قَصْرا (ܩܨܪܐ)
سعدي المالحغمغم جدي ببعض كلمات غير مفهومة وسكت. كان عجوزا طاعنا، بدأ يروي، في أيامه الأخيرة، خرافات أغرب من الخيال، ويهذي، خابطا بيديه على غير هدى. قبل يوم من وفاته توقف عن الحركة واستكان، وغدا يتنفس بمشقة. بين حين وآخر تناديه جدتي: توما.. يا توما! يلتفت نحوها برأسه ولا يستطيع الرد على ندائها. أحسّ والدي بدنو ساعة أبيه، فأرسل في طلب الكاهن. مع أن المساء كان في أوله، إلا أن الظلام نشر عباءته في كل الأرجاء على نحو عاجل كأنه يريد أن يضل ملاك الموت طريقه حتى لا يقبض بسرعة على روح جدي. جاء الكاهن ومعه طفل في حدود العاشرة يحمل فانوساً يكشف له الطريق بضوئه الشاحب، ولولا ذلك الفانوس لما تمكن أحد من أن يميز الكاهن من الظلام، لأنه كان يرتدي جُبَّة سوداء ويعتمر قلنسوة بلونها. وإذ اجتاز عتبة البيت التفت نحو جدي وتمتم " ليكن الرب في عونه" ثم تقدم باتجاه التخت الذي يرقد فوقه يقول بصوت خفيض لكنه واضح " بْشِمْ آوا وَوْرا وْروحا دْ قودْشا لْعَلْمينْ" وأخرج قنينة زجاجية صغيرة من عُبّه، بلل أصبعه من فمها بزيت المسحة ورسم به إشارة الصليب على جبين جدي ويديه، وهو يرفع صوته " ليؤازرك الرب بهذه المسحة المقدسة في رحمته الغنية، وليقف إلى جانبك بقدرة روحه القدوس. وليخلصك الرب من خطاياك وينهضك بنعمته" لكن جدي لم ينهض، بل توفي في صباح اليوم التالي، وهذا ما كنا نتوقع، وكذلك الكاهن الذي كان يقصد بالنهوض المرتجى النهوض من بين الأموات في يوم القيامة على حد فهمي.
وما أن لفظ جدي أنفاسه الأخيرة حتى انقلب البيت فجأة رأسا على عقب، وكأن انفجارا روحيا هزه من أعماقه وأفلت مزالج التحكم به، لتخيم حالة من القلق والفزع والخوف من المجهول على أجوائه. زعقت النساء مولولات باكيات يلطمن خدودهن، ويرفعن الأغطية عن رؤوسهن، وينشرن شعرهن، وينتفن منه خُصلاً على الرغم من أن جدي لم يكن شابا ولا مات ميتة مفجعة. خلال لحظات انتشر الخبر المتوقع لوفاة جدي في المحلة، وامتلأ بيتنا بالأقارب والجيران وأهل القرية الذين توافدوا من كل حدب وصوب. انهمك الرجال في تهيئة مراسم الدفن واستدعاء الكهنة والشمامسة. بعد وقت قصير جاء رجلان حاملين نقالة الموتى. تضافر عدد من الرجال على الجثة المسجاة، رفعوها من على التخت ووضعوها في النقالة، ثم حملوا النقالة التي كان الجثمان يتأرجح فيها قليلا على أكتافهم من أطرافها الأربعة وسط عويل النساء وصراخهن، وساروا بها نحو الكنيسة عبر الزقاق المقابل لبيتنا، يتقدمهم الكاهن ذو الجبة السوداء وثلاثة شمامسة، يرددون بأصوات مرتفعة، وبألحان سريانية تقليدية تراتيل وصلوات، وعدد كبير من الرجال المقربين وغيرهم يسيرون خلفهم بوجوه حزينة صامتة، بينما سارت جدتي وعماتي ونساء قريبات أخريات فارعات الرأس نافشات الشعر باكيات منتحبات أو متباكيات خلف الجنازة.
في الأثناء هذه قُرع ناقوس الكنيسة بنغمات جنائزية بطيئة تخطى صداها القرية إلى الارتفاعات العالية معلنا لأهل القرية، وملائكة السماء، وفاة جدي، طالبا منهم أن يصلّوا لأجله.
بلغت الجنازةُ الكنيسةَ. وُضِع جثمان جدي أمام المذبح، ووقف الكاهن والشمامسة على المذبح، في حين أخذ الجمهور المرافق مكانه في الكنيسة، لكن عويل جدتي وعماتي وعدد آخر من النساء كان يسمع من وراء القاعة. رفع احد الشمامسة صوته كأنه يريد أن يغطي به نواحهن:
- مَحّي ميثيهْ، شوحا لْشماخ، نصلّي شلاما عَمّان(1) ( محيي الموتى، المجد لاسمك، لنصل: السلام معنا)
تراجع بكاء النساء.
رد عليه الكاهن:
- نودي ونسغد ونشبح لحيلا خسيا ومشبحا لتليثايوثاخ مشبحتا...(نشكرُ ونسجدُ، ونسبِّحُ قوةَ ثالوثك المجيد ...)(2)
ثم راح الكاهن والشمامسة يتناوبون على أداء مزمور، قال الكاهن:
- مريا آلاها دبورقاني. بأيماما كعيت وَ بليليا قداميك (أيها الرب اله خلاصي، في النهار والليل صرخت إليك) (3)
فرد عليه الشمامسة:
- محي ميثيه، شوحا لشماخ ( محيي الموتى، المجد لاسمك)
وواصل الكاهن يقول بيتا آخر والشمامسة يردون بالجواب نفسه: محي ميثيه، شوحا لشماخ
واستمر الجنّاز بين صلوات وتراتيل ومزامير وقراءة من الإنجيل إلى أن بلغ الختام، فرفع الكاهن صوته عاليا:
"لنصلِّ لأجل توما أخينا في الإيمان الذي رحل من هذا العالم، ولنسأل الرب الذي أرضاه بأعماله، أن يقيمه عن يمينه ويسعده مع الأبرار والصديقين"
فرد الشمامسة: آمين
وأضاف الكاهن:
ويكتب اسمه في سفر الحياة
ويضمه إلى أجواق الملائكة والقديسين
ليسبحه ويمجده إلى الأبد.
ثم تقدم نحو الجثمان ورشه بقليل من الماء المقدس من زوبا، وهي منضحة أشبه بقلّة مسدودة ذات فتحات صغيرة في رأسها، راسما إشارة الصليب وقائلا: روص عْلّي بزوبا وإثذكّي، حلّيلين بيه ومن تلكا أحور(4).والتي تعني: رش عليَّ بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي به فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ. بينما كان أحد الشمامسة يبخره ببيرما، وهي مبخرة نحاسية معلقة من ثلاثة حبال معدنية، يحركها بيده، ترتفع منها حلقات دخان أبيض تفوح منه رائحة بخور زكية. واسم القلة هذه "الزوبا" مشتق من نبات الزوفى الذي كان يخلط مع نباتات أخرى عطرية كالأرز والقرمز مع الماء وينضح به البيت أو الشخص المراد تطهيره، أما العبارة هذه المرافقة لعملية الرش فمأخوذة من سفر المزامير 51: 7 . بعد ذلك اختتم الكاهن الجنّاز قائلا:"اللهم نسألك أن تمنح الراحة الدائمة لأخينا توما الذي رحل من بيننا، اشمله بحنانك الأبوي، أنت الذي خلقته على صورتك وشبهك واغفر خطاياه كلها فيملك مع كل القديسين الآن والى الأبد".
