عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - Saadi Al Malih

صفحات: [1]
1
طعنتا سُمّيل . . في خاصرة العراق وظهر الآشوريين

سعدي المالح

يحزّ في نفسي، كلما مرت ذكرى مذبحة سميل 1933، التي راح ضحيتها عدة آلاف من الآشوريين، عدم تفهّم العراقيين، بمسؤوليهم وسياسييهم ومثقفيهم، آنذاك، لمطالب هؤلاء الناس المقهورين الباحثين عن بصيص أمل في الاستقرار بأرض أجدادهم، وكأنَّ المأساة الفظيعة التي عانوها من قتل وتشريد في مسيرة طويلة وشاقة من هكاري ووان وتشيرناخ (تركيا) إلى أورميا فهمدان (إيران) فبعقوبة (العراق) لم تكن ماثلة في أذهانهم، ولا أخبار الفظائع التي اقترفت بحقهم في ديرَبون وسمّيل وأكثر من ستين قرية أخرى، وإن كان المحرض الرئيس لتلك الأحداث الإعلام الرسمي والشعبي الذي قاد حملة منظمة ضد الآشوريين للنيل منهم وتشويه سمعتهم. أقول ذلك مستشهدا بيوسف مالك الذي عاصر الأحداث وكتب عنها كتابه الشهير (الخيانة البريطانية للآشوريين)، الذي يؤكد فيه "أن في الأسبوعين الأولين من تموز 1933 فقط كتبت 80 مقالة ضد الآشوريين جميعها تُعدّهم مرتزقة وجواسيس وعملاء الاستعمار والإمبريالية وتطالب بالقضاء عليهم وإفنائهم". وشخّص في الكتاب نفسه، أنه خلال شهر آب من العام نفسه، قبيل وأثناء وبعد المذبحة، نشرت الصحافة العراقية أكثر من 230 عمودا صفحيا ومقالة مهينة، كلّها تدعو إلى تخليص البلاد من "الملحدين والمتمردين" الآشوريين. واعتبر كاتب آخر وهو إبراهيم العلاف أن ما كتبته الصحافة العراقية في هذا الموضوع كان حدثا مهما من أحداث عهد وزارة رشيد عالي الكيلاني وأضاف" فطفحت أنهر الجرائد بالمقالات الحماسية والتنديد بما أسمتهم الضيوف الثقلاء (من الآثوريين) الذين أحسن العراق قبولهم وخصص لهم من أراضيه، وأغدق عليهم، فقابلوه بحركة تمرد وعصيان حاولوا فيها أن ينالوا من استقلاله ويثلموا سيادته ويشوهوا سمعته".

والغريب أن أحداً من أحزاب ذلك الوقت، أو الصحف والمجلات، وحتى تلك التي كان يمتلكها بعض المسيحيين، لم يختلف بالرأي عن الرأي الرسمي الحكومي. جماعة الأهالي الليبرالية التي كانت تدعي الديمقراطية وتتبنى بعض الأفكار اليسارية وتضم أسماء بارزة مثل عزيز شريف وحسين جميل ومحمد حديد ويراسلها من البصرة والناصرية يوسف سلمان يوسف (فهد) انقادت مع رأي الحكومة وراحت جريدتها تدبج المقالات المعادية للآشوريين وانتفاضتهم. الكتاب والمؤرخون القوميون أمثال ساطع الحصري وعبد الرزاق الحسني وعبد الرحمن البزاز وغيرهم نكروا أصل الآشوريين وعدّوهم غرباء جاؤوا من تركيا، بينما في الحقيقة أن منطقة حكاري التي اضطر الآشوريون الهجرة منها كانت جزءا من ولاية الموصل قطعت عنها بعد إلحاق الموصل بالعراق. في ظل هذه الأجواء، لم يتجرأ آنذاك حتى الشاعر الشاب التائق إلى الحرية محمد مهدي الجواهري وشاعر العراق الأكبر منه سناً جميل صدقي الزهاوي أن يكتبا سطرا عن هذه المأساة، بينما راح زميلهما معروف الرصافي يلقي الخطب المعادية لهؤلاء المقهورين في البرلمان ويكتب ضدهم القصائد الحماسية، ويفتخر بجزّ نواصيهم:

وقد علِمَتْ بنو آثور أنا/ أوّلو بأس يعرقب كل ناز

فنحن بسيفك الماضي جززنا/ نواصي جمعهم أي اجتزاز

ثم في قصيدة أخرى عن الفلوجة يصف الآشوريين بـ "الذئاب التي عاثت فيها عيثة تحمل الشنار".

الجواهري استوعب نتائج هذه المذبحة فيما بعد، وتفهم اسبابها ومقدماتها، فعاد في سنوات لاحقة، في الثمانينيات، وأدان في مذكراته قتلة الآشوريين تحت ستار "الوطنية المتطرفة" واعتبرهم "دمويين تجاوزوا الحدود".

بينما على مبعدة مئات الآلاف من الكيلومترات، في الولايات المتحدة، كتب وليم سارويان الروائي الأمريكي، الأرمني الأصل، في العام نفسه، قصته القصيرة (سبعون ألف آشوري) يدين فيها تلك المجزرة، ويعبر فيها عن الألم النفسي للإنسان الآشوري وتبدد آماله، ثم اختار هذا العنوان ليكون عنوانا لمجموعته القصصية التي صدرت في 1934.

للآن لم تُعطَ مذبحة سميل حقها من الدراسة والتقييم عراقيا وعالميا. كتابان فقط أنصفا هذه الأحداث في حينه وهما لشاهدَي عيان؛كتاب يوسف مالك عن (الخيانة البريطانية للآشوريين) وكتاب الضابط البريطاني رونالد ستارفورد (مأساة الآشوريين)، الذي ترجمه جرجيس فتح الله وكتب من خلاله دراسة منصفة عن تلك الأحداث في الجزء الرابع من (نظرات في القومية العربية، مدا وجزراً حتى العام 1970). أما حديثاً، فلا بد من الإشارة إلى كتاب مهم لعبد المجيد حسيب القيسي صدر تحت عنوان (التاريخ السياسي والعسكري للآثوريين في العراق) والفصل الخاص بأحداث سميل في (تأريخ الحركة الوطنية العراقية) لعبد الغني الملاح الذي يعتبر الآشوريين جزءا من الحركة الديمقراطية في العراق، وكتاب سليم مطر (الذات الجريحة) وبعض كتابات أبرم شبيرا وكمال مظهر ومحمد البندر وغسان عطية وبعض المقالات المتفرقة هنا وهناك.

سأقتصر هنا على الحديث عن طعنتين عميقتين لهذه المذبحة؛ أولاهما في خاصرة العراق برمته، وهي سياسية والثانية في ظهر الآشوريين وهي اجتماعية نفسية.

أما بالنسبة للعراق فقد كانت هذه المذبحة أول إبادة جماعية في تاريخه الحديث، وقد مهدت هذه الإبادة الجماعية التي حظيت بتأييد رسمي وشعبي، وعُدّ مرتكبوها أبطالا، لإبادات جماعية أخرى وقمع مسلح لانتفاضات وحركات تمرد وعصيان شعبي، بدءا من ضرب الجيش العراقي انتفاضة أبناء عشائر الظوالم والحجامه في العارضيات شمال الرميثة، وفي ادبيس جنوبها، بعد سنوات قليلة من المذبحة، مرورا بانقلاب بكر صدقي 1936 والفرهود ضد اليهود، وفيما بعد تهجيرهم، وقمع انتفاضة البارزانيين في 1945 وكاورباغي 1946 ووثبة كانون 1948 والانتفاضات الفلاحية في 1952 و1954، ثم الانقلابات الدموية المتعددة التي شهدها العراق ومذبحة صوريا 1968 وصولا إلى الأنفال في 1988 ـ 1989 ضد الشعب الكردي وقمع انتفاضة الشيعة في الجنوب عام 1991.

فضلا عن ذلك، كان لهذه المذبحة والحملات الإعلامية التي رافقتها، دور كبير في إذكاء الروح الطائفية والتمييز الديني والقومي ومعاداة جزء أصيل من أبناء الشعب العراقي.

وأما التأثير الاجتماعي النفسي لهذه المذبحة على الآشوريين فكان عميقا وأحدث شرخا كبيرا في نفوسهم، فقد تبددت آمالهم القومية والسياسية منذ ذلك الوقت، إذ لم يقم لهم حزب سياسي في العراق إلا بعد عقود، وتشتتوا في البداية بين سوريا والعراق والولايات المتحدة ثم في دول العالم أجمع، فعاش البطريرك مار شمعون منفيا في قبرص حتى 1948 ثم هاجر مع مجموعة من أتباعه إلى الولايات المتحدة. ومنذ ذلك الحين ترك مقر كنيسة المشرق الآشورية أرض الآباء والأجداد، وتشتت الآشوريون بين استراليا وأمريكا ونيوزيلندا وكندا وعدد من الدول الأوربية، حتى قال الشاعر الآشوري المعروف آدم هومه:

غرباء في هذا العالم

مثل القمر الطالع فوق المدن الكبرى

يسلمنا الرحم إلى الريح

والريح إلى التيه

والتيه إلى القبر

أما من تبقى منهم في العراق فقد تحمل التمييز الديني والقومي والنظرة الدونية التي تركتها أحداث سميل تجاههم، إذ عُدّوا خونة ومجرمين بحق الشعب والوطن ولسنين طوال، وحرموا من الكثير من الوظائف العامة كالشرطة والجيش والطيران والإدارة والداخلية، والأهم من كل ذلك حرموا من الجنسية العراقية لعقود وترتبت على ذلك تبعات سياسية وقانونية سلبية.

ولجت أحداث سميل وجدان الإنسان الآشوري المعاصر، وتركت بصماتها على عدد من الأجيال، وجسد المبدعون مآسيها في نتاجاتهم الإبداعية المختلفة، فنظمت عنها العديد من القصائد وكتبت القصص والروايات ومثلت مسرحيات وألفت الأغاني والمقطوعات الموسيقية ورسمت اللوحات التشكيلية، وهي نتاجات تستدعي الدراسة المعمقة.

وستظل صدى هذه الأحداث، على الرغم من مرور ثمانين عاما عليها، تتردد في ذاكرة الآشوري مثل صدى نواقيس أغنية سُمّيل للفنان شليمون بيت شموئيل المرافقة لصوته الحزين:

اصرخوا، إننا نذبح في سميلي

النجدة، إننا نذبح

وإننا نذبح اليوم في العراق. وعينا ذلك الطفل الآشوري من سُمّيل تحدقان جاحظتين من لوحة الرسام حنا الحائك في هذا العالم الساكت على كل هذا.

* قاص وروائي عراقي

 

2
أدب / قَصْرا (ܩܨܪܐ)
« في: 16:12 31/08/2012  »
قَصْرا (ܩܨܪܐ)

سعدي المالح

غمغم جدي ببعض كلمات غير مفهومة وسكت. كان عجوزا طاعنا، بدأ يروي، في أيامه الأخيرة، خرافات أغرب من الخيال، ويهذي، خابطا بيديه على غير هدى. قبل يوم من وفاته توقف عن الحركة واستكان، وغدا يتنفس بمشقة. بين حين وآخر تناديه جدتي: توما.. يا توما! يلتفت نحوها برأسه ولا يستطيع الرد على ندائها. أحسّ والدي بدنو ساعة أبيه، فأرسل في طلب الكاهن. مع أن المساء كان في أوله، إلا أن الظلام نشر عباءته في كل الأرجاء على نحو عاجل كأنه يريد أن يضل ملاك الموت طريقه حتى لا يقبض بسرعة على روح جدي. جاء الكاهن ومعه طفل في حدود العاشرة يحمل فانوساً يكشف له الطريق بضوئه الشاحب، ولولا ذلك الفانوس لما تمكن أحد من أن يميز الكاهن من الظلام، لأنه كان يرتدي جُبَّة سوداء ويعتمر قلنسوة بلونها. وإذ اجتاز عتبة البيت التفت نحو جدي وتمتم " ليكن الرب في عونه" ثم تقدم باتجاه التخت الذي يرقد فوقه يقول بصوت خفيض لكنه واضح " بْشِمْ آوا وَوْرا وْروحا دْ قودْشا لْعَلْمينْ" وأخرج قنينة زجاجية صغيرة  من عُبّه، بلل أصبعه من فمها بزيت المسحة ورسم به إشارة الصليب على جبين جدي ويديه، وهو يرفع صوته " ليؤازرك الرب بهذه المسحة المقدسة في رحمته الغنية، وليقف إلى جانبك بقدرة روحه القدوس. وليخلصك الرب من خطاياك وينهضك بنعمته" لكن جدي لم ينهض، بل توفي في صباح اليوم التالي، وهذا ما كنا نتوقع، وكذلك الكاهن الذي كان يقصد بالنهوض المرتجى النهوض من بين الأموات في يوم القيامة على حد فهمي.

وما أن لفظ جدي أنفاسه الأخيرة حتى انقلب البيت فجأة رأسا على عقب، وكأن انفجارا روحيا هزه من أعماقه وأفلت مزالج التحكم به، لتخيم حالة من القلق والفزع والخوف من المجهول على أجوائه. زعقت النساء مولولات باكيات يلطمن خدودهن، ويرفعن الأغطية عن رؤوسهن، وينشرن  شعرهن، وينتفن منه خُصلاً على الرغم من أن جدي لم يكن شابا ولا مات ميتة مفجعة. خلال لحظات انتشر الخبر المتوقع لوفاة جدي في المحلة، وامتلأ بيتنا بالأقارب والجيران وأهل القرية الذين توافدوا من كل حدب وصوب. انهمك الرجال في تهيئة مراسم الدفن واستدعاء الكهنة والشمامسة. بعد وقت قصير جاء رجلان حاملين نقالة الموتى. تضافر عدد من الرجال على الجثة المسجاة، رفعوها من على التخت ووضعوها في النقالة، ثم حملوا النقالة التي كان الجثمان يتأرجح فيها قليلا على أكتافهم من أطرافها الأربعة وسط عويل النساء وصراخهن، وساروا بها نحو الكنيسة عبر الزقاق المقابل لبيتنا، يتقدمهم الكاهن ذو الجبة السوداء وثلاثة شمامسة، يرددون بأصوات مرتفعة، وبألحان سريانية تقليدية تراتيل وصلوات، وعدد كبير من الرجال المقربين وغيرهم يسيرون خلفهم بوجوه حزينة صامتة، بينما سارت جدتي وعماتي ونساء قريبات أخريات فارعات الرأس نافشات الشعر باكيات منتحبات أو متباكيات خلف الجنازة.
في الأثناء هذه قُرع ناقوس الكنيسة بنغمات جنائزية بطيئة تخطى صداها القرية إلى الارتفاعات العالية معلنا لأهل القرية، وملائكة السماء، وفاة جدي، طالبا منهم أن يصلّوا لأجله.
بلغت الجنازةُ الكنيسةَ.  وُضِع جثمان جدي أمام المذبح، ووقف الكاهن والشمامسة على المذبح، في حين أخذ الجمهور المرافق مكانه في الكنيسة، لكن عويل جدتي وعماتي وعدد آخر من النساء كان يسمع من وراء القاعة.  رفع احد الشمامسة صوته كأنه يريد أن يغطي به نواحهن:
- مَحّي ميثيهْ، شوحا لْشماخ، نصلّي شلاما عَمّان(1) ( محيي الموتى، المجد لاسمك، لنصل: السلام معنا)
تراجع بكاء النساء.
رد عليه الكاهن:
- نودي ونسغد ونشبح لحيلا خسيا ومشبحا لتليثايوثاخ مشبحتا...(نشكرُ ونسجدُ، ونسبِّحُ قوةَ ثالوثك المجيد ...)(2)
ثم راح الكاهن والشمامسة يتناوبون على أداء مزمور، قال الكاهن:
- مريا آلاها دبورقاني. بأيماما كعيت وَ بليليا قداميك (أيها الرب اله خلاصي، في النهار والليل صرخت إليك) (3)
فرد عليه الشمامسة:
- محي ميثيه، شوحا لشماخ ( محيي الموتى، المجد لاسمك)
وواصل الكاهن يقول بيتا آخر والشمامسة يردون بالجواب نفسه: محي ميثيه، شوحا لشماخ
واستمر الجنّاز بين صلوات وتراتيل ومزامير وقراءة من الإنجيل إلى أن بلغ الختام، فرفع الكاهن صوته عاليا:
"لنصلِّ لأجل توما أخينا في الإيمان الذي رحل من هذا العالم، ولنسأل الرب الذي أرضاه بأعماله، أن يقيمه عن يمينه ويسعده مع الأبرار والصديقين"
فرد الشمامسة: آمين
وأضاف الكاهن:
ويكتب اسمه في سفر الحياة
ويضمه إلى أجواق الملائكة والقديسين
 ليسبحه ويمجده إلى الأبد.
ثم تقدم نحو الجثمان ورشه بقليل من الماء المقدس من زوبا، وهي منضحة أشبه بقلّة مسدودة ذات فتحات صغيرة في رأسها، راسما إشارة الصليب وقائلا: روص عْلّي بزوبا وإثذكّي، حلّيلين بيه ومن تلكا أحور(4).والتي تعني: رش عليَّ بِالزُّوفَا فَأَطْهُرَ. اغْسِلْنِي به فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ.  بينما كان أحد الشمامسة يبخره ببيرما، وهي مبخرة نحاسية معلقة من ثلاثة حبال معدنية، يحركها بيده، ترتفع منها حلقات دخان أبيض تفوح منه رائحة بخور زكية. واسم القلة هذه "الزوبا" مشتق من نبات الزوفى الذي كان يخلط مع نباتات أخرى عطرية كالأرز والقرمز مع الماء وينضح به البيت أو الشخص المراد تطهيره، أما العبارة هذه المرافقة لعملية الرش فمأخوذة من سفر المزامير 51: 7 . بعد ذلك اختتم الكاهن الجنّاز قائلا:"اللهم نسألك أن تمنح الراحة الدائمة لأخينا توما الذي رحل من بيننا، اشمله بحنانك الأبوي، أنت الذي خلقته على صورتك وشبهك واغفر خطاياه كلها فيملك مع كل القديسين الآن والى الأبد".

حُمِلَتْ النقالة من جديد على الأكتاف إلى المقبرة- التلة الملاصقة للكنيسة حيث كان عدد آخر من الرجال تبرع بحفر قبر كالعادة، لأن حفر القبر أو حمل جنازة الميت يعد ثوابا كتقديم أضحية.
شرع الكاهن والشمامسة يرتلون بألحانهم التقليدية بينما رفع بعض الرجال الجثمان المسجى عن النقالة وأنزلوه بالحبال في القبر. تقدم الكاهن وأخذ حفنة من التراب ورماها على الجثمان راسما بها إشارة الصليب وهو يقول:" آلاها مارَي كول دَبْقَثْ عليك د من عبرا آت ولعبرا تهيخ...(5) ( الله رب الكل الذي حكم عليك إن تكون من التراب والى التراب تعود، هو يدعوك ويقيمك عن يمينه، فيجازيك بمجد قيامته، والأسرار المقدسة التي قبلتها تتقدمك وتمنحك الغفران في يوم الدين. آمين)
واخذ الحفارون يرمون التراب على الجثمان فارتفع من جديد نحيب جدتي وعماتي والنساء المتجمعات بالقرب من القبر وولولاتهن. أمي لم تكن بين النساء الباكيات، كانت في بيت والدها، جدّي الآخر، تنتظر مولودا جديدا.
عاد الجميع إلى بيت جدي حيث ابتدأت مراسم التعزية. الرجال في الصالة الرئيسة من البيت والنساء في غرفة ملحقة، الرجال يتوافدون، يقفون، يؤدون الصلاة على روح جدي، يقدمون التعازي، ثم يجلسون بصمت، يرحب بهم الجميع. تقدم لهم أقداح الماء والقهوة والسكائر، بعد عشر دقائق أو ربع ساعة يغادرون يأتي غيرهم وهكذا. أفراد وجماعات يأتون بصمت ويغادرون بصمت، بينما النساء ما أن يدخلن باب الغرفة حتى يبدأن بالنحيب والبكاء والولولة فتلتحق بهن بقية النساء ثم تعدّد إحداهن الميت بلحن حزين باكية مولولة واصفة سجاياه ومآثره ومناقبه لإثارة التفجع، ومع الانتهاء من كل مقطع تنشج النساء بصوت عال ماسحات عيونهن المحمرة وأُنوفهن المبتلة، ولم أكن أعرف أن لجدي كل هذه السجايا والمآثر في حياته! وفي كثير من الأحيان كنت أسمع النساء يبكين على أمواتهن ويعظمن قدرهم ويؤكدن كبر الخسارة والفاجعة إلى درجة كنت أتصور أن هؤلاء النساء سيقتلن أنفسهن بعد التعزية، لكني كنت أراهن يتحدثن على نحو طبيعي ويضحكن بعد قليل.
عند الظهر تقريبا جاءت إحدى قريبات أمي من محلة جدي الآخر، قالت لي: اذهب ونادي لي والدك من مجلس الرجال. ذهبت إليه ووشوشت في أذنه. خرج والدي مستغربا. كانت المرأة تريد أن تزف اليه نبأ ولادة أخ جديد لي. غير أنها كانت محتارة من أمرها لا تدري ماذا تقول لوالدي: البقية في حياتك أم تهانينا بالمولود الجديد؟  قالت له: ليرحم الله والدك ويدخله ملكوت السماء، لا تحزن فقد عوضك الله بصبي جميل. ولم يعرف والدي هو الآخر ماذا يقول فرفع نظارته ومسح دمعة من عينه وهو يكاد يشهق بالبكاء. وسرعان ما انتشر خبر المولود الجديد في البيت وانقشع بعض الحزن من القلوب على الرغم من أن الوجوه بقيت صامتة لا تحاول التعبير عن فرحها أو حزنها.  عندما تناهى الخبر الى مسامع جدتي فريدة، أرملة جدي المتوفى، التي كانت تكره والدتي، امتعضت وقالت بصوت عال على مسامع النساء في الغرفة:
- أريد أن أعرف متى ولد الطفل؟ قبل وفاة المرحوم زوجي أم بعدها؟
ردت عليها إحداهن:
- ما الفرق يا فريدة، من المفروض أن تفرحي لقد جاءكم مولود بدلا من الذي غادركم.
قالت جدتي معاندة:
- هناك فرق، إذا وُلِدَ قبل وفاة زوجي يعني أنه فأل شؤم، أما إذا ولد بعد وفاته فلا بأس، إنه بشير خير.
أجابت المرأة، قريبة أمي، التي نقلت خبر المولود الجديد، بسرعة:
- ولد بعد وفاة المرحوم زوجك، عندما دق الناقوس معلنا وفاته لم يكن قد ولد بعد. أنا كنت هناك.
لم تقتنع جدتي بجوابها، بل دمدمت عليها بعدم ارتياح لأنها عرفت أنها هي التي نقلت الخبر:
- لا أريد شهادة زور، سأتأكد من الأمر بنفسي.
شعرت المرأة بالإهانة لكنها لم تشأ أن تنشب شجارا في تعزية فنهضت وغادرت بسرعة.
وراحت جدتي لعدة أسابيع تجري تحرياتها لتعرف إن كان أخي ولد قبل أن يلفظ جده أنفاسه الأخيرة أم بعدها، تسأل النساء القادمات للتعزية من محلة جدي الآخر؛ واحدة تقول لها ولد بعد وفاته وأخرى قبل وفاته وثالثة مع وفاته ورابعة لا تعرف، فظلت حائرة غير مستقرة على رأي، ولا تسمح لوالدتي ووليدها الصغير بالعودة إلى البيت إلا بعد أن تتأكد من الأمر جيدا. كان والدي سريع الغضب لكني لا أعرف لماذا لاذ بالصمت وتمالك أعصابه ولم يفعل شيئا، ربما احتراما لمراسم تعزية والده أو لأنه يعرف جيدا أمه المترملة حديثا ولا يريدها أن تتمادى في غيها ويحدث ما لا تحمد عقباه. بينما، في الوقت نفسه، أرسل خبرا إلى زوجته أن تُعَمِّدَ الطفل وهي في بيت أهلها وتسميه توما (التوأم) باسم والده المتوفى. فهمت أمي مضمون الرسالة جيدا وعرفت أن زوجها أصبح لا يأمن نية أمه، ويريد أن يسرع في تعميد الطفل. وكان لوالديّ الحق في ذلك، لأنهما كانا قد فقدا أخا لي سمياه سليم فاحتجت جدتي لأن عمي ساكا الموظف في مدينة بعيدة بين العرب، بحسب جدتي،  كان أصدقاؤه ينادونه سالم بدلا من ساكا الاسم غير المألوف لديهم. ولهذا احتجت على هذا الاسم، ولما أصر والدي على عدم تغيير الاسم لعدم قناعته بمبرراتها صارت تلعنه كل يوم وتدعو له بالموت. وبالفعل مات الطفل قبل أن يكمل سنته الأولى، لا أحد يعرف إن كان بسبب دعواتها أم لا، لكن هذه الحادثة كانت ما تزال طرية في ذهنيهما وتثير القلق والخوف في نفسيهما.  
في نهاية الأسبوع الثالث من عمر أخي الصغير أخذناه- أنا وجدتي الأخرى سارة وابن خالتي شمعون - إلى الكنيسة لتعميده. كان الكاهن والشمامسة ينتظروننا في بناء ملحق بالكنيسة يسمي باسم يوحنا المعمدان. وهو صالة مستطيلة فيها مذبح صغير وجرن وبعض الكراسي، القاعة نفسها التي كنا نتعلم فيها الصلوات واللغة السريانية صيفا. حمل شمعون الشاب في ذلك الوقت المولود الجديد أمام المذبح، أي أصبح إشبينه. جاء الكاهن وطلب من الإشبين أو العرّاب (وكلتا المفردتين سريانيتان) اسم الطفل أجاب : توما. دمدم الكاهن بصوت خفيض: "راح توما وجاء توما!" ويبدو أنه لم يكن يرتاح لجدي. ابتسم الشماسان المرافقان للكاهن الذي بدأ يسجل الاسم في سجل العماد. قال الكاهن موجها كلامه للطفل: جدك، رحمه الله، لم يكن تقيا ولم يترك أثرا ملحوظا في حياته، لكنك أنت ينبغي أن تكون مبشرا بالمسيح في بلاد النهرين والهند مثل سميك التلميذ مار توما.  هز الإشبين رأسه تأييدا دون أن يستوعب مغزى ما قال الكاهن. يبدو أن الكاهن، لسبب لا يعرفه إلا هو، شعر بالارتياح لأنه أزاح ثقلا عن نفسه وبدأ حينئذ بطقس سر المعمودية:
- بشم آوا وورا وروحا دقودشا لعلمين. تْشْبوحْتا لْآلاها بَمْرَوْميه وْعَلْ أرْعا شلاما وْسَوْرا طاوا لَبْنَيْ ناشا بْكُلْ عْدّان لْعالْمين(6)....(المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر كل حين إلى الأبد)   بعد قليل تقدم الكاهن إلى الإشبين يسأله:
- أُو توما كابْرْ آتْ بْصَطانا؟ (7) ( يا توما هل تكفر بالشيطان؟)
تردّد الإشبين قبل أن يقول: نعم أكفر
وخفت أنا في مكاني أن لا يرسل شمعون شتيمة فاضحة بحق الشيطان مثلما فعل أحدهم بعد أن فسر كلمة "كابر آت" والتي تعني أتكفر بـ أتشتم كما بالعامية. لكن ابن خالتي على ما يبدو كان قد تعلم جيدا الدرس الذي لقنته إياه جدتي سارة.
أضاف الكاهن: وبجميع أعماله
أجاب الإشبين: نعم أكفر
وواصل الكاهن: وبجميع أباطيله
ردد الإشبين: نعم أكفر
ثم عاد الكاهن يطلب من الطفل بواسطة إشبينه أن يعلن إيمانه بالله وبيسوع المسيح وبالروح القدس الذي أجاب عليه الإشبين أؤمن ثلاث مرات. كانت جدتي تسبقه بالجواب بصوت مسموع خوفا من أن ينسى.
وأخيرا سأله: يا توما هل تريد أن تتعمد؟
أجاب الإشبين بدلا من الطفل: نعم أريد
وفي الحال بدأ الكاهن يمسح الطفل بالزيت قائلا: مْثْمَشّحْ ومْثْقَدَّشْ (8) توما بْشْمْ آوا وْوَرا وْروحا دْ قودْشا لْعالْمين.( لِتُمْسَحْ وتتقدس يا توما باسم الآب والابن والروح القدس إلى الأبد)
ثم أخذ الطفل الذي كانت جدتي قد نزعت عنه ملابسه قائلاً:  يا عبد الله توما، أنا أعَمِّدُك باسم الآب (وغطس الطفل في الجرن المملوء بالماء حتى رأسه)  والابن(وغطس الطفل بالماء ثانية) والروح القدس (وغطّسه بالماء ثالثة) بينما راح الطفل يصرخ بفزع من هول المفاجأة. ثم تلقفته جدتي من يد الكاهن وألبسته فستانا أبيض كأنه عروس. بعد قليل حمله الإشبين من جديد ليمسح الكاهن على جبينه بالميرون على شكل صليب تثبيتا لمعموديته، والميرون هو خليط من زيت وعطور يصلي عليه الكاهن في طقس خاص.

2

كان للماء قدسية خاصة في بلاد ما بين النهرين منذ بدء الخليقة. بل وبالماء تبدأ الخليقة كما يرد في ملحمة إينوما إيلش:
بينما في الأعالي
 لم تكن السماء قد سميت بعد
والأرض اليابسة في الأسفل
لم يكن أطلق عليها أي اسم
وحدهما أبسو- الأول
والأم تيامات
والدتهم جميعا
كانا معا
يمزجان مياههما
وأبسو وتيامات هما عنصرا المياه البدئية، مياه الغمر، العذبة والمالحة، اللذان يمثل مزيجهما أساس كل حي، وهذا يعني أنه لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى. و" إن الله يجلس على المياه كما يجلس الطير على البيضة." كما يقول نص مسماري في ملحمة أسطورية اكتشفت ألواحها في أوغاريت.
وهذا ما يؤكده العهد القديم أيضا منذ الأسطر الأولى " و كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرفّ على وجه المياه" ( تكوين 1: 2).  
ونظرا لقدسيتها غدت المياه رمزا للتطهر في الأساطير السومرية والبابلية – الآشورية، ففي " اينوما ايلش" نفسها يقصد الآلهة المتصارعون المشاركون في الحروب الدامية نهر الفرات للتطهر بمائه لكي ينجوا بأنفسهم من القصاص.
وفي زيارة إينانا لأنكي يصب لها الماء البارد المنعش للقلب، وعندما نزلت عشتار إلى العالم السفلي تطلب الآلهة ايريشكيغال من وزيرها الإله نامتار أن تُنضح بماء الحياة ويؤتى بها أمامها... " نضح بعد ذلك ماء الحياة على عشتار وجاء بها أمام ايريشكيغال"
ثم تأمره (9):
"وفيما يخص بتموز عشيق حبها الأول
دعه يغتسل بماء صاف ويتدلك بالطيوب
وليرتدِ لباس الأبّهة"
وكان القدماء من أجدادنا يقومون برشّ الماء على بعضهم البعض لغَسل خطاياهم قبل استقبال الإله دموزي بعدَ أسره من قبل إلهة الموت أيرشكيغال. ولا يزال الكثير من السريان يمارسون بعضا من هذه الطقوس من خلال عيد شعبي يسمى " نوسرديل" ومعناه عيد " رش الماء على الإله" وذلك برش الماء على بعضهم بعضا.
أشارت ملحمة كلكامش، وفي أكثر من موضع، إلى الاغتسال بالماء، كشكل ضروري من أشكال التطهر، إلا أن الرش بالماء المقدس انتقل فيما بعد إلى أماكن العبادة والملوك والقصور وغيرها. إذ نرى أن الأيام الأربعة الأولى من برنامج الاحتفال برأس السنة البابلية الآشورية مخصصة لتطهير الأماكن استعدادا للعيد" ففي كل صباح ، وعند شروق الشمس، كان كبير الكهنة، بعد التطهر بالاغتسال يدخل بمفرده إلى معبد مردوخ ويتوجه بصلواته إلى الإله والى آلهة آخرين" وفي اليوم الخامس "يرش المعبد بالماء المقدس" قبيل تقديم القرابين. وكان في المعابد " موضع لسكب الماء المقدس".
والزيت أيضا كان مقدسا منذ القدم، وقد ذكرته الأساطير يؤدي دورا دينيا، فالبغي في ملحمة كلكامش عندما خاطبت أنكيدو:
"كل الطعام يا أنكيدو، فأنه مادة الحياة
و أشرب من الشراب القوي، فهذه عادة البلاد"
فأكل انكيدو من الطعام حتى شبع
و شرب من الشراب القوي سبعة أقداح
فانطلقت روحه و انشرح صدره و طرب لبّه و نوّر وجهه
نظف جسده المشعر ومسحه بالزيت
و أضحى إنسانا، لبس اللباس و صار كالعروس.
وهذا يشبه التعميد ليولد ولادة جديدة كإنسان تخلص من "خطيئته" الحيوانية، أو بكلمة أخرى اكتمال دخوله في طور الحضارة والمدنية. والمسح بالزيت هنا هو علامة التقديس والتطهير حتى في المسيحية ، فالطفل من خلال التعميد والمسح بالزيت يطهر من خطيئته المميتة فيلبس ثيابا بيضاء كأنه عروس.
وعندما يخفف كلكامش من وطأة الحلم الذي رآه أنكيدو عن اقتراب موته يخاطبه:
عسى أن يندبك من عظّم اسمكَ في أريدو
ويبكيك من أطعمك الخبز
ومن مسح ظهرك بالزيت
ويندبك من سقاك الجعة
وتبكيك البغي التي طيبتك بالزيت العطر.
إذ يعد المسح بالزيت والتطيب أحداثا مهمة في حياته مثل إطعام الخبز!
وتذكر الأساطير أن «آدابا» صعد إلى السماء، بعد أن مُسِحَ بالزيت.
وكان المسح بالزيت يستخدم حتى من قبل البسطاء، ففي لوح بابلي يتحدث عن الحياة اليومية لصائغ يقول: "يستيقظ بيل - ابني وزوجته قبل الفجر ويقبل احدهما الآخر والأطفال ثم يذهبان للاستحمام ويختمانه بالمسح بزيت الزيتون والعطور".
وعندما يشتد المرض بأنكيدو يرى حلما يجد فيه نفسه في:
البيت الذي لا يرجع منه من دخله
البيت الذي حرم ساكنوه من النور
حيث التراب طعامهم والطين قوتهم
ثم يقول:
وفي البيت الذي دخلت
يسكن الكاهن الأعلى وخدم المعبد
ويسكن كهنة التطهير والرقاة والمعوذون
ويسكن الذين يقدمون زيت المسح للآلهة العظام.
أي أن عمليات التطهير والمسح بالزيت كانت تجري حتى في تلك الأزمنة للموتى وكان ثمة من يقوم بتأديتها. وكانت المعابد تمسح بالزيت وترش بالماء المقدس قبل تدشينها وربما كان هذا أول استخدام للزيت في العراق القديم. ثم انتقل المسح بالزيت إلى الملوك والآلهة، وتشير الرُقم المسمارية إلى أن ثلاثة ملوك من سلالة أكاد وهم سرجون، ومنيشتوسو ، ونرام سين حملوا لقب "ممسوح أنو". ويبدو أن المسحة بالزيت كانت وسيلة لممارسة العهد و كان هؤلاء الملوك الثلاثة الذين اختاروا هذا اللقب قد نالوا المسحة. وهناك إشارات إلى أن أسرحدون مسح بالزيت، وفي تتويج ملك آخر من ملوك الحقبة الآشورية الوسيطة نقرأ " حُمل الزيت المصبوب في كأس ذهبيّة من القصر إلى الهيكل وجعله الملك عند قدمي الإله" في إشارة واضحة إلى عملية المسح التي كانت سائدة آنذاك.

*   *   *
وانتقلت طقوس الرش بالماء المقدس والمسح بالزيت من بابل وآشور إلى اليهود، فاستخدموا الماء للتطهير الطقسي وعدّوا التطهير بالماء رمزا لتطهير النفس والضمير. "وكلم الرب موسى قائلاً : خذ اللاويين من بين بني إسرائيل و طهرهم وهكذا تفعل لهم لتطهيرهم: أنضح عليهم ماء الخطية."( العدد 8: 7) والماء لدى حزقيال لا يطهر من نجاسة فحسب، إنما يمنح روحا جديدة:" وأرش عليكم ماء طاهرا فتطهرون من كل نجاستكم و من كل أصنامكم أطهركم وأعطيكم قلبا جديداً وأجعل روحاً جديدة في داخلكم و انزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم. و أجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي و تعملون بها وتسكنون الأرض التي أعطيت آباءكم إياها و تكونون لي شعباً وأنا أكون لكم إلها (حزقيال 36: 26) أما إشعياء فيعده روحا وبركة" لأني أسكب ماء على العطشان و سيولا على اليابسة أسكب روحي على نسلك و بركتي على ذريتك " ( إشعياء 44: 3 ) أو ينبوع الخلاص: "فتستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص" (إشعياء 12: 3، 41: 17). ولم يعط الرب الكهنوت لهارون ألا بعد أن غسل جسده أولا بالماء "فقال الرب لموسى اذهب إلى الشعب وقدسهم اليوم وغدا وليغسلوا ثيابهم ويكونوا مستعدين لليوم الثالث لأنه في اليوم الثالث ينزل الرب أمام عيون جميع الشعب على جبل سيناء" ( الخروج 19).
واستُخدِمَ الزّيتُ في مسْحِ الملوكِ والكهنةِ ورؤساء الكهنةِ، في سفر الخروج عندما يأمر الرب موسى أن يمسح هارون: "وَتَمْسَحُ هَارُونَ وَبَنِيهِ وَتُقَدِّسُهُمْ لِيَكْهَنُوا لِي" ( الخروج 30:30) ويمسح صادوق الكاهن سليمان ليصبح ملكا " فَأَخَذَ صَادُوقُ الْكَاهِنُ قَرْنَ الدُّهْنِ مِنَ الْخَيْمَةِ وَمَسَحَ سُلَيْمَانَ. وَضَرَبُوا بِالْبُوقِ، وَقَالَ جَمِيعُ الشَّعْبِ: «لِيَحْيَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ" (الملوك الأول 1: 39)
وقد ذكر الكتاب المقدس مسح شاول وداود بواسطة صموئيل النبي : "فَأَخَذَ صَمُوئِيلُ قَرْنَ الدُّهْنِ وَمَسَحَهُ فِي وَسَطِ إِخْوَتِهِ. وَحَلَّ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى دَاوُدَ مِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِدًا. (صموئيل الأول: 16: 13) ومسح يا هو بن نمشى ملكاً على إسرائيل بواسطة إيليا. ومسح هارون رئيساً للكهنة بواسطة موسى. ومسح إليشع نبياً بواسطة إيليا (ملوك الأول 16:19).

