضة أو الثورة، وضبط إيقاع الأحداث والتطورات المتلاحقة فحسب، ولكن لكونه كذلك الأكثر جاهزية لحماية الانتفاضة ذاتها من أي ثورات مضادة، والتصدي لمحاولات سرقتها من قبل العناصر الموالية للنظام.
      وخرج المحاضر باستنتاجات أهمها: بدأت البلدان العربية مرحلة جديدة من الحراك السياسي والاجتماعي والتغيير وسوف لا تعود إلى أوضاعها السابقة. والانتفاضات في البلدان العربية عملية موضوعية تاريخية نتجت عن التراكم الكمي الذي لا بد أن ينتج عنه تحول نوعي . وهذا يؤكد بأن لا توجد شعوب تعيش خارج التاريخ. ولا يزال خطر الثورة المضادة قائما في ظل بطء التحولات وإعاقتها. وتراهن فلول النظام السابق والتي لا تزال تحتل مواقعا قوية في مؤسسات الدولة والمجتمع على عنصر الوقت لتراجع المد الثوري ومزاج الجماهير نحو التغيير. وسيتأثر الوضع في العراق بما تحققه الانتفاضات في البلدان العربية من نجاحات وبالأخص عندما تتحول إلى ثورات وتتعمق التحولات في البنية السياسية ولاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وبعد استراحة قصيرة عاد الاستاذ نهاد القاضي لفتتح النقاش بين الحضور والاساتذة مقدمي المحاضرتين. ودارت مجموعة من المداخلات والاسئلة طرحها بعض الاخوان الحاضرين كان منهم (الاستاذ اراز عباس و الدكتور ذياب الطائي والاستاذ محمود عثمان والاستاذ عبد الرزاق الحكيم والدكتور احمد ربيعة والصحفي اسماعيل راوندوزي والدكتورة فائزة خطاب وغيرهم ) حيث ركزوا فيها جميعا على بعض النقاط المهمة التي زادت في حيوية الندوة وأضافت لها رونق الديمقراطية وذلك لاختلاف وجهات النظر حول بعض المحاور. دامت المناقشة بين الحضور ما يقارب الساعة او اكثر وفي الختام شكر القاضي الحضور جميعا والاخوة المحاضرين متمنيا مواصلة نشاطات التيار الديمقراطي في هولندا بهدف نشر ثقافة الحوار والفكر الديمقراطي. متمنيا  مواصلة نشاطات لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا في هدف نشر ثقافة الحوار والفكر الديمقراطي
اعلام لجنة  تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا    


73
في هولندا ندوة حوارية للتيار الديمقراطي حول الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية

    طرح اندلاع الانتفاضات الشعبية في العديد من البلدان العربية الكثير من الأسئلة ذات الأبعاد النظرية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية عن أسباب اندلاعها وتزامنها في هذا الوقت بالتحديد والقوى الاجتماعية الفاعلة فيها وآفاق تطورها والعامل الدولي والإقليمي ودوره في التأثير في مجرى ونتائج الانتفاضات وتأثيراتها المستقبلية في رسم الخريطة السياسية للمنطقة والدروس التي يمكن استخلاصها منها. ومساهمة من التيار الديمقراطي في هولندا في فتح باب الحوار حول هذا الموضوع يستضيف كل من:

-   الأستاذ جاسم المطير للحديث حول المخزون الديني والمخزون الديمقراطي في ثورة الشباب.
-   د. هاشم نعمة للحديث حول القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية.

يدير الندوة الأستاذ نهاد القاضي.

الدعوة عامة

التاريخ: الجمعة 23 أيلول| سبتمبر، تفتح القاعة الساعة السابعة مساءا.
المكان: النادي الثقافي المندائي في دنهاخ (لاهاي)

لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا

العنوان
Ivoorhorst 155
2592 TH  Den Haag
للوصول إلى القاعة ترام رقم 6 من المحطة المركزية في دنهاخ والمتوجه إلى
Leidschendam—Leidsenhage
 والنزول في منطقة
 Reigers bergen weg
للمزيد من المعلومات يمكنكم الاتصال بالرقم: 0640329472 أبو سيزار






74
غضب منظمات المجتمع المدني في هولندا  يصب بتظاهرة احتجاجية امام مبنى محكمة العدل الدولية في لاهاي
وتطالب ايقاف تركيا وايران انتهاكاتها للقوانين الدولية في  العراق واقليم كوردستان
   

 في جمهرة وطنية من مجموعة من منظمات المجتمع المدني قرابة الثلاثين منظمة و تجمعت امام محكمة العدل الدولي في لاهاي حيث تشابكت الهويات والديانات والايديولوجيات وانصهرت الخلافات في بودقة مسؤولية الوطن وسيادته وانطلقت الحناجر صارخة بوقف الاعتداءات والانتهاكات رافضة  لا انسانية دول الجوار اتجاه المدنيين العزل وفي نفس السياق فتح المثقفون العراقيون عربا وكوردا  رصاص الكلمة بوجه الحكومات الا إنسانية وعبأوا الجمل لتكون درعا مدنيا حضاريا مسالما لانتزاع الامن والاستقرار والسيادة للعراق وحكومته وحكومة اقليم كوردستان. وبعد ان  تجمعت الجالية العراقية امام مبنى محكمة العدل الدولية مطالبة المجتمع الدولي اعادة النظر في تصرفات الحكومتين الايرانية والتركية حيث كتبت مذكرة من قبل منظمات المجتمع المدني ومن مختلف القوميات والافكار ووجهتها الى محكمة العدل الدولي في لاهاي وتم تسليمها من قبل مجموعة من الشخصيات الوطنية وهم الاستاذ الاديب الكاتب جاسم المطير رئيس لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي والاستاذ المهندس الاستشاري نهاد القاضي رئيس المعهد الكوردي للدراسات والبحوث في هولندا والسيدة مهاباد الشيخ محمد امين مسؤولة منظمة اصدقاء السلام في كوردستان والسيد الآن افراسياو من منظمات الشباب الكوردي في هولندا والسيد  زاهر محمود أحد ضحايا القصف بطائرات الحكومة العراقية البائدة في سنة 1974 في منطقة قلعة دزه
وقامت اللجنة بتسليم المذكرة الى احد اعضاء محكمة العدل الدولية شارحين لهم واقع حال الانتهاكات للدولتين الجارتين ايران وتركيا معززين  ذلك بصور فوتوغرافية للعائلة الكوردية المدنية المسالمة التي قصفت في اقليم كوردستان العراق وهذه الصور للعائلة  كانت قبل القصف وصور الجثث المحروقة والمهشمة للعائلة والاطفال بعد القصف
 وشكرت المحكمة الدولية الشخصيات الممثلة للمنظمات وبعدها تم قراءة بعض من الكلمات باسم المنظمات المشاركة باللغات العربية والكوردية والهولندية وقرأها بالعربية الدكتور هاشم نعمة سكرتير لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي وقال ان مظاهرة اليوم هدفها أن تثير الانتباه وتسليط الضوء على الاعتداءات التركية والإيرانية الإجرامية المتكررة على كوردستان العراق والتي راح ضحيتها أناس أبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ. فلترتفع أصوت الرأي العام العالمي والعربي من أجل المطالبة بالوقف الفوري لهذه الاعتداءات وعدم تكرارها. ونطالب الحكومة العراقية أن يكون موقفها حازما للدفاع عن حرمة وسيادة الأراضي العراقية واستخدام أدوات الضغط المتوفرة للعراق في هذا الاتجاه. هذه المظاهرة تجسد تعاون وتنسيق كل المنظمات العراقية العاملة على الساحة الهولندية.
و قدم الاستاذ سردار فتاح امين مسؤول منظمة ميديا في امستردام كلمة منظمات المجتمع المدني في هولندا  باللغة الكوردية وقال فيها مثلما ترون، تشارك ما يقارب ال 30 منظمة مختلفة الاتجاهات والافكار والقوميات اجتمعت معا لكي توقف الانتهاكات الايرانية والتركية على حدود العراق وحدود أقليم كوردستان وتطالب بإحالة الدولتين الى المحكمة الدولية وللفقرتين التاليتين وهما 1- انتهاك سيادة الدولة المجاورة 2- قتل الابرياء والعزل في الدولة المجاورة وبصورة اجرامية بشعة. وطالب من الشخصيات والمنظمات الدولية والعالمية الداعية لضمان حقوق الانسان بالوقوف معنا في هذه النكبة القادمة على كوردستان العراق من شماله وشرقه وطالب ايضا بوقف الاعتداءات وحماية حدود كوردستان.
 وكانت هناك كلمة للأستاذ علي قهرماني باللغة الهولندية عن منظمة اكاديمي كوردستان وتحدث فيها عن تركيز الهجمات العسكرية الوحشية من قبل الجيش الايراني والتركي على الشعب الكوردي وسقوط العديد من القتلى، رغم أن دول الشرق الاوسط تنهض بحركات التغيير مازال الشعب الكوردي تسلب منه أبسط الحقوق الاساسية للإنسانية. لقد رفضت الدولتان التركية والايرانية كافة الحلول اهمها الحوار السلمي التي قدمها الثوار الكورد ومنظماتها واصرارها على استعمال العنف ضدهم. وأستغرب من الصمت الدولي والدول الاوربية ضد هذه الهجمات وعدم تحركه ضدها او ايقافها وهو مغاير لمواقفها أتجاه حركات التغيير التي تجتاح الدول العربية. وطالب من الحكومات الاوربية والمنظمات الدولية والنقابات المهنية في العالم وفي تركيا وايران وشعوب تلك الدول للضغط على هاتين الحكومتين لإيقاف هجماتها العسكرية ضد شعب كوردستان.
 واكد السيد على هروري مسؤول منظمة المثقفين الكورد في دنهاخ على ضرورة استمرار الاضرابات والضغط على الدولتين الجارتين لإيقاف النزف لأخوتنا مطالبا ايضا بتعويض المتضررين في حقولهم الزراعية وماشيتهم واضرارالبنية التحتية في اقليم كوردستان.
   ثم تكلم كثيرا من الحضور  وبكلمات مختصرة وبعض من القصائد الوطنية وتطرقوا  فيها عن الانتهاكات التركية والايرانية وعن وضع الكورد المدنيين في كوردستان كلها
ثم قدم الاستاذ الان افراسياو ممثل الشباب في التظاهرة باللغة الهولندية  ترجمة نص الرسالة التي وجهتها المنظمات الجماهيرية في هولندا الى محكمة العدل الدولية في لاهاي
 وهذا النص باللغة العربية
إلى السيدات والسادة في البرلمان الهولندي
إلى محكمة العدل الدولية – لاهاي
إلى ممثلي الصحافة الهولندية ووكالات الأنباء العالمية
كما تعلمون فأن الوكالات العالمية تحمل أنباء متواصلة عن الاعتداءات العسكرية،  التركية والإيرانية،  على الحدود العراقية، بالوسائل الجوية والبرية، التي أدت إلى ارتكاب جرائم تدمير ممتلكات  المواطنين العراقيين كما أوقعت عددا ليس قليلا من جرائم قتل المدنيين  من النساء والرجال والأطفال . لقد شهد العالم كله خلال الشهور الثلاثة الماضية  استمرار الصراع الداخلي الذي تفرضه قسرا القوات التركية ضد الثوار الكرد بإقليم كردستان تركيا كما هو حال القوات الإيرانية ضد الثوار الكرد الإيرانيين،  المطالبين بحقوقهم المدنية التي أقرتها المواثيق الدولية وفي مقدمتها ميثاق هيئة الأمم المتحدة .  لكن واحدا من نتائج هذا الصراع هو امتداد وسائل القتل إلى داخل الحدود العراقية  وتهجير الناس من مساكنهم وخاصة في القرى الفقيرة في إقليم كردستان العراق مما يشكل عدوانا تركيا – ايرانيا فظا ضد الدولة العراقية ومواطنيها.
اليوم نتقدم لكم نحن المتظاهرين في ساحة محكمة العدل الدولية في محاولة لإيصال الأصوات المنضوية تحت ألوية المنظمات الديمقراطية المذكورة أدناه استنكار لأعمال القمع المتواصل على السيادة العراقية أملين من جميع المحافل الدولية المحبة للسلم والديمقراطية مناصرة المواطنين الأكراد في وقف العدوان التركي – الإيراني فورا والكف عن تهجيرهم عن مساكنهم في القرى الحدودية.

اسماء المنظمات المعتصمة

De coördinatie commissie van de Iraaks democratisch beweging te Nederland
Koerdische vereniging Midia in Nederland
Koerdisch instituut in Nederland
Stichting Ontwikkeling Vriendschap Koerdistan-Nederland
Irakees democratische jongeren unie Nederland
Iraakse democratisch centrum
Iraakse vrouwen Liga Nederland
Iraakse vrouwen vereniging
Iraakse Platform Nederland
Stichting  chak 
Stichting Halabja monument
De Iraakse Organisatie ter Verdediging van Mensenrechten-Nederland
 Iraakse Huisvereniging Den Haag
Vereniging Van Iraakse Vrouwen
Stichting Iraqi  Women League - Nederland
Vluchtelingen Platform regio Nijmegen (VPF)
Koerdische Cultuur Center KCC
Koerdisch Stichting In Den Haag KCW
Het Koerdisch Academisch Netwerk
Koerdische Vereniging in Delft
Cultureel Centrum Koerden Den Haag
Koerdische vereniging Eindhoven (KVE
Fedkom
Koerdische Vrouwen Stichting Helin
Summarische Observatorium voor de Mensenrechten
Iraakse Culturele Parlement in de Diaspora
Babil Vereniging voor Kunst en Cultuur
Koerdische Veteranen ( Peshmarga ) Vereniging in Nederland
Stichting Opbouw Germian-Koerdistan
Koerdisch Cultureel Centrum Newroz Leiden
Commissie over Iraakse academici in de diaspora
Koerdische vereniging Midia in Rotterdam
Koerdische vereniging Midia in Amsterdam
Koerdische vereniging Midia in Den Haag
Koerdische vereniging Midia in Almere
Koerdische vereniging Midia in Enschede
Koerdische parlementaire Unie in Sulaimaniya
Vrienden van de vrede in Koerdistan
ومن الجدير بالذكر ان صور التظاهرة  اخذت بكاميرا الاستاذ كاميران احمد سليمان  شكرا لجهود الاساتذ كاميران
 واخيرا شكرت اللجنة المنظمة للتظاهرة الجميع على امل التواصل بالضغط المستمر على المنظمات العالمية والمجتمع الدولي للحد من التهجم على العراق وسيادته وخاصة  الكورد في اقليم كوردستان

بقلم
نهاد القاضي 

75
المجد والخلود للشهيد الصحفي هادي المهدي

       من جديد تطال يد الغدر والجريمة المنظمة حياة الفنان المسرحي والصحفي الجريء هادي المهدي في بيته وفي وضح النهار وقبل ساعات فقط من بدء تظاهرات 9 أيلول. وهي رسالة يراد منها إسكات الأصوات الحرة التي تنتقد الواقع المزري على كل الصعد السياسية والاقتصادية والخدمية والأمنية بكل جرأة وشجاعة.  إن هذا الفعل الإجرامي شكل صدمة قاسية لكل الوسط الثقافي ولعموم المواطنين. وهو يعبر عن مدى الحقد الدفين وضيق الأفق وعدم تقبل الرأي الآخر الناقد وعدم الأيمان أصلا بكل ما يمت للديمقراطية بشيء رغم ترديدها لفظا. لكن هيهات سوف لن يسكت هذا الفعل الغادر الأصوات التي تطالب بإصلاح العملية السياسية ومحاربة الفساد بكل تلاوينه وتدافع عن حقوق المواطنين في العيش الكريم واللائق.
    إن التيار الديمقراطي في هولندا يستنكر بأشد العبارات هذا العمل الجبان الخسيس ويحمل الحكومة كامل المسؤولية في الحفاظ على أرواح المواطنين ويطالبها بمتابعة الجناة لتقديمهم للقضاء وبدون ذلك فإن مصداقيتها لن تكون أكثر من وهم.
الخزي والعار للمجرمين القتلة والمجد والخلود للشهيد هادي المهدي.
لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي العراقي في هولندا
9 أيلول|سبتمبر 2011 


77

   
ظاهرة  الاتجار بالبشر مع إشارة خاصة إلى العراق(3)
                                                                                                               د. هاشم نعمة

الاتجار بالبشر في العراق
     العراق لم يسلم من الاتجار بالبشر. ففي حزيران (يونيو) 2004 قَدم تقرير إلى الكونغرس الأمريكي يتعلق بالاتجار بالبشر وشمل هذا التقرير 140 بلدا يعتقد بأن لديها عددا مهما وبأشكال قاسية من ضحايا هذه الاتجار ويبين التقرير أن الاتجار أخذ طريقه نتيجة الحرب حيث يرد فيه: يشهد العراق مؤشرات على انبثاق مشكلات الاتجار بالبشر. فوجود السكان النازحين والنساء الأرامل وأخريات عرضة للإغراء وأطفال مفصولين عن عائلاتهم أو أيتام يعتمدون على المساعدة الإنسانية من أجل البقاء كل هؤلاء يكونون مصدرا للعمل المستغَل أو الجنس. في كثير من حالات ما بعد الحرب تستغل العناصر المجرمة انكسار حكم القانون ويأس العائلات المهددة ماديا حيث يجري خطف وإجبار وخديعة الأشخاص للعمل في الدعارة. وينتعش المتاجرون بالبشر أيضا في الحالات التي يضعف فيها القانون. إضافة لذلك هناك نقص في البنية التحتية فيما يخص الخدمات والحماية التي من المفترض أن تقدم إلى الضحايا. النقص في الخدمات الطبية والإرشاد والحماية من المحتمل أن يشجع زيادة وقوع الأشخاص كضحايا لهذا الاتجار. وكما رأينا في أماكن أخرى من العالم يزداد الطلب على البغاء مع وجود القوات الأجنبية والمغتربين والموظفين الدوليين الذين يتقاضون دخولا جيدة.

    لسوء الحظ انتشار الإعلان عن الخطف من أجل الفدية الذي ظهر إلى السطح بعد نهاية العمليات العسكرية الرئيسية في ربيع 2003 بدأ يعطى مبررا للقلق الوارد في التقرير المذكور حيث بدأت تكتب التقارير في ذات السنة عن العديد من حالات الخطف من أجل المتاجرة بالإنسان. وجلب انتباه الإعلام خطف الكثير من العمال الأجانب في العراق وقتل العديد منهم. هؤلاء العمال يرغبون أصلا بالبحث عن عمل في البلاد ( رغم أن بعض الحكومات لأسباب أمنية لم تشجع أو حتى منعت مواطنيها من البحث عن فرص العمل في العراق).

    وقد ذكرت التقارير بأن هناك نمطا جديدا من الاتجار بالعمالة المهاجرة انبثق بشكل واضح بسبب الفوضى وارتخاء متطلبات الدخول إلى العراق خلال المرحلة التي أعقبت الحرب. مواطنون من بنغلاديش والهند والصومال ودول أخرى وعدوا بالعمل في الأردن من قبل الوكلاء المحليين الأردنيين والذين تقاضوا رسوما باهظة منهم. وكان بدلا من ذلك قد أخذوا عبر الحدود إلى الصحراء العراقية وتركوا هناك ليعيلوا أنفسهم. وطبقا لبعض التقارير الإعلامية فإن 1000 مهاجر على الأقل سقطوا ضحية هذا الاحتيال في مايس (ماي) 2003 وحاولوا العبور ثانية إلى الأردن بعد شهور قضوها في بغداد وأجزاء أخرى من العراق ( في بعض الأوقات واجهوا حالة المواجهات العسكرية) بدون عمل وغذاء ونقود أو وثائق سفر صالحة وتأشيرات دخول.( ) وكانت منظمة الهجرة الدولية والأمم المتحدة قد أطلقت مناشدة جديدة لحماية العاملين المهاجرين في العراق، ومنع الاتجار بالبشر، مع الكشف عن تشريد العشرات من العمال من جنوب آسيا في بغداد من دون وثائق ولا أموال تساعدهم على العودة إلى أوطانهم. وقد دفع هؤلاء في بلدانهم حوالي 3000 دولار من أجل البحث عن عمل. وتمت مصادرة جوازات سفرهم فور وصولهم من قبل مشغليهم.( ) 
     خلال عام 2004 أجرت المنظمة الدولية للهجرة بحثا بعنوان " تقييم ميداني للاتجار بالبشر في العراق". وكان الهدف منه دراسة الاتجار، خصوصا، بالنساء والأطفال من وإلى العراق. وكان يفترض أن تجمع معلومات من المجموعات التي تتعامل مع الضحايا وأولئك الذين يكونون عرضة لهذا الاتجار. ودراسة حجم واتجاهات الاتجار في السياق العراقي ووضع توصيات حول هذا النوع من الاتجار من وإلى العراق والمساهمة بتأسيس شبكة منظمات حكومية وغير حكومية( ) للتعامل مع هذا الموضوع.
     وقد أشارت تقارير دولية متعددة عن حالات الاتجار بالبشر وعدت بعضها العراق كونه يمثل "الحالة الأسوأ" في العالم. وكانت وزارة الخارجية الأميركية في تقريرها السنوي حول الاتجار بالبشر لعام 2010 والذي تضمن تفصيلات عن هذه الممارسات في 175 دولة منها العراق قد ذكرت ما نصّه  أن "نساء وفتيات عراقيات، بعضهن دون سن الحادية عشرة، يخضعن لحالات الاتجار بالبشر كالعمل القسري والاستغلال الجنسي في داخل البلاد وفي سوريا ولبنان والأردن والكويت والإمارات العربية المتحدة وتركيا وإيران وربما اليمن. وفي بعض الحالات، جرى إغراء النساء من خلال الوعود الكاذبة بمنحن فرص عمل. ومن أكثر الوسائل المستخدمة للاتجار بالبشر بيع النساء أو الزواج القسري". ويضيف التقرير إن "بعض أفراد العائلة يرغمون الفتيات والنساء على الدعارة كوسيلة للتخلص من ظروف اقتصادية يائسة أو لتسديد ديون أو لحل نزاعات بين الأُسر" مضيفاً أن "الاتجار ببعض النساء والفتيات يجرى داخل العراق لأغراض الاستغلال الجنسي عن طريق ما يعرف بزواج المتعة". و"أن رجالا عراقيين انتهزوا هذه الوسيلة، أي زواج المتعة، للاتجار بعدة نساء بين المحافظات العراقية أو في دول مجاورة خاصةً سوريا، وذلك لإرغامهن على الدعارة." وتعود بدايات هذه الظاهرة إلى التسعينات بعد غزو الكويت في 1990 وفرض الحصار الاقتصادي على العراق وتوسعت أكثر بعد احتلال العراق عام 2003 وما نتج عنه من ضعف الأمن والاستقرار واندلاع العنف الطائفي والتهجير القسري وغياب القوانين التي تكافح الاتجار بالبشر في العراق.
      فيما يتعلق بالاتجار بالأطفال وكما نشرت صحفية "الغارديان" البريطانية بشأن تنامي هذه الظاهرة وإخضاع الأطفال المباعين لممارسات غير أخلاقية وشاذة. حيث كشفت عن أن 150 طفلاً يتم بيعهم في السوق السوداء سنوياً بمبلغ يتراوح ما بين 200 و4000 جنيه إسترليني للطفل الواحد. ونقلت عن تاجر أطفال بأن "أسعار الأطفال في البلاد أرخص من بلدان أخرى ونقلهم أسهل، وذلك راجع لاستعداد الموظفين الحكوميين للتعاون مع التجار وتزويرهم بالشهادات والوثائق الثبوتية   ." ورقم لأطفال هذا تقديري لا يستند إلى إحصاءات دقيقة. وأنه يتم إخضاع هؤلاء الأطفال لممارسات غير إنسانية متنوعة من ضمنها ممارسات جنسية، مشيرة إلى أن تراخي الحكومة وعدم قيامها بواجبها في فرض الأمن، وحالة التسيب التي تمرّ بها الحدود مع دول الجوار، سبب رئيس في رواج الاتجار بالأطفال الذي يتم خلاله، ليس فقط بيع الصغار في السن في السوق المحلي، بل نقلهم إلى الخارج إلى الأردن وسورية وتركيا والبعض منهم يجري تسفيره إلى بعض الدول العربية والأوروبية، بما في ذلك سويسرا وأيرلندا وبريطانيا والبرتغال والسويد.

     ونتيجة لرواج هذه الظاهرة ارتفعت نسبة عمليات خطف الأطفال، والتي يقوم الخاطفون بعدها ببيع الأطفال لقاء حفنة من المال، إذ أن عصابات الجريمة المنظمة المتخصصة في ذلك  والتي نشأت في البلاد يستفيد أفرادها من الفوضى التي مازالت في الشارع. ونظراً لعدم وجود جهة رسمية تهتم بهذه الظاهرة وبوضع حد لها، يجعل من الصعب الحصول على أرقام دقيقة عن الأطفال الذين يتم بيعهم سنوياً، فيما تعتقد الشرطة والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان، أن الاتجار انتعش وزاد بنسبة الثلث منذ عام 2005.( ) وهذا يعكس حجم المأساة المروعة التي تتعرض لها الطفولة في العراق في ظل غياب معالجة جذرية لها. 
                                        المعالجات
     تمثل العلاقة بين الاتجار بالبشر والفقر والظروف الاجتماعية العنصر الأساس في أي فهم لأسباب الظاهرة. لذلك يجب إعطاء الأولوية للعلاج الممكن بدءاً من مجتمعات الأصل. في الواقع العملي السياسات الوطنية والدولية لمكافحة الظاهرة عملت القليل، نسبيا، لإصلاح وضعية النساء اللاتي يجدن أنفسهن واقعات في قبضة شبكات الاتجار بالبشر. من جانب آخر، تتطلب المكافحة تضافر حقول معرفية متخصصة من أجل كشفها والتعامل معها بوسائل محددة. أمثلة من ذلك تشمل تعزيز القانون الذي يعالج الإكراه خلال النقل، وتنظيم قانون الهجرة الداخلة، واستخدام العمل المستغل. بعض الدراسات الحقوقية المتعلقة بالجريمة تركز على الدعارة والهجرة غير القانونية (بعضها يكون تهريب) وتجعل البحوث الاجتماعية التشريع أكثر فعالية لأنها تزيد المعرفة بالمعايير الثقافية والاستجابة المطلوبة للمعالجة.
     ويلاحظ أن الكثير من السياسات الحديثة لمكافحة الاتجار بالبشر تعكس كلا من هيمنة أسلوب التجريم في الاتجار بالنساء والقلة النسبية للحماية الحكومية وتوفير برامج المساعدة للنساء المتاجر بهن. تجريم المشكلة يتبنى النهج القائم على أن السبيل الوحيد لمكافحة هذه "الصناعة البربرية" هي إلقاء القبض على المجرمين، وضبط الحدود، وزيادة امن الدولة. هذا النهج انعكس في قانون حماية ضحايا الاتجار في أمريكا، وبروتوكول منع وحظر ومعاقبة الاتجار بالبشر ضمن اتفاقية الأمم المتحدة للجريمة المنظمة عبر الحدود عام 2002، والقرار الإطاري للإتحاد الأوروبي، إضافة إلى بعض مواد اتفاقية الإتحاد الأوروبي لعام 2005.( ) بتقديرنا إن هذه الإجراءات على أهميتها لا تكفي يفترض أن تتوفر حزمة من المعالجات تتعامل مع الأسباب الحقيقية في بلد الأصل والمقصد وتشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية بمنهج مترابط.
     كما أشار الأمين العام للأمم المتحدة يوم 18 كانون الأول (ديسمبر) 2010 في رسالته بمناسبة اليوم الدولي للمهاجرين"إنني أحث الدول الكثيرة جداً التي لم تصادق على الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم على التصديق عليها. كما أدعو الأطراف في الاتفاقية إلى تكثيف جهودها للمساعدة في إعمال الحقوق المنصوص عليها في الاتفاقية. فالوضع غير القانوني للكثير من المهاجرين الدوليين يجب ألا يحرمهم من إنسانيتهم أو من حقوقهم"
     حديثاً بدأت الدول الخليجية جهودا لمكافحة هذه الظاهرة تضمنت تأسيس لجان للتعامل معها مثل قطر عام 2005 والإمارات عام 2007 والبحرين عام 2008، وهناك نية لدى الكويت لإلغاء نظام الكفيل الذي يُستغل في حالات غير قليلة للانتفاع المادي على حساب العمالة المهاجرة. عموماً هذه الجهود لم ترق لحد الآن للمستوى المطلوب.( )
     بالنسبة للعراق لا توجد معالجة جدية لهذه الظاهرة رغم وجود عدة فقرات تضمنها الدستور للحد من جريمة الاتجار بالبشر كما جاء في المادة  29/ الفقرة الثالثة التي تنص على ( يحظر الاستغلال الاقتصادي للأطفال بصوره كافة وتتخذ الدولة الإجراءات الكفيلة بحمايتهم )،  والمادة 37 / الفقرة الثالثة (يحرم العمل القسري السخرة والعبودية وتجارة العبيد ”الرق“ ويحرم الاتجار بالنساء والأطفال وتجارة الجنس ).( ) وكانت شذى عبد الملك مديرة عام العلاقات بوزارة العدل قد أعلنت في الملتقى العلمي لمكافحة الاتجار بالبشر الذي عقد في القاهرة في 20 كانون الأول(ديسمبر) 2010. بأن "لدينا مشروع قانون معد من قبل مجلس شورى الدولة ومقترح من قبل وزارة الداخلية العراقية وهذا المشروع ملم بكافة الجوانب من العقوبات ومنفذي عمليات الاتجار وحصر حالات الاتجار ومعالجة الضحايا وغير ذلك"، لافتة إلى أن "العراق وقع على اتفاقية الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية بموجب القانون رقم 20 لسنة 2007 وانضم إلى قانون الجريمة المقترح من الأمم المتحدة".( ) 
     إذن يتطلب الأمر، تعريف المجتمع بالاتجار لخلق رأي عام ضاغط يدفع البرلمان إلى الإسراع بتشريع القانون الذي يحرم الاتجار بل ويعاقب مرتكبيه بشدة وتنفيذه حيث العبرة ليست فقط بوجود القوانين وإنما أن تدخل حيز التنفيذ إضافة إلى ذلك لابد من ضبط الأمن وعودة الاستقرار والقضاء على البطالة والفقر والتفاوت الفاحش في الدخول والاهتمام بالطفولة والنساء والرفع من مكانتها. وأن تكون هناك حملات منظمة ومستمرة لرفع وعي العائلات بمخاطر الاتجار ودوره في تفتيت وحدتها. وبموازاة ذلك ينبغي أن تكون المعالجة شاملة، اقتصادية،اجتماعية،سياسية، ثقافية، لأن هناك، دائما،ترابطا، وتأثيرا،متبادلا، بين هذه المتغيرات والاتجار بالبشر.
انتهى

   





78
لترتفع الأصوات لوقف الاعتداءات التركية والإيرانية على أراضي كردستان العراق

        تتواصل الاعتداءات العسكرية الإجرامية التركية والإيرانية  في عمق أراضي كردستان العراق تحت ذرائع واهية حيث يتعرض الشعب الكردستاني للقتل والتهجير وتدمر قراه وتحرق محاصيله الزراعية وتدمر البنية التحتية. وقد باتت هذه الاعتداءات الهمجية تتكرر دون رادع. إن هذه الانتهاكات الصارخة لحرمة الأراضي العراقية دون أن يقابلها موقف حازم من قبل الحكومة المركزية ومجلس النواب سيزيد من أطماع الدول الإقليمية في التعدي على سيادة البلاد ومن ثم يزيد من هشاشة النظام السياسي ويضعف من هيبة واستقلال العراق على الصعيد الإقليمي والدولي.
      إننا نطالب كل القوى والشخصيات الوطنية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وجماهير شعبنا العراقي وكل القوى المحبة للسلام في البلدان العربية والعالم أن ترفع صوتها عاليا لشجب وإدانة ومطالبة تركيا وإيران بالوقف الفوري لهذا العدوان المتكرر وأن تمارس دورها ومن موقعها في الضغط على السلطات التنفيذية والتشريعية العراقية لاتخاذ مواقف وقرارات حاسمة وجريئة تقع في صلب مسؤولياتها للتصدي لهكذا عدوان يتعارض مع قواعد القانون الدولي ويشكل سابقة خطيرة في انتهاك سيادة الدول.
    ونؤكد على مطلب تقديم الحكومتين التركية والإيرانية اعتذارا رسميا عن الجرائم التي ارتكبت بحق المواطنين العزل وممتلكاتهم وهم لا علاقة لهم بهذا الصراع. كذلك فإن الحكومة التركية ملزومة بتعويض المتضررين والضحايا وذويهم جراء الأعمال العدوانية. وتعويض إقليم كوردستان عن الأضرار الناشئة عن حرق المزارع والبساتين وقتل المواشي وغيرها.
   وإلى مزيد من العمل الفاعل والتنسيق تجاه هذه الاعتداءات.
لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا
22 آب 2011



79
ظاهرة  الاتجار بالبشر مع إشارة خاصة إلى العراق(2)
                                                                                                                    د. هاشم نعمة
الاتجار بالنساء والأطفال
     تؤثر الهجرة الدولية والاتجار بعدد كبير من النساء والأطفال. وتشكل هذه المجموعة أغلبية السكان اللاجئين في العالم، وهي  تشكل، أيضاً، أغلبية ضحايا الاتجار؛ ويتعرض العمال المهاجرون أو أطفالهم أيضا، للإساءة والاستغلال، خصوصاً.
     في النصف الأول من القرن العشرين كان مفهوم الاتجار بالبشر يعني ممارسات الغرض منها الدعارة والاستغلال الجنسي. وهذا واضح من تحليل خمس وثائق دولية تم تبنيها خلال هذه الفترة بدءا من "الاتفاقية الدولية لحظر الاتجار بالرقيق الأبيض" عام 1904. وفيما بعد توسعت وتعمقت وجهات النظر المعاصرة. وعُد الاتجار على نطاق واسع  بأنه يمثل " الشكل العصري للعبودية". هذا المصطلح يبدو بأنه يختلف عن الشكل القديم أو التقليدي للعبودية في حين لا يوجد قبول دولي له.( )
    عالم الجريمة البشعة الذي يسكنه الظلام، مئات الآلاف من الفتيات البريئات المخطوفات يعبرن الحدود ليلاً. هذه هي الصورة التي تسيطر على الإعلام والمتعلقة بالاتجار بالنساء. حيث يؤجر النساء والفتيات من أجل الاستغلال الجنسي لمدة 15 دقيقة ولعشرات المرات يومياً أو يبعن بالكامل إلى متاجرين آخرين بالجنس وإذا حاولن الهروب يتعرضن للضرب وأحياناً للقتل. وتشير الدراسات إلى أن 40.000 من النساء تم تهريبهن إلى ألمانيا للعمل في الدعارة ضد رغبتهن.
    هذا الإنذار المتعلق بالاتجار بالفتيات البريئات والمنحدرات في الغالب من دول أوروبا الشرقية. غذى مشاعر الكراهية ضد المهاجرين حيث لم يصوت عام 2005 الهولنديون والفرنسيون على مسودة دستور الإتحاد الأوروبي وتصاعدت الدعوات لتجريم المهاجرين في الكونغرس الأمريكي عام 2006، والدعوات لمنع الدعارة كوسيلة لمكافحة الاتجار بالبشر في الدول الأوروبية مثل فنلندا وبلغاريا والسويد وسويسرا. في الواقع، يعتقد الكثير من الأوروبيين بأن انضمام الدول الجديدة للإتحاد الأوربي عام 2004 سمح للمافيات من وسط وشرق أوروبا بتشديد قبضتها على الجريمة المنظمة. ويبدو أن الاتجار بالنساء أصبح يمثل مصدر مخاوف وهمية انسحب على الأجانب والمهاجرين والمجرمين والإرهابيين والعولمة، لدرجة بات، في الغالب، من الصعب فصل هذه المخاوف عن القلق الحقيقي المتعلق بمصير النساء المتاجر بهن.( ) وهذه مسألة تكتسي بعدا أخلاقيا لا ينبغي إغفاله تحت أي ذريعة.
     الاتجار بالأطفال ظاهرة عالمية وذات أنماط معقدة. ويأخذ طريقه للكثير من الأغراض التي تشمل الاستغلال الجنسي، العمل المنزلي، العمل في الزراعة والمناجم، والرياضة أو لغرض التبني. ويجري الاتجار بالفتيات والفتيان. وحتى عندما لا يوجه الأطفال لصناعة الجنس فهم يتعرضون لخطر القسوة الجسدية وتشمل القسوة الجنسية. وتكون الأسباب الجذرية للبيع والاتجار متعددة ومعقدة تشمل الفقر، نقص فرص العمل، انخفاض المستوى الاجتماعي للطفل، الحصانة من المقاضاة أو اتخاذ الإجراءات القانونية، ونقص في التعليم وتدني في مستوى الوعي. كذلك الأطفال الذين ينتمون إلى مجموعات الأقليات أو الذين لم يتم توثيقهم. خصوصاً. يكونون أكثر عرضه للاتجار.   
     يدخل الاتجار بالأطفال ضمن أسوأ أشكال عمل الأطفال في اتفاقية منظمة العمل الدولية التي صادقت عليها 150 دولة حتى مايس (ماي) 2004. حيث باتت هذه الظاهرة في تزايد. فطبقاً لإحصائيات منظمة العمل الدولية فإن بين 200.000-250.000 من النساء والأطفال يتاجر بهم سنوياً في جنوب-شرق آسيا فقط. ويقدر بأن 1.2 مليون طفل يتأثر بهذا الاتجار سنوياً في العالم. وفي جنوب-شرق أوروبا 90% من النساء الأجنبيات العاملات في الدعارة يزعم بأنهن ضحايا الاتجار و10-15% منهن فتيات بعمر أقل من 18 سنة. ويجري الاتجار بالأطفال الأصغر من الفتيان والفتيات لغرض العمل القسري.( )     
                        الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية
     قبل حوالي 20 سنة، نالت الهجرة غير الشرعية اهتماماً أكاديمياً قليلاً، نسبيا، جزئياً، بسبب نقص المعطيات. هذا الوضع بدأ يتغير مع بدء العمل على توفير المعطيات بواسطة عمليات التنظيم القانونية للهجرة غير الشرعية الكبيرة الحجم، خصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا الجنوبية. ومنذ أواخر التسعينات، أنتج هذا النوع من الهجرة مادة مهمة للأدب السياسي والأكاديمي( ) مما ساهم في التعمق بدراسة هذا الموضوع.
     الفكرة الشائعة عن الهجرة غير الشرعية أنها تدار من قبل مجموعات الجريمة المنظمة التي تنقل النساء والفتيات من بلد إلى آخر وتجبرنهن على العمل في الدعارة. ويتاجر بالرجال والفتيان أيضا لغرض الاستغلال الجنسي. لكن تشير البحوث بأن الرجال والنساء والأطفال يتاجر بهم لغرض استغلالهم في أعمال غير جنسية مثل العمل أو الخدمات حيث عموماً تكتسي هذه الأعمال طابعاً شرعياً. حديثا، عام 2002 توسع مفهوم جريمة الاتجار بالبشر ليشمل أيضاً الاستغلال بالعمل غير الجنسي. وتوفر البحوث الدليل بأن الاتجار بالبشر للعمل، خصوصا، في الخدمة المنزلية لا يقتصر على القطاع الخاص بل يتعداه إلى القطاع العام. لذلك عد الاتجار بالإنسان لغرض استغلاله في العمل، أحد أشكال هذه الظاهرة وهو جريمة حيث من خلاله ترغم أو تخدع الضحايا على العمل وتحت سيطرة الآخرين الذين يبحثون بطريقة فظة ولا إنسانية عن الربح من معاناة ضحاياهم.

     ما يبدو بأنه اختيار المهاجر فإنه يصنف كاتجار بالبشر إذا تمت الموافقة الأولية للضحية باستخدام الخداع، أو الإكراه أو أي وسائل أخرى, وجرى استغلال المهاجر فيما بعد. أي أن وسائل الموافقة بدلا من الموافقة بحد ذاتها تعد المسألة المهمة في تصنيف الهجرة الطوعية عن الاتجار بالبشر. ولابد من تحليل العلاقة بين الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية. حيث من الممكن أن تكون الأخيرة أحد أوجه الاتجار. ويمكن أن يكون الاتجار، داخلياً. فمثلاً، في تايلاند نقل المواطنين من المناطق الريفية إلى المدن الكبيرة مثل بانكوك للعمل في الدعارة والاستغلال الجنسي يُعد اتجاراً بالبشر من قبل بعض المهتمين، خصوصاً، المنظمات الدولية غير الحكومية.( )
     في الممارسة العملية، غالباً، يصعُب إيجاد فرق واضح بين الهجرة الاختيارية والقسرية باستثناء العبودية. ونعرف بأن الكثير من المهاجرين لا يفهمون شروط عقد العمل الذي وقعوه ولا يمكنهم تذكر هذه الشروط. وتشير منظمة هيومن رايتش بأن وكالة العمل في بلد الأصل إذا لم تبلغ المهاجرين عن الظروف الواقعية التي ستواجههم في بلاد المقصد فإن هذا يعد نوعاً من الاتجار بالبشر.
      وحسب المنظمة الدولية للهجرة يبلغ حجم العمالة المهاجرة العاملة في الخدمة المنزلية 1.2 مليون في السعودية و 600.000 في الإمارات العربية. وفي لبنان وطبقا لمسح 2005-2006 قدرت العمالة النسائية المهاجرة بحوالي 160.000 تنحدر بشكل رئيسي من سريلانكا (100,00)، والفلبين (30,000) وأثيوبيا (30,000). لذلك يمكن التقدير بشكل جيد بأنه يوجد أكثر من 2 مليون من هذا النوع من العمالة في الشرق الأوسط. علماً، أن أعداداً غير قليلة منها تصنف كاتجار بالبشر.
     دراسة عينة شملت النساء المهاجرات العاملات في الخدمة المنزلية في لبنان والمنحدرات من سريلانكا والفلبين وأثيوبيا بينت أن 31% منهن لا يسمح لهن بالخروج من المنزل؛ و34% لا يتمتعن باستراحة منتظمة. وبالنسبة لوقت العمل 65% يعملن 11 ساعة أو أكثر ؛ و42% يعملن 13 ساعة أو أكثر ؛ و31% يعملن 15 ساعة أو أكثر في اليوم  وكثيرات أشرن بأنهن يكن تحت الطلب لمدة 24 ساعة في اليوم.( )
         الحقوق الواردة في المواد 13، 23، و24 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948 تنتهك بشكل يومي بالنسبة للعمالة الأجنبية العاملة في الخدمة المنزلية في الشرق الأوسط. وهذا يتعلق بالمعاملة القاسية وغير الإنسانية والإذلال؛ حرية الحركة؛ حق اختيار العمل؛ ظروف ملائمة في العمل؛ الحق بالمساواة في  الأجر لنفس العمل؛ الحق بتشكيل الاتحادات العمالية؛ الحق بالراحة والتمتع بوقت الفراغ؛ وتشمل المواد أيضاً تحديد معقول لساعات العمل وعطل دورية مدفوعة الأجر.( ) إن هذا الانتهاك للحقوق يرتبط بسيادة الأنظمة الاستبدادية في المنطقة التي لا تقر بحقوق مواطنيها فما بالك بالعمالة الأجنبية.     
       وتنطوي الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا على ممارسات تصنف بأنها نوع من الاتجار بالبشر. حيث أصبح شمال المغرب موطن لشبكات تهريب البشر المختلفة إلى أوروبا وبالأخص أسبانيا، وتتراوح هذه من المجموعات الإجرامية الدولية المنظمة إلى الصيادين الذين تحولوا إلى مهربين. ومعظم التهريب لا ينظم من قبل منظمات إجرامية متماسكة، ولكن من قبل شبكات من الأفراد. والعدد الأكبر من المهاجرين الأفارقة من دول جنوب الصحراء الذين يسافرون عبر المغرب ويدخلون أسبانيا بدون تأشيرة يأتون من الكاميرون، ساحل العاج، الكونغو، الكونغو الديمقراطية، غامبيا، غانا، غينيا، غينيا- بيساو، ليبريا، مالي، موريتانيا، نيجيريا، السنغال، وسيراليون. ويأتي مهاجرون من بقية دول غرب ووسط أفريقيا . الكثير من هؤلاء لا يتوفرون على مبالغ مالية كافية لتغطية نفقات رحلتهم، لذلك يعملون وهم في الطريق باتجاه الشمال ويتعرضون للاستغلال. وقضاء عدة سنوات في الطريق من غرب أفريقيا إلى أوروبا هو أمر ليس بغير المألوف. عملياً، كل المهاجرين يعتمدون على مهربي البشر للوصول إلى شمال أفريقيا. وفي حالات غير قليلة يقع هؤلاء ضحية النصب والاحتيال من قبل المهربين وتتم المتاجرة بهم. وفي الغالب، يتم إنزال المهاجرين في البحر مسافة 100 متر عن الساحل الأسباني ويجبرونهم على السباحة إلى الشاطئ. لذلك كثرة حالات الموت غرقاً.( ) وقد بذل المغرب وبدعم من الإتحاد الأوروبي جهوداً لمكافحة هذه النوع من الهجرة عبر أراضيه والذي تزايد حجمه منذ التسعينات لذلك تراجع عدد المهاجرين كثيراً.

___________________________

  - Tom Obokata, op. cit., pp. 13- 18.
  - Jacqueline Berman, "Trafficked Women" International Migration, Vol. 48 (4) 2010, pp. 85-86
  - UN, Third Coordination Meeting on International Migration, 2004, p. 56.
  - B. Anderson and M. Ruhs., Guest editorial researching Illegality and Labour Migration, Population, Space and Place, 16, 2010, p. 175.
  - Tom Obokata, op. cit.,p. 22.
  - Ray Jureidini, op. cit.,pp. 144- 151.

  -Ibid, pp. 144- 151.
  - Jorgen Carling, Unauthorized Migration from Africa to Spain, International Migration, Vol. 45 (4) 2007, pp.12-23.

80
   ظاهرة  الاتجار بالبشر مع إشارة خاصة إلى العراق(1)

                                                                                                         د. هاشم نعمة
نبذة تاريخية
     الاتجار بالبشر ظاهرة لا إنسانية قديمة اقترنت بالانقسام الذي حدث في المجتمعات إلى فئات مالكة وأخرى غير مالكة أو معدمة. وكانت معروفة من قبل عدة شعوب أوروبية، مثل الرومان وآسيوية مثل العرب والأتراك والفرس والهنود. وهناك من يرى بأن العبودية وتجارة الرقيق تمثل الجذور التاريخية للاتجار بالبشر الذي يمارس حالياً. وقد توسعت أكثر خلال فترة الإمبراطورية الرومانية، ولاحقاً ترك الإرث الذي خلفته هذه الإمبراطورية آثاره في الممارسات اللاحقة لتجارة الرقيق في أوروبا وأمريكا الشمالية. وطبقاً للقانون الروماني كان الرقيق يعتبر كالممتلكات الخاصة العائدة للمالكين أو السادة. واستخدم بشكل شائع كخدم أو جواري، وحراس، وطباخين، وفي الجنس والدعارة، وكعمال في صناعة الفخار، والزجاج والمجوهرات الخ. وكانوا في المعتاد يعيشون تحت ظروف قاسية ولا يتمتعون بشخصية قانونية. وقُبيل نهاية الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس والسادس الميلادي، تراجعت ممارسة العبودية وتجارة الرقيق بسبب أن السادة والمالكين بدأوا بعتق عبيدهم. بعضهم فعل ذلك لأسباب أخلاقية نتيجة تأثره بالمسيحية. وآخرون بسبب ارتفاع كلفة امتلاك الرقيق. فيما استطاع بعض العبيد من تحرير أنفسهم من سادتهم بدفع ما تراكم لديهم من بعض الأموال.( )
      وشهدت أفريقيا منذ وقت مبكر تجارة الرقيق، لكنها كانت بأعداد محدودة. و بلغت ذروتها في القرون التالية عندما اشترك فيها الأوروبيون حيث كان البرتغاليون هم أول من مارسها. إذ كانوا ينقلون الرقيق إلى أوروبا ومن ثم إلى أمريكا. وحدثت الحركة الكبرى للسكان، وخاصة من غرب أفريقيا إلى الأمريكيتين ومنطقة الكاريبي، خلال الفترة من القرن السادس عشر إلى التاسع عشر، حيث قدر بأن ما بين 15-20 مليون أفريقي نقلوا عبر المحيط الأطلسي. وهناك تقديرات ترفع العدد إلى 50 مليون.( ) رغم أن هذا العدد قد يكون مبالغ فيه، إذا أخذنا في الاعتبار البطء الشديد لنمو السكان خلال تلك الفترة.
     وطيلة ثلاثة قرون، كان الرقيق يمثل أهم صادرات أفريقيا، والتي مارسها البرتغاليون والهولنديون والفرنسيون والسويديون والدنمركيون. وفي القرن السابع عشر، أصبحت التجارة بالإنسان الأسود أمراً معترفاً به، ونوعاً من النشاط التجاري. وهذا واضح من تصريح دار تماوث وزير المستعمرات البريطانية عام 1775، الذي قال فيه "إننا لا نستطيع أن نسمح للمستعمرات أن توقف أو تقاوم- إلى أي حد- تجارة مربحة لهذه الدرجة لشعبنا". ورغم تحريم بريطانيا لتجارة الرقيق فيما بعد طبقاً لقانون 1807، إلا أن هذا لم يؤثر كثيراً، فقد اندفعت دول أخرى لهذه التجارة.
     ولقد تعرض الزنوج إلى أسوا ما يمكن أن يعامل به بنو الإنسان، حتى في المناطق التي نقلوا لها قسراً، حيث كانوا يعاملون بالقسوة والتمييز العنصري، ويعتبر وضعهم في أمريكا الجنوبية أكثر حظاً، حيث اختلطوا بالسكان، لكن في أمريكا الشمالية، لم يحدث هذا وكانوا يباعون ويشترون مع الأرض. ففي عام 1705، صدر قانون امتلاك السود واعتبارهم جزء من الممتلكات الشخصية، إلى أن الغي قانون الرق عام 1865، بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في أمريكا( ) لكن مع ذلك أستمر التمييز العنصري ضدهم على أشده إلى أن بدأ يخف نسبيا في العقود الأخيرة نتيجة النضالات التي خاضها السكان السود للمطالبة بالمساواة.
                                 الاتجار بالبشر حالياً
      كان الاتجار بالبشر ولفترة طويلة على رأس الأجندة السياسية في الكثير من الدول، وكذلك بالنسبة للكثير من المنظمات الدولية. حيث يوفر البحث في الاتجار مصدراً مهماً للمعلومات تساعد في تبني السياسات المطلوبة لمعالجته. ورغم توسع البحث خلال العقد الأخير، لكنه أيضا ترافق مع الدعوات للحاجة لدراسات مبتكرة أكثر ومنهجية جديدة في البحث وجمع المعطيات من أجل تجاوز طريقة السرد التي ترد على لسان الضحية وإنتاج خلاصات يمكن تطبيقها على كل عينة محددة. وخلص المسح الحديث إلى أن معظم البحوث التجريبية تعتمد على المنهج النوعي أو الكيفي باستخدام عينات قليلة، والتي تجعل من الخروج بالتعميمات والاستقراء عملية تنطوي على إشكاليات. لذلك يوصى باستخدام بحوث مبتكرة ومناهج بحثية مناسبة للوصول إلى مفتاح المعلومات التي تشمل العاملين في بيوت الدعارة، والمدراء، والمهربين أو من يمثلهم. وقد شرعت الأمم المتحدة في جنوب شرق آسيا عام 2007 بمشروع لإيجاد مناهج مبتكرة لتقدير أعداد ضحايا الاتجار في منطقة جغرافية معينة و/ أو في قطاع معين( ) ويفترض الاستفادة من هذه التجربة في البحث لتعميمها على نطاق أوسع.
      حاليا هناك فجوة أساسية في المعرفة البحثية حول الطلب على ضحايا الاتجار بالبغاء. وفي الواقع، حتى الآن، ركزت أهم المؤلفات بشكل رئيسي على الدعارة والتجار والطرق وآليات الظاهرة وزبائن الدعارة العامة لكن تقريبا لا شيء بُحث فيما يتعلق بالطلب على الدعارة المتاجر بها. حيث هناك دراسات محدودة حول هذا الجانب بسبب أن البحث في هذا الميدان ركز بشكل كامل، تقريباً،على تحليل عرض ضحايا الاتجار بالبغاء. هذه العوامل الفاعلة أهملت من قبل الدراسات العلمية والتي تلعب دوراً حاسماً في تطور الظاهرة. ومن الواضح، بدون الطلب على ضحايا الاتجار فإن هذا الجزء من سوق الجنس لن يكون له وجودا.( )
     وحسب تعريف الأمم المتحدة يعني الاتجار بالبشر استخدام، أو نقل، أو تحويل، أو إيواء أو استلام الأشخاص، بوسائل التهديد أو استخدام القوة أو أشكال أخرى من الإكراه، وكذلك ممارسة الاختطاف، والغش، والخداع، وإساءة استخدام القوة أو جعل الأشخاص في موقف ضعيف أو أعطاء أو استلام مبالغ أو منافع لإتمام موافقة شخص يمتلك السيطرة على شخص آخر، لغرض الاستغلال. ويشمل الاستغلال، على الأقل، الاستغلال في الدعارة لصالح الآخرين أو أشكال أخرى من الاستغلال الجنسي، والعمل القسري أو في الخدمات، وممارسة العبودية أو ممارسات تشبه العبودية، والاستعباد (الأسر) أو نزع الأعضاء البشرية لغرض المتاجرة بها. ( )
     وقد صنفت الدول إلى ثلاث رتب طبقا لدرجة استجابة الحكومات لمعايير الحد الأدنى في الكفاح ضد الاتجار. وقد احتفظت كل من البحرين والكويت ولبنان والسعودية بالمرتبة الثانية بعد أن أزيلت من المرتبة الثالثة وهذا يعود لجهودها المهمة للاستجابة لمعايير الحد الأدنى. وهذا يوضح أن بعضا من دول مجلس التعاون الخليجي بذلت جهودا أكثر في مكافحة الاتجار بالبشر. ورغم ذلك تظل المكان الأول الذي يتجه له الاتجار. وتصبح إسرائيل، بشكل متزايد، هدفا شائعا لمثل هذه الممارسة. وذكرت التقارير أن نساء من مولدافيا وروسيا وأوكرانيا ودول أخرى من الإتحاد السوفيتي السابق يتم تهريبهن إلى إسرائيل لغرض الاستغلال الجنسي التجاري. كذلك الأشخاص الباحثون عن عمل تجري المتاجرة بهم حيث يعملون في ظروف عمل إجباري ويتعرضون للإيذاء الجسدي وأشكال عمل قاسية أخرى. الكثير من العمال الأجانب ذوي الخبرة القليلة تحبس جوازاتهم وتغير عقود عملهم ويعانون من عدم دفع رواتبهم لمدد مختلفة وبدرجات مختلفة. وقد جلبت الشركات الإنشائية والمشاريع التجارية الأخرى عمالا من الذكور من الصين وبلغاريا إلى إسرائيل للعمل في ظروف مساوية للعبودية أو الأشغال الشاقة غير الطوعيةْْ.( )
     اقتصادياً، تجار البشر المشاركون في سوق المنافسة يعرضون إنتاجهم في أشكال كثيرة. السعر الذي سيستلمه التاجر يعتمد على توفر العرض البشري المرغوب، ومميزاته، والأعداد المشابه المتوفرة، وفطنة التفاوض للمتاجر بالبشر. وتكون الأسعار المنخفضة جداً، غير مرغوبة للتجار حيث لا يتمكنون من خلالها من توفير النساء بسبب أن التكاليف ستفوق العائدات. وإذا لم تتغير التكاليف، فإن الزيادة في السعر تقود إلى ارتفاع الأرباح ومن ثمة زيادة عرض  النساء( ) بطريقة لا إنسانية.          
     تشير إحصائيات الأمم المتحدة إن الربح السنوي من الاتجار بالبشر يقدر بـ 8 مليار دولار، وأن ما يقارب 27 مليون شخص في العالم هم ضحايا الاتجار من ضمنهم 50% تحت سن 18 سنة، وهناك مليون طفل يتم الاتجار بهم لغرض الاستغلال الجنسي، عالميا، وفقا لليونيسف والأمم المتحدة, كما إن 12.3 مليون شخص يعملون في أعمال قسرية وأعمال من أجل رد الدين وما يطلق عليه العبودية الجنسية.( ) كما أكدت منظمة الهجرة الدولية تفاقم مشكلة الاتجار بالبشر لغرض الاستغلال الجنسي أو الاستغلال في العمل. وأشارت عند إطلاق حملتها لمكافحة هذه الظاهرة في تشرين الأول (أكتوبر) 2009 إلى التزايد المستمر في أعداد ضحايا ذلك الاتجار. وذكر تقرير أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية حول الموضوع عام 2009 أن تقديرات منظمة العمل الدولية تشير إلى إن 56% من ضحايا العمالة الإجبارية هم من النساء والفتيات.


                                                                                          





  - Tom Obokata, Trafficking of Human Beings from a Human Rights Perspective, Leiden, 2006, p. 10.
  - هاشم نعمة، أفريقيا دراسة في حركات الهجرة السكانية، ليبيا، 1992، ص 21-24.
  - نفس المصدر، ص 21-24.
  - Anette B. and Rebecca S. Untold Stories, International Migration, Vol. 48 (4) 2010, pp. 2-3.
  - Andrea Di Nicola et al., Prostitution and Human Trafficking Focus on Clients, 2009, p. 5.
  - Ray Jureidini, , Trafficking and Contract Migrant Workers in the Middle East, International Migration, Vol. 48 (4) 2010, p. 147.
  - International Migration Vol. 43 (1/2) IOM, 2005, pp.267-271.
  - Elizabeth M. et al, Economics  of Human Trafficking, International Migration, Vol. 48 (4) 2010, p. 119.
  - طريق الشعب 23 شباط 2011



81

التيار الديمقراطي في هولندا يسلّم مذكرة إلى السيد سفير جمهورية العراق  في هولندا 

                                                                                                                                                                                                                                                            مجيد إبراهيم خليل
بسبب إقدام السلطات الأمنية في بلادنا، وبطريقة فظّة على اعتقال أربعة من الشباب الناشطين المطالبين بإصلاح العملية السياسية، وتوفير الخدمات في ساحة التحرير ببغداد؛ بادرت لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا إلى كتابة مذكرة إلى الرئاسات الثلاث الموقرة في بغداد، تضمنت المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، ومحاسبة المسؤولين عن انتهاك الدستور والحقوق الأساسية للمواطن .
وقد قام وفد يمثل اللجنة مكون من : السيد علي محمود والآنسة رشا خليل بتسليم المذكرة إلى الدكتور سعد عبد المجيد العلي سفير جمهورية العراق في هولندا، ظهر يوم الاثنين السادس من حزيران 2011 . وقد استقبل السيد السفير الوفد بحفاوة بالغة، وعبّر عن تفهمه لمضمون المذكرة، ووعد بإيصالها إلى الرئاسات الثلاث، وتواصله مع الجالية العراقية وتيارها الداعم لإصلاح العملية الديمقراطية في البلاد . شكر الوفد السيد السفير على حسن الاستقبال والضيافة الكريمة .



82

السيد جلال الطالباني رئيس الجمهورية المحترم
السيد نوري المالكي رئيس الوزراء المحترم
السيد أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب المحترم
   تحية طيبة
     لم يكن في حسبان العراقيين المقيمين في هولندا دولة القانون والعدالة الدولية، بأن الشرطة السرية العراقية، أو ما يسمى بالشرطة المرتدية الملابس المدنية ، أن يكون لها دورا في قمع التظاهرات في عراق ليس فيه صدام حسين ولا جيشه ولا مخابراته ولا منتسبي مديرية الأمن العام وهو العراق الذي جعلته دكتاتورية ما قبل عام 2003 سجنا كبيرا يحرم فيه على المواطنين  ممارسة جميع أشكال التعبير الحر عن الرأي فامتلأ العراق كله بالشهداء والضحايا.
      آلمنا جدا خبر اعتقال  أربعة من الشباب الذين أرادوا ممارسة ابسط حق من حقوق المواطنة في التظاهر بساحة التحرير بشعارات ووسائل سلمية في ظل نظام ما بعد سقوط الدكتاتورية المقيتة التي قطعت خلال 35 عاما ألسنة الشباب العراقي الطموح إلى الحرية والديمقراطية.
     نستنكر بشدة اعتقال الشباب (مؤيد فيصل الطيب، علي عبد الخالق الجاف، أحمد علاء البغدادي، جهاد جليل) الذين تم اعتقالهم قرب ساحة التحرير صباح يوم 27 مايس (أيار) 2011 وهو الاعتقال الذي نعتبره عدوانا سافرا على الحق الإنساني المنصوص عليه بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبالدستور العراقي الجديد ونحملكم مسئولية العمل السريع لإطلاق سراحهم فورا مع الحفاظ على كرامتهم من الضرب والتعذيب والإهانة ومن كل الإجراءات وأساليب إرهاب الدولة المفروض أن العراق قد تخلص منها في النظام البرلماني حيث يصرح المسئولون العراقيون بكلام كثير عن الديمقراطية بغياب تام عن أفعالها.
     نطالب الرؤساء الثلاثة ليس فقط إلى المبادرة الفورية لإطلاق سراح المعتقلين الأربعة بل العمل مستقبلا على حماية المظاهرات القادمة، التي تشير الظروف الموضوعية إلى ازديادها مستقبلا، من أي تدخل قمعي بوليسي وإلا فنحن مضطرون لمناشدة منظمات حقوق الإنسان الدولية، ومناشدة القضاء الدولي لمعاقبة المعتدين على حقوق الإنسان وفقا للمعايير القانونية الدولية لحماية المواطنين العراقيين من القمع والاضطهاد والعودة إلى أساليب النظام الدكتاتوري المقبور واستمرار قهر الأحرار والديمقراطية في زمان الربيع العربي الناهض .
مع خالص تقديرنا واحترامنا
لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا
28 مايس (أيار) 2011
   

 

 

     



83
قراءة في كتاب "انهيار الرأسمالية...
 أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود"(4)

                                                                                                                 د. هاشم نعمة
      وشعر الأمريكيون بصدمة مروعة من هذه العمليات الإجرامية. لذلك، كانت خيبة ظنهم عظيمة فعلاً حينما وصلت إلى سمعهم قصص النصب والاحتيال. فوفق ما كتبه، كوبر القيادي في منظمة الدفاع عن حقوق المستهلكين "إن الأزمة الراهنة هي أزمة تضرب جذورها في أساس القيم الأخلاقية السائدة في الرأسمالية الأمريكية"، وعلى الصعيد نفسه تحدث الاقتصادي كروغمان عن وجود "نقطة تحول في المنظور الذي ينظر الأمريكيون من خلاله إلى أنفسهم".     
    تسببت سياسة بوش الابن الزائفة في وصول الدين الحكومي إلى مستويات ما كانت تخطر على بال قط: ففي سنوات حكمه الثماني ارتفعت مديونية الحكومة من نحو 3 تريليون إلى أكثر من 6.2 تريلون دولار. ومعنى هذا، أن الرئيس الثالث والأربعين كان قد راكم ديوناً جديدة بلغت قيمتها قيمة مجمل الدين العام الذي تراكم في عهد الواحد والأربعين رئيساً الذين حكموا البلاد، بدءا من جورج واشنطن وانتهاء ببوش الأب. وحتى الديمقراطيون، لم يعربوا عن اعتراض ملموس على هذه السياسة. فبوش يبرر التزايد الهائل في الدين العام بالكفاح ضد الإرهاب، وبالحربين اللتين تخوضهما أمريكا بقيادته، في أفغانستان والعراق. فعلى خلفية هاتين الحربين، زادت وزارة الدفاع نفقاتها بنحو كبير. فنحو نصف الديون الجديدة، التي استدانها بوش حتى صيف 2008، يكمن سببها، في الارتفاع الذي طرأ على الميزانية العسكرية الأمريكية.
     تعين على ملايين العائلات الأمريكية إخلاء منازلها وذلك لأنها ما عادت قادرة على خدمة ما بذمتها من قروض. والبعض منهم يُهجرون من منازلهم بكل معنى الكلمة، لا لشيء إلا لأن المصارف تتطلع بفارغ الصبر إلى المال. فخلال الفترة بين نيسان وحزيران عام 2008، فقط، جرى، عرض 739714 داراً للبيع بالمزاد العلني. وزاد عدد حالات الإفلاس إلى أكثر من الضعف خلال عام واحد وإلى أربعة أضعاف خلال ثلاثة أعوام. فواحد من كل 65 داراً سكنية، جرى عرضها للبيع بالمزاد العلني في كاليفورنيا. وكان الوضع في نيفادا، الولاية التي تأوي مدينة المقامرين، أشد وخامة؛ فواحد من كل 43 داراً، جرى عرضها للبيع في المزاد. إن هذا التهجير ما كان له مثيل حتى في حقبة الكساد الكبير الذي خيم على الولايات المتحدة في الثلاثينات. وكانت صحيفة نيويورك تايمز قد أكدت بأن الحُلم الأمريكي يباع بالمزاد العلني في الوقت الحاضر. 
      في البداية، تصور المرء أننا إزاء أزمة محلية، إزاء مشكلة يعاني منها بضعة عشرات الآلاف من أصحاب المنازل في الولايات المتحدة. غير أن هذه الأزمة سرعان ما انتقلت من سوق العقارات إلى سوق التمويل والمصارف، ومن ثم إلى مجمل الاقتصاد الأمريكي أولاً، والاقتصاد الأوروبي فيما بعد. إن هذه الأزمة هي أوخم أزمة تعصف في أسواق المال منذ حقبة الكساد الكبير.
      دفع العالم ثمناً باهظاً بسبب هذه الأخطاء. ففي الأسابيع التالية انهار مجمل النظام المالي. فالثقة بين المصارف تبددت بالكامل. فالإقراض بين المصارف توقف تماماً، وصار يهدد الجميع بالإفلاس. فكل مصرف يسأل: على من ستدور الدائرة، ويعلن الإفلاس؟ وعلى خلفية هذا التطور، انهارت بالكامل المتاجرة بالمشتقات ووصلت أسواق الأسهم في البورصات العالمية إلى الحضيض حيث شهدت، في خريف 2008، عمليات بيع للأسهم لم تشهد لها مثيلاً منذ 1929.
  وكانت المصارف قد قامرت بأوراق مالية، غامضة الخلفيات، وصفها المستثمر بوفيت، بأنها "أسلحة مالية من أسلحة الدمار الشامل" قامرت بما يسمى مبادلات التأمين ضد مخاطر إفلاس هذه الشركة أو تلك والمسماة اختصاراً CDS. وكانت قيمة هذه الأدوات المالية قد بلغت 62 تريلون دولار في مطلع 2008، أي زادت قيمتها على إجمالي الناتج الذي يحققه العالم سنوياً. وقد هاجم المدعي العام في نيويورك صناديق المخاطر بعبارات أكثر صرامة، عندما قال: "إنهم أشبه بالعصابات التي تنهب خيرات المنازل والأسواق التجارية بعد كل إعصار تتعرض له المدن"
     وخلال بضع ساعات انتشرت أخبار مفزعة حقاً: أخبار أنذرت بأن وول ستريت لن يكون، من الآن فصاعداً، هو نفسه كما عرفه العالم حتى الآن. فخلال ثلاثة أيام اختفت ثلاثة من كبرى بيوت الاستثمار: ليمان براذرز أعلن الإفلاس وميريل لينش بيعت وغولدمان ساكس ومورغان ستانلي تحولا إلى مصرفين قابضين متواضعين. لقد استسلم مركز الرأسمالية للمكتوب. استسلم هذا المركز المالي الذي كان حتى ذلك الوقت مفخرة أمريكا، والمكان الذي يحدد للاقتصاد العالمي شروط اللعبة، والذي كان رمز العجرفة والغطرسة، والإهمال والحياة المريحة الناعمة. فمصارف الاستثمار درت، على مدى عقود كثيرة، مالاً وفيراً على أمريكا، كانت الآلة السحرية التي تكلفت بخلق المال بلا انقطاع. غير أن هذه الآلة توقفت عن العمل الآن. وكان شتاينبروك وزير المالية الألماني  قد أكد أن "الولايات المتحدة لم تعد القوة العظمى في النظام المالي العالمي". وشعر العالم برمته بآثار الصدمات التي نشأت عن هذه الأزمة: فقد انهارت أسواق الأسهم في كل بقاع المعمورة. وتعين على روسيا أن تغلق أبواب البورصة وأن تضخ عشرات المليارات من الدولارات في سوق الأسهم، وترنح في بريطانيا وألمانيا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ العديد من المصارف. وكيفما اتفق، فقد تضعضعت ثقة الأمة الأمريكية بنفسها. فأمريكا غدت كما تنبأ عالم الاجتماع سينيت، "بلداً في طور الانحطاط". على صعيد آخر، راحت أيسلندا تتوسل إلى صندوق النقد الدولي راجية منه منحها قرضاً يساعدها على مواجهة الأزمة. لقد أفلس إفلاساً مروعاً هذا البلد، الذي نفذ بالكامل النصائح التي قدمها له الاقتصاديون من أنصار الليبرالية المحدثة في الثمانينات والتسعينات. وجرف تيار الأزمة بلدانا بأكملها، مثل ايرلندا والمجر.   
    ليمان براذرز هذا الاسم الذي ستتحدث عنه كتب التاريخ. فإفلاس مصرف الاستثمار هذا تسبب في اندلاع زلزال أمسى علامة بينة تشير إلى بداية نهاية الرأسمالية المحررة من الضوابط والقيود. فعلى مر التاريخ، لم يسبق قط، أن صفت المؤسسات المالية، على جناح السرعة، هذا الكم الهائل من متاجرتها بالأوراق المالية. فانهيار هذا المصرف كان قد خلق سلسلة ردود أفعال ما كان أحد قادراً على السيطرة عليها، لا الحكومات ولا المصارف المركزية. فقد تراجع مؤشر داو جونز إلى أقل من 10 آلاف نقطة. أي سجل انخفاضاً بلغ 800 نقطة. إن التراجع بهذا المقدار في يوم واحد حدث ما كان له مثيل في تاريخ هذا المؤشر البالغ من العمر 112 عاماَ.
    أمسى الاقتصاد في أمس الحاجة إلى منقذ لايزال، وحده، يتمتع بشيء من الثقة، وهو الحكومة. إذ هي الطرف القادر على الوقوف في وجه الانهيار، وتأمين الاستقرار. لكن الثمن عظيم حقاً، فقد تعين عليها أن تخصص مئات المليارات لإسعاف المصارف، لأنها تعلم جيداً أن العزوف عن هذا التدبير يهدد بنشأة سلسلة ردود أفعال شبيهة بالأزمة التي تعرض لها الاقتصاد العالمي في نهاية العشرينات، إذ سيتعين عليها، تمويل الملايين من العاطلين عن العمل.
      تعصف أزمة الرأسمالية بعالم أمسى يعيش انقلاب جذري. فالدول الصناعية تخسر أكثر فأكثر هيمنتها، في حين تبذل دول الاقتصاديات الناشئة الجهود لاحتلال المراتب المتقدمة. إنها عقدت العزم على إجبار العمالقة القدماء على التنحي جانباً. فسابقاً، كان الأوروبيون والأمريكيون يتفاوضون مع بعضهم فقط بشأن القواعد المتحكمة في التجارة السلعية. أما الأمم الأخرى، فما كان من حقها غير التوقيع على ما تفرضه عليها الدول الصناعية. أما الآن، فقد أمست دول الاقتصاديات الناشئة تصر على ضرورة مراعاة وجهات نظرها ومصالحها، لاسيما أنها تفوقت، على الدول الصناعية من حيث مساهمتها في النمو الاقتصادي العالمي.
     إن تراث الليبرالية المحدثة الذي خلفه ريغان وتاتشر قد نحي جانباً ولم يعد له دور يذكر. والأمر الواضح، هو أن عصر التطرف في التحرير الاقتصادي قد ولَّى وانقضى، وأن عصراً جديداً قد حل محله: عصر الدولة الأكثر قوة وفاعلية.   
    ويؤكد المؤلف في نهاية الكتاب، إن مستقبل الرأسمالية يتوقف على مدي التغيير الذي سيطرأ على الأخلاقية السائدة وعلى إدراك الجميع أن مبدأ المسؤولية الاجتماعية لا يقل أهمية عن مبدأ السوق الحرة. أما إذا تم تجاهل هذه الحقيقة، فإن اقتصاد السوق معرض للمصير نفسه الذي تعرضت له الاشتراكية: الانهيار والاختفاء من الوجود.
انتهى