حُمِلَتْ النقالة من جديد على الأكتاف إلى المقبرة- التلة الملاصقة للكنيسة حيث كان عدد آخر من الرجال تبرع بحفر قبر كالعادة، لأن حفر القبر أو حمل جنازة الميت يعد ثوابا كتقديم أضحية.
شرع الكاهن والشمامسة يرتلون بألحانهم التقليدية بينما رفع بعض الرجال الجثمان المسجى عن النقالة وأنزلوه بالحبال في القبر. تقدم الكاهن وأخذ حفنة من التراب ورماها على الجثمان راسما بها إشارة الصليب وهو يقول:" آلاها مارَي كول دَبْقَثْ عليك د من عبرا آت ولعبرا تهيخ...(5) ( الله رب الكل الذي حكم عليك إن تكون من التراب والى التراب تعود، هو يدعوك ويقيمك عن يمينه، فيجازيك بمجد قيامته، والأسرار المقدسة التي قبلتها تتقدمك وتمنحك الغفران في يوم الدين. آمين)
واخذ الحفارون يرمون التراب على الجثمان فارتفع من جديد نحيب جدتي وعماتي والنساء المتجمعات بالقرب من القبر وولولاتهن. أمي لم تكن بين النساء الباكيات، كانت في بيت والدها، جدّي الآخر، تنتظر مولودا جديدا.
عاد الجميع إلى بيت جدي حيث ابتدأت مراسم التعزية. الرجال في الصالة الرئيسة من البيت والنساء في غرفة ملحقة، الرجال يتوافدون، يقفون، يؤدون الصلاة على روح جدي، يقدمون التعازي، ثم يجلسون بصمت، يرحب بهم الجميع. تقدم لهم أقداح الماء والقهوة والسكائر، بعد عشر دقائق أو ربع ساعة يغادرون يأتي غيرهم وهكذا. أفراد وجماعات يأتون بصمت ويغادرون بصمت، بينما النساء ما أن يدخلن باب الغرفة حتى يبدأن بالنحيب والبكاء والولولة فتلتحق بهن بقية النساء ثم تعدّد إحداهن الميت بلحن حزين باكية مولولة واصفة سجاياه ومآثره ومناقبه لإثارة التفجع، ومع الانتهاء من كل مقطع تنشج النساء بصوت عال ماسحات عيونهن المحمرة وأُنوفهن المبتلة، ولم أكن أعرف أن لجدي كل هذه السجايا والمآثر في حياته! وفي كثير من الأحيان كنت أسمع النساء يبكين على أمواتهن ويعظمن قدرهم ويؤكدن كبر الخسارة والفاجعة إلى درجة كنت أتصور أن هؤلاء النساء سيقتلن أنفسهن بعد التعزية، لكني كنت أراهن يتحدثن على نحو طبيعي ويضحكن بعد قليل.
عند الظهر تقريبا جاءت إحدى قريبات أمي من محلة جدي الآخر، قالت لي: اذهب ونادي لي والدك من مجلس الرجال. ذهبت إليه ووشوشت في أذنه. خرج والدي مستغربا. كانت المرأة تريد أن تزف اليه نبأ ولادة أخ جديد لي. غير أنها كانت محتارة من أمرها لا تدري ماذا تقول لوالدي: البقية في حياتك أم تهانينا بالمولود الجديد؟ قالت له: ليرحم الله والدك ويدخله ملكوت السماء، لا تحزن فقد عوضك الله بصبي جميل. ولم يعرف والدي هو الآخر ماذا يقول فرفع نظارته ومسح دمعة من عينه وهو يكاد يشهق بالبكاء. وسرعان ما انتشر خبر المولود الجديد في البيت وانقشع بعض الحزن من القلوب على الرغم من أن الوجوه بقيت صامتة لا تحاول التعبير عن فرحها أو حزنها. عندما تناهى الخبر الى مسامع جدتي فريدة، أرملة جدي المتوفى، التي كانت تكره والدتي، امتعضت وقالت بصوت عال على مسامع النساء في الغرفة:
- أريد أن أعرف متى ولد الطفل؟ قبل وفاة المرحوم زوجي أم بعدها؟
ردت عليها إحداهن:
- ما الفرق يا فريدة، من المفروض أن تفرحي لقد جاءكم مولود بدلا من الذي غادركم.
قالت جدتي معاندة:
- هناك فرق، إذا وُلِدَ قبل وفاة زوجي يعني أنه فأل شؤم، أما إذا ولد بعد وفاته فلا بأس، إنه بشير خير.
أجابت المرأة، قريبة أمي، التي نقلت خبر المولود الجديد، بسرعة:
- ولد بعد وفاة المرحوم زوجك، عندما دق الناقوس معلنا وفاته لم يكن قد ولد بعد. أنا كنت هناك.
لم تقتنع جدتي بجوابها، بل دمدمت عليها بعدم ارتياح لأنها عرفت أنها هي التي نقلت الخبر:
- لا أريد شهادة زور، سأتأكد من الأمر بنفسي.
شعرت المرأة بالإهانة لكنها لم تشأ أن تنشب شجارا في تعزية فنهضت وغادرت بسرعة.
وراحت جدتي لعدة أسابيع تجري تحرياتها لتعرف إن كان أخي ولد قبل أن يلفظ جده أنفاسه الأخيرة أم بعدها، تسأل النساء القادمات للتعزية من محلة جدي الآخر؛ واحدة تقول لها ولد بعد وفاته وأخرى قبل وفاته وثالثة مع وفاته ورابعة لا تعرف، فظلت حائرة غير مستقرة على رأي، ولا تسمح لوالدتي ووليدها الصغير بالعودة إلى البيت إلا بعد أن تتأكد من الأمر جيدا. كان والدي سريع الغضب لكني لا أعرف لماذا لاذ بالصمت وتمالك أعصابه ولم يفعل شيئا، ربما احتراما لمراسم تعزية والده أو لأنه يعرف جيدا أمه المترملة حديثا ولا يريدها أن تتمادى في غيها ويحدث ما لا تحمد عقباه. بينما، في الوقت نفسه، أرسل خبرا إلى زوجته أن تُعَمِّدَ الطفل وهي في بيت أهلها وتسميه توما (التوأم) باسم والده المتوفى. فهمت أمي مضمون الرسالة جيدا وعرفت أن زوجها أصبح لا يأمن نية أمه، ويريد أن يسرع في تعميد الطفل. وكان لوالديّ الحق في ذلك، لأنهما كانا قد فقدا أخا لي سمياه سليم فاحتجت جدتي لأن عمي ساكا الموظف في مدينة بعيدة بين العرب، بحسب جدتي، كان أصدقاؤه ينادونه سالم بدلا من ساكا الاسم غير المألوف لديهم. ولهذا احتجت على هذا الاسم، ولما أصر والدي على عدم تغيير الاسم لعدم قناعته بمبرراتها صارت تلعنه كل يوم وتدعو له بالموت. وبالفعل مات الطفل قبل أن يكمل سنته الأولى، لا أحد يعرف إن كان بسبب دعواتها أم لا، لكن هذه الحادثة كانت ما تزال طرية في ذهنيهما وتثير القلق والخوف في نفسيهما.
