عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - نوميديا جرّوفي

صفحات: [1]
1

   نوميديا جروفي، شاعرة و كاتبة و ناقدة (الجزائر)


قراءة نقدية في المجموعة القصصية (من عبق الماضي)
للقاصّ السوري "جورج عازار".



هناك ذكريات حلوة في ذاكرة كل منا من أيام الطفولة أو الشباب              أو المرحلة الجامعية لا نستطيع نسيانها وكلما كبرنا لمرحلة أكبر من التي كنا فيها تزيد أحزاننا أحيانا، فكثيرون يندمون على كثرة أحزانهم على بعض الأشياء في الماضي التي من الممكن أن تمرّ دون أن تُؤثّر فينا بشكل سلبي.
وقد تبدو بعض المواقف التي قمنا باتخاذها في الماضي تُجاه أمور عادية هي أكثر المواقف الذي قمنا بالنّدم عليها وتمنّينا أن تعود الأيام مرّة أخرى حتّى نستطيع أن نستمتع باللّحظة تاركين كلّ الأفكار السلبية جانبا حيث أنها مرّتْ وأصبحت ذكرى فعلينا أن نعي أنّ كلّ الأشياء تمرّ وتُصبح ماضي سواء أليم أو ماضي يحمل ذكريات نتمنّى عودتها.
نشعر بالحنين والاشتياق لأيام مضت نتمنّى عودتها فهناك من يتحسّر علي أيام شبابه أو طفولته متمنيا عودته يوماً حتّى يستطيع أن يفعل ما كان يفعله في الماضي ولكن ليت الزمان يعود يوماً لنفعل ما عجزنا عن فعله الآن.
و الشيء الجميل هو تلك الذاكرة القوية التي يملكها البعض كما لاحظتها في المجموعة القصصية للقاصّ السّوري (جورج عازار) فليس الماضي إلاّ كنزا من المهارات و الخبرات و التّجارب، بدونها يتخبّط الإنسان في الظّلام.
حيث يقول (جورج إليوت) بهذا الصّدد: " لا أريد مُستقبلا يفصلني عن الماضي".
نتوغّل قليلا في قصصه و نتحدّث عنها..

ففي قصّة ( إرادة الحياة):
نعيش مُعاناة أمّ راشد بعد وفاة زوجها، حيث قامت بالأعمال المنزلية لقاء أجر زهيد عند أصحاب البيوت المُترفة لتُعيل أطفالها اليتامى، حتّى حلّ ذلك اليوم الذي بُترت فيه ساقها بسبب حادث السيارة الذي تعرّضت له و هي تهُمّ بقطع الطّريق عائدة إلى أطفالها ذلك المساء.
و بعد مُضيّ أيّام من فترة العلاج و النّقاهة خطرت لها فكرة بيع سندويتشات لطلبة المدارس بعربة صغيرة لتُطعم صغارها، حيث كان يُساعدها ابنها و هو في طريقه للمدرسة.
و هكذا نسيت مرارة ما عاشته و هي ترى الابتسامة في عيون أطفالها.
فبعزيمتها و قوّتها و صلابة إرادتها و تحدّيها استطاعت أن تتخطّى كلّ الأهوال و المصاعب.





و في قصّة (تأوّهات الحنين):
القصّة هنا جعلها الكاتب (جورج عازار) على لسان الأمّ التي أحزنها فُقدان بيت العائلة و الإبتعاد القهري عنه.
إنّه البيت العتيق الذي احتضن الأطفال، إنّه المكان الذي عشقتْ فيه روح الحياة.
لم تستطع نسيان زهور حديقتها التي زرعتها بنفسها، و لا عبير الريحان، 
و لا تلك الصّباحات المشمسة التي اشتاقت لها.
جلست و هي في منفاها البعيد و غُربتها تُحدّث ابنها عن شجرة التّوت العجوز التي كانت في باحة المنزل، حدّثته عن تسلّقه جذعها فترة شقاوته و هو طفل ليقطف ثمارها.
ذكّرته بليالي الصّيف و رعد الخريف.
شكتْ له عن حنينها لمدفأتها القديمة و صوت زقزقة العصافير.
و في تأوّه عميق أخبرته عن حنينها الكبير لتلك الدّار و صخب الجيران         و صياح الصّبية.
بصراحة يصعب عليها نسيان ذلك البيت، فبين جنباته عاشت مسرّاتها       و اختبأت أحزانها، فلأجله تبكي ذكريات عمر و أشواق و حنين.
هي الأمّ التي أحبّت المطر فوق بيتها العتيق و لون شمس وطنها و نسمة الهواء التي تُداعب براعم زهراتها الجميلة.
ففي كلّ ليلة كانت تُبلّل وسادتها بدموع الأشواق لذاتها التي تاه منها العمر ذات يوم في المنفى بعيدة عن بيتها العتيق.




نتحدّث عن قصّة ( من عبق الماضي):
إنّه العنوان الذي وَسَمَ به الكاتب (جورج عازار) عنوان المجموعة القصصيّة.
و يتحدّث الكاتب هنا عنه هو لأنّه بطل القصّة، حيث عاد إلى موطنه مُشتاقا لبيتهم العائلي، و دخل كلّ الغُرف واحدة تلو الأخرى مُستعيدا كلّ الذّكريات هناك.ليعود مُجدّدا إلى موطن اغترابه مُودّعا بيتهم العتيق بصمت.
لكن عندما وصل اكتشف و هو يفتحُ حقيبته ليُرتّب حاجياته أنّ الحزن قد غافله و تسلّل إلى جميع أشيائه فعطّرها بلونه ليُصبح شريكا دائما لما تبقّى من سنوات عمره الكئيبة.

و في قصّة (غريبة):
قصّة بلسان الأمّ تتحدّث فيها عن الدّنيا التي تراها غريبة و تُناديها بــ: " يا أيّتها الغريبة".
تبقى تُكلّمها و تُحدّثها ة تبُثّها شكواها و مناجاتها و ألمها و أمنيتها شبه المستحيلة بالعودة لوطنها الأمّ حيث قالت: "آه لو أعود إلى ضيعتي".
حزينة جدّا هي في غربتها تلك لأنّها في عالم لا تنتمي إليه و لم تتمكّن من التأقلم فيه.
ثمّ نرى أنّ الكاتب جعل غريبة في نهاية القصّة هي الأمّ نفسها حين قال:
"ترحل غريبة عن عالمٍ صارت فيه الأحاسيس عملة مُندثرة، ترحل راضية زاهدة".
فنراه هنا يتحدّث عن رحيل والدته عن العالم و يتكلّم بتفاصيل شبه دقيقة عن ما حدث يومها في ألم جعلنا نعيشه معه. ثمّ ختم القصّة بميلاد الحفيدة.
غريبة هي الحياة، فهناك من يأتي إليها في الوقت الذي يُغادرها البعض لتستمرّ الحياة الغريبة.

نتحدّث عن قصّة (موعد مع السّماء):
قصّة تحكي معاناة والدَيْنِ في بلاد الغربة بعد أن فرحا بنجاة ابنهما و وحيدهما من موت مُحتم بسبب الحرب، ليموت المسكين غرقا بقارب في نزهة في غربته قبل أن يلتمّ شمل عائلتهما الصغيرة الذي كاد أن يحصل.
الكاتب هنا يُحدّثنا عن معاناة الغريبة في بلاد الغربة دوما في حياته اليومية، حيث عليه أن يدفع ثمنا باهضا لأجل الحفرة التي تُوارى فيها جُثّته حيث لاحظنا هذا من خلال ما عاناه الوالدين لأجل دفن ابنهما الوحيد و فلذة كبدهما.

و في قصّة (كان جدّي):
 يعود بنا الكاتب إلى مرحلة طفولته و يحكي لنا عن جدّه الأسطورة في زمن مضى، كما وصفه لنا وصفا دقيقا جعلنا نتخيّله و كأنّنا نراه بملامحه كلّها     و عن مسبحته تلك التي لم تكن تُفارقه.
حدّثنا عن جدّه الذي كان يحكي للأحفاد حكايات لا تُنسى ، و منها نستنتج أنّ الكاتب جورج عازار ورث السّرد و القصّة من جدّه النّابغة و الأسطورة.

نتوغّل قليلا في قصّة (شجرة تتحدّث عن موتها):
 تكلّم الكاتب هنا بلسان الشّجرة و هي تحتضر في سُويعاتها الأخيرة قبل أن تُودّع العالم القاسي الذي اجثتّها من جذورها بعد أن كانت شتلة خضراء يانعة لغاية ما أصبحت شجرة كبيرة.
قصّة الشّجرة هنا ذكّرتني بقصيدة الشاعر (إيليا أبو ماضي) عن التينة الحمقاء التي قتلت نفسها بنفسها حتى اقتلعوها.
لكن هنا الشجرة في قصّة الكاتب (جورج عازار) مختلفة جدّا لأنّها تتحدّث عن حياتها و سعادتها لغاية رؤيتها شبح الموت يتسلّل رويدا رويدا و يقترب منها، حتى انتهى بالمسكينة و هي تقول:
" و ما أنذا ألفظ أنفاسي الأخيرة، فيما صورة رفيقاتي تتراءى لي هناك في البعيد و المنشار الكهربائي لا يترك لي فرصة التقاط الأنفاس".
و لأنّ الكاتب جورج عازار مسرحي فقد أبدع كثيرا في قصّة الشجرة.

نسافر لقصّة (في رحلة الإغتراب):
يحكي الكاتب هنا عن معاناة المغترب عندما يصل إلى بلاد الغربة و معاناته الكبيرة في الإغتراب بعيدا عن وطنه.
ذكّرني بقوارب الموت التي يُهاجر فيها الشّبان بلدانهم هربا من المعاناة ظنّا منهم أنّهم سيجدون السّعادة تنتظرهم أوّل ما تطأ أقدامهم بُلدان الغربة، حيث يعتقدون أنّهم سيجدون العمل و المال كمن قال:" إنّ السّماء لا تُمطر ذهبا و لا فضّة" و إنّما تنتظرهم معاناة كبيرة حتّى يتأقلموا مع تلك الحياة الجديدة.

في قصّة (سيّارة جديدة):
الكاتب هنا حدّثنا عن قصّة حقيقية حدثتْ معه بفقدان سيارته الجديدة التي سُرقت منه ذات يوم و مفاجأته الكبرى بعدم إيجادها في مكان ركنها، و بعد مُخابرته قسم الشّرطة و التّبليغ عن سرقتها تفاجأ من الردّ البارد من قبلهم في أنّها ستظهر لاحقا بعد أن ينتهي منها الوقود في مكان ما و أنّها قد تكون  سُرقت من قبل بعض المراهقين، و هكذا كان، فبعد حواليْ أسبوع اتّصلوا به من إدارة الشرطة و أبلغوه بالمكان الذي وُجدتْ فيه و أنّه بإمكانه الذّهاب هناك لجلبها.
لكن بمجرّد وصوله هناك وجد سيارته في حالة يُرثى لها، حيث كُسّر زجاج النافذة و خُرّب موضع تشغيل السيّارة، بالإضافة إلى الضّربات التي كانت موجودة على هيكل السيّارة من الخارج، و بعد إصلاحها و في أوّل يوم لها تعرّضت لحادث اصطدام لها في مقرّ عمله.
لتذهب السيّارة مجدّدا إلى ورشة الإصلاح و يضطرّ هو لركوب الحافلة من جديد في الصّباح للتوجّه للعمل.
و في الحديث عن قصّة (المكان الأخير):
هي قصّة جمعتْ بين الشكّ و اليقين، الحياة والموت، الخيال والواقع، خوف و قلق، حياة واقعيّة ووهميّة، هلوسات، أماكن تظهر و تختفي، و كلّ هذا حدث و هو في الحافلة في طريقه للعمل. و بعد أن انتهى دوامه و في طريق العودة للبيت ظهرت الهواجس من جديد بمجرّد الاقتراب من المكان نفسه.
لنكتشف بالتّدريج أنّ ذلك المكان هو المقبرة و نحن نتوغّل فيما كتبه من خلال وصفه بعد أن وجد نفسه وجها لوجه أمام ذلك المكان و توجّهه بأقدام مرتعشة مُجتازا بوّابة الدّخول.
و من خلال بعض الجمل التي كتبها الكاتب مثل:( الكلمات المكتوبة فوق الألواح الرّخامية) و ( أخذ يغرق في حسابات الأرقام متى جاؤوا لهذا العالم  و متى رحلوا)
لتنقضي ساعات كثيرة له هناك و يُغادر المكان في منتصف الليل عائدا إلى بيته حيث وجد زوجته قلقة لغيابه و تأخّره في العودة.
و في اليوم التالي و هو مارّ بنفس المكان و هو في الحافلة ينظر بإمعان     و يندهش من اختفاء الألواح الرخامية و لا حتّى أثر لمقبرة، و حتّى المدافن اختفتْ تمامًا.
ففي هذه القصّة أدخلنا الكاتب في متاهة  مليئة بالمشاعر و الهواجس     و الخوف و الرهبة.
و القصّة هنا  هي تحليل في فلسفة النفس البشرية و فلسفة الموت       و الحياة.

ننتقل لقصّة (مشاعر في غيبوبة):
هي قصّة الابن العاقّ الذي استمع لرأي زوجته فقام بتوبيخ والده العجوز الذي كان في أمسّ الحاجة لابنه في ذلك العمر الكبير و كيف قام بطرده بطريقة غير مباشرة فهمها الأب المسكين و اختفى من حياة ابنه دون مقدّمات.
الزوجة الشريرة فرحت بانقطاع الزيارات فيما الحفيد تكدّر لأنه يُحبّ جدّه     و الهدايا التي كان يجلبها له ككلّ جدّ يُسعد أحفاده و لو بقطع شوكولاطة أو حلوى.
و بعد ثلاث سنوات يمرض الأب المسكين بمرض ألزمه الفراش، و عندما وصل الخبر إلى الابن صحا من نوم الغفلة الذي كان فيه و شعر بتأنيب الضّمير ليسافر مسرعا إلى أبيه بعد أن أحسّ أنه على وشك أن يفقده.
لكن ماذا ينفع النّدم هنا؟
و بعد الكلمات التي سمعها من والده دمعت عيناه و هو يُدرك مدى الألم الذي سبّبه لوالده من معاملته القاسية له.
لكن هل تكفي الدّموع لتُداوي جراح القلب الغائرة و الدّامية؟

في الأخير:
المجموعة القصصيّة (من عبق الماضي) تحتوي على 24 قصّة تُسافر بنا تارة إلى الماضي الجميل في البيوت الدمشقية بباحاتها الجميلة بحديث الأمّ و قصص الجدّ الرائعة، و تارة إلى مرحلة الطّفولة و الشّباب للكاتب نفسه و تارة أخرى إلى هناك حيث غُربته في بلاد الثّلج فيسرد علينا مُعاناة المغترب، و أحيانا أخرى يتحدّث بلسان غيره، كما جعلنا نعيش حزن الأمّ في غربتها و حنينها لبيتها العتيق أو كما فعل مع الشّجرة، و قصّة ندم الإبن العاقّ بعد فوات الأوان لما فعله مع والده أو مأساة سوسن في قصّة (همسات النّفس الجريحة) التي اختتم بها مجموعته القصصيّة.
بصراحة الكاتب (جورج عازار) أبدع كثيرا في أوّل إصدار قصصي له لأنّ القارئ يقرأ القصص بعاطفته و يتأثّر كثيرا بما جاد به قلم الكاتب من إبداع رصين يجعلنا نعيش كلّ قصّة لأنها تحكي الحقيقة الإجتماعية المُعاشة حولنا       و فينا و بيننا كلّ يوم  في حياتنا اليومية.




2
أدب / عندما أغادر الحياة للأبد..
« في: 20:56 29/09/2021  »


عندما أغادر الحياة للأبد..

  نوميديا جروفي
 أديبة و ناقدة (الجزائر)


عندما أغادر للأبد
و لن أعود هنا
أطلق سراحي
و لا تبكِ عندما تفكّر بي
كن ممتنًا للسنوات الجيدة
فقد أعطيتك محبتي
يمكنك فقط التخمين
للسعادة التي جلبتها لي
شكرا لك
على الحب الذي منحتني إياه
دع الذكريات تهدئ ألمك
لن أكون بعيدة
إذا احتجتني ناديني وسآتي
بالرغم من أنك لن تستطيع رؤيتي
أو حتى لمسي
سأكون هنا
وإذا استمعت إلى قلبك
ستشعر حتما
بحلاوة الحب التي سأجلبها
و أنا غائبة عن جسدي
لا تذهب إلى قبري للبكاء
لن أكون هناك
أنا ألف رياح تهب
أنا بريق بلورات الثلج
أنا الشعاع الذي يعبر حقول القمح
أنا مطر الخريف الحلو
أنا موسيقى الطيور في سكون الصبح
أنا نجمة ساطعة في سكون الليل
لذا لا تذهب إلى قبري للبكاء
لأني سأكون معك دائما




3
  (الاستاذ العربي علي فضيل/الجزائر)


تراجيديا الصّراع بين الواقع و المأمول في سرديّات القاصّة نوميديا جروفي


 

قراءة نقدية في المجموعة القصصية (تأملات بعدسة القلم)
صدرت المجموعة القصصية الموسومة ب( تأمّلات بعدسة القلم ) للقاصّة الجزائريّة نوميديا جروفي عن دار الماهر للطباعة و النشر و التوزيع ، في طبعتها الأولى عام 2019 م . و قد أهدتني القاصة – مشكورة – نسخة منها أثناء فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة في شهر نوفمبر سنة 2019 م .
احتوت هذه المجموعة القصصية على اثنتين و خمسين قصة قصيرة . و قد صدّرتها الكاتبة نوميديا جروفي بعتبة جاء فيها : " قصص الحياة تُكتب في القلب و ليس في الأوراق " ص 5 . و هي بمثابة عنوان ثا و مفتاح للمجموعة ، يفضي بالقاريء و الناقد إلى تحديد العلاقة الجدليّة بين الفنّ القصصي الملتزم بقضايا الإنسان المصيريّة و وحياته اليوميّة في أبسط جزئياتها و أضيق زواياها .
تقول الكاتبة في مقدمة مجموعتها القصصية : " هي قصص ليست منزلة من العلى بل من روافد المجتمع ففي عمق كل قصة هناك خبرة و ما وراء كل خبرة عبرة حياة ... إنّها قصص أظنّها كفيلة بأن تجعل القاريء يرحل إلى أعماقه ليحاور ذاته و يتأمّل حياته حتى يبلغ ملء نضجه الإنساني " ص 9 .
إذن ، هي قصص انتزعتها الكاتبة نوميديا جروفي من بين مخالب الواقع المرّ و أنياب الدهر ، الذي لا يرسو على شاطيء ، ولا يقرّ له قرار . رسمت فيها الكاتبة جزئيات مجتمع أنهكته العلل النفسيّة ، و العقد الدونيّة ،               و الاستسلام لليأس و القنوط . ففي قصة ( شبح ) ، يتحوّل - فجأة - حب البطلة و وفاؤها و فرحها و حلمها المعسول إلى حزن فجنون فانتحار من أعلى الجبل " لطمت و مزّقت ثيابها و أخذت تركض هائمة على وجهها حتى وصلت أعلى الجبل من ذلك الجرف و رمت نفسها منتحرة " ص 15 . و كان (تحليقها ) ذاك من ( أعلى ) ، لا يشبه البتّة تحليق الفراشات بين الزهور زهوا و استمتاعا ، بل كان فجيعة و موتا محتوما ، و سقوطا نحو ( جرف ) مميت . و هو مصير مأساوي يعرّي هشاشة النسيج الاجتماعي و يفضح ضعف الوازع الروحي في مجتمع يتسيّد فيه ( فخامة ) الجهل و (جلالة ) الخرافة على قدسيّة العلم و اليقين . مجتمع ، ينظر إلى المرأة من زاوية ضيّقة و منكسرة ، لأنّها جسد لقضاء متعة جنسيّة ، و عورة وجب وأدها في( قبر ) دنيويّ ، قبل طمرها في قبرها الترابيّ . مجتمع يتّهم المرأة      و يلبسها ثوب الجاني ، و لو كانت ضحيّة بشهادة نجوم السماء و كواكبها .  و قصة ( فاجعة ) صورة لذلك ، فقد وقعت البطلة ضحيّة اغتصاب من طرف لاجئين من مالي ، وغم أنّها كانت يدها مشفقة عليهم . " كانت المسكينة تشفق على لاجئين من مالي تراهم دوما قرب بيتها فتطعمهم و تعطيهم الماء لحرارة الجو خارجا " ص 16 . أجل ، منحتهم الماء ، أي الحياة ، بينما منحوها الموت . " .. فدخلوا عليها و كانوا ستّة و هي امرأة لا حول لها و لا قوّة و أطفالها الأربعة نائمون في العليّة ... و تعاونوا لتكبيلها ثم تناوبوا عليها فاغتصبوها جميعا " ص 16 . هو مشهد فظيع جدا ، لأنّها لم ترتكب تلك الخطيئة ، بل أُكرهت عليها كرها ، لكن لم يرحمها المجتمع ، و لا زوجها الذي قال لهم ، بعدما أخرج لهم صحنا من الطعام : " عندما تنهون الأكل دقّوا عليها و اعطوها الصحن " ص 16 . رغم أنّه مسؤول عمّا حدث لها     . و طلّقها الزوج بعد جريمة الاغتصاب الوحشي ، " ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين .. " ص 18 ، ثم تفارق الحياة من وطأة الصدمتين ؛ صدمة الاغتصاب و صدمة الطلاق . فالقصة - بقدر ما فيها من عبرة لمن يعتبر       و ذلك عندما يكون جزاء الإحسان غير الإحسان - تدين بشدّة عنجهيّة الذكر الفاقد لصفات الرجولة الحقّة ضد المرأة الضحيّة في بيئة ذكوريّة أحاديّة النظر ، تغفر للذكر المستبّد كل خطاياه في حق المرأة ، بينما تعاقب المرأة على خطيئة لم ترتكبا رغبة و طوعا ، نظرا لاختلال عقليّ و سيكولوجيّ في تلك البيئة . و هذا ما تظهره قصة ( مذلّة و مهانة ) ، حيث تتعرّض البطلة ،        و هي امرأة شرقية يتيمة ، مترفة ماديا ، لكنّها تعيسة في حياتها . " أعيش حياة الترف ، أنظري حجم البيت الضخم الذي أعيش فيه ، عندي أفخم الأثاث ، أسافر كل سنة لبلد ، و لكنّني أتعس الناس " ص 42 . تتعرّض للتعذيب النفسي الشديد من زوجها الذي وصفته قائلة : " .. زوجي زير نساء " ص 42 . و حين سألتها جارتها عن سبب رضاها بالعيش معه أجابتها بهدوء : " ماذا أفعل ؟ أين أذهب ؟ إلى الشارع ؟ أنا يتيمة و لا بيت عندي يأويني و يحمي أولادي من الفقر و يسترني من أنياب ذئاب الشارع ... أنا مقهورة ، ذليلة ، مهانة ، مسكينة ، مجروحة ، أموت في اليوم مائة مرّة " ص 43 . فالمال وحده لا يصنع السعادة ، و الغنى وحده لا يبني أسرة مطمئنّة و متماسكة و سعيدة ، إذا انعدمت المودة و الرحمة و القناعة       و الغنى العاطفي و النفسي . فقد يكون الترف بوابة مشرعة على الفساد الأخلاقي و الاجتماعي ، و وسيلة لإذلال الآخر و تعذيبه نفسيّا . لكن ما يلفت النظر هنا ، هو إصرار الكاتبة على تقديم بطلة قصتها في موقف انهزاميّ و استسلاميّ و سلبيّ ، لا مثيل له ، لا تملك من أسلحة المقاومة غير الصمت و الرضا و الدعاء . " كلّما أنظر إليه أحترق في أعماقي ، و أدعو له الربّ في صلواتي ليبتعد عن الوحل الذي تلطّخ به .. هذا أقل ما أستطيعه للأسف ، فهو أب أولادي " ص 43 . موقف خال من بؤرة التأزّم ، الذي يُكسب الحدث القصصي صراعا دراميّا ، غايته إثارة الإشكالية المطروحة و إظهارها و رصدها للرأي العام في صورتها النمطيّة لا الفردانيّة . و مهما كانت الأعذار ، فإنّ القبول بالخيانةّ الزوجية على أنّها أمر واقع ، هو أشد إيلاما من الخياتة نفسها . و كان على الكاتبة أن ترسم بطلتها في صورة إيجابية ، أقلّها ما فيها ، الرفض المطلق لسلوك زوجها الخائن لها جهرا و عمدا .
أمّا العيش مهانة تحت سقف خيانة زوجها لها مع سبق الإصرار و الترصّد ، بحجة خوفها على نفسها ، وعلى أبنائها من الفقر و التشرّد و ذئاب الشارع . فذلك – لعمري – أكبر خيانة للضمير و العفّة و الحدّ الشرعي و القيّم الأخلاقيّة النبيلة و الأعراف الأسريّة المشاعة و الميثاق المتين و المقدّس للزوجيّة .
و هكذا ، وجدنا القاصة نوميديا جروفي ، قد قدّمت لنا في ثنايا قصصها شخصيات منتزعة من عالم الواقع المعيش ، مطحونة حتى النخاع ، و بنظرة موغلة في واقعيّة انتقاديّة داكنة ، تتأرجح بين دروب اليأس و الاستسلام    و الخيبة و الضياع و الموت بشتى الطرق الموجعة . تارة يوجعها القدر في أعزّ ما تملك ؛ في فقدان مفاجيء و مأساويّ لزوج ، كما حدث في قصة ( غلطة عمر ) أو ضياع حبّ كما في قصة ( بعد 18 عاما ) ، أو إعاقة بيولوجية دائمة نتيجة حادث مرور ، كما جرى للطالبة الجامعية في قصة ( صدفة غريبة ) . و تارة أخرى يصدمها الواقع المرّ ، و ما فيه من خيبات و تناقضات عجيبة بين مظهره و مخبره . فهذا يتنكّر لها كم في قصة ( بين الماضي     و المستقبل ) ، و ذاك يحاول خداعها بكلام معسول لنيل مبتغاه الجنسي ، كما في قصة ( في مهبّ الريح ) .
ففي قصة ( الموت ) كانت نهاية الفتى الصغير ، الحالم بالجمال و الابتسامة و السلام فظيعة ، و فيها إشارة إلى العشريّة السوداء و الحمراء التي عاشها جيل التسعينيّات في الجزائر " ... لكنّه ما كاد يعدو نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة " ص 21 . و كذلك كان مصير الطفل السعيد صاحب البالون الأحمر في قصة ( طفولة موؤودة ) ، بعدما سلبت منه الحرب اللعينة نعمة الأمن في وطنه ، و التي فرضها الأقوياء على الضعفاء ، و بات الموت ضيفا بشعا يتربّص - دون موعد أو سبب - بالأسر البريئة و الأحياء الآمنة دون رحمة أو شفقة . " كان الوطن يعيش بأمن و أمان في زمن ليس ببعيد ، و اليوم اختلف كل شيء ، حيث أصبح الشعب مستضعفا في وطنه ، الذي عشّش فيه الخوف و الرهبة من موت بشع ، كيف لا و الموت أصبح ضيف الغفلة على الأسر و الأحياء " ص 69 . ذلك الموت العشوائي ، الذي لا يميّز بين ضحاياه ، بل يزهق أرواح الأطفال . " و ما كاد يخطو خطوتين حتى كُتمت أنفاسه البريئة برصاصة اعترض طريقها سهوا فاخترقت جمجمته الملائكية ." ص 70 . و كأن الذنب هنا ، ذنب الطفل الذي اعترض طريق الرصاصة ، لأن الحرب أمست سيّدة المكان ، احتلّت الشوارع ، أين يجد الأطفال متسعا و مساحة للعب الكرة . و هي في الغالب عادة الأطفال في البيئات الشعبية الفقيرة . و حين تحرم الحرب الأطفال من ممارسة ألعابهم المفضّلة في الشوارع ، و تغتالهم الرصاصات الطائشة ، فهذا يوحي بأنّ المأساة فظيعة ، و أنّ الوطن قد غرق في مستنقع حرب لا عنوان لها     و لا خطوط حمراء أمامها . " طار البالون الأحمر في السماء و لحقته روح الطفل هناك بعيدا حيث السلام الأبدي " ص 70 . و قد وظفت القاصة نوميديا جروفي ألفاظا سيميائية مثيرة في التعبير عن بشاعة الحرب مثل : عشّش – الخوف – الرهبة – موت بشع – ضيف الغفلة - كُتمت – اعترض – اخترقت جمجمته – الأحمر .
ما أقسى وطأة الموت على قلوب تعشق الحياة البعيدة عن أزيز الرصاص    و دويّ القنابل . و ما أتعس حياة جيل التسعينيات ، الذي طحنته حرب بين الإخوة الأعداء ، و حرمته من نعمة السلام و الأمن و سبّبت له عللا و عقدا نفسية ، دفعته إلى جلد الذات ، و إلى سلوكات مميتة ، مثل : الهروب من الوطن على متن قوارب الموت و المخدّرات و الانتحار و العنف ووو .
و تواصل القاصة نوميديا حروفي في التنقيب في أعماق المجتمع الشرقي المريض عن خباياه . ففي قصة ( الأم و الابن ) ، تعرّي القاصة جانبا أسود من المظالم الاجتماعية ، و هو عقوق الوالدين ، حيث طرد الابن أمّه إلى الشارع بسبب زوجته ، ناسيا أو متناسيا برّ الوالدين ، و غافلا عن مآل العاق لوالديه ، و متجاوزا – بعنجهيّة – أحكام الشرع و تقاليد المجتمع الشرقيّ    و أعرافه و قيّمه ، سواء المحافظ منه أو المتفتّح . جاء على لسان الأم : " .. شاءت الأقدار ، أن يأتي يوم و يرميني ابني في الشارع مع حزمة من ثيابي بسبب زوجته " ص 57 . و جاء على لسان الابن العاق ، مخاطبا أمّه : " اذهبي ..غادري .. و اخرجي من بيتي فقد ضقت ذرعا بك . " ص 57 .
لقد تنكّر الابن العاق و رمى أمّه التي حملته وهنا على وهن ، و أرضعته حتى الفطام ، و رعته إلى أنّ شبّ و اشتدّ عوده و ساعده . " وَ قَضَى ربُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وَ بالوالدين إحسانا ، إمّا يبلغنّ عندكَ الكبرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ و لا تنهرْهُمَا و قُلْ لهُمَا قولاً كريما و اخْفِضْ لهما جناح َالذّلِّ من الرَّحْمةِ و قُلْ ربِّ ارْحمهُما كما رَبيَّاني صغيرا " مسورة الإسراء 23 / 24 .
و في القصة إيحاء إلى محاولة انسلاخ الجيل الجديد من هويّته بكل ما تحمله من قيّم نبيلة ، بدعوى العصرنة الغربيّة الزائفة .
و لم تغفل القاصة زمن الحراك الشعبي الذي انطلق في فيفريّ 2019 م .  و تناولته في قصة قصيرة جدا بعنوان ( صلاة الشعب ) . بعد إعلان الرئيس – تحت ضغط المظاهرات المليونيّة السلميّة - عدم ترشّحه لعهدة خامسة ،   و الصلاة هنا تعني الدعاء . و هي أقصوصة ، تشبه ما عرفه العصر العباسي بفنّ ( التوقيعات ) . و بقدر ما هي موجزة في لفظها ، لكنّها عميقة في معناها . فقد عبّرت الأم - و هي رمز الجيل القديم و الشاهدة على العهدات السابقة – عبّرت عن بهجتها ، و كأنّها تخلّصت من كابوس ، طالما أرّق حياتها . و هنا يظهر أثر التواصل بين الأجيال الواعيّة ، و دور الشعب الحرّ في إحداث التغيير المنشود ، و أحقيّته للتحية و التقدير و الإجلال . فإذا أراد الشعب الحياة الحرّة ، استجاب له القدر ، أمّا إذا خنع و استسلم و رضي بالاستبداد ، فإنّ مصيره الهوان و الفناء .
لم تبتعد قصص الأديبة نوميديا جروفي عن معالم بيئتها الملأى بالمعاناة     و المآسي اليوميّة التي تفترس الفرد كوحش ضار ، و المحفوفة بالتناقضات الاجتماعيّة . فكأنّي بالقاصة ، قد اتّخذت لها مجلسا شهرزاديّا ، و طفقت تحكي دون تكلّف حكايات شهدت أحداثها ، بأسلوب سرديّ بسيط و واقعيّ ( نسبة إلى المدرسة الواقعيّة ) و خال من الخيال . مستغلّة تقنيّة الأنا الشاهد أو ( التبئير الداخلي ) كما سمّاه جرار جينيت . و في أغلب الأحيان،  جعلت القاريء يكتشف أن السارد ( القاصة ) تتحكّم في عالم القص و توجه الأحداث ، من خلال أسلوب بانوراميّ غير محايد . فغالبا ما جاءت نهايات قصصها منفصلة عن العقدة أو لحظة التأزّم ، عبارة عن عبارات تلخّص المغزى و العبرة من القصة ، تحمل معاني حكمية وعظية ، و هذا تدّخل واضح و سافر من القاصة في توجيه الأحداث . كقولها - على سبيل المثال لا الحصر - في نهاية قصة ( فاجعة ) : " صدق من قال : لا تكسر اليد التي تمد لك الخبز أبدا " ص 18 . و قولها في نهاية قصة ( انتحار ) : " .. و ما أكثر هذه الأخطاء الطبيّة التي ذهب ضحيتها الكثيرون .. طوبى للحزانى لأنّهم يتعزّون . " ص 20 . و قولها أيضا في خاتمة قصة ( القهوة المالحة ) : " قد نشرب المرّ من أجل أحدهم فقط لأنّنا أحببناه من كل قلبنا و أنّنا نضحي بكل شيء في سبيل أن نبقى معه و حياتنا لا تستمرّ بدونه . إنّه الحب صانع المعجزات الذي لا يؤمن بالمستحيل أبدا " ص 97 . و قولها في نهاية قصة ( عشرون عاما و أنا أبحث عنك ) : " إنّنا لا بد أن نحصد ما زرعناه و لو بعد أيام كثيرة أو أعوام خيرا كان أم شرّا و ليعطينا الرب الإله أن نصنع رحمة طوال أيّام حياتنا . " ص 131 . و قولها في خاتمة قصة ( بين العار              و الشرف) : " قتلوا الشرف ليحيا العار " ص 148 .
إنّ مثل هذه النهايات متروكة – في الأصل - للمتلقي ، و هي حق من حقوق الناقد و واجباته و رسالته النقدية . و إلاّ ماذا بقي للناقد من اجتهاد نقدي ؟ هي ليست من مهمّة القاص، لأنّ القصة في مضمونها العام ، ليست مقالا فلسفيّا أو اجتماعيا أو أدبيّا ، تستنتج العبر و المواعظ ، و تمنح الحلول و النظريّات للمتلقّي . أعتقد أن القاصة نوميديا جروفي قد أقحمت تلك النهايات المنفصلة عن الأحداث في جلّ قصصها ، و هذا شكل من أشكال هيمنة الساردة ( القاصة ) و سلطتها على النص . في الوقت الذي كان عليها أن تبقى محايدة عن النهايات القصصية الحاسمة أو المفتوحة ، التي تفرضها فنيّات القصة القصيرة ، من خلال توظيف تقنيّة التبئير الخارجي أو المعرفة المحايدة ، التي تعطي لشخصيات القصة القصيرة دورا أكبر من دور ( السارد ) ، حين يكون ناطقا بضمير الغائب .
و يلفت الانتباه ، في هذه المجموعة القصصية ، هو أنّ العديد من أبطالها أطفال معذبّون ، بسبب اليتم أو الفقر و المرض و الحرمان و القهر الاجتماعي . و قد قدّمتهم القاصة نوميديا جروفي في صورة أليمة و مؤلمة و تراجيدية ، خاصة في قصص ( البراءة ) ص 146 ، و ( الطفل و الطبيب ) ص 143 ، و ( الوردة ) ص 142 ، و ( كلمة السر ) ص 126 و ( الموت )     ص 21 . و ( طفولة موؤودة ) ص 69 ، و ( كأس الحليب ) ص 98 ،             و ( الصندل ) ص 100 ، وغيرها .
و عندما نتأمّل المقاطع السردية التالية: " دكتور ، طفلي مريض و هو في حالة خطيرة جدا ، أرجوك أن تفعل أي شيء لإنقاذه " ص 130 . " ... فالولد كان ضريرا " ص 142 . " .. و ما كاد يعدو ( أي الولد ) نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة " ص 21. " طار البالون الأحمر في السماء و لحقته روح الطفل هناك بعيدا.." ص 70 . " كان طفلا فقيرا يوزّع السلع على المنازل ليلا حتى يتمكن من إنهاء تعليمه ، و في ليلة شعر بجوع شديد .." ص 98 . " طفل صغير يتيم في السابعة من عمره فقد والديه و هو رضيع .. "         ص 100 . " ..و لأنّ اليوم كان العيد ، فقد كانوا كلهم يلبسون الملابس الجديدة إلاّ هو الذي كان يلبس ملابس رثة ، و نفس زوج الصندل الذي يصغر مقاسه عن قدمه .. " ص 100 / 101 . تتّضح لنا صورة سوداوية لطفولة معذّبة و ضائعة في مستنقع مجتمع لا مستقبل له . مجتمع يقتات من ترهات الماضي و خرافاته ، و يتكئ على حاضر افترضيّ و فوضويّ ، و يرنو إلى مستقبل أعنّته السراب .
كما كان للأنثى المقهورة و المهمّشة نصيبها في هذه المجموعة القصصية،  فقد قدّمتها القاصة ضحيّة مجتمع ذكوريّ معقّد . فهي متّهمة ومذنبة رغم براءتها، تدفع ثمن خطيئة الطرف الآخر تحت سلطان القوّة و التسلّط.         و كأنّها فرض كفاية في المجتمع . ففي قصة ( مذلة و إهانة ) تعامل الأنثى كسقط المتاع فهي – في نظر الذكر - مجرد كتلة من اللحم                    و العظم ، منزوعة العواطف ، وظيفتها جنسيّة لا أكثر . " زوجي زير نساء، كل نهاية أسبوع يأخذني عند أخته لتمضية يومي الخميس و الجمعة... " ص 42 .
و كذلك في قصة ( فاجعة )، دفعت الزوجة الضحيّة، الطيّبة، الكريمة، البريئة، ثمن غلطة زوجها المتعجرف الذي " أدخل عليها غرباء و تركها و هي في أشدّ الحاجة إليها " ص 18 . فبدلا من الوقوف بجانبها و مؤازرتها و حمايتها ، قام بتطليقها ، ليبدي رجولته المزيّفة أمام الناس . " تخلّص منها بطلاق ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين ... " ص 18 . و هكذا يتحوّل الزوج من سند لزوجته و حام لها إلى جلاّد . و هو صورة واقعيّة لمجتمع ذكوريّ منافق، يمارس دور الخصم و الحكم في الوقت نفسه.
و بعد ، فقد وفقت القاصة نوميديا جروفي - في مجموعتها القصصية           ( تأمّلات بعدسة القلم ) – في فضح خبايا واقع اجتماعيّ يرزح تحت نير التخلّف و الخرافة و الظلم و القهر و التهميش و العلل النفسيّة ، و رصد سلوكيّات أفراده ، بأسلوب سرديّ بسيط و سلس .
من المآخذ التي رصدتها أيضا تلك النهايات في القصص و هي تدخّل واضح من القاصة في توجيه القارئ نحو المغزى العام للقصة ، ممّا قد يحوّلها إلى مروحة للكسالى . كان على القاصة أن تدع ذلك للقارئ المتذوّق             و الناقد المتمكّن، كي يغوص في أعماق المعمار القصصي لاستنباط الهدف و المغزى العام.
 ( تأملات بعدسة القلم ) لنوميديا جروفي إضافة مفيدة للمكتبة العربية ،    و لبنة أخرى تضاف إلى هرم القصة الجزائرية القصيرة الشبابيّة ، و بريشة   و عدسة نسويّتين .

(الاستاذ العربي علي فضيل/الجزائر)

4
نوميديا جروفي، شاعرة و كاتبة و ناقدة (الجزائر)


فيلم هيليوبوليس HELIOPOLIS
(قراءة نقدية)


 

فيلم هيليوبوليس ،جديد المخرج جعفر قاسم.
الفيلم الذي جمع شمل العائلات في قاعات السينما من جديد بعد أن كانت فارغة و مغلقة لأكثر من سنة.
الفيلم عبارة عن قصّة مُستوحاة من حقبة تاريخية في الجزائر إبّان الاستعمار الفرنسي و يُجسّد أبشع جرائم فرنسا التي لا و لن تُنسى ما دمنا نتنفّس و نكتب و نُذكّر أبناء جيلنا و الأجيال القادمة.
هيليوبوليس يحكي عن زمن الكولون الذي عمل لصالح فرنسا و كيف كانت امتيازاته من بيت فخم و عبيد و حقول، لكنه في المقابل باع نخوته و كرامته و ووطنه للعدوّ و بقي عبدا مطيعا لأسياده.
الفيلم كان جدّ رائع من حيث الصورة ، الألوان ، الشوارع و الثياب التي عادت بنا كلها عبر الزمن لتلك الفترة بالذات.
محفوظ ابن الكولون الشاب الذي رفض إتمام دراسته و ترك بيته بترفه ليلتحق بأصدقائه المناضلين الشجعان.
إنه الابن الذي عشق ميصالي الحاج و كان يتوق للقاء فرحات عباس، ليكون في نهاية المطاف ضمن من حضر لمظاهرات 8 ماي 1945 الخالدة.
استشهد في الأخير رميا بالرصاص على مرأى والده الذي ترجى قاتله و أصبح كلبا مطيعا يُكرّر كل كلمة بعده.. الاب الذي ركع تحت علم فرنسا لأجل اطلاق سراح ابنه الوحيد.. رغم أنّ محفوظ رفض صارخا في وجه أبيه حتى لا يُطيعهم فيما أمروه و فضّل الموت برجولة و شموخ رافعا رأسه عاليا لأجل جزائر حرة.

* الفيلم رغم إبداع المخرج فيه لنقل رسالة للمتفرّج إلاّ أنه مليء بالهفوات التي سأذكرها كما يلي:

- اللغة الفرنسية الغالبة في النص و السيناريو و الحديث في الفيلم رغم وجود الترجمة الفرنسية في أسفل الشاشة.
كان الأحرى و الأجدر أن يبقى النص جزائريا خالصا باستثناء كلام الفرنسيين بالفرنسية ليكون للفيلم هيبة و حضور قويّ في دور السينما الغربية أو شاشات التيلفزيون الاوروبية.
- ابن الكولون محفوظ و هو على علاقة غرامية مع فرنسية!!
أيُعقل من باب المنطق أن يفعلها مناضل شاب ترك مستقبله وراءه لأجل هويته و كرامته و حرية وطنه؟!
ألا يُعتبر هذا تشويه لمن ضحى بروحه و أغلى ما يملك لأجل الوطن؟
- ما غاب عن المشاهد الجزائري في ابنه الكولون
لالة نجمة.
من خلال معرفتي و ربط الأحداث،اكتشفت أن المخرج جعفر قاسم له قراءة سابقة للروائي و المسرحي الخالد كاتب ياسين و رائعته (نجمة).
حيث أنّ جعفر قاسم استلهم شخصيتها في هيليوبوليس من خلال أنها كانت ممرضة و عالجت المرضى الذين آويتهم لمنزلها و أخفتهم في الاسطبل و أشرفت على علاجهم بعد أن رفض والدها وجودهم.
عصت أوامره هذه المرة لأنها تحمل روحا ثائرة و مناضلة على خطى أخيها الشهيد محفوظ.
إنها نجمة الثائرة و الاستثنائية على مرّ الزمن في عين كاتب ياسين.
- المشهد الغائب و الذي كان سيجعل الفيلم رهيبا جدا هو مظاهرات    و مجازر 8 ماي 1945 التي خلّفت قتلى و هي وصمة عار في تاريخ فرنسا الدمويّ.
- المشهد الذي أزعجني كثيرا و أزعج غيري كمشاهدين هو خطاب فرحات عباس وسط جمهوره من المناضلين باللغة الفرنسية!!
هل يُعقل أن يطمس فرحات عباس لغته و يُغيّرها للغة العدوّ في خطاباته؟؟

* في الأخير أقول:

الجميل و الرائع في هيليوبوليس أنّ التمثيل كان في القمّة.
الممثلين أدّووا أدوارهم بجدارة ليُبرهنوا أنّ التمثيل لأصحابه الحقيقيّين.
و أنا بدوري أحييهم لعملهم الجبار هذا الذي أعادنا بعجلة التاريخ لأحداث مؤلمة حدّ الوجع.
سأقول من خلال ملاحظاتي و مشاهدتي أنّ كل من دخل قاعة السينما و خرج منها كان حزينا و كئيبا لأنه عاش أحداث الفيلم بوجع من ضحّى و استشهد في سبيل الجزائر، لأجل من عُذّب و شُنق       و عُلّق على الأشجار عاريا لأجل كلمة: ( تحيا الجزائر..).
شكرا لك جعفر قاسم لهذا الفيلم التاريخي الذي سيجوب كل قاعات السينما و سيكون ذو بصمة دولية منافسة للأفلام.
تمنياتي لك بدوام التألق و الإبداع و النجاح بقلمك و رؤيتك و إخراجك.

(نوميديا جروفي، شاعرة،كاتبة و ناقدة/ الجزائر)


5
  نوميديا جروفي، شاعرة و كاتبة و ناقدة (الجزائر)


نريدُ وطن

(لأرواح شهداء الناصرية في 28/ 11/ 2019)


فتيةٌ هم شهداء الوطن
خرجوا للشّوارع لأجل الوطن
أرادوا وطنا نزيها

شباب في عمر الزّهور
مسالمين في الشّوارع
يبحثون عن مخرج للوطن
عن أمل مفقود مسروق
فسُرقت أعمارهم لأجل الوطن

حملوا علم الوطن
لبسوا ثيابا تحمل شعار الوطن
مكتوب عليها:
" نريد وطن"
فتربّص بهم أعداء الوطن
و سلبوهم روح الوطن
فصاروا شهداء الوطن

شهداء الوطن
شباب في أعمار الزهور
لم يحملوا سلاحا في الشوارع
فقط علم الوطن
في يوم دمويّ رهيب
مجزرة لأجل الوطن
محمولين في النعش
يجوبون الشوارع
و يُغطيّهم علم الوطن

فتيةٌ شهداء الوطن
آمنوا بحبّ الوطن
فصاروا نجمة في سماء الوطن

شبابٌ و ورود تبكيهم العيون
حلموا بتحرير الوطن
من أصحاب النّصب على المناصب
فشرب الغدر دماءهم الطاهرة
لترتوي به أرض الوطن
و تبكيهم العيون
و تُثكل فيهم الأمهات
و يُفجع فيهم الآباء و الوطن..