84
انتهاك صارخ لحق التظاهر

      أقدمت قوات ترتدي الزي المدني على اعتقال أربعة من الشباب المشاركين في الاحتجاجات السلمية قرب ساحة التحرير في بغداد صباح يوم 27 مايس (أيار) 2011 وهم (مؤيد فيصل الطيب، علي عبد الخالق الجاف، أحمد علاء البغدادي، جهاد جليل)، وبطريقة مخالفة لكل القوانين، وفي انتهاك سافر لحقوق الإنسان وفي مقدمتها حرية التعبير عن الرأي. حيث جرى ضربهم وشتمهم وتصويب البنادق على رؤوسهم، في ما تم سحل البعض منهم من قبل مدنيين ترافقهم قوات عسكرية إلى سيارات الإسعاف التي نقلتهم إلى أماكن مجهولة.
     إن هذه الاعتقالات التعسفية باتت تتكرر ضد المتظاهرين بشكل سلمي مما يستلزم أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها في وقفها فورا وعدم اللجوء لها لأنها تعد مخالفة صريحة لحرية التعبير التي كفلها الدستور وسيترتب عليها تقديم المسؤولين عنها للمثول أمام القضاء. إننا نطالب بإطلاق سراحهم فورا وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم جراء هذا الاعتقال اللا قانوني.
الحرية للشباب المعتقلين الأربعة
المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا
28 مايس 2011

85
قراءة في كتاب "انهيار الرأسمالية...
أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود"(3)

                                                                                                                      د. هاشم نعمة

تفاعلات الأزمة
     ويتعمق الكاتب في تحليل آلية عمل  أسواق المال التي تحولت إلى خطر يتهدد الاقتصاد الحقيقي، أي الإنتاجي. تحولت إلى كازينو للقمار جذاب فعلاً بأضوائه المتوهجة. إن اللاعبين في هذا الكازينو يمكن أن يقوضوا أركان شركات عملاقة ومتوسطة، إذا خسروا الرهان. لا بل قد يتسببون في زعزعة الاستقرار في دول بأكملها.  وكان برونز محافظ البنك المركزي في إدارة الرئيس نيكسون قد تنبأ في السبعينات باندلاع هذه المخاطر. فوفق تنبؤاته، "يؤدي تحرير أسواق المال إلى شقاء الإنسانية بكل تأكيد". وبعد ثلاثين عاماً، أكد خليفته فولكر على صدق هذا التنبؤ.
    بدا الأمر وكأن أسواق المال باتت تخلق مليارات ومليارات، من اليورو أو الدولار من لا شيء. واغتنمت الشركات العملاقة والمصارف المختلفة الفرصة فراحت تمول عمليات ضخمة تشتري الشركات في سياقها شركات أخرى. على صعيد آخر، عاش العالم- بتشجيع من المصارف الاستثمارية- حميا عمليات اندماج لم يشهد العالم لها مثيلاً منذ عشرات السنين. وراحت صناديق المخاطر تراهن على المستقبل من خلال أدوات مالية غاية في الشمولية والتعقيد. وتقتنص مؤسسات "الجراد" المشاريع بغية شرائها أولاً، وتفكيكها، وبيعها لاحقاً بأسعار تحقق ربحاً وفيراً. وبعبارة واحدة، يمكن القول إن العصر الجديد كان عصر جشع لا يعرف الحدود.
  وكان ويلش عنواناً لنظرية تكن كل الاحتقار للمشاعر الإنسانية. إنه العنوان الصادق على النظرية التي انتشرت في التسعينات: أي نظرية تعظيم الأسهم، فهذه النظرية تقيم عمل  رؤساء الشركات من منظور واحد ومن خلال هدف محدد يتمثل في أن قيمة أسهم الشركة يجب أن ترتفع بأسرع معدل ممكن. ومعنى هذا هو أن رئيس الشركة المهتم بتعظيم الأسهم لا يجوز له أن يأخذ في الاعتبار الرزايا الإنسانية الناتجة عن تسريحه آلاف العاملين. وتعم الفرحة البورصات، خصوصاً، حينما يتناهى إلى سمعها أن رؤساء الشركات قد سرحوا قسماً من العاملين لديهم. وتنعكس هذه الغبطة في ارتفاع قيمة أسهم الشركات. ويسبغ هذا المنطق الشاذ النفع الوفير على قادة الشركات، خصوصاً، فمكافأتهم المالية تتم من خلال خيارات الأسهم في المقام الأول. 
      كانت لدى المصارف علاقات وثيقة جداً بالسياسيين، لأنها كانت تمن عليهم بتبرعات سخية جداً. سواء تعلق الأمر بالديمقراطيين أو الجمهوريين في الولايات المتحدة، فلم يصل الجميع إلى البيت الأبيض إلا بفضل الدعم المالي الذي يقدمه لهم "وول ستريت"، ففي هذا الشارع ينشط أكثر المتبرعين سخاء. وللتعبير عن شكرها تركت الحكومة والكونغرس، مصارف الاستثمار تعمل بلا منغصات وبلا قيود ذات بال. وفي المقابل دأب "وول ستريت"، طواعية، وعن طيب خاطر، على إعارة واشنطن أفضل ما لديه من رجال أعمال للعمل في مؤسسات الدولة الحساسة كوزراء مثلاً .         
    وفي روسيا، تمكنت حفنة صغيرة، ذات سلطان كبير في الحكومة، من الاستحواذ على السندات واستخدامها للاستيلاء على المصانع الحكومية بابخس الأثمان. وهكذا، تطور في روسيا نظام كاسر يجمع بين بقايا الاقتصاد المخطط والملامح الأولية لاقتصاد سوق أطلق لها العنان حقاً.
     في منتصف التسعينات، ترنحت، الرأسمالية. وكانت رياح الأزمة قد هبت من مكان ناء عن الدول الصناعية الغربية. فالأزمة نشرت ظلالها، أولاً، في الاقتصاديات الناشئة، التي كانت قد أسرفت، بعض الشيء، في تنفيذ عملية الانفتاح الاقتصادي. وفي عام 1994 انهار الوضع في المكسيك، وبعد ثلاثة أعوام أخذت تترنح في جنوب شرقي آسيا، بلدان النمور أيضاً. وكان المستثمرون قد تجاهلوا كل التحذيرات، فضخوا أموالا طائلة في الدول السريعة النمو. وحين انفجرت، في جنوب شرقي آسيا، الفقاعة في أسواق الأسهم والعقارات، ذٌعر هؤلاء المستثمرون ففروا بملياراتهم. وكان فرارهم هذا قد تسبب بدوره، في تصعيد عملية الانهيار. وكان وكيل وزير المالية الياباني آيزوكه قد أكد في يناير عام 1998 على "أن الأزمة ليست أزمة آسيوية، بل هي أزمة النظام الرأسمالي العالمي".
     تريد الصناديق المغامرة تحقيق أقصى الأرباح في أسرع وقت ممكن. ولهذا السبب تراها تستدين من المصارف أموالاً تصل أضعاف الأموال التي تجمعها من المستثمرين المساهمين فيها. فبهذا النحو تستطيع رفع قيمة الأموال التي تغامر بها في كازينو المال العالمية إلى عشرة أضعاف، لا بل إلى عشرين ضعفاً مقارنة بحجم الأموال المشاركة في الصندوق المعني. وفي نهاية الثمانينات، كان عدد نوادي القمار هذه لا يتجاوز المائة. أما في نهاية التسعينات، فقد ارتفع إلى نحو ثلاثة آلاف، وعام 2008 إلى ما يقارب عشرة آلاف.
     وكان صندوق "أل تي سي أم" قد فاق كل الصناديق الأخرى من حيث وحشية ما انتهج من أساليب. حيث استقطب عام 1998 ودائع بلغت قيمتها 4.7 مليار دولار وحصل على قروض وصلت قيمتها 120 مليار دولار. واستثمر هذه المبالغ الهائلة في أدوات مالية ليست عالية المخاطر فقط، بل وتتعلق بها، من ناحية أخرى، أوراق مالية تصل قيمتها إلى 1.5 تريلون دولار. بهذا، فإن صندوق المخاطر هذا كان يتعامل بمبالغ تفوق قيمة الإنتاج الذي تحققه النمسا أو إسبانيا في العام الواحد. إنه كان أكبر صندوق مخاطر في العالم حقاً.     
     أرتفع حجم المتاجرة بالمشتقات التقليدية، أي حجم المقامرة بمعدلات الفائدة ومؤشرات البورصات، بين 1986- 2004، بنحو ثمانين ضعفاً من 614 مليار دولار إلى 46.6 تريليون دولار أي إن تطور أسواق المال ما عادت له علاقة بتطور الاقتصاد الإنتاجي: فسابقاً كانت أسواق المال تزود الصناعة بما تحتاج إليه من قروض؛ أما في الوقت الحاضر، فإنها تهيمن على الاقتصاد العالمي وتجبر المشاريع على تنفيذ التغيرات التي تفرضها عليها. ولم يسأل القوم أنفسهم عن الطريقة التي سينتهجها الاقتصاد النقدي ليحقق، على الدوام، أرباحاً تفوق قيمة الربح المتحقق في الاقتصاد الإنتاجي.
     ولأول مرة يعم السخط من وحشية الرأسمالية فئات اجتماعية عريضة. وكان احتجاج مناهضي العولمة قد تفجر في وقت مبكر، عام 1999، وذلك على هامش اجتماع منظمة التجارة العالمية في مدينة سيتل. بيد أن الحكومات والشركات لم تأخذ هذا الاحتجاج مأخذ الجد.
      لقد كان الانهيار أمراً لا مناص منه. فكان المستثمرون، في حقبة الاقتصاد الجديد، قد تجاهلوا كل المقاييس والمعايير. فهم اشتروا شركات ما كان لها مستقبل قط. ووثقوا بإرشادات خبراء في شؤون الأسهم، تبين أنهم لم يكونوا خبراء، بل نصابين لا ضمير لهم. في النهاية، استسلم هؤلاء المستثمرون للجشع، فقط. وكان الجشع هو العامل الذي مكن بعض الشركات الصغيرة من أن تسجل، في البورصات، قيمة تفوق بكثير قيمة شركات مملوكة من قبل الدول وتشغل مئات الآلاف من العاملين. إن هذا الجشع هو الذي تسبب في جعل قيمة أسهم الشركات تنمو بمعدلات تفوق، بكثير، معدلات نمو إجمالي الناتج القومي. وكان هذا الجشع قد سيطر على كل قطاعات المجتمع: سيطر على الأغنياء، وعلى الموظفين والمستخدمين، وعلى الطلاب الجامعيين.
      لكن شيئا آخر طفا على السطح حينما انهار الاقتصاد الجديد: لقد تبين أن قصص النجاح الباهرة لم تكن سوى زور وبهتان، وأن العديد من رجال الأعمال الذين وثق بهم المواطنون، لم يكونوا في الواقع سوى محتالين نصابين. ولم يتقن أحد من رجال الأعمال هذا النصب والاحتيال بالنحو الذي أتقنته شركة إنرون للطاقة والمقيمة في تكساس، التي كانت تمتلك أمتن العلاقات بالرئيس الأمريكي.
    وقد صدم الأمريكيين قوة التشابك بين إنرون والجهاز الحكومي في واشنطن. فالعلاقات التي نسجت خيوطها هذه الشركة ما كان بإمكانها أن تكون أقوى مما كانت عليه قط. فمنذ عام 1990، كانت الشركة قد تبرعت لمجموعة من السياسيين، بنحو 6 مليون دولار. فقد حصل نصف أعضاء مجلس النواب وثلاثة أرباع مجلس الشيوخ على دعم مالي منها. ومن هنا، لا غرو أن يخفف الكونغرس، في التسعينات، من شدة القواعد المفروضة على المتاجرة بالطاقة الكهربائية. وعقب انتخاب بوش، احتل سياسيون جمهوريون، سبق الهم العمل في إنرون زمناً طويلاً، مناصب غاية في الأهمية في الإدارة الحكومية: فرئيس قسم الإدارة في الشركة، ليندسي أصبح كبير مستشاري الرئيس للشؤون الاقتصادية؛ وزوليك المستشار السابق للشركة غدا المكلف بشؤون التجارة؛ ووايت رئيس مجلس المديرين التنفيذيين لدى إنرون، أصبح وزيراً للدفاع. نادرا ما أقامت إحدى الحكومات الأمريكية علاقات بهذه المتانة مع شركة واحدة. وعقب الانتخابات، اجتمع قادة هذه الشركة ست مرات بنائب الرئيس تشيني وذلك للتداول بشأن السياسة الواجب تنفيذها، مستقبلاً، في مسائل الطاقة.
    ومثلما ظلت الارتباطات السياسية، التي أقامتها إنرون، خفية عن الأنظار، ظلت أيضا خفية تلك الشبكة الواسعة، التي كانت إمبراطورية إنرون قد نسجت خيوطها. فخبراؤها المتخصصون بالتحايل المالي أسسوا أكثر من 4000 "شركة" ما كان لها أي وجود في الحسابات الختامية. ولم تكن هذه "الشركات" أكثر من نسيج الخيال، عالم كان يُراد منه تزويق البيانات الحسابية الخاصة بالشركة. وكان أغلب هذه الشركات الوهمية تقيم في جزر الكيمن- أي في الجزر التي تندرج ضمن الواحات الضريبية الواقعة في البحر الكاريبي- وتحمل أسماء براقة. والمراد من هذه الشركات التستر على الوضع الحقيقي للشركة مقابل المصارف والمساهمين ومكاتب الضريبة. إن فضيحة إنرون التي أفلست إفلاساً مريعاً، لم تكن حدثاً فريداً. فالصفقات غير المشروعة وتزوير الحسابات الختامية والميزانيات كانت أموراً شائعة في الاقتصاد الجديد. ففي عام 2002، اعترفت مئات الشركات الأمريكية بأنها كانت تزور بياناتها الحسابية. وكانت العشرات من هذه الشركات قد أعلنت إفلاسها.
يتبع

86
إعلان من لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا

      عقد المؤتمر التأسيسي لقوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا يوم السبت 14 مايس 2011 بحضور 100 من الشخصيات الديمقراطية العراقية وناقش الوثائق المقدمة له وأبدى ملاحظاته لاغنائها وتصويبها وهي:
-  المهام البرنامجية لقوى وشخصيات التيار الديمقراطي .
-  آليات عمل قوى وشخصيات التيار الديمقراطي .
-  برنامج مهام قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا .
     وتلقى المؤتمر تحايا من : لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في بغداد
ولجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في بريطانيا ومن الحزب الوطني الديمقراطي- جناح نصير الجادرجي أرسلها المحامي روؤف ديبس عضو المكتب السياسي للحزب.
 
      وتم انتخاب لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا من سبعة أعضاء بطريقة الاقتراع السري. واستكمالا عن ما تمخض عن المؤتمر بضرورة العمل على استقطاب كل الشخصيات الديمقراطية في الساحة الهولندية والتي لم تتمكن من حضور المؤتمر عقدت لجنة التنسيق اجتماعها الأول بكامل أعضائها يوم السبت 21 مايس 2011 وناقشت سبل تفعيل وتنفيذ توجهات وتوصيات المؤتمر ووزعت المهام بين أعضائها  كما يلي :
 
-         جاسم المطير             رئيسا
-         هاشم نعمة                سكرتيرا
-         هلال البندر               مسؤولا للمالية
-         نهاد القاضي             عضوا
-         نضال إسماعيل          عضوا
-         علي محمود              عضوا
-         رشا  خليل                عضوا
 
     وتدارست اللجنة تشكيل لجان تنهض بمختلف نشاطات التيار الديمقراطي على صعيد الساحة العراقية والهولندية الأوروبية وتنفيذ برامجها المختلفة والتي يكون في مقدمة أولويتها تعميق الفكر الديمقراطي. وستواصل استكمال النقاش لهذا الجانب في اجتماعها القادم. وبهذه المناسبة تتقدم لجنة التنسيق بالشكر الجزيل لكل من ساعد على انعقاد المؤتمر التأسيسي سواء من خلال الحضور أو الدعم ولكل من ساهم بالمناقشات التي جرت داخله وإغنائه بالأراء القيمة وباقتراحات تطوير برامجه بما يخدم مستقبل الحركة الديمقراطية العراقية.
 
مع خالص تقديرنا
 
لجنة تنسيق قوى وشخصيات التيار الديمقراطي في هولندا
21 مايس 2011

87
الديوان الشرقي الغربي – كولون يعقد مؤتمره السنوي



بحضور عدد من السيدات والسادة من الاعضاء والاصدقاء عقد الديوان الشرقي الغربي في مدينة كولون الالمانية مؤتمره السنوي بتاريخ 7/5/2011 وعلى قاعة الديوان،. في بداية المؤتمر قرأت رسائل التحايا التي ارسلت من شخصيات ومنظمات عراقية، وهي حسب تسلسل وصولها
الفنان التشكيلي سلام الشيخلي، الفنان ثامر الزيدي، النقابي واحد توفيق، الدكتور حسن حلبوص، لجنة تنسيق التيار الديمقراطي في المانيا الاتحادية، جمعية الطلبة العراقيين في المانيا الاتحادية، منظمة الحزب الشيوعي العراقي/ كولون. تضمنت الرسائل التمنيات بالاستمرار لعمل الديوان في مجال الثقافة والفنون والعلوم، وتعليم الجيل الجديد اللغة العربية ، ونشر ثقافة الموسيقى والمسرح، وترسيخ ثقافة قبول الاخر.
تناول المؤتمرون التقرير المالي الذي بين أن الديوان يعتمد في ماليته على تبرعات اعضائه الدائمين وعدد من اصدقائه، والقليل من واردات الفعاليات التي تسد جزءا من المصاريف العامة. ولا يزال العجز المالي احد اهم المعوقات في تطوير عمل الديوان وخصوصا الافتقار الى اي دعومات من اية جهة المانية او عراقية. على ضوء التقرير المالي قدمت العديد من المقترحات التي ستأخذ بها اللجنة المنتخبة القادمة.
انتقل المؤتمرون لمناقشة التقرير الانجازي، الذي بين كم ونوع الفعاليات التي قدمت على قاعة الديوان، ومساهماته ضمن نشاطات منظمات عراقية والمانية اخرى، في مدن المانية ثانية، ومدى تأثيرها على الجالية العراقية، وحجم وصولها الى الشعب العراقي، بعدها قدمت مجموعة من الافكار المقترحة للدورة القادمة. كانت النشاطات محط تقدير المؤتمرين، مما زرع الرغبة فيهم للاستمرار بالعمل في مختلف المجالات التي تم التطرق لها، أو تلك التي لاتزال بعيدة عن نشاطات الديوان.
في فقرة تقارير المجاميع، قدمت فرقة أور المسرحية تقريرها، الذي اشار الى دور الديوان في توفير سبل العمل والنجاح للفرقة، بتهيئة المكان للتدريب والتحشيد لعروضها.واشار الفنان حسن الدبو الى أن ما قدمه الديوان للفرقة يعد فرصة ذهبية.
و في عرض لمجموعة الفنانين التشكيليين والموسيقيين، جاء التأكيد على دور الديوان في توفير المكان وتهيئة الجمهور، والمساهمة في تعريف الاطفال بالموسيقى العراقية وتقديم الدروس التعليمية لهم، في مجال الخط والرسم والموسيقى.
بالرغم من غياب المجموعة المصرية فقد تم التطرق لنشاطها ضمن الديوان، واسباب عدم استمرارها، مع الدعوة لهم بالعمل مرة اخرى ضمن فعاليات الديوان.
في مكان آخر من نشاطات الديوان تستمر مدرسة الزهاوي، في تقديم دروس اللغة العربية و السفرات التعليمية والنشاطات الفنية للاطفال، على الرغم من الصعوبات المادية التي يواجهها الديوان ، في حين جرت محاولات عديدة في تقديم دروس اللغة الكردية لبنات وابناء الجالية العراقية من القومية الكردية، لكنها لم تنجح لاسباب عديدة، خارجة عن ارادة الديوان. يذكر أن الطالب يوسف عبد الرحمن من مدرسة الزهاوي قد فاز بمسابقة الرسم التي اقيمت في لندن.
ثم قدم الدكتور بدر الجبوري تقريره عن المهرجان العراقي العلمي - الثقافي المزمع عقده عام 2011 بمشاركة العديد من اساتذة الجامعات الالمانية والاوربية المختصين بالموارد المائية والبيئية، الذين سيعرضون انتهاكات دول الجوار على حصص الشعب العراقي من المياه، وآثار ذلك على مستقبله البيئي والصحي والاقتصادي.
اقر المؤتمرون التغيير المقترح على النظام الداخلي، وما يتناسب والفعاليات القادمة، التب تساهم في تطوير العمل.
في الختام انتخبت هيئة ادارية جديدة، تقود العمل للدورة القادمة وتشكلت من
هيثم الطعان رئيساً للديوان
ماجد الخطيب نائبا للرئيس
مهند صالح مسؤول المالية
د.بدر الجبوري مسؤول العلاقات العامة
ماجد فيادي مسؤول الشؤون الادارية
الهيئة الادارية للدوان الشرقي الغربي في مدينة كولون الالمانية


 



88
قراءة في كتاب "انهيار الرأسمالية...
 أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود"(2)
                                                                   
                                                                                                            د. هاشم نعمة

الخلفية النظرية
     انتشرت، منذ منصف السبعينات، أفكار فريدمان وهايك في كثير من بلدان العالم. وطبقت تاتشر نظرياتهما عندما أصبحت رئيسة وزراء بريطانيا. كما تبني ريغان أفكار ما يسمى "صبيان شيكاغو" حينما أصبح رئيساً للولايات المتحدة عام 1981. وطبق كثير من الاقتصاديات الناشئة أفكار منظري الليبرالية المحدثة وتعاليم ثورتهم المضادة. وهكذا جسد ممثلو مدرسة شيكاغو في الثمانينات والتسعينات الصورة الدقيقة لليبرالي المحدث الذي لا يعرف الرحمة ولا يكن العطف للضعفاء. فهم لا يرفضون وجود الدولة القوية فقط، بل يطالبون بضرورة أن تصبح الدولة بلا أهمية أصلاً. إن نظريات فريدمان وهايك وأفكار أنصارهما ما عادت لها علاقة وثيقة بالنظريات والأفكار التي نوقشت عام 1938. وبدلاً من هذا، تراهم يعودون إلى الليبرالية التقليدية الكلاسيكية، التي صاغ أسسها آدم سميث الذي وضع أسس علم الاقتصاد في القرن الثامن عشر والتي ظلت تهيمن على الساحة حتى القرن التاسع عشر.
      الأمر الذي لا يمكن تجاهله هو أن نظرية الليبرالية التي تُعلي من دور السوق قد قادت، في عقود الزمن الماضية، إلى كارثة عظيمة فعلاً. فالدولة الضعيفة ما كانت تتوفر لها الوسائل الضرورية لمواجهة القوة الضخمة التي باتت الشركات والصناعات تتمتع بها، وقد تحولت السياسة إلى فريسة تتلقفها أيادي مجموعات تدافع عن مصالحها الخاصة بما تمتلك من نفوذ وجبروت عظيمين، كانت قد تحولت إلى دمية تحركها السوق على النحو الذي يروق لها. بهذا المعنى، فإن نظرية "دعه يعمل، دعه يمر"، أي نظرية النشاط الاقتصادي المحرر من التدخل الحكومي، قد بان بطلانها على نحو لا مجال فيه للاختلاف.
     استمر عصر ازدهار الرأسمالية أكثر من عقد ونصف، والأمر البيِّن هو أن المستثمرين الماليين ومصارف الاستثمار والبورصات وأسواق رأس المال قد غيروا نمط عمل الاقتصاد وأدخلوا تغييرات مهمة على بنية المجتمعات. وتزامن هذا التحول مع تحول تاريخي، تمثل بنهاية الاشتراكية وتفكك الإتحاد السوفييتي وإفلاس الاقتصاد المخطط. وكان أنصار اقتصاد السوق الحرة قد هللوا لهذه التحولات ورأوا فيها الدليل القاطع على صواب عقيدتهم، وراحوا يتصرفون وكأن الرأسمالية خالية من العيوب، وكأن قواعدها سليمة تتفق تماماً مع روح العصر الجديد. وبعد مضي ما يقرب من العامين على انهيار جدار برلين راح الكاتب الأمريكي فوكوياما يعلن، في كتابه له واسع الشهرة، "نهاية التاريخ". وقد تنبأ، بشيء من الإسراف، "بنهاية تطور الإنسانية أيديولوجيا، وأن الديمقراطية الليبرالية المتعارف عليها في العالم الغربي ستكون صيغة الحكم النهائية على مستوى العالم أجمع".
    ولم يكن ساكس، وغيره من أساتذة الجامعات، في بلدان مختلفة، هم فقط الذين تنقلوا بين البلدان بغية التبشير بالرأسمالية، فالاقتصاديون العاملون في صندوق النقد الدولي صاروا، أيضاً، مبشرين يجوبون دول المعسكر الشرقي، سابقاً، وآسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لنشر الرأسمالية. فصندوق النقد الدولي، تلك المؤسسة التي جرى تكليفها، سابقاً، بصيانة أسواق المال من التعرض للأزمات، تحول، في السبعينات والثمانينات، إلى داعية من دعاة اقتصاد السوق المحررة من القيود. وكان الصندوق يغري الدول بالمال وبالقروض الميسرة، زاعماً أنه يمنح هذه الأموال حباً في مساعدتها. بيد أن الواقع يشهد أن الصندوق كان يريد من هذه المساعدات أن تكون سبيلاً للوصاية على هذه الدول، فالدول المدينة تحصل على المليارات، فقط، في حال انصياعها لشروط صارمة، تلزمها بتحقيق التوازن في موازنتها الحكومية وخصخصة مشروعاتها وتحرير تجارتها الخارجية وخفض المعدلات الضريبية. ويسري الأمر على أولئك الاقتصاديين الذين يعملون لدى البنك العالمي أيضاً، هذا البنك الذي يقع مقره مقابل مقر صندوق النقد الدولي. ويتحدث منتقدو المؤسستين عن "اتفاق واشنطن"، أي عن تلك السياسة التي تملي على الدول تنفيذ إصلاحات غاية في التطرف، ولا تعير أي اهتمام لما يعانيه المواطنون من أعباء ترتبط بهذه الإصلاحات.
    وعلى خلفية هذه الحقيقة، راحت دول النمور في جنوب شرقي آسيا- تايلاند وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا وهونغ كونغ- وبلدان أمريكا الجنوبية أيضا (المكسيك مثلاً وليس على سبيل الحصر) تفتح أسواقها لمواجهة المافيا العالمية.
     أعطى السياسيون الانطباع بأنهم يريدون، فعلاً، إخضاع الرأسمالية لقواعد جديدة بعد أن بدأت مؤشرات الأزمة. ففي حين راح المحافظون يؤكدون، بلا كلل، أن الواجب يقتضي خلق نظام جديد للاقتصاد العالمي، تحدث السياسيون المؤمنون بالاشتراكية الديمقراطية، من قبيل شرودر وبلير، عن ضرورة انتهاج  طريق ثالث، بين الرأسمالية والاشتراكية. بيد أن هذه الكلمات لم تتبعها سوى أفعال ضئيلة.
   لم يبذل أحد جهداً لترويض الرأسمالية المطلقة العنان؛ لم يجرؤ أحد على التشكيك بصواب المبادئ السائدة. إن عدم المبالاة، التي سيطرت على السياسيين وقادة الاقتصاد في البلدان الصناعية، كانت وخيمة حقاً. فهؤلاء ظلوا، بعد مضي ما يقرب من عشر سنوات على انهيار الاشتراكية، مستسلمين لمشاعر انتصار النظام الرأسمالي على النظام الاشتراكي. وهكذا، سار العالم، في نهاية الألفية الثانية ومطلع الألفية الثالثة، بخطى حثيثة صوب الأزمة التالية.
    ينشأ الانهيار، الذي عاشه العالم في خريف 2008، في نهاية كل ازدهار يمر به العالم. هكذا كان الحال في الأعوام 1929 و1987 و2000. فجميع النظريات الجميلة عن السوق التامة الكمال، أي جميع النظريات الاقتصادية التي انطلق الاقتصاديون منها، في الماضي، لشرح ما يدور في العالم من ظواهر ومعاملات اقتصادية، أمست بين ليلة وضحاها، زيفاً لا طائل منه.


89
قراءة في كتاب "انهيار الرأسمالية...
 أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحررة من القيود" (1)

                                                                                                                د. هاشم نعمة
     صدر العديد من الكتب في الدول الغربية تعالج موضوع الأزمة المالية العاصفة التي يمر بها العالم، ومن هذه الكتب صدر كتاب بالعنوان المذكور أعلاه  باللغة الألمانية عام 2009 للاقتصادي أولريش شيفر وقام بترجمته الأكاديمي العراقي الدكتور عدنان عباس علي وصدر ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية عام 2010. وينقسم الكتاب إلى اثنتي عشر فصلاً ويقع في 472 صفحة.
     تأتي أهمية هذا الكتاب في تقديرنا من أن مؤلفه يؤمن بالعدالة الاجتماعية في ظل النظام الرأسمالي وبذلك فهو من الناحية الأيديولوجية لا يمكن وصفه خصماً أو متحاملاً على هذا النظام كما درجت العادة على وصف الكتاب والمفكرين الماركسيين في تصديهم لتحليل الأزمات البنيوية للرأسمالية.
     في الحقيقة أن أزمة النظام الرأسمالي قد طفت على السطح، أولاً، في تسعينات القرن العشرين، في الاقتصاديات الناشئة. وبلغت الذروة في الدول الصناعية في مطلع الألفية الثالثة، وذلك حين انهارت أسهم الشركات المتخصصة في التكنولوجيا الجديدة. ومنذ ربيع 2007 أخذت الأزمة المالية تزعزع اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية برمته وتعاظمت عام 2008 فاتخذت أبعادا عالمية.
     يستهل الكاتب التأكيد بأن الاقتصاد، الذي عرفناه حتى الآن، انهار في خريف 2008 بكل تأكيد. وسيتخذ العالم شكلاً مختلفاً في المستقبل، سيطفو على السطح نظام عالمي جديد، سيتبلور اقتصاد سوق قائم على مبادئ العدالة الاجتماعية. ومهما اختلفت الأجوبة حول أسباب الانهيار فإن ثمة حقيقة لا اختلاف عليها أبداً: وهي أن العصر الذهبي، الذي تمتعت به البلدان الصناعية الغربية منذ التسعينات، قد صار في ذمة التاريخ. ففي خريف 2008 انتهت، بنحو مفاجئ، حقبة الهناء، فقد انهارت أسواق المال، وذهب مع الريح الحلم بازدهار مستديم. فالزلزال الذي ضرب البورصات فاق كل الزلازل التي عصفت بها حتى الآن، منذ اندلاع الكساد الكبير وانتهاء بالحرب العالمية الثانية. إن النظام الرأسمالي المحرر من القيود يقف الآن على عتبة الهاوية. لقد صرنا شهود عيان على حدث متعدد الأبعاد، شهود على تحول تاريخي كبير. فالدولة تنقذ مصرفاً تلو الآخر، وتؤمم الواحد بعد الآخر، إنها تضخ في الاقتصاد مبالغ لا قدرة لنا على تصور ضخامتها، ورغم ذلك، فإن نجاحها في وقف الانهيار يظل في علم الغيب.
     صارت الرأسمالية المحررة من القيود والتوجيه تدمر أكثر فأكثر. ولهذه الأسباب ما عاد كثير من المواطنين يصدقون تحقيق الرفاهية التي وعدتهم بها فئات معينة من الاقتصاديين والسياسيين ورجال الأعمال ومجموعات الضغط التي همها الأول هو الدفاع عن مصالح فئات معينة (اللوبي)، فهؤلاء جميعا لم يكفوا قط عن الإشادة بمحاسن اقتصاد السوق المعولم. فلم يعد المواطنون يثقون بأن المنافسة في الأسواق العالمية والمباراة الضارية في البورصات تسبغ النفع عليهم. إن عدد المواطنين النافرين من اقتصاد السوق في تزايد مستمر. أضف إلى هذا أن هؤلاء صاروا يتحفظون على الإطار السياسي المناسب لاقتصاد السوق، وعن الديمقراطية أيضاً؛ وأنهم يشيحون بوجوههم عن الأحزاب السياسية، ويتخلفون عن المشاركة في الانتخابات، ويعتزلون المجتمع. فهم يشعرون بأنهم باتوا بلا عون ولا سند، باتوا يشعرون بأن الدولة تعير اهتماماً للآخرين فقط وليس لهم، وبأن السوق، التي يُفترض فيها أن تحقق لهم الرفاهية، أخذت تتصرف، في كثير من الأحيان، بوحشية لا تعرف الرحمة.
     ولإثبات ذلك يذكر الكاتب يكفينا أن نستشهد بالاستطلاع الذي أجرته الصحيفة الاقتصادية فاينانشل تايمز عام 2007، حيث كانت الأغلبية العظمى من مواطني الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا تعتقد أن العولمة خطر يتهددهم. وعلى الصعيد نفسه يقر الرئيس الفرنسي ساركوزي بوجود "فزع متزايد من العولمة" وأنها "خطراً وليس نعمة" وقال أوباما بالحرف الواحد "إننا نواجه أعظم تحد في حياتنا" وفي ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا أكد 90% من المواطنين رغبتهم في أن تحمي الدولة الاقتصاد الوطني بفعالية أكبر.
      لقد استُعيض عن اقتصاد السوق المتكلف بالرعاية الاجتماعية بنموذج جديد يتصف بالوحشية والأنانية، ويطلب من بني البشر ما لا طاقة لهم به. فقواعد هذا النموذج لا تحددها الدولة، بل تمليها المشاريع العملاقة وأسواق المال. ففي الثلاثين عاماً المنصرمة كفت الدولة ومعها السياسيون المنتخبون وفق قواعد الديمقراطية عن التدخل في اقتصاد السوق تاركة قوى السوق تصول وتجول بالنحو الذي يطيب لها، أي أن الدولة والسياسيين تركوا الاقتصاد الوطني توجهه حفنة رجال تهيمن على الشركات العملاقة والمصارف ولا تتمتع بأي شرعية ديمقراطية. ومن ذلك الحين، أطلقت الرأسمالية العنان لطاقاتها الجامحة، لطاقاتها المعظمة للرفاهية من ناحية، والمدمرة لوحدة المجتمع من ناحية ثانية.
                                 تفاوت صارخ في توزيع الثروات
     وفيما يتعلق بالتفاوت الصارخ في توزيع الثروات يركز الكاتب على الأوضاع في الولايات المتحدة حيث بات التفاوت أكثر تطرفاً. وكذلك في الاقتصاديات الناشئة، حيث تزداد عمقاً وبسرعة الهوة الفاصلة بين الطبقة العليا وباقي المجتمع. فحاصل جمع الثروة التي يمتلكها 1125 مليارديرا في العالم، عام 2008، بلغت 4400 مليار دولار. لذلك، يمكن القول أن هذه الفئة من أغنى الأغنياء تملك ثروة تساوي تقريباً مجمل الدخول التي يحصل عليها في عام واحد نحو ثلاثة مليار مواطن، أي التي يحصل عليها مجمل سكان الهند وباكستان وبنغلاديش وتايلاند وماليزيا وفيتنام والفلبين ودول القارة الأفريقية جميعها.
     وقد أقر غرينسبان الرئيس السابق للمصرف المركزي الأمريكي عام 2007 "إن النمو كان في مصلحة الفئات ذات الدخول العالية في المقام الأول، أما العمال الذين يحصلون على دخول لا تزيد على المتوسط المتعارف عليه فإنهم في وضع لا يحسدون عليه أبداً. إن هذه الظاهرة يمكن أن تؤدي إلى توترات اجتماعية عظيمة، لا بل يمكن أن تفضي إلى انقلابات اقتصادية جذرية".  فأغنى الأغنياء، أي 1% من سكان الولايات المتحدة، يملكون أكثر من نصف الأسهم المتداولة في البورصات الأمريكية. وفي ألمانيا  تزداد فجوة التباين بين الفئات الاجتماعية المختلفة. فالأغنياء وقادة الشركات والمشاريع اعتزلوا المجتمع وكأنهم يعيشون في عالم آخر. فالدخل السنوي، الذي يحصل عليه رئيس شركة بورشة بلغ نحو 60 مليون يورو عام 2007. وبفضل الأرباح الضخمة يمكن أن يرتفع هذا الدخل إلى 100 مليون يورو عام 2008. والجزء الأعظم من الطبقة الوسطى انحدر نحو الأسفل. فأكثر من 25% من المواطنين الألمان يحصلون على دخل لا يساوي حتى 70% من متوسط الدخل السائد في ألمانيا. وقد قال واكسمان عضو الكونغرس الأمريكي في معرض استجواب الأطراف ذات الصلة بالرواتب الخيالية التي يحصل عليها رؤساء وكبار موظفي الشركات: "توجد في بلادنا حقيقتان مختلفتان: فأغلب الأمريكيين يعيشون في عالم لا يبشرهم بمستقبل اقتصادي مأمون ولا ينطوي، بالنسبة إليهم، على بوادر تمن بالغبطة، بل على إحباط وخيبة أمل. أما قادة مشاريع وشركات بلادنا، فإنهم يعيشون في ظل قواعد وشروط تختلف اختلافاً تاماً على ما يبدو".  ولايزال هناك سياسيون يدافعون عن هذا التفاوت الكبير في الدخول. وينتمي أغلب هؤلاء إلى المحافظين. فهم يؤكدون أن هذه الرواتب الخيالية جزء من الاقتصاد الحر. غير أن الجدل أخذ يزداد حدة في الولايات المتحدة، اليوم، حول مدى التفاوت الذي يمكن للمجتمع أن يرضى عنه.  وقد تساءل شيلر وهو احد أشهر الاقتصاديين في العالم "أنريد الانتظار إلى أن يؤدي التفاوت الاجتماعي إلى اندلاع حرب أهلية؟".
     ويشهد الواقع أن المجتمع الصيني ليس منسجماً مع نفسه. فالازدهار، الذي تحقق، أي معدلات النمو البالغة 10%، لم تدر بنعمها على الجميع أبداً. فملايين من الصينيين تخطاهم النمو الاقتصادي ولم يمن عليهم بشيء يذكر: المقصود المزارعين الذي سُلبت منهم الأراضي، وأبناء المدن العاطلين عن العمل، والأطفال الذين لا قدرة لآبائهم على تدبير مصاريف مدارسهم، والمرضى الذين لا يستطيعون دفع تكلفة الطبيب.
     ويعيش ملايين من مواطني الإتحاد السوفيتي السابق عيشة الكفاف. ففي حقبة التحول، واختفاء الاقتصاد المخطط، انخفضت دخول الروس العاديين بنحو الثلثين، فاليوم، يحصل نحو ثلاثة أرباع الروس، على دخل أقل من 50 دولاراً، أسبوعياً. بينما حفنة من الأغنياء الذي أثروا بسرعة فائقة تتمتع في سكنى القصور الكبيرة والنزهة بسفنها وطائراتها الخاصة، وتؤمن سلامتها من خلال ما لديها من جهاز أمني. كما اختفت أو كادت تختفي حرية الصحافة. فالصحافة المقربة من الكرملين تسيطر على البلاد، والمعارضة والمنظمات غير الحكومية أمست تخضع لوصاية الدولة.
     تتكون، في الاقتصاديات الناشئة، طبقة فقيرة محرومة من ثمار الازدهار الاقتصادي. ويحصل هؤلاء الأفراد، الموجودون في أدنى السلم الاجتماعي، على قوتهم من الأعمال المتواضعة، من خلال خدمة المرفهين الذين يستغلونه كأنهم من الرقيق. ويجمع البعض منهم قوته من القمامة. إن الفقراء نادرا ما تكون لديهم الفرصة لتحسين أوضاعهم المعيشية. حيث ينقصهم أهم شرط للنجاح وهو التعليم المناسب.


90
القوة السياسية لوسائل الإعلام الاجتماعية:
التكنولوجيا، مجال النشاط العام والتغيير السياسي (4)

                                                                                                         ترجمة: د. هاشم نعمة

        معضلة المحافظين
       تتمتع، دائما، المجموعات المنظمة التي تعمل بتنسيق، سواء تلك العاملة في مجال الأعمال التجارية أو المجال الحكومي بميزات أفضل مقارنة مع المجموعات الأخرى غير  المنظمة: فهي تتوفر على ميزة الاستفادة من الوقت بطريقة أسهل للاشتراك في العمل الجماعي بسبب امتلاكها طريقة منظمة لتوجيه عمل أعضائها. وتستطيع وسائل الإعلام الاجتماعية أن تعوض عيوب المجموعات غير المنظمة عبر خفض تكاليف التنسيق. فقد استخدمت الحركة الموجهة ضد الرئيس استرادا في الفلبين أسهل وسيلة في إرسال وإعادة توجيه الرسائل النصية لتنظيم مجموعة ضخمة من السكان بدون الحاجة إلى الإجراءات الإدارية المعهودة التي تستغرق وقتا طويلا. النتيجة، إن المجموعات التي تتمتع بمرونة أكبر يمكنها الآن أن تقوم ببعض أنواع العمل المنسق، مثل حركات الاحتجاجات وحملات وسائل الإعلام العامة، والتي كان استخدامها في السابق مقتصرا على المنظمات الرسمية. بالنسبة للحركات السياسية، فإن واحدا من الأشكال الرئيسية للتنسيق هو ما يسميه العسكريون "الوعي المشترك"، المتمثل في توفر الإمكانية لكل عضو في المجموعة، ليس في فهم الوضع الذي هو في متناول اليد فقط ، لكن أيضا في فهم بأن الجميع يشتركون بذلك. وتزيد وسائل الإعلام الاجتماعية من الوعي المشترك عبر الترويج أو نشر الرسائل من خلال الشبكات الاجتماعية. فقد اكتسب المحتجون ضد ازنار في أسبانيا زخما ـ  بسرعة، بالضبط،  بسبب نشر ملايين من الناس رسالة لم تكن مرسلة عبر تسلسل التنظيم الهرمي.
     الاحتجاجات في الصين ضد الفساد، التي اندلعت بعد الدمار الذي أحدثه زلزال مايس (ماي) عام 2008 في سيتشوان هي مثال آخر على مثل هذه الإعلانات المخصصة لقضية معينة والمتزامنة معها. كان المحتجون من الآباء، خصوصا،الأمهات، الذين فقدوا أطفالهم في انهيار المدارس المبنية بشكل رديء، نتيجة التواطؤ بين شركات البناء  والحكومة المحلية. وقد كان الفساد في صناعة الإنشاءات في البلد قبل هذا الزلزال يعد أمرا سريا. ولكن عندما انهارت المدارس، بدأ المواطنون يشاركون في توثيق الأضرار، وفي الاحتجاجات من خلال وسائل الإعلام الاجتماعية؛ لذلك أصبحت نتائج الفساد الحكومي واضحة للعيان على نطاق واسع، وما عادت أمرا سريا بل باتت حقيقة عامة.
     في الأصل، سمحت الحكومة الصينية، بالتقارير التي تحدثت عن الاحتجاجات التي أعقبت الزلزال، لكن بشكل مفاجئ ناقضت نفسها في شهر حزيران (يونيو) بخصوص هذه المسألة. وبدأت قوى الأمن باعتقال المحتجين وهددت الصحفيين عندما بدا واضحا لها بأن المحتجين كانوا يطالبون بإصلاح محلي حقيقي وليس مجرد الحصول على تعويضات من الدولة. من وجهة نظر الحكومة، التهديد لم يكن يتمثل بإدراك المواطنين لطبيعة الفساد، حيث من الممكن أن لا تعمل الدولة شيئا لمعالجته في فترة قصيرة. لكن بكين كانت تخشى من التأثيرات المحتملة فيما إذا أصبح هذا الوعي ذات سمة مشتركة: فإنه سيتعين عليها في هذه الحالة إما أن تشرع  بالإصلاحات أو تستجيب بطريقة من شأنها أن تزيد أكثر من تنبيه المواطنين لهذه المسألة. ثم أن، انتشار تلفونات الكاميرات يجعل من الصعب عليها أن تقدم على تنفيذ هجوم واسع النطاق بدون أن تكون هناك وثائق تشير إلى ذلك.
    هذه الحالة من الوعي المشترك- التي تتضح بنحو متزايد في كل الدول الحديثة- تخلق ما يطلق عليه عادة "معضلة الدكتاتور" إلا إنه يمكن وصفها بدقة أكثر باستخدام عبارة صيغت من قبل منظر وسائل الإعلام برغز وهي: "معضلة المحافظين،" وقد سميت بهذه التسمية بسبب انطباقها ليس فقط على المستبدين لكن أيضا على الحكومات الديمقراطية والزعماء الدينيين وقادة الأعمال التجارية. نشأت المعضلة في الأساس من وسائل الإعلام الجديدة التي زادت من إمكانيات الجمهور في الحديث أو التجمع؛ ومع انتشار مثل هذه الوسائل سواء كانت آلات التصوير أو تصفح شبكة الانترنت، وجدت الدولة نفسها مدعوة لمراعاة الحالات التي تتباين فيها وجهة نظرها للأحداث مع وجهة نظر الجمهور في حين اعتادت في السابق على احتكار الحديث في الشأن العام. وتتمثل ردود فعل  "معضلة المحافظين" باستخدام الرقابة والترويج أو الدعاية. لكن لا هذه ولا تلك من هذه الوسائل تمثل طريقة فعالة  للتحكم كما يفعل الصمت القسري للمواطنين. لذلك، في هذه الحالة، ستراقب الدولة المنتقدين أو تنتج دعاية أو ترويجا كلما احتاجت إلى ذلك. لكن كلا الإجراءين تكاليفهما تكون أكثر من مجرد إسكات المنتقدين. حيث إذا  توجهت الحكومة لإغلاق وسائل الوصول إلى الانترنت أو منعت الهواتف المحمولة، فإن النتيجة ستكون عكس ذلك إذ ستخاطر  بتزايد تطرف المواطنين المؤيدين للنظام أو تضر بالاقتصاد. 
      يعود وجود ما يسمى بـ "معضلة المحافظين" ،جزئيا، إلى أن الجانب السياسي والخطاب السياسي لا يستبعد بعضهما البعض. حيث أن الكثير من الفتيات في سن المراهقة في كوريا الجنوبية، اللاتي خرجن في بارك شيونغيشيون  في سيئول عام 2008 ، للاحتجاج ضد استيراد لحوم البقر من الولايات المتحدة كن راديكاليات أثناء مناقشة قضية في موقع شبكة الانترنت تخص مجموعة بانغ دونغ شين كي، وهي من الفتيان في كوريا الجنوبية. هذه المجموعة لم تكن سياسية، ولم يكن المحتجون من الفاعلين السياسيين النموذجيين. لكنها كانت مجموعة من الناس تتواصل عبر الانترنت، حيث بلغ عددها حوالي 800.000 عضو فاعل، وتضخم العدد في المرحلة الثانية من النقاش من خلال السماح للأعضاء بتشكيل أراء سياسية من خلال الحوار.
      تساهم الثقافة العامة، أيضا، بزيادة حدة تأثير "معضلة المحافظين" من خلال توفير غطاء لاستخدام وسائل الإعلام الاجتماعية أكثر في المجال السياسي. حيث يكون من السهل على الدولة من الناحية السياسية غلق الوسائل المصممة خصيصا لاستخدام المنشقين، بينما تصبح مراقبة الأدوات ذات الاستخدام الواسع النطاق أكثر صعوبة بدون المخاطرة بتسييس بطريقة أخرى مجموعة كبيرة من الفاعلين السياسيين. إثان زوكرمان من مركز بيركمان للانترنت والمجتمع التابع لجامعة هارفارد أطلق على ذلك "نظرية القطط الجذابة للنشاط الرقمي." حيث هناك أدوات معينة تهدف لهزيمة أو التغلب على مراقبة الدولة، رغم أن (الخدمات التي تقدمها الوكالات) مثلا يمكن غلقها مع دفع ثمن سياسي قليل جراء ذلك ، لكن الأدوات ذات الاستخدام الأوسع والتي يستخدمها  قسم أكبر من السكان، يقول إثان، يكون من الصعب غلق الصور المشتركة للقطط الجذابة.
     لهذه الأسباب، من المعقول أو الأكثر صوابا أن يتم الاستثمار في مجال وسائل الإعلام الاجتماعية بشكل عام، بدلا من الاستثمار فيها لأغراض سياسية معينة. حيث أن معيار حرية التعبير بطبيعته يكون سياسيا  لكنه بعيدا عن أن يكون ذات سمات مشتركة عالميا. وعندما تجعل الولايات المتحدة حرية التعبير هدفا من المرتبة الأولى، فإنها ينبغي أن تتوقع بأن تحقيق هذا الهدف يسير بشكل جيد نسبيا في البلدان الديمقراطية الحليفة، ويتحقق جيدا ولكن بدرجة أقل في البلدان غير الديمقراطية الحليفة، ويتحقق بدرجة أقل من كل ذلك في جميع البلدان غير الديمقراطية وغير الحليفة. لكن تقريبا كل بلد في العالم يرغب في النمو الاقتصادي. وبما أن الحكومات تعرّض للخطر النمو الاقتصادي في حالة إقدامها على  حضر التكنولوجيا، التي  يمكن استخدامها  في التنسيق السياسي والاقتصادي، إذن ينبغي على الولايات المتحدة أن تعتمد على تقديم المحفزات الاقتصادية للبلدان من أجل السماح بانتشار استخدام وسائل الإعلام. بكلمات أخرى، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل على تهيئة الظروف التي تزيد من "معضلة المحافظين" من خلال تلمس المصالح الخاصة للدول بدلا من تفضيل الجدل حول الحرية، كوسيلة لتعزيز مجالات النشاط العام في البلدان المختلفة.
الترجمة عن مجلة  Foreign Affairs, January-February 2011     
           
 


91
جريمة الأنفال وتأثيراتها في البنية الاجتماعية- الاقتصادية
                                                                           
د. هاشم نعمة
        بما أن عمليات الأنفال تندرج تحت جرائم الإبادة الجماعية والتي تعرف بأنها مجموعة من الأفعال هدفها تدمير حياة مجتمع ووطن لإبادته. وذلك من خلال تدمير مؤسساته أو أسسه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية واللغوية ومشاعره الوطنية والدينية. وبما أن جريمة الأنفال شملت إبادة أعداد كبيرة من السكان لذلك لا بد أن تكون لها تأثيرات عميقة ومتشعبة ومتبادلة الـتأثير في البنية الاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية لسكان إقليم كردستان خصوصا والعراق عموما.
      فقد عانت كردستان من عمليات الأنفال عام 1988 وما قبلها وطبقاُ للمصادر الكردية فقد تم تصفية 180000 شخص بعد ترحيلهم قسراً من كردستان وتدمير 3000 قرية. ونزح 300000 شخصاً في نهاية الأنفال واستخدمت الأسلحة الكيمياوية في مدينة حلبجة في ربيع 1988 كما هو معروف حيث أستشهد 5000 وغادر المدينة آلاف وكانت عواقب هذه الأسلحة كبيرة على الأشخاص الباقين على قيد الحياة وعلى أسرهم.
     وبما أن الوفيات هي أحدى المكونات الرئيسية الثلاثة التي تقرر معدل النمو السكاني إلى جانب الولادات والهجرة في أي مجتمع لذا فهي تؤثر في مجمل البنية الاجتماعية والاقتصادية والديمغرافية للسكان وفي هجرتهم وتوزيعهم الجغرافي.
      وإذا عدنا إلى الوراء فقد كانت معدلات الوفيات في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات بشكل ثابت أكثر ارتفاعاً في كردستان مقارنة بجنوب ووسط  العراق ولكنها في نهاية الثمانينات اقتربت من تلك العائدة للوسط  والجنوب. وبعد حرب الخليج الثانية ارتفعت في كردستان إلى مستويات أواخر السبعينات. وبعد 1991 حدث انخفاض حاد في معدلها لكن من 1993 إلى 1998 كان الانخفاض الإضافي قليلاً. يعود ارتفاع معدلات الوفيات في كردستان إلى العمليات العسكرية التي نفذتها الحكومة المركزية منذ بداية الستينات ضد الحركة الكردية أما الانخفاض الأخير فيعود إلى خروج إقليم كردستان عن سلطة الحكومة المركزية بعد انتفاضة 1991 وعدم تأثره بالعقوبات بنفس القدر الذي طال بقية العراق.
     لو توفرت لدينا معطيات دقيقة عن البنية العمرية والجنسية (النوعية) والعائلية وبنية السكان النشيطين اقتصاديا للمجموعة المؤنفلة لأمكننا أن نحسب ما تركته هذه الإبادة من تأثيرات على البنى السكانية في كردستان. فعلى سبيل المثال ما هي  نسبة الأطفال تحت عمر 15 سنة؟ وكم نسبة الأشخاص في عمر 15-64 سنة؟ وهي فئة الأشخاص النشيطين اقتصاديا.  وما هي نسبة الأشخاص أكثر من عمر 65 سنة؟ وما هي نسبة الجنس (النوع) أي نسبة الذكور لكل 100 من الإناث؟ وما نسبة المتزوجين والعزاب؟ وما هي البنية العائلية لهذه المجموعة أي متوسط حجم الأسرة؟ كل هذه المعطيات مهمة في أي دراسة أكاديمية جادة لمعرفة مدى التأثيرات التي تركتها هذه التصفية الهمجية لهذه الأعداد البريئة من السكان.   
     من ناحية التوزيع الجغرافي للسكان فلقد ولدت إبادة هذا العدد الضخم من الأشخاص تغيرات كبيرة في الكثافة السكانية وخلقت مناطق فارغة أو شبه فارغة من السكان. وانعكست سلبا على توازن  توزيع السكان والكثافة السكانية سواء كانت الكثافة العامة أو الإنتاجية أو الزراعية. وأثرت سلبا على توازن البيئة الطبيعية التي أهملت جراء هذا الفراغ السكاني. والدليل على تغير توزيع السكان والكثافة السكانية ما يشير له مسح الأحول المعاشية في العراق لعام 2004(1) من أن سكان كردستان أكثر من أجبروا على تغيير محل إقامتهم بسبب الحرب. وفي تقديرنا يدخل تحت باب الحرب هنا الحرب الداخلية الموجهة لقمع الحركة الكردية حيث في الأجمال أجبر 26% من السكان على تغيير محل إقامتهم. في حين كانت النسبة 3 % لكل من بغداد والمنطقة الوسطى و2% للمنطقة الجنوبية. هذا على مستوى المناطق أما على مستوى المحافظات فأكثر محافظة عانت من النزوح القسري هي دهوك حيث أجبر 66% من سكانها على تغيير محل إقامتهم وتلتها السليمانية بنسبة 31% وأربيل 7% أما البصرة ونينوى بنسبة 4% لكل منهما.
      تؤثر الحروب على سلوك معدل الخصوبة (متوسط عدد الأطفال الأحياء لكل امرأة خلال فترة خصوبتها من 15-49 سنة)  وهذا ينطبق على العراق وغيره من الدول التي مرت بنزاعات عسكرية. فمثلا شهدت مصر انخفاضاً في معدلات الخصوبة في فترات الحروب الكبيرة. وحصدت الحرب الأهلية اللبنانية 150 ألف نسمة إلى جانب مئات الألوف من المعاقين، وساهمت بانخفاض معدل النمو السكاني إلى 0.3% في الفترة 1973-1983. فما بالك بالعراق الذي تعرض لحروب داخلية معلنة بالأخص في كردستان وأخرى غير معلنة إضافة إلى الحروب الخارجية على نطاق واسع. لذلك انخفض المعدل السنوي لنمو السكان من 3.8% عام 1977إلى 2.4% عام 1987. وأوردت مثال لبنان للمقارنة لأن كان عدد  سكانه  كان 2767300 نسمة عام 1975 وهو إلى حد ما مقارب لعدد سكان كردستان عام 1987 البالغ  2015466 نسمة والذي أرتفع إلى 3941529 عام 2007. أنظر جدول (1) أي أن سكان كردستان تضاعف عددهم تقريبا خلا ل عشرين سنة مما يعني أن معدل الزيادة الطبيعة للسكان (الفرق بين الولادات والوفيات) بلغت 3.5%. إن فقدان هذه الأعداد الكبيرة يؤثر أكثر في سلوك خصوبة الشعوب القليلة العدد. ومن حسابنا لنسبة النمو السكاني في كردستان للفترة 1987-2007 يتبين أن النسبة العامة بلغت (95.6%) وفي دهوك (72.3%) والسليمانية (99.0%) وأربيل (100.2%). من المؤكد أن هذا النمو لا يتأثر بمعدل الوفيات فقط  وإنما يتأثر أيضا بمعدل الولادات وبمعدل صافي الهجرة أي الفرق بين الهجرة الداخلة والخارجة وهل هو ايجابي أم سلبي. إذن لو بقت هذه المجموعة المؤنقلة  من الأشخاص على قيد الحياة لانطبقت عليها نسبة النمو السكاني المذكورة ولأصبح عددها الآن حوالي 400 ألف نسمة. وهذا العدد اكبر من حجم سكان مدينة أوترخت (307081 نسمة في عام 2009) علما أنها رابع مدينة كبيرة الحجم في هولندا.

جدول (1) عدد سكان محافظات إقليم كردستان ونسبة النمو الإجمالي.(2)   

   

       لا تتمثل الخسارة البشرية هنا بهذا العدد الذي أبيد فقط  كما بينا لأن الزيادة السكانية تكون مركبة كل زيادة ينتج عنها زيادة أكبر بحكم أن النمو السكاني يندرج تحت المرحلة التي تمر بها أغلب الدول النامية التي تشهد نموا سريعا في معدل النمو السكاني رغم انخفاض هذا المعدل في السنوات الأخيرة لأسباب كثيرة أهمها ما شهدته البنية الاجتماعية-الاقتصادية من تحولات ومن أهمها انتشار الطب الوقائي والعلاجي والتعليم. ثم أن هذه المجموعة تشمل أشخاص في طور الإنجاب وشباب وأطفال مرشحين للدخول إلى هذه المرحلة. كذلك نتج من الأنفال عدد كبير من الأرامل اللاتي توقف إنجابهن لأن النسبة الأكبر منهن لم تتمكن من الزواج ثانية. حيث تبين من دراسة عينة على العراق للنساء اللاتي فقدن أزواجهن في الحرب أن نسبة 90.5% لم يتزوجن ثانية. في النتيجة هذه الإبادة لابد أن تساهم في خفض معدل الخصوبة من خلال تأثيرها أيضا في البنية النوعية والعمرية للسكان.
     أما بالنسبة لتأثير عمليات الأنفال في البنية العمرية فهذا العدد كاف لإحداث تغيير واضح في هرم السكان. حيث يلاحظ انحراف شبه محوري في هرم السكان في العراق لعام 2004 بدلا من شكل الدرج المتوقع للرجال بين عمر 40-49 سنة ويوحي هذا بوجود تأثيرات للحرب العراقية-الإيرانية لأن هذه الفئة كانت في سن الخدمة العسكرية أثناء الحرب. وفي تقديرنا يضاف لهذه التأثيرات الإبادة التي تعرض لها الشعب الكردي ومنها الأنفال وكذلك الإبادة التي أعقبت قمع الانتفاضة عام 1991 في بقية العراق. ولو رسمنا هرما لسكان كردستان لكان الانحراف أكبر بسبب عدد السكان الأقل. وهذا التأثير بدوره يؤثر في  معدل الخصوبة لأن أغلب من استشهدوا هم في سن الإنجاب.
         تتمثل التأثيرات في البنية الاقتصادية والمهنية في أن هذه المجموعة تشمل أشخاص هم ضمن الفئة النشيطة اقتصاديا أي التي تقع أعمارهم ما بين 15-64 سنة جدول (2) ومن ثم فإن فقدانهم يعني فقدان قوى عاملة تضيف قيما اقتصادية وهذا لا بد أن ينعكس سلبا على معدل النمو الاقتصادي في كردستان خصوصا والعراق عموما. حيث يلاحظ أن معدل النشاط الاقتصادي لمجموع السكان في دهوك 36.2% وانخفاضه هذا لا بد وأن يكون له علاقة مع عمليات الأنفال على اعتبار أن هذه المحافظة هي التي شهدت هذه العمليات اللا إنسانية بشكل رئيسي. ثم أن وسط  هذه المجموعة  لا بد أن يكون هناك عدد غير قليل من أصحاب الكفاءات الذين أنفق عليهم البلد الكثير من المال والوقت والجهد من أجل أن يصلوا لهذا المستوى من الـتأهيل العلمي.
 جدول (2) معدل النشاط الاقتصادي للسكان لعمر 15 سنة فأكثر حسب المحافظة والجنس حسب مسح 2007. (النسبة المئوية)(3)


     كذلك ساهمت جريمة الأنفال في تمزيق النسيج الاجتماعي للمجتمع نتيجة إما اختفاء أسر بكاملها أو بعض أفرادها وما تركته تلك الحالة من تدهور الحالة النفسية وسط فئات واسعة من المجتمع الكردستاني. 
     وهناك تأثيرات غير مباشرة حيث أدت حملات الأنفال وما رافقها من قمع الحركة الكردية إلى ارتفاع معدلات الهجرة إلى الخارج وبالأخص إلى الدول الأوروبية لطلب اللجوء. ولذا نرى نسبة الأكراد في الجالية العراقية في أوروبا الغربية مرتفعة. وأغلب طالبي اللجوء من الشباب الذكور وهذا أثر بدوره على البنية العمرية والنوعية لسكان كردستان. حيث انخفضت نسبة الشباب وارتفعت نسبة كبار السن. وهذا لا بد أن يساهم في انخفاض الخصوبة بسبب أن الشباب المهاجر (الذكور والإناث) إما أن يكون مرشحا للدخول إلى مرحلة الإنجاب وإما أن يكون من المتزوجين الذين تنخفض الخصوبة وسطهم في الخارج نتيجة عدة أسباب منها تأثرهم في البيئة الاجتماعية-الاقتصادية التي يعيشون فيها والتي  تشهد انخفاضا بينا في معدل الخصوبة. كذلك ساهمت الهجرة في اختلال توازن البنية النوعية حيث رفعت نسبة الإناث ومن ثم ساهمت في ارتفاع نسبة العنوسة وسطهن. كذلك ساهمت في ارتفاع معدل الوفيات في كردستان على اعتبار أن الوفيات الطبيعية تحدث في الغالب وسط  كبار السن. أخيرا وكما أسلفنا أن أي تغير في أحد المكونات السكانية لا بد وأن يؤثر ويتأثر بشكل متبادل في المكونات الأخرى.
(1)   وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، مسح الأحوال المعيشية في العراق 2004، الجزء الأول، بغداد، 2005، ص 27. أنجز هذا المسح تحت إشراف معهد بحثي نرويجي متخصص حيث قام بتدريب الأشخاص الذين شاركوا في تنفيذه وبدعم من الأمم المتحدة. وهو أول مسح ينفذ بحرية بعد سقوط النظام حيث كان من المتعذر مجرد التفكير بهكذا موضوع.
(2)   وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، المجموعة الإحصائية السنوية لسنة 2007، جدول 5/2 وجدول  7/2، نسبة النمو من حساب الباحث.
(3)   وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، المسح الاجتماعي والاقتصادي للأسرة في العراق 2007، الجزء الثاني، جدول 5/4، ص 326.

محاضرة ألقيت في الاحتفال الذي أقيم بمناسبة الذكرى 23 لجريمة الأنفال من قبل مجموعة من منظمات المجتمع المدني العراقية بتاريخ 16 نيسان (أبريل) في هولندا.

