عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - صبري يوسـف

صفحات: [1]
1
المخرجة المبدعة الدّكتورة خيريّة المنصور تطلق موقع الصَّدى على الشّبكة العنكبوتيّة

صبري يوسف ــ ستوكهولم
بعد جهودٍ مكثّفة، وبعد أن وجدَتْ أنَّ السَّاحة الإبداعيّة الشّرقيّة بكلِّ أطيافها، تحتاج للمزيد من المنابر الحرّة لتعميق التّواصل الخلَّاق بين المبدعين والمبدعات للتعبير عن رؤاهم وطموحاتهم وآمالهم التَّنويريّة، أطلقت المخرجة العراقيّة الدّكتورة خيريّة المنصور مديرة ومؤسّسة موقع الصّدى  (الأدبي، الثّقافي، السِّياسي والفنّي) من أميريكا، بصيغته التّجريبيّة، وهو موقع شامل وحافل بكلِّ صنوف الأجناس الأدبيّة والثَّقافية والفنِّيّة، حيث اشتغلت د. خيرية المنصور ساعات طويلة على مدى الأيام الماضية مع فريق العمل إلى أن وصلت إلى تثبيت الموقع على الشَّبكة العنكبوتيّة بحلّته الرّاقية!
يسرُّ إدارة مجلّة السَّلام الدَّوليّة أن تتقدَّم بخالص التَّهاني القلبيّة لإدارة موقع الصَّدى وعلى رأسهم مديرة الموقع المخرجة السِّينمائيّة المبدعة د. خيرية المنصور على تأسيس هكذا منبر رائد، والَّذي ترك صدى طيّباً على السّاحة الإبداعيّة منذ اللّحظات الأولى من إطلاقه، لما يتضمّن من خصوصيّة راقية لإحتضان الأقلام والآفاق الرَّائدة لمبدعات ومبدعي الشَّرق في تقديم الكلمة، اللّون، الثّقافة، الفكر النيّر والحرّ، والإبداع الخلّاق، بروح تنويريّة رائدة!                                                               
دمتِ مخرجة متألِّقة ومحتضنة للرؤية الحرّة على كافّة الأصعدة الإبداعيّة والفكريّة والثَّقافيّة والفنِّيّة بكلِّ تفرعُّاتها، لتقديم ما يليق بمبدعات ومبدعي الشَّرق، بكلِّ أطيافهم وعطاءاتهم الرّاقية، المتناثرين كحبّات الحنطة في الكثير من بقاع الدُّنيا!                                                                     
وبهذه المناسبة يسرّني جدَّاً أن أدعو الأحبّة الكتّاب والشُّعراء والأدباء والمفكِّرين والفنَّانين والفنَّانات للكتابة والمساهمة في موقع "الصَّدى" المستقل في توجّهاته ورؤاه وتطلُّعاته الفسيحة، والمتألِّق في محتوياته وتنوّع مشاركاته الأدبيّة والثّقافيّة والفنِّيّة والسِّياسيّة الطَّليعيّة، حيث يكتب في الموقع منذ إنطلاقته مئات المبدعات والمبدعين من شتّى التّخصُّصات من العديد من دول العالم!
يذكر أنَّ إدارة الموقع خصَّصت زاوية ثابتة لنشر نصّي الشّعري الملحمي المفتوح: أنشودة الحياة، بأجزائها الأربعة عشرة جزءاً، (1400 صفحة من القطع المتوسّط) تباعاً في الموقع!
لزيارة  الموقع والإطلاع على محتوياته الغنيّة بمواضيعها، والتَّواصل مع إدارة التَّحرير، الضَّغط على الرَّابط التَّالي:

http://elsada.net/

2

دعوة للمشاركة في ملف تكريم
الفنَّانة المبدعة فيروز

صبري يوسف ـــ محرّر "مجلّة السَّلام" الدَّوليّة   

                                                     
منحت إدارة "مجلّة السّلام" الدَّوليّة في العدد الثّالث 2015، شهادة تقدير للفنَّانة المبدعة السّيّدة فيروز
لعطاءاتها الخلّاقة خلال مسيرتها الفنّيّة الرّاقية، الَّتي قدّمت أروع الأغاني الخالدة على مدى أكثر من ستِّين عاماً.                                                                                         
كما تدعو مجلّة السَّلام عبر محرّرها الأديب التّشكيلي صبري يوسف، الكتّاب والكاتبات، والشُّعراء والشَّاعرات، والفنَّانين والفنَّانات للمشاركة في ملف خاص بتكريم الفنَّانة المبدعة السَّيّدة فيروز عبر عددها الرَّابع القادم 2016 بنصِّ شعري، نص أدبي، مقال، حوارات أُجريت مع الفنّانة فيروز، لوحة تشكيليّة ... يعبِّر المشاركون والمشارِكات عن رؤيتهم وشهادتهم بهذه القامة الإبداعيّة الخلّاقة!                       
سيصدر الملف الخاص بالفنّانة المبدعة فيروز ضمن كتاب خاص مرفق بالمجلّة كما سيصدر ككتاب الكتروني وكتاب ورقي مستقل.                                                                       
للمساهمة والمشاركة في هذا الملف يستطيع الشُّعراء والشَّاعرات الكتّاب والكاتبات والنّقّاد والفنّانين والمبدعين والمهتمّين إرسال مساهماتهم ومشاركاتهم على العناوين التّالية:
إيميل المحرّر صبري يوسف
sabriyousef56@hotmail.com
صفحة المحرّر على الفيس بوك عبر البريد الخاص
https://www.facebook.com/sabriyousef1000
Sabri Yousef                 
              (محرر مجلة السلام)

ستوكهولم: 6. 1. 2016                                       
صبري يوسف، محرّر مجلّة السَّلام                                                         
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم     


3
صباح الخير يا مالفا يا بهاء الألوان العابرة مسار القارَّات

صبري يوسف ــ ستوكهولم
صباح الخير لروح "مالفا"، لبهاء الألوان العابرة مسار القارَّات، صباح الخير يا شهوةَ لونٍ مجنّحٍ نحوَ بخورِ الاشتعال، صباح الخير يا عمر حمدي، أيُّها المرفرف فوقَ تاجِ الارتقاء في سماءِ الألوان، يا روحَ العناقات اللَّونيّة المضمّخة بحنين الشّمال، أيُّها المنبعث إلى الحياة في عتمِ اللّيل، بين أريجِ الطِّينِ، أمٌّ مِنْ وهجِ الأوجاعِ أهدَتْكَ للحياةِ، هلْ كانت أمُّكَ "نوره" تحمل بين أحشائها نوراً كي تهدينا "مالفا" فيضيء علينا تشكيلاً مهدهداً بالنّورِ، بضياءِ الحياةِ، بوهجِ اللَّون المسترخي على جفونِ الشَّفقِ الأخير! عمر حمدي يا ابن الشّمال السّوري، أيّها الكردي المكتنز بحبقِ الحنطة، ياعابرَ مروجَ الألوان على أجنحةِ القطا البرّي، يا سليلة قرى الطّين المجدولة فوق مرتفعات "تل نايف" مسقط رأسكَ يا "مالفا"، يا لوناً ناضحاً بشهوةِ الإشتعال، أيُّها المحلّق فوق سديمِ الغمام، يا حامل ريشة مبلَّلة ببسمةِ الحياة، يا هاجساً مزروعاً في عطشِ الرُّوح التوَّاقة إلى زخّات المطر، يا جرحَاً مفتوحاً على أفانين غربة الرّوح، يا صديق العصافير المبلّلة بأوجاعِ القصيدة، يا نورسَ اللَّون المهاجر إلى دنيا ممراحة على أرخبيلاتِ العطاء، كم مِنَ الألوان عانقَتْ روحَكَ في صباحٍ محبوكٍ بإشراقةِ الرّوح العطشى إلى عنبِ الشِّمال، أيُّها المتعانق مع إنبعاثاتِ خيالٍ معرَّشٍ بالجّراحِ، يا صديق فقراء هذا العالم، يا صديق المبدعين العطشى إلى خبزِ التنّور، أيّها الشَّهقة المفتوحة على زرقة السّماء، يا وردة الكورد المضيئة في معراجِ غربة الرّوح، يا لونَ البكاء الغافي فوق أحلام الطُّفولة، يا مغزل الجدّات المحبوكة من "طشّية" الأمَّهات الغارقات في حبْكِ خيطان الأمل في ليالي الشِّتاء الطَّويلة على إيقاعِ خشخشات انهمار المطر، يا حاملَ إبرةٍ من الذَّهب الخالص، تنقشُ أسرار تجلِّيات الرُّوح العطشى إلى هلالاتِ شهقةِ الألوانِ المنسابة من رحاب الطُّموح المنبعث من أحلام أمٍّ غارقة في شفير الإنكسار، يا منقذ تيجان الحلم الآتي من مرتفعاتِ جبل جودي، يا لوناً مضيئاً فوقَ قبَّةِ الحياة، أيُّها المبرعم من دندنات أغاني الكورد وألحان السُّريان المنسابة مع تراتيلِ الحياة المعبّقة ببخور المحبّة، يا صديق القصيدة والأغاني المغموسة بمواويل "غزال غزال هائي هائي"، وملاحم تدفُّقات "سِتْيَا زِين وممّي آلا"، كم مرّة حلمْتَ في عناقِ بهجة الألوان، كم مرّة غصْتَ عميقاً في مرامي الرّوح حتّى أينعت شهقاتِ انبعاث الألوان فوق خدود الزَّمن، كم مرّة طفحَتْ من عينيكَ دموعُ ألقٍ منسابة من شهوةِ العبور في أقصى تجلّياتِ بهاء الألوان، كيف رسمْتَ روحَكَ المتلاطمة فوقَ أوجاع هذا الزّمان، كيفَ عبرْتَ لجينَ البحار وأنتَ مخلخل الرُّوح والقلب ومخضّبٌ بشراهاتِ وهجِ الإشتعال! وحدَها الرّوح الخفَّاقة انتشلتكَ من وهادِ الإنكسار، وحدَها الرّوح المعبّقة بتينِ الشّمال أنقذتكَ من ضجرِ هذا الزّمان، وحدَها الأمُّ المحبوكة بآهاتٍ لا تخطر على بال، دمغتْ فوق صدغيكَ أسرار انبهار الألوان، أيّها الآتي من ينابيعِ الأحزان المتدفّقة من قرى الشّمالِ، شمالِ الرّوح، شمالِ توهُّجاتِ آفاقِ البوح، شمالِ الشَّوقِ إلى ظلالِ الذَّاكرة البعيدة، تُشبهُ ألحانَ نايٍ حزين رسمه الفنّان بشّار العيسى وهو يضيء طفوح دمعتك المندلقة من خاصرةِ الرُّوح، تُشبه تجلّيات ألوانكَ، أشواقي العميقة وأنا أرقص دبكات الكورد معَ أجمل الصَّبايا في رأس "الكوفندة" على إيقاعات: "هالي كني لِيْلي مالا مِني وَاي وَاي"، "وهَيْ دولابهْ دولابهْ نايي دَنكهْ دولابي"، و"هَيْ وَرْنَيْ وَرْنِيٍ وَرْنِي، وَرِنْ دِيَلانيْ أسْمَرْ"، .. و"ها وَرْوَرْ ها وَرْوَرْ، ها وَرْوَرْ كزّي زَرْ"! .. تُشبه ألوانُكَ توهُّجات الأغاني المتهاطلة فوقَ حنين الرّوح، هل تبرعمَتْ شهقات الألوان المتراقصة فوق إبداعاتك الشَّاهقة من خلالِ هذه الينابيع الصَّادحة في مروج الذَّاكرة أمْ تبرعمَتْ بينَ أجنحتكَ من خلالِ تراكمات أحلامك منذ الطُّفولة وأنتَ تهرع خلف الأغنام السَّارحة في البراري، وتلملم الحطب كي تخفِّفَ من لذعةِ صقيع الشِّمال في ليالي الشِّتاء الطَّويلة؟! روحُكِ تطهَّرتْ من غبار هذا الزَّمان من خلال تفاقمات الأوجاع والجِّراح المترصرصة فوقَ شهقات الصَّباح، فولدَتْ لوحاتُكِ من صفوةِ الإبتهال المندلقة من ألقِ الألوان، كأنّك في رحلةِ عناقٍ معَ زرقة السّماء في نهارٍ ربيعيّ معبّق بالنّرجس البرّي، أيّها المجدول من البراري الفسيحة الغائصة في أصفى انهمارات بوح السُّؤال! من طفولتكَ ترعرعَ لوناً من بهاء الحصاد، هل تبرعمَتْ قامات صديقَيك "حسنو وبرّو" في لوحاتكِ أم ظلّتْ معلّقة بينَ مهاميزِ الذَّاكرة، كم كنتَ مقرَّباً في طفولتكَ من عوالم المجانين، هل لأنَّكَ رأيتَ فيهما البراءة والصّفاء أكثر من الكثير من العقلاء! كم مرّة لملمْتَ مع هؤلاء المجانين روث الحمير والبقر وجفّفَتْهُ الأمُّ كي تستخدمه وقوداً للتنّور وحطباً يقيكم من قرِّ الشِّتاء، كيف بدَت لكَ كلّ هذه الاشتعالات ومتاهات الطُّفولة في تدفّقات الألوان وأنتَ في رحابِ حدائق فيينَّا وفي عواصم من لونِ الضّياء؟! عمر حمدي لونٌ معجون بتجلِّيات الرّوح الشَّامخة فوق صفاء الحلم المنساب فوقَ خميلةِ الصَّباح، لونٌ معتّق بنبيذِ منعش لخفقة الُّروح الجَّانحة نحو أقاصي مرامي الطُّموح، رسم حمدي روحه المشتعلة فوق بوَّابات المدائن، رسمَ الأغنام السَّارحة في مرافيء الذَّاكرة البعيدة، رسم ألوان الهواجس المندلقة من خميرة العشق المنشطرة على حافاتِ الإنكسار، عمر حمدي لغةُ عشقٍ مفتوحة على مروجِ الدُّنيا، لغةُ مهاجرٍ معرَّش الجِّناحين في لبِّ الحضارة، حضارةِ لونٍ مبرعمة في مآقيه منذ أن وُلدَ تحت سقفٍ مرصرصٍ بأوجاع الحياة، تحتَ سقفٍ من طينِ الشّمال، حيثُ خفقة الرّوح تتلظَّى شوقاً إلى زخَّات المطر عبر تدفُّقات مهجة الألوان، عمر حمدي شهقةُ لونٍ متهاطلة من حنينِ السّماء فوقَ آهاتِ المدائن وقرى الشِّمال، عمر حمدي حكايةُ ألف سؤالٍ وسؤال، بحثاً عن أبجديّات القصيدة المجدولة عبر حبقِ الألوان، عمر حمدي فنَّانٌ معتَّقُ بآهاتِ غربةِ الإنسان مع أخيه الإنسان، شوقٌ لونيّ إلى شلَّالات حلمٍ يتأجّج عطاءً ليل نهار، شوقٌ مفتوح إلى عناقِ كائناته المهشّمة على قارعةِ الرُّوح، شوقٌ إلى عناقِ حبيبة تائهة في مهبِّ الإنشطار، وجعٌ مبرّحٌ في سماء الحلق ينمو، وجعٌ في خميلة الذّاكرة يحبو، وجعٌ في منعرجاتِ الألوان يزدادُ صفاءً، وجعٌ لم يفارقْ مخيال "مالفا" على مدى هدهدات الحنين، لونٌ محبوكٌ بعناقِ الرّوح في دنيا من شقاء، لونٌ مفهرسٌ بزغبِ العصافير الهائمة في عبور منارة الحلم السَّاطع في رحابِ الذَّاكرة، عمر حمدي ذاكرة محبوكة بانبعاثِ حبورِ الجّمال، ذاكرة مزدانة بأزاهير عبّاد الشَّمس، لونُ الشّمَّام المبلَّل فوقَ عذوبةِ الألوان كأنَّه زخّات مطرٍ متهاطلٍ من شهوةِ الحياة في صباحٍ مندَّى بنسيم المحبّة، لغةٌ محفوفة بالأغاني الصَّادحة في أعماق البراري، يشبه دموع الأمَّهات المنسابة مِنْ مآقي الحنين، يشبه قبلة العشّاق في صباح العيد، يرسم بوحه من لجينِ الرُّوحِ كأنّه في حالة عناقٍ معَ فراديسِ النَّعيم، يرسمُ أحلامه المتلاطمة كأمواجِ البحار فوق هضابِ البلاد المشنوقة من خاصراتها في وضح النّهار، يرسمُ حالات عشقٍ من نكهة الإنبهار، عمر حمدي صديق الفنّان بشّار العيسى، صديقُ الكلمة الحرّة، صديق لونٍ من أشهى تجلِّيات خفقةِ الصّلصال، صديق الفنّان عنايت عطّار وبهرام حاجو وبرصوم برصوما ويوسف عبدلكي وحنّا الحائك، صديق الفنّانين والفنّانات في الكثير من أرجاء المعمورة، صديق الطُّيور المهاجرة إلى أشهى مذاقِ الألوان، يرسم أجنحةَ الأحلام الهاربة فوقَ هدوءِ اللَّيل، لونٌ معبِّر عن ذاكرة البحار الهائجة فوق أنينِ المدائن، يرسمُ تألّقه اللَّوني من أعماقِ ينابيعِ الرّوح المندلقة من ذاكرة الحلم المتشكّلة من خمائل الحياة منذ أنْ تبرعمَ في أحشاء "نوره" المنبثقة من شهقة الشَّمس على إيقاعِ همهماتِ اللَّيلِ الحنون، فوُلِدَ "مالفا" حاملاً بين جناحيه خفقةَ القصيدة المتهاطلة من أرخبيلات بوح الألوان، شوقاً إلى هسيسِ الكائنات المترعرعة في قبّة الذَّاكرة المحبوكة من أزاهير الخطميّة والحِمْحِم والحَرْشف والنّعناع البرّي. كم مرّة عبرْتُ حقول القطن وأنتَ في مراحل الطُّفولة تلملم القطن في شالاتٍ كبيرة، حتّى غدا بياضه في مقتبلِ الأيام ناصعاً فوق وجنةِ اللَّوحات، كم مرَّة عبرْتَ البراري بحثاً عن الطُّيور الهاربة من الأطفال الملاحقة أجنحة العصافير والتِّيتيَّات المختبئة في أعماق البراري، كم مرَّة رسمْتَ بهجةَ ألوان الطَّبيعة مستذكراً خمائل البساتين وأنت هائم بين سهول الحنطة، بحثاً عن فراخ العصافير المتوارية بينَ اخضرارِ السّنابل، فتبرعمَ كل هذا البهاء في دَفْقةِ الألوان المنسابة فوقَ بسمةِ اللَّوحات المتماهية معَ وهج الرّوح الخلّاقة. عمر حمدي قصيدة لونيّة مطرّزة بمذاقِ التُّوتِ ونضارةِ دالياتٍ متدلدلة فوق خدود عاشقة من لونِ جموحِ الغزال، يُشبه طائراً مفروش الجّناحين فوق طينِ المحبّة والوئام، حاملاً شمعةَ عشقٍ إلى بهاء الألوان كي يفرشها فوقَ تلالٍ شامخة في قبِّةِ الرُّوح، مجسّداً قبلةَ عاشقٍ فوقِ مهاميز الألوان، كأنّه حلمٌ متطايرٌ من أغصانِ الأزمنة الغابرة، مناغياً عبر رؤاه الفسيحة بياض اللَّوحة، غائصاً في أبهى تدفُّقاتِ عناقِ الألوان، يهدي إلينا كرنفالِ لوني، كأنّه في سياقُ انتشالِ ذاكرة طفولة مشتعلة بأجيجٍ مفتوحٍ على شهقاتِ الأنين، عمر حمدي تدفّقاتُ أمواجٍ متلاطمة فوقَ أهازيجَ حلمٍ مجنّح نحوَ مزاميرَ الشِّمال، تهاطل علينا بأنغامِ فنّانٍ مشحونٍ بشهوةِ الألوانِ المنبجسة من عذوبةِ العسل البرّي، ململماً باقات الزَّنبق، كي يتوّجها فوقِ خدود حبيبة معجونة بمناغاة طفلٍ مقمّطٍ بعناقيدِ العنب، حلّق عمر حمدي نحو أرقى تجلّيات اللَّون حتّى غدا فنَّاناً كونيَّاً شامخاً فوقَ أشهى تيجان الألوانِ، من خلالِ تجربةٍ فريدة من نوعها في دغدغاتِ هواجس الألوان المنبلجة من خيالِ فنّانٍ مجبولٍ بطراوةِ الصّلصال، ومصهورٍ من عذوبةِ ألوانِ الحياة، فولدَتْ تعابيره اللَّونيّة على إيقاعِ اشراقاتٍ لونيّة، محلِّقاً في أصفى ابتهالات بهجةِ الإبداع، كأنّه هديّة متهاطلة علينا من مآقي السّماء، فحنَّتْ الأعالي إلى هذه الرّوح الخلاقة كي تصعدَ إلى بهجةِ السّماء، تاركةً هذه الرّوح الشَّامخة خلفها غابةً من أبهى الألوان، خالدةً وساطعةً كدفءِ الشَّمس فوقَ وجنةِ الزّمن إلى أزلِ الآزال!

ستوكهولم: 17. 10 . 2015
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
محرّر مجلّة السَّلام


4
معرض "الخالدون عبر التّاريخ" في غاليري هوسبي في ستوكهولم

5
إكليل البرينسيسة سيلينا وسبيروس، ابنة الفنّان الكبير حبيب موسى ملك الأغنية السّريانية في العالم، نهاية الشَّهر الفائت في اليونان

صبري يوسف ــ ستوكهولم
                                       
بفرحٍ كبير تمَّ إكليل عزيزتي الغالية سيلينا الشَّهر الفائت في اليونان بين أحضان الأحبّة الأهل والأصدقاء من جهةِ العريسين في إحدى كنائس اليونان العريقة!   
أتقدَّم إليكما يا أميرتي الغالية سيلينا حبيب موسى والغالي سبيروس بخالص التَّهاني القلبية والأماني الطَّيبة، متمنِّياً لكما الفرح الدّائم والسّعادة والهناء في رحلة المحبّة والحياة، راجياً من الرّب أن يكلِّلكما بثوب المحبّة والغبطة ويمنح قلبيكما البهجة والسّرور، كما أتقدَّم بخالص التَّهاني القلبية للفنّان الكبير الصَّديق الغالي حبيب موسى والد البرينسيسة سيلينا ولكافّة أهله ومحبّينه، وخالص التَّهاني القلبية لعموم آل منيرجي وأخصُّهم بالذكر والدة سيلينا، الصّديقة الغالية مارسيل منيرجي مع أخت سيلينا الغالية الأميرة ساندي حبيب موسى والغالي مايكل شقيق سيلينا. 
كم كنتُ أريد حضور إكليلك يا عزيزتي سيلو ولكن الظروف كانت أقوى منِّي، لكنّك يا غاليتي الجَّميلة كنتِ وما تزالي وستبقين في القلب يا حبيبة قلبي!    أتمنّى لكما الفرح الدّائم يا عزيزتي سيلينا وسبيروس، كما أتمنّى السّعادة والهناء لكلِّ الأحبّة والأصدقاء والأقرباء الّذين يخصُّون سيلو والَّذين يخصّون العريس سبيروس أيضاً!                                                               
في رعاية الله والقدِّيسين. ألف قبلة وقبلة يا جميلتي الرّائعة البرينسيسة سيلينا، وخالص التّهاني القلبيّة ودعائي الدّائم لكما في قضاء حياة هنيئة مفعمة بالمحبّة والسّعادة الدَّائمة!                                                             

6


ألوانُكَ إشراقةُ فرحٍ،
طفولةٌ مزدانةٌ بأريجِ النّعناعِ البرّي


صبري يوسف


إهداء: إلى الفنّان التَّشكيلي المبدع صدرالدِّين أمين
فنَّانٌ مسربلٌ بهفهفاتِ بوحِ الطَّبيعة
مجبولٌ من حليبِ الحنطة!





أرقصُ فرحاً من بهجةِ انتعاشِ الرُّوح
أعبرُ ربوعَ غابةٍ حلميّة متناغمة
معَ همهماتِ كائناتٍ مبهرة في روعةِ حبورِها
تعانقني أغصان الجّمال
قلبي في رحلةِ فرحٍ نحوَ فراديسَ القصيدة
روحي مسربلة بأهازيجَ الإبتهال!

تتناهى إلى مسامعي
تغاريدُ طيورٍ خرافيّة 
كأنّها منبعثة من أزمنة غابرة
قبلَ أن يولدَ هذا الزّمان
كأنّي في حضرةِ تجلِّياتِ جموحِ الخيال!

تلهو الطُّيورُ معَ كائناتٍ متماهية
     مع آفاقٍ أسطوريّة
مموسقة بإيقاعٍ خلَّاب
توحي لنا بقصصٍ وحكاياتٍ منسوجة
من شهقةِ انبهارِ تدفُّقاتِ الجّمال!


بهاءٌ موشوم على رحابةِ حلمٍ متراقصٍ
بإنسجامٍ مدهش
ينقشُ الفنَّان خميرةَ عشقٍ
     فوقَ ضفائر الحنين
كائناته متلألئةٌ بخيوطٍ مذهّبة
كأنّها منبعثة من نضارةِ سديمِ الصَّباح
تزهو عناقاً معَ سموِّ الرُّوحِ
وهي تحلِّق عالياً
نحوَ تيجانِ المحبَّة
كي تستلهمَ من ضرعِ السَّماء
     ابتهالاتِ الألوان!

تلملمُ بمهاراتٍ شفيفة
حميميات طفولة معشَّشة
في كينونتنا منذُ فجرِ الإنبعاثِ 
تناغي أعشابَ الرّوحِ
من خلالِ خيالٍ تبرْعمَ فيه
كنوزُ مناراتٍ مشرئبّةٍ
     من أشهى شموخِ العطاءِ
كأنّها متطايرة في ليلةٍ قمراء
     من بساتينَ الجَّنّة
منسابة من خيالِ فنّانٍ منعتقٍ
     من شوائب الحياةِ!

يتهاطلُ موشورُ ألوانه ألقاً
     على إيقاعِ شهوةِ المطرِ
بحثاً عن عرينِ الجّمالِ المتناثرِ
     فوقَ خدودِ الدُّنيا
يستنهضُ عوالم طفولة شفيفة
     من أحلامِ كائناتٍ برّيّة
توّاقة إلى كائناتٍ أهليّة
تتلملمُ حولَ تنّورٍ يشعُّ وهجاً
مرشرِشاً رذاذاتِ الألوانِ
     فوقَ خيوطِ الحنين
يهفو إلى اكتنازِ خبزٍ محمّصٍ
     بأصفى بركاتِ الحياةِ!

كرنفالٌ لوني مخضّلٍ بجمالِ الرّوح
كأنّه يناجي أنغام سيمفونيّة منبعثة
من تلألؤاتِ أحلامٍ غافية
بين ينابيعَ روحٍ ظمآى
     إلى ابتهالاتِ قلبٍ
في ليلةٍ مبلَّلةٍ بالقرنفلِ
هائماً أن يغفو بين أجنحةِ مملكةٍ
متعانقة بأزاهيرَ الحنين!

تتوهَّجُ بانتعاشٍ
تدفّقاتُ ألوانِ فنّانٍ مقمّطٍ
بشغافِ مروجِ الطُّفولة
فوقَ موشورِ حلمٍ مستوطنٍ
في مآقي غيمةٍ حُبلى بأسرارِ الحياة
حلمٌ باذخٌ يجنحُ
     نحوَ شهقةِ السَّماءِ الظَّليلة
ينفرشُ انبعاثُ ضوءَ الرّوحِ
     فوقَ خدودِ اللَّيلِ
يزدادُ جموحاً
     نحوَ آفاقِ سموِّ السّنابل!

فنّانٌ مسكونٌ بشغفِ العبورِ
     إلى جمالِ الكائنات
ينثرُ رحيقَ عشقِهِ
     فوقَ ينابيعَ الطّفولة
يزرعُ بذورَ حبِّهِ
     فوقَ تيجانِ الصَّباحِ
منتظراً خصوبةَ غدٍ مجبولٍ
     ببياضِ أريجِ الياسمين
يرسمُ حنين ألوانِهِ
     على مسارِ انبلاجِ القصيدة
يهفو إلى حبّاتِ المطرِ
     وباقاتِ السَّنابل
فنَّانٌ مسربلٌ بهفهفاتِ بوحِ الطَّبيعة
كأنّه منبجسٌ من أسرارِ البحرِ
مجبولٌ من حليبِ الحنطة
مستنبتٌ من سديمِ السَّماء!

يرسمُ في أوجِ تدفُّقاتِ الحلمِ
     حوارَ الكائنات
متعانقةً بكلِّ حبورٍ
     معَ أمواجِ البحارِ
يعبرُ هلالاتِ القصيدة
بألوانٍ مذهّبة بنورِ الحياة
يرسمُ وهجَ الرّوح وهي تسمو
نحوَ هلالات السّماء
يصيغُ بهاءَ الألوانِ
من ألقِ تجلّياتِ الإبتهالِ

لوحاتٌ مستنبتة من خيالٍ منسابٍ
     من خريرِ الأحلام
تختالُ عذوبة الألوان زهوَّاً
     فوقَ أسرابِ اليمامِ
أشبهُ بنضارةِ رذاذاتِ الماءِ الزُّلال!

شوقٌ مفتوح إلى منعرجاتِ الذَّاكرة البعيدة
قبلةُ عشقٍ ممهورة فوقَ خدودِ عاشقة
مسترخية فوقَ طراوةِ عشبٍ
     في الهواءِ الطَّلقِ
ألوانُكَ اشراقةُ فرحٍ 
طفولةٌ مزدانةٌ
     بأريجِ النّعناعِ البرّي

تنسجُ بوحَ الحنين من مآقي الزُّهورِ
كأنّك خلاصة طينٍ معجونٍ
من مذاقِ أحلامِ الرّوح
كيفَ لملمْتَ كلّ هذه الأنوار السَّاطعة
     فوقَ جفونِ هذه الكائنات؟!
هل جُبِلْتَ من وهجِ عشقٍ مندلقٍ
     من شهوةِ الأزلِ؟

تبدو كأنّكَ وميضُ نيزكٍ متناثرٍ
     فوقَ خدودِ القصائد
خيالُ حبٍّ متأصِّلٍ
في شموخِ جبالٍ مكتنزةٍ
     بأسرارِ همهماتِ اللَّيل
تناغي ألوانُكَ بكلِّ ابتهالٍ
استمطارَ يراعِ الرُّوحِ 
غائصاً في توهُّجاتِ شوقِ الأرضِ
لأسرارِ إنبلاجِ هلالاتِ السَّماء!

تنبثقُ أحلامُكَ من عطشِ الرُّوحِ
     إلى مهدِها الأوَّل
كأنّكَ في انتظارِ هديلِ اليمامِ
من جوفِ الوادي المبرعم بالزّنبقِ البرّي
كأنّك مصهورٌ في انبلاجِ فرحٍ
     من بحبوحةِ الخيال
طقوسٌ لونيّة راعشة كمرحِ الغابات
تزدهي في ظلالِ الرُّوح 
هل نحن أنشودةُ عشقٍ مستولدة
     من مآقي الغمام
أم أنَّنا تدفُّقات نسيم مندّى
     بأريجِ الصَّباح؟!     
عناقاتٌ بهيجة على اِمتدادِ بوحِ الخيالِ
كأنّنا إزاء كرنفالٍ عشقي
بين كائناتٍ منسابة ألقاً
     في أحضانِ الطَّبيعة

يرسمُ الفنّان بحبورٍ دافئ
عالماً مضمَّخاً بنضارةِ الإخضرار
مسحةٌ أليفةٌ تضيءُ جفونَ الغابات
تهفو طفلةٌ إلى طائرٍ موشَّحٍ بازرقاقٍ فاتح
يرنو إلى سمكةٍ صغيرةٍ مسترخيةٍ
بين أحضانِ طفلةٍ حالمةٍ بمرجانِ البحرِ 
                                                                                           
تنطلقُ غزالة جامحة بكلِّ شموخٍ
فوقَ تلالِ البساتين
تصغي إلى هسيسِ دبيبِ الأرض
     وخشخشاتِ الأرانب ... ... ...!


 ستوكهولم


7
الرِّوائيِّة السُوريّة لينا هويان الحسن
سنبلة بدويّة شامخة على جبينِ الزّمن




الكاتبة والرِّوائيّة السُوريّة لينا هويان الحسن مواليد بادية حماة، الزَّاخرة بتجربة بدويّة عميقة، المنتمية إلى قبيلة الجْميلة القيسيّة التّغلبيّة، والمعتزّة بهذا الإنتماء البدوي، والمتحسِّرةً على اختفائه رويداً رويداً، لهذا تريد إعادته عبر ذاكرتها المنقوشة بهذا الإرث الفريد، لتخلِّده عبر إبداعها الرّوائي عربون محبّة وإنتماء!
درسَت المرحلة الإبتدائيّة في البادية السُّوريّة وكان لهذه الفترة الّتي عاشَتْها في البادية تأثيراً كبيراً على تجربتها الرّوائيّة، حيث كانت معيناً لا ينضب لإرواء عطشها لهذه الفضاءات الرَّحبة، فاستلهمَتْ من هذه العوالم آفاقاً سرديّة فريدة وساحرة، وأبدعَتْ روايات مدهشة في بنائها الخلَّاق، تفتقر إليها المكتبة العربيّة!
درسَت الفلسفة في كلِّية الآداب، جامعة دمشق، وعملَتْ في الصّحافة السُّوريّة، القسم الثّقافي في جريدة الثَّورة إبتداءاً من عام 2003 حتّى نهاية 2011، ثمَّ غادرت سورية على أثر الأحداث الأخيرة، متوجِّهةً نحوَ بيروت، حيث تقيم الآن، وتعمل بشكل حرّ في الصّحافة العربيّة وتكتب رواياتها بهدوءٍ عميق.     
تعتبر لينا هويان الحسن، أوَّل روائيّة كتبَتْ عن عوالم البادية السُّوريّة في دنيا الشَّرق، وقد امتدَّ فضاء سردها إلى بوادي وصحارى الأردن والعراق ونجْد وغيرها من البوادي.                               
أصدرت العديد من الرِّوايات ودراسة سيكولوجيّة ومجموعة شعريّة وكتباً توثيقيّة عن البادية:             
معشوقة الشّمس رواية 1998، مرآة الصَّحراء، كتاب توثيقي عن البدو، 2000، التَّروس القرمزيّة، رواية 2001، التُّفاحة السَّوداء، رواية 2003، آنا كارنينا، دراسة سيكولوجيّة 2004، بنات نعش، رواية 2005، سلطانات الرّمل، رواية 2009، نمور صريحة، مجموعة شعريّة 2011، رجال وقبائل، كتاب توثيقي عن أعلام البادية السُّوريّة 2001، نازك خانم، رواية 2014، ألماس ونساء، رواية 2014.       
***
يستهويني أن أتوقَّفَ بشغفٍ كبير عند تجربة الرّوائيّة لينا هويان الحسن، بشكل عام، متوغِّلاً بعمق في فضاء روايتها سلطانات الرَّمل، حيث تتميّز بسردٍ بهيج معبَّق بحبق البوادي ورحاب الصّحارى. بناءٌ متماسك ولغةٌ منعشة في طراوتِها وفرادتِها. متألّقة في بناءِ تدفّقات خيالها الرِّوائي. تحملُ الرّوائيّة بين أجنحتها تجربة فسيحة عن عوالم فضاءات سردها، كأنّ لغتها منبعثة من هلالات روح الطَّبيعة في ليلةٍ قمراء، ومتعانقة مع نسيمٍ صباحي وهو يناغي حبق السَّوسن وآفاق الصّحارى في أوجِ الإنبهار. سردٌ  معبَّق بشهقاتِ الحنين، كأنّه يلامس كهوف الجَّان والمَرَدَة ومتاهات السَّراب. تتدفّق لغتها من أعماقِ غربةِ الرُّوح. هل تستلهم الرّوائيّة عوالمها من واحات البوادي في غمرةِ أحلامِها المعشوشبة بسحرِ ليالٍ متلألئة بالنّجوم، أم أنّها تنبعث من إشراقاتِ حنينِ الطُّفولة وهي في أوجِ توقها إلى مداعبةِ ضياءِ القمر؟! 
تمتلكُ الرّوائيّة لغةً متينة، مكثّفة بسحرِ البادية وعراقتها وتلاوينها المخضّلة بالأسرارِ والغرائبيّة مقارنةً بما هو سائد في عوالم الحضر. تنسج متون سردها بشاعريّة شفيفة، عبر حوار سلس بين شخصيَّات الرّواية المتشعّبة إلى تفاصيل سحريّة لا تخطر على بال، مركّزةً على الكثير من أقوال المستشرقين، فاِقتبسَتْ إستشهادات عديدة ووضعتها بين قوسين، تأكيداً منها على دقَّة ما هي ذاهبة إليه في تأريخ البادية، وكأنّها توثّق هذه العوالم الرّحبة الّتي بدأت تتآكل وتضمر شيئاً فشيئاً، وفي سياقِ احتضان هذه الحميميَّات المسترخية في روابي الذّاكرة، تفادياً من عوامل التَّلف والنّسيان، فلم تجد أجدى من النّص الرّوائي كي تحافظ على هذه المساحات الخصبة من الذّاكرة الإنفعاليّة الحميميّة، وتجسّدها عبر تجلّيات شهوةِ الإبداع.
سلطانات الرّمل، رواية رحبة المساحات ومسرودة عبر عدّة أجيال، يتخلّلها الكثير من الشَّخصيّات، يتداخل السَّرد ويتفرّع إلى متاهاتٍ مفتوحة على آفاق متماهية مع ألقِ السَّراب في الكثيرِ من منعرجاته، بلغةٍ محبوكة بمهارةٍ عالية. إستطاعت الرِّوائيّة أنْ تمسكَ بخيوطِ سردها بدهاء أهل البادية الّذين لا يتيهون حتّى عبر فيافي السَّراب، لأنّهم على حميميّة فائقة مع هذه العوالم السِّحريّة الجَّميلة، فأصبح السَّراب أليفاً والتِّيه أنيساً لهم رغم غرائبيّته المفتوحة على فضاء اللَّيل، حتَّى اللَّيل أصبحَ مألوفاً لدى أهل البوادي ولدى الرِّوائيّة، فهي قادرة أن تقرأ معالم النّجوم كما يقرأ الحضر معالم المدائن، كلّ هذا العبور في أعماق اللَّيل والصَّحارى ساعد الرِّوائيّة لينا هويان الحسن أنْ تقدَّمَ لنا روايات تليق بمقام معالم جمال البادية البديع!
لا يوجد خيط سببي ترابطي بين أحداث الرِّواية، فلم تنسج الرِّوائيّة نصَّها على وتيرةٍ واحدة، بل هناك الكثير من الخيوط المتشابكة والمتداخلة بطريقةٍ متشعِّبة وأحياناً نرى هناك قَطْعاً في السَّرد وإنتقالاً من مشهدٍ إلى آخر ومن حدثٍ إلى آخر دون ربْطٍ سببي في تسلسل الأحداث، لكن مهارة الرّوائيّة السَّاردة جعلتنا لا نشعر بهذا القفز الفنِّي في عوالم سردها، من خلال رشاقة حوارها وبنهائها السَّردي المتين، وكأنّنا إزاء تدفُّقات مماثلة لتوهّجات الشّعر، عبر متون نصّها الرِّوائي، لكنّها إستطاعت أن تلملم خيوطها المتفرِّعة بطريقةٍ سلسة، ممَّا أعطى للنص تجلِّيات باذخة في تفرُّعات الأحداث، جانحةً في بعض الأحيان نحو شواطئ الشِّعر في سياق سردها العاجّ بحوار محبوك بلغةٍ ومفردات وأسماء وأحداث وتأريخ بدوي صحراوي، جانحةً أيضاً نحو التَّحضُّر في بعض حالاته الفرديّة، وقد بدا هذا واضحاً في بعض أحداث النَّصِّ وربطها في متون النّصّ ككل. وقد قدّمت الرِّوائيّة تجربةً ناجعة وعميقة تعكسُ فضاءات جديدة في السَّرد الرِّوائي من خلال تجسيدها عوالم البدو بطريقة طازجة وغير معهودة من قبل بهذه الدِّقة والموضوعيّة، حيث نراها تحبُكُ أحداثها عن الصَّحراء والفيافي والبوادي واللَّيل وعالم البدو بكلِّ تفاصيله وخصوصيَّاته، وقد نجحت في مغامرة العبور في خصوصيَّات هذه العوالم، رغبةً منها أن تجسِّد هذه العوالم الغامضة الّتي يمتاز بها البدو، حيث رأت أنَّ ما هو سائد في عوالم البدو فيه إجحاف أكثر من مرّة، فمرّةً تراه يُقدَّمُ عبر الدّراما السُّوريّة والعربيّة بطريقةٍ سطحيّة وهزيلة، لا يعدو أن يكون ساخراً بعض الأحيان، وسطحيَّاً في أكثر الأحيان، حيث ترى أن أكثر المشتغلين بالدارما المتعلِّقة بالبدو يلخّصون هذا العالم الرَّحب بالجِّمال والخيل بطريقةٍ ساذجة ويقدِّمون البدوي على أنّه يرفض الغريب الَّذي يتزوَّج من ابنة عمِّه ويبنون صراعات هشّة وسطحيّة لا ترقى نهائيّاً أن تمثِّلَ البدو بأبعادهم وعاداتهم ورحابة معالمهم الَّتي لا يعرفها إلا البدوي الأصيل، فجاءت لينا هويان الحسن، هذه البدويّة الجَّميلة  في سردها وفي جمال فكرها الخلَّاق أن تقول لا، لأنّها ترى أنَّ البدو أعمق بكثير ممّا يظنُّ هؤلاء الَّذين كتبوا عن البدو بسطحيّة ممجوجة، لهذا أرادت أنْ تجسِّد هذه العوالم كما كانتْ وكما آلَتْ إليها وقائع الحياة قبل أن يتآكل ويتعرّض هذا العالم الحميم إلى النّسيان ما لم يتم تجسيد عوالمه عبر نصوص سرديّة وروائيّة ودراسات عميقة وموضوعيّة، والطّريف بالأمر أنّها وجَدَتْ أن المستشرق الغربي والغربيون الَّذين قدّموا دراسات عن البدو، كانوا منصفين أكثر ممَّا قدَّمه العرب أنفسهم عن البدو، وهذا إنْ دلَّ على شيء إنّما يدلُّ على أنَّ العرب لا يعرفون قيمة تراثهم وثقافتهم وحضارتهم سواء على صعيد عالم البدو أو الحَضَر أيضاً، ولا حتَّى على صعيد الثّقافة والإبداع بشكل عام، حيثُ أنَّ جلَّ إهتمامهم مركّز على السِّياسة وفشلت العرب فشلاً ذريعاً في السِّياسة في الكثير من توجّهاتهم وما نراه على السَّاحة العربيّة من خراب ودمار يؤكِّد دقّة ما أقول!
أدهشتني الرِّوائيّة بذاكرتها المعتَّقة بالذّهب الصَّافي، فتسرد أسماء شخوص الرِّواية والخيول والجِّمال والأعشاب والطّيور والحشرات والحيوانات البرّيّة والأهليّة وأنواع الأكل والحبوب والأدوية وأسماء العشائر والمناطق ومفردات لهجة البادية وتفرُّعات وتفاصيل دقيقة كأنّها مصوّرة على شرّيط فيديو أو مدوَّنة على كتاب وتنقله بشكلٍ حَرْفي وتستعرضه بكلِّ هذه المصطلحات والمفردات والعوالم البدويّة بدقّة متناهية، وكلّ هذا يقودنا إلى أنَّ الرِّوائيّة تؤرشف عالم البدو عبر رواياتها الّتي ترقى إلى أن تكون مرجعاً هامّاً لمعرفة عالم البدو لما فيه من اشتغال في تفاصيل لا يمكن الرُّكون إليها إلا مَن كان على درجة عالية من المعرفة البدويّة بكلِّ حميميّة وشغف وإهتمام! لهذا تبدو لي الرِّوائيّة عين البدوي الحريصة على هذا الجَّمال المهدّد بالنّسيان والتّلاشي، فتقطع الطَّريق عن هذه المخاوف الَّتي ربمّا راودَت الكثيرين لكنّهم لم يقفوا وقفتها في تجسيد هذا البهاء على جدار الزّمن عبر نصوص روائيّة راسخة رسوخ الصَّحارى!
تتألَّق لينا في سردها نحو فضاء الشِّعر وهي تصف بهاء البادية أثناء لقاء "طراد" و"سكرى":
"حولهما ترتخي البادية مثل عذراء نائمة، في غفلةٍ منها يشرئب ربيعها، في اللَّيل تهبطُ النّجوم كلّها، وتكمِّمُ أفواه الأرض ببريقها البعيد الَّذي يبدو مثل نتوء مضيء خلال أروقة الفضاء".
تتابع في مقطعٍ آخر معبِّرةً عن جموحاتها الشِّعريّة وتصفُ توهُّجات حالة عشقيّة بين "طراد" و"سكرى" بطريقةٍ شاعريّة ورومانسيّة، كأنَّها تكتبُ نصَّاً شعريَّاً باذخاً في شهقات عشقيّة مفتوحة على حنين الطَّبيعة:
"كلبلابة شقيّة تتسلَّقُ جسد شجرة، تنمو، تحيط بالشَّجرة، تتعمشقُ عليها بكلِّ ما أوتيَتْ من حيل الالتفاف والدَّوران، هكذا كانت "سكرى" مع جسد "طراد".
ثمَّ تسترسلُ في وصف عناقهما بطريقةٍ رومانسيّة عذبة كأنّها في حالةِ ابتهالٍ أمام تجلِّيات بهجة العشق:
"هو كان بارعاً بالإنهمار كالمطر، بدأت تحرّكاته، مثل حبكة رواية مرتّبة ومفهومة. وكلّ أجزاء جسدها الّتي بلغتها يديه أصبحت أكثر جمالاً. بفمها تقاومُ فمه بلينٍ وخفةٍ، حتّى يسلبها منها عنوةً. هو الَّذي تأمَّلها دوماً عن بُعد ولا تجرؤ أي اِمرأة أخرى أن تداخلها، احتوى شفتيها بحقدٍ وحبٍّ وجشعٍ. قبَّلها بكل تلكَ الشِّفاهِ النّهمة الّتي تطرّزها أنامل البدويَّات على وسائد ليلة الدُّخلة. نتف ريش حزنه الكثّ، قبَّلها حتَّى النَّسغ، وجسده ذرفَ كلّ توقه وسكبه على جسدها. اتّجه مباشرةً صوب شغافها الحميمة، أعادَ سبك كلّ حياته في تلكَ اللَّحظة. تغلغلَ بها عميقاً وواضحاً وقدريَّاً، قويَّاً. ذاق طعمَ فمها، جاله بلسانه كصقرٍ يحومُ في سماءٍ لا يعطيها لأحد.".
تتألّق الكاتبة في حفاوةِ السَّرد المستوحى من سرابِ البادية المفتوح على أحداقِ الكون، يمنحها تدفُّقاتٍ سرديّة رهيفة وجامحة نحو أرخبيلات الخيال، كأنّها في رحلة حلميّة في رحاب ذاكرة معتّقة بأسرار البوادي الَّتي عبرَتْ متاهاتها واكتشفت مغاليقها المزدانة بغرائب الطَّبيعة بكائناتها وصمت ليلها وروعة السَّماء المنقوشة ببسمات النّجوم وسطوع القمر في اللَّيالي القمراء، حيث تنساب ريشتها على عناقِ دفءِ الحرف:
" الأطياف لا يمكنها أن تكون حياديّة أو هادئة لأنّها تحضرُ في عزِّ الظَّهيرة، يتواصلُ المدُّ والجَّزرُ في الذّكريات ويكتبُ "طراد"، يتَّكئُ على جذعِ أسطورته الحميمة ويسقيها حروفاً وكلماتٍ ونقاطاً وفواصل. في الخارج، السَّرابُ نخيلٌ صنعهُ لعاب الضَّوءُ الوحشي حيث الأفقُ لا يقبلُ للشمسِ أن تكونَ أقلَّ إشتعالاً، ولا أقلَّ غروراً، كيفَ لا؟! .. والأفقُ ذاتهُ عبره إصرار الزّير سالم على صهوةِ الرَّفضِ ورمحه يعفِّرُ كلَّ الدُّروبِ بالدّماء فقط ليظلَّ وسيماً بلا شبهة، لتكون جميلاً يهمسُ لكَ السَّراب بسرِّه: تعلَّمْ من الخيولِ خُيَلاءَها، كُنْ حصاناً، كُنْ صعباً ووعراً وعالياً وعاصفاً وناتئاً وصاخباً وهادراً وملعلعاً، كُنْ خرافة! .. فكمْ مرّة سنوقظهُ هذا التَّاريخ ليحتفي بحسننا وألقنا نحنُ الجارفون والموجِعون والمؤلِمون، ندلِّلُها ونعزها أنوفنا وكما السَّرابُ نمشي ونتركُ كلمات كثيرة دونَ نطقٍ."..
تلتقطُ الرِّوائيّة خيوط سردها من خلال رؤية انفراجيّة لواقع الحال الَّذي حلَّ بطراد وشخصيَّات روايتها، مركّزة على أنْ يتأمَّل "طراد" وقائع الحياة وما آلَتْ إليه ظروفه وتجاربه ويختار منها الأنسب لما هو آتٍ من قادم الأيام وكأنّ الكاتبة تريد أنْ تطرحَ رؤية جديدة لواقع البدو وكيفيّة إيجاد منافذ وأبواب تناسب الوقائع المستجدّة مع الحفاظ على الكثير ممّا خزّنته الذّاكرة من قيم وأخلاق ومعايير وثقافة بدويّة، جنباً إلى جنب إلى المعارف الّتي تشرّبها "طراد" من المدينة كي يختار ما يراه مناسباً لرحلة الحياة:
"يشمُّ الغيابُ، يتوسَّدُ ماضيَين: واحدٌ بعيد يمنحه معنى الأمس، وآخرٌ قريب جدَّاً مفعم بصوتِ فيروز الَّذي يملأ صباحات مقاهي دمشق، كأنَّ "طراد" يقفُ بينَ بحريَن ويحتارُ من أينَ يصطادُ السّمكة؟!"..
توغَّلت الرِّوائيّة عميقاً في حيويّة السَّرد، تناجي نجوم اللَّيل، تاهَتْ عبر مخيالها في أعماقِ الصَّحارى، عندما غاصَتْ في كلِّ هذا الجّمال السَّردي. أتساءلُ كم من التِّيه تهنا ونحن ما نزالُ عطشى لمعرفة ما يُحاكُ خلف التِّلال البعيدة؟! تهرب تلالنا منّا، وينابيعنا عطشى للماء الزُّلال! حتَّى ينابيعنا جفّتْ من هول تفاقمِ تصدُّعات الصَّولجان، إلى متَّى سنبقى منزلقين في أعماق الرّماد، لماذا لا نرسم فرحاً فوق خدود الغدِ الآتي، من يستطيع أن ينتشلنا من مغبّة الإنشطار، من يستطيع أن يخفِّف ولو قليلاً من شفير هدير الرّيح المهتاجة فوق خدودِ الصَّحارى، من يستطيع أن يلملم أحزان المدائن الغائرة في شفير الإنهيار، من يستطيع أنْ يرسمَ لي بسمة الأطفال فوق سهول الرُّوح، من يرى كلّ هذا الإنجرار نحو أخاديد الجَّحيم؟!
قامة روائيّة مسربلة بابتهالاتِ شهوةِ الحرفِ وهفهفاتِ بوح القصيدة، إشراقةُ حنينٍ إلى أعماقِ البوادي، تدفّقات منبعثة من رحيق الياسمين، تقنيّاتٌ منسابة مع زخّات المطر النَّاعم، رشاقة حوارٍ يماثل جموح غزالة تسابقُ هبوب الرِّيح، نصٌّ محبوك بأسرارِ الصّحارى شوقاً إلى مآقي النّرجس البرّي؟!
تمتَّعتُ في عبور عوالم هذا النّصّ الرِّوائيّ المسرود بتكثيفٍ بارع، لا زوائد ولا حشو ولا نتوآت في خيوط الحوار وعذوبة السّرد، بناءٌ فنّي محبوك بتدفُّقاتٍ وقفزاتٍ شفيفة، كأنّ الرِّوائيّة كانت في حالات ابتهاليّة غامرة أثناء كتابتها هذا الوهج السَّردي البديع، لهذا وُلِدَ نصّها عبر شطحات خيالها محلِّقاً، ومتدفِّقاً مثل شلَّالات أفراحٍ مندلقة من إشراقات النّيازك في ليلةٍ مجدولةٍ بحنين الكلمة إلى أعماقِ البوادي المعشَّشة في آفاقِ تطلُّعات الحلم القادم، فتقفل الرِّوائيّة سردها المتين على مساحاتِ ذاكرة الرّاوية الَّتي قادتنا بسلاسة إلى مرامي بوَّاباتِ العبور نحوَ شواطئ الغدِ الآتي حيث تقول: 
"كان الفراغُ يعثرُ على طريقه في كلِّ أنحاءِ القصرِ، كلّ شيء كان مفتوحاً على الفلوات المنبسطة حوله. شريط التَّذكُّرِ يمرُّ زائغاً مثل ثعلبِ الخدعة، وهناكَ وقف "طراد" يحدِّقُ في أفقٍ ليسَ يمحوه أيّ شيء. ووصلَ إلى يقينهِ، الصَّحراءُ لغزٌ والسَّرابُ تفسيرٌ. خرجَ "طراد" وهو يشمُّ طريقهُ.
.........  .....
لا زالت شقائق النُّعمان تبزغُ في الرَّبيع .. لتثير فكرنا خلال لحظة فيها نؤكسدُ الذّاكرة ، ونقرأ القادم.".

ينضحُ النَّص الرّوائي "سلطانات الرَّمل" ألقاً بديعاً وآفاقاً محبوكة على رحابة عوالم البدو، كأنّ حبر النَّص مستقطر من بتلَّاتِ الأقحوان. الكتابة معراج العبور إلى فراديسَ الجنّة، حلمٌ متطايرٌ من مرامي النّعيم! 
الرِّوائيّة لينا هويان الحسن، كاتبة روائية متميّزة ومرهفة في سبكِ شهقة الحرف فوق نضارة الحنين إلى متاهات بوح الرُّوح! تتألَّقُ عبر تجلّياتِ بوحها السَّردي، كأنّها قصيدةً متهاطلة من أشهى مذاقِ الخيال! .. حرفها معتِّق بأرخبيلات حبور السُّؤال! .. تعانقتُ بانشراحٍ كبير مع بوحِها المتعطِّش إلى مرابع طفولة مسربلة بتلألؤات نجوم اللَّيل، تنسجُ نصَّها وهي سارحة في أعماق الصَّحارى والبوادي عبر ذاكرة محفوفة بالخبز المقمّر، بحثاً عن خلاخيلَ أمٍّ ضاعت في خضمِّ شراهاتِ الإشتعال!
سلطانات الرّمل، نصٌّ روائي مخضّب بحلمٍ مفتوح على فراديس جنّة مفقودة، لكن شغف الرّوائيّة العميق في استلهام مسارات نعيم السَّرد من عوالم البادية الفسيح، هذا العالم العاجّ بالبهاء والجّمال والغرابة والغموض والدَّهشة، جعلنا في توقٍ شديد إلى قراءة فضاءات سلطانات الرّمل بإهتمامٍ كبير وقراءة الكثير من سرديّات الرِّوائيّة المبدعة لينا هويان الحسن، فتهنا بفرحٍ عميق في عوالمها المزدانة بتفاصيل حميمة ومتاهات سرديّة شيّقة منبعثة من لبِّ الحياة، نقرأ فضاءاتها بلذّة غامرة وشهيّة مفتوحة على شهقات بوحها وسردها الحميم، للولوج عميقاً في أسرارِ الصَّحارى والبوادي الفسيحة، إلى أن أوصلتنا إلى وهجِ الشّفق الأوّل، لحظةُ إشراقةِ الشَّمس، إنَّها لحظة الولادة، لحظة استقبال الأرض لـ "لينا" في البادية السُّوريّة، كي تصبح يوماً ما رايةً خفّاقة لأصالةِ الطّينِ الّذي وُلِدَتْ عليه في صباحٍ مبلَّلٍ بالنَّدى!
ترعرعَتْ لينا على أرضٍ مباركة، معشوشبة بالخير الوفير والعطاء الغزير إلى أنْ غدَتْ سنبلة شامخة على جبينِ الزّمن.
تتهاطلُ ألقاً فوقَ تلالِ القصيدة، وتلملمُ أحزان الفصول والسِّنين وذكريات مجبولة معَ قهقهاتِ النّجوم في اللَّيالي القمراء على مدى سكونِ اللَّيل، كي تغدقَ علينا تجلِّيات سرديَّاتها وشِعرها وبحثها المتواصل عن تاريخٍ طويل منبعث من تلألؤات النّجوم عبر إيقاعِ همهماتِ اللّيل، تجسيداً منها لحميميّاتِ البادية وأصالةِ الأرض الخيِّرة الّتي نبتَتْ عليها، وغوصاً في أعماقِ "السَّراب" الفسيح الَّذي قادنا ويقودنا وسيقودنا هذا "السَّراب" من خلالِ سرد هذه الرِّوائيّة البديعة إلى أعماق أسرارِ البوادي والصَّحارى عبر رحلاتٍ سخيّة محبوكة بتجلِّياتٍ مدهشة إلى أنْ فتحَتْ أمامنا كلّ الطّرق والدُّروب المستعصية عن العبور، ومنحتنا مفاتيح الولوج إلى أعماقِ الطّلاسم والألغاز والأسرار والرّموز الّتي لا تخطر على بال في دنيا الصَّحارى، إلى أنْ أوصلَتْنا بطريقةٍ شفيفة على ضوء نجيمات الصَّباح إلى عرين الأهداف الّتي رسمتها برحيقِ حبرها المستقطر من أريجِ الياسمين، المنبعث من بوَّابات دمشق إلى أقصى البوادي السُوريّة على إيقاعِ عناقٍ مفتوح على مدى مساحات حنين بوح الرُّوح إلى الطِّينِ الأوَّل!


صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم

sabriyousef56@hotmail.com



8
رحيل الفنّان المسرحي وديع عمسيح أحد مبدعي سوريا في دنيا الاغتراب

صبري يوسف ـ ستوكهولم
توفي الفنَّان المسرحي الصَّديق الغالي وديع عمسيح في إحدى مشافي ستوكهولم مساء اليوم الأربعاء 20. 5. 2015 بعد صراع طويل مع المرض!

ببالغ الحزن والأسى تلقَّيتُ خبر وفاة الصَّديق الغالي الفنَّان المسرحي وديع عمسيح، بعد صراعٍ طويل مع المرض في إحدى مشافي ستوكهولم مساء هذا اليوم، فلا يسعني إلَّا أن أتقدَّم  بإسمي وبإسم عموم آل شلو في الوطن الأم وسائر الدِّيار المهجريّة لكافّة آل بولو وآل سارة وآل حنّوش، وأخصُّ بالذكر زوجته شاميرام حنّوش أم مراد وأولاده مراد وماريا وساندرا، كما أقدّم خالص التَّعازي القلبيّة لوالده مراد بولو أبو وديع ووالدته مارو سارة أم وديع، وإلى إخوته الصَّديق الغالي سامي عمسيح مع العائلة والأولاد، والصَّديق الغالي بولص عمسيح مع العائلة والأولاد وإلى أختيه سامية وسناء مع أزواجهما والأولاد، وإلى أخواله الأصدقاء الغاليين: كابي سارة مع العائلة والأولاد، ومتّى سارة مع العائلة والأولاد وجان سارة مع العائلة والأولاد، وأقدّم أحرّ التَّعازي القلبية إلى كافة أعمامه وأولاد وبنات أعمامه وعائلاتهم في كلِّ مكان، وإلى عموم آل سارة وبولو وحنّوش في الوطن الأم وبلاد المهجر واحداً واحداً! راجياً من الرَّب أن يسكنه فسيح جنّاته بين أحضان الأبرار والقدِّيسين ويمنح أهله وذويه الصبر والسّلوان.

***

رحيل الفنّان المسرحي وديع عمسيح أحد مبدعي سوريا في دنيا الاغتراب

وديع عمسيح
مواليد المالكيّة/ ديريك العتيقة المنبعثة من غربة هذا الزَّمان!
ترعرع في بيئة ريفيّة مسربلة بأكوام الحنطة وعناقيد العنب، فتشرّب بالأصالة والصَّفاء وروح العطاء الخلاق في مجال الإبداع منذ بدايته، حيث دخل عوالم المسرح وفضاءاته منذ باكورة عمره، وإشتركَ في تقديم العديد من المسرحيات منذ أن كان طالباً في المرحلة الإعداديّة.
يمتلكُ الفنّان صوتاً مسرحيَّاً ذات مساحات عريضة، وشخصيّته المطواعة تناسب كلَّ الأدوار، وعندما تراه على خشبة المسرح، تشعر أنّه لا يمثّل بقدر ما يجسِّد وقائع الحياة عبر ترجمة مواقف معيَّنة مرسومة على الورق فينقلها إلى فضاءات المسرح بطريقة إنسابية مدهشة، عاكساً الحالات الإنفعاليّة للشخصيّة الّتي يمثُّلها كأنّه هو الشَّخصيّة ذاتها، لأنّه يتماهى مع الدَّور الَّذي يؤدِّيه ببراعة فائقة، وهذه البراعة نجمت من خلال شغفه العميق بالمسرح بأرقى تجلِّياته، فأصبحت خشبة المسرح واحة فرحٍ وطموحٍ على آفاق بهجة العطاء، لا يثنيه عن تحقيقه أي طموحٍ آخر، فتراه يترجم الشَّخصيات الَّتي يلعب دورها بمهارةٍ عالية، مركّزاً على كلِّ حركةٍ ولفظٍ وإيماءةٍ بدرايةٍ ورهافةٍ عالية، حتّى تكاد ترى أمامك تدفُّقات مشاعر الشَّخصيّة الّتي يجسّدها كأنّها على  شرفاتِ مسرح الحياة.
إنضمَّ بعد مرانٍ إلى المسرح الجّامعي خلال فترة دراسته الجَّامعيّة في حلب، وحقَّقَ نجاحاً وحضوراً وسط فنّانين من عدّة مشارب، ودفعه طموحه أن يلتحقِ  بعدّة دورات في التّمثيل والإخراج في دمشق وحلب على أيدي مخرجين أمثال المخرج فوَّاز السَّاجر والمخرج العراقي جواد الأسدي، والمخرج مانويل جيجي والمخرج إيليا قجميني، وإشترك مع مجموعة من الممثلين في تقديم ملحمة جلجامش في عرض مسرحي متميّز في حلب، كما إشترك في تقديم العديد من المسرحيات مثلاً:  نحن والولايات المتّحدة، عن نص لبيتر بروك، والمفتّش العام لغوغول، والغزاة، لآغون وولف. كما إشتغل في المسرح القومي وشارك في تقديم عدّة مسرحيّات منها مصنع الأقدام السّيقان، من إخراج إيليا قجميني، فتوقّف عند تجربته المتميّزة ومهاراته العالية في تأدية أسهل وأصعب الأدوار، كبار المخرجين منذ بداياته ومرحلته الجّامعيّة، حتّى عبوره البحار، فحطَّ به الرَّحيل على أرض مملكة السُّويد، ليبدأ مشواره المسرحي من جديد بلغةٍ تختلف جذرياً عن عوالمنا، ومسرحٍ من نكهة الإبداع الحقيقي وعلى رحاب آفاق تطلُّعاته!
أسّس الفنّان وديع عمسيح بالإشتراك مع بعض المهتمّين بالمسرح في ستوكهولم فرقة بعنوان: "آدادْ"، وإشتركَ في تقديم العديد من المسرحيات في السُّويد في اللُّغة العربيّة والسُّويديّة، منها: سفر في حقلِ الصّبّار، المهرّج والمرآة وغيرها من المسرحيات الّتي نالت استحسان الجُّمهور، وحقَّق حضوراً متميّزاً لدى الأوساط الفنّيّة المغتربة في المرحلة الإغترابيّة الأولى.
ثمَّ توغّل رويداً رويداً في فضاءات المسرح السُّويدي، بعد أن تمكّن من ناصية اللُّغة السُّويديّة، فكان من أوائل الممثلين من أصول مهاجرة ممَّن أصبحوا أعضاءاً في المسرح الملكي السُّويدي، وقد تمَّ إختياره من الممثلين المهاجرين ليشتركَ في مسرحيّة على خشبة المسرح الملكي، "الدرامات"، وهو من أرفع المسارح على أرض مملكة السُّويد.
الفنّان وديع عمسيح معروف بنشاطاته الغزيرة، حيث شارك في عدّة مسرحيات مع المخرج ستافّان فالديمير هولم، والّذي أصبح فيما بعد مديراً للمسرح الملكي السُّويدي، ومثّل في فيلم سينمائي قصير باللُّغة السُّويديّة، وإشتغل أيضاً كصحافي ومذيع في إذاعة سويديّة فترة من الزّمن، بعد أن خضع لدورة في الصّحافة الإذاعيّة، كما عمل فترة من الزَّمن كمدرس لمادّة التَّمثيل في أحد المعاهد السُّويديّة، إضافة إلى أنهّ درس التّرجمة في جامعة ستوكهولم ويعمل مترجماً للغة السُّويديّة العربيّة منذ سنوات، وترجمَ قصائد شعريّة لعدّة شعراء عرب، وأقام عدداً كبيراً من الأماسي الشِّعريّة، لتعريف الجُّمهور السُّويدي بالشِّعر العربي، حيث كان يقدّم الشِّعر بالعربيّة والسُّويديّة معاً بالإشتراك مع مجموعة من الممثلات المسرحيات منهنَّ الممثلة المسرحية السُّويديّة المعروفة أكسيل أكسيل.

شارك في عدّة مسرحيات مع المخرج السُّويدي الكبير كينت إيكبيري، منها حلم منتصف ليلة الصَّيف، الماعز على الشّجرة، أطفال النُّول، مدينة أحلامي، واللَّيلة الثّانية عشرة وأعمال أخرى كان آخرها مسرحيّة الإنسان الطّيب من سيشوان، وقد قال عنه المخرج السُّويدي الكبير كينت إكبيري إنَّ الفنّان المسرحي وديع عمسيح يستطيع أن يؤدّي الأدوار الجَّادّة والكوميديّة بنفس القوّة والمهارة وهو من الممثلين المفضَّلين لدي.

أقام في ستوكهولم منذ قرابة ربع قرن من الزَّمن الحافل بالإبداع.
كان متزوّجاً من السَّيدة المدرِّسة شاميران حنّوش وله ثلاثة أزاهير: مراد، ماريا وساندرة.

تحيّة لروح الفنّان المسرحي المبدع وديع عمسيح لكلِّ ما قدّمه من عطاءات خلاقة في مجال الفن المسرحي وفي مجال الثّقافة والأدب في دنيا الإغتراب.

صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
محرِّر مجلّة السَّلام


9
الفنّانة المبدعة جاهدة وهبة تتألَّقُ في إنشادِ الغناء الأصيل



درسَت العزف على آلة العود والبيانو، ودرسَت الموسيقى على مدى تسع سنوات، كما درسَت الغناء الأوبرالي والإنشاد البيزنطي والسّرياني، ودرست تجويد القرآن، إضافة إلى أنّها تحمل إجازة في علم النّفس ودبلوم في الدّرسات العليا في المسرح، وشاركت في المسرح الغنائي في العديد من الأعمال، فقد اشتغلت مع المخرج العراقي الكبير جواد الأسدي وغيره من مخرجي المسرح الكبار، وغنَّت باللُّغة العربيّة، والسّريانيّة، والأمازيغيّة والألمانيّة، والإسبانيّة والفرنسيّة .. بإحساسٍ عالٍ، وقدّمت صفوةَ الجَّمال والبهاء والإبداع الخلّاق خلال كلِّ أعمالها الغنائيّة والمسرحيّة الرّاقية.
***
أدهشتني الفنّانة جاهدة وهبة فور استماعي لأوّل أغنية لها، شغفٌ عميق قادني للتوقّف مليَّاً عند تجربتها الفريدة في الغناء، حيث يجد المتابع بصمة الأصالة دامغة بوضوح في مسيرتها الفنّيّة من خلال الإرتقاء في بهاءِ النَّصِّ الأصيل نحو أرقى مرافئ الإبداع، حيث شقَّت طريقها في مسالك شاهقة وكوَّنت لنفسها خصوصيّة متميّزة في موسيقاها وألحانها الموغلة في روحانيّة صوفيّة مبهجة للروح والقلب.
عندما سمعتُ صوتها المتفرِّد وهو ينساب بفرحٍ عميق إلى مسامعي، تولّد عندي إحساس مبهج فأنعشَ طلاسم غربتي المفتوحة على رحابِ الحياة، وبدا لي صوتها كأنّه منبعث من ربوعِ أحلامٍ غابرة، وأيقظَتْ في داخلي رغباتٍ مكبوتة وتوّاقة لسماعِ الطَّرب الأصيل وترنيم التّراتيل والمزامير والإنشادِ الصّوفي المنعش لتجلِّيات الرّوح. إستمعتُ إلى عذوبة صوتها وحسّها وتجلِّيات روحها المرنّمة برهافةٍ متناهية، كأنّها تناجي أرواحنا العطشى لهكذا نوع من الغناءِ الرّاقي!
غمرتني سعادة عميقة وأنا أسمع أغانيها وآسرتني رهافتها وتجلِّيات أدائها، كأنّي كنتُ منذ زمنٍ بعيد في حالةِ إنتظارٍ لهكذا دغدغات لمرافئ الرّوح روحي. إنسابَ صوتها بكلِّ انتعاشٍ في أعماقي، متوغِّلاً بعذوبةٍ شفيفة بين مزارات قلبٍ مجنّحٍ نحو دروبِ الفرح والحنين إلى أعذب الألحان. هدهدَتْ بعبورهِا الدَّافئ طفولةً مسترخيةً في مرافئ النّسيان، وبلسَمَتْ آهاتِ طفولةٍ مضمَّخة بأصالةٍ موشَّحة ببعضِ وخزاتِ الأنين، شامخةً بصفاءِ صوتِها وألحانِها نحوَ هلالاتٍ متعانقة مع شذى بخورٍ منبعثة من قداسةِ أديرة قديمة، كأنّها تنشدُ خلاصةَ ألحانٍ تنامَتْ بين عوالمها البهيجة حفاوةَ النَّدى المتناثر على إخضرارِ وريقات الحنطة.
تنشدُ الشِّعرَ بكلِّ تلاوينه الملامسة لتجلّياتِ روحٍ مقمّطة بوميض الإنبهار، تعكس لنا إنسانيّتها بأصفى ألقها، وتدغدغُ بمهارةٍ عالية الحنينَ الغافي في ثنايا الذَّاكرة البعيدة، كأنّها تحاكي عبر أدائها الغنائي، قصيدةً حالمةً خلال انبعاث لحظات شموخها في بوحِ الإنشاد. لأنَّ القصيدة هي الَّتي تختارها، ولا تجد مناصاً منها إلَّا بعد أن تغنّيها، فهي مدمنة في عشق القصائد، تعبُرُ خلالَ إنشادها في أعماقِ منعرجات جموح الخيال. تنشدُ المزامير والتَّراتيل والنُّصوص الصّوفيّة المستفيضة في إشراقةِ جموحات بوح الرُّوح، حيث ترى الغناء كأنّه شهيقها الَّذي يمنحها الحياة، لهذا تغدق علينا أبهى ما لديها من غناءٍ أصيل!
تشبه جاهدة وهبة حبقَ القصيدة المتفتّحة على نضارةِ البساتين في توليفة ألحانِها، تتفاعل مع روحانيّة النَّص كأنّه جزء من كينونتها، وتترجمه عبر مساحاتِ عُرَبِها الصَّوتيّة المضمّخة بورعِ الإبتهال، فتنساب تجلِّياتها السَّارحة في مرامي الأحلامِ، متراقصةً على إيقاعِ بهاء الكلمات وعذوبةِ الأنغامِ، فتتوغَّلُ رويداً رويداً في حنايا القلب وتتصاعدُ على مسارِ تماهيات بهجة الرّوح نحوَ أقصى ابتهالات حبورِ السَّماء. 
كلّما تناهَت أغاني جاهدة إلى مسامعي، تراقَصَتْ روحي ألقاً من بهجةِ الإنتعاشِ، تمنحني فرحاً مماثلاً لتوهُّجات بهجةِ الإبداع، وكأنّي في أوجِ انغماسي في مناغاةِ مسارِ تدفُّقات خيوطِ القصيدة. تناجي بإنشادها وألحانها وأغانيها حلمَ الأطفالِ وألقَ العشَّاق وهم يغفون بين أحضانِ اللَّيل بفرحٍ كبير، تشبه أغانيها زخَّاتِ مطرٍ منبعثة من آهاتِ غيمة حُبلى بأزاهيرَ عشقٍ مبرعمة من نكهةِ العسل البرّي.
تعتلي خشبة المسرح بكلِّ شموخٍ، فتتوهَّجُ ألقاً في محرابِ الغناءِ وتمسحُ من جبهتنا أحزانِ السِّنينِ بإنسيابيّة حميمة، وتغدقُ فوقَ ربوعِ أيّامنا أشهى مذاقاتِ الحياة، تغنّي كي تتطهّر من أوجاعِ الحياة، من خلال تلحين نصوصٍ تسكنها فتشعر بمتعة فائقة عندما تغنيّها بكلِّ تجلّياتِ روحها وكأنَّ الغناء هو بلسمٌ شافٍ لجراحاتها وطوقُ نجاةٍ عبر مسار غنائها المشبّع بأسرارِ الخلاص من تفاقماتِ أنين الحياة!
تمتلكُ الفنّانة حنجرة حريريّة صافية من شوائب هذا الزّمان، أطلق عليها الفنَّان وديع الصّافي، مجاهدة: مناضلة في الغناء، فقد طاوعَ صوتها الكثير من الإنكسارات، إلى أن وصلَ أبهى درجات الوجدِ والإبتهال. يتوغَّل صوتها في مرافئ الرّوح الدَّافئة، كأنّها تحملُ بين أجنحتها رسالة فرحٍ إلى الحزانى كي تخفِّف من أحزانهم المتفاقمة يوماً بعد يوم، وتقدِّم إلى المشتاقين إلى ظلالِ البيوتِ العتيقة باقات القرنفل على إيقاعاتِ فرحٍ، فارشةً أمامنا ألعاب الطُّفولة المنسيّة، فتوقظُ في أعماقنا أحلاماً هاربة في ثنايا الغمام! 
تتميّز هذه المتشرِّبة بالأصالة والرّوحانيّة الفيروزيّة في فرادتِها ورقيّ تجربتها في دنيا الغناء، في وقتٍ غدا الكثير من آفاقِ الأغاني تصبُّ في ديكوراتٍ بعيدةٍ عن روحِ الأصالةِ والإنشادِ الحميم. صوتُها أصيل معبِّر عن مشاعر توَّاقة إلى حبورِ شهقةِ القصيدة، فقد غنَّت للكثير من الشّعراء ذوي القامات السَّامقة كأنّها حبقٌ ممتدٌّ من وهجِ الإبتهال المتدفِّق من إشراقةِ خيالٍ متماهٍ مع خيوطِ الصَّباح، يتماهى صوتُها معَ أزاهير ممراحة على إيقاعِ فضاءاتِ فيروز الجَّانحة نحو أبهى تجلِّياتِ صفوةِ الإبداع!
***
هل تغلغلَتْ في روحِكِ وأنتِ في أعماقِ الحلم، إشراقةُ العشقِ لأشهى الأغاني؟ أراكِ تصدحينَ بإبتهالاتِ فرحٍ وتجلِّياتِ بوحِ الرُّوحِ وكأنّكِ هلالة فرحٍ متدفِّقة في ليلةٍ قمراء من شهوةِ الغابات! تغنِّين "أكَابيلَّا" التّجويد أيضاً، وهي لغة ابتهاليّة من دون موسيقى مرافقة، تهدهدين الكبار من خلالِ إنشادِ أشهى الأغاني.
شاهدْتُكِ في لقاءَين مع المحاورِ البارع عماد دبّور عبر ممنوعه العابر في أصفى أبراج الحرّيّة، ومع الشَّاعرة البديعة بروين حبيب عبر لقاءاتها المشحونة بدندنات القصيدة، ومع الشّاعر المزدان بيراع الشّعر زاهي وهبي في بيته المعشوشب بأبهى يراعِ القصيدِ، وفي روافد أحمد علي الزِّين المسربلة بحنين هدهدات الرّوح عبر تجلِّيات بوحِ القصيدة، وإستمعْتُ إلى عشراتِ التَّرانيمِ والأغاني الصَّادحة في فضاءاتِ  اليوتيوب. وجدتُكِ صوتاً مجبولاً بالأصالة، مدهشاً في صفائه وعذوبته مثلَ دهشةِ قصائدٍ تتماهى معَ تجلِّياتِ شهيقِ الشِّعرِ، وكم كان الشَّاعر سعيد عقل بديعاً في رأيه عندما أطلقَ عليكِ "رنكَانة" أي رنين الكون، اسم فينيقي ينطبق على رحابةِ رنينِكِ الإنساني الخلّاق، صوتُكِ إشراقةُ حنينٍ إلى ينبوعِ الماءِ الزُّلال. صوتُكِ سؤالٌ مجنّحٌ نحو ظلالِ البساتين، حالةُ فرحٍ مجدولٍ بلهفَةِ وحنينِ المحبِّين. تغنّين على إيقاعِ شهوةِ الرّوحِ وهي ترقصُ من وهجِ الإبتهال، كأنّكِ في حالةِ عشقٍ مفتوحٍ معَ تلألؤاتِ النُّجوم.
هل استلهمْتِ من ضياءِ القمرِ شوقَ الأرضِ لسموِّ السَّماءِ، أم أنّكِ تبرْعَمْتِ من حنينِ الغاباتِ إلى خريرِ السَّواقي في أوجِ ابتهالاتِ بزوغِ الرَّبيع؟! تراودني أسئلة مفتوحة على مساحاتِ جموحِ القصيدة. 
تغمرُكِ حالة إنصهارٍ معَ أعذبِ الكلام، مع وميضِ الشِّعر، مع أشهى أشواقِ الهيام. تتعانقُ بهاءُ القصيدةِ معَ حياءِ خدّيكِ، مع بسمةِ عينيكِ، معَ مروج ينابيعَ الرّوحِ، فتصبحُ القصيدةُ صديقةَ روحِكِ الأنقى، تتسامى الرُّوحُ معَ حبورِ الحرفِ، فتتألَّقين في خضمِّ ألحانِكِ، كأنَّكِ في حالةِ إبتهالٍ حلميّة مع أرقى حفاواتِ الكلام، تشمخُ البقاع مسقط رأسكِ أمامكِ، فيجرفكِ الحنين إلى مرابع الطُّفولة والصِّبا، إلى البيتِ الأوَّل، حيث تفتَّحت فيه قريحتكِ ومن هناك إنطلقتِ حيث جمهورك الأوّل: الأم الوديعة، الحاضنة الرَّؤوم، والوالد الَّذي زرع في آفاقِكِ مذاق القصيدة وعشق الشِّعر! .. هناك ودّعْتِ الجّمال، جمال الطّبيعة، وجمال الحياة الموسوم بالوالد المرفرف في مروج روحِكِ، والوالدة الَّتي خبَّأتيها بين جوانحك المحلّقة على مدى رحابة تجلِّيات الرّوح، شعرْتِ أنّكِ تحوَّلْتِ إلى كتلةٍ من يباس بعد رحيلها، ولم تجدين أجدى من القصيدة، وغناء القصيدة ينقذانكِ من شفير هذا اليباس!
أيّتها المعجونة من طينِ المحبّة، الغارقة في اخضرار شُهُبِ الرّوحِ، الجّانحة نحوَ مآقي زرقةِ السَّماء. يا صديقةَ اللَّيلِ الحنون، يا غيمةً سارحة معَ هفهفاتِ نسيمِ الصَّباح. أيّتها العابرة على همهماتِ هدوءِ اللّيلِ إلى أحلامِ الطُّفولة، أنتِ عاشقة مشتعلة في يراعِ القصائد، نغمةُ فرحٍ مرفرِفة في أجنحةِ اليمام، حديقةٌ مزدانة بأغصانِ الأمل، أيَّتها المسكونة بشهيقِ الشِّعرِ، بأسرارِ كلماتٍ مملّحة بحبرِ الحنين، كم من القصائد تمايلت بتناغماتِ إيقاعها فوقَ سواقي العبورِ، كم من الدُّموعِ انسابَتْ من مقلتيكِ حتَّى تلألأ وميضُ الأنغامِ من تجلِّياتِ حبورِ الحنينِ فوقَ تيجانِ الحياة؟!
جاهدة وهبة مطربة وملحّنة مسربلة بوشاحِ جمراتِ الألم ووهجِ الحبِّ وتلالِ الذّكريات، استلهمَتْ وهجَ القصائد من خشخشات الأشجار، من همهمات الرِّيح، وهسيس الكائنات وبهاء الطَّبيعة وشموخِ الجِّبال، ومن الذَّاكرة المعجونة بطينِ الحياة. كتبَتْ ولحّنتْ وغنَّت القصائد الّتي تشبهها، كي تسمو أثناء تجلِّيات الغناء فوقَ ينابيعَ الرُّوح، لعلّها تمحقُ أحزانَ السِّنينِ الوارفة فوقَ سهولِ القلب المستنبتة حول مرافئ الرّوح.   
تفرشُ ألحانَها بَلْسماً عذباً فوقَ أهدابِ القصيدة، فأنشدَتْ أشعار أُنسي الحاج ومحمود درويش وأدونيس وطلال حيدر وإيلي شويري وأحلام مستغانمي ولميعة عبّاس عمارة وعمر الخيام والشّاعرة الإيرانيّة فرّوخ فرخ زاد والشَّاعر الألماني غونترغراس والإسباني فريدريكو غارسيا لوركا، ومزامير داؤود والتّراتيل السّريانيّة والبيزنطيّة وأنشدت أجمل القصائد لاِبن عربي وجلال الدّين الرّومي ورابعة العدويّة واِبن الفارض والحلّاج!   
أريدُ أنْ أهمسَ لروحِكِ الهائمة في أشهى تجلِّياتِ الألحانِ، أسرارَ جموحِ الحرفِ إلى أقصى توهُّجاتِ الإبتهال، أريدُ أنْ أنقشَ على رحابةِ ذبذباتِ صوتِكِ تواشيحَ رعشةِ القصيدة، أريد أنْ أرسمَ بسمةَ القمرِ فوقَ خدودِ الطُّفولة. مراراً استوطنَتْ في مراميكِ أحزانَ السِّنين، وحدُها القصيدة بلسَمَت النّشيجَ المستوطنَ في قيعانِ مرافئ الذّاكرة، وحدُها الأغاني خفِّفَتْ من أنينِ الجِّراحِ المستفحلة في كينونتِكِ على مدى طفولتِكِ المبرعمة على وجهِ الدُّنيا. طفولتُكِ رحلةُ أسىً مشرئبّة بانسيابِ أنقى الدّموع، طفولتُكِ مسروجة بقناديلِ ليلةِ الميلاد، طفولتُكِ متجلِّية في فضاءِ الأنغام الَّتي توغَّلَت عميقاً في لبِّ الألحانِ المنبثقة من ذاكرتك المبلَّلة بندى الياسمين، إلى أن غدَتْ طفولتُكِ ينبوعَ إنطلاقٍ نحو أقصى تجلّيات إنشادِ القصيدة.
هاجسُ العبورِ في لبِّ الأحزانِ راودَكِ مراراً، فعبرْتِ إلى قيعانِ الأنينِ كي تطهِّري الجّراحَ الخفيّة من جذورها عبرَ عذوبةِ الألحانِ، وكأنّ بهجةَ إنشاد الأغاني، كانت مفتاح الشّفاء والإنعتاق من أوزارِ الألمِ الجَّاثمِ فوقَ ربوعِ الطُّفولة المسربلة بالأسى والأنين، منذُ استشهاد والدكِ إلى أن غدا الحزن أليفاً لكِ لسنواتٍ طويلة، فما وجدْتِ أجدى من الغناء كي تردّينه على أعقابه من خلال تطهير الرُّوح من تشظّيات الأحزان المتناثرة فوق اشتعالِ غابات الحلم! 
كلَّما أسمع إلى أغانيكِ، يرقصُ قلبي طرباً من وهجِ انبعاثِ أبهى الأنغامِ. كلَّما أسمعُ إلى أغانيكِ، أزدادُ إنبهاراً في تجلِّياتِ روحِكِ الخلَّاقة في ألقِ العبورِ في أعماقِ أسرارِ بوحِ القصيدِ!
كيف تشكَّلتْ هذه الرّوح التَّوّاقة إلى مسارِ نُجَيْمَاتِ الصَّباح من حيثُ ابتهالات بهجة الأنغام؟!
عندما أسمعُ مهاميز الطَّرب المنسابة من حفاوةِ الأداءِ، تستيقظُ في ظلالِ الرُّوحِ الخفيّة ينابيع دفء القصيدة، شوقاً إلى عناقِ بهجةِ الإبتهال، كأنَّكِ غيمة مندلقة من خاصرةِ السَّماءِ نحوَ براري الشِّعرِ، نحوَ أنغامِ جاهدة وهبة وهي تنشد أبهى الأغاني، كأنّها في رحلة انتعاشٍ نحو أهازيج بوح القصائد!
منحْتِ نفسي بهجةَ العبور إلى معالم عاشقة مفتونة بالغناء الأصيل، مفتونة بشهقاتِ حبر القصيدة، فنّانة من لونِ زرقةِ البحرِ وهي تهفو إلى عناقِ نسيمِ اللّيلِ قبلَ أنْ تبتسمَ النُّجومُ لآهاتِ البشر!
جاهدة وهبة صديقة حرفٍ مندلقٍ من مآقي الغمام، تتوّجُ بأنغامِها متاهات بوحِ القصيدة، فتعيدُ القصيدةَ إلى مساراتِ بهجةِ الإشتعال، كأنَّها مجبولة من يراعِ أسرارِ القصيدة، لهذا نراها تتوغَّلُ عميقاً في حبورِ تجلّيات الإنشاد وهدهداتِ الأغاني، صوتٌ منبعثٌ من عذوبة الرُّوح التَّوَّاقة إلى حبر القصيدة، تهفو القلوبُ بمتعةٍ غامرة إلى الإستماعِ لتوهُّجاتِ إبتهالاتِ "رنكَانة" المنسابة برنينِ الكون، على إيقاعِ تدفّقاتِ خيوطِ الحنين!
***
لِمَ لا، إنّها ابنة حضارة موغلة في الإبداع الأصيل، ابنة لبنان، ابنة الشَّرق الدَّافئ بأرقى تلاوين العطاء، ابنة القصيدة، ابنة المقام الموسيقي الأصيل، المتشرّبة بأغاني أم كلثوم، وعبدالوهاب، وأسمهان ووديع الصّافي، والمترعرعة على هدهدات أغاني فيروز.
.. ويبقى السُّؤالُ مفتوحاً، كيف لا يتأثَّر الزُّعماء والرُّؤساء والملوك العرب بهكذا حالات فنّية راقية وبكلِّ المبدعين والمبدعات من هذا الطِّراز الحضاري الخلّاق، ويستلهموا منهم أبجديات جديدة للعطاء كي يمنحوا مواطنيهم البهجة والغبطة والسَّعادة، وينتشلونهم من هذه الحروب والصِّراعات المجنونة والتّناحرات المريرة والرُّؤية العقيمة الّتي أودَت بالبلاد إلى شفير الجّحيم، فلماذا يتمتَّع الغرب وأغلب دول العالم بما يقدِّمه المبدعون والمبدعات في بلدانهم، ويحقِّق الغرب لمواطنيه كلّ وسائل الرّفاهية والسّعادة والهناء، إلَّا سياسات وأنظمة العالم العربي، لا تقدّم لمواطنيهم سوى الحروب والبلاء والخراب والحروب الممجوجة؟! فقد دمَّروا البلاد فوق جماجم العباد على مدى عقودٍ وقرون، فعلى الأنظمة والسِّياسات العربيّة وما يجاورهم أن يفهموا ويعوا ويدركوا جيّداً أن المنقذ الحقيقي لكلِّ هذا الخراب هو الإبداع بكلّ صنوفه، ابتداءاً من الموسيقى والغناء والشّعر والتّشكيل، مروراً بالمسرح والأدب والفكر الخلّاق وإنتهاءاً بكلِّ رؤية تنويريّة تصبُّ في ربوع السَّلام والحرِّية والدِّيمقراطيّة الحقيقيّة، بعيداً عن أيِّ تعصُّبات دينيّة وقوميّة ومذهبيّة وطائفيّة مقيتة، والتَّركيز على المواطن الإنسان، لأنَّ هذا المواطن الإنسان المنعتق من خزعبلات التَّعصُّب القومي والمذهبي والطَّائفي، مع عميق إحترامي للقوميات والأديان، هذا المتحرّر من كلِّ هذه الشّوائب، هو الّذي سيقود البلاد إلى بوَّابات الأمان، كما يقودها المجتمع الغربي والمجتمع الأوربي وكلّ مجتمعات الدُّول النَّاهضة، بعيداً عن أيِّ تعصُّبٍ، إلا التَّعصّب للحقِّ والعدالة والمساواة والحرّية والدّيمقراطيّة، عندها ستتحقَّق الرّفاهيّة والسّعادة والهناء والفرح والسَّلام للمواطن كلّ مواطن على أكمل وجه!

صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef56@hotmail.com



10
الشَّاعر القس جوزيف إيليّا مجبول بيراعِ بوحِ القصيدة


الشاعر القس جوزيف إيليا، خاص مجلة السَّلام

ولِدَ الشَّاعر القس جوزيف إيليَّا في "كهني مطربة" قرية وديعة تابعة لديريك، وتشبّع بمشاهدة الطَّبيعة النَّقيّة والبراري الفسيحة ممّا منحته آفاق رحبة لخياله الشِّعري، ثمَّ انتقل إلى مدينة ديريك الَّتي كانت تحمل طابعاً ريفيّاً، وترعرعَ في بيئة وعائلة أدبيّة فنّيّة روحيّة جانحة نحو أصفى ينابيع الأدب والفنون إبتداءاً بالشِّعر والقصّة مروراً بالفنون المسرحيّة والتَّشكيليّة وسائر الأجناس الإبداعيّة، فاستحوذ على آفاقه بريق الشِّعر، فأصبح هاجسه الأكبر منذ باكورة عمره، وبدأ كتابة الشِّعر منذ أن كان على المقاعد الدِّراسيّة في الحلقة الإعداديّة والثَّانويّة مروراً بالمرحلة الجّامعيّة. وقد قرأ الشّعر الكلاسيكي بكافّة مراحله وعصوره، والشِّعر المعاصر، ونهل من أمّهات الكتب الشِّعريّة أشهى ما في خصوبة الشِّعر من تجلِّيات الإبداع، وتلّمس برهافة شفيفة مسارات استيلادِ الشِّعر، فتشرَّب مذاق حبور ولادة الشِّعر إلى أن غدا الشّعر وهجاً روحيِّاً وشغفاً عميقاً يناغي ليله ونهاره، متوقِّفاً عند بحار العروض بإيقاعاتها المتنوّعة، فكتب الشِّعر العمودي وشعر التَّفعيلة، كما لديه عبور شفيف في كتابة قصيدة النّثر بين الحين والآخر، وإنْ كان الشِّعر العمودي والموزون، شغفه الأكبر، كما توغّل رويداً رويداً في قراءة الكتب المقدّسة، وتابع شغفه الرُّوحي في قراءة اللّاهوت في جامعات القاهرة إلى أن حصل على اللّيسانس في الَّلاهوت، وفي العام 1993 رُسِمَ قسيساً وتزوج ورزق بولد وابنتين. إضطرته الظُّروف أن يعبر البحار في نهاية 2013 متوجّهاً نحو ألمانيا على أثر الحرب المتفاقمة في سورية. اصطبغ شعره بالأوجاع والألم والشَّوق إلى الوطن ومسقط الرأس، ولم ينقطع عن قراءة الشَّعر وهاجس كتابة الشَّعر منذ أن أصيب بعشق الشِّعر حتّى الآن. شارك في العديد من الأماسي الشِّعرية والمحاضرات والوعظات الرّوحيّة وله بعض الإطلالات على بعض الفضائيات، واتّخذ من الشَّبكة الفضِّية، الفيس بوك نافذة رحبة يطلُّ عبرها على العالم ويتواصل مع الشَّعراء والشّاعرات، لُحِّنت بعض قصائده كترنيمات وأغاني، ونشرت عبر الشبكة وقُدِّم بعضها على مسارح ديريك وغيرها من المسارح. تهيمن على أشعاره رؤية روحانيّة صوفيّة إنسانيّة فسيحة في آفاق تطلُّعاته الإيمانيّة والإبداعيّة والفكريّة الَّتي تصبُّ في جوهرها في الإيمان الصافي والتَّنوير والتَّطوير الإنساني الخلَّاق!                 
يتميِّز الشّاعر القس جوزيف إيليا بفضاءاته الجّامحة نحو حبورِ المحبّة والوئام بين البشر، يرسم حبق الرُّوح على إيقاعِ هديل اليمام في مسارات بوحِ القصائد، أشبه ما يكون شمعة فرحٍ تضيءُ ألقاً وسلاماً في دنيا مفخّخة بالضَّجر، بسمة أملٍ مشرعة على حنين الينابيع إلى خدود السَّماء، يكتب القصيدة كأنّه يناجي فراشات بشائر السَّلام والحلم الآتي، جاهداً أن يبلِّلَ جبين المتعبين راحةً وأملاً من تفاقمِ شفير الإشتعال، هذا الشَّاعر القسِّيس مسكون بهلالاتِ قمرٍ، ينقشُ روعة الفراشات وهدهدات هديل اليمام، يناجي ويعظ نفسه قبل أن يعظَ الآخرين، شاعرٌ مسربلٌ ببهجة الكلمة الجّانحة نحو صفوةِ مرافئ الإبداع، فتتقاطع رؤاه مع وهج الحداثة رغم أنّه يكتب الشَّعر العمودي، وهذا ما يميِّز شعره العمودي عن سواه حيث يقول:   
   
قُلْ سلاماً ..!!

إنْ كنتَ تبغي الكلاما       صِغْه جميلاً دواما
بذا ترد عدواً                ألقى عليك السِّهاما
وتكسب الخل نوراً           يزيح عنك الظَّلاما
وتزرع الحبَّ ينمو           في النَّفس ينهي الخصاما
والنَّاس تصغي وتبدي       لما تقول احتراما
والله عنك سيرضى          إنْ أنتَ قلتَ سلاما

يرى الشّاعر أنَّ الكلمة هي الأبقى والأكثر سطوعاً على جبين الحياة، ولا يبالي بسواطير هذا الزّمان لأنّها ستهرُّ عاجلاً أم آجلاً أمام هلالات الكلمة الحق، الكلمة العدالة، الكلمة الوجود، الكلمة الحياة، الكلمة المحبّة، لأنَّ الكلمة أقوى بكثير من سواطير الكون. الكلمة عناقٌ عميق مع شهقةِ الصَّباح، الكلمة هي أجنحة اليمام المرفرفة عالياً، الكلمة مفتاح العبور إلى أحضانِ مهجةِ السّماء، هي أريجُ أرضٍ مبرعمة بالإخضرار، هي محبّة وارفة في وجه بُلَهاء هذا الزّمان، الكلمة قبلة خيرٍ مبلَّلة بأزاهيرَ الوئام، الكلمة هي سموُّ الرّوح نحو فراديس نور الحياة، الكلمة أسبق من الحياة، لأنّها روح الحياة، وهي أبقى في الحياة من سلاطين الكون على مرِّ الأزمان، هي وهجُ الخير المستنير على وجه الدّنيا إلى أبدِ الدُّهور، وفي نهاية قصيدة "لا لموتي وسأحيا" يقول الشَّاعر:                       
... ... .. .... ...
إنَّ لوني لونُ عشقٍ
ينتشي في حضنِهِ فجرُ السَّلامْ
ويذوبُ البغضُ
يطويه الظَّلام ..
يا نداءَ الحربِ صمتاً
في قبورِ الأمسِ ..
     ماعدْتُ أنامْ ..
بلْ بعينِ الكونِ أبقى ..
     قائماً ..
     حيَّاً بأنفاسِ الكلامْ .. !
يستمدُّ الشَّاعر شعره من وحي مهجة الرّوح التَّوّاقة إلى بسمة الأطفال، من رؤاه الصُّوفيّة المتعانقة مع روعةِ الحياة، من ثقافة مستنبتة من أزاهير المحبّة ووئام الإنسان مع أخيه الإنسان، من خيالٍ جانح نحو رفرفات الطُّيور المحلّقة في فضاءات زرقة السّماء. ينسج قصيدته كأنّه في رحلة حلميّة نحو إخضرار الكروم، شوقاً إلى أشهى العناقيد، يشعلُ شموعه مبتهلاً للأعالي على إيقاع حنين الرّوح، مسربلاً ببهجة عارمة، تغمره حالات فرحيّة باذخة عندما يغوص في بزوغِ وميضِ القصيدة، كأنّه يترجم لنا حبور الأطفال في صباح العيد، وهم في حالة لهفةٍ عميقة لإشعال قناديل السَّلام وهم يرتِّلون مزامير تجلِّيات الرّوح لرسول السَّلام، رسول المحبّة، رسول الطّفولة المتعانقة مع زخّات المطر، ينظرُ الشّاعر إلى بهجة الأطفال المرتسمة فوق محيّاهم النّضير، فيستوحي نصّه بإنسيابيّة شفيفة من هذه الأجواء السّامية كأنّه يطير ألقاً في مرامي حلمٍ مفتوح على مروج الحياة، مركّزاً على أزليّة الله وخلود المحبّة وكل ما عداها زائل وباطل الأباطيل:       

أبونا واحدٌ ..!


كلّ شيءٍ زائلٌ خامدُ           ما عدا الحبَّ هو الخالدُ
فاتركِ البغضاء خذ بيدي       فأبونا يا أخي واحدُ
تثمرُ الدُّنيا بغيثِ الصّفا        وبه الكون سناً صامدُ

يتوقَّف الشّاعر عند أهميّة تواصل البشر مع بعضهم بعضاً، بعيداً عن لغةِ البغض والكراهية وتناحر وصراعات مريرة لا طائل منها، بل تقودنا إلى الدّمار والهلاك، لهذا نراه يركّز في شعره وتطلُّعات رؤاه على ضرورة التَّآخي ومناصرة الإنسان بغضِّ النّظر عن دينه ومذهبه وطائفته، فهو شاعر وقسيس منفتح على إنسانيّة الإنسان في رؤاه الفسيحة، ويدعو إلى الحوار الدِّيني الإنساني الخلّاق، طالما الإله واحد، وهو خالق الإنسان والأرض والسّماء والجّماد والكائنات كلّ الكائنات:                                   
                                                         
أنتَ ... أنا ..!

قريباً
هنا قفْ ..
وغنِّ معي
كي يطيب الغنا ..!
كنْ صديقي، 
وخذْ من دناني خمورَ الصّفاءِ
وكلْ من موائد حبّي ثمارَ الحياةِ
وخبزَ الهنا ...!
ولا ترمِ شوكاً على زهر حقلي
ولا تفسدِ الماءَ في جدولي
يا أخي ..
ردّ سيفَك عن عنقي
لا تُمِتْ به نفسَكَ
حاذرْ ..
فأنتَ.. أنا ..!
ومن خلال قراءتي ومتابعتي لتجربة الشَّاعر، وجدت لديه إطلالات طيّبة في مخاطبة الإنسان بودٍّ كبير، جانحاً نحو نثر بذور الخير والمحبّة عبر قصائده، كأنّه في سياق تسخير قلمه جنباً إلى جنب مع مواعظه الّتي يقدمها عبر منابره إلى بثِّ روح التّعاضد والتّعاون والتَّسامح بين البشر، متّخذاً من فضاءاتِ الشِّعرِ نافذة روحيّة إيمانيّة إنسانية فكريّة مفتوحة على رحاب الطَّريق القويم المرتكز على مرامي القصيدة:     
لا تقلْ ....!

لا تقُلْ: إنّكَ للّهِ وتُبغِضْ             وعن النّاس عيونَ الخيرِ تُغمِضْ
أنتَ في هذا بعيدٌ عن إلهٍ            يبتغي الحُبَّ وصوتَ الحقد يُجهِضْ
إنّه الّلهُ لكلِّ الخلْق راعٍ              في مَراعيه خِيارَ القوم يُربِضْ
كُنْ قريباً منه لا تصنعْ جحيماً       لأخيكَ الحُرِّ فيه العزْمَ أَنهِضْ
كي ترى اللّهَ بعين الحقِّ حيّاً         من صراخ الموت في نفْسِكَ يُخْفِضْ
للأمِّ مكانة مقدّسة لدى الشّاعر، فيكتب نصّوصاً بمناسبة عيد الأم ويهديه لأمّه وإلى جميع الأمّهات لأنّه يعتبر أمّهات العالم بمثابة أمّه، لأنَّ الأم هي ينبوع الحياة، ومن رحمها تتبرعم أغصان الحياة،         
يوم الأمهات ...!

إلى أمِّي في عيدها، وإلى جميع الأمّهات، فكلُّهن أمي ..!
إنّه يومُ الأمّهاتْ             رائعٌ مثْلُ الأغنياتْ
جاءه العيدُ ضاحكاً           ناعمَ الخطْوِ في ثباتْ
يا له منْ يومٍ أتى            حاضناً ما مضى وآتْ
فيه غنّتْ أطيارُهُ             ساحرَ اللّحنِ لاهياتْ
وتثنّتْ أزهارُهُ                 في زواياه راقصاتْ
والصّباح الزّاهي إلى          قُدْسه يرفع الصلاةْ
له تجثو قصائدٌ               في ربى الشِّعر ساجداتْ
هو موسيقا حلوةٌ              في ثناياها الحزنُ ماتْ
فلنعظّمْهُ دائماً                إنّه عنوانُ الحياةْ
الشّاعر جوزيف إيليا، قسيس متنوِّر ومنفتح على كلِّ الأديان والطَّوائفِ والمذاهب والأقوام الّتي تقودنا إلى واحات الخير والمحبّة والعطاء الإنساني القويم، وهو شاعر بحق ورجل دين بحق وحقيقة، وكم من مساجلة شعريّة وحوار ووعظات سمعته يركّز على الحوار الإنساني الخلّاق بين البشر، كم نحتاج في الوقت الرّاهن وفي كلِّ الأوقات، لهكذا قساوسة وشعراء ولكل مبدع من مبدعي العالم يحمل هكذا رؤية انفتاحيّة وئاميّة، كي يساهموا في تقريب وجهات نظر البشر إلى بعضهم بعضاً، لفتح باب الحوار على آفاق المحبّة والسَّلام والإخاء على رحابة الكون، كما منحنا إيّاه رسول السَّلام، عبر الكلمة الطّيّبة مركّزين على روح التَّسامح والتَّعاون والتَّضامن ورفع راية الأخوّة الإنسانيّة كي نرتقي إلى مصاف إنسانيّة الإنسان الَّتي تعتبر أسّ الأسس الَّتي يجب أن نركّز عليها في رسالتنا وتوجّهاتنا وأهدافنا الحاليّة والقادمة على مستوى المعمورة، لأنَّ الإنسان هو جوهر الوجود وهدف الوجود وعليه يتوقّف الكثير من المهام الّتي تقودنا إلى مرافئ الأمان والخير الوفير، وعلى هذه المناحي الخلاقة يتوجَّب أن يسير المجتمع البشري كي يحقِّقَ الأهداف المنشودة الَّتي رسمت معالمها منذ قرون كافّة الأديان والفلسفات والرُّؤى الحكيمة الَّتي كتبها مفكرون وفلاسفة وأنبياء على مرِّ العصور، حيث تبيَّنَ أنَّ بعضَ البشر في الوقت الرّاهن قد زاغَوا عن الطَّريق القويم، إبتعدوا كثيراً عن إنسانيّتهم وجوهرهم كبشر، حيث يبدو لي في الكثير من جغرافيات العالم أنَّ بعضَ البشر إزدادوا غوصاً في عوالم الشّرور والحروب والصِّراعات الَّتي تقضي على حضارة الإنسان وإنسانيّة الإنسان ووجود الإنسان، في الوقت الّذي نحتاج أن نغوصَ عميقاً في مؤازرة بعضنا بعضاً كبشر ونؤسِّس رؤية إنسانيّة عميقة تتآلف مع تطلُّعات وآفاق الأديان والمذاهب والطَّوائف ومع رؤية الإنسان المفكِّر والمتنوِّر لبناء مجتمع إنساني يليق بنا كبشر في سائر أنحاء العالم، وهذا ما يدعو إليه الشَّاعر جوزيف إيليا، وما أدعو إليه منذ سنين من خلال نصوصي وكتاباتي مع بقيّة مبدعي ومبدعات العالم!   

صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم

11
مشاركة حبيب موسى، ناصر رزازي، عثمان عبدالرّحيم، رامي عصام وصفورة صفوي
في تورنيه كونسيرت "مشاهير في السُّويد"

Best of Sweden

راود الموسيقي السُّويدي أندرياس أونغي، اختيار مجموعة من الفنَّانين الكبار والمشهورين بين أوطانهم وجالياتهم في السُّويد، كي يعدَّ بالتنسيق مع جهات سويديّة تقديم "تورنيه" كونسيرت في خمس مدن سويديّة، (ستوكهولم 8. 4، أوبسالا 9. 4، فارا 10 .4، غوثيمبورغ 11 .4 ويونشوبينغ 12. 4. 2015)، تحت عنوان "مشاهير في السُّويد"، كي يقدِّمَ الفنّانون للجمهور السُّويدي أجمل الأغاني، وحقَّقَتْ فكرته نجاحاً باهراً عندما نقلها إلى حيّز الوجود، وقد رأى أونغي أنّه آن الآوان لدعوة المبدعين والمغتربين في السُّويد لتقديمهم على السّاحة الفنّيّة بما يليق بفنّهم الرَّاقي، كي نساهمَ في نشر وترويج الإبداع الفنّي الموسيقي الَّذي غالباً ما يكون محصوراً بين فئة معيّنة أو شعب معيَّن لدى الكثير من المغتربين، لأنّنا غالباً ما نجد فنَّاناً مشهوراً للغاية بين جالياته وهو غير معروف لدى المجتمع السُّويدي، لهذا من الأفضل أن يتمَّ تقديم هكذا فنَّانين وفنَّانات إلى المجتمع السُّويدي والغربي كي يأخذ حقّه/حقّها في الإنتشار وكي يتمتّع المجتمع السُّويدي والغربي بالإستماع إلى موسيقى جديدة وغناء جديد من كلّ التّخصُّصات الفنّيّة والأجناس الإبداعيّة العديدة الَّتي يرفدها معه المغترب إلى فضاءات السُّويد وبلاد الغرب، تعميقاً لبناء جسور حضاريّة متعانقة بين الشَّرق والغرب!
***
افتتحتْ في بداية الكونسيرت (في ستوكهولم وأوبسالا) الفنَّانة فايا يونان وعازف التشيلُّو السُّوري الأرمني جورج هارابيديان، حيث غنَّت فايا يونان نشيد موطني بأداء جميل، بعد أن عرضوا لقطات من فيلم الفيديو "لبلادي" الَّذي حقَّق انتشاراً كبيراً عبر اليوتيوب. وأجرت الإعلاميّة المتألِّقة الكسندرة باسكاليدو حواراً قصيراً مع الفنّانة فايا يونان حول إنتشار فيديو لبلادي عبر اليوتيوب مع شقيقتها ريحان يونان، قبل أن تفتتح الكونسيرت بنشيد موطني.
***
ثمَّ قدَّمت الإعلاميّة الشَّهيرة ومقدِّمة البرامج والكاتبة المعروفة ألكسندرة باسكاليدو فنّاني وفنَّانات الكونسيرت بشكل مبهر، وتألّقت على المسرح أثناء تقديم الفنّانين بطريقةٍ تتواءم مع موسيقاهم وغنائهم الرَّاقي، وقد كانت فراشة المسرح، تحلِّقُ ألقاً وبهاءاً، ممَّا أضفى على الكونسيرت وجمال الغناء جمالاً وحضوراً بديعاً، ونظراً لتكامل فريق العمل، فقد حقَّقَ الكونسيرت نجاحاً منقطع النَّظير لتنوّعه الموسيقي والغنائي، كما أدّى الموسيقيون أداءاً رائعاً مع فريق التِّقني الخاص بالصَّوت والإضاءة والأفلام الّتي عرضت على خلفيّة المسرح بإتقانٍ مدهش!
حضرتُ كونسيرت "مشاهير في السُّويد" على مسرح المدينة، دار الثَّقافة  في ستوكهولم، وإستهواني أن أكتب عن هذا العرض الغنائيِّ البديع لأبعاده الوئاميّة الرَّاقية، لذا حضرتُ الكونسيرت ثانيةً في مدينة أوبسالا، لتغطيته إعلاميّاً بدقّة وبالتَّنسيق مع الفنَّان الكبير حبيب موسى، ملك الأغنية السّريانيّة في العالم،  ثمَّ طلب منّي ضرورة مناقشة هذا الأمر مع مدير أعماله الموسيقي جوزيف جاجان الَّذي كان صلة الوصل بين الفنّان حبيب موسى والجّهات السّويديّة الَّتي أشرفَت على إعداد الكونسيرت مع كافَّة الفنَّانين، فاتصلت مع جاجان وبلّغته بالأمر وإتصل بدوره مع "أوسى فيكهيد"، إحدى المسؤولات عن إعداد الكونسيرت بما يخصُّ الصّحافة والإعلام فوافقتْ بكلِّ سرور على إنضمامي إلى فريق العمل كصحافي مستقل لتغطية فعاليات الكونسيرت ككل وحضور كونسيرت أوبسالا مع فريق العمل!
تميّز عرض أوبسالا بروعته، إضافةً إلى أنَّ عرض كونسيرت ستوكهولم كان جميلاً، لكن يبدو أنَّ العروض تزداد روعة وبهاءاً في كلِّ عرض جديد، فيصبح الإنسجام أكثر إنسيابيّة وتمرُّساً. كان فريقاً فنّيّاً موسيقيّاً وتقنيَّاً بديعاً للغاية ومنسجماً بشكل مبهر، فنجمَ إبداعاً خلال العروض في منتهى الرَّوعة والبهاء.
شارك في الكونسيرت أربع فنَّانين وفنّانة، غنّى الفنَّانون الخمسة أغاني جميلة وشهيرة، حيث تميّز الكونسيرت بتنوّعه الغنائي، فقد غنّى الفنّان حبيب موسى ملك الأغنية السَّريانيّة أجمل الأغاني على خشبة كونسيرت ستوكهولم وأوبسالا وبقيّة المدن الَّتي تمَّ تقديم الكونسيرت فيها. قدَّم أغنية "شامومر" وهي أوَّل أغنية سريانيّة تمَّ غنائها خارج الكنيسة ويعتبر الفنَّان حبيب موسى أوَّل من نقل الغناء السِّرياني من جوقة التَّراتيل الكنسيّة إلى واقع الحياة وغنّاها في المناسبات القوميّة والحفلات والكونسيرتات، وحقَّق عبر مسيرته الفنّيّة نجاحاً متميّزاً إلى أن تمَّ تتويجه ملك الأغنية السّريانيّة في العالم، وقد برع عبر أغانيه في ترجمة تطلُّعات وآفاق شعبه السُّرياني وأصبحت بعض أغانيه كأناشيد قوميّة يردّدها معه شبَّان وشابات الشَّبيبة السًّريانيّة خلال المهرجانات الّتي قدّمها في العديد من عواصم العالم، وقد سرّني جدَّاً عندما غنّي "أُوْ حابيبو حابيبو" آه يا حبيبي يا حبيبي، على خشبة المسرح، فما وجدتُ نفسي إلا أن أؤجِّل كتابة ملاحظاتي عن سير الكونسيرت والتَّصوير، وأنهض بحماسٍ كبير وأرقص في مقدِّمة الجُّمهور المتاخم للمسرح، رقصتُ بفرحٍ كبير، ثمّ صعدتُ على المسرح فرحاً وأنا أرقصُ على أنغام "أُوْ حابيبو حابيبو" فتحمَّس الجُّمهور وصفّق للفنّان وللرقص فأصبح الجّو مفعماً بالفرح والتّفاعل مع روعة الغناء، ألحان موغلة في الأصالة الفنّيّة والألحان الرَّاقية. لحظات جميلة قضيناها مع أغاني من وهجِ الإبداع الخلَّاق.
يتميّز الفنّان حبيب موسى بمساحات كبيرة في الغناء وقد ظلَّ أصيلاً ومخلصاً للأغنية السّريانيّة منذ بداية مشواره الفنّي حتَّى الآن، فأوصلها إلى أعلى درجات الأصالة الفنّيّة والإنتشار، من خلال الألحان الرَّائعة الَّتي لحّنها هو، إضافةً للكثير من الملحِّنين الكبار أمثل الموسيقار والملحِّن نوري إسكندر والملحّن الأب بول ميخائيل والأب جورج جاجان وغيرهم من الملحِّنين الَّذين قدّموا للأغنية السَّريانيّة أجمل الألحان.
 وفيما كانت الإعلاميّة البازرة الكساندرة باسكاليدو تقدِّم الفنّان حبيب موسى، سألته عن الحبِّ ودوره في الغناء، أجاب: " الحبُّ هو كل شيء في الحياة، بدون حب لا سلام في الحياة"، معتبراً الحب بمثابة الطَّريق الَّذي يقودنا إلى السَّلام بين الأوطان وشعوب العالم أجمع، ثمّ تابع يقدّم أغانيه وسط تصفيق الجُّمهور. حبيب موسى فنّان عريق الأصالة ويستحقُّ بجدارة أن يكون ملك الأغنية السّريانيّة في العالم!
غنّى الفنّان ناصر رزازي المعروف في الوسط الكردي، بعض الأغاني الكرديّة الجَّميلة، مترجماً عبر أغانيه الجِّراح الكرديّة الغائرة، ومعبِّراً عن أحزان الشّعب الكردي، وتخلَّل بعض أغانيه إيقاعاً فرحيَّاً راقصاً، واقفاً بكلِّ ثقة مثل شجرة باسقة، باحثاً عن مساحات الحرّية والأمل والفرح القادم!
وقد قال عنه عازف الكمان الكردي بيدرام شهلاني، "أنَّ الفنَّان ناصر رزازي هو بروس سبرينغستين كردستان"، لما له من حضورٍ واسع بين صفوف الكرد والإيرانيين، وقد حقَّق حضوراً متميّزاً خلال مهرجان غنائيّ شارك فيه بمناسبة ذكرى حلبجة، حضره آنذاك أكثر من مائة ألف شخص في إقليم كردستان.
غنَّى الفنّان ناصر رزازي موّالاً كأنّه يناجي الشَّعب الكردي على النّهوض، والبحث عن الذَّات، صوتٌ يحمل نبرة الأصالة الفنّيّة، ثمَّ غنّى بعض الأغاني الجَّميلة على إيقاعات راقصة، نقلنا عبر أغانيه إلى عدّة حالات، تلوَّنت بحالات فرحٍ تارةً، وحالات حزنٍ تارةً أخرى، من خلال الألحان الَّتي قدَّمها على خشبة المسرح. ثمَّ قدّمته الإعلاميّة البديعة الكساندرة باسكاليدو للجمهور بطريقة منسجمة مع حفاوة الأغاني، وتابع يغنِّي بإحساسٍ عميق، فتفاعل الجُّمهور مع أغانيه بفرحٍ كبير.
وقدّم الفنَّان الأريتيري الشَّهير عثمان عبدالرحيم بعض الأغاني المميّزة من الفولكلور الأريتيري باللُّغة التِّيغرينيّة ذات الإيقاع الهادئ والرَّخيم، وقد أطلقوا عليه في بلاده "ألفيس بريسلي" أريتيريا، وقد حقَّقَ شهرة كبيرة بعد أنَّ غنّى أغنية "الحبُّ أعمى"، منذ عقود من الزّمن، فإنتشر صيته في أريتيريا وأثيوبيا والسّودان، وبعض الدُّول الأفريقيّة، كما غنّى في لندن وفي السُّويد الكثير من أغانيه. يتمتَّع الفنّان بروح مرحة وهدوء منساب نحو روعةِ الأداء.
يغنِّي الفنَّان ويرقص بفرحٍ على أنغام أغانيه، كأنّه في حالة بهجة عارمة، ولديه حضور مبهج في استقطاب الجُّمهور، فيتفاعل المشاهدون معه بحفاوة ومتعةٍ، ممَّا دفع بعض الحضور الصُّعود إلى المسرح لمراقصته وتقديم باقات الورود إليه، ممَّا أضفى على الجَّو بهجةً وجمالاً وفرحاً، تاركاً السَّاحة لدخول مقدِّمة البرنامج الكساندرة باسكاليدو لتقدّمه وتتحدَّث عن تجربته الفريدة وحضوره الجّميل، مودّعةً المسرح على تصفيق الجُّمهور، كي يتابع عثمان وهج الفرح من خلال دندنات غنائه ورقصه على إيقاعِ هدهدات أغانيه الإنسيابيّة، كأنّه يهمس للأطفال والكبار ضرورة أن نفرح على أنغام الفرح والموسيقى كي ننعش القلب والرُّوح من جراحِ الحياة، مركّزاً على زرعِ البسمة على قلوب المشاهدين!
وقدّم الفنَّان المصري رامي عصام خلال الكونسيرت عدّة أغاني ثوريّة، وهو يعزف أغانيه بمهارة عالية على غيتاره، شارك في تقديم أغنيته الشّهيرة ارحلْ، الَّتي قدّمها مراراً في ساحةِ التَّحرير في مصر، ويعدُّ الفنّان رامي عصام أحد المشاركين في الثَّورة المصريّة من خلال أغانيه الَّتي كانت إحدى الوسائل السّلميّة للوقوف في وجه الطُّغاة، وقد حقَّقت أغنية إرحل، حضوراً بارزاً خلال فترات الإعتصام في ساحة التَّحرير، إلى أن غدت نشيداً يردّده الثُّوّار، ثمَّ انتشرت مثل النّار في الهشيم عبر اليوتيوب، وقد تعرَّض الفنّان إلى الاعتقال والتَّعذيب عام 2011 على أيدي بعض عناصر النِّظام المصري، ثمّ أُطْلِق سراحه، وقد حصل منذ ستةِ شهور على منحة إلى السّويد لمدّة سنتين، ونظراً لحضوره الهام، فقد تمَّ إختياره من بين الفنَّانين المشاركين في "تورنيه" كونسيرت "مشاهير في السّويد"، ليشارك مع بقيّة الفنَّانين المبدعين أجمل أغانيه على مسارح مملكة السُّويد، مؤكّداً عبر حوار قصير أجرته معه الإعلاميّة باسكاليدو أنَّ الفنَّان ممكن أن يحقَّق آفاق تطلُّعاته السِّياسية في التَّغيير والتَّنوير الَّذي يهدف إليها من خلال الموسيقى والغناء!
كما غنَّى الفنَّان رامي عصام من الفولكلور المصري الجَّميل "هيلا هيلا هيلا هيلا"، بعد أن قدّمته فراشة الكونسيرت ألكساندرة باسكاليدو، انسجام بديع مع موسيقى الفرقة، ومع تواصل الجُّمهور لروعة الأداء، يعزف ويغنِّي بانفعالٍ مبهر، يتميّز بحضور جميل في أداء أغانيه، ويقفل أغانيه بإيقاعٍ فنّي مدهش!
وابهرني حضور الفنّانة الإيرانيّة المتألِّقة صفورة صفوي، حيث غنَّت بعض الأغاني ذات الإيقاع الرّاقص وبنفس الوقت تعزف على غيتارها بمهاراتٍ بديعة. أدَّت أغانيها بالفارسيّة والسُّويديّة والإسبانيّة بطريقة متناغمة مع الإيقاع الغربي، وقد قدّمتها عريفة الحفل الكساندرة باسكاليدو كفنّانة موهوبة ومتألِّقة في تأدية أغانيها، مركّزةً على إنطلاقتها الكبيرة من مسرح "سكانسن" الشَّهير في ستوكهولم إلى مسرح أوبسالا مع "تورنيه، مشاهير من السُّويد"، لأنّها تتمتّع بحضور جذّاب، ولديها تآلف مذهل مع الفرقة الموسيقيّة، تعزف وتغنّي وترقص فرحاً وألقاً، كأنّها شلال فرح متهاطل من أحلامنا التّوَّاقة إلى أبهى توهُّجاتِ الإبتهال!
عندما أصدرت الفنَّانة صفورة البومها الأول بإسم "أبجيز" مركّزة على ايقاع الموسيقى الغربيّة، وتضمّنت نصوص أغانيها رؤية نقديّة للكثير من المحرّمات والتَّابوهات في بعض القضايا الإجتماعيّة في إيران، لهذا مُنِعت أغانيها في إيران، لكنّها نشرت أغانيها عبر الإنترنت وحقَّقت انتشاراً كبيراً وسريعاً حتّى لدى الجّمهور الإيراني والغربي، ودعَتْ إلى ضرورة توحيد صفوف الشَّعب والوقوف في وجه الظَّلام والإنغلاق وكبح الحريات، مناديةً مع شقيقتها الفنّانة ميلودي صفوي بالمزيد من الحرِّيات عبر أغانيها الجَّميلة.
غنَّت صفورة بالإسبانيّة إيقاع الفلامنكو لكن أداء الفرقة الموسيقيّة جاء انسيابيَّاً جانحاً نحو عوالم إيقاع رقصةِ السَّالسة، لهذا بدَت صفورة وهي تعزف وتغنِّي وترقص إيقاعاً متماهياً مع عوالم السَّالسة، فجاء أداء الأغنية والعزف والرّقص كأنّه لوحة فنّيّة مبهجة، إنسجام كبير بين الجُّمهور والفنَّانة والموسيقى البديعة مع روعة الإضاءة كأنّها موشور متلألئ فوق خشبة الفرح، ممَّا أضفى كلّ هذا الجَّمال على أجواء المكان بهاءاً، وفيما كنَّا في غاية الفرح، إذ بالفنّانة ميلودي صفوي تشمخ على خشبة المسرح، وهي شقيقة صفورة، وقدَّمتا سويةً إحدى الأغاني في الجّزء الأخير من عرضها، فمنح هذا الثُّنائي الجَّميل بهاءاً إضافيَّاً لما في أدائهما من تجلِّيات الغناء والموسيقى العذبة! 
وفي نهاية الكونسيرت إجتمع الفنّانون والإعلاميّة ألكساندرة باسكاليدو مع الموسيقيين، مودّعين الجُّمهور وسط تصفيق كبير وفرحٍ عارم، وتمّ توزيع الورود على الفنَّانين والفنَّانات والموسيقيين، ثمَّ نثرت ألكساندرة باقات الورود على الجُّمهور، معبرةً عن فرحها، وبعد أن ودّع الجَّميع المسرح، عادت الفنّانة صفورة صفوي مع غيتارها وقدّمت بمفردها وصلة رائعة أشعلت أجواء المكان بتوهُّجات بهيجة تنعش القلب!
تمتَّعتُ بمشاهدة "تورنيه" كونسيرت "مشاهير في السُّويد"، كأنّي في رحلة فرحيَّة باذخة، أنعشَتْ روحي وقلبي وفتحَتْ مخيالي على مساحات رحبة من الوئام بين الأقوام بمختلف جنسياتهم وتطلُّعاتهم حيث وجدنا كيف تصارع هؤلاء الأقوام عبر شفير السّياسة لكنّهم تعانقوا عناقاً عميقاً عبر الموسيقى والغناء والإبداع الخلاق، حيث وجدت: السُّرياني الآرامي الآشوري الكلداني، مع الكردي الآري الميدي، مع الإيراني الفارسي، مع العربي مع الأفريقي وكل هؤلاء تعانقوا بحفاوة كبيرة عبر إبداعهم مع توجُّهات وتطلّعات السّويد، ومع رؤى وآفاق الغرب عبر الإبداع، ولم يفُتْني أنْ أطرحَ مع بعضِ الأطراف المعنيّة في إعداد هذا "التورنيه"، بضرورة نقله وتقديمه في أنحاء أوروبا، تتويجاً وتعميقاً لجوهر عناق الحضارات عبر الموسيقى والغناء والإبداع الَّذي يرسم الفرح والبهجة فوق الوجوه المعفّرة بالأسى والأنين والقلق والخوف من المجهول المتفاقم نتيجة تفشَّي الكثير من الصّراعات والإنشراخات بين الشَّرق والغرب وبين الشَّرق والشَّرق ذاته، وضرورة بناء رؤية وآفاق خلَّاقة تصبُّ في تجسيد حالات وئام بين البشر كلَّ البشر، ووضع حدٍّ لهذا الإنحدار المخيف والتَّشوُّهات الّتي بدأت تسحق حضارات قرون من الزّمان!
تحيّة لصاحب فكرة الكونسيرت الفنَّان الموسيقي الرَّائع أندرياس أونغي، وخالص الشُّكر والإمتنان لكلِّ من ساهم في إنجاح هذا الكونسيرت البديع من فنّانين وفنّانات وموسيقيين وتقنيين ومعدِّي الكونسيرت وكلّ مَنْ دعم وموَّل هذا المشروع الرَّائد والَّذي يستحق بحقّ أن نقول عنه، "مشاهير في السُّويد"، الأفضل في السُّويد وآمل أن يكون الخطوة الرَّاسخة الأولى لتأسيس تقليد ورؤية في السَّويد وسائر أنحاء أوروبا لتقديم سائر أنواع الفنون الإبداعيّة بمختلف أجناسها الفنّيّة والأدبيّة والتَّشكيليّة عبر تجلَّياتها الخلّاقة، لخلق جسر إبداعي فنّي ثقافي لما فيه خير وسعادة الشُّعوب في البلدان الَّتي وفد إليها المهاجرون، تعميقاً لأهمية التّلاقح الحضاري بين الشَّرق والغرب والتَّواصل الإنساني الخلَّاق!

صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم


12
حوار حول السَّلام العالمي
مع الكاتب والصّحافي السُّوري يعقوب مراد

حوار صبري يوسف


الكاتب السُّوري يعقوب مراد


أتابع الكاتب والصّحافي السُوري يعقوب مراد، المقيم في السُّويد منذ عام 1985. حيث كتب وما يزال في الصّحافة السُّوريّة واللُّبنانيّة والأردنيّة والسُّويديّة. إشتغل مديراً لمكتب مجلّة ألوان بدمشق، وإرتبط بصداقات عميقة في الوسط الفنِّي والثَّقافي مع نجوم الفنِّ العربي في الشَّرق الأوسط، فأطلقت عليه الفنّانة نبيلة النَّابلسي "صديق الفنَّانين"، كما أطلق عليه الممثل عبَّاس الحاوي "عرّاب المحبّة"، .. وأعتبرُه بمثابة سفير السَّلام للنوايا الحسنة.
أجرى العديد من المقابلات الفنّيّة مع فنَّانين وفنَّانات وأسَّس منبراً رائداً بإعداد ندوات في بداية الثّمانينيات، حيث كان يدعو فنّاناً مبدعاً مع جمهور غفير، عبر حوار مفتوح لمحاورة الفنّانين والفنّانات بشكلٍ مباشر.
في نهاية عام 1985، غادر إلى السُّويد حاملاً الوطن في ثنايا روحه وقلبه وظلَّ يرفرفُ عالياً حتّى الآن.
أصدرَ رواية "كسوف في رأس العائلة" عن دار علا للطباعة والنّشر، دمشق 1994.
السُّويد وصوت الطَّبل، مجموعة قصصيّة عن دار علا للطباعة والنّشر دمشق 1997.
أصدقاء إحتفاليّة الحبّ، مجموعة خواطر وجدانيّة عن مؤسّسة الإبراهيم للطباعة والنّشر 2010.
لديه رواية مخطوطة "في حضن الشَّيطان"، وقد نشرها على حلقات في سيريا ديلي نيوز. وكتاب آخر بعنوان: "عرّاب المحبّة" مجموعة قصصيّة، في طريقهما إلى النّور قريباً.
كتبَ العديد من البحوث وأقام عدّة ندوات ومحاضرات داخل وخارج السُّويد حول المحبّة والوئام بين البشر.
نظراً لأنّه "عرّاب المحبّة" ويتمتَّع برؤية جانحة نحو فضاءات السَّلام، أجريتُ معه هذا الحوار.

1. ما هي برأيك أهم أسباب تراجع السّلام العالمي بين البشر؟

 _أهم وأوَّل الأسباب هو إنهيار القيَم الإنسانيّة الَّتي هي دعامة أساسيّة للجنس البشري الّتي تُميّزه عن باقي المخلوقات.
2. لماذا إبتعد الإنسان عن السَّلام والوئام بين بني جنسه، سائراً نحو حقول الألغام الَّتي تنسف حيثيَّات السَّلام من جذوره؟
_ابتعاد الإنسان عن السَّلام والوئام بين بني جنسه هو نتيجة حتميّة لابتعاده عن إنسانيّته الَّتي ضاعت صفاتها الأساسيّة في زحمة التّوصيف المُبتدَع لها حسب مصالح وقياسات مختلفة ومتناقضة تسعى إلى تشتيت الفكر الإنساني والجُّنوح به إلى التَّبعيّة والإنقياد الأعمى تحت مُسمّيات مختلفة غايتها تجميد العقل وحبس الفكر في قوالب ضيّقة تَحدُّ من قدراته الطَّبيعيّة؛ ليجنح إلى طريق مُعبّدة بالشّر ومُضاءة بالحرائق، مُعتبراً أنّه يحقِّق وجوده ويحظى بإنتصار أحلامه على مرارة واقعه..
3. ما هي أسباب إنكفاء الحسّ الأخلاقي والمعايير الرَّاقية عند الكثير من البشر في الوقت الرَّاهن؟
_حين ينعدمُ السّلام تنعدمُ الأخلاق؛ والعكس صحيح؛ وما أقصده بالسّلام هو المعنى الواسع لهذه الكلمة، وأساس السّلام هو تلك البذرة الَّتي تحتويها النَّفس البشريّة الَّتي لا ترتوي إلّا بالمحبّة والرَّحمة والتَّسامح لتنمو وتورق؛ وتُثمر سلاماً داخليَّاً للروح؛ فتطرح القناعة والرِّضا؛ والطُّموح إلى الإرتقاء والسُّمو بنفسها إلى عالم يعمّه السَّلام الشَّامل لكلِّ روح على هذه الأرض... أمّا بإنعدام المحبّة والرَّحمة والتَّسامح بالتأكيد سينكفيء الحسّ الأخلاقي والمعايير الرّاقية بموت بذرة الخير والسَّلام المزروعة في القلب البشري..
4. يركّز الإنسان على العلاقات المادّيّة، وغالباً ما تكون على حساب إنسانيّة الإنسان، لماذا يتراجع الإنسان نحو الأسوأ في علاقاته مع بني جنسه: البشر؟!
_لأنَّ المادَّة أصبحت المُتحكّم الأقوى في زمن التَمزُّق الفكري والحروب الَّتي تُخلّف الفقر والجَّهل والدَّمار والتَّفاوت الطَّبقي؛ وتُحفّز الشُّعور بالأنانيّة؛ ولأنّ نَفْس الإنسان فُطِرَتْ على حُبِّ البقاء والإستمرار أصبحت المصلحة تقودها إلى ما يُحقِّق لها المنفعة المادِّية غير آبهة إلّا لما يُحقّق غاياتها واستمرارها وتفوّقها حتّى على حساب غيرها.
5. هناك تطوُّر كبير في تقنيات وتكنولوجيا العصر، يسير عصرنا نحو فتوحات كبرى في عالم التّقانة والتَّحديث، لكنَّه فقد الكثير من الحميميّات، كيف ممكن إعادة العلاقات الحميمة الرَّاقية بين البشر؟!
_من خلال استغلال هذه التَّقنيات والتّكنولوجيا في إستعادة بناء الإنسان الحقيقي بتوجيهه إلى أولويات اهتماماته بالعلاقات الصّادقة وبالكلمة الطَّيّبة والفنِّ الرّاقي والحوار المُهذّب ومن خلال جعل هذه التّكنولوجيا وسيلة إلى التَّواصل الجَّميل والأخلاقي مع كافّة مَنْ حولنا وتحفيز الشُّعور بالتّرابط والمحبّة لتكون الغاية تواصل حقيقي وملموس يتمُّ بشكلٍ واقعيّ من خلال عالم افتراضي نجعل منه الجّسر الّذي يصل بين من أبعدتهم الهموم والمسؤوليات والظُّروف عن بعضهم، ووسيلة للتقرّب من جديد بمَنْ غَفلنا عنهم وغفلوا عنّا لتعود بذلك العلاقات الإنسانيّة بنفوس صافية ومتلَهّفة لتلك الحميميات المفقودة في ثنايا الزّمن.
6. لا يتمُّ تأسيس الكثير من الدُّول الشَّرقيّة/ العربيّة وما يجاورها على أسسٍ ديمقراطيّة، غالباً ما تجنح نحو الحروب والدَّمار، متى ستتعلَّمُ هذه الدُّول أنَّ بناء الدَّولة يقوم على بناء المؤسَّسات الدِّيمقراطيّة وتطبِّق هكذا مؤسَّسات؟
_حين يرتقي الفكر الشّرقي إلى إحترام الإنسان لأخيه الإنسان مهما كان لونه أو عرقه أو دينه أو إنتماؤه.. حين يعلم الإنسان في تلك الدُّول أن يحترم إنسانيّته ويعتزُّ بها ويسعى إلى تطوير ذاته من خلال التَّخلّي عن العادات والتَّقاليد المُبتدعة من فكْرٍ موروث أظْلَمتْ ضبابيّتهُ وهجَ حضاراتٍ سالفة كان عمادُها العمل والمعرفة والإكتشاف، ولا يكون ذلك إلّا بمحاربة الجَّهل والتَّخلف من خلال أهل الفكر والمعرفة بخلق يقظة فكريّة وإنسانيّة لكلِّ مَنْ أغفَتْ عقولهم المؤثَّرات والعوامل المُدمّرة لصرح الحقيقة.
7. جاءت الأديان كلّ الأديان، لتقويم سلوك وأخلاق البشر، ولإرساء أسس العدالة والمساواة بين البشر، لكن واقع الحال نجدُ انشراخاً عميقاً بين المذاهب عبر الدِّين الواحد، وصراعات مميتة بين الأديان، إلى متى سيبقى هذا الصِّراع والتَّناحر مفتوحاً بين المذاهب والأديان؟
_إلى أن يسمو الإنسان بفكره إلى القناعة التَّامة بأنّ الدِّين أخلاق.. وأنّ مَشيئة الله أن نكونَ شعوباً وأمماً لاتجمعنا إلّا المحبّة والرّحمة والأخلاق الفاضلة؛ وأنّ أفضلكم عند الله أتقاكم.. وليس أقواكم.
8. سمِّي القرن التّاسع عشر بعصر القوميّات، نحن في بداية القرن الحادي والعشرين، وما نزال نتخبّطُ بالحقوق القوميّة وحقوق الأقلِّيات، إلى متى سنظلُّ نتصارع كأنَّنا في غابة متوحِّشة، لماذا لا نركَّزُ على بناء الإنسان وتأمين حقوق المواطن القوميّة والمذهبيّة والدِّينيّة بعيداً عن لغةِ العنف والعنف المضادّ؟!
_من المفترض أن يتمَّ التَّركيز على بناء الإنسان على أسُسٍ سليمة تستند إلى الأخلاق الإنسانيّة وإحترام الآخر وتقدير إنسانيّته مهما كان إنتماؤه أو عرقه أو دينه لأنّ أساس هذا الوجود هو الإنسان الَّذي كرَّمه الله عن سائر خلقه ومَنَحهُ العقل الَّذي يُميّزهُ عن كافّة مخلوقاته فكان سيّد الأرض بإنسانيّته الموهوبة له بإرادة ومشيئة خالقه؛ لذلك لابدّ من الإتِّجاه نحو تقدير وإحترام إنسانيّتنا من خلال التَّأكيد أولاً على حقِّ الإنسان بالحياة لأنَّ الرُّوح بيد خالقها هو من أراد لها الحياة وفقط بإرادته تنتهي ومن ثمَّ التَّأكيد والعمل على صون كرامة الإنسان وحرِّية اختياراته وتأمين كلّ ما يحميه ويُمجّد إنسانيّته الَّتي سلَبتْها لغة الحروب والعنف والصّراعات المتتالية عبر عصور طويلة.
9. تحاول الدُّول العظمى أن تنشبَ حروباً في الدُّول النَّامية كي تصنعَ حروباً، فتعيشُ الدُّول المتقدِّمة على حساب المزيد من التّعاسة في الدُّول النَّامية، إلى متى ستبقى هذه المعادلة المخرومة قائمة في أبجديات سياسات بعض الدُّول الكبرى؟
_إلى أن يعمّ السّلام الحقيقي بمعناه العميق، ولا يكون ذلك إلّا بجهود كبيرة ممَّنْ يَرون ببصيرتهم وليس ببصرهم وممن اقتنعوا بأنّ الدَّمار لايُخلّف وراءه إلّا الدَّمار والشّر لا يطرح إلّا الشّر، وبمنظوري كإنسان وأحترم إنسانيّتي، أرى أنّ السَّلام لا يتحقَّق إلّا بعمل دؤوب ومتواصل وبالسَّعي الحثيث إلى التّوعية الحقيقيّة من خلال منظَّمات ومؤسَّسات وجمعيات على مستوى العالم، تعمل على خلق توازن فكري بين الدُّول العظمى المُتهافتة على تحقيق هيمنتها على العالم وفرض سيطرتها على ثروات الشُّعوب بدافع الطّمَع والجّشَع الَّذي خَرقَ كلّ القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، ولا يكون ذلك إلّا بالإعتماد على طبقة راقية من المفكِّرين والإنسانيين في تلك الدُّول ليكونوا الثّقَل الّذي يوازن القبّان.
10. الإنسان هو المهم، هو جوهر الحياة، وهو العقل المدبّر لقيادة الكون، مع هذا لا أراه مهمَّاً في برامج الكثير من دول العالم، لماذا لا يتمُّ التَّركيز على بناء إنسان خيِّر وحكيم ومحب للسلام والعدالة وبناء الأوطان؟
_لأنَّ الأطماع الَّتي سيطرت على العقل البشري قامت عبر عصور على تهميش دور الإنسان ومكانته الَّتي برُقيّها وصَوْنها يرتقي العالم وتُصان الكرامات.. ولأنّ الأوطان في المنظور المُضَلّل عن الحقيقة تُبنى على الثَّروات والقوَّة والهيمنة الكاملة وعلى سحق الإنسان تحت نير السَّيطرة الكاملة جسداً وفكراً.. ليكونوا بهذا الفكر الضَّال والجَّاحد يقتلون أسمى ما تُقام وتُبنى عليه الأوطان ويُدمّرون صَرْح الإنسانيّة ليَنْهالَ رُكامهُ مُدمّراً وطناً بأكمله...
11. عجباً أرى، كيف لا يفهم المتصارعون والمتحاربون أنَّ لا منتصر، في الحروب، حتَّى المنتصر هو منتصر على حساب جماجم آخرين؟ نحن بحاجة أن ننصر قيَم الخير والعدالة ونحقِّق الدِّيمقراطيّة والمساواة للجميع من دون هدر الدِّماء!
_بالتأكيد نحتاج إلى إنتصار عظيم وكبير بما يحمله من مجد للإنسان بتحقيق السَّلام والعدالة والتَّعامل الأخلاقي لنكون أخوة في الإنسانيّة نحمل الخير سراجاً يضيء مستقبلاً ناصعاً لأجيال قادمة لاتلوّثُ نقاء رؤيتها أشلاء القتلى ودماء الأبرياء.. نحتاج إلى كلِّ إنسانيّي العالم لرفع راية السَّلام على أعلى قمم الإنسانيّة.
12. أبحثُ عن إنسان حكيم، عاقل، جانح نحو السَّلام، خيّر يقود البلاد إلى دفءِ الوئامِ، متى سنرى قائداً بهذه الحيثيّات، يقود البلاد إلى أبهى واحاتِ الأمان والسَّلام؟!
_هناك الكثيرون ممَّنْ يحملون الحكمة والعقل ويجنحون بفكرهم نحو سلام حقيقي ويتوقون إلى رؤية الفرح يعمُّ كافّة أرجاء الأرض وتتشوّق آذانهم للطرب على ضحكات أطفال العالم بأسره.. هناك الكثيرون ممَّن حافظوا على بذرة الخير في قلوبهم وبإنتظار الغيث الَّذي يروي رشيمها لينبت مُعرّشاً في قلوبهم المتعبة.. إلّا أنّ قيادة البلاد تحتاج إلى من يدعم ويُساند ويُعين أحدهم على النُّهوض بالعالم إلى عرش السَّلام والعدل وهذا يحتاج إلى كلِّ من عرف معنى إنسان؛ وإلى كلِّ من عانى مرارة الظُّلم وقهر الإستبداد ويحتاج إلى الإيمان بالحقِّ والتَّضحية في سبيله وفي سبيل تحقيق العدالة بين البشر.
13. الحيوان المفترس يفترس الكائنات والحيوانات الضَّعيفة من بني غير جنسه، من أجل البقاء، بينما الإنسان، هذا الكائن (السَّامي)، يفترس بني جنسه ليس من أجل البقاء، بل بسبب البطر والنُّزوع الحيواني، كأنّه ينافس الحيوان المفترس افتراساً، إلى متى سيفترس الإنسان بني جنسه؟!
_إلى أنْ يَصْحو الإنسان من غَفلَته عن إنسانيّته.. إلى أنْ يُدْركَ الإنسان معنى السّلام لروحه أولاً وللعالم ثانياً.. إلى أنْ يتخلّص من أناه الهازية بين بقائه وراحة ضميره.
14. الإنسان حيوان إجتماعي بالطَّبع، أنا لا أرى فيه هذه الرّوح الإجتماعيّة، بل أرى فيه جنوحاً نحو البوهيميّة والغرائزيّة، كيف ممكن أن ننقِّي هذا النُّزوع البوهيمي وننمِّي فيه إنسانيّة الإنسان؟!
_بالتّوعية المُستمرّة وذلك بكلّ السُبُل المُمْكنة الَّتي من شأنها أن تؤثِّر بقوةٍ على عواطفه، لأنّ الإنسان بطبعه عاطفي ويسعى لملء فراغٍ روحيّ يشعر به بتكوينه البشري؛ لذلك على كلّ مَنْ يَشْعُر بالمسؤوليّة من أهل الفكر والأدب والفنّ العمل باستمرار على استفزاز العواطف الخيّرة من محبّةٍ وحُبٍّ ومَوَدّةٍ لتكون السَّبيل إلى جعل الحياة جميلة وبأبهى حلّة مُمكنة؛ لتجعل الإنسان يعشقها ويتمسَّك بها بما لمَسَهُ من روعتها وجمالها؛ وبالتَّالي يكون عشقه لإنسانيّته وإدراكه بأنّ الحياة قصيرة وتستحق أنْ نعيشها بكامل إنسانيّتنا وعواطفنا ومشاعرنا الطَّيّبة كطيب ونقاء النّسيم ..
15. كيف تنسج خيوط بحوثك، وتترجم أفكارك الإبداعيّة وأنت غائص في لجَّة الأحزان المتفاقمة في هذا الزَّمن المفخَّخ بالتَّوهان عن الهدف، أم أنّك تزداد ألقاً وعمقاً في صياغة أفكارك رغم إنشراخات هذا الزّمان؟!
_بقوّة الضّعف الإنساني.. كالماس الّذي يُشعُّ بريقَهُ من حلكة الفحم.. ولأنّ الحُزْن يَصْقل الإنسان بالعواطف والمشاعر والأحاسيس رغم الألم الّذي تتمخّضُ به روحه إلّا أنّه يكون مخاضاً لولادة الإبداع من رَحم الحُزْن..
16. لا أرى أهدافاً عظيمة ممَّا يهدف إليها إنسان اليوم، غالباً ما تكون أهدافاً عقيمة من حيث فائدتها للمجتمع البشري، إلى متى سيغوصُ في ترّهات الحياة، تاركاً أسمى الأهداف بعيداً عن نصبِ عينيه؟!
_المَسؤوليّة.. أهم عوامل الرُّؤية الصّحيحة للدور الفاعل للإنسان ولتحقيق وجوده كشخص إيجابي ومؤثّر وليس هامشيَّاً هو إدراكه لمعنى المسؤوليّة وإحساسه بها؛ ليعمل كلُّ إنسان ومن موقعه بكلّ مسؤوليّة متولّدة عن قناعاته.
17. ما هو دورك كمبدع، كمثقّف، كمفكِّر، عندما ترى الإنسان يقتل بني جنسه بقلب بارد، من دون أن يرمشَ له جفن؟
_العمل بكلّ ما يُمكن من طاقة تَكْمنها نفسي على التّوعية والتّوجيه الصّحيح إلى حقيقة الإنسان ونُبل تكوينه؛ والإيجابيّة في التّعاطي بمحبَّةٍ وتسامحٍ ورحمةٍ لأيّ كان، والأهم التَّواصل والحضور في أيّ وقت وأيّ مكان مُمكن أنْ يكونَ منبراً لصوتٍ يَصْدحُ بالإنسانيّة وينشرُ رسائلَ الخير والمحبّة والسَّلام من روحٍ حُرّة تَحْتضنُ الفضاءَ بجناحين طَليقَين لا تُزَعْزعهُما ريح عابرة ولا تُقيّدهُما حبال الباطل.
18. كيف ممكن أن ننقذ فقراء وأطفال هذا العالم من الخراب والفقر والقحط الَّذي بدأ يستفحل في الكثير من دول العالم؟!
_بالعمل بحكمة وبمسؤوليّة؛ والتَّواصل مع كلّ الإنسانيين في العالم ليتمّ تحديد الهدف بشكلٍ صحيح ومَدْروس بدقّة وتَرْكيز؛ وذلك من خلال كلّ ماهو وسيلة للتّعاون والتّعاضد يداً بيَد وقلباً على قلب لإنقاذ ما تبقّى من إنسانيّة ضاعَتْ ملامحها وفَرغَ جوفها من معناها الحقيقي..
19. ما هي أفضل الطُّرق والأسس الَّتي تقودنا إلى تحقيق السَّلام العالمي بين البشر كلَّ البشر؟
_بإعادة بناء الإنسان.. بإحياء الإنسانيّة في نفوس بني البشر..
20. لو قام كلُّ إنسان بأعمال الخير والسَّلام والمحبّة، لتحقَّق السَّلام كتحصيل حاصل، ما هو دورك في تحقيق هذه الفكرة؟
_أن أبدأ بنفسي وأحافظ على إنسانيّتي لأنّ فاقد الشَّيء لا يعطيه.
21. كيف ممكن أن نسخّر أقلام مفكِّري ومبدعي ومبدعات هذا العالم من أجل تحقيق السَّلام والكرامة الإنسانيّة؟
_بالتَّواصل والحوار الرَّاقي والتَّأثير إيجابيَّاً على توجّهاتهم وأولويات مسؤولياتهم من خلال تحفيز فكرة كرامة الإنسان والسّلام في عقولهم وقلوبهم لتَسْتفيضَ أرواحهم نبضاً صادقاً بنشر قناعاتهم وليس ما يُمْلى عليهم..
22. ما رأيك بتأسيس تيَّار وفكر إنساني على مستوى العالم، لإرساء قواعد السَّلام وتحقيق إنسانيّة الإنسان، بإشراف هيئات ومنظَّمات دوليّة تمثِّل كلّ دول العالم، كي يكون لكلِّ دولة من دول العالم دوراً في تحقيق السَّلام؟
_القلبُ ينبضُ ليضخّ دمه في كافّة شرايين الجَسَدْ.. فيَمْنَحهُ الحياة.. ولابدّ من شرايين تتوزّع في كافّة أنحاء العالم لمَنْح الحياة للسَّلام.
23. ما هي أفضل الطُّرق لخلق رؤى تنويريّة، ديمقراطيّة، تقدميّة في العالم العربي والدُّول النَّامية في العالم، لتحقيق السَّلام والإستقرار، بعيداً عن لغة الحروب المميتة الَّتي دمَّرتْ وتدمِّر كلَّ الأطراف المتصارعة؟
_منَ الأولَويات القضاء على الجَهْل والتّخَلُف بالحَضِّ على التَّعليم ومَحْوّ الأُميّة؛ الَّتي لازالت حتَّى عصرنا هذا مُنتشرة وبشكل كبير في تلك الدّول؛ والعمل على فَرْض التَّعليم الإلزامي لمرحلة متقدِّمة من مراحل التَّعليم، والتّأهيل الصَّحيح للفرد من خلال مناهج مدروسة من قبل خُبراء وأخصائيين في التّربية للتركيز على القيَم الإنسانيّة وعلى الأخلاق الكريمة الَّتي تمنح الإنسان إدراكاً تامَّاً لإنسانيّته، وتشجيع العلم والعلماء وتحفيزهم على العطاء بمسؤوليّة وإنسانيّة للحَثِّ على إحترام الإنسان لنفسه ولبني جنسه، والتَّوجيه الصَّحيح لكلِّ فرد بالمجتمع من خلال كلّ وسائل الإعلام والتّركيز على الأقرَب منها إلى المُتَلقّي في إيصال فكرة الأخلاق الإنسانيّة الَّتي تُحقِّق السّلام، كما أنّه من الضُّروري ألّا نَغْفل عن الدَّور الكبير لرجال الدّين وتأثيرهم العاطفي والتَّربوي على الأفراد في تلك الدّول ليكون العمل على إنتقاء رجال الدّين من العلماء والفقهاء من كافّة الأديان بمسؤوليّة ووعي؛ ليكونوا رجال حقٍّ وعدالة ورحمة يعملون على مبدأ الدّين المُعْتدل بعيداً عن التّعصُّب والتّزَمُت من بقيّة الأديان وزرع المحبّة وقبول الآخر أيّاً كان دينه لإحياء فكرة أنّ الدّين لله والأرض للجميع، ومن الضُّروري منح فرص عمل لأبناء المجتمع لتمكينهم من العَيْش الكريم والإكتفاء الّذي يَصُون كرامة الفرد والأسرة؛ وبالتّأكيد لابدّ من العمل على تحقيق الدِّيمقراطيّة والمساواة والعدالة بين كافّة أبناء المجتمع وبكلّ أطيافه من خلال المؤسّسات والجّمعيات والهيئات والمجالس والنّقابات الَّتي يُمكن من خلالها مشاركة الفرد في بناء وطن سليم معافى من التّفرُد بالسُّلطة وفَرْديّة القرار.
24. ما رأيك بإلغاء وإغلاق معامل السِّلاح في العالم، والوقوف ضد صنَّاع الحروب والفكر القائم على الصِّراعات، ومعاقبة كل مَنْ يقف ضد السَّلام، لتحقيق السَّلام بقوّة القانون العالمي، وذلك بمحاسبة الجّانحين نحو الحروب ودمار الأوطان؟!
_لَنْ أقول إنّ هذا حُلم لأنّ الحُلم يبقى حلماً؛ يُمكن تحقيقهُ ويُمكن لا.. سأقول إنّه غاية وهدف لكلِّ إنسان يطمح إلى تحقيق السَّلام والعدالة الإنسانيّة؛ وعلينا جميعاً ترسيخ مباديء السَّلام بالعمل والتَّعاون والإستمرار في تشجيع كلّ ما فيه الخير والأمان الحقيقي لكلِّ بني البشر.. ولا يكون ذلك إلا بالإرادة أولاً وبقوِّة القانون ثانياً لأنّ القاضي العادل هو خليفة الله في الأرض والقانون هو الشّريعة المُنظّمة للمُجتَمع والمُحاسَبة بقوّة القانون، رادع قويّ إنْ أُحسنَ تطبيقه بعدالة.
25. ألا ترى أنّه آن الأوان لتأسيس جبهة سلام عالميّة من خلال تواصل المبدعين والمفكِّرين من شتّى الإختصاصات، والدَّعوة لتأسيس دستور عالمي عبر مؤسَّسات وهيئات عالميّة جديدة، لتطبيق السَّلام عبر هذه التَّطلُّعات على أرض الواقع؟
_أرى ذلك.. أراه ببَصَري وبَصيرَتي.. لأنّ السّلام أمل كلّ إنسان بحُكْم قَلْبه.. وهدفه بحُكْم إنسانيّته.