في نهاية الأسبوع الثالث من عمر أخي الصغير أخذناه- أنا وجدتي الأخرى سارة وابن خالتي شمعون - إلى الكنيسة لتعميده. كان الكاهن والشمامسة ينتظروننا في بناء ملحق بالكنيسة يسمي باسم يوحنا المعمدان. وهو صالة مستطيلة فيها مذبح صغير وجرن وبعض الكراسي، القاعة نفسها التي كنا نتعلم فيها الصلوات واللغة السريانية صيفا. حمل شمعون الشاب في ذلك الوقت المولود الجديد أمام المذبح، أي أصبح إشبينه. جاء الكاهن وطلب من الإشبين أو العرّاب (وكلتا المفردتين سريانيتان) اسم الطفل أجاب : توما. دمدم الكاهن بصوت خفيض: "راح توما وجاء توما!" ويبدو أنه لم يكن يرتاح لجدي. ابتسم الشماسان المرافقان للكاهن الذي بدأ يسجل الاسم في سجل العماد. قال الكاهن موجها كلامه للطفل: جدك، رحمه الله، لم يكن تقيا ولم يترك أثرا ملحوظا في حياته، لكنك أنت ينبغي أن تكون مبشرا بالمسيح في بلاد النهرين والهند مثل سميك التلميذ مار توما. هز الإشبين رأسه تأييدا دون أن يستوعب مغزى ما قال الكاهن. يبدو أن الكاهن، لسبب لا يعرفه إلا هو، شعر بالارتياح لأنه أزاح ثقلا عن نفسه وبدأ حينئذ بطقس سر المعمودية:
- بشم آوا وورا وروحا دقودشا لعلمين. تْشْبوحْتا لْآلاها بَمْرَوْميه وْعَلْ أرْعا شلاما وْسَوْرا طاوا لَبْنَيْ ناشا بْكُلْ عْدّان لْعالْمين(6)....(المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر كل حين إلى الأبد) بعد قليل تقدم الكاهن إلى الإشبين يسأله:
- أُو توما كابْرْ آتْ بْصَطانا؟ (7) ( يا توما هل تكفر بالشيطان؟)
تردّد الإشبين قبل أن يقول: نعم أكفر
وخفت أنا في مكاني أن لا يرسل شمعون شتيمة فاضحة بحق الشيطان مثلما فعل أحدهم بعد أن فسر كلمة "كابر آت" والتي تعني أتكفر بـ أتشتم كما بالعامية. لكن ابن خالتي على ما يبدو كان قد تعلم جيدا الدرس الذي لقنته إياه جدتي سارة.
أضاف الكاهن: وبجميع أعماله
أجاب الإشبين: نعم أكفر
وواصل الكاهن: وبجميع أباطيله
ردد الإشبين: نعم أكفر
ثم عاد الكاهن يطلب من الطفل بواسطة إشبينه أن يعلن إيمانه بالله وبيسوع المسيح وبالروح القدس الذي أجاب عليه الإشبين أؤمن ثلاث مرات. كانت جدتي تسبقه بالجواب بصوت مسموع خوفا من أن ينسى.
وأخيرا سأله: يا توما هل تريد أن تتعمد؟
أجاب الإشبين بدلا من الطفل: نعم أريد
وفي الحال بدأ الكاهن يمسح الطفل بالزيت قائلا: مْثْمَشّحْ ومْثْقَدَّشْ (
توما بْشْمْ آوا وْوَرا وْروحا دْ قودْشا لْعالْمين.( لِتُمْسَحْ وتتقدس يا توما باسم الآب والابن والروح القدس إلى الأبد)
ثم أخذ الطفل الذي كانت جدتي قد نزعت عنه ملابسه قائلاً: يا عبد الله توما، أنا أعَمِّدُك باسم الآب (وغطس الطفل في الجرن المملوء بالماء حتى رأسه) والابن(وغطس الطفل بالماء ثانية) والروح القدس (وغطّسه بالماء ثالثة) بينما راح الطفل يصرخ بفزع من هول المفاجأة. ثم تلقفته جدتي من يد الكاهن وألبسته فستانا أبيض كأنه عروس. بعد قليل حمله الإشبين من جديد ليمسح الكاهن على جبينه بالميرون على شكل صليب تثبيتا لمعموديته، والميرون هو خليط من زيت وعطور يصلي عليه الكاهن في طقس خاص.
2
كان للماء قدسية خاصة في بلاد ما بين النهرين منذ بدء الخليقة. بل وبالماء تبدأ الخليقة كما يرد في ملحمة إينوما إيلش:
بينما في الأعالي
لم تكن السماء قد سميت بعد
والأرض اليابسة في الأسفل
لم يكن أطلق عليها أي اسم
وحدهما أبسو- الأول
والأم تيامات
والدتهم جميعا
كانا معا
يمزجان مياههما
وأبسو وتيامات هما عنصرا المياه البدئية، مياه الغمر، العذبة والمالحة، اللذان يمثل مزيجهما أساس كل حي، وهذا يعني أنه لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى. و" إن الله يجلس على المياه كما يجلس الطير على البيضة." كما يقول نص مسماري في ملحمة أسطورية اكتشفت ألواحها في أوغاريت.
وهذا ما يؤكده العهد القديم أيضا منذ الأسطر الأولى " و كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفّ على وجه المياه" ( تكوين 1: 2).
ونظرا لقدسيتها غدت المياه رمزا للتطهر في الأساطير السومرية والبابلية – الآشورية، ففي " اينوما ايلش" نفسها يقصد الآلهة المتصارعون المشاركون في الحروب الدامية نهر الفرات للتطهر بمائه لكي ينجوا بأنفسهم من القصاص.
وفي زيارة إينانا لأنكي يصب لها الماء البارد المنعش للقلب، وعندما نزلت عشتار إلى العالم السفلي تطلب الآلهة ايريشكيغال من وزيرها الإله نامتار أن تُنضح بماء الحياة ويؤتى بها أمامها... " نضح بعد ذلك ماء الحياة على عشتار وجاء بها أمام ايريشكيغال"
ثم تأمره (9):
"وفيما يخص بتموز عشيق حبها الأول
دعه يغتسل بماء صاف ويتدلك بالطيوب
وليرتدِ لباس الأبّهة"
وكان القدماء من أجدادنا يقومون برشّ الماء على بعضهم البعض لغَسل خطاياهم قبل استقبال الإله دموزي بعدَ أسره من قبل إلهة الموت أيرشكيغال. ولا يزال الكثير من السريان يمارسون بعضا من هذه الطقوس من خلال عيد شعبي يسمى " نوسرديل" ومعناه عيد " رش الماء على الإله" وذلك برش الماء على بعضهم بعضا.