 
     

92
القوة السياسية لوسائل الإعلام الاجتماعية:
التكنولوجيا، مجال النشاط العام والتغيير السياسي (3)

                                                                                                        ترجمة: د. هاشم نعمة
   مسرح الانهيار
      أي مناقشة للعمل السياسي في الأنظمة الاستبدادية يجب أن يأخذ في الاعتبار الانهيار المذهل  للأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية عام 1989 والانهيار اللاحق للإتحاد السوفيتي عام 1991.  خلال الحرب الباردة، استثمرت الولايات المتحدة في أنواع مختلفة من وسائل الإعلام، تشمل محطة إذاعة صوت أمريكا، الجناح الأمريكي في موسكو، وتهريب آلات تصوير المستندات إلى الدول الاشتراكية  لدعم الصحافة السرية، مع ذلك، وبالرغم من هذا الاهتمام بوسائل الاتصالات، فإن نهاية الحرب الباردة لم تنطلق من انتفاضة مستمعي صوت أمريكا لكن نتجت من التغيير الاقتصادي. ففي الوقت الذي انخفض فيه سعر النفط  ارتفع سعر القمح، حيث يتمثل النموذج السوفيتي في بيع النفط  بأسعار مرتفعة وشراء القمح بأسعار رخيصة هذا النموذج توقف عن العمل. نتيجة لذلك، أضطر الكرملين لتأمين القروض من الغرب، تلك القروض التي من شأنها أن تعرض للخطر تدخل الحكومة العسكري في شؤون الدول غير الروسية. في عام 1989، يمكن للمرء أن يناقش، إمكانية المواطنين على التواصل، أخذين بعين الاعتبار دور القوى الاقتصادية الكبرى، ويتضح من المناقشة أن هذا التواصل كان خارج موضوع انهيار هذه الأنظمة.
      من الممكن أن يبقى القادة على قيد الحياة أو ينجون حتى عندما يموت الملايين . ستالين فعل ذلك في الثلاثينات، وماو تسي تونغ في الستينات، وكيم يونغ يل فعل ذلك أكثر من مرة في العقدين الأخيرين. لكن كانت هناك اختلافات بين تلك الحالات وثورات 1989 فقد واجه قادة ألمانيا الشرقية، وجيكوسلوفاكيا، وبقية الدول مجتمعات مدنية قوية بما فيه الكفاية وقادرة على المقاومة. لذلك نتج عن التظاهرات الأسبوعية في ألمانيا الشرقية، وميثاق الحركة المدنية 77 في جيكوسلوفاكيا، وحركة التضامن في بولونيا ظهور حكومات ذات توجهات ملموسة كانت في الانتظار.          
    إمكانية هذه المجموعات المعارضة على إنتاج ونشر الأدب والوثائق السياسية، حتى باستخدام آلات تصوير بسيطة، وفرت بديلا منظورا للأنظمة الاشتراكية. وبالنسبة للمجموعات الكبيرة من المواطنين في هذه الدول، فإن الإفلاس السياسي، وأكثر أهمية من ذلك، الإفلاس الاقتصادي للحكومة لم يعد سرا ولكن أصبح حقيقة عامة. وهذا جعل من الصعب وبعد ذلك من المستحيل على الأنظمة أن تأمر جيوشها باتخاذ إجراءات ضد هذه المجموعات الكبيرة.
    لذلك، حدث تغيير في توازن القوى بين الدولة والمجتمع المدني أدى إلى انهيار سلمي بدرجة كبيرة للأنظمة الاشتراكية. فقد ضعفت إمكانية الدولة على استخدام العنف، وزادت إمكانية ممارسة العنف بدرجة أقوى من قبل المجتمع المدني. وعندما أنتصر المجتمع المدني، فإن الكثير من الأشخاص الذين أعربوا عن أفكار معارضة للأنظمة الاشتراكية – مثل تاديوز مازويكي في بولندا وفاسلاف هافل في جيكوسلوفاكيا – أصبحوا القادة السياسيين الجدد لهذه البلدان. إن وسائل الاتصالات خلال الحرب الباردة لم تتسبب بانهيار الحكومات، لكنها ساعدت الناس على أخذ السلطة من الدولة عندما أصبحت في موقف ضعيف.
     إن الفكرة القائلة بأن وسائل الإعلام، مثل صوت أمريكا قد لعبت دورا مساندا في التغيير الاجتماعي من خلال تقوية مجال النشاط العام تحاكي فكرة الدور التاريخي الذي لعبته الصحافة المطبوعة. كما ناقش ذلك الفيلسوف الألماني هابيرماس في كتابه الصادر عام 1962 بعنوان "تحول بنية مجال النشاط العام"، حيث ذكر بأن الصحافة المكتوبة ساعدت على دمقرطة أوروبا عبر توفير فضاء  للنقاش والاتفاق وسط المواطنين العاملين في المجال السياسي، في الغالب، قبل أن تصبح الدولة ديمقراطية بشكل كامل، وانسحبت مناقشة هذا الموضوع إلى عمل علماء متأخرين، مثل اسا برغس، ايلازبيث يسنستين.
     الحرية السياسية يجب أن تكون مترافقة مع مجتمع مدني متعلم بما فيه الكفاية ومترابط  بشكل كثيف بما فيه الكفاية لمناقشة القضايا المطروحة للجمهور. ففي دراسة مشهورة تتعلق بالرأي السياسي بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1948، لعالمي الاجتماع يلهو كاتز وبول لازارسفيلد اكتشفا بأن وسائل الإعلام العامة لوحدها لا تستطيع تغيير أراء الناس؛ بدل ذلك توجد عملية من مرحلتين. المرحلة الأولى، تتمثل ببث أو نقل الآراء من قبل وسائل الإعلام، وبعد ذلك تأتي المرحلة الثانية حيث يتم ترديد ما بث أو نقل من قبل الأصدقاء، وأفراد الأسرة، والزملاء. في هذه المرحلة الاجتماعية، تتشكل الآراء السياسية. وهذه هي المرحلة التي يمكن فيها للانترنت، عموما، ووسائل الإعلام الاجتماعية، خصوصا، أن تعمل بشكل مختلف. وكما هو الحال مع الصحافة المطبوعة، ينتشر الانترنت ليس كوسيلة استهلاك إعلامي فقط  لكن كوسيلة إنتاج إعلامي أيضا- فهو يسمح للناس على المستوى الخاص والعام بتوضيح ومناقشة  صخب الآراء المتعارضة.
      إن فكرة تطور مجال النشاط العام ببطء، حيث يعتمد الرأي العام على كل من وسائل الإعلام والنقاش تشكل جوهر وجهة النظر البيئية (أي التي تأخذ في الاعتبار البيئة الاجتماعية والاقتصادية)* المتعلقة بحرية الانترنت. على العكس من رأي تعظيم الذات القائل بأن الغرب يمتلك أو يحتفظ  بمصدر شفرة الديمقراطية- وإذا جعلها فقط في متناول الجميع، سوف تنهار بقية الدول الاستبدادية - وجهة النظر البيئية هذه تفترض بأن التغيير السياسي سيحدث بدرجة أقل ما لم يتم نشر وتبني الأفكار والآراء في مجال النشاط العام. حيث أن الوصول إلى المعلومات يكون أقل أهمية بكثير، من الناحية السياسية مقارنة بالوصول إلى حالة النقاش. علاوة على ذلك، من المرجح أن ينبثق مجال النشاط العام في المجتمع نتيجة استياء الناس من القضايا الاقتصادية أو يوما بعد اليوم من الحكم أكثر مما يفعل اعتناقهم للمثل السياسية المجردة.
      لنأخذ مثلا معاصرا، الحكومة الصينية، حاليا، ستكون في خطر في حالة اضطرارها لتبني معايير ديمقراطية متبناة من قبل أفراد الطبقة الوسطى المنحدرين من الهان وهي المجموعة الاثنية التي تشكل غالبية السكان والتي تطالب بحكومات محلية أقل فسادا وسيكون هذا الخطر أكثر من قضية مطالب مكونات البيوغورس أو التبتيين بالحكم الذاتي. وبشكل مشابه، فإن الحملة التي وقع عليها مليون شخص، لصالح حركة حقوق المرأة الإيرانية التي ركزت على إلغاء القوانين المعادية للمرأة، كانت أكثر نجاحا في التأثير في سلوك الحكومة الإيرانية مقارنة مع مواجهات حركة الخضر المتزايدة.
    بالنسبة للملاحظين الذين ينظرون بتفاؤل للتظاهرات العامة، فإنه يتبين من العمل التجريبي والنظري أن الاحتجاجات، عندما تكون فعالة، فهي تمثل نهاية عملية طويلة، وليس بديلا عنها. إن أي التزام حقيقي من قبل الولايات المتحدة لتحسين الحرية السياسية على مستوى العالم ينبغي أن يركز على أن العملية- يمكن أن تحدث فقط عندما يكون هناك مجال نشاط عام قوي.
* المترجم
الترجمة عن مجلة  Foreign Affairs, January-February 2011      



93
القوة السياسية لوسائل الإعلام الاجتماعية:
التكنولوجيا، مجال النشاط العام والتغيير السياسي (2)

ترجمة: د. هاشم نعمة
مخاطر حرية الانترنت

     في كانون الثاني (يناير) 2010، لخصت كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية كيفية تعزيز الولايات المتحدة لحرية الانترنت في الخارج. وقد أكدت على أنواع عديدة من الحريات، تشمل حرية الوصول إلى المعلومات( مثل أمكانية استخدام ويكيبيديا وغوغل في إيران)، وحرية المواطنين العاديين لإنتاج وسائل إعلام عامة خاصة بهم (مثل حقوق النشطاء البورميين)، وحرية المواطنين للتحدث مع بعضهم البعض (مثل قدرة الجمهور الصيني على استخدام الرسائل الفورية بدون تدخل). 
     وابرز الأمور، هو إعلان كلينتون تقديم تمويل  لتطوير وسائل مخصصة لإعادة فتح مواقع الانترنت في الدول التي تقيد الوصول إليها. هذه الطريقة الفعالة تجاه حرية الانترنت تركز على منع الدول من مراقبة مواقع الانترنت الخارجية مثل غوغل، يوتيوب، أو تلك العائدة إلى صحيفة نيويورك تايمز. لكنها تركز بشكل ثانوي فقط على حرية المواطنين باستخدام الانترنت في الخطاب العام  وتركز بدرجة أقل من كل ذلك، على الاستخدام الخاص والاجتماعي لوسائل الإعلام الرقمية. وطبقا لهذه الرؤية، فإن واشنطن يمكن وينبغي أن تتخذ إجراءات سريعة ومباشرة ضد الرقابة على الانترنت التي تمارسها الأنظمة الاستبدادية.
     هناك مبالغة في تقدير قيمة وسائل البث الإعلامي في الوقت نفسه يتم التقليل من قيمة وسائل الإعلام التي تسمح للمواطنين بالتواصل، خصوصا، فيما بينهم. وهناك مبالغة في القيمة التي يحتلها الوصول إلى المعلومات، خصوصا، تلك المتوطنة في الغرب، في حين يتم التقليل من قيمة وسائل التنسيق المحلية. وهناك مبالغة بأهمية الكمبيوتر في حين يجري التقليل من أهمية الوسائل الأبسط، مثل الهواتف المحمولة.
     الطريقة الفعالة يمكن أن تكون خطرة أيضا. مثلا، إذا أخذنا بالاعتبار فشل برنامج التحايل على الرقابة المعروف بـاسم هيستاك، والذي طبقا لمنتجيه كان من المفترض أن يكون متكافئا أي يستفيد منه الطرفان المستخدمان له أي يتصف بالندية وعلاقة ذلك بكيفية تنفيذ النظام الإيراني للمراقبة على الانترنت. هذا البرنامج قد تم الثناء عليه على نطاق واسع في  واشنطن؛ حتى أن الحكومة الأمريكية منحت البرنامج رخصة التصدير. لكن البرنامج لم يكن قط قد فحص بدقة، وعندما اختبره خبراء الأمن بدا بأنه ليس فقط  فشل في هدفه في إخفاء الرسائل عن الحكومات لكن أيضا جعلها، على حد تعبير أحد المحللين،" من الممكن للعدو تحديد المستخدمين على انفراد على وجه التحديد." بينما بالعكس، واحد من أنجح برامج مكافحة المراقبة، المسمى فري غيت، أي المدخل المجاني تلقى دعما قليلا من الولايات المتحدة، جزئيا، بسبب التأخير الحاصل من الإجراءات البيروقراطية وجزئيا بسبب أن الحكومة الأمريكية حذره من الإضرار بالعلاقات الأمريكية- الصينية: كان البرنامج في الأصل قد أنتج من قبل فالون غونغ، وهي حركة روحية أطلقت عليها الحكومة الصينية اسم " عبادة الشر". إن تحديات برامج فري غيت وهيستاك قد أظهرت كم هو صعب استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية من اجل تحقيق أهداف سياسة خاصة بكل بلد وعلى المدى القريب.
      تفضي وسائل الإعلام الجديدة إلى تعزيز المشاركة ويمكن في الواقع أن تزيد من الحريات كما أوضحت كلينتون، تماما كما تفعل الصحافة، والخدمة البريدية، والتلغراف، وكما فعل الهاتف من قبل. أحد الشكاوي المتعلقة بفكرة القوة السياسية لوسائل الإعلام الجديدة تتمثل بأن معظم الناس يستخدمون هذه الوسائل ببساطة في التجارة، وفي الحياة الاجتماعية، أو في تسلية الذات، غير أن هذه الميزة تكون مشتركة بين جميع  أشكال وسائل الإعلام. كان أكثر الناس في القرن السادس عشر وبدرجة كبيرة  يقرؤون  الروايات المثيرة أكثر من قراءتهم لـ "الرسائل العلمية الخمسة والتسعون" لمارتن لوثر، وكان أكثر الناس وبدرجة كبيرة قبل الثورة الأمريكية يقرؤون "تقويم ريتشارد الفقير" أكثر من قراءتهم لعمل لجان الانسجام. لكن مع ذلك ظلت تلك الأعمال السياسية تملك تأثيرا سياسيا هائلا.
     تماما كما استفاد لوثر من الطباعة العملية الحديثة  للاحتجاج ضد الكنيسة الكاثوليكية، وكما تزامنت مبادئ الثوار الأمريكيين مع استخدام الخدمة البريدية التي صممها بنيامين فرانكلين، في الوقت الحاضر، تستخدم الحركات الاحتجاجية أي وسائل ممكنة لتأطير وجهات نظرها  وتنسيق إجراءاتها؛ سيكون من غير الممكن تفسير فقدان الحزب الشيوعي المولدافي للأغلبية البرلمانية بعد انتخابات عام 2009 بدون مناقشة استخدام التلفون النقال ووسائل الانترنت من قبل معارضيه من أجل تنسيق تحركاتهم. إن الحكومات الاستبدادية تعمل على إعاقة الاتصالات بين مواطنيها بسبب خوفها، وبشكل صائب، بأن التنسيق الجيد بين الجماهير سيعيق أو يقيد إمكانياتها في  المراقبة.
    على الرغم من الحقيقية الأساسية-  المتمثلة بأن حرية الاتصالات تكون جيدة للحرية السياسية- فإن الصيغة المناسبة لفن التحكم بالانترنت لاتزال تمثل إشكالية. فمن الصعب بالنسبة لأناس غرباء عن بلد معين فهم الأوضاع المحلية للمعارضة فيه. لذلك يجلب الدعم الخارجي مخاطر تشويه سمعة حتى المعارضة السلمية عندما يجري توجيهها من قبل عناصر أجنبية.  ويمكن أن يتعرض المنشقون في بلدان معينة لتأثيرات غير مقصودة من وسائل الإعلام الجديدة. إن مطالب الحكومة الأمريكية بحرية الانترنت خارج البلاد يمكن أن تختلف من بلد إلى آخر، اعتمادا على أهمية علاقاتها مع الدول، مما يقود في النتيجة إلى السخرية من دوافع هذه المطالب.
      الطريقة الواعدة أكثر للتفكير بأهمية تأثير وسائل الإعلام الاجتماعية تتمثل بأن هذه الوسائل يمكن أن تعزز من دور المجتمع المدني ومجال النشاط العام على المدى البعيد: لذلك وطبقا لهذا المفهوم، فإن التغيرات الإيجابية التي تحدث في أسلوب حياة بلد معين تشمل تلك المؤيدة للتغيير في النظام الديمقراطي، تتبع بدلا من أن تسبق، تطور مجال نشاط عام قوي. وهذا لا يعني بأن الحركات العامة سوف لا تستخدم بنجاح هذه الوسائل لضبط أو حتى إسقاط حكوماتها، بل أن المحاولات الأمريكية لتوجيه مثل هذه الاستخدامات من المرجح أن تضر أكثر مما تنفع. آخذين في ضوء ذلك، أن حرية الانترنت هي عبارة عن مباراة طويلة ويمكن أن نتصور بأن الهدف منها ليس وضع أجندة منفصلة لاستخدامها بل هي تمثل مجرد مدخل هام لمزيد من الحريات السياسية الأساسية.
الترجمة عن مجلة  Foreign Affairs, January-February 2011
   
   

   


94
القوة السياسية لوسائل الإعلام الاجتماعية
التكنولوجيا، مجال النشاط العام والتغيير السياسي (1)

ترجمة: د. هاشم نعمة
     في 17 كانون الثاني (يناير) 2001 خلال محاولة إقالة الرئيس الفلبيني  جوزيف استرادا، من منصبه صوت الموالون له في الكونغرس الفلبيني ضد عرض الأدلة الرئيسية التي تدينه. وفي أقل من ساعتين على إعلان هذا القرار، تجمع آلاف الفلبينيين في ابيفانيو دو لوس سانتوس مكان تقاطع الطرق الرئيسية في مدينة مانيلا  وقد أغضبهم بأن رئيسهم المتهم بالفساد يمكن أن ينجو من التهمة. وكان المحتجون قد نظموا أنفسهم، جزئيا، بواسطة الرسائل النصية. وقد تضخم الحشد بسرعة وفي أيام قليلة وصل إلى أكثر من مليون شخص سدوا الطرق في وسط  مانيلا.
       إمكانية الجمهور على تنسيق مثل هذا الحملة الضخمة والسريعة – حوالي سبعة ملايين نص رسالة أرسلت في ذلك الأسبوع-  أنذرت مشرّعي البلد بأن عليهم عكس المسار والسماح بتقديم الأدلة. ونتيجة ذلك تحدد مصير استرادا وفي 20 كانون الثاني (يناير) خرج من السلطة. هذا الحدث مثل وللمرة الأولى مدى مساهمة وسائل الإعلام الاجتماعية في الإطاحة بزعيم وطني من منصبه. وقد اتهم استرادا بنفسه جيل  الرسائل النصية بأنه هو الذي أسقطه.
     منذ انتشار الانترنت في أوائل التسعينات، نمت شبكات السكان المرتبطة به في العالم من ملايين قليلة إلى المليارات. وخلال نفس الفترة، أصبحت وسائل الإعلام الاجتماعية حقيقة من حقائق الحياة بالنسبة للمجتمع المدني على مستوى العالم، والتي تشمل العديد من الأطراف الفاعلة- المواطنين العاديين، الناشطين، المنظمات غير الحكومية، شركات الاتصالات، منتجي برامج الكمبيوتر، والحكومات. وهذه المسألة  تثير سؤالا يطرح نفسه على الحكومة الأمريكية: كيف يؤثر انتشار وسائل الإعلام الاجتماعية على مصالح الولايات المتحدة، وكيف ينبغي أن تكون استجابة السياسة الأمريكية تجاه ذلك ؟
      كلما تصبح الاتصالات أكثف وأكثر تعقيدا، وينخرط فيها المزيد من المشاركين، تحقق شبكات السكان تقدما أكبر للوصول للمعلومات، وفرصا أكثر للمشاركة في الخطاب العام، ومن ثم تتعزز إمكانية الاضطلاع بالعمل الجماعي في الساحة السياسية، كما أظهرت الاحتجاجات في مانيلا، فإن زيادة الحريات هذه يمكن أن تساعد وبحرية تامة على تنسيق توجه الرأي العام للمطالبة بالتغيير.
      إستراتيجية الفلبين هذه تم تبنيها عدة مرات منذ ذلك الوقت. في بعض الحالات، نجح المحتجون في نهاية المطاف، كما في أسبانيا في عام 2004، عندما جرى تنظيم التظاهرات بواسطة الرسائل النصية وقادت بسرعة إلى الإطاحة برئيس الوزراء الأسباني جوس ماريا ازنار، الذي اتهم بشكل غير دقيق إدارة مرور مدريد حول تفجيرات الانفصاليين الباسك. وفقد الحزب الشيوعي السلطة في مولدافيا عام 2009 عندما جرى تنسيق احتجاجات ضخمة جزئيا عبر الرسائل النصية، من خلال الفيسبوك وتويتر والتي اندلعت بعد الانتخابات المزورة بشكل واضح. وعلى مستوى العالم واجهت الكنيسة الكاثوليكية دعاوي قانونية حول إيوائها الأطفال المغتصبين، تلك العملية التي بدأت عندما كشفت صحيفة بوسطن غلوب عام 2002 خبر الاعتداء الجنسي على الأطفال في الكنيسة ونشر في الانترنت والذي تعرض إلى فيروس في غضون ساعات.
     على أي حال، هناك العديد من الأمثلة لناشطين قد فشلت ، كما جرى في بيلاروسيا في آذار( مارس) 2006، عندما نُظمت احتجاجات الشوارع (جزئيا من خلال الايميل) ضد الرئيس الكسندر لوكاشنكو لاتهامه بمزاعم تزوير الانتخابات بشكل ضخم، لكن بعد ذلك تعثرت القضية وترك لوكاشنكو في منصبه وبات أكثر تصميما من أي وقت مضى للسيطرة على وسائل الإعلام الاجتماعية. وفي انتفاضة الحركة الخضراء في إيران، خلال حزيران (يونيو) 2009 استخدم الناشطون كل وسائل التكنولوجيا الممكنة من أجل تنسيق الاحتجاجات على الخطأ الذي حدث في عد أصوات الانتخابات لصالح مير حسين موسوي لكن في النهاية تم اللجوء إلى حملة عنيفة ضدهم. كذلك انتفاضة أصحاب القمصان الحمر في تايلاند عام 2010 كانت بشكل مماثل لكن بطريقة سريعة حيث استخدم المحتجون وسائل الإعلام الاجتماعية بمهارة واحتلوا وسط مدينة بانكوك حتى فرقتهم قوات الحكومة وقتلت العشرات منهم.
     استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية- الرسائل النصية، الايميل، الصور، الشبكات الاجتماعية، وغيرها- لا تملك نتيجة محتومة واحدة. لذلك، فإن محاولات اختصار تأثيراتها على الميدان السياسي كثيرا ما تنتهي بها إلى حالة تشبه المبارزة بالحكايات. وإذا أخذ بعين الاعتبار فشل المحتجين في بيلاروسيا في الإطاحة بلوكاشنكو كنموذج، فسوف تعتبر تجربة مولدافيا كمثال منعزل والعكس بالعكس. إن العمل التجريبي المتعلق بالموضوع الذي يهدف لاستخلاص تعميمات من الصعب أن يأتي بنتائج، وذلك جزئيا بسبب أن هذه الوسائل جديدة إلى حد بعيد وجزئيا بسبب أن الأمثلة المتعلقة بها  نادرة جدا.* يتمثل التوصيف الأسلم للمحاولات الأخيرة في الإجابة على السؤال المتمثل بـ هل تعزز الوسائل الرقمية الديمقراطية؟ (مثل محاولات جاكوب غروشك وفيليب هوارد) بجواب يقول أن هذه الوسائل من المرجح أن لا تأتي ثمارها في المدى القريب ويمكن أن تساعد في المدى البعيد- وهي تمتلك : تأثيرات أكثر دراماتيكية في الدول التي يستطيع فيها مجال النشاط العام أن يحد بالفعل من الإجراءات الحكومية.
    بالرغم من هذا السجل المختلط، أصبحت وسائل الإعلام الاجتماعية تملك أدوات للتنسيق تُستخدم تقريبا من قبل كل الحركات السياسية في العالم، تماما كما بالنسبة لمعظم الدول ذات الحكومات الاستبدادية حيث مع زيادة أعداد الدول المتحولة إلى الديمقراطية تحاول هذه الحكومات الحد من الوصول إلى هذه الوسائل. وكاستجابة لذلك، ألزمت الولايات المتحدة نفسها "بحرية الانترنت" كهدف سياسي محدد. إن النقاش الدائر حول حقوق الناس باستخدام الانترنت بحرية يمثل سياسة مناسبة للولايات المتحدة ، بسبب إنه يتفق مع هدف استراتيجي يتمثل في تقوية المجتمع المدني على مستوى العالم وكذلك بسبب أنه يمثل صدى للمبادئ الأمريكية المتعلقة بحرية التعبير. لكن محاولات دعم فكرة حرية الانترنت كأهداف قريبة المدى- خصوصا تلك المحاولات التي تكرس لبلد معين أو تلك التي تتجه لمساعدة مجموعات منشقة معينة أو التي تشجع على تغيير النظام – من المحتمل أن تكون غير فعالة في المتوسط.
      رغم إن قصة الإطاحة باسترادا والحوادث الأخرى المشابهة لها قادت الملاحظين للتركيز على قوة التظاهرات للإطاحة بالحكومات، فإن القوة الكامنة في وسائل الإعلام الاجتماعية تتمثل بشكل رئيسي في دعمها للمجتمع المدني ونشاطات المجال العام- التغيير يقاس بالسنوات والعقود بدلا من الأسابيع والأشهر. لذلك ينبغي على الولايات المتحدة الأمريكية أن تصون حرية الانترنت كهدف وأن تنتهج  طريقة مبدئية ومحايدة في التعامل مع الأنظمة، وأن لا تستخدم الانترنت كوسيلة للتأثير المباشر في توجهات الأهداف السياسية في كل بلد. وينبغي بالمثل أن تفترض أن التقدم سيكون تدريجيا، ومما لا يثير الدهشة، بأن سيكون بدوره أبطأ في معظم الأنظمة الاستبدادية.
* من الواضح أن هذه المقالة كُتبت قبل اندلاع الانتفاضة في تونس ومصر وبقية البلدان العربية لذلك لم ترد في المناقشة والاستنتاج.(المترجم)
الترجمة عن مجلة  Foreign Affairs, January-February 2011       
                 

95
التيار الديمقراطي ودوره في تعميق التجربة الديمقراطية في العراق

د. هاشم نعمة
    لا يمكن أن نتصور بناء أسس نظام ديمقراطي ناضج دون وجود أحزاب وقوى وطنية ديمقراطية علمانية فاعلة سياسيا واجتماعيا وثقافيا تؤمن فكرا وممارسة بقيم وثقافة الديمقراطية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وحرية التعبير وحقوق الإنسان. ومنظمات مجتمع مدني بعيدة عن تبعية الدولة وفاعلة وعلى مساس بحياة الجماهير. حيث يعد ضعف التيار الديمقراطي ومحاولات إقصائه من الساحة السياسية في العراق عاملا أساسيا في تعثر وإخفاق التجربة الديمقراطية تلك التجربة التي نتجت من خصوصية تمثلت بإسقاط النظام السابق بالاحتلال  ولم تنتج من تراكم التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. وهذا الضعف بالطبع ناتج بشكل أساسي من حكم الأنظمة المتسلطة والدكتاتورية لعقود والتي همشت الطبقة الوسطى والقوى الوطنية الديمقراطية ومؤسسات المجتمع المدني وقوانينه. وهذه حالة لا ينفرد فيها العراق فتكاد تكون حالة عامة في كل البلدان العربية مع فارق بهذا القدر أو ذاك في الدرجة فيما بينها. لأن الاستبداد وغياب الحياة المدنية ينتج حالة من الفراغ الذي تملأه الأفكار الدينية المتطرفة. وكما يقول مونتسكيو في كتابه روح الشرائع "الاستبداد مكتف بذاته، وكل ما حوله محض فراغ. وعندما يصف لنا المسافرون بلداناً يهيمن عليها الاستبداد، فإنهم بالكاد يتحدثون عن القوانين المدنية" ويقول"البشر متساوون في الحكومة الجمهورية؛ وهم متساوون لدى الحكومات المستبدة; في الأولى لأنهم كل شيء، وفي الثانية لأنهم لا شيء." ويعرف عبد الرحمن الكواكبي الاستبداد " بأنه هو الحكومة التي لا يوجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم". وبهذا الصدد يذكر الدكتور عامر حسن فياض بأن ضعف الطبقة الوسطى في العراق يجعل مقومات وجود واستمرار البناء الديمقراطي ضعيفة وهو ما يضع أمام استيطان الديمقراطية الليبرالية في البلاد شرطين هما (الوعي) الذي يضطلع به المثقفون وشرط الحكم ومؤسساته الديمقراطية المصاغة وفق الصيغة الدستورية البرلمانية. لذلك في تقديرنا إن تنمية الشرط الأول نحتاج لها اليوم لكي تكون رافدا هاما للمحاولات الجارية لبناء تيار ديمقراطي في العراق.

     ومن جانب آخر فإن وجود تيار ديمقراطي فاعل سياسيا واجتماعيا وثقافيا يقود إلى مساهمة الثقافة الحزبية ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين الديمقراطيين من باحثين وأكاديميين وكتاب وصحفيين في إنتاج وتعميم ثقافة ديمقراطية وحقوقية ومدنية في أوساط شرائح واسعة من المتعلمين. وهذا يوفر شرطا ذاتيا لتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي المتعثرة.
     لا يمكن بناء نظام ديمقراطي عبر إنجاز المشروع الوطني الديمقراطي إلا من خلال دولة علمانية. وبهذا الصدد يذكر المفكر سمير أمين بأن الديمقراطية تتطلب انعتاق المجتمع من هيمنة الإيديولوجية الميتافيزيقية. لذلك تمثل الدولة الدينية معرقلا أساسيا للبناء الديمقراطي. وتجربة الثورة الإيرانية التي ساهمت بها قطاعات واسعة من الجماهير ومن منحدرات طبقية وسياسية وفكرية مختلفة خير دليل على ذلك حيث انتهت إلى دولة دينية متسلطة احتكرت السلطة السياسية وأمسكت بكل مفاصل المجتمع وحرمت التعددية السياسية وبالتالي لم تسمح بالتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات ديمقراطية. ولا يحدثنا الفكر السياسي بأن هناك تجربة ديمقراطية في العالم نجحت بدون أن يكون للقوى الديمقراطية دورا أساسيا في صيرورتها وتطورها. لذلك المطلوب أصلاح دستوري يرفع الصبغة الدينية عن الدستور العراقي.
     كان روبرت دال من أهم دارسي الديمقراطية المعاصرة في الغرب قد أعاد تعريفها بأنها نظام حكم الأكثرية. والأكثرية هنا يجب أن لا نفهما بغير الأكثرية السياسية وليس الأكثرية الطائفية أو القومية. هذا الفهم الأخير الذي بات سائدا في الساحة السياسية العراقية ويخفي من ورائه بالطبع مصالح طبقية وحزبية وفئوية  وشخصية ضيقة. ويرى دال أن النظام الديمقراطي يتميز بخاصيتين أولهما أتساع حقوق المواطنة لتشمل كافة المكونات السكانية وثانيهما يتضمن حق المواطن في تنحية أعلى مسؤول في الدولة من منصبه من خلال عملية التصويت في الانتخابات. ومما لا جدال فيه أن رفض مبدأ المواطنة وإنكار حق المساواة السياسية من قبل أغلبية دينية أو مذهبية أو عرقية يقود إلى الإخلال بأحد المستلزمات الأساسية للبناء الديمقراطي.
      لذلك فإن المحاولات الجارية لتوحيد صفوف التيار الديمقراطي بشتى مشاربه ومرجعياته السياسية والفكرية وجعله تيارا سياسيا واجتماعيا واسعا والتي قطعت أشواطا متقدمة من خلال عقد المؤتمرات الـتأسيسية لهذا التيار على مستوى المحافظات والخارج تعد خطوة بالغة الأهمية في هذا الـتأسيس والمطلوب من كل الأحزاب والقوى والشخصيات الديمقراطية أن تدرك المسؤوليات الملقاة على عاتقها وأن تبذل أقصى جهودها لنجاح هذا المشروع لأن فشله يعني أن الساحة السياسية العراقية ستظل مصبوغة بالطائفية السياسية والتي ليس لها علاقة بالتنوع الطائفي والمذهبي والتي تختزن خطر انهيار التجربة الديمقراطية برمتها. و تقود إلى المزيد من تفتت وحدة المجتمع العراقي وترسيخ نشوء نظام هش مشوه لا يمكن أن يرتقي بأي حال من الأحوال إلى مرتبة الأنظمة الديمقراطية حتى الوليدة منها.
     أخيرا إن بناء الدولة الديمقراطية في العراق لابد أن يعكس بقدر معين سمات البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية للمجتمع وتكون له خصوصية بقدر معين تتناغم مع هذه البنية والتي يعاد تشكيلها كلما تعمقت المسيرة الديمقراطية من خلال أتساع نفوذ وفكر القوى الديمقراطية في المجتمع والدولة. 



96
المنبر الحر / كفى محاصصة
« في: 19:09 16/03/2011  »
كفى محاصصة

  د. هاشم نعمة
    لا يخامرنا أدنى شك بأن عملية بناء نظام ديمقراطي في أي بلد لا يمكن أن تتم إلا عبر عملية تراكم تطوري كمي ونوعي تشمل آليات الممارسة الديمقراطية ذاتها وبناء المؤسسات الدستورية للدولة وحدوث تطور نوعي وعميق في البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع حيث هناك دائما ترابط وتأثير متبادل بين هذا المكونات في الـتأثير في مسيرة تعميق التحول الديمقراطي. 
      إن الديمقراطية كما هو معروف ليست وصفة جاهزة يمكن تطبيقها في هذا البلد أو ذاك بمعزل عن تاريخه السياسي وبنيته الاجتماعية - الاقتصادية. فما بالك في بلد مثل العراق الذي تعاقبت عليه لعقود أنظمة متسلطة ودكتاتورية ذات عقلية متخلفة لا تؤمن بالقيم الإنسانية وبأي فكر حر ومجتمع عانى من انعدام مؤسسات المجتمع المدني التي هي أحد الروافد الأساسية في بنية أي نظام ديمقراطي  وعانى عزلة عن مسارات التطور والتحديث في العالم المتحضر.
     بعد سقوط النظام السابق البغيض عام 2003 والذي جاء عن طريق الاحتلال وكنا نتمنى أن يتم ذلك على يد الشعب وقواه الوطنية. أرسيت اللبنة الأولى للعملية السياسية على أساس المحاصصة الطائفية والقومية من خلال تشكيل مجلس الحكم وكان الغرض من ذلك هو أضعاف وتفكيك وحدة المجتمع العراقي وجعل كل المكونات الطائفية والقومية بحاجة دائماً إلى الدعم الخارجي المتمثل في الولايات المتحدة أي أن تبقى الخيوط بيدها والكل يحتاجها. لكن بعد تسلم العراقيين السلطة وأجراء عدة انتخابات يفترض الخروج من نهج المحاصصة المقيت لا تكريسه. حيث توصل الكثير من قادة الأحزاب والكتل المتنفذة على الأقل لفظا إلى نتيجة فحواها بأن المحاصصة هي السبب الرئيس في إعاقة تطور العملية السياسية واندلاع العنف الطائفي وهي المعرقل في طريق إيجاد الحلول للمشكلات الكثيرة التي يعاني منها المواطنون على كل المستويات المعيشية والخدمية والأمنية. لكن مجرى الأمور يؤكد للمتتبع أن هناك نهجا ثابتا في تعميق وترسيخ نهج المحاصصة لا التخلص منه وإلا ماذا نفسر مثلا التعديل الذي أجراه مجلس النواب بجعل نواب رئيس الجمهورية ثلاثة ومطالبة السيد رئيس الجمهورية جلال الطالباني لمجلس النواب بنائب رابع كي يكون من حصة التركمان. وإذا سرنا على هذا النهج فيفترض أن يكون لكل مكون من مكونات الشعب العراقي نائبا وهنا ينبغي أن لا نفكر في الأكثرية والأقلية لأن المواطنة لا علاقة لها بالكم. تقول المادة الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان "يولد الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق، وقد وهبوا جميعاً عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء".  ثم لماذا تفكر الكتل المتنفذة بهذه العقلية؟ أليس رئيس الجمهورية مواطنا عراقيا مهما كان انحداره القومي أو الديني وفي منصبه يمثل كل العراقيين بشتى مشاربهم ثم إلا يكفي أن مجلس النواب وهو الممثل الحقيقى لسلطة الشعب أن تمثل فيه كل مكونات الشعب علما أن نظامنا برلماني حيث يتمتع المجلس بالسلطات التشريعية والرقابية. ثم ما هي الجدوى التي يجنيها العراق من أن يكون هناك ثلاث نواب لرئيس الوزراء؟ واحد منهم للطاقة وهو مجال عمل كل من وزارة النفط والكهرباء. ثم ما مغزى استحداث مجلس السياسات الاستراتيجية الذي لم يرد في الدستور؟ إن كل هذه المناصب وغيرها التي ترهق كاهل الدولة ماديا لا ضرورة لها في واقع العراق الحالي حيث يجري تفصيلها بمقاسات خاصة لأفراد معينين وحسب نسب المحاصصة. أن هذا النهج الذي يوغل في المحاصصة والذي يقود في النتيجة النهائية إلى لبننة العراق بقصد أو بدونه والذي ينتج من سيادة عقلية المكاسب الطائفية والقومية والحزبية والعشائرية والشخصية الضيقة سيتحول مع الزمن إلى وبال على كل المكونات وسيجنى منه العراق المزيد من الانقسام  والتحول إلى دولة إمارات غير معلنة.
    نرى الأحزاب والكتل المتنفذة تعلن الاتفاق لتقاسم المنافع والامتيازات دون مراعاة لمصالح الجماهير لتعود لتختلف وتفترق. هل أن وضعنا هذا بات ينطبق عليه قول علي بن أبي طالب البليغ "عهدكم شِقاق، ودينكم نفاق" و"أيها الناسُ المجتمعة أبدانهم المختلفة أهواؤهم."  ثم أن نهج التضييق على حرية التعبير ومحاولة منع الجماهير من التظاهر السلمي بشتى الأساليب والذرائع الممسوخة تجعل  التجربة الديمقراطية في العراق ينطبق عليها قول المفكر محمد عابد الجابري "تجربة تمارسها الدولة على المجتمع لمراقبته، وليس وسيلة تمكن المجتمع من مراقبة الدولة."
    إن إلغاء نهج المحاصصة المدمر وتبني آلية ديمقراطية في تطوير العملية السياسية تعتمد الأغلبية السياسية لا الطائفية أو القومية في تشكيل الحكومة والمؤسسات الدستورية هو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق الخطر. الأحزاب المتنفذة غير قادرة بحكم بنيتها الطائفية والقومية أن تسلك ذلك غير الأحزاب والقوى التي تؤمن فكرا وممارسة بالديمقراطية وهذا الذي ينبغي أن يناضل من أجله التيار الديمقراطي في سبيل تطبيق مشروعه الوطني الديمقراطي الذي هو المنقذ الوحيد للعراق من هذا الوضع المتردي.   
 

97
قرار إغلاق مقرات أحزاب سياسية قرار دكتاتوري بامتياز

د. هاشم نعمة

      إقدام قوات الشرطة وبقرار صادر من السيد رئيس الوزراء نوري المالكي  بالطلب بغلق مقري الحزب الشيوعي العراقي ومقر حزب الأمة في بغداد خلال 24 ساعة لهو قرار يتنافى ويتقاطع مع أبسط آليات العمل في الأنظمة الديمقراطية. وإلا أين يكمن دور السلطة القضائية التي يفترض أن تكون مستقلة في ممارسة صلاحياتها وإذا مارستها فإنها تعطي مدة كافية وتبليغ مسبق إذا كانت فعلا محقة في اتخاذ  قرار من هذه الشاكلة. بالله هل رأيتم رئيسا للوزراء في نظام ديمقراطي في العالم كله ينشغل في أمور صغيرة كهذه المتمثلة في الطلب المنفعل والغريب بغلق مقرات أحزاب سياسية مشاركة في العملية السياسية. وهو قرار يذكرنا بامتياز بالممارسات التي تلجأ لها الأنظمة الدكتاتورية. بلا شك دوافع هذا القرار كانت سياسية بحتة وتتعارض مع أبسط المبادئ الديمقراطية روحا وممارسة وقد جاء على خلفية تبنى الحزب الشيوعي العراقي لمطالب الجماهير المشروعة واشتراكه في المظاهرات خلافا لما يدعيه السيد مستشار رئيس الوزراء علي الموسوي بأن وزارة الدفاع باتت "في حاجة لهذه البنايات في الوقت الحاضر." وهذا قول لا يحتاج لبرهان لإثبات عدم صدقيته.
     وإذا كان هذا القرار في وقته لماذا يستثني الأحزاب المتنفذة في السلطة التي استولت على الكثير من أملاك الدولة ويطبق على الحزب الشيوعي العراقي الذي قدم في طريق نضاله الشاق والطويل ضد كل الأنظمة المتسلطة الملكية والدكتاتورية آلاف الشهداء في سبيل الدفاع عن قضايا الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والذي أعلن  بوضوح إنه مستمر في إجراءات إيجار المبنيين بشكل قانوني عن طريق السلطات المسؤولة. إن هذه الممارسات التي تحمل طابع ثقافة الانتقام ستعمل على إضعاف أسس النظام الديمقراطي التي لا زالت هشة وتقوض في النهاية شرعية الحكومة وترتد على منفذيها.   
     يلاحظ  المتتبع للمشهد السياسي العراقي بأن المظاهرات الأخيرة لا تطالب بتغيير النظام بل بحقوق أساسية كفلها الدستور وفي المقدمة منها حرية التعبير وتوفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء وتحسين البطاقة التموينية وتوفير العمل ومحاربة الفساد الإداري والمالي الذي استشرى في مفاصل الدولة العراقية ونبذ المحاصصة الطائفية والقومية التي ساهمت في تفتيت بنية المجتمع العراقي والتي تشكل أكبر خطر على تطور العملية السياسية وعلى مستقبل الدولة العراقية عندما يتم تبنيها كمكون ثابت في بنية النظام السياسي. ويلاحظ أن الدستور الذي بدوره وفر الغطاء الشرعي للحكومات المتعاقبة بعد سقوط النظام الدكتاتوري البغيض في 2003أخذت الحكومة تخرقه علانية فنراها من جانب تؤكد على شرعيتها كونها أتت عن طريق الانتخابات ولكنها في الوقت نفسه تنزع الغطاء الشرعي بالممارسة العملية عن حرية التعبير رغم إقرارها بهذه الحرية لفظا. وهذه مفارقة تستدعي التوقف لفحص جذورها وأسبابها الحقيقية وتقودنا إلى السؤال: هل الذين يتصدون للمسؤولية يؤمنون حقا بالديمقراطية؟ حيث نرى الحكومة قد ضاق صدرها وفقدت أعصابها من ممارسة يجب أن لا يخلو منها أي نظام ديمقراطي المتمثلة في حرية التعبير والتظاهر وراحت تعمل بكل جهدها وتحشد طاقاتها من أجل إعاقة التظاهرات السلمية وذلك من خلال تجنيد الآلاف من الشرطة والجيش لتقطيع أوصال المدن لإعاقة وصول المتظاهرين واستخدام القوة المفرطة التي أدت إلى سقوط شهداء وجرحى واعتقال من شاركوا في هذه التظاهرات بالأخص من الصحفيين والإعلاميين والاعتداء عليهم بوحشية. ثم لا ندري لماذا ينظر السيد رئيس الوزراء إلى هذه التظاهرات بأنها موجهة ضده فقط بينما الغرض منها في الأساس إثارة الانتباه لمعاناة الجماهير وايجاد الحلول لها ومن ثم فهي موجهة لكل البنية السياسية للدولة المشتملة على السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية ومجالس المحافظات لأنها كلها تتحمل المسؤولية مع فارق الدور في تردي الأوضاع في العراق.
      إننا ندعو الحكومة قبل فوات الأوان إلى الاستفادة من الدروس الماثلة أمامها والتي جلبتها رياح الحرية المنعشة التي هبت على البلدان العربية ونقول يمكن أن لا يستثنى العراق منها إذا ظل هذا الفهم القاصر للديمقراطية سائدا وسط  النخب الحاكمة. 
     

98
أرفعوا أصواتكم لوقف التجاوزات الخطيرة على حقوق الإنسان في ليبيا

     هزت العالم مشاهد ما تتعرض له الجماهير الليبية من انتهاك صارخ لحقوق الإنسان وفي المقدمة منها الحق في الحياة ومنع حرية التعبير السلمي من خلال المظاهرات. حيث واجهتها السلطة الحاكمة بالقمع الوحشي والتصفية الجسدية الدموية المنفلتة مما يضع هذه الأفعال الشنيعة في مصاف الجرائم ضد الإنسانية ويعرض مرتكبيها للمسائلة القانونية داخليا وعالميا. إننا نهيب بكل منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية في العالم العربي والعالم لرفع أصواتها عالياً لوقف المجازر التي يتعرض لها المتظاهرون المسالمون والدفاع عن حقوقهم المشروعة التي كفلتها المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان والضغط على الحكومات من أجل تبني قرارات على مستوى الدول العربية والأمم المتحدة تكون أكثر عملية وجدية من أجل وقف سفك الدماء بهذه الطريقة البربرية.
المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا
22 شباط (فبراير) 2011 

99
قراءة في كتاب "من أرشيف جمهورية العراق الأولى الحركة الشيوعية في تقارير مديرية الأمن العامة 1958-1962 دراسة تاريخية سياسية"

د. هاشم نعمة
    صدر كتاب بالعنوان المذكور للدكتور عبد الفتاح علي البوتاني عام 2010. وتضمنت محتوياته: بدلا من المقدمة، تمهيد، عبد الكريم قاسم وإعلان (الحرب) على الحزب الشيوعي العراقي، محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم وتداعياتها، عبد المجيد جليل مدير الأمن العام، تقارير مديرية الأمن العامة عن الحركة الشيوعية في العراق، وقد خصص الكاتب لهذه المواضيع 73 صفحة وبعدها ترد نصوص تقارير مديرية الأمن العامة والملاحق التي خصص لها أكثر من 200 صفحة. الناشر الأكاديمية الكردية في أربيل.
     تكتسي أهمية هذا الكتاب من أنه يؤرخ بالوثائق لفترة عاصفة من تاريخ العراق التي أعقبت ثورة 14 تموز والتي ارتبطت بتنامي دور الحزب الشيوعي  الجماهيري ومحاولة سلطة عبد الكريم قاسم تحجيم هذا الدور والذي ساهم بدوره في نجاح انقلاب 8 شباط الأسود ووئد  الجمهورية الأولى.  إن هذه التداعيات السياسية وما تلاها ساهمت بدرجة كبير في رسم ملامح التطور السياسي المضطرب في  العراق خلال العقود اللاحقة وإلى الوقت الحاضر.
     يذكر الكاتب في بدلا من المقدمة بأن الحزب الشيوعي كان حزباً شعبياً جماهيرياً في العراق، وكان مقدراً له أن يلعب دوراً أساسياً بعد ثورة 14 تموز، لثقافة أعضائه العالية، ورفده المجتمع العراقي بالكفاءات وفي مختلف التخصصات العلمية والأدبية، ويقول ما زلت مقتنعاً بأنهم وبسبب عشقهم للنضال والعمل الحزبي من أجل مبادئهم، وتصديهم بلا تردد للحكومات الظالمة، فإنهم أكثر الناس وطنية وإخلاصاً ونكراناً للذات.  كان الشيوعيون العراقيون دائماً إلى جانب حقوق الشعب الكردي القومية ولم يبخلوا أبداً في التعريف بالقضية الكردية على مستوى العراق والعالم، وكان الحزب الشيوعي في تثقيف أعضائه،  يركز دائماً على شعار حق تقرير المصير للشعب الكردي.
     ويذكر الكاتب "مع إني لم انتم للحزب الشيوعي بل كنت صديقاً لهم، فقد دمغت بختم الشيوعية ونلت حصتي المتواضعة من الاضطهاد والتمييز... ولا أجد ضرورة للحديث عن نفسي أكثر من هذا ... وما زلت ممتنا لصحبتهم وأتشرف بصداقتهم."
     أدت الصلابة والجلد اللذين أبداهما الحزب الشيوعي عبر نضاله الطويل إلى كسب عطف قطاعات واسعة من المؤيدين، فقد كان مؤيدوه والمتعاطفون معه أكثر بكثير من المنتمين إليه تنظيمياً، وظهر ذلك جلياً بعد قيام ثورة 14 تموز 1958، وهذا يفسر اعتماد عبد الكريم قاسم اضطراراً، وبدون أدنى شك، عليه وعلى مؤيديه وجماهيره الغفيرة، فقد اتكأ عليه واستعان به وبجماهيره لتوفير غطاء شعبي وإيجاد سند يحميه، لاسيما عندما أخذ التيار القومي العربي المرتكز على النفوذ المصري، والاتجاهات الدينية الإسلامية يعترضان على نهجه، وعلى نهج كل فصائل اليسار بالفكر والسلوك والعمل اليومي.
  
     كان الحزب يتمتع فعلاً بشعبية حقيقة، بدليل فوزه بعد ثورة 14 تموز في قيادة معظم النقابات والاتحادات والجمعيات والمنظمات الشعبية والمهنية، وكان هذا انعكاساً للتوجه العام في البلاد، فقد بلغت أعداد المنتمين إلى منظماته وتنظيماته المساندة نحو مليون شخص علما أن عدد سكان العراق في ذلك الوقت كان 7 مليون نسمة.
     ويذكر الكاتب لتحجيم دور الحزب الشيوعي مضى عبد الكريم قاسم في خطته فاستدعى أمراء الوحدات العسكرية وتشاور معهم، فتم نقل العديد من الضباط الشيوعيين إلى مناصب ثانوية وأحال بعضهم على التقاعد مثل ابن عمته هاشم عبد الجبار وأقال قائد الفرقة الثانية داود الجنابي ومجموعة من ضباط فرقته، وأحال على أمرة الإدارة 120 ضابطاً ديمقراطياَ وأمر باعتقال مجموعة من الضباط في سجن رقم (1) وشمل الاعتقال داود الجنابي وخزعل السعدي، وتم تسريح معظم ضباط الصف الكرد من الفرقة الثانية، والأهم من هذا أمر بتسريح 1800 ضابط احتياط معظمهم من الشيوعيين والبارتيين والمتعاطفين معهما وقام بالمقابل بإطلاق سراح الضباط القوميين الذين شاركوا في حركات تآمرية وأمر بعضهم بالحضور إلى منصة التحية في الباب الشرقي أثناء العرض الاحتفالي بمرور عام على ثورة 14 تموز.
     ويتطرق الكتاب إلى محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959 من قبل البعثيين حيث يذكر العميد إسماعيل عارف قائد قوات حماية بغداد ووزير المعارف فيما بعد وهو من المقربين إلى قاسم أن قاسم كان على علم بمؤامرة البعثيين لاغتياله، وأمر مدير الأمن العام العقيد عبد المجيد جليل بأن يضع يده على جميع خيوطها ويقبض على جميع المشتركين فيها عندما تنضج لديه المعلومات. ويبدو على حد قول الكاتب أن مدير الأمن العام لم ينفذ تلك الأوامر، لأنه لم يكن مخلصاُ لقاسم وكان على صلة بالبعثيين الذين بصقوا في وجهه وقتلوه صباح 8 شباط 1963 قبل أن يكشف أسرارهم.  
     إن معظم نشاطات الأمن انحصرت بعد مايس 1959 في رصد نشاطات الشيوعيين والمتعاطفين معهم ومع قاسم ومطاردتهم، ويؤيد هذا ما قاله إسماعيل عارف بأن المراقبة خفت على نشاط القوميين بشكل عام وعلى أعضاء حزب البعث على الخصوص بعد سنة 1961، لانصراف معظم نشاطات أجهزة الأمن إلى مطاردة أعضاء الحزب الشيوعي والمتعاطفين معه،  حتى أن مدير الأمن العام وضع مؤيدي ثورة 14 تموز ومحبي عبد الكريم قاسم في صف الشيوعيين وصارت أجهزته تطاردهم وكان دافعه إلى ذلك الكره الذي كان يضمره للشيوعيين منذ إن كان ضابط استخبارات في العهد الملكي.
      ويشير الكاتب إلى أن تقارير مديرية الأمن العامة التي تيسر له الإطلاع عليها لم تكن تعرض الصورة الحقيقية لما كان يجري آنذاك في العراق، لأنها تفتقد إلى المقومات الأساسية التي يفترض أن يعدها جهاز أمني متمرس، فقد كانت في طابعها العام وبالعبارات التي تستخدمها تحاول محاباة الحاكم الأول عبد الكريم قاسم، بل كانت في الحقيقة تضلله ولا توقفه على حقيقة ما كان يجري، وذلك بتفنيدها (الإدعاءات) التي كانت ترد في بيانات ومنشورات الجهات الموالية والمعادية له، وكانت تتزلف وتتقرب منه، حتى أن مدير الأمن العام عندما يرفع تقاريره إليه يبدأها بالمدح له. حيث يعرج في تقاريره إلى مهاجمة بيانات الأحزاب والرد عليها بعبارات غير سياسية فيتهمها بالخيانة والمروق وبالمخربين والفوضويين وبأذناب الاستعمار وأعداء الشعب، معتقدا بأنه يقدم لزعيمه خدمة أمنية سيشكر عليها، بينما كان يضيع في ذلك ما ينبغي اعتماده في مثل هذه التقارير عندما تعكس بدقة الواقع السياسي أو النفسي للجماهير، واقتراح المعالجات التي يسترشد بها رئيس الحكومة في معالجة المشاكل، لاسيما الداخلية منها، فبدلا من ذلك، نرى عبد المجيد جليل وأقطاب أمنه لا هم لهم في تقاريرهم سوى تأليب السلطة على الناس، لاسيما على الشيوعيين واعتماد الشدة والعنف ولا سواهما في فرض سيطرة الحكومة، وكأن ذلك هو العلاج في تصفية المعارضة. فقد بلغ عدد المعتقلين السياسيين 22 ألفا سنة 1960، ومن أواسط 1959 لغاية مايس 1961، أصدرت المحاكم العرفية 112 حكما بالإعدام و 770 حكما بالسجن لمدد مختلفة، واغتيل المئات معظمهم من الشيوعيين والبارتين، وكانت أجهزة الشرطة والأمن تهمل التحقيق في جرائم الاغتيالات ولا تتعمق فيها وبررت مديرية الأمن العامة ضيق المعتقلات بالمحكومين والمعتقلين بقولها: إن الحكومة محقة في أن تسلك هذا الاتجاه في سبيل الاستقرار وانصراف الجميع إلى مصالحهم.  
     إن التقارير التي يعرضها الكتاب جميعها تحاول استعداء عبد الكريم وتحريضه على الحزب الشيوعي أولاً وعلى الحزب  الوطني الديمقراطي والحزب الديمقراطي الكردستاني ثانياً، وتحاول باستيحاء تغيير موقفه من القوميين لاسيما البعثيين منهم بعد تآمرهم عليه في الموصل في 8 آذار 1959، ومحاولة اغتياله في 7 تشرين الثاني 1959 والتهيئة لانقلاب 8 شباط 1963، أما ما يلفت الانتباه فيها وبشكل يدعو إلى السخرية هو اتهام الحزب الشيوعي بالعمالة لبريطانيا والولايات المتحدة، فضلاً  عن التقليل من شأنه والتحريض عليه ووصف الشيوعيين بالزمرة وبالفوضويين والمخربين  ونجاح مديرية الأمن في إقناع قاسم بعدم إجازة الحزب، ومحاولة تغيير سياسته إزاء القوميين وحلفائهم الذين تآمروا عليه، وأدى وقوعه تحت تأثير تلك التقارير إلى سقوطه، وقد دفع الشعب العراقي من جراء ذلك ثمنا فادحا بعد استلام حزب البعث للسلطة وعليه لا يمكن تبرئته من كل ما حدث فقد كان هو قائد الثورة والكل بالكل على حد قول وزير داخليته أحمد محمد يحيى. رغم إقرار الكاتب بأن عبد الكريم قاسم كان رجلاً عفيفاً وطنياً نظيف اليد واللسان، ولم يستغل مباهج الحكم له ولأسرته إلا إنه كان لا يصلح لقيادة العراق لأنه كان عسكرياً ممتازاً لا سياسياً حكيماً. ويستشهد بقول وزير الداخلية بأن قاسما كان يقف حائرا عاجزا لا يعرف ماذا يفعل أمام عظم المسؤولية التي أخذها على عاتقه وانفرد بها وكان يقول أن الظروف جاءت بنا ودفعتنا وسط هذه التيارات والأمواج، أن الله أتى بي، وأنا أعرف أن هذا ليس شغلي ولكن هذا قدري، ويجب أن نكمل المشوار.  
     وما يؤكد تغلغل  وانتشار أفكار الحزب الشيوعي بين الجماهير ما ورد  في  تقرير بعنوان" استعراض وضع الشيوعية في العراق" صادر عن مديرية التحقيقات الجنائية بتاريخ 12 آذار 1946 جاء فيه "إن الشيوعية أو ما يقع تحت حصر هذا الاسم في العراق قد انتشرت في السنوات الأخيرة انتشارا شمل كافة الطبقات تقريباً بحيث صار في الإمكان القول الآن بأن 50% من عناصر الشباب في المدن يعتنقون هذا المبدأ بدرجات مختلفة ويكثر معتنقوه بصورة خاصة في الأماكن المزدحمة بالطبقة العاملة مثال ذلك معامل السكك الحديدية وميناء البصرة وشركات النفط وطلاب المدارس بعضاً وهناك ما يشير إلى انتشار هذا المبدأ بين ضباط الجيش وأفراده ولم يتضح إلى الآن ما ينم عن سريانه إلى قولت الشرطة." الملاحق ص 221.
      وما يثبت دور الحزب في الدفاع عن مصالح الجماهير يرد في تقرير سري للغاية في 5 أيلول 1954 معد من قبل بهجت العطية مدير التحقيقات الجنائية "أصبح مفهوما لدى الناس أن ليس هناك إصلاح أو خير يرتجى من أية حكومة تأتي مهما كان رجالها ما لم يكونوا من الشيوعيين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الديمقراطيين الوطنيين ومهما قامت به الحكومات من مشاريع الترفيه وفي مقدمتها مشروع الخبز فإنهم لا يعزوه إلى جهود الحكومة وإنما إلى مساعي الشيوعيين وضغطهم وتأثيرهم على الحكومة وأن الخير كل الخير في الشيوعية دون غيرها..."ص 79
     ومن التقارير المضللة التي تقصد تضليل عبد الكريم قاسم ما ورد في تقرير عن نشاط الأحزاب في البصرة، الهدف منه التقليل من شأن الشيوعيين وحرمانهم من الإجازة، وكان قانون الجمعيات قد صدر في 2 كانون الثاني 1960، والذي جاء فيه إن الحزب الشيوعي العراقي ونشاطه في طريق التلاشي وأعضاؤه معزولون تماما عن أبناء الشعب وكما "قلت فإن مؤيدي هذا الحزب سيندثرون إلى الأبد"، ولا ينسى عبد المجيد جليل من الإشادة بالقوميين، فكتب بصددهم يقول: أما أفكار الأحزاب القومية فمنتشرة في السواد الأعظم من الناس، وهم يبحثون عن الاستقرار ومحاربة الفوضويين (يقصد الشيوعيين) ويؤيدون كل تقارب عربي، وقد أعجبتهم خطوات الزعيم  الموفقة في جمع شمل العرب، وشد أواصر المحبة بينهم، ويدعون له بالقوة والنصر، وفي تقرير آخر أكد أن البعثيين لديهم رغبة قوية للتخلص من الشيوعيين.
    وفي محاولة لاستمالة موقف قاسم نحو القوميين وحزب البعث يرد في تقري خاص من نفس المديرية مؤرخ في 22 كانون الثاني 1960 ما يلي: "ثبت لديهم (أي القوميين) أن سيادة الزعيم لا يرغب أن تتغلب فئة على فئة أخرى ولا هو يريد أن يقف بجانب الشيوعيين ضد القوميين أو بالعكس بل كل ما يريده هو أن يسود العقل والحكمة..." ص 261 وفي تقرير خاص آخر مؤرخ في 27  شباط  1961 يرد "قيل بهذا الصدد بأن وجهة نظر حزب البعث العربي الاشتراكي الجديدة حول سياسة الجمهورية العراقية وسياسة الزعيم المنقذ عبد الكريم قاسم قد تغيرت أو تبدلت وذلك لأن الحزب قد وجد أن الزعيم الأمين عبد الكريم قاسم واضح كل الوضوح في سياسته العربية، وإنه يحمل أهدافا سامية وعالية جداً في هذا السبيل بحيث أبدى الحزب إعجابه بخطاب سيادة الزعيم في مؤتمر نقابة المعلمين وإعجابه بما اتصف به سيادته من ديمقراطية عالية فاقت حدود الديمقراطية العربية والإسلامية في التاريخ." !! ص 186  
      وما يؤكد موقف الحزب الشيوعي في دعم كل الخطوات التي تتبناها حكومة الثورة للدفاع عن مصالح العراق والمطالبة بالانتقال إلى الحياة البرلمانية يرد في تقرير سري للغاية مؤرخ في 2 آب 1960 مرفوع من مديرية الأمن العامة"قيادة هذا الحزب تعمل جهدها من أجل استثمار أية معركة وطنية تخوضها حكومة الثورة مع أعدائها، أيا كانوا، لمحاولة دفع الحكومة الوطنية لأن تسير في هذه المعركة إلى آخر الشوط، كأن تقوم مثلاً بتأميم النفط خلال معركتها مع شركة نفط البصرة، وذلك ليعلن الحزب عن كامل استعداده لمناصرة وإسناد الحكومة في هذه المعركة وما تتمخض عنها من تطورات محتملة..." "وفي هذه النقطة يثبت الحزب أقدامه ليستمر في المطالبة الأساسية حول إنهاء فترة الانتقال وتثبيت دعائم حياة دستورية نيابية." ص 166-168.
      وفي محاولة لدفع عبد الكريم قاسم إلى عدم إنهاء الفترة الانتقالية وأجراء الانتخابات والانتقال إلى الحياة البرلمانية الدستورية يرد في تقرير خاص في 20 مايس 1961 "إن سيادة الزعيم يتبع بسياسته الداخلية والخارجية سياسة عادلة...وهي ليست في حاجة إلى رقابة هؤلاء المزيفين، كما وأنه سوف تتعرض المشاريع والانجازات الكبرى التي تقوم بها الجمهورية العراقية حالياً إذا ما تركت بالتصويت والمناقشة إلى التعطيل والضياع والتأخير، وسنعود مرة أخرى من حيث أتينا ولربما سوف يبدأ الصراع الداخلي والسياسي من جديد بدلاً من أن تتجه الجمهورية في تركيز وتشييد صرح المدنية الحديثة ما يمكن." ص 194
      وفي محاولة لتبيض صفحة رجال العهد الملكي المباد يرد في تقرير سري للغاية مؤرخ في 29 مايس 1961 " وتساءل الناس: لماذا لم يطلق سراح الباقين من رجال العهد المباد؟ وعلقوا على ذلك. لابد أن الزعيم يريدها مفاجأة في أعياد الثورة لأنهم لم يعودوا قوة تستحق المكافحة، وقال الناس: ومن يدري فقد يبادروا إلى تأييد الزعيم أكثر من تأييدهم لنوري السعيد لو طلب منهم ذلك وعلى هذا الأساس لم تبق ثمة حاجة إلى بقائهم معتقلين..." ص 197
      يؤكد الكاتب إن دراسة وثائق الكتاب بدقة وموضوعية وبروح علمية ورؤية سليمة واضحة، رغم كونها تعود إلى حوالي خمسين سنة وترتبط بالدرجة الأولى بالحزب الشيوعي  العراقي لكن لها صلة أيضاً وعلى قدر معين بالحزبين الديمقراطي الكردستاني والوطني الديمقراطي، فإنه يمكن الاستفادة منها على أرض واقعنا الحالي، وقد "يعيد التاريخ نفسه" إن لم تأخذ القوى الوطنية والديمقراطية الدروس والعبر من تجارب الماضي.
        
    

100

   رأسمالية الدول عصر يتشكل هل هو نهاية السوق الحرة؟ (4)

                                                                                         
     ترجمة: د. هاشم نعمة

                                       الطريق إلى الأمام
     خلقت الأزمة المالية العالمية وهم الوحدة الدولية القائم على خوف خاطئ متمثل بأن الجميع يغرق في نفس القارب. قبل عام، كان الحديث يدور في الدوائر السياسة حول عملية "فصل"، الأزمة الاقتصادية بواسطة قيام الاقتصاديات الناشئة بتطوير قاعدة محلية واسعة للنمو بما فيه الكفاية لتحريرها من الاعتماد على طلب الاستهلاك القادم من الولايات المتحدة وأوروبا. غير أن توقعات الفصل ثبت بأنها سابقة لأوانها. حيث إن المشاكل الاقتصادية التي نَشأت، بدرجة كبير، في الولايات المتحدة فرضت بقوة انخفاضاً حاداً في النمو الاقتصادي في العشرات من البلدان النامية من خلال تراجع الطلب على صادراتها.
     لكن تحت السطح، لا يزال الفصل واضحاً في الأسواق النامية المحلية في البرازيل، والصين، والهند، وروسيا؛ المتمثل في الاستثمارات الحكومية العائدة لهذه البلدان التي تتم في الخارج؛ والتي تعمل على إضفاء الطابع الإقليمي على تدفقات رأس المال؛ وعلى المدى البعيد ستتمكن دول مجلس التعاون الخليجي، وأعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا، وبعض حكومات أمريكا الجنوبية من إصدار العملات الإقليمية القادرة على الحياة ومن ثم تصبح هذا الدول أكثر اعتماداً على الذات.
     لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تعول على الشركاء الاستراتيجيين لشراء ديونها، كما فعلت مع اليابان وألمانيا الغربية في الثمانينات. حيث يجب عليها الآن أن تعتمد على منافسيها الاستراتيجيين، خصوصاً، الصين التي لا تعتقد بأن الولايات المتحدة قادرة على الاحتفاظ بدورها كمركز اقتصادي عالمي لأجل غير مسمى. وقد ساعدت احتياطات الدولار المدخرة بكين على الحفاظ على قيمة العملة الصينية منخفضة، ومن ثم زيادة صادرات الصين وإنتاج فوائض تجارية قياسية. لكن الآن تتمثل أولوية الصين في بناء سوقها المحلي لخلق نموذج جديد من النمو الاقتصادي يعتمد أقل على الصادرات إلى الولايات المتحدة وأوروبا ويعتمد أكثر على طلب المستهلكين الصينيين. وإذا نجحت الصين، عندها سيصبح "الفصل" مصطلح ذو معنى أكثر، وسيكون للصين حافزاً أقل لشراء ديون الولايات المتحدة. وإذا أراد عدد أقل من الدول شراء سندات الخزانة الأمريكية، فإن معدل فائدتها يجب أن يُرفع لجعلها جذابة للمشترين، وهذا سيعني أن مديونية الولايات المتحدة ستستمر لفترة طويلة. وبمجرد أن يبدأ الانتعاش الاقتصادي في الولايات المتحدة، فإنه سيكون بوتيرة أبطأ، وستتسارع عملية تأكل مكانة الدولار باعتباره العملة الاحتياطية في العالم.
      قد تخلص الولايات المتحدة بأن قوتها في ضبط وتعزيز القواعد الاقتصادية في العالم في طريقها للانحسار. أنها لا تستطيع، على أية حال، أن تتمتع بثقة كبيرة يؤهلها كي تلعب دوراً قيادياً في مجموعة العشرين ( مجموعة الدول ذات الاقتصاديات الرئيسية). هذا المنتدى يشمل الاقتصاديات الناشئة، مثل الصين والهند، التي استُبعدت من مجموعة السبعة (مجموعة الدول الصناعية الكبرى) وبسبب الاختلاف الطبيعي بين المصالح الاقتصادية لهذه الدول ومصالح الدول المتقدمة سيكون من الصعب بناء أي توافق في الآراء بشأن أصعب التحديات الاقتصادية. إن المشكلة تتضخم بسبب ميل السياسيين، في كلا من العالم المتقدم والنامي، لتصميم خطط التحفيز لتكون متوافقة مع زبائنهم أو جمهورهم أو دوائرهم الانتخابية، وعدم أخذهم بعين الاعتبار تصحيح الاختلالات الاقتصادية الكبرى.
     هل ستبقى رأسمالية السوق الحرة  تشكل بديلا مجديا على المدى البعيد؟ سيعتمد هذا الأمر إلى حد كبير على ما يقوم به صانعو القرار السياسي الأمريكي بعد ذلك. ومع هذا فإن رأسمالية الدولة سوف لن تختفي في أي وقت قريب.
انتهى 
الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 88 No. 3, May/ June 2009

101

رأسمالية الدولة عصر يتشكل هل هو نهاية السوق الحرة؟ (3)

                                                                                         
ترجمة: د. هاشم نعمة
      تميزت الموجة الثالثة من رأسمالية الدولة بصعود أهمية صناديق الثروة السيادية، والتي بدأت عام 2005 بتحدي الهيمنة الغربية على تدفق الرأسمال العالمي. احتياطيات رأس المال هذه نتجت من الزيادة الضخمة في الصادرات من البلدان ذات الأسواق الناشئة. وقد استمرت إدارة معظم صناديق الثروة السيادية بيد المسؤولين الحكوميين، الذين يتعاملون مع تفاصيل مستويات الاحتياطي ، والاستثمارات، وإدارة موجودات الدولة كشيء أقرب إلى أسرار الدولة. النتيجة، ليس من الواضح  إلى أي مدى تُستثمر هذه الصناديق ثم أن اتخاذ القرارات يتأثر بالاعتبارات السياسية.
     يقود صندوق النقد الدولي الآن جهوداً لتوفير أعلى مستويات الشفافية والاتساق في عمل صناديق الثروة السيادية، لكن مثل هذه المحاولات سوف لا تتكلل بالمزيد من النجاح أكثر مما يفعله معظم الترتيبات الطوعية. إن صناديق الثروة السيادية التي لا تتسم بالشفافية ،خصوصا، ستبقى غامضة ومبهمة، وسيستمر القادة السياسيون بإدارتها من أجل ربح كل من المكاسب السياسية والمالية. وكتبرير أو تسويغ، يمكن أن يشير مدراء الصناديق بشكل معلن وعلى شكل دعوات سياسية إلى التجرد وبأن عملها يسير وفقا لصناديق الثروة السيادية الغربية المشابهة، مثل صندوق التقاعد الحكومي في النرويج أو نظام تقاعد المستخدمين العام في كاليفورنيا.
    الموجة الرابعة من رأسمالية الدولة وصلت الآن، وتسارعت بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي الأخير. لكن في هذا الوقت، تدخلت حكومات أغنى البلدان في العالم، في اقتصادياتها وليس فقط حكومات بلدان الأسواق الناشئة. ففي الولايات المتحدة، تدخل المشرعون في الاقتصاد على الرغم من عدم ثقة الجماهير، تاريخياً، بالحكومة وثقتها بالمؤسسات الخاصة. وقد حذت حذوها  أستراليا، واليابان، وغيرها من الأسواق الحرة التي تتمتع بوزن كبير. وأما البلدان الأوروبية، ذات التوجهات الدولانية statism * والديمقراطية الاجتماعية فجعلت من التأميم وعمليات الإنقاذ أو الضمان أكثر قبولاً من الناحية السياسية.
    ومع ذلك، لم تتبنَ القوى الصناعية القائدة في العالم رأسمالية الدولة بدون تحفظات. ففي الولايات المتحدة وأوروبا، لا تزال قوة اليد الخفية تشكل مادة للإيمان. وتعرف الحكومات في جانبي المحيط الأطلسي أنه من أجل المحافظة على التأييد الشعبي، يجب عليها أن تحافظ على وعودها بإعادة القطاع المصرفي والشركات الكبيرة إلى أيدي القطاع الخاص بمجرد استعادة صحتها. ولكن ما دامت الحوافز الاقتصادية تأتي في طليعة الاعتبارات السياسية في واشنطن، وفي جميع أنحاء أوروبا، والصين، والهند، وروسيا، سيظل صانعو القرار السياسي في مركز النظام المالي العالمي. ومن أجل ضخ الأموال في الاقتصاد أولاً، سينقذ وزراء المالية والخزانة المصارف والشركات الخاصة، بضخ السيولة، وطباعة النقود، ببساطة لأنه لا يمكن لأي طرف آخر أن يعمل ذلك. في الواقع، القليل من المصارف المركزية، تتمتع بالاستقلالية، وهي لم تعد مقرض الملاذ الأخير، أو حتى إذا كانت مقرض الملاذ الأول ؛ فهي تكون مقرضة فقط. هذا التطور أنتج تحولاً مفاجئاً ومهماً في مركز ثقل القوة المالية العالمية.
    حتى وقت قريب جداً، كانت نيويورك العاصمة المالية للعالم، أنها لم تعد الآن حتى عاصمة مالية للولايات المتحدة. هذه الحقيقة، باتت معروفه الآن في واشنطن، حيث يتخذ أعضاء الكونغرس والسلطة التنفيذية القرارات ذات التأثير البعيد المدى في السوق على نطاق لم يسبق له مثيل منذ عقد الثلاثينات. وهناك تحول مماثل يأخذ طريقه في كل مكان من العالم فيما يتعلق بالمسؤولية الاقتصادية: من شنغهاي إلى بكين، ومن دبي إلى أبو ظبي، ومن سدني إلى كانبيرا، ومن ساو باولو إلى  برازيليا، وحتى في الهند التي تتمتع نسبياً باللامركزية، من مومباي إلى نيودلهي. وفي لندن، وموسكو، وباريس، حيث يتعايش المال والسياسية، يحدث نفس التحول نحو الحكومة.
     من المرجح أن تنشأ اقتصاديات رأسمالية الدولة نتيجة تباطأ النمو العالمي مع تحكم غير مسبوق في مستوى النشاط الاقتصادي. حيث نرى الصين وروسيا تدعما كلا من شركاتها العائدة للدولة والشركات الوطنية التابعة للقطاع الخاص والنصيرة للدولة للخروج من المأزق.  وتعملا لصالح دمج الصناعات الرئيسية من أجل خفض التكاليف. وفي أعقاب هبوط أسعار النفط من 147 دولار للبرميل في تموز 2008 إلى أقل من40 دولاراً في شباط 2009، واجهت روسيا أول عجز في الميزانية منذ عقد من الزمن. بينما حصلت الصين،  البلد المستورد والمستهلك الرئيس للنفط، على بعض الفوائد من هبوط أسعار النفط، لكن تباطأ النمو العالمي ترك حكومتي البلدين عرضه لارتفاع البطالة مترافقاً مع اضطرابات اجتماعية. وقد استجابت الحكومتان على حد سواء، لمعالجة الجزء الأكبر من الأزمة، من خلال ممارسة سيطرة الدولة على الاقتصاد والتي لا تزال تتسم بالشدة.
    رغم الركود العالمي، فإن صناديق الثروة السيادية، اللاعبة الاقتصادية الرئيسية السابقة، وجدت لتبقى إلى المستقبل القريب. رغم انخفاض مجموع القيمة الصافية العائدة لها من تقدير عال حوالي 4 تريليون دولار عام 2007 إلى أقل من 3 تريليون دولار في نهاية عام 2008، هذا الرقم الأخير لا يزال يقترب من مجموع الممتلكات العالمية من النقد الأجنبي العائد للمصارف المركزية ويتجاوز الأصول المشتركة المشغلة أو المملوكة من قبل جميع صناديق الوقاية من الخسارة المالية في جميع أنحاء العالم. وتشكل حسابات صناديق الثروة السيادية حوالي 12% من مجموع الاستثمارات العالمية، وهي ضعف الرقم مقارنة بقبل خمس سنوات. ومن المقرر أن يستمر هذا المسار، ويقدر بعض التوقعات الموثوق بها قيمتها المرجحة عند 15 تريليون دولار عام 2015.
   باختصار، رغم الأزمة المالية العالمية، لا تزال شركات النفط الوطنية تسيطر على ثلاثة أرباع الموارد الأولية الإستراتيجية في العالم، ولا تزال الشركات العائدة للدولة والشركات الوطنية المملوكة للقطاع الخاص والنصيرة للدولة تتمتع بميزات تنافسية أساسية على منافسيها من القطاع الخاص، ولا تزال صناديق الثروة السيادية تفيض بالسيولة النقدية. هذه الشركات والمؤسسات، حقاً، أكبر من أن تتعرض للفشل.
   إن تدخلاً أعمق للدولة في الاقتصاد يعني بأن تبديد البيروقراطية، وعدم الكفاءة، والفساد من المرجح أن تكبح النمو. وتكون هذه الأعباء أشد في الدولة الاستبدادية، حيث يتمتع المسؤولون السياسيون بالحرية في اتخاذ القرارات التجارية دون تدقيق أو مراقبة من قبل الصحافة الحرة أو الوكالات التنظيمية السياسية المستقلة، أو المحاكم، أو المشرعين. ومع ذلك، فإن الركود العالمي المستمر قد قوض الثقة العالمية في نموذج السوق الحرة. وآيا كان السبب الحقيقي للأزمة، فإن حكومات الصين، وروسيا، ودول أخرى لديها أسباب مقنعة لتوجيه اللوم للرأسمالية على النمط الأمريكي عن أسباب التباطؤ الاقتصادي. حيث أن هذا اللوم يسمح لها تجنب تحمل المسؤولية عن ارتفاع البطالة وانخفاض الإنتاجية في بلدانها والدفاع عن التزامها برأسمالية الدولة، التي بدأت كنظام قبل وقت طويل من بدء الأزمة الحالية.
   ورداً على ذلك، يجب على صانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة أن يحاولوا بيع قيمة الأسواق الحرة، على الرغم من أن تنفيذ هذه الخطوة يمثل لحظة صعبة. وفي حالة تحول واشنطن إلى نظام الحماية والاحتفاظ بقبضة شديدة على النشاط الاقتصادي لفترة طويلة جداً، فإن الحكومات والمواطنين في جميع أنحاء العالم سترد بالمثل، إن المخاطر كبيرة، بسبب إدخال السياسة الشعبوية على نطاق واسع في التجارة الدولية والاستثمار سيعرقل الجهود الرامية لتنشيط التجارة العالمية ويحد من النمو، مستقبلاَ. فسياسة الحماية تولد الحماية، وسياسة الإعانات تنجب الإعانات. فقد فشلت جزئياً محادثات جولة الدوحة للتجارة العالمية عام 2008 بسبب إصرار الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي على استمرار العمل بالرسوم الجمركية الزراعية العالية ورغبة الصين والهند بحماية كل من مزارعيها وبعض صناعاتها التي لا تزال ناشئة، والتي لا يمكن أن تتنافس حتى الآن من تلقاء نفسها. إن جمود محادثات الدوحة كلفت بالفعل مئات المليارات من الدولارات التي يحتمل أن تنتج من زيادة التجارة العالمية.
      بدأت نشاطات حمائية أخرى تؤثر في التجارة الدولية. فقد أعادت الصين العمل بنظام الإعفاءات الضريبية لمصدرين معينين. وحصرت روسيا الاستثمار الأجنبي في 42 "قطاعاً استراتيجياً" وفرضت رسوماً جديدة على السيارات المستوردة، وعلى لحوم الخنازير والدواجن. وفرضت اندونيسيا رسوماً جمركية على الواردات وقيوداً على  منح التراخيص على أكثر من 500 نوع من المنتجات الأجنبية. وأضافت الهند  فرض ضريبة 20بالمائة على استيراد زيت فول الصويا. وتبحث الأرجنتين والبرازيل علناً فرض رسوم جمركية جديدة على استيراد النسيج والنبيذ. ورفضت كوريا الجنوبية إلغاء الحواجز التجارية أمام استيراد السيارات الأمريكية. وأعلنت فرنسا إنشاء صندوق حكومي لحماية شركاتها المحلية من السيطرة الأجنبية. هناك بالفعل مطالبات من جانب العديد من البلدان في مناطق مختلفة لرفع الرسوم الجمركية إلى أقصى المستويات المسموح بها في إطار جولة أورغواي بشأن الاتفاقية العامة للتجارة والتعريفة الجمركية. ويجري إحلال الاتفاقيات العالمية الشاملة وآليات حل النزاع من خلال التصحيح والعمل بحوالي 200 اتفاقية ثنائية أو إقليمية. (200 اتفاقية أخرى أو نحو ذلك هي في العمل.) هذه التجزئة تمنع المنافسة العالمية، وتضر بالمستهلكين، وتضعف النظام الجماعي أو المتعدد الأطراف- كل ذلك في الوقت الذي يحتاج فيه الاقتصاد العالمي إلى تحفيز جديد.