أجرى الحوار
الأديب التَّشكيلي السّوري صبري يوسف
محرّر مجلّة السَّلام

13
جنوحُ العقلاء نحوَ الدَّمارِ، جنونٌ حتَّى النّخاع
لقاء عابر وبديع للغاية مع الصَّديق شكري يونو

إلتقيتُ اليوم خلال مراسيم دفن الرَّاحلة الفاضلة حاوى حنَّا جاجو في ستوكهولم، مع الصَّديق الغالي الملفونو الشَّمَّاس شكري يونو، الَّذي جاء مع مجموعة من الأحبّة الأهل والأصدقاء من نورشوبينغ للمشاركة في مراسيم الدَّفن، وقد أدهشني تماماً، من خلالِ كرتٍ صغير، وهو يريه لي بشغفٍ كبير!
كنتُ في حالة عذاء، وفجَّر بي عذاءاً مفتوحاً مضاعفاً، وفتح شهيّتي على كتابة ما أنا بصدده الآن!
تضمّن الكرت تسع صورٍ من مجانين ديريك، حيث كان قد قرأ لي نصَّاً سرديَّاً بعنوان: "حنين إلى ديريك بمجانينها وعقلائها"، إهداء: إلى روح درو دينو، وقد كانت صورة الرَّاحل درو دينو من ضمن الصُّور الَّتي شاهدتها في الكرت!
قلت له متسائلاً، وبنوع من الأسى والحسرة والحنين إلى ديريك، (ديريك بعقلائها ومجانينها)، لو قاد هؤلاء المجانين التُّسعة وما تبقَّى من مجانين ديريك، ديريك! هل كنّا سنرى مقتل أو أذى أو إعتداء أو غُبْن أو ظُلْم لأيِّ شخصٍ من ديريك؟ أما كان هؤلاء سيقودون ديريك إلى برِّ الأمان والوئام والوفاق مع أنّهم مجانين؟ فما كانوا سيتعدَّون على المجانين ولا على العقلاء، فهم برأيي أعقل عقلاء ديريك من حيث النَّتائج الَّتي أراها على مدى أربع سنين وإلى مدى السنين!!! وهذا السُّؤال ينسحب على مجانين القامشلي، ومجانين الحسكة ومجانين كل المدن السُّوريُّة، هل لو قاد مجنونو أيَّة مدينة من المدن السُّوريّة مدنهم القاطنين فيها، هل كنّا سنرى ما رأيناه على مدى السَّنوات الأربعة من جنون مريع مع عقلاء آخر زمن، من كلِّ الأطراف والتّيارات والأقوام، والمحلِّلين والمفكِّرين والسِّياسيين والحزبيين والمعارضين وعباقرة آخر زمن، الَّذين عاثوا فساداً وقتلاً ودماراً وخراباً في أقدم مدن وعواصم الكون، وفي أولى حضارات العالم!
وهل لو تعاملَ مجنونو أوروبا وأميريكا وبقيّة قارَّات العالم، لما يُحاك في سورية من تدخُّلات دموية سافرة، هل كان مجنونو كل قارات العالم، سيؤذون طفلاً واحداً وطفلة واحدة في سورية؟!
ما كان أي مجنون من مجانين ديريك ولا مجانين القامشلي والحسكة ولا مجانين المدن السورية، يؤذي أي طفل ولا طفلة من سورية، لأنَّ جلَّ ما كان يطمح إليه هؤلاء المجانين ومجانين العالم، هو قليل من الزَّاد، وبسمة منَّا نحن العقلاء، هذا إذا كنّا عقلاء!!! لأنَّ العاقل الحقيقي هو مَن لا يؤذي بني جنسه! وكلُّ مَن يؤذي بني جنسه من العقلاء هو من فصيل المجانين، ولكن شتّان ما بين المجانين الأقحاح والعقلاء المجانين في سلوكهم الدَّموي المرير، لأنّني أرى وبكلِّ وقاحةٍ وإنحطاطٍ، الكثير من عقلاء هذا الزّمان يقتلون العقلاء والمجانين معاً، لهذا لو حكم وقاد مجنون حقيقي ديريك مروراً بكلِّ المدن السُّوريّة، لما وجدناه يؤذي نملة، فلماذا لا نأخذ الحكمة  ــ كما قيل ــ من أفواه المجانين، أم أنَّ العقلاء في حالة منافسة لمجانين هذا الزَّمان على الخراب والدَّمار والهلاك؟!!!
إلى متى سيبقى الكثير الكثير من عقلاء آخر زمن، مصرِّاً على الدَّمار والخراب والحروب ومناصب آنيّة عابرة، حتَّى لو كانت هذه المناصب سنيناً وعقوداً، لأنَّ البشر كلَّ البشر مجرَّد نسمات عابرة على وجه الدُّنيا، نحن مجرّد ضيوف عابرين في رحاب الحياة، مجرّد ضيوف لا أكثر، ضيوف غير مرغوب في الكثيرين منَّا، بينما المجانين، ضيوف مرغوب فيهم لأنّهم لايؤذون أحداً، وأقصد المجانين المعاقين والمرضى ولا أقصد العقلاء المجانين، لهذا أطلب من كلِّ العقلاء المجانين الَّذي يشنُّون حروباً ودماراً وخراباً في سوريا والعراق والشَّرق والعالم العربي وجميع العالم، أطلب منهم أن يحيلوا أنفسهم إلى أقرب عيادات أطباء نفسانيين، لمعالجة أنفسهم من أمراضٍ أكثر فداحةً وهولاً من أمراضِ المجانين الأقحاح على مستقبل البشريّة!
متى سيفهم عقلاء هذا الزّمان أنَّ الإنسان سمّي إنساناً لأنّه يألف المؤانسة وهو من أسمى المخلوقات على وجه الأرض، فلماذا لا يعكس سموّه ونبله وأخلاقه الرَّاقية، ويترجم إنسانيّته على أرض الواقع، ويعيش مع بني جنسه في وئام ومحبّة وتعاون وسلام وسعادة وهناء، بعيداً عن القتل والحروب والدَّمار والهلاك الَّذي بدأ يعشِّش في نفوس الكثير من البشر؟!!!
هل وصلَ المرسال؟!!!

ستوكهولم: 8. 1. 2015
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم



14
مائة لوحة  للأديب التَّشكيلي صبري يوسف في غاليري كاظم حيدر في ستوكهولم: الفرح الحبّ السَّلام
مشاعري متدفِّقة كحنينِ العشَّاق إلى أعماق تجلِّيات الرُّوح  

صبري يوسف ـــ ستوكهولم
 افتتح مدير المركز الثّقافي العراقي الدَّكتور أسعد راشد معرض الفنّان التّشكيلي والأديب السُّوري صبري يوسف في تمام السَّاعة السَّادسة من مساء يوم السَّبت الفائت وسط جمهور غفير من الفنَّانين والكتَّاب والشُّعراء والمثقَّفين والمهتمِّين بالشَّأن الثّقافي والفنِّي والإبداعي، وألقى رئيس المركز كلمة مقتضبة أشار فيها إلى الإهتمامات الفنِّية والأدبيّة المتعدّدة لدى الفنّان صبري يوسف، ثمَّ قدِّم الفنّان بدوره كلمة قصيرة أشار فيها إلى أسلوبه في الرَّسم وكيفية ولادة اللَّوحة عبر موشور الألوان المتعانقة مع وهجِ الشَّعر، وقدّم الفنّان التَّشكيلي العراقي شاكر بدر عطيّة كلمة وجيزة أشار فيها إلى تقنيات الفنّان وتعبيره على ترجمة المشاعر عبر رموزه المتعدّدة، ثم ألقى الفنّان التَّشكيلي السُّوري كابي سارة كلمة قصيرة مُشيداً بعوالم التّشكيل اللَّوني عند أسلوب الفنّان الممزوج بعوالم الفرح والسَّلام والمحبّة، الَّتي تعكس روحانيّة الفنَّان الدَّاخلية عبر لوحاته! وألقت الشَّاعرة السُّويدية "انغريد هوفمان سي" بعض المقاطع الشِّعرية باللُّغة السُّويديّة، المتعانقة مع عوالم لوحات الفنّان! وفي نهاية الافتتاح تقدَّم الدَّكتور حكمت داؤود جبو الوزير المفوّض ليقدم تكثيفاً معبّراً عن  فضاءات اللَّوحة عند صبري يوسف، ثم طاف الزّوار يشاهدون مائة لوحة تشكيليّة تعبِّر عن الفرح والحبِّ والسَّلام المتدفِّق من آفاق الفنّان على وجنات اللَّوحات!
   
*****
   
حالما أدخل في فضاءات الألوان، أرسم فرحاً، حبّاً، عشقاً، سلاماً، وردةً، زهوراً برّيّة.. حنينُ الكرومِ لا يفارقُ لوني، والسَّنابلُ تغمرُ مروجاً ممتدَّة على مدى العمر! تنبعثُ من ألواني شهقات شعريّة حميمة، كإشراقاتِ الصَّباح، معبّقة بالبخورِ وضياءِ الشُّموع. لا أرسمُ حزناً ولا ألماً ولا حرباً، أترجمُ هذه المشاعر الألميّة والحزنيّة عبر الحرف! لهذا يبدو لي الحرفُ وكأنّه توأمُ اللَّونِ، توأمان متعانقان كإكسير الحياة، أكتبُ شعري بمتعةٍ غامرة بالحرفِ تارةً وباللَّونِ تارةً أخرى!
في الرَّسم، أنحازُ إلى هلالاتِ الجَّمال، لا أنحاز إلى "جمال القبح"، كما يُقال. القبح يظلُّ قبحاً، حتَّى ولو كان بديعاً من حيث الإبداع الفنّي! لأنَّ اللَّوحة عندي هي حالة جماليّة، تمتِّع بصري وتبهجُ آفاق خيالي، ولا أريد أن تقترن لوحاتي بالأحزان والهموم والحروب، ولا شكّ أنّ هناك الكثير من اللَّوحات ممكن أن تعكسَ حالات ألميّة وحزنيّة بالغة الأهمية وعميقة الأهداف والتَّطلعات من حيث رموزها واسقاطاتها الفنّية، كما هو الحال في لوحة بيكاسو الشَّهيرة: الجورنيكا، الَّتي أخذت شهرة عالميّة من خلال ترجمته لحالات الأسى والأنين والخراب والدَّمار للحرب الأسبانيّة الأهليّة الّتي دارت رحاها بكلِّ مراراتها وجنونها آنذاك، ومع كلِّ هذا أنفر من مشاهدة لوني يترجم الدِّماء والحروب والأحزان ومرارات الحياة! لربّماهو نوع من رفض الحرب والإنحياز التَّام للسلام والحبّ والفرح، لهذا تحملُ فضاءات لوحاتي رسالة سلام ومحبّة وفرح ووئام بين البشر، إنطلاقاً من رؤاي الجَّانحة نحو إحلال السَّلام والوئام والحبّ في وطني الأم سورية، مروراً بوطني الثَّاني السُّويد وإنتهاءً بالعالم أجمع.
الفنُّ عندي حالات عشقيّة رومانسيّة وئاميّة إنسانيّة راقية، يطفو فوقَ شفير الأحزان وهديرِ الطُّغيان!                    
ونظراً لأنَّ طموحاتي الإبداعيّة وروحانيّتي جانحة نحو هذه العوالم الفرحيّة والوئاميّة، لهذا السَّبب أسَّستُ في اليوم الأوَّل من هذا العام "2013" مجلّة السّلام، تأكيداً منّي على أهميّة التَّركيز على السَّلام الخلاق في هذه المرحلة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، نظراً لتفاقمِ الأوضاع الشَّرقيّة العربيّة والكونيّة وخلخلةِ علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان وتدهْورِ علاقات البشر مع بعضهم بعضاً وكأنّهم من فصيلة النُّمور والذِّئاب والأسود والحيوانات المفترسة في افتراس بني جلدتهم وجنسهم. ولا يكترث أغلب سياسيي هذا العالم بإنسانيّة الإنسان ولا بالحضارة والعقل والحكمة والعلم الَّذي وصل إليه الإنسان خلال حقب تاريخيّة طويلة، ونرى كيف برمشةِ عين يرمي بعض الحيتان والأنياب السِّياسيّة المفترسة بهذا المخلوق السَّامي في بوَّابات الجَّحيم، وكأنَّ عقل الإنسان وحكمته وكلّ حضارته مسخّرة بكيفية القضاء على كلِّ ما بناه الإنسان، حيث أرى أنَّ أسَّ الأسس هي الأخلاق والضَّمير والعقل والحكمة قد صارت في مهبِّ الرِّيح، ولم يعد محرّكو الحروب وقاذفات الآر بي جي والصَّواريخ عابرة المدن والدُّول والقارات يهتمُّون بالنّتائج الوخيمة الَّتي ترتَّبت عن ممارساتهم البغيضة والعقيمة، وينظرون بكلِّ أسفٍ إلى دمار الأخلاق البشريّة وخلخلة أخلاق وحكمة وحضارة قرون من الزَّمان، وكأنّهم في حفلة تنكريّة أو في عرض مسرحيات كوميديّة وفكاهيّة وليست أحداث واقعيّة، مع أنّها مسرحيات واقعيّة دمويّة وبإخراجات سياسيين عالميين محترفين بإدلاق وهدر دماء البشر وفقراء هذا العالم، وكأنَّ البشر المشتعلين ليل نهار في هذه الصِّراعات والحروب هم مجرّد وقود وحطب لتنفيذ مخطَّطاتهم ومآربهم الدَّنيئة والمنحطّة، من خلال زرعهم الانشقاقات والصِّراعات والفتن في الأديان والمذاهب والقوميات والاثنيات وتوليد كلّ أسباب العنف والعنف المضاد وتأجيج الحروب المجنونة دون أي وازع ضمير في الكثير من بقاع الكون، لتحقيق "بالإسم فقط" الدِّيمقراطيّة والحرّيّة والعدالة والمساواة والكرامة لبني البشر، وهم أبعد ما يكونوا عن تحقيق هذه التَّطلعات، لأنّهم يسعون إلى خراب هذه البلاد، وزرع الفتن والحروب كي يستغلُّوا خيرات هذه البلاد ويزجُّونها في متاهات غير محمودة العواقب!                                                                          
أيّة كرامة وأيّة عدالة تحقَّقت ونحن نرى أنهار الدِّماء تسير من خلال القتل على الهويّة وعلى الإسم والمذهب ولأتفه وأبسط الأسباب؟ ولو نظر أي أحمق وأي غبي إلى ما نراه سيقول لو كانت نتائج تحقيق الدِّيمقراطيّة والحرّية والعدالة والمساواة بهذا الشَّكل الأحمق ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين، فلا خيرَ في هذه "العدالة والحرّية والكرامة والدِّيمقراطيّة" الَّتي ينشدونها إذا كانت مفروشة ومفصَّلة ومؤدلجة ومفخّخة على جماجم الأطفال وحرق البلاد على رؤوس العباد!            
ولهذا منذ أن أمسكتُ فرشاتي وفرشْتُ ألواني، بدأت أرسم لوحاتٍ تدعو إلى الحبِّ والفرح والسَّلام، وهي دعوة للبشر كلَّ البشر، لتأسيس ثقافة كونيّة جديدة، تدعو إلى ترسيخ مبادئ وعلاقات الفرح والحبِّ والسَّلام بين البشر، رغم أنف صنّاع الحروب ومصمِّمي قاذفات الهاون وصواريخ عابرة القارَّات وعابرة الغباء الكوني!  ولهذا أيضاً أدعو ليس إلى القضاء ونزع السِّلاح الكيميائي في سورية، بل أدعو إلى تدمير ونزع السِّلاح النّوّوي في إيران وفي إسرائيل أيضاً، وأدعو وبكلِّ شدَّة إلى نزع السِّلاح الكيميائي والذَّري في العالم أجمع، كما أدعو إلى القضاء على السِّلاح التَّقليدي بكلِّ أنواعه وإلى نزع وتدمير كلّ أنواع الأسحلة على وجه الدُّنيا وإغلاق معامل السِّلاح بكلِّ أنواعه التَّقليديّة والكيميائيّة والذَّريّة، وتأسيس أحزاب وهيئات لها تطلُّعات وتوجّهات تدعو إلى خلق حالة وئام وسلام بين البشر رغم أنف دعاة الحرب، وأدعو بدوري إلى إسقاط كلَّ الأنظمة الَّتي لا تستجيب إلى هذه التَّوجُّهات الوئاميّة، وتطرح طرحاً حربيَّاً عنفياً دموياً وإسقاطها اسقاطاً مريعاً، طالما تدعو إلى حلِّ أيّة مشكلة صغيرة أو كبيرة من خلال العنف والعنف المضاد والحروب الَّتي تدمّر الأخضر واليابس، وأدعو بني البشر في كلِّ بقاع الدُّنيا للوقوف في وجه الحروب والصِّراعات وإلى الخروج بمسيرات ملياريّة في العالم لإسقاط أيَّة جهة تدعو للحرب مهما كانت أسباب الحرب الَّتي تشنّها وجيهةً أو ضروريةً، لأنَّ الإنسان كائن عاقل وحكيم، وعليه أن يحلَّ مشاكله وصراعاته بالحكمة والعقل وليس بالبارود والرّصاص والسِّلاح والقتل والدَّمار ولا بارك في كلِّ إنسان يرفع سلاحاً على أخيه الإنسان ولا بارك في أيِّ توجُّه سياسي يدعو إلى العنف والقتل والخراب والدَّمار!                              
لقد آن الأوان أن يخرج مليارات البشر إلى الشَّوارع وفي الأماكن العامّة وعلى شاشات الفضائيّات ويعلنوا عن رفضهم واستيائهم للحروب الَّتي تتفاقم في الكثير من بقاعِ الدُّنيا، وأن يؤسِّس أخلاقيو ومناصرو السَّلام الحقيقي في العالم فضائيات ومنابر للسلام وينشروا ثقافة السَّلام العالمي الحقيقي ضدّ كل مَن يدعو للحرب في العالم، وتأسيس مرحلة جديدة هي مرحلة بناء إنسان مسالم وحكيم وعاقل، كي نبني مرحلة جديدة تليق بإنسانيّة الإنسان ونسعى إلى تأسيس حضارة جديدة هي حضارة السَّلام والحبِّ والفرح، لا أن ينجرف بعض الجُّهلاء نحو بعض المنافع الشَّخصية لهذه الدُّول أو تلك ويصنعوا حروباً على جماجم البشر دون أي وازع ضمير، لأنَّ الحروب كلّ الحروب على وجه الدُّنيا لم تكُن في يومٍ من الأيام ولا في أيَّة مرحلة من التَّاريخ البشري لصالح البشر، بل كانت ضدَّ البشر على مدى تاريخ الإنسان الطَّويل على وجه الدُّنيا، فما معنى أن نعيد صياغة حروب جديدة وكأنَّنا في منافسة دمويّة في قتل بعضنا بعضاً، وأنا أرى أنّه لا خير في أيِّ توجّه ديني، أو سياسي أو إجتماعي إلى الحرب والقتل، وأيّ توجّه نحو الحرب والقتل هو توجّه أحمق وغبي وتافه ولا يصبُّ في مصلحة الإنسان كإنسان، لهذا أي تبنِّي لتوجُّهاتٍ حمقاء هي حماقة ما بعدها حماقة من الَّذي يتبنَّى توجُّهات الحرب والقتل، وبالتَّالي لابدَّ من أن يفهم الإنسان على وجه المعمورة أنّه لا يوجد أي دين طبيعي وحضاري وتقدُّمي وإنساني وأخلاقي وإلهي يدعو إلى القتل والحرب والدَّمار، وكلّ مَن يدعو لشنِّ الحروب بإسم الدِّين، فالدين والأخلاق منه براء!  
متى سيفهم المرءُ أنَّ الحياةَ بمثابة لوحة جميلة تظهر في بسمةِ طفلٍ، في نضارةِ وردةٍ، في وهجِ عشقٍ، في زخّةِ مطرٍ، في نقاوةِ بحرٍ، في تلألؤاتِ نجيماتِ الصَّباحِ، في مصالحةِ الإنسان مع أخيهِ الإنسان، في مصالحةِ الإنسانِ مع جمال البرّ والبحرِ وأجرام السَّماءِ، في وئام البشرِ على مساحاتِ جغرافيّةِ الكونِ؟!
أجنحُ عبر كتاباتي ونصوصي ورسومي نحو قيمِ الخير والمحبّة والسَّلام بين البشر، لكنِّي أتوقّف مليَّاً عند أحزاني وهمومي وهموم الآخر وأترجمها عبر الكلمة، لأنَّني عبر الكلمة أستطيع أن أكتب عن أيِّ موضوع حتّى ولو كان حزيناً وأليماً، وهنا أنحاز بقوّة إلى جمال القبح عبر النّص، عبر الكتابة، عبر الحرف، لربّما قدراتي في ترجمة هذه المشاعر أكثر عمقاً في الحرف منه في اللَّون.
أرسمُ أعمالي بالسِّكِّين والفرشاة النَّاعمة، بأسلوب شاعري فطري طفولي حُلمي تخيُّلي، وبعدّةِ مدارس فنّية، بعيداً عن التَّقيّد بأساليب معيّنة في عالم الفنِّ، فلا أتوقّف عند مدرسة أو تيّار فنِّي معيَّن، بقدر ما أتوقَّف عند مشاعري العفويّة المتدفِّقة مثل حنين العشَّاق إلى أعماق تجلِّيات الرُّوح، أو مثلَ شلالٍ يتدفّقُ من أعالي الجِّبال، أو كشهقةِ طفلٍ لاشراقةِ الشَّمسِ في صباحٍ باكر، حيث تتداخل عدّة أساليب في اللَّوحة الواحدة، وغالباً ما تتدفّق هذه الألوان بشكل عفوي حلمي تأمُّلاتي، ثمَّ تتوالد الأفكار وتتطوّر وتتناغم الألوان خلال عمليات الرَّسم، ويتميّز الأسلوب الَّذي أشتغل عليه بالتَّدفُّقاتِ اللَّونيّة وموشور إنسيابيّة الأفكار ضمن إيقاع لوني فيه من الموسيقى والرّقص والفرح والحنين إلى عوالم الطُّفولة والشَّباب والحياة بكلِّ رحابها، وكأنّي أتعانقُ مع تدفُّقاتي الشِّعريّة. أكتب شعراً عبر اللَّون، أجنح كثيراً نحو العفويّة والتّحليقات اللَّونيّة، مستخدماً الرَّمز والتَّجريد والأزاهير وكائنات برّية وأهليّة وأشكال من وحي الخيال والواقع أيضاً، حيث تبدو لوحاتي وكأنّها قصائد شعريّة تمَّ كتابتها عبر اللَّون، ولهذا تبدو اللَّوحة وكأنَّها الجّزء المتمّم للقصيدة، وفي هذا السِّياق قلتُ في إحدى الحوارات التي أُجْرِيَتْ معي "إن الشِّعرَ والرَّسمَ وجهان لعشقٍ واحد هو الإبداع"، لأنّني أرى أنَّ الَّذي لا يعشقُ الشِّعرَ أو الرَّسمَ بعمق، لا يستطيعُ إنجازَ نصٍّ شعريٍّ عميقِ الرُّؤية أو رسمَ لوحةٍ فنّيةٍ غنيّةٍ بمساحاتها وأجوائها اللَّونيّة المنسابة بتجلِّياتِ الإبداع.                

صبري يوسف
أديب وفنّان تشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com


















15
التَّشكيلي صدرالدِّين أمين فنّان بدائي ساحر مضمّخ بأريج الطُّفولة




صبري يوسف ـــ ستوكهولم

الفنّان التَّشكيلي صدر الدَّين أمين مواليد مدينة كركوك 1963، محلّة قصاب خانة.
أكمل دراسته الأولى في كركوك ثمَّ التحق في أكاديميّة الفنون الجَّميلة في بغداد.
أقام وشارك في العديد من المعارض داخل العراق وخارجه، في الأردن، هولندة، بلجيكا وبريطانيا، كما قدّم الكثير من المعارض في بنسلفانيا الأميريكيّة حيث يقيم الآن!

الفنَّان البديع صدرالدِّين أمين، فنّان بدائي ساحر في بناء لوحاته، يعتمد على خياله الخلاق وأحلامه الجَّامحة لمعانقة براءة الطُّفولة، يبحث عن إنسانيّة الإنسان، بعد أن وجد إنسان هذا الزَّمان غائصاً في افتراس أخيه الإنسان، فلم يجدْ أجدى وأبهى من أن يبني لنفسه عالماً فنّيَّاً راقياً، مركِّزاً على الجَّمال والفرحِ والأحلام المدهشة من خلالِ عبورِهِ في عوالم الطُّيور والنَّباتات والأيقونات والرُّموز والمخلوقات الأسطوريّة الخياليّة الحلميّة الحقيقيّة، يرسمها من خلال تأمُّلاته وروحانيَّته الصُّوفيّة الشّفيفة، بأسلوب تعبيري، تجريدي ورمزي خلَّاق، وبعفويّة مدروسة وعميقة ومعقلنة رغم تدفُّقاتها العفويّة الباذخة، مستعيداً عالماً جديداً موائماً لعوالم الطُّفولة بكلِّ براءتها، واقفاً في وجه قباحات هذا الزَّمان، شاهراً حبّه وفرحه وجماله في أرجاء المعمورة، لعلَّه يحقِّق فرحاً ومتعةً لمشاهديهِ في كلِّ مكان.

صدرالدِّين أمين فنّان تشكيلي مضمَّخ بأريج الطُّفولة والنّعناع البرّي،  يرسم لوحته من وحي روحه ومشاعره الشَّفيفة المتعانقة مع الكائنات البرّيّة والأهليّة، يلتقطُ ألوان وتشكيلات لوحاته من شهقة جفول الغزال، من تغريد البلابل، من انبعاثاتِ بزوغ الشَّمس، من بسمة الأزاهير، من أنغامِ أحلام الطُّفولة، من حنين عاشقة لمهجة اللَّيل الحنون، من مداعبات القنافذ لدبيب الأرضِ، من النَّباتات البرّيّة، من بهاء الجِّبال المسترخية فوق منعرجات الذَّاكرة، من مخلوقات أسطوريّة خياليّة واقعيّة، فتأتي لوحاته مبرعمة بكلِّ طيوب الحياة، ويبني أهليليجيَّات موشور ألوانه من عوالمه الفسيحة، فارشاً فوق حبقها روحه الجَّانحة نحو صفاءِ الطُّفولة بكلِّ ما تحمل من دهشةٍ وانبهار!

أدهشني كلّ هذا الجَّمال الَّذي أبدعه الفنّان صدرالدِّين أمين، فما وجدت نفسي إلا وأنا أتوغَّل بحميميّةٍ دافئة في أعماق عوالمه المعرَّشة ببهجةِ الإبداع، فأحببتُ أن أنبشَ ما في عوالمهِ من دُرَرٍ فنّية ثمينة، لأقدِّمها للمتابع العزيز على طبقٍ من فرح، من خلال توغّلي في عوالم وفضاءات لوحاته ومناجاة مشاعره وروحه الفيَّاضة بولعِ الإبداع!

*****

حالما يعبر المشاهد لوحاته، تستقبله سطوع تدفُّقات أهازيج وعناقات الطُّفولة، حيث نراه يزرع الجَّمال في لوحاته، كأنّه عَبَرَ اللَّوحة في رحابِ نصٍّ شعري عشقي منساب من شفاه غيمة في صباحٍ ربيعي متعطِّشٍ لحنينِ السَّماء.

وجدتُ لدى الفنّان أمين طاقة مدهشة من عوالم الكائنات البرّيّة والأهليّة، يبدو أنّه روَّضها عبر مرحلة زمنيّة فسيحة، كأنّها منبعثة من حالات حلميّة، متناغمة مع هبوب الحلم وبوح صفاء الرُّوح وتجلّيات جموح الخيال مع تضاريس شهوة العقل!
معَ أنَّ الفنَّان يرسم لوحاته بأسلوب بدائي بديع، إلا أنّه يرسمها بحداثويّة رائعة، أقرب ما تكون إلى الفنِّ البدائي الحداثوي المعاصر، موشِّحاً فضاءاتها بأسلوب تعبيري أحياناً وتجريدي أحياناً أخرى، عبر ترميزات شفيفة ومتناغمة مع إنسابيّة عفويّة مبهرة في إيقاعاتها، وكأنّنا على تخوم طبول أفريقيا وهي في أوج مناجاتها لكائناتها بكلِّ تلاوينها، لعلّها ترقص على هدى هذه الإيقاعات، ويبدو أنَّ الفنّان استلهم فضاءاته الرَّحبة من خلال توغُّلاته وبحوثه العميقة إبتداءاً من عوالم الرُّوحانيّة الصُّوفية الآسيويّة، بكلِّ تنوُّعات حضاراتها المتعاقبة، وروعة تشكيل الإيقاعات الأفريقيّة بكلِّ بهاء هدهداتها وتلاوينها المتماهية مع عوالم غاباتها المدهشة، وإنتهاءاً بالحضارة الغربيّة بكلِّ حداثتها وتجديدها، فولدَتْ لوحة صدرالدِّين أمين وترعرعَتْ عبر هذا المثلَّث المعشَّق بشهوةِ الإبداع، أمينةً لأسلوبٍ بدائي معجون بأبهى حداثويّة معاصرة لا تُضاهى في هذا الأسلوب المتفرِّد الَّذي أبدعه الفنَّان عبر مسيرته الرَّحبة في تدفُّقاتِ أشهى مروجِ الإبداع!
يتدفَّق الفنّان مثل شلالٍ عبر تشكيلات تجريديّة رمزيّة لونيّة، يتخلَّلها كائنات أسطوريّة خياليّة شفيفة، منسابة بإيقاعٍ حلمي، وكأنَّ لدى الفنّان آلاف الأطفال، يتواصلون مع كائناته الجَّميلة ويلملمونها له عبر تجلِّيات روحه المتعانقة مع أرواح الأطفال، فتبدو لوحاته لنا وكأنَّنا نحضر كرنفالاً فرحيَّاً لما تحمله اللَّوحات من آفاق مبهجة للعين!

تدهشني لوحات الفنَّان صدرالدِّين أمين، تغمرني بغبطة عميقة، كأنّني أسمع موسيقى خفيَّة من خلال همهمات كائناته، أشعر وكأنِّي في حالة مناجاة بيني وبين هذه الكائنات، أتمتّع جدَّاً وأنا أهيم في عبور منعرجاتها، وأجد أحياناً كائنات ربَّما لم يقصد الفنّان أن تأتي في هذا السِّياق الّذي أراها فيه، فمن خلال تداخُل التَّشكيلات اللَّونيّة، انبثقتْ كائنات جديدة وكأنّها امتداد لخيال قارئ اللَّوحة، الّذي يتدفَّق هو الآخر من خلال هذا الهارموني اللَّوني المبهج لخيال وبصيرة المشاهد!

إنَّ أجمل ما في  لوحات أمين، هو هذه الفرادة الغرائبيّة البديعة الَّتي تتميّز بها لوحاته، حيث تقنيات مهاراته بكلِّ تفاصيلها الرَّهيفة في خلق وإبداع هذا الأسلوب العفوي الجّانح نحو عوالم الطُّفولة، يضعه في مصافِّ الفنَّانين الكبار!  
راودني مراراً، كيف تولد اللَّوحة عند هذا الفنّان المعرَّش بوهجِ الأطفال، وأحلام الأطفال وروحانيّة الأطفال، كيف يبدأ لوحته، كيف يبتسم لهذه المخلوقات الحميمة، كيف يرسمها متعانقة مع بعضها بعضاً؟ تبدو وكأنّها في حالة انتشاء فرحي عميق، ترقص مع بعضها. هل كان الفنَّان في حالة انبهار الرُّوح مع موسيقى دافئة رومانسيّة شجيّة، فإنعكست هذه الرُّوحانيّة الموسيقيّة على إيقاعات الألوان وتماهيات الكائنات والمخلوقات، فجاءت متراقصة بشكلٍ بهيجٍ ومدهشٍ للغاية؟!

تبدو لي لوحات الفنّان وكأنّها مستلهمة في جزء كبير من عوالمها من تدفُّقات حلميّة مفتوحة على انبعاثات وهجِ الخيال، متماهية مع حالات عشقيّة ورومانسيّة في غاية الدُّفء والحميميّة، وكأنَّ الفنّان في حالة عشقيّة عميقة، يترجم لنا هواجسه العشقيّة عبر أحلامه تارةً وعبر توهّجات خياله الطّافح بإشراقة أبهى ما في الأساطير، والمتناغم مع بحبوحة الأحلام وحنين الطُّفولة وبهجة الحبّ والفرح والأمل القادم! وتبدو في الآن ذاته كأنّها مستلهمة من خلال استماع الفنّان إلى هسيس الطَّبيعة، وتغريد البلابل، وهفهفات المطر. يتواصل مع أزاهير الصَّباح، مع العصافير، مع سديم اللَّيل، مع أمواجِ البحار، مع جموحات الطُّيور البرّيّة، ومع المخلوقات الَّتي رآها في الطَّبيعة وفي الأزمنة الغابرة عبر موسوعات فنِّيّة وطبيعيّة وعبر الأساطير الملحميّة، وانعكس كلّ هذا الموشور اللَّوني والكائناتي العجيب في رحاب لوحاته المتلألئة بأزهى تجلِّيات الإبداع.
تمنحني لوحات الفنّان صدرالدِّين، فرحاً عميقاً لا يُضاهى، تحرِّضني على الرَّقص من بهجةِ الانتعاش، كأنّي أعبر في عوالم غابة حلميّة، متناغمة مع همهماتِ كائناتٍ مبهرة وتغريد وزقزقات طيور خرافيّة بديعة، منبعثة من أزمنة غابرة،  تلهو مع كائنات متماهية مع آفاقٍ أسطوريّة في غاية الجَّمال والوئام. تعيد إلى ذاكرتنا عشرات القصص والحكايات الَّتي كنّا نسمعها من خلال تدفُّقات روعة الخيال. ما هذا البهاء الموشوم على كائنات متراقصة بانسجامٍ مدهش، كائنات متلألئة بجمالٍ خلَّاب، كائنات فريدة، متعانقة مع سموِّ الرُّوح وهي تحلِّق عالياً، كي تعانقَ ألق السَّماء وتعانقَ حميميّات الطُّفولة المعشَّشة في كينونتنا منذُ أمدٍ بعيد!
كلَّما أنظرُ إلى عوالم كائناته وألوانه، أزدادُ إندهاشاً، وكأنّي أراها للمرّة الأولى، تبدو لي متطايرة من بساتين الجّنَّة، من خيالٍ متهاطلٍ على إيقاعِ شهوةِ المطر، حيث الألفة منسابة بشكلٍ مبهر على مساحات اللَّوحات، بتقنياتِ فنّانٍ منعتقٍ من شوائب الحياة، بحثاً عن عرين الجَّمال المتناثر فوق أغصانِ الدُّنيا، وكأنَّ هدف الفنَّان هو استنهاض عالم طفولي شفيف من هذه الكائنات الَّتي تتراقص بمرحٍ كبير لبسمةِ وحنينِ الأطفال، حتّى أنّني في الكثير من الأحيان، أشعر وكأنَّ مملكة الفنّان مفتوحة على نضارة الأطفال وهم في أوج حبورهم وأحلامهم ولَهْوِهم في عالمٍ بديعٍ إلى أبعدِ درجاتِ البهجةِ والإمتاع!
لوحات تحمل بين فضاءاتها كرنفالاً لونيِّاً مخضَّلاً بالجَّمال، أشبه ما تكون سيمفونيّة مستنبطة من تلألؤاتِ الرُّوح في ليلةٍ قمراء، مملكة متعانقة مع أسرارِ الدُّنيا، شوقٌ مفتوح إلى الذَّاكرة البعيدة، هي تدفُّقات حنينيّة إلى مروج الطُّفولة، حلمٌ باذخ نحوَ ظلالِ السَّماء الشَّاهقة، قبلةُ عشقٍ على خدودِ الصَّباح، حوارُ الرُّوح مع الكائنات كلّ الكائنات، بسمةُ طفلٍ في وجهِ الرَّبيع، عناقُ الأمِّ لزخّاتِ المطر، لوحات من نكهةِ الإبتهال، تتعانقُ مع جموحِ الشُّعراء في أوجِ تحليقاتهم، كأنّها رحيقُ الشّعرِ المندّى بسموِّ السَّنابل، تتعانقُ مع روح الشِّعر في أوجِ تجلِّيات الابتهال. تشبه صدرالدِّين أمين وهو يحلِّق نحو معراجِ بهجةِ السَّماء، بحثاً عن أسرار الفرح، بحثاً عن الماءِ الزُّلالِ، بحثاً عن حوارِ الأرضِ والسَّماء، وغوصاً عميقاً في سديمِ اللَّيلِ، لعلَّه يغفو بين أهازيجَ الطُّفولة.
الفنّان صدرالدِّين أمين طفلٌ معرَّشٌ في حبقِ النّعناع البرّي، طيوره الَّتي يرسمها شفيفة كمآقي الزُّهور، كأنَّ أجنحتها مستنبتة من بخورِ الأديرة القديمة، تعبقُ شذىً وألقاً، تناغي أزاهير غافية عند تخوم أحلام الطُّفولة. هل هي طفولة الفنّان أم طفولتي أم طفولة المشاهدين، أم هي حنين مفتوح إلى مروج طفولتنا البكر جميعاً؟ لماذا يحنُّ الفنَّان والشَّاعر والإنسان إلى الطِّين الأوَّل، هل تولد اللَّوحة من تطاير هواجس الأحلام المنبثقة من عطشِ الرُّوحِ إلى مهدِها الأوَّل، هل نحن أنشودةُ عشقٍ مفروشة على مآقي الغمام، أم أنَّنا تدفُّقات نسيم مندّى بتواشيح أريج الصَّباح؟!
أرى عالماً معبّقاً بالدَّهشة على مساحاتِ لوحاته، وأطفالاً مضمّخينَ بنضارةِ الإخضرار. هنا تمدُّ طفلةٌ يدها إلى طائرٍ موشّحٍ بازرقاقٍ فاتح، يهفو إلى مداعبة سمكة صغيرة، مسترخية بين أحضانِ طفلة حالمة بمرجان البحر! وهناك عناقات بهيجة على امتدادِ وهجِ الخيال، كأنّنا إزاء كرنفالٍ عشقي بين كائنات منسابة فرحاً ومتآلفة مع بعضها بعضاً، يقدّمُهُ لنا الفنّان في إطار طقوسٍ لونيّة راعشة، في غايةِ الرَّوعةِ والإنسجام. حوارات انتعاشيّة متماهية مع تلاطماتِ شهوةِ البحارِ وهي في خضمِّ بحبوحةِ الإنتشاء.
تتراقصُ على مساحاتِ لوحاته، انسيابات لونيّة متدفِّقة فوقَ جباهِ كائناتٍ عطشى إلى عبقِ أزاهير برِّية، احمرارٌ ساحرٌ يتمايلُ فوق عيونٍ زرقاء وبتلات معرّشة باخضرارٍ شفيف. تسطع غزالة جامحة بشموخٍ وهي تصغي إلى هسيس دبيب الأرض وخشخشات بعض الزّواحف. اختبأ بعض القطا خلف تلّة مكتنفة بالسَّحالي الصّغيرة، كأنّها في انتظار هديل اليمام من جوف الوادي المملوء بالزَّنبقِ والنَّفلِ البرّي. ترقص الكائنات الجَّميلة على إيقاعِ دفءِ النّهار. تفرشُ الشَّمسُ حبّها على روعة المكان. يراودني كثيراً انكماش الإنسان بعيداً عن شموعِ الخير وأغصانِ الجِّمال. كيف لا يستمدُّ الإنسان من كلِّ هذه الحفاوة والتَّناغم بين الكائناتِ البرّية والأهلية، خيوط الحبِّ والمؤانسة بين بني جنسه، عابراً بكلِّ رعونةٍ دهاليز معتمة، كأنّه في سباقٍ مع ألسنة النّارِ في بثِّ جحيمِ نيرانه على خدودِ الدُّنيا؟!
مسحةٌ أليفة تضيءُ جفونَ الغابات، من خلال رؤى خلاقة تعرّشَتْ بينَ أجنحةِ الفنّان، منذ أن تفتَّحَتْ مآقيه على وجهِ الدُّنيا، لهذا تتبرعمُ كائناته في فضاءاتِ ألوانٍ مرفرفة بأجنحةِ الفرح والوئام والأمل، تسطع كوهجِ الشَّمسِ وسطوعِ منارةِ القلبِ، مترجماً بكلِّ ما لديه من جمالٍ خلاق، شوقَ الرّوحِ إلى أبهى ما في خصوبةِ الحياةِ من تدفُّقاتِ لجينِ الإبداع!
*****
لوحاتُ الفنَّان صدرالدِّين، تحرِّضني أن أبحثَ عن  فرحٍ بين ثنايا طفولتي، كي أخفِّفَ من ضجرِ الَّليلِ والنَّهار، ومن ضجر متاهاتِ جواريش هذا الزَّمان، لوحاتٌ تنعشُ الرُّوح، مستنبتة من عوالم طفوليّة بدائيّة طازجة، متغلغلة في أعماق براري الخيال، عوالم مماثلة لما كنتُ أعايش الكثير منها في مرافئ طفولتي وأنا أسوح في سهول القمح الممتدَّة على مدى البصر، لوحاتٌ شفيفة منبعثة من حنين الرُّوح إلى بهجةِ الهطول، هطول الفرح من خدودِ الأطفال، من عبق الأزاهير الفوَّاحة، عوالم جميلة استطاعت بروعةِ ألوانِها وتشكيلاتها وتماهيها معَ بوحِ الأحلام أن تزيحَ عنّي الكثير من أنينِ غربتي المتفاقم من جنونِ هذا الزَّمان، وتفتحَ أمامي هلالات النُّور، نور المحبّة والبراءة وحفاوة تدفُّقاتِ الشِّعر، وكأنّي أسمعُ موسيقى حميمة على إيقاع مناجل الحصَّادين.
لوحاتٌ بديعة تغفو على أنغام سحر الطَّبيعة، مورقة بعطاءات من نكهةِ الأطفالِ وهم يتطلَّعون بفرحٍ إلى غمامِ اللَّيل، ترفرفُ طائراتهم الورقيّة في قبَّةِ السَّماء على إيقاعات عوالم فنّان مبهور ومفطور على فضاءات لونيَّة طفوليَّة فسيحة، حيث تغفو فضاءات لوحاته فوق أهداب الأطفال وهم في أعماق أحلامهم. لوحات أخّاذة، تناجيك بحميميّةٍ منعشة، تدندنُ لكَ أنغاماً عذبة منسابة مع تغاريد البلابل، تبوح لكَ بأسرارِ بهجةِ الحياة، تشعر برغبةٍ جامحةٍ أن ترقصَ على إيقاعِ توهُّجات الفرح الَّذي يقمِّط حنايا قلبكَ، تمنحكَ اللَّوحات متعة عميقة وأنتَ تجولُ في منعطفات طلاسمها المسكونة بأحلام الطُّفولة وعبقِ الطَّبيعة، أسلوب مسكون بجمال الطُّفولة ومملكة الكائنات السَّارحة بين أسوار النَّعيم، يغوصُ الفنَّان في أعماقِ عوالم الأطفال وهم في قمّةِ بهجتهم وحبورهم بين أحضانِ المروج، يرسم أحلامهم المتلألئة كإشراقةِ خيوط الشَّفق في صباح باكر، يترجم من خلال تناغم بهاء تلاوين كائناته المضمّخة بالفرح، مشاعر إنسانيّة خلَّاقة عبر منمنمات رائعة، كأنّها أجزاء مقتطعة من فراديسَ الجنّة، أليس الأطفال جنَّة الجنَّات، وهم يمرحون فوق المروج، مروج الرُّوح ومروج الحلم الآتي؟!
يرسم الفنَّان بأمانةٍ راقية كائنات أسطوريّة واقعيّة حلميّة، متداخلة في تماهياتها الشَّفيفة مع بعضها، لا يستطيع المشاهد أن يمسكَ الخيوط الَّتي بدأ بها الفنَّان رسْم لوحته، كما لا يستطيع أنْ يحدِّدَ كيفية الانتهاء من رسْمِها، لأنَّ لوحاته أشبه ما تكون سيمفونيات عشقيّة منبعثة من تدفُّقات حلمٍ مفتوح على أبوابِ جنانِ النَّعيم.
يترجمُ الفنّان بدفءٍ حميم ذاكرة طفوليّة مدهشة، محفوفة بالتَّجديد وتجلِّياتِ الحنين، تجديد صباحات الأطفال الكبار والصِّغار، صباحات فنّان مسكون بالطُّفولة من فروةِ رأسِهِ حتَّى ظلالِ روحِهِ، يبدو أنّه تتلمذَ طويلاً على صعودِ جبال مزدانة بالشُّموخِ والعطاءِ وإخضرارِ الحياةِ، جبالٌ مضمَّخة بالطُّيورِ والنَّفلِ البرَّي وأعشاب لا تخطر على بال، تكسو خدودَ اللَّوحات كأنَّها تغريدة فرحٍ تغرِّدها عصافير الجَّنَّة على أنغام زخَّات المطر، المتهاطلة فوق ثغورِ البراري. لوحاتٌ مبهرة بكائنات في غايةِ الرَّوعة والجَّمال، كأنّها متدفِّقة من خيال متفتّق من ينابيع أعماق البحار، حيث نقاء الشَّفق الصَّباحي ينثرُ قطرات النَّدى على بدائع الكائنات الململمة بحميميّة وارفة في معالم لوحات سارحة في ثنايا الغابات وأعماق متاهات البراري، لوحات منبعثة من أحلام فنّانٍ مسترخٍ بين تلألؤاتِ النّجوم، موغلٌ في انسيابيّة موسيقى الخيال، مزدانة بأرخبيلات لونيّة موغلة في أبهى تجلِّيات مرامي الأساطير، ضمن تناغمات فنّيَّة متهاطلة من شهقةِ سماءٍ متعطِّشة إلى وجنةِ الغابات.
ينامُ الفنّان حالماً ببسمة الأطفال، ينهضُ من غفوته وعذوبة أحلامه وألوانه تحنُّ إلى أجنحةِ العصافير والفراشات، تحلِّقُ أحلامه وألوانه بحبورٍ كبير فوقَ تلالِ رابيّة مزدانة بدبيبِ الرَّبيع، حيث الجَّراد والسَّحالي الصَّغيرة تحطُّ على وجنةِ زهرةٍ متمايلة على وبرِ الأرنبِ دون أن تخشى جفوله المفاجئ.
يرسم الفنَّان ألغاز طلاسمه بغزارةٍ مدهشة، كأنّه يستمدُّ تدفِّقاته الإبداعيّة من اهتياجِ مياه دجلة في أوجِ هيجانه الأكبر، يشبه راهباً نذر نفسه أنْ يلملمَ بدائع الزُّهور والطُّيور والكائنات الأليفة والبرّيّة، ربّما ينوي أن يعقدَ معاهدةَ فرحٍ بين الكائنات البرِّيّة والأهليّة، ويتساءل في غمرة تماهيه مع كلِّ هذا البهاء والجَّمال، لماذا تركَ الإنسان كلّ هذه القرون هذه المخلوقات في أعماق البراري ولم يعتنِ بها ويقدِّمها إلى عوالم الأطفال كي تلهو بها، كي يخفِّف عليها ولو قليلاً من غدرِ الزَّمان، أو من غدرِ الوحوش في كلِّ مكان، كيف نجَتْ هذه الكائنات من مخالب الضَّواري، وكيف استطاعَتْ أن تقاومَ الزَّمن وكلّ هذه الرِّياح والزَّوابع والصِّراعات الَّتي تهبُّ عليها على مرِّ العصورِ والأزمان؟!

موشور لوني زاخر بإيقاعات مبهجة للعين، وجه كائن متشكِّل من تدفقات خيال الفنّان في منتصف اللَّوحة، عينان بشريَّتان، تتكوَّن بقيّة تقاسيم الوجه من كائنات مبهرة بألوان صافية، حنونة ودافئة، كأنّها تترجم حفاوة إنسجام الكائنات مع بعضها بعضاً. هناك فرح وأمل وبسمة وحب وشوق يغمر هذا الشلّال من الكائنات المنسابة على روحانيّة الفنّان وهو يناغيها ويعانقها في خياله ثم يهدهدها في فرشاته وألوانه وأحلامه وأحاسيسه وحبِّه ودفئه المتناثر فوق وجوهها الحافلة  بتناغمات رهيفة، أشبه ما تكون سيمفونية لونيّة، حنينيّة إلى أبهج ما في الحياة من روعةٍ وبهاء!                                
                        
وجوه متآلفة، تشكيلات متداخلة كأنَّها في حالة تعاضد وتعاون فيما بينها،  تزدهي تيجان الغزلان في اللَّوحة بطريقة أليفة، متعانقة من بتلات زهرة وكائنات بحريّة وبرِّيِّة، يظهر وجه أميرة وسط هذا الكرنفال من الكائنات، يبدو واضحاً أنَّ الفنّان يركّز على هذا التَّآلف بين الكائنات والطَّبيعة بكلِّ ما فيها من جمال خلَّاب، فيعكس بكلِّ هذا الدُّفء والجَّمال والصَّفاء الرُّوحي المنبعث من داخله، ليقدّم لنا سلاماً كونيَّاً وحبّاً إنسانيّاً راقياً مع كلِّ الكائنات، عبر توليفاته اللَّونية المنسابة كأغنية متدفِّقة من نقاوة الطَّبيعة وضياء الشَّمس وخيرات الأرض ونفائس البحار، فيلملم كائناته بطريقة ابتهاجيّة وهارمونيّة وكأنّه يقدِّم لنا رؤاه عن روحانيّة الكائنات المتهاطلة من مآقي السَّماء وعناقها الحميم مع حفاوة الأرض، عبر فيض خياله الخلَّاق.
يرسم الفنَّان أغلب عيون كائناته على شكل عيون بشريّة، كأنّه يريد أن يؤنْسنها من حيث رؤيتها لبعضها بعضاً، أو يسمو بها إلى حالات التَّآلف فيما بينها. وفي أكثر من لوحة تتداخل الخطوط لتشكِّل كلمة: الله، وهذه دلالة على نزوعه الرُّوحاني العميق في الكرنفالات البهيجة الَّتي يرسمها في فضاءات لوحاته، حيث نرى حشوداً من الوجوه والأشكال الخياليّة والأسطوريّة الَّتي تنساب مع تداخلاتِ الخطوط والألوان، حيث نرى وئاماً وهدوءاً وفرحاً فوق خدودِ اللَّوحات.            

إنَّ أكثر ما يميّز أسلوب الفنّان المبدع صدرالدِّين هو الاشتغال بحميميّة على خلق عالم  جميل بين الكائنات بكلِّ ما لديه من وئام ومحبّة وسلام، وكأنَّنا أمام غابة فسيحة من الذَّهب الأصفر، تشعُّ لوحته مرحاً وبسمةً وحبوراً، حيث تزهو زقزقات العصافير وهديل الحمائم، تساؤلاتٌ على مدى الغابات تتبادر إلى ذهن المشاهد وهو يمعن النَّظر في هذا الاحتفال المهيب!
                                          
نرى عبر فضاءاتِ عوالمه، اخضراراً متدرِّجَ الألوانِ في لوحةٍ هادئة، حيث شموخ طائر كبير في وسط اللَّوحة يسطع بخطوطٍ ورديّة جميلة، أوراق خضراء فاتحة على شاكلة بتلات وردة مسترخية فوق ظهر الطَّائر، إلى جانبها إمرأة تمسك سلّة مملوءة بكائنات رهيفة، مقابلاً لها نجد رجلاً متشكِّلاً من مجموعة كائنات، حيث رسم أجزاء الرَّجل والمرأة بتشكيلاتٍ جميلة وفوقهما طيور وأسماك وغزلان وأزاهير مبهجة للعين.                                                          
                                                                        
تشرق شمس الحبّ على كائنات الفنّان المبدع، فترقص ملكة وأميرة مع مخلوقاتٍ، تطير فرحاً في جوٍّ من البهاء والحفاوة
في أحضانِ الطَّبيعة، ترقص طيور الأوز والبطِّ وديكة بحفاوةٍ كبيرة، ونرى قلوباً دافئة ووجوهاً بشريّة مخضلَّة بالجّمال.  
*****

لوحاتُكَ صديقاتٌ عزيزات على قلبي، لا تعلم كم من الفرح وكم من الدُّفء والبهجة غمرني وأنا أعبرُ بوَّابات ألوانك، حواراتٌ عميقة دارَتْ بيني وبين كائناتك وألوانكَ، وذبذبات الحنين المتاخمة لروحك السَّابحة في سماءٍ من فرح، فرح اللَّون وفرح الأطفال، وفرح الكائنات المتراقصة فوق بتلَّات الأزاهير. تكتب عبر ألوانكَ وتشكيلاتكَ وكائناتكَ شعراً عفويَّاً جامحاً في تجلّياته وصوره وبلاغته وفرادته وبساطته وعمقه. كم فراشة حطَّتْ على جبهتِكَ وأنتَ ترسمُ وداعةَ الحمام والحجل البرّي، هل تتذكّر وأنتَ في أعماقِ طفولتك عندما كنتَ تلملمُ باقات الأعشاب البرِّيّة والحمّص الأخضر وأنتَ تيمِّمُ وجهتكَ في أعماق البراري، هل كنتَ يوماً ما كائناً برّيَّاً مضمَّخاً بأخصبِ الألوان وتغلغلْتَ عبرَ حالة عشقيَّة فريدة إلى أحشاء أمّكِ وهي تسوحُ بين إخضرار الجِّبال الشَّاهقة، بحثاً عن أبهى كنوزِ الجَّمال، لهذا تحنُّ إلى كلِّ هذه الكائنات وكأنّها صديقة روحكَ وقلبكَ وشهقة صباحكَ ومسائكَ الحافل بالشَّوق إلى مرافئ البحار المتعانقة مع صباحات معبَّقة بالياسمين والنّعناع البرّي، كيف فاتكَ أن تنقشَ حبقَ الرِّيحان في ظلالِ لوحاتكَ أمْ أنَّكَ رسمتها مراراً، فقطفَها الأطفال وهم يسرحون في رحابِ المروج، هل تحنُّ إلى بهاءِ الأطفال في أيَّام الطُّفولة وهم يمرحون ويدحرجون أنفسهم فوقَ التَّلالِ المعشوشبة بأزاهير يانعة ويمسكون خيوط طائراتهم الورقيّة وهم في قمّةِ حبورهم وتماهيهم مع نسيمٍ مندّى بأسرار الجِّبال المبلَّلة بوداعةِ السَّماء؟!
كم من الأحلام حتَّى وُلِدَتْ كلّ هذه العوالم المزدانة بأفراحِ الطُّفولة، كأنَّها نسيم مندّى بحبيباتِ مطرٍ متهاطلٍ من تلألؤاتِ النُّجوم!                                                                                                        
لوحاتُكَ أشبه ما تكون قبلات الأطفال في صباح العيد، عيد الرَّبيع، عيد الأطفال وهم يرقصون في أحضان الطَّبيعة، عيد الحبِّ، عيد الفنَّان، عيد الأعياد. لوحاتٌ معبّقة بخصوبة الكائنات والأعشاب البرّيّة الموشّحة بألقِ السَّماءِ في أوج ابتهالها لأمواجِ البحارِ. لوحاتٌ معرّشة كأغصانِ الدَّوالي بضفائر الطَّفولة، كأنَّها عناقيد عنب طازجة، مقمّطة بأزاهير متراقصة مع هبوبِ نسائم صباحات نيسان في أوج تألُّقها مع نضارة النَّدى الطَّافح فوق حبيبات التِّين. لوحاتٌ مكتظّة بكائناتٍ وطيورٍ ممهورة بيراعِ الإبداع، تحلِّقُ بتشكيلات تلاوينها عالياً، ترفرفُ كأجنحةِ العصافير شوقاً إلى تلالِ الذَّاكرة البعيدة، حيث أريج البيبون يملأ صدور الكهول وهم في طريقهم إلى البيوتِ العتيقة، لمعانقة أحفادهم المتوغّلين في أعماقِ السُّهول، بحثاً عن فراخِ الزَّرازير والقبَّرات. لوحاتٌ منبعثة من خيالٍ منسابٍ معَ هديلِ الحمائم، كأنّها رُسِمَتْ على إيقاعِ أناشيدَ مرتَّلة في الأديرة القديمة، حيث هلالات البخور توشِّحُ الشَّوق العميق إلى سهولِ القمحِ وبيادرِ الحنطة وإلى متعةِ الرُّكوبِ فوقَ النّوارج، وإلى بهجةِ الصُّعودِ إلى سطوحِ المنازل في اللَّيالي القمراء.

كَمْ عانَقْنَا النَّسيمَ العليلَ بعدَ هبوطِ اللَّيل. طفولةٌ من نكهةِ النَّارنج، فرحٌ بينَ أغصانِ الرُّوحِ ينمو.
كَمْ ناجينا النُّجومَ قبلَ أن يسربلنا النّعاس في أحلامٍ مبلَّلة بفراشاتٍ حائمة حولَ حفاوةِ النُّورِ، قبلَ أن تغفو هذه المخلوقات البديعة باسترخاءٍ لذيذ فوقَ مآقي الزُّهور!
كَمْ مِنْ تجلِّياتِ الحنينِ إلى براري الطُّفولة، حتّى تبرعمَتْ لوحاتُكَ ألقاً على وجهِ الدُّنيا!


ستوكهولم: آب (أغسطس) 2013
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

sabriyousef1@hotmail.com


























16



حفلة موسيقيّة في الهواء الطَّلق وقصص أخرى قصص قصيرة جدَّاً



صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

  
1 ـ هديَّة متهاطلة من مآقي السَّماء
نهضْتُ من حلمي، متوجِّهاً إلى موشورِ ألواني، أرسمُك بشغفٍ عميقٍ، كأنَّكِ الجّزء المتمِّم لأجنحةِ الحلمِ. تفتحينَ شهيَّتي على بوحِ الألوانِ، تنسابُ عوالمي اللَّونيَّة عبر مساراتٍ عناقيّة راقية.
تشمخينَ أمامي كملهمةٍ جامحةٍ، كعاشقةٍ معتَّقةٍ بوهجِ الإبداعِ، كحبٍّ مخصَّبٍ بانعاشِ الرُّوحِ. تهمسين لروحي همساتٍ مفعمة بالحنين، أرسمُ هلالاتِ عينيكِ، شموخَ جبينِكِ المندَّى بنسيمِ السُّموِّ ودفءِ الحنينِ إلى طراوةِ التَّلالِ، تلالُكِ أشهى مِنْ أبهى التِّلالِ. أنتِ سرٌّ من أسرارِ انبعاثِ ينابيعَ الرُّوحِ فوقَ أغصانِ الكرومِ، أنتِ نسغُ القلبِ المؤدِّي إلى ديمومةِ الإخضرارِ، أنتِ أجملُ هديَّةٍ متهاطلةٍ من مآقي السَّماءِ!
أنتِ فرحي المنبعثِ من يخضورِ قصيدتي المبرعمة من شهوةِ المطر، أنتِ مفتاحُ ضياءِ تلألؤاتِ الرُّوحِ. أرسمُكُ قبلةً قبلةً فوقَ منارةِ الحلمِ، أهلاً بكِ ينبوعَ عشقٍ متهاطلٍ منْ مآقي القلمِ!

ستوكهولم: 6 . 7 . 2012

2 ـ ثغرُكِ مبلَّلٌ بنكهةِ الكرزِ
تتوغَّلين في ينابيعَ الحنينِ مثلَ غيمةٍ معبّقةٍ بأريجِ الياسمينِ. يرقصُ قلبُك شوقاً إلى أرخبيلاتِ العناقِ في صباحٍ باكر.
تتأمَّلين هدوءَ اللَّيلِ، تتوجَّسين قليلاً، بَلْ كثيراً، تنتظرينَ عودةِ اليمامِ في ليلةٍ دافئةٍ على أنغامِ فيروز وهي تغنِّي للأحبّةِ أغنيةً منبعثةً من يراعِ القلبِ. يرقصُ قلبُك فرحاً رقصةَ الإبحارِ، غائصاً في لجينِ القصيدةِ. عيناكِ هائمتانِ، تنتظرانِ سطوعَ القمرِ، تناجي نجومَ اللَّيلِ، نسيمُ اللَّيلِ يسربلُ أشواقَكِ بأسرارِ وشوشاتِ البساتينِ.  
ترسمينَ حنينَكِ الجّارفِ فوقَ أغصانِ الدَّالياتِ، ثغرُك المبلَّلِ بنكهةِ الكرزِ لا يبارحُ أزاهيرَ الرُّوحِ، ينضحُ عبقاً كأقراصِ عسلٍ مندّى بأزاهيرَ الرّمَّانِ!

ستوكهولم: 6 . 7 . 2012

3 ـ رموشٌ معبَّقة بأريجِ النَّارنج
فيما كنتِ تسبحينَ في لجينِ حُلُمٍ من نكهةِ الانبهارِ، حطَّتْ فراشةٌ فوقَ حاجبِكِ الأيمن. داعبَتْ بقرنيها رموشَكِ المعبّقة بأريجِ النَّارنجِ.                                                                        
فجأة جَفَلْتِ مِنْ تدفُّقاتِ جموحِ الحلمِ، فرَّتِ الفراشةُ مِنْ جفولِكِ المفاجِئِ وفي قرنيها رمشَينِ مدبَّقَينِ بأبهى ما تبقَّى من حبورِ الحلمِ!                                                                              
ستوكهولم: 25 . 9 . 2012

4 ـ تأمُّلات في سكونِ اللَّيل
ترسمُ ليالٍ مبلَّلة بألقِ العشقِ، عناقات على إيقاعِ سيمفونيّة باذخة في شهقاتِ الانتشاءِ. لا تنسى ابتهالَ الرُّوحِ لقبلاتٍ تبرعمَتْ من قلبِ عاشقٍ، ثمَّ استوطنتْ فوقَ ربوةِ التِّلالِ.
تتأمَّلُ سكونَ اللَّيلِ، يجمحُ خيالها نحوَ لحظاتِ تجلِّياتِ العناقِ، تتساءلُ روحَها الهادرة من ولعِ الحنينِ إلى طقوسِ البوحِ، كيفَ عشتُ كلّ ذلكَ البهاء، كلّ ذلك الاشتعال، دون أنْ تغارَ أهدابُ اللَّيلِ من بهجةِ الابتهالِ؟!

ستوكهولم: 28. 9. 2012

5. حفلة موسيقيّة في الهواء الطَّلق
فيما كان يسير في قلب المدينة، سمعَ موسيقى راقصة من الشَّارع الآخر المطلِّ على حديقة الملك، فأسرع الخطى قليلاً نحو الشَّارع المؤدِّي إلى حديقةِ الاحتفالِ، وإذْ بحشدٍ من النَّاس، يسمعون إلى أغاني إيقاعيّة راقصة في ساحة مفتوحة، حضرها الجُّمهور كيفيّاً، شبَّان وشابَّات، أطفال وكهول، من كلِّ الأعمار. مسرح جميل في الهواء الطّلق، فرحٌ في الهواء الطَّلق، رقصٌ في الهواء الطَّلق، ضحكٌ من الأعماق في الهواء الطَّلق، يحضرُ مَنْ يشاء، ويذهب مَنْ يشاء، يرقصُ مَنْ يشاء، ويتساءلُ مَنْ يشاء ما يشاء.              
وفيما هو في غمرة تواصله مع الجَّوقة الموسيقيّة، تذكَّرَ بلده الغافي في دنيا الشَّرق على بركان من الدَّم، تداخل صوت الموسيقى مع أزيز الرَّصاص والقنابل والدّبَّابات وهدير الحرب، خرَّتْ دمعتان على غربةِ خدِّيه، متسائلاً بحسرةٍ عميقة، لماذا يحضر النَّاس هنا حفلات فرح في قلب مدنهم، يفرحون ويرقصون ويضحكون، ونحن هناك يموت شعبنا في قلب المدائن، في الأزقَّةِ، في البيوت، في الطُّرقات، في كلِّ مكانٍ؟!        
لماذا هربَتْ أفراحنا بعيداً، لماذا البشر يقتلون بعضهم بعضاً، لماذا الحروب تفرّخ يوماً بعد يوم، لماذا خلافاتنا تتحوَّل إلى صراعاتٍ مريرةٍ، وإلى حروبٍ على كلِّ الجَّبهات، هل هناك سبب على وجه الدُّنيا يبيحُ لأيِّ بشرٍ على وجهِ الدُّنيا أنْ يقتلَ بشراً آخرين؟! إلى متى سنغوصُ في ترّهاتِ آخر زمن، لماذا لا نبني رؤية وتخطيطاتٍ خلَّاقة، تقودُنا إلى الفرح والحبِّ والسَّلام والوئام بين البشر، ونرقص ونضحك ونغنّي في حدائق وساحاتِ مدننا مثلَ غيرنا في الهواء الطَّلق؟!                                                            
                                                                              
ستوكهولم: 22. 8. 2012

هروبٌ نحوَ رحابةِ الأحلامِ
دائماً أراني أحلِّق في رحلاتٍ حلميّة، إنّي أستوطنُ الأحلامَ، أهربُ مِنْ واقعي، من عالمي المشؤوم، مِنْ صليلِ السُّيوفِ، مِنْ دخانِ الحرائق، مِنْ نيرانِ الحروبِ، مِنْ جنونِ هذا الزَّمان!                            
هل لأنَّني أرى راحةً مفتوحةً في رحابِ الأحلامِ، أمْ أنّني مجرَّد حالة مِنْ ملايينَ الحالاتِ الّتي فرزَها الواقعُ وشلحهَا خارجَ خارطةِ الزَّمنِ؟ إنَّني حلمٌ هاربٌ مِنْ لظى النِّيرانِ المتربِّصةِ لأحلامِ المستقبلِ الموعودِ. لا أرى مستقبلاً واعداً يلوحُ في الآفاقِ!                                                                        
                                                                      
أنا حلمٌ مسحوقٌ تحتَ أقدامِ واقعٍ مرصرصٍ بالدُّموعِ، لم أرَ بُدَّاً مِنَ الهروب إلى خارجِ أنيابِ واقعٍ مريرٍ وعقيمٍ، فعلى الأقل عبرَ الأحلامِ أستطيعُ أنْ أطيرَ، أنْ أحلِّقَ ولو حُلميَّاً أينما أريدُ وأينما أشاء، ولكنِّي عَبرَ الواقعِ المريرِ، لا أستطيعُ أنْ أحلِّقَ إلا في الخرابِ والدَّمارِ والقهرِ، زمنُ مجصَّصٌ بالقارِ والنَّارِ، فلا مفرَّ إلا الهروب نحوَ رحابةِ الأحلامِ المسترخية فوقَ مآقي حروفِ الرُّوحِ، لعلّنا نخفِّفُ قليلاً بَلْ كثيراً من مضاعفاتِ الأنينِ والذِّلِّ والهوانِ!                                                                                    
                                  
ستوكهولم: 4. 12 . 2012

7 ـ حنين جامح إلى ذاكرتي المنسيّة
توالَتْ صورٌ من الذَّاكرةِ البعيدةِ، ألتقطُ بعضاً منها وتتوارى أخرى بعيداً، أريدُ أنْ تسترخي بين ثنايا حنيني وأنْ تستظلَّ بينَ سفوحِ قلبي وبينَ أغصانِ روحي التوّاقة إلى مروجِ الذَّاكرةِ البعيدة.                            
أحنُّ حنيناً غريباً إلى ذاكرتي البعيدة، الغافية بينَ مهجةِ الرُّوحِ وشهقةِ الحرفِ وظلالِ القلبِ، ذاكرتي المجبولة بترابٍ أحمر، ذاكرتي المعرّشة بعبقِ الكرومِ وسهولِ القمحِ الفسيحةِ. ذاكرةٌ معتّقةٌ بعنبِ "البحدو والمسبّق والمزرونة والبلبزيكي والدَّار كفنار"! ذاكرةٌ أغلى مِنْ ناطحاتِ سحابِ الغربِ.                              

تتلألأ الآن أمامي عناقيدُ العنبِ وهي تتدلَّى مِنْ دالياتِنا ودالياتِ الأحبّةِ، فيما كنّا نقطفُها في صباحٍ باكرٍ، وننقلُها إلى ساحاتِ المدينةِ كي نبيعها إلى فقراءٍ مجبولينَ بعبقِ الأملِ والفرحِ، بحثاً عَنْ حفاوةِ الحياةِ!      
آهٍ .. خفتَتِ الآن كثيراً حفاوةُ الحياةِ، مقارنةً بما كانَتْ أيام زمان، لماذا تعفَّرتِ الحياةُ وإزدادَتْ اصفراراً كأنّنا نعيشُ في كهوفٍ معشّشةٍ بفتورٍ وإمتقاعٍ لا يخطرُ على بال؟!                                            

ستوكهولم : 5 . 12 . 2012  

8 ـ خدًّاكِ على مقاسِ بوحِ الرّوحِ
تتألَّقين عشقاً كأنّكِ في ظلالِ حلمٍ، كأنّكِ زهرة برّية مجبولة مِنْ يراع النَّسيمِ، أطبعُ فوقَ خدّيكِ أشواقاً معتّقةً بوهجِ الانتعاشِ، تتمايلينَ فوقَ أغصاني العطشى إلى أسرارِ اللَّيلِ، تخفِّفينَ مِنْ تصحُّرِ غربتي، كأنَّكِ غزالة الرُّوحِ الهائجةِ في متاهاتِ العناقِ، أنظرُ إلى عينيكِ الطّافحتينِ بعشقِ الأزمنةِ الغابرة، يرقصُ قلبكِ فرحاً، يهمسُ لخدّي الحنون، أسمعُ دقَّات قلبكِ، كأنّه على تماهٍ معَ سيمفونةِ فرحٍ، خدَّاكِ على مقاسِ القصيدةِ، على مقاسِ بوحِ الرُّوحِ، على مقاسِ نجمتَين باسمتَين، تلامسُ خدّاكِ راحتيَّ، تبوحانِ لهما أسرارَ نضارةِ النّدى فوقَ أزاهيرَ الصَّباحِ.                                                                  

أتذكّرُ يومَ باحَ نهداكِ إليَّ كيفَ عانقا شموخَ السَّنابل، كيفَ سطعا مثلَ شلالِ فرحٍ فوقَ قلبي. حلَّقنا مثلَ غمامِ اللَّيلِ مِنْ وهجِ  تَجلِّياتِ الرّوحِ. جفلَ جفنُكِ عندما قبَّلته، حطَّتْ فراشةٌ رائعةُ الألوانِ فوقَ خدّكِ الأيمن، يراودني أنّها باحَتْ لكِ عَنْ أسرارِ العشقِ، لأنّي رأيتُكِ فجأةً تغمرينني بأحضانِكِ العطشى إلى دفءِ الحياةِ، تطبعينَ قبلةً على جبيني، على خدّي ثمَّ تهمسين لروحي الهائمة في شموخِ نهديكِ، تفَّاحتان على إيقاعِ ثمارِ الجَّنة، نكهةُ الياسمين تفوحُ مِنْ تجلِّياتِ العناقِ، تتساءلينَ، هَلْ نحنُ فعلاً على الأرضِ أمْ في عرينِ السَّماءِ؟! أزرعُ تلالَكُ قُبَلاً، ثمَّ أحلِّقُ شامخاً في زرقةِ السَّماءِ!                          
                                                                                            
ستوكهولم: 9. 12 . 2012


9 ـ إغفاءة بينَ أحضانِ الشّمسِ
تضيئينَ ليلي الغارق في خيوطِ الحنينِ، كأنَّكِ شمعة فرحٍ في عتمِ اللَّيلِ، تشمخُ قامتكِ مثلَ سنبلةٍ في وجهِ الرِّيحِ، قامةٌ مكتنزةٌ بعبقِ الحبِّ، تعبرينَ براري حرفي المتعطِّشِ إلى بسمةِ عينيكِ، أنقشُكِ غيمةً ماطرةً فوقَ أغصانِ الرُّوحِ، يتمايل خصرُكِ فوقَ أحزانِ قلبي، تنزاحُ أحزاني بعيداً، ألملمُ تدفُّقات حنينِكِ، ألتحفُ بدفءِ العناقِ، تبدِّدينَ صقيعَ الأيامِ والشُّهور والسّنين، تزرعينَ أملاً من لونِ الخميل، تتذكَّرينَ أحلام الطُّفولة وألعاب الطُّفولة، ترتمين بين أحضاني كما تشتهي موجة البحر أن تغفو بين أحضانِ الشَّمسِ.            

أرسم على خدِّكِ غزالةً هاربةَ من ضجرِ الصَّحارى، غزالة جامحة نحوَ صفاءِ السَّواقي، تشبهينَ أحلام الطُّفولة، أعانقُ اختلاجات العشق، قلبكُ يزدادُ انتعاشاً، تسرحينَ في فضاءِ الأحلام، تحملُكِ عالياً أجنحةَ البازِ. أقبِّلُ عينيكِ المتلألئتين بأسرارِ طلاسم العشق، تسطعُ أمامَكِ مشاهد طريفة مرَّت في محطّاتِ العمر، تضحكين من تداخل الفرحِ مع طرافة بعض المواقف الَّتي ظلَّت تموجُ أمامَ محيّاك وتفتحينَ يديك وعيناك باسمتان نحو ضياءِ القمر، كأنّكِ على موعدٍ معَ ابتهالاتِ النُّجومِ.                                      
هل ترغبينَ أنْ أعانقَكِ والنُّجوم ترنو إليكِ، أنتِ نجمتي التَّائهة بينَ اخضرارِ الكرومِ، أزرعُ جبينَكِ قبلاً، تعدِّين القبلات، تضحكينَ من وهجِ الابتهاجِ، كيفَ فاتني كلّ هذا الضِّياء، ضياءُ الرُّوحِ، وانتعاشِ القلب كلّ هذه السِّنين؟ تعبرينَ لجينَ فرحٍ كأنَّكِ في حلمٍ من عذوبةِ الماءِ الزُّلال!                                    

ستوكهولم: 9. 12. 2012

10. عناق في مروجِ الأحلام
أحنُّ إلى وميضِ عينيكِ، أعبرُ دكنةَ اللَّيلِ على حفيفِ رعشةِ الرُّوحِ، تشمخُ قامتكِ أمامي كأنّها اخضرار عبّادِ الشَّمسِ، همَسَتِ النُّجومُ لدقّاتِ القلبِ هسمةَ فرحٍ، كأنَّها تترجمُ لي حنينَ روحِكِ إلى عناقِ قلبي على إيقاعِ همهماتِ أمواجِ البحرِ. كنتِ غائصةً في أحلامِ دفءِ السَّماء، عبرتُ مملكةَ العشقِ، رأيتُ وردتي المورقة بأغصانِ الحياة، مسترخيةً بينَ جفونِ اللَّيل، شمعتان ساطعتان على وجنتيكِ، ينعكسُ نورُ الشَّمعتين فوقَ نهديكِ، فيزدادُ وجهُكِ ضياءً، وجهُكِ يضاهي بتلات الأقاحي، تُتَمتمينَ بحروفِ اسمي وتقبِّليني في أعماقِ الحلمِ، تعانقينَ شموخَ الرُّوحِ، أنحني فوقَ طراوةِ النَّهدِ، أرسمُ فراشةً على كلِّ نهدٍ من وهجِ القبلاتِ، برعمان يناغيانِ وجنةَ الرُّوحِ. فرحٌ في أعماقِ الرُّوحِ ينمو، أزرعُ قبلةً إثر أخرى فوقَ نعيمِ الحياةِ. أعبرُ جنانَ الأحلامِ، كيانان متالِّقان مِنْ عذوبةِ الهيامِ، لم أرَ حلماً ينعشُ الرُّوحَ مثلَ حبقِ الشَّوقِ المبرعم في ألقِ العناقِ.      
أنقشُ فوقَ تلالِ العشقِ حروفَ القصيدة، أزرعُ تفاصيلَ مهجة الشَّوقِ فوقَ شموخِ التِّلالِ، أراني ونحنُ في أعماقِ الحلمِ نحلِّقُ عالياً بينَ أسرارِ الغمامِ،  وبكلِّ ابتهالٍ نمطرُ حبّاً من نكهةِ المطر. عناقُكِ في بحبوحةِ الحلمِ أبهى من نسيمِ البحرِ، من زخّاتِ المطر. تهنا في مروجِ الأحلامِ، عطَّرَ اللَّيلُ روحينا بأهازيجَ الدُّفءِ، وبهدوءٍ حميمٍ استيقظنا على انبعاثِ خيوطِ شهقةِ الشَّفقِ!                                                  

ستوكهولم: 14. 12. 2012



sabriyousef1@hotmail.com


17
الفنّان التَّشكيلي كابي سارة يعانقُ اخضرارَ الكروم ووجه معلولا المقدّس

صبري يوسف ــ ستوكهولم

الفنّان التَّشكيلي كابي سارة في سطور
مواليد سوريا، المالكيّة/ ديريك 1957، الواقعة في أقصى الشِّمال الشَّرقي من شواطيء الرُّوح وابتهالِ القلب ليراعِ القصيدة. 
فتحَ عينيهِ على كروم المالكيّة وأشجار اللَّوز، قمّطَتْهُ سهول القمح وأريجِ الأزاهير والنَّرجس البرّي بإخضرار الحياة، لهذا جاءت لوحاته معبّقة بوهج الفرح وشهقة الطَّبيعة وهي في أوجِ تجلِّياتها بأبهى الألوان!
تضمّخَتْ روحه وقلبه ببهجةِ البراري الفسيحة وتدفُّقاتِ المياه العذبة من نهرِ الدُّجلة، فالتحق بكلِّية الفنون الجَّميلة بحثاً عن أبهى الجَّمال! فتخرّج من عتبات الكلِّية عام 1982، محمَّلاً بألوان المحبّة والسَّلام كي يفرشها على أجنحةِ الحياة.
عضو في نقابة الفنون الجَّميلة، وعضو في جمعيَّة أصدقاء الفن في سورية. وعضو في جمعية الفنَّانين التَّشكيليين العراقيين في السُّويد. وعضو في جمعيّة البحث عن شهقةِ الانبهارِ في الجَّمال المنبعث من مآقي الزُّهور!                         
أقام عشرات المعارض الفرديّة والمشتركة في سورية، لبنان، والسّويد، تدور مواضيعها حول الإنسان، الطَّبيعة، حفاوة المكان،  والحنين إلى مرابع الطُّفولة الَّتي وشّحتْ روح الفنَّان بالصَّفاء والحبِّ وعناقِ رفرفاتِ اليمام!                       
أصدر الفنَّان التَّشكيلي والشَّاعر كابي سارة مؤخَّراً "الأعمال الشِّعرية 1" في ستوكهولم، تتضمَّن هذه الأعمال ثلاثة دواوين شعريّة: غجريّة ومطرٌ ناعم، أصدقاء وذكريات وشوارع، ومن وحي الحصار.                                             
وعلى ظهر غلاف "الأعمال الشِّعريّة 1"، نرى كيفَ يسلسلُ الفنَّان محبَّته لأوطانه، حيثُ يقول: الوطن الأوَّل سورية، الوطن الثَّاني السُّويد، والوطن الثَّالث: المحبّة، محبَّة الله والإنسان والفنّ! .. وإلى جانب اللَّوحة والقصيدة يكتب الشَّاعر والفنَّان التّشكيلي كابي سارة القصّة القصيرة ولديه مجاميع قصصيَّة مخطوطة ودواوين شعريّة أخرى في طريقها إلى النُّور. 
*****
يتميّز الفنّان التشكيلي السُّوري كابي سارة، المقيم في ستوكهولم، ببوحه وحسّه الفنّي الشَّفيف، المتناغم مع مواضيع لوحاته،  حيث تنساب من فرشاته أشواق معبَّقة بالفرح والحنين والحبّ، كأنّها رسالة فرحٍ منبعثة من طفولة متراقصة فوق روابي ذاكرة متلألئة في قلب الفنّان ومشاعره وخياله وهو في أوجِ حنينه إلى مسقط رأسه المالكيّة/ديريك، وإلى ذكريات الطُّفولة والشَّباب، وأيَّام الدِّراسة والأصدقاء الفنَّانين الَّذين تتراقص قاماتهم وتتعالى ضحكاتهم وكأنّه يسمع وهو في صومعته الفنّية أحاديث الأصدقاء ململماً حول روحه وقلبه عوالم دمشق وباب توما ومعلولا وريف الشِّمال، وتسطع أمامه قامة المدرِّسين في كلّية الفنون الجَّميلة، فهاهو الفنّان فاتح المدرِّس بحاجبيه الكثيفَين، والفنّان نذير نبعة، خزيمة علواني، نصير شورى، محمود حمّاد، ألياس زيَّات، وعزيز اسماعيل يتراقصون في محراب الذَاكرة، وتتراءى أمامه بحفاوة عميقة، قامات الأصدقاء مظهر برشين، عمر اسحق، عبدالأحد برصوم، يعقوب ابراهيم، محمَّد بعجانو، غازي عانا، أكثم عبدالحميد، نزار صابور، سعد القاسم، نجيب قصبجي، بسّام كوسا، هالة الفيصل، حمّود شنتوت، سعيد مخلوف، حبيب نعمة، غيث عبدالله، نبيل السّمَّان، جورج عشّي، ندى شحُّود، صبري يوسف، منيف سعد، جان يونان، جاك إيليّا، فايز خضّور، جمال باروت وسمير طحّان والكثير من الفنّانين والشُّعراء والأصدقاء المبدعين المعانقين لغربةِ الرُّوح!                                                                                                           
هؤلاء وغيرهم من المدرّسين والأصدقاء والصَّديقات، تركوا بصمات فنّيّة وأدبيّة وصداقات حميمة ظلَّتْ وما تزالُ معرَّشة في قلبه وذاكرته وتشمخ أمامه وهو في أعماق الغربة، بعيداً عن الوطن والأصدقاء والأهل، بعيداً عن المالكيّة ودمشق حيث الذّكريات الدَّافئة والحميمة تتبرعمُ ساطعة عبر لوحاته وأشعاره، جسّدها عبر هواجسه الفنّيّة والشِّعريّة، كأنّها وشم مقدَّس تتربَّع فوق وجنةِ اللَّوحات والقصائد عبر ترميزات لونيّة متراقصة فرحاً وحبوراً.
استلهم الفنّان من حبِّه لعوالم وفضاءات المكان والبيئة الَّتي ترعرعَ فيها تشكيلاتٍ لونيّة مخضّبة بخصوبة وارفة فوق خدودِ اللَّوحات، حيث اِستمدَّ من روعةِ كروم وسهول ديريك وقرى الشِّمال السُّوري، ومن دمشق القديمة ومعلولا الكثير من اللَّوحات، انسابتْ مياه دجلة فوق منعرجات حنين اللَّوحات، كأنّها رحلةُ شاعرٍ متعطِّشٍ لنداء انبعاث القصيدة على إيقاعِ حفاوةِ الألوان، معانقاً البيوت الطِّينيّة بحميمية دافئة، كأنَّها ضحكات أطفالٍ لتلألؤات النُّجوم، تناغي كروم ديريك وأشجار اللَّوز دقَّات قلب الفنّان، فيرسم ذبذبات حنينه فوق عناقيد العنب المتدلدلة من مروج الذَّاكرة، فتأتي منعشة للروح، مبرعمة باسترخاءٍ لذيذ فوق جفون اللَّوحات! يعبرُ أزقّة باب توما، دمشق القديمة، فتبدو وكأنّها أزقّته الَّتي ترعرع فيها، تحضنه بحميميّة عميقة، يتعانق مع حيطانها وسقوفها الخشبيّة وتداخلات عوالمها كأنها قصّة فرحٍ بناها الآباء لخلق حالة وئام بين الأحبة الَّذين يعيشون في كنفها. يرسم الفنّان حميميات المكان وكأنّه في حالة عشقٍ مع شموخ المكان، بيوت متعانقة كعناقِ البشر، هل كانت رسالة تلك البيوت المتعانقة، رسالة للبشر كي يبقوا في حالة وئام دائم رغم تصدُّعات هذا الزّمان؟!
استلهمَ الفنَّان من جبال معلولا وتلالها وجمال عوالمها ومعابدها الشَّامخة فوق مرتفعات الجِّبال، أجمل اللَّوحات عندما كان في سوريا ــ الوطن الأم، رسمها بأساليب وتقنيات متعدِّدة، لوحات شفيفة يفوح منها عبق البخور، وجبال شامخة شموخ الحضارة المنبعثة منها، متعانقة مع قبّة ممهورة بالقداسة وبراءة الأطفال. ورسمها في دنيا الاغتراب أيضاً، لكن هذه المرّة بمهارة وروحانيّة جديدة مسربلة بأشواقٍ مبلَّلةٍ بإيقاعاتِ صفاء وهدوء ستوكهولم، وفي كلِّ مرَّةٍ رسمها أضاف إلى معالمها شفافيّة فنّيّة جديدة ومعبَّرة عن الحالة الحنينيّة والحميميّة الَّتي تربطه بهذا المكان المقدَّس، الَّذي يشمخُ عالياً في فضاءات التَّرميز والتَّشكيل اللَّوني المنساب بحفاوة الضَّوء والنُّور المكتنز في مرامي تطلُّعات الفنّان!
رسم الفنَّان آخر لوحة من وحي معلولا بوجهها المشرق في ستوكهولم، بعنوان: "شمس فوق معلولا"،  مجسَّداً حنينه المتجدِّد إلى ديرها الشَّهير وجبالها ومنعرجات دهاليزها وفضاءاتها الرّاسخة في حضارة تضرب جذورها في أعماق التَّاريخ، حضارة الآراميين الشَّامخة حتى الوقت الرَّاهن، من خلال جبالها ووديانها ولغتها ومبدعيها وأديرتها. شمسٌ ساطعة فوق هامات معلولا وفوق سورية، وفوق أرض ذات بُعدٍ حضاري تعودُ لآلاف السِّنين! أرى في اللَّوحات الَّتي رسمها من وحي عوالم معلولا وديريك وقراها ودمشق القديمة، توشيحات دافئة ونوراً ينعش القلب، كأنَّنا أمام لوحات متدفِّقة من محراب القدِّيسين، والَّذي ساعد الفنّان على تجسيد تجلِّيات هذه العوالم البديعة، هو محبّته العميقة لهذه الطُّقوس والأيقونات المقدّسة، والَّتي عايشها وعاش في كنفها منذ أن رأى النّور في ديريك، لهذا تعلَّق بعوالم معلولا وكأنّها تنعشُ طفولته وبدايات شغفه في أيقونات القدِّيسين والقدِّيسات في ديريك مسقط رأسه، وبالتَّالي كلّ مارسمه من وحي عوالم معلولا هو انعكاس لمرآةِ روحه التوَّاقة إلى المحبّة والجَّمال والصَّفاء والارتقاء بالوطن والإنسان نحوَ أقاصي سموِّ السَّماء! 
يرسمُ الفنَّان المتميِّز كابي سارة معلولا والأمكنة الحميمة الَّتي ترعرع فيها وأقام فيها، كأنّه في رحلة عشقيّة حلميّة أزليّة لحفاوة وقداسة المكان، يضفي على فضاءات اللَّوحة تدفُّقات جموحاته الفيَّاضة نحوَ النّورِ والشُّموعِ والسُّموِّ، يرى المُشاهد بسمةً هادئةً تنبعث من مُحيَّا اللَّوحة، كأنّها كائن حي تهمس لنا وتبتسم لنا وتفرح لفرحنا. هل تتحوَّل طاقات الفنّان إلى حالة أشبه ما تكون بإنصهار الذَّات في الموضوع الَّذي يعالجه فنِّيَّاً أو عبر نصّ أدبي ما؟! يبدو لي أنَّ هذه الحالة متطابقة إلى حدٍّ كبير مع شغف الفنَّان بمعلولا ودمشق القديمة والبيوت الطِّينية والكروم الَّتي رسمها في ديريك وريف الشِّمال السُّوري، المعبَّق بفضاءات الخصوبة والألوان، وقد وصل من خلال شغفه العميق بحميميّة المكان إلى مرحلة أشبه ما تكون مرحلة "النِّيرفانا"، من حيث حبّه وإنصهاره العميق مع سموِّ وقدسيّة المكان على أكثر من صعيد!                               
يقف الفنّان بعد أن يستفيقَ من أحلامه وأشواقه الدَّفينة إلى ما وراء البحار، ينثرُ ألوانه المبهجة فوق جبينِ معلولا المقدَّس، ألوان متطايرة من أعماق الحلم، يجسِّدها فوق خدود الفرح، موشّحاً شموخ جبال معلولا بألوان مكتنزة ببخورِ الأديرة القديمة، ومضمّخة بالحياة والسَّلام المتناغم معَ بهجةِ اللَّون، تناغمات لونيّة شفيفة تنساب من فرشاة ومشاعر كابي عبر تقنيات بديعة، كأنَّه يعكس لنا رسالة فرحٍ وطفولة من خلال عناقات لونيّة متراقصة فوق روابي ذاكرة متلألئة في قلب الفنّان وهو في أوج حنينه إلى دفءِ الشَّرق بكل ألقه وروحانيّته، وتسطع معلولا ودمشق القديمة وبراري ديريك وأزقَّتها وكرومها بكلِّ حفاوتها وألقها في أوجِ خيوطِ الحنين، ويجرفه الحنين إلى أصدقاء وألوان ولوحات رسمها أيام زمان من وحي ذلك المكان الحافل بتجلِّيات سموّ الرّوح، حيث يهفو القلب في كلِّ حين إلى تجسيد لوحات معرَّشة في ذاكرة حلميّة متلألئة بوهجِ الاشتياق إلى تجلِّياتِ حفاوةِ المكان، وكأنّه يريد إعادة صياغة الماضي عبر لوحات جديدة لعلَّها تخفِّف من وطأة غربةٍ فسيحة، غربة تزيده شوقاً إلى صباحات بعيدة منقوشة على تعاريج الذَّاكرة البعيدة، حيث تراقصات الألوان تنعش مساءاته القمراء. ذاكرة معجونة بنقاء الطُّفولة واخضرار البراري الَّتي جالها وهو يخطو خطواته الأولى بحثاً عن الفراشات والحمّص الأخضر، ثم عبر أعماقها في طفولته وصباه، فتوغَّلتْ ألوان الخصوبة والحياة في أعماقه منذ أن فتح عينيه على وجه الدُّنيا، وإلى أن حطَّ به الرِّحال عند شواطئ ستوكهولم حيث البحيرات تهدهد خياله وتعانق قلبه على إيقاع أمواجِ البحار!   
يشهق الفنّان شهيقاً عميقاً ولا يجد بُدّاً من البحث عن معراج الخلاص، أجدى وأبهى من ألوانه تخفِّف من غربته الفسيحة، فيفرش ألوانه المتدفِّقة من مشاعره وأشواقه وأحلامه الوارفة على منعرجاتِ لوحاته المزدانة بالمحبّة والجَّمال والدُّفء، ويصيغ منها رحيق أحلامه، وتأمُّلاته، وأشواقه، ودفء لياليه، موشّحاً أغصانها المورقة بانبعاثات خيوطِ الضَّوء ويكلِّلها بهلالاتِ الفرح وحفاوةِ الاخضرار من كلِّ الجِّهات، وكأنّه يقاوم غربة عميقة تجذَّرَتْ في لياليه الطَّويلة، كي يخلق عالماً هادئاً على مساحاتِ اشتعالاتِ الحنين، مخفِّفاً أقصى ما يستطيع من تفاقماتِ صخبِ الرُّوح!                                       
يصطفي الفنَّان كابي سارة مواضيع لوحاته من عوالم الطُّفولة البكر، بأسلوب طفلٍ حالم، وبأسلوب فنّان منصهر معَ طين الشِّمال السُّوري بكلِّ أزاهيره وكرومه وسهول قمحه، وطيوره ومروجه الممتدّة على مساحةِ الحلم، يرسم لوحات تجريديّة متداخلة مع ترميزاتٍ وتشكيلاتٍ عديدة، يرسمها بكلِّ هدوءٍ على أنغام فيروز، تناغي فرشاتُه صفاءَ الصَّوتِ الفيروزي، فيتناثر حبق الأنغام عبر الألوان على وجوه اللَّوحات وتماهياتها، فتنمو اللَّوحة بكلِّ ما في داخل الفنّان من روحٍ جماليّة، مستلهماً من جموحاته الحلميّة الكثير من الانبعاثات اللَّونية، مستمدّاً من الينبوع الأوَّل، الكثير من الهواجس والتَّدفُّقات اللَّونيّة، من بحبوحة الطُّفولة بمرافئها الرِّحبة، مركّزاً على توشيحات تقنيَّات لونيّة انسيابيّة في بناء لوحاته، عاكساً روحه الطُّفوليّة الصَّافية فوق مآقي اللَّوحات، كأنّه يزرع براءة الطّفولة وروعة الحياة في حنايا لوحاته وألوانه وخطوطه المتماهية مع عوالمه الحميمة وحنينه الجَّارف إلى حفاوةِ ماضيه المحفور في ثنايا الذَّاكرة، حيث غادر وطنه منذ أكثر من ربع قرن، لكنَّ المكان ــ الوطن بكلِّ جباله ووديانه وغاباته وسهوله ومدائنه وبيوته الطِّينيّة العتيقة، ظلّ منقوشاً بكلِّ ألقه على مساحات ذاكرته ومشاعره، فانعكس هذا الحنين الجَّارف، مُشبَّعاً بألوانٍ وأفكارٍ متشرّبة من بهاء الطّبيعة على لوحاتِهِ وأشعارِهِ.       
                                                                                                         

صبري يوسف                                                                                                       
 أديب وفنَّان تشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم                                                                               sasbriyousef1@hotmail.com



18
حنين إلى ذاكرة من بكاء
(حنين إلى ديريك بمجانينها وعقلائها)
إهداء: إلى روح درو دينو

حقيقةً أحبُّ حتّى مجانين ديريك! وليس من باب المجاملة لأنَّهم ولأنّي من ديريك، صحيح أنَّ لديريك مكانة خاصّة في كياني لأنَّها أنجبتني للحياة لكنَّ الذي يجعلني أن أحبَّ مجانين بلادي هو أنَّ المجانين بسبب مَرَضٍ ما، هم مجانين لا حول لهم ولاقوّة، مساكين! لهذا أتعاطف معهم تعاطفاً عميقاً منذ أن كنتُ طفلاً في ديريك، .. ترعرعْتُ وترعَرَتْ في ذاكرتي هذه المشاعر، فلا أنسى أبداً، مثلاً: "درو دينو" .. كان الأولاد يركضون خلفه قائلين: "درو دينو نجا كاسانِه" أي درو دينو لا تذهب إلى كاسان! .. وحتّى هذه اللَّحظة لا أعلم ماذا كان يقصد الأولاد بهذه العبارة؟! كان يؤلمني عندما كنتُ أرى الأطفال يرمون عليه حجارتهم الصَّغيرة بأيديهم الصَّغيرة فيهرب منهم تارةً، وتارةً أخرى يدافع عن نفسه ويرمي هو حجارته بإتجاههم لكنَّه ما كان قادراً على تصويبها، وقد دفعتني هذه المشاهد المؤلمة أكثر من مرّة بالتدخُّل وأنا طفل بحدود العاشرة ثم وأنا يافعٌ ثم وأنا في مقتبل الشَّباب، وغالباً ما كان الأطفال يتدخَّلون بشكل فظّ قائلين، أنتَ ليس لكَ علاقة بنا، إننا نلعب معه!

أجل! وللأسف الشَّديد هكذا يلعب أطفالنا مع مجانيننا، يلعبون بجنونٍ أكثر من جنونِ المجنون نفسه لأنَّنا لا نولي لأطفالنا اهتماماً ولا نقدِّمَ لهم ألعاباً تخفِّف من نشاطهم وميولهم وطاقاتهم الطُّفوليّة الجامحة فنتركهم في العراء يلعبون مع مجانيننا كي يزداد المجنون جنوناً ويزدادوا هم خشونةً وهم كأغصان الدُّوالي قبل أن يشتدَّ عودهم ..

دارَتِ الأيام وجاءَتِ الأيام وإذ بي أتلقّى إيميلاً من شاعرة رقيقة كانت إحدى طالباتي في الحلقة الإعدادية والثانوية، تسألني فيما إذا أنا أستاذها "صبري شلو" ما غيره؟! لأنَّها كانت قد قرأتْ لي نصّاً سردياً بعنوان: "ديريك يا شهقة الرّوح"، في موقع تيريز الذي يشرف عليه الصَّديق الشَّاعر محمد عفيف الحسيني، وقد طلب منّي عفيف خصيصاً عبر مكاملة هاتفية أن أكتب نصّاً غير منشور من وحي عوالم ديريك خاصّ لموقع تيريز! فكنتُ قد كتبت سرداً عن ديريك من خلال مشاهدتي لبعض الصُّور عن ديريك وأزقّتها، منشورة في الشّبكة العنبكوتية، وعندما شاهدتُ الصور وتراءت لي معالم ديريك، طفَرَتْ من عينيّ دمعتان ساخنتان وإذ بي أردُّ عليها بسرد شفيف من أعماق الرُّوح، وعندما طلب منّي عفيف نصَّاً عن ديريك قلت له لديَّ نصّ عن ديريك لكنّه يحتاج إلى بعض التعديلات والرُّتوشات، فقال عدّله على مزاجكَ، فعدَّلته ونقَّحته ثم أرسلتُ له النَّصّ بعد أن طلب صورة لوالدي ولديريك ولي كي ينشرها مع النَّصّ، عندما قرأ عفيف النَّصّ، أضاف للنصِّ عنواناً فرعياً: "في معراج الحنين"، فوقع انتباه الشَّاعرة الطالبة على هذا النصّ، لكن صورتي كانت قد تغيَّرت عن أيام زمان، وأحبّت أن تعرف فيما إذا أنا أستاذها الشلويّ أم لا؟ وعندما عرفَتْ أنها وجدَتْ ضالّتها، فرحَتْ كثيراً وتواصلنا بين الحين والآخر عبر الشَّبكة العنكبوتية! وبعد فترة طيّبة تلقَّيتُ منها هاتفاً وإذ بها تقول لي:
أنني أودُّ اللِّقاء بكَ في سماء ستوكهولم بعد ساعات فأنا هنا لإجراء حوار تلفزيوني معي، وأودُّ مقابلتكَ بعد الحوار.

بكلّ سرور يا عزيزتي، مَن سيجري معك الحوار؟
أحمد الحسيني.
هل هو موجود.
نعم، إنّه بجانبي.
إعطَنِي إيّاه!
سلّم الحسيني عليّ ثم دخلتُ على الخطِّ بقرويّة ديريكيّة، انتبه يا أحمد، إن لم تدلِّلوا هذه الضَّيفة الشَّاعرة الرَّائعة، سأرفع عليكم "فردة الرّحان" و(أشرشحكم) في بقاع الدُّنيا.
ضحك أحمد قائلاً: إنَّنا مجرّد أن دعيناها إلى ستوديوهاتنا، هذا يعني  أنَّنا سندلِّلها.
دلال عن دلال يختلف.
شعرَ أنّني من المهتمِّين بها حقّاً، فقال لي أنَّها تريد أن تلتقي بكَ بعد اللِّقاء.
وأنتَ أين ستهرب بعد اللِّقاء يا أفندي؟
سألتقيكم بعد أن أنتهي من تسجيل برامجي!

ألغيتُ كل مواعيدي في ذلكَ اليوم، كانَ لديَّ فعلاً مواعيد في غاية الأهميّة لكنّي اتصلتُ مع الأطراف الموعود معهم وأعتذرت منهم لأسباب طارئة، فقالوا لي هل هي أسباب مرضيّة؟ فقلت لهم لا، إنها أقوى من الأسباب المرضية، إنَّها أسباب حنينيّة وشوقيّة خالصة!
 
عندما ودّعتُ ديريك، كنتُ قد ودّعتُ هذه الطَّالبة، لأنَّني كنتُ أكنُّ لها احتراماً خاصّاً، متوقِّعاً لها مستقبلاً كبيراً في عالم الشِّعر، حيث ركبت دراجة أخي لأنّني ما كنتُ أملكُ دراجةً، متوجِّهاً نحو دارهم الكائن في الرّقعة الشِّمالية الشَّرقيّة من وهجِ الحنين، وداعاً مبلسماً بدمعةٍ لا تنسى! وهكذا دارت الأيام بنا والتقينا في سماء ستوكهولم بعد غيابٍ طويل، كان اللِّقاءُ طيباً ومفرحاً وحميمياً للغاية، ربّما يتساءل القارئ العزيز، ولِمَ أدرجتُ كلّ هذه التَّفاصيل في سياق سردي؟!
توغَّلتُ في هذه التَّفاصيل، من أجل الوصول إلى السّؤال التَّالي، حيث أنني فيما كنتُ أدردش مع الشَّاعرة حول ديريك وآخر أخبارها وأوضاعها قفز إلى ذهني سؤالٌ لا يخطر على بال الجنِّ!

ما هي أخبار "درو دينو"، صحَّته وضعه؟!
شهقَتْ بحزنٍ ثمَّ قالت يا أستاذ، والله درو دينو أعطاكَ العمر، مات!
شعرتُ بوخزةٍ مؤلمة تجتاحُ بحيرات ستوكهولم الغافية فوق جليد غربتي، ثمَّ تماوجَت في ذهني تساؤلات عديدة، هل مات درو دينو من الحزن، من الألم، من حجرِ طفلٍ، من مطاردةِ الأطفالِ له، وهم يردِّدون: "درو دينو نجا كاسانه؟!" وهل ذهب إلى كاسان؟!
مات درو دينو، وأخذ معه أحزانه وأسراره، مات وتركنا نشعر أنَّنا الآن وفي كلِّ حين أحوج ما نكون إلى كلمةٍ طيّبة نزرعها في قلوب أطفالنا ومراهقينا كي لا يرموا الحجارة على مجانيننا ولا على مجانين العالم، لأنَّ المجنون الكبير هو ذلكَ العاقل الذي يرمي حجارته على المجانين! وكم من العقلاء في بلادي وفي بلاد الأرضِ قاطبةً هم مجانين وكم من المجانين هم عقلاء لكن دار بهم الزّمن وأصبحوا بطريقةٍ أو بأخرى من فصيلةِ المجانين!
باقةُ وردٍ أنثرها على قبر درو دينو، وباقةُ حبٍّ أنثرها على وجنةِ ديريك وقراها بعقلائها ومجانينها!


ستوكهولم: 6 ـ 5 ـ 2006
                صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

19
وفاة الشّاعر الكبير نينوس آحو

صبري يوسف ـــ ستوكهولم
عاش حياته شعراً، إبداعاً، عطاءاً، أملاً، بسمةَ حبٍّ، 
رحلَ إلى ديلمون كي يعانق السّماء، طالما وجد في الأرض ناراً حارقة مندلعة من شهقةِ الإنسان
رحل تاركاً خلفه، مواقفَ شامخة، وآراءً وارفةً بالإخضرار، شعلةً مضيئة للغدِ القادم!



ماتَ واقفاً في وجه العاصفة، في وجه الرِّيح، في وجه الشَّدائد، في وجه الأمراض، في وجهِ جنونِ الصَّولجان، مات من دون أن يأبه بالموتِ، من دون أن يرمش له جفن، مات وكأنّه في رحلةٍ شامخة نحو معراج السَّماء، مات نينوس أحو، آخر عشّاق الفكر القومي الخلاق، آخر الباحثين عن جلجامش وعن عشبة الخلاص، مات وعيناه على الأمّة، والأمّة في أشدِّ حالاتِ التَّشرذمِ، مات وهو ينفخُ نفخة غضبٍ في وجه اعوجاجات هذا الزّمان، مات شاعر القومية الأبرز، مات والإبتسامة مرسومة فوق شفتيه، مات وكلّه أمل أنَّ الغد القادم سيكون حافلاً بالعطاء الأفضل ... لن أنسى أبداً السَّاعات الطّويلة الّتي ناقشتُ معه عبر الهاتف حول رحلة تكريمه في السّويد وبلجيكا وألمانيا، أحببتُ في حينها أن أقدِّم لهذا الشَّاعر العملاق في مواقفه وأخلاقه وشهامته وشموخه وأمله العميق في الحياة، ما يستحقّه، مؤكِّداً له أن رحلتي الأدبية في تغطية تكريمه في أوربا دقيقة للغاية، لأنّها ستدخل في التَّاريخ الآحوي ولابدَّ يا صديقي أن تأخذ حقّها في بهجة العبور إلى عوالم الشَّاعر نينوس آحو، كان يضحك ويقول قائلاً: "أنتَ يا ملفونو صبري تعجبني كتير لأنك تشتغل بحرفيّة عالية جدّاً"، كنتُ أجيبه، نعم يا صديقي، هذا ديدني من جهة ولأنّي في صدد الكتابة عن قامة عالية جدّاً.                                                                   
أعجبني شموخه وطموحه الرَّاقي وثقته العميقة بنفسه وبفكره وطروحاته، سأبقى أعتزُّ طويلاً،  فاخراً ومفتخراً بالنَّدوة التكريمية التي أعددتها له في تينستا مع مجموعة من الأصدقاء والصديقات، وقد طرحَتْ في حينها علي الصديقة الغالية مارسيل منيرجي فكرة إعداد ندوة تكريمية أحاور فيها الشاعر نينوس آحو، فوافقت مباشرة وأجريت اتصالاتي مع الشَّاعر البديع عبر البحار، وأسندتُ مهمَّة دعوة الضّيوف والشَّخصيات الهامّة للصديقة مارسيل، المعروفة بعلاقاتها الواسعة مع جالياتنا بكل تسمياتهم وأطيافهم! وأنا بدوري دعوت الكثير من الأصدقاء والصَّديقات وهكذا وزَّعنا المهام! وأعددتُ له حواراً مطوّلاً، تناول الحوار الكثير من الهموم والقضايا المتعلّقة في شعبنا، وكيفية معالجتها للعمل صفاً واحداً، لأنَّني كنت وماأزال أشتغل على هذا الإيقاع، إيقاع أنّه لن تقوم لنا قائمة ما لم نتواصل ونتعاضد ونتلملم ونتوحَّد ونشكِّل صفَّاً واحداً، وإلا فإن مصيرنا الانقراض والذَّوبان والتَّشرذم لا محال! وكان الشَّاعر الرَّاحل يوافقني على هذه الجزئية تماماً، مؤكِّداً على ضرورة حلِّ هذا الموضوع، واقترح عليَّ تأسيس "إتحاد كتّاب" يشمل كل تسميات شعبنا، فقلت له حاولت منذ سنوات تأسيس اتّحاد الكتّاب الخاص بشعبنا بكل تسمياته، ولكنني جمّدتُ الأمر بسبب الخلاف على التَّسميات، لأنَّ كلّ واحد يجرُّ اللِّحاف صوبه إلى أن تمزّقنا وتمزّق معنا اللِّحاف وأصبحنا في العراء، بعد أن كنَّا أصحاب أوَّل حضارة على وجه الدُّنيا!!!           
نجحت النَّدوة وحقَّقت الأهداف الَّتي توخَّيناها منها، وغطّت وقائع النَّدوة فضائية صورويو تي في وللأسف تمَّ بثّ وقائع الندوة عبر التلفزيون بشكلٍ مختزل جدّاً، وحبذا لو كان التَّسجيل محفوظ بكل حذافيره في أرشيف الفضائيّة، ويتم عرضه كاملاً دون حذف أيّة جملة من وقائع النَّدوة، للتاريخ، لتاريخ نينوس آحو!
توفي الشَّاعر الكبير الصَّديق نينوس آحو، والَّذي كان له الفضل الأكبر في إخراج الأغنية السِّريانية من جوقة تراتيل الكنيسة إلى النُّور، نور الحياة، مركّزاً على المفلونو حبيب موسى وهو في أوج يفاعته في حينها، ووجد في حبيب موسى الفتى الشّمَّاس، صاحب الصَّوت الشّجي، الصَّوت الصَّادح في عرين الأغنية السِّريانيّة، وصدقَ شاعرنا في إحساسه واختياره، إلى أن أصبح الفنّان حبيب موسى بعد تجربة طويلة وعريقة ليتوّج من قبل هذا الشَّعب العريق ملكاً للأغنية السّريانيّة في العالم، وظلّ الشّاعر نينوس آحو وفيا للفنَّان حبيب موسى، والفنَّان حبيب موسى وفياً للشاعر الكبير، إلى أن وافته المنية!         
 كما ظل وفيَّاً لكلِّ أصدقائه وصديقاته ولكلِّ شعبه، حاملاً بين أجنحته كل معاني الإخلاص والعطاء إلى آخر رمق في حياته!                                                                                 
ستبقى في ذاكرتا إلى الأبد، وسيبقى شعبكَ يتذكَّركَ كمناضلٍ وشاعر كبير، قدَّمتَ لأمّتكَ وشعبكَ بكلِّ إخلاص، كلّ ما يمكن تقديمه من عطاءٍ خلاق إلى آخر دقيقة في حياتك!                             
  إلى جنان الخلد ياصديقي، بين أحضان ديلمون والأحبّة كلّ الأحبة!                                 

ستوكهولم: 16. 7. 2013                         
صبري يوسف ـ ستوكهولم


20
كوني سمائي الحُبلى بأريجِ الياسمين
صبري يوسف ـــ ستوكهولم
قلبُكِ منارةُ عشقٍ لحبيبٍ طالَ انتظاره، لحبيبٍ له نكهة هديل الحمام! حبيبُكِ يعشقُ الحبَّ والسَّلامَ ودفءَ اللَّيلِ، حاملاً بين جناحيهِ أبهى خيوطِ الحنان!                                                       
كلّما يقبِّلكِ حبيبُكِ، تطيرينَ فرحاً وتعانقين ضياءَ نجيماتِ الصَّباح! أنتِ عاشقة من لونِ  توهّجاتِ نسيمِ اللَّيلِ، عاشقة منسابة كأمواجِ غيمةٍ، عاشقة مبلَّلة ببهجةِ العناقِ، مبرعمة مِنْ أحلامِ الأزاهيرِ البرّية كقوسِ قزح، مفطورة على الحنان العميق، ومترعرعة بين أريجِ النّعناعِ المتماهي مَعَ نكهةِ العسلِ البرّي.         
كلَّما يعانقُكِ حبيبُكِ تشعرينَ أنَّكِ خفيفة مثلِ فراشةٍ تحلِّقُ فوقَ عبيرِ المروجِ! هَلْ تشكَّلْتِ مِنْ بهاءِ وشهوةِ المروجِ في أوجِ تجلِّياتِ الابتهالِ، هَلْ كنتِ حلمي منذُ آلافِ السّنين ولا أدري؟!                       
أنتِ عاشقة مستنبتة مِنْ تراقصاتِ شهقةِ المطر، أنتِ حنينُ عشقٍ متدفِّقٍ من حليبِ السَّنابل! كوني سُنبلتي المخضوضرة بوهجِ الحنانِ! كوني وردة دائمة الاخضرار بينَ جوانحي! كوني يمامتي العابرة أسرارَ البحارِ، كوني قبلةَ عشقٍ مزنّرة بأجنحةِ الرُّوحِ، كوني روحي كي أتنفَّسَكِ في أعماقِ بهجةِ العناقِ! كوني عناقي المسربل بعبقِ الأزهارِ، كوني زهرتي المتراقصة فوق خميلة قلبي، كوني عاشقة معرِّشة في جفونِ السَّماءِ، كوني سمائي الحُبلى بأريجِ الياسمين!                                                       
كيف تريدينَ أنْ أعانِقَكِ يا عشيقةَ حرفي وبوحي، كيفَ تريدينَ أنْ أنقشَ فوقَ مقلتيكِ حنينَ ألقي، كيفَ تريدينَ أنْ أوشِّحَ خدَّكِ الأخّاذِ بعذوبةِ قُبْلتي، كيفَ تريدينَ أنْ نرسمَ مسيرةَ عشقنا نحوَ قلاعٍ مجذّرة في أعلى تلالٍ إلى الأبدِ؟!                                                                               
هَلْ تستطيعي أنْ تعيشي يوماً واحداً بعيدةً عَنْ بهجةِ انبعاثِ دفءِ العناقِ! كوني عناقي المرفرف برذاذاتِ عذوبةِ البحرِ، كوني بحري المهتاج شوقاً إلى أشهى مرافئِ الوفاءِ!                                   
أقبِّلُكِ على إيقاعِ همهماتِ الطَّبيعةِ، على إيقاعِ زقزقاتِ العصافيرِ، أقبِّلُكِ على وشوشاتِ هبوبِ النَّسيمِ، أقبِّلُكِ بعيداً قرقعاتِ الصِّراعاتِ، بعيداً عن متاهاتِ الضَّجر، بعيداً عن صخبِ هذا الزَّمان، بعيداً عن شفيرِ الترّهاتِ!                                                                                     
أقبِّلكِ كلَّما ينامُ اللَّيلُ، كلَّما تصحو النُّجومُ، أقبِّلكِ على تلاطماتِ أمواجِ البحرِ، أقبِّلُكِ كعاشقة متهاطلة عليَّ مِنْ حنينِ السَّماءِ! كوني سمائي المتلألئة بأشهى الأزاهيرِ، كوني عشقي المعتَّقِ بحفاوةِ الحبرِ، كوني حبر قصيدتي الأشهى في تدفُّقاتِ جموحِ الحبِّ! أنتِ حبيبةُ روضي ومهجةُ شوقي إلى مرامي السَّماءِ!
كم مِنَ الدُّفءِ حتّى تبرْعمَتْ في خدَّيكِ أزاهيرُ عشقٍ من ألقِ أشهى جموحاتِ الهناءِ!                 
                                       
ستوكهولم: 19. 6. 2013
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com




21
أدب / أطيرُ نحوَ قبّةِ الحنين*
« في: 23:58 18/06/2013  »


أطيرُ نحوَ قبّةِ الحنين*

صبري يوسف

أطيرُ مثلَ نسرٍ نحوَ قبّةِ الحنينِ
حيثُ عناقات الطُّفولة تفورُ في أوجِ العبورِ
 أسيرُ نحوَ مدنٍ معشَّشةٍ في ذاكرةِ الرّوحِ
شعورٌ ممزوجٌ بِحِيرَةٍ وفرحٍ
يتدفَّقُ مِنْ كلِّ الجِّهاتِ
مغامرةٌ أخرى تُضافُ إلى مغامراتِ العبورِ
     في أعماقِ المجهولِ!

أنظرُ مِنْ شُبَّاكِ الطَّائرة الصَّغير
تستقبلُني غيومٌ محمَّلةٌ برسائل متدفِّقة
     مثلَ جموحاتِ سوفوكليس
كأنّني في حضرةِ الألياذة والأوذيسة
شغفٌ ملحاحٌ نحوَ مرافيء بوحِ الرُّوحِ

أينَ أنتَ يا سقراط
كي أتلو عليكَ شكِّي المتفاقم يوماً بعدَ يومٍ؟
هَلْ فعلاً  نبعَتْ حضارةُ الإغريق مِنْ هذهِ الأرضِ
     الَّتي نرفرفُ عليها الآنَ؟  
حضاراتٌ منبعثةٌ مِنْ أريجِ بخورِ الأديرةِ الطَّافحة
     بسموِّ الرُّوحِ والأفكارِ
حضاراتٌ متجذِّرة في قلبِ فلسفةِ الحياةِ
     وفي أعماقِ الملاحمِ الشِّعريَّة
لملمَتْ فكراً بكراً وفرَشَتْهُ على خدودِ الدُّنيا
مسرحُ الإغريقِ وملاحمُ الإغريقِ
بطاقةُ عبورٍ إلى منجمٍ مِنْ ذهب
ملاحمٌ شعريَّة منسوجة مِنْ خُيُوطِ الشَّمسِ
منسدلةٌ على صباحٍ مشعشعٍ بالفرحِ
كانسدالِ شَعرِ هيلانة على خدودِ الأملِ
قُشَعْريرةٌ منعشةٌ سَرَتْ في ظلالِ أحلامٍ منبعثةٍ
     من أرضٍ معشوشبةٍ بالماءِ الزُّلالِ

إنّي أبحثُ عنكِ يا قصيدتي البكر
     منذُ بزوغِ الطَّوفانِ
هَا قَدْ جئتكِ محمَّلاً بباقاتِ السَّنابلِ
أيّتها الأرضُ المباركة
تعالي أنقشُ على حنينِكِ الأزلي
بهجةَ انبعاث حرفي
     إلى أقصى مرامي القصيدة
تعالي نعانقُ حفاواتِ الأديرةِ القديمةِ
لعلَّنا نستدلُّ على مساراتِ انبعاثِ القصيدة
فرحٌ في لجينِ القلبِ ينمو
أرى بينَ طيّاتِ الغيومِ مآقي الأزمنة الغابرة
أزمنةٌ محفورةٌ في ذاكرةِ أرضٍ مجبولةٍ
بانحناءاتِ حروفٍ مسترخيةٍ بينَ أهدابِ السَّماءِ
 أرى الشَّفقَ يلوحُ في الأفقِ البعيدِ
جميلٌ وأنتَ معلَّقٌ بينَ هلالاتِ السَّماءِ
     في انتظارِ بزوغِ الشَّفقِ
احمرارُ الشَّفقِ يخلقُ في نفسي
فرحاً أشبه ما يكونُ انبعاثَ ماءِ القصيدة  
     من شهقةِ السَّماءِ
خيوطُ الشَّفقِ على وشكِ أنْ تفرشَ أجنحتها
     على خدودِ الصَّباحِ
تهنِّئ الشَّمسُ ذاتها أنْ تقبِّلَ يوميَّاً
     خدودَ الأرضِ والسَّماءِ
نعمةُ النِّعمِ أنْ تكونَ في محرابِ الاحتضانِ
احتضانُ الشَّمسِ للبحارِ
     لحنينِ السِّماءِ لوجهِ الثَّرى

كيفَ فاتَ البشرُ
أنْ يصنعوا للشمسِ تماثيلَ
مِنْ رذاذاتِ الذَّهبِ المتناثرِ
     مِنْ أثداءِ السَّماءِ؟
الإنسانُ صديقُ الغمامِ
صديقُ المطرِ
صديقُ الشَّمسِ
صديقُ هذا الزّمان
صديقُ الرِّيحِ
صديقُ مصادفاتٍ لا تخطرُ على بال!

نحنُ البشر أشبه ما نكونُ أجنحةً
     منبعثةً مِنْ أحلامِ الغيومِ
نتهاطلُ مِنْ أرحامِ أّمَّهاتِنا
كما يتهاطلُ المطرُ مِنْ رحمِ السَّماءِ
هَلْ كانَتْ السَّماءُ يوماً أمَّنا ولا ندري؟
هَلْ ما تزالُ السَّماءُ أمَّنا ولا ندري؟
كيفَ فاتَ الإنسانُ أنْ يعقدَ معاهدةَ حبٍّ
بينهُ وبينَ نسيمِ الصَّباحِ
 منذُ أنْ فتحَ عينيه على وجهِ الدُّنيا
أمْ أنَّهُ كانَ جزءاً مِنْ نسيمِ البحرِ المندّى
     ببسمةِ الشَّمسِ ولا يدري؟

أشرَقَتِ الشَّمسُ كأنَّها صديقتي الأزليّة
رحَّبتْ بي كأنِّي على موعدٍ معها
منذُ إغفاءَةِ الأزمنة الغابرة على خدودِ الحجرِ
هَلْ تستطيعُ الشَّمسُ أنْ تحتفظَ بي
كشهقةِ فرحٍ بينَ ضياءِ خيوطِهَا المنبعثة
     على وجهِ الدُّنيا؟
أنا صديقةُ الشَّمسِ
أنا ابنُ الشَّمسِ البكرِ
أنا أحلامُها المتطايرة مِنْ أشعّتها الدَّافئة
تغمرنُي الآنَ حالةٌ عشقيّةٌ لا أفهمُهَا
حالةٌ مماثلةٌ لجلجامشَ وهوَ في طريقِهِ
     إلى أعماقِ البراري
بحثاً عن نبتةِ الخلاصِ!

هل نحنُ جزيئات متدفّقة منذُ زمنٍ سحيقٍ
     مِنْ جفونِ الشَّمسِ
لهذا يغمرُنا دفئها أينما ذهبنا وأينما حللنا!

تتراءى أمامي
قامات أصدقائي وصديقاتي الشُّعراء والشَّاعرات
تزهو أمامي
حفلات تأبين الشَّاعر الأب يوسف سعيد
صديقاتي الشَّاعرات يرفرفنَ عالياً
     في رحابِ الذَّاكرة
أصدقائي الفنَّانينَ غائصينَ الآنَ في نومٍ عميقٍ
ربَّما الفنّان صدر الدَّين أمين
ينظرُ الآنَ طويلاً
     في لوحةٍ معرَّشةٍ في حبورِ الطُّفولةِ
صدرالدِّين أمين صادقٌ في أمانتِه الطُّفوليّة
صادقٌ في رهافةِ الطُّفولةِ المبرعة    
     في فردوسِ لوحاتِهِ
كأنّه يقطفُ مواسمَ حصادِهِ مِنْ ثغورِ السَّماءِ
كأنّهُ على علاقةٍ شفيفةٍ معَ أمواجِ البحرِ
كأنّهُ غيمةٌ حُبلى بشهوةِ المطرِ
يهطلُ علينا بألوانٍ مِنْ نكهةِ النّعناعِ البرّي
لوحاتٍ على إيقاعِ أحلامِ البراري الفسيحة
هَلْ تبرعمَ في أحشاءِ أمِّهِ
فيما كانَ والدُهُ في حالةٍ عشقيّةٍ
     يناجي نُجيماتِ الصَّباح؟

هَلْ ما تزالُ سوزان عليوان
     مقمَّطة بحالاتٍ أنينيّة
تنسابُ مِنْ مآقيها دموعٌ معتَّقة بملوحةِ البحرِ
تكتبُ قصائدَها
    في انتظارِ شموخِ أشجارِ النَّخيلِ
بعيداً عَنْ غدرِ هذا الزَّمان؟!
لماذا أشتاقُ إليكِ كأنَّكِ صديقة أزليّة
مضمَّخة بماءِ القصيدةِ الأصفى؟

انفرشَتْ صورُ الأهلِ فجأةً
     على مساحةٍ فسيحةٍ مِنْ ذاكرةٍ ملتاعةٍ
مِنْ ارتصاصِ ضجرِ غربةِ الرٍّوحِ
استقرَّتِ الصُّورُ في بؤرةِ الحنينِ
مسحَتْ كلّ مشاحناتِ شفيرِ غربتي
     المعفّرة بشهوةِ الشِّعرِ
تتلألأ قاماتُ الأحبّة تباعاً

عاشقةٌ مِنْ نكهةِ النَّارنجِ
لا تبارحُ صباحاتي البليلةِ
تغفو بينَ أجنحةِ اللَّيلِ الحنونِ
     بينَ شموخِ القصيدةِ
تعالي أزرعُ فوقَ وجنتيكِ
     فرحاً مجنّحاً بأريجِ الرِّيحانِ!

الطُّفولةُ طاقةٌ فرحيَّة مكلَّلة
بأسرارِ أغانٍ معتَّقةٍ
     في مروجِ الأحلامِ

ترنُّ في أذني تهلهيلةُ أمِّي الآنَ
توقظُ في روحي حنيناً
     إلى صباحاتِ الصَّيفِ
الغافيةِ على أغصانِ الدَّوالي
حيثُ عناقيدُ الكرومِ تنتظرُ إشراقةَ الصَّباحِ
كانَتْ أمِّي تهلهلُ في أكاليلَ الأحبّةِ
وهم في طريقِهم إلى أحضانِ الحياةِ
تهمسُ أمِّي إلى أعماقي
المعشوشبة بيراعِ القصيدة
حرفي ممزوجٌ بحنينِ أمِّي
     إلى تلألؤاتِ نجيماتِ الصَّباحِ

والدي مندّى بألقِ نجمةِ الصَّباحِ
     ويخضورِ العشبِ البرِّي
كَمْ مِنْ باقاتِ السَّنابلِ حَصَدْنا
ونجمةُ الصَّباحِ شاهدةٌ
     على شموخِ السَّنابلِ
          وإيقاعِ المناجل!

كَمْ مِنَ الحنينِ
حتّى تورَّدَتْ خدودَ البحار
     بأهازيجَ القصيدة!

اليونان ـــ تسالونيكي: تشرين الأوَّل (اكتوبر) 2012
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
 
* أوَّل نصّ شعري أكتبه خارج السُّويد، ستوكهولم منذ قرابة ربع قرن!

22
دعوة للكتابة في مجلَّة السَّلام
يدعو محرّر مجلّة السَّلام، الأديب والفنّان التَّشكيلي السُّوري صبري يوسف الكتّاب والشُّعراء والنقّاد والمفكّرين والفنّانين إلى الكتابة والمشاركة في مجلّة السَّلام السَّنوية الَّتي تصدر في الشَّهر الأخير من كلِّ عام، تتضمّن المجلّة الملفّات التَّالية:                                                                   
الشِّعر
القصّة
المسرح
النّص
المقال
الحوار
النّقد
نصوص مترجمة
الفن التَّشكيلي
السِّينما

إصدار مجلّة أدبيّة فكريّة عالميّة بعنوان:
السَّلام
صبري يوسف ــ ستوكهولم
بعد تحليلاتٍ عميقة وقراءاتٍ مستفيضة للواقع المزري الَّذي يمرُّ به الكون من دمارٍ واضحٍ للعيان لأبسط أبجدياتِ السَّلام بينَ البشر في الكثير من أرجاء العالم، قرَّر الأديب والفنّان التَّشكيلي السُّوري صبري يوسف إصدار مجلَّة سنويّة بعنوان: السَّلام. السَّلام بكلِّ ما تعني هذه الكلمة من معنى إنساني عميق، بعيداً عن لغةِ السِّياسات الممجوجة الَّتي طرحها بعض مُخلخلي أجنحة السَّلام على وجه الدُّنيا.  تُعنى المجلَّة بالنُّصوص الأدبيّة والفكريّة والنَّقد والمسرح والسِّينما واللَّوحات التَّشكيليّة المتمحورة حول السَّلام والوئام بين البشر في جميع أنحاء العالم، على أن تكون النُّصوص واللَّوحات المساهمة غير منشورة سابقاً في أيَّة صحيفة أو مجلّة ورقيّة، ولا في أيِّ موقع الكتروني عبر الشَّبكة. حيث ترحِّب المجلّة بالنُّصوص الشِّعريّة والقصصيّة والنّص الأدبي، والنّص الفكري الَّذي يصبُّ في جوهر السَّلام، والدِّراسات التّحليليّة والنَّقديّة المتعلِّقة بكتابات أدبيّة وفكريّة، وحوارات ولوحات فنّية حول السَّلام.                             
تعتذر المجلّة عن نشر أيّةِ مادّة تثير الحساسيات والصِّراعات بين الأديان والمذاهب والقوميات والاثنيات، لأنّها تعتبر هذه الصِّراعات الدَّمويّة المذهبيّة والدِّينيّة والقوميّة والسِّياسيّة هي ضربُ من جنون توجُّهات بعض سياسات هذا الزّمان، وخروج تام عن حيثيات أبجديات السّلام والوئام بين البشر، كما لا تستقبل أيّة مادّة تسيء إلى شخصٍ ما أو جهةٍ ما، لأنَّ المجلّة منبر فسيح للسلام الإنساني الخلاق وليست منبراً للقدح والذَّم بالبشر، بل ترحِّب بالمواد الَّتي تدعو للحوار والسَّلام الخلاق بعيداً عن لغة العنف والعنف المضاد، لأنَّ لغة العنف والعنف المضاد أوصلَتْ بنا إلى بوّابات الجَّحيم! ونحن بصدد تسليط الضَّوء على لغة السَّلام والوئام بين البشر إبداعيّاً، لعّلنا نستطيع أن نروِّج ثقافة السَّلام والحوار والمسامحة بين البشر، وفي هذا السِّياق ترحِّبُ المجلّة بدراسة وتحليل أسباب العنف ومعالجته ومعالجة العنف المضاد عبر الحوار بعيداً عن لغة البغض والكراهيّة والانتقام والحرب وهدرِ الدِّماء!                             
المجلَّة مستقلة وغير مرتبطة فكريَّاً أو سياسيَّاً أو ثقافيّاً بأيَّة جهةٍ رسميّة أو غير رسميَّة في الشَّرق أو في الغرب، ولا تقبل الهبات والتَّبرُّعات المشروطة من أيَّةِ جهةٍ شرقيّة أو غربيّة، وترحِّب بأيِّ دعمٍ مادّي أو معنوي موائم لتوجُّهات برنامج المجلّة المرتكز على السَّلام والوئام بين البشر كلَّ البشر، دون الانحياز إلى طرفٍ ضدَّ الآخر، بل الانحياز إلى الحقِّ والعدالة والمساواة بين البشر لعلَّنا نستطيع عبر هذا المنبر أن نحقِّقَ قليلاً أو كثيراً إنسانيّةَ الإنسانِ على وجهِ الأرضِ!                                               
المجلّة سنويّة، وتصدرُ في كانون الأوَّل (ديسمبر) من كلِّ عام، كحصادٍ لغلالِ عامٍ من كتابات مبدعي ومبدعاتِ نصوصٍ ولوحاتٍ عن حيثيَّاتِ السَّلام من كافّةِ أنحاءِ العالم، واستقبالاً لعامٍ جديدٍ ينحو أكثر فأكثر نحوَ السَّلامِ والوئامِ بين البشر!                                                                 
                                                                           
ستوكهولم: 1. 1. 2013
صبري يوسف
أديب وفنّان تشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
 


23


تدمعُ عيناكِ شوقاً إلى إلى جفونِ العراقِ

إلى الفنّانة الأصيلة لبنى العاني

صبري يوسف*

تنضحُ عيناكِ شوقاً إلى فرحٍ
تاهَ بينَ غربةٍ مفتوحةٍ على أجنحةِ الكونِ  
تاهَ بينَ همهماتِ غيمةٍ متشرِّبةٍ بدموعِ الأطفالِ
تاهَ بينَ متاهاتِ إنشراخِ الأوطانِ
أوطانٌ في مهبِّ التِّيهِ
     في أوجِ الجُّنونِ!

عيناكِ شهقتا حزنٍ في وجهِ هذا الزَّمان
منارتا بحثٍ عن سرِّ الحياةِ
عيناكِ شهوةُ مطرٍ مندَّى بأغصانِ الرُّوحِ
هائمتانِ عميقاً في تجلِّياتِ بوحِ الأغاني!

عيناكِ أُغنيتا شوقٍ إلى ظلالِ النَّخيلِ
زهرتان معبَّقتان بأريجِ النَّارنجِ
عيناكِ ألقُ اخضرارٍ إلى أغصانِ الخميلِ
شموخُ ابتهالٍ في روعةِ الغناءِ الأصيلِ
عيناكِ ألفُ سؤالٍ عن بكاءِ الأمّهاتِ
عن حنينِ الرُّوحِ إلى النَّسيمِ العليلِ!
عيناكِ تلألؤاتُ حضارةٍ متأصِّلة في أرقى الحضاراتِ
أيّتها المنسابة كأريجِ فرحٍ تدلَّى من مآقي السَّماءِ
تشعُّ عيناكِ أملاً رغمَ أنينِ السِّنينِ
وجهٌ مكلَّلٌ ببسماتِ وردٍ من نكهةِ الياسمينِ
يشمخُ عالياً كأجنحةِ نسرٍ فوقَ الجَّبينِ!
 
عيناكِ حلمٌ مندّى بأغصانِ الوفاءِ
عيناكِ ينبوعا أملٍ فوقَ تيجانِ العطاءِ
قلبُكِ هدهداتُ أغنيةٍ مرفرفةٍ
فوقَ أجنحةِ ذاكرةٍ محفوفة بالطُّفولة
شوقاً إلى أحضانِ العراقِ!

عيناكِ أحلامُ فنّانة شامخة نحوَ الأعالي  
أيّتها المسربلة ببوحِ الأغاني
كَمْ مِنَ الحنينِ حتّى غنّتِ الرّوحُ أبهى الأماني!

تنبعُ أغانيكِ من هلالاتِ البيتِ العتيقِ  
من وهجِ الحنينِ إلى بغداد
إلى براءةِ الطُّفولة
تدمعُ عيناكِ شوقاً إلى ظلالِ النَّخيلِ
      إلى جفونِ العراقِ!
عيناكِ مورقتان بإخضرارِ الأملِ
ثمّة حزنٍ دفين معشَّشٌ
في تلافيفَ ذاكرتكِ المفخَّخة بالأوجاعِ
أوجاعُ المدائنِ الَّتي تبرعَمْتِ فيها
أوجاعُ أزقَّةٍ ينضحُ في رحابِها حنينُ الفؤادِ  

دموعٌ منسابة ببوحِ الحنينِ إلى أيَّامِ الصِّبا
دموعٌ لا تفارقُ ليلَكِ الطَّويل
أغاني فيروز تؤنسُ غربتكِ المعفَّرة بالجِّراحِ

عيناكِ رحلةُ انبهارٍ في خضمِّ الضِّياعِ
رحلةُ حنينٍ إلى صدرِ الأمِّ
إلى قاماتِ أحبَّةٍ تاهوا في سديمِ الحياة!
 