*   *   *


. يقول المؤرخ يوسابيوس بانفيلوس، أسقف قيصرية فلسطين في " التاريخ الكنسي"، وقد كتبه في عام 325 "إن للمعمودية جذورا في الفكر التوراتي". وفعلا يعتقد اللاهوت المسيحي أن الطوفان وعبور بني إسرائيل في البحر في العهد القديم كانا رمزا للمعمودية، وفي هذا قال الرسول بولس" إن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر( كو10: 1-2) لكن العماد بشكله المعهود بالغطس بالماء ( والفعل –ܥܡܕ- عمد بالسريانية يعني غطس) ظهر لدى اليهود في تعميد المتحولين من الوثنية إلى اليهودية فقط وليس المولودين من أبوين يهوديين وكانوا يغطسون إلى النصف بالماء(10) ، ومارسته أيضا جماعة يهودية أخرى تسمى الاسيانيين كانت تعيش على ضفاف البحر الميت، هذه العمادات سـتأخذ بها المسيحيّة وترفعها إلى مستوى موت يسوع وقيامته، ولكن بمفهوم المسيحية يبقى الفرق شاسعًا بين تلك العمادات، وعماد يوحنّا المعمدان الذي يُعطى مرّة واحدة بالغطس الكامل كبداية مسيرة التوبة وعلامة تدلُّ عليها، يقول مرقس1: 4 (ولوقا أيضا 3: 3) إنَّ يوحنّا كان يكرز "بمعموديّة التوبة لغفران الخطايا". فالإنسان يتطهَّر حين يغتسل. أمّا يوحنّا فيعمِّد من أجل الغفران وهذه الوظيفة لم يسبقه إليها أحد. لأن الخاطئ لا يغفر لنفسه. كذلك إنَّ عماد يوحنّا يرتبط بنهاية الأزمنة "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت الله" (مرقس 1: 4).  وتعتقد المسيحية "أن هذه النهاية تمَّت بمجيء المسيح، بينما العماد المسيحي ينطلق من موت المسيح نفسه وقيامته بانتظار مجيئه، مع محطّة متوسِّطة تتمثَّل في موت كلِّ واحد منّا. فنحن في المعموديّة نموت في الرمز مع يسوع، ونقوم معه".
إذن معمودية يوحنا المعمدان مهدت الطريق أمام المسيح الذي "كما جاء يكمِّل العهد القديم، كذلك جاء بعماده يكمِّل تطلُّعات العالم اليهوديّ ويصل بها إلى مستوى العهد الجديد، إلى مستوى ما فعله هو من أجلنا. حين مات وقُبر، وقام في اليوم الثالث ليقيمنا معه في حياة جديدة فتح لنا الطريق لننال العماد من يد الكنيسة باسم الآب والابن والروح القدس" كما هو الآن في المسيحية. "إذن  المعمودية هى سر الولادة الجديدة بالماء والكلمة ".  واستخدم يسوع الماء في حديثه مع نيقوديموس رمزاً لكلمة الله، بالقول: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح " (يوحنا 3: 5 )
وعلى هذا الأساس فأن المسيح نفسه تعمد بالتغطيس ( متى 3: 16) ولا يزال التعميد يتم في عدد من الكنائس الشرقية بالغطس الكامل فضلا عن المسح بالزيت، والمسح بالزيت المقدس، ( زيت معطر يقدسه الأسقف، ويرمز إلى موهبة الروح القدس للمعمد الجديد) هو دلالة على أن الطفل أصبح مسيحياً أي ممسوحاً " بمسحة الروح القدس ومتحداً بالمسيح الممسوح كاهنا ونبياً وملكاً" .
ولعل أول ذكر للمسح في التوراة جاء عند تكريس الأماكن لله كالمسكن وكل ما فيه "وَتَأْخُذُ دُهْنَ الْمَسْحَةِ وَتَمْسَحُ الْمَسْكَنَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، وَتُقَدِّسُهُ وَكُلَّ آنِيَتِهِ لِيَكُونَ مُقَدَّسًا."(الخروج 40: 9) وخيمة الاجتماع والتابوتِ "وَتَمْسَحُ بِهِ خَيْمَةَ الاجْتِمَاعِ، وَتَابُوتَ الشَّهَادَةِ"( الخروج 30: 26) والمائدةِ والمذبح " وَتَمْسَحُ مَذْبَحَ الْمُحْرَقَةِ وَكُلَّ آنِيَتِهِ، وَتُقَدِّسُ الْمَذْبَحَ لِيَكُونَ الْمَذْبَحُ قُدْسَ أَقْدَاسٍ"( الخروج 40: 10) والمرحضةِ وقاعدتها " وَتَمْسَحُ الْمِرْحَضَةَ وَقَاعِدَتَهَا وَتُقَدِّسُهَا"( الخروج 40: 11) .لذلك كان استعمال بيلشاصر (دا2:5-4) في آخر يوم له، لآنية بيت الرب اعتداء على الله استوجب معه نبوة دانيال المخيفة "وزنت فوجدت ناقصاً" ومات في الليلة نفسها!
   
وكان من الطبيعي أن ينتقل المسح بالزيت إلى المسيحية التي ظهرت في بيئة تعاملت مع هذا التقليد آلاف السنين. ونجد تطبيقات عديدة للمسح بالزيت في الإنجيل. والمسيح نفسه، على وفق الإنجيل، مسح عدة مرات، " فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ مَنًا مِنْ طِيبِ نَارِدِينٍ خَالِصٍ كَثِيرِ الثَّمَنِ، وَدَهَنَتْ قَدَمَيْ يَسُوعَ، وَمَسَحَتْ قَدَمَيْهِ بِشَعْرِهَا، فَامْتَلأَ الْبَيْتُ مِنْ رَائِحَةِ الطِّيبِ.( يوحنا 12: 3) ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ لِسِمْعَانَ: "أَتَنْظُرُ هذِهِ الْمَرْأَةَ؟ إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا" (لوقا 7: 44)
   
 لكن الزيت في المسيحية أصبح "رمزا للروح القدس" ... والأشخاص بالمسحة يأخذون "هبة من الروح القدس ". وسفر الأعمال يقول "مسحه الله بالروح القدس" (38:10) ولذلك سمي المسيح أي الممسوح. وهذا ما يؤكده الإنجيل: "رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ مُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ"(لوقا: 18)
يقول مار توما الرسول إن "في الزيت المقدس شيئا من قوّة المسيح ومن له هذه القوّة فمعه الشفاء والحياة". لذا فاستخدام الزيت في طقوسنا له أبعاده الطبية والروحية.
والزيت المستعمل في المسح كان يخلط بمقادير معينة من عدة عطور وحينما يمسح الشخص أو المكان به تفوح منه رائحة هذه العطور.
 
3

أقف على هذه التلة- قصرا، أبحث عن قبر جدي. كان هنا في هذا الجانب، لم يصله الشارع الذي شق قصرا عام 1967 ولا معاول الآثاريين الذين نبشوا فيه بحثا عن لقى من هياكل عظمية وفخار وأدوات حجرية ومعدنية. لا، هذا ليس هو، أزيح التراب عن قبر آخر، أرى كتابة على اللوح الأسمنتي، أقرؤها، نعم إنه هو. أشم تلك الرائحة الزكية للبخور المختلطة برائحة الزوفا في ذلك اليوم، وأفكر: هل كل الذين دفنوا فيها نُضِحوا بالماء بعد وفاتهم ومُسِحوا بالزيت قبله؟ ربما، أو قل على الأغلب، لا سيما أننا نعرف، من خلال التنقيبات التي جرت فيها، أن هذه التلة التاريخية تعود في الأقل لسبعة آلاف سنة، إذ اكتشف الآثاريون في طبقاتها هياكل عظمية لرجال ونساء وأطفال، تعود لمختلف الحقب الزمنية منذ مرحلة تل العبيد وحتى الآن، وخلال كل هذه السنوات، على ما يبدو، أن طقوس دفنهم، والبكاء عليهم، وزيارة قبورهم لم تتغير كثيرا.  لقد رقد هنا على رجاء القيامة أو دون رجاء كل الذين تعاقبوا على هذه البقعة من الأرض، من السوبارتويين والآشوريين المؤمنين بالإله آشور والإلهة عشتار وأحفادهم المؤمنين بالمسيح منذ ألفي سنة وربما آخرين، يهود وفرس وميديين، من يدري؟ مئات الآلاف دفنوا في هذه التلة وباحة الكنيسة المجاورة.
جلست على حافة القبر الأسمنتي. فجأة أسمع جدي يحدثني، قلت: افصح يا جدي فأنا مشتاق لحديثك. ولهذا بعد كل هذه السنين التي قضيتها في الغربة جئت لزيارتك. قال: أخبرني جدي، وكان اسمه توما مثلي، نقلا عن والده بويا، الذي كان نسطوريا، أن هذه التلة، كانت، في أواخر القرن الثامن عشر، مقبرة للنساطرة (والنسطورية مذهب مسيحي شرقي يؤمن بأن مريم العذراء هي أم المسيح الإنسان وليس الإله)، وفي عام 1879جاء مطران من الموصل اسمه يوحنان هرمز وحولنا من النسطورية إلى الكثلكة، على وفق الطقس الكلداني. قال النسطورية هي ضلال وهرطقة والذي يموت عليها مكانه جهنم الحمراء. ورفع يده فوق المصلين في الكنيسة قائلا: اليوم جئت لأحلكم جميعا وأجعل منكم مسيحيين صالحين. ومنذ ذلك اليوم غدت هذه المقبرة كاثوليكية لا يدفن فيها النسطوري.
قلت: ياجدي وأجدادكم، ألم يموتوا على النسطورية؟ قال: بلى، وضحك. قلت: لماذا تضحك؟ ألم يدفنوا هنا، في هذه المقبرة؟. قال: كان الناس يبكون على موتاهم لأنهم ماتوا على ضلال. ولا سيما النساء كن في ذلك الوقت يكثرن من زيارة القبور والصلاة على الموتى، وبالأخص على الذين ماتوا على النسطورية ليغفر لهم الله؛ لأنهم كانوا جهلاء ولم يأتِهم أحد من قبل على مدى 12 قرنا ليخبرهم بالحقيقة. قلت: والرجال؟ قال: الرجال أيضا تضايقوا، وتذمروا ثم قبلوا بالأمر الواقع. حكى لي جدي عن أبيه، أنه في أحد الأيام كان القس يوسف مارا بمحاذاة المقبرة ذاهبا إلى الكنيسة وإذا به يرى شماسا جالسا على قبر مطأطئا رأسه فناداه ، لم يجب الشماس، ناداه مرة أخرى لم يجب أيضا، تقدم نحو فوجده يبكي. سأله: لماذا تبكي؟ أجاب: أبكي على أبي. فسأله: لماذا تبكي عليه الآن وقد توفي منذ عشر سنوات؟ قال: أبكي عليه لأنه مات على النسطورية فلن يرى ملكوت السماء. كان القس يوسف من دعاة الكثلكة المتحمسين وهو الذي حرض أهل عنكاوا على التحول إليها فكان يتقن اللعبة جيدا. أنهضه وقال له: مات ولم يدعه أحد إلى الطريق القويم، هذا ليس ذنبه، الربان بويا مات على النسطورية أيضا، يكفي أن تصلي له فيغفره الله ويدخله ملكوت السماء. وعندما سمع الشماس أن الربان بويا سيلاقي مصير والده نفسه أحس بالارتياح. سألت جدي: وأين صار يدفن النساطرة موتاهم. أجاب: في تلك الأيام لم يبق نساطرة في القرية، لكنهم ظهروا بعد الحرب العالمية الأولى من جديد، وراحوا يدفنون موتاهم في مزار مارت شموني التي كنا نسميها مقبرة الغرباء. أي للمسيحيين من غير الكاثوليك، وأتذكر، وكنت آنذاك رجلا بالغا، أن عريفا في الجيش البريطاني اسمه ميثوين Methwen قتل في حفل بأربيل ووُرِيَ التراب في هذه المقبرة وكان ذلك بعد السفربرلك. ولعل هجرة بعض أبناء الكنيسة النسطورية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي إلى عنكاوا أحيت هذا المزار. إذ بدأ هؤلاء، والذين هاجروا إلى عنكاوا من حرير وباتاس فيما بعد في أوائل الستينيات، يقيمون فيه بعض المراسم الدينية ويدفنون موتاهم في فنائه. فظهرت في تلك السنوات قبور عديدة حواليه. هذا المزار كان يبعد نحو 500 خطوة عن قصرا، يقوم وحده إلى شمال المدينة على تلة أصغر بكثير وسط حقول القمح أو الشعير القريبة. وكان عبارة عن غرفة أثرية صغيرة مبنية باللبن المفخور في داخلها صخرة كبيرة تشعل فوقها الشموع.
قلت: يقال إنه كان كنيسة قديمة بهذا الاسم. قال: أن عشرات الكنائس والمزارات تسمى باسم مارت شموني وأولادها السبعة في العراق واغلبها كانت للكنيسة النسطورية ( تسمى حاليا كنيسة المشرق الآشورية) والكنيسة السريانية الأرثوذكسية. وجميعها تقع في "آشور المسيحية".  وشموني هذه سيدة يهودية وردت قصتها في العهد القديم (المكابيين 7: 1-42) إذ استشهدت هي وأبناؤها السبعة على يد الملك الوثني الروماني أنطيوخس الكبير سليل سلوقس الأول ( النصف الثاني من القرن الثالث قبل الميلاد)، لعدم تخليهم عن إيمانهم التوحيدي وتقاليد دينهم اليهودي الموروثة. ويبدو أن كنيسة المشرق اعتمدت قديما هذه القصة في تقليدها الكنسي وأبرزتها أثناء فترات الاضطهاد التي واجهتها في العصور المسيحية الأولى لتعزيز الشهادة والتضحية لدى رعاياها من أجل ترسيخ إيمانهم.  

مع ذكرى هذا المزار الأثري تألمت وتأسفت لأنه أزيل في عام 1982 لتبنى فوقه كنيسة صغيرة بالاسم نفسه ويتم القضاء على معلم اثري مهم كان يمكن أيضا أن يكشف عن المزيد من تاريخ المنطقة. وضعت رأسي بين يدي وغرقت في التفكير والذكريات وانأ أنظر مليا باتجاه المزار.
كان الطريق الترابي الذي يمر بين الحقول من أمام مزار مارت شموني في ذلك الوقت ممشى للشباب والشابات يتمشون فيه أزواجا ومجموعات يتسلون بأنواع من البذور (الجرزات) ويتحدثون ويغازلون بعضهم بعضا من بعيد، أو يتمكنون أحيانا من إلقاء بعض الكلمات لبعضهم بعضا. وكانت في تلك السنوات كعوب الأحذية النسائية العالية ظاهرة جديدة في عنكاوا ولهذا كنت ترى الشارع الترابي الرطب في الربيع مليئا بالثقوب التي أحدثتها فيه تلك الكعوب.
وفي فناء المزار كانت الشابات يجتمعن للعب لعبة التراب، وكانت تلعب بإخفاء قطعة نقود معدنية في كومة صغيرة من التراب الأحمر النظيف وتقسيمها حفنات صغيرة على عدد اللاعبين فمن يحظى بقطعة النقود المعدنية يحصل على ما يماثلها من اللاعبين الآخرين. وهي لعبة منسية حاليا. ونحن الصغار كنا نتسابق على جلب التراب الأحمر النظيف للاعبات من أجل الحصول على قطعة نقود معدنية بين فترة وأخرى.
وإلى مزار مارت شموني كان يأتي البائع المتجول آنذاك توما حاملا طبقا من السكاكر والبسكويت والحامض حلو وبعض "الجرزات" فتلتف حوله النسوة والأطفال يشترون وأحيانا يلعبون اليانصيب المتكون من خشبة مدورة مقسمة إلى مثلثات ثبتت عليها قطعة معدنية رفيعة مثل المسطرة تدور على بكرة، وعلى أي مثلث يقف مؤشر الحديد يربح صاحبه جميع المبالغ الموضوعة في المثلثات الأخرى، أي كانت اللعبة عبارة عن نسخة مبسطة للروليت.
ضحكت مع نفسي: عندما كنت صغيرا، كلما سمعت عن قصة موت المسيح وقيامته، أتصور انه صُلِب على هذه التلة، التي كنت أتصورها جبل الجلجلة، ودفن في مقبرتها، وقام من قبر فارغ ملاصق لسور الكنيسة، وصعد إلى السماء!.
كان ذلك زمن آخر.
الآن يعيش في عنكاوا مسيحيون من كل المذاهب والطوائف؛ كاثوليكية ونسطورية وأرثذوكسية وانجيلية، يؤدون طقوسهم وصلواتهم على وفق تقاليد خمس طوائف مستقلة وبطقوس مختلفة عن بعضها البعض نوعا ما، وربما بلغات ولهجات متباينة، لكن عندما يموتون يدفنون جميعهم في مقبرة حديثة واحدة، يرقدون إلى جانب بعضهم بعضا دون أن يقول الكاثوليكي للأرثذوكسي الراقد بجواره أنت تؤمن بطبيعتين في المسيح أو الأرثذوكسي للنسطوري أنت تعد مريم العذراء أم المسيح الإنسان وليس الإله! يختلفون في الطقوس والمذاهب ويتصارعون في فلسفاتهم الدينية، وأخيرا يهجعون في مكان واحد! لعل هذه هي أولى بوادر الوحدة المسيحية وربما القومية للسريان الكلدان الآشوريين المشتتين على وفق طوائفهم!

4

ثمة حكايات كثيرة في القرية، وربما لا تزال، تتحدث عن أشباح ظهروا لأناس في هذه المقبرة، وعن أصوات بلغات غير مفهومة، أو عمود من الضوء ينزل من السماء على قبر ما، أو شمعة مشتعلة يتراقص نورها على قبر آخر.
غير أن أضخم قبر في قصرا كان لصليوا يعقوب أوستا المعروف بإتشي: غرفة مستطيلة ترتفع بقامة رجل، يقال أن والدته أصرت أن تشيد له مثل هذا القبر لتواجهه وتبكي كل يوم، ولا سيما وأن بيتها كان على الزاوية اليمنى من البيوت المشيدة شرقي قصرا. كان صليوا شابا تزوج حديثا ولم يكن قد أنجب ذرية بعد عندما قتل. ذات يوم من صيف عام 1963 وهو يعود من عمله في عقار القرية راكبا حمارته حاملا في رأسه أحلاما جميلة بلقاء زوجته الشابة وما يمكن أن تكون قد حضرت له من طعام بعد يوم شاق، تصدى له أربعة جنود مسلحين على مشارف القرية، وجهوا له بنادقهم وانزلوه عن حمارته واقتادوه بالضرب والركل والشتائم والبصاق إلى الحديقة العامة القريبة في طرف القرية. صدم صليوا مما يحدث له وأصيب بما يشبه البكم، خاصة أنه لم يكن متعلما، ولا يجيد اللغة العربية، ولا حتى يعرف بما يجيب هؤلاء الجنود الذين يقولون له أنت من العصاة كما كانت الحكومة تسمي الثوار الكورد.
صليوا لم يكن يعرف أن العقيد خليل سعيد قائد اللواء الخامس هاجم عنكاوا وحاصرها من كل الجهات بالدبابات والمدرعات وأرسل المئات من جنوده المسلحين يفتشون بيوت الأهالي بيتا بيتا بحثا عن السلاح والرجال ويأخذون جميع رجال القرية شبابها وشيبها إلى الحديقة العامة (جمعية مار عودا حاليا) وهناك يوثقون كل اثنين أو أكثر مع بعض من الظهر، ويضربونهم ضربا مبرحا بالعصي وأخامص البنادق مع أقذع الشتائم والمسبات مما أدى إلى إصابة الكثير بكسور وجروح بليغة وكأن عنكاوا وأهاليها هم الذين أضاعوا فلسطين وفسخوا الوحدة العربية!.    
وحتى لو عرف صليوا ما يحدث لقريته قبل دخولها ربما لما  همه الأمر فهو الفلاح البسيط ، الذي لم يحمل السلاح في حياته، وبالكاد يحصل على قوته من حراثة أراضي الآخرين، ولما فكر بأن يتصدى له أحد، وحتى لو عرف، لما فكر أبدا في أن ملابسه الشبيهة بالملابس الكوردية وخاصة شدة الرأس الحمراء الشبيهة بشدة البارزانيين، وعدم تمكنه من الرد على الجنود بلغتهم العربية ستكون سببا آخر يزيد من قساوتهم عليه.
تدحرج صليوا أمامهم يتلقى الضربات كأنه كرة إلى أن وصل الحديقة العامة حيث عشرات الرجال المربوطين بالحبال من ظهورهم.  كان صليوا ينزف من عدة أماكن من جسده. قال الجنود لآمرهم:
-   سيدي ، هذا من العصاة، رأيناه قادما من خارج القرية.
سأله الآمر بعض الأسئلة فلم يجب، نظر إليه مليا فوجده يرتدي الملابس الكوردية نفسها تقريبا وشدة راس حمراء فشك هو أيضا بأمره، سلمه إلى فريق آخر من جنوده ليؤدبوه جيدا. بعد وجبة أخرى من الضرب المبرح على رأسه وظهره وقدميه سقط صليوا مغشيا عليه لكن الجنود لم يتوقفوا على الرغم من أن قلب صليوا كان توقف عن الخفقان وهو لا يدري لماذا يضرب ولماذا يموت!
وعائلة صليوا، أو بالأحرى والده وعمه كانا قد هاجرا قبل بضعة عقود إلى جانب عائلات أخرى من منطقة راوندوز، وربما كانوا من آخر العائلات المسيحية التي نزحت من تلك المنطقة إلى عنكاوا. لأن كليهما، يعقوب وعيسى، كانا يتحدثان بلهجة سريانية تختلف عن لهجة أهل عنكاوا.
إلى جانب هذين البيتين المواجهين للبيادر كان ثمة بيت آخر على الزاوية قبل أن تغدو البيوت مواجهة لقصرا. بيت العم شابو كشمي، وكان يسمى كشمى التي تعني الجسيم لضخامته وطوله الفارع . كان العم شابو مشهورا بتسييع الجدران بالطين بكفه الغليظة ذات الأصابع الطويلة وتسلقه السلالم المربوطة بعضها ببعض للوصول إلى أعلى حافة في الحائط. وكان للعم شابو ابن اسمه قرياقوس متزوج سيق إلى الخدمة العسكرية في عام 1948 وأرسل إلى فلسطين، في غيابه انجبت زوجته الحامل بنتا جميلة. مرت نحو سنتين وقرياقوس لم يعد حتى توقع أهله أنه قتل في تلك الحرب اللعينة، لكن ذات يوم عاد قرياقوس على حين غفلة، ولما وطأ بقدمه عتبة البيت أصدرت ابنته صوتا وتوفيت فجأة. فقيل إن الأب داس على صدر ابنته بوطئه عتبة البيت! إذ يسود الاعتقاد إن القادم من سفر بعيد لا يجوز أن يطأ عتبة الدار بقدمه! وكانت العمة سارة بطرس زوجة قرياقوس أول وأشهر قابلة مأذونة في القرية، بعد إكمالها الصف الخامس الابتدائي في أوائل الأربعينيات دخلت دورة للقابلات المأذونات وبعد تخرجها تم تعيينها رسميا في ناحية طقطق لكن والدها رفض أن تذهب ابنته الشابة اليافعة إلى هناك فبقيت في عنكاوا تؤدي عملها لحسابها الخاص. ثم خطت ابنتها خُطاها فالتحقت بالتمريض في الستينيات وأصبحت هي الأخرى من اشهر القابلات والممرضات في القرية، حتى أصبح البعض يقول أن نصف عنكاوا ولدت على يدي الأم والنصف الثاني على يدي البنت.
ولوالد سارة هذه، بطرس حنا المشهور بخزو قصة أيضا، كانت عائلته مهاجرة إلى عنكاوا من قرية بيديال في منطقة بارزان، وكان يعمل راعيا أجيرا في بيت آل عظمت الغنية ومشهورا بصوته الشجي وغنائه، وقد أحب ابنة سيده مريم حبا شديدا لكن رب عمله رفض تزويجها منه لكونه فقيرا وغريبا فراح هو يتغنى بها في أعراس القرية ودواوينها وفي الحقول حيث يرعى الغنم حتى انتشر خبره بين الناس، وكان لوالد تلك الفتاة عم كاهن فكان يرى بطرس ويسمعه يغني غناء  متيما فوق تلة قصرا كلما ذهب إلى الكنيسة. وبعد ان اصبح بطرس ظاهرة في القرية سأل القس عن سبب ما يفعله هذا الشاب قالوا له إنه يغنى لابنة عمك لأنه يحبها وأهلها لا يسمحون بزواجه منها. فذهب الكاهن إلى أبيها وقال له: اعطه ابنتك، لنتخلص منه ومنها. ويبدو أن كلمة الكاهن كانت مسموعة لديه فوافق وزوجها له.
إذا انعطفنا يسارا إلى صف البيوت من الجهة المقابلة لقصرا نجد أن لكل بيت تقريبا قصة.
في الزاوية بيت كوركيس عيسى وأخوه اسحق عيسى (حيدر)، وعلى عتبة هذا البيت قتل العم اسحق وهو شاب. كان العم اسحق رجلا شجاعا معروفا بشجاعته في القرية، لا يتجرأ أحد على الاقتراب منه، لكن أحد أبناء القرية الذي كان على خلاف معه ونكاية به أخبر اللصوص من قرية مجاورة بتحركاته، فأعلمهم بموعد مناوبته في المدرسة حيث كان حارسا وأفهمهم أنه لن ينام في بيته ويكون من السهل سرقة بقرته في تلك الليلة. لكن لسوء حظ اسحق انه في ذلك اليوم أبدل ورديته لعمل ما ارتبط به ونام في بيته. جاء اللصوص في حوالي منتصف الليل ودخلوا حظيرة البقرة وأفلتوها من قيدها، سمع اسحق حركة في الحوش فخرج ورأى اثنين من اللصوص يحاولون إخراج بقرته من البيت فتصدى لهما، هرب الأول بينما أمسك بالثاني، فرفعه وهوى به على عتبة داره وأحكم يديه حول رقبته، صاح الرجل صيحة قوية تدل على الحاق الأذى به فسمعه زميله، عاد وبيده بندقيته وهو يقول لإسحق اتركه وإلا قتلتك، إلا أن اسحق كان لا يخاف أحدا فأراد أن يهجم عليه هو الآخر فأطلق ذاك رصاصة من بندقيته أردته قتيلا. وعندما تجمع الناس من أهل المحلة رأوا من بعيد اللص القاتل وهو يسحب وراءه زميله باتجاه القرية المجاورة. وعلى الرغم من أن أمر القاتل افتضح فيما بعد إلا أنه لم ينل العقاب. لقد وقع العديد من مثل هذه الحالات في القرية، إذ قتل اللصوص الجدة بجي في حوش دارها بعد خروجها من غرفة في الدار اثر سماعها حركة في زريبة الحيوانات وذلك لكي لا تعرفهم. وقتل العم كليانا في الستينيات من قبل اللصوص وهو يحرس بيوت القرية، كما قتل العم حنا وهو يحرس حقول القرية من اللصوص وهكذا كانت هذه القرية المسالمة محط أطماع اللصوص دائما. ويذكر أن اللصوص من القرى المجاورة كانوا في فترة من الستينيات يسرقون الدكاكين والبيوت كل ليلة تقريبا أمام أنظار أهل القرية دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بسبب الدعم الذي كانوا يتلقونه من جهات رسمية وغير رسمية مختلفة لأسباب سياسية ودينية.
جارهم العم رحيم كوندا كان شرطيا، أنا اتذكره متقاعدا. وكان العم رحيم رجلا مستقيما لا يحب الكذب والمبالغة، عندما كان يسمع أحدهم يبالغ في الكذب يقول له: ابن

3
أدب / دَرْگـا
« في: 13:07 12/07/2012  »

دَرْگا (ܕܪܓܐ)