* تعني الدولانية تركيز السلطة الاقتصادية والتخطيط الاقتصادي في يد الدولة لكن في تقديرنا أن هذا المبدأ لا تطبقه البلدان الأوروبية الرأسمالية إلا بشكل محدود ويبدو أن الكاتب يشير إلى أن الدولانية أكثر استخداماُ في أوروبا مقارنة بالولايات المتحدة. (المترجم)
الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 88 No. 3, May/ June 2009         



102

  رأسمالية الدولة عصر يتشكل هل هو نهاية السوق الحرة؟ (2)

                                                                                         
                                                                                                       ترجمة: د. هاشم نعمة
علاقات وثيقة
     أحدى الملامح الأساسية لرأسمالية الدولة هي وجود علاقات وثيقة تربط معاً بين الأشخاص الذين يحكمون البلد والذين يديرون شركاته. فرئيس وزراء روسيا السابق، ميخائيل فرادكوف، هو الآن رئيس شركة غازبروم، المحتكرة للغاز الطبيعي في روسيا. والرئيس السابق لغازبروم ، دميتري ميدفيديف، هو الآن رئيس روسيا. ديناميكية الزبون- صاحب العمل هذه قد أدخلت السياسة، والسياسيين، والبيروقراطية في عملية صنع القرار الاقتصادي إلى حد لم يسبق له مثيل منذ الحرب الباردة. وتثير هذه الديناميكية العديد من المخاطر بالنسبة لأداء الأسواق العالمية.
    أولاً، إن ترك أغلب القرارات التجارية، بيد البيروقراطية السياسية، التي تمتلك خبرة قليلة بإدارة العمليات التجارية بفعالية، غالباً، ما يجعل وضعية الأسواق أقل تنافسية ومن ثم، أقل إنتاجية. ولكن بسبب تمتع هذه الشركات بدعم الراعي السياسي القوي وبسبب أن مميزاتها التنافسية تأتي من إعانات الدولة، لذلك فهي تشكل تهديداً كبيراً ومتنامياً لمنافسيها من القطاع الخاص.
    ثانياً، قد تكون الدوافع التي تقف وراء قرارات الاستثمار سياسية بدلاً من كونها اقتصادية. فمثلاً تعرف قيادة الحزب الشيوعي الصيني، أن إحداث الازدهار الاقتصادي ضروري للحفاظ على السلطة السياسية. لذلك فإنها ترسل شركات النفط الوطنية الصينية إلى الخارج لتأمين إمدادات النفط  والغاز لفترة طويلة والتي تحتاجها الصين لتغذية توسعها الاقتصادي المستمر. وبفضل التمويل الحكومي، تمتلك شركات النفط الوطنية المزيد من الأموال للإنفاق مقارنة بمنافسيها في القطاع الخاص- وهي تدفع أثماناً أعلى من أسعار السوق للوصول إلى اتفاقيات ثابتة وطويلة الأجل. وإذا احتاجت هذه الشركات إلى المزيد من المساعدات، فإن القيادة الصينية تكون قادرة على اتخاذ خطوات تتمثل بالتعهد بمنح القروض الإنمائية للبلد المورد.
    إذا ارتبطت المشاريع التجارية والصناعية ارتباطا وثيقا بالسياسة، آنذاك، فإن عدم الاستقرار المحلي الذي يهدد النخب الحاكمة- وبشكل أكثر تحديدا، تحديدها للمصالح الوطنية وأهدافها السياسية الخارجية- يبدأ يكتسب أهمية أكبر بالنسبة للأعمال التجارية. وبالنسبة للأجانب، أصبح الفهم الجيد للدوافع السياسية يشكل إستراتيجية المواجهة. وقد تعلم الكثير من شركات القطاع الخاص التي تمارس الأعمال التجارية في الأسواق الناشئة قيمة استثمار المزيد من الوقت في سبيل إقامة علاقات وثيقة مع القادة الحكوميين الذين يمنحون العقود الكبرى ومع البيروقراطيين الذين يشرفون على تنفيذ الأطر القانونية والتنظيمية. وبالنسبة للشركات المتعددة الجنسية، يمثل هذا الأمر هدراً للوقت والمال ويبدو وكأنه ترفاً في وقت الركود العالمي، لكن من أجل حماية استثماراتها في الخارج وأسهمها في الأسواق، فإنها لا تستطيع أن تفعل خلاف ذلك.
                                        تدخل الدولة
    بدأت رأسمالية الدولة بالتبلور خلال أزمة النفط عام 1973، وذلك عندما أتفق أعضاء منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) على وقف أو خفض إنتاج النفط رداً على دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في حرب يوم الغفران. وتقريبا، بين عشية وضحاها، أصبحت السلعة الأكثر أهمية في العالم سلاحاً جيوبولتيكيا، وأعطت لحكومات البلدان المصدرة للنفط نفوذاً دوليا لم يسبق له مثيل. وكأداة سياسية، أستخدم وقف إنتاج أوبك للنفط باعتباره حظراً ضد بلدان معينة- خصوصاً الولايات المتحدة وهولندا. وكظاهرة اقتصادية، عكست أزمة النفط اتجاه التدفق السابق لرأس المال، والذي فيه تشتري الدول المستهلكة للنفط، دائماً، أكبر الكميات من النفط الرخيص وبدورها تبيع البضائع إلى البلدان المصدرة للنفط بأسعار تضخمية. ومن وجهة نظر أعضاء أوبك، فقد وضعت الأزمة نهاية لعقود من العجز السياسي والاقتصادي ولعهد الاستعمار نفسه.
     لقد أظهرت أزمة النفط بأن منتجي النفط ومن خلال العمل الموحد، يمكنهم أن يسيطروا على مستويات الإنتاج ومن ثم الحصول على حصة أكبر من العائدات المتولدة من قبل شركات النفط الغربية الرئيسية. وثبت بأن هذه العملية أسهل في الحالات التي تتمكن فيها الحكومات الوطنية من استخدام الشركات المحلية لاستخراج وتصفية النفط. وفي الوقت المناسب، أصبحت شركات النفط الوطنية تحت سيطرة حكومية أكبر (ارامكو السعودية، مثلاً، لم تؤمم بشكل كامل حتى عام 1980) وفي النهاية ضاع مجد نظرائها من الشركات الغربية المملوكة للقطاع الخاص. وقد عنت أزمة النفط بالنسبة لشركات النفط الوطنية الحديثة، ولادة نموذج أصبح من ذلك الوقت واسع الانتشار وطبق على قطاع الغاز أيضاً. 
    وبدأت الموجة الثانية من رأسمالية الدولة خلال الثمانينات، مدفوعة بصعود البلدان النامية التي تسيطر فيها الحكومات التي تؤمن بقيم الدولة المركزية والتقاليد. في الوقت نفسه، سبب انهيار الحكومات المعتمدة على اقتصاديات التخطيط المركزي موجة من الطلب العالمي على فرص تنظيم المشاريع وتحرير التجارة. هذا الاتجاه، بدوره، أحدث أو نشّط النمو السريع والتصنيع في العديد من البلدان النامية خلال التسعينات. و تحركت بلدان مثل البرازيل، والصين، والهند، والمكسيك، وروسيا، وتركيا، جنبا إلى جنب مع بلدان في جنوب شرق آسيا والكثير من البلدان الأخرى، بسرعة مختلفة على طريق التحول من بلدان نامية إلى متقدمة.
    رغم أن الكثير من هذه البلدان ذات الأسواق الناشئة لم تكن جزءاً من الكتلة الشيوعية، لكنها تملك تاريخاً من مشاركة الدولة الكثيفة في إدارة اقتصادياتها. في بعض هذه البلدان، من الناحية العملية، تمتعت مشاريع رئيسية قليلة، غالباً ما تكون ملكيتها ذات طابع عائلي، بالاحتكار في القطاعات الإستراتيجية. والملاحظ، بعد الحرب العالمية الثانية، إن دولاً مثل الهند زمن نهرو، وتركيا بعد أتاتورك، والمكسيك تحت حكم الحزب الثوري المؤسسي، والبرازيل تحت حكم تناوب الحكومات العسكرية والقومية لم تتقبل أبدا بشكل كامل وجهة النظر الرأسمالية القائلة بأن الأسواق الحرة فقط تستطيع أن تنتج الازدهار الدائم. حيث تميل المعتقدات السياسية لهذه الأنظمة إلى الفكرة القائلة بأن قطاعات اقتصادية معينة يجب أن تبقى تحت الإدارة الحكومية، على الأقل لتجنب استغلال الرأسماليات الغربية.
     عندما بدأت هذه البلدان ذات الأسواق الناشئة بتحرير اقتصادها، تبنت فقط  جزئياً مبادئ السوق الحرة. بسبب أن المسؤولين الرسميين والمشرعين الذين أدخلوا الإصلاحات الجزئية أمضوا سنوات التكوين في مؤسسات التعليم الحكومية التي أنشئت لنشر القيم الوطنية كما هي محددة من قبل الدولة. في معظم هذه البلدان، ترافق التقدم الاقتصادي مع القليل من الشفافية وحكم أضعف للقانون مقارنة مما كان عليه الحال في الديمقراطيات المنشأة للسوق الحرة. النتيجة، ليس من المستغرب أن يكون إيمان الجيل الجديد  في قيم السوق الحرة محدوداً. ونظراً لقلة خبرة المؤسسات الحكومية، نسبياً، تتمتع المساءل السياسية في دول الأسواق الناشئة ،على الأقل، بنفس قدر أهمية الأمور الاقتصادية الأساسية المتعلقة بأداء الأسواق.  من جانبها، لاحظت حكومات العالم الغني ذلك قليلاً، بسبب أن البلدان المذكورة تملك القليل من التأثير أو ليس لها تأثير في الأسواق الدولية.
يتبع
الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 88 No. 3, May/ June 2009

103

 رأسمالية الدولة
 عصر يتشكل 
هل هو نهاية السوق الحرة؟ (1)

                                                                                                    ترجمة: د. هاشم نعمة

     في الولايات المتحدة، وأوروبا، والكثير من دول العالم المتقدم، تهدف الموجة الأخيرة من تدخل الدولة التخفيف من أضرار الركود الاقتصادي العالمي الحالي واستعادة الاقتصاديات المريضة لعافيتها. ولا تتجه أكثرية حكومات الدول المتقدمة لإدارة اقتصادياتها بشكل غير محدد. ويكمن وجود معارضة لهذا الاتجاه في طبيعة التدخلات المماثلة في العالم النامي: حيث تبسط الدولة يدها بقوة على الاقتصاد مما يشير إلى رفض إستراتيجي لعقيدة السوق الحرة.
    الحكومات، ليست طرفاً مساهماً خاصاً فقط، فهي قبل هذا الوقت، كانت تملك أكبر شركات النفط في العالم وتسيطر على ثلاثة أرباع احتياطيات الطاقة. وهناك شركات أخرى تابعة للدولة أو متحالفة معها تتمتع بقوة تسويقية متنامية في القطاعات الاقتصادية الرئيسية في الاقتصاديات الأسرع نموا في العالم. وتشكل "صناديق الثروة السيادية،" المصطلح الذي صيغ في الآونة الأخيرة عن المحافظ الاستثمارية المملوكة للدولة، نسبة الثمن من مجموع الاستثمارات العالمية، وهذه النسبة العائد لها آخذة في الزيادة . هذه الاتجاهات تعيد تشكيل السياسة الدولية والاقتصاد العالمي بواسطة تحويل وبشكل متزايد مفاصل القوة الاقتصادية الكبيرة والتأثير أو النفوذ إلى السلطة المركزية للدولة. وبهذا فهي تغذي ظاهرة كبيرة ومعقدة لرأسمالية الدولة.
     قبل أقل من 20 عاما، بدا الوضع مختلف كثيراً. حيث بعد انهيار الإتحاد السوفيتي تحت وطأة تناقضاته الداخلية العديدة، تحركت قيادة الكرملين الجديدة بسرعة لتبني النموذج الاقتصادي الغربي. ودافعت الحكومات الحديثة للجمهوريات السوفيتية السابقة والأقمار الصناعية عن القيم السياسية الغربية وبدأت بالانضمام إلى تحالفاتها.
      لكن أنحسر الآن مد السوق الحرة. وحلت محلها رأسمالية الدولة، المتمثلة بالنظام الذي من خلاله تكون وظائف الدولة الفاعل الاقتصادي القائد وتستخدم الأسواق في المقام الأول لتحقيق مكاسب سياسية. وقد أشعل هذا الاتجاه منافسة عالمية جديدة، ليس بين الأيديولوجيات السياسية المتنافسة لكن بين النماذج الاقتصادية المتنافسة. ومع زج السياسة في صنع القرار الاقتصادي، تظهر مجموعات مختلفة تماماً من الفائزين والخاسرين.
    خلال الحرب الباردة، كانت القرارات المتخذة من قبل مديري القطاعات الاقتصادية السوفيتية والصينية المتسمة بالأوامرية تمتلك تأثيراً قليلاً على الأسواق الغربية. لكن اليوم في الأسواق الناشئة التي لم تكن قد ظهرت بعد. يتخذ موظفو الدولة في أبو ظبي، أنقرة، بكين، برازيليا، مدينة مكسيكو، موسكو ونيودلهي القرارات الاقتصادية- الخاصة بالاستثمارات الإستراتيجية، وملكية الدولة، والتنظيم- التي يتردد صداها في الأسواق العالمية. إن التحدي الذي يشكله هذا التوجه التجاري القوي لرأسمالية الدولة قد شحذته الأزمة المالية العالمية والركود العالمي. والآن، أثبت أنصار التجارة الحرة والأسواق المفتوحة بأن قيمة هذه الأنظمة مشكوك فيها على نحو متزايد من قبل الجماهير على مستوى العالم.
    لرأسمالية الدولة أربع جهات فاعلة رئيسية هي: شركات النفط الوطنية والشركات المملوكة للدولة، والشركات الوطنية التابعة للقطاع الخاص والنصيرة للدولة، وصناديق الثروة السيادية.
     عند التفكير في شركات النفط الكبرى، يفكر معظم الأمريكيين أولاً بالشركات المتعددة الجنسية مثل برتش بتروليوم، شيفرون، اكسون موبيل، شيل، أو توتال. لكن أكبر 13 شركة نفط في العالم، تقاس باحتياطياتها مملوكة وتدار من قبل الشركات الحكومية مثل ارامكو السعودية؛ وشركة النفط الوطنية الإيرانية؛ وشركة بترول فنزويلا؛ وغازبروم وروسنفت الروسية؛ وشركة النفط الوطنية الصينية؛ وبتروناس الماليزية؛ وبتروبراس البرازيلية. مثل هذه الشركات التابعة للدولة تسيطر على أكثر من 75% من احتياطي وإنتاج النفط العالمي. بعض الحكومات، ومن خلال اكتشافها للنفوذ الذي يأتي من هيمنة الدولة على موارد الطاقة، وسعت من  سيطرتها على المصادر الإستراتيجية الأخرى. أما الشركات المتعددة الجنسية التابعة للقطاع الخاص فهي تنتج الآن فقط 10% من إنتاج النفط في العالم وتملك فقط 3% من احتياطياته. وفي الكثير من مناطق العالم، يتحتم عليها الآن إدارة علاقاتها مع الحكومات التي تملك وتدير أكبر وأفضل المنافسات التجارية العائدة لها من ناحية التمويل.
     في قطاعات مختلفة مثل الصناعة البتروكيمياوية، توليد الطاقة، التعدين، إنتاج الحديد والصلب، إدارة الموانئ والنقل البحري، صناعة الأسلحة، السيارات، المكائن الثقيلة، الاتصالات السلكية واللاسلكية، والطيران، لم يعد عدد متنامي من الحكومات يكتفي بكل بساطة بتنظيم السوق. بدلاً من ذلك، فهي تريد استخدام السوق لدعم مواقفها السياسية المحلية. حيث تساعد الشركات العائدة للدولة في تحقيق ذلك، جزئياً، بواسطة دمج أو توحيد القطاعات الصناعية بأكملها. أن شركات مثل إندياما في أنغولا (الماس)، ازرانيرجي في أذربيجان (توليد الكهرباء)، كازاتومبروم في كازاخستان (اليورانيوم)، والمكتب الشريف للفوسفات في المغرب- العائدة للدولة هي الآن أكبر اللاعبين المحليين في القطاعات الخاصة بكل منها. وقد نمت بعض الشركات العائدة للدولة بشكل خاص نموا هائلا، وعلى الأخص شركة التلفون الثابت واحتكارات تصدير الأسلحة في روسيا؛ واحتكار الألمنيوم، والاحتكار الثنائي لنقل الطاقة والشركات السلكية واللاسلكية الرئيسية وشركات الطيران في الصين؛ والسكك الحديدية في الهند، التي تعد من بين أكبر أرباب العمل في العالم في القطاع غير العسكري, حيث تشغل ما يزيد على 1.4 مليون مستخدم. 
    إن الاتجاه الأكثر حداثة قد عمل على تعقيد هذه الظاهرة. في بعض الدول النامية، الشركات الكبيرة التي بقيت في قبضة القطاع الخاص تعتمد على دعم الحكومة المتمثل بالقروض، والعقود، والإعانات. هذه الشركات الوطنية عائدة للقطاع الخاص ونصيرة للدولة لكن الحكومة تفضل أن تبقى منفصلة عنها، حيث  ترى في ذلك وسيلة للمنافسة مع مثيلاتها من الشركات الأجنبية التجارية البحتة، وبالتالي فهي قادرة على اختيار دور مهيمن في الاقتصاد المحلي وفي أسواق التصدير. وفي المقابل، فإن هذه الشركات تستخدم نفوذها مع حكوماتها لتلتهم المنافسين الأصغر على المستوى المحلي، ومن ثم فإن هذا يعزز من قوتها باعتبارها أحد أعمدة رأسمالية الدولة. 
      في روسيا، يجب أن تكون للمشاريع التجارية الكبيرة علاقات مرضية أو ملائمة مع الدولة كي تنجح. ويتم التحكم بالشركات الوطنية النصيرة للدولة من قبل مجموعة صغيرة من الاولغارشية التي من الناحية الشخصية تعمل لصالح الكرملين. حيث تندرج تحت هذه الفئة شركات نوريلسك للنيكيل (التعدين)؛ نوفوليبتسك للصلب وهولدنك (المعادن)؛ وافراز، سيفيرستال، وميتالونفيست (الصلب). في الصين، ينطبق الشيء نفسه، وأن كان على نطاق أوسع، حيث أصبحت إمبراطورية افيك ( الطائرات)، هواوي (المواصلات السلكية واللاسلكية)، ولينوفو (للكمبيوتر) جميعها شركات عملاقة تحظى بدعم الدولة وتديرها دائرة صغيرة من رجال الأعمال ذوي الحظوة والنفوذ. وقد نِشأت في أماكن أخرى من العالم  أشكال مختلفة من الشركات العائدة للقطاع الخاص لكن الحكومة تفضل متابعتها أو دعمها، بما في ذلك، في الدول التي ما تزال نسبيا تتبع اقتصاد السوق الحرة مثل شركات: سيفيتال (الصناعات الزراعية) في الجزائر، فال (التعدين) في البرازيل، تاتا (السيارات، الصلب والكيمياويات) في الهند، تنوفا ( اللحوم والدواجن) في إسرائيل، سوليدير (الإنشاءات) في لبنان، وشركة سان ميغيل (الغذاء والمشروبات) في الفلبين.
      يعود جزء من مهمة تمويل هذه الشركات إلى صناديق الثروة السيادية وهذه بدورها عملت بدرجة كبير على توسيع هذه الصناديق من ناحية الحجم والأهمية. وتعرف الحكومات بأنها لا تستطيع تمويل الشركات الوطنية النصيرة لها بسهولة بواسطة طبع المزيد من العملة؛ حيث سيؤدي التضخم في نهاية المطاف إلى تأكل أصولها. و يمكن أن يولد الإنفاق المباشر من ميزانية الدولة عجزاً في المستقبل إذا تدهورت الأوضاع الاقتصادية. لذلك، لعبت صناديق الثروة السيادية دوراً أكبر في هذا الجانب. وهي في الواقع تمثل مستودعات للعملة الأجنبية الفائضة المحصل عليها من تصدير السلع أو البضائع المصنعة. لكن هذه الصناديق هي أكثر من كونها مجرد حسابات مصرفية. فهي صناديق استثمارات عائدة للدولة مع محافظ مختلطة من العملات الأجنبية، والسندات الحكومية، والعقارات، والمعادن الثمينة، وحصص مباشرة في- وأحيانا تملك غالبية- عدد كبير من الشركات المحلية والأجنبية. ومثل كل الصناديق الاستثمارية، فإنها تتطلع لتحقيق أقصى العائدات. لكن بالنسبة إلى رأسمالي الدولة، هذه العائدات، يمكن أن تتمتع بأهمية سياسية إضافة إلى أهميتها الاقتصادية.
     ورغم اكتساب صناديق الثروة السيادية شهرة في السنوات الأخيرة، لكنها لم تكن جديدة أبدأ. حيث تأسست هيئة الاستثمار الكويتية، عام 1953 وهي الآن رابع أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم. لكن مصطلح "صندوق الثروة السيادي" كان أول ما صيغ عام 2005، مما يعكس اعترافاً بالأهمية المتزايدة لهذه الصناديق. ومنذ ذلك الحين، انضم عدد آخر من البلدان لهذه الصناديق: دبي، وليبيا، وقطر، وكوريا الجنوبية، وفيتنام. إن أضخم صناديق الثروة السيادية هي تلك الموجودة في إمارة أبو ظبي، والسعودية والصين،إضافة إلى روسيا التي تبحر للحاق بالركب. وتمثل النرويج البلد الديمقراطي الوحيد بين البلدان التي توجد بها أكبر عشرة صناديق للثروة السيادية في العالم.
الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume 88 No. 3, May/ June 2009


104
أوقفوا انتهاك الحريات العامة ...أوقفوا انتهاك الدستور


     نتابع بقلق بالغ تزايد إجراءات التضييق على الحريات العامة وبشكل منسق في العراق تحت مبررات لا قانونية كان آخرها قرار إغلاق النوادي الاجتماعية ومنع النشاطات الفنية في هذه المحافظة أو تلك إضافة إلى غض النظر عن القوى الدينية المتشددة التي تقوم بفرض رؤيتها للحياة على المواطنين بالقوة والتهديد. ونود التنبيه إلى خطأ فادح ترتكبه القوى السياسية وبالأخص على مستوى المحافظات في التفكير من منطلق الأكثرية والأقلية في إقرار تشريعات للتضييق على الحريات العامة وانتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين لأن أعرق الأنظمة الديمقراطية في العالم رغم تمتعها بالأكثرية لا تستطيع إقرار قوانين تتعارض مع روح الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية. لذلك تعد كل الإجراءات المتخذة لمصادرة الحريات الشخصية والعامة والتجاوز على حقوق الإنسان في  العراق لا دستورية وباطلة لأنها تشكل خرقا لبنود الدستور الذي جرى التصويت عليه من قبل غالبية المواطنين وانتهاكا للمواثيق الدولية التي وقع عليها العراق. لذلك نطالب السلطة التشريعية والتنفيذية اعتبار كل هذه الإجراءات غير شرعية والعدول عنها وعدم تكرارها مستقبلاً  لأنها في حالة استمرارها ستعمل على تقويض أسس النظام الديمقراطي الوليد في العراق وزيادة حدة التوترات الاجتماعية المهددة لأمن واستقرار البلد  وبالتالي ستضع هذه السلطة نفسها أمام المسألة القانونية.   
المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا
5 كانون الأول 2010   

106
جريمة نكراء جديدة بحق أبناء شعبنا من المسيحيين
     ترتكب من جديد قوى الإرهاب والجريمة المنظمة الخارجة على القانون جريمة بشعة جديدة تتنافي مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان وفي مقدمتها حق العيش الكريم وحرية المعتقد وممارسة الطقوس الدينية بحرية. إن اقتحام كنيسة سيدة النجاة في بغداد بهذه الطريقة الوحشية واختطاف مواطنين أبرياء وجعلهم رهائن وتعريض حياتهم للخطر وقتل قسم منهم لهو جريمة نكراء تستدعي من الحكومة العراقية اتخاذ الإجراءات السريعة لملاحقة الجناة وتقديمهم للقضاء وعليها القيام بواجباتها المنصوص عليها قانونياً في حماية أمن وسلامة وممتلكات المواطنين من كل المكونات الدينية والاثنية.
تعازينا ومواساتنا الخالصة لكل أسر الشهداء.
المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا
2 تشرين الثاني 2010
 

107

                                             المتغيرات المناخية الأخرى
                  لماذا يعد الكربون الأسود والأوزون أيضاً مسألة هامة (4)

                                                           
                                                                                ترجمة: د. هاشم نعمة
                                      الاستجابة الإقليمية

      بالنسبة لعلم المناخ، الطريقة الحالية لحل المشكلة تدريجيا - خصوصاً الميل لعلاج تلوث الهواء وتغير المناخ كقضايا منفصلة- قادت مع الوقت إلى انتهاج سياسة سيئة. حيث أن قرار الكثير من الدول تعزيز استخدام الديزل كوسيلة لرفع كفاءة استخدام الوقود، على سبيل المثال، قد يكون له أثر غير مقصود في زيادة انبعاثات الكربون الأسود. إن قوانين تلوث الهواء الرامية للحد من استخدام بخاخات الكبريتات المضغوطة التي تسبب المطر الحامضي، من المفارقات، أنها قادت إلى مزيد من الاحترار لأن الكبريتات تمتلك تأثيراً مبرداً. بدلا من ذلك، إذا دمج صانعو القرار السياسي جهود خفض تلوث الهواء مع الجهود التي تعمل على أبطاء الاحترار العالمي، فإنهم يستطيعون التأكيد بأن خفض الكبريتات يترافق مع خفض مساو في مستوى الغازات الدفيئة.

       سيكون الإطار العالمي الوحيد للعمل، متمثلاً، بالطريقة النموذجية التي تدمج الاستراتيجيات المختلفة التي تعمل على تخفيف التغير المناخي. وهناك فرص متوفرة أكثر  للتصديق على الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة، وذلك للبدء في خفض انبعاثات الكربون الأسود ومادة الأوزون. وهذه بدورها تستطيع تقوية دوافع الحكومات للعمل على عدم تشجيع القيادة الحرة للسيارات وتحفيز الحكومات لتأخذ في الاعتبار التأثيرات الكبيرة الحجم للانبعاثات العائدة لها. وبسبب اختلاف مصادر الكربون الأسود والأوزون من إقليم إلى أخرى، فإن الاتفاقيات الهادفة لخفضها تحتاج لتكون أكثر ملائمة للظروف الإقليمية. ففي النصف الشمالي من الكرة الأرضية، على سبيل المثال، يأتي معظم مواد الأوزون من العمليات الصناعية والنقل، بينما في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية خصوصاً المناطق المدارية، يأتي معظمها من الانبعاثات الطبيعية (التربة، النباتات وحرائق الغابات). وأيضاً، تختلف مصادر الكربون الأسود حسب الأقاليم: ففي أوروبا وأمريكا الشمالية يلعب النقل والنشاط الصناعي دوراً أكبر من حرق الكتلة الحيوية، بينما يكون العكس صحيحاً في الأقاليم النامية.

    يكون تأثير الانبعاثات على المناخ من الناحية العلمية معقداً، وهو يعتمد على عدد من العوامل التي لم تؤخذ بنظر الاعتبار بشكل كاف عندما ابتكرت نماذج المناخ. بعد ذلك، يتمثل
التحدي، في الوصول بسرعة إلى اتفاقيات تأخذ في الاعتبار العلاقات المعقدة بين النشاطات البشرية، والانبعاثات، وتغير المناخ وهذه أمور يمكن ضبطها بمرور الوقت مع تطور الفهم العلمي للمشكلة. ويكون تحديث الاتفاقيات الإقليمية المتعلقة بتلوث الهواء أسهل مقارنة بالاتفاقيات العالمية التي تستلزم الكثير من الموقعين. لذلك وفرت اتفاقية الأمم المتحدة الطويلة الأمد حول تلوث الهواء العابر للحدود (معظم الموقعين دول أوروبية ودول آسيا الوسطى) والبروتوكولات الخاصة بالتلوث التي أعقبت ذلك نموذجاً جاهزاً للاتفاقيات الإقليمية حول الملوثات المغيرة للمناخ والتي تعيش لفترة قصيرة. وقد استندت الإجراءات الخاصة لهذه الاتفاقيات على تكاليف التخفيضات، ومعرفة العلماء لمصادر التلوث وتوزيع تلوث الهواء، وإمكانية قياس التخفيضات- يجب أن يعطى اهتمام أيضاً لتنظيم انبعاثات الكربون الأسود ومادة الأوزون. علاوة على ذلك، تلزم هذه الاتفاقيات الدول باتخاذ إجراءات خاصة، وليس الاختصار على نتائج محددة فقط. وهذه مسألة معقولة، حيث يكون من الصعب مراقبة وقياس الانبعاثات بدقة.
     يمكن أن يكون الكربون الأسود والأوزون، أيضاً، في صلب النقاشات الثنائية القائمة. حيث أن الحوار الرفيع المستوى بين الهند والإتحاد الأوروبي، وفريق العمل الذي يضم علماء وصانعي القرار السياسي من أوروبا والهند، يمثل واحداً من هذه المنتديات الموجودة. وكانت الحكومات الأوروبية والهند في شباط (فبراير) 2009 متحفزة للعمل سوية لتحديد وخفض تهديد الكربون الأسود. وقد أقترح المشاركون مشروعاً بحثياً يتكون من اختصاصات متعددة والذي سيقرر تأثيرات الكتلة الحيوية المستخدمة في الطبخ والتدفئة على الصحة والمناخ وتقييم العقبات أمام نشر المواقد الأنظف على نطاق واسع. ويمثل الكربون الأسود والأوزون أيضاً مسائل طبيعية مرشحة للتعاون بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين حول الطاقة وتغير المناخ: حيث ستجني الصين منافع صحية وزراعية من خفض الانبعاثات، وستكسب الولايات المتحدة النوايا الحسنة لمساعدة الصين على القيام بذلك. 

    ومن خلال البناء على اتفاقيات تلوث الهواء القائمة، يمكن تفادي خطر حرف مفاوضات تغير المناخ عن هدفها الأساسي المتمثل بتعزيز خفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون. إن وضع الكربون الأسود والأوزون على طاولة المحادثات الرفيعة المستوى حول المناخ يمكن أن يأتي بنتائج عكسية إذا اعتقدت البلدان النامية بأنها ستقر ضمنيا بمسؤوليتها عن الاحترار العالمي بواسطة التعهد بخفض انبعاثات الكربون الأسود ومواد الأوزون أو الاعتقاد بأن المسألة تمثل مسعى من قبل الدول المتقدمة لتحويل الانتباه عن الاهتمام المتمثل بالحاجة لعمل هذه الدول لتخفيض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لديها. لذلك، فإن محاولات خفض انبعاثات الكربون الأسود ومواد الأوزون يجب أن لا تعتبر بدائل عن تعهدات خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لكن كلما كانت طرق العمل سريعة فإنها ستحقق فوائداً بيئية واقتصادية على المستوى المحلي.

                                            الثمرة الدانية

     تاريخياً، ركزت مبادرات أبطاء الاحترار العالمي على خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى المسببة للاحتباس الحراري وأهملت بدرجة كبيرة الدور الذي يلعبه تلوث الهواء. هذه الإستراتيجية معقولة على المدى الطويل، حيث تمثل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العامل الأكثر أهمية في التغير المناخي وستستمر كذلك. لكن في المدى القريب، ستكون لوحدها غير كافية. لذلك أقترح بعض العلماء المعالجة الجيوهندسية- معالجة المناخ من خلال استخدام التكنولوجيا- بوصف ذلك خياراً محتملاً كملاذ أخير، لكن خفض الكربون الأسود ومواد الأزون يمثل خياراً أقل خطورة من أجل تحقيق نفس الهدف.

     مثل هذه الطريقة ستجعل وبسرعة مستويات الكربون الأسود والأوزون أقل في الغلاف الجوي، وسيعادل تأثيرها عقود من انبعاثات غازات الاحترار العالمي، وستخفف زيادة الاحترار الخطير لكوكب الأرض، وستوفر الوقت للجهود المبذولة  لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للنزول إلى أرض الواقع. تمثل هذه الملوثات، أيضاً، أهدافاً سياسية غير صعبة: يمكن تخفيضها من خلال استخدام التكنولوجيا والمؤسسات والاستراتيجيات الموجودة وسيؤدي هذا العمل إلى تحسن في نوعية الهواء، والإنتاج الزراعي والصحة العامة على المستوى المحلي. باختصار، إن خفض انبعاثات الكربون الأسود ومواد الأوزون ذو مخاطر قليلة ويشكل إضافة عالية القدرة إلى ترسانة استراتيجيات أبطاء تغير المناخ الحالية.

      إذا أستمر المعدل الحالي للاحترار العالمي، فستكون درجة حرارة الأرض خارج نطاق السيطرة. لذلك، يمثل الوقت الحالي وقت البحث بعناية عن كل الوسائل الممكنة الكابحة التي يمكن تطبيقها لإبطاء تغير المناخ، والوقاية من الكوارث المناخية على المدى القريب، وكسب الوقت من أجل اختراعات تكنولوجية جديدة. ومن الاستراتيجيات المتاحة، هو التركيز على خفض انبعاثات الكربون الأسود ومواد الأوزون باعتباره الثمرة الدانية: تتسم التكاليف بانخفاضها النسبي، والتنفيذ أمر ممكن، وستكون المنافع متعددة وفورية.

انتهى

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume. 88 No. 5, September/ October 2009
               


108
المتغيرات المناخية الأخرى
لماذا يعد الكربون الأسود والأوزون أيضاً مسألة هامة (3)
                                                             
                                                                                
                                                                                                  ترجمة: د. هاشم نعمة                                                تنظيف

    ما الذي يمكن عمله من أجل كبح انبعاثات الكربون الأسود ومادة الأوزون؟ الخطوة المنطقية الأولى بالنسبة للحكومات ووكالات التنمية الدولية ومحبي البشرية هي زيادة الدعم المالي للجهود الرامية لخفض الانبعاثات. ورغم توفر بعض الأموال لهذا الغرض حالياً، إلا أنه لم يبرز ملوث كهدف لتيار رئيسي من أجل الحصول على التمويل العام والخاص. ببساطة إن تحديد الكربون الأسود والأوزون كمشاكل بيئية مع ثاني أكسيد الكربون سيجل صانعي القرار السياسي يميلون أكثر لصرف الأموال المخصصة للتنمية وللأجزاء "الخضراء" من حزم التحفيز في مبادرات تهدف للتصدي لهذه المشاكل البيئية. وتستطيع الدول المتقدمة بدورها أن تساهم في تكييف تكنولوجيا خفض الانبعاثات وجعلها بخدمة العالم النامي وتعزيز انتشارها- ستكون هذه مبادرة ذات مغزى لحسن النية وانطلاقة لبداية التغيير.

     بغض النظر عن أهمية التمويل، يجب أن تدعم المساعدة توسيع اختيارات الطاقة النظيفة  للمنازل والصناعات الصغيرة في العالم النامي وتكنولوجيا خفض انبعاثات وسائط النقل على المستوى العالمي. يمكن أن يعني هذا نشر الفوانيس الشمسية والمواقد التي تستخدم مصادر الوقود المحلية بكفاءة أكثر أو دفع المشاريع أو المؤسسات التجارية الصغيرة للتحول نحو تكنولوجيا أنظف. إجراء تعديلات معينة في الصناعة الصغيرة سيختلف حسب نوع النشاط الاقتصادي- جعل أفران الآجر أو الطابوق أنظف يختلف عن جعل معامل الشاي والتوابل المجففة أكثر كفاءة- غير أن عدد الزبائن الذين يتم تمكينهم لاستخدام التكنولوجيا الجديدة يوفر بعض وفورات الحجم. بالنسبة للنقل، تشمل الخيارات السياسية الدعم المالي للمحركات والمصافي المتطورة التي تحول مخلفات الوقود إلى حالة أنظف، وإلغاء المحفزات التي تتمثل في الدعم المالي المقدم من قبل الحكومات التي تفضل بعض أنواع الوقود على غيرها وهذا ينطبق على الوقود المغشوش واستخدام الديزل.

     نشر التكنولوجيا من أجل خفض الانبعاثات من هذا العدد الكبير من الأنشطة التي تمثل جزءا لا يتجزأ من البنية الثقافية، من الطبخ إلى السياقة سيكون عملية غير سهلة. ويكون تعزيز السيطرة على انبعاثات الملوثات الصغيرة المتحركة والكثيرة أصعب من تنظيم السيطرة على المصادر الأكبر، مثل مصانع الطاقة. وبالنسبة لتكييف التكنولوجيا، ستكون هناك حاجة لتوجيه اهتمام أساسي إلى الاحتياجات المتنوعة للمنازل والصناعة. غير أن خلق وتقوية التنظيم والدعم المالي ونشر تكنولوجيا الطاقة ذات الكفاءة تمثل تحديات قد تمت مواجهتها من قبل. حيث أن "الثورة الخضراء" – النمو اللافت للنظر للإنتاج الزراعي الذي حدث في النصف الثاني من القرن العشرين- أحدثت تغيرات جذرية (راديكالية) في الزراعة الصغيرة الحجم. وقد أثرت مبادرات التنمية الأخرى في الخصوبة السكانية، والمساواة في الجنس، والتعليم وقرارات الأسرة الأخرى التي تتسم بحساسية أكثر من تلك المتعلقة بالطبخ والسياقة.

    علاوة على ذلك، فإن البنية التحتية للتمويل المالي الدولي ونقل التكنولوجيا موجودة بالفعل في شكل البنك الدولي، وبنوك التنمية الإقليمية، وبرامج الأمم المتحدة التي دعمت التنمية على مستوى العالم لعقود. وقد بدأ مرفق البيئة العالمي، وصندوق التنمية والبيئة العمل باعتباره برنامج البنك الدولي ويعد الآن أكبر ممول في العالم للمشاريع البيئية وهو مناسب تماماً لتمويل التكنولوجيا الأنظف.

     أيضاً، ينبغي على الوكالات الحكومية والدولية أن تمول التكنولوجيا التي تؤثر في نوعية الهواء والتي هي عموما أقل مراقبة. ففي المدن الكبيرة، في معظم الدول النامية يكون عدد أجهزة الاستشعار لا يتماشى مع نمو السكان أو النشاطات الاقتصادية. وفي المناطق الريفية لا تتم مراقبة تلوث الهواء على الإطلاق. إن تحسين نوعية مراقبة الهواء ونشر المعطيات ستفيد صانعي القرار والناشطين في مجال البيئة. والتأثير في انبعاثات الأفراد- من خلال مراقبة تلوث الهواء في المناطق المغلقة أو من خلال إضافة أجهزة مرفقة بمؤخرة السيارة- يمكن أن يساعد على تحفيز الناس على كبح انبعاثاتهم. وقد أثبتت المبادرات التجريبية لقياس آثار الكربون واستخدام الطاقة من قبل الأفراد أنها تساهم في تغيير سلوك الناس في بعض الأماكن.

     المساعدات لوحدها لن تكون كافية، ولكن يجب أن تساعد المنظمات الدولية الحكومات على تحديد الخيارات التي تعمل على تخفيف التغير المناخي وتدعم التنمية. وتستطيع مؤسسات التنمية الدولية، مثل برنامج البيئة التابع للأمم المتحدة وبنوك التنمية الإقليمية المتعددة الأطراف، تبني البحوث، وتشكيل مجموعات عمل مشتركة بين الوزارات، ووضع معايير لمراقبة والإبلاغ عن النفقات العامة. هذه المبادرات ستجعل من السهل تحديد المجالات الممكنة للتنسيق في مجال برامج الصحة العامة، والبرامج الزراعية والبيئية ومكافحة الفقر. في معظم الدول، لا تدعو المؤسسات المحلية لتشجيع التعاون بين مختلف السلطات. لذلك فإن اختيار خفض انبعاثات الكربون الأسود ومواد الأوزون كسياسات لتحسين الصحة العامة والزراعة يمكن أن يساعد في مثل هذه الجهود من خلال الاشتراك في الأموال الشحيحة؛ إن إجراء حساب أكثر وضوحاً للفوائد البيئية لسياسات التنمية ستجعل صانعي القرار أكثر استنارة في هذا الجانب. وفي نفس الاتجاه، هناك الكثير من العمل الذي تدعم فيه منظمات التنمية الدولية، حالياً، الحكم الرشيد من أجل تحسين البنية التحتية والخدمات، كذلك ينبغي أيضا أن تعمل على تشجيع تحسين الإدارة البيئية.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume. 88 No. 5, September/ October 2009
              
 
  



109
المتغيرات المناخية الأخرى
لماذا يعد الكربون الأسود والأوزون أيضاً مسألة هامة (2)

                                                                                         ترجمة: د. هاشم نعمة                                                               
                                     خطوة إضافية أسهل

    ملمح مؤمل آخر يتعلق بانبعاثات الكربون الأسود ومكونات الأوزون والتي يمكن الحد منها بتكاليف منخفضة نسبيا وباستخدام التكنولوجيا الموجودة بالفعل. رغم اختلاف مصادر الكربون الأسود ومكونات الأوزون على المستوى العالمي، فإن معظم الانبعاثات يمكن خفضها بدون الحاجة إلى تحديد أو قصر النشاط الأساسي الذي يولدها. وهذا راجع إلى كونها لا تشبه ثاني أكسيد الكربون، حيث لا يمثل الكربون الأسود ومكونات الأوزون منتجات جانية أساسية لاستخدام الطاقة.

    استعمال الوقود الاحفوري، خصوصاً الديزل، يكون مسؤولاً عن حوالي 35% من انبعاثات الكربون الأسود على مستوى العالم. إن تكنولوجيا تصفية الكربون الأسود تم اختراعها من قبل: لذلك فإن تصفية الديزل خصوصا في السيارات والشاحنات على سبيل المثال يمكن أن يخفض انبعاثات الكربون الأسود بنسبة 90% أو أكثر مع تخفيض غير جدير بالذكر في اقتصاد الطاقة. وقد قدرت دراسة حديثة لمنظمة بحث بيئية أمريكية غير ربحية بأن تجهيز الشاحنات بمليون  من المصافي سيوفر نفس المنافع للمناخ في حالة منع أكثر من 165.000 شاحنة و5.7 مليون سيارة من السير في الطرق بشكل دائم لمدة عشرين سنة.

     النسبة الباقية 65% من انبعاثات الكربون الأسود تكون مترافقة مع حرق الكتلة الحيوية- من خلال حرائق الغابات التي تحدث بشكل طبيعي، والحرائق من قبل الإنسان لتنظيف أراضي المحاصيل الزراعية واستخدام الوقود العضوي للطبخ، والتدفئة وللصناعات الصغيرة الحجم. الخيارات الأكثر نظافة بالنسبة للنشاطات الناتجة من صنع الإنسان موجودة. حيث تتمثل الخيارات الخضراء للمنازل باستخدام مواقد الطاقة الشمسية أو الغاز الناتج من النفايات العضوية، لكن التصاميم التي يتم تحديثها للمواقد المستخدمة للكتلة الحيوية تستطيع أيضاً وبشكل أساسي خفض انبعاث كمية الكربون الأسود والملوثات الأخرى. وتمثل بقايا المحاصيل الزراعية والخشب والفحم وفحم الخشب الوقود الأرخص لكن أيضاً الأقل كفاءة والأوسخ ولذلك تتجه المنازل لتبديلها حالما تتوفر خيارات أخرى يمكن الاعتماد عليها. إن تحدي خفض انبعاثات الكربون الأسود لا يكون مقنعا للناس للتضحية بأساليب حياتهم، بقدر ما يكون عليه الحال في إقناع الناس لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. لذلك يكمن التحدي في جعل الخيارات الأخرى متاحة.

      تنبعث معظم مواد الأوزون التي هي من صنع الإنسان من خلال العمليات الصناعية واستخدام الوقود الاحفوري، خصوصاً في قطاع النقل. لذلك يمكن خفض انبعاثاتها بواسطة جعل عملية الاحتراق أكثر كفاءة (مثلا، من خلال استخدام مواد إضافية لتحسين الوقود) أو بواسطة إزالة هذه الغازات بعد الاحتراق ( مثلا من خلال استخدام المحولات المحفزة). إن التكنولوجيا التي تقلل إلى أدنى حد من المواد المكونة للأوزون وتصفي أو تحلل الانبعاثات تستخدم بالفعل على نطاق واسع وهي تخفض مواد الأوزون في العالم المتقدم. لذلك فإن التنفيذ الأكثر حزما للقوانين التي تمنع استخدام الغازولين السيء والديزل ومواد أرخص وأوسخ سيساعد أيضا في خفض الانبعاثات.

    ويستطيع التطبيق الكامل للتكنولوجيا الموجودة للسيطرة على الانبعاثات من خفض انبعاثات الكربون الأسود بنسبة حوالي 50%. وذلك سيكون كافيا لتعويض تأثيرات الاحترار لما يعادل  عقد إلى عقدين من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وخفض الأوزون الذي يسببه الإنسان في الطبقة السفلى من الجو بنسبة حوالي 50% سيكون ممكنا بواسطة التكنولوجيا الموجودة، وسيعادل حوالي قيمة عقد آخر. في أسابيع، سيقل تأثير الاحترار الناتج من الكربون الأسود، وفي أشهر، سيقل أيضاً تأثير الاحتباس الحراري الناتج من الأوزون. وفي عشر سنوات، سيتباطأ اتجاه الاحترار الكلي للأرض، المتمثل في تراجع الجليد البحري والجبال الجليدية. وسيكون الدليل العلمي لانخفاض انبعاثات الكربون الأسود ومواد الأوزون واضحاً.

                                      الإمكانية السياسية

     يمثل خفض انبعاثات الكربون الأسود والمواد المكونة للأزون، أيضاً، من الناحية السياسية مشروعا واعداً. فهو سيوفر منافعاً مهمة فضلاً عن أبطاء التغير المناخي، ويعطي الحكومات محفزات اقتصادية وتنموية من أجل خفض الانبعاثات. وسيكون لخفض مواد الأوزون منافع زراعية متميزة. حيث أن الأوزون يضعف غلة المحاصيل من خلال إتلاف الخلايا النباتية ويتعارض مع إنتاج الكلوروفيل وهو المادة الملونة التي تدخل في تركيب الصبغة التي تمكن النباتات من امتصاص الطاقة من أشعة الشمس. وقد قدرت دراسة حديثة بأن الخسارة الاقتصادية المرتبطة بها ( حسب الأسعار العالمية لسنة 2000) تتراوح بين14 مليار دولار إلى 26 مليار دولار، ثلاث إلى خمس مرات بالقدر الذي يعزى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض. بالنسبة لصانعي القرار السياسي وفيما يتعلق بالإنتاج والأمن الغذائي، هذه التأثيرات سيكون لها صوت مدون بعمق.

      في البلدان التي مازال قسم كبير من سكانها يعتمد على وقود الكتلة الحيوية، فإن خفض انبعاثات الكربون الأسود من المنازل سيحسن الصحة العامة والإنتاج الاقتصادي. حيث أن تقريبا نسبة 50% من سكان العالم، و95% من سكان الأرياف في البلدان الفقيرة، تعتمد على الوقود الصلب الذي يشمل الكتلة الحيوية والفحم. ويرتبط تلوث الهواء في المناطق المغلقة بحوالي ثلث التهابات الجهاز التنفسي الحادة المميتة وسط الأطفال في عمر أقل من خمس سنوات، أو حوالي 7% من وفيات الأطفال على مستوى العالم. وتمثل أمراض الجهاز التنفسي المرتبطة بانبعاثات الوقود الصلب السبب الرابع الأكثر أهمية للوفيات في البلدان النامية ( بعد أمراض سوء التغذية والأمراض الجنسية غير المأمونة ومصادر المياه).

     إن المشاكل الصحية هذه تديم الفقر. والتعرض للملوثات في وقت مبكر من الحياة يضر بنمو الرئة لدى الأطفال وأولئك الذين يعانون من أمراض الجهاز التنفسي تقل فرصهم في الالتحاق بالمدرسة. إن تلوث الهواء يترك الفقير الذي في الغالب يكسب مورد عيشه خصوصاً من العمل اليدوي في وضع أسوأ. وإجمالاً، يقدر أن العمال في الهند يفقدون 1.6- 2.0 مليار يوم عمل سنوياً نتيجة تأثيرات تلوث الهواء في المناطق المغلقة. لذلك سيعزز خفض انبعاثات الكربون الأسود من المنازل النمو الاقتصادي، وبالنسبة للنساء الريفيات والأطفال خصوصاً فإنه سيحسن الصحة العامة.

    إضافة لذلك، تميل انبعاثات الكربون الأسود ومواد الأوزون لتكون ذات عواقب محلية، لذلك فإن موافقة الحكومات على استراتيجيات خفض الانبعاثات تكون أكثر احتمالاَ لأن هذا الخفض يحقق منافعاً محلية. بالنسبة لثاني أكسيد الكربون وغازات الاحتباس الحراري الأخرى التي تبقى لفترة طويلة وتنتشر على نطاق أوسع فإن انبعاثاتها تساهم حيثما كانت في الاحترار العالمي أي في كل مكان. بينما تكون تأثيرات الكربون الأسود والأوزون محصورة أكثر في النطاق المحلي. وعندما يدخل الكربون الأسود في البداية إلى الغلاف الجوي، فإنه ينتشر محلياً وبعد ذلك وفي غضون أسبوع يتبدد أكثر على المستوى الإقليمي قبل أن يختفي من الغلاف الجوي كلياً على شكل تساقط. أيضاً تكون مواد الأوزون محصورة أكثر في النطاق الإقليمي مقارنة بثاني أكسيد الكربون، رغم أن المستويات الأساسية للأوزون تتزايد في جميع العالم.

     بسبب من أن تأثيرات الكربون الأسود والأوزون تكون في معظمها محصورة في نطاق إقليمي، لذلك فإن الفوائد المتأتية من خفضها ستستفيد منه بدرجة كبيرة المناطق التي يتحقق فيها الانخفاض. لذلك يشكل ذوبان جليد جبال هملايا والتبت تقريبا سبباً كافياً للبلدان الواقع في جنوب وشرق آسيا للشروع بعمل سريع لخفض انبعاثات الكربون الأسود. كذلك الحال، بالنسبة لتراجع الجليد البحري القطبي للدول المجاورة للمحيط المتجمد الشمالي. إن التجمعات الإقليمية تتوفر على فرص أكثر مقارنة بالمجموعات الكبيرة من البلدان في العمل على إقامة  شبكات كثيفة من العلاقات الاقتصادية، والثقافية والدبلوماسية التي تدعم تسهيل المفاوضات الصعبة. علاوة على ذلك، أن كلا من الكربون الأسود والأوزون يمكن حصرهما أو احتوائهما من خلال تبني إستراتيجية محددة جغرافيا بسبب من أن الكثير من مصادر الكربون الأسود والأوزون تكون ثابتة إلى حد كبير. وحتى لو سعت دولة واحدة في المنطقة لتنظيم الانبعاثات، فإن الأنشطة التي تلوث البلاد من غير المرجح أن تنتقل إلى بلد آخر حتى مع وجود سياسات أقل صرامة – لكن هذا الأمر يمثل مصدر قلق مشترك فيما يتعلق باتفاقيات الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

الترجمة عن مجلة: Foreign Affairs, Volume. 88 No. 5, September/ October 2009
               
 
 


110
في هولندا تأبين المفكر الكبير الدكتور نصر حامد أبو زيد
   

    تقيم منظمة الحزب الشيوعي العراقي في هولندا حفلا تأبينا بمناسبة مرور أربعين يوما على رحيل المفكر الكبير الدكتور نصر حامد أبو زيد يتم فيه استحضار أهمية الفكر النقدي التنويري العميق للفكر الإسلامي الذي تميزت به كتاباته ومنهجه العلمي التحليلي الذي اتسم بالموضوعية والعقلانية وبحضور الدكتورة ابتهال يونس زوجة الراحل. وذلك يوم السبت الموافق 21 آب 2010. والدعوة عامة
تفتح القاعة الساعة 13:00  ويبدأ حفل التأبين الساعة 13:30 
العنوان           
Van Royenstraat 2
2273 VD Voorburg
De Groene Loper
المكان قريب جدا من موقف الترام خمس دقائق مشيا
للوصول ترام رقم 2 من المحطة المركزية - دنهاخ المتجه إلى
Leidschendam
Mgr. Van Steelaan  والنزول في الموقف
والدخول في الشارع
Jan Mulderstraat         
 الذي يتصل بالشارع الذي توجد به القاعة.
                 للمزيد من المعلومات يرجى الاتصال بالأرقام التالية:
  0643525313
  0645186904
 

111
الفدرالية: المفهوم والتطبيق (5)
د. هاشم نعمة
                           موقف الأحزاب العراقية الأخرى

     يهدف الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى ضمان حق "الأمة الكردية المجزأة في تقرير مصيرها أسوة بجميع أمم العالم". كما يدعو إلى "حكم ديمقراطي برلماني فدرالي في العراق قائم على دستور إتحادي يضمن احترام حقوق الإنسان والتعددية الحزبية والمساواة أمام القانون" .. وحق أبناء القومية الكردية في العراق في تقرير مصيرهم" والذي حدده برلمان كردستان في هذه المرحلة بصيغة الفيدرالية".. العمل على ضم مناطق مثل "كركوك وخانقين ومندلي وسنجار وشيخان وتلعفر وزمار وغيرها إلى إقليم كردستان". بالنسبة للإتحاد الوطني الكردستاني ينص برنامجه على "حق تقرير المصير لأبناء القومية الكردية.."ويتمثل ذلك بتحرير الوطن الكردستاني" وتقوية "التعاون والاتحاد النضالي والثوري مع القوى الديمقراطية والتقدمية العربية والأقليات القومية في كردستان وبالأخص الآشوريين والتركمان وكذلك تقوية أواصر العلاقات مع القوى التحررية والديمقراطية والاشتراكية في العالم من أجل التحرر والسلام والديمقراطية"( )
    وما زالت العديد من الأحزاب والقوى العراقية الأخرى بحاجة لتبني رؤية ديمقراطية ومضامين مدنية حديثة تجاه الفدرالية. وهذه أحدى الإشكالات الرئيسية في تطبيق النظام الفدرالي في العراق، أو في نجاح الائتلافات السياسية التي لم تقم إلا على أساس المعاناة المشتركة من النظام السابق، رغم التباين الكبير في مواقفها السياسية.
     يؤكد دستور كردستان في ديباجته على الهوية العراقية للإقليم، وأن الأخير إقليم اتحادي ضمن العراق(م1)، وأن شعب كردستان اختار الاتحاد الحر بالعراق، وأن استمرار هذه الرابطة مرهون بشرطين معقولين– الالتزام بالدستور الاتحادي والنظام الفدرالي البرلماني، وعدم انتهاج سياسية التمييز العرقي وتغيير الواقع الديمغرافي في كردستان. (م8) صحيح أن ثمة تأكيدا على حق شعب كردستان في تقرير مصيره، والمواد (14، 18، 37، 38، 42، 66، 67) أكثر من واضحة في الدلالة على التوجه المدني (غير الإثني) للقومية الكردية. كما أن الاستقلال لا يندرج في برنامج أي من الحزبين الرئيسيين في الإقليم كهدف رسمي. وقد فسر مسعود البارزاني، مبكراً في 1992، هذا الموقف للحركة الكردية، حيث أشار إلى أن "الوضع في عالم اليوم لا يسمح بأية تغيرات في الحدود الإقليمية، أو يقبل أي تجزئة. ومن ثم على الأكراد ألا يسبحوا ضد التيار في العالم". وهذه المواد لا تضع اللغة أو الثقافة الكردية فوق غيرها (العربية والتركمانية وحتى السريانية والأرمنية) بل تعترف بها جميعا كمكونات قومية لشعب كردستان، وتحظر الفكر العنصري أو التطهير العرقي أو الطائفي أو التمييز العنصري أو القومي أو الديني أو المذهبي أو السياسي. ( ) كذلك فإن توازنات القوى الإقليمية والعالمية ومصالح تركيا حليفة الغرب في المنطقة لا تسمح بغير الفدرالية إضافة إلى أن القيادات الكردية تدرك الآن أن الوضع الجيوبوليتيكي لكردستان العراق لا يسمح بإقامة دولة كردية.

      لقد دخلت القوى الكردية في العملية السياسية بعد سقوط النظام بوصفها أقوى الأطراف الفاعلة محليا من الناحية العسكرية. ومنذ عام 1991 وهي تشيد منطقة مستقلة ذاتياً حيث أرسيت أجهزة الدولة في إطار مؤسسات ذات كفاءة متزايدة، تتمثل في مؤسسة تشريعية (البرلمان) وجهاز قضائي وأداري. وبالرغم من نواقص هذه التجربة وتقاطعها في بعض المجالات مع الديمقراطية إلا أنها تشكل قاعدة لتحقيق المطالب الأساسية للقيادات الكردية والمتمثلة بالاحتفاظ بمستوى الاستقلال الذاتي الحالي، كحد أدنى  وتوسيعه بضم كركوك. وامتلاك قوة عسكرية، والتمتع بصلاحية منع انتشار القوات العسكرية العراقية شمالاً.( ) لكن اعتبار اللحظة الراهنة هي اللحظة التاريخية الأهم، والتركيز على المسألة الكردية دون أن يرافق ذلك نفس القدر من الاهتمام بقضايا بقية العراق وإطلاق التصريحات غير المدروسة أحياناً من أجل الضغط السياسي قد أعطى خصوم الفدرالية سلاحا إضافياً ضدها وقلص قاعدة مؤيديها والتي هي بالأساس محدودة على الأقل وسط الرأي العام.

      إن المصالح القومية تعتمد على قوة القانون الذي يراعي احترام هذه المصالح ويوفر أسس العدالة الاجتماعية بين المواطنين ويؤمن لهم المجتمع الآمن المزدهر الذي يسمح لهم بالعيش برخاء ويضمن المساواة في الحقوق والحريات المدنية. وبعد سقوط النظام عام 2003 وسن دستور جديد والمصادقة علية في الاستفتاء العام والذي أقر بان العراق دولة فدرالية فحسب المادة (116) من الدستور "يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمةٍ وأقاليم ومحافظاتٍ لا مركزيةٍ وإداراتٍ محلية." كما تنص المادة (117) على "يقر هذا الدستور، عند نفاذه، إقليم كردستان وسلطاته القائمة، إقليماً اتحادياً". بينما تنص المادة (118) على " يسن مجلس النواب في مدةٍ لا تتجاوز ستة اشهر من تاريخ أول جلسةٍ له، قانوناً يحدد الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم، بالأغلبية البسيطة للأعضاء الحاضرين "( ) وهكذا حسم الدستور هذه المسألة ولا مجال للتراجع عن الفدرالية لأنها الحل الأنسب للمسألة الكردية في الوضع الراهن.
    أخيرا هناك تباينات واضحة على مستوى المفهوم والنظرية والتطبيق فيما يخص الفدرالية لذلك اتخذ تطبيقها أنماطاً شديدة التنوع، وأنه لا يوجد نموذج فدرالي صاف يمكن تطبيقه في كل مكان. وأن المرء لا يسعه أن يختار النموذج الفدرالي كما يهوى، إذ حتى المؤسسات المتماثلة فإن الظروف المختلفة قد تؤدي بها للعمل بصورة مختلفة. ( ) وهذه أمور مهمة ينبغي التمعن والتدقيق بها في حالة العراق لتقرير أي فدرالية يمكن أن تصلح له. وهنا أميل إلى مقترح مجموعة الأزمات العالمية التي درست الوضع في العراق ورأت أن العراق يصلح له النظام الفدرالي الخاص أي أن يتمتع إقليم كردستان بالفدرالية دون بقية البلاد بسبب خصائصه الجغرافية والتاريخية واللغوية والثقافية والاثنية.

                                                           


  - د. عبد الوهاب حميد رشيد، العراق المعاصر، المدى، دمشق، 2002، ص 360-363.
  - أيمن إبراهيم الدسوقي، مصدر سابق، ص 229 -232.
  - جاريث ستانسفيلد، "الانتقال إلى الديمقراطية"، في المجتمع العراقي حفريات سوسيولوجية، بغداد، 2006، ص 364-365.
  - دستور جمهورية العراق
  - رونالد ل. واتس، مصدر سابق، ص 128.


112
                             الفدرالية: المفهوم والتطبيق (4)
                        المسألة القومية الكردية والفدرالية في العراق


هاشم نعمة

     الفدرالية في العراق لم تبرز فجأة بل مرت بمراحل انتقالية وارتبطت بالأساس بحل المسألة القومية الكردية حيث لم تستطع الأنظمة المتعاقبة منذ تأسيس الدولة العراقية - رغم تفاوت رؤيتها لهذه المسألة- من حلها بسبب رؤيتها الشوفينية الضيقة لجذورها وأسبابها الحقيقية ونتيجة لذلك دفع الشعب العراقي عموما والشعب الكردي خصوصاً ثمنا باهضا بسبب استمرارها طيلة عقود.

      فالقائلون بالفدرالية، وعلى اختلاف مذاهبهم، يجعلونها شرطاً للتقدم الاجتماعي والاقتصادي، وضمانة للديمقراطية، وسبيلا لحل المسألة القومية وتجاوز مخاطر النزعات الانفصالية. بينما يذهب الرافضون إلى القول، بأن الفدرالية تؤدي إلى التشرذم والتبعثر، ومن ثم، تقود إلى عرقلة تطور البلاد، وتكرس اللا تجانس الطائفي والقومي، لتشكل في النهاية، مقدمة لتقسيم العراق إلى دويلات.( ) وتنطلق النظرة الأخيرة في الغالب من مفهوم يحكمه التعصب وضيق الأفق القومي.

    ويذهب البعض إن المسألة مرتبطة بالفضاء الذي خلقته الحركة القومية العربية لنفسها، ذلك الفضاء الذي يشبه أسطورة مليئة بالأعداء الوهميين، وكان أحد هؤلاء الأعداء ولسوء الحظ الأكراد الذين دخلت الحركة العروبية في معركة طاحنة معهم منذ بداية القرن العشرين حيث شكلت صورة الأكراد في ذهنية تلك الحركة صورة الباغي الذي يهدد باستمرار- على الصعيد الداخلي- وحدة صفوف الشعب ووحدة أراضي الوطن وخارطته السياسية، ويتحالف- على الصعيد الخارجي- مع أعداء الأمن القومي.( )

     إذن نحن إزاء تعارض في فهم طبيعة المسألة القومية الكردية وإيجاد الحلول لها وهذا التعارض ينبع من مواقف سياسية وفكرية تغذيها البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتخلفة التي لم تتطور كفاية رغم عقود من ما يسمى مشاريع التنمية الاجتماعية-الاقتصادية.

                          موقف الحزب الشيوعي العراقي

      يستند موقف الحزب من المسألة  القومية الكردية إلى الفهم الماركسي-اللينيني لحق الأمم في تقرير مصيرها. لذلك للرفيق فهد مؤسس الحزب موقف واضح منها. ومعروف أن جريدة كفاح الشعب، أول جديدة تحمل أسم الحزب الشيوعي والصادرة في نهاية تموز 1935 رفعت شعار: استقلال كردستان. وورد في التقرير المقدم إلى المؤتمر الوطني الأول للحزب "...فالأمريكان يريدون الآن أن يوجدوا لهم قاعدة اجتماعية في العراق، ويريدون أن يستغلوا وضع الأكراد ويجعلوا منهم قاعدة اجتماعية لهم... إننا ننبه إخواننا الأكراد إلى أن قضيتهم الوطنية مرتبطة بقضية العراق التحررية وأن حرية الأكراد في العراق لا تأتيهم عن طريق الوعود الاستعمارية..بل بالنضال المشترك مع العرب من أجل استكمال استقلال العراق. إن  حزبنا يدعو إلى الصداقة العربية الكردية، إلى النضال المشترك من أجل قضية العرب والأكراد على السواء". ( ) وهذا التنبيه لا زال ساري المفعول فلازالت القوى الكردية الرئيسية تعول على هذا الدعم سواء قبل سقوط النظام أو بعده وجانب من ذلك يعود لعدم ثقتها بتوجهات الأحزاب العراقية الرئيسية المهيمنة على السلطة في العراق تجاه حقوق الشعب الكردي.

    وفي الحقبة التي تلت ثورة 14 تموز 1958 شغلت القضية الكردية حيزا كبيراً من اهتمام الحزب، نظراً لأنها تتعلق بالقومية الكبيرة الثانية في البلاد، التي ظلت تتطلع، طوال العقود الماضية، إلى المساواة وإلى تحقيق حقوقها القومية، وتُتاح لها، لأول مرة، فرصة حقيقية لكي تمارس بعضاً من حقوقها القومية، بعد الثورة. ومنذ ربيع 1962، شرع الحزب في تركيز انتباهه إلى المسألة الكردية، ففي آذار تدارست اللجنة المركزية للحزب المسألة، واتخذت قراراً بتأكيد مطالبة الحزب بالحكم الذاتي لكردستان العراق. وكذلك أقرت تقريراً يعالج سياسة الحزب لحل المسألة القومية الكردية في العراق حلاً ديمقراطياً عادلاً.( )

     وفي أعقاب انتفاضة آذار 1991، طورت القوى الديمقراطية العراقية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي، شعار "الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي الحقيقي لإقليم كردستان"، وتبنت شعار الفيدرالية لإقليم كردستان، في عراق ديمقراطي إتحادي (فيدرالي) موحد، وذلك باعتباره حلا ديمقراطياً للمسألة القومية الكردية. وتكرس هذا قانوناً بالقرار الذي أتخذه المجلس الوطني الكردستاني المنتخب، في الرابع من تشرين الأول 1992. وهو القرار الذي حظي باحترام قوى المعارضة العراقية، وجرى النص عليه في مواثيقها وبياناتها منذ ذلك التاريخ وحتى الآن( ) إذن كان تطوير الشعار استجابة للظروف الملموسة المستجدة على الصعيد الداخلي ويمكن أن يكون للبعد الخارجي تأثير والمتمثل بتوسع المطالبة بتبني الفدرالية على المستوى العالمي بعد نهاية الحرب الباردة كما ذكر أعلاه.
  
    وورد في التقرير السياسي للحزب المقر في المؤتمر السابع عام 2001 "إن الدكتاتورية لا يمكن أن تجلب للشعب الكردي سوى المحن والويلات. وأن الظروف المناسبة لتحقيق مطامحه وحل القضية الكردية عموماً، لن تتوفر إلا في إطار عراق ديمقراطي يضمن الحقوق القومية للشعب الكردي والقوميات الأخرى. وبدون ذلك لن يمكن وضع الفيدرالية، وهي الشكل الملموس الذي أختاره الشعب الكردي للتمتع بحقوقه القومية في إطار العراق الموحد، موضع التنفيذ". وجاء في برنامج الحزب في نفس المؤتمر " إقرار صيغة الفدرالية لإقليم كردستان دستورياً".( ) وقد زكت مسيرة المسألة الكردية هذا التشخيص فرغم المفاوضات والاتفاقات التي جرت بين قادة الحركة الكردية والنظام السابق في مراحل مختلفة فإنها لم تحرز أي تقدم وهذا ناتج من طبيعة البنية الفكرية والسياسية الشمولية لنظام البعث ونظرته القومية الضيقة وبالتالي لم يكن مؤهلاً موضوعياً لحل هذه المسألة حلاً عادلاً.

    كذلك جاء في برنامج الحزب المقر في المؤتمر الثامن عام 2007 ما يلي:
    أولاً: إقرار حق تقرير المصير للأمة الكردية في أجزاء كردستان كافة، وحقها في الوحدة الوطنية.
ثانياً: تعزيز النضال المشترك والأخوة العربية- الكردية بما يمكن من بناء عراق ديمقراطي اتحادي "فيدرالي" موحد.
ثالثاً: ضمان الحقوق القومية والإدارية والثقافية للتركمان والكلدان – الآشوريين- السريان والأرمن وتطويرها وتوسيعها، واحترام المعتقدات والشعائر الدينية للايزيديين والصابئة المندائيين، وإلغاء جميع مظاهر التمييز والاضطهاد ضدهم. ( )
  وهذا تطوير واضح لموقف الحزب وله دلالته الفكرية والسياسية الدقيقة وباتت نظرته للمسألة القومية أكثر شمولا حيث حددت وبشكل واضح حقوق المكونات القومية والدينية الأخرى.

                                                                             

  1- ياسر المندلاوي، الثقافة الجديدة، العدد 315، 2005، ص 103.
 2 - مجلة النهج، العدد، 22، ربيع 2000، ص 203.
 3 - حمدان يوسف، الثقافة الجديدة، العدد، 302، 2001، ص 12-13.
  4- عزيز سباهي، عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، الجزء الثاني، دار الرواد، 2003، ص 497 و512.
  5- عبد الرزاق الصافي، الثقافة الجديدة، العدد 315، 2005 ص 65-66.
  6- الحزب الشيوعي العراقي، وثائق المؤتمر الوطني السابع، 25-28 آب، 2001، ص57 و94.
  7- الحزب الشيوعي العراقي، وثائق المؤتمر الوطني الثامن، دار الرواد، بغداد، 2007. ص 141.


113
الفدرالية: المفهوم والتطبيق (3)

                                                                                     د. هاشم نعمة

 توزيع السلطات

      توزيع السلطات من المسائل الهامة والحساسة جدا والتي أثير الكثير من النقاش حولها على المستوى السياسي والأكاديمي في مسيرة بناء الأنظمة الفدرالية في العالم. وهي لا تزال محط حوار ونقاش عميق ولا نستطيع القول حتى في الأنظمة التي أرست دعائم قوية للبناء الفدرالي بأنها حسمت فهي محل مراجعة وتدقيق مستمرين مع الوقت.
    ومن هنا تشغل هذه المسألة مكانا هاماً في النقاش خاصة إذا ما عرفنا إن العوامل الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والأمنية واللغوية والثقافية والديمغرافية والدولية كانت جميعا وراء ما يدفع باتجاه الاتحاد، وفي ذات الوقت وراء ما يدفع باتجاه الهوية الإقليمية. على العموم كلما زادت درجة التنوع ازدادت السلطات الممنوحة للوحدات المكونة للحكومات المحلية. وكما تشير الوقائع يتعذر على الأنظمة الفدرالية أن تتجنب التداخل في المسؤوليات. ومن المألوف أن يوجد قدر من التعاون المتبادل. وتكتسب مسألة العلاقات ما بين توزيع السلطة التشريعية والتنفيذية، أهمية خاصة. لقد بينت التجربة أن لا مفر من تداخل الاختصاصات السيادية. ومن هنا يجب التشاور ما بين الحكومة الفدرالية وحكومة الإقليم قبل إبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية. ( )
     نستطيع تحديد فدراليات قوية وأخرى ضعيفة. فالبنية الفدرالية القوية، هي التي تكون فيها الولايات المكونة للدولة قوية لأنها تحتفظ بدرجة كبيرة من السلطة وتكون الحكومة الفدرالية ضعيفة. أما في النظام الفدرالي الضعيف تمتلك الولايات فقط درجة محدودة من السلطة وتكون الحكومة الفدرالية قوية.( ) وهناك نمط ثالث من الفدراليات تكون السلطة فيه قوية لكل من الحكومة المركزية والولايات أي يكون هناك توازن في السلطة وهذا ما يفترض أن يكون عليه واقع الفدرالية في العراق.
    ففي النمط الأول والثاني هناك درجة من التوتر والنزاع بين المراكز المختلفة للسلطة. فالولايات تكون حريصة على الاحتفاظ بسلطتها والإبقاء على درجة معينة من الاستقلال. أما الحكومة الفدرالية فتكون دائماً حريصة على مد سلطتها وتأثيرها على أجزاء البلاد. وتبحث الأخيرة على إنتاج سياسات وطنية بينما الولايات تبحث عن قدر من الاستقلال الذاتي. ويتفاقم النزاع في حالة وجود اختلافات في القناعات أو المعتقدات السياسية بين مستويي السلطة.