كم من الشَّوقِ حتَّى تلألأتِ الأزاهيرُ في مقلتيكِ
كم من لظى الحنينِ حتّى هاجتْ أمواجُ البحارِ!

وجهٌ مبلَّلٌ بنضارةِ الأقحوانِ
معبَّقٌ بأريجِ الرِّيحانِ
متألقٌ بحبقِ السَّوسنِ
وجهٌ يصدحُ فرحاً رغم جراحِ الغرباتِ
أريدُ أن أهمسَ لقلبِكِ أسرارَ الحنينِ
أريدُ أن أمسحَ عن وجنتيكِ أنينَ السِّنينِ
أريدُ أن أهدي عينيكِ عذوبةَ البحرِ  
أن أرسمَ فوقَ شطآنِ شوقِكِ إلى العراقِ فراشةً  
     من أبهى ألوانِ المروجِ!  

تهطلُ عيناكِ أملاً مع رذاذاتِ المطرِ
تسطعُ حنيناً مندّى بنسيمِ ليلِ العراقِ

تتلألئينَ كزهرةِ النَّارنجِ
معطّرةً بنسيمِ الصَّباحِ
كأنَّكِ فراشة تائهة عن أريجِ الرِّيحانِ
تنضحينَ عذوبةً
كانبعاثِ حلمٍ من شفاهِ الغيومِ
 كانبعاثِ حبٍّ من روحِ الإنسانِ!



*كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

ستوكهولم: أيار (مايو) 2013


24
معرض بديع للفنّان ناصر خانة في غاليري كاظم حيدر في ستوكهولم

صبري يوسف ــــ ستوكهولم
افتتح الفنّان العراقي الملحّن كوكب حمزة، برعاية المركز الثَّقافي العراقي في ستوكهولم، معرض الفنّان ناصر خانة في غاليري كاظم حيدر في تمام السَّاعة السَّادسة من عصر يوم الأربعاء 15. 5. 2013 ويستمرُّ حتّى غاية 31 . 5. 2013.
تحدَّث الفنَّان الكبير كوكب حمزة عبر كلمة مقتضبة عن المعرض، شكر فيها المركز الثَّقافي العراقي على هذه البادرة الطَّيبة، بأن يفتتح فنّان معرض فنَّان آخر، وقد ضمَّ المعرض 49 لوحة في منتهى الرَّوعة والتَّقنية العالية. كانت تخطيطات لأعمال كبيرة، تناولت العديد من المواضيع والأفكار والآمال والطُّموحات الَّتي تصبُّ في ترجمة المعاناة والألم والأنين، بحثاً عن مخارج وبصيص أمل نحو رحابِ السَّلام والأمان في دنيا مفخَّخة بالضَّجر.

أشرف على إعداد المعرض كلّ من الفنَّانة التَّشكيليّة هناء الخطيب، الفنَّان عبّود الحركاني، الأستاذ عبدالخالق الجَّادر، والفنَّان التَّشكيلي وسام النَّاشي، بالتَّعاون الكبير مع مدير المركز الثَّقافي العراقي الدَّكتور أسعد فؤاد. وقد حضر المعرض جمهور غفير من الجَّالية العراقيّة والعربيّة ونخبة كبيرة من الفنَّانين والفنَّانات والكتَّاب والشُّعراء والمثقَّفين، وغطَّت الفضائيّة العراقيّة والسُّومريّة والبغداديّة وقائع حفل الإفتتاح.

تحدَّث عبر كلمة قصيرة مدير المركز الثَّقافي العراقي الدَّكتور أسعد فؤاد عن المعرض وعن الفنَّان، وشكر الفنَّانين والأساتذة الَّذين أعدّوا لهذا المعرض، وألقى كلمة قصيرة ومعبّرة الدَّكتور حكمت داؤود جبّو الوزير المفوّض في سفارة جمهورية العراق في السُّويد، وألقى الدَّكتور الإعلامي محمَّد القحط  كلمة موجزة عن المعرض وعن إبداع الفنَّان، كما ألقى كلمة كلّ من الفنَّان عبود الحركاني والفنَّانة التَّشكيليّة هناء الخطيب حول التَّجربة الفنِّية الرَّائدة للفنَّان الكبير ناصر خانة. وقدّم بعض الفنّانين باقات الورود للذين أعدُّوا المعرض وقدّموا كلمات مختصرة شكروا فيها المشرفين والقائمين على إعداد المعرض.

***
أدهشتني التَّحليقات الفنّية والأفكار والتَّقنيات الخلاقة الَّتي جسَّدها وإستلهمها الفنّان الكبير ناصر خانة من بواطنه الشَّفيفة، والمحفوفة بأحلام منبعثة من وجناتِ الغيوم في اللَّيالي القمراء الَّتي نامت في لجين الذَّاكرة البعيدة طويلاً، حيث مرافئ الطُّفولة والشَّباب تتراقص فوق تعاريج وخطوط هفهفات الرُّوح وهو غارق في أحزان الدُّنيا، من خلال مشاهداته لجنون هذا الزَّمان اللاهث خلف السَّراب!!!

أسلوبٌ فريد في تشكيله، ومناغاته وألحانه. فنَّانٌ تشكيلي بديع، معتِّقٌ بوشائج حبق الفنِّ الأصيل. آفاقُ الفنّان أشبه ما تكون انبعاثات حلميّة متدفِّقة في ليلة هائجة بالأمطار، تشبه مطراً معبَّقاً بالحنين الآتي من خلف البحار، كأنّه استلهمها من حكايا الجّدات والأمّهات، راغباً أن يوشّح وجه الدُّنيا بالفرح والسَّلام والمحبَّة والوئام الكوني، أيُّها الفنَّان الكوني الآتي من تراكمات أرقى الحضارات المنبثقة على وجه الدُّنيا، حضارة سومر وأكّاد وبابل!
***
هل تقمّصَتْكَ أيُّها الفنّان الشَّامخ نحو تلأؤات النُّجوم، هواجس وطموحات جلجامش وبحثه الحثيث عن نبتة الخلود، أم أنّكَ على تواصل عميق مع جموحات أنكيدو وهو في أوج صعوده إلى قمم الجِّبال، بحثاً عن عرين الشّموخ؟!

أنا القائل يا صديقي عبر مقاليَن طويلَين، "العراق بلد الحضارات إلى أين؟!"، و"التَّوهان عن الهدف"، تَوَهان الشَّرق وتَوَهان العراق وتَوَهان سياسات آخر زمن! أنا الغائص يا صديقي في جراحاتِ الشِّرق من أقصاه إلى أقصاه!
***

رسومٌ بديعة، كأنّها مستنبتة من شهقة الفنّان المعرَّشة بشموخ النّخيل في عزِّ الشُّموخ، ومن غصَّاته الحنينيّة في أوج ابتهالات الرُّوح لمهجة العشق، ومن دمعةٍ مالحة منسابة من حنينِ الفنَّان الجارف إلى أصدقاءٍ وصديقاتٍ تبعثروا على وجه الدُّنيا، فجاءت حفاوة رسومه كأنّها قبلات متهاطلة علينا من شهقة السَّماء في مساءٍ ربيعي طافح بالإبتهال.

تخطيطات أوَّليّة تتراقص مثل حفيف الفراشات فوق بوح الخيال خيالنا، فكيف سيكون هذا الجَّمال لو شاهدناه على مساحاتٍ لونيّة باذخة أو كتلة من كُتَلِه البديعة عندما ينفخ في عوالمها بسمة التَّأمُّل في تضاريس ومنعرجات مرامي الحياة؟!

أرى في تخطيطات ورسوم الفنّان أصابعَ متعانقة، تشيرُ إلى ما حفرَه الزّمن من آهات فوق راحات أيدينا، لعلّها تشير إلى بصمة الفنّان المتربّعة فوقَ شموخ العراق، رغم انشراخ الرُّوح من كلِّ الجّهات!

وجهٌ ينضحُ ألماً وحزناً، هل هو وجه الأم، أو وجه الجدّة، أم وجه العراق، يعلوه وجوه حالمة، متشابكة في أهليليجيَّات غائمة، تنتظر عودة هبوبِ النَّسيم الصَّباحي صافياً من مياه دجلة! هنا يدٌ ممدودة، ربّما لهلالات القمر، لغيمةٍ حُبلى بزخَّاتِ المطر، للخير الآفل خلف جنونِ الصُّولجان.

يا إلهي، أنظرْ! عينان تقدحان شرراً، أنيناً. أنفٌ شامخٌ، يتحدَّى هدير الرِّيح، جسدٌ تعرَّى مثل حقيقة عارية من أيِّ غبارٍ يغطِّيها! وهنا جسدٌ مزدانُ بالجَّمالِ والسُّموّ نحو حمائم السَّلام، يتعانقُ مع هديلِ الوئام كأنّها ترميزات لآلهة الحبِّ عشتار في انتظار دفءِ العناق وتجلِّيات الصُّعود نحوَ مآقي السّماء! تدفُّقات حلميّة من بوح النَّارنج! .. وهناك جسدٌ ملظّى يحلّق بجناحَين يتدفَّقُ دماً فوق تيجان العرشِ، كم من الدِّماء حتّى هاجت البحار في وجه انشراخاتِ هذا الزّمان!

عجباً أرى، ترصْرَصَتِ الجَّماجمُ فوقَ كاهلِ وطنٍ تشظّى من تفاقمِ رؤى مجصَّصة بسماكات السّواد، رؤى عقيمة جاثمة فوقَ رقابِ البلاد، بلادُ الخيرِ تعفَّرَتْ بالأسى، بشهقاتِ البكاء، حتّى جنَّ جنون الجِّبالِ والأنهارِ وما تبقَّى من العباد!

هنا كهولةٌ في انتظار شيخوخةٍ مشنفرة بالأنين. تساؤلات معشَّشة في بؤرة الأحلام، إلى أين سينتهي بنا هذا يا قلبي المقمَّط بأشواكٍ دامغة بالعذاب؟!

وجهُ امرأةٍ جميل يداعب روحنا الهائمة خلف البحار، في انتظار انقشاعِ كلّ هذه الغشاوات المستفحلة فوق لبِّ الفؤاد، وفوقَ أرضِ الحضارات. تكوّمتْ أجساد الآباء والأمّهات فوق تلالٍ منزلقة نحوَ منعرجاتِ وديانِ الافتراس.
أتمعَّنُ في عينٍ مفتوحة على قباحةِ القباحات، وفي أجسادٍ تزدادُ تلظِّياً، تنزلقُ عاريةً في أعماقِ العراء، إلى متى سيبقى العراقُ مُباحاً لأنيابِ القحطِ والطَّيشِ وشراهاتِ الصِّراعِ والانجرارِ نحوَ شفيرِ الشَّقاء؟!

العراقُ وجهٌ شامخٌ، لكنّه مهدّدٌ رغمَ شموخه بالإنزلاقِ نحوَ هاويةٍ سحيقةٍ. بصيصُ أملٍ يرسمه لنا الفنّان، يحلّق عالياً فوقَ أحلام العراق، هل ثمّة أملٍ من رَدْمِ شفيرِ الإنزلاق؟! آهٍ .. لِمَ لا نردمُ سويةً هذا الإنزلاق؟!

وحدُها حمامة السَّلام الَّتي رسمها الفنَّان بمهارة شفيفة، تحمل مآسينا فوق أجنحتها المضمّخة بأبهى حالاتِ الوئام، تحاول بكلِّ ما لديها من نزوع نحو رحابِ السَّلام، أن تنقذنا من شراهات من ينحو نحوَ صراعاتِ الموتِ الزُّؤام!

لا تخلو رسوم الفنّان من أملٍ قادم. عينان حالمتان بالحبِّ القادم، تائقتان إلى حبورِ الاحتضان. وهنا جسدان متعانقان، يحلمان بعودة الهداهد والطُّيور المحمّلة بأغصان المحبّة، لعلّها تزهرُ وئاماً ودفئاً في الغدِ الآتي أو في مستقبل الأيام.
 
يتساءل بمرارةٍ خانقة، كيف سيتحقَّق السّلام والطّغاةُ قابعون فوق جماجم فقراء هذا العالم؟!

يهبُّ مثل نسرٍ جامحٍ، قائلاً لأحبّائه المبعثرين على وجه الدُّنيا: تعالوا نكسر القيود، والسّياج الذي يكبِّلنا، لعلَّنا نتحرَّر من السّجان القابع فوق رقاب يومنا وليلنا وحلمنا!

ويرينا في تخطيط جميل، كيف تطحننا جواريش هذا الزَّمان، تعلو الجواريش فوق أجسادنا المطحونة، أين المفرُّ من الجواريش المتربِّصة بنا ليل نهار؟!

يتأمَّل ويصلِّي، وفوق رأسه امرأة شامخة عبقاً كأشجار البيلسان، حالة ابتهال وحنين إلى صفاء الرُّوح لمعانقة دفء الحبِّ على ضوء الشُّموع!

عناق عميق، بعد أن كسرا الأصفاد، أزهرَتْ زهرة الحبّ، وحلَّق فوق رأسيهما حمائم السَّلام والحبّ، فحلَّقا فرحاً مع أنغام هديل الحمام!

هذا هو الفنّان التَّشكيلي البديع ناصر خانة، الّذي تغلغلَتْ أعماله وأفكاره وتأمُّلاته وأحلامه بشكلٍ شفيف في أعماقي من خلال رسومه وتخطيطاته المعبَّرة عن حالات غليانيّة وأنينيّة جامحة نحو تجسيد الإبداع الخلاق، لِمَا يحمله من تطلُّعاتٍ فكريّة عميقة نحو السَّلامِ بين أبناء الوطن الغائص في متاهات جنون الصَّولجان، فولدَتْ هذه التَّدفقات وكأنّها الجّزء المتمِّم لنصوصه التَّشكيليّة السَّامقة، فجاءت تدفُّقاتي عناقاً عميقاً لهذه القامة الفنّية الرَّاقية، لِمَا رأته عيناي من رسوم وتخطيطات تحملُ أفكاراً وتطلُّعات وآفاق ورؤى وارفة وبتقنياتٍ فنّية عالية، والَّذي بحق يعتبر من القامات الفنّية العراقيّة والعربيّة الرَّائدة، والّتي ستبقى شامخة على خارطة الإبداع الفنّي إلى أمدٍ طويل!

***



تحيّة للفنّان التَّشكيلي الكبير ناصر خانة، تحيّة للمركز الثَّقافي العراقي لرعايته هذا المعرض، وخالص التَّحية والإمتنان للفنَّانة التَّشكيلية هناء الخطيب، والفنَّان عبّود الحركاني، والأستاذ عبدالخالق الجادر والفنَّان وسام النّاشي، الَّذين بذلوا جهوداً كبيرة لإعداد هذا المعرض الرّائع!
وشكر خاص مكرَّر للأستاذ عبدالخالق الجَّادري الَّذي أعدَّ وأخرج فيلماً قصيراً عبر اليوتيوب، ضمّ مجموعة من لوحات الفنّان ولقطات من الجُّمهور بأسلوب فنّي رائع، رافقته موسيقى تصويريّة جميلة، أضفَتْ بهاءً ورونقاً على بهاءِ اللَّوحات!

الفنّان ناصر خانة في سطور:
مواليد الكوت 1952
خريج معهد الفنون الجَّميلة، جامعة بغداد، فرع الرَّسم 1970
خرِّيج أكاديمية الفنون الجَّميلة فرع النَّحت 1974
عضو جمعية التّشكيليين العراقيين 1970
عضو نقابة الفنّانين العراقيين 1972
شارك في أغلب معارض جميعة التَّشكيليين العراقيين ومعارض نقابة الفنَّانين العراقيين.
اشتغل مدرسِّاً لمادة النَّحت والرَّسم في معهد الفنون الجَّميلة في بغداد منذ عام 1994
عيَّنَ رئيساً لقسم الفنون التَّشكيليّة، الدِّراسة المسائيّة 1996
أنجز نصب لمقبرة المحاويل الجَّماعيّة في جامعة الحلّة بارتفاع 15 متراً 2005
أنجز بانوراما (اليوم الموعود) بمساحة 240 متراً 2007


25



تجلِّيات عشقيّة مبلَّلة بنكهةِ المطر 

إليكِ أيَّتها المعرَّشة في يراعِ الرُّوحِ، أهدي القصائد! 
 



صبري يوسف ــــ ستوكهولم


 
يتلألأ بهاؤكِ في لجينِ الرّوحِ
وجهُكِ منارةُ دفءٍ
     في صقيعِ الشِّتاءِ!

     *****

عندما أتأمَّلُ نضارةَ خدَّيكِ
أطيرُ فرحاً
كأنّي خفقةُ باشقٍ
في أوجِ حنينِهِ إلى عناقِ السَّماءِ!

     *****    
      
كلَّما يهبُّ النَّسيمُ فوقَ تلالِكِ العاجيّة
يخفقُ قلبي
شوقاً إلى قبلةٍ من نكهةِ المساءِ!

     *****

كيفَ تغفو عينيكِ بعيداً
     عن أزاهيرَ روحي؟
كيفَ تحلمُ وجنتاكِ بعيداً
     عن شهقةِ الانتشاءِ!

     *****

 عندما تنامي بينَ جفونِ اللّيلِ
تذكَّريني
لا تقلقي
سألملمُكِ بينَ اخضرارِ القلبِ
بعيداً عن أنظارِ النَّرجسِ البرِّي
عابراً بكلِّ ابتهالٍ في عرشِ النَّسيمِ!

     *****          

نهداكِ الشَّامخان
محرابُ عشقي
     في مروجِ النَّعيمِ!

     *****

تفضحُ مآقيكِ عذوبةَ البوحِ
قبلَ أن أزرعَ جيدِكِ قُبلاً
لعلَّ قُبَلي تزهرُ فوقَ خدودِ الأديمِ!

     *****

 يتراقصُ كيانُكِ على إيقاعِ تغريدِ البلابلِ
طراوتُكِ تشبهُ نضوحَ النَّدى
     من ثغرِ السَّديمِ!

     *****  
تعالي كلّما تحنُّ يراعُ القصيدة
تعالي كلّما ينمو في القلبِ أغصانُ الهدى
تعالي أوشِّحُ خدَّيكِ أريجاً
يفوحُ على شَسَاعةِ المدى!
 
     *****

 كلّما أقبِّلُكِ تنمو في قلبي زهرة
كلّما أعانقُكِ تحلِّقُ روحي عالياً
كأنّي شراعُ فرحٍ منقوشٍ
     على أطيافِ الصَّدى!

     *****

 تمحقينَ عذاباتِ السّنينِ
تزقزقُ عصافيرُ الخميلةِ
     على إيقاعِ الصَّباحِ
تزهو الرّوحُ عالياً
وتندملُ كلَّ الجِّراحِ!

    *****
 
 أراكِ مزهوَّةٌ بتاجِ الشُّموخِ
ترفرفينَ عالياً كأنَّكِ من فصيلِ اليمامِ
انعتاقُكِ من طوقِ السّياجِ
حلمٌ يستشري على رحابةِ البوحِ!

     *****

تغلي مشاعرُكِ كأنّها لهيب شمعةٍ
تصفِّي الغبارَ العالقَ
     في ذاكرةٍ مشبَّعةٍ بالاشتعالِ
      *****

مساحاتُ الدُّفءِ في أحضانِكِ
تسقي شوقَ الأرضِ
     لحبّاتِ المطر!

     *****

هل كنتِ يوماً عاشقة مبلَّلة بالنَّدى
ملفَّحة بأسرارِ الصَّحارى
     تائهة بينَ أسرابِ الغجر!

     *****

حطَّتْ فراشتان فوقَ راحتيكِ
فراشتان شغوفتان
     بملامسةِ إكسيرِ الحياةِ!

     *****  

وبرُ الفراشاتِ مستنبتٌ من أهدابِ عينيكِ
     من حبورِ جيدِكِ المعجونِ    
          بانبعاثِ ألقِ الاشتهاءِ!

     *****

 قامتُكُ وارفة كشاقِ الرِّيحانِ
تغفينَ بانتعاشٍ لذيذٍ
     فوقَ طراوةِ النَّفلِ البرِّي
نثرَتِ العصافيرُ بتلاتِ الاقحوانِ
     فوقَ عذوبةِ خدِّيكِ
 
    *****

تزهرُ عيناكِ
كأنَّهما مكحَّلتان بألقِ الأغاني
تومئان بفرحٍ آتٍ
ينبوعا دفءٍ في صقيعِ الشِّتاءِ!

     *****

روحُكِ تتماهى مع أحلامٍ آفلة
     مع ضياءِ البدرِ
تحنُّ إلى حبورِ الطُّفولةِ إلى طائراتٍ ورقيّة      
     معرَّشة في عرينِ الذَّاكرة!

     *****

كموجاتِ البحرِ  
فراسخُ العمرِ استطالتْ
     فوقَ كنوزِ أحلامٍ هاربة
          من شظايا الشُّطآنِ

     *****

أنقشُ شهوتَكِ الشَّغوفة
     فوقَ سرّةِ البحرِ
     فوقَ ثغورِ الغاباتِ
  أفرشُها على مساحاتِ بهجةِ الرّوحِ!
 
    *****

كلَّما تقبِّليني
تُبهرينَ قامةَ الموجِ
كأنَّكَ تواشيحُ حُلُمٍ مستطيرٍ
     من أهازيجَ طقوسِ الجنِّ!

     *****

يا ينبوعَ فرحي
يا نشوةَ عشقي
     إلى أقصى شهقاتِ انبهاري!

     *****

تسترخينَ بألقٍ لذيذٍ  
     فوقَ شراعِ أحلامي
كأريجِ وردةٍ في أوجِ تجلِّياتِ العناقِ!

     *****  

تزدهي الأماني عندما تغفو
     فوقِ نهديكِ الباذخَين
كأنَّهما مزارُ فرحٍ
يحلِّقانِ عالياً في نعيمِ السَّماءِ!

     *****

تنضحُ عيناكِ بألقِ البحرِ
وميضُ عشقكِ يبدِّدُ ضجري
يروي عطشي إلى تلالٍ
أبهى من ضياءِ الهلالِ!

     *****

هل تقمَّصَتكِ أزاهيرُ الرّمَّانِ
أم أمطرَتِ السَّماءُ فوقَ خدَّيكِ
أزهى ما في طقوسِ الاشتهاءِ؟!  
  
     *****

تغوصينَ عميقاً في لجينِ الدُّفءِ
كأنَّكِ انبعاثُ عاشقة
     من ظلالِ الجِّنانِ
          إلى أعماقِ كياني!

     *****

كغزالةٍ برِّية تجمحينَ في رحابِ شوقي
هلْ زارتْكِ أسرابُ القطا
عيناكِ مكحّلتان بحبقِ العسلِ
وخدّاكِ هديَّتا فرحٍ من أهدابِ السّماءِ!


ستوكهولم: كانون الأوَّل (ديسمبر) 2012
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

26
الشَّاعر البحريني قاسم حدّاد
يستنبتُ نصّه من رحيقِ الحياة




حوار صبري يوسف ــــــ ستوكهولم

الشَّاعر قاسم حدَّاد يكتب القصيدة كَمَنْ يتعبّد في محراب الشِّعر. ينقشُ على شهقة الرُّوح بشرى الخلاص، خلاص الرُّوح من منغَّصات هذا الزَّمان، كأنَّه محارة منبعثة من أعماقِ البحار، ومستمدّة من نقاوةِ المطر! يلتقطُ بتلهُّفٍ اشراقةَ القصيدة، كما يتلهَّفُ الطُّفل إلى روعةِ الفراشة وهي تعانقُ بهاء الوردة.
يتميّز الشَّاعر البحريني قاسم حدّاد بلغةٍ بديعة تنضحُ ألقاً وبهجةً وإبداعاً، كأنَّه يستنبتُ نصّه من رحيقِ الحياة، من أحلامٍ مسترخية في رحابِ الطُّفولة البكر، من طموحاتٍ معرَّشةٍ في صفاءِ السَّماء، كأنّه رسالةُ أملٍ تشكَّلَتْ من خلال تشظّياتِ هذا الزَّمن الأحمق، كي يعيدَ للغدِ الآتي ألقه، لهذا أسَّسَ منبراً الكترونيَّاً معتَّقاً بوهجِ الشِّعرِ، أطلق عليه "جهة الشِّعر"، محتضناً "القصيدة" من كلِّ جهات الدُّنيا، كأنَّها ابنته الأزليّة ولا بدَّ من رعايتها، رغم جهامةِ الحياة الَّتي تطوّقها من أغلبِ الجِّهات.
يتوغَّل الشَّاعرُ عميقاً في فضاءاتِ اللُّغة، مغامراً ومجرِّباً بكلِّ ما لديهِ من تهويماتٍ وطاقاتٍ إبداعيّة متخيّلة، مركَّزاً على التَّجريبِ والتَّجديدِ والتّحديثِ، بلغةٍ شفيفة، عميقة، متدفِّقة من جموحات روحه التوّاقة إلى معانقةِ ظلالِ الأحلامِ البعيدة.
أطلَّ الشَّاعر على وجهِ الدُّنيا في البحرين على زقزقاتِ العصافير وأريجِ الزُّهورِ. تضمّخت أجنحته بالشعر منذ يفاعته، فغاصَ في عوالمه إلى أن تقمّصه الشَّعر تماماً وغدا شهقةَ فرحٍ وانبعاثٍ من كيانه المتلاطم ليل نهار. يكتب نصّه كأنّه ناسك ترهْبنَ لإلتقاطِ دُرَرِ الشِّعر من جنونِ الحياةِ ومن روعةِ الحياةِ أيضاً.     
من خلال إهتمامي الكبير وإطلاعي بكلِّ شغفٍ على دواوين الشَّاعر قاسم حدّاد، الَّتي تربو على ثلاثين ديوانٍ، عبر موقعه الشَّخصي وعبر قصائده المنشورة في الصُّحف والمجلات والمواقع الإلكترونيّة، ما وجدتُ نفسي إلا متغلغلاً في ينابيع شعريّة صافية، متعانقاً مع عوالمه وفضاءات نصوصه البديعة فولد هذا الحوار:

1 ـ تكتب الشِّعر كمَن ينقشُ على شهقةِ الرُّوح بشرى الخلاص، كيف تبرعمَ في كينونتكَ جمال كلّ هذا الإبتهال الشِّعري؟!

لا أعرف. إذا لم يشِ النَّص بما يجيب على مثل هذا السُّؤال، فلن يفلح غيره أن يفعل ذلك. الخلاص في النَّص ولا بُشرى خارجه.

2 ـ نصُّ قاسم حدّاد يشبه محارة بديعة منبعثة من أعماق البحر، هل تستمدُّ جموحات يراعكَ من نقاوةِ المطر؟

اللُّؤلؤة في المحارة هي لحظة المرض الكوني الخاطف. والشَّاعر عند كلّ نص هو حالة من ذهول الخلق على شفير من الموت والحياة. قطرة المطر تأتي جديدة في كلِّ مرّة، مثل لؤلؤة تنجو من المرض. غير أن الشَّاعر نادر أن ينجو.

3 ـ كيف تلتقطُ اشراقة القصيدة، هل تهفو إليها مثلما يهفو الطِّفل إلى روعة الفراشة وهي تعانقُ بهاءَ الوردة؟!

لا أعرف. يصعب ادراك هذه الحالات الَّتي لا تتشابه في كلِّ مرَّة. وظنِّي أنَّ الشِّعر لا يأتي أحداً. نحن نذهب إليه مثل أفق .. يظلُّ هناك، نسعى إليه .. نسعى ولا نصل.

4 ـ لغتكَ تنضحُ ألقاً وبهجةً، أراك تتوغَّلُ في حفاوةِ اللُّغة، كأنّكَ بصدد كتابة نصّ شعري مُستنبت من رحيقِ الحياة!

ذهابٌ دائم الى اللُّغة. هذا هو الشِّعر. أحياناً الفشل أكثر جمالاً من النَّجاح حين يتعلَّق الأمر بالشِّعر، حيث الشَّاعر لا يحيا ولا يموت.

5 ـ هناك تجلّيات ورؤية إنسانيّة راقية تزدهي في نصوصك، كيف تمسك بكلِّ هذا البهاء الإنساني عبر نصٍّ شعري؟

لا أعرف، ما إذا كان هذا الَّذي تقول عنه يحدث فعلاً، أم أنّك ترى ما لا يدرك.

6 ـ بماذا تفكِّر وأنتَ غارق في تدفُّقاتكَ، هل تكتب لِذاتِكَ، لآفاقك اللامحدودة، أم أنَّكَ تكتب لتعيد توازنكَ في الحياة؟

لذاتي ربَّما، عن ذاتي نعم، الكتابة هي محاولة الامساك بطرف الرِّيشة في جناح مكسور. الشَّاعر هو كائن مخذول دائماً، والكتابة ضرب من اسعاف النَّفس.

7 ـ كيف ممكن أن نصنع ثقافة شعريّة إبداعيّة راقية، بعيدة عن مقصّات مَن لا يفهمون أعماق أبجديات الإبداع؟!

عندما تقدر على حسم الأمر مبكراً: ماذا تريد من الشِّعر مطلقاً. أين الغاية وأين الوسيلة في حياتك عندما يتعلَّق الأمر بالشِّعر والكتابة. إن كان الشِّعر وسيلة، فاحسب أنّك انتهيت على العتبة الأولى.

8 ـ هل تشعر بين الحين والآخر أنَّ هناك تكلُّسات تخنق حفاوة القصيدة، ويراودك أن تقفز فوق هذه التكلُّسات ولكنَّك تصطدم بجدران سميكة مسلَّطة فوق شهيق الشّعر؟ وهل تواجه هذه التَّكلُّسات وتخلخلها شعرياً، بطريقةٍ أو بأخرى؟!

ليس ثمّة حجاب أو وسائط بيني وبين الشِّعر، وبالتالي فأنا لست بحاجة (أو بالضبط لست معنيَّاً) بما يتكلّس ويصطدم ويسلّط على طاقة الشِّعر الّتي تستعصي.

9 ـ لماذا لا نرى للشِّعر والأدب دوراً تنويريَّاً، يفتح آفاقاً لرؤى رياديّة جديدة لمجتمعاتنا الشَّرقيّة والعربيّة؟

الشِّعر أقل خطابةً وأكثر سبراً في آن. وكلَّما جاء الشِّعر متحرِّراً من هذه المزاعم، تسنَّى له أن يتحقَّق ويحقِّق حلمه الحميم. فتلك أدوار لها من ينهض بها.

10 ـ هناك أشبه ما يكون بإنفصام ما بين ثقافة الدَّولة السَّائدة في الشَّرق، وبين المبدع الحرّ، متى سنجد تناغماً ما بين القائمين على قيادة دفّة الثّقافة والمبدعين الَّذين يغوصون في أعماق البحار والسَّماء بحثاً عن رحيقِ الإبداع؟

أخشى أنّه علينا عدم السَّعى لمثل هذا (التَّناغم) الَّذي تشير إليه. فربَّما ليس متوقِّعاً من الشِّعر أن يتناغم مع تلك الدَّولة وثقافتها.

11 ـ الشِّعر والرَّسم وجهان لعشق واحد هو الإبداع، الشَّاعر يبدع صوره عبر الكلمة والفنّان يبدع عبر اللَّون، فما رأيك في تماهي وتداخل هذين الوجهين في تدفُّقات وهجِ الإبداع؟

منذ أن وعيت (أو ظننت ذلك) كنت أرى إلى الشِّعر والرَّسم سياقاً واحداً نحو أفق أكثر رحابة من التُّخوم. أحببتُ الرّسم مبكراً لكنَّني وجدت نفسي في الشِّعر. فاكتفيت بتلك المحبّة. ليس في الأمر تماهٍ، لكنَّهما يذهبان الى الطَّريق بنفس الوسائل ... تقريباً.

12 ـ ما رأيك بأن يستلهم الشَّاعر نصوصاً شعريّة من وحي الإصغاء إلى موسيقى ومشاهدة لوحات تشكيليّة؟

هذه نعمة لا تكفّ عن منحنا كرمهما كلَّما تسنَّى لنا ذلك.

13 ـ هل الشَّاعر هو حرّ بالمطلق، أم أنّه مقيّد ببعضِ التَّقاليد والأفكار والتَّوجُّهات والآراء السَّائدة في البلاد؟

إذا استطاع أن يكون حرَّاً فعلاً، فسوف لن يرى في تلك الأدوات والآليات سوى أجنحة نحو حرِّيته.


14 ـ في ظلِّ الصِّراعات الَّتي تشهدها السَّاحة العربيّة والشَّرقيّة، انكفأتِ الثَّقافة والشَّعر نحو الصّفوف الخلفيّة، كيف ممكن أن نعيدَ لكلٍّ من الثَّقافة والشِّعر والإبداع دوره الخلاق في المجتمع والحياة؟!

لا يتوقف الإبداع عن العمل، مثل الحياة. غير أنّه يتوجَّب علينا التَّخفُّف من الأعباء الَّتي نتوهَّم مسؤوليّة الشِّعر عنها. العمل في السَّاحات من مهمَّات الآخرين، كثيري المزاعم قليلي المواهب. الشِّعر أجمل من ذلك .. وأجدى.

15 ـ أنتَ من الشُّعراء المتميِّزين والبارزين في نصِّكَ الشِّعري، رغم غزارة انتاجكَ، كيف استطعتَ أن تحافظَ على غزارةِ إنتاجكَ وشموخِ البناء الشِّعري؟

غزارة انتاجي؟  انني بالكاد أتمرَّن على الكتابة والشِّعر، ففي رفوف روحي الكثير الَّذي لم أكتبه بعد. وأخشى أنَّ الوقت لم يعد يسع. فالوقت صار عدوِّي.

16 ـ كيف تكتب القصيدة، هل تضع مخطّطاً وأفكاراً ما لبناء القصيدة، أم أنّها تتبلور أفكارها ثمَّ تلد بعفويّة جامحة؟

ليس ثمَّة مخططات للشعر والكتابة. أكتب مثل طفل يتعلم الكلام. وأهدم مثل عابث.

17 ـ السِّياسة هي جزء من الثَّقافة، ولكن هذه القضيّة في بلادنا الشَّرقيّة والعربيّة معكوسة تماماً، حيث نرى أنَّ الثَّقافة تابعة للسياسة، متى سيفهم السِّياسي الشَّرقي أنَّ لا قيمة لأي بلد في الدُّنيا ما لم يولِّ أهمية كبرى للثقافة؟

لم يحدث أنَّني تصرَّفتُ (أعني: استسلمت لفكرة) بتابعيّة الثَّقافة للسياسة. وكثيراً قلت أنَّ هذا أمر لا ينبغي الغفلة عنه في هذه الغابة العربيّة. فَهِمَ أمْ لم يفهم السِّياسيون، فالثقافة شأنٌ لا ينبغي أن يحلموا بقيادته.

18 ـ عادة المجتمع البشري في حالة تطوُّر وتقدُّم، لكنِّي أرى مجتمعاتنا في حالة تقهقر وتراجع، إلى متى سنغوص في حروب لانهائيّة، ولا ينظر قادة الأوطان إلا سم واحد نحو الأمام، متى سينظرون نظرة بانوراميّة لخير مجتمعاتهم؟

قلت قبل سنوات: أنَّنا لسنا متخلِّفون، لكنَّنا نتخلَّف يوميّاً. والفرق كبير وأخطر بين أن نكون متخلِّفين وأنّنا نتخلّف بشكل بالغ الاستطراد والاصرار. فهذا يجعل المسافة بيننا وبين الحياة في هذا العالم .. هائلة وعسيرة على المعالجة.

19 ـ لماذا الشِّعر العربي في حالة انحسار عالميَّاً، هل توافقني الرَّأي، أنَّ الشَّاعرَ العربي مغضوب عليه من قبل الشَّرق والغرب معاً؟

من قال هذا؟! النَّاس يتخلَّفون وينحسرون، غير أنَّ الشِّعر والإبداع يتفتَّح مثل وردة في الحديقة. ربَّما مغضوب عليه في المجتمع المتخلِّف. تعال أنظر الى العالم كيف يحبون الشُّعراء ويحترمونهم ويصغون إليهم.

20 ـ أصبح مالنا، نفطنا، وشمسنا، بلوةً ونقمةً علينا، حبذا لو كنَّا من أفقر فقراء الكون ولا رأينا هذه الكوارث!

ليس الخلل في الثّروات والطَّبيعة، الخلل في العقل الَّذي يكفُّ عن ذلك ويقصر عنه.

21 ـ فشلَ القادة الرِّجال في قيادة الشَّرق وقيادة الكون، لماذا لا يتركون الفسحة للمرأة كي تقود العالم، لأنَّ المرأة تجنح نحو السَّلام والمحبّة والوئام بين البشر، بينما الرِّجال يجنحون للحروب وقيادة البلاد والعباد إلى بوّابات الجَّحيم؟

لا أنظر الى الأمر بهذه النَّظرة العنصريّة الَّتي لا تختلف عن (عكسها) سوى في النَّوع.

22 ـ أشعر بقرف حقيقي من سياسات هذا الزَّمان، خاصَّة السِّياسات العالميّة، حيث أشعلوا الكون حروباً مدمِّرة للجميع، فلا يوجد أي طرف رابح من كلِّ هذه الحروب طالما هناك قتل ودمار من كلِّ الجِّهات، ما هذا الغباء السِّياسي الكوني؟

لا أعرف.

23 ـ صراع الحضارات، أقبح القباحات، متى سيفهم الشَّرق والغرب أنّ كليهما في مهبِّ الجّنون لو سارا في هذا المسار؟

مَنْ يقول بصراع الحضارات سوى المتعصِّبين في الدِّين والفكر. ثمَّة حوار إنساني عميق الدَّلالات يجري بين البشر والثَّقافات في أرجاء الأرض. وربَّما في هذا يكمن نور الأفق الَّذي نحلم به.

24 ـ فشلت السِّياسات كما أسلفتُ في قيادة الكون والمجتمعات، لماذا لا يجرِّبون الثَّقافة في قيادة الأوطان، خاصَّة في دنيا الشَّرق، لماذا لا يقود المبدع البلاد الَّتي ينتمي إليها، أم أنَّ قيادة البلاد تحتاج إلى لغةِ النَّارِ والفولاذ، والمبدع لا يجيد سوى عبق الأزاهير وبسمة الأطفال واخضرار الحياة؟!

أخشى أنهم لم يفشلوا بعد في مهمَّاتهم. فخرائط الخراب ما تزال تعيث في العالم.

25. نحن أحوج ما نكون لبناء جسر ثقافي وفكري وإبداعي بيننا وبين الغرب، ما رأيك لو نبني هذا الجِّسر الثّقافي عبر التَّرجمة، ويروِّج الجَّميع لثقافة المحبّة والتَّسامح والسَّلام، لخلق حالة وئام وسلام  بين البشر كلَّ البشر؟!

هل بدأتَ ؟!


27
لُحى تجزُّ الرُّؤوس وأخرى تسامحُ حتّى النّخاع

قرأتُ عشرات عشرات، بل مئات مئات الأخبار المتعلِّقة بالمطرانَين المخطوفَين من قبل جهات إرهابيّة، قطّاع طرق، معارضة سوريّة، .... ، الطَّريف بالأمر أنَّ ردود أعلى الهيئات الدِّينيّة في العالم، ابتداءاً من قداسة بابا الفاتيكان، ومروراً بكلِّ الهيئات الدِّينيّة المسيحيّة في العالم وإنتهاءاً بقداسة بطريرك السِّريان الأرثوذوكس الجالس محتاراً ومحيِّراً، لم يكُنْ أكثر من شجب واستنكار لما قام به هؤلاء الإرهابيين، ولكن الأروع من كلِّ هذا هو أنّهم وضعوا كلّ ثقلهم لأن يلغوا مراسيم الفرح والمعايدة في عيد الفصح، تضامناً مع المطرانَين، واكتفوا برفع الصلوات والقداديس كي يعودا سالمَين! حلول جبّارة!!! جبّارة جدَّاً، يا لطيف! هزّوا الكون بهذا الموقف الجّبار!!!                                                                      لقد هَزُلَتْ فعلاً!!!                                                                                   
كلّ هذا الَّذي شاهدته، وسمعته وقرأته فعلاً يبعث السخرية إلى حدِّ لايطاق! وهو ردٌّ ضعيف وسخيف لا يرقى إلى المستوى الذي تتبوَّأه الكنيسة البابوية والأرثوذوكسية وبقيّة كنائس العالم، وهذا يؤكّد لي ولغيري، أنَّ الحلول الكنسيّة وموقع ووزن الكنيسة على مستوى العالم لا يرقى إلا إلى مستوى الشَّجب والاستنكار، وهذا الموقف المهزوز، لا يختلف عن موقف الدُّول العربيّة أيام زمان والآن عندما تشجب وتستنكر موقفاً ما لا يعجبها، وغالباً هي أي الدُّول العربيّة تقوم وقامت مراراً بمواقف سخيفة عديدة، وتشجبه بقيّة الدُّول الأخرى، وهكذا نكون أمام مواقف كوميديّة طريفة، أعلى سقف لهذه المواقف هو الشّجب والاستنكار! 

سؤالي إلى متى سيبقى الكرسي البابوي وكراسي عديدة أخرى، وأديان سماوية وأرضية لا تحصى، ودول وسياسات وهيئات دوليّة ومنظَّمات حقوق الإنسان، مجرَّد أسماء كبيرة على قُرى خرابة؟!               
نعم، مجرّد أسماء كبيرة على قُرى خرابة، لا تَعْدُوا مواقفها أن تكون مواقف كراكوزيّة في غاية الطّرافة والنّكتة السَّمجة، لأنَّ الشَّجب والاستنكار في مثلِ هذه الحالات هو دليل ضعف ما بعده ضعف، ويذكِّرنا كما قلنا بمواقف الدُّول العربيّة العتيدة في الشَّجب والاستنكار منذ قرون وستبقى مواقفها ربّما إلى قرون أخرى من دون أي وزن دولي لهذا الشَّجب والاستنكار.                                               
بدأتُ رويداً رويداً أفقد ثقتي بكلِّ الَّذين يقودون الأديان، وبكل الَّذين يقودون السياسات على وجه الدُّنيا، إذ تبدو لي نتائج الَّذين يقودون الأديان والسِّياسات مجرّد مصالح سخيفة، غالباً ما تصبُّ في غير صالح الإنسان كإنسان وبغير صالح المجتمع البشري ولا تصبُّ في أهداف الأديان الكبرى، بل هي لصالح فئة معينّة من الفئات الَّتي تقود الأديان والسِّياسات على حساب السَّواد الأعظم من بقيّة الفئات، وهم أي الَّذين يقودون الأديان والسّياسات مجموعة عصابات، أو بتعبير أدق لا يختلف أغلبهم عن العصابات، إذ يبدو لي واضحاً كيف يعبِّر هؤلاء عن مواقفهم بحسب مصالحهم العصاباتيّة، وأرى من الضّروري أن يقف مفكِّرون عالميون، متخصِّصون بالأديان والعلوم السياسيّة والفلسفيّة والعلوم بكل تفرُّعاتها وتخصُّصاتها ومن كافّة الأطراف المتعلّقة بالأديان والسّياسات وقيادة الأوطان ويسقطوا كلّ الَّذين يقودون الأديان والبلدان بشكلٍ سقيم وعقيم، لأنّ أغلبهم قادونا إلى الجَّحيم والهلاك الذَّميم. وأن يسنّ المفكّرون والعلمانيون ورجالات الدِّين الجدد قوانين دينية جديدة ودساتير دولية وعالمية ومحلّية جديدة، تفيد المجتمع الإنساني ككل، وليس لفائدة فئة على حساب فئات أخرى، بحيث أن تكون القوانين والشرائع والدساتير المسنونة الجديدة أرقى بكثير من الدساتير التي نراها اليوم، والتي أودَت المجتمع البشري إلى أعماق الجّحيم ولا يحرّك المجتمع البشري بكلِّ هيئاته الدِّينية والسِّياسية ومنظّمات الحقوق الإنسانيّة سوى الشجب والاستنكار؟!                                                                                       
وإلى أين قادتنا مواقف الشَّجب والاستنكار؟                                                           
قادتنا بحسب ما نرى إلى مواقف أشبه ما تكون بتجارة جحا، أو الضّحك على اللُّحى! وكلّ اللُّعبة لا تعدو فعلاً عن ضحْكٍ على اللُّحى! لُحى مَنْ؟ لُحى المجتمع البشري برمّته!                               
الموضوع الَّذي نحن بصدده هو بسيط جدَّاً، ويتم حلّه بدقيقة واحدة، ولا يحتاج إلى أيّة صلوات ولا إلى إلغاء مراسيم الأعياد ولا إلى كلّ هذا الحزن الكوني الكبير! الحزن وارد من منظوري بسبب ضحالة الموقف الكوني على كلِّ الجّبهات، وليس من منظور الاختطاف كحالة لأنَّ حلّها بسيط وكما قلت ممكن أن يتمَّ بدقيقة واحدة وذلك من خلال اتصال هاتفي من البيت الأبيض (أو الأصفر!) لأنّني أراه أصفراً فاقعاً وعقيماً! ولو لم يكُنْ فاقعاً وعقيماً لما رأينا ما رأيناه وما نراه. مع هذا بإمكان هذا البيت أن يطرح نفسه فعلاً أبيضاً وصافياً ونقيَّاً ولو لمرّة واحدة! ويتّصل مع أردوغان وبقيّة العصابة المتفشّية في مفاتيح الشّرق، ويقول لهم، صحيح نحن دعمناكم وندعمكم ولكن ليس إلى درجة اختطاف مطارين وقتل رجالات دين في مساجدهم، لقد تجاوزتم الحدود ووضعتم رأسنا في التُّراب.                                   
سيردُّ أردوغان قائلاً، بماذا تأمرنا يا سيّد البيت الأبيض؟                                             
سيقول له سيّد البيت "الأبيظ"!، عيب، أعيدوا المطرانَين إلى كنائسهما لقد شحّرتم وجهي!                 
سيردُّ أردوغان بكلِّ طاعة، تكرم عينك.                                                               
أعتقد أن هذه المكالمة لا تستغرق أكثر من دقيقة! وأعتقد جازماً أن هكذا مكالمة تحلُّ المشكلة من جذورها!                                                                                           
سيتصل أردوغان مع أصحاب اللّحى الَّذين اختطفوا أصحاب لُحى، ولكن شتّان ما بين لحية ولحية! لحية تجزّ الرُّؤوس على الإسم، ولحية تسامح حتّى النِّخاع، ولا أظنُّ أنَّ أيَّة لحية من هذه اللُّحى تصلح لقيادة الأديان والأوطان في هذا الزَّمان!                                                                     
وهكذا سيخرج المطارنان معزّزين مكرّمين من قبضة الخاطفين عبر طريقة سلسة ورومانسيّة وكأنَّ اللُّعبة كلّها مجرّد تمثيل فيلم سينمائي من إخراج خيال هندي بارع في ستوديوهات هوليود!                   
هذه كانت وجهة نظر، أشبه ما تكون وجهة نظر كوميديّة في بعض تفرُّعاتها!                           
ولِمَ لا تكون وجهة نظرنا كوميدية، الكون برمّته يرزح تحت كوميديا ساخرة وسافرة ومريرة، وكوميديا لا تخطر على بال الجَّن!                                                                             
أليس من العار ونحن في القرن الحادي والعشرين أن نرى البشر يقتلون بعضهم بعضاً وكأنّهم وحوش ضارية؟! إني أرى الوحوش الضَّارية غير ضارية وغير مفترسة مثل الكثير من بشر هذا الزَّمان! بشر آخر زمن!                                                                                           
وصلت تفاهة المجتمع البشري إلى حدِّ لا يطاق ولهذا أرفع شعار: أنا أطالب بإسقاط المجتمع الدَّولي وسياسات الكون برمَّتها، وقياديي رجالات الدِّين في الكون عن بكرة أبيهم، لأنَّ الجميع فشلوا في قيادة البشر، والجَّميع بنسبة ما مجموعة عصابات يتسلَّون في دماء البشر لمصلحة سياسات سخيفة وكراسي تافهة أقل ما يمكن أن أقول عنها بعيدة كلّ البعد عن أخلاق البشر الأقحاح وليس البشر المطعّمين بالسُّموم، والمفخّخين بأنياب أشرس الضَّواري، والكثير منهم لا يحلُّ ولا يربط، فما فائدتهم إذاً!         
                 
يبدو لي أن الكثير من البشر يحتاجون إلى إعادة صياغتهم كبشر، لأنّهم دخلوا في مرحلة ما بعد افتراس أشرّ حيوان!                                                                                       
عشنا وشفنا حضارة القرن الحادي والعشرين، حضارة مشنفرة بالتّرهات والعذاب والآهات!!!           
خطف، ودمار وخراب، وقتل وعذاب، وألم مفتوح على جبهة الرُّوح، وكل واحد يطرح نفسه عبقري عصره وإذ به من أسقط السَّاقطين!!!                                                                       
                                                                       
هل خطف مطران هو رجولة أو سياسة أو حضارة أو عدالة أو تطوُّر أم غباء سياسي وديني بإمتياز؟!     
هل قتل رجل دين كبير في جامع هو سياسة أو معارضة أو عدالة أو تغيير أو تطوير أو حرِّية رأي؟!     
الكارثة الكبرى أنَّ كلّ هؤلاء الَّذين يعتقدون انّهم يفهمون لا يفهمون شيئاً لا في السياسة ولا في الأديان ولا في أبسط أبجديات الأخلاق، فإلى متى سيبقى المجتمع البشري يعاني من انتهاكات هؤلاء المجانين؟! 
أقول مجانين والمجانين منهم براء، لأنَّ المجانين على الأقل هم مرضى ومجانين ولكن هؤلاء ليسوا على الأساس مرضى ولكنّهم يتصرّفون بحماقة وصفاقة أكثر من مرضى ومجانين هذا العالم!             

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com


28
حالة انبهار
لوحة طافحة بجموحاتٍ بارعة نحو رحابِ الطُّفولة
بقلم: صبري يوسف
هذه اللَّوحة تمنحني فرحاً عميقاً لا يضاهى، تحرِّضني على الرَّقص من بهجةِ الانتعاش، كأنّي أعبر في عوالم غابة حلميّة، متناغمة مع همهماتِ كائناتٍ مبهرة وتغريد وزقزقات طيور خرافيّة بديعة، منبعثة من أزمنة غابرة، تلهو مع كائنات متماهية مع آفاقٍ أسطوريّة في غاية الجَّمال والوئام. تعيد إلى ذاكرتنا عشرات القصص والحكايات التي كنّا نسمعها من خلال تدفُّقات روعة الخيال. ما هذا البهاء الموشوم على كائنات متراقصة بانسجامٍ مدهش، كائنات متلألئة بجمالٍ خلاب، كائنات فريدة، متعانقة مع سموِّ الرُّوح وهي تحلِّق عالياً كي تعانقَ ألق السَّماء وتعانقَ حميميّات الطُّفولة المعشَّشة في كينونتنا منذُ أمدٍ بعيد!                                               
كلَّما أنظرُ إلى هذه اللَّوحة، أزدادُ إندهاشاً، وكأنّي أراها للمرّة الأولى، تبدو لي متطايرة من بساتين الجّنة، من خيالٍ متهاطلٍ على إيقاعِ شهوةِ المطر، حيث الألفة منسابة بشكلٍ مبهر على مساحات اللَّوحة، بتقنياتِ فنّانٍ منعتقٍ من شوائب الحياة، بحثاً عن عرين الجَّمال المتناثر فوق أغصانِ الدُّنيا، وكأنَّ هدف الفنَّان هو استنهاض عالم طفولي شفيف من هذه الكائنات الَّتي تتراقص بمرحٍ كبير لبسمةِ وحنينِ الأطفال، حتّى أنّني في الكثير من الأحيان، أشعر وكأنَّ مملكة الفنّان مفتوحة على نضارة الأطفال وهم في أوج حبورهم وأحلامهم ولَهْوِهم في عالمٍ بديعٍ إلى أبعدِ درجاتِ البهجةِ والإمتاع!                                                                 
لوحة تحمل بين فضاءاتها كرنفالاً لونيِّاً مخضَّلاً بالجَّمال، أشبه ما تكون سيمفونيّة مستنبطة من تلألؤاتِ الرُّوح في ليلةٍ قمراء، مملكة متعانقة مع أسرارِ الدُّنيا، شوقٌ مفتوح إلى الذَّاكرة البعيدة، هي تدفُّقات حنينيّة إلى مروج الطُّفولة، حلمٌ باذخ نحوَ ظلالِ السَّماء الشَّاهقة، قبلةُ عشقٍ على خدودِ الصَّباح، حوارُ الرُّوح مع الكائنات كلّ الكائنات، بسمةُ طفلٍ في وجهِ الرَّبيع، عناقُ الأمِّ لزخّاتِ المطر، لوحة من نكهةِ الإبتهال، تتعانقُ مع جموحِ الشُّعراء في أوجِ تحليقاتهم، هي رحيقُ الشّعرِ المندّى بسموِّ السَّنابل، هي روح الشِّعر في أوجِ الاشتعال، هي صدرالدِّين أمين وهو يحلِّق نحو معراجِ بهجةِ السَّماء، بحثاً عن أسرار الفرح، بحثاً عن الماءِ الزُّلال، بحثاً عن حوارِ الأرضِ والسَّماء، وغوصاً في سديمِ اللَّيلِ، لعلَّه يغفو بين أهازيجَ الطُّفولة.                                                           
الفنّان صدرالدِّين أمين طفلٌ معرَّشٌ في حبقِ النّعناع البرّي، طيوره الَّتي يرسمها شفيفة كمآقي الزُّهور، كأنَّ أجنحتها مستنبتة من بخورِ الأديرة القديمة، تعبقُ شذىً وألقاً، تناغي أزاهير غافية عند تخوم أحلام الطُّفولة. هل هي طفولة الفنّان أم طفولتي أم طفولة المشاهدين، أم هي حنين مفتوح إلى مروج طفولتنا البكر جميعاً؟ لماذا يحنُّ الفنَّان والشَّاعر والإنسان إلى الطِّين الأوَّل، هل تولد اللَّوحة من تطاير هواجس الأحلام المنبثقة من عطشِ الرُّوحِ إلى مهدِها الأوَّل، هل نحن أنشودةُ عشقٍ مفروشة على مآقي الغمام، أم أنَّنا تدفُّقات نسيم مندّى بتواشيح أريج الصَّباح؟!                                                                                                     
أرى عالماً معبّقاً بالابتهال على مساحاتِ اللَّوحة، وأطفالاً مضمّخينَ بنضارةِ الاخضرار. تمدُّ طفلةٌ يدها إلى طائرٍ موشّحٍ بازرقاقٍ فاتح، يهفو إلى مداعبة سمكة صغيرة، مسترخية بين أحضانِ طفلة حالمة بمرجان البحر! عناقات بهيجة على امتدادِ وهجِ الخيال، كأنّنا إزاء كرنفالٍ عشقي بين كائنات منسابة فرحاً ومتآلفة مع بعضها بعضاً، يقدّمُهُ لنا الفنّان في إطار طقوسٍ لونيّة راعشة، في غايةِ الرَّوعةِ والإنسجام. حوارات انتعاشيّة متماهية مع تلاطماتِ شهوةِ البحارِ وهي في خضمِّ بحبوحةِ الإنتشاء.                                   
تتراقصُ على مساحاتِ اللَّوحة، انسيابات لونيّة متدفِّقة فوقَ جباهِ كائناتٍ عطشى إلى عبقِ أزاهير برِّية، احمرارٌ ساحرٌ يتمايلُ فوق عيونٍ زرقاء وبتلات معرّشة باخضرارٍ شفيف. تسطع غزالة جامحة بشموخٍ وهي تصغي إلى هسيس دبيب الأرض وخشخشات بعض الزّواحف. اختبأ بعض القطا خلف تلّة مكتنفة بالسَّحالي الصّغيرة، كأنّها في انتظار هديل اليمام من جوف الوادي المملوء بالزَّنبقِ والنَّفلِ البرّي. ترقص الكائنات الجَّميلة على إيقاعِ دفءِ النّهار. تفرشُ الشَّمسُ حبّها على روعة المكان. يراودني كثيراً انكماش الإنسان بعيداً عن شموعِ الخير وأغصانِ الجِّمال. كيف لا يستمدُّ الإنسان من كلِّ هذه الحفاوة والتَّناغم بين الكائناتِ البرّية والأهلية، خيوط الحبِّ والمؤانسة بين بني جنسه، عابراً بكلِّ رعونةٍ دهاليز معتمة، كأنّه في سباقٍ مع ألسنة النّارِ في بثِّ جحيمِ نيرانه على خدودِ الدُّنيا!
مسحةٌ أليفة تضيءُ جفونَ الغابات، من خلال رؤى خلاقة تعرّشَتْ بينَ أجنحةِ الفنّان، منذ أن تفتَّحَتْ مآقيه على وجهِ الدُّنيا، لهذا تتبرعمُ كائناته في فضاءاتِ ألوانٍ مرفرفة بأجنحةِ الفرح والوئام والأمل، تسطع كوهجِ الشَّمسِ وسطوعِ منارةِ القلبِ، مترجماً بكلِّ ما لديه من جمالٍ خلاق، شوقَ الرّوحِ إلى أبهى ما في خصوبةِ الحياةِ من تدفُّقاتِ لجينِ الإبداع!                                           
                 
ستوكهولم: نيسان (أبريل) 2013                                                                                     
 صبري يوسف                                                                                                       
 أديب وفنّان تشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
 






29
وجهات نظر صبري يوسف حول حل الأزمة السورية المستفحلة

عندما ندرس ونحلِّلُ الأزمة السورية والواقع العربي الشرقي الحالي، علينا أن نعود إلى واقع العالم العربي والشرقي قبل حلول ما يسمى بالرَّبيع العربي بسنواتٍ أو عقودٍ من الزَّمان، لأنَّني لا أعتبر أصلاً ما حصل في الشَّرق ربيعاً عربياً، بقدر ما أراه زمهريراً قارساً بإمتياز!                                             
إنَّ الواقع العربي من المحيط إلى الخليج، واقعٌ مرير، يحتاج إلى معالجاتٍ فكرية سياسية اقتصادية اجتماعية ونفسيّة وحياتية، ولكي نعالج هكذا عالم مهلهل، علينا أن نضع أيدينا على الجِّراح المستفحلة في هذا العالم، كي نجد أنجع العلاجات له في قضايا التغيير والتطوير، فالواقع العربي وما يحيط به، مغلَّف بجملة من التَّشابكات والأخطاء الجَّسيمة والممارسات العقيمة التي لا تمتُّ بصلة إلى الرُّؤية الحضاريّة والتنويريّة والتَّقدميّة والدِّيمقراطيّة، ولا تمتُّ بصلة إلى النُّهوض الفكري والاقتصادي والسِّياسي والاجتماعي، ولا تبدو الحكومات أو الأنظمة في العالم العربي أنّها بصدد بناء مؤسَّسات ودول على أسس حضاريّة وديمقراطيّة راسخة، كما هو الأمر عند الكثير من الدول الديمقراطية المتقدِّمة في العالم، بل غالباً ما تسير من سيءٍ إلى أسوأ، وكل هذا بسبب غياب الرُّؤية الفكرية الخلاقة، وطغيان الأفكار المتصارعة الَّتي أدَّت وتؤدِّي إلى حروب مميتة، أودَت البلاد والعباد إلى أعماق الجَّحيم!                                                               
يحتار المرء في كيفية إيجاد الخيوط التي تقودنا إلى العبور في أعماق هذا الموضوع، والذي بكل تأكيد يحتاج إلى فريق كبير من البحاثة والمفكِّرين والمختصّين بكلِّ أنواع تخصُّصات بناء الدولة الحديثة بكل تفرُّعاتها، لمعالجة هذه التشابكات المستفحلة والصراعات المعقَّدة والهدَّامة، ولهذا لا يمكن معالجة ما حصل الآن من خلال جرّات قلم ولا من خلال مبادرات من هنا أو هناك، فكل المبادرات التي طرحت نفسها لمعالجة الأزمة السُّوريّة، كانت مبادرات فاشلة، لأنّها مبادرات مبرمجة ومستهدفة من جهة على حساب جهة أخرى، ومبادرات قائمة على رؤى أحاديّة الجَّانب، وغير مستندة على أسس موضوعية ومنطقية وعمليّة لحلِّ الأزمة السورية وما يجاورها وما يرافقها من أزمات، لأنّها ناجمة غالباً عن جملة من المصالح الغربيّة، ومتعلِّقاتها من المصالح في الشَّرق العربي المرير، هذا الشَّرق الَّذي يسترخي على آبار النَّفط، الذي يطلقون عليه الذهب الأسود، بينما أنا أرى نتائج وخيمة لهذا الذَّهب على المنطقة وكأنّه سمّ أسود، فنادراً ما نرى مواطناً في هذا الشَّرق السَّقيم، ينام مرتاح البال، وغالباً ما نراه جاحظ العينين، ينام قلقاً وكأنّه على كفِّ عفريت، خاصَّة في الدُّول المتعلِّقة بهذه الأزمات والصِّراعات المجنونة، ولا يدري كيف تظهر له هذه العفاريت ولا يعرف كيف ممكن معالجة قضية تفريخ العفاريت والحروب والأزمات، وهذه العفاريت ما كانت لتوجد إلا لأنَّ الواقع العربي واقع هشّ ومريض وعقيم وغير حضاري في الكثير من توجُّهاته السّياسيّة والفكريّة والإيديولوجيّة والإقتصاديّة والاستنهاضية سواء من جهة الأنظمة أو من جهة المعارضات.                                                                         
انّي أنظر نظرة شفقة إلى واقع حال الأنظمة والمعارضات معاً، لما يكنّون في بواطنهم من عناد كبير، فيما يتعلَّق في حلِّ أبسط الأمور وأعقد الأمور، لأنَّ القضية السورية، والأزمة السورية مثلاً، هي أزمة مفتعلة ومتضخِّمة بصيغتها الصراعية العنفية التصفوية الإقصائيّة، لأنه لا يجوز بأيِّ شكلٍ من الأشكال أن تصل الخلافات ما بين النظام والمعارضات إلى هذه الدرجة من العنف والاقتتال والبطش وفتح جبهات هذه الحروب المريرة والمدمِّرة لكلِّ الأطراف، وهي أزمة مفبركة ومقولبة ومخطَّط لها من قبل الكثير من أجندات المنطقة وأجندات الغرب والشرق، لدمار البنية التحتية والفوقية ودمار الشرق برمّته، لتصفية حسابات غربية وشرقية في الكثير من منعرجاتها، لأنَّ سلسلة ما يسمى بالربيع العربي هي عبارة عن سلسلة متعاقبة من الدّمارات، وسلسلة مفتوحة من المشاكل الَّتي لا حلّ لها إلا بعد عقودٍ من الزّمان إذا سارت في هذا السِّياق من العناد والتوجُّه الطّائفي والمذهبي والديني والقومي والإقصائي، لأنَّ توجّهات بناء الدَّولة الَّتي يتم تأسيسها عبر ما يسمى بالرَّبيع العربي، ليست لها أية علاقة بتوجّهات الذين رفعوا شعار الحرّية والكرامة والديمقراطية والرأي والرأي الآخر، وأنا من جهتي أؤيّد رأي الشباب والشابات الذين خرجوا إلى ساحات التحرير وإلى كل ساحات العالم العربي بقصد تحقيق الكرامة والعدالة والحرّية والديمقراطية وبناء الدولة الحديثة على أسس التغيير والتنوير والتطوير والتحرير، ولكن التحرير مِن مَن ولمَن!!!                 
فهل تحقّقَ التحرير كما كان ينوي شباب وشابات التحرير؟ الجواب لا، وللأسف الشديد بعد أن حقَّق هؤلاء ما لا يمكن تحقيقه من قبل الذين يمسكون بزمام الأمور الآن، على سبيل المثال مصر، فإن نسبة كبيرة من توجّهات الدولة التي جاءت على أساس الثورة والربيع العربي، لم نجد توجّهات شباب وشابات الثورة تُترجم على أرض الواقع، لما كانوا يطالبون به في ساحة التحرير، بالعكس تماماً نجد الآن صراعاً مميتاً ضد توجّهات الدولة التي جاءت على أكتاف شبان وشابات طرحوا أبسط أبجديات الديمقراطية والحرية والكرامة وبناء الدولة الحديثة، لهذا أقول أنَّ الثورة، أو التغيير والتحديث والتنوير، في أية دولة على وجه الدنيا، لابدَّ أن تتم بموجب فكر خلاق تنويري وتطويري وتحديثي، وهذا الفكر التنويري والتطويري والتقدمي والديمقراطي هو بذور الثورة التي ينطلق منها دعاة الثورة والتحرير، وبما أنَّ الأفكار التي كان يطرحها هؤلاء الشبان هي مجرّد أفكار وطموحات غير مثبتة ضمن برنامج سياسي وفكري وإيديولوجي، وغير ناجمة عن توجهات فكرية لقائد ثورة، فلا أرى على الساحة فكراً ثورياً تطويرياً تغييراً نحو الأفضل، قامت بموجبه الثورة، لهذا نرى أن الآخر أو مَن يأتي ويستلم زمام الأمور لا يولي أي اهتمام لتوجُّهات الثوَّار ومن قام بالثورة، وهم أي الثوار كانوا بمثابة مطيَّة أو حطب لاشعال واشتعال الثورة، للذين وصلوا إلى سدَّة الحكم، ويخطأ مَن يظن أن التغيير في مثل هكذا أحوال يأخذ وقتاً وما شابه ذلك، يخطأ تماماً، لأنَّ بناء الثورة في السياق الذي نتحدّث عنه، قائم على مصادفات غير مدروسة وغير محمودة عقباها، لأن الذي استلم ويستلم زمام الأمور في مثل هذه الحالات من الطفرات الثورية، لا يهتم بما كان يحمله الثوار في صدورهم من آمال وتطلُّعات، لهذا على مَن يستلم زمام الأمور أن يلتقي مع الثوَّار ويصيغ برنامجاً سياسياً ودستوراً يلبِّي توجُّهات الثوَّار وإلا لو خالف توجُّهات الثوَّار، فلا أراه يختلف عن النظام البائت أو الفائت، وهو أكثر تخلُّفاً وتحجُّراً من سابقه، وأطالب الثوَّار بالثورة ضدّه، لأنه قطف ثمار أتعابهم ودمهم وركلهم جانباً، لأنه لا يتعلَّم الدروس ممن كانوا قبله، ولم يستفِدْ من أخطاء الذين كانوا قبله فيطرح نفسه عبقري عصره ويبقى ضدّ من صنعوا الثورة، لهذا أرى أن ما حصل ليس له علاقة بالثورة بالمعنى العريض للكلمة، هذا على الأقل في مصر وبقية الدول أيضاً، وأنا أؤمن بطاقات وتطلُّعات وآمال من صنعوا الثورة، ولكني بالمحصلة لا أقتنع بنتائج الثورة لأنها لم تحقِّق الطموح الذي حمله الثوار فوق أجنحتهم! وهكذا نعود في سياق هذه المعادلات المخرومة إلى مربع الصفر أو ما دون الصفر من حيث الطموحات الهادفة لتحقيق الدولة العلمانيّة الحديثة، المستندة على أسس الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة لجميع أفراد المجتمع!

أين هي نتائج الثورة، هل حقَّقت الثورة الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة بين المواطنين، هل تمَّ سن دستور يحقِّق طموحات وآمال المواطنين الثوار ومَن يؤمن بآمال الثوار؟ الجواب لا، لم يتحقَّق سوى المزيد من العنف والعنف المضاد، سوى المزيد من الصراع والدمار والخراب، لهذا من خلال مشاهدتي لنتائج "الربيع العربي والثورة العربية"، أطرح رؤية ثالثة أو رابعة أو عاشرة أو ألف رؤية ورؤية، لأن المواقف إزاء القضايا والأزمات التي نحن بصددها لا يمكن إدراجها في خانة مع أو ضد، لأنَّ ما بين رؤية مع أو ضد ممكن ادراج وصياغة وبناء آلاف الأفكار التي تقودنا إلى حلول سليمة وصحّية أكثر من رؤى الأنظمة والمعارضة معاً. لهذا السَّبب أجدُ نفسي بعد دراسة مستفيضة لهذا الدَّمار الذي أراه، أحمل رؤى بعيدة عن توجّهات وآراء الكثير من دائرة الأنظمة والمعارضات معاً، لأنّني لست أصلاً ضمن تنظيم سياسي معيَّن، ولا مع هذا الفصيل ضدَّ ذاك، أنا كاتب وشاعر أفكِّر وأحلِّل أية قضية صغيرة كانت أو كبيرة بشكلٍ مستقل، ولدي اهتمامات بقضايا الأدب والفكر والفلسفة والقضايا السياسية لما يتعلق بالشرق والغرب والحياة ككل، ووجهات نظري تحمل بُعداً إنسانيَّاً أكثر مما تحمل أبعاداً سياسية مصلحيّة ضيّقة كما هو الأمر عند الكثير من الساسة، لأنَّ السياسات والأنظمة والمعارضات، تلطّخت بالدم والحروب والصراعات التي لها أوَّل وليس لها آخر، ولهذا أرى أنَّ الإنسان كسياسي فشل في قيادة الكون إلى حدٍّ كبير، وفشل في قيادة البلاد، خاصة في دنيا الشرق، ومَن يتابعني، سيجدُ لديَّ الكثير من التحفُّظات حتى على سياسات الغرب أيضاً، ولهذا أطرح وجهات نظري بما يخص سياسة الشرق تجاه الشرق وتجاه الغرب وسياسة الغرب تجاه الغرب وتجاه الشرق، وأودُّ أن أطرح وجهات نظر في كيفية إيجاد حلول للأزمة السورية والشرقية والعالم العربي ككل وأزمة الإنسان السياسي في الكثير من بقاع الدُّنيا، وهي مجرّد أفكار ووجهات نظر، وليست بالضرورة أن تكون حلولا نهائيّة، بل ممكن أن تكون بذوراً ومدخلاً للحلول جنباً إلى جنب مع أية أفكار خلاقة تصبُّ في مصلحة الشعب السوري والشرقي ككل ومصلحة الإنسان والحضارة الإنسانية في كل مكان!
قبل الخوض في تفاصيل الأزمة العربية والسورية والشرقية والعالمية، أودُّ الوقوف عند نقطة جوهرية، وهي أنني أطرح بعض وجهات نظري للنقاش والحوار والتحليل والتفنيد، لاستنباط نتائج مفيدة تفيد الجميع، ولست بصدد الوقوف مع طرف ضدّ طرف آخر، لأنَّني مع الجَّميع وضد الجميع بنفس الوقت، حيث أنني مع الجميع عندما يكون لدى الجميع بعض وجهات نظر خلاقة وحضارية وراقية وتنويرية وتطويرية وعادلة ومستندة على أسس العلمانية والديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة، وتحقِّق الكرامة للمواطن عبر كل هذه السياقات المشار إليها، سواء كانت مَن تطرحها الأنظمة أو المعارضات، وفي السياق ذاته ضدّ الجميع عندما يطرح الجميع بعض وجهات النظر العدائية والاستعلائية والاقصائية والعنفية والديكتاتورية والرؤية الأحادية إلى آخر ما هنالك من رؤى قمعوية دموية حربية بطشية تصبُّ في الغاء الآخر والغاء الحوار وعدم الاعتراف بالآخر، لأنَّ هكذا رؤية عنفية قادتنا إلى ما نحن عليه من دمار وخراب وفساد، حيث الأنظمة متشدِّدة ومتشبِّثة برأيها وموقفها على أنّها صاحبة الرأي السديد وبنفس الوقت يطرح المعارضون أنفسهم على أساس أنهم أصحاب الرأي السديد ولا بدَّ من دحر النظام وترحيله وتدميره بأي شكل من الأشكال، وهكذا غصنا ونغوص في بحرٍ من الدَّم والأزمات، وقد نسى النَّظام والمعارضة معاً أنّ كليهما على صواب في بعض الأمور وكليهما على خطأ جسيم في بعض الأمور الأخرى، فلماذا لا يتم الحوار والنِّقاش والاشتغال والتَّركيز على ما هو صحيح وسليم ومفيد للمواطن من كلا الجانبين وتعميقه لصالح الطرفين، وليس تعميق ما هو مختَلف عليه من الجانبين وتصعيد حدّة الحوار إلى الدمار والحروب المفتوحة بطريقة سخيفة أقل ما يمكن أن أقول عنها أنها حروب مجموعة من غير العقلاء وغير الحكماء وغير المستنيرين وغير الحضاريين وغير المناسبين لقيادة الدَّولة الآن أو في المستقبل، طالما يحلان مشاكل وأزمات الدولة على حساب جماجم بعضهما بعضاً!

لهذا أطرح ما يلي، هناك الكثير الكثير من الأخطاء لدى الأنظمة، لدى الدولة السورية، ولدى كل الأنظمة العربية، وقد اعترفَ النظام السوري بأن لديه فساداً وأخطاءً كثيرة لدى فترة حكمه، ولكن في الوقت نفسه كان لديه الكثير من الإيجابيات والعطاء المفيد والمثمر في الكثير من قضايا الحياة على أكثر من صعيد، فلماذا لا يتم طرح السؤال التالي كيف ممكن أن نحل ونعالج أخطاء وفساد النظام، وكيف ممكن أن نطوِّر العلاقة ما بين النظام والمعارضة بكل أنواعها، وأقصد المعارضة السورية من داخل وخارج سوريا، وكل من يعمل في إطار المعارضة من غير السوريين خاصة ممن يحملون السلاح هم مجرد مرتزقة ومجرد دخلاء على سورية فلا يجوز لهم بأي شكل من الأشكال التدخل في حل الأزمة السوريّة، ولا يجوز إطلاقاً أن يأتي أفغاني أو صومالي أو ليبي أو الخ ويحارب ضد النظام ويرفع السلاح في وجه مواطن سوري على أساس أنه معارض وسيحل الأزمة السورية، هذا هو الفساد بعينه، وهذا هو الغباء بعينه، لأن المعارض السوري هو المسؤول عن حل الأزمة السورية وليس المعارض الليبي أو الأفغاني أو الصومالي أو الخليجي لأنَّ هؤلاء الدخلاء يطبقون أجندات أخرى على الأرض السورية تتعارض حتى مع أجندات المعارضة السورية القحّة، حيث يطبقون رؤية سلفية مريرة وسخيفة ولا تناسب العصور ما قبل الحجرية، فكيف ستناسب أصحاب الرؤى الشيوعيّة والتقدميّة والاشتراكية والديمقراطية والليبرالية والقومية، التي تطرحها المعارضة السورية ليل نهار، فإنني أرى أنَّ الصراع الذي سيتفشَّى ما بين المعارضة السورية الخلاقة والوطنية من جهة والمعارضات الدموية السلفية السقيمة والدخيلة على الجسم السوري من جهة أخرى، سيكون أكثر انشراخاً وتفسُّخاً ممّا هو سائد الآن بين المعارضة والنظام، لهذا أرى أن مستقبل سورية كما يتم التخطيط له وفق أجندات ما نراها على أرض الواقع هو مستقبل عقيم ومفتوح على صراعات دموية بلا نهاية، لأنه يتم زج سورية في متاهات ومعارضات غير متفقة على أية توجهات ديمقراطية أو اشتراكية أو تقدمية ولا أرى كرامة ولا حرية ولا مَن يحزنون فيما هم يخططون على أرضِ الواقع، فإذا كان لدى النظام السوري فساداً في بعض إداراته وهو أي النظام يريد معالجة الفساد وقد اقترح على المعارضة أكثر من مرة معالجة الفساد ووضع برامج جديدة لقيادة البلاد، وطرح الكثير من الأجندات التي تصب في التغيير والتحديث والإصلاح والحوار مع المعارضة الوطنية والآن أراه يطرح الحوار حتى مع المعارضة المسلحة ممن يريدون الحوار، لهذا لا بدَّ من الوقوف عند نقطة عناد المعارضة بمطالبتها بتنحي النظام وتجريم النظام. غريب أمر المعارضة السورية، كلّما يتمُّ الاقتراب من الحل أو بوادر الحل، تضع المعارضة السورية العصي في دواليب الحلول والحوار، وبالمقابل لماذا لا تطرح المعارضة على أنها تعاونت مع أجندات أكثر فساداً من فساد العالم العربي برمته من خلال إدخال سلفيين متحجِّرين فكريَّاً، حيث يعتبرون أي علماني هو كافر حتى ولو كان هذا العلماني مسلماً ومن بني جلدتهم، فلا تؤمن جبهة النصرة إلا بأجندتها التي تصب في تدمير سورية ومَن ينظر إلى توجّهاتها يلمس مباشرة أنها غير جديرة أن تبني أفكارها في جبال طورا بورا، فكيف ستطبِّقها في سورية، دولة الحضارات والقوميات والأديان وأمُّ الحضارات؟! كيف خطر على بال المعارضة أن تضع يدها في أيدي هؤلاء المندسِّين إلى سورية وغيرهم ممن يحملون شعارات سلفية مقيتة، كيف ستعمل المعارضة السورية الوطنية والثورة السورية مع هؤلاء الدخلاء الذين يبشرون بتطبيق شريعة ما قبل الغاب، كيف؟؟؟

برأيي أن الخطأ الذي وقعت فيه المعارضة السورية بالتنسيق والتعاون مع جبهة النصرة ومع معارضات سلفية خارجية أخرى دخلت الأرض السورية هو أكثر فساداً من فساد النظام نفسه طيلة وجوده، مع أن النظام اعترف بوجود فساد وأخطاء في عهده، ولا بدَّ من معالجته ودعا إلى معالجته ودعا إلى الحوار مع الجَّميع حتى الآن، لهذا أرى أنَّنا لا نجني أية فائدة من استمرارية العنف والعنف المضاد، سوى المزيد من الخسائر من الطرفين فكلاهما في موقف لا يحسدان عليه، ومن الطبيعي أن يرد النظام على المعارضة المسلّحة بأقصى ما يستطيع من قوّة، لأنه يجد نفسه في موقف الدفاع عن الدولة، خاصة عندما يرى الكثير من المعارضات تتصارع على أرض البلاد، وهذا التوجّه العقيم يقود البلاد إلى الجَّحيم، ولا أبرّيء ساحة النظام من الأخطاء التي وقع ويقع فيها قبل اشتعال الأزمة وبعدها، ولا أبرّئ ساحة المعارضة أيضاً، ولهذا أرى أنَّ الجميع أخطأ في إيجاد حلول ناجعة منذ البداية، وعلى الجميع أن يعترف بأخطائه ويجلس إلى طاولة الحوار لمعالجة الأخطاء ومعالجة الأزمة بحكمة وبما يناسب الجميع وليس الاستمرار بالحروب إلى ما لا نهاية! أين حكمة الطرفين؟!!!

إن المعارضات السورية، غير قادرة على توحيد كلمتها وإيجاد قيادة مشتركة، ولا أرى أي ائتلاف موحّد بين المعارضات السورية فيما بينها، لأنني لا أرى معارضة واحدة موحّدة، بل مجموعة معارضات، حتى أن هناك صراعات وخلافات جوهرية بين بعض المعارضات في الكثير من الأجندات، أكثر تعقيداً وتشابكاً ما بين بعض المعارضين والنظام نفسه، ويبدو لي أنَّ المعارضات المسلحة غير قادرة على التفاهم فيما بينها في كيفية مواجهة النظام، وأرى أيضاً أن الإئتلاف السوري ليس لديه أي رأي أو قرار حاسم في الكثير من أجندات المعارضة المسلحة، بدليل عندما يحضر رئيس الإئتلاف ويصرح تصريحاً ما، كما حصل في لقاء روما، نجد بعض المعارضين المسلحين يسخرون من الإجتماع الذي حضره ومن المساعدات التي تقدمها أميريكا أو الغرب لهم، وهم يريدون أن تسير الأمور وفق أجنداتهم وإلا فالآخرون لا يفهمون حتى ولو كان الإئتلاف السوري نفسه، ولهذا أرى أن هناك شرخاً كبيراً بين الإئتلاف السوري برئاسة الخطيب والذي يمثل على الأساس الجهة السياسية من المعارضة لمخاطبة أي جهة دولية  أو عربية أو سورية، فنادراً ما نرى المعارضة المسلحة ترضى بأي تصريح للإئتلاف السوري، فلماذا تشكَّلَ هذا الإئتلاف طالما غير متفق عليه من قبل المعارضة المسلحة، وعلى أي أساس يمثل الإئتلاف السوري الشعب السوري، إذا كان غير مقبول لدى بعض المعارضات المسلحة، فكيف سيكون مقبولاً وممثلاً للشعب السوري؟ لهذا على المعارضة السورية أن تعلم أنها ليست معارضة سورية بل مجموعة معارضات سورية وبعض هذه المعارضات تحمل أجندات ضد بعضها بعضاً، ولهذا لا يمكن حل الأزمة السورية بهذه الطريقة حتى ولو تقدَّم الرئيس السوري باستقالته طوعاً، لأن في الميدان أكثر من طرف يتصارع على قيادة البلاد، وكل معارضة من هذه المعارضات المسلحة لها قوتها على الأرض السورية، ولا يمكن أن تقنع مثلاً جبهة النصرة بالتخلي عن أجنداتها وتوجهاتها السلفية الإسلاموية المتشدِّدة، وغيرها من الجبهات السلفية التي لا يمكن أن ترضى بدون تنفيذ ما في جعبتها من تطلعات سلفية، لا تناسب التربة السورية بأي شكل من الأشكال، وإذا كانت المعارضات غير متفهمة في أجندة مشتركة وموحدة وغير لديها توجهات تصب في قيادة الدولة السورية الموحّدة على أساس علماني وديمقراطي حرّ، ففي هذه الحالة، تكون المعارضة السورية الوطنية والمسلحة والمعارضة السياسية قد وضعت نفسها في فخ جبهات سلفية غير قادرة من الفكاك من هذه الجبهات طالما القتل هو شعارهم، سواء قتلوا أو أُغتيلوا، من هذا المنظور أرى ضرورة توحيد المعارضة السورية ضمن توجًّه واحد مركَّز على بناء الدولة السورية العلمانيّة الحديثة، وذلك من خلال إبعاد جبهة النَّصرة وكل المعارضات السلفية الدخيلة من سوريا كليا، لأنهم ليسوا سوريين وليس لهم الحق إرغام المعارضة السورية الوطنية أو أية معارضة سورية داخلية أو خارجية، بتنفيذ أجنداتها السلفية والطورا بوراويّة التي لا تناسب أي معارض سوري قح،  ثم تتقدَّم المعارضة السورية  للحوار مع النظام لإيجاد حل سلمي لبناء الدولة السورية القادمة بالطريقة التي تناسب كل الأطراف، لأن لا طريق لحل الأزمة السورية سوى الحوار والحل السياسي.

لماذا حصل ما يحصل في سورية؟
إنَّ ما حصل في العالم العربي وما حصل ويحصل في سورية، ناجم عن حالات احتقانيّة مريرة مرّ بها المواطن العربي، ومَن يعيش في هذه الأوطان من غير العرب أيضاً (كالكورد والكلدو آشور السريان وغيرهم من الأقوام)، لهذا خرج المواطن يعبِّر عن المطالبة بحقوقه وكرامته وحريته وديمقراطيته، ولكن للأسف الشديد هناك أجندات أخرى دخلت على الخط، وبدأت تحصد ثمار هذه الصراعات والخلافات بين النظام والمعارضة وادخلت الأجندات الخارجية أجندات دموية في الداخل العربي والداخل السوري كي تزيد الطِّين بلَّة، والهدف من إدخال هذه الأجندات الخارجية من قبل قوى خارجية وعربية هو غالباً اقتصادي استغلالي ومذهبي وطائفي عقيم، وله أهداف إقليمية ودولية وعالمية، والغرب هو الطرف الأقوى في زرع كل هذه الشوشرات والحروب والصراعات، لأنه ينظر إلى هذه الرقعة الجغرافيّة بإزدواجية متكرِّرة، وهو غير ديمقراطي وغير عادل وغير مهتم في إيجاد حلول جادّة وقويمة لهذه الأزمات والصراعات والحروب. بالعكس تماماً لديه اهتمام كبير في تفاقم الأمور كي يحصد ثمار تَرْكه تفاقمات الأمور تزداد صعوداً نحو الدَّمار، كي يحصد هو ثمار الدَّمار من خلال إعادة الإعمار وبيع السِّلاح ومن خلال عقد صفقات عديدة لا يمكن أن يحقِّقها إلا عبر هذه الحروب والأزمات التي بدأت تفرّخ تباعاً في المنطقة، وهو أي الغرب المساهم رقم واحد في تفريخ هذه الحروب والأزمات في الشّرق وفي الكثير من بقاع الدُّنيا!

تساؤلات مفتوحة موجّهة للمعارضات السُّورية حول الواقع السُّوري
هل المعارضة/المعارضات السورية تحمل بين أجنداتها ما يطمح إليه المواطن السوري بكل قومياته وأديانه ومذاهبه وتطلعاته، وهل تسعى لتحقيق العدالة والمساواة والحرية للجميع، بعيداً عن إقصاء أي طرف طرفاً آخر من الأقليات أو الأكثريات؟
هل المعارضة السورية قادرة على إيجاد صيغة عمل وتفاهم مع جبهة النصرة والقوى السلفية على أن بناء الدولة السورية سيكون على أساس علماني ديمقراطي ويتم بالتالي فصل الدين عن الدولة، أم أنهم سيرفعون لها الراية البيضاء كي تطبق شريعتها المنبثقة من جبال طورا بورا، أو من العصور الحجريّة؟
هل المعارضة السُّورية متفقة فيما بينها، بعيداً عن المعارضة الدخيلة من غير السوريين، أقصد هل المعارضة السورية القحّة سواء في الداخل أو الخارج متفقة فيما بينها، بإيجاد برنامج ودستور يحقِّق تطلعات كافة المواطنين السوريين، وبالتالي تحقيق الحرِّيات السياسيّة والفكرية والدينية والقومية والمذهبية لكل الأطراف بشكل ديموقراطي وتطوُّري وحضاري؟
لماذا لا تطرح المعارضة السورية بمختلف تفرعاتها في الداخل والخارج، برنامجاً مرتكزاً على تطلعات المواطنين السوريين ككل، وبناء عليه يتم حل الأزمة السورية؟
هناك آلاف بل ملايين المواطنين السوريين سواء من المعارضة أو من النظام أو مواطنين حياديين، هل توجّهات المعارضة قائمة على متطلبات الشعب ككل، أم أنها تتصرف بناء على تطلُّعات مجموعة من المعارضين المسيَّسين لهذه الجهة ضد جهة أخرى؟
هل تضع المعارضة السورية بالاعتبار حقوق الأقليات القومية والثقافية أصحاب الأرض الأصلاء منذ آلاف السنين، الكلدو آشور السريان، والأكراد، وأقليات عديدة أخرى عاشوا في الوطن منذ آلاف السنين، وترى ضرورة تثبيت حقوقهم كما يرونه أصحاب الحقوق ضمن دستور البلاد؟
هل درست المعارضة قضية الصراع المذهبي والطائفي والديني ووضعت له حلاً ديمقراطياً عادلاً يحميه الدستور؟
هل توجّه المعارضة في بناء الدولة القادمة هو علماني، وهل المعارضة قادرة على فرض علمانية الدولة على توجهات القوى الدينية السلفية، وكيف ستحل هكذا صراع أم أنها ستكون في حكم الانصياع؟
هل لدى المعارضة برنامج سياسي شامل لبناء الدولة العلمانية الحديثة؟                             

وفي السياق ذاته أوجِّه بعض الأسئلة للنظام ومَن هم مع توجّهات النَّظام.
هل لدى النّظام الاستعداد التام للحوار مع المعارضة لبناء الدولة السورية العلمانية الحديثة معاً؟
هل لدى النظام برنامج للدولة القادمة، بحيث أن يشمل كافة الأحزاب والتنظيمات السياسية والاجتماعية والفكرية والقومية دون اقصاء أي حزب سياسي بحيث أن يخدم الجميع الوطن بكل اثنياته وقومياته ومذاهبه وتطلعاته بشكل حر وديمقراطي وتثبَّت هذه الحقوق في دستور البلاد؟
هل بدأ النظام يؤمن بالتعددية السياسية وتداول السلطة من قبل أحزاب متعددة، تقررها صناديق الاقتراع، ويفكِّر جدّياً بتثبيت هذا التطلع في دستور البلاد؟
هل لدى النظام الاستعداد التام لقبول الآخر، كجزء من الدولة والوطن في بناء الدولة السورية القادمة؟
هل لدى النظام الاستعداد بالاعتراف أن لديه أخطاء ولدى المعارضة رؤى تساهم في بناء الوطن وتجاوز الأخطاء، فلمَ لا يتعاون الطرفان في حل الأخطاء سويةً؟
وبالمقابل هل لدى المعارضة الاستعداد بالاعتراف أن لديها أيضاً أخطاء ولدى النظام رؤى تساهم في بناء الوطن وتجاوز الأخطاء وبالتالي لا بدَّ من إيجاد حوار بينهما لبناء الدولة على أسس ديمقراطية مشتركة، لكل منهما دور كبير في تطوير البلاد نحو الأفضل وتكون مرجعية كليهما صناديق الاقتراع؟

ولكي نحل الأزمة السورية المدمرة لكل الأطراف، على الجميع قبول الحوار وقبول الحل السياسي بحيث أن يقود الحل السياسي إلى تحقيق حقوق الجميع، ويتم سنّ هذه الحقوق في دستور البلاد كي تسير الدولة بموجب دستور يحمي حقوق المواطن لا أن يتم سن دستور للبلاد يحمي الأكثرية أو يحمي هذا الفريق دون ذاك. كل دستور لا يضمن حقوق كافة المواطنين هو دستور ناقص ومبتور ومنخور، فلا بدَّ من التركيز على حقوق الأقليات التي تمَّ هضم حقوقهم القومية والثقافية منذ عقود من الزمان، وبالتالي إيجاد لغة حضارية ديمقراطية تقدمية تنويرية يستند إليها الدستور وبموجبها يقوم كل مواطن بواجبه الوطني والقومي والفكري والثقافي والاقتصادي والإجتماعي، وقد طرحتُ منذ بداية الأزمة السورية والحراك السوري، بعض الأفكار التي تساهم في حل الأزمة السورية، ولم تتغير وجهات نظري في جوهرها بالرغم من مرور قرابة سنتين على الأزمة السورية، فأنا أرى أن لا بديل لحل الأزمة سوى الحوار البنّاء والخلاق.

لكي نحل الأزمة السورية بموضوعية تامَّة، لا بدَّ من الاحتكام لرأي الشعب السوري برمّته، بدون اقصاء أي طرف منه، بحيث أن يكون القرار والرأي للشعب السوري بكل أحزابه وأطيافه ومؤسساته وهيئاته واثنياته وقومياته وتجمعاته، وبكل مفكريه ودعاة الحرية والديمقراطية والرأي الحر، سواء كان من النّظام أو من المعارضة التشاركية "التي إنضمت منذ البداية إلى بناء الوطن على أرضية الحوار"، والمعارضة المسلَّحة على أن يتم إعلان هدنة ووقف إطلاق النار من كل الأطراف، ثم البدء بالحوار السياسي بدون أي قيد أو شرط، والإنطلاق من جملة من المعطيات التي تقودنا إلى حل الأزمة لصالح كافة الأطراف، وتقودنا إلى بناء الدولة العلمانية الحديثة، بعيداً عن لغة التعصُّب المذهبي والقومي والديني، بل التركيز على الحوار الهادف والبنّاء لإحقاق حقوق كافة المواطنين وتأمين تطلُّعاتهم إلى الحرية والعدالة والمساواة، وذلك بالإنطلاق من توجّهات حقوق المواطنين على كافة الرقعة الجغرافية السورية عبر المنطلقات الديمقراطيّة والأسس الحضاريّة والعلمية التَّالية: 

وضع خطّة شاملة لإيجاد ممثلين عن الشعب السوري، يمثلون كل الشعب وبإشراف منظَّمات دولية وعربية ومحلية من كل الأحزاب والمؤسسات والتجمُّعات، وذلك بإنتخاب ممثلين لكل الأحزاب السياسية، والهيئات والتجمعات ولكل مَن يجد لديه رؤى خلاقة تصب في مصلحة الوطن والشعب ككل، بحيث أن يشمل الممثلون كل شرائح المجتمع من النظام والمعارضات والحياديين أيضاً، والمفكرين المستقلين، وعدم إهمال أي شريحة مهما كانت صغيرة أو كبيرة، كي يشمل الممثلون المنتخبون الشعب السوري برمته، وبعد أن يتم انتخاب الممثلين عن طريق الشعب يتم تقديم مقترحات كل حزب وكل مؤسسة وكل هيئة عبر ممثليهم الذين تمَّ انتخابهم، ولنفرض أنه تم انتخاب مائة ممثل عن الأحزاب والمؤسسات والهيئات والمفكرين المستقلين الَّذين يمثِّلون الشعب السوري برمته، حيث يستطيع كل ممثل أن يقدم مئة توصية تتضمّن مئة فكرة، وهذه التوصيات والأفكار تكون منبثقة من تطلعات وتوجهات وأهداف الأحزاب والهيئات التي تمَّ اختيار ممثلين عنها، وهكذا سنكون إزاء مئة (حزب، مؤسسة، هيئة، تجمّع، كتلة، مفكر مستقل، ..)، وكل من هذه الأحزاب، والمؤسسات، والهيئات، والمفكرين المستقلين، لديه/لديها برنامج عمل يتألف من مئة توصية، وبهذا الشكل سيكون لدى مئة حزب ومؤسسة وهيئة وتجمع ومفكر مستقل برنامج شامل يشمل كل تطلعات وآمال وأهداف الشعب السوري، وتتألف منطلقاتهم وتطلعاتهم من عشرة آلاف توصية وهدف وبند! ويتم عرض هذه التوصيات والأهداف والأفكار على الأحزاب والمؤسسات والهيئات والمفكرين المستقلين بإشراف هيئات ومنظمات دولية وعربية ومحلية، للتصويت على اختيار التوصيات الأسلم والأفضل لما يناسب الشعب السوري ككل عبر الممثلين وعلى الشكل التالي: 
 
يتم عرض التوصيات أو البنود المائة لكل حزب أو هيئة أو مؤسسة أو مفكر مستقل، واحداً تلوى الآخر للتصويت على البنود التي تناسب تطلعات أغلبية الممثلين المشتركين، فمثلاً لو وافق الممثلون عبر اشراف دولي وعربي ومحلي على 55 توصية من أصل مائة توصة من توصيات حزب أو هيئة أو مؤسسة ما، يتم إدراج هذه التوصيات الـ 55 ضمن بنود في المنطلقات والأسس الثابتة لبناء الدولة السورية الحديثة وإدراجها في صياغة دستور البلاد الجديد، لأنها تحقق جزءاً من تطلعات شريحة حزبية عبر انتخابات حرة وديمقراطيّة ومراقبة دولية وعربية ومحلية، وهكذا نعرض توصيات كل حزب على حدة على جميع الممثلين، ويتم انتقاء واختيار التوصيات المناسبة بأغلبية الممثلين، فسيتم والحالة هذه تثبيت كل التوصيات والأهداف المقترحة والموافقة عليها من قبل كافة الأحزاب والمؤسَّسات الأخرى والتي تمّ اختيارها من قبل الممثلين، وبالتالي نعمل على إدراج كلّ التَّوصيات التي تم الاتفاق عليها وإختيارها بموافقة الأغلبية، وضمّها إلى دستور البلاد كأهداف أساسية تمثل توجّهات كافة المجتمع السوري بكل أحزابه ومؤسساته وتجمّعاته ومفكّريه المستقلين أيضاً، ثم التخطيط لصياغة دستور جديد يتضمن كل هذه التوصيات كبنود ثابتة في الدَّستور، والتي تمَّ الموافقة عليها بكل سلاسة وشفافية وتضمن بالتالي حقوق جميع المواطنين من خلال ممثليهم، وبهذه الحالة سيكون الدستور هو الحكم في الإنتخابات، وسيكون المرجع الأول والأخير لحل أي خلاف أو أية مشكلة، وبعدها ممكن أن يتم الإعداد لإنتخابات على كافة الأصعدة، حيث أرى والحالة هذه أن يعلن رئيس الدولة إلى حل الحكومة والدعوة إلى تشكيل حكومة جديدة، وتقديم استقالته والدعوة إلى انتخابات رئاسية بإشراف دولي وعربي ومحلِّي، وبإمكان أي مواطن أن يرشح نفسه عبر الأحزاب والمؤسسات التي تمثله، وأرى أنه من الأفضل أن لا يحق للرئيس القادم المنتخب أن يحكم أكثر من دورة انتخابيّة واحدة،  كي يفسح المجال لغيره من جهة وترسيخاً لأسس الديمقراطية من جهة ثانية، على أن يحق له في دورة لاحقة أن يرشح نفسه لو أراد حزبه أن يرشّحه، وهذا ينسحب على الرئيس المستقبل أيضاً، وما ينسحب على انتخاب رئاسة الجمهورية ينسحب على نوَّابه، وعلى تشكيل الحكومة ومجلس الشَّعب والإدارة المحلية، وبهذه الصيغة سيكون للأحزاب مجالاً لأن تقدِّم برامجها عبر كل دورة انتخابية وسيكون متاحاً للأحزاب تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع بوجوه جديدة وسيتم بناء الدولة الجديدة بخطى ثابتة وراسخة في علمانيّة الدَّولة وبموجب دستور سنّه الشعب ونبع من أحزابه ومؤسساته ومفكريه وممثليه، وسيتم القضاء على العنف والعنف المضاد الذي نراه، وسيكون التنافس سياسياً وتقدمياً واستنهاضياً، وكل حزب وكل مؤسّسة ستحاول أن تقدم أفضل ما لديها من برامج وإلا ستفشل في الإنتخابات، ولا أرى أية صعوبة في تطبيق هذه الأفكار التي تصبُّ في مصلحة الشعب والدولة والأحزاب برمَّتها، وكل فكرة خلاقة ستنمو وتترعرع في هكذا بيئة صحّية، وكل فكرة رجعية وسخيفة وانغلاقية ستهرُّ وستسقط مع الزمن ولا يمكن لأي عاقل على وجه الدنيا أن يتبنَّى أفكاراً هدَّامة ورجعية، لأن الإنسان العاقل والحكيم والحضاري عليه أن يتطلَّع نحو الأفضل وليس نحو العصور الحجريّة والظلامية والرؤية الأحاديّة الانغلاقيّة، ونحن في بداية ألفية جديدة ، علينا أن نواكب حضارة العصر، خاصَّة لأنّ الحضارة نبعت من بلاد الشَّام، وهي من أقدم الحضارات، فلماذا لا نعيد مجد حضارتنا ونبني اللبنة الأولى من جديد ونثبت للكون برمّته أنّنا كنّا وما نزال أبناء حضارة عريقة ولا نحتاج لأي دخيل خارجي، كي يقرِّر مصير بلدنا ووطننا طالما لدينا قوة الحجّة والحكمة ورؤى تنويرية خلاقة تقودنا نحو العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية.
هذه كانت وجهات نظري حول كيفية إيجاد حلول سلمية وحوارية تصب في مصلحة الجميع، وهي مجموعة أفكار ممكن أن نصيغ منها مبادرة لأنَّ جميع الشعب السوري عبر هكذا مبادرة يستطيع أن يعبِّر ويترجم رؤاه في بناء الدولة السورية الجديدة، وأرى أن هذه الرؤى والأفكار والمبادرة موضوعيّة وتصبُّ في مصلحة كل الأطراف، ويهمُّني بالدرجة الأولى والأخيرة عبر أفكاري ورؤاي الَّتي طرحتها أن يحلَّ السَّلام والوئام في سورية، من ديريك/المالكية مسقط رأسي الواقعة في أقصى الشِّمال الشَّرقي من سورية، مروراً بكل شبرٍ من سورية، ويعيش المواطن والمواطنة السُّوريّة في أمن وسلام ووئام، وأن يتمَّ حل سلمي وسلس في بناء الدَّولة السُّورية الجَّديدة، على أسس علمانيّة وديمقراطيّة وحضاريّة وتكون قدوة لدول المنطقة ولكلِّ الدُّول الَّتي تريد انتهاج منهج الحوار الخلاق مع الشَّعب كلَّ الشَّعب وممثلي الشَّعب، كي يبني الشَّعب السُّوري عبر ممثليه الدَّولة السُّوريّة الجَّديدة والمتجدِّدة على الدَّوام!

ستوكهولم: 2011، مسودة أولى
           2013، صياغة نهائيّة
صبري يوسف
كاتب وأديب سوري مقيم في ستوكهولم


30
أدب / بوح من وهجِ الحنين
« في: 15:36 17/03/2013  »


بوح من وهجِ الحنين


صبري يوسف*

 


على خدِّيكِ أنقشُ مهمازَ بوحِ القصيدة
إليكِ أكتبُ انبعاثاتِ وهجِ الحنين
وإليكِ تهفو الرُّوحُ في صباحٍ مخضَّبٍ بالأرجوان
إليكِ يا صديقةَ يومي وغدي أكتبُ القصائد!  

 تشبهينَ روحي الحالمة
روحي التَّائهة خلفَ وطنٍ من بكاء
روحي الَّتي تبرعمَ فيها الحنين
     حتّى تساقطَتْ بتلاتُ الزُّهورِ
          من أوجاعِ الإنكسار!

روحي الهاربة من جراحِ الطُّفولة
روحي المعرَّشة في اخضرارِ الغابات
روحي الهائمة فوقَ البحارِ
روحي الحالمة
     في وطنٍ مخلخلِ الرُّوح
مَنْ يستطيعُ أن ينقذَ وطناً مخلخلَ الرُّوح؟!
مَنْ يستطيعُ أن يخفِّفَ من جمرِ الحنينِ؟!
متى يا صديقتي ستعانقينَ شهقةَ قلبي
     في أوجِ الاشتعالِ؟!

تتعانقُ روحانا
كلَّما تخرُّ دموعُ القمرِ
كلَّما يهتاجُ النَّسيمُ
شوقاً إلى مآقي البحرِ!

كلَّما أراكِ يا صديقةَ الرُّوح
أبتسمُ للأطفالِ
لأزاهيرَ بيتي العتيق

أبتسمُ لأشجارِ اللَّوزِ
لأغاني فيروز وهي تنعشُ غربتي
     من ضجرِ الانتظار!
نتعانقُ بكلِّ انتعاشٍ رغمَ أنفِ الرِّيحِ
رغمَ غربةِ الرُّوحِ في صباحٍ من بكاء
شوقي إلى عناقِ القصيدة
     وعناقِ عينيكِ
وهجٌ مفتوح على مروجِ الدُّنيا

كلَّما أرقصُ تشمخُ نهداكِ
     فوقَ ربوةِ الحلمِ
عناقُكِ يسطعُ بتدفُّقاتِ بوحِ القصيدة

بلمسةٍ دافئة أبدِّدُ أحزانَكِ
أزرعُ قبلةً فوقَ ألقِ الحنينِ
وقبلتانِ فوقَ انبهارِ النَّهدينِ  

يا جنَّةَ اللَّيلِ
يا يراعَ حبري المتهاطلِ
     من خدودِ السَّماءِ
تعالي نرسمُ قبلةَ عشقٍ
     فوقَ أجنحةِ الصَّباحِ
خدّاكِ معراجُ فرحي
     إلى كنوزِ الرُّوحِ
تغفينَ فوقَ مآقي القصيدة
عيناكِ اشراقةُ دفئي
انبعاثُ ألقي في معراجِ العناقِ

تعبرينَ ليلي على إيقاعِ دقَّاتِ القلبِ
كأنَّكِ فراشةٌ مشتعلةٌ بأهازيجَ الشَّوقِ
كأنَّكِ قبلةُ فرحٍ في خضمِّ البحرِ
لِمَ لا أعانقُكِ على تلاطماتِ صخبِ الموجِ
كوني موجتي المعبّقة بطيبِ المذاقِ

تعالي نخلخلُ أحزانَ السِّنينِ
على وهجِ البوحِ
نرسمُ فوقَ وجنةِ القمرِ
توهُّجاتِ العشقِ
في أوجِ انتعاشاتِ العناقِ!

أيَّتها المسربلة بشهوةِ الغمامِ
تعالي مع خيوطِ الصَّباحِ
يا بحري الهائج مثلَ شوقِ العصافير
تضيئين ليلي مثلَ غيمةٍ
     محمَّلةٍ بأحلامِ الطُّفولة
عشقٌ يزدادُ توغُّلاً في جوارحِكِ الخفيّة

تشبهينَ وردةً غافيةً في وجهِ القدرِ
عندما تشعرينَ بالشَّوقِ إلى مرابع الطُّفولة
فأعلمي أنَّني أكتبُ قصيدة
     على إيقاعِ زخَّاتِ المطرِ
أنا وأنتِ نداءُ غيمةٍ منبعثةٍ
     من بوحِ الطُّفولة

تحلِّقينَ مثلَ فراشةٍ معَ سفينةِ اللَّيلِ
بحثاً عن حنينِ القصيدة
ابتسامتُكِ وردةٌ مبلَّلةٌ بالفرحِ
تتوغَّلينَ إلى ليلي مثلَ عبقِ الأزاهيرِ
أريدُ أنْ أبدِّدَ حزنَكِ وأزرعَ في قلبِكِ فرحاً
قصيدةً من لونِ المطرِ

أنتِ شهقةُ عشقٍ مندلقة من أجنحةِ البحرِ  
أريدُ أن ألملمَكِ من ضجرِ المسافاتِ
أريدُ أنْ أنتشلَكِ من صحارى الحياةِ!

تبكينَ من أوجاعِ اللَّيلِ  

أيَّتها المسترخية على مهمازِ الحنينِ
حنينُك يزدادُ طفوحاً على شفاهِ القصيدة
يزدادُ اخضراراً فوقَ أغصانِ المحبّة

قلبُك فراشةٌ هائمةٌ على جفونِ الغاباتِ
يرقصُ قلبُك شوقاً إلى شواطئ حرفي
هل تحبِّينَ أنْ تسترخي فوقَ هضابِ الرُّوحِ
لعلِّي أبلسم جراحَكِ
أهمسُ لقلبِكِ الحزينِ همسةً
تبلسمُ جراحَ القلبِ
أرسمُ فوقَ صدركِ عطشَ القصيدة
     إلى وهجِ الاشتعالِ
اشتعالُك المسربل بعشقِ الحياةِ
تشبهينَ ليلي الهائم في ينابيعَ العشقِ
هَلْ زارَكِ يوماً عاشقاً من وهجِ البحرِ
هَلْ تتوقينَ إلى عناقٍ على إيقاعِ موجةٍ
تهدهدُ أسرارَ عشقنا لغبشِ اللَّيلِ؟!

أريدُ أنْ أزرعَ وردةً من خيوطِ الحنينِ
    في شواطيء قلبِكِ
أريدُ أن أمسحَ دموعَكِ بيراعِ الرُّوحِ

أريدُ أنْ أروي جيدَكِ قُبَلاً
     من لونِ قبلةِ الصَّباحِ
     من لونِ الياسمين
     من لونِ الخبزِ المقمَّرِ
من لونِ الفرحِ المتلألئ في شفاهِ الأطفالِ
من رحيقِ العشقِ المتطايرِ معَ المطرِ النَّاعم!

أنتِ بسمةُ فرحٍ متلألئة في ليلةٍ قمراء
هل زارَكِ قلبي
وأنتِ غائصة في عدِّ النُّجومِ؟

البارحة قبَّلَكِ قلبي
قبلَ أن أتممَ قصيدةً من لونِ النَّارنجِ
لماذا لا تركبي البحرَ يا أميرةَ اللَّيلِ
     وتعبري تجلِّياتِ فرحي؟
قامتُكِ صديقةُ الزُّهورِ البرّية
وعيناكِ موجتا عشقٍ رُغمَ دكنةِ اللَّيلِ!

عندما تعبرينَ فرحي
يتبدَّدُ حزنَكِ
     معَ هبوبِ نسيمِ الصَّباحِ!

وجنتاكِ عناقيدُ عشقي
المعرَّشِ في نسغِ الأشجارِ
هلْ يراودُكِ عناقُ البحرِ
     في ليلةٍ طافحةٍ بالانتعاشِ؟!

أيّتها المجبولة من ذاكرةٍ محفوفةٍ بالبكاءِ
أيَّتها الغافية فوقَ ليلي المتعطِّشِ لنداءِ القصيدةِ!
يا قصيدتي المعتّقة بحفاوةِ النَّبيذِ المسكَّر
تعالي غداً قبلَ بزوغِ الفجرِ
حتّى نرى في قمَّةِ انتعاشِنا شهقةَ الانبلاجِ
تشاركُ وهجَ العناقِ

تعالي عندما ينامُ البحرُ
كي لا تجرفكِ الأمواجُ بعيداً
كي أرسمَ فوقَ خدَّيكِ حنينَ العشقِ
     إلى ضياءِ الصَّباحِ!  

عناقُك يتماهى معَ وميضِ القصيدة
     معَ هلالاتِ الشَّفقِ
     معَ أمواجِ البحرِ!

عناقُك باقةُ وردٍ على شفاهِ الغمامِ
أنتِ غيمتي المتهاطلة عشقاً
تعبرينَ معارجَ روحي كلَّما يهبطُ اللَّيلُ
تقمطينَ قلبي بقبلاتٍ منبعثةٍ
     من أغصانِ الحنينِ
عندما تخرُّ دموعُك فوقَ وجنتيكِ
اعلمي انَّني أعانقُ روحَك المتماهية
     مع جموحاتِ روحي
دموعُك لآلئُ عشقي الغافية
     فوقَ شهيقِ القصيدة

تعالي يا صديقةَ لوني وعمري
تعالي أرسمُك برعماً شهيَّاًّ
     فوقَ شموخِ القلبِ

أحنُّ إلى روحِكِ
إلى قلبِكِ
إلى عينيكِ الطَّافحتين بدمعةِ الاشتعالِ
أحنُّ إلى رقصةِ القلبِ  
قلبُكِ يرقصُ عشقاً من وهجِ الابتهالِ

يتمزَّقُ الشفقُ شوقاً إلى دفءِ الرُّوحِ  
هل كنتِ يوماً روحي ولا أدري
هل كنتِ يوماً قصيدتي المفتوحة
     على وجنةِ الشَّفقِ
تعالي يا قصيدتي
أنثرُك فوقَ أراجيحَ عشقي
قبلَ أنْ يرحلَ هذا الزَّمان
أنتِ قصيدةُ عشقٍ
مندلعة من شهقةِ الشَّبقِ
أنتِ أجنحةُ غيمةٍ مندلقةٍ من ظلالِ البدرِ
أنثى مقمَّطة بأحزانِ الدُّنيا
أنثى معفَّرة ببريقِ العشقِ
 
عشقُك يسترخي على بحارِ الأحزانِ
عشقُك يمطرُ فرحاً فلا تقلقي
عرفتُهُ منذُ أنْ عبرْتُ مروجَ القصائد
عرفتُهُ من عينيك الهائمتين في لجينِ القهرِ
تعالي يا مقهورةَ الرُّوحِ
كي أبلسمَ روحَكِ بحبقِ بيلسانِ العشقِ

تعالي أرصِّعُ نهديكِ بباقاتِ الحنطة
أزنِّرُ خاصرتَك بالنّرجسِ البرِّي
نصِّي وهجٌ متطايرٌ من دموعِكِ
دموعُك مُلوحةُ خبزي في بوحِ القصائد
هل تحبِّينَ الخبزَ المقمَّر
أنتِ خبزي المقمَّر
بكَتْ قصائدي ولعاً إلى دفءِ عينيكِ
تنمو حروفي فوقَ وجنتيكِ لؤلؤاً

خدَّاكِ رسالةُ فرحٍ إلى خميلةِ الرُّوحِ
لماذا تنامينَ بعيداً عن مروجي
كيفَ تطاوعُكِ روحُكِ أنْ تهطلي
بعيداً عَنْ أزاهيرَ العناقِ؟!

تعالي أفرشُك فوقَ صدري المبلَّل بوهجِ العناقِ
تعالي أرتشفُ أحزانَك الأزليّة
وأزرعُ مكانها باقاتِ القرنفلِ

عناقُك يفتحُ أبوابَ الجنّةِ على محرابيها
عناقُك موجةُ عاشقة من لونِ الأناشيد
أنتِ جنَّتي المنشودة
يا برعمي الحافل بالإرتعاشِ
عندما أقبِّلُكِ قبلةَ الاشتعالِ لا تقلقي
انّها بوَّابةُ العبورِ إلى معارج السَّماءِ
أنتِ صديقةُ البحرِ
صديقةُ البرِّ
صديقةُ الحرفِ
صديقةُ الكائناتِ

أنتِ شِعري المفتوح على براري الشَّوقِ
صديقتي وردةٌ هائمةٌ فوقَ بساتينَ العناقِ
عناقُ المودَّةِ وخلاخيلَ الهناءِ
تتلألأُ عيناك فوقَ ليلي المسكون بشهوةِ القصائد

تعالي يا أنثاي قبلَ أنْ يهطلَ المطرُ
كي أعانقَكِ على إيقاعِ زخَّاتِ المطرِ
تسأليني عن نسبةِ الاشتعالِ
     في وهجِ العناقِ
كَمْ مِنَ العناقِ حتى تبرعمَ الياسمين
     فوقَ وجنةِ البدرِ
كم مِنَ البوحِ حتى تلألأتِ السَّماءُ بأوجاعِ الحنينِ
سآتيكِ في الرَّبيعِ القادمِ
عندما تنمو أغصانُ الزَّيزفونِ
عندما تغرِّدُ البلابلُ تغريدةً من نكهةِ العناقِ
عناقُكِ يشبهُ بوحي
     في أقصى أعماقِ التَّجلياتِ

ترسو سفينتُكِ فوقَ مروجِ عشقي
تهفو روحُكِ إلى بيادر روضي
تعالي قبلَ أنْ تنامَ عصافيرُ الخميلةِ
قبلَ أنْ تغفو أزاهيرُ اللَّيلِ
كَمْ مِنَ القبلاتِ حتَّى هاجَتِ الرِّيحُ!

عناقُكِ منارةُ دربي إلى أحضانِ السَّماءِ!
*****
تشمخينَ مثلَ سنبلةٍ من سنابل سهولِ المالكيّة
تعبرينَ البحارَ على أجنحةِ الرِّيحِ
على رأسكِ تحطُّ فراشاتٌ من لونِ الإنبهارِ
تنثرينَ عشقاً فوقَ أمواجِ الحنينِ
ديريك قصيدةٌ موشومةٌ في مروجِ الذَّاكرة
أنتِ نسمةُ عشقٍ متطايرة
     من حفاوةِ الكرومِ
منعبثة من خصوبةِ الرُّوحِ
تلالُ فرحٍ في قبَّةِ الأحلامِ
تعالي يا حلمي المرفرفِ
     فوقَ أريجِ القصيدة

عندما يشتدُّ بكِ الحنينُ
     إلى سماءِ روحي
اقرئي حرفي المتطايرِ
     من ليليَ الطَّويلِ
كلماتي سنابلُ فرحٍ إلى ليلِكِ الحزينِ
  قمرُك ينوحُ من بوحِ المسافاتِ

يرقصُ قلبُك على أريجِ ولاداتِ القصائد
  أحبُّكِ إلى حدِّ الإنبهارِ
لأنَّكِ أبجديةُ عشقٍ
منبعثة من شهقةِ اللَّيلِ
أنتِ ليلي الملوَّنِ ببراءةِ السَّماءِ!
عندما تنامينَ
سيزورُكِ حرفي على جناحِ غيمةٍ
سيرتعشُ محيَّاكِ المبلَّلِ بانتعاشِ القلبِ
تضحكينَ عبرَ فيافي الحلمِ
حلمُكِ يحضنُ شوقي
     إلى دفءِ القصيدة
هلْ يرقصُ قلبُكِ الآنَ رقصةَ الإبحارِ
هلْ تودِّينَ الإبحارَ في معراجِ الودادِ؟

أرتمي بينَ أحضانِكِ العاشقة
     على إيقاعِ موسيقى هادئة
العناقُ حالة إنسانية راقية
أطيرُ فرحاً من دفءِ الاحتضانِ  
نحلِّق عالياً في عرينِ السَّماءِ
كأنَّنا اشراقةُ فرحٍ منبعثة
     من أجنحةِ الغمامِ!

عشقُكِ يفتحُ أمامي جموحَ بحرٍ
     على براري القصيدة
يغفو نهداكِ فوقَ مروجِ أحلامي

تطيرينَ مثلَ فراشةٍ فوقَ روحي
مثلَ عاشقةٍ مورَّدةٍ بنكهةِ الأعشابِ البرّية
سأكتبُكِ قصيدةَ عشقٍ على وجنةِ القمرِ
وأتممُ أهازيجَها على نضارةِ خدِّيكِ

اغمريني كباقةِ وردٍ بينَ نهديكِ
مروجُكِ المتألِّقة معراجُ بوحي
     إلى فضاءاتِ القصيدة
 
عيناكِ دربُ خلاصي من صخبِ الحياةِ
أنتِ رعشتي المفهرسة بنكهةِ العسلِ

تعالي أزرعُ همساتُكِ براعمَ فرحٍ
     بينَ وميضِ أجفاني  
تلألئي مثلَ تفَّاحةِ الرُّوحِ
عانقيني على إيقاعِ الانتعاشِ  
خذي قيلولةَ دفءٍ بينَ تدفُّقاتِ الهيامِ
اغفي بين روحي وقلبي
تلالُكِ المعبّقة بوهجِ العشقِ
منارةِ ألقي إلى بهاءِ السَّماءِ!

عندما غفيتِ بينَ مروجي
أدلقتُ توهّجاتِ الحنينِ
     فوقَ نهديكِ
أروي أشجارَك المعرَّشة في كياني
     عبرَ مهاميزَ بوحِ القصيدة
تحلِّقينَ فوقَ غيومِ اللَّيلِ
بحثاً عن خيوطِ الحلمِ
أرسمُ بريقَ عينيكِ فوقَ قوسِ قزحي
     فوقَ منارةِ الشَّوقِ
     فوقَ شهقةِ البدنِ!

 نهداكِ مخضَّبان بنكهةِ التُّفاحِ  
كرزتانِ شامختانِ تنتظرانِ حبقَ الرُّوحِ!
 
يرقصُ جسدُك فوقَ مغائر عشقي
أعانقُ روحَكِ الجَّانحة نحوَ بيادر الطُّفولةِ
أرسمُ على خدِّكِ قبلةَ الخلاصِ
هضابُكِ أزاهيرُ عشقٍ
مبلَّلة بأجنحةِ السَّماءِ  

أنقشُ فوقَ قلبِكِ قبلةً
منبعثةً من وهجِ الرّياحين
هل التقينا يوماً فوقَ وجنةِ القمرِ
أم مراراً عشنا عشقاً
فوقَ وهادِ الأزلِ؟!

البارحة كتبتُ على أجنحةِ اليمامِ
قصيدةً
     من لونِ عينيكِ
تعالي هذا المساء
كي أغفو فوقَ مقلتيكِ
كزهرةِ عشقٍ
مضمّخةٍ بأريجِ النَّعناعِ!
... ... ... .. .... ....!


* كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
ستوكهولم: آذار  2013



31
الفنّانة التَّشكيليّة الكرديّة آشنا أحمد دولت
 اشراقة لونيّة طافحة بطفولةٍ من نكهةِ الطِّينِ الأصيل






حوار صبری يوسف ـ ستوكهولم
 الفنَّانة التَّشكيليّة الكورديّة آشنا أحمد دولت، مواليد بغداد. ترعرعَتْ في بيتٍ يحمل آفاقاً فكريّة ثقافيّة متفتّحة، شغوفة بالرَّسم منذ صغرها، خريجة معهد الفنون الجَّميلة من السليمانيّة، وهندسة مدنيّة من جامعة ستوكهولم، تنظر إلى الأفق البعيد من خلال تشكيلاتها اللَّونيّة، وكأنَّها في حالة فرحٍ مستمر، وشوقٍ مستمر، وحنانٍ مهتاج مثل بحيرة وان!
تواشيحها اللَّونيّة مفتوحة على أبوابِ الدُّفء والوفاء، إزرقاقٌ فاتح يموجُ في ثناياه بياضٌ معبَّقٌ بحنينِ الطُّفولة وصفاء الرُّوح وهي تهفو إلى زرقة السَّماء. يتداخل إحمرارٌ خفيف مع اصفرار متعطِّش إلى جبالٍ بعيدة، محفورة في منعرجات ذاكرة فنّانة من نكهةِ الطِّين الأصيل، كأنّها تريد بهذه الأصالة أن تعيدنا إلى صفاء الطَّين منذ تشكيله الأوَّل!
ترسم البسمة رغم الغربة والهجرة وتنافرات هذا الزَّمان، ترسم المنازل الجَّانحة نحو الضَّوء، ترسم الأحلام والرَّغبات، ترسم وميضَ الأمل القادم كي تقول لنا: أنا هنا، كأّنّها تخاطب الآخرين كي ينضمُّوا إليها في بناء وهج الفرح، رغم زمهرير الحياة. لوحتها تشبه قصيدة منفلشة من يراع الحلم، تريد أن تفتح أبواب الأمل لكلِّ الحزانى، لكلِّ الَّذين ينتظرون الرَّبيع!
آشنا هادئة وواثقة في خطواتها وهي تتقدَّم، ترسم وكأنّها في حالة غنائيّة، تذكِّرني بأغاني ملحميّة كرديّة، سمعتها مراراً (حَمْدِين وشَمْدِين ومَمّ وزين). كلّما أراها تعانق لوحاتها، أفرح. تذكّّرني بحميميّة أُسَرنا الشَّرقيّة. آشنا فنَانة ذات بَوح شرقي دافئ، متوائمة مع حميميّة الإنسان، تبدو لوحاتها كخيوطِ حنينٍ إلى إنسانيّة الإنسان، في أرضٍ مخلخلةِ الأجنحة!
لوحات آشنا أشبه ما تكون تدفُّقات حلميّة طافحة بدموعٍ مملَّحة بشهقاتِ شوقٍ إلى مرابع الطُّفولة تارةً، وشوقٍ مفتوحٍ إلى مروجِ الرُّوحِ تارةً أخرى، كأنّها في حالة عشقٍ منذ أمدٍ بعيد مع رفيقِ دربٍ من بوحِ الياسمين، حيث تستمدُّ من عوالمه خصوبة الألوان لتفرشها فوق جفونِ اللَّيلِ كلَ مساء، لتعيد صياغاتها في صباحاتٍ مرفرفةٍ بزغبِ الطُّفولة، فلا ترى أجمل من وليدها المكتنز بألوانِ أفراحِ الدُّنيا، فتعانقه بكلِّ جوارحها وترسمُ حفاوة الطّفولة مع الأطفال كي تقدِّم لروحها الشّفيفة ولنا وللحياة كرنفالاً لونيَّاً متدفِّقاً من مآقي الأطفال!   
قدَّمَت الكثير من المعارض الفرديّة والجَّماعيّة داخل وخارج السُّويد، التقيتها أكثر من مرّة في ستوكهولم، فولد هذا الحوار:                                                       
1 ـ كانت أمُّكِ مقمّطة بأجملِ الألوانِ عندما كانت حُبلى بكِ، فهل ورثْتِ عن أمِّكِ كلّ هذا الطَّيف اللَّوني البهيج؟!           
لا أدري فيما إذا كان لدى أمّي نفس الموهبة الفنّية أم لا. أنا أشبه أمِّي من ناحية القلب الكبير وحب الآخرين وروح المساعدة للآخرين، وهذه الصِّفات المميَّزة لأمّي أفتخر بها. أمِّي لم يُتَحْ لها ما أُتيحَ لي من فُرَصٍ في مجال الإبداع الفنّي، لهذا لا أستطيع أن أقول أنَّني ورثتُ منها الموهبة الفنّية، وأريد بنفس الوقت أن أشير إلى أيام طفولتي في بداية حياتي الفنّية، حيث ظهر حبي للفنِّ من خلال أحد أقربائي، وهو الَّذي حفّزني على حبّي للرسم، وهو ابن خالي الفنّان هيرش حسن، حيث كنتُ أركّز عليه عندما كان يرسم لوحاته، وتمنّيت أثناء ذلك أن أرسمَ يوماً ما مثله، والحمد لله من خلال دراستي للفن وجهودي المستمرّة، وصلتُ إلى مرحلة متقدِّمة، وها أنا اليوم أرسم لوحات على مستوى جيّد، وأشارك مع فنّانين عالميين أيضاً. فلا بدّ أن يكون هناك مورّثات فنِّية في موهبتي أيضاً، إلى جانب جهودي الشَّخصية الَّتي بذلتها خلال مسيرتي الفنّية. 
2 ـ طفولتُكِ مكتنزة ببهاءِ المروج، أَلهذا تفتَّحتْ أزاهير الطُّفولة ومباهج الطَّبيعة في لوحاتِكِ؟                               
طفولتي كانت طبيعيّة كأيِّ شخص آخر، ليس فيها شيء مميَّز عن الأطفال الآخرين، لكنِّي أريد أن أشير إلى أنَّ حياتي كانت ربّما مختلفة عن بعض رفاقي ممَّن كانوا معي في نفس المرحلة، حيث أنِّني ترعرعتُ وكبرتُ ضمن عائلة سياسيّة، تهتم بالسياسة، فقد كان والدي سياسيَّاً، لهذا كان يرتاد بيتنا الكثير من الزُّوار السياسيين والمثقَّفين، فهذه التَّجرية أنضجتني وكانت مفيدة بالنسبة لي ولكلِّ أفراد أسرتي، وقد ساعدتني على تفتُّح ذهني مبكراً منذ الطُّفولة، وقد كان لي اختياراتي وطموحاتي منذ البداية، ونمَتْ ثقتي بنفسي داخل وخارج البيت أيضاً، وكنتُ حريصة على أن أحافظ على الثِّقة الَّتي منحتني إيَّاها أسرتي، كي أكون عند حسن ظنَّهم بي، ولحسن حظّي التقيت بأحسن وأرقى شخص في حياتي، واخترته شريكاً لحياتي، وكم أنا فخورة وسعيدة جدّاً بوجود حبيبي وشريك عمري، زوجي ومدير أعمالي شوان قادر، وإنَّ كلّ نجاحي هو من خلال إهتمامه بي، حيث يساعدني ويمنحني القوّة في الاستمرار في حياتي الفنّية والعائليّة والإبداعيّة في المجتمع الَّذي نحن فيه. 

إنَّ وجود زوجي وابني الوحيد والعزيز في حياتي، يسهِّل ويضيء لي كل الأهداف الَّتي أسعى إليها، ويتمُّ معالجة أي شيء يعترض طريقي من خلال تفهمهما وثقتهما العميقة بي وبمستقبلي الفنِّي، ويشجعانني على الاستمرار في العطاء والإبداع، فهما يعرفان ويعترفان بأنَّني فنّانة موهوبة، قويّة، نبيهة، طموحة ومجتهدة، لهذا أناضل وأجتهد كثيراً من أجل تحقيق أهدافي وطموحاتي مهما أصادف من مشاكل أو ظروف معيّنة، وهما يجدان أنّني مصمّمة بقوَّة للوصول إلى أهدافي، فيزيدانني ثقةً وتشجيعاً، ويقفان معي في كلِّ صغيرةٍ أو كبيرة، من أجل تحقيق نجاحاتي الفنّية وأهدافي الَّتي أصبحت أهدافنا نحن الثَّلاثة، وأشكر الله وأحمده أنّني وصلت إلى الكثير من أهدافي حتّى الآن، ولدي إحساس كبير أنّني سأحقِّق طموحاتي وأهدافي في المستقبل، طالما لدي زوج ورفيق درب رائع وابن عزيز وغالي وهما يتفهَّمان طموحاتي ويسعان مثلي من أجل تحقيقها، وأنا سعيدة للغاية وأشكرهما لأنَّني بفضلهما حقَّقتُ الكثير من أهدافي حتَّى الآن.                                   

3 ـ أرى ألوانَكِ وفضاءاتِ لوحاتكِ تتوقُ إلى الحرّية والسُّموّ والجَّمال، كيفَ تشكَّلَتْ هذه التَّطلُّعات في إيقاعها الفنّي؟       
تنبع ألواني بعفويّة من أعماقي، أختار الألوان الَّتي تمنحني متعة وراحة في داخلي، ألواني حرّة مثلي كإنسانة لها شخصيَّتها ومواقفها الخاصَّة للأحداث الَّتي تجري حولي وفي حياتنا اليومية، أختار الألوان الَّتي أحبّها وأرتاح لها وتعكس ما بداخلي من مشاعر، وفضاءات لوحاتي مبنيّة على الحرِّية والجّمال، لأنَّني أنحاز إلى كلِّ عملٍ حرّ وجميل، كما أنّني أركّز على التَّوازن اللَّوني والتَّشكيل وأسلوب التَّعبير عبر لوحاتي، وهكذا تظهر اللَّوحات متناسقة لونيّاً وجميلة، وتعكس الكثير من التَّفاسير والمعاني الواضحة الَّتي أودُّ عرضها عبر ألواني وتشكيلات لوحاتي.                                               
 
4 ـ موضوعات لوحاتك أشبه ما تكون منبعثة من توهّجات حلميَّة، هل ترسمين لوحاتكِ من خلال تدفُّقات الحلم؟           
الأحلام هي نتيجة الأمنيات الحقيقيّة عندما نحصل عليها في الواقع، ونتمنّى أن تتحقَّق في المستقبل، ونحن نحلم بها أثناء اليقظة والحلم معاً، من الطَّبيعي أن يكون لنا أحلامنا وتطلُّعاتنا الفنّية، وإن رسالة الفنّان هي أن يترجم أحاسيسه الفنِّية الحلميّة وأمانيه، وكلّما نركّز على طموحاتنا، نستطيع أن نحقِّقها في حياتنا المستقبليّة، وممكن أن تنبع فكرة ما، من خلال حبِّي لموضوع ما يتعلّق برغباتي وأمانيّ الشَّخصيّة والمتعلِّقة بحياتي الإجتماعيّة وعلاقاتي مع الحياة، فهناك الكثير من المواضيع تدفعني لرسم لوحة من وحي عوالمها، فالحلم والطّموح والرّغبات والأماني لها دور كبير في رسم لوحات جميلة.
5 ـ لديكِ طموحات كبيرة، متربِّعة على إرادة قويّة، من أين تنبع طموحاتكِ وإرادتكِ لتشكيل آفاق عوالمِكِ الفنّية؟           
 
لكلِّ إنسان طموحات خاصّة في الحياة، لكن لا يناضل كلّ إنسان من أجل تحقيق طموحاته، أنا من الفنَّانات اللَّواتي تصنع إرادتها الخاصّة بنفسها للوصول إلى أهدافي، هذه القوَّة استمدُّها من الحياة، من الطَّبيعة، من المجتمع، ومن خلال هذه القوَّة الَّتي أمتلكها أستطيع أن أذلِّل العقبات الَّتي تقف في طريق نجاحي، لأنَّ إرادتي القويّة وتفاؤلي يساعدانني على النّجاح من خلال قوَّة إرادتي وثقتي الكبيرة بنفسي، ومن خلال الأحداث اليوميّة وخبرتي في الحياة، وكلُّ هذا ينعكس إيجاباً على لوحاتي.

6 ـ تتميّز كردستان بطبيعتها الخلابة، وروعةِ جبالها الشّامخة، ما تأثير هذه الطَّبيعة البديعة على إبداع لوحتكِ؟           

شكراً لوصفكَ الجَّميل لبلدي، بالطبع كلّ البلدان لها طبيعتها الخاصّة والجَّميلة، وهذا الجَّمال المحيط بالفنَّان والفنَّانة ينعكس على أفراد المجتمع ككلّ، وقد انعكس جمال بلدي على شخصيَّتي وعلى فنِّي أيضاً، وعندما ينظر المشاهد إلى لوحاتي، يلاحظ مباشرة الألوان الزَّاهية الجَّميلة الخاصّة بطبيعة الأكراد وكردستان، لأنّني أعكس طبيعة بلدي على لوحاتي، بكلِّ افتخار واعتزاز، لأنّني أريد أن أكون سفيرة وفيّة ومخلصة لبلدي، وهذه هي رسالة كلّ الفنّانين والمثقَّفين والسياسيين بأن يكونوا سفراء أمناء لبلدهم أينما كانوا. الوفاء هو الرِّسالة الواضحة لكلِّ أفراد المجتمع المخلصين، وبرأيي الَّذي ليس له وفاء لبلده، ليس له وفاء لنفسه ولا لِمَنْ حوله، ويفقد ثقة الآخرين به. أنا كفنَّانة إستطعتُ أن أعطي فكرة جيّدة عن بلدي وشعبي وينعكس هذا بشكل رائع في لوحاتي، وهذه هي رسالتي في الحياة، أن أقدِّم أجمل ما لدي لبلدي ولمَنْ يحيط بي في الحياة. 

7 ـ كيفَ تولدُ عندكِ فكرة اللَّوحة، وكيف تجسِّدينها على بياضِ اللّوحة إلى أن تصبح لوحة باذخة بالألوان؟               
لا بدَّ لكلِّ فكرة من سبب أساسي لها قبل أن تولد، وأفكار لوحاتي أبنيها من خلال أحداثٍ حصلت معي وتترك أثراً بي، تنمو الفكرة وتتطوَّر. وأريد أن أعترف أنّني غير قادرة على ترجمة مشاعري في وصف معاناة الآخرين عبر الكتابة، لكنِّي قادرة على ترجمة هذه المشاعر عبر لوحاتي ومشاريعي الفنّية الفرديّة والجّماعيّة أيضاً، ولدي الرّغبة القويّة في التَّعاون مع الآخرين والقيام بمشاريع فنّية مشتركة، طالما تقودنا إلى أهداف مشتركة أساسها التًَّعاون والفائدة من خبرات بعضنا بعضاً.
تولد الأفكار قبل أن أرسم اللَّوحة، وعندما أقف أمام اللّوحة البيضاء، تولد أفكاري وتنتظرني الألوان، ويصبح هناك تفاعل ما بين اللَّون والأفكار، ثمَّ تتطوَّر اللَّوحة إلى ما لا نهاية، لأنَّ روحي تندمج مع فكرتي من خلال الألوان، فأترجم أفكاري وأعطيها الهويّة الخاصّة بي مركّزةً على جمال اللَّوحة، وجاذبيَّتها، وتشكيلاتها اللَّونية الجَّميلة والمنسجمة مع أفكاري.     

8 ـ رسمتِ بعض الرُّسوم الخاصَّة بكتب الأطفال، هل تترجمين أفكار القصص في الكتب عبر الرَّسم؟                       
نعم، رسمتُ بعض الرُّسوم للكتب التَّعليميّة للأطفال الأكراد في المهجر، وذلك من خلال محتويات الكتاب، سواء كانت مواضيع قصصيّة أو مواضيع تعليميّة، فقد ترجمتُ القصص والمواضيع التَّعليميّة عبر الرَّسم كمساعدة لشرح القصص والمواضيع. هذه كانت تجربة جميلة، وأفتخر بهذه التَّجربة لأنَّ أطفالنا سيفتحون عيونهم في بداية حياتهم الدِّراسيّة على رسومي الَّتي رسمتها لهم، ومن الطَّبيعي ستنطبع هذه الرّسوم في أذهان أطفالنا. أنّه شعور بالفخر والاعتزاز أن أقدِّم عبر فنّي رسوماً توضيحيّة في المناهج التَّعليميّة والدِّراسيّة من هذا الجّانب، وقد كان العمل طوعيّاً، لخدمة الأطفال الأكراد في بلاد المهجر.   
9 ـ ماذا يعني لكِ الرَّسم، اللَّون، الفرشاة، بياض اللَّوحة، الطّفل، الطَّبيعة، الفرح، الغربة، الذّكريات البعيدة؟                 
الرَّسم : يعني لي، الحياة، استرخاء، جمال ومتعة.
اللَّون: جمال، وطريق الوصول إلى الجَّمال.
الفرشاة: هي وسيلة للتعبير عن المقاومة والنِّضال من أجل الحقوق وأداة للوصول إلى تحقيق الأهداف. 
بياض اللّوحة: باب لنموِّ الفكرة ومصدر الإلهام لأفكار لوحاتي.
الطّفل: يعني النَّقاوة وبساطة الحياة والبراءة، وهو الممرّ البدائي للوصول للحديقة الكبيرة.
الطّبيعة: الحقيقة الواقعيّة.
الفرح: تجدُّد العمر.
الغربة: تعلُّم الأشياء الجديدة والنُّضوج.
الذّكريات البعيدة: أجمل ما في الكون، وتمنحني طاقة كبيرة للاستمرار في مواجهة الحياة الصّعبة.     

10 ـ هناك ملاحم شعريّة غنائيّة كرديّة، يتمُّ تقديمها في مناسبات ومهرجانات متعدِّدة، هل راودكِ أن تستلهمي من فضاءات الغناء والموسيقى الكرديّة لوحات معيَّنة؟                                                                                     
بالتأكيد، لأنَّ الغناء هو الكولتور: الثّقافة، والثّقافة موجودة في داخل عوالمنا، خاصة عوالم الفنّان، عندما تُتاح له الفرصة للتعبير عن تطلُّعاته، فالأعمال الفنّية نابعة من الفضاءات الغنائيّة والموسيقيَّة وما يرافقها من أفراح، فمن المؤكّد انعكست الموسيقى الكرديّة والغناء الكردي على لوحاتي دون أن أخطِّط لها، لأنَّ هذه الموسيقى جزء من حياتي، وتظهر بشكل لاشعوري، لأنّني بالأساس عندما أرسم أسمع إلى الموسيقى الكرديّة وهذا يعطيني طاقات  فنّية ويولدُ اللَّون من طبيعة البيئة الكرديّة من دون قصدٍ لأنّه يولد بشكل عفوي، فللموسيقى الكرديّة دور هام في استلهام فضاءات لوحاتي الفنِّية.             
11 ـ من المعروف أن فولكلور الزَّيّ الكردي، خاصة النِّسائي، غني بالألوان، ما مدى انعكاس هذا على لوحاتكِ؟         
بالتأكيد، تنعكس ألوان الزَّي الكردي عليّ كفنَّانة كرديّة، وهي ألوان جميلة، ألوان حارّة وصارخة وبرَّاقة وصادقة وتنبع من طبيعة بيئتنا الجَّبليّة الغنيّة بالألوان، وهذه الألوان موجودة في داخلي كإنسانة عاشتْ وترعرتْ في هذه البيئة الجَّميلة، فبكلِّ تأكيد لهذه الألوان انعكاسات على لوحاتي، فمن الطَّبيعي أن يؤثّر المناخ والبيئة على التّقنيات اللَّونيّة والفنّية عند الفنّان.   
  12 ـ ما هي التَّقنيات الَّتي تتبعينها عندما ترسمين، وبأيَّةِ ألوانٍ ترسمين، وعلى أيَّةِ موادٍ تهدهدينَ ألوانكِ؟                       
أنا كفنّانة أكاديميّة، استخدمتُ ومارستُ كلَّ المواد والتَّقنيات الأساسيّة لفن الرَّسم، وإشتغلتُ بمواد مختلفة بما فيها الكولاج، وجرّبتُ مدارس وتقنيات مختلفة كي استمتع بالفنِّ ككل. لهذا لدي معلومات جيّدة لإستخدام أكثريّة المواد.                                 
أحبُّ أن أرسمَ بالزَّيت والألوان المائيّة والباستيل، ولكن في الفترة الأخيرة بدأتُ أستخدم ألوان الأكريل، واستمتعتُ باستخدام هذه الألوان، وأحببتُ أن أستمرَّ عليها، بسبب سهولةِ الرَّسم فيها، ولأن ألوان الأكريل تجفُّ بسرعة، وأستطيع العمل عليها للمرة الثَّانية، إضافة إلى أنّها اقتصاديّة وجميلة أيضاً. الآن أكثريّة لوحاتي من الأكريل، مع بعض المواد الأخرى.         
       
13 ـ هل عندما ترسمين، تهمسُ في أذنكِ: القصيدة، الأغنية، الموسيقى، الرّقص، أم أنَّكِ غائصة في دفءِ عناقات الأم قبلَ أن تعبري البحار؟ هل لهذه المشاعر وما يماثلها مساحةً في رحابِ لوحاتكِ؟                                                 
بالطبع، دائماً هذه الحميميات تهمس في أذني، حيث ذكريات طفولتي، دفء أحضان أمِّي والإحساس بالأمان معها قبل عبور البحار وعدم الشُّعور بالخوف .. وفراق الأم. للأم، الوطن، الأهل، الأصدقاء ورائحة الطّبيعة، الرِّمال والجِّبال وأشياء قديمة ودَّعتها هناك، لكلِّ هذه الذّكريات الحميمة دور كبير في تقنيات لوحاتي، وهذا برأيي شيء طبيعي لأيِّ شخص مهاجر ومشتاق لبلده ولذكرياته القديمة المحفورة في داخله.                                                                       
إنَّ لكلّ فنَّانة تأملات خاصّة عندما ترسم، كي تستلهم أفكاراً للوحتها من خلال الاستماع إلى موسيقى معيّنة، وتواصلها مع ذكرياتها القديمة، السَّعيدة والحزينة، بحسب ما تتطلَّبه اللَّوحة، والذّكريات الَّتي نتذكَّرها غالباً ما تكون عائليّة دافئة بالحب الَّذي علمَّتني أمِّي، وتتراءى أمامي أحياناً الذّكريات دفعةً واحدة، وأحاول أن أمسك بخيط الذّكريات، لكنِّي لا أستطيع فأغوص في أعماقها، وأندمج معها بكلِّ روحي ومشاعري كأنها حيّة أمامي، وأحياناً أستفيق من هذه التَّأملات والذّكريات فأجد نفسي باكية، وأحياناً أخرى أضحك وهذا البكاء والحزن يتوقَّفان على الذّكريات الَّتي تتراءى أمامي، وكلّ هذا ينعكس على لوحاتي بشكل جميل، وهي منبع غني لبناء لوحات تحمل أفكاراً نابعة من مشاعر حميمة، سواء كانت حزينةً أو سارّة.               