أشارت ملحمة كلكامش، وفي أكثر من موضع، إلى الاغتسال بالماء، كشكل ضروري من أشكال التطهر، إلا أن الرش بالماء المقدس انتقل فيما بعد إلى أماكن العبادة والملوك والقصور وغيرها. إذ نرى أن الأيام الأربعة الأولى من برنامج الاحتفال برأس السنة البابلية الآشورية مخصصة لتطهير الأماكن استعدادا للعيد" ففي كل صباح ، وعند شروق الشمس، كان كبير الكهنة، بعد التطهر بالاغتسال يدخل بمفرده إلى معبد مردوخ ويتوجه بصلواته إلى الإله والى آلهة آخرين" وفي اليوم الخامس "يرش المعبد بالماء المقدس" قبيل تقديم القرابين. وكان في المعابد " موضع لسكب الماء المقدس".
والزيت أيضا كان مقدسا منذ القدم، وقد ذكرته الأساطير يؤدي دورا دينيا، فالبغي في ملحمة كلكامش عندما خاطبت أنكيدو:
"كل الطعام يا أنكيدو، فأنه مادة الحياة
و أشرب من الشراب القوي، فهذه عادة البلاد"
فأكل انكيدو من الطعام حتى شبع
و شرب من الشراب القوي سبعة أقداح
فانطلقت روحه و انشرح صدره و طرب لبّه و نوّر وجهه
نظف جسده المشعر ومسحه بالزيت
و أضحى إنسانا، لبس اللباس و صار كالعروس.
وهذا يشبه التعميد ليولد ولادة جديدة كإنسان تخلص من "خطيئته" الحيوانية، أو بكلمة أخرى اكتمال دخوله في طور الحضارة والمدنية. والمسح بالزيت هنا هو علامة التقديس والتطهير حتى في المسيحية ، فالطفل من خلال التعميد والمسح بالزيت يطهر من خطيئته المميتة فيلبس ثيابا بيضاء كأنه عروس.
وعندما يخفف كلكامش من وطأة الحلم الذي رآه أنكيدو عن اقتراب موته يخاطبه:
عسى أن يندبك من عظّم اسمكَ في أريدو
ويبكيك من أطعمك الخبز
ومن مسح ظهرك بالزيت
ويندبك من سقاك الجعة
وتبكيك البغي التي طيبتك بالزيت العطر.
إذ يعد المسح بالزيت والتطيب أحداثا مهمة في حياته مثل إطعام الخبز!
وتذكر الأساطير أن «آدابا» صعد إلى السماء، بعد أن مُسِحَ بالزيت.
وكان المسح بالزيت يستخدم حتى من قبل البسطاء، ففي لوح بابلي يتحدث عن الحياة اليومية لصائغ يقول: "يستيقظ بيل - ابني وزوجته قبل الفجر ويقبل احدهما الآخر والأطفال ثم يذهبان للاستحمام ويختمانه بالمسح بزيت الزيتون والعطور".
وعندما يشتد المرض بأنكيدو يرى حلما يجد فيه نفسه في:
البيت الذي لا يرجع منه من دخله
البيت الذي حرم ساكنوه من النور
حيث التراب طعامهم والطين قوتهم
ثم يقول:
وفي البيت الذي دخلت
يسكن الكاهن الأعلى وخدم المعبد
ويسكن كهنة التطهير والرقاة والمعوذون
ويسكن الذين يقدمون زيت المسح للآلهة العظام.
أي أن عمليات التطهير والمسح بالزيت كانت تجري حتى في تلك الأزمنة للموتى وكان ثمة من يقوم بتأديتها. وكانت المعابد تمسح بالزيت وترش بالماء المقدس قبل تدشينها وربما كان هذا أول استخدام للزيت في العراق القديم. ثم انتقل المسح بالزيت إلى الملوك والآلهة، وتشير الرُقم المسمارية إلى أن ثلاثة ملوك من سلالة أكاد وهم سرجون، ومنيشتوسو ، ونرام سين حملوا لقب "ممسوح أنو". ويبدو أن المسحة بالزيت كانت وسيلة لممارسة العهد و كان هؤلاء الملوك الثلاثة الذين اختاروا هذا اللقب قد نالوا المسحة. وهناك إشارات إلى أن أسرحدون مسح بالزيت، وفي تتويج ملك آخر من ملوك الحقبة الآشورية الوسيطة نقرأ " حُمل الزيت المصبوب في كأس ذهبيّة من القصر إلى الهيكل وجعله الملك عند قدمي الإله" في إشارة واضحة إلى عملية المسح التي كانت سائدة آنذاك.
* * *
وانتقلت طقوس الرش بالماء المقدس والمسح بالزيت من بابل وآشور إلى اليهود، فاستخدموا الماء للتطهير الطقسي وعدّوا التطهير بالماء رمزا لتطهير النفس والضمير. "وكلم الرب موسى قائلاً : خذ اللاويين من بين بني إسرائيل و طهرهم وهكذا تفعل لهم لتطهيرهم: أنضح عليهم ماء الخطية."( العدد 8: 7) والماء لدى حزقيال لا يطهر من نجاسة فحسب، إنما يمنح روحا جديدة:" وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاستكم و من كل أصنامكم أطهركم وأعطيكم قلبا جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم و انزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم. و أجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي و تعملون بها وتسكنون الأرض التي أعطيت آباءكم إياها و تكونون لي شعباً وأنا أكون لكم إلها (حزقيال 36: 26) أما إشعياء فيعده روحا وبركة" لأني أسكب ماء على العطشان و سيولا على اليابسة أسكب روحي على نسلك و بركتي على ذريتك " ( إشعياء 44: 3 ) أو ينبوع الخلاص: "فتستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص" (إشعياء 12: 3، 41: 17). ولم يعط الرب الكهنوت لهارون ألا بعد أن غسل جسده أولا بالماء "فقال الرب لموسى اذهب إلى الشعب وقدسهم اليوم وغدا وليغسلوا ثيابهم ويكونوا مستعدين لليوم الثالث لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء" ( الخروج 19).
واستُخدِمَ الزّيتُ في مسْحِ الملوكِ والكهنةِ ورؤساء الكهنةِ، في سفر الخروج عندما يأمر الرب موسى أن يمسح هارون: "وَتَمْسَحُ هَارُونَ وَبَنِيهِ وَتُقَدِّسُهُمْ لِيَكْهَنُوا لِي" ( الخروج 30:30) ويمسح صادوق الكاهن سليمان ليصبح ملكا " فَأَخَذَ صَادُوقُ الْكَاهِنُ قَرْنَ الدُّهْنِ مِنَ الْخَيْمَةِ وَمَسَحَ سُلَيْمَانَ. وَضَرَبُوا بِالْبُوقِ، وَقَالَ جَمِيعُ الشَّعْبِ: «لِيَحْيَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ" (الملوك الأول 1: 39)
وقد ذكر الكتاب المقدس مسح شاول وداود بواسطة صموئيل النبي : "فَأَخَذَ صَمُوئِيلُ قَرْنَ الدُّهْنِ وَمَسَحَهُ فِي وَسَطِ إِخْوَتِهِ. وَحَلَّ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى دَاوُدَ مِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِدًا. (صموئيل الأول: 16: 13) ومسح يا هو بن نمشى ملكاً على إسرائيل بواسطة إيليا. ومسح هارون رئيساً للكهنة بواسطة موسى. ومسح إليشع نبياً بواسطة إيليا (ملوك الأول 16:19).