6
مداخلة د. جهينة عمر الخطيب

مقاربةٌ نقديّةٌ في الخطاب الصّوفيّ بينَ شخصيّتيْن صوفيّتيْن؛ بدر الدّين محمود في رواية خسوف بدر الدّين للأديب الفلسطينيّ باسم خندقجي، والحلّاج في المسرحيّة الشّعريّة مأساة الحلّاج، للكاتب المصري صلاح عبد الصّبور
تساؤلات البحث:
هل وظيفةُ الصّوفيّ أن يبقى في بوتقتِهِ ومِحرابِهِ، أم أن يسعى إلى تحقيقِ العدل والمساواة؟ لماذا وظّفَ باسم خندقجي الشّخصيّةَ التّاريخيّةَ الصّوفيّة بدر الدّين محمود؟ هل لوجود باسم خندقجي في المعتقل وثلاث مؤبّدات تأثيرٌ على روايتِه؟ لماذا المقارنةُ بين مأساة بدر الدّين وخسوفِهِ مع مأساةِ الحلّاج؟
التّصوّف:
التّصوّفُ الإسلاميّ القويمُ هو أن يبلغَ المؤمنُ درجةَ "الإحسان"، الّتي هي أعلى الدّرجات في التّوجّه إلى الله عزّ وجلّ، والّتي يُشيرُ إليها القرآنُ الكريمُ في قوله: (والّذينَ جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وإنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنينَ). (العنكبوت:69)
مراحل التّصوّف
1- إسلام: وهو الإذعانُ والاستسلامُ، والخضوعُ للدّين عن طريق القوْل الظّاهريّ، والنّطق اللّسانيّ، وأداء العبادات. والإسلام يتمثّلُ في النّطق بالشّهادتيْن والعمل الظاهر.
2- إيمان: وهو التّصديقُ بالقلب، والاعتقادُ بالعقل، والاطمئنانُ في النّفس إلى صِدق ما يقول اللّسان.
والإيمان يتمثّلُ في اعتقادِ القلب واطمئنانِ الفؤاد.
3- إحسان: وهو التّوجّهُ الكلّيُّ إلى الله، والتّعلّقُ الدّائمُ به، والتّفكيرُ الموصولُ في صفاتِهِ وآياتِه، والمراقبةُ المستمرّةُ لعظمتِهِ وجَلالِه، والمشاهدةُ المقيمةُ لأنوارِهِ وأضوائِه، وهو: "أن تعبدَ اللهَ كأنّكَ تراهُ، فإنْ لم تكنْ تراه فإنّهُ يراك". والإحسانُ يتمثّلُ في اليقينِ والإخلاص، وهذا الإخلاصُ هو لبُّ التّصوّفِ وعمادُ أمْرِه؛ ولذلك يقول إبراهيم بن أدهم ـ وهو إمامٌ مِن أئمّةِ الصّوفيّة وزعيمٌ مِن زعمائِهم ـ حينَ يصفُ طريق التّصوّف: "أعلى الدّرجات أن تنقطع إلى ربّك، وتستأنسَ إليه بقلبك وعقلِكَ وجميعِ جوارحِك، حتّى لا ترجو إلا ربَّك، ولا تخافُ إلا ذنبَك، وتُرسِّخ محبّتَهُ في قلبك، حتّى لا تُؤْثر عليها شيئًا".
نحن أمامَ روايةٍ تاريخيّةٍ، أصبغَها الكاتبُ بخيالٍ وظّفَهُ لإظهارِ إسقاطاتات على عصرنا، فشخصيّةُ الصّوفيّ بدر الدّين محمود حقيقيّة، كذلك أصدقاؤه شيخ يمينه طورة كمال وشيخ يساره مصطفى. وعندَ قراءتِنا للرّواية نجدُ روحًا واحدةً تجمعُ الرّواية، بمسرحيّة مأساة الحلّاج للشاعر المصري صلاح عبد الصّبور، وليسَ التّشابه لكوْنِها صوفيّة، بل بما تُمثّلُهُ مِن توظيفات وإسقاطات، وهذا ما ستحاول الدّراسة توضيحَهُ من خلال أفكار بدر الدّين وأهدافه في حياته، وأيضًا علاقته بأصدقائه وفي نهايته.
بدر الدّين محمود والحلّاج شخصيّتان تاريخيّتان:
بدر الدّين محمود من العلماء الصّوفيّين، عُيّن بوظيفةِ قاضي عسكر في جيش موسى أخي السّلطان محمد. والحسين بن الحلّاج عالم صوفيّ، أحد أشهر الصّوفيّين وأكثرهم إثارة للجدل عبر التّاريخ. وُلد في البيضاء في فارس عام 244 هـ/ 857م، ثمَ انتقلت أسرته إلى واسط في العراق.
نهاية واحدة
حوكم بدر الدّين وحُكم عليه بالإعدام، وأعدم في عام 1420 في سيرس.[4] وعام 1961 دُفنت عظامُهُ في تربة السّلطان محمود الثاني الّتي في طريق الدّيوان. وقُتل الحلّاج في بغداد عام 309 هـ/ 922م، على يد رجال الخليفة العبّاسيّ المقتدر، على نحوٍ بشع، حيثُ جُلدَ وصُلبَ وقُطّعتْ جُثّتُهُ وأحرِقت، وألقيَ رفاتُهُ في نهر دجلة.
أسباب قتلهما واحدة: اتّهم  بدر الدّين بالزّندقة والتّحريض على الحاكم. أجمعَ علماءُ عصر الحلّاج  على قتلِهِ، بسبب ما نُقلَ عنهُ مِن الكفر والزّندقة. (بينما السّبب الحقيقيّ خوفهم من إحداث ثورة، بسبب آرائه في الحاكم العادل)
كلاهما اختلفت الآراء حولهما:
حِججُ أصحاب الآراء المُعادِيةِ لبدر الدّين: ظهرَ زمن السّلطان محمد شخصٌ يسمّى بدر الدّين، انتحلَ صفةَ علماء الدّين الإسلاميّ، بدأ في أزنيق في تركيا يدعو إلى مذهبه الفاسد، فكان يدعو إلى المساواةِ في الأموال والأمتعة والأديان، ولا يُفرّق بين المسلم وغير المسلم في العقيدة، فالنّاسُ إخوةٌ مَهما اختلفتْ عقائدُهم وأديانُهم. واتّهموه بأنّه قال: إنّني سأثورُ مِن أجل امتلاكِ العالم، وباعتقاداتي ذاتِ الإشارات الغيبيّة سأقسّمُ العالمَ، بينَ مريدين بقوّةِ العِلم وسرِّ التّوحيد، وسأبطلُ قوانينَ أهل التّقليد ومَذهبهم، وسأحلّلُ باتّساعٍ مشاربي بعض المُحرّمات.
آراء معادية للحلّاج: اتّهم بأنّه ادّعى النّبوّة وأنّه هو الله. فكان يقول: أنا الله. وأمرَ زوجةَ ابنه بالسّجود له. فقالت: أوَيُسجدُ لغيرِ الله؟ فقال: إلهٌ في السّماء وإلهٌ في الأرض. كانَ يقولُ بالحلول والاتّحاد. أي: أنّ الله تعالى قد حَلَّ فيه، وصار هو والله شيئًا واحدًا. قيل إنّ له كلامًا يُبطلُ به أركانَ الإسلام، ومَبانيهِ العظام، وهي الصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ. فكان يقول: إنّ أرواحَ الأنبياء أعيدت إلى أجساد أصحابهِ وتلامذتِه، فيقولُ لأحدِهم: أنت نوح، ولآخر: أنتَ موسى، ولآخر: أنت محمد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الحلّاج مِنْ الْمَقَالاتِ الّتي قُتِلَ الحلّاج عَلَيْهَا، فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنّما قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتّحاد وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزّندقة وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ: إلَهٌ فِي السّماء وَإِلَهٌ فِي الأرض.. وَالحلّاج كَانَتْ لَهُ مخاريقُ وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ، وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتّحادهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الحلّاج)اهـ مجموع الفتاوى (2/480).
آراءٌ مُناصرة لكليهما: بدر الدّين ظهرَ في أيّام هذا الملك شخصٌ يدعى بدر الدّين، نشرَ مذهبَهُ المُؤسّسَ على المساواةِ في الأموالِ والأمتعة، وهذا المذهبُ أشبهُ شيءٍ بآراء بعض اشتراكيّي هذا الوقت. تبعَهُ خلقٌ كثيرٌ مِن المُسلمين والمسيحيّين وغيرهم، لأنّه كان يعتبرُ جميعَ الأديان سواء ولا يفرّق بينهما.
الحلّاج: ساهمَ في المُطالبةِ في تحقيق العدالة:
أدرك الخلفاءُ العبّاسيّونَ خطورةَ هذا الطّرح النظريّ سياسيّا، وخافوا أن يتحوّلَ أصحابُهُ إلى فرقةٍ ذاتِ تأثير، فقمعوا المُتصوّفة المتمرّدين كالحلّاج والشّبلي، واتّهموا الحلّاج بالزّندقة تبريرًا لقتله.
انبهارُ رجال السّلطة بهما، والّذي أصبحَ واحدًا من السّيوف الّتي وُضعت على رقبتيهما:
بدر الدّين: "وأنت ستقوم بك الدّنيا أيّها المُقبلُ على رؤاك في زاويتك، لتنتشي بمَن حولك، فهل اكتفيتَ بتحلّقهم وتشبُّثِهم الأخير بمرّقعتك"[1]. وصل بدر الدّنيا إلى منصبٍ مرموقٍ في الدّولة فأصبح قاضي العسكر.
الحلّاج: كانت له أسهمه القويّة عندَ بعض النّافذين، بل وصُنّاع القرار داخل البلاط العبّاسيّ آنذاك، فحسب أحد النّصوص، أنّ الحلّاجَ لمّا قدِم بغداد، استطاع أن يستغوى كثيرًا من الرّؤساء. الأهمُّ مِن ذلك، أنّ السّيّدة شغب أُمّ الخليفة المقتدر كانت متعاطفةً مع الحلّاج، لدرجةٍ أنّها تدخّلت مرّاتٍ عديدةً لمنع أيّة عقوبة ضدّ الحلّاج، وقد وصفَ البعضُ تأثيرَ الحلّاج على السّيّدة شغب، بأنّه "تأثيرٌ طاغٍ"، كما كان نصر القشورى حاجب المقتدر، واحدًا من الّذين اعتقدوا في أفكار الحلّاج، وشكّلَ مصدرَ حمايةٍ له لفتراتٍ طويلة، بل إنّه حسب وصف المصادر "افتُتِنَ به"، حتّى إنّه كان يسمّي الحلّاج (العبد الصالح)، و"دافع عنه أشدّ مدافعة، وكان يعتقد فيه أجمل اعتقاد".
مواجهة الموت بشجاعة:
بدر الدّين محمود: عندما عَرفَ أنّ مصيرُهُ الموتَ لا محالة، رفضَ الاستسلامَ والخنوع، وواجهَ مصيرَهُ بشجاعة: "وأتخلّى عن النّاس الّذين وعدناهم بالنّعيم، لنفرَّ مُتستّرينَ بدمائِهم الّتي ستُهرق بسببنا، ما هذا سوى سبيل الذلّ والخديعة، أختفي يا صاحبيّ. أنا أتجلّى بنورِ عِلمي ويقيني الإلهي."[2]
الحلّاج: حُكم عليه بالإعدام عام (922م)، وذكر الطبري المؤرّخ الشّهير الّذي عاصر الحلّاج، والّذي توفّي بعد عام فقط مِن مقتله، في كتابهِ (تاريخ الأمم والملوك) عن هذهِ الواقعة، أنّه "أخرجَ مِن الحبس، فقُطّعت يداه ورجلاه، ثمّ ضُربَ عنقه، ثمّ أحرِقَ بالنّار". وهذا التّكتّمَ كان نتاجَ محاربةٍ لكلّ مؤلفات أو محدثين، آتوا بالذكر عن التّصوّف.
وعن إبراهيم بن فاتك قال: "لمّا أُتيَ بالحسين بن منصور ليُصلَب، رأى الخشبةَ والمساميرَ فضحكَ كثيرًا حتّى دمعت عيناه. ثمّ التفتَ إلى القوم فرأى الشّبلي بينهم فقال له: يا أبا بكر، هل معك سجّادتك. فقال: بلى يا شيخ. قال: افرشها لي. ففرشها فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتيْن، وكنتُ قريبًا منه. فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وقوله تعالى"لنَبلوَنّكم بشيءٍ من الخوفِ والجوع" الآية، وقرأ في الثانية فاتحة الكتاب وقوله تعالى "كلّ نفس ذائقة الموت" الآية، فلمّا سلم عنها ذكر أشياء لم أحفظها وكان ممّا حفظته: اللّهمّ إنّك المُتجلّي عن كلّ جهة، المُتخلّي من كلّ جهة. بحقّ قيامِك بحقّي، وبحقّ قيامي بحقّك. وقيامي بحقّك يُخالف قيامك بحقّي. فإنّ قيامي بحقّك ناسوتيّة، وقيامك بحقّي لاهوتيّة. وكما أنّ ناسوتيّتي مُستهلكة في لاهوتيّتك، غير ممازجة إيّاها، فلاهوتيّتك مُستولية على ناسوتيّتي غير مماسة لها. وبحقّ قِدمك على حدثي، وحقّ حدثي تحت ملابس قِدمك، أن ترزقني شكر هذه النّعمة الّتي أنعمت بها عليّ، حيث غيّبت أغياري عمّا كشفت لي من مطالع وجهك، وحرمت على غيري ما أبحت لي من النّظر في مكنونات سرّك، وهؤلاء عبادُك قد اجتمعوا لقتلي تعصّبًا لدينك وتقرّبًا إليك. فاغفر لهم، فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفت لي، لَما فعلوا ما فعلوا، ولو سترتَ عنّي ما سترت عنهم لَما ابتُليت. فلك الحمد في ما تفعل، ولك الحمد في ما تريد، ثمّ سكت وناجى سرًا. فتقدّم أبو الحارث السّيّاف، فلطمه لطمةً هشم أنفه وسالَ الدّمُ على شيبه. فصاحَ الشّبلي ومزّقَ ثوبه، وغشى على أبي الحسين الواسطي وعلى جماعة من الفقراء المشهورين. وكادت الفتنة تهيجُ، ففعل أصحاب الحرس ما فعلوا".
رؤية مشتركة للمؤلفين من الرّواية من خلال توظيف التناص التّاريخيّ:
صراع بدر الدّين: "كان يُعاندُ مصيرًا كُتب عليه. لم يكن يشأ لنفسه مقام أبيه ومصيره. سكنه إحساس بالنضج والعلوّ أسمى من وصيّة أبيه، يتخبّط ما بين موتٍ وحياة، وحربٍ وسلام، خاضَ أعماقَ الدّنيا، وخاضَ سحرَها وعوالمَها الخفيّة. تاه في نوازع نفسه. تهتّك وشهد خرابه، بعد أن علّمه الحكماء هناك أنّ السّاعي للسّموّ بذاته، عليه أوّلًا أن يحطّ من قدر نفسه وكبريائه، ليُحاربَ نفسَهُ بنفسِه"[3]
لقد واجه صراعًا ذاتيًّا بين الكلمة والفعل، فهل على الصّوفيّ الاكتفاءَ بعالمِهِ وزاويتِه، أم عليه اختراقها لينتقلَ إلى مرحلةِ الفعل؟ "تُعبّر أوجاعُ البلوغ إلى عين عقلك، والغيُّ فيك أحرقَ قلبك وأضلعك. وأنت الغريبُ الوحيدُ القلِقُ المُبصر، الأعمى المتمرّدُ الخانعُ الضّالُّ المؤمن، المُخطئ التّائب، المعلّمُ الجاهل، الفتى الكهل، عبدُ الشّهوة وعبدُ التّوبة، اُصرخ، اُصرخْ بالله عليك وقلْ لي ماذا تريد"[4]
لقد عانى بدر الدّين صراعًا، ذاقَ الخطيئةَ ليعرفَ قيمةَ التّوبة، وقد استقرَّ رأيُهُ رغمَ حيرتِه، بأنّ على الصّوفيّ مهمّة الفعل، ولن يكتفي  بشرنقتِهِ الصّوفيّه، فيعرفُ التّصوّف وهو استشهاد من الكاتب لقول للإمام الصّوفيّ الجنيد بقوله: التّصوّف، أن يُميتَكَ الحقُّ عنك ويُحييكَ به، الحقّ الّذي يُنيرُ الوجوهَ ويكسو الدّنيا ببياضٍ ناصع، يُذهبُ عن العباد سوادَ الجهل والخنوع."[5]
صراع الحلّاج: من أهم الجمل الّتي جاءت في مسرحية مأساة الحلّاج:" ليس الفقر هو الجوع إلى المأكل أو العُرْي والحاجة إلى كسوة. الفقر هو استغلال لقتل الحب وزرع البغضاء". والمسرحيّة هي نقدٌ سياسيّ اجتماعيّ، وهي بالأحرى مأساةُ صلاح عبد الصّبور، مأساة المثقّف.
ما كان يشغل صلاح عبد الصّبور والحلّاج قبله، هو البحث عن الحقّ والعدل والإصلاح السّياسيّ والاجتماعيّ، وتحويل الكلمة إلى فعل، ومن هنا كمنت مأساته ليس بقتله، بل في عجزه عن تحويل الكلمة إلى فعل. وقد استدعى صلاح عبد الصّبور شخصيّة الحلّاج، وهي الشّخصيّةُ الإشكاليّة الّتي سبّبت الحيرة لمَن حوله، فبعضهم اعتبره صوفيّا، وبعضُهم اعتبرَه زنديقا. وقد اختاره صلاح عبد الصّبور لأنّ زمنَه يُشابه زمنًا عاش فيه صلاح عبد الصّبور 1964، زمن الكبت السّياسيّ الاجتماعيّ.
كما أنّ الحلّاج كان يرى التّصوّف جهادًا متواصلا للنفس، بالابتعاد بها عن متع الدّنيا، وتهذيبها بالجوع والسّهر، وتحمّل عذابات مجاهدة أهل الجور، ويبثّ روح الثورة ضدّ الظّلم والطغيان، وفي هذه الصّفات وجد صلاح عبد الصّبور ضالته، فتقنّع بقناع الحلّاج، والقناعُ هو أسلوبٌ حداثيّ في القصيدة العربيّة، يُوظّفه الشّاعر فيتقمّص شخصيّة تاريخيّة للتّعبير عن مأساة الواقع العربيّ، وعن معاناة الإنسان، فهنا تعبيرٌ فنّيّ يتجاوزُ فيه الشّاعر ذاتيّتَه، فيما تتجاوز مَعاني القصيدة محدوديّة زمنها، فيتحدّث الشّاعرُ عن نفسِهِ متجردًا من ذاتيّتِهِ بقناع شخصيّة أخرى، فالقناعُ أداةٌ رمزيّة اتّخذها صلاح عبد الصّبور، ليرمز بها إلى كلّ مثقّف عربيّ.
الحلّاج يمثّل البطل المتمرّد الّذي يحاول قول رأيه، ويطرح على المجتمع رؤيته، فالحلّاج عند صلاح عبد الصّبور قد رأى الفقر والجوع والفساد في المجتمع، فينكر عزله الصّوفيّ ويخلع الخرقة (مثال الزهد الصّوفيّ)، فينزل إلى النّاس خالعًا خرقته ليدعوهم إلى الله ليكونوا مثله أقوياء، وقد توقّف صلاح عبد الصّبور طويلًا أمامَ شخصيّة الحلّاج، وقرأ ما كتبه القدامى والمستشرقون عن هذه الشّخصيّة، وآثرَ أن يَبعثها من جديد، فيُقدّمُها  في صورة الثائر الدّينيّ والمُصلح الاشتراكيّ، فقدّم لنا بطلًا، قضيّتُهُ الأساسيّة هي محاربةُ الظلم والفقر، الفقر بمعناه الرّوحيّ والمادّيّ، ومن هنا فقد ركّز على الجوانب الّتي تجعلُ منه رجلًا ربّانيًا يكرهُ الطغيان وينشد العدل. إنّ الحلّاج الّذي أعطاه الله نورَ المعرفة، يعرفُ دوْرَهُ كثائرٍ دينيّ، وأولى خطوات هذه المعرفة أن يخلَعَ الخرقة الّتي تعني تجرّدَهُ الصّوفيّ من متاع الدّنيا وينزلّ إلى النّاس، وهو يعي أن الصّوفيّين الّذين يرون إرضاء الله بشعارهم "الخرقة"، سيرَوْن أنّهم  سيرضونه أكثر بخلعها في سبيل العبادة. إنّ البطل هنا يبدأ في أولى خطوات التّمرّد، حينما يرى في الاحتجاب من أعين النّاس احتجابًا عن عين الله وبُعدًا عنه، ولذا يخلعُ الخرقة في محبّة النّاس الّذين يُحبّهم في مرضاة الله. إن الحلّاج حينما يخلع الخرقة، فإنّما يريد أن يكون حرًّا، حتّى لا تكون هذه الشّارة قيدًا على عقله وعلى لسانه، يمنعه من التّفكير في أسباب امتلاء دنيا الله بالفقر والقهر والمهانة.
إنّ مأساة الحلّاج الحقيقيّة ليست في استشهاده، أو عجزه عن اتّخاذ قرارٍ بالهرب من السّجن، وإنّما مأساته الحقيقيّة في عجزه الفادح عن تحويل الكلمة إلى فعل، أي الصّراع بين القضيّة الضّروريّة تاريخيًّا، وبين الاستحالة العمليّة لتحقيقها، وعلى صليب هذا الصّراع يتمزّق، حتّى قبلَ أن يُصلب فعلًا عبر شكوكه، فيرى الحلّاج أنّه يستحقّ الموت لأنّه باح بعلاقته بالله.
دلالات مشتركة لعنوان المؤلفين:
خسوف بدر الدّين: تم توظيف اسم الشّخصيّة التّاريخيّة بدر الدّين محمود. بدأها بكلمة خسوف بحيث وظّف التورية بوجود المعنى الحقيقيّ لخسوف القمر والبدر إلى خسوف.
مأساة الحلّاج: تمّ توظيف اسم الشّخصيّة التّاريخيّة الحلّاج، وتمّ توظيف كلمة مأساة بتورية، ففعلًا مصير الحلّاج شكّل مأساته، ولكن صلاح عبد الصّبور أسقط مأساة المثقّف المضطهد عليها.
علاقة بدر الدّين بصديقه طورة: "ستكون شيخ يميني يا طورة ستكون شيخ يميني"[6]
طورة رافق صديقه ومعلمه بدر الدّين، وكان من مريديه وأتباعه، وبقي معه في كلّ الظّروف. "طورة الّذي لم يبارك سُنّةً يحفظ عبرَها اسمَه فوق الأرض، ما دام بدر لم يقتدِ بها، هو الصّديق بصمت والرّفيق بإخلاص، والمريد بوَجْد، تلاشى ليصون بدرًا ويتقن تعاليمه ورؤاه، بعيدًا عن حياة عاديّة ملؤها السّعادة والاستقرار، في بيت هانئ برفقة زوجة تحفظ نسله بأبناء مِن بعده. كان همّه بدر ورفقة بدر ومذهب بدر، لينصره حتّى الموت، حتّى الفداء."[7]
الحوار الصّوفيّ بين بدر الدّين وطورة: "إلام تسمو يا صديقي/ إلى الحياة إلى النّور والأمل إلى الحبّ والعدل"/ هذا ما ستجده في متون كتبك وحواشيها فقط/ وضعت الكتب لفهم الحياة وإدراك مصائرنا فيها، ولم توضع في سبيل تعليم طفل، لا يملك من أمره شيئا سوى حظ أبيه وسطوته"[8]
الحوار الصّوفيّ بين الحلّاج والشبلي: لكن يا أخلص أصحابي نبئني/ كيف أميت النّور بعيني/ هذي الشمس المحبوسة في ثنيات الأيّام/ تثاقل كلّ صباح، ثمّ تنفض عن عينيها النّوم/ ومع النّوم الشّفقة/ وتواصل رحلتها الوحشيّة فوق الطرقات/ فوق السّاحات الخانات المارستانات الحمامات/ وتجمع من دنيا محترقة/ بأصابعها الحمراء النّاريّة/ صورًا أشباحا تنسج منها قمصانًا/ يجري في لحمتها وسداها الدّم/ في كلّ مساء تمسح عيني بها/ توقظني من سبحات الوجد/ وتعود إلى الحبس المظلم/ قل لي يا شبلي أأنا أرمد/ لا بل حدّقت إلى الشّمس/ وطريقتنا أن ننظر للنّور الباطن/ ولذا فأنا أرخي أجفاني في قلبي/ وأحدّق فيه فأسعد/ وأرى في قلبي أشجارًا وثمارًا/ وملائكة ومُصلّين وأقمارا"[9]
الكشف لدى الصّوفيّين: يعرف الكشف الصّوفيّ بأنّه كشف الحجب عن أولياء الصّوفيّة، فيرَوْن ويسمعون ويعلمون ما لا يعلمه النّاس من مغيبات، سواء الماضية أو الحاضرة أو المستقبليّة.
الكشف لدى بدر الدّين: في عمرك المرهَق لم تعتِّق فؤادَك تلك الأصواتُ الهاتفةُ الصّاخبةُ الهامسة الباكية، لتُبدي لك الأصوات الّتي كانت تقودك إلى غياب أدهش من حولك، وأثار خشيتهم الّتي كانت تقودك إلى غياب أدهش من حولك وأثار خشيتهم منك. أكثر من سبع سنين وفي كلِّ سنة كنت تنال من هذه الأصوات نبر نورها وحروف ضيائها، لتجمع الحرف على الحرف والكلمة على الكلمة والجملة على الجملة، لتُبدي لك الأصوات بسرِّها وتصدّ، ثمّ جاهدت أنت وغبت أكثر لتُصغي برهافة ووجل إلى الهمس. من أين ينبعث الهمس؟ من أين أتاك؟ من قلبك من سمائك؟ من عقلك من روحك؟ من أين أتاك الهمس فأدماك وسوّاك ممسوسًا غريبًا ملقى هنا؟ فهل أدركت العبارة يا بدر؟ وأنت تقول بسطوع نورك في حلقة العلم، وما أدراك أنّه نور وحق مبين؟ هل صدّقت أنّ عبارتك سماويّة، وأنّ نبرها وحرفها ولغتها كلّها سماء؟ هل أنت ابن كلتيهما: ابن السّماء وابن الأرض؟ هل سيرحمك ربّك."[10]
الكشف لدى الحلّاج: الحلّاج:لا إني أشرح لك/ لم يختار الرحمن شخوصا من خلقه/ ليفرق فيهم أقباسًا من نوره/ هذا، ليكونوا ميزان الكون المعتـّل/ ويفيضوا نور الله على فقراء القلب/ وكما لا ينقـُصُ  نور الله إذا فاض على أهل النّعمة/ لا ينقص نور الموهوبين إذا ما فاض على الفقراء.
"رؤية بدر الدّين لسياسة البلاد": غير أنّ  هذا الأمير غرّه النّصر، وتغاضى عن التّقوى والرّأفة بالمغلوبين على أمرهم. وما أنا من حيرة تلبّستني، ما سببه إلا عجزي عن إفهامه وجذبه أي قيم مذهبنا ومعانيه، إذ إنّني كنت قد توسّمت فيه خيرًا وسندًا لنصرة المظلومين، ولكنّ العمى أصاب فؤاده، فالصّبر يا إخوتي، فلن تطول غيبة الإشارة. وعن طريق الدّم هذا لا ذنب لنا فيه، إذ هو طريق سيؤدّي بنا حتمًا إلى إزالة الجور وإحقاق العدل والانعتاق"[11]
رؤية الحلّاج في سياسة البلاد: "الحلم جنين الواقع/ أمّا التّيجان/ فأنا لا أعرف صاحب تاج إلا الله/ والنّاس سواسية عندي/ من بينهم يختارون رؤوسًا ليسوسوا الأمر/ فالوالي العادل/ قبس من نور الله ينور بعضًا  من أرضه/ أمّا الوالي الظالم/ فسِتارٌ يحجب نور الله عن النّاس/ كي يُفرج تحت عباءته الشّرّ/ هذا قولي.. يا ولدي، "الشّرّ استولى في ملكوت الله/ حدّثني.. كيف أغضّ العينَ عن الدّنيا/ إلّا أن يظلم قلبي"[12]
بدر الدّين والغواية: "ثقلت أنفاسه وضاق صدره، وانفجر قلبه بدقّات صاخبة، ذهب صوته. لم يلتفت وهي على وتيرة فتنتها، تذهب وتجيء في ظهره، متأوّهة دافنة شبقها في ظهره. قتلته بأنفاسها وجسدها الخصب. كاد يلتفت يقع يخترقها ويدميها، كي تسمع القاهرة كلّها صرخة اكتفائها، إلّا أنّ صوتًا خفيًّا هتف في أذنه: "طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره" [13] حكمة للصّوفيّ الدّرويش بشر الحافي.
"لقد نالك الكشفُ، والكشفُ عريٌ مقدّس. نحن لا ننتهكُ ولا نُعرّي الجسدَ في سبيل اللّذّة والعهر، بل سعيًا وراء السّرّ والنّور. نحن ننكشف لنحتجب. اُنظر إلى الشّمس: على الرّغم من نورها السّاطع فإنّنا لا نراها، ولا نقوى على التّحدّيق إليها. هي دفؤُنا، هي المحتجبة في سرمديّة هذا الفضاء"[14]
"لا تفتح عينيك فلن تراني، وعد من حيث أتيت، وامضِ فقد استعدت نورك، إن حجبته فسينير، وإن هربت منه فسيهرب منك إليك، فلا تجزع من غروبٍ ما بعده إلّا شروق. النّور يُشرق منك أيّها المبارك بنور الله" [15]
نهاية بدر الدّين وأسبابها: حوكم ثم حكم عليه بالإعدام، وأعدم في عام 1420 في سيرس.  وعام 1961 دفنت عظامه في تربة السّلطان محمود الثاني.
نهاية الحلّاج وأسبابها: قُتل الحلّاج في بغداد عام 309 هـ/ 922م، على يد رجال الخليفة العبّاسيّ المقتدر، على نحوٍ بشع، حيثُ جُلدَ وصُلبَ وقُطّعتْ جُثّتُهُ وأحرِقت، وألقيَ رفاتُهُ في نهر دجلة. "أترى نقموا منّي، إنّي أتحدّث في خلصائي/ وأقول لهم إنّ الوالي قلب الأمّه/ هل تصلح إلّا بصلاحه/ فإذا وُلّـيتــُم لا تنسوا أن تضعوا خمر السّلطة/ في أكواب العدل؟"
رؤية النّور في آخر النّفق رغم سوداويّة النّهاية:
رواية خسوف بدر الدّين: رغم سوداويّة الحياة نحن محكومون بالأمل، كما قال سعد الله ونّوس،  والأمل ينفض في كلّ حنايا الرّواية رغم النّهاية المأساويّة، فقد مات بدر الدّين، دفاعًا عن مفاهيم تبعث الأمل في النّفوس، ودفاعًا عن العدل، دفاعًا عن المساواة، دفاعًا عن الإنسانيّة بكلّ معانيها، مهما كان عرقك ولونك ودينك.
مسرحيّة مأساة الحلّاج: كذلك مسرحيّة مأساة الحلّاج تبعث الأمل رغم كلّ شيء، من خلال المطالبة بأمور مثل التآخي بين البشر، وحرية المثقّف "بل أبغي لو مدّ المسلم للمسلم كفّ الرحمة والود" (مأساة الحلّاج، ص73) كان يقول: كان مَن يقتلني مُحقّقُ مشيئتي/ ومُنفّذُ إرا دة الرحمان/ لأنّه يصوغ من تراب رجل فانٍ/ أسطور َ ً وحكمةً وفكرة". وكان يقول: إنّ مَن يقتلني سيدخلُ الجنان/ لأنّه بسيفه أتمّ الدّورة/ لأنّه أغاث بالدّماء إذ نخس الوريد/ شجرة جديبة زرعتُها بلفظي العقيم/ فدبّتِ الحياة فيها، طالت الأغصان/ مثمرة تكون في مجاعة الزّمان/ خضراء تعطي دون موعد، بلا أوان[16] (مأساة الحلّاج ص 11).
ما أراده باسم خندقجي وصلاح عبد الصّبور من إبداعيْهما: الإنسانيّة، المساواة بين جميع الأجناس والأعراق، العدل وحرّيّة المثقّف.
الخاتمة: خسوف بدر الدّين خروجٌ عن المألوف في رواية أدب السّجون، تميّزت بلغةٍ راقيةٍ وانسيابيّةٍ في الوقت ذاته، وتوظيفٍ مائزٍ للتّاريخ الصّوفيّ، وإبداع خلف القضبان بحبكة جاذبة.


7
  نوميديا جروفي، شاعرة و باحثة و ناقدة (الجزائر)

اليوم العالمي للمسرح.


(الفنّ المسرحي إيماءة تُوحّد بين الناس)
يحتفل العالم باليوم العالمي للمسرح في 27 مارس/آذار من كل عام، وهي مناسبة لإعادة التذكير بواقع أب الفنون وتاريخه ودوره. هذه بعض الحقائق المرتبطة بتلك المناسبة:

لماذا 27 مارس؟

احتُفل باليوم العالمي للمسرح لأول مرة في27 مارس/آذار 1962، وهو تاريخ افتتاح موسم "مسرح الأمم" في باريس. ومنذ ذلك الحين، يتم الاحتفال باليوم العالمي للمسرح كل عام في هذا التاريخ على نطاق عالمي.

من أطلق هذا اليوم؟

تم تبني هذا اليوم من قِبل المعهد الدولي للمسرح، وهو أكبر منظمة للفنون المسرحية في العالم، تأسست في عام 1948 من قبل خبراء المسرح والرقص بالتعاون مع اليونسكو.



لماذا يوم عالمي؟

وفق الموقع الرسمي للمعهد، أهداف يوم المسرح العالمي هي تعزيز هذا الشكل الفني في جميع أنحاء العالم، وزيادة الوعي بأهمية هذا الفن، ودفع قادة الرأي إلى إدراك قيمة مجتمعات الرقص والمسرح، إضافة إلى تقوية فكرة الاستمتاع بهذا الفن كهدف بحد ذاته.

رسائل في هذه المناسبة.

ما يميز هذا اليوم هو نشر رسالة اليوم العالمي للمسرح والتي يوزعها المعهد وتشارك فيها شخصية من الشخصيات العالمية تأملاتها حول موضوع المسرح وثقافة السلام، وتتم ترجمة الرسالة إلى لغات مختلفة ويجري توزيعها على نطاق واسع.
فكرة هذا اليوم طرحها الناقد والشاعر والمخرج أرفي كيفيما رئيس المعهد الفنلندي للمسرح في حزيران/ يونيو 1961، وقدّمه كاقتراح لمنظمة اليونسكو، التي أقرته وأقامت الاحتفال به في باريس في يوم افتتاح مسرح الأمم فيها.
وتم الاتفاق على جعل هذا اليوم تقليداً سنوياً يتمثل بأن تكتب إحدى الشخصيات المسرحية البارزة في العالم، بتكليف من المعهد الدولي للمسرح، رسالةً دوليةً تترجم إلى أكثر من 20 لغة، وتعمم إلى جميع مسارح العالم، حيث تقرأ خلال الاحتفالات المقامة في هذه المناسبة، وتنشر في وسائل الاعلام المسموعة والمرئية. وكان الكاتب الفرنسي جان كوكتو أول شخصية اختيرت لهذا الغرض في احتفال العام الأول بباريس.
وتوالى على كتابتها، منذ ذلك العام شخصيات مسرحية من مختلف دول العالم، منها: أرثر ميلر، لورنس أوليفيه، بيتر بروك، بابلو نيرودا، موريس بيجارت، يوجين يونسكو، أدوارد ألبي، ميشيل ترمبلي، جان لوي بارو، فاتسلاف هافل، سعد الله ونوس، فيديس فنبوجاتير، فتحية العسال، أريان منوشكين، وغيرهم.
والجدير ذكره أن المعهد الدولي للمسرح، مؤسسة عالمية غير حكومية، تأسست في عام 1948، وكان مقره مدينة براغ، وأسهمت في تأسيسه شخصيات مسرحية عالمية، ويُعد شريك اليونسكو الرئيسي في مجال فنون العرض الحية، ويقع مقره الآن في باريس.
يهدف المعهد إلى تنشيط تبادل المعرفة، والممارسة المسرحية بين دول العالم، وزيادة التعاون بين فناني المسرح، وتعميق التفاهم المتبادل، والإسهام في ترسيخ الصداقة بين الشعوب.
كما يحارب كل أشكال التمييز العنصري والسياسي والاجتماعي. وتنبثق عن المعهد مجموعة لجان متخصصة في مجالات مختلفة مثل: المسرح الموسيقي، والكتابة المسرحية، والتربية المسرحية، والصورة الثقافية والتنمية. وللمعهد عدة مكاتب إقليمية في بلدان مختلفة.

رسالة اليوم العالمي للمسرح 2019

كتبها المخرج والدراماتورج و استاذ المسرح بجامعة هافانا كارلوس سيلدران من كوبا وترجمها الى العربية المخرج والكاتب الجزائري سفيان عطية :
قبل معرفتي بالمسرح و التعرف عليه ، كان أساتذة المسرح الذين هم أساتذتي موجودين هنا كانوا قد بنوا إقامتهم و مناهجهم الشعرية على بقايا حياتهم الشخصية . الكثير منهم الآن غير معروفين أو لا يُستحضرون كثيرا في الذاكرة ، كانوا يعملون في صمت و في قاعات التدريبات المتواضعة داخل مسارح مزدحمة . بعد سنوات من العمل و الإنجازات الرائعة راحت أسماؤهم تتوارى تدريجيا ثم اختفوا .
عندما فهمت أن قدري هو اتباع خطواتهم فهمت أيضا أنني ورثت من تقليدهم الفريد و المدهش العيش الآن و في الحاضر دون أن آمل سوى إلى الوصول لتلك اللحظة الشفافة و غير القابلة للاستنساخ ، لحظة اللقاء مع الآخر في ظل المسرح ، لا يحمينا إلا صدق إيماءة و كلمة تعبر عن الكثير .
موطن مسرحي … هو لحظات اللقاء مع الجمهور القادم إلى قاعاتنا ليلة بعد ليلة من الأحياء المختلفة بمدينتي لكي يرافقنا و يتقاسم معنا بعض الساعات ، بعض الدقائق … من هذه اللحظات المنفردة تتكون حياتي ، عندما أكف من أن أكون أنا ، من أن أتألم لأجلي و أولد من جديد و أنا مدرك و مستوعب لمفهوم المهنة المسرحية : أعيش الحقيقة المطلقة للحظة سريعة الزوال … عندما يصبح ما نقوله و نفعله تحت نور الأضواء الكاشفة حقيقيا و يعكس أعمق الحنايا من أنسفنا و أكثرها شخصية .
موطن مسرحي و مسرح الممثلين معي هو وطن منسوج من لحظات نتعرى فيها من كل أقنعتنا ، من البلاغة ، نتعرى ربما مما يمكن أن نكون نحن و نمسك بأيدي بعضنا البعض في الظلام .
التقليد المسرحي أفقي ، لا يمكن لأحد أن يجزم بأن هناك مركزا عالميا للمسرح في أي مدينة كانت أو في أي صرح متميز كان ، المسرح كما عرفته ينتشر حسب جغرافيا غير مرئية و يختلط مع حياة الذين يمارسونه . الفن المسرحي إيماءة توحد بين الناس
كل أساتذة المسرح يحملون معهم إلى قبورهم لحظاتهم التي يتجسد فيها الوضوح و الجمال و التي لا يمكن أن تعاد مرة أخرى ، كل واحد منهم يضمحل بالطريقة نفسها بدون أي رد للاعتبار لحماية عطائهم و تخليدهم .
أساتذة المسرح يعرفون كل هذا يقينا ، لا يمكن لأي شكل من أشكال الاعتراف بالجميل أن يكون صالحا خارج هذا اليقين الذي هو أساس عملنا . خلق لحظات حقيقة ، إبهام ، قوة ، حرية وسط هشاشة محفوفة بالمخاطر. لا شيء يبقى إذا استثنينا المعلومات و التسجيلات من صور و فيديوهات التي تحمل بين ثناياها فكرة باهتة عن منجزاتهم .
فكل هذه التسجيلات ينقصها الردود و التفاعلات الصامتة لجمهور فهم أن تلك اللحظة لا يمكن أن تترجم و لا أن يلتقي بها خارج ذاته. و إيجاد هذه الحقيقة التي يتقاسمها مع الآخر هي تجربة حياة بل أكثر شفافية من الحياة نفسها لبعض الثواني.
لما فهمت أن المسرح في حد ذاته موطن و مساحة شاسعة تغطي العالم ، نشأ في أعماق نفسي قرار و هذا القرار في ذاته تحرر : لا تبتعد من المكان الذي أنت فيه ، لا جدوى من الركض و التنقل . حيث ما كنت يكون الجمهور ، يكون الرفقاء الذين تحتاجهم بجانبك . هناك خارج منزلك توجد الحقيقة اليومية المبهمة و الغير قابلة للاختراق ، اشتغل وفق هذا الجمود الواضح لتحقق أكبر رحلة على الإطلاق ، تبدأ من جديد ، من زمن المغارات : كن أنت المسافر غير القابل للتغيير و الذي لا يتوقف عن تسريع كثافة و صلابة حقيقة عالمك .تتجه رحلتك نحو اللحظة ، الوقت و التقاء أشباهك ، رحلتك تتجه نحوهم نحو قلوبهم ، نحو ذاتيتهم . سافر في داخلهم ، في مشاعرهم ، في ذكرياتهم التي توقظها و تجمعها . رحلتك مذهلة ، لا أحد يمكن أن يعطيها حق قدرها أو يسكتها ، ولا احد يمكنه أن يقيس حجمها الصحيح . إنها رحلة في مخيلة شعبك ، بذرة مغروسة في أبعد أرض موجودة : الوعي المدني ، الأخلاقي و الإنساني للمتفرجين عليك .
و هكذا أبقى غير قابل للتغيير ، دائما في بيتي مع أهلي في هدوء واضح أعمل ليل نهار . لأن لدي سر الانتشار و التوغل.


8


الواقع براوية التاريخ – خسوف بدر الدين نموذجا

د. فياض هيبي
يعود الكاتب باسم خَنْدقجي بروايته الأخيرة "خسوف بدر الدين" (بيروت: دار الآداب، 2019) إلى التاريخ والرواية التاريخية، ليثير بذلك أكثر من سؤال في الجدلية الأزلية بين التاريخ والأدب بصفة عامة، والادب الفلسطيني بصفة خاصة. هل نجح الكاتب في طرح جديد فيما يخص الرواية التاريخية عموما؟ وهل يمكن لانتمائه القومي – الفلسطيني أن يشكّل استثناء في تناول التاريخ كمادة روائية؟ هذه الأسئلة وغيرها تفرضها الرواية، بتقديري، على القارئ الناقد بصفة خاصة. نسعى في هذه الورقة إلى الإجابة من خلال قراءة عامة نقدية، تقف عند الأسئلة السابقة وتتجاوزها بقدر ما يسمح به النصّ.
أجمعت الدراسات النقدية التي تناولت الرواية التاريخية على مفاهيم وشروط قبلية يشترط تحققها عند كتابتها. كالمادة التاريخية "الخام"، التناول الروائي –السردي المختلف للمادة التاريخية، وإسقاطاتها على الواقع.  رواية "خسوف بدر الدين" رواية تاريخية بامتياز تمتح من التاريخ، بل وتتخذ منه مادتها الأساسية – النواة.  وبذلك تؤكد هذه الرواية شروطا أخرى تفرضها الرواية التاريخية منها وغير التاريخية. ومنها على سيبل المثال لا الحصر: أ. مبدأ الحوارية، الذي يعدّ من أهم الأسس الفنية التي يقوم عليها العمل الأدبي عامة. ونعني بذلك قدرة النصّ على تحقيق الحوارية مع القارئ كطرف هام في سيرورة تحقق النص الأدبي. فالرواية التاريخية تهيئ القارئ ليعاين التاريخ بأحداثه الحقيقية بقالب روائي سردي، كأنه بذلك شاهد على حقبة تاريخية ما كان له أن يعيش تفاصيلها، أو أن يتخيلها بسياقها التاريخي المجرد والجاف في كثير من الحالات. هذا من شأنه أن يحفّز القارئ ويستفزّه، فيسعى إلى تحديد العلاقة المفترضة بين التاريخ المستحضر والواقع المعيش. التغييرات الجذرية الهامة التي أجراها خندقجي على شخصية الرواية المركزية بدر الدين، تحقق شرطي التحفيز والاستفزاز عند القارئ. يجعل الكاتب من بدر الدين علاّمة وقطب من أقطاب الصوفية في عصره، يطاوعه "النور" ويمكّنه من استكشاف الآتي. بالمقابل تتباين المراجع التاريخية في موقفها من شخصية بدر الدين وحقيقته، وهذا ما يشير إليه الكاتب في تعقيبه التاريخي في نهاية الرواية (ص:321-325). لا شك أن التباين المذكور في المرجعيات التاريخية من ناحية، و "تصرّف" الكاتب شخصية بدر الدين، من ناحية ثانية، استفزّ القارئ وحفّزه لمعرفة كنه هذا التباين ومسوّغه الأدبي، أي إسقاطاته المحتملة على الواقع، وليضع نصب عينيه سؤالا هامّا ملحّا: لماذا تصرّف الكاتب بشخيصة بدر الدين على هذا النحو؟ وعندها بالضبط يتحقق الاستفزاز المطلوب، ويصبح القارئ شريكا فاعلا وفعّالا.
 ب. كاتب الرواية التاريخية. هذا الكاتب مطالب بمجهود إضافي قد لا يحتاجه في كتابة الرواية العادية، وهو الانغماس في التاريخ انغماسا يمكنه من الإحاطة بكلّ التفاصيل وأدقها في الحقبة التاريخية المقصودة. هذا الانغماس ينسحب على أكثر من مستوى ورافد.  1. يبدأ بقراءة الجغرافيا والتاريخ المجرّد للإحاطة بالفضاء والزمان، كركيزتين هامتين يقوم عليهما الروائي عموما. وقد أجاد الكاتب في هذا الرافد من روافد الانغماس في التاريخ، ونجح في بناء الفضاء والزمان الروائيين بقراءة مستفيضة للتاريخ. زوّد كلّ من الفضاء والزمان، بفضل هذا الانغماس، تفاصيل قادرة على استحضار الماضي البعيد في حاضر القارئ المتشوق لمشاهدته. 2. يمرّ بعدها عبر المضمون أو الفكر الذي تعالجه الحقبة التاريخية المذكورة والشخصية المركزية الفاعلة فيها على حدّ سواء. وهو الفكر الصوفي الذي يزخر به التاريخ العربي والإسلامي، ذلك الفكر الذي أثار ولا يزال الكثير الكثير من النقاش الفلسفي والعلمي. لم يكن اختيار المضمون / الفكر الخاص بهذه المرحلة اعتباطيا من قبل الكاتب. خبر خندقجي بحسّ الكاتب قدرة هذا المضمون على توفير مناخ من النقاش المركب والجدل الفلسفي إلى أبعد الحدود، الأمر الذي يثري الجانب الثقافي الفكري للنص، ويعزّز قيمته بالتالي. يلاحظ القارئ أنّ الكاتب قرأ الصوفية وتعمق في فلسفتها، وعاين مراجعها الأساسية مراجعة متأنية، وإلا لما كان له أن يوفّق في بناء شخصية بدر الدين على هذا النحو المركّب، فشخصية بدر الدين في هذه الحالة كانت انعكاسا عمليا لفكر يقوم على الكثير من التناقضات والمفاهيم المركبة، والمغاليق الفلسفية التي تستدعي إلماما كافيا لتبسيطها على هذا النحو. بدر الدين في حركاته وسكناته، وتصريحاته وصمته جسّد هذا الفكر المركّب والإشكالي.
 ما يؤكّد انغماس الكاتب في هذا الفكر وإلمامه به، إلى جانب الدقة في بناء الشخصية، هي اللغة. والعلاقة بين المضمون (الفكر) واللغة في هذه الحالة مؤكدة وحتمية، والأول يفرض على الثانية مستوى معينا يليق به هو الأول. الكاتب مطالب في هذا الجانب أن يمتح من قاموس خاص محدّد. لا تسعفه اللغة السردية العادية والمألوفة، بل تلك التي تخصّ هذا الفكر، تتميّز به وتميّزه. ينعكس الأمر جليا في الألفاظ الصوفية في النص، إلى جانب المصطلحات التي خصّت هذا الفكر دون غيره. كما يشعر القارئ أن اللغة تغدو عاملا مباشرا في "إعادته" إلى الماضي – التاريخ المستحضر في الرواية. ما كان للكاتب أن ينجح في ملكة هذه اللغة بصفة خاصة لولا خوضه في أعماق هذا الفكر. على العموم نقول إنّ خندقجي رسّخ، في النقاط التي ناقشناها سابقا، ما هو متبع في بناء الرواية التاريخية، محافظا بذلك على شروط قبلية لهذه النوع من الكتابة الروائية، ولم يحد عن المبادئ التي حدّدها السلف في هذا الباب، ليس بدافع التقليد بقدر ما هو بدافع الضرورة الفنية الملزمة لهذا النوع من الروايات. فهل تكون رواية "خسوف بدر الدين" امتدادا للرواية التاريخية العربية، محافظة على معمارها الفني، ودون أن تساهم بجديد في هذا الباب؟
لم يغب، بتقديري، الطرح الجديد في هذه الرواية بالرغم من التزام الكاتب الواضح بقواعد كتابة الرواية التاريخية وأسسها. تمثل هذا الطرح عندي بمبدأ الإسقاط على الواقع أو علاقة النصّ بالواقع، وهو ما يعد ركيزة من ركائز الرواية التاريخية التي جئنا على تفصيلها سابقا. كان فصل مبدأ الإسقاط عن المبادئ السابقة إشارة إلى الطرح الجديد الذي نقصده في هذا النصّ. اهتم الكاتب أن يجعل من مضمون المبدأ المعهود (الإسقاط) مخالفا مغايرا لما هو سائد ومتبع في الرواية التاريخية عادة. إذا كانت الرواية التاريخية، كما تؤكد ذلك المراجع والدراسات المختلفة، تسعى من وراء تصوير التاريخ إلى طرح رؤية مختلفة للواقع المعيش، وموقف رافض على الأغلب (كما يلاحظ، على سبيل المثال لا الحصر، في رواية "قواعد العشق الأربعون" لأليف شافاك، التي تحافظ على مبدأ الإسقاط التقليدي، فتدعو من خلال الرواية إلى الحب الطاهر، النوراني، والصادق الذي يقدّس الإنسان بصفته إنسانا أولا وأخيرا. ذلك الحب الذي تفنّن الواقع المشّوه في اخماده بل في اجتثاثه)، فإن كاتب "خسوف بدر الدين" سعى إلى "إسقاط" مغاير ومختلف كجزء من تناول مختلف للرواية التاريخية.  الاختلاف عند خندقجي مردود إلى ميزتين بارزتين تتعالق وتتقاطع الواحدة مع الأخرى بالضرورة: انتماؤه القومي الفلسطيني، والأسر. تفضي هذه الحقيقة الثنائية إلى سؤال هام: ماذا يعني أن يتناول كاتب فلسطيني أسير التاريخ ليكتب رواية؟ وهل يعتبر هذا "التناول" مساويا ومشابها بكلّ تفاصيله لتناول أي كاتب آخر لا يعيش هذه الحقيقة الثنائية؟ واضح تماما أنّ السؤالين السابقين امتداد للسؤال الثاني في مقدمة هذه الورقة.  فعل العودة إلى التاريخ هو فعل رفض في المقام الأول، رفض للواقع الراهن بكلّ تجلياته. لا يبتعد الكاتب عن هذا الواقع كلّ هذا البعد، ويغوص عميقا في الماضي والتاريخ، إلاّ ليضاعف من رفضه ورفض التشويه المستشري فيه. بقدر ما يكون البعد يكون الرفض. هكذا يطالعنا بدر الدين كشخصية مركّبة، متناقضة، تجمع في شخصها كلّ تناقض ممكن، فهو الفقيه، رجل الدين، سرّه باتع، وكراماته جليّة، يستشرف المستقبل، زاهد في السلطان والملك، ساعيا بدلا منهما إلى الحقيقة والنور. وبالمقابل عاشق يموت عشقا، تتمكن منه الهزيمة بعد مقتل عشيقته الجارية مكنونة، فيهيم على وجهه بين الحانات والمواخير، ليعاوده النور مرة أخرى ويبدأ فصل بعث جديد يحقق فيه ما يبدو للعارف أمرا مستحيلا! وهذا بالضبط ما يسعى خندقجي إلى تأكيده: يمكن للنقيضين أن يجتمعا، كما يمكن للضدين أن يتناغما معا ليحققا معادلة انتصار غرائبيّة، كما خاطب في النصّ شيخ يمينه طورة نفسه قائلا: " أيُّ تناقض وتباعد تحشرهما في زاويتك لتساوي بين الفقير والغنيّ، وبين السيّد والعبد؟ " (ص:162).  فلا يقبل الجزم بالطريق أحادي الاتجاه، فالطريق عنده إلى الحقيقة ليس واحدا، هو متعدد بتعدد زوايا النظر. يسعى لفكر متحرّر قادر على تقبل النقيض، ليس معصوبا عن النظر في كلّ الاتجاهات، فالنظر في كلّ الاتجاهات الممكنة مطلوب ومشروع وضروري، كما هو النظر إلى الأمام بالضبط لا يزيد ولا ينقص. يقول الكاتب في نهاية النصّ: "إنّ طريق المسجد أو المعبد أو الكنيسة ليس هو الطريق الوحيد إلى الله. لا يمكن أن نزجّ الناس وأن نسوقهم في الطريق نفسه، لأنّ هذا المسعى لن يرشدنا إلى الإيمان الخالص. إنّ الحقّ واحد أوحد، وعشق الحقّ متعدّد الطرائق والأوجه التي تؤدّي في النهاية إلى نور الله وإشراقاته في نفوسنا" (ص: 295). هذا التصريح، رغم ما يمكن أن يثيره من نقاش وجدل عنفين، لكنه يتماهى تماما مع النزعة الأيدولوجية الفكرية للكاتب نفسه، والتي حاول أن يرسخها على امتداد النص من خلال شخصية بدر الدين. يدرك خندقجي ماذا يعني الجمع بين الأضداد والتناقضات في أكثر جوانب الحياة حساسية وهو الدين، لكنّه يعوّل على شخصية بدر الدين كثيرا لتعينه على هذه المواجهة، فنراه يعزّزها بإنجازات خارقة، وانتصارات لم تخطر على قلب بشر، ليجعل من المستحيل ممكنا أو يحاول على أقل تقدير. بذلك يكون الإسقاط داخليا، موجها إلى "النحن" لا الآخر المتوقع، بأسلوب لا يخلو من النقد الذاتي الداخلي للمشروع القومي الفلسطيني، وضرورة اتساع الرؤية فيه لتشمل أكثر من الاتجاه الواحد والطريق الواحد والحزب الواحد! كانت الخاصية القومية والاستثناء الفلسطيني عاملا مساعدا في طرح مغاير في الرواية التاريخية، وفي باب الإسقاط بصفة خاصة.
أمّا فيما يتعلق بالميزة الثانية في باب الإسقاط، "ميزة" الأسر، فإنّ الكاتب يحوّل "دفّة" الإسقاط في هذه الحالة نحو الخارج – السجّان. هنا يلتقي خندقجي الكاتب مع بدرا لدين الشخصية الأدبية في كثير من المواقف، ولا نبالغ إن قلنا يصل الالتقاء حدّ التماهي أحيانا. وما أحوج الكاتب الأسير لشخصية كشخصية بدر الدين! لم يتوان بدر الدين عن الخوض في كل مجهول ومستحيل سعيا وراء المعرفة والحقيقة. كما تجاوز العلّامة القطب كلّ الحدود والآفاق، وتنازل عن كلّ ما شأنه أن يحيد به عن طريق المعرفة والحقيقة، فكان النور الداخلي دليله مكّنه أن يستشرف عوالم وفضاءات لم تدسها قدماه، وأبصر حقيقة أزمان لم يعشها بعد. فكيف يمكن أن تتحقق فلسفة الأسر وغايته في ظلّ هذا الملكوت الروحاني المهول؟ ألا يستحيل الأسر إلى مدعاة للتأمل والتفكّر كشرطين قبليين للاستشراف والتبصر؟  هكذا تتبدّد حقيقة السجن في الكبت والتقييد، طالما الروح فاعلة، والفكر متيقّظ قادر على الاستشراف والتبصر. كما تتجاوز هذه القدرة فعل الرفض، لأنّ الرفض فيه إقرار قبلي بوجود، بينما تتيح الرواية التاريخية وشخصيتها المركزية بصفة خاصة للكاتب أن يبدّد حقيقة الموجود. هكذا يحقق النص والكاتب معا سخرية مضاعفة لا تعزّز من المناعة النفسية فحسب، بل تستشرف النصر، وتعيش الشخصية واثقة بالخلاص، وفي ذلك منتهى النصر ومنتهى السخرية.
في النهاية
لم تكن عودة الكاتب باسم خندقجي للتاريخ تقليدية، بل سعى الكاتب إلى تناول مغاير للتاريخ والرواية التاريخية، مستغلا ميزتين اثنتين، هما: الانتماء القومي الفلسطيني والأسر، على نحو ما أشرنا سابقا. وتكون "خسوف بدر الدين"، بهذا التناول المغاير، قد حققت أكثر من شرط وحاجة للرواية التاريخية. ويحسب لها ولكاتبها هذا المجهود الواضح في بناء شخصية مركبة متناقضة للتدليل على واقع لا يقلّ تركيبا وتناقضا. لا يقول خندقجي، عندما يمتح من التاريخ، إنّ الواقع مشّوه موبوء، نبتعد عنه إلى التاريخ لنطرح بديلا مرجوا فحسب، بل يحرص كلّ الحرص أن تكون العودة ساخرة ناقدة تطهيرية (catharsis)، قادرة على النقد الذاتي الداخلي كالخارجي بنفس القدر بالضبط. عودة تسعى إلى تبديد حقيقة السجن كممارسة تتجاوز فعل المعارضة، لتكون السخرية فعل استشراف يبشّر بالنصر والخلاص، أكثر منها فعل معارضة وتعزيز نفسي. نقرأ "خسوف بدر الدين" الضاربة في التاريخ، لنقرأ الحاضر الراهن بصورة مغايرة لتلك المعهودة في الرواية التاريخية، على نحو ما بيّنا سابقا. لم يكتب خندقجي نصّا جديدا يضاف إلى مكتبة أدب السجون العربية ورواياتها، بل اهتم أن يبدّد واقع السجن ويتجاوزه إلى المعرفة والحقيقة والنصر. يدرك الكاتب أنّ أدب السجون لا يخلو من نزعة بكائيّة مهزومة، يعاين (أدب السجون) ممارسة متواصلة من القهر والتعذيب تعمل ليل نهار على سحق الذات، وطمس الروح والقدرة على التفكير أبعد من باب الزنزانة المحكم. كما يدرك الحاجة والضرورة إلى ما يواجه ويبدّد هذه الممارسة كشرط للثبات أولا، وإلى تبديد واقع السجن لتعزيز الروح المثابرة والمنتصرة ثانيا. هكذا تكون البطولة، رغم سوداوية الواقع، أنجع من المرثية لتحقيق ما سبق.     
 


9
  نوميديا جروفي، شاعرة و باحثة و ناقدة (الجزائر)

كتابات الأب يوسف جزراوي.
     