    سويسرا مثلا تخضع إلى نظام ممعن في اللامركزية. وقد جاء تجانس الوحدات المكونة للفدرالية عبر أقصى فصل إقليمي ممكن لمختلف الجماعات، ووضع كافة الوظائف التي يمكن أن تصبح اللغة فيها مسألة حساسة، كالشؤون التربوية، والفكرية، والفنية ضمن أشراف السلطة الكانتونية. ( )

    ووفرت الفدرالية المزدوجة والمعقدة في بلجيكا، مخرجا لمشكلة التوتر بين المتحدثين باللغة الهولندية والفرنسية. فقد قامت في البلاد ثلاثة أقاليم هي والونيا للمتحدثين بالفرنسية وفلاندرز للمتحدثين بالهولندية وإقليم بروكسل الذي أعتبر ثنائي اللغة. ويمكن لكل مجموعة سكانية ممارسة سلطتها في إقليمها وفي بروكسل. بالتأكيد، إن هذه الترتيبات أكثر تعقيداً من غيرها في الدول الفدرالية الأخرى. إلا أن لديها ميزة كبرى وهي تقديم الحل لوجهتي نظر مختلفتين ومتعارضتين إلى حد بعيد، فيما يتعلق بطبيعة الدولة الفعلية. وهكذا فإن الدستور الفدرالي البلجيكي يقبل ويحدد رؤيتين للدولة.( )

    وفي الهند تم تنبني البنية الفدرالية المعقدة مباشرة بعد الاستقلال 1949-1950. وتستمد هياكل الحكم إلى جانب الحكومات المحلية، سلطتها من الدستور الذي يوزع السلطات بتناسق بين الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات أو بدون تناسق من خلال عدة مواد دستورية مثل تلك التي تتوجه حصراً إلى الجماعات القبلية، والأقليات الإثنية، والتنمية الوقائية لشعوب بعض الأقاليم والأقاليم الفرعية المختارة. وتتمتع السلطة المركزية بصلاحيات تنظيمية تمارسها على عدد كبير نسبياً من القضايا. ويعترف الدستور بسيادة الصلاحيات القانونية المنوطة بكل وحدة فدرالية. لكن تتوافر أيضاً "أعباء تفاضلية"- حيث يترتب على بعض الوحدات مسؤولية مهمات أكثر من البعض الآخر- ضمن ميادين متشابهة أو مختلفة. وهكذا فيما تبسط الولايات سلطتها على التعليم الابتدائي عموماً لا تنطبق الحالة نفسها على التعليم العالي، حيث يجب أن تشارك في صلاحياتها القانونية الحكومة المركزية.( )

   وبالنسبة للعراق وفيما يتعلق بالإشكالات التي تواجه النظام الفدرالي وبالأخص التباين حول الصلاحيات بين الحكومة المركزية والأقاليم من الضروري " الانتباه إلى أن الفدرالية لا تبنى دفعة واحدة وبقرار فوقي بعيدا عن واقع الظروف الموضوعية. وليس بالضرورة أن يكون تحويل الصلاحيات للأقاليم بمستوى واحد ووتيرة واحدة وبوقت واحد، وإنما المطلوب مراعاة القدرة الاستيعابية للصلاحيات (من حيث توفير البنى التحتية/ الكادر/ وغيرها من المستلزمات اللوجستية والبشرية). ولهذا فإن التدرج التصاعدي في تحويل السلطات والصلاحيات ضرورة موضوعية للبناء السليم لمنظومة العلاقات المنظمة لصلاحيات السلطات الاتحادية والأقاليم وما بينهما".( ) وهذا يعني أن بناء النظام الفدرالي عملية تراكم مستمرة وأن أي إشكالات تبرز في مسيرة هذا البناء لا سبيل لحلها إلا بالحوار فقط.

  


114
                         
الفدرالية: المفهوم والتطبيق (2)

                                                                                           د. هاشم نعمة
                                 

مسيرة الأنظمة الفدرالية

      نحاول اللقاء نظرة فاحصة على الأنظمة الفدرالية في العالم للتوقف على صيرورة التطور الذي رافقها لا بهدف استنساخ ما طبق ولكن للتعرف على تعقد مساراتها ولأنها عملية سياسية، اجتماعية، اقتصادية،قانونية، ونفسية، فهي خاضعة للتطور، عبر الزمن، ويندر أن نجد نظاما فدراليا لم تواجهه الصعوبات في التطبيق حتى في الأنظمة التي قطعت شوطا كبيرا في إرساء دعائم المؤسسات الديمقراطية، فكيف ببلدان لا عهد لها بالديمقراطية مثل العراق. أقول هذا بقصد الإشارة إلى ضرورة الصبر في التعامل والتعاطي مع هكذا موضوع وينبغي عدم التطير واتخاذ مواقف قطعية بعدم صلاحية الفدرالية أو عدم صلاحية هذا النموذج أو ذاك من الفدرالية في واقع العراق.   

    من الناحية التاريخية، في عصر دويلات المدن الإغريقية أسس عدد من الاتحادات أو التحالفات. بعض المؤرخين يصفها بأنها كانت تمثل فدراليات. وذهب برياستد أبعد من ذلك بوصفها نوعا من الولايات المتحدة الصغيرة جداَ. لكن في الواقع نحن نعرف القليل جداً عن بنيتها الدستورية ليمكن بالتالي تمييزها عن التحالفات الأخرى. وفي أوروبا في العصور الوسطى ظهر نوع آخر من الاتحادات كاتحادات المدن مثل هانسياتيك في شمال ألمانيا والكانتونات السويسرية المعروفة أكثر. هذه هل يمكن اعتبارها ملامح أساسية للنظام الفدرالي الحديث؟ يقول ساوير أن أول دولة فدرالية حقيقية حديثة كانت الولايات المتحدة الأمريكية. حيث أن الولايات التي حصلت توا على استقلالها من بريطانيا لم تكن كلها متحمسة في البداية للتخلي عن سيادتها إلى سلطة أخرى. ولشرح كيف يجب أن يعمل النظام الفدرالي وإقناع الولاية الحاسمة نيويورك بقبول الدستور الجديد كتب ونشر ثلاثة من الآباء المؤسسين هم الكسندر هاملتون وجيمس ماديسون وجون جاي مجموعة من المقالات التي أصبحت تعرف بالفدرالي. ومن ذلك الوقت، أعتبرها الأمريكيون كنوع من الإنجيل الفدرالي. لكن تبقى الحقيقة بأن النظرية السياسية للفدرالية بدأت مع هذه المقالات. حيث لعب هؤلاء الثلاثة دوراً رئيسياً في تطور الأفكار الفدرالية.( ) وهكذا نرى أن تبني الكونفدرالية في البداية ومن ثم التحول نحو الفدرالية كان استجابة لواقع موضوعي تمثل ببناء قوة قادرة على الوقوف أمام القوى الأوروبية الاستعمارية ورغبة هذه الولايات بانتزاع استقلالها السياسي من هذه القوى.       
 
     لقد قامت بعد ذلك العديد من الأنظمة الفدرالية عبر العالم لكن كانت أعدادها قليلة فمثلاً كولومبيا، تحولت من النظام الفدرالي إلى النظام المركزي في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد ذلك، عادت إلى النظام الفدرالي في نهاية القرن العشرين. وكان قيام الإتحاد السوفيتي عام 1922 قد مثل واحدة من التجارب الهامة في هذا المضمار رغم فشلها فيما بعد ولكن هذه التجربة لم تدرس في حينها بعمق في الغرب على اعتبار أنها لا تمثل التجربة الأهم في هذا البلد إضافة إلى ذلك كان الفكر الغربي مشغولا  للتصدي للنظام الاشتراكي كفكر وممارسة لإبراز وتضخيم عيوبه ولإثبات عدم صلاحيته.

    كان الإتحاد السوفيتي يستطيع أن ينجو من خسارة بعض الجمهوريات الصغيرة مثل جمهوريات البلطيق والقفقاس ومولدافيا. لكن غياب التعامل الحاذق معها سوية مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، شجع جمهوريات أخرى أكبر مثل أوكرانيا على الابتعاد عم المركز. ولا ريب أن غورباتشوف تأخر كثيراً في صياغة علاقة دستورية جديدة بين الجمهوريات. وحين كان مستعداً لتقديم تنازلات، كان الوضع قد تجاوزها فبدت تلك التنازلات متأخرة ومرفوضة. كذلك كان إعلان الإتحاد الروسي نفسه أيضاً جمهورية ذات سيادة عاملاً حاسماً في انهيار الإتحاد. فعندما أعلن إقليم بهذه المساحة سيادته لم تكن هناك جدوى من بقاء الأقاليم الأخرى في الإتحاد، فسارت أوكرنيا وبيلوروسيا وآسيا السوفيتية في أعقابه على الرغم من أن ذلك كان ضد مصالحها بالكامل.( )

   وتزايدت الأنظمة الفدرالية بعد الحرب العالمية الثانية وأهم نظام فدرالي ظهر بعد هذه الفترة هو ألمانيا الاتحادية حيث كانت هناك رغبة قوية من قبل الحلفاء في أن لا تبقى ألمانيا دولة مركزية موحدة خشية ظهورها من جديد كقوة تهدد السلم.

    في السنوات، التي تلت نهاية الحرب الباردة، فإن زيادة حدوث وقسوة النزاعات الداخلية المسلحة، والحروب الأهلية، عمقت المصلحة في الفدرالية، كإستراتيجية مؤسساتية لتسوية الخلافات الإقليمية والاثنية. وعندما يتفوق النزاع الداخلي على النزاع بين الدول، كمصدر أكثر شيوعا للعنف السياسي، في عالم اليوم تصبح الفدرالية خياراً مهماً بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن هندسة المؤسسات التي تستطيع توفير الأمن في بيئات ما بعد النزاع. حتى النزاعات الأخيرة بين الدول تشمل حروب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق وصربيا أطلقت نقاشا جديا حول كيف يمكن أن تعزز الفدرالية والحكم الذاتي الاستقرار في فترة ما بعد النزاع.( )

     ويشير مايكل كيتنج إلى أن أغلب الحركات القومية، في أوروبا وكندا، أعادت تعريف أهدافها وتوجهاتها وإستراتيجياتها في ضوء التغيرات الدولية منذ أواخر الثمانينات بصفة عامة والعولمة بصفة خاصة، ومن ثم حدث تغير أساسي في خطابها السياسي. فقد بات معظم هذه الحركات مدركاً لحدود نهج الاستقلال بالمفهوم التقليدي(أي تكوين دولة جديدة) بالنسبة للأمم الصغيرة والمعوقات الموضوعة عليه. ومن ثم فهي تناضل من أجل تحقيق غير هذا الهدف، مثل المشاركة في السيادة، أو تعظيم نطاق ومستوى الاستقلال الإقليمي، أو السعي للاعتراف بأنها تمثل أمة (وإن كانت بلا دولة) متميزة عن غيرها، سيما الأمة التي تمثلها الدولة التي هي جزء منها. ويضيف أن هذه الحركات القومية أصبحت أقل إثنية وغدت تتبنى معايير إقليمية (موضوعية) للمواطنة أو للعضوية في مجتمعاتها (التوجه المدني)، وأن المواطنين في الأقاليم المتميزة قومياً داخل الدول باتوا يطبقون ما يعرف بالهوية المزدوجة وربما المتعددة؛ مثلا اسكتلندي وبريطاني أو اسكتلندي وبريطاني وأوروبي في نفس الوقت.( ) ونجد صدى لهذا التوجه في نظرية تعدد الهوية التي نالت قدرا مهما من البحث على المستوى الأكاديمي.
     يصبح النزاع أكثر وضوحاً عندما الاختلافات اللغوية، أو الدينية، أو الإثنية تعلو على الاختلافات الأخرى بين ولاية وولاية أخرى. ففي كندا مثلاً، التوتر بين الحكومة الإقليمية لمقاطعة كيوبك والحكومة الفدرالية يكون أكثر وضوحاً بسبب اللغة والهوية الدينية لكيوبك مقارنة ببقية كندا. ( ) وهناك من يذهب أن المسألة في كندا مسألة لغة وليست مسألة دين، لكن سكان كيوبك يعلمون أنهم يعيشون في الشمال الأمريكي الذي يتحدث الانكليزية، حيث لا يستطيعون تجنب تعلم هذه اللغة إذا أرادوا أن يضمنوا مستقبلاً من الدرجة الأولى حتى وإن لم يكونوا جزءاً من كندا. ( ) وكما هو معروف جرى تنظيم استفتاء أو أكثر لتقرير بقاء كيوبك ضمن كندا أو انفصالها لكن الغالبية اختارت بنسبة بسيطة البقاء ضمن كندا لكن هذا لا يعني أن المسألة قد سويت فهي لا تزال تتفاعل.
    ففي تحد مباشر لحكومة كيوبك فيما يخص السيطرة على الأراضي ، هددت الحركة الانفصالية في مونتريال بتقسيم أراضي كيوبك إذا قرر الإقليم الانفصال عن كندا. ويحاجج الانفصاليون الذين يمثلون السكان المنحدرين من أصول انكليزية، بأن الشعب في كيوبك له الحق في اختيار استمرار العيش ضمن كندا وبدون مغادرة الأراضي الحقيقة لكيوبك في حالة الانفصال. وهذا يعني تقسيم أراضي كيوبك طبقاً لاختيارات السكان. هذه الأفكار قد تم تداولها في أربعينات القرن التاسع عشر، لكن الحركات الانفصالية فجرت الإعلان عنها عقب استفتاء تقرير سيادة كيوبك عام 1995. واقترحت خرائط لكيوبك تختلف بشكل كبير، معتمدة في ذلك على أصول السكان ومصالحهم.  ويحاجج الكنديون من خارج كيوبك بأن الأراضي الواقعة في الجزء الشرقي من البلاد يجب الاحتفاظ بها إذا انفصلت كيوبك وبأن سيادة هذا الإقليم يجب أن تقرر طبقا لنتائج الاستفتاء القائم على أساس الدوائر الانتخابية، أو تحصل كيوبك على سيادتها استنادا إلى تفسيرات تاريخية معينة لتطور أراضي الإقليم. وكانت نتيجة استفتاء عام 1995، أن 47 بلدية من بلديات كيوبك تمثل حوالي 800,000 من السكان، تبنت الطروحات الانفصالية معلنة بأنها تريد البقاء جزءاً من كندا في حالة انفصال كيوبك. ومع اللائحة المقترحة لدمج السكان في مونتريال، فإن هذه الطروحات سوف تصبح عديمة النفع والجدوى إذا ستفقد البلديات الانكليزية استقلالها الذاتي.( ) ولكن هذا التباين في المواقف لم  يؤثر سلباً في البنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدستورية لبلد متقدم مثل كندا وبالتالي لم يتحول إلى صراع مسلح.     

    بالنسبة للبرازيل لم تكن الفدرالية استجابة للانشطار العرقي واللغوي والديني، وذلك خلافاً للعديد من الأنظمة الفدرالية. لكن العوامل التي ساهمت في بقاء التوتر السياسي  والاجتماعي وأضعفت من إمكانية النظام الفدرالي في حل المشاكل التي يواجهها البلد هي بالأساس مشاكل تتعلق بالبنية الاجتماعية والاقتصادية غير المتوازنة التي يغذيها ضعف أو غياب العدالة الاجتماعية.
                                                                                   

  - McMinn W.G., National and Federalism in Australia, Oxford, 1994, pp. 44-45
  - سوزان فوسبر" من الثورة إلى الدولة" في ما بعد الماركسية، إعداد فالح عبد الجبار، المدى، 1998، ص25-26.
   - World Politics, op.cit., p. 667.
  - د. أيمن إبراهيم الدسوقي، "هل القومية الكردية انفصالية؟ " مجلة شؤون عربية، العدد 138, جامعة الدول العربية، 2009، ص 219.
  - John R. Short, An Introduction to Political Geography, London, 1993, p.101.
  - لستر ثورو، مستقبل الرأسمالية، ترجمة عزيز سباهي، المدى، دمشق، 1998، ص 270.
  - Journal of Economic and Social Geography, Vol. 92, N. 4, KNAG, 2001, p. 414.

115

السيد فرج الحيدري رئيس مجلس المفوضين للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات المحترم
بواسطة السيد سيامند بنا سفير جمهورية العراق المحترم
تحية طيبة
    لا يخفى عليكم أن تعديل قانون الانتخابات مثل تراجعا خطيراً في مسيرة إرساء أسس المؤسسات الديمقراطية في بلدنا وذلك بخفض نسبة المقاعد التعويضية والذي سيؤثر بكل تأكيد في نسبة مشاركة العراقيين في الخارج في الانتخابات القادمة وبما إن قانون الانتخابات ترك صلاحية تحديد آليات الانتخابات في الخارج إلى المفوضية فهنا يفترض أن تختار أفضل هذه الآليات التي تساهم في تحفيز وتشجيع واستقطاب الناخبين للمشاركة في الانتخابات على نطاق واسع لذلك نهيب بكم ومن موقع مسؤولياتكم أمام الشعب ممارسة صلاحياتكم القانونية وذلك بإتباع آلية تسمح للعراقيين في الخارج بحرية اختيار المحافظة التي يرغبون التصويت لقوائمها دون إلزام الناخب بالانتخاب حسب مكان ولادته وهذا سيساهم في حل إشكالية إثبات مكان الولادة لأنه بسبب التهجير والهجرة الداخلية والخارجية التي طالت الملايين فإن الكثير من العراقيين في الخارج باتت لا تربطهم بمكان ولادتهم أي علاقة أما بسبب تغيير مكان الإقامة داخل العراق قبل الهجرة أو بسبب الولادة في الخارج ومن ثم لا يستطيعون بهذه الحالة التصويت لقوائم لا يعرفونها عن كثب. إن آلية مكان الولادة إذا ما أصرت المفوضية على تطبيقها ستساهم بخلق موجة واسعة من العزوف عن الانتخابات بسبب شعور الناخب بضياع صوته وسيزيد ذلك بدوره من حالة الإحباط واليأس والقنوط التي نحن في أشد الحاجة لتجاوزها في هذا المنعطف الحاسم الذي تمر به بلادنا.
كلنا أمل بأن تستجيبوا لندائنا هذا
مع خالص التقدير والاحترام
المنظمات والجمعيات والروابط الديمقراطية الموقعة على النداء:
1-   إتحاد الجمعيات الديمقراطية العراقية في هولندا (البلاتفورم)
2-   المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا.
3-   اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في هولندا
4-   منظمة تموز للتنمية الاجتماعية في هولندا،
5-   رابطة المرأة العراقية في هولندا.
6-   جمعية النساء العراقيات في هولندا.
7-   المنتدى الديمقراطي العراقي في روتردام.
8-   التجمع الثقافي والاجتماعي العراقي في مدينة دلفت وضواحيها.
9-   البيت العراقي في مدينة دنهاخ.
10-    النادي الثقافي المندائي في دنهاخ.
11-    الفيدرالية المندائية في هولندا.
12-    رابطة بابل للكتاب والفنانين العراقيين في هولندا.











 
 
 
 
 
 
 




116
الفدرالية: المفاهيم، الأسباب والنتائج (3)
                     
                                                                                  ترجمة: د. هاشم نعمة

                                         النتائج
    بعيداً، عن السؤال الأولي، ما هي الأسباب التي دفعت الفاعلين السياسيين لتبني الفدرالية وإصلاح المؤسسات الفدرالية عبر الوقت . من المنطقي أن يثار سؤال لاحق ما هي الاختلافات التي نتجت من عمل هذه المؤسسات. على عكس، الأدب القليل، بشكل استثنائي، الذي درس أسباب الفدرالية، شهدت السنوات الأخيرة توسعا سريعا في دراسة نتائج الفدرالية من قبل علماء السياسة. ومن المهم تماما الإشارة إلى أن المسألة لا تتعلق فقط بأسباب الفيدرالية بل أيضاً بأسباب التباين داخل الأنظمة الفدرالية، لذلك من المهم أن ندرس النتائج المترتبة على الفدرالية مقابل الأنظمة الموحدة والنتائج المترتبة على التباين في داخل الأنظمة الفدرالية. في حين يتفق معظم كتابات العلماء بشأن "قضايا الفدرالية" نرى العلماء كثيرا ما يختلفون اختلافا حادا بشأن فيما إذا كان تأثير الفدرالية إيجابيا أو سلبيا على سلسلة من النتائج تشمل: الديمقراطية، الاستقرار والتنمية الاقتصادية. مثلاً، يلاحظ  الفريد ستيبان بأن كل الديمقراطيات التي طال عليها الزمن وذات التعدد قومي واللغوي هي أنظمة فدرالية، ولاحظ  نانسي بيرميو بأنه "لا توجد أبداً حركة انفصالية في الأنظمة الديمقراطية الفدرالية تبنت العنف وحققت نجاحاً " وكتب فاليري بونس بأنه "إذا قامت الديمقراطيات الجديدة في دول متعددة القوميات وورثت بنية فدرالية فسوف تكون بشكل خاص عرضة لضغوط انفصالية". إذن نحن بعيدون عن أي توافق في الآراء بشأن الآثار المحتملة للفيدرالية بالنسبة للحفاظ على السلام.

     ولد تأثير النتائج الاقتصادية للفدرالية عدم اتفاق ليس بالقليل. ففي كتابات العقد الماضي، ركز باري وينغاست ومساعدوه  غالبريلا مونتينولا ويانغي كيان على الفدرالية كعامل يشرح كيف أن الصين، في ظل غياب حكم القانون، تمكنت من تحقيق نمو اقتصادي مستدام قائم على السوق. وحسب هؤلاء المؤلفين فإن تفويض السلطة إلى الأقاليم شجع موظفيها على التنافس فيما بينهم لجذب المستثمرين والاحتفاظ  بهم، وهي آلية تحد من أعمال الإكراه الممارسة من قبل الحكومة وبالتالي تشجع السياسات المؤيدة للسوق. وناقش آخرون التأثير المفيد للفدرالية. بالعودة، مثلاً، إلى الهند، تساءل سوزان روزه-اكيرمان وجوماثان رودن فيما إذا الفدرالية التي تحافظ على السوق تتمكن في الواقع أن تحل المعضلة السياسية الأساسية المتعلقة بالنظام الاقتصادي، وناقشا بأن التجربة الصينية لا ينبغي أن تستخدم لتعزيز الدعوات إلى "اللامركزية الجذرية ورفع القيود  تحت اسم الكفاءة."

     قدم كيليمن نظرية جديدة باسم الفدرالية التنظيمية تتكون من جزأين. في الجزء الأول، يشير كيليمن إلى" سياسة الاختصاص" حيث تحتفظ الفدراليات بسلطة صنع القرار السياسي على مستوى الحكومة الوطنية وتفوض تنفيذ السياسة إلى الحكومات المحلية. وفي الجزء الثاني، يشير إلى "سياسة السلطة التقديرية أو حرية التصرف"، حيث تقرر درجة التشظي على المستوى الوطني حجم حرية العمل الذي يعطى للحكومات المحلية لتنفيذ السياسة العامة أو خطة العمل. في الأنظمة البرلمانية تعمل الكتل السياسية في مجلس النواب لضمان الأغلبية التشريعية التي تستطيع مراقبة الحكومات المحلية وسن تشريعات جديدة إذا لم يتفق سلوك هذه الحكومات مع مصالحها. وفي الأنظمة الرئاسية، تنقسم سلطة صنع القرار بين السلطتين التنفيذية والتشريعية المنتخبتين، وأن عدم تمكن أي منهما في السيطرة على الآخر يشجع على مرور تشريع مفصل يحد من حرية التصرف على المستوى المحلي. لذلك فجميع الأنظمة الفدرالية تختلف عن جميع الأنظمة الموحدة في مسألة توزيع الاختصاصات، لكن الأنظمة الفدرالية تختلف فيما بينها في حجم حرية التصرف الذي تتمتع به الحكومات المحلية في علاقتها مع المركز.
    أختبر كيليمن نظريته بمقارنة شكل ومحتوى التنظيم البيئي في خمس دول تختلف في درجة تجزئة صنع القرار على المستوى الوطني. ففي الولايات المتحدة يحدد انفصال السلطات نفوذ المشرعين الخاص بوكالة حماية البيئة، حيث تشجع الهيئة التنفيذية المكلفة بتطبيق التشريعات البيئية، بدورها الكونغرس لتمرير مشاريع قوانين مفصلة. مع العلم أن أحكامها لا يمكن رفضها بسهولة من قبل المشرعين، وبالتالي تلعب المحاكم دورا أكثر نشاط في الفصل بين أنظمة السلطة. يناقش كيليمن بأنه بسبب الانتخابات المنفصلة للبرلمان الأوروبي  واللجنة الأوروبية يكون التنظيم في الإتحاد الأوروبي أكثر شبها بالنمط الموجود في الولايات المتحدة مقارنة بأي نمط في أي دولة عضو في الإتحاد الأوروبي. بالإضافة لذلك، بسبب من أن مؤسسات الإتحاد الأوروبي هي مرآة للتشظي الموجودة في الولايات المتحدة، يرى كيليمن أن الاحتكام للقضاء سيمارس مستقبلاً وبشكل متزايد في الإتحاد الأوروبي. عكس ذلك، و بالرغم من اندماج السلطة أو الكتل السياسية في المجالس النيابية في الدول البرلمانية مثل استراليا وكندا لكنها تظل أيضا دولاً  فدرالية، وهذا يقود إلى نمط  مختلف جداً للتنظيم، بسبب من أن الغالبية التشريعية تعرف بأنها تستطيع بسهولة إعادة كتابة التشريعات إذا لم تتفق هذه مع القرارات التنظيمية للوحدات المحلية. الحالة الخامسة التي يناقشها كيليمن، هي ألمانيا، التي تحتل وضعاً وسطاً، حيث لا تشجع برلمانيتها سن القوانين المفصلة، لكن القانون الأساسي، ما بعد النازية ضمن استقلال المحاكم، حيث بات سلوكها في مجال التنظيم أكثر شبها بمحاكم الولايات المتحدة مقارنة بأستراليا وكندا.
      بفضل اهتمامه بسياسة "الكفاءة أو الأهلية وحرية التصرف" قدم كيليمن نظرية الفدرالية التنظيمية التي عالجت بنجاح اندماج النظام الرئاسي والبرلماني بدراسة الفدرالية واللامركزية. يشير كيليمن بأن التقسيم الأفقي للسلطة بين الفاعلين على المستوى الوطني ليس من الممكن أن لا تكون له علاقة بالتقسيم العمودي للسلطة بين الحكومات الوطنية والمحلية. بدلاَ من ذلك، تعمل اللامركزية الأفقية لمنع اللامركزية العمودية وتجعل المركزية الأفقية حدوث اللامركزية العمودية أمراً أكثر احتمالاً. بالإضافة لذلك، لإظهار كيف يعمل هذان الشكلان من اللامركزية عند أغراض متعارضة، يُعدُ عمل كيليمن مجهوداً هائلاً لأنه يذهب أبعد من الآليات التنفيذية-التشريعية لينظر بشكل منهجي للدور الذي يلعبه النظام القضائي. ويعد بعض العلماء المراجعة القضائية السمة المميزة للفيدرالية، ولكن لدينا عدد قليل من الدراسات المقارنة حول كيفية تصويب المحاكم  لـ "المساومة الفدرالية". في الديمقراطيات النامية، خصوصاً، تكون التغييرات التشريعية التي تعزز مشاركة الحكومات المحلية في الموارد والسلطة جيدة فقط بقدر تمكن النظام القضائي المستقل من تنفيذها قانونياً. وتحت الضغوط الخارجية والمحلية، يمكن لحكومات هذه البلدان أن تؤيد اللامركزية بتبني تغييرات تشريعية ولكن بعد ذلك يمكن أن تستخدم نفوذها السياسي على المحاكم لتتنكر للإصلاحات الخاصة بالحكومات المحلية.

 إن قدرة هكذا نظرية بسيطة لتفسير مثل هكذا أنماط واسعة للتنظيم هي إشارة واضحة على قوتها ، هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى، يمكن للمرء أن يفضل نظرية أكثف وأكثر تعقيداً لحساب  التباينات التي تحدث عبر المكان والزمان في سياسة "الكفاءة أو الأهلية وحرية التصرف". وبالنسبة لهذه السياسة، يناقش كيليمن بأن جميع الأنظمة الفدرالية تحدد حيز السلطة الذي من خلاله يجري تنفيذ السياسة التنظيمية للوحدات المحلية وتحدد السلطة لصنع السياسة التنظيمية للحكومة الوطنية. ويناقش أيضاً بأن جميع الأنظمة الفدرالية ينزع للوصول إلى نفس التقسيم المستقر للصلاحيات التنظيمية، لكن في الواقع يبدو أن الحكومات الوطنية في العالم النامي تمارس أدواراً مهيمنة في تنفيذ السياسة العامة أكثر بكثير مقارنة مع الدول المتقدمة التي درسها الكاتب- لأسباب قد تكون لها علاقة أكثر بتقوية المؤسسات مقارنة بتشكيلها. 
 
    بالنسبة لسياسة حرية التصرف، تركيز كيليمن الوحيد على درجة التجزئة أو التشظي على المستوى الوطني ، يبدو أنه يمثل متغيرا غير حاد جدا في تفسير التباينات المهمة عبر الزمن التي وصفها في حالات الدول التي درسها. مثلا، بالنسبة للولايات المتحدة، يصف كيليمن الحركات المتنامية لإعطاء الولايات حرية تصرف أكثر تنظيما، لكنه لم يشرح كيف يمكن أن ينتج هذا التحول من التغيرات في تجزئة السلطة على المستوى الوطني، الذي هو عامله السببي فقط . في أستراليا وكندا، يستطيع النموذج النظري لكيليمن أن يفسر كيف تتمكن الحكومة (البرلمانية) الفدرالية من الاستجابة بشكل متزايد إلى المحاكم النشطة بتبني إعادة كتابة التشريعات البيئية، لكن لم يستطع شرح لماذا هذه المحاكم أصبحت أكثر نشاطا. إن مزيداً من الاهتمام لصالح نظريته سيكون مفيدا بشكل خاص نظرا لتركيزه على المجال البيئي. ينجح كتاب كيليمن كتمرين في توازن المقارنة، حيث يشرح اختلاف الأساليب الوطنية في التنظيم، لكن لا تزال بعض من أهم المواد التجريبية في عداد المفقودة في نظرية الفدرالية التنظيمية.
   في حين يقيّم  كيليمن أثر الفدرالية على التنظيم، يفحص ويبيلس تأثير المؤسسات الفدرالية على الإصلاحات الواسعة النطاق للأسواق التي هيمنت على الأجندات السياسية منذ الثمانينات، والتي أنتجت أدبا ضخما في العلوم السياسة. بينما يبدو أن أكثر قليلاً  يمكن أن يقال عن سياسة إصلاح السوق وجميع المتغيرات الرئيسية  التي تم اكتشافها، وأعطت مفهوما، وفحصت، قدم ويبيلس إضافة رئيسية بدراسته النافذة البصيرة للفدرالية والسياسة المحلية. ومثل الكثير الذين سبقوه، أدرك ويبيلس أن إصلاح السوق  يمثل مشكلة عمل جماعي تتطلب تعاوناً بين السياسيين الذين يجب أن يكفوا عن الممارسات الزبائنية والسلوك التي تهدد الاستقرار المالي. ويبتكر ويبيلس مسألة توسيع دائرة السياسيين ذوي العلاقة لتشمل السياسيين المحليين في الأنظمة الفدرالية. وحسب ويبيلس، تمنح الفدرالية سلطة للسياسيين المحليين، الذين في الغالب لديهم حافز أقل لدعم إصلاحات السوق بسبب من أن السياسيين على المستوى الوطني هم بشكل نموذجي من يمنح القروض لأي نجاحات اقتصادية كبير لاحقة. لذلك، رغم أن ويبيلس يرفض جزئياً السمة المؤسساتية بسبب رؤيته للمؤسسات الفدرالية بأنها تكون ذات طابع محلي على المستوى السياسي، يظهر عمله بأن أدب إصلاح السوق يجب أن يتوسع ويتخطى النظام الرئاسي والدوافع الانتخابية والحكم الذاتي البيروقراطي ليشمل الفدرالية. في دول كثيرة، تشجع هذه المؤسسات القادة الإقليميين لمعارضة إصلاحات السوق، بينما في حالات أخرى تعارض الحكومات الوطنية المبادرات الصديقة للسوق وتعرقل مساعي المقاولات العائدة للحكومات الإقليمية.


 العنوان الأصلي للدراسة:
Kent Eaton, "Federalism in Europe and Latin America: Conceptualization, Causes, and Consequences", World Politics 60 (July 2008).



117

                           الفدرالية: المفاهيم، الأسباب والنتائج (2)
                   
                                                                                  ترجمة: د. هاشم نعمة

                                          الأسباب

     خلال معظم القرن العشرين، جذبت دراسة أسباب الفدرالية اهتمام المؤرخين أكثر من جذبها لاهتمام السياسيين المعاصرين. وفي قرن تميز بالدكتاتورية والتنمية الاقتصادية المركزية، كان تبني المؤسسات الفدرالية قليل الحدوث حيث لم تبرز أهميته كفاية ليستحق دراسة جدية. وعندما قامت الفدرالية في الإتحاد السوفيتي، وتم تبني دستور فدرالي عام 1924، حكم المتخصصون بصواب بأن هذا لم يكن بالضبط الجانب الأكثر أهمية في  التجربة السوفيتية لتتم دراسته. و لإنتاج حالة مؤثرة من الاستقرار السياسي، كان تبني الدستور الفدرالي في الهند في منتصف القرن العشرين يٌعدُ واحداً من الاستثناءات المهمة جداً عن القاعدة العامة القائلة بأنه من المرجح  لم يكرس للفدرالية اهتمام متواصل من قبل علماء السياسة.

    في هذا الجزء، سأقوم بتوسيع النقاش حول بناء المؤسسات ليشمل ليس فقط المرحلة الأولى لقرار تبني النظام الفدرالي بدلاَ من النظام الموحد لكن أيضاً المرحلة التالية التي يتم خلالها إدخال تغييرات على المؤسسات الفدرالية بعد تشكيلها. وبما أن أدب الفدرالية قد توسع، فنحن نحتاج إلى فهم ليس فقط  ما الذي  يقود الدول إلى تبني الفدرالية لكن أيضاً لماذا اختار الفاعلون في هذه الدول، بعد ذلك، إعادة تشكيل المؤسسات الفدرالية. تماما، بقدر أهمية القرار الأول بتبني الفدرالية تكون التغييرات اللاحقة المتمثلة بإعادة توزيع الموارد والسلطات بموازاة  بعدين رئيسيين على الأقل هما: العلاقة بين الحكومات الفدرالية والمحلية، والعلاقة بين الحكومات المحلية نفسها.

      لتفسير لغز لماذا أصبحت ألمانيا فدرالية عند توحيدها القومي بينما أصبحت إيطاليا جمهورية موحدة، قّيَّم ،في هذا الصدد، زيبلات نظرية أسباب الفدرالية الأكثر نفوذاَ لريكير ووجدها ناقصة. فقد فسر ريكير التحول الذي جرى في الولايات المتحدة من الكونفدرالية إلى الفدرالية عام 1780 بأنه يمثل استجابة لتهديدات القوى الأوروبية. وبالنسبة للدول الصغيرة والإمارات التي أصبحت ألمانيا وإيطاليا تمثل تهديدا خارجيا لها في منتصف القرن التاسع عشر، كانت أيضا تعتبر قضية مهمة وشجعت بالتأكيد السياسيين في المركز السياسي لكل منهما بروسيا والبيدمونت على التوالي -  Piedmont أحدى المقاطعات الإيطالية العشرين حالياً وكانت تعد بمثابة المركز السياسي لإيطاليا قبل الوحدة- (المترجم) على تبني المبادئ الفدرالية. لكن ألمانيا فقط في النهاية أصبحت فدرالية لأسباب لم يستطع ريكير تفسيرها. يناقش ريكير، بأن الضعف العسكري للمركز السياسي خصوصاً مقارنة بالوحدات الأخرى التي رغبت بالانضمام إلى الاتحاد كان وراء القبول بالفدرالية. في حين يجد زيبلات العكس صحيحا. فبينما تمتعت بروسيا بقدرات عسكرية أقوى مقارنة بالبيدمونت  لكن في النهاية أصبحت ألمانيا وليست إيطاليا فدرالية.
     بالنسبة للنتائج المؤسساتية في ألمانيا وإيطاليا يقدم زيبلات  نظرية عامة للفدرالية تستبدل القوة العسكرية كمتغير عملي بما يُطلق عليه " قدرة البنية التحتية" ( الأكثر شيوعا يشار إلى "قدرة الدولة" في  الكثير من الأدب السياسي المقارن). في ألمانيا وجود وحدات لديها " إمكانية لدفع الضريبة، والمحافظة على النظام، وتنظيم المجتمع وبشكل عام حكم مجتمعاتها" مكن عملية التفاوض بين المركز والأطراف أن تفضي إلى النظام الفدرالي. أما الحالة الإيطالية فعلى العكس تبين بأنه حيثما يواجه المركز السياسي "ولايات ذات بنية تحتية غير متطورة" فإن هذا يجعل التفاوض أقل احتمالا ويصبح بالتالي بناء النظام السياسي الموحد من خلال الغزو أكثر احتمالاً. بالنسبة للأمور العسكرية وجد زيبلات بأن القدرة العسكرية الأقوى لبروسيا سهلت عمليا تبني الفدرالية نتيجة تمكينها من  صنع شعور بأن المركز السياسي الأضعف  (مثل البيدمونت) لا يستطيع بناء النظام الفدرالي. أخيرا، بالنسبة لألمانيا، يشرح زيبلات ليس تماماً تبني الفدرالية هو المهم فقط لكن أيضاُ تبني نسخة لا مركزية من الفدرالية كان مهماً أيضاً. فقد تبنت ألمانيا نمطا من الفدرالية يعطي للأقاليم قدراً كبيراً من حرية التصرف في الأمور المالية العامة والاستقلال الإداري.

    مع الأخذ بنظر الاعتبار أن زيبلات يدرس الحوادث السياسية الأوروبية التي حدثت قبل أكثر من قرن، فإن عمله الحالي ينطبق بشكل مدهش على النقاشات الدائرة المتعلقة بالفدرالية في الدول المتقدمة والنامية. أخذين بنظر الاعتبار، مثلا، أحد أبحاثه المركزية التي تشير بأن وجود التفاوتات الإقليمية الكبيرة في مستوى التطور السياسي والإداري لا يلائم الفدرالية، كما ظهر ذلك في إيطاليا. إن التاريخ يخبرنا بأن الفدرالية تتطلب درجة ما من درجات التطور النوعي في إمكانيات الوحدات المكونة لها، ويشير عمل زيبلات إلى أن بناء الدولة في المعنى العميق قد يسبق تحقيق مزيد من التقدم نحو الفيدرالية في المستقبل، خاصة بالنسبة للاتحاد الأوروبي. بعد أوروبا، نرى تأكيد زيبلات على القدرة المحلية يتردد صداه أيضا بقوة في العالم الثالث. مقارنة بإيطاليا في القرن التاسع عشر، فإن ضعف البنية التحتية المحلية عزز بدرجة كبيرة أنماط الحكم المركزية في الكثير من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكن خيبة الأمل الناتجة من فشل الأنظمة المركزية ولدت في المقابل اتجاها واضحا صوب تبني اللامركزية فيما يخص توزيع الموارد والسلطة بالنسبة للحكومات المحلية. غير أن الذي لم يتطور في معظم الدول النامية هو البنية التحتية بطريقة تكون متناسبة مع المسؤوليات الجديدة والمهمات التي أنيطت بالحكومات المحلية. وقد كشفت أمور مثل لا مركزية التعليم، والرعاية الصحية، ومدى من الخدمات المهمة الأخرى عن الإمكانيات الضعيفة التي تميز الكثير من الحكومات المحلية. الخلاصة، يستطيع المرء أن يستنتج من عمل زيبلات بأن النظام الفدرالي الناجح يمكن أن لا يبنى قريباً أو عاجلاً في أجزاء واسعة من العالم الثالث.

     الجدل الذي لا يقل روعة عن كتاب ريكير هو أن كتاب زيبلات أصبح عرضة لبعض الانتقادات ذاتها التي يمكن أن تثار كلما استخدم نموذج بسيط لشرح ظواهر معقدة. لكن زيبلات يجيب ببراعة بأن تعقيد القضايا التي عالجها في التاريخ السياسي والتي قام  بتصنيفها تتضمن عوامل عديدة تبدو بأنها تأخذ حيزاً كبيراً في حالة الدخول في تفاصيلها ، في حالة ألمانيا وإيطاليا والتي لم تظهر في نموذجه النظري. مثلا الحكم الخاص لزيبلات القائل بأن العوامل الخارجية تبدو بأنها تلعب دوراً أساسياً في تفسير الاختلاف بين فدرالية ألمانيا ووحدة إيطاليا. في إيطاليا مثلاً الخوف من الغزو الأجنبي من قبل الفرنسيين والنمساويين سهل الانتصارات العسكرية للبيدمونت مع تاريخ طويل من الاحتلال الأجنبي (غير موجود في ألمانيا). وكان هذا مهما في تفسير التوجه العام نحو شكل أكثر مركزية لتوحيد إيطاليا. نقيض ذلك، فإن رغبة الحلفاء الفرنسيين والبريطانيين والنمساويين ومخاوفهم من أن تصبح بروسيا- ألمانيا قوية أكثر مما ينبغي، تبدو بأنها زادت من شدة مناشدتهم من أجل بناء الفدرالية في  ألمانيا. إضافة إلى البعد الخارجي، فإن المستويات العالية من عدم الاستقرار السياسي في إيطاليا تبدو في ذلك الوقت لا تقل أهمية في تفسير حصيلة التوحيد. لاحظ فاردر مثل زيبلات بأن عدم قدرة المناطق المحلية في إيطاليا نتج جزء منه على الأقل من الردود العسكرية الأولى للبيدمونت لحالة عدم الاستقرار السياسي. وأخيرا، فإن مزيدا من الدقة في المفاهيم المتناقضة المتعلقة بالقدرة العسكرية والبنى التحتية قد يكون له ما يبرره. وسيكون التحديد ضرورياً لتقييم المزايا النسبية لنظريات ريكير وزيبلات بشكل واسع.
      كيف تستطيع حساب التغيير في الأنظمة الفدرالية عبر الوقت؟ عندما يتبنى الفاعلون السياسيون الفدرالية، يجب أيضاً أن يقرروا كيفية توزيع السلطات بين مستويات الحكومة المختلفة، وعندما يتفاعل السياسيون عند هذه المستويات المختلفة تنقح القرارات في الغالب في الفترات اللاحقة. مثلاً أربع دول كانت قد تبنت الفدرالية بعد الاستقلال  في القرن التاسع عشر- الأرجنتين، البرازيل، المكسيك، وفنزويلا-، لكنها واجهت نزاعاُ سياسياً محلياً في القرن التالي حول تقسيم السلطة المادية بين الحكومات الفدرالية والإقليمية. في هذه الدول، كما يشرح دياز-كايروس سعى السياسيون على المستوى الوطني إلى مركزة السلطة المالية في يد الحكومة الفدرالية بسحب سلطة الضرائب من الحكومات المحلية. وقد نجحوا في الغالب، كما يتبين في الطريقة العالية المركزية في تحصيل الضرائب والتي استمرت تميز أمريكا اللاتينية كمنطقة.

     لكن كيف نجح السياسيون- ولماذا في بعض الحالات فقط ؟ يجيب دياز- كايروس على السؤالين. أولاً، عندما قاومت الحكومات المحلية محاولات سلب قواعدها الضريبية، استجاب السياسيون على المستوى الوطني بتقديم عرض بمشاركة الحكومات المحلية بجزء من الإيرادات التي ستحصل عليها الحكومة الفدرالية. مثلاً، واجهت الحكومة الفدرالية مشكلة مهمة تتعلق بالتعهد الذي قدمته بسبب أن الحكومات المحلية طلبت ضمانات موثوقة تضمن وفاء الحكومة الفدرالية بتعهدها فيما يخص الإيرادات الموعودة. يشك دياز- كايروس في تحقيق المصداقية بالقول بأنها انبثقت من مساومة سياسية بين المؤسسات السياسية والنظام الحزبي. هذه المساومة بين السياسيين على المستوى الوطني والمحلي تصبح ممكنة فقط  بسبب الاختلاف بين المصالح الشخصية للسياسيين المحليين (مثلاً الحكام) ومصالح المؤسسات الحكومية التي يسيطرون عليها. ويمكن أن يستمر الحكام الطامحون في التوقف عن الإشارة إلى التغيير الذي يحد من السلطة المادية لأقاليمهم طالما يستطيع السياسيون على المستوى الوطني حماية وظائفهم. بعد تطوير هذا الدليل على حالة المكسيك، يتساءل دياز- كايروس لماذا تم تبني المركزية المالية أيضاً في فدراليات الأرجنتين وفنزويلا لكن لم يتم تبنيها في البرازيل؟

    مثل الكثير من الدول الأخرى، كان لدى جميع فدراليات أمريكا اللاتينية، دوافع قوية، لمركزة تحصيل الضرائب، في القرن العشرين، بدءا من التأثير السلبي للكساد الكبير على إيرادات الجمارك، الذي قاد الحكومات المركزية إلى التجاوز على القواعد الضريبية المحلية. بشكل مشابه، الضغوط الممركزة تسببت في محصلة مختلفة جداً. ففي المكسيك شجع  السلوك الضار للولايات عقب الثورة، الحكومة الفدرالية على  اقتراح مركزة السلطة المالية عام 1925 ومرة ثانية عام 1933. وقد دعمت الولايات الحدودية المركز لكن الولايات الأغنى والأكثر قوة عسكرياَ عارضت المركزة  في دفاعها عن فدرالية لا مركزية أكثر-  وهذا اكتشاف له صدى يتوافق مع فهم ريكير للفدرالية باعتبارها محصلة للنتائج المتأتية من عدم قدرة المركز السياسي التغلب على الوحدات المحلية عسكرياً. وحسب دياز- كايروس، حدثت المركزة في المكسيك فقط بعد تأسيس حزب الثورة القومية الذي خطط حدوداً إقليمية عام 1929 وأعطاها بعداً بلدياً عام 1938. إن الطابع المؤسساتي لهذا الحزب، مترافقاً مع ابتكار مؤسساتي نتج من الانتخابات الوطنية والمحلية المتعاقبة واستمراره في الحكم ست سنوات، مكنت قادته من انتزاع القواعد الضريبية المحلية من الولايات. لذلك يقف دياز- كايروس ضد المنطق السببي للبرهان الذي تقدم به  براديب شيبير وكين كولمان اللذان حاججا بأن المركزة المالية قادت الحزب القومي إلى تبني المركزة.

     بينما اعتمدت المركزية المالية، في المكسيك على البناء الأولي للحزب ذي الطابع المركزي، يناقش دياز- كايروس، بأنها نتجت عن وسائل أخرى في فنزويلا والأرجنتين. ففي فنزويلا، سهل الضعف العسكري للولايات، مقارنة بالمركز، المركزة المالية قبل اكتشاف النفط، الذي قوى يد الحكومة الفدرالية، بشكل ثابت. وفي الأرجنتين، يناقش دياز- كايروس، بأن تفويض تعزيز المسؤوليات إلى طرف ثالث –البنك المركزي- شجع الحكام أيضاً على تفويض السلطة التنفيذية الفدرالية لتحصيل الضريبية من قواعدهم المعينة دستورياً. في حين، فشلت المركزة المالية في البرازيل فقط، حيث ترافقت الفدرالية مع وجود أحزاب ضعيفة، ونظام حزبي مبتدئ إلى أبعد حد، و كان معظم الولايات يتمتع بقوة عسكرية قوية. لذلك احتفظت الولايات البرازيلية بسلطة ضريبية أساسية، حتى إبان الحكم الدكتاتوري لفاركاس، في الثلاثينات، وحكم الجنرالات في الستينات والسبعينات والثمانينات.

      يُعدُ كتاب دياز- كايروس، مهماً لعدة أسباب أخرى، منها أنه يتضمن اكتشافاً بأن الدمقرطة في الأرجنتين وفنزويلا حسنت مطاوعة المركز لتعهداته الخاصة بالإيرادات، وإيراد البرهان بأن المستويات العالية خصوصاً من عدم استقرار النظام في الأرجنتين تكون مسؤولة جزئياً عن التعقيد الذي يصعب تصديقه لهذه النسخة من الفدرالية المالية في هذا البلد. لكن واحدا من أعظم مزايا عمل دياز- كايروس هي القدرة التحليلية التي يوفرها نموذجه المسمى نموذج المساومة حول إعادة التوزيع في الأنظمة الفدرالية. بينما في الولايات المتحدة الأمريكية يخشى معارضو إعادة التوزيع من أن المركزية من شأنها أن تولد نتائج إعادة التوزيع. في أمريكا اللاتينية يولد قرار مركزة السلطة المالية، مبدئياً، نتائج عدائية أكثر من نتائج إعادة التوزيع. ومنذ البداية، كانت لدى الولايات الغنية التي تملك أكبر قدرة على المساومة مقارنة بالولايات الحدودية أو الهامشية الإمكانية على الإصرار على معيار مفضل يتمثل في المشاركة في الإيرادات كشرط لقبول المركزة المالية.

     رغم المنطق الداخلي الصارم في دقة حساب دياز- كايروس، فإن بعض الأدلة تلقي ظلالاً من الشك على قوة برهانه السببي. أولاً، لأن قدرة إطار نظري واحد لإلقاء الضوء على حالات متباينة تمثل خاصة سلبية، لذلك تبدو النظرية تنطبق أفضل على المكسيك مقارنة بالأرجنتين وفنزويلا. في المكسيك الطبيعة المؤسساتية للحزب الحاكم مترافقة مع موقعه المهيمن بوضوح داخل النظام السياسي وفرت قناعة لدى الحكام بأنهم يمكن أن يعتمدوا على الحماية التي يوفرها قادة الحزب القومي. في الأرجنتين تبدو الرغبة بالمساومة أقل بكثير، مهما يكن الحال، فإنه في ظل غياب الحزب المركزي كان الحكام على ما يبدو يرغبون بتفويض السلطة المالية عام 1934 بسبب شعورهم بالحماية التي يمكن أن يوفرها البنك المركزي الجديد والمستقل رسميا. ونظرا للمستويات العالية من عدم الاستقرار المؤسساتي والانقطاع المؤلم  في الحكم الدستوري الذي حدث قبل أربع سنوات فقط عام 1930، من الصعب أن نتصور أن نية التنفيذ من الطرف الثالث أي البنك الجديد يمكن أن تلعب دورا كبيرا في إقناع الحكام في التفويض. ويمكن أن تملك أهمية أكبر مجموعة من العوامل غير المؤسساتية، تشمل حقيقة بأن التفويض يمكن الحكومات المحلية من تحويل التكاليف السياسية والإدارية للضرائب إلى الحكومة الوطنية، العامل الذي جذب اهتماما أكبر في النموذج النظري لدياز- كايروس.

      ثانياَ، تشير حالة المكسيك، أيضا، إلى أنه سيكون من الخطأ المبالغة في مدى قدرة مركزية الحزب الحاكم في تفسير تمركز السلطة المالية. حيث تمثل التطورات التي حدثت في داخل الحزب في أواخر الثلاثينات والأربعينات أهمية حاسمة في فهم لماذا فشلت محاولات مشابهة أساساً للمركزة في عامي 1925 و1933 لكنها نجحت عام 1947 مع إلغاء الضرائب المحلية على التجارة والصناعة واستحداث ضريبة المبيعات الوطنية. وبنهاية الخمسينات، نصف الولايات فقط وقع على ضريبة المبيعات، وعام 1974 فقط  وافقت جميع الولايات على الانضمام إليها. لذلك مضى الكثير من الوقت في التلكؤ بين مؤسساتية الحزب الحاكم في الثلاثينات والأربعينات والإنجاز النهائي لضريبة المبيعات الممركزة في السبعينات، التي –كما يلاحظ دياز- كايروس- تمتلك الكثير من التأثير مترافقة مع الطفرة النفطية التي وفرت إيرادات إضافية من الممكن أن تستخدمها الحكومة المركزية لشراء امتثال الحكام. بكلمات أخرى، البعد الخارجي قد يستحق المزيد من الاهتمام ليس فقط في النموذج النظري الذي بناه زيبلات لشرح أصول الفدرالية لكن أيضاً في الحساب النظري لدياز- كايروس وذلك من أجل تطويره.
العنوان الأصلي:
Kent Eaton, "Federalism in Europe and Latin America: Conceptualization, Causes, and Consequences", World Politics 60 (July 2008).



118
الفدرالية: المفاهيم، الأسباب والنتائج (1)
                 
                                                                                  ترجمة: د. هاشم نعمة

     حظيت الفدرالية بقدر كبير من المعالجة والاهتمام في السنوات الأخيرة. رغم أن المؤسسات الفدرالية لم تكن بالتأكيد جديدة، لكنها أصبحت أكثر بروزاً نتيجة تأثيرات مترابطة لأربعة اتجاهات واسعة الانتشار ومتزامنة تقريباً: الدمقرطة، الليبرالية الاقتصادية، اللامركزية ومساوئ النزاعات الداخلية المسلحة. في نفس الوقت، تقسيم السلطة بين الحكومات الوطنية والمحلية – سمته الفدرالية- استؤنف باتجاه تأييد الديمقراطية والدعوة للبحث عن وسائل تقلل من إمكانية الحكم الدكتاتوري مستقبلاَ.

     في عالم اليوم، استمر عدد الدول الموحدة يفوق عدد الدول الفدرالية ، لكن مبدأ الفدرالية أصبح أكثر أهمية حتى في الدول التي تحاشت نعت نفسها بالفدرالية. تبنى  الكثير من الفاعلين على المستوى الوطني اللامركزية في الدول الموحدة كأسلوب لتعطيل ما يعتبر أكثر المطالبات تهديدا للوحدة وهو الفدرالية. بالرغم من ذلك فإن الأثر المتراكم لزيادة قيمة الإصلاحات اللامركزية في الدول الموحدة التي تشمل تفويض الضرائب وإدخال الانتخابات على المستوى الوسطي للحكومات يمثل بدون شك مؤشراً على توجه هذه الدول نحو النظام الفدرالي. اللامركزية والفدرالية مفاهيم متمايزة لكن شعبية الأولى دفعت الكثير من الدول باتجاه الأخيرة.

     في السنوات التي تلت نهاية الحرب الباردة، تزايد قسوة النزاعات المسلحة الداخلية والحروب الأهلية عمق المصلحة في الفدرالية كاستراتيجية مؤسساتية لتسوية الخلافات الإقليمية والإثنية. فعندما يتفوق النزاع الداخلي على النزاع بين الدول ويصبح أكثر المصادر المألوفة للعنف السياسي في عالم اليوم تصبح الفدرالية خياراً مهماً بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن هندسة المؤسسات التي تستطيع توفير الأمن في بيئات ما بعد النزاع. حتى النزاعات الأخيرة بين الدول التي تشمل حروب الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان والعراق وصربيا ، أطلقت نقاشا جديا حول كيف يمكن أن تعزز الفدرالية والحكم الذاتي الاستقرار في فترة ما بعد النزاع.

     جذبت الفدرالية اهتماما فعليا أكثر كموضوع للدراسة في كل مكان. وقد أنتجت حديثا أدبا حيوياً خصوصاً في أوروبا وأمريكا اللاتينية، حيث تقف الفدرالية وانبعاث المصالح الإقليمية والهويات بشكل عام في تعارض حاد مع أنماط بناء الدولة التي طال عليها الزمن. في كلا المنطقتين تضمن توطيد الدولة في مراحل تاريخية مختلفة (أوروبا في الفترة الحديثة المبكرة وأمريكا للاتينية في القرن التاسع عشر) محاولات كبيرة وناجحة من قبل مؤسسي الدول لاستبدال الانقسامات الإقليمية بانقسامات وظيفية. على النقيض من بناء ما يسمى الدولة المركبة في الولايات المتحدة التي بحثت عن تسوية بدل قمع الانقسامات الإقليمية فإن الأهمية المتزايدة للمطالبات الإقليمية والمطالبات الجديدة بالفدرالية في أوروبا وأمريكا اللاتينية تقترح العودة إلى النمط المبكر للحياة السياسية الذي يعود تاريخه إلى ما قبل توحيد الدولة. بشكل مختلف قليلا، بينما بقيت الفدرالية مبدأ تنظيمياً مهماً في الولايات المتحدة ومن بدايتها شهدت أوروبا وأمريكا اللاتينية نسبيا ومؤخراً فقط نقاشات متجددة وجدية حول تبني المبادئ الفدرالية، كما ظهر ذلك بوضوح أكبر في بناء الإتحاد الأوروبي الفدرالي، والنضالات القاسية المتزايدة لإعادة تشكيل المؤسسات المحلية في الكثير من أجزاء أمريكا اللاتينية. 

                               المفهوم والاختيارات المختلفة

    ترد في أربعة كتب تبحث في الفدرالية  لكل من: زيبلات، ويبلس، دياز- كايروس و كيليمن تعريفات دقيقة للفدرالية رغم أنها متشابكة إلى حد ما. بالنسبة لكتاب زيبلات تتضمن الفدرالية " ثلاث ميزات دستورية مؤسساتية لا تتجزأ: (1) مشاركة رسمية أو غير رسمية للحكومات المحلية في عملية صنع القرار على مستوى الحكومات الوطنية: (2) حرية التصرف بالمالية العامة على المستوى المحلي و: (3) الإدارة الذاتية للحكومات المحلية". على العكس من هذا التعريف ذي الأجزاء الثلاثة يركز ويبلس  ودياز- كايروس على شرطيين  ضروريين وكافيين فقط. بالنسبة لويبلس يكون البلد فدراليا إذا كانت مناطقه: (1) ممثلة في مجلس تشريعي وطني و: (2) تملك مجلساً تشريعياً خاصاً بها. ويركز دياز- كايروس على شرطين مختلفين تماما: (1) يجب أن تنبثق السلطة التنفيذية للإقليم من خلال الانتخابات التي تجرى بشكل مستقل عن السلطة الوطنية و: (2) يجب أن تتمتع الأقاليم بسلطة مالية أصيلة. ونظراً لتركيزه على الفاعل غير التابع لدولة، الإتحاد الأوروبي، لا يعرف كيليمن ما الذي يجعل الدولة اتحادية ؛ ففي الواقع واحدة من النقاط الرئيسية في انطلاق دراسته تشير بأنه يجب علينا عدم "دمج مبدأ الفدرالية مع الدولة الفدرالية". بالقول بأن الفدرالية تتطلب مجرد "توزيع عمودي للسلطة بين الحكومات المركزية والحكومات المحلية"، لذا يقدم كيليمن تعريفا أقل تحديدا بالنسبة للكتاب الأربعة.

      من مقارنة التعريفات تبرز أربعة اختلافات. الاختلاف الأول يتعلق بتمثيل الحكومات المحلية في الحكومات الوطنية، هذا الشرط يظهر فقط في تعريفي زيبلات وويبلس. الثاني يعتقد زيبلات بأن الفدرالية تتطلب حكومات محلية تتمتع بسلطات مالية وإدارية، ويعتقد ودياز- كايروس بأنها تتطلب سلطات مالية وليس إدارية، بينما ويبلس لا يشترط  ضرورة السلطات المالية والإدارية. الثالث يتعلق بالانتخابات المحلية حيث أن تعريف زيبلات لم يحدد كيف تتشكل الحكومات المحلية، وهو يشترط فقط إمكانية المشاركة بالحكومة الوطنية، فيما تعاريف كلا من دياز- كايروس وويبلس تحدد الحاجة إلى آليات انتخابية على المستوى المحلي. أخيرا، رغم أن تعريف الأخيرين يشترط انتخابات محلية، لكن بالنسبة للأول تكون انتخابات السلطة التنفيذية المحلية هي الحاسمة بينما بالنسبة للأخير تكون انتخابات السلطة التشريعية المحلية هي الرئيسية. عدا هؤلاء الكتاب الأربعة، لا يزال أدب الفدرالية الجديد يؤكد على متغيرات أخرى في تعريفه للفدرالية، تشمل المجلسين التشريعيين، والقضاء، وسلطة الحكومات المركزية والحكومات المكونة للفدرالية في اتخاذ القرارات النهائية.

   إن عدم الاتفاق حول المفهوم يثير عددا من القضايا؛ أولها، إمكانية بروز صعوبة في استخدام أدب الفدرالية الجديد لتحديد بلدا معين كونه فدراليا أم لا. من المهم النظر في حالة كولومبيا، التي تحولت من النظام الفدرالي إلى النظام المركزي في نهاية القرن التاسع عشر، وبعد ذلك، عادت إلى النظام الفدرالي في نهاية القرن العشرين، في بحثها عن تسوية سياسية لصراعها المسلح المدمر.

     ربما ما هو أكثر أهمية من الاتفاق وسط الأكاديميين حول بلد معين كونه فدراليا أم لا ، هو اختلاف المفاهيم الذي يؤثر أيضا في تقييم البراهين النظرية المتعلقة بأسباب الفدرالية ونتائجها. مثلاً، التعريف المحدد تماما لزيبلات قد يحصر في الممارسة العملية اختبار نظريته العامة حول الفدرالية بالدول الأكثر تطوراً من الناحية الاقتصادية. فالإدارة المركزية المفرطة في العالم الثالث تحد بشكل كبير من الإدارة الذاتية التي يرى زيبلات بأنها مكون ضروري للفدرالية. في حين ركز دياز- كايروس على السلطة التنفيذية المحلية بدلا من السلطة التشريعية المحلية، وهذا من شأنه أن يؤثر على الطريقة التي يمكن للمرء أن يقيم فيها نظريته المالية المركزية.

    المفاهيم المختلفة مهمة أيضا لأنها تعكس عدم اتفاق حول المدى الذي تختلف فيه الأنظمة الفدرالية فيما بينها. ويمثل  فهم اختلاف الفدرالية بشكل متزايد المسألة البارزة في البحث، لكن التطابق في الاختلافات الأكثر أهمية يبقى مختلفاً عليه. مثلا بعض التعاريف المذكورة أعلاه تشير بأن المقولات التي بموجبها تُمثل الحكومات المحلية في المركز تشكل الاختلاف الأكثر أهمية.

      أخيرا، تعاريف الفدرالية هذه تملك أيضاً تطبيقات واضحة لتعريف ودراسة الأنظمة الموحدة. حيث رسمت بعض التعاريف  المذكورة أعلاه صورة مضللة وغير دقيقة للحكومات الموحدة. مثلاً يقلص تعريف كيليمن الواسع للفدرالية بشكل ثابت وضع الدول التي يمكن اعتبارها موحدة، فقط  بسبب عدم إقرار الدول لأي سلطة للحكومات المحلية في هذه الحالة يمكن عدها دولاَ موحدة. بالضبط، وبسبب موجة اللامركزية المتقدمة لم يتم التمييز بين الأنظمة الفدرالية والموحدة حيث تتمتع الآن حكومات محلية في الدول الموحدة بأشكال مهمة من السلطات. في الحقيقة، تعزز الانتخابات على المستويات البلدية والوسطى منح الموظفين المحليين استقلالاً سياسياً أساسياَ عن المركز في الدول الموحدة، كما في حالة بوليفيا وكمبوديا وشيلي والفلبين وجنوب أفريقيا.

العنوان الأصلي للدراسة:
Kent Eaton, "Federalism in Europe and Latin America: Conceptualization, Causes, and Consequences", World Politics 60 (July 2008).




119
الدكتور نصر حامد أبو زيد في ندوة حول مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر



                                                                                             د. هاشم نعمة
    في إطار ندواتها الثقافية والفكرية والسياسية استضافت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في هولندا المفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد في ندوة نظمت يوم 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 2009. وبعد الترحيب بالجمهور الكبير الذي حضر وبالمحاضر تمت الإشارة إلى أن الدكتور نصر هو أحد المفكرين العرب البارزين بحث في التراث والفكر العربي والإسلامي بعمق وبرؤية فلسفية ومنهج عقلاني متوازن، ويتمتع إنتاجه الفكري الغزير بقيمة معرفية وعلمية كبيرة، على الصعيد العربي والعالمي. عقب ذلك بدأ المحاضر حديثه حول "مشكلات الفكر الإسلامي المعاصر" حيث حلل بعمق وبمنهج علمي متوازن الجذور التاريخية والاجتماعية لهذه المشكلات لأنه لا يمكن دراسة الفكر إلا بوضعه في سياقه الاجتماعي والثقافي والتاريخي التطوري. وتطرق لأعراض هذه المشكلات حيث اتسع الخطاب ضد الآخر في الفكر الإسلامي المعاصر ليشمل الجنس والملة والدين والمذهب والرأي وتحولت المرأة إلى آخر. وهنا الحديث يجري على مستوى الخطاب وليس الفكر. قبل القرن الثالث عشر أو الرابع عشر كانت هناك رؤى مختلفة في الفكر الإسلامي منها الرؤية الفقهية وكانت كل هذه الرؤى مصدر ثراء لكن خلال أربعة قرون بعد ذلك أصبح نمط الفكر الديني المهيمن هو الخطاب الفقهي أو الرؤية الفقهية للإسلام أو ما يسمى الشريعة واختفت الرؤى الأخرى وبذلك توقف تطور الفكر الإسلامي. ولبناء نظرية تشريعية لم يكن القرآن كافيا ولا السنة النبوية تكفي حيث أن السنة لم تكن قد جمعت واحتاج جمعها 150 سنة ولذلك عد الإجماع والاجتهاد كمصادر للتشريع. والآن يجري يجاد الحلول باللجوء إلى الماضي وهذا هو ما يسمى بالقياس. ولابد من الإشارة أنه لا توجد بنية معرفية في الإسلام لا تعترف بالقرآن والسنة النبوية كنصوص مؤسسة.
      السؤال المتكرر لماذا تخلفنا وتقدم الآخرون. إن الحداثة منتج غربي جاءت محمولة بحامل استعماري. وشكلت بدورها صدمة خلقت ما يعرف بجدلية القبول والرفض. رواد الحداثة من المفكرين المسلمين مثل محمد عبدو وجدوا في بعضها أشياء مقبولة مثل شكل الدولة والديمقراطية والتقدم التكنولوجي والعقلانية كل هذا تم قبوله لكن هناك أشياء أخرى لم تقبل وبالأخص تلك التي تتعارض مع التراث.  كانت هناك تحديات قد واجهت العالم العربي والإسلامي هي تحدي العلم والعقلانية وتحدي البنية السياسية وهو الانتقال إلى شكل الدولة الحديث من دولة الإمبراطورية العثمانية. وطوال القرن التاسع عشر وإلى منتصف القرن العشرين  كانت هناك محاولات من قبل المفكرين المسلمين لتقبل النهضة ولكن في إطار التراث. وقد جرى مثلا رفض الإجماع ونقد المذاهب والدعوة لعدم التقوقع داخلها وعودة للاجتهاد حتى خارج إطار القياس نجد هذا مثلا في كتابات رشيد رضا. في مسألة فتح باب الاجتهاد  والدخول في قضايا شائكة لم يدخل فيها القدماء لا يحتاج الأمر إلى القياس ومن ثم يجب إعمال العقل فيها. وإزاء أزمة الحداثة التي لا يمكن تقبلها أو رفضها أن يجري تطوير الفكر الإسلامي طبقاً للحداثة كان هذا باختصار مشروع النهضة.
   تحليل البنية العقلية لسيد قطب يستنتج منه فكر الأقلية أي أن المسلمين أصبحوا أقلية وعليهم هجرة هذا المجتمع الجاهلي الكافر وأن يحصنوا أنفسهم ليعودوا من جديد أقوياء مثل ما هاجر النبي محمد إلى المدينة وعاد بقوة إلى مكة. التكفير والهجرة أخذت هذه الأفكار من سيد قطب وبنت عليها أفكارها. لذلك خطاب الفكر الإسلامي  انقلب من تحديث الفكر الإسلامي إلى أسلمة الحداثة أي أن مرض الحداثة يحتاج إلى مقوي إسلامي يتم عبر أسلمة الحداثة والمعرفة على اعتبار أن الحداثة واقع يجب أن نعيشه ولكن في نفس الوقت  نفكر إلى الخلف.


 

     إن المقولات الرائجة الآن في الفكر الديني تتمثل في : "لا اجتهاد فيما فيه نص" وفي هذه المقولة هناك خلط بين النص في الفقه الإسلامي وما نفهمه في نص اللغة الحديثة أي بنية لغوية كاملة. فالقرآن نص لغوي ذو بنية كاملة مقسمة إلى السور والآيات. لكن ما موجود داخل هذا النص كيف نفهمه؟ وهناك في الفكر الإسلامي مستويات لمعنى النص. مثل النص الواضح وضوحاً بيناً. والنص المحتمل الذي يمكن أن يكون مجازاً أو حقيقة وعليك أن تفرق. والمعنى المجمل حيث السنة تفصل ما أجمله القرآن. ومن المعلوم أن اللغة مليئة بالمعاني ونقيضها مليئة بتحويل الدال إلى شيء أجمل مثل القول عن الصحراء مفازة وهي مهلكة والقول عن الكفيف بصير وهي لغة مؤدبة. أذن اللغة مليئة بهذه الاحتمالات. كذلك هناك النص الغامض أي المتشابه في اللغة في مستو آخر. وبالتالي يفترض أن تستبدل المقولة المذكورة أنفا بـ "لا اجتهاد إلا في النصوص" لأن النصوص معطى لغوي والفلسفة وعلم الكلام يعلمنا ذلك. أبن رشد عمل خمسة مستويات للمعنى في القرآن. لأن أبن رشد تكلم في القرن الثاني عشر حيث المعرفة للأقلية المحظوظة والتي تختلف عن العصر الحاضر تماما حيث معرفة الانترنت. وهناك مقولة "هذا معلوم بالضرورة" وهي المعرفة التي يصل إليها البشر بدون نظر أي البديهيات. أما المستوى الأعلى من المعرفة وهي النظريات فتحتاج إلى مجهود عقلي. الضروريات يشترك فيها جميع البشر على اختلاف أديانهم. لكن ليس كل أمور الدين بديهية حيث الضروريات قليلة. أذن هناك مساحة واسعة للمعرفة النظرية. وهناك معنى ظني الدلالة وقطعي الدلالة. وقطعي الثبوت ما وصلنا من أحاديث النبي محمد المتفق عليها والمتواترة وهي قليلة جداً. ولكن هذا لا يعني أنها قطعية المعنى يمكن أن تكون ذات معنى ظني. أذن كل الحديث والسنة ظنية الثبوت. القرآن فقط قطعي الثبوت لكن فيما يخص الدلالة هذا شيء آخر. ما هو معلوم بالضرورة قليل. أما في الفكر الإسلامي المعاصر أصبح كل شيء معلوم بالدين معلوم بالضرورة وهذا يقود إلى التكفير إذا أنكرت معلومة بالضرورة. وقد أنتشر التكفير وأصبح أضحوكة. أصبحت المرجعية بالكامل لهذا النوع من الشريعة. في السابق كانت هناك بنية تشريعية شامخة لأنها كانت تستمد من الرؤى الأخرى المحيطة بها مثل الرؤى الفلسفية والصوفية واللاهوتية وعلم الكلام وكان الكثير من الفقهاء ينتمي إلى هذه الرؤى. أما البنية الفقهية الحالية نراها تتسم بالفقر الكبير. الفقيه الآن لا يعرف شيء عن علم الكلام والفلسفة ويكره التصوف والذي يعد ملعونا في السعودية. مثلا الفقهاء في السابق الغوا إقامة الحدود في  مسائل السرقة والزنا بدون أن يقولوا أنها منسوخة ولكن من الناحية العملية نسخوها. الآن تقام  لأحكام فوراً في السعودية وأحياناً في إيران وفي باكستان على الظن مثلا يشهد رجل ويقول زنيت بالمرأة الفلانية لتنفذ العقوبة ضدها حيث في الفقه الحديث أصبح الذكر هو الشاهد خلافا للفقه في عصر شموخه الذي يطلب في مثل هذه الأمور الإثبات الصعب.

 

      تحديث الفكر الإسلامي ظل خارج القرآن. هناك محاولات مشكورة في معنى القرآن وفي تعريف القرآن. لأن هذه المنطقة ظلت خارج الموضوع وكل من أقترب منها دفع الثمن. ما معنى الوحي ما معنى التاريخ ما معنى العلاقة بين الوحي والتاريخ؟ هذه الأسئلة بسبب عدم مناقشتها تجعل من السهل جداً تحويل مشروع تحديث الفكر الإسلامي إلى تكرار أسلمة الفكر. وهذا يطرح مهام كبيرة على المفكرين والمثقفين كيف يمكن طرح هذه الأسئلة والحوار حولها. هذه الأسئلة إلى أي مدى تمثل خطراً على الإيمان أم تدعم الإيمان. ليس المقصود من ذلك هدم الدين والعقيدة. ما لم يحدث مثل هذا الحوار حول هذه الأسئلة يظل خطاب الفكر الديني المعاصر يجد في الماضي كل شيء والذي أعيد تكييفه لكي يجيب عن كل مشاكل العصر.
    بعد ذلك طرحت مجموعة مهمة من الأسئلة والمداخلات من قبل الحضور الذي تفاعل مع موضوع المحاضرة وساهمت هذه في تعميق الحوار وقد أجاب عنها الدكتور نصر حامد أبو زيد برحابة صدر.