14 ـ أراكِ ـ عبر لوحاتكِ ـ تشبهين غيمة ماطرة فوقَ مروجِ الغربة، هل فجَّرتِ الغربة في أعماقكِ تدفُّقاً لونيّاً؟!         
نعم، أشعر أحياناً كثيرة بالإحباط والشُّعور بالفراغ للإنتماء في بلاد الغربة، لأنَّنا في بلاد الاغتراب، ومهما انسجمنا، لا نشعر أنّنا من نفس البلد، لأنّه البلد الثّاني لنا، وفي نفس الوقت في بلدنا الأوَّل لا ينظر إلينا كمواطن/مواطنة مثل بقيّة المواطنين الَّذين يعيشون في البلد، بل نشعر أحياناً أنَّنا نحن المغتربين متعلِّقين في الهواء ولا نعرف بالضَّبط إلى مَن ننتمي؟           
وهذا السُّؤال ذكَّرني بما أحسست به عندما رجعتُ إلى بلدي بعد 16 سنة من فراقي الأوَّل للبلد، وقبل ما أرجع كنتُ أتخيَّل أنّني في بلدي ولدي الحقّ أن أقول ما أريد قوله، لكنِّي رأيتُ العكس تماماً، وشعرتُ أنّني لستُ أنا مَن تغيَّر فقط، بل العالم والدُّنيا كلّها تغيَّرت، خاصةً أنّني لم أجد المكان الَّذي تربَّيت وكبرت في وسطه، وهذا ليس ذنبنا وإنّما القدر لعب دوراً وأبعدنا عن وطننا، وشعرت بإحساس غريب عندما رجعت من المهجر، الإحساس بأنَّني لستُ من قوم البلد الثَّاني الَّذي جئت منه، وبنفس الوقت شعرت وكأنّي لست من قوم بلدي الأصلي. إنَّ الإحساس بالفراغ للإنتماء الشَّخصي، آذاني في الأعماق، وأتساءل مَنْ أنا؟! مَن أنا؟! هل سأعيش طوال حياتي وأنا معلَّقة في الفضاء، ولم أجد الجواب الشَّافي لسؤالي؟! لهذا السَّبب، قرَّرتُ أن أثبت وجودي كفنّانة وأحترم قومي ووطني الَّذي ولدتُ فيه، وأحترم بنفس الوقت الوطن الَّذي أعيش فيه في غربتي، ولا أريد أن أفكّر أنّني غريبة، ولهذا يشعر مَنْ يشاهد لوحاتي أنَّ هناك غيمة غير واضحة أرسمها أحياناً في لوحاتي، أي أنَّ هناك حالة ضبابيّة غير واضحة في عوالم المغتربين، وإنَّ هذا الإحساس مع الكثير من الأحاسيس الاغترابيّة الأخرى، فجَّرَتْ في أعماقي أحاسيس فنِّية، وأحاول أن أهدِّئ نفسي من خلال ألواني ومواضيع لوحاتي الَّتي تترجم مشاعري الاغترابيّة والشَّوقيّة ومعاناتي الَّتي تظهر عبر ألواني ومواضيع لوحاتي، وبرأيي أنَّ هذه المعاناة والغربة هي الَّتي تخلق الفنّان، وتخلق السِّياسي والمثقَّف، وتقوده إلى التَّفكير والتَّحليل كي يعالج المعادلات الصَّعبة الَّتي تصادفه في الحياة.       
وقد علَّمتني الغربة الصَّبر ومعالجة الصّعوبات، وعبر الفن واللَّون قاومت معظم الصّعوبات الَّتي صادفتها، لأنّني أملك إرادة قويّة وتصميم قوي، إضافة إلى أنَّني تعلَّمتُ من خلال ظروف الغربة كيف أتعامل مع الأحداث الحلوة والمرّة أيضاً، وأجسِّدها فنّياً، ويجد المتابع لأعمالي الفنّية تأثير الغربة وانعكاسها بشكل واضح على لوحاتي.                                         
 
15 ـ ما رأيكِ بحوار الحضارات عبر اللَّون والقصيدة والكلمة الحرّة عبر القارّات، تأكيداً على إنسانيّة الإنسان؟!           
هذا السُّؤال والكلام جميل جدَّاً جدَّاً، وأنا أعمل وأناضل من أجل هذا الأمر، لكي أصل إلى الأهداف والحياة الجَّميلة، القائمة على الاحترام المتبادل بين الشُّعوب والأفراد، والتَّواصل والتَّعاون مع الآخر بكل مودَّة ومحبّة وثقة وصدق لبعضنا بعضاً من دون أن نجرح أو نؤذي بعضنا، بعيداً عن الأغراض والمنافع الشَّخصيّة الضَّيقة.                                             
الحضارة هي هويّة وثقافة البلد لما تحمله من آداب رفيعة وفنون وثقافة وفكر، ولا بدَّ من إبراز هذه الثّقافة والفنون وتقديمها للآخرين عبر الثّقافة والفنِّ والأدب، ومن خلال الحوار والتّبادل المعرفي بين المجتمعات، وتبادل الخبرات الفنّية والثّقافية والأدبيّة لما فيه مصلحة وخير جميع المجتمعات والحضارات.                                                       

16 ـ كيف ممكن أن ندخلَ البهجة والفرح إلى قلوب الأطفال في كلِّ أنحاءِ العالم؟!                                           

بأن لا ننساهم، ونترك لهم المجال كي يعبِّروا عن أنفسهم ويشاركوا معنا في التَّعبير عن أفكارهم ومشاعرهم، عبر نشاطات عديدة نقوم بها معهم، وأن نضعهم في الاعتبار في برامجنا ومشاريعنا الفنّية، فمثلاً ابني يرافقني في أغلب معارضي ومشاريعي الَّتي أشترك فيها سواء داخل أو خارج السُّويد، وقد فكَّرتُ بتأسيس جمعية فنّية مشتركة مع الأطفال. اسم جمعيتنا: الفن للأطفال، وأعضاؤنا من الفنّانين الكبار ومن أطفالهم، لأنّنا عندما ننظِّم مشروعاً فنّياً لنا، غالباً يكون في أوقات فراغنا في العطلة الرسميّة، كي نشرف على أولادنا ونشغلهم بما هو مفيد لهم ولنا أيضاً، ولكي نزرع في قلوبهم حبّ الفنِّ والثَّقافة، ومن خلال وجودهم في هكذا أجواء، سيتأثَّرون بالفنِّ وتتطوَّر مواهب الطّلاب الَّذين لديهم موهبة فنّية، وسيتعرَّفون على فنّانين مختصّين في الفنِّ، وكلّ هذا سينمِّي موهبتهم الفنّية من الصِّغر، ويمنحهم قوة وثقة في أنفسهم أكثر وأكثر، ولا مانع من اصطحاب أولادنا معنا خلال مشاركاتنا الفنّية الخارجيّة، ففي هذا فائدة سياحيّة وفنِّية وثقافيّة أيضاً، وقد استفدت من تجربتي الشَّخصيّة كثيراً ولهذا السَّبب فكَّرتُ بتأسيس هذه الجّمعيّة، وحالياً أنا رئيسة جمعيّة الفنّ للأطفال ولدينا حتّى الآن حوالي 90 عضو من الكبار والأطفال من عدّة دول من العالم، نتبادل خبراتنا ونعمّق مواهب الأطفال الفنّية كما نتعرّف على بيئات جديدة وثقافة جديدة ونتمتَّع في رحلاتنا ومشاريعنا الفنِّية في الدُّول الَّتي نسافر إليها.                                 
                               
17 ـ ما رأيك في إقامة معرض فنّي يشارك فيه مائة طفل وطفلة يعبِّرون فيه عن رأيهم في المحبِّة والفرح والسَّلام؟       
هذه الفكرة رائعة وجميلة واشتغلنا على نفس هذه الفكرة في الهند عام 2011، ووجدنا أنَّ الأطفال يفكِّرون ويعبِّرون عن أفكارهم بأسلوب جميل، يصعب على الكبار أن يفكِّروا بها، لهذا فإنَّ الاعتماد على أفكار الأطفال وتطلُّعاتهم أسلوب جميل ورائع للوصول إلى أفكار أو أهداف معيّنة يسعون للوصول إليها. إنَّ تعابير وتخيُّلات وأحاسيس الأطفال هي صادقة دائماً، والأجمل من هذا كلّه، أنَّ هذه التَّجارب الَّتي نتعامل عبرها مع الأطفال، تعيدنا للطفولة والبساطة والحياة الصَّافية البريئة.   

18 ـ شاركتِ بنشاطات فنِّية في الهند، وكنتِ المنسِّقة لمعرض مدى 2، كما نظّمتِ ورشة عمل فنِّية في مصر بالتَّنسيق مع بعض الفنّانين الكورد، تحدَّثي عن هذه التَّجارب الفريدة؟!                                                                   
         
نعم، شاركتُ في ورشة العمل والمعرض في الهند، من خلال انضمامي للمنظَّمة العالميّة الفنّية "تيلُس آرت". وقد كنّا 40 فنَّاناً وفنَّانة من كلِّ أنحاء العالم، توزّعنا على ثلاث مدن خلال ثلاثة أسابيع، وقمنا بإعداد ورشة عمل مع كلِّ الفنّانين وأطفال لإحدى مدارس الهند في منطقة "دارمبور"، الواقعة في حدود نيبال. واشتغلنا اسبوعاً في نيودلهي، وهناك قدّمنا معرضنا الخاصّ بالفنَّانين المشتركين، وزرنا دار الأيتام، الّتي تبنَّته المنظَّمة بكلِّ المصاريف لهذه التَّظاهرة والتَّجمّع الفنِّي. وفي الاسبوع الثَّالث قضيناه في قرية "كاليياكة" في وسط الهند، وفي اسبوعنا الثَّاني التقينا مع حوالي 500 طالب وطالبة من مدارس المنطقة الَّتي كنّا فيها أثناء ورشة العمل الفنّي، وقد أشرف الفنَّانون والفنَّانات على أعمال الطّلاب والطَّالبات وقد رسموا لوحات جميلة، وبعد أن انتهوا من رسم لوحاتهم قدَّمنا معرضاً مشتركاً جميلاً جدَّاً. وبعدها نظَّمتُ مشروعاً فنّياً من خلال ورشة عمل فنّية لمجموعة من فنَّاني الخليج العربي لتقديم معرض فنِّي لهم في السّويد عام 2011، تحت اسم مدى 2، وهذا المشروع كان ثمرة تعارفي على مجموعة من الفنَّانين الخليجيين، ووعدتهم بأن أنظِّم لهم معرضاً في السُّويد، بالتَّعاون مع الفنّان شاكر بدر عطيّة رئيس جمعية الفنّانين التّشكيليين العراقيين في السّويد، وبدعم من دائرة الثّقافة السُّويديّة، استطعنا أن ننظِّم ونقيم معرضاً جميلاً في السُّويد، استمرَّ المعرض ثلاثة أسابيع في غاليري هوسبي.                       
                                                                                 
وقد كان هذا المشروع نقطة الانطلاق، لأنَّ الفنّانين كانوا على مستوى فنِّي كبير. كنتُ عضوة مؤسِّسة لمجموعة المدى، ثمَّ تمَّ دعوة كلّ المشاركين في معرض مدى من قبل المركز الثّقافي العراقي في ستوكهولم، بالتّنسيق مع الفنّان شاكر بدر عطيّة، وتمَّ عرض معرض مدى 2 لمدة شهر في سبتمر 2012، وقد حضر الافتتاح الكثير من الفنّانين والفنّانات والجالية العراقية والعربيّة المهتمّة بالثقافة والفنّ، كما حضر المعرض طلاب وطالبات إحدى مدارس ستوكهولم، وتمَّ إعداد ورشة عمل من الطّلاب وقدّموا أعمالاً فنّية بشكل حرّ وكان ناجحاً!                                                                 
  وفي شهر تشرين الثّاني (أكتوبر) 2012، نظّمتُ مشروعاً فنيّاً في مصر لبعض الفنّانين الكورد، للإشتراك في مهرجان الغردقة الدَّولي للفن التَّشكيلي. كان المعرض وورشة العمل خلال اسبوع، ابتداءً من 1. 11. حتّى غاية 8. 11. 2012. وكان الفنّانون المشتركون من كافّة أنحاء العالم. كانت تجربة جميلة جدّاً، وحمل المهرجان عنوان: مصر بخير، وكان بإشراف الفنَّان مرتضى سليم والفنّان فاروق وهبة. وسررت جدّاً عندما اختارني د. الفنّان فاروق وهبة رئيس نقابة الفنّانين التّشكيليين في مصر وعميد أكاديمية الفنون في الاسكندريّة، لإفتتاح معرضي الشَّخصي في غاليري خاص بالفنِّ التَّشكيلي، وهذا شرف كبير لي لأنّه تمَّ اختياري من بين الفنّانين واختيار فنّانة إماراتية لافتتاح كل منّا معرضه الشَّخصي.             
                                                       
كما أنِّي أحضِّرُ أيضاً لمشروع فنِّي وخيري في كردستان خلال العام القادم 2013 بعنوان: الوقوف ضدّ ضرب الأطفال، أتمنّى أن يتحقَّق هذا المشروع، وذلك باستضافة حوالي 40 فنّان وفنّانة من عدَّة دولٍ من العالم، ضمن ورشة فنّية مشتركة في عدّة مدن خلال 10 أيام، بهدف تعارف الفنَّانين الضّيوف على الفنّانين الكورد، لتقديم ورشة عمل مع الأطفال، واللَّوحات الَّتي يتمُّ رسمها خلال ورشة العمل ستبقى في كردستان ليتم تقديم ريع بيعها للأطفال المحتاجين واليتامى والمرضى، وبهذه الطَّريقة نكون قد خدمنا أطفالنا وفنَّانينا كما نقدِّم للفنَّانين الضّيوف فرصة التَّعارف على بلدنا وثقافتنا وعلى الفنّانين الكورد، كما أنَّ هناك عدّة مشاريع فنّية مقرَّرة تنفيذها في السَّويد لفنّانين من خارج السُّويد، لتنظيم ورشة عمل فنّية لهم في السُّويد.       
وقد نظَّمتُ مشروع فنِّي بالتَّنسيق مع بعضِ الأصدقاء، لإقامة معرض مشترك لمجموعة من الأصدقاء  الفنّانين في غاليري "يارفلَّّة" في "ياكوبسبيري"، في ستوكهولم، بتاريخ 1. 12. 2012، يستمر المعرض حتى منتصف كانون الثاني (يناير) من السَّنة الجَّديدة 2013، إشترك في هذا المعرض كلّ من الفنّانة آشنا أحمد دولت، الفنّان شاكر بدر عطيّة، الفنّان عبَّاس عبَّاس، الفنّان فرهاد سعيد، والفنَّان ياسين عزيز، ولديّ مشاركة في مهرجان الفن التَّشكيلي في مدينة مكناس في المغرب العربي في شهر شباط (فبراير) من العام الجديد 2013، مع الفنّان عمر درويش من النَّرويج والفنّان آري بابان من كردستان وأنا (آشنا أحمد دولت) من السُّويد وفنانين آخرين، كما سأشترك في معرض في الخليج في آذار (مارس) 2013 القادم. 
وهناك تنسيق مع مجموعة المدى الفنّية في الخليج ومجموعات فنّية أخرى لإقامة عدّة معارض فنّية في عدد من البلدان والعواصم الغربيّة والعربيّة، في برلين، لندن، فنلندة، مصر، الأردن، والخليج العربي وغيرها من البلدان.                   

19 ـ الفنَّان، المبدع غالباً ما يشعرُ أنَّه غريب عن هذا العالم، هل يراودكِ أحياناً أنكِ غريبة عن هذا العالم؟               
في بداية اغترابي، شعرتُ بالغربة في سنواتي الأولى، ولكنِّي بدأتُ العودة للرسم، وقد أنستني متعة الرَّسم كلّ همومِ الحياة، ومصاعبها، وعندما يصل الفنّان إلى مرحلة الإبداع الفنّي، ينسى مصاعبه ونفسه أينما كان، لأنه يتمتَّع في عالمه الفنّي الخاص به، ومن الصَّعب جدّاً أن يبعده أي شيء عن عالمه الفنِّي الخاصّ، لهذا فإنَّ الشُّعور بالغربة يخفّ كثيراً عند الفنّان لأنّه يملك لغة خاصّة للتواصل مع الأخرين، ولا يحتاج لأيّة وسيلة أخرى للتعبير عن مشاعره غير فنّه ولوحته وألوانه، هذا يجعل الفنّان يشعر وكأنّه يملك العالم، ولهذا السَّبب يفتخر الفنّان بنفسه وبفنّه وبما يقدِّمه للآخرين.                         
 
20 ـ لو تصالح كلّ إنسان مع ذاته ومع العالم لغدا العالم أكثر سلاماً ووئاماً، لماذا لا يتصالح الإنسان مع ذاته أولاً، ومع العالم ثانياً، كي يعيش في حالة سلام ووئام دائم؟!                                                                           
لا بدَّ أن نجد في المجتمع الإنسان الصَّالح والشَّرير، لأنّنا لا نستطيع أن نرى الصَّالحين إلا من خلال الأشرار، فكل منهما يبرز الآخر، وهكذا الحياة هي خير وشر، صالحين وأشرار، وكل إنسان له مكانه الخاص في الحياة، ويستطيع أن يعيش في وئام وسلام وهذا ما أتمنَّاه ويتمنَّاه كلّ إنسان يحبُّ السَّلام في الحياة، ولو عاش الإنسان في سلام وحبّ مع أخيه الإنسان لما شاهدنا كلّ هذا الدَّمار وكلّ هذه الحروب بين البشر، وأتمنّى أن يكون الإنسان صادقاً ومتصالحاً مع نفسه ومع العالم كي تصبح الحياة جميلة ولها طعم آخر وفي هذه الحالة ستصبح الحياة أكثر جمالاً ويعمّ السَّلام والوئام في كلِّ أنحاء العالم.         













32
الفنّانة التَّشكيليّة العراقيّة هناء الخطيب تجسّد تجربةً إبداعيّة مميَّزة




حوار صبري يوسف ـ ستوكهولم
تطرحُ الفنَّانة التَّشكيليّة العراقيّة هناء الخطيب عبر بعض لوحاتها "حوارات مع الوجود"، تتضمَّن أفكاراً وحواراً مفتوحاً، يحملُ بين طيَّاته رؤية أشبه ما تكون ميثولوجية حول الوجود منذ انبعاث آدم وحواء على وجه الدُّنيا. لوحاتها منسابة مثل مياه دجلة وهو يتدفَّق شوقاً إلى مرافئ الخصوبة، خصوبة الرُّوح وهي تتسامى إلى زرقة موشَّحة في عرش السَّماء. تستخدم الفنّانة أسلوب الرِّيليف بتقنيات وإيحاءاتٍ عالية، ويعطى هذا البروز انسجاماً شفيفاً مع تشكيلات اللَّوحة، وقد استوقفني توجيه رأس إحدى لوحاتها المدبَّب نحو الأعلى وكأنَّ اللَّوحة بما تحمل من أفكارٍ في سباقٍ مع الزَّمن لزيادة سرعة الصُّعود نحوَ متاهاتِ الغد القادم، وأعطى هذا التَّشكيل في تكوين اللَّوحة جمالاً فريداً، عندما تمَّ تشكيل الإطار كجزء ممتدّ عبر يمين اللَّوحة وكأنَّها تقصد أنَّ اللَّوحة توّاقة إلى عبور أسرارِ السَّماء، لترتمي بعدها بين أحضانِ غمائم حُبلى بنداوةِ المطر. ترميزات واسقاطات عديدة تصيغها الفنَّانة بإيقاع لوني بهيج، معتمدة على زرقة شفيفة متناغمة مع بياضٍ شفيف أشبه ما يكون ببخور منبعث من الأديرة القديمة، حفاوة الحوار الكوني بين آدم وحواء، هذا الثُّنائي الَّذي سربل الحياة بأسرار ما تزال غائصة بتساؤلاتٍ خصبة، تلامس تدفُّقات جموح مبدعي العالم. تركّز الفنّانة في أغلب لوحاتها على حوار الإنسان مع أخيه الإنسان بأسلوب معبرّ وتشكيلات راقية، كأنّها تحاكي الأزمنة الغابرة عبر الحاضر لتقول كلمتها عبر إيقاعاتٍ لونيّة في غايةِ الإنسجام.               
الفنّانة هناء الخطيب، مواليد البصرة، العراق، أرض الرَّافدين الَّتي رفدَت الحضارة الأولى وما تزال تقدِّم الكثير عبر مبدعيها. ترعرعَتِ الفنّانة في عائلة فنّية فكرية سياسية، فتشرّبتْ إلى جانب الإبداع الفنّي، العمق الفكري والثَّقافي. 
حصلَتْ على دبلوم تكنولوجيا من بغداد عام 1984، وعلى بكالوريوس من أكاديميّة الفنون الجَّميلة من جامعة بغداد 1998، وعلى لقب ماستر: اختصاص رسم عام 2001.                                                             
إنتمت عام 1987 إلى قاعة التَّحرير والنَّصر ضمن جماعة أصدقاء الفنّ في بغداد. وأصبحتْ عضوة في جمعيَّة الفنَّانين التَّشكيليين العراقيين، وفي نقابة الفنَّانين العراقيين في بغداد، وفي المنظَّمة الدَّوليّة السُّويديّة للفنّانين، كما أنَّها عضوة في جمعيَّة الفنَّانين التَّشكيليين العراقيين في السُّويد.                                                     
اشتغلت مدرِّسة في مدارس الفنون، وفي مجال لجان التَّحكيم ضمن النَّشاطات المدرسيّة التَّابعة لوزارة التَّربية والتَّعليم في العراق. وشاركت في رسم العديد من الرُّسوم الخاصَّة لقصص الأطفال، ورسمت جداريات لبعض المدارس الإبتدائية والتَّمهيديّة في بغداد. واشتغلتْ في قسم التَّصميم في شركة "ليفز" للملابس في السُّويد. وشاركَتْ في لجنة التَّحكيم للأعمال الفنِّية في جمعية الفنَّانين التَّشكيليين في السُّويد. كما شاركتْ في معارض ومهرجانات قصر الفنون داخل وخارج العراق، وقدّمت الكثير من المعارض الفرديّة والجَّماعيّة في عمان، دبي، تركيا، سورية، لبنان، السُّويد واسكندنافيا.                                                                                                         
شاركتْ مع فنّانين آخرين في رسم جداريّة بمناسبة زواج الأميرة فكتوريا ابنة ملك السُّويد في صالة (هوسبي غورد).
حصلتْ عام 2009 على الجَّائزة الفضّية للمعرض السَّنوي لجمعية الفنَّانين التَّشكيليين في السَّويد.                   
تقيم في السُّويد ـ ستوكهولم منذ عام 2002.                                                             
بعد متابعتي لمعارض الفنَّانة العراقيّة المتميّزة هناء الخطيب، إلتقيتها في ستوكهولم وكان هذا الحوار:             
1 ـ الفنّانة هناء الخطيب، متى وكيف تبرعم شغف اللَّون والرَّسم في عالمكِ؟
تبرعمَ منذ الطفولة، لأنّي نشأتُ وترعرعتُ في كنفِ أسرةٍ فنِّية سياسيّة، ومنذ أن كان عمري ما بين 7- 12 سنة، بدأ إسمي ورسوماتي تحتل نصف الجدار الَّذي كان يخصَّص للعرض، وكانت بداية انطلاق موهبتي الفنّية!
2 ـ كيف تلتقطين خيوط الومضة الاشراقيّة الأولى للَّوحة، أم أنَّ اللَّوحة تنمو بعيداً عن وميضِ الخيوطِ الإشراقيّة؟
عندما يأتي الإلهام ويطرق باب ذاكرتي، أينما أكون، في معبدي أو في خلوتي أو في مركبتي أو حتى بين الناس أو الطّرقات، ولربّما في حلم أو صحوة، تنتابني الرّغبة أن أرسم أفكاري على أيّة ورقة أمامي وأبدأ بالتّخطيط السريع، لتنفيذ التَّخطيط والأفكار على اللَّوحة، وغالباً ما تظهر خيوط الومضة الاشراقيّة الأولى لفكرتي على اللَّوحة مباشرة ومن ثمَّ تنمو وتنمو لتتبلور عبر فكرة أخرى مكمَّلة للأولى إلى أن يصبح العمل متكاملاً.
3 ـ  ما هي طقوسك في الرَّسم ومداعبة الألوان؟ مَن يعانق الآخر أولاً، أنتِ أم اللَّوحة، أم أنكما تتعانقان بآنٍ واحد؟
كلّ فنّان له طقوس خاصّة به، عندما أغوص في عالمي، عالم اللّون والفرشاة والحوار والمداعبة ومن ثم العناق، .. أبدأ بتحضير معبدي بمقطوعة من الموسيقى العالميّة، فهي غذائي الرُّوحي وأداة لتحفيز الإلهام الَّذي يتعانق مع أفكاري وايماءاتي، ثم أحضِّر اللَّون الَّذي يرتسم في مخيَّلتي بشغف والَّذي يجسِّد تلك الفكرة الَّتي داعبتني، والمؤهّل لتنفيذها.. وأبدأ الحوار ما بين أفكاري وفرشاتي وما بين اللَّون الَّذي أختاره بشغف ثم أداعبه مع النّوتات الموسيقيّة لتضيف عليه شيئاً من الإشراق والتَّعبير حسب الإيقاع النّغمي وأبدأ بالمعانقة .. أحياناً يكون لصدى اللَّون شيئاً من الفوضى والإثارة والجنوح وتارةً يضيف عليه شيئاً من الرُّومانسيّة والهدوء وتارةً أخرى ينطلق الى عالم الجَّدل والمجهول لينتهي بمعادلات جدليّة بحتة .. وهكذا نتعانق معاً الى أن نكتفي بما تمخّضَ من إبداع.
4 ـ الرَّسم والإبداع بالنِّسبة للكثير من الفنّانين والفنّانات حاجة حياتيّة، هل الرَّسم بالنّسبة إليك حاجة حياتيّة فعلاً؟
نعم، الرَّسم والإبداع بل الفنّ بحدِّ ذاته هو حاجة حياتيّة ماسّة بالنسبة إليّ، فهو غذائي الرُّوحي, كالغذاء الجَّسدي الَّذي نحتاجه من المأكل والمشرب ...
5 ـ هل تحنّين إلى عوالم طفولتك فتفرشينها على خدود اللَّوحة، كأنّها زهور برّية، أم أنّكِ لا تحنِّين إليها؟!
نعم، أحنُّ كثيراً إلى طفولتي، عالم النَّقاء والبراءة والسَّخاء والعزِّ، حيث كانت أجمل أيام حياتي عندما كنت بينَ أحضان أسرتي ووطني، حيث كنت البرنسيسة المدلّلة، لي ذكريات كثيرة، راسخة في ذاكرتي منذ أن كنت في السَّابعة من عمري وذكريات مياه شطّ العرب في البصرة ومن ثمَّ نهر الفرات ودجلة في بغداد، وتنفرشُ على بياض اللَّوحات.
6 ـ كيفَ تجسِّدين رؤاك الّتي حملتينها من الوطن، مع الأفكار الَّتي تنمو بين أجنحتك عبر محطَّات غربتك؟
إنَّ ما عشته في وطني، من تراكم وخزين معرفي في ذاكرتي، قد حملته معي الى ديار الغربة والاغتراب، ومع هذا أرى أنَّ التصادم والإختلاف بين الحضارتين الشرقية والغربية، قد ساهمت في بلورةِ ونضوجِ أفكاري أكثر وأكثر، وهنا ظهرت أسئلتي وجدالاتي ومعادلاتي بصوت أعلى ومفضوح، هذا هو معنى النّضوج والحرية.
7 ـ كيف تستلهمين حميميات ألوان وبوح اللًَّوحة؟!
عندما تأتي الفكرة والإلهام، يأتي معها شخوص اللَّون الَّذي يرتسم في حلمي، كأن يكون أحمراً قانياً أو رماديَّاً فضيَّاً أو أزرقاً سماويَّاً أو أسوداً وأبيضاً .. الخ
كلها لها دلالات رمزيّة سواء كانت ترمز للمطلقية أو الخلود أو لتجسيد قوَّة الخير والشَّر في الأسود والأبيض ..الخ
وهنالك علاقة حميمية ما بين الفكرة واللَّون واسقاطاتها على أرضية اللَّوحة، لتجسيد فضاءات الفكرة..!
8 ـ ترسمين منذ فترة طويلة، هل تطاوعك اللَّوحة عندما تقبلين عليها، وفي جعبتكِ الكثير من الرُّموز والأفكار والرُّؤى، أم أنَّها تستعصي عليك أحياناً في بعضِ مغاليقها، كيف تعالجين هذه المغاليق المستعصية إنْ وُجِدَتْ؟!
غالباً ما تطاوعني اللَّوحة عندما أقبل عليها، أسخِّرها كيفما أشاء، ولكن أحياناً تستعصي عليّ مواجهتها وتسخيرها بالشَّكل الَّذي أطمح فيه، ولربَّما يتعذَّر عليَ استخلاص اللَّون الَّذي أنتقيه، وهذه تحدث في حالات نادرة ولها أسبابها، فلم تكن اِعتباطية أبداً! إنَّ لها علاقة بالحالة النَّفسية أو بالحدث أو لها معنى روحاني بشكل خاص ما بين الغالب والمغلوب، أحياناً أتركها عندما أكون عاجزة على حلِّ عقدتها وأتركها لوقتٍ آخر لربَّما أجد سبيلاً للخلاص منها، وتارةً أطليها لكي أنفِّذ عليها موضوع آخر، وتارةً لا أجد سبيلاً سوى وضع توقيعي عليها..., ولدي الكثير من اللَّوحات لم تكتمل وقد وضعتُ عليها توقيعي إصراراً.
9 ـ كيفَ ترسيمن لوحتكِ، هل تضعين أفكاراً معيّنة، وتخطيطات أوليّة، ثم تبنين عبرها لوحتك، أم أنَّ اللَّوحة تولد من رحم مشاعرك الفيَّاضة مباشرةً؟
كما ذكرت آنفاً أبدأ بوضع "سكيج" تخطيط أولي حين تراودني فكرة أو إيماءة، أو حلم، ثم أنفِّذها على أرضية اللَّوحة، وممكن أنْ تتبلور أفكار وتضاف الى اللَّوحة مع الفكرة.. وتارةً عندما أطلي لوحة بلون معيَّن لكي أجهِّزها للعمل ثانية لربَّما هي الَّتي كانت تصعب عليَّ تنفيذها سابقاً. مراراً عديدة يحصل لي بأنَّ اللَّوحة قد توحي لي بفكرة معينَّة بعد طلائها وتستقطبني أي تناديني فأسرع بالتجاوب معها وكأنّما اللَّوحة هي الَّتي ترشدني وتوجِّهني، حينها أتفاجأ بعمل رائع لم يكن بالحسبان، فهنا اللَّوحة هي الَّتي تحدثني وتوجِّهني!
10 ـ هل تنبعُ أفكارُكِ وتوهُّجاتُكِ اللَّونيّة من خلال انبعاث حنين الرُّوح إلى جمال الحياة؟
نعم، من خلال انبعاث الرُّوح إلى جمال الحياة ومن خلال قباحتها أيضاً! لِما تحمل في طيَّاتها من الخير والشّر والصِّراع ما بينهما، غالباً ما يكون اللَّون أداة إثارة وتحفيز وتوجيه لي، لفكرة أو لحدث، سواء كان اللَّون مشرقاً أو حياديَّاً فكل لون له لغة وخاصية.
11 ـ كيف تستقبلُ عيناك ألوان الفصول البديعة، هل توافقيني الرَّأي أنَّ الطَّبيعة أكبر فنّان على وجه الدُّنيا؟!
نعم بالتأكيد، أوافقك الرأي أستاذي العزيز، إنَّ الطَّبيعة هي أمُّ الفنّ بعينه وأم الدُّنيا، أمَّا عن الفصول البديعة المتناقضة، فلكل فصل له مذاقه وخصوصيته، ففي الصيف حيث الإشراق والنُّور والانطلاق، وفي الرَّبيع حيث النَّسيم والاعتدال، وفي الخريف حيث الأمطار والوداع وهذا الفصل بالذات يثير حنيني في الغربة، فذلك اللَّون البرتقالي بكل درجاتة والأصفر يوحي لي بالرَّحيل والغربة، وفي الشِّتاء حيث الجّمود والرّكود ودفء المواقد، وعبر هذه الفصول تسير لعبة الحياة.
أمَّا بالنسبة لايقاعها الفنِّي ومدى تأثيرها الحسِّي لي، فغالباً عندما أريد أن أحاور الطَّبيعة، أقوم بنقل أو بتحويل الحقائق وصياغتها بطريقة تجريديّة أو تعبيريّة أي بطريقة الاختزال، فقد تحدَّثت رسوماتي كثيراً عن (الظواهر الطَّبيعية) وما تحمل من البراكين والزَّلازل والفيضانات وغيرها بطريقة تجريديّة أو تعبيريّة.
12 ـ ما أثر الوطن، بغداد، البصرة: مسقط الرَّأس، والذّكريات المنقوشة على مساحات القلب والرُّوح، فنِّياً؟
إن ما أحمله عن موطني من ذكريات، راسخة في ذاكرتي، لم تصدأ أبداً أبداً.. فقد إحتلَّت مساحات كبيرة في القلب والرُّوح, مثل ما وصفتها يا عزيزي، وقد صقلتها بفرشاتي وألوانها على لوحاتي، منها الَّتي خلفتها وتركتها في بلدي ومنها ما أعدت صياغتها بطريقة مغايرة متناقضة، ولم أجتَزْ حدودي بوصف آثارها بالرّغم من حالة التمرُّد والجدل الَّذي يسكنني، إلا أني دائماً أحافظ على حدودي وطقوسي ومنبعي وثرائي ومسقطي.
 13 ـ رسمتِ في الوطن الأم وعبر محطّات الغربة، كيف ترعرَعَتْ وتطوَّرَت اللَّوحة عبر محطّات الوطن والاغتراب؟
كما ذكرت آنفاً، هناك حالة من الإختلاف والتَّصادم بين الحضارتين والبيئتين: الشرقية والغربيّة، وما تحمل كلّ منهما من خزين معرفي وفكري قد زاد مساحة الجدل عندي، وعمّق عالمي الفني والحسِّي لدرجة التكهُّن! وهذا ما لاحظه المتلقِّي عندما يحاور لوحاتي! وهناك الكثير من المعادلات الجدلية والتصوف والتَّطرق الى عالم المجهول.
14 ـ كيف تستلهمين رؤاكِ الفنّية، هل لديك طريقة معيّنة لبناء أسلوب خاص بالفنَّانة التَّشكيلية هناء الخطيب؟!
منذ البلوغ وفي الثمانينات وأنا ألجأ الى الدَّمج ما بين عالم السوريالية وشيء من الواقعية والتعبيرية، متأثرة بالفنّانَين العالميَين مندريان وسلفادور دالي، بطريقة الفن المعاصر الحديث. وكذلك مقتدية بالعالم الكبير فيثاغورث وما تتحدَّث نظرياته عن التكوينات واشكال هندسية وحسابات فلكية وتوابع فلسفية، هذا كله قد أثار لدي الفضول وتتبع آثاره والاستنباط به، إضافة الى استخدامي مواد سريعة كثيفة ما تسمى "بلغة العصر" ووظَّفتها بطريقة فنّية مجتازة سطح اللوحة التي تسعى الى الخروج عن إطارها، .. ومن خلال هذه التشكيلات الفنّية الجديدة أكون قد جسَّدت شخصية فنّية تحمل طابعاً خاصَّاً، قد تكون الفنَّانة هناء الخطيب.
15 ـ كيف تنظرين إلى الزَّمن ـ العمر، وهو يتوارى مثل سديم الصَّباح، هل يقلقكِ أم أنَّكَ تتلقَّفينه بحميميّة إبداعيّة؟
لا أريد أنْ أخفي عليك يا عزيزي، بأني أخاف من القادم والمجهول، فهناك الثَّابت والمتغيِّر وعامل الزَّمن، والمسيَّر والمخيَّر، ونحن مسيَّرون ولا نعرف ما تخبئه الاقدار لنا، وكل شيء تابع للعدم والفناء، وما نتركه سوى الذكرى الطيّبة في عقول الآخرين على مرِّ الزَّمن، وهذا ما يلاحظه المشاهد في أعمالي وموضوعاتي الجدلية!
أما العمر، فيلعب دوراً أساسياً وكبيراً في عملية الإبداع والإنتاج، فعليَّ أن أترك بصمة صغيرة في عالم الفنِّ في يوم من الأيام قبل الرَّحيل.
16 ـ لماذا ترسمين، ولمَن ترسمين، وهل ثمّة ضرورة وأهمِّيّة للرسم والإبداع؟!
أولاً أنا أرسم كي أفجِّر ما في داخلي بصوتٍ عالٍ ولكي أرتاح، وثانياً أرسم لكي أوضِّح بعض الحقائق المخفيَّة للمتلقِّي بطريقةٍ حسّية لانتشاله من عالمه الواقعي المادِّي الى العالم الحسِّي الوجداني! ولكي يتحسَّس معنى الفن والإبداع بالحياة وماهيتها! وثالثاً، غالباً ما أحاول أن أوصل رسالة للبشر عن صراعِ القوى المتضاربة (أرى صراع الأضداد الافضل)، ما بين قوّة الخير والشّر وما تكنُّه هذه الكلمات من معاني عظيمة تؤسر العالم كلّه.
17 ـ أنتِ فنَّانة تشكيليّة متميّزة ولك خصوصيّة في بناء اللَّوحة، هل حقَّقتِ طموحاتكِ الفنّيّة أم تَسْعَينَ نحوها؟!
الحمد لله أني حققت ذاتي مبكراً، ولكنّي ما زلت أسعى لتحقيق المزيد من أحلامي وطموحاتي الفنِّية نحوَ غدٍ أفضل، فلدي الكثير والكثير لم ينجز بعد، آمل أنْ أنجزه على المدى القريب أو البعيد بإذن الله.
18 ـ ما دور الفنّ والإبداع بشكل عام في استنهاض الحياة واستنارة أوطاننا ومنحها الألق والتَّنوير الدَّائم؟
إنَّ الفنَّ والإبداع يلعب دوراً كبيراً في استنهاض الحياة لدى الشعوب في العالم، سواء كان لمعالجة حالات ظلم واستعباد أو إضطهاد لفئة أو جهة ما، كما هو الأمر في حالات الحروب وما شابه ذلك، عن طريق البوسترات السياسية الهادفة والمخطوطات وغيرها، كلها وسائل للتعبير عن مقتضيات الحدث وما يؤرشفه التَّاريخ سواء كان بالنَّصب المجسَّم أو الأبنية الأثريّة أو حتى بالعملة عبر الفن تتجسد حضارة الشعوب وواجهتها ومدى تألقها.
19 ـ لقد آن الأوان أن يأخذ الإبداع دوره العالمي لردمِ الهوَّة بين الحضارات، فهل ممكن أن يحقَّقَ الفن والإبداع حواراً ثقافيّاً فنّياً إنسانيّاً بين الشَّرق والغرب، ويقضي بالتَّالي على صراعِ الحضارات، الَّذي أراه من أقبح القباحات؟
أعتقد أنَّ هناك حواراً ثقافياً وفنياً وانسانيَّاً بين الشَّرق والغرب، وإلا لما توصلوا إلى عملية الاندماج ليومنا هذا وبشكل ملموس، ولأن نكهة الشَّرق يحتاجها الغرب وبالعكس، وما خلَّده الشَّرق من تراث وحضارة وإرث لا يمكن أن يتجاهله الغرب، فهو مؤرشف في التاريخ، مهما حاولوا إنكار تلك الأحداث والإرث الحضاري العريق. وإنَّ ما توصّل إليه العلم والتكنولوجيا الحديثة هي أدلة كافية لمعرفة حقيقة الشرق لدى الغرب، والشعوب الأخرى.
20 ـ أراك ترسمين على مساحات كبيرة، ولديك أعمال جداريّة، هل برأيك الرَّسم على مساحاتٍ كبيرة وجداريّة، مقياس على براعة الفنّان، أين تجدين نفسك أكثر عبر اللَّوحات الصَّغيرة أم الكبيرة؟!
إنَّ أختيار الأحجام الكبيرة والجداريات لدى الفنّان، ليس بالأمر السَّهل، فهي خطرة ومحسوبة عليه من حيث كيفية التَّعامل معَ تلك المساحة أو الكتلة، وطريقة الإخراج من ناحية الإنشاء والتَّوزيع والتَّوازن ..الخ. هذا بالإضافة الى الجَّهد ومدى براعة الفنّان في خلق الإبداع وتوصيل الفكرة بشكل متكامل، لأنَّ تلك الأحجام تعرِّض صاحبها للإحراج إذا لم يتقنْ عمله بشكلٍ ملموس، فالعمل الكبير مفضوح ويختلف عن العمل الصَّغير، فأنا لا أنكر بأنَّ هناك أعمال فنِّية صغيرة لا تتجاوز السنتيمترات، إلا أنها في منتهى الإبداع والدّقة وتحتوي أيضاً على جهدٍ، إلا أنَّ جهدها لا يصل إلى نفس درجة الجّهد في الأعمال الفنّية ذات المساحات الكبرى، فأنا أجد نفسي وراحتي بين تلك المساحات الكبرى لأنّها تعطيني طابعاً مميزاً لشخصيّتي الفنّية.
21 ـ كيف يحقِّق الفنَّان حضوراً في المجتمعات الغربيّة فنّياً، أمام هذا الكم الهائل من الإبداع في دنيا الاغتراب؟!
ليس من السَّهل إثبات وجود الفنَّان في البلدان الغربية، فعليه أن يتفاعل ويتغلغل في مجتمعاتهم لكي يتسنّى له ولهم التَّعرف على بعضهما بعضاً ويصقل بالتَّالي مواهبه وتطلُّعاته الإبداعيّة على أكثر من صعيد، هذا بالاضافة إلى أنَّ الفنَّان مهما وصل وحقَّقَ من نجاحاتٍ ومجدٍ، إلا أنّه يبقى منتمياً إلى موطنه وما خلَّفه من أثرٍ فنِّي هو الأهم، فعليه أن يحافظ على تراثه وخزينه المعرفي والثقافي والفنّي ويصوغه بطريقة حضارية مغايرة للحضارتين كي يخرج بنتيجة مميّزة.







33
الفنّان كابي سارة ينطلقُ من حبِّ الطَّبيعة والفكر الإنساني نحو السماء




حوار صبري يوسف               
ـــــــــــــــــــ
 ستوكهولم


الفنّان التَّشكيلي والشَّاعر كابي سارة
مواليد سوريا، المالكيّة/ ديريك 1957، الواقعة في أقصى الشِّمال الشَّرقي من شواطيء الرُّوح. 
خرّيج جامعة دمشق، كلّية الفنون الجميلة 1982.
عضو في نقابة الفنون الجَّميلة، وعضو في جمعية أصدقاء الفن في سورية. وعضو في جمعية الفنَّانين التَّشكيلين العراقيين في السُّويد.
أقام عدّة معارض فرديّة ومشتركة في سورية، لبنان، والسّويد.

يتميّز الفنّان كابي سارة ببوحه وحسّه الفنّي الشَّفيف، حيث تنساب من فرشاته أشواق، كأنّها رسالة فرحٍ منبعثة من طفولة متراقصة فوق روابي ذاكرة متلألئة في قلب الفنّان وهو في أوج حنينه إلى معلولا والمالكية ـ ديريك، وإلى أصدقاء وألوان ولوحات رسمها من وحي تجلِّيات سموّ الرّوح، حيث يهفو القلب إلى تجسيد لوحات معرَّشة في ذاكرة حلميّة منبعثة من وهجِ الحنين إلى روعة المكان، وكأنّه يريد إعادة صياغة الماضي عبر لوحات جديدة لعلَّها تخفِّفُ من وطأة غربةٍ فسيحة، غربة تزيده حنيناً إلى صباحات منقوشة على تعاريج الذَّاكرة البعيدة، حيث تراقصات الألوان تنعش مساءاته القمراء. يشهق شهيقاً عميقاً ولا يجد بدّاً من البحث عن معراج الخلاص، فتسطع ألوانه مكلَّلةً بالضَّوء والفرح، وكأنّه يقاوم غربة عميقة، كي يخلق عالماً هادئاً مخفِّفاً من تفاقماتِ صخبِ الرُّوح!

أصدر الفنَّان التَّشكيلي والشَّاعر كابي سارة مؤخَّراً "الأعمال الشِّعرية 1" في ستوكهولم، تتضمَّن هذه الأعمال ثلاثة دواوين شعريّة، حملت العناوين التَّالية: غجريّة ومطرٌ ناعم، أصدقاء وذكريات وشوارع، ومن وحي الحصار.         
وعلى ظهر غلاف "الأعمال الشِّعريّة 1"، نرى كيفَ يسلسلُ الفنَّان محبَّته لأوطانه، حيثُ يقول: الوطن الأوَّل سورية، الوطن الثَّاني السُّويد، والوطن الثَّالث: المحبّة، محبَّة الله والإنسان والفنّ!                                             
وإلى جانب اللَّوحة والقصيدة يكتب الشَّاعر والفنَّان التّشكيلي كابي سارة القصّة القصيرة ولديه مجاميع قصصيَّة مخطوطة ودواوين شعريّة أخرى في طريقها إلى النُّور. التقيناه في ستوكهولم، وكان هذا الحوار:                   

الفنّان التَّشكيلي كابي سارة، ما الَّذي قادكَ إلى عوالمِ الشِّعر؟

ـ ترعرعت منذ البدايات بين كروم وحقول القمح في ديريك، فهمسوا لي: "أنت رسَّام"، هذه الكلمة دفعتني لمحبَّة أشجار اللَّوز، ودوالي العنب، والعصافير، والشَّمس، والأصدقاء، والرَّسم والمرأة. فبدأت أرسم، وبعد أن استكملت دراستي الثَّانوية، التحقتُ بجامعة دمشق، لدراسة الفنون الجميلة وهناك دخلت حديقة الفنّ التَّشكيلي السُّوري وأيضاً عبرتُ حديقة الأدب والشِّعر.                                   

كيف تلتقط الإشراقة الأولى من خيوط القصيدة، أم أنَّك تكتبها بعيداً عن الخيوط الإشراقيّة؟

ـ الإشراقة الشِّعريّة كما إشراقة الشَّمس من خلف الغيوم، والإنشغالات اليومية، وهذه الإشراقة تحمل ربَّما عشرات الصُّور والأفكار والجُّمل ربَّما من شدّة نورها وجمالها وروعتها نسرع الى الكتابة لنقطف قبلة أو إشارة من عالمنا الباطني.                                                           
 
القصيدة أشبه ما تكون بنبتة، كيف تترعرع هذه النَّبتة بين يديك؟

ـ في البداية أسجِّل ما يأتي على الورق، من جملٍ وإشاراتٍ، ثمَّ أعودُ وأقرأ ما كتبته، ربَّما أرى ألواناً وصوراً جديدة، فأضيفها، أو أرى ألواناً وصوراً زائدة فأحذفها والشِّعر يحبُّ الإختصار، والتَّكثيف، والصُّور، والموسيقى، وقلبي.                                                                       
                                                                                 
هل لديك طقوس معيّنة في الكتابة؟ كيف تعانقكَ القصيدة؟ متى تهفو إليك؟ كيف تندلع هذه الوَمْضة الخاطفة؟

ـ أحب الكتابة في الصَّباح قبل أن أدخل في ساحات المعارك، والإنشغالات اليوميّة الرُّوتينيّة، أحبُّ الكتابة في الصَّباح الباكر بين النَّوم واليقظة، أو في أحضان الطَّبيعة في درس الرِّياضة اليومي. أحبُّ أن أكتب حين يكون كلّ شيء  صامت إلا صوت القصيدة وملاك صغير يشبهني، يعيش في عوالمي الباطنية، أسمع صوته يقودُ ويهمس بالجمل والكلمات.                                               
                 

الكتابة بالنِّسبة للكثير من الكتَّاب والشّعراء حاجة حياتيّة، هل الكتابة بالنّسبة إليك حاجة حياتيّة؟

ـ نعم الكتابة حاجة روحيّة وإجتماعية، حاجتنا أن نزيح الظُّلمة من عقلنا الباطني ولربَّما نعود ونرى أنفسنا من جديد ونتعرَّف على هذا الغامض فينا وفي الإنسان والحياة.                               

كيف تترجم حفاوة القصيدة المتعانقة مع عوالم الطُّفولة؟

ـ القصيدة بحدِّ ذاتها إشارة على براءتنا وطفولتنا وعمرنا النَّقي. وربَّما نكتب لنعود أطفالاً نلهو في باحات المدارس، وساحات البلد، ونلاحق عصافير الدُّوري الَّتي كانت تبني أعشاشها في سقوف بيوتنا التُّرابية.                                                                                             

كيف تستلهم بوح القصيدة؟!

ـ لا أعرف من أين أو كيف أستلهم! أعتقد من هذا العالم العجيب الَّذي تشكَّل بالأمس ولا يزال يتشكَّل يوماً وراء يوم، تارةً ندعوه الرُّوح، وتارةً أخرى العقل الباطن أو صور وإشارات الحياة فينا.         
 
ترسم اللَّوحة وتكتب القصيدة منذ عقود، كيف تطاوع لوحتك وقصيدتك عبر اللَّون والحرف ووهج الإبداع؟

ـ معرفتنا لأنفسنا تكبر يوماً وراء يوم، ويزداد وعينا بعملنا وبعواطفنا ويكبر ذلك الفنّان والشَّاعر في روحنا ويحاول أن يكون أكثر براعة وإتقاناً من السَّابق.                                             

هل تلجأ أحياناً للكتابة، استكمالاً لما لم تتمكَّن من رسمه عبر اللَّوحة؟!

ـ في أغلب الأحيان تترافق اللَّوحة بعض الكتابات، تارةً شعرية،  وتارةً أخرى نثرية، لا يهم، كلّ شىء فن. وهذا نجده في كتاب "الأعمال الشِّعرية 1"، نجد اللَّوحة بجانب القصيدة وكذلك الشِّعر بجانب اللَّوحات.                                                                                           

اللَّون يجذب العين، ويعكس حالات مشاعريّة باطنيّة، كيف تتعامل مع اللَّون في ترجمة المشاعر عبر اللَّوحة؟

ـ كما قلتَ اللَّون يجذب العين، وأضيف يجذب القلب والمشاعر والإنفعالات، ثمَّ أستكشف الألوان والتَّشكيلات من خلال المتابعة والمراقبة، فأضيف لون أو أحذف لون وهكذا يستمرُّ الحوار بين العين واللَّون والرُّوح، كما أتابع نموّ القصيدة وصورها وموسيقاها وأموراً أخرى.                         
                         
الحرف يداعب جفون الكلمة، والكلمة تسترخي فوق مآقي الأفكار وتشكِّل جملاً، كيف تنسج هذه الجُّمل ضمن إيقاعها الشّعري، والقصصي والسَّردي كحالة إبداعيّة؟

ـ أنا أكتب بشكل إنفعالي وبسيط كما يفعل الأطفال حين يرسمون، ثم أعود وأتابع حركة الفكرة "المضمون" وأيضاً الشَّكل العام للنصّ، حتَّى أشعر بالنّشوة والرِّضى.                               

أصدرتَ مؤخَّراً كتاب: المجموعة الشِّعريَّة 1، ويتضمَّن ثلاثة دواوين شعريّة، كتبتَ معظمه ما بين نهاية السّبعينيات حتّى أواخر الثَّمانينيات من القرن الماضي، لماذا تأخَّرت كلّ هذا الوقت في إصداره؟

ـ كانت هناك مجموعة من الأسباب تعيق نشر أعمالي، في المقدمة أحبُّ أن أحتفظ بلقب فنَّان بدون شاعر لانَّني أعتبر نفسي شخصاً واحداً "فنَّاناً" ولهذا كان ملاكُ الشّعر خجولاً ولا يحبُّ الظُّهور. ثمَّ لم أكتب للنشر بل كتبت كهواية الى جانب الرَّسم. وكلّ فن يحتاج إلى تعليم ومثابرة حتَّى النُّضوج. والسَّبب الأخير: الظُّروف الاقتصاديّة، الطِّباعة والنَّشر.                                             
                                                         
                                                           
ماذا تعني لكَ ديريك مسقط الرَّأس، شعريّاً، فنّياً، إبداعيَاً؟

ـ ديريك هي المخزون البصري والرُّوحي والاجتماعي، هي قامات اللَّوحات والألوان، هي الكلمات والصُّور والإشارات الَّتي تشكَّلت في روحي منذ تشكَّل الفنَّان، هي الحبّ والحياة، هي المحبَّة.       
           
أغلب كتاباتكَ، كتبتَها في الوطن الأم، ما مردّ هذا التعلُّق في عوالم الطُّفولة والشَّباب والوطن؟

14ـ رسمتُ في الدَّواوين الثّلاثة الطُّفولة والشَّباب والوطن، لأنَّ أشعاري ولوحاتي تنبع من القلب ولكن بعد الغربة أيضا كتبتُ أكثر وأكثر لأنَّ تلك الأمور أصبحت أكثر أهمية في حياتي، وربَّما لا ندرك تعلُّقنا بالأشياء إلا بعد الفراق.                                                                 

أين تخبِّيء عوالم دمشق، باب توما، الفنّان فاتح المدرِّس، والأصدقاء مظهر برشين، عمر اسحق، محمَّد بعجانو، غازي عانة، أكثم عبدالحميد، ندى شحود، منيف سعد، يعقوب ابراهيم، جاك إيليا، فايز خضّور، محمد جمال باروت، .... والكثير من الفنّانين والشُّعراء والأصدقاء المبدعين؟

ـ هولاء الَّذين عاشوا في مروج قلبي وأيامي،  ولا يزالون هنا في حدائق عمري وإلى الأبد، كلّ الَّذين ذكرتهم والَّذين لم تذكرهم "وأنت يا صديقي صبري واحد منهم" أراهم اليوم يمرحون كغزلان البراري في مراعي روحي، وأغلبهم كتبتُ لهم قصائد ورسمتهم. "الأصدقاء" هم أجمل هديّة من الله لحياتنا بدون منافس.                                                                                 
                                               
كيف تنظر إلى الزَّمن، وهو يتآكل رويداً رويداً، هل يقلقكَ هذا التَّآكل أم أنَّكَ تتلقَّفه بحميميّة إبداعيّة؟

ـ الزَّمن مثل النَّهر المتدفّق، لا يتجمَّد. الحبُّ والإنفعالات والرُّسوم في القلب، وهكذا نتجدَّد كمياه النَّهر في كلِّ صباح، والَّذي يحبُّ الرَّسم والأدب والحياة، تبقى البهجة والفرح يقودان خطواته نحو محبّة الله والإنسان، فلا يأس ولا قلق مع المحبّة.                                                             
هل ولد ديوان غجريّة ومطر ناعم بطريقةٍ موائمة لعوالم الغجريّة، أم أنّّه مجرَّد تدفُّقات شعريّة؟

ـ ديوان "غجريّة ومطر ناعم" هو يجسِّد علاقة الرَّجل والمرأة في مجتمعنا، والحصار المفروض حول الحبّ، وهو لوحات عن العلاقة الَّتي عشتها مع المرأة. عواطفي وكذلك عواطفها، هو ديوان تتجمَّع فيه القصائد حتَّى تؤلِّف أفكار الدِّيوان، ويطرح أيضاً موضوع الحبّ المقدَّس، أي قدسيَّة هذه العلاقة الَّتي من خلالها تنمو البشريّة وتتجدَّد.                                                                   
 
ديوان: أصدقاء وذكريات وشوارع، عن الحميميَّات، هل ما تزال تحنُّ لهذه العوالم الحميميَّة وتترجمها شعريّاً؟

ـ نعم لا زلتُ أكتبُ للأصدقاء والَّذين يعيشون في بساتين عمري، والَّذين أعيش معهم أو أقرأ عنهم وأعتقد أغلب كتاباتي تعبِّر عن محبَّتي للآخرين وهذه هي أفكاري ومحبَّتي "محبة الله والوطن والإنسان" .                                                                                         

ماذا تقصد في ديوانك "من وحي الحصار"، هل ما تزال تعتقد بأنَّ هناك مَن يستطيع أن يحاصر المبدع؟

ـ أقصد حالة الحصار الَّتي يعيشها الإنسان في هذا الزَّمن فالأفكار الَّتي تدور في الدِّيوان هي: أنَّ الإنسان محاصر بالحروب، والكوارث، والعنف، والصِّراعات، والإنشغالات. وهذا الإنسان لا يعيش حياته كما أرادها الله له في محبَّة وسلام، ولهذا أنا أكتب ضد هذه الصَّراعات.                       

كيف ترسم، ما هي طقوسك في استيلاد أو بناء وخلق اللَّوحة؟!

ـ طقوسي في الرَّسم أولاً أعتقد أنَّ ما أرسمه يفرحني ويفرح الآخرين، وكذلك يعبِّر عن محبَّتي للحياة والطَّبيعة والإنسان، أرسم كمن ينشد الأشعار للأصدقاء وقلبي، فالفن هو صوتي وثمر الرُّوح في عمري.                                                                                             

ماذا يعني لك عمر الفنّان الشَّاعر المبدع؟

ـ كلنا سنصبح يوماً صور، وذكريات، وأرشيف ولوحات، فأنا أنظر إلى عمري كرحلة قصيرة تبدأ بالطُّفولة ثمَّ الشَّباب والعائلة والأصدقاء والقصائد، هذا هو العمر الجَّميل الحلو.                     


هل لديك رسالة معيّنة من الكتابة والرَّسم؟

ـ نعم أنا أؤمن برسالة الفن لأنَّني أعيشها كلّ يوم في الحياة ومع النَّاس والفنّ، ولهذا يكبر الفنّ بروحي كما تكبر الأشجار وكلَّما تعمَّق فهمنا للحياة، زاد تعلُّقنا بالأجمل والأروع والفنُّ هبة من الله للإنسان لتصبح حياته أجمل وأفضل. والفن رافق الإنسان منذ البداية حين رسم على جدران المغاور ورسالة الفنّ تظهرعبر الحضارة ورقي حياة الإنسانيّة.                                               

ورد على ظهر الغلاف: الوطن الثَّالث، المحبّة، كيف ترى وطن المحبّة، وكيف تترجم هذه الرُّؤى فنِّياً وشعريّاً؟

ـ أنا عرفت الفنّ من خلال المحبّة، في البدايات كانت محبّة الطَّبيعة ثم محبَّة الإنسان والفكر البشري "الفلسفة"، والآن اتَّسع وطن المحبَّة ووصل الى المنبع الله "الله محبّة".  وهذا الوطن كنت أبحث عنه كلّ السَّنوات الماضية من عمري حتّى وصلت إليه بالتَّدريب والمثابرة وقراءة الكتاب لأنَّنا نتدرَّب على المحبّة كما ندرِّب أجسادنا وكذلك عقولنا على اكتساب العمل الَّذي نريده. وأنا ترجمت المحبّة في سلوكي مع الآخرين والمجتمع وكذلك من خلال الفنّ، الرَّسم والكتابة.                               

أرى أنَّ الفنّ والشِّعر فقدا بهاءهما ورونقهما والكثير من دورهما في استنهاض الأوطان، كيف ممكن أن نستعيد دور الفنّ والشِّعر في استنهاض الحياة ومنحِها رونقاً وبهاءً في الوقتِ الرَّاهن؟                                             

ـ إنَّ دور الفنّ، الشّعر والرَّسم لم يتراجع ولم يفقد دوره، ولكن نحن ابتعدنا عنه. لأنَّ حياتنا امتلأت بالصِّراعات والأزمات العنيفة والحروب والكوارث الإنسانيّة والمادّية والَّتي هي علامة من علامات إبتعاد الإنسان عن أخيه الإنسان، وأيضاً ابتعاده عن بعض الفنون وأيضاً سيطرت بعض الفنون على حياة الإنسان كالتّلفزيون وغيرها من وسائل الاتّصال الالكترونيّة الحديثة.                           
                                                                         




















34
أدب / غبشٌ في مآقي الصَّباحِ
« في: 19:30 14/11/2012  »
غبشٌ في مآقي الصَّباحِ


                                    صبري يوسف  
ــــــــــــــ
ستوكهولم

ليلٌ مكفهرٌّ
مسترخٍ على جراحِ المساءاتِ البعيدة
ترابُ بيتي العتيق تعفَّر برمادِ الحروبِ
ماتَتِ الأمَّهاتُ في أعماقِ الصَّحارى

نزيفُ ذاكرة لا تمحى عند بوَّاباتِ المدائن
ترنَّحَتِ المدائنُ من هولِ الجنونِ
عالياً حلَّقَتْ أسرابُ الحمامِ
فرَّتْ بعيداً عن أزقَّةِ العمرِ
    
أحلامٌ مفخَّخة بسهامِ الأحزانِ
تتوغَّلُ السِّهامُ في بياضِ العيدِ
تذوي الأحلامُ من تنامي الفقاقيع
زنابقُ الطُّفولةِ ما تزالُ مدلدلة
     في ظلالِ الذَّاكرة
وجوهٌ محشوّةٌ بالكآباتِ
بأحزانٍ تضاهي تربُّصاتِ الحروبِ
غَدُنا مصابٌّ بتضخُّمٍ في أورامِ الشَّقاءِ!
تنمو القصيدةُ من لُبِّ الجِّراحِ
     مِنْ بؤرةِ الأحزانِ
     مِنْ وميضِ النَّارِ
     مِنْ صليلِ السُّيوفِ
     ضجرِ اللَّيلِ والنَّهارِ
مِنْ هولِ انشراخِ جباهِ الأدغالِ!

مآسي الكونِ استنبَتَتْ في جفوني
فرَّ الشُّعراءُ بعيداً عن شفيرِ الانشطارِ
انشطارُ أغصانِ الحضارةِ
     إلى كُتَلٍ محشورةٍ في جحورِ القفارِ

دمعةٌ ساخنةٌ خرَّتْ من مآقي بغداد
خفَّفَ البحرُ قليلاً من أجيجِ الاشتعالِ

أنينُ قمرٍ تناهى
     إلى قلبِ شاعرٍ حزين
إلى قلبِ جان دمّو
عابراً أقصى متاهاتِ الجنونِ
أليسَتْ حروربُ الشَّرقِ
متاهاتٌ في لجينِ الغدرِ
     في كهوفِ الجنونِ؟!
غبشٌ في مآقي الصَّباحِ
طارَتِ العصافيرُ في جوفِ البراري

ذَبُلَتِ الأزاهيرُ في أوجِ الرَّبيعِ
     من ضجرِ الغبارِ الآسنِ
          فوقَ مرافئ العمرِ    
اكفهَرَِّتْ جفونُ القصيدةِ
دمعةُ أسىً خرَّتْ على ضمورِ الأوركيدِ

تنبعُ هلالاتُ الشِّعرِ من غمامِ الرُّوحِ
     من لهيبِ اللَّظى في أهزوجةِ القلبِ
     من عناقِ عاشقٍ لمآقي السَّماءِ
وحدُها الكلمة تبني مملكةَ العشقِ
     رغمَ أنفِ ألف حربٍ
ورغمَ أنفِ المراراتِ وأنفِ الشَّقاءِ!

نزيفُ حرفي يطهِّرُني
     من انشراخِ جراحِ غربتي
غربتي غربتان
تتشظََّى إلى آلافِ الغرباتِ
غربتي أسطورةُ ألمٍ مبرعمة
     في لبِّ الفؤادِ!
نزيفٌ شعري
يحرقُ الشَّوائبَ العالقة
     في ثنايا عتمتي
يزرعُ في مرافئ غدي
     حبورَ فرحتي

بحرٌ من اللَّظى يعشِّشُ
     في أحلامِ جان دمُّو
سفرٌ في مرامي الشِّعرِ
حرفي يوشوشُ محارةَ الرّوحِ
يطردُ جحافلَ الألمِ
كم مِنَ الأسى حتّى تمخَّضَ الشِّعرُ
     مِنْ بهاءِ البرعمِ!

أحلامٌ مستنبتةٌ في يراعِ الشِّعرِ
شراهةُ حرفي تخفِّفُ
     من خشونةِ الانشراخِ
انشراخُ الإنسانِ فوقَ وجهِ الدُّنيا
ضاعَتِ الأماني في متاهاتِ الفيافي
عمرنا المعَلَّق في أشرعةِ التِّيهِ
تهنا في خضمِّ الأسى
     في ضجرِ الإنتظارِ!
أين أخبِّئُ نداءَ الأزقَّةِ البعيدة
     أحلامَ الطُّفولةِ؟

دماءٌ تزدادُ انسياباً فوقَ رصيفِ الحياةِ
تخضَّبَتْ وجنةُ القصيدة بوميضِ الاشتعالِ
اشتعالُ أجنحةِ الأحلامِ
انجرافُ الرُّؤى من أعالي الجِّبالِ
     إلى تخومِ بؤرةِ الانحدارِ!

هرَّتْ أغصانُ الأماني
     من تفاقماتِ الأسى
تبخَّرتِ الأحلامُ عبرَ دروبِ الرَّحيلِ

وحدُها القصيدةُ صامدةٌ
     في وجهِ الانشطارِ
     في اهتياجِ الرِّيحِ
     في هديرِ الطُّوفانِ

تصلَّبَتْ خيوطُ الحنينِ من تفاقمِ الصَّقيعِ
     من غضبِ الصَّحارى
     من غليانِ الرُّؤى المتناحرة
     من احتراقِ مآقي الرَّبيعِ!
تهنا في خضمِّ اليمِّ
هل يستطيعُ الشِّعرُ
أن ينقذَنا من شفيرِ المهاوي
     أمامَ كلّ هذا التَّشظّي؟

تشظَّتِ الأماني فوقَ خارطةٍ مغموسةٍ
     بملوحةِ الدَّمعِ

تشظَّتِ الأحلامُ في زمهريرِ العواصفِ المتأتّية
     من راجماتِ الصَّواريخِ
     من أورامِ الرُّؤى المستفحلة                      
          في مخيخِ الفؤادِ!

شاعرٌ مخضَّبٌ بالأسى
تائهٌ بينَ غمامِ اللَّيلِ وهواجس الحرفِ
عَبَرَ مقهقهاً فوقَ ترابِ الألغامِ
غيرُ آبهٍ بالجِّراحِ
سألَ البحرَ عن سرِّ انسجامِ
     رفرفاتِ النَّوارسِ                                  
          معَ إيقاعِ الموجِ
نقشَ عذوبةَ حبَّاتِ المطرِ
     فوقَ اخضرارِ الرُّوحِ
          في أوجِ الهطولِ!
تنوحُ الكلماتُ من لظى النِّيرانِ
مَنْ نصَّبَ حمقى حُكَّاماً
     على جموحاتِ الشِّعرِ
مَنْ شوَّهَ أبهى ما في الجَّمالِ
مَنْ عفَّرَ نضارةَ النَّدى
مَنْ خَلخل تجلِّياتِ الرُّؤى
وأنقى ما في تماهياتِ الخيالِ؟!

وحدُهُ الشِّعرُ
يحملُ بينَ جناحيهِ مفتاحَ البهاءِ
كم مِنَ الشُّعراءِ تعرَّشوا
     في وجنةِ الضُّحى
حتَّى تبرعمَ الشِّعرُ فوقَ جبينِ الهلالِ!

جان دمُّو شهوةُ حبرٍ مندلقة
     فوقَ خميلِ القصيدِ
     فوقَ سديمِ الصَّباحِ!

حلمٌ تائهٌ في قلبِ المحيطِ
سؤالٌ مندّى بيخضورِ الحياةِ
قصيدةُ شعرٍ مندلعة من ثغرِ السَّماءِ

يهمسُ في أذنِ مؤيِّد الرّاوي
كيفَ سنبني جسورَ الشِّعرِ
     في خضمِّ كلّ هذا الوباءِ؟

متى سنمحقُ عبرَ الشِّعرِ جحيمَ الخرابِ
ونبني منارةَ عشقٍ من خيراتِ الأديمِ
     من بحورِ الصَّفاءِ؟!

غابَتْ غمامةُ الشَّوقِ
حلمٌ مسروجٌ بضجرِ الحياةِ
وقفَ اللَّيلُ مذهولاً
     من غدرِ الحروبِ
تساءَلتِ الأحلامُ الهاربة
     من شفيرِ الرُّعبِ
هل ما يزال جان دمّو
يحنُّ إلى مروجِ الشِّعرِ
     إلى غيمةٍ عاطرة
           فوقَ خيراتِ النَّخيلِ
     إلى كؤوسِ الكونياكِ
كي يخفِّفَ من جراحِ اللَّيلِ
     من أنينِ الدَّمعةِ
كي يناغي القصيدةَ في أوجِ الفراقِ؟!

تهفو الرُّوحُ إلى حفاوةِ البوحِ
تحنُّ إلى زرعِ الحروفِ
     فوقَ أقاصي الغمامِ
حيثُ أحلام دمُّو ترفرفُ عالياً
كأنّها بخورُ عيدٍ تزدادُ صعوداً
     نحوَ يراعِ السَّماءِ!

تناثرَتْ رماحُ الأسى                                                          في رمادِ الذَّاكرة                                             احترقَتْ جفونُ القصائد                                                       من لظى الحربِ                                                
ضجرٌ لا يفارقُ عتمةَ اللَّيلِ                                          عيونٌ جاحظة تحدِّقُ                                                         في موجةِ الخياناتِ                                            
تقلَّصَتْ خيوطُ الحنينِ                                                رحيلٌ إلى آخرِ قلاعِ الدُّنيا                                               انشطارٌ في قبّةِ الأحلامِ
خيباتٌ موصولة                                                      كأنّها ريحٌ متشابكة بالويلاتِ                                         شَرْخٌ عميقٌ في معراجِ الخيالِ                                         ترتسمُ محطَّاتُ العمرِ                                                       على تيجانِ الحنينِ                                                 كأنَّها شهقاتُ ساحراتٍ                                                    منبعثة من الحاراتِ القديمة                                            
وجعٌ منذُ بزوغِ الحياةِ                                                   انشراخٌ في دروبُ الأيَّامِ القادماتِ                                       صراعُ الأفكارِ يسيرُ                                                          نحوَ تابوتِ الهلاكِ                                              هلاكُ بذور الفكرِ                                                    مماتُ الشِّعرِ                                                        انسحاقُ يراع الإبداعِ                                                    عبورٌ في مهاوي الطَّيشِ                                                تيهٌ في أعماقِ الصَّحارى                                                
لا أطيقُ بعدَ اليومِ حبلَ الرِّياءِ                                           لا أطيقُ مملكةً مفصَّلةً                                                       على قياسِ الرُّعبِ                                              
ضِقتُ ذرعاً من جنونِ الحروبِ                                                 من مسارِ الدَّهاءِ                                                        ومن خباثةِ الخبثاءِ!                                      
يتفاقمُ حبلُ الرِّياءِ                                                       عابراً في مخابئِ اللَّيلِ والنَّهارِ                                          متى سنرتدي تيجانَ المحبّة                                            نسيرُ بابتهالٍ نحوَ فضيلةِ الخيرِ                                              نحوَ وَرَعِ الأرضِ                                                       نحوَ لبِّ الحياةِ!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
                                              sabriyousef1@hotmail.com      
نقلاً عن جريدة الزَّمان اللندنية

35
رسالة مفتوحة إلى رئيس أميريكا المجدّدة ولايته باراك أوباما

السيِّد رئيس الولايات المتَّحدة الأميريكية باراك أوباما، المجدّدة ولايته للمرّة الثَّانية
أرسلتُ هذه الرسالة في اليوم الثالث من تنصيبك رئيساً لأميريكا منذ أربع سنوات
أرسلها الآن ثانيةً ـ بعدَ تعديلاتٍ طفيفة ـ في اليوم الأوَّل من فوزك بولاية رئاسيّة جديدة!

تحيّة أيُّها المنبعث من خضمِّ الحياة،
ها قد أصبحتَ مرّةً ثانية رئيس أكبر دولة مهيمنة على العالم، (ولا أظنُّ أنّها ستبقى مهيمنة على العالم، إلى أمدٍ بعيد، فربَّما تتقلَّص أجنحة أميريكا في القريب العاجل أو الآجل!)، وأعود متسائلاً مرَّةً أخرى: هل ستستمرُّ في برنامج الهيمنة على مقدَّرات الكثير من دول العالم الفقيرة، مثل أسلافكَ أم أنَّكَ ستعود إلى جذورِ سمرتك الدَّاكنة الملفَّحة بشمس أفريقيا الدَّافئة، وتنثرُ هواء السَّلام والمحبّة والوئام بين البشر كلَّ البشر وتضعُ حدّاً لهذه الحروب المجنونة الَّتي تغلي بين أجنحةِ سياسات هذا الزَّمان؟! ألا تراجع أوراقكَ وأوراق الهزائم التي مُنيتْ بهذه الدَّولة العتيدة ـ، أميريكا، وإلى متى ستتشدَّق أميريكا بصناعة الحروب لرفع ميزانها التِّجاري المخلخل على حساب فقراء هذا العالم؟!                              

أهنئكَ يا باراك على تنصيبكَ رئيساً للولايات المتحدة الأميريكية للمرّة الثَّانية، هل تعلم أنَّ أسمكَ مشتق من البَرَكة، فهل ستجدُ سماء الشَّرق والغرب والعالم البَرَكة على يديك؟ آمل هذا، وآمل أن يترجم كلّ إنسان على وجه الدُّنيا بركاته ونعمه على الأرض ويقدِّمها للبشر كلَّ البشر.                          
حضرتُ مراسيم تنصيبكَ رئيساً لأميريكا، عبر التِّلفاز، بدقةٍ وشغفٍ كبيرين، وسمعت باهتمامٍ إلى خطابكَ المقتضب المكثف المعبّر الجانح نحو اخضرارِ الأمل، فهل ستترجم هذا الأمل أم أنّه سيبقى مجرَّد خطاب ساسة، وما أكثرهم في سلِّم الحياة وما أظلمهم وما أبعدهم فيما يقولونه بعد القسم، هل ستطبق ما وعدته للمواطن الأميريكي والشَّرقي والكوني أم أنَّك محاصر بجملة من الضّغوط الكونيّة واللَّونيّة والأميريكيّة، ممَّا يجعلك تنحو منحى من سبقوك في مواعيدهم الممطوطة فلم نجد على مدى عقودٍ  مضَت عبرَ أسلافكَ سوى الخراب والدَّمار في دنيا الشَّرق والغرب؟!                          

أدهشني وصولك إلى سدّة الرِّئاسة في أقوى دولة في العالم في المرّة الأوّلى، وأدهشني أكثر في المرّة الثَّانية! أدهشني هذا ولم يدهشني في الآن ذاته، وراودتني أسئلة كثيرة، تصلح لكتابة روايات بلا نهاية، روايات مفتوحة على هواجسِ التَّأويل، فهل تنصيبكَ هو محاولة للخروجِ من الفخاخ الَّتي وقعت وتقع فيها أميريكا كي تبيِّن للعالم أنّها دولة ديمقراطيّة إلى درجة أنَّ أيَّ مواطن، كائناً مَن كان أصله ممكن أن يصبح رئيساً لأميريكا طالما هو مؤهَّل لذلك، وهل  ترى أنّكَ مؤهَّل أن تكون رئيساً لأميريكا في هذا الوقت أكثر من أيِّ مواطن أمريكي قحّ ولولاية ثانية، أم أنَّ تنصيبك ناجم عن تخطيط أميريكي مدروس بدقّة للخروج من خلالك من المآزق الأميريكيّة الَّتي مرّوا فيها من سبقوك، لعلَّ أميريكا تبيِّض وجهها أمام العالم لتبيِّنَ من خلالك على أنّها دولة غير مهيمنة على العالم ولا تريد أن تهيمن على العالم فها هو شاب أفريقي يحكم أميريكا نفسها للمرّة الثَّانية، وهذا بالفعل يشير للوهلة الأولى والثَّانية والعاشرة إلى أنَّها دولة في قمّة الدِّيمقراطية، ولكن ألا يعقل أن يكون هذا تخطيطاً أميريكياً لما يشبه أفلام هوليود البارعة، حتَّى ولو كان اخراجه في سياقِ السِّياسة بعيداً عن الشَّاشة الكبيرة أو الصَّغيرة؟!
                                                                                          
من جهتي وبكلِّ صراحة أميل إلى التَّحليل الثَّاني، حيث أرى أن ترتيبات فوزك ووصولك إلى قمّة الهرم في أميريكا ثانيّةً، ما هو إلا تخطيط بارع من أميريكا ومَن لفَّ لفّها وليس لأنَّ لديك شعبيّة ومؤهّلات وإمكانيات خارقة ممَّا يجعل المواطن الأمريكي ينتخبك، لأنّني أرى أنَّ الرَّئيس الأميريكي هو صناعة ومصالح أميريكية بحتة، تتمحور صناعته على جملة معطيات فجاءت هذه المعطيات مفصَّلة بصيغةٍ ما على مقاسك، لهذا راهنوا عليك لأنك المنقذ الأهم ـ على ما يبدو ـ لما حلَّ بأميريكا من كوارث وانهيار اقتصادي وسياسي ولما هي متورّطة فيه في سماء الشَّرق والغرب والعالم، فهل أنتَ بالفعل المنقذ المناسب لتخليص أميريكا من هذه الأوحال الغارقة فيها، وهل ستنتهز الفرصة لما أنتَ عليه من مكانة وتحقِّق طموحاتك الفردانيّة كإنسان جانح نحو العدالة والسَّلام والمحبّة والوئام بين البشر أم أنَّكَ لا تستطيع أن تخرج عن طوعِ ديناصورات وحيتان البيت الأبيض المغلَّف بضبابيّة كثيفة وازدواجيّة واضحة في الكثير من منعرجاته ودهاليزه غير المرئيّة؟                                  

آمل أن تؤكّد للشرقِ وللعالم أجمع أنكَ ستنهج منهج السَّلام والوئامِ وتحقِّق العدالة لأميريكا والشَّرق الرَّازح تحت دخان الغرب الأميريكي المكتنف بالويلات المرئيّة وغير المرئية، وتنقذ ملايين البشر من فكّي كمَّاشة المواعيد الممطوطة الَّتي ينتظرها ملايين الفقراء والأطفال الَّذين يتضوَّرون جوعاً وبؤساً وغدراً وحرماناً في دنيا الشَّرق وكأنَّ حياتهم مؤرجحة على كفِّ عفريت طالما أميريكا لها مكاييل مخرومة، متذبذبة وغير منصفة في احلال العدالة والمساواة في عالم الشَّرق الغارق في البؤس والتَّشظِّي والاشتعال!                                                                                

عزيزي السَّيد الرَّئيس،                                                                              
كما تعلم ويعلم الجَّميع أنَّ أميريكا طرحت نفسها أنَّها بصدد تجفيف منابع الإرهاب في العالم، معتبرةً الشَّرق العربي والاسلامي مكمن الارهاب، فهل قضَتْ على ما اعتبرته ارهاباً، أم أنَّه بدأ يفرّخ ارهاباً مضادّاً وأصبح أكثر ممَّا كان عليه قبل مرحلة التَّجفيف، وذلكَ ردَّاً لما تقوم به أميريكا من ارهاب الدَّولة بالتَّنسيق مع صديقتها المدلَّلة اسرائيل، وفي هذا السِّياق أودُّ الوقوف عند كلمة الارهاب، فهذه الكلمة الَّتي تمَّ استخدامها بصيغة سلبية، هي ليست كذلك في كلِّ الأحول، لأنَّ الكلمة مشتقة من الفعل أرهب يرهب ارهاباً فهو ارهابي، أي بما معناه أخافَ يخيف ..، فهو مخيف، فأي كائن حي على وجه الدُّنيا لو تعرَّضَ لموقف مخيف ومرعب وارهابي سيضطرُّ أن يردّ على خصمه ويخيفه ويرهبه دفاعاً عن نفسه، ففي هذه الحالة ارهاب الآخر أو اِخافته كنوع من الدِّفاع عن النَّفس هو حقٌّ شرعي وإلا أعتبر كل مَن لا يدافع عن نفسه مجرّد إنسان جبان لا أكثر!                                          

وهنا أتساءل هل يوجد في تاريخ البشرية أكثر ارهاباً ورعباً من اسرائيل لما قامت وتقوم به من مجازر في غزة وجنين وصبرا وشاتيلا والجُّنوب اللبناني، وعلى امتداد وجودها على أرضِ فلسطين، فهل من المعقول أن يبقى الفلسطيني بكلِّ فصائله الحماسيّة وغير الحماسية مكتوفي الأيدي أمام هذا الهول الذي يتلقَّونه من اسرائيل، لهذا أرى أنَّ ردَّهم وصواريخهم الخجولة قبل وبعد الغزو المشين الأخير لغزَّة ما هو أكثر من دفاع عن النَّفس والوجود، وأنا أرى أنَّ اسرائيل هي في خانة الارهاب، بكلِّ ما تعنيه الكلمة من معنى سلبي وقمعي وارهابي، فلماذا لا تخطِّط أميريكا والغرب والعالم أجمع للقضاء على ارهاب اسرائيل ضدَّ الشَّعب الفلسطيني المنقسم على نفسه وعلى أرضه وبيته وهوائه وسمائه ونومه وحلمه المشنفر بالعذاب؟!                                                              

لماذا لا تحلحل أميريكا مشاكل الشَّرق المتعلِّقة بالغرب بما يناسب الشَّرق وتعطي لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وتكون عادلة وديمقراطية ويعيش جميع الأطراف في حالة سلام ووئام بعيداً عن لغة الحروب المجنونة والمدمِّرة للجميع؟ لماذا عندما احتلت أميريكا العراق تركت حضارة العراق، ومتاحفه، مباحةً للنهب والدَّمار والخراب؟!                                                                                  
مَنْ أوصل صدَّام حسين إلى سدَّة الحكم، ومن طلب من صدَّام أن يبقى في وجه إيران، ومن سمح له بالدُّخول إلى الكويت؟ أليست أميريكا، فلماذا لا تحاسب أميريكا ذاتها قبل أن تحاسبه؟!!!              
هل تجرّأ مواطن عراقي على مدى فترة حكم صدَّام حسين من تفجير كنيسة أو جامع أو مدرسة أو أيَّة منشأة حكوميّة أو أهليّة، أو قتل شيخ أو مطران أو قسيس أو شمَّاس أو أي مواطن عادي مسيَّس أو غير مسيَّس، ما لم يتدخَّل المواطن في سياسة صدَّام الدِّكتاتورية؟! فصدام رغم انني كنتُ وما أزال ضدّ ديكتاتوريته وبطشه وقمعه لكنه ما كان أحدٌ يستطيع أن يقتل في عهده مواطناً عادياً بريئاً في عزِّ النَّهار، ولكن في عهد الحكومة الجديدة، عهد البشارة بالدِّيمقراطية نجد المواطن العادي غير المسيَّس والمطران رمز السَّلام والوئام، يتعرَّضان للقتل على مرأى ومشهد القوَّات الأميريكية، فأين الدِّيمقراطية الَّتي صدَّعت أميريكا بها رؤوسنا ولم نحصد منها سوى القتل والطَّائفية والتَّخريب والدَّمار في بلاد الرَّافدين! فلا لديكتاتورية صدَّام ولا لديمقراطية الخراب الَّتي قدمتها أميريكا للعراق، لهذا وجد الكون برمّته كيف قدّم منتظر الزيدي فردتَي حذائه هدية للرئيس الأمريكي جورج بوش في آخر زيارة له للعراق، فأنا ضد موقف الزّيدي كموقف غير حضاري بصفته اعلامي، وكنّا ننتظر منه حواراً مع الرَّئيس الأمريكي للدفاع عن نفسه وعن عراقه ولكن مَن يعلم ربَّما ثقافة الحوار بالأحذية تناسب هكذا حالة متهرِّئة وغليانيّة على مدى السَّنوات العجاف التي قدَّمتها أميريكا للمواطن العراقي، فهل فكَّرتْ أميريكا بحلِّ عادل لما حلَّ من دمار وخراب في العراق وبإيجاد حلٍّ،  يجنِّب العراق من قتل المزيد من المطارين ورجالات الدِّين والأبرياء والأطفال والشّيوخ والنِّساء في سبيل مصالح بغيضة أقل ما يمكن أن نقول عنها أنّها لا تمتُّ للسياسة والإنسانية بصلةٍ على الإطلاق؟!                            

العراق بلد الحضارات، وحضارته الموغلة في القدم مرتكزة على أكتاف الآشوريين والكلدان والآراميين والبابليين والسُّومريين والأكّاديين، حضارة مرتكزة على أكتاف صانعي إحدى عجائب الدنيا، أليست حدائق بابل المعلَّقة من عجائب الدُّنيا، فكيف لا يخطر على بال أميريكا إعطاء هذا الشَّعب حقّه، هذا الشَّعب البابلي الآشوري الكلداني الآرامي الأصيل، الَّذي يتعرَّض للإبادة والقمع والإضطهاد أمام مرآى القوات الأميريكية والعالم، أين ديمقراطيَّتكم وعدالتكم الَّتي قدَّمتها أميريكا للعراق وكلّ هذا الخراب والدَّمار يتفشّى في عراق اليوم، عراق ما بعد صدَّام حسين؟! لقد تاه أغلب المسيحيين والصَّابئة والتُّركمان واليزيديين وبقية الأقليات والأكثريات على وجه الدُّنيا، هرباً من البطش والقتل والدَّمار في العراق، فأين التَّحرير والتَّطوير والدِّيمقراطية، يا سيادة الرَّئيس، يا سادة يا كرام؟!  مَن تسبَّب بطريقةٍ أو بأخرى في هجرة ملايين المسيحيين من بلاد الشَّرق الدَّافئ إلى بقاع الدُّنيا غير التَّراخي الأميريكي والغربي؟!                                                                        
الإنسان هو غاية الغايات فأين دفاعكم عن هذا الإنسان، ألا ترى معي أنَّ أميريكا لا تملك سوى لغة الحربِ والعدوان والبحث عن تعديل ميزانها التِّجاري ولو كان على حساب جماجمِ  الشّيوخ والشُّبان والأطفال وفقراء هذا العالم؟!                                                                        
هناك مئات بل آلاف الأسئلة أودّ أن أطرحها عليك يا سيادة الرَّئيس، لكن الفسحة المتاحة هنا، لا تتَّسع للعبور في هذا الميدان، وأتساءلُ على سبيل المثال، مَن صنع بن لادن، ومن سانده ودعمه بالسِّلاح والمال ضدَّ روسيا أيَّام زمان؟ أليست أميريكا؟! فما العجب لو انقلب السِّحر على السَّاحر، هذا إذا كان منقلباًَ أصلاً، لأنَّ مستجدّات الأحداث لاحقاً بدَتْ أن هناك فبركة أميريكيّة ساحرة في المتاهات اللادنيّة!
مَن أوجد الحركات والتَّكتلات والأحزاب الاسلاميّة، أليست مواقف أميريكا وإسرائيل؟                
هل هناك دول عربية تدعم الحركات الاسلامية والسَّلفيّة المتشدِّدة بقدر ما هي ضدّ التِّيارات والأحزاب الاسلاميّة كالاخوان المسلمين وغيرهم من الأحزاب والتِّيارات الَّتي يدعمها الغرب أكثر ممَّا يدعمها النَّظام العربي، بل يبقى النَّظام العربي ضدَّها وضدّ برامجها وتوجهاتها وأهدافها وأفكارها.            
مَن صنع وهيَّأَ الأنظمة العربية بهذه الصِّيغة وبهذا المنظور أصلاً، أليست أغلبيّة سياسات السَّاسة العرب موجّهة بطريقة أو بأخرى كما ترتأيها أميريكا والغرب ومَن ورائهما، ولهذا تنفّذ الأنظمة توجُّهات الغرب على أكثر من صعيد وفي الكثير من المحاور، فتضغط على مواطنها المتشدِّد ومواطنها السِّياسي المعارض وكلّ من يخالفها الرَّأي فينشأ كتحصيل حاصل قِوى وأحزاب وتيارات معارضة للأنظمة ولأميريكا معاً، لما يتلقَّونه من قمع وكبح لتطلُّعات المواطن ـ الإنسان، على مختلف مشاربه وألوانه وأطيافه الدِّينية والسِّياسيَّة، لهذا تزداد الفجوة والهوّة ويزدادُ الصِّراع بين الأنظمة والشُّعوب العربيّة يوماً بعد يوم، وهذا الصِّراع أو الخلاف والاختلاف منشؤه وأسبابه مصالح غربية، وقد آن الأوان أن تفتح الانظمة العربية حواراً مع  ذواتها كأنظمة ومع مواطنيها وتغيُّر من سياساتها الدَّاخلية والخارجية وعلى الغرب أن يفهم كيفية تغيير معادلة التَّغير والتَّطوير والتَّنوير بما يناسب الشَّرق العربي بكل أطيافه وأديانه واثنياته وليس بما يناسب الغرب فما هو تطوُّر بالنسبة للغرب ربما يعدُّه الشَّرقي تخلُّفاً ومنافياً للأعراف والعاداتِ والتَّقاليد ولهذا لا بدَّ من إيجاد صيغ شفافة ومدروسة بحيث تناسب مآسي وصلابة وتعنٌّت الشَّرق، وربما تأخذ القضية، أية قضية عقوداً وسنيناً إلى أن يقبلونها ويعتادون عليها، فليس من المعقول أن يتمَّ تطبيق برامج الغرب على الشَّرق دفعةً واحدة، لأنَّ لكلِّ قارّة ولكلِّ بيئة ولكلِّ بلد ولكلِّ دولة ولكل أمَّة خصوصيَّتها وعاداتها وتقاليدها الَّتي تصبح بمثابة معايير قانونيَّة تسير عليها، فليس من السَّهل القضاء عليها أو تجاوزها بالطَّريقة الغربيَّة، فلا بدَّ أن تنمو وتترعرع وتتشرّب القضايا التّطويريَّة والتَّنويريَّة في دنيا الشَّرق بشكل تدريجي مستساغ، بما يلائم كلّ مرحلة من مراحل التَّطوير والتَّنوير، ويصبح تطوُّرها موضوعيَّاً ومنطقيَّاً من حيث التَّدرّج التَّطوري، بحيث يناسب خصوصية المكان والزَّمان لهذه المساحة الجُّغرافية المتشابكة في هذا العالم.  

لم يعجبني موقف أميريكا ممَّا ارتكبته اسرائيل من مجازر وجرائم بحقِّ الإنسانية في غزّة، جرائم تقشعرُّ لها الأبدان وما ارتكبته من مجازر وخراب ودمار في لبنان والجنوب اللبناني صيف 2006، حيث يبدو واضحاً لي ولكلِّ إنسان عاقل وصاحب ضمير حي، أنَّ موقف أميريكا هو منحاز حتَّى النّخاع لاسرائيل، فما هذه الحرب المدمِّرة خلال الاثنين والعشرين يوماً ممَّا تبقَّى من حكم جورج بوش، أليس هذا يا عزيزي الرَّئيس، تحدٍّ للأمم المتَّحدة والقانون الدَّولي والعالم، لماذا أصبح هناك هدنة وتوقّفت اسرائيل عن الحرب قبل تولِّي سيادتك سُدَّة الحكم ـ في حينها ـ يا أيُّها الرَّئيس باراك أوباما، أليس هذا اتفاق مع أميريكا محسوب بدقة متناهية، وألا ترى أن اسرائيل لم تقدِّر نهائياً مشاعر المسيحيين والاسلام واليهود حيث كانت البشرية تحتفل بأعياد الميلاد ورأس السَّنة الميلاديّة ومع هذا كانت اسرائيل تدكُّ صواريخها وقنابلها وطائراتها فوق جماجم أطفال وشيوخ وشبَّان غزة، فيما كنتُ أهيئُ نفسي لكتابة قصيدة عن السَّلام والمحبَّة والوئام، فعكَّرت الحرب مزاجي وخلخلت معالم فرحي، وإذ بي مع عالم الخراب والدَّمار والنَّار، فكتبتُ نصاً من وحي خراب الكون، بعنوان: "ماتَ الغربُ ماتَ الشرقُ ماتَتِ القيمُ"، فإلى متى سيستمرُّ موتُ القيم؟                                              
                                                  
أيُّهما أكثر ارهاباً، أن تطلق حماس صاروخاً بالكاد أن يقتل ثلاث نعاجٍ على أن يأتي في قلبِ الهدف، بينما سلاح اسرائيل يفوق الخيال، أين التَّوازن الأخلاقي في الحرب، أم أنَّ الحروب لا تحمل بين طيَّاتها ذرَّة أخلاق، فلماذا يرتكبها الإنسان، هل فقد أخلاقه وإنسانيَّته؟!!! أليس عاراً أن تستعرض اسرائيل عضلاتها وتجرِّب أسلحتها التَّرسانيّة العالميّة الفوسفوريَّة الفتَّاكة على شعب بسيط يتضوَّر جوعاً، فهل قتلت اسرائيل المقاومين أم قتلت أكثرية الشَّعب الأعزل البرئ؟                          
أين ديمقراطيّة أميريكا وسلام وديمقراطيّة اسرائيل الَّتي تنادي بها، وعلى أيِّ اساس تنادي أميريكا باحلال السَّلام في الشَّرق الأوسط، هل بهذه العنجهيّة المريرة سيتمُّ بناء حيثيات السَّلام؟!              
ما هذا الجنون الاسرائيلي في القتل والدَّمار والخراب والغزو والقصف المخيف والمرعب إلى أقصى درجات الإرهاب، وما هذا الصَّمت الكوني، ما هذا التَّراخي الأميريكي، وما هذه القرارات الَّتي تصدرها الأمم المتحدة ولا تكترث بها اسرائيل، كأنّها قرارات صادرة من جهة غير مسؤولة وغير قادرة على تنفيذ قراراتها، لماذا لا تعاقب هيئة الأمم اسرائيل طالما لا تنصاع اسرائيل لقرارات هيئة الأمم، ولماذا لا يتم تحويل مسبِّبي الدَّمار والغزو إلى محكمة لاهاي الدَّولية ويعاقبونهم كمجرمي حرب، أم أنَّ اسرائيل في رأسها ريشة وترتعد منها أميريكا نفسها وهيئة الأمم والقانون الدَّولي؟!      

ألاحظُ أن أميريكا وأوربا ودول عديدة في العالم تتدخَّل في الشَّأن الإيراني، بذريعة وجود السِّلاح النَّووي في إيران. أولاً تقول إيران بأنّها لا تمتلك أسلحة نوويّة وما لديها من طاقة نوويَّة هي مسخَّرة لأغراض التَّطوير والبناء والسِّلم، وليس من أجل الحرب وتصنيع القنابل النَّوويّة، حيث تعتبر أميريكا أنَّ توفُّر الأسلحة النَّوويّة في إيران يشكِّل خطراً على اسرائيل؟ طيِّب لماذا لا نعكس السُّؤال ونقول إنَّ لدى اسرائيل سلاح نووي ولا أحد يسألها أو يحاسبها، فإذا كان غرض أميريكا شريفاً وعادلاً فلماذا لا تنزع السِّلاح النَّووي من الشَّرق الأوسط برمّته بما فيه اسرائيل، وإلا فمن المضحك أن تهدِّد أميريكا إيران بضربة أو بعقوبات ما لم تتخلَّ إيران عن تصنيع السِّلاح النَّووي؟ ألا يوجد سلاح نووي في أميريكا؟! لماذا لا تطالب أميريكا من أميريكا بنزع سلاحها النَّووي لأنَّها تشكِّل خطراً على جيرانها؟!

من هذا المنظور أقول لكَ يا سيادة الرَّئيس، لكي يعم السَّلام والوئام بين البشر في سماء الشَّرق والغرب والعالم، على الإدارة الأميريكيّة أن تكون عادلة في التَّعامل مع دول الشَّرق ودول العالم، لا أن تهدِّدَ أميريكا إيران تارةً وسورية تارةً أخرى، في الوقت الَّذي نجد أنَّ سورية في عهد الأسد الأب والابن كانت وما تزال تجنح نحو السَّلام العادل والشَّامل، الأرض مقابل السَّلام، من دون أي قيد أو شرط وبحسب القوانين الدَّولية، والمعادلة بسيطة وسهلة وتطبيقها لا يحتاجُ لأيّة عبقريّة، وممكن تحقيق السَّلام في ليلةٍ وضحاها، ولكن لا تستجيب اسرائيل ولا أميريكا لهذا الجنوح السُّوري نحو السَّلام، بل تجنح اسرائيل إلى حالة اللاسلام واللاحرب، بل أنها تتحرّش بين الحين والآخر بسورية وسورية لم تردّ عليها وطالبت وما تزال تطالب بالحل العادل والشَّامل كما تقرُّه هيئة الأمم والقوانين الدَّولية وبرعاية أميريكا، ولكن اسرائيل لا تريد السَّلام وهي شغوفة بالحروب وبسلامها وأمنها هي وإن ذهبت دول الجِّوار في أغوار الدَّمار والهلاك فلا يهمُّها وهذه غزة مثالاً حيَّاً لما أقول! فإلى متى ستتشدَّق اسرائيل بأنّها مهدَّدة من ايران وسورية والعرب، هل أطلقت سورية رصاصة واحدة على إسرائيل منذ حرب تشرين حتى تاريخه؟!!! أي أمان وسلام تريده اسرائيل أكثر من هذا، أصلاً أنا أرى أنَّ الجَّبهة السُّورية في أمان تام على اسرائيل، فلا يوجد أي دافع ـ على ما يبدو للعيان ـ  من الجَّانب السُّوري في فتح جبهة حرب مع اسرائيل، لأنَّ سورية تنتهج فعلاً منهج الحوار والتفاوض للوصول إلى السَّلام ولكن اسرائيل لاتريد السَّلام خاصة عندما ترى أنَّ الجَّبهة السُّورية هادئة وآمنة، فلِمَ ستوقِّع على معاهدة السَّلام مع سورية طالما لا تشكِّل سورية أي خطر عليها وطالما السَّلام مع سورية سيفقد اسرائيل الجُّولان المحتل، لهذا تماطل اسرائيل، وربَّما ستماطل إلى أبد الآبدين طالما لا يوجد عليها ضغط غربي وعربي وكوني لتحقيق السَّلام، فهل سنرى أملاً على يديك بتحقيق السَّلام في الشَّرق الأوسط وفي العالم، ويعيش الإنسان في الشَّرق والغرب في وئام بعيداً عن الحروب والصِّراعات المجنونة الَّتي تتوالد وتفرِّخ كأنها من فصيلة الأرانب؟! فقد شبعنا منها يا سيادةَ الرَّئيس.              

ختاماً، أودُّ أن أقول لكَ انني عندما أسمع وأقرأ مصطلحات من إبداع أميريكا أضحك كثيراً، مثلاً: الفوضى الخلاقة، متى أصبحت الفوضى خلاقة يا سيادة الرَّئيس؟ هل وجدْتَ في تاريخك الطَّويل أن تصبح يوماً ما، فوضاك في مجالٍ ما خلاقة، أنا أعرف أن هناك نصَّاً شعريَّاً خلاقاً، فكرة خلاقة، رواية خلاقة، لوحة خلاقة، وئاما وسلاماً ومحبَّة خلاقة، وأمَّا موضوع أن تصبح الفوضى في عرفكم خلاقة، فهذا ما لم أستسغه ولا يقبله عقلي ولا أي عاقل على وجه الدُّنيا!                              
القنابل الذَّكية، لقد أصبحت في عرف أميريكا القنابل ذكيّة، لا بارك الله في القنابل الذَّكية والغبيَّة، طالما تقتل البشر في العصر الحديث، ولا بارك الله في كلِّ مَن يصنع سلاحاً ويدمِّر البشر والبشريّة، هذا القرن يا سيادة الرَّئيس يجب أن يكون قرن السَّلام بين البشر كلَّ البشر!                              

كم أنظر بسخرية وأسىً كبيرين عندما أراكم تطرحون بعد كلِّ تدمير، مشروع إعادة الاعمار والبناء! طيب لماذا أصلاً يتمُّ تدمير البلاد والعباد ثمَّ تطرحون أنفسكم لاعادة البناء والتَّعمير؟ أنَّكم تستطيعون أن تبنوا جسراً مدمَّراً وبناية مدمَّرة وجامعة مدمَّرة وجامعاً وكنيسة مدمَّرة ولكن هل تستطيعون إعادة بناء إنسان ميّت، هل تستطيعون إعادة روح طفل شهيد إلى جسده المهشَّم، ما فائدة إعادة اعمار غزة وجنين وصبرا وشاتيلا والجُّنوب اللبناني وبغداد، طالما آلاف الموتى تخلخلت جماجمهم تحت الأنقاض، وأرواح الموتى الشُّهداء كيف ستعيدون بناءها وإعادتها إلى الحياة؟!                        
                                
وحول موضوع إشاعة وترويج وتطبيق الدِّيمقراطية في العراق والعالم العربي، فلا بأس يا سيادة الرَّئيس أن تتركوا الشَّرق والعالم العربي على حاله وتخلّفه، فهو مسرور بتخلفه وسعيد بلا ديمقراطية، لأنّه حالما تتحقَّق عنده الدِّيمقراطية بالطريقة الَّتي تتوخّونها، سيرمي مواطنه بفردتي حذائه بوجه أكبر زعماء العالم فكيف والحالة هذه لا يرميها في وجه حكَّامه، منطلقاً من باب أنّه حرّ وفي بلد ديمقراطي! هل نسيتم يا سيادة الرئيس أنَّ المواطن الشَّرقي لا يستوعب الدِّيمقراطية بطريقتكم، ولا يتقبّلها بطريقتكم، لأنّه غير معتاد عليها وليس من السُّهولة أن يتوازن معها لأنه مرّ بسنين وعقود وقرون من القمع والاضطهاد والاستبداد من قبل الاستعمار وبعد رحيل الاستعمار، جاء حكامٌ ربّما بعضهم أكثر قمعاً واضطهاداً واستبداداً من الاستعمار الرَّاحل وكأنّ المواطن في حالة قمعيّة مفتوحة عبر مراحل الاستعمار وما بعده ولهذا فليس من السَّهل أن يتقبل الحرِّية والعدالة والمساواة والدِّيمقراطية بالطريقة الَّتي ترسمونها، وبكلِّ بساطة أن العالم العربي لو طبق العدالة والمساواة والدِّيمقراطية والحرية دفعةً واحدة من دون مراعاة ظروفه الآنفة الذّكر، لدخل في متاهة وفوضى لها أول وليس لها آخر! ستكون فوضاه، الفوضى ما بعد الخلاقة، لأنه سيتجاوز الخلق والإبداع عابراً في دهاليز المتاهة، لهذا يحتاج العالم العربي إلى بناء طفل سليم وسويّ، ينمو ويترعرع في جوّ طبيعي منذ أن تحمل به أمّه في أحشائها، وبعد أن يرى النُّور، وإلى أن يغادر هذا النُّور، وكلّ هذا يحتاج عقوداً، وسنيناً بل قروناً، وهذه المهمَّة تقع على عاتقِ مجئ ساسة ومفكِّرين ومبدعين وبحاثة ومحللين على كافة مناحي الحياة، لانتشالِ المواطن من الحالة المزرية الَّتي يعيشها في العالم العربي، وإلى أن يتحقَّق هذا الأمر عليكم يا سيادة الرَّئيس أن تحقِّقوا السَّلام كي يتمكَّن هذا العالم أن يخرج من متاهة الحروب ومن شرانقه المجصَّصة ويبدأ بالبحث عن مخارج لتخلفه لعلّه يبدأ خطوة المليار ميل نحو بناء إنسان مسالم وطبيعي، عاقل ومتنوِّر وخلاق! هدفه نشر رسالة المحبّة والسَّلام والتَّنوير والحوار الخلاق بين البشر كل البشر، جنباً إلى جنب مع أخيه الإنسان في هذا الكون الوسيع!!!                                  
                                                          
ستوكهولم: 21 . 1 . 2009 صياغة أولى
ستوكهولم: 7 . 11 . 2012 صياغة أخيرة!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

36
الفنّان حبيب موسى يشارك في احتفالٍ سنويٍّ كبير
برعاية كنيسة مار توما في استراليا
صبري يوسف ـ ستوكهولم
تستضيف كنيسة القدِّيس توما للسريان الأرثوذكس في استراليا ـ سيدني، المعروفة بنشاطاتها المتعدِّدة، ضمن احتفالها السَّنوي الشَّهير، الفنّان الكبير حبيب موسى، ملك الأغنية السّريانيّة في العالم، يوم السَّبت المصادف 27 تشرين الأوَّل (اكتوبر) 2012، في تمام السَّاعة السَّابعة مساءً في صالة قصر الملكة، ليقدِّم أجمل أغانيه في مهرجان فنّي كبير، اعتادت إدارة الكنيسة أن تقيم هذا الإحتفال ضمن سياق نشاطاتها في كلِّ عام.
يرافقُ الفنّان حبيب موسى، من السُّويد الموسيقي جوزيف جاجان على العود، إضافة إلى بقيَّة الفرقة الموسيقيَّة من استراليا، كما سيقدِّم الموسيقي والكوميديان جوزيف جاجان فقرة كوميديّة فكاهيّة عبر برنامج الاحتفال!

نتمنّى للفنّان الكبير حبيب موسى رحلة موفَّقة، متوَّجة بالتألُّق والإبداع، كما نتمنّى لكلِّ الَّذين يعدّون هذا الحفل المزيد من النّجاح والتَّوفيق بكلِّ نشاطاتهم الفنِّية والثَّقافيَّة، ونأمل أن يقضي كلَّ الأحبّة الحضور وقتاً طيَّباً وممتعاً أثناء حضور هذا الحفل الكبير.

نرفق فيما يلي مكان وزمان وتاريخ الحفل المنشور في الأفيش

St. Thomas Syrian Orthodox Church
Annual Ball
Habib Mousa
Saturday 27th October 2012, 7 PM
Queens Palace Reception Centre
52 – 54 Standbrook Street, Fairfield Heights





37
الفنّان حبيب موسى يشارك في احتفالٍ سنويٍّ كبير في كنيسة مار توما في استراليا

صبري يوسف ـ ستوكهولم
تستضيف كنيسة القدِّيس توما للسريان الأرثوذكس في استراليا ـ سيدني، المعروفة بنشاطاتها المتعدِّدة، ضمن احتفالها السَّنوي الشَّهير، الفنّان الكبير حبيب موسى، ملك الأغنية السّريانيّة في العالم، يوم السَّبت المصادف 27 تشرين الأوَّل (اكتوبر) 2012، في تمام السَّاعة السَّابعة مساءً في صالة قصر الملكة، ليقدِّم أجمل أغانيه في مهرجان فنّي كبير، اعتادت إدارة الكنيسة أن تقيم هذا الإحتفال ضمن سياق نشاطاتها في كلِّ عام.                                                                         
يرافقُ الفنّان حبيب موسى، من السُّويد الموسيقي جوزيف جاجان على العود، إضافة إلى بقيَّة الفرقة الموسيقيَّة من استراليا، كما سيقدِّم الموسيقي والكوميديان جوزيف جاجان فقرة كوميديّة فكاهيّة عبر برنامج الاحتفال!                                                                                     
نتمنّى للفنّان الكبير حبيب موسى رحلة موفَّقة، متوَّجة بالتألُّق والإبداع، كما نتمنّى لكلِّ الَّذين يعدّون هذا الحفل المزيد من النّجاح والتَّوفيق بكلِّ نشاطاتهم الفنِّية والثَّقافيَّة، ونأمل أن يقضي كلَّ الأحبّة الحضور وقتاً طيَّباً وممتعاً أثناء حضور هذا الحفل الكبير.                                                     

نرفق فيما يلي بطاقة الدَّعوة المنشورة في الأفيش
St. Thomas Syrian Orthodox Church
Annual Ball
Habib Mousa
Saturday 27th October 2012, 7 PM
Queens Palace Reception Centre
52 – 54 Standbrook Street, Fairfield Heights


38
صراعُ الحضارات، قباحةُ القباحات

2


الحضارة هي نتاج ارث كبير لتراكم معرفي وثقافي وفكري وفنّي وفلسفي عبر مراحل وأحقاب تاريخيَّة معيَّنة، وهي نتاج جهود مراحل تاريخيّة متعدِّدة ومتعاقبة للمجتمع البشري، فمثلاً حضارة الفراعنة في وادي النِّيل، وحضارة بلاد الرَّافدين، البابليّة السُّومريّة الأكّاديّة الآشوريّة الكلدانيّة السّريانيّة الآراميّة في العراق القديم وبلاد الشَّام، والحضارة الفارسيّة في بلاد فارس، والحضارة الاغريقيّة والهنديّة والشَّرقيّة والغربيّة والكثير من الحضارات العالميّة الَّتي ظهرت عبر أحقاب مختلفة في الكثير من دول العالم. 

وقد نشأت صراعات بين هذه الحضارات عبر مراحل متعدِّدة من التَّاريخ البشري، صراعات بين الشَّرق والشَّرق وبين الغرب والغرب، وبين الشَّرق والغرب، كما نراه الآن بكلِّ وضوح. وبرأيي أنَّ إستمرار صراع الحضارات حتّى الوقت الرّاهن، هو ضربٌ من الجنون ومن أقبحِ القباحات! لأنَّ صراع الحضارات ليس لصالح أيّ طرف من الأطراف على الإطلاق، لأنّه يؤدّي إلى نتائج وخيمة ومدمِّرة على حضارة الإنسان الَّتي أبدعها عبر تاريخه الطَّويل، وهذه الحضارة ملك للإنسانيّة ككلّ وعلينا كبشر، لنا عقل وحكمة أن نحافظ عليها بشتّى الطُّرق، لا أن نتركها عرضة للصراع والتَّناحر والحروب الَّتي تدمِّر كلّ الأطراف المتناحرة والمتصارعة، فلا غالب ولا منتصر في أيِّ صراع من صراع الحضارات، وخاصَّة ما يتعلّق بالارث الحضاري!
 
وإنَّ من أهم أسباب نشوب صراع الحضارات هو عدم تقبّل ثقافة الآخر، فلا الغرب يتقبَّل ثقافة الشَّرق ولا الشَّرق يتقبَّل ثقافة الغرب، لأنَّ كلّ طرف يعتبر نفسه الطَّرف الصَّحيح وينحي باللائمة على الآخر، ولا يصغي ولا يتقبَّل الآخر. وإنَّ هذا الصِّراع أزلي منذ أن نشأ الإنسان على وجه الدُّنيا حتّى يومنا هذا، ويوجد صراع بين الحضارة الواحدة، وبين الدَّولة الواحدة وبين الشَّعب الواحد، وبين المدينة الواحدة وبين العائلة الواحدة وبين الأسرة الواحدة، ولكي يتمّ معالجة هذه الصِّراعات، ابتداءً من الأسرة ومروراً بالعائلة الكبيرة فالحي والمدينة والدَّولة والقارة والشَّرق والغرب، لا بدَّ من الحوار. يتوجّب على كلِّ طرف أن يتقبَّل الحوار مع الآخر كإنسان، بدون أيِّ تشدُّد أو تعصُّب، بحيث أن يعرض كلّ طرف للآخر وجهات نظره، وعلى ضوء عرض هذه الوجهات النَّظر المتعدِّدة والمتباينة، ممكن أن يتمّ حلّ الصِّراع القائم بين الأطراف المتصارعة بشكلٍ تدريجي على كافّة الأصعدة، على أن يتمَّ حلّ الصِّراع ابتداءً من الأسرة ومروراً بالعائلة والحي والمدينة والدَّولة والقارّة والشَّرق والغرب، ويجب خلال كلّ مرحلة أن نهيّئ الطَّرفين لأطرافٍ أخرى، فمثلاً أكبر صراع وجوهر الصِّراعات ينبع من الأسرة، الَّتي يبنى عليها المجتمع، فعندما نعالج الصِّراعات القائمة داخل الأسرة، والعائلة ثم نعالج خلافات وصراعات المذاهب الدِّينيّة، في كلِّ دين على حدة، ونركّز على الإنسان كجوهر هام، وعلينا أن نعتبره فوق أيِّ خلاف على وجه الدُّنيا، وأن ننظر إلى الإنسان ككائن سامي ونبيل وأسمى المخلوقات، عندها يكون الحوار خلاقاً، وبعد أن نعالج الخلافات والصِّراعات بين الدِّين الواحد، نبدأ بالحوار مع الدِّين الآخر أو الأديان الأخرى والَّتي هي الأخرى يجب تنقية الأجواء فيما بين مذاهبها، ولا يجوز إطلاقاً تعميق الخلافات بين الأديان، بل التَّركيز على ما يجمع الأديان من خلال القيم المشتركة فيما بينها، ثم عرض الخلافات الثَّانوية والأساسيّة ومعالجتها بما هو مناسب لكلِّ الأطراف، بشكلٍ مقنع على أن لا يفرض أيّ طرف رأيه على الآخر، ثم الانتقال إلى الخلافات العميقة ومعالجتها بشكل حكيم ولصالح كلّ الأطراف، وخلق حالة وئام إنسانيّة راقية بين كلِّ الأطراف، على اعتبار إنسانيّة الإنسان هي الأساس، وبالتَّالي خلق حالة تواصليّة حضاريّة حقيقيّة، بعيداً عن الصِّراع الَّذي نراه الآن، وتبيان لكلِّ الأطراف أنَّ حلَّ الصِّراع هو لصالح الجَّميع، ففي هذه الحالة سيختفي الصِّراع رويداً رويداً، وتنتفي بالتَّالي حالة الصِّراع والاحتراب، ولا بأس أن يظلَّ هناك تنافساً وصراعاً إيجابيَّاً في التَّطوير والتَّنوير وتقديم أرقى الأخلاق من أيِّ جهة وتفعيل الجَّانب الأخلاقي والقيمي والمعيار الأفضل والأكثر حضاريّة، وهنا سيتحوّل الصِّراع إلى نوع من المنافسة الخلاقة، وهذه المنافسة ستترك أثراً طيّباً لدى الجّميع، طالما تخدم الجَّميع ولا تحارب أي طرف على حساب آخر.

أعرف جيّداً أنَّ هذه الأفكار الَّتي أطرحها فيها نوع من الطُّوباويَّة والأحلام الفاضلة، ولكنّها قابلة للتحقيق عندما نتبنَّاها وندرجها في جدول مؤسَّساتنا ودساتيرنا وقيمنا ومعاييرنا وأخلاقنا وقوانيننا، وستنعكس بالتَّالي عبر سلوكنا اليومي والحياتي، من خلال تعميق الأسس الدِّيمقراطيّة، والموضوعيّة، وأن يستند تطبيق هذا الحلّ إلى مؤسَّسات دوليّة راقية ومتخصِّصة بكلِّ طرف من الأطراف المتصارعة، بحيث أن تقدَّم الأطراف الَّتي تحتكم لصواب هذا الطَّرف أو ذاك، براهين دقيقة ومقنعة، دون استخدام أيّ ضغط أو إكراه، لأنَّ صراع الحضارات بين الشَّرق والغرب، ترعرع وتفاقم بسبب عدم الحوار البنّاء والخلاق بين الأطراف المتصارعة، ونظراً لأنَّ كلّ طرف يحمل وجهات نظر متضاربة مع الآخر، وغالباً ما تكون هذه الرُّؤى والأفكار تتصارع من منظور ديني أو مذهبي أو قومي أو عرقي أو ثقافي أو اجتماعي أو صراعات بين معايير وقيم أخلاقيّة تبنّاها مجتمع ما، وأصبحت بمثابة القوانين، يتقبَّلها مجتمع ما ولا يتقبَّلها مجتمع آخر، سواء كانت دينيّة أو قوميّة أو فكريّة أو أخلاقيّة، ولهذا نجد أنَّ الصِّراع يزداد حدَّةً بسبب طغيان الرُّؤية الأحاديّة لكلِّ طرف، حيث يعتبر كلّ طرف أنَّه على حقّ والآخر على باطل، وعندما يعتبر طرف ما طرفاً آخر على باطل، يشتدُّ الصِّراع أكثر ويعتبر الطَّرف المنقود أو المتصارع معه كأنّه مطعون في أعرافه وتقاليده وأخلاقه ودينه ومذهبه وثقافته وكرامته ووجوده، لهذا لا يتنازل على أيِّ معتقد أو رؤية يحملها، دينيّة كانت أو معايير أخلاقيّة ثقافيّة اجتماعيّة، لهذا علينا والحالة هذه أن نجد أفضل الطُّرق لتحليل أفكار ورؤى كلّ طرف من الأطراف، وإيجاد قواعد مشتركة أو أفكار مشتركة بين كلا الطَّرفين، مثلاً مفهوم الخير، العدالة، المساواة، الحرّية، الدِّيمقراطيّة، الأخلاق السَّامية، الفضيلة، الصّدق التّعاون الخ من القيم والمعايير الأخلاقيّة الَّتي تصبُّ في إنسانيّة الإنسان في كافّة أنحاء العالم والَّتي كلّ الأديان والأعراف والتَّقاليد تؤمن بها وتتبنّاها.

ويبدو لي أنَّ من أهم أسباب صراع الحضارات بين الشَّرق والغرب حدَّةً هو الاقتصاد، حيث ينظر الغرب إلى الشَّرق كبقرة حلوب، ويركِّز كلّ توجّهاته على امتصاص هذا الحليب الموجود في الشَّرق على حساب خلخلة ما تبقّى من حضارة الشَّرق وما تبقّى من بقايا حضارة في الشَّرق، لأنّه يرى أنَّ الشَّرق غير جدير بما يملكه من اقتصاد ومن ارث حضاري، لهذا ينهب اقتصاده وحضارته وكأنّه مباح. وإن سبب تفشّي هذه العنجهيّة من الغرب على الشَّرق هو غياب الفكر الخلاق والرُّؤية الخلاقة في الشَّرق، ولهذا يتدخَّل الغرب بكلِّ الطُّرق والوسائل الَّتي تبدو للوهلة الأولى والثَّانية والثَّالثة على أنَّه تدخُّل من أجل تطوير أو تنوير أو استنهاض البلاد، مثل ما حصل في العراق وبعض البلاد العربيّة، ولكن حقيقة الأمر أن تدخُّله كان من أجل تدمير البلاد وتدمير الحضارة في العراق وغيرها من البلاد وجني ثمار الحرب والتَّدخُّل لحسابه الخاص، من خلال بيع السِّلاح ومن خلال قيادة المعارك نفسها، لأنَّ الشَّرق هو الَّذي يدفع كلّ هذه الفواتير، ابتداءاً من فواتير الحروب وفواتير الإعمار ومتفرّعات الدَّمار اللاحق في البلاد، ولهذا تنشب صراعات بين الشَّرق والغرب، وتنشب صراعات جديدة في كلِّ طرف، ويتحوّل واقع الحال إلى صفقات تجاريّة في الشَّرق والغرب، ويبقى الإنسان مهمَلاً وغير مدرج في قائمة الاهتمام به، ويصبح وكأنّه جذع شجرة يابس مرمى في جوف الصَّحارى، حيث نجد آلاف وملايين البشر يتمُّ قتلهم بدمٍ بارد من خلال شنِّ الحروب والاقتتال فيما بين الشَّعب الواحد وخلق صراعات داخليّة ومحلِّيّة وكلّ هذه الصِّراعات يغذِّيها الغرب بحجّة الدِّيمقراطيّة وبحجّة حقوق الإنسان، إلا أنّه أكثرها خرقاً لأولى مبادئ حقوق الإنسان وهو العيش الكريم، ولو استعرضنا واقع الحال لوجدنا أنّه في واقع الأمر أنَّ الغرب يصنّع الحروب على عدّة مقاسات وكلّ هذه المقاسات عبارة عن مشاريع اقتصاديّة ينتجها ويفرِّخها كي تعدِّل ميزانه التِّجاري على حساب جماجم البشر وخلخلة أجنحة الحضارة في الشَّرق والغرب، لأنَّ الغرب لم يعد يهمُّه أن يكون ذو بعد حضاري بقدر ما يركّز على الجَّانب الاقتصادي حتَّى ولو ذهبت الحضارة إلى أعماق الجَّحيم!

لهذا أرى أن صراع الحضارات جاء نتيجة تشابك وتصارع عدّة أسباب، منها التَّنافر الفكري بين الشَّرق والغرب من جهة، وتنافر وجهات النَّظر فيما بين الشّرق أنفسهم من جهة ثانية، واستطاع الغرب من خلال هذا التَّنافر والاختلاف فيما بين المذاهب والأديان والقوميات، التَّغلغل عميقاً وإثارة الخلافات وتصعيد الخلافات وشنِّ الحروب المدمِّرة، وبدلاً أن يعالج الغرب خلافات الشَّرق، يصعِّدها ويشعل فتيل النَّار في أتونها، ولهذا لا بدَّ من إعادة النَّظر في كلِّ توجّهات الغرب والشَّرق على حدِّ سواء، ووضع أسس وعلاقات جديدة في إطار حلّ هذه المشاكل والصِّراعات العالقة بين الشَّرق والشّرق وبين الغرب والغرب ثم معالجة الصّراع بين الغرب والشّرق وفق طرق حضاريّة وموضوعيّة، مركِّزين على الإنسان كإنسان، بعيداً عن لغة العنجهيّة والفوقيّة ولغة التسلُّط ولغة المصالح الاقتصاديّة البغيضة والاستغلاليّة، وإنَّ حلّ هذه الصِّراعات والخلافات ليس بالأمر السَّهل، ولا يمكن معالجتها إلا بسنِّ قوانين دوليّة جديدة لكلِّ حالة من حالات الصِّراع ومعالجتها مرحلة مرحلة كما أشرت في بداية استهلال المقال، ويجب أن ننظر إلى الأمر من منظور حضارة كونيّة وهي ملك البشريّة، ويجب الحفاظ عليها من أيِّ طرف من الأطراف، وبناءً على هذا المنظور ممكن أن نضع مبادئ ودساتير وتوجُّهات لترسيخ هذه الرُّؤية وإلا سيكون مصير الكرة الأرضيّة المزيد من الصِّراعات والمزيد من الحروب بحيث أن تصبح الكرة الأرضيّة مسرحاً للحروب، والبشر مجرَّد وقود حرب لا أكثر. تصنع بعض الدُّول المتقدِّمة السَّلاح وتدمِّر الدُّول الأخرى ذاتها بهذا السِّلاح وهكذا ستدور البشريّة في حالة غليانيّة حقيرة وسخيفة وسقيمة وكأنَّ البشر ذئاب وأفاعي ونمور وأسود ومجانين عن حقٍّ وحقيقة، بل حتَّى النُّمور والأسود والذِّئاب، لا تتصارع مع بعضها مثلما يتصارع الإنسان مع بني جنسه، فعلى الأقل الحيوان يتصارع مع حيوان من بني غير جنسه ومن غير فصيل حيواني، وهو يتصارع من أجل البقاء، بينما الإنسان يتصارع مع بني جنسه لجشاعته ولزيادة ملياراته وبناء ناطحات سحابه على جماجم فقراء هذا العالم والبلدان الفقيرة والنَّامية والنَّائمة نوماً عميقاً، كأنّها على تنافسٍ مع أهل الكهف من حيث ديمومة النَّوم!!!

ولا بدَّ من الإسراع في تأسيس هيئات دوليّة جديدة تكفل حقوق كلّ الأطراف المتصارعة، وتفرض هذا الأمر على الدُّول العظمى وكلّ دول العالم، لوضع حدٍّ لهذه الصِّراعات المتفاقمة بشكل قانوني، وإلا سنغوص في صراعات أزليّة مفتوحة إلى قرون أخرى. وإن أكبر سبب في نشوب وتفريخ هذه الصِّراعات هو صيغة التَّفكير الغبيّة لهذا الطَّرف أو ذاك من أطراف الصِّراع، وغالباً ما تكون الأطراف المتصارعة من الشَّعب الواحد ومن الدِّين الواحد كما حدث في غابر الأزمان في أوربا أثناء الصِّراعات المذهبيّة الطَّائفيّة، ولكن أوربا تجاوزت هذه الصِّراعات وعرفت اللُّعبة جيِّداً وهضمتها وتلعب على هذه اللُّعبة المميتة وتغذِّي الخلافات النَّاشبة في الشَّرق، حيث نرى الصَّراع السّنِّي الشِّيعي في أوجه، منذ الحرب العراقيّة الإيرانيّة وحتّى الوقت الرَّاهن! ويولِّد هذا الصِّراع صراعات أخرى كالصِّراع الدِّيني الدِّيني والصِّراع القومي بين القوميات وهكذا بدلاً أن يخلق الإنسان المعاصر حالة وئام بين الأديان والقوميّات والبشر، خلَقَ ويخلق حالة صراع مفتوحة، تقوده إلى بوَّابات الجَّحيم والموت الزّؤام!

وعلى الشَّرقي أن يفهم ويعي ويدرك جيداً، أن صراعه المذهبي هو صراع مميت وسقيم وعقيم، ويقوده إلى هلاك كلّ الأطراف، ولا يمكن الرُّكون إلى توجُّهات سيطرة مذهب على مذهب آخر، ولا يجوز إطلاقاً حلّ هذه المسألة وهذا الصِّراع  العويص بهذا الشَّكل المشين والعقيم، كما لا يجوز إطلاقاً فرض مذهب على آخر بالقوَّة، ولا يجوز اشعال فتيل الصِّراع بهذا الشَّكل لأنّه صراع مفتوح وطويل ويقودنا إلى الفناء، فناء ذاتنا، ويجب حلّ مشكلة الصِّراع القائم بين المذاهب بموجب الاحتكام إلى قوانين هيئات دوليّة كما أسلفت سابقاً، تكفل حقوق كافّة الأطراف، لخلق حالة وئام بين المذاهب والأديان والقوميات. وهكذا عندما يكون هناك دساتير وقوانين دوليّة تكفل حقوق كلّ مذهب وكلّ طرف وكلّ قوميّة وكلّ دين، سيكون من السلاسة بمكان قيادة البشر إلى حالة وئاميّة إنسانيّة راقية، ولا يجوز أبداً أن يبقى المجتمع الدَّولي إزاء هكذا صراع دموي مكتوف الأيدي، والأقبح من بقائه مكتوف الأيدي، أنّه يغذِّي طرفاً ضدّ طرفٍ آخر أو يغذِّي كلّ الأطراف ضدّ بعضها بعضاً دفعةً واحدة، كما رأينا ونرى واقع الأمر الآن في دنيا الشَّرق الَّذي يغلي كأنّه على بركان من البارود، وكلّ هذا سببه الصِّراع المذهبي والدِّيني والقومي، صراع الغباء البشري، وصراع الغرب مع الشَّرق.

ومن هذا المنظور أرى أنَّ الغرب صراعه مع الشَّرق هو اشعال فتيل الحروب في الشَّرق فيحارب الشَّرق من خلال الشَّرق نفسه، فالشَّرق يحارب ذاته خدمةً للغرب ويظنُّ بعض الأطراف أنَّ الغرب يدعمه دفاعاً عن الحرّيّة والدِّيمقراطيّة والعدالة والمساوة، ما هذه المساواة عندما يقتل الجار جاره لمجَّرد اختلافات في المذاهب والأديان والقوميات، فأنا أحمِّل أصحاب الرُّؤية المذهبيّة الضَّيقة المتعنّتة، المسؤوليّة الأولى، وأحمِّل الغرب على استغلال ضيق الرُّؤية الشَّرقية المذهبيَّة، وأحمِّل كلّ طرف يستطيع أن يحلَّ المشكلة والصِّراع بصيغة ما ولا يحلّها، لأنَّ الصِّراع كبير والمسؤوليّة جماعيّة شرقيّة وغربيّة وكونيّة وعالميّة وعلى كلّ الأطراف التَّعاون فيما بينهم في حلِّ هذه  الصِّراعات والتَّركيز على البعد الاخلاقي بدلاً من التَّركيز على البعد الاقتصادي، وإنّي أرى من أهم أسباب فشل الإنسان في قيادة الكون، هو اضمحلال  الجَّانب الأخلاقي والإنساني في توجُّهات الكثير من هذه الأطراف، لأنَّهم يركِّزون على جوانب اقتصاديَّة ومصالح شخصيَّة غالباً ما تكون على حساب أطراف أخرى فلا أوافق أيِّ طرف يبني أبراجه العاجيَّة على جماجم بشر آخرين، يجب بناء أبراجنا على الإسمنت المسلح الخالي من عظام البشر!

من هذا المنظور أرى أنَّ صراع الحضارات، هو قباحة القباحات، ومن الضّرورة بمكان وضع حدٍّ لهذه القباحات وإلا ستأتي الأجيال القادمة وتلعن كلّ هذه التَّوجُّهات وتسقط كلّ هذه الأفكار السَّقيمة، وكفانا لعباً وضحكاً على ذقون البشر الأبرياء، فالشَّعب يريد اسقاط صراع الحضارات، واسقاط قباحة القباحات، ويريد أن يعيش ويتنَّفس هواء الإنسانيّة والحرِّيّة، بعيداً عن التَّعصب الدِّيني والمذهبي والقومي الشُّوفيني، ويريد التَّركيز على الإنسان ككائن حيّ، بعيداً عن لونه وجنسه ودينه ومذهبه، لأنَّ الإنسان أسمى المخلوقات وعلى الإنسان أن يتعامل مع بني جنسه من هذا المنظور السَّامي وليس من منظور القتل والخراب والدَّمار، فإلى متى سيبقى الإنسان في كهوف الظَّلام ويظنُّ نفسه أنَّه يخدم الله عندما يقتل بني جنسه الإنسان، وهو يردِّد الله أكبر، هل من المعقول أن يقول الإنسان ألله أكبر وهو يقتل إنساناً ما، وهل الله هو مع قتل ذلك الإنسان، وهل لدى الله شعار اسمه القتل كي يرفع هذا الطَّرف أو ذاك شعار الله أكبر ويقتل طفلاً في حضن أمِّه أو أبيه؟!

على كلّ مَن يطرح طروحات القتل والصِّراع والحرب وتصفية الآخر، على كلّ هؤلاء أن يفهموا أنّهم لا يفهمون!!! لأنَّ كلّ طرف لو ألغى الآخر وأباح لنفسه أن يقتل الآخر، معناه هناك إبادة وفناء للطرفين، وهناك دمار للطرفين، وانهزام للطرفين، وسيولِّد الصّراع صراعاً دائماً ومفتوحاً إلى الأبد، لأنَّه لا يتمُّ حلّ المشكلة بانتصار طرف على آخر، لأنَّ الطَّرف المنهزم سيتحيَّن الفرص للردِّ والانقضاض على مَن هزمه وبدلاً من أن تخطِّط الأطراف في بناء الإنسان ـ الدَّولة والمجتمع وبناء المستقبل والحضارة، يتمُّ بناء الحقارة والقتل والدَّمار إلى الأبد، طالما الصِّراع يبقى مكتوماً، والحقد يظلُّ دفيناً، لهذا لا بدَّ من إدراك هذه المعادلة المخرومة الَّتي ينتهجونها الأطراف المتصارعة ويجب أن يفهموا أنَّ الغرب يعيش على هذا الصِّراع وهو يستغلّه من أجل تحقيق أهدافه في بيع السَّلاح وشنِّ الحروب والتَّهديم والإعمار وكلّ هذا يقودنا إلى صراع أكبر هو صراع الغرب والشَّرق وصراع على أصغر موضوع وأكبر موضوع، فالصِّراع لا يمكن حلّه إلا بالعقل، والعقل لا يمكن استثماره بالحروب بل بالحوار، ثمَّ الحوار ثمَّ الحوار، ويجب الغاء الكثير من الهيئات الدَّوليّة العالميّة وتأسيس هيئات دوليّة جديدة متخصِّصة في حلِّ كلّ الصِّراعات والحروب بين البشر، واحلال السَّلام والوئام بين البشر بدلاً من الحروب، ويجب التَّصدِّي لموضوع السِّلاح وبيع السِّلاح وصناعة السِّلاح، ويجب التَّركيز على بناء الإنسان، والعودة إلى القيم الإنسانيّة الخلاقة والعلاقات الطَّيّبة بين البشر، وليس التَّركيز على الإنسان كسلعة بل كإنسان من لحم ودم وأخلاق وقيم وحضارة، ولا يجوز نهائيَّاً الاستمرار في كلِّ هذه الصِّراعات السَّخيفة والإنسان مكتوف الأيدي. أطالب كلّ البشريّة أن تتصدَّى لهذه الصِّراعات ووضع أنجع الحلول كما أشرت ولا بأس من تقديم ملايين الأفكار الَّتي تتقاطع وتتواءم مع أفكاري لصياغة أفكار تخدم البشريّة، لا أن تحطِّم البشريّة!

فإلى متى سنغوص في متاهات الحروب، ومتاهات البكاء، ومتاهات الدَّمار، ومتاهات الخوف من المجهول القادم، لماذا لا نركِّز نحن البشر عبر مؤسّسات كلّ دولة على حِدة للوصول إلى الأهداف الكبرى من خلال تأسيس هيئات دوليّة جديدة تسنُّ هذه الهيئات الدَّوليّة الجَّديدة قوانين جديدة، تكفل ضمان حقوق البشر كلّ البشر على كافّة الأصعدة، وتكون المرجع الأوَّل والأخير لحلِّ الصِّراعات والخلافات المذهبيّة والدِّينيّة والقوميّة والسياسيّة، لإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه، وكي تقدِّم هذه الهيئات الجَّديدة كلّ مباهج الفرح والسَّعادة والسَّلام والوئام لهذا الإنسان المبعثر كحبّات القمح على وجه الدُّنيا!!!


صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com


39
الفنّان حنّا الحائك سيمفونيّة لونيّة من بوحِ السَّنابل



حنَّا الحائك فنّان تشكيلي معجون بشهوةِ الطِّين، متعطِّش إلى بهجةِ السَّنابل وهي في أوجِ اخضرارِها. تبرعمَتْ في أعماقه منذُ أنْ فتحَ عينيه على وجه الدُّنيا تلاوين الشِّمال، شمال الرُّوح، وشمال القلب، حيث معاول الأجداد، ورائحة حضارة معرّشة في أعماقِ الجُّذور، تنضحُ من كلِّ الجِّهات، فتشرّبَ من ينابيع متعدِّدة، حتَّى سطعَ لونه معانقاً ضياء نُجيمات الصَّباح!

لوحات طافحة بالسُّؤال عن الغدِ الآتي، يرسمُ الفنّان حنَّا الحائك لوحاته من وحي خيال مكثَّف بتجربة فنّيَّة معرفيّة فكريّة تاريخيّة حضاريّة رحبة. تجربة اغترابيّة مغموسة بتدفُّقات لونيّة على بياض اللَّوحة. يرسم كمَنْ يكتبُ تأمُّلاته للزمنِ الغابر، وللزمنِ القادم، كأنّه في حالةِ تأمُّل مع ذاته ومع الآخر الَّذي يجاوره ومع أصدقاء رحلوا وأصدقاء سيرحلون. يتساءل عبر تشكيلاته اللَّونيّة عن آفاقِ ما يكتنفُ العمر من أفراحٍ قليلة وآهات كثيرة. يرى عمر الإنسان معفَّراً بالجِّراح، حيثُ تتداخلُ وشائج الغربة والعذاب والأمل وشهقات الإبداع فوق حنين بياض اللَّوحات، مشكِّلةً انسياباتٍ لونيّة باذخة في الجَّمالِ والبهاءِ والانسجام، كأنّه في رحلةٍ بحريَّة حُبلى بالأحلام.

تنساب فرشاته فوقَ خدودِ اللَّوحات كأنّها همهمات العشاق وزقزقات العصافير في صباحٍ باكر مغبَّش بضبابٍ خفيف. كثيراً ما يبتسمُ ساخراً من مرارات هذا الزّمان، لأنّه يعتبر الحياة رحلة سريعة فوقَ وجنةِ لوحة مزدانة بتساؤلات لا تُحصى، فتوزّعت التَّساؤلات على الكثير الكثير من اللَّوحات الَّتي تشيرُ بإنجراف الإنسان عن مسارِ الخيرِ والمحبّة، فهل ابتعدَ إنسانُ هذا الزّمان عن دربِ المنارة، ودربِ الفضيلة، تائهاً في وهادِ الضّياع، هل هي مسيرةُ صراعٍ بين نوازع الخير والشُّرورِ المتنامية في صدرِ الإنسان منذ فجر التَّكوين؟!
 
لوحات الحائك متماهية مع اشتعالات الرُّوح من جرّاء تفاقمات شرور هذا الزَّمان. عينان غاضبتان تشعَّان من لوحة مكوّرة بتجاويف هائجة من تفاقمِ الأسى، يبني لوحاته من خلال تراكمات الجِّراح الوارفة في رحابِ الأحلام، كأنّه مستودع آمن لارتشاف أحزاننا، حيث نراه يجسِّد فسحة الأمل بطريقةٍ شفيفة منسابة مثل نضوحِ النَّدى، فتغدو اللَّوحة كأنَّها سيمفونيّة منبعثة من اهتياج الرِّيح المخضّبة بأحزانِ وأفراح ليالينا المسترخية فوق هامات الجِّبال!

يتراءى وجهٌ كالحٌ، يعلوه سنجاباً في صدرِ اللَّوحة. خيالٌ جامح نحو ظلال الرُّوح، كأنَّه يفرشُ أحلامنا وأحلامه عبر لوحاته المنسابة فوقَ بساتين القلب، ويسقي دالياتنا المعرّشة ببهجةِ الطُّفولة، فتسطعُ فجأةً مشاهد بديعة لعناقيد لذيذة، متدلدلة في خميلة الذَّاكرة؟! 
 
لوحات تشكيليّة متعانقة مع بعضها بشكلٍ بهيج، متناغمة، ترقصُ شوقاً إلى حنين التُّراب، حيثُ بلاد آشور وأكَّاد وسومر وبابل، تسقيها بكرمٍ باذخ مياه دجلة والفرات.

ألوان دافئة وانسيابيّة، غنيّة بمنعرجاتها وخطوطها وظلالها ومساحاتها المترامية مع روعة الانسجام. رسمها الفنَّان بالأكريل، فارشاً ألوانه كأجنحةِ فراشاتٍ على بياض اللَّوحة.

يرسمُ الفنّان حنّا الحائك لوحاته بعيداً عن ضجيج هذا العالم، كناسكٍ معتكفٍ في مرسمه المسترخي وسط غابة مكتنزة بالهدوء والأشجار والزُّهور البرِّية. يناغي ألوانه ساعات طوال وهو يفرشها على خدودِ لوحاته، كأنّه يسقي سنابل الجّزيرة الخضراء، بهفهفاتِ فرشاتِهِ وهو في أوجِ تجلِّياتِهِ وشوقِهِ إلى ربوعِ اللَّون المتناثر من توهُّجات الذَّاكرة المتعانقة مع ربوع الحسكة ومرابع الصِّبا في القامشلي وبراري الجّزيرة العليا، حيث السَّنابل في قمّةِ حنينها لخشخشاتِ نصالِ النَّوارج.

تحمل لوحاته في ثناياها نكهة الشَّرق ونكهة الحضارات الموغلة في تواشيح الحدائق المعلَّقة في ذاكرة توّاقة إلى نقوشِ المعابد القديمة، راسماً مسلّة شامخة في يراع الحضارة، وفارشاً تشريعات حمورابي فوق خارطة متماهية مع حكمةِ ما قبلَ هذا الزَّمان وما بعدَ هذا الزَّمان، لوحات منبعثة من تجلِّيات فنَّان منبعث من رحم أقدم حضارة على وجه الدُّنيا!

فتحَتِ اللَّوحات صدورها الهائجة بألوانِ شهوةِ الشَّمس وهي متألِّقة في توقها إلى سماء الشَّرق، وكأنَّها في حالةِ تأمُّل، تدعو السَّماء أن تهطلَ مطراً فوقَ مروجِ الشِّمال المتاخمة للأراضي الَّتي قطعها كلكامش في أعماقِ البراري، بحثاً عن نبتةِ الخلاص!

شفافيّة مفرحة تسطعُ من اللَّوحات، تتعانقُ الألوان مشكِّلةً نهراً عذباً، تطيرُ فوقه حمائم السَّلام، وطفولة مخضَّبة بمروج الأوَّل من نيسان، حيثُ بهجة الرَّبيع والأعياد تغمر معابر اللَّوحات وهي ترقصُ رقصةَ الرَّحيل على إيقاع أحلام متشظِّية من ظلالِ القلب، بحثاً عن غابة فسيحة، محفوفة بألوان متماهية مع موشور فرح السَّماء، عندما يرتسم فوق قبّة النَّهار في يومٍ مضمَّخٍ بسديمِ الخير!
 
هل رسمَ الفنّان حنَّا الحائك لوحاته في اللَّيالي القمراء، وهو يرنو إلى تلألؤات النُّجوم، حيثُ نجمةُ الصَّباح تبوحُ بسرِّها إلى ظلالِ القمر من خلالِ تشكيلات أوجاع الرُّوح المتغلغلة في أعماقِ غربةِ الفنّان، وهو يرسمُ أبراج بابل تتهاوى فوقَ طغاةِ هذا الزَّمان وفوقَ انكساراتِ أرواح أجيال عديدة، طحنتها حروب مجنونة، شنّها مهابيل من هواةِ صليلِ السّيوفِ واندلاعِ أجيجِ النَّار، فلم يجد أجدى من رشْرَشْةِ ألوانِهِ الهائجة فوقَ قباحاتِ جنوحِ الصَّولجان؟!

عندما تتأمَّل لوحات الحائك، تشعرُ وكأنَّ دموعه امتزجَتْ مع حفاوةِ الألوانِ وتناثرَتْ فوقَ خدودِ الصَّباح، مشكِّلةً خيوطاً من الغمام. هل وشَّحَ بريشته التِّلالَ البعيدة بأحلامِ غيمةٍ ماطرة تتهاطلُ فوقَ عاشقَين وهما في طريقهما إلى الارتماءِ فوقَ أزاهير براري الشِّمال، الَّتي خبَّأها بين أجنحتِهِ قبلَ أن يعبرَ البحار، وكأنّه في حلمٍ مفتوح نحوَ بيادر الطُّفولة.

سألتُ طفلةً وهي تنظرُ إلى لوحةٍ تبتسمُ ألوانها المفرحة، رغم تناثر قطرات الدَّم على ضفافِ النَّهرين، سألتها، ماذا تشبه هذه اللَّوحة؟
ابتسمَتِ الطِّفلة، ثم قالَتْ بصوتٍ خافت، إنَّها تشبهني!

أجل، تشبه بسمتك، ثمَّ همسْتُ في سرّي، متسائلاً كيفَ استطاعت هذه اللَّوحة أن تضيء لنا بسمتها وفي حلقها غصّة حارقة؟!

لوحات حنَّا الحائك، ممهورة بالأمل، بالبسمة، بالمحبَّة، بالوداعة، بالوئام، لكنّها تغفو فوق أحزان المدائن واشتعالات أوتار الحنين إلى إنسيابِ الدُّموع الأخيرة، كأنّها تبحث عن المآسي المخبّأة في تعاريج ظلالِ الرُّوح. تنبشُ أعماق آهاتنا كي تخفِّفَ من جراحنا من خلالِ وميضِ الأملِ الَّذي ينثرُه الفنَّان فوقَ جبينِ اللَّوحات.