   
الكتب التي لفتت نظري في اصدارات 2018 كانت مختلفة نوعا ما عن كلّ الكتب التي قرأتها سابقا، تعمّقت هذه المرّة في كتب تاريخية و إنسانية للأديب الأب يوسف جزراوي          و استفدت منها كثيرا.
فمن خلال كتابه (ملحمة كلكامش) بالقراءة الجديدة للمعاني الإنسانية في الملحمة،يكتشف القارئ أنّ البطل الحقيقي هو إنكيدو و ليس كلكامش، إذ أنّ موت إنكيدو كشف الوجه الآخر لكلكامش في سعيه للبحث عن الخلود، فاكتشف لغز الحياة و حكمتها، و هو لم يُعن بالموت بل في ديمومة البقاء و هذا ما فعله في الأخير بعد عودته من غربته و سعيه و بحثه، فجاء بالدليل القاطع صانعا المحبة و السلام بين أبناء شعبه فمجّدته كلّ الأجيال.
و نتعمّق في مقالات الأب يوسف فنجد أنها مقالات تُعالج قضايا هامّة من الواقع المعاش    و جوهرية في حياة الإنسان، فيها قضايا إنسانية نابعة من تفاصيل حياتنا اليومية، إذ هي تجليات لتساؤلات الذات و إشكاليات المجتمع، و تلك الأحاديث هي مرايا.
ففي كتاب (أحاديث قلم في مرايا الذات و المجتمع) يتحدث الأب يوسف عن مأساة عالمنا المادي المعاصر، إذ أنّ هناك نسبة من البشر باتت تنظر و لا ترى و قد تسمع و لا تُصغي.مشيرا إلى أنّنا في زمن ضيّع فيه الإنسان إنسانيته بسبب الدمار  و الخراب الذي نراه يوميا ناهيك عن دماء قتل الإنسان أخاه الإنسان باسم الله. و هو كتاب يُجسّد أفكار عامة و عميقة و مرشدة لأبناء هذا الجيل و الأجيال القادمة.
و في كتاب (عروس الشرق.. بغداد) مناجاة و مكابدات و لواعج و حنين للوطن، يتحدث فيها عن الغربة من مستويات عديدة: غربة الجسد،غربة الروح،غربة الفكر،غربة الكلمة، فيُفجّر في القارئ أحاسيس عميقة مكنونة دون الإفصاح عنها. إنه السندباد المهاجر          و النورس المغترب الباحث عن شمس تُشبه شمس بلده، فينزف قلمه شوقا بمناجاة تحمل في طياتها أوجاعا و آلاما و أنينا لا يسمعه إلا من يفهم تلك السيمفونية الحزينة.
و أخيرا رواية (أنين الوردة الجريحة) فيها معنى الوفاء و العهد، فعندما يصبح الصمت الموجع لغة، تنطق لغات كثيرة.إنها حكاية عهد لم تنته بموت أحد الأبطال.
قصة أو رواية جسّدت معنى المحبة الروحية و الصداقة الأبدية الخالدة و كيف استطاعت الانتصار على الحبّ الجسدي.
رواية فيها ثيّمة إنسانية تلمس العقل و الوجدان من درس يلمس الصميم عن المحبة و العهد و الوفاء الأبدي.
الأب يوسف جزراوي يخاطب قارئيه بقصص و حكايات روحية و اجتماعية و حياتية، البعض منها ثمرة تأمّله و فكره الشخصي و البعض الآخر قام بترجمتها من الإنكليزية.
كتابات لها عمقها الإنساني و التأملي و الإرشادي بمضمون يُعطي كلّ ما هو جوهري      و سامي في حياة البشر، ساعيا لترسيخ بذرة المحبة و السلام في الحياة، تُشبه نوتة محبة تنير درب الكثير من شبان العصر، فالتأمل هو رفيق قلمه و الموسيقى رفيقة أفكاره.

علينا في الأخير أن ننشر الوعي بالكتب بشتى أنواعها  و مواضيعها بين أبناء هذا الجيل، فتسود المحبة بينهم بدل الكراهية و الحقد  و الطائفية بمختلف أنواعها، أن تعمّ البسمة       و الفرحة بدل الدموع  و الآلام، أن يسمعوا موسيقى البهجة بدل موسيقى الحزن و الفراق   و الموت و أن نُغيّر نظرتهم للعالم بألوانه الزاهية بدل سواد الحداد الذي نشر عباءته في الكثير من بلداننا العربية.



10
المنبر الحر / خسوف نور بدر الدين.
« في: 13:37 31/12/2018  »
  نوميديا جروفي، شاعرة و باحثة و ناقدة (الجزائر)


خسوف نور بدر الدين.

   

رواية خسوف بدر الدين للشاعر و الروائي الفلسطيني باسم خندقجي.
رواية تاريخية تحمل في ثناياها عَلمًا صوفيّا لا يعرفه الكثيرون، حيث سافر بنا الكاتب باسم في أوراق التاريخ و معالمه التي نجهلها، دخلنا قصورا    و التقينا سلاطينًا و أمراء و شيوخ زوايا مارّين بجبال،متوغّلين في البراري.
باسم خندقجي الذي تحدّى السجان للمرة السادسة بثلاثة دواوين شعرية و هذه ثالث رواية بعد نرجس العزلة التي أبدع فيها و ثاني رواية تاريخية بعد مسك الكفاية.
بدر الدين محمود ابن قاضي سيماونة، ترك وطنه الأمّ مسافرا لطلب العلم لتحقيق رغبة والده الذي أراده في أعلى المناصب، تنقّل من مسقط رأسه ليكون تلميذا لصديق والده يُجوّد القرآن في الأزهر ،ليتحوّل بعدها لمعلّم وليّ عهد السلطان برقوق الأمير الأحمق كما سمّاه لأنه أفقده أعصابه و صوابه و لم يتمكّن من إتقانه اللغة العربية ،ذلك لأن أمّه الجارية تركية الأصل و تتكلم اللغة العربية بطريقة بشعة مُشوّهة.
هناك في القاهرة كان عاشقا لمكنونة جارية السلطان وطربها.
بعد مناظرة بينه و بين ابن خلدون يوما ترك التعليم هربا من استبداد السلاطين و سطوتهم أولا لأنه لا يقبل الذل و المهانة و نجاةً من خونذ شيرين والدة الأمير الأحمق التي راودته عن نفسها لأكثر من مرة          و اعتبرته عبدا لها.
و بعد أن قُتلت معشوقته على يد السلطان الذي فصل رأسها عن جسدها في مجلسه على مرأى الجميع و علّقه فَقَدَ بدر الدين صوابه.
يتشرّد و يتوه في البراري و الجبال و يشتغل حاله حال المواطن البسيط، و رغم إفلاسه لم يتركه صديقه طورة كمال الذي أعاله و أسكنه عنده.
مسافرٌ و هائمٌ على وجهه في البرية و أرض الله الواسعة ليصل إلى تبريز مُتردّدا على زاوية صوفية لابن النور هناك،لكنه لم يتقبّل الانتماء إليهم،    و أنكر ما يفعلونه فسخطوا عليه، لكن أمير تبريز أكرمه لعلمه و معرفته فأهداه بيتا و طلب أن يكون ابنه تلميذا عنده، و هذا ما حدث.
بمرور الوقت كان يغيب عن زاويته مُتخذا جبل المقطم مكانًا لخلوته فيرقص هناك كدراويش قونية مستديرا حول نفسه.
يلتقي بصديقه مصطفى نور الدين بعد زمن طويل و يُحرّره من أسره هو أبناء بايزيد بعد معركة طاحنة.
يلتمّ و أخيرا شمل الرفاق الثلاثة بدر الدين و طورة و مصطفى بأحداث متسلسلة و متعاقبة في أوراق التاريخ بقلم الكاتب المبدع باسم خندقجي، حيث أدخلنا قصورا و زوايا صوفية، و استمعنا للناي معه كما سمعه بد الدين و رقص على أنغامه الحزينة.
هناك في تبريز يختار بدر الدين سبعة تلاميذ في ريعان شبابهم من أصول و مشارب مختلفة و معهم حبيب عازف الناي و أمين فؤاد بدر الدين،       و شيخ يمينه طورة،فيشدّون الرحال حيث صديقه مصطفى و ابن السلطان المقتول بايزيد، فيُكرّمه الأمير و يجعله قاضي ليرافقهم في معاركهم و يخطب في الجند لمناصرتهم و تشجيعهم.
و هكذا نصرا تلو الآخر و بدر الدين يزداد في تجلّيه الصّوفي و عشقه       و نوره، و يأمر بالعدل والمساواة و عدم التعرّض لأهالي المناطق التي يفتحونها مطالبا بعدم سفك الدماء،وهذا ما لم يرق للأمير محمد الذي اعتبره تمرّدا و خروجا عن العادات العثمانية في الحروب فنفاه في منطقة في الجبل مع تلاميذه مُشدّدا الحراسة الأمنية عليهم.
تشاء الصّدف أن يهربوا و يصلوا إلى سيماونة مسقط رأس بدر الدين بمساعدة مصطفى شيخ يساره، و يتحصّنوا في قلعتها بمساندة أهاليها الذين أكرموهم مرحّبين ببدر الدين الذي نجّاهم من الذلّ و حرّرهم من عبودية الأمير بعد استيلائه على سيماونة.
لم يتوقّف بدر الدين يوما عن نشر العلم في زاويته التي توسّعت أكثر في قصر أبيه القديم في مسقط رأسه و زاد نوره هناك.
ابتعد عن الدنيا بشهواتها و ألوانها الزاهية و بهرجها و سلاطينها الذين لم يُعجبهم أمره،فهم دوما يكرهون صاحب العلم و يخشون معرفته لأنه        و ببساطة يُشكّل تهديدا يهزّ عروشهم.
بدر الدين الذي اجتمع حوله الفقراء و المساكين و المتعبين الهاربين من ظلم الدنيا و جور مماليكها و استبدادهم و تهديدهم.
بدر الدين كان يملك روح الحلاج في عشقه الالهي و رقصة دراويش جلال الدين الرومي و حبّ تبريز بنوره الذي خُسف في الأخير بمشنقة بايزيد باشا القائد الانكشاري الرهيب للأمير محمد.
يسوع صُلب..
بدر الدين شُنق..
نهاية حزينة في الأخير حيث خُسف بدر الدين بعلمه و نوره و معرفته.
هكذا عاش من تلميذ لمعلّم لممسوس لثائر و متمرّد فيُخسف نوره .
أروع رواية تاريخية قرأتها في حياتي حيث عرفت متصوّفا لم أسمع به يوما و أنا المعجبة بعشق جلال الدين الرومي و شمس الدين التبريزي          و الحلاج لأعثر على بدر الدين في ثنايا رواية البطل باسم خندقجي.


11
  نوميديا جرّوفي،شاعرة، باحثة و ناقدة (الجزائر)


حوار مع الموسيقار و المايسترو خليل بابا أحمد


 

ابن جوهرة المغربي العربي تلمسان، المايسترو الذي صنع عالمه الخاصّ بإبداعه و فنّه.المعلّم الموسيقي الذي فتح ورشة الموسيقى لكلّ الأعمار بدون استثناء، يتعلّمون قراءة النوتة الموسيقية و كذا العزف كلّ بآلته التي يختارها. له طريقة خاصّة في التعليم. إنّه صديق لتلاميذه .
أوقات الدرس تمضي دوما جميلة تغمرها البهجة بين الجميع.
 إنّه الموسيقار خليل بابا أحمد، فلنتعرّف عليه عن قرب....


س: من هو خليل بابا أحمد؟

ج: خليل باب أحمد، من مواليد 1983، فنّان موسيقي، مؤلّف، ملحّن       و مايسترو،قام بإعداد الكثير من المشاريع الموسيقية و العالمية على غرار موسيقى و سلام 2013،وصلات الصداقة 2017 Mystic Muse، حكاية إلهام على مرّ الزمان كما كان قائد مجموعة (جركا) عام 2006

س:  بصفتك من عائلة موسيقية معروفة في ولاية تلمسان، ما هي صلة القرابة بينك و بين المرحوم رشيد بابا أحمد؟

ج: المرحوم رشيد بابا أحمد من مواليد 20 أوت 1946 ، كان مغنّي          و موسيقي و ملحّن و ناشر جزائري و أيضا منتج للفيديو كليب و الحصص التلفزيونية في ذلك الوقت و صاحب أستوديو فخم بكل ما يتطلّب من أجهزة متطوّرة،هو فخر لعائلة بابا أحمد و فخر لمدينة تلمسان و الجزائر    و الفن الجزائري في الثمانينات لغاية 15 فبراير 1995 حيث أغتيل.، و هو من أعطى الانطلاقة للشاب أنور ، الشابة فضيلة و الشاب صحراوي.
و أنا بدوري أفتخر أنني دخلت أستوديو رشيد بابا أحمد و أنا في بدايتي في نهاية التسعينات.

س:  من اكتشف فيك الموهبة الموسيقية؟

ج: علاقتي مع الموسيقى هي موهبة فطرية بكوني من عائلة تُحبّ الموسيقى.

س:  متى بدأت العزف؟

ج: بدأت مشواري الموسيقي في عمر العاشرة في (جمعية غرناطة) ثمّ غادرتها إلى ورشة الموسيقى بدار الثقافة (عبد القادر علولة)

س:  من هو معلمك الموسيقي؟ و من ملهمك الأول؟

ج: معلّمي و ملهمي كان الأستاذ شافع بلعيد ، معلّمي في الصولفاج     و كذا العزف على آلة الكمان.

س:  ما هي أقرب الآلات الموسيقية إليك؟

ج: آلة الكمان.





س:  حدّثنا قليلا عن المهرجانات الموسيقية التي شاركت فيها كمايسترو و عازف ؟

ج: شاركت في العديد من المهرجانات الوطنية و كذا الدولية منها:

-   المهرجانات الأندلسية في تلمسان
-   نشاطات على هامش تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية
-   المهرجانات الموسيقية المغاربية – القليعة –
-   مهرجانات تيمقاد – جميلة – مستغانم.
-   سهرات و مشاريع فنية و وطنية.
-   مهرجانات الموسيقى بتونس،المغرب، إسبانيا، فرنسا، بلجيكا، اليابان و كوريا الجنوبية.
-   المهرجان الدولي للموسيقى الأندلسية و الموسيقى العتيقة.
-   تبادلات موسيقية مع معاهد فرنسية بالجزائر (CCF)
-   La citée de la musique (Paris)
-   L’année de l’Algérie en France

س:  كيف و متى أسّست فرقتك الموسيقية التي ترافقك دائما؟

ج: تأسست الفرقة من طرف عشرة عازفين مخلصين و هي في طريق التطوّر، و هم عازفين تتوفّر فيهم الشروط و المعايير اللازمة و كلّ ما يتوافق مع اللمسة الخاصة لفرقة ( مجموعة خليل بابا أحمد).

س:  أنت مفخرة لولاية تلمسان، و تُعتبر من ضمن الذين يُتقنون قراءة الصولفاج الموسيقي، متى بدأت تعليم الموسيقى؟

ج: لي الشرف و الفخر أن أكون معلّما للصولفاج في ولايتي و مسقط رأسي تلمسان، و قد بدأت بتعليم الموسيقى سنة 2002 للعازفين و من يحبّون الموسيقى.

س:  كيف خطرت لك فكرة تأسيس ورشة تعليم الموسيقى؟

ج: جاءت الفكرة لتطوير معرفة الموسيقيين و العازفين الذين تسري الموسيقى في دمهم و روحهم.
الورشة مفتوحة لكل العازفين من كل الأعمار لأنه ليس لتعلّم الموسيقى عمر محدّد أبدا.
و الورشة تعمل لمساعدة العازف إتقان العلوم الموسيقية من صولفاج     و عزف و غيرهما، و تشهد إقبال كبير خاصة و أنّ هناك عازفين من الجمعيات لتطوير معرفتهم و إبداعهم أكثر، و أنا أعمل على تعليم الشباب   و الصغار فخصّصت فوجين ، أحدهما للشباب و الثاني للصغار.

س:  كيف رحّب أبناء و بنات مدينة تلمسان بالفكرة؟

ج: الورشة شهدت إقبال من كل الفئات لتعلم الموسيقى و العزف بكل حبّ و سعادة و فرح و هذا يُشجعني أكثر.

س:  هل لاقيت صعوبة في تعليم الشباب و خاصة الصغار؟

ج: هناك صعوبات في كلّ شيء ، لكن على المعلم أن يمتلك تقنيات خاصة للتعليم، خاصة لو كان التعليم عن حبّ و شغف.

س:  بصفتك عازف كمان، هل هناك إقبال على تعلم العزف على آلة الكمان؟

ج: هناك إقبال كبير على تعلّم العزف على الكمان، إنه الآلة الوجدانية     و الروحية التي لها علاقة خاصة و استثنائية بينها و بين عازفها.

س:  ما هي الآلات الموسيقية التي يميل إليها تلاميذك؟
ج: من بين الآلات التي يختارها تلاميذي:
الكمان، الغيتار، البيانو، العود،المندولين.

س:  بصفتك مايسترو ،هل تلاقي صعوبات في تحضير الفرقة لجولة موسيقية أو حفلة؟

ج: الصعوبات هي العوائق أحيانا التي نلاقيها في التحضير و تكمن في:

-   صعوبات كبيرة في الإنتاج الفني و خاصّة في نطاق إبداع و إنتاج جديد
-   البرمجة غير البناءة.
-   انعدام الدعم في أغلب الأحيان.
-   لا ننسى أنه على الفنان أن يفرض نفسه في الساحة الفنية و يبرز مهاراته.
-   إهمال السلطات للفانين للإنتاج الفنّي القيّم و ارتكازهم على سياسة الأرقام في إطار.
 
س:  متى بدأت قيادة الفرقة الموسيقية كمايسترو؟

ج: بدأت قيادة الفرقة الموسيقية كمايسترو سنة 2014 في إقامة ثقافية لمزج الموسيقى الكلاسيكية مع الأندلسية مع فرقة music and peace من مدينة Lille الفرنسية.
اعتبر هذا عمل فريد من نوعه  الذي كان تحت الإدارة الفنيّة للأستاذ توفيق بن غبريط حيث أشرفت عليه في طبعته الأولى جامعة تلمسان.
و لأول مرة في تلمسان رفقة عازفين فرنسيين بتناسق كبير تحت قيادتي كمايسترو و قائد فرقة.
كنت حينها كمدير فنّي للمشروع و أشرفت على كتابة النوتة الموسيقية للعازفين الفرنسيين. و هذا العمل كلّفني بحث لسنة لأحسن طريقة لكتابة الموسيقى الأندلسية  تحت إشراف المايسترو الفرنسية Anne   Leridan التي لقّنتني دروس و تقنيات في إدارة الجوقة الموسيقية و الكتابة لعازفين أجانب لا علاقة لهم بالموسيقى الأندلسية. و لاقى المشروع مشاركة موسيقيين و فنانين من كل أنحاء الوطن منهم:
إبراهيم حاج قاسم، كريم بوغازي، أ.توفيق بن غبريط،ليلى بورصلي، نسرين غنيم، فؤاد ديدي، أ. نور الدين سعودي، مبارك دخلة.
شهد المشروع نجاحا باهرا في الجزائر العاصمة و كذا في مدينة تلمسان، كما شهد حفلا كبيرا بعدها في مدينة Lille الفرنسية حيث تمرّن فيها العازفين التلمسانيين على يد مؤطرين و أساتذة فرنسيين ذوي كفاءات عالية.

س:  هل تُفكر في إنشاء فرقة أوركسترا موسيقية من تلاميذك؟ و هل تراهم عازفين في المستقبل؟

ج: هذا الموضوع في طريق الإنتاج و هو ضمن مشاريعي و أهداف الورشة، انطلاقته الأولى ستكون بدءا من صيف 2019 حيث ستنظّم الورشة حفل موسيقي بهيج لاختتام السنة و مختلفا عن هذه السنة من حيث المضمون و الإبداع، فيكون أوّل إطلالة لجوقة موسيقية كبيرة متكوّنة من تلاميذ الورشة.



س:  ما هي أمنيتك كعازف كمان و مايسترو؟

ج: الموسيقى لغة الروح تبثّ الجمال للحياة بألوانها الجميلة، تُبهج القلب و تُريح النفس الحزينة لتُخلّصها من كآبتها.
كلّما استمعنا للموسيقى نتماهى معها فنشعر بالسعادة لسبب لا نعرفه.
فلنعلّم أجيالنا و أبناءنا لغة المحبة و السّلام التي تجمع الجميع دون استثناء. 

س:  كلمة أخيرة

ج: أنا في خدمة الوطن و تطوير الموسيقى و إحياء تراثنا العريق بطريقتي الخاصة.
قُمت بأداء الموسيقى الجزائرية على الطريقة التقليدية و قمت بأدائها بطرق عصرية، و أنا متيقّن بضرورة الحفاظ على كلتا الطريقتين، و هذا الاختلاف لا بدّ أن ننظر له نظرة براغماتيكية و إجمالية لنجعل منه قوّة لنا للترقية و الإعلاء بالثقافة الجزائرية إلى أعلى المناصب.


12
  نوميديا جرّوفي،شاعرة، باحثة و ناقدة (الجزائر)

قراءة في المجموعة القصصية (قمر.. قرين لا يأمر بالفحشاء) للكاتب محمدي محمد الأمين.

عنوان يجذب القارئ و يجعله متشوّقا لمعرفة لغز يُحاول استكشافه بين الصفحات.. من هو قمر؟ و كيف لا يأمر بالفحشاء؟ و لماذا؟ هي أسئلة غريبة تحوط في عقل القارئ أوّل ما يمسك الكتاب بين يديه.
صدقا لا يأمر بالفحشاء لأنّه تناول قضايا اجتماعية و يُحاول ترميم ثغرات آفات تُهدّد مجتمعنا، لأنّنا ببساطة نراها و نتعايش معها يوميا بطرق شتّى، لكنّ الكاتب هنا ببديهيته و ذكائه جعلها قصصا هادفة.
المبدع و الكاتب الجزائري ابن جوهرة المغرب العربي تلمسان محمدي محمد الأمين بثمرة إنتاجه الأدبي الأول، قدّم لنا مجموعة قصصية هادفة لفئة الشباب و جيل اليوم المعاصر المنهمك في البحث عن ملذات الحياة دون التفكير في عواقب ما قد ينتج عنها من أذية نفسية للفرد نفسه أو محيطه أو مجتمعه.
تناول قضية زنا المحارم في قصة (ابن الشيطان) و تطرّق لموضوع الشعوذة التي نخرت العقول الهشاشة التي تنساق وراء البحث عن خرافات لا وجود لها أصلا، و كيف بات عدد من الناس يؤمنون بصدق العرافة التي تسلبهم أموالهم دون جدوى، أو تجعلهم عبيدا لسحرة أو شياطين فلا ينجون و لا يتحرّرون لتذهب حياتهم هباء نتيجة طيشهم    و كفرهم ليحصل لهم كما حدث لتلك التي حدثنا عنها الكاتب في قصته.

و في قصة (رسالة إلى أمي) قدّم للقارئ درسا ثمينا جدا عن ذلك الطفل اللقيط كما يُسميه مجتمعنا الشرقيّ.
الطفل الذي يأتي نتيجة شهوة اثنين، و نتيجة علاقة محرّمة بين اثنين  لا مستقبل لهما فيدفع ثمنها طفل بريء يُرمى في الشارع في مكبّ نفايات كما حدث في القصة، أو يُترك في المستشفى، فيعيش لاجئا بين المراكز فاقدا للرأفة و الحنان و العطف و الحضن الدافئ.
النتيجة مؤلمة لأنّ مستقبل ذلك الطفل الذي أنكره أباه الذي زرعه في رحمٍ ذات شهوة، و تبرّأت منه أمّه التي باعت شرفها و شرف عائلة بأكملها نتيجة كلمة رومانسية و وعود منمّقة يُصبح في المجهول بلا مستقبل و لا يملك ماضي و لا حقّ له في الحاضر سوى أصابع تُشير إليه أينما توجّه .. لا يعرف أمّه و لا يملك اسما و لا لقبا و لا حياة لأنّه محروم منها و هو يتنفّس..
ببساطة يبقى مجهول الهوية و النّسب و يُلقّب باللّقيط أو ابن الزّنا... أليس هذا كارثي؟ و إلى أين متى تتوقّف هذه الكارثة؟

نتوغّل قليلا بعدها في قصة (رسالة من زير نساء سابق) تتحدّث عن تهوّر الرجل الذي يظنّ نفسه نحلة تلتقط العسل من الزهور دون توقّف.. لكن النتيجة وخيمة في الأخير ،لأنّ من ترك امرأته أو طلقها بسبب الزنا و تزوّج أخرى.. سيزني كما قال يسوع المسيح في وصاياه.
رجل خان زوجته و جلب عشيقته للبيت على مرأى زوجته التي تحمّلت المذلة فصارت خادمة لعشيقة زوجها في بيتها .
عاقبه الله في آخر المطاف بأن تخونه تلك العشيقة بعد أن أصبحت زوجته وأنجب منها سبعة بنات لتتشتّت عائلته بأكملها و لا خبر عن بناته اللواتي سبحن و تُهن في نهر الرذيلة.
صدق من قال: كما تدين تُدان..

ننتقل لقصة (أحرف من شمع) تناول فيها الكاتب قضية هامّة جدا، ألا        و هي الانتحار.. إنه الداء الذي بات موضة في القرن العشرين في شتّى أنحاء العالم.
من تضيق به سبل الحياة يرمي نفسه من طابق عمارة أو من جرف عالي، أو يتناول سمّا، أو يخمد سكينا في قلبه، أو يُطلق رصاصة على رأسه، أو يشنق نفسه،أو يُحرق نفسه أو أو أو...
اختلفت طرق الانتحار و النتيجة واحدة إمّا الموت أو الشلل أو الإعاقة    أو التشوّه أو بتر أعضاء.
إن مات يذهب للجحيم مباشرة لأنّ الربّ في كل شريعة سماوية نهانا عن قتل النفس البشرية، ناهيك عن تألّم عائلته و مُحبّيه، و إن كانت النتيجة الثانية يبقى عالة على نفسه و غيره.

في قصة ( اقتلهن جميعا لترتاح) تناول الكاتب موضوعا في الصّميم، إنّه الغدر الذي أصبح أشبه بالداء المتفشّي و المعدي في نفس الوقت بين شباب و شابّات لا يحفظون الوعد و العهد.
إنّه جيل عديم الوفاء في المشاعر و قليل الحفاظ على الطرف الآخر.. ليس الكلّ إنّما الأغلبية الكثيرة حسبما نشاهد.
الزوج يخون زوجته، الزوجة تخون زوجها.
الخطيب يخون خطيبته، الخطيبة تخون خطيبها.
الصديق يخون صديقه و يطعنه في ظهره و يتلاعب بشرفه، هو ذا الموضوع الذي سلّط عليه الكاتب الضّوء، و بعدها يأتي دور الانتقام لفعلة لا تُغفر لبشاعتها و لا يُسامح عليها.

أخيرا في قصة (عذراء) موضوع حسّاس جدّا بات لعبة متهوّرة بين الشباب الذين يتباهون برجولتهم المزيّفة.
قدّم لنا الكاتب درسا بليغا لفئة شباب هتكوا أعراض فتيات و سلبوهنّ أغلى ما يملكن بسخرية بليغة غير معيرين للأمر أهمية، لكن على الباغي تدور الدوائر فما يفعله المرء في الماضي سيتراءى له في المستقبل بنفس الأسلوب فيدفع الثمن باهظا أكثر ممّا كان مُستحقّا.

كلمة أخيرة:

أرفع القبّعة عاليا للكاتب الشابّ محمدي محمد الأمين للسرد الذي قدّمه للقارئ بقصص تحمل في ثناياها عبر قيّمة و دروس ثمينة للشباب و توعية حتى لا يرتكبون أخطاء تؤذيهم و تُؤذي من حولهم.
قمر..قرين لا يأمر بالفحشاء هي مجموعة قصصية عنوانها المحبة         و التسامح.
فطوبى لصانعي السلام.

 

13
أدب / منذ مائة عام
« في: 19:28 25/11/2018  »



منذ مائة عام

  نوميديا جرّوفي
،شاعرة، باحثة و ناقدة (الجزائر)


منذ مائة عام
و ليس في وجهي شيء يشبهني
فثارت عليّ قصائدي
و غارت منّي وسائدي تسألني
من ذا الذي يلهمني؟؟

منذ مائة عام
و غابات من الحزن عن أسرار عينيه تخبرني
عن طيف من الحلم الجميل
عن أمير أراقبه و يدهشني
غائب.. حاضر
مشمس.. ماطر
هو أنت
تطفئني و تشعلني كفصول السنة
تُلبسني إحساسي
تُلفحني و كأنّك وجه الشمس
تعصرني و كأنّك وجه الرّيح
ألمسك فتمطرني
و كأنّك أسراب من الغيم

منذ مائة عام
و أنت كشيء خلف الشيء تربكني
كزمن خلف الزمن يسرقني
كزبد البحر
كزورق الأماني أطاردك
و في الأحزان يغرقني
كلّ ما في قصيدتي أنكره و ينكرني
لكن هو أنت وجهي
الذي ليس يشبهني
و من فوق الإعجاب يعجبني


14
أدب / كازانوفا تلمسان
« في: 20:40 21/11/2018  »
  نوميديا جرّوفي،شاعرة، باحثة و ناقدة (الجزائر)


كازانوفا تلمسان



(قصة قصيرة)

و أنا جالسة مع صديقتي أمس عند خبير قضائي سمعنا أغرب القصص، منها عن كازانوفا تلمسان،ذلك الرجل المتباهي بجماله.
رجل عار على الرجال جميعا، متزوج و رب عائلة،أب لثلاثة أبناء، يوقع في شباكه يوميا سيدة.. و أيّ نوع من النساء؟
كل سيدة ثرية، أرملة كانت أو مطلقة، يتقرب منها عارضا عليها المساعدة، كاذبا منافقا،منمّقا كلامه بالطيبة حينا و بالدلال حينا.
و لمظهره الحسن كما شهدت له سكرتيرة المحضر القضائي، يتصيّد النساء الغبيات الساذجات بكل عفوية و سهولة.. لأنّهن تقعن في غرامه بسرعة!!
امرأة توفيّ زوجها و ترك لها أموال كثيرة، و مبالغ خيالية، أم لولدان، كانت ستعيش كملكة في تلك الفيلا التي ورثتها عن زوجها،لكن غباؤها فتنها بكازنوفا و أعطته كل مالها لتجد نفسها كالمتسولة ،و المسكينة فقدت عقلها و صارت تمشي و تضحك في الشوارع..
لا الشرطة أمسكته و لا هي عرفت اسمه و مكانه..
ذهب و لم يعد!!
سيدة أخرى،حصلت على مبلغ كبير من طليقها بعد انفصالهما،أم لابنة رضيعة، حلق فوق مالها و وعدها بالمستقبل الجميل و السعادة الخيالية و أن يسيّر مشروعا لها بمالها.. وثقت به الغبية ثقة عمياء      و اغرمت به .. ليسرق لها الشيك قبل أن تشتم أوراقه النقدية..
أين ذهب؟ من أين أتى؟.. طار على بساط الريح!
فتاة قاصر في السابعة عشرة من عمرها، أغواها جماله و عضلاته      و أناقته و هي في سن المراهقة.. حلق قريبا منها و تغزل بها، واعدا إياها بعش زوجي و لا في الاحلام، فانصهرت بكلامه المعسول لتفقد أعز ما تملك.. اشتكته للشرطة و لا من صورة له أو اسم..
من هو؟ و كيف اختفى؟
ذاب و صار بُخارا مع الحرارة ليطير في السماء!!
و ما أكثر فاجعات هذا الكازانوفا الذي بات كابوسا بين النساء الجاهلات الساذجات الغبيات المفتقدات للغزل و الكلام الجميل!!
خرجت و صديقتي نضحك من هذا الشبح اللغز مثل فيلم الرعب SAW.


15
أدب / ومضات من الوجدان
« في: 19:28 14/11/2018  »

ومضات من الوجدان

  نوميديا جرّوفي
،شاعرة ، باحثة و ناقدة (الجزائر)


لا تدع الحبّ
بل دعهُ يسمو بكَ

*****

كل روح تنقلب ذهباً
عندما يلامسها الحبيب

*****

الحضن أكثر الأماكن الضيّقة اتّساعا

*****

هل أتاك حديث الشوق؟
يُهيمن على قلب موحشة أصداءه

*****

تسامر جمال الهوى
على أحصنة الشوق و الحنين
فلنركض بسرعة الريح
لنلحق بهمسات الجنون

16
  نوميديا جرّوفي،شاعرة، باحثة و ناقدة (الجزائر)


الليدي غوديفا Lady Godiva


هي زوجة ليوفرك Leofric، نبيل مقاطعة مرسيا الإنكليزية في القرن الحادي عشر. وهي امرأة نبيلة بحق، ليس فقط بمعنى انتمائها لطبقة النبلاء، بل بمعنى نبل قلبها وصدق نواياها وعواطفها. كانت غوديفا تنظر بعين التعاطف والمؤازرة إلى مواطني المقاطعة الذين يكدحون ليل نهار ويدفعون الضرائب الباهظة لزوجها ورجالاته، تلك الطبقة التي لا يعرف أعضاؤها معنى الكدح والمعاناة بسبب الملاعق الذهبية التي وصلت إلى افواههم بكد الاخرين. كانت غوديفا قد اشتكت لزوجها مرارا وتكرارا وتوسلت اليه أن يقلل ما يجبيه رجالاته من المعدمين! لكنه لم يكترث إلى أن جاء اليوم الذي وجد نفسه في تحدٍ وقح لمطالبها، فعرض عليها موافقته على تقليل الضرائب بشرط أن تنفذ ما يريد منها! وما أراد منها هو أن تمتطي جوادها عارية وتجوب في شوارع المدينة، ظناً منه أنها سترفض عرضه الرخيص وسيكون قد تخلص من مضايقتها له بالشكوى والاسترحام الدائمين، لكن الزوج "النبيل" كان قد تجمد من دهشته حين قبلت الزوجة شرطه ونفذته في الحال فجهزت جوادها وامتطته عارية تماما لا يغطي مفاتنها إلا شعرها المسترسل الطويل.
وكأغلب القصص المثيرة فقد استهوت هذه القصة العديد من الرسامين والنحاتين لمعانيها ولما في موضوعها من إثارة تشكيلية. ولربما كانت لوحة جون كولييه John Collierالتي رسمها عام 1897 من أشهر ما عرفناه عن الاعمال التي تناولت قصة گودايڤا ، حيث تقصد كولييه أن يظهر گودايفا وقد كشفت عن جسدها بخجل لكنها آثرت ان تغطي حصانها بإيزارٍ ملكي أحمر.
هناك روايتان حول رد فعل الناس في مدينة كوفينتري التي جرى فيها الحدث: الرواية الاولى تقول أن سلطة المدينة فرضت منع التجول وغلق الأبواب والشبابيك والمحلات أثناء جولة كودايفا لكن مواطنا واحدا اسمه توم اعتقل بسبب استراقه النظر لكودايفا، الامر الذي أدى إلى صياغة التعبير المعروف الآن "توم المتلصص" peeping Tom. أما الرواية الثانية فانها تؤكد بأن مواطني المدينة امتنعوا ذاتيا عن مضايقة الليدي بنظراتهم فأغلقوا أبوابهم وشبابيكهم ومحلاتهم احتراما لها ودعما لقرارها الايثاري.

شوكولاته غوديفا:

تحتفل شركة شوكولاته جوديفا التي تنتج أشهى أنواع الشوكولاته بمرور أكثر من 90 سنة على افتتاحها، و من أجل جعل الاحتفال أفضل قامت الشركة متعاونة مع الفنان الشهير Oil-B بطرح مجموعة ذهبية خاصة لمدة محددة و هي تضم 8 قطع من الشوكولاته المعروفة،        و تأتي كل القطع من القطع المميزة بشكل جميل و مبتكر.
و حسب الشركة فإن كل قطعة من هذه القطع تحكي قصة خاصة، فالقطة التي تسمى Lady Noir تجسد الصناعة الأولى لبيير درابس صانع الشوكولاته الأصلي أما شوكولاته Lait فهي قطعة مصنوعة من جناش القهوة الناعمة و مزينة بشكل ريشة صغيرة و تم اقتباسها من فيلم “ذهب مع الريح” الذي أنتج سنة 1939. أما شوكولاته الحليب بالكراميل السائل Ecusson فهي منقوش عليها رسم لأسد ا بمناسبة اعتماد جوديفا في الديوان الملكي في بلجيكا سنة 1968.


17
أدب / صُداع.
« في: 15:35 04/11/2018  »
  نوميديا جرّوفي،شاعرة، باحثة و ناقدة (الجزائر)


صُداع.

(قصّة قصيرة)

صدمها عندما قال لها:
حبّك أكبر صداع في رأسي..
لم تعرف بماذا تجيب،فقط قررت الانسحاب من حياته بالتدريج حتى تختفي للأبد.
أحسّت أنها عبء ثقيل جدا عليه.
كانت تسأل عن أحواله لأنها تُفكر فيه و تقلق عليه، و لا نية أذية في أعماقها، فقط بمحبة خالصة.
علمتها الحياة دروسا قيّمة استفادت منها و لو متأخرة،لكن على الأقل أصبحت متيقنة أنّ المظاهر خداعة.. و آمنت بمقولة ( ليس كلّ ما يلمع ذهبا).
لم تفهم منه كيف الحبّ يكون صداعا ..
كلمة حفرت في أعماقها ألما دفينا لم تبثّه لغير الربّ الذي ناجته في أعماقها، و طلبت منه أن ينير لها الطريق و يمدّها بالقوة و الشجاعة لتمضي قدما دون أن تلتفت للوراء...
طرحت على نفسها سؤالا حيّرها:
لماذا تتأذّى دائما من أقرب الناس إليها؟
هل طيبتها و سذاجتها السبب؟
لماذا دوما تتلقى الصدمات القوية الفجائية؟
تلك الليلة لم تنم كثيرا و هي تفكّر بحزم هذه المرة.. و صمّمت أن تواصل حياتها وحيدة بعيدة عن الناس، فكرت بالسفر لتنسى كل شيء و تعود لتبدأ حياة جديدة.
حضّرت ما اختارت من ثياب تقيها برد الشتاء و حزمت حقيبتها و طارت حيث لا تعرف أحدا.
وصلت و بعد أيام قليلة أعجبتها تلك المنطقة السياحية الجميلة.. أحست بالراحة و الأمان و أنها خفيفة لا تحمل همّا و لا غمّا..
و يوم عودتها ، اتصلت بأهلها لينتظروها بالمطار.
و أخيرا أقلعت الطائرة و حلّقت في السماء،لكن لم تلبث إلا دقائقا معدودة لتنفجر في الجوّ.. الجميع مات دون استثناء.
حزن عليها أهلها و تمزقت أفئدتهم لأنّهم لم يعثروا على رفاتها حتى ليدفنوها.
سمع ذلك الذي حطّم فؤادها، و تذكر قولها له يوما و هي تسأله:
تعاهدني أننا نبقى معا للأبد؟
فأجابها: عهد..
لكنها اختفت للأبد دون رجعة، و كأنّ الربّ استجاب دعاءها ..
كانت تراه شمعة مضيئة في حياتها و هي تتعلم منه.. لكن فجأة وجدت نفسها في الظلام و النور يُخمد للأبد لتُخمد حياتها بتلك النهاية المأساوية..


18
  نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة،باحثة و ناقدة (الجزائر)


لتبقى على قيد الحياة ستحتاج للمنطق.. ولكن لتشعر بالحياة ستحتاج اللامنطق..


في حالاتنا العاطفية الجياشة كلمة أحبك لا تكفي لتعبر عمّا في أعماقنا ، فهي لا تُعبّر سوى عن جزء صغير جداً مما نشعر به فعلاً و ما لا يُمكننا البوح به.
لذلك ترانا نقولها بهدوء وخوف و نغرق في الصمت، لأنّ مالم يُقال كان أكثر حباً و جنوناَ و حنيناً و شوقا من كلمة أ ح ب ك.
خلف الاهتمام تختبئ كل معاني الحب، ليس كل من قال "أحبك" يهتم لأمرك، بل كل من يهتم بك ..ثق تماماً بأنه يحبك
لا تتركوا مشاعركم حبيسة في دواخلكم.
هذا ما قاله جبران خليل جبران:
إذا أشارت المحبة إليكم فاتبعوها، و إذا ضمّتكم بجناحيها فأطيعوها،و إذا خاطبتكم فصدّقوها.. المحبة لا تعطي إلاّ من ذاتها، و لا تأخذ إلا من ذاتها.
و يقول ميخائيل نعيمه:
المحبة عمياء!!
إن عمى كذلك العمى لهو أسمى درجات البصر، ألا ليتكم عُمياناً إلى حد أن لا تُبصِروا عيباً في شيء.
و يقول شمس التبريزي:
لا تقبل بحياة لا تشعر فيها بالحياة !
و يقول شكسبير:
الاهتمام الكبير أثمن من الحب الكثير.
و أنا أقول:
دعوا قلوبكم في صلاة حبّ دائمة، فالمحبة تُطهّر القلب و تبقيه نقياً لا يعلق به أي سوء.
أوقدوا في قلوبكم للمحبة و لو شعلة
فأنفاس الحياة غداً قد لا تكفيكم..
كما يُقال:مُتْ مُحبّاً لتبقى حيّاً..


19
المنبر الحر / تجليّات روحيّة
« في: 17:16 24/10/2018  »
نوميديا جرّوفي

قصفٌ من الاشتياق
أصابت شظايا حنينه
جسور الفؤاد

*****

هدّئ من روعك أيّها اللّيل
مازالت أزقّتك مزدحمة
لتقاضيني بجنونك

*****

أنت الحديث الدائم بيني و بين نفسي
و أنت الأفكار العابرة
و ألف كلمة لم تقال و لم تُكتب

*****

ضاع عقلي و أدمنتك و أدمنت عشقك
لا فرق بين قلبي و عقلي
ذاك ينبض لك و هذا يُفكّر بك
كلاهما أنت
و لا أعرف أين أنا

*****

أنصت بقلبك لا بأذنك
ثمّةعزف قد يطير بك
إلى سماء الهدوء
ثمّة صوت لا يستخدم الكلمات
أنصتْ إليه...

20
أدب / على الرّمل
« في: 17:38 08/10/2018  »

على الرّمل



 نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة،باحثة و ناقدة (الجزائر)





ذات مرة رسمتك على الرمل
قلبا يحاصرني
لك رسمة في حدود الروح
أحصرها وتحصرني
أما ذاب الرمل؟
أما تبخر البحر؟
أما نطقت أنا؟
أما تنفست وشهقت و عطست؟
لا ترسم على الرمل شخصي
آتيك عدد الرمل
دعوة واحدة و أناديك
وأمشي على الماء و على الهواء
ترسم على الرمل إذن؟
لم الرمل فتنتي و أنا الواقفة في يديك؟
هناك على يمينك وعلى شمالك و بين هواجسك
لحظة اعتراف جارفة
تلك التي نطقت فيك
لغة الشعور
أعرف تلك اللغة التي
لا تعترف بالحروف
لغة تختص بالتشكل و بالحركة و الفعل
على الرمل وعلى الماء وعلى الهواء
ليتك ما رسمت وما شكلت الرمل
كان عليك أن تتشكل لي
أن ترسم طيفك و تنحت في حيزي وجعك
تصقل في ضبابي الفصول
و تسكب أنهار دفئك
وثمار مواسمك
لم الرمل ولم الرسم؟
و أنت المرسوم فيّ و المتشكل بلغتي
لم الرسم و أنت الهارب في الروح؟
لم الرسم و أنت الاسم و الفاعل؟
النحو والصرف و الرسم و الفن
كم أحاول رسمك بالصورة و الفكرة و النظرة
كم أحاول رسمك هناك
و عفريت ما يحملك
يرسمك هنــا شكـلا و حركـة !


21
أدب / هنا و هناك.. حبّ و حزن (1)
« في: 18:30 13/09/2018  »


هنا و هناك.. حبّ و حزن (1)


 نوميديا جرّوفي



في مهبّ الرّيح ترتسم الصّور
في الأفق
على الرّمال
في ضوء القمر
و في سطور الموج أتوه في هذا السّفر
و تميد بي الرؤيا هنا و لستُ أدري
ما الخبر؟
هناك.. بعيدا..
ما بين أسئلتي و الإجابة تنشقّ الثّواني
و يتّسع الغياب
هناك قلبي كرة تشتعل و لم تُقاوم
و حُبّي هو انهيار روحي في هوّة ليس لها قرار
و في شراييني بركان مقهور
هناك ينتعل الخيال حروفي
و لوح محفور بالذّاكرة
فأكتب أحلامي و أشواقي و آمالي
هناك أقدّمك لنفسي و كما أريد
و يفيض موج قلبي في أغصانه
و الرّوح تشرق من يدي
هناك لولا وجودك ما كتبتُ
و لولا وجودك ما نطقتُ
هناك دقّت السّاعة و كان حلما لقاؤك
فلا شيء يتمّ على ما يُرصد له من طقوس
و هنا في داخلي أدمنتُ التخيّل
أراك في داخلي و أسرحُ
أتوه في بهجتي و هي تدغدغ مشاعري و حواسي


شاعرة كاتبة باحثة و ناقدة (الجزائر)

22
أدب / و لَمْ تَعُدْ ..
« في: 17:59 27/08/2018  »
  نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة،باحثة و ناقدة (عراق)


و لَمْ تَعُدْ  ..

)قصة قصيرة(

طفلة في عمرها الملائكي، كانت تنتظر العيد بعد يومين، استيقظتْ صباحا كعادتها، وجدت والدتها و قد حضرت لها كوب القهوة، و السكر ينقصه، أعطتها مالا و طلبت منها شراء بعض الحاجيات من محل المواد الغذائية في الحيّ و من ضمنهم السكر.
قبّلت والدتها و خرجت و هي تضحك ككل طفلة صغيرة.
مضى بعض الوقت و هي لم ترجع! مضت الساعة و لم تظهر! قلق كل من في البيت لهذا التأخر غير الاعتيادي و بدأت التساؤلات..
هنا و في هذه اللحظة الحرجة دخل الأب البيت فطلبت منه الأم ّ التوجّه للمحلّ و السؤال عن ابنتهما.
و هكذا صار.. أخبره أنها جاءت و اشترت و غادرت منذ وقت طويل،فكيف لم تعد للبيت؟
بحث الأب عنها في الشارع،في الحيّ ،فأخبروه أنهم شاهدوها و هي خارجة من الدكّان..
هنا توجّه الوالد لأقرب مركز شرطة و بلّغ عن اختفاء طفلته، فمشّط أعوان الشرطة الشوارع و الأحياء بحثا عنها، و لم يتكاسل أبناء المنطقة في المساعدة على البحث، و لا من وجود لها!!
أين ذهبت؟ كيف اختفت؟ من أخذها؟ أين أخذوها ؟
كيف أخذوها؟ هل هي بخير؟ .... هل سيجدونها؟ هو ذا السؤال المهمّ و الأهمّ..
مضت الساعة تلتها ساعات و حلّ الغروب فاشتدّ القلق و زادت الخيبة من العثور عليها.. قلب الأم دليلها و هي ترتجف خوفا من سوء قد أصاب أو يصيب طفلتها.
هو ذا الظلام ينشر سواده ليلا في قلوب قلقة و الكلّ يبحث مع أعوان الشرطة.. الجميع متكاتفون مثل النحل يبحثون هنا و هناك و لا من أثر لها!!
قرابة الفجر،و الساعة الثانية ليلا، أمسكت الشرطة بأحدهم و هو يُحاول إخفاء كيس بلاستيكي في بستان الحيّ بين النباتات.. كانت الكارثة!! إنها جثتها و قد فارقت الحياة!! و الأغرب أن هذا الأخير كان يبحث معهم طيلة اليوم لإبعاد الشبهات عنه!
قُبض على الجاني بالجرم المشهود و اقتادوه لمركز الشرطة،و هناك اعترف بجريمته الشنعاء..
طفلة في عمر الثامنة تعرّضت للإختطاف و الاغتصاب و ماتت خنقا و هي تُغتصب من ابن الحيّ القاصر ذو السبعة عشرة عام..
جريمة اهتزّ لها الجميع و ارتجف لها الكبير و الصغير و فُجعت أمّ في فقدان فلذة كبدها و أصغر بناتها.
و تدمرت عائلة كلها بصدمة قوية لمقتل شقيقتهم الصغيرة بطريقة بشعة.
طفلة كانت تنتظر فرحة العيد فاختطفتها براثن الموت بيد وحش آدمي ..


23
المنبر الحر / مارش سلاف
« في: 17:02 09/08/2018  »
  نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة،باحثة و ناقدة (عراق)


مارش سلاف

مؤلّفه : بيتر إليتش تشايكوفسكي.


 

أهمّ المميزات الفنيّة في القرن التاسع عشر أنّه قد اتّسم بالموسيقى القومية التي ظهرت في مختلف البلاد الأوربية، و برزت مظاهرها في الدّول الكبيرة كافّة، و ذلك بفضل التيارات القوميّة التي كانت تعصف بنفوس الأوربيين حينذاك، و تجتاح كلّ ميادين الحياة الاجتماعية، و التي استطاعت أن تتسرّب أيضا إلى الميدان الفنّي لتوجد موسيقى وطنية قومية، و قد ظهرتْ نزعة القوميّة واضحة في المدرسة الروسية حيث تألّقت جمعية من خمسة موسيقيين هم:
سيزاركوي، بلاكيريف، ورودين،موسورغسكي و رمسكي كورساكوف.
الذين أخذوا يضعون الألحان الموسيقية مستمدّين عناصرها من الأناشيد الوطنية القومية، و بذلك ظهرت المدرسة الروسية الحديثة و اتّسمت بالطابع الروسي، بعد أن كانت خاضعة في موسيقاها للموسيقى الألمانية و الإيطالية قبل ذلك.

أمّا تشايكوفسكي فلمْ يتأثّر بالطابع القومي السّائد آنئذ، على الرغم من أنّه كان معاصرا لفنّاني المدرسة القومية، لأنّ الموسيقى الأوربية ما برحتْ قويّة الجذور في النّفوس فلمْ يكنْ تشايكوفسكي رجل ثورة فنيّة،  و لم ينتسبْ لتلك المدرسة الحديثة التي تُعتبر في نظره ثورية، و إنّما يُعتبر على الرّغم من ذلك علَمًا من كبار أعلام الموسيقى في العالم أجمع، و قد قال أحد النّقاد: إنّه ليس فنّانا روسيا و إنّما هو روسي فنّان.
و هو يعني بذلك أنّ موسيقاه لا تتّسم بالطّابع الروسي لأنّها موسيقى لا يحدّها زمان و لا مكان.
ولد في مدينة وتكنسك في 07 ماي 1840، و بدتْ مواهبه الموسيقية منذ طفولته،فانصرف إلى تنميتها بالدراسة و تغذيتها بالمران.
نال شهادة الباكالوريا، و درس الحقوق و عُيّن في وزارة العدل، و لكنْ غلب عليه فنّه و عشقه للموسيقى فاستقال من الوظيفة و انتسب إلى معهد سان بطرسبرغ الموسيقي، و قضى فيه مدّة أربع سنوات و تخرّج منه بزادٍ وافرٍ من المعلومات الفنيّة.
اتّجه إلى تألف الموسيقى و تفرّغ لها، و أخذت عبقريّته و نبوغه يتجلّيان،فاشتهر في سائر أنحاء روسيا، ثمّ عُيّن مُدرّسا في المعهد الموسيقي، و تركه ليقوم بجولات فنيّة في أنحاء أوربا، فنال درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة لمبردج في إنكلترا تقديرا لنبوغه و فنّه، ثمّ عاد إلى مدينة سان بطرسبرغ حيث تُرفيّ فيها في 06 نوفمبر 1893.
و قد ألّف تشايكوفسكي الكثير من الألحان الغنائية و المقطوعات الموسيقية منها مارش سلاف، و تمتاز موسيقاه بقوّة التعابير العاطفية،   و روعة النظام الآلي (التوزيع) للمقطوعات الموسيقية.

مارش سلاف:

يبدأ المارش بدقّات مكتومة من الطّبول و وقع أقدام ثقيلة تتبعها الآلات النحاسية و الوترية بالنغمة الرئيسية للمارش، و يُقال أنّها نغمة سلافية شعبية قديمة، و هي تُصوّر في وضوح كما لا تستطيع نغمة أخرى شعب مضطهد يائس لا يستطيع أن يرفع رأسه، و تتناول هذه النّغمة أصوات الأوركسترا المختلفة فتستحيل إلى استغاثة صارخة، و رجاء يائس، فإذا انتهت هذه النّغمة سمعنا نغمة أخرى توحي بالاستعدادات القائمة للحرب، و تعود بعدها النّغمة اليائسة المتوسّلة، و لكنّها في هذه المدّة مُلحّة شديدة الإلحاح إذ تعزفها الأوركسترا كلّها فتستجيب لها نغمة أخرى في خطوات سريعة تُمثّل الكتائب الروسية و هي تُسارع إلى الصربيين،  و هي نجدة مرحلة فيها الكثير من الحماسة، و كلّما تقدّم اللّحن تصوّر المستمع جماعات يتلو بعضها بعضا في حال عسكرية زاهية و في روح معنوية، و كانت الجموع تُحيّيها، و تسود هذه الجيوش و عظمة الدّولة     و قوّتها و شدّة بأسها، فهي أبعد ما تكون عن النّغمة اليائسة الأولى التي تُصوّر الشّعب الصربي مُستنجدا مستغيثا.
و ينتهي المارش بنغمة سريعة متلاحقة يصحبها السّلام الوطني، و كأنّه نبوءة النّصر.







24
المنبر الحر / عروس الشرق .. بغداد
« في: 16:50 07/08/2018  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة (عراق)

عروس الشرق .. بغداد

 
صدر للأديب للعراقي المغترب الأب يوسف جزراوي كتاب عروس الشرق بغداد ، الصادر عن دار تموز ديموزي عام ٢٠١٨
الكتاب من الحجم الوسط يقع في ٢١٢ صفحة من الحجم الوسط.
هي مكابدات ومناجاة ولواعج ونصوص نثرية وخلجات مغترب عن مدينة كانت مسقط راسه ومرابع كهنوته لم تزل ترسو في ميناء قلبه.
قدم الكتاب حمدان طاهر المالكي و سلام دواي وغيرهم.

يقول ابراهيم صموئيل:
مُعظم الدراسات التي تناولت موضوع الهجرة، رسمت إطارا نمطيّا ساكنا للمهاجرين بدوا داخل محدّداته غُرباء، مُعلّقين على جدران المنافي بلا لون و لا انتماء و لا انسجام.

و يقول محمود درويش:

نسيتُ أنّ الليل طويل ..
و من حُسن حظّك
تذكّرتك حتّى الصّباح.