* * *
. يقول المؤرخ يوسابيوس بانفيلوس، أسقف قيصرية فلسطين في " التاريخ الكنسي"، وقد كتبه في عام 325 "إن للمعمودية جذورا في الفكر التوراتي". وفعلا يعتقد اللاهوت المسيحي أن الطوفان وعبور بني إسرائيل في البحر في العهد القديم كانا رمزا للمعمودية، وفي هذا قال الرسول بولس" إن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر( كو10: 1-2) لكن العماد بشكله المعهود بالغطس بالماء ( والفعل –ܥܡܕ- عمد بالسريانية يعني غطس) ظهر لدى اليهود في تعميد المتحولين من الوثنية إلى اليهودية فقط وليس المولودين من أبوين يهوديين وكانوا يغطسون إلى النصف بالماء(10) ، ومارسته أيضا جماعة يهودية أخرى تسمى الاسيانيين كانت تعيش على ضفاف البحر الميت، هذه العمادات سـتأخذ بها المسيحيّة وترفعها إلى مستوى موت يسوع وقيامته، ولكن بمفهوم المسيحية يبقى الفرق شاسعًا بين تلك العمادات، وعماد يوحنّا المعمدان الذي يُعطى مرّة واحدة بالغطس الكامل كبداية مسيرة التوبة وعلامة تدلُّ عليها، يقول مرقس1: 4 (ولوقا أيضا 3: 3) إنَّ يوحنّا كان يكرز "بمعموديّة التوبة لغفران الخطايا". فالإنسان يتطهَّر حين يغتسل. أمّا يوحنّا فيعمِّد من أجل الغفران وهذه الوظيفة لم يسبقه إليها أحد. لأن الخاطئ لا يغفر لنفسه. كذلك إنَّ عماد يوحنّا يرتبط بنهاية الأزمنة "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله" (مرقس 1: 4). وتعتقد المسيحية "أن هذه النهاية تمَّت بمجيء المسيح، بينما العماد المسيحي ينطلق من موت المسيح نفسه وقيامته بانتظار مجيئه، مع محطّة متوسِّطة تتمثَّل في موت كلِّ واحد منّا. فنحن في المعموديّة نموت في الرمز مع يسوع، ونقوم معه".
إذن معمودية يوحنا المعمدان مهدت الطريق أمام المسيح الذي "كما جاء يكمِّل العهد القديم، كذلك جاء بعماده يكمِّل تطلُّعات العالم اليهوديّ ويصل بها إلى مستوى العهد الجديد، إلى مستوى ما فعله هو من أجلنا. حين مات وقُبر، وقام في اليوم الثالث ليقيمنا معه في حياة جديدة فتح لنا الطريق لننال العماد من يد الكنيسة باسم الآب والابن والروح القدس" كما هو الآن في المسيحية. "إذن المعمودية هى سر الولادة الجديدة بالماء والكلمة ". واستخدم يسوع الماء في حديثه مع نيقوديموس رمزاً لكلمة الله، بالقول: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح " (يوحنا 3: 5 )
وعلى هذا الأساس فأن المسيح نفسه تعمد بالتغطيس ( متى 3: 16) ولا يزال التعميد يتم في عدد من الكنائس الشرقية بالغطس الكامل فضلا عن المسح بالزيت، والمسح بالزيت المقدس، ( زيت معطر يقدسه الأسقف، ويرمز إلى موهبة الروح القدس للمعمد الجديد) هو دلالة على أن الطفل أصبح مسيحياً أي ممسوحاً " بمسحة الروح القدس ومتحداً بالمسيح الممسوح كاهنا ونبياً وملكاً" .
ولعل أول ذكر للمسح في التوراة جاء عند تكريس الأماكن لله كالمسكن وكل ما فيه "وَتَأْخُذُ دُهْنَ الْمَسْحَةِ وَتَمْسَحُ الْمَسْكَنَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، وَتُقَدِّسُهُ وَكُلَّ آنِيَتِهِ لِيَكُونَ مُقَدَّسًا."(الخروج 40: 9) وخيمة الاجتماع والتابوتِ "وَتَمْسَحُ بِهِ خَيْمَةَ الاجْتِمَاعِ، وَتَابُوتَ الشَّهَادَةِ"( الخروج 30: 26) والمائدةِ والمذبح " وَتَمْسَحُ مَذْبَحَ الْمُحْرَقَةِ وَكُلَّ آنِيَتِهِ، وَتُقَدِّسُ الْمَذْبَحَ لِيَكُونَ الْمَذْبَحُ قُدْسَ أَقْدَاسٍ"( الخروج 40: 10) والمرحضةِ وقاعدتها " وَتَمْسَحُ الْمِرْحَضَةَ وَقَاعِدَتَهَا وَتُقَدِّسُهَا"( الخروج 40: 11) .لذلك كان استعمال بيلشاصر (دا2:5-4) في آخر يوم له، لآنية بيت الرب اعتداء على الله استوجب معه نبوة دانيال المخيفة "وزنت فوجدت ناقصاً" ومات في الليلة نفسها!
وكان من الطبيعي أن ينتقل المسح بالزيت إلى المسيحية التي ظهرت في بيئة تعاملت مع هذا التقليد آلاف السنين. ونجد تطبيقات عديدة للمسح بالزيت في الإنجيل. والمسيح نفسه، على وفق الإنجيل، مسح عدة مرات، " فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَنًا مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ.( يوحنا 12: 3) ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: "أَتَنْظُرُ هذِهِ الْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا" (لوقا 7: 44)
لكن الزيت في المسيحية أصبح "رمزا للروح القدس" ... والأشخاص بالمسحة يأخذون "هبة من الروح القدس ". وسفر الأعمال يقول "مسحه الله بالروح القدس" (38:10) ولذلك سمي المسيح أي الممسوح. وهذا ما يؤكده الإنجيل: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ مُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ"(لوقا: 18)
يقول مار توما الرسول إن "في الزيت المقدس شيئا من قوّة المسيح ومن له هذه القوّة فمعه الشفاء والحياة". لذا فاستخدام الزيت في طقوسنا له أبعاده الطبية والروحية.
والزيت المستعمل في المسح كان يخلط بمقادير معينة من عدة عطور وحينما يمسح الشخص أو المكان به تفوح منه رائحة هذه العطور.