بهدوءٍ لذيذ تمتَّعتُ بمشاهدةِ الكثير من لوحات الحائك، كلُّ لوحةٍ تزرعُ في نفسي حالة فرحيّة وتفجِّرُ بي حنيناً جامحاً نحوَ ضفافِ ذَاكرة مخضَّبة بالنَّفلِ والحجلِ البرّي، وتفجِّرُ لوعةً، شوقاً، فكرةً تنيرُ آفاقاً وتفتحُ شهيَّتي على كتابةِ القصائد!

تخلَّلَتِ اللَّوحات مواضيع عن السَّلام والتَّآخي والجنوحِ نحوَ الصَّفاءِ والفرحِ والمحبَّةِ والتَّواصلِ بينَ البشر، عبرَ سيمفونيّة لونيّة معتَّقة بألوانٍ مسترخية على حافَّاتِ المدنِ البعيدة، الغافية في ذاكرةِ الفنَّان.

أغلب لوحات الحائك تجريديّة، متداخلة تداخُلاً لونيَّاً باهراً. اخضرار متصاعد نحو ليالي غربة الفنَّان، بحثاً عن تصالحه مع الذَّات ومع الحياة، لخلقِ حالة توازن بينه وبين الذَّات التَّواقة إلى مرافئ الإبداع، وإلى حالات الانشطار الَّتي حلّتْ بنا منذ أمدٍ بعيد.

الفنَّان حنَّا الحائك، غزير الإنتاج، نادراً ما تجدُهُ خارجَ مرسمه، يعتكفُ ساعاتٍ طوال في مرسمه. يدلقُ ألوانه على خامةٍ بيضاء متعطِّشة إلى أحلامِهِ الهائجة مثلَ غيمة مكتنزة بثلوجِ قطبِ الشِّمال. لا يستطيعُ مفارقة عالمه الفنِّي، أنَّه جنّته المفتوحة على غابات ستوكهولم، يتوحَّدُ معَ عوالمِهِ ليقدِّمَ للمشاهدِ رحيقَ تجربته وصداقته مع انتعاشاتِ بهجةِ اللَّون.

يتميَّز الحائك بألوانه الغنيَّة الدَّافئة الهائجة المنسابة كخرير مياه دجلة والخابور، وقدرته على إبداع أسلوب خاص به. ويبدو واضحاً من خلال مشاهدة لوحاته أنّه خطى خطوات كبيرة في عالم اللَّون وتشكيل اللَّوحة واضعاً في تضاريسها عوالمه المتراقصة مثل سنابل الرَّبيع، فلا يفوته أن يرسم ببهجة عارمة، كمن يرقصُ في حفلٍ ممهورٍ بالأفراح. تذكِّرُكَ لوحاته بتحليق الطُّيور في بدايات الرَّبيع، وكأنّه في كرنفالٍ فنِّي يحتفي بتزاوج الألوان، وهي تحنُّ إلى بعضها بعضاً. ألوانٌ خارجة من بسمةِ طفلٍ في صباحٍ مبلَّلٍ بمطرٍ ناعم. يرسمُ الحائك كمن يصلِّي في محرابِ ناسكٍ وهبَ نفسه لتجلِّياتِ اللَّونِ وهو يهفو إلى حنين الرُّوح لبهجةِ السَّماء!

يكتبُ الحائك بعد الاسترخاءِ من رحلاته اللَّونيّة، نصوصاً نثريّة تتقاطع مع عوالم الشِّعر، أشبه بخواطر شعريّة وتأمُّلات متدفِّقة من انتعاشات بهجةِ اللَّون وحنين الأرض إلى مرافئ الذَّاكرة البعيدة، فيترجمُ ما يطفحُ من الألوان على نصاعةِ الورق، فتكتملُ عنده معادلة عناق الكلمة مع اللَّون، كأنّهما وجهان لعشقٍ واحد يصبُّ في أوجِ تألُّقِهِ، في انبعاثِ ما يمورُ في داخلِهِ من تدفُّقاتِ وهجِ الإبداع!


صبري يوسف
أديب وفنّان تشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com


* حنّا الحائك: فنّان تشكيلي سوري مقيم في سودرتالية، إحدى ضواحي ستوكهولم منذ أكثر من ثلاثةِ عقودٍ من الزّمن، معروف بغزارته الفنّيّة وأسلوبه المتميّز في بناء اللَّوحة التَّجريديّة والرَّمزيّة والتَّشكيلات التَّعبيريَّة الباذخة. قدّم الكثير من المعارض الفرديّة داخل وخارج السُّويد، وحصل على عدّةِ ميداليات وجوائز فنِّيّة منها جائزة إيكولوف.                                                             


40
إصدار جديد للأب يوسف سعيد بعنوان أسلحة خاصّة بمتاريس الرُّوح

صبري يوسف ـ ستوكهولم
أصدر الأديب والشَّاعر صبري يوسف ديواناً جديداً للأب يوسف سعيد عن طريق دار نشر صبري يوسف في ستوكهولم، حيث كان الأب الرَّاحل قد طلب من صبري يوسف نشر هذا الدِّيوان (عن طريق دار نشره، بعد أن نشر ديوان فضاءات الأب يوسف سعيد: الأرض التُّراب السَّماء الماء)، وتلبيةً لرغبة الأب الرَّاحل تم نشر نسخ محدَّدة كطبعة أولى من الدِّيوان، تأكيداً على تحقيق طلبه ورغبته، وسيتم إصدار الكتاب عن طريق وزارة  الثَّقافة والشبَّاب، المديرية العامّة للثقافة والفنون السِّريانيّة في أربيل ضمن إصدارات 2012، مع كلِّ الكتب الَّتي تناولت تجربة الأب الرَّاحل، كالدِّراسات التَّحليلية والنّقدية والشّهادات الأدبيَّة والقصائد التأبينيّة والرِّثائيّة، إضافة إلى كلِّ كتب ودواوين الأب يوسف سعيد المنشورة والمخطوطة بالعربيّة والسِّريانيّة.                                                                                 
ضمَّ الدِّيوان الجديد ثلاث قصائد شعريّة طويلة حملت العناوين التَّالية،                         
أسلحة خاصّة بمتاريس الرُّوح، المطر، وأميريكا. كما تضمَّن الدِّيوان نصاً أدبيَّاً بديعاً، حمل عنوان: زراعة الشِّعر، تمَّ نشره كمدخل إلى فضاءات القصائد.                               
استهلَّ الدِّيوان صبري يوسف بمقدّمة طويلة، كما أنّه أعدَّ وأخرج الكتاب بما فيه التَّنضيد الالكتروني والغلاف والرُّسوم الدَّاخليّة، وفاءً منه لصديقه الأب الرَّاحل يوسف سعيد، حيث يعتبره من كبار رؤّاد الحداثة الشعريّة ومن القامات الأدبيّة الباسقة!                           
 ... من خلال قراءاتي لدواوين الأب يوسف سعيد وصداقتي العميقة معه خلال أكثر من عقدين من الزَّمن، تبيَّن لي واضحاً أنَّ الأب يوسف سعيد يحملُ بين أجنحته رحيق الشِّعر، وأراه كإنسان مخضَّباً بالشِّعرِ، ومجبولاً من طين الشِّعر، فهو يشبه نبتة وارفة معرَّشة بالإخضرار الدَّائم والعطاء الجَّانح نحوَ الشَّفافيّة، والصَّفاء، والمحبّة، والخير، والسّلام، والفضيلة، وكأنّه متدفِّق من أحلامِ طفولةٍ أزليّة، تبرعمت في أحشاءِ أمِّه في ليلة قمراء، وظلّت معرَّشة في كينونته الشّفيفة، مرافقةً له طوال حياته، إلى أن حلَّق عالياً، معانقاً زرقة السَّماء، تاركاً خلفه القصيدة ترفرف فوق وجنة الحياة!                                               


41
أدب / موتُنا مؤجَّلٌ إلى حين
« في: 14:41 04/06/2012  »


موتُنا مؤجَّلٌ إلى حين


صبري يوسف

إلى روح الشَّاعر العزيز واصف متّى عزّو


(نصّ طويل، اخترتُ هذه المقاطع لقراءتها
في حفل التَّأبين الأدبي
الَّذي أُقيمَ في سودرتالية بتاريخ 3. 6 . 2012)[/center]


الحياةُ نسمةٌ عابرة
شهقةٌ هائمة فوقَ ثغرِ غيمة
رحلةٌ محفوفةٌ بالآهاتِ
     غائصة في شظايا الإشتعال!

الحياةُ بسمةُ حائرة
     فوقَ وميضِ الزَّمنِ
قصيدةٌ عذبة منبعثة
     من خصوبةِ الغابات
تحملُ بين جذوعها أوجاعَ الموتِ

الموتُ صديق الكائنات،
     كلَّ الكائنات
يغفو فوقَ شيخوخةِ هذا الزَّمان
     فوقَ أغصانِ الحياة!
يولدُ الموتُ عندَ الولادة
     عندَ إنسيابِ الدَّمعة
الموتُ صديقُ الغيمة
صديقُ البحرِ والسَّماء
صديقُ النُّورِ والعتمة!

الإنسانُ رحلةٌ من لونِ الغمامِ

نحنُ موتى .. وموتُنا مؤجّلٌ إلى حين
وهذا الحين سيحينُ يوماً
وما بينَ حينٍ وحين
تهتاجُ الريّحُ
وتسطعُ الذكريات
     فوقَ شواطئِ الرُّوحِ
تريدُ أن تبقى ساطعةً
     على جدارِ الزَّمنِ
هل للزمنِ جدار؟
ثمّةَ عمرٌ من لونِ البكاءِ
     من تواشيحِ زرقةِ السَّماءِ
ثمّةَ عمرٌ من دكنةِ اللّيلِ
     من لظى المراراتِ
     من تشظِّي الآهاتِ

موتٌ في لحظةِ العبورِ
موتٌ فوقَ الأراجيحِ
موتٌ بينَ أحضانِ الأمّهاتِ
موتٌ في صباحِ العيدِ
في مساءاتِ الدُّفءِ البعيدِ

موتٌ في رابعةِ النّهارِ
     فوقَ سككِ القطارِ
     في أعماقِ البحارِ
موتٌ في قبَّةِ السَّماءِ
     في ربوعِ الشّتاءِ
     في أرقى تجلِّياتِ الدُّعاءِ
موتٌ بينَ أحضانِ الفرحِ
     بينَ اخضرارِ المروجِ
     بينَ وهادِ الغربةِ
موتٌ عندَ بزوغِ الفجرِ
     عندَ هطولِ الثًَّلجِ
موتٌ في كلِّ حين!

لم أجدْ في حياتي حقيقة ناصعةً
     مثلَ حقيقةِ الموتِ
     مثلَ مرارةِ الموتِ
     مثلَ وميضِ الموتِ
     مثلَ نعمةِ الموتِ!
هل فعلاً الموتُ نعمة؟
الموتُ نعمةٌ من الأعالي
يضعُ حدّاً لعذاباتِ البشر
لآلامِ البشر
لآهاتِ البشر

وحدهُ الموت لا يميّزُ بينَ البشر
يحمل بين شدقيه عدالةً
     ولا كلَّ العدالاتِ

الحياةُ أشبه ما تكون رحلة
     من لونِ السَّراب
الحياةُ وجعٌ مفتوح
     على غربةِ الإنسان
غريبٌ أنا في رحابِ الحياةِ
غريبٌ أنا في طياتِ السَّماء
غريبٌ أنا منذ الولادةِ حتّى المماتِ!

نعبرُ الحياةَ على إيقاعِ الصَّباحِ
نرحلُ على إيقاعِ اللَّيلِ
ومضةٌ عابرة في دنيا المكان
غصّةٌ جارحة في عمرِ الزَّمانِ!

يتوهُ الإنسانُ في صليلِ الحياةِ
لا يعلمُ أن حفرةً صغيرةً
     وقليلاً من الخشبِ
نصيبه من محطَّاتِ العمرِ!

يخرُّ الإنسانُ سريعاً مثل ذيلِ نيزكِ
عابراً دكنةَ اللَّيل
فارشاً أحزانه على وجنةِ القمر
نسى الإنسانُ أنّه بسمة عابرة
    فوقَ خدودِ اللَّيلِ
نسى أنَّه غيمةٌ عابرة فوقَ هاماتِ الجبالِ
نسى أنّه وردةٌ تائهة بينَ رجرجاتِ الحياةِ
نسى أنّه ضياءُ نجمةٍ من لونِ البكاءِ!

تعال يا موت
كم أشتهي أنْ ألملمَ عذوبتكَ
     حولَ صقيعِ غربتي
تعالَ فقد آنَ الأوان
أن نعقدَ معاهدةَ حبٍّ بيننا وبينَ المطر!

تعال يا صديقي
فلا مفرَّ من لجينِ الإشتعال
لا مفرَّ من العبورِ
     في شهقاتِ السّماءِ

عجباً أرى ملايين البشر
تعبرُ دكنةَ الليل
ملايين البشرُ تحضنُ أعماقَ التُّرابِ
وحدُهُ الموتُ يقفُ مقهقهاً
     في وجهِ الحماقاتِ
     في وجهِ اعوجاجاتِ هذا الزَّمان!
وحده الموتُ لا يهابُ جبابرةَ الكونِ
وحدُهُ الموتُ يفرشُ عدالته
     فوقَ خدودِ الكونِ
وحدُهُ الموتُ سيدّ العدالاتِ
وحدُهُ الموتُ صديقُ الكائنات
يخفِّفُ من أنينِ الأوجاعِ
يضعُ حدَّاً لإندلاقاتِ الألمِ
يمسحُ في غمضةِ عين كلَّ الآهاتِ!
وحدُه حرفي يترجمُ شهقةَ الموتِ
     فوقَ  مآقي الزَّمنِ!



كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

42
تسطعُ ديريك فوقَ خميلةِ الرُّوح


إهداء: إلى ديريك، مسقط رأسي!





ملأت الزغاريد فناء الحوش، كليليليليلي! العرق والفرح والعناق يتصبَّب من جباهِ الجميع، يرقصون أمام العروس، وقبل أن تقترب من عتبة باب الزوجية، يفسحون المجال لواحدٍ من أهل العريس كي يكسر "الشَّرْبِه"، أمام العروس، عربون فرحهم لقدومها.
تنكسر الشربة: جرّة صغيرة، فتتناثر السكاكر والفرنكات فيهجم الأطفال لالتقاط السكاكر والفرنكات، ويحرصُ مرافقو العروس أن لا يتقدّم الأطفال عند بياض فستان الإكليل الجميل، لكن مع هذا فجموح الأطفال وفرحهم لا يمكن كبحه فيرفع أحياناً طفلٌ حافّات الثوب ليلتقط فرنكاً ثم يقف والبهجة مرسومة على محيّاه، ترقص الأمُّ وفي يدها المغرفة، معلقة خشبية كبيرة، وفي الأخرى رغيف خبز تنوّر، تنضح البهجة من عيون الأم والأخوة والأخوات.

تعبر العروس متربّعة صدر عشّ الزَّوجية، تلمع عينا العريس فرحاً، يزداد قلبه خفقاناً وسروراً، مشاعر دافئة تغمر أجواء المكان، فسحة صغيرة للرقص أمام العروسين، الطَّبل والمزمار يخيّمان على الفرح، فيمنحان الفرح فرحاً عميقاً، يعقدون الدَّبكات والرَّقص يأخذ مداه الحميم، هذا يلتقط صوراً للعروسين وذاك يرقص وآخر يمتلئ قلبه بهجة، أحد الشّبَّان يغمز فتاةً في مقتبل العمر، تتفاجأ، يحمّر وجهها خجلاً، يقترب منها، ترقص الفتاة بعد قليل فينتهز الفرصة ويرقص معها على اِيقاعات "خانمان"، يضحكُ العريس والعروس هائمة في رحاب الفرح، والدا العريس يموجان سروراً.

تطيرُ الحمام فوق أرجاء المكان، تفرح الأزقّة وأطفال الحيّ، الدبكات تزدادُ ألقاً، يقوم عازف المزمار بتلاوة عبارات "الشاباش" على رأس العريس، ثم على رأس العروس فرؤوس أهل العريس والعروس والأصدقاء، تتناثر اللَّيرات فيلتقطها عازف المزمار بإنحناءة شكر وإحترام، سؤالٌ لا يفارقني، هل تمَّ تسجيل وقائع حفل الإكليل على شريط فيديو، كيف فاتنا أن لا نسجِّل حفلات زفاف أيام زمان أم أنَّ كاميرات الفيديو ما كانت قد وصلت آنذاك إلى ربوع ديريك؟!..

ديريك آهٍ يا ديريك، سأخبِّئكِ بين أجنحةِ القصائد، بين خميلة الذًّاكرة، بين حنين الرُّوح إلى تلكَ الأزقّة المزدانة بالطين والخير الوفير، كم كنتُ أتمنّى لو تمّ التقاط وتسجيل دوران النَّوارج، وهي تدرس "قوشات الحنطة"، كانت أكداس الحنطة تملأ البيادر فيوزّعها والدي دوائر دوائر ثم يدرسها بالجَرْجَر: النَّورج، ساعات وساعات وأيام وأيام، وعندما تكتمل، يكوّمها كومات كبيرة، وفي ليلةٍ قمراء يهبُّ نسيم اللَّيل الغربي فيقوم والدي بتذرية التّبن كي يفصل حبَّات الحنطة عن التّبن، فيتشكَّل تبن ناعم جدّاً يسمُّونه "العُوْر"، والتِّبن العادي ثم الخشن، وكانوا يطلقون على هذا الأخير "القِسْرِهْ"، كانت مخصَّصة للتنّور مع روث البقر: "الجلّة"!

كم يؤلمني أن لحظات التَّذرية وذكريات كثيرة أخرى في منتهى الرَّوعة والبهاء غير مسجَّلة على شرائط فيديو، آلاف الذّكريات كان لها من الجمال الخلاب ما لا أتخيَّله، كيف تتحمَّل الذَّاكرة كلّ هذه الحميميات، تبكي ذاكرتي شوقاً إلى معالمِ دفء الطُّفولة واليفاعة، حفلات الأعياد، حفلات الأعراس، بهجة الرَّحلات والمشاوير، تزغرد أم العريس مرة أخرى ثم يزغردْنَ بقية الأمَّهات وتقوم التَّهاني ركباً ما بين الأمّهات، كانت لأمّي تهلهيلة ولا كلَّ التهاليل، تهلهلُ بنَفَسٍ طويل وصوتٍ نقيٍّ ومفتوح على شهقةِ اللَّيل.

آهٍ لو تمَّ تسجيل صوت تهاليلها، أشعر أن كلّ قصائدي باهتة أمام رنين تهاليلها، مَن يدري ربما استمدّيت رحيق شعري من حبق زغاريدها، من نقاوةِ تلكَ التَّهاليل، وقصصي! .. ربّما نبتتْ من بركات منجل والدي الذي كان يحصد باقات الحنطة على اِيقاعات بهجة الطَّبيعة، ترقص النُّجوم مشاركةً فرحة العروسين، ينام اللَّيل على اِيقاع الفرح، تدور الأيام والشهور والسُّنون وتبقى ديريك بكلِّ أفراحها وأتراحها ساطعةً فوقَ خميلةِ الرُّوح!
 
 

ستوكهولم: 25 . 9 . 2005
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

sabriyousef1@hotmail.com










43
صبري يوسف يعزّي صديقه الشَّاعر الكبير نينوس آحو

صبري يوسف ـ ستوكهولم
الصَّديق العزيز الشَّاعر نينوس آحو،
أيُّها الشَّاعر الجبّار في إرادتك وشعرك وقدركَ ومحبَّتكَ، كم أنتَ عظيم وكم أنتَ كبيرٌ حتّى في مآسيك، وفي كلِّ محنِكَ وأحزانِكَ وأقدارِكَ عظيمٌ عظيم!
منذ قرابةِ ثلاثة عقود من الزَّمن والآن، هذه المرّة وجدتُ يدي تتخشّب، ترتعش، تنأى عن الحرف، تلوذُ بالصمت! ها قد لِذتُ بالصمت ووقفتُ يا صديقي آلاف بل ملايين دقائق الصمت على روح ابنكَ الغالي ديلمون! لم أجد ردّاً أبلغ من صمتي في بادئ الأمرِ، أمام الفاجعة التي مُنيتَ بها، بفقدان نجلك الغالي ديلمون نينوس آحو!
عشرات المرّات رفعت الهاتف لأعزّيك، فلم أجد الشَّجاعة لأن أتمم دقَّ الرَّقم، مع انّي معروف بقوّة القلب والإرادة، لكنَّي أجدني أحياناً وفي مثل هذه الأحوال لا أختلفُ عن أيِّ طفلٍ فقد أغلى ما لديه واستكان للصمت، لأنَّني في صمتي أشعر براحةٍ ما، ربَّما هي راحة اللاتصديق للفاجعة الَّتي أمرُّ بها، لأنَّني على الأرجح ما كنتُ قادراً على تحمِّل سماع صوتكَ الحزين، وما كنتُ أريد أن أصدّق أنَّ ما حدث قد حدث، كنتُ أهربُ من مواجهة أحزانكَ وأحزاني، كنتُ أهرب من ذاتِكَ وذاتي، وتبدو لي ذاتي وكأنَّها أصبحت ذاتان، ذاتٌ معجونة بالأحزانِ وذاتٌ مشتعلةٌ بأقدارٍ لا تخطر على بال، كم من الآهات حتّى هاجت الرِّيح في وجه الصَّباح.
هل تعلم أنَّني في كلِّ مرّة حاولت الاتصال أو حاولت الكتابة، كنت أجدني غير قادر على كتابة حرفٍ أو جملة واحدة، ثم اكتشفتُ بعدَ أنينٍ طويل، أن هذه الحالة تشبه حالة أخرى مررتُ بها في حياتي منذ زمنٍ بعيد، حين فقدتُ شخصاً عزيزاً عليّ ولم أتمكّن حتّى تاريخه أن أكتب عنه شعراً أو نثراً أو رثاءً ما، ولا كلمة واحدة، وتبيّن لي أن عقلي الضمني يرفض وفاة هذا العزيز الَّذي فقدته ويرفض أيضاً عقلي الضمني وفاة نجلكم الغالي ديلمون، لهذا لم أتمكّن من الكتابة عنه ولا من مهاتفتكم كي يبقى عقلي في حالته الرَّفضية.
نحن البشر لدينا طاقات نفسية عجيبة في رفضنا وفي سلوكنا وفي رؤانا، إنّه القدر الَّذي يتربَّص بنا أينما نسير، وأحياناً أجدني، عبر عقلي الضمني، أتحدَّاه ولا أنصاع إليه، ومع هذا تزدادُ أقدارنا التصاقاً في جلودنا!
هل تصدِّق يا صديقي، أنَّني ما أزال لا أصدِّق أنَّ العزيز الَّذي فقدته منذ ثلاثين عاماً قد فقدته لأنَّني أتخيّله يعيش في الأرجنتين تارةً وفي المكسيك تارةً أخرى وفي أيَّةِ دولةٍ أخرى يخترعها خيالي ويزورني بين الحين والآخر في الحلم، وفي الحلم لا أميّز أنّه حلم، يبدو لي واقعيَّاً، وعندما أسيقظ من حلمي وأعود للواقع، أراني مزعوجاً، حيث أنَّني كنت أتمنّى لو ظللتُ في حالة حلميّة بشكلٍ دائم! هل تصدِّق أنني سوف أبقى لن أصدِّق خبر فقدانه إلى الأبد لأنَّ عقلي الضمني يتوازن مع هذا الرَّفض، وهناك صراع مرير بين عقلي الواعي وعقلي الضمني، بين القبول والرَّفض ولم أجد بدّاً من طغيان الرَّفض الضمني إلى ما لا نهاية، فهل أنا غير طبيعي في هذا المنحى الذي أسير عليه؟! نعم أنا غير طبيعي في الإيقاع الَّذي أسير عليه، ولكن لا طبيعيّتي تمنحني نوعاً من الرَّاحة ولو هي راحة مضلَّلة ووهميّة وخياليّة ولكنَّها راحة على أيّة حال!
تقاطعت حالة ديلمون مع حالة أخي الذّي فقدته منذ 29 عاماً، لهذا وجدتني صامتاً أرفض رحيله وفقدانه حتَّى هذه اللَّحظة، وكأنّي بهذا أرفضُ أحزانكَ ومآسيكَ والقدرَ الَّذي حلّ بكَ وبنجلكَ الغالي ديلمون! هكذا أنا يا صديقي غريب الأطوار في بعض الأحيان، أليست أقدارنا غريبة الأطوار في الكثير من الأحيان، فلماذا لا نكون نحن أيضاً غريبي الأطوار ولو في بعض الأحيان؟! وغرابتي أو غرابتنا ناجمة عن حالات ما فوق الألميّة، لهذا لا تعترف بالألم الذي ينتابنا ولا تعترف بالأسى الَّذي يغلِّف ظلال الرُّوح روحنا، كم ستتحمَّل أرواحنا وقلوبنا من مآسٍ وأنينٍ وأحزانٍ وأقدارٍ، ولماذا بين حينٍ وآخر لا نلغي أحزاننا ومآسينا وأقدارنا الَّتي تتربَّص بنا ولو إلى حين أو حتى إلى أجلٍ مفتوح عبر عقولنا الضمنيّة، أم أنّنا غير قادرين على مواجهة ذواتنا المشتعلة ليل نهار ونستسلم لدموعنا الّتي تنساب فوق خدودنا المعفّرة بالآهات منذ أن تبرعمنا على وجه الدُّنيا حتى آخر لحظة في حياتنا.
أنا القائل يا صديقي

"البكاءُ
مهنةٌ ملائمة
لهذا الزَّمان!" .

آهٍ يا زمان وألف آهٍ يا مكان!، مكانُنا يتأرجح على كفِّ عفريت، ينزلقُ نحو براكين الأنين، جغرافية الكون لا تتّسع لشهقة أنين الرُّوح روحي، كم من البكاء يا صديقي، وكم من الآهات حتى تهاطل الأسى من مآقي السَّماء!
الإنسان رحلةٌ عابرة فوق جسدِ الأرض، رحلة محفوفة بالبكاء، رحلةٌ قصيرة غير مكتملة البنيان، رحلةٌ في مهبِّ الضّياع، ضياعُ الإنسان في انشراخات هذا الزّمان، هل في وهادِ الأرضِ وسادة مريحة تسند بها رأسكَ العاج بالهموم أيُّها الإنسان، .. وهكذا يا صديقي يرحلُ الإنسان ويرحلُ الشَّاعرُ تاركاً خلفه القصيدة ترفرفُ عالياً فوقَ قبّةِ الحياة!
آهٍ .. مراراً قالوا وقلنا خاتمة الأحزان، هل ثمَّةَ خاتمة للأحزان؟!!!
نَمْ قريرَ العينِ يا ديلمون، وإلى جنان الخلد أيُّها الحيّ الباقي في قلوبنا وقلوب الأحبّة كلَّ الأحبّة!

ستوكهولم: 17. 5 . 2012
صبري يوسف
 

44
إحياء حفل تأبين أدبي كبير للأب يوسف سعيد في أربيل




رحلة صبري يوسف إلى أربيل، عشرة أيام حافلة بنشاطات أدبية وإعلامية وسياحية متعدِّدة
قراءة شعرية ودراسة نقدية تحليلية في حفل التأبين الأدبي الخاصّ بالأب يوسف سعيد
أمسية أدبية في قره قوش، تحدّث فيها عن تجربته الأدبية غطّتها قناة عشتار وسما الموصل
لقاءات تلفزيونية: أجرت قناة عشتار وسما الموصل لقاءات حوارية معه حول تجربته الأدبية
أجرى هو الآخر حواراً تلفزيونيَّاً مطوَّلاً مع الدكتور كاوه محمود، وزير الثقافة والشَّباب في الإقليم
رحلة بديعة إلى الجبال والأماكن الأثرية والأديرة المقدَّسة كدير مار متى ومار هرمز ومار يعقو

تلقَّيتُ دعوة من الروائي والقاص الدكتور سعدي المالح، المدير العام للثقافة والفنون السريانية في إقليم كردستان، للمشاركة في إحياء حفل تأبين أدبي كبير في أربيل/ عنكاوا، فلبّيت الدعوة مشكوراً.

عبرتُ البحار بعد غربة طويلة، استقبلني الأحبة بفرحٍ كبير، وفي اليوم الثاني من وصولي، افتتحت المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية حفل التأبين الأدبي بالوقوف دقيقة صمت على روح الشاعر الخلاقة في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الإثنين المصادف 16/نيسان2012، برعاية وحضور الدكتور كاوه محمود، وزير الثقافة والشباب في حكومة إقليم كردستان وعلى قاعة متحف التراث السرياني في عنكاوا، ثمَّ بدأت بتقديم حلقاتها النقاشية ضمن برنامجها الخاص بإحياء حفل تأبين أدبي كبير للشاعر المبدع الأب د. يوسف سعيد، وبمشاركة عدد كبير من الأدباء والكتّاب والشعراء والباحثين والنقّاد والمفكرين العراقيين من مختلف المدن، وبحضور نيافة المطران مار نيقوديموس داؤود متي شرف مطران الموصل وكردستان للسريان الأرثوذكس ونيافة المطران مار صليبا شمعون المستشار البطريركي للسريان الأرثوذكس والأب د. يوسف اسطيفان البنّا وعدداً من الآباء الكهنة، والأستاذ كريستوف يلدا عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني. وعدداً من المدراء العامين والمسؤولين الحكوميين ورؤساء الدوائر الحكومية في عنكاوا وأربيل، وممثلي الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ومجموعة من وسائل الإعلام والقنوات الفضائية.

بعدَ افتتاح حفل التأبين الأدبي بالوقوف دقيقة صمت حداداً على روح الشَّاعر الرَّاحل، ألقى بعدها نيافة المطران مار صليبا شمعون المستشار البطريركي للسريان الأرثوذكس كلمة تأبينية مؤثَّرة ومعبّرة جدّاً تحدَّث فيها عن دور الآزخيين السريان ودور السريان العريق عبر التاريخ وكان الأب الراحل واحداً من هؤلاء الشعراء الأفذاذ، وقد أشار إلى كتاب (آزخ أحداث ورجال) للكاتب الآزخي الشماس يوسف القس جبرائيل، مؤكَّداً على أن شاعرنا الرَّاحل ولد وترعرع في آزخ، تلك البلدة المعروفة تاريخياً. وأكّد على نبوغ الشاعر باللغتين العربية والسريانية وتطرَّق إلى ذكر سفر بطولات أبناء آزخ وما سطَّروه هؤلاء الرِّجال الأبطال من مواقف بطولية مشرّفة، مع أنَّهم كانوا قلَّة قليلة أمام جيش عرمرم مدجَّج بأحدث الأسلحة، حيث دافعوا باستبسالٍ غير مسبوق عن الحياة والقيم وعن أنفسهم وبلدتهم العزيزة آزخ، وأضاف: "إنَّ بطولة هؤلاء الرجال كانت تختزن في ذهن الفتى يوسف ابن الشهيد سعيد ولم تفارقه حتى تمخَّضت تلك المشاعر فولدت من رحم أفكاره، فكرة تتمثَّل باستبدال السيف بالقلم والبندقية بالكلمة متَّخذاً ممَّن تركوا أثراً واضحاً في تاريخ البشرية قدوة ونبراساً، الذين مهَّدوا الطريق أمام البشرية بسحر أقلامهم وفكرهم". وقال: "استلهمَ الرَّاحل شهامة وحمية آبائه الأبطال فسجَّل اسمه في سفر الحياة وليس في سفر آزخ فقط، فصال وجال في ساحة العلم والمعرفة وخاصة في ميدان الشعر الذي يدغدغ المشاعر الإنسانية، فاذا به يرفع لواء الشعر عاليا"، وأشار إلى زمالته معه في المعهد الكهنوتي واهتمامه بالشعر منذ ذلك الوقت.

أعقبتها كلمة معبّرة ومكثَّفة للدكتور كاوه محمود، وزير الثقافة والشباب في حكومة إقليم كردستان الذي قال: "اعتقد بأن هناك علاقة أزلية بين الشِّعر والدِّين، بالنسبة لي أنا لستُ شاعراً ولا روائياً ولكني مجرّد قارئ، ومن خلال قراءاتي، أعتقد أن هذه العلاقة تكمن في الابتعاد عن السطحية ما يمنحنا القدرة على ربط الشعر بالحياة والدين بالحياة هذا ما فعله الأب الشاعر يوسف سعيد، وما اكتشفته من خلال قراءاتي لبعض نتاجاته وعنه". وأضاف: لم يكن الشاعر الراحل الأب يوسف سعيد ابن الموصل فقط، بل كان أيضاً ابن كركوك، وذلك من خلال مساهمته الهامة مع شعراء وأدباء جماعة كركوك، فيحق لأهل كركوك بمختلف قومياتهم، أن يفخروا  بابنهم البارّ من خلال شعره وخدمته الرُّوحية ودفاعه عن قضية السَّلام. ولهذا أودُّ أن أختتم كلمتي بما قاله عنه الأديب ميخائيل نعيمة: "إنني لم أجد في حياتي كاهناً بهذه الرَّوعة الشعرية العميقة في الحياة".

ثمَّ ألقى الدكتور سعدي المالح كلمة المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية، قدَّم في مستهلِّها باسم المديرية العامة تعازيه الحارَّة إلى أهل الفقيد وكنيسته السِّريانية الأرثوذكسية، مشيراً إلى الفراغ الكبير الذي تركه الأب الشاعر يوسف سعيد في الحياة الأدبية والثقافية العراقية، مشيداً بجماعة كركوك الأدبية التي كان الفقيد أحد مؤسِّسيها وروَّادها والتي كانت تضمُّ أدباء وشعراء من أديان وطوائف وقوميات وأفكار سياسية مختلفة مثل سركون بولص وجليل القيسي ويوسف الحيدري وجان دمّو وصلاح فائق وفاضل العزاوي ومؤيد الرَّاوي وزهدي الداوودي، ثم تحولت إلى أحد أهم التيارات الأدبية في العراق وأكثرها إبداعاً وتجديداً، مؤكّداً على الدور الكبير الذي لعبته هذه الجماعة الرائدة في إنعاش الأدب العراقي ورفده بالجديد والمنوّع والخلاق.
وأضاف: "في الحقيقة هذه ليست احتفالية تأبينية في ذكرى فقيدنا فحسب، بل احتفاء تكريمي ندين له به في حياته. اذ كان الاحتفاء به وهو حي بيننا أحد برامجنا في المديرية العامة بعد تأسيسها. لقد اتصلنا به ودعيناه لزيارة وطنه الأم، أكثر من مرة خلال السنوات الثلاث المنصرمة، إلا أن طبيبه الخاص كان يمنعه من السَّفر في كلِّ مرَّة، فأصبح ذلك الحلم محالاً وحسرة في قلبه وقلوبنا".
واختتم كلمته بالقول: "نحن إذن نحتفي بالأب يوسف سعيد الشاعر الإنسان الذي سيبقى ماثلاً في ذاكرتنا كما كنَّا نحن والعراق زوَّادته في غربته الطويلة".

وألقى القاص هيثم بردى ممثل الأدباء السريان في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، كلمة الاتحاد، نقل للحضور في مستهلِّها، تحيات أعضاء المكتب التنفيذي والمجلس المركزي للاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق ممَثلاً برئيسه الأستاذ فاضل ثامر وأمينه العام الأستاذ الفريد سمعان، وتمنياتهم بأن يسدي هذا التأبين بعض الوفاء لعطاء الشاعر الأب د. يوسف سعيد، مؤكِّداً: "أنه ليس بغريب أن تبادر المديرية العامة للثقافة والفنون السِّريانية إلى إقامة هذا الحفل التأبيني عبر حلقات نقاشية متعدِّدة ومثمرة عن الشَّاعر الرَّاحل، فقد سبق وأن أقامت أيضاً حلقة دراسية موسّعة عن الشَّاعر الرَّاحل سركون بولص، وأخرى عن القاصّ والروائي إدمون صبري، وبمشاركة فاعلة ومؤثرة من نقّاد وقصاصي وروائيي وشعراء العراق، فضلاً عن ملتقيات ومهرجانات عديدة أخرى لا مجال لذكرها الآن". واختتم كلمته بالقول: "نحن في الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق نثمِّن هذه الجهود المدروسة للمديرية العامة للثقافة والفنون السريانية ممثلة بمديرها القاص والروائي الدكتور سعدي المالح، ومجموعة خيّرة وساندة من المثقَّفين والإعلاميين من موظفي المديرية".
تلتها قراءة لبرقية مرسلة من اتحاد الأدباء الكرد فرع أربيل، جاء فيها: "باسم اتحاد أدباء الكرد فرع أربيل نحيي المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية لاحتفائها بالشاعر الأب يوسف سعيد، لقد كان الشَّاعر منذ أن عرفناه مخلصاً ووفياً لقضيَّة واحدة وهي قضية الشِّعر والقصيدة، واستطاع بجهده الشخصي الوصول إلى درجة راقية ومتميزة في القصيدة الحديثة. نحييكم ونحيي ذكرى شاعرنا الفذّ الأب الشَّاعر يوسف سعيد ".
ودمتم

ثم أُلقيَتْ بعد ذلك مجموعة من القصائد، استهلّت بعرض تسجيل قراءات شعرية للأب الرّاحل وهو يلقي مدخل قصيدة الطفولة من ديوان (السفر داخل المنافي البعيدة)، ضمن لقاء تلفزيوني، أجراه معه الأديب الشاعر صبري يوسف عندما كان مدير برنامج بطاقات ثقافية في فضائية سورويو، ثم ألقى الشعراء التالية قصائدهم الشعرية.
الأب د. يوسف اسطيفان البنّا، الشاعر زهير بهنام بردى، الشاعر شاكر مجيد سيفو، والشاعر صبري يوسف، مستلهمين قصائدهم الشعرية من عوالم وفضاءات الأب يوسف سعيد الفسيحة.
وتمَّ اختتام حفل الافتتاح بمداخلة من قبل نيافة المطران مار نيقوديموس داؤود متي شرف، أعرب فيها عن تقديره للدور الكبير الذي تلعبه المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية في المجال الثقافي السرياني لا سيّما احتفاؤها الدائم برموز الثقافة السريانية وعمالقة الفكر والأدب والفن والموسيقى ومنهم الأب الرَّاحل، كونه حفيد مار أفرام السّرياني، ويعقوب السّروجي، واختتمَ كلمته قائلاً: "إن الأب يوسف سعيد، سيبقى خالداً في أفكارنا وقلوبنا، وأنا لواثق من أنه يشاركنا من السَّماء في هذه الفعالية فرحاً بالأشخاص الذين قرَّروا تكريمه".

وبدأتْ جلسات اليوم الأول على الشَّكل التالي:
بدأت الجلسة الأولى للحلقة النقاشية في تمام الساعة الخامسة من مساء الإثنين 16 نيسان 2012 بإدارة القاصّ هيثم بردى، حيثُ تضمَّنت دراسات تحليلية نقدية لكلٍّ من الأستاذ الباحث ياسين النَّصير والدكتور النََاقد محمد صابر عبيد والدكتور الناقد خليل شكري هيَّاس.
 
قدَّم الأستاذ ياسين النَّصير في بحثه قراءة نقدية عميقة بعنوان: (فضاءات الأب يوسف سعيد)، حيث يرى النَّصير أن الفضاءات (السماءات) الأربع التي يطرحها الأب يوسف سعيد في ديوانه الذي حمل نفس عنوان البحث، وهذه الفضاءات هي الأرض والتراب والسماء والماء، وهي عناوين أحادية بحسب تعبيره أي مفردة واحدة يجمع فيها الأب الرَّاحل الدِّين بالشعر ولا يحوم حولها بل يدخل في أعماقها ويفنِّدها ويجزؤها ثم يعيد بناءها بطريقة شعرية أخّاذة وفريدة،، مسلِّطاً الضوء على خصوصيّة تدفقات الأب يوسف سعيد، واسترسل في شرح هذه الفضاءات وتماسكها مع بعضها بعضاً، واصفاً الأب يوسف سعيد بالمنتمي إلى خيال المادة (الخيمياء) لأنه يمزج بين الثقافة الميثولوجية والثقافة العلمية، قدَّم الناقد دراسة تحليلة مثمرة ومفيدة في تسليط الضوء على الكثير من فضاءات الأب الراحل يوسف سعيد.
 
 أعقبه الدكتور الناقد محمد صابر عبيد ببحث هام وعميق من حيث الدلالات التحليلية التي قدَّمها حول قصيدة طويلة بعنوان الموصل، وقد أطلق على بحثه عنوان: (الموصل فضاءً شعرياً لدى الأب يوسف سعيد) أكَّد فيه على أن: " عتبة عنوان القصيدة "الموصل" للشاعر الأب يوسف سعيد من العتبة الكلية لعنوان الديوان "الشموع ذات الاشتعال المتأخر" وعنوان الديوان هو عنوان محيطي شامل تنتمي اليه القصائد جميعاً، إذ هو عنوان مهيمن يطغى على عناوين قصائد الديوان كلها ويستوعبها، هو ثريَّا تنشر تباشير ضوئها اللامع عليها ولعلنا يمكن أن نقدّر كقراءة أولى أن كل قصيدة من قصائد الديوان التي تعمل تحت مظلة ثريا العنوان هي (شمعة) تتسم باشتعال متأخر ومن ضمنها قصيدة الموصل التي هي أول قصيدة (شمعة) في ترتيب القصائد(الشموع) وتسلسلها داخل الفضاء الشعري"، ويعتبر الناقد قصائد الديوان بمثابة شموع مضيئة ومنبعثة من الحياة وتعكس حالات الشاعر المتلألئة من شموع الحياة التي رافقته عبر منعطفات عمره الحافلة بالإبداع.
 
وقدَّمَ الدَّكتور خليل شكري هيَّاس بحثاً تحليلياً بعنوان: (السَّفر داخل المنافي البعيدة- تجلِّيات الذات في مرآة الشعر) وقف فيه على نتاج آخر للأب يوسف سعيد وهو مجموعته الشعرية (السَّفر داخل المنافي البعيدة) حيث قال: "هي مجموعة في أحد أهم مظاهرها التشكيلية، تؤسِّس لشعريّة ذاتية، تسعى الذَّات الشَّاعرة فيه إلى الغوص عميقاً في الذاكرة ليستجلي ما هو ذاتي من التجربة، مسفراً من أجل ذلك عن كل الإمكانات الشعرية الغنائية في إضاءة مناطق حساسة من التجربة الذاتية، وعلى نحو يجعل من الشعر في هذه المجموعة خطاباً جمالياً مناظراً لحركة وجود الذات في هذا العصر ومستجيباً لمنطقها الحيوي في التدليل والتصوير والتمثيل". حيث سلّط الضوء على الرؤية الجوانية العميقة في ذاتية الشاعر الفياضة في بناء النص الشعري بطريقة وجدانية راقية، وتعكس حالات إنسانية من خلال تدفُّقات مشاعره الجانحة لعوالم الطفولة وجمالياتها وحميميات خصوبة الذات المتمركزة فوق أجنحة القصيدة. 
وقد تخلَّلَ بعد عرض البحوث التحليلية، مداخلات ومناقشات مستفيضة بين الباحثين والمشاركين في الحلقات، ممّا أغنى وعمّق في أبعاد البحوث والدراسات التي تم تقديمها على مدار الجلسات.
وبعد استراحة قصيرة تمَّ عرض الفيلم الوثائقي (حكاية عمر) الذي يتناول جانباً من حياة الأب يوسف سعيد وهو من إنتاج قناة عشتار الفضائية، إعداد الإعلامي نزار عسكر وإخراج الشاعر والاعلامي مروان ياسين الدليمي.
*****
وفي اليوم الثاني 17/4/2012، الساعة التاسعة صباحاً، أدار الجلسة الثانية الأستاذ الناقد ياسين النَّصير، وقدّم الأستاذ النَّاقد جاسم عاصي، الَّذي قدِّم بحثاً تحليلياً ثريِّاً بعنوان: (ما يتبدَّى من الشِّعر- قصائد "طبعة ثانية للتاريخ" أنموذجاً) قال فيه:" إننا أمام شاعر أولاً، وأب في الفكر الديني ثانياً. وهاتان الصفتان تجمعهما الخاصية الإنسانية في بؤرة واحدة كما القصيدة. فالشاعر الأب يجمع في تصوّراته الكوني والدنيوي في صورة واحدة يمثلها الإنسان. وهي التي ولدت لنا شعراً لإنسان يمارس مفاهيمه المختلفة ببعد واحد كبير ومكثف في إنسانية الإنسان، هذه الصورة في مفهوم (الإنسان- الأب- الشاعر) هي التي دفعت بالأب الشاعر إلى أن يكون إحساسه الشعري بالوجود تلقائياً منطلقاً من مستقر مبدئي".
وأضاف:" لعل النظرة الفاحصة لقصائد الديوان تستوقفنا أمام العديد من المحاور التي عالجتها قصائد هذه المحاور التي تُبأر في مركز واحد، هو إعادة النظر في الظواهر من خلال الانعكاسات الحسية التي تركتها على الذات الإنسانية متمثلة في ذات الشاعر، لقد راوحت القصائد بين قصائد قصار وأخرى طويلة نسبياً، وفي كلتا الحالتين، ثمة تحقيق لرؤى جديدة". وقدّم وجهات نظر جديدة حول قصائد الأب يوسف سعيد في ديوانه طبعة أخرى للتاريخ، تعالوا نتساءل مع الباحث والناقد جاسم عاصي هل كان الأب يوسف سعيد يرى الطبعة الأولى للتاريخ طبعة غير دقيقة فطرح علينا طبعة ثانية أو رؤية ثانية للتاريخ من منظوره هو! وهو القائل: " أيها الشعراء أنتم حكماء هذا العالم".

ثمَّ تلاه الناقد والباحث الأستاذ ناجح المعموري ببحثٍ فيه رؤية وتحاليل جديدة بعنوان: (الأصول الأسطورية في تجربة الأب يوسف سعيد الشعرية) بدأه بقراءة أبيات من قصيدة الماء.
"وأمّا أنتَ يا أيُّها المتوسِّد جذع شجرة قديمة
أنظر!
أسرابُ من عصافير الأرض
ترحل يوميَّاً
نحوَ ينابيع أنهارٍ مقدسة!..
(ص78 فضاءات الأب يوسف سعيد).
 واسترسل في تحاليله ووجهات نظره قائلاً: "لعبت ديانات الشرق دوراً مهمَّاً في المسيحية وأكثر العناصر بروزاً هي الآلهة الشابة المذكرة/ القتيلة والمنبعثة، وأهم هذه الآلهة اوزوريس المصري وأدونيس/ أتيس في أسيا الصغرى/ ميثرا الفارسي/ يوسف التوراتي/ وآخر النماذج زكريا النبي. وظَّف الأب يوسف سعيد أسطورة الإله الشاب القتيل التي تماهى معها يسوع". وأضاف: "في فضاء الأرض تصعد الأم الكبرى في ديانات الشرق إيقونة سردية محكومة بعدد من الأيقونات. وجميعها تبدأ بمفردة النمط العالي/ أو عنصر نظرية الخيال وكانت الأرض رمزاً للسيدة العذراء مريم وظهور الشجرة مثمرة هي تمظهرات الأم/ الأرض/ ومريم والشجرة رمز دال على السيد المسيح. وما قاله الأب يوسف سعيد يفضي على اوزوريس وأدونيس اللذين صعدا نحو فضاء يسوع. وأسطورة اوزوريس متماثلة مع مكونات يسوع ولا يمكن قراءة شخصية يسوع بعيداً عن نسق الإلهة الشابة القتيلة والتي كان القمح دالاً عليها". مشيراً الى "أن المشترك بين الإلهة الوثنية ويسوع، لم يبقَ ثابتاً، بل تحرَّك قابلاً بالارتجال والتحوُّل الواضح والبسيط مع حيازة جديدة لها دواعٍ موضوعية، مثل شخصية النبي زكريا الهارب في محاولة للخلاص من الاضطهاد واحتمال القتل مثلما حصل لابنه يحيى، احتمى بالبستان، استمع لصوت شجرة تنادي عليه: تعال يا زكريا. الشجرة هنا هي الأم الرمزية التي فتحت رحمها / جذعها واستعادته مرة ثانية".

إن قراءة الباحث والناقد ناجح المعموري تحتاج إلى قراءة جديدة بل إلى قراءات عميقة، من جانب المتلقّي أولاً، ومن جانبه أولاً وأخيراً، لأن هكذا دراسات تحليلية قائمة على رؤية إبداعية، اسطورية، دينية تحمل بين طياتها اسقاطات غير مسبوقة، وإن هكذا نوع من القراءات التحليلية لنص شعري يفيض بالرموز والصور والفضاءات الجامحة، تتطلَّب عمقاً مضاعفاً كي نستطيع الولوج إلى شيفرتي الشاعر والباحث معاً، وتتطلَّب أيضاً تعميق الرؤية والتحليل من جانب الباحث نفسه كي يشرح لنا اسقاطاته وتحاليله بشكل أعمق وأكثر دقةً وإقناعاً فيما يذهب إليه، لأن قراءته قابلة لتأويلات متعدّدة ويفسح المجال للمتلقي الوقوف عند الكثير من التساؤلات، ممَّا يضع النص يرفرف فوق روضة التحليل بشيء من الذهول، وكل هذا ناجم عن كوننا أمام فضاءات جامحة في تدفقاتها وتتطلَّب الكثير من التأمُّل والزهوّ والخيال، خيالُ القرّاء والنقاد والباحثين!

ثمَّ تمَّ تلاوة شهادة كلّ من الشَّاعر فاضل العزّاوي والشَّاعر زهدي الداوودي، وهما من روَّاد شعراء جماعة كركوك الأدبية، عبَّرت الشّهادتان عن عميق الأسى والحزن على فقدان علم من أعلام الأدب والثقافة والشعر، ليس في العراق والعالم العربي فحسب بل في العالم أيضاً، تلاها الأديب والشَّاعر السُّوري صبري يوسف (الذي أعدَّ هو الآخر حفل تأبين أدبي كبير للأب يوسف سعيد في ستوكهولم 11/3/2012)، وقد سرد الدَّكتور فاضل العزَّاوي في مشاركته جزءاً من ذكرياته العذبة مع الرَّاحل الكبير وأضاف:" لقد كسر الأب يوسف سعيد وكسرنا نحن أيضاً معه كل الحواجز التي تفصل ما بين البشر، باسم المذهب أو الدين أو السياسة، مؤكِّدين أخوتنا الإنسانية في الإبداع قبل أي شيء آخر. ولا أعتقد أنه جعلنا في يوم ما نشعر بأننا مختلفون أو أنه أقرب إلى الله منَّا، بل انه لم يكن يخطر حتى في بالنا أننا ننتمي الى قوميات وطوائف ومذاهب وأديان مختلفة، ألا يعبِّر هذا عن الرِّسالة الحقيقية التي أراد السيِّد المسيح إيصالها الى البشر جميعاً في كلِّ زمان ومكان؟، تلك الرِّسالة القائمة على المحبَة قبل أي شيء آخر".

أمَّا الشَّاعر الأستاذ زهدي الدَّاوودي فسرد في شهادته ومشاركته بعضاً من ذكرياته مع الأب الرَّاحل وتأثيره في نتاجه الأدبي فيما بعد مؤكِّداً أنَّ: " الأب يوسف سعيد كان أحد أبرز عناصر جماعة كركوك، أكبرهم عمراً وتجربةً ودرايةَ وتمرُّداً، كان طائراً يحلِّق على أبعد نجمة تاركاً سربه ومغرداً خارجه ومحاولاً أن يجعل من السَّماء والأرض منزلاً من الفردوس. وظلَّ يعيش مع هذا الحلم إلى أن غادرنا إلى الأبد"!.

وبعد استراحة قصيرة بدأت الجلسة الثالثة بإدارة الأستاذ بطرس نباتي وكان أوَّل الباحثَين الأديب صبري يوسف، حيث قدَّمَ بحثاً تحليلياً بعنوان: (رحلة فسيحة في بناء القصيدة عند الأب يوسف سعيد)، حيث يرى الشاعر صبري يوسف أن الأب الرَّاحل يوسف سعيد "يتميّز بخياله الجامح، فياخذكَ إلى فضاءات لا تخطر على بال، يخطُّ جملته الشعرية وكأنه يلتقطها من خاصرة السَّماء الصافية، ومن أهداب النجوم، ليقدِّم للقارئ خطَّاً شعرياً متفرِّداً ومتدفِّقاً بالإبداع".
 يمتلك لغة متدفقة بالصور الخلاقة، متميِّزة بمفرداتها، كما يتميَّز الشّاعر الراحل بالخيال الخلاق حيث يقود القارئ إلى فضاءات رحبة، يترجم مشاعره بكل عمق مركِّزاً على عوالمه الفسيحة ويعكس عوالم روحية صوفية وحياتيّة راقية.
وحول قصيدة الطفولة يقول أن الأب يوسف سعيد في قصيدة الطفولة " ..أسقط بين ثنايا نصّه دلالات فكريّة وحياتيّة واجتماعيّة دون أيِّ تحفُّظٍ وكأنّه يتلو في حالة انتشاء ترتيلته المفضّلة من أخصب وأنقى محطّات عمره، حيث كتب الشَّاعر قصيدته بكلِّ مشاعره وأحاسيسه وأحلامه وأعصابه، فهذه القصيدة هي أنشودته الروحانيّة الشَّفَّافة، حيث يقول:
" أتركُ نقاط دمي على جوانب محبرة، بعض هذه النِّقاط انساب كدهنٍ مهراق، ..
أشيِّدُ أعشاشاً لطيورٍ مصنوعة من دم الكلمات" .. " هذا العالم أعصابه من دماء الشِّعر، ..."   
يدهش الأب يوسف سعيد القارئ حيث يرى أن "الجملة الشعرية عند الأب يوسف سعيد، لا يمكن الإمساك بها، إنها جمل متشرشرة من أفواه النُّجوم ومنبعثة من ضياء الوجود وحفيف الأشجار!".         

وآخر البحوث قدَّمه الأستاذ بنيامين حدَّاد: (قراءة في الشِّعر السِّرياني للأب يوسف سعيد) الذي قرأ شيئاً من شعر الأب يوسف سعيد بالسريانية، ثم تحدَّث عن لقائه الأوَّل به في أحد مهرجانات المربد، منتصف الثمانينيات، ويرى أشعاره بالعربية غامضة مقارنة بأشعاره السِّريانية. 
كما يرى الباحث أن الشاعر: "كباقي الشعراء الحداثويين، يكتب شعره تحت تأثير معاناة مغرقة جداً بالذاتية، ولكن تبين لي أيضاً، أن ما يكتبه بالسريانية أقل غموضاً وأقل تغريباً. وأنه أقرب في شعره السرياني إلى ( الآخر) منه بالعربية.

وتلا الشاعر صبري يوسف شهادة الشاعر صلاح فائق الذي قدَّم في مستهلِّها تعازيه القلبية إلى أسرة الشاعر الأب يوسف سعيد قائلاً أن الأب يوسف سعيد:" لن يموت إنما انتقل إلى مكان آخر، ذلك لأنه كان و سيبقى حياً في حياتي، فهو معلِّمي الأول، حيث خدم كل من احتاج الى نصيحته وتضامنه في العراق وفي غيره من البلدان، وفي شعره يقف شامخاً كشاعر حديث ووطني في آن. العراق شعره وشعره العراق".
ثم فسح رئيس الجلسة المجال للحضور لطرح تساؤلاتهم واستفساراتهم وتقديم مداخلاتهم، وأجابَ المحاضران عنها، ولكي يطلّع الحضور على شعر الأب يوسف سعيد بالسريانية، تمَّ عرض تسجيل صوتي للراحل يلقي فيه بعض أشعاره بالسريانية، رافقه على العود الموسيقار الكبير منير بشير.

واختتمت الجلسة بكلمة المديرية العامة للثقافة والفنون السريانية شكر خلالها الدكتور سعدي المالح
كل من ساهم من منتسبي المديرية في إنجاح هذه الفعالية، لاسيَّما قسمَي الإعلام والخدمات، كما شكر السَّادة المطارنة الأجلاء والآباء الكهنة الأفاضل على حضورهم ومساهمتهم في إغناء الحلقة النقاشية، كما شكر كل من تجشم عناء السفر من داخل العراق وخارجه لا سيما الأديب صبري يوسف المقيم في السويد والذي رفد متحف المديرية بمخطوطات ومقتنيات تعود للأب الرَّاحل، ليتم عرضها في جناح خاص به، فضلاً عن تزويدنا بدواوينه ومجاميعه الشعرية الكاملة.

صبري يوسف
أديب وفنّان تشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com


45
المصوّر الفنّان شكري لازار يسجِّل حوارات نادرة مع الأب د. يوسف سعيد

بطاقة شكر للمصوِّر البديع الفنّان شكري لازار

 من خلال الخبرة الطويلة تشكّل لدى المصوِّر البارع الفنّان شكري لازار أبو لازار، مهنيّة وحرفيّة عالية في التقاط لحظات هامّة وخاطفة من عمر الزَّمن، حيث صوَّر خلال مسيرته الفنّية العديد من الاحتفالات والمهرجانات واللقاءات الفنّية مع الكثير من الفنَّانين والممثلين والمخرجين داخل وخارج السويد، وقد صوّر في ستوكهولم منذ سنوات حفل تكريم الفنان محمود عبدالعزيز، وحفل تكريم الفنان دريد لحّام، والفنان رفيق سبيعي، والفنان كارم محمود، والفنان ربيع الخولي، والفنّانة صباح، والفنانة سميرة توفيق، والفنان طوني حنّا، والفنان عصام رجّي والمخرج خلدون المالح في حفل خاص حول برنامج "على عيني"، والفنان ايهاب توفيق، وصوّر حفل فني مع الأستاذ خالد جمالو حول برنامج "خبرني يا طير"، كما أنه كان مدير تصوير فيلم قصير بعنوان مارتن، وصوَّر الكثير الكثير من مناسبات الأفراح داخل وخارج السويد، وصوَّر في السنوات الأخيرة حوارات نادرة مع الشاعر المبدع الأب د. يوسف سعيد بإشراف وإدارة الأديب السوري صبري يوسف، ستبقى هذه الحوارات خالدة وساطعة على جدارِ الزَّمن، لأهميّة ما قاله الرَّاحل المبدع، كما صوّر حفل تأبين أدبي كبير للأب د. يوسف سعيد في ستوكهولم، شارك فيه الكثير من الكتاب والشعراء والنقاد والفنانين من داخل وخارج السويد، باشراف وإدارة الشاعر صبري يوسف، وقد قام المصوّر شكري لازار بإخراج وقائع حفل التأبين بشكل رائع، ووضع مقدِّمة وخاتمة تناسب هذه القامة الأدبية الخلاقة! 
ولا يسعني هنا، إلا أن أقدِّمَ بإسمي وبإسم أهل الفقيد الرَّاحل خالص الشكر والإمتنان للفنّان المخرج شكري لازار على مواقفه الرائعة في تصوير وإخراج هذين اللقاءَين الهامّين مع الأب المبدع د. يوسف سعيد، حيث تمّ تسجيل الحوارات في منزل الأب الراحل منذ سنوات، وتناولتُ خلال الحوار محاور التجربة الأدبية للأب الرَّاحل وتوقّفت مليّاً عند وجهات نظره حول الشعر والأدب والفن والإبداع بشكل عام، وقد تدفّقَ الأب يوسف سعيد بشكل مبهر خلال الحوارات التي أجريتها معه، وكنا بصدد إجراء تسجيل حوار تجريبي معه في اللقاء الأول ولكن هذا الحوار التجريبي جاء بديعاً وعميقاً، علماً أنني لم أعد الأسئلة ولم أحضِّر نهائياً للمحاور التي حاورته بها، ولكني كنتُ قد أجريتُ معه ثلاث حوارات تلفزيونية عندما كنت أقدِّم برنامجي "بطاقات ثقافية" في الفضائية السريانية صورويو تيفي، ثم أجريت معه ندوة حوارية مشتركة مع الفنَّان والشَّاعر كابي سارة حول الشعر والفن التشكيلي وعلاقة كل منهما بالآخر، لأن الأب يوسف سعيد شاعر وفنان، وكذلك كابي سارة فنان وشاعر، وأحببتُ أن يشترك الفنان التشكيلي والشاعر كابي سارة مع الأب والفنّان يوسف سعيد في هذه الندوة لأهمية فكرة الندوة من جهة ولتقاطع اهتمامات كليهما في مجالَي الشعر والفن التشكيلي من جهة ثانية ولرغبتي العميقة أن أسجل لحظات مهمة لكليهما معاً على الشاشة الفضّية الصغيرة، حيث تربطني بهما صداقة عميقة أشبه ما تكون قصيدة متدفقة مثل مياه دجلة في بدايات نيسان، وأحببت أن أترجم هذه الندوة الحوارية على أرض الواقع، لأنني كنتُ في المراحل الأخيرة لتوديع فضائيّة صورويو تيفي، لأن إدارة الفضائية اعتذرت عن منحي مهمّة التفرُّغ للعمل، لهذا أحببتُ أن تكون آخر برامجي مع أحبّ الأصدقاء إلى قلبي ضمن ندوة حوارية تخص عوالمي أيضاً لأنني أنا الآخر شاعر وفنان تشكيلي، فجاء الحوار ودِّياً ومثمراً، كما انني كنتُ قد سجّلت قراءات شعرية كحلقة رابعة للأب يوسف سعيد، قدَّم خلالها قصيدة الطفولة ذات الإيقاع الملحمي الكثيف والجامح، والتي تمَّ نشرها اليوم كاملة في جريدة الزّمان اللندنية بإخراج رائع للغاية وأخذت صفحة كاملة من الصحيفة، وأودُّ في هذا السياق أن أقدِّمَ خالص شكري وإمتناني لإدارة الصحيفة وإلى المشرف على الصفحة الثقافية الأستاذ كرم نعمة الذي أولى اهتماماً كبيراً منذ أن تلقّى منّي خبر وفاة الأب يوسف سعيد مروراً بأخبار تشييع الأب الراحل إلى مثواه الأخير بجنازة مهيبة، والتأكيد على إقامة حفل تأبين أدبي له في العراق، وتغطية حفل التأبين الأدبي الذي أقمناه في ستوكهولم، حتى غاية آخر نص نشره اليوم بعنوان الطفولة، وهذا النصّ من أبْدَع ما كتبه الأب الرَّاحل يوسف سعيد، والمنشور في ديوانه: "السفر داخل المنافي البعيدة"!
وإنّي في هذه المناسبة أودُّ التوقّف مليّاً عند الجهد الكبير الذي بذله المصوِّر الفنّان والمخرج شكري لازار، هذا الجندي المجهول، الذي سجَّل كما أسلفتُ آنفاً، لقاءَين تاريخيَّين مع الأب يوسف سعيد في منزل الأب الراحل، وقد حاورتُه عبر اللقاءَين وهو في كامل قيافته وتدفقاته، وأشعر الآن بنوع من الراحة لأنني قمت بستجيل هذين الحوارَين، بعد أن تيقَّن تماماً المصوِّر من تأكيداتي بأن عملنا سيكون له أهمية كبيرة في مستقبل الأيام لأني لم أرَ أيّة مؤسسة من مؤسساتنا ولا أية مؤسسة شرقية أو غربية قامت بتسجيل حوار شامل وعميق حول تجربة الأب يوسف سعيد بحيث يكون بمثابة مرجع وآرشيف نعود إليه ويعكس تجربة المبدع الرَّاحل بشكل شامل، مع انني كنتُ قد أجريت معه عدّة حوارات عبر فضائية صورويو تيفي كما أشرت سابقاً، ولكني كنت أشعر في قرارة نفسي أنها حوارات غير مكتملة وغير شاملة ولم تكن ترضيني بما يمكن أن يتدفَّق به الأب يوسف سعيد ولهذا كنت أريد أن أحقِّق حوارات مطوَّلة معه بكلّ حريتي وحريته، بدون التقيُّد بأية مؤسَّسة من مؤسّساتنا التي لم تروِ غليلي بالطريقة التي أريدها، وأحببتُ أن تكون المؤسَّسة التي تتضامن معي هذه المرّة مؤسَّسة خاصة وفردية بحيث تستجيب لكل تطلعاتي وحرّيتي بدون أن تقيُّدني بالزّمن أو بأيِّ شرط من الشُّروط، لأنني كنتُ أودُّ أن يكون اللقاء مفتوحاً ومتدفِّقاً كما تتدفَّق قصائد الأب يوسف سعيد، وكما يتدفُّق هو أثناء دردشاتي معه أو دردشاته معي عبر الهاتف أو عبر اللقاءات والزيارات المتبادلة، فوقع اختياري الأنسب على مؤسَّسة وشركة أورنينا الخاصة بالفنان شكري لازار الذي تبنَّى برحابة صدر هذا الهدف الجليل! وهكذا قرَّرنا أنا والفنان شكري لازار التوجّه إلى سودرتالية حيث كان الأب يوسف سعيد في انتظار عدسته وتساؤلاتي المتناثرة عليه مثل حبَّات المطر في نهارٍ ربيعي منعش الروح، ومحرِّض على التحليق في محراب الشعر والفن والحياة!
جهّزنا ديكور للقاء، وأعدَدْتُ ترتيبات الحوار، ثم بدأنا نسجّل الحوار التجريبي، ولكن بعد أن انتهينا من تسجيله، شاهدنا جزءاً من الحوار، فقال الأب يوسف سعيد : الحوار رائع لأنه جاء عفوياً ولا داعي لحذف أية جملة منه، ثم قررنا جميعاً الاحتفاظ به كنسخة أصلية وكجزء من محاور الحوار، واستغرق 40 دقيقة، ثم سجلنا في لقاء آخر قرابة ساعتين، دار الحوار حول تجربة الأب يوسف سعيد العميقة في الأدب والفن والإبداع.
 كم كنتُ سأشعر بالحزن والأسى الآن لو لم نُجْرِ هذين الحوارين، وكم يغمرني الفرح الآن لأننا سجَّلنا الحوارَين، إضافة إلى حفل التأبين الأدبي الكبير، ولا أعلم كيف سأكافئ المصوِّر والمخرج شكري لازار، مدير شركة أورنينا على التقاط عدسته هذه اللحظات النادرة، والتي ستبقى خالدة في آرشيف الشَّاعر المبدع الأب د. يوسف سعيد وفي آرشيف الفنان شكري لازار وفي آرشيفي الشخصي أيضاً، الآن، أشعر أكثر من أيِّ وقتٍ مضى بأهمية تسجيل وتصوير لحظات من عمر الإنسان، لأن الشَّاعر يرحلُ ويتركُ خلفه القصيدة ترفرفُ عالياً فوقَ وجنةِ الحياة، فيأتي المصوّر (شكري لازار) ليلتقطها بمهارةٍ عالية ويقدّمها لنا على إيقاع حنين الروُّح إلى مروجِ الإبداع!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com



46
الطفولة*

الأب د. يوسف سعيد




يرمشون في الأرضِ أقدامَ حدقاتهم المسوَّرة، بحلمٍ منفلشٍ من ذوائب العسلِ الورديّ، أهدابهم متأجِّجة بسلاهب غيمة. ثم يسفّون تربتها، في وجه شموخٍ مكوَّر، متدلدلة أردانه الأثيريّة، فوق الحاجبِ الضاحك. يدغدغُ خاصرة طقوس الغيوم الطارئة. يبتلعون من الأماسي دكنة من شخيرها العام. يطعِّمون عواميدها وقراميدها بذهب الجنّة. ينضحون عليها رذاذاً أخضر من أثير متحرِّر كلِّياً من وجعِ اللَّحم المتقشِّف. من غيمةِ الصباح، ينفتحُ سور من حدائق الأعشاب المرئيّة تحتَ غربال الفجر المتأقلم، داخل احتباكاته المفاجئة. مواكب بنات اللُّغة تتزاحمُ على بوَّاباتها الناضبة أجنحة تتفرّع إلى صباحات كثيرة. هذه سروج من دمعة تهطلُ بطولِ قاماتها. يصنعُ الشَّاعر من سلالاتها المكهربة بالألفاظِ قصيدة. يتأقلمُ صباحاً بجذورِ في الفجوات الجبليّة، يذوبُ كل فحيح أسود، مسحاء اللَّيل يطاردون شبحاً، يبحثُ عن آخرِ ثمالة، في ابريق المكعَّبات. يلتقطُ غضروفاً من جسدِ دكنةِ اللَّيل ... من ظلِّ الرُّموش، ذات الحافَّاتِ الثخينة، ينتشلُ رجل قميص وردته. لا جديد في الموسوعة ذات الجلد البجعيّ الخاصّ. انّي قادمٌ نحو متّكآتِ المدن السعيدة ... لا نصبَ الفوارز في دمي ولا حدائق كلماتي تجتثُ بكلِّ اجتراحات هذه الخشونة، تستيقظُ مواكب أعصابي، تصنعُ من لعابها خيوطاً وتنسجُ خيمة فوق تعرُّجات دمي، جاذبيّة نهره تسحبه إلى علاليه الخريريّة. شيء من انبجاسِ الفجرِ يضاهي غفوةَ مقتطعة من دمي. أعرفُ أنَّ قلبي يدركُ وشوشة عقارب ساعةَ الرَّملِ. وأعرفُ أن غزالةَ الوقتِ المعاكسِ تحتسي وهجاً من شراراتِ الظهيرة. ذات الفخذِ الذي فقدَ نبضه، مواكب من الشعراء، يطهِّرون دموعَ عينيه ... وحدُها الفراشات تستريحُ على أجنحةِ البرقِ. انّي أفهرسُ قفزات ذاتي ... ألا أيُّها الوعلُ الوديع، ألستَ أنتَ الَّذي تحنِّطُ أسرارنا في متاهات الجبالِ البعيدة؟ مَن يقتلُ شعراءنا يحذف مليون حكمةٍ من دفاتر الشرائع. الوحيد الَّذي بقي على هضبةِ الذَّاكرة، نسيَ أركيلة مصنوعة من دمهِ. ليس لهذا الجموح من صهيل، قالوا: عن حصانِ الخرافةِ "دمه يرتِّقُ ماءَ العشبِ". رأيتُ بوحَ البوذيِّ على خطوطٍ خضراء وبصمات آلهةِ الصَّحراء على جلدِ غزالةٍ مجفَّف، ... انّي أستيقظُ في ظهيرةِ النَّخيل، أبحثُ عن مدنٍ متعرِّجةِ القلبِ، في سهوبِ الملحِ. يحملونَ رهافة صوتهم، ويضمِّخونَ جدائلَ رصانتهم، ومن المؤكَّدِ أنَّهم يرحلون صوبَ صورةٍ تنبجسُ من حوافيها انعكاسات لمرايا، وشموع، ذات هلاهل ضوئيّة تهطلُ كطلٍّ ربيعي، وكصوتٍ ذات إطارٍ مخمليّ ... انّي أحلمُ بروائع نسكي، وتصوُّفي أرجوزةٌ خالدة. نفسي، وهي في انتعاشتها المتسامية تحتسي شوقاً من مياه ينابيعها. وحده المطر الهتون، يعرّي جموعه الصانعة صخباً أزرق اللَّون. كفانوس مصاب بزمهريرِ البحر. وبعفويِّةٍ تامّة أقولُ "انّي أرتقي جدران حدسي". أشلاءٌ لها غبار، ذرّاته لم تدخل إلى دورة حضانة العقلِ، هم في ارتقاء صعودِ العاصفة، يحمّصونَ أرغفةَ موصليِّة، للشتاءاتِ الطارئة. لهذه الأغنية الجبليّة، سديمٌ شفيف، سجفه كلونِ العشبِ، حوافيه معطَّرة، باللثمِ المقدَّسِ، انّي أبحثُ في سهوبِ شنعار عن سلالم موسيقيّة، صنعة عازفٍ عراقي. كلماته مخَمَّرة بخلاصةِ رحيق العسلِ الجبليّ .. أعرفُ جيِّداً أن ضجري حضارة فقدَت حدودها الثلجيّة منذ أزمنة الضفادع الخضراء، رتّقت بإبر عشب البرّية، صهيل الخيولِ الجامحة، آهٍ لا أحسُّ برائحة لذيذة في منحدراتِ النُّجومِ ذات الانبساطِ الفضّي، ... ها أنني أركضُ وراءَ قفائر اللّذة، في سلالاتِ الأرواحِ اللابسة أجساداً، أزمنة تشيخُ بمادَّةِ البياضِ المجفَّفِ. قطيعٌ من خنازيرِ الجبالِ يتفرَّسني، لا شيء يوقفُ مياهَ لذَّتي، كلّ جداول الضَّباب تشتركُ في صنعِ نقطة من ماء طازج، بينما نافذة غديري تصنعُ بؤبؤاً مدبَّباً كحشرة قانية ترمزُ إلى جحيمِ العقلِ المتأخِّر عبر أصوات تصنعها عيوننا، ليس لهذا الصفير الحادّ، رتاجات حمراء. أو علامات من نبيذ معتَّق على لوحاتٍ كبيرة أو فلقة مقتطعة من غابات تجاور بيوتنا الجوزيّة، ليس للأزمنة غبار مقتطع من جسد على صدره 9 ساعات، حاملة، هزائع أوقاتها ... انّها عجرفة أخيرة عالقة على ركبتيّ قمر، لا يعرفُ كيف يغازلُ النُّجومَ، هل ستأتي امرأة الحيِّ إلى ديارنا؟ وهل في سلَّةِ أحلامها عناقيد من عنبٍ أو تفّاحٍ أخضر؟ هل سترقصُ عاريةً قربَ سريرٍ من الجوز؟ آهٍ ، يقال أنَّها رقصَتْ منذُ ألفي سنة، وسترقصُ عبر مسيرةِ الأفلاكِ .. وأخيراً رحلَتْ عبر دروبِ بيادرِ السماءِ .. هم بلا شك ـ يعرفون كيف يستكرشُ المطرُ داخل الغيمة. وكيف تسوّر الشوارع خواصر ستوكهولم. يتوقَّفون ثانيةً يخرجُ الوزيرُ من حجالته شارحاً لضيوفِ المدن البعيدة عن غثيانٍ مستشرٍ في عضلات زمهرير الكتابة، جيّد أن تكون للقبلةِ مظلات خضراء، تحبكُ من أصابعِ لواعجها شعوراً مقتطعاً من مساماتِ رجلٍ فقدَ أعضاء ذاكرته. أحرث وجهك بطاقات مللي. آخذ من دفاتر روحك راحتي. وأرحل صوب انبجاسِ الينابيع. حيث الزمهرير في منحنيات الرَّوابي يتقاسمُ جسدَ الوردة، يهدي من وريقاتها الحمراء لبحيرة أسرابِ الحجل .. بعدَ الإهداءِ ـ يتحوَّل ماؤها إلى بقعٍ قانية من دم الوردة الشهيدة .. لماذا رحلاتي داخل المنافي البعيدة؟ يبقى السؤال أبكم  في تجاويف روحي، ودياجيري أقاليم سوداء. آهٍ يا حامل ألويةِ التشاؤم، متى يفتحُ النَّهار أوداجه لتطلع الشَّمس الحبيبة من حجالتها؟ ... جوزيف عيساوي في رابعة النَّهار أحرقَ قصائده، لا لشيء سوى ليقهقه العالم ملء حنجرته ... انّي أمقتُ جليدَ كآبتي. ومع هذا فهي رفيقة ظلِّي، كلّ هذه التصرُّفات الهجينة المباحة أن يرحلَ باتجاهِ الأفقِ البعيدِ حاملاً على كتفيهِ قمصان هذيانه المرقَّط ... مواكب الأزمنة تلتحقُ بقوافلنا حاملةً قصائد الأمير. أليسَ في حوانيت ذاكرته قفائر فارغة مهداة للمدينة السابعة؟ وحده الرَّقم 7 يحملُ شيئاً من تباريحي. جدائل ليلي قربَ ساقيةٍ تروي شجرة التأمُّل. هم الَّذين ضفروا من دمي إكليلاً لحاملِ القوسِ ... تعالوا يا أصدقاءَ الصيدِ لنصطادَ وجه الشطآن المتسلِّقة حدبة البحرِ ... انني أنتمي قسراً إلى قبائل تشاكسُ كلّ الأبجديات المنفيّة إلى سلالاتٍ ساقطة من خلجانِ الأقمارِ. ها أنني أرى السَّماء يسربلها طيلسان أسود نسجته أنامل الآزال. جفاف نيران الصحارى يترصَّدني. أعبر أوداج نجمتي لأعشق قامة هذياني. هذه أفكاري ـ وهذه نفاياتي ... مَن يطردُ هذه الجراثيم من قوافل البدو وينضحُ قلب قصيدة المدينة بلهب كيمياء تأمل الشيء  البعيد ـ بعدَ الظهيرة أترصَّده أتحسسه يلوبُ بين الحدائق. وبأشواقِ طفوليّة لاهبة، عصافير المدينة تحمل ذعرها المكتوي بأشعةِ شمسِ حزيران ... فجأةً تهتزُّ شباك أشواقي، بينما مراكب فضائيّة مهتزّة السيقان تتركُ بصماتها على التواءات سكك المحطَّات المنفيّة، عن المدينة،. لا شيء في حياة هذه الطُّفولة، سوى ممارسة التشرُّد. ماشياً، بلا زوجين من الأحذية. ومن فرطِ الانشقاقات في قميصي، الشَّمسُ تغزو جسدي ... مساماته كانت ترحِّبُ بكل المرئيات، في الطَّبيعة سلالات صفراء، مائلة إلى الاحمرارِ إذا غزتك بذرت فيك. قصائد الهذيان الأكبر حتماً تنزف مليون فكرة سعيدة. أيُّها الشعراء أنتم من حكماء العالم، اصنعوا أكاليكم لمَن حرقَ هياكل الملاريا ... نسوةٌ قرب سريري، يحدثنني عن هلاكي المؤجَّل بينما أنا أراقبُ كوكباً كبيراً، متمنِّياً الارتقاء إلى ديارهِ، هل في أحواضه السماوية زنابق من نوعٍ آخر؟ ...يوميّاً دجلة مع سرادقه البيضاء ينامُ في سفوحي. الله يغدقُ على حواسي أفراحاً جديدة بينما يضاعف فقري، لكنّي لا أحسُّه ... ربَّما تلكَ القيلولة عادة مكتسبة في الظهيرة، تناولَ الأغنياء غذاءهم الدَّسم من مقاصفهم. أغزو موائدهم ببراثن جوعي، أحياناً أنظر خلسةً. آكلُ سريعاً من مقاصفهم، أتناولُ فتاتهم فقط ... ثمَّ أهرعُ إلى برّية المدينة راكضاً وملاحقاً أسراب القبَّرات وأعودُ أدراجي، وقد نسيتُ كلِّياً تلكَ المناسف، مراقباً الطيورَ في الحديقة الوحيدة. عودة الهداهد من الأنهارِ الصغيرة. طفولتي شبه نسورٍ محلِّقة في فضاءاتٍ بعيدة، لكن رضابها قد جفَّ من فرطِ جوعها. أحلمُ أن أنامَ على عتباتٍ من مصاطب المرمر. كنت كاسفنجة مهترئة تحملُ في أوداجها فجيعة كامنة في أغواري، مهزوزاً دائماً برياحٍ عاتية. البراري تفيحُ حرارتها، الحمامةُ تتآكلُ في طيرانها، تخرجُ السلاهب الزَّرقاء من صدرها. أمشي مرغماً، إلى طاعةٍ سوداء، تصدرُ من معلِّمِ المدرسة. انّها الطاعة السَّوداء، تهدر قبلاتي الناشفة على أيادٍ قذرة، أتصوَّرُ جشعاً داخل غيمة يسربلُ قمّة حواسي، ويتوارى كلّياً وراء سجف أسود، كنتُ وحيداً مع أحلامي، أتفرَّسُ في تعرُّجات ناتئة  في أصنامي، أداعبُ حشرات صغيرة طالعة من بيوتِ حبّي ... أترك نقاط دمي، على جوانب محبرة، بعض هذه النِّقاط انساب كدهنٍ مهراق، يفتحون جريدة القلبِ، ويتناجون بأسماءِ العشقِ. بعض من هذا العشقِ يفتحُ شرنقة الصَّباحِ ويمخرُ في مهجةِ الأشياءِ اللامرئيّة، مثل الأصابعِ السحريّة، امرأة واحدة فقط تتسكّع على أكتافِ القطبِ، تعرفُ أسرارَ القهرِ. هي الّتي نادَت من منبرِ الهيكلِ، وقالت، أليسَ من الخطأ أن نبحثَ عن فارزة معقوفة، تحيطُ بها رياح طالعة من وهادِ قصبِ الخيزران، معبّأة بأسرارِ عقلِ الكلمات المكتوبة في ملكوتِ القلبِ؟" آهٍ، انّني أحملُ أوسمة هذياني. ويبان كصحوةِ الصَّباحِ الباكر، يخرج حلم المجدليّة من أوداجي، وفي السنين الأخيرة، تكون الباخرة القادمة إلينا محمّلة برزمِ الكلماتِ ومشحونة بكلِّ قواميسِ اللغاتِ. اللُّغات التي تمخرُ أسرارها في أعماقي، أليسَ من السخافةِ أن تصبَّ تيارات النهر جزافاً في بحرٍ ما؟ ترشقني سهام الأحلام، بعيدةٌ كانت الخلجان التي صنعها الحبّ من نقاطِ أمطارِهِ. انّي أرحلُ في دهاليزكم الباردة، باحثاً عن لقمةِ خبزٍ ناشفة. هل هناكَ من غرابة، في هذا الاقتحام؟ وهل من سؤالٍ ملحّ؟ في تضرّعاتي الصادقة. أقتحمُ حتّى مسرَّات الله وتهدُّجاتِ القدِّيسين واندلاقِ الكلماتِ من أفواهِ الأنبياءِ وحزنهم المكعَّب. أشيِّدُ أعشاشاً لطيورٍ مصنوعة من دمِ الكلمات. اعلنها صراحةً: "هذا العالم، أعصابه من دماءِ الشِّعرِ وماء ينابيعهِ الأحلى ... ثانيةً". أتريدني أن أرمقَ هياكلَ الضجرِ؟ أتريدني أن أحلَّ أسرار الكلمة؟ الموصل العذراء تعرفُ جيّداً كم كنتُ أعاني من الفقر. مراراً مارستُ طقوسه في سبوتي اليتيمة، أمخرُ في عبابِ مياهِ الكنائس. ومع هذا، كنتُ دائماً أحلمُ برائحة الكباب والطرشي المطجّن، لكنّني في تشرُّدني كنتُ أكثر سعادةً منهم، كنتُ حرّاً في الظهيرةِ المحرقة. أسوحُ في غاباتِ المدينة، أصطادُ من النهرِ الصغير، سمكاً لا ينمو كثيراً ... لا شيء سوى قهري الَّذي يتربَّعُ في حنجرةِ أمِّي، لا شيء يوقفني عن حبِّ البراري، سوى طقوسِ هذه المدرسة، انّي ألعنُ الأيام التي تصرَّمتُ فيها، ... لكنَّني كنتُ أعطي الطوبى لمديرتي الفاضلة. كانت تمسحُ دموعي بأجنحةِ حنانِها، رصانتها مقرونة بأسلحةِ المهابة ... كنتُ أهذي مع نفسي، لا شيء إطلاقاً يصدُّني عن متاهاتِ حرِّيتي، وكنتُ أعي جيِّداً، ماذا أقولُ. لكنّني كنتُ أعاتبُ نفسي، أجلدُها بسياطِ أسئلتي الحادَّة. تعرف، كيف تطلعُ غزالةُ الفرحِ من بواطنِ تاريخِ الأرضِ. يحملُ أوسمة من صليبٍ مضرَّج الحوافي بدمِ الخلاص. يرتقي سلّم المحبّة، ليعانقَ بشفاهِ بؤبؤيه منحدراتِ مدينة ماردين والموصل، ... يصلِّي في هيكلِ انطاكية حيث رموشُ البطاركة تحفُّ كمرواح نسجته أصابع الهواءِ الشفيفِ. تمورُ رشاحة اليراعة بين أناملك، كطلٍّ ساقطٍ، بتؤدّة من أهدابِ نيسان، تغامرُ، تبحثُ عن فجواتِ تطلُّ منها الفكرة وتنبجسُ من خاصرتيها، الروائع نسيت ارتداء قميص ملوِّن، صنعته لك أمُّك. ولكن لم تنسَ، كيفَ تنسجُ الأفكار المجنّحة في خليجِ المحبّة. تذهب عبر الدُّروب، تبحثُ عن صخرة مزبورة بكلمات المحبَّة، تكتبُ ملاحمكَ عليها، وترحلُ عبر مفازاتِ اللُّغاتِ، تمارسُ يوميِّاً أحزان قلمك، وأشواق يراعتك تنزُّ دائماً الحقائق ... البارحة رأيتُ حانوت عطار، وقد علّق لوحة في جدارهِ، كانت رموزاً، صورة، تاريخاً، حبَّاً، وفي بعضِ من نزوات الكلمة عشقاً، رأيتكَ في المدينة المختارة، تملأ جرارك بسلافة. وفي المساء كنت تجفِّفُ، رحيقها، رغيفاً، قرصاً، من تينٍ جبليّ. تغدقها مجاناً على عشّاق المعرفة. تسافرُ، وفي يديك، كتاب، وصولجان أخضر. تسافرُ مع قوافلِ البيلسان، وقد دعوكَ أميراً. ترى متى ستعودُ، وكلماتكَ مثقلة بكنوزِ الحكمةِ؟ وقد كحَّلت أهدابك، أيها الأمير الضائع. أمُّكَ تناديكَ بكلماتِ أرجوزة عراقيّة وتردِّدُ بلوعةٍ أصيلة. آهٍ، ... متى سيعودُ الأميرُ؟ تأخَّرَ بؤبؤكَ الأيمن عن التقاطِ لونِ الحصى المنمَّق مغسولاً برغوةِ البحرِ، مسلوخاً كنغمةٍ ساقطة من فوّهةِ شبابة، حاملاً مسوحك إلى محاجرِ الجبالِ حيث المجازفة الكبرى. لكنَّكَ تتَّجهُ صوبَ الضّياع المقهورة بأسلحةِ شمسِ الخريف، حيث الشِّعاب ملتهبة بتيارات الصواعق مكتنزة أشعّة صافية تغدقُها على برزخِ العقل.

الطفولة: نصّ  للأب الرَّاحل د. يوسف سعيد، من ديوان: السَّفر داخل المنافي البعيدة.
الأب د. يوسف سعيد
شاعر عراقي رحل بتاريخ7/2/2012، من روّاد شعراء جماعة كركوك الأدبية. وقد تمّ إقامة حفل تأبين أدبي كبير له في ستوكهولم 11/3/2012، شارك فيه بعض الكتاب والنقّاد والشعراء والشاعرات من داخل وخارج السويد.

47
المذيعة مايا مراد تحاور الأديب الفنان صبري يوسف عبر برنامجها بقعة ضوء


التقت المذيعة مايا مراد التي تعمل في الفضائية السريانية، "سوريويو سات" مع الأديب والفنان التشكيلي السوري صبري يوسف عبر برنامجها بقعة ضوء، "سبوت لايت"، وسلّطت الضوء على علاقة الأدب والفن بالحياة والجوانب النفسية والاجتماعية وبتقدم المجتمعات، كما تطرَّقت إلى تجربة صبري يوسف الأدبية والفنية، وقد جاء اللقاء سريعاً وعفوياً، مع أنه استغرق قرابة ساعة ونصف، مرَّ الوقت كأنه دقائق معدودة نظراً للتفاعل المثمر ما بين معدة البرنامج والضيف، وقد توقّف صبري يوسف عند الأدب كحالة إبداعية ثم أشار إلى وظيفة الأدب والفن ومهامه في المجتمع ودوره في حياة المجتمات البشرية  منذ الأزل وفي حياتنا المعاصرة الآن. وقد أشار الأديب الضيف إلى أنه من الضروري أن تولي مؤسساتنا الإهتمام الكبير لدور المبدع بشكل عام لأنه عصب الحياة فالكاتب والشاعر والفنان والأديب والباحث والمفكر، هو الذي يقدم خلاصة تجربته ورؤاه ورحيق إبداعه للآخر وعلى هذا الآخر وتحديداً مؤسسات الدولة والمجتمع في أي مجتمع من المجتمعات البشرية الوقوف ملياً عند تجارب المبدعين لأنهم صفوة المجتمع، مشيراً إلى أن مؤسَّساتنا السريانية والشرقية تهمل دور المبدع، وقد أشار يوسف في سياق ردوده على تساؤلات مديرة البرنامج على أن أوربا لم تنهض من عصر الظلمات وعصر الصراعات والحروب إلا بإعتمادها على مفكريها ومبدعيها لأن النخبة المفكرة والمبدعة هي التي تدفع المجتمع قدماً إلى الأمام جنباً إلى جنب مع العامل والفلاح، وكل مجتمع لم يولِ هذا المبدع إهتماماً جاداً وكبيراً نراه يرزح تحت كابوس التخلف والتحجُّر والحروب ومتاهات الانغلاق والتراجع والتقهقر ولهذا لا مفرّ من إعطاء دور النخبة المثقفة في أي مجتمع كي ننهض بالبلاد ونواكب بالتالي حضارة العصر.


ويرى صبري يوسف أن بناء الإنسان منذ تشكله جنيناً في رحم أمه مهم جداّ ثم رعايته وهو طفل بحيث أن ينمو نمواً طبيعياً بعيداً عن أية ضغوط قمعية واقصائية في كل مراحل عمره كي يقود هذا الطفل في مستقبل الأيام البلاد على الصعيد الذي يعمل فيه، لأن الطفل المقموع لا يمكن في مستقبل الأيام قيادة المجتمع، فهو يرى أن سبب تخلف المجتمع أي مجتمع يعود إلى عدم رعاية الطفولة ـ الإنسان كإنسان، وشدَّد على ضرورة التوقف عند الانسان كإنسان بعيداً عن التعصب الديني والقومي والعرقي والغربي والشرقي والقارّي! كما ركّز على افتقار التوجهات للسياسة العالمية على دور الجانب الأخلاقي الخلاق والروحي الخلاق، حيث يرى أن تركيز الدول الناهضة غالباً ما يكون على الجانب الاستهلاكي ويرى الطفولة غائصة في الكثير من بلاد الغرب في عوالم استهلاكية تؤثر سلباً في حياة المجتمعات على الصعيد المستقبلي لهذا يرى أن هناك فساداً في العالم ككل بما فيه الغرب أيضاً، ويجب التفكير جدياً في توجيه الطفولة في أصقاع الكون والتركيز على ما هو مادي وروحي إنساني علماني ديمقراطي حقيقي وليس التركيز على الاقتصاد وكأنه الهدف الأول والأخير في الحياة، مع أنه يرى أن الاقتصاد هو عصب الحياة لكن شريطة أن لا يكون على حساب خلخلة أخلاقيات قرون من الزمان!
ندعوكم لحضور اللقاء الذي أجرته المذيعة مايا مراد مع الأديب الفنان صبري يوسف يوم الاثنين القادم الساعة السابعة والنصف مساءً بتوقيت ستوكهولم المصادف 9.4.2012. آملين أن تقضوا وقتاً ممتعاً ومفيداً، كما آمل أن تقدم فضائياتنا المزيد من اللقاءات والحوارات مع مبدعينا على أكثر من صعيد لأن المبدع هو مرآة مجتمعه وهو البوصلة التي تقود المجتمع إلى التطوير والتنوير وإلى برّ الأمان والسَّلام والوئام بين البشر كلَّ البشر.
صبري يوسف ـ ستوكهولم



48
مشاركات بعض الشعراء والشاعرات من داخل السويد
في حفل تأبين الأب يوسف سعيد



 

افتتح الشاعر صبري يوسف مدير حفل التأبين الأدبي الخاصّ بالشاعر الراحل الأب يوسف سعيد بالوقوف دقيقة صمت على روحهِ الخلاقة. ثم قدّم المشاركين والمشاركات وقرأ بعض المشاركات الخارجية.
فيما يلي ننشر كلمة الافتتاح مع مشاركات بعض الشعراء والشاعرات من داخل السويد.
 أيّها الأحبّة
أيّتها السيدات والسادة،
بإسمي وبإسم أعضاء لجنة التأبين (الشَّاعر صبري يوسف، الفنّان التشكيلي كابي سارة، الفنّان المسرحي وديع عمسيح، الشاعر د. كبرئيل أوسي، الشاعر ألياس عنتر والشاعر جوزيف قسطن)، نرحِّب بكم أجمل ترحيب بإحياء هذا الحفل التأبيني الأدبي الخاصّ بالأب المبدع الرَّاحل يوسف سعيد، تقديراً لهذه القامة الإبداعيّة الخلاقة والتي أعطَتْ للشعر العراقي والعربي والسرياني الشيء الكثير، من خلال تفاعلها العميق مع جماعة كركوك الأدبية، حيث رفدَ شعراء جماعة كركوك أرقى أنواع الشعر المعاصر والحداثة الشعرية الرائدة على الساحة العربيّة والعالمية، ومن خلال شهادات مجموعة من شعراء جماعة كركوك الأحياء، وبعض الكتاب والأدباء والنقَّاد، سنجد تأكيدهم على أهمية وفرادة التجربة الأدبية للأب الرَّاحل، حيث تميَّزَ بخياله الجامح، يأخذ القارئ إلى فضاءات فسيحة وخلاقة، يخطُّ جملته الشعرية وكأنّه يلتقطها من خاصرةِ السَّماءِ الصَّافية، ومن أهدابِ النجوم، ليقدِّم للقارئ خطاً شعرياً متفرّداً ومتدفقاً بالإبداع.
هناك توق شديد لدى الشَّاعر للارتقاء والسُّموّ نحو أحضانِ السَّماء، حيثُ تلوَّنت شفافية روحه بهذا النُّزوع نحوَ عالم السُّموّ والارتقاء، ربّما لكونه أبّاً روحيَّاً، عمل أكثر من نصف قرن من الزَّمن في عالم الكهنوت، جنباً إلى جنب مع عالم الشِّعر، المتعطِّش إلى سماء القصيدة، سماء الرًّوح، سماء الإبداع، سماء الأب يوسف سعيد، وسماؤه لها نكهة خاصّة، نراها مطرّزة برحيق الكلمة، المتطايرة من تعاريج الحلم!.. مستمدّاً من رحاب رؤاه الحلميّة بناءً مختمراً في ذاكرة الشَّاعر التواّقة إلى مزج الواقع بالحلم والخيال فتأتي القصيدة متفرِّدة في بنائها وأسلوبها، حيث يقول:
" انّي أستيقظُ في ظهيرة النَّخيل، أبحث عن مدنٍ متعرِّجة القلب، ...
انّي أحلم برائعِ نسكي، وتصوُّفي أرجوزة خالدة" ".. وحدها الفراشات تستريح على أجنحةِ البرق" ..
من قصيدة الطفولة، المنشورة في ديوان: السفر داخل المنافي البعيدة، ، الصادر عن دار الجمل.
sabriyousef1@hotmail.com

*****
فيما يلي مشاركات بعض الشعراء والشاعرات من داخل السويد:

الكاهن وبحار القصائد

قصيدة كتبت خصيصاً لتأبين الأب الشاعر يوسف سعيد

ألياس عنتر

أيها الشاعر المُجيد.
يا كاهنَ الكلمات السرمدية.
كنت دوما تستشعر وتُجيد.
بالنور والنار وتلك الثعابين التي كنتَ تراها
تتدلى من الأسقف دون أن تُحيد.

يا أبانا المُخضرم
يا وجهاً شامخاً
يومئُ لكلِّ قواميسِ الكلمات
يجمعُ الأشعارَ وصلبانَ الكنائس
وزيتَ القناديل.
لترتعدَ به روحَ المُريد.

قلتَ مراراً
"أراقبُ كوكباً كبيراً، متمنِّياً الإرتقاء إلى دياره"،
فها أنت ذا هناك.
في الكوكب الكبير
ترتقي وتسمو في دياره.
تكتبُ الأشعارَ حول أحواضه السماوية وزنابقه الغريبة.

يناديكَ دَجلة مع سرادقة في كل المساءات
لينامَ في سفوحك.
ماهذا الخيالُ الجامحُ الذي ينتشي في صدرك يا أبا غيث؟
أجل, بدأت العوالم الأخرى تناجيك.
لتنثرَ شجونَك هنا وهناك

لتفرُشَ عبقَ قصائدك المغموسة بمياه الأنهار.
لتحوّل وجهك الفراتي
إلى قوافلَ من الوشوشات والهمسات.

لن ننساك,
ولا نقوى على التخلص من صوتك الأجش
الموزون بمقامات الغناء ومناجاة السماء.

لن نُحيد عنك, بل سنناجي روحَك دوما في
سراديبنا المقدسة.

سنرسمُ تلك الملامحَ الشاعرية في دفاترنا.
سنهمسُ لك دوماً أجمل قصائِدنا.
وسنستمع إلى صوتِك القادمِ عبر الأثير.

لنعيشَ في تلك العوالم التي حلقنا فيها معاً
وننقشَ تواريخَ الذكرياتِ على أحجار المكان
فأنت الأرضُ والهضابُ والجبال.
ونحن نسمةٌ عابرة.. في هذا الزمان.

منْ وشمَ كلُ هذه الفسيفساءِ اللونية ِفي ذاكرتكَ
المعبأة بدهاليز التراتيل والصلوات؟..
المشتعلةِ مثل شموعِ الرهبان والراهبات.

كمْ من القصائد اتكأت على خاصرة رؤاك؟.
أي يَراعٍ نزفَ ونثرَ الأحرفَ في سماك؟.

يا قِديسَ الأحرفِ والكلمات
السَّفرُ داخلَ منافيكَ البعيدةِ توهٌ وضياعْ
تركُ نقاطِ دمِك على جوانبِ محبرتك،
تشبيهٌ بليغٌ كُلل بتاج الإبداعْ.
"بعضُ هذه النِّقاط تنسابُ كدِهنٍ مِهراق"،
بلاغة لم تدوّن بأي يراع.

لن أقول وداعاً..
لن أقول وداعاً..
لأن صوتَك المحشرج.
كلماتَك المقدسة.
حروفَك المرتعشة في الأرض.
تخترقُ الجدران
تسكن في الأسماع.
تُبلسمُ الأرواحَ
وتطيّبُ أشدَّ الأوجاع.


السويد: 10 آذار  2012
ألياس عنتر
كاتب وشاعر سوري مقيم في السويد

*****

أبونا يوسف سعيد أنشدَ الأشعار
1
كابي سارة

 أبونا يوسف سعيد
طائرٌ حطَّ  من السَّماءِ   
أنشدَ الأشعارْ
 في أيامِنا واستراحْ.

طائرٌ حطَّ من السَّماءِ
 غردَّ الضّحَكات
فوقَ أرواحِنا واستراحْ

ملاكٌ حطَّ من السَّماءِ
 وزَّعَ الورودَ في المنابرِ
والكنائسِِ 
وبين الناسْ
فتركَ في جيوبِنا وقلوبِنا
وأرواحِنا.. وأيامِنا 
حديقةَ وردٍ
وملائكةً يُنشدونَ صوراً ... وأشعارْ
وكلاماً طيّباً عن محبَّةِ اللهِ للإنسانْ

لِيُعلِنَ لنا:
وجودَ محبَّةِ اللهِ في قلبِ الإنسانْ .

2
أبونا يوسف سعيد رحلَ عَنَّا
في يومٍ شتائِيٍّ قارص
والأشجارُ عاريةٌ مِنَ الحنين

ودّعَ أميرَتَهُ وأولادَهُ
ودّعَ كُتُبَهُ .. أقلامَهُ .. وأوراقَهُ
بإِبتسامَتِهِ الحنونة
كرسمةِ طفلٍ في العاشرة
ودّعَ الأهلَ والأحبّة
الذين يَسرحونَ فوقَ حقولِ قلبِه
كغزلانِ البراري المتحرِّرة
من بنادقِ الصيادينْ

ودّعَ الأصدقاءَ والغرباءْ
كأطفالٍ يشربونَ دِفءَ الشَّمسِ   
يفرحونَ ويمرحونَ بهدايا ومأكولات
      ليلةِ عيدِ الميلادْ

ليُعلِنَ لنا :
رغمَ برودةِ شتائِنا القارصْ
وأشجارُنا العاريةُ من الحنينْ
دِفءَ محبَّةِ الإنسانِ لأخيهِ الإنسانْ

3

أبونا يوسف سعيد
عَرَفناكَ منذُ عشرين عامٍ أو أكثرْ
طفلاً مُدَلَّلاً نسيَ أن يكبر
إنساناً حنوناً
لم تثنِهِ أوجاعَ السنينْ
عن الرَّسمِ بريشةِ الحنينْ
وكتابةِ الأشعارِ بنبضِهِ الأبيضْ
فوقَ قلوبِنا الدَّاميةَ بأشواكِ السِّنينْ

أباًَ حكيماً يَهدي قلبه كلَّ حينْ
كوردةٍ بَيضاءْ
للمؤمنين
للمقرَّبينْ
والبعيدين

لتُعلنَ لنا
أنَّ المصلوبَ على قامةِ الشِّعرِ
والرَسمِ والدين
طفلاً مُدَلَّلاً نسي أن يكبر
ولكن يُقاتلْ بمحبَّةِ قدّيس
 يقاتل ولا يُقهَر ... ولا يُقهَرْ   

4
أبونا يوسف سعيد
نثرَ عبَقَ الإيمانِ في حياتِنا
نثرَ عبَقَ التاريخِ والأدبِ في دروبِنا
حدّثنا عن حكمةِ ابن العبري
 وأشعارِ مار أفرامَ السريانيّ.
عن بطولاتِ رجالاتِ آزخَ
وشهداءِ الرُّها وطورَ عابدين

 حدّثنا عن الشعراءِ المنبوذينْ
عن جبران والأفاعي المتدلِّية من سقفِ بيته
عن هُروبِ سركون بولص مشياً على الأقدامِ
     من العراق الى بيروتْ.
وعبثيّة جان دمّو في السَّاحات
وآخرينَ شرَّدَهم سياطُ الفقرِِ والجلادين     
كأنَّهُم رُهبانَ المغائرِ طيبين و متشرِّدين

حدثنا عن يسوعَ ابنُ الانسانْ
خبزُ الطيبينْ
شمسُ الحزانى
وراحةُ المتعبينْ
وقالَ: لماذا لمْ نفهمْ يسوعَ حتى الآن
رغمَ مرورِ الآفَ السنين؟؟؟
فعرفنا:  أنَّكَ علَماً من أعلامِنا
وشهيداً أضاءَ لنا حياةَ الشهداءْ
نوراً وبهاءْ

5

أبونا يوسف سعيد
معاً أنشدنا الأشعارَ في الأُمسياتْ
معا تحدّثنا عن فرحِ الألوانِ
ونسمةَ روحِ الإنسان في اللَّوحات
معاً ضحكنا لنبعدَ الغيوم 
غيومَ أوجاعِ السنين

وحينَ كنتَ تقرأ الأشعارَ
تُشرقُ الشمسُ فوقَ كرومِنا
وغربتِنا
وأيامِنا الحزينةِ الماضيةْ
ويركضُ الأملُ . نحوَ أيامِنا القادمةْ
كقدّيسٍ حنون
عزيزُ النَّفسِ،  حضرَ بيننا
يُزيحُ بصوتِهِ همومَنَا ... وأحزانَنا
ليُعلنَ لنا:
أنَّ لقاءَ الفنِّ والإنسان
نوراً لجنّتِنا الأرضية القصيرة
6
طوبى لمن أحبَّ الناسَ وأحبُّوهُ
وكانَ قلبهُ  بيتَ محبةٍ للمتعبينْ

طوبى لمن كانتْ يداهُ حمامةَ سلامٍ                 
 وعوناَ للصديقِ والآخرينْ

طوبى لمن نثرَ فرحَ الرياحينْ
فوقَ أوجاعِ الطيبينْ

طوبى لمن بقيَ طفلاً صابراً
لم تثنِه أوجاعَ السنينْ
وابتسامته وسادةً للمسافرينْ

طوبى لمن جمعَ في إيمانهِ أزهارَ الجِنانْ
وقدّمها للذاهبينَ والقادمينْ

طوبى لمن رفعَ أعلامَ الصلاحْ
للقريبين والبعيدين

طوبى لمن كانت أشعارُهُ ثمرَ عفافٍ
و روحُهُ مائدةَ عشاءٍ للمغتربينْ ..

طوبى لمن احتضنَ في شخصهِ نورَ العالمِ                           
فكان نوراً لأقدامِ الآخرينْ ..

طوبى لمن كانت حياتُهُ
شجرةً مغروسةً في بستانِِ القدِّيسينْ
فأصبحَ صورةَ رجاءٍ للحاضرينْ

 طوبى لمن عرف أبونا يوسف سعيد
 لأنَّ السَّعادةَ لن تفارقَه الى أبدِ الأبدين
 الى أبدِ الآبدين

كابي سارة
فنان تشكيلي سوري وشاعر مقيم في ستوكهولم
                                               
*****

صرخةُ رثاءٍ أُطلقيها في روضةِ الشُّعراءِ

سعاد اسطيفان


ما بينَ فرحِ السَّماءِ
وأنّاتِ حُزنِنا العميقِ
إنسابتْ مآقينا
تبكي شاعراً أبحرَ عميقاً
في مَروجِ الرُّوحِ

غاصَ بين حُقولِ الربِّ
وينبوعِِِِ ِالشِّعرِِِ
ضِحكتُه الوديعةُ ُتنضحُ
فوقَ ضياءِ القصيدة
مفعمةً ًبالمحبّة
بشوقِ الحرفِ إلى تيجانِ الأعالي
رفرفَ عالياً كأنّه
من بوحِ ِاليمامِ

صرخةُُ رثاءِ أُُطلقُها
في روضةِ الشُّعراءِ
في معراجِ العبورِ إلى كنوزِِ السَّماءِ
فمن شواطئِ ِالدُّفءِ
إلى زمهريرِِ ِالجليدِ
حيثُ بياضُ الثلجِ ِيزدادُ عبوراً
في ينبوعِ ِالقصيدِ

الأبُ يوسف سعيد
أيّها الغائبُ الحاضرُ
حروفُُكُم تغفو فوقَ شراعِ الرّوح ِ
في حنايا القلبِ
وعناقيدُ العنبِ تبرعَمَتْ
في كينونتكم
في دماءِ الشِّعرِِ

بفخرٍ تقفُ بنتُ السِّريان
في تأبينكم
آه ...أبونا يوسف سعيد
قلوبٌنا حزينة ٌ
ترنو إلى ضريحِكُم ُالمُسجّى
على أنغام ِالقصيدةِ

يا منْ غلبتُم ُالعالم
وامتطيتم صهوة َالمجدِ
كمْ سهماًتلقّيتُم في صدركُم???
والبسمةُُ ُمرتسمةٌ ٌعلى مُحيّاكم
لا يُغريكم سوى نورُ القصيدةِِ!

يا نجماً مشرقاً في بوح الخالدين
مِن خيوطِ الصبرِِ
نسجتُم أنفاسَكم
وبأسرجةِ الضياءِ
حزمتُم
إضمامةََ َإبداعِكم
وعلى أنينِ جِراحِنا
لحنَ الوداع عزفتُم

فوداعاً
وداعاً يا رسول الشعر وداعاً
فما مسكنك الآن إلآ في جِنان السماء
كمْ رفعتَ كأسَ الرب بينَ يديكَ
فاستحال دماً والخبزُ جسداً
ماهمّكَ صعوبة ُالدرب ِ
وأنت تسلُكَه
على صليب يسوعَ
كنت مُستندا

أنتَ الآن
في مجد العُلا تنعمُ
فاحفظْ لنا بقربك ركناً
إن أتيناك غدا
هنيئاً لك أبونا يوسف
جنانَ الخلدِ وطنا
عزَّ على الكثيرين
وأنتَ استوطنتَه أبدا


سعاد اسطيفان ـ بنت السريان
شاعرة عراقيّة مقيمة في ستوكهولم

*****

مُحارة القوافي

غسلت دموعيَ أوراقي
وَمالت نحو المغيب كُل أحلامي
وَأقلامي
وعِبرَ الغوص في أعماق البحار
في الزمنِ الدّوار
أبحثُ عَن جواهرِ الكلمات
في أصداف الشعرِ والأدبِ
في قلب الراحل السعيد
أبحثُ عن محارة القوافي
من آزخَ الى نورِ السريان
يوسف سعيد
رحلَ عنا في طلعةِ الفجر

هكذا شاءت الأقدار
أن تأخذ منا فنار الكلمة والقلم
رحلَ عنا
من بيننا
من حولنا
تارِكاً اللوعة في المداد
تاركاً الحزن في اليراع
حتى بَكتهُ أعمدة الشِّعرِ
وَروح الشعراء

وَلم يبقَ غير البكاء
غير نزر العطاء
ورحيل الدموع صوب الفضاء
وتركَ الأوراق جاثمة ... خجولة
في وحشة اللقاء
مُصابٌ جَلل
في دفترِ اللغةِ والكلامِ
وفضاءات يوسف سعيد
صارت ذكرى ووجل

كان قوس قزح مرتب الألوان
كخدِّهِ الوردي
يزهو في كلِّ مكان
وعباراته على مجاميع أشعاري
لا زالت تمرحُ في أغواري
كيفَ أنساكَ وأنتَ أستاذي
وَمدار شعري وأفكاري
كيف تنفصل روحك عن الجسد

كيف لا تنفصل من فراقك
السماء عن الأرض
والدموع هدّارة في المآقي
تصرخُ وداعاً يا سيَّدَ الشِّعرِ والأدبِ

يعقوب صومي
شاعر سوري مقيم في ستوكهولم

*****

قافية الجبل الأشم

لروح الأب الدكتور يوسف سعيد

يا قافية الجبل الأشم مهلا
يا مداد الأمجاد رفقا
يا مُحمّلا بالثمار تحنـّن بقافية
فمن بعدِكَ الشعر صارَ قفرا

يا سيد المربد
يا كاهن المعبد
تعال واستلقي عند الساقية النبية
واملأ من مدادك أسرار الأبَدية
قـُم ، فمن بعدكَ القوافي

صارت أرضاً بَورا
واليَراعُ صارَ يَلعب به العري المسكين
يسلبه شيطان الجفاف
ويهفو الأدب اليك
يغوص في حنانيك باحثاً عن كأس المُنى
عن فيض النقاء المنهمر من نضد يَديك
والشعر يصرخ في وجه الكون
من بعد يوسف السريان من أنا

من بَعدِكَ يا سيد الأشعار
صار اليوم يضغطً خطاه
خطوته صارت ألف عام
يَسير الشاعر فيه مًرتجف الأغصان
يَبحثً عن ثمر قدسي
عن شجر وأنوار
وعن موسم حصاد وشحرور
وفي غفلة يفيق من كـَبوَتهِ محملا بالهموم
بالوجوم
لا يعرف كم من الحزن تخطـّى
كم من دًنباه أخذ وأعطى
لكنه يعود إلى الربيع المذبوح
حيث التكريم بعد الممات
حيث النعمة ممنوعة في الحياة
والحياة فارغة حتى من الذكرى
والمنزل ضيقٌ كقبر مفتوح

حتى صرنا لا نعرف على مَن نبكي وننوح
ومطر السماء صار شوكاً بين أحداق الرثاء والذكرى

أفلا تنهض يا خالداً كالربيع
ألا يكفيكَ سفراً وبُعداً ورحيلاً
ألا تَنهض وتُنضد الكلمات نثراً وأشعاراً
وتملأ الفجر الضحوك أفكارا
ألا انهض يا فيلق الشعر
فصدر القوافي اليوم
برحيلِك يتـّمتَ وأبكيت

واصف عزو البرطلي
شاعر عراقي مقيم في ستوكهولم




 

49
جمعية المرأة المغربيّة في ستوكهولم تستضيف الأديب والشَّاعر السُّوري صبري يوسف

صبري يوسف ـ ستوكهولم
تقوم جمعية المرأة المغربيّة بإعداد أيام ثقافية مغربيّة في ستوكهولم، وتستضيف عبر أيامها الثقافية الأديب والشاعر السوري صبري يوسف للمشاركة في قراءة مقتطفات شعرية من نصوصه الجانحة نحو السلام والفرح والحب، ضمن برنامجها الثقافي والفنّي المتنوِّع.
تبدأ الأيام الثقافية إعتباراً من يوم الاربعاء المصادف: 29. 2. ولغاية 3. 3. 2012 يشارك في هذه التظاهرة الثقافية والفنّية والاجتماعية مجموعة من المشاركين والمشاركات من المغاربة والسويديين والمهاجرين، وقد تمَّ اللقاء في أول أيام التظاهرة الثقافية مع مسؤولين في المعهد السويدي الثقافي التابع للوزارة الخارجية السويدية وأجابوا على أسئلة الجمهور، كما تمَّ اللقاء مع بعض البرلمانيين السويديين وناقشوا عبر اللقاء الكثير من القضايا المتعلِّقة بالمهاجرين والمغتربين.  وتمَّ اللقاء مع السيدة "كيرشتي كولوتوف" من الإتحاد النسائي الأوربي ـ السويدي ودار نقاش مفتوح مع الجمهور، وتحدَّثت السيدة "إيفا نيكل" خلال اللقاء معها عن المساواة والحرّية وحقوق الإنسان.
وفي اليوم الثاني ألقَت رئيسة جمعية المرأة المغربية السيّدة مريم المزوّق كلمة تحدَّثت فيها حول دور الجمعية المغربية في التواصل مع المجتمع السويدي وخلق حالة اندماجية ثقافية في المجتمع الجديد والتعاون مع بقية المؤسّسات والجمعيات في الكثير من النشاطات الفنّية والثقافية والاجتماعية.
وقد تحدّثَت السيِّدة نعيمة المشرقي حول تطوُّرات الفن في المغرب، وألقت السيدة "كريستينا إين" كلمة عن القضايا الثقافية وهي ممثلة عن وزارة الثقافة السويدية. وتحدّثت السيدة عائشة لخماس بشكل مستفيض عن حقوق المرأة وأجابت عن أسئلة الحضور.
 ويتخلَّل برنامج أيام ثقافية مغربية جولة سياحية في مدينة ستوكهولم وزيارة المتاحف ثم ركوب باخرة تسير في أعماق المدينة عبر بحرها المتوغِّل في حنايا صدرها المعبّق بالفرح، لمشاهدة معالم المدينة  والجزر القريبة من البحر التي تمنح ستوكهولم مساحات فسيحة من الجمال والبهاء، وستوكهولم معروفة بكثرة بحيراتها وجزرها وجمال غاباتها وروعة (المدينة القديمة) إحدى أروع مناطق ستوكهولم القديمة. ويصوّر كافّة فعاليات الأيام الثقافيّة المغربيّة المصوِّر البارع شكري لازار بعدسته الجميلة.
وفي اليوم الأخير من الأيام الثقافية سيتم إحياء أمسية فنّية أدبية يلقي خلالها الأديب والشاعر السُّوري صبري يوسف مقتطفات من قصيدته: "السَّلام أعمق من البحار"، التي تدور فضاءاتها حولَ الحبِّ والفرحِ والسَّلام والتواصل الإنساني الخلاق.


sabriyousef1@hotmail.com

50
الشَّاعر المبدع د. يوسف سعيد إلى مثواه الأخير




تمَّ تشييع جنازة الأب الشاعر د. يوسف سعيد في سودرتالية، إحدى ضواحي ستوكهولم، اليوم 27. 2. 2012، ضمن مراسيم دفن مهيبة، حضر مراسيم الدفن الكثير الكثير من الأهل والأصدقاء والمحبين والمهتمِّين بالأب يوسف سعيد كاهناً بديعاً وبالشاعر يوسف سعيد مبدعاً خلاقاً، ليلقوا عليه النظرة الوداعية الأخيرة ويشّيعونه إلى مثواه الأخير.
إن أروع ما كان يمتاز به الأب الرَّاحل هذا الهارموني البديع بين النزوع الرُّوحي والإبداعي، حيث كانت القصيدة عنده جزءاً لا تتجزَّأ من عوالمه الرُّوحية الشَّفيفة، وهو برأيي أحد أهم الشعراء في خلق هذا التوازن الخلاق، ومَن يقرأ نص الشَّاعر الراحل، يشعر أنه أمام كائن شفيف مثل زرقة السماء، نجمة متلألئة بالفرح، أو كأنه نسمة غافية فوق أزاهير نيسان، ينتظر عودة السنونو إلى أحضان الربيع، لديه لغة شعريّة مبهرة، عميقة، مليئة بالصور الجديدة، فضاءاته لا تخطر على بال، ينسج في سياق نصّه أحياناً مفردات شعبية، أو عامّية بانسيابية راقية وكأنّها مفردة قاموسية فصحى من حيث مدلولها وإيقاعها الهادئ فوق خيوط القصيدة، يبدو لي وأنا أقرأ نصوصه كأنّي في حضرة ناسك متنسّك لبهجة الشِّعر، ناسك من طراز القدِّيسين والرُّهبان الحقيقيين، ولكن برهبانيّة حداثوية خلاقة، من حيث تبتُّله ليراعِ الشّعر والروح والحياة، لم ألتقِ به يوماً إلا والبسمة كانت مرتمسة على وجهه كأنه مبلَّل بماء الطفولة الأزلي. وكم توقّفت عند قصيدة الطفولة التي كانت مناسبة لأن تكون مدخلاً لملحمة شعرية مفتوحة على شهقة الشفق، وسألته في أكثر من حوار تلفزيوني عن هذا النص البديع على أنه غير منتهي، لأنه مفتوح على عوالم ثرية باذخة في حبق الإبداع من حيث تجلِّيات الحالات والصور واللغة وكيفية اسقاط عوالمه في رحاب الطفولة، فكان يؤكِّد لي أن النص فعلاً لم يكتمل وممكن أن يستكمله، ولكن الأب يوسف سعيد رحل ولم يتمم نصّ الطفولة ولا نصوص: الأرض، التراب، السماء، الماء ..
 أسفار الأب يوسف سعيد كانت كما جاء في عنوان أحد دواوينه: السفر داخل المنافي البعيدة، أسفار عميقة الأغوار، لأنها تنبع من تدفقات شاعر معرّش في دماء القصيدة، حيث كان الأب الشاعر يسوح في فضاء القصيدة بحرية مطلقة، لا يحدّ من كتابة نصه أي رقيب أو حسيب، يصغي إلى مشاعره وخياله وتدفُّقات روحه التي كانت متهاطلة مثل زخَّات المطر وكأنَّها بسمات الأطفال وهم يرتمون بين أحضان أمهاتهم. 
 سيتم إقامة صلاة القدَّاس والجناز على روحه يوم السبت القادم 3. 3. 2012 في نفس كنيسة مار أفرام في سودرتالية، كما سيتم إقامة حفل تأبين أدبي للأب الشاعر الراحل بتاريخ 11. 3. 2012، الساعة الرابعة في صالة مار أفرام، حيث سيشارك بكلمات تأبينية أدبية ونصوص شعرية مجموعة من أصدقاء الشاعر الراحل الأحياء من جماعة شعراء كركوك، إضافة إلى مجموعة من الشعراء والأدباء والفنانين وأصدقاء الأب يوسف سعيد من داخل وخارج السويد، كالشاعر فاضل العزاوي والشاعر صلاح فائق والشاعر عدنان الصائغ والشاعر إسحق قومي والشاعر هشام القيسي والشاعر هاتف الجنابي والشاعر وليد هرمز والشاعر شربل بعيني وآخرين .. وفي هذه المناسبة أرى من الضروري بل من الضروري جدّاً أن يقيم إتّحاد الكتاب والأدباء العراقيين حفل تأبين أدبي للأب الشاعر يوسف سعيد في بغداد وفي كركوك لأنه أحد كبار شعراء الحداثة الشعرية في العراق والعالم العربي وهو من جماعة شعراء كركوك البارزين الذين تركوا أثراً كبيراً في الشعر العراقي والعربي، وهكذا رحل الأب الشاعر يوسف سعيد وترك لنا القصيدة ترفرف عالياً. ستبقى أيّها الشاعر المبدع خالداً فوق جبهة الحياة، ستزورُنا عبر قصيدتك في الصَّباحات الباكرة، وفي رابعة النّهار وفي اللَّيل الحنون ونحن في أعماقِ الحلم! 
ألستَ القائل يا صديقي المعرّش في مآقي الرُّوح؟!
"وحدُها الفراشات تستريحُ فوقَ أجنحةِ البرق"


صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com


51
فضاءات الأب يوسف سعيد، (الأرض، التراب، السَّماء، الماء)



أربع قصائد للأب الشاعر يوسف سعيد مع تقديم الشَّاعر صبري يوسف لهذه الفضاءات الرحبة

فضاءات الأب يوسف سعيد، فضاءات مفتوحة على أبجديات الكون، لغة من لون الشفق الصباحيّ، من لون العسل البرّي، من لون الماء الزلال! .. من لون أرض خصبة، خصوبة الحياة، من لون تربة "بازبداي"، يحمل بين ثناياه بذور المحبّة، لينثر ذراته على وجه الدنيا لعلَّ هذه الذرات تعطي خيراً وفيراً للبشر، كل البشر!

الأب يوسف سعيد حالة شعرية متفرّدة للغاية، هو نزيف شعري متدفق في كل حين! .. لا أظن أنه ينتمي إلى (جيلٍ ما)، انه جيل .. يتناسب أن نقول عنه (من كلِّ الأجيال!) ..
صنّفه بعض النقاد من جيل الستينيات، لكن هل توقّف الشاعر عند جيل الستينيات أم تغلغل إلى كل الأجيال التي جاءت بعده؟! .. وهل هذا التغلغل تطاول على أجيال غيره أم انه انصهار تامّ في ديمومة تجديد الشعر عبر كافة منعطفات الأجيال المرافقة لمحطّات عمره؟! ..

كيف يكتب الأب يوسف سعيد القصيدة؟ ..
الحياة عنده كتابة، والكتابة هي حياة متجدِّدة عبر غليان شعري .. ومن خلال تراكم هذه الغليانات، توصّل الشاعر إلى حالة ولا كل الحالات، انها نزيف شعري دائم .. يتدفّق شعراً كنزيف!

الزمان والمكان عنده ليسا مهمين، يكتب في أي زمان وأي مكان! وعندما يكتب قصيدة ما، لا تنتهي عنده، تبقى القصيدة مفتوحة، لأن النزيف الشعري عنده مفتوح على فضاء الكون! .. ولا يشعر بالموجودات التي حوله أثناء الكتابة، يتقمّصه الشعر فيكتب ويكتب ولا يتعب من الكتابة، كأنه في ريعان شبابه! .. وعندما يقرأ لكَ نصّاً ما كتبه، تجده يضيف جملاً شعرية عديدة غير مكتوبة، فتسأله: ( ...)، يضحك ويقول، هذه الإضافات لم أتمكَّن الامساك بها أثناء ولادة القصيدة، لأنها كانت تتزاحم على مخيَّلتي بشكل هائج، فتنحّت (هذه الإضافات) مختبئةً ثنايا الذاكرة الشعرية النازفة .. الآن جاء دورها لأقطفها وأضعها في سياقها المناسب.

ولكن هل تستطيع الإمساك بما يفلت منك من الجمل الشعرية المتدفّقة؟
لا، لا أستطيع أن أمسك بكل ما يفلت منّي، آخذ نصيبي وأترك الآخر يداعب ثنايا المخيلة، إلى أن تحينَ فرص أخرى.

عندما يزورك الأب يوسف سعيد، ضع في الحسبان، أن يتوفَّر في أركان منزلكَ أوراقاً  وكتباً وأقلاماً! .. انه جاهز في كل لحظة للكتابة، وإليك يا أيها القارئ العزيز مثالاً عن كيفية إقتناصه الوقت من خاصرة الزمن.
فيما كنتُ أعدُّ فنجانين من القهوة، لا أخفي عليكم، تأخرت دقائق معدودة.
القهوة جاهزة (أبونا!)..
ضحك ضحكته المعهودة الرائعة، ثم قال، تعال وأسمع كي يبقى للقهوة مذاقٌ آخر! .. ثم تلا علي قصيدة .. ابتسم وبدعابة قال، أما كنتَ تستطيع أن تتاخَّر دقيقتين أخريين في إعداد القهوة؟ ..
فقلت لماذا؟ ..
أجابني، كنتُ سأكمل القصيدة!
يكتب عن أي موضوع،، وما يكتبه، يكتبه بعمق .. الحياة عنده برمتها مواضيع لكتابة الشعر، إنه يكتب (القصة، المسرح، والدراسات التحليلية) .. لكنّه نادراً ما ينتهي من كتابة القصّة أو المسرحية التي يكتبها! .. لأنه سرعان ما يعود ليغوص في عالم الشعر الممتدّ على مساحات روحه، فيترك هذه المتفرقات (قصة، مسرح، دراسات)، يتركها جانباً ويسبح في بحار الشعر، يروي غليله، لعلّه يعود لاحقاً إلى القصة أو الدراسة التي بدأ بكتابتها.

الأرض، قصيدة من قصائد الأب يوسف سعيد، تعبِّر عن الحالة الحميمية بينه وبين الأرض .. يتواصل مع الأرض تواصلاً عميقا، فينبش بقلمه بطون الأرض مغترفاً الخيرات المكتنزة في أحضانها، ليقدِّمها للإنسان عبر الكلمة.
التراب، قصيدة مفتوحة على فضاء الرُّوح! .. الجملة الشعرية عند الأب يوسف سعيد، لا يمكن الإمساك بها، إنها جمل متشرشرة من أفواه النُّجوم ومنبعثة من ضياء الوجود وحفيف الأشجار! ..
عندما تناقشه في خيط القصيدة وما شابه ذلك، يجيبكَ .. أية خيوط تتكلَّم عنها؟! .. فتسأله، طيب، على أي أساس كنتَ تكتب القصيدة؟
يجيبكَ ببساطة، لا يوجد عندي أي أساس وأية خيوط، القضية أعمق مما تظن، لأن الشعر عندي هو أشبه ما يكون بنزيف متدفِّق! .. أكتبه بعيداً عن الخيوط والأساليب التقليدية لكتابة الشعر، أكتبه كما أحسّ، عفواً! .. (لا أحسُّ) أثناء الحالة الإبداعية، أشعر وكأني (مختَطَف) نحو الأعالي، نحو فضاء فسيح، أكتب وكأنّي غائب عن الوعي أو في قمَّة وعيي! .. وأحياناً عندما أكتب نصَاً شعرياً، أجدني أتغلغل في نصٍّ آخر غير الّذي كنتُ (أنوي) كتابته .. وكم من المرّات، أكتب قصائد غير التي كنتُ أنوي كتابتها لحظة الكتابة، فالحالة الغليانية هي التي تحسم الومضات الإبداعية المتدفّقة.
السماء، قصيدة تحمل روح السموّ والارتقاء، يتوغَّل الشاعر في فضاءات الكون، راغباً أن يرتشفَ رحيق الوجود، ليقدّمه على طبق من ذهب للقارئ العزيز، ثم يفاجئكَ بقصيدة الماء! .. وأي ماء هذا الّذي يكتب عنه؟ إنه ماءٌ زلال! .. يغوص الشاعر في أعماق البحار، غير آبه بخطورة الغوص، كل ذلك من أجل أن يقدِّمَ لكَ درراً لا تعثر عليها في قاع المحيطات، أنها درر من نوع خاص، إنّها درر الشاعر الشفاف الأب يوسف سعيد! ..

صبري يوسف ـ ستوكهولم
أتركُ بين أيديكم درر الشاعر الراحل الأب د. يوسف سعيد

الأرض

الأرض، تحمل بين طيّاتها السفليّة رعشة أبديّة
     زمهريرها يمتصّ من أحشائها النموّ
     تفتح أبواب مصاريع الأبديّة
     تعبر مواكبها نحو ذخائر الظلمة
     آخر ملحقات شرائح الحديد     
     وتراب الفضّة والقصدير..

 الأرض، تزيّن صدرها بأثداء ملوّنة من هضاب
     تتفلّى جدائلها برائحة شمس شرقيّة
      ناطقة بلغات مسيرات الغيوم
      والسحب الصيفيّة
      أسابيعها بيضاء من نصاعة شمس
      تداعب أجفان يشوع بن نون
 
الأرض، تحتضن في أحشائها مهجة النور
     تتلقَّى قطرات الندى والغيوث من صدر الجَلَد
أيّتها الأرض،
وجهك قطعة من شرائح مطر البركات
     بذارك من مطر برارة النُّجوم البعيدة 
الأرض تخبّئ في أوداجها منازل الظلمة
      تجس أصابعها بدغدغات رفرفات فوق المياه ..
     قواعدها أبديّة
      ركائزها من أنفاس النور.


الأرض تتحمّل انفطار الجَلَد فوق مياه الأمطار
     تحتفظ بواطنها محيطات خفيّة..
     رفرفات طائر العنقاء في سموات
     ذات تجاعيد ملوّنة بدم الذهب
     زحافات تحتضن الأبدية..
     مقاطعات مدوّرة معبّأة
     بأنفاس قمح الحقول..
 
الأرض، وحدها تعرف تفاعل المياه
     وانحداراتها عبر شلالات
     تصب في جزر سعيدة..
     تحوّل خشب الجفر إلى مائدة
     قرب مساكن البحار..
     لاصطياد دلافينها
     تحمل ماء السنين  إلى فجوات
      متغلغلة بين ضلوع صدر أخنوخ..

الأرض في انتظار عودة متوشالح
     لارتداء قميص مقتطع من ستائرها
     المعلّقة فوق مذابحها القديمة

الأرض، تصنع أسلحتها
من صوّانات واسطوانات تعانق تربة
      تكوّن خاصرة لتربة البحر
      تعانق غيوماً تتسلّى بجدائله   
      يسقط قناعها على حافّات
      تربة المراعي السعيدة..

الأرض خميرة من سلوى الصحارى
      عجينها من ذهب الإبريز
      تحمل أجنحة الكاروبيم ورفرفاتها
     في فراغات عودة الآلهة
     إلى مساكنها الفضيّة
      تطبع على خدودها
     خلاصةُ دمٍ من وردة نيسان
 
الأرض، حوافيها منارات قبالة عرش الملوك
      عبارة عن كنوز سرّية
      أنفاسها تشرق بخوراً
      من عطور رداء الكهنة
الأرض تحمل فوق فوهات أسرارها 
       عصوَين من خشب السرو..   
الأرض، عبارة عن خمسة كؤوس لوزيّة   
     بعُجْرها وأزهارها
      تحمل على راحتيها
     سبعة من سُرُجٍ منيرة
     بدم الأزهار الربيعيّة

الأرض، معاصرها تحتوي على خلاصات
     من حبّات زيتون مرضوض
     تغذّي منائر هياكلها القديمة
     زيتها يفتح أشرعة خياليّة
     فوق بساط العبادة
مَن يدخل لمحاكمة أبناء الأرض؟
من يحمل توبيخها لإثارة العواصف؟
     لابتلاع شهقة اللحظة
          من أهداب يونس
 
أيّتها الأرض،
مَن يعلّق على منكبيك ثياب العزاء؟
مّن يحمل عطش الأبناء إلى آبار الحنان
     ومنطلقات رعشة الأبوّة؟

الأرض في الصباح تزحف أقاليمها
     نحو ضباب الأبديّة
      تتغرغر في الغَسَق
     بماء عصارات ندى الصحراء
     فسائلها من أكتاف أزهار الجنّة

أيّتها الأرض،
مَن يحمل عطش أبناءك إلى آبار الحنان؟
مَن يحتسي رعشة من دفقات عروق الأبوّة؟
الأرض في الصباح يزحف ضبابها
     إلى وهادٍ رغيدة
     تطوي بين ترابها الخالد
     تبر الذهب المصفّى

الأرض يوميّاً ترقرق دموعها بحصى الأودية
     تغدق على أفواه الجياع من دسمها
      ذراعها يغرف مراراً
     من خبز التقدمات
     آخر رعشة
     في جسد حسّها الكهربائيّ   
               
الأرض تحمل شبق لذائذها
إلى رؤوس الكواكب             
     تستوعب آخر تنهّدات صقيع
     يفهرس كيانات المحيط البعيد
     أسرجة تتدفّق منها نهارات
     من ضوء الأفلاك

الأرض تحمل سفن صمتها
     إلى الممرات البعيدة
     تحمل ترسانة الإيمان
      وسادة محبوكة من بخور الشفق الوليد
      تحمل غفوتها إلى قارات
     لتسمّد طاقاتها العذراء
الأرض، جواهر من كلمة خالقة
     تحبك أوردة لقلب السماء

الأرض، تستقبل في الصباح
     حفيفاً من أجنحة نحلة ..
وعندما يأتي المساء
تأخذ رغيفها المستقطر من أحشائها
     وترحل

الأرض رغبة أصيلة يتفصّد صمغها
     تأخذ اضمامة من سنابلها الخضراء
     تحفّ بها وجه أديم البحار
مراراً تصنع قوالب جملها وعباراتها
من زبد بحر لازوردي       
الأرض كصفاء الضوء في بؤبؤ عيون الجواميس
     حيث رونق النور

الأرض عبارة عن طاقات عذراء
      تحمل رعشة من سحر السموات
الأرض شرائعها على موائد مذابحها
     كفريضة موقّرة ومبجّلة
      تردّد ملء حنجرتها هلليلويا
الأرض سبّحته من فرط كثرة عظمته
      سبّحته بصوت الصور
      سبّحته برباب وعود
      سبّحته بدفوف ورقص
      سبّحته بأوتار ومزمار
      سبّحته بصنوج التصويت
      بصنوج الهتاف
لك أيّتها القصائد أردّد
     هلليلويا هلليلويا هلليلويا
الأرض تحمل بين أصابعها فرح الدفوف
     ونغمات ساحرة من ذبذبات العود
      ينبجس سحرها ينابيع خمرة معتّقة
      دنانها معبّأة من طلّ السماء

 
الأرض تحوّل مرارة السكر إلى ينابيع فاغية
      تصنع سحر هوائها
      من سواقي العسل
      ترمّم شواطئها
     وتفتح أزقّة في ضباب السماء
الأرض كنفاضة زيتونة دهريّة
     تودّع صراخ الجبال
     في وقفتها وشموخها
      تعبّئ سرورها وفرحها
     في وهادٍ بعيدة
     نقشتها بإبرة السماء..

الأرض تردم ذاتها بعواطف طارئة
     حاملة لغة المحيطات
      تغدق طاقاتها على خصلات ما تبقى
      من دوالي الكروم
      تقيس بأشبارها أعناق البحار
      تترك نقش أصابعها على جزر ضيّقة
      على موائد الشمس
      ترانيم لنار ساقطة من كنف السماء
      تترك رعباً وهلعاً في حُفُر الجمر
      ناقوس يلتقط نغماته من ميازيب عليا

الأرض في صباحات الغيوم
     تترنّح بخمرة السكارى
من يدلدل عرزال الأرض فوق جبال شرقيّة
     تحتضن قلب الشمس؟
مَنْ يوحّد ملوك الأرض
     ويجسّد نبرات النغمات
          على حافات تيجانهم؟
مَنْ؟
من يفهرس عاصفة الجنوب؟
من يقتحم كبرياء الأرض
     في ساعات سخطها؟
من يحصد من مزارع الأرض
     عناقيد حبّها الأكبر؟

الأرض ظهيرة مشحونة برغبة نجوم عليا
      تصغي لنداء السماء
      تتلقّى ضربات طريّة
      من بروق معبّأة برحيق الحياة
      ترشف من شفاه أنصاب رؤوس الشهور
      زخّة مباركة من تهاليل القمر

الأرض تفغر أفواهها لاستقبال خيرات
      مسيّجة بخيوط الندى
      تفرز زغلها
      وتحرق زيوانها بنار زرقاء
لذلك المسربل بالأسرار
     والمتّكئ بدلال على جناح الهيكل
     صارخاً ملء حنجرته
          " قدّوس، قدّوس، قدّوس
ربّ الجنود
ومجده كل ملء الأرض " ..
 
للأرض شفاه تسبيح في صباحاتها الباكرة
     تغرّد للبحر
     وفي المساءات تزغرد للصباح
     في براري الروح
      تنشد لحبيبها نشيد محبٍّ لكرمه

الأرض إشارات لامعة بنقاط مدبّبة
     بسلالات النور
     تجللها سحابة لها رونق زرقة السماء
     نقاط مستكرشة بالضوء
     ترسم طيّاتها على أفلاك السماء
     انحناءات أقواس السحب   
     فوق خاصرة السماء

الأرض تطبع على فخذ رجالها
     تاريخ رحلة السفن
     إلى وهاد السحب البيضاء
     لها رداء اسمانجونيّ الّلون
     يستر عورتها
     تملك بذار السحر
     تفقّس أجنة الخمرة
     في خابية نوح

الأرض، تصنع لوحتها الكبرى
     من غمام شجيرات البحر
     تصنع لوحتها الكبرى
     من رحيق غمام البحر
     وتنقش صورتها على جبين إنسان الغد
     تترك بصمات نفحاتها الرقيقة
     على وجنات صحوة النبوءة
     في بابل وأروك وشنعار ويثرب
     حيث بقايا كنائس العذراء
     تصنع أصنام آشورياتها
     من طينة رحبوت وكالح ورسن   
الأرض لها تعويذاتها الخاصّة
     أثناء رحلتها الكبرى نحو سهول شنعار
     ولقائهم بأبناء يقطان
     تستقطر بكاءها مدراراً من جفونها
     في وداع هياكل الذكريات
وبات عشب الروح كنساء غريبة في قرية
     قبالة سرير الشمس

الأرض انبساط ملاحف الشريعة وبنود إزارها
     فوق هامات الرجال
     الحاملين على مناكبهم وصايا العقل
     تصاهر ليلاً تثاؤب القمر
     فوق وهاد المحبة

الأرض تستقبل حفيفاً من أجنحة النحل
     الصاعد أسراباً غفيرة نحو جبال الربّ
     تخبّئ أجنحة بذارها
     في تراب أبدي العطاءات
     وتطير كفراشات ملوّنة من زهرة لدالية
     تحرّرت من غربتها الكبرى
     لها أنين الثكالى في تأخير
     مواكب سحب المطر

الأرض ترضع بنيها بحليب مستقطر
     من أثداء أمّهات المحبة
     تعطي بكر قوّتها لماء فائر
     يتدفّق طاقةً وعزيمةً
     من شقوق الأرض وبواطنها
     تحمل غضب البحر
ومع أنين أمواجه يتسلّق فوق متونها

الأرض، تربي أجراؤها
     في معاقل العسل الوردي
      تغسل بالخمرة أجفانها
     وتراقب مطلع الشمس
     فوق دساكر الفلاحين
الأرض تفوح مزارعها على السهوب
     رائحة خمور معتّقة
     روائح انتعاشة لأرغفة
     تتنفّس الفريك والسويق
     بواكيرها تتضوّع رائحة فرح وسرور
     فوق مذابح العجول
الأرض، من ترابها يولد الحجر
     حبر المعرفة
للأرض كتابة خاصّة
الأرض في عوص احتضنت رجل الله أيّوب
     دسّ أصابعه وانطلقت حكاياته في كلّ الأرض
     سُيّجت بأسوارها العالية
     بيوت شعراء الربّ
     تروي مواشي الرعاة بمياه فاغية
     تتدفّق عبر وهادها مياهاً ثرّة
     تسوّر خواصرها
     بزنّار أفقها الجميل
     تحوّل كآبتها
     وتصهرها عبر مجرى الريح
     إلى سواقي قلب الانسان

أَليست الأرض بدايات خفقة طين
     لصنع الانسان الكامل¬؟!
الأرض آخر تقليعات بدايات النور وانفصاله
     من عالم الظلمة 
على مسرح الأرض الرحيب تمّ فصل الدكنة
     من حبال خيوط الضوء
     تحمل حلم ليل الخليقة البكر

الأرض، آخر مواكب مسيرات معبّأة بنور الكواكب
     لها قياسات لعمق الأسافل وقياسات
     لطول جبالها
     لها وشم يحمل أقراطها الثمينة
     وترحل نحو شلالات من ميازيب الأبدية
     حيث أناشيدها
     رنّة متأتية من خرير ماء
          يصفّق لجداول الروح!   

 للأرض وشمٌ يحمل أقراطها
     ويرحل صوب ميازيب الأبديّة
     حيث أناشيدها رنّة متأتية من خرير ماء
     يحتفل بميلاد جداول الروح
الأرض إنحناءات الضوء
     فوق سعفات المرئيّات الملتوية
          على خاصرة روحي
     لها استرخاء كحلم الجسد
    المتربّع فوق مساطب ذاكرة روحي
     فوق ذاكرة فحولة هائجة بدخان شهوة المساءات
     تترك مستنقعاتها الرطبة
     وترحل بعيداً عن صيحات الرياح
     بعيداً عن نقاهة من مزن غيوم السماء
     بعيداً عن بحيرات ملتقى أسراب البجع
أليسَت الأرض تبارك في الصباح خطواتنا؟
وفي المساء تطبع على عظامنا كتابة فسفوريّة
     تنمُّ عن قهقهات هتافاتنا

الأرض، جدران أسمنتيّة لصدّ رياح البحر
     تتّسع أحداق عيونها للاحتفاظ
     بنبرات نوتات موسيقى دموعنا
هناك في الهواء اللامرئي طاقات
تمسح وجه الأرض بخميرة الأشواق
شيء ما عالق بأهداب عيوننا
يراقب محطّات حياتنا
الساقطة على الأرض من كواكب بعيدة
لهذه الوعول قرون صلبة.
هل انتُشِلت وجُبِلت من تراب هذه الحقول؟
     حيث دقائق الساعات الرمليّة
     ترسم خطوطاً بدم كهرباء المساء
          عن مريخ آخر
     تنسجُ من الهواء الشفيف مناديل
     لوجه الأرض الممسوح ببصمات ملوكها

هل لنا أن نناجي ونناغي صخور البارحة
     ونفتح فيها خطوطاً؟
هذه آخر تقليعات النهار حيث بهجة النوم
     وبكلّ ما يملكه من طاقة
هل النوم يبعدنا عن سرير زمهرير الموت؟
إنّي سرّياً أتفحّص مستنقعات الجسد
     جسدي المتحوّل إلى وهادٍ
     لملاقات عصافير الجنّة!