سعدي المالح


كانت محلتنا ملمومة على بعضها البعض، صغيرة جدا، عبارة عن زقاق قصير، اصطفت على جانبيه، على غير انتظام، عدة بيوت طينية متكئة بأكتافها على بعضها البعض، متلاصقة، يسده بيت كبير يحرسه كلب ضخم دائم النباح كأنه يعلن أن هنا ينتهي العالم. وكان هذا الزقاق يصعد من ساحة (درگا) باتجاه الغرب، بينما يتفرع منه يمينا، مقابل بيتنا بالضبط، زقاق آخر أصغر منه  وأقصر، تصطف ستة بيوت فقط على جانبيه، ويلقى حتفه عند المقبرة القديمة ( قصرا). لكن هذا الدرب الضيق القصير كان يستقبل أيضا من محلة (درگا)، كل صباح ومساء، المصلين الذاهبين إلى الكنيسة المحاذية للمقبرة والقادمين منها، وخاصة العجائز المدمدمات بأدعية وصلوات متواصلة في ورع ورهبة وهن خارجات من الكنيسة وحتى بلوغهن بيوتهن، فيما عدا ذلك لا يدخله احد غريب في النهار، فنحتله نحن الصغار ليصبح ملعبا لكل ما يخطر على بال من ألعاب الطفولة. أما في الليل فيأوي الناس إلى بيوتهم التي تنفتح على بعضها البعض عبر كوات خلفية أو جانبية، بينما يخيم في الخارج على المحلة كلها ظلام دامس يحولها إلى مستعمرة للكلاب والقطط السائبة والجن والأشباح والموتى الراقدين على بعد لا يزيد عن رمية عصا.
كانت ساحة "درگا" بالنسبة لأهل القرية مركزا للتجارة والأعمال والترفيه، أما بالنسبة لي فكانت قلب العالم كله، مثلما كانت بابل أو نينوى محورا للعالم بالنسبة للبابليين أو الآشوريين، ولهذا صوروا الثور المجنح، رمز قوتهم وعظمتهم، بخمس قوائم الأربع منها هي الأطراف في الاتجاهات الأربع والوسطى، الخامسة، هي أنفسهم. لأنهم كانوا يعتقدون أنهم يعيشون في مركز العالم ويعدون أنفسهم محوره، هكذا كانت درگا؛ مركز القرية ومحورها وقلبها النابض، ساحة صغيرة تتوسط حيا شعبيا، تتفرع منها أربعة أزقة من جهات أربع؛ شرقا زقاق قصير يهبط نحو الساقية وينتهي بها بعد نحو ثلاثمائة خطوة، وغربا يصعد زقاق أقصر منه مسدود ينتهي ببيت آل عزوز حيث يقع بيتنا، لكن فرعا ضيقا وقصيرا يلتف منه يمينا نحو الكنيسة.  شمالا يسير زقاق منبسط باتجاه البيادر يتفرع منه درب آخر نحو زقاق الحائكين، وجنوبا زقاق مسدود آخر، ضيق جدا، قد يبلغ طوله مائتي خطوة، يلتوي ليلتف من وراء مقهى العم گوگا، وهو زقاق معظم بيوته من صانعي العرق المحلي القجغ. كان العالم بالنسبة لي ينتهي عند حافات هذه الأزقة الأربعة وفرعيها، لأن درگا كانت معزولة عن بقية عنكاوا من طرفيها الغربي والجنوبي ومفتوحة على البيادر والحقول وقُصلان الشعير( جمع قصيل، وهو حقل قريب من القرية ترعى فيه الخرفان والأبقار وهو أخضر) والأراضي الديم.  على الرغم من ذلك كانت البيوت تلتصق ببعضها البعض عبر حيطانها وأسطحها الطينية، فتنفتح على بعضها البعض عبر كوات صغيرة وكبيرة من هذه الحيطان ومن على الأسطح المتلاصقة إذ يتبادل الناس من خلالها الحاجات الضرورية والرسائل القصيرة بواسطة النداءات. كان من السهل أن  تنتقل عبر السطح إلى عدة بيوت متلاصقة من الخلف وتهبط في باحاتها بواسطة الدرج مختصرا مسافة كان لابد أن تلتف حول نصف عنكاوا لتقطعها. وهذا ما خلق للقرية عالمان: خارجي مفتوح على الفضاء وداخلي سري منغلق على ذاته عبر الأزقة المغلقة.
لكن في أوائل الستينيات تغير كل شيء، اختلط هذان العالمان ببعضهما البعض، لا سيما بعد أن شُقّ شارع ليضرب درگا في الخاصرة بانتهائه على حافة ساحتها ليفتحها نحو الغرب من جهة والجنوب من جهة ثانية، وليعري عالمها السري ويوصله ببقية أطراف القرية أخيرا.
كانت علامات حمراء رسمت، منذ سنوات، على أسطح بيوت كثيرة وجدرانها على شكل خط مستقيم من غرب القرية إلى شرقها تحدد موقع شارع جديد مرشح للفتح. وكان بعض تلك العلامات الحمراء قد اندثر أو زال بمرور الأيام، حتى أن الناس الذين وقعت بيوتهم على خط الشارع الجديد اطمأنوا نوعاً ما من أن المشروع بات منسياً ولن يُنَفّذ.
لكن ثورة تموز 1958 التي قلبت كل الأمور على عقب، وهزت العراق كله، بكل أحداثها، سلبا وإيجابا، أعادت الحياة إلى ذلك المشروع شبه الميت. فجاء المساحون بعد حوالي سنة، يعيدون رسم علاماتهم الحمراء على الحيطان الطينية القديمة وينشرون الذعر في قلوب أصحاب البيوت التي سيقطعها الشارع الموعود وصولا إلى ساحة درگا.  
أما لماذا درگا فلا نعرف أصل الاسم، ربما يكون محرفا من ديركا، وكانت قرية بين أربل وعنكاوا، انتقل أهلها إلى عنكاوا قديما وسكنوا في هذا الحي وسمّي باسمهم. وديركا هي تصغير لدير بالسريانية كعما – عمكا، وثمة قرى عديدة تحمل هذا الاسم في المنطقة، أو ربما يكون درغا الذي يعني الدرج بالسريانية، والمنطقة فعلا تنحدر من أعلى حيث التلة قصرا إلى أسفل حيث الساقية، ولعل درجاً كان هناك في زمن ما.
كان بيتنا يقع قبل نهاية الزقاق القصير المسدود المنتهي ببيت آل عزوز. جاء المساحون ورسموا علامتهم الحمراء على منتصف درج بيت جدي، هذا يعني أن بيت جدي ونصف هذا الدرج سيبقى لكن الغرفتين الطينيتين اللتين شيدهما والدي قبل نحو سنتين ونصف والحوش كله سيبتلعهما الشارع. وكانت باحة البيت كبيرة جدا تسكنها عدة عائلات تنحدر من توما الجد الأكبر لعائلة المالح (جد جدي توما)،  بيت العم قاقوزا القصاب  وبيت العم أدو (يلدا) النجار ابنا سوريش عم جدي، وبيت فارغ لأبناء عمه الآخر حنوش، وهذا يعني أن نصف هذه البيوت أيضا سيضيع بحسب العلامة الحمراء ، وسيأتي الشارع على نصف بيت الأخوين زورتا العم فرنسي والعم بهنام، المجاور لنا من الطرف الآخر، ثم بيت آخر يؤجر بين فترة وأخرى لعائلةجاءت عنكاوا حديثا، يليه بيت حنا شماشا حتى يصل خاصرة درگا ويقف عندها. لقد كشف الشارع الجديد عن عورات بيوت المحلة، إذ بقيت لسنتين تقريبا من دون سياج انتظارا لإكمال تبليط الشارع. بعض البيوت ابتلع الشارع مساحة كبيرة منها فأرغم أهاليها على الانتقال إلى بيوت أخرى. بينما بقي الزقاق القصير المتفرع من زقاقنا المسدود نحو قصرا على حاله دون أن تصله مخالب الشارع. كان هذا الزقاق يقع مقابل بيتنا بالضبط. على الطرف اليسار من الزقاق يقع بيت العم بويا هللاوا ثم بيت توما فشة يليه بيت العم عيسى، وشكرية قاقوزا ، وينتهي ببيت آل شيشا كوندا على الزاوية لكن بابه يواجه قصرا. بينما على الطرف اليمين حوش تسكنه عدة عائلات من آل كليانا بينها بيت صديقي فاضل نوري ثم بيت بتو ( بطرس) مرقس كوندا وأولاده الكثر وويردو خالا الحلاق وبطرس روالا الذي يقف في مواجهة قصرا من الطرف الآخر.
وكلما مدح أحدهم ثورة تموز وانجازاتها قالت أمي أي انجازات هذه، لقد قتلوا الملك في بغداد وخربوا بيتنا وبيوت الآخرين في عنكاوا، وبالفعل كان لثورة تموز نتيجة كارثية على عائلتنا الصغيرة إذ لم يتبق من بيتنا الذي لم يمض على بنائه إلا سنوات قليلة، غير بضعة أمتار مربعة ظلت خربة فترة طويلة.
هذا الحدث، كان بالفعل كارثة قصمت ظهر والدي الذي تمكن أن يوفر بعض المال من مرتبه الشحيح ويبنى لعائلته بيتا صغيرا يكون سترا لها، سيما وأن والده قد سطا على الجزء الأكبر من تعويض البلدية للبيت باعتبار أن الأرض كانت ملكه.
بيد أن هذا كله لم يعن لي شيئا. كارثتي كانت غير" كارثة عائلتي" ، مع أن سببها الرئيس كان الشارع نفسه، الذي بلع عند نهايته بيتا آخر، هو البيت الذي ولدت فيه.
كان جزء من ذلك البيت الطيني القديم الواقع في مدخل زقاق خلفي، مؤجرا من قبل عائلتي قبل أن نشيد بيتنا الجديد، وفيه ولدت، كما كانت تقول لي أمي عندما تتحدث عن تواريخ ميلادنا وأماكنها التي تحفظها جيدا بالساعات والأيام مرتبطة بحال الطقس في ذلك اليوم أو بمواعيد الأعياد أو الصوم أو المناسبات الأخرى الكثيرة. ذلك البيت كان يطل على ساحة درگا ولا يبعد كثيرا من بيتنا ومن ذاكرتي الطفولية.  لهذا كانت درگا، محور العالم ومركزه بالنسبة لي.
في الطرف الجنوبي من الساحة جايخانة (مقهى) العم كوكا (كوركيس) ملاصقة لبيته. وهي أقدم جايخانة في القرية؛ مبنى طيني يتكون من صالتين مفتوحتين على بعضهما من الوسط فيهما فتحات كبيرة تشبه الشبابيك وفي أعلى منها فتحات أصغر؛ كوّات تسمح دائما بدخول الهواء وخروجه، وقد توزعت دِكاك (جمع دكّة) طينية في أطراف الصالتين بدلا من المصاطب مع بعض التخوت والطاولات الخشبية القديمة. على الدِّكاك والتخوت حصران قديمة مصنوعة من الحلفاء، يتوزع الناس هنا وهناك يلعبون الدومينو والداما، والعم كوكا وابنه حبيب الفارعا الطول، ولعلهما أطول رجال القرية، يسقيان الزبائن الماء والشاي واللبن وبعض المشروبات الغازية آنذاك من زاوية على اليمين في الصالة الأولى حيث أباريق الشاي وحِب الماء وأحيانا سطل اللبن في الصيف. أسماء المشروبات الغازية كانت غريبة وصعبة اللفظ بالنسبة لكثير من الرجال، فيطلبونها على وفق ألوان القارورة أو السائل الذي فيها: هات الأصفر، أو الأسود ، أو الأحمر وهكذا، فمن لديه عانة ثمن الشاي أو عانتان ثمن القارورة الغازية يدفع ولا سيما الأفندية الذين كانوا يتقاضون رواتب شهرية، ومن ليس لديه من فقراء الفلاحين والأجراء يقول للعم كوكا سجلها على الحساب، والعم كوكا يؤشر خطا على الحائط إلى جانب خطوط أخرى أو يحفظها عن ظهر قلبه لكي يسجلها ابنه فيما بعد في دفتر الديون حتى يأتي موسم الحصاد أو حصول الأجير على أجره أو راتبه.
في الصيف يرش العم كوكا الساحة الأمامية الترابية ذات الدكّتين الترابيتين الطويلتين بالماء الذي تجلبه له زوجته من الساقية منذ الصباح، ويُخرِج الطاولات والمصاطب إليها لتتحول المقهى إلى الباحة الأمامية ويجتمع عديد من الرجال هناك. كان هذا المقهى، مركزا لتبادل الأخبار وإجراء الصفقات ووضع الخطط ومعرفة الأنواء الجوية وموعد الحِرْث والزَّرْع والحصْد. كيف لا وفي المقهى راديو لا يملك مثله إلا بضعة بيوت في القرية. كان صوت الراديو يلعلع في المقهى لا أحد يعير له انتباها كبيرا لا سيما عندما كان يذيع أغنية لزهور حسين أو أم كلثوم أو مائدة نزهت. بينما عندما كان يحين موعد نشرة الأخبار كان عدد من الأفندية يقتربون منه ليصغوا جيدا إلى صوت المذيع محاولين فهم ما يقوله بذلك القدر الذي يعرفونه من اللغة العربية، ليصبحوا فيما بعد ناقلي الأخبار بالسورث (السريانية العامية) لمن لا يجيد العربية ويدفعه الفضول لسماع بعضها.
في تلك الأيام سجل الشماس سيوا من كويسنجق بعض الأغاني باللغة الكوردية في الاذاعة العراقية واشتهر صيته بواسطتها، وكلما سمع الشماس ججي في عنكاوا أغنية هه ري كولي كان يقول إن سيوا يغني قوم شبير بالكوردية، ويغنيها معه كما هي بالسريانية، فيضحك الرجال منه، أما عندما يغني ناظم الغزالي "طالعة من بيت ابوها" فيردد معها مدراشا ويقول هذا مدراش مار أفرام على اللحن السباعي، ومع أغنية "فوك النخل فوك" يردد ترتيلة أخرى قائلا هذه لمار يعقوب، وكان الرجال الذين يجهلون تاريخ موسيقاهم وألحانها يتندرون عليه بتعليقاتهم ويسخرون منه، وما أن اشتهرت أغنية "يالله صبوه هالقهوة" لسميرة توفيق المعروفة بكونها أغنية بدوية سألوه ساخرين منه : يا شماس هذه تشبه أية ترتيلة؟ استمع جيدا للأغنية ثم راح يغني معها بالسريانية قائلا هذه سوغيتا على الوزن المثمن، عندئذ ضحك الجميع  متصورين أن الشماس بدأ يخرف، لكن في الحقيقة كان الشماس على حق فهذه الألحان والكثير غيرها من الألحان التي تعد ألحانا شعبية وتراثية هي بالأصل ألحان سريانية تداولها رجال الدين في الكنيسة الشرقية بالتناقل منذ القرون المسيحية الأولى، لكنه لم يكن يعرف كيف يعبر عن وجه الشبه  بين هذه وتلك الألحان لأنه كان يحفظ الألحان الكنسية دون أن يعرف مصادرها ويشرح أصولها.  
 كان والدي يتردد إلى المقهى صيفا لكني لم أجده يلعب الداما أو الدومينو، كان يقف مع الرجال حيث يتبادلون الأخبار والأحاديث المنوعة، وكثيرا ما يأتي إليهم العم لورنس فيلقي نكتة أو كلمة عابثة ثم يخرج من عبه ربعية العرق ويأخذ منها مصة، يمسح فمه بيده ويرجعها إلى مكانها، وإذا ما أغضبه أحدهم أو ناكده أهداه واحدة من عفطاته المشهورة. كان العم لورنس دائم المرح أراه أحيانا بين الحقول يرفع إلى فمه ربعيته ثم يخرج ليمونة حامضة من جيبه يتمزز بها. كنا نحن الصغار نستغل وجود والدي بين شلة الرجال لنذهب إليه ونطالبه بالفلوس فيستحي ويعطينا لكنه عندما يرجع إلى البيت يعاقبنا ويعاتب أمي على السماح لنا بإحراجه أمام رجال القرية، فتقول إنها لم تعرف بما فعلنا، وفعلا كنا لا نخبرنا بالأمر كي لا تمنعنا من الذهاب إليه. ومع ذلك كنا أحيانا نكرر فعلتنا هذه كلما تضايقنا وشعرنا إننا بحاجة إلى المال. كيف لا نفعل وإلى جانب هذا المقهى، وتحديدا عند حافة باحته كان يقع دكان حنا شماشا.
كان حنا يعيش في بيت مجاور مع أمه وأخته وقد توفي والده وكان أخوه الأكبر المتزوج قد ترك البيت ليعيش في بيت مستقل. تعتاش العائلة من هذا الدكان الصغير لكنه يحتوي كل ما تحتاجه العائلة من سمن وسكر وشاي وصابون وأرز وغيره ، لكن ما كان يستهويني وإخوتي السكاكر والحلويات والبسكويت والعلكة التي كنا نسرع لشرائها كلما توفرت في أيدينا عانة (أربعة فلوس) أو أقله تلك القطعة المعدنية الصفراء أم الفلسين التي نحصل عليها بشق الأنفس من خلال صراعنا اليومي مع والدتنا. يبدو أن حنا تعلم الصنعة من أبيه الشماس الأعرج الذي بدأ يبيع في أيوان بيته قطعا من السكر القند وبعض الحلويات والشاي الفَل وبعض الحاجيات الأخرى، لكن لم يكن يملك المال ليطور هذه البقالة الصغيرة فتبرع له أحد أقربائه الأغنياء بعشرين دينارا في ذلك الوقت ليفتح دكانا يحوي معظم الحاجات المنزلية. أقف الآن أمام دكان حنا شماشا وقد اعيد بناؤه بالاسمنت، وها هو الابن(حفيد الشماس الأول) يقوم مقام والده بعد أن استشهد حنا شماشا أثناء انتفاضة آذار 1991 برشقات من رشاش طائرة هيليوكوبتر للجيش العراقي كانت تصوب سلاحها نحو كل هدف متحرك على الأرض.. دون أن يكون له أي علاقة بالسياسة بل أنه كان يحاول الهرب من بيته إلى ملجأ آمن يلوذ به.
في ركن آخر على فم الزقاق المؤدي إلى البيادر  كان العم ميخا الأصلع العجوز الهرم يجلس أمام طبق قديم فيه بعض الحلوى والمعجون والبسكويت والعلكة وربما حب عباد الشمس بالقرب من بيته، أحيانا يتجمع الأولاد حوله، يناولونه نقودهم القليلة فيتفحصها جيدا ويضعها في علبة معدنية صغيرة ثم يسال الطفل ماذا يريد فيعطيه. كان طبق العم ميخا أقدم من دكان حنا شماشا لكنه أضحى أقل شهرة في تلك الأيام لتقدمه في السن وهرمه حتى أن مراهقا من عائلة ميسورة تجرأ وسرق ذات يوم العلبة المعدنية بما فيها من نقود!. وبالطبع كانت الفتيات يفضلن الشراء من حنا الشاب غير المتزوج الذي يمزح معهن وأحيانا يعطيهن بعض الزيادة على ما يطلبنه فيما إذا كان ثمة من تجاوب مع مزحة أو حديث جميل. فضلا عن ذلك كانت رائحة النفط تفوح دائما من طبق العم ميخا لأنه في الوقت نفسه كان يبيع النفط (الكيروسين) فكلما جاء مشترٍ ينهض من أمام طبقه فيدخل أيوان البيت ليصب من تنكة نفطا في قارورة زجاجية لأن الناس في ذلك الوقت كانوا يشترون النفط بالقوارير لاستعماله في الإنارة فقط!
وبين دكان حنا شماشا وبيت العم كوكا يقع بيت هرمز عمانا المشهور بصيد عصافير الحقول بالفخاخ المعدنية الصغيرة في الخريف، ويكون صيد العصافير عادة بين حراثة الحقول وبذارها وقبل سقوط المطر. كان العم هرمز يأتي عصرا مع الغروب حاملا أفخاخه وكيسا مليئا بالعصافير، فتكون زوجته بانتظاره لتنتف ريش العصافير الناعم مستفيدة منه لبيعه لصنع المخدات، وقبل أن تنتهي من مهمتها يتوافد الزبائن، هذا يريد خمسة وذاك عشرة وهذه ستة وهكذا، لأن العصافير تستخدم مازة لشاربي العرق وأيضا تطبخ مع البرغل. أذهب مع أمي لشراء العصافير فأراها تجلس أمام الطشت تساعد في نتف ريش العصافير المسكينة الصغيرة التي قتلتها فخاخ العم هرمز. لا اتحمل المنظر فأخرج. العديد من الرجال كان يعيش على صيد العصافير، وما يزال، حتى أن ابن أحدهم ما يزال يمارس اصطياد العصافير بالفخاخ كهواية على الرغم أنه يعمل موظفا مرموقا منذ ثلاثين سنة!
وكانت ساحة درگا في الصيف سوقا للترعوزي والبطيخ الأصفر منذ الصباح الباكر، ومركز السوق كان في ظلال بيت العم ايليا بطروزا ( بطرس) وتحت حائطهم. الترعوزي هو القثاء وقد يكون انتقل إلى سهل أربل ونينوى من ألرها لأنه سمي باسم قرية "طرعا دْ عوزي" السريانية ( باب العوز) القريبة منها والتي اشتهرت به. ويزرع ديميا في سهول عنكاوا إلى جانب البطيخ الأصفر (الشمام). يأتي المزارعون بمحصولهم اليومي من الترعوزي والبطيخ الأصفر منذ الصباح الباكر ويضعونه أكواما على ملايات أو خُرج فارغة أو على الأرض مباشرة فيهب الناس إلى شراء ما يحتاجون. وتتحول الساحة إلى هرج ومرج الباعة والشارين والأطفال والحمير المربوطة بالقرب منهم. تقاس جودة الترعوزي بطراوته وصغر حجمه أما البطيخ بحلاوته وكبر حجمه ونوعيته. كان أحيانا يظهر صراع بين الباعة حول أي منتوج هو الأفضل وأي بطيخ هو أحلى أو أي ترعوزي هو أطرى.  كانت أمي ترتاد هذه السوق قبل أن يكون لنا بستاننا الخاص فتشتري من هذا وذاك لكن أيضا كان يعجبها أن تشتري كومة من البطيخ "كوترة" أي على التخمين من دون وزن....
وإلى جانب هؤلاء تجد العم اسحق عمبارك جالسا أمام كومة صغيرة من الطماطم والباذنجان والسلق والبصل وبعض الأعشاب ساعة أو ساعتين دون أن يقبل عليه الكثير من الزبائن لأن معظم الناس يزرعون الخضار بأنفسهم فيضطر بعد بعض الوقت لتحميل بضاعته في خرج مصنوع من الحصيرعلى حمارته ليدور بها في القرية عله يبيع ما تبقى لديه من الخضراوات. وعندما كبر ولداه صباح وأوسا (يوسف) أخذا يساعدان والدهما، كانا عصاميين وعملا بجد ثم فتحا دكانا تطور إلى تجارة ناجحة يضرب بها المثل.    
ولأن البيوت في عنكاوا كانت تبنى باللبن (الطوب)، المصنوع من الطين والتبن، كان درگا مسرحا لصناعة مثل هذا اللبن كلما احتاج أحدهم بناء بيت، يأتي بالتراب الأحمر من (خبّرتا) وهي حفرة كبيرة جدا تمتد لمساحة واسعة وبعمق عدة قامات تشبه المقلع في بداية القرية (بارك عنكاوا حاليا). وينقل هذا التراب بواسطة الخُرْج المحمول على دابة ويخلط بتبن ناعم وماء فيُجبل منه طينا، ويصب هذا الطين بعد تخمره في قوالب خشب مستطيلة بحدود 40في 60 سم ثم يسوى سطح القالب ويزال الطين الزائد بقطعة خشبية أو باليد ويترك قليلا إلى أن يتماسك فيرفع القالب وتترك قطع اللبن لأسبوع أو أكثر لتجف أمام الشمس في ساحة درگا ثم تقلب على حافتها لتجف من الأسفل والجوانب أيضا. ويستعمل هذا اللبن فيما بعد للبناء بدلا من الطابوق أو البلوك الخرساني الذي نستعمله الآن، وكان يوسب كتا أشهر طوّاب وبناء في ذلك الوقت، ولم يكن يضاهيه في قطع اللبن غير هرمز جمعة، كان العم هرمز طويل القامة يسير بخطوات سريعة واسعة، ومشهورا بسرعته في المشي، يقال  أنه كان ذات صباح، يعود من قرية قريبة من راوندوز (أكثر من 100 كلم عن عنكاوا) فلم يجد سيارة تقله فأخذ يمشي على قدميه فوصل عنكاوا في الليل، ويحكى عن عداء آخر وهو العم حنا المعروف بحتا أنه ذهب إلى شقلاوة وعاد منها إلى عنكاوا في اليوم نفسه والطريق بين عنكاوا وشقلاوا يبلغ نحو خمسين كيلومترا، وينبغي أن لا ننسى هنا أنه كان على الأول أن يجتاز جبل صلاح الدين والثاني أن يقطعه في ذهابه وإيابه. ويحكي لي ابن خالتي جبرائيل أنه في شبابه كان يسافر من عنكاوا إلى ألقوش سيرا وراء الدواب المحملة بالجوز والزبيب وبضاعة أخرى منذ الصباح الباكر فيصل ألقوش مساء. هذه المسافة تقطعها السيارة الآن بنحو ساعة وثلاثة أرباع الساعة! لا أدري إلى أي درجة تكون هذه الحكايات صحيحة لكن المصادر التاريخية لا تخلو من أخبار مشابهة إذ كانت جيوش الدولة الآشورية تسير نحو 40 كم في اليوم فما بالك إذا كان السائر شخصا بمفرده. وقد تمكن كلكامش وانكيدو من قطع نحو 500 كم في عدة أيام بقياسات تلك الأيام في رحلة عودتهما إلى مدينة اوروك. وإذا كانت ملحمة كلكامش قصة أو أسطورة فإن شولكي، ثاني ملوك سلالة أور الثالثة الذي حكم بين (2095-2048) قبل الميلاد يخبرنا في أنشودة "ملك الطريق" متفاخرا أنه ركض من أور إلى نفّر وعاد منها إلى أور في يوم واحد ليحتفل بمهرجان القمر في المدينتين في اليوم نفسه، والمسافة بين المدينتين تزيد على 300 كم ذهابا وإيابا. كان هناك العديد من الرجال الذين يضرب بهم المثل في المشي السريع لمسافات طويلة.
على أية حال لقد توارث سريان السهول هذه الطريقة في قطع اللبن من أجدادهم البابليين والآشوريين لعدم وجود حجارة في السهل الفسيح الذي كانوا يسكنونه. وكانت أبعاد هذا اللبن نفس أبعاد اللبن الآشوري القديم تقريبا. ومثل هذا اللبن اكتشف في الطبقات الوسطى والسفلى من تل قصرا في عنكاوا الذي يعود تاريخه إلى نحو سبعة آلاف سنة. ويشهد سفر التكوين(10: 2-3) على استعمال سكان بابل اللبن إذ يشير إلى أن العبرانيين "فِي ارْتِحَالِهِمْ شَرْقًا أَنَّهُمْ وَجَدُوا بُقْعَةً فِي أَرْضِ شِنْعَارَ وَسَكَنُوا هُنَاكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلُمَّ نَصْنَعُ لِبْنًا وَنَشْوِيهِ شَيًّا. فَكَانَ لَهُمُ اللّبْنُ مَكَانَ الْحَجَرِ، وَكَانَ لَهُمُ الْحُمَرُ مَكَانَ الطِّينِ". والبيوت المبنية من الطين كانت أدفأ شتاء وأبرد صيفا.
وكنت تجد في هذه الساحة أيضا مئات من سيقان أشجار الحور الطويلة الباسقة التي تستعمل عادة لتسقيف البيوت فتمدد بعيدة عن بعضها البعض بحدود خطوة إلى خطوتين على عرض السقف ثم ترصف ما بينها فروع أشجار أرفع منها لتغطى هذه وتلك بحصران من الخوص وبعض النباتات اليابسة ثم تكسى بطبقة من الطين المجبول بالتبن. لكن كل هذا لا يمنع من إن يتسرب ماء المطر إلى البيت عندما تهمل إدامة السقوف والجدران. تصوروا لآلاف السنين لم تتغير طريقة البناء هذه إلا في النصف الثاني من القرن العشرين عندما دخل الطابوق والسمنت والحديد صناعة البناء! كان قدماء العراقيين يصنعون بيتهم في البداية من الحلفاء ثم تعلموا صناعة اللبن وشيدوا باللبن زقوراتهم وأبراجهم وقصورهم، ولم يكتفوا بذلك بل أخذوا فيما بعد يفخرون هذا اللبن ويشوونه بالنار ليبقى قويا ويدوم سنوات طويلة. بيتان فقط في درگا كانا مبنيين باللبن المشوي، بيت عمي يوسف بائع العرق المعروف في أربيل وبيت صليوا أوراها أحد أقدم المعلمين في القرية، لكن كليهما انتقلا إلى مساكن جمعية الخالدية التي شيدت في عام 1957 في مدخل عنكاوا من الطابوق والطين.
ونظرا لوجود الأخشاب واللبن في الساحة هذه ليس غريبا أن تصبح أيضا مركزا لتجمع عمال البناء وغيرهم فيأتي أصحاب العمل أو البناؤون فيختارون عمالهم منذ المساء ليبدأوا في اليوم الثاني ومنذ الصباح الباكر بنقل المواد أو البناء. وكانت الساحة في أشهر الحصاد تصبح أيضا مركزا لتجمع الحاصدين ونقلة الحصيد من الحقول إلى البيادر.
وكلما أضاع أحدهم شيئا ثمينا كلف المنادي في القرية العم بهنام الملقب بسقرا ليأتي ويقف في وسط الساحة وينادي ( الله يرحم والدَيّ من عثر على كذا ويعيده لصاحبه فتمنح له مكافأة مجزية) وعادة ما تكون تلك الأشياء الثمينة حليا أو ساعة أو محفظة ومعظمها لنساء وهكذا. والعامة تسمي المنادي كزيرا وهي كلمة تركية أو فارسية بينما اهملت الكلمة السريانية سقرا ܣܩܪܐ اللصيقة باسمه والتي تعني المُبَلّغ، ويتصورها البعض صقرا من صقر العربية وهذا غير صحيح.
وإلى ذلك فأن ساحة درگا هي مركز شراء وبيع الحلفاء المستخدمة في صناعة الحصران ، كانت تأتي اللوريات وأغلبها من باطنايا وباقوفا وتللسقف أو من ألتون كوبري محملة بالحلفاء المجففة رزما رزما ويشتريها العاملون في صناعة الحصران ليتقاسموها فيما بينهم، بالأحرى كان صليوا ساكا هو الذي يشتري اللوري ويقسمه إلى حصص صغيرة يشتريها صانعو الحصران فيستفيد هو حصة أو حصتين لأن صانعي الحصران يدفعون له بالمؤجل بعد بيع حصرانهم. وهذه الحلفاء التي نسميها "برديل؟" تنبت على نحو جيد على ضفاف نهر خوصرتا (الخاصرة) الذي يسمى الآن الخازر بقلب الصاد زايا. وعلى ضفاف الخابور وغيرها من حواف الأنهر، ولولا هذه الحلفاء لما كان لنا أعظم ملك في تاريخنا ولا أول نبي يؤسس ديانة سماوية . فها هي الكاهنة العظمى اينيتو التي ولدت ابنها (سرجون الأكدي) سرا ( كان يمنع على الكاهنات آنذاك إنجاب الأطفال على وفق قوانين حمورابي) وضعته في سلة من البردي وختمت غطائها بالقير وتركته بين الحلفاء على حافة النهر، قبل ألفين وثلاثمائة سنة، ولا أدري كيف فكرت والدة النبي موسى العبرانية أن تفعل الأمر نفسه بعد ألف ومائتين سنة وفي مصر على مسافة تبعد آلاف الكيلومترات "فأخذَتْ لَهُ سَفَطًا مِنَ الْبَرْدِيِّ وَطَلَتْهُ بِالْحُمَرِ وَالزِّفْتِ، وَوَضَعَتِ الْوَلَدَ فِيهِ، وَوَضَعَتْهُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ عَلَى حَافَةِ النَّهْرِ". (سفر الخروج 2: 3) ويكون لكلا الطفلين المصير نفسه فيعثر عليهما بستاني في الأول وأمَة في الثاني ويتربيان في عائلتين ملكيتين ويصبح الأول أشهر ملك في الشرق الأوسط والثاني نبيا في المنطقة نفسها!!! على المؤرخين أن يستنطقوا هذه الحلفاء اللعينة أو المقدسة إن كان كلاهما واحد أو أن كليهما اختلقا قصتهما واعتديا على هذه النبتات التي صرنا نعذبها بجدلها وغزلها والجلوس عليها لكي تنطق لنا بالحقيقة! لكن هذه الحلفاء أتت اليوم على موقع برج بابل باعتراف طه باقر ففي محاضرة له تحت عنوان (برج بابل) ضمن فعاليات المؤتمر العالمي للآثار الذي انعقد ببغداد في 1978 قال:
"غدا برج بابل الآن عبارة عن حفرة مليئة بالمياه ونبات الحلفاء.. فقد حمل أهالي الحلة القدماء كل الطابوق الذي بُني به البرج.. وبنوا بهِ بيوتهم.. ففي بيتنا القديم بالحلة.. طالما شاهدت أسم الملك (نبوخذ نصر) محفورا بعلامات مسمارية على سطوح الطابوق الذي شيدنا بهِ دارنا"...
وكلما طال شعري تاخذني أمي إلى بيت العم ويردو خالا القريب فيجلسني على الأرض في الأيوان ويربط شعري من الأعلى بخيط حتى يحصد بقية رأسي على هواه. أما تلك البقعة المشدودة بالخيط فتبقى على حالها مثل عرف الديك، وكانت هذه موضة حلاقة الأطفال في تلك الأيام. وكان في درگا حلاق آخر هو العم عيسى سيدا. هذان الحلاقان يحلقان الكبار والصغار، الرؤوس واللحى،  مقابل كذا وزنة من الحنطة سنويا. كانا يستعملان المقص والموسى العريضة ويحدانها بقطعة من جلد تسمى النشتر وأحيانا يستعملان رغوة صابون.
 وفي نهاية الخمسينيات حدث تطور آخر في عنكاوا، إذ شيد أول مشروع فيها لإسالة الماء، لكن الماء لم يكن يصل البيوت، بل نصبت حنفيات ذات رؤوس عديدة في المحلات، وكان من حصة درگا ثلاث حنفيات، الأولى أمام بيت صليوا اوراها أفندي والثانية عند الزاوية اليسرى لبيت ايليا بطروزا، والثالثة في مدخل زقاق صانعي العرق، بالقرب من مقهى العم كوكا. يأتي الماء لهذه الحنفيات من خزان اسمنتي شيد على ارض مرتفعة قليلا بالقرب من متنزه عنكاوا الحالي. وكان جارنا، العم فرنسي، مشغلا لمضخة الماء المنصوبة على بئر ارتوازية تضخ ماء زلالا إلى الحوض. وبما أني كنت صديقا لرمزي ابن العم فرنسي كنا نذهب مع والده أحيانا إلى المضخة، وكنا نسأله أن يسمح لنا بتشغيلها، وكانت تلك متعة كبيرة فنشعر إننا وفرنا الماء لعنكاوا كلها. لكن هذه الحنفيات لم تحل مشكلة الماء في القرية كليا، لأن بعض النساء المتنفذات والمتسلطات كن يسيطرن على هذه الحنفيات ساعات طويلة دون أن يسمحن لغيرهن بأخذ الماء إلى أن يرتوين ويملأن كل ما لديهن من حبب وطسوت وأواني. هذا الأمر كان يخلق مشاكل كثيرة ومخاصمات خاصة بين النساء فتصل في بعض المرات إلى جر الشعر والعض والاشتباك بالأيدي، مما أدى ذات يوم أن يقوم أحد الرجال وفزعة لزوجته المغلوب على أمرها بقفل إحدى الحنفيات وإخفاء أقفالها في المزارع لينقطع ذلك الصنبور من الماء للأبد!
كانت أمي تشتري اللحم من العم يعقوب نعمتو الذي كان يثبت قنارته على حائط بيت ايليا بطروزا ويعلق عليها قطع اللحم الكبيرة ليقطع منها لزبائنه بالوقيات التي كان يزنها بميزان من صفيحتين من الفافون كل منها معلقة بثلاثة حبال من رأس عصا غليظة فيها ممسك في الوسط، وعندما يبقى بعض اللحم الرديء والعظم والشحم في قنارة العم يعقوب والذي قد لا يشتريه أحد ينادي: هيوا يا رجال الرديء بالرديء، والرديء المقصود به هو العرق فيبادل ما تبقى له من رديء اللحم بقنينة عرق محلي الصنع ليبدأ مشوار الشرب لديه منذ الظهيرة. وكان ثمة عدد من باعة اللحم، لا يذبحون بأنفسهم بل يشترون اللحم من القصاب ويتجولون به في أطباق على رؤوسهم في القرية أي كانوا باعة متجولين. كان جدي لأبي واحدا من هؤلاء، مزارعا فقيرا وبائعا للحم في الوقت نفسه، أنا لا أتذكره كذلك، لكن جدتي تقول إنه كان يحمل طبق اللحم على رأسه وفي إحدى يديه ميزان صغير.  سرعان ما ترك جدي هذه المهنة التي لم ينجح فيها وسببت له الكثير من المتاعب، لأنه، بحسب جدتي، كان يوزع لحمه مجانا على النساء الجميلات اللواتي يدخل بيوتهن، وكان ذلك سبب مشاجراتهما باستمرار. وكان العم كوركيس نني وهو من أبناء عمومة جدي أيضا يحمل طبق اللحم على رأسه متجولا في أزقة القرية وعلى ما يبدو كان بائعا ناجحا. أما العم قاقوزا ابن عم جدي اللح كان أيضا بائعا متجولا للحم ولا أتصور أنه نجح في تجارته لأني أتذكره في شيخوخته فقيرا معدما.
كان عجوزا وحيدا فقد زوجته منذ زمن يعيش مع ابنته الأرملة التي تعتني به.. وكان للعم قاقوزا الأصلع، الضعيف، الصغير الحجم، بدلة واحدة بقطعتين من الملابس لا غير. وربما لم يعرف ما هو الحمام منذ زمن مثل الكثير من أمثاله في ذلك الوقت. لكن كلما انتهت ابنته من صناعة الخبز في التنور أراه ينزع بدلته ويبقى عاريا منكمشا على نفسه أمام التنور إلى أن تنتهي ابنته من نفض ملابسه في التنور حيث كان القمل يقع منها ويحترق بصوت مسموع.
أما أخوه العم أدو(يلدا) النجار الذي بيته ملاصق لبيت جدي. كنت أراه يصنع بعض الأدوات الزراعية البسيطة كالمحراث والمذراة والفؤوس والشخرا( لنقل الحصيد من الحقل إلى البيدر) وبعض التخوت وغيرها ربما كانت حاله أحسن من حال أخيه. وكانت زوجة العم أدو وجدتي على خلاف دائم وكثيرا ما تنشب بينهما معارك كلامية من الوزن الثقيل.
ولأن إمكانيات شراء اللحم كانت محدودة استغل بيت خال والدي وجود عجل صغير أجهضته بقرتهم، بحسب اعتقادهم، ليتهنوا في ذلك اليوم بأكل اللحم. في الحقيقة كان لهم حمارة وبقرة حاملين، وكلاهما على وشك الولادة. وذات صباح استفاقوا ورأوا حيوانا حديث الولادة على وشك الموت في الإسطبل، ولما كانت الدنيا تمطر والبرد ينخر في العظام والإسطبل يلفه الظلام تصوروا أن البقرة هي التي أجهضت، فأسرعوا إلى ذبح الحيوان قبل أن ينفق، وسلخه بسرعة، ووضعه في مرجل كبير ليطبخ على النار. ظلت النار تشتعل طويلا تحت القدر إلى أن طبخ اللحم فأكلوه وكأنهم في يوم عرس، لأن الفلاحين الفقراء نادرا ما كانوا يأكلون اللحم في ذلك الوقت. مثلا كانوا يأكلون الدجاجة في حالتين أما أن تكون الدجاجة مريضة أو أن يكونوا هم مرضى ليشفوا. لكن المفاجأة كانت في اليوم الثاني عندما وجدوا في الإسطبل عجلا صغيرا ولدته أمه للتو. فأيقنوا أنهم أكلوا أتانا البارحة! كنا كلما نتذكر هذه الحادثة نقول لجدتي كيف كان طعم الأتان الذي أكلتيه فكانت تتهرب من الجواب وتقول: في ذلك اليوم كنت زعلانة ولم أنم في البيت!
ولم يكن العم يعقوب نعمتو من مشاهير محتسي العرق الوحيد، بل كان يشاركه في هذه الشهرة العديد من الرجال، أمثال بتي ششا وكربيت و... ومعظم الرجال كانوا يحتسون العرق أيضا ولهذا كانت صناعة العرق مهنة مشهورة وشائعة في عنكاوا يمارسها العشرات من العائلات بعضها تتفنن في صناعته وتطيبه وتقطيره عدة مرات.  
 هذا العرق القجغ كان يصدر بالأساس ليباع في أوكار عدة بأربيل التي كان فيها فضلا عن ذلك خمسة متاجر لبيع العرق المرخص يديرها عنكاويون، ولا يكفيها كل هذا، بل كان الاربيليون أنفسهم يأتون دائما إلى عنكاوا لشراء العرق وأحيانا للشرب في البساتين القريبة من القرية. ومن أشهر هؤلاء كورا وموسى ومطلب ومجكو، ( وكان هذا الأخير مطربا معروفا في أربيل) يأتون من أربيل بالباص عصرا حاملين معهم بعض الخيار والطماطم والطرشي والثلج ويشترون قنينة من العرق القجغ وينصبون مائدتهم في ظل قبرانا (كوخ بستان) العم ويردينا فيشربون ويغنون بالكردية والتركمانية، وقبل أن يغادروا في معظم المرات يتشاجرون فيما بينهم ويترنحون يمينا وشمالا وهم ذاهبون إلى موقف الباص مساء، وكنا، نحن الصغار، نجدها فرصة لنركض وراءهم صائحين موسى أو كورا فيلتفتوا إلينا وهم بالكاد يسندون أنفسهم وأحيانا يقعون على الارض ولا يقدرون على النهوض فيأتي بعض الرجال لمساعدتهم وإيصالهم إلى موقف الباص. ويتكرر هذا المشهد معظم أيام الربيع والصيف.    
وكان يأتي إلى ساحة الدركة راقصون على الحبال أو مرقصو القردة فيجتمع الأطفال والرجال حولهم وتخرج النساء أمام البيوت ليراوا ما يشبه الأعاجيب رجلا يسير على حبل أو يتسلق حبلا مربوطا من سقف أو رجلا يرقص قردا ويعطيه موزة بين حين وآخر. وأخيرا يمر مهرج بالرجال والأطفال ليدفعوا له مقابل هذه الفرجة اللطيفة.  
ولأنها اكبر ساحة في القرية فكانت معظم الأعراس تمر بها فيقف المحتفلون بها لتعقد حلقات الدبكة على أنغام الطبل والمزمار أو الأغاني الشعبية. ويخرج رواد المقهى للتفرج ويفد غيرهم من اماكن مختلفة ويتحلقون حول الراقصين وتخرج النساء حاملات أطفالهن يستمتعن بالخكا( دبكة الأعراس). فيرتفع الغبار من تحت اقدام الراقصين والراقصات وتتحول الساحة الى مهرجان حقيقي للفرح، بينما تكون العروس مجللة بوشاح راكبة حصانا يسندها من اليمين واليسار اثنان من أصدقاء العريس. وفي يوم عرسه في هذه الساحة طعن والدي رجلا بالخنجر فبات ليلته في السجن بدلا من أن ينام إلى جانب عروسه في السرير. يقول والدي إن هذا الشخص اختلف مع ابن خاله ورفع يده عليه ليضربه أثناء توقف مسيرة العرس في الساحة هذه وبينما كان هو قريبا منه فهب لنجدته وبالطبع كان يحمل خنجرا كأي عريس فاستله وضرب المعتدي فجرحه....
وجميع أهل الحي، بل وعنكاوا كلها، ينامون فوق السطوح في الصيف، وعادة ما كانت العديد من الأسطح متلاصقة فبإمكان المرء الانتقال من سطح إلى آخر بسهولة وأحيانا من محلة إلى أخرى. وهذا الأمر كان يحدث إحراجا شديدا لبعض العائلات من حيث خصوصيتهم وإسرارهم العائلية، أما المتزوجون الجدد والعائلات الشابة فتنصب الكلل فوق أسرتها حتى تحمي نفسها من الأنظار والبعوض، لكن مع ذلك كانت تحدث مواقف محرجة ومضحكة أو مشادات كلامية لأسباب مختلفة. وذات يوم ضرطت امرأة بدينة ضرطة مسموعة فوق سطح دارها فسمعها جارها الذي كان يحتسي كأس العرق فوق السطح فقال من مكانه: لينفجر بطنك الفاسد، وفي هذه الأثناء سمعه جار آخر ربما كان يقربها أو يرتبط مع عائلتها بعلاقة صداقة فنهره: ما لك تحكي على المرأة، هلا شممت رائحتك الكريهة، ثم كلمة من هذا وكلمة من ذاك حتى وتوتر الوضع وتحول إلى مشادة كلامية ثم تطورت إلى مسبات وشتائم وعركة بالأيدي والأرجل كاد أحدهما يقع من على السطح. تجمع أهل المحلة وبدأوا يسألون عما حدث وما هو سبب العراك، إلى أن عرفوا إنها ضرطة تلك العمة البدينة، وهكذا دخلت تلك الضرطة تاريخ القرية.  
وإلى ذلك كانت درگا مكانا مناسبا لألعاب شعبية كثيرة كنا نلعبها كالدعابل وهللكان والاختباء والقفز من فوق بعضنا البعض وغيرها  وعادة ما كانت تلك الألعاب تجري في الساحة المقابلة لذلك البيت الذي ولدت فيه
كان جزء من ذلك البيت الطيني القديم الواقع في مدخل زقاق خلفي ضيق، مؤجرا من قبل عائلتي قبل أن نشيد بيتنا الجديد، وفيه ولدت، كما كانت تقول لي أمي.
بعد أن اهتديت إلى مكان ولادتي كلما مررت بذلك البيت أقول في نفسي، وأحيانا لأصدقائي، هنا ولدت. وأكثر ما كان يحز في نفسي، بعد أن وعيت، وكبرت، ودخلت المدرسة، هو أنني لم أدخل ذلك البيت أبدا لكي أراه من الداخل، وأتطلع إلى الغرفة التي فتحت فيها عيني على الحياة للمرة الأولى.
وكنت أحيانا أبذل قصارى جهدي لأستعيد بعض ملامح ذلك البيت من الداخل فلا أتوفق، وتخونني الذاكرة، ربما لأنني كنت صغيرا جدا عندما ترك أهلي ذلك البيت إلى بيت جدي حين شيدوا بيتنا الجديد.
وظل ذلك الألم أو الحلم يراودني، وبتّ على ثقة تامة من أنني ذات يوم سأقتحم ذلك البيت وأتفرج على الغرفة التي ولدت فيها، ولهذا عندما نمي إلي أن ذلك البيت سيهدم انتابني القلق والحزن عليه أكثر مما على بيتنا الجديد.
وكنا نحن الصغار، في تلك الأيام، نتفرج بلهفة على الجرافات وهي تهدم البيوت وتثير غبارا كثيفا وضجة عالية مذهولين من قوتها وضخامتها وشطارة سائقها، بينما الناس، ولاسيما أصحاب تلك البيوت يبكون على بيوتهم ويتأسفون على ما بنوه بمشقة وعناء وجهد، وعلى مدى سنوات طويلة، فيرونه يُهدم بسهولة ويتحول إلى ركام في ساعات معدودة.
في اليوم الذي أقدمت فيه الجرافات على هدم ذلك البيت. هُرِعت منذ الصباح لأتفرج بقلب يقطر أسىً وألماُ على محو مكان ولادتي من الوجود، تلك الغرفة التي رأيت فيها النور لأول مرة. عندما بدأت الجرافة تهدم الحيطان الخارجية للبيت ومن ثم بعض الملحقات الصغيرة تسمرت في مكاني ووقفت متمالكا نفسي بعض الشيء، لكن ما أن رفعت الجرافة " بوزها" نحو تلك الغرفة المستقلة في الحوش والتي ولدت فيها، تفطر قلبي وارتعش جسدي فجأة وتفجرت دموعي، ثم لم أتمالك من ضبط نفسي فعلا صوت بكائي، فهرعت إلى البيت وأنا أصرخ.
سألت والدتي منفعلة: ماذا حدث؟
قلت وأنا أشهق بالبكاء:
-   بيت العم عيسونة!
قالت بسرعة لتستكشف الخبر:
-   ماذا به؟
قلت:
-   هدموه.
فسألتني معاتبة:
-   ولماذا تبكى أنت؟
أجيت وأنا أكفكف دموعي:
-   أليس هو البيت الذي ولدت فيه؟
فأكلتها صفعة على وجهي.
-   يا ابن الحرام، هدموا بيتنا الذي وفرنا فيه تعب العمر كله ولم تبك، فتبكي على بيوت الآخرين. وخاصة ذلك البيت الذي كان كلما سقطت قطرتين من المطر، نزلت واحدة منها إلى داخله؟ أتدري كم عانينا في ذلك البيت؟ وكيف كان صاحبه يطالبنا بالإيجار كل يوم إن لم ندفع بالموعد المحدد؟
بعد ساعات قادني الحنين مرة أخرى إلى ذلك البيت، فرأيته مهدما بكامله. وظلت رؤية الغرفة التي ولدت فيها حسرة في قلبي تنخسنى كلما تذكرت تاريخ ميلادي.