للغُربة أوجاع، لا يعلم بها إلاّ من عاشها.. هذا ما نتلمّسه في كتابات الأب الأديب يوسف جزراوي في ( بغداد عروس الشرق) الذي كتب عن بغداد بقلبه و روحه و دموعه التي كانت الحروف مُجسّدة شوقه لأرضه الأمّ، حنينه لنسيمها العليل، حلمه أن تعود لسابق عهدها كما يتذكّرها طفلا و هي تزهو بجمالها       و أمانها و استقرارها، ذكرياته عن ذلك الزّمن الجميل فيها كما بقيت مرسومة في خياله و عقله.
هي بغداد التي قيل فيها:

أ بغداد لا أهوى سواكِ مدينة
و ما لي عن أمّ العراق بديلا

و يبقى الوطن وطن مهما زاد فيه الألم.. و تبقى الغربة كربة مهما ارتقى فيها السّكن.
هذا ما نُحسّه من ديوان الأب يوسف جزراوي الذي كتبَ عن أوجاع غربته و ألمه بعيدا عن بغداد التي جسّدها ككائن حيّ    و عروس الشّرق و سيّدته الجميلة بثقافتها و تاريخها العريق      و أدبها.

ففي كتابته:

الشّمسُ كانت نائمةً في ذلك الصّباح
أشعّتها مُبلّلة بالمطر
رياحٌ خجولةُ تهبّ هنا و هناك لعلَّها تُفتّش عن سندباد

إنّه هو السندباد المهاجر الذي يبحث عن شمس تُشبه شمس بلاده بأشعّتها و حرارتها و لطفها و ضياءها الجميل الذي يفتقده الأب يوسف جزراوي و هو بعيد كلّ البعد عن وطنه الأمّ و هو في أقصى مكان من الأرض حيث يعيش في أستراليا.

و في كتابته:

من منفى الأوطان أبلّل قلمي
تارة بجرح الغربة
و تارة بنزيف الوطن المصلوب
أخفي خلف الأجفان دمعة حزنٍ

كيف لا ينزف قلمه بنزيف الوطن الذي نُهب و سُرقت خيراته      و بات خرابا بعد أن كان في عزّته أيّم مجده و هيبته.
في غربة عن أهل.. عن أحبّة.. عن وطن نصمد لحظة ..    نتهاوى لحظات.. نبتسم وهلة.. و نبكي لأيّام..
هي ذي دموع الكاتب هنا بحروف و كلمات يُجسّد بها نزيف قلبه الموجوع عن وطنه.

و في قوله:

قلبي الذي يُمسك بذراع الأمنيات
لا زال يحمل في رحم الأعوام محطّات
أعرفها و تعرفني و يقيني أنّنا سنلتقي في يوم ما
في وطن جُبلتُ من ترابه
صدق الأب يوسف جزراوي، ففي الغربة لا تستطيع أن تدّعي امتلاكك لشيء، أنت لا تملك سوى حلمك.
و حلمه هو العودة لبغداد الجميلة بتلك الأمنيات التي ما يزال يحتفظ بها في عقله الذي لا يرى سواها.
و كلّما نتوغّل في كتاباته التي تحمل في طيّاتها أوجاعا و أحزانا و آلاما و أنينا لا يسمعه إلاّ من يفهم تلك الكلمات الحزينة تارة   و الدامعة تارة و الباكية تارة أخرى.
هي الغربة و المنفى.. هي الوطن.. هي بغداد .. هي العروس بثوبها الزاهي.. و جمالها العراقيّ الذي تتباهى به على مرّ العصور.. هي عروس الشرق و ستبقى للأبد، لأنّها أمّ الحضارات.
مناجاة لوطن بعيد.. مكابدات لألم فراق.. جسّدها الأب يوسف جزراوي بكتابات أدبية و نصوص نثرية تارة و شعرية تارة أخرى تلمس القلب و الروح و الوجدان لجماليتها و عمق معناها الأدبي و الإنساني في حبّ الوطن مهما يبقى الغريب منفي في أرض لا ينتمي إليها كما هو الأب يوسف جزراوي الذي بقي قلمه نابضا مُتحسّرا على عروس الشرق بغداد التي كتب عنها الكثير بحبره البغداديّ و أبجديته العراقيّة الرّوح و المنتمى.



25
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة


الورشة في احتفال .. l'atelier en fête

   

   

شهد يوم الخميس 26 تموز 2018 أمسية فنية راقية  بعنوان (الورشة في احتفال) أشرف عليها المعهد الدولي للغات الأجنبية و المايسترو خليل بابا أحمد،و بحضور عائلات تلمسانية  في جلسة موسيقية جميلة في بستان المبدعين، أبهجت مسامعنا قدّمها لنا تلاميذ ورشة بابا أحمد.
الجميل أنّ التلاميذ في ظرف ثمانية أشهر فقط قدّموا عروض موسيقية جميلة جدّا، كما استطاعوا أن ينسجموا حتّى في تكوين فرقة عزف من خلال أغنية ( خلوني) و ( يا زينة) وسط تشجيع و مشاركة الحضور معهم الغناء و التصفيق.
في البداية استمعنا لأصغر عازف البيانو في عمر السابعة أمتعنا بقطعة موسيقية كلاسيكية للموسيقار العالمي ولفجانج أماديوس موزار.
ثمّ استمتعنا بعزف الجميع، كلّ مجموعة على حدا من كمان و عود ثم مرافقة بعضهم البعض في العزف و انسجام الآلات في بعض القطع الموسيقية التي تجمع بين العود و الكمان،أو الكمان و البيانو و الآلات الشرقية كما استمعنا لأصغر عازف كمان ابن المايسترو خليل بابا أحمد ،مختار الذي أبدع في مرافقة والده في ديو عزف رائع على آلة الكمان.
تلاميذ الورشة قدموا لنا سهرة تلمسانية راقية، كل هذا بفضل إصرارهم الرائع و جهود الأستاذ عازف الكمان و المايسترو خليل بابا أحمد.
و وسط الحفلة و تشجيعا لصغار ورشة المسرح للغة الفرنسية الذين بدأوا تعلّم اللغة و في ظرف شهر استطاعوا أن يُقدموا لنا مسرحية النملة       و الصرصور (la cigale et la fourmi) و أغنية (un éléphant qui se balancer) و تمّ تكريمهم في الأخير تشجيعا لهم، كما تمّ تكريم بعض المتفوقين في شهادة التعليم الابتدائي.
الجميل في الحفل الموسيقي إبداع الموسيقيين المحترفين في اللحظة التي رافقوا فيها المايسترو خليل بابا أحمد في العزف لمؤلفاته التي أطربت مسامع الحضور.
و لا ننسى أن نذكر مشاركة الممثل الكوميدي وليد صديقي و هو يُبهج الجميع و يُضحكهم بما قدّمه فزاد الأمسية رونقا.
كانت أمسية فنية موسيقية جميلة و رائعة أتمنّى فيها النجاح و التألق والإبداع للعازفين في مشوارهم الفنّي هذا،و شكرا للمايسترو خليل بابا أحمد و مدير المعهد الدولي للغات الأجنبية لهذه الأمسية الراقية.


26
  نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة،باحثة و ناقدة (عراق)


التّاريخ يُعيد نفسهُ.

قيل أنّ التاريخ لا يُعيد نفسه و وحده الإنسان من يُكرّر غباءه.
لكن اليوم و وسط مظاهرات العراق من طرف أبنائه الغيارى على الوطن.
من خلال إنتفاضة ثُوار و أبطال يُنادون بالإصلاح و يُطالبون بحقوقهم من حكومة نهبت خيرات الوطن و لم تُحقّق لهم أبسط الأمور من كهرباء و ماء.
العراق الغنيّ بالنفط و المواد الأولية، شعبه لا يملك كهرباء!! و نحن في عصر التكنولوجيا الحديثة، الشعب العراقي محروم من هذا الحقّ الأبسط من بسيط بالنسبة لنا.
أكبر مشكلة لا يتصوّرها العقل البشري، أنّ الشعب العراقي محروم من توفّر المياه و قلّتها.. كيف لبلد ما بين النهرين أن يُعاني من قلّة المياه؟!
هل يتصوّر العقل البشري أنّ نهر الفرات جفّ بسبب الحكومة الفاسدة؟ تلك التي نهبت الوطن طيلة ١٥ عاما و ازداد البلد خرابا من سيء لأسوأ.
اليوم وسط هذه الانتفاضة التي عمّت كل العراق للأسبوع الثاني دون كلل أو ملل أو خوف أو ترهيب رغم رصاص الميليشيات و المندسين و الفاسدين الذين حاولوا و يُحاولون تخريب مظاهرات ثوار شباب انتفضوا غاضبين مندّدين بالفساد و الظلم و الاستبداد و كذا الوعود الكاذبة من الحكومة و الأحزاب السياسية الفاسدة.
شعب يريد إبعاد الأحزاب السياسية الإسلامية عن البرلمان،لأنها السبب في دمار العراق.
التاريخ يُعيد نفسه حقيقة اليوم، فشباب الانتفاضة اليوم هم امتداد للشباب الشيوعيين في السبعينيات، كلاهم يُطالبون بالمساواة بين الأفراد و العدل.
ثمّ ما معنى المطالبة برمي الأحزاب السياسية الإسلامية خارج الحكم؟! إنّ هؤلاء الشباب و الثّوار يُنادون بالعلمانية و فصل الدين عن السياسة.
الشعب العراقي تشتّت بسبب الطائفية و السنة و الشيعة.
كفانا إراقة الدماء الطاهرة البريئة، فنحن لا نريد مجزرة سبايكر جديدة.
قالوا عن الانتفاضة إنّها ثورة الجياع.. لا إنّها ثورة الأبطال الثوار، فالجياع هم السياسيين الذين سرقوا خيرات الوطن و ما شبعوا رغم التّخمة التي وصلوا إليها بينما الملايين من الشعب يعيشون حالة فقر مدقع و لا يجدون قوت يومهم.
التاريخ يُعيد نفسه بنفس بشاعة تعذيب البعث الفاشي أيام المقبور، هذا ما شاهدناه و نُشاهده من صور تعذيب المتظاهرين الذين اعتُقِلوا،و هناك من مات تحت وطأة التعذيب بدون جرم ارتكبه سوى أنّه رفع صوته عاليا مطالبا بعيش كريم و وطن اسمه العراق.
هل تُعتبر ْالمطالبة بالحقوق الوطنية المسلوبة و المنهوبة جريمة يُعاقبُ عليها؟!
أوليس التّاريخ بُعيد نفسه و السّجون امتلأت بخيرة شباب العراق بعمر الزّهور كما حدث مع المنتمين للحزب الشيوعي زمن البعث في الستينات و السبعينات؟
التاريخ يُعيد نفسه و شباب في عمر الورد غدرت بهم رصاصات مندسّين   و فاسدين فانتهتْ حياتهم وهم يلفظون أنفاسهم بين أيدي أصدقاءهم.
ها هو التاريخ يُعيد نفسه بمثل هذه البشاعة في القتل كما زمن المقبور. أو ليست أغلب أراضي العراق مقابر جماعية في ذلك الزمن الكابوسي اللامنسي؟
ها هو ذا الأمر يتكرّر بطريقة جديدة فوسط المظاهرات السلمية سيارة هامر تجري بأقصى سرعة لتدهس الجموع كما حدث في السماوة و رشّ المتظاهرين بخراطيش المياه الحارة وسط جوّ حارّ لاهب إضافة للقنابل المسيلة للدموع بالبصرة و النجف و كربلاء و غيرها من محافظات العراق خلال الأسبوعين. و كلّ هذا لم يُردع شبابنا عن التوقّف.
لا ننسى الشيخ الحامل للوحة ابنه الشهيد و هو يقف في وجه تلك السيارة، فكانت نهايته رشه بالمياه حتى أصبح لا يظهر، و كادت تدهسه مع الأسف الشديد، و لم يحترموا لا سنّه و لا شيخوخته و لا صورة ابنه الشهيد الذي قدّم روحه للوطن.. إلى أين هم سائرون؟
15 سنة و الحكومة من فشل إلى فشل.
15 سنة وما عرفت تحلّ مشكلة الكهرباء.
15 سنة وما بنيت الحكومة سد واحد يحمي العراق من العطش حتى قطعت تركيا على العراق كلّه السدّ.
15 سنة والعراق دون الصفر بكل شيء على مستوى العالم لماذا؟
15 سنة و الحكومة تمصّ و تمتصّ دم العراق لآخر شريان متبقّى بها.
15 سنة وكلّ إنجازها أنّها بفضل الأحزاب السياسية الإسلامية قسّمت العراقيين إلى سنّي وشيعي وعربي وكردي والسّنة صاروا سنن والشيعة صاروا شيع.
15 سنة وما عرفت أنّه أكبر محطة كهرباء ممكن تغطّي ضعف حاجة العراق ما تكلّف ربع اللي سُرق و نُهب من الوطن.
15 سنة وما جرّبت الحكومة أن تجد محطة تحلية واحدة على مياه الخليج و بيدها المليارات.
15 سنة مُزّق المجتمع سنة وشيعة و قُضي على الثّقة بين الناس.
15 سنة نشرت الكراهية والحقد والثارات بدل المحبة والتعاون.
15 سنة لا أمان ولا عمل ولا عدل و لا مساواة.
15 سنة لا تعليم ولا صحة ولا طرق ولا مواصلات ولا سدود ولا ماء صالح للشرب.
15 سنة مليشيات وخطف وقتل ونزاعات وفصول عشائرية.
15 سنة ضُيّعت هوية العراق.
و بعد الخمسة عشرة سنة ثار الشعب يُطالب بحقوقه فغضبت الحكومة أو ليست هناك ديمقراطية و حريّة التعبير أو إنها حبر على ورق؟ هل هي انتهاج خطّة: إذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب؟
هو ذا الشعب العراقي.
هو ذا الشباب العراقي.
هي ذي إنتفاضة العشرين من تموز 2018 .
هو ذا تموز المجيد الذي ستُحفر أحداثه في أوراق التأريخ العراقي للأجيال القادمة ليعرفوا أنّ هناك من ثار لأجل عيشهم الرغيد.
أنّ هناك من رفع صوته عاليا لأجل أن يحيا شعب في كرامة.
ليعرفوا أنّ هناك من ذاق أشدّ أنواع العذاب لأجلهم.
أنّ هناك من دفع روحه فداءا لهم.
أنّ هناك من ثكلت أمّه لأجلهم.
أنّ هناك من تيتّم أبناءه لأجلهم.
أنّ هناك من ترمّلت لأجلهم.
كلّ هذا لأجل وطن اسمه العراق..


27
أدب / صدفة غريبة
« في: 14:26 09/07/2018  »
  نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة،باحثة و ناقدة (عراق)


صدفة غريبة.


 ( قصة قصيرة)

بعد سبعة أعوام قررت العائلة أن تذهب لتلك الحديقة العامة الجميلة بهوائها النقي و ظلال أشجارها.
تهيّؤوا للخروج و لم يُخبرها أحد عن وجهتهم، و هي نفسها لم تسأل، فأينما يذهبون سيمضون وقتا جميلا.
في الطريق و هي في السيارة، تفاجأت بوجهتهم حيث حديقة عشقت جمالها منذ زمن بعيد، و ابتسمت و هي تتذكّر كيف التقت بذلك الفتى الهادئ، و كيف صارا صديقين بعدها.
غريب!! أحسّت أنها تعود الماضي قبل سبع سنوات تلك اللحظة، شردت لفترة قصيرة و هي تستعيد شريط الذكريات.
بعد ساعة وصلت العائلة، و أول من نزل من السيارات الأولاد و هم فرحين، وقفت مُتفحّصة المكان بدهشة.. كل شيء على حاله منذ سنوات! حتى العوائل الموجودة هي نفسها التي كانت ترتاد المكان.. أخذت لها كرسي في مكانها المفضل و هي تراقب الجميع من بعيد و تراقب الصغار و هم يتسابقون، و فجأة لمحته قادما من بعيد بمشيته المعتادة.. غريب حتى هو لم يتغير!!
كان يبحث عن مكان يجلس فيه، مرّ قربها مرّتين و لم ينتبه لها، أحسّت هي بحزن عميق و لم تنبس بكلمة، شعرت بكآبة بعد أن كانت سعيدة بوجوده هناك، كيف لم يرها؟ ألم يتعرّف عليها هو الآخر؟ هل نسيها؟ هل تجاهلها عمدا؟ هل تغيّرت ملامحها لهذه الدرجة؟
وسط تساؤلاتها تلك و هي حيرتها منفصلة عن الجميع، اقترب منها قائلا:
مرحبا بك من جديد، يا المفاجأة!! لم أشاهدك منذ سنوات.. أي مفاجأة جميلة هذه؟! مررت بأهلك و سلمت عليهم.. كيف حالك؟
ابتسمت و ردت التحية، و شكرته لأنه مايزال يتذكرها.
اغروقت عيناه بالدموع و هو يراها في ذلك الكرسي المتحرك بعد أن كانت في أوج صحتها، وهي الحيوية.. صُدم و لم يُصدّق عينيه .
مسح دمعته و هو يسمع حكايتها الأليمة و كيف نجت بأعجوبة من الموت في انقلاب حافلة الجامعة قبل سنتين لتبقى مقعدة للأبد بسبب تمزق أعصاب الفخذين و بتر رجليها.


28
  نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة، باحثة و ناقدة (عراق)
عندما يثور قلم الشاعر خلدون جاويد

الشاعر القدير خلدون جاويد شاعر عراقي مغترب يعيش حاليا بالدنمارك،ولد في 25 نيسان 1948 وقيل في 1947 في سدة الهندية التي تتنقل إداريا ما بين كربلاء وبابل، والدته من بابل – ربة بيت - ووالده من بغداد، موظف تنقل بين محافظات الجنوب حتّى استقرّ في بغداد.
أنهى مراحل الدراسة وأكمل الجامعة عام 1973، فرع اللغة الإنجليزية في كلية الآداب " كلية اللغات الملغاة ".
بدأ كتابة الشعر منذ عام 1964 وفي 1966 بدأ ينشر في صحف بغداد باسم خلدون الموالي، الصحف هي: المنار و الجمهورية و ملحقها الأدبي و الشعب ومجلات مثل الإذاعة والتلفزيون والأجيال لإتحاد المعلمين والمتفرج .
ترك فكرة النشر في الصحافة بعد 1968 لكنّه كتب ونشر باسم خلدون جاويد في طريق الشعب وحاول جهده أن لا يظهر كإسم في مجال الشعر أو سواه في تلك الفترة .
في 1978 غادر العراق على أمل أن يعود له لكن العام القادم سيكون قد مرّ 36 عاما على غيابه القسري منه لتوالي التراجيديات عليه .
بدأ التطواف المضطر عليه من أول محطة هي بلغاريا لقرابة عام ومن ثمّ الجزائر لتسعة أعوام. ودمشق لفترة ما، وموسكو لثمان أشهر، والدانمارك منذ 1991. زار العراق لشهر في نوفمبر عام 2003 .
كتب في كل هذه المراحل شعرا وقصة ونقدا ورواية وخواطر.. إلخ.
لديه الآن بحدود 15 – 20 مخطوطة تنتظر الطبع.
حصل على شهادة الماجستير من الجامعة العالمية للعلوم الإسلامية في لندن قبل عامين من الآن. لم يستفد منها في التعيين الذي تأمله في بغداد مدينة أحلامه ! . الآن هو متقاعد و متفرّغ للكتابة.
مؤلفاته المطبوعة:

–   كتابة على صليب وطن شعر .
–   شكرا من الكامب شعر .
–   البقايا . شعر .
–   لماذا هجوت الجواهري ورثيته . مذكرات .
–    قم ياعراق . شعر.
–   " هذي العمائم لاتطاق ُ ... جرب ٌ اُصيبَ به العراق ُ". شعر .
–   " قم ياعراق فقد تناهبك الوبا ". شعر .
–   " قسما بنهدك والقميص الأحمر ِ " . شعر .
–   نصبوا المشانق للمطر . شعر .

و أنا أتجوّل بين كتابات الشاعر خلدون جاويد ، اخترتُ باقة جميلة من بستان كلماته أقدّمها للقارئ في مزهريات يفوح منها العبق الخلدوني العراقي الأصيل، بها أكاليل الورود الحمراء رمز الحبّ و الشيوعية         و النضال و اليسار .



يشيبُ الرأس، و القلب شابٌّ لا يشيبُ هذا ما حاول أن يشرحه لنا الشاعر خلدون جاويد في قصيدة (يوم لا أعشق أموت):

أنا مُريدكِ
الجوع سؤلي
و الظمأ وجهتي
و السهاد ديدني
و صلاة الروح مرادي
ماذا أريد من دنياي سوى تراب يتكلم
بغيتي إنسان و لو من حجر ناطق
و له قلب يخشع معي
و عين تناجيني
سوى عشق لا أريد.
أنا سكير عشق
أين خمرتي؟
أنا خمار هوى
أين من تلوّعني التياعا؟
أنا مدمن حبّ
يوم لا أعشق أموت

الشاعر  خلدون جاويد لا يكتب عن الثورة و الشيوعية فقط، إنما يكتب عن الحبّ أيضا، كيف لا و هو شيوعي يحترم المرأة و يدافع عنها ضد العنف و الظلم الشرقي.
الشاعر هنا يصف نفسه بالمريد في العشق الروحي و الهوى كما قال السهروردي:

و ضلوعي لها هواك ضلوعا
بل و قلبي له المحبّة قلب
 
شاعرنا خلدون جاويد يقول:

أنا سكير عشق
أين خمرتي؟
أنا خمار هوى

الحبّ هو تحليق الإدراك إلى أعلى مدى، إلى ما وراء المادة و ما وراء الجسد في اللحظة التي تفهم فيها الحب كشيء فائق، أو كشيء يتجاوز الحدود الطبيعية، حين ذلك لن يعود الحب سؤالا أساسيا.
إنّ السؤال الأساسي، هو كيف تتجاوز الجسد؟ كيف تعرف شيئا يعيش فيك و هو يتجاوز كلّ شيء.. يتجاوز كل المقاييس ( أوشو)
يقول ميخائيل نعيمة:
لولا الحب ما تذوّق الإنسان سعادة الوجود، و لا انتشى بخمرة الحياة.
القلب العاشق لا يعرف المستحيل، و للقلب العاشق كل الأشياء ممكنة، مثلما قال جلال الدين الرومي: نحن أبناء العشق.. لا ننتمي إلاّ إليه.


و في قول الشاعر خلدون:

أنا مدمن حبّ

و كأنه يقول: و لا مطلب لي.. إلاّ الذي يرضى به الحبّ.

و في قوله:

يوم لا أعشق أموت

ذكّرني بقول أبو يزيد البسطامي:
شربتُ الحبّ كأسا بعد كأس.. فما نفذ الشراب و ما رويتُ.
و هنا الشاعر خلدون جاويد يؤكّد لنا أنّ العشق هو ماء الحياة.

يقول الشاعر خلدون في قصيدة (يا حزبي الرائع يا حمامة السلام) التي كتبها في 2013:

يا حزبي الرائع يا حمامة السلام
في زمن الصقور
جميعهم مدجّجون بالكواتمْ
و أنت لا تملك إلاّ الحبّ
و الطيبة و الكلام.
الشاعر خلدون جاويد يتحدّث عن الحزب الشيوعي العراقي، و يخاطبه:
" يا حزبي الرائع يا حمامة السلام" لأنه نشر و ما يزال ينشر المحبة بعيدا عن الكراهية و الحقد و البغض و الطائفية.
كما كتبت أنا يوما :
" الشيوعية ليست دينا، لذا هي لا تُقدّم بديلا للدين.
الشيوعية هي آلية لتحقيق المساواة و العدالة الاجتماعية.
الشيوعية ليست إلحادا كما قال الكثيرون.
الشيوعية ترفض كلّ سلطة تُهيمن على الناس و تسلبهم كرامتهم     و لقمتهم باسم الدين".
و يقول أحدهم:
لا تخش صوت الرصاص، فالرصاصة التي ستقتلك لن تسمع صوتها.
وحدهم الغدّارين من يملكون كاتم الصوت في مسدساتهم لينهوا حياة الشيوعيين الذين يُهدّدون راحتهم و أمنهم، لا لسبب معيّن أكثر من كونه شيوعي مثقّفا واعيًا ، يعمل على إيقاظ العقول النائمة من سباتها.
الحزب الشيوعي العراقي قدّم الكثير للوطن و ضحّى بخيرة شبابه       و أبنائه الذين ذاقوا ويلات العذاب و الألم في السّجون زمن البعث.
هو الحزب الذي لم يخش شيئا رغم التّهديدات التي حصل عليها المنتمون إليه من أبناء العراق، لقد كان الشّبح المرعب للوحوش الآدمية و كذلك للصنم في ذلك الزّمن الكابوسي الذي لا يُنسى أبدا.




و من نفس القصيدة يقول:

يا حزبي
يا سومريّ الصبر
إنّ شعبنا
منذ ثمانين عامْ
قد ظلّ في فراش سجنه مستلقيا
و بالشعارات مخدرا
يقرأ عن ماركس
و لينين
و جيفارا العظيم
حتّى نامْ

هنا عاد بنا الشّاعر للوراء بعجلة الزّمن متحدّثا عن صبر مؤسّسي الحزب الشيوعي العراقي الذين عاشوا تحت وطأة التّهديد و التّرهيب   و التّخويف بعد اغتيال الزّعيم عبد الكريم قاسم و سلام عادل، و ذكّرنا بمؤسّسي الحزب الشّيوعي العظماء (ماركس و لينين دون نسيان الثائر و المناضل الخالد جيفارا).





و الشّاعر خلدون جاويد قدّم لنا شرحا وافيا من خلال قوله:

قد ظلّ في فراش سجنه مستلقيا
و بالشعارات مخدرا

تحمل في ثناياها عذابا و ألما و ذكريات سيّئة جدّا لا تُنسى.
لكن الصّبر كان يأتي بشعارات ماركس و لينين و جيفارا التي كانت تُعتبر بلسما شافيا و معالجا للشّيوعيّين و هُمْ في سجون البعث بين أيدي الوحوش الآدمية.. تلك الشّعارات كانت تجعل الشّيوعيين الأبطال         و المناضلين ينامون رغم ألم العذاب بتهويدة تلك الأقوال العظيمة التي ستظلّ محفورةً في أعماقنا نتغنّى بها وننقلها للأجيال القادمة.   

و يقول الشاعر خلدون أيضا:

و هل يكفّ لصّ يرتدي التقى
و فوق رأسه عمامة
و يدّعي الإسلامْ
رؤوسنا يا سيدي تساقطتْ
تدحرجت مثل كرات
تحت أقذر الأقدام



نحن نعرف حقّ المعرفة أنّ رجال الدّين و الأثرياء لا يُخاطبوننا باسم الدّين إلاّ ليستغلّونا (لينين).
هذا ما اعتدنا رؤيته في عصرنا الحالي من لصوص المنطقة الخضراء وتلك العمائم الزائفة، بفتاوى مختلفة ، حتّى اختلط الحابل بالنّابل بسببهم، و نشأت طائفية تسبّبت في إطاحة رؤوس بريئة لا علاقة لها بالدّين سوى انتمائها الشّيوعي.
حيث صدرت فتاوى تُحلّل قتل الشيوعي بصفته ملحدا أو كافرا بالدّين.
على أيدي قذرة ملوثة بعار القتل و إراقة دماء بريئة لا حول لها و لا قوّة.
يقول ابن سينا:
" بُلينا بقوم يظنّون أنّ الله لم يهْدِ سواهم".
و من الصّعب هزيمة شخص لم يهزمه اليأس من داخله.

من قصيدة ( لا بدّ من قتل الشيوعيين) يقول:

أليس من يدافع عن حقّ الإنسان يالخبز يُقتل؟
هذا قانون
و الشيوعيون هم منذرون لهذا الدفاع
فهم قرابين قتل
معادلة رياضية.. أين الغرابة؟
و كذلك الدفاع عن حقوق المرأة و نور العلم



يقول أحدهم:
علّموا أولادكم الصّدق و الصّدق يُعلّمهم كلّ شيء.

قال نزار قباني:
يا وطني الحزين، حوّلتني بلحظة من شاعر يكتبُ شعر الحبّ و الحنين لشاعر يكتب بالسكّين.

لكثرة الوعي الذي ينشره الشيوعي المثقّف في الوطن، و نشر المعرفة بين أبناء الشّعب مُناديا بالمساواة و العدل، مدافعا عن حقوق المرأة التي أُهينت في المجتمعات الشرقية، هي المرأة  و الموءودة    و المسلوبة  الحقوق و المحرومة حتّى من إبداء رأيها أو المدافعة عن نفسها، هي من قال عنها الثائر جيفارا:
علّموا أولادكم أنّ الأنثى هي الرفيقة، هي الوطن، هي الحياة.
 الشيوعي لأنّه ينادي بالمساواة و التّخلص من الرأسمالية و الطبقية  أصبح دمه حلالا و لا بُدّ من قتله لأنّ أفكاره خطيرة على السراق         و اللصوص،يقول جيفارا:
منحاز أنا للفقراء.. إلى ذلك الحدّ الذي جعلني أتعامل مع الأغنياء على أنّهم مذنبون.

و يقول في نفس القصيدة:

الشيوعيون أجدر بالقتل من سواهم
هم المحرضون على الكهرباء
أي على "العقرباء"
و القصد الدفع إلى الفتنة
يريدون إعادة النور لمصابيح البيوت و المدينة
هذا وحده حرب أهلية

الشيوعيون دوما معارضون لكلّ ما يمسّ الشّعب و يقلق راحته، وحدهم من يرفعون الرايات الحمراء في ساحات التّحرير، رافعين أصواتهم عاليا جدّا، وحدهم من يزعزعون راحة اللص المتخفّي و وحدهم أصحاب الكلمة العادلة.
يتّهمونهم بإشعال الفتن و التّحريض على الفوضى حتّى ينفضّ الشّعب عنهم، لكن العكس، يقول بلال فوراني:

في أوطاننا
نسينا الكهرباء و صرنا نعيش على الشّموع
نسينا الماء و صرنا نشرب من أيّ نهر أو ينبوع
نسينا المستقبل فقد صار أسخف و أتفه موضوع
في أوطاننا
لم يعد هناك جائع لا يأكل
فقد صارت النّاس تأكل بعضها البعض من الجوع.

من يحرض على الفوضى إذن؟ هل هو الشّيوعي أم ناهب حقّ المواطن؟
صدق لي كوان بو حين قال:
عندما يسير اللّصوص في الطرقات آمنين، فهناك سببان: إمّا النّظام لصّ كبير أو الشّعب غبيّ أكبر.
و لهذا صوتُ الشيوعي في ساحة التّحرير يُعتبر فتنة، كيف لا و هو يُحرّض على الاستيقاظ من سبات عميق؟

و في قصيدة ( ذا فاسد يمضي و يأتي أفسدُ) يقول الشاعر خلدون:

ذا فاسدٌ يمضي و يأتي أفسدُ
و الفأر في جنباتها يستأسدُ
يا للعراق – القلبُ أبيض طيبٌ
في عمقه – لكن حظّه أسودُ
فيه المفكّر مقعدٌ و مهمّشٌ
و الفيلسوف به غريب مبعدُ
الحرّ فيه مصفّد و مكبّل

قال نيلسون مانديلا:
عندما يسكت الحكماء، يتكاثر الحمقى.
فمن عثر على حجر و عاد إليه، كان اللّوم و العتب عليه.
كثرة الأحزاب الفاسدة صارت داء لا دواء له سوى بالتّخلص منها نهائيا    و للأبد برفع شعار (المجرّب لا يجرّب) مثلما صار في آخر الانتخابات بالعراق التي كانت في الشّهر الخامس.
يتكاثر الفاسدون مثل بكتيريا أو فيروس ليُصيب النّاس بمرضه، لكن في يومنا هذا هناك المثقّفون و من يملكون الوعي. ليس كالسّابق في الأعوام الماضية، حيث كان المتظاهر يُسجن أو يعذّب أو يُقتل ليُطمس ويكون عبرة لغيره، فيخاف الكثيرون و ينتهجون مبدأ (صمٌّ، بُكمٌ، عُميٌ).

يقول المثل:
لا تحزن أيّها الأسد.. فهذا زمن أصحاب القرون..
لكن اليوم انقلبت الموازين، حيث انقشعتْ سلبيات تلك الأحزاب          و أهدافها المدمّرة للشّعب فانفضّوا عنها و تركوها لمهب الرّيح.
في العراق اليوم زاد وعي الشعب فمعظم شباب اليوم يبحثون عن العلمانية و فصل الدّين عن السياسة، عراق اليوم أبعدَ الأحزاب الدينية و لم يعطها صوته.
في العراق، المُفكّر يعتبر مثيرا للفتن ،و الفيلسوف كافرا و ملحدا، و من ينادي بحرية الفكر يُكبّل بالأصفاد و يُغيّب في السّجون.
و اليوم الشّعب لم يعد يخاف، فساحة التحرير أصبحت تجمع صوت الشّعب باللافتات المندّدة ضدّ الفساد دون خوف و لا ترهيب و لا تخويف.
لافتاتٌ تُطالب بحقوق الشّعب و المواطن البسيط و المتقاعد و أبناء الشّهداء و السّجناء السياسيين الذين ذاقوا الويلات، و منهم من حمل آلاما كابدها بسبب التّعذيب حتّى وافته المنية، و منهم من مازال يحمل آثار التعذيب ليومنا هذا في جسده.

و يقول أيضا:

يا موطن الشّهداء بل أيتامه
مهلا فمعظمنا، غدا يستشهد

الشّهيد نجمةٌ في السّماء و اسمٌ مجهول في الأرض.
العراق أكبر موطن للشّهداء، إنّها الأرض المرتوية بدماء أبنائها الطاهرة.
الأرض الأمّ التي احتضنتْ تربتها خيرة أبنائها بعمر الزّهور، ناهيك عن الأطفال الصّغار.
لا ننس أنّ أغلب أراضي العراق عبارة عن مقابر جماعية مازالت مجهولة ليومنا هذا من أيّام البعث.
الشّاعر خلدون جاويد يخاطب أرض العراق بــ: " يا موطن الشهداء بل أيتامه"
و صدق الشّاعر في نهاية الجملة، لأنّ العراق ملئ بالأيتام الذين فقدوا آباءهم بسبب الحروب و التّفجيرات المفاجئة التي جعلتهم يتيمي الأب و الأمّ معا.
صغار ذاقوا ألم  اليتم ، الحزن ، ظلم المجتمع ، تشريد، فقدان ذلك السّقف الذي كان يأويهم.
أغلب أطفال العراق ولدوا كبارا لأنّهم يحملون هموما كبيرة تفوق سنّهم بأضعافٍ مضاعفة، ففي داخل كلّ إنسان نعرفه، إنسان لا نعرفه.

و في آخر القصيدة يقول:

آمنتُ بالشعب الذبيح بدمعه
أنْ سوف ينعدم الطغاة و نوحد
قسما بنخيلك يا عراق سننتمي
لهلال نصرك بالفدا نعيّد
درب التحرّر بالنجوم مرصّع
و مشيّدٌ بجماجمٍ و مُعبّدُ


يقول الماغوط:
الشّهداء يتساقطون على جانبي الطريق، لأنّ الطّغاة يسيرون وسطها.

من أخلاق الجاهل: الإجابة قبل أن يسمع، و المعارضة قبل أن يفهم،   و الحكم بما لا يعلم، و هذا من جعل السياسيين قططا في الخضراء بعد أن كانوا فئرانا، هذا ما قاله يوما علي عزت بيجو فيتش:

يكون الحيوان خطيرا عندما يكون جائعا، أمّا الإنسان فيكون خطيرا عندما يشبع.

هذا ما يحدث في الحكومات، فكلّ سياسي يدخل البرلمان يكون جائعا قبل جلوسه على الكرسي فيقدّم وعودا كاذبة، لكن أوّل ما يستلم زمام الأمور و تمتلئ جيوبه بالأموال من النّهب و السرقة تصيبه التخمة      و ينسى الشّعب و كأنّه لا ينتمي إليه و لا علاقة له به.
هنا الشاعر  خلدون يقول:

آمنتُ بالشعب الذبيح بدمعه
أنْ سوف ينعدم الطغاة و نوحد

كأنّه يقول: إذا أردت معرفة حقيقة إنسان، أنظر كيف يعامل من هم أضعف منه.
يوما ما سيقوم الشّعب و يمسح دموعه و يرمي كلّ الفاسدين في مزابل التّأريخ.
ثمّ يُقسِمُ الشّاعر بنخيل العراق بأنّ كلّ شريف سيدافع عن أرض الوطن بالنّفس و النّفيس ليعود الوطن لسابق عهده، كيف لا و طريقه معبّد بأرواح الشّهداء و أرضه مرتوية بدماء طاهرة ستظلّ خالدة.

و في قصيدة ( الجثث الباسمة) يقول الشاعر خلدون:

المدينة نهر
يتدفق بالجثث الباسمة
و الناس راتعة بنعيم المجاعة
فالجراح في الرافدين ياسمين
و الدماء ياقوت
و الدموع لآلىء
شهداؤنا تبكي علينا
على بلوائنا و بأسائنا
و الموت شحاذ معمّم على كل باب
على كل رحمٍ

القصيدة هنا تتحدّث عن مجزرة سبايكر بــ 1700 شهيد، و كيف تدفّق نهر دجلة بالجثث الكثيرة و احتضنها في جوفه فاتحا ذراعيه لها مُرحّبا بها و حانيًا عليها بعد أن قتلتها الطائفية على يد وحوش آدمية بأبشع الطرق التي تشمئزّ منها النّفس.
جعل الشّاعر لرائحة الدماء عبق الياسمين، لأنّها دماء الشّهداء و هي طاهرة زكيّة، و شبّهها بالياقوت الذي زيّن النّهر ، لأنّه تحوّل للّون الأحمر في ذلك اليوم المشؤوم.
الشّاعر عكسَ هنا المشهد فبدل أن يقول : و نحن نبكي شهداءنا،
قال: شهداؤنا تبكي علينا، لكن لماذا؟ لأنّنا بائسين حطّمتنا الطائفية    و شتّتنا و أبعدت الأحبّة عن بعضهم البعض، لأنّ القلوب باتت مليئة بالضغينة و الحقد لبعضنا البعض فأصبح دمنا حلالا في عين غيرنا و هو ينظر إلينا. 

يقول الشاعر خلدون في قصيدة ( الكسكسة):

يتكسكسون و خنجر العجمي يغدر
و الناس نهب الموت و الدفان يحفر
غام الطريق و نحن نحمده و نشكر
نفنى ! نكاد بخالق الحكّام نكفر

أغرب شيء نعيشه و نتعايش معه هو تدخّل الأجانب في حياة شعب، كما حدث في العراق، تدخّلت أمريكا بهدف الاستعمار متخفّية بغطاء المساعدة و الإنسانية، و منذ 2003 و سقوط الصّنم و هي موجودة في العراق، و مازالت تستولي على خيراته و نفطه ، و تسيّر الشّعب حسب أهوائها. فرح الشّعب يومها لأنّه تخلص من البعث و الديكتاتور    و لم يعرف أنّه في فم الأفعى و هي تبثّ سمومها عليه بالتّدريج.
العجيب أنّ العراق موطن له حكومته، لكن أمريكا هي من يقوم بذلك الواجب في الخفاء، و اليوم انقشعت تلك الغيمة التي كانت تحجب كلّ شيء. كلّ هذا قدّمه لنا الشّاعر بصيغة أدبية مُنفّسًا عن غضبه بقصيدة الكسكسة، فكان العنوان وافيا للمضمون.
هكذا عوّدنا الشاعر خلدون جاويد، عندما يكتب هو يُعرّي الواقع ليُقدّم لنا حقائقا تكون ملفوفة بألف قناع و قناع.
يا لخيبتنا.. القاتل عربي، المقتول عربي، المموّل عربي و المخطّط أجنبي.

في قصيدة (تفٍ على إسلامكم) يقول:

إسلامكم مذابحٌ محارقٌ مسالخٌ
مساجدٌ تصدر السيوف
إسلامنا جنائنٌ مؤتلقة
إسلامكم "جنائز معلقة"
إسلامنا "أشودة المطر"
إسلامكم سياسي
إسلام تمييز و تفريق و تكفير
إسلامنا عباد شمس و قمر
إسلامكم  خناجري
إسلامنا الوردة الإنسان
إسلامنا حنان

قصيدة حلّلت معنى الطائفية بأبعد الحدود، قصيدة تنشر رسالة عظيمة جدّا، و هي تدعو لتوحيد القلوب فيما بينها كما تنادي لأن نجعل اليد في اليد لنكون جسدا واحدا مثل سور عظيم ضدّ من ينوي زعزعة أمننا          و تشتيت صفوفنا و المسّ بكرامتنا.
الشّاعر هنا لا يسبّ الدّين، بل يسبّ أفكار الطائفية.

في قوله:

إسلامكم مذابحٌ محارقٌ مسالخٌ

يقول جبران خليل جبران: ويلٌ لأمّة كلّ قبيلة فيها أمّة.

هنا فقط لو نقوم بتحليل كتابة الشّاعر خلدون، فهي تحكي عن سبايكر،و الانفجارات  المفاجئة كما حدث قبل سنتين في الكرادة،       و كما حدث في الطريق إلى السماوة السنة الماضية، و ما نعيشه من أفكار رهيبة جعلت العائلة الواحدة متفكّكة فيما بينها من حقد الأخ على أخيه و الابن على أبيه و الأب على أبنائه و هكذا، و كلّ هذا من سموم رُسخت في العقل من خلال عقول يسودها الظلام.
لو نعود للدّين و نتعمّق فيه أكثر: فهو دين رحمة، لا دين قتل و همج.
الدّين أن تبتسم في وجه غيرك، لا أن تكفهر وجهك، الدّين مسامحة لا إدانة و تجريم، الدّين أن تفرح لسماع موسيقى، لا أن تلطم و تصرخ     و تبكي لفقدان الأحبّة بالموت، الدّين لا علاقة له بالسياسة، الدّين إنسانية لا عنصرية و لا طائفية.
هي ذي رسالة الشّاعر خلدون جاويد التي أرادنا أن نفهمها من خلال القصيدة التي شرح لنا فيها الفرق بين هذا الإسلام و ذاك الذي نراه، بين الحقيقي و المزوّر المزيّف.





و من نفس القصيدة يقول الشاعر خلدون:

ضاع الزمان الجميل
بغدادنا تغصّ بالخراب
في ربعها الخالي

حين تحتضر الذكريات، تأخذنا إلى طريق الوجع.

قالت أهداف سويف:
نحن نتمسّك بالحزن، خوفا من أنّنا باقتلاعه سنرتكب خيانة كبرى.
و غنّت أم كلثوم يوما:
و عايزنا نرجع زي زمان
قول للزمان ارجع يا زمان
و هات لي قلب لا داب و لا حب و لا انجرح و لا شاف حرمان.

شتّان بين بغداد الأمس و اليوم، بين حضارة الأمس و تخلّف اليوم، بين ضحكة الأمس و دمعة اليوم، بين تفتّح الأمس و خراب اليوم.
عن الزّمان و الزّمن الجميل يتحدّث شاعرنا و عن حزن ما آلت إليه بغداد اليوم عكس الماضي الرائع.



صديقان رائعان ليس لديهما أيّ مصلحة: القهوة و القلم، و هنا كانت لنا وقفة مع قلم الشاعر خلدون جاويد من قصيدة ( كلامي طلقةٌ...):

كلامي طلقتي و فمي عتادي
و أصبعي رابضٌ
و على زنادي
و إنّي حتفُ من حابوا عروشا
و دجّلوا في المحافل
و النّوادي
أطالوا اللحية النكراء عمدا
و زُلفى قد توشّحوا
بالسواد

يقول الثائر جيفارا:
لا شيء أسوأ من خيانة القلم، فالرصاص الغادر قد يقتل فردا، بينما القلم الخائن قد يقتل أمما.

هو القلم يكتب ما يريد، يُعبّر عن الرّأي، أحيانا نضع له خطوطا حمراء لا يتجاوزها، ليس لأيّ كان سلطة عليه، ليس المهمّ أن يرضي النّاس     و الأهمّ أن يرضي ضمائرنا.


قلم الشّاعر أو الأديب، عبارة عن سلاح في وصف الشّاعر خلدون جاويد بقوله:

كلامي طلقتي و فمي عتادي
و أصبعي رابضٌ
و على زنادي

الكلمة رصاصة، الفم عتاد السّلاح، القلم كمسدس، و الأصبع الذي يكتب كمن يضغط على زناد لتخرج تلك الرّصاصة (الكلمة) القوية الصّارخة و المدويّة أكثر من صاروخ ، وحدها الكلمة الشّجاعة و البليغة تكون أقوى و فتاكة، لأنّها تصل العقول فتنيّرها و القلوب لتفتحها و العالم لتُجمّله، و الشّعب لتوعّيه و الفاسد لتخيفه و المنافق لتهدّده بفضح أمره.

يقول كامي لورانس:
بماذا يفيد الأدب إن لم يُعلّمنا كيف نُحبّ؟.

لانقلاب الموازين في الوطن قال أحمد مطر:
في بلادي تنبح القافلة و الكلب يسير، فلنقرأ ماذا قال الشاعر خلدون.

 في قصيدة (كلٌّ له حصّته و حصّتي جوعي) يقول الشاعر خلدون:

كلٌّ له حصّته و حصّتي جوعي
و النفي و الإبعاد و الاندحار
زرعتُ آمالي فلا
سنبلتي اخضلّت
في حقلي الأجرد
و طائري الغرّيد ما غرّد

يقول محمود درويش:

سنصير شعبا حين لا نتلو صلاة الشكر للوطن المقدّس كلّما وجد الفقير عشاءه.

أنا بخير لأنّني توقّفت عن منح الفرص لمن لا يستحقّ، لأنّني كبرتُ على فكرة العيش على محاولة إرضاء الجميع و لم أعد أهتمّ لما يقوله الكثير عنّي ( آل باتشينو).
علينا أحيانا أن نكون مستعدّين لتلقّي الصّدمات، فالحياة مفاجآت، قد تأتينا من البعيد، و قد تأتينا من أقرب النّاس إلينا، ففي كلّ صباح نقرّر أن لا نغضب، و نقضي يوما هادئا جميلا، ثمّ نلتقي ببعض الأغبياء الذين يجعلون ذلك مستحيلا، و عن ذلك المنفى و البعد عن الألم يقول المثل الفرنسي:
لتعش سعيدا، عش بعيدا.
قرحة المعدة لا تأتي ممّا نأكله، بل تأتي ممّا يأكلنا، إنّه القلق و الهمّ       و الحزن، هم من يأكلنا.

يقول الشاعر خلدون في قصيدة ( جُلّ الطغاة الفاسدين ذئاب):

جُلّ الطغاة الفاسدين ذئاب
أمّا الغزاة فكلّهم أذناب
و الشعب في الإعصار طوح جثّة
بالدمع تطفو بالدما تنساب
حربٌ على الأزهار تُزهق روحها
هامٌ يدقّ و تستباح رقاب
ما أضيع الوطن الكسير، بأرضه
حلّ الدخيلُ، فأهله أغرابُ

تجارب الحياة، ليست للنّدم، بل للتّعلّم، منها أصبح الشّعب واعيا، منها تعلّم أنّ المجرّب لا يُجرّب، كما قال نجيب محفوظ:

ما لا يرتاح له قلبك لا تثق به أبدا فالقلب أبصر من العين.
الأخلاق كالأرزاق، النّاس فيها بين غنيّ و فقير، و الشّهادة ورقة تُثبت أنّك متعلّم، لكنّها لا تُثبت أنّك تفهم، و المتسلّط الحاكم الفاسد يستطيع الحصول على كلّ شيء بالقوة، إلاّ الحبّ و الاحترام من طرف شعبه.

قيل:
الحظّ لا يأت عندما تُعلّق حدوة الحصان على جدارك، بل عندما تنزع عقل الحمار من رأسك.

يقول الشاعر خلدون:

ما أضيع الوطن الكسير، بأرضه
حلّ الدخيلُ، فأهله أغرابُ

صدق باختصاره الأدبي و العمق في المعنى، و كأنّه يريد أن يقول لنا:
تقضي الأغنام حياتها خائفة من الذئب في حين يأكلها الراعي.

في الأخير:

قول الحقيقة و إزعاج النّاس أفضل من الكذب لإرضاء النّاس (باولو كويلو).
الشّاعر خلدون جاويد يساريا و غزليا  و هو من الشّعراء العظماء الذين صنعوا بصمة خاصّة في تأريخ الشّعر و الأدب العراقي و العربي، له نصوص بديعة و ساحرة مهما توغّلت فيها تشعر بإيقاعها الخاصّ الخلدوني الرائع.
يملك قلما نابضا، قويّا، مناضلا، ثائرا و غزليا.
قلمه صارخ في وجه الفساد و النّفاق، غزلي في وجه الموسيقى       و الجمال و الحبّ.
القلم الخلدوني له هيبة في السّاحة الأدبية و العالميّة، يعرّي المنافقين و ينزع الأقنعة، و يعطينا البهجة حين يكتب عن الحبّ.
كُنْ شيوعيا بالفكرة و الفكرة، و لا تكن شيوعيا بالمظهر (يوسف خندقجي).
عندما يكتب الشاعر خلدون جاويد عن الحبّ و المرأة نتذكّر قول الثائر جيفارا:
علّموا أولادكم أنّ الأنثى هي الرفيقة، هي الوطن، هي الحياة.

29
  نوميديا جرّوفي،شاعرة،كاتبة، باحثة و ناقدة


قراءة في قصيدة (سبايكر) للشاعر و الناقد            هاتف بشبوش من ديوان (الطريق إلى سانت كروز).

   

و أنا أتصفّح الديوان الخامس للشّاعر و الناقد السماوي هاتف بشبوش (الطريق إلى سانت كروز) و أقرؤه لأكثر من مرّة استوقفتني قصيدة (سبايكر)، القصيدة التي حملت في طيّاتها التأريخ، الألم،الدم، الغدر بأرواح شابة، شاهدة عيان لمجزرة حقيقية.
قصيدة حملت أحزانا لا منتهية.. قصيدة تُحسّسُنا بثكل أمّهات.. بآباء مفجوعين.. بعوائل مازالت تحت وقع الصدمة.. لأنّها لا تملك قبرا لمن فقدت سوى نهر دجلة..
القصيدة هي وصمة عار مُسجّلة ضدّ مرتكبي الجريمة الشنعاء بحقّ أبرياء.

يقول الشاعر في القصيدة:

من سينال من الآخر
تحت هذا السّيف المنبعث من الظّلام
و من سيصفّي حساب الموتى و دموع ذويهم
فكلّ مسبحةٍ لها لونها البرّاق
و كلّ دين له مشاغبيه و وجه المكفهر
و عاهراته اللاّتي يُراودن الصبية
فوق ملاءات الجهاد، و أمام تثاءب وحي الفضيلة
زناةُ الدهر، أم زناة الطائفية، أو العشيرة و لا فرق
فكلّ الأراذل
كانوا يمارسون الطّقوس المعتادة
*****
يُصلون على النبيّ
يفعلون بما قاله اللوح المقدّس
اللّوح الذي تشارك و السّيف
كيْ يكونا على الرقاب موتا شرعيا
و إرهابا يُناصب العداء للمشاكسين
و لكلّ من يكون على شاكلة أبي مرّة
*****
ألفٌ و سبعمائة من الفتية اللاهثين
وراء كعبة الخبز
مضوا قتلا، بالتّكبير، و التّوحيد، و راية سوداء
ألفٌ و سبعمائة
مضوا ظلما في قبورهم النّهريّة
و على طريقة سانت برتملي
و مباركة، من كان مخمولا بكفّ المجرم المقبور
*****
أيّ أخلاق ازدهرتْ، على جبين أسلافنا
و أين الكذّاب فينا؟ أمسيلمة
أم ما توارثناه من قاتليه
و هو يلثم نهدين كعوبين
كانا يجودان، بعسل الحياة و أمانيها
و أيّة دروسٍ، كانت تُحاك لنا، وراء ستار الكنعبوت
فيا أيتها النّفس اللاّمطمئنة، في هذه البقعة بالذّات
لا تعودي إلى ما قاله اللّوح الورقيّ
بل كوني كأسا منتظرا
لما يسيح من فوهات قناني الخمر
و يا أيّتها الألف و السبعمائة
كوني مفاتن قبورنا الماضية، و الآتية بعد حين
كوني زاوية، ينتهي فيها هذا الدّرس الشّنيع
زاوية حزينة
في هذا العالم الغبيّ

سبايكر هي الجريمة الشّنعاء التي ذهب ضحيّتها 1700 جندي شابّ من أبناء العراق بسبب حرب عفنة اسمها الطائفية.
طائفية منقسمة لسنّة و شيعة..هذين الاسمين تسبّبا في تشتيت شعب و عوائل و أحبّة و أخوة.
طائفية ملعونة و لعينة تسبّبت في نحر الكثيرين على يد من كانوا أحبّ النّاس إليهم، هي الطائفية التي جعلت الأب يكره ابنه،و الإبن يكره أباه و كلاهما يرى الثّاني مجرم و كافر يستحقّ القتل و دمهُ مُباح.
المشكلة الكبرى أنّ كلاهما يدين بنفس الدّين و المعتقد، نفس المعبود و نبيّهم واحد و كلاهما يُنادي (الله أكبر) لقتل الثاني... و ما أكثر الجرائم التي ارتُكبت باسم الله.
تذكّرت و أنا أقرأ القصيدة ما حدث في أحد المحاكم الأمريكية قبل أعوام، تناولتها وسائل الإعلام، حيث تشاجر عربيين مسلمين و كادا يتقاتلان و هما في الشارع على مرأى النّاس.
فأخذتهما الشرطة و حُبسا، و لمّا مُثّلا أمام القاضي، سألهما عن السّبب الذي أدّى بهما لهذه المعركة الطاحنة، فقال أحدهما:
- لقد قام بشتم علي بن أبي طالب.
و قال الثاني:
- لقد شتم معاوية بن أبي سفيان.