أشهق رائحة من غيومٍ طارئة
تداعب أجفان أمّي
 لنا أحياناً في سقسقة خرير المياه
موسوعة لجداول مؤقّتة
     تجتاح خيامنا البيضاء
وتناجي المساء بذبذبات مزاميرها
الأرض سفوح ملء البصر
     متأقلمة بحروف من حجر
     منتشلة من بحيرات الكلس
لحظة من أهداب الأرض
     وتولد عوسجة الصحراء
     لاستقبال كلمات ممحّصة بنار النبوءة
     كُحل خاص يتناثر بتؤدة من شفاه السماء
     يكحّل أهداب الأرض

الأرض تزيّن فوديها بعطور من هياكل العبادة
     قارورة غالية الثمن
     تغدق بهجتها على العالم
     وتزيد من رونق جماله
          ونضارته
الأرض آخر أسرارها معلّقة
     على شجرة من نور
تلك القرى المسحورة بطلاسم الخفايا
     تعرف جيّداً كيف تحبك جدائل السنين
     وتربطها بقرون شمس الأرض

الأرض، تبتلع دماء الفتن والمشاغبات الكبرى
     صهاريج ذات أقواس معقوفة
      عيونها ترصد رياحاً جنوبيّة
الأرض خشونة عظمى
     تموت تحت طيّات أجنحتها ضحكة الأحلام
الأرض أمارات ذات سقوف مترنّحة
     تحت وابل من برد اللحظة
الأرض في بابل
     ذات
          أقواس
               قزحيّة
     مدارجها شفق ملوّن
الأرض،
     متيّمة أوداجها بلهيب المحبّة

الأرض أسافلها معبّأة بخردقات مطلسمة
السفرجل يستقطر من رائحة أعصاب وردة
     وقفّازات خاصّة بأنامل الأرض
أيّتها الأرض المحدودبة كثمرة حبلى
     نبعٌ لا يغيض

الأرض، بدايات لسلم من حجارة الآباد والآزال
     صرخة على أنبياء الحوار الشيّق
     ياسمينة الريحان
الأرض، الوقت اللامتناهي
     تأخذ عمقها من سحاب سرمدي
     ملتقى بجعات الروح
     روح فوق ممالك العقل
الأرض، هي أنا
      هي أنتم
      هي نحن
ترى من يغوص في ازرقاق محبّة الأرض؟
الأرض بدايات البدء..
 
مَنْ يأخذ من الأرض أنابيب دقيقة
     لصنع أجنحة لزهرة اللوتس؟
مَنْ يأخذ من طيور الأرض حرارة لأعصاب يديه
 لحمل أسلحة لصيد طيور الماء؟     
مَنْ يحمل من الأرض دفء الضفادع الخضراء
     إلى ضفاف البحيرات السعيدة
حيث الحقول تأخذ أهازيج سعادتها
     في ابتلاع حضن الأرض؟
 
جبابرة الأرض يحرّرون أنفسهم
     من أجران خمرة معتّقة،
ويتقاسمون خبز التقدمات
ويحملون على أكتافهم أسلحة العزّ
 لولاك أيّتها الأرض لانقرض طائر البَلَشون،
     وتولول عليه جزر الحَسَاسين

الأرض تسأل حيتانها الكهربائيّ
قائلة،
من علّق في أعناق الدلافين ساعات
عقاربها متلألئة من ندى ملح البحار؟
رعاة هذه السهول يرصفون أخاديدها
بذبائح تعبّد بدمائها طرقاً وشوارع
حتى سواحل البحر
 
الأرض تمرح أطفالها بحفيف سنابل الحرّية
      قهقهاتها تداعب لصوصها،
      وتخمّر في دنان صخورها
      جفنات من خمور المجد
      معاصرها تعصر خلاصات عناقيدها
      لصنع خمرة موسيقى عذارى الجنوب
      أحفادها الأباطرة رحلت قوافلهم
      صوب سطوح الشمس
      تصنع لهباً ممزوجاً برحيق عناقيدٍ
     تنير ليلة جمعة حزينة

أيّتها الأرض،
هل مواكب قوافلك ستلتقي
     مع ثعابين البارحة؟
متى نصادق الأفاعي الطالعة من ثقوبك الترابيّة؟
الأرض تجدّد شبابها بأكسير المراعي الخضراء
      يكفّن سرابها الأبيض أجنة تمساح نبوءة
     ساقطة من أحضان القمر
 
أيّتها الأرض .. متى صارت فضّتك زغلاً
وخمرك مغشوشة بماءٍ آسن من آجام مطر بائت؟
متى تتحوّل سيوفك البتّارة مناجلاً..
ورماحك سككاً..
وبواخرك العملاقة ملاذاً لنوارس البحر؟
متى يغمر زلزالك أنصاباً من تماثيل الفضّة
    من ربوعك
وأوثانك الذهبيّة تتحوّل إلى رماد أسود؟

يا صحوناً قادمة من منازل النجوم ومسارح كواكبها!
أوقفوا رعبكم لأطفال الأرض الجميلة
الأرض تخشخش خلاخلها وعصائبها من ذوبان كتلة
     مغضّنة من ذهب الإبريز 
للأرض سلاسل ومناطق مسوّرة بآيات سماويّة
     خواتمها وخزائم انفها
     من شلالات فضّة ممحّصة
  الأرض أردية مصنوعة من ملاحف الشمس
     ترصّع ديباجها
     بخلاصات خمر مجفّف

الأرض زنّارها من سلالات نجوم المجرّة
     محافلها تسربلها سحابة بيضاء
     تضيف على ضوئها نوراً مضاعفاً 
    له روعة الشعاع والمجد المؤثل
     أنهارها وجداولها من سيول ماء العطور

     منعطفات جبالها
     ملتقى مواكب أسراب النسور
     وطيور العقاب والحدأة والبواشق
تلويحات يد تلوّح للراقصين على متن السحب
مركبات مصنوعة من ضباب مجفّف   
في مراعيها، وسهولها ملتقى طيور الكركي
     والبجع الأنيس،
          القوق المهاجر 
               الرخم واللقالق
     العائدة إلى سطوحنا
            لبناء أعشاشها الخشنة!


السويد ـ سودرتالية 1999



التُّراب
 
أخذ حفنة من تراب الأرض،
     واستنشق رائحة زهرة الاقحوان
تحسّس بأصابعه السحريّة عقارب ساعة ميلاده
وجسّ أوان موته،
وبسط يده اليمنى على أمّه التراب
     وأباه التراب
تحسّس جسده التراب ..
وسادته من تراب
لحافه يدثّره التراب
عظامه من تراب
أرض تداعبها الشمس ..

تراب في بيت العبيد
تراب أنجب أباه ونظّم تاريخ عشائره
تراب في قصور الملوك يستريح منجل الحصاد
     على تراب القمح
تراب لصنع أجنحة الجراد
     والقَمْص ..
في الصباحات يزحف الزحّاف
     نحو بيادر التراب
وفضلة الغوغاء أكلها جرادٌ طيار ...
تراب مطبوخ بسلاهب
     من نار الأتون البابلي
تراب مشوي لبناء قرية شماليّة
تخصّ أباطرة الأرض وملوكها
تراب مطبوخ لبناء برجٍ
في طبقاته تكمن أسرار التراب

اختار المهاجرون تراباً من بقعة أرض شنعار
     صنعوا لهم آلهة من تراب الحسان
          من بنيك وبناتك ..
ومن شروش ترابٍ يعصب بأسراره خيوط الصباح..
     فوق جبهة وشاح الروح
تراب أصنامه المجنّحة قبالة جبهة الشمس
     تحفّ أردانه لاستقبال قمر بابليّ
     لاستنساخ بذرة ملوّنة
     لصنع أجنحة لجرادٍ مهاجر

سماء أردانها ملوّنة في ظهيرة عواصف رمال البحر
تولد فجأةً بيضة الفصح المسيحيّ
تراب من جدائل رمال الصحراء
عبارة عن معزوفات لهلاهل وهديل حمامة صاعدة
     من كوى سفن بحر لازوردي   
     يحتضن بحنان عجلات مركبات
         خيول المليك المنتصر

تراب من أودية حمراء..
تراب تقام عليه هياكل العبادة
على أشكال 7×7= 7+7 مضافة إليها
     دفقات من ضوء الكواكب إلى 7 أيام
تراب يصدّ الرياح الهوجاء
     من مخارم صخورٍ جبليّة..

تعالي يا آلهة التراب
     وضمّدي جراح المصلوب
     في جلجثة قبالة مدينة أورشليم
تعالي حاملة نير شبق الخطايا
مراراً تمدُّ موادها من شبق الخطايا
     تفهرس ضلوع خطاياي
وتترك نقاط دمها في مخاخ بيت القصيدة
تراب يسفّ دفقات من دم الخطايا
     على زند المجدليّة..
تراب سهامه تخترق حدود مكامن النفس البشريّة
     وعلالي الروح في سماء سابعة
     يحتضن بالدفء مفاصل الجسد..
من تراب المخاخ المميّزة
     حيكت فساتين القصيدة
     وشرائعها العذبة

تراب لأسوار قصور الملوك
     لاحتواء موسوعات القلب ونواياه
     تتحرّك دواليبه بدفء الشمس وحرارتها
     لصنع معموديات القمر..
تراب عبارة عن سقوف لقوافل المشتركين
بتجارة ذهب الإبريز
تحمله قوافل نجد لبلقيس
     ملكة سبأ
تراب تمشّطه أصابع النسائم الرقيقة
     لمداعبة حملان وديعة
تراب من دم داخل
     جسد الحملان الوديعة
تراب من تمدّد ظهيرة الظلّ
     مضروبة بسياط شمس تمّوز
حيث تجمّعات
     لأسراب قبّرات ترابيّة اللون..

تراب يعانق البحر
ويلوّح لبيارق قوافل سفنه وبواخره
     يحرّر أعصابنا من شوكة الجسد
     ويحرّر أرواحنا من كآبتها..
تراب تداعبه ريح شرقيّة
     في أودية حمراء
 
تراب تنام فيه خيول ملوك العبادة
تراب مخروطي الشكل
     على شكل 7+7= لا للشاعريّة المحدودة،
     حيث نقاط قانية من دم التمرّد..
     7×7= نعم لشاعرٍ لا يهذي بتصوّفات منتكسة،
     ولم يدخل في صفوف قبائل الشعراء..
تراب متحجّر يصدّ الرياح
     عن مخارم مرتفعات "سيامندو"
     حيث ابتهالات العشق..
تراب من عظام جسدٍ
     اخترمته المنيّة
     فماتت كواكب عشرة
     يصدّ رياح عاتية
     عن مخارم صخور جبليّة

تعالي يا آلهة التراب لأنّ داجون
     يداعب ألوان قوس قزح
          فوق شعفات جباله
تراب الأودية بالروح
     يضاجع آلهة الرماد!

تراب من حجارة ملساء
     تتسكّع عليه أزمنة الخوالي
     بيوت من لبن لصنع حجارة مشويّة
     بأتون نار الآلهة
          في سهول شنعار..
من تراب حُفَر الآباد
     شُيّدت أسوار بابل
لنحر تيوس النذور
     أمام أقدام أصنامها الجديدة..

تراب لاختفاء مخادع اللصوص..
تراب عبارة عن قامات صغيرة
     لصدّ العواصف
     عن إبادة قبّرات الحقول
تراب مخثّر بماء مطرٍ كسول
     يحتضن جدران من حجارة يابسة
     شوتْها الآلهة بنارها الأزليّة..
 
تراب تلقى عليه مسوح رهبان العبادة
     يقيمون أسواراً من تراب
     حول مدينتك الحاملة للصباح
          هوادج المحبة..
تراب ترويه أمطار من ندى
     لاستقبال
          حفيف أجنحة السماء ..
تراب أسلحته صنعت لحماية
     قهرمانات قصور منيفة
 متصخّرة فجواته المدوّرة
     لمتّكآت طيور جوارح الجبال..
     ووحوش البرّية ووعولها
     عاشقة شهوة الصمت

تراب يتدفّق دفئاً يضوّع برخاء ودلال
     رائحة أوراق الكافور
تراب لخربشات حمام الزاجل العائد توّاً
     من ينابيع رقرقات ماء الفرح
          لزقِّ فراخه الأنيسة..
تراب لسهول خاصّة لمهرة العرب
     تسابق الريح وتردّد
     " أعزّ مكان سرج سابح "

تراب حافّاته المنطوية لصنع كمّامات
يصدّ عاصفة البراري
     عن زهرة البنفسج
          وخطميّة الوديان..
غمامةٌ
تسقي برحيق الندى زهرة الكمون
وتضوّع تراب وادي الرافدين
تفتح في الشفق الوليد أحاسيس نغماتها
     على عزف قيثارة الروح
تتمطّى وتتثاءب بأعصاب حسّها الشفيف
آه، تراب .. ترتوي عواطفه الخفيّة
     قرب يقطينة المدن البعيدة

تراب يرتوي من رذاذ الندى..
تراب تهدر قربه أصوات مياه كثيرة
تراب كدواء لكآبة
يهدر بصخبٍ فوق خلجان بعيدة..

تراب،
بذوره مرشوشة على وجه المياه!..
شخاشير طيور الشراقراق
     في صفناته العميقة،
احذر أن تداعب البحر
     في شختورة صغيرة..
مَنْ يجلب بمعيّة كروان السحر
     كعكة سمراء
     من تراب الحُوَيْلة
لإطعام أفاعٍ مهاجرة
     نحو ينابيعٍ سحريّة ..
تسوّرها خنادق سمراء اللون..

تراب للولادة
حيث يتعالى زعيق أطفال الغد
تسير أنهار وترتفع فوقها
     ظلّ سنديانة برّية..
الآن فوق تراب المحبّة
أحسُّ باقتراب الكلمة..

وحده التراب يصدُّ تمرّدنا
ويدفعنا نحو ثقوب
     منخله الكبير! ..

تراب الأقاصي يحرّك عاطفة المياه
لتولد جداول
     تسقي زهرة العمر ..
تراب يصنع جسوره من طين
تراب يصدُّ عاصفة البحر
تراب يتحوّل من قارة لأخرى
بينما رجال الحيّ يذرون بمذراتهم رماداً
     من مدفأة هياكلهم ..

كلّ الوصايا
رقّمت ونُقشت
     على ألواح من تراب..
وجداول تسير
تروي قطعان الريم والوعول..

تراب على طبلة مثقوبة
     بمسمارٍ خاص
أُعدّ لفتحات العزف
     على قصبة صفراء

تراب يحرّك شطرنج الكلمة
     يحمل أشلاء رطوبته
     إلى أحضان المياه
تراب يتسلّق سلالم أزمنة
مصنوعة من دموع مطرٍ مجفّف!


السويد ـ سودرتالية 1999


السَّماء

سماء  بقربها تنحني عروش أزمنة متلألئة بشموع
     من مجرّات أفلاك عوالم أخرى..
سماء جواهرٌ لأزمنة برّاقة في بطون الأرض..
سماء دهور متلاحقة مخثّرة بغمر من رواشح روحي الكلّية..
سماء ذات رموش فضّية ..
     على مناكبها تستريح أجنحة مخثّرة ..
نسجتها آلهة العناصر بمغازل صمتها ..
وحدها آلهة الشعر ذات تقليعات خاصّة ،
تحرّك مادّة الشعر في بواطننا ..

سماء متلألئة من حفيف أجنحة النجوم
سماء لمسيرات أسراب حمام برّي
     يرشف من بؤبؤيه تنهّدات من لون الغمام ..
سماء تعطي من رحيق أجفانها دمعة للسُذَّاب العطشان،
     ولفسائل النعناع في حديقة أديرة الرهبان ..

سماء تجدل على زنديها ألماسها الغالي الثمن.
     تصنع من دبق أقراطها أنصاباً في درب التبّانة.
     وفجوات لأزمنة طارئة في كواكب أخرى..
قبل الخليقة سماء من ماء وغمر من ضباب الوهاد الغائرة..
سماء من خلاصات كثافة ديجور الكواكب ..
فيافيها مسيّجة بأسرجة تحملها عذارى
     قادمات من جبال الطيوب ..
     من دهشة متراكمة على حبال فزعي
     تلوح بمناديل ناصعة، يجتزن فيافي الدموع ..

سماء حوافيها لمتّكَآت رجال قبيلة يحملون خبز البركة.
     وأقراص من سلوى تحرسها نجوم السماء
سماء لاحتواء خيوط قرمزيّة من نسمات دهشة القدير..
     تفتح من طباشير الضباب دروباً لمسيرة السوافي.
سماء كرقعة من سبات تكحّل أجفان آدم وتخرق أحزان الملائكة.
سماء في انحناءآتها على دوالي من عناقيد قناديل المجرّة.
    أبوابها تأخذك إلى أغصان تصنع من ألف بائها جسورها ومعابرها، 
    حفرها الدهريّة من غيوم حبكتها أنفاس الضباب.

سماء تكشف لنا أسراراً في نعاسها المخثّر.
     في جيوبها أنهار من دم الورد
     مرقّعة بخيوط أنفاس غمر الجبال.
     محرّرة كلّياً من براثن هواء شيخوخة الموت.
     عناقيد كرومها من أهوال عاصفة معلّقة بأذيالها لغات الأرض.
     
سماء امتداد لسنين في عضلات نسور جبال السَمَنْدَل.
          سقف حنكها يتمضمض بحبّات من رحيق مهجة الطوبى.
     تمرّ أجنحتها مرفرفة فوق جداول الزيت لتروي قناديل الصباح ..
     أوكارها ومكامنها معبّأة بطيور الحكمة
     أقاصيها اللامتناهية عبارة عن مواكب لريح عابرة
         تحت مكعّبات جسر المعرفة.
     تمطر فوق أجفان معادنها مطر الفضّة البيضاء
     ثلوجها مغموسة برقائق ذهب الإبريز.
     حاملة أقواساً من تراب الحديد..
     راحلة عبر حجارة هيكل سليمان.
     شفتيها تستقطران ندى ونفحة تسُفُّها على أديم الماء
 
سماء لحراسة نواطير كروم الجبال.
سماء تعلو فوق بروج الفجر حيث الامتداد القرمزي
     لمسيرة ينابيع جداول الدموع.
     تعلو فوق مناجمها مسارح لكواكب تبان كيراعات ذهبيّة.. 
     نيازك نبالها مصنوعة من أقواس فولاذيّة.
     أتراسها معقوفة بسهام برّاقة من ندى لمعان الغمر .
     حناء كهوفها الدهريّة من غبار الأزمنة.
سماء نغمات مسرجة بفتحات ماندولينية لشعراء الرقص.
سماء نقاط من ماء مطر لترطيب أصابع النغمات.
     هوادجها سابحة فوق سجادة طائرة وأسفارها
     يدغدغها هواء الصباح.
     تتدلدل خيوط أهدابها النقيّة فوق مناهل أحواض لصفاء مياه البحر..
     كبهو البهاء لمنطلقات سيلان مرور ماء الجداول ورقرقاتها.

سماء ركائزها ودعائمها من صنع نسمة القدير.
     تحمل إشراقات خاطفة لاذعة وتتحدّث بلغات الشمس.
     تتوارى خلف جدران الليل العجائبي.
     تصنع أصواتها من حفيف جزر النسور ..
     تصنع من أوتار أحلامها المحلى بشفق منير.

سماء أقاصيها الناصعة من زبد الأفق اللامتناهي.
    لا حدود لمؤخرة شمسها.
    قادمة قطاراتها السديميّة على أنفاس أشواقها اللاهبة.
    يزغرد قلبها جذلاً للمدينة المختارة.

سماء مناظر ملكوتها أحلى وأثمن من ذهب الإبريز.
    حافّاتها تستقطر العسل وقطر الشهادة
     غمارها تصنع ميازيب لنشيد من مزن المطر
     نازلاً هاطلاً بتكاسل فوق تيارات لجج بحريّة
     تغرس في الصباح   جفنات كرومها
     وفي المساء الحالم تنسج قميصاً مزركشاً
          يسدل على جسد الطهر الأناقة.
سماء تمسح العطش من قلب الملوك.
     من دموعها تصنع أرغفة لخبز مقدّس.
     تتدرّج بتؤدّة
     تترنّم بمعزوفات خاصّة بتنهّدات الملائكة ..
سماء من وجهها يتدفّق نور البركة .
     تقتحم بصولجان خلخالها
     أزمنة مخمّرة بدم القصائد.
     أبرع جمالاً من غابات قصب الكتابة ..
     براعة نبالها مسنونة بدم زنابق حديقة الملوك.

سماء خيوط أوتار أعواد مغنّيها قادمون
     من مدينة الفرح الأكبر..
     حافّاتها مطرّزة بخيوط من تبر ذهبٍ مصفّى.

سماء واقفة فوق قبّة الأرض لا تتزحزح.
     بينما تجيش بمياهها الثرّة في أرض الحويلة..
     تدور التواءآت سواقيها بدقّة بين جنان تحيط بمساكن العلا.
     أصواتها كقهرمانات خليقة الحسن والجمال.
     تصنع شمسها من سحبها رماحاً لمداعبة نسيم الصباح.

سماء صاعدة بأجنحة هتاف النغمات عازفة ألحاناً من شبابة الروح.
     يهزهز كتّاناً ناصعاً نصاعة أنامل من عذارى مصر.
     موشّاة بديباج يسربل أسرة فرعون.

سماء منذ بدايات جيل اللفظة الأولى ولد غمر الأبديّة
تحطّمَت متاريس زمن على حافّات سيول الأعوام ..
آهٍ روحي مولعة بتقاطر الأعوام فوق ناعورة العدم ..
سماء مولعة بمداعبة رياح عليا ومناغات قمرٍ أبيض ..
     تمطر في الصباح لبانها كورق الرياض وقصب الذريرة
 
سماء في الطرف الشمالي من خليجها
يتمرّغ الراكب على صهوات الرياح ..
     بروج من غيوم تسوِّرها بنحاس أزمنة قديمة.
          تقذف من شفرتيها رصاصاً لصائغ الأسرار.
سماء من عظام سديم مجفّف وسقوط دمنة
     فوق كتابة من بقايا طلاسم آلهة آشور ..
     تروي بخلاصات أهدابها جفنة من كروم الشارون.
     تسمعنا في الفجر حمحمة خيولها الزرقاء ..
     تلبّي استغاثة الأيام وبنات الجبال
          يبحثن عن السرّ الكامن
               في تعرّجات تماثيل لآلهة غريبة ..
 سماء تحمل أحزان مدينة مكّة ..
     مرصّعة بطوبيات الخطبة على الجبل ..
     تتراصف نجومها تحت قباب الفرح الأكبر
     يستقطر ينابيع الزيت في أورشليم..
     تروي من مآذنها السحريّة مجرى مياه حقول البرّية..
     تراقب مياه المنافي قادمة من سبي بحر الزوابع ..
     مصحوبة ببريق تكتب الفباؤه على منعطفات نجوم عليا ..

سماء تراقب من حصون متاريسها زحف نمور المساء ..
     محفوفة بربَاب نغمات أوتارها
     تسيل نحو حافّات شواطئ بعيدة ..
     أحواضها مملوءة لبناً
     يتدفّق من سواقيها الفاغية مرح حليب الطفولة ..

سماء تحت جسورها تعبر قوافل القوّة ..
     وينحني بتؤدّة تامّة قوس قزح ..
     عواصفها جفقة اهتزازيّة من ماء وهواء وتراب
     لصنع بذار يزرع في جبال وحقول آراراط .. 

سماء ترمم رؤوس كواكبها بأرقام ضوئيّة لا تحصى ..
     تروي طبقاتها الضوئيّة وتنصبّ سقوف سطوحها بسلاهب النور ..
     تحرس مواكب الغيوم من تحتها والريح من زجر العواصف ..

سماء كفضّة مغسولة مصفاة في بوتقة تتنفّس غمر الأرض ..
     تشمِّر من سهولها العليا حبال غيومها لغزو أعشاش العصافير..
سماء عارية غيومها الملوّنة بدم البحر.
     ترتفع وتتعالى وتصنع قباباً خضراء
          في مهجة حوافيها لتلاوة ترانيم دهريّة ..
     تنضح دموعها العطريّة على صورة مركبة
          تحت ظل دهشة الروح ..

سماء لحزن رصانة القلب حيث حفلات للكلمة الفاعلة
     أرض المرايا تتحدّث عن طفولة الطفل الوحيد..
هناك في المنحنى مجترحات تحت سنديانة الصمت
سماء سكرى برحيق عنب النبوّة
     تترنّح يوميّاً وترعى رياحاً
     تداعب جدائل ميسون العربيّة
     ملاكها ينحر بجعة الأعوام ويستلقي على سرير الدوالي
     ثمّ يكتب بغتةً قصيدة قصيرة ..

سماء تحمل أغصاناً من حديقة رصانتي
     تتحدّاني بعنف كسل البارحة تتابع تيّارات مللي ..
معبّأة ببروق اللحظة تلاحق حيوانات سعيدة
     مسوّرة أعناقها بألوان من قوس قزح
     تتوارى حيواناتها الأليفة أحياناً من ذعرها الأسود
     وترحل متوارية خلف غيمة دكناء إلى موائد روحيّة
     أعدّها في مواسم ميلاد هجين الغربة لكابي سارة
سماء حملانها الوديعة مختومة بأرقامٍ سحريّة
     على خاصرة أفراس بيضاء ..
سماء تصنع من خيوط رعودها أقواساً
     للجالس على عرش غيمة الصباح
     تجتاز مواكب كبكبات سحبها تطهم خيولها الملوّنة
     لحمل أقواسها عبر دروب الأبديّة ..

سماء مرساتها السوداء تداعب جدائل نساء الهاوية .. 
     متّكآتها من حجر صقيع أزرق حيث الختم
     ومجترحات من فعل الكلمة فوق صوّانات هياكل قديمة ..
     خواتيمها الذهبيّة مطبوعة على ثياب بيضاء
     لامتصاص النور من أكاليل مرفوعة قبالة كواكب الصباح ..
سماء ذات مجرّات برّاقة
تحتسي من كؤوس الفداء خمرة .. كؤوسها من حصباء بيضاء..
     في أطراف حدائقها الأزليّة سبع منائر من ذهب الإبريز ..
سماء الألف والياء بدايات لأبجديّة الروح الناطقة
     بلغات جديدة تحت شرفات سقوف للروح الكلّية ..
     تجترح  في لقاءات الكلمة أعاجيبها في أفسس المبجّلة ..
     منائرها مكتوبة بالأسماء سميرنا. حاملة أوسمة الثقة ..
برغامس .. لقاءات حكمة الروح تحت شرفات العقل
ثياتيرا .. فوق أجنحتها خطوط بيضاء لملاقاة  عصافير الصباح ..
ساردس .. بأشعة قمر يرافق في دورانه أهليليجيات أقمار أخرى ..
فلادلفيا .. مسوّرة بحقول العطاء والخيرات ..
لاودكية .. حاملة ذخائر من بركات الكلمة الحيّة ..
سماء زنّار خواصرها ممنطقة بحزام من صوف أبيض
     أكثر بياضاً من زنبقة الربيع ..
     سوافيها كلهيب نار ووجناتها من سلاهب زرقاء ..
     فوق جداول أصواتها أصوات من رقرقات مياه
     وصوت خريرها كأصوات الأبديّة ..
 
سماء الألف والياء الأوّل والآخر..الشروق والغروب..البحر واليابسة ..
سما

52
حوار صبري يوسف مع الدكتور برهان غليون عبر جريدة العرب اليوم الأردنية


أجريتُ هذا الحوار بتاريخ 23 آذار مارس 2007 من خلال صفحة ضيف تحت المجهر، التي يشرف عليها الصحافي الأردني عادل محمود وقدَّم الدكتور برهان غليون ثمَّ ترك المجال مفتوحاً للكتّاب والمثقفين الذين يودّون أن يقدِّموا مداخلاتهم وتساؤلاتهم، وأجاب الدكتور غليون على أغلب التساؤلات. أستعرض فيما يلي التقديم وتساؤلاتي وردّ الدكتور غليون على أسئلتي في حينها، وردّي وتفنيدي الآن على ردوده التي تتناقض في جوهرها مع طروحاته الآن على الساحة الدولية فيما يخص سورية والعالم العربي، وقد وجدتُ مؤخراً إجاباته محفوظة في آرشيفي نقلاً عن جريدة العرب اليوم، فاستهواني أن أنشرها الآن لما لها من أهمية للمتابعين والمهتمين بالشأن السوري والعربي والعالمي.
   
المفكر العالمي الدكتور برهان غليون مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس

من خلال باب الحوار الالكتروني المباشر بين المسؤول والمواطن والمثقف والقارئ ومن خلال ضيف تحت المجهر عبر موقع العرب اليوم الالكتروني تستمر مسيرة الرأي الآخر. ضيفنا لهذه الحلقة من سورية، المفكر العالمي الدكتور برهان غليون مدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس .
بطاقة ضيفنا :

برهان غليون،
أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون في باريس. دكتوراة الدولة في العلوم الانسانية وأخرى في علم الاجتماع السياسي.
عضو الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، وأحد المساهمين الرئيسيين في النقاش الفكري والسياسي الدائر في العالم العربي حول تجديد أسس الحياة السياسية والأخلاقية وقضايا الانتقال نحو الديمقراطية وبناء المجتمعات المدنية. عضو في الرابطة الفرنسية للدراسات العربية، عضو في هيئة تحرير مجلة الشعوب المتوسطية، عضو في هيئة تحرير كونفلونس ميديبرانيين (روافد متوسطية)، باريس.
واضع العديد من المؤلفات بالعربية والفرنسبة أهمها: - بيان من أجل الديمقراطية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت،- المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، بيروت، الطليعة، سينا للنشر القاهرة، - مجتمع النخبة، معهد الانماء العربي، بيروت،- اغتيال العقل،- نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة،- الوعي الذاتي، - مابعد الخليج، أو عصر المواجهات الكبرى، نقد السياسة الدولة والدين،- المحنة العربية، الدولة ضد الأمة،- حوارات من عصر الحرب الأهلية،- حوار الدولة والدين مع سمير أمين، المركز الثقافي العربي،- العرب ومعركة السلام، المركز الثقافي العربي،- العالم العربي أمام تحديات القرن الواحد والعشرين،- ثقافة العولمة، مع سمير أمين،- الاختيار الديمقراطي في سورية،- العرب وتحولات العالم، المركز الثقافي العربي،- النظام السياسي في الاسلام،- العرب وعالم ما بعد 11 سبتمبر.، إضافة إلى العشرات من المؤلفات الجماعية ومن الدراسات والتحليلات السياسية والاجتماعية المنشورة في المجلات العلمية والصحافة اليومية بالإضافة لكتب عديدة باللغة الفرنسية.

                                                                     عادل محمود


(427) صبري يوسف 
د. برهان غليون
تحية
بادئ ذي بدء أحيِّيك دكتور برهان على كلّ ما قدّمته وتقدِّمه من رؤى وأفكار مستنيرة، حيث قرأت لكَ الكثير من المقالات والكتب وحضرتُ لكَ أكثر من برنامج تلفزيوني، وأثارت اهتمامي رؤاك المتفتِّحة والرحبة ممَّا قادتني الآن أن أطرح عليك بعض الأسئلة آملاً أن أتلقَّى إجابات شافية من عوالمكَ الفسيحة!
 1 ـ إلى متى سيبقى القادة العرب عاجزين عن قيادة بلادهم إلى جادة الصَّواب وإلى بوابات الأمان والسّلام والوئام؟!
2 ـ هل ترى أن العرب لهم هواية في الحروب، فدائماً العالم العربي يغلي في الحروب مع أنه فشل في أغلب حروبه، فلماذا لا يضع حدّاً لهذه الحروب طالما هو غير جدير بقيادة الحروب؟!
3 ـ متى سيتحقَّق السلام في الشرق الأوسط، هل ترى أن السَّلام الذي تمّ هو سلام حقيقي أم هو سلام مخروم، لأنَّه مفصّل كما تريده أميريكا واسرائيل، لا كما يقتضي الحق والمنطق والعدالة وأسس السَّلام؟
4 ـ هل ممكن أن يتحقَّق السَّلام ما بين اسرائيل كدولة قوية ومدعومة من أميريكا وبين العرب حيث التشتُّت والانقسام والتشرذم قائم ركباً، فاذا كان القادة العرب لا يتفاهمون مع بعضهم بعضاً، كيف سيتفاهمون ويفرضون فهمهم وبرنامجهم وحقّهم على الغرب وبالتالي على اسرائيل؟
 5 ـ المواطن في العالم العربي مظلوم إلى أبعد درجات الظلم، فهو يدخل في حرب ولا يخرج منها إلا إلى القبر أو التقاعد، علماً أن اقتصاد العالم العربي هو من أقوى الاقتصاد خاصة فيما يتعلَّق بالنَّفط، فمثلاً عندك العراق دولة نفطية وغائصة في حروب لا نهاية لها وكذلك دول أخرى في طريقها إلى القحط المفتوح على رقبة المواطن؟!
6 ـ هل توافقني الرأي أن دور المرأة شبه مشلول في أغلب بلدان العالم العربي، إلى متى ستبقى المرأة مختصَّة بالانجاب والطاعة العمياء، فأنا أرى أن الرجل في العالم العربي غير متحرِّر فكيف سيتم تحرُّر المرأة؟!
7 ـ لو أحصينا أغنى أغنياء العالم سنجد أن أغلبهم من العالم العربي ومع هذا نجد المواطن العربي على مشارف خط الفقر، لماذا أغلب الحكام والملوك العرب من أغنى أغنياء الكون والمواطن العربي من أفقر فقراء الكون، هل هذه المعادلة منطقية؟!
8 ـ الديمقراطية، الحرية، العدالة، المساواة، الرأي والرأي الآخر، التعدُّدية الحزبية، الثقافة، التطوُّر، الحضارة، الإبداع، بناء الإنسان، الخ، لماذا أغلب هذه المفاهيم تكاد تكون غائبة عن متناول المواطن العربي ومَنْ ينضوي تحت اللواء العربي؟!

 صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
 sabriyousef1@hotmail.com




(525) برهان غليون 

الأخ صبري يوسف معك كل الحقّ في طرح تساؤلاتك المؤلمة حول وضع العالم العربي.
لن يتحرر العالم العربي من سيطرة النُّخب العاجزة والفاسدة، ولن ينجح في تجنُّب الحروب الداخلية والخارجية وتحقيق السلام والأمن، ولا في استرداد حقوقه الوطنية في فلسطين والجولان وغيرها من الأراضي المحتلة، ولن يتمكن من مكافحة التفاوت الفاحش في توزيع الثروة وما ينجم عن ذلك من تعميم الفقر والجهل والبؤس من جهة وتكوين قلّة من أباطرة المال والأعمال من جهة ثانية، ولن تكون لأشكال الظلم المتعدِّدة التي تفتك بمجتمعاته نهاية، ما لم يدخل الشعب بنفسه إلى الميدان ويتجرأ على أخذ مسؤولياته والخروج من حالة الاستسلام والتسليم التي فرضتها عليه أنظمة أمنية قائمة على الردع الدائم وإرهاب الناس وإعدام جذوة الحياة والأمل لديهم للحصول على إذعانهم وخضوعهم. من دون ذلك ليس هناك أي أمل في المستقبل. وعلى الواعين من بين العرب التفكير بأفضل الطرق للتواصل مع الشعب لدفعه إلى أخذ شؤونه بيده وتمثل المثل القديم القائل : ما حكَّ جلدك مثل ظفرك. المراهنة على نخب جديدة منقذة من دون نزول الشعب إلى ميدان السياسة ومعتركها هو من قبيل الأوهام الفاسدة والمفسدة معاً، فما بالك بالمراهنة على القوى الأجنبية التي راودت لفترة بعض الحالمين.

انتهت إجابات الدكتور برهان غليون عن تساؤلاتي.
*****

أجريتُ هذا الحوار مع الدكتور برهان غليون بتاريخ 13 آذار (مارس) 2007 عبر جريدة العرب اليوم الأردنية، زاوية ضيف تحت المجهر، حيث كان الصحافي الأردني المعروف عادل محمود، المشرف على صفحة حارات الكترونية وضيف تحت المجهر، يستضيف بين حينٍ وآخر، ضيفاً هامَّاً ليضعه بطريقة راقية تحت المجهر، ويستضيف بدوره مجموعة من الكتَّاب والشعراء والأدباء والمثقفين والمهتمّين بقضايا الأدب والثقافة والسياسة من العالم العربي ومن خارج الوطن العربي أيضاً ويترك الباب مفتوحاً لمن يشاء من المتابعين والمهتمِّين كي يقدِّموا وجهات نظرهم وتساؤلاتهم على الضيف تحت المجهر عبر الشبكة العنكبوتية، وكنتُ أحد المدعوين من قبل الكاتب الصحافي عادل محمود لتقديم مداخلة على الدكتور برهان غليون.
لبّيتُ الدعوة برحابة صدر وقدَّمت مداخلتي بدقّة حول الواقع المرّ الذي يعاني منه العالم العربي، وقد وجدتُ في الدكتور غليون ضالَّتي المنشودة لما له من مكانة كبيرة في الكثير من المجالات والدراسات السياسية والاجتماعية التي تصبُّ في صميم اهتماماتي وتخصُّصي في مجال العلوم الاجتماعية والفلسفية، وقد أجاب في حينها بدقّة على تساؤلاتي وباقتضابٍ كبير، وأعذره لأنه كان بصدد الإجابة عن تساؤلات ومداخلات الكثيرين.
الآن، وفي هذه اللحظات التاريخية من حياة الشَّرق والغرب، أودُّ أن أقدِّم مداخلتي وتحليلي على ردّ الدكتور غليون على تساؤلاتي التي سألتها له آنذاك، وكانت تلامس بعمق واقع الحال الحالي، مع أنني طرحتها عليه منذ سنوات، وأودّ أن أذكِّره بردّه على أسئلتي، وأبيّن له وللقارئ ولكل المتابعين الفارق الكبير في صيغة منهج التفكير عند الدكتور غليون الآن مقارنة بما أجابني حول التغيير في العالم العربي في حينها، فقد أجابني الدكتور برهان غليون بما يلي:
 
" الأخ صبري يوسف، معك كل الحقّ في طرح تساؤلاتك المؤلمة حول وضع العالم العربي.
لن يتحرر العالم العربي من سيطرة النُّخب العاجزة والفاسدة، ولن ينجح في تجنُّب الحروب الداخلية والخارجية وتحقيق السلام والأمن، ولا في استرداد حقوقه الوطنية في فلسطين والجولان وغيرها من الأراضي المحتلة، ولن يتمكن من مكافحة التفاوت الفاحش في توزيع الثروة وما ينجم عن ذلك من تعميم الفقر والجهل والبؤس من جهة وتكوين قلّة من أباطرة المال والأعمال من جهة ثانية، ولن تكون لأشكال الظلم المتعدِّدة التي تفتك بمجتمعاته نهاية، ما لم يدخل الشعب بنفسه إلى الميدان ويتجرَّأ على أخذ مسؤولياته والخروج من حالة الاستسلام والتسليم التي فرضتها عليه أنظمة أمنية قائمة على الردع الدائم وإرهاب الناس وإعدام جذوة الحياة والأمل لديهم للحصول على إذعانهم وخضوعهم. من دون ذلك ليس هناك أي أمل في المستقبل. وعلى الواعين من بين العرب التفكير بأفضل الطرق للتواصل مع الشعب لدفعه إلى أخذ شؤونه بيده وتمثل المثل القديم القائل : ما حكَّ جلدك مثل ظفرك. المراهنة على نخب جديدة منقذة من دون نزول الشعب إلى ميدان السياسة ومعتركها هو من قبيل الأوهام الفاسدة والمفسدة معاً، فما بالك بالمراهنة على القوى الأجنبية التي راودت لفترة بعض الحالمين.".

إننا لو تمعّنا فيما أجاب الدكتور غليون، نجد أنه أصاب كبد الحقيقة في حينها، حيث أنه أكّد بحزم على ضرورة أن يفكِّر الواعون من العرب بأفضل الطرق للتواصل مع الشعب العربي لدفعه إلى أخذ شؤونه بيده، مؤكداً على مثل قديم ما حكّ جلدك مثل ظفرك، وهنا تأكيد واضح وصريح  من قبل الدكتور غليون على ضرورة التعاون والتكاتف مع الشعب العربي حصراً، ويضيف إن المراهنة على نخب منقذة من دون نزول الشعب إلى ميدان السياسة ومعتركها هو من قبيل الأوهام الفاسدة والمفسدة معاً، فما بالكَ بالمراهنة على القوى الأجنبية التي راودت لفترةٍ بعض الحالمين؟!

إن تأكيد د. غليون في حينها واضح وضوح الشمس على مراهنته على النخبة الواعية من العرب أن تفكر بأفضل الطرق للتواصل مع الشعب كي ينزلوا إلى ميدان السياسة ومعتركها ومن دون النزول إلى معترك الشارع السياسي هو ضرب من الأوهام الفاسدة والمفسدة، وأروع ما أقفل به جوابه كان: "فما بالك بالمراهنة على القوى الأجنبية التي راودَت بعض الحالمين"! أي أنه اعتبر آنذاك الذين يعتمدون على القوى الأجنبية هو من قبيل الأحلام والأوهام الفاسدة والمفسدة، لأن الجملة الثانية معطوفة على الأولى، فقد كان فعلاً جوابه لأسئلتي في حينها سديداً للغاية، وهو ما يطمح إليه أي مواطن سوري موضوعي ومنطقي وعملي، بكل شرائحه وقومياته واثنياته وطوائفه على كافة الرقعة الجغرافية السورية والبلدان العربية الأخرى!
فلماذا الآن يا دكتور غليون، تغيرتْ معكَ مقاييس التغيير والتطوير، تغيير وتطوير البلاد، لماذا اعتبرتَ آنذاك أنَّ الاعتماد على تدخُّل القوى الأجنبية ضرب من الأحلام الفاسدة والمفسدة، بينما نراك الآن تعتمد اعتماداً مطلقاً على القوى الأجنبية؟! أليس هذا تناقضاً ما بعده تناقض في رؤاك الفلسفية والسياسية والإجتماعية والتحديثية، أما كنتَ تعتبر أن الاعتماد على القوى الأجنبية في تغيير البلاد ضربُ من الأحلام، وأية أحلام؟ أحلام فاسدة ومفسدة، أليست هذه نعوتك لتشخيص وتفنيد كيفية تحرير واقع الحال العربي، وهل سورية من غير العالم العربي؟

دكتور برهان، لا شكّ أنكَ تحمل رؤى ووجهات نظر وتحليلات وأفكار عميقة فيما يخصُّ العالم العربي وكمفكِّر سياسي اجتماعي وتنويري كبير، وكما ذكرتُ لكَ في تساؤلاتي انني قرأت الكثير من مقالاتك وبعض كتبك وكوَّنت انطباعاً عميقاً حول فكرك التنويري وفكرك اليساري الديمقراطي الخلاق، ولكن اسمح لي أن أقول لكَ أنكَ انتقلتَ بأفكارك ميدانياً وعلى أرض الواقع الملموس من أقصى اليسار التنويري الديمقراطي إلى أقصى اليمين التدميري، ولا أقصد من الجانب الفكري والسياسي، بل من الجانب العملي والميداني، حيث أنكَ أجبتني بالحرف الواحد أنكَ ضد الاعتماد على القوى الأجنبية فيما يخصّ التغيُّرات في العالم العربي، بينما أراك الآن تضع كل ثقلكَ الفكري ورؤاك مع التدخُّل الأجنبي، ما هي مصير أفكارك اليسارية والتنويرية العاجّة بالكتب؟ ما رأيكَ يا دكتور لو عدتَ إلى إجاباتكَ عن تساؤلاتي وتساؤلات غيري ثم تقرأ إجاباتكَ بكل هدوء، ثم عدْ إلى مقالاتكَ وأفكارك التي طرحتها في أمّهات الكتب، واقرأها بهدوء، ستجد نفسكَ أنكَ تنصَّلتَ من جوهر أفكارك ورؤاك لما كتبْتَ ودرسْتَ ودرّست في أرقى جامعات العالم.
 
أراك الآن في الطرف المناقض لأفكارك وتحليلاتكَ التي سهرتَ عليها سنيناً وعقوداً وأنت تنبش وتفنّد وتحلِّل في أعماق جوهر الكتب العالمية كي تصطفي أرقى ما يمكن اصطفاؤه وتفنّده وتدوّنه في كتبكَ الراقية، ثم تأتي فجأةً وتقدِّم لنا وصفات لوجهات نظر غربية جاهزة لكيفية البناء والتغيير بطريقة تناقض تماماً وجهات نظرك التي اشتغلت عليها سنينا طويلة، فلماذا هذا الانقلاب على أفكارك التي تبنّيتها طويلا؟! إنني أرى وجهات نظرك وتطلُّعاتكَ الآن وتحديداً منذ الحراك الوطني في سورية، لا تصبُّ في تعمير البلاد بقدر ما تصبُّ في تدمير البلاد والعباد. لأنكَ يا دكتور برهان أنتَ أجبتَ عن تساؤلاتي مؤكِّداً: " .. على الواعين من بين العرب التفكير بأفضل الطرق للتواصل مع الشعب لدفعه إلى أخذ شؤونه بيده وتمثل المثل القديم القائل : ما حكَّ جلدك مثل ظفرك. المراهنة على نخب جديدة منقذة من دون نزول الشعب إلى ميدان السياسة ومعتركها هو من قبيل الأوهام الفاسدة والمفسدة معاً، فما بالك بالمراهنة على القوى الأجنبية التي راودت لفترة بعض الحالمين.".
ألم تقُل لي أنتَ هذا الكلام حرفياً في سياق ردِّكَ على تساؤلاتي عبر جريدة العرب اليوم الأردنية، عندما كنتَ ضيفاً تحت المجهر، حيث كان مجهر الكاتب الصحافي عادل محمود ساطعاً سطوع الشمس، هل أنتَ راضٍ على توجُّهاتك الجديدة، باعتمادك المطلق على القوى الأجنبية والتوجُّهات الغربية؟ لماذا تناقض نفسك بنفسك يا أيها المفكر العالمي المعروف؟ كن أميناً يا دكتور لأفكارك وتطلعاتكَ وتحاليلك التي دوَّنتها في كتبك ومقالاتكَ ومحاضراتكَ التي ملأت الدنيا، ولا تخيّب آمال قرائك ومتابعيك الذين يحترمون أفكارك البديعة في كتبك الغزيرة، ولا تنزلق إلى مهاوي التهلكة في الاعتماد على القوى الأجنبية التي أنتَ بنفسك اعتبرتها ضرب من الأوهام الفاسدة والمفسدة!

لا تراهن يا دكتور على الغرب، ولا على رؤى وتوجّهات الغرب فيما يخص الشرق، لأن الغرب هو ديمقراطي مع شعبه ومع تعامله مع شعبه ومواطنه، ولكنه ليس ديمقراطياً على الإطلاق فيما يخص الشرق وبلدان الشرق، وكل ما يهمه هو زجّ الشرق والعالم العربي في حروب لها أول وليس لها آخر، كي يقطف هو أي الغرب ثمار حروبه التي شنّها، وما حصل في العراق وليبيا أكبر دليل على أنه يستثمر الثغرات والأخطاء والفساد في البلاد التي يتدخل في شؤونها كي يحصد بعدئذٍ الغلال الوفيرة، كما حصل في الكثير من بلدان الشرق العربي، لأن الشرق يسدِّد فاتورة الحروب وفاتورة الاعمار إيضاً، فهو على الوجهين يمتصُّ دماء الشَّرق والعالم العربي، والغرب بتدخله في دنيا الشرق ليس لديه سوى مشروع تجاري استغلالي وصفقات لا أكثر، وليس له أية تطلعات لتحقيق الديمقراطية والحرية في البلاد العربية، بالعكس تماماً يهمّه بالدرجة الأولى والأخيرة أن تكون هذه البلاد متخلفة ومتسلّطة وقمعية كي تصبح هذه الأسباب ذريعة للتدخل في شؤونها ويحقق أهدافه الاقتصادية الاستغلالية. 
وعتبي كبير وكبير جداً على السياسات العربية، فبدلاً من أن تتضامن مع بعضها بعضاً في المحن والأزمات والحروب، أراها تنشقّ عن بعضها وتعادي بعضها بطريقة مقيتة، وتنحاز للغرب انحيازاً مدمّراً، لهذا يسهل على الغرب وبكل بساطة ابتلاع الشرق برمته، ورسم خرائطه وتوزيع اقتصاده وخيراته كما يشاء، وكأن إقتصاد الشرق مباح وتابع للغرب، وكل هذا ناجم عن خلخلة العلاقات العربية العربية، وهكذا تساهم الأنظمة العربية بطريقة أو بأخرى تقديم دولة تلوى الأخرى على طبق من ذهب للغرب، وقد نسى العرب أو بالأحرى الأنظمة العربية أن الغرب سيحصدهم واحداً واحداً لو استمروا بهذه السياسة التفككية العدائية لبعضهم بعضاً، لهذا أرى أنه من الضروري الآن، والضروري جداً الاسراع في الاصلاح والتغيير في كل دولة من دول العالم العربي، بحيث أن يبدأ الاصلاح والتغيير من الداخل ومن خلال المواطن في كل بلد عربي، عبر الحوار الوطني والديمقراطي الخلاق، بالتعاون والتضامن مع كافة الأطياف والشرائح والأحزاب والاثنيات والقوميات، لأنه لا يمكن لأي بلد على وجه الدنيا أن ينهض ويتطوَّر ويصلح نفسه ما لم يعتمد على مواطنه بالدرجة الأولى وانطلاقاً من أفكار مستنيرة وحضارية وديمقراطية تناسب أبجديات العصر، وهناك عشرات الأمثلة في التاريخ وفي الوقت الحاضر تؤكّد لنا أن تدخُّلات الغرب في الشرق وفي العديد من دول العالم كانت وما تزال لمصلحة استغلالية واقتصادية بحتة وليست لها أية علاقة بالديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة، وبالعكس تماماً فأنا أرى من مصلحة الغرب أن تكون البلاد العربية متخلفة وغير ديمقرطية وغير مستنيرة ومتناقضة مع بعضها بعضاً كي يسهل عليه تحريك هذه البلاد كما يشاء من خلال الثغرات والاغلاط والفساد والتناقضات التي تتخللها، لهذا على البلاد العربية أن تصلِّح وتغيّر ذاتها بذاتها.

من هذا المنظور آمل أن تفكِّر مليِّاً وبتحليل عميق بالمخطط المرسوم لك ولغيرك فيما يخص التغيير في سورية وفي الشرق، ولا تنسَ أنَّ سورية كوطن تحتاج إلى مفكِّريها ومبدعيها ومثقفيها وسياسييها كي يخرجونها من محنتها وأزمتها، فها هي سورية تفتح صدرها لكل مواطن سوري من داخل الوطن ومن خارج الوطن للحوار الوطني الخلاق، فلا حل لأزمة سورية إلا بالحوار ولا خيار آخر على وجه الدنيا إلا الحوار، فما فائدة أن يأتي فاتحاً إلى دمشق على دبّابة أميريكية أو غربية، وهل تظن أو يظن من يشاطرك الرأي أن الغرب سيفتح لكَ أبواب دمشق على صحن من ذهب  كرمال عيون الدكتور برهان غليون؟! لقد قلتَ لي بالحرف الواحد في حواري معك، ما حكَّ جلدك إلا ظفرك، والاعتماد على القوى الغربية ضرب من الأحلام الفاسدة والمفسدة، فحكِّم عقلك النيّر قبل فوات الأوان، وأعد النظر فيما أنتَ قادم عليه، وتأكّد أن أبواب دمشق مفتوحة لكَ كمفكر وعالم كبير، وحاور بني جلدتك بكل هدوء واقنعهم بما لديك من وجهات نظر تنويرية وتطويرية وإصلاحية، وتفضَّل وأسِّس أحزاباً تكفل وتصون حرية وكرامة وحقوق المواطن، وسخّر فكرك لتطوير بلدك بشكلٍ راقٍ بما يناسب الفكر الفلسفي الذي تحمله، لا أن تطرح نفسك كأنك قائد جيش وتهاجم الأعداء، فالذين تختلف معهم، مهما كان خلافك واختلافك معهم بالنتيجة ليسوا أعداء، القضية وما فيها هي اختلاف في وجهات النظر، أنتَ تنظر بطريقة وهم ينظرون بطريقة، ولهذا على كل الأطراف أن تنظر إلى الوطن بالطريقة التي يرونها صحيحة شريطة أن يكون النظر من منطلق حضاري ووطني وتنويري حقيقي، ومن منظور الحفاظ على المواطن السوري. وأودّ أن أؤكّد لكَ وللنظام السوري وللأحزاب السورية الموالية والمعارضة وللنظام الكوني أن قتل طفل بريء واحد في سورية هي جريمة الجرائم في حقك وفي حق النظام وفي حق الكون برمته، فيما إذا كنتم جميعاً متسبِّبين في قتله!

ولهذا أرى أنَّ سورية بكل جغرافيتها الجميلة يجب أن تحضن الطفل والطفولة، يجب أن تحضن الشباب والشابات، يجب أن تحضن الرجال والكهول والشيوخ، يجب أن يسير المواطن شامخ الرأس، وعلى المتنوِّرين والمفكرين والسياسيين تقع مسؤولية قيادة الوطن إلى جادة الصواب بعيداً عن لغة القتل والتدمير والحروب وتفخيخ السيارات وتفخيخ المخ والمخيخ، علينا جميعاً ان نحافظ على مخ ومخيخ المواطن، لا أن نفجِّره بالقنابل والمتفجِّرات والسلاح الفتَّاك، كأنَّنا في عصور ما قبل الحجرية، يا دكتور برهان أتكلم معك بكل صراحة بصفتك مفكِّراً كبيراً وعميقاً في رؤاك الديمقراطية، فلا تتبع أسلوب الحرب في الحوار السياسي وفي تطوير البلاد، أصلاً المفكر أي مفكِّر على وجه الدُّنيا لا يليق به أن يفكر بطريقة  دموية حربية عسكرية، من جهتي لا أختلف معك ومع آلاف المفكرين والمثقفين والسياسيين على أن هناك في سورية والعالم العربي الفساد والاغلاط والتجاوزات ولكن تفضَّل شرّف صلِّح وغيِّر وعالج هذا الفساد بالعقل الخلاق، بالفكر المستنير، لا بالناتو، وبالدبابات والطائرات والصواريخ الغربية! هذا أسلوب لا يليق نهائياً بمفكر ولا بسياسي يحترم حرية الآخر ويحترم كرامة الآخر ويحترم الوطن الذي أنجبه للحياة!

بالحقيقة أتحدث معك كإنسان وليس كسياسي، وكمفكر وليس كعسكري، وكباحث كبير في تحليل سياسات الكون، فكيف لا تفكِّر أنتَ بمعالجة وضع بلدك بطريقة حضارية تليق بك وبالوطن وبحضارة الوطن، وبالفكر الراقي الذي تحمله، ومن الأفضل أن تترجم فكرك بما يفيد البشرية ككل، فكم بالأولى بك أن تترجمه لصالح وطنك، ببساطة يا دكتور أنا ضد لغة العنف وضد لغة الحروب وضد لغة القوة الدموية، أنا مع من قوَّة العقل، وقوة المنطق وقوَّة الحجة في الحوار وقوة الاقناع وقوة التواصل مع الانسان بشكل حضاري، وكل ما أقوله لك، أقوله للنظام السوري وللمواطن السوري بكل أطيافه، بكل أحزابه وقومياته واثنياته، ولكل مواطن داخل وخارج البلاد سواء كان من المعارضة أو من الموالاة، علينا جميعاً أن نقود الوطن إلى بوابات الأمان والوئام والحرية والديمقراطية والمواطنة الحقيقة.
آمل يا دكتور برهان أن تعيد النظر فيما أنتَ قادم عليه، وآمل أن يكون لكَ دوراً كبيراً في حقن الدماء، دماء المواطنين السوريين، وآمل أن أراك جنباً إلى جنب مع بقية أقطاب المعارضة في الخارج والمعارضة وكل الأحزاب الوطينة في الداخل وتحاوروا بعضكم بعضاً داخل الوطن وتضعوا حدّاً لهذه الصراعات الدموية، وتأكَّد أن الأهداف التي تريد تحقيقها عبر الحوار الوطني الخلاق أفضل من التناحر العسكري الغربي والصراع الدموي مع الشرق، فما ذنب مواطن ما بريء يسير في الشارع وإذ به يتعرض للقتل، أنتم تتهمون النظام بأنه هو من قتله والنظام يتهمكم أنكم أنتم من قتلتونه، وأنا أتهمكم جميعاً على أنكم على غلط جسيم، لأنه بالنتيجة خسرنا مواطناً بريئاً، وبما أن سورية كوطن كدولة كحكومة فتحت صدرها لكل موطن سوري في داخل البلاد وخارجه كي يقدم رؤاه السديدة لمعالجة الوضع في سورية ولوضع حدّ للفساد والأغلاط والتجاوزات، فلماذا لا يتقدم كل مواطن سوري ابتداءً من المفكر الدكتور برهان غليون ومروراً بكل مغترب سوري وبكل مواطن سوري داخل البلاد ويتحاوروا مع بعضهم بعضاً بكل ودّ وبكل رقي وبإشراف عربي ودولي لتحقيق الأهداف المرجوة في التغيير والتطوير ولقطع دابر الحروب المجنونة التي لا تقودنا إلا إلى المزيد من الخراب والدمار. وأنا أرى أن الإعمار يأتي من خلال بناء وتحسين ما هو معمَّر، لا أن نهدِّم ونحرق ونقتل ونحول البلاد إلى أشباح ودمار ثم نأتي ونطرح نظرية إعادة الإعمار، لماذا نعيد الاعمار بعد الدمار، ولماذا ندمِّر البلاد أصلاً ونأتي ونعمِّر ما ندمِّره؟ هذه النظرية الخرقاء بإعادة اعمار الدمار هي نظرية سخيفة اخترعها الغرب كي يبرِّر خرابه ودماره واحتلاله ونهبه لخيرات البلاد، لأنه يقبض فاتورة الدمار والإعمار معاً، وكلما كان الدمار كبيراً، كانت الفاتورة أكبر وبالتالي الاعمار أيضاً أوسع وأشمل والفاتورة بالطبع ستكون أكبر وهكذا القضية هي عبارة عن مشروع تجاري بالنسبة للغرب وتحديداً أميريكا، وها قد وجدنا ما حققته من دمار وخراب في العراق، ولهذا علينا أن نتجنّب الدمار، ونركّز على الاعمار وعلى الاصلاح والحوار البنّاء والفعال، على الوطن كوطن، لا على الوطن كصفقات، الوطن أي وطن على وجه الدنيا أكبر من الصفقات وأكبر من أي قائد سياسي وأكبر من أي مفكر وأكبر من أي مواطن، والوطن أم وأب الإنسان وعلى المواطن السياسي والمواطن المفكر، أن يفكرا بهذا الوطن الأم والأب، وبهذه المعادلة الاحتضانية سيكون الوطن والمواطن في حالة أمان وسلام ووئام. الوطن أي وطن لا يتحمل كل هذه الصراعات العقيمة، وهذه الحروب الهوجاء وهذه التدخلات المتحجِّرة والسقيمة، إننا نعيش في القرن الحادي والعشرين وليس في العصور الحجرية، إلى متى سيفكر الإنسان بلغة الحرب والسلاح والقوة والدمار لإعادة الإعمار، ألا يحتاج العراق قرناً لإعادة الإعمار، وكيف سنعمِّرُ ونحيي الموتى الذين ماتوا ويموتون وسيموتون؟!.

إنَّ الذي ينقذ سورية من محنتها وأزمتها البركانية هو المفكر، والمفكر الحقيقي هو الذي يغلِّب الفكر الإنساني الخلاق على الفكر الهدَّام، وأي فكر يقود إلى قتل طفل هو فكر سقيم وعقيم وإنحطاطي وهدّام، والذي يضطر للدفاع عن نفسه، مرغمٌ على الردّ والدفاع عن النفس، لهذا الوطن بأمس الحاجة لحقن الدماء، ويحتاج الوطن إلى الحوار الوطني بين كافة مكوّنات المجتمع السوري سواء في الداخل أو الخارج ولكن تحت سقف الوطن، حتى ولو كان اللقاء داخل أو خارح الوطن، المهم بالنتيجة يكون بناء الوطن هو الهدف، انقاذ الوطن هو الهدف، ويجب توقيف كافة أعمال العنف والقتل والتفجير في كل أنحاء سورية والتخطيط لمستقبل سورية في التغيير والتطوير والاصلاح، وسن قوانين جديدة تناسب أبجديات القرن الحادي والعشرين، بعيداً عن لغة التحكم والاستبداد والتسلّط والقمع والارهاب والإقصاء، بحيث أن تصون القوانين المسنونة الجديدة حقوق المواطن في كافة مواقعه، وبحيث أن نضع الإنسان المناسب في المكان المناسب  وبشكل ديمقراطي ودستوري وإنساني وحضاري، بعيداً عن لغة العنف والقتل والحرب والصراع الذي يؤدّي إلى خسائر فادحة لكل الأطراف، كي نحقّق للوطن والمواطن الحرية والعدالة والكرامة والأمان، وهذا ما أتوخّاه منكم ومنكَ أيُّها الإنسان!!!


ستوكهولم: 24. 12 . 2011
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com 
 








53

صراعُ الحضارات، أقبحُ القباحات


أتذكّر أيام زمان، كنتُ أتناقش مع الزُّملاء والزميلات بعض قضايا التطوّر والتحضُّر والكثير من هموم المرأة والظلم الجاثم فوق رقبتها الطريَّة، وإذ بي أحياناً كنتُ أصادف بعض النِّساء، أو أنثى ما، تقف في وجه رؤاي قائلة يا أستاذ أنا قانعة ومبسوطة هكذا، بكلِّ هذه الضغوط والحال والأحوال، ولا أريد تغييراً أو تطويراً على أحوالي والخ .. كنتُ آخذها برحابة صدر، وأردُّ عليها، يا عزيزتي أنا لا أدعو إلى تحرير أنثى مثلكِ بل لا بدَّ من وجود هكذا نماذج في عالمنا وإلا كيف سنعرف أن مجتمعنا ما يزال متخلِّفاً، ومسروراً في تخلفه، وكنّا نغوص أحياناً في كوميديا نقاشيَّة ساخرة، والطريف بالأمر أن يقبل المرء واقع حال تخلفه والظلم الجاثم عليه، فكيف تدّعي أنثى ما في الكون انها سعيدة بحالها وواقعها عندما يكون واقعها مريراً؟ ولهذا فإنَّنا نحتاج في مثل هذه الحالة إلى جهود مضاعفة لتغيير صيغة تفكير الكائن الحي أنثى كانت أم رجلاً!

المبدع لا يملك مفتاحاً سحرياً، مثله مثل أيّ كائن حيّ، لكنَّ الفرق بينه وبين الإنسان العادي، انه مبدع، والكارثة الكبرى أنَّ المبدع نادراً ما يكون مقبولاً لدى أيَّة سلطة سواء كانت السّلطة سياسية أو دينية أو مدنيّة، أو مجتمعية الخ .. لأنَّه غالباً ما يتجاوز برؤاه صيغة تفكير واقعه وهو يجنح نحو عوالمه الفسيحة الرَّحبة بعيداً عن تقيُّدات آخر زمن، والمبدع الحقيقي يغوص في عوالم جديدة وعرة ليقدِّم أبهى ما لديه للمتلقِّي، لكن المتلقِّي كائناً مَن كان لا يستوعب أخيانا كثيرة هذه الفضاءات التي يغوص فيها لهذا تراه غير مقبول أحياناً بطروحاته وأفكاره ورؤاه، فمثلاً كوبرنيكوس، طرح فكرة دوران الأرض، فاعتبروه مجنونا يهذي؟ وسقراط من الفلاسفة العمالقة حكموا عليه بالموت مسموماً، وهكذا فلكي يحقِّق المبدع دوره كاملاً فإنّه يحتاج إلى مؤسَّسات تدعم رؤاه وأفكاره وتوجُّهاته لا أن تبقى مؤسَّسات في وجهه وقوى فاقعة وداكنة في طريق تبصره فلا يجد والحالة هذه سوى الرَّحيل نحو عالم يسوده الهدوء والفرح والنور والإبداع الحقيقي، لأن المبدع جلّ تفكيره الإبداع وليس الجاه والسلطة والمال والشهرة .. لكن بعض هذه المسائل تتحقق كتحصيل حاصل، كالشهرة والمال والموقع ... ولكن هو في العمق يهدف إلى خلق نصٍّ جديد غير مطروق، إبداع فكرة غير مسبوقة وهكذا نراه في سباق مع ذاته ومع الحياة!

لو عدنا إلى عوالمي في الكتابة، ببساطة هدفي من الكتابة هو المتعة أولاً وأخيراً، لأنَّني أشعر عندما أغوص في عوالم النصّ، بنوع من المتعة والفرح والبهجة والنشوة، لا تعادلها أيَّة نشوة على وجه الدُّنيا! لهذا فأنا عبر الكتابة أحقِّق رغبة ومتعة خاصّة وفعلاً لا أكترث بالمتلقِّي لكن هذا الاكتراث يأتي كتحصيل حاصل فنصِّي بالنتيجة يبقى ملكَ القارئ أثناء قراءته، ولكني مع هذا لا أتوقّف عند ردود فعله كثيراً، خاصة عندما تكون انطباعاته بعيدة عن عوالمي التي أهدف إليها، وأنا أرى أنَّ من أكبر مشاكل الحياة والكون والساسة والشَّرق والغرب وحوار الحضارات أنَّ الأطراف المتشابكة لا تصغي إلى بعضها بعضاً بشكل حضاري ولا تريد أن تستفيد من خبرات بعضها بعضاً، فكلُّ طرفٍ يطرح نفسه عبقري عصره ولا يصغي إلى الآخر الذي تجاوز مراحل العبقرية لأنه في مرحلة تشكيل وصياغة أسس العبقرية والتطور الكوني، ببساطة عوالم الشرق يفتقر إلى نقطة جوهرية ومحورية في صراعه مع العولمة والكون والحداثة وما بعد الحداثة والانترنت والفضائيات وعشرات قضايا تطوير وتغيير الحياة، وهو أي عالم الشرق وأقصد المؤسسات الرسمية والحكومية والذين هم في موقع المسؤولية على كافة الأصعدة، لا يحاولون الاستفادة من منجزات العصر وتقنيات العصر وتطورات العصر، حتى الديموقراطية يفهمونها خطأً والحرية لا يفهمونها إلى بشكل أعوج، فمثلاً حالما يتحدّث كاتب ما يقيم في الغرب، فكرة ما حداثوية تطورية وفيها نفس ديموقراطي سرعان ما يُتّهم بتحيُّزه للغرب والخيانة، وأنه يحمل أفكار هدّامة، والاتهامات جاهزة دون أن يقلِّبوا أفكاره ويقدِّموا دراسات تحليلية عن رؤاه، فهل كانت أفكار كوبرنيكوس هدّامة عندما طرح فكرة كروية الأرض؟ من هذا المنظور لا أتوقَّف عند ردود فعل المتلقِّي خاصَّة  إذا كانت قاصرة، فلا يمكن لمتلقي عادي أن يتقبَّل لوحات تشكيلية غارقة في الإبداع، لا يفهم أبعاد وعوالم اللوحة فيأتي ويقول هذه عبارة عن شخبطات! أو يأتي قارئ أجوف في الرؤية ويدَّعي ان محمد الماغوط أو حنا مينة أو عبدالرحمن منيف في كتاباتهم أفكار هدّامة، بالمختصر المفيد، يجب على أية دولة أو أمّة أو مؤسَّسة مهما كانت صغيرة أن تهتم بمبدعيها حتى ولو كان المبدع على صعيد تلحين أغنية بسيطة جدّاً أو كتابة نصّ شعري أو قصّة ما  أو لوحة تشكيلية، فالدولة أو الأمّة التي لا تهتم بمبدعيها وبمفكريها هي أمّة في طريقها إلى الزوال والإضمحلال والتقوقع والتخلف، عندها لا يمكن اللحاق ببقية الأمم الناهضة! والأمّة العربية في الكثير من رحابها وتلالها أمّة غير مهتمة بمبدعيها لهذا نجد فيها كل عوالم النهوض من أقتصاد وطاقة بشرية شابة وجغرافية دافئة وملايين الأسباب التي تقود إلى قمة التطوُّر والتحضُّر ومع هذا فهي أمَّة مهزومة أمام فتّاشة من فتَّاشات الدُّول النَّاهضة مثل اليابان والغرب والصِّين.. لماذا؟ لأنها لا تعرف كيف تستثمر إمكانياتها الاقتصادية والفكرية والحضارية والجغرافية وهمّها الوحيد الضغط على مواطنها الذي جل تفكيره أن يحصل على جواز سفر وفيزة إلى دولة من دول الغرب، ولو تمّ تسهيل الخروج والسياحة للمواطن في العالم العربي إلى قارات أوربا وأميركا لأصبح العالم العربي شبه خالٍ من السكان خلال قرن أو قرنين بإستثناء قادة الأمّة وبعض المتنفعين، وأحياناً يراودني أنَّ القادة أنفسهم يريدون أن يشمِّعوا الخيط إلى عالم الغرب لما في الغرب من رفاهية وهدوء وفرح وحياة رغيدة، ولهذا تجد بعضهم يعبرون خلسة إلى عوالم لندن وباريس ويصرفون في ليلة وضحاها ما يكفي لآلاف الأطفال الجائعين في دنيا الشَّرق!

الموضوع مفتوح وطويل والصفحة هنا لا تتّسع للدخول في تفاصيل أسباب خلخلة أجنحة الشرق!!

قال عبد الرحمن منيف، "مَن يملك الشَّرق يملك العالم" ..
نحن في الشَّرق ولا نملك العالم، لماذا؟ لأنَّنا لا نملك الشَّرق الذي هو شرقنا فكيف سنملك ما ليس لنا؟!
لهذا أكتب شعراً، كي لا أملك الشرق ولا الغرب، كي أملكَ نصّاً منبعثاً من وهج الرّوح، من الينابيع الخفيَّة المتدفِّقة من شهقة الحلم! أكتب كي أعيد توازني في الحياة، فأنا إنسان  مخلخل الأجنحة وبي آلاف الهموم والجراح والأحزان ودموعي تكفي لسقاية زنابق بيتنا في حوشنا العتيق، أكتب من أجل الخلاص من ضجر هذا الزَّمان، زمنٌ فاقع لا لون له ولا طعم سوى طعمِ الهزيمة! أكتب من أجل البحث والغوص عميقاً نحو كائن غير مرئي متخفّي خلف لهاث حرفي ، كائن له بسمة إنسان، كائن من نكهة المروج البرّية، أكتب لأن الكتابة هي جنّتي الفسيحة التي أسبح في كنفها، لا يعجبني رؤى الشَّرق ولا حتّى رؤى الكثير من قادة الغرب، أكتب كي أهرب من أحزان النهار ومن خفافيش الليل، أكتب لأن الكتابة تغلغلت في أعماقي الخفية وأصبحت عشيقتي السرمدية، هي التي خفَّفت عنِّي الكثير من فظاظة غربتي وفظاظة تعاملات البشر، هي التي أنقذتني من ورطات لا حصر لها، الكتابة هي خشبة خلاصي من فقاقيع هذا الزَّمان، زمن يلهث خلف الفقاقيع، زمن بائس، يحتاج إلى قرون فسيحة كي يفهم أنَّ الحياة لا تتطلَّب كلّ هذه الصراعات السَّخيفة والحروب القميئة، أليس عارّاً ونحن في بداية قرن جديد وما يزال على وجه المعمورة من يفكر بطريقة العصور ما قبل الحجرية، العراق آهٍ .. يا عراق، أبو الحضارات على وجه الدُّنيا وهو يغوص الآن برؤى أشبه ما تكون منبعثة من مستنقعات مستفحلة بالطاعون والسل الرئوي، أول قرية عُمِّرت في الكون كانت في أرضِ العراق أوَّل حضارة كانت في العراق، بلاد ما بين النَّهرين أمُّ الحضارات، الآن بلاد ما بين الحربين وما بين السمّين وما بين مجانين تنطح بعضها بعضاً على توجيهات قادة هذا الكون، كون ينجرف نحو براثن الدمار، كون لا قائد له ، مجموعة من سكارى هذا الزَّمان يتحكَّمون بجغرافية الكون، ونحن معشر الشُّعراء لا نملك سوى أقلامنا نشهرها في وجه قباحات هذا العالم!
هل قرأتم نصّي، أميركا حضارة نارٍ وكبريت؟! هل قرأتم: حصار الأطفال، قباحات آخر زمان؟!.. هل توافقوني الرأي أن صراع الحضارات هو قباحة القباحات، فإلى متى سيدور الإنسان في حلقات فارغة، بعيداً عن قيم الحضارة، وقيم الإنسانية؟ نحن الآن أحوج ما نكون لحوار إنساني كوني، يعيد للإنسان انسانيته، بعيداً عن التعصب الديني والقومي والعرقي والقارّي والشرقي والغربي، ويجب أن ننظر إلى الإنسان كإنسان على إمتداد الكرة الأرضية برمتها، ونضع مخطَّطات ورؤى جديدة لمعالجة مشاكل الفقر والجهل والمرض والحروب والتفجر السكاني وتلوث البيئة، بحيث أن يكون هدف سياسات الكون برمّتها بناء وتطور الإنسان، وإلا سيكون مصير الكرة الأرضية ومصير هذا الكائن الحي ـ الإنسان الدوران في حروب مجنونة إلى أجلٍ غير مسمّى!
أيّها الإنسان العاقل على وجه الدنيا، لقد آن الأوان أن تأخذ دوركَ كاملاً بما فيه خيركَ وخير البشرية!


ستوكهولم: 29 ـ 4 ـ 2006
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com


54




أحلامٌ مشروخة على قارعةِ المتاهات



صبري يوسف

كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم


وقفَ الحلمُ على قارعةِ المتاهاتِ
فاغراً آهاته على مدى سكونِ اللَّيل
عجباً  
لم يَعُدْ لليلِِ سكوناً
فرَّ السكونُ بعيداً
حيثُ ضجرُ الانتظار
مخيّمٌ على هلالاتِ الشَّفق!

وقفَ الحلمُ بينَ غبارِ السِّنين
مذهولاً من سماكاتِ الغبار
من ضجرِ النَّهار
من بوحِ القلبِ للقلب
من لونِ الأسى المعرّشِ
     في أغصانِ الرُّوحِ!

وقفَ الحلمُ بين دخانِ اللَّيلِ والنَّهار
بينَ مناغاةِ الطُّفولةِ وشيخوخةِ هذا الزَّمان
زمنٌ شاخَ قبلَ الأوان
زمنٌ مهلهلٌ كأنَّهُ يسيرُ على فقاعات
     على مدى رحابةِ حلمٍ مرصرصٍ
     بغازِ أوكسيدِ البكاء
بكاءٌ من المهدِ إلى اللَّحدِ
بكاءٌ منذُ أن تشكَّلنا في تكويرةِ الرَّحمِ
بكاءٌ على مدى العمرِ
زمنٌ معتَّق بالبكاء
نجومُ اللَّيل غرقى في بحيراتِ الأحزان
جفلتِ السَّماءُ من تفاقماتِ الغبار!

صَمْتٌ جارحٌ مخيَّمٌ على شاهداتِ القبورِ
حيرةٌ طافحةٌ بالآهاتِ
تبزغُ في أوجِ تركيزنا وفي أعماقِ الخيالِ
حيرةٌ مقمّطةٌ بالأنين
أوطانٌ تتلظَّى من هولِ الاشتعال
اشتعالُ فتيل الانحدار
انحدارٌ نحوَ شفيرِ الجَّحيم

وقفَ الحلمُ عندَ بوَّاباتِ العبورِ
تاهَ الحلمُ بينَ هولِِ الصَّباحات
ارتعدَتْ مفاصله من فخاخِ الجحورِ
حتى أحلامنا تخشى انكساراتِ العبور
ليلٌ مفخَّخٌ بالآهات
جنوحٌ مميت نحو عتمةِ القبورِ
جنونٌ هذا الانزلاق في ألسنةِ اللَّهيبِ
تشظَّتِ الأحلامُ من طُفوحِ الدّموعِ
     من أحزانِ الغدِ الآتي

صباحاتٌ مكفهرُّةٌ بطلاسمِ الرُّعبِ
تزدادُ صباحاتنا عبوساً
فرَّتْ أفراحنا بعيداً
متغلغلةً في قافلةِ الرَّحيلِ
تخلخلَتْ أجنحةُ اليمام

هجومٌ أبله على جحورِ القبورِ
رغبةٌ هائجة في متاهاتِ العبورِ
غباءٌ مستطير يلازمُ شهيقَ العابرين

وقفَ الحلمُ بينَ أنيابِ الحيتانِ
مذهولٌ من ذبولِ الأقاحي
هربتْ غزالةُ الرُّوح بعيداً
     عن منأى طغيانِ الغباءِ على نسيمِ الصَّباحِ
          على ذاكرةٍ مجبولةٍ بالورودِ
لم تعُدْ للورودِ نكهةُ الورودِ
تبدّدَتِ النَّكهةُ من هولِ المآسي
     من  سمومِ الحروبِ
     من هولِِ نيرانِ الجنونِ
تفاقمَ كلّ أنواعِ القحطِ
قحطُ الأخلاقِ
قحطُ السِّياساتِ
قحطُ الحوارِ
قحطُ المحبّة وأزاهير البناءِ
قحطُ الحرف ولونُ الوفاءِ

قحطُ مستفحلٌ في بؤرةِ الرُّوحِ
رغم زخّاتِ الأمطارِ
قحطٌ مفتوح على مدى جغرافيّة الكونِ
قحطٌ معرّشُ في قاعِ مخيخٍ سفيهِ الطِّباعِ
خلخلَ براءةَ الأطفالِ
دمَّرَ جمالَ الغابات
ولَّتِ الكائناتُ بعيداً
لم تطمئنّْ من البقاءِ في ظلالِ الأدغالِ
رعبٌ لا يفارقُ أعماقَ القلاعِ
تخلخلَتْ أشرعةُ الأمانِ
لا أرى حكمةً ترفرفُ فوقَ أجنحةِ الحمامِِ
مخيخٌ مؤكسدٌ بالترّهاتِ
غيرُ قادرٍ على زرعِ قيمِ الخيرِ
تاهَتْ بعيداً قيمُ العناقِ
قيمُ الحكمة الرَّاسخة في شراعِ الوفاقِ
رؤى ممجوجة
سمَّمتْ شموخَ الأخلاقِ!

تصدّعَتْ وجنةُ الحضارة
انزلقَتْ في شفيرِ الجَّحيمِ
مَنْ يستطيعُ أن ينقذَ الطفولةَ
     من غدرِ هذا الزَّمان!

تاهت رؤى الكثير في ثنايا الترّهاتِ
حضارةٌ محشوَّةٌ بروثِ البقرِ
تنمو فوقَ سفوحِ الكونِ
حضارةٌ خاليةٌ من نضارةِ اللَّونِ
حضارةٌ مكفهرَّة
مؤكسدة بسماكاتِ الغبارِ
حضارةٌ قابعةٌ على مخيخٍ محشوٍّ
      بأورامِ فسادٍ تفَشَّى من كلِّ الجَّهاتِ

فسادٌ يفرّخُ على مدى اللَّيل والنَّهار
فسادُ الشَّرقِ والغربِ
فسادٌ يقودُ البلادَ على رقابِ العبادِ
منذُ هبوطِ اللَّيلِ حتى انبلاجِ خيوطِ الشَّفقِ

فسادٌ على شساعةِ البحرِ
فسادٌ في لبٍّ النَّهارِ
     في أعماقِ رؤى مفروشة كذيولِ الثَّعالب
تنافسُ جحافلَ التنانينِ

غدرٌ على مدى العمرِ
بكاءٌ لا يفارقُ حتّى خفايا الحلمِ
غوصٌ مريرٌ في قاعِ الكآباتِ
أينَ المفرُّ من كآباتِ الغدِ الآتي
غدٌ مكتظٌّ بالآهاتِ
غدٌ مستفحلٌ بجنونِ القارّاتِ
قارّاتُ تنطحُ جبينَ العهدِ

اعوجاجاتٌ ممتدَّة على مدى الغيمِ
عهدٌ جديدٌ يناطحُ  بعضُه بعضاً
كأنّه مجبولٌ من عنادِ البغالِ
جلّ تركيزه على جني المالِ
حتى ولو على حسابِ جماجمَ الأطفالِ
تاهَ الإنسانُ بعيداً عن الأصالةِ
     عن سموِّ الأخلاقِ
أما كانَ عهدُ البداوةِ وركوبِ الخيلِ
أكثرَ صفاءً وأقلَّ ضجراً من عهودِ غزوِ الفضاءِ؟
لا أرى حولي من تقنياتِ العصرِ
     سوى غزو براءةِ الأطفالِ
ملوكٌ وسلاطين مصنّعة على مقاسات حروبهم
فجأة يملُّون من الملوكِ والسلاطينِ
      ومن تماثيلهم العالية
تتهاوى التماثيل
مشانقٌ تعلّقُ في الساحات
شراهاتٌ غير مسبوقة
     في إبادةِ اِخضرارِ النَّباتِ وشهيقِ الكائناتِ
خوفٌ يتربَّصُ دكنةَ اللَّيلِ
يتغلغلُ في خيوطِ الشَّمسِ
جوعٌ في ظلالِ المدائن
     في فيافي الرِّيفِ

عهدٌ يزدادُ توغلاً في خلخلةِ أجنحةِ الشبَّانِ
     في انشراخِ خدودِ الأوطانِ
غباءٌ أزلي يروِّجُ لثقافةِ الموتِ
يرسمُ الموتَ كأنَّهُ بشارةُ خلاصٍ
غباءٌ مريرٌ يستفحلُ في أعماقِ رؤى
     محشوّة بصليلِ السُّيوفِ
     مرتكزة على فنونِ الغدرِ
غدرٌ على شاكلةِ ضراوةِ الرِّيحِ
أكثر من افتراسِ الوحوشِ
غدرٌ يطيحُ عذوبةَ النّدى
يفرشُ شظاياه فوقَ جفونِِ الأوطانِ
أوطانٌ تتلظَّى بين أنيابِ الحيتانِ
حيتانٌ من كلِّ الجِّهاتِ
من الشَّرقِ
من الغربِ
من الشِّمال
من الجنوبِ
من أعماقِ البحارِ

حيتانٌ حارقة كأنّها ألسنة مهتاجة
     من لظى الشَّمسِ
ماتَتِ الأحلامُ في مقتبلِ العمرِ
     أثناءَ الولادةِ
     قبلَ الولادةِ
ماتت قبل أن تعلو قامات السَّنابل
ما قيمةُ الجنّاتِ والفراديسِ
طالما نتلظّى هنا في قاعِ الجَّحيمِ
     على مرأى العالمِ
     وفي دهاليزِ الكواليسِ

معادلاتٌ مخرومةُ البنيانِ
تُصاغُ لاندلاعِ الرُّعبِ وأجيجِ الحروبِ
شراهةٌ مفتوحة نحوَ اباحةِ القتلِ
    نحو هدرِ الدَّماءِ وعلوِّ شاهداتِ القبورِ

وقف قاسم حدّاد مذهولاً من هولِ الدَّمارِ
تساءلَتْ جمانة حدّاد بمرارةٍ
ما هذا القحطُ الكوني
غليانٌ يخيمٌ على خيال أدونيس
على مسائه العاجِّ بأسئلة معرّشة
     في اشتعالات خاصراتِ الأوطانِ
جنَّ جنونُ الماغوط في قبرِهِ
أوطانٌ على قابِ قوسين من تخومِ الافتراسِ
     من جنونِ هذا الزَّمان
     من هلوساتِ الصَّولجانِ
صولجاناتُ الغربِ على جماجم الشَّرقِ
وصولجاناتُ الشَّرقِ في أوجِ اندلاعِ الصِّراعِ
صراعُ الإنسانِ معَ أخيهِ الإنسانِ

أين أنتَ يا طاغور
كي ترى انحدارات هذا الزَّمان
كي ترى ضمور حضاراتِ الإنسانِ
كي ترى تفشّي أبجديات الطُّغيانِ
     على فقراء هذا العالم؟!

وحدُه الشِّعر صديقُ الكائناتِ
صديقُ البرِّ والبحرِ وأقاصي السَّماءِ
صديقُ عاشقة من نضارةِ النَّدى
شامخٌ كضياءِ النٌّورِ

حروبٌ حارقة تطحنُ أغصانَ الحنينِ
تفرِّخُ أشواكَ الأنينِ فوقَ رقابِ البنينِ
تنفثُ في جنباتها سمومَ الطّغيانِ
طغيانُ الغباءِ على صفاءِ الإيمانِ
طغيانُ الحيتانِ الكبيرة على ملايين الغزلانِ
طغيانُ جشاعة الإنسانِ على صلاةِ الرُّهبانِ
وخلخلة أخلاقياتِ الأديانِ
أين ولّتِ حكمةُ الحكماءِ على مدى الأزمانِ
انزلاقٌ نحو أغوارِ الجَّحيمِ
جنونٌ حتّى النِّخاع
أن أرى ما يطرحون أنفسهم جبابرةَ العصرِ
أكثرَ ضراوةً من أنيابِ الضَّواري
ذئابٌ آدميِّة
أكثرَ افتراساً من وحوشِ البراري

رصاصٌ أخرقٌ يموجُ فوقَ ألعابِ الطُّفولةِ
يمحقُ طموحَ الشُّبَّانِ
سقطتِ الحضارةُ من شراهةِ الطُّغيانِ
طغيانُ الدُّولارِ فوقَ شهيقِ الأوطانِ
أوطانٌ تتأرجحُ على كفوفِ العفاريتِ
أوطانٌ في طابورِ انشراخِ الجراحِ
أوطانٌ في مرمى النِّيرانِ

طغيانُ الدَّم والسُّمِّ في قلبِ الإنسانِ
يئزُّ الرَّصاصُ أزيزاً مسربلاً بالموتِ
رصاصٌ أخرقٌ يصحِّرُ الرُّوحَ قبلَ الأوانِ
رصاصٌ ينهمرُ فوقَ مسارِ الأحلامِ
يطحنُ عظامَ الشُّبّانِ
يهرسُ دونَ وجلٍ عيونَ الوئامِ
يخترقُ بكورةَ الصَّباحِ
يسمِّمُ عذوبةَ الندّى المتناثر فوقَ الأزاهيرِ
موتٌ مفروشٌ على مآقي الأمّهاتِ
رصاصٌ غادرٌ يضعُ حدّاً لدقَّات القلبِ
     لرحابةِ الحلمِ
     لحنينِ الشَّوقِ
     لهديلِ الحمامِ
رصاصٌ يتهاطلُ فوقَ قاماتِ المدائن
يدمي بسمةَ الوطنِ
وطنٌ أبدعَ الحرفَ من خصوبةِ السَّنابلِ
وطنٌ مجبولٌ بالشُّموخِ
بكنوزِ الدُّنيا
بتراتيل المحبّة
ببخورِ الإيمانِ
بسموِّ رنينِ الأجراسِ
وطنٌ مشظّى
يرزحُ تحتَ آفاقِ الشَّيطان
تحتَ آفاقِ الغدرِ
ماتَت هداهدُ الرُّوحِ من شظايا الطُّغيانِ

غباءٌ مستشرٍ في أرجاءِ المكانِ
لم تَعُدْ للحكمةِ منارةُ بوحٍ
اخترقَ الغباءُ برعونةٍ ماحقة أزاهيرَ الرَّبيعِ
مهرّشاً أغصانَ الأشجارِ
مبدِّداً ظلالَ الأدغالِ
رصاصُ الغدرِ والخياناتِ
يهتك حرمةَ البيوتِ
وطنٌ معشَّشٌ بالأشباحِ
يموجُ فوقَ ثغورِ الطُّوفانِ

أمَّهاتٌ على شفيرِ الجنونِ
بكاءٌ لا يفارقُ خيوطَ الصَّباحِ
نامَتِ المدائنُ على أنينِ الأحزانِ
فرَّتِ الغزلانُ بعيداً عن شراهةِ الافتراسِ
قلقٌ مميتٌ على أرصفةِ المدائن
قلقٌ على مدى قرى فسيحة
ليلٌ يموجُ بالكوابيسِ
عطشى لحبَّاتِ المطرِ
عطشى لبسمةِ الأطفالِ
     لنسيمٍ مندّى برحيقِ الحنطة
يهبُّ النَّسيمُ خلسةً فوقَ سطوحِ المنازل
حيثُ النُّجومُ تغازلُ مهاجع العشاقِ
     بعيداً عن اندلاعِ أزيزِ النِّيرانِ!

الأطفالُ جوعى
يتضوّرونَ إلى كسرةِ خبزٍ
قلوبُهم تتلظّى من هولِ أجيجِ النِّيرانِ
الأشجارُ عشطى
الكهولُ في غيبوبةٍ أنينيّة
غولٌ ذميمٌ يَحُوْمُ بحماقةٍ حارقةٍ
     في أرجاءِ الكونِ
جشاعةُ الإنسانِ زلزلَتْ بسمةَ الطُّفولة
حرقَتْ أفراحَ الإنسانِ
فرَّتْ فراخُ القطا بعيداً
لم أجدْ مفترساً على وجهِ الدُّنيا
يضاهي افتراسَ الإنسانِ
غباءٌ حتى النِّخاع
     جنوحُ الإنسانِ نحوَ الافتراسِ
لِمَ لا يتَّعظُ الإنسانُ حكمةً من مملكةِ الحيوانِ؟

تجمّدَتْ عيونُ الأمّهاتِ من هديرِ الرّصاصِ
هربَ الهواءُ بعيداً عن دخانِ البواريدِ
عيونٌ محمرَّة تحدّقُ في الفراغِ
عيونٌ جاحظة من هولِ شراهاتِ الطُّوفانِ
طوفانُ غباءٍ مستشرٍ على مدى الآفاقِ
ضاعتِ الأوطان في مهبِّ البكاءِ
ضاعتِ الرُّؤى عند شفيرِ الفسادِ

ولّتْ ألعابُ الطُّفولةِ بعيداً
     عن نارِ الوباءِ
تعفِّر جبينُ السَّماءِ
     من بلادةِ العنفِ
     من طيشِ حرّاسِ اللَّيلِ
     من تطاولِ ذيول الدَّهاءِ!

تمزّقتْ طائراتُ الأطفالِ الورقيّة
ثقيلةٌ تمرُّ سحبُ الصَّيفِ
تبقّعَ اخضرارُ العشبِ
عجاجٌ كثيفُ الغبارِ يلفُّ أجنحةَ الصَّباحِ
بَكَتِ الأشجارُ من ضراوةِ الموبقاتِ
بلدي يا موطن الحرفِ الأوَّل
انّي أبحث عن حبرِ خلاصٍ
     عن حكمةٍ تليقُ بإكتشافِ أولى الأبجدياتِ
وجنتاك يا وطني ملآى بالجراحِ!

أيُّها الإنسان إلى أين؟!
إنَّكَ مجرّد رحلة عذابٍ فوقَ قلاعِ الأرضِ
عاجلاً أم آجلاً
ستحلُّ ضيفاً في أعماقِ التُّرابِ
أين المفرُّ من نيرانِ الشُّرورِ
    من سمومِكَ المفخَّخة في تلافيفِ الضَّبابِ؟!

إنّهُ من غباءِ سياساتِ الكونِ
أن يركّزوا على صناعةِ أسلحةٍ
تبيدُ الأخضرَ واليباسَ
تمحقُ روعةَ الطَّبيعةِ
جنونٌ حتى النِّخاع
أن أرى انشغال الكونِ بالحروب
     بالقتلِ
     بالفتكِ
     بالدمارِ
جنونٌ هذا الهروب إلى الخلفِ
     إلى أعماقِ التخلُّفِ
     إلى عصورِ ما قبل القيرِ والحجرِ
     إلى عصورِ الظُّلماتِ
انحدارٌ نحوَ شفيرِ الجّحيمِ
انزلقتْ حضارةُ اليومِ
     إلى أسفلِ السَّافلين
تستمدُّ توجُّهاتها من ذيولِ الثَّعالب
     من تلافيفِ الأفاعي
حضارةٌ ملولبة
مشرئبّة بأسرارِ الجنونِ
تاهَتِ الحضارةُ عن مسارِ الوئامِ
     عن أبجدياتِ الفنونِ
حضارةٌ مفخَّخة بأنيابِ الحيتانِ
خَلْخَلَتْ الأخلاقَ وقيمَ الخيرِ
أباحتْ بكلِّ انحطاطٍ هدرَ دماء الإنسانِ!

أيُّها الإنسان
لا تبنِ أبراجَكَ على جماجم الإنسانِ
ولا تحرقْ اخضرارَ البستانِ
اِبحثْ أينما كنتَ عن أرقى الأخلاقِ
     عن قيمِ الخيرِ والعطاءِ
وتذكِّرْ أنَّكَ ضيفٌ عابرٌ في دروبِ الحياةِ
فلا ينتظركَ سوى مترينِ من التُّرابِ
إلى متى ستبقى أحمقاً
تعيثُ فساداً فوقَ جبينِ الأرضِ
     وفي سموِّ السَّماءِ!


ستوكهولم: ربيع، صيف وخريف 2011

sabriyousef1@hotmail.com


55
جمعية الفنانين التشكيليين تقدِّم  26 فناناً وفنّانة تشكيلية في معرضها السنوي
في غاليري هوسبي في ستوكهولم وسط حضورٍ كبير


 
1ـ رائد القزويني، يداعب إزميله اهتياجات الثور المجنَّح، كم كان ثوره المجنَّح جانحاً نحو عراقة العراق منذ غابر الأزمان، جانحاً نحو مرافئ الخير والفن والإبداع، مرافئ معرّشة في حضارات بلاد الرافدين وهي تقدِّم فناً على مدى العصور، ثور مهتاج ومغتاظ لهذا الجنون الذي يغلِّف أجنحة البلاد ويقصُّ رقاب العباد، تاه الثور كما تتوه البلاد في وسط جنون الصولجان، صولجان من لون جنون آخر زمان!  فلا يرَ الفنان مفرّاً من تجسيد إزميله في حنايا "السلام"، بحثاً عن عشبة الخلاص التي بحث عنها جلجامش عبر رحلته الطويلة في أرض الخيرات، أسئلة كثيرة لا تبارح ذاكرة رائد وهو مشدوه ومتالِّم إلى حدٍّ لا يطاق،  لتنافرات ما يراه على أرضٍ كانت يوماً مهد الحضارات وغدَت الآن ساحةً مقيتة لصراعاتٍ بغيضة وغارقة في رؤى آسنة، مدبَّقة بالقير، ملولبة للغاية وكأنَّها في صراعٍ مفتوح مع ضباعِ الغابات!
*****
  

2 ـ ناهدة السليم، "فصول الحياة"، تتلوَّن على وجوه لوحات الفنَّانة ناهدة السليم وكأنَّها موشّحة بحسرة متدفقة من شوق قابع في ليل طويل، ذكريات غير منظورة تطفح إلى الظهور فوق هلالات اللوحة المتداخلة فيما بين وجوهِ نساءٍ يبحثن عن الحرّية وعن حبّ ضاع في متاهات الأوطان، أوطان مرصرصة على كف عفريت، لهذا يتحاورْن حول الماضي والحاضر من أجل الركون إلى ربيع قادم وإلى قليلٍ من الهدوء والوئام حتى ولو كان في خريف العمر وفي أعماقِ غربةِ هذا الزَّمان!
*****
  

3 ـ محمد العزيز، لوحات تجريدية كأنها رُسِمت على عجل وكأنها تنافس نتوءآت العمر الآفل خلف السراب، يرسم ضوءاً وسط العتمة، ربَّما يبحثُ الفنّان عن ضوءٍ أو فسحةِ أملٍ، ما هذه الألوان التي بعثرها على وجنة اللوحة وكأنه في سباقٍ مع غليان الغدِ الآتي، ولماذا لا يترك ألوانه ترقص على إيقاع زقزقة العصافير ويمنح ريشته صبر العابرين فوق مهجة الريح؟! ربَّما يحمل الفنان بين أجنحته سؤالاً حول هول الجراح الغائرة في جبين العراق، أين المفرّ من هذا الزمن الحافل بالبكاء في رابعة النهار؟!
*****
 

4 ـ حسين برزنجي، يرسم "ليلة قمراء"، مضيئة بالأمل القادم، يعكس القمر ظلاله فوق بحيرات الأمل وشلالات الذاكرة المهتاجة بألوان الزمن الغابر، على مقربة من البحيرة يرفع ذئباً رأسه بحنان كبير إلى قبة السماء وكأنه يريد أن يتصالح مع السماء، أو يتمنَّى لو كان كائناً بشرياً يغازل حبيبته على ضوء القمر، أو ربما هو شاب على هيئة ذئب ترميزياً، توَّاق إلى ليلة حافلة بالحب على إيقاع هدهدات القمر.
*****
 

5 ـ رائد مهدي، يرسم "قطار الأنفاق"، مركِّزاً على انتظار مكتنف بالسؤال لإمرأة محمَّلة بأعباءِ السنين، حنين إلى محطَّات الزَّمن الآفل، إزرقاق مرصّع على جنبات القطار وهو يشق طريقه في أعماق أنفاق ستوكهولم مستقبلا عيون مفتوحة على غدٍ مجهول، إلى أين يقودنا هذا الليل الطافح بالحنين؟! لوحة منبعثة من تراكمات الليل والنهار، على إيقاع روتين صباحات قارصة تبحث عن دفء الحياة، غربة مزدوجة تكتنف مساءات الفنان وهو ينتظر خفوت ضجيج الروح المستفحل خلف البحار.
*****
 

 
6 ـ سمير ميزبان، عدسة سمير تلتقط الشناشيل، هذه الشناشيل البديعة التي تتعرّض كلَّ يوم إلى اشتعال دائم، إلى هدير يضاهي هدير البراكين، لماذا شناشيلنا تبكي في كلِّ آن، لماذا لا نلجم قباحات هؤلاء الذين يحفرون فوق شناشيلنا مرارات الحياة؟ .. هناك على مقربة من الشناشيل، يتلقط مجموعة من الشيوخ الجانحة إلى نضارة الماء، حيث يتعمدَّون بنعمة الخير وبركات الماء المتهاطل من عيون السماء، متسائلين بحرقة جارحة ما هذه النيران المتدفقة علينا من أعماق الصحارى؟ كنّا نُعمّد منذ قديم الزمان بعذوبة الماء الزلال ونحن نرشرشه على وجوهنا كأنه بركات السماء فوقَ وجنةِ الحياة، آهٍ، فجأةً لم نرَ حولنا سوى نيران الجَّحيم تطحنُ ما تبقَّى من رؤى حيّة لإخضرارِ الحياة.
*****
 

7 ـ لؤي جليل، يتساءل عبر منحوتته "ماذا يأتي بعد"، تشكيل فنّي من الخشب، متعانق مع بعضه بعضاً، يجسد حالات الصعود نحو أعلى المراتب بأيَّةِ طريقةٍ كانت، ثم هبوط مفاجئ كبير، هبوط نحو الهاوية، وكأن الفنان يريد أن يقول للمشاهد لماذا لا نخطط لصعودنا بشكل صحيح ولا نهتم لهبوطنا المفاجئ أو إنزلاقنا، لماذا لا نصعد سلم الحياة كما تقتضيه الحياة، وإلا سيكون الانزلاق ساحقاً إلى أسفل السافلين؟َ!  منحوتة انسيابية تحمل بين انحناءاتها الكثير من المعاني والترميزات. لماذا يا لؤي لم تقدِّم لنا أعمالاً أخرى كي نتمتَّع بمشاهدتها؟!
*****
 

8 ـ كابي سارة، (فنّان سوري)، يرسم "شجرة الحياة تحضن الضوء"، و"شمس فوق معلولا"، ينثرُ الفنان كابي سارة ألوانه المبهجة فوق وجنةِ معلولا المقدس، موشّحاً جبال معلولا بألوان مكتنزة ببخور الحياة والسلام المتناغم مع بهجة اللون، بوح شفيف ينساب من فرشات كابي كأنَّ بوحه رسالةُ فرحٍ وطفولة متراقصة فوق روابي ذاكرة متلألئة في قلب الفنان وهو في أوج حنينه إلى معلولا وإلى أصدقاء وألوان ولوحات رسمها أيام زمان من وحي هذا المكان الحافل بتجليات سمو الروح، حيث يهفو القلب إلى تجسيد لوحات معرَّشة في ذاكرة حلمية منبعثة من وهجِ الحنين إلى روعة المكان، وكأنه يريد إعادة صياغة الماضي عبر لوحات جديدة لعلَّها تخفِّف من وطأة غربةٍ فسيحة، غربة تزيده حنيناً إلى صباحات بعيدة منقوشة على تعاريج الذاكرة، حيث تراقصات الألوان تنعش مساءاته القمراء، يشهق شهيقا عميقاً ولا يجد بدّاً من البحث عن معراج الخلاص فتسطع ألوانه على وجنة شجرة أشبه ما تكون شجرة حياته الحلمية، يحضنها الضوء ويكللها الفرح من كل الجهات، وكأنّه يقاوم غربة عميقة كي يخلق عالماً هادئاً مخففاً من تفاقماتِ صخبِ الرُّوح!
*****
 

9 ـ منجد بدران، يرسم حصاناً جامحاً، وحصانان آخران أكثر جموحاً، ربما في حالة ذهول لما يشتعل خلف البحار، هل يتحاوران حول مستقبل الأيام أم أنهما يتهامسان حول حاجة الكائنات إلى مغازلات عشقية غدَت خافتة وشبه ضامرة هذه الأيام، هل يرى الفنان أن الحوار هو طريق عبورنا نحن مروج غابات معشوشبة بخيرات لا تحصى، لماذا لا يرقص الإنسان في صباحات نيسان وهو يغزل من أزاهير الربيع أنشودة الفرح المترامي على امتدادِ الغابات؟! إنه سؤال مشروع لو راود خيال الفنان.
*****

10 ـ د. عماد زبير، يترجم الفنان زبير بهاءات خطّه بألوان بهية ومنسجمة تصدح مثل عصافير جذلى في أوائل الربيع، مركِّزاً على شوقه وحبه للوطن الجريح، وطن يتطاير على شفير بركان، يرسم بلده عبر تلاوين خطوطٍ جميلة وربما في أعماقه السحيقة يتساءل كيف ولماذا يغلي بلدي، بلد الحضارات، على جمر من الدموع؟ يرسم آيات قرآنية مرسومة بخط بديع، وتشكيلات لوحة من صفحة تاريخ موغل في القدم، بخطٍّ فني راقٍ، متداخلة تشكيلاته الكتابية الفنّية مع روعة الانسجام، تناجيك لوحاته وكأنها تبحث عن الفرح الآفل وسط ضجيج العمرِ المنزاح نحو شفير الأنين، وأتساءل كم سيكون بديعاً هذا الخط الشفيف بعذوبة ألوانه عندما يُصاغ بترميزات وتعابير شمولية إنسانية جديدة تخاطب جمال وبهجة المكان حيث السلام يرقص في كل آن؟!
*****
  

11 ـ حسين العلوي، مصور فوتوغرافي بارع في التقاط حالة فنية خاطفة، حيث نرى أربع لقطات مدهشة في كيفية التقاطها، مركّزاً على العتمة والضوء أو الأبيض، وكأنه الأمل المبرعم في قلبه، وهذا البياض الشفيف هو مجرّد سحب دخان (أركيلة)، حيث تبدو الصور وكأنها تشكيلات فنية تعانق بعضها بعضاً، ومنسابة بشكل جميل. حسين العلوي فنّان فوتوغرافي شديد الحساسية في التقط لحظات هاربة من دخان حسرات متدفقة من حناجر متخمة بالآهات.  
*****
 

 
 
12 ـ مظهر بركات، يفرش ألوانه عبر لوحتين معبقتين بألوان متناغمة، انسجام لوني وقدرات تكنيكية شفيفة، تجنح نحو تأثيرات غربية رحبة، ولديه منحوتة رائعة: القيثارة، انّها قيثارة محمّلة بألحان الأزمنة الغابرة، وهي النسخة الثالثة طبق الأصل من نحت القيثارة المعروفة كأول آلة موسيقية أبدعها السومريون أبناء الرافدين، نحتَ الفنان هذه الآلة الموسيقية من الخشب بطريقة سلسلة أخّاذة، تجذبك لجمال إنسجامها، يدهشني كيف أبدع العراق القديم، بلاد الرافدين كل هذا الإبداع وهو الآن يغوص في متاهات الصراعات والحروب ليل نهار! إلى متى سيتوه العراق في متاهات لا تخطر على بال؟!
*****
 

13 ـ هناء الخطيب، ، تطرح الفنانة هناء الخطيب عبر لوحتها الأولى "حوارات مع الوجود"، أفكاراً وحواراً مفتوحاً يحمل بين طياته رؤية أشبه ما تكون ميثولوجية حول الوجود منذ انبعاث آدم وحواء على وجه الدنيا حتى الوقت الراهن، اللوحة منسابة مثل مياه دجلة وهو يتدفق شوقاً إلى مرافئ الخصوبة، خصوبة الروح وهي تتسامى إلى زرقة موشحة في عرش السماء، اعتمدت الفنّانة على الريليف، وأعطى هذا البروز انسجاماً اضافياً لتشكيلات اللوحة، وجذبني توجيه رأس اللوحة المدبب نحو الأعلى وكأنها في سباق مع الزمن لزيادة سرعة الصعود نحو متاهات الغد القادم، واعطى هذا التشكيل في تكوين اللوحة جمالاً فريداً عندما تمَّ تشكيل الاطار كجزء ممتد عبر يمين اللوحة وكأنها تقصد أن اللوحة تواقة إلى عبور أسرار السماء، لترتمي بعدها بين أحضان غمائم حبلى بنداوة المطر. ترميزات واسقاطات عديدة تصيغها بإيقاع لوني بهيج، معتمدة على زرقة شفيفة متناغمة مع بياض شفيف أشبه ما يكون ببخور منبعث من الأديرة القديمة، حفاوة الحوار الكوني بين آدم وحواء، هذا الثنائي الذي سربل الحياة بأسرار ما تزال غائصة بتساؤلات خصبة،  تلامس تدفُّقات جموح مبدعي العالم. واللوحة الثانية تركّز هي الأخرى على حوار الإنسان مع أخيه الإنسيان، ووجدت أن هناك فنان حصيف يلامس جمال اللوحتين وهو الفنان الحرفي غريغوريوس المعروف بمهاراته العالية في تشكيل إطارات اللوحات، حيث أضفت تشكيلات تأطيره جمالاً مميزاًعلى جمال اللوحيتن.  
*****
 


          

14 ـ ياسين عزيز، تشكيلات لونية ترقص فرحاً كأنها مرتكزة على موسيقى ممتدة من حفاوة الأرض، تتعالى نحو الأعالي لعلها ..

*****
  
  



15 ـ شاكر بدر عطيّة، "البصرة، مدينة محفوفة بالخراب" ضحايا حروب مجنونة" حيث نرى بألمٍ كبير يجسّد الفنان شاكر بدر عطية، رئيس جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، مسقط رأسه البصرة عبر لوحتين معبرّتين بحساسية شديدة عن حالة الخراب التي وصلت إليه هذه المدينة التي انبعث منها الكثير من الشعراء والمبدعين والفنانين والمفكرين وقدمت الكثير من الخيرات على امتداد سنوات العطاء، وها هي المدينة التي تطل على بحار من الخير، يراها الفنان خراباً على خراب، فيلتقط عبر ألوانه البنفسجية الحزينة، الأنين الملفح صباحات المدنية ومسائها المكتظ بالحسرات، لأنه يرى أن خيرات البصرة، المرموزة بالتمر، يأخذها الأغراب ويظل النّوى للعراقيين، أصحاب المدينة الذين قدَّموا بطولات وعطاءات كبيرة ولكنهم الآن تشتتوا في الكثير من بقاع الدنيا بحثاً عن موطئ قدم وراحة بال وأمان. جسَّد الفنان معاناة العراق من خلال مدينته التي يحلم بالعودة إليها يوما ما وهي مبتسمة في صباح ربيعي، ولكن يبقى السؤال معلّقاً بين أنيابِ الحيتان، ومع هذا كله ثمة أمل لدى الفنان في عودة البصرة والعراق إلى ما كان عليه منذ عقود، أو إلى سابق عهده شامخاً بحضارته، (أين أنتَ يا برج بابل كي تصرخ في وجه جلاوزة هذا الزمان)، متى ستعود بلاد الرافدين إلى أيام العطاء والإزدهار، أيام الخير الوفير، يترك الفنان فسح الأمل موجودة حيث يرسم فتاة جميلة ملفحة بضياء أبيض للغد الآتي وهو ما يحلم به ويتمناه للعراق في مقتبل الأيام، صافياً مثل حليب البصرة والعراق في أوج عطائه الخيِّر محملاً بالبركة والنعمة والنخيل يشمخ عالياً.
*****
 

16 ـ وفاء غالب،

 
17 ـ فائزة دبش،


18 ـ عباس خضر العباس


 
19 ـ  فلاح العاني،

20 ـ تورشتين يوريل
 

  
21 ـ سميّة مهدي،
 

 
22 ـ سعود قيس،



23 ـ تحفة أمين،
 

 

24 ـ ازدهار، "قضيتي"، نرى ألوان الفنانة ازدهار قد تعفَّرت ببقّع الدم على امتداد العراق، يد تستنجد الخلاص، خلاص المرأة من ظلم طوفان الحروب، حروب خلخلت أجنحة العراق وعراقة العراق، ولكن السؤال المعلّق في سماء حلق العراق، هل الرجل هو الآخر بمنأى عن الظلم والطغيان الذي هيمن على البلاد وكسر رقاب العباد؟! نساء مكفوفة الأفواه، وعراق على مساحات نخيله وخيره مكتظ بالجماجم والآهات، جماجم الأطفال والشيوخ والشبَّان والنِّساء، موت مخيف يقف بالمرصاد، أين المفرّ من كل هذا الخراب، آهٍ يا عراق وألف آه يا سماء، إلى متى سيحصد الجلادون أرواح النَّخيل وقامات شعب العراق مُدميّة عند بوّابات المدائن وفي أعماق الغابات.


25 ـ سميرة إيليا، "سيفو الثانية"، المجزرة الثانية، تعود الفنانة سميرة إيليا بشفافية ألوانها وتناغمات لوحتها، تجسِّد لواعج الأسى من خلال المجازر التي تحصل في العراق وفي بلاد الرافدين، أسوار آشور تتهاوى على أيدى طوفان الغباء الشرقي والغربي، يتأمر الجميع على خلخلة أبراج بابل فتخبو رويداً رويداً، كأننا في حلبة صراع بين التحجر والتحضر، عجبا أرى كيف يستطيع كائن بشري على وجه الدنيا أن يزحزح أحجار آشور الشامخة بحضارة مرصعة بأبهى أنواع العطاء، كيف يراود قلب كائن بشري أن يفجر كنيسة النجاة فوق رؤوس المصلين، مجزرة المجازر فوق العراق، فوق رؤوس محسيي العراق، فوق حضارة العراق، فوق أصالة العراق،
                                
  
  
26 ـ سليمة السليم،


 


 
 
 


56
عُدْ إلى خيمتِكَ، فلا تصلحُ للغةِ العصرِ
إهداء: إلى الشَّعب الليبي البطل وإلى كلّ أحرارِ العالم

عُدْ إلى خيمتكِ
عُدْ إلى بواديكَ
     إلى أعماقِ الصَّحارى
عُدْ إلى خرافٍ
واسرحْ بها في تخومِ البراري
خيرٌ لكَ أن تفتكَ أطفالاً بوحشيّةٍ
     تضاهي أنيابَ الضواري!

عُدْ إلى خيمتكَ
خيمةُ البدويِّ مفصّلةٌ كالقالبِ عليكَ
لا تنسَ أنَّ طرافةَ نكتكَ بديعةٌ تحتَ الخيامِ
طريفةٌ نكاتكَ على بعضِ البدوِ والحَضَرِ
كم قهقهتُ عالياً
عندما كنتَ في أوجِ "عبقريّتكَ"
تحلِّلُ واقع العرب والعروبة
واقع الشرقِ والغربِ
طارحاً نفسكَ ملكَ الملوكِ
أقوى ملوكِ أفريقيا على إمتدادِ الأدغالِ
كم قهقهتُ عندما قلتَ لسلاطين العربِ
كيف تسمحون رئيساً عربياً يُشنقُ
     في صباحِ العيدِ
ألا تعلموا أن الدورَ آتٍ عليكم
ما هذه النبوّة
ما هذا العمق في تحليل فلسفة الكون
يا مَنْ دستَ في جوفِ ماركس
ونيتشيه وغاندي
يا ماوتسيتونغ العصرِ
هل نسيتَ أنكَ واحدٌ من هؤلاءِ الزعماء؟!

عجباً أرى
تسخرُ من زعماء العروبة
وتطرحُ نفسكَ من أكبر الكبارِ
يا عبقري الكتبِ في طريقةِ الانتشار
كتابُكَ الأخضر يسترخي فوق قمم هيمالايا
ربَّما يرتجف الآنَ من البردِ
     من تفاقمِ لغةِ القحطِ
           في عزِّ الشتاءِ!

كيفَ لملمتَ كل هذه الأفكار وتجاوزتَ دفعةَ واحدة
نظريات الشرقِ والغربِ
وأصبحتَ ملك الملوكِ في إبداعِ أحدث النظرياتِ

عُدْ إلى خيمتكَ وتفرّغ لرياضِ الأطفالِ
أو لسباق الجمالِ
لعلَّك تحقِّقُ معجزةَ المعجزاتِ
ها قد انتصرتَ على مفكِّري الكونِ
ووصلتْ نظريتكَ إلى أقصى بقاع الدنيا
     ثابتةٌ على أركانِ الخيامِ!

أراكَ تهدِّدُ شعبكَ الجبّار دونَ حياءٍ
مركّزاً على إصطلاحِ الجرذانِ
كيف فاتَكَ أن تدرجَ هذه اللغة
     في طيَّاتِ حيثياتِ الكتابِ
كتابُكَ
أشهد أن ابن أنثى لا يستطيع أن يبدعَ هكذا رؤية فتّاكة
كتابُكَ يضاهي برج ايفل من حيث العلوِّ والطغيانِ
     من حيث لامبالاتِكَ بالنَّار والنيرانِ
أراكَ تتحدّى بكلِّ عنجهيةٍ ناطحات السحاب
تتحدّى الفيس بوك وفضائيات الكونِ
 تشرشحُ الفضائياتِ وبلادَ الجوارِ
تنعتُ شبابك بتعاطي المخدَّراتِ
     على أنّهم ثلّة مأجورةٌ من الأشرارِ
هل نسيتَ أنَّ هؤلاء الشبان هم أحفادُ عمر المختار
أحفادُ ثورة الثوراتِ

ما قصّتك مع خشخشاتِ الجرذانِ
هل تحنّ إلى جحورِ البوادي
كي تفرشَ هناك على تخومِ الصحارى
آخر قرائحك في تطويرِ نظرياتِ الكونِ
عُدْ إلى خيمتكَ وتفقّد مخابئ الجرذان
لا تنسَ أن شبابَ العصر يتقنون فنونَ التصوير
فنونَ الكرِّ والفرِّ
     حتى في أعماقِ البراري
يميِّزون جيّداً لغة النفاقِ والتحويرِ
هل نسيتَ أنهم على صلة مع بقاع الدنيا
شبابُ اليوم عمادُ الغدِ الآتي
بركاتٌ منبعثة من هديلِ اليمامِ!

عُدْ إلى خيمتكَ ولا تقلق
فكتابكَ قد جابَ أقاصي الأرضِ
وخطابُكَ خطابُ زمنٍ ولا كلَّ الأزمانِ 
زمانُ العجبِ وما بعدَ العجبِ العجابِ
كأنه يراهنُ على منافسةٍ كبرى
مع حداثةِ اليومِ وما بعدَ اليومِ
مع أحدث الحداثاتِ
خطابكُ أحدث ما تمخّض من عباقرة الكونِ
خطابٌ محصَّنٌ من كلِّ الأطرافِ باصطلاحاتِ الجرذانِ
خطابٌ يضاهي خطابات البيت الأبيضِ والأسودِ وكلَّ الألوانِ
يضاهي رؤى زعاماتِ الشرقِ والغربِ
خطابكَ يضاهي فلاسفة العصرِ
يزلزلُ عروشَ السلاطينِ
ألستَ القائل أنا "المجد"
أنا "الصخرة الصمّاء"
مبروكٌ عليكَ تقعُّرات التخلّف والغرورِ 
أيها " المجدُ" المزلزل براءة الأطفال
أيّها "المجد" المخلخِل طموحَ الشبَّان
عُد إلى خيمتكَ
قبلَ أن يقتنصَكَ هديرُ الرجال! 

خيمتكَ تزدادُ اهتزازاً
     في وجهِ هديرِ الحريّة
     في وجهِ بشائر الأطفالِ
خيمةٌ تفاقمَ عليها غبارُ التحجُّرِ
غبارُ نظرياتٍ محشّوة بفقاعاتِ القهقهاتِ
عُدْ إلى خيمتكِ
قبلَ أن تتهشّم فوقَ رؤوسِ الخرافِ
ينتظرُك قطيعُ الأغنامِ بفارغِ الصبرِ
كي يجترّ حشوةََ اخضرارِ النظرياتِ
عُدْ إلى بداوتكَ لعلّكَ تفهمُ
أن الصحراءَ تمشّطُ الروحَ من أعتى الترّهاتِ
عُدْ إلى الصحراءِ
لعلَّكَ تعرفُ أصالةَ الفقراءِ
لعلَّكَ تهتدي إلى حكمةِ العقلاءِ

عُدْ إلى صحرائكِ
ولا تلتفتْ إلى عقودِكَ الصمّاء
عقودٌ من الزمن
وأنتَ تقودُ البلادَ إلى أقصى أقاصي القحطِ

عُدْ إلى خيمتكَ
     إلى نظرياتكَ المخشّبة في تحدّي الكونِ
عُدْ إلى رشدِكَ
إلى لغةٍ يصدِّقها إنسانٌ واحد على وجهِ الدُّنيا
عُدْ إلى خيمتكَ وتفرّغ لكتابةِ قصصِكَ المكتظّة
     بهلوساتٍ لا يضاهيها أخرفُ التخاريفِ
عُدْ إلى بدويَّتِكَ وتحدّى نفسكَ مرةً واحدة
وتذكّرْ أن البدويَّ صافٍ مثل بكورةِ الصَّحارى
تذكّرْ أنَّك خِنْتَ عهدَ البداوةِ
خِنْتَ صفاءَ الصحارى
خنتَ أصول مَنْ ترعرعَ تحتَ الخيامِ

عُدْ إلى خيمتكَ وتذكَّرْ أنَّكَ لا تصلحُ لِلُغةِ العصرِ
ولا تصلحُ لِلُغةِ البداوةِ
لأنكَ نكرْتَ البداوةََََ
وضللتَ بعيداً عن حضارةِ العصرِ

عُدْ إلى خيمتكِ وابحثْ عن أصولِ الجذورِ
لعلّك تكتشفُ بنفسكَ أنكَ تخاطبُ الهواءَ
ونظرياتك محفورةٌ على الرَّملِ
ها قد هبّتِ الأمواجُ
تجرفُها إلى أعماقِ القاعِ

عُدْ إلى خيمتكَ
أيّها البدوي الخارج عن أعرافِ القبيلةِ
أيها الخارج عن أعرافِ البلادِ
عُدْ إلى خيمتِكَ
 واترك العبادَ يعمِّرون البلادَ
رؤاكَ شائخة للغايةِ
واخضرارُ كتابك يزدادُ اصفراراً

عُدْ إلى خيمتكَ وتفرّغْ لكتابةِ كتابٍ جديدٍ
تركّزُ فيه على ما بعدَ الهلوساتِ
كتابٌ تجسّدُ فيه نظريات القحطِ
تلخِّص فيه قباحةَ القباحاتِ
رؤاكَ مشروخةٌ للغايةِ
يا سيدَّ القمعِ والظلمِ
يا ملكَ الأدغالِ والترّهاتِ!
... ..... ..... ..... ...!

ستوكهولم: 24. 2. 2011
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

57
الصحافي عبدالحق بن رحمون يحاور صبري يوسف ومجموعة من الأدباء حول الثورات التي هبّت في العالم العربي عبر جريدة الزمان اللندنية



أي دور ينتظر المثقف العربي الصامت في ظل ثورات الشباب في الدول العربية؟
أدباء مراقبون يستعجلون نقل ربيع الحرية من العالم الافتراضي إلي الواقع

عبدالحق بن رحمون
الكعبي
نقدم لقراء صحيفة (الزمان) هذا الملف حول الدور الذي ينتظر المثقف العربي في ظل ثورات الشباب ببعض الدول العربية، وفي البداية يجب أن نشير إلي أن ثورة تونس لم تكن إلا ثورة لاتعرف الحدود. أتري، ألهذا السبب كتب الشاعر أبو القاسم الشابي رائعته "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"، وهل اعتقد الكثير من المثقفين الذين قرؤوا هذه القصيدة الرؤيوية، أنه سوف يأتي عليها زمن وتشتعل بسببها مشاعر الملايين من الشعوب العربية، التي طمحت للتحرر من الخوف، وبسببها سقطت بعض الأنظمة الفاسدة،وأخري في طريقها إلي السقوط، ومن خلالها أيضا تمت استعادة صوت الأغلبية الصامتة، تلك التي خرجت للشارع ثائرة متطلعة إلي الحرية، بعد أن ضاقت من جبروت الحكام الذين أغلقوا أفواهها لعقود، وجعلوها تعيش في أوهام طويلة من البؤس السياسي.
نعم، لم يكن يعتقد أبو القاسم الشابي الذي انزوي ذات لحظة إلهام، في عزلة،وفي مكان ما، ليكتب قصيدة "إرادة الحياة" أن قصيدته هاته سوف تطيح بأنظمة عربية، ويضطر معها رؤساء دول إلي الهروب، وتغير قصيدته تلك الملهمة للثورة، دساتير دول كانت إلي وقت قريب لا أحد يجرؤ علي المناداة بتغييرها.
وهكذا رأينا اليوم، رياح التحرير في انفجارات الثورات التي تركت بصماتها، ولم يعد معها للخوف أي معني في إرادة الحياة، سيما لما استيقظت الشعوب العربية المؤلفة من الشباب الذي دعا الشعوب إلي إسماع أصواتها والإبداع في ثورات، فاجأت العالم. وبكثير من الوضوح، جاءت هذه الثورات التي دعا لها الشباب كونها تمثل جيلا جديدا، بلا قيادات أو زعامات سياسية، لأن الحقيقة التي لا تخفيها الغيوم تقول أن الأحزاب السياسية التقليدية علي وشك أو كاد أن يستنفذ دورها، ويُسحب من تحتها البساط، وقد عوضتها المواقع الاجتماعية مثل: الـ:"فيس بوك"، "تويتر"، و"اليوتيوب" و"غوغول". وبذلك صرنا اليوم أمام ثوار من جيل له لغة تعبر عنه، وجيل يحتج ويتظاهر ويريد التغيير انطلاقا من العالم الافتراضي الذي أسس فيه شبكات قواعده، وتنظيماته، انطلاقا من الانترنت أو من هواتف "بلاكبيري" و"آي فون" و"أندرويد" الذكية ذات التقنية العالية، أو جهاز الحاسوب اللوحي آي باد.
ومن خلال العالم الرقمي ثار الشبان والشابات العرب والمغاربيين، وكتبوا التاريخ الحقيقي ليحرروا الشعوب المقهورة، التي ظلت تعاني من الظلم والطغيان. حيث في ثورة الياسمين بتونس، وفي الثورة المليونية بمصر كان للمدونين دور كبير في إيصال المعلومة للناس، وشكلوا بديلا للإعلام التقليدي.
وفي هذا الوضع العربي الدقيق، نقف في اندهاش كبير لمعجزة ثورات الشباب العربي، فمنذ شرارة الغضب التي أججها اللهب الذي اشتعل في جسد محمد البوعزيزي، والتي قادت إلي اندلاع ثورة الياسمين بتونس، والثورة المليونية بمصر، لذا ومع أمور كثيرة ومتسارعة تعيشها الآن دول الشرق الأوسط الكبير، وبعض الدول المغاربية، عبر الثورات والتطورات الحاصلة، والتي كلّها تعبر أنّ رياح المطالب الديمقراطية ينبغي أن تشمل الشعوب التي تطمح إلي الحرية. وما الصورة التي نطالعها يوميا في الفضائيات ومواقع الانترنت لتؤكد أن أمورا تمر بسرعة، والتاريخ يكتب نفسه بوضوح وبشفافية، كما أن هذه الأحداث الآن تفرض علينا إعادة الثقة في الجماهير العربية، وفي شبابها المعجزة، وإنها لجماهير واعية، قادرة علي التفاعل، الأمر الذي يفرض علينا تطوير أدواتنا لقراءة المرحلة قراءة واعية.
فعلا، المثقفون لم يصدقوا في البداية أن هذه الثورات التي تقع هنا وهناك، ولم يتأكدوا هل هي حقيقة وواقع أم مجرد حركات واحتجاجات عابرة، ومنهم من تقدم في صفوفها الأمامية، والبعض الآخر استكان وتراجع إلي الخلف، وبقي ينتظر إلي أي فرقة سيكون معها هل مع النظام أم مع الثورات.
لكن المظاهرات والثورات هذه المرة، تجاوزت النخب والطبقة المثقفة، والتي عادة يوكل إليها تحرير الشعوب، فتحققت سابقة تاريخية، صدمت المثقفين، وأربكتهم بتسارع أطوارها. وهل نعتقد أن المثقفين العرب زال منهم شبح الخوف، ونتمني أن تكون يوما شرارة التغيير حتي لو سعت لأن تتشبه بجسد محمد بوعزيزي، الشرارة التي لن تنطفئ أبدا. وبما أن عيون المثقفين ترصد كل التحولات، وتنتقدها وتتفاعل معها، لذا هل المثقف في هذا الظرف التاريخي الدقيق عليه أن يلعب دور الحماسة وإلقاء الخطب الحماسية، أم يذهب إلي سبيل حاله يتأمل تفاصيله وأشياءه الصغيرة، تلك التي لاعلاقة لها بما يجري الآن في الوطن العربي والدول المغاربية.
وانطلاقا من ذلك توجهنا لعدد من الأدباء بهذه الأسئلة: ماذا يعني لكم أن تكونوا كتابا ومثقفين اليوم في ظل ثورات الشباب التي تشهدها بعض الدول العربية... ؟ وهل بيانات المثقفين وحدها كافية للتغيير؟ وهل تروا أنه لكم دور الآن...؟
ويشاركنا في هذا الاستطلاع أدباء وكتاب من سوريا،اليمن،المغرب،الجزائروليبيا.
ولمحاولة فهم ما يجري في بعض الدول العربية والمغاربية، إليكم أعزائي القراء، تفاصيل هذا الاستطلاع، بعيون أدباء ومثقفين، هؤلاء الذين يتسعجلون ربيع الحرية والديمقراطية، ومتمنيا لكم قراءة ممتعة ومفيدة:
المساندة وقفة واضحة لا تردد فيها مع شبان الثورة

محمد بنيس

( شاعر من المغرب)

كانت الثورة في تونس، وبعدها في مصر، مفاجئة لكل المتتبعين لأحوال المواطنين والسلطة في العالم العربي. أنا من بين المفاجئين. فالشرارة التي انطلقت منها الثورة في تونس، وهي إقدام الشهيد البوعزيزي علي إحراق نفسه، كان من الممكن أن تؤول إلي سراب، مثلما حصل في مناطق أخري. لكن تحول الشرارة إلي كبة نار، لم تتوقف عن الاتساع، شد النفوس إلي التقدم بحماسة ودون أي تردد نحو المطالبة بالكرامة والحرية. وقد دمعت عيناي أكثر من مرة وأنا أشاهد الشبيبة في تونس تردد بيت الشاعر أبي قاسم الشابي، بعد أن عملت المؤسسة السياسية الرسمية علي حشره في منظومتها عن طريق خطابات التدجين والظهور بمظهر المتبني للعمق الثوري في شعره. ذلك ما كنت طيلة عقود أنبه أصدقائي في تونس عليه، كلما أقدموا علي انتقاد الشابي، دون أن يفصلوا بينه وبين المؤسسة السياسية الرسمية. وربما كان أجمل شعار لاحظته في ثورة مصر هو "أنتم السابقون" (وتحتها علم تونس) "ونحن اللاحقون" (وتحتها علم مصر). فمن كان باستطاعته أن يتخيل حصول ثورتين في ظرف وجيز وبدون قيادات تاريخية أو تنظيمات ذات تجربة وخبرة، واحدة في المغرب العربي وثانية في مركز المشرق العربي؟ لا أحد. ومعني أن أكون في هذه اللحظة الثورية في العالم العربي هو أولا أن أكون إلي جانبها، مسانداً ومتأملا. المساندة وقفة واضحة لا تردد فيها مع شبان الثورة. وهي مساندة برأيي ذات قوة رمزية وفي الوقت نفسه معبرة عن التضامن مع جيل جديد أراد الحياة لشعب ووطن. أما التأمل فهو يفيد أننا لا نتوقف عند القراءات التقليدية للوضع العربي أو المعارضة أو الاحتجاجات وصيغ التعبير المتعددة عنها. التأمل، بالنسبة لي، ينطلق من أن هناك وضعية جديدة كلية. فشبح الإسلاموية، الذي كان ضاغطاً علي نفوسنا، هو مجرد غطاء لغياب حرية التعبير. بمجرد ما خرج الشبان للتعبير عن رأيهم بكل حرية، من غير اللجوء إلي وسيط حزبي أو نقابي، كانت كلمتهم، في تونس كما في مصر، وأيضا في بلاد عربية أخري الآن، تؤكد علي الكرامة والحرية، قبل كل شيء. بل لا توجد أي صلة بين ثورة الشبان وبين أحزاب كانت تقدم نفسها كمعبر "تاريخي" عن المعارضة السياسية أو كجواب "شرعي" عن أزمة الوضع السياسي. شيء عجيب ومذهل في جواب الشبان. ويحتاج إلي الكثير من التواضع، كي نفهم ما الذي جري وكيف جري. لست مفكرا ولا محللا سياسيا. والشاعر، برأيي، هو الذي ينصت إلي هذا الصوت الجماعي الذي جاء من عالم يتشكل في فضاء وسائل التواصل المتطورة. موقف الشاعر هو موقف كل مثقف نقدي يجد نفسه تلقائياً مع هذه الثورة مثلما يجد فيها ما لم يتخل عنه وهو يقاوم الاستسلام والتخلي عن موقعه النقدي. لا فائدة في التسرع وإلقاء خطب رفضتها الثورة نفسها. ليكن المثقف النقدي حيث كان دائماً: التشبث بالكرامة والحرية والمقاومة.


تكْسير حَاجز الخوف

أسامة محمد الذاري

كاتب من اليمن

مسئولية كبري أن تكون مثقفاً في ظل الصحوة الشبابية التي تشهدها البلاد العربية، وشرف كبير بحجم تطلعاتنا أيضاً..البيانات لا تكفي. والبيانات، من الأسباب التي أجلت إلي زمننا هذا، موعد انهيار النظم المهترئة والتي تدثرت بخوف النخب، واطمأنت إلي سكون المثقف.. وأري أن دوري كمثقف عربي قد بدأ بالفعل.. ولم يعد دور المثقف هو الدور التحريضي وإنما المشاركة، والسعي وراء التغيير..الثورة التونسية أماطت اللثام عن هذه النظم الهشة وكشفت مدي رخاوتها أمام إرادة التغيير.. والثورة المصرية كسرت، ودمرت حاجز الخوف أمام الكل، ولم يعد هناك مايخشي اليوم..إنها زعامات ألقت علي نفسها هالات من الترهيب، وقادتنا لعقود من الزمن في دهاليز القمع.. وإذا بها (أوهي من بيت العنكبوت).


دول تهدر مثل البركان، وتزلزل عرش الأنظمة

صبري يوسف

(كاتب سوري مقيم في ستوكهولم)
 
 أن تكون مثقفاً وكاتباً جادّاً وفعّالاً، يعني أنَّكَ تحمل فوقَ كاهلكَ مهمَّات جسيمة، خاصَّة أن عصرنا الرَّاهن هو عصر التَّواصل الفكري والثقافي والإبداعي بين مبدعي هذا العالم، فلا بدَّ لمثقفي العالم العربي بكل تلاوينهم وأطيافهم وتطلُّعاتهم أن يتواصلوا مع بعضهم بعضاً لأنهم يشكِّلون الدور الأكبر في عملية التغيير والتطوير، ولأنَّهم يستشرفون الماضي ويستقرؤون الحاضر والمستقبل أكثر مما يستقرؤه سياسيو الشرق والغرب أيضاً، وأنا أرى أن الفكر الإنساني الخلاق هو الذي يخلق رؤية خلاقة ومجتمعاً خلاقاً، فعلى المثقف الشرقي والعربي تقع أكبر المهام في إدارة البلاد إلى برِّ الأمان، حيث أن ابتعاد وتقلُّص دور المثقّف الشرقي والعربي أدّى على اِمتداد الأزمنة الفائتة إلى حالة أشبه ما تكون مصابة بالقحط الفكري والثقافي والاقتصادي والإنساني، لأن السياسي العربي أزاح بطريقة أو بأخرى الفكر الخلاق من طريقه، ممَّا أثَّر على كل صنوف الحياة، وظلَّ بعض المثقفين المنتفعين من السلطات وبعض من لديه تطلعات وآفاق تثويرية وتطويرية تعمل باستحياء وبطريقة لا تناسب المتغيرات التي حصلت وتحصل في العالم، حيث نرى أن مجتمعات الكون تسير بشكل متسارع جدّاً كي تواكب المستجدَّات المتغيِّرة في العالم، بينما نرى العالم العربي يسير بشكل بطيء كأنَّه على منافسة مع سلاحف العالم أو أنه في صدد بناء مجتمع سلحفاتي في مسألة البناء والتغيير، في الوقت الذي نرى أن العالم يسير بسرعة الصوت وفي كل دقيقة وثانية يحصل تغيُّرات وتطوُّرات في العالم وعالمنا ما يزال يعيش على كفِّ عفريت التخلُّف، وهذا العفريت مصرٌّ أن يبقى عفريتاً متحجّر الرؤية لا يجيد حتى لعبة العفاريت، لأن هناك غول العالم الغربي نهض بكل وقاحة يهرس أقدام العفاريت الشرقية ويخلخل رؤاهم وتوجُّهاتهم بالطريقة التي يشاء، وهذا الغول يدلِّل مواطنيه على حساب رقاب ودماء المواطن العربي والشرقي بمختلف أطيافة وأقوامه واثنياته، مع أن أهم اقتصاديات العالم هي في العالم العربي الدافئ، والمفلق في الأمر أن أكثر فقر على امتداد جغرافية الكون متغلغل في أعماق عالمنا العربي، كأننا في حالة منافسة مع فقراء الكون كي نكون أكثر منهم فقراً وتعاسة، علماً أن الميزانيّة الخاصَة لحكام وملوك الأنظمة العربية وما جاورهم هي من أغنى أغنياءِ الكون، ما هذه المعادلة المخرومة التي أراها، وإلى متى سيظل هذا العالم المسترخي على آبار الذهب الأسود والمكتنز بخيرات وغلال وفيرة لا تُعدُّ ولا تحصى والمتميِّز بشمسه الساطعة وشبابه الفتيّ، يعيش على هامش تغيُّرات العالم، مترنّحاً في ذيل حضارة اليوم، إلى متى سيتحمَّل الشعب العربي والشرقي برمته كلَ هذا الجفاف والقحط الذي يغلِّف عوالمه المرصرصة بالتحجُّر السياسي والفكري والقمع غير المسبوق من قبل الديكتاتوريات البغيضة؟!
لهذه الأسباب ولآلاف الأسباب الأخرى وجدنا ما وجدناه من تغيُّرات مستجدة في تونس والسودان ومصر وغيرها من الدول تهدر مثل البركان وتزلزل عرش الأنظمة المهلهلة، وهذا الهدير الشعبي تحصيل حاصل لكل هذه الضغوط المتفاقمة على صدر الشعب، فلم يعد يتحمل كلّ هذه الاختناقات والتسلط والقمع والفقر المدقع، فلا يوجد ما يخسره في طرح تطلعاته ورسم آفاق مستقبله بهذا الشكل الهادر، فأوّل مهمَّة في هذا الإطار تقع على المثقف العربي، كي يقود شرائح الشباب إلى الهدف المنشود، لأن عنفوان وثورة الشباب يجب أن يرافقها نهوض فكري وتوجّه فكري تحديثي ديمقراطي انفتاحي حرّ من قبل مبدعي ومفكِّري ومثقفي الشرق العربي كي تكون الثورة المرتقبة والقائمة الآن متوَّجهة بشكل هادف وبنّاء بحيث يتم تحقيق الطموح الذي يهدف إليه الإنسان بشكل طبيعي كما يحدث في كل بقاع الدنيا، ولهذا أرى من الضروري على النظام العربي من المحيط إلى الخليج أن يغيِّر جلده ويستحدث رؤاه وتطلعاته وبرامجه، وأن ينفتح هو الآخر على متغيرات الكون وينظر بعين واسعة وعادلة وديمقراطية حقيقية إلى تطلعات الشباب ويكون متجاوباً معهم بشكل إيجابي وسلس مع توجهاته وإلا سيطحن هدير الشباب كل ما هو عتيق، لأن الرؤية العتيقة أصبحت عتيقة للغاية، إلى درجة ما بعد التعفّن، ولا بدَّ من تجديدها وضخَّها بدماء جديدة منفتحة على جغرافية العالم المتمدين والمتحضِّر بما هو مناسب لهذه الرقعة الجغرافية التي نبتَ فوق ترابها أولى التشريعات وأولى الحضارات!
ألم تنبع أول أبجدية في دنيا الشرق، أَلم تُبنَ أولى الحضارات في العالم في دنيا الشرق، ألم تنطلق الأديان الثلاثة من الشرق، ألم يبدع الشرق منذ آلاف السنين، في الوقت الذي كان الغرب يعيش في عصر الظلمات؟!
نحن إزاء آلاف الأسئلة التي تزلزل أنظمة الشرق العربي من المحيط إلى الخليج، إذا ما قسناه بما كنّا وما نحن عليه الآن، ولكن أغلب الأنظمة وبنسبٍ متفاوتة مصرّة على التخشُّب الفكري والرؤية الأحادية، متصوِّرين أنفسهم آلهة السماء على الأرض، وبكل أسف يسيرون ضد الأخلاقيات الدينية والعلمية ولم نَعُدْ نعرف من أي فصيل (انحدروا) كي يتركوا مجتمعاتهم وأوطانهم تنحدرُ إلى أسفلِ السافلين؟!
من هذا المنظور أرى أن بيانات المثقَّفين وحدها لا تكفي، فيجب أن يتبنَّاها الشباب الناهض ويفرضونها سويةً على أرض الواقع الذي يعيشون فيه كي يرسموا معالم وآفاق المرحلة القادمة ويخططوا للمستقبل القادم بالطريقة التي يشاؤون.
نعم، وبكل تأكيد لديّ ولكلّ مثقف دور كبير في عملية التغيير والتطوير، لأن تغيير أوربا برمَّتها تمَّ على أيدي مائة مفكر نهضوي، تقدمي، علماني، ولولا هؤلاء المفكِّرين لظلّت أوربا في عصر الظلمات إلى أجلٍ طويل، فأتساءل بدوري، ألا يوجد في طول العالم العربي وعرضه مائة مفكِّر نهضوي تقدمي حضاري علماني ينهض بالبلاد من ظلم هذه الأنظمة المؤطرة بالانشراخ ومخالب الاستعباد، ويحوّلها إلى طور التحرر والعدالة والمساواة، ويحقق للمواطن الكرامة والعيش الرغيد؟! ولكل هذا أشدِّدُ بقوّة على الدور الهام الذي يلعبه المثقف والمفكر والمبدع في عالمنا العربي، وعلى أكتاف هؤلاء وأكتاف الشباب ستتم عملية التغيير والبناء، لأن التغيير يجب أن يكون في بناء فكر حرّ جديد، فكر عصري وخلاق وعلماني يتناسب مع كافَّة شرائح مجتمعاتنا، وبما يتواءم المتغيِّرات التطويرية والديمقراطية والحرية والتعدُّدية التي تحصل في العالم، وإلا سيبقى العالم العربي خارج الزمن، وخارج حضارة اليوم إلى أجلٍ غير مسمّى؟!



عيونهم علي الأمس، وعينه
علي الغد

أحمد بوزفور

(قاص من المغرب)

دور الكاتب المغربي بالأمس، فيما أعتقد، هو أولا أن يجيد ما يكتب، ويعمقه فنيا وفكريا، وهو ثانيا أن يقف مع شعبه في نضاله اليومي من أجل تحسين مستويات عيشه، وهو ثالثا أن يبشر بالحرية في كل المجالات، وليس ضد السلطة فقط، بل في كثير من الأحيان ضد الشعب نفسه، حين توجه فكره وسلوكه أيديولوجيا الاستعباد.
وأعتقد أن دوره اليوم لن يتغير. موقفه هو الحرية دائما، وموقعه هو وسط الشباب المنتفض، وعينه الراصدة ترقب وتسجل وتبدع.
الكاتب مثقف من نوع مختلف، يطور المثقفون الأيديولوجيات، ويدعون إليها، أما الكاتب فينتقدها ويعريها. عيونهم علي الأمس، وعينه علي الغد. بالنسبة لي، كنت دائما مع الشباب، حتي حين كانوا يائسين أو خاملين أو (حارقين ). فكيف أبتعد عنهم الآن وقد جددوا انتماءهم للوطن، ويصرون علي بنائه من جديد علي أسس الحرية والديموقاطية وحقوق الإنسان.