 

4
أدب / ينبوع المطر
« في: 14:57 06/10/2011  »
ينبوع المطر
سعدي المالح

كلما ارتفعت الرياح قليلا وبدأت الغيوم تنتشر في السماء تهرع العصافير الدورية التي تأتي إلى باحة الدار لالتقاط فتافيت خبز تتركها لها والدتي أو للعبث بأوراق شجرة الزيتون العتيقة أو دالية العنب في الحوش، إلى شباك غرفتنا المكون من درفتين خشبيتين تؤطران  صفيحتين رقيقتين من الزجاج. وتنقر تلك العصافير بمناقيرها الرفيعة على الزجاج منذرة أن تحولا ما يجري في الطقس يحمل بردا ورعدا ومطرا، فتهرع أمي إلى جمع الملابس المنشورة على الحبل أو تأخذ بعض الفرش والمطارح إلى داخل البيت وتطلب بصوت عال من هذا أو ذاك أن يدخل حصيرا أو غرضا ما إلى البيت لأن عاصفة من المطر قادمة لا محالة. أقول لها: كيف تعرفين؟ تقول: ألا ترى الطيور كيف احتمت بالشباك؟ هي تعرف أكثر منا. فأدخل إلى الغرفة وأراقب العصافير من الداخل وهي تنقر على الزجاج بخفة وقد نفشت أجنحتها المرتجفة قليلا. ثم سرعان ما تكفهر الدنيا وينهمر المطر وابلا، تهرب العصافير لتحتمي بمكان أكثر أمنا تاركة قطرات المطر تضرب بقوة على زجاج النافذة، وتجري في مسايل رفيعة على خد الشباك وتصب في المياه المتجمعة في الحوش تغسل الأرض أولا  ثم تغمرها بالماء، فاتأمل ذلك المنظر بمهابة كبيرة بينما تقول أمي: نشكر الرب ونحمده، نزل الخير في أوانه.   
وللمطر، منذ القدم، قدسية خاصة عند شعوب مابين النهرين. فهو ماء السماء الذي يلقح الأرض ويخصبها. وتزداد قدسيته لدى سكان سهل حدياب أو أربل الواقع بين الزابين الأعلى والأسفل شمالا وجنوبا، ونهر دجلة غربا، لأن هذين الزابين اللذين سمي السهل باسمهما (بين الزابين، إديابين، حدياب) لم يمنحا السهل على مر العصور، شيئا غير الاسم! ولم تصل هذا السهل منهما، ولا من دجلة الخير، قطرة ماء واحدة، وخاصة للبلدات والقرى المترامية في وسطه، التي ظلت تروي بالأمطار أو بالمياه الجوفية منذ آلاف السنين. ولذلك نشأت علاقة جدلية بين السماء وهذا السهل الذي تلتحفه، فمد بدوره خيوطا نحوها ليبقى متعلقا بها، وظل، في كل العهود، متوجسا، خائفا منها، متوسلا إليها، يطلب رحمتها، ويستنجد بها كلما واجهته مصيبة. وكأن عشتار، السيدة الجليلة، التي وضعت السماء قبعة على رأسها والأرض صندلاً في رجلها، كما تقول الأسطورة،(1) بقيت تتحكم، من على قلعة أربل، موطنها، بطبيعة هذه العلاقة وتناقضاتها منذ ذلك الوقت وحتى الآن.
الوحيد الذي أدرك قوانين هذه العلاقة الجدلية ودرس ظواهرها بعمق كان الملك الآشوري سنحاريب، فحاول منذ سبعة وعشرين قرنا أن يتحدى إلهته عشتار، أو ربما يسدي لها خدمة ويرفع عنها هذا الهم، بفك هذا الارتباط المصيري بين السهل وسمائه، فحفر ثلاثة أنهر في جبال (خاني) التي في أعلى مدينة أربل، كما يقول بنفسه، ومن ثم فتح كهاريز وترعا للماء من وادي بستورا القريب تسقي السهل فترتوي الأرض ويشبع الناس، مستوحيا فكرته، على الأرجح، من أسطورة سومرية تعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد تقول:
من مقره السماوي
أخرج (أوتو) المياه الحلوة من الأرض
من فوهات تنبعث منها
جعلها تصل إلى صهاريج متسعة
فاستهلكت المدينة منها كميات وافرة
   
وجلبت حقول حصاده، كميات كبيرة من الحبوب!
أصبحت بعد ذلك (دلمون) الأهراء،
الأهراء التي تمول بالحبوب بلاد سومر كلها!
بيد أن هذا المشروع الإروائي الشهير الذي كانت آثاره باقية إلى أواخر القرن العشرين تهدم بمرور الزمن، ولم يعوض عنه بأي مشروع آخر مماثل أو عصري يتوافق مع متطلبات الحياة وتطورها ليروي المدينة وسهلها. حتى أن مشاريع تزويد أربل وضواحيها بالماء الصالح للشرب ما تزال معظمها فاشلة! وهذا اكبر دليل على أن أفكار الذين حكموا المنطقة ومخططاتهم منذ ألفين وسبعمائة سنة وحتى الآن كانت محدودة وضيقة، وغير مكترثة بمصائر أهلها ومستقبلهم. في ظل هذا الواقع كانت عنكاوا تواجه، في الأزمنة القديمة، العطش مع السهل كلّما أغلق شقيق عشتار إيشكور أو أدد، إله الأمطار والعواصف باب السماء بمزلاجه المهيب، أو سدّ الأعماق كي لا تفيض المياه من الينابيع لتتحول الحقول السمر شاحبة وتربط الأرض رحمها فلا يعود الزرع ينبت ولا تنمو حبوب فيقصد الناس باب أدد ويقدمون إليه رغيفا من خبز وقربانا من الطحين فيستحي مما يُقّدم له ويكف عن الأذى. وفي الصباح ينزل الضباب وفي المساء يمطر طلا إذ يفتح أدد ثغرات الغيوم المحملة بالماء وتنسكب من الأعالي غزيرة. وتنتج الحقول الغلال خلسة (2) وتعيش عنكاوا الرخاء مع الأربليين.
وانتقلت قدسية المطر من الأساطير الوثنية إلى المعتقدات اليهودية والمسيحية فأصبح المطر يهطل بمشيئة الرب: "اُطْلُبُوا مِنَ الرَّبِّ الْمَطَرَ فِي أَوَانِ الْمَطَرِ الْمُتَأَخِّرِ، فَيَصْنَعَ الرَّبُّ بُرُوقًا وَيُعْطِيَهُمْ مَطَرَ الْوَبْلِ. لِكُلِّ إِنْسَانٍ عُشْبًا فِي الْحَقْلِ".( سفر زكريا 10: 1) أو في بعض الأحيان "يَحْمَى غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْكُمْ، وَيُغْلِقُ السَّمَاءَ فَلاَ يَكُونُ مَطَرٌ، وَلاَ تُعْطِي الأَرْضُ غَلَّتَهَا، فَتَبِيدُونَ سَرِيعًا عَنِ الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ الَّتِي يُعْطِيكُمُ الرَّبُّ."( سفر التثنية 11: 17) ويهدد الرب من لا يسجد له بقطع المطر عنه "وَيَكُونُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لاَ يَصْعَدُ مِنْ قَبَائِلِ الأَرْضِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيَسْجُدَ لِلْمَلِكِ رَبِّ الْجُنُودِ، لاَ يَكُونُ عَلَيْهِمْ مَطَرٌ."( سفر زكريا 14: 17) حتى أن إيليا النبي " صَلَّى صَلَاةً أَنْ لَا تُمْطِرَ، فَلَمْ تُمْطِرْ عَلَى الْأَرْضِ ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ. ثُمَّ صَلَّى أَيْضاً فَأَعْطَتِ السَّمَاءُ مَطَراً وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ ثَمَرَهَا." (يعقوب 5:17 ) ويصف لنا الكتاب المقدس كيف "خرَّ إيليا إلى الأرض وجعل وجهه بين ركبتيه وأخذ يصلي متضرعاً إلى اللّه أن يرفع العقوبة عن الشعب بأن يُنزل المطر. وبعد وقتٍ من الصلاة أمر غلامه أن يذهب نحو البحر ليتطلَّع، لعله يرى سحاباً، فعاد الغلام يقول: إنه لم ير شيئاً. وجعل إيليا يصلي ويأمر غلامه بالذهاب للتطلُّع نحو البحر ست مرات، دون أن يرى الغلام شيئاً. وفي المرة السابعة قال الغلام للنبي إيليا: رأيت غيمة صغيرة قدر كفّ إنسان صاعدة من البحر. وسرعان ما اسودّت السماء بالغيوم، وهطل مطر عظيم." (سفر الملوك الأول18-42/44) وتعليقا على ذلك يقول مار أفرام السرياني في القرن الرابع إن "الصلاة هي التي أغلقت السماء فلم تمطر وهي التي فتحت كوة السماء فنزل المطر على الأرض"
بعد ذلك أصبح المسيح نفسه المطر النازل من السماء ليطهر العالم كله ويجعل من القلوب فردوسا خصبا. 

*   *   *

أما حديثا فشهدت الأجيال الثلاثة التي سبقتني سنوات قحط وجفاف ومجاعة بسبب انحباس المطر، أو سقوطه في غير أوانه، بينما كان جيلي، في طفولته، شاهدا على نضوب آخر مصدر للماء في القرية: الكهريز، احد المجاري الهامة لمشروع سنحاريب على الأرجح. وهذا يعني، فيما يعني، جفاف البساتين المروية وكافة المزروعات الصيفية. سيما الخضروات والبقول والأشجار المثمرة.
وأمام تساؤلاتي الطفولية الملحاحة، بل وأمام ناظري، جفت البساتين العامرة للخواجة ويردينا على الطريق القديمة المتجهة نحو نينوى (الموصل) غربي القرية، وبساتين الخواجة سبي وأولاده اليانعة المواجهة لبيتنا، وحديقة القس بولص وأرملة أخيه مينا، ذات الأشجار الدائمة الخضرة والكروم والتوت في الطرف الشرقي من عنكاوا القديمة... كما أن تجارب الآبار الارتوازية والإرواء الصناعي التي حلت محلها لم تدم إلا بضع سنين، وسرعان ما أخفقت.
وهكذا عادت القبعة الفسيحة على رأس عشتار تتحكم بهذي الأرض المنبسطة وتقرر مصير الناس الكلي مثلما كان الأمر قبل ألفين وسبعمائة سنة مما اضطر الناس الذين يئسوا من هذه العلاقة، وكفروا بآلهتهم إلى أن يشيحوا بأوجههم عن الأرض والزراعة نحو الآفاق الجديدة التي فتحها أمامهم التطور الإداري والعلمي والتكنولوجي، فاندفعوا صوب المدارس والوظائف الحكومية حتى اكتظت دوائر محافظة أربل ومدارسها ومستشفياتها بالعنكاويين منذ أواسط القرن العشرين.

ولم يعد أدد يرعد داخل الغيوم ويحرس الأعالي فأوكلت مهمة التحكم بالسماء وسقوط الأمطار وهبوب العواصف إلى القديس مار كوركيس (مار جرجس)، شفيع القرية وكنيستها. والكنيسة أولت بالفعل أهمية خاصة للمطر في سجلاتها. والهوامش التي سطرها القسس والشمامسة على المخطوطات وكتب الصلوات، تخبرنا في أية سنة وهب الله عباده مطرا غزيرا وفي أية سنة منعه عنهم، وماذا كانت نتائج ذلك وكيف تصرف الناس. ففي نهاية مخطوط كتاب " قلائد الياقوت" ليوسف بن إبراهيم العنكاوي المترجم عن العربية إلى السريانية عام 1798 الذي يعيد أحدهم استنساخه في عام 1819نجد ملاحظة تقول: "في سنة 1819 ميلادية أي سنة كتابة هذا المخطوط هطل المطر مدرارا، وسالت المياه أنهارا بحيث أتلفت محصول الحنطة الموجود في البيادر". ومن بين هوامش مخطوطة أخرى للحوذرا، وهو كتاب الصلوات على مدار السنة، كتبت في 1788 ورد أنه في 22 نيسان 1885 "سقط حالوب (بَرَد) شديد وأتلف الزروع (يقصد الحقول) والمنتجات الزراعية في القرية." والحوذرا نفسه الذي جُمع في القرن السابع الميلادي يضم في القسم الخاص بـ قالى وشوحلابي ( المقامات والتقلبات) الكثير من الصلوات الخاصة بالمطر التي ترتل على وفق انغام خاصة بها كلما انحبس المطر. تقول واحدة من تلك الصلوات بالسريانية الفصحى: "آلاها مرحمانا حوس عالزرعي دها حيرين ومسكين لرسيساخ ولنطبثاخ، وهول لهون بحنانخ مطرا درحمى ، دنتلون بيري لأكارى ،نثبسمون مث من يذ علّثهون، ونسقون تشبحتا لشماخ قديشا" والتي تعني " أيها الرب الرحيم ارأف بالحقول التي ترسل النظر وتنتظر سيولك وقطراتك، هب لهم بحنانك مطر الرحمة ، لتنضج ثمار الفلاحين ويسعدوا بمحاصيلهم ، ونرفع المجد لاسمك القدوس". 
أما الناس الذين ينتظرون المطر فنسجوا حوله مجموعة من الحكايات والخرافات والحكم والأمثال والأحداث المثيرة. واتبعوا عادات وتقاليد خاصة بهم.
من ابرز تلك التقاليد صلاة طلب المطر كلما انحبس، وترفع هذه الصلاة في البداية عادة إلى مار كوركيس شفيع القرية الجبار المعتلي صهوة جواده الأبيض شاقا عنان السماء يسوق الغيوم أمامه كقطعان الماشية ويضرب برمحه في المكان الذي انحبس فيه المطر لينهمر مدرارا على أراضينا. وان لم يشفع لهم مار كوركيس التجأ الأهالي إلى مريم العذراء، ونظموا مسيرات جماعية إلى مزارها الكائن غرب القرية بنحو ثلاثة كيلومترات عساها تطلب من ابنها يسوع أن يرحم أهل القرية ويرسل لهم المطر وما زال يتواصل هذا التقليد. يتقدم المسيرة موكب مهيب من القسس والشمامسة والمؤمنين حاملين الإيقونات والصلبان رافعين أصواتهم في ترديد صلاة طلب المطر، يتبعهم جمهور كبير يعد بالآلاف في طابور طويل يمتد من القرية وحتى قبة العذراء. عند الظهيرة تصل المسيرة إلى مزار العذراء (وهو على هيئة قبتين متلاصقتين الكبيرة للعذراء مريم والصغيرة لابنها يسوع) ويقام هناك قداس خاص بطلب المطر. ومما كان يلفت نظري في هذه المسيرات تضرعات الناس الصادقة وإيمانهم العميق وقناعتهم أن المسيح سيرسل لهم المطر لا محالة، بما فيهم أولئك المعلمين الذين كانوا يشرحون لنا في المدرسة عن دورة المياه في الطبيعة!.
أما الآن هذه المسيرات لا تنظم كما في السابق لوقوع هذا المزار داخل سياج مطار أربيل الدولي وأيضا لأن كل بيت يملك أكثر من سيارة فيخرج الناس بسياراتهم، لكن يتوجب عليهم أن يمروا عبر نقاط تفتيش تابعة للمطار ليصلوا إلى هناك. ومع ذلك يرى المرء في الطريقمن يقطع هذه المسافةعلى قدميه لكي تلبي العذراء طلبه على نحو أسرع.
وكلما تأخر المطر تنوعت أساليب الناس في طلبه وتعددت، في هذه المرة تأتي المبادرة من الكورد المسلمين، فيأتي عدد من الدراوشة من القرى القريبة يتقدمهم بيرق أخضر يعلوه هلال، يسيرون في أزقة القرية ضاربين دفوفهم رافعين أصواتهم بالصلوات والأدعية. وأحيانا يختلط الدعاء بالتهريج الشعبي فيأتي رجل ملطخ بالسخام عدا عينيه اللتين تبرقان من محجريهما وتزوغان ببلاهة، تسميه العامة "كوسه" يرافقه ضارب دف ماهر، يقوم بحركات بهلوانية. وسرعان ما يتناهى الخبر إلى مسامع الأطفال فيركضون للالتحاق بالموكب حشودا مندفعة وينشدون بالكردية: (هياران وهياران..ياخوا بنيرة باران.. بو فه قير و هه زاران) والتي ترجمتها : يا أحبة يا أحبة .. اللهم أرسل المطر.. للفقراء والمساكين .
وما أن يصل الموكب أمام باب أو شباك حتى تخرج امرأة لتسكب الماء من كوز أو إناء على رأس المهرج فيهز جسده نافضا عنه الماء كأنه طير، وأحيانا يفاجئه الماء على غفلة من فوق الأسطح. وعادة ما كان يحصل هذا المهرج على بعض الحبوب أو الثمار. ومن أشهر العنكاويين الذين أدوا هذه الأدوار يونان يلدا وقاقوس ستة وصليوا سُلي ، لكن في طفولتي كنت أرى بعض الكورد يأتون إلى عنكاوا للقيام بهذا الدور.
كان هذا المشهد يشدني إليه دائما، فأحشر نفسي بين الأجساد الصغيرة وأتدافع لرؤية المهرج، الذي أقلده فيما بعد مع أترابي في المحلة لنعود إلى أمهاتنا بملابس تنقط ماء مثل فراريج منقوعة! في الوقت الذي كان يعتبر تأخر سقوط الأمطار بالنسبة لنا نحن الصغار لهوا وتسلية، كانت وجوه الرجال تقطر حزنا وهما وقلقا على مصير مزروعاتهم وأراضيهم.
أما المطر، كعادته، لا يبالي بهذا أو ذاك، ويأتي متى شاء، معززا مكرما. أحيانا ننام في إحدى الأمسيات الدافئة متذمرين من الحر الذي طال، لكننا ننهض في صباح اليوم التالي على صوت المطر يقرع زجاج نوافذنا، وأحيانا يفاجئنا في بداية الخريف على السطوح، فتنهمر زخات منه علينا ونحن نيام تحت أغطيتنا، فنفيق بسرعة وننزل من على السطح حاملين أفرشتنا، وقد ينبئنا عن تباشيره، في بعض المرات، فنرى في الأول قزعاً بعيداً يطرز طرفا من السماء، ثم تظهر غيمة بيضاء، تقترب، وسرعان ما تجتمع مع غيرها، وتحتشد مكونة سحبا داكنة تحجب عنا السماء، ولا تغادر إلا بعد أن تسكب فوق رؤوسنا ما تحمله من ماء. وكثيرا ما كنا نحن الطلاب نحمل كتبنا المدرسية لمذاكرة دروسنا في أواخر الربيع بين الحقول البعيدة نوعا ما من القرية ويكون الجو صحوا لكننا نفاجأ بعد وقت قصير بعاصفة قوية من المطر فلا نلحق من العودة إلى بيوتنا على الرغم من أننا كنا نركض من احساسنا بسقوط القطرات الأولى فتخضل بالماء ملابسنا وتبتل كتبنا وتغوص أرجلنا في الطين بين الحقول.
ومع المطر الأول كنا نشتم رائحة الأرض الطيبة المتشوقة لقطراته فتفوح تلك الرائحة المدوخة في القرية وكأن يدا سحرية عطرت الاجواء وخضبتها. وكنا نحن الأطفال نخرج إلى الأزقة، نتقافز تحت الرذاذ الخفيف وننشد بأعلى صوتنا ما معناه:
زخ .. زخ يا مطر
وأملأ لنا العنبر
وفي هذه الأثناء نفتح أفواهنا الصغيرة لتسقط فيها قطرات المطر مباشرة أو نفرد له أيدينا ليبللها ونمسح بقطراته وجوهنا، لأن المطر الأول مقدس من ناحية، ويزيدنا صحة وعافية من ناحية أخرى، كما تقول أمهاتنا.
على أية حال، تأخر المطر أو أبكر، ثمة استعدادات تجري لاستقباله: يحرث الفلاحون أرضهم حراثة أولى، ويحضر صيادو العصافير فخاخهم أو شباكهم، ويجهز الرعاة الأعلاف لمواشيهم، وتنقل النساء الذخيرة إلى مخازنها، ويسيع الأهالي حيطان بيوتهم وأسطحها بالطين، ويعيدون تصليح ما خرب من ملحقات البيت.
ومع أن أمي كانت تسيّع الحيطان كلها، وهو تقليد موغل في القدم تذكره أسطورة كلكامش لأن منازل المنطقة ظلت تبنى منذ سبعة آلاف سنة وحتى أواسط القرن العشرين من اللبن (الطابوق غير المفخور). ثم تقوم بمساعدة من إخوتي وأنا ووالدي، وأحيانا من بعض أصدقائنا وجيراننا، بتسييع السطح، إلا أننا لم نكن نتخلص من الدلف فيما إذا واصل المطر سقوطه أياما متتالية، فنضع إناءً هنا وإناءً هناك، ينقط فيه الماء من السقف، ولما يزداد الدلف يضطر أحدنا إلى الصعود إلى السطح، فيدلك، بالمحدلة أو بيده، الأماكن التي يتسرب منها الماء لكي تمتلئ شقوقها ويتوقف، وهي ، بالطبع، مهمة شاقة تحت وابل المطر، وخاصة عندما يكون الدرج والسطح قد تحولا إلى وحل وطين. ولقد قيل " اَلْوَكْفُ الْمُتَتَابعُ فِي يَوْمٍ مُمْطِرٍ، وَالْمَرْأَةُ الْمُخَاصِمَةُ سِيَّانِ"( سفر الأمثال 27: 15).
وكل بيت كان يملك محدلة فوق السطح لأن الأسطح مصنوعة من سيقان وأغصان الأشجار أو الحصران المكسوة بالطين، ولكي يبقى السطح قويا لا تتسرب منه المياه لابد من حدله في نهاية الربيع بعد توقف الأمطار وفي الخريف قبل سقوط المطر ليتماسك ولا يسمح بتسرب الماء. 
وهناك نكتة تحكى عن احدهم: طلبت منه زوجته أن يصعد إلى السطح ليوقف الدلف، فتمدد صاحبنا فوق الشق ونادى من هناك زوجته يستوضح منها إن كان الدلف قد توقف. ولما أخبرته لا ، قال، سأحاول أن انبطح في المكان الملائم!
والمطر إذا جاء في موعده، في أواخر تشرين الثاني وأوائل كانون الأول، بكميات كافية، وارتوت الأرض كان علامة على خير وفير في تلك السنة. ولا يعرف عن ارتواء الأرض إلا الشيوخ المجربين، فبعضهم يقول إن الأرض ترتوي عندما يمتلئ كوز الفلاح بحبات المطر، وأخر يقيس مدى الارتواء بعدد أيام سقوط المطر، وثالث لا يقتنع بهذا أو ذاك فيحفر حفرة بعمق عدة أشبار ليتأكد بنفسه من أن الماء قد تسرب إلى أعماق كافية وأن الأرض ارتوت.
ومن المؤكد أن السماء هي التي تقرر ما إذا كان المطر يتأخر هذه السنة أم لا، لتنتج الأرض على ضوء ذلك غلتها، يتساقط في غير أوانه، فيكون عديم النفع، أو يزيد عن حده فيلحق أضرارا فادحة بالحقول، أما الإنسان فهو عبد للسماء، لا حول له ولا قوة، إرادته مسلوبة، لا يعرف  ماذا كتب له القدر، سنة خير مفعمة بالمسرات أم سنة قحط مليئة بالنكبات.

*   *   *

وعندما كنت صغيرا، لم يكن هذا كله يهمني، أو يشغل تفكيري، بل ما كان يأسر قلبي، فعلا، هو حال أو كيفية سقوط المطر، أو بالأحرى لحظات انهماره بقوة وسطوة أخاذة، فيأخذني بسحره الرهيب، أقف وراء الشباك أو أمام الباب وأتسمع إليه وهو يهدر بقطراته المتساقطة على الأسطح والحقول المحروثة والأرض، فيعج صوته في الآذان،وسرعان ما تسقط المزاريب شلالاتها السريعة في الأزقة، وتتراكض المياه في مسايل الطرقات سريعة مصدرة خريرا، فيختلط هذا كله ليشكل صوتا متناغما جميلا، عازفا سمفونية أزلية لم أسمع قط مثيلا لها فيما بعد.
ويزداد حبي للمطر كلما انهمر وابلا مدرارا، أو بتعبير والدتي، كلما انسكبت البرابخ (2) من السماء، وهو تعبير لم أجد أبلغ منه وأقوى ينطبق على هذه الحالة، فلا Cats & Dogs كما يقول الانكليز، ولا averse بلسان الفرنسيين ولا كأفواه القِرَب kak is vedra  بلغة الروس يمكن أن تصورها، وهي حالة ربما تكون أقرب إلى الأسطورة منها إلى الواقع. فيكفهر الجو، وتختبئ الضواري في جحورها والماشية في زرائبها والطيور في أعشاشها، والناس ينسحبون إلى بيوتهم منكمشين على أنفسهم خائري القوى مشلولين أمام هول الطبيعة، بينما السماء تبرق ضوءاً ساطعا مدوخاً أحيانا يتبعه بعد لحظات هدير الرعد وزمجرته، فيرتفع زبد من الأرض ويستمر هطول المطر عدة أيام متواصلة وتشعر كأن الطوفان الذي تحدثت عنه أساطير ما بين النهرين قد حل مرة أخرى. وفعلا عندما يحدث ذلك يقول الأهالي (طوبانا قْمْلا) أي قام الطوفان، وكلمة طوبانا السريانية يعنى بها طوفان نوح لتشبّه هذه الحالة بتلك التي فيها "انْفَجَرَتْ كُلُّ يَنَابِيعِ الْغَمْرِ الْعَظِيمِ، وَانْفَتَحَتْ طَاقَاتُ السَّمَاءِ." كما يرد في سفر التكوين وحتى أن استخدام فعل "قام" في هذا الموقف له أثر مريع لأننا نستعمله فقط مع القيامة كأن نقول قامت القيامة.
ولا يكمن الخوف في هذه الأيام التي تنفتح فيها طاقات السماء وإنما في تلك السيول الجامحة التي تتكون في الوديان العديدة غير العميقة في شرق عنكاوا وتجتمع لتصب في الوادي الرئيس الذي يمر بالبلدة كأن الإله ننورتا فتق السدود وحطم الحواجز كما تتحطم الجرة بحسب أسطورة كلكامش. فتندفع مياهه التي ترتفع بارتفاع قامة رجل أحيانا نحو الكثير من بيوت البلدة الواقعة على طريقه فتكون المأساة الحقيقية بالنسبة للأهالي الذين يتفاجأون به قبل أن يتمكنوا من إنقاذ بعض أمتعتهم ومؤونتهم.  ولقد رأيت بأم عيني مرتين أو ثلاث مثل هذا الفيضان فتدخل المياه العكرة بيتنا فجأة دون أن يكون لدينا أي استعداد لمواجهتها. لكن عندما ينخفض مستوى المياه ولا يبقى منها إلا مسايل ضعيفة نجعل منها نحن الأطفال أماكن للهو واللعب. وفي عام 1973 حدث أكبر فيضان في عنكاوا إذ اجتاحت السيول القرية بقوة كبيرة وراحت تجرف معها التخوت والفرش والأبقار والأغنام والخيول والأشجار وكل ما تتمكن منه، فهبت أهالي القرية في ذلك اليوم لمساعدة المنطقة المنكوبة وانقذوا الكثير مما تمنكوا منه. وكانت الحكومة حاولت في الستينيات إيجاد حل لهذه المشكلة فشيدت مجرى مسقفا للمياه لا يسع إلا كمية بسيطة من تلك التي تركض نحو البلدة والتي تزيد بكثير عن حجم المجرى فكان يحدث ما هو أسوأ ويؤدي ذلك إلى انسداد المجرى وحدوث فيضانات وما فيضان عام 1973 إلا بتأثيرها. ثم أقيمت في أواخر الثمانينات سدة ترابية شرق البلدة كانت إلى حد ما مانعا لحدوث فيضانات كبيرة. الآن شيدت أحياء سكنية في حوض تلك السدة لا ندري ماذا سيحدث لها فيما إذا حدث فيضان كبير. والحال نفسه كان بالنسبة لأربيل فتمر عبر القسم السفلي من المدينة عدة وديان تفيض هي الأخرى كلما هطلت أمطار كثيفة فتمتلئ الشوارع والبيوت بالمياه وتعيق حركة السير ولا تزال العديد من الأحياء تعاني من مياه السيول في الشتاء والربيع.
وأذكر كان ثمة واد يمر بين عنكاوا وأربيل جنوب منطقة كوران الحالية. كان هذا الوادي يفيض بسرعة بتأثير أقل كمية من الأمطار فيقطع الطريق بين أربيل وعنكاوا ويمنع وصول السيارات وباصات مصلحة نقل الركاب إلى عنكاوا فيرتدي الناس وخاصة الموظفون والطلاب الجزم المطاطية ليعبروا هذا الوادي مشيا. وأحيانا كنا نحن الطلاب نحمل أحذيتنا بأيدينا ونرفع بناطيلنا إلى أعلى رُكَبنا ونخوض في المياه المتراكضة لعبور الوادي مشيا على الأقدام حتى لا نغيب عن دروسنا. أما في السابق فكان أهل عنكاوا يقطعون المسافة بين أربيل وعنكاوا إما مشيا على الأقدام بواسطة الحمير فيواجهون مشكلة البقاء في الجانب الآخر من الوادي في حال فيضانه ويبقون هناك إلى أن يرسلون خبرا لأهاليهم فيأتون بالخيول ليساعدوهم في عبور الوادي.   
على العموم، عندما يهطل المطر في أوانه، وبكمياته المطلوبة، ترى السهل الممتد تحت ناظريك ينتشي فرحا لاستقباله، يرفع له ذراعيه، يعانقه ويمتصه، يتشبع به ويخزنه في أعماقه، كأنه فعلا مَني الآلهة الذي يخصب رحم الأرض. والناس المتلهفون لعملية الإخصاب المتكررة كل عام تغمرهم البهجة وهم يشاهدون هذا الحب العنيف الجامح فيقطفون ثماره غلالا وفيرة وحياة هانئة.

*   *   *

في أيلول عام 1973 حاولت أن استعيد سمفونية المطر وحبه للأرض وعناقه الأزلي لوجهها في قرية (بيشه) الكردية النائية بالقرب من سفح جبل حسن بك الذي يفصل منطقتي بهدينان وسوران في منطقة كوردستان، تلك القرية التي وصلتها، من عنكاوا، بعد مسيرة ثلاث ساعات بالسيارة، ومن ثم نحو عشر ساعات ركوبا على البغل بين طرقات الجبال المتعرجة.
بعد شهر من وصولي القرية، في تشرين الأول، سقط مطر غزير. جلست في إيوان غرفتي الطينية، مقابل المدرسة الصغيرة التي كنت معلما فيها، في أعلى مرتفع من القرية، أتأمل المطر المنهمر بجنون وأتسمع لصوته. كان المطر يعزف في تلك الجبال سمفونية أخرى غير التي كنت أسمعها في عنكاوا، وسهلها الفسيح، كان قد اختفى من تلك السمفونية خرير المياه المتراكضة في مجاري الأزقة، وصوت المزاريب، ووقع قطرات المطر المرتطمة بالأسطح، ووجه الأرض، والحقول المحروثة، وحل محلها هدير كاسح لشلالات المياه المتساقطة من سفوح الجبال يتخلله صوت ضعيف يكاد لا يسمع لقطرات المطر وهي تضرب أوراق الأشجار الكثيفة المنتشرة في كل مكان من تلك القرية الصغيرة ببيوتها العشرين. اختفى ذلك الحب العنيف والعناق الحار الذي رأيته بين المطر والسهل. توارت تلك العلاقة الأزلية، وحل محلها عدم اكتراث من الجبال للمطر المنهمر الذي سرعان ما يتحول إلى مياه متراكضة نحو الوديان. واكتشفت أنه بين تلك الجبال والمرتفعات العالية والانحدارات الشديدة للسفوح والوديان والأشجار الكثيفة ومياه الثلوج والينابيع الوفيرة، تفقد الأرض مشاعرها كليا تجاه المطر ولا تعلن عن شوقها له إذا تأخر أو غاب، وينسى الناس أيضا حبهم للمطر، بل ويحس المرء أن المطر لا يلقى هنا نفس الاهتمام الذي يلقاه عند ساكني السهول، لأنه لا يقدم ولا يؤخر شيئا في حياتهم، بل ولا يشكل لديهم حاجة مصيرية! .. رأيت الناس هناك، في ذلك اليوم، لا يكترثون بالمطر، ولا يعيرون أيه أهمية لنزوله، وتأكد لي أنه ليست لديهم أية أساطير أو حكايات حوله، خلاف ما هو لدى سكان السهول الديمية، هذا يعني أن المطر عند سكان الجبال ليس مقدسا. فانتابني شعور بالحزن لا أعرف كيف أصفه.

*   *   *

في موسكو انتظرت المطر في الخريف فلم يأت. حزنت كثيرا على فراقه في مثل هذا الوقت من السنة، لكن هذا الحزن تبدد رويدا رويدا أمام مرأى سقوط الثلج بكثافة. بصراحة كنت رأيت سقوط الثلج في عنكاوا عدة مرات في حياتي بيد أن ثلجنا كان لا يدوم طويلا وأحيانا يذوب ما أن يلامس وجه الأرض، أما في موسكو فكان يتساقط لساعات وأيام دون انقطاع تتطاير ندفه في السماء القريبة كأنها قطن أبيض منثور في كل مكان. لكن للثلج قصة أخرى. 
مرة كنت اركب الباص الذاهب إلى مسكني فتعطل في الطريق بين محطتي وقوف. اقترح علينا السائق النزول وانتظار الباص الآخر في المحطة القادمة، فنزلنا. كان المطر ينث نثيثا خفيفا. أخرج الركاب مطرياتهم (شمسياتهم!؟) وراحوا يترجلون نحو المحطة المقبلة. كنت بلا مطرية كالعادة لانزعاجي من حملها. وكانت ثمة فتاة جميلة من ركاب الحافلة تسير بموازاتي تقريبا، فعجبني أن أمازحها، قلت لها بالعربية: ناس تأكل دجاج وناس تتلكة العجاج. ضحكت وقالت: لا أفهمك؟ بأية لغة تتكلم؟  قلت: بالعربية وباللهجة العراقية. أها، ماذا قلت. شرحت لها ماذا قلت، فهمت قصدي فابتسمت ورفعت مطريتها عاليا لكي تحميني من المطر: التحق بي فمطريتي تكفي لاثنين. اقتربت منها وأخذت المطرية من يدها ورفعتها على رأسينا، ورحنا نتحدث. عندما وصلنا موقف الباص المقبل اقترحت عليها أن نمشي إلى الموقف الآخر الذي يليه، وافقت وهكذا تعارفنا وتحدثنا ونحن نعبر موقف باص تلو آخر إلى أن وصلت هي قبل محل سكناي بمحطتين، قالت: إن بيني هنا قريب سأتركك، شكرا على مرافقتي. شكرتها أنا أيضا على لطفها وأعطيتها المطرية. قالت: لا لتبقى عندك عليك أن تسير مسافة حتى بيتك. رفضت طبعا، لكنها أصرت. عندئذ رأيتها فرصة للقاء آخر معها فسألتها: لكن كيف سأعيدها إليك؟ أجابت: ستراني هنا على نفس خط الباص، فأنا أستقله يوميا إلى مقر عملي. وتوادعنا. ومنذ ذلك اليوم صرت آخذ ولفترة طويلة خط الباص نفسه وأحيانا في نفس ذلك الموعد الذي التقينا ولم ألتق بها. لكني بقيت احتفظ بمطريتها كذكرى لفترة طويلة.     
في موسكو لا يرتاح المرء كثيرا لسقوط الأمطار. لأن المطر في هذه المدينة الخضراء الجميلة يبعث على القرف أحيانا: إذا جاء في الربيع يذيب الثلج وتتحول المدينة بشوارعها وساحاتها إلى أوحال؛ خليط من الرمل الخشن الثلج، وإذا نزل في الصيف أفسد طقسها المشمس الدافئ وحولها إلى جحيم: رطوبة عالية، هواء خانق، وبرد وبعوض. ومن الغريب أن المطر يسقط في موسكو عدة مرات في اليوم الواحد زخات سريعة وقوية ومتقطعة، ولهذا يحاول كل من يتمكن أن يغادر موسكو في الصيف فيغادر ليقضى إجازته على شاطئ البحر الأسود.

*   *   *

في آب عام 1981 باغتني المطر، وأنا مستلق على شاطئ البحر الأسود في مدينة يالطا، جنوب روسيا. هرع المصطافون كل إلى حال سبيله، واختفوا بلمح البصر بعد سقوط القطرات الأولى، اما أنا، كأنني انتظر هذه الفرصة، فارتديت ملابسي على مهل وجلست على صخرة أراقب قطرات المطر وهي تنغرز في البحر الذي كان يتراقص أمامها بموج خفيف هادئ، ويحتضنها بحنان وعطف وأبوة فيثير هذا اللقاء رذاذا يرتفع في السماء كالغبار!
هذا العناق الأزلي، وربما السرمدي، بين المطر والبحر كنت أشاهده للمرة الأولى في حياتي، كان منظرا مثيرا للتأمل: بحر ازرق مترام، ينعقد فوقه، وعلى ارتفاع متلاصق به، بخار شفيف ورذاذ ناعم، والمطر يزخ وئيدا متريثا كمن يعرف أي مصير ينتظره، يلامس وجه الماء بهدوء وبشفافية مفرطة ليلعن موته عازفا موسيقى جنائزية مثيرة! تساءلت مع نفسي: هل كان موزارت يعرف عندما كتب ال ( ريكويم Requiem) لنفسه أن المطر يعزف موسيقاه الجنائزية وهو يسير إلى حتفه، إلى مثواه الأخير!؟
فاكتشفت في تلك اللحظات أن علاقة المطر مع الطبيعة تختلف من موقع إلى آخر، ولكل نوع من هذه العلاقة طبيعتها وقوانينها، حكاياتها وموسيقاها، وحتى شكلها الجمالي المستقل. مع السهل الذي لا نهر يخترقه يعيش المطر حبا عنيفا تتخلله معاناة حقيقية، وفي هذه المعاناة يواجه عتابا ورضا، جفاء وشوقا، صدودا وردودا، أحزانا وأفراحا.. في الجبل المكلل بالثلوج يلاقي الإهمال المقصود، ويواجه احتقارا وعدم اكتراث، بينما مع البحر، يكمل دورته الحياتية، فيرجع إلى أصله، منه خلق واليه يعود، ثم يركن إلى هدوئه الأبدي.
محلَّقاً مع هذه التأملات مشيت في شوارع المدينة، وملابسي تقطر ماء. كان الماء يجري في مسايل الشوارع متدافعا سريعا، شبهته بما كان يجري في مسايل عنكاوا، نزعت حذائي المبتل ورفعت بنطلوني المخضل بالمطر وبدأت امشي خائضا في برك الماء ومسايلها. فراحت مياه المطر تداعب رجلي وكأن لها معرفة قديمة بها، سررت جدا ورحت ابتسم منتشيا للسابلة الذين كانوا يركضون للاحتماء بسقف ويتلفتون نحوي بتعجب وذهول كبيرين. بيد أني كنت أعيش فعلا نشوة حقيقية، وكانت فرصتي أن أحقق من خلالها، في تلك المدينة التي لا يعرفني فيها أحد، حلما طفوليا ظل يراودني كلما هطل المطر طيلة سنوات الغربة.
على هذا الحال قطعت المسافة بين البحر ومنتجع تشيخوف للأدباء الكائن على تلة عالية من المدينة، ولم اعرف خلالها كيف مر الوقت الذي استغرق أكثر من ساعتين قضيتهما في خوض الماء والدندنة تحت مطر غزير ينهمر بلا توقف.
في باحة المنتجع، رآني أحد نزلائه أعصر ملابسي، وكان كاتبا للقصص البوليسية، ظن أن شيئا ما حصل لي، أو ربما مسا من جنون أصابني، فسألني على الفور: ماذا حدث؟ أجبته ببرودة أعصاب متناهية، ونشوة لا توصف: لاشيء، أعجبني فقط أن أخوض في مسايل الماء، إنها تشبه مسايل قريتي. ضحك الرجل، ولامني قائلا إنني أعرض نفسي للمرض من اجل نزوة. لكن المرض الحقيقي، مرض الغربة ذلك الذي كان قد أصابني حديثا بالفعل، ابتعد عني ذلك اليوم، شفيت منه، بفعل هذا الدواء السحري الذي اكتشفته لنفسي: المطر، وعشت تلك الأمسية في صحة وعافية، جسدية وروحية، لم أعشهما أبدا في تلك البقعة من الأرض.

*   *   * 
 
كنا، هي وأنا، فوق الجبل الملكي المنتصب وسط مدينة مونتريال، نتنزه ونرسل بنظراتنا إلى زجاج السيارة عندما اشتد المطر وراح ينهمر قطرات كبيرة لا تلحق معها الماسحة المشتغلة بأقصى  سرعتها أن تفسح في المجال للرؤية. أوقفنا السيارة عند منحدر يطل على المدينة نراقب قطرات المطر المرتطمة بالزجاج بسرعة شديدة.
قالت: أحب كثيرا الوقوف وراء الزجاج والمطر ينقره بقطراته.
كانت المدينة مثل عروس في ليلة زفافها تستحم بذلك المطر الدافئ فرحة منتشية بأضوائها وحركة شوارعها ومسائها المقبل على العطلة الأسبوعية. أوقفت الماسحة فتحبب سطح الزجاج بقطرات الماء وتغبش.
أضافت: وكلما هطل مطر في الخريف شعرت برائحة الأرض.
تذكرت رائحة الأرض المخضلة بالمطر الأول ولزمت الصمت. اكتفيت بالإصغاء لصوت المطر الذي كان يعزف سمفونيتي الخاصة في ذلك اليوم فغمرني شعور غريب، وفجأة باغتها وباغت نفسي:
-   احبك مثلما يحب هذا المطر وجه الأرض.
حدقت في عيني لحظة ثم فتحت باب السيارة وركضت باتجاه الخميلة المحاذية تحت المطر. كانت مفاجأة بالنسبة لي أيضا، خرجت من السيارة وتبعتها ركضا لنشارك المدينة عرسها تحت قطرات المطر الدافئ.
هذا الحب الذي ولد تحت المطر كان أطول حب عشته.