3
أقف على هذه التلة- قصرا، أبحث عن قبر جدي. كان هنا في هذا الجانب، لم يصله الشارع الذي شق قصرا عام 1967 ولا معاول الآثاريين الذين نبشوا فيه بحثا عن لقى من هياكل عظمية وفخار وأدوات حجرية ومعدنية. لا، هذا ليس هو، أزيح التراب عن قبر آخر، أرى كتابة على اللوح الأسمنتي، أقرؤها، نعم إنه هو. أشم تلك الرائحة الزكية للبخور المختلطة برائحة الزوفا في ذلك اليوم، وأفكر: هل كل الذين دفنوا فيها نُضِحوا بالماء بعد وفاتهم ومُسِحوا بالزيت قبله؟ ربما، أو قل على الأغلب، لا سيما أننا نعرف، من خلال التنقيبات التي جرت فيها، أن هذه التلة التاريخية تعود في الأقل لسبعة آلاف سنة، إذ اكتشف الآثاريون في طبقاتها هياكل عظمية لرجال ونساء وأطفال، تعود لمختلف الحقب الزمنية منذ مرحلة تل العبيد وحتى الآن، وخلال كل هذه السنوات، على ما يبدو، أن طقوس دفنهم، والبكاء عليهم، وزيارة قبورهم لم تتغير كثيرا. لقد رقد هنا على رجاء القيامة أو دون رجاء كل الذين تعاقبوا على هذه البقعة من الأرض، من السوبارتويين والآشوريين المؤمنين بالإله آشور والإلهة عشتار وأحفادهم المؤمنين بالمسيح منذ ألفي سنة وربما آخرين، يهود وفرس وميديين، من يدري؟ مئات الآلاف دفنوا في هذه التلة وباحة الكنيسة المجاورة.
جلست على حافة القبر الأسمنتي. فجأة أسمع جدي يحدثني، قلت: افصح يا جدي فأنا مشتاق لحديثك. ولهذا بعد كل هذه السنين التي قضيتها في الغربة جئت لزيارتك. قال: أخبرني جدي، وكان اسمه توما مثلي، نقلا عن والده بويا، الذي كان نسطوريا، أن هذه التلة، كانت، في أواخر القرن الثامن عشر، مقبرة للنساطرة (والنسطورية مذهب مسيحي شرقي يؤمن بأن مريم العذراء هي أم المسيح الإنسان وليس الإله)، وفي عام 1879جاء مطران من الموصل اسمه يوحنان هرمز وحولنا من النسطورية إلى الكثلكة، على وفق الطقس الكلداني. قال النسطورية هي ضلال وهرطقة والذي يموت عليها مكانه جهنم الحمراء. ورفع يده فوق المصلين في الكنيسة قائلا: اليوم جئت لأحلكم جميعا وأجعل منكم مسيحيين صالحين. ومنذ ذلك اليوم غدت هذه المقبرة كاثوليكية لا يدفن فيها النسطوري.
قلت: ياجدي وأجدادكم، ألم يموتوا على النسطورية؟ قال: بلى، وضحك. قلت: لماذا تضحك؟ ألم يدفنوا هنا، في هذه المقبرة؟. قال: كان الناس يبكون على موتاهم لأنهم ماتوا على ضلال. ولا سيما النساء كن في ذلك الوقت يكثرن من زيارة القبور والصلاة على الموتى، وبالأخص على الذين ماتوا على النسطورية ليغفر لهم الله؛ لأنهم كانوا جهلاء ولم يأتِهم أحد من قبل على مدى 12 قرنا ليخبرهم بالحقيقة. قلت: والرجال؟ قال: الرجال أيضا تضايقوا، وتذمروا ثم قبلوا بالأمر الواقع. حكى لي جدي عن أبيه، أنه في أحد الأيام كان القس يوسف مارا بمحاذاة المقبرة ذاهبا إلى الكنيسة وإذا به يرى شماسا جالسا على قبر مطأطئا رأسه فناداه ، لم يجب الشماس، ناداه مرة أخرى لم يجب أيضا، تقدم نحو فوجده يبكي. سأله: لماذا تبكي؟ أجاب: أبكي على أبي. فسأله: لماذا تبكي عليه الآن وقد توفي منذ عشر سنوات؟ قال: أبكي عليه لأنه مات على النسطورية فلن يرى ملكوت السماء. كان القس يوسف من دعاة الكثلكة المتحمسين وهو الذي حرض أهل عنكاوا على التحول إليها فكان يتقن اللعبة جيدا. أنهضه وقال له: مات ولم يدعه أحد إلى الطريق القويم، هذا ليس ذنبه، الربان بويا مات على النسطورية أيضا، يكفي أن تصلي له فيغفره الله ويدخله ملكوت السماء. وعندما سمع الشماس أن الربان بويا سيلاقي مصير والده نفسه أحس بالارتياح. سألت جدي: وأين صار يدفن النساطرة موتاهم. أجاب: في تلك الأيام لم يبق نساطرة في القرية، لكنهم ظهروا بعد الحرب العالمية الأولى من جديد، وراحوا يدفنون موتاهم في مزار مارت شموني التي كنا نسميها مقبرة الغرباء. أي للمسيحيين من غير الكاثوليك، وأتذكر، وكنت آنذاك رجلا بالغا، أن عريفا في الجيش البريطاني اسمه ميثوين Methwen قتل في حفل بأربيل ووُرِيَ التراب في هذه المقبرة وكان ذلك بعد السفربرلك. ولعل هجرة بعض أبناء الكنيسة النسطورية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي إلى عنكاوا أحيت هذا المزار. إذ بدأ هؤلاء، والذين هاجروا إلى عنكاوا من حرير وباتاس فيما بعد في أوائل الستينيات، يقيمون فيه بعض المراسم الدينية ويدفنون موتاهم في فنائه. فظهرت في تلك السنوات قبور عديدة حواليه. هذا المزار كان يبعد نحو 500 خطوة عن قصرا، يقوم وحده إلى شمال المدينة على تلة أصغر بكثير وسط حقول القمح أو الشعير القريبة. وكان عبارة عن غرفة أثرية صغيرة مبنية باللبن المفخور في داخلها صخرة كبيرة تشعل فوقها الشموع.
قلت: يقال إنه كان كنيسة قديمة بهذا الاسم. قال: أن عشرات الكنائس والمزارات تسمى باسم مارت شموني وأولادها السبعة في العراق واغلبها كانت للكنيسة النسطورية ( تسمى حاليا كنيسة المشرق الآشورية) والكنيسة السريانية الأرثوذكسية. وجميعها تقع في "آشور المسيحية". وشموني هذه سيدة يهودية وردت قصتها في العهد القديم (المكابيين 7: 1-42) إذ استشهدت هي وأبناؤها السبعة على يد الملك الوثني الروماني أنطيوخس الكبير سليل سلوقس الأول ( النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد)، لعدم تخليهم عن إيمانهم التوحيدي وتقاليد دينهم اليهودي الموروثة. ويبدو أن كنيسة المشرق اعتمدت قديما هذه القصة في تقليدها الكنسي وأبرزتها أثناء فترات الاضطهاد التي واجهتها في العصور المسيحية الأولى لتعزيز الشهادة والتضحية لدى رعاياها من أجل ترسيخ إيمانهم.