سَنُبعث من الرَّمَاد
داود أبو شقرة

كاتب من سوريا

ربما لأن الزمان يشغلني كثيراً مع تسرب سنوات العمر والشعور بالعجز، فهل هو القلق الوجودي؟ أم هي المسؤولية؟. وأعترف سلفاً، بأنني أمتلك تلك السذاجة، التي لم أستطع التخلص منها في حياتي، وتتلخص بربط كل حادثة مهما كانت صغيرة بثنائية: التاريخ - الوطن. هذا الشعور يتعبني كثيراً مع أن وزنه المادي غير ملموس حتي في أدني عتبات الإحساس، أقول: الإحساس ولا أتطرق إلي الشعور، الذي صار تهمة هو الآخر كتهمة (الوطنية) ما أن تتحدث بشيء من المسؤولية حتي يقال لك علي سبيل التهكم: "حاجة تبيعنا وطنيات". وإذا تخلصت من هذه المقدمة، فإنني أقول بقدر غير كبير من التصريح. إن دور المثقف والكاتب في هذه المرحلة التي تشهد ثورات في وطننا العربي هو دور أساس. لكي لا نقول: إنه مكمل لدور شباب الثورات. ربما لأن الكتاب والمثقفين هم من أهم الفئات المهمشة، في العقود الماضية، والآن جاء دورهم ليثبتوا وعيهم للمرحلة. صحيح أن الكثير من الكتاب، هم متسربون إلي مهنة الكتابة، وصحيح أن الكثير من المثقفين اشترتهم النظم الحاكمة، واستأجرت أقلامهم؛ لكنها مرحلة فرز حقيقي لمن يقف مع مطالب الجماهير، ومع (الديمقراطية) الحقيقية غير المزيفة أو المفصَّلة علي قياس الأنظمة، من جهة، وبين من سيبقون علي مواقفهم المداهنة للواقع القائم. هي مرحلة تبين القلم الأسود من القلب الأبيض. و/يعني/ أن يكون المرء كاتباً، أنه يحمل شرف الكلمة، وأن سلاحه القلم بدلا من السيف، وصلاحه الآن كطعن السنان. صحيح أن دور الأدب هو الاستشراف، لكن هذا الشرط يتحقق عندما تكون الظروف موضوعية، وليست كالحالة التي يعيشها الكاتب في ظروف التهميش، وإلغاء دور المبدعين الحقيقيين. في حين تطفو علي السطح كل الكتابات التي لا لون لها ولا رائحة، ولا غاية سوي استعراض العضلات اللغوية والسردية والجمالية بغض النظر عن المضمون. إن دور الأدب والنقد سيكون كبيرا عندما يتاح المجال للمبدعين الحقيقيين والنقاد الموضوعيين في التعبير عن آرائهم، وهذا يحتاج إلي بيئة حاضنة، وإلي بيئة صحيحة. ولننظر إلي كل الثورات التي أفرزت كتابا كبارا، ونقاد، ومؤرخين، كانوا في الصفوف المعتمة قبل الثورات. إنني أنظر بأمل كبير لأن يثبت المبدعون أقدامهم علي ساحة الإبداع بتوفر الظروف للتعبير عن مكنونات إبداعهم. وهو قادمون لا محالة. أما عن الشق الثاني من السؤال: هل بيانات المثقين وحدها كافية للتغيير؟ لا ليست كافية، بل هي جزء يلتحم بنضال الجماهير، لأن مثل هذه المرحلة تحتاج إلي تضافر الجهود كافة للوصول إلي الهدف المنشود للشعب. فخبير القانون الدستوري لا تقل أهميته عن أهمية الصحفي وكذلك الرجل العادي الذي يقف في الشارع مطالبا بالإصلاح. الصحفي يصوغ العبارة التي يطلقها المتظاهر، والقانوني هو الذي يشرعها بصيغتها الأخيرة. والكتاب والمثقفون هم الذين يرشَّدون الخطاب قبل أن يدخل عليه رجال السياسة، ليمارسوا لعبة "فن الممكن". وعادة يكون خطاب الثورات في البداية متشدداً، حتي يستقر النظام ويبدأ التراخي مع تخريجات السياسة تحت ذريعة "الممكن". لكنه يجب أن يكون هكذا. وذات مرة سألني رئيس اتحاد الصحفيين وقد أهديت له روايتي (عودة الفينيق) التي ألخص منتهي غايتها بكلمات: (قد تستطيعون قتل الجسد، أما الروح فهي عصية علي القتل، وستنبعث من الرماد من جديد باستمرار...). قال لي: كم أفادتك كتابة الأخبار، في صياغة الرواية؟ قلت: أفادتني بأشياء محدودة، ومحددة. بالاختصار، والاختزال، والسرعة. لأن الصحافة هي (فن التعمية)، والأدب هو (ضمير الناس). الذي يحبل بالتغيير والثورة. كان هذا رأيي في الصحافة التابعة للحكومات بالطبع، وليس الصحافة الحرة بهذا القدر أو ذاك. أما عن الشق الثالث من السؤال: هل تري أن لك دوراً الأن؟ أعتذر عن إجابتي سلفاً. وأرجو ألا تفسر علي محمل الغرور. نعم. لقد آمنت بدوري منذ عقدين، ولهذا اتجهت إلي الأدب، لأن ما عجزت عن قوله في الصحافة، قلته في الأدب، ربما بعنت شديد أمام الرقابات الصارمة، لكن مع ذلك دخلنا من شقوق غبائها.


الكلمة أقوي من الرصاص

ماجدولين الرفاعي

كاتبة من سوريا

في ظل الثورات التي تنطلق هذه الأيام هنا وهناك، تلك الثورات التي يقودها الشباب المتحمس للتغيير والإصلاح، وإسماع صرخته للعالم، بعد أن شبّ في هذه الحياة، فوجد نفسه محاطا بالإحباط والانكسار والبطالة التي جعلت من الشهادات التي يحملها مجرد صور مؤطرة، تعلقها الأمهات علي جدران البيوت وفي غرف الاستقبال، لهذا لابد أن يكون للمثقف دور، ولابد أن يقول كلمته، فالكلمة أحيانا أقوي من الرصاص وخاصة في زمن العولمة والانفتاح علي العالم، من خلال منافذ اتصال مختلفة ووسائل إعلام منوعة، وإذا حان الوقت لأن يقول المثقف كلمته بصدق مطلق وإن لم يقلها الآن في زمن الثورة والغضب فليصمت إلي الأبد، وسيلعنه التاريخ وترجمه الأجيال القادمة، والمثقف الذي أغمض عيونه ردحا طويلا من الزمن وصمت كثيرا، ثم تحدث في وقت الثورة هو شيطان أخرس جعل منه الخوف إنسانا معوقا لايسمع ولا يري ولايتكلم، وللتوضيح هنا أقول ليس المطلوب من المثقف أن يلعن الحاكم أو السلطة، ويفتح صدره لإطلاق النار عليه فهو بهذا التصرف إنما يقوم بالانتحار والتخلي عن دوره في تحريك رياح التغيير باتجاه الأفضل، وإنما عليه دوما أن يفضح الأخطاء والسلبيات والممارسات القميئة التي يقوم بها بعض الانتهازيين والمارقين، وينادي إلي تغييرها ومحاسبة الجناة. وأظن أننا جميعنا ننشد التغيير وتحسين ظروف الحياة، وأنا ككاتبة ومثقفة أتابع بشكل حثيث مجريات الثورات التي يقودها شباب تونس ومصر، وأتابع المظاهرات التي تنطلق في معظم الدول العربية التي تناشد بتحسين الأحوال المعيشية، وإيجاد فرص للشباب العاطل عن العمل، وأجد أن دوري الآن هام في توجيه دفة الكلمة ورفع الأشرعة في وجه الريح التي قد تعترض طريق التغيير الذي سار عليه شبابنا، وأظن أن بيانات المثقفين وحدها لا تكفي للتغيير، ولكنها تعطي دعما للثوار، وأيضا علينا ألا نتوقع من المثقف أن يرمي قلمه ومنابر الكتابة، وينزل إلي الشارع، كي يحمل حجرا، لأن فكره هو السلاح الذي يدير به معركة التحرير، وإن تخلي عن فكره وقلمه ونزل إلي الشارع سيكون قد حقق للخصم ما يريده، فالكفاح السياسي داعم للكفاح المسلح، ومنظم له، ولا يمكن استغناء أحدهما عن الآخر، ولهذا فان دوري ككاتبة وصحفية ومثقفة تجنيد قلمي وأفكاري وأكون علي أهبة الاستعداد لتقديم كل الدعم للثوار المطالبين بحقوقهم في تحسين أوضاعهم البائسة، وتأمين حياة كريمة محترمة تحت سماء أوطانهم وفي ظل الأعلام المرفرفة فوق رؤوسهم.



58
مجزرة المجازر في كاتدرائية سيِّدة النجاة في بغداد

كتبتُ في المرحلة القريبة الفائتة، بعض الكتابات والمقالات التي تدور حول مستجدات واقع الشرق المرير، هذا الشرق الغائص بالذهب الأسود والمعارك السوداء أيضاً، معارك وصراعات حمقاء، حملَتْ مقالاتي العناوين التالية، حصار الأطفال قباحات آخر زمان، عربٌ ما بين الهواءِ والهواء، بداية الفيّة دمويّة ومنحطّة للغاية، أيُّها الإنسان إلى أين؟! انشراخ في رؤى سادةِ القوم، السلام أوّل اللُّغات وآخر اللُّغات، صراع الحضارات هو صراع القباحات، إعادة صياغة رؤى الإنسان، العراق بلد الحضارات إلى أين؟ التَّوهان عن الهدف، رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، ماتَ الشرق .. ماتَ الغرب .. ماتَتِ القيمُ! وغيرها من المقالات الناجمة عن الحالة ما فوق القرفية، المفرَّخة في دنيا الشَّرق والمتطايرة شراراتها من جشاعةِ الغرب!

عندما شاهدتُ ما شاهدتمونه على الشاشة الصغيرة، حول تفجيرات كاتدرائية سيِّدة النَّجاة في حي الكرَّادة في بغداد، صُعقتُ تماماً، وشعرتُ أن بعض البشر يتضاءل حجمهم ورؤاهم الإنساني وتتطاول أنيابهم كأنّهم من فصيلة الحيتان ومجانين آخر زمان، وكأنَّ حل مشاكل الشرق أو الغرب يتم حلّه من خلال نموّ أنياب البشر.

قبل أن أخوض في تقديم وجهات نظري فيما رأيته وأراه، أودُّ الإشارة إلى أنَّني لستُ راضياً على ما تقوم به الدول العظمى ولا الدول الصغرى ولا دول الكون برمَّتها في نهج سياساتها فيما يتعلق بالشرق المرير، هذه السياسات التي أوصلتنا إلى واقع الحال الحالي، لأن الغرب الأميريكي لا يفهم قراءة واقع الشرق ورؤى الشرق وتخلُّف الشرق وعادات الشرق وسياسة الشرق وجهل الشرق وأديان الشرق وبناء الشرق وديمقراطية الشرق وتوجُّه الشرق وصراعات الشرق وتناقضات الشرق وعبثية الشرق وغيبيات الشرق وتركيبة الشرق وتوهان الشرق بما يناسب الشرق، لهذا يقع الغرب في مطبَّات لا حصر لها عندما يَتدخَّل في صراعات الشرق، وهو غير قادر على معالجة هذه التنافرات بالطريقة الغربية، لأن الشرق هو شرق والغرب هو غرب وكل جهة من جهات العالم تنمو وتتطوَّر بطريقة مختلفة كلياً عن الأخرى، ولا يجوز نهائياً أن نطبِّق ديمقراطية الغرب على دولة مثل العراق ضمن الظروف الحالية المريرة التي مرّ بها على مدى عقود من الحرب والبطش والقمع والإرهاب، فولد لدى الكثير الكثير من الشعب العراقي شغف كبير نحو الإرهاب المضادّ لِمَا يعانيه من جورٍ وإضطهاد.
 
أتساءل، أيّة ديمقراطية تريد أن تطبِّقها أميريكا في العراق، وهو غائص بتصفية حسابات وصراعات دموية، يحتاج إلى قرن بل أكثر ليصفِّي حساباته بين فرقائه وملله ومذاهبه وأقوامه وأديانه، حسابات مشحونة برؤى مقعّرة تصبُّ في حروبٍ غارقة ببحيرات الجنون؟! وقد تفاقمَت هذه الرؤى المتناحرة نتيجة سنوات وعقود من القمع والاضطهاد والديكتاتورية، وتشرّب المواطن المشروخ الرؤية، رؤى انتقامية مسمومة، مدافعاً تارةً عن تياره ومذهبه وقومه وحزبه وولائه لمن ينتمي إليه، وطوراً عن غبائه المستفحل نتيجة تفاقمات الحروب وخلخلة حضارة العراق وأخلاق العراق وعراقة العراق، وقد ترعرعَتْ هذه الولاءات بشكل مريض، لانها لم تنمُ أغلب هذه التيارات والمذاهب والأقوام والأحزاب والولاءات والعقائد وردود الأفعال الانتقامية الغبيِّة الشنيعة بشكل سويّ وطبيعي وحضاري وإنساني وديمقراطي، وأغلب هذه التكتلات والتيارات والمذاهب تحاول أن تثبت وجودها حتى ولو على حساب جماجم غيرها فأصبح الجميع ضدّ بعضهم بعضاً حتى النّخاع، وأستطيع أن أؤكِّد أن الشَّعب الآشوري السرياني الكلداني وأقلِّيات قليلة أخرى هم أوّل الضحايا على إمتداد كافّة المراحل، وخاصة في الوقت الراهن، لأنهم الحلقة الأضعف والأقل قوةً ومواجهةً، لأنهم الأقلية المهلهلة والتي جلّ تفكيرها ينصبُّ على البحث عن السلام والوئام والمحبّة والمسامحة بحسب ما تشرَّب هذا الشعب من قيم دينية سمحاء حتى أنه بدأ يردِّدُ ويطبِّق قول السيد المسيح، "أحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم، .. اكنزوا لكم كنوزاً في السماء، .. ومملكتي ليست من هذا العالم .." وهناك الكثير من الآيات التي تشجِّع هذا الشعب المسامح على الانقراض والفناء في ظل نمو توجُّهات مضادَّة لهكذا رؤى سلمية وئامية طيِّبة، حيث نجد أن هناك مَن يعتبر المسيحي كافراً وقتله حلال وزلال، وهو (صليبي!) ويجب إبادته عن بكرة أبيه، ويعتمد في تبريراته وتوجُّهاته هذه على فتاوى دينية غريبة وعجيبة، ولا أؤمن بأيِّ دينٍ من أديانِ الكون أن يبيحَ قتلِ أي إنسان مهما كان اعتقاد هذا الإنسان حتى ولو كان ملحداً حقيقياً ولا يؤمن بالله ولا بالأديان، لأنه لا يحق للبشر أن يحاسبوا البشر بحسب هواهم ومعتقداتهم المريضة، ولهذا أرى أن المسيحي الذي تشرَّب قيم المسامحة والسلام والوئام والمحبَّة وحبِّ الوطن والآخر، كلّ هذه القيم التي تشرَّبها الإنسان المسيحي عبر أكثر من ألفي سنة، كانت سبباً في دماره وفنائه وانقراضه وفراره وتوهانه عن الهدف في دنيا الشرق، لأن الطَّرف الآخر المتشدِّد يضع في الاعتبار أن ردّ المسيحي ما هو أكثر من المسامحة والمحبَّة، وكأنَّه يعيش في عالمٍ غير هذا العالم الذي نعيشه، وكأنّه عبر المسامحة سيستردُّ حقَّه ويصون كرامته ووجوده وكيانه وسلامه وأمنه!

وهذا المسيحي (الصليبي) الشرقي ليس له أية علاقة بالصليبي الغربي والحروب الصليبية من حيث التوجهات السياسية والاستعمارية وكان هو أوّل مَن تصدّى للحروب الصليبية والتاريخ حافل بالشهداء المسيحيين الشرقيين الذين صدّوا الغزوات الصليبية، فما هذا الرَّبط الغبي الأهوج بربط المسيحي الشرقي بالحروب  الصليبية، وأستطيع أن أجزم أن المسيحي الشرقي تضرَّر أكثر ممَّا تضرَّر المسلم من الحروب الصليبية المباشرة وغير المباشرة، والصليبي الغربي كان السبب المباشر بالقضاء على الكيان المسيحي الشرقي، وكل حروب الإبادة التي تعرّض لها المسيحي الشرقي، له علم بها المسيحي الغربي ومع هذا طنّش بل ساهم في إبادته، ابتداءاً من مجازر الإبادة الجماعية/السيفو، ومروراً بكلِّ المجازر التي تعرّض لها عبر كل الحقب التاريخية حتى الوقت الراهن! ومن الغباء والعار على أيِّ توجّه اسلاموي مهما كان متشدِّداً ومتزمّتاً ربط مسؤولية ما يقوم به المسيحي الغربي بالمسيحي الشرقي وتحديداً في حالة مثل حالة العراق وغيرها من بلاد الشرق، لأن الطرف المسيحي العراقي هو الطرف الذي الأكثر تضرَّراً من كلِّ الأطراف والأديان والمذاهب والأقوام، حيث نرى كيف تسلَّم الشيعي سدَّة الحكومة وأغلب الوزارات، ويحاول السنّي اقتسام الكعكة العراقيّة المستباحة والكرد ازداد أمنهم ونفوذهم وسيطرتهم من خلال إيجاد الحزام الأمني في إقليم كردستان واستلام رئاسة العراق!، وكل هذا التقسيم والتوزيع الكعكوي كان على حساب خلخلة جماجم الأقلية المسيحية، وهي أصل البلاد وكانت عبر تاريخ العراق الطويل الأغلبية الساحقة، تحكم بلاد ما بين النهرين، ولها وإليها تعود عراقة حضارة العراق، وأكثرما قدَّم العرب وغيرهم منذ سيطرتهم على بلاد الرافدين هو المزيد من الحروب والصراعات القومية والمذهبية والإثنية والدينية وكنَّا وما نزال ندفع الثمن غالياً ولم نجنِ شيئا سوى القتل والتشرُّد ومزيداً من الهجرة والانقراض. فما هذا الذي أراه، وما هذا الغباء السياسي والتحليل الديني الذي يطرحه بعض المتشدِّدين الإسلاميين، معتبرين مسيحيي العراق من الصليبيين، أيُّها المتشدِّد الاسلامي! أنتَ تعلم والكون برمَّته يعلم أن المسيحي العراقي دفع الفاتورة الأكبر من خلال احتلال أميريكا العراق وسقوط نظام صدام حسين، وألف رحمة ورحمة على أيام صدَّام رغم ديكتاتوريته المعهودة، مقارنةً بما نراه الآن من قتلٍ ودمارٍ وتشريد، ألم يكُنْ الأمان سائداً في البلاد حتى ولو بالقوة، أين هي توّجهات ديمقراطية السيّد المالكي والسيّد مام جلال في حماية المسيحيين ووضعهم في صدارةِ البلاد لأنهم أصل البلاد؟! لم نرَ ولم نشاهد ولم نسمع منذ سقوط الطاغية سوى كلام جميل وخطابات، ولم نجد جملة واحدة في دستور العراق تحمي وتصون حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى، لهذا أحمِّل المسؤولية الكبرى لأميريكا والغرب ومنظمات حقوق الإنسان لأنّ أميريكا تسبَّبتْ من خلال احتلالها للعراق في إيجاد هذا الاسلامي المتشدِّد، إنها المتسبِّب الأول والأخير لما يحصل لمسيحيي العراق وعلى أميريكا أن تحلَّ هذه المشاكل وتضع حدّاً لهذه المجازر قبل أن تستفحل الأوضاع أكثر ويتفرّغ العراق من أعرق شعب أصيل على مدى تاريخ العراق الطويل.

إن ما أريد طرحه لا يكفي لمقال ومقالين وعشرات المقالات! لأن هناك طرف لا يسمعك وطرف لا يفهمكَ، وطرف يرفضكَ كيفما تكون! لأنكَ تطرح نفسكَ يا سيِّد مسيحي، يا سيِّد كلداني سرياني آشوري، لقمةً سائغة بين أنيابٍ لا ترحمكَ حتى ولو كنتَ ملاكاً حقيقياً منزلاً من عرش الله، فلماذا تتمسّك بهذا الطرح الطوباوي الخيالي في هذا السياق، متى ستفهم أن ما قاله السيد المسيح في موضوع المسامحة والمحبة لا ينطبق في السياق الذي نراه الآن، وأنا أرى أنه من الجبن والخزي والعار والتحجُّر الفكري والتخلف الحضاري والأخلاقي والديني والتطوري أن يسامح أي إنسان مظلوم إنساناً ظالما يظلمه بتخطيط وعن سابقِ اصرارٍ وتصميم وعن قناعة مدروسه ومخطَّطة لها ألف بالمائة، فالمسامحة ممكن أن تتمَّ مع إنسانٍ مسامح ومع شخص لم يقصد إيذاءكَ بل جاء ظلمه بشكل غير مقصود وعابر، وبكل الأحوال لا يعجبني نهائياً تطبيق قول السيد المسيح في مسألة المسامحة في هذا السياق الذي أراه، حيث أعتبر هذه المسامحة ضعفاً وجبناً وانهزامية وعدم الحفاظ على كياننا ووجودنا وكرامتنا، بل تنم عن عدم فهمنا العميق للدين والأديان والحياة الكريمة، والمسامحة في هكذا سياق هي دعوة واضحة لانقراضنا وانقراض كل من يدعو إلى هكذا فكر مثالي طوباوي بعيد كل البعد عن الواقع الذي نعيشه، ويبدو لي أن السيد المسيح لو نزل من عرشه على الأرض الآن!، ويعاين ويعايش ما نعيشه ونعانيه (كإله متجسّد على صورة إنسان) ويرى ما نراه من ظلم ومعاناة وقمع وكبت واقصاء وفناء وقتل وتشريد على كافة الأصعدة، سوف لن يقول أحبّوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم، سيقول بدون أي تردُّد بالكيل الذي تكيلون يُكال لكم ويُزاد! وسيشدِّد على الدفاع عن كرامتنا وأنفسنا حتى الرَّمق الأخير، وإلا لماذا طرد هؤلاء الذين عبثوا في الهيكل المقدس!

إنَّ ما قاله السيد المسيح في موضوع المسامحة، قاله كمثال لزمان ومكان وموقف ليس بالضرورة أن ينسحب على كل موقف في كلِّ زمان وكلِّ مكان، وأنا أرى ضرورة عدم ربط حياتنا وكرامتنا ومستقبلنا كبشر في سياق رؤية دينية مثالية طوباوية بعيدة عن الواقع الذي نعيشه، ويجب عدم ربط الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتطويرية بكل ما هو ديني وروحاني، لأن النزوع الديني الروحاني غير النزوع الأرضي الواقعي الحياتي، ولا يمكن لأي دين من الأديان على وجه الدنيا أن يكون حلاً مرجعياً شاملاً لتفاصيل حياتنا الأرضية، ولا يجوز اقحام الدين في قضايانا الحياتية الأرضية وربطه بالسياسة والاقتصاد والعلم والحياة، لأن الرؤية الدينية رؤية روحانية إيمانية تتعلق بالإنسان والخالق والسماء، ولا يمكن إدراج الدين والله والأنبياء والقدِّيسين لحلِّ مشاكل الحياة التي نعيشها، ثم أنَّ الدين ورؤانا الدينية هي بيننا وبين الخالق، وليست قائمة بيننا وبين البشر كبشر، وإلا لماذا هناك قوانين ومحاكم ومحاسبة للمخطيء والمسيء والمخالف للقوانين السائدة في البلاد كل البلاد؟!

إن من أكبر أخطاء مَن يتبنَّى رؤية دينية من أي دين كان، أنه يفصِّل كل حياته وتطلُّعاته بحسب ما يقرؤه ويفهمه في الدين، لأنه أحياناً لا يفهم أبعاد الدِّين الحقيقية العميقة من جهة، والحياة أوسع بكثير ممَّا جاء في الأديان من جهةٍ أخرى، ثم أن عمر الدين هو أكثر من ألفي عام، وفي كل دقيقة وفي كل ثانية  يحصل تغيُّرات في الدنيا لابدَّ من مواكبتها! سيردني مئات الأسئلة والأقوال والآيات التي يستشهدون بها من الكتاب المقدس، تناقض رؤيتي وطرحي، .. والمفلق في الأمر أنهم يبرِّرون أسباب الظلم اللاحق والماحق بهم، ويفرحون لأنهم يكنزون لهم كنوزاً في السماء، ولأن أجرهم في السماء عظيم! يجدون أنفسهم في هلاك دائم وأولادهم الرضّع يُقتلون أمام أعينهم ويتشبَّثون بالمسامحة والفوز بكنوز السماء، ما هذه الكنوز التي تنتظرنا أو ننتظرها ونحن هنا في حالة يُرثى لها، نغوص في محرقة متواصلة على مدى الأيام والشهور والسنين، وهل ستهرب تلك الكنوز لو عشنا حياة كريمة، أسئلة كثيرة ولا أرى إجابات مقنعة لها من خلال تشبثاتكم المسامحاتيّة!

أتساءل، لماذا السيد المسيح له المجد، لا يقدّم لنا أعاجيب في بغداد والشرق والغرب حيث طوفان المحارق والمظالم تغلي فوق رقابنا، ويضع حدّاً لهذه المحارق والمجازر الدينية والروحية والإنسانية التي تحصل لهذا الشعب المؤمن البريء، كي يردع أصحاب الفكر الظلامي ويهديهم إلى الإيمان الكبير والمحبة للبشر كل البشر، وكي يتمكّن المؤمن أن يتمسَّكَ بإيمانه بكلِّ صبر عندما يرى نفسه محصَّناً من قوة إلهية خارقة، تصون له عرضه وكرامته وتفرش أمامه جنان النعيم وكنوزه السماوية، لماذا يترك السيد المسيح قوى الظلام تدنّس المقدَّسات وتقتل الرهبان والراهبات والقساوسة والمطارين والمؤمنين، ويتركهم يفتكون بنا ونحن ندافع عن أنفسنا من خلال المسامحة والغفران! لماذا يتركنا نحني رؤوسنا لسيوف الظلم والطُّغيان ويطلب منا أن نسامحَ أعداءنا! أي منطق من هذا الطرح الاذلالي والانهزامي في هذا المنحى العقيم؟!

ونحنُ كيفَ نقتنع بأنَّ هذا الكلام لم يقله المسيح في هذا السياق، إلا أننا نحشره في هذا السياق حشراً، وكيف لرجالات الدين والمؤمنين يفهمون هذه المسألة من هذا المنظور الضيق، لماذا لا يترجمونه في سياقٍ آخر، ويعتبرون هذا الذي يبيدنا ويسحقنا ويمحقنا، هو مرض يستفحل بالانسانية وبنا وبالحياة، وعلينا أن نردَّ عليه بكلِّ القوانين الموجودة على وجه الدنيا والتي تكفل للمرء أن يعيش حرَّاً كريماً.

وأودُّ التأكيد على أن من أهم الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الحال هو الغرب نفسه، وتحديداً أميريكا، لأنها دخلت واحتلت العراق ليس لسواد عيون العراقيين والعراق بل من أجل سواد الذهب الأسود، ولولا وجود النفط في العراق، لما دخلت أميريكا واحتلت العراق، فالقضية هي اقتصادية محضة ولا تتعلق بتحرير العراق ولا بتطبيق الديمقراطية في العراق، والسؤال المهم، مَن أتى لنا بالنظام السابق وديكتاتوريته، ومَن ساند النظام السابق، نظام صدام حسين على امتداد حربه مع إيران؟! أليستْ أميريكا؟! أما كانت تعلم أميريكا أن صدام حسين سيحتل الكويت، ولو أرادت، أما كانت تستطيع أن تمنعه من غزو الكويت وتجنِّبنا وتجنّب العراق والمنطقة والعالم ويلات ما بعد الحرب، ولكنها تركت صدام حسين أن يحتل الكويت وكان هذا فخَّاً لصدام حسين كي يبيح لأميريكا أن تدخل في الخليج ثم تحتل العراق، لماذا؟ أعود مؤكّداً من أجل سواد الذهب الأسود، وكانت تعرف سلفاً أنه باسقاط النظام العراقي السنّي، لابد من إيجاد بديل معارض، فلا يوجد بديل معارض ذو شعبية كبيرة سوى النظام الشيعي، فأول فخ فخَّخته أميريكا للعراق والعراقيين هو الفخ الطائفي، لأنها تعلم أن العراق سيستمر عقوداً عبر الحرب الطائفية الشيعية السنّية، لأنها جاءت وغذَّت الحرب الطائفية بتنصيب حكومة أغلبها من الطائفة الشيعية، وكأنها نصّبت حرباً طائفيّة مفتوحة على العراق والعراقيين، وهنا أودّ الوقوف عند موضوع الطرح الطائفي، أنا شخصياً ضد الطرح الطائفي والمحاصصة الطائفية في هذا السياق وضد الطرح الديني في قيام أية دولة على وجه الدنيا، أنا مع طرح حقوق المواطنة كمواطَنة وليس عبر الطائفة أو الدين سواء كانت الطائفة أقلية أو أكثرية، ومن الخطأ الفادح ونحن في القرن الحادي والعشرين أن نرى تركيبات شرقنا الغافي على الذهب الأسود تتمركز على نار الطائفية البغيض، ويصفِّي المواطن أخيه في الوطن وأميريكا ومَن لفَّ لفَّها لا تؤمن بالدين كرؤية في بناء دولة، ولكنها تؤسِّس الشرق على رؤية مذهبية طائفية كي يحصد الشرق ذاته بذاته وهي تتفرَّج وتحل مشاكلنا من خلال نهبنا ونحن نظن أو بعض عباقرة الشرق يظن أنها تجلب لهم الديمقراطية والحرية والعدالة، فأنا لا أصدِّق ولا يوجد أي إنسان عاقل على وجه الدنيا يصدِّق، أن أميريكا تفكِّر أو تخطِّط لإقامة الديمقراطية في الشرق أو العالم العربي، ويزعجها تماماً عندما تجد بوادر نموّ الديمقراطية والحرية في العالم العربي، لأن وجود الديمقراطية  والحرية يلغي وجودها، لهذا وجودها مقرون باستمرارية ديكتاتورية الشرق، ولهذا تشدِّد أميريكا على ضرورة أن يفرّخ الشَّرق حروباً متواصلة، وتسعى هي بتفريخ الحروب بما يناسبها، ولا يرمش لها جفن لو تمَّ تفجير كنيسة هنا أو جامع هناك، لأنها تريد هذا، ولأن هذا هو الطريق المضمون لبقائها طويلاً كي تجني خيرات البلاد على حساب خلخلة رقاب العباد، وأغلب الأنظمة العربية هي أنظمة مفصّلة على تطلعات الغرب وأميريكا، وحالما ينزاح نظاماً ما عن مساره المعهود نراها تنصب له الكمائن والفِخاخ كما حصل للعراق، لأن أميريكا هي التي صنعت بصيغةٍ ما أغلب الأنظمة العربية وهي تعرف نقاط قوة الأنظمة وضعفها وهي التي تستطيع أن تقرِّر متى وكيف تقضي عليها عندما لاتنصاع إلى توجُّهاتها، كما حصل مع صدام حسين، حيث وصلت أميريكا إلى نقطة الصفر بالاستمرار مع نظام صدام حسين خاصة بعد حرب الخليج الأولى، فوجدَتْ أنه سيشكِّل خطراً عليها لهذا نجحَتْ في نصبِ الفِخاخ له، ثم قدَّمَتْ لنا بعد القضاء عليه هذه الحكومة المهلهلة التي لا تستطيع أن تحمي نفسها فكيف ستحمي كنيسة أو جامع أو دير أو أي مواطن، والحكومة أصلاً في مثل هذه الأحوال لا تفكِّر سوى بنفسها والاستمرار في الحكم كي تحقِّق للعراق الديمقراطية العتيدة التي وعدتْنا بها أميريكا، هذه الديمقراطية القائمة على جماجم القساوسة والمطارين والشمامسة والرهبان والراهبات والمؤمنين الذين كانوا يصلّون في هيكل الرب، هؤلاء الذين بنى أجدادُهم حضارة العراق، أحفاد نبوخذ نصَّر وحمورابي وجلجامش، أحفاد الآشوريين الكلدان السريان، أحفاد هؤلاء الَّذين بنوا حدائق بابل المعلَّقة، إحدى عجائب الدنيا السبع، ... واأسفاه أحفاد أوّل الحضارات أراهم يُقتلون الآن أمام هيكل الرب في كاتدرائية سيدة النجاة، على مرآى الكون برمّته وأميريكا تقهقه بأعلى صوتها أنّها قدَّمت الديمقراطية للعراق والشعب العراقي، والجميع رأى كيف وضعت أقدامها ودبَّاباتها في العراق وسحقت حضارة العراق ونهبت آثار وتماثيل العراق، وكأنَّنا نرى مشاهد من العصور ما قبل الحجرية، أنا القائل، أميريكا حضارةُ نارٍ وكبريت، هذا كان عنوان نص شعري ردّاً على حصار العراق واحتلال أميريكا للعراق وردّاً على نهبها للعراق وردّاً على دمار العراق والشَّرق وبقاع كثيرة من العالم!

ما هو الحل إزاء ما نراه من قتل وتشريد الأبرياء المسيحيين في العراق وقتل وتشريد الأبرياء من الطوائف والأقليات الأخرى، ماهو الحل في إحلال السلام والوئام والمحبة في العراق بين كافّة الأطياف والأديان والقوميات والاثنيات والأقليات والأكثريات؟!

الجواب بسيط ولا يحتاج إلى عبقرية، وهو أن يقتنع كل مواطن عراقي أنه إنسان، لهذا عليه أن يطرح نفسه إنساناً منفتحاً حضارياً بما يليق حضارته وتاريخه الغابر ويبتعد عن كل طرح ديني طائفي مذهبي قوموي تعصبي تشدُّدي، وينظر إلى جاره وأخيه المواطن كمواطن، بغض النظر عن مذهبه ودينه وقوميته وحزبه وتياره، ويؤسِّس دولة المؤسَّسات القائمة على الكفاءة والأهلية العلمية والحضارية والتقدمية، ويفكِّر بتنشئة جيل مسالم، طيب، برئ، بعيد كل البعد عن التعصب الديني والقومي والمذهبي والطائفي، وليمارس كل مواطن دينه كما يريد ويشاء، ولا يمكن قيام أية دولة على وجه الدنيا على أساس ديني أو طائفي أو قومي صرف، وفكرة المحاصصة الطائفية والقومية والمذهبية والقبلية وما هنالك من رؤى تدعو إلى التعصب والتشدُّد والخلاف العدائي ثم يتحوَّل إلى صراع مذهبي وديني وقومي ويفكر كل طرف القضاء على الآخر، هي فكرة رجعيّة متوحِّشة ويكتشف هؤلاء بعد عقود أو قرون كم كانوا أغبياء وهم يقتلون بعضهم بعضاً مثل الوحوش الضارية دفاعاً عن وجهات نظر متخلفة وغالباً ما يكتشفون الأمر بعد فوات الأوان!

فلماذا لا نسبق نحن الأوان، ونعيد نحيي من جديد بذور حضارتنا الآفلة، نعيد خلقها الآن قبل فوات الأوان؟! وكيف ممكن أن نحقِّقَ هذا الأمر في هذه الآونة ونحن نشتعل أمام هول الطوفان؟!
إن أوّل طريق للوصول إلى حلّ لما نحن عليه من تفتُّت وتشرّد وضعف هو أن نوحّد كل الطوائف المسيحية ونتّفق على صيغة عمل مشترك، كي نشكِّل كلمة واحدة موحّدة لها وزنها وأهميتها في المحافل الدولية والشرقية.
علينا تأسيس أحزاب ومؤسسات وأنظمة وهيئات تتعاون مع بعضها بعضاً، وتشكيل لجان مختصة ومنبثقة من كل حزب أو هيئة لهذا الأمر بحيث أن تمثلنا وتسعى إلى تحقيق أهدافنا المنشودة في الأوطان الأم وبلاد الاغتراب عبر المحافل الدولية.
إيصال صوتنا وتظلمُّنا عبر مستجدات مجازر ما حصل ويحصل إلى أعلى هيئات حقوق الإنسان العالمية، كالبرلمان الأوربي، الكونغرس الأمريكي، هيئة الأمم، مجمع الكنائس العالمي، جامعة الدول العربية، المرجعيات الاسلامية العربية والعالمية، وتحويل واقع الحال الذي نعاني منه إلى قضية عالميّة ولا بدَّ من حلِّها عبر هيئات حقوق الإنسان العالمية، شأننا شأن بقية شعوب المنطقة، لأنَّنا أبناء البلاد الأصليين ومع هذا نعيش كغرباء في بلادنا.

ما هو رأيي في المجزرة التي وقعت في كنيسة سيدة النجاة، ووضع المسيحيين العراقيين؟!
برأيي كانت صفعة قوية لحكومة المالكي ولمسلمي العراق قبل أن تكون مجزرة العصر لمسيحيي العراق والشرق والعالم أجمع!
إن حل مشكلة مسيحيي العراق لا يتم عبر المظاهرات والخطابات والحوارات والقصائد والنقاشات وبيانات التنديد والشجب والاستنكار، لأن المشكلة في العراق أكبر من مسيحيي العراق ومن العراق ذاته، لأن المشكلة الكارثية في العراق هي أنَّ أميريكا وضعت العراق على حافة بركان طائفي يغلي غلياناً مميتاً لكل الأطراف، وكل هذا بدعوة أن أميريكا تحاول قصارى جهدها أن تحقق الديمقراطية في العراق، وهكذا بعد أكثر من ست سنوات من سقوط النظام السابق، وصلنا إلى لبِّ الديمقراطية التي رسمت أميريكا معالمها وهي قتل الرهبان والقساوسة على مذبح الرب وهم يتضرعون إلى الله كي يحمي العراق، وبرأيي أنَّ الحكومة هي القاتل رقم واحد، لأنها طالما لا تستطيع أن تحمي ذاتها وتحمي مواطنيها فلترحل وتسلم الراية لغيرها! لأنني أرى أن يحكمَ ديكتاتوري بارع ويؤمِّن الأمان لمواطنه العادي الفقير المسالم غير السياسي، هو أفضل من أكبر ديمقراطي غير قادر على نشر السلام والأمان في البلاد، هل من المعقول أن نرى ما رأيناه من قتل وتشريد مسيحيي العراق على دور صدام حسين، أنا كنتُ وما أزال ضد سياسة صدام حسين الديكتاتورية ولكنها تعتبر رحمة الرحمات بالنسبة لما نراه الآن من بطش وتنكيل وقتل المسيحيين والعراقيين على مختلف مشاربهم وطوائفهم وأحزابهم، هناك فلتان أمني مخيف، لأن الوضع أصبح مخيفاً ومميتاً لا يُطاق إلى أبعد حدود الخيال!

هل تقبل أميريكا والسياسيون الأميريكيون أن تُقتل أمهاتهم وأولادهم وقساوستهم في وضح النهار، كيف ستحل أميريكا الصراعات الناشبة في العراق، بلد الحضارات وهو على مفترق طرق من براكين الموت من كل حدبٍ وصوب، منَ سيقنع الشيعي العراقي أن يقبل محاورة السنّي العراقي، والمفلق في الأمر أن مسيحيي العراق أصبحوا كبش فداء على كلا الجانبين وعلى كل الجبهات، فعندما يختلف أي طرف مع آخر يهجم على مسيحيي العراق ويقتلهم بدمٍ بارد وهم ليسوا طرفاً في اللعبة السياسية السقيمة، وكل جرمهم أنَّهم مسيحيون، وما الهجمة الأخيرة على كنيسة سيدة النجاة إلا رداً على أميريكا "النصرانية"، وعلى الحكومة العراقية التي نصَّبتها أميريكا علينا مستبشرة بقدوم الديمقراطية على ظهر دباباتها وهي تنهب حضارة العراق وتعبث بمتاحفها في وضح النهار، ما هو شعور أميريكا وهي ترى طفلاً شهيداً يُقتل في كنيسة وهو في حضن أبيه، هل تشعر أنها حقَّقت الديمقراطية في بلد الحضارات، أم تشعر بالعار والإهانة، أم أنها لا تكترث أصلاً بالموضوع بل تعتبره خطوة جيدة لها كي تبقى مدةً أطول في العراق وكي تبيِّن للعالم أن العراق يحتاج إلى الدعم الأميريكي والخارجي!

هل ثمَّة حل، نعم هناك الكثير من الحلول والكثير من الضحايا ولا حل طالما يسير العراق على هدى نيران وبراكين الطائفية، وأفضل الحلول هو أن يقتنع الغرب وأميريكا على وجه الخصوص أن الديمقراطية العتيدة التي بشَّروا بها لا تتم بهذا الشكل الأحمق، وأنا برأيي أن العراق بحسب واقع الحال الحالي لا يناسبه هكذا توجّه ديمقراطي مهلهل، لأنه توجُّه ديمقراطي بالإسم، العراق والشرق برمَّته يحتاج إلى دولة المؤسَّسات، دولة تسنُّ القوانين في البلاد بشكل ديمقراطي حقيقي وتكفل تأمين حقوق المواطنين كل المواطنين وتحمي وتصون الوطن بعيداً عن الطرح الطائفي والديني والقوموي، والتركيز على سنِّ قوانين تكفل حماية وصون حقوق المسيحيين والأقليات الأخرى بحيث كل مَن يرتكب جرماً في حقِّ المسيحيين وغيرهم من الأقلِّيات ينال عقوبة تصل إلى حدِّ الإعدام، ويتم حماية المسيحيين وتأمين حقوقهم الثقافية والقومية والدينية، وممارسة حقهم في مناصب الدولة بأرفع المواقع من رئاسة الدولة والوزارة ومروراً بكل دوائر الدولة وذلك بحسب الكفاءات المتوفرة لديهم، إسوة بالآخرين، وكل هذا لا يمكن أن يتحقَّق إلا عبر منظمات حقوق الإنسان عبر المحافل الدوليَّة فمتى سيتوحَّد شعبنا ويحوِّل قضيته إلى قضية عالمية ويفرضها على العالم وعلى أرض الرافدين، موطنه الأصلي، اسوةً بغيره من الأقوام والشعوب التي جاءت بعده بآلاف السنين!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com


59
ألوانكِ تحلِّقُ فوقَ أحلامِ الصَّباح

(وُلِدَ هذا النصّ من وحي مشاهدتي معرض الفنّانة التشكيلية نوال الغانم)

 
نهضْتُ صبيحةَ هذا اليوم من أعماقِ حلمٍ متدفّق من أجنحة غيمة، تنتظرني لوحاتٌ مغموسة ببهاءِ مرحِ الطفولة، لوحاتٌ مستنبتة من ولع ملكةِ نحلٍ متعطّشة لرحيق الأزاهير، رسمَتْها فنانة معفّرة بأحزان غائرة في تجاعيد ذَّاكرة محفوفة بالدموع، أرادَتْ أن تطمس أحزانها عبر ألوان متدفِّقة من اخضرار حنين الغابات، فنانة معجونة بدفءِ الشرق وشغف الشرق وتوهُّجات الشرق، فنانة منبعثة من انشراخات أحلام مشتعلة ليل نهار، تاهَتِ الأحلامُ بين ضفائر عاشقة ضلّت طريقها في خضمِّ دخانٍ متصاعد من أزقَّةِ مدينة مرتكزة على توقِ أنكيدو وهو يبحث عن عشبة مبرعمة في سفينة الخلاص، خلاصنا من جحيم زمنٍ مجصَّصٍ بسماكات القير، كيف سننجو من هولِ الاسوداد، اسودادٌ على مدى جغرافية الروح، على مدى ضياء نجمة الصباح وهي ترنو إلى حدائق معلّقة في بوحِ السَّماء، حضارة مالت أعناقها نحو ألوانٍ لائذة من أنيابِ الحيتان، من قباحات هذا الزمان، آمالٌ  طافحة من بوح الشعراء وهم ينتظرون ولادة لوحاتٍ معبَّقة بأريج الياسمين، لا نملكُ في جعبتنا غير أحلامنا المتلألئة فوقَ وهجِ الرُّوح، وحده الشعر يمحقُ ضجري من جلافةِ هذا الزمان، وحدها الموسيقى وانغام اللَّوحات تزرع بهجةً وأملاً في تجلياتِ بوحِ القصيدة، تناثرت الألوان فوقَ خدودِ وردة غافية فوق خيوط الشفق.

وقفَ قلبُكِ مبهوراً في فراشةٍ مسترخية على بتلاتِ زهرةٍ مكسوّة بندى الصباح، فهرعْتِ تلملمينَ أفراحكِ الهاربة من جحيم النيران المتأجّجة على مساحاتِ الروح، تنثرينها عبر ألوانكِ المنسابة من أمانٍ متماهٍ مع تجلِّياتِ الخيال، لعلّكِ تخفِّفين قليلاً أو كثيراً من أنين الجراح المتفاقمة فوق صدغٍ وطنٍ معشّّشٍ بأحزان الدُّنيا، تبدِّدُ ألوانُكِ جزءاً من لظى الدِّماء، من قباحةِ رؤى مدبّبة كأنيابِ الذئاب، تولد لوحاتُكِ من أعماقِ حلمٍ معرَّشٍ باخضرارِ شموخِ النخيل، هل كنتِ يوماً نخلةً شامخة على ضفافِ دجلة، أم نغمة عشقٍ متدفِّقة من شفاهِ غيمة حبلى بنقاوةِ المطر، لهذا أراكِ تزرعين مرحَ الألوان فوقَ شوقِ الأزقة إلى براءةِ الأطفال؟!

تنسابُ ألوانكِ كأنها نسغ حروف معرَّشة في خفايا بوحِ القصيدة، انّي أقرأ تواشيح فرحٍ متماهٍ مع بسمة الطفولة، اصفرارٌ متراقص فوق جفونِ الليل، يتعانقُ مع خطوطٍ بنّية مرتكزة على أجنحة طيورٍ هجرَتْ بعيداً، تبحث عن أغصانِ أمانٍ تبني فوقها أعشاشاً، بعيداً عن الحماقات المفخّخة في قلوبِ المدائن، بعيداً عن جنونِ هذا الزَّمان، بعيداً عن ألسنةِ النيران المتاخمة لفراخِ العصافير.
 
تنبعث ألوانُكِ مثل شغفِ الغيوم إلى عناقِ المروج، ترعرَعَتْ مروج الرُّوح فوقَ قبّة الأحلام، فترعرَعَتْ معها أغصان اللوز فأزهرت الأغصان براعم ملقَّحة بعبير النَّارنج! 

طفلةٌ يجاورها طفلٌ، يبحثانِ عن طريقٍ يقودهما إلى معراجِ الأمان، تخلخلت أجنحة الأمّهات وهنَّ يبحثْنَ عن شواطئ الأمان، يبحثْنَ عن مزارٍ يزرعُ أملاً في القلوب، ويمحقُ ما تبقّى من جنونِ الصَّولجان!

تولدُ لوحاتُكِ مثلَ انسيابِ الدموع، تنفرشُ الألوان فوقَ غمامِ الرُّوح، فتسطع سنابل القلب ورعاً متوهّجاً كهودجِ أميرة تعبرُ هدوء الغابات، مطرٌ شفيف يهطلُ فوقَ أسراب اليمام، أحلامنا تشبه تناغماتِ لوحة تشهق مثل عاشقة مسترخية فوق أسرارِ ليلٍ حنون!

ترفرفُ ألوانُكِ كأنها أجنحةُ طيورٍ تحلِّقُ في أحلام الصَّباح، ثم تنامُ بينَ رفرفاتِ جموحِ القصيدة؟!

تنامُ القصيدة باطمئنانٍ بينَ مهجةِ الألوان، فتنمو فوقَ خدودِ القلبِ بسمة فرحٍ مندلقة من حفاوة النجوم، هل كنتِ يوماً ضياء نجمة ساطعة فوقِ أمواجِ البحار؟! تهفو ألوانُكِ إلى الطلِّ المتناثر في نضارةِ زرقةِ السَّماء!
ترسمين شعراً مقمّطاً بورعِ المحبَّة، محبَّة الوئام بين الكائنات، أي كائنٍ هذا الذي أراه؟ تسيل الدماء نحو بوّابات الجنون، جنون بعض البشر من تفاقمِ جشاعةِ الجشاعات. ماتََتْ حدائق الرُّوح قبل أن ترى النُّور. ماتَتِ الأحلامُ قبلَ أن تعانقَ انبعاثِ غيمة. لظى على مدى أحزانِ الفقراء، على مدى أحزانِ العشاق، على مدى فداحةِ الكثير من ايديولوجيات هذا الزّمان. ماتَت القيم عند أوَّل معبرٍ نحوَ جفونِ السماء! رؤى في مهبِّ الوباء، رياءٌ لا يضاهيه رياء!

وحده الشِّعر يموج شموخاً، فيه أبهى أنواع الوفاء، فيه أنقى ألوانِ الصفاء، تعالوا يا شعراء هذا العالم نزرع على وجه الدنيا أسرار القصيدة لعلها تنمو وتزهر لوناً بديعاً، حباً شامخاً على جبينِ البقاء!

أيّتها المضمّخة بورعِ الياسمين، رأيتكِ منذ زمنٍ بعيد، كنتِ منغمسة في وهجِ الألوان غير مكترثة لحنين الألوان إلى فضاءات القصيدة، رأيتكِ قبل أن ترفرفي في أحضان النُّور، قبل أن ترسمي مهاميز بوح القصيدة، قبل أن يتراقص قلبكِ على أجيجِ نارٍ متصالبة مع خشخشاتِ الرِّيح.

 تهفو ألوانكِ إلى نسيم اللَّيل، تحنُّ إلى أريجِ الأزاهير كأنها صلاة ناسكِ يتدفَّقُ عناقاً منساباً مع هفهفات حبرِ القصيدة، ألوانُكِ تروي عطش القصيدة، أحلِّق بانتعاشٍ عميق عبر تجليات بوح الحرف، كأني أنقشُ حرفي على ايقاعِ همهماتِ مطرٍ ناعم يتهاطلُ فوقَ نوافذ الرُّوح!

ترقصُ الألوانُ شوقاً إلى ظلال قلبٍ مقمَّطٍ بضياءِ ليلةٍ قمراء. هل راودكِ يوماً أن ترسمي لوحاتِكِ على ضوءِ شموعِ الرُّوح وهي ترنو إلى وهجِ الشَّمس في أوجِ حبورِ النسيم وهو يعانقُ أزاهيرَ مزدانة بابتهالاتِ السماء؟!
 
لماذا لا نرقص كلما يبزغ الصباح على أغاني فيروز وهي ترسم لنا معالم العبور في معراج السماء، حيث صفاء زرقة السماء تنتظر ولادات لوحة على إيقاع حلم مفتوح على انتشاء أغصانِ الروح، لماذا تفرُّ أحلامنا بعيداً عن أغصانِ وردةٍ مبرعمة في مآقي اللَّيل؟!

تعالي أرسمُكِ زهرة معبَّقة فوقَ أشواق غيمة متعطّشة للسنابل، تشبهين انسياب اللون فوق ينابيع بوح الرُّوح في أوجِ انعتاقها من جراحِ الحياة وفي أوجِ تجلياتها فوقَ سديمِ البساتين!

تلوذ ألوانك بعيداً عن سيوفِ المجانين، سيوفٌ مستلَّة فوق رقابِ الكهولة، كم من الشيوخ ماتوا من شراهة الصولجان، ماتوا في أعماق الصحارى هرباً من مجازرِ السلطان، ألوانكُ تنمو مثل أجنحة طائر، تحلِّق فوقَ عتمةِ الزنازين، تمحقُ الشرارات المتدفِّقة من غضبِ السجُّان، حلمٌ مبلَّلٌ بالأمل ينساب في تجاويف ألوانكِ المسترخية فوقَ أكتافِ المساءاتِ الحنونة، هل تدمعُ عيناكِ كلما يجرفكِ الحنين إلى مرابع الصبا، أم أنكِ تائهة في خضمِّ الألوان بحثاً عن هودجٍ يتهادى على إيقاعِ أمواجِ الرُّوح؟! روحُنا معتَّقة بالأنين!

تتأمَّلينَ قلبَكِ فيغدو كأنه شجرة متوهِّجة بأزاهير بنفسجيَّة، يتخلَّلُها احمرار شفيف، وخطوط ناعمة كأنها رذاذات مطر ناعم تتهاطل في بداية الربيع كي تغسل الغبار العالق في أغصان القلب، تبزغ خطوطٌ ذهبيّة كأنها بقايا ذكريات محفورة على شواطئ الحنين، تولد ألوانُكِ من شغفِ الطفولة المترعرعة على أرضٍ بكر، تنضح بموسيقى منبعثة من ثغورِ الجبال. فجأةً وأنتِ تطوفين في عوالم ألوانكِ، تتذكَّرين اليوم الذي رسمْتِ فيه الحرف الأول، تدمع عيناكِ ثم يجفل جفنكِ كأنّكِ في حالة حلميّة، تحلِّقين فوق غيمة نديَّة حُبلى بأسرارِ البحر.

سلالم متداخلة بألوان متناغمة مع فرح الأطفال، متعانقة مع صلبان موشّحة ببخور المحبَّة، وتجليات شوق الرُّوح إلى نصاعةِ الأمل عبر تكويرات بيضاء تتصاعد نحو أرخبيلاتِ الأزمنة البعيدة، أحلام اليقظة لا تفارق محطات العمر، ازرقاق متداخل مع توهجات بنفسجية ضاربة إلى اصفرار خفيف، يتخلله وشائج بيضاء مع خطوط متقاطعة مع كوابيس لا تمحى من مغائر الرُّوح، لماذا قلوبنا عطشى إلى ينابيع الزمن الآفل، كيفَ سنزيل كل هذه التكلُّسات الطافحة فوقَ مروجِ الحلم؟! حتّى أحلامنا لم تنجُ من انشراخِ الأيام!

قمرٌ يسطع فوق خمائل عاشقة حالمة بعودة النَّوارس المهاجرة إلى الشَّواطئ البعيدة، شعاعٌ من بين ثنايا بخورِ الشُّموع يغمر وجنة العاشقة الحالمة، هطلَ الفرح فوق براري الحلم، قبلتان موشومتان فوق خدَّي طفلٍ يهفو إلى خيوطِ الشَّمس، تتناثر ألوانكِ فوق عذوبة الليل كأنَّها بشرى خلاصٍ من أتون النار، تنزاح الأحزان بعيداً، تعبرُ شقوق الليل، تتوارى خلفَ شموخِ الجبال، تجرفها الرِّيح نحوَ أمواجِ البحرِ، تتلقَّفُها الأمواج دونَ وجلٍ، تسبحُ ألوانُكِ في رحابِ الفرح حيث الأمل يزدادُ سطوعاً عندَ انبلاجِ الشَّفق!

يتعانق بياض الحبِّ مع وهجِ الاحمرار بكل تدرُّجاته المماثلة لأجنحة اليمام، كأنه منارةُ قلبٍ مضمّخٍ بأسرارِ القصيدة، ألوانٌ وردية مبرعمة على ثغر نجمة معرّشة في معراجِ غربة مفتوحة على بوّابات الأمل. ريشة مغموسة ببسمة غيمة، ألوان مكتنزة بالمخاض، كأننا في انتظارِ ولادة طفلٍ في ليلةٍ معبّقة برذاذاتِ حبّاتِ المطر! لِمَ لا نفرش أجنحتنا تحتَ زخَّاتِ المطر، لعلَّنا نصفِّي أرواحَنا من شوائب السِّنين؟!

تواشيخ متداخلة بخطوط بيضاء شفيفة، تلتقي عند خفقة القلب، كأنها أجنحة فراشة متعانقة مع رفرفات فراخ الحمام، سهام مدبَّبة صغيرة تلامس شفاه وردة مكوَّرة عند برزخ القصيدة حيث أنغام قيثارة الرُّوح تصدح أثناء هبوط اللَّيل، هلالات بيضاء مزدانة بوبرٍ ناعم، كأنَّها شهقة موجة هائجة منبعثة من أعماقِ نفائس مرجان البحر. رفرف القلبُ مع هبوبِ النَّسيم، بهجةٌ منعشة منسابة مع تدفُّقات الخيال، تبدو عذوبة التواشيح كأنَّها رذاذات معبّقة بنكهة عسلٍ برّي تناثرَتْ رذاذاته فوق عذوبة الألوان.

أهزوجة فرحٍ تقمِّطُ عرش القصيدة، جنينٌ يسبحُ في غمارِ الألوان، على مقربة منه يضيء مسار قنديلِ الولادة، ولادة الأمل كلما تشرق الشمس، وكلما ينام الليل ملء جفنيه، يناغي القمر حنين الأمَّهات إلى أطفالهم المنبعثين نحوَ هلالات النُّور، حيثُ منائر الخير تشمخ كأشجار السنديان، آن الأوان أن ترحلَ أحزاني، أن تنمو في ضفافِ القلبِ وردة، أن أرسمَ هدهداً فوق جبينِ غزالةِ الرُّوح!

ينوحُ الليلُ من لظى البكاءِ، يبهتُ الحلمُ من احمرارِ مآقي الحزانى، يولدُ في عتمةِ الليالي بصيصُ أملٍ، الأرضُ خميرةُ الحياة، ملاذُ الكائناتِ، آبارٌ مليئة بالآهات، آهاتنا تغلغلَتْ في وجه الرِّيح فخضَّبَتْ أجنحة العصافير بشهوةِ الاشتعال. أينَ المفرُّ من شراهاتِ الاقتتال، من غدرِ السلاطينِ وموتِ أبهى الخصال؟!  لا بدَّ أن نزرعَ في قلوبِ الأطفال شموخَ الجبال، كي ينامَ الليلُ على هدهداتِ الابتهال!

تناغمات خطوط زرقاء شفيفة تتداخل مع تضرعات إنسان يحلم بعودة الوطن إلى سابق شموخه، وطنٌ برمتّه في مهب الانسلاخ عن مروج الحضارة، تصدَّعَتْ أبجديات الحضارة، تصدّعَت معالم الحرف، مالَت أبراج بابل من هولِ شراهاتِ الصولجان، ماتَتْ أجمل الأحلام، لاذت الكائنات ودبيب الليل بعيداً عن رؤى مفخّخة بالآهات، عبرَت الملايين سماء البحار، تبحث عن موطئ قدم، عن وسائد مريحة يسندون رؤوسهم فوقها، يحلمون أن يناموا مرة واحدة على خرزات ظهورهم دون أن يستيقظوا على أنينِ النَّار.

عجباً أرى، أولى الحضارات تتهاوى على تخوم البكاء، حضارةُ الحضارات في مهبِّ الاندثار،  مَن يستطيع أن يرمِّمَ الروح من هولِ الانشطار، من هدير البحار، هل سنعودُ يوماً وننامُ بهدوءٍ عميق تحتَ أشجارِ النخيل، بعيداً عن أبجديات الدَّمار؟!

الشّعر يطهِّرُ الرُّوح والقلب من جنونِ الصَّولجان، ويزرعُ أملاً في غدِنا الآتي من أخصبِ الألوان!



ستوكهولم: تمّوز (يونيو) 2010
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com



60
ردّاً على د. محمّد رحّال حول ترحيل الديبلوماسي السُّوري د. أيمن علّوش



 الأستاذ د. محمد رحَّال

تحيّة،

إنَّ ما كتبتَه ردَّاً لِما أثاركَ في مقال د. ناهد غزول بخصوص تداعيات ما حصل مؤخَّراً مع د. أيمن علُّوش القائم بالأعمال في السَّفارة السُّورية في ستوكهولم، قد فاجأني وأدهشني كثيراً لما فيه من ابتعاد عن الحقيقة وعن جوهر الموضوع، ولما فيه أيضاً من اقحام مواضيع وتشعُّبات عديدة ليست لها علاقة بالموضوع الأساسي والمتعلِّق بابنة السفير وتداعيات ما آلت إليه هذه القضية، والتي لا تمتُّ إلى العمل الديبلوماسي بقدر ما تمتُّ لقضية أسروية ممكن أن تحصل مع أي ديبلوماسي وأي إنسان عادي مهاجر أو مقيم، وممكن أن تحصل مع أبناء البلد الأصليين أيضاً، ولا أرى أية ضرورة أن يتم تضخيم الأمور إلى كلّ هذه الجوانب المتشعِّبة وتعقيدها، في الوقت الذي يجب الوقوف عند قضيَّة مصير الفتاة التي تمَّ تدمير مستقبلها ومستقبل أسرتها وتمَّ الإساءة إلى سمعة أبويها وأسرتها وكلّ هذا انعكس سلباً على الديبلوماسية السُّورية في الوقت الذي ليس لهذا الأمر صيغة مباشرة بالديبلوماسية فهي قضية تتعلَّق بكيفية التربية والعادات والتقاليد لكل مجتمع من المجتمعات، فكيف تحاسب د. أيمن علُّوش على موقفه وتُحمِّلُه أخطاء لم يرتكبها وتوجّه إليه كلمات جارحه ونابية وغير منطقية وغير مناسبة أن تصدر من قبل كاتب أو متابع يهتم بهذا الأمر، وليس لأنه ديبلوماسي، بل حتى ولو كان مجرد إنسان عادي، فكلامك وتحليلك ليس منطقياً ولا يعتمد على أسس قانونية ولا على أسس موضوعية دقيقة، ويبدو أنك تودُّ الاصطياد في المياه العكرة، بعيداً عن وضع النقاط على الحروف كما يجب أن تكون بل قمتَ بكيل التهم إليه، وتطرَّقتَ إلى بعضِ الأمور غير الصحيحة وغير الدقيقة، ثم وضعْتَ مقدِّمات وخرجْتَ لنا بنتائج غريبة وعجيبة حيث أراكَ تطالب القيادة السُّورية بمحاسبة د. أيمن علّوش، في الوقت الذي كان عليك وعلى كلّ متابع سوري أو شرقي أو حتى غربي موضوعي أن يطلب من القيادة السورية والديبلوماسية السورية بالتدخّل السريع والدفاع عن تبعات ما حصل وبالتالي الدفاع عن مواطنها وديبلوماسيها لما ترتَّبَ من إهانات ونتائج وخيمة على هذا الديبلوماسي البرئ من جرَّاء توجيه تهم كبيرة إليه والقضية لا تعدو عن كونها سوء تفاهم وسوء تقدير في الترجمة وفي صيغة التفكير ولم يضع الجانب السويدي سواء الشرطة السويدية أو أية جهة أخرى قامت برفع الدعوى القضائية ضد د. علوش، لم تضع بالاعتبار أنه ديبلوماسي سوري وليس ملزماً أن يخضع للقانون ولعادات وتقاليد السويد حتى ولو أنه على أرض مملكة السويد، لأنه ديبلوماسي، وكل حجة الجهات المعنية باتخاذ قرار ابعاده وترحيله أنه شخص غير مرغوب فيه في السويد نظراً لأنه أراد أن يعيد ابنته بعد انتهائها من مدرستها إلى بلدها سورية كي تعيش هناك ضمن عادات وتقاليد بلدها، وهذا التفكير وهذا التوجُّه ليس جرماً ولا جنحة ولا يمكن لأي عاقل على وجه الدنيا أن يترجم موقفه هذا على أنه سيرحِّلُها إلى سورية ثم سيذبحها أو يقتلها على حدِّ قول الصحافة السويدية المستندة إلى بعض الجهات السويدية بأنها سمعت مكالمات هاتفية بينه وبين سياسي سويدي من أصل سوري، مع أنَّ هذا السياسي قد تدخَّل بناء على طلب من جمعية "اليكترا" وإدارة المدرسة التي تدرس فيها ابنة القائم بالأعمال، كوسيط بين العائلتين، وكل ما قاله د. علوش عبر الهاتف كان يرتكزُ على أنَّه لا يريد لابنته أن تعيش في بلد يحمل هكذا توجّهات في كيفية تقرير مصير المراهقين والمراهقات، ويريد لابنته أن تعيش وتتابع دراساتها في وطنها الأم.

السؤال المطروح، أين يكمن خطأ الديبلوماسي عندما خطِّط لابنته عبر توجهاته التربوية التي تناسب عاداته وتقاليده وقوانين بلده، وقد التقى الشاب وأهله عن طريق جهات سويدية، جمعية "اليكترا" وإدارة المدرسة مع ابنة الديبلوماسي، والقائم بالاعمال وقال أثناء اللقاء أن ابنتي صغيرة الآن وهي بصدد متابعة دراستها، ولم يرفض حبهما ولا علاقتهما وأكَّدَ على ضرورة أن تتابع ابنته دراستها الجامعية كي تؤمن مستقبلها أولاً، وبعدئذٍ يقرر الشاب والشابة ما هو مناسب لهما. 

لهذا أقول يا أستاذ محمد رحَّال، أن مقالكَ الذي ردَّيتَ على د. ناهد غزول، ما كان أكثر من صبِّ جام غضبكَ على القائم بالأعمال، وكأنك كنتَ بصدد تصفية حساباتكَ معه، لغرضٍ في نفسِ يعقوب، منتهزاً الظروف المستجدة، والقضية لم تنتهِ بعد يا عزيزي كي تطلق أحكامكَ عليه، وماتزال الديبلوماسية السورية بصدد الردِّ على الجهات المعنية في السويد والديبلوماسية السويدية، وحول هذه النقطة أرى أن الديبلوماسيّة السورية قد تأخَّرت كثيراً في الردّ لوضع النقاط على الحروف وتسوية مستجدات ما حصل مع الديبلوماسي السوري ولكن كما هو معلوم لدى الجميع أن وزير الخارجية السوري وليد المعلم، المعهود بهدوئه وصبره ـ على الأرجح ـ يخطط بهدوء ورويَّة للرد المناسب ونحن أغلب الجالية السورية بانتظار الرد المناسب ومعالجة هذه القضية الأسروية والتي تفاقمت وتطوَّرت خلال أيام معدودة وصعَّدَت الجهات المعنية في السويد الموقف بدون أي مبرِّر  موضوعي إلى أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وبكل بساطة ما كان هناك أية ضرورة لكل هذه التطورات وخلق أزمة ديبلوماسية بين بلدين على موضوع أسروي عادي وممكن أن يحصل في كل يوم في أي بيت سوري أو شرقي مهاجر، لأن ابنة السفير كانت تواظبُ دوامها بشكل طبيعي، وتمارس حياتها بشكل طبيعي، وقد سبق أن التقت العائلتان عن طريق إدارة المدرسة وبحضور جمعية "اليكترا" كي يحلُّوا الاشكالات بين العائلتين كما ذكرت منذ قليل قبل نهاية آذار الماضي، وقال الديبلوماسي لأهل الشاب وللشاب أن ابنته ستتابع دراستها وهي صغيرة الآن لموضوع الزواج، ولنترك هذا الأمر للمستقبل، ثم استمرَّت الفتاة من حينها تداوم دوامها في المدرسة كالمعتاد دون أية مشكلة تذكر، وكان والدها يود أن تتابع دراستها إلى أن تنتهي من دراستها الثانوية، ولكن بكل أسف تم حجزها في يوم الاثنين من المدرسة تاريخ: ( 10 . 5 . 2010 ) ولم تتمكن فعلاً من التقدم إلى بعض موادها كي تمتحن بها، ولم يسمحوا لها بالتقدم للمواد الباقية فيما بعد!

وهنا أتساءل: لو كان في نيّة الديبلوماسي أن يرحِّل ابنته في حينها ويخطط لاختطافها كما قالت الصحافة السويدية بناء على كلام الجهات السويدية المعنية بمتابعة هذه القضية، لماذا أرسل الوالد ابنته إلى المدرسة بكل حريتها ومعها موبايلها وحقيبتها وكتبها وأقلامها ووظائفها وودَّعت أهلها من المنزل وهي في طريقها إلى المدرسة، لماذا لم تترك الشرطة السويدية أن تتقدم الفتاة لامتحانات المواد التي كان عليها أن تتقدمها في ذلك اليوم وبقية المواد لاحقاً، وتحميها من الاختطاف المزعوم من قبل والدها! لماذا الجهات السويدية المعنية بهذا الأمر قامت بدور أشبه ما يكون بالاختطاف؟!

أين هي الفتاة الآن، هل تعيش مع صديقها الذي كان يحبها، هل معالجة قضايا الشباب والمراهقين تتمُّ بهذه الطريقة المؤذية للطرفين؟ إذا أحبَّ كل مراهق في السويد وفي أوربا فتاة ما وتمَّت معالجة مشكلته ومشكلة المراهقة بهذا الشكل ويتم طرد آبائهم سواء كانوا ديبلوماسيين أو من عامّةِ الناس، سنجد آلاف بل ملايين الآباء المهاجرين مرحَّلين ومطرودين من أوربا إلى بلدانهم، وبناتهم موقوفات ومحجوزات لحمايتهم من آبائهم، وسنقع في أزمة عالمية في قضية أقل ما نقول عنها قضية تتعلق بنزوات المراهقين وحب عابر، وهكذا نزوات وحب عابر لا يمكن حله بهذا الشكل الاستفزازي والتصعيدي وإلا سيكون أغلب مراهقي ومراهقات المرحلة الثانوية، من بنات وبنين المغتربين محجوزين وآبائهم مطرودين من البلاد، فهل بهكذا توجّهات وهكذا اجراءات سنحلُّ المشاكل الناجمة عن العلاقات العاطفية بين المراهقين والمراهقات؟!

ولماذا تمنع الجهات التي حجزت الفتاة من أن تلتقي بوالديها أو تتواصل معهم كل هذه المدة، ألا ترى أن هذا الحجز وهذا المنع مخالف للقانون ومخالف لحقوق الفتاة نفسها، فلماذا تصرَّفت الجهات المعنية كأنها أداة ديكتاتورية قمعية، لا تفيد الفتاة ولا أهلها ولا تفيد الشاب نفسه ولا تفيد حل المشاكل على أي صعيد كان بل تعقده تماماً؟!

 برأيي على الدولة أية دولة في أوربا أو في أيّة دولة من العالم، أن تؤمِّن الجو الهادئ للمراهق وللمراهقة لتقديم امتحاناتهم ومعالجة قضاياهم العاطفية والعائلية بهدوء وبشكل إيجابي وليس بممارسة اجراءات غير مدروسة ومدمَّرة لكل الأطراف، لأن أهل الشاب أيضاً تعرَّضوا بشكل أو بآخر إلى موقف لا يُحسدون عليه لأنهم تسببوا بأزمة ديبلوماسية بين السويد وسورية، وهم بما فيه الشاب قلقين على مصير ومستقبل الفتاة وابنهم.
 
كيف نطلب من ديبلوماسي ليس لدى ابنته في السويد سوى أقل من سنتين أن تكون مثل المراهقة السويدية في كل شيء، هذه الأمور تحتاج إلى وقت وإلى قناعات وطرق تربية وتوجهات تتعلق أحياناً بالعادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات وتفاصيل عديدة أخرى ولا بدَّ من مراعاة كلّ هذه الأمور كي لا يقع المجتمع الغربي في إشكالات ومواقف محرجة هو بغنى عنها عندما يحلها بهذه الطريقة التي أقدم عليها، حيث أنني أرى أن الجانب السويدي تسبَّب في أزمة ديبلوماسية بين مملكة السويد وسورية، في الوقت الذي ما كان يتطلَّب الأمر كلّ هذه الإجراءات، لأن فعل خطف الوالد لابنته لم يتم، وفعل القتل والذبح المزعوم لم ولن يتم، فأين هي جريمته عندما يحدد طريقة لحياة ومستقبل ابنته وأولاده، خاصَّة لأنه ديبلوماسي ويعتبر كأنه على أرض بلده ولا يخضع لقوانين السويد في توجيه أولاده وأسرته، لأن هذا التوجه ليس له أية علاقة بالديبلوماسية السويدية السورية أصلاً،  بقدر ما يتعلَّق بوضع تربوي أسروي خالص.

 أتساءل لو كان الديبلوماسي الذي تعرَّض لهذا الأمر هو ديبلوماسي ياباني أو صيني، أو ديبلوماسي أميريكي أو ألماني، هل كانت الشرطة السويدية ستحجز ابنة الديبلوماسي وترحّل الديبلوماسي خلال 48 ساعة من حجز ابنته، دون أن تسمح له حتى بلقاء ابنته ودون أن تسمح له بالدفاع عن نفسه؟ الجواب، هل من المعقول أن تسبب الدولة السويدية أزمة مع هكذا دول من أجل موضوع يتعلق بحب المراهقين، مع أن المراهقين كانا يلتقيا وكانت الفتاة تداوم بشكل طبيعي فلماذا كل هذا الضجيج والاعلام السويدي وترحيل القائم بالاعمال وترحيل الأم والعائلة كلها؟

برأيي أن الاجراءات التي تمّت بهذا الخصوص من الجانب السويدي كانت غير موفَّقة في كيفية حلِّ الموضوع، ابتداءاً من حجز الفتاة ومروراً بترحيل الديبلوماسي ثم زوجته وأولاده وانتهاءاً بما آلتْ إليه الأمور، لأنَّ كل هذه الاجراءات لم تعالج الأمر بل عقَّدته تماماً وكلّ هذا دمَّر حتى علاقة الشاب مع الشابة، لانهما وجدا نفسيهما تسبَّبا بأزمة ديبلوماسية بين دولتين، ولو سألنا الفتاة هل أنتِ راضية بنتائج ما حصل، هل توافقين بالاستمرار مع صديقك ضمن هذا الإطار وبهذه الطريقة، الجواب: لتسمحْ لنا الجهات السويدية أن نسمع رد وكلام الفتاة في المحكمة أو على الهواء مباشرة أو عبر الصحافة أو عبر وسائل الاعلام، ولو سألنا نفس السؤال للشاب ماذا سيكون رده وهو يرى أزمة ديبلوماسية قائمة بين بلدين؟! ولو حوِّلنا هذا السؤال إلى الرأي العام السويدي إزاء كل ما حصل فهل سيبقى مع الموقف والاجراء السويدي أم مع حل المشكلة بشكل سلس وهادئ دون تصعيد المواقف إلى درجة ترحيل القائم بالاعمال وبالتالي خلق أزمة ديبلوماسية بين بلدين؟!

لماذا لم تسمح الجهات المعنية بالأمر أن تلتقي والدة الفتاة بابنتها خلال فترة حجز الفتاة، في الوقت الذي ما كانت متَّهمة بأية تهمة، هل الديمقراطية السويدية العتيدة تمنع أمَّاً من أن تقابل ابنتها لتطمئن عليها في مثل هذه الظروف؟ هل هذا موقف إنساني أو قانوني؟!
 هل هذا وارد حتى في العصور البربرية؟!!!

أستاذ محمد رحال، تقول عن الديبلوماسي السوري أنه خطير، ويدير عصابة متكاملة حيث أن ابنته: "أخبرت الشرطة السويدية بأنها تتعرَّض للتهديد بالقتل من قبل عصابة متكاملة يديرها أباها بعد أن اختارت عشيقها". ثم تضيف قائلاً : "ووالدها يعلم انها كانت تقابل ذلك العشيق وبكل حريتها".

لو نظرنا إلى ما تقوله هنا لوجدنا تناقضاً وتبايناً واضحاً فيما تقول، فما هذه الخطورة التي يشكِّلُها على ابنته طالما كانت ابنته تقابل وتلتقي مع صديقها ـ "وليس عشيقها يا أستاذ!" ـ بكامل حرّيتها، ولو دققنا في هذه الجملة لوجدنا أنه لا ضرورة لكتابة مقالكَ برمّته، لأن اقرارك وتأكيدك بأن ابنة الديبلوماسي كانت تلتقي بكل حريتها مع صديقها يؤكِّد فعلاً أنه كان أباً حضارياً وعملياً في تعامله مع ابنته وكانت تمارس حريتها ضمن الأصول المتعارفة عليها في مثل سنها، وبالتالي أستطيع القول من خلال تصريحك هذا أنّه ما كان يشكل أي خطر على ابنته طالما كانت تمارس حريتها بشكل طبيعي حتى آخر يوم من حجزها من قبل الشرطة السويدية!

إذا كنتَ يا أستاذ محمّد قد تأثَّرتَ على حدِّ قولكَ لهذا الخبر المفجع عندما قرأتَه في الصحافة السويدية، فلماذا كل هذا التهجُّم على شخص د. أيمن علوش، فأين هو تأثُّركَ وأنتَ تصفه بصفات لا تليق به نهائياً؟ تبدو متناقضاً مع نفسكَ تناقضاً كبيراً، فتارة تقول، تأثرنا بالخبر المفجع وتارةً أخرى تقول أنه يدير عصابة، مَن يقرأ مقالكَ يخيَّل إليه وكأنك تتحدّث عن موضوع آخر وشخص آخر غير الشخص والمشكلة التي نحن بصددها الآن!

أية قوانين تتحدَّث عنها يا أستاذ؟ هل لا يحق للأب في سوريا أن يقول لمَن يتقدم لابنته أن ابنته صغيرة وستتابع دراساتها، هل لا يستطيع الأب في سورية أن لا يوافق على زواج ابنته عندما تبلغ الثامنة عشرة ويخطط لابنته بمتابعة دراساتها كما يناسب ابنته، ثم أن الفتاة ليست في وارد الزواج في هذه المرحلة، ولا يوجد مشكلة بالأساس، فلِمَ كلّ هذه الشوشرات والضجة الاعلامية وتشويه سمعة العائلة والفتاة والديبلوماسي والديبلوماسية السورية، والخلاف لا يستحق سوى أن يناقش والدَي الشاب والفتاة سواء بشكل مباشر أو عبر الجهات المعنية بهذا الخصوص في السويد لحل الاشكال إنْ وُجِد، لأن لدينا مشكلة ويجب حلها بشكل سلس وهادئ لا بحجز الفتاة وترحيل الديبلوماسي ومنعه ومنع زوجته  من اللقاء بابنتهما. إن القانون في السويد يسمح لأي أب أو أم من اللقاء بابنتهما، فلا يوجد جرماً لا من جهة الفتاة ولا من جهة الأبوين فلماذا كل هذه الممانعة والاقصاء والترحيل، طالما حيثيات الأمور كانت تسير بشكل طبيعي؟ يبدو أن الجهات التي قامت بهذه الإجراءات تشعر بالخطأ فلا تريد أن تبرز أخطاءها، لهذا رحَّلتْ الأب ثمَّ الأم والعائلة كلها، ولكنها نسيَتْ أن القضية ما تزال مفتوحة ولا بدَّ من وضع النِّقاط على الحروف من خلال محاكمة عادلة لكل جزئية وقرينة في حيثيات هذه القضية من كلا الطرفين. 
 
كيف استنتجْتَ يا أستاذ رحّال، أن الديبلوماسي السوري د. أيمن علوش ما كان مؤهَّلاً للمنصب الذي تم تعيينه فيه، بالعكس تماماً فالكثير من الجالية السورية يراه جديراً أن يكون وزير دولة أو سفيراً على أقل تقدير، لما لديه من حصافة وهدوء ومؤهّلات رفيعة للقيام بمهامه بأفضل صورة وتقديم الخدمة لأي مراجع وقد كان يتابع كل صغيرة وكبيرة لمعالجة مشاكل وهموم الجالية السورية بأريحية كبيرة، وقد كان أكثر الديبلوماسيين السوريين المعيَّنين في السويد نشاطاً وخدمة للجالية السورية، ولم يراجعه مراجعٌ إلا ولبّى طلبه بصبر وهدوء ومتابعة دقيقة وسلسة، لهذا ودّعه عميد السلك الديبلوماسي العربي والكثير من الديبلوماسيين والشخصيات الهامّة من بلدان متعدِّدة في مطار ستوكهولم.
 
وبعد كل هذا، لماذا على الحكومة السورية أن تعتذر من شعب السويد، أنا أرى يا د. رحّال العكس تماماً، حيث يتوجَّب على الجهات المعنية بالسويد التي تسبَّبت بصيغة أو بأخرى بأزمة ديبلوماسية من أجل موضوع أسروي لا يستحق نهائياً معالجته وتضخيمه بهذا الشكل ممَّا تسبَّبت بأزمة ديبلوماسية وإساءة كبيرة للسفارة وللجالية السورية في السويد وكل هذا ما كان له أية ضرورة لأن الأمور كانت محلولة وتسير بشكل طبيعي فلِمَ كل هذا التصعيد والتضخيم، فعلى الذي صعَّد الأمور والمواقف أن يخمدها ويعيدها إلى وضعها الطبيعي ويقدِّم اعتذاره لمَن أخطأ بحقهم.

أراك تدخل الحابل بالنابل بشكل سافر وعارٍ عن الصحة، حيث أن القائم بالأعمال لم يقُمْ بجمع التبرعات له باسم غزّة، بل جمعَ تبرعات باسم السفارة لأهل غزّة، وكل مَن تبرّعَ أسمه مدوّن وبالأرقام، وتزوّد المتبرع بوصل عن المبلغ الذي تبرعه، وهذا الأمر يدل على أن الديبلوماسي تضامنَ مع محنة اخوته في غزة ولم يمتعض منه الجانب السويدي ولا زملاؤه الديبلوماسيين، ولماذا أصلاً أبلغتَ نائب وزير الخارجية فيصل مقداد على عملٍ محمود قام به القائم بالأعمال بجمع تبرعات لأهل غزة، أين الخطأ فيما قام به د. علّوش، وبأية صفة تطلب من نائب وزير الخارجية، محاسبة القائم بالأعمال على عملٍ انساني؟ عليك التأكد أولاً ممَّا تنقله يا أستاذ، وثانياً عليك أن تحترم الذين تخاطبهم، ولم تكتفِ بطعن القائم بالأعمال وهو يساعد أهل غزة، بل بدأتَ تكيل التهم والتهجم على شخص نائب الوزير نفسه، وكيف عرفتَ أنه لم يقم بالتحقُّق ومتابعة هذا الأمر ولا تنسَ أنه يعرف كل شيء حول هذا الموضوع ولم يرَ ما يسئ للديبلوماسية السورية على الإطلاق، وأي تحقيق سيقوم به طالما الأمر يصبُّ في خدمة ومساعدة أهل غزة المنكوبة، أصلاً تبليغك لنائب الوزير في هذا السياق هو خطأ كبير في حقِّ القائم بالأعمال وبحق نائب الوزير نفسه، ولم تكتفِ بهذا بل رحتَ تعتبر إعادة رسالتكَ إلى القائم بالأعمال وقاحة من قبل نائب الوزير في الأداء الديبلوماسي.
ما هذا التهجم على نائب الوزير فيصل مقداد، أتساءل، مَن أنتَ كي تحاسب الديبلوماسي تارة ومعاون الوزير تارة أخرى، وما علاقة كل هذه الأمور بالقضية الأساسية التي نحن بصددها وهي كيفية معالجة وضع الفتاة وحجزها من قبل الشرطة السويدية.

عن أي شي تتحدَّث، وما هذه اللغة الفوقية التي تحلِّل بها الأمور، وكيف تتوقَّع من رئيس الجمهورية أن يحيل ديبلوماسيه إلى محكمة وتنعت هذه الديبلوماسي بصفة (التفاهة)، إنك تتحدَّث بلغة غير مهذّبة نهائياً، وما تقوله يحيلكَ إلى محاكمة أكثر ممَّا قاله د. أيمن علوش في كل ما جرى في هذه القضية، فكيف حضرتكَ يا أستاذ تطلب أو تتوقع من رئيس الجمهورية أن يحاكم ديبلوماسيه وأنتَ تسبُّ وتشتمُ هذا الديبلوماسي والقضية ما تزال مفتوحة وغير منتهية بعد، ألا ترى أنك في موقع المحاسبة والمقاضاة فيما تتفوَّه به من شتائم وتشويه سمعة ديبلوماسي ما تزال القضية في وضعه قيد الدراسة والمحكمة عاجلاً أم آجلاً ستبتُّ في كل حيثياتها وعندها سنرى مَنْ أخطأ بحق مَنْ وعلى ضوء النتائج ممكن مطالبة الجهات المعنية هنا وهناك محاسبة المخطئ والمسئ، وأمَّا أن تطلق كلامك على عواهنه وتتهمه اتهامات باطلة فهذا إن دلَّ على شيء إنما يدلُّ على أنك غير ملمّ بجوانب القضية من جهة وجلّ تركيزك منصب على الانتقام والتشهير بشخص د. أيمن علوش من جهة أخرى، لأنَّكَ غير مستند في سياق كلامك على المنطق والموضوعية والحقيقة والحجج القانونية. لهذا أرى أنكَ أخطأتَ كثيراً في ردِّكَ على د. ناهد غزول، وجاءت ردودك انفعالية، غاضبة وبعيدة عن الحقيقة وتفتقر للرؤية الموضوعية والقانونية.

أية فضيحة هذه التي تعتبرها على المستوى الأوربي والعربي، التي تتحدَّث عنها يا أستاذ رحّال، إن الموضوع وما فيه ليس له علاقة بفضيحة من جانب الديبلوماسية السورية بقدر ما هو فضيحة من جانب تعامل الجهات السويدية في معالجة القضيّة، ولا علاقة لها بالديبلوماسية بقدر ما لها علاقة بحب مراهقين، فلماذا تعطي للموضوع حجماً كبيراً وهو لا يعدو عن كونه سوء فهم وتفاهم في كيفية حلّ المشكلة، والجانب السويدي هو الذي صعّد الموقف وليس الجانب الديبلوماسي السُّوري، فعليك التأكُّد ممَّا تقول ثم بعدها حاسب المسيء في الفضيحة التي نبعت من سوء تصرف المعنيين السويديين بحلِّ هذه المشكلة، وإلا لماذا لم يتم السماح لأم الفتاة واخوات الفتاة من اللقاء بالفتاة، أين هي الإنسانية التي تتحلَّى بها دولة السويد المعروفة بديمقراطيتها وحريتها وإنسانيتها وأين هو القانون السويدي المعروف برعايته لحقوق الأمومة والأطفال وحقوق الأسرة؟! إني أرى أن هناك خرقاً للقانون بشكل فاضح وواضح من الجانب السويدي، عندما تمنع بعض الجهات السويدية المعنية بهذا الخصوص من لقاء أم بابنتها وأخوات بأختهم.

كيف تستطيع أن تثبت أن الديبلوماسي د. أيمن علوش هو متطفِّل على السياسة، ثم تطلب من رئيس الجمهورية محاسبته ومحاسبة من رشّحه لهذا المنصب؟ يا عزيزي يا أستاذ رحَّال، الجهة التي رشّحته لهذا المنصب هي الحكومة ذاتها التي تطلب منها محاسبة الديبلوماسي ومحاسبة مَن رشَّحه وكأنكَ بسؤالك هذا تطلب من الحكومة محاسبة ذاتها.

ما هي دلائلك وقرائنك على أن د. أيمن علوش هو "مجرم وسادي وأرعن"، ما هذا الكلام، هل نحن في حلبة أو في حالة حرب كي تكيل له التهم جزافاً، حتى في حالات الحروب والصراعات أو الخلافات الفكرية، يتوجّب على الصحافي والكاتب أن يوزن كلامه بميزان الموضوعية والمنطق والحق والقانون ثمَّ يوجّهه للآخرين، لأنه مسؤول عن كل كلمة يقولها أو يدوّنها، عموماً سنرى عاجلاً أم آجلاً من هو المخطئ والمسيء أثناء إصدار الحكم والبتّ في هذه القضية. لماذا تطعن بشخصه وتنعته بصفات بذيئة وتشتمه قبل البتِّ في قضيته، تفضّل حلِّل وشخّص وفنَّد حيثيات الأمور بدون سِباب وشتائم، هذا أسلوب الضعفاء وليس أسلوب الكتَّاب والمحلِّلين والنقَّاد النزيهين.

بعد قراءتي لما كتبتْه د. ناهد غزّول، وجدتُ انها كانت حيادية وموضوعية إلى حدٍّ كبير، وعندما قرأت ردّكَ عليها وجدتُ أنَّكَ تتجنّى عليها وتكيل التهم والشتائم للقائم بالأعمال بدون أي وجه حق، وخرجْتَ عن الموضوع الجوهري والذي يتمحور حول حجز الفتاة ومنعها من اللقاء بأهلها وذويها، لأن جوهر الموضوع هو كيفية معالجة وضع الفتاة وعلى ضوئها سيتبين مَن أساء لمَن وسيتبيَّن لنا أيضاً هل كان د. أيمن علّوش بريئاً ونزيهاً، وهل سيتم اعادته هذه المرَّة سفيراً إلى السويد أو لدولة أخرى أو ترقيته إلى وزير دولة لما يتحلّى به من مؤهِّلات راقية وثقافة واسعة وله مواقف وخدمات قدَّمها للجالية السُّورية منذ تعيينه ديبلوماسياً قائماً بالأعمال باخلاصٍ كبير حتى آخر يوم كان على أرض مملكة السويد، لهذا أغلب الجالية السورية التي تعرفه والتي سمعت به من خلال الجالية نفسها كوّنت انطباعاً جيداً عنه، ممّا أغاظ الجالية وأزعجها جدّاً ما حصل للديبلوماسي لسببٍ لا يستحق كل هذه الاجراءات والتهويل والاعلام، وكان على الجهات السويدية المعنية معالجة ومتابعة هذه القضية بتعقّل وحكمة وبهدوء وبشكلٍ حضاري وراقي يليق بالديبلوماسية السويدية والسورية على حدٍّ سواء.

 نعم من حقّكَ يا أستاذ محمّد ومن حقِّ أي مواطن وأي إنسان أن ينتقد أي وضع مخلّ بسلامة الوطن، أي وطنٍ كان، ولكن ليس من حقِّكَ أن تتهجَّمَ على أيِّ إنسان أو مواطن بحسب تحليلاتكَ وتصوُّراتكَ إن لم تكُن موضوعية ومستندة على حيثيات قانونية، وقبل أن تطلق اتَّهاماتكَ وسيل شتائمكَ على الآخرين، عليك يا أستاذ أن تتأكَّد من مصداقية كل كلمة توجّهها إلى كاتبة المقال وإلى د. أيمن علوش، وإلا فإن أيةَ كلمة تقولها ويقولها غيرك في حقِّ أي مواطن أو إنسان كائناً مَن كان، تحمّلكَ مسؤولية ما تقوله بشكل قانوني، وممكن بموجبها أن يقاضيك ويقاضي كل من يتطاول عليه وعلى أي انسان مظلوم، لأن الكتابة مسؤولية، والمسؤولية التزام أمام القانون المدني والقانون الأخلاقي والمهني أيضاً.


صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

sabriyousef1@hotmail.com


61
رحلة تَكريم الشَّاعِر نينوس آحو في السّويد وبلجيكا



حلَّقَ النَّسرُ عالياً من أقصى أقاصي المحيط الأطلسي (13 نيسان2010)، حتى أوشكَ أن يعانقَ نداوة غيمة مكلَّلة بالمطر، عَبَرَ قبّةَ السَّماء حاملاً بين جناحيهِ شعراً معبَّقاً بحصادِ السِّنين، وجهٌ مضرّجٌ بالعطاءِ والصَّفاءِ والبقاءِ، بقاءٌ على جدارِ الزَّمن، شموخٌ مرفرف الأجنحة، رؤى مستنبتة من حبقِ المحبّة، مخضَّبة بحوارٍ معرَّشٍ في سموِّ الرُّوحِ، بحثاً عن نضارةِ العطاءِ في معراجِ الحياة!
 
جمحَ النَّسرُ عالياً، ناثراً حبره فوقَ مآقي الأجيال كأنّه وشمٌ مطرَّز على جبينِ شعبنا، هطلَ علينا من أرخبيلاتِ أحلامنا البعيدة، أحلامٌ منسابةٌ من وهجِ حضارةٍ معرّشةٍ بأغصانِ حدائق معلَّقة بمنارة السَّماء، يجاورها أُسُوْدٌ مجنّحة كأنّها منبعثة من شموخِ الجبال، مشبّعة بحبّاتِ الحنطة، حضارةٌ مجذّرة في أعماقِ الأصالةِ والنبوغ، كأنّه تشرَّبَ شموخَ وعنفوانَ آشور بانيبال وتدفّقات مار أفرام السّرياني في أوجِ تحليقاته الشّعرية.
 
نينوس آحو، أيّها الوجه الحضاري الموشَّح بأبهى ألوانِ الحضارة، أيّها الطائر المنبعث من الرَّماد رغم أنفِ مرصرصيِّ الرَّماد، أيُّها الحرف المتدلّى من رحيقِ نبتة الخلاص، خلاصنا من دياجير الظلم والقهر والطُّغيان، أهلاً بكَ في سماءِ ستوكهولم، في سماءِ الحرّية، حيث أقرَّ واعترف برلمانها بمذابح السَّيفو التي ناضلْتَ أنتَ ورفاقكَ كثيراً إلى أن وصلتم إلى هذا الانتصار والاعتراف، آملين أن تَسْري هكذا اعترافات في البرلمانات الأوربية الأخرى والعالميِّة، إلى أن يأخذ شعبنا وكل الشُّعوب المتضرِّرة من مذابح السَّيفو حقوقها كاملة.

جميلٌ أن يُكرَّمَ المبدعون وهم أحياء، هذا تقليد رائع، وقد سبق وتمَّ تكريم الشَّاعر نينوس آحو (العام الفائت) من قبل هيئة (سيفو سينتر) واتحاد الأندية الآثورية في أوربا، والنادي الآثوري في (كوترسلوه) والنَّادي الآثوري في هولندة، وهذه الأيام (18 نيسان) تمَّ تكريمه من قبل هيئة السَّيفو والأندية الآثوريّة في (يوتوبوري) حيث التقى مع محبّيه وأصدقائه وطلابه ورفاقه في النِّضال، وتحدَّث مسؤول (سيفو سينتر) الأستاذ صبري أطمان، مشيداً بالجهود الكبيرة والعطاءات الخلاقة التي قدَّمها نينوس آحو لشعبه عبر نضاله الطويل.
 
يعتبر نينوس آحو قامة سامقة في مضمار رسم معالم مستقبل شعبنا، وهو من المؤسِّسين الأوائل للتنظيم الآثوري، ويمتاز عن غيره بالمرونة والقدرة على الحوار وتقبُّل الآخر، لأنَّه يرى أنَّه عبْرَ الحوار ممكن أن نصلَ إلى أهدافنا جنباً إلى جنب مع كافَّة مؤسَّسات شعبنا، على أن نجد قواسم مشتركة للنضال، لهذا فقد كان من أوائل الَّذين طرحوا فكرة الحوار مع التنظيمات والمؤسَّسات الأخرى غير الآثورية، لأنَّه يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من شعبه، وكلّ هذا من أجلِ لملمةِ هذا الشَّعب تحت مظلّة مشتركة قوامها النِّضال المشترك، كل بحسب موقعه، بحيث أن نحقِّقَ طموحات وتطلُّعات شعبنا وكي نشكِّل قوَّة في تعاوننا المشترك، لا أن نظلَّ منغلقين على ذواتنا ففي انغلاقنا يكمن تشتُّتنا وضعفنا وتأخُّرنا وتقهقرنا ويسهل النَّيل منّا من قبل خصومنا.

وقد تكلَّم الأستاذ ألياس شاهين عن نضال الملفونو نينوس آحو، مؤكِّداً على ضرورة احترام الشُّعوب لكتَّابها ومفكِّريها وشعرائها لأنهم ضمير الشَّعب وعلى أكتافهم يتم بناء المستقبل، معتبراً نينوس آحو نعوم فائق عصره من حيث تفانيه وعمله الدَّؤوب في خدمه شعبه منذ بداياته وحتى الوقت الرَّاهن.

كما تحدَّث السيد كبرو يونان وهو أحد طلاب الملفونو نينوس آحو عن الفترة التي إشتغل فيها بالتدريس في ثانويات القامشلي مؤكِّداً على حبّه لبني شعبه ومحاولته الدائمة أن يكونوا قدوة ومن الأوائل.
ثمَّ تقدّم الشَّاعر نينوس آحو إلى منصّة المحبّة، ومسرح الفرح الذي كان بادياً على سيماء الجميع، فأستقبله الأحبة بالتَّصفيق المتواصل، فرحٌ غامرٌ ملأ قلب الشَّاعر، وشعور بالانتشاء تغلغل إلى عوالمه، وشعر أثناءها أنه يقطف ثمار نضاله الطويل، حيث محبَّة جيل رفاقه والجيل الصاعد واللاحق هي أكبر تتويج وأكبر تكريم على وجه الدنيا، وفي نهاية حديثه قدَّمَ بعض القصائد الشعرية التي ألهبَتْ مشاعر الحضور، فقابله الجمهور بتصفيق حارّ على إيقاع دفءِ القلوب. ثمَّ تحدَّث السيد ابروهوم اسطيفو باسم الشبيبة الآثورية، معتبراً آحو رمزاً وقدوةً يُحتذَى بها. كما شارك في الأمسية التكريمية الفنان نينيب عبدالأحد في تقديم بعض الأغاني من كلمات نينوس آحو.
حفلُ تكريمٍ طافحٍ بالشِّعرِ والغناءِ والأمل.
 
... واستضاف النادي الآثوري في لينشوبينغ بتاريخ (19 نيسان)، الشَّاعر نينوس آحو ليقدِّمَ محاضرة حول تجربته الأدبية والنضالية الفسيحة في الحياة، ولبّى الدعوة ونالت المحاضرة استحسان الحضور.

وفي (23 نيسان) تمَّ إقامة ندوة مفتوحة إحتفاءً بالشاعر نينوس آحو، من قبل لجنة ضمّت مجموعة من الكتاب والشعراء والفنانين والمهتمِّين بقضايا الأدب والثقافة وبقضايا وهموم شعبنا بمختلف تسمياته، وهم (صبري يوسف، مارسيل منيرجي، حبيب موسى، كابي سارة وآخرين). وفكرة هذه الندوة المفتوحة تعود للسيدة مارسيل منيرجي، حيث اتصلَتْ معي بخصوص إقامة ندوة خاصَّة بالشاعر نينوس آحو، فوافقتُ على الفكرة ثم خطَّطت لمناقشة الخطوط الهامَّة لهذه الندوة، فأحببتُ أن أتوِّج نضالات ومواقف وتطلُّعات الشَّاعر الفكريّة والنضاليِّة، لأنه بالأساس له توجُّهات للحوار مع الآخر منذ زمنٍ بعيد، وبعد عدَّة اتصالات مع نينوس آحو نضجت الفكرة التي اقترحتْها مارسيل منيرجي، وقد سبق لها أن اقترحت منذ سنوات فكرة تأسيس اتّحاد الكتاب والفنانين (السريان الآشوريين الكلدان)، وبعد عدة اجتماعات قمتُ بالتنسيق مع بعض مؤسِّسي فكرة الاتحاد بصياغة الخطوط العريضة لهذا التوجه، ونال في حينها استحسان الكثير من المثقفين والشعراء والفنانين والكتاب، لكننا وجدنا أنفسنا آنذاك أمام مشكلة كبيرة هي التسمية التي أخذت تفرِّقنا وأصبحتْ حجرة عثرة في طريقنا وطريق الكثيرين الَّذين أرادوا الاشتغال على التوجُّهات التوحيدية لصفوف شعبنا بكلِّ تسمياته، فأجَّلنا الأمر إلى أجَلٍ غير مسمّى، وهكذا أحبَّتْ مارسيل منيرجي أن تحيي من جديد فكرة تأسيس اتحاد الكتاب والفنانين من خلال الندوة المفتوحة التي خطَّطَتْ لاقامتها بمناسبة قدوم الشاعر نينوس آحو إلى السويد وتكريمه من قبل هيئة (سيفو سينتر) واتِّحاد الشبيبة الآثوريّة والأندية الآثورية، حيث جاء تتويجاً لما حقَّقه البرلمان السويدي من انتصار لحقوق الشعب السرياني الآشوري الكلداني بالاعتراف بمذابح السيفو، أي مذابح الإبادة بحق الشعب السرياني الآشوري الكلداني والأرمني واليوناني ..

.. قمنا بإعداد المحاور الخاصَّة بالندوة بالتنسيق مع نينوس آحو، المعروف بخبرته الطويلة في إطار العمل التنظيمي والفكري والنضالي في سبيل توحيد شعبنا بكل تسمياته، لأنني وجدت فيه حلقة الوصل الراسخة بين كافة الأطراف، فأحببتُ أن أنتهزَ الفرصة لإعداد حوار يخصُّ أوضاع خلافات جاليتنا بكل تسمياتها، السريان الآراميون الآشوريون الكلدان، خاصة ما يتعلَّق بالتسمية، لأنها تبدو لي مشكلة المشاكل في تفرقة شعبنا، ولا بدَّ من وضع النقاط على الحروف وطرح هذا السؤال على الشاعر نينوس آحو على مرأى من الجمهور لنرى وجهة نظره ووجهة نظر الجمهور الذي سيحضر الندوة، لعلَّ وعسى تكون البذرة الأولى والخطوة الأولى لتقريب وجهات نظر تياراتنا ومؤسَّساتنا على مختلف مشاربها، وبدأت مارسيل تعدُّ قائمة بأسماء الضيوف الذين سيحضرون الندوة، وأنا بدوري قمت بتدوين قائمة بالضيوف الذين سيغْنَون الندوة، وقد وردني قائمة من نينوس آحو عبر الهاتف تتضمَّن مجموعة من الشخصيات الهامة لشعبنا من مختلف الأطياف وأحببت بدوري أن أركّز على كافة شرائح شعبنا، بحيث أن يمثِّل الجمهور كافّة التِّيارات والمؤسَّسات والأحزاب، كي يتمكَّن كل تيار أو شريحة أو حزب أن يقدِّم وجهة نظره عبر مداخلاته لتصويب واقع الحال حالنا، مركِّزاً على ضرورة الحوار الآن، في يوم قدوم نينوس آحو، المعروف بميوله ونضاله في الحركة الآثوريّة، ثم وقع الاختيار على الصالة التابعة لكنيسة مريم العذراء في (تينستا)، وبدأنا ندعو الضيوف بشكل متواصل عبر الهاتف والإيميل.

حضرَ أغلب المدعوين واعتذر من كان لديه ظروف معيَّنة تعيق حضوره، فقد تلقَّيتُ إيميلاً من الملفونو يلماز كريمو، العضو الناشط في البرلمان السويدي الذي كان له دوراً كبيراً مع هيئة لجنة السيفو في إيصال البرلمان إلى الاعتراف بمذابح السيفو، يعتذر عبر إيميله عن الحضور، وقد حضر رئيس لجنة السيفو السيِّد صبري أطمان، وممثلين عن التنظيم الآثوري، والصحافيان أوكين كورت ونوري كينو، والسياسي عبّود كورية، والفنان المسرحي وديع عمسيح، ود. سيمون جورج، ود. يوسف متى اسحق أحد مؤسِّسي رابطة الأكاديميين الآراميين السّريان، والحائز على جائزة آرام في الآونة الأخيرة، كما حضر السيد بيير صاووغ والسيِّد طوني زيتو وكانوا بمثابة ممثلين عن التيار الآرامي السرياني، وقد كنّا قد أرسلنا بطاقة دعوة لكل من الفضائيتين: صورويو تي في، وسوريويو سات، وكذلك فضائية عشتار وقد حضرت فضائية صورويو تي في عبر مندوب لها وصوَّرَت الندوة كاملة، وأرسلَ الملفونو يوسف بيت طورو رسالة، تمَّ قراءتها عبر مندوبهم التلفزيوني السيد دانييل شابو ولم تحضر فضائية سوريويو سات واعتذرَتْ فضائية عشتار عن الحضور.
كما حضر الندوة نخبة جيّدة من جاليتنا السريان الآشوريين الكلدان والكثير من الفنانين والمثقفين والحياديين والمهتمين بقضايا شعبنا.

افتتح صبري يوسف النَّدوة مرحِّباً بالجمهور الذي حضر من أماكن متفرِّقة من ستوكهولم، واِمتلأت القاعة بالأحبَّة الحضور، ثمَّ رحَّبَ بضيفِ الشَّرف الشَّاعر نينوس آحو، وتمَّ توزيع برنامج النَّدوة على مرحلتين، المرحلة الأولى حوار مفتوح مع نينوس آحو، أجراه صبري يوسف بعد أن قدّمه بكلمة مقتضبة هذا نصّها:

\"الشَّاعر نينوس آحو ضيف شرف ندوتنا المفتوحة

أبصرَ الشاعر نينوس عينيه النُّور في ربوع كركي شامو، هذه القرية الوديعة، الممتلئة بالمحبَّة والعطاء والاخضرار، فاستقبلته سنابل القمح لتعانق وميض عينيه وتقمِّط طفولته بخصوبة الحياة، فاستمدَّ من هذا الصَّفاء الرِّيفي أبهى أنواع الفنِّ والإبداع.
درس المدرسة الإبتدائية في ربوع القرية، متشرّباً من فضاءَاتها، جمالَ الطبيعة وحبَّ الأرض والإنسان والتَّواصل مع الحياة، ثم انتقل إلى القامشلي ليتابع دراسته في المرحلة الإعدادية والثانوية، وقد تشكَّل الوعي القومي لدى الشَّاعر منذ يفاعته، وترعرع الجموح الشعري لديه فكتب القصيدة الأغنية، القصيدة الأرض، والقصيدة الوطن والإنتماء، وكان من أوائل الذين اكتشف موهبة حبيب موسى وهو في باكورة العمر عبر التراتيل الكنسية، فقال إني وجدته إني وجدته، ثم كتب هو وغيره من الشعراء أولى الأغاني التي غنَّاها الفنَّان حبيب موسى ليصبح فيما بعد ملك الأغنية السريانية في العالم.
درس في كلية العلوم في جامعة دمشق، واشتغل في مجال التدريس فترة من الزَّمن، ثم ركّز على تعميق البعد القومي والوطني بما يعيد الفائدة لخدمة شعبنا، حيث كان له تطلعاته منذ البداية على ضرورة تواصل كافة شرائح شعبنا مع بعضه بعضاً بكل تلاوينه وأطيافه، كي نصبح أكثر قوة وتكاتفاً، وظلَّتْ هذه التطلعات تراوده حتى الوقت الرَّاهن، ثم آثر بعد تجربة طويلة في العمل السياسي أن يعتكف للكتابة بعيداً عن أروقة السياسة، مسخِّراً قلمه للشعر والفكر الإنساني الخلاق، ونظراً لأن الشاعر نينوس آحو يمتاز بهذه الخصوصية الانفتاحية في قضيَّة لمِّ شمل طاقات شعبنا بكل أطيافه وتسمياته، أحببنا أن نلتقي به عبر هذه الندوة المفتوحة، في هذا الحوار البنّاء والهام، كي نسلّط الضوء على تجربته الأدبية والفكرية وآفاق رؤاه فيما يخص بالحوار مع الآخر، كائناً مَن كان هذا الآخر، لأنه يرى أن الحوار والتواصل والتعاون فيما بيننا هو من أهم الأسس في تقدُّمِنا وتقدُّم أي شعب من شعوب العالم، لأنه يرى أيضاً أنَّنا كنَّا أبناء أعرق الحضارات فلماذا لا نستمر في بناء واستنهاض حضارتنا عبر طاقاتنا المتوفِّرة الآن بكافَّة شرائح شعبنا بكل مؤسَّساته وأحزابه وتطلُّعاته بمختلف تسمياته وآفاقه، لعل وعسى تكون هذه النَّدوة لَبنَة أولى يتبعها لَبِنات أخرى في الحوارِ البنَّاء والاتِّحاد والعطاء الخلاق.
أهلاً وسهلاً بكَ ملفونو نينوس، الشَّاعر الكبير وضيف الشَّرف لندوتنا في ستوكهولم.\".

ثم أجرى (صبري يوسف) حواره مع الشَّاعرالضَّيف على مدى المرحلة الأولى من النَّدوة، وقد أجاب نينوس آحو بكل أريحيَّة على كافَّة الأسئلة التي وُجِّهَتْ إليه والتي تركَّزَتْ على طفولته وتجربته الأدبية والشعرية وتجربته النضالية، مشيراً في سياق ردِّهِ إلى أنَّ كركي شامو، مسقط رأسه، قرية واقعة على خطِّ سايكس بيكو (الوهمي)، والَّذي قسَّمَ أرضنا بين دولتين، سوريا وتركيا. وأجاب عن العديد من الأسئلة حول كيفية إيجاد مخرج للحوار مع كافَّة شرائح شعبنا بكلِّ تسمياته (الآشوريون السّريان الكلدان)، وإيجاد حل لمشكلة التَّسمية، وكيفية استقطاب الأجيال الصَّاعدة للعمل معاً في سبيل وحدة شعبنا كل من موقعه، كي نرفع من شأن واقعنا المشتَّت، لأنَّ الوحدة هي قوَّة لكافّة الأطراف وهي ملاذنا وهدفنا
الأوَّل والأخير.

وبعد الاستراحة، بدأ حوار الجمهور مع الضَّيف، فاستقبل الفنّان كابي سارة أسئلة الضيوف ثم أجاب عنها الشَّاعر نينوس آحو بكل موضوعيّة وفنّد إجاباته بدقّة وقد طرحَ بعض الضيوف أسئلةً حول واقعنا وهمومنا في المغترب، وقدَّم بعضهم الآخر مداخلات متعدِّدة حيث شاركَ الملفونو بيير صاووغ والملفونو طوني زيتو وآخرين، كما قرأ السيِّد روبيرت حجَّار قصيدة شعرية باللهجة المحكية مرحِّباً عبر قصيدته بالشَّاعر الضيف وبالجمهور، وساهم السيد فادي جبارة بتلاوة قصيدة طويلة باللهجة المحكيّة حول واقع شعبنا في الأوطان الأم وفي بلاد الاغتراب، كما قرأ الشَّاعر عبدالمسيح شمعون قصيدة شعرية باللغة السّريانية.
 وقد قدّمَ في نهاية الحوار مجموعة من الفنَّانين والكتَّاب والشعراء هدايا للشاعر نينوس آحو، فقدَّم الدكتور الشاعر والمترجم يوسف متّى اسحق، والشاعر واصف متّى عزو مجموعة من كتبهما هدية للشاعر الضيف، وقدّم النحّات جبرائيل كارات تمثالاً لجلجامش من أعماله هدية للشاعر، وقدّم الفنّان حنا الحائك مجموعة من اللوحات، كما قدّم الفنان كابي سارة لوحة تشكيلية، وقدّم الأديب الفنّان صبري يوسف لوحة تشكيلية، يتوسّطها سنبلة بيضاء شامخة، وحولها قلوب متعانقة، حيث كانت السنبلة ترمز إلى نصاعة وشموخ الشَّاعر نينوس آحو لما قدّمه ويقدِّمه لشعبنا عبر مسيرته النضالية الطويلة، وما يزال يقدِّم أقصى وأفضل ما لديه، رغم ظروفه الصحّية التي يعاني منها، وهذا لعمري قمّة التضحية والعطاء، ولو قدَّم كل واحد من شعبنا بحسب موقعه، عطاءً يماثل هذا العطاء بطريقةٍ أو بأخرى لكنّا بأفضل حال ممَّا نحن عليه الآن، وكلّنا أمل وطموح أن نحقِّق آمالنا وأهدافنا جنباً إلى جنب مع كلِّ مَن يسعى للنهوض بهذا الشَّعب نحوَ الأفضل!

وقد حقَّقَت النَّدوة الهدف المنشود من خلال لقاء شعبنا السرياني الآرامي الآشوري الكلداني تحت سقف واحد عبر حوار مفتوح وصريح، حيث أكَّدَ الشَّاعر نينوس آحو أنه لأول مرة في تاريخ شعبنا نلتقي بهذه الطريقة ونتحاور حول هموم وقضايا شعبنا. هذه كانت الخطوة الأولى، سيتلوها خطوات أخرى عبر ندوات وحوارات مفتوحة من أجل تحقيق التعاون والتضامن المشترك بين كافة أطراف شعبنا.

 وفي (25 نيسان) تمَّ تكريم الشَّاعر نينوس آحو من قبل هيئة (سيفو سينتر) واتحاد الشبيبة الآثورية والأندية الآثورية في سودرتالية ونورشبوري في صالة كنيسة مار يعقوب النصّيبيني في سودرتالية وقد حضر جمهور كبير من جاليتنا، واستهلَّ كلمة الافتتاح السيد نينمار بولي، مسؤول لجنة (سيفو سينتر) في السويد.
ثم استعرض برنامج الاحتفال التكريمي السيِّد فهمي باركرمو، وقدّمَ السيّدة اليزابيت بيسارة، إحدى المشتركات في أوِّل فرقة كورال تمَّ تأسيسها من قبل نينوس آحو في القامشلي بإيعاز من التنظيم الآثوري منذ عقودٍ من الزَّمن، وتحدَّثتْ عن نينوس آحو وحماسه ونضاله وعطاءاته المتعدِّدة منذ البدايات، ثمّ تحدَّث السيد صبري أطمان، رئيس هيئة (سيفو سينتر)، وتطرَّقَ إلى عطاءات ونشاطات الشاعر نينوس آحو التي قدّمها خلال مسيرته النضالية في هذا المجال جنباً إلى جنب مع (سيفو سينتر) ثمَّ تمَّ استعراض مجموعة من الصور عبر برنامج (Power point)، الذي أعدّه السيد فَيّاز كريمو، وقد علّق الشاعر نينوس آحو بشرحٍ مقتضب عن الكثير من الصور أثناء عرضها، وقد كانت حول بعض محطَّات عمره منذ الطُّفولة ومرحلة اليفاعة والشباب!

وأجمل هدية للجمهور كان حضور زَلكي، ابنة نينوس آحو، عندما اعتلت منصَّة المسرح وقدّمتْ كلمة مختصرة، وقد جاءت من أميريكا خصيصاً لتشارك بهذه الاحتفالية التكريمية، وكانت الغصن المتلألئ الأخضر لمواصلة العطاء على خطى والدها، لتشكر بدورها كل الجِّهات التي كرَّمت والدها وحيّاها الجمهور بفرحٍ كبير. ثمَّ قدّم كلّ من الفنّان نينيب عبدالأحد والموسيقي جوزيف جاجان سكيتشاً فكاهيِّاً نال استحسان الجمهور. ثم قدّم الشَّاعر نينوس آحو كلمة قصيرة حول تجربته النِّضالية.
كما قدّم كلمةً موجزة نيافة المطران عبدالأحد شابو، مطران السويد وسائر اسكندنافية، تلاه الأب كوركيس ملكي وألقى قصيدة شعرية مؤثِّرة. ثمَّ قدَّمَ السيِّد دانييل كريسبي كلمة تطرَّق عبرها إلى عطاءات مناضلينا ومبدعينا، ثم ألقى الشَّاعر نينوس آحو أربع قصائد شعرية، رافقه على العود الموسيقي موسى ألياس، ألهب الشَّاعر مشاعر الجمهور بتلاوته الرَّائعة. ثمَّ قرأ السيّد حمورابي شابو باهي، إحدى قصائد والده الشاعر شابو باهي، ثمَّ قدّمت الفرقة المسرحية للنادي الآثوري في سودرتالية، عرضاً مسرحياً معبَّراً ومميَّزاً، دارَتْ أحداث العرض المسرحي حول مجازر السيفو، وأجاد الممثلون دورهم بشكل جيد ممَّا كان للعرض تأثير كبير على مشاعر الجمهور.

ومن الفنانين الذين شاركوا في حفل التكريم عبر الغناء، الفنان نينيب عبدالأحد، حيث قدّم مجموعة من الأغاني من كلمات الشاعر نينوس آحو، واستقبل الجمهور الفنَّانة نغم أدوار موسى بتصفيق حارّ، حيث قدّمت أغنية جميلة، ثم صعد إلى خشبة المسرح الفنَّان حبيب موسى ملك الأغنية السريانية في العالم ليتوِّج حفل التكريم تتويجاً بديعاً بتقديم أغنية قامشلي قامشلي التي كتب كلماتها الشَّاعر نينوس آحو، وظهرَت الأغنية إلى النّور بعد انتظارٍ طويل!
وقبل نهاية الحفل قدَّم الشَّاعر نينوس آحو كلمة الاختتام ، شاكراً كلَّ الهيئات والأندية الذين كرّموه واحتفوا به هذا الاحتفاء الكبير، ثم اعتلى خشبة المسرح الفنَّان الكبير حبيب موسى والفنان نينيب عبدالأحد ليختما الحفل بدويتو جميل، ثم انضمَّتْ إليهما الفنانة نغم موسى ليتوِّجوا الحفل بصوتهم الرائع بأغنية قوميّة، ووقفَ الجمهور في نهاية الحفل يحيي الفنانين ويحيي الشَّاعر نينوس آحو بفرحٍ كبير. ثم التقط مَن يستهويه من الجمهور في نهاية الاحتفال صوراً تذكارية مع الشَّاعر الضَّيف.

تكريمٌ رائع، وتواصلٌ بديع مع جالية مغتربة، تكنُّ المحبَّة والوداد العميق للشاعر المُكرَّم!

وفي 26 نيسان التقى الشَّاعر نينوس آحو، مع هيئة (سيفو سينتر) عبر حوارٍ مباشر مع الجمهور في صالة كنيسة مار يعقوب النصيبيني، وأجابوا عن أسئلة ومداخلات الجهمور بشكلٍ مستفيض.

تابع النَّسر رحلته متوجِّهاً نحو سماء بلجيكا، حيث كانت محطَّته الأخيرة في بروكسل، واشترك كضيف شرف بتاريخ 28 نيسان في مؤتمر واسع حول الديمقراطية في تركيا وتأثيرها على أوضاع السريان كأقلية في تركيا، وقد عقد المؤتمر في البرلمان الأوربي في بروكسل. وقد حضره برلمانيون من ألمانيا وهولندة والسويد، وحضرت السيدة زينب أزدمير من تركيا، الناشطة في حقوق الإنسان والأقليات في تركيا والتي تدافع بقوّة عن حقوق السريان.
وفي 29 نيسان شارك الشاعر نينوس آحو في إحياء ندوة في صالة كنيسة مار يوحنَّا للسريان الأرثوذكس حضرها ممثلون عن هيئة (سيفو سينتر)، وممثلون عن اتحاد الأندية الآرامية، وممثلون عن أربع مجالس ملِّية من كنائسنا في بلجيكا، وممثل عن المنظمة الآثورية الديمقراطية. 
 ثم عاد النَّسر من بروكسل بعد وداعٍ مهيب، إلى سماء ستوكهولم ليودِّعَ الأحبّة بالحفاوة التي استُقْبِلَ بها، ثمَّ فرشَ جناحيه وحلَّق عالياً من جديد موجِّهاً أنظاره نحو شواطي الأطلسي حيث الأحبة الأصدقاء والعائلة الكريمة بانتظار عودته الميمونة، كي يحكي لهم قصَّةَ فرحٍ لتكريمِ نسرٍ مفروش الجناحين، لم يهدأ له بال إلا بعد أن يرى شعبه يسير بكافة تياراته وشرائحه وتسمياته بأقدامٍ راسخة نحوَ برِّ الأمام!

أشكرُ كلَّ الهيئات والمؤسَّسات والتنظيمات التي كرَّمَتْ واحتفَتْ بالشَّاعر نينوس آحو، كما أشكر كلَّ مَن حضر فعاليات الاحتفاء والتكريم، متمنِّياً لشعبنا (السرياني الآشوري الكلداني) بكافة توجُّهات تنظيماته وتياراته ومؤسَّساته المزيد من التواصل والحوار والتآلف والعمل المشترك لتحقيق الفائدة المرجوّة لما نصبو إليه لهذا الشَّعب الذي حمل شعلة الحضارة منذ غابرِ الأزمان، لعلَّه ينهضُ من جديد ويحملُ شعلةَ حضارةٍ من جديد، تليقُ بحضارةِ العصر ليؤكِّد للعالم أجمع أنَّنا كنَّا أبناء أولى الحضارات وسنبقى نرفع راية التنوير والتطوير والارتقاء جنباً إلى جنب مع شعوب العالم التي تسعى إلى تحقيق التنوير والتآخي والوئام والسَّلام بين البشر كلَّ البشر، لعلّنا نحقِّقُ تطلُّعاتِ الأرضِ وسموَّ السَّماء!


ستوكهولم: نيسان 2010
صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com




62
تهنئة للشعب السرياني الآشوري الكلداني والأرمني واليوناني
وشكر خاص للبرلمان السويدي

هكذا تقرِّرُ وتتوصَّلُ الدُّول الديمقراطية إلى قرارات ونتائج ديمقراطية عادلة بحق الشعوب المظلومة والمقموعة والمضطهدة.
وأما الشعب المضطهد (السرياني الآشوري الكلداني)، بكل تسمياته وتياراته ما يزال يتخبّط وسط خلافات وصراعات حول التسمية ويناضل بعض الأطراف ضد بعضه بعضاً مما يضعف موقعنا في سياق تشكيل قوَّة في وجه مَنْ أباد ويبيدُ وسيبيدُ هذا الشعب الذي بنى وأقام أولى الحضارات على وجه الدنيا، ما لم يقف متوحِّداً في وجه طغاة هذا الزَّمان، فإلى متى سنبقى نتخبَّط في متاهة الخلافات حول التسميات؟! أما آن الآوان أن نتعاون ونتحالف ونشكِّل جبهة موحّدة بكل تسمياتنا وأحزابنا ومؤسّساتنا لنشكِّل أرضية صلبة لمواجهة واقع الحال المرير الذي نمرُّ به في موطننا الأصلي، فتبعثرنا في بقاع الدنيا، لا راعٍ لنا ولا قائد سياسي ولا قائد مدني ولا قائد ديني ولا قائد اجتماعي ولا قائد فكري. نحوم وسط خلافات وصراعات غالباً ما تكون هدَّامة ومريرة، وهذا ما يسهِّل بلعنا وقمعنا واضطهادنا ونكران حقنا من قبل الكثير من المحافل الدولية والمحلية، ولكننا لو كنا جبهة واحدة وموحدة ولو تحت تسميات متعددة واشتغلنا في خط واحد وشامل للتوجه نحو أهدافنا المرجوّة لحققنا وتوصلنا إلى الكثير من الانتصارات والأهداف التي نتوخَّاها جميعاً.

بكل بساطة أقول، لا يعجبني واقع الحال حالنا، ويزعجني بل يؤلمني جدَّاً عندما أقرأ وأرى الخلافات والصراعات تزداد تفشّياً في أوساطنا، أكثر مما هو الصراع دائر بيننا وبين الأطراف التي أبادتنا وماتزال تبيدنا. فمتى سيفهم هذا الشعب بكافة مؤسساته وتياراته وأحزابه وعلى اختلاف تسمياته ومشاربه وتطلعاته أننا بأمس الحاجة لبعضنا بعضاً الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، لنحقق أهدافنا القريبة والبعيدة ونعيش بكرامة وحرية وديمقراطية وعدالة ومساواة جنباً إلى جنب مع بقية شعوب وأمم العالم.

آمل أن يتم تشكيل لجان متابعة وإقامة ندوات ومؤتمرات في كافة منابرنا لمناقشة الخلافات التسموية والاتفاق على صيغة عمل مشترك وتجاوز خلافاتنا بما هو مفيد لكافة الأطراف، وإلا سنبقى لقمة سائغة للطامعين وسنبقى قرناً آخر لنصل إلى ما وصلنا إليه الآن على اعتراف البرلمان السويدي أو أي برلمان آخر لمجازر السيفو، وأصلاً مجازر السيفو هي مجازر معروفة للقاصي والداني ولكل دول العالم، والذي أخَّر الاعتراف بها من قبل الهيئات والبرلمانات الغربية والعالمية والمحلِّيّة هو ضعفنا وتشرذمنا وتشتتنا واختلافنا وصراعنا مع بعضنا بعضاً، وعدم انخراطنا في مؤسسات وأحزاب ديمقراطية توحِّد شعبنا في جبهة واحدة، كل هذا جعل عدونا قادراً على بلعنا وإبادتنا بسهولة، وبالتالي طمس الحقيقة، وإلا فإن مجازر السيفو التي تمَّت بحق شعبنا والشعب الأرمني واليوناني معروفة لكافة هيئات ومنظمات حقوق الانسان في العالم، ولكننا ما كنّا نعرف كيف نجني ثمار احقاق حقوقنا، فعدونا كان وما يزال يحاول قمع والغاء حقنا فيما حلّ بنا من مجازر. والذي حققناه الآن من كسب واعتراف من قبل البرلمان السويدي وغيره من اللجان والهيئات الدولية، ما كان ليتحقق لولا تكثيف جهود "لجنة متابعة مجازر إبادة الآشوريين (سيفو) العالمية" ولجنة متابعة أرمنية مكثفة وغيرها من اللجان السريانية والهيئات الدولية المناصرة لحقوق الإنسان، وسوف تكون الانتصارات أكثر وأسرع فيما لو يتمّ توحيد صفوف مؤسساتنا بكافة التيارات والأحزاب والتعاون مع المؤسسات الأرمنيّة واليونانية المتعرضة لمجازر الإبادة كي يأتي العمل مركزاً وهادفاً ويحقق الهدف المنشود.

الإنسان هو القيمة والهدف الأسمى في الكون، فما لم يسعَ الإنسان في كل بقاع الدنيا لتحقيق هذه المعادلة فلا قيمة لوجوده كإنسان، لهذا أطالب الإنسان أينما كان أن يقدِّم أفضل وأبهى ما لديه لأخيه الإنسان، وإلا ستبقى الحروب والقتل والظلم والطغيان والتهجير والتدمير متفشّية في بقاع الدنيا، وضمن هذا السياق يحتاج الإنسان أن يتعاون مع بني جلدته ومع جيرانه ومع شعوب الأرض قاطبةً كي تتحقق معادلة الاخاء الإنساني وبالتالي ستسود العدالة والحرية والمساواة بين شعوب العالم بعيداً عن القمع والإضطهاد والحروب والطغيان.

انّي أرى من أهم أسباب وقوع مذابح ومجازر السيفو هو الغرب نفسه، لأن المذابح تمَّت على مرأى ومسمع الغرب، وبالتنسيق مع بعض دول الغرب التي كان لها مطامح في الشرق، فالقضية أعمق مما يظن المرء للوهلة الأولى، لهذا على الغرب نفسه أن يعالج أخطاءه وأخطاء مَن تسبَّب في ارتكابها، وتأكيداً فيما أقول أودُّ الإشارة إلى المذابح والكوارث التي نراها تنتشر في الموصل وسهل نينوى وغيرها من الأماكن التي تقع يومياً في العراق موطن السريان الآشوريون الكلدان الأصلي، هذه المذابح وغيرها من المذابح التي تقع على الأقليات الأخرى كالصابئة والشبك وعلى الأكثريات أحياناً، لأن كل طرف يحاول أن يطحن الآخر، فنذهب نحن ضحية المطاحنات عبر كل المراحل السابقة واللاحقة، والمتسبِّب الأول والأخير لهذه المطاحنات في الوقت الراهن هو هذا الغول الأميريكي الذي قدَّم للعراق ديمقراطية على مقياس أنياب الوحوش المفترسة كالضباع والأسود والنمور والذئابِ، وإلا كيف يتم قتل مطران وقسيس وشماس وشيخ عجوز جلّ توجهاتهم هي التآخي والتواصل مع كل الأطراف بمسامحة ومحبّة كبيرة، فبدلاً من أن يتم تكريم هكذا توجه وطني وإنساني يتم اختطافهم وذبحهم وقتلهم، وقتل غيرهم بالمئآت الألوف من شعبنا وبقية الملل والأقوام والأديان تذهب ضحية هذا الفساد الجاثم على صدرِ العراق، وكل هذه الممارسات تتم على مرأى ومسمع التوجّه الأميريكي ومن لفَّ لفّه.

سؤال بسيط ولا يحتاج لعبقرية في تفنيده وتحليله، هل لو كان هناك  أربع عائلات يهودية في العراق أو في أية رقعة جغرافية أخرى من عالم الشرق أو الغرب، وتعرّض حاخام واحد من حاخاماتهم إلى الاختطاف والقتل والذبح لما تعرَّض له المطران بولص فرج رحّو وغيره من الشعب المسيحي الأعزل، أما كانت اسرائيل ويهود العالم تقلب الدولة التي ارتكبت هكذا جريمة رأساً على عقب، وترد الصاع مليار صاع؟!

سيجيبني الكثير الكثير، لا يوجد مقارنة بين هذا وذاك، فأجيبهم المقارنة جائزة بين أي إنسان وإنسان عندما يكون لكل إنسان برنامجه الإنساني وقوته ووجوده المحلي والكوني، ولهذا نحن نحتاج إلى محافل عالمية ومحلية للدفاع عن الأقليات والأكثريات وعلى الإنسان كإنسان خاصة الأقليات التي لا حول لها ولا قوَّة، فمن واجب الدولة،  أية دولة على وجه الدنيا أن تحمي مواطنيها بغض النظر عن التصنيفات القومية والدينية والمذهبية، وإلا فأنا أعتبر الدولة التي لا تستطيع أن تحمي مواطنيها هي دولة مارقة وفاسدة وفاشلة وعليها أن تسلم سدة الحكم لغيرها ممن يستطيع أن يقود البلد إلى شواطئ الأمان والسلام، لكن الكارثة في الأمر أن الدولة التي تمر بهكذا ظروف ـ كالعراق الآن ـ ليس لها بديلاً ديمقراطياً إنسانياً عادلاً ولا يوجد توجهات لمَن يناصر الدولة من قبل الغرب أية نزوعات ديمقراطية وحرية وعدالة ومساواة، بدليل أن الخروقات التي تمّت بعد تحرير البلاد من ديكتاتورية النظام السابق هي أكثر بطشاً وقتلاً ودماراً وخراباً، وأمام مرأى العالم دون أن يحرِّك الغرب ساكناً، بل على ما يبدو يغذِّيها احتقاناً ودماراً، فهل كان على دور النظام الديكتاتوري السابق ممكن أن يُقتل مطران وهو يرتل ترتيلة المحبة في هيكل الكنيسة، هل كان يتجرّأ أي تجمع أو حزب أو مؤسسة معارضة أو غير معارضة أن تقتل شماساً يتيماً في كنيسة أو أي رجل في دير أو جامع بدون أي سبب؟ لهذا أنا أعتبر النظام السابق على علاته وديكتاتورياته وبطشه كان أكثر رأفة وأكثر عدالة وأكثر ديمقراطية وأماناً ممَّا أراه الآن من حكومة فاسدة وتابعة ولا تستطيع حماية نفسها فكيف ستحمي مَن يحتمي بها من المواطنين؟

من هذا المنظور أقول، يجب على الدول العظمى ومنظمات وهيئات حقوق الإنسان العالمية أن تسن قوانين جديدة تضمن حقول الدول المغلوبة على أمرها وتضمن حقوق الأقليات والأكثريات وحقوق الإنسان كإنسان، ويجب محاسبة الدولة المتسبِّبة في تفشّي هذه الخروقات والفساد، لأنني أرى أن الدول الكبرى والدول العظمى هي التي تتسبَّب في نشوب الحروب والصراعات والقتل والتشريد في أغلب الدول الفقيرة ودول العالم الثالث، وكل همها جني الأرباح وتعديل ميزانها التجاري الخاسر على حساب رقاب القوم وفقراء وأقليات هذا العالم، فإلى متى سيبقى توجّه الإنسان مرتكزاً على المال/الاقتصاد، ويهمل الجانب الأهم وهو الإنسان، الخير، الأخلاق، العدالة، المساواة، الديمقراطية، الحرية والعيش الكريم للإنسان في كافة أنحاء العالم؟!

انّي أرى أن أغلب سياسات هذا العالم قد فشلت فشلاً ذريعاً في قيادة الإنسان نحو بوَّابات الخير والعدالة والأخلاق القويمة الراقية، كما فشلت توجّهات أغلب رجالات الأديان في بناء جسور المحبة والتآخي بين بعضها بعضاً، فإلى متى ستبقى سياسات آخر زمان تبني اقتصادها على حساب جماجم البشر الأبرياء وفقراء هذا العالم، وإلى متى ستبقى رجالات الأديان والمذاهب والطوائف والقوميات تكفِّر وتلغي وتصارع وتناحر بعضها بعضاً؟!
هل الأديان السماويّة فعلاً سماوية، وما هي سماوية الممارسات التي تنتهجها ممارسات الكثير من رجالات ومؤمني هذه الأديان، ما هي مساحة المسامحة والمحبة والسلام في كل دين على حدة من هذه الأديان، وما هي مساحة المسامحة والإخاء والمحبة والعطاء الخيِّر فيما بينها؟!

انّني أرى ممارسات طائشة للكثير من توجهات رجالات أديان وطوائف ومذاهب هذا الزَّمان، متى سيفهم رجالات الدين الواحد أن الوئام والمحبَّة والمسامحة بين مذاهبه وطوائفه وطقوسه هامة وضرورية، والأهم من هذا أن ينفتحوا على رجالات الدين الآخر ويتعاونوا بالتالي رجالات كلّ الأديان والأقوام والشعوب فيما بينهم لخلق حالة محبَّة وسلام ووئام، ليتم تحقيق معادلة العدالة والحرية والمساواة بين جميع البشر، كي يبيّن الإنسان في هذا المنحى أنه فعلاً إنسان مسالم ويليق به أن نطلق عليه كائن عاقل ومن أسمى المخلوقات؟! وإلا فلا قيمة لوجوده على وجهِ الدُّنيا على الإطلاق، طالما لا يحقِّق العدالة والمساواة والمحبة خلال وجوده على أرضٍ خيِّرة معلَّقة بين أحضانِ السَّماء!!!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com





63
طفولةٌ مغموسةٌ بتلاوينِ الحياةِ

إهداء: إلى الطالبة آنجيلا عبده وعموم آل لحدو عبده وعبده

تزهو قامتكِ أمامي مثل السَّنابل، طالبة نجيبة، ذات حرفٍ أنيق، متفوِّقة إلى أبهى درجات التفوّق، تشاركيني فرحي عبر تألّقكِ في النجاحات المتواصلة فوق وجنةِ ديريك، تحصدين نجاحاً تلو الآخر، ثم فجأة ترخين ظلالكِ تحت قناديل الغربة، غربة من نكهة الاشتعال، تتواصلين مع حرفي كأنّكِ حبري المتناثر من شفير غيمة، هل حملتِ بين أجنحتكِ عناقيد الكروم، كرومنا التي أكلتها نعاج الغجر، واقتلعها ذوي الشأن، ظنّاً منهم انهم سيبنون قلاع الحصن، فيلات على شاكلة طموح العصرِ، لكن عبق الكروم، كان أحلى من ناطحات السحاب، أحلى من برجِ الأبراجِ، تعالي يا صديقتي نغنّي للكرومِ، لأزقة ديريك وهي تبتسم للقمر في مساءات الصيف، ونرسم أحزان الأزقة فوق شهوةِ القصائد، كم من الحنين حتّى اندلعت من روحي حفيف القصائد، وحده حرفي انتشلني من مغبّة البكاء، من ورطةِ غربتي المفتوحة على جنائنِ الغربِ، غربتي رصيدي في رسمِ ملامح القصيدة، تفجِّر بي ينابيع سردٍ كأنها منبعثة من هلالاتِ الحلمِ، قلمي وغربتي شهقتا حرفٍ يتطايران عالياً كأنهما وميض نور يتسامى إلى قبّةِ السماءِ.

هل يراودكِ أن ترسمي خيوط غربتنا التي تلامس مرابع الغسقِ، كيف تتواءمين مع شوق الرُّوحِ، مع حنين القلب إلى تلكَ التلالِ المتاخمة لبيتِ جدّكِ لحدو عبده؟ جدُّكِ ذات القامة الممشوقة ولا كلَّ القاماتِ، يشقّ طريقه إلى أعلى التِّلال، يحصد باقات الحنطة على إيقاع صهيل الخيل، يرفع والدي قامته القصيرة مرّحباً بجدِّكِ يضحكان فرحاً منبعثاً من حدّةِ المناجل، مناجلٌ مسنونة بأحجارِ الصوانِ، يغنون على إيقاع المناجل، أغاني منبعثة من نكهة النارنج، جاءت أمّي تهلهل وأمُّكِ تطوفُ في خصوبةِ البراري، يقدمان كؤوس اللبن، أهرب بعيداً أعبر تخوم الحقول، أسمع هسهسات الحشرات الصغيرة، ويبهرني أصوات "الجزجزوكاتِ*" أبحث عن مصدر الصوت، أتعقبهم طويلاً، أحاصرهم فوق شيقان الحمّص والعدس، أتقدم بحذر أجد "جزجزوكةً" صغيرة صفراء فاتحة اللونِ، من لون النباتِ، أمدّ يدي إليها أمسكها بهدوءٍ كي لا أؤذي جناحيها الغضَّين، أنظر إليها، أرغب أن تطلق "جزّجزَّها*" عالياً، لكنها تصمتُ بين أصابعي، هل تنتظر أن تفلتَ منِّي، تطير مثل نحلة هائجة؟ أضعها على راحة يدي ثم أرفعها عالياً فتطير بعيداً، ثم أصغي إلى سيمفونية الطبيعة المنسابة مع هبوب تماوجات الهواءِ، يستمر جدّكِ ووالدي في الحصاد، وأنا أستمرُّ في العبور في أعماق البراري، أبحث عن الجرادِ وفرس الأمير، تناديني أمّي، فيرنُّ صوتها في أذني، آتي مثل البرقِ، تقدم لي كأساً من اللبنِ، ثم أتناول خيارتين صغيرتين، وقليلاً من الجبنِ وقطعةً من خبزِ التنّور، خبزٌ ولا أشهى، كانت تخبز أمّي مرَّتين بل ثلاث مراتٍ في الأسبوع، آكل خبزاً طازجاً، خبزاً شهياً كأنّه مغموس ببهاراتِ الكونِ! أين أنتَ يا خبز أمّي ويا تنّور أمّي، أين هي جرار الماءِ؟!

فجأة تسطع أمامي (قوشات*) الحنطة، وأيام الجراجرِ (النَّوارج)، كان لجدِّكِ جَرْجَرَاً، ولا كلّ الجَّرَاجِرِ، أتذكّر جيداً أن جدّكِ كان ثقيل البنية فعندما كان يركب على الجَرْجَرِ ما كان أحداً يستطيع الركوب بجانبه لضخامة البنية وكي لا تتعب البغال من جرّ الجَرْجَرِ فكنتُ أطلب منه أن يركِّبني بجانبه فكان ينظر إلى نحافتي قائلاً، تفضّل أنكَ لا تؤثر على قوّةِ البغالِ، أركب معه برهةً من الزمنِ ينشغل في لملمة القوشة المتدفِّقة على الأطراف، ينزل مهرولا نحو "ملحيبه*" ذات الأسنان الأربعة، يلملم ما تناثر من التِّبن والحنطة بسرعة خاطفة، أمسكُ نفسي فوق الجرجر، تسير البغلتان بتمهّلٍ، يقول لي اسرع قليلاً يا ابني، أطلب من البغال السرعة، "وشّ وشّا*" مرّاتٍ ومرّات، لكنهما لا تتجاوبان مع "وشّ وشّاتي*" فأمسك (القامجين*) وأسلِّطه عليهما ثم أردِّد "وشّ وشّا"، يجفلان ويرفسانني، تأتي رفساتهما في الهواء، لكني أحكِّم نفسي بالامساك بأطرافِ الجرجر، مبتعداً إلى أقصى ما أستطيع إلى جهة الخلف، يجن جنون البغلتين فيعبران القوشة، داخل دائرة الفراغ، مجرجرين خلفهم الجرجر فأسمع صوت "الدَّفَرَاتِ" تترجرج فوق الأرض، يغضب جدّكِ غضباً شديداً ثم يصرخ في وجه البغالِ، يتقدَّم نحوهما يتوقفان عن الدوران في القوشة، وأنا كنتُ أرتجف من الخوفِ، يجرهما فوق قوشة الحنطة ثم يهدئني قائلاً، ماذا عملت حتى جنَّ جنون البغلتين، فقلت له ضربت لكل منها قامجيناً وإذ بهما ينحرفان عن دائرة القَوْشَةِ ويعبران داخل القوشة فقال لي لا تضربهما بهذه الطريقة لأنها غير معتادين على الضرب من قبل الأطفال، وهل هما معتادتان على ضربِ الرجالِ؟

ضحك جدَّكِ قائلاً هكذا يبدو، ركب جدَّكِ على الجرجر، صوتُ أمّي من بعيد يناديني، نزلت متوجّهاً نحو الصوتِ، كان موعدُ طعام الغذاء قد حانَ، جلسنا في قيظِ ظهيرةِ الصيفِ، تحت خيمة صغيرة، (كولّكة*) مفتوحة من كل الجهات، فقط تحجب وهج الشمس من الأعلى، كانت أمي تصنعها من أكياسِ الخيش، كولّكة تكفي لأفراد العائلة ولبعض الضيوفِ، نجلس تحتها أثناء الاستراحات، يمر الهواء من تحتها، نرشرشُ الظلَّ بالماء كلّما تشتدُّ حرارة الأرض، مندهشٌ أنا كيف كنّا نتحمَّل تلك الحرارة ونحن في عمرِ الزُّهور، هل كنّا نتأقلم مع خشونةِ الحياةِ، فرحٌ رغم حرارةِ الصَّيفِ، رغم شظفِ العيشِ، فرحٌ عند دستِ السليقةِ، عندما يحلّ الليل، نلعب (التوش والبوكة والبرّي والبرو برفانو بري وا جاوا يا*)! طفولة من نكهة الفرح، من نكهة الصفاء، من نكهةِ العذاب، طفولةٌ مغموسة بتلاوينِ الحياةِ.

غالباً ما يخيّل إليَّ، أنه لولا طفولتي البائسة، ولولا جموحي في البراري وفي أزقَّتي المعفّرة بأكوام الطين، ولولا بساتين الكروم، وحقول البطيخ والجبس والترعوزِ* والفنجكات*، لولا سهول القمح والحمص والعدس، لولا اخضرار الروح في سماء ديريك، لما ترعرع هذا الهاجس مع حفيف الحرف، وحدها ديريك كافية أن تفتح قريحتي على تماوجات شهوة الشعر، على كتابةِ مداخل القصصِ وخفايا الرِّواياتِ، ديريك من لون البهاء، من حبرِ الخلاصِ، خلاصنا من ضجرِ العمرِ، من ضجرِ غربتي المفتوحة على شفيرِ السنينِ، تعالي يا بلدتي أزرعكِ موجةً هائجة فوقَ حنينِ البحرِ، تعالي يا صغيرتي أرسمكِ بيدراً مكتنزاً بالخير، ببذورِ المحبّة بتواشيحِ السَّخاءِ!

ديريك صديقةُ ليلي ومسائي، ترتيلةُ غربتي المنسابة فوقَ خمائلِ حرفي، ديريك قنديلُ ناسكٍ عندَ نداءِ الصَّباحِ، زهرةٌ مسترخية بينَ ربوعِ الأقاحي!

ستوكهولم: ‏18‏/01‏/2007
صبري يوسف 
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

هوامش:

*جزجزوكة: حشرة صغيرة خضراء ضاربة إلى الاصفرار الفاتح لها جناحان شفيفان، تصدر صوتاً تصفيرياّ متناغماً مع إيقاع الجززززززززززززززززز، بشكل متواصل ولهذا أُطْلِقَ عليها جزجزوكة، نسبة إلى صوتها المجزجز، وجمعها جزجزوكات.
*تجزجزُ: الفعل الذي تم صياغته من تسميتها (الجزجزوكة)، جَزْجزَتْ تجَزْجِزُ جَزْجَزَةً فهي جزجزوكة!!! هاهاهاها
*قوشة: هي الفراغ المتشكِّل من القوشة المدروسة بالنَّورج/الجرجر، حيث يتمُّ ربط البغلتين بحبل في وسط الدَّائرة وتسير البغال فوق الحنطة لدراستها وتحويلها إلى تبن ناعم ، فهذا الفراغ يسمى قوشة، وجمعها قوشات. وهي مصطلحات فلاحية أطلق عليها الفلاحون الهلازخ منذ زمنٍ بعيد.
*الجرجر: يعني النَّورج، وجمعه جراجر.
*ملحيب: هو آلة لجمع التبن يتألَّف من أربعة أسنان حديدية رفيعة مع يدٍ خشبية طويلة، وهناك ملحيب من الخشب يتضمن أسناناً خشبية عديدة ومتقاربة يستخدم للملمة التبن والتذرية بعد جمع التبن المدروس.
*وشّ وشّا: اصطلاح يطلق على الدواب لتحريضها على الحركة والمواظبة والمتابعة في السير.
*وشّ وشّاتي: أي نداءاتي التحريضيّة على الدواب.
*القامجين: يعني السُّوط.
*الدَّفرات: وهي أسنان النَّورج/الجرجر الحادة، وهي شفرات عريضة مسنونة بشكلٍ حادّ، يسير عليها النَّورج وهي تدور وتقصُّ أكوام الحنطة وتحوِّلها عبر مرحلة دراستها إلى تبن، وتساهم في إخراج حبَّات الحنطة من السَّنابل.
*التَّرعوز والفنجكات:التَّرعوز أي القتّي وهي طويلة ورفيعة ومفردها ترعوزة، والفنجكات مفردها فنجكة، مدوَّرة ومن فصيلة القتّي وهذه الخضار لذيذة ويتم نضجها في أوائل الصيف مع الشمّام والبطيخ والجبش، حيث نلفظ السين شيناً.