*   *   *

مرات كثيرة حاولت أن اجمع انفعالاتي ومشاعري تجاه المطر في قصة، لكني مع كل الأسف كنت اخفق دائما مع إني احتفظ بعشرات الأوراق المسودة لمشاريع قصصية من هذا النوع. وكلما أخفقت، أقول، لا بأس سأحاول مرة أخرى علني انجح في هذه المرة، ولا تبلغ تلك المحاولة نهايتها. وكأن عشتار لا تزال تتحكم بطبيعة تلك العلاقة الجدلية بين الأرض والسماء، بين الناس والمطر، بيني وبين المطر.









5
أدب / ينبوع الخبز
« في: 13:59 30/06/2011  »


ينبوع الخبز

سعدي المالح


وعيت والطاحونة الحجرية القديمة، المقامة على تلة عند فتحة الكهريز، متوقفة عن العمل. ربما توقفت قبل ولادتي بعقد أو عقدين أو أكثر، لاأعرف بالضبط، لكن الذي أتذكره فقط هو أن جزءاً كبيراً من بنائها كان ما يزال باقيا، وتظهر بعض حجارتها ولا سيما رحاها ظاهرة للعيان من خلال جدار أمامي متداعٍ لتشهد أنها كانت ذات يوم تعمل بهمة ونشاط. ولعل هذه الطاحونة الحجرية كانت واحدة من أقدم الطواحين الحجرية في المنطقة.  
كلما مررنا بقربها، أصدقائي الصغار وأنا، دفعنا الفضول لنعرج عليها، ونتفحص بعض عدتها. نخمن أو نتعجب كيف كانت تعمل هذه أو تلك من القطع المتبقية فيها، أو  تراودنا أسئلة حيرى: كيف كان يدور هذا الحجر على الحجر الأساس ويطحن الحنطة، أو كيف كان يُسحب الماء إليها من الكهريز، ومتى توقفت عن العمل، ولماذا؟. وأحيانا  كنت أتباهى بأن جد والدي (من أمه) ججي كندلان كان طحانا في هذه الطاحونة على الرغم من أنني لم أره قط في حياتي. لكن عدداً من أفراد العائلة كان يذكر ذلك متباهيا ويحكي عنه قصصا بقيت واحدة منها عالقة في ذاكرتي.
ذات يوم قررت العمة راحيل، والدة لوقا توما (جكما) ، قريبتنا وجارتنا، أن تذهب باكراً جداً إلى الطاحونة حتى تكون أول من تطحن حبوبها وتعود مسرعة للقيام بأعمالها الكثيرة في البيت، معتمدة على أن قريبها ججي كندلان سيساعدها في ذلك. وهكذا استيقظت قبل الفجر، وظلام كثيف كان ما يزال يُخيم على القرية. حملت حنطتها على ظهرها في كيس، وتوجهت بخطى واثقة نحو الطاحونة التي كانت في تلك الأيام خارج القرية، وفي منطقة خالية من البيوت السكنية. ولأن العتمة كانت توزع عفاريتها في مكان لتحجب الرؤية وتلعب بالعقول التي ربما لم تشبع النوم بعد في ذلك الفجر، حادت راحيل عن طريقها وسارت في اتجاه بعيد من موقع الطاحونة. ولما مشت مسافة طويلة ولم تصل تلك الطاحونة الملعونة خامرها شك بأن تكون قد أضلت طريقها، فتلبسها خوف مرتعد . وفي هذه الأثناء رأت، كما روت لأهل الحي فيما بعد، مجموعة من الرجال منهمكين في الرقص في حلقة نصف دائرية يحيطون بعازِفَي طبل ومزمار، وما أن لمحوها إلا ونادوها: هيا يا راحيل تعالي وارقصي معنا. تقول راحيل: تسارعت دقات قلبي وتسرب الفزع إلى كل أجزاء جسدي ورحت أرجف! فرميت حالا حنطتي لا أدري أين، وقفلت راجعة مهرولة من شدة الهلع.
في البيت كلما قصت راحيل للناس ما تراءى لها عن الرجال في حلبة الرقص، وكيف أنهم دعوها لمشاركتهم تلك الدبكة قالوا لها: لابد أن هؤلاء كانوا من الجن والعفاريت، وكان عليك أن ترسمي إشارة الصليب ليختفوا. فتقول لهم: نسيت أن أفعل ذلك من شدة خوفي. وتبكي.
كان الخوف من العتمة واللصوص والأغراب في الأماكن البعيدة والمقفرة يولد أحيانا العديد من الرؤى والخيالات، وقيل أيضا في رجل كان يعود في ليل مظلم من أربيل إلى عنكاوا، إنه عندما وصل الوادي في منتصف الطريق خيّل إليه أن مجموعة من الناس يرقصون في حلقة بينما الطبل والمزمار يعزفان بفرح فشاركهم الرقص وواصل فترة إلى إن مرَّ به أحد أبناء القرية فرآه يرقص وحده وسأله عن السبب، فقال له: تعال انضم إلينا وارقص. لكن ابن قريته كان متماسكا فأيقظه من غفوته وأفهمه أن لا أحد هنا غيره.  
حتى تلك الآثار القديمة للطاحونة الحجرية اندثرت مع تسارع السنين. ولعل سكان عنكاوا والمنطقة أهملوا طاحونتهم الحجرية مع ظهور الطاحونة الميكانيكية، الأسرع والأسهل والأقل كلفة وجهدا، فرأيت واحدة منها في عنكاوا في أواخر الخمسينيات، كانت تقع على مشارف البيادر المقابلة لمركز الشرطة، وكانت ذات محرك يعمل على دورة مياه ويصدر صوتا يصم الآذان من مسافة بعيدة. أتذكر هذه الطاحونة وأنا طفل صغير أذهب إليها مع والدتي، فيأخذ نمرود الطحان، الذي كانت تغطي طبقة من الدقيق الأبيض شواربه ورموشه وشعره وملابسه، حنطتها وسرعان ما يضعها في الفم العلوي المخروطي من الطاحونة ليخرج الطحين ابيض ناصعا من فم اسطواني في الأسفل حيث يربط به كيسا سرعان ما ينتفخ من شدة امتلائه بدقيق يتطاير منه غبار كثيف ابيض . ولم يكن نمرود هذا من أهل عنكاوا، بل كان قد هاجر إلى العراق من قرى تياري بمنطقة حكاري في تركيا، وهو طفل أثناء الحرب العالمية الأولى في مسيرة شاقة قطعها عشرات الآلاف من أمثاله هربا من القتل. وقد استقر في بغداد أولا، ثم في كركوك، جاء بعدها إلى عنكاوا لتشغيل هذه الآلة العجيبة التي اشتراها أخوه شليمون حنا مراد من الحاكم حيدر أحد قضاة أربيل. وقصة هذه المكنة طويلة، ومختصرها، بحسب بعض كبار السن، أن أحد كهنة القرية؛ القس بولص عجمايا، كان مهتما أن يكون لعنكاوا طاحونتها حتى لا يتجشم الأهالي عناء الذهاب إلى المطاحن الموجودة في القرى الكردية القريبة أو إلى أربيل. لكن أحدا من أهل القرية لم يتشجع على القيام بهذا المشروع الذي كان يعد بالنسبة إليهم مغامرة. وذات يوم كان القس بولص يتحدث عن ذلك إلى الحاكم حيدر من أربيل الذي كانت له علاقة صداقة معه فاقترح ذاك أن يتولى هو المشروع على شرط أن يوفر له القس دونما واحدا من الأرض ليقيم عليه الطاحونة. وتمكن القس عجمايا أن يقنع أحد الفلاحين الأغنياء إلياس علي بك ببيع هذا الدونم من الأرض له. وهكذا أصبح لعنكاوا من جديد طاحونتها بحدود عام 1953، لكن الحاكم حيدر لم ينجح في إدارة الطاحونة فباعها بعد أشهر لشليمون حنا مراد. ولأن هذا الأخير كان يعمل أصلا في مركز تدريب شركة نفط العراق في كركوك لم يكن متفرغا لها فأوكل أخيه نمرود لإدارتها. وكان نمرود يرى نفسه أكثر تمدنا من أهل القرية لأنه عاش في بغداد وكركوك وخالط الانكليز وتطبع ببعض طبائعهم، بينما يعده أهل القرية متعاليا وغريب الأطوار بعض الشيء، لا سيما وأن ابنته أستر، المراهقة في تلك السنوات، كانت تلبس البنطلون وتركب دراجة هوائية!
 وراحت هذه الطاحونة تطحن الحنطة لآلاف الأفواه في عنكاوا والقرى المجاورة بجعجعة لا مثيل لها في القرية وشهرة صاحبها المثيرة للجدل.
وذات يوم امتزج هذا الطحين الذي تنتجه الطاحونة بالدم، إذ قتل على مبعدة أمتار منها شخص كان يكنى يوسف سورايا.  وليوسف هذا قصة مأساوية. ولد في عائلة مسلمة في قرية قريبة من عنكاوا وقرر أن يعتنق المسيحية بعد تحقيق مطلب له تضرع من أجله لمريم العذراء وابنها يسوع عندما كان بالقرب من مزارهما في عقار القرية وهو شاب مراهق كما أدعى. ولأن مثل هذا العمل في ذلك الوقت وفي قرية محاطة من جميع جوانبها بالقرية الكوردية المسلمة كان محفوفا بالمخاطر، لهذا أُرسِل في البداية إلى دير بعيد ونال هناك التعليم المسيحي وعمّد. ثم بعد سنوات عاد إلى عنكاوا شابا مكتملا باسم يوسف. عمل في البداية فلاحا أجيرا عند أكثر من عائلة. ثم في الأربعينيات التحق بقوات الليفي في بغداد، وعندما رحع إلى عنكاوا تزوج من شيرين الراهبة التاركة لسلك الرهبنة ( أخت سيدي الخادمة في بيت بويا قاقوزا) والأختان من أصل تلكيفي، وعمل فلاحا في بيت إلياس علي بك، وصار الجميع يسميه يوسف سورايا، أي السرياني.  قبل اغتياله بسنة تقريبا مرضت زوجته وعادت إلى الدير فتوفيت هناك. أما هو فبقي وحيدا إلى جانب كلبه الأبيض والأمين سيمون الذي كان شديد التعلق به. وكان سيمون يرافقه دائما، ومن شدة حبه له واهتمامه به كان يغسله بين فترة وأخرى بالماء والصابون حتى أصبح ذلك الكلب مضربا للمثل لأن يوسف نفسه ربما لم يكن يغسل جسمه بالصابون بهذه الكثرة. وكان هناك على مبعدة أمتار منه حارس على بناية المدرسة الابتدائية التي كانت في طور الإنشاء يدعى سولبك، يقال أن سولبك هذا اختلف مع يوسف وتوعده بقتله، ويقال أيضا أن بعض الأشخاص الذين كانوا يكنون العداء لعائلة سيده حرضوا سولبك، وهو كوردي مسلم، على قتله باعتبار أن يوسف هذا يُعد مرتداً بالنسبة لسولبك فكمن له ذات يوم وقتله في كوخ ملاصق لهذه الطاحونة حيث كان يحرس بستانا لسيده.
لحق سيمون بجنازة يوسف حتى المقبرة في التلة المسماة قصرا، وظل يدور هناك بين الناس إلى أن وري صاحبه التراب وتفرق الناس. إلا أنه هو لم يغادر، فجثم فوق القبر لا يبارحه. استمر هذا الوضع أياما وليال حتى أثار انتباه بعض أهالي المنطقة، رأفوا بحال الكلب المسكين وقدموا له بعض الأكل تعاطفا مع مشاعره. بيد أنه لم يقترب من الأكل وظل على حاله جاثما فوق القبر يشم رائحة صاحبه إلى أن وجد ذات يوم ميتا فوق القبر.
وكلما جاء ذكر يوسف هذا قالت أمي أنه مات شهيدا وتشبهه بحبة الحنطة التي تقع على الأرض وتموت لتأتي بثمر كثير. فكنت أتعجب من أين لها هذا الوصف. ولم أكن أعرف في ذلك الوقت أنها تستعير كلمات الانجيل:" "الحق الحق أقول لكم: إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُتْ، فهي تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يوحنا12: 24). وعلمت فيما بعد أن الحنطة كانت مضربا للمثل بالموت من أجل الآخرين والشهادة في المسيحية، والسيد المسيح نفسه استخدم الحنطة في الكثير من أمثاله، كما في مثل الزارع "فكلمهم كثيرا بأمثال قائلا هوذا الزارع قد خرج ليزرع. وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق. فجاءت الطيور وأكلته. وسقط آخر على الأماكن المحجرة حيث لم تكن له تربة كثيرة. فنبت حالا إذ لم يكن له عمق ارض. ولكن لما أشرقت الشمس احترق. وإذ لم يكن له أصل جف. وسقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه. وسقط آخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمرا بعض مئة وآخر ستين وآخر ثلاثين" (متي 13: 2 ـ 23، مرقس4: 3ـ 20). ومثل الحنطة والزؤان "قدم لهم مثلا آخر قائلا. يشبه ملكوت السموات إنسانا زرع زرعاً جيداً في حقله.  وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زؤانا في وسط الحنطة ومضى. فلما طلع النبات وصنع ثمراً حينئذ ظهر الزؤان أيضا  فجاء عبيد رب البيت وقالوا له يا سيد أليس زرعا جيدا زرعت في حقلك. فمن أين له زؤان. فقال لهم. انسان عدو فعل هذا. فقال له العبيد أتريد أن نذهب ونجمعه. فقال لا، لئلا تقلعوا الحنطة مع الزؤان وأنتم تجمعونه.  دعوهما ينميان كلاهما معا إلى الحصاد. وفي وقت الحصاد أقول للحصادين اجمعوا أولا الزؤان واحزموه حُزماً ليُحرق. وإما الحنطة فاجمعوها إلى مخزني" (متي13: 24ـ 30) ومَثل البذار التي تنمو من ذاتها، وقال "هكذا ملكوت الله كان اِنسانا يلقي البذار على الأرض وينام ويقوم ليلا ونهارا والبذار يطلع وينمو وهو لا يعلم كيف. لأن الأرض من ذاتها تأتي بثمر. أولا نباتاً ثم سنبلاً ثم قمحاً ملآن في السنبل. وأما متى أدرك الثمر فللوقت يرسل المنجل لأن الحصاد قد حضر" (مرقس4: 26ـ 29). والرجل الغني الذي أخصبت كورته (لوقا 12: 16ـ 21). كما استخدم الرسول بولس حبة الحنطة التي تزرع في الأرض فتنمو في شكل جديد رمزاً لقيامة الأجساد (1كو15: 37).
وتقول ترتيلة مسيحية: إني حبة القمح ذقت الموت كي أحيا..قلبي من طعن الرمح أسقى حبه الدنيا.. قوتاً روحياً حيّا. وقال مار أغناطيوس الأنطاكي ، ثالث بطاركة الكنيسة السريانية الغربية الذي سيق سنة 107 ميلادية إلى  ساحة روما وألقي للحيوانات المفترسة في إحدى رسائله مشجعا المؤمنين على التمسك بالايمان :" أنا هو القمح الإلهي الذي ستطحنه أنياب الحيوانات المفترسة إلى دقيق كي أصبح خبزا صافيا للمسيح".
بينما يشبه الشاعر الرهاوي قوريللون ( أواخر القرن الرابع / أوائل القرن الخامس) مراحل الحياة الأرضية للمسيح بحبة القمح ابتداءً من طمرها في التربة وانتهاءً بتحويلها إلى خبز.
مار أفرام الملفان من القرن الرابع يقول " الخبز السماوي لم ينقذ العالم بل القربان المقدس " والقربان كما هو معروف مصنوع من القمح.
كل هذه الأهمية والمكانة التي منحت للخبز تاريخيا وترسخت في الثقافة الجمعية للأصلاء من أهل المنطقة، وكذلك الحاجة الماسة إليه للأكل وكمورد رزق أيضا، وخصوبة الأرض وملاءمتها لزراعته، جعلت منه مادة محاطة بهالة من القداسة، حتى أضحت مسألة رمي الخبز التالف أو سقوط بعض كسرات منه على الأرض أقرب إلى جريمة أو خطيئة. وعلى هذه الأفكار والممارسات تربيت وتربى جيلي، فكانت الحبوب نبض الحياة الدائم من الصباح إلى المساء.
أذهب إلى بيت جدي أجد عنبرا كبيرا وعدة عنابر صغيرة للحنطة لها فتحة أمامية مسدودة بحاجز فخاري تخزن فيها الحنطة للاستعمالات اليومية في الشتاء، أما في الصيف فأخرج في أي طرف من القرية أرى بيادر الحنطة منتشرة حولها من كافة الأطراف. أخرج بين الحقول إما تجوالا أو لمذاكرة دروسي المدرسية في الربيع فأقطف أكثر السنابل امتلاء وآكل ما أشاء من حبوب الحنطة الخضراء الطازجة التي تذوب في الفم. وعندما تنضج هذه الحبوب أكثر وتصبح ما نسميه الفريكة أجمع حزمة من هذه السنابل لشويها بإشعال النار مباشرة في شعيراتها واطفائها بسرعة قبل أن تحترق حبوبها، ويكون ذلك ألذ وأطيب. وعندما يأتي بائع العنب أو الرمان أو التين إلى القرية تقول لي جدتي خذ هذا اللكن ( صحن معدني) واذهب إلى البيدر وأملأه بالحنطة من الكومة الفلانية وقايضه بما عنده هذا البائع، فأركض بسرعة وأعود حاملا "لكناً" مليئا بالعنب أو الرمان أو أي فاكهة أخرى.  
وبعدما تحصد الحنطة وتدرس وتصفى وتصبح جاهزة للاستعمال تأخذ كل عائلة كمية من أفضل حنطتها لتسلقها في قدر كبير جدا ينصب على قاعدة ويلقم بنار متواصلة وقودها القش  أو التبن أو روث البقر إلى أن تسلق وتسمى بالسليقة فيأتي أطفال المحلة حاملين طاساتهم ليأخذوا حصتهم من هذه السليقة الطيبة. وكنت أتلذذ كثيرا بتلك السليقة اللذيذة. ومن هذه السليقة بعد تجفيفها تصنع أنواع البرغل والحبية.
بينما الأهم من هذا أن ترى كيف تتحول حبات القمح إلى دقيق أبيض في الطاحونة. لكن طاحونتنا توقفت بعد سنوات وهمد صوتها إلى الأبد بعد أن قطع نمرود أصابع إحدى يديه سهوا فيها ولم يعد قادرا على ممارسة عمله على النحو المطلوب بيد واحدة.. وهكذا عادت عنكاوا إلى محنتها لتعيش من دون طاحونة من جديد. وبدأ أهلها يأخذون حنطتهم إلى طاحونة قريبة تقع في منطقة خالية في الشمال الشرقي من أربيل، ولهذا كانت تسمى بطاحونة العراء أي ( جول) بالكردية، وكان الناس أما يذهبون بأنفسهم إلى الطاحونة أو يسلمون حنطتهم لرجل من القرية يدعى صليوا فيأخذها في عربة يجرها حمار في الصباح الباكر ليعيدها مساء مقابل بضعة دراهم أو حصة من الدقيق . وهكذا كان تفعل والدتي.
ولا أدري في تلك السنة كيف ولماذا اختلفت أمي مع ذلك الرجل، فلما نفد الطحين من البيت وغدت مضطرة لأن ترسل حنطتها إلى الطاحونة نادتني وقالت لي:
- يا ابني لقد كبرت وأصبحت قد الحمار، يكفيني أعلفك وأعلف إخوانك يوميا ولا فائدة ترتجى منكم!
 لم أتعجب من لهجتها لكن ما أثار شكوكي أنها لن تقول لي هذا الكلام الآن لو لا خطة ترسمها في مخيلتها. فقلت معاتبا:
-   لكننا يا أمي ندرس ولم نقصر في دروسنا وسنفيدكم مستقبلا.
وسرعان ما واجهتني:
-   المستقبل بعيد، ومن يدري هل سأعيشه أم لا، سأستعير الآن حمارة الجيران وأحمّلها كيس الحنطة هذا- مشيرة بيدها إلى كيس كبير من الحنطة مطروحا على الأرض في الحوش- وتأخذه إلى الطاحونة!
انتابني قلق مفاجئ:
-   كيف أذهب إلى الطاحونة وحدي، لا أعرف الطريق إليها أولاً، ولا موقعها ثانياً، ثم إنها بعيدة وفي منطقة غير مأهولة.
لم تسمح لي أمي بمزيد من الكلام ، فقبل أن أنهي تبريري رأيتها تختفي بسرعة وتعود وهي تقود حمارة الجيران، وتطلب مني مساعدتها لتحميل الكيس على ظهر الحمارة، ثم تناولني عصا صغيرة وبضعة دراهم وزوّادة للطريق وتشير بيدها:
-   هو ذا الطريق أمامك، والحمارة نفسها تعرفه، لن تقف بك إلا عند الطاحونة، طريق العودة هو نفسه.
تأكدت من أن لا مجال لأي نقاش أو اعتراض، ولا محالة من تنفيذ الأمر. تناولت العصا والزوادة ولكزت الحمارة فلم تتحرك. رفعت العصا قليلا ونهرتها به فأطاعت وسارت نحو الطريق الذي تعرفه. لكن أمي صاحت ورائي:
-   انتبه، إياك أن تقتل الحمارة بعصاك، تذكر إننا يجب أن نعيدها للجيران سليمة.
نهرت الحمارة نهرة أقوى من سابقتها، عناداً لأمي، فتراكضت الحمارة في الطريق وأسرعت أهرول وراءها.    
 في الحقيقة ، بالرغم من ممانعتي، كنت أرغب في خوض هذه التجربة والذهاب إلى الطاحونة وحدي وكنت أشعر بزهو خاص إزاء أداء ذلك العمل الذي يدل على الرجولة والاستقلالية وأنا في الثانية عشر من عمري، فكنت وأنا أسير خلف الحمارة أفكر كيف إنني سأقص لزملائي أخبار هذه الرحلة الممتعة في يوم ربيعي بين الحقول الخضراء، وكيف أديت هذا العمل الكبير وحدي.
في حوالي منتصف الطريق مال كيس الحنطة المثبت فوق ظهر الحمارة إلى طرف اليمين فأسرعت إليه أحاول رفعه قليلا وموازنته إلا إنني لم افلح من القيام بتلك المحاولة لرفعه أكثر مما يجب بحيث جعلت التوازن يختل ثانية وينقلب الكيس في الجهة الأخرى اليسار، ويسقط على الأرض. حاولت رفعه من على الأرض وإعادته إلى ظهر الحمارة فلم أتمكن من رفعه إلا قليلا، كان ثقيلا بما فيه الكفاية. أوقفت الحمارة على طرف الطريق وجلست على الكيس لا ادري ماذا أفعل. بكيت أولا ورحت أعاتب والدتي على تحميلي ما لا أقدر عليه وتعريضي لمثل هذه الورطة. ثم فكرت أن الطريق عادة لا يخلو من المارة فلا بد أن يطرقها غيري. بعد انتظار قصير حسبته دهرا رأيت قافلة صغيرة قادمة، وما أن بلغتني أدرك رجالها إنني في ورطة، فهبوا لمساعدتي، وحمّلوا الكيس على ظهر الحمارة واقترحوا علي مرافقتهم حتى الطاحونة.
كانت الطاحونة عبارة عن بناء طيني قديم يشبه خانات الطرق معبأ بغبار ابيض كثيف يقبع داخله جهاز حديدي يصدر صوتا قويا ورتيبا لا يسمح لأي كان أن يسمع الآخر مهما صرخ. وإلى جانب هذا البناء مربط للدواب من حمير وبغال وأحصنة.
قضيت ساعات طويلة في الطاحونة، تحدثت مع أناس لا اعرفهم، تجولت بين الحقول المحيطة بالبناء، واستمعت كثيرا إلى صوت الطاحونة المرتج والرتيب وراقبت طيورا تطير في سماء المنطقة أسرابا وفرادى، أكلت بعض الحشائش. وعندما جاء دوري وقفت أشاهد كيف ينتفخ الكيس المعلق في فم الطاحونة بالدقيق الأبيض، ثم سحبت الكيس إلى الخارج وحملته بمساعدة آخرين على ظهر الحمارة التي توجهت من تلقاء نفسها نحو الطريق التي جاءت منها.
بعد الظهر عدت إلى البيت ومعي كيس الطحين، فرحت والدتي كثيرا وقالت لي: الآن أصبحت رجلا يُعتمد عليك، تعال أصب لك الأكل قبل أن يبرد.
جلست ونفشت ريشي كديك منتصر، فلاحظت والدتي ذلك نهرتني وقالت: لا تتباهى كثيرا وإلا فقد عملك قيمته.  أكلت صامتا لكن في داخلي كنت انفش ريشي مثل طاووس فقد أصبحت مساهما في صنع الخبز الذي نأكله.
والخبز عندنا يصنع في التنور الطيني منذ القدم. مئات التنانير اكتشفت في الخرائب البابلية والآشورية تثبت أن أجدادنا القدماء كانوا أوائل من صنعوا خبزهم في التنانير. وأصل الكلمة (ܬܢܘܪܐ تنورا) سرياني وتنحدر من جذر ( ܬܢܐ- تنا) التي تعني الدخان و (ܢܘܪܐ- نورا) التي تعني النار، والتنور فعلا هو الأتون أي موقد النار. و"المنجد في اللغة والأعلام" يرجع الكلمة إلى أصلها السرياني. ومنها أيضا كلمة "التنورة" اللباس النسائي الذي يلبس من الخصر إلى الأسفل لتشبهه بالتنور. وتسمية هذا الثوب بالتنورة معروفة فقط في بلدان المشرق العربي التي سادت فيها اللغة السريانية سابقا بينما تسمى في مصر "جونيلة" المستعارة من الايطالية، و في بلدان المغرب العربي " Jope " المستعارة من الفرنسية.
وليس غريبا أن يخترع قدماء العراقيين هؤلاء التنور، فقد كانت أرضهم المحصورة بين الزابين الأعلى والأسفل شمالا وجنوبا، وحتى نهر دجلة غربا، على الأرجح، هي الموطن الأول للحبوب في بلاد ما بين النهرين، في الأقل هذا ما يشير إليه نص سومري قديم.  وكان السومريون يرون أن الإله آن ( إله السماء) هو الذي أنزل الحبوب من السماء تحت التسمية الإلهية "أشنان" التي غدت فيما بعد آلهة الحبوب، وكانت تتفوق على آلهة الماشية:
"في ذلك الزمان ،
كان البشر لا يأكلون سوى العشب
كما يفعل الخرفان
عند ذلك
أنزل (آن) الحبوب من السماء"
ويبدو أن الحبوب أصبحت ذات أهمية بالغة في العهد السومري، فقد حولت مجتمعهم الرعوي البدائي إلى مجتمع زراعي. وهذا التحول جعل الشعراء يتغنون بالحبوب كثيرا ويشبهون نساءهم بها أو بالعكس، فيصف نشيد سومري نينورتا بـ " البذرة المخصبة!"
وفي قصيدته يشبّه شاعر آخر الحبوب بفتاة جذابة: "إله الصيف جعل أشنان تنمو بشكل رائع كفتاة جذابة".
من جهته يخاطب دموزي حبيبته إينانا مشبها صدرها بحقل فسيح يسكب الحبوب. فيقول لها:
"صدرك يا اينانا هو حقل
حقل متسع ينتج الزروع
حقل فسيح يسكب الحبوب"
وفي  قصيدة أخرى يستجيب الفلاح أنكيميدو لدعوة العرس المقدمة من دموزي، ويقدم لها الطحين من بين هدايا العرس:
"سوف أحمل إليك الطحين
وأجلب لك البيقة
سوف أجلب لك العدس"
وشاعر آخر يصف صوامع الحبوب فيقول:
"صوامع لا تتوقف عن سكب الحبوب
عنابر ممتلئة حَبّاً."
ولهذا كانت الحاجة إلى اختراع التنور لصنع الخبز وحفظه. وللخبز المرقوق المصنوع في تنور الطين نكهة تختلف عن المصنوع على الساج مثلا، ناهيك عن المصنوع في الأفران العصرية. لقد صورت عملية صناعة الخبز المرقوق في التنور في قصة قصيرة لي تحت عنوان " حرس قومي" في مجموعتي " حكايات من عنكاوا". ولا يزال التنور التقليدي هذا مستعملا في بعض القرى السريانية الكلدانية الآشورية. وخبز التنور هو ألذ خبز آكلته في حياتي، لكني لا أنكر أن في آسيا الوسطى مئات الأنواع من الخبز المصنوعة معظمها في المواقد الطينية والحجرية، فعندما يذهب المرء إلى سوق شعبي في طشقند أو سمرقند أو أية مدينة أخرى يحتار أي نوع الخبز يختار فكل الأنواع لذيذة ومشهية ومصنوعة من القمح.
والتنور هذا بعد الانتهاء من صنع الخبز فيه يبقى حارا متوقدا مليئا بالجمر فيستغل لتحضير الهريسة في جرار فخارية: لحم بعظم وحبية أو لحم بعظم وحمص، لتوضع في داخل التنور لكي يستوي الأكل فيها على نار هادئة حتى الصباح.  
أما الخبز الإفرنجي الذي يسميه العراقيون "الصمون" نسبة إلى سيمون الفرنسي الذي كان أول من صنعه في العراق، فلم نعرفه إلا مؤخرا، في الستينيات من القرن الماضي. وكانت البداية من خلال النوع الأسمر منه الذي كان يجلبه العم إلياس من معسكر الجيش القريب في أربيل. كان العم إلياس يعمل كناسا في المعسكر وكان يجمع ما يتبقى من الصمون العسكري من هنا وهناك ويأتي به إلى القرية ليبيعه مقابل بضعة فلوس يوميا. كان البعض ينتظر العم إلياس ليمر بالمحلة ويشتري منه صمونه العسكري الأسمر اليايس. أما نحن الأطفال فكنا نلتهم هذا الصمون وكأنه كعك لذيذ. ثم فتح فرن للصمون الحكومي في القرية. لكن مع ذلك لم يتردد الكثير من الناس على خبز "الحكومة" في البداية، إلا من كان مضطرا، أو بعض النساء المتمدنات كالمعلمات والممرضات والموظفات اللواتي وجدن فيه فرصة للتخلص من صنع الخبز في البيت. فالخبز المحلي المصنوع في تنور البيت كان يضاهى وينافس كل أنواع الخبز. ولم آكل أنا شخصيا للآن خبزا أطيب وألذ من ذلك الخبز المرقوق الحار الذي كانت تخرجه أمي بعجالة من فم التنور وترميه لي قائلة: كُل... هنيئا.