120
نداء من أجل نقض المادة الأولى والثالثة من قانون الانتخابات
يسلم للسيد السفير العراقي في هولندا

                 
    التقى وفد يمثل المنظمات والجمعيات والنوادي العراقية العاملة في هولندا السيد سيامند بنا سفير جمهورية العراق في هولندا في مقر السفارة يوم 18 تشرين الثاني 2009 وجرى تسليمه نداءاً موجهاً للسيد رئيس الجمهورية ونوابه المحترمين يدعوهم لممارسة مسؤولياتهم الدستورية بنقض المادة الأولى والثالثة من قانون الانتخابات المعدل لما تمثلانه من إجحاف صريح بحق المهجرين والمهاجرين من أبناء شعبنا وتصادر الملايين من أصوات الناخبين العراقيين للقوائم الكبيرة الفائزة. وقد شكر الوفد السيد السفير على حفاوة الاستقبال ودعمه لمطالبات الجالية العراقية في هولندا.
           
  السيد جلال الطالباني رئيس جمهورية العراق المحترم
السيد عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية المحترم
السيد طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية المحترم
بواسطة السيد سيامند بنا سفير جمهورية العراق في هولندا المحترم
تحية طيبة
     حرصاً على قواعد العدل والإنصاف ومنعا لانزلاق بلدنا نحو ممارسات تخل بالقواعد الدستورية الناشئة وتقلص مساحة الديمقراطية وتخلق الأرض الخصبة للتوتر السياسي والاجتماعي نهيب بكم ممارسة مسؤولياتكم الدستورية في نقض تعديلات قانون الانتخابات وبالأخص المادة الأولى والثالثة لأن هذه التعديلات تمثل تراجعاً خطيرا عن مسيرة الديمقراطية الوليدة في بلادنا نتيجة خفض نسبة المقاعد التعويضية وبالتالي تؤسس لمصادرة حق قطاع واسع من الشعب العراقي بممارسة حقه الطبيعي في الانتخاب واختيار ممثليه الحقيقيين  في مجلس النواب سواء تعلق الأمر بالمهجرين في الداخل أو المهاجرين في الخارج وتصادر إرادة ملايين العراقيين بإضافة أصواتهم للكتل الكبيرة الفائزة وتلغي عملياً كل حق للقوائم التي تحرز القاسم الانتخابي الوطني من الوصول إلى  المجلس وهذا يقود بالنتيجة إلى تأسيس الاحتكار السياسي بأطر قانونية وإلغاء الآخر وتقليل التنوع في مجلس النواب.
    أملنا كبيرا في أن تتجاوبوا مع رغبة ملايين العراقيين في هذا المنعطف الحاسم من مسيرة بناء المؤسسات الديمقراطية.
مع خالص التقدير والاحترام
المنظمات والجمعيات والنوادي العراقية الموقعة على النداء:
1-   المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا
2-   إتحاد الجمعيات الديمقراطية العراقية (البلاتفورم) في هولندا
3-   رابطة المرأة العراقية فرع هولندا
4-   جمعية النساء العراقيات في هولندا
5-   النادي الثقافي المندائي في لاهاي- هولندا
6-   إتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي- فرع هولندا
7-   البرلمان الثقافي في المهجر
8-   لجنة الأكاديميين العراقيين في المهجر
9-   جمعية البيت العراقي في لاهاي- هولندا
10-   مؤسسة أورورو الثقافية في هولندا.
11-   جمعية النساء العراقيات- عشتار في لايدن- هولندا
12-   ملتقى الأنصار البيشمركة في هولندا
13-   التجمع الثقافي والاجتماعي العراقي في دلفت وضواحيها- هولندا
14-   النادي العراقي في ارنم- هولندا





121
نداء إلى مجلس الرئاسة من أجل نقض المادة الأولى والثالثة
                            من قانون الانتخابات
السيد رئيس جمهورية العراق المحترم
السادة نواب رئيس جمهورية العراق المحترمون
تحية طيبة
    حرصاً على قواعد العدل والإنصاف ومنعا لانزلاق بلدنا نحو ممارسات تخل بالقواعد الدستورية الناشئة وتقلص مساحة الديمقراطية وتخلق الأرض الخصبة للتوتر السياسي والاجتماعي نهيب بكم ممارسة مسؤولياتكم الدستورية في نقض تعديلات قانون الانتخابات وبالأخص المادة الأولى والثالثة لأن هذه التعديلات تمثل تراجعاً خطيرا عن مسيرة الديمقراطية الوليدة في بلادنا نتيجة خفض نسبة المقاعد التعويضية وبالتالي تؤسس لمصادرة حق قطاع واسع من الشعب العراقي بممارسة حقه الطبيعي في الانتخاب واختيار ممثليه الحقيقيين  في مجلس النواب سواء تعلق الأمر بالمهجرين في الداخل أو المهاجرين في الخارج وتصادر إرادة ملايين العراقيين بإضافة أصواتهم للكتل الكبيرة الفائزة وتلغي عملياً كل حق للقوائم التي تحرز القاسم الانتخابي الوطني من الوصول إلى  المجلس وهذا يقود بالنتيجة إلى تأسيس الاحتكار السياسي بأطر قانونية وإلغاء الآخر وتقليل التنوع في مجلس النواب.
   أملنا كبيرا في أن تتجاوبوا مع رغبة ملايين العراقيين في هذا المنعطف الحاسم من مسيرة بناء المؤسسات الديمقراطية.
مع خالص التقدير والاحترام
المنظمات والجمعيات والنوادي العراقية الموقعة على النداء:
1-   المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا
2-   إتحاد الجمعيات الديمقراطية العراقية (البلاتفورم) في هولندا
3-   رابطة المرأة العراقية فرع هولندا
4-   جمعية النساء العراقيات في هولندا
5-   النادي الثقافي المندائي في لاهاي- هولندا
6-   إتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي- فرع هولندا
7-   البرلمان الثقافي في المهجر
8-   لجنة الأكاديميين العراقيين في المهجر
9-   جمعية البيت العراقي في لاهاي- هولندا
10-   مؤسسة أورورو الثقافية في هولندا.
11-   جمعية النساء العراقيات- عشتار في لايدن- هولندا
12-   ملتقى الأنصار البيشمركة في هولندا
13-   التجمع الثقافي والاجتماعي العراقي في دلفت وضواحيها- هولندا
14-   النادي العراقي في ارنم- هولندا


122
مشكلة التصحر وأبعادها البيئية والاقتصادية والاجتماعية في العراق (4)


د. هاشم نعمة

مكافحة التصحر

    رغم إدراك خطورة التصحر، إلا أن وسائل مكافحته لم ترق بعد إلى مستوى التهديد الذي يمثله على شتى الأصعدة البيئية والإقتصادية والإجتماعية والحضارية والسياسية والأمنية. لذا بات من الضروري إعطائه مكان الصدارة في خطط التنمية. وتتطلب مكافحته وضع خطط تتضمن أهدافا مباشرة تتمثل في وقف تقدمه واستصلاح الأراضي المتصحرة واخرى تشمل إحياء خصوبة التربة وصيانتها في المناطق المعرضة للتصحر. ويتطلب الأمر تقويم ومراجعة الخطط باستمرار، لتلافي ما هو غير صالح ونظرة بعيدة المدى وإدارة رشيدة لموارد البيئة على جميع المستويات، وتعاون إقليمي ودولي مع الأخذ في الاعتبار عدم وجود حلول سريعة لهذه المشكلة. وتزداد أهمية ذلك إذا ما عرفنا أن 33,4% من سكان العراق عام 2007 مازالوا يعيشون في الريف، حسب تقدير الجهاز المركزي للإحصاء، ويعتمدون بشكل مباشر أو غير مباشر على الزراعة.

    وبما أن الإنسان هو المسؤول الأول عن التصحر فإن عمله يمكن أن يوقف التصحر. وإيقافه يتطلب أساساً استعادة التوازن بين الإنسان والأرض – بين حجم السكان والموارد المتوفرة والبيئة وذلك من خلال استعمال أفضل للموارد والذي يمكن أن يساعد في تخفيف الضغط ويستعيد التوازن ( ) إذ أن نمو السكان يمثل العامل الرئيسي في معادلة السكان- الموارد- التنمية- البيئة. ويجب أن يؤخذ في الاعتبار هذا العامل عند التخطيط البعيد المدى للتنمية والسيطرة على التصحر ونواحِ ٍ أخرى من صيانة البيئة. إن أي جهود واقعية لإيقاف التصحر يفترض أن تأخذ بطريقة مندمجة مشاكل التنمية وتوفير الحاجيات الأساسية للسكان( ) إذ تم التسليم منذ فترة طويلة بأن الفقر هو أحد الأخطار الرئيسية التي تهدد البيئة. لذا فالشعار الذي يجب أن نرفعه هو "تنمية بلا تدمير للبيئة".

    يًعد المسح البيئي المقدمة الضرورية لأي خطط تستهدف مكافحة التصحر. وبما أن التصحر يعاني من نقص في المعلومات الموثوقة رغم توفر أدلة على المستوى المحلي عن انتشاره، فهناك نقص في المعطيات حول امتداد هذا التدهور ومعدل التغير على المستوى الوطني. وبدون ذلك من الصعب تبرير صرف أموال كثيرة على مكافحة التصحر. ومن أجل تحسن فهمنا يتطلب الأمر مراقبة أفضل وبحوث مفصلة أكثر لتخصصات متعددة لمعرفة العمليات الإجتماعية والبيئية التي يتكون منها التصحر، ودعم أقوى لهذا التوجه من المجتمع العلمي ( )، والذي يساهم في هذا الاتجاه تطوير محطات الإرصاد الجوية باستخدام الأجهزة والمعدات المتطورة، والإستفادة من خدمات الأقمار الإصطناعية لمراقبة التصحر والتي بدأت بعض الدول العربية بالإستفادة منها.
    أصبحت صيانة وحماية وتنمية الغابات أسلوبا مهماَ لمكافحة التصحر. وإذا أردنا أن تبقى الغابات محافظة على إنتاجيتها وعلى ميزاتها البيئية، فيجب أن تبقى محافظة على توازنها الحيوي المسؤول عن خصوبة التربة. لذا يتحتم اتخاذ التدابير اللازمة لمنع تدهور التربة، من خلال تعدد الأنواع النباتية في الغابة وعدم ممارسة قطع الأشجار بصورة عشوائية، التي يمكن أن تؤدي إلى تعرية التربة ( ) وزراعة الأشجار بالقرب من مناطق الاستقرار، و حول الأبار والحظائر وطرق الماشية. وهي أكثر المناطق تعرضاَ للتدمير ومن ثم التصحر، وسن القوانين التي تمنع قطع الأشجار إضافة إلى توعية المواطنين بذلك.

    ويحتاج الأمر برنامجا متكاملا لتنمية وتطوير الغطاء النباتي، وزراعة الأشجار وتشييد الواحات والمزارع في الصحراء الغربية والبادية الجنوبية والأراضي الجرداء شرق العراق، وفي المناطق الجبلية والأراضي المتموجة مستفيدين من المياه الجوفية المتجددة، وتجميع المياه عبر السدود والخزانات الصغيرة المشيدة على مجرى السيول ومن مياه البزل والمياه العادمة ( ) بعد معالجتها.
     ومن أجل ضبط الزراعة الديمية يتطلب الحد من توسعها تجاه الأراضي الأقل ملائمة من ناحية كمية الأمطار. إذ أن هذا التوسع يؤدي إلى تدهور التربة والنظام البيئي. ويمكن معالجة ذلك من خلال تحسين الأساليب الزراعية واستخدام ما يناسب المناطق الجافة وشبه الجافة منها، إذ أن كثيرا ما يؤدي استخدام المحراث الآلي إلى تفتيت التربة وتذريتها والمساهمة في تصحرها( ). وممارسة نظام الدورة الزراعية الذي يُعدُ من الوسائل الفعالة في صيانة التربة ومكافحة انجرافها. واستخدام الأسمدة إذ لايزال الفلاح يستخدمها بكميات قليلة. والعمل على رفع وعي الفلاح من خلال تكثيف الترشيد الزراعي، وممارسة نظام الزراعة المختلطة والقيام بحجز أكبر كمية من الأمطار للإستفادة منها في الزراعة من جهة، ولتقليل نشاط التعرية من جهة أخرى. وإقامة مشاريع الري الملائمة لتخفيف الضغط على أراضي الزراعة الديمية. وضرورة تطوير معلومات توقع حدوث الجفاف، واستعمال أنواع من المحاصيل تقاوم الجفاف، ووسائل تعمل على تراكم الرطوبة في التربة، وتشجيع زراعة المدرجات بالإضافة إلى محاصيل خاصة بالدورة الزراعية.

     إن أولى الخطوات الواجب اتخاذها لضبط الاستخدام الرعوي، هو تحديد قدرة المراعي على إعالة إعداد معينة من الحيوانات لتلافي تعريضها للتدمير. ويمكن الاستعانة بالأرقام الحرجة التي حددتها الأمم المتحدة وهي وحدة حيوانية لكل هكتار في المناطق شبه الجافة، ووحدة حيوانية لكل خمسة هكتارات في المناطق الجافة، كحدود قصوى يجب عدم تجاوزها، وبخلاف ذلك يجب تقليل عدد الحيوانات والتعويض عن هذا بزيادة إنتاجيتها( ).
     وبما أن الأمطار في العراق تتسم بقلتها وتذبذبها فإن الأمر يتطلب إتباع نظام الدورة الرعوية التي تتيح التجديد الطبيعي للمراعي، وإنشاء مناطق محمية يمنع الرعي فيها في فترات معينة، والقيام بالبذر الاصطناعي والتشجير في حالة المراعي المتدهورة بشكل ملحوظ. ويرى الجغرافي بيتر هاغيت: أن إراحة أراضي الأعشاب والرعي الدوري وإضافة السماد إلى دورة المواد المغذية، تعد طرق للتعامل مع مشكلة الضغط الرعوي. إذ أن الأراضي التي تبدو وكأنها قد تصحرت، سرعان ما تسترد غطاءها النباتي عند إخضاع الرعي إلى برامج رعوية مقننة. وتكمن المشكلة في مدى توفير حماية جيدة في المناطق، التي يتزايد فيها السكان والمفتوحة للرعي دون تنظيم ( ) كذلك الاحتفاظ  بمخزون من العلف للسنوات الجافة، ومراعاة أن تكون مصادر المياه على مسافة متباعدة، تتراوح بين 6-8 كم تفادياَ لإجهاد المراعي التي تقع حولها.
     إن مكافحة سوء استخدام المياه تقتضي الحرص الشديد في استخدامها، من خلال إتباع وسائل ري وصرف اكثر فعالية مثل الري بالتنقيط الذي ثبتت فعاليته بالأخص في مزارع الزبير، حيث وصلت نسبة المزارع المستخدمة لهذه الطريقة حوالي 98% من مجموع مزارع القضاء للموسم 2004-2005( ). هذه الطريقة توفر بين 30- 50% من المياه في الزراعة المكشوفة، ويمكن أن ترتفع إلى 70% في الزراعة المغطاة. كذلك يمكن التوسع في أسلوب الري بالرش، الذي يقلل من المياه المستخدمة والعمل على تقنين المياه المستخدمة في المناطق المروية، وفق حاجة المحصول وطبيعة تركيب التربة، حتى لا يؤدي الإفراط في استخدامها إلى تملح التربة وتغدقها( ). لذلك كرست توصيات مؤتمر نيروبي اهتماماَ خاصاَ للإجراءات، التي يجب اتخاذها  لمقاومة التملح الثانوي للتربة وذلك بالإعتماد على معايير ملائمة للري وأنماط فعالة للصرف. وبما أن المياه الجوفية في كثير من مناطق العراق تتسم بملوحة عالية فيتطلب الإهتمام بزراعة المحاصيل التي تتحمل الملوحة والعمل على استنباط أنواع جديدة منها، كذلك تبطين قنوات الري والتوسع في الري المغطى لتقليل الفاقد، والاهتمام بالري الليلي خصوصا في الصيف والعمل على تقليل التبخر من خزانات المياه السطحية، وتغطية السواقي، للحفاظ على الماء من التبخر والتلوث وهذا يؤدي إلى كسب أراضٍ جديدة.
 
      وبما أن التعرية تعمل على إفقار التربة من موادها المغذية، لذلك تستخدم بعض الطرق لحفظ التربة من الانجراف، منها استعمال مزيج من الأعشاب والأوراق النباتية والأغصان وترك فضلات المحاصيل الزراعية منشورة فوق التربة، خاصة في أوقات الأمطار حيث تساهم المواد العضوية بأكبر نسبة في تماسك التربة. كذلك يجب الابتعاد عن الحراثة العميقة لأنها تؤثر في تماسك التربة( ).
    وأخيرا يعد تثبيت الرمال من الوسائل المهمة لمكافحة التصحر. وهناك مشروع جرى العمل به في (الفجر) لتثبيت رمال المصب العام. وتوجد قرب مدينة بيجي  محطة تجريبية لصيانة التربة. ومن الوسائل الأخرى إقامة سدود عند حدود الصحراء بارتفاع 15- 20 م على شكل مربعات 1×1 كم. وهذه السدود إضافة إلى الكثبان الرملية التي توجد حولها تثبت بطريقة ميكانيكية بواسطة طبقة من النشارة أو التبن تفرش على الأرض مع القار. هذه العملية تسبق زراعة نطاقات من الأشجار المقاومة للجفاف مثل الأكاسيا  واليوكالبتوس وغيرها( ). لكن يبدو أن هذه المشاريع وغيرها قد تضررت أو توقفت نتيجة الأوضاع غير المستقرة التي مر بها العراق، لذلك يبقى مطلوبا تفعيل وتوسيع مشاريع تثبيت الرمال بالنظر لفوائدها البيئية والاقتصادية والصحية الكبيرة.



123
مشكلة التصحر وأبعادها البيئية والاقتصادية والاجتماعية في العراق (3)

  د. هاشم نعمة

                                       نتائج التصحر
    سنحلل أبرز النتائج البيئية والاقتصادية والاجتماعية للتصحر. بالنسبة للأولى فإن استخدام الإنسان للموارد الطبيعية هو استهلاك لها ومن ثم فإن نوعية الاستخدام وكثافته، إما أن تؤدي إلى تدهور البيئة أو تحافظ على توازنها. ويتمثل ذلك في تدهور الحياة النباتية والحيوانية وتدهور التربة والمراعي وتقلص الأراضي الزراعية أو التي يمكن استصلاحها، ونقص في المياه وتدهور نوعيتها وبالأخص ارتفاع نسبة ملوحتها ( ). كل ذلك يعود إلى الاستخدام غير السليم والجائر لهذه الموارد. وينتج عن الأراضي المتصحرة أو التي في طور التصحر انخفاض في إنتاجية الأنظمة البيئية أو الزراعية سواء كانت مراعي طبيعية أو غابات أو أراض مزروعة. وفي النهاية يمكن أن يكون تدهور البيئة عاملا رئيسيا في تغير المناخ.

    وتعد الكثبان الرملية من أخطر نتائج التصحر بسبب تأثيراتها السلبية على كل الجوانب الحيوية للحياة. فالعواصف الترابية والرملية تكون ملمحا مضرا ويكون التجلي الرئيس لها هو انتشار الكثبان الرملية غالبا في المناطق الوسطى والجنوبية وتحركها بالرياح. هذه العواصف تلوث البيئة وتؤثر في صحة الإنسان والإنتاج الزراعي. وتخرب العمليات الفسيولوجية للنباتات خصوصا التلقيح والإزهار. وتهب العواصف الرملية من حقول الرمال في المناطق الوسطى والجنوبية. وقد ازدادت خلال السنوات الأخيرة وأصبحت المشاكل أسوأ منذ فرض العقوبات الاقتصادية عام 1990. إن سوء إدارة التربة والمياه والعوامل المناخية القاسية غيرت بشكل واسع الأراضي الزراعية للسهل الرسوبي إلى تربة قاحلة وغدقة بالمياه مغطاة بالرمال الناتجة عن التعرية الهوائية والكثبان الرملية ( ). حيث تراوح الحد الأعلى لكمية الغبار المتساقط عام 2006 بين 9 في الأنبار و168 (غم/م²/شهر) في البصرة وتراوح الحد الأدنى بين 1,2 في صلاح الدين و60 (غم/م²/شهر) في ميسان ( ).

    يمكن القول أن أغلب العواصف الترابية مصدرها أرض العراق والمتمثلة في أراضي الهضاب الغربية والجزيرة والأراضي المتروكة في السهل الرسوبي أي أن 80% من مساحة العراق الواقعة جنوب خط العرض 35 درجة شمالاً تشكل مصدرا لغبار العواصف الترابية في حين أن قسما من الغبار مصدره بادية الشام وشبه الجزيرة العربية وشبه جزيرة سيناء.( )

     بالنسبة لتوزيع الكثبان الرملية على مستوى المحافظات توجد في بابل كثبان محاذية للمصب العام. وفي صلاح الدين شمال وجنوب بيجي ، تكريت- كركوك. وفي القادسية توجد كثبان صغيرة متحركة حسب سرعة الرياح وفي منطقة البدير- نفر- عفك، وفي ديالى كثبان عالية نسبيا وفي المقدادية تكون على شكل طولي أو هلالي أو مروحي، وفي الأنبار تنجرف التربة بالرياح لقلة الغطاء النباتي والجفاف وتكون الكثبان الرملية في عموم الصحراء الغربية تتحرك وتؤثر على الطريق السريع إلى الأردن وسوريا، وفي ذي قار توجد رمال متحركة في المنطقة المحصورة بين المصب العام وحدود الديوانية وناحية البدير. وفي البصرة تكون البادية الجنوبية أراضٍ رملية يتم فيها حفر الآبار. وفي واسط توجد الرمال في النعمانية بمساحة 91 كم² والموفقية- شيخ 13 كم². وفي نينوى الشركة 4 كم، البريت 3 كم والناصرية ، حيث تزحف الكثبان إلى هذه المناطق وتصل الشارع المؤدي إلى قضاء الحضر والمطار بطول 45 كم. وفي كربلاء تقع الكثبان ضمن خط عرض 32 درجة من الجهة الشمالية الغربية والجنوبية الغربية. وفي المثنى تبلغ مساحة الكثبان 65000 دونم في ناحية الوركاء، و25000 دونم في ناحية النجمي و12000 دونم في ناحية بصية وهناك كثبان ثابتة بمساحة 1000 دونم في ناحية الهلال.( )                                 
    أما النتائج الإقتصادية فتتمثل بما حددته الأمم المتحدة في مسحها لحالة البيئة في العالم للفترة 1972-1992 حيث ورد : يؤثر تدهور الأرض وتصحرها في قدرة البلدان على إنتاج الأغذية، وينطوي بالتالي على تخفيض الإمكانيات الإقليمية والعالمية لإنتاج الأغذية، كما أنهما يسببان أيضا في إحداث العجز الغذائي في المناطق المهددة، مع ما لذلك من آثار على الاحتياطات الغذائية وتجارة الأغذية في العالم. ونظرا لأن التصحر ينطوي على تدمير للحياة النباتية ونقصان مجموعات نباتية وحيوانية كثيرة، فهو أحد الأسباب الرئيسية لخسارة التنوع البايولوجي في المناطق القاحلة وشبه القاحلة مما يقلل من فرص إنتاج الأغذية ( ). وهذه الاستنتاجات تنطبق على العراق.
 
     تعد الأراضي الزراعية التي تفقد سنوياَ، نتيجة التملح وانجراف وتدهور التربة، كبيرة إذا ما قورنت بالمساحة الإجمالية للأراضي المزروعة. حيث تبلغ مساحة الأراضي الزراعية في العراق 42 مليون دونم إلا أن المتاح منها للزراعة بحدود 14 مليونا منها 6 مليون في المنطقة الديمية والتي يتذبذب إنتاجها حسب كمية الأمطار. لذلك يساهم الإنتاج الزراعي في تحقيق الأمن الغذائي بنسبة لا تزيد عن 30% كمعدل للسلع الزراعية المختلفة ( ) وهذا يعد من أكبر المؤشرات على عجز الأمن الغذائي، وبالتالي أعتماد العراق المتزايد على الأستيراد وما يتركه من أثارا سلبية على البنية الاقتصادية.

     ونتيجة استفحال التصحر في القسم الشرقي من البصرة بسبب تردي نوعية مياه الري والتربة، وإلى الظروف الصعبة التي تعرضت لها خلال العمليات العسكرية في 1980-1988 وفي عامي 1991 و2003، فقد كان ذلك سببا رئيسيا في توسع زراعة الخضر في منطقة الزبير اعتمادا على المياه الجوفية، لذلك انفردت المنطقة بأكثر من تسعة أعشار المساحة المزروعة والإنتاج لأغلب محاصيل الخضروات خصوصاً الطماطم في المحافظة( )، رغم الظروف الصحراوية القاسية وتراجع الدعم الحكومي بعد عام 2003.

     إجمالا فإن التصحر يعد أحد العوامل الرئيسية التي تعيق التنمية الإجتماعية والإقتصادية، ويزيد بدوره من المشاكل الإقتصادية وهذه تعمل بدورها على تفاقم التدهور البيئي وهكذا نواجه حلقة مفرغة. إذ أن حالة البيئة لا يمكن فصلها عن حالة الإقتصاد. ومن هنا يتبين لنا أن التخلف الإقتصادي والتدهور البيئي يعزز كل منهما الآخر لتكريس التخلف.

     بالنسبة للنتائج الإجتماعية فإن تسارع تصحر الأرض وانخفاض إنتاجيتها، لابد وأن تكون له تأثيرات اجتماعية بالغة، ويتمثل هذا بوضوح في تزايد هجرة سكان الريف والرعاة نحو المدن طلبا للعمل ولحياة أفضل. ويشتد تيار الهجرة في سنوات الجفاف، وينتج عن الهجرة ضغوط متزايدة على إمكانيات المدن المحدودة،  وتساهم كذلك في زيادة معدل نمو سكانها أسرع من الريف. إن معدلات النمو العالية هذه تشكل عبئا على الخدمات الإجتماعية المكلفة وعلى حساب الهياكل الإرتكازية المنتجة. ويولد ضغط الهجرة الكثير من المشاكل الإجتماعية في المدن مثل: انخفاض المستوى المعاشي، البطالة، قلة الخدمات الصحية والتعليمية، قلة السكن،التوترات والنزاعات الإجتماعية،الإخلال بالأمن…الخ. ومن المعرف أن الكثير من المهاجرين يسكنون الأحياء الفقيرة ومدن الأكواخ على أطراف المدن الكبيرة " مكونين مجتمعات بائسة معرضة للأمراض والكوارث الطبيعية "( ). ثم إن إفراغ الريف من سكانه يساهم في تفاقم التصحر. ففي العراق ترافق تدهور الزراعة مع تسارع الهجرة الريفية- الحضرية التي نتج عنها استنزاف ثابت للقوى العاملة الزراعية، فخلال (1970-1975) انخفضت هذه بنسبة 10% ( ).


124
مشكلة التصحر وأبعادها البيئية والاقتصادية والاجتماعية في العراق (2)

  د. هاشم نعمة

    أسباب التصحر

     بما أن التصحر مشكلة بيئية واقتصادية واجتماعية معقدة ومتداخلة؛ اذن تتداخل وتتشابك جملة من العوامل الطبيعية والبشرية لتصنعه. بالنسبة للعوامل الأولى نجد تكرر حالات الجفاف في العراق في العقود الخيرة، فمثلا انخفضت كميات الأمطار بنسبة %30 عن المتوسط كما هبط منسوب المياه في الأنهار الرئيسية بأكثر من% 50  عام 1999 . ونجم عن ذلك تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية المعتمد على الأمطار بنسبة  %70 ومن خسائر في إنتاج القمح والشعير بنسبة 37 و %63 في المنطقتين الوسطى والجنوبية على التوالي.( ) وتزداد المشكلة تعقيدا إذا ما عرفنا أن المناخ الصحراوي يسود في 70% من الأراضي وبالأخص في السهل الرسوبي والهضبة الغربية حيث تتراوح الأمطار السنوية ما بين 50-200 ملم.

     يعدُ التملح العامل الرئيسي للتصحر والذي بلغ درجة خطيرة جدا. وفي الحقيقة إن انتشار الأملاح في سهل ما بين النهرين، وجد بعد زراعته خلال أجيال متعاقبة، حيث تشير المصادر التاريخية إلى أن تاريخ ري الأراضي الزراعية في هذا السهل، يرجع إلى أكثر من ستة آلاف سنة. ومن هنا جاء الرأي القائل، إن انتقال مراكز الحضارات القديمة من الجنوب إلى الوسط والشمال كان سببه انتشار الأملاح في التربة وتراجع إنتاجها.( ) ويتضح أن انتشار الأملاح يعود للعوامل الجيمورفولوجية، والهيدرولوجية والمناخية وخواص المياه والتربة وإلى العامل البشري المتمثل بعدم استخدام طرق ري ملائمة وهذا يعني غياب التقنيات المائية والطرق العلمية المتبعة في الزراعة( )، رغم كثرة الحديث طيلة سنوات عن الإهتمام بالزراعة.

    إجمالا نتجت مشكلة الملوحة عن عوامل عديدة بعضها يتعلق بالبيئة الطبيعية، والآخر بعمل الإنسان وتتداخل هذه العوامل في درجة تأثيرها في انتشار الملوحة، التي تتباين مستوياتها من مكان لآخر فتزداد كلما اتجهنا من الشمال إلى الجنوب ومن الجهات المرتفعة إلى المنخفضة. وللعوامل الطبيعية دورها البارز، حيث يأتي المناخ في مقدمتها إذ تؤدي زيادة كمية الإشعاع الشمسي وارتفاع الحرارة وقلة الغيوم والرطوبة النسبية وسيادة الرياح الشمالية والشمالية الغربية إلى زيادة شدة التبخر، وبالتالي زيادة نسبة الأملاح. ويتزامن ذلك مع الإفراط  في عمليات الري خاصة وأن المياه المستخدمة تحتوي بدورها على نسب مختلفة من الأملاح، التي تختلف كميتها من مكان لآخر ومن موسم لآخر. كما لطبيعة التربة أثر واضح في ظهور المشكلة وتفاقمها مع ما يرافقها من اتباع أنظمة زراعية خاطئة.( )

     تحتوي تربة العراق على مكونات ملحية عالية، إذ يقدر أن 61% من الأراضي الزراعية مهددة بالتملح حيث يبلغ معدله 8% وهذا يعني أن كل الترب ستتملح بعد 12 سنة، إذا لم يستخدم نظام التصريف الملائم. عندما يرتفع مستوى المياه في موسم الفيضان أو الري ترتفع الأملاح إلى أعلى التربة، لذلك يصبح البزل مهما جدا. وبما أن الأرض منبسطة جدا؛ بغداد مثلا رغم بعدها 550 كم عن الخليج العربي، فهي ترتفع فقط 34 م عن مستوى سطح البحر وهذا يساهم في صعوبة التصريف. وقد أصبح تملح الأراضي الزراعية مشكلة خطيرة نتيجة الإستعمال غير الرشيد للمياه، إضافة إلى فقر قنوات الري والبزل. حيث أدى هذا إلى ارتفاع المياه الجوفية وتراكم الأملاح في التربة. لذلك فإن الأراضي السهلية المشهورة بخصوبتها، تحولت إلى أراض متملحة. وتراجعت اٌلإنتاجية في اراضٍ واسعة إلى الصفر تقريبا. ويقدر بأن حوالي 100 ألف دونم (250,000 ألف متر مربع) تعاني من التملح سنوياً( )، في حين نجد نسبة التصحر في الأراضي المروية في العراق 71% بينما في تركيا ولبنان وسوريا 13%، 7%، 17%، على
 التوالي.( )

    هناك كميات كبيرة من مياه البزل المالحة الناتجة عن غسل التربة والمياه الضائعة في الحقول تبلغ 23 مليار م مكعب/سنةن وتشكل 54% من مياه الري السنوية و38% من المياه المتاحة للبلد البالغة 61 مليار م مكعب/ سنة. ويصرف معظمها إلى الأنهار والأهوار والمنخفضات، نتيجة لقة كفاءة شبكة الصرف (الحقلية، المجمعة والفرعية) وإهمال تنفيذ الشبكة الرئيسية، مما أدى إلى تلوث الأنهار والأهوار بالملوحة وتدني كفاءتها وانخفاض خصوبة التربة، خاصة وسط وجنوب البلاد، إذ ارتفعت ملوحة نهر دجلة في الموصل وبغداد والعمارة والقرنة وفي شط العرب عند المعقل بنسب 9% و24% و207% و184% و183% على التوالي خلال 1967- 1991 وبين 13- 26% خلال 1993- 2002( ). ومن العوامل الأخرى: إقامة السدود والخزانات على نهري دجلة والفرات في العراق وتركيا وسوريا التي تؤثر على كمية ونوعية الأملاح . وتقدم مياه الخليج العربي المالحة في شط العرب نتيجة قلة مياهه وصرف مياه المعامل ومشاريع التصنيع العسكري إلى الأنهار دون معالجتها كيمياويا لضعف الرقابة وإهمالها إن وجدت وقلة معالجة  مجاري المدن التي تصرف إلى الأنهار.
       
     وإذا فحصنا التملح في المحافظات، نجد في بابل 743776 دونماً أصيب بالتملح بسبب المياه الجوفية وسوء الإدارة. وفي صلاح الدين ينتشر التملح في جميع المناطق الزراعية، وفي القادسية يوجد تملح متوسط الشدة في منطقة سومر- الشنافية- البدير بسبب عدم كفاءة نظام البزل، وفي ديالى يوجد في مناطق متفرقة، وفي الأنبار في صقلاوية – رمادي 12500 دونم وفي الخور- راوة 625 دونماً، وفي ذي قار جميع الأراضي المروية من دجلة والفرات ومنطقة الطار متملحة جدا، وفي البصرة ينتشر التملح بسبب ملوحة مياه السقي وخاصة في المْدَينة والقرنة وشط العرب والفاو، وفي واسط 75% من مساحة المحافظة مصابة بالتملح بسبب ارتفاع المياه الجوفية واحتوائها على كلوريد الصوديوم، وفي نينوى في الشيخ شيخان والإدارات، وفي كربلاء في عموم المحافظة وخاصة في فريحة والخيرات وطريق الإبراهيمية وتقدر الأراضي المتملحة بـ 25% من مساحة المحافظة، وفي المثنى 1360325 دونم مصابة بالتملح وتشكل 6,5% من مساحة المحافظة، لعدم وجود مشاريع الاستصلاح ونظام كفؤ للبزل وارتفاع المياه الجوفية، وفي بغداد 29500 دونم أراضي متملحة في مناطق مختلفة( ) ومن هذا يتبين لنا الانتشار الواسع والخطير لمشكلة التملح في أفضل الأراضي الزراعية.

    ومن عوامل التصحر الأخرى تراجع الغابات التي تغطي 1,8% من المساحة الكلية. وطبقا لمنظمة الفاو فإنها تحتل 789,000 هكتارا وزراعة الغابات 10,000 هكتار. وهي تغطي المناطق الجبلية في الشمال والشمال الشرقي (كردستان). وكانت تغطي 1,851 مليون هكتار عام 1970  لكنها تراجعت إلى 1,5 مليون هكتارعام 1978 ( ). وتراجعت النسبة الأولى إلى 1,1% وتبلغ المساحة المزالة سنويا 12 كم² والمعدل السنوي للازالة 0,2% في الفترة 1990-2005 ( ). نرى الآن غابات منفردة لأشجار البلوط  في الأراضي الأكثر بعدا. وقد نتج تدهور الغابات من القطع الواسع والضغط الرعوي والحرق والعمليات العسكرية. وهذا يؤدي إلى زيادة التعرية المائية ويسبب اختفاء الطبقة الخصبة من التربة، ويؤثر سلبا على طاقة خزن السدود وكفاءة الري ويزيد من التكاليف.( ) كذلك تراجعت أعداد النخيل من حوالي 30 مليوناً إلى حوالي 9,5 مليون بسبب الحروب وبالأخص الحرب العراقية –الإيرانية وقلة المياه وملوحتها والأمراض الزراعية والإهمال. لذا بات تدهور الغابات والنباتات الأخرى عاملا مهما في تدهور البيئة وتوجهها نحو الجفاف.

     ويساهم تدهور المراعي التي تشكل 70-75% من مساحة البلد في التصحر وينتج من: الضغط الرعوي، قطع واجتثاث نباتات العلف لأغراض الوقود، زراعة أراضي المراعي التي تقل الأمطار فيها عن 200 ملم في السنة، عدم تنظيم توزيع المياه الذي يؤدي إلى تركز الماشية في الأراضي التي تتوفر على الماء مع ما تتركه من تأثيرات سلبية على الغطاء النباتي ( ). لذلك تدهورت المراعي في السنوات الأخيرة مما أدى إلى تدهور القيمة الرعوية لها.


125
مشكلة التصحر وأبعادها البيئية والاقتصادية والاجتماعية في العراق (1)

                                                                         د. هاشم نعمة

     يواجه العراق أكبر مشكلة بيئية في تاريخه تتمثل بالتصحر الشديد والتي تعرض للخطر أمنه الغذائي. وتتظافر العديد من العوامل الطبيعية والبشرية في صنعها. ولها نتائج بيئية واقتصادية واجتماعية وحضارية وخيمة أبرزها فقدان الأراضي المنتجة وتحرك الكثبان الرملية وهبوب العواصف الرملية والترابية الشديدة وما ينتج عنها من زيادة تلوث الهواء. تحاول هذه الدراسة التعرف على تطور المشكلة وتحلل أسبابها ونتائجها وتقترح عددا من الحلول لمعالجتها.

     يرد الكثير من التعاريف للتصحرغير أن أحدث تعريف اقر في 1994 ضمن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر ينص : التصحر يعني تدهور الأرض في المناطق القاحلة وشبه القاحلة و في المناطق الجافة وشبه الرطبة الذي ينتج من عوامل مختلفة تشمل التغيرات المناخية والنشاطات البشرية.  وفي حقيقة الأمر فالتصحر عملية هدم أو تدمير للطاقة الحيوية للأرض، والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى ظروف تشبه ظروف الصحراء، وهو مظهر من التدهور الواسع للأنظمة البيئية، الذي يؤدي إلى تقلص الطاقة الحيوية للأرض المتمثلة في الإنتاج النباتي والحيواني ) )ومن ثم التأثير في إعالة الوجود البشري.
 
                                        تطور التصحر

     قد يبدو من السهل تمييز الأراضي المتصحرة لكن في الحقيقة من الصعب تعيينها ووصفها بإستخدام مصطلحات بسيطة. حيث أن التشخيص الدقيق يتطلب التعرف على عدد كبير من العوامل وحتى بعد ذلك فإن المشكلة تبقى معقدة بسبب اختلاف الأراء بخصوص الأهمية النسبية للعوامل المختلفة.

     تتسارع في العراق ظاهرة التصحر، وتقدر نسبة الأراضي المعرضة لها بأنها تتجاوز 92% من مجموع المساحة الاجمالية. ومنذ عام 1981 ارتفعت هذه النسبة خصوصا بسبب العمليات العسكرية، التي دمرت كلا من التربة والنباتات وكانت لها عواقب سلبية ضارة أخرى على البيئة. ويمكن تصنيف التصحر طبقاَ لكثافته والأراضي المتأثرة به.( )

    إن زحف الصحراء وتوسعها على حساب الأراضي الزراعية، وعدم كفاية برامج مكافحة التصحر، ينتج عنه تناقص مستمر لمساحة الأراضي الصالحة للزراعة والداخلة في الإنتاج الزراعي، وخاصة في المنطقة الوسطى والجنوبية، جراء تفشي الملوحة وانتشارها نتيجة عدم تكامل شبكة المبازل أو عدم توفرها وتغدق الأراضي بسبب ارتفاع المياه الجوفية (النزيز) فيها، وحتى في الأراضي التي تم استصلاحها فإنها تعاني من عودة تملح التربة فيها نتيجة سوء الصيانة.( ) حيث يصرف المصب العام الذي أنجز نهاية عام 1992 فقط 30% من مياه البزل إلى الخليج العربي.

   وفي المحافظات نلاحظ الأراضي الصحراوية والمتصحرة، ففي بابل توجد في منطقة الجزيرة| الشوملي| المدحتية، وفي صلاح الدين في تكريت وبيجي، وفي القادسية في عفك، وفي الأنبار أغلب أراضي محافظة الأنبار هي أراضي صحراوية، تتعرض لتدهور الغطاء النباتي بسبب قلة الأمطار والرعي الجائر والتحطيب، وفي ذي قار في جنوب البطحاء ومركز الناصرية إلى البصرة، وفي البصرة تدهور الغطاء النباتي بسبب الرعي الجائر والتحطيب وتكون بعض الكثبان الرملية، وهذا ينطبق على واسط أيضا وفي نينوى في الحضر والصاخنة وابو عدل، وفي كربلاء أكثر الأراضي المتصحرة في مقاطعة الكرط وعين التمر والرزازة بمساحات تقدر 26 كم²، وفي المثنى 2800 دونم أراضي متصحرة، في قضاء الخضر وهي منطقة صحراوية تتعرض لانجراف التربة وتكون الرمال الثابتة والمتحركة بسبب عدم وجود أحزمة خضراء.( ) ومن هنا يتبين أن التصحرأصاب مناطق واسعة كانت من أفضل الأراضي الزراعية.



126
مجلس محافظة البصرة وجولات تراخیص العقود للحقول النفطیة
في ٢٤ /حزیران/ ٢٠٠٩ قرر مجلس محافظة البصرة في جلستھ الاعتیادیة استضافة السید مدیر عام
شركة نفط الجنوب السید فیاض حسن نعمھ لمناقشة موضوع جولات التراخیص للحقول النفطیة. وفي
٢٨ /حزیران/ ٢٠٠٩ عقد مجلس المحافظة جلسة استثنائیة طارئة استضاف فیھا مدیر عام نفط الجنوب
والخبیر القانوني حسین عذاب السكیني عضو لجنة كتابة الدستور في الجمعیة الوطنیة العراقیة السابقة
والمستشار المالي لمشروع الحكم المحلي الأستاذ عبدالامیر جاسم وذلك لتقدیم النصح والمشورة لمجلس
المحافظة ومساعدتھم في صیاغة قرار یبین الموقف الرسمي لمجلس محافظة البصرة بخصوص جولات
التراخیص.
ھدف الجلسة:-
- مناقشة عقود التراخیص للحقول النفطیة وبیان الرأي الفني والقانوني والمالي والاقتصادي في ھذه
العقود.
- معرفة دور مجلس محافظة البصرة في عقود التراخیص للحقول النفطیة الواقعة في المحافظة بشكل
خاص، ودوره في أدارة الثروة النفطیة بشكل عام وفقا للدستور وقانون المحافظات رقم ٢١ لسنة
.٢٠٠٨
- بیان الموقف الرسمي لمجلس محافظة البصرة بخصوص جولات التراخیص.
مفردات الجلسة الاستثنائیة الطارئة لمجلس محافظة البصرة
حضور الجلسة

- النائب الأول لرئیس مجلس محافظة البصرة الشیخ احمد السلیطي
- نائب رئیس المجلس لشؤون المجالس البلدیة السید صباح حسن
- أعضاء مجلس محافظة البصرة (ما یقارب ٢٥ عضو)
- السید مدیر عام نفط الجنوب السید فیاضحس نعمة
- خبراء من شركة نفط الجنوب
- الخبیر القانوني الأستاذ حسین عذاب
- الخبیر المالي الأستاذ عبدالامیر جاسم
- إعلامیین (أعلام مجلس محافظة البصرة + فضائیة الحرة)
كلمة السید مدیر عام نفط الجنوب والذي بین فیھا الرأي الفني والھندسي في عقود التراخیص
(%٩٠ - % - الحقول التي طرحت ضمن الجولة الأولى معظمھا حقول مكتملة وبنسب عالیة ( ٨٠
والشركات العراقیة الوطنیة قادرة وببعض الإسناد من الشركات الأجنبیة وبموجب عقود مقاولة من
أتمام جاھزیتھا.. أن تحویل ھذا العقود إلى عقود جولة التراخیص الأولى سوف ینسف الجھود
الوطنیة المتعلقة بتأھیل الحقول النفطیة وتحویلھا إلى صالح الشركات الأجنبیة.
- تشكل الحقول المشمولة بجولة التراخیص الأولى نسبة ٨٠ بالمئة من الحقول المنتجة وبالتالي فان
وزارة النفط سوف تعطي نسبة كبیرة من الثروة النفطیة العراقیة لصالح الشركات وھذا سوف
یضعف المكانة الاقتصادیة للعراق ویعرض اقتصاده للخطر.
- ننصح وزارة النفط بالذھاب إلى جولة التراخیص الثانیة قبل جولة التراخیص الأولى لان الجولة
الثانیة تضم حقول مستكشفة لكنھا غیر مستثمرة كما أنھا تشكل نسبة ١٥ بالمئة من الحقول النفطیة
وان تبقى أدارة حقول الجولة الأولى بید الشركات العراقیة الوطنیة لغرض المحافظة على الثروة
النفطیة وأیضا زیادة الإنتاج وبناء علاقات اقتصادیة مع دول العالم.
- أن طرح ھذه الحقول للمناقصة دفعة واحدة یضعف بشكل كبیر اندفاع الشركات المتنافسة لتقدیم
أفضل العطاءات وذلك لتوفر فرصلھذه الشركات للاتفاق فیما بینھا وتوزیع الحصص.
- ھذه العقود تخالف وبشكل واضح قانون الحفاظ على الثروة الھیدروكاربونیة رقم ٨٤ لعام ١٩٨٥
والتي لا یمكن أن تسمح باستثمار ھذه الحقول ألا بقوانین مصادق علیھا من قبل البرلمان العراقي.
- تخالف ما جاء بنص مسودة قانون النفط والغاز والتي تنص على أن یعاد تطویر الحقول النفطیة
المطورة وتطویر المكتشفة منھا من قبل شركة النفط الوطنیة حصرا.
- لا توجد صورة واضحة لحد ألان عن مدى الحاجة إلى وجود شركات نفط الشمال ونفط الجنوب
ونفط میسان خلال العام المقبل. وفي نفس الوقت مدى الحاجة الى شركة النفط الوطنیة في حالة
المصادقة على عقود التراخیص.
تطویر الحقول بزمن وكلفة ) EPC - من الأحرى بوزارة النفط التوجھ إلى تنفیذ ھذه العقود وبطریقة
محددة یتحمل تكالیف تطویرھا الشركة المتعاقد معھا وتسترجع كلف التطویر فیما بعد) ولسنوات
محدودة للحصول على زیادة كبیرة في الإنتاج وبدون قیود أو شروط معقدة تتجاوز وبكلفة معقولة
وكمثال على ذلك (أحالة حقل الناصریة)
- في حالة حصول أي اختراق امني قد یؤدي إلى توقف الشركات عن العمل في الحقول المتعاقد
علیھا فأنھا قد توقف الإنتاج وإدارة الحقول لأجل غیر مسمى والدخول في إشكالیات قانونیة نحن في
غنى عنھا وھذا قد یحرم العراق من وارداتھ الأساسیة ویؤثر على برامجھ التنمویة
- العراق سوف یتأثر بشكل كبیر بالمشاكل الاقتصادیة العالمیة لان نفط العراق سیكون بید الشركات
الأجنبیة التي تتأثر بشكل كبیر بالمشاكل الاقتصادیة العالمیة.
- خط الشروع المتنازل یعطي شركات النفط العالمیة أرباحا طائلة بسبب التنازل ٥ % سنویا
- شركات النفط الوطنیة أنفقت الكثیر من الأموال على شراء المكائن والمعدات وسوف تصبح ھذه
المكائن و المعدات بید الشركات الأجنبیة بموجب عقود التراخیص
- لا توجد دولة في العالم وضعت أكثر من حقل من حقولھا العملاقة في جولة واحدة. لماذا ندخل في
أول جولة ٨٠ بالمئة من إنتاجنا في دورة تراخیص واحدة لماذا لا تكون الجولة الثانیة ھي الجولة
الأولى.
- لا توجد سابقة في الصناعة النفطیة العالمیة بوضع ٨٠ بالمئة من أنتاج دولة واحدة في دورة
تراخیص واحدة وعقود تستمر لأكثر من ٢٠ سنة
- شركات النفط الوطنیة قادرة على أدارة حقول جولة التراخیص الأولى وكل ما تحتاجھ ھو الدعم
الحكومي وتوسیع الصلاحیات والتعاقد مع شركات متقدمة في مجال نفط بعقود مقاولة لفترة محدودة
ولغرض معین لتقدیم بعض الدعم الفني والھندسي للشركات الوطنیة لتأھیل الحقول النفطیة بشكل
كامل.

الرأي القانوني في عقود التراخیصودور مجلس محافظة البصرة فیھا... الخبیر القانوني حسین عذاب
- القانون رقم ٢١ لسنة ٢٠٠٨ لم یمنح المحافظات غیر المنتظمة بإقلیم أي دور في أدارة الثروة
النفطیة.
- الدستور في المادة ١١٢ نصت:
أولا: تقوم الحكومة الاتحادیة بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالیة مع حكومات الأقالیم
والمحافظات المنتجة على أن توزع وارداتھا بشكل منصف یتناسب مع التوزیع السكاني في جمیع أنحاء
البلاد، مع تحدید حصة لمدة محددة للأقالیم المتضررة والتي حرمت منھا بصورة مجحفة من قبل النظام
السابق والتي تضررت بعد ذلك بما یؤمن التنمیة المتوازنة للمناطق المختلفة من البلاد وینظم ذلك
بقانون. .
ثانیا: تقوم الحكومة الاتحادیة وحكومات الأقالیم والمحافظات المنتجة معا برسم السیاسات الإستراتیجیة
اللازمة لتطویر ثروة النفط والغاز بما یحقق أعلى منفعة للشعب العراقي معتمدة احدث تقنیات مبادئ
السوق وتشجیع الاستثمار .
ولكن قانون رقم ٢١ لم یشیر إلى ذلك الحق في أدارة الثروة النفطیة للمحافظات وبذلك من حق مجالس
المحافظات الطعن في القانون ٢١ أمام المحاكم من اجلھ تضمنیھ لنصوص تتیح للمحافظات المنتجة
للنفط من المشاركة في أدارة الثروة النفطیة
- في ضوء القوانین النافذة لا یحق لمجلس محافظة البصرة المطالبة بإشراكھ في تنظیم عقود
التراخیص وإدارة الثروة النفطیة لان حسب القانون ٢١ اعتبر النفط مسالة اتحادیة.
الرأي المالي والاقتصادي في جولة عقود التراخیص... الأستاذ عبد الأمیر جاسم
- لا توجد دراسات جدوى اقتصادیة بخصوص عقود التراخیص حیث من المعتاد أعداد دراسات
جدوى اقتصادیة مفصلة بمثل ھكذا عقود وعرضھا على الخبراء والمعنیین لتقییمھا.
- أحالة حقول صرفت علیھا الدولة أموال وجھد بشري وھي حالیا مكتملة بنسبة عالیة تعتبر
عملیة غیر اقتصادیة وتضیع من الجھود والأموال العراقیة وتحسبھا لصالح الشركات
- ضرورة إصدار قانون ینظم المادة ١١٢ من الدستور وضرورة تأجیل التوقیع على العقود لحین
صدور ھذا القانون حتى لا یحرم حق المحافظة في أدارة الثروة النفطیة الموجودة في أراضیھا.
- طالما أن الشركات الوطنیة قادرة على أدارة حقول الجولة الأولى فیجب أن تدار تلك الحقول
من قبل الشركات الوطنیة ولیس الأجنبیة تحقیقا لمنافع اقتصادیة واجتماعیة ومالیة وتطبیقا
للتعلیمات الحكومیة.
- عدم وضوح آلیة احتساب الواردات المالیة التي سوف تدخل خزینة الدولة من استثمار حقول
جولة التراخیص الأولى
- عدم وجود قانون لضریبة النفط
القرار الرسمي والنھائي الذي صدر من مجلس محافظة البصرة وأعلن في وسائل الأعلام
مجلس محافظة البصرة یشدد على ضرورة أشراكھ في اتخاذ القرارات المتعلقة بمنح تراخیص العقود
للحقول النفطیة الواقعة في محافظة البصرة. وسوف یقوم مجلس محافظة البصرة بمخاطبة مجلس الوزراء
بكتاب رسمي بخصوص ھذا وسوف تشكل لجنة برئاسة رئیس مجلس محافظة البصرة وعضویة اربع
أعضاء من بینھم رئیس لجنة النفط في مجلس محافظة البصرة لغرض عقد الاتصالات والمناقشات مع
الجھات المعنیة ومتابعة الموضوع

127
جولة التراخيص الاولى وخطرها
 على الصناعة النفطية الوطنية العراقية


                                                           
الدكتور فالح الخياط*

في 30 حزيران 2008  ، أعلن وزير النفط ، حسين الشهرستاني ،  في مؤتمر صحفي في بغداد ، عن الحقول النفطية و الغازية العراقية التي تم عرضها على الشركات العالمية،  فيما تم تسميته بالجولة الأولى للتراخيص ، لغرض  التقدم  بعروضها  لتطوير هذه الحقول فيما أطلق عليه بعقود الخدمة طويلة الأجل (LONG TERM RISK SERVICE CONTRACTS - RSC)
وتضمنت القائمة ستة حقول نفطية منتجة و حقلين غازيين مكتشفان و لكن لم يتم تطويرها بعد.
وقد اتخذت خطوات عديدة ومترابطة لاعداد وثائق وصيغ العقود لتسهيل عملية الاحالة المقررة في بغداد  يومي 29 و30 حزيران 2009 عندما تستدعى الشركات الخمسة والثلاثون التي تم تاهيلها مسبقا  لتقديم عروضها لتطوير هذه الحقول .
الحقول النفطية المنتجة الست هي كركوك و باي حسن في الشمال- و يتم إدارتهما و تشغيلهما حالياً من قبل شركة نفط الشمال  - و حقول الرميلة الجنوبي و الشمالي ، حقل الزبير ، و حقل غرب القرنة- المرحلة الأولى ، و الحقول النفطية الثلاث المكونة لحقول ميسان – أبو غرب ، الفكة والبزركان– في الجنوب و يتم تشغيلهما من قبل شركة نفط الجنوب.
 يمثل الاحتياطي المثبت لهذه الحقول حوالي (58) مليار برميل او أكثر من( 50%) من  الاحتياطي المثبت لعموم العراق و البالغ (115) مليار برميل . كما أن طافتها الانتاجية تشكل أكثر من 90% من الطافة الانتاجية الحالية للنفط العراقي .
أما الحقلين الغازيين فهما عكاس الواقع في الصحراء الغربية  لمحافظة الأنبار و حقل المنصورية الكائن في محافظة ديالى. يحتوي هذين الحقلين من احتياطي الغاز الطبيعي الحر حوالي (6.3) تريليون قدم مكعب ( معظم الجيولوجين يعتقدون بأن الاحتياطي يمكن صعوده إلى (10)  تريليون قدم مكعب في حالة استمرار عمليات الاستكشاف و التقييم ) , حوالي (45%) من الاحتياطي المثبت للغاز الحر للعراق ، و أن الطاقة الانتاجية الممكنة لهذين الحقلين تبلغ حوالي (650) مليون قدم مكعب في اليوم مما يشكل حوالي (40%) من الطاقة الانتاجية المتوقعة للغاز الحر في العراق  في  حالة تطوير و انتاج حقوله الغازية .
و قد حدد وزير النفط أهداف تطوير الحقول بزيادة الطاقة الانتاجية بحوالي (1.5) مليون برميل في اليوم خلال ثلاث سنوات ، مما يصعد طاقة القطر الانتاجية  في نهايتها من مستوياتها الحالية البالغة حوالي (2.5) مليون برميل في اليوم إلى (4-4.5) مليون  برميل في اليوم باستخدام الأساليب التقليدية في الانتاج ، و من ثم زيادة الطاقة الانتاجية في السنوات الثلاث اللاحقة إلى حوالي (6.0) مليون برميل في اليوم باستخدام أساليب الاستخلاص المدعم . و كذلك زيادة انتاج الغاز الحر لأغراض الاستخدام في التوليد الكهربائي و تصدير الفائض بحوالي (500) مليون قدم مكعب في اليوم خلال الثلاث السنوات الأولى من المباشرة في تطوير الحقلين الغازيين .
لقد تم تحديد التوقيع على هذه العقود  بنهاية شهر حزيران 2009 . و قامت الوزارة مسبقا باعداد وثائق المعلومات و أطر التعاقد و المعطيات الخاصة بهذه الحقول ومعايير واسس تقييم العروض وسلمتها للشركات العالمية لتهيئة عروضها و تقديمها  بما يحقق الموعد  النهائي المتوقع للتوقيع . علما بان  هذه الحقول معروفة و منتجة و تمت دراستها مسبقاً و بكثافة من بعض الشركات العالمية  النفطية الكبرى .
إن إعلان الحقول و صيغة العقود المنوي ابرامها ، قد تم بمعزل عن مصير قانون النفط  و الغاز ألذي  لا يزال يراوح مابين لجنة النفط والغاز التابعة  لمجلس النواب وامانة مجلس الوزراء منتظراً التوافقات بين الكتل السياسية ، و خاصة بين الأحزاب الكردية و الائتلاف الحاكم , لغرض تشريعه . و بغياب هذا القانون فإن الوزارة اعتمدت الصلاحيات المتوفرة لها بموجب القوانين و التعليمات النافذة لتاريخه ولحين صدور القانون ألجديد  . لقد بين  وزير النفط بأنه سيذهب إلى مجلس الوزراء من أجل الحصول على الموافقة النهائية على إحالة العقود قبل إبرامها ، كما بين أعضاء في اللجنة البرلمانية للنفط و الغاز بأنهم طالبوا وزير النفط لاطلاعهم على صيغ و معالم هذه العقود أولاً بأول قبل إبرامها.
 ان اطر التعاقد التي اعدتها الوزارة قد تم مناقشتها مع الشركات العالمية , ومن اهم معالم هذه العقود التي تم الحصول على نسخة منها ,  إنشاء  شركات  مشتركة بين الشركات العراقية المنتجة حالياً و الشركات العالمية الفائزة بالعقود لإدارة و تشغيل هذه الحقول ، و  تكون حصة الشركات العراقية فيها لا تتجاوز (25%)  وتستلم الشركات المشتركة ادارة حقولها بعد فترة انتقالية امدها سنة واحدة
لطيلة فترة العقد البالغة (20 ) سنة ،وان الشركة الاجنبية ستقوم بتمويل التطوير والتشغيل ويتم استرداد كلفها من النفط المنتج , و أن مكافئة الشركة المقاولة  REMUNERATION ) ) ستتحقق بعد انتاج نفط اضافي فوق خط شروع محدد وسيتم احتسابها وفق صيغة مرتبطة بالاستثمارات المالية المصروفة .
إن صيغة عقود الخدمة صيغة شائعة في العالم و خاصة في أمريكا الجنوبية . و تكون الشركات المتعاقدة عادة شركات متوسطة الحجم - إذ إن الشركات النفطية العالمية  - و خاصة الكبيرة منها – لا تفضل هذه العقود لأنها لا تسمح لها بإضافة الاحتياطي إلى موجوداتها المعلنة لتحسين قيمة أسهمها في ألاسواق و بالتالي تعظيم موقفها المالي  و تفضل بدل ذلك عقود المشاركة بالانتاج (PSC)  إذ تعتبر هذه الشركات نفسها بأنها منتجة و ليست مقاولة.

 إن المفاضلة بين عقود الخدمة و المشاركة في الانتاج قد تثير الكثير من التحفظات و الاعتراضات  . و لكن عند أخذ نظرة موضوعية على كلتا الصيغتين  تبرز الجوانب الإيجابية و السلبية لكل منها . فمثلاً في عقود الخدمة  تكون الشركة المتعاقدة تعمل كمقاول تحت إشراف و سيطرة الجهات المالكة تأخذ ماتصرفه و مكافئتها حسب ما تقوم بانتاجه من كميات و لا علاقة لها بملكية الأحتياطي أو النفط المنتج . في حين أن عقود المشاركة بالانتاج تعني مشاركة في الإدارة و مشاركة في الملكية للاحتياطي و المنتج .
.
لذا فليس المهم اعتماد أي صيغة من العقود  إن كانت RSC  أو  PSCو لكن المهم  للمالك الحصول على أفضل الشروط و تعظيم الإيرادات و تحجيم الأضرار و الخسائر إلى أقل حد ممكن.
و لكن فوق كل ذلك هنالك صيغة مفضلة أخرى و هي طريقة الإستثمار المباشر . يشترط في اتباع هذه الصيغة أن تكون للدولة موارد مالية كافية او رصيد دولي يمكن بواسطته الإستدانة الميسرة لتمويل الإستثمار . كما يشترط أن تتوفر قاعدة أساسية من الكفاءات الوطنية على الأقل كافية لتنسيق و توجيه هذه العملية ، و  إذا لا تتوفر فعادة تقوم الجهات الحكومية بالتعاقد مع شركات متخصصة في الإستشارات البترولية لمساعدتها و دعمها في عملية تحديد متطلبات التطوير و تهيئة وثائق المناقصات و الإشراف على أعمال الشركات البترولية الخدمية التي سيتم التعاقد معها لتنفيذ عمليات التطوير من حفر و استصلاح و إنشاء المنشآت السطحية للانتاج و النقل و التصدير.
إن صيغة الإستثمار المباشر هي الصيغة المعتمدة  خاصة في الدول النفطية الكبرى في الخليج العربي و فنزويلا و  ليبيا و الجزائر  لإدامة و تطوير الحقول المنتجة و حتى  المستكشفة  او التي لم يتم تطويرها . و في هذه  الصيغة تكون الإدارة و السيطرة و استحصال الإيرادات كلها تحت بيد الحكومة.
إن الوزارة تتجه لتبني عقود الخدمة (RSC)  للتطوير الإضافي في حقول منتجة مسبقاً قد دخل معظمها في الإنتاج منذ حوالي  نصف  قرن ولا تزال تنتج الجزء الأهم من الانتاج الوطني. و منذ قرار التاميم  في عام 1972  و استكماله في عام 1975 فإن انتاج هذه الحقول يتم بإدارة و سيطرة عراقية وطنية 100% و إذا كانت هذه الحقول  تحتاج إلى مشاريع إدامة الانتاج أو زيادته فلماذا لا يتم اعتماد صيغة الإستثمار المباشر و الحفاظ على السيطرة الوطنية الكاملة على هذه الحقول بدلاً من إحالتها إلى شركات أجنبية؟ فهذه حقول غزيرة الاتناج و ذات احتياطي ضخم يمكن بموجبه إدامة معدلات انتاج عالية لعقود قادمة من الزمن وهي ليست حقول ناضبة و في نهاية عمرها لكي يتم إحالتها إلى شركات  تستخدم تقنيات خاصة لتحسين معامل الاستخلاص النفطي منها .
كما ان ابقاء هذه الحقول تحت ادارة وسيطرة المؤسسات الوطنية يمثل احدى الركائز الاساسية للامن القومي. فان هذه المؤسسات بطبيعتها تضمن ديمومة الانتاج تحت كافة الظروف , فلا توجد قوة قاهرة في عرفها , ولقد اثبتت ذلك عمليا في اسوء الظروف – من  حرب وقصف وحصاروانهيار امني وفوضى  – فاي شركة اجنبية ممكن ان تضمن لنا هذه الديمومة؟
  كما أن مقومات اعتماد صيغة الاستثمار المباشر متوفرة في العراق في الظروف الحالية . إذ إن الأموال اللازمة للتطوير  يمكن توفيرها بسهولة من الفائض المالي الذي يتمتع به العراق حالياً نتيجة ارتفاع أسعار النفط ماقبل  2009  وانتعاشها الان ، إذ تقدر الإيرادات المالية التي حصلت  عليها الدولة خلال 2008 فقط حوالي  (70) مليار دولار ، في حين أن أعلى تقدير لكلفة إدامة و تطوير الانتاج من هذه الحقول الستة المعلنة للحصول على زيادة في الانتاج تبلغ (1.5) مليون برميل باليوم خلال السنوات الثلاث ما بعد عام 2009  لايزيد عن ( 3- 5 )مليار دولار . 
كما أن العنصر الآخر المتمثل بالقاعدة البشرية و التقنية فإن متطلباتها قليلة إذا تم اعتماد  شركات استشارية تقوم بالنيابة و بصيغة مهندس المالك (OWNER ENGINEER-OE) بتنسيق إعداد  التصاميم و الدراسات و دراسة و تقييم العروض و الإشراف على تنفيذ العقود الثانوية التي ستنفذها شركات الخدمات النفطية و الشركات الهندسية و يتم كل ذلك  تحت إشراف و سيطرة مباشرة من قبل الجهات  العراقية الرسيمة ( التي بامكانها ان تزج باكبر عدد من منتسبيها في العمل للتدريب او لاكتساب خبرات اضافية). إن الجهد البشري الوطني المطلوب  في حالة اعتماد تلك الصيغة لا يتعدى متطلبات مهام التفاوض و التنسيق و الإشراف و هو جهد لا يزيد كثيراً عن جهد التفاوض مع الشركات الأجنبية و الإشراف على عملها الذي سيتم إجراءه في عملية إبرام عقود الخدمة المقترحة .
أما من ناحية الظروف الأمنية المحلية فإن الأمر سيان إذا كانت الشركة المقاولة تعمل بموجب عقود خدمة أو تنفذ مقاولات ثانوية في الحفر وتشييد المنشآت  السطحية في أسلوب  الإستثمار المباشر ، إذ كلاهما يتطلب حضور فاعل موقعي لكوادر و معدات الشركات الأجنبية المتعاقدة .
  كما إن اعتماد عقود الخدمة الطويلة الأجل في تطوير الحقول النفطية  المنتجة سيعني بالضرورة إنشاء شركة مشغلة لكل حقل نفطي  و إن هذه الشركة تكون حصة العراق فيها  لا تزيد  عن (25%) أي أن الإدارة الفعلية و الموقعية  و صلاحية اتخاذ القرارات التفصيلية واحالة العقود الثانوية  و التحكم بالاجراءات  ستكون بيد الشركة الأجنبية حاملة الجزء الأكبر من الحصص والتي سيكون لها نسبة مؤثرة من الكادر الاداري تتراوح مابين ( 10—15 ) % حسبما نصت عليه وثائق العقود المعلنة حاليا .
كما بينا سابقاً , فإن اثنان من الحقول يقعان في الشمال تحت إدارة شركة نفط  الشمال و أن الأربعة الأخرى تقع في الجنوب تحت إدارة شركة نفط الجنوب . و أن الحقول الواقعة في كل منطقة هي حقول  متداخلة و مترابطة فيما بينها  مع الحقول و المنشآت النفطية الأخرى المجاورة . فمثلاً انتاج حقل الرميلة الجنوبي يتجمع في موقع حقل الزبير حيث يتم خزنه و ضخه مشتركاً مع نفوط  الرميلة الشمالي و الزبير و غرب القرنة و ميسان إلى مرافئ  التصدير .
في حين إذا تم  المضي  بهذه العقود المقترحة فإننا سنرى شركة مشتركة إضافية واحدة على الأقل في الشمال لإدارة و تشغيل حقلي كركوك و باي حسن إضافة إلى شركة نفط الشمال  و أربع شركات مشتركة إضافية أخرى بجانب شركة نفط الجنوب- إذ سنرى استحداث شركة نفط الرميلة و شركة نفط الزبير و شركة نفط غرب القرنة  و شركة حقول البزركان في  ميسان -  ضمن الرقعة العملياتية لشركة نفط الجنوب . و أن إدارة و تشغيل هذه الشركات المشتركة الإضافية ستكون بيد المساهم الأكبر و هي الشركة المتعاقدة الأجنبية كما بينا رغم أن ملكية النفط و المخزون ستكون بيد الحكومة العراقية . إن ذلك يعتبر تخليا كاملا عن السيادة الفعلية على جزء كبير من ثروات العراق النفطية . إذ إن السيادة لا تعني فقط أن الملكية النفطية ستكون للعراق بل تعني كذلك أن الكلمة العليا في سياسات الانتاج و خطط التطوير و التدريب و التجهيز و إصدار التعليمات و اتخاذ الإجراءات  واحالة العقود الثانوية يستوجب ان تكون عراقية ايضا  .
إن استحداث كل هذه الشركات المشغلة الجديدة سيعني تفتيت شركتي نفط الشمال و نفط الجنوب – و كلاهما شركتان عملاقتان توظفان أكثر من (15) ألف منتسب و تنتج أكثر من (2.5) مليون برميل في اليوم و لها خبرة تزيد عن ثلاث عقود في إدارة و تشغيل حقولها النفطية و الغازية و خلال أسوء الظروف من حروب و حصار – و تقليص دورهما إلى شركات شبه قابضة تدير عن بعد حصصها القليلة في الشركات  المشغلة الجديدة و تقتصر في إدارتها على حقول هامشية و متباعدة لم يتم شمولها في قائمة العرض بعد  . كما أن هاتين الشركتين تمثلان المكون الأساسي لشركة النفط الوطنية العراقية (INOC)  المزمع إعادة استحداثها عند صدور قانون النفط و الغاز المرتقب . و نتيجة لتقليص دور و تفتيت هتين الشركتين ستصبح (INOC)  بالضرورة هيكلاً خاوياً  كشركة قابضة تدير و تشرف على حصص ضئيلة في الشركات المشغلة ، إن كل ذلك يعني تنازلاً كبيراً و غير مبرر للجهد الوطني في إدارة حقوله النفطية و تسليمها إلى شركات مشتركة تحكمها و تتحكم بها جهات أجنبية . و تمثل بالحقيقة إنهاء ً مأساوياً لدور شركتي نفط الجنوب و الشمال و (INOC)   التي كانت تعتبر دائماً إحدى ركائز الثروة الوطنية التي لا يمكن التفريط بها .
كما ان الامر سوف لايقتصر على تحجيم الشركات النفطية الوطنية المنتجة , بل سيمتد الى القضاء التدريجي على الشركات الوطنية المختصة بتوفير الخدمات الاساسية للشركات المنتجة – كشركة حفر الابار وشركة الاستكشافات النفطية وشركة المشاريع النفطية – اذ ان هذه الشركات تعتمد على العقود الثانوية التي تمنحها لها الشركات الوطنية المشغلة . وعندما ستكون ادارة الحقول بيد الشركات الاجنبية فان من الامور المحتمة جفاف منح هذه العقود الى الشركات الخدمية العراقية بحجة التنافسية والكفائة وسنعود بذلك سريعا الى الوقت الذي كنا فيه نتعاقد مع المقاولين الاجانب لتنفيذ مشروع بسيط كمد انبوب طوله عشرة كيلومترات والقضاء التدريجي على القابلية الوطنية في بناء الصناعة النفطية والتي تم تكوينها عبر عقود من الجهد والاستثمار والتضحيات .
كما نود أن نشير بأنه خلال العقود الثلاث الماضية كانت كلف انتاج النفط العراقي إن كانت تشغيلية أو رأسمالية من أرخص كلف الانتاج في العالم و حسب تقديرات  رصينة فإنها لم تتجاوز دولارا واحدا لكل برميل. والسؤال هو ما ستكون عليه هذه الكلف في حالة قيام الشركات الأجنبية من خلال عقود الخدمة و من خلال حصة الأكثرية في الشركات المشغلة التي سيتم استحداثها في إدارة و تشغيل الحقول ؟
  و كلنا يعرف الكلفة الباهظة  التي تتقاضاها هذه الشركات مقابل اشتغال منتسبيها الأجانب في المواقع و الخدمات الباذخة التي ستوفرها لهم إضافة إلى الكلف التي ستتقاضاها مقابل قيامها بشراء و توفير المعدات و الأجهزة و المواد اللازمة للتشغيل و التطوير  إضافة إلى المكافئة التي ستحصل عليها مقابل انتاج كل برميل أو وحدة غازية . إن ذلك سيؤدي حتماً إلى زيادة الكلف إلى إضعاف مضاعفة و كلها على حساب الشعب العراقي و تستقطع من إيراداته .
   آملين أن تكون هذه المقالة رسالة مخلصة للتحذير من مغبة المضي  في التنازل عن حقوقنا الوطنية في السيطرة على إدارة و تشغيل حقولنا المنتجة التي هي مصدر الثروة الأساسي لشعبنا العراقي وضمان مستقبل ابنائه . و إن نشمر سواعدنا في المضي في أسلوب الاستثمار المباشر المدعم فنياً و تقنياً  في تطوير هذه الحقول لكي تكون دائماً مصدر خير و رفاه لبلدنا  وشعبنا الغالي .
وكخطوة اولى وانية , ادعوا كل من يضع مصلحة الشعب العراقي بين عينيه ان يدعوا الى الغاء شمول الحقول النفطية المنتجة من جولة التراخيص الاولى وابقائها تحت السيطرة الوطنية المباشرة .