فقال القاضي:
- استدعوا علي و معاوية.
فأجابا معا بأنّ علي و معاوية متوفّيان منذ قرون.. هنا احتار القاضي      و أمر بإيداعهما في مستشفى للأمراض العقلية للأبد.

أعود لقصيدة الشاعر هاتف بشبوش و هو يطرح سؤال كما طرحه القاضي:

من سينال من الآخر
تحت هذا السيف المنبعث من الظّلام
و من سيصفّي حساب الموتى و دموع ذويهم
فكلّ مسبحة لها لونها البرّاق

يقول فولتير بهذا الصدد:

الخلاف الطويل، يعني أنّ كلا الطّرفين على خطأ.
ثمّ هذا السّيف القادم من الظّلام الحالك، مُنبعث من عقول سوداء متحجّرة لا تفقه ماذا تفعل، سوى القتل ثمّ القتل، ثمّ القتل.. لكن قتل من؟
أبرياء لا حول لهم و لا قوّة، عُزّل بدون سلاح يُدافعون به عن أنفسهم من خناجر و سيوف تحزّ رقابهم الشّابة و هم في ربيع العمر.. كلّ واحد من السنّة أو الشيعة يُنادي باسم جماعته و صلاحها، و في الأخير و لا واحد منهما على صواب.
صدق جبران خليل جبران حين قال:
ويلٌ لأمّة، كلّ قبيلة فيها أمّة.





لنتمعّن في قول الشاعر هاتف بشبوش:

و كلّ دين له مشاغبيه و وجهه المكفهر
و عاهراته اللاتي يراودن الصّبية
فوق ملاءات الجهاد، و أمام تثاءب وحي الفضيلة
زُناة الدهر، أم زناة الظائفية، أو العشيرة لا فرق
فكلّ الأرذال كانوا يمارسون الطّقوس المعتادة

و كأنّه يقول:

و كلّ طائفة لها مشاغبيها و وجهها المكفهر الجهنميّ و الوحشي، فكلاهما يُنادي بالصّلاح على طريقته،كلّ ينادي بالإسلام و لكلّ طرف فتاوى خاصّة تُحلّل و تُحرّم حسب ما يرضيه.
ثمّ أخذنا إلى جهاد النكاح الذي بات معروفا و منتشرا بطرق عجيبة بعد ظهور خفافيش الظّلام.
و الطّامة الكبرى أنّهم خصّصوا له فتوى خاصّة، حيث جعلوا له أجرا عظيما يُرضي الربّ، و له درجة حسنات عظيمة و جنّة عدن في الحياة الأخرى. و هؤلاء و من يتبعهم سيظلّون يعيشون بلا مبادئ و لا ضمائر  و لا عقول حتّى، كما قال أحدهم:

من عاش بلا مبدأ.. مات بلا شرف.

يقول الشاعر هاتف بشبوش:

ألفٌ و سبعمائة من الفتية اللاهثين
وراء كعبة الخبز
مضوا قتلا، بالتّكبير، و التّوحيد، و راية سوداء
ألفٌ و سبعمائة
مضوا ظلما في قبورهم النّهرية
الشاعر هنا يُخبرنا أنّ هؤلاء الفتية الألف و السبعمائة كانوا فقراء يبحثون عن قوت بسيط لإعالة عائلاتهم المسكينة يبحثون عن لقمة عيش تسدّ رمقهم عن لقمة تسدّ جوعهم فقط لكنّهم و في الأخير ذهبوا ضحية الهمجية تظلّلهم الرايات السود لعمائم و لحى لا علاقة لها بالإسلام لا من القريب و لا من البعيد.. رايات سوداء كما رفعها يوما أبو جعفر المنصور و هو يؤسّس الدولة العباسية بقيادة أبي مسلم الخرساني الذي ارتكب أبشع الجرائم و ذهب تحت سيفه المسلول الآلاف من الأبرياء.. و كأنّ عجلة الزّمن تعود بنا للوراء للبعيد و القديم جدّا.. عجلة تأريخ مُكرّرة بطرق مبتكرة في عصر جديد بعقول سوداء..
و هنا تكمن المشكلة في أنّ التاريخ لا يُكرّر نفسه، وحده الإنسان من يُكرّر غباءه.
ألف و سبعمائة شاب ذُبحوا باسم الله و الله أكبر.
ألف و سبعمائة شاب رُميت جثثهم في نهر دجلة لتكون مقبرتهم الجماعية.. و ما أكثر المقابر الجماعية في العراق.
ألف و سبعمائة شاب من عوائل عراقية كثيرة مازالت تلطم فقدان فلذات أكبادها.

و في آخر القصيدة يقول الشاعر:

و يا أيّتها الألف و السبعمائة
كوني مفاتن قبورنا الماضية، و الآتية بعد حين
كوني زاوية، ينتهي فيها هذا الدّرس الشّنيع
زاوية حزينة
في هذا العالم الغبيّ

يتحدّث الشاعر هنا بحزن و ألم وذكرى تُمزّق نياط القلوب الدامية كربا   و هو يقول مناديا تلك الجثث التي غيّبها نهر دجلة في قاعه:



يا أيّتها الألف و السبعمائة

 شباب كانوا يحلمون بمستقبل زاهر كانت لهم أحلامهم المراهقة كانوا طلاّبا لكن انتهت حياتهم بأسلوب بشع تقشعرّ لها الأبدان.
ينادي الشاعر الجثث و هو يكلّمها لتكون عبرة للأجيال القادمة، يُكلّمها بحزن و قد أعطت درسا في الطائفية اللعينة و الملعونة بيد الدواعش الظلاميّون، فيقول:

كوني زاوية، ينتهي فيها هذا الدّرس الشّنيع
زاوية حزينة
في هذا العالم الغبيّ

يتحدّث الشاعر مع الجثث المدفونة في قاع نهر دجلة بقلب حزين ومتألّم لهذه الذكرى و الفاجعة النكراء و هو يتمنّى أن تكون هذه نهاية الحزن ولتكون نهاية مثل هذه المجازر الشنعاء لتبقى الذكرى في صفحات التأريخ العراقي الدامي.
هي أرض العراق التي شربت الكثير من دماء أبنائها و ما ارتوت بسبب المتعطّشين للدماء الطاهرة، بسبب مصّاصي الدماء البشريّين، بسبب الوحوش الآدمية هذا ما قدّمه لنا الشاعر هاتف بشبوش في هذه القصيدة التي جمعت في طيّاتها كلّ الحزن و الدموع و الفقدان و التأريخ و الدم الذي صيّر نهر دجلة أحمرا سنة 2014 في مجزرة سبايكر.. ومن ينسى هذا الاسم سبايكر..


30
   نوميديا جرّوفي، شاعرة، كاتبة، باحثة،مترجمة و ناقدة.


حوار مع الفنّان التّشكيلي مهدي السماوي

 

الفنّان التشكيلي و الرسام المبدع مهدي السماوي الذي جسّد و يُجسّد وجوها سماويّة بريشته السحريّة، إنّه المبدع ابن أوروك العريقة و أحد أبناء السماوة المعروفة بأدبائها و شعرائها و فنّانيها و رساميها.
مهدي السماوي الذي صنع لنفسه عالما خاصّا وسط مرسمه، و له بصمة خاصّة تُميّزه من خلال رسوماته التي توحي بالجمال و الروعة و تلك المُعبّرة عن واقع تحمل في ثناياها عمقا إنسانيا و جماليّا في نفس الوقت.
متابعاتي للوحاته و نشاطاته الفنيّة و مبادراته التي أحيّيه عليها، جعلتني أحاوره ليعرفه القارئ أكثر و يغوص في عالمه و ألوانه. 
1-   الفنّان التشكيلي مهدي السماوي، حدّثنا قليلا عن نفسك، كيف تُعرّف نفسك للقارئ؟

مهدي صالح معلة من العراق من مدينة الحرف الأوّل للكتابة بالتّحديد من السماوة ،عشقت الرّسم من الطفولة وبقي هذا الحلم معلّقا في مخيّلتي أن أصبح فنّانا تشكيليّا أحمل هموم و معاناة شعبي من خلال لوحاتي وأسلّط الضّوء على همومهم، وحقّقت ذلك الحلم بإصراري على المواصلة دون توقّف . 
 
2-   متى بدأت الرسم؟ و ما هي أوّل رسوماتك؟


بدأتُ الرسم من أيّام الطّفولة من خلال تعرّفي على صديق في المدرسة عائلته رسّامون ماهرون تأثّرت بهم وكنت أمنّي النّفس بأن أصل إلى مستواهم في يوم من الأيّام . وبالفعل تخطّيت تلك الأمنيّة و وجدت نفسي في المقدّمة بأعمالي الفنية المتنوّعة.
أوّل رسوماتي كانت مجرّد محاولات خجولة على الورق لكنّي أميل إلى البورتريه من خلال رسم الأشخاص من حولي .

3-   متى اكتشفت موهبتك؟ و من اكتشف ميولاتك الفنية الأولى؟

اكتشفت موهبتي في مرحلة الدراسة المتوسطة لكن لم أحصل على فرصة في ذلك الوقت بسبب أحداث 1991 وحرب الخليج         و بعدها الحصار الاقتصادي الذي كان حاجزا بيني وبين موهبتي، لم أشارك في أيّ نشاط لحين عام 2003 وانفتاح العراق على العالم الخارجي و انتعاش الوضع الاقتصادي ودخول السّلع التجاريّة ومن بينها متطلّبات الرّسم  التي كانت تشكّل عائقا كبيرا لديّ .
لم يكتشفني أحد حتّى أقرب الناس لديّ كنت أسير بخطوات بطيئة جدّا بحيث لا ينته لها أيّ أحد لحين إعلان أوّل معرض شخصي لي عام 2014.

4-   من شجّعك و قدّم لك يد المساعدة لتطوير فنّك في البداية   و مواصلة إبداعك؟

شجّعني ووقف إلى جانبي ومدّني بكلّ المعلومات التي كانت تنقصني أستاذي التشكيلي إياد فيصل الظاهر ، رافقته إلى مرسمه ورأيت لوحاته سحرتني من الوهلة الأولى ولم أتردّد في طرح الأسئلة ولم يتهاون أستاذي عن الإجابة، على العكس كان ناقدا ومحلّلا لكلّ أعمالي الفنيّة لحدّ الآن.

5-   من ملهمك الأوّل في الرسم؟

ملهمي الأوّل الفنان الرّاحل فائق حسن أحسُّ أنّ أسلوبه قريب منّي.لأنّه يرسم بالفطرة ،رسم الحياة العراقية بمختلف ألوانها،        و الخيول العربية التي تكاد تنطلق صاهله تملأ فضاء لوحاته .

6-   من بين الرسامين العالميّين و الرسامين التشكيليّين العراقيّين، من تُعجبك لوحاتهم و رسوماتهم؟ 

من بين الرّسامين العالميّين الذين أعجبني أسلوبهم و لوحاتهم :   الرسام ليوناردو دافنشي و الرسام فينست فان جوخ  و الرسام بابلو بيكاسو و الرسام رامبرانت فان رين .
أمّا التشكيليّين العراقيّين: فائق حسن و حافظ الدروبي و إسماعيل الشيخلي و فرج عبو.


7-   متى أسّست مرسمك؟

 أسّستُ مرسمي عام 2017 .



8-   كيف خطرت لك فكرة ورشات تعليم الأطفال الرسم؟و هي خطوة جدّ رائعة أحيّيك عليها.

أوّلا شكرا على مشاعركم الطيبة، أساس فكرة إنشاء المرسم لغرض تطوير المواهب الفنيّة في مدينتي،ففي كلّ عطلة صيفية أقيم دورات مجانيّة للرّسم  بالنّسبة للصّغار للتطوير مواهبهم و السّبب الثاني هو إهمال جانب الرسم من قبل المدارس .
 
9-   ماذا تُفضّل و ما الأحبّ إليك؟ الرّسم بقلم الرّصاص، أم بالسوفت باستيل، أم استخدام الألوان المائيّة؟

أنا رسمت بكلّ الخامات حتّى بالقهوة، لأنّي أحبّ أن أجرّب لكن الأقرب إليّ هي الألوان المائية ،أجد فيها حيّزا واسعا للإبداع من خلال شفافية الألوان وامتزاجها مع بعضها .


10-   هل تميل للسريالية؟ كيف تراها؟

أنا بصراحة بدأتُ بالواقعية، لكن الفنّان لا يقف على أسلوب واحد يجب أن يجرّب كلّ المدارس ومن ثمّ يقرّر ماذا يختار ربّما يستطيع أن يخرج بحصيلة و أسلوب منفرد.
جرّبتُ السريالية و أجدها معبّرة و فيها الكثير من الألغاز يغوص بها المتلقّي، شفرتها بيد الفنّان فقط، أجدها بعض الأحيان أحلام وتارة كوابيس .






11-   من خلال ملاحظاتي أنا، أنت تميل كثيرا للبورتريه و تجسيد وجوه سماوية، هل يأتيك إلهام رسمهم لوحده أم يُطلب منك ذلك؟

نعم الأقرب إليّ هي الواقعية و خصوصا البورتريه وتكاد تكون أغلب أعمالي الفنيّة بورتريه، و رسمي للشخصيات السماوية تكون حسب اختياري دون طلب منهم، وقد يسأل السائل لماذا ؟
لأنّ رسمي للشخصيّة بمثابة تكريم لفنّه و إسعاده بنفس الوقت لكي يحسّ أنّ هناك من يخلّده و يعتزّ به بالوقت الذي همّشته الحكومة.
يجب علينا كفنّانين أن ندعّم بعضنا البعض، فالشّاعر يكتب عن الرسّام والرسام يرسم الشّاعر و هكذا باقي الفنون الأخرى .

12-   شاركتَ في مبادرات ثقافية رائعة في كلية العلوم في المثنى بالرسم الثلاثي الأبعاد بمشاركة الفنانة الصاعدة جمانة عبد الكريم و محمد الربيعي، حدّثنا قليلا عن فكرة الرّسم هذه؟ و كيف كان ردّ الطلبة في الكليّة؟ و هل أعجبتهم التّصاميم؟

نعم كانت مشاركتي لغرض ترك بصمة فنيّة مع أصدقائي جمانة و محمد في كليّة العلوم ، وكانت التجربة فريدة من نوعها أبهرت الحاضرين.   

13-    كيف جاءت فكرة المبادرة في عرض اللّوحات في شارع ساوة الثقافي؟ و كيف تفاعل الجمهور مع العرض؟

فكرة عرض اللّوحات في شارع ساوه لم تكن الأولى ففي عام 2014 أقمت في نفس المكان معرض تشكيلي ، وعندما تأسّس  شارع ساوة   في هذا العام  بادرت بعرض لوحاتي وكانت حلقة وصل بيني وبين الجمهور لكي تعمّ هذه الثقافة الجميلة التي تكاد تكون مغيبة خصوصا في السّنوات الأخيرة،  وأمّا الشقّ الثّاني من السّؤال فيما يخصّ الجمهور، بصراحة أرى البسمة والفرحة في وجوههم لأنّهم يريدون أن يخرجوا من هذا الظّلام الدامس المخيّم عليهم .

14-   كيف ترى المشهد الثقافي في السماوة الآن؟ هل هناك تطوّر و مبادرات شبابيّة جديدة؟ و هل هناك فنّانين شباب لا تعرفهم السّاحة الثقافية و الفنيّة؟

المشهد الثّقافي سيّء من ناحية الحكومة المحليّة وجيّد من ناحية الفنّانين سواء الرّواد أو الشّباب . هناك حراك جيّد ومستمرّ بالرّغم من الإهمال المتعمّد من قبل الدّولة، لكي يجعلوا الفنّ والفنّانين بحاجة إليهم و بالتّالي يستغلّونه لحزبهم، هذه خطّة مدروسة بتمعّن وانجرف العديد من الفنّانين إلى الأحزاب لكي يطرحوا مشاريعهم الفنيّة لكن عن الحزب فقط ؟ وليس ما يختاره الفنّان .

15-   كيف كان معرضك في جامعة المثنى (كلية العلوم)؟ حدّثنا قليلا عن المعرض.

معرضي ضمّ أكثر من 30  لوحه فنيّة في مختلف المدارس الفنية فكرتي من إقامة المعرض هي أن يطلع الطلبة على تجربتي و في نفس الوقت إتاحة الفرصة لطرح الأسئلة وتبادل الأفكار .

16-   أعجبتني عبارتك: ( أنا أرسم.. أنا موجود) ماذا تقصد بها؟

نعم اليوم الذي لا تشاهدوا فيه لوحة لي ... فاعتبروني غير موجود لأنّ الرسم هو امتدادي بالحياة، أنا أعيش في ذلك العالم الذي يخفّف عنّي ما يمرّ به بلدي من محن ومن خلال فنّي أجد نفسي في عالم آخر بعيد عن الظّلام والظّلاميّين .







17-   من كان المشجّع الأوّل للفنّانات التشكيليّات السماويات بافتتاح معرض (لمسات عراقية) في شارع ساوة؟

بصراحة الفنّانات السماويات مبدعات لكن مبادرتي كانت بجمعهنّ في معرض واحد وتنظيمه وفي بداية الأمر كانت مجرّد فكرة طرحتها على رسامة فقرّرت أن أجمعهنّ في كروب خاصّ و أعلن عن المبادرة .
بالفعل نجحت بذلك و ما زلت أتواصل معهنّ لغرض إقامة معرض شخصي لكلّ فتاة تستطيع أن تنجز أكثر من 20 لوحة تشكيلية، وفي نفس الوقت بثّ روح المنافسة بينهنّ.

18-   كلمتك عن شارع ساوة الثقافي و شارع الرميثة الثقافي.

كلمتي باختصار ( توحّدوا ) فقط و لا تتفرّقوا بسبب تفاصيل صغيرة        أو تدخّلات خارجيّة أو هجمات باسم الدين .
 
19-   لديك بعض اللّوحات تتكلّم عن تأريخ العراق، و أخرى تتكلّم عن المرأة، و أخرى عن واقع معاش، هل هي رسالات يقرؤها المشاهد؟ كيف تُقدّمها لنا أنت؟

نعم بالإضافة إلى عرضها بالقاعات أعرضها بمواقع التواصل الاجتماعي لكي تأخذ صدى أوسع و رسالتي بصورة عامّة تحمل طابع إنساني عن العدل والمساواة و نبذ الظلم والاضطهاد وتهميش دور المرأة .   

20-   متى يأتيك إلهام الرسم؟ و ما أحبّ الأوقات إليك للرّسم صباحا أم مساءا؟


أجمل الأوقات التي أرسم فيها صباحا لأنّ الإنسان يكون بذلك الوقت نشيطا، ويوم جديد فيه طاقة وحيوية، و أمّا المساء فيكون مخصّصا للقاء الأصدقاء بالمرسم وسماع أعذب الألحان.


21-   حدّثنا قليلا بخصوص المشهد الثقافي في المثنى و تهميش الفنّ و الفنانين، و ما هي أمنيّتك؟ و كيف تُشجّع أنت الفنانين الشباب الموهوبين؟

المشهد الثقافي يكاد يكون منعدما وكما ذكرتُ آنفا هذا الأمر مقصود بحيث لا يوجد أكاديمية الفنون الجميلة و لا قاعات مخصّصة لعرض الأعمال الفنية، والبيت الثقافي في المثنى بناية صغيرة مؤجّرة بحيث لا تعود ملكيتها إلى وزارة الثقافة، و نقابة الفنانين لا تمتلك مكانا كي تجمع فيه الفنّانين ، أيّ واقع هذا؟؟
بالرغم من ذلك هناك شباب واعد يقدّم وما زال يقدّم كلّ شيء جميل ويحصدون الجوائز في كافّة المجالات .
أنصح كلّ موهوب أن يستمرّ فالنّجاح لا يتوقّف على حكومة أو على شخص، الكثير من الفنانين الكبار عانوا في بدايتهم و أصبحوا في يوم من الأيام أيقونة للعالم أجمع .

22-   كلمة أخيرة.

جزيل الشّكر والتّقدير للأخت  نوميديا جروفي على هذا الحوار الجميل، إن شاء الله أكون تحت حسن ظنّكم و أقدّم كلّ شيء جديد وجميل بنفس الوقت .

31
  نوميديا جرّوفي، شاعرة و كاتبة و باحثة و ناقدة


من هم الأمازيغ وما أصل تسميتهم؟

يحتفل الأمازيغ كلّ عام في الثالث عشر من شهر يناير/كانون الثاني برأس السنة الأمازيغية التي بلغت عامها 2966 اليوم، ويرمز هذا التّقويم إلى يوم انتصار الملك شيشناق الأمازيغي على الفرعون رمسيس الثاني، ومن ثمّ تأسيسه للأسرة الفرعونية الثانية والعشرين عام 950 قبل الميلاد، والتي استمرّ حكمها في مصر قرابة مائتي عام.
صحيح أنّ التسميّة محطّ اختلاف، وهو اختلاف مردّه إلى كون الحدث يضرب بجذوره العميقة في التّاريخ من جهة أولى، ثمّ لكون مختلف مظاهر الخصوصية الأمازيغية تعرّضتْ للطّمس بل والتّنكّر طوال قرون عديدة.
من جهة ثانية، لا يمكن أن يُشكّل التّأريخ الأمازيغي استثناء في هذا الباب. هكذا إذا نجد من يسميه ليلة "الناير" أو يْنّاير، في حين نجد من يعتبره رأس السنة الفلاحية، إلى جانب آخرين يطلقون عليه "ئض - سكّاس" أو "ئغف ن ؤسكاس" أو رأس السنة دون أية إشارة إلى السّنة المقصودة و نجد البعض الآخر يُسمّيه "حاكوزة"، هذا الاختلاف في التسميّة يقابله شبه اتّفاق على طبيعة الاحتفال و تشابه في الطقوس           و الوصفات المُعدّة لهذا الحدث.
إنّ السنة الأمازيغية إذا كغيرها من التّقويمات تقويم حضاري مؤسّس على حدث تاريخي قديم، احتفظ عليه الأمازيغ كغيرهم من الشّعوب رغم تبنّيهم للتّقويم الميلادي، وتعود بدايته إلى سنة 950 قبل الميلاد الذي يؤرّخ لحدث عظيم حينما استطاع الأمازيغ دخول مصر الفرعونية بعد الانتصار عليها في معركة دارت وقائعها على ضفاف نهر النيل، وتولّى بعدها الأمازيغ سدة حكم مصر الفرعونية من خلال الأسر الثانية والعشرين، الثالثة والعشرين والرابعة والعشرين، وأسّس شيشناق إذا الأسرة الثانية والعشرين والتي امتدّ حكمها من 950 ق.م إلى 817 ق.م، حيث تعاقب على حكم مصر تسعة ملوك ليبيين أو أمازيغ هم شيشناق الأول (الذي حكم واحدا وعشرين سنة، وهو الذي وحد مصر، وضم إليها كلا من فلسطين وسوريا، ومن أهم الآثار التاريخية المصرية التي تدل على الأسر الفرعونية الأمازيغية:
قوس النصر في مدينة الكرنك ،قبر الأسرة الأمازيغية المالكة الثانية والعشرين بمدينة تالبسطة)، أوسركون الأول، تاكلوت الأول، أوسركون الثاني، شيشناق الثاني، تاكلوت الثاني، شيشناق الثالث، باماي، وشيشناق الرابع، تلتها الأسرة الثالثة والعشرون من 817 ق.م إلى 730 ق.م بملوكها الستة: بادي باست، شيشناق الخامس، أوسركون الثالث، تاكلوت الثالث، أمنرود أوسركون الرابع، ليختم حكم الأمازيغ لمصر بالأسرة الفرعونية الرابعة والعشرين التي امتد حكمها من 730 ق.م إلى 715 ق.م بملكين فقط هما تافناخت واح كارع أو بوكوريوس الإغريق.
وللإشارة فالسنة الفلاحية التي دأب النّاس على سماعها وترديدها لا تعدو أن تكون نتيجة أفعال قصدية تبناها الضّمير الجمعي عن غير قصد - تعمّدت تفادي الإشارة إلى كون هذا التّأريخ أمازيغيا بشكل صريح وإن كانت لا تتعارض مع فلسفة الاحتفال الذي دشّنه الأمازيغ بعد دخولهم مصر أو "مّ ئزرا" كما يطلق عليها القدماء والتي تعني ذات الصّخور الضّخمة في إشارة إلى الجلاميد التي بُنيت به الأهرام - حيث عبّروا ويُعبّرون من خلال تقليدهم السّنوي هذا على تمسّكهم بالأرض المعطاء والاعتراف بفضلها وخيراتها.
ومن ثمّ فالاحتفال هو فلاحي بالدّرجة الأولى أكثر ممّا هو سياسي بمرور السّنوات. إنّه تعبير شعبي عن امتنان الإنسان للأرض الأمّ واعتراف بعطاياها، ومن ثمّ يعمد النّاس إلى إعداد وجبات بخضر الأرض المتنوّعة في إشارة واضحة إلى التّرابط العفوي الطبيعي بين الإنسان وأمّه الأرض.
في الثالث عشر من يناير الميلادي إذا من كل سنة، تحتفل العديد من الأسر في ربوع شمال إفريقيا بحلول السنة الأمازيغية الجديدة كل حسب طقوسه التي ورثها عن أسلافه و إن كان كثير من الناس يجهلون تاريخ هذا الحدث و دلالاته الرمزية و الانتربولوجية والحضارية.
أصل تسمية الأمازيغ:
تعود تسميّة الأمازيغ إلى كلمة “مازيغ” أو “إمازيغن” وتعني الرّجل الحرّ أو المتمرّد الذي لا يمكن استعباده، أما تسميّتهم بالبربر فهي خطأ شائع كون كلمة البربر هي كلمة رومانية كانت تطلق على كلّ الشّعوب الأجنبيّة التي تعيش حول المملكة الرومانية أيّا كانت هويّتها، ويسمّى عيد رأس السنة الأمازيغية بـ “ينّاير” وهي كلمة مكونة من “ينّ” بمعنى الأول و”آيار” بمعنى شهر، كما أنّها تعني “أوّل كلمة” ويقال إن معناها “في البدء كانت الكلمة”، ويحتفل الأمازيغ في الجزائر وتونس والمغرب حالياً بهذا اليوم ويقيمون فيه طقوسهم وعاداتهم التي تحيل كلّها إلى طلب الخصب والنّماء والخير، وقد كانت ديانتهم وثنيّة في سالف العصور ثمّ انتقلوا إلى اليهوديّة ثمّ المسيحيّة وظلّوا طويلا عليها قبل أن يعتنقوا الإسلام إثر الفتوحات.
"أمازيغ" كلمة أمازيغية تجمع على "إيمازيغن" ومؤنثها "تمازيغت" وتجمع "تِمازيغين". يعني اللّفظ في اللّغة الأمازيغيّة الإنسان الحرّ النبيل.
البربر أو البرابرة اسم لاتيني، ويعني المتوحّشين أو الهمجيّين البدائيّين، أُطلق على كلّ الأجانب وبينهم الأمازيغ وذلك في غزواتهم لبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط.
أخذت كلمة " البربر" عند الرومان معنى سياسيّا و أطلقت على الشّعوب التي تقف في مرتبة حضارية أدني منهم، ثمّ أخذت الكلمة معنى أكثر خصوصيّة حين أطلقت على البلدان التي خرجت على طاعة الرومان فسمّوا برابرة Barbarikum أو" بلاد البربر" وخاصّة نوميديا Nomidia أو دولة البرابرة. وعندما فتح المسلمون شمال إفريقيا حافظوا على اسم
" البربر" ولم يغيّروه لذيوعه وانتشاره بينهم.
وينسب البربر بحسب بعض المؤرّخين، إلى " مازيغ " ابن كنعان بن حام بن نوح فهم حاميون. أما دوبرا، المؤرخ الفرنسي، فقد أشار إلى أنّ البربر جنس آري هاجر من نواحي الكنج بالهند، منذ زمن بعيد في القدم، وهم حاميون وليسوا ساميين. كما أشار أحد علماء الانثروبولوجيا الايطاليين إلى أنّ البربر في الأصل وبصورة خاصّة الطوارق منهم من جنوب ايطاليا، وكانوا قد نزحوا إلى هذه المنطقة عبر البحر الأبيض المتوسط في عصور غابرة.
كما يرجع بعض علماء الأثنولوجيا أصلهم إلى أجناس أوربية مختلفة استقرت في شمال إفريقيا منذ قديم الزمان واختلطت بعضها مع البعض الآخر عن طريق الإتّصال الحضاري وكوّنوا في الأخير جنسا له خصائص متشابهة، كما هي البيئة.

من هم الأمازيغ؟

الأمازيغ أو البربر اسم يطلق على من يتكلّم " الأمازيغية " و هم السكّان الأصليّون في الشّمال الإفريقي الذين ينتشرون في مساحة تمتدّ من برقة و واحة سيوة على مشارف مصر شرقا، حتّى المحيط الأطلسي غربا، و على امتداد الصحراء الكبرى والساحل الإفريقي حتّى مالي والنيجر جنوبا.
تاريخيا، اختلط الأمازيغ بشعوب و أقوام عديدة ومختلفة، منهم الفينيقيين واليونانيين والإيطاليين، اختلاطا عابرا، غير أنّهم اختلطوا وامتزجوا بالمصريّين القدماء والعرب والمسلمين بشكل أقوى. وقد اعتقد بعض المؤرّخين، ومنهم الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي و غيرهم، بأنّ قبائل صنهاجة و قتامة من حمير، غير أنّ العلامة ابن خلدون اعتبر في مقدّمته المعروفة هذه الأخبار واهية وبعيدة عن الصحّة وعريقة في الوهم والغلط وهي أشبه بقصص موضوعة،غير أنّ ابن خلدون أشار في موضع آخر إلى أنّ بعض قبائل البربر يحتفظون بأنساب عربية صريحة مثل صنهاجة و قتامة، وأنّها ذات أصول يمنية.
بعد الفتح الإسلامي لمصر عام 641م وصل المسلمون إلى برقة عام 669م ثمّ إلى طرابلس و فزان، غير أنّ مرحلة الفتح المنظمة بدأت على يد عقبة بن نافع الذي وصل إلى سواحل المحيط الأطلسي غربا. ثمّ تبعه حسان بن النعمان ثمّ موسى بن نصير، و الأخيران هما اللّذان استكملا فتح المغرب والأندلس. و كان موسى بن نصير قد نشر الإسلام واللّغة العربية جنبا إلى جنب، مع الفتح الإسلامي لإفريقيا.
و منذ ذلك الحين اختلط البربر بالمسلمين واعتبروا الدّخول في الإسلام تحريرا لهم من رقّة الرومان. وقد انتهز حسان بن النعمان دخول البربر إلى الإسلام فجعل أكثر جيشه منهم، وقسّم لهم الفيء والأرض، فشاركوا الجيش الإسلامي في فتوحاته إلى إسبانيا، وكان من منهم طارق بن زياد وهو بربري، قاد جيش المسلمين لفتح إسبانيا وعبر المضيق الذي سُمّي فيما بعد باسمه.
وفي فترة الخلافة الأمويّة تولّى يزيد بن أبي مسلم ولاية المغرب، وكان شديدا جائرا حكم مثل الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق بالشدّة والعنف، فثار عليه البربر وقتلوه عام 720م.
بحسب حياة عمامو في كتابها "أسلمة بلاد المغرب"، فإنّه بالرّغم من مقاومة البربر لولاة بني أمية وعمّالهم لم يضعوا سؤال الإسلام باعتباره دينا ومشروعا حضاريا موضع تساؤل، وإنّما رفضوا الخضوع للظّلم وليس للسّلطة المركزية بدمشق.
وكانت جماعات من البربر قد ابتعدت لاجئة إلى الأطراف القصية، وأخرى اعتصمت بجبال الأوراس و الأطلسي وكذلك في بلاد القبائل الكبرى. وقد وجدت بعضها في أفكار الخوارج ما يتوافق مع فهمها للإسلام في المساواة وشرعية الثورة على الحاكم الظالم، فكان منهم الصفرية إتّباع عكرمة الصفري، التي انتشرت أفكاره جنوب المغرب الأقصى و الاباضية، إتّباع سلمة بن الأسعد الاباضي، الذي راجت أفكاره في المغرب الأوسط، وبصورة خاصة في وادي ميزاب حتّى طرابلس.
بعد سقوط الدولة الأموية في الشّام غلبت الخوارج العباسيين وحكموا أجزاء كبيرة من شمال إفريقيا بحدود عام 768 وأقاموا إماراتهم فيها، ومنهم الأغالبة. و في القرن الحادي عشر        و حتّى الثالث عشر سيطرت قبائل بربرية الأصل على المنطقة وأعلنت استقلالها عن الخلافة الأموية في الأندلس. وكانت دولة المرابطين أولى تلك الدول التي امتدّ نفوذها في الساحل الإفريقي ثمّ تبعتها دولة الموحّدين التي امتدّ نفوذها في جميع أنحاء شمال إفريقيا، من المغرب حتّى تونس. وقد استمرّ حكمها حتّى أواخر القرن الثالث عشر الميلادي.
ارك البربر في بناء الحضارة في شمال إفريقيا، بالتّعاون مع الآخرين أو لوحدهم، مثلما شاركوا في تطوير وبناء حضارة مصر القديمة حيث حكم البربر فيها ما يقارب ثلاث قرون. وكان الملك شنشناق الأول، مؤسّس الأسرة الثانية والعشرين الفرعونية، بربريّ الأصل بحدود 950 ق. م و ساهم في تطوير الحضارة المصرية القديمة في عصورها المتأخّرة، كما شارك البربر في بناء وتطوير قرطاجة وحضارتها مع الفينيقيين الذين وصلوا إلى ما يدعى اليوم بمدينة تونس وشاركوا معهم في الفتوحات القرطاجية وكذلك في العمران، مثلما شارك القرطاجيون البربر بعقائدهم القديمة، وبخاصّة في عقيدة " آلهة الخصوبة " البربرية وممارسة الوشم الذي عكس فلسفة خاصّة بهم ارتبطت بمعتقدات وطقوس دينيّة كان من أهدافها إبعاد الرّوح الشّريرة عن الإنسان والأشياء.

دولة نوميديا الأمازيغية:

من الدّول التي لعبت دورا هامّا في تاريخ شمال إفريقيا هي دولة نوميديا البربريّة التي تأسّست بعد سقوط قرطاجة عام 146ق. م. وكانت عاصمتها قرطبة التي تعرف اليوم بقسنطينة التي تقع في الشمال الشرقي من الجزائر، وامتدّ نفوذها إلى شرشال عاصمة موريتانيا جنوبا و طنجة في المغرب شمالا. وكان ماسنيسا قد اخترع "لغة ليبية " على نمط الحروف الهجائية الفينيقية واتّخذ من الزراعة حرفة للقبائل المتنقلة بدل الرّعي و التّرحال
وقد تطوّر في نوميديا اقتصاد زراعي وتجارة نشطة وجيش قويّ يسنده أسطول بحري. وقد ضرب ماسنيسا السكة باسمه وعمل على توحيد الشمال الإفريقي كلّه. و استمرّ حكمه ثلاثون عاما (146- 118ق.م ).
غير أنّ ماسنيسا لم يستطع التحرّر من السيطرة الرومانية، عندما اختلف أولاده الثلاثة على السلطة من بعده، أرسلت روما بعثة عسكرية قسّمت البلاد بين إثنين من أولاده،إلاّ أنّ يوغرطة أحد الأولاد الثلاثة اضطرّ إلى مقاومة الرومان عام 109 ق.م و قاد ثورة ضدّهم واستطاع تحرير القسم الشّرقي من البلاد وهزم الرومان إلى الجبال، ثمّ طردهم منها و وحّد بلاد إفريقيا.
انتهت حياة يوغرطة الذي ما زالت ذكراه حيّة في قلوب البربر كبطل قومي أسطوري في حفلة غدر وتآمر أقامها القائد الروماني سولا، بالتعاون مع بوكوس ملك المغرب، حيث دُعِي إلى حفلة عشاء فقُبض عليه وصُلب في شوارع روما عام (105ق.م)، وما زال البربر يردّدون مقولته الشهيرة:
" روما أيتها الملعونة، لو وجدتُ من يشتريك لبعتك في الحال".
نوميديا هي مملكة أمازيغية قديمة قامت في غرب شمال إفريقيا ممتدّة من غرب تونس الحلية لتشمل الجزائر الحالية وجزء من المغرب الحالي، وكانت تسكنها مجموعتين كبيرتين،إحداهما تسمى: المازيليون في الجهة الغربية من مملكة نوميديا وهم قبيلة تميّزت بمحالفة الرومان والتعاون في ما بينهم ضدّ قرطاج، أمّا القبيلة الأخرى فكانت تسمى بالمسايسوليون وهم على عكس المازيليين كانوا معادين لروما متحالفين مع قرطاج وكان موطنهم يمتدّ في المناطق الممتدّة بين سطيف والجزائر العاصمة و وهران الحالية. وكان لكلّ قبيلة منهما ملك يحكمها إذ حكم ماسينيسا على القبيلة المزيلية في حين حكم سيفاكس على المسايسوليين.

تاريخ تأسيس نوميديا:

لا يعرف تاريخ تأسيس مملكة نوميديا على وجه التّحديد، فبعض المصادر القديمة سواء المصرية الفرعونية أو اللاتينية أشارت إلى وجود ملوك أمازيغ في شمال إفريقيا, بحيث تروي بعض الروايات الأسطورية أو التأريخية أنّ الأميرة الفنيقية أليسا المعروفة بديدو ابتسمت بإغراء لإرضاء الملك الأمازيغي النوميدي يارباس ليسمح لها بالإقامة في مملكته، وهو ما رواه المؤرخ اللاتيني يوستينيوس نقلا عن غيره. كما أشارت بعض المصادر اللاتينية أنّ كلاّ من الملكين الأمازيغيين : يارباس و يوفاس رغبا في التزوّج بالأميرة الفينيقية أليسا، كما أشار الشاعر فيرخيليوس إلى أنّ يارباس كان يفرض زواجه على أليسا كما كان يقدّم القرابين لأبيه جوبيتر-آمون في معابده الباهرة ليحقّق له أمنيته. غير أنّ هذه الأساطير ليست دقيقة. و أنّ جُلّ المؤرّخين يعتقدون أنّ أيلماس هو المؤسّس لمملكة نوميديا و للإشارة فإنّ الملك ماسينيسا الذي ينتمي إلى أسرة أيلماس كان يطالب باسترداد أراضي أجداده في حربه ضدّ قرطاج و مملكة موريطانيا الطنجية (شمال المغرب) مدعوما بروما.

نوميديا في عهد ماسينيسا:

يعتبر ماسينيسا أشهر الملوك النوميديين، إذ تميّز بقدراته العسكرية حيث تمكّن من هزم خصمه الأمازيغي سيفاكس كما تمكّن من هزم حنبعل القرطاجي أعظم الجنرالات التاريخيين في معركة زاما بتونس الحالية سنة 202 قبل الميلاد. و ربّما لأسباب عاطفية تكمن في تزوييج القرطاجيين خطيبته : صوفونيسا لخصمه المسايسولي سيفاكس رافعا شعاره الشهير:

إفريقيا للأفارقة متحالفا مع روما عاملا على تأسيس دولة أمازيغية قادرة على مواجهة التحديات الخارجية. وفي عهده برزت نوميديا في ميادين عسكرية وثقافية متبعا التقاليد الإغريقية في ما يتعلّق بالطقوس الملكية. كما جهز الأساطيل ونظّم الجيش وشجّع على الاستقرار وتعاطي الزراعة وشجّع التّجارة، الشيء الذي جعله يُعتبر أبرز الملوك الأمازيغ القدماء.




نوميديا بعد ماسينيسا:

ماسينيسا الذي بلغ من الكبر عتيّا لم يأخذ بالحسبان المطلوب القوة الرومانية ، كما أنّه لم ينظّم أمور الملك، فبعد وفاته قامت صراعات بين أبنائه لحيازة العرش فتدخل الرومان و وزّعوا حكم نوميديا التي أصبحت الخطر القادم بعد انهيار قرطاج على ثلاثة من أبنائه و نصّبوا مسيبسا حاكما لنوميديا وعمل على مدّ جسور العلاقات الودية مع روما، في حين جعل أخوه غيلاسا قائدا للجيش، بينما جعل الأخ الثالث ماستانابال القائد الأعلى في مملكة نوميديا، غير أنّ ميسيسا انفرد بالملك بعد وفاة إخوته في وقت مبكّر.

نوميديا بعد مسينيسا:

بعد وفاة ميسيبسا اندلع أيضا صراع بين أبناء ميسيبسا وهم: هيمبسلو أدهربل و أحد أبنائه الذي هو حفيد لماسينيزا،وعلى غرار التجربة الأولى عملت روما على التدخّل لتوزيع مملكة نوميديا قصد إضعافها غير أنّ يوغرطة تميّز بقوميته على غرار جدّه ماسينيسا حالما بإنشاء مملكة نوميدية أمازيغيّة قويّة بعيدة عن تأثير القوّة الرومانية.


نوميديا في عهد يوغرطة:

بعد الصّراع بين أبناء ميسيبسا تمكّن يوغرطة من القضاء عليهم ومن مدينته سيرطا التي اختارها كمنطلق لحروبه ضدّ الرومان كبّد روما خسائرا كبيرة في جنودها حتّى بدا وكأنّ الفوز سيكون لا محال من نصيب يوغرطة غير أنّه وحسب الروايات المتداولة قام أحد ملوك موريطانيا الأمازيغ التي وجدت في منطقة المغرب الحالي وهو بوشوس غدر به في فخّ روماني وبذلك تمّ القبض عليه وسجن إلى أن تمكّن منه الموت.

نوميديا بعد هزيمة يوغرطا:

بعد هذه الهزيمة أصبح شمال إفريقيا غنيمة في يد الرومان وبدل جعلها عمالة تابعة لروما نصّبوا ملوكا أمازيغا على شرط قيامهم بمدّ روما بالثروات الإفريقية، وبذلك تمّ تقسيم مملكة نوميديا إلى ثلاثة مماليك، استأثر فيها بوشوس بالجزء الغربي جزاء عمالته، في حين حصل غودا على الجزء الشرقي، أمّا ماستانونزوس فقد حصل على الجزء الأوسط من مملكة نوميديا الموزعة.

نوميديا في عهد يوبا الأول:

بعد خلفاء بوشوس الذين تميّزوا بإقامة علاقات ودية مع روما، ظهر ملك أمازيغي نوميدي آخر وهو حفيد ليوغرطة وكان اسمه يوبا الأول، هذا الأخير حلم على نهج أجداده يوغرطة وماسينيسا لبناء دولة أمازيغية نوميدية مستقلّة تكفيهم التدخّلات الأجنبية.
وفي سنة 48 ق.م بدت الفرصة سانحة لتحقيق هذا المأرب، ذلك أنّ صراعا قام بين بومبيوسوسيزر حول حكم روما، واعتقد يوبا الأول أنّ النصر سيكون حليفا لبوميوس وراهن على حلف بينهما غير أنّ النصر كان مخالفا لتوقعات يوبا الأول وتمكّن سيزر من هزم خصمه بومبيوس.
ففي سنة 48 قبل الميلاد تمكّن الجنود الرومان وجنود كلّ من بوشوس الثاني وبوغود الثاني من تحقيق نصر مدمّر ضد جيوش يوبا الأول و بومبيوس،على الرّغم من تمكّن يوبا الأول من الفرار إلاّ أنّه انتحر بطريقة فريدة دعا فيها أحد مرافقيه من القادة الرومان إلى مبارزة كان الموت فيها حليفا لكلّ منهما.




نوميديا كمقاطعة رومانية:

بعد هزيمة يوبا الأول فقدت نوميديا استقلالها السياسي، وكانت نهايتها عام 46 ق.م بعد مرور مائة سنة على ذكرى قرطاجة سنة 146 ق.م،و بهذا دخلت نوميديا فترة جديدة وهي فترة الحكم الروماني

السكّان الأصليّون لشمال إفريقيا:

من الغريب أن يجهل العرب الكثير عن الأمازيغ رغم كونهم من الشعوب التي يتعايشون معها، فهم السكان الأصليون لشمال إفريقيا، و أسّسوا حضارة غنية وممالك قويّة عبر التّاريخ، أشهرها المملكة النوميدية التي حكمها الملك ماسينيسا، كما يزخر التّاريخ الأمازيغي بأسماء ملوك كان لهم شأن عظيم سياسياً وثقافياً وتاريخياً منهم: الملكة ديهيا، الأمير كسيلة، والملك سيفاكس، وجايا، ويوبا الأول ويوبا الثاني، وهذا الأخير ارتبط بالأميرة سيلينا وأنشأ مجلساً نيابياً وجيشاً قوياً واهتمّ بالفنون والثّقافة فازدهرت الحياة في عهده.

اللّغة الأمازيغية:

تعتبر اللّغة الأمازيغية جزءاً من اللّغات الآفرو آسيوية، في حين يعتبرها علماء آخرون لغة قائمة بحدّ ذاتها، ويختلفون حول كونها من اللّغات السامية، وهناك فرضية تربطها بالسّومرية بل ويرجعها بعضهم إلى الكوشية، أي أنّها وُجدت قبل اللّغات السامية جميعها ليكون عمرها بهذا أكثر من عشرة آلاف سنة، وهي حالياً تكتب بأبجدية تسمى التيفيناغ، وجدير بالذّكر أنّه في عام 2012 نشرت دراسة في مجلة بولس و إن حدّدت انعزال الجينات الأمازيغية قبل حوالي 18 ألف سنة، كما تمكّن علماء آخرون من عزل الحمض النووي الأمازيغي “إ1ب1ب” المختلف عن الحمض النووي العربي “ج”، مما أبعد فرضية وجود قرابة بين الأمازيغ والعرب، وعزّز فرضيات ابن خلدون والعلماء الأوروبيين الذين جزم بعضهم بكون الأمازيغ ينحدرون من بحر إيجا، وقال آخرون إنهم من شمال أوروبا.
لغة البربر هي الأمازيغية وهي لغة غير كتابية أصلا، وتتكوّن من عدّة لهجات مع أنّ البعض من البربر كتبها بالحروف اللاتينية، وهناك محاولة لكتابة الأمازيغية بالحروف العربية، مثلما تأثّرت باللّغة الفرنسية بعد الاحتلال الفرنسي للمغرب العربي.
وتختلف اللّهجات الأمازيغية من مكان إلى آخر وخاصّة بين طوارق مالي والنيجر الغربي وبين اللّهجات البربرية في شمال إفريقيا.

عدد الأمازيغ في العالم:

يبلغ عدد الأمازيغ في العالم حاليا حوالي 55 مليون نسمة، يتوزّعون ضمن أقليّات تتمركز بشكل خاصّ في الجزائر والمغرب وحتّى في واحة سيوة المصرية، ويعتمدون على المحاصيل الزراعيّة والصناعات الحرفيّة، والتي تأتي على رأسها صناعة الفضّة، وهي المادّة المقدسّة التي تتفوّق على الذّهب في الموروث الشّعبي، إذ لا ترتدي النّساء الأمازيغيات إلاّ الحلي الفضيّة المطعّمة بالمرجان المستخرج من البحر، وتعتبر تلك القطع تحفاً فنيّة قائمة بحدّ ذاتها ويعتقد في الميثولوجيا المحليّة أنّها جالبة للخير والنّماء والخصوبة والسّعادة.

المرأة الأمازيغية:

تحتلّ المرأة مكانة مرموقة في التّصنيف الاجتماعي وتتميّز غالباً بشخصيّة قويّة وقياديّة، كونها المسؤولة عن حفظ التراث والهويّة من خلال أزيائها التقليديّة وصناعة الزرابي والفخّار وجمع محاصيل الزيتون الذي يُعتبر المحصول الأساسي ويصنع منه زيت الزيتون.
وتجدر الإشارة إلى وجود اختلافات بين مختلف المناطق الأمازيغية في شمال أفريقيا من ناحية الزيّ والاهتمامات وتسميّة الأعراق، وحتّى الموروث أحياناً بسبب اختلاف درجات تفاعل كلّ منهم مع المجتمع المحيط به، ولكن بالتّأكيد يبقى القاسم المشترك بينهم جميعا هو الهويّة التاريخية التي توحّدهم وتُذكّرهم بجذورهم العميقة في التّاريخ الإنساني التي يستذكرونها كلّ عام احتفالا بـ “ينّاير”.
عادةً ما تنظر الشّعوب غير الأمازيغية إلى المرأة الأمازيغية نظرةً سلبية مغلوطة ويعود السّبب في ذلك إلى تعرّضها للسّبي من قبل الأمويّين الذين تعاملوا معها كجارية فقط.
لكن لا أحد يستطيع أحد أن ينكر الدّور البطولي الذي لعبته الأمازيغيات في تاريخ شعوبهنّ فقد كنّ حاكمات وقائدات وثوريّات محنّكات، فالتّاريخ لا يمكن أن ينسى كُلّاً من الملكة كاهنة (ديهيا) التي غلبت جيوش حسّان بن نعمان وحكمت دولتها لمدة عشر سنوات، و لالاّ فاطمة نسومر التي قاتلت الجنرالين ماكمهون و راندون وكانت رمزاً للثورة ومقاومة المحتلّ.
وتتميّز المرأة الأمازيغية بالصّلابة والقوّة حيث ساهمت الطبيعية الجبلية التي يقطنها القبائل (وهم اسم آخر يشتهر به الأمازيغ) منذ زمنٍ طويل في تشكيل شخصيتها وطباعها، كما أنّ اختصاصها في صناعة الحليّ والفخّار والسجّاد، جعلها تلعب دوراً أساسياً في الحفاظ على الإرث التاريخي على مرّ العصور.
و ما لا يعرفه البعض هو أنّ ثقافة الأمازيغ هي ثقافة قائمة بحدّ ذاتها، فالقبائليّين أبدعوا في اختلاق أساطيراً خاصّة بهم وفي صنع موسيقى مختلفة لا تشبه غيرها والتي تروي نغماتها قصص كفاحهم وتاريخهم، كما أنّ نسائهن اشتهرن برقصاتهنّ الجميلة وبأزيائهنّ التي تبعثُ ألوانها الدافئة الأمل في نفس من يراها، أمّا الوشم الذي يُزيّنُ وجه جدّاتهن فيشبه في نقوشه أحرف لغتهم التي تحكي قصّة فخرٍ و شموخ.


32
أدب / قُبَلٌ في الشوارع
« في: 22:52 04/04/2018  »


قُبَلٌ في الشوارع



 نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة


في طريق عودتنا
أنا و نبضي النّابض
لعشّنا المناريّ عصرا
قبّلته طيلة الطريق
ذهابا و إيّابا
استمعنا لأغنيّة فيلم
عاشقي الهنديّة
و نحن العاشقان
الهائمان في بعضنا
توقّفنا
و قبّلني
مُلتفتًا بعينيه
يمينا و يسارا
فقلت له
انظر إليّ أنا فقط
لا يهمّك سابلة الفضول
أو المارّة
و لا من يتلصّص علينا
كن مثلي عندما أقبّلك
أراك وحدك
و وحدك فقط


33
أدب / بشبوشية الهوى و المنتمى
« في: 20:46 26/03/2018  »
 
  نوميديا جرّوفي،شاعرة، كاتبة، باحثة و ناقدة


بشبوشية الهوى و المنتمى


في طريق العودة
للفندق المناريّ
بعد يوم جميل
قضيناه استئناسا
يدي في يده
و بقبلة
على مرأى سابلة الفضول
قال لي حبّي الأوحد
و رفيق دربي الطّويل هاتف
في السادس من يناير
أصبحتِ بشبوشية الهوى
و سماوية المنتمى


34
أدب / مطعم طُمْ طُمْ
« في: 11:07 25/03/2018  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة


مطعم طُمْ طُمْ

في مطعم طُمْ طُمْ
حيث كنتُ و نبضي النّابض
نتناول غذاءنا
كانت لقمتي الأولى دوما
لحبيبي هاتف
و كانت لُقمته الاولى
دوما لي
و كانت العاملة في المطعم
تُشاهدنا منذ نبدأ الأكل
حتّى ننتهي
لماذا كانت تسترقّ النظر إلينا؟
هل لأنّني أطعمه ؟
هل لأنّني أتغزّل به؟
هل لأنّني أرسل له قبلاتي؟
هل لأنّني أقبّل يده؟
أظنّها كانت تستمع إلينا
لأنّه يقول لي
أحبّكِ
و أنا أجيبه
أعشقكَ بجنون
و أغلب الظنّ
لأنّنا نُطعم بعضنا
و أنا أهتمّ به
فأطعمه أكثر ممّا أتناول
و أظنّها لم تر أحدا مثلنا
في حياتها حيث تعمل
لأنّنا ندخل المطعم
و نحن نتغزّل ببعضنا
و نأكل بحبّ
و رومانسيّة
و أحيانا كنّا
نتبادل القبل في انتظار
كأس الشّاي
و عشاءنا الذي نأخذه معنا
اهتمامي الكبير بحبيبي
لفتَ انتباهها
حتّى و أنا أرتّب له معطفه
خوفا عليه من نسمة عليلة
و نحن نغادر مطعمهم طم طم


* مطعم طم طم/ براكة الساحل/ حمامات الياسمين/تونس




35
أدب / مسك شعر
« في: 22:38 16/03/2018  »
     نوميديا جرّوفي، شاعرة، كاتبة، باحثة،مترجمة و ناقدة.


مسك شعر


قال لها
سأشتري لك قلما
لكنه لا يكتب ابدا
فقط يهمس لكِ
حين تخطّيين به
تتدفّق كلماتكِ
فتنزف شعرا
يسافر مع القوافل المرتحلة
هات قلمي يا حبيبتي
فخيالك يسافر فوق اوراقي
سألتكِ و بحثتُ عن قلمي
قلتِ لي
عن أيّ قلمٍ تبحثُ؟
فتشتُ في أرجاء المنزل
فأنا اليوم
أريدُ أن أكتب فيكِ شعرا...
أين قلمي؟؟
تراقصين أنتِ أفكاري
منذ عرفتكِ ما كتبتُ سطرا
فابحثي معي عن قلمي
فتشتُ.. و فتشتُ.. و فتشتُ..
لمحتُ في عينيكِ لؤما
فتّشتُ بين أناملكِ
و إلى جدار المكتب ألقيتكِ
و أعلنتُ عن توقّفي لكتابة الشّعر
حين قبّلتكِ
لكن فات الأوان
لأني وجدت قلمي بين ظفائر شَعركِ


36
  نوميديا جرّوفي، شاعرة، كاتبة، باحثة،مترجمة و ناقدة.