6
أدب / كنيسة مار كوركيس
« في: 10:41 14/06/2011  »
كنيسة مار كوركيس

سعدي المالح

كنت أذهب إلى الكنيسة كل يوم لحضور القداس الصباحي، وأحيانا في المساء أيضا لحضور صلاة الرمش (العصر). فأدخل من باب خشبي بدرفتين كبيرتين تعلوه صورة للقديس مار كوركيس، شفيع القرية الذي شيدت الكنيسة على اسمه، ممتطيا صهوة جواد أبيض وهو يصوب رمحه نحو تنين ضخم في الأسفل.  ينفتح هذا الباب على فناء طيني تتوزع فيه على غير انتظام قبور مبنية بالاسمنت. اتجه يمينا أسير على شريط من الأرض مرصوف بالحجارة والاسمنت نحو باب الرجال. وما أن ألج هذا الباب أنزل درجة أو درجتين على أرض من المرمر الأبيض حتى ألتفت إلى اليمين لأغمس رؤوس أصابع يدي اليمنى قليلا بـ"الماء المقدس" في طاسة مثبتة على الحائط،  وأرسم على وجهي إشارة الصليب. ثم أتقدم إلى أمام فأنزع حذائي وأصعد درجة وأجلس في ذلك المكان المرتفع قليلا الذي يقع بين القسطرون والبيم حيث يجلس الأطفال عادة على أرضية مفروشة بسجادة نظيفة. ولم تكن الكراسي في ذلك الوقت متوفرة إلا في القسم المخصص للرجال، حتى النساء كن يجلسن على الأرض، وأحيانا تجلب بعض النساء المترددات إلى الكنيسة باستمرار معهن مطارح صغيرة لجلوسهن.
أنظر إلى أمام يواجهني تمثال للسيد المسيح وعلى الحيطان تماثيل وإيقونات وصور للقديسين بأحجام كبيرة، ومصابيح نفطية (لمبات ولوكسات) وثريات شموع ضخمة تحتوي على مئات الشموع تتدلى من السقف، وأخرى صغيرة تضم شموعا قليلة أمام بعض الإيقونات، والمكان كله قد امتلأ  برائحة البخور والشموع تخيم عليه رهبة مهولة. وأكثر ما كان يعجبني من هذه الشموع رائحتها وهي تنطفئ وطريقة إطفائها من قبل الساعور العم سيدا الذي كان يرفع نحوها عصا طويلة ثبّتَ في رأسها قمعا مخروطيا، يضع هذا القمع للحظات فوق الشمعة المشتعلة لتنطفئ من تلقائها فينقله إلى شمعة مجاورة وهكذا، تنتشر رائحتها في أرجاء الكنيسة لتختلط بعبق البخور. وكنت أرى أيضا كيف يشعل هذه الشموع بمشعل مربوط برأس عصاه هذه، والمشعل كان عبارة عن "فندا" وهو شمع داكن رفيع كثير الخيوط مصنوع على شكل أُملود. (وفندا كلمة سريانية وتعني الغصن الصغير). يرفعه نحو الشموع فيشعلها شمعة شمعة. كنت أجلس مثل بقية الأطفال اسمع القداس وأصلي مردداً مرة تلو أخرى " أوون د بشميا نث قداش شماخ تئيثى ملكوثاخ...."(1) و" شلاما ألّخ مَريم مْليثا نَعْمى...." (2)، كلما دق الجرس أسجد مثل بقية الأطفال أو أقوم واقفا. وأحيانا في مرحلة ما من القداس يحجب عنا المذبح بستارة ضخمة حمراء قانية بواسطة حبل يجره أحد الشمامسة فنسمع أصوات القس والشمامسة من ورائه مرتلين فترة إلى أن تفتح بعد حين بحبل آخر. كان نظام الفتح والإسدال الميكانيكي/ اليدوي المشترك هذا يثير فضولي لمعرفة كيف يتم ذلك، واستغرب أيضا لماذا يجري ذلك، وأنا لم أكن أعرف أن هذا التقليد الذي أُلغي اليوم من الكنائس الكلدانية كان شائعا لمئات السنين في كنيسة المشرق. كان بهو الكنيسة مقسما إلى ثلاثة أقسام؛ في الوسط مذبح رئيس تعلوه قبة كبيرة وفي اليمين واليسار مذبحين صغيرين تعلوهما قبتان صغيرتان. ويستند السقف على ثمانية أعمدة اسطوانية قديمة ضخمة مزروعة بانتظام في وسط الكنيسة، فكنت لا أتردد من عدها بين فترة وأخرى وكأني كنت أخاف أن تختفي ذات يوم؛ صفان متساويان من الأعمدة كل منهما تصطف فيه ستة أعمدة متوازية.
بين فترة وأخرى كنت أقف في الدور أمام منبر الاعتراف الكائن في الطرف الشمالي من بهو الكنيسة، بين المكانين المخصصين للنساء والرجال تقريبا. وكان عبارة عن كابينة خشبية صغيرة من دون باب تكفي لجلوس شخص واحد، وقد فُتِح شباكان على يمينها ويسارها وغطّيَ كل شباك بما يشبه المشربية الخشبية. أرى من مكاني العجائز يرددن صلواتهن بصوت مسموع تقريبا ويضربن بأيديهن التي تتدلى منها المسبحات على صدورهن. كنت أفكر مع نفسي ماذا عملن هؤلاء النسوة لكي يتضرعن هكذا إلى الرب ليغفر ذنوبهن!  أقف في الدور وأنا أُعد مع نفسي خطاياي التي سأعترف بها للقس: حلفت بالله ثلاث مرات.. كذبت على أبي مرة... لم أنفذ طلبا لأمي قبل أيام...شتمت زميلا لي في المدرسة عندما ضربني. أفكر، ماذا بعد؟ لم أسرق، لم أعتد على أحد، هذا كل شيء. لكنه سيسألني: منذ متى لم تعترف؟ أعد الأيام والأسابيع، ثلاثة أو أربعة أسابيع. تقفز حكاية تلك المرأة التي يحكي عنها أهل عنكاوا عندما سألها القس عن آخر موعد اعترفت فيه. قالت: يا أبونا منذ ذلك اليوم الذي طبخنا فيه الكبة! أضحك مع نفسي. أمي لم تطبخ الكبة منذ زمان بعيد، كانت المرة الأخيرة عندما جاءنا ضيوف من بغداد، ليأت الضيوف كل يوم وأنا مستعد أن أعترف للقس يوميا دون أن أنسى موعد الاعتراف السابق!  يأتي دوري، أتقدم نحو الشباك، أسجد على ركبتي، بالكاد يصل رأسي مقابل الشباك الذي يجلس القس وراءه داخل الكابينة على الكرسي. أتلو صلاة الاعتراف: آنا كمودن قم خا آلاها ، قامت مارت مريم ديلا دايم بثولتا، قامخ يا ستادي مولباني، سبب حطيلي كبيرا، خوشاوت لبي ، محكيثت كمي، خيارتت أيني، شماءت نثياثي، كناهي كبيريلي، حطيلي، حطيلي، حطيلي.....(3). ثم أتوجه للقس: باركني يا أبتي لأني أخطأت. يسألني القس: منذ متى لم تعترف؟ اتذكر حكاية الكبة، أخفي ضحكتي في داخلي وأقول: منذ ثلاثة أسابيع أو أربعة. يطلب مني أن أسرد له خطاياي. أبدأ بسردها مثلما كنت قد أعددتها في ذهني وأنا واقف في الدور. يرفع القس يده هامسا ببعض الصلوات دون أن اسمعها جيدا، ثم يقول لي: مور عوادت بشمنتا كامل (قل فعل الندامة). أقرأ له عن ظهر قلب: عوادت بشمنتا كامل، يا ماري ويا آلاهي ، بيد ديوت مارت طاوثا كامل .....(4) يقول لي القس: أذهبْ يا بني وصلِّ ثلاث مرات "أبانا الذي في السموات..." وثلاث مرات "السلام عليك يا مريم...". أذهبُ وأجلسُ مكاني حيث الأطفال أصلي الواجب، ثم بعض صلوات التناول والشكر إلى أن يحين موعد تناول القربان المقدس.  لكن مشكلتي مع تناول القربان كانت أنه كلما وضع القس البرشان (خبز القربان) في فمي التصق بسقف حلقي وجعلني أعيش موقفا حرجا. أخجل أن أدخل أصبعي في فمي لتحريكه فأنكس رأسي وأظل أحرك لساني مرة تلو أخرى إلى أن يذوب فأبلعه.  
ذات يوم أعدت إلى ذاكرة أحد أصدقائي ذلك كله، وما كنا نقوم به ونحن صغار وأبرياء، نعترف بخطايانا ونصلي للرب بورع من أجل أن يغفر لنا تلك الهفوات البسيطة، بينما في الكبر وبعد أن اقترفَ الكثير منا خطايا كبيرة وثقيلة تخلت الكنيسة في كثير من المناطق عن هذه العملية وتركت الشخص الخاطئ يعترف لنفسه، بينه وبين ربه. ضحك صديقي وقال: لماذا لا تقترح تبني طريقة الاعتراف هذه كواحدة من الحلول في عملية الإصلاح السياسي والاجتماعي في العراق!؟ ليذهب كل مسؤول ظالم أو فاسد أو مرتش أو سارق ويعترف أمام ربه بما اقترف من ذنوب وخطايا في حياته، ليسمع ماذا سيكون رد فعل ضميره. وعدته أن أكتب عن هذا الاقتراح مع ثقتي بأن ضمائر هؤلاء قد تحجرت منذ زمن لا يفيدها أي اعتراف أو بالأحرى ليست مستعدة للاعتراف بخطاياها من تلقاء نفسها أللهم إلا إذا حوصرت بين جدران أربعة!
في أيام الجمع التي يقام فيها درب الصليب، وهي الجمع التي تقع خلال صوم الخمسين، كانت تشهد هذه الكنيسة مشاهد تصور الآلام التي تعرض لها السيد المسيح، فيجول موكب بمحاذاة جدران الكنيسة يتقدمه القسس والشمامسة وفي الأخير نحن الصغار حاملين الشموع في أيدينا. كنت دائما بين هؤلاء الصغار أحمل شمعتي أثناء مرورنا بأربع عشر صورة تمثل كل منها مرحلة من مراحل الآلام التي اجترحها السيد المسيح في درب الصليب الذي حمله إلى الجلجلة. يقف الموكب أمام كل صورة بعضا من الوقت فنردد نحن أمام كل صورة مقطعا من:" كليثاوا خي صلّابى... يمت كيوى حشى رابى.. دمئا مأينا بجرايا....." (5). كانت هذه العملية تطول نحو ساعة ونصف تجعلنا نحن الصغار نشعر بالملل والتعب، وأكثر ما كنت أخافه أثناء حملي للشمعة المشتعلة هو أن أغفى وأشعل رأس الصبي ذو الشعر الكثيف الذي أمامي أو أن أميل الشمعة جانبا ويسيل الشمع المائع على يدي ويحرقها.  
وفي يوم الجمعة العظيمة آتي إلى الكنيسة فأراها متشحة بالسواد، كل الصور والتماثيل والإيقونات تكون مغطاة بقماش أسود حزنا على صلب السيد المسيح ووفاته، وتكون التراتيل في هذا اليوم هي الأخرى حزينة، مثل "نقوم شبير"(6) التي ترتل بلحنها الجنائزي الاحتفالي و"خيثت صليوا كبخيا .. مريم دمئى كمجريا..."(7)  وغيرها، فتصدح أصوات الشمامسة مدوية في القاعة تدخل الأسى في القلوب، إلا أن هذه الأجواء الحزينة تنقلب إلى فرح في ليلة السبت على الأحد، سبت النور وليلة قيامة السيد المسيح إذ ينادي القس اثناء القداس "قام المسيح" يجيبه الشعب: "حقا قام" فترتفع أصوات النسوة بالهلاهل ويصفق الجميع من أماكنهم، حينئذ يبدأ العم سيدا الساعور برفع الأوشحة السود عن الإيقونات والصور والتماثيل فيرفع عصاه الطويلة تلك الذي ثبت في رأسها هذه المرة ما يشبه الكلاب ويرفع به القماش الأسود ويزيحه جانبا. فتشتعل الكنيسة بالأنوار والفرح والبهجة والتراتيل المفعمة غبطة وسرورا.
واحدة من أجمل ذكرياتي في هذه الكنيسة كان يوم غسل أرجل التلاميذ في خميس الفصح، العملية التي يقوم بها الكاهن تقليدا لقيام السيد المسيح بغسل أرجل تلاميذه. وكان في تلك الأيام عادة يتم اختيار 12 تلميذا من تلاميذ المدرسة لهذا التقليد. وفي تلك السنة وقع الاختيار علي فشاركت مع 11 تلميذا آخر بهذه الاحتفالية. وطبعا كان علي الذهاب عصر كل يوم إلى الكنيسة للتدريب على التفاصيل والصلوات الخاصة المطلوبة بالمناسبة. وأيضا كان علينا أن نكون نظيفين جدا وخاصة أقدامنا لأن الكاهن سوف يقبلها بعد الغسل مثلما فعل المسيح مع تلاميذه. ولأن موعد هذا التقليد يأتي مع الربيع فعادة ما تكون طرقات القرية كثيرة الأطيان والأوساخ بسبب الأمطار والمياه المتجمعة فيها. فكلما دخلت البيت ورأتني أمي متسخا وبختني وقالت: كيف سيقبل القس رجلك وأنت بهذه الوساخة؟ اذهب واغسلهما فورا. كانت تنتهز الفرصة لإرغامي على دخول الحمام. وأنا خوفا من أن لا يحدث أمر لا تحمد عقباه قبل يوم غسل الأرجل أدخل الحمام وأغسل رجلي جيدا على نحو ترضى به أمي. ولو كنت عددت المرات التي غسلت فيها رجلي في تلك الأيام لازدادت على جميع المرات التي غسلتهما فيها منذ ولادتي! لكن حفلة الغسل الكبرى كانت في الساعات القليلة قبل الاحتفال إذ أمسكتني والدتي وأدخلتني الحمام فغسلتني بالليفة والصابون ثم حكت رجلي بـ"حكاكة" من حجر البازلت الأسود حتى جلختهما، وبعد أن ألبستني ثوبي الأبيض الخاص بالمناسبة شمّتني جيدا، وبعد أن ارتاحت لرائحتي قالت: الآن رائحتك طيبة، اذهب سآتي لأراك في الكنيسة.
كانت كنيسة مار كوركيس هذه ذات هيبة وسطوة رهيبة من الداخل مثلما كانت من الخارج؛ بناء أثري ضخم مشيد على نمط الكنائس المشرقية آنذاك، محاط بسور عال، ذي باب خشبي كبير مرصع بمسامير ضخمة. وكنت في طفولتي شاهدا على تغيير هذا الباب التاريخي وتبديله بباب حديد لا صلة له بتراث الكنيسة. بينما كان بناء الكنيسة الأساس لا يزال يحمل الكثير من طابعه القديم. قبة كبيرة رئيسة يعلوها صليب وعلى يمينها وشمالها قبتان صغيرتان، وفي زاوية المبنى برجا عاليا يُرى من بعيد ، يتدلى من أعلاه ناقوس كبير يطل على تل قصرا الدائري الذي تتوزع عليه أكثرية قبور موتى القرية.  
ما أن تدخل من الباب الخشبي الكبير لفناء الكنيسة إلا وتواجهك في الإيوان أقواس كبيرة من المرمر تستند على أعمدة اسطوانية ضخمة ذات طراز روماني، ترى من خلالها بابين الأول على اليمين لدخول الرجال والثاني في الوسط لدخول النساء. بينما تتناثر مجموعة من القبور في الطرف الأيسر من الفناء الفسيح أمام باب داخلي آخر على اليمين يؤدي إلى صالة مار يوحنان المخصصة لإجراء مراسيم العماد حيث جرن العماد الحجري، وكانت تستخدم أيضا لتكليل العروسين بحضور الأهل والأقارب وسط زغاريد وهلاهل، بينما يقوم أصدقاء العريس بوخزه بالإبر في مؤخرته أحيانا على جري العادة فيجفل المسكين دون أن يتمكن من أن ينبس ببنت شفة. ويرى الداخل في فناء الكنيسة على يمينه مباشرة مبنى حجريا قديما، يبدو من الوهلة الأولى أقدم من بناء الكنيسة نفسه. في أسفل هذا البناء قبو، مقفل دائما يسمى بيت الشهداء لاحتوائه على ذخائر الشهداء، وهي بقايا دماء متيبسة وعظام لشهداء من المنطقة في عصور غابرة، وكان يستعمله الساعور أيضا لحفظ الخمر المستعمل في القداس الذي يرمز إلى دم المسيح. تعلو هذا القبو غرفتان على اليمين وعلى اليسار تصعد إليهما بدرج حجري قديم مخصصتان للقُسُس والأعمال الإدارية، وفي هاتين الغرفتين كانت تحفظ بعض الكتب والمخطوطات ودفاتر تسجيل العمادات والزواج والوفيات وربما بعض الأحداث التي عصفت بالقرية. وثمة باب من هناك يخرج إلى باحة خلفية للكنيسة تصطف فيها قبور عديدة على بعضها شواهد حجرية أو إسمنتية. وفي الباحة الصغيرة لهذا البناء الحجري القديم كان ثمة لوحة للإعلانات فيها مواعيد القداديس وإعلانات رعوية مختلفة. وفي تلك الباحة كان يجتمع الشباب الذين يأتون قبل موعد القداس بفترة ويستغلونها فرصة لرؤية حبيباتهم اللواتي كن يمرن  بصحن الكنيسة إلى مدخل النساء منذ الصباح الباكر. كانت الفتيات الصغيرات من طالبات المدارس والشابات المتمدنات يرتدين ملابس محتشمة لكنها أنيقة ومهندمة ويضعن على رؤوسهن مناديل"ايشاربات" رقيقة، بينما كانت النساء الطاعنات في السن يضعن إزارا على رؤوسهن، أما بقية النساء فيلبسن العباءات السود مثلما تلبسها النساء المسلمات. وكانت أمي تلبس مثلها مثل أترابها عباءة سوداء كلما ذهبت إلى الكنيسة أو إلى أربيل احتشاما، أما لماذا أربيل فلأن الأربيليات كن لا يخرجن من دون ارتداء العباءات فلا يجوز للعنكاويات أن يظهرن في أربيل سافرات. بينما يتجولن في القرية بملابسهن التقليدية دون عباءة.    
في الصيف كانت صلاة الرمش تقام في فناء الكنيسة، في "بيث صلوثا"، فتخرج مساند الكتب وبعض الإيقونات ويقف الشمامسة صفين متقابلين يتقدمهما القسُس، أحد الصفين يرتل والآخر يرد عليه من خلال كتب ضخمة يحملونها بين أيديهم. كنت أصغي إليهم دون أن افهم شيئا مما يقولون مثلما لم أكن أفهم الكثير مما أسمعه في القداس أو معنى الصلوات التي كنت أحفظها عن ظهر قلب وأتلوها مع نفسي كل يوم مرات ومرات. فهمت بعد سنوات أن معظم الصلوات كانت بالسريانية الفصيحة التي كان الناس العاديين ونحن الأطفال لا نعرفها لأننا نتكلم السورث وهي مزيج من الآرامية (السريانية) والأكدية التي أفسدتها مؤخرا الكثير من المفردات العربية والتركية والفارسية والكوردية. وإلى السورث كان ترجم سابقا عدد قليل من الصلوات التي تعد مفهومة من الجميع. الكنيسة ليست متهمة في هذه القضية التي تختلف عن تفضيل الكنيسة في أوربا للغة اللاتينية وإهمالها اللغات المحلية في العصور الوسطى، إنما الظروف السياسية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية التي مر بها هذا الشعب وعاشها من دون سلطة ومظلة سياسية ولغوية هي السبب، فطرأت خلالها تغيرات كبرى على اللغة التي يتكلم بها!  إنها مشكلة لغوية وحضارية لا نواجهها نحن فحسب، بل الكثير من الشعوب. ذات مرة عدت إلى روسيا بعد غياب سنوات طويلة فرأيت واحدة من زميلاتي قد تحولت من كنيستها الروسية الأرثوذكسية إلى إحدى الكنائس الإنجيلية، فسألتها عن السبب، قالت: السبب الرئيسي هو اللغة، وأضافت: أنت تعرف إنني لم أكن مؤمنة. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عدت إلى الإيمان ورحت أتردد على الكنيسة. لكني فوجئت أن الصلوات هناك لا تجري بالروسية المعاصرة، وإنما باللغة السلافية القديمة!! تصور لم أكن أفهم شيئا، فحكيت ذلك لإحدى صديقاتي قالت لي تعالي إلى كنيستنا فالصلوات تجري فيها بالروسية المعاصرة! .... والمسلمون غير العرب يواجهون هذه المشكلة على نحو أسوأ. وقد لمست ذلك بنفسي شخصيا عندما كنت لبضع سنوات في اوزبكستان بآسيا الوسطى، إذ كلما التقيت مسلما مؤمنا وعرف إنني من بلد عربي توسل إلي أن أترجم له ما كان يحفظ من آيات قرآنية أو أدعية والتي عادة كان يتهجاها على نحو خاطئ لعدم معرفته للغة العربية. هؤلاء أيضا مثلهم مثل الكثير من الشعوب يرددون صلوات لا يعرفون معناها، ومع ذلك يقتنع الجميع أن هذه الصلوات ستدخله الجنة! لكن هذه مسألة أخرى لها علاقة بالإيمان.
ويعود تاريخ كنيسة مار كيوركيس بتقديري إلى نهاية القرن الرابع أو الخامس الميلادي، لأننا نعرف من التقليد ومن الوثائق أن المسيحية انتشرت في حدياب التي هي أربل والمناطق المحيطة بها منذ العصور الميلادية الأولى. وأيضا لأن الكتابات المنقوشة على الحجر باللغة السريانية التي عثر عليها في هذه الكنيسة في 1929 وفي 1995 حول تاريخ تجديدها ووفاة أحد القسس فيها تدل على أنها كانت موجودة قبل القرن التاسع الميلادي، إذ تشير إحدى الكتابات إلى أن هذه الكنيسة جددت في عام 816م وأخرى إلى وفاة قس من هذه الكنيسة في عام 917 م. ونظرا لمعمار الكنيسة القديم المطعم بالهندسة الرومانية يعتقد أنها تعود لقرون كثيرة قبل القرن التاسع وتحديدا قبل انشقاق النساطرة عن الكنيسة الأم في نهاية القرن الرابع الميلادي. وقد يكون هناك مبنى أقدم تحتها أو تحت القبو المهدم يكون هو المبنى الأول لها. لا أحد يعرف للآن إذ لم يجر أي تنقيب لآثارها أو أية دراسة علمية لتاريخها.
بصراحة لقد صدمت عندما رأيت هذه الكنيسة الأثرية المهمة بعد عودتي إلى القرية قد خضعت لعملية تجديد وتعمير غير مستندة على أسس علمية، ودون أي اعتبار لتاريخها ومعمارها القديم أو لكونها الشاهد الأثري الوحيد الحي على المسيحية في منطقة حدياب. فقد تغير سورها التاريخي وبوابتها وسويت القبور بالأرض وبالسمنت في باحتها الأمامية وساحتها الشرقية، وكسيت أرضيتها المرمر بالكاشي، وشوهت الأعمدة بتلبيسها بحجر حلان جديد حتى ثلثها، وهدم الجزء الحجري المتضمن القبو وغرف القسس بينما ترك الهيكل الأساس للكنيسة على ما هو عليه. أعتقد أن إعادة بعض مما كانت عليه الكنيسة في السابق مع الأخذ بنظر الاعتبار ظروفها العمرانية هي مهمة دينية ووطنية في الوقت نفسه.
في هذه الكنيسة قضيت ردحا من طفولتي مثل الكثيرين من أطفال البلدة. تعلمت وأنا في السابعة أو الثامنة ألأوليات البسيطة لخدمة القداس؛ دق الجرس الصغير في موعده أثناء السجدات الثلاث خلال القداس. وتقديم بعض الخمر والماء للقس أثناء تحضيره للذبيحة الإلهية، والإضاءة للقس بشمعة أثناء قراءته للإنجيل، وأحيانا بعد أن كبرت قراءة رسالة من رسائل بولس الرسول عندما أكون قد حفظتها جيدا أو أتلو بعض التراتيل أو الصلوات عندما يسمح لي الشماس.
عندما كنت أدق الجرس  الصغير ويسجد الناس على ركبهم أو ينهضوا واقفين من كراسيهم أشعر وكأنني احمل عصا سحرية بيدي بدلا من الجرس متى ما أريد اجعل الناس ينهضون أو يجلسون أو يركعون!
ومن المهام الممتعة التي كنت أؤديها في هذه الكنيسة توزيع السلام للمصلين عندما يحين موعده قبل الإقدام على المشاركة في ذبيحة القداس. فما أن يقول الكاهن " شلاما عمخون"(7) ويرد عليه الشماس " عماخ وعم روحاخ.. أحاي هَوْ شلاما حَذ لحَذْ بحُبِّهْ دَمْشيحا"(8) إلا وأتقدم مع زميل آخر لي نحو القس واستلم منه السلام بمصافحة بكلتا اليدين لأذهب بسرعة وأصافح بالطريقة نفسها بعض المصلين ثم ليصافحوا بعضهم بعضا، وهي علامة على المحبة الأخوية التي يجب أن تسود بين المؤمنين.  
وكنت في الصيف أذهب مع أقراني من التلاميذ إلى صالة مار يوحنان الكبيرة لتعلم اللغة السريانية وتعاليم الدين المسيحي على يد الشماس عبد الأحد روفو وهو يحمل بيده عصا طويلة. ومع تلك الدروس اكتشفت الازدواجية اللغوية التي عشتها أنا وأترابي. تصوروا أننا كنا نتحدث في البيت والمحلة والقرية بالسريانية المحكية ( السورث) وما أن نذهب مع أهالينا إلى أربيل نجد أن الحديث انقلب إلى الكوردية، بينما في المدرسة ندرس كل الدروس باللغة العربية!! منذ ذلك الوقت أصبحت وزملائي نواجه هذه المعضلة اللغوية ولم نتمكن من حلها للآن، بسبب الظروف السياسية التي مر بها العراق.  فالغالبية لم تتمكن من تعلم لغتها، ولا من امتلاك ناصية العربية أو الكوردية على نحو جيد جدا، ولم يفلت من هذه القاعدة حتى من يعدون أنفسهم صحفيين أو أدباء أو شعراء اللهم إلا بعض المختصين منهم.  
وفي الفرصة أو قبل الدرس أمر بشواهد قبور رجال الدين في باحة الكنيسة أو اللوحات الرخامية المزروعة هنا وهناك، كنت أحاول تهجئة ما تعلمته من لغتنا الأم السريانية، مختصرات عن حياة  بعض القديسين والمطارنة والقسس والموتى الآخرين ولا أفلح في فك تلك الرموز جيدا، لكني كنت أقف بخشوع أمام عظمة هؤلاء وأعمالهم، وبراعة أولئك الكتبة الذين نقشوا تلك الخطوط المبهمة على ألواح المرمر والحجارة، ولا أفهم منها إلا القليل. لقد تعلمت شخصيا الكثير في هذه الكنيسة التي كان لها دورها في التعليم والتهذيب الأخلاقي وضمت على مر التاريخ مدارس عديدة بعضها عُدّت مدارس رسمية وذكرت في المصادر التاريخية.
في مرحلة من مراحل مراهقتي شعرت بالملل من الذهاب الكنيسة وصرت أتقاعس عن النهوض باكرا والتوجه لسماع القداس صباحا، فكنت كلما تأخرت في الاستيقاظ كان يقف والدي على رأسي وبيده عصا يقول لي: تنهض أم أشبعك ضربا بهذه العصا. أقول له اتركني أنام لم أشبع نوما. فيحلف إن لم انهض بعد عده إلى ثلاثة سيهوي بالعصا على رأسي. كنت أضطر للنهوض وترك الفراش الدافئ في ذلك الصباح والذهاب إلى الكنيسة.
لكن دهشتي الكبيرة كانت كلما نظرت إلى الناقوس الضخم المعلق داخل البرج العالي، فأتعجب من الساعور كيف يستطيع ضرب هذا الناقوس العالي من داخل غرفة صغيرة في الكنيسة لأني لم أكن أعرف أن الناقوس مربوط بحبلين طويلين إلى غرفة تحتانية. لكن صوت هذا الناقوس كان يلهمني، ويشجعني للذهاب إلى الكنيسة.
ما تزال رائحة البخور والشموع وأصوات الشمامسة العذبة التي كانت تؤدي مقامات دينية بألحان مؤثرة، والتراتيل الجماعية في هذه الكنيسة، تدوخني وتجعلني أعيش لحظات روحية ملؤها رهبة وخشوع. ومن الألحان التي لا أنساها أبدا وأطرب لها على نحو خاص "نقوم شبير" عندما تتلى بلحنها الاحتفالي و"أمر لي عيتا أيكا" في المناسبات الخاصة. ومن الشباب في ذلك الوقت الذين كنت أعجب بأدائه في الصلوات فريد بويا شابا الذي كان يكبرني بسنتين أو ثلاث كنت أراه حاملا كتابا كبيرا مكتوبا بحروف سريانية سوداء مع بعض الحروف الحمراء في أماكن من الصفحة فيرفع صوته بالترتيل من بيننا وكأنه شماس قدير، كنت أغبطه على معرفته القراءة بالسريانية وإمكانيته في الترتيل لكني لم أكن أجرؤ على الاقتداء به لضعفي في كلا المهمتين.
هذه الكنيسة تواجه اليوم وقتا عصيبا إذ بدأت الجهات المعنية بإعادة تعميرها، وأتمنى أن لا يتم ذلك من جديد على حساب معمارها وآثارها وهندستها وقيمتها التاريخية، فهي، فضلا عن دورها الديني والأخلاقي في القرية، مخزن ذكرياتنا وصرحنا الثقافي الأول.
وإذا ضاعت التمنيات لا يبقى أمامنا إلا أن نرفع الدعاء للقديس مار كوركيس أن يشفع لكنيسته.
حزيران 2011 عنكاوا- أربيل

_____________    
(1)   أبانا الذي في السموات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك....
(2)   السلام عليك يا مريم الممتلئة نعمة الرب...
(3)   أنا أعترف لله الواحد، القادر على كل شيء، ولسيدتي مارت مريم، ولك يا أبانا، لأني أخطأت كثيرا، بالفكر، وبالقول، وبالنظر، وبالسمع ، أخطأت ويكفيني هذا لمحبة الله . أقبل الموت على نفسي ولا الخطيئة المميتة، خطيئتي، خطيئتي، خطيئتي عظيمة جدا آمين.
(4)   يا إلهي، يا ينبوع العدل والرحمة، ها إنني أنا الخاطئ، منطرح أمامك، معترف بخطاياي التي بها أهنتك واحتقرتك، اغفر لي يا إلهي اغفر لي، خطاياي الكثيرة العظيمة، ها إنني نادم عليها من كل قلبي، وأنوي نية ثابتة. أن لا أرجع إليها أبدا. آمين.
(5)   كانت واقفة تحت الصليب...أم المتاعب والأحزان الكبيرة... تنسكب الدموع من عينيها....
(6)   تبكي مريم تحت الصليب وتسكب الدموع...  
(7)    السلام معكم.
(8)    معك ومع روحك.. إخوتي تبادلوا السلام بحب المسيح.


7
متحف التراث السرياني مرآتنا القومية والثقافية

د. سعدي المالح

سيادة المطران بشار وردة رئيس أساقفة أربيل للكنيسة الكلدانية.
سيادة المطران اسحق ساكا، النائب البطريركي للدراسات السريانية
السيد وزير الثقافة والشباب
السيد محافظ أربيل
السادة أعضاء البرلمانين الكوردستاني والعراقي
السادة رؤساء الدوائر والمؤسسات الحكومية   
السادة ممثلي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني
السيدات والسادة
نرحب بكم جميعا ونشكركم على حضوركم ومشاركتكم إيانا بهذا الانجاز المتواضع بحجمه وإمكاناته لكنه الكبير بمعناه ومدلولهِ، لأن هذا المُتحف هو الوحيد والأول من نوعه، ليس في كوردستان والعراق فحسب، وإنما في العالم بالنسبة لشعبنا الكلداني السرياني الآشوري، مُتحفٌ يُسهِم في صياغة شخصيتِنا، يَحفِظ تراثَنا وغِنانا الروحي، ويُبرِزُ قيَمَنا الإبداعية، الماديةَ والمعنوية، ويُعرِّفَ بنا العالم. ولم يكن هذا ليَتِمَّ لولا دعمُ حكومةِ إقليم كوردستان مُمثّلةً بوزارة الثقافة والشباب واهتمامِها بثقافتِنا القومية، واحترامها للتنوعِ الثقافي في الإقليم من جهة، وحرصُ أبناءِ شعبِنا على الحفاظ على تراثِهم من الضياع والفقدانِ وصونِهم خصوصيتِهم الثقافية من جهة ثانية.
إنّ حفاظَنا على تراثِنا الثقافي والفني، المادي من معمارٍ وزخرفةٍ، وأدواتٍ مختلفة، ومصنفاتٍ فنية، وملابسَ وأطعمة شعبية، وحرفٍ يدوية وغيرها، والمعنوي من نتاج إبداعي للآداب والفنون الشعبية والموسيقى والغناءِ والرقص والترتيلِ والأساطير والحكاياتِ والمعتقدات الدينية والتقاليد وغيرها هو حفاظٌ على خُلاصةِ تجارِبنا وخبراتِنا الشعبيةِ التراكمية، حفاظٌ على ذاكرتِنا الفردية والجَمعية، فالتراثُ هو تلك الذاكرةُ الحيةُ التي يتعرّف بها الناس على هويتِنا المتجذرةِ في أعماق التاريخ، تلك الهويةُ التي حاولت الحكوماتِ السابقة طمرَها من خلالِ التشويه والتهميش والإقصاءِ وسلب الحقوقِ القومية والثقافيةِ ولم تتمكن.     
هذا المُتحف الذي تمكنّا أن نجمعَ فيه بعضٌ مما تبقى من تراثنا إنقاذاً له من الاندثار والنسيان هو جزءٌ من هويتِنا، هو مرآتُنا القومية والثقافية التي تَعكِسُ خصوصيتَنا التي تميُّزُنا عن بقية مكوناتِ شعبنا الكوردستاني والعراقي وتوحِّدُنا معهم في آنٍ، باعتبار أن هذا التراث هو في الوقتِ نفسهِ اغناءٌ للثقافة الكوردستانية والعراقية والميراثِ الثقافي الإنساني المتنوع. لأن فقدانَ هذا التراث يعني فقدانٌ لجزءٍ كبير من الذاكرة القومية والوطنية الكوردستانية والعراقية. ولا سيما أن تراثَنا زاخرٌ بشتى أنواع العلوم والمعارفِ والآداب والشواهدِ والقيمِ التي أغنت الحضارةَ الإنسانيةَ.
أيها الحفل الكريم:
جمَعنا خلال سنتين من عمر مديرية التراث والفنون الشعبية السريانية أكثر من ثلاثة آلاف مادة تراثية من ملابسَ وأدواتٍ وصورٍ وكتبٍ ووثائقَ ومخطوطاتٍ وأغانٍ وتراتيلَ وحكاياتٍ وأجهزةٍ ومصنوعات ومنسوجاتٍ وغيرها أغلبُها قُدِّمت هدايا من قبل أبناء شعبنا مشكورين، وعرَضنا من هذا الكم  في متحفنا هذا نحو ألفين مادةٍ تراثية متنوعة قديمة يعود تاريخُها لأكثرَ من خمسينَ سنة وأقلَّ من مائتين وخمسينَ سنة. وجميع ُهذه المواد معرّفةٌ بتعريفاتٍ مختصرِةٍ بأربعِ لغاتٍ هي السريانيةُ والكورديةُ والعربيةُ والانكليزيةُ، وعرَضنا مع بعضِ هذه المواد ما توفَّر لدينا من صورٍ قديمةٍ تبيّن طريقةَ استعمالها.
ووفّرنا لزوارِنا الكرام أفراداً ومجموعاتٍ أجهزةَ تسجيلٍ للصّوتِ والصورة لسَماعِ ومشاهدةِ أغانٍ ومعزوفاتٍ وتراتيلَ قدماءِ الموسيقيينَ والمغنين والمرتلينَ الكلدان السريان الآشوريين فضلاً عن بعضِ الأفلامِ الوثائقية. 
ولا ندعي أن عمَلنا هذا متكاملٌ لا تعتريه النواقصُ ولا تشوّبُهُ الهَفَوات، لا بل نؤكد أن ما أنجزناه للآن لا يشكل إلا اللُبنةَ الأولى في مٍدماك هذا الصرح الحضاري، لا يشكل إلا الأساس لمُتحفٍ متكاملٍ يكون مقصدَ جميع السائحينَ والباحثين والطلابَ والزوار ومحبي الثقافة، مُتحفٌ يرى فيه جميعُ أبناءِ شعبنا الكلداني  السرياني الآشوري، بكافة تسمياتهم وكنائسهم وطوائفهم، بكافة قصباتِهم وبلداتِهم ومجموعاتِهم، يرى فيه أبناءُ الداخلِ مثلَما أبناءُ الشَّتاتِ، يرى فيه الجميعُ من دونَ استثناءٍ أو تمييزٍ أو تفرقةٍ وجهَهُم الحقيقي وصورتَهُم وهويتَهُم القومية. يرى فيه الكوردي والعربي والتركماني والصابئي واليزيدي وغيرُه وجهَهُ الثقافي الآخر المغاير والمتمم في آن ، يرى فيه توأمَهُ وشريكَهُ في الموروث الوطني.
وانطلاقا من هذا الإدراك لمفهوم التراث، والإيمان بدوره في تعزيزِ هويتُنا الوطنية ندعو حكومةَ إقليم كوردستان ووزارةَ الثقافةِ والشباب إلى تقديم المزيد من الدعم لهذا المشروع الحضاري لإكماله وتطويرهِ، وفي الوقت نفسِهِ ندعو كلَّ فردٍ من أبناء شعبنا ووطنِنا أنْ يساهمَ في إثراءِ محتوياتِه ليجدَ نفسَهٌ فيه كفردٍ أو كجماعة.
في الختام أشكرُ رئاسةَ بلدية عنكاوا على إنشاء هذا المبنى وتعاونها معنا في إحياء تراثنا، وجميع الذين تبرعوا بما لديهم من مواد ثراثية، أو قدموا مقترحاتهم وملاحظاتهم لتطوير المتحف أو شجعونا على المضي قُدُماً في إكماله. نشكر مديرية التراث والفنون الشعبية السريانية ولا سيما مديرها الأخ العزيز فاروق حنا وجميع العاملين معه على عملهم الدؤوب والمتفاني، أشكرُ جميعَ العاملين في المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية ومديرية أربيل على إسهامهم في تقديم العون والمساعدة المطلوبة لهذا المُنجَز.
وأشكركم جميعا مرة أخرى على حضوركم ومشاركتكم.

•   نص الكلمة التي أُلقيت في افتتاح متحف التراث السرياني صباح الأحد 10 نيسان 2011. 
 
 




8
من أجل الحفاظ على أدبنا ولغتنا السريانية وتطويرهما*
د. سعدي المالح

سيادة المطران بشار متي وردة رئيس أساقفة أربيل للكنيسة الكلدانية، والآباء الكهنة الأفاضل
الأستاذ كاوة محمود وزير الثقافة والشباب في حكومة إقليم كوردستان
السيد نوزاد هادي محافظ أربيل
السادة نواب البرلمانين العراقي والكردستاني
السادة ممثلو القناصل والبعثات الدبلوماسية الأجنبية في أربيل
السادة ممثلو المؤسسات الرسمية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني
الضيوف الأجانب
السيدات والسادة
نرحب بكم جميعا، ونشكر حضوركم هذا ومشاركتكم معنا في هذه التظاهرة الأدبية المتميزة التي نأمل أن تحظى بالنجاح بدعمكم ومؤازرتكم.
نسعى اليوم لتأسيس تقليد متميز وذي أهمية خاصة، وهو عقد حلقة دراسية سنوية تكون جميع الأبحاث والدراسات فيها باللغة السريانية.
وعندما عقدنا العزم على إقامة هذه الحلقة كنا نتهيب من عدم وجود باحثين سريان يقدمون أبحاثا متخصصة تلقى باللغة الأم السريانية. لكن ما أن أعلنا عن نيتنا للبدء بهذا المشروع إلا وبدأت تأتينا مشاركات قيمة من أدباء ومتخصصين كثيرين ومن مناطق عديدة بحيث شكلنا لجنة لدراستها وإقرار الصالح منها.
أيها الأحبة
في نيتنا أن نجعل من إقامة مثل هذه الحلقة الدراسية تقليدا سنويا للمساهمة في تطوير أدبنا ولغتنا السريانية، على أن تعقد كل سنة في بلدة من بلدات شعبنا، وتكون باسم واحد من مشاهير أدبائنا في تلك المنطقة. وحلقتنا اليوم تحمل اسم الأديب والمؤرخ المطران الشهيد أدي شير تقديرا لنتاجه في مجالات التاريخ والتراث واللغة، ولهذا ارتأينا أن تقام بمحافظة أربيل، في عنكاوا ومن ثم في مسقط رأسه شقلاوا تحديدا.
يشارك اليوم في حلقتنا الدراسية هذه 28 باحثا أغلبهم أكاديميون ومتخصصون في الأدب واللغة، ويحضرها للاستماع إلى هذه الأبحاث ومناقشتها نحو سبعين آخرين وجلهم من الأكاديميين والمهتمين والأدباء والمدرسين والمتخرجين من الثانويات السريانية المتخصصة. وتتوزع محاور الأبحاث على قواعد اللغة السريانية وبلاغتها وإشكاليات تعليمها، وعلى الأدب السرياني الكلاسيكي والمعاصر بما في ذلك الرواية والشعر والمسرح، والمخطوطات السريانية، والدراسات اللغوية المقارنة، فضلا عن الأبحاث المتخصصة بحياة أدي شير وأدبه.
أيها السيدات والسادة
ليست اللغة السريانية أقدم لغة حية في العراق فحسب، بل واحدة من أقدم لغات العالم الحية، كتبت بها الآلاف من المخطوطات والكتب في العلوم البحتة والآداب واللاهوت والفلسفة والتاريخ وغيرها منذ أكثر من ألفين وسبعمائة سنة ولحد الآن وعلى يد العشرات من مشاهير الكتاب والأدباء.
ولقد سادت هذه اللغة لأكثر من ألف سنة في المشرق إذ كانت حلقة وصل كبرى بين الثقافتين اليونانية والعربية. وهذا يعني أنها تشكل جزءا هاما من حضارة العراق والحضارة الإنسانية جمعاء، فلا بد من الحفاظ عليها بل وتطويرها ونشرها بحيث تواصل العطاء، ولا يتم ذلك إلا من خلال ما يلي:
1- نشر هذه اللغة من خلال المدارس والدورات والإذاعة والتلفزيون والصحف والمجلات والكتب والتشجيع على تعلمها. وفي هذا الشأن لا بد من دعم عملية التعليم الشامل باللغة السريانية في الدراستين الابتدائية والثانوية للمدارس التي أكثرية طلابها وطالباتها من السريان. وأدعو من على هذا المنبر أولياء أمور الطلبة إلى إرسال أبنائهم إلى هذه المدارس.
2- تأسيس مجمع للغة السريانية مدعوم من قبل الدولة يتولى تقديم الدراسات والأبحاث والمقترحات العملية لتطوير هذه اللغة وتجديدها.
3- فتح أقسام للغة السريانية وآدابها في جامعات الإقليم لتعليم اللغة أكاديميا ودراسة آدابها على وفق أصول البحث العلمي.
وما هذه الحلقة إلا محاولة وخطوة أولى لتحقيق ذلك، نأمل أن تتمخض عن نتائج طيبة ومثمرة تعود بالفائدة على أدبنا ولغتنا.
وأخيرا باسم العاملين في المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية نشكر حكومة الإقليم ووزارة الثقافة والشباب على إتاحة مثل هذه الفرص لنا للاهتمام بأدبنا وثقافتنا، ونشكركم جميعا لتلبية هذه الدعوة المخلصة وخاصة الذين حضروا من بغداد ودهوك وبلدات سهل نينوى، نشكر ضيوفنا من هولندا وسوريا ونأسف لعدم تمكن وفد إيران من الحضور.
ولكم محبتنا.

* نص الكلمة التي ألقيت في حفل افتتاح الحلقة الدراسية حول الأدب واللغة السريانية التي عقدتها المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في الفترة من 8 إلى 10 تموز 2010 في عنكاوا وشقلاوا.   
       