•   مدير عام دائرة الدراسات والتخطيط في وزارة النفط سابقا                                                 

128
في هولندا ، ألوان وأنغام تتألق في وهج الذكرى الماسية




على شرف الذكرى الماسية لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي ، أقامت منظمة الحزب في هولندا أمسية فنية تشكيلية ، سمعية بصرية  ، للفنانين التشكيليين : قاسم الساعدي و ستار كاووش ،مساء يوم 11 نيسان 2009 بلاهاي .
قدم الرفيق هاشم نعمة الفنانين إلى الجمهور ، مشيرا إلى اهتمام الحزب بالمثقفين والثقافة باعتبارها وسيلة للتنوير و الارتقاء الروحي ، كما أشار إلى أن الحزب يحترم التعددية والتنوع القومي في ثقافتنا الوطنية ، وهو مدافع عن حق الفنانين و المبدعين في ممارسة إبداعهم بحرية دون قيود تعسفية .
قدم الفنان قاسم الساعدي نفسه ، للحضور الكريم ،من خلال نص عنوانه "ذاكرة الأمكان" والمكان هو الوطن الذي تحمله الذاكرة عبر المنافي ، كذلك قدم الفنان ستار نفسه للجمهور، ثم قدم الفنان قاسم قراءة في أعمال كاووش ، محللا و مقيما ، وهي قراءة تبحر في عوالم ستار والمنعطفات التي مرت بها تجربته ، ثم قدم كاووش قراءة في أعمال قاسم ، مشيرا مزجه لتقنيات عديدة واستخدامه لموروث هائل من المؤثرات في إبداعه .
رافق القراءة عرض مصور لأعمال الفنانين ، تمثل المنجز الإبداعي لكل منهما و تطوره ؛ كما تم عرض نموذجين من عمل كل فنان ، وقد وقف الفنان ستار الساعدي ، بنايه الجميل ، أمام لوحات الفنانين ، يستنطقهما ، فتحولت الألوان إلى أنغام ساحرة ،  وتوحدت الألوان والأنغام و انسابا معا في تناسق جميل .كما شارك الدكتور خزعل الماجدي في الأمسية ، فقدم قراءة تحليلية و تقييمية لأعمال الفنانين التشكيليين .
استثارت الألوان والأنغام أحاسيس و خيال الحاضرين ، فطرحت أسئلة عديدة أجاب عنها الفنانان ؛ وقد أكملت الأسئلة و ما استثارته من نقاش ، تألق الأمسية و زهوها .




132
مهرجان الفن العراقي الهولندي ، حوار بين ثقافتين
     

  مجيد خليل

افتتح مهرجان الفن العراقي الهولندي يوم 27/1/2009 ، وذلك على قاعة متحف المأثورات الشعبية بمدينة "لايدن" . جرت مراسم الاحتفال في قاعة المتحف الكبرى والتي يتوسطها معبد مصري فخم ، حصلت عليه هولندا هدية من الحكومة المصرية في الستينات ، وأصبح المعبد خلال هذه الأمسية مسرحا للعرض وخلفية للعروض الفنية من رقص وموسيقى و تشكيل .
كان المهرجان حصيلة تعاون ثلاث جهات ، عملت على إنجاحه وإظهاره بما يليق بحضارة وادي الرافدين و إنجازات مبدعي العراق في مختلف الفنون ، الجهات الثلاث هي : مؤسسة سين آرت ومتحف المأثورات الشعبية بالتعاون مع السفارة العراقية في هولندا .
افتتح الحفل بكلمة للسيد سيامند البناء سفير العراق في هولندا ثم كلمة السيد فيم فايلاند مدير متحف المأثورات الشعبية ؛ بعدها بدأ حفل الافتتاح بعرض فني أخاذ ، حيث قدمت راقصة هولندية رقصة  عرس جميلة بعنوان "ذكريات كلكامش" على أنغام الناي التي عزفها الفنان ستار الساعدي ، تقدمت الراقصة العروس وهي تسحب غلالتها البيضاء باتجاه مدخل المعبد ، تصل المنصة ثم تحلق بجناحيها الذهبيين إلى داخل المعبد الذي أصبح جزءا من العرض ، وبمرافقة إيقاعات طقوس دينية ، تكمل المشهد وتمنحه أبعادا صوفية . ومن المعبد أيضا انطلقت  الحناجر بغناء عراقي شجي ، أداه الفنانان بيدر حميد البصري و ألان جورج ، وتوحدت أصوات العراقيين والهولنديين وهي تردد بفرح ونشوة "طالعة من بيت أبوها....." و "فوق النخل فوق...." كذلك أبدع الفنانون ستار الساعدي و صفاء الساعدي و مولين توالفهوفن بتقديم مقطوعات موسيقية متميزة بأجواء الشجن والشوق جسدت للحضور لوعة الحنين إلى الوطن وشوارعه وأفيائه و ناسه .
بعد هذا الافتتاح الفني الباهر للمهرجان ، افتتح المعرض التشكيلي والذي ضم أعمالا عدة لمجموعة فنانين هولنديين و عراقيين . الفنانون التشكيليون العراقيون هم : قاسم الساعدي ، عفيفة لعيبي ، محمد قريش ، بالا صالح ، كولار مصطفى ، كوران رشيد . وقد استخدم الفنان قاسم الساعدي المعبد المصري أيضا لعرض عمل له في مدخله بعنوان "تعويذة حب" وهو عبارة عن ورق شفاف كأنه قصيدة من نسيج القلب وتحته بساط من الرمل عليه طريق من قطع سيراميكية باتجاه القصيدة ، كما عرض أعمالا أخرى منها : وجهان لبغداد ، ما بين الألم و الأمل ، مستخدما المسامير لإظهار آلام مدينة مصلوبة ما تزال حية .
كان الافتتاح المتميز والعرض المتنوع الجميل لأعمال وتجارب وخبرات مختلفة ، والحضور البهي لجمهرة واسعة من أبناء الجالية العراقية ومن الهولنديين ؛ قد أضفى على المهرجان بهجة و رونقا ، فكان بحق مهرجانا للفرح والثقافة و الفن .
كان المهرجان بتنوع نشاطاته نافذة أطلت منها ثقافة وفن العراق لتقدم الهولنديين نموذجا وصورة غير  تلك الصورة السلبية التي يعرفونها من وسائل الإعلام . كانت الفعالية جسرا لربط الثقافتين والتواصل بينهما ، فقدم هذا النشاط المشترك صورة زاهية عن العراق هي غير صورة القتل و والإرهاب و الدمار ؛ لقد حضر العراق بالصورة المشرقة التي يتشوق إليها العراقيون بعد طول معاناة من الديكتاتورية و ويلاتها .
تجدر الإشارة إلى أن المهرجان شهد إعلان مشروع تأسيس جمعية للصداقة الهولندية – العراقية ، تدعمها السفارة العراقية ، برئاسة السيد فان ايكلين ، وزير الدفاع الهولندي السابق ، ومن المؤمل أن ينعقد اجتماعها التأسيسي في 24/3/2009 .


133
بلاغ عن الكونفرنس الثالث لاتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في هولندا

عقد اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي فرع هولندا الكونفرنس الثالث في العاصمة السياسية لاهاي الهولندية بتأريخ 06-12، والذي اطلق عليه كونفرنس الزميلين الشهيدين مهند عباس واحمد معروف، الذين استشهدا جراء العميات الاهرابية في وطننا الجريح.  ابتدأت اعمال الكونفرانس بعد وقوف  المجتمعين  دقيقة حداد وفاء لشهداء الاتحاد وشهداء الوطن ، وبعدها بدأ سكرتير الاتحاد السابق الزميل اراز عباس بالقاء كلمة ترحبية تناول بها عمل واداء الاتحاد في الثلاث سنوات المنصرمة والجوانب المشرقة لعمل الاتحاد في تلك الفترة.
 جرى انتخاب هيئة رئاسة الكونفرنس واللجان الاخرى ومارست عملها ودورها  ، وقد استمع الكونفرنس بأهتمام واعتزاز لبرقية سكرتارية اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي  من  بغداد وكذلك لبرقية لجنة  تنسيق فروع الخارج . 
 وخلال سير عمل الكونفرانس الذي سادت فيه روح الصراحة والمسؤولية والتضامن في كل الفقرات والمواد التي جرى تدارسها و تداولها ، و كانت اوضاع زميلاتنا وزملائنا واوضاع الشبيبة العراقية داخل الوطن حيث شغلت  حيزا كبيرا من اهتمامات ونقاشات الحضور اللذين اكدوا على ان فرع الاتحاد في هولندا هو امتداد وجزء لا يتجزأ من اتحاد الشبيبة في داخل الوطن ، واتفقوا على اهمية وضرورة العمل وتواصله من اجل ان يقدم الزملاء في هولندا كل مايمكن من اشكال الدعم والمساندة لزملائنا وشبيبتنا  في الداخل الوطن .
وقد عبر الحضور عن اعتزازهم بتعزز دور ونشاط اتحاد الشبيبة في هولندا، وتوطد علاقاته مع المنظمات العراقية والهولندية. وجرى التأكيد على اهمية تعزيز وتوسيع عمل ونشاط الاتحاد وتطوير صلاته مع الشبيبة العراقية في هولندا.
 وبعد الدراسة المستفيضة جرى اقرار التقرير الانجازي والتقرير المالي، ثم جرت عملية انتخاب اللجنة التنفيذية بالاقتراع السري والمباشر.
وبعد فرز النتائج فاز الزميلات والزملاء:
هدى الكرمنجي ، مروة خضير، بان هاشم ، محمد سعد ، رامي الصراف  كأعضاء لجنة تنفيذية للاتحاد ،  والزميلة سروه طاهر والزميل هيمن بكر اعضاء  احتياط .
بعد ذلك اعلن عن انتهاء اعمال الكونفرانس  بنجاح .
نص كلمة الزميل اراز عباس في افتتاح الكونفرنس   
الزميلات والزملاء الاعزاء ، الاحبة المشاركين في الكونفرنس ، والضيوف الكرام
تحية طيبة
بالبداية نود ان نهنأكم على حلول عيد الاضحى، وحلول اعياد الميلاد ونتمنى ان تكون ايامكم مليئة بالحب والوئام والسلم لكم الحياة السعيدة ولاهلكم ولجاليتنا وشعبنا الجريح.
مرحباً بكم ونحن نتوج جهود زميلاتنا وزملائنا في التحضير النهائي لهذه الفعالية، للكونفرنس الثالث، كونفرنس اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي في هولندا، الذي نتمنى ان يكون بمستوى طموحنا للارتقاء بمستوى اتحادنا في هولندا. جاء هذا الكونفرنس مكمل للكونفرنسات والمؤتمرات التي انعقدت لاتحاد الشبيبة واتحاد الطلبة العام، في بغداد وكوردستان وعموم العراق. وذلك للحاجة الماسة للنظر بنظرة نقدية وشفافة لسنوات العمل الماضية وكيفية التألق بعمل الاتحادين في الظروف الراهنة.
في السنوات الماضية حدثت تغييرات ايجابية كثيرة في اتحادنا، من تسجيل رسمي واستقرار تنظيمي و اقامة الفعاليات المتنوعة، والحصول على الدعم المادي. بالرغم من اننا غير راضيين تماماً على ما تم تحقيقه، ونتمنى الاكثر من خلال مشاركة الجميع مشاركة فعلية وفعالة. اليوم نجتمع لنقييم تلك الفترة بحلوها ومرها، وذلك لكي نصل لاستنتاج وخلاصة لكيفية تفعيل اتحادنا اكثر في هولندا. لان طموحنا يدفعنا للعمل ليكون للاتحاد موقعه الخاص وسط الجالية في هولندا، كأمتداد لاتحادنا في بغداد وحامل تلك الرسالة ذات الهوية الوطنية المتميزة بحب الشعب والتأخي القومي والديني. ولكي يعبر عن الوجه المشرق للشبيبة العراقية في هولندا، وسط المشاحنات والنقاشات الحادة الجارية في هولندا حول الاجانب.
ان الفترة الماضية اثبتت بأن اتحادنا يتميز بعمله ونشاطه، وطريقه توجهه على الجمعيات والمؤسسات الشبابية العراقية التي لديها اجندة بعيدة عن الوطنية، مليئة بالنفس الطائفي المقيت والقومي الانعزالي. معاييرهم كانت بأن التوجهات الطائفية والتوجهات القومية هي الاساس في بناء الدولة، وذلك من اجل الحصول على مكتسبات كثيرة. وراحو يروجون لهذا النهج من خلال فعالياتهم ونشاطاتهم، لكن رأينا بأن شعبنا وجاليتنا وشبيبتنا رفضت هذا التوجه. لان ما يجمعنا اكثر مما يفرقنا. كل منا يحمل مواصفات وسمات وجذور متنوعة جعلت حياتنا وثقافتنا وتعايشنا المشترك لها طعم متميز ولها الوان، وينظر اتحادنا لهذه المواصفات كاالوان الورود الزاهية في حديقة اسمها العراق. اننا هنا كشبيبة عراقية نريد ان نعيد او نؤكد وحدتنا كشباب ، من خلال اقرارنا واعترافنا واحترامنا لخصوصية الآخر وحقوقه ، ونريد ان نؤكد بأن مايجمعنا هو اكثر مما يفرقنا ، وان تنوعنا هو مصدر واساس وحدتنا وقوتنا.
اننا هنا كشبيبة عراقية بكل الغنى الروحي والثقافي وما نحمله من خصائص وسمات ، علينا ان نجعل حياتنا وعملنا ونشاطنا هنا في هولندا تغتني اكثر بهذا التنوع والوحدة ، وان نعطي المثل  لما يجب ان يكون عليه كل من يرى ان جذوره تمتد عميقاً في وادي الرافدين ...
وبالوقت الذي نريد من المجتمع الهولندي ان يكون منفتحاً اكثر ومقراً بشكل عملي بالتنوع والخصوصيات التي يمكن ان تغني وتزهر اكثر في المجتمع الهولندي ، مطلوب منا نحن الشبيبة العراقية اولاً وقبل كل شيء ، ان نتعامل مع بعضنا كعراقيين موحدين بكل هذا التنوع والغنى الحضاري والروحي والثقافي والاجتماعي والفكري والسياسي الذي نحمله ونتميز به ، بحيث نعمل ونتعامل مع بعضنا كعراقيين من خلال المشتركات التي تجمعنا مع الأقرار بالخصوصيات التي تميز المكونات التي ننتمي لها ، فوحدتنا ليست قائمة على ذوبان او تذويب الخصوصيات اي كان نوعها وشكلها ، بل ان هذه الوحدة في العمل والتعامل المشترك هي اقوى واكثر انسانية من خلال الاقرار والاعتراف بالآخر. 
اننا اذ نقيم تجربتنا الفتية جدير بنا بأن نستذكر بالطيب وبالعرفان، بالجميل وبالتقدير والحب كل من ساهم بانضاج تجربتنا وبناء اتحادنا في هولندا. فشكرا لجميع الاصدقاء الاعزاء الذين ساهموا بأنضاج تلك التجربة.
واود ان اتوجه بالشكر لكم وبالاخص لزميلاتي وزملائي اعضاء اللجنة التنفيذية الحاليين والسابقين على وسع صدرهم وعلى عطائهم المتميز. وعلى ثقتهم العالية بي، كي اكون لمدة ثلاثة سنوات سكرتير لاتحادنا في هولندا. اديت عملي وشعوري بالفخر وبالتثمين بتلك المسؤولية التي اعطيتوها لي. لولاكم لما كنت استطيع اكمال العمل لحد يومنا هذا. كل ما اتذكركم ازداد نشاطاً وحيوية لمواصلة العمل. اشكركم على مساعدتكم، ومساندتكم لي وثقتكم بي. وهذا ما رأيته في الايام الصعبة التي مرت بالاتحاد.
زميلاتي وزملائي:
مي، اروى، مروة، بان، علي، مازن ، سلوان، واثق، سلام، اشكركم مرة اخرى لجهدكم وعملكم في اللجنة التنفيذية خلال السنوات الماضية،  واعلموا بان اتحادكم اصبح حركة شبابية راسخة تتميز بعملها في هولندا. ونحن اليوم نجتمع لكي نضيف لهذا الاتحاد طاقة وحيوية اكثر لممارسة العمل وسط الشباب، وفتح الابواب للزميلات والزملاء الجدد لاغناء تجربتنا السابقة وليكنوا قريبين من زملائنا في العراق ومن معاناتهم ومعاناة الشبيبة العراقية.
 واشكر الزميلات والزملاء الحضور، حضوركم دليل على حرصكم على الاتحاد. ونترقب منكم الحيوية والتألق في نشاطكم في الكونفرنس وفي اتحادنا. واقول بأن مشاركتكم مهمة للاتحاد ولكم ايضاً، لانها تعمق الوعي لمفهوم العمل الجماعي وعن البحث عن الهموم المشتركة بينكم كشباب. وتعلمنا هذه المشاركة احترام البعض وكيف نقوي اواصر المحبة والانسانية والتأخي، وسوف تستفيدون من هذه التجربة في علاقاتكم العاطفية والاجتماعية والعلمية. 
نتمنى للكونفرنس النجاح وان يخرج بمقترحات واراء جيدة، ونتمنى ايضاً للجنة التنفيذية الجديدة النجاح في عملها.
مع الشكر الجزيل


134
الغيرية في رواية "المتجول" للكاتب الهولندي أدريان فان ديس

لاهاي: نجاة تميم

    صدرت باللغة الهولندية رواية "المتجول" للكاتب الهولندي أدريان فان ديس عن دار أغسطس للنشر في هولندا وبلجيكا. والملاحظ أن الغيرية هي الثيمة المهيمنة في مؤلفات الكاتب. فهو يستلهم قسم من مواضيعه  من رحلاته المتعددة والقسم الآخر من الموروث الثقافي لوالديه اللذان عاشا فترة في جزر الهند الشرقية (اندونيسيا) المستعمرة الهولندية سابقا علما أن أصل والده من هذه الجزر. وبعد زيارته لمصر والمغرب أحب قارة إفريقيا. ومن ضمن ما كتب مجموعة قصصية تحت عنوان "الدار البيضاء"(1986). كما زار اليابان والصين ودول افريقية أخرى. وجاء إنتاجه كالأتي " الأرض الموعودة"، "في أفريقيا"، "بربري في الصين" وغيرها. ومن أشهر كتاباته وأروع ما قرأت له قصة "نبيذ النخيل" ورواية" المتجول".

    من الغريب حقا أن الكاتب يعاني منذ صغر سنه من عسر القراء (ديسلكسي). لكنه عوضها بقدرته الفائقة على التحدث بطلاقة، حيث كان ومازال يقدم برامج تلفزيونية أدبية وأخرى كصحفي متجول في دول جنوب إفريقيا. أليس رائعا أن تقرأ لكاتب مازال يعاني من اختلاط الحروف ؟

   لقد اشترت عديد من دور النشر حقوق نشر رواية "المتجول" التي صدرت عام 2007 وستصدر بعد ترجمتها في كل من ألمانيا، إنجلترا، ايطاليا، الدانمرك، إسرائيل، ورومانيا علما أن أول ترجمة باللغة الفرنسية سترى النور في ربيع هذا العام.

    تستهل الرواية  بشهادة غريبة "رأى الكلب كل شيء".ومعه بدأت القصة.  لقد اختار الكلب حضن مولدر الهولندي المقيم في باريس رغم أن أيادي كثيرة كانت تتلقفه. لكن قبل أن يتراقص الكلب، كما يسميه مولدر حيث لم يطلق عليه أسما آخر، أمام الشباك ويقفز هربا من النيران، كان مولدر متجها إلى مركز الشرطة ليبلغ عن اسم بديله ، نيكولا مغتان؛ الاسم الذي لمحه على لوحة أحد الأبواب في العمارة التي اشتعلت فيها النيران.

   "المتجول" قصة رجل هولندي يعيش حياة مرفهة في باريس. ومن المفارقات أن فان ديس أيضا يقطن العاصمة الفرنسية منذ أكثر من خمس سنوات وتبعا لنصيحة طبيبه كان يقوم بجولات يومية على نفس طريق مولدر. في احد الأيام دفعت جوقة من الناس مولدر إلى شارع لم يتعهد التجول فيه ليكون من ضمن شهود عيان لحريق شب بعمارة مهجورة. هذه الأخيرة كانت مكتظة بمهاجرين أفارقة شرعيين وغير شرعيين. حسب صاحب المحل، العربي الأصل، فنساء هؤلاء الرجال الكسلاء هن من أحسن زبائنه. واسترسل في رواية أحداث غريبة عنهم.

   بينما ترزح باريس تحت وطأة المظاهرات والتصعيد ضد الأجانب، تعرف مولدر، بفضل كلبه، على المدينة وبعض سكانها. وتعرف كذلك على الأب بغونو، قس كنيسة الحي الذي كان يتناقش معه حول الدين و الحياة وأسئلة أخلاقية أخرى. كان بغونو  يصر على أن الغرب لم يستطع تقديم المثل الأعلى، فالذي يهمه هو مصالحه. مولدر، رجل أبيض ثري، يحس بالذنب ويريد المساعدة. هذا الثري الذي يعيش من إرث لم يستطع أن يتخلى عن ترفه رغم أنه يريد أن يساعد الفقراء والمهاجرين غير شرعيين. فعندما جاءت المتسولة ذات الرجل الواحدة إلى بيته لم يستطع تحمل عفونتها ووساخة جسمها وملابسها. فركض ليخفي نبيذه المعتق وأقلام الحبر الغالية الثمن ووضع غطاء على حاسوبه. لقد حاول مرة أخرى مع الأب بغونو مساعدة لاجئ غير شرعي  للحصول على جواز مزور. فتعاون لأول مرة مع الألباني احد أعضاء المافيا. وفشل في مهمته. محاولة إنسانية أخرى مع "سري" أو سريمانتا  السريلانكية التي" لم تكن في حاجة للعمل في حقول والدها وأكملت تعليمها الجامعي في بلدها. سري، ألأرملة التي فقدت زوجها في الحريق، لم تملك نقودا كافية لدفنه في بلدها، وهي التي "كانت تقوم بأعمال بمدينة ليون، ترفض الأيادي  البيضاء القيام بها". باسم بديله نيكولا مغتان، أرسل مولدر مالا لمساعدتها البديل هو الذي يوسوس في أذانه وهو ضميره الذي يؤنبه. كان مولدر يقوم كذلك بزيارات اجتماعية للفتاة الصغيرة، ضحية الحريق  والمتعلقة بالكلب التي كانت تعالجه عند مرضه ولا يقبل غيرها للعناية به. محاولات كثيرة لمد يد المساعدة لكنها تنتهي بالفشل. لا لشيء وإنما لجهله بنمط  حياة وثقافة هؤلاء الناس. لم يستطع بماله تغيير حياتهم إلى الأحسن فعفة وعزة نفوسهم تمنعهم. تورط مولدر مرتين مع الشرطة، الأولى عندما  صرح باسم بديله، نيكولا مغتان، والثانية عند تواجده وسط مظاهرات واحتجاجات الغاضبين و المستائين من أوضاعهم السيئة. أرسلت الشرطة في طلبه. لكن الشرطي أستاء منه: "تمنيت طردك من البلد لكن مع الأسف لون بشرتك يمنعني".

  برواية "المتجول"برهن فان ديس أنه كاتب ملتزم. رغم أنه عالج ثيمة صعبة ومعقدة شيئا ما لكنه  استطاع  أن يحبك قصة غنية. وبأسلوبه الساخر تمكن من إبراز معانات المهاجرين الأفارقة وتكدسهم في بنايات غير صالحة للسكن وسوء المعاملة التي يلقونها  وممارسة التمييز العنصري ضدهم. وعكس هذا الوجه الآخر لهذه الثيمة التي تجسدت في  ألتوق إلى المحبة والأمان.
 
   جعل الكاتب، الشخصية الرئيسية، مولدر يكتشف باريس وسكانها بمساعدة صديقه الكلب  حيث من خلال جولاته اليومية تعرف على أناس من طبقات أخرى  كان يجهل وجودهم، أناس بدون مأوى  وآخرين فقراء معدمين و مهاجرين غير شرعيين و فقراء ضواحي باريس المهمشين. لقد ملئوا وحدته كما تعلق بالكلب بالرغم أنه كان لا يجرؤ النظر في عينيه. فيرمي الغطاء على رأس الكلب الذي يكشف بدوره عن عينيه. كان الكلب يعاتبه بنظراته. يسأله مولدر:" ماذا تريد مني؟"  يصمت الكلب. لكن عينيه تقول:" ترى إنسانا  يموت مداسا وأنت منشغل بثنية في سروالك. تعطي مالا للمتسولين لكن لا تجرؤ على مصافحتهم. تتأنق للآخرين لكن لا تترك أحدا يتقرب منك. تسخر من السكارى وأنت تشرب زجاجتي نبيذ". هذا الكلب فتح عيني مولدر على عالم غير عالمه. لكن في النهاية اضطر أن يتخلى عنه للفتاة اليتيمة، ضحية الحريق التي  يبدو أنها بحاجة له أكثر منه. وكانت النهاية أنه " سار وحيدا وقد رأى وسمع كل شيء" بعدما كان "الكلب" هو الشاهد علي كل شيء.

العنوان
H.N.Fayad
Van Everdingenstr. 149
2273 JM Voorburg
Holland

 

135
النظريات السكانية ونظرية التحول الديمغرافي مثالاَ (4)

   
نقد نظرية التحول الديمغرافي
   

    تنبع القوة التفسيرية للنظرية من ربط المميزات العامة للتغير الديمغرافي بالتغير الاجتماعي والاقتصادي الذي يلخص في الغالب بـ  "التحديث". وهناك وجهات نظر مختلفة حول النظرية. فنرى سزريتير وكرينهالغ يعتقدان بأن النظرية لم تفشل فقط في الاختبارات التجريبية لكنها أيضاً أضرت بالبحث التجريبي ويجب أن تهمل. آخرون مثل كيرك وماسون حددا بأنها يمكن أن يكون لها بعض جوانب الفشل لكن هذا يهيئ لبناء معرفي يقوي النظرية. ( )

   وقد واجه مفهوم التحول الديمغرافي نقداً أساسياً حتى من أوساط أتباعه. ففي عام 1973 على سبيل المثال في انطلاق المشروع الكبير لدعم نظرية التحول حدد كوال قوة وضعف النظرية. وذكر أن هناك صعوبة في تحديد العتبة الدقيقة للتحديث الذي يمكن الاعتماد عليها لتحديد مدى جاهزية الخصوبة للانخفاض. أما تشيسنيز فقد قال في عام 1986 أن قوة مفهوم التحول تكمن في الحقيقة التي لا يمن إنكارها بأنه في مجرى التحديث الكافي تتغير الخصوبة والوفيات بطريقة يمكن توقعها.( )

   حاول كوال والمشاركون معه من جامعة برينستون استخدام مسح ذي حجم كبير لتحديد المتغيرات الحاسمة التي قررت مستهل وسرعة التحول الديمغرافي في أوربا. وقد فشلت محاولتهم حيث أن دراستهم لم تستطيع إيجاد أي مؤشر اجتماعي- اقتصادي للتحديث يستطيع بدون لبس ولا إبهام شرح حدوث انخفاض الخصوبة في أوروبا. فالعوامل الاجتماعية- الاقتصادية التي تم التأكيد عليها من قبل نظرية التحول بدت إما عملة مزورة أو تناقض نفسها في شرح وقت الانخفاض ومعدله. ويشار إلى انخفاض الخصوبة المتزامن في هنغاريا وانكلترا علما أن تطور المؤشرات الاجتماعية- الاقتصادية في هنغاريا كان أقل بكثير مقارنة بانكلترا التي كانت تعتبر أكثر بلدان العالم  تقدما من الناحية الاقتصادية في ذلك الوقت. ومع أخذ الاعتبار لمجتمعات معاصرة مثل الصين وكوريا الجنوبية وسريلانكا التي باتت الخصوبة فيها قريبة أو تحت مستوى معدل إعادة الإحلال بدون تحقيق المتطلب المفترض الكامل في التطور الاجتماعي- الاقتصادي. كذلك بنغلاديش واحدة من الدول الأقل تطورا في العالم هي أيضاً مثال جيد آخر لانخفاض الخصوبة. وفي ضوء تقييم التسجيل المعاصر لانطلاق وسرعة تحول الخصوبة وجد كلا من بونغارتس وواتكينز أيضا تبايناً كبيراً جدا في كل المؤشرات الاجتماعية- الاقتصادية المطبقة مؤكدين خلاصات دراسة جامعة برينستون المشار إليها لتاريخ أوروبا الديمغرافي.( )

   يناقش كالدول بأن انخفاض الخصوبة يعتمد على التطور الاجتماعي ( أساساً التغير في العلاقات العائلية) الذي ليس من الضروري أن يترافق مع التحديث الاقتصادي. رغم أن الكثير من الباحثين لا يرفضون بالضرورة تفسير الرؤى الكلاسيكية لنظرية التحول الديمغرافي وهم يجدون من المهم التأكيد بأن القوى التي يرتكز عليها التحول الديمغرافي لا تتطلب فقط  تغيرات في الظروف المادية وفي التقسيم الاجتماعي للعمل والموارد ولكن أيضاً تتطلب تغيرات مهمة في الجانب الاجتماعي والثقافي فيما يخص عدد الأطفال المرغوب به وسلوك إعادة إنتاجهم.( )

   ومثل نظرية الحداثة فإن نظرية التحول الديمغرافي في بعض نسخها المعدلة تنكر العالم الثالث كتاريخ وتفترض بأن التقدم يتكون من انجاز الظروف المميزة للغرب. وبما أن التحديث والغربنة انتقلا إلى دول أخرى فإن سكانها سيواجهون نفس مراحل التغيير الديمغرافي. وحسب اعتقاد كيرك هذا ما يحدث بالضبط حيث أصبح تحول الخصوبة عالمياً. ( )

   وفي حالة اليابان الفريدة فهي أول مجتمع غير أوروبي أصبح متطوراً وأول من شهد التحول الديمغرافي. ويبدو أن الانخفاض الرئيسي في الولادات بدأ في أواخر القرن التاسع عشر. ويقدر أن معدل التكاثر الإجمالي كان 3,0% في عام 1875 . ومن هذا التاريخ أنجزت اليابان تقدما اجتماعيا واقتصاديا وانخفض معدل كلا من الوفيات والولادات. ورغم عدم التأكد من التفاصيل يبدو أن التنمية الاجتماعية-الاقتصادية والانخفاض الرئيسي في معدل الولادات كان وثيقا الصلة في حالة اليابان. في الحقيقة هذا الشيء الذي حدث طبيعيا في اليابان كان قبل تنفيذ برامج التخطيط العائلي الفعالة. وهذا يعني  بأن نظرية التحول الديمغرافي لم تكن ملازمة ومختصرة على الثقافة الأوروبية ومن ثم يجب أن يعد هذا نصر رئيسي لها.( )

    وحسب ون وينكلير رغم كل الانتقادات الموجه لنظرية التحول الديمغرافي فإنها تظل إطاراً مفيدا لتحليل التغيرات الديمغرافية من وجهة نظر تاريخية .أما إمكانية تطبيقها على التحولات الديمغرافية في الدول النامية فهي ليست مجرد نقاش أكاديمي لكن لها أهمية عملية كبيرة بخصوص السياسة السكانية الملائمة التي يجب تبنيها. ( ) ومن وجهة نظرنا فإن هذه النظرية يمكن تطويرها لتأخذ في الاعتبار الإطار العام  لطبيعة البنية الاجتماعية والاقتصادية في الدول النامية وهذه القضية يفترض أن تبقى مدار نقاش أكاديمي مثمر. وهنا أتفق مع د. برهان غليون الذي يقول أن المفاهيم النظرية تتطور وتغير أو تٌعدل من مضمونها ومن أشكال تطبيقها تاريخيا مع تطور الواقع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي الذي أنتجها كما تتطور مع تبدل المكونات التي تدخل فيها والحاجات الجديدة التي ترد عليها.( ) 

   أخيرا نخلص إلى أن التحول الديمغرافى في الدول المتقدمة أو النامية أمر معقد ولا يمكن النظر إليه ببساطة. فالعوامل والخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والنفسية والدينية والإرث الحضاري وغيرها تتداخل وتتفاعل لتعطى المسألة  الديمغرافية أبعادا قد تختلف عبر الوقت من بلد لآخر أو من مجموعة بلدان إلى أخرى ولكن في النهاية سيسري التحول ولو بدرجات متفاوتة في جميع البلدان لأنه يرتبط بالتحولات النوعية الناجمة عن التغيرات الكمية في الخصائص السكانية. فالمعروف أن التغيرات الكمية تفضي إلى تحولات نوعية.

انتهى
   

1- Elspeth Graham,’’ What Kind of Theory for What Kind of  Population Geography ?” International 2Journal  of  Population Geography, 6, 2000, p.261.
 3- Bart, J. de Bruijn, op. cit., pp. 47-48
 4-Ibid, p. 48.
5 -Ibid, p. 49.
 6- Elspeth Graham, op. cit., p.265.
 6- Steven E. Beaver, op. cit., pp. 25-26
 7- Onn Winckler, op. cit, p. 40
 8 - برهان غليون" منهج دراسة الديمقراطية في البلدان العربية: مقدمة نظرية" في المسألة الديمقراطية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 1، بيروت، 2000، ص 247.

136
النظريات السكانية ونظرية التحول الديمغرافي مثالاَ (3)

    د.هاشم نعمة
تطبيق نظرية التحول الديمغرافي

     من تطبيق هذه النظرية على الدول العربية وحسب ون وينكلير تبرز ثلاث ملاحظات رئيسية:   
الأولى: من الواضح جداً أن أنماط التحولات الاجتماعية-الاقتصادية والسياسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين في الدول النامية تشمل كلا من الدول العربية النفطية وغير النفطية كانت في الغالب وبشكل جماعي تختلف عن تلك التي تحدث في الدول الغربية المتقدمة. مثلا كانت حالة الاختلاف كبيرة في نواح عدة تشمل دور المرأة في الحياة الاقتصادية والسياسية ومستوى التصنيع ومصادر الدخل الحكومي ومتوسط الدخل الفردي والبنية السياسية. كل هذه النواحي لها تأثير كبير على السلوك الديمغرافي بشكل عام وأنماط الخصوبة بشكل خاص.

   الثانية: في الدول الغربية المتقدمة كان التطور الاجتماعي والاقتصادي في كل جوانبه وبالأخص ارتفاع المستوى المعاشي العامل الرئيسي الذي قدم من قبل نظرية التحول الديمغرافي لشرح الانخفاض الحاد في معدلات الوفيات الخام وفيما بعد في معدلات المواليد الخام. على العكس من ذلك في الكثير من الدول النامية  جاء الانخفاض في معدلات الوفيات بتأثير عوامل خارجية وفي مقدمتها استيراد التسهيلات الصحية الحديثة. ( ) وهنا لا أتفق مع الباحث ون وينكلير الذي لم يعط دوراً للتحولات التي شهدتها البنية الاجتماعية والاقتصادية والتي انعكست في تطور القوى المنتجة وانتشار التعليم وارتفاع مستوى الثقافة و الوعي. إذ يلاحظ أن هناك مثلا علاقة عكسية قوية بين تعليم الإناث و مستوى الخصوبة. وكذلك ارتفاع نسبة مشاركة النساء في فئة السكان النشيطين اقتصادياً. وتسارع عملية التمدن أي توسع المدن وزيادة نسبة السكان القاطنين فيها من مجموع السكان. هذه تعد من العوامل الرئيسية التي ساهمت في التحول الديمغرافي في دول مثل دول المغرب العربي كما يذكركيث سوتون. ( ) وفي تقديرنا بدون هذه التحولات لا يمكن أن يكون أثر استيراد التسهيلات الصحية بهذه الفعالية، رغم إن التحولات المذكورة لم تكن بالمستوى الذي يحدث في الدول المتقدمة. وهذه الوضعية يمكن أن تنسحب على الكثير من الدول النامية.

    الثالثة: لم تأخذ النظرية في الاعتبار ثلاثة عوامل لها تأثيراً أساسياً في سلوك الخصوبة: الأول الهجرة والثاني تأثير السياسة السكانية الحكومية على مستويات الخصوبة والثالث العامل الثقافي- الديني الذي كان موضع تغير ليس فقط من مجتمع إلى آخر بل أيضاً في داخل المجتمع الواحد بين الآباء والأبناء. ( ) ومن رأينا رغم أن العامل الديني يمكن أن يمتلك تأثيراً باتجاه بقاء الخصوبة مرتفعة لكن تأثيره يضعف عندما تتعمق التحولات الاجتماعية-الاقتصادية في المجتمع ولهذا نرى أسراً متدينة تتبنى التخطيط العائلي.
 
    هناك اعتبارات عملية تبرر محاولة تفسير وتطبيق هذه النظرية. فمنذ الحرب العالمية الثانية شهد العالم وبالأخص العالم النامي نمواً سكانياً غير مسبوق أطلق عليه "الانفجار السكاني". هذه الظاهرة يمكن اعتبارها نتيجة متوقعة لنظرية التحول. كذلك فقد توقعت النظرية أيضاً بأن هذه المرحلة مؤقتة وأن النمو السكاني سيتباطأ بواسطة حدوث انخفاض كبير أساسا في الولادات.( ) وهذا ما حدث بالفعل حيث شهدت الخمسون سنة الماضية انخفاضاً واضحاً في معدلات الخصوبة في البلدان الأقل تقدماً وذلك بانخفاض معدل الخصوبة الكلي من 6 إلى 3 أطفال لكل امرأة.( )


_____________________________________________________
- Onn Winckler, op. cit., p. 39.
  - Keith Sutton, “ Demographic Transition in the Maghreb” Geography an International Journal, Vol. 84 (2) April, 1999, p. 111-116.
 - Onn Winckler, op. cit., pp. 39-40

137
النظريات السكانية ونظرية التحول الديمغرافي مثالاً (2)

نظرية التحول الديمغرافي




د.هاشم نعمة
    جاءت هذه النظرية كوسيلة لشرح وتفسير الاتجاهات الديمغرافية في أوروبا التي لم تطابق آراء مالثوس.( ) وقد هيمنت على الجزء الرئيس من فكر الديمغرافية الاجتماعية. حيث أن عدداً كبيراً جداً من الأعمال النظرية والتجريبية اتجهت للبحث في القضايا التي أثارتها أفكار وادعاءات النظرية. ومن المرجح أن الهيمنة التي أحرزتها نتجت من كونها أحد الحقائق الديمغرافية القليلة أن لم تكن الوحيدة التي تعرضت لتغير الخصوبة السكانية.علاوة على ذلك فهي تملك بعض الجاذبية كونها توفر وجهة نظر ذات بعد عالمي.( ) وقد وفرت الحد الأدنى من الفائدة للعالم الاجتماعي فيما يتعلق بمحددات وعواقب التحول السكاني. رغم ذلك هناك عدم اتفاق حول الأمور الأساسية التي عالجتها.  وهناك أسباب وجيهة للقول بفائدة هذا التعارض في الآراء لكن الأكثر أهمية هي محاولة حل المشاكل النظرية والتجريبية الكامنة في النظرية.( )
 
    تنتج عملية التحول الديمغرافي في مجرى التحديث والتطور الاقتصادي من وضعية تتميز بارتفاع الوفيات والولادات إلى وضعية انخفاض الوفيات والولادات عبر مرحلة تتميز بمعدلات الوفيات المنخفضة وتباطأ في معدلات الولادات. هذا المفهوم للتحول الديمغرافي كسب زخماً كاملا فقط بعد  كتابات دافيز ونوتيستين في عام 1945 رغم أن الجوهر الكامل للعلاقة بين التحديث وانخفاض الوفيات والخصوبة إضافة للمراحل الثلاث للتطور صيغت بشكل كامل من قبل ثومبسون في عام 1929. ودرست العناصر الرئيسية من قبل لاندري في الأعوام 1909 و1934. وكذلك وردت في الدراسات الكثيرة للأجناس والسلالات البشرية التي أصدرها كار- سوندرز في الأعوام  1922 و 1934 و1936.( )
   
     تشرح هذه النظرية العلاقة بين معدل الولادات الخام ومعدل الوفيات الخام واستخدمت لتفسير آلية معدلات النمو السكاني في أوروبا الغربية. وقد وضع نوتيستين هيكلية التفسير الكلاسيكي للتحول الديمغرافي ونشرها في البداية في عام 1945 كما ذكرنا أعلاه. وطبقاً لهذه النظرية هناك أربع مراحل للتحول الديمغرافي الأولى غطت معظم التاريخ البشري حتى انطلاق الثورة الصناعية.  وتميزت بارتفاع معدلات الولادات والوفيات الخام حيث قادت إلى خفض معدلات الزيادة الطبيعية بل كانت سالبة في بعض الأوقات ويبدو أن معدل الزيادة الطبيعية لسكان العالم حتى منتصف القرن الثامن عشر كان طفيفاً بلغ 0,1% سنوياً. ( ) طبعاً نتج هذا من ظروف التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والصحي والحروب والمجاعات التي كانت تعيشها البشرية آنذاك. وتتمثل هذه المرحلة حالياً في المجتمعات الزراعية ذات البناء والاجتماعي القبلي أو التقليدي المتخلف التي لم تنتقل بعد إلى الحياة العصرية وتشمل مناطق محدودة من العالم. ( )المرحلة الثانية تميزت بالانخفاض الثابت في معدلات الوفيات الخام بسبب تحسن المستوى الصحي والاقتصادي والتعليمي لكن معدلات الولادات الخام لم تنخفض بشكل أساسي في المراحل الأولى للثورة الصناعية بل استغرقت عدة عقود. لذلك خلال الفترة 1750-1800 قدر معدل الزيادة الطبيعية للعالم عند 0,4% كمتوسط  سنوي. وحسب نوتيستين فقد انخفضت الوفيات في أعقاب الثورة الصناعية لأنها أحدثت تغيرات مادية فيما يخص التطور الزراعي واتصالات أفضل وإنتاجية عالية وتحسن في الظروف الصحية. ولكن الخصوبة  كانت أقل استجابة لمثل هذا التحديث وانخفاضها اعتمد بدرجة كبيرة على انهيار الأنظمة الاقتصادية والقيمية – الذي أعقب انخفاض الوفيات-  والتي دعمت الخصوبة العالية.( )  وخلال القرن التاسع عشر ومع انتشار الثورة الصناعية تعزز بقوة انخفاض معدلات الوفيات نتيجة الانخفاض الحاد في معدلات وفيات الرضع والأطفال مع زيادة مهمة في العمر المتوقع وبما أن معدلات الولادات استمرت عالية تسارعت بشكل أساسي  معدلات الزيادة الطبيعية في الدول الأوربية الغربية المتقدمة حيث وصلت أكثر قليلاً من 1% كمتوسط  سنوي في نهاية المرحلة أساساً في العقد الأول من القرن العشرين. بينما دخلت الدول النامية لهذه المرحلة متأخرة ولكن بسرعة مستفيدة من التقدم الحاصل في مجال الطب الوقائي والعلاجي ولا يزال الكثير منها يمر بها حيث يكون معدل نمو السكان أكثر من 2% سنوياً. ( ) بهذا يمكن القول بشكل عام أن العراق يمر في المرحلة الثانية من التحول الديمغرافي حيث أن المعدل المذكور أكثر من 2% حسب الجهاز المركزي للإحصاء والأمم المتحدة.( )  وبدأت المرحلة الثالثة بعد الحرب العالمية الأولى وتميزت بالانخفاض الواضح والثابت للخصوبة مترافقة مع استمرار الانخفاض في معدلات الوفيات الخام حيث قادت إلى انخفاض عام ثابت في معدلات الزيادة الطبيعية في الدول المتقدمة (يتراوح معدل النمو السكاني في هذه المرحلة بين 1%-2% سنوياً). أما المرحلة الرابعة فقد بدأت منذ السبعينات حيث استمرت معدلات الزيادة الطبيعية منخفضة جداً في الدول الأوربية إضافة إلى الدول الصناعية الأخرى وفي كثير من الحالات وصلت إلى مستوى أقل من معدل الإحلال 2,1 وهو متوسط عدد الأطفال الذي تلده المرأة لمواصلة الإنجاب مستقبلاً. وخلال العقد الماضي استمرت معدلات الزيادة الطبيعية منخفضة جداً في معظم دول الإتحاد الأوروبي حتى اقتربت من الصفر. هذه المرحلة من التحول الديمغرافي لها انعكاسات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبيرة على هذه الدول في المدى القصير والطويل.
 
     في العقود الماضية ما بدا مجرد وصف أو شرح للاتجاهات التاريخية للوفيات والخصوبة في أوروبا أصبح بشكل متزايد أكثر تفصيلا واتحد مع اهتمامات إضافية أخرى مثل المفاهيم المختلفة للتحديث والتحول من المحددات الاجتماعية- الاقتصادية إلى المحددات الثقافية- المثلية والنفسية للخصوبة. وقد جرى الاعتقاد بأن مبادئ التحولات الديمغرافية التاريخية تنطبق على أي وضعية معاصرة وهذا يعني أن كل دولة ومنطقة وسكان يمكن إن تسير في مجرى تطور التحديث سيرافقه انخفاض الوفيات والخصوبة. في ضوء هذه الاعتبارات يعد مفهوم أو تصور التحول الديمغرافي بشكل متزايد نظرية ذات شرعية عالمية مع قوة على التوقع المستقبلي. بينما حتى الآن لا يوجد اتفاق حول الوضعية النظرية لمفهوم التحول الديمغرافي ومن الجدير بالذكر أن كيرك وهو ديمغرافي آخر ساهم بالصياغة الأولية للنظرية يدعى بأن لا نوتيستين ولا ثومبسون فكرا في البداية بأن آرائهم تشكل نظرية.( )

___________________________________________________________________________
 - Steven E. Beaver, Demographic Transition Theory Reinterpreted, Lexington Books, London, 1975, p.1.
 - Bart J. de Bruijn, Foundation of Demographic Theory: Choice, Process, Context,  pp. 46-47.
 - Steven E. Beaver, op. cit., p. xix
 - Bart, J. de Bruijn, op. cit., p. 47.
 - Onn Winckler, Arab Political Demography, vol. 1, Sussex Academic Press, Brighton, Portland, 2005, pp. 34-35.
  - د.فاضل الأنصاري، مصدر سابق، ص 123-125 .
 - Bart, J. de Bruijn, op. cit., p. 47.
  - د.فاضل الأنصاري، مصدر سابق، ص 123-125 .
  - للمزيد فيما يخص تطور الخصوبة في العراق راجع مقالنا "العراق: الخصوبة السكانية والمتغيرات الاجتماعية- الاقتصادية" الذي سينشر في مجلة الثقافة الجديدة العدد 321 لسنة 2007.
 - Bart, J. de Bruijn, op. cit., p. 47.

138
العراقيون في هولندا يقيمون احتفالاً تأبينياً  لشهيد الثقافة كامل شياع
نجم ساطع آخر يتألق في سماء الوطن الحبيب

ليلى الحداد-هولندا

في جو مهيب وفي مساء هولندا الماطر، وكأن الطبيعة أبت إلا أن تؤبن شهيدنا المتميز  بفكره وعطائه وإنسانيته وثقافته النيرة ، في هذه الأمسية....أمسية الخامس من أيلول 2008 ..في مدينة دنهاخ (لاهاي)، اقامت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في هولندا حفلا تأبينيا مهيبا حضره جمهورمن المثقفات والمثقفين والأدباء والفنانين ورفاق وأصدقاء ومحبي كامل شياع  وكان من بينهم المفكر الدكتور نصرحامد ابو زيد؛ وكل من هزّه هذا الخبرالمفجع وهذه المصيبة الأليمة التي ألمّت بعراقنا الحبيب  بفقدانه أحد ابنائه البررة ، من حاملي مشعل الحرية والتغيير..داعية السلام والمحبة والتسامح .. الذي اراد  من خلال المؤسسة الثقافية ،أن يعيد موروثنا الحضاري والفكري العريق كعراقة العراق وعمق تاريخه الممتد لآلاف السنين ، أراد مواجهة السلاح بالثقافة النيرة .
توافد هؤلاء المبدعون ، المثقفون ، من كل صوب وحدب  ليس فقط من مدينة دنهاخ وانما من جميع مدن هولندا حتى لا يفوتهم شرف المشاركة في تأبين شهيد الثقافة..كامل شياع .

استهل هذه الامسية الحزينة عريف الحفل الفنان المبدع قاسم الساعدي معلنا افتتاح الاحتفالية ، وطلب من الحاضرين جميعا بكل خشوع ورهبة  ، الوقوف دقيقة صمت على روح شهيد الثقافة الحرة كامل شياع  ،شهيد الحزب الشيوعي العراقي ، وكل شهداء الحزب والحركة الوطنية العراقية الذين خضّبوا بدمائهم الزكية الطاهرة أرض العراق الحبيب ليمهدوا الطريق لعراق حر وديمقراطي . وبعدها رثى الشهيد بكلمات حزينة حيث قال :
كامل...نبيّ خارج عن متسع المنفى، وعن ضيق معاطف السياسات ...الطوائف..والاقاليم...الى حلم باتساع العراق .
عراق بأجمل محمولاته : الثقافة ، الخبز ، الأمل ،الغد .
ما مر عام والعراق ليس فيه جوع...يقول السياب العظيم :
خواء البطن والفكر ايضا ...وجياع العراق ينامون على الطوى... فوق بحر متلاطم الثروات...
كامل كان يحلم بالعدل كما أبي ذر ...وعلي
ويحلم بالخير وبالجمال كما ..فهد..سلام عادل...وكما فرسان الامل .
ولن يسّر القاتل المؤجر ...ولن يشمت القاتل المأجور...لان أجيالا كانت ولم تزل تعبر الصبح نحو ذات الحلم..ذات الامل ..
الحلم قد يطول وقد يؤجل ...لكنه لن يموت .
كائنا من كان القاتل ..كيفما استنسخ شكله ..لون لثامه ..عقيدته..وقناعه .
وكائنا من كان على القائمة ومن يأتي ..توفيق رشدي في عدن ، خالد العراقي /عادل وصفي في بيروت ، قاسم عبد الامير عجام في بابل ، شهاب التميمي في بغداد ، و اخيرا الكامل شياع.
القاتل واحد ..القاتل ذاته ، رغم ازدحام الأفق بالقتلة المحترفين ، المأجورين ، فاشست وظلاميين ، القاتل واحد...مسدس إزاء الثقافة.. وخراب منظم يستهدف الارض وأخيارها.

ثم توالت الكلمات المعبرة عن عميق الالم والحزن والحسرة على فقدان العراق احد أنبل ابنائه ..كامل شياع  .
استهلت منظمة الحزب الشيوعي العراق في هولندا كلمتها بقولها :

نلتقي اليوم لتأبين الرفيق كامل شياع ، الذي اغتالته رصاصات الغدر في بغداد ، هذا الرمز الكبير من رموز ثقافتنا الوطنية ، غيبته رصاصات قوى الظلام والهمجية وهربوا كالخفافيش التي لا تعيش إلا في الظلام والجحور .
إن الشهيد كامل وكل من سبقه من الشهداء كتبوا بدمائهم الطاهرة الزكية تاريخ العراق النضالي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الانسان ، وان اغتياله لن يزيدنا إلا إصرارا على مواصلة النضال في سبيل إرساء القيم النبيلة التي كرّس الشهيد حياته ومواهبه من أجلها حالما بغد مشرق وعراق حر وديمقراطي .
إن كامل باق حي بعطائه وفكره وتواضعه ونبله...وحاضر أبدا في ذاكرة حزبه وشعبه .
كما قدمت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في هولندا ، خالص مشاعرالعزاء و المواساة لعائلة الفقيد ، للأم المفجوعة بقتل ولدها، ولابنه الياس وكل العائلة الكريمة، نعزي انفسنا و كل مثقفي العراق  واصدقائه ومحبيه وكل  ابناء الشعب العراقي .

 كلمة الكاتب والناقد ،ياسين النصير " الموت في الوطن "   تحدث فيها عن كامل   والحزن بادٍ على سيماء وجهه العابس والرافض أن يقبل بهذه الحقيقة المرة، تحدث عن اول عهده به وعن اللقاء الذي تم بينهم في صيف هذا العام في بغداد ، وكان الحوار الدائر بينهم عن هموم الثقافة والمثقفين وعن آخر المشاريع التي كان يتكفلها كامل شياع في مهمته الصعبة ، وعن هواجسه والمعوقات التي تعتري عمله، ثم اضاف : هو الاحتلال ، هذا ما يراد أن يقال عن استشهادك  يا كامل كي يسكتوا عن الفاعل الحقيقي ، نعم هو الاحتلال ، ولكن القوى التي تقتل تحت مظلته هي المسؤولة، فلا تغطية للجريمة باسم الاحتلال ، أرادوا أن يضربوا في القلب ، فضربوا الحزب الشيوعي ، أرادوا ان يضربوا الثقافة فقتلوا المثقف المتسامح . نريد من هذه الاحتفالية التأبينية ان نذكّر الجميع ألاّ ينسوا دم كامل شياع، وألاتطفأ قضيته وتسجل كأية قضية أخرى ضد مجهول ، كيف يكون القاتل مجهولا والصمت الذي رافق الجريمة يشير الى أكثر من جهة . نريد ان يكون صوت الثقافة بشخصية كامل شياع صوتا وطنيا ، فاغتياله هو اغتيالنا والسكوت عنه سكوت عنها ، نريد وباسمكم جميعا ان تقتص الدولة من القتلة حتى ولو بعد حين ، فدم الثقافة لا يدخل في خانة المساومات والمصالحات ، لأن موته ليس قضية شخصية كما يريد البعض أن يصورها ، بل هي قضية وطنية أبعد حتى من أي مشروع ثقافي ، وأقولها صراحة : إن خيوط المجرمين بدأت تطرق مدن أوربا فانتبهوا ! وأضاف
 فأي موت هذا الذي أحدثته في الأشياء ؟
البعض يموت وهو يصوّب عينيه على أسرته، بينما انت تستشهد في اللحظة التي تصوّب فيها عينيك على الوطن.

كلمة الكاتب جاسم المطير  " كامل شياع المنتمي الحر " كانت كلمته معبرة ..ومتسائلة  عن الدواعي لاغتيال "كامل شياع" الانسان المتفاني.. العاشق للحرية ..العاشق للثقافة ..العاشق للجمال..شهيد القلم الحر. وإن تجربة شياع في المنفى وفي الوطن ، تركزت على نشر الوعي الديمقراطي بين المثقفين العراقيين ، وبين المواطنين.. لانه كان يعي حقيقة ان الفرد والجماعة كلاهما بحاجة الى الثقافة ، ثم أضاف :
كانت حركة الرصاص مجرد محاولة تقليدية في الغدر استكمالا لجريمة حرق شارع الثقافة ، شارع المتنبي قبل عامين ، لكن هذه المحاولة نفسها حرضت المثقفين العراقيين داخل الوطن وخارجه غلى تجميع قدراتهم في روح واحدة متجاوزة الغدر والاغتيال لتصبح في يوم قريب ضميرا ووجدانا للحرية كمثال اعلى ، وليصبح الانتماء كمدار للحياة . وما اجتماعنا التأبيني في لاهاي الا تجسيدا لتلك القدرات وتلك الروح المقتحمة للفوضى والارهاب.

هكذا صارت عملية اغتيال كامل شياع ليست مأتما للحزن بل تصورا جديدا للعراق الجريح ومصدرا من مصادر تجديد الحياة الثقافية قي بلاد الرافدين تتمثل فيها الرؤية الخاصة التي بلور نظامها كامل شياع في حياته ومماته .
لن يخبو شعاع كامل شياع فقد ترك للمثقفين العراقيين طاقة حضارية وعنوانا شامخا لكل بناة المجتمع المدني في بلاد الرافدين . ثم أضاف الكاتب جاسم المطير قائلا
نداء أخير، من هذه القاعة، الى الأحزاب والقوى الوطنية ، هو نفسه نداء كامل شياع :
أيها العراقيون حافظوا على العلماء والمثقفين والمبدعين العراقيين فهم المخزون الاستراتيجي الثقافي المتجدد القادر على صنع التقدم الحضاري في وطننا.

صمت رهيب خيّم على الحاضرين جميعا مشدودين ومستمعين لحديث الروح ، حديث السنطور وسحر أنامل الفنان المبدع وسام أيوب تسطّر ملحمة موسيقية ، وتجلى في رائعته ؛ وحلقنا نحن في سماوات العراق الحزين  ، وعيوننا شاخصة على صورة الحاضر الغائب ،كامل شياع وهي تضئ  قاعة التأبين ، بابتسامته الدمثة وعيونه الشاخصة الى مستقبل رحب لثقافتنا وازدهارها وسموها.

ودعا الفنان قاسم الحاضرين الى استراحة قصيرة ومشاهدة معرض من أربع لوحات هي آخر ما أنجزه الفنان الساعدي عن بغداد ، عن معترك الامل ..عن الحياة المطعونة بالالم ، والامل..وعن الجمال الذي يكابر .. ينتصر ويقول أيضا بالمختصر إن ذلك هو كامل...الذي أراه الان ومن مجده السماوي ، ينظر مبتسما .  ويضيف :
لأن الفن مطهر للقلب ورافع لجمال الروح  ..ولأن التجلي معبر للرؤية ..لاستحقاق الفعل والحلم معا ، فلقد كان كامل  ..عاشقا للفن .. عميقا في محبته وانحيازه للجميل وللجديد ..فإنه كان الصديق الأقرب للفنانين .


واستمع الحضور الى مقطوعة موسيقية للفنان المبدع " ستار الساعدي " كمساهمة منه في حفل التأبين خصيصاً لروح ومجد كامل ، وأرسلها مشكورا عبر البريد الالكتروني لسفره خارج هولندا . ثم عرض فلم يصور مراسيم التشييع المهيب للفقيد كامل شياع .

وقد قُرئت العديد من الكلمات لمنظمات وجمعيات وشخصيات
كلمة مجلس تحرير " الثقافة الجديدة
 كلمة منظمة رابطة الانصار الشيوعيين – في هولندا
كلمة مرسلة من  الدكتور كاظم حبيب .
كلمة اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي – فرع هولندا .
كلمة رابطة المرأة العراقية – فرع هولندا.
كلمة الفنانة التشكيلية المبدعة عفيفة لعيبي .
كلمة الفنان المبدع  ستار الساعدي
كلمة الدكتور هاشم نعمة .
كلمة مرسلة من  الاستاذ زهير كاظم عبود.
كلمة النادي الثقافي العراقي في هولندا /جمعية عشتار للنساء العراقيات في لايدن .
كلمة الفيرالية المندائية في هولندا .
كلمة الحركة الديمقراطية الاشورية  .
كلمة المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الانسان  - في هولندا.
كلمة جمعية البيت العراقي.
كلمة الكاتب والشاعر " ياقو بلو " .

وجميع الكلمات عبّرت عن عميق الحزن والمواساة للعراق أولا وللحزب الشيوعي الذي فقد واحدا من خيرة رفاقه ..ولعاتلته الثكلى .. وكل رفاقه وأصدقائه ومحبيه ..وكل عراقي وطني شريف غيور على   بلده .
كما أن الجميع طالبوا وبشدة ان تتحمل الحكومة العراقية مسؤوليتها الكاملة إزاء ما حدث ويحدث وربما سيحدث لمواطنيها  الشرفاء الأجلاء أصحاب العقول والكفاءات  والمبدعين  من الأطباء وأساتذة الجامعات والعلماء وجميع المثقفين التي تهدر دماؤهم علنا ، في حين أن العراق أحوج ما يكون لمثل هذه الكفاءات المبدعة لبناء حاضره ومستقبله ولتخليص البلاد من المشعوذين والجهلة وأصحاب العقول الخاوية ، وأن تلاحق الجناة القتلة المأجورين والإرهابيين  وتقديمهم للقضاء العادل لكشف دوافع هذه الجرائم ومن يختفي وراءها.

 كما قرئت  قصيدة كتبها الشاعر" عبد الكريم كاصد" ،..الى روح الشهيد ..كامل شياع  ،  ومن أجواء القصيدة :
حين قدمت الى الجحيم ،  بجناحي ملاك ، وقلب طفل
لم يكن بانتظارك أحد...لان الجميع هنا في شغل
يحملون المصاحف والتوابيت ، في الطريق الى الجنة:
الطيبون والاشرار ..الملائكة والشياطين..اللصوص والقتلة
ماذا كنت ستفعل يا كامل في هذا السيرك ؟
اية نار تطفئ ؟ ايّ جدار تبنيه لجنتك الخضراء ..
وسط جحيم ..أوله ليل وآخره ليل
ايّ طوائف تجمعها ؟ وان اجتمعت فلذبحك انت..


ومسك الختام مقطوعة موسيقية  " من الذاكرة " عزفها الفنان المبدع وسام ايوب على آلة السنطور  ، وختم فقرته الموسيقبة الحالمة ..بعزف النشيد الوطني .. وانشد الحاضرون جميعا معه لمجد العراق.

ثم أعلن الفنان قاسم الساعدي عن تبني جميع من حضر هذه  الاحتفالية التأبينية " نص نداء  باسم الحفل التأبيني يطالب الحكومة العراقية بتحمل مسؤوليتها في الدفاع عن المثقفين والمبدعين ، وتشكيل لجنة للتحقيق في مقتل الشهيد كامل ، وسيقدم النداء عبر السفارة العراقية في هولندا إلى الحكومة العراقية .
 
وفي ختام حفل التأبين  خاطب الفنان قاسم الساعدي الحضور قائلاً ..
شكرا لوجودكم اليوم ..من أجلكم ، من أجلنا ، من أجل كامل والعراق
حينما ننفض الحزن لنفكر فرادى وجماعات ..ما العمل ؟
وحينما ننسج أحلامنا ونخيطها بعضا لبعض ، ونبدأ الفعل ..
حين ذاك يكون القصاص ...حين ذاك سنقتل القاتل..

المجد لكامل شياع ...المجد لكامل شياع ...المجد لكامل شياع




139
المنبر الحر / رحيل مثقف ملتزم
« في: 01:42 07/09/2008  »
رحيل مثقف ملتزم

د. هاشم نعمة
   ها نحن نفجع برحيل مثقف ملتزم وباحث متنور ومناضل جسور ذلك هو كامل شياع الذي اغتالته الأيدي الآثمة الملطخة بدماء الشرفاء من المثقفين والمبدعين والكتاب وأصحاب الكفاءات والذين أغاض تشبثهم بأرض العراق قوى الإرهاب والظلام والجريمة وفجر مكامن حقدها الدفين.
     كنت يا كامل صاحب مشروع ثقافي أردت أن يخطو خطواته الأولى في وسط جو محموم بالاحتراب الطائفي والتزمت الديني والفكر الشوفيني. تركت المنفى وعدت إلى وطنك بكامل أرادتك لتكون من المؤسسين لهذا المشروع. لقد كانت عزيمتك قوية صلدة وشوكتك لا تنكسر يوم أبلغتنا في العام الماضي في جلسة سمر ضمنت بعض الرفاق والأصدقاء في بيتنا في لاهاي بعد انتهاء ندوتك القيمة والمتميزة حول الديمقراطية والهوية والتي نشرت لاحقا في مجلة الثقافة الجديدة بأنك باق في العراق مهما تكن النتائج. وقد عبر عن هذا الوضع الشبيه الجواهري الكبير قبل عقود خلت يوم قال.
              يومَ الشهيد طريقُ كل مناضلٍِ         وعرٌ ولا نُصُبٌ ولا أعلام
              في كل منعطفٍ تلوحُ     بلية         وبكل مفترقٍ  يدب    حِمام
   يا كامل أني كنت على وشك أن أرسل لك الموضوع الذي شجعتني على الكتابة حوله لينشر في الثقافة الجديدة ولكن هول الفاجعة كسر قلمي ولم أضف بعدها كلمة واحدة. ولكن أعدك بأني سأعود يوما لإكماله ليرى النور على صفحات المجلة التي طالما أحببتها وأغنيتها بمساهماتك المعرفية المتميزة وبذلت جهدا كبيراً في استمرار صدورها بعد أن عادت إلى بغداد بعد سقوط النظام.
   يا كامل إننا ماضون على الدرب الذي سلكته وسيكتب بقلمك المئات من المثقفين المناضلين. إن استشهادك زادنا وعيا وعزما وإصرارا على مواصلة الدرب لتنتصر راية الثقافة  التقدمية الديمقراطية وليندحر فكر الإرهاب وقوى الظلام إلى مزابل التاريخ. وصدق الجواهري الذي قال:
            يوم الشهيد بك النفوس تفتحت             وعياً كما تتفتحُ الأكمامُ
  يا كامل نم قرير العين  فأن مشروعك الثقافي التنويري العقلاني سيواصله من بعدك رفاقك وأصدقاؤك ومحبيك من المثقفين البررة وستظل شعلتك متوقدة وقد خاب ظن الخائبين في إطفائها.

لاهاي في 4 أيلول 2008


140
الدكتور حسان عاكف  يلتقي الجالية العراقية في لاهاي لمناقشة اخر مستجدات الوضع السياسي



استضافت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في هولندا يوم السبت الموافق 23-8 -2008 في مدينة دنهاخ (لاهاي) الدكتور حسان عاكف ، عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، في ندوة عامة  ،استعرض فيها آخر المستجدات السياسية على الساحة العراقية،ومنها الأوضاع الأمنية وقانون انتخابات  مجالس المحافظات وقضية كركوك، والمفاوضات العراقية الامريكية الجارية بين الطرفين وغيرها من القضايا الهامة ،حضرها جمع من العراقيين .
استهل الندوة الرفيق أبو ابراهيم مرحبا بالحضور وشاكرا إياهم تلبيتهم هذه الدعوة ،كما نعى الكاتب والباحث الرفيق كامل شياع ، مستشار وزارة الثقافة الذي تعرض قبل ساعات من بدء الندوة الى هجوم وحشي من قبل قوى الظلام والموت والغدر، وطلب من الحاضرين الوقوف دقيقة صمت حدادا على روح الشهيد وكافة شهداء الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية العراقية.

 رحب الدكتور حسان بالحاضرين جميعا ، وقال إن الحديث عن الأوضاع السياسية ومستجداتها في العراق لا بد من أن يكون الوضع الأمني هو المدخل إليها ، حيث شهدت الأسابيع الأخيرة نجاحات على   هذا الصعيد  لتفكيك شبكة الخلايا الإرهابية خصوصا في ديالى والموصل، ولكن ديالى لا زالت من المحافظات القلقة نسبيا ، ولا زالت هناك جيوب وخلايا ناشطة للإرهابيين والصداميين ، و على العموم هناك تحسن نسبي تدريجي وربما بطيء على كل الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، كما ان هناك تحركا جيدا يتلمسه المواطن يوميا، إذا ما قورن الأمر بالسنوات السابقة .
كما ان عودة المهجرين والمبعدين وعودة وزراء جبهة التوافق بالذات كان موضع ارتياح الجميع على الساحة العراقية، وفي هذه الأجواء، وللأسف حصل ما حصل في يوم 22 تموز.
وأضاف الدكتور بأن قانون انتخاب مجالس المحافظات كان مطروحا على مجلس النواب منذ عدة أشهر ، وخلال هذه الأشهر ، تم تذليل العديد من النقاط الخلافية بين القوى السياسية، ولكن في 22 تموز ضاعت القضايا المهمة في قضية كركوك. فمنذ البداية كان هناك جدل في كيفية إجراء الانتخابات في كركوك ، ومن وجهة نظر الحزب ، يسن قانون الانتخابات ثم تستثنى هذه المحافظة او تلك منه، ولكن بقيت الأمور معلقة ،وحدثت خارج البرلمان لقاءات خصوصا في عشية 21 تموز، حيث تم الاتفاق مع الكرد وكذلك الحزب الاسلامي ، بينما الآخرون تحركوا باتجاه معاكس لترتيب وضع آخر وفاجأوا الحاضرين في البرلمان ،وأيضا دفعوا باتجاه التصويت السري، وكان الحزب الشيوعي متحفظا على العملية جملة وتفصيلا، لأن الذي حصل هو تعبير عن خلل سياسي ويمكن ان يكون لصالح التيار البعثي وأنصار النظام البائد،كما أن الهدف هو تصعيد الفتنة القومية بعد أن تلاشى خطر الفتنة الطاتفية ، كما لا يمكن لأي مادة في قانون الانتخابات ان تنسف مادة في الدستور وهي المادة 140؛ و لا ننسى دور القوى الخارجية الاقليمية والدولية في دعم مثل هذه الاطروحات , ونقرا من هذه اللوحة أن القوى المعادية للعملية السياسية بعد أن عجزت عن تنفيذ مآربها بدأت تبحث عن سلاح آخر في إدخال الشعب في دوامة وإرباكه.
تحدث الدكتور حسان أيضا عن تمثيل المرأة في مجالس المحافظات ،موضحا أن الدستور يؤكد على ضرورة الكوتة في مجلس النواب والمجالس المنتخبة وهذه تشكل 25%من الناخبين، وفي التصويت لم تراع هذه النقطة الهامة لتمثيل النساء ، واعتمدت آليات الانتخابات في مجالس المحافظات على أساس القائمة المفتوحة وهذا سيضر بفوز المرأة ومشاركتها في البرلمانات المحلية . عندما تكون القوائم مفتوحة  ويحق للناخب اختيار الاسماء فهذا مؤكد لن تحصل النساء على الأصوات التي تؤهلها للوصول الى البرلمانات المحلية .
وأضاف إن الوضع ليس سهلا ولا يحل بتراشق الاتهامات ، بل يحتاج الى التوافق على الصعيد السياسي ، والوضع يحتاج ايضا للتنازل من الجميع من اجل الجميع ، ويحتاج للبحث عن  قواسم مشتركة لمرحلة يبدو انها ستطول بعض الشيء.
اما عن الاتفاقية العراقية الامريكية فقد تناول الدكتور هذا الجانب بموضوعية وأضاف ، لقد وقّع رئيس الوزراء السيد المالكي إعلان مبادئ مع الرئيس بوش وهذا الإعلان غير ملزم، و لكل طرف أن يعلن عن القضايا المشتركة ، وهذه كانت إشارة اولى لعقد اتفاقية او بروتوكول بين الطرفين بعدها بدأ الحديث عن توجه البلدين لدخول مفاوضات لصياغة اتفاقية شاملة عسكرية وأمنية وصناعية وتكنولوجية وغيرها، ولكن للأسف الشديد ولحد هذه اللحظة مارس المفاوضون كل أشكال التعتيم على هذه المفاوضات بالرغم من ان كل القوى نادت بالشفافية لتكوين جبهة من خلال البرلمان وايضا جبهة شعبية لتقوية موقف المفاوض العراقي، ويبدو أن المفاوضات تفتقر الى منهجية مبرمجة للتفاوض مع الامريكان .
 قدم الامريكان مسودة للاتفاقية التي يريدونها ، لا تنص على إخراج العراق من الفصل السابع ، وكذلك الحكومة أعلنت عن رغبتها بإخراج القوات الأمريكية وعدم بقائها في العراق ، ولكن كيف يتم ذلك وكم من الزمن يحتاج ذلك ، لا أحد يعلم هذا ، إذا وضعنا في اعتبارنا أن الطرفين المفاوضين غير متكافئين.
ويبدو ان القضية شائكة ومعقدة وهذا يقود في النهاية ان تطلب الحكومة من الامم المتحدة بقاء القوات الامريكية مدة اطول.
وفي نهاية الندوة طرحت العديد من الملاحظات والمداخلات والاسئلة القيمة من قبل الحضور ، ودار حوار واسع بين المشاركين والدكتور حسان ،ومما لا شك فيه ان مثل هذه الحوارات والمناقشات  أضافت  للمحاضرة واغنتها ، وهي تنم عن اهتمام الحضوروحرصهم ومتابعتهم قضايا الوطن وهمومه.وقد أجاب الدكتور حسان على جميع الاسئلة والاستفسارات وشكر الحضور جميعا .