ديوان "نساء" للشاعر و الناقد هاتف بشبوش.


 


للمرّة الثانية أنا أغوص في كتابات الشاعر و الناقد السماوي هاتف بشبوش، و هنا توغّلت في ديوانه الشعري الجديد الذي أصدره قبل أشهر قليلة بعنوان (نساء)، و هو الديوان الخامس.
" للمرأة حضور خفيّ، لا يراه و يهتدي به إلاّ رجل متفتّح عارف، فهناك نوع آخر من الرّجال بداخلهم حيوان محبوس، ليت هؤلاء يقوّمون أنفسهم أوّلا، ليتهم يعرفون أنّ المحبّة و التّفهّم هي ما تجعلنا بشرًا، أمّا الشّهوة و الحمية.. فلا.
فربّما كانت المرأة نورًا من نور الله، ربّما كانت خلاّقة و ليستْ مخلوقة، ربّما هي ليستْ مجرّد ذلك الشّكل " (جلال الدين الرومي).
يقول الشاعر "هاتف بشبوش": " المرأة هي التي تحثّنا على الفيض.. المرأة التي ترافقنا حتّى تحت التّراب.. المرأة هي السّرير الحريري للرّجل.. هي الحلم الوثير للحبيب"
أجمل ما في الحياة، أنْ تتقاسمها مع إنسان يعرف معنى وجودك، يعرف صدق شعورك، يُشفي لك جروحك، يُخلص لك في غيابك، و يبحث عنك حتّى في وجودك.. فالحبّ و المرأة سبب استمرار الكون.
و يقول نزار قباني: " عندما أكتبُ عن الأنثى لا أعلمُ لماذا أبتسم.. فكلمة أنثى بحدّ ذاتها جمال".
المرأة و الرّجل مرتبطان ببعضهما البعض، و المرأة تُكمّل الرّجل في كثير من الأمور في هذه الحياة، هذا ما أراد أن يشرحه لنا الشاعر "هاتف بشبوش" في ديوان نساء.
كما قال شاعر المرأة يومًا: " لا تعشقني بعينيْك، ربّما تجد أجملَ منّي..
اعشقني بقلبك، فالقلوبُ لا تتشابهُ أبدًا ".
ديوان نساء فيه عناوين مختلفة و لكلّ مغزى من وراء الكتابة، هو تجسيد للواقع و الحياة الحقيقيّة للمرأة كما رآها و كتب عنها هنا في هذا الديوان.
لو نتمعّن في كتابته: " ليْستِ الشّجاعة في أنْ تغوي أكثرَ مِنْ امرأة، بَلْ الشّجاعة في أنْ تغوي المرأةَ ذاتها أكثرَ مِنْ مرّة " فهي حكمة بليغة و تحمل الكثير ، فالإغواءُ ليس شجاعة، و إغواء أكثر من امرأة ليس نُبلاً في الرّجل، بل إغواء نفس المرأة التي يُحبّ كلّ مرّة بطرق مختلفة، من مفاجآت و هدايا و لو كلمة حلوة.
لأنّ تلك المرأة تكون بالنّسبة له النّساء جميعا، و هي كلّ النّساء حيث لا يرَ غيرها في عينيْه و لو كان بعيدًا عنها.
هذا ما قدّمه لنا الرائع نزار قباني حيث كانت بلقيس سيدة النساء عنده لآخر عمره.
و جوابًا على ما كتبه لنا الشاعر هاتف عن الإغواء يكون الجواب على لسان حواء:
" لا يغويني رجلٌ يشتهي حصدَ قلوب النّساء، بل يأسرني منْ يُدخلني قلبه و يكتب على بابه: عفوًا محجوز.. احتلّته ملكتي بكبرياء".

في قصيدة ( في حبّ صغيرة) يقول:

من سينطقُ الحبّ
تلك الكلمة الرّهيفة من درس النّار
أو من دينٍ خرافيّ لا ينتمي للسّماء
من سيفتحُ ذراعيّه في البدءِ
لهوى و عناق مدلّلة
من سيحطّم أيقونة الاحترام الرسميّ
بين عودٍ خمسيني
و لحمها الطريّ المعافى
من يُداني الشّفاه
لتأديّة الشّريعة بإتقانٍ و خشوع
من سيرمي أكاليل الغواية و السّراويل
كيْ ندخل عراء اللّيل الفردوسي مثلما الشّجر
من سيدخله في بادئ الخلق
مع التّنهيد و امتصاص لهفتها الطفوليّة
أو يعينه عند اهتزاز الخصب الجميل
ثمّ يُداري خجلَ الانتهاء
حين يرتدي ثقل ملاءاتٍ خُلعتْ
بقدرة ربّة الشّبق الرّئيفة
منْ.. و منْ سيدلّه على وسادته
كيْ يستريحَ منْ ذهولٍ
على لوحةٍ عاريّةٍ
تخلو من الزّغبِ الأصفرِ
لأيغون شيلي

ما يقصده الشاعر هو أنّه تسقط التّواريخ كلّها في رغبة و توقّف المشاريع على وعد و يُختزل الحاضر و الماضي في رحلة الآتي.
و هي الطّريق منه و عليه، فيه و عنه و إليه.
فعجبًا لاجتياح الخمائر بالنّظرة و هي النّظرة و الطّريق.




و في شذرته التالية يقول:

حينما تُلحّ عليّ حالتي المزاجيّة
أسافرُ للسّياحة
أو ألتقي حبيبة باتتْ تُؤرّقني
فأطيرُ... أطيرُ... و أطيرُ
إلى عُمقِ السّحابة
و أتركُ كلّ أقلامي و أوراقي
هنا

في قوله: " ألتقي حبيبة باتتْ تُؤرّقني" و كأنّه يقول:
عندما يسألونني من أنتِ؟
أقول لهم تسلّلوا إلى عينيها لتعرفوا من أنا..

و في قوله: " أطيرُ و أطيرُ إلى عمق السّحابة" بمعنى:
عيناي مسافرتان في الأفق البعيد تبحثان عن وجهكِ المشرق، عن دفء الحنين في عينيكِ، عن الوردة المزروعة بين يديْكِ.

و في قوله: " و أترك كلّ أقلامي و أوراقي هنا" بمعنى:
أحاول ربط اللّهفة تشغلني.. أجيب الميم تطير الشين..أخطّ الهمزة بالقوّة.. يضيع القاف.
و أقول أنا: " من السّهل أن يشتاق المرء لمن يُحبّ، لكن من الصّعب أن يجده كلّما اشتاق إليه".
و في كتابته أدناه يقول:

و قال لي
بمرور السّنين
سيستحيلُ الجنس بينكما
منْ لوعة و شغفٍ إلى واجبٍ
إلى أوقاتٍ متباعدة
ثمّ تراه ميتًا
يقتله المللُ
و روتين الأداء

موضوع بالغ الأهميّة و حسّاس في مجتمعاتنا و واقعنا يجهله الكثيرون، فيتحوّل لسؤال مهمّ ( ما الذي يقتل متعة الجنس بين الزوجين؟)
إنّه موضوع ثقافي و اجتماعي في آن واحد، ثمّ إنّ الحبّ و العلاقة الحميميّة مرادفان للسعادة الزوجية.
الحبّ هو واحد من أكثر المشاعر المعروفة يسعى معظم النّاس للتعبير عنه في علاقة رومانسية مع شريك متوافق، و بالنسبة للبعض العلاقة العاطفية هي العنصر الأكثر وضوحا في حياتهم.
ربّما يغفل الرّجل أو المرأة عن أهميّة كون الآخر بحاجة ليكون هناك تواصل حسّي باستمرار حتى يتغذّى الحبّ، كون العقل الباطني للشّخص يحتاج للتّأكيد أنّ لديه حبيبًا و شريكًا.
و ما يتسبّب في قتل العلاقة بروتينها و مللها هو انعدام معرفة الزوجين للثقافة الجنسية كما في المجتمعات الغربية.
فهناك أزواج يتركون زوجاتهم، ليس بسبب امرأة أخرى، بل لعدم  قدرتهم تحمّل سلبيات الزوجات، لأنها لا تقترب من الزوج و لا تطلب منه العلاقة الحميمية ليشعر أنّها ترغب به مثلما يرغب بها.
و البعض يعتقد أنّ العلاقة هي واجب بمرور الوقت بدون مشاعر            و أحاسيس و رغبة و شغف كالبداية من تلك الحياة السعيدة، فيأتي الملل لأنّ الروتين قاتل يقتل كلّ شيء في طريقه، و الجنس ليس سبب السعادة بين الاثنين، لأنّ الحبّ لا يُولّد الروتين و الملل، بل بالعكس بمرور السنين تزداد العلاقة عمقا و توهّجا لا تنطفئ شعلتها، و إنّما لكلّ من الشّريكين دور لإبهاج حياة الآخر بتوفير جوّ المفاجأة و الهديّة           و الكلمة الحلة و العاطفة، فللضمّة القويّة الصّادقة المشاعر و القبلة كسر لذلك الكابوس الذي يخافه البعض.
شذرة جميلة كتبها الشاعر بصيغة أدبية اختزلت الكثير في عمقها        و مضمونها.
في كتابته أدناه يقول:

و أنتِ على جادة الطّريق مُدبرة
سأظلّ أنظرُ إليكِ
حتّى لا أستطيع أنْ أراكِ
في الجانبِ الآخرِ
منْ هذا الوجودِ

فيها فلسفة عشقيّة بمغزى عميق جدّا



و كأنّه يقول عن ( و أنتِ على جادة الطريق ):

أراني في نهد تنهّداتكِ
أصلّي في ظلالكِ
و أسير في ظلالكِ البعيدة
و الأقرب ممّا أتصوّر

و في قوله ( سأظلّ أنظر إليك) كأنّه يقول:

ما من مرّة قاربتِ ذاكرتي
و لم يلسع غيابكِ وحدتي


و في قوله (حتى لا أستطيع أن أراكِ في الجانب الآخر .. من هذا الوجود) كأنّه يقول:

لئلاّ يترنّح الهواء في رئة لا تراكِ
سأنزع غفير الرّوح




و في كتابته أدناه يقول :

قبل طقس الحبّ
بسملَ صديقي الشّاكر للربّ
ثمّ حمدلَ بعد أقلّ من دقيقة
على انتهائه من نيكةٍ ممتعةٍ
لفتاته المبهرة
رنّ الهاتف:
مات أخوها ابن الثلاثين وسامة و خريف
إثر جلطة دماغية في مقهى السيليزور
آاااااااااه
ليته لم يحمدل

كتابة اختزلت موسيقى الموت المخيفة و الصدمة المرعبة، هي جدلية الموت و الحزن الذي يلاحق العراقي حتى و هو بعيد جدّا عن الكوابيس المرعبة في وطنه الأمّ.
إنّها الحقيقة المؤلمة للعراقي في كلّ زمان و مكان، حتّى و هو في منفاه في نشوة تناسل للبقاء فيأتي من يُزعزع تلك اللّحظة المقدّسة بكلّ طقوسها.




 و في كتابته أدناه يقول:

مطرٌ خبيثٌ في شارع المكسيك
أتاحَ لعينيها عبر زجاج كافيه برازيليا
أن تشرين .... تعال
لكيْ ترى
كيف ستستحيلُ سبعةُ أسفلي
إلى مظلّة
تقيك عمّا قاله السياب الحزين عن المطر

أخذتنا الشذرة الرائعة لكتابة نزار قباني حين قال:

أخاف أن تُمطر الدنيا
و لستِ معي
فمنذ رحتِ و عندي عقدة المطر

و تشرين هو بوابة المطر، فنقول تشرين و المطر، فالمطر يحمل موسيقى بنوتة عذبة عندما نستمع لزخاته من وراء الزجاج.
و يحمل موسيقى حزينة عندما نشتاق للحبيب.



في قصيدة ( عواطف امرأة) يقول:

منْ يا تُرى يُغنّي قُبيل الصّبح
عن عينيها
و عن أترف ما ترتديه
لهذا الشّتاء الثّقيل
و عمّا تحت الخصر بشبر أو أقلّ
أو تنهيدة تحتي
يرضى بها الربّ الرّحيم
و ما يتلوها بنشوتها
التي ستهتزّ بها
حتّى عواطف أسفلها الشّهرزادي
بينما أنا عابر الحبّ
سأغدو شهريارها الضّعيف

 الشاعر هنا أعظم من شهريار، فهم سيّد الحبّ و ليس عابره، إنّه مترجم العواطف و الأحاسيس أنهارًا من الإبداع و سراج الشعر و كأنّه يقول:

و لي في عين فاتنتي كلامٌ ::: يُطاول كلّ ما في العين قيلَ
عيون الماء إن تجري جفاف ::: و عين حبيبتي تُحيي القتيلَ

في كتابته ( رقصة الدانماركي) يقول:

قلتُ لراقصٍ دنماركي
 من الطرازِ الكلاسيكي النبيل
لماذا تُحبّ رقصة الفالس؟؟
أجابني مازحًا
لأنّني أستطيعُ فيها
أنْ أمسك فردتيْ طيزها
دون استئذان !!!

شذرة قصيرة رائعة، اختزلت فلسفة و ذكاء في فنّ الرّقص، لكن الشاعر هاتف بشبوش قدّمها لنا بسحر يراعه بطريقة أدبية عميقة المعنى.

في كتابته ( بنت الحيّ في بلدي) يقول:

بنتُ الحيّ في بلدي
يُمكنُها أنْ
تُلَفلِفَ جيدَها المُهفهفِ
السّمينِ و النّحيف
منَ الرّأسِ حتّى الكاحليْنِ
 بخمارٍ أسودٍ
هذا صحيحٌ يا أنتِ!
لكنّها
 لا تستطيعُ
أنْ تّغطّي أحلامَ نهديْها
 إذ ما انتفضا!!

 كتابة تتحدث عن اللباس الأسود، لباس بنات الشرق في بلداننا العربية، إنّه لباسها خارج البيت، يلفّها من الرأس للقدم و لا يُظهر من جسدها شيئا، حيث تغيّر لباس المرأة العراقية في الأعوام الماضية و أصبحت تخرج و لا يظهر من جسدها سوى وجهها فقط، و الكتابة هنا جاءت بنغمة موسيقية جميلة.

في كتابته ( أيتها العواطف التي تحت معطفي) يقول:

أيّتها العواطفُ التي تحتَ معطفي
و أنا في هذا الصّقيعِ
أنتِ الحبُّ
و أنتِ ... أنتِ الحقُّ

كتابة رائعة مليئة بالعواطف الجياشة، و هي كتابة تختزل كلّ كلمات الحبّ، و كأنّه يقول:



أنتِ
لحنٌ انفلتَ من الغيبِ
إلى فيض جناني

في كتابته ( بين زمنيْنِ) يقول:

بيْنَ زمنيْنِ
النظّارةُ السّوداء الشّمسيّة
و النظّارةُ الطبيّة
حيث نرى فيها أعوامنا التي مضتْ
و آلامنا
و حبّنا الضّائع لفتاةٍ
تحتَ أسوار التّقاليد

بين النظارة الشمسية و النظارة الطبية ما زال القلب فتيّا هو ذا المهمّ، ما زال نابضًا بالحبّ و الحياة.
كما كتبتُ أنا يومًا:

من قال إنّنا نشيخ؟
نحن لا نشيخ أبدت
قلوبنا دوما فتيّة
يشيخ الجسد فقط
قلوبنا و أرواحنا لا تشيخ

الأعوام الماضية من حياتنا تمضي، لكن حبّنا الحقيقي لا يضيع، لأنّ قلبا نابضا بنبضنا النابض الذي هو سرّ وجودنا.. فعلى عهد الحبّ ماضيين للأبد.

في كتابته ( و قالها محيط الهوى السكران) يقول:

وقالَها محيطُ الهوى السّكرانِ
بالنّبيذِ الشيرازيّ
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه ..آآه
لوْ كانَ لي ثغرًا
يستطيعُ تقبيلَ ألفَ امرأةٍ
في آنٍ واحدٍ
لقبّلتهنّ جميعًا و استرِحتُ!!

عن القبلة و الشراب الشيرازي، أخذنا في سفرة مع أبي نواس في قوله:
و لمّا شربناها و دبّ دبيبها ::: إلى موضع الأسرار قلت لها قفي
و هنا النبيذ الشيرازي فعل فعلته أكثر، فجاء بالتّمني لتقبيل تسعٍ         و تسعين امرأة دفعة واحدة، و هي امرأة واحدة بتسع و تسعين قبلة     و واحدة على عجل ليصل العدّ للألف.
فنذكر هنا قول نزار قباني: "قبّلتها ألفًا و لم أتعب".

في كتابته ( موسيقى القطّ و الفأر ) يقول:

في المقصفِ اللّيلي الشّهيرِ و المعروفِ بديسكو القطّ        و الفأر
أراهم يرقصونَ..و يرقصون
و مادامتِ الموسيقى تعزفُ لحنَ أرواحهم
فهُم يرقصونَ .. و يرقصون
و كأنّ الحياة خُلقتْ من ضلعِ قيثارٍ و سكسفون
و لأنّ العالمَ هذا ليس عالمُ موتى
يرقصون
و ما زالت الحسناءُ (كاترينا) تهزّ بأردافها
يرقصون
و مازال( يوهانس) يترنّحُ بالكأسِ الكلاسيكي للبيرةِ السّوداء
يرقصون
و الفارعةُ (ماريا) تُغنّي مع الصّوتِ الصّادحِ لبريتني أوْ مادونا
يرقصون
و الشّقراءُ (سيسيليا) بسحنتها الإسكندنافيةِ
تعيدُ الشّعرَ المتطايرِ على عينيها بهداوةٍ
تثيرُ شهوة َ الموتى و الهاجعينَ قبلَ قرونٍ
يرقصونَ .... و يرقصون
مادام (سباستيان) بقناعهِ القطّ ينصبُ حبائلَ الودّ
لفأرتهِ الشّيطانيّةِ اللّذيذةِ (شالوتا)
و العجوز ( إيب) الثّمانيني المُتماهي بعناقٍ مع ( هانا) السبعينيّةِ المغناجْ
يرقصونَ ....و يرقصون
مادام الشبيبة ُ يَصخبون َمع الصّوت المضخّمِ عند السّقوفِ          و جدرانها
يرقصونَ... و يرقصونَ.. و يرقصون
حتّى يُصبحُ الغيبُ أكثرَ ضيقًا في المدى
بيْن ظلامِ اللّيلِ
 و انبلاجِ الصّبحِِ
و أجراسِ الكنائسِ
حيثُ ترجعُ النّفسُ المطمئنّة إلى بيتها راضيّةً مرضيّة

 تحدّث الشاعر عن الرّقص الذي قيل عنه:

" الرّقص هو كلّ شيء.. ارقص بأقصى ما لديك من قوّة.. ارقص حتّى يظلّ كلّ شيء يدور، إذا فعلت ذلك فلربّما استطعنا أن نفعل شيئا من أجلك، يجب أن ترقص ما دامت الموسيقة تُعزف".

كلّ هذا عند الغرب مُحبّي الحياة و المرح، شعوبٌ تفهم لغة الموسيقى و فنّ الرّقص على الأنغام، شعوب تفهم الحياة بكلّ لحظاتها السّعيدة، شعوب تفهم روح الموسيقى المتغلغلة في الأعماق لأنّها تُقدّس معنى الحياة و الفرح و السّرور و الإبتسامة، شعوب تُحبّ الألوان.
عكس الشّرق المُدمّر و السّائر نحو الحضيض و الخراب، ليصل الحال في شعوب منعت الموسيقى و نشر السّعادة في القلوب، نشرتْ ظلامها الحالك على شمس الحياة المنطفئة على أبنائها، فأطفأتْ شعلة الفرح كشمعة تذوب بالتّدريج حتى أنّنا لم نعد نسمع غير موسيقى النّواح النّاتج عن الفقدان في الانفجارات الفجائية، أو استشهاد خيرة الشّباب  و هم يدافعون عن الوطن.
يقول نيتشه: " أولئك الذين نراهم يرقصون، يظنّهم الذين لا يستطيعون سماع الموسيقى مجانين"

و يقول هنري ديفد ثورو: " إذا منت لا تستطيع الرّقص على إيقاع الآخرين، فربّما كان ذلك لأنّك تسمع موسيقى أخرى".

في كتابته ( نايم المدلول) يقول

نايمْ المدلول حُلوة نومته
أو ربّما أنعسهُ رحيلها الباسم
بعدَ شوطٍ مِنَ الحبِّ الجميلِ
هكذا يقولونها

 جاءت كلوحة فنيّة توافق المضمون فيها و كأنّه يقول فيها:

و إنّي لأهوى النّوم في غير حينه
لعلّ لقاءًا في المنام يكون
تُحدّثني الأحلام أنّي أراكم
فيا ليتَ أحلام المنام يقينُ



ثمّ تلك الإغفاءة توافق أيضا:

إنْ أغمضتُ عيني رأيتُ بعينيك فأنت بصر الرّوح
و إن أغمضت عيني رأيتُ بعين الرّوح فأنت سلامٌ لروحي.

في كتاباته (تيمّم بماء الزّنجبيل) يقول:

بقايا اللّيلِ
معَ منْ جاءتْ بخصلةٍ مشاكسةٍ
فوق عينينِ منْ سلوى
الأضواء القزحيّةُ قد جغرفتْ وجهها الفاتن
يبدو منْ محياها
لا يكفيها خليل
ألقتْ بالتّحيّة و استرسلتْ بالودّ
و بما يليق
سحبتْ كأسَ صديقي الذي جانبني
في الطّاولةِ الخماسيّة الأنفاسِ
و اتّخذتْ لها كرسيًّا بمحاذاة ممرّ الرّقص
و بين من اجتمعوا كعادتهم
يملنهم بالرّاح و لا يثملون
أراقها الغليان الثّائر في الحديث المهيض
بقصدير الدّم المراق
بذخيرة التّراتيل العشرة الوهميّة
و بحزنٍ شفيفٍ
أشعلتْ سيجارتها من الشّمعة المُضاءة بيننا
و قالت:
جبينُ الصّباح زمردٌ يُشعشعُ في عقود مصائرنا
تهاويل السّماء السّحيقة داء أبيّ العضال
الكنائسُ القريبة منّا كعشيقةٍ منسيّةٍ لسجّلها الشّائن
الحورياتُ بأثداءٍ محنّطةٍ
مجرّد أيقوناتٍ لصكوك الشّهوة
دبيبُ النّساء المزدان باللّذة و النّبيذ و رقص شاكيرا
صار اليوم ثالوثًا مفتوحًا من نافذة البار
فوق ضريح جان دارك
القطوفُ الدانية تحت سرّتي
مشهدَ عرسٍ لزمانٍ مضى
عقاربُ وجنتاي في بحر هياجهما
و زندي المبسوطة
و لونُ شعري المطريّ الأزرق نشيدُ بلادي
أراجيحُ طفولتنا لا تتوجّسُ خيفةً أيّام عيد الفصح
المباهجُ ترمي عصافيرها لخريفِ الأزلِ
و الطّريق إلى الفردوسِ يمرّ من كأسّ مدفوع الأجر
ناهيك ..
أنّ عزرائيل هنا في بلد العجائز كثير التّريّثِ
و سربروس اليوم أليفٌ يلعقُ الصّحون
وضعتْ أشياءها في حقيبتها
لتُبدي
أنّ اللّقاء انتهى

تحدّث عن الكنائس التي شهدت مرّ التاريخ مجازر باسم الدّين، و جان دارك تكون إحداهنّ، كما غاليلو الذي أُعدم كونه قال أنّ الأرض كرويّة الشّكل، فاتّهم بالإلحاد و قُتل، ثمّ القديس فالنتاين الذي قُتل هو الآخر كونه أحبّ فتاة، و الرّهبان مُحرّم عليهم الحبّ أو التّفكير فيه أصلاً،        و راهبات كثيرات تعرّضن للاغتصاب من طرف الكهنة في الكنائس ليُتّهمن بالعار فيُعدمن دون سماعهنّ.
الكنائس في بعض الدّول الغربيّة باتتْ خاليّة و مهجورة حتّى من رجال الدين فسكنها العنكبوت و امتلأت غبارا، فلتاريخها الدّموي في نفوس النّاس صارت مهجورة و منسيّة تمامًا.

كلمة أخيرة:

في الأخير يمكن القول أنّ للشاعر "هاتف بشبوش" كتابات شعرية موسومة بالدقّة و المعنى و المغزى العميق، فهو قامة أدبيّة شامخة غنيّة عن التّعريف، حيث كتاباته تمتاز بالواقعية من أرض الواقع المعاش سواء في الغرب أو في الشرق، يُقدّمها للقارئ البسيط بطريقة سلسة سهلة المفهوم، بعيدة عن الغموض و التعقيد، حيث اعتادنا كتاباته الواضحة بأبجديته السماوية التي صنعها ببصمته الخاصّة.

37
أدب / مقهى الياسمين
« في: 23:26 05/03/2018  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة

مقهى الياسمين

في مقهى الياسمين
حيث كنّا نشرب الشاي
أنا و محبوبي الأوحد هاتف
بنكهة اللّيمون
هناك
حيث كنّا نمضي أوقاتا جميلة
يحيط بنا الحبّ و الأدب
ثمّ نشرب من ذات الكوب الثّاني
في الأخير
نتشاطره رشفة رشفة
كما كتبها هو يوما
في رائعته
صيفٌ قادمٌ
فعلناها معا كما جسّدها
حرفا حرفا

*******

في طريقنا لمقهى الياسمين
حيث نصلها يدا في يد يوميّا
و قبلات لا تنتهي طيلة الطّريق
و كلمات رومانسيّة
بالحبّ و العشق
كهالة بيضاء تضيء
وجه حبيبي هاتف
بابتسامته التي تسلب لبّي
بكلماته السّاحرة
التي تجعلني طيلة الطّريق
ألتهم شفتيه في الشّوارع
على مرأى النّاس

*******

في طريقنا لمقهى الياسمين
أنا و رفيق الدّرب الطويل هاتف
أعضّ أذنه دوما
لأنّه يمازحني بقوله
أنت لا تحبّينني !!
فأقول
سأعضّك
و أمصّ أذنه اليسرى بشفتيّ دوما
لأبرهن له
عن عشقي الأبديّ
و للأبد


* مقهى الياسمين في حمامات الياسمين/تونس

22/01/2018


38
أدب / سؤالٌ بريءٌ
« في: 23:05 01/03/2018  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة

سؤالٌ بريءٌ


سألني محبوبي الأوحد مازحًا
لماذا لا تُحبّينني؟
فأجبته
أنا لا أحبّك فحسب
لأنّي
تجاوزتُ مرحلة الحبّ
منذ أكثر من سنة و نصف
و الآن
أنا أعشقكَ حدّ العبادة
لهذا لم أعد أكتب لكَ
أحبّك فقط
ألم تنبه أنّي أهيم بك؟
و أنّكَ أصبحتَ نبضي؟
و روحي؟
و عيناي؟
أتعرفُ أنّي أتنفسّ حبّكَ ؟
و لهذا
أكتبُ لك دومًا
أعشقكَ
لأنّي أعشقكَ بجنون
و سأظلّ أعشقكَ
للأبد

39
أدب / دموع في مطار قرطاج
« في: 11:34 25/02/2018  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة و كاتبة و باحثة و ناقدة

 

دموع في مطار قرطاج


قال لي بعد سفرتنا تلك
دموعكِ في مطار قرطاج
كانت ينبوعا يجري
و أنا
حالما رحلتِ
بقيتُ بحشرجة النّزع
أحسستُ
أنّني في ثديَيْكِ عالق
و في شفاهكِ أسكنُ
و على كتفيْكِ أغفو
أحبّكِ بكلّ ما أملكُ
و بكلّ قوّتي و طاقتي
إلى الأبد.. إلى الأبد.. إلى الأبد..


40
أدب / شهيد الحزب الشيوعي
« في: 18:35 21/02/2018  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة و كاتبة و باحثة و ناقدة



شهيد الحزب الشيوعي


على درب الأيّام و على ناصيّات الزّمان
وقفت أحدّق في الكون الغريب
الموت يحلّق فوقي
و أنا أريد أن أكتشف سرّ الحياة
السرّ الدّفين..
نسيم اللّيل يحمل إلى مسامعي لحنا ما
إنّها سيمفونية الموت
نعم إنها سيمفونية الموت الّتي تعزف كلّ ليلة
على يد جلاوزة البعث
يزيد تعذيبي
و يزيد عذابي
هذا الزّمن الهمجيّ يكبّل حرّيتي
من ذا الّذي يقتله؟
أريد أن أكتشف سرّ الحياة
قبل أن يأتي قاتلي
قاتلي..
لست أخشاك يا قاتلي
و ماذا يعني رصاصة في صدري؟؟
و دم طاهر ينزف على أرضي؟؟
المهمّ أن لا يكون لك شرف أسري
فوق ترابي
حتىّ و إن أسرتني
فلك منّي عنادي الشيوعيّ
آه..أريد أن أعرف
لم تحوّلت زقزقة العصافير إلى نعيق الغراب؟؟
و لم النّجوم غابت عن السّماء؟؟
لم تحوّل الزّهر إلى أشواك؟؟
و الأساور إلى قيود؟؟
و البسمة إلى دموع؟؟
لم اصفرّ الورق الأخضر ؟؟
لم ذبُلت الأزهار؟؟
و السّماء تمطر دموع الأمهات؟؟
لم..و لم.. و لم؟؟
أريد أن أعرف
و لكن كيف لي أن أعرف؟
إلى متى سيدوم هذا الأنين؟
و متى سيجفّ الدّمع من القلوب؟
لست أدري؟؟
تتوالى الدّقائق
تتوالى السّاعات..
و لا زلتُ على قارعة الطّريق
رفقة الصّمت المخيف
أسأل و لا أجيب.. لا أجيب..
لا زلت أحمل السّراج المنير
الأحمر رمز الفقير و الكادح
الأحمر تُزيّنه مطرقة و منجل
ماذا أسمع؟
وقع أقدام
نعم أقدام لسير بخطى متشابهة ..متناسقة
هل حان موعد موتي؟؟
و من ذا الّذي يهاب الحقّ؟؟..
مللت الانتظار
لا أعني الموت
لأنّي سأبقى خالدا للأبد
أعني الفجر الجديد
أعني شعاع الأمل
لكنّه سيأتي
لا بد له أن يأتي..
بالدّم الطّاهر سيأتي

41
أدب / أقراطٌ طويلةٌ
« في: 21:01 02/02/2018  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة.


أقراطٌ طويلةٌ



حملتُ معي أقراطي الطّويلة
تلك التي يهواها محبوبي
و رفيق دربي الأبديّ

هناك في نابل
بحثنا معا عن تلك المدوّة
أقراطٌ جعلتني مثيرة
في عينيه
تلك التي اشتراها لي
بنوعيها الأبيض و الأصفر

و في المساء
حيثُ سهرتنا الليليّة
بفندقنا المناريّ
ارتديتُ الصّفراء الطّويلة
حيثُ مرحنا
و شربنا
و رقصنا معا
بأيدي متشابكة

أنهينا يومنا بليلة رومانسيّة
حتّى انبلاج الفجر التونسيّ
و حبيبي نائمٌ في حضني
حتّى الصّباح
أمسّدُ له شعره
و أهدهده بقبلاتي
التي يغفو عليها دائما

19/01/2018

42


وشمًا أزرعه على جبيني و أُتحفُه بحروف اسمك


نوميديا جرّوفي

مشيت و كنت معي
أمامي تلتصق بي و أنا بجانبك
نسمة من مطر شتاء و غيمة ربيع
حملتها لي فراشة من بساتينك
حينها
يدي لامست يدك
و أنا أمشي بجانبك
اشتهيت أن أنظر لوجهك
و أصبعي بأصبعك
لهيب الشوق تفجّر بداخلك
شبكت أنت كل أصابعي بيدك
و بقوة ضممتني لصدرك
حدّثت حينها دقات قلبك
عانقت يدي رقبتك
و جسدي ما فارق جسدك
دارت الأرض فرحا بي و بك
و أُُمطر علينا شرابا
سكرته كانت بسمة شفتيك
و لم أُروى إلاّ من نظرات عيني لعينيك
ذُبتُ فشعري لمسته يدك
و تخللت بخصلاته أناملك
تبللت باقات الياسمين بندى نادر
تنفّستُ أنفاسك
و اشتريتُ زجاجات المسك
فرحيقها هواءك
جلستُ في حضنك و أمسكتُ يدك
و نظراتي حدّثتكَ
وشما أزرعه في جبيني
أتحفه بحروف اسمك
فعناق يدي ليدك به الأطفال انبهرتْ
توقّفتُ و كنتُ بجانبك
أصابعي متشابكة بأصابعك
و وجهي يحلم على صدرك
قصيدة عشق حفرتها بين عينيك
قبلة وصلت لعينيّ من عينيك
و أنا بيقظتي أداعب شعرك
تحقّق حلمي
لأفني عمري معك
و أموت و أنا على كفّ يدك
14/01/2018



43
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة.

اللّجنة الثقافية لتيار الديقراطيين العراقيين في كوبنهاكن تحتفي بالشاعر يحيى السماوي.


احتفى تيار الديمقراطيين العراقيين في كوبنهاكن (الدنمارك) بالشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي في أمسية شعرية يوم الجمعة 15/12/2017، و حضر الأمسية نخبة من المبدعين       و الشعراء و الفنّانين و مُحبّي الشاعر الذين حضروا للقائه والاستماع له.
أشرف على الأمسية الشعرية و تقديمها الشاعر و الناقد السماوي هاتف بشبوش الذي افتتح الأمسية بكلمة ترحيبية للحضور و شكرهم على تواجدهم مُرحبّا بالضّيف القدير، ثمّ قدّم مداخلة قيّمة، عرّف فيها الشاعر يحيى السماوي مُتحدّثا عن أعماله و عدد دواوينه (25 ديوانا) و آخرهم (حديقة من زهور الكلمات)، و ذكر أنّ هناك العديد من النقاد الذين تناولوا كتاباته في دراسات أدبية و من ضمنهم هو أيضا الذي تجاوزت دراساته المائة صفحة.
كما أخبر الحضور أنّ الشاعر يحيى السماوي يكتب الشعر منذ أربعين سنة حاملا حبّ الوطن دوما، و بدأ الكتابة في الستينات، و أنّه أُكرِم مُؤخّرا بشارع يحمل اسمه في السماوة (شارع الشاعر يحيى السماوي).
و أضاف أنّ الشاعر يحيى السماوي يساري و مناضل ينتمي لطبقة البسطاء و الكادحين، عانى الكثير زمن البعث الفاشي في أقبية السجون، و حُكم عليه بالموت لكنّ الله منّ عليه بعمر طويل و نجا من حبل المشنقة ليُحبّ الناس أكثر و أكثر.
وصلت كتاباته لكل أرجاء العالم لغاية سنغافورة و ماليزيا ،         و حصل على جوائز كثيرة، اعتلى منصّات عديدة في شتّى بقاع الأرض، كما احتفى به البرلمان الأسترالي و حصل على منزلة رفيعة هناك.
ثمّ أعطى الكلمة للشاعر يحيى السماوي فتكلّم عن عذابات صاغها بقصيدة رائعة تغلغلت كلماتها في أعماق من سمعها من الحضور هناك.
ثمّ تقدّم بشكره لمؤسسة النور التي كرّمته قبل أيام، و كذا تيار الديمقراطيين العراقيين الذي احتفى به و الشاعر و الناقد هاتف بشبوش الذي يُشاركه الطاولة.
و بعدها ألقى على مسامع الحضور قصائدا رائعة جعلتهم منبهرين باللغة و الكلمات و المفردات التي يصوغها بأبجدية أدبية لا توجد عند غيره.. إنّها من الحديقة الكلماتية السماوية ليحيى السماوي.
و في نهاية الأمسية كانت هناك مداخلات مختلفة لبعض الحضور، و اختتمت الأمسية بتقديم باقات ورد عربونا عن محبّتهم و حفاوتهم و تقديرهم له.





44
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة.

ثلاثة أقمار سماوية تتألّق في مهرجان النور الثامن (دورة الشاعر يحيى السماوي)



 
افتتح مهرجان النور للإبداع الثامن (دورة الشاعر يحيى السماوي) يوم السبت 09-12-2017 لثلاثة أيام على التّوالي بحضور نخبة من الكتّاب و الشعراء و الناقدين، من بينهم الشاعر و الناقد السماوي هاتف بشبوش و الروائي كريم السماوي رفقة الشاعر القدير يحيى السماوي.

أشرقتْ سماء مالمو السويدية بالقامات السماوية الشّامخة هناك بوجود قمرها الساطع يحيى السماوي.

أشرف على الأمسية الأدبية لليوم الأول الفنان رياض محمد، مرحّبا بالشاعر الكبير يحيى السماوي و قد طلب منه قراءات شعرية في بداية الجلسة، كما طلب منه ذلك بين الفقرات التي تضمّنت أبحاثا لشعراء و أساتذة.

الشاعر حسن: الخرسان يا شيخ.. قلتُ له.. لكنّني قمح
الناقدة نبيلة علي: التناص التاريخي و الديني عند يحيى السماوي
د. سعدي عبد الكريم: تجليّات الدّهشة و تمظهرات المعنى في البثّ الحسّي و الفكري في القصائد الشعرية الوامضة للشاعر العراقي يحيى السماوي
الشاعر و الناقد هاتف بشبوش: يحيى السماةي بين العدمية      و الآيروتيك
الروائي كريم السماوي: المؤثرات المكانية في تكوين شخصية الشاعر يحى السماوي و أثرها في شعره و نثره و مواقفه السياسية و النضالية
د.خضير درويش: مستويات التشكيل الشعري في ديوان (قليلك لا كثيرهنّ) للشاعر يحيى السماوي

و هنا سأنقل لكم الدراسة التي قدّمها الشاعر و الناقد هاتف بشبوش و البحث القيّم للروائي كريم السماوي ليتسنّى للقارئ التعرف على الشاعر الكبير يحيى السماوي عن قرب .

- الشاعر و الناقد هاتف بشبوش قدّم دراسة ثمينة بعنوان (يحيى السماوي بين العدمية و الآيروتيك):

يحيى السماوي شاعرٌ أيكي، فيّاض بحنانه و وفائه، يُغنّي ألماً ويطيرُ شوقاً. شاعرٌ مطري و لم يكتفِ بهذا الوصف، بل يحاول جاهدا أن يكون مظلّة المطر فنراه يقول في حنوهِ المطري :


لأنّكِ النّخلة التي غدت بمفردها
بستاناً على سعة الدّنيا
أوقفتُ عليكِ أمطارَ عمري

يحيى السماوي شاعرٌ ومناضلٌ ورمزٌ لصبانا الثّوري في السبعينيات ، لما ما لاقاه من مطاردة وتشريد وتعذيب في زمن البعث المجرم حتّى أصبح إسماً تتناقله الألسن منذ ذلك الوقت وديوانه الأوّل (عيناك دنيا 1970) ، حتّى أكمل ديوانه الخامس والعشرين ( حديقة من زهور الكلمات ) ، وهنا بالتّحديد استوقفني فأطلقتُ عليه بالشّاعر الجوراسي نسبة إلى الحديقة الجوراسيّة المفترضة في كوستاريكا الدّولة التي أعتبرت من الدّول الأولى في صداقتها للطبيعة والزّهور القادمة من الأزل حتّى صوب الأبديّة والتي خُصّص لها مُتحفا هائلا . أطلقتُ على يحيى السماوي بالشّاعر الجوراسي لأنّه قد داف ديوانه الأخير بعصارة زهور الكلمات التي سقاها من نسغه الصّاعد هو الآخر صوب الأبديّة نظرا للتّكريم الذي حصل عليه مؤخرا في تسجيل شارعٍ باسمه   ( شارع الشاعر يحيى السماوي) وهذه أوّل مرّة يُكرّم شاعر وهو على قيد الحياة فالعمر المديد لشاعرنا .. وهنا انطبقت عليه مقولة كزانتزاكيس اليوناني الشّهير برواية زوربا حين قال لطبيبه وهو على فراش المرض من أنّ الشعراء لا يموتون .
يحيى السماوي له من الحزن المميّز في شعره و هواه و قلقه على وطنه.. كما يقول المتنبي ( بادٍ هواكَ صبرتَ أم لم تصبرا..وبكاكَ إن لم يجر دمعكَ أو جرا .. المتنبي العظيم) ...
أو مظفر النواب (حزن لا مو حزن .. لكن حزين .. مثل بلبل كعد متأخر لكة البستان كله بلاية تين) ...ولذلك يحيى السماوي        و نتيجة مسحة هذا الحزن الشّعري إستحق بجدارة عالية ان يتأطّر بأحزان (جبران خليل جبران) فنال الجائزة الجبرانيّة العالميّة الكبيرة في أستراليا .
أغلبُ قصائد الشّاعر يحيى السماوي لا تـُحجب وراء الستار بل هي موصوفة على مقاساتنا نحن البؤساء في أغلب الأحيان والسّعداء قليلا بما يكرم علينا الزّمن بين الفينة والأخرى ، فنرى يحيى في أغلب أعماله يتحدّث عن الإنسانيّة المعذّبة أو عن العامل الذي يئنّ تحت غول رأس المال، هو الشّاعر الذي ينضحُ حبّا لأحفاد عروة بن الورد حين يقول :

بـسـطـاءٌ
كـثـيـابِ أبـي ذرّ الـغـفـاري
خـفـافٌ
كـحـصـان عـروةَ بـن الـورد
يـكـرهـون الإسـتـغـلالَ
كـراهـةَ الـشـجـرةِ لـلـفـأس

يحيى تمثال حيّ يزوره مئات المعجبين لأنّه الكلمة الضّاربة في اللّغة وفي الصّورة وفي المخيال العجيب غريب ، بنى مجده من أساسٍ صادق فلا يمكن له أن يذهب مع الرّيح وإذا ذهب فهو (كلارك كيبل) و (فيفيان لي )أولئك اللذينِ عثرا على حبّهما الحقيقيّ الصّاعد صوب الخلود في رائعة مارغريت ميتشل( ذهب مع الرّيح ) الرّواية الوحيدة لها ثمّ مرضت و أجبرت على المكوث في البيت .
الشّاعر يحيى وهو في قمّة يأسه يرى على الدّوام تغييرا جديداً ،هو ذلك الديالكتيكي الواضح وبلا مواربة مثلما تقول فرجينيا وولف ( أرقبُ على الدّوام عصراً قادماً ، أرقبُ الجشع ، أرقبُ قنوطي الخاصّ ، لكنّني أصرّ على أنْ أمضي هذا الوقت ، في عمل أفضل الغايات)...
يحيى منذ أوّل شقائه في الشّعر وحتّى اليوم شاعرا عمودياً ثمّ ناثراً ، سونيتياً ورباعياً ، موشحياً ، ثمّ له من البانوراما التي تسلّط الضّوء بشكل واضح للرّسالة التي يُريد إيصالها لنا....
من يقرأ يحيى السماوي وشعره التهكمي السّاخر من لصوص السّاسة سيفهم من أنّنا ضحايا عصرٍ إنتقالي كما في الثيمة أدناه:

سِــــيّـانِ عــنـدي جَنّـة وجـحـيـمُ
إنْ قــد تــســاوى نـاسِـــكٌ وأثــيــمُ
مانفعُ ضوءِ الشّمس إنْ كان الـدُّجى
في القلبِ ؟ أو أنّ الـضميرَ هـشـيـمُ ؟
الـسّـاسـةُ الــتـجّـارُ أصـلُ شــقـائِـنـا
فـهـمُ الـرّزيـئـةُ والـغــدُ الــمـشــؤومُ
إنْ لـم نُـطِحْ بالـمُـتـخَـمِـيـنَ فـيـومُـنـاداجـي الضـحـى ورغــيـفــنـا
قُّــومُ

حين نقرأ هذه الرباعية السّاخرة سنفهم ( إنّ مشكلة عصرنا تكمن في أنّه قد أمسكَ بنا من الوسط) ، لأنّ المتأسلمين سمّموا نظرتنا إلى الأشياء الماديّة . والدواعش سمّموا نظرتنا إلى الإسلام والمتأسلمين والعالم الرّوحي الذي هو أساس السّلوك الإسلامي ، حتّى فقدنا تقديرنا العفوي لجمال العالم .
الشّاعر يحيى يكاد لايخلو ديوانا له من ذكر الجنس اللّطيف والتغزّل به وجدانيّا او آيروتيكيا من باب أنّ الشجاعة تتمثّل في إغواء المرأة ذاتها أكثر من مرّة.... وليست الشّجاعة في إغواء أكثر من إمرأة .
يكتب يحيى عن المرأة بالضدّ من أولئك الذين ينظرون لها بأنّها خطيئة تمشي على قدمين.. بينما هي الفردوس و اليوتوبيا .. هي التي أنجبت وتماهت في عشق روميو وباريس وقيس وجميل وشاترلي والهندي ديفداس ، من أجلها تنازع النبيل الشاعر الروسي بوشكين حتّى قُتِل .
يحيى السماوي له صلصاله الذي جُبل عليه وما من مفرّ.
طينكِ الياقوتُ والتبرُ
وياقوتيَ طينٌ
والمنافي منزلي
مالذي أبقاِكِ حتّى الان لي ؟
منذ نهرينِ ومشحوفٍ وهورٍ
وأنا أركضُ في بريةِ الحزن ولما أصلِ

حين نقرأ الشّاعر في غزليّاته ، نجد أنفسنا في فردوسٍ من التّفاصيل ، صغيرها وعظيمها: مثل النظرة الأولى ، القدريّة في الحبّ ، الإلتفاتة ، ماذا نفعل حيال الحبّ؟ وصف الحبيب ، تبادل النّظرات ، العفويّة في اللّقاءات ، النّدم ، الجرأة ، المراقبة ، التّحديق ، الإنجذاب ، التعلّق ، تبلّد الشّعور ، السّأم ، العذل ، عظمة القلق ، اللّواعج ، وكلّ ما عرفناه وما لم نعرفه عن الجنس اللّطيف وما يخبئهُ عند التّمدد فوق طيّات الحرير:
تمدّدي على عرشِ سريرك
لأقصّ عليكِ باللّثم حكاياتِ
ألفِ قبلةٍ وقبلة
والتّفاحةِ الحلال
التي أعادتني إلى الجنة

وماذا يقصّ عليها بعدُ أكثر من ذلك ، لقد صيّر اللّثم كلام ، وربي هنا تكمنُ عبقرية الشّاعر ، العبقريّة معرفة فطريّة لا يلجأ فيها العبقري إلى إستخدام القواعد المشاعة ، لأنّها عكّاز يحتاج إليها الأعرج بالضّرورة وهي عائق للسّليم الجسم ، وقد ألقى بها هوميروس بعيدا . ماذا يقول لها حين تنام على الحرير ، مسترخيّة تماما في خدرها ، مشمّرة ساعدها الأيمن فوق حافة السّرير الفردوسي الأبيض ، مائلة برقبتها بحياء تامّ وكأنّها تريد أن تقول له: كفاك ياشهريار من كلّ هذا التّنويم المغناطيسي فأنا نمتُ مع الخدر الكلماتي الذي أسمعه منك.
( صحيحٌ من قال... أنّ المرأة تعشق بأذنها ) ها هي تستمع إلى كلّ هذا الشّجن الشعري المسطّر والمداف مع اللّثم ، إنّه يزفّ لها كلماته اللّثمية وكأنّه فراشة ملوّنة تريد أن تقضم بزغاب جلدها النّاعم فنراها مُدغدغة تماما ولا يسعها سوى أن تقول: يا شهرياري تصبح على ألف خير .
هناك الكثير مما يجب أن يُقال عن يحيى فأنا شخصيّا كتبتُ عنه أكثر من مائة صفحة، لكنّني هنا أستطيع القول أنّ من يقرأ يحيى السماوي سيرى من أنّ الإنسان محكومٌ بجبرية الكاتب الفرنسي الوجودي (البيركامو) وهي مثلثة (الجوع ، الجنس ، والوضع الإجتماعي) ماركس وفرويد وبافلوف.
وفي النهاية أقول من أنّ يحيى السماوي تقنيّة مذهلة في التوصيف والتورية والإنزياحية، لا أجد مألوفا ولاروتينا ولاغثيانا في أغلب أشعاره . إنّه الشّاعر الذي يمتلك أصابعا من أطرافها ينساب نهر،إنّه الشّاعر الذي يكاد يقترب ممّا قاله الجواهري ( كلّما حُدثتُ عن نجمٍ بدا/ حدثتني النفسُ أنْ ذاك أنا!) . فتحيّة للشّاعر الكبير يحيى الذي سنسمع منه اليوم الجميل والجميل.... والأجمل .....

- قدّم الروائي كريم السماوي بحث ثمين و قيّم بعنوان (المؤثرات المكانية في تكوين شخصية الشاعر يحى السماوي و أثرها في شعره و نثره و مواقفه السياسية و النضالية):

لو تخيلنا قمرا صناعيا يحوم في الفضاء البعيد، ووجهنا عدسة كامرته على العراق، ثم ركزنا عدسته الزوم على محافظة المثنى اليوم لوجدنا عدة محطات نختار منها خمسة لها أثرها الكبير وبعدها الحضاري والثوري والثقافي والإنساني الذي ساهم وانعكس في بناء شخصية الشاعر يحيى السماوي ومن ثم أثرها في شعره ونثره ومواقفه السياسية والنضالية.

المحطة الأولى: حضارة أوروك

أوروك ( الوركاء ) ذات الأسوار أقدم مدينة حضرية في التاريخ الإنساني. والتي تقع على بعد 30 كيلو متر شرق السماوة مركز محافظة المثنى. ومن أوروك انطلقت رحلة الكتابة المسمارية قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، فعرفت الإنسانية الكتابة لأول مرة. وكـُـتبت فيها ملحمة جلجامش، أقدم ملحمة إنسانية، أقدم من الإلياذة والأوديسة والراجفيدا. بل إنها كـُـتبت بصورة شعرية يمكن لنا أن نتغنى بأبياتها اليوم وكأنها كتبت بالأمس فقط، فهي ملحمة الخلود التي أغنت الفكر الإنساني بالكثير من الأفكار والقيم الجمالية، وهو ما يمكن أن نلمسه من أول مطلع هذه الملحمة:

هو الذي رأى كل شيء .. فغني بذكره يا بلادي

ومما تجدر الإشارة إليه أن العالم احتفل في زمن النظام السابق بمرور خمسة آلاف سنة على اكتشاف الكتابة في أوروك. وجاء علماء من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها ليحدثوننا عن أهمية أوروك في التاريخ الإنساني، ويعرفوننا بحضارتنا التي نهملها اليوم، والمؤسف يحيط بها أناس يجهلون أهميتها، بل إن بعض القاطنين حولها وبعض الرعاة ينتظرون نزول المطر ليقوموا بالبحث عما عرّته تلك الأمطار من التربة فيعثرون على الأرقم الطينية والأختام والآثار لا من أجل أن يتعرفوا على حضارتهم ويصونونها، بل ليبيعوا ما يعثرون عليه ببضعة مئات من الدولارات، فبهذه الطريقة وبأمثالها تسربت الكثير من آثارنا إلى متاحف العالم كما نراها اليوم.
وبالتأكيد إن مثل هذه الصورة تنطبع في ذهن كل سماوي، وأكثر مَن يتأثر بها مبدعو السماوة ، والشاعر يحيى السماوي يستمد بالتأكيد بعده الحضاري الضارب في التاريخ من هذا المنطلق رغم الصورة البائسة المقابلة لإهمال هذه الآثار العظيمة.



المحطة الثانية: سجن الرميثة وثورة العشرين

انطلقت ثورة العشرين من الرميثة، وتحديدا بعد إطلاق سراح الشيخ شعلان أبو الجون شيخ عشيرة الظوالم عنوة من سجن الرميثة في حكاية العشر ليرات ذهب المعروفة والتي أوصى بجلبها له قبل ترحيله إلى بغداد من السجن، وكان يعني بها إرسال عشرة رجال أشداء كالذهب، فيما يُعرف بتقاليدنا بالحسجة التي يجيدها ساكني الفرات الأوسط.
وهذه الثورة التي انطلقت سنة 1920 وعُرفت فيما بعد بثورة العشرين وعمّت العراق كله كبدت الإنجليز خسائر توازي خسائره في احتلال العراق، ولم ينفع الإنجليز بعد أن حشدوا أكثر من 700 ألف عسكري إنجليزي وهندي من السيخ والكركة في إخماد هذه الثورة، ودارت معارك عديدة هنا وهناك، وخاصة عند جسر السوير، حيث تصدى رجال شجعان وأوقفوا تقدم القوات المحتلة. وحاول النظام السابق التقليل من أهمية هذه الثورة، لأنها تمد الروح الثورية ضده، فعمد إلى محاولة سرقة منجزات هذه الثورة فقام بتمويل فيلم بعنوان " المسألة الكبرى " ليوحي بأن الثورة انطلقت من مكان آخر غير الرميثة التي تبعد 30 كيلو متر شمال السماوة. ولهذا أيضا صدح أحد الشعراء السماويين محتجا على هذه السرقة فهوس قائلا:

لو إن شعلان يدري انباكت الثورة جا فج التراب وطلع من قبره
إهي بالسوير المسألة الكبـــــــرى ها الشاهد والله الشاهد عدنا
أيتام من العشرين..