64
فضائية (صورويو تي في) تبثُّ كونسيرتاً رائعاً للفنَّان حبيب موسى ونغم موسى

جاءني الصَّوت رخيماً عبر الهاتف، حبيب موسى ونغم موسى على فضائية (صورويو تي في) بعد قليل، كونسيرت هولندة. أجبتُ شكراً، وأغلقتُ الهاتف لتهيئة نفسي لمشاهدة الكونسيرت!
تربَّع الفنَّان حبيب موسى ملك الأغنية السّريانية في العالم على خشبة مسرح كنيسة هولنديّة (خروتي كيرك) أي الكنيسة الكبيرة عبر المهرجان السنوي لموسيقى الشرق الأوسط، لتقديم كونسيرت رائع، تشاركه الفنانة نغم موسى بإشراف وإعداد كورال مار أفرام التابع لنادي بيت نهرين الآثوري في مدينة انشخيده، والذي أسَّسه وأشرف على تدريبه الموسيقار الكبير ألياس موساكي.
 يبدو مسرح الكنيسة للمشاهد كأنه معبَّقٌ ببخور الأزمنة الغابرة، وكأنَّ ألحان مار أفرام السرياني كانت منبعثة من تجلِّيات وشموخ هكذا كنائس ضاربة جذورها في أعماق التاريخ. كم كانوا على صواب أصحاب الدعوة الذين دعوا حبيب موسى إلى مكان يشمخ هدوءاً وشموخاً كي يصدح الفنَّان في قداسة المكان، ويطلق العنان لصوته الشجيِّ المتعطِّش لهياكل ومسارح الأديرة القديمة، وقد بدا لي حبيب موسى كأنَّه يحلِّق عالياً كنسرٍ جامح فوق مرتفعات جبل جودي، متوجّهاً نحو قمَّة آرارات وكأنّه في سفينة مماثلة لسفينة نوح في انتظار حمامة السلام، بعد أن تفاقمَ في كنفِ الأوطانِ هدير الطوفان!
تألَّقَ الفنَّان وتوهَّجَ ابتهالاً كأنَّه يرتِّل تراتيل كنسيَّة في مزارِ مار كبرئيل أو دير الزَّعفران أو كنيسة راسخة فوق مرتفات صخور معلولا المعرّشة في أجنحة التَّاريخ في أوجِ العصور الذَّهبية للسريان.
أيُّها السريان، هل ترونَ ما أراه الآن، هل تسمعون تجلِّيات صديق الأصدقاء الملفونو حبيب موسى، وخلفه يشمخ تمثالان لقدِّيسين كأنَّهما يشهدان على بلوغ أحفاد جلجامش إلى مسارح الخلود؟!
ارتعش جسمي من وهجِ التَّواصل مع حفاوةِ أصالةِ الصَّوتِ والمكان، وخرّت من عيني دمعتان، دمعةُ فرحٍ ودمعة تساؤلٍ على خلخلاتِ أجنحةِ أوَّل حضارة انبلجت على وجه الدُّنيا، تتهاوى في وادي الرافدين، في سهول بيت نهرين بين أنياب مجانين وحيتان هذا الزَّمان، وتتالت التساؤلات في أعماقِ الجراح الغائرة وصوت حبيب موسى يمسح الأسى المرسوم على شفير الحزن المتفاقم على مسارات غربتي وغربة ملايين الأحبة التائهين في انشطارات مسارات غربة الرُّوح اللاهثة في سماءٍ من بكاء. آهٍ يا بكاء وألف آهٍ يا سماء!!!
ما كان يبدو الفنان حبيب موسى أحياناً مرتاحاً للموسيقى التي كانت ترافقه، ومع هذا حلّق عالياً رغم بعض هفوات الموسيقى المرافقة، فأنطلقَ بأصالته الغنائيّة البديعة وكأنه في نزهة دافئة في حدائق بابل المعلَّقة في شموخِ السَّماء، هل كانت الموسيقى حزينة لما آلَتْ إليه الأمور أم أنَّها كانت تعكس انتشارِ شراسة الطغيان، طغيان الأسى على مساحات حنين القلوب إلى صباحاتٍ تموجُ برنين النواقيس في بدايات نيسان؟!
حضر الكونسيرت رئيس بلدية أنشخيده وأعضاء مجلس المدينة وعدداً من أعضاء البرلمان الهولندي وجهور غفير من جالياتنا السريانية والآشورية، كان الجمهور يصغي بفرحٍ عميق إلى روحانية الغناء ويستمتع بروعةِ تجلِّياتِ الأداء والجوّ المهيب لهذا الصرح الرُّوحي الذي حلَّق فيه النَّورسُ عالياً كأنه في مواسم الحصاد الأخيرة يقطف الغلال الوفيرة، ثم قدَّم الموسيقي  جوزيف جاجان رويداً رويداً أبهى ما لديه. فغنِّي حبيب موسى بطريقةٍ منعشة للقلب كأنه شهقة نيزكٍ مندلقٍ من بسمةِ السَّماء، رقصَتْ قلوب المشاهدين جذلى مع بهجةِ الألحان النابعة من ينابيع هياكل الأديرة القديمة.
نضحَ وجه الفنَّانة نغم موسى فرحاً وهي تغنِّي على أنغام الموسيقار ألياس موساكي ألحاناً عذبة، مدخلٌ يبهج القلب، رغم أنّي شعرت إيقاعاً أوبرالياً غريباً عن عوالم كنائسنا العامرة بألحانٍ لا تحصى، ومع هذا أطربني الأداء الذي سمعته، حيث غنَّت أغنية (لليانا) وأغنية (آنين شاميرام) التي لحّنها والدها الموسيقار أدوار موسى وكانت الأغنية موجّهة للبيت الأبيض، ولا أعلم كيف ستصل وكيف سيسمعها أعضاء البيت الأبيض، أم أنها مجرَّد رسالة على الهواء مباشرةً، وأطربني أداؤها أكثر عندما غنَّتِ الدويتو بمهارة طيّبة مع حبيب موسى، فجاءت انسيابية الألحان أكثر لأنها كانت من صميم موسيقانا السريانية الأصيلة.
انطلاقة فرقة كورال مار أفرام كانت جميلة، وقد غنّى عارف يعقوب وجورج عبدو وأحلام بهنان وصلات رائعة من الألحان السريانية الكنسية. أداء منسجم مع روعةِ المكان، ومرافقات نغم موسى في الآهات الأوبرالية بين الحين والآخر كانت موفَّقة وأعطاها مساحة مريحة في عفوّيةِ الإنطلاق. وتدفَّقَ حبيب موسى مُحلِّقاً بصوته الأوبرالي في سماءِ الإبداع، وحاولت نغم بأقصى ما لديها أن تجاريه فأنطلقا وكأنّهما في خضمِّ بوحِ الفرح.  
لفتَ انتباهي المايسترو القدير ألياس موساكي وهو يتماوجُ متراقصاً مع الألحان التي كان يلملمها بإيقاع بديع وهو في قمّةِ الانسجام مع عوالم الغناء والأداء الأصيل مما ترك بسمات فرحية على محيّا نغم موسى وهو يتراقص بابتهاج عميق. كان حبيب موسى يتجّنبُ النظر إلى حفاوةِ الرقصِ لئلا ينخرط بعفوية فرحية هو الآخر مع إيقاع رقص المايسترو فنظر إلى الطرف الآخر تفادياً من مجاراته في الرقص، ولكن عزيزنا الموسيقار لم يكترث لما كان يجول في خاطر حبيب موسى بل إزداد استهاجاً ورقصاً وكأنه في إيقاع سيمفوني فريد، فلِم لا يتراقص بجنونٍ فرحي، شأنه شأن مايستروات السيمفونيات العالمية، فهل سيمفونيات العالم أكثر بهجة وانتعاشاً ممَّا نراه؟!
انتعشتُ فرحاً وأسدلتُ ستائري، عفواً ستائري دائماً منسدلة وجاهزٌ للرقص عندما يحين الأوان، وحان الأوان فنهضتُ أرقصُ بفرحٍ كبير، وكأنّي في منافسة عارمة مع عزيزنا موساكي، موسيقى راقية وغناء أصيل ينعش القلب، رقصتُ بطريقةٍ فرحيّة باذخة، حفاظاً على رشاقتي في جموحاتي الرقصية المعهودة!  
رنَّ جرس الهاتف فلم أردّ لأنني كنتُ غائصاُ في عوالمي مع شاشة (صورويو تي في) الصغيرة، التي أنعشت ليلتي، هذه الشاشة التي نادراً ما تحرِّضي على الرقص مثلما حرَّضتني هذا المساء، إلى مَن سنرفع شكوانا في إدارة (صورويو تي في)، إلى الملفونو العزيز يوسف بيت طورو كي يطوّر قليلاً أو كثيراً البرامج الغنائية، بالتركيز على بثِّ المزيد من أغاني حبيب موسى ومايستروات على إيقاع موساكي ومَنْ ينحو منحاهما، لعلَّ وعسى نستطيع بين الحين والآخر أن نرقص بانتعاشٍ على إيقاع موسيقى وأغانٍ مبلَّلة بالفرح ومنسابة مثل مياه دجلة في أوج عناقها مع شهوةِ الغيوم؟!
أجاد عازف الأورغ جورج موساكي وغطّى العثرات التي رافقت أحياناً سير أداء الموسيقى. حبذا لو كانت الفرقة أكثر عدداً وأكثر مهارةً كي تكون بمقام طاقات الملك المبرعمة بشموخ على خشبة المسرح، ومع هذا غمرني فرحٌ حقيقي وأنا أشاهدُ هذا الكونسيرت البديع، وأرَّقني السؤال، كيف فات ويفوت على بيت طورو ومَن تعاقبوا على إدارة فضائياتنا على اغفال هكذا طاقات فنِّية أصيلة، تضاهي جموحات الأحصنة المندفعة نحو مروج بيت نهرين المعرّشة في عرين الإبداع، كيف فاتهم أن يحرموا الأحبة المشاهدين بين حينٍ وآخر من متعة تألّقِ ملكِ الطربِ والأصالة والغناء؟ تساؤلات مفتوحة لمَنْ يهمّه الأمر.
كم يدهشني ويؤلمني أن لا أرى في عالمنا السرياني فرقة سيمفونية خاصّة بهكذا أصالة باهرة كي نقدِّم ما لدينا من موسيقى وغناء سرياني طربي أصيل على أرقى مسارح العالم، وكي تتماوج فرحاً قلوب مايستروات العالم على إيقاع موسيقانا، وكي نؤكِّد للعالم أجمع أننا أحفاد أولى أرقى الحضارات على وجهِ الدُّنيا، وورثة موسيقى مار أفرام السرياني ـ (البيت كازْ)، نعزفها ونغنِّي على إيقاعِ ألحانها بمهارات فائقة، هذه الموسيقى المنبعثة من بخور الأديرة المقمَّطة بأجنحةِ المحبَّة وأزاهيرِ السَّلامِ وأصالةِ إبداعِ السِّريان على مدى الأزمان!!!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

sabriyousef1@hotmail.com

هوامش:

*   موَّلَ هذا المهرجان مجلس مقاطعة (أوفرآيسل) الواقعة في وسط وشرق هولندة والتي تتبعها مدينة انشخيده.
*   تمَّ إقامة هذا الكونسيرت بمناسبة المهرجان السنوي لموسيقى الشرق الأوسط ومدته أربعة أيام ويقام سنوياً في مدينة انشخيده، ويخصَّص أمسية من أماسي المهرجان للموسيقى الآشورية والسريانية.
*   أحيا هذه الأمسية وأماسي عديدة أخرى، كورال مار أفرام التابع لنادي بيث نهرين الآثوري في مدينة انشخيده والذي أسَّسه منذ سبع سنوات ومازال يدربه ويقوده الموسيقار ألياس موساكي. حيث يتم من قبله انتقاء المقطوعات الموسيقية المناسبة لكل عرض وتدريب الكورال عليها مرة في الأسبوع بشكل مستمر. وحين يكون هناك عرض معين يجري دعوة مطربين وموسيقيين آخرين لمشاركة الكورال كما حدث في هذا الكونسيرت، دعوة كلٍّ من الفنان الكبير حبيب موسى والفنانة الشابة نغم أدور موسى بتقديم وصلات خاصة ومنفردة كما قدموا بمشاركة الكورال أغان أخرى، أما الموسيقيون الدائمون مع الكورال فهم: جورج موساكي على الأورغ ورواد ميخائيل للإيقاع ونيسون لحدو على الكمان وأورلوما لحدو وتوديليا لحدو على (دفارس فلاوت) الناي الغربي. وفي هذه الأمسية تمَّ دعوة موسيقيين آخرين للمشاركة وهم: جوزيف جاجان على العود ووسيم لحدو على الناي وكبرئيل على الساز/ البزق.
*   (خروتي كيرك)، اسم الكنيسة بالهولندية، أي الكنيسة الكبيرة وتقع في وسط المدينة وهي تتبع المعهد العالي للموسيقى وتجري فيها حفلات موسيقية من هذا النوع.
*   المقطوعات الموسيقية التي تمَّ تقديمها هي ما اختاره الموسيقار ألياس موساكي من تراتيل كنسية سريانية قديمة إضافة إلى مجموعة من أغاني الفنان حبيب موسى التي لحَّنها بنفسه وقد كتب كلماتها المطران جورج صليبا (مرلي أو نهرو) وسعيد لحدو (أوعزليذخ نيسانه) وجورج شمعون (عينوثخ ملفونيثو)..الخ
*   قدَّم الفنَّان حبيب موسى وصلة تخشفوثو وراوي آشوري قديم وكذلك بعض الأغاني القومية التي لحَّنها الموسيقار كبرئيل أسعد. ورافقه على العود جوزيف جاجان.
*  البيت كازْ: اصطلاح سرياني يعني مرجع خزينة الألحان السريانية الكنسيّة.
   تنويه! أقدّم خالص الشكر للأستاذ سعيد لحدو على تعاونه معي وتقديم المعلومات المطلوبة حول إعداد وتقديم هذا الكونسيرت، حيث أرسل إليّ أغلب ما جاء في هوامش المقال من معلومات مما أعطى دقّةً في حيثيات المقال.




65
لوحات السنابل للأديب الفنان صبري يوسف



66
الفنَّان حبيب موسى يتألّق على مسرح استراد في سودرتالية

كنتُ غائصاً بالهموم، هموم الغربة، هموم الإبداع، هموم علاقات مدبَّقة بالعذاب، هموم البحث عن موطئِ قدمٍ في غربةِ هذا الزَّمان، هموم اللَّونِ والحرفِ والعشقِ والشَّوقِ إلى سماءِ الوطنِ، وطنٌ من حنينٍ وبكاء!                                   يتربّع الفنَّان حبيب موسى* ملك الأغنية السريانية في العالم، بدعوة من اتحاد الشبيبة الآثورية في السّويد، على مسرح استراد في سودرتالية، إحدى ضواحي ستوكهولم، المعروفة بكثافة الجالية السريانية، ليحيي (كونسيرتاً) فنّياً بديعاً بمناسبة الذّكرى الأربعين لإنطلاقته بالأغنية السريانية من جوقات التراتيل في هياكل الكنيسة، إلى حيِّز الوجود، ليؤسِّس بدوره أولى لَبِنَات أغنية سريانية خارج مراسيم الطقوسِ الكَنَسيِّة السريانيِّة الحافلة بألحانٍ في غاية الرَّوعة والبهاء، ويكفي الإشارة إلى ألحان مار أفرام السرياني، (البيت كاز*)، كي يعرف القارئ، أية كنوز لحنيِّة وموسيقية نمتلك، لكنها ظلَّت سنيناً بل قروناً في حيِّزِ الطقس الكنسي، إلا أن جاءَ (الملفونو*) حبيب موسى وأطلق عنانها في السَّماء الرحبة، ليكون رسول الأغنية السِّريانية في عالم اليوم والغد.

الموسيقى حالة إبداعية فريدة من نوعها، اقتبسها الإنسان من جوانح روحه عندما خفق قلبه لزقزقة العصافير والبلابل وحفيفِ الأشجار وهبوبِ الرِّيح، وهدهداتِ المطر. الموسيقى منبعها خفقان القلب وهو يرقص على إيقاع موجات البحر وهي تعزفُ أغنية أبدية منذ أن أشرقَتِ الشَّمس أشعَّتها المفعمة بالدُّفء والعطاء على وجنةِ المياه، فأنشدَتِ الطَّبيعة أولى مزاميرها على إيقاع الموج فرقصَتِ الكائنات رقصةَ الفرحِ وهي تعانقُ خيوطَ الشَّمس ونسائم البحر، ترحِّبُ بتحليقات النَّوارس والطيور المهاجرة نحو حبَّاتِ الحنطة والكروم المعرّشة في أكتافِ الجبال، حيثُ زخَّاتُ المطر تتهاطلُ فوقَ حنين الغابات لتسقي لَهَفَ الطيورِ إلى شهوةِ التَّغريدِ، هل للطيورِ شهوةُ الانتشاءِ في أرقى تجلِّياتِ الغناءِ، غنّي يا طيور الرُّوحِ غنّي على إيقاعِ هفهفاتِ الثَّلجِ، غنّي على إيقاع بهجة الرُّوحِ إلى زرقةِ السَّماءِ، غنّي يا صديقَ البحر والسَّنابل والموجِ ونسيم الصَّباح!

 

يتمايلُ قائد الأوركيسترا كابي مسّو مثلَ موجاتِ الصَّباحِ، وهو يتربّعُ راقصاً فوقَ خشبةِ العناقِ، عناقُ الموسيقى معَ أسرارِ اللَّيلِ، عناقُ الفنّان حبيب موسى مع تدفُّقاتِ أهازيجِ غيمة حبلى بشهوةِ المطرِ، يعطي مسّو إشارة التحليق فوقَ ربوعِ الحنينِ، حنين الرُّوحِ إلى أحلى أنواعِ الغناءِ، غناءٌ محفور في ذاكرة السِّنين، سنينُ الطُّفولةِ واليفاعةِ والشَّبابِ، سنينُ الغربة، سنينُ الفرحِ الآفلِ بين طيَّاتِ الغمامِ، يعبرُ  بلبل السِّريان حبيب موسى ساحة الرَّوضِ، تسطعُ بهجةُ الحضورِ فوقَ شموخِ الجبين، تعلو بهجاتُ الحضور، صمتٌ شفيف يتخلَّل ما قبل العبورِ، عبورُ روضة الغناء، يردِّد مسَّو بهدوء بعض الأرقام، ثمَّ يعطي إشارة البدء، موسيقى مخضَّبة بأهازيجِ الرَّبيع، بأزاهير الزَّمن الآتي، بالسنابل التي حصدناها على إيقاع المناجل، يرقص مسّو وهو يلملم حفاوة الانطلاقِ، يشيرُ إلى الايقاعِ، تتراقصُ أصابع روبيرت وسنان وليث على تدفُّقات الإيقاعِ، كأنها متشرّبة من حفاوةِ صليلِ المناجل، تتناغم أوتار جيتار كمال أوديشو مع أوتار ديمير آحو، فتغفو عصافير اللَّيل على أنغام تشيلّو مقريان، يضحكُ مع بسمةِ اللَّيلِ، ينوحُ مع حزانى هذا العالم، يصدحُ حبيب موسى لأسرارِ اللَّيلِ، صوتٌ منبعث من تواشيح حنين الرُّوح إلى مرافئ الصِّبا والشَّباب، إلى قلاعِ حضارةِ الحضارات، أرقصُ فرحاً وأنا أسمعُ وهجَ الطربِ الأصيلِ المنبعثِ من حنجرةِ حبيب موسى وهو يسلطن فوق أحلام غربة الإنسان مع أخيه الإنسان، تنساب الأغاني إلى شواطئ القلب كأنها بلسمٌ معبّقٌ ببخورِ صباحاتِ العيد، صمتٌ يهفو لجموحِ الأزاهير، ثم يعلو حول قبة الرُّوح ناي شكري يوسي بتماوجات ألحانه المنبعثة من وداعِ الأزمنة الغابرة، تحلِّق فراشات الشَّوق حول ضياء الضوء، يزدادُ حبيب موسى تالُّقاً، كأنّه استجابة فرحٍ لنداءِ غيمةٍ ماطرة لعطشِ الصَّحارى، يتهاطلُ مثلَ خصوبةِ أرضٍ في أوجِ العطاء، غنِّي يا صديقَ اليمامِ على إيقاعِ التمنّي، كم من البوح حتى تبرْعَمَتْ أزاهير القلبِ، تتراقص أصابع جوزيف جاجان فوق أوتار الحنين، فتلامس أنغام عوده أوتارَ الرُّوح وتنقشُ فرحاً في خفايا الحلمِ، يشمخ شيرو مثل مياه دجلة متدفقاً بتجلِّيات كلارنيتهُ كأنه يتناغم مع إيقاع فرح الغابات، فيستجيب فيول أنور كأنه تحليقات أسراب البلابل المهاجرة نحو هلالات  الرُّوح، تنتظر أنغام بزق عمانوئيل ديمير حيث قلوب العذارى تهفو إلى بهجة العناق تحت أشجار النارنج، طرتُ فرحاً وأنا مقمّط بألحان متلألئة ببراعم متطايرة من خدودِ السَّماءِ،  يغمرُ صوت الفنَّان حبيب موسى فرحاً في أجواء المكان، تنساب أغانيه مثلَ نضارةِ الماءِ، كأنّه أمواج متدفِّقة كأحلامِ شوقِ العاشقين إلى روعةِ الغناءِ، ترقصُ قلوب المشاهدين مثل أزاهير موشّحة بأجنحةِ طيورٍ تحلِّقُ بين أشجارِ الجنّة، شوقاً إلى عناقِ هلالاتِ النُّجومِ الغافية بين أحضانِ السَّماء.

فجأةً وجدتُ نفسي في لبِّ الحضارةِ، حضارةُ الغناءِ، حضارة تجلِّيات الرُّوح على وهجِ الانشادِ، حضارة شعبٍ منبعثٍ من رُقَيْمَاتِ الطينِ، حضارةُ بشرٍ حملوا الحرف إلى مرافئ الكونِ، حضارةٌ مرتكزة على نبتةِ الخلودِ، حضارةُ الأساطير وما قبل الأساطير وما بعدها، حضارة حبَّاتِ الحنطة التي نبتَتْ على ضفاف وادي الرافدين، بين تخومِ جنائن العمر، جنائنٌ معلَّقة في دفءِ الشَّمسِ ونعمةِ السَّماءِ، أين أنتَ يا جلجامش لترى عذوبة الأغاني تعانقُ طموحَ العمرِ، عمرنا التائه خلف انشراخِ  مذاقِ القومِ، قومٌ على قابِ قوسينِ من نيرانِ القرنِ، قرننا يتماوجُ فوقَ قرونِ التَّنانينِ ، قرونَ الخرافاتِ، خرافاتُ الكلامِ، خرافاتُ السَّلامِ، خرافاتُ حضارةِ اليومِ، حضارةٌ مرصرصةٌ على دماءِ الفنونِ، حضارةُ حربٍ مشرشرة بشراراتِ الجنونِ، حضارةُ ملبّدة بدماءِ الطفولة، حضارةٌ حارقة أحرقتْ نضارةَ الكونِ، حضارةٌ جانحة نحوَ الطيشِ، نحو أقصى أقاصي الغباءِ، نحوَ تدنيسِ أبجدياتِ العيشِ، حضارةٌ مدبّقة بالقيرِ، بعيدة عن حفاوة الخير، حضارة حُبلى بسمومِ حيتانِ الكونِ، حضارة مفخَّخة بلوثةِ مصّاصي الدِّماءِ، المتحكّمة في شفيرِ أفواهِ البراكين!
 

 

كيف يتبادرِ إلى ذهنِ الإنسان فقاعاتِ السُّمومِ، وكلّ هذا البهاء يسطعُ في بوحِ الغناءِ، حبيب موسى حكاية غيمةٍ موشّحة بأريجِ الغناءِ، كيفَ ينامُ المرءُ على صوتِ انقضاضِ طائراتِ الشَّبحِ، وهو يسمع موسيقى على أنغامِ اللَّيل، أينَ الفرار من دموعِ الأمَّهاتِ الثّكالى، أين المفرّ من الأطفالِ الحزانى، من دمعةِ البراءة، من بسمةِ وردةٍ غارقةٍ في سماكاتِ الدِّماءِ، كيفَ يتوازنُ الإنسانُ معَ قباحاتِهِ، وهو يسمعُ موسيقى من وَرَعِ السَّماءِ، موسيقى منبعثة من مرتفعات قمم جبل جودي، حيث سفينةُ  السُّفنِ رَسَتْ هناك فوق قمّةِ آرارات، تنتظرُ عودة أغصان الزَّيتون، يتأهَّب حبيب موسى في ليلة حافلة بالحنين أن ينثر أغصان السَّلام المنبعثة من كلمات شابو باهي*، وانسيابات نوري اسكندر* اللحنية، رقص قلبي طرباً وأنا أسمع ملك الأغنية السريانية يفتتح تألّقه الغنائي بالسلام والوئام بين الأحبة، قائلاً:

(شْلومي شْـلومي علا شَافيري      شْلومي علا حّليه و نـاهـيري*)
(شلومي لْشوفْرو دْلَيتْليهْ حوروْ       لـمورتـيهْ دَعِّيـنيهْ زاهـوري)
سلامٌ سلامٌ على الجمـيلاتِ         سلامٌ عـلى الحـلواتِ النبيهات
سلامٌ لجـمالٍ لا مـثيل لـه        لعيـنيكِ الفوَّاحـتين كالأزاهـير

ينثر الفنّان علينا سلاماً من بوحِ أغاني العشق الجامحِ فوقَ قبَّة الأحلامِ، أحلامنا المضرّجة بأجنحة اليمام العابرة في عتمةِ اللَّيل، ليلنا المفتوح على مدارِ اشتعالات الرُّوح منذ أمدٍ بعيد، كيف فاتنا أن نستنهضَ قلاع موسيقانا اللائذة في بواطن الذَّاكرة البعيدة، ذاكرة مكتظّة بنداوةِ المطر ووداعةِ الحنطة، كيف فاتنا أن نلملمَ الزؤان المتناثر بين حبَّاتِ الحنطة ونرميه بعيداً عن نعمةِ الخصوبة، موسيقى دافئة بوهجِ الشَّمسِ، من لونِ روعةِ الكروم، هل تنحني أزاهير دوَّارِ الشَّمسِ لوهجِ تدفُّقاتِ الموسيقى، لألحان منبعثة من ضياءِ الرُّوحِ الملفّحة بخيوطِ الشَّمسِ، موسيقى متماهية مع هبوبِ نسيمِ ديريك وهو يتغنّج مع وردةٍ متفتّحة على إيقاعات نوارج الفلاحين، تبدو لي أغنية شامُوْمَرْ كأنها منبعثة من تراقصاتِ باقاتِ السَّنابل. هل كان حبيب موسى وهو يلحّنُ ألحانه هائماً في براري سهول القمحِ، أم أنه كان متعرِّشاً بين عناقيد الكروم، باحثاً عن أنكيدو، الغائص في متاهات البحث عن جلجامش، عابراً البراري بحثاً عن نغمةِ الخلاص، خلاصنا من دوائر مغلقة، شائخة بين تلافيف أزمنة من غبار، إلى متى سيتفاقم فوق جفوننا هذا الغبار، إلى متى سنظل نجترُّ انزلاقاتِ دوائر العبور، بعيدين عن نغمةِ الخلاص؟ غنّي يا فنان السِّريان غنّي، غنِّي على إيقاعِ الحصادِ، على إيقاعِ زغاريد الأمَّهاتِ، على إيقاعِ وهجِ العشقِ في ليلةِ قمراء، غنّي على إيقاعِ مهودِ الطفولة وانفتاحِ براعم الحنين، مهودٌ مبرعمة بنكهةِ البابونج وأريج النِّعناع البرّي، أرواحنا عطشى إلى أغانٍ تسمو عالياً مثلَ تلألؤات النُّجوم، تنضحُ أصالةً مثلَ نضوحِ  روعةِ الكرومِ، كرومٌ معلَّقة في بحبوحةِ ذاكرة مخضّبة بولعِ الاشتعال، اشتعالُ وهج الأغاني ينسابُ لحناً دافئاً بتساؤلاتٍ مرهفة، لكلمات المطران جورج صليبا وهو يسأل النهر إلى أين يسير:
 
(مُـرْلي أونَـهْـرُوْ      لـيْكُـوْ أوزيْـلاتْ)
(أوزيلْنُوْ لفـروتْ       أوزيـلْنُـوْ لدقْـلاتْ)
(لَرْعوْ دبيتْ نهرينْ        عَـفْروْ دْقَـدْمـويينْ)
(شْخينْتوْ دابوهيين         سوريـويـِهْ قَدْميـهْ)

قُـلْ لي يا نـهر           إلـى أيـن تـسـير
أسير إلى الفرات            أسـيـر إلى الدجـلة
لأرض بيت نهرين           تــراب الأجــداد
إلى بيت أجدادي           السريـان القـدمـاء


 

تساؤلات عديدة يطرحها الشاعر ويحلِّق الفنان في فضاءِ روعةِ الألحان، هل أقتبس الألحان من خرير هموم وادي الرافدين؟ أزدادُ إندهاشاً عندما أرى ملايين الملاين مرصودةً من أجل زيادة عددِ القببِ، قبَّةٌ تنافسُ قبَّةً، تعيقُ مدارات تنوير الرَّعية، تميلُ إلى تعميقِ رعونةِ الانشقاقات، تزدادُ علوَّاً فوقَ انشراخِ جبينِ أقدم شعوبِ الكونِ، ترزحُ فوقَ رُقيْمَاتِ الطِّينِ، طينٌ مجبولٌ بأغصانِ الخلاص، منقوشٌ بعرباتِ آشور، تجرُّها ثيران مجنّحة بعنفوانِ الغابات، ما هذه القبب المناطحة لبعضها بعضاً كأنها في سباق غلياني للوصول إلى قاع الانفلاق، انفلاق طموحِ الجيل، انفلاق مدار الفنونِ، انفلاق مجالس العناقِ، تتراءى أمامي القباب كأنها سدٌّ منيعٌ في صدرِ تنويرِ البنينِ، تزرعُ بطريقةٍ أو بأخرى كميناً في حلقِ الحنينِ، حنينُ الرُّوحِ إلى صفاءِ رؤى الشَّبيبة وهي تقطفُ سلالَ التِّينِ على مدى آلافِ السِّنين، تشمخُ قببنا عاليةً، لكن تَمَرْكُزُنا يزدادُ تقوّساً في سفوحِ الظهرِ، بعدَ أن تبعثرنا فوق وجهِ الدُّنيا منذُ آلافِ السِّنين، نترنّحُ خائبين في أزقّةِ الحضارةِ، نجوعُ من تنابذِ صحارى الفكر، نتوهُ في بقاعِ الدُّنيا بحثاً عن قيثارةٍ نخفِّفُ بها من لظى اشتعال الرُّوحِ، روحنا الهائمة في انشراخِ الرِّيحِ، يزدادُ هولُ الانشراخِ في تجاويفِ العيونِ، عيونٌ مكفهرّة، متورّمة، منزلقة نحوَ لهيبِ البراكينِ، تفترسُنا غيلان هذا الزَّمان، تقتلعُنا من حميمياتِ البخورِ المنبعثة من هياكل الأديرة المتأصلة في هديلِ اليمام، نتخلخلُ من أعماقِ الجذورِ، نهيمُ على وجوهنا المعفرة بالسَّرابِ، نتوهُ في تلافيفِ التَّاريخِ، غير مدركين نضارةَ التلاوينَ، نقتل حمورابي ونرمي شريعةَ الشرائع بين أنيابِ المرابينِ،  بلاءٌ ما بعده بلاء أن ترزحَ حضارةُ الحرفِ تحتَ كيدِ المرائينِ، كيف سننجو من كلِّ هذا البلاء، تاهتِ الحضارةُ عن حفاوةِ النُّورِ، تفاقَمَتْ حضارةُ حربٍ فوقَ صدرِ العبادِ، حضارةُ شرٍّ لا تفلتُ منها عظام القبورِ، قبورُ حضارةٍ رسَمَتْ أولى شرائع الكون، ها هي ترزحُ الآن تحتَ أقدامِ الغيلانِ، غولٌ من الشَّرقِ من الغربِ من الشِّمالِ من كلِّ الجهاتِ، لم أجدْ سوى حرفي يشفي غليل ما تبقّى من العمرِ، لم أجدْ سوى بعض الأغاني تبلسم جراحات السِّنين، كيفَ لا يتحسَّسُ المرءُ عذوبة الأغاني، كيف لا يهفو إلى خفقةِ القلبِ عند بوحِ الأماني، يغرِّدُ فنَّانُ السِّريان فوقَ مرافئ غربةِ الحضاراتِ، ينسابُ الفرحُ على مدى شواطئ الرُّوحِ، ينثرُ أهازيجَ الطيور المهاجرة فوق موجاتِ البحرِ، تقفز إلى جموحاتِ حبيب موسى حدائق بابل المعلَّقة في صدر السَّماء، فيحلِّقُ بألحانِهِ البديعةِ عالياً معانقاً نجمةَ الصَّباحِ:

(ككووْ دصفْروْ حابيبتو          عَلْ زَبْـنُـو لـكْمَاصَتْنُو)
(زْليقُوْ دْفوثَخْ كمانحلي           وعَلْ قـمثَخْ كْمَيْدَيونّـو)

حبيبتي يا نجمة الصَّباح            لا يـهـمنّي الـزَّمـن
نور وجهكِ يريُّحـني             وقامتكِ تشعل بي الجنون


 

لأوَّلِ مرَّةٍ في حياتي أشعر بغبنٍ كبير لأنني لا أجيد السريانية، لأوَّلِ مرَّةٍ أشعرُ أن لغتنا السِّريانية لها عبق البخور المنبعثة من خشوع الأديرة المعرَّشة في قمم الجبال، جبال شامخة بالصفاء، شامخة بكنوز تضاهي كنوز البحار، شعرت وأنا أسمع الأغاني من ملك الأغنية السريانية، أن لقب الملوك الذي أطلقناه على الملوك منذ آلافِ السنينِ، لقبٌ مشكوك في أمره في أغلب الأحيان، فماذا قدَّم الكثير من ملوك وسلاطين هذا الزمان والأزمنة الغابرة، سوى زرعِ الخراب والانشقاقِ بين عوالم الرعيَّة، رعيَّة تائهة خلف مساراتِ دموعٍ مالحة كأنها منبعثة من أحزان اللَّيل والنَّهار، ماذا قدَّم الملوك أكثر مما قدَّم مبدعو هذا الزَّمان والأزمنة التي طواها الزَّمان، أزمنة معفَّرة بالرَّماد، هل يستطيع ملك الملوك أن يمنحني الفرح الذي منحني إيَّاه حبيب موسى وهو يعتلي خشبة الأصالة والانتعاش، انتعاش القلب وما تبقَّى من الأحلام الهاربة من ضجر الحياة، قشعريرة انتعاشية ترعرعَتْ في مهجةِ الرُّوح، فرحٌ من لون دموعِ الامَّهات وهي تنساب من عيونهن كأنها حفاوة عناق البنين والبنات، فرحٌ من نكهةِ الحلمِ الآتي، فرحٌ يبدِّد سماكات ضجر الرُّوح في صقيع غربة الشِّمال، أغاني تبهج القلب، وتبلسمُ حنايا الرُّوح، تُزهِرُ وردةً فوقَ أغصانِ القلبِ، يختتمُ الفنان حبيب موسى أغانيه كما أفتتحها بالسلام والوئام قائلاً:

(أَلْفُوْ شلومي وشيني         بحليتوْ دنقيشْ عينـيهْ)
(مي نقلا دْحزيْليليخْ          حشونوْ عَمَدّ ديوونيهْ)

ألف سلام وأمـان          للحلوة جميـلة العينين
منذ أن شاهـدْتُكِ          أُصِبْتُ بجنونِ العـشقِ

 

وقفَ الجمهور يغني مع الفنَّان حبيب موسى بفرحٍ كبير في اختتام الكونسيرت، كأنه موجة عشقٍ متهاطلة على أرضٍ عطشى لأحلى الأغاني، ألحانٌ مشبّعة ببوحِ هفهفات النَّسيم واخضرارِ السَّنابل، مكتنـزة برائحةِ بخورٍ تتصاعد في ليلةٍ قمراء نحوَ هلالاتِ السَّماء، غناءٌ أصيل وموسيقى متناغمة مع بسمةِ الأطفالِ وانسيابِ شهقاتِ المطر!

ستوكهولم: تشرين الثاني (نوفمبر) 2009                                                                                  صبري يوسف                                                                                                                    كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

هوامش:
*   كتب كلمات الأغاني كلّ من الشُّعراء: شابو باهي، جورج شمعون، سعيد لحدو، أبروهوم  لحدو، نينوس آحو، دنحو      دحُّو، يوحانون قاشيشو، سنحاريب سادو، عمانوئيل سلمون، عبدالمسيح موسى، جوزيف ترزي، المطران جورج           صليبا، وأغنية لشاعر غير معروف ألحان الموسيقار الرَّاحل جميل بشير.
* لحّن الأغاني كل من الملحِّنين: الموسيقار الكبير نوري اسكندر، الأب بول ميخائيل، الموسيقار الكبير الرَّاحل جميل بشير،   وأغلب الأغاني هي من ألحان الفنّان نفسه حبيب موسى. 
* البيتْ كازْ: اصطلاح سرياني يعني مرجع خزينة الألحان السريانية الكنسية.
* الملفونو: كلمة سريانية تعني الأستاذ أو المعلِّم.
* تمَّ تصويب وتشكيل لفظ مقاطع الأغاني السريانية بما يقابلها بالعربية لفظياً من قبل الفنَّان حبيب موسى كما ترجم الأغاني أيضاً ولكن صياغة الترجمة  تصرّف بها كاتب المقال الشَّاعر صبري يوسف مع الحفاظ على جوهر المعنى المطلوب.
*الفنان حبيب موسى من أصول سورية سريانية، مقيم في السويد منذ عام 1977، وقد غنّى بعض الأغاني بالهندية والعربية والكردية والتركية واليونانية والسريانية بلهجتها الغربية والشرقية أي الآشورية، حيث يجيد أداء الغناء الأصيل بالكثير من اللغات لقدرته الفائقة على التحكم بالصوت ومخارج الحروف لهذه اللغات، وقد أصدر ألبوماته باللغة السريانية، وفاء منه لأصالته وإنتمائه لحضارة عريقة تتعرَّشُ جذورها عميقاً في بلاد الرافدين، هي الحضارة السومرية والبابلية والأكّادية والآشورية والسريانية الآرامية والكلدانية التي تركَتْ بصمة فنّية دامغة وعريقة في أعماق التاريخ منذ أقدم العصور حتى الوقت الرَّاهن.     

67
المنبر الحر / التَّوهان عن الهدف
« في: 12:42 23/07/2009  »
التَّوهان عن الهدف


الاغراق في الانغلاق في ذاتٍ أحادية الجانب، أصبح ديدن أغلب معالم مؤسَّساتنا وأنديتنا بكل تفرُّعاتها ومسمَّياتها، لا همَّ لها سوى الانغلاق والمزيد من التقوقع الفكري، ذاتٌ يجاورها ذوات أخرى، بعيدون كلَّ البعيد عن منطق الحوار وحيوية التحديث والتطوير، جلَّ تخطيطهم وتفكيرهم هو أن يروا أنفسهم متربِّعين على منصّة المسرح، أو على الشَّاشة الصغيرة، هذه الشاشة الأخّاذة التي تبهر عيون المشاهدين والمتابعين، عندما يتم تقديم موادها بشكل انسيابي بديع، لكنها تصبح شاشة مريرة فاقعة باهتة جوفاء عندما ينبعث منها فقاعات هشّة، ويرتطم القائمون على قيادتها ببعضهم بعضاً ولا يرون بضعة أمتار بعيداً عن أنوفهم!
إنني أشفق فعلاً عليهم وعلى الحال الذي نحن فيه، ويحزنني جدّاً واقعهم المرير ووضعهم القاسي ولكن حزني عليهم شيء وما أراه من استخفاف بالمشاهد شيء آخر، بالنتيجة المشاهد هو بصدد مشاهدة أفضل ما يمكن مشاهدته وليس إزاء تبريرات لأسباب هَلْهَلة ما يتم تقديمه عبر الشاشة المحشوّة بالتقهقر يوماً بعد يوم!
عندما أمسك الريموند كونترول وأتجوَّل في فضائيات القرن الحادي والعشرين، يذهلني حضور المذيع/المذيعة، الديكور، كيفية الحوار، الماكياج، الاكسسوار، كيفية التصوير وإعداد وتصميم وإخراج الحلقة أو أي برنامج من البرامج الفنّية والثقافية والتاريخية والعلمية والاخبارية والحواريّة، والقائمة طويلة في البرامج المتهاطلة بشكل راقٍ في فضائيات هذا اليوم!
يراودني وأنا أشاهد فضائياتنا، تساؤلات تجرح روحي تارةً وتعكّر صفوَ يومي تارةً أخرى، تخلخل أحلام الجيل القادم، تساؤلات عديدة لها علاقة وثيقة في حضارتنا وتاريخنا وتراثنا الحافل بالثقافة والعطاء والحضارة التي ما بعدها حضارة من حيث قِدمها وانتشارها أيام زمان، والآن وبعد أن توفّر كل شيء لعالم اليوم من تقنيات وتكنولوجيا واقتصاد وعلوم وإبداع في كيفية تقديم أبهى أنواع الفن والأدب والثقافة والفكر، أجدني أمام فضائياتنا المهلهلة والتي لا تنمُّ على أنَّ العاملين في هكذا فضائيات هم أحفاد حضارة كتبَتْ أوَّل ملمحة أدبية على وجه الدُّنيا، والطريف بالأمر أن أغلب المؤسسات والتيارات لم يعد لديها ما تقدِّمه سوى التحدّث عن حضارتنا وعن أمجادنا الموغلة في الماضي وعن تاريخنا وتراثنا وتجترُّ الماضي وكأنّها ستغزو الكون بهذا الاجترار، وحبذا لو تعلم كيف تقدِّم هذا التاريخ وهذه الحضارة وهذا الماضي بما يليق به وبنا، ولكن غالباً ما يكون ما تقدِّمه مجرد كلام في الهشيم.
الآن! التساؤل القائم هو، لماذا أرانا غائصين في سباتٍ عميق ولا نضع حدَّاً لهذا الخلل وهذه الخلخلات الغريبة والعجيبة التي تحيق بنا من كلِّ جانب. توجّهات مهلهلة، تيّارات وتجمعات مهلهلة، أندية مثل قلّتها، كنائس ترتفع قببها نحو وجنة السماء، أندية واتحادات، يُقال أنها على مستوى أوروبا لكنّها مع إحدى مجالس ملّاتها لا تستطيع أن تقدمَ باقة ورد لكاتب أو شاعر على خشبة المسرح بعد أن ترفع صوتها عالياً وتدعوه لاستلام باقة ورد على خشبة المسرح، يصعدُ عالياً بثقة، ثم يُصعقُ مبهوتاً على جمودِ وتردُّدِ المؤسَّسات، يمسك أحد معدِّي الحفل باقة الورد مشدِّداً على عنقها، فيخيَّل للشاعر أنها بعد لحظات ستلامس أنامله المخضّبة بالشعر، وإذ بهم يرتعدون من تقديمها للشاعر، يغضب من وجوده في الاحتفال ومن مشاركته في هكذا معرض، كأنه إزاء نكتة سمجة! ثم يعود أدارجه من فوق خشبة المهازل أمام فضائيتين، مذهولاً مما تراه عيناه، متمتماً لمن حوله، لقد هَزُلَتْ فعلاً.
 
أين نحن من حضارة هذا الزمان، ألا يوجد في طول عوالم شعبنا وعِرضه من يستطيع أن يقود فضائية، حفلاً، برنامجاً، منبراً ثقافياً أدبياً فنّياً موسيقياً، لا مدرسة ولا أكاديمية ولا أي منبر إبداعي يبيّض الوجه، لماذا أغلب فعالياتنا تسير بدون تخطيط أو يتم التخطيط لها بشكل اعتباطي، هل نحن أمّة تضم شعباً اعتباطياً، أم أنَّ هناك آلاف المؤلفة من ذوي الخبرة والفن والإبداع والثقافة والأدب لكنهم في الظلّ وفي الصفوف الخلفية، ولماذا أصلاً هم في الظلّ ولماذا يسمحون لأنفسهم أن يبقوا في الظلّ ولا يتقدموا إلى الميدان لإعادة خيوط مسيرة النجاح إلى مسارها الصحيح، كما كانت أيام زمان، في أوج عصورنا الذهبية، أم أن المسألة أعمق مما نتصوّر بكثير، ولا مفرَّ من الخروج من دائرة التوهان عن مدارات هبوبِ الغبار؟!

من هذا المنظور أقترح أن ينهض كلّ من لديه قدرة على العطاء على أي صعيد من أصعدة الثقافة والآداب والفنون الإبداعية، أن يتعاون ويتضامن مع ذوي الشأن، هذا إذا كان لذوي الشأن شأناً من حيث النبوغ والعطاء! لأنني أشك بشأنهم لأن برنامج شأنهم وشؤونهم غالباً ما يصبُّ في خطِّ من ليس معنا فهو ضدّنا، وهنا تكمن الكارثة الحقيقية لما نحن فيه وعليه! .. وهنا بالذات بيت القصيد، لأن عليهم وعلى غيرهم وعلينا جميعاً أن نعلم ونعي ونفهم أن الحياة ليست رؤية أحادية الجانب فهناك آلاف الرؤى السليمة والصحيحة والناجحة والحياة ليست منظوراً واحداً فقط، يراه فلان أو علان من قيادات هذه التجمعات أو تلك من الأندية والتيارات الخاصّة بشعبنا بكل تلاوينه وأطيافه وتطلعاته، وكلّما كانت الرؤى غزيرة وكثيرة ومنوَّعة، كانت أكثر نضجاً وعمقاً وانفتاحاً وتصبُّ بالتالي في واحات النَّجاح والتطوُّر والتغير نحو الأفضل، لكن وبكل أسف أرى أغلب هذه الأطياف والتيارات والأندية والفضائيات تصبُّ في رؤية أحادية غارقة في التقوقع والانغلاق!

كيف نتجاوز هذا الوضع المخلخل؟!
ليس من السهل أن نتجاوز تراكمات عيوب وأخطاء عشرات بل مئات السنين بجرّة قلم، لكم ممكن أن ندرج بعض النقاط التي من خلالها ممكن أن نخفِّف من درجة الخلافات والانشقاقات التي حلّت بنا وبالتالي نخطط رويداً رويداً لرأب الصدع الذي حلََّ بنا وبالتالي نضع صيغ عمل جديدة ومتقدمة لما كنا عليه حتى الآن، بحيث أن نضع في الاعتبار أن يكونَ الكادر المتمكن من شعبنا في موقع الصدارة جنباً إلى جنب مع كل تكتل أو تجمع أو تيار، آخذين في الحسبان أنه من الممكن أن نختلف في وجهات نظر عديدة عبر كل هذه التلاوين والتيارات السائدة، لكن علينا أن نستوعب الخلاف ونضع حلاً له بما يناسب الجميع، وعلينا أن نستدرك وننطلق من منطلق أنه من دون خلاف في وجهات النظر لا يمكن أن تتقدم أية أمة أو أي شعب على وجه الدنيا، فالاختلاف في الرؤى هو الطريق للنهوض نحو رؤى أشمل وأوسع وأرحب وذلك من خلال بلورة الرؤى المتناثرة والمتعدِّدة وصياغة أنجع ما يفيد لكلِّ الأطراف، لا أن يطرح كل طرف أو تيار أو تجمّع نفسه وكأنه عبقري زمانه وكلّ ما عداه لا يفهم البتّة!
وفي هذا المنحى أريد أن أؤكّد على أنَّ لكلِّ تيار أو تجمُّع أو مؤسسة الحقّ في أن تطرح رؤاها وتطلعاتها وبرامجها بما يتلائم معها لكن شريطة أن لا تكون تطلعاتها وتوجهاتها ضد أطراف أخرى في تجمعات أخرى، وبحيث أن لا تؤدّي إلى نوع من الاختلاف والصدام مما لا يفسح المجال لأي تعاون بينها وبين غيرها من التجمعات أو التيارات، ولا أجد أجمل وأنفع من أندية متعددة وتيارات ومؤسَّسات متعددة ولها آفاق مختلفة لكنها تتعاون ضمن ما هو مفيد للجميع وكأنها فسيفساء لتزيين الطريق المؤدّي إلى الهدف الأكبر وهو مصلحة الجميع! لأن أي تصارع أو اختلاف من قبل أية مؤسسة أو نادٍ أو تيار مع نادٍ آخر أو تجمع آخر هو لغير صالح الطرفين، لهذا فمن المنطقي والبديهي أن نعي الآن ولا وقت للتأجيل أننا في مفترق طرق، وهذه الطرق المفترقة تقودنا إلى المزيد من التفرقة والنكوص والتخلف والتحجر والضعف والركاكة وبالتالي نرى أجيالنا تهرب منّا ولا تقتنع بنا وتشعر بنوع من الغثيان من تسمياتنا وتشنُّجاتنا النقاشية مع بعضنا بعضاً وخلافاتنا اللانهائية وبالتالي ابتلى جيل هذا الزمان بانقساماتنا وهزائمنا خاصة ممن يعيشون في دنيا الغرب تحت كنف الحرية والديمقراطية والبحبوحة الحياتية والاقتصادية.

لهذا يجب أن نستدرك الأمر الآن قبل أن يستفحل أكثر وأكثر، ونعالج أخطاءنا المميتة وخاصة ما يتعلق بالتسميات، ويبدو لي واضحاً، عاماً بعد عام أن من أكثر أسباب انقساماتنا وانشقاقاتنا هي التسميات، فهذا يطرح نفسه آشوري، وذاك يطرح نفسه كلداني وسرياني وبابلي وآرامي وآثوري وسومري وأكّادي، وأنا لست ضد أية تسمية من هذه التسميات وتسميات عديدة أخرى، لكني ضد كل هذه التسميات جملة وتفصيلاً عندما تصبح سبباً لانقساماتنا وهزائمنا وتناحرنا وصراعنا، وأؤكِّد للجميع أنني لستُ منتمياً لأي تنظيم أو حزب سياسي، لا داخل هذه التسميات ولا غيرها من التسميات، لكنّي وبكل بساطة أقول أنني احترم كل هذه الأطياف والتلاوين خاصة عندما تنحو نحواً متفتِّحاً وتتعاون مع بعضها بعضاً بعيداً عن لغة المنغِّصات والخلافات اللانهائية السقيمة! ويهمّني كثيراً أن نشكل هيئات عديدة من داخل كوادر المؤسسات بكل تلاوينها ومن داخل الغيورين الجادين الحياديين أيضاً والذين يحملون رؤى انفتاحية خلاقة وهم خارج دائرة الضوء والالتزام بهذه الجهة أو تلك، أي هم جهات حيادية تحمل فكراً مستنيراً ومتفتحاً وغيورة على مصلحة أبناء هذا الشعب الذي تخلخلت أجنحته وأدمت عيونه من خلال تراكمات الرماد والغبار المتناثر فوق صباحه ومسائه وليله المشحون بالشاشات المقعرة بهشاشاتٍ لا تخطر على بال!
 
لهذا أطرح وجهات نظر عديدة لربما تساعدنا على تجاوز خلافاتنا وانشقاقاتنا أو على الأقل تخفِّف ولو رويداً رويداً من حدّةِ الخلافات لعلها مع الزمن تتجاوز هذه الخلافات وتبني علاقات طيبة ومفيدة مع بعضها بعضاً من أجل المصلحة والفائدة المشتركة لكافة الأطراف، وإلا لو ظللنا على هذا الحال والأحوال من الصراع والخلاف والانشقاق، لتهنا وتاه معنا الجيل الحالي ولا مفرّ أمام الجّيل القادم سوى الفرار من منغِّصات ما يراه فلا يجد أجدى من أن يشقَّ طريقه ضمن ما يناسبه في المجتمع الجديد وهذا ما يجعل أجيالنا تلجأ إلى تجمُّعات ومؤسسات أخرى بديلة في المجتمع الجديد لتمارس نشاطاتها، بعيداً عن خزعبلات خلافات مؤسساتنا التي غدت ترهق كاهل الجيل المترعرع في كنف حضارات ومؤسسات راسخة بالديمقراطية والحرية، فيهرب الجيل الحالي والقادم من مؤسساتنا المبعثرة، لأن الجيل الوافد الجديد لا يتقبل هكذا انشطارات وهكذا خلافات، ويرى ويحلِّل حضارة العصر وحرية وديمقراطية العصر بانفتاح وموضوعية، لهذا فأنا أرى أننا لو لم تتصدَّ مؤسَّساتنا وأنديتنا والتيارات السائدة لاستيعاب هذا الأمر ستصبُّ في مفترق طرق، وستتوه في عالمٍ من ضباب! فإلى متى ستزرع مؤسَّساتنا وأنديتنا وتياراتنا بكل أطيافها مستقبلاً لأجيالنا غالباً ما يكونُ مكتنفاً بالضّباب؟!
هل وصلَ المرسال؟!

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com

68
الاتجاه المعاكس برنامج استفزازي لا يحقِّق الفائدة المنشودة


كنتُ وما أزال من المتحمِّسين لحضور برنامج الاتجاه المعاكس، وحلقة بعد أخرى أجدني أنفر من هذا البرنامج مع أنَّه أخذ صيتاً وانتشاراً كبيراً في العالم العربي والغربي أيضاً!

لا شكَّ أن الدكتور فيصل القاسم اعلامي بارز وبارع في إدارة الحوار كحوار عبر برنامجه المشهور، ولكن البرنامج لا يحقِّق الهدف المنشود ولا الفائدة المرجوّة، لهذا يراودني الكثير من التساؤلات المتعلقة بهذا البرنامج وبصيغة تقديم البرنامج وإدارة الحوار وكيفية انتقاء ضيوف البرنامج وصيغة تقديم الضيوف والهدف من البرنامج ككل!

أعلم جيداً كما يعلم الجميع، أن القاسم حصل على جوائز عديدة لقدراته ومؤهلاته العالية في مهنته الاعلامية كأحد الاعلاميين البارزين على الساحة العربية، من حيث جرأته وقدرته الفائقة على تحريك الحوار الدائر بين ضيفيه الذين ينفشان ريشيهما مثل الديكة، حيث كل واحد منهما يحاول أن يتهجَّم على الآخر، محاولاً عبر صراخه وضجيجه وأوراقه أن يقنع المشاهد على أنه على صواب!
هذه النقطة التي يرتكز عليها البرنامج لا تعجبني على الإطلاق، حيث أنه يسعى إلى تعميق الخلاف بين الضيفين وبين المشاهدين، مؤيدي هذا الضيف أو ذاك، وقد بدأتُ شيئا فشيئاً أرى أن هدف البرنامج يتزحزح عن مساره ويضيع في متاهة الصراخ والتهجم وكيل التهم لبعضهما بعضاً، ويبقى أحياناً مدير البرنامج في حيرة من أمره، ممَّا يرى، فيفقد أحياناً السيطرة على قيادة البرنامج فلا ينصاع له الضَّيف، بل سرعان ما تتداخل أصوات الضيوف وكأننا في معركة حوارية، حيث يفقد الضيفان آداب الحوار، فيتهجمان على بعضهمها بعضاً وكأنّ القاسم استضافهمها كي يشتما بعضهما أو يتهجما على بعضهما ويجرحا مشاعر المشاهدين، تاركين الهدف الذي رُسِمَ من أجله البرنامج جانباً، وكم من مرة وجدت مدير البرنامج في حالة يرثى لها لعدم قدرته على ضبط الحوار الساخن بين ضيفيه، حتى أنه وصل إلى مرحلة توسَّل إليهما كي يتوقفا عن الصراخ والشتائم، وسمعته مرّة يتوسل أحد ضيوفه قائلاً أبوس اِيدك توقّف، ورجاءاته لا تتوقف في أغلب البرامج المعاكسة على مدار سنوات، كما أنه أحياناً بصعوبة بالغة يقفل برنامجه من ضيق حالة التنفس، ويبدو وكأنه سينهار من شدة الأسى والضغط الذي يرافقه من جراء تأزم الحوار، لهذا أودُّ عبر هذه الورقة أن أتوقف عند هدف البرنامج، منافعه ومضاره، نجاحه وفشله، ترجمته لما يحصل على الساحة العربية والعالمية، كل هذه النقاط سأتوقف عندها تباعاً!

قبل أن أخوض في تفاصيل البرنامج، أودُّ الاشارة إلى أن فكرة البرنامج فاشلة أو بالأحرى أثبتت فشلها من خلال أكثر البرامج التي شاهدناها على امتدادِ سنوات، لأننا لا نخرج بنتيجة مفيدة، بل غالباً ما يزداد المشاهد والمتابع والسياسي والمسؤول، تشبثاً في الأخطاء المتفشية في عالمنا العربي، أو بتعبير أدق يتعمق الخلاف بين مَن يدافع على هذا الضيف أو ذاك، وأسأل بدوري الدكتور فيصل، هل من المعقول أن تستضيف ضيفين على طرفي نقيض، إلى برنامج اسمه الاتجاه المعاكس وتؤجج الحوار من دون أن يشتعل فتيل النار بين ضيفيك؟ فمن البديهي أن يجنَّ جنون الضيفين ويتهجما على بعضهما بعضاً، لأنكَ يا دكتور تقوم بمهمة اِلهاب النقاش والحوار ويشبه دورك كمدير البرنامج كمن يضع الزيت على النار، وكلا الضيفين يجمران ناراً، وأنت تزيد من لهيب النارِ ناراً، وبنفس الوقت تطلب منهما أن يخفِّفا من لهيب النَّار المسعورة في قلب كلٍّ منهما، كيف سيتوقفا وهما على طرفي نقيض قلباً وقالباً، وحضرتكَ لا تقدِّم عبر حوارك وبرنامجك ما يمكن أن يتَّفقا عليه، بل تقدِّم كلّ ما يمكن أن يختلفا عليه وكلَ ما يمكن أن يعمِّقَ الخلاف بينهما؟
لهذا أدين البرنامج بشدّة، لأنني لا أراه يحقِّق الفائدة المرجوّة، ولا الهدف المنشود من الحوار، لأنه يقوم على أسس استفزازية من قبل مدير البرنامج ويحاول كل ضيف أن يبرهن للمشاهد على أنه على صواب وعبقري زمانه في الدقة والموضوعية والحقيقة، في الوقت الذي أرى أن كليهما على خطأ في طريقة تقديم أفكاره ورؤاه للآخر وللمشاهد، لأنني لا أجد متحاوريَن يحترمان بعضهما بعضاً، ولا أجد حواراً بالأساس، بل أشاهد صراخاً وكيلاً من التهم لبعضهما بعضاً، فتضيع الفائدة من لقائهما عبر حوار متشنج مستفز وغير هادف، فلا يمت هكذا حوار إلى آداب الحوار، أريد أن أشاهدَ حواراً مفيداً مثمراً وخلاقاً، لا حواراً نارياً مليئاً بالسباب والشتائم وكيل التهم والتهجم الشخصي أحياناً وتجريحات لا تمتُّ بصلة إلى موضوع الحلقة أحياناً أخرى، ولا إلى مضمون الهدف المرسوم من أجله البرنامج!

من هذا المنظور أتساءل، لماذا يا دكتور فيصل تستضيف ضيفين متناقضين مع بعضهما بعضاً حتى النخاع، وتركِّز على مدار الحلقة على تأجيج نقاط التناقض والنفور بينهما، ولا تركز على نقاط التلاقي ونقاط التفاهم كي تخفِّف من الهوّة بين كلٍّ منهما؟! على الأرجح ستجيبني أن هذا هو هدف البرنامج، وأنا أجيبك لهذا أعتبر البرنامج غير هادف وفاشل، رغم انتشاره الكبير، فمثلاً عندما تقدم ضيفاً علمانياً وضيفاً آخر ذات منحى ديني، لماذا لا تقرّب وجهات نظرهما إلى بعضهما بعضاً بحيث يبيِّن كلّ منهما على أنّه يكمِّل الآخر، ونخرج بنتيجة مفادها أن الدين بقيمه ومعاييره الأخلاقية السامية تعاضد وتساند العلوم الإنسانية، فلا قيمة للعلوم من دون الأخلاق ولا قيمة للأخلاق من دون العلوم فكل منهما يتمِّم الآخر بصيغة أو بأخرى، لا أن تقدِّم العلماني وكأنه ملحد أو مناقض للدين والأديان، والديني كانه منقذ البشرية، كلاهما له من القيم والفائدة في المجتمع والدولة والحياة، ولهذا من خلال البرنامج يزداد المشاهد والمتابع تشدُّداً على نزوعه الديني ذات الرؤية الأحادية أي لا ينفتح على علمانية العلوم، على أساس انها ضدّ الرؤى الدينية، وبالتالي يظل العلماني على الطرف المعاكس من الدينيين، مع العلم أنه بكل بساطة ممكن أن نستفيد عبر الحوار وعبر البرنامج وعبر الحياة مما هو ديني ومما هو علمي بحيث أن نعطي لكل جانب حقَّه سواء في البرنامج أو في مشاهد الحياة، كل من موقعه، بحيث أن يساهم كل واحد على تعاضد الآخر.

لماذا لا يسير برنامج الاتجاه المعاكس بشكل هادئ وحضاري، لماذا عندما أحضر البرنامج يتراءى أمامي مظاهر التخلف والتحجُّر الفكري وحوار الطرشان؟! عندما أتمعَّن في قسمات وجهكَ وفي طريقة إدارة الحوار، أشعر أحياناً كثيرة وكأنك في بلوة أو ورطة، تنتظر الخلاص، خلاص البرنامج! وعندما تقفل البرنامج تبدو لي وكأنَّ حجرة كبيرة أزيحت عن صدرك، لماذا كل هذا التوتر، فيما بينك وبين الضيوف وبين الضيف والضيف؟! يا عزيزي دكتور فيصل، أنت أعلامي بارز جداً ومحاور بارع للغاية، لكني لا أراك تسخّر براعتك الحوارية لما هو مفيد للمشاهد والقناة والحياة، هدّئ من روعكَ وروع الضيوف، وتذكَّر جيداً أن البرنامج يحتاج إلى الكثير الكثير من إعادة صياغة الحوار، وأهداف الحوار، وكيفية تقديم الحوار، بحيث أن تخرج بنتيجة مفادها، تقريب وجهات نظر الضيوف من بعضهما بعضاً وخلق لقاء تلاقي وتفاعل، لا أن تركِّز فقط على التناقضات وكشف العيوب والعورات وتعميق الخلاف والاختلاف، ألا يكفينا تخلفنا واختلافنا فتأتي أنتَ عبر برنامجك المعاكس، تعمِّق هذا الجانب المخلخل في مجتمعنا والمصاب أصلاً بتخمة مفتوحة على الهلهلة، فتجعل الغرب وكل مَن له رؤية انفتاحية حضاريّة يضحك علينا، مردِّداً: إذا كان مفكِّري ومنظِّري ومتديني الشرق العربي هكذا فما على الشرق بكل نفطه ودفئه السلام؟!!!

لاشك أن كشف العيوب والأخطاء من كلا الطرفين مهمة جداً، لكن الأهم من هذا هو كيف ممكن أن نعالج هذه العيوب وبالتالي نتجاوزها من كلا الطرفين، بحيث يفنّد كل ضيف فكرته بهدوء ودقة وموضوعية، ويقنع كل منهما الآخر بما لديه من تبريرات صحيحة وسليمة تكمّل أحدهما الآخر، على أن يصلا إلى نقاط مشتركة ومفيدة يجتمع الضيفان عليها، لا أن يخرجا من البرنامج وكل منهما يحقد على الآخر، وأحياناً كثيرة أخشى أن يقوم أحدهما من شدة استفزازه وغضبه ويلكم الآخر، وبعضهما خرج من البرنامج ولم يعد، وآخرين بُحّتْ أصواتهم في البرنامج، فمَن المسؤول عن إعادة الأصوات المبحوحة؟!

لهذا أرى أنه من الضروري أن تضع قناة الجزيرة ومدير البرنامج في الاعتبار الفوائد والمضار الناجمة عن هكذا برنامج، فأنا أرى أن المضار أكثر من المنافع، حيث يعكس البرنامج للغرب وللعالم أجمع، أنَّ العالم العربي متصارع مع ذاته وغير قادر على الحوار مع ذاته وهو في حالة غليانية بين أطيافه وتطلعاته وأهدافه متطاحنة مع بعضه بعضاً بشكل اعتباطي، وهو غير قادر على خلق حالة حوارية حضارية مفيدة، لأن البرنامج بعيد كل البعد عن الحوار الحضاري الفعّال والمفيد، وهو معركة مؤجَّجة على مدار البرنامج، حتى أن سير البرنامج غالباً ما يخرج عن اطاره وعن جوهر الموضوع المطروح ليصبَّ في خانة التهم وتصفية الحسابات بين الطرفين، لهذا يخرج البرنامج عن دائرة الحوار الجادّ والهادئ والفعَّال، فلا ضرورة لهكذا برنامج طالما يسير وفق استنفار الضيفين، وبالتالي استنفار المشاهد، فهذا يصفُّ مع الضيف الفلاني وآخر يصفُّ مع الضيف المعاكس، وكلاهما يعاكس الآخر، وتجد الكثير من المشاهدين لا يصفّ مع أيٍّ من الضيفين، فيركِّز على اغلاق البرنامج لارتفاع ضغطه من الصراخ وكيل التهم والشتائم بين الضيفين، وكأنهما يتسابقان في الغوص في جوف الصحراء بدون أية بوصلة، فلا يصل أيٌّ منهما إلى الهدف المطلوب، بل يزداد ضياعاً وتيهاً واختلافاً!

التساؤل القائم إزاء كل مانراه هو، إلى متى سيدور العالم العربي وما يجاوره وينضوي تحت لوائه من شعوبٍ وأقوام في حلقات مفرغة، بعيداً عن الحوار المثمر والمفيد، تائهين وضائعين وغير قادرين على تثبيت موطئ قدم راسخة وقوّية على خارطة حضارة العصر، ومدنية العصر وتقدُّم العصر، وجمال وإبداع العصر، ضارباً نفطه ودفئه وشمسه عرض الحائط وكأنه غائبٌ عن الوعي وفي صراع مرير مع نفسه للعبور في أقصى أقاصي الظلمات؟!!!

هل وصل المرسال؟!

ستوكهولم: 8 ـ 3 ـ 2008

صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
www.sabriyousef.com

69
الاتجاه المعاكس برنامج استفزازي لا يحقِّق الفائدة المنشودة

 

 

كنتُ وما أزال من المتحمِّسين لحضور برنامج الاتجاه المعاكس، وحلقة بعد أخرى أجدني أنفر من هذا البرنامج مع أنَّه أخذ صيتاً وانتشاراً كبيراً في العالم العربي والغربي أيضاً!

 

لا شكَّ أن الدكتور فيصل القاسم اعلامي بارز وبارع في إدارة الحوار كحوار عبر برنامجه المشهور، ولكن البرنامج لا يحقِّق الهدف المنشود ولا الفائدة المرجوّة، لهذا يراودني الكثير من التساؤلات المتعلقة بهذا البرنامج وبصيغة تقديم البرنامج وإدارة الحوار وكيفية انتقاء ضيوف البرنامج وصيغة تقديم الضيوف والهدف من البرنامج ككل!

 

أعلم جيداً كما يعلم الجميع، أن القاسم حصل على جوائز عديدة لقدراته ومؤهلاته العالية في مهنته الاعلامية كأحد الاعلاميين البارزين على الساحة العربية، من حيث جرأته وقدرته الفائقة على تحريك الحوار الدائر بين ضيفيه الذين ينفشان ريشيهما مثل الديكة، حيث كل واحد منهما يحاول أن يتهجَّم على الآخر، محاولاً عبر صراخه وضجيجه وأوراقه أن يقنع المشاهد على أنه على صواب!

هذه النقطة التي يرتكز عليها البرنامج لا تعجبني على الإطلاق، حيث أنه يسعى إلى تعميق الخلاف بين الضيفين وبين المشاهدين، مؤيدي هذا الضيف أو ذاك، وقد بدأتُ شيئا فشيئاً أرى أن هدف البرنامج يتزحزح عن مساره ويضيع في متاهة الصراخ والتهجم وكيل التهم لبعضهما بعضاً، ويبقى أحياناً مدير البرنامج في حيرة من أمره، ممَّا يرى، فيفقد أحياناً السيطرة على قيادة البرنامج فلا ينصاع له الضَّيف، بل سرعان ما تتداخل أصوات الضيوف وكأننا في معركة حوارية، حيث يفقد الضيفان آداب الحوار، فيتهجمان على بعضهمها بعضاً وكأنّ القاسم استضافهمها كي يشتما بعضهما أو يتهجما على بعضهما ويجرحا مشاعر المشاهدين، تاركين الهدف الذي رُسِمَ من أجله البرنامج جانباً، وكم من مرة وجدت مدير البرنامج في حالة يرثى لها لعدم قدرته على ضبط الحوار الساخن بين ضيفيه، حتى أنه وصل إلى مرحلة توسَّل إليهما كي يتوقفا عن الصراخ والشتائم، وسمعته مرّة يتوسل أحد ضيوفه قائلاً أبوس اِيدك توقّف، ورجاءاته لا تتوقف في أغلب البرامج المعاكسة على مدار سنوات، كما أنه أحياناً بصعوبة بالغة يقفل برنامجه من ضيق حالة التنفس، ويبدو وكأنه سينهار من شدة الأسى والضغط الذي يرافقه من جراء تأزم الحوار، لهذا أودُّ عبر هذه الورقة أن أتوقف عند هدف البرنامج، منافعه ومضاره، نجاحه وفشله، ترجمته لما يحصل على الساحة العربية والعالمية، كل هذه النقاط سأتوقف عندها تباعاً!

 

قبل أن أخوض في تفاصيل البرنامج، أودُّ الاشارة إلى أن فكرة البرنامج فاشلة أو بالأحرى أثبتت فشلها من خلال أكثر البرامج التي شاهدناها على امتدادِ سنوات، لأننا لا نخرج بنتيجة مفيدة، بل غالباً ما يزداد المشاهد والمتابع والسياسي والمسؤول، تشبثاً في الأخطاء المتفشية في عالمنا العربي، أو بتعبير أدق يتعمق الخلاف بين مَن يدافع على هذا الضيف أو ذاك، وأسأل بدوري الدكتور فيصل، هل من المعقول أن تستضيف ضيفين على طرفي نقيض، إلى برنامج اسمه الاتجاه المعاكس وتؤجج الحوار من دون أن يشتعل فتيل النار بين ضيفيك؟ فمن البديهي أن يجنَّ جنون الضيفين ويتهجما على بعضهما بعضاً، لأنكَ يا دكتور تقوم بمهمة اِلهاب النقاش والحوار ويشبه دورك كمدير البرنامج كمن يضع الزيت على النار، وكلا الضيفين يجمران ناراً، وأنت تزيد من لهيب النارِ ناراً، وبنفس الوقت تطلب منهما أن يخفِّفا من لهيب النَّار المسعورة في قلب كلٍّ منهما، كيف سيتوقفا وهما على طرفي نقيض قلباً وقالباً، وحضرتكَ لا تقدِّم عبر حوارك وبرنامجك ما يمكن أن يتَّفقا عليه، بل تقدِّم كلّ ما يمكن أن يختلفا عليه وكلَ ما يمكن أن يعمِّقَ الخلاف بينهما؟

لهذا أدين البرنامج بشدّة، لأنني لا أراه يحقِّق الفائدة المرجوّة، ولا الهدف المنشود من الحوار، لأنه يقوم على أسس استفزازية من قبل مدير البرنامج ويحاول كل ضيف أن يبرهن للمشاهد على أنه على صواب وعبقري زمانه في الدقة والموضوعية والحقيقة، في الوقت الذي أرى أن كليهما على خطأ في طريقة تقديم أفكاره ورؤاه للآخر وللمشاهد، لأنني لا أجد متحاوريَن يحترمان بعضهما بعضاً، ولا أجد حواراً بالأساس، بل أشاهد صراخاً وكيلاً من التهم لبعضهما بعضاً، فتضيع الفائدة من لقائهما عبر حوار متشنج مستفز وغير هادف، فلا يمت هكذا حوار إلى آداب الحوار، أريد أن أشاهدَ حواراً مفيداً مثمراً وخلاقاً، لا حواراً نارياً مليئاً بالسباب والشتائم وكيل التهم والتهجم الشخصي أحياناً وتجريحات لا تمتُّ بصلة إلى موضوع الحلقة أحياناً أخرى، ولا إلى مضمون الهدف المرسوم من أجله البرنامج!

 

من هذا المنظور أتساءل، لماذا يا دكتور فيصل تستضيف ضيفين متناقضين مع بعضهما بعضاً حتى النخاع، وتركِّز على مدار الحلقة على تأجيج نقاط التناقض والنفور بينهما، ولا تركز على نقاط التلاقي ونقاط التفاهم كي تخفِّف من الهوّة بين كلٍّ منهما؟! على الأرجح ستجيبني أن هذا هو هدف البرنامج، وأنا أجيبك لهذا أعتبر البرنامج غير هادف وفاشل، رغم انتشاره الكبير، فمثلاً عندما تقدم ضيفاً علمانياً وضيفاً آخر ذات منحى ديني، لماذا لا تقرّب وجهات نظرهما إلى بعضهما بعضاً بحيث يبيِّن كلّ منهما على أنّه يكمِّل الآخر، ونخرج بنتيجة مفادها أن الدين بقيمه ومعاييره الأخلاقية السامية تعاضد وتساند العلوم الإنسانية، فلا قيمة للعلوم من دون الأخلاق ولا قيمة للأخلاق من دون العلوم فكل منهما يتمِّم الآخر بصيغة أو بأخرى، لا أن تقدِّم العلماني وكأنه ملحد أو مناقض للدين والأديان، والديني كانه منقذ البشرية، كلاهما له من القيم والفائدة في المجتمع والدولة والحياة، ولهذا من خلال البرنامج يزداد المشاهد والمتابع تشدُّداً على نزوعه الديني ذات الرؤية الأحادية أي لا ينفتح على علمانية العلوم، على أساس انها ضدّ الرؤى الدينية، وبالتالي يظل العلماني على الطرف المعاكس من الدينيين، مع العلم أنه بكل بساطة ممكن أن نستفيد عبر الحوار وعبر البرنامج وعبر الحياة مما هو ديني ومما هو علمي بحيث أن نعطي لكل جانب حقَّه سواء في البرنامج أو في مشاهد الحياة، كل من موقعه، بحيث أن يساهم كل واحد على تعاضد الآخر.

 

لماذا لا يسير برنامج الاتجاه المعاكس بشكل هادئ وحضاري، لماذا عندما أحضر البرنامج يتراءى أمامي مظاهر التخلف والتحجُّر الفكري وحوار الطرشان؟! عندما أتمعَّن في قسمات وجهكَ وفي طريقة إدارة الحوار، أشعر أحياناً كثيرة وكأنك في بلوة أو ورطة، تنتظر الخلاص، خلاص البرنامج! وعندما تقفل البرنامج تبدو لي وكأنَّ حجرة كبيرة أزيحت عن صدرك، لماذا كل هذا التوتر، فيما بينك وبين الضيوف وبين الضيف والضيف؟! يا عزيزي دكتور فيصل، أنت أعلامي بارز جداً ومحاور بارع للغاية، لكني لا أراك تسخّر براعتك الحوارية لما هو مفيد للمشاهد والقناة والحياة، هدّئ من روعكَ وروع الضيوف، وتذكَّر جيداً أن البرنامج يحتاج إلى الكثير الكثير من إعادة صياغة الحوار، وأهداف الحوار، وكيفية تقديم الحوار، بحيث أن تخرج بنتيجة مفادها، تقريب وجهات نظر الضيوف من بعضهما بعضاً وخلق لقاء تلاقي وتفاعل، لا أن تركِّز فقط على التناقضات وكشف العيوب والعورات وتعميق الخلاف والاختلاف، ألا يكفينا تخلفنا واختلافنا فتأتي أنتَ عبر برنامجك المعاكس، تعمِّق هذا الجانب المخلخل في مجتمعنا والمصاب أصلاً بتخمة مفتوحة على الهلهلة، فتجعل الغرب وكل مَن له رؤية انفتاحية حضاريّة يضحك علينا، مردِّداً: إذا كان مفكِّري ومنظِّري ومتديني الشرق العربي هكذا فما على الشرق بكل نفطه ودفئه السلام؟!!!

 

لاشك أن كشف العيوب والأخطاء من كلا الطرفين مهمة جداً، لكن الأهم من هذا هو كيف ممكن أن نعالج هذه العيوب وبالتالي نتجاوزها من كلا الطرفين، بحيث يفنّد كل ضيف فكرته بهدوء ودقة وموضوعية، ويقنع كل منهما الآخر بما لديه من تبريرات صحيحة وسليمة تكمّل أحدهما الآخر، على أن يصلا إلى نقاط مشتركة ومفيدة يجتمع الضيفان عليها، لا أن يخرجا من البرنامج وكل منهما يحقد على الآخر، وأحياناً كثيرة أخشى أن يقوم أحدهما من شدة استفزازه وغضبه ويلكم الآخر، وبعضهما خرج من البرنامج ولم يعد، وآخرين بُحّتْ أصواتهم في البرنامج، فمَن المسؤول عن إعادة الأصوات المبحوحة؟!

 

لهذا أرى أنه من الضروري أن تضع قناة الجزيرة ومدير البرنامج في الاعتبار الفوائد والمضار الناجمة عن هكذا برنامج، فأنا أرى أن المضار أكثر من المنافع، حيث يعكس البرنامج للغرب وللعالم أجمع، أنَّ العالم العربي متصارع مع ذاته وغير قادر على الحوار مع ذاته وهو في حالة غليانية بين أطيافه وتطلعاته وأهدافه متطاحنة مع بعضه بعضاً بشكل اعتباطي، وهو غير قادر على خلق حالة حوارية حضارية مفيدة، لأن البرنامج بعيد كل البعد عن الحوار الحضاري الفعّال والمفيد، وهو معركة مؤجَّجة على مدار البرنامج، حتى أن سير البرنامج غالباً ما يخرج عن اطاره وعن جوهر الموضوع المطروح ليصبَّ في خانة التهم وتصفية الحسابات بين الطرفين، لهذا يخرج البرنامج عن دائرة الحوار الجادّ والهادئ والفعَّال، فلا ضرورة لهكذا برنامج طالما يسير وفق استنفار الضيفين، وبالتالي استنفار المشاهد، فهذا يصفُّ مع الضيف الفلاني وآخر يصفُّ مع الضيف المعاكس، وكلاهما يعاكس الآخر، وتجد الكثير من المشاهدين لا يصفّ مع أيٍّ من الضيفين، فيركِّز على اغلاق البرنامج لارتفاع ضغطه من الصراخ وكيل التهم والشتائم بين الضيفين، وكأنهما يتسابقان في الغوص في جوف الصحراء بدون أية بوصلة، فلا يصل أيٌّ منهما إلى الهدف المطلوب، بل يزداد ضياعاً وتيهاً واختلافاً!

 

التساؤل القائم إزاء كل مانراه هو، إلى متى سيدور العالم العربي وما يجاوره وينضوي تحت لوائه من شعوبٍ وأقوام في حلقات مفرغة، بعيداً عن الحوار المثمر والمفيد، تائهين وضائعين وغير قادرين على تثبيت موطئ قدم راسخة وقوّية على خارطة حضارة العصر، ومدنية العصر وتقدُّم العصر، وجمال وإبداع العصر، ضارباً نفطه ودفئه وشمسه عرض الحائط وكأنه غائبٌ عن الوعي وفي صراع مرير مع نفسه للعبور في أقصى أقاصي الظلمات؟!!!

 

هل وصل المرسال؟!

 

ستوكهولم: 8 ـ 3 ـ 2008

 

صبري يوسف

كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم

sabriyousef1@hotmail.com

www.sabriyousef.com

 

70
صبري يوسف يرد على إجابات هنري بيدروس كيفا

ما كان بودّي أن أردَّ على إجاباتكَ على تساؤلاتي، لأنني لم أجد في ثناياها ما يحرِّضني على الردِّ، حيث جاءت مكررة وغير مقنعة، ومع هذا أردُّ على تحاليلك من منطلق أن يكوِّن المتابع والمهتم فكرة شاملة على وجهات نظرك وردودك على الأسئلة التي طرحتها عليك، ولكي يطلع على  وجهات نظري وردودي أيضاً، وأترك النقاش والحوار مفتوحاً  للقارئ والمتابع والمهتم والباحث المتخصص من كافة شرائح شعبنا بكافة تسمياته، كي يقدِّموا وجهات نظرهم أيضاً،  لعلَّ وعسى يكون حواري معك وإجاباتك وردودي عليكَ واحة مفيدة ومثمرة ومحرّضة على الحوار البنَّاء بين كافة الأطراف، آملاً أن نصل إلى الأهداف المرجوَّة بما فيه مصلحة وخير شعبنا بكل أطيافه وتسمياته.

الأستاذ هنري بيدروس كيفا
     
أي تزوير تتحدَّث عنه يا عزيزي الباحث، هل عندما تعتبر الآشوريين بحكم المنقرضين هو تاريخ علمي وأكاديمي، هل هذا بنظرك وبحسب حيثيات دراساتكَ وبحوثك تاريخ  غير قابل للردِّ عليه أو الطعن به،  ومَن منّا يزوّر التاريخ أنا أم أنتَ؟!
من خلال الجملة الأولى أراك تقع في تناقض يا أستاذ هنري، حيث تقول: " لا أحد يحق له إلغاء الشعوب الأخرى"، وأنتَ تلغي وجود الآشوريين، وتعتبرهم بحكم المنقرضين تارةً والذائبين في السريان الآراميين تارةً أخرى، فهل برأيك هذا الردّ مستند على التاريخ القويم والبحث السليم؟!
لم أتهجّم على د. أسعد صوما، بل سألته سؤالاً يتعلَّق بمعنى كلمة آشوري كما وردت في قاموس حسن بن بهلول، وأكَّد لي تبنِّيه لما ورد في القاموس قائلاً،  إنَّ كلمة آشوري تعني عدو، فقلت له هذا التصريح يدعو إلى إلإنقسام والانشقاق،  وما أزال مسؤول عن كلامي، وأعتبر كل من يعتبر "الآثوري/الآشوري عدو هو عدو وعدو لدود للآراميين أولاً ثم للآشوريين والآثوريين ثانياً"، لأن هكذا طرح يدعو إلى المزيد من المشاكل والتباعد والخلاف في الوقت الذي نحن بحاجة إلى التلاحم والتواصل والتقارب وخلق علاقة سويّة وتقبُّل الآخر رغم اختلاف وجهات النظر فيما يفكر  كل طرف!

أية شهرة أبحث عنها وتتحدَّث عنها يا عزيزي الباحث، هل سأحقِّق شهرة ما من خلال  طرح بعض الأسئلة على د. أسعد صوما، أو عليك، ما هذه الشهرة التي سأحققها من خلالك ومن خلال د. صوما؟  وهل تعتبر نفسك مع د. أسعد من أرباب علم التاريخ، ما هذا الغرور؟ دع الآخرين يتحدَّثون عنكم وعن بحوثكم لا أن تتحدث عن نفسك، وأجب عن أسئلتي بدقة ولا تتهرَّب منها، وتوقَّفْ عند حدود السؤال ولا تخرج عن جوهر السؤال وتقحم نفسك في مسارات أخرى،  وما علاقتك بالرسالة المفتوحة التي وجهتها للرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما، وما شأنك أنت لو ردَّ عليها أو لم يرد، ثم أنني كتبت مقالا بصيغة رسالة مفتوحة تتضمن الكثير من التساؤلات ووجهات نظر أحببت أن أطرحها على الرئيس الأمريكي الجديد، ولستُ بصدد انتظار جواب منه، وكلّ ما كان يهمني هو أن أقول كلمتي وأقدِّم له وللقارئ رأيي وبعض وجهات نظري حول السياسة الأمريكية ومواقف الرؤساء الأمريكيين السابقين واللاحقين، فلماذا تقحم نفسك فيما لا يعنيك؟!

كن لبقاً ومؤدّباً في آداب الحوار عندما تحاور وتتحاور مع الآخرين، ولا تقُلْ بوق آرامي أخرس، ولا تطرح نفسك وصيّاً على الأدباء والشعراء والفنانين والمثقفين على مختلف تخصصاتهم ولا تطلق عليهم صفة التطفل عندما يطرحون أسئلتهم عليك وعلى غيرك بكلِّ لباقة وإحترام، ولا تقلق يا أستاذ، لقد قرأتُ مقالك  أثناء  نشره ولم أرد عليكَ آنذاك لأنني  لم أجد في المقال ما يستحق الرد عليه،  وقد آن الآوان أن أردَّ عليكَ الآن وعلى ردودك على تساؤلاتي.

اندهشتُ عندما قرأتُ أوَّل جملة من ردِّكَ على  أسئلتي، قائلاً: " ليس مهمّاً أن تزور عرين الأسد، المهم أن تخرج حيّاً"، هل تطرح نفسك أسداً ولكَ عرين غير قابل للاقتراب منه؟! إني يا أستاذ لا أجد أمامي عريناً ولا أسداً، وها أنذا حي أُرْزَق، أردُّ على منازلاتكَ الطريفة، هل تعتقد أنَّ مَن يدرس التاريخ  سيصبح أسداً وسيصبح سيَّد الغابة والغابات، ثم أنني لا أطرح عليكَ أسئلة لأخيفك ولا أنتظر منكَ ردَّاً مخيفاً، لأني أطرح عليك أسئلة بكلّ جدِّية وموضوعية كي تجيب عنها وتوضح للقراء والمتابعين وجهات نظرك فلا تخرج عن سياق السؤال؟!

مَن هو وديع هذا الذي توجّه إليه أسفك، هل تقصدني أم تقصد شخص آخر، أم تقصدني ونسيت اسمي لانغماسك في بحوثكَ ودقّة إجاباتكَ!! أنتَ تؤكّد لنا يا أستاذ هنري من خلال اجابتك بأنك من أم أرمنية ومن أب سرياني آرامي، إذاً أنتَ من جذور حضارية هجينة،  نصفكَ أرمني ونصفكَ الآخر سرياني آرامي، ومع هذا تعتبر نفسك أرامياً محضاً،  ومهما كان ولاءك للسريان الآراميين قوياً، يبقى  نصفك من جذور  سريانية آرامية ونصفكَ الآخر من جذور أرمنية،  فأنتَ والحالة هذه لستَ سريانياً أرامياً خالصاً من حيث الجذر التاريخي،  مع عميق احترامي للعرق الأرمني الذي يجري في عروقك، بينما أنا من أم سريانية آرامية ومن أب سرياني آرامي،  فأنا سرياني آرامي محض، ومع هذا لا تعترف بسريانيتي وآراميتي من حيث الجذر التاريخي الحقيقي، وليس مهما أن أتبنى وجهات نظرك في كل ما تذهب إليه كي أصبح سريانياً آرامياً،  لأنني أتحدث هنا عن الانتماء والجذور التاريخية لكل منا ولشعبنا بكل تسمياته الذي نحن بصدده الآن.

من قال لكَ يا أستاذ كيفا أن الفكر الآشوري حديث جداً بين السريان،  ومَن قال لكَ أن الشعب الآشوري القديم انصهر ضمن أجدادنا الآراميين منذ مئات السنين قبل الميلاد، وهل لديك براهين وبحوث تاريخية ومصادر ووثائق واكتشافات الدِّي إنْ DN التي تثبت  انصهار الشعب الآشوري مع  الآراميين؟؟؟ ردُّك هذا يفتقر للموضوعية وهو كلام إنشائي وليس له أي علاقة بالبحث العلمي والتاريخي الدقيق.
ما قصّتكَ مع التاريخ الأكاديمي، وكيف تقصَّيتَ بأن المدافعين عن الفكر الآشوري لا يعتمدون على التاريخ الأكاديمي، هل تظن أنك ومن يحذو حذوك فقط تعتمدون على التاريخ الأكاديمي السديد؟! وما هذا التناقض عندما تقول يرفع الآشوريون شعار الوحدة ولكنهم يقسمون ويضعفون أمتنا الآرامية، كيف سيقسِّمون الأمة الآرامية طالما دعواتهم تصب في الوحدة ؟!

لا أسألكَ بهدف إحراجكَ، بل بهدف  توضيح وجهات نظرك وأفكارك حول الكثير ممَّا تطرحه  ويؤدِّي إلى خلخلة العلاقة بين شعبنا، وأعود مؤكِّداً على  تساؤلي: "ما علاقتكَ فعلاً في اعتقاد ومبادئ الآخرين؟"، نعم هوية الشعوب لا تبنى على اعتقاد ومبادئ سياسية حديثة، ولكن الآشوريون لهم هويتهم الآشورية منذ مئات السنين قبل الميلاد وبعده، وقدموا جنبا إلى جنب مع الكلدان والسريان  للبشرية حضارة ما لم تقدمها أية حضارة أخرى خلال تلك الفترة الزمنيّة، والهوية الآشورية ليست حديثة العهد ولا حديثة الطرح ولا هي مزيفة كما  تزعم، هي هوية أصيلة وذات جذر ومنبع تاريخي أصيل، شأنها شأن الهوية السريانية الآرامية، وأنا ضد أن يعتبر الآشوريون أن كل السريان من جذور وأصول آشورية، ولا أحد يستطيع أن ينفي التمازج والتزاوج الذي حصل فيما بينهم عبر تاريخم الطويل، ولكن في المحصلة النهائية هناك شعب آشوري وما يزال وهناك شعب سرياني آرامي وشعب كلداني وما يزال، وكل هذه التسميات تصب في شعب واحد متعدِّد المشارب، قد يتفق أو يختلف عنها المؤرخون والباحثون ، وفي هذا السياق علينا جميعاً أن نتوقّف عند التسميات التي أدَّت مراراً وما تزال تؤدي إلى خلافات وانشقاقات غائرة في الصميم، لهذا لا بدَّ أن نجد حلولا لها لرأب الصدع الذي يعترينا في الوقت الحالي، بدلاً أن نجترَّ الماضي والتاريخ بشكل لا يتوافق ولا يليق بماضينا ولا بحاضرنا، فأنا لستُ  مع الفكر والطرح الآشوري الذي يقول أن السريان هم أشوريون ولا مع الطرح السرياني الآرامي الذي يقول أن الآشوريين الحاليين هم سريان آراميون، انا مع إيجاد حل لهذه المعضلة العسيرة ولهذه الخلافات التسموية، وإن لم نعالج هذه الخلافات التسموية ستضحك علينا الأجيال القادمة، وسيضحك علينا أبناء بني جلدتنا وأبناء بني غير جلدتنا في الشرق والغرب،  ونحن أبناء اليوم، علينا أن نعالج مشاكلنا التسموية بما يناسب اليوم وحضارة اليوم وليس بما يناسب الماضي وخلافاته ونزاعاته وصراعاته، أنظر إلى أوربا، ألم تمرّ في حربين عالميتين، وفي فترة قصيرة لملمَتْ جراحاتها وتجاوزت خلافاتها وصراعاتها ووحَّدت نفسها رغم اختلاف أممها وقومياتها ولغاتها  ثم وحَّدت اقتصادها وها هي واقفة في وجه أقوى القوى في العالم وهي ما تزال تخطط للمزيد من القوة والتحضر والمنافسة للوصول إلى حالة أفضل وأرقى ممّا هي عليه، وأما نحن أقصد أنتم فما تزالوا تجترّون الماضي والتاريخ وتقولوا أن أصل الآشوريين هو سرياني آرامي، طيب  ما  الفائدة  من طروحاتكم طالما الطرف الآخر لا يتبناها بل ينبذها ويقف ضدَّها فيزداد حدّة الصراع والخلاف ويصل إلى أقصاه، لهذا علينا أن نطرح طروحات تناسب كل الأطراف ونضع برامج جديدة تناسب واقع الحال حالنا وننهض مجتمعين بطريقة تلائم واقع العصر الحالي وتناسب عراقة حضارتنا، لا أن نقف ونبكي على الأطلال!

لم يطلب أحدٌ منكَ أن تزوِّرَ تاريخ أجدادك، لكنكَ أنتَ تريد أن تمسح تاريخ الآشوريين وبجرة قلم تريد تحويلهم إلى سريان آراميين، وخلافي معك ومع مَن يناصر أفكارك المتشدِّدة هو أنك لا تقبل الحوار مع الآخر، كيف ستصل إلى نتائج مثمرة طالما لا تحاور الآخر المختلف معه،  نحن يا سيد كيفا في عصر الحوار والتواصل مع الآخر كائنا من كان هذا الآخر، حتى ولو كان من ألد أعدائنا فكيف لو كان من بني جلدتنا، وإذا لم تكن قادراً على محاورة الآشوري والكلداني، كيف ستحاور الكردي والعربي والفارسي والتركي والغربي؟ لماذا لا تطالب بحقك المهدور من الذين ارتكبوا المجازر والإبادات بحق شعبنا من قبل الجانب التركي وغيره، وتتوقف عند بني شعبك وجلدتكَ وأقوى حليف لكَ وتعتبره عدواً  بالمفهموم اللغوى والمفهوم التاريخي، أنني أرى أنكم تحملون آراءً هدّامة وضيّقة الأفق وتقود شعبنا السرياني الآرامي إلى المزيد من التفرقة والضعف والتفكك، في الوقت الذي نحتاج إلى لملمة جراحنا وصفِّنا وخلق كلمة موحدة نستطيع من خلالها أن نقول للآخرين نحن هنا! لا أن نظل  نحوم ونجتر الماضي  وننسى الحاضر  فلا نجد أي مستقبل ينتظر أجيالنا القادمة.
 
من هذا المنظور أرى من الضروري إعادة النظر في وجهات نظركم ومحاولة فتح باب الحوار مع الآشوري والكلداني وإيجاد حلول لمشكلة التسميات، فأنا لست ضد السرياني الآرامي ولا ضدّ الآشوري ولا ضدّ الكلداني ولكن على كافة الأطراف الاتفاق على تسمية تشمل جميعنا حتى ولو وقعَ الاختيار على الاسم السرياني الآرامي، شريطة أن يكون بموافقة كافة الأطراف، لا أن  يظل كل طرف يجر اللحاف صوبه ويعتبر نفسه هو الصائب رقم واحد،  إلى أن ينقطع اللحاف ونبقى مكشوفين تحت العراء ، ينتظرنا زمهرير أهوج لا يعرف سواء السبيل إلى برِّ الأمان! وبرّ الأمان هو العقل يا أستاذ، نحن نحتاج أن نحكِّم عقولنا لا عواطفنا وتسمياتنا التي خرّبت بيت بيتنا!!!  فإذا كان اسمي صبري: يسبب لي خراباً ودماراً لي ولأبي وأمي وأخي وأختي وجاري وصديقي وتاريخي وحاضري ومستقبلي، سأغيِّر اسمي إلى: سلام، إلى عادل، إلى حبيب، إلى أمين، تأكيداً على نزوعي نحو السلام والعدالة والمحبة والأمانة، فأنا  قادر على صناعة اسم جديد، ونحن  نحتاج لرعاية شعبنا ورعاية الإنسان، ولا نحتاج أن ننطح بعضنا بعضاً أو ننطح في الصخر،  مركزين على التاريخ والماضي ومعمقين هوة الخلافات بين التسميات، كفانا توغُّلاً في المتاهات.

 أخي الكريم، ما فائدة كل أبحاثك ودراساتك وتحاليلك، طالما تؤدّي إلى نتائج غير محمودة، بل تؤدّي إلى مزيدٍ من التنافر والتنابذ بين شعبنا، نحن لا نحتاج إلى بحوث ودراسات تاريخية وأكاديمية، كي نثبت للعالم مَن  نحن وما هي جذورنا التاريخية، نحن معروفون لدى القاصي والداني، والآخر معروف مثلنا  أيضاً، وتساؤلاتي إليك لا تتمحور على نفي سريانيتك وآراميتك، ولا تهدف إلى الغاء التاريخ السرياني الآرامي، كل ما أتوخّاه من حواري معك ومع مَن يطرح طرحكَ هو  أن تكفّوا عن معاداة التسمية الآشورية، والبحث عن مخارج موضوعية لحل مشكلة التسمية، أيا كانت هذه التسمية، وأؤكّد لكَ ولغيرك وللجميع، انني ضد أية رؤية انشقاقية  اقصائية لأي طرف، فلا أوافق نهائياً أي حزب أو تجمع آشوري آو أثوري يلغي وجود السريان الآراميين،  أو الوجود الكلداني. أنا بصدد أن نقف جميعاً صفاً واحداً لحل هذه الأزمة المرعبة والخطيرة في التسميات، لأنها  تحطم مستقبلنا جميعاً ، فلا يوجد أي طرف منتصر في هذا الصراع حول الإسم ، فأنا أحترم كل التسميات عندما تتحاور وتتوائم مع بعضها بعضاً ، وضد كل التسميات عندما تقودنا إلى الصراعات والخلافات اللاطائل منها! فهمنا أنك سرياني آرامي  وهو آشوري أو آثوري، وآخر كلداني، فهمنا وشبعنا فهماً، أنت وهو وهم والجميع في موقع أن تتحاوروا رغم كل الصعوبات، كي نستطيع بعدئذٍ أن نتفق على تسمية معينة شاملة تضم كافة أطياف شعبنا، ولا مفرّ من الحوار ثم الحوار ثمّ الحوار، لأننا بالحوار البناء والفاعل ممكن أن نصل إلى أهدافنا المنشودة!       

مَن قال لكَ أنني لم أطلع  على مقالاتكَ التي كتبتها في هذا الخصوص، هل تعلم بالغيب، هل تقرأ أفكاري؟ عزيزي الباحث، قرأت كل مقالاتكَ التي كتبتها بهذا الخصوص حتى تاريخ هذه اللحظة ولم تقنعي بأنكَ تسير على طريق هادف، ولو لم أقرأها لما طرحت عليك أسئلتي، وهدفي من  محاورتك هو إيقاظكم من غفوتكم وكبوتكم، لأنكم تسيرون في طريق مسدود ، ولا فائدة مرجوّة  من نهجكم لأي طرف من الأطراف،  ونحن في هذه الفترة العصيبة من حياتنا علينا أن نركّز على الحوار مع بعضنا بعضاً وعلى محاورة من يحيط بنا ونحاور المتفقين والمختلفين معنا كي نعالج خلافنا واختلافنا وكي نحقق أهدافنا من خلال محاورة الآخر وإلا فمن المستحيل  أن نحقق أي طموح عندما ينغلق كل طرف على ذاته، والمعادلة التطورية لا تكتمل إلا بالحوار مع الآخر.   

كيف انصهرت بقايا الآشوريين ضمن أمتنا السريانية الآرامية، هل أنتَ متخصص بعلم الجينات الوراثية، وهل أجريت فحوصات بالدي إن DN وتأكّدت بأن الآشوريين انصهروا في السريان؟ يا عزيزي هذا كلام إنشائي وضعيف وغير قابل أن تبني نظرياتكَ عليه، هذا كلام يفتقر للمنطق، وحتى لو إنصهروا بالسريان فلهم دماء تجري في دمائنا ولِمَ لا تقول من خلال انصهارهم فينا أننا انصهرنا نحن فيهم أيضاً، ولِمَ لا تقول أننا شعب واحد وانصهرنا مع بعضنا ولا بد من إيجاد حل لهذا الانصهار بشكل إيجابي؟ لا أنْ تلغي وجودهم، أنتَ وفئة قليلة جداً من السريان يطرحون طرحك، وهناك فئة قليلة من الآشوريين يطرحون طرحاً مضاداً لطرحكم فلا أنتم ولا الفئة الآشورية المضادة لكم على صواب، فهناك الأغلبية الساحقة من السريان الآراميين يرغبون في  إيجاد حل لهذه المشاكل التسموية وكذلك يوجد  نسبة كبيرة من الآشوريين ينزعون نحو حل لهذه المشكلة، لهذا يجب أن ينبثق رؤية جديدة انفتاحية حضارية تضع حداً لكل هذه الخلافات  كي نلتفت إلى بناء ذاتنا وهويتنا وشخصيتنا وإعادة مجد حضارتنا التي أصبحت متناثرة في متاحف لندن والغرب وأصبح واقع الحال حالنا مجصصاً مثل تماثيلنا، نحن نحتاج إلى المرونة والحكمة والعقل والحوار، علينا أن نفهم أنه مطلوب منا نحن أن نحل مشاكلنا وليس من الغرب أو من المحيطين بنا، وتأكد تماماً أن هكذا خلافات وصراعات في التسميات ستجعلنا متقهقرين قروناً أخرى ونصبح لقمة سائغة لمن يحيط بنا،  والمفلق في الأمر أننا كنا أصحاب أول حضارة على وجه الدنيا والآن نسير مترنحين في ذيل الحضارة، فإلى متى سنسير مترنحين يا عزيزي، بدون أن يكون لدينا برنامج ومنهج ورؤية انفراجية مفتوحة على مسارات شعبنا بكل تسمياته وعلى مسار الكون؟!

أستاذ هنري، أسألك أسئلة فتتهرب منها  وتطلق كلاماً لا ينم أنكَ تملك مقومات الباحث، ويبدو أنك لا تملك  القدرة على التحليل والتفنيد والاقناع، ولا تستطيع الدفاع عن أرائك، فتلجأ إلى الكلام الإنشائي الهشّ، أنا في موقع الكاتب الصحافي، أحاورك، وعليك أن تتوقف عند حدود السؤال وتلتزم بأداب الحوار والاقناع، ألا ترى أنكم عندما تتبنون كلام وتفسير حسن بن بهلول في تفسير كلمة آشوري بمعنى عدو هو نوع من  العداء للآشوريين، ثمَّ أن كلمة آشوري أو آثوري لا تعني عدو من الناحية اللغوية، وإن كان الآشوريون عبر  مرحلة معينة على عداء وصراع مع السريان أو غيرهم فهذا لا يعني ديمومة المعنى العدائي للكملة،  وما هو عدوٌ لكَ ممكن أن يكون صديقاً لغيرك، وعدو الأمس بلغة السياسة والأقتصاد هو صديق اليوم، فلا عداء دائم ولا سياسة دائمة ولا حقيقة مطلقة في الكون فكل شيء قابل للتطوير والتغيير، ولا يجوز أن تتمسكوا بهذا الأمر وكأنه آية في الكتاب المقدس ومنزلة من السماء، ناهيك عن انها تبعث النفور والاستفزاز وتخلق نوعاً من الصراع  والتحدي لأهم طرف يخص شعبنا، فلماذا تعتبر طرحي كلاما فارغاً في الوقت الذي تطرح حضرتك رؤى عدائية للآشوريين، لماذا لا تفسر كلمة آشور وآشوري بمعنى حضارة وحضاري وتاريخ عريق.؟!   
 
أراك تتهرَّبُ من بعض أسئلتي وتعتبرها كلاماً فارغاً،  تاركاً الإجابة عن السؤال بعيداً، هل برأيك لمجرد أن تعتبر كلامي فارغاً سيصبح فارغاً، عزيزي لماذا يضيق صدركَ أمام سؤالي، أسألك سؤالا واضحاً ومحدداً وجوهرياً، فلمَ لا تجيب على السؤال وتتوقف عن الكلام الانشائي الفارغ من أي مضمون ؟!فمن جهتي أعرف هوية أجدادي وهوية غيري من أي نبعٍ ينبعون ويصبون بطريقة أو بأخرى في معالم حضارتي وشعبي وكينونتي !
أجل، أنا  أعتبر "بهلول وكل من يعتمد على بهلوليته هو عدو للآراميين والسريان والآشوريين والكلدان"، وهذا سؤال وجيه وهام، بينما ردُّك  كلام انشائي غير مقنع،  وطرحي  موضوعي ومنطقي، وما هي البراهين العلمية التي قدمها د. أسعد صوما التي تؤكّد أن مسيحيي الشرق ينتمون إلى الشعب الآرامي، هل تستعرض نكتة،  الأرمن هم من مسيحيي الشرق، هل الأرمن  ينتمون إلى الشعب الآرامي، هل أقباط مصر ينتمون إلى الشعب الآرامي وهل وهل؟ يا عزيزي ما هذه البحوث والدراسات التي قدَّمها د. أسعد  وتبرهن على  أن مسيحيي الشرق من أصول سريانية آرامية، عجيب وغريب ردَّك وتحليلك والأغرب من هذا أن تنسب هذا التحليل إلى د. أسعد صوما! أنا أعرفه جيداً ولا يمكن أن يصرح أو يزعم هكذا مزاعم واهية؟!! فكيف استقيت هذه المعلومة وحبذا لو تذكر لنا المصدر الذي  تنسبه للدكتور أسعد؟  لقد قدمتَ لنا معلومة جديدة طازجة، وقد اِزددنا معرفةً، ومنكم نستفيد!!

هل تظن أن هؤلاء السريان الذين رفعوا الأعلام السريانية يتبنون آراءك ويؤيِّدونك في كل ما تذهب إليه، هؤلاء السريان يؤمنون بوجود أخوة لهم هم الاخوة الآشوريون، ولم تجد بين هؤلاء إلا نسبة قليلة ممن يوافقونك على أن الأشوريين انقرضوا وذابوا في السريان، فلا تعلق آمالاً على تلك المظاهرة على انها من مناصريك فيما أنتَ ذاهب إليه، فأنا نفسي أخرج وأسير في هكذا مظاهرات وأحمل ذلك العلم، فهل يعني أنني معك في كل ما تطرحه من أفكار وتحاليل؟!
 
تحليلاتي يا عزيزي الباحث ليست خيالية، تحليلاتي ناجمة عن تصريحاتك الاستفزازية للشعب الآشوري ولكل مَن يناصر الشعب الآشوري والكلداني، نعم أنتَ تضر الفكر السرياني الآرامي عندما تدعو إلى معاداة الوجود الآشوري واعتباره غير آشوري، هذا اسمه تطاول على شعب له حضارة، وأنتَ ومَن يطرح طرحك في موقع تقديم الاعتذار للآشوريين والآراميين والكلدان، لأن طروحاتكم استفزازية واقصائية وعدائية ولا تحمل أية مصداقية تاريخية في مسألة ذوبان الآشوريين وانصهارهم في السريان الآراميين، وتحليلكم هذا هو رؤية طوباوية خيالية لا تمت للتاريخ والواقع بصلة.
أنا لم أنطلق من أفكاري بقدر ما انطلقت من تحاليلكم ورؤاكم الغارقة في  زرع الانقسام والشرذمة بين صفوف شعبنا،  ولو لم أجدكَ مختصاً على حدِّ قولكَ في تاريخ السريان لما وجهت أسئلتي إليك، ولكنك لا تجيب عنها، تهرب منها، بذرائع ضعيفة وليس لها أية علاقة في تفنيد الإجابة، وما قصتكَ تتوقف عند عبارة الكلام الفارغ بين جوابٍ وآخر، وهل تعتبر نفسك مثقفاً ودقيقاً أكثر من بعض المثقفين الذين درسوا التاريخ، هناك الكثير من المختصين في تخصصٍ ما، غير متمكنين من تخصصهم في بعض جوانبه مثل غيرهم  من المثقفين غير المتخصصين في هذا التخصص أو ذاك، القضية يا أستاذ تتعلق بمصداقية ودقة هذا المتخصص أو ذاك المثقف، بقدرة هذا المتخصص أو ذاك المثقف على اقناع الآخرين بأن وجهات نظره سليمة وسديدة، لا أن يردَّ بكلام انشائي فضفاض ليس له أية علاقة بجوهر الموضوع والسؤال!

مَن هو هذا الذي ضحك عليك وقال لكَ أن صبري يوسف كتب قصيدة دافع بها عن الآراميين، يبدو أنَّكَ تخاطب نفسك وتجيب عنها في سياق تساؤلاتي، أسألكَ سؤالاً محدداً وأنتَ تتحدث عن الشعر،  وإن كل هذه التساؤلات هي دفاع عن السريان الآراميين ورغبة مني للتواصل والتفاهم مع بقية الأطراف من شعبنا العريق. 
إذا  لم تحاور الآشوريين فكيف ستقنعهم بإفكارك، أم أنك غير واثق من رؤاك لهذا تتحاشى محاورتهم،  وإن أغلبية الآشوريين غير منظمين بأحزاب سياسية، وأما إذا كان قصدك التنظيم الآثوري الديمقراطي، فهذا التنظيم  ليس منبثقاً من الآشوريين فقط بل أغلب مؤسسيه وأعضائه هم سريان أقحاح، وهو حزب سياسي يضم بين شرائحه كافة الأطياف، وليس بالضرورة أن يكون آشورياً محضاً أو الذي ينتمي إليه أن يمسح  سريانيته وآراميته، هو دعوة حزبية سياسية للملمة الشمل وتشكيل موقف سياسي ما لتحقيق بعض المكاسب والأهداف التي يتوخاها التنظيم،  فالتنظيم الآثوري الديمقراطي شيء والآشوريون كشعب شيء آخر بدليل هناك الكثير من الأحزاب  انبثق من الشعب الآشوري،  فلا يمثل حزب ما من الأحزاب التي نشأت ابتداءاً من التنظيم الآثوري ومروراً ببقية التنظيمات السياسية الآشورية، الشعب الآشوري كله فكل حزب له تطلعات وأهداف معينة وربما  يوافق الآشوريون على قسم منها ولديهم تحفظات على قسم آخر، لهذا الحزب السياسي لا يعكس الفكر الآشوري  ولا يمثل الشعب الآشوري فقط، وأنا مع التعددية الحزبية، وتوفير حرية الرأي والرأي الآخر، مع الديمقراطية، مع  تواصل الأحزاب مع بعضها بعضاً وإيجاد اهداف مشتركة والعمل عليها للصالح العام، وضد كل من له تطلعات معادية للآخر، ضد أي حزب أو مؤسسة تقف ضد الوجود السرياني الآرامي، وضد أية مؤسسة أو حزب سرياني يقف ضد الوجود الآشوري أو الكلداني، أنا مع تنقية الأجواء وحرق الشوائب المتنافرة في صفوف شعبنا بكافة أطيافه ومذاهبه وألوانه وسياساته ومؤسساته، وإعادة صياغة كل طرف ومؤسسة وحزب رؤاه بحيث أن تصب في المصلحة المشتركة للجميع، وكل دعوة انشقاقية عدائية إلغائية للأخر هي دعوة باطلة وهدَّامة ولا فائدة منها سريانية كانت أم آشورية!!؟ فهل فهمت جوهر الفكرة والأهداف التي أتوخاها؟!

إذا كان تصحيح الأخطاء التاريخية يقود إلى المواجهة والعراك والصراع والخلاف الدائم فلا خير في تصحيح الأخطاء التاريخية، مع أنك لا  تصحح التاريخ كما تزعم بقدر ما تشوّه التاريخ عندما تؤكد على ذوبان وانصهار الشعب الآشوري بالشعب السرياني، وعندما تتبنّى شروحات حسن بهلول بأن كلمة آشوري تعني عدو، هذا توجّه عدائي لا طائل منه سوى الاستفزاز والصراع والخيبة المشينة.

أنتَ لم تنتقد شاعرية نينوس آحو،  لكنكَ أنتقدتَ على حدِّ قولكَ مفهومه الخاطئ لتاريخنا، ومَن نصّبكَ وصياً أو قاضياً لتصحيح مفاهيم الآخرين للتاريخ؟ هل تفهم التاريخ وتحلل التاريخ  تاريخنا أكثر من نينوس آحو، هل تعتقد أنه لمجرَّد أن نينوس آحو قد غيَّرَ أسمه إلى نينوس قد تجرّد وتخلَّى من أصوله وتاريخه، وما علاقتك أنتَ بتغيير اسمه، وهل الاسم نينوس مقتصر على الآشوريين فقط؟
 يا عزيزي أنا أعرف عشرات الطلاب من طلابي السريان يحملون اسم نينوس، وأخو د. أسعد صوما أسعد اسمه نينوس فما العيب في اسم نينوس؟ أمرك فعلاً غريب وعجيب، تتدخل حتى في اسم الشخص، والأكثر غرابةً أنكَ تقيم في باريس ودرست وقدمت بحوثك في السوربون، ألا ترى أن الأوربي له أحياناً اسمان وكل مَن لا يستهويه اسمه ولا يحبه سرعان ما يغيره في دقائق في سجلات قيده، الاسم ليس مهماً ، كما قلت لكَ سابقاً، الانسان يصنع الاسم ويصنع الفكر والحضارة، الإنسان أهم من أية تسمية على وجه الدنيا عندما يتميز بانسانيته السمحاء المتفتحة الحضارية الراقية، فما علاقتك بتغيير اسمه أو اسم غيره،  طالما ينهج منهجاً حضاريا وراقياً، وأراك تخلط الحابل بالنابل، حيث تقحم الجانب السياسي بالجانب التاريخي، وتعتبر كل سرياني منتمٍ إلى التنظيم الآثوري الديمقراطي قد تخلى عن سريانيته، أنتَ موهوم في تحليلك هذا، لأن انتماء أي شخص لحزب ما شيء وأصله وجذره التاريخي شيء آخر، حيث تجد في العائلة الواحدة شخص آثوري وشقيقه شيوعي والثالث  قومي سوري والرابع آرامي ديمقراطي، فهل يحق لكَ أن تعتبر كل ما هو غير منتسب لأحزاب سريانية أو آرامية هو مرتد عن سريانيته أو آراميته؟!  يا سيد كيفا، الانتساب  والعمل في صفوف حزب ما شيء وأصول البشر شيء آخر، وعيبكم أنتم هو أنكم تخلطون بين الجذور التاريخية والقضايا السياسية الراهنة، وأؤكّد لكَ أن هناك مئات الألوف من السريان في العالم ينتمون إلى أحزاب ومؤسسات غير سريانية في الشرق والغرب فهل يحق لباحث ما أن يعتبرهم مرتدِّين عن سريانيتهم وأصولهم وجذورهم التاريخيّة؟ الجواب لا، لأن مسألة العمل في  حزب سياسي  تتعلق  بإيمان فلان وفلان بأفكار هذا الحزب أو ذاك وكم من المتحزبين تركوا هذا الحزب أو ذاك عندما لم يجدوا في مبادئه ضالّتهم المنشودة،  فاختاروا أحزاباً أخرى، ولكنهم ظلوا على أصلهم التاريخي شاؤوا أم أبوا لأن الأصول التاريخية لأي إنسان ثابتة لا تتغير. فأنا مثلا سرياني آرامي حتى ولو لم أنتمِ لأي تجمع أو حزب آرامي أو سرياني.       

أي بكاء تتحدَّث عنه يا سيد كيفا، إن موقع التنظيم الآرامي الديمقراطي لا  يعادل إنتشاره 5%  مما أنشره في بعض المواقع،  أنا بسؤالي هذا بصدد انتقاد كيفية اقصائية الموقع والغاء الرأي الآخر، مع أن الرأي الآخر رأيي كان مجرد كتابات أدبية، فما هذا الموقع الديمقراطي الذي يمارس القمع والغاء الآخر؟ هذا هو بيت القصيد، ولا أتحدث هنا على أهمية كتاباتي بقدر ما أتحدث عن  جهل مَن يشرفون على الموقع، كيف لاتعرف مَن أقصد بالأميين وأنصاف الأميين، أقصد بالضبط المشرفين عن الموقع الديمقراطي الآرامي والذين حذفوا فعالياتي بالدرجة الأولى دون أن يتمعَّنوا فيها، فلا يوجد أية فعالية لها علاقة بطر ح سياسي أو نقاش بخصوص ما نحن بصدده الآن، فما هذا العداء الخنفشاري لمجرد أنني أختلف معكم أو معهم بالرأي، هذا دليل على معاداة الموقع ليس للفكر الآشوري بل معاداتهم للسريان أيضاً  فأنا بالنتيجة سرياني آرامي، ليس بالاسم كما تزعم وتدّعي بل بالفعل وبالواقع وبكل جوارحي ولكني على  النقيض من بعض رؤاكم حيث أتقبل الحوار مع الآخر ومع مَن يختلف معي في أي شأن كان. وضعْ في اعتبارك  أنت والمشرفون عن الموقع أن الكتاب والشعراء والمساهمون في أي موقع من المواقع هم الذين يصنعون المواقع وليس المشرفون ! 
 
لم تجبْ على السؤال،  ولا أخلط بتساؤلاتي بين التاريخ والتاريخ المسيس، حضرتك تقول هذا في سياق ردودك المكررة، ومهما تجرّد المؤرخ من أهوائه ومن ميوله يظل يكتبه كما يرى وكما يحس وليس بالضرورة أن تكون رؤيته وأحاسيسه مرتكزة على أسس علمية،  لهذا قلت لكَ التاريخ لا يمكن مرادفته بصفة العلمية كما تقول ، نعم هناك الكثير من البحوث يتم تقديمها بطريقة علمية حديثة وعصرية ولكنها بالنتيجة هي دراسة وتحليل وتفنيد حدث تاريخي فالحدث التاريخي والواقعة التاريخية ليست علمية خالصة، والتاريخ البشري برمته ممكن محاججته بصيغة أو بأخرى فقد يكون دقيقاً في جانب ومجانباً للدقة والحقيقة في جانب آخر، وأنا لم أنفِ التاريخ السرياني الآرامي ولم أقل أنه تاريخ آشوري، ولكني قلت لكَ من خلال أسئلتي أنكَ لا يجوز الغاء الوجود الآشوري الحالي، ولا يجوز أن تزعم بأن الآشوريين الحاليين هم سريان آراميون ، لأن هذا مجانب للحقيقة ومجانب للتاريخ وكلام مشكوك فيه وغير منطقي وغير واقعي ولكنك تلف وةدور وتردد وتكرر متشدقاً بعبارة التاريخ العلمي والتاريخ الأكاديمي وكأن دراساتك ورؤاك ومعلومات التاريخية منزلة من السماء وهي نصوص مقدسة لا يمكن المساس بها، مع أنكَ تشوِّه التاريح وأصوله عندما تزعم بذوبان وانصهار الآشوريين بالعرق السرياني الآرامي، لأن تحاليلك غير مقنعة لا للباحثين ولا للعوام ولا لدى المثقفين ولا لدى الأميين، فقط أنتَ ومجموعة صغيرة من السريان الآراميين تصدقون هذا وكأنكم تخاطبون أنفسكم، عليكم أن تقنعوا الآخر كائنا من كان هذا الآخر وطالما كلامكم وتحليلكم غير مقنع لدى الكثير من السريان فكيف سيكون مقنعاً للآشوريين وبقية الأقوام والأمم والشعوب؟!! 
 
عزيزي استاذ هنري، خاطبتك عبر مداخلتي أثناء المحاضرة بلقب  الدكتور، وسكتَّ على لقب الدكتور منشرح الصدر، وسألتكَ بعض الأسئلة منها أن الممالك الآرامية لم تكن فقط في الجزيرة، فأجبتَ بأنكَ تقصد أن موطن الآراميين هو في بيت نهرين التاريخية أي الجزيرة، ثم سألتك سؤالاً موجهاً لكَ وللدكتور أسعد صوما حول طروحاتكم بين الفينة والآخرى بخصوص شرح كلمة آشوري بمعنى عدو بحسب قاموس بهلول! وأكَّدت لكما أن هذا الطرح يعتبر تهجما على الشعب الآشوري الذي اعتبره جزءاً من شعبنا ككل، فأجبتم كما تجيبون مراراً أن حسن بن بهلول قال كذا وكذا، ثم بعدها قدم الدكتور يوسف متى اسحق مداخلة قائلاً لكَ يا هنري وشرح بعض وجهات نظره التي خالفك في بعض ما ذهبتَ إليه أثناء المحاضرة، والمحاضرة مع المداخلات موثّقة ومسجلة على شريط فيديو حيث كان الفنان التشكيلي كبرئيل ابراهيم يسجل المحاضرة بما فيها المداخلات، فكل شيء موثق ومحفوظ لدى آرشيف الفنان كبرئيل، وعندما  أجبتَ على  مداخلة الدكتور يوسف متى، قلتَ لنا في بداية الحديث، أنا لستُ حاصلاً على شهادة الدكتوراه، وقصَّرت في هذا المجال بسبب إهتمامي بشعبي وبحوثي، عندها رفعت يدي كنقطة نظام للتدخل، قائلاً لكَ إذا كنتَ غير حائز على الدكتوراه فلماذا  تضع الدال قبل اسمك في بعض مقالاتك وبحوثك، ولماذا تتقبل اللقب ونحن نخاطبك بلقب الدكتور، عندها قلت لي إنه يتم وضع الدال أمام اسمي أحياناً، إشارة إلى  أنها تعني دكتوراند، أي الذي يحضِّر للدكتوراه، أجيبك الآن يا عزيزي بأنَّ الدال قبل الأسم لا تعني سوى معنى واحد وحيد وهو دكتور وحاصل على الدكتوراه في تخصصٍ ما، هذا من جانب، ومن جانب آخر لماذا جلست مسترخياً عندما قدَّمك أحدهم الدكتور والباحث هنري بيدروس كيفا، لماذا لم تقاطعه وتقول له مصححاً أنا باحث وكاتب ولا أحمل لقب الدكتور، ثم أن لقب الدكتور ليس موضوع حديثنا وتحليلنا وردَّنا، ولكنك على ما يبدو تشعر وكأن شيئاً ما ينقصك لمجرد أنكَ غير حاصل على الدكتوراه ، وأتمنى أن تحصل عليها في القريب العاجل طالما تطمح الحصول عليها!!!

لم أقل لكَ أن محاضرتك ما كانت هامة، بدليل أنا نفسي حضرتها واتصلت مع بعض الأصدقاء وحضروها فعلاً،  وأنا لا أوحي للقارئ بأنكَ غير ضليع ولا يهمني القارئ كي أوحي له أنك غير ضليع بهذا الجانب أو ذاك، بقدر ما يهمني ردودك على تساؤلاتي وبعدها يأتي دور القارئ اللبيب، فالقارئ ليس ساذجا كما تظن، هناك قراء يفهمون ويحللون ويمحصون في هذا المجال أكثر منكَ ومني، ودوري هنا عبارة عن حوار مفتوح معك للوصول إلى الحقيقة والأهداف المرجوة لشعبنا بكل تسمياته، وليس لدي أي  باعث سوى تقويم وتفنيد بعض وجهات تظرك التي لا تلقى أي ترحاب لدي ولدى الكثير من السريان الأقحاح فكيف ستلقى ترحاباً لدى الآشوريين وبقية الشعوب، لهذا أؤكد لكَ أن وظيفة ومهمة الباحث والمؤرخ والمحلل والناقد عندما يقدم وجهات نظر معيّنة، عليه أن يكون قادراً على إقناع الغير بطروحاته وأفكاره وليس مجرد عرض كلام إنشائي.

عزيزي أستاذ هنري، سؤالي ليس سخيفاً، هو سؤال مشروع، خاصة لأن ما حصل في المحاضرة موثّق ومحفوظ في آرشيف الفنان كبرئيل ابراهيم، وردك هو نوع من العجز والضعف، لأن الدكتور يوسف متى اسحق خاطبك بكل ثقة: هنري، وخالفك ببعض وجهات نظرك وفيما بعد  أكد لي متسائلاً هو الآخر كيف يعتبر الشعب الآشوري بحكم المنقرض وآلاف الآشوريين أحياء يُرزقون؟  وإذا كان الدكتور يوسف اسحق على تواصل حميمي معك فهذا أمر عادي، وإذا يكنُّ لكَ الاحترام هذا أمر عادي، ومن الطبيعي أن يختلف معك في بعض وجهات نظرك وهذا أيضاَ أمر عادي،  أنا نفسي لو أرسل إليك رسالة على إميلك الشخصي الآن وغداً وبعد غد، سأخاطبك بود كبير، لأن الخلاف بيننا ليس خلافاً شخصياً، الخلاف هو خلاف في وجهات النظر وخلاف على قضايا هامة لا بدَّ من تصويبها والوقوف عندها مليَّاً، لا أن نخبئ رؤوسنا في الرمال ونتركها تنخر في شعبنا، فقد آن الآوان أن نتصدى لمعالجة كل ما يشوب علاقات مؤسساتنا وأحزابنا وطوائفنا، علينا أن نضع النقاط على الحروف، لا أن يتمسك ويتشبَّث كل طرف برأيه، وعلينا أن نلتقي في النقاط التي تجمعنا ونتجاوز ما لا يفيدنا وما لا يجمعنا، لأننا  وصلنا إلى حالة يرثى لها لما نحن عليه من انقسامات وخلافات تقشعرُّ لها الأبدان.
الفكر الآشوري موجود والهوية الآشورية موجودة يا أستاذ هنري الآن ومنذ آلاف السنين،  فلا تتهرَّب  من السؤال ومن الحوار مع الآخر. 

سؤالي ليس حشرياً كما تظن، وهناك الكثير ممن يحملون فكراً آشورياً وآثورياً، ولهم باع كبير في مجال التاريخ وبشكل عميق، هل تعتقد أنك فقط مع مجموعة من السريان الآراميين لديكم اهتمامات في التاريخ، ثم أن اهتمامك على ما يبدو، منصب على التاريخ السرياني الآرامي ولستَ متعمِّقاً بالتاريخ الآشوري العريق، وهنا أحيلكَ إلى قراءة قصة الحضارة لوول ديورانت، ستجد  نفسك كم أنتَ بعيد عن الحضارة والتاريخ الآشوري، تفضل زر المتحف البريطاني والمتحف الخاص بالآشوريات في برلين ستجد هناك عرين الأسد الآشوري يتربع في صدر متاحف العالم، وهو تاريخ ناصع لهذه الإمبراطورية، والآشوريون الحاليون هم أخفاد تلكَ الحضارة. فلماذا تدّعي بانقراضهم تارةً وبذوبانهم في السريان الآراميين تارة أخرى؟!

كيف لا يهمّك حل الخلافات والمشاكل الناجمة عن التسميات، ولماذا تعتبرها أمنيات سياسية لا تعنيك، ألا تعنيك خلافات شعبنا، ألا يهمك التفاهم مع بعضنا بعضاً، هل تعتقد أنه مجرد أن تعتبر أن الآشوريين انقرضوا وذابوا وأنصهروا في العرق السرياني الآرامي، ستنتهي المشكلة،  هل تعلم لو هبط عليناً إلهاً منزلاً من السماء، وطرح طرحك بخصوص انقراض وذوبان الشعب الآشوري في السريان ، لما يلقى هكذا طرح آذاناً صاغية لدى السريان الآراميين أنفسهم، فكيف سيُقنِع هذا الإله المفترض، الآشوريين وغير الآشوريين؟! فكن منطقياً وموضوعياً وباحثاً  مقنعاً كي يتقبلكَ المتلقي ويقتنع بتحاليلك وبحوثك ودراساتك، وكفاك تشبّثاً ببضع  كلمات وجمل تحوم حولها وتدور وتلف وتتوقف عندها، وهي غير مستندة إلى أية أسس ومصادر تاريخية دامغة، فلا يوجد أي باحث يقتنع بانقراض الآشوريين ولا بذوبانهم في العرق السرياني، ولا يقبل أي إنسان يحمل آفاقاً موضوعية ومنطقية أن يرادف كلمة آشوري بمعنى عدو، حتى ولو كان الطرفان في فترة ما على خلاف وعداء وتناحر، فتلك مسألة أخرى.       

شكراً أيها الباحث الأكاديمي الأستاذ هنري بيدروس كيفا، على تفضلكَ بالإجابة على أسئلتي،  ولكن وبكل أسف لم تضف تحليلاً أو تفنيداً جديداً على ما  قلته وتقوله مراراً في عشرات الندوات والمحاضرات والمقالات والدراسات التي قدمتها، وكنت أتوخَّى أن تعبر عميقاً في تحاليلك وبحوثك في المجال، طالما أنتَ متخصص في التاريخ الآرامي، فلم تقنعني ولم تقدم للقارئ وجهات نظر معينة جديدة أكثر من بعض الجمل المكرَّرة والتي تصب في الكلام الإنشائي الفضفاض، غير المستند إلى وقائع ومصادر دامغة، وقد تمحورت إجاباتك على أسئلتي العشرين بما يلي:
الآشوريون انقرضوا وذابوا في السريان الآراميين
لا يحق لأحد غير متخصص بالتاريخ الآرامي والتاريخ الأكاديمي أن يتحدث ويناقش ويجتهد بهذا الخصوص.
الآشوريون يعتمدون على التاريخ المسيّس ونحن نعتمد على التاريخ العلمي.
كلمة آشوري  تعني عدو بحسب رأي حسن بن بهلول.

وقد ورد  ردَّاً جديداً واحداً عما قرأته في كل مقالاتك وبحوثك وهو تأكيدك على جذرك الأرمني من جهةِ الأم، أحييك على هذا الجذر العريق والحضاري والذي حقق دولة عاصمتها ييرفان، وكل المحبة لهذا الشعب المناضل، وهكذا تبين لنا أن نصفك من جذر سرياني آرامي ونصفك الآخر أرمني، وتعتبرني أنا المتحدر من أم سريانية وأب سرياني آرامي قح، سريانياً آرامياً بالاسم، أؤكّد لكَ وللأحبة القراء والقارئات أنني لا أتوقف سم واحد عند التسميات كحالة تعصبية، ولكن فقط أقولها للتاريخ أنني سرياني آرامي، ولكني منحاز أكثر إلى كوني إنسان، وإنسانيتي تطغى على كل هذه التسميات، وتسمو فوق أي تعصُّب أو تشدُّد، فلا أتوقَّف بتعصٌّبٍ عند  القوميات والمذاهب والأديان بقدر ما أتوقَّف عند الإنسان كإنسان، مدافعاً عن حق الشعوب بكل أطيافها ومذاهبها وطقوسها وعقائدها وتطلعاتها، بأن تعيش في وئام وسلام مع بعضها بعضاً، بعيداً عن التشدُّد والتعصُّب واقصاء أي طرف للآخر، لا أقبل الضيم والظلم لأحد،  شعاري الحوار والتواصل مع الآخر،  وقد أحببت أن أطرح عليك وعلى مَن يناصرك وجهات نظرك وتشددك، لأبين لكم كم أنتم  بعيد ون عن مستجدات وحيثيات القرن الحادي والعشرين، وكم تحتاجون إلى المرونة والحوار كي تنهضوا من سباتكم العميق وتخرجوا بشكل حضاري من شرانقِ التاريخ والماضي الذي لا يقدم أية فائدة للأجيال الحالية بحسب ما تنتهجونه من رؤية انغلاقية تعصبية اِقصائية مميته، فكيف ستفيد رؤاكم الأجيال القادمة وما بعد القادمة، لقد ولّى يا عزيزي الباحث عصر التعصب وعصر التشدُّد وعصر الغاء الآخر، نحن في عصر الحرية والرأي والرأي الآخر، عصر الديمقراطية، عصر الحاضر وقراءة أعماق المستقبل، عصر التواصل والحوار مع البشر كل البشر، فهل وصل المرسال؟!


صبري يوسف
كاتب وشاعر سوري مقيم في ستوكهولم
sabriyousef1@hotmail.com
 

71
أدب / امطري علينا شيئاً يا سماء!
« في: 05:46 23/06/2008  »
قصّة قصيرة

امطري علينا شيئاً يا سماء!

صبري يوسف


خرجَ من منـزله ممتعضاً من صدى الأخبار المسمومة .. تمتمَ مُتسائلاً: لماذا اندلعَتْ هناك كلّ تلكَ النيران المجنونة؟! .. قادته قدماه بعيداً عن ضجيج المدائن .. أشتعلَ في قلبه الحزن .. ارتقى طريقاً ترابيّاً وأسرع في خطاه .. لمح فراشةً ملوَّنة بألوان الفرح، تركضُ خلفها فتاة في عمرِ الزهور.. همسَ للأشجار:
آهٍ .. لو عشنا براءة الأطفال! .. ثمَّ وجّه أنظاره نحو قبّة السماء مناجياً آلهة النار:
لماذا تنهجُ رؤى بعض البشر منهجَ توجيه البشر نحو هاوية الجحيم؟!.. كانت أشجار النخيل واقفةً بشموخ تسمع همساته الحزينة .. الهواء كان نديّاً ومنعشاً .. تناهى إلى مسمعيه خرير المياه الصاعد من عمقِ الوادي .. شعر بغربةٍ داخليّة تهيمنُ على كيانه وراوده أنَّ هذه الغربة كانت حُبلى بأمِّهِ فولدَتْ هاجساً مسربلاً بالقهرِ ومقمَّطاً بأنينِ الحياة! .. ( آهٍ .. يا غربة الإنسان مع أخيه الإنسان ) .. وكفيلمٍ سينمائيّ بدأَ يستعرضُ طفولته المقهورة، شبابه المتوهِّج برحيق الكلمة .. وكهولته المهدورة بالمعاركِ السوداء .. آهٍ .. يا أيَّتها المعارك الظالمة! .. القلق كان يغلِّفه من رأسه حتّى أخمصَ قدميهِ .. كان يفكِّرُ بالأطفالِ والشباب والأشجار المترنِّحةِ والأمَّهات الناحبات والكهول والشيوخ الّذين ترقرقَتْ عيونهم بالدموع .. وآهٍ يا دموع! ..
آلاف الأسئلة تغلي في كيانه الحزين .. هذا الكيان الّذي تجذّرَتْ فيه الآهات .. آهات ملايين البشر الّذين ينتظرون الموت .. آهٍ .. أيَّتها الأسئلة الحارقة الملتصقة في سماوات الروح! .. تتراءى أمامهُ جماجم أصدقائه مهشَّمة ومخضَّبة بالدماء شعر بقُشَعْريرة حارقة تسري في مسامات جلده. أغمضَ عينيه بيديهِ وحاول أن ينحّي جماجمَ أصدقائه المعفَّرة بالتراب من مخيَّلتهِ، لكنَّه عبثاً لم يستطِعْ، ظلّتْ عالقة في أعماق الذاكرة. كم كان غائصاً بالهموم والإنكسارات! .. تلاشَتْ الأهداف من أمامَه وتحوَّلَت أجملَ الأشياء إلى سراب .. وبدأَتْ رؤاهُ تتأرّجحُ ما بينَ هواجس الخوف من موت الأطفال على قارعة الطرقات، وبين الزنزانات الظالمة الوسيعة الّتي كانت تحكمُ الخناق على رقابِ الملايين من كافّة الجهات! .. وآهٍ .. ياجهات! .. وآهٍ .. ياسماء .. أمطري علينا شيئاً يا سماء!
وبينما كانَ سائراً خلال الحقول تعثَّرَتْ خطاه وارتطمَ رأسه بجذعِ شجرة باسقة، فتطايرَت من فمه شرارات من الغضب .. تمتمَ:
اللعنةُ عليكِ أيَّتها الهزائم والإنتصارات .. ثمَّ ردَّدَ بصوتٍ عالٍ: الانتصارات هي وجه من وجوه الهزائم .. والهزائم هي مزيدٌ من الغنائم على حساب رقابِ القوم! .. ( آهٍ .. وألفُ آه ) .. ما جدوى الانتصارات إذا كانت تحملُ بين طيَّاتها هزائمُ بشرٍ آخرين؟ .. الانتصارات على هذا النحو هي إحدى هزائم القرن العشرين .. انّه التطوُّر العقيم .. ( حالة انتقال من واحة خضراء إلى بيداء مكثَّفة بالقحط البشريّ ) .. ما هذا التراجع البغيض الّذي تراه يكتنفُ انساننا اليوم؟!
تابعَ سيره متثاقلاً في خطاه .. ثمّ أرخى جسده المثقل بالكوابيس .. الكوابيس الّتي ولّدتها الحروب الطائشة الظالمة .. أرادَ أن يهربَ من هذا الجوِّ الخانق .. استلقى على ظهرهِ يسمعُ إلى الإيقاعات الّتي تنشدها الضفادع برتابةٍ موصولة .. بعض الضفادعِ كان نقيقها متقطِّعاً ومبحوحاً .. أفكاره متقلِّبة ومشتَّتة .. عيناه زائغتان تمتمَ باغتياظٍ لاعناً الإيديولوجيات القميئة لهؤلاءِ البشرِ الّذين يخطِّطون لموتِ الإنسان .. نهضَ رافعاً يديهِ للسماء قائلاً: أيَّتها الآلهة .. أَلا ترينَ كيف يقودُ بعضُ البشر أبناء جنسهم نحو براكين الهلاك؟ .. يُخيّلُ إليه أحياناً أنَّ الآلهة تغطُّ في سباتٍ عميق تاركةً البشر في مواسم الحصاد تحصدُ بعضها بعضاً .. وأحياناً أخرى ينتابه أنَّ الآلهة لها صبر أيّوب بل أكثر بكثير.
تراكمَتِ المرارات في سقفِ حلْقِهِ، وتصوّر أنّ حياة الإنسان أشبه ماتكون بقصّةٍ خرافيّة نسجها الجان تحت جنحِ الليل. وامتـزجَ في ظلّهِ هاجسِ القلق والخوف من تفاقمِ المستجدات الظالمة ثمَّ توغَّلَ الهاجسُ رويداً .. رويداً في قلبهِ إلى أن استوطنَ على مساحات روحهِ.
كم كان كئيباً ومغموماً .. بدَّدَت الطبيعة همومهُ قليلاً .. كان النسيمُ يداعبُ زقزقةَ العصافير .. أنظاره مشدودة نحوَ زرقة السماء .. وبينما كان غارقاً في أحزانهِ، مرَّ سربٌ من البلابلِ على مقربةٍ منه. شهق شهيقاً عميقاً، متمتِّعاً بالطيور المغرِّدة الّتي كانت تسبحُ بين أحضانِ النسيمِ. قطَعتْهُ من لذّةِ الاستمتاع (رشقة) قويّة من أحدِ البلداء .. وأخذَتِ البلابل تتهاوى على الأرضِ مهيضةُ الأجنحة، مفقوءة العيون، مهروسة اللحم، مخلخلة العظام .. وريشها الملوّن المتطاير يملأ حيّزاً كبيراً من المكان!
ساءَلَ نفسه بقلبٍ منكسر:
لماذا لا يتعلَّمُ الإنسان أغاني الفرح من تغريدِ البلابل وحفيف الأشجار؟ .. لماذا يغوصُ الإنسان في أفانين الحرب ويقضي أغلبَ أيّامه ولياليه لمعرفةِ كيفية تحطيم قلوب الأطفال وهم بين أحضانِ أمّهاتهم؟ .. لماذا يسحقُ بعضهم الزهور ويقتلُ بعضهم الآخر تغريدة الفرح وهي معلَّقة بينَ مناقيرِ الحمام؟
همسَ للريشِ المتطاير قائلاً:
واأسفاه! .. هذه المناهجُ البليدة تتفاقمُ يوماً بعد يوم. جفلَ فجأةً عندما رأى أرنباً برّياً يقفزُ قفزات مديدة وخلفه وحشٌ ضارٍ تقطرُ أنيابه موتاً بغيضاً .. تلمَّسَ خاصرتهُ متناولاً (عفريته) ووجَّهَ فوَّهتهُ نحو هذا الوحش الضاري فتحوَّلَ إلى كتلةٍ هامدة. نظرَ الأرنبُ المذعور خلفه فرأى غريمه مكوَّماً تحتَ شبحِ الموت!
صعدَ الأرنب المرتفعات الجبليّة ثمَّ بدأَ يهبطُ باتجاه الوادي. مبتعداً عن نيران المدائن .. كان ريش البلابل ما يزالُ يتطايرُ فوق أشجارِ النخيلِ يرفضُ الانحدار نحو هاويةِ الموت .. نهضَ يلملمُ أشلاء الطيور المعفّرة ليواريها التراب فوق قممِ الجبال .. وفيما كان على وشكِ الوصول إلى قمّةٍ شاهقة، سمعَ بعض الثعالب تتساءلُ فيما بينها:
لماذا لا نبني علاقة حسن جوار مع الطيور اللذيذة؟
كان محاصراً بالهموم.. فجأةً بدأَ يردِّدُ (انّي وجدتها .. انّي وجدتها) .. جاءته فكرة كومضة سريعة وشعرَ أنَّ هذه الفكرة كانت معلّقة بأذيال الغيوم واستطاع أن يلتقطها رغم كثافةِ الضباب.
وقفَ متأمِّلاً الأفق البعيد، مستعرضاً آخر استنتاجاته وتحليلاته حول الإنسان قائلاً:
بعد التجربة الدورانيّة الطويلة في الحياة، وبعدَ أن ازدادَت سحقاً جماجم الأطفال واليمام تحتَ رايات العفونة البشريّة، تبيَّنَ أن دارون أخفقَ في نظريّته عندما قالَ:" انّ الإنسان كان أصلهُ قرداً، فتطوَّرَ ذلكَ القرد إلى أن وصل ما وصلَ إليه الإنسان بصورته الآدميّة الآن!"
هكذا قال دارون، وأمّا هو فيقول العكس تماماً: حيث يعتبرُ أنَّ القرد كانَ أصله إنساناً قبل أن يكونَ قرداً .. وتطوَّر ذلكَ الإنسان عبر مراحل زمنيّة طويلة جدّاً إلى أن أصبح قرداً بهيئته الآدميّة الآن! .. وإلا فما هذهِ القرودُ البشريّة الّتي تزدادُ يوماً بعدَ يوم، وتتحكّمُ بشكلٍ غوغائي بمصير أغلب البشر المبعثرين على هذا الكوكب السابح بين أحضان السماء!
                                               
 ستوكهولم : آب 1992                                                                                                       
 sabriyousef1@hotmail.com
   

صفحات: [1]