 


9
الثقافة السريانية: تاريخ طويل من الإبداع وأسماء لامعة

للثقافة السريانية تاريخ طويل من الابداع والغنى الروحي يمتد لأكثر من ألفين وخمسمئة سنة، وثمة رموز كبيرة لهذه الثقافة في الشعر والأدب والموسيقى والفلك والمنطق والطب والترجمة والجغرافيا والتاريخ والرسم وخاصة الايقونات وغيرها من المجالات. على سبيل المثال لدينا في الشعر والأدب برديصان من القرن الثاني ومار افرام من القرن الرابع و قورلونا وبالاي وبرصوما من القرن الخامس  ويعقوب السروجي  ونرساي وفيلينوس المنبجي من القرن السادس وماريعقوب الرهاوي من القرن الثامن وأنطوان التكريتي من القرن التاسع وابو نصر البرطلي وكوركيس وردا وخاميس القرداحي من القرن الثالث عشر وغيرهم الذين نظموا أجمل القصائد وكتبوا أشهر السير والقصص.
وفي التاريخ  يوحنا الأفسسي من القرن السادس ويوحنا بر فنكايى من القرن السابع ويعقوب الرهاوي من القرن الثامن وتوما المرجي وديونيسيوس التلمحري من القرن التاسع وإيليا بر شينايا من القرن الحادي عشر وابن الصليبي و مار ميخائيل من القرن الثاني عشر وابن العبري من القرن الثالث عشر.
وفي الفلسفة والمنطق ظهر بين السريان في عهد الخلافة العباسية كل من يحيى بن عدى والحسن ابن الخمار ومتى بن يونس وبشر بن متى وإسحق بن زرعة، إذ احتل العديد منهم مكان الصدارة في بيت الحكمة.
وفي الطب برز سرجيوس الرأسعيني وأبو زيد حنين بن إسحق العبادي و آل بختيشوع ومنهم جبريل وجورجيس,
ومن أوائل المترجمين  أبو يحيى ابن البطريق و يوحنا بن ماسويه وحنين بن اسحق مع ابنه إسحق وابن أخته حبيش بن الحسن الأعسم وأبي يحيى المروزي وعيسى بن زرعة. ونقل المترجمون السريان معظم المُصنفات والوثائق اليونانية المسيحية إلى لغتهم و معظم مؤلفات أرسطو ومن سبقه من فلاسفة اليونان، كما نقلوا أهم مصنفات قدماء الأغريق الطبية والعلمية.
وفي الموسيقى  برديصان وهرمونيوس ومار أفرام وشمعون الفخاري وعشرات غيرهم.
 ولقد سادت هذه الثقافة ولغتها لأكثر من ألف سنة في المشرق إذ كانت حلقة وصل كبرى بين الثقافتين اليونانية والعربية.
ومن المحدثين في القرنين التاسع عشر والعشرين نذكر نعوم فائق وتوما أودو وبنيامين أرسانيس وفريد نزها ويوسف قليثا وأوجين منا وبطرس نصري ويوسف إقليمس داود وجرجس قندلا وجرجس عبد يشوع خياط وادي شير ويوسف داود زبوني ونعمة الله دنو واسحق ارملة ويعقوب ساكا ويوحنا دولباني وبولس بهنام وفولوس كبرييل وعشرات غيرهم.
لكن هذه الثقافة عانت في النصف الثاني من القرن العشرين اهمالا كبيرا واجحافا من لدن جميع الحكومات التي توالت على العراق، فاصابها الكثير من الجمود وانزوت في الكنائس والاديرة، ولجأ ابرز ممثليها الى خدمة الثقافات العربية والكردية والفارسية والتركية وغيرها من ثقافات المنطقة وأصبحوا روادا للنضهة الفكرية والثقافية والفنية والأدبية في المشرق منذ أواخر القرن السابع عشر. وقد أسهموا إسهاما كبيرا وفاعلا في نشأة المسرح والموسيقى والقصة والشعر والنقد والصحافة والترجمة واللغات والبلدانيات وأدب الرحلات وغيرها من المجالات الثقافية، بل وكانوا أول من أدخل العديد من الأجناس الأدبية والفنية والثقافية كالقصة والنقد والمسرحية وعدد من الآلات الموسيقية والطباعة والصحافة والمدارس العصرية إلى العراق الحديث. وظهر بينهم مبدعون كبار في معظم صنوف المعارف والعلوم يشار لهم اليوم بالبنان.
وكان الكلدان السريان الآشوريين أول انشأوا المدارس في العراق منذ أواسط القرت الثامن عشر. و اول من اصدروا صحيفة في المنطقة " زهريرا د بهرا" في عام 1849. وأول من أسسوا مطبعة حجرية في العراق وذلك في الموصل عام 1857، وأصدروا أول مجلة (أكليل الورود) في عام 1902، ويعد حنا حبش أول من كتب مسرحية في العراق في عام 1880، ويُعد متي عقراوي أول رئيس لجامعة بغداد وحنا خياط أول وزير للصحة وروفائيل بطي أول ناقد أدبي معاصر في العراق، والياس الموصلي أول رحالة شرقي يصل أمريكا، ومريم نرما اول صحفية في العراق وبولينا حسون صاحبة أول مجلة نسائية في العراق ؛ مجلة ليلى، وهكذا فأسماء الرواد كثيرة.
ومن البارزين في الشعر نذكر سركون بولص وألفريد سمعان والأب يوسف سعيد ويوسف الصائغ وجان دمو وغيرهم ، وفي الموسيقى والغناء تعد أسماء مثل حنا بطرس وسعيد شابو وجميل بشير ومنير بشير وغانم حداد وصليوا يلدا صليوا المعروف بـ (سيوا) وباكوري نجوما لامعة في سماء كردستان والعراق. ولابد أن نذكر في اللغات والتراث الأب أنستاس ماري الكرملي وتوما أودو وأوجين منا، وفي التاريخ يعقوب سركيس ويوسف غنيمة وروفائيل بابو اسحق وبطرس نصري وألبير أبونا ويوسف حبي ، وفي التراث الأخوين كوركيس وميخائيل عواد وفؤاد قزانجي والأخوين لطفي الخوري وجورج حبيب. وفي المسرح اسكندر زغبي ونعوم فتح الله السحار وسليمان الصائغ وعوني كرومي وغيرهم، وفي الصحافة روفائيل بطي وداود صليوا وسليم حسون وتوفيق السمعاني، وفي القصة والرواية يوسف متي وادمون صبري وحازم مراد ويوسف يعقوب حداد ويعقوب أفرام منصور، وفي الآثار هرمز رسام وفؤاد سفر وبشير فرنسيس وبهنام أبو الصوف، وفي السياسة كل من يوسف مالك وآغا بطرس ويوسف سلمان يوسف (فهد)  وفرنسوا حريري وتوما توماس وبولص بيداري ويوسف حنا وجرجيس فتح الله وسليمان يوسف ومئات غيرهم من المناضلين والشهداء الذين قدموا أنفسهم قرابين على مذبح الحرية, 
لا أود أن اذكر المزيد من الأسماء لأن القائمة ستطول في جميع الصعد الأدبية والفنية والسياسية والعلمية والتربوية والعسكرية والادارية وغيرها، إلا أن ما ينبغي الإشارة اليه في هذا المجال أن هؤلاء المواطنين الأصلاء الذين خدموا هذا البلد سنوات طويلة واسهموا في نهضته وتطوره يتعرضون في بعض مناطق العراق في السنوات الأخيرة لهجمة شرسة ومبرمجة من الاضطهاد وللقتل والخطف والتهجير والتهديد والملاحقة والتضييق الاجتماعي من دون وجه حق مما اضطروا إلى ترك بيوتهم ووظائفهم وأعمالهم ومصالحهم والهجرة إلى دول الشتات. بل وتتعرض آثارهم إلى النهب والسلب، وقيمهم الحضارية والتراثية والدينية إلى التفجير والهدم. الأمر الذي يدعونا إلى القلق حول مستقبل تواجدنا في بلدنا الذي نعيش فيه منذ آلاف السنين، ومصير ثقافتنا وحضارتنا المعرضة للأهمال والتخريب.
 في الوقت الحاضر من الممكن أن نقول إن الثقافة السريانية على الرغم مما تواجهه من تضييق واهمال في بعض مناطق العراق بدأت تنهض من كبوتها في السنوات الاخيرة ليس في العراق فحسب، وإنما في الدول المجاورة وفي دول الشتات أيضا. إلا أن ما يشهده إقليم كوردستان من نهوض ثقافي وأدبي وفني سرياني كلداني آشوري لا يقاس بأية فترة زمنية سابقة. فكوردستان تشهد، بفعل دعم حكومة الاقليم والوعي القومي للمثقفين السريان الكلدان الآشوريين، تطورا ملحوظا في تعليم اللغة السريانية في المدارس الابتدائية والثانوية ولو بمستويات متباينة، وحركة نشر لا سابقة لها من كتب ومجلات وجرائد وإن كان الكثير منها على حساب النوعية، وظاهرة إعلامية ملحوظة من إذاعات وتلفزيونات، ونشاط ثقافي وفني عام من ندوات وأمسيات ومسرحيات ومعارض رسم وغيرها. هذا كله أدى إلى ظهور جيل جديد من أدباء وشعراء وقصاصين وصحفيين يكتبون بالسريانية ومخرجين وممثلين يقدمون مسرحياتهم بالسريانية إضافة إلى إنتاج بعض الأفلام الروائية والوثائقية بالسريانية. صحيح أن بعض هذه الأعمال واالنتاجات يعتورها الضعف إلا أنها تشكل ظاهرة ثقافية لم نشهدها من قبل.
المثقفون السريان مدعوون في هذه المرحلة، أكثر من أي وقت آخر، للعب دورهم القومي التاريخي في نشر اللغة السريانية وتعليمها على أسس صحيحة وتطويرها على الأسس العلمية المتبعة في اللغات الأخرى وتوحيد لهجاتها. فضلا عن اهتمامهم في التحول إلى الكتابة باللغة السريانية بدلا من اللغات الأخرى التي يكتبون بها، خاصة بالنسبة للشباب منهم الذين أمامهم فرص كبيرة لهذا التحول فالاهتمام بالثقافة السريانية اصبح ضرورة ملحة.


10
الثقافة السريانية مشاريع وآمال
د. سعدي المالح

الأستاذ فلك الدين كاكايي وزير الثقافة في كردستان
السادة المسؤولين وأعضاء البرلمان وممثلي الدوائر الرسمية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والمثقفين
أيتها السيدات والسادة
بدأت الثقافة السريانية في العراق وبخاصة في إقليم كردستان تنهض من كبوتها وتعلن عن نفسها ثقافة مبدعة تواكب العصر وتواظب على إنتاج الأجناس الأدبية والفنية المتنوعة وباللغة السريانية كالمسرحيات والقصص والروايات والقصائد والسير وغيرها. وما أسبوعنا الثقافي هذا إلا مظهرا من مظاهر هذا النهوض المبارك. وعلى الرغم من اختزالنا للكثير من الفعاليات، الفنية منها خاصة، بسبب محدودية امكانياتنا المالية، إلا أن برنامجنا ظل حافلا بالعديد من المسرحيات والمعارض والأمسيات الشعرية والأدبية والفقرات الموسيقية والغنائية وعلى مدى سبعة أيام، بل أن معظم الأيام تقام فيها أكثر من فعالية، مما يدل على غزارة النتاج الثقافي والفني لأبناء شعبنا الكلداني السرياني الآشوري.   
وتمكنت مديريتنا العامة منذ افتتاحها في 19 شباط 2008، وخلال السنة والنصف المنصرمة هذه أن تكون لولبا ومركزا للكثير من هذا النشاط الثقافي العارم لشعبنا. إذ أنجزت مهام ثقافية كبيرة كانت مقررة في برامجهاا في مجالات التراث والفنون الشعبية والمسرح والموسيقى واللغة والأدب والشعر والفنون التشكيلية وغيرها، وذلك بفضل دعم وزارة الثقافة لنا من جهة وتعاون مؤسساتنا الثقافية والفنية معنا والتفاف مثقفي شعبنا الكلداني السرياني الآشوري حولنا من جهة أخرى.
نحن فخورون بكل ذلك، فخورون أن نعلن أنه يتعاون اليوم مع مديريتنا العامة أكثر من ثلاثين مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني بينها جمعيات وفرق فنية ومسرحية ومراكز ثقافية ونواد من محافظات أربيل ودهوك والسليمانية وسهل نينوى وكركوك وبغداد، حصلت العديد منها على منح من وزارة الثقافة بواسطتنا وتحصل الكثير من هذه المؤسسات والعديد من الأدباء والفنانين على دعم مديريتنا في تقديم نشاطاتهم الثقافية والفنية وبالذات فيما يخص إقامة المعارض وعرض المسرحيات وتقديم الأمسيات الشعرية وطبع الكتب. وما هذا الأسبوع الثقافي إلا وجها من أوجه هذا التعاون.
إن هذه العلاقة الوطيدة مع مثقفي شعبنا وثقتهم بنا قادت بعض أدبائنا ومثقفينا إلى تكليفنا بالعمل على توحيد اتحاداتنا الأدبية الثلاثة، وفعلا نحن نعمل منذ سنة تقريبا من خلال اجتماعات ثنائية وجماعية مع اتحاد الأدباء والكتاب السريان واتحاد الأدباء والكتاب الكلدان والسريان ورابطة الأدباء والكتاب الآشوريين على خلق أسس مقبولة لهذه الوحدة، ونأمل أن تتم هذه الوحدة بتأسيس اتحاد أدبي واحد يكون مظلة لجميع الأدباء الكلدان السريان الآشوريين، ونرجو من جميع السياسيين والمسؤولين الحكوميين ذوي العلاقة وأدباء وكتاب شعبنا وأصدقائنا في اتحاد الأدباء الكورد واتحاد الأدباء العراقيين مساعدتنا في هذا المسعى النبيل لأنه لا يجوز أن يكون لشعب واحد وأمة واحدة ثلاثة أو أربعة اتحادات أدبية.

أيها الحفل الكريم:
افتتحنا اليوم، وبالتعاون مع بلدية عنكاوا نُصبا تراثيا لآلة الدنك في محلة دركا كجزء من الاهتمام بتراثنا وحرفنا الشعبية. ونعمل من أجل إقامة حديقة الثقافة السريانية في شارع قصرا وبالتعاون أيضا مع بلدية عنكاوا تتضمن تماثيل لرموز من ثقافتنا وستاندات لعرض الصور التراثية ومقهى شعبية تراثية، ونحن إذ نشكر بلدية عنكاوا على تعاونها معنا وتحملها نفقات هذه المشاريع نعاهد هذه البلدة وكافة بلداتنا في الحفاظ على قيمنا الثقافية والتراثية كافة من الإهمال والتلف والنسيان. وثمة في هذا الصدد عمل كبير نقوم به ألا وهو إنشاء متحف للتراث السرياني. وللآن جمعنا أكثر من ألف مادة تراثية تشمل أدوات الاستعمالات البيتية والزراعية والصناعات الشعبية والحرف اليدوية والملابس الفولكلورية والصور والنقوش والمخطوطات والوثائق والأغاني والحكايات والمواد الصوتية والفلمية وغيرها، تنتظر هذه المواد كلها أن تنتهي بلدية عنكاوا قريبا من إنشاء متحف التراث السرياني الذي يقام خلف التلة التاريخية قصرا لتنقل إليها في ترتيب وتصميم عصريين. ومن الجدير بالذكر أن نحو تسعين بالمائة من هذه المواد تم الحصول عليها مجانا بفضل نشاط  منتسبينا وجهدهم الدؤوب وتعاون أبناء شعبنا معنا، لا بل أن مديرية التراث والفنون الشعبية التابعة لنا تقوم بنفسها بإعادة إنتاج بعض هذه المواد التراثية كالصناعات الشعبية الطينية والفخارية والمنسوجات اليدوية والأزر المطرزة والملابس وغيرها.   
إن هذا المتحف ليس لعنكاوا وحدها، إنما لجميع أبناء شعبنا الكلداني السرياني الآشوري،.لجميع قرى وبلدات شعبنا من زاخو وبرواري بالا ونهلة إلى قرانا وبلداتنا في سهل نينوى إلى كوي وديانا والسليمانية. لذا نهيب بكافة أبناء شعبنا تزويدنا بالمزيد من المواد التراثية لضمها إليه.
ومن ناحية أخرى تقوم مديريتنا بإنشاء أكبر مكتبة متخصصة في الثقافة السريانية ، ففي حوزتنا الآن نحو ألفين من الكتب المتخصصة في مختلف فروع ثقافتنا وبعدة لغات، ونسعى بجد إلى إيصالها إلى ثلاثة آلاف كتاب حتى نهاية هذه السنة. إن مثل هذا العدد من الكتب المعنية بثقافتنا لا يتواجد حاليا في أية مكتبة عراقية، لكننا تمكننا من جمعه بمثابرة وجهد وبأقل التكاليف. وستكون هذه المكتبة مفتوحة أمام الباحثين والمتخصصين والأكاديميين وطلبة الجامعات في غضون أشهر.

أيها الأحبة
يقال إن الإنسان بأحلامه وتطلعاته، ونحن في رؤوسنا المزيد من الأحلام والتطلعات وفي جعبتنا حفنة من المشاريع والآمال. فهذا العمل الثقافي الكبير الذي نقوم به يجعلنا نطمح في أن نطالب حكومة إقليم كردستان بأن تشييد لمديريتنا العامة ومديرياتها الفرعية بنايات تليق بأعمالها ونشاطاتها، وأن توفر لنا السيارات والمعدات الفنية الضرورية للعمل، وتشيد قاعات المحاضرات والاحتفالات والمسارح والكاليريهات، إذ لا يوجد لا في عنكاوا ولا في أي بلدة أخرى من بلداتنا في الإقليم ، على سبيل المثال، مسرح مناسب للعروض المسرحية أو كاليري لإقامة معارض تشكيلية.   
نحن نتطلع أيضا إلى أن تكون لنا فرقة رقص شعبي محترفة تستلهم رقصاتها من تراثنا وثقافتنا الشعبية، وفرقة موسيقية وغنائية تطور موسيقانا وتحافظ على أغانينا التراثية من الضياع.
نشكر حضوركم ونتمنى لكم وقتا ممتعا مع حفلنا الفني.   
وأخيرا نشكر جمعية الثقافة الكلدانية ونادي شباب عنكاوا الاجتماعي وجمعية مار عودا الزراعية وجميع الجمعيات والمراكز الثقافية والفرق الفنية والمثقفين الذين أسهموا في هذا الأسبوع الثقافي.
نشكر حضوركم ونتمنى لكم وقتا ممتعا مع حفلنا الفني وبرنامجنا الأسبوعي.

* نص كلمة افتتاح الأسبوع الثقافي السرياني الثاني.   

11
العين تسمع والأُذن ترى!
في رثاء سينما صلاح الدين
د. سعدي المالح

تجري الآن عملية هدم لمبنى سسينما صلاح الدين في أربيل. وكانت هذه السينما منذ تشييدها في عام 1946 معْلَمَاً حضارياً كبيراً من معالم المدينة، ولعِبت إلى جانب سينما الحمراء، التي تأسست بعدها بسنة، دوراً فنياً وثقافياً وترفيهياً كبيراً في هذه المدينة الصغيرة والمحافِظة نوعاً ما آنذاك.

أوَّلَ مرةٍ دخلتُ فيها دار سينما في حياتي كانت في صالة سينما صلاح الدين في عام 1965 عندما كنتُ أعملُ في الصيف بائعاً متجولاً لِحَبّ الباسورك في أربيل. وبما أني كنت أتجوَّل في المقاهي والشوارع لبيع بضاعتي كنت أتردَّد على سينما صلاح الدين وسينما الحمراء قبل موعد عرض الأفلام وإثناء فترة الاستراحة لازدحامهما بالرُوَّاد الذين كانوا يشترون أنواعاً من البذور للتسلية. 

كانت سينما صلاح الدين الواقعة على تقاطع شارعين مهمين في وسط المدينة واحداُ من أهم مراكز البيع بالنسبة لي. ذات يوم وكنت قد انتهيت مبكراً من بيع بضاعتي تجرأتُ واشتريْتُ تذكرةً بعشرين فلساً لمشاهدة نصف الفيلم الأخير من صبي في مثل عمري لم يعجبه النصف الأول منه. وكان هناك دائماً من يبيع تذكرته أثناء فترة الاستراحة بنصف القيمة فيشتريها غيره من الأولاد بعد أن يطلب منه أن يشرح له باختصار مضمون النصف الأول من الفيلم. أما أنا فلم أحظَ بمثل هذا الشرح إذ قال لي الشاب الكردي إنهم يتكلمون بالمصرية ولم افهم منهم شيئاً.

أخذت التذكرة فرحاُ ودخلت القاعة وكأنني أنا الضليع باللهجة المصرية . اِستلم الصبي الواقف على الباب مني تذكرتي وقادني إلى مقدمة الصالة المخصصة لرواد الأربعين فلساً حيث كان يجلس عدد من المشاهدين معظمهم من الأولاد المراهقين والجنود. تلفتُّ يميناً ويساراً، كانت القاعة عبارة عن فناءٍ مسَّورٍ رُتِّبَتْ فيه مصاطبَ خشبية. وقبل أن أمتع نظري بمشاهدة قاعة السينما جيداً أُطفِأتِ الأنوار.

بدأ الجزء الثاني من الفيلم وانتهى ولم أفهم منه إلا اليسير. كما لم تبق في ذاكرتي إلا تلك المشاهد التي كان يُقَبِّلُ فيها بطل الفيلم حبيبَتَهُ.

في هذه السينما ( وفيما بعد في سينما سيروان التي افتتحت في النصف الثاني من الستينيات) شاهدتُ عشرات الأفلام المصرية والأمريكية والهندية وغيرها، حتى أصبحت مولعاً بمشاهدة الأفلام السينمائية إلى درجةٍ كنتُ في بعض المرات أترك المدرسة مع زملائي بعد حصتين أو ثلاثة لنتمكن من مشاهدة فيلم ونفلحُ من لحاق الباص نفسه الذي يعود فيه طلاب الثانوية إلى عنكاوا لكي لا يعرف أهالينا بجريرتنا هذه.

وأجمل ما في هذه السينما (وغيرها من السينمات الأربيلية) صالة العرض الصيفية المكشوفة المرشوشة أرضها بالماء التي كنا نجلس فيها نأكل "الدوندرمة" ونفقس الحبوب المختلفة ونضحك إلى أن يبدأ الفيلم ثم نتقاتل في نهايته بعد أن تتباين آراؤنا حول مضمونه أو شكله الفني أو قدرات ممثليه.

ومن كثرة تعلقي بقاعات السينما الصيفية في أربيل، والتي كان هناك عدد منها في تلك السنوات، نقلت حبي لها معي إلى غربتي. ففي أواسط الثمانينات عرفت بوجود سينما صيفية في طشقند، عاصمة أوزبكستان ، حيث عملت مترجما للأدب وأستاذا في الجامعة فترة. كان الوقت شتاء، انتظرت بصبرٍ نافدٍ أن يأتي الصيف لدخول هذه السينما. كانت السينما تقع في مدخل مُتَنَزَّهٍ، على طرف الشارع، وفي منطقة تعجّ دائماً بالمارة والمتنزهين والسياح الأجانب وغيرهم طيلة أيام الصيف. في المساء كنت أما أدخل هذه السينما ذات الأرضية الترابية المرشوشة بالماء أيضا  لمشاهدة أحد الأفلام وأتذكر سينما صلاح الدين الصيفية في أربيل، أو في الأقل أمرُّ من أمامها متمشياً في نزهة قصيرة وأشتري من كُشْكٍ في مدخلها "دوندرمة" لذيذة أو حَبْ عباد شمس يَبِعْنَهُ نسوةٌ في ورقِ جرائد ملفوفة مخروطياً كما في أربيل.

في تلك السنوات- الستينيات والسبعينيات- كانت السينما مركزاً ثقافياً وترفيهياً كبيراً يرتادها المثقفون والموظفون والتجار والطلاب وبعض العائلات المتعلمة والميسورة في المدينة. كانت السينما متنفساُ اجتماعياً حتى للكثير من العائلات الناشِدة إلى التحرر الاجتماعي والفكري،  فترى المقصورات والمقاعد الخلفية تزدحم بهنَّ دائماً.

ما تزال السينما في معظم دول العالم تلعب الدور نفسه، بل وتشيَّدُ الآن مجموعةٌ من صالات العرض في دار سينما واحدة  (مجمَّع سينمائي) وتعرض بعض الدور أكثر من عشرة  من أحدث الأفلام في آن واحد. ما تزال هوليود في أَوْجِها، وكذلك صناعة السينما العالمية. وما تزال جوائز الأُوسكار تشعُّ بريقاً أخّاذاً ومهرجانات السينما العالمية في كان وكارلو فيفاري وروما وموسكو ومونتريال وغيرها من المدن تُعْقَد بنجاحٍ كبير، بينما السينمات في أربيل، وربما في كثير من مدن العراق، قد هرمت، وأصبح لا يؤمها غير عدد ضئيل من الرواد الهامشيين، ولا تعرض فيها إلا بعض الأفلام القديمة والهابطة أو المثيرة للشهوات، حتى صرنا نتجرأ أن نرثي حال السينما في المدينة مع غياب واحدة من أكبر دور العرض فيها.

المفارقة المثيرة في أمر دور السينما في أربيل أنه يوجد الآن في هذه المدينة، التي أصبحت عاصمة لإقليم كردستان منذ سنوات، أكثر من لجنة ومؤسسة حكومية وشيه حكومية، تُعنى بالسينما بينما لا توجد فعلياً أفلام سينمائية حقيقية تعرض في المدينة إن كان في دور العرض العامة أو في المراكز الفنية والثقافية والاجتماعية!

اليوم تُهدم سينما صلاح الدين، وقد تزال غدا سينما الحمراء، أو سينما سيروان، ولا نعرف ماذا سيبنى في مواقعها، لكن الذي نعرفه بالتأكيد أننا نفقد صرحاً ثقافياُ وترفيهياُ يستحق الرثاء. إننا نرثي فنا جميلاً ومؤثراً في الوقت الذي ما يزال يعيش هذا الفن شبابه في العالم المتحضر!

ألا تستحق السينما، أفلاماً ودور عرض، أن تُعاد إلى الحياة الثقافية في المدينة على نحو فعّال وهادف؟

والعين تسمع والأُذن ترى![/b][/size][/font]

12
هل يُصلح الجعفري اليوم ما خربه بالأمس؟


د. سعدي المالح
 
باعتقادي، أن الدكتور إبراهيم الجعفري، رئيس الوزراء العراقي المنتهية رئاسته لا يصلح لأن يكون من جديد رئيسا لوزراء العراق، مع كل احترامنا لشخصه الكريم ومكانته العلمية ودوره السياسي.
نقول هذا ليس لأن قائمة التحالف الكردستاني رفضته، مهما كانت مبرراتها، وإنما لأسباب أخرى كثيرة لها وطيد العلاقة بالواقع العراقي ككل وليس الكردي وحده.
خلال سنة من قيادته دفة الحكم في العراق، أخفق الدكتور الجعفري في معالجة أهم القضايا التي جاء من أجلها، والواقع الذي نعيشه اليوم أكبر شاهد على ما نقول:
الوضع الأمني ازداد سوءاً، وما يزال يتدهور يوما بعد يوم على الرغم من تدريب وتخريج عشرات الآلاف من قوات الشرطة العراقية، وتشكيل وحدات مهمة من الجيش العراقي الجديد. لا بل انتقل القتل والخطف والاعتداء من الانتقام من هؤلاء "المتعاملين مع الجيش الأمريكي" وقوات الشرطة وبعض الدبلوماسيين الأجانب، والمسؤولين العراقيين إلى المواطنين الأبرياء والساحات العامة ليطال تخريب الكنائس والمساجد والحسينيات ومراقد الأئمة ثم تحول إلى نوع من القتل الطائفي على الهوية.
الرشوة والمحسوبية والمنسوبية والسرقات والفساد الإداري تفشى أكثر من السابق في دوائر الدولة والمؤسسات العامة والمجتمع العراقي ككل بحيث أصبح بعضه مكشوفا من دون أن تطاله يد رقيب أو حسيب.
الخلافات الطائفية تعمقت إلى درجة كبيرة في ظل حكومته، واصطبغت معظم المؤسسات التي تقاد من قبل ائتلافه وأنصاره بصبغة طائفية بحتة إن كان ناحية التوظيف أو من ناحية طبيعة عملها حتى أصبحت شعاراتها الطائفية" البراقة" تفرض وتعلق دون حياء على دوائر الدولة ومؤسساتها التي هي ملك لجميع العراقيين.
الوضع الاقتصادي بقي على حاله إن لم يكن قد ازداد سوءا، والوضع المعاشي للمواطنين في تدنٍ مستمر، إضافة إلى هذا الماراثون اليومي في البحث عن الغاز والنفط والكهرباء وغيرها من الضروريات الحياتية.
وهنا قد يتساءل القارئ: إذن لماذا فاز الائتلاف الشيعي مرة ثانية وانتخب الدكتور الجعفري لرئاسة الوزراء مرة أخرى؟
نقول ان الائتلاف فاز بالفعل، لكن بنسبة 15 % أقل من السنة الماضية، وهذا مؤشر على تخلى جزء من مؤيديه له. والدكتور الجعفري هو الآخر فاز داخل الائتلاف لكن بفارق صوت واحد عن منافسه عادل عبد المهدي بعد "صفقة" التأييد التي عقدت مع ممثلي التيار الصدري.
وفوز قائمة الائتلاف العراقي الموحد (الشيعي) جاء مثل فوز غيره من القوائم (كردية وسنية وغيرها) ضمن أجواء طائفية- قومية ملتهبة أفرزتها التحولات الجديدة في العراق، وأذكتها مرجعيات طائفية- دينية وقومية في محاولة للحصول على نصيب الأسد من الكعكة العراقية التي رفعت عنها اليد الدكتاتورية المقيتة. وأيضا في ظل ضغوط وتدخلات إقليمية ودولية نتلمسها جيدا.
ومن المعروف أن جميع الأحزاب العراقية ليست عراقية بمقاييس الامتداد الجغرافي والانتماء العرقي والطائفي المتنوعين، وحتى الحزب الشيوعي العراقي الذي كان يمثل الأطياف العراقية على اختلافها قوميا ودينيا وطائفيا لم يعد حزبا من هذا النوع بعد استقلال الحزب الشيوعي الكردستاني عنه.
بناء على ذلك لا الائتلاف العراقي الموحد الفائز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان يمثل العراقيين جميعهم ولا الأحزاب الفائزة الأخرى تمثل العراقيين جميعهم. كل حزب يمثل طائفة أو قومية، أو لنقل توجها سياسيا فيها، لكنه لا يمثل سائر القوميات أو الطوائف أو التوجه السياسي لعدد أكبر من العراقيين بأطيافهم المختلفة.
ولهذا يكون من الأفضل عدم الاستناد على الاستحقاق الانتخابي وحده في تشكيل الحكومة الجديدة. إنما الأخذ بنظر الاعتبار تطلعات مكونات الشعب العراقي مجتمعة ومشاركتها البناءة في الحكم لأن ذلك لا يترك أحدا يشعر بالغبن والإبعاد عن العمل السياسي في هذه المرحلة التي نحن بمسيس الحاجة فيها إلى لم شمل الجميع وجعلهم ينخرطون في العملية السياسية السلمية.
إن حكومة بمثل هذه الموازين حتى إن ترأسها عضو في حزب الأكثرية البرلمانية، أقصد الائتلاف العراقي الموحد، ينبغي أن يكون، وقبل كل شيء، رئيسا لوزراء كل العراقيين ويحظى بقبولهم وليس فقط ممثلا لقائمته الانتخابية.
والسيد إبراهيم الجعفري لم يحظ بمثل هذا القبول، ولا كان يمثل كل العراقيين من خلال عمله رئيسا للوزراء خلال السنة الماضية، ولهذا ليس بإمكانه أن يصلح اليوم ما خربه بالأمس، لأنه  أفشل تجربته وتجربتنا الديمقراطية الوليدة.  فلماذا لا يجرب الائتلاف غيره ويختار سياسيا أكثر حنكة وتفتحا وبراغماتية يضع نصب عينه مصلحة العراق برمته وليس مصلحة جزء منه فيقود التجربة من نجاح إلى نجاح ويطورها بما فيه مستقبل الوطن وفائدة الجميع.
 
 [/b]

13
العين تسمع والأذن ترى!
إيّاكم والطائفية السياسية!
د. سعدي المالح
 
في بيروت، كلما استقل سيارة أجرة من جزئها الشرقي إلى جزئها الغربي، أواجه واقعا مريرا.  فما أن يجتاز السائق حدود ما كان يسمى ببيروت الشرقية يسألني عن وجهتي بالضبط وكيف عليه أن يصل المكان المطلوب. ثم يتوجب عليّ أن أدلّه على الطريق إن كنت أعرفه، أو نسأل هذا وذاك عدة مرات حتى نصل إلى العنوان المطلوب إن كنت لا أعرفه.
وأواجه أيضا الواقع المرير نفسه كلما استقل سيارة أجرة من جزئها الغربي إلى جزئها الشرقي. فما أن يجتاز السائق حدود ما كان يسمى ببيروت الغربية يسألني عن وجهتي بالضبط وكيف عليه أن يصل المكان المطلوب.  ثم يتوجب علي أن أدله على الطريق إن كنت أعرفه، أو نسأل هذا وذاك عدة مرات حتى نصل إلى العنوان المطلوب إن كنت لا أعرفه.
ذات مرة وأنا ابحث مع أحد السواق عن العنوان الذي أريد قلت له بتهكم: ما أغربكم أنتم اللبنانيون! لقد انتهت حربكم منذ أكثر من خمس عشرة سنة ، واُلغيَت الحواجز بين طرفي بيروت ووحدت الحكومة وهدأت الأحوال لكنكم ما تزالون تجهلون مناطق بعضكم البعض!
فقال لي: يا سيدي صحيح إن الحواجز الطبيعية ردمت والحكومة توحدت لكن الحواجز النفسية ما تزال تعشش في قلوب الناس وعقولهم، وعليهم أن يجتازوها أولا  لكي يتخطوا الحواجز الطبيعية التي اُزيلت منذ سنوات، فأنا شخصيا لم أزر هذه المنطقة التي ليست منطقتي إلا بضع مرات ولهذا لا أعرفها.
تذكرت هذا الوضع اللبناني الأليم في هذه الأيام بعد أن كادت أعمال العنف الطائفي في بغداد وبعض المدن القريبة منها تؤدي إلى إشعال فتيل حرب أهلية لا تجلب لنا غير الدمار. 
تصورت وأنا الذي لم يرَ بغداد منذ 29 سنة (ولم أتمكن من رؤيتها حتى بعد عودتي إلى الوطن قبل أكثر من سبعة أشهر بسبب الأوضاع الأمنية) أنه ذات يوم قد تكتحل عيني برؤية العاصمة التي أحب وحينها سأستقل سيارة من الأعظمية إلى الكاظمية أو بالعكس فيقول لي السائق إما إنه لا يخاطر على الذهاب إلى هناك أو إنه لا يعرف الطريق لأنه لم يذهب إلى هناك منذ زمن!
تصوروا أي جرح عميق يترك الاحتراب الطائفي، أو الحزبي ، أو الديني. جرح لا يندمل بسنوات. وأية حواجز نفسية تتركها مثل هذه الحرب بحيث تبقى آثارها في القلوب حتى لو اندملت تلك الجروح.
وفي العراق يحاول أعداؤه منذ سنوات جر العراقيين نحو طريق تؤدي بهم أو تنتهي إلى حرب أهلية؛ قومية وطائفية ودينية تحرق الأخضر واليابس لا نحصد منها إلا الخيبة والخراب والموت. 
ولقد فعل هؤلاء الأعداء من أجل دفعنا إلى هذه الطريق كل ما في وسعهم من إمكانيات، وفي أيديهم من قدرات،  سواء بتفجير السيارات المفخخة في الشوارع أو المطاعم أو الحافلات أو الأعراس أو المآتم أو في تجمعات السكان الآمنين.
حاولوا شق وحدة الشعبين الكردي والعربي ولم يفلحوا فاختار الشعبان الاتحاد ضمن عراق ديمقراطي فيدرالي.
وحاولوا النيل من حقوق القوميات العراقية الصغيرة وتهميشها فلم تقبل تلك القوميات إلا أن تكون جزءا من نسيج الشعب العراقي وطيفا من أطيافه.
ثم حاولوا تقويض الإخوة الدينية بين المسيحيين والمسلمين بتفجير الكنائس واغتيال الأبرياء وإرغام الآخرين منهم على الهجرة فلم يفلحوا لأن المسيحيين بقوا أوفياء لهذا الوطن الذي ولدوا  فيه وترعرعوا، وطن آبائهم وأجدادهم.
والآن يحاولون دق إسفين الحقد والبغضاء  بين الشيعة والسنة بنسف قبة الإمامين الكريمين على الهادي وحسن العسكري في سامراء من جهة وتخريب مساجد السنة وقتل أئمتهم من جهة أخرى، ولن يحالفهم النجاح إذا وقفنا  وقفة واعية ومسؤولة بوجه هذا التحرك مؤكدين على أن هذه الأعمال ليست إلا خنجرا في خاصرتي الاثنين معا؛ الشيعة والسنة.
فيا علماء الدين الأفاضل لا تحاولوا أن تضفوا على نشاطكم الطائفي الإيماني بعدا سياسيا فهذا من شأنه أن يسكب الزيت على نار الفتنة.
ويا أيها السياسيون لا تحاولوا أن تلبسوا أحزابكم السياسية ثوبا طائفيا فهذا أيضا من شأنه أن يضرم النار في هشيم الفتنة.
لأن الخطورة تكمن دائما في الطائفية السياسية وليس في الطائفية الإيمانية.
ويا أيها لعراقيون البسطاء لا تنجروا  وراء هذه الحرب المفتعلة فأنتم تعرفون أن من يفجر الكنائس هو نفسه من يفجر المساجد والحسينيات ومراقد الأئمة، وهو نفسه من يفجر الحافلات والمطاعم وحفلات الأعراس وسرادق العزاء .. هو نفسه وإن تراءى لنا أحيانا بصور وأشكال مختلفة ، لا تلحق جميعها إلا الدمار والخراب بالعراق.
أيها البغداديون لا تقسموا مدينتكم إلى كانتونات ومناطق محرمة فالآلاف مثلي – الذين حُرموا منها سنوات طويلة - يتوقون لزيارة  بغداد ذات يوم والتجول فيها بأمان أو الانتقال بين الكاظمية والاعظمية بسلام!
 والعين تسمع والإذن ترى! [/b][/size] [/font]
 

14
رداً على الارهاب المنظم ضد الكلدان الآشوريين السريان
الإدارة الذاتية هي الحل

 
د. سعدي المالح



 يتواصل مسلسل الاعتداء على المسيحيين العراقيين من الكلدان الآشوريين السريان على نحو كثيف، ومنظم أحيانا، من دون وجه حق. إذ تم مساء الأحد المنصرم تفجير عدة سيارات مفخخة أمام أربع كنائس في بغداد وكنيستين في كركوك أثناء إقامة القداديس أودت بحياة أناس أبرياء.

وما يزال الكثير من المسيحيين العراقيين يواجهون، منذ الإطاحة بنظام صدام حسين، القتل والتهجير والاختطاف ومختلف أنواع الاعتداءات والمضايقات بحجج مختلقة وواهية ليس لها أي سند. فقد تعرضت العديد من كنائسهم ومنتدياتهم والكثير من مراكز عملهم إلى التفجير والتخريب والهجوم المسلح إلى درجة خلت مدينة البصرة والجنوب العراقي كله تقريبا من المسيحيين الذين سكنوا هذه المناطق منذ أزمان طويلة، واضطر عشرات الآلاف من سكان بغداد المسيحيين إلى ترك بيوتهم وأعمالهم وممتلكاتهم والهرب بجلدهم إما إلى إقليم كردستان الآمن أو إلى الدول العربية المجاورة ولا سيما سوريا والأردن.

المسيحيون العراقيون الذين نشدوا الحرية والمساواة بعد التحولات الأخيرة في العراق، كغيرهم من أبناء الشعب العراقي، وجدوا أنفسهم في حلقة ضعيفة وسط الفلتان الأمني والتحزب الطائفي والقومي لمكونات الشعب العراقي الرئيسة، وذلك لأنهم أولاً: لا يشكلون في الوقت الحاضر إلا أقلية صغيرة موزعة بين محافظات بغداد والبصرة وكركوك والموصل وأربيل ودهوك. وثانيا: لعدم وجود مرجعية موحدة كنسية أو سياسية أو عشائرية تذود عنهم وتقود أمورهم الدينية والسياسية والاجتماعية، وتكون عونا لهم في الدولة ومؤسساتها.

إن هذه الحلقة الضعيفة من العراقيين أصبحت تتعرض لاعتداءات مختلفة ومستمرة كلما دق الكوز بالجرة كما يقال. فإذا صادف أن تضرر جامع بنتيجة معركة بين الأمريكيين أو القوات الحكومية مع الإرهابيين سرعان ما رفع البعض في اليوم التالي قبضته مهددا بهدم الكنائس على المصلين وينفذ تهديده. وإذا مُنع الحجاب في فرنسا سارع بعض آخر  إلى قتل المسحيين في العراق أو فرض الحجاب على نسائهم ردا على ذلك. وإذا نشرت صحيفة أوربية صورة مسيئة للدين الإسلامي الحنيف انفجرت بعد أيام مجموعة من السيارات المفخخة أمام عدد من الكنائس دفعة واحدة. كل ذلك يحدث وكأن المسيحيين العراقيين جزء من الغرب " المسيحي" أو تابعين له متناسين عن قصد أو غير قصد أن العراقيين الكلدان الآشوريين السريان كانوا من أوائل الشعوب التي اعتنقت المسيحية وأسسوا كنيستهم الوطنية المستقلة بقرارها – كنيسة المشرق.

صحيح أن العراق يعيش وضعا صعبا وفلتانا أمنيا وخاصة في القسم الأوسط منه حيث يتعرض الكثير من العراقيين من شيعة وسنة وغيرهم إلى قتل وتعذيب وسجن وخطف ومضايقات مختلفة إلا أن المسيحيين في هذه المناطق وخاصة في بغداد والبصرة والجنوب يعيشون الإرهاب مضاعفا مرة لكونهم مواطنين عراقيين مسالمين أسوة بغيرهم ومرة أخرى لكونهم مسيحيين ومن قومية صغيرة لا لا حول ولا قوة لها.

هذا الوضع الشاذ الذي يعيشه المسيحيون في العراق من الكلدان الآشوريين السريان يتطلب حلولا جذرية قبل أن يفرغ  العراق من سكانه الأصليين، أبناء بابل وآشور، بناة حضارته القديمة ورواد نهضته المعاصرة، ويفقد هذا البلد طيفا من أطيافه القومية والدينية الذي تميز به منذ أزمان قديمة.

إن واحدا من الحلول المطروحة في الوقت الحاضر هو أن يحصل المسيحيون العراقيون من الكلدان الآشوريين السريان ضمن العراق الفيدرالي الموحد على إدارة ذاتية ؛ اقليم أو محافظة تتمتع بحكم ذاتي في سهل نينوى حيث العشرات من القرى والمدن الكلدانية الآشورية السريانية التي تشكل مع بعضها البعض جغرافيا وقوميا ودينيا وثقافيا وحدة إدارية متميزة لا تزال تعيش على جزء من أرض أجدادها الآشوريين.