وهذا السجن الذي انطلقت منه شرارة ثورة العشرين لا يزال قائما غير أنه مهملا، مثله مثل آثار أوروك. ولكي أنقل لكم صورة مقربة عن مدى إهمال هذا السجن الأثري المهم أحدثكم بما قاله لي ابن العم الشاعر الغنائي ناظم السماوي مشيرا إلى سجن الرميثة الذي انطلقت منه شرارة ثورة العشرين:" هذا السجن يبكي على قوطية صبغ اليوم ".
ومع هذا أؤكد لكم أن الشاعر يحيى السماوي يستمد روحه الثورية في شعره من هذه الثورة العظيمة.
المحطة الثالثة: محطة قطار السماوة

بنى المستعمر الإنجليزي في أول احتلاله خط سكة حديد لنقل البضائع في محاذاة نهر الفرات ليسهل عليه نهب ثروات البلد. وبنى لهذا الخط ثلاث محطات رئيسية، الأولى في البصرة بالمعقل، والثانية في بغداد بعلاوي الحلة، والثالثة في السماوة لأنها تتوسط المسافة بين البصرة وبغداد، وتبعد عن كل منهما 270 كيلو متر. ومحطة قطار السماوة عبارة عن قلعة لها أبراج، وهي قائمة إلى اليوم.
وبعد فترة جلبوا قاطرات وعربات لنقل الركاب، مما ضاعف من أهمية هذه المحطات، وخاصة محطة قطار السماوة، وذلك لأن القطار الواصل إليها من البصرة أو بغداد أولا كان لابد له من انتظار القطار الثاني لأن خط السكة واحد. كان قطار البصرة ينطلق في نفس وقت انطلاق قطار بغداد في الساعة الثامنة صباحا، ويصلان محطة قطار السماوة في الساعة الثامنة مساء، ثم يواصلان طريقهما ليصلا في الساعة الثامنة صباحا من اليوم التالي. وبعد ذلك استحدث قطار سريع آخر يصل محطة قطار السماوة الساعة 12 مساءً.
وهذا كان يجعل من محطة قطار السماوة التي تقع وسط المدينة شعلة من الحركة في التوديع والاستقبال، وحتى التنزه، بل إن بعض الطلبة جعلوها مكانهم المفضل للدراسة خاصة مع قرب الامتحانات. وكانت الفسحة الزمنية بانتظار القطار القادم من الجهة الثانية طويلة وتتكرر مرتين مما ساعد الركاب على تناول طعامهم أو شرب الشاي والصلاة، وأوجد مهن للباعة المتجولين وغيرهم فتبدو المحطة في تلك الساعات بأضوائها المتعددة شعلة من الحركة بين مودع ومستقبل ومرتزق ومتفرج.
ولكن هذه المحطة تحولت في يوم من الأيام إلى بطلة بحق، واستحقت أن تكون كذلك على غرار جسر درينا الذي تحول إلى بطل لرواية اليوغسلافي الحائز على جائزة نوبل في الأدب إيفو أندريتش في روايته " جسر على نهر درينا ". ففي الرابع من تموز سنة 1963 استقبلت هذه المحطة خيرة رجال العراق وهم محشورون في فراكين من الحديد محكمة الإغلاق ومدهونة بالقار من الداخل، في عملية يراد منها إعدام هؤلاء الرجال وأن يصلوا إلى محطة قطار السماوة موتى من الحر والاختناق، وهي الحادثة التي عُرفت فيما بعد بقطار الموت.
فبعد أن قام العريف حسن سريع ابن السماوة البار في الثالث من تموز بانقلاب كاد أن ينجح لولا بعض الأخطاء، قرر النظام وضع أكثر من 500 ضابط وسياسي يمثلون خيرة قيادة العراق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، وسيروا القطار في الهزيع الأخير من الليل، بعد أن أحضروا سائق القطار عبد عباس المفرجي من بيته، وأصدروا له الأوامر بالسير البطيء لأهمية حمولته، وكان هدفهم الظاهر إرسالهم إلى سجن نقرة السلمان في عمق صحراء السماوة، وهدفهم الحقيقي قتلهم بحرقهم في حر ذلك الصيف وليموتوا اختناقا، وهكذا يفرضوا الأمر الواقع. ولكن بعض الشرفاء أخبروا السائق مع بداية الرحلة أن حمولته من البشر، فما كان منه إلا السير بأقصى سرعة ودون التوقف في المحطات التالية، وعلم أهل السماوة بخبر القطار فهرعوا جميعا وأنقذوا الركاب وهم في الرمق الأخير بعد معركة مع الحرس القومي والشرطة.
وكان الشاعر يحيى السماوي من المشاركين هو وأهله وأبناء السماوة حين كان عمره أربع عشرة سنة، ولهذا انعكس ذلك في العديد من كتاباته النثرية والشعرية بتلك الحادثة. ففي معرض رده على مقال لزهدي الداوودي سنة 2013 عن قطار الموت قال مستذكرا:

ها أنت يا سيدي ترجع بي إلى الربع الأول من عام 1963 ... كنت آنذاك صبيا في الصفوف الأولى من دراسة المرحلة المتوسطة .. فوجئت بعمي بائع اللبن المرحوم " عبد الأمير " وأبي يحملان سطلين من اللبن الخضيضة والماء يطلبان مني مساعدتهما بحمل " رقية " كبيرة اختارها أبي من كومة الرقي في دكانه الصغير الواقع في سوق السماوة المسقوف .. أتذكر أن المرحوم " عبد الحسين افليسْ / وكان أحد أشهر الشيوعيين في السماوة " كان يصيح في السوق وهو يهرول:" يا أهل الغيرةْ والشرفْ ساعدوا إخوانكم الأحرار في المحطة ". وصلنا المحطة لنجد أهل السماوة قد حطموا أبواب عربات قطار الشحن وثمة نحو 500 رجل كانوا منهكين على أرصفة المحطة يحيط بهم أهل السماوة ويحرسونهم حاملين " التواثي " والسكاكين والعصي... النسوة يحملن الخبز والمتيسر من الطعام، والصبية ـ وأنا منهم ـ نوزع الماء ... أتذكر أن شابا وسيما ـ اتضح فيما بعد أنه الطبيب الجراح الشهير رافد أديب ـ طلب منا عدم تقديم الماء قبل أن نضع فيه قليلا من الملح أو الدواء. في المحطة رأيت خالي رسول وجارنا المعلم مكي كريم الجضعان يمارسون دور الممرضين بإشراف الشاب الوسيم الطبيب رافد .. ( بعد سنوات عديدة شاءت المصادفة أن أراجع طبيبا جراحا تقع عيادته قريبا من ساحة الطيران فعقدت الدهشة لساني، كان نفس ذلك الشاب الوسيم، عالجني ورفض استلام أجور الفحص واكتفى بأن طلب مني نقل تحياته إلى أهالي السماوة.
هذه المحطة البطلة التي أصبحت رمزا عظيما، لم تعجب النظام السابق، فبنى محطة ثانية للقطار خارج المدينة، وتركها لتصبح في البداية اسطبلا للخيل والحمير، ثم تقدم المهندس أحمد فزاع ( صديق طفولتنا أيضا ) حين كان مديرا لبلدية السماوة بمشروع تحويلها إلى فندق ومطعم سياحي وهو ما كان. أما اليوم فقد استولى عليها رجال يزعمون أنهم من أهل العلم والفتوى في تقسيم مقيت لمراكز القوى والمحاصصة.

المحطة الرابعة: سجن نقرة السلمان

أحضر الحرس القومي المزيد من رجال الأمن والشرطة وسيطروا مجددا على محطة قطار السماوة بعد أن توفى أحد ركاب قطار الموت وعولج آخرين في المستشفى، ثم أحضروا 15 سيارة لنقل السجناء إلى نقرة السلمان بطريق ترابي. وقام أحد فضلاء السماوة بتحميل سيارة حمل كبيرة من المواد الغذائية وغيرها هدية لتعين السجناء في سجنهم الضارب في عمق الصحراء. وهناك كانت فصول الجحيم، وأرادوا إرسال فرقة إعدامات للتخلص من السجناء جميعا، غير أن النظام تخوف من ردود الفعل الداخلية والخارجية. وبعد ذلك أضيف لذلك السجن المزيد من السجناء مما اضطر السلطات إلى بناء عشرة قواويش جديدة، ومع ذلك ومن كثرة السجناء كان لا يُسمح للسجين بالنوم على بطنه أو ظهره وعملوا جدول للنوم لكي يسعهم المكان من كثرتهم.
هذا السجن تمكن السجناء فيما بعد من تحويله إلى جامعة ومجتمع حضاري متطور، يمكن لمَن لا يحسن القراءة والكتابة أن يتعلمها، والذي يريد دراسة اللغات يجد فرصته، ومَن يمتلك موهبة أدبية يطورها ويصقلها، ومَن يعشق الرياضة يمارسها، وهكذا كلٌ يجد ضالته ويطورها. كما بنوا مطبخا يوزع فيه الطعام ثلاث وجبات للجميع وبالتساوي، والماء يُجلب من الآبار المحيطة بثلاث مستويات، للسقي والغسل والشرب، وأقاموا برنامجا صحيا يشرف عليه الأطباء مع وجود خفارة ليلية، وحتى السجين الذي يدخن تحترم عادته وتقدم له السجائر بالمجان. كما تمكنوا من الحصول على راديو وأصدروا جريدة تزودهم بأخبار العالـَـم أولا بأول.
وكما هي مراكز الحضارة والرموز الثورية مهملة في محافظة المثنى، فإن هذا السجن اليوم فارغ ومهدم ولا يصلح لأي شيء، ولم يلتفت إليه أحد ليكون متحفا يعبر عن آهات السجناء الذين مروا به، وما أكثرهم، خاصة وأن بعضهم فقد حياته فيه. واليوم أستطيع وأنا أتصفح في ذاكرتي مَن سجنوا بهذا السجن فأجد صورهم مع الشاعر يحيى السماوي وهو يستمد منهم مواصلة منهجه الثوري والعقائدي، ولهذا أجد صورا مشتركة له مع مظفر النواب وألفريد سمعان وفاضل ثامر وسعدي الحديثى وزهير الدجيلي وناظم السماوي وغيرهم كثير، بل إن بعضهم ممن عمل معهم في إذاعة المعارضة.

المحطة الخامسة : مدينة السماوة

يقسم نهر الفرات مدينة السماوة إلى صوبين، الصغير وفيه معظم دوائر الدولة سابقا، والصوب الكبير الذي يقسمه السوق المسقوف المتعامد مع النهر إلى حيين، الغربي والشرقي، فإذا تركت النهر خلفك ودخلت هذا السوق المسقوف سيكون الحي الغربي على يمينك، هناك كانت مرابع طفولتنا أنا والشاعر يحيى السماوي، ومن قبلنا طفولة الشاعر كاظم السماوي الذي يكبرنا بثلاثة عقود. يتفرع من السوق المسقوف عدة طرق على الجانبين، فإذا سرت ووصلت ثلثه الأول تجد قيصرية الخياطين على يمينك، وهي من محلات معدودة بحدود العشر محلات تكثر فيها مهنة الخياطة سابقا، ثم يأتي زقاقنا أو كما نسميه " عجد " أو دربونة. هناك يواجهنا بيت أسرتي المكون من ثلاثة منازل، ويلاصق بيتنا من الجنب بيت جد الشاعر يحيى السماوي لأمه. هناك يظهر أثر الأمكنة الأكبر في رحلة الشاعر يحيى السماوي مع موهبته وعطائه، وهو الأثر الكبير الذي انعكس في الكثير من قصائده، وهناك كان الوعي الأول لنا، حيث سيل الذكريات. فإذا أضفنا إلى تأثير هذه الأمكنة تأثيرات المدرسة والبيت والمسجد والحسينية وغيرها نستطيع تكوين فكرة واضحة ومكينة عن تأثير الأمكنة في تكوين شخصية الشاعر يحيى السماوي وأثرها في شعره ونثره ومواقفه السياسية والنضالية، بعد أن نضيف لها بطبيعة الحال اضطراره إلى الهجرة والاغتراب لأكثر من ربع قرن والذي ضاعف وساهم في متانة الصور الشعرية والجمالية بمسيرة هذا الشاعر الكبير، وما نجده من فيض الحنين لهذه الأمكنة التي بلورت شخصيته وعطاءه.

فمن ديوانه الأخير " حديقة من زهور الكلمات "

وحدها أزقة و " درابين " السماوة
تقود قدميّ
كما يقود الراعي القطيع

ومن ديوان. تعالي لأبحث فيك عني..

إنها السماوة .. فادخلي آمنة مطمئنة..

ها نحن في وادي السماوة
فاخلعي الخوف القديم
الناس ـ كلّ الناس باستثناء نذلٍ واحدٍ ـ أهلي
وكل بيوتها بيتي..

اطرقي ما شئتِ من أبوابها:

تجدي الرغيف..
الظل.. والماء القراح..
وما يسركِ من كلام
الناس باستثناء نذلٍ واحدٍ
طـُبعوا بطبع نخيلها:

يتقاسمون مع الضيوف
النبضَ قبل الظل..
كل الناس باستثناء نذلٍ:
يفرشون قلوبهم
قبل البساط
وقبل آنية الطعام!
فأنا وأنتِ وعشقنا المجنون
ثالوث المحبة والغرام
يومي بظلك
ألف عام
بقيت كلمة لابد من الإشارة إليها مع التركيز على مضمونها، وهي إن موهبة الشاعر يحيى السماوي النثرية تضاهي موهبته الشعرية، وندلل عليها من خلال كتابته لمذكراته التي عنونها       ( مذكرات الجندي المرقم 195635 / ج8 ) ونشرها في الفيسبوك وتظهر لنا هذه الموهبة. ومن هذه المذكرات ما يتعلق بي شخصيا وبأسرتي حيث كتب أنه أخذ إلى الشعبة الخامسة في بغداد ليسألوا عنا حين كنا بغربتنا في الكويت، وهناك أشبعوه ضربا لا لشيء إلا لأنه جارنا فقط ويعرف أسرتي. وهذه حكاية طويلة، كتبت له عنها ورد عليّ بما يسمح من خلالها وما كتبه عن مذكراته نثرا تأكيد هذه الموهبة حيث حثثته إلى أن يصدرها في كتاب مستقل.
وتأكيدا على موهبته النثرية، أستعير كلماته في الحدث الذي شطر الزمن إلى شطرين بالنسبة له، ففي يوم ليس ببعيد من الآن، في شهر سبتمبر من هذه السنة 2017 استيقظنا على إطلاق اسم الشاعر يحيى السماوي واسم ابن عمتي الشاعر كاظم السماوي الذي ولدنا أنا وهو في بيت العائلة الكبيرعلى شارعين عند ضفاف نهر الفرات بمدينة السماوة تكريما لهما.
ولهذا كتب الشاعر يحيى السماوي تغريدة على صفحته في الفيسبوك ذكر فيها هذا التكريم باعتزاز وبكلمات يعجز المرء عن وصفها قال فيها:

ما أحببتُ الحياةَ كما أحببتها اليوم ... ولا اعتززتُ بشعري كما اعتززتُ به اليوم .. ولا استعذبتُ عذابات الأمس البعيد كما استعذبتها اليوم ... ولعلها المرة الأولى في حياتي التي بكيت فيها من الفرح وأنا أفاجأ بإطلاق اسمي على شارع النهر في السماوة ... الشارع الذي حفرتُ على جذوع أشجاره أول بيت شعر، والجسر الذي كتبت تحت مصابيحه أول مجموعة شعرية وأنا في مقتبل الحزن ... الآن أقول ملء نبضي:" لا بأس من الموت مادمتُ قد كُرِّمتُ بأكثر مما أستحق، فاليوم قد تأكد لي أنني قد عشت حياتي !".

ها أنا أبكي من الفرح لأول مرة في حياتي ..شكرا سماوة الأرضين والسماوات ... شكرا يا آل السماوة.. شكرا يا كل الذين رشّحوا اسمي واحتفوا بميلادي الجديد..

و في الختام قدّم الشاعر يحيى السماوي شكره و تقديره للحضور الكرام و هو يستلم باقات من الورد تعبيرا عن حبّ الحاضرين        و اعتزازهم بمنجزه الشّعري.

45
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة.


قراءة في قصّة (موسم الذباب) للقاصّ جمال حكمت

تبدأ القصّة بذلك الفجر الذي مازال يحتفظ بخيوطه الحمراء، لكن في صحراء جرداء من بلد مُحطّم و منهوب، بعيون ساكني ذلك الخلاء     و السّبب هو طائفيّة شتّتتْ العوائل نفسها، و الأحباب و الأصدقاء.
ثمّ القاصّ جمال بحكمته حدّد لنا المكان بقوله:
( على مسافة أميال من المدينة و المدنية)
و شرح لنا حالة السّاكنين في ذلك العراء حيث الصحراء بقوله:
(أرضه تلتمع بالرمال، لا عوسج فيها ، و لا عُشّ غراب)
و القاصّ جعل الأحمر يطغو على كتابته هنا بقوله:
(فجر لم تختفِ خيوطه الحمراء بعد) و ( الرز المصبوغ بالماء الأحمر).
إنّه لون الدماء من الحروب، لون الدماء البريئة المراقة، لون دماء الشهداء الأبرار لأجل الوطن.
المبدع القاصّ جمال، شرح لنا حالة العوز التي يعيشها أولئك النّازحين للصّحراء من خلال ما يتناولون و ما يسدّون به جوعهم في قوله:
( يقذفون حبّات الرز في أجوافهم الخاوية لعلّها تسدّ جوعا بات مستديما عندهم، بعد أن شحّ عليهم الأكل و المء،مذ هروبهم مع أهلهم من مدينتهم).
ثمّ شرح حالة النساء هناك، من حزن و بؤس، من ثكل و ترمّل، من فقد الأب و الأخ و الزوج و الإبن. بكلّ بساطة، الكاتب هنا شرح لنا حالة العراق و ما وصل إليه من وجع و بؤس و حزن و ألم دفين و طائفية و سوء حال من سيّء لأسوأ.
و عن الحالة البائسة التي كانوا يعيشونها هناك حيث تنعدم كلّ مرافق الحياة و النظافة يقول:
( الذباب منتشر في كلّ مكان، يموج حول صحون الرز و حول الخيام، يشارك الأطفال غلتهم، و يزيد عليهم بؤسهم. يسرق الأكل و بقاياه من شفاههم. لقد اعتاد الأطفال و الناس عليه هذا الأيام و اعتاد الذباب إليهم،فهم مصدر رزقه، و لو يعد له موسم محدد لتكاثره بل كلّ فصول السنة أصبحت أدرانا تعشعش فيها أسرابه المنتشرة في كل مكان، و ما عاد من سبيل للقضاء عليه إلاّ بتنظيف البلاد منه).
لكن لو تمعنّا أكثر في الفقرة نستنتج ما كان يرمي إليه القاصّ، فنرفع له القبّعة للمغزى العميق، إنّه يشير إلى ذباب المنطقة الخضراء، فالشعب المسكين مصدر رزقهم و عيشهم، و سرقاتهم اللاّمتناهية، و من خلال المواطن البسيط تزداد جيوبهم امتلاءا دون شبع.
أعجبتني عبارة القاصّ جمال في قوله:
( بعد أن شاعت أخبار حلول موسم النظافة في البلاد         و تحسين حال العباد).
هي أحد الأحلام التي يتوق إليها كلّ الشعب من تنظيف البلاد من المفسدين فيها، فالعراق يحتاج حملة غربلة في الحكومة لبعض البرلمانيين الذين أفسدوا و لم يُصلحوا شيئا، بل زاد الطين بلّة،       و عبثوا في خيراتها و شوّهوا الكثير و الكثير فيها.
نعود لتلك الذبابة التي قذفتها الريح القوية حيث زجاج تلك الصالة الفاخرة التي اجتمع فيها بعض الأشخاص لتداول أمر في غاية الأهمية، و هم يتشاورون فيما بينهم.
وصف لنا القاصّ أولئك الموجودين بدقّة أدبية تستحقّ الالتفات لكلّ واحد في قوله:
( في وجه أحدهم صورة عراف كان يقيم السحر و الشعوذة، يعد من فارقها زوجها بعودته إليها، و من تريد الهروب من زوجها بالردة عليه، و من اختارت حبيبا لها و تريد أن لا يخطف منها، يعطيها سر الأسرار، و من فقدت ولدا أو اختفى منها عزيز، يعيده إليها بكلمات تتبخر في ليلة شتاء مطرية...أخذت تدقق بوجه آخر،بدا لها كالوطواط، وضع نظارة شمسية على عينيه متباهيا بها و هو داخل الغرفة، و آخر ارتفع كرشه أمامه جانحا على الأريكة كي لا يختنق، و آ×ر كثير الكلام لم يدع أحدا يقاطعه و كأنه رئيس جلستهم، و آخر كان حماسه كلهب الحداد، في كلّ مرة يتحدث فيها يضرب الطاولة بكفه  و كأنه يحمل كيسا يريد ملأه)
فالعرّاف مشعوذ و كاذب، يسخر من الجميع و يوهمهم بالخيال بخرافاته فيعطيهم آمالا لا تتحقق أبدا و رغم ذلك يثقون فيه           و يصدّقونه.
و الوطواط يبقى بنظارته الشمسية ليخفي عينيه لأنّه ما يزال نعسانا من ليلة حمراء في الملاهي و المراقص و المواخير، حيث يصرف أموال الشعب المسروقة على بغيه و عاهراته.
و صاحب الكرش الذي أشبع نفسه و جوّع شعبه، و زاد من نسبة الفقر، يعيش هو متخما شبعا و رفاهية و لو مات غيره جوعا           و عطشا، يبقى نهما و الناس حوله التصقتْ جلودها بعظامها، ناهيك عن الأمراض التي تصيب أولئك الذين لا يجدون ما يسدّون به قوت يومهم و أجسادهم التي ينهبها المرض المزمن.
و الطامّة الكبرى أنّ حديثهم كان يدور حول كيفيّة زيادة معاناة شعبهم في قول القاصّ:
(كانوا يتحدثون حول تقسيم حصصهم و زيادة معاناة شعبهم)
وسط هذه الذئاب و الثعالب، كان هناك خروف لكنّه شجاع، حيث انتقد جماعته على قرارهم، و بعد محاولاته المريرة نجح في جعل الأمر محسوما إليه.
لكن تهبّ الرياح بما لا تشتهي السفن في قول القاصّ:
(بينما حاول النطق ببنود الاتفاق، طارت الذبابتان نحوه، قرصته احداهما في شفته كي لا ينطق، و لما حاول الكتابة بقلمه، قرصته الأخرى في كفه، فتدحرج القلم من أصابعه    و سقط).
لكنّه قتل ذبابة بينما هربت الثانية.
و في آخر المطاف امتصّوا غضبه، إذ عدل عن قراره، و وعدوه بتأييده في اجتماعهم القادم، سيطروا عليه حتّى صار واحدا منهم في قول القاصّ:
(عاد حديثهم مثلما كان، هذا لي، و هذا لك، دون رقيب و لا ضمان، و للفقراء ربّ رحيم لا يعرف النسيان)
تهرب الذبابة الناجية في الأخير لتزفّ لجماعتها خبر بقاء موسم الذباب.
القاصّ المبدع جمال حكمت، تألّق هذه المرّة بقصّة جديدة واقعيّة من عراقنا المسكين و المسلوب الحقوق.
قصّة خطّها بأدب راقي فيه نوع من الخيال حيث أدخل فيها الذباب    و جعله يسمع و يتكلّم و له دور في تعطيل قرار الثائر الذي غلبوه على أمره حتّى عدل عن قراره و صمت للأبد ليجاريهم في فسادهم.


   

46
أدب / كعادتي كلّ يوم
« في: 23:29 21/11/2017  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة،باحثة و ناقدة.

كعادتي كلّ يوم



يوقظني العشق باكرا
قبل أن يرتدي الصباح
معطفه الشّمسي
و دونما حراك
يغسل الشوق يدي و وجهي
لأكون جاهزة لكتابة قصيدة جديدة
و حينما أنتهي
أفتح نافذتي للنّسمات
لتُبارك ما كتبته لك
كعادتي أكون فيك
و أعود إليك
مجنونة أنا بك
ألتمس الخلود
و أرى فيك المنتهى
و لا أبيح لنفسي الحياة
إلاّ عندما تكون بجانبي

47
أدب / رغبة
« في: 18:28 25/10/2017  »
  عبد الرزاق جاسم، شاعر (السماوة/العراق)

رغبة

جاءت تلعب
لكن أين ؟ ومع من تلعب ؟
هاجسها أن تلعب مع من ترغب
سمراء كلون الخمر .. لا بل أطيب
لاتسألني عن عينيها .. ما شكلهما ما لونهما ؟ فمياه البحر تتعذب
الزرقة فيها سحر .. والمنظر يصرخ فيك تأهّب
كمثرى صدرها ناضجةٌ .. وعليها القطف توجّب
شفتاها كنزٌ يسألني ... أنا ملكك لاتتعب
فبقيت أصارع نفسي .. لكني قلتُ تأدب
مدُ البحر لايشبه جزره .. ولقائهما شيءٌ أصعب
قالت : هيا نلعب .. هيا نلعب
قلتُ لها . عودي أيتها الأنثى ..
عودي من حيث أتيتِ .. فقوامك أجملُ مطلب
لا ترمي نفسك في الموقد .. اذ لازالت نارهُ تلهب
أسمعتِ سجيناً يعشقُ سجاناً ؟ فانا سجانٌ ذو مخلب
أسوارُ السجن عالية .. أسلاكٌ شائكةٌ كثرٌ .. أين المهرب
صمتت بضع ثوانٍ.. قالت . هذا زيفٌ .. أنت ضعيفٌ
وسلاحك مات شهيدا وعتادك أصبح ( خلّب)
ان كنت قوياً قاوم صدقني إني أتعذب ..
وذهبتُ بها صوب الملعب ..
الملعبُ في حجرتها .. الجمهورُ .. صورٌ لاأعرف من هم
الحَكَمُ مصباحٌ مظلم .. الجولةُ عشرُ دقائق .. ودقائق أُخرى
جاء النورُ في المصباح .. ضحكت بعد الرعشة قالت :
شكرا شكرا .. أنت الفائز ولك المكسب ..
بعد المكسب ... 
صاح الديكُ .. قم يا هذا .. لا أعلم أني هل في حلم أم في مقلب ؟



48
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، باحثة و ناقدة


البيت الثقافي في السماوة يحتفي بالشاعر و الناقد السماوي المغترب "هاتف بشبوش".

 

احتضن البيت الثقافي في السماوة يوم السبت 07/10/2017 أمسية شعرية احتفائية بالشاعر و الناقد السماوي المغترب "هاتف بشبوش" تحت إشراف اتّحاد أدباء المثنى.
حضر الأمسيّة جمهور كبير من الأدباء و الشّعراء و المهتمّين بالأدب السماوي، و بُثّت الأمسية مباشرة في الفيسبوك بفضل المبدع فاضل هاني طاهر، كما حضرت بعض القنوات التلفزيونية منها: الحرة ، العراقية و النعيم، و كذا إذاعة المربد.
قدّم الأمسية و أشرف عليها الشاعر عامر موسى الشيخ الذي افتتح الأمسية بكلمة ترحيبيّة و قدّم سيرة ذاتية للشاعر و مؤلفاته الشعرية و الأدبية منها دواوينه: بأرجاء نهريك الباقيات، مفترق المجهول، الشمس تأتي من دفء مخدعك و عودة ماركس، و كذا كتابه النقدي في جزئه الأول، كما تحدّث عن كتبه الأربعة التي تحت الطبع في دار تموز. و عرج عامر موسى الشيخ عن سنوات اعتقال الشاعر هاتف بشبوش في سجون البعث لانتمائه لليسار  و من ثمّ هجرته إلى محلّ إقامته في الدنمارك.
شهدت الأمسية افتتاحية ساهم بها كلّ من الفنّانان المبدعان      و المسرحيّان ماجد وروار و فيصل جابر بمسرحة بعض من قصائد الشاعر هاتف بشبوش مفاجئيْنِ بها الحاضرين.
ثمّ استمع الحضور للشاعر هاتف بشبوش و هو يلقي على مسامعهم بعضا من نصوصه الرائعة المنتمية لشعر الحداثة (قصيدة النثر) و لم يغادر العراق موضوع نصوصه فضلا عن مدينته الأمّ السماوة و رفاق دربه، و شهداء الحركة اليسارية،و كذا الأنثى التي شكّلت موضوع نصوصه الرئيسية.
و وسط الأمسية وصلتْ رسائل و برقيات أدبية من شعراء عراقيين  و عرب من دول عديدة من العراق و المهجر مُوجّهة للشاعر هاتف بشبوش، و كانت أولى الرسائل من الشاعر و الروائي بُرهان شاوي من حيث مقرّ إقامته في ألمانيا،و من أستراليا الشاعر الكبير يحيى السماوي، و من الجزائر الشاعرة و الناقدة نوميديا جرّوفي، و من السويد الكاتب و الروائي كريم السماوي، و من النجف وصلت رسالة الكاتب و الشاعر حميد الحريزي.
كما كانت هناك مداخلات و شهادات أدبية أشادت عن تجربة الشاعر في قصيدة النثر العراقية الحديثة قدّمها الروائي و القاص حامد فاضل مُتحدّثا عن اللغة التي يكتب بها معرجا على دواوين الشاعر الجديدة، كما قدّم الشاعر قاسم والي شهادة أخرى تحدّثت عن تجربة الشاعر في النصّ و الكتابات النقدية معتبرا أنّ تجربة هاتف بشبوش تنتمي إلى تجربة النقد الثقافي الجديد مضيفا لها الانحياز،لتكون تجربة الناقد هاتف (النقد الثقافي المنحاز) إلى الطبقة الكادحة و البلاد و المدينة .
و في نهاية الأمسية قدّم رئيس الإتحاد العام و الأدباء و الكتاب في السماوة عبد الجبار بجاي درع الإبداع للشاعر المحتفى به.


49
أدب / شبح.
« في: 22:01 03/09/2017  »
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، كاتبة، باحثة و ناقدة.

شبح.

(قصّة قصيرة)

ذات مساء ممطر قرب مدخل النفق المظلم كانت تقف الشابة بلباسها الأبيض و هي مبلّلة من رأسها لأغمص قدميها.
مرّت سيارة تاكسي بالقرب منها فأشارتْ إلى صاحبها أن يتوقّف، فتوقّف   و فتح النافذة و سألها:

-إلى أين يا ابنتي؟
-إلى وسط المدينة.
- تفضلي، و فتح لها الباب الخلفي.
-شكرا لك.

 أثناء الطريق أخذ العجوز صاحب التاكسي يتفحصها من خلال مرآة السيارة، فانتبه لكونها مبلّلة و الجوّ بارد و هي لا ترتجف.. ثمّ الوقت متأخر و الظلام يُخيّم على المدينة، و هي كانت في مكان شبه مهجور!!
 ترى ماذا كانت تفعل هناك لوحدها و وسائل النقل تكاد تكون منعدمة لوعورة الطريق بانحرافاته الكثيرة،إضافة لكونه مكان مخيف بقصص الأشباح..
التفت إليها و سألها :

-ماذا كنت تفعلين في ذلك المكان يا صغيرتي؟

لم تُجبه و لم تنظر إليه حتى ،و كأنه يُكلّم غيرها.
كانت سابحة في مكان بعيد بنظرتها الشاردة و هي تراقب المطر من زجاج نافذة السيارة.
شعر السائق بقشعريرة تصيبه رهبة و خوفا منها دون سابق إنذار.
 دخلا المدينة و كان الوقت متأخر و الساعة تقترب من منتصف الليل،       و فجأة طلبت منه أن يتوقّف عند مدخل عمارة.
-انتظرني هنا،سأعود لك بالمال... و خرجت دون أن تلتفت إليه.
 انتظرها لما يُقارب الساعة و لم تعد، فخاف و غضب في نفس الوقت و قرر البحث عنها حيث دخلتْ، لكن في أيّ شقّة دخلتْ؟ و في أيّ طابق؟
دخل العمارة ذات الطوابق الأربعة ،فأحسّ بقلق و رهبة ،السكون يعمّها.. الصمت..
 أخذ يصعد طابقا طابقا و يُنصت علّه يسمع صوتًا، و أخيرا شاهد بصيص نور يخرج من شقّة فطرق الباب طرقًا خفيفًا.
فتح الباب رجل مسنّ،فسأله:

-هل دخلت عندك فتاة شابة قبل قليل؟
-لا يا ولدي.. أفزعتني و أيقظتني من النوم.
-أعتذر منك..غريب، لأني رأيت نورا من أسفل الباب فظننتها هنا.
-يا ولدي لا يوجد غيري في البيت،ادخل و سأقدم لك كوب ماء.
 دخل صاحب التاكسي و هو يتفحّص المكان، و فجأة اقشعرّ بدنه و هو يرى صورة الفتاة التي كانت معه في لوحة معلقة!!

-يا الله!! هذه من أبحث عنها!
قالها محدثا نفسه و سأل العجوز:
-من تكون هذه الشابة؟
-هي ابنتي المتوفاة منذ خمسة عشرة سنة.
 -كانت معي في السيارة قبل قليل ،وجدتها عند مدخل النفق في اعلى مكان من المدينة قُرب الجرف المميت،و هي من طلبت مني إيصالها!! غير ممكن!!لا أصدق!!
-هي ميتة يا ولدي، سأقصّ عليك كيف ماتتْ.. انتحرت من أعلى ذلك الجرف حيث وجدتها..
 كانت وحيدتي سعيدة قبلها بأيام و هي تُحضر نفسها ليوم زفافها من ابن الجيران ،أحبا بعضهما منذ كانا طفلين،خطبها و قبلنا ، و قبل يومين من الزفاف،كان جالسا مع رفيقه الأقرب في سكة قطار يدردشان كالعادة ،     و عندما اقترب القطار ابتعد صديقه و ساعده للوقوف،لكن رجله علقت هناك و لم يمهلهما القطار بسرعته فقتله.
صُعق الصديق و هو يراه كيف مات ففقد عقله و مات بعده بيوم واحد..
عندما وصلنا الخبر من الجيران ،جُنّ جنون ابنتنا و أخذت تصرخ و تلطم غير مصدّقة.
 ذهبت لبيتهم فوجدت العزاء لطمت و مزقت ثيابها و أخذت تركض هائمة على وجهها حتى وصلت أعلى تلة من ذلك الجرف و رمتْ نفسها منتحرة.
 و من يومها و شبحها يحوم حول ذلك المكان لتعود للبيت،و كأنها نادمة لسبب مازلنا لا نعرفه، و لست الوحيد يا ولدي الذي رآها و أوصلها إلى هنا..
أغمي على سائق التاكسي،و استيقظ بعد ساعات في بيت العجوز و هو يرتجف بسبب الحمى..
و منذ ذلك اليوم ترك السيارة و لم يقربها مجددا..




50
حوار مع الشاعرة والباحثة والمترجمة والناقدة الجزائرية
" نوميديا جرّوفي"

خالد ديريك

 

- أوّل نصّ لي كان خاطرة في عمر الحادية عشر بعد قراءتي لرواية الأمين والمأمون لجرجي زيدان.
ـ إنتاجي الأدبي متنوع، من شعر لقصّة قصيرة لقصص أطفال خيالية لترجمة روايات وقصص قصيرة لأبحاث ودراسات لقراءات نقدية.
ـ أنا أقترح أن يدخل موضوع المطالعة في المدارس كما كان في جيلي ليتعلم التلميذ منذ البداية معنى الكتاب وقيمته الأدبية.
ـ أنا أفضّل أن أتناول قراءات أدبية لكتاب وشعراء جُدد لأفتح لهم الآفاق الواسعة ولا أكتب أبداً للمشهورين فقط.
ـ أبداً، لا تواجهني صعوبات في الترجمة لأنّ اللغة الفرنسية نتعلّمها في المدارس في عمر الثامنة ونتكلّم بها مع بعضنا منذ نعومة أظافرنا.
ـ أكثر من كاتب وجد نفسه وراء القضبان وفي المحاكم أو السجن أو لاحقته الحكومات وهناك من أعدم بسبب كلام كتبه.
ـ بكل بساطة، الكتاب الإلكتروني هو امتداد للكتاب الورقي وليس آخر مسمار في نعشه.
ـ قدوتي الأدبيّة هو الشاعر والناقد هاتف بشبوش منير دربي ونجمتي الساطعة.
أجرى الحوار: خالد ديريك
رابطة آرارات الثقافية

خالد ديريك: نرحب بكِ ونشكركِ على تلبية دعوتنا لإجراء هذا الحوار.
في البداية كيف تُقدمين نفسك للقراء؟
نوميديا جرّوفي: شكري وتقديري وامتناني لهذه الالتفاتة الرّاقية من قبلكم.
في البداية، أقدّم نفسي كقارئة نهمة للكتب قبل كلّ شيء، فالكتاب صديقي ورفيقي أينما أكون في الدّوام في البيت في الحافلة في السّفر، وأنام يوميّاوأغفو وأنا أقرأ.
خالد ديريك: كيف خطرت لكِ فكرة الكتابة أو ما الذي دفعكِ إليها، ومتى دوّن قلمك أول نص؟
نوميديا جرّوفي: الدّافع الأكبر هو مطالعة الكتب منذ كنتُ في الثامنة ليومنا هذا، كنتُ دوماً أحصل على المرتبة الأولى في المدرسة وكانت هداياي كلها كتب بشكل قصص أطفال أحصل عليها من أهلي، ثمّ بدأت أختار ما أطالع حيث كنتُ أقوم بتلخيص كلّ رواية من الأدب العالمي بطريقتي وأجمعها في دفاتر ما زلت أحتفظ بها ليومنا هذا.
وبالتّدريج ومع مرور الوقت تعلّمتُ كيف أنوّع القراءات من روايات لشعر لأبحاث بكُتب أشتريها أو أذهب للمكتبات وأمضي يومي هناك أقرأ وأكتب.
وأوّل نصّ لي كان خاطرة في عمر الحادية عشر بعد قراءتي لرواية الأمين والمأمون لجرجي زيدان.
خالد ديريك: حدثينا قليلاً عن إنتاجك وإبداعاتك الأدبية، وما هي الموضوعات التي تطرقتِ إليها؟
نوميديا جرّوفي: إنتاجي الأدبي متنوع، من شعر لقصّة قصيرة لقصص أطفال خيالية لترجمة روايات وقصص قصيرة لأبحاث ودراسات لقراءات نقدية.
تناولت مواضيع مختلفة: حزن، ألم، ابتسامة، أمل، حبّ، تمنّي، فلسفة، صوفيّة، خيال وواقع.
في الشعر: محراب في كلّ روح، في متاهة قلبي المسافر، هاتف على أوتار قلبي.
في القصة القصيرة: مجموعة قصصية.
قصص أطفال خيالية باللغة الفرنسية وقمت بترجمتها للعربية.
في الترجمة: مشرحة بغداد للروائي برهان شاوي للفرنسية، وبعض القصص القصيرة للقاصّ جمال حكمت للفرنسية.
في الدراسات: مولانا الحبّ جلال الدين الرومي، تاريخ وثقافة كرُدستان، متاهات برهان شاوي، قراءات نقدية (جزء1)، ثورة الذات والأنا.
خالد ديريك: ماذا تعنين بعناوين دواوينك “محراب في كلّ روح”، ” في متاهة قلبي المسافر”، “هاتف على أوتار قلبي”.
هل تكشفين لنا بعض الأفكار الرئيسية عن محتويات المجموعات الشعرية؟
نوميديا جرّوفي: كل ديوان يختلف عن الآخر من حيث المضمون والمعنى:
” محراب في كلّ روح “ هو تقريباً ديوان صوفي كما استخلص مغزاه كلّ من قرأه وتناوله بدراسة كما تناوله الأب يوسف جزراوي وكذا الأستاذ عبد النبي فرج.
” في متاهة قلبي المسافر” جمعت فيه أحزان عراقية ودموع عربية لشرقنا المتألمّ بسبب الدّمار والحروب، فيه آمال وأمنيات.
” هاتف على أوتار قلبي” هو ديوان لرفيق الدرب الطويل وسراجي المنير الأقرب للقلب والروح والعقل.
خالد ديريك: نوميديا جرّوفي هي شاعرة، قاصّة، باحثة، مترجمة وناقدة.
ألا تتلقّى صعوبات وهي تقود هذه المعارك الكتابيّة؟ وفي أي جنس أدبي تجد نفسها أكثر؟
نوميديا جرّوفي: أبداً، لا توجد صعوبات وسط هذه المعركة الكتابيّة كما وصفتها بطريقة جدّ راقيّة لأنّ الكتابة لا حدود لها ولا أتعثّر في أيّ درب أدبي مهما اختلف عندي ولو حدثوتعبتُ بالكتابة أحيانا أرتاح بالمطالعة لعدّة أيّام لأعود لقلمي مجدّداً.
أجد نفسي في الشعر فأنا شاعرة أوّلاً، حيث من خلال الشعر أستطيع التعبير عمّا في أعماقي العميقة من خلال حدث أو واقع أو خيال أو إحساس أو شعور أعبّر عنه بطريقتي الخاصّة.
خالد ديريك: هل هناك سمة للأدب المغاربي تُميزه عن غيره؟ وهل لك من مقترحات في سبيل التطوير إن كان هناك نواقص وعيوب حول الأدب والثقافة في بلدكِ؟
نوميديا جرّوفي: الأدب المغاربي يختلف عن الأدب العراقي أو الأدب المصري أو الفلسطيني، ولأنني تتلمذتُ بالأدب العراقي فهناك فرق شاسع في بلدي من خلال الروايات أو الدواوين فمواضيعها ليست بالعمق مقارنة بغيرها، للأدب المغاربي كُتابه أيضاً وهناك المتألقون الذين تركوا بصمة أدبية مثل “محمد ديب”، كاتب ياسين”، “آسيا جبار”، ” ياسمينة خضرة”، “رشيد بوجدرة” وغيرهم.
الفرق بين الدول المغاربة والعالم العربي أن الشباب هنا لا يطالعون كثيراً وانهمكوا في جيل التكنولوجيا الحديثة فبدل قراءة كتاب تجد أغلبهم في مواقع التواصل الاجتماعي للدردشة دون فائدة.
لدينا مكتبات كثيرة لكن روّادها قليلون وهذا جدّ مؤسف.
أنا أقترح أن يدخل موضوع المطالعة في المدارس كما كان في جيلي ليتعلم التلميذ منذ البداية معنى الكتاب وقيمته الأدبية ويبني علاقة صداقة معه بدل الأجهزة الالكترونية.
خالد ديريك: متى تختار نوميديا جرّوفي نصّاً أو كتاباً …إلخ من أجل كتابة دراسة نقدية حوله؟ وهل النقد هو الكشف عن مواطن الجمال فقط؟
نوميديا جرّوفي: بصراحة الاختيار يأتي فجأة أثناء المطالعة سواء كان النصّ رواية أو شعر أو قصّة قصيرة، ووحده النصّ من يجذبني للكتابة عنه، ولا أختار الكتب من العناوين فأحياناً العنوان يجذب القارئ بينما المضمون لا شيء والعكس صحيح.
قراءاتي النقدية قد تختلف عن القراءات النقدية عند غيري، فهناك من يتناول النقد بنقط معيّنة منها البحث عن الثغرات والفجوات في النصّ وإظهار عيوب ما كتب الكاتب أو الشاعر ويبحث عن موطن الضعف في النصّ. لكن قراءاتي مختلفة تماماً واستثنائيّة فأنا أظهر جمالية النصّ للقارئ وأبسّطه له بطريقتي الخاصّة حيث أتعمّق فيه أكثر وأعثر على مغزاه أو الرسالة التي ينوي الكاتب إيصالها للقارئ من خلال ما كتب، وليفهم القارئ بشكل أفضل أعطيه أمثلة من أقوال حكماء أو عظماء خلّدهم التاريخ أو قصص واقعيّة أكون سمعتها أو قرأتها يوما لتكون متزامنة مع نصّ الكاتب.
خالد ديريك: ماذا عن الكُتاب والشُّعراء الجُدد، هل لهم نصيب عند النقاد أم أنّ الإهمال مصيرهم وحصّة الأسد فقط لنّخبة المشهورين؟
نوميديا جرّوفي: بكلّ تأكيد لهم نصيب عند النقاد، فالكاتب مهما كان جديداً أو قديماً له نصيب في التوغل في كتاباته عند القارئ والناقد خاصّة.
الناقد وحده من يُبرزه بصفة جميلة فيبني فضول في نفسية القارئ للاطّلاع على إنتاجه أو يبعده عن القارئ لو أبرز فجوات كتاباته كما حدث للكثيرين.
أنا أفضّل أن أتناول قراءات أدبية لكتاب وشعراء جُدد لأفتح لهم الآفاق الواسعة ولا أكتب أبداً للمشهورين فقط، فالمشهور له جمهوره الغفير، والصاعد يحتاج ليعرفه الناس، كما تناولت دراسات لكتّاب أغلب القراء لا يعرفونهم، لكنّي سلّطتُ عليهم الأضواء وشوّقت القارئ للاطلاع على أعمالهم الأدبيّة الثريّة.
خالد ديريك: ما هو الشيء الذي شدّ نوميديا جرّوفي إلى مولانا جلال الدين الرومي، لتؤلّف كتاباً موسوعياً عنه؟
نوميديا جرّوفي: مولانا جلال الدين الرومي قطب صوفي بارز، ومنذ كنت في الثانية عشر وأنا أقرأ أعماله وبمرور الوقت تعمّقت أكثر وغصت في أعماق كتاباته حتّى تغلغل في أعماقي حبّ عالمه الذي أخذني بعيداً، قصائده لشمس تبريز ولّدت فيّ الفضول لأكتشف السرّ الدفين وراء اغتيال شمس الدين تبريز، من منهما الشيخ؟ ومن المريد؟ ما هي المولويّة؟ فكتبتُ يوم:
” تجرّدتُ عن جسدي
وتورّطتُ في روحي
فتُهتُ في هوى الأرواح”
عالم مولانا الرومي بحر شاسع لا مرفأ له، وفي أعماقه جواهر نادرة عنوانها الحبّ والمحبة والمودة والتسامح وكذا موسيقى الأرواح التائهة التي تجعلنا نحلّق في الأعالي.
هذا ما جعلني أزداد غوصاً لأكتب كتاب موسوعي لم أنته منه منذ أربعة أعوام وأنا وسط كل الكتب العديدة والأبحاث عنه لأنهي تأليفي الموسوعي للأجيال القادمة.
خالد ديريك: متى تعرّفت نوميديا جرّوفي على تاريخ وثقافة كُردستان، هل من أمر جذبها وحفّزها أن تُنقب وتكتب الأبحاث عن تاريخ وتراث هذه الأمة؟
نوميديا جرّوفي: تعرفت على كُردستان بفضل الأستاذ والباحث الموسوعي ” جلال زنگابادي” وكتابه الموسوعي (الكرد لوجيا)، وبالبحث وجدتُ تشابه طبق الأصل في بعض العادات مع مديني تلمسان خاصّة في طقوس الزواج، ومن هنا ازددت تعمقاً وبحثاً لأكتب عن تاريخ وثقافة كُردستان لأفتح الباب على مصراعيه لمن لا يعرف حضارتها وتقاليدها المتوارثة أبًا عن جدّ منذ عقود.
خالد ديريك: ما هو أول نصّ قمتِ بترجمته؟ وكم كتاب ترجمتِ حتى الآن؟ وهل تواجهكِ العقبات أثناء الترجمة؟
نوميديا جرّوفي: أوّل نصّ قمت بترجمته من العربية إلى الفرنسية هو رواية (مشرحة بغداد) للروائي “بُرهان شاوي” وقبلها ترجمتُ خمسة قصص أطفال خياليّة كتبتها بالفرنسية للعربيّة حتى يتسنّى للقارئ الطفل أن يقرأها باللغتين دون صعوبة وبدأت بترجمة بعض القصص القصيرة للقاصّ “جمال حكمت” من مجموعته القصصية (أنسام عذبة).
وأبداً لاتواجهني صعوبات في الترجمة لأنّ اللغة الفرنسية نتعلّمها في المدارس في عمر الثامنة ونتكلّم بها مع بعضنا منذ نعومة أظافرنا، لهذا لا ألاقي عقبات في تحويل النصّ من لغة إلى لغة مع الاحتفاظ به مضموناً ومعنى.
خالد ديريك: برأيكِ، لماذا تلتزم معظم دور النشر والصحف الكبيرة بطبع ونشر للكُتاب المشهورين؟ في هذه الحالة، كيف يمكن للمهتمين والغيورين على الأدب والثقافة دعم الأقلام الجديدة أم أن عليهم الاعتماد على أنفسهم وانتظار حظوظهم؟
نوميديا جرّوفي: سؤال يستحق أن نوقّف عنده كثيراً، فأغلبية دور النشر يقترن اسمها بمجموعة من الكتّاب المشهورين وكأنّها أبرمتْ معهم عقداً كما حدث للبعض دون ذكر الأسماء، فهي لا تنشر لكاتب جديد وكأنّه سيحبطها أو يطمسها وهذا ما يُحيّرنا، وربما بالعكس بفضل ذلك الكاتب ذو القلم الجديد ستزداد شهرتها عالياً.
ولهذا هناك دور نشر أرفع لها القبّعة وأحيّيها لأنها تنشر للجميع سواسية دون تمييز، فلكلّ كاتب أسلوبه، ولكلّ كاتب عالمه الأدبي وبصمته الخاصّة وهناك دور نشر تبحث عن الأقلام الجديدة الصاعدة وتؤمن بإبداعها وإنتاجها فتساعدها بالنشر وتسهّل لها كلّ صعب لاقته عند غيرها لتبدأ مشوارها الأدبي دون توقّف.
خالد ديريك: هل يستطيع الكاتب/ة أن يكتب عن كل شيء دون أن يتعرض للأذى، بمعنى هل هناك وجود للخطوط الحمراء أو المحرمات في الحقل الأدبي؟ وعلى الكاتب عدم تجاوزها وإلا سيكون مستهدفاً من قبل السلطات والتنظيمات السياسية والدينية والمجتمع والنقاد…إلخ؟
نوميديا جرّوفي: الخطوط الحمراء في الأدب التي تعتبر الثالوث المحرّم هي (السياسة، المرأة، الجنس) ومن يتطرّق لهم يُعتبر جريء حطّم الطابور كما فعلها الروائي برهان شاوي في متاهاته.
الجميع يكتب عن السياسة بمواضيع تتناول الواقع المعاش لكن بطريقة أدبية وأنتَ أشرت لنقطة مهمّة من كون الكاتب لو يتجاوز الخط الأحمر يصبح مستهدف، أنت محقّ فأكثر من كاتب وجد نفسه وراء القضبان وفي المحاكم أو السجن أو لاحقته الحكومات وهناك من أعدم بسبب كلام كتبه، لهذا على كلّ قلم نابض أن يكتب ويحترس أحياناً حتى لا يقع فريسة سهلة كما حدث لأدباء كثيرون.
وبالنسبة للنقد، الجميع يتعرّض لهجوم من قبل النقاد، ثمّ إنّ النقد يعلّمنا أكثر لا يُحطّم معانينا أو يهدّمنا، بالعكس يجعلنا ننطلق للأمام ونسير على النهج الذي نتبعه.
خالد ديريك: هل الكتاب الورقي في بداية مرحلة الزوال لصالح الكتاب الإلكتروني؟
هل حقاً وصلنا إلى نهاية عصر الكتاب الورقي، وهل يمكننا اعتبار الكتاب الإلكتروني آخر مسمار في نعشه؟
نوميديا جرّوفي: كثرة المكتبات الإلكترونية التي لو قمنا بعدّها وهي كثيرة هي التي جعلت القارئ الشّاب كسولاً فيما يخصّ الكتب الورقية خاصة لأبناء هذا الجيل الذي يحتكر التكنولوجيا الحديثة.
يمكننا اعتبار الكتاب الإلكتروني آخر مسمار في نعش الكتاب الورقي حقيقة لأننا وفي بعض الأحيان ونحن نبحث عن عنوان لكتاب سواء في الرواية أو التاريخ أو لبعض البحوث مثلاً، لا نعثر عليه ورقي ولو جُبنا المكتبات كلّها لعدّة أيام بينما نعثر عليه إلكتروني بكل سهولة، فنقوم بتحميله والاطلاع عليه ببساطة دون أن نضطر لمغادرة البيت.
والغريب في الأمر أنّ القارئ يستطيع وهو مسافر أو خارج البيت، في العمل، في الحافلة أن يحمل معه مكتبة ضخمة من الكتب في هاتفه المحمول أو كمبيوتره المحمول مثلاً دون أن يشعر بثقل الكتب التي يحملها ولن يضطر لحمل محفظة ثقيلة أينما يكون متوجّهاً.
الخلاصة البسيطة هي أنّ الكتب الإلكترونية تُعتبر رائعة وجيّدة من هذه الناحية ربّما.
لكن من خلال العولمة في جيل التكنولوجيا ونحن من محبّي القراءة الورقية نشعر أنّ بعض الكتب الورقية في نهاية عصرها لخلوّ بعض المكتبات منها والتي تكاد تنقرض لعدم رُوّاجها من القرّاء كما كان الحال قديماً في تسعينيات القرن الماضي.وبالرغم من أنّ البعض يتحدّث عن نهاية عصر الكتاب الورقي وهي مقولة لا يمكن أن تكون صحيحة أبداً لأنّ الكتاب الورقي لن ينتهي عصره أبداً وهناك المؤلفات القديمة من الأجيال الغابرة غير الموجودة في المكتبات الإلكترونية.
لا ننس أنّ للكتب الورقية سحرها الخاصّ بلونها ورائحة أوراقها ونحن نتصفّحها بين أيدينا ونطوي بعضها لنكتب ملاحظات عمّا لفت انتباهنا أو لنتذكّر مقولة جذبتنا. كما وهناك الكثير من الكٌتاب والأدباء والشعراء الذين ظهروا مؤخراً بمؤلفاتهم الثمينة التي أثرت المكتبات.
فإن هيمن الكتاب الإلكتروني على الكتاب الورقي لن تكون هناك طباعة للأعمال الجديدة والتي لم تصدر بعد والتي هي في طريق النشر. فكيف لنا نحن القرّاء أن نطالع ما هو جديد؟
بكل بساطة، الكتاب الإلكتروني هو امتداد للكتاب الورقي وليس آخر مسمار في نعشه فبدون الورقي لن يكون هناك الالكتروني أبداً.
وليس هناك روعة سحرية أكثر من تلك الغفوة وبين يديك كتاب تحمله لتنام بين صفحاته وجلدتيْه يوميّاً.
خالد ديريك:برأيكِ، هل تُحقق الاتحادات والروابط الأدبية للكاتب كل ما يطمح إليه؟
وهل لديكِ مناصب أو عضوية في الجرائد والروابط الأدبية؟
نوميديا جرّوفي: الاتحادات والروابط الأدبية تفتح الآفاق للكاتب ليتعرف على أصدقاء مبدعين حول العالم وتحقّق له جزءاً من طموحاته لكثرة المواقع الإلكترونية الأدبية وكذا الجرائد والمجلات الإلكترونية التي تنشر كتاباته فتُوصل كتاباته لكل العالم.
بالنسبة لسؤالك الثاني، أجل لديّ منصب في مجلة أدبية ثقافيّة وأنا محرّرة فيها كما أنّني أنشر في العديد من المواقع الإلكترونية وكذا الصحف والمجلات والجرائد الورقية والإلكترونية.
خالد ديريك: بمن تأثّرت نوميديا جرّوفي من أسماء عربيّة أو غيرها، والآن، هل اختارت أو أصبح لها قدوة أدبيّة؟
نوميديا جرّوفي: منذ بدأت المطالعة تأثرت بالشعر الجاهلي وأصحاب المعلقات، الجواهري، مظفر النواب، السياب، يحيى السماوي، نزار قباني ومحمود درويش.
والكتُّاب تأثرت بدوستويفسكي، فيكتور هيجو، ليو تولوستوي، وليم شكسبير وجرجي زيدان.
وقدوتي الأدبيّة هو الشاعر والناقد هاتف بشبوش منير دربي ونجمتي الساطعة.
خالد ديريك: الشاعرة والناقدة والباحثة والمترجمة نوميديا جرّوفي، شكراً لكِ من القلب على هذا الحوار الممتع الذي من خلاله تعرفنا بعمق وعن كثب على إبداعاتك وتجربتك الغنية بالعلم والمعرفة والثقافة، ولك كلمة أخيرة.
نوميديا جرّوفي: أشكركم مجدداً لهذه الالتفاتة الأدبية الراقية من قبلكم، وتمنياتي لكم بدوام التألق والازدهار والإبداع في مشواركم الأدبي والفنّي مع خالص المودّة والتقدير والاحترام.