 ليلى حداد / لاهاي



141
نـداء للدفـاع عن مثقفي العـراق


     بالطريقة نفسها، مسلحون مجهولون يقطعون الطريق ويطلقون رصاصات غادرة، قُتل كامل شياع، أحد أبرز المثقفين العراقيين، وأحد أبرز المدافعين عن عراق مدني، حر، ديمقراطي، عادل.
     لم يكن كامل أول الضحايا، ولن يكون آخرهم. ولكن الرصاصة الغادرة التي قتلته استهدفت بضربة واحدة حزمة من الرهانات التي يمثلها: المثقف، المعارض السابق للدكتاتورية، صاحب الحلم المدني، الذي اختار العمل من داخل وطنه، رجل الدولة، الخارج على الانتماءات الطائفية والإثنية، العصي على الفساد.
     نرى، نحن الموقعين على هذا النداء، أن الدولة التي عمل فيها كامل منذ 2003 مسؤولة عن الكشف عن الجناة الذين سفحوا روح أحد أبرز أبناء العراق، وعن حماية كل فرد عراقي.
     لا نقول هذا بغايات سياسية، ولكننا نرى أن الدولة، التي ما زلنا نناضل لكي تستعيد تعريفها بوصفها دولة قانون محتكرة للعنف الشرعي، أمام تحد وجودي كبير، فإما أن تكون، أو أن تترك البلاد لعصابات القتل.
     إننا لا نرى في اغتيال كامل شياع استهدافا للثقافة ولحرية التعبير فقط، بل للدولة نفسها، الدولة التي لم تكن مبالية باغتيال مثقف كبير، فلم يكن للحكومة أو مجلس النواب أي موقف من حادثة اغتياله، في حين نعت الراحل مؤسسات دولية كبيرة.
     لقد أحيا اغتيال كامل شياع النماذج النمطية التي شهدتها أماكن مختلفة في العالم من استهداف للمثقف وتغييب لصوته. غير أن المثقف سيظل، بإصرار، واحدا من صنّاع حلم العراق.
     من جهتنا، نعلن عن تمسكنا بخط الراحل ورهاناته الإنسانية والوطنية، وأننا سنقاوم الرسالة التي أراد القتلة إيصالها، والتي تحاول أن توصل المثقف إلى إعلان استقالته.
     كما نعلن عن تأسيس مرصد للدفاع عن مثقفي العراق باسم (مرصد كامل شياع).
     ونعلن التزامنا بنشر تراث الراحل في كتاب.
     ومع ذلك، نطالب الدولة بخطوة جادة.
     وسيكون لنا، نحن مثقفي العراق، مساحة أخرى، وأكبر، من الاحتجاج، أطلقتها روح كامل شياع.

الموقّعون

ـ موفق مهدي عبود، سفير العراق في فرنسا
ـ محي كاظم الخطيب، سفير العراق لدى منظمة اليونسكو
ـ د. سلوى زكو، صحفية
ـ نعمان هادي، تشكيلي
ـ فيصل لعيبي، تشكيلي
ـ د. عبد الأمير العبود، أستاذ جامعي ووزير سابق
ـ باسم مشتاق، اقتصادي ورجل أعمال
ـ صلاح جياد المسعودي، تشكيلي
ـ كاويان محمود، تشكيلي
ـ أمجد حسين، أكاديمي ومترجم
ـ غسان سلمان فيضي، تشكيلي
ـ حجر مهدي الهيمص، شاعر
ـ د. وثاب السعدي، اقتصادي وحقوقي
ـ عبد القادر عياش، نقابي سابق
ـ سعد سلمان، مخرج سينمائي
ـ د. محمد حافظ يعقوب، كاتب وباحث (فاسطين)
ـ د. كامل الموسوي، اقتصادي
ـ د. حمدي التكمة جي، مهندس
ـ سلام حمزة، مصمم،
ـ د. سمير الطائي، أستاذ جامعي
ـ حسين شاكر، مصمم
ـ هناء صالح، مهندسة
ـ د. جواد بشارة، ناقد سينمائي
ـ قيس زيارة الساعدي، ناقد سينمائي وأستاذ لغة إنكليزية
ـ نجيب محيي الدين، تربوي، نقيب المعلمين الأسبق
ـ د. بشار عبد الجبار عبد الرحمن، أكاديمي
ـ د. هشام داود، باحث في المركز القومي الفرنسي للبحوث العلمية
ـ ساطع سيف، طبيب
ـ هاشم الشبلي، محام ووزير سابق
ـ خالد الصالحي، مصمم
ـ طه رشيد، مسرحي
ـ خالص محيي الدين، اقتصادي
ـ وليد السعدي، مهندس
ـ نجاة العياش، أستاذة متقاعدة
ـ عبد الوهاب عباس، محام
ـ طارق صالح الربيعي، مهندس
ـ يونس جمشيد، فنان
ـ عبد الستار ناصر، روائي
ـ رؤوف آل ديبس، محام
ـ اندريه صالح، مهندس
ـ سعاد محمد العلي، تربوية متقاعدة
ـ إسماعيل الجاسم، صناعي
ـ د. فليح حسن الحداد، طبيب
ـ صباح عباس، موظف
ـ ندى يوسف، متقاعدة
ـ د. إخلاص الطيار، باحثة
ـ خولة حمودي السعدي، مهندسة
ـ عبد الفتاح حمدون، صناعي
ـ أنسام العبايجي، ناشطة مدنية
ـ فرح الدجيلي، إعلامية
ـ زينة عسكر، ناشطة نسوية
ـ د. حيدر سعيد، باحث
ـ علي حاكم صالح، باحث ومترجم
ـ طارق هاشم، مسرحي وسينمائي
ـ حسين محمد عجيل، باحث وصحفي
ـ د. نهلة النداوي، أكاديمية وباحثة
ـ د. فالح مهدي، قاص وباحث في القانون
ـ فلاح رحيم، أكاديمي ومترجم
ـ د. سامي خالد، سياسي وأكاديمي
ـ أحمد الشيخ علي، شاعر وإعلامي
ـ شروق العبايجي، ناشطة نسوية
ـ د. سيار الجميل، باحث
ـ د. صالح ياسر، سياسي ورئيس تحرير مجلة (الثقافة الجديدة)
ـ د. يحيى الكبيسي، باحث
ـ حميد قاسم، شاعر وكاتب
ـ د. كاظم حبيب، باحث وكاتب
ـ خالد مطلك، شاعر وكاتب
ـ عزيز سباهي، سياسي وباحث
ـ د. تيسير الآلوسي، باحث
ـ مصباح كمال، خبير تأمين
ـ باهر بطي، طبيب
ـ ضياء الشكرجي، مفكر وسياسي
ـ محمد عطوان، باحث
ـ د. خال السلطاني، معمار وأكاديمي
ـ سهيل سامي نادر، صحفي
ـ سعاد الجزائري، صحفية
ـ فائق بطي، صحفي
ـ د. زهدي الداوودي، قاص
ـ زهير الجزائري، كاتب وصحفي
ـ د. لؤي حمزة عباس، قاص وباحث
ـ ليلى عثمان، موظفة متقاعدة
ـ أحمد الضايف، رجل أعمال



142
  في هولندا ندوة للكاتب جاسم المطير حول الفساد المالي والإداري وجذوره الاجتماعية- الاقتصادية

     استضافت منظمة الحزب الشيوعي العراقي في هولندا بالاشتراك مع النادي الثقافي المندائي في دنهاخ (لاهاي) يوم الجمعة الموافق 27-6-2008 الكاتب الأستاذ جاسم المطير الذي قدم محاضرة بعنوان "الفساد المالي والإداري وجذوره الاجتماعية والاقتصادية " حضرها جمع من العراقيين المهتمين بقضايا الوطن. وكمدخل للموضوع تطرق الكاتب إلى أهمية الظاهرة على المستوى العالمي حيث بدأت تأخذ مسارا أوسع في تهديم البنى المالية والاقتصادية في العالم الثالث. وكثيرا ما تطرح أسئلة حول الفساد هل هو ظاهرة فردية أم طبقية؟ وكان جواب المفكر هيغل بأنها ظاهرة طبقية. وكثيرا ما تتردد الأسئلة عن وجود الفساد في الدول الاشتراكية السابقة وفي رأي المحاضر هذا ناتج من أن المجتمعات الاشتراكية جاءت من رحم المجتمعات السابقة وحملت بعض ظواهرها. ما يؤكد صحة ذلك تحقيق أجرته لجنة في إيطاليا عام 2005 أظهر أن جميع الأحزاب تمارس الفساد باستثناء الحزب الشيوعي الإيطالي. إذن هي ظاهرة طبقية توجد في الغالب وسط  الطبقات الغنية وتقل في الطبقات الفقيرة .

    تخصص الشركات والمؤسسات الرأسمالية ما يسمى بالكلف وهي تتراوح بين 1-10% تدفع لرشوة الحكام وأصحاب القرار في الدول النامية. وقد كشفت الأمم المتحدة أنه يدفع سنويا مليار دولار لأصحاب القرار. وهرب حوالي 400 مليار دولار من الدول الأفريقية ووضعت كمال سري في الخارج لأغراض متعددة الاستخدام. وطبقت الولايات المتحدة سياسة لمكافحة الفساد بحيث لا تطيح هذه بالقواعد الأساسية للاقتصاد الأمريكي. وأوعز الأستاذ جاسم المطير جذور الفساد المالي والإداري والاقتصادي إلى المجتمعات الرأسمالية القائمة أساسا على التنافس الغير شريف والبورصة والصفقات التجارية والشركات والعمولات والاستغلال البشع للقوى العاملة في بلدانها، واعتبر إن الفساد مرتبط بشكل وثيق بالبنية الطبقية للمجتمع.

    لا تعالج ظاهر الفساد في العراق بشفافية وما تسرب حولها من معلومات من  قبل الصحافة العالمية لم تكشفه السلطات المختصة. في عام 2003  كشفت الشركات الأمريكية الكبرى الفساد في العراق لكنها في نفس الوقت تمارس الفساد على المستوى العالمي وساعدت الحكومة العراقية على طمر حالات الفساد التي ظهرت إلى السطح. وحاول بريمر تشكيل هيئة نزاهة بدون صلاحيات. كما أشار المحاضر إلى إن الاحتلال في العراق ساهم في رواج الفساد وخلق طبقة طفيلية في المجتمع العراقي للاعتماد عليها في تنفيذ مآربه ومصالحه ، وهذا ديدن الاستعمار في  كل مكان ففي السابق أيضا دعم الاستعمار البريطاني طبقة من الحكام ذوي السلطة والنفوذ والمال ليكونوا سندا له في تحقيق مصالحه.

    أثبتت تقارير الأمم المتحدة أن الدول العربية لا تخلو من الفساد حيث مع بروز وتوسع العولمة فتحت الحدود أمام الدول الصناعية للسيطرة على اقتصاديات الدول النامية وشجعت على الفساد. ويلاحظ أن 90% من التجارة العالمية تسيطر عليها 600 شركة عالمية فقط. تضاعف الرشوة والفساد مكامن الفقر في الدول النامية حيث لا توجد مؤسسات لمكافحة هذه الظاهرة . وبعد مناقشات الأمم المتحدة حول الفساد قرر مجلس الحكم في العراق تشكيل لجنة لمكافحة الفساد في الوزارات وأن يتم تعين مفتش عام من قبل الوزير حسب قرار بريمر ومهمته مكافحة الفساد الإداري فقط بينما آلية التعيين عكس ذلك في الدول الأخرى.

كان نظام صدام حسين فاسدا إداريا وماليا بدرجة كبيرة وهناك شواهد كثيرة لهذا الفساد خاصة خلال 15 سنة الأخيرة من حكمه. وبعد غزو الكويت انتعشت ظاهرة الفساد وأصبح لا الوزير ولا المواطن العادي يعرف مصادر التمويل لذلك لجأ النظام إلى طبع العملة الورقية بدون رصيد. وكانت الحلقة الأولى التي تمارس الفساد هي عائلة صدام حسين وتأتي بعدها حلقة الضباط المرتبطين بالنظام. وقد يترابط الفساد الإداري والمالي أو يفترق أو يؤمن الأول الثاني.

    كما أكد المحاضر إن انعدام الأمن واستشراء الفساد الذي يطال رأس الدولة والحكومة وكذلك جميع مرافق الدولة وقطاع الخدمات إلى جانب تركة الماضي الثقيلة من الخراب والدمار المادي والروحي الذي ساهمت في أنتاجه عقود من الحكم الدكتاتوري وحروبه وما ترتب عليها من نتائج مدمرة إلى جانب المحسوبية والواسطة هذا كله يترك تأثيراته السلبية على أوضاع الملايين من أبناء الشعب العراقي و يضفي مشاعر الإحباط والقلق والسخط لدى المواطن، ولا يخفى على احد إن الفساد عمّ حتى المؤسسات العسكرية حيث تنقصها النزاهة والكفاءة والمعايير الوطنية.

    لا يمكن القضاء على الفساد إلا بالقضاء على ظاهرة تزكيات التعيين التي تمنح من قبل الأحزاب السياسية حسب منحدرها الطائفي والقومي والتي تساهم في الفساد الإداري وتعزز مواقع العصابات المالية التي تنهب أموال الدولة. ويبدأ الفساد بتعيين الموظف وترقيته حيث لا يعين الوزير لكفاءته وإنما طبقا للمحاصصة الطائفية والقومية ولذلك تصطبغ الوزارات بصبغة الوزير وانتمائه السياسي والطائفي والقومي. وهناك فساد أخطر في وزارة الداخلية والدفاع حيث أصبحت الرشاوى هي الطريقة المتداولة في التعيين. ويلاحظ كذلك فرقا هائلا في مستوى الرواتب فالفرق بين راتب رئيس المهندسين ورئيس الدولة نسبته 1 إلى 43 بينما في دول أخرى 1 إلى 9  وراتب الطبيب القديم مليون دينار بينما راتب عضو مجلس الرئاسة 55 مليون دينار وهذا الفرق في مستوى الرواتب هو أحد العوامل التي تدفع للفساد. أيضا غسيل الأموال يكمل الفساد وكي تنقل الأموال غير الشرعية إلى الخارج يمارس الفساد لنقلها. كذلك من العوامل المسببة للفساد عدم وجود بنية قضائية مستقلة تتعامل مع هذه القضايا وعدم وجود آلية للمتابعة القانونية للذين اتهموا بالفساد وهربوا إلى الخارج. أيضا لا توجد صلاحيات لمؤسسات المجتمع المدني للمساهمة في معالجة هذه الظاهرة. والنتيجة فأن الفساد يخفض من مستوى الاستثمار ويحد من المنافسة ويزيد الإنفاق الحكومي ويخفض الإنتاجية ومعدل النمو ويخفض التوظيف في القطاع العام ويقوض حكم القانون ويزيد عدم الاستقرار السياسي ويساهم في ارتفاع معدلات الجريمة.

    أنعكس الفساد فيما آلت إليه الظروف حاليا في العراق من تدهور في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية مما يؤثر سلبا على المواطنين خاصة ذوي الدخول المحدودة والكادحين وكذلك  آثاره السلبية في تلبية احتياجات المواطنين الضرورية من الخدمات العامة كالكهرباء والمياه الصالحة للشرب والخدمات الطبية وحق العمل لجميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم وغيرها من القضايا التي تشكل عائقا أمام تطور المجتمع العراقي اقتصاديا واجتماعيا.

   وكان للحضور مساهماته القيمة عبر المداخلات أو طرح الأسئلة التقييمية وقد دعا بعض الحاضرين إلى تنشيط دور الإعلام عبر الإذاعة والتلفزة  لتوعية المواطنين بحقوقهم ، وطرح أزمة الفساد ومحاربة المفسدين من خلال برامجها. كما تطرق احد المتحدثين إلى إن منظومة القيم الأصيلة للشعب العراقي في فترة الخمسينات والستينات وحتى السبعينات قد جرى تخريبها على يد البعث الحاكم ،من استشراء الفساد وشراء الذمم والمحسوبية وفساد السلطة ،هذا كله أدى ليس القضاء على تلك القيم الأصيلة والجميلة وحسب وإنما أدى إلى تخريب الإنسان العراقي من الداخل. وبما أن الفساد بات يبني لنفسه منظومة متكاملة فلا تفيد الإجراءات الهامشية لمكافحته وإنما يتطلب الأمر تأسيس منظومة متكاملة من الإجراءات الرادعة لتفتيته والقضاء عليه أو الحد منه على الأقل.

وفي نهاية المحاضرة أجاب الأستاذ جاسم المطير على أسئلة واستفسارات الحاضرين ،
كما تطرق أيضا إن الحل لهذه الأزمة لا يتأتى إلا من خلال التغيير الشامل، وهذا لن يتم إلا ببناء دولة القانون والنظام، دولة المؤسسات والديمقراطية ألحقه والاستقلال الناجز، دولة ينعم فيها المواطن بحقوقه كاملة.

منظمة الحزب الشيوعي العراقي في هولندا




143
في هولندا فيلم وثائقي لمخرج اسباني  حول وضعية حقوق الإنسان في العراق

   نظم مركز الحوار الهولندي في مدينة اوترخت الهولندية ندوة حول حقوق الإنسان في العراق يوم 8 حزيران (يونيو) 2008 عُرض فيها فيلم وثائقي لمدة ساعة تقريبا للمخرج الأسباني البرتو ارتس عن انتهاكات حقوق الإنسان في العراق. وقد دارت وقائع الفيلم في أغلبها في كردستان العراق مع بعض اللقطات من بغداد. وغطى فترة ما قبل سقوط النظام العراقي في 2003 وركز على الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان مثل الإبادة الجماعية المتمثلة في جريمة الأنفال وقصف حلبجة  بالأسلحة الكيمياوية وإزالة آلاف القرى الكردية من الوجود وبعدها انتقل لفترة ما بعد سقوط النظام حيث باتت العديد من الجهات تنتهك حقوق الإنسان وبالأخص الميليشيات المسلحة التي تفرض سيطرتها على بعض المناطق والعنف الطائفي وانعكاساته على حقوق الإنسان. وبعد انتهاء عرض الفيلم دار نقاش مستفيض حول الموضوع شارك فيه الشباب الهولندي تم التركيز فيه على الأسباب الحقيقية لانتهاكات حقوق الإنسان وسبل تجاوزها وكيف كانت الدول الغربية تغض الطرف عن هذه الانتهاكات وتدعم النظام الدكتاتوري السابق. وأشار المخرج أنه كان ينوي تغطية مناطق العراق الأخرى وبالأخص البصرة ولكنه لم يتمكن بسبب تردي الوضع الأمن. وكان هذا الفيلم قد أنتج في الأساس للتلفزيون الأسباني وعرض كذلك في فرنسا وسيعرض في دول أخرى. وكانت المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا المنظمة العراقية الوحيدة التي حضرت هذا النشاط بشخص رئيسها وشاركت بالنقاش بشكل موسع. وكان هذا محط تقدير وشكر كل من المخرج والجهة المنظمة لهذا النشاط. ويذكر أن مركز الحوار من المراكز النشطة وله برامج منظمة تشمل إقامة الندوات حول الكثير من المواضيع الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية والبيئية وغيرها.

المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الإنسان في هولندا   

144
بلاغ  من المنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الأنسان في هولندا

أجتماع الهيئة الأدارية

 
 عقدت الهيئة الأدارية للمنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الأنسان في هولندا أجتماعها الأعتيادي الدوري يوم السبت الموافق 03-05-2008 في مدينة دنهاخ . وناقشت في جدول أعمالها :

أولاً .. تقييم المؤتمر العام السابع الذي أنعقد بتأريخ 25 نيسان المنصرم 2008 ،حيث أبدى الزملاء العديد من الملاحظات التي رافقت التهيئة والتحضير للمؤتمر وحتى أنعقاده وما تخلل ساعات ذلك اللقاء و النتائج و التوصيات التي خرج بها . وأشار الزملاء الحضور الى أن الأوضاع الخاصة والأستثنائية للمنظمة والتي لم تكن على أفضل حال قد ألقت بظلالها على المؤتمر وأعماله .. و رغم أن فعالية التضامن مع الأقليات العراقية ومكونات لشعب العراقي الأخرى التي أبتدأت فيها ساعات المؤتمر قد لاقت ترحاباً و تفاعلاً من الحضور تمثل في عدد المنظمات المشاركة في الحضور و تلك التي أرسلت برقيات التحية و التضامن للمؤتمر، فإن الجزء الثاني من الوقت الذي خصص لأستكمال أعمال المؤتمر من قراءة الوثائق و التقارير والمداخلات التي طرحها الحضور من المؤتمرين ، لم يحظى بالوقت الكافي و المطلوب للأستمرارية في المناقشة المستفيضة لأعمال المنظمة وللأجابة على تساؤلات الحضور الكثيرة .. مما أستدعى تأجيل أعمال المؤتمر المذكور بعد أن أرتأت الأغلبية الحاضرة أستكماله في فترة لاحقة تمتد الى ستة أشهر أخرى تتولى فيها الهيئة الأدارية أعمالها المناطة بها وكما نص على ذلك النظام الداخلي للمنظمة.

ثانياً .. ناقشت الهيئة الأدارية العديد من المقترحات التي تقدم بها الزملاء لتطوير و تنشيط أعمال المنظمة للفترة المقبلة وحتى أنعقاد المؤتمر العام القادم . وقد أنيطت بأعضاء الهيئة الأدارية الحالية للمنظمة مهمة تحقيق ما تم الاتفاق عليه من النشاطات القادمة و المتنوعة التي ستقوم فيها المنظمة وحسب الأمكانيات المتاحة أمامها . وجرى خلال ذلك توزيع تلك المهام على العاملين في الهيئة الأدارية وتحديد نوعية النشاطات المكلفين بها.

ثالثاً .. تم أستعراض الوضع المالي للمنظمة على ضوء التقرير الذي تقدم به مسؤول المالية الى أعمال المؤتمر العام الأخير و الصعوبات التي أعترضت أعضاء الهيئة الأدارية جراء العوز و النقص الكبيرين في الأمكانات المشار اليها .

رابعاً .. نوقشت رسالة الأستقالة التي تقدمت بها الزميلة بلقيس حميد حسن رئيسة الهيئة الأدارية للمنظمة و ما تضمنته من أسباب مشار اليها . وأتفق جميع أعضاء الهيئة الأدارية بعد نقاش مستفيض و صريح على قبول تلك الأستقالة و تقدير و تثمين الجهود التي بذلتها الزميلة بلقيس حميد حسن وبالأمكانات المعروفة و المتوفرة للمنظمة. وعلى ضوء تلك الموافقة جرى أنتخاب الزميل الدكتور هاشم نعمة رئيساً للهيئة الأدارية وبالأجماع  للفترة القادمة الممتدة حتى أنعقاد أعمال المؤتمر العام القادم ، لتكون الهيئة الأدارية على النحو التالي :
1.   د. هاشم نعمة               رئيساً للهيئة الأدارية
2.   عبد الجبار السعودي       سكرتيراً
3.   راجح الحيدر                مسؤولاً المالية
4.   فيصل نصر                 مسؤولاً للعلاقات العامة
5.   عبد الرحيم خير الله        مسؤولاً العلاقات الداخلية
وأتفق الحضور على تأكيد الأتصالات السابقة مع الزميلة وداد علي التي أنقطعت عن أعمال الهيئة الأدارية لأستبيان موقفها  للعمل في المنظمة من عدمه.

جوانب من أنعقاد المؤتمر العام السابع 


  وكان المؤتمر السابع للمنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الأنسان في هولندا قد أنعقد بتأريخ 25-04-2008 في مدينة دنهاخ – لاهاي - وبأستضافة النادي الثقافي المندائي وتحت شعار:
( لتتوقف العمليات الارهابية المنظمة لابادة المسيحيين والصابئة المندائيين والايزيديين وجميع المكونات الاخرى، ولتكن هويتنا العراقية  اساس الإنتماء للوطن ) .
  وقد خصص الجزء الأول من المؤتمر للتضامن من أبناء الشعب العراقي وبكافة مكوناته وأقلياته والتي تتعرض لعمليات القتل المتعمد و التهجير والتشريد من قبل الجماعات الأرهابية والمتطرفة ومن قبل العصابات الأجرامية داخل العراق. وقد دُعيت للمشاركة في فعالية التضامن هذه وأعمال المؤتمر العديد من المنظمات العراقية العاملة في هولندا.
 أبتدأ المؤتمربوقوف الجميع من الحضور حداداً على أرواح الشهداء والضحايا الذين سقطوا و يسقطون يومياً جراء تلك الأعتداءات الأرهابية والأجرامية المنظمة . ثم ألقيت كلمة المنظمة في تلك المناسبة من قبل رئيسة المنظمة السيدة بلقيس حميد حسن ، وتلتها كلمات المنظمات المشاركة التالية :
-   كلمة الحركة الديمقراطية الآشورية ألقاها الأستاذ هرمز أسحق ممثل لحركة في هولندا.
-    كلمة الأتحاد الآشوري العالمي ألقتها ممثلة الأتحاد السيدة خاوة خوشابا.
-    كلمة رابطة بابل للكتاب والفنانين في هولندا ألقاها الدكتور تيسير الآلوسي.
-   كلمة مجموعة حقوق الأنسان المندائي ألقتها السيدة أنتفاضة مريوش.
-   كلمة حزب الأتحاد الديمقراطي في سوريا ألقاها السيد عبد المجيد ملك. 

وتليت بعد ذلك عدد من البرقيات الواردة من المؤتمر من العديد من المنظمات العراقية التي تعذر على ممثليها الحضور ، وكانت كالتالي :
-   البيت الأيزيدي في هولندا.
-   الجمعية الفيدرالية المندائية في هولندا.
-   اتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي - فرع هولندا.
-   جمعية النساء العراقيات .
-   رابطة المرأة العراقية في هولندا.
-   ملتقى الأنصار البشمركة.
-   البرلمان الثقافي العراقي في المهجر.
-   
  وقد تضمنت جميع الكلمات التي تم توثيقها في أرشيف المنظمة و كذلك البرقيات الواردة للمؤتمرعن التمنيات بأن يخرج المؤتمر وفعاليته بتوصيات ترفع الى الحكومة العراقية لتفعيل دورها القانوني والأنساني للوقوف بوجه الأعتداءات المنظمة التي يتعرض لها أبناء الأقليات الأثنية الدينية في العراق وباقي المكونات والتحقيق في الجرائم المرتكبة وتقديم مرتكبيها الى عدالة القانون العراقي و دون تمميع لهذه القضية أو تلك.

  قبل بداية الجزء الثاني من الوقت المخصص للمؤتمر تم توزيع ورقة العمل للفترة القادمة التي حددتها المنظمة والتي تضمنت عشرة مواد ، أطلع عليها الحضور لغرض مناقشتها لاحقاً في جلسة أنعقاد المؤتمر وكذلك البيان الأخير الذي أصدرته المنظمة في 02-04-2008  تحت عنوان ( من يحمي ضحايا الصراعات المسلحة ). بعد ذلك تم قراءة التقرير الأنجازي للأعمال التي قام بها أعضاء الهيئة الأدارية للفترة المنصرمة الممتدة من الخامس والعشرين من أيلول 2004 ولغاية يوم أنعقاد المؤتمر السابع في 25 -04-2008 و تضمن التقرير عدداً من النشاطات التي تنوعت في جوانبها لتشمل المساهمة في عدد من المؤتمرات خارج هولندا وكذلك المساهمة في اللقاءات الصحفية والتليفزيونية والأذاعية و مساهمات النشر الدورية في عدد من الصحف والمجلات العراقية والعربية وأصدار البيانات والنداءات والبلاغات بخصوص الأنتهاكات المختلفة التي يتعرض لها المدنيون في العراق. وأشار التقرير الى النشرة ( حقوق الأنسان ) التي أصدرتها المنظمة في بداية أعمال الدورة السابقة والتي لم يكتب لها الأستمرار والتطور في مضمونها وعدد صفحاتها بسبب عدم توفر الأمكانات المادية لها من تحرير و طباعة . و توزعت النشاطات تلك كما تضمنها التقرير الأنجازي على تسعة عشر فقرة.
  تلى قراءة التقرير الأنجازي الأستماع الى الملاحظات التي أبداها العديد من الحضور والتي تولى الزملاء في الهيئة الأدارية الأجابة عليها وتوضيح موقف الهيئة الأدارية منها. ثم وزعت نسخ من التقرير المالي على الحضور لمتابعة التفاصيل الكاملة للواردات والمصروفات الخاصة بأعمال المنظمة والتي بينت حجم العجز الواضح والكبير فيها والصعوبات الكبيرة التي كان يعاني منها أعضاء الهيئة الأدارية في أداء أعمالهم المناطة بهم ، كأجور النقل و البريد التي يتحمل بعضهم تكاليفها شخصياً وغيرها من مستلزمات العمل الضرورية لأقامة الندوات أو أصدار النشريات الدورية. وأشير بهذا الخصوص وكمثال على ذلك الى أن تكاليف أنعقاد المؤتمرالعام السابع للمنظمة قد ساهمت بها الجمعية الفيدرالية المندائية في هولندا و النادي الثقافي المندائي في دنهاخ. وقد أستجاب بعض ممثلي المنظمات المشاركة وبعض أعضاء الهيئة العامة الى التبرع مادياً خلال ساعات المؤتمر وتم تكريمهم من قبل المنظمة من خلال هوية خاصة تم أعدادها مسبقاً.
 
 ونظراً للبرنامج المزدحم الذي تضمنه المؤتمر من فعالية التضامن التي أشير اليها و كذلك من قراءة الوثائق المقروءة و تلك التي وزعت على المشاركين و النقاشات حول بعض فقرات تلك الوثائق ، لم يُتح للمؤتمر و منظميه و للمشاركين فيه الوقت الكافي للأستمرار في تكملة باقي فقراته من نقاشات لوثائق المؤتمر وأعماله المقررة، وأرتأت الهيئة العامة أزاء ضيق الوقت هذا وبالأغلبية ، تأجيل أعماله لفترة قادمة تمتد لستة أشهر، لغرض أستكمال الهيئة الأدارية أعمالها في المنظمة وحتى أنعقاد المؤتمر العام .


                        الهيئــــة الأداريـــــــة
للمنظمة العراقية للدفاع عن حقوق الأنسان في هولندا
                الخامس من آيـــــار / مايس 2008
         



145
المجد للذكرى الستين لتأسيس اتحاد الطلبة العام في جمهورية العراقية

أيتها الجماهير الطلابية

في مثل هذا اليوم وقبل ستين عاما احتشد ما يربو على مئة مندوب يمثلون إرادة الطلبة في المرافق الدراسية لاغلب محافظات العراق و ا قضيته ونواحيه وليعلنوا في الرابع عشر من نيسان عام 1948 ومن  ساحة السباع في بغداد عن تأسيس أول اتحاد للطلبة العراقيين كتتويج للنشاط المثابر والجهد الكبير الذي بذلته الطلائع الطلابية والتي ربطت الليل بالنهار من اجل أن ينبثق هذا الوليد الذي أصبح لاحقاً اتحاد الطلبة العراقي العام كياناً هاماً في مسيرة الحركة الطلابية والوطنية العراقية، وفي قيادة جموع الطلبة من اجل حقوقهم الدراسية والأكاديمية وفي أصعب المراحل وأدقها فتداخل تاريخه الحافل بالعبر والدروس البطولية بتاريخ شعبنا وحركته الوطنية والديمقراطية وبشكل يصعب الفصل بينهما.

لقد عمل اتحادنا المناضل, منذ تأسيسه,على ربط نضالا ته ألمطلبيه ألمهنيه بما هو وطني وديمقراطي مؤكدا على انه جزء لا يتجزأ من حركة الشعب الوطنيه  وقد تجلى ذلك  في مناسبات كثيرة , في مقدمتها مشاركته النشيطة  في دعم ثورة 14 تموز 1958 والمعارك التي خاضها شعبنا ضد النظام الملكي والأنظمة الدكتاتورية التي سادت منذ انقلاب شباط الدموي في عام 1963 وما تلاه     

أيتها الزميلات ..........أيها الزملاء

يمر وطننا اليوم بمخاض عسير وبمرحلة دقيقة من تاريخه المعاصر, حيث يدور صراعٌ بين القوى التواقة للديمقراطية والساعية إلى بناء دولة القانون والمؤسسات الدستورية وبين تلك التي تحاول استعادة الاستبداد وبأشكال جديدة مما يتطلب تضافر، جهود كل أبناء الوطن العزيز وتعزيز تلاحم شعبنا بكل تلاوينه سعياً لخلق مقومات الحياة الحرة الكريمة وإيجاد المرتكزات الصحيحة لرحيل القوات المتعددة الجنسية وتحقيق الاستقلال والسيادة الناجزين.

إن اتحادكم اتحاد الطلبة العام في جمهورية العراق وكما هو مشهود له يعمل من اجل وحدة الحركة الطلابية المتمثلة  بوحدة الأهداف وتوحيد الرؤى من اجل إيجاد شكل من أشكال التنسيق والتعاون بين الاتحادات والمنظمات الطلابية الناشطة على الساحة العراقية قبل وبعد 2003 والساعية لنشر قيم السلام والديمقراطية والتقدم.

إن تجربة السنوات المنصرمة تؤكد وبشكل قاطع على صحة هذا التوجه وتبرهن على انه يكتسب أهمية كبيرة في ظل الظروف البالغة التعقيد التي نمر بها و من جهة أخرى  يناشد اتحادنا الحكومة العراقية  على العمل من اجل توفير الحماية لأعضاء الهيئة التدريسية وفي المراحل الدراسية كافة وكذلك بذل الجهود من اجل خلق مرتكزات ومستلزمات النهوض بالعملية التربوية والتعليمية وتطويرها لتكون بمستوى التحديات الجديدة التي تواجهها البلاد والعمليات التربوية.

لتتوحد الجهود في سبيل حياة طلابية حرية ومستقبل أفضل المجد الخلود لشهداء الحركة الطلابية العراقية عاش اتحاد المناضل والمدافع الأمين عن المصالح المشروعة لطلبة العراق.

اتحاد الطلبة العام في جمهورية العراق
بغداد منتصف نيسان 2008 

146
السياسة الأوروبية في تحول

د.هاشم نعمة

    صدر عام 2006 كتاب مهم بعنوان " السياسة الأوربية في تحول" لمجموعة من الكتاب. يبحث الكتاب في الجوانب العامة والخاص للسياسة الأوروبية، التكامل الجغرافي، السياسات المؤسساتية، المنافسة، الاندماج، الديمقراطية، التباين الاجتماعي، عضوية الإتحاد الأوروبي، الارهاب والعلاقات مع القوى العظمى الولايات المتحدة.

   يرصد الكتاب تحديث المؤسسات السياسية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية حيث تحولت السلطة من البرلمان إلى المؤسسات التنفيذية. على افتراض أن ذلك يساهم في سرعة وتماسك صناعة القرار السياسي. وقد صممت البرلمانات لتمثل مختلف المصالح. ونظمت السلطة التنفيذية لتعمل بشكل حاسم من أجل تنفيذ القرارات بفعالية. وكان هناك تحول في قوة صنع القرار داخل السلطة التنفيذية. حيث أصبح رؤساء الوزارات والمظفون التابعون لهم يمارسون سلطة أكبر. ومن ناحية أخرى وبسبب زيادة تدخل الدولة في النشاطات الاقتصادية الكبيرة زاد تأثير وزراء الاقتصاد بشكل كبير في الإدارة اليومية للسياسة الحكومية.

    لعبت الأحزاب السياسية الدور الرئيس في تنظيم المشاركة السياسية وقبول النموذج الأوربي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت قد مرت بعملية تحول في التنظيم ولم تثبت قاعدتها الاجتماعية. وقد تحولت بنيتها وسلوكها من أحزاب مرتبطة تنظيمياً وايدلوجياً بالطبقة العاملة من ناحية وأحزاب مرتبطة تاريخياً بمصالح النخب الاقتصادية من ناحية أخرى. لذلك تنافست من أجل كسب أوسع للناخبين والمؤيدين بما فيهم الخصوم الإيدولوجيين لتكوين قاعدة إنتخابية عريضة مساندة لها. لذلك اعتبرت نفسها في فترات الانتخابات انها لا تمثل طبقة معينة مثل الطبقة العاملة أو النخبة الاقتصادية وإنما كأحزاب أكثر حداثة تمثل مصالح مختلف الطبقات الاجتماعية.

   وتحت موضوع النموذج الأوروبي أزمات واختلافات وتحديات يبحث الكتاب في التطورات التي مرت بها أوروبا منذ أواخر الستينات من القرن الماضي إلى منتصف السبعينات حيث أن تجدد النزاع السياسي كان قد تجذر في عملية النمو الاقتصادي الذي ولد الكثير من التوترات السياسية التي كانت غير جلية بسبب السيطرة القوية لرأس المال والدولة. مع أن هدف الدولة كان تقوية النمو الاقتصادي بدلاً من تقليل عواقبه الاجتماعية الضارة. اضافة إلى قضايا أخرى مثل التلوث وقطع الغابات وتصاعد المعارضة الرادكالية وسط الكثير من طلاب الجامعات ضد العمليات العسكرية الأمريكية في فيتنام. وشملت هذه الفترة اضافة إلى نشاط المنظمات النسوية اضرابات وسط الشباب مثل ما حدث في إيطاليا والسويد وكان أهمها ما حدث في فرنسا في ماي 1968 حيث نظم حوالي نصف عدد العمال والطلاب والمهنيين والموظفين الفرنسيين أكبر إضراب عام في التاريخ.

   وكان بطء نمو اقتصاديات دول أوروبا الغربية قد عزز أزمة ما بعد الحرب. حيث عانت من تراجع المنافسة العالمية. والنتيجة كانت معدلات عالية للبطالة والتضخم وبطء نمو الإنتاج وزيادة طفيفة في مستويات المعيشة. وهذا يعني أن السنوات الذهبية لما بعد الحرب قد إنتهت.

     من أواسط السبعينات إلى أواسط الثمانينات تعزز الاحتجاج السياسي مع الأداء الضعيف للاقتصاد الذي بدأ في أواخر الستينات. وقد حدثت تجربة سياسية قصيرة إلى أواسط الثمانينات عندما دعت حكومات اليمين واليسار التي أنتخبت في كثير من دول أوروبا الغربية إلى إنطلاقة جديدة. بداية الزخم السياسي أخذ يتجه إلى اليسار. فمثلاً أنظمة أوروبا الشمالية التي إبتكرت آلية تمكن العمال من المشاركة في إتخاذ القرارات فيما يخص التغيير التكنولوجي والصحة المهنية والسلامة. وفي فرنسا قامت الحكومة الإشتراكية التي أنتخبت برئاسة الرئيس ميتران في عام 1981 بتوسيع القطاعات الصناعية والمالية المؤممة بشكل أساسي. وقد تغير الزخم السياسي بإتجاه اليمين نتيجة إكراهات الاقتصاد العالمي ومعارضة القوى المحافظة المحلية الهادفة لإيقاف الاصلاحات الرادكالية. رغم أنه لم تكن هناك حكومة أوروبية غربية ناجحة بدرجة كبيرة في استقطالب الدعم السياسي المتحرك أو تعزيز أداء اقتصادي ناجح.  وقد فشل اليسار في تطوير بداية جديدة خصوصاً عندما يقاس الأمر بالفرصة التي توفرت له عقب انتخاب الأنظمة الإصلاحية الاشتراكية في فرنسا وإسبانيا واليونان.

  كانت الثمانينات فرصة الهجوم المضاد للمحافظين. فمثلاً في بريطانيا شنت حكومة المحافظين برئاسة تاتشر هجوماً كبيرأ ناجحاً على قوة الاتحادات العمالية وخصخصت كلا من تسهيلات السكن العام والشركات الصناعية المؤممة. وبدرجة مساوية في الأهمية تبنت تغيرات مهمة في الثقافة السياسية البريطانية وعززت دعم المبادرة على حساب الجماعية. كذلك تحالف اليمين وعد بتخفيضات ضريبية فيما إذا أنتخب في كل من الدنمارك والنرويج وفي دول أخرى حيث في الغالب حل محل الأحزاب الاشتركية الديمقراطية الحاكمة.

     فقدان الثقة وعدم الاستقرار والتراجع العام الذي سيطر على اوروبا الغربية في أوائل الثمانينات كان قد أطلق عليه مصطلح لاذع "التصلب الأوروبي" الذي أخذ يسمع عبر الوقت. فقد فقدت أوروبا إتجاهها الذي أعقب فترة طويلة من النمو وإعادة الإعمار لفترة ما بعد الحرب وبات لا أحد يعرف متى يتوقف هذا الاتجاه. ومنذ اواخرالثمانينات والتسعينات كانت هناك عملية لإحياء أوروبا وسط  قضايا جديدة ومشاكل وتحديات.

    ومنذ التسعينات إلى القرن الواحد والعشرين يحلل الكتاب إنبثاق نموذج أوروبي جديد. في الثمانينات وفي بعض أوقاتها إختفت الحيوية من النموذج الأوروبي التي كان مصدرها الاقتصاديات المختلطة التي تبنتها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية لفترة ما بعد الحرب والنماذج السياسية الوطنية. رغم بقاء مكونات مهمة من النموذج الأوروبي القديم مثل قطاع الدولة للرعاية الاجتماعية الذي بقى أوسع كثيراً مقارنة بنظيره في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد إنبثق منذ التسعينات نموذج جديد للسياسة نتج من تجديد عملية الاندماج الأوروبي وتبني سياسة عملية جديدة واضحة المعالم. وتتميز الفترة الحالية بإعادة تقوية وتوسيع الاتحاد الأوروبي  وبتكثيف العولمة الاقتصادية ومواجهة التهديد الدائم للإرهاب والتعامل مع الولايات المتحدة التي في الغالب كما في فترة التحضير للحرب ضد العراق أو في النزاعات التجارية المستمرة في منظمة التجارة العالمية تصطدم مع حلفائها الأوروبيين. ويستنتج الكتاب أن أوروبا تعيش الآن مرحلة حاسمة من التطور السياسي والوئام التاريخي.

    الطريق الثالث

   حالياً تبدو هناك حركة ضد المبادئ الوسطية وتوازن قوى العام والخاص لفترة ما بعد الحرب وضد دولة الرفاه الاجتماعي. وهناك إتفاق عام على تخفيض الضرائب وتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد والإعتماد أكثرعلى قوى السوق لتشكيل الحاصل الاجتماعي- الاقتصادي أي الاتجاه بشكل أوسع لما يسمى باللبيرالية الجديدة. رغم بقاء الكثير من آليات قيادة الدولة وبرامج الرفاه الاجتماعي لفترة ما بعد الحرب. لكن زخم توسيع الجانب السياسي للسوق جاري العمل به وكذلك خفض نفقات دولة الرفاه الاجتماعي وتنشيط قوى السوق الخاصة.

     هذا التحول نحو اللبيرالية الجديدة لم يستوعب الإهتمامات السياسية الأخرى. حيث الكثير من هذه الإهتمامات بدأت تقوض إتفاق ما بعد الحرب في أواخر الستينات وهذه تشمل القضايا البيئية ونوعية الحياة والمطالبة بالحكم الذاتي والمعارضه لتدخل البيروقراطية العامة والخاصة حيث إستمرت هذه تشعل التحركات الاجتماعية والاقتصادية. الأحزاب اليمينية من جانبها تكون في الغالب أقل استجابة لمثل هذه القضايا الجديدة مقارنة بأحزاب يسار الوسط التي تستجيب بفعالية ضمن أجندتها السياسية. في الحقيقة أصبح وبشكل متزايد من الصعب تحديد اليسار واليمين فيما يخص التأييد التقليدي لآليات السوق أوالتأييد التقليدي لشروط الدولة.

   من اجل تجاوز ذلك إنبثق توجه سياسي جديد في أوروبا من السياسيين والأحزاب من وسط - اليسار تقوده بريطانيا بشخص رئيس الوزاء السابق توني بلير مع المانيا بشخص المستشار السابق جيرهارد شرودر كحليف قوي حاول الإثنان السير "خلف اليسار واليمين". هذا الطريق الثالث حاول تجاوز التوزيع السياسي الذي أعتبر غير ملائم لعصر المنافسة العالمية المكثفة وحاول التأليف بين أفضل المطالب التقليدية لليسار واليمين مثل العدالة الاجتماعية التي تتبناها الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والأعتماد على الديناميكية الاقتصادية لليسار. ويقول رالف داهريندوف: في الحقيقة إن النقاش الدائر حول الطريق الثالث أصبح الملمح الوحيد للإتجاهات الجديدة في السياسة الأوروبية في موقفها الملتبس من الإتجاهات والأفكار.

    بالتأكيد فإن إنبثاق التوجه السياسي الجديد الذي يتحدى بشكل مهم وبعيد بنية النموذج الأوروبي القديم لا يعني إجتثاث هذا النموذج بالكامل. فقد بقت الحدود الطبقية والمهنية مهمة من الناحية السياسية. ورغم تراجع النقاشات التي طال عليها الزمن بين الاشتراكيين والمحافظين لكن هذا لا يعني نهاية للأيدولوجيات السياسية. وظهرت قوى ومجموعات وأحزاب جديدة تحدت النظام المستقر واكتسبت أهمية متزايدة مثل الحركات البيئية وتعبيرها السياسي حيث بات الخضر الآن يمثلون بقوة في البرلمان الأوروبي. إضافة إلى ظهور قوى مناهضة المهاجرين في كل بلد. لذلك رغم أن الطريق الثالث يمكن أن لا يكون الهدف الوحيد في السياسة الأوروبية إلا أنه سيظل يشكل ظلاً على أوروبا لفترة طويلة.

    نفس القوى التي قادت التغيير السياسي الداخلي في الثمانينات أيضاً دفعت القادة السياسيين والمتنفذين البارزين في إدارة الأعمال ليضعوا خططهم لتقوية الإتحاد الأوروبي. عندها لخص الرئيس الفرنسي ميتران الموقف بالقول على مضض عام 1983 بأن فرنسا لا تستطيع إنجاز تنشيط الاقتصاد الداخلى بالإعتماد على نفسها لذلك قرر العمل بشكل مشترك مع المستشار الألماني هلموت كول في جهد مشترك لإنعاش اقتصاديات فرنسا وألمانيا المريضة من خلال زيادة التعاون الاقتصادي الأوروبي. وهكذا أنقذ قادة الدولتين الرئيسيتين مع قادة مديري الأعمال البارزين والموظفين في المجموعة الأوروبية هذه المجموعة من الركود الاقتصادي. وعندما أقرت إتفاقية ماسترخت حول الإتحاد الأوروبي عام 1993 بدأ عصر جديد في سياسة أوروبا الغربية. هذه الإتفاقية عمقت الاندماج الاقتصادي والتنسيق في العلاقات الخارجية  وسياسة الدفاع والتوجه لطلبات توسيع الديمقراطية الداخلية. وشملت التغييرات المؤسساتية المنظمة في إطار الإتحاد الأوروبي منذ أوائل التسعينات إجراءات معينة لتوسيع مدى التنظيم مثل السماح بحرية حركة السلع ورأس المال والتكنولوجيا والعمل. وكان تأسيس البنك الأوروبي المركزي وإنطلاق عملة اليورو عام 1999 التي أستبدلت العملة الوطنية في إثنتي عشرة دولة من مجموع خمس عشرة دولة المكونة للإتحاد الأوروبي  قبل توسيعه نحو الشرق. وتوسيع الإتحاد الأوروبي عام 2004 والإتفاق المؤقت حول الدستور الأوروبي في ذات العام كل هذه الخطوات شكلت معالم بارزة في نهضة الإتحاد في العقدين الماضيين.

  ويستنتج الكتاب ليس واضحاً ما ستكون عليه حصيلة هذا التحول الهام في السياسة الأوروبية مستقلاً. علاوة على ذلك تنتظر الإتحاد الأوروبي قضايا أكبر: تراجع معين في العمليات السياسية الوطنية والاقتصادية ومستقبل الدولة الوطنية في أوروبا والعلاقة بين غرب وشرق القارة وهوية الأوروبيين واندماج أوروبا في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي. مهما يكن مستقبل الإتحاد والقضايا الأكبر التي ستواجهه فمن الواضح تماماً بأن التحول الحالي في السياسة الأوروبية يعكس شكل أو نظام حكم يتخطى الحدود القومية.

   في رأينا تأتي أهمية الكتاب من بحثه المعمق لتجربة مهمة ليس على صعيد أوروبا فقط  وأنما على الصعيد العالمي حيث يمكن الاستفادة من ايجابات هذا التحول بالنسبة للذين ينون فعلاً تطبيق شكل من أشكال التعاون والتكامل بين بلدانهم .

عنوان الكتاب: السياسة الأوروبية في تحول
المؤلفون: مارك كريغر وآخرون
الناشر: جارلس هارتفورد، بوسطن
سنة النشر: 2006
عدد صفحات الكتاب: 610
                   



147


       
       سمات النمو الحضري في العالم العربي (2)

د. هاشم نعمة

تطور مستوى التحضر

      هناك من يرى أن أسباب تراجع الحضارة المدنية في الشرق الأوسط والذي أستمر بالرغم من توسع الدولة العثمانية متشعبة ولا زالت تعتبر موضوع للتكهنات التاريخية. وحتى فترة العصور الوسطى، فقد جرى الاعتقاد بأن الشعوب الحضرية كانت قد تقلصت أعدادها عن الفترة الرومانية نتيجة الدمار الذي ألحقته الغارات المتكررة التي انطلقت من آسيا الوسطى.( )

      كان تطور مستوى التحضر بطيئا جدا أو حتى ثابتاً في الفترة التي سبقت القرن العشرين وهذا يعود إلى تخلف البنية الاجتماعية – الاقتصادية في العالم العربي والاعتماد على الزراعة  والرعي ومحدودية دور الصناعة الحديثة في الاقتصاد. فمثلاً بقى هذا المستوى ثابتاً في العراق عند 25% من مجموع السكان ما بين عامي 1867- 1930.( )

     
     وقد تزايدت نسبة السكان الحضر منذ بداية العشرينات من القرن الماضي وتسارعت أكثر بعد منتصفه حيث أصبح مستوى التحضر في العالم العربي من أعلى المستويات الملاحظة في العالم النامي. ويشير الجغرافي جون كلارك إلى أن منطقة الشرق الأوسط، التي تشمل البلدان الواقعة بين ليبيا وإيران وبين تركيا واليمن، هي المنطقة الأكثر تحضراً من أية منطقة رئيسية في العالم الثالث باستثناء أمريكا الجنوبية.( ) وتتأكد حقيقة ذلك بالرجوع إلى جدول وشكل رقم (1). ويعود هذا النمو السريع إلى ارتفاع معدل النمو السكاني بسبب تراجع معدلات الوفيات الناتج من انتشار الخدمات الصحية وتحسن الطب الوقائي والعلاجي وانتشار التعليم والتحديث إضافة إلى الهجرة الريفية- الحضرية.

جدول رقم (1) النسبة المئوية للسكان الحضر من مجموع السكان في منتصف السنة في البلدان العربية للفترة 1950- 2005 .( )
        البلد           1950           2005      نسبة التغيير
الجزائر           22,2            63,3            41,1
السودان           6,3               40,8            34,0
الصومال           12,7           35,2            22,5
المغرب           26,2           58,7            32,5
تونس           32,3           65,3            33,0
جيبوتي           39,8           86,1            46,3
ليبيا           19,5           84,8            65,3
موريتانيا           3,1           40,4           37,3
مصر           31,9           42,8           10,9
الأردن           37,0           82,3           45,3
الإمارات           54,5           76,9           22,4
البحرين           64,4           94,5           32,1
السعودية           21,3           81,0           59,7
العراق           35,1           66,9           31,8
الكويت           61,5           98,3           36,8
اليمن           5,8           27,3           21,5
سوريا           30,6           50,6           20,0
عُمان           8,6           71,5           62,9
فلسطين           37,3           71,6           34,3
قطر           79,2           95,4           16,2
لبنان           32,0           86,6           54,6

شكل رقم (1) التغيير في النسبة المئوية للسكان الحضر في البلدان العربية بين عامي 1950 و2005 .( )
 

   
     وهناك تباين واضح في نسبة سكان المدن بين البلدان العربية، فقد تراوحت النسبة بين 27,3% في اليمن و98,3% في الكويت، في عام 2005. ويعود هذا التباين إلى جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية مثل طبيعة الإنتاج الزراعي والصناعي ومستوى الدخل الوطني.

     وعند استخدام معيار جيراد بيرس Gerad Pierce على العالم العربي، يمكن تصنيف مستويات التحضر إلى ثلاث مراتب. تحضر عال، وذلك عندما يقطن في المناطق الحضرية ما لا يقل عن 50% من مجموع السكان. تحضر متوسط عندما تتراوح النسبة بين 25-49%. تحضر منخفض تكون النسبة أقل من 25%.

    وإذا طبقنا هذا المعيار حسب معطيات عام 2005، نجد 17 بلدا ذا تحضر عال، وقد كان عدد البلدان في هذه المرتبة أربعة فقط هي: الإمارات والبحرين والكويت وقطر عام 1950. أما البلدان ذات التحضر المتوسط فعددها خمسة هي: الصومال ومصر والسودان واليمن وموريتانيا بعد أن كان عددها عشرة في ذات العام. في حين اختفت مرتبة التحضر المنخفض بعد أن كان عدد البلدان فيها ثمانية عام 1950.

     ويلاحظ ارتفاع مستوى التحضر في البلدان المنتجة والمصدرة للنفط. حيث تستثمر عوائد النفط في المشاريع المختلفة الاجتماعية والاقتصادية، السكن، التعليم، الصحة، الإعلام، التصنيع، الدفاع والمواصلات، التسلية وخدمات أخرى. وأغلب هذه المشاريع والمؤسسات وبرامج التنمية تتركز في المدن الرئيسية ومدن العواصم. وقد أدى هذا إلى سرعة نموها ، باجتذابها أكبر حصة من الهجرة الداخلية وبالأخص من الريف وكذلك الهجرة الدولية.

     ويبدو واضحاً من الرجوع إلى جدول رقم (1)، أن سرعة التحضر في البلدان العربية، خلال الفترة 1950- 2005 اختلفت من بلد إلى آخر. وهذه السرعة تعكسها نسبة التغيير في مستوى التحضر. فقد كانت أقل سرعة في مصر (10,9%) وأعلى سرعة في ليبيا (65,3%). وتبدو هذه مفارقة حيث أن مصر من البلدان العربية التي كانت فيها نسبة مهمة من سكان المدن على المستوى الكمي والنسبي. وارتفاع سرعة التحضر في ليبيا يفسر بإنتاج وتصدير النفط وتأثيراته السريعة الاقتصادية والاجتماعية. وهذا أيضا ينطبق على الدول المنتجة الأخرى للنفط بكميات كبيرة . ويبدو أن الأسباب، التي تقف وراء تباين سرعة التحضر، بين البلدان العربية هي نفس الأسباب المسؤولة عن التباين في مستوى التحضر التي ذكرت أنفاً.   
   
      ستشهد العقود القليلة المقبلة نمواً حضرياً غير مسبوق في الدول النامية. خصوصاً في دول أفريقيا وآسيا حيث سيتضاعف عدد السكان الحضر حتى عام 2030 أي أن نمو سكان المدن في هاتين القارتين على امتداد التاريخ كله سيتكرر في حياة جيل واحد.( ) وطبعا ضمن هذه الدول تأتي البلدان العربية ولو بمعدلات متفاوتة ولكنها تبقى أجمالاً مرتفعة.

148
                 
سمات النمو الحضري في العالم العربي (1)


د.هاشم نعمة

مقدمة

     من الأمور المسلم بها، أن العمران الحضري، في العالم العربي، يعود إلى تاريخ قديم، حيث ترجع نشأة بعض المدن إلى عدة آلاف من السنين. ففي بلاد ما بين النهرين ومنذ منتصف الألف الرابع قبل الميلاد وجدت المدن. ولم تشهد هذه المنطقة قيام أول حضارة في التاريخ فقط بل كانت هذه  الحضارة ذات مجتمع أكثر حضرية (مدينية) في زمنها.

    وقد شهد التاريخ ظهور عدد كبير من المدن التي أدت أدواراً مركزية في المجالات العسكرية والتجارية والدينية، وشهد نموها وتدهورها. وبعد انتهاء الفتوحات الرئيسية بدأ عصر جديد في الاستقرار الحضري، إذ منذ أواخر العصر الأموي وكل العصر العباسي تأسست مدن كبيرة مؤسسة على أسس حضرية وعمرانية جديدة غير عسكرية بالدرجة الأساسية إنما اجتماعية واقتصادية وفنية وحضرية وأوضح أنموذج على ذلك مدينة بغداد.( ) لذلك تميزت العصور الوسطى بتطور حضري كبير، حيث وصلت أحجام بعض المدن العربية، خلال هذه الفترة، إلى أحجام، ربما لم تصل إليها المدينة من قبل. ومنذ القرن التاسع عشر، بدأت مرحلة جديدة من التطور الحضري، حيث كان تطور وسائل النقل ونمو التجارة الدولية من العوامل الرئيسية، التي أدت إلى نشأة العديد من المدن الجديدة. وفي القرن العشرين، ظهرت مدن جديدة، نتيجة اكتشاف واستخراج النفط. وأبرز هذه المدن ما موجود في شبه الجزيرة العربية.

     ظاهرة النمو الحضري السريع لم تكن مقتصرة على العالم العربي إذ شهد القرن العشرين نمواً سريعاً لسكان المدن في العالم. وحسب الأمم المتحدة ارتفعت نسبة السكان الحضر من مجموع السكان من 13% عام 1900 إلى 29% عام 1950 ووصلت إلى 49% عام 2005 ومن المتوقع أن تبلغ 60% عام 2030. 

     إلا أن ما يميز التطور الحضري، في العالم العربي، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، هو النمو السريع في عدد المدن وفي عدد سكانها، بطريقة لا يواكبها تحول مناسب في البنية الاجتماعية- الاقتصادية. إن العوامل الرئيسية المسؤولة عن هذا التحضر السريع، هي ارتفاع معدلات الزيادة الطبيعة للسكان (الفرق بين الولادات والوفيات) في المدن نفسها، وعامل الهجرة الريفية نحو المدن، والهجرة الدولية الوافدة، بالأخص إلى البلدان المنتجة للنفط  وإعادة تصنيف المدن والأرياف التي تكون لصالح الأولى وعلى حساب الثانية.

   إن النمو الحضري لم يأخذ طريقه بصورة متوازنة. مما أدى إلى تركز السكان الحضر في مدن قليلة العدد وظهور ظاهرة المدن الكبيرة المهيمنة، التي هي في الغالب العواصم السياسية. وقد أضر هذا لوضع بتوازن الشبك الحضرية، وخلق صعوبات جمة أمام عملية التنمية الاجتماعية –الاقتصادية في البلدان العربية.

   وقد أفرز التحضر السريع الكثير من المشاكل، منها ما يتعلق بالمدن نفسها ، مثل أزمة السكن، الموصلات، البطالة، التلوث، نقص الخدمات الأساسية، اختلال التنظيم الاجتماعي، والتطور العشوائي للمدن...الخ، وتلك المتعلقة بالمناطق الريفية، مثل فقدان الأيدي العاملة الزراعية الشابة وتقلص مساحة الأراضي الزراعية.

    تحاول هذه الدراسة تسليط الضوء على النمو الحضري في العالم العربي، الذي بات مثار اهتمام أوساط عديدة، بسبب النتائج التي أفرزها ويفرزها على شتى الأصعدة، وذلك بواسطة تحليل تطور مستوى التحضر ومكونات النمو الحضري وظاهرة هيمنة المدن الكبرى وعلاقة التحضر بالتنمية ومشكلات التحضر وذلك بغية التعرف على سمات واتجاهات التحضر. وفي الأخير، حاولنا تلمس إمكانية انبثاق إستراتيجية حضرية شاملة على مستوى البلدان العربية، لتصحيح اختلال مسار عملية التحضر.

 تعريف المدينة

    أحد المشاكل التي تواجه الباحث في دراسته للتحضر في العالم العربي، هي الاختلاف في تحديد المدينة من بلد لآخر ومن تعداد سكاني لآخر.( ) ففي بعض البلدان العربية، يعتمد تعريف المدينة على عدد السكان وذلك للتمييز بين القرية والمدينة. وغالباً ما يتراوح هذا العدد بين 5000- 10,000 نسمة. وفي أقطار أخرى، يستند على أساس الوظيفة الإدارية، دون الأخذ في الاعتبار عدد السكان. ففي سوريا والسعودية وموريتانيا، تعتبر التجمعات أو المراكز السكانية، التي يبلغ عدد سكان كل منها 5000 نسمة أو أكثر، مدناً. ونجد أن السودان يعتمد أيضاً على هذا الأساس العددي في التصنيف. إضافة لذلك، فإنها تُدخل المراكز العمرانية، التي تتمتع بأهمية إدارية أو تجارية، في عداد المدن .أما الكويت ولبنان، فإنها تحدد العدد 10,000 نسمة فما فوق، لكي تدخل المراكز السكانية في عداد المدن.( ) وفي العراق يقوم التصنيف على أساس أداري، حيث تعتبر كل من مراكز النواحي ومراكز الأقضية ومراكز المحافظات مدناً. علما أن الإحصاءات الرسمية تخلو من أي تعريف للمدينة، لكن هذا التصنيف أصبح عرفاً حكومياً( ) متعارف عليه. 

     ويبدو أنه ليس من السهل رسم خط  فاصل بين ما هو حضري وريفي. حيث في أحيان كثيرة، توجد أنماط من الاستيطان، تمتاز بملامح مشتركة حضرية ريفية، وهذا يتجلى بوضوح في الدول المتقدمة.( ) وفي تقديرنا، فإن هذا ينسحب على العالم العربي، ولكن بدرجة أقل.

    إن التعريف المركب لا البسيط، أي الذي يجمع بين عدة أسس معاً لتصنيف المدن عن الأرياف، يمكن أن يقربنا أكثر، للتعرف على ملامح ومميزات كل منهما. ويعتمد هذا التعريف، على عدة أسس، أهمها الأساس الوظيفي والإحصائي واٌلإداري والتاريخي وذاك الذي يقوم على المظهر الطبيعي (اللاندسكيب) وعلى كثافة السكان.( )

   وبدون شك، أن التباين في تعريف ما هو حضري وريفي، يشكل صعوبة كبيرة في مقارنة مستويات التحضر بين البلدان العربية. ونظراً لصعوبة التوفيق بين المعطيات الإحصائية، فيما إذا اتخذنا عدة أسس للتصنيف وتجنباً لحدوث الالتباس، فإننا سنعتمد على التصنيف الوارد في الإحصاءات والمعطيات الرسمية للبلدان العربية.     

149
    أمريكا عند مفترق طرق
 الديمقراطية، القوة وأرث المحافظين الجدد

  عرض: د.هاشم نعمة
  لاهاي



     صدر باللغة الانكليزية في عام 2006 كتاب بعنوان " أمريكا عند مفترق طرق ... الديمقراطية، القوة وأرث المحافظين الجدد" للكاتب المعروف فرانسيس فوكوياما ويتألف من 227 صفحة من القطع المتوسط. الناشر جامعة يال ونيوهافن ولندن.  علما أن المؤلف صاحب كتاب "نهاية التاريخ" الذائع الصيت.


   ينقسم الكتاب إلى سبعة أقسام غطت العناوين الرئيسية: المبادئ والتعقل، تركة أو أرث المحافظين الجدد، التهديد، الخطر والحرب الوقائية، التفرد الأمريكي والشرعية الدولية، الهندسة الاجتماعية والتنمية، إعادة التفكير المؤسساتي بنظام عالمي ونوع مختلف من السياسة الخارجية الأمريكية.

    يتناول الكتاب موضوع السياسة الخارجية الأمريكية منذ هجمات القاعدة في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وينتقد الكاتب احتلال العراق ويضع نفسه على طرفي نقيض مع أصدقائه من المحافظين الجدد سواء داخل أو خارج إدارة بوش. ويشرح كيف أن إدارة بوش في قرارها غزو العراق أخفقت في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية. أولاً لأن الإدارة أخطأت في الحرب الوقائية التي تشكل الركيزة الرئيسية لسياستها الخارجية. إضافة لذلك أساءت التقدير بصورة سيئة لرد الفعل العالمي لممارستها " الهيمنة المُحسنة" وأخيراً فشلت في توقع الصعوبات المرافقة لعملية الهندسة الاجتماعية ذات الحجم الكبير. إجمالا أساءت تقدير الصعوبات المرافقة لتأسيس حكومة ديمقراطية ناجحة في العراق.

    لم يكن غزو العراق استجابة واضحة لأحداث 11 (أيلول) سبتمبر. وقد توقعت إدارة بوش حرباً قصيرة الأجل وتحولاً سريعا ونسبياً غير مؤلم لعراق ما بعد صدام حسين. وأولت اهتماماً قليلا لمتطلبات إعادة البناء لفترة ما بعد انتهاء الحرب وتفاجأت عندما وجدت نفسها تقاتل التمرد لفترة طويلة.

    لقد اقترح منظرو الفكر المحافظ الجديد في السنوات التي كانوا فيها خارج السلطة قبل انتخابات عام 2000 أجندة السياسة الخارجية الأمريكية التي تتضمن تغيير الأنظمة والهيمنة المُحسنة  والتفرد الأمريكي لتكون علامة فارقة في السياسة الخارجية لإدارة بوش. وقال الكثير من المحافظين الجدد خلال أواخر التسعينات بأنه يجب على الولايات المتحدة أن تستخدم تفوقها العسكري لفرض "الهيمنة المُحسنة" على أجزاء إستراتيجية مهمة من العالم. والكثير منهم كانوا يؤيدون الحرب بقوة ودافعوا عن تحويل التركيز من منظمة القاعدة إلى العراق.

   وقد فشلت إدارة بوش في توقع متطلبات السلم وإعادة أعمار العراق وكانت متفائلة بشكل مفرط في تقديرها لسهولة الهندسة الاجتماعية بنطاق كبير وإمكانية إتمامها ليس في العراق فحسب وإنما في الشرق الأوسط  ككل.


    وقد كشفت حرب العراق حدود الهيمنة المُحسنة في الولايات المتحدة. لكن أيضا كشفت محدودية وجود المؤسسات الدولية خصوصا الأمم المتحدة التي كانت قد فضلت من قبل الأوروبيين كإطار ملائم للشرعية الدولية. ولم تكن الأمم المتحدة قادرة على المصادقة على قرار الولايات المتحدة للذهاب إلى الحرب أو وقف واشنطن من عمل ما تريد. ومن كلا الوجهتين يعد هذا فشل لهذه المنظمة.
 
   العالم اليوم لا يمتلك مؤسسات عالمية كافية قادرة على منح الشرعية للعمل الجماعي و سيخلق نشاء مؤسسات جديدة توازن جيد لمتطلبات الشرعية والفعالية وهذا سوف يكون المهمة الأولى للجيل القادم. ونتيجة أكثر من مائتي سنة من التطور السياسي أصبحنا نسبيا نمتلك فهماً جيداً حول كيفية إنشاء المؤسسات التي هي قواعد ملزمة ومسؤولة وفعالة بشكل معقول. وإلى الآن ليس لدينا مؤسسات كافية للمساءلة الأفقية بين الدول.

    الحاجة إلى المساءلة الأفقية أصبحت على وجه الخصوص حاسمة  لسببين. الأول العولمة التي تعني بأن المجتمعات تتداخل بشكل متزايد اقتصاديا وثقافيا  حيث التغير في التكنولوجيا أو الاستثمار على بعد آلاف الكيلومترات يمكن أن يؤدي إلى فقدان العمل وتأثيرات ثقافية جديدة أو أضرار بيئية في بلد الأصل. السبب الثاني حقيقة وزن الولايات المتحدة على المستوى الدولي الذي خلق عدم توازن ملازم: حيث تستطيع الولايات المتحدة أن تؤثر في دول كثيرة في العالم دون أن تتمكن هذه الدول من ممارسة درجة من التأثير المماثل في الولايات المتحدة. وهذا الأمر يبدو أكثر وضوح في عالم القوة العسكرية إذ تستطيع الولايات المتحدة تغيير نظام يبعد عنها  8,000 ميل.
 
    يكشف المؤلف الجدل الدائر بخصوص نقد إدارة بوش التي نفذت أجندة المحافظين الجدد التي فرضت على السياسة الخارجية الأمريكية خلال الفترة الأولى للرئاسة. وفي رأيه يوفر هذا تاريخاً رائعاً من تباين مواقف الفكر المحافظ الجديد منذ ثلاثينات القرن الماضي. ويقول أن تركة أو أرث المحافظين الجدد مسألة معقدة يمكن أن تفسر بشكل مختلف تماما عما كانت عليه بعد انتهاء الحرب الباردة. ويحلل سوء تقديرات إدارة بوش استجابة لتحدي ما بعد 11 (أيلول) سبتمبر، ويقترح نهجا جديدا للسياسة الخارجية الأمريكية من خلال الاستفادة من هذه الأخطاء التي قد تتحول إلى  جوانب ايجابية للتراث المحافظ الجديد بالارتباط مع نظرة أكثر واقعية حول الطريقة التي يمكن أن تستخدم فيها الولايات المتحدة القوة في أنحاء العالم.

    يبدو من المشكوك فيه جداً بأن التاريخ سوف يحكم على حرب العراق بلطف حيث خلقت إدارة بوش بغزو العراق نبوءة ذاتية التحقق تتمثل في أن العراق الآن حل محل أفغانستان كقاعدة جذب وتدريب والقيام بالعمليات من قبل المنظمات الإرهابية مع تعرض الكثير من الأهداف الأمريكية للهجوم. العلاقة الضعيفة بين الإرهابي الأردني أبو مصعب الزرقاوي والبعثيين في العراق ما قبل الحرب نمت باتجاه تحالف كبير كامل يغذيه الاستياء المتبادل من الاحتلال الأمريكي. الولايات المتحدة لا تزال تملك فرصة لبناء عراق ديمقراطي يهيمن عليه الشيعة لكن الحكومة الجديدة سوف تكون ضعيفة جداً لسنوات قادمة وتعتمد بدرجة كبيرة على الدعم  العسكري الأمريكي. وحتى إذا تمكنت الولايات المتحدة في الأخير من الانسحاب وتركت ورائها ديمقراطية مستقرة فأن التكاليف ستكون ضخمة: أولاً في سنتين بعد الاحتلال أنفقت الولايات المتحدة مائتي مليار دولار مع خسائر بشرية ربما وصلت إلى 15000 قتيل وجريح. وثانياً من الجانب العراقي يصل عدد القتلى بسبب الاحتلال والتمرد إلى عشرات الآلاف؛ رغم أنه لم تعد تجاوزات صدام حسين قائمة لكن هذه الإصابات في بلد كنا نسعى لمساعدته تمثل خسارة بشرية فادحة.

150
الكاتب والناقد الأستاذ ياسين النصير في ندوة حول الريادة في الثقافة العراقية-هولندا

     تستضيف منظمة الحزب الشيوعي العراقي في هولندا الكاتب والناقد الأستاذ ياسين النصير لإلقاء محاضرة حول " الريادة في الثقافة العراقية" حيث ستركز المحاضرة على تجربة رائدين من رواد الحداثة في الثقافة العراقية هما: جواد سليم وبدر شاكر السياب كما تتطرق إلى :
مفهوم الريادة في الثقافة، والحقول الفنية التي سبقت الثقافة العراقية غيرها في ترسيخ مبدأ الريادة، والنتائج الآنية والبعيدة المدى للشعر وللفن التشكيلي بعد مرحلة الريادة،  وتطوير مفاهيم  الريادة في الثقافة العراقية والعربية على يد شعراء وفنانين تشكيلين آخرين، وخصائص التجربتين على المستوى المعرفي، وتطرح المحاضرة أسئلة منها: هل أغلق الرواد التجربة على ريادة أخرى في الحقول نفسها؟ وماذا تبقى من مفاهيم الريادة الشعرية والتشكيلية؟

الدعوة عامة

التاريخ: السبت المصادف 15-12-2007
المكان: قاعة الصليب الأحمر
Haagse Rode Kruis
Koninginnegracht 92
2514 AK  DEN HAAG
الاستقبال الساعة 13:30
تبدأ المحاضرة الساعة 14:00
للوصول إلى القاعة ترام رقم 9 من المحطة المركزية في دنهاخ والنزول في منطقة Laan Copes van Cattenburch
للمزيد من المعلومات الاتصال بالرقم 0643525313

صفحات: [1]