مع ذكرى هذا المزار الأثري تألمت وتأسفت لأنه أزيل في عام 1982 لتبنى فوقه كنيسة صغيرة بالاسم نفسه ويتم القضاء على معلم اثري مهم كان يمكن أيضا أن يكشف عن المزيد من تاريخ المنطقة. وضعت رأسي بين يدي وغرقت في التفكير والذكريات وانأ أنظر مليا باتجاه المزار.
كان الطريق الترابي الذي يمر بين الحقول من أمام مزار مارت شموني في ذلك الوقت ممشى للشباب والشابات يتمشون فيه أزواجا ومجموعات يتسلون بأنواع من البذور (الجرزات) ويتحدثون ويغازلون بعضهم بعضا من بعيد، أو يتمكنون أحيانا من إلقاء بعض الكلمات لبعضهم بعضا. وكانت في تلك السنوات كعوب الأحذية النسائية العالية ظاهرة جديدة في عنكاوا ولهذا كنت ترى الشارع الترابي الرطب في الربيع مليئا بالثقوب التي أحدثتها فيه تلك الكعوب.
وفي فناء المزار كانت الشابات يجتمعن للعب لعبة التراب، وكانت تلعب بإخفاء قطعة نقود معدنية في كومة صغيرة من التراب الأحمر النظيف وتقسيمها حفنات صغيرة على عدد اللاعبين فمن يحظى بقطعة النقود المعدنية يحصل على ما يماثلها من اللاعبين الآخرين. وهي لعبة منسية حاليا. ونحن الصغار كنا نتسابق على جلب التراب الأحمر النظيف للاعبات من أجل الحصول على قطعة نقود معدنية بين فترة وأخرى.
وإلى مزار مارت شموني كان يأتي البائع المتجول آنذاك توما حاملا طبقا من السكاكر والبسكويت والحامض حلو وبعض "الجرزات" فتلتف حوله النسوة والأطفال يشترون وأحيانا يلعبون اليانصيب المتكون من خشبة مدورة مقسمة إلى مثلثات ثبتت عليها قطعة معدنية رفيعة مثل المسطرة تدور على بكرة، وعلى أي مثلث يقف مؤشر الحديد يربح صاحبه جميع المبالغ الموضوعة في المثلثات الأخرى، أي كانت اللعبة عبارة عن نسخة مبسطة للروليت.
ضحكت مع نفسي: عندما كنت صغيرا، كلما سمعت عن قصة موت المسيح وقيامته، أتصور انه صُلِب على هذه التلة، التي كنت أتصورها جبل الجلجلة، ودفن في مقبرتها، وقام من قبر فارغ ملاصق لسور الكنيسة، وصعد إلى السماء!.
كان ذلك زمن آخر.
الآن يعيش في عنكاوا مسيحيون من كل المذاهب والطوائف؛ كاثوليكية ونسطورية وأرثذوكسية وانجيلية، يؤدون طقوسهم وصلواتهم على وفق تقاليد خمس طوائف مستقلة وبطقوس مختلفة عن بعضها البعض نوعا ما، وربما بلغات ولهجات متباينة، لكن عندما يموتون يدفنون جميعهم في مقبرة حديثة واحدة، يرقدون إلى جانب بعضهم بعضا دون أن يقول الكاثوليكي للأرثذوكسي الراقد بجواره أنت تؤمن بطبيعتين في المسيح أو الأرثذوكسي للنسطوري أنت تعد مريم العذراء أم المسيح الإنسان وليس الإله! يختلفون في الطقوس والمذاهب ويتصارعون في فلسفاتهم الدينية، وأخيرا يهجعون في مكان واحد! لعل هذه هي أولى بوادر الوحدة المسيحية وربما القومية للسريان الكلدان الآشوريين المشتتين على وفق طوائفهم!
4
ثمة حكايات كثيرة في القرية، وربما لا تزال، تتحدث عن أشباح ظهروا لأناس في هذه المقبرة، وعن أصوات بلغات غير مفهومة، أو عمود من الضوء ينزل من السماء على قبر ما، أو شمعة مشتعلة يتراقص نورها على قبر آخر.
غير أن أضخم قبر في قصرا كان لصليوا يعقوب أوستا المعروف بإتشي: غرفة مستطيلة ترتفع بقامة رجل، يقال أن والدته أصرت أن تشيد له مثل هذا القبر لتواجهه وتبكي كل يوم، ولا سيما وأن بيتها كان على الزاوية اليمنى من البيوت المشيدة شرقي قصرا. كان صليوا شابا تزوج حديثا ولم يكن قد أنجب ذرية بعد عندما قتل. ذات يوم من صيف عام 1963 وهو يعود من عمله في عقار القرية راكبا حمارته حاملا في رأسه أحلاما جميلة بلقاء زوجته الشابة وما يمكن أن تكون قد حضرت له من طعام بعد يوم شاق، تصدى له أربعة جنود مسلحين على مشارف القرية، وجهوا له بنادقهم وانزلوه عن حمارته واقتادوه بالضرب والركل والشتائم والبصاق إلى الحديقة العامة القريبة في طرف القرية. صدم صليوا مما يحدث له وأصيب بما يشبه البكم، خاصة أنه لم يكن متعلما، ولا يجيد اللغة العربية، ولا حتى يعرف بما يجيب هؤلاء الجنود الذين يقولون له أنت من العصاة كما كانت الحكومة تسمي الثوار الكورد.
صليوا لم يكن يعرف أن العقيد خليل سعيد قائد اللواء الخامس هاجم عنكاوا وحاصرها من كل الجهات بالدبابات والمدرعات وأرسل المئات من جنوده المسلحين يفتشون بيوت الأهالي بيتا بيتا بحثا عن السلاح والرجال ويأخذون جميع رجال القرية شبابها وشيبها إلى الحديقة العامة (جمعية مار عودا حاليا) وهناك يوثقون كل اثنين أو أكثر مع بعض من الظهر، ويضربونهم ضربا مبرحا بالعصي وأخامص البنادق مع أقذع الشتائم والمسبات مما أدى إلى إصابة الكثير بكسور وجروح بليغة وكأن عنكاوا وأهاليها هم الذين أضاعوا فلسطين وفسخوا الوحدة العربية!.
وحتى لو عرف صليوا ما يحدث لقريته قبل دخولها ربما لما همه الأمر فهو الفلاح البسيط ، الذي لم يحمل السلاح في حياته، وبالكاد يحصل على قوته من حراثة أراضي الآخرين، ولما فكر بأن يتصدى له أحد، وحتى لو عرف، لما فكر أبدا في أن ملابسه الشبيهة بالملابس الكوردية وخاصة شدة الرأس الحمراء الشبيهة بشدة البارزانيين، وعدم تمكنه من الرد على الجنود بلغتهم العربية ستكون سببا آخر يزيد من قساوتهم عليه.
تدحرج صليوا أمامهم يتلقى الضربات كأنه كرة إلى أن وصل الحديقة العامة حيث عشرات الرجال المربوطين بالحبال من ظهورهم. كان صليوا ينزف من عدة أماكن من جسده. قال الجنود لآمرهم:
- سيدي ، هذا من العصاة، رأيناه قادما من خارج القرية.