51
أدب / حين أغادرُ الحياة
« في: 19:38 06/08/2017  »

حين أغادرُ الحياة

نوميديا جرّوفي

عندما أرحلُ بعيدا
بعيدا حيث لا عودة
لا تنوحوا
فقط تذكّروني
سألحقُ من سبقوني
عشتُ ما يكفي من العمر
لأغادر مثلهم
لم أضحك كثيرا
لكن تألّمت
و حملتُ هموما كثيرة
لا نُواح في رثائي
في عزائي
اقرؤوا قصائد النّواب
كتابات جيفارا
ارثوني بكتابات الرّومي
لأنّي و ببساطة
عشقتُ النضال و اليسار
و تُهتُ في عشق روح هاتف
أحببتُ
و ثُرتُ
و غادرتُ
سأبقى ذكرى في الصّفحات
للثائرين و العاشقين
سأكون لوحة معلّقة على جدار السّنين



52

ديوان (ألوّح بقلب أبيض) للشّاعر " يقظان الحسيني"





 نوميديا جرّوفي، شاعرة ، باحثة و ناقدة



الشّاعر "يقظان الحسيني" ابن بابل العريقة، أبدعَ كثيرا في ديوانه      ( ألوّح بقلب أبيض )، و هو ديوان امتزج فيه حبّ الوطن، أنين الغربة، ألم فقدان، حنين لكلّ ماضي جميل و أمنيات كثيرة يتوق لتحقيقها لعراق اليوم.




ففي كتابته:

بين عناكب أيّامنا
و تنهيدة وطن
سيولٌ جارفة

قصد بالعناكب غبار السنين الماضية التي تحمل في طياتها أفراح        و أتراح، غبار للزمن الجميل الذي ولّى و لم يعد، غبار الضحك و الفرح الذي تحوّل لحزن دفين.
و عن تنهيدة الوطن قصد بها كل الآلام التي يحملها العراق منذ القدم، منذ بداية التأريخ ليومنا هذا.
و السيول الجارفة هي الدّموع اللتي لم توقّفْ أبدا منذ زمن بعيد، هي الدّماء الطاهرة للشهداء التي رُويتْ منها أرض العراق.
كمن قال:
كفى دموع
فقد ذبلت عيناي
كفى حزن
فالألم أصبح هواي
كفى خوف
فالظّلام أصبح مأواي



في كتابته:

على رمل الوداع
كتبنا
سلامًا لغصنٍ ضمّنا
و زيتونة
سقى زيتها مساءات أيّامنا

هنا يقصد الشاعر وداع الوطن الأمّ لأرض المنفى، للأرض البعيدة حيث يشتاق الإنسان لعبير وطنه، و يشتاق لنسيمها العليل، يشتاق لنخيل أرضه، و غصن أشجار الزيتون الوارفة التي كان يستظلّ بظلّها في أيّام الحرّ.
الفراق، لسانه الدّموع، وحديثه الصمت، ونظره يجوب السّماء.
أو كمن يقول:
لم يقتلني غيابك، لكن يقتلني تمرّد قلبي بالحنين إليك.
و عن الوداع قيل:
أكره مراسيم الوداع، الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم، لقد خلق الوداع للغرباء..وليس للأحبة .

في كتابته:

كي أصفكِ أيّتها الريح
كم تحتاجين من الهبوب؟

إنّها ريح الصقيع في بلاد المنفى التي يتجمّد فيها الإنسان، إنّها الرّيح التي لا تشبه ريح الوطن الأمّ الحنونة، إنّها الرّيح الباردة و ليست تلك الدافئة للعراق.
إنّها الريح المخيفة دوما بعواصفها غير المتوقّفة التي لا تكفّ عن الهبوب و كأنّها ساخطة على الإنسان لتزيده حزنا بصوتها القاسي.

في كتابته:

من انكسار الأمل
إلى زمجرة الحروف
أعوم على صيحاتك

قيل: الألم صعب جداً ولكن الأصعب هو أن لا تجد من يقاسمك هذا الألم ويخفف عنك قسوته.
و عن بغداد الحبيبة قيل:
أتبكي على بغداد وهي قريبة.. فيكفي إذا ما ازددت منها غداً بعداً.. لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى.. لو أنا وجدنا من فراق لها بدا.. إذا ذكرت بغداد نفسي تقطّعت.. من الشّوق إن كادت تهيم بها وجداً.. كفى حزناً إن رحت لم أستطع لها.. وداعاً ولم أحدث بساحتها عهداً.





في كتابته:

لا تصدّقوا أنّ للموج أجنحة
تعود بنا إلى وطن

هو التمنّي الذي يتمنّاه الغائب عن وطنه قسرا لظروف جعلته يُغادره بعيدا لأرض لا ينتمي إليها لا من القريب و لا من البعيد، لوطن جديد عليه أن يتأقلم معه في كلّ عاداته و طبائع أهله و ناسه و رغما عنه.
و كلّما شاهد الموجة هناك ذكّرته تلك المياه بالنّهريْن العظيميْن، تذكّره بدجلة و الفرات و مياه الأهوار.
هو تمنّي و لو شبه مستحيل لو كان للموج جناح يعيد البعيد للوطن، كتابة تعكس ما في نفس الشاعر الذي يعيش بعيدا عن أرضه في المنفى الذي يقول:
أتمنّى لو للموج أجنحة .. تعود بي للوطن"
لكنّه تناول الكتابة بصيغة أدبيّة جدّ راقية في التعبير.

في كتابته:

لأزمنة نقشّر سذاجاتنا
كأغلفة متيبّسة
و نقشّر أغلفة أخرى
و أخرى

إنّها الأزمنة الغابرة التي ولّت و نحن بسذاجتنا ننتظر التغيير نحو الأفضل لكثرة الوعود، لكنّ الوطن يزداد سوءا نحو الأسوأ بسبب الكاذبين         و النصّابين الذين سلبوا الوطن خيراته و أثقلوا كاهله بالألم  و الأحزان غير المنتهيّة، رغم هذا و ذاك لم نسأم و لم نملّ من انتظار غد أفضل، ذلك الذي عبّر عنه الشاعر بأغلفة أخرى، أي بأيّام أخرى أجمل ممّا هي الآن.
كمن يقول:
بعد الفراق لا تنتظر بزوغ القمر لتشكوا له ألم البُعاد؛ لأنه سيغيب ليرمي ما حمله، ويعود لنا قمراً جديداً، ولا تقف أمام البحر لتهيج أمواجه، وتزيد على مائه من دموعك؛ لأنّه سيرمي بهمّك في قاع ليس له قرار، ويعود لنا بحراً هادئاً من جديد.

في كتابته:

ما لوطن يبتعد
و كلّ أرض حولنا
غريبة

الوطن لم يبتعد عنّا بل نحن من ابتعدنا عنه لظروف قاهرة، هذا ما يقوله الشّاعر ، لنبقى غرباء حيث نحن، مهما غيّرنا الأراضي تبقى غريبة عنّا و نحن أكثر، و كلّ أرض غير أرضنا هي أجنبيّة غريبة و تبقى كذلك لو عشنا فيها دهرا.



و عن تلك الغربة قيل:
ما أصعب أن تبكي بلا دموع، وما أصعب أن تذهب بلا رجوع، وما أصعب أن تشعر بضيق، وكأنّ المكان من حولك يضيق.
و كمن يقول:
لكم في الذّكرى شجوني من أجلها تدمع عيوني، فإذا طال الزّمان ولم تروني، فابحثوا عنّي على من أحبّوني، وإذا زاد الفراق ولم تروني، فهذا كلامي فيه تذكّروني.

.في كتابته:

قبل قليل
اهتزّت المدينة على دويّ انفجار
بعد قليل
صعدت في سماوات المدينة
صيحة أمّ

هي الإنفجارات العديدة، هي تلك الإنفجارات المتكرّرة، هي الإنفجارات غير المتوقّفة التي تباغت دوما الكثيرين في الأماكن العامّة و الأسواق، تلك التي تذهب بأرواح الأبرياء دوما، تلك التي تحصد حياة خيرة شباب العراق كما حدث السنة الماضية في الكرادة، و كما حدث و يحدث دوما في بغداد الحزينة.
هي تلك التي تجعلنا نسمع النّواح من أمّ موجوعة ثكلى، صيحات نساء باتت سيمفونية حزينة في بيوت عديدة من العراق، هي صيحة أمّ شهيد .. هي صيحة لا نستطيع التعبير عنها لأنّها صيحة استثنائيّة نذرف عليها دموع حارّة لا تطفئ جمرة اللوعة.
في الأخير:

أبدع الشّاعر "يقظان الحسيني"  في ديوانه العميق هذا، حيث جسّد الفراق و الحزن العميق بأسوب أدبي إبداعي خاصّ ، بومضته السحريّة بمفردات بديعة جعلنا نتوقّف عندها لنكتشف سرّ المعنى من وراء كلّ كتابة.
أتمنى له دوام التألق و الإبداع بقلمه الراقي. 



 

53
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، باحثة و ناقدة


ديوان (عودة ماركس) للشّاعر " هاتف بشبوش"

   

الشّاعر و النّاقد و السينمائي "هاتف بشبوش" ابن السماوة العريقة ،       و أرض سومر و أوروك أرض كلكامش ، السماوة الغنيّة بأدبائها و شعرائها    و فنّانيها، ، أصدر مجموعة من الدّواوين الشعرية منها : (بأرجاء نهريك الباهيات)، (الشمس تأتي من دفإ مخدعك)، (مفترق المجهول) ، ( عودة ماركس) و له دواوين أخرى تحت الطّبع منها: ( رائحة الموز)،            ( نساء)، (آيس كريم في سلوفاكيا)، ( الطريق إلى سانت كروز).
 كما أصدر كتابا في النّقد و الأدب في جزئه الأوّل  ( قراءات نقدية انطباعية لنخبة من الأدباء) و يحضّر للجزء الثاني.
 له كتاب نقدي سينمائي تحت الطبع أيضا.
هو عضو في اتّحاد الأدباء العراقيين،و ينشر في العديد من الصّحف            و الجرائد و المجلات الورقية و الإلكترونية.
ديوان " عودة ماركس" قيد دراستنا هذه للشاعر المبدع و المتألق "هاتف بشبوش" الذي تحدّث على لسان ماركس في قصيدته التي وسم بها الديوان كما قال يوما الثائر تشي جيفارا:
" أيّها الساجدون على عتبات الجوع ثوروا فإنّ الخبز لا يأتي بالرّكوع"

في قصيدة ( غزالة جاويد):

هدّئي شدوك يا غزالة
فالرّصاص
صائمٌ، و جائعٌ، و عطشٌ
يا غزالة
هدّئي لحنك يا غزالة
فاللّيل غفا
على تسبيح طبول القتلِ، يا غزالة
النساء يا غزالة
لا تعرف، سوى أن تكتب أسماءها
بأحمر الشفاه
بينما هُمْ
تبوا حُبّ  اللّه بالرّصاص
على لحم جيدك المعافى يا غزالة

أبدعَ الشّاعر في أنْ ينقل لنا قصّة حقيقيّة لشهيدة الفنّ و الجمال (غزالة جاويد).
قُتلتْ غزالة جاويد مع والدها بسبب إطلاق النّار من دراجة نارية مسرعة.
غزالة أُصيبت بست طلقات في الصدر والبطن وأجزاء أخرى من جسدها. وغزالة من منطقة سوات القبلية على الحدود الأفغانية، اشتهرت بعد أن انتقلت إلى بيشاور مع عائلتها بعد سيطرة المجموعات المتشددة على المنطقة.
وكانت غزالة تسجّل في دبي نظرا لاتساع نفوذ طالبان الذين يحظرون الغناء والرقص.
ليبقى قاتلها مجهولاً، هل كان طليقها أم أولئك الذين يمنعون الغناء        و الطرب و البهجة من النفوس؟
و الشاعر هاتف، نقل لنا السّرد بطريقته الأدبية الرائعة.

في قصيدة ( لولا دا سيلفا):

لولا دا سيلفا
بائعُ الخضار
بدم إبهامه المقطوع، و براكين حروفه
راح يحلم تحت رايات الأرخبيل المنهوب
يطوف خرائب بلاده
حاملا صيحات أحزان الضائعين في آنية الورود
حتى أخرس كلّ من استباح صهيل الفرح
داسيلفيا
الزبّال، العتال، الصباغ، الميكانيكي، السيد الرئيس هنا
إدّخر مائتيْ مليار، وُضعتْ لفقراء بلاده
في بنك لأيّام القحط
مائتي مليار، لم توضع في جيب راهب مسخ
كما هو حالنا المبكي
مع جيوب أمناءنا الضالعين
في الإيمان، و الأمان، و الأمانة

لولا دا سيلفا، رئيس البرازيل الخامس والثلاثون، لقب بأشهر رجل في البرازيل من الجيل الحديث، بل ولقب بأشهر رجل في العالم، قدّم         دا سيلفا العديد من برامج الإصلاح الاجتماعي لحل مشكلة الفقر، ووصف بأنه "رجل صاحب طموحات وأفكار جريئة من أجل تحقيق توازن القوى بين الأمم.
و هو القائل:
" لقد علمتني أمي كيف أمشي مرفوع الرأس وكيف احترم نفسي حتى يحترمني الآخرون".
لولا دا سيلفا أول رئيس يساري منتخب منذ إنشاء جمهورية البرازيل في 15 من نوفمبر عام 1889.
لقد عانت البرازيل الكثير من المشكلات الاقتصادية،حيث أنّ معدّلات التضخم ارتفعت بقدر كبير، و ارتفاع نسبة الفقر و البطالة           و أيضًا المجاعات، و لكن بعد أن أصبح دا سيلفا رئيسًا حدثت تحوّلات كبيرة في اقتصاد البرازيل وذلك بفضل المنهج الذي وضعه لبناء الدولة،     و هذا المنهج يتمثل في الديمقراطية والسياسة المتوازنة بين البرامج الاجتماعية للأسر الفقيرة إلى جانب التصنيع والتصدير و ذلك اعتمادًا على عدد كبير من الشركات العملاقة. و بفضل هذا المنهج الذي سار عليه لولا دا سلفيا، أصبحت البرازيل تحتل المرتبة الثامنة كأكبر اقتصاد على مستوى العالم، و استطاع اخراج أكثر من 20 مليون شخص من تحت خط الفقر و تحسين حالتهم المادية .
حيث حُسِّنَتْ أوضاع 8 ملاين أسرة فقيرة، وذلك بتوفير دخل بحد أدنى 160 دولارًا.
دا سيلفا عملَ بجدّ و ثابر من أجل شعبه و ترقيته ليحتل المراتب العالميّة، عكس حكّامنا العرب الذين يعملون على طمس بلداننا.
الغرب يسير نحو التّقدّم المستمرّ و شرقنا يسير نحو الدمار المستمرّ.
هو ذا المغزى العميق من القصيدة و الذي أراده الشاعر هاتف أن نفهمه  و نستنبطه و نقارن بينهم و بيننا، كيف كانوا و كيف أصبحوا، كيف كنّا       و كيف أصبحنا.
 
في قصيدة ( إستفسار شفهيّ):

ماذا يقول الطّفل اليتيمُ، الذي شابَ، و هو يرى كلّ يوم،
مؤذن الصباح التقيّ الورع، ينكحُ أمّه فجرا، قبل أن يؤدي طقوس الآذان.

كتابة اختزلتْ الكثير في جوفها، كتابة جمعتْ الواقع المرير الذي يحصل في عراق اليوم عكس عراق الأمس في زمنه الجميل، و كيف كان للطفولة معنى البراءة و الصبا، الزمن الجميل الذي ولّى و اندثر بسبب دمار النّفوس  و القلوب و الأحزان اللاّمنتهية.
عراق اليوم ،مليء بالكآبة، الخوف، الألم، و تلك الإنفجارات المتكرّرة           و المفاجئة خلّفت يتامى و نساء أرامل و ثكالى بسبب استشهاد أزواجهنّ  و أبنائهنّ و هم يدافعون بالنّفس و النّفيس في سبيل الوطن.
و عن هذا الطّفل اليتيم الذي كبِرَ و شابَ قبلَ الأوان بسبب الهمّ الثقيل الذي يحمله في أعماقه و هو يرى ذلك الورع التقيّ الإمام الذي يدعو للتّقوى، ذلك الملتحي الزّائف و الثعلب المراوغ كيف يعاشر أمّه الأرملة    و كيف يمارس عليها فجوره قبل أن يؤدي طقوس الآذان.
جعلنا الشاعر هنا نتعرّف على أصحاب العمائم الزائفة الذين هم في أعماقهم ذئاب و وحوش آدمية.
و عن أطفال العراق الذين شابوا و هم في ريعان الصبا تذكّرتُ ما قرأته يوما من أنّ أحدهم سأل طفل عراق: كم عمرك؟
فأجابه: ثلاثة حروب دمويّة و حصار اقتصادي لا إنساني، و حرب أهليّة بشعة و سرقات ترليونية و تظاهرة مدنية يتيمة و عمائم لا إسلامية       و آلاف التفجيرات الإرهابيّة.
فقال له: كلّ عام و أنتَ عراقي.

في قصيدة ( عودة ماركس) التي وَسَمَ بها الدّيوان:

ها أنا عدتُ
في صلبِ أحداثكم المروّعة
عدتُ كما كنتُ حينذاك
لم أشاركْ في تقسيم تفاحة، بسكّين العاهات المستديمة
و لا بنصل الفرق بيني و بين الآخرين
عدتُ كما ترون
ليس لي حفيدًا، جالسَ الأوغاد في قاعات سايكس بيكو
و ليس لي زوجة تتّكئ على التّعاويذ أو ترتدي زيّا مُغلقًا
يُثير القيء و الدّوار

إنّها القصيدة التي وسَم بها الديوان و تكلّم على لسان ماركس العظيم. الشّاعر هنا تخيّل عودة ماركس من موته ليرى ما يجري و يدور في العالم من ظلم و انتهازية و استبداد ليقول ما قاله بقول الشاعر هاتف:
"ها أنا عُدتُ..."
و ماركس القائل: " الإنسان أثمن رأسمال في الوجود"
 شبّه الشاعر ما يجري في العالم من مظالم الأحداث المروّعة، كيف لا    و هي أحداث أكثر من مرعبة، فلو بقي العالم بثائية قطبية كما كان سابقا تحت سيادة الشيوعية التي تنادي بالأيدي العاملة الكادحة برمزيها المقدسين (المطرقة و المنجل) و ذلك اللّون الأحمر الذي يرمز لدماء من استشهد ، لبقي العالم في استقرار، لأنّ الشيوعية تُدافع على العامل   و الشعب و الفقير ، و الكلّ سواسيّة، فلا فرق بين الغنيّ و المتوسط       و الفقير. كما قال ماركس العظيم:
" إنّ تراكم الثروة في قطب واحد من المجتمع، هو في نفس الوقت تراكم الفقر و البؤس في القطب الآخر".
 الكلّ في نفس المرتبة، عكس الرأسمالية التي باتتْ تسود العالم و هي من تديره كيفما شاءتْ و أرادتْ ، إضافة لكونها تتحكّم في مصير الشعوب التي دُمّر نصفها كما في سوريا، العراق، و فلسطين و ما يحدث من فوضى في العديد من الدّول الأخرى، و هي ما قال عنها ماركس أيضا:
" الرأسمالية ستجعل كلّ الأشياء سلع الدين، الفنّ، الأدب، و ستسلبها قداستها"
كما ذكّرنا الشاعر هنا بمعاهدة سايكس بيكو ، و عن النساء اللاتي أصبحن جميعهنّ مغلّفات بالأسود لا يمكن التفريق بينهنّ  لا يمكن رؤية    و لا حتى أعينهنّ ، و هذا ما أصبحنا نراه في الكثير من البلدان الشرقيّة بسبب الدّين الذي أصبح الكثيرون ينشرون فتاواهم حسب أهوائهم.

صدق ماركس فيما قال:
" يجب أن نُعلن للحكومات، نحن نعرف بأنّكم قوّة مسلّحة موجّهة ضدّ العمّال، و بأنّنا سنتحرذك ضدّكم بطرق سلميّة حيث يكون ذلك مناسبًا،    و سنواجهكم بالسّلاح متى اقتضت الضّرورة ذلك".
و لهذا الحزب الشّيوعي ما زال صامدًا قويّا يرفع الراية الحمراء و للأبد.

في قصيدة ( الرشق بالأحذيّة):

ما أصلب الحذاء
إذا ما سار فوق جباهكم
ما أوسخ النعال
إذا ما طار بشسعه، كيْ يمسخ زيت شاربكم
و ما أرذل الأخوّة
إذا ما مرّتْ على شيوخكم زمرُ الثّعالب
و قنّاصوا بعوض خرائبكم
فنوقهم نُحرتْ، و مرّ على الزّاد
كلّ من ذاق و ارتحل
الواشي، الصدئ، السجّان
و ابن الزانية التي رقصت للجرذ
و جادتْ بأفخاذها للغجر الآخرين، على شاكلة الكيمياوي
المجيد
لا ... لا ... إنّها ليستْ أحذية
لعلّها أحجار سجّيل
بل أحجار منجنيق الثقفي

قصيدة اختزلتْ في أعماقها الكثير من مآسي التأريخ العراقي، و ذكّرتنا بأحد روائع المتنبّي حين قال:
قومٌ إذا مسّ النّعال وجوههم ::: شكتِ النّعال بأيّ ذنبٍ تُصفع.
ثمّ تُذكّرنا بالخطبة الشهير للحجاج بن يوسف الثقفي يوم اعتلى المنبر      و خطب فقال:
" أما و الله إنّي أحمل الشرّ محمله، و أحذوه بنعله، و أجزيه بمثله، و إنّي أرى رؤوسًا قد أينعتْ و حانَ قطافها، و إنّي لقاطعها، و إنّي لأنظر إلى الدّماء بين العمائم و اللّحى"
ثمّ سافر بنا الشاعر بعيدا في أبشع جرائم البعث و مجزرة حلبجة بالكيمياوي في 16/03/1988 التي أدّت لمقتل أكثر من ألف كردي من شباب و شيوخ و نساء و أطفال، ذهبوا ضحيّة الوحوش الآدمية عديمي الضمائر.
و القصيدة اختزلت أيضا ما سبّبته الطائفيّة من انقسام بين أفراد الشعب    و بين العوائل و بين من يسكنون في نفس البيت، لأنّ
و هنا يشبه رجال الدين الزائفين بالثعالب لكثرة نفاقهم و دماثة أخلاقهم، يضحكون و يكونون كالحمل الوديع في وجه من يُحدّثونه، و في أعماقهم ثعالب و ذئاب تتمنى لو تنهش المحدث من أعماقه و تنهيه على آخره.
يتمنّى الشاعر لو يكون الرّشق بالأحذية في وجه هؤلاء الخونة الذين ينصبون أنفسهم في المناصب ليسرقوا أموال الشعب كحجارة من سجّيل تلك التي نزلتْ من السماء من جهنّم في وجه أصحاب الفيل يوم أرادوا هدم الكعبة.. " للبيت ربٌّ يحميه.. و للعراق ربٌّ يحميه من طغيان و ظلم الظالمين الذين يتمنّون أن يخربوا العراق".
و يشبّه هذه النعال المتراشق بها كأحجار الحجاج بن يوسف يوم استخدم المنجنيق لهدم الكعبة و قتل عبد الله بن الزبير و هو هناك في مكّة.
ذلك المنجنيق العظيم نتمنّى لو نحصل عليه في وقتنا هذا لنرشق بحجارته كلّ سياسي منافق أو حاكم أو كلّ من يدّعي التقوى و الورع     و هو في الحقيقة لا يستحقّ تلك المكانة المرموقة التي وصل إليها بالكذب و السرقة و النّهب

في قصيدة ( بغداد ماءٌ و دم):

أرى جبينك الشتائي، غارقًا
بأمطارٍ
يُقالُ عنها: ماء الله
غارقًا ... بدماء
يُقال عنها: سُفكتْ لأجل الله
غارقًا ... غارقًا
بالقيام و بالقعود، لأجل الله
و النّاس لا تعرف خطاها
بين أنقاض منْ ماتوا
و من دُفنوا، و وضعتْ فوق جنائزهم، زهورًا زائفة
و بين العصافير التي أخرسوا صوتها
و بين أقواس النّهار القزحيّة، التي كنسوها
بما تبخّر من أحمر الدّم المسفوح، في ماء دجلة

هذه القصيدة الحزينة اختزلتْ جريمة سبايكر التي لا تُنسى، تلك المجزرة الدمويّة التي ذهب فيها الشّباب في عزّ شبابهم و هم لا يعرفون حتّى لماذا قُتلوا و ما هي جريمتهم.
مجزرة سبايكر التي فُقد فيها أكثر من 728 شابّ.
شباب تلوّن ماء دجلة بدمائهم الطاهرة ليصبح أحمرا قاتما، شباب احتضر النّهر جثثهم الكثيرة جدّا و دفنوا في قاعه العميق.
قصيدة تأريخية أبدع فيها الشاعر بطريقته الخاصّة كالعادة في صياغة كتاباته الراقيّة فكتبَ واقعًا حقيقي سيبقى محفورا في صفحات تأريخ العراق و شاهدا للأجيال القادمة عندما يسألون.
هو ذا العراق الحزين الذي شربت تربته داء أبنائها و مازالت و ما ارتوتْ.
العراق الذي نصف أرضه مقابر جماعيّة في زمن البعث الظالم، ذلك الزمن الكابوسي التي لم تندمل جراحه ليومنا هذا و لم تجفّ دموع النساء الثكالى و الآباء المفجوعين دون نسيان الأطفال الذين تشرّدوا بسبب اليتم.
ما يحيّرنا أنّ كلّ القتل الذي يجري باسم الله.. الذبح باسم الله، الوأد باسم الله.. التّعذيب باسم الله..
كلّ هذا باسم الله ..
و اسم الله برئ منهم ممّا يرتكبون باسمه. 






في الأخير:

الشاعر و الناقد و السينمائي "هاتف بشبوش" صنع بصمته الخاصّة في عالم الأدب و الشّعر، و أبدع في ديوانه (عودة ماركس).
الشاعر هاتف، لديه كتابات جدّ رائعة كلّها واقعيّة من الواقع المعاش، سواء في السياسة أو الرومانسيّة، فهو يكتب الواقع و الحقيقة الحيّة دون رتوش أو إضافات، أو خيال.
كما تتميّز كتاباته بالألفاظ و العبارات السّهلة و البسيطة التي لا يجد فيها القارئ صعوبة لفهم معنى أو مضمون ما ينوي الشاعر إيصاله.
تمنيّاتي له بدوام التألق و الإبداع المستمرّ بكتاباته الراقية و الثريّة سواء في الشعر أو النقد، فهو سراج منير في سماء الشعر و الأدب.

54
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، باحثة و ناقدة

ديوان (الخوف ضمير المتكلّم) للشّاعر " إيّاد أحمد هاشم"

 

الشّاعر "إياد أحمد هاشم" ابن السماوة العريقة بأدبائها و شعرائها           و فنّانيها، حاصل على شهادة دبلوم المعهد العالي للاتصالات، و شارك في العديد من المؤتمرات و الندوات الأدبية و المهرجانات الشعريّة، له العديد من المنشورات في الصحف العراقية و العربية و الدولية، كما كُتبتْ في شعره عدّة دراسات جامعيّة.له ديوان "يا حدود الغريب".
ديوان "الخوف ضمير المتكلّم" من عنوانه لكلّ قصائده صرخة مدويّة في وجه الظّلم و الاستبداد، إنّه فم القلم الصّارخ المحطّم للضمائر الميتة و العقول المتحجّرة و النفس المريضة لمنْ يحاول إخافة الشّعب، فالشّعب هو الركن الأساسي في المجتمع الذي يدفع ثمن أخطاء الحاكمين أصحاب المناصب.
لكن قلم شاعرنا جاء مدويّا كاشفا للمستور و فاضحا بصيغة أدبيّة و بناء لغوي راقي جعلنا نتوغّل عميقا بين الصفحات و الغوص فيها و التماس جماليّتها و معناها و مغزاها.

في قصيدة (مقبرة من زجاج)

في آخر موعد لرحيل الخريف
جاء مُرتديا و شاح صدقه
أخبرني أنّه يروم الرّحيل
إلى بلاد لا يحتاج إليّ فيها
خلع على آخر كذبة كنّا نتقاسمها
بياض عذريته.
إنّه الخريف الذي ذكره يوما نزار قباني في قوله:
" ما بين فصل الخريف و فصل الشتاء، هناك فصلٌ أسمّيه فصلُ البكاء، تكون فيه النّفس أقرب من أيّ وقتٍ مضى للسّماء".
هو ذا الخريف، يكشف عن حقيقة الأشخاص كما الأوراق، بعضها يسقط في أوّله، و منها من يبقى مُرتبطا بأصله، مهما كان الخريف مُكابرا.
و قلّة من يفهم أنّ جنون الرّبيع إنّما هو وليدُ حزن الخريف.
و هنا ذكر الرحيل و الهجرة لبلاد الغربة مُخلّفا وراءه وطنه الأمّ في حزن لظروف قاهرة، إنّه الوطن الذي يبقى فراقه القسري لوعة في الأعماق.
صدق من قال:
متى من طول نزفك تستريح
سلاما أيّها الوطن الجريح.
في قصيدة ( وشاية الغروب)

كالثّريّا
تلك البلاد تأكل أبناءها
الأرض التي لم تحتمل أقدام الشّعراء
حملتْ العربات المفخّخة
ملعونون كالأصابع الملوّنة
هل ستهبط بنا في المرّة القادمة؟

بوحُ قويّ و نبرة حادّة و صرخة مدويّة في وجه الظّلم، و ناهبي خيرات الوطن و قاتلي شبابه و أهله.
و عن الغروب يقول باولو كويلو: " حيث أنّ السّاعة الأكثر ظلمة هي التي تسبق شروق الشّمس"
و نتذكّر البياتي و هو يتحدّث عن بغداد، و زمنها الجميل و كيف صارتْ:

بغداد يا مدينة النّجوم
و الشّمس و الأطفال و الكروم
و الخوف و الهموم
متى أرى سماءك الزّرقاء؟
تنبض باللّهفة و الحنين

و في قول الشّاعر إياد:
الأرض التي لم تحتمل أقدام الشّعراء
حملتْ العربات المفخّخة

تذكّرتُ قطار السّماوة في السّتينات، ذلك القطار الذي جمع فيه البعث الهمجيّ الشعراء و الأدباء ليُنهي حياهم لولا أن أنقذهم السّائق و غيّر وجهته في آخر لحظة .
حملتْ أرض العراق منذ زمن العربات المفخّخة التي ذهب ضحيّتها الآلاف بل الملايين من جرّاء التّفجيرات المفاجئة في الأماكن العامّة و الأسواق.
هذا ما صرّح لنا به الشّاعر إياد من خلال كتابته التي جمعتْ الكثير من المغزى في سطورها.
حكومة فاسدة كسفتْ شمس العراق بظلام النّهب و الخراب التي أغرقتْ فيه الشّعب المسكين الذي لا حول له و لا قوّة و المغلوبُ على أمر في ظلّ الفساد و الأكاذيب اللاّمتناهيّة.
و من نفس القصيدة:

اللّيل أطال البقاء هذه المرّة
العاصفة الثالثة لن تأتي
فلا صحراء ستحتويها
ربّما لن أكمل حساب النّجوم
بعضها ذهب رجوما للشّياطين
مُنشغلٌ أنا
الدّراهم السائبة
أنجبتْ بلدا لا أعرفهُ
لا تكتفي النّجوم
لرجم شياطينه المحترمين

الشّاعر هنا ذكّرنا بغطاء الدّين الذي يتخذهُ أصحاب النّصب على المناصب، ليكونوا شياطينا يستحقّون الرّجم ، هكذا شبّههم في رائعته هذه، تلزمهم عاصفة لتنهيهم على آخرهم ، كما كتب يوما الشّاعر "هاتف بشبوش":

" يا أيّتها الرّيح
يا منْ تحملين التسونامي في صفيرك
لا أكرمُ و لا أنبلُ منكِ، نستجيرُ به
كيْ تخلعي سراويل البرجوازية و الجشعين
و عروش الاستثمار
و ذوي الثّراء الفاحش السّريع
و شياطين الحروب
و كلّ من لا يتورّع، أنْ يرمي حجرا
بين عينيْ حمامةٍ تهدل"

ظلام الليل هنا جاء تشبيها لسواد الظّلام من الظّلم في البلاد.
يقول ايسوب في هذا الصّدد: " نحن نقوم بشنق صغار اللّصوص، و نُعيّن كبارهم في المناصب الرّسميّة"



 
في قصيدة ( بين غائلتين)

إنّه يحفظ شيئا من كتاب مُقدّس
اختلف الكثيرون على تأويله
كم تذكّرتُ أشياء في الدساتير
تقاسمنا الموت و الخبز على تأويلها
الأسماء الكبيرة
و الأسماك الكبيرة
وجهان لعملة زائفة

ما أبرع الشّاعر في اختيار مفرداته و لمس الموضوع من صميمه و التوغّل العميق فيه ليكشف لنا المستور بطريقته الأدبيّة الراقية .
الدّين و الكتب المقدّسة التي يتباهى بها رجال الدّين و أصحاب اللّحى         و العمائم الزائفة على مرّ العصور.
يقول الإمام علي:
سيأتي زمان يكون فيه
شيخكم آثم، و عالمكم منافق
و صغيركم لا يحترم الكبير
و غنيّكم لا يُساعد الفقير.
صدق الإمام علي سيّد الحكماء، هذا ما وصلنا إليه و ما نعيشه في زمننا هذا.
يقول غسان كنفاني الخبز:
" يسرقون رغيفك، ثمّ يعطونك كسرة، ثمّ يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم.
يا لوقاحتهم"
 
و من نفس القصيدة:

بين غائلتين
انتفض الكرسيّ العقيم
ممتشقا سيفه القديم
مكسّرا أطرافه اللائي رُحن يُزاحمنهُ عليه
مستبدلا مقعده
بجنود لم تروها

بارعٌ الشاعر إيّاد في كتاباته و نزع الأقنعة عن مُرتديها بإبداعه و خياله الأدبيّ الرائع حيث يُعريهم من ردائهم الزّائف الذي يرتدونه تحت غطاء الدّين.
يقول جورج أورويل بهذا الصّدد:
" السّياسيّون في العالم مثل القرود في الغابة، إذا تشاجروا أفسدوا الزّرع، و إذا تصالحوا أكلوا المحصول"
عن الحكومة و الأسماء و الأسماك الكبيرة يقول جيفرسون:
" عندما تخشى الحكومة شعبها، تلك هي الحريّة، و عندما يخشى الشّعب حكومته، ذلك هو الطّغيان".


من قصيدة ( أصابع نادمة)

ذات اقتراع حملني صاحبي
و دسّني في قارورة مظلمة
لم تكن أرحمُ من أنفه
رفعني مُبتهجا
و قطعني نادما
كم كنتُ أدلّه على مساراته
حتّى الخاطئة منها
كنتُ ضحيّة جيبه و عقله الفارغين
لم يكن باختياري
و ماتت

رائع شاعرنا إياد و هو يتحدّث عن الانتخابات في بلداننا العربية الشرقيّة     و كيف تصيرُ فيها هذه المهزلة، و ليس الاختيار الديمقراطي الذي يختاره الشّعب بمحض إرادته.
جعل ذلك الأصبع الذي يبصمُ كضحيّة في يد صاحبه الذي يُجبره على ما لا يريد ليندم لاحقا، كما قال أحدهم:
" الحزن عادة هو ميراث الماضي و النّدم و الألم الناتجان عن الذاكرة"
الأصبعُ صامتٌ لا يتكلّم لكنّه يكون حزينا لأنّه أُرغم على ما لا يريد، يقول جان جاك روسو:
" الصّمت الطّويل هو الطّريق للحزن لأنّه صورة الموت"
عصرنا عصرُ الحكّام الذين تهمّهم جيوبهم و ما يسرقون على عاتق الشعب المسكين، حكّام لا يهمّهم الشعب و لا مطالبه و لا رأيه، فقط ينهبون جيوبه.
النّصب ثمّ النّصب ثمّ النّصب دون كللٍ.
هناك مثل مدغشقري يقول: " الحاكم كالنّار إذا ابتعدت عنه تبرد، و إذا اقتربت منه تحرق"
يقول نزار قبّاني :
" ما للعروبة تبدو مثل أرملة
أليس في كتب التّاريخ أفراح؟"

من قصيدة ( للقلم مُهمّة أخرى)

قال لي  قلمي
و هو يُغادر صوب الرّصاص
إنّ شفتيّ كافيتان لإسقاط الأصنام
فلديه مهمّة أخرى
رغم الضّجيج من حوله
راح يؤرّخ للحقيقة زمنا قادما
الصّمت في بلادي
صار يتكلّمُ
و لا حجّة لأحد أن يقول أنا.. الآن

لخّص الشاعر هنا المهمّة الحقيقيّة للقلم بصيغته الأدبيّة الإبداعيّة، حيثُ أنّ الحروف الخارجة منه تكون أشدّ قوّة من الرّصاص أحيانا.
يقول وليم شكسبير: " مدادُ قلم الكاتب مُقدّس مثل دم الشّهيد".
هذا ما جسّده لنا الشاعر في قوله (للقلم مهمّة أخرى)
يقول فولتير: " لا يُضيرني أنْ ليس على رأسي تاج مادام في يدي قلم"
هو ذا قلم شاعرنا هو ، قلمٌ قويّ و سلاح و صوتٌ شجاع لا يهابُ شيئا و لا يخاف.
قلمٌ  بفم صارخٍ بوجه الظّلم و يتكلّم بما يعجز عنه اللّسان.

من قصيدة ( ليس كالأمس)

أتحسب أضلاعنا لا تصيح؟
و كلّ المسامير عادتْ تُلوّح
أنّ الصليب سيحمل كلّ مسيح
كانت أمانيك تأخذنا
و الغراب الذي علّم القادمين
كيف يوارون سوآتنا
عاد يحمل قابيل
و القرابين التي ساقها

صدق الشّاعر في قوله و وصفه و تعبيره و تشبيهه أيضا، أعادنا لبدأ الخليقة و أوّل إنسان بيولوجي (قابيل) لأنّنا في الحقيقة العلميّة أبناء قابيل القاتل    و لسنا من سلالة آدم.
قابيل أوّل إنسان من أب و أمّ  و تربّى في رحم أنثى.
قابيل القاتل، أوّل مجرم و قاتل، لتكون البشريّة جمعاء من نسله.
البشر كلّهم أبناء قابيل المجرم، و من يومها و الدّماء مُراقة على وجه الأرض ليومنا هذا و لم تتوقّف أبدا.
هي ذي شعوبنا للأسف الشّديد، و ما أصبحتْ عليه في السّنوات الأخيرة، كما قال دنيس تانوفيتش: " لمْ أعُد أؤمن بالدّيمقراطيّة لأنّها تعني حُكم الأكثريّة و الأكثريّة في بلدي جاهلة لا تستحقّها".
الصليب و الظّلم و الألم و العذاب ، هو ذا مقصود الشاعر هنا في معاناة الشعب و آلامه ، و هو تحت رحمة أصحاب الدين و العمائم، و الطائفيّة التي جعلتهم يتقاتلون فيما بينهم .
يقول محمود درويش: " فارسٌ يغمد في صدر أخيه خنجرا باسم الوطن       و يُصلّي لينال المغفرة"
و لقول برنارد شو: "السّلطة لا تُفسد الرّجال، إنّما الأغبياء إنْ وُضعوا في السّلطة فإنّهم يفسدونها"
و هذا ما نراه في شرقنا، فنرثي نفسنا قبل أن يرثي حالنا غيرنا.
 
من قصيدة ( لا كالآخرين)

إنّ الصّناديق لا تكفي لأحزاننا
صناديقهم لا تكفي لما أخذوه من خبزنا
في بلادنا
الصناديق لا تكفي دائما
قال لي
و هو يشربُ كأسا،،
أكلنا الدّم و الميتة و لحم الإنسان
و ذبحنا أبناءنا على نُصب الأحزاب
لكيْ يرضى الربّ

جسّد الشّاعر هنا الحزن بكميّات هائلة حيث عبّر عن ذلك بتعبير خيالي جدّ واسع في كون الصّناديق لا تستطيع حمله كلّه لكثرته.
عن الحزن يقول شارون كريتش: " لا يمكنك منع طيور الحزن من التّحليق فوق رأسك، لكنْ يُمكنك منعها منْ أنْ تصنع عُشّا داخل شعرك".
 و في تعبيره الرائع في قوله:
( صناديقهم لا تكفي لما أخذوه من خبزنا
في بلدنا)

عبّر هنا عن كثرة السّراق بصيغة أدبية تعبيريّة في عمقها ألف معنى         و مغزى، كما قال ادواردو غاليانو: " نحن لا نُعاني من نُقص الأموال، بلْ منْ زيادة في اللّصوص"
و كما قال باوبو كويلو أيضا: "لا تسرقْ، فالحكومة تكره من يُنافسها"
هي ذي حال السّلطة النّاهبة و السّارقة التي يذهبُ أبناؤها و خيرة شبابها ضحيّة عجرفة الحكومة.
صدق محمود درويش حين قال:
" عامٌ يذهبُ و آخر يأتي
و كلّ شيء فيك يزدادُ سوءا
يا وطني".
 


من قصيدة ( مُبتعدٌ عن أناملي)

المتوضّئون بفائض الأقاويل
المحتمون بالغرائب
واهبوا القرابين
المتزلّفون للآلهة
المتصارعون المتسيّدون
المتسلّقون على ما تبقّى من أضلاعنا

إنّها الطائفيّة وليدة الصراعات المذهبيّة التي زرع بذورها من يرتدون الأقنعة المتخفيّة برداء الدّين و التّقوى و الورع الزّائف بلحى و عمائم زائفة.
كالقائل:" الديمقراطيّة إثنين من الذّئاب و حملٍ يقوم بالتّصويت على من سيُحظى بتناوله على الغذاء".
هنا يقول باولو كويلو: " الإنسان العظيم قدْ خُلق ليختار مصيره و ليس ليتقبّله".

في الأخير:

سلِم نبع قلم الشاعر "إياد أحمد هاشم" و مداده القويّ الذي صرخ و فضح و وقف وقفة احتجاجيّة ضدّ الظلم و الاستبداد و القهر و المعاناة الذي يدفع ثمنه العراق  و الشعب الذي صار مغلوبا على أمره، ففي قصيدته (الخوف ضمير المتكلّم) التي وسم بها ديوانه تكلّم عن الخوف ، كما قال عنه سقراط: " الخوف يجعل النّاس أكثر حذرا و أكثر طاعة و أكثر عبوديّة"
فليست الشّجاعة غياب الخوف و لكنّها الإقرار بأنّ هناك ما هو أهمّ من الخوف.
و شاعرنا جعل الخوف إعلانا عن وقفة احتجاجيّة و تهديدا في وجه الظّلم   و الاستبداد في حقّ الشّعب الذي يعاني الويلات من أصحاب النّصب على المناصب و الاستيلاء على جيوب الشّعب.
يقول جيفارا: " لا تصمتْ عن الحقّ، و سترى كيف سيكرهك الجميع".

 




55
   نوميديا جرّوفي، شاعرة ، باحثة و ناقدة


رواية (اللّعبة المُحكمة) للرّوائي " كريم السماوي"

رواية (اللعبة المُحكمة) هي الرّواية المحرومة من السّعادة.
رواية قدّمت لنا سردا عميقا في الحياة من أنّ السّعادة الحقيقيّة ليست في المال،
حيث أنّ المال لا يُمكنه شراء السّعادة، و المال لا يشتري الحياة و الصحّة كما حدث لبطلة القصّة كريستينا، التي لم تتمكّن من شراء حياتها         و عافيتها بالمال الوفير الذي تملكه، حتّى أوسكار البطل في الرواية لم يحصل على السّعادة بالرغم من الملايين التي حصل عليها و كسبها.
يقول تولسوي: " السّعادة تنحصر في فهم معنى الحياة".
الحياة التي حاول الجدّ زاك شراءها لحفيدته الوحيدة مهما كان ثمنها      و عجز في النّهاية بسبب مرضها العضال،لكنّه حقّق لها رغبتها في العيش بسعادة و لو لأيّام معدودة فقط في أحضان من أحبّتْ قبل أنْ تفارق الحياة.
الجدّ الذي خطّط مع حفيدته لعبة محكمة بحقّ و بتنظيم مسبق فنجحتْ الخطّة للنّهاية.
ما أعجبني و راقني في الرواية، أنّ الروائي كريم السماوي حتّى في اختيار الأسماء جعلها رواية من النمط الكلاسيكي العتيق و هذا ما زاد الرواية نُكهة خاصّة و راقية.

شخصيّات الرواية:

زاك: المحامي الشّهير و جدّ كريستينا.
كريستينا: بطلة الرواية و الحفيدة الوحيدة لزاك و البقيّة الباقية من شجرة عائلته و رائحة ابنته المتوفّاة في حادث أليم.
مولن بلوما: عاملة وفيّة لدى زاك و تُعتبر مفتاح معلومات و خبرات واسعة.
جورج: زوج مولن.
كارلوس أوسكار: بطل روايتنا الأساسي و الرّوائي الذي عشقته كريستينا من خلال كتاباته.
ماريو: الجشع الذي استغلّ أوسكار لسنوات و حصل على الملايين من خلال رواياته و إعادة طبعها دون علمه و جعله مفلسا و كلّ مرّة يُهدّده حتى آخر مرّة حيث ضربه مع مرافقيه الثلاث مُهدّدا إيّاه في حانة ميشيل حيث انتشله زاك و ساعده.
ميشيل: صاحب حانة الوردة الحمراء التي كان يرتادها أوسكار و هو مفلس في بداية حياته.
رواية اللّعبة المُحكمة:

تبدأ الرواية عندما طلب زاك من مولن قراءة روايات أوسكار و تكتب له عن انطباعها و ملخّص كلّ رواية على حدة كما أعطاها عطلة مدفوعة الأجر لإنجاز مهمّتها هذه و التي اعتبرتها غريبة نوعا ما في البداية،               و أعطاها ظرفا زمنيّا لا يتعدّى الشّهر. كما طلب منها أنْ تصل لقيمة كلّ رواية و أنْ تنقل له رسالة الروائي و مشاعر شخوص رواياته.
الرّوايات هذه ساعدتها بإعادة شملها بزوجها الذي أهملته دون شعور ،   و عودة علاقتهما الحميمة معا بعد أن كانت في فتور و برود بسبب انهماكها بأوراق المحاكم و القضايا دون الإكتراث لزوجها.
جورج الزّوج اغتنم الفرصة هذه و أخذها في سفرة لمدّة شهر يكون كشهر العسل لهما ليقرآ فيه الروايات معا و يستمتعا بوقتهما في مدينة تروسا السّاحليّة جنوب ستوكهولم.
هذه الروايات جعلت مولن قريبة من زوجها مجدّدا و سعيدة و عادت علاقتهما معا كما كانتْ في بداية لقائهما لتجد نفسها في الأخير و هما عائدان لمدينتهما بعد أن أنهيا الروايات و حلّلاها و ناقشاها معا و استمتعا بها تطلب من زوجها أنْ تُصبح أمّا و أخيرا.. تلك الرّغبة و الأمنيّة التي حالما تمنّاها في أنْ يُصبح أبا.
مولن التي وجدت سعادتها المفقود بسبب غرقها اليومي بين الملفات.
أرادت و أخيرا أنْ تُكوّن عائلة سعيدة بعد أنْ استعادتْ حنان زوجها و الأمان في أحضانه و السعادة المنشودة و هي قربه.
نتكلّم قليلا عن بطلتنا كريستينا، الفتاة الجميلة و الثريّة التي أُصيبتْ فجأة بمرض عضال لتعلم أنّها في آخر أيّامها و يستحيلُ شفاءها.
 مُصابة بسرطان الدّم، و رغم مالها و ثرائها لم تتمكّن من إنقاذ نفسها أو شراء صحّتها و عافيتها مُجدّدا.
أخبرها الأطبّاء أنّها ستعيش لمدّة أقصاها سنة و أدناها ستّة أشهر،       و لكونها قارئة نهمة للرّوايات، كانت مُعجبة بالرّوائي أوسكار الذي حلمتْ يوما بلقائه و الجلوس معه و مناقشة رواياته معه، و لأنّها حبيبة جدّها تحقّقتْ أمنيتها بفضله فعاشتْ ما بقي لها من أيّام معه أحبّتْ لآخر يوم في حياتها.
سعادة كريستينا المشرفة على الموت هي حبّ أوسكار الذي ينقلها للضفّة القادمة المظلمة دون ألم أو خوف و كأنّها تقول:" لا يجرؤ الحزن على إنتهاك صدري و أنت بجانبي".
بطلنا أوسكار، ضحيّة اللّعبة المُحكمة، الذي صار ثريّا فجأة بمساعدة المحامي زاك، كان في السابق مُفلسا لا يملك ثمن زجاجة ويسكي أو علبة سكائر، و بتخطيط المحامي تعرّف على كريستينا فتقرّب منها لتصبح شريكة حياته طمعا في مالها كما خطّط له زاك و كان يُشير عليه بكلّ ما يفعل.
لكنْ فجأة يكتشف طيبة كريستينا و لُطفها و حنانها و قلبها الواسع المُحبّ فيُؤنّبه ضميره، فيُقرّر مع نفسه أنْ يُخلص لها و يكون وفيّا لها مُتجاهلا جشع زاك.
 أوسكار وجد نفسه يرتدي أقنعة عديدة في يوم واحد حسب الأغراض ففقد ذاته الحقيقيّة و فقد نفسه و شخصيّته الحقيقيّة التي أصبحت طيّ النسيان في زمن مضى و صعب أن يُعيدها لأنّه أصبح متعدّد الشخصيات  و الهويّات و من الّصعب أن يعود لسابق عهده و كمْ حاول لكنّه فشل فشلا ذريعا.
نذكر هنا دوستويفسكي حين قال: " الحياة.. ما الحياة؟ إنّها وقفة مع كلّ صورة حلوة، و رحلة مع كلّ صورة عذبة".
عندها حاول أن يُصلّح غلطته في العناية بكريستينا و الإهتمام بها          و إسعادها بسبب ضميره الذي أنّبه كثيرا، و الذي يبيعُ ضميره يخسرُ كلّ ماله، و من يفقد ضميره لا يمتلك شيئا يستحقّ الحفظ.
كذبه عليها أرّقه كثيرا، و شعر أنّه يخدعها دون مشاعر نحوها في البداية، شعر أنّه يتماشى معها وفق مصلحته الشّخصيّة فقط، كما قال توفيق الحكيم:" المصلحة الشّخصيّة هي دائما الصّخرة التي تتحطّم عليها أقوى المبادئ".
عن الضمير يقول جورج واشنطن: " اجتهدْ دائما أنْ تُحافظ على تلك الشّعلة الإلهية التي تُضيء القلوب و التي يُسمّونها الضّمير"
ففي اللحظة التي عرف فيها أوسكار سعادته الحقيقية و أحبّها بصدق، كانت هي تُودّع الحياة ببطء لتُغادرها للأبد.
و صدق من قال: "حياتنا سفينة وسط بحر، إمّا أن نُقاوم و نصل إلى