هذه الإدارة الذاتية تصبح مستقبلا مستقرا لأكبر عدد ممكن من الكلدان الآشوريين السريان المسيحيين وتساهم في تطوير ثقافتهم وبعث تراثهم وتعزز تكوينهم السياسي- القومي. 

إن هذا الحل- المطلب ينبغي أن يصبح هدفا لجميع الأحزاب الكلدانية الآشورية السريانية، وجميع الكنائس والطوائف المسيحية في العراق، وكذلك جميع منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الثقافية والاجتماعية لشعبنا داخل العراق، تطالب به دستوريا وبكافة الطرق المشروعة وتكسب له تأييد الأحزاب والقوى والمؤسسات العراقية وخاصة المجلس الوطني (البرلمان) العر اقي. وأيضا يجب أن لا يقل هنا دور المؤسسات القومية والدينية الكلدانية السريانية الآشورية خارج العراق التي يتوجب عليها أن تشكل قوة ضغط (لوبي) تطالب المجتمع الدولي بدعم مثل هذا المشروع – الحل من أجل بلوغ هذا الهدف بأسرع وقت. 

[/b] [/size][/font]         

15
هل يحتاج العراقيون إلى مصالحة؟
د. سعدي المالح

يزور بغداد هذه الأيام وفد من جامعة الدول العربية لإجراء مباحثات ولقاءات مع أطراف وأحزاب وجماعات عراقية عدة ومحتربة فيما بينها تمهيدا لما يسمى بمؤتمر للمصالحة قد يعقد برئاسة عمرو موسى الأمين العام للجامعة.
هذه الزيارة أثارت منذ اليوم الأول ردود أفعال ونقاشات في الشارع العراقي وتناولها السياسيون من أطراف مختلفة، كل حسب توجهه السياسي والفكري والطائفي وميوله ومصالحه. فهناك من رفض كليا مبدأ المصالحة وفكرة انعقاد هذا المؤتمر على اعتبار أن العراقيين ليسوا بحاجة إلى مصالحة ولا سيما إذا كانت بمبادرة من الجامعة العربية المنحازة دائما إلى طرف من الأطراف. لكن في الوقت نفسه هناك من رحب بالمبادرة وأثنى على موقف الجامعة إما من منطلق يعتبر فيه الجامعة العربية متحيزة إلى جانبه أو أن هذه المصالحة قد تأتي بنتائج تكون إلى حد ما من مصلحته. وهناك من ينظر إلى مبادرة جامعة الدول العربية وانعقاد مثل هذا المؤتمر نظرة ايجابية موضوعية باعتبار أنها قد تؤدي إلى إيجاد مخرج للمأزق الذي يمر به العراق، وخاصة المأزق الأمني.
فهل يحتاج العراقيون فعلا إلى مثل هذه المبادرة والمصالحة؟
إن قراءة سريعة للتاريخ السياسي للعراق المعاصر منذ تأسيس الدولة العراقية وللآن تكشف لنا مدى الحقد الذي اختزنته قلوب الكثير من العراقيين خلال هذه السنوات سواء كانت بين نوري السعيد وأعوانه من جهة وبين الحركة الوطنية العراقية وخاصة الأحزاب اليسارية من جهة أخرى، وما أدى إليه هذا الحقد من قتل للعائلة المالكة على نحو مفجع وسحل لنوري السعيد بشكل عشوائي في الشوارع من قبل بسطاء الناس. أو الحقد المتولد بين عبد الكريم قاسم والحركة الكردية الذي أدى إلى نشوب قتال دموي كان بداية لحرب طاحنة ضد الشعب الكردي. أو الحقد المستفحل بين البعثيين والشيوعيين في عام 1963 أو بين البعثيين من جهة وبين الشيعة أو الأكراد أو أية فئة أخرى من أبناء الشعب العراقي التي طالها القمع.
إنه الحقد نفسه الذي أنتج أحقادا أخرى لا يزال يعاني منها الشعب العراقي. هذا الشعب الذي هو الآخر لا يزال يعيش العلاقات العشائرية والطائفية والفئوية التي لا تستطيع نسيان الماضي والتخلص من تبعاته.
إن استمرار مثل هذا الحقد والاحتراب مضافا إليهما القتل بين فئات مختلفة من الشعب العراقي سوف يزيد من الأحقاد والضغائن والتوتر وبالتالي يؤخر العراق في عملية البناء والتطور والديمقراطية بعد زوال النظام السابق الذي كان عاملا مساعدا على إنتاج الحقد وتسويقه.
إذن نحن بمسيس الحاجة إلى المصالحة بدلا من تأجيج الأحقاد وإلهابها بمزيد من العمل العسكري والقوة المفرطة من جميع الأطراف.
إن الحل السلمي والمصالحة الوطنية ضروريتان من أينما جاءت المبادرة إليهما لأن مثل هذه المبادرة والمصالحة ينبغي أن تناقش من جميع الأطراف على أسس وثوابت الوطن الواحد والمشترك لكل العراقيين، الوطن الذي ينبغي أن يوفر الفرصة للجميع أن يلعبوا في بناء مستقبله دورهم .
وبالطبع يجب أن نفرق في أثناء انعقاد مثل هذا المؤتمر والقبول بمثل هذه المبادرة بين ما هو إرهاب فعلي غايته القتل وبث الفرقة والشقاق وايقاف حركة التطور والبناء السياسي والاجتماعي للعراق وبين ما هو معارضة عراقية حقيقية مؤسسة على المصلحة الوطنية العراقية الغيورة على مصلحة العراق .
إن مبادرة الجامعة العربية مبادرة قيمة وضرورية وينبغي لها أن تلقى الاهتمام المطلوب من لدن جميع الأطرؤاف فيما إذا كانت حسنة النوايا ومنطلقة من مبدأ خلق توازن سياسي في العراق وقطع الطريق أمام الأحقاد التي بدأت ترفع رأسها من جديد.
إننا في الوقت الحاضر فعلا بحاجة إلى حسم الموقف سياسيا ومن خلال مصالحة حقيقية بين جميع الأطراف بحيث لا يشعر أحد أنه غالب أو مغلوب وليس إلى حسم الموقف عسكريا وسحق الآخر لمجرد معارضته للوضع السياسي معارضة يجد فيها شرعية ما بسبب ظروف الوجود الأجنبي المعقدة والتي قد تعطيه بعض الحق.  إن القوة العسكرية مهما كانت غير قادرة على حسم تعقيدات الوضع الداخلي، وحتى إذا تمكنت من حسمه بالقوة فلن تلد تلك القوة وخاصة المفرطة منها إلا الحقد بينما الحل السلمي يلد التآلف الاجتماعي والتآخي وهذا ما نحن بحاجة إليه في عراقنا الجديد في هذا الوقت أكثر من أي وقت آخر.
وينبغي أن نفهم أيضا أن إنتاج الحقد عملية سهلة جدا وسريعة يستطيع القيام بها أي قائد أو سياسي متهور، بينما صناعة السلام عملية معقدة تتداخل فيها عوامل عدة تأخذ وقتا حتى تتآلف مع بعضها البعض ولا يمكن الوصول إليها إلا بمشاركة مجموعة كبيرة من سياسيين محنكين وقادة ورجال دولة ومفكرين وأناس يتمتعون بحكمة ودراية بالأمور.
والعين تسمع والإذن ترى!

13/10/2005 [/b] [/size] [/font] 

16
المنبر الحر / أين خصوصية عنكاوا؟
« في: 18:49 05/10/2005  »
العين تسمع والأذن ترى
أين خصوصية عنكاوا؟
د. سعدي المالح

في عام 1993 عندما زرت عنكاوا بعد غياب 16 عاما كان قد تغير الكثير في تلك القرية الصغيرة التي تركت.  كنت أعرف  من بعض العنكاويين الذين التقيت في الخارج أن عنكاوا قد تغيرت وثمة شوارع  وبيوت جديدة قد ظهرت فيها، لكني مع ذلك كنت واثقا من نفسي من أنني سأعرف  الطريق إلى بيتنا وأبلغه من دون عناء.
كانت الساعة في حوالي التاسعة مساء، وعنكاوا غارقة في العتمة حتى أذنيها بسبب تقنين الكهرباء. عرجت بنا السيارة من شارع الستين الذي يلتف حول أربيل إلى الشارع المؤدي إلى عنكاوا. قلت للسائق هذه هي دور ضباط الصف، وهناك كان ثمة مدرسة للراهبات. ثم بعد كيلومترين ؛ وهذه " كوران". وبعد بضعة مئات من الأمتار وجدت نفسي في شارع حديث تصطف بيوت وقصور جميلة على جانبيه. سألت السائق:" هل أنت متأكد من أننا دخلنا عنكاوا؟´ قال:" طبعا .. جئت إليها عشرات المرات".
عندما تركت عنكاوا في عام 1977 كان ثمة شارع رئيس واحد يربطها بأربيل، وكان الشارع باتجاهين الذهاب والإياب.
واليوم فتح شارع جديد عند مدخلها باتجاه واحد يدخله القادم من أربيل، أما القديم فخصص للإياب. هذا ما لم أعرفه، وربما كان الظلام أيضا سببا في عدم معرفتي الطريق، فصرت أقول للسائق  أدخل من هنا فيدخل، ثم استدر يمينا فيستدير، بعد ذلك يسارا فيعرج. لكني لم أعثر على أي ملمح يقودني نحو بيت أهلي.
ولما رأى السائق أن الوقت يمضي وأنا أتخبط في الطرقات اقترح علي أن نسأل أحدا. كان الأمر محرجا، لكني وافقته وإن  على مضض. أوقف سيارته أمام بيت كان يخرج منه بعض الشباب. نزلت من السيارة. لفحتني نسمة هواء باردة ( كان الوقت في أوائل آذار) توجهت نحو الشبان الثلاثة. انتبهوا لي فتباطأوا. كانت بيننا مسافة تقدر ببضعة أمتار. وقفت وأردت أن أحدثهم.
كان الموقف صعبا جدا. صعد الدم إلى رأسي فغص حلقي وحبس صوتي. لملمت عواطفي وحاولت التحدث إليهم مرة أخرى. اختنقت الكلمات في مكان ما وأجهشت بالبكاء . اقترب مني الشباب الثلاثة مندهشين وقبل أن يبادروا بالسؤال قلت لهم بصوت يكاد لا يسمع : أنا فلان ، دلوني على بيتنا.
في تلك السنة كان قد تغير الكثير لكن الناس أنفسهم كانوا أقل تغيرا. حتى مراتع الطفولة كانت باقية: محلتنا القديمة وأهلها، الحقول والبيادر والبساتين. أبي وأمي وأخواتي وأقربائي وجيراني وأصدقائي كانوا كلهم في عنكاوا تقريبا. ولم تتغير معالمها كثيرا.
في عام 2001 زرت عنكاوا مرة أخرى كان تغييرا بسيط قد طرأ عليها: بعض البيوت الجديدة ظهرت هنا وهناك وكثير من الأصدقاء والمعارف كانوا هاجروها، في الوقت نفسه قد حل محلهم كثير من الغرباء والأجانب.
في زيارتي الأخيرة هذه تغير كل شيء. وبدت لا أعرف عنكاوا من دون دليل. وغدت عنكاوا غير التي أعرف. أحياء جديدة ومؤسسات وشركات عالمية وغرباء كثيرون وشوارع وحدائق وتطور عمراني لا يصدق حتى فقدت عنكاوا خصوصيتها القومية والدينية والثقافية والاجتماعية. وهذا تطور هام لكنه مخيف!
تطورت عنكاوا فاصبح نحو ربع أهاليها من غير أهلها. توسعت عنكاوا فتناثرت فيها المؤسسات والشركات والمنظمات العالمية، فأصبحت تواجه بين شارع وآخر حراسا ونقاط تفتيش وشوارع مقطوعة وحواجز. اختفت حدائقها العامة القديمة أو تحولت إلى مراكز لمؤسسات ولم تظهر فيها من الحدائق ما يفي بأغراض أهلها.
كانت النساء يسرن في  الشوارع  والحدائق وحدهن من دون مشاكل يتنزهن ويتمشين واليوم لا تتجرأ الكثير من النساء السير وحدهن في شوارع عنكاوا  من مساء أي يوم من دون أن  تتعرض لمضايقة عدد من السيارات التي عادة يكون راكبوها سكارى.
أن تتطور عنكاوا أمر جيد ولا بد منه، أمر يشكر عليه كل من ساهم ويساهم فيه. لكن ينبغي أن يرافق هذا التطور الاحتفاظ بخصوصيتها العمرانية والقومية والدينية والثقافية والاجتماعية. فعنكاوا طيف متميز من أطياف إقليم كردستان العراق ، لا بل ومن أطياف  العراق الكبير. وضياع أي طيف من أطيافه هو ضياع لجزء منه، بحيث تبقى صورة العراق ناقصة وغير تامة أو مشوهة.

والعين تسمع والأذن ترى! [/b][/size][/font]

17
العين تسمع والأذن ترى
اللغة والثقافة أولاً
د. سعدي المالح

لو ألقينا نظرة سريعة على المؤسسات والجمعيات والمراكز الثقافية الكلدانية الآشورية السريانية، سواء كانت مؤسسات حكومية أو مؤسسات مجتمع مدني، لرأينا جميعها تقريبا مسيسة، بل مشحونة  بالهم السياسي بدلا من الثقافي وعلى نحو غير طبيعي، أو تتداخل فيها السياسة بالثقافة تداخلا مباشرا حتى يصبح الفعل السياسي غالبا على النشاط الثقافي الذي هو واجهة لمعظم هذه المؤسسات.
هذا الأمر جعل من معظم هذه المؤسسات ساحات مواجهة بين بعض الأحزاب أو الأطراف أو التيارات السياسية أو بعض المتعصبين لهذه التسمية أو تلك. وبالتالي أدى إلى حرمان الكثير من المثقفين الحقيقيين – مسيسين ومستقلين- من دعمها أو الانتماء إليها أو المشاركة في نشاطاتها لأسباب مختلفة، بينما تبوأ بعض من الطارئين على الثقافة، أو أنصاف المثقفين، مراكز قيادية فيها لاعتبارات سياسية أو حزبية بحتة.
ومن الغريب، إن بعض المؤسسات اللغوية والتربوية ومؤتمراتها تسيست هي الأخرى بحيث إذا اُعتبرت محسوبة لهذه الجهة قاطعتها الجهة الأخرى وراحت الجهة المسيطرة أو المدعومة تفرض سياساتها حتى على تعليم اللغة أو تطويرها وغيرها من البرامج ذات العلاقة.
في الوقت ذاته تسعى الجهة المقابلة بكل ما أوتيت من قوة لإفشال تلك المشاريع أو التقليل من أهميتها أو إفراغها من معناها أو منع التلاميذ من الاستفادة منها. وبالنتيجة تواجه عملية التعليم وبالذات التعليم السرياني وتطوير اللغة وتوحيدها إشكالات جمة وتعاني من إسقاطات سياسية وصراعات حزبية نحن في غنى عنها ولا سيما أطفالنا التواقين لتعلم هذه اللغة.
إنه التحزب والتعصب الأعمى في كل شيء، يطال حتى الشهيق والزفير، تحزب يأتي على اللغة والثقافة ويمسخهما ليصبحا ثقافة الحزب والطائفة والمسمى المعين. ويا حبذا لو كان هذا التحزب بيد أناس يعرفون أهمية تعليم لغتنا والأخذ بيد ثقافتنا، أو تحزيا تنافسيا يساعد على تطوير وتنويع مصادر ثقافتنا، وليس تحزبا يأتي على الأخضر واليابس.
إن الأمر لخطير إلى درجة تكاد ثقافتنا تختنق من هذا الهواء الفاسد، وتنفصل مكوناتها عن بعضها البعض حتى لتغدو اللغة الواحدة لغات متعددة والثقافة الواحدة ثقافات متناقضة تتصارع فيما بينها. 
    كما هو معروف، هذا كله لا يضيف لبنة إلى صرح وحدة شعبنا الكلداني الآشوري السرياني المنشودة، بل يزيد من التفرقة والتشتت والتباعد بين أطياف شعبنا وثقافاته وتسمياته المتعددة، ولا سيما في هذه المرحلة التي نسعى فيها بكل طاقاتنا لخلق أجواء الوحدة القومية والدينية والثقافية في عراق ديمقراطي متعدد القوميات والأديان.
لقد أصبح بلوغ هذه الوحدة في الظرف الراهن، من خلال الواقع العملي المتشرذم، مسألة معقدة ومتشابكة وغير قابلة للتحقيق دفعة واحدة، وخاصة أن سياسيينا ورجال ديننا ما زالوا في طريق بعيدة عن هذا الهدف. لهذا لابد من التفكير بخطة جديدة تضع الجميع على طريق واحدة. طريق واحدة نقطعها على مراحل تدريجية تؤدي إلى الهدف نفسه.
اقتراحي هو أن نبدا باللغة والثقافة أولا ثم نخطو خطوات أخرى. وهذا يتم قبل كل شيء بتوحيد مراكزنا اللغوية وبرامج تعليمها في المؤسسات التربوية الخاصة والعامة وتجريدها بالكامل من التوجهات السياسية المباشرة، أي بفك الارتباط أو الاشتباك بين ما هو سياسي وثقافي- تعليمي بحيث تصبح المؤسسات والمراكز والجمعيات الثقافية والتعليمية متخصصة في المجالات الثقافية والتربوية الحقيقية بعيدا عن التأثيرات والتوجهات والصراعات السياسية.
وينبغي أن يرافق خطوة فك الارتباط أو الاشتباك بين ما هو سياسي وثقافي هذه خطوة هامة أخرى ألا وهي توحيد الأسماء لتدل على المسمى الواحد، أي بكلمة أخرى ما دمنا نسمى لغتنا سريانية وثقافتنا هي الأخرى أيضا سريانية ، فلتحمل جميع هذه المؤسسات والجمعيات والنوادي والمراكز- حكومية كانت أم مؤسسات مجتمع مدني- الاسم السرياني بدلا من الكلداني أو الآشوري أو الكلدوآشوري أو غيره، فهو اسم يجمع ويوحد في هذه المرحلة وفي هذا المجال أكثر من غيره.
بلا شك، من السذاجة أن نفكر أن مثل هذا العمل الحساس والمتشابك يتم من خلال الهيئات العامة أو قيادات هذه المؤسسات أو الجمعيات أو المراكز وحدها من دون اتفاق أو دعم مسبق أو موافقة  المسؤولين السياسيين والحكوميين المشرفين على هذه المراكز والجمعيات، وكذلك الممولين والمساندين والداعمين الذين ينبغي أن يعملوا جميعا بهذا الاتجاه لكي يحقق مثل هذا التحول جدواه.
وبهذا نكون قد خطونا واحدة من الخطوات الهامة والجادة في طريق الوحدة.
والعين تسمع والأذن ترى! [/b][/size][/font]

18
العين تسمع والأذن ترى
مخاطر جدية على مستقبل الديمقراطية
د. سعدي المالح

أن يكون لنا دستور نعرف فيه حقوقنا وواجباتنا أفضل ألف مرة من أن لا يكون لنا دستور. وأن يكون لنا دستور دائم، مهما كانت نواقصه، أفضل من أن يكون لنا دستور مؤقت قابل للخرق والتغيير، هذا أمر لا جدال فيه.

وإذا ناقشنا دستورنا الجديد من هذا المنطلق، لا نخطئ إذا قلنا أنه دستور يستحق الاحترام على الرغم من نواقصه ومثالبه الكثيرة وتناقضاته المتعددة،  لأنه في المحصلة الأخيرة أول دستور يحقق للعراقيين الكثير من العدالة التي افتقدوها في دساتيرهم السابقة.

وبلا شك، سينعم العراقيون بموجب الدستور الجديد، وللمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث، بنظام حكم برلماني ديمقراطي اتحادي يجري فيه تقاسم السلطات بين الحكومة الاتحادية والحكومات الإقليمية والمحافظات والإدارات المحلية بشكل يمنع فيه تركيز السلطة في يد الحكومة الاتحادية. وتتمتع فيه السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، باستقلاليتها. أما خضوع القوات المسلحة العراقية والمخابرات،  للمرة الأولى في تاريخ العراق، للسلطات المدنية فيعد أساسا لدمقرطة المجتمع وانتشاله العسكريتاريا والاضطهاد السياسي . إن كل هذا هو نمط جديد وغير مألوف لأنظمة الحكم في منطقة تتميز بأنواع من الأنظمة الشمولية والاستبدادية والفردية.

بالتأكيد إن الدستور الجديد يهدف إلى إزالة آثار السياسات والممارسات العنصرية والمذهبية التي كانت  قائمة في العراق في ظل الحكومات السابقة. ويضمن للعراقيين الحقوق والحريات والواجبات المتساوية دون تمييز، وبصرف النظر عن الجنس أو الرأي أو المعتقد أو القومية أو الدين أو المذهب أو اللون. ويقر الدستور وللمرة الأولى في تاريخ العراق إن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، والشعب العربي فيه وحده جزء من الأمة العربية  على خلاف ما كان سائدا في الدساتير العراقية السابقة التي كانت تعتبر العراق بكافة قومياته جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية. في الوقت نفسه، يمنح الحقوق الإدارية والثقافية والسياسية للتركمان، والكلدان والآشوريين، والمواطنين الآخرين كافة. ويعتبر اللغتين العربية والكردية اللغتان الرسميتان للعراق مع ضمان حق  الأقليات الأخرى في التعليم بلغتهم الأم كالتركمانية والسريانية والأرمنية في المدارس الحكومية والخاصة . وفي هذا نصر كبير للأقليات غير العربية في تحقيق مطالبها.

وفي الوقت نفسه، يتضمن القانون العديد من الفقرات التي أثارت وتثير إشكالات كبيرة في المجتمع العراقي، بعضها يحمل مخاطر جدية على مستقبل الديمقراطية في العراق وخاصة المكونات الصغيرة من الشعب العراقي، وبعضها الآخر يحمل تناقضات قد تصطدم مع مواد أخرى في الدستور تلغي عملها أو تعيقه.

وبرأيي ثمة تناقضات في المادة الثانية من الدستور التي تقر بأن الإسلام دين الدولة الرسمي ومصدر أساس للتشريع إذ أن الفقرة أ " لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام" بتقدمها على الفقرتين ب " لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية" و ج " لا  يجوز سن قانون يتعارض  مع الحقوق والحريات الأساسية الواردة في هذا الدستور" تلغي مفعولهما وتجعلهما كأنهما غير موجودتين، وتعيق سن وتطبيق الكثير من القوانين المواكبة للتطور الديمقراطي وحقوق الإنسان، مما يضع مستقبل الديمقراطية في خطر جدي. هذا والفقرة نفسها لا توضح بشكل صريح أي نوع من التشريع الإسلامي تريد، ووفق أي المذاهب ستطبق هذا التشريع مما سيثير جدلا ولغطا كبيرين أثناء سن أي قانون يعتمد التشريع الإسلامي مستقبلا.

يمنح الدستور في المادة 17 " لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة". وكلمة الآداب العامة هنا كلمة مطاطية يمكن سحبها على إي شيء لا يعجب المشرع أو اختصارها بحيث يصبح أي شيء مباحا، لهذا كان لابد أن توضح هذه" الآداب العامة" في مادة ما أو أن تستبدل "بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين وأحكام هذا الدستور".

في رابعا من المادة 29 " تمنع أشكال العنف والتعسف في الأسرة والمدرسة والمجتمع" من دون توضيح أي نوع من العنف يقصد به الجسدي فقط أم الجسدي والنفسي، لأن كلاهما متفشيان في مجتمعنا. وبرأيي هذه الفقرة كان يجب أن تذكر " وبخاصة ضد المرأة والطفل لأنهما الأكثر تعرضا لكلا النوعين من العنف والتعسف"

تتحدث المادة 48 عن التمثيل في مجلس النواب بنسبة مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق " ويراعى تمثيل سائر مكونات الشعب فيه " ولكي تحصل المكونات الصغيرة من الشعب العراقي على تمثيل عادل في الجمعية - ولا سيما يصعب على بعضها الحصول حتى على مقعد واحد، نظرا لأن العراق سيكون دائرة انتخابية واحدة - لابد من تخصيص "كوتا" أو مقاعد محددة لهذه المكونات الصغيرة حسب عددها نسبة إلى عدد نفوس العراق ليتنافس عليها أبناء هذه القوميات كما هو في الكثير من البلدان.

في المادة 123 التي تضمن حقوق القوميات المختلفة يرد اسم الكلدان والآشوريين، وإن كان الاسمان محصورين بين فاصلتين، كأنهما قوميتان منفصلتان. ويعد هذا الفصل بمثابة اقتراف " جريمة" بحق أبناء هذه القومية الصغيرة التي فرضت عليها ظروف تاريخية خارجة عن إرادتها ثلاث تسميات: الكلدان الآشوريون السريان. وهنا يجب- وإن كان مقترفو هذه الجريمة الحقيقيون ممثلي هذا الشعب في المجلس الوطني- إيراد التسميات الثلاث باعتبارهما مسميات لشعب واحد ، والذي سيساعد، إلى حد ما، في حل جزء من إشكال التسمية المستفحل بينهم مستقبلا.  [/size][/font] [/b]

19
 
ديباجة غير مدبجة بديباج العراق

د. سعدي المالح

من المعروف أن ديباجة أي كتاب أو وثيقة هي فاتحته. وعادة ما تكون هذه الديباجة الوجه الذي يطالعنا في المقدمة، ولهذا اعتادت العرب والعجم على تزينها وتجميلها. وقديما كان يُعد صَون هذه الديباجة كناية عن شرف النفس. ولعل المفردة هذه جاءت من الثوب - الديباج الذي سُداه ولُحمته حرير.

هكذا كان يجب أن تكون ديباجة الدستور العراقي الجديد الذي صوّت عليه المجلس الوطني وعرضه على الاستفتاء الشعبي العام؛ ديباجة قوية متينة، مزينة جميلة، ومعبرة عن تاريخ العراق ومكوناته، ثابتة وراسخة ومدبجة بطيلسانه. إلا أن مطالعة سريعة لهذه الديباجة تكشف لنا ركاكتها وهشاشتها وضعفها وعدم شمولها لا على سُدى العراق ولحمته بأقوامه وأديانه وتاريخه ولا مزينة بحضارته وأطياف ثقافته.

فالديباجة هذه، بدلا من أن تكون رزينة دستورية ومنطقية محددة ومختصرة ومستوعبة لتاريخ العراق وحضارته ومكوناته وأديانه، جاءت بمجملها ضبابية وعمومية ترمي الكلام على عواهنه بحيث يفسر تفسيرات متناقضة أحيانا و مبتسرة وناقصة أحيانا أخرى.

على نحو أوضح، إنها تقرأ التاريخ والحضارة والمكنون العلمي والثقافي من خلال المفهوم الديني فحسب،  المفهوم "الإسلاموي" ذي النزعة الشيعية تحديدا، من دون إقامة اعتبار كافٍ للأديان والثقافات الأخرى،  أو الإقرار بوجود أعداد كبيرة من الليبراليين والديمقراطيين والعلمانيين وحاملي الأفكار التقدمية الأخرى في المجتمع العراقي.

بلا شك، سيكتشف المعتدلون من الأكراد والعرب، من السنة والشيعة، من الأديان والقوميات الأخرى، نواقص وفجوات ومثالب كثيرة في هذه الديباجة، أترك لهم مناقشتها، مكتفيا هنا بالإشارة إلى ما فيها من فجوات ونواقص ومثالب  في الأقل من وجهة نظر الكلدان الآشوريين السريان. 

منذ الأسطر الأولى تلغى الديباجة اسم السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين من حضارة العراق وتاريخه،  وهي برأيي عملية إلغاء ذاكرة مقصودة تمارس بدهاء وخبث، وبأسلوب يلتقي مع أساليب البعث السابقة. تلك الأساليب التي كانت ( وما تزال في بعض الدول) تنسب هذه الحضارة إلى العرب القدماء، في محاولة لإمحاء مسمى هذه الحضارة وأصولها، وبالتالي فصلها عن ما تبقى من أبنائها في بلدهم الأصلي. وهذا الأسلوب، كما هو معروف،  ليس إلا جزءا من أسلوب محو ذاكرة الشعوب وتاريخها الذي استخدمه المهاجرون الأوروبيون إلى الأمريكتين واستراليا بحق سكان البلاد الأصليين.

ثم تأتي الديباجة لتستلهم " فجائع شهداء العراق، شيعة وسنة، عربا وكوردا وتركمانا، ومعهم بقية إخوانهم من المكونات جميعها..." في حين كان يجب أن تذكر الديباجة المسلمين والمسيحيين أولا كمكونين لدينين رئيسيين في العراق (وإن كان عدد المسيحيين قد تضاءل في السنوات الأخيرة) ثم تعدد الطوائف الإسلامية. وأيضا اكتفت هذه الديباجة من الناحية القومية بذكر العرب والكورد والتركمان بعد ذلك أضافت إليهم " ومعهم بقية إخوانهم من المكونات جميعها" وكأن الفجائع لحقت بشكل رئيس بالمسلمين فحسب! بما معناه أن المسيحيين والايزيديين والصابئة، أو " بقية المكونات" والتي هي الكلدان الآشوريين السريان بالأساس لم تكن فجائعهم بالأهمية نفسها التي للآخرين، علما أن الجميع واجه الفظائع نفسها، بل وأن القوميات والديانات الصغيرة كان نصيبها أكبر من القتل والتشريد والتهجير والاغتراب ومواجهة الفظائع نسبة إلى حجمها، وهذه حقيقة دامغة.

ونواصل قراءة الديباجة غير المدبّجة بطيلسان العراق. فعندما تستنطق عذابات القمع القومي تذكر ما لحق بالعرب والأكراد والتركمان من سنة وشيعة ولا تأتي على ذكر الكلدان الآشوريين السريان كقومية ولا كمسيحيين، متناسية عن قصد أو غير قصد مجازر سميل على يد الجيش العراقي في عام 1933 والتي راح ضحيتها آلاف عدة من أبناء شعبنا في يوم واحد وفي موقع واحد . ولا مجزرة قرية صورية في عام 1968 في محافظة دهوك على يد جلاوزة صدام حسين التي أودت بحياة العشرات من أبناء قرية واحدة. ومتناسية المئات من الكلدان الآشوريين السريان الذين وهبوا أنفسهم من أجل العراق في سجونه أو كانوا ضحايا الأنفال، أو قضوا في ساحات المعارك مع قوات الأنصار والبيشمركة . ولا يود هذا الدستور أن يذكر في ديباجته عشرات  القرى الكلدانية الآشورية السريانية التي دمرت في الأنفال، وتعرض أهاليها للقتل والتشريد، وعشرات الكنائس التي خربت والمزارع التي أحرقت.

فلكي نكون أوفياء لهذا الوطن وجديرين بحمل اسمه وتحمل كل المسؤوليات الملقاة على عاتقنا لا بد من أن يكون لنا حقوقنا كاملة غير منقوصة سواء بذكر اسمنا إلى جانب بقية مكونات الشعب العراقي في السراء والضراء أو بإبراز وجهنا الحضاري كجزء من هذا الشعب.  فنحن لا نريد أكثر مما يريد أي عراقي ولا أقل مما يريد أي عراقي أي كان دينه أو مذهبه وأية كانت قوميته.

من اليسير على كل من يقرأ ديباجة الدستور العراقي الجديد من الذين يؤمنون بالمنطق العلمي والقانوني وبالحقوق والحريات الديمقراطية والدستورية أن يكتشف أنها ديباجة غير مدبّجة بديباج العراق، بل لعلها كمُفردة أقرب في تطبيقها في هذا الدستور إلى معنى كلمة الديباج الأصلي بغير لغات أهل العراق.

ولنا عودة إلى فقرات الدستور في مقال آخر.

عنكاوا في 31 آب 2005[/font][/size]

20
من العار أن نسكت على ما يحدث!



بعد مخاض عسير وشاق، تخللته اجتماعات ومفاوضات وتنازلات واتفاقات ومشادات، وكثير من اللغط والكلام، المفيد والفارغ، خرجت علينا مسودة الدستور العراقي الجديد لتفسر لشعبنا الكلداني الآشوري السرياني الماء بالماء، فأوردت اسم شعبنا تحت تسميتين منفصلتين الكلدان والآشوريين من ناحية، ولم تمنح هذه المسودة لنا كمسيحيين، وللمسيحية باعتبارها الدين الثاني في العراق، بل وأقدم دين من الأديان السماوية، من الحقوق الدينية بالاسم أي حق ثابت، من ناحية أخرى.

نحن نعرف، وكل أبناء شعبنا يعرفون أيضا، ما كان يدور أمام الكواليس وخلفها، وتحتها، في أثناء اجتماعات لجنة صياغة الدستور، وفي أثناء الاجتماعات الخاصة " لممثلي" شعبنا في اللجنة وفي الجمعية الوطنية، ومن خلال المعارك الكلامية والمناوشات على صفحات الانترنت والجرائد وشاشات التلفزيونات، لهذا لم يفاجئوا كثيرا، وحتى أن الكثير منهم كان يتوقع مثل هذه النتائج الكارثية المؤلمة.
 
الآن، وبعد أن وقع الفأس بالرأس، نتساءل من يتحمل مسؤولية ما حصل؟

بالتأكيد تتحمل أحزابنا ،وعلى نحو خاص تلك الممثلة في الجمعية الوطنية، المسؤولية الكاملة لهذا العمل المتهور بحق شعبنا الواحد وذلك لعدم نجاحها في تحمل مسؤوليتها التاريخية أمام شعبنا وعدم قيامها بتوحيد الكلمة والمسمى الرسمي لشعبنا مهما كانت المبررات والذرائع السياسية وغير السياسية. 

وأيضا رؤساء الطوائف والكنائس يتحملون مسؤوليتهم لأنهم لم يساعدوا في لم الشمل وتوحيد الجهود للوصول إلى اتفاق موحد يرضي الأكثرية، بل عمل البعض على إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والانفصالية.   

بطريرك الكنيسة الآشورية لم يحرك ساكنا، كأنه غير موجود على الساحة الوطنية بالمرة، في الوقت الذي قدم  البطريريك مار أدي الثاني ، بطريرك الكنيسة الاشورية القديمة و مار كيوركيس صليوا الوكيل البطريريكي للكنيسة الشرقية الآشورية رسالة رسمية الى  رئاسة لجنة صياغة الدستور طلبا فيها  ادراج التسمية الاشورية وحدها .

بطريرك الكنيسة الكلدانية  تبنى في البداية موقفا وحدويا يشكر عليه، لكن بتأثير من بعض المتطرفين للاسم الكلداني أرسل رسالة إلى الحكومة العراقية يطالب بتثبيت الاسم الكلداني منفصلا عن الأسماء الأخرى. بهذه الرسالة تشبث الكثير من المتشددين الكلدان واستخدموها ورقة أو" قميص عثمان" للتفرقة والتشتت، وربما ليس بالشكل الذي أراده البطريرك.

 برأيي كان على البطاركة جميعهم أن يرسلوا رسالة إلى الحكومة العراقية يطالبون فيها إيراد الدين المسيحي في مسودة الدستور كثاني دين في العراق، وهو الأمر الذي أغفلته المسودة، وليس رسائل تستثمر لشق وحدتنا القومية.

أما بطريرك الكنيسة السريانية فلا عتب عليه لأنه قد باع خصوصية الكنيسة والقومية من خلال تصريحاته التي يدعي فيها أننا من أصل عربي 

على هذا الأساس فلم نجد إلا نفرا قليلا من رجال الدين دعوا ويدعون إلى الوحدة ( على سبيل المثال مطارنة الموصل)، لكن مع شديد الأسف، كانت أصواتهم غير مؤثرة في خضم الأصوات المتطرفة من الطرفين المتشددين النقيضين الكلداني والآشوري. .

أما عن أحزابنا (إذا كان هنالك من أحزاب) فحدث ولا حرج.

أقدم "الأحزاب" الذي كنا نأمل فيه أن يكون مشروعا لتنظيم قومي موحد تحول إلى مزرعة يديرها دكتاتور صغير على هواه بعيدا عن المصالح القومية العليا. وإذا أراد ممثل هذا الحزب أن يخدع أبناء شعبنا بكونه معارضا للتسمية التي وردت في مسودة الدستور نقول له لماذا لم يستقيل من اللجنة طالما لم يتمكن من إقناع أعضائها برأيه الوحدوي، وما أهمية رأيه بعد أن وافق رسميا على الصيغة الواردة في المسودة؟ أما الأحزاب الأخرى فهي عبارة عن تنظيمات أما صغيرة نخبوية، أو كارتونية هشة أو لا تتعدى عن كونها دكاكين ببضاعة كاسدة أو من دون بضاعة. في الحقيقة لم نكن ننتظر منها الكثير، بل أن بعض ممثليها ( وهذا البعض معروف على نحو جيد من قبل أبناء شعبنا) لعب دورا تخريبيا في لم شملنا ووحدتنا المنشودة. ومع ذلك كان يمكن لبقية الأحزاب أن تبذل أقصى جهدها في تقريب وجهات النظر وأرجحة كفة الميزان لصالح الاسم الموحد لشعبنا. 

لقد أثبتت تجارب السنوات الماضية، ولا سيما منذ سقوط النظام الدكتاتوري البائد وظهور بعض القوى الجديدة على الساحة، أن أبناء شعبنا البسطاء أكثر وعيا وأمانة وتحملا للمسؤولية من ممثلينا في الجمعية الوطنية، ومن ممثلينا في السلطة المركزية، وسلطة إقليم  كردستان، ومن السادة رجال الدين الميامين، ومن الكثير من أدعياء العمل القومي ، فهم - أبناء شعبنا البسطاء- يتزوجون من بعضهم البعض كاسرين التقاليد البالية والقيود الدينية المفروضة، يعيشون ويعملون مع بعضهم البعض من دون أدنى خوف من الحدود القروية والعشائرية، يقضون أوقات فراغهم ونشاطاتهم الاجتماعية مع بعضهم البعض دون أي حرج، يستعملون لهجات بعضهم البعض من دون أي عائق أو مشكلة، يدخلون كنائس بعضهم البعض من دون أي مراعاة للحواجز الطائفية.
والأهم من هذا كله يقولون بصدق وعن حسن نية وإيمان بأننا شعب واحد، لدينا لغة واحدة وتاريخ مشترك واحد، ونحن جميعا سليلو حضارة عريقة واحدة.

هذا يدل على أن رجال الدين، والمسؤولين الحزبيين في أحزابنا القومية، و"المتناضلين"  الآخرين في بعض منظمات المجتمع المدني، الذين يدعون قيادة هذا الشعب، ما زالوا يسيرون في ذيل مسيرة التطور الحضاري أو في مؤخرتها، في الوقت الذي  يتقدمهم الشعب، وخاصة البسطاء من أبنائه بمسافة طويلة.

كيف نترك هؤلاء أن يمثلوننا في أعلى هيئات الدولة أو في أعلى القيادات الحزبية والدينية والمجتمعية؟ وكيف نضع مستقبلنا بأيديهم وهم غير أمينين لهذه المهمة؟
 
على الشعب أن يقول كلمته بجرأة بحق هؤلاء. على أعضاء أحزابهم ومؤيديهم أن يقولوا كلمتهم بحق مسؤوليهم الحزبيين. وعلى المؤمنين أن يقولوا كلمتهم بحق رؤسائهم الروحانيين. وعلى المنضوين إلى منظمات المجتمع المدني أن يقولوا كلمتهم بحق هيئاتهم الإدارية وممثليهم. 

من العار أن نقبل بهم ممثلين لنا.
من العار أن يتجرأوا ويدعوا تمثيلنا.
من العار أن نقبل أن يحدث ما يحدث.
من العار أن نسكت على ما يحدث.


د. سعدي المالح
عنكاوا في 25/8/2005

[/b]


صفحات: [1]