سأله الآمر بعض الأسئلة فلم يجب، نظر إليه مليا فوجده يرتدي الملابس الكوردية نفسها تقريبا وشدة راس حمراء فشك هو أيضا بأمره، سلمه إلى فريق آخر من جنوده ليؤدبوه جيدا. بعد وجبة أخرى من الضرب المبرح على رأسه وظهره وقدميه سقط صليوا مغشيا عليه لكن الجنود لم يتوقفوا على الرغم من أن قلب صليوا كان توقف عن الخفقان وهو لا يدري لماذا يضرب ولماذا يموت!
وعائلة صليوا، أو بالأحرى والده وعمه كانا قد هاجرا قبل بضعة عقود إلى جانب عائلات أخرى من منطقة راوندوز، وربما كانوا من آخر العائلات المسيحية التي نزحت من تلك المنطقة إلى عنكاوا. لأن كليهما، يعقوب وعيسى، كانا يتحدثان بلهجة سريانية تختلف عن لهجة أهل عنكاوا.
إلى جانب هذين البيتين المواجهين للبيادر كان ثمة بيت آخر على الزاوية قبل أن تغدو البيوت مواجهة لقصرا. بيت العم شابو كشمي، وكان يسمى كشمى التي تعني الجسيم لضخامته وطوله الفارع . كان العم شابو مشهورا بتسييع الجدران بالطين بكفه الغليظة ذات الأصابع الطويلة وتسلقه السلالم المربوطة بعضها ببعض للوصول إلى أعلى حافة في الحائط. وكان للعم شابو ابن اسمه قرياقوس متزوج سيق إلى الخدمة العسكرية في عام 1948 وأرسل إلى فلسطين، في غيابه انجبت زوجته الحامل بنتا جميلة. مرت نحو سنتين وقرياقوس لم يعد حتى توقع أهله أنه قتل في تلك الحرب اللعينة، لكن ذات يوم عاد قرياقوس على حين غفلة، ولما وطأ بقدمه عتبة البيت أصدرت ابنته صوتا وتوفيت فجأة. فقيل إن الأب داس على صدر ابنته بوطئه عتبة البيت! إذ يسود الاعتقاد إن القادم من سفر بعيد لا يجوز أن يطأ عتبة الدار بقدمه! وكانت العمة سارة بطرس زوجة قرياقوس أول وأشهر قابلة مأذونة في القرية، بعد إكمالها الصف الخامس الابتدائي في أوائل الأربعينيات دخلت دورة للقابلات المأذونات وبعد تخرجها تم تعيينها رسميا في ناحية طقطق لكن والدها رفض أن تذهب ابنته الشابة اليافعة إلى هناك فبقيت في عنكاوا تؤدي عملها لحسابها الخاص. ثم خطت ابنتها خُطاها فالتحقت بالتمريض في الستينيات وأصبحت هي الأخرى من اشهر القابلات والممرضات في القرية، حتى أصبح البعض يقول أن نصف عنكاوا ولدت على يدي الأم والنصف الثاني على يدي البنت.
ولوالد سارة هذه، بطرس حنا المشهور بخزو قصة أيضا، كانت عائلته مهاجرة إلى عنكاوا من قرية بيديال في منطقة بارزان، وكان يعمل راعيا أجيرا في بيت آل عظمت الغنية ومشهورا بصوته الشجي وغنائه، وقد أحب ابنة سيده مريم حبا شديدا لكن رب عمله رفض تزويجها منه لكونه فقيرا وغريبا فراح هو يتغنى بها في أعراس القرية ودواوينها وفي الحقول حيث يرعى الغنم حتى انتشر خبره بين الناس، وكان لوالد تلك الفتاة عم كاهن فكان يرى بطرس ويسمعه يغني غناء متيما فوق تلة قصرا كلما ذهب إلى الكنيسة. وبعد ان اصبح بطرس ظاهرة في القرية سأل القس عن سبب ما يفعله هذا الشاب قالوا له إنه يغنى لابنة عمك لأنه يحبها وأهلها لا يسمحون بزواجه منها. فذهب الكاهن إلى أبيها وقال له: اعطه ابنتك، لنتخلص منه ومنها. ويبدو أن كلمة الكاهن كانت مسموعة لديه فوافق وزوجها له.
إذا انعطفنا يسارا إلى صف البيوت من الجهة المقابلة لقصرا نجد أن لكل بيت تقريبا قصة.
في الزاوية بيت كوركيس عيسى وأخوه اسحق عيسى (حيدر)، وعلى عتبة هذا البيت قتل العم اسحق وهو شاب. كان العم اسحق رجلا شجاعا معروفا بشجاعته في القرية، لا يتجرأ أحد على الاقتراب منه، لكن أحد أبناء القرية الذي كان على خلاف معه ونكاية به أخبر اللصوص من قرية مجاورة بتحركاته، فأعلمهم بموعد مناوبته في المدرسة حيث كان حارسا وأفهمهم أنه لن ينام في بيته ويكون من السهل سرقة بقرته في تلك الليلة. لكن لسوء حظ اسحق انه في ذلك اليوم أبدل ورديته لعمل ما ارتبط به ونام في بيته. جاء اللصوص في حوالي منتصف الليل ودخلوا حظيرة البقرة وأفلتوها من قيدها، سمع اسحق حركة في الحوش فخرج ورأى اثنين من اللصوص يحاولون إخراج بقرته من البيت فتصدى لهما، هرب الأول بينما أمسك بالثاني، فرفعه وهوى به على عتبة داره وأحكم يديه حول رقبته، صاح الرجل صيحة قوية تدل على الحاق الأذى به فسمعه زميله، عاد وبيده بندقيته وهو يقول لإسحق اتركه وإلا قتلتك، إلا أن اسحق كان لا يخاف أحدا فأراد أن يهجم عليه هو الآخر فأطلق ذاك رصاصة من بندقيته أردته قتيلا. وعندما تجمع الناس من أهل المحلة رأوا من بعيد اللص القاتل وهو يسحب وراءه زميله باتجاه القرية المجاورة. وعلى الرغم من أن أمر القاتل افتضح فيما بعد إلا أنه لم ينل العقاب. لقد وقع العديد من مثل هذه الحالات في القرية، إذ قتل اللصوص الجدة بجي في حوش دارها بعد خروجها من غرفة في الدار اثر سماعها حركة في زريبة الحيوانات وذلك لكي لا تعرفهم. وقتل العم كليانا في الستينيات من قبل اللصوص وهو يحرس بيوت القرية، كما قتل العم حنا وهو يحرس حقول القرية من اللصوص وهكذا كانت هذه القرية المسالمة محط أطماع اللصوص دائما. ويذكر أن اللصوص من القرى المجاورة كانوا في فترة من الستينيات يسرقون الدكاكين والبيوت كل ليلة تقريبا أمام أنظار أهل القرية دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بسبب الدعم الذي كانوا يتلقونه من جهات رسمية وغير رسمية مختلفة لأسباب سياسية ودينية.
جارهم العم رحيم كوندا كان شرطيا، أنا اتذكره متقاعدا. وكان العم رحيم رجلا مستقيما لا يحب الكذب والمبالغة، عندما كان يسمع أحدهم يبالغ في الكذب يقول له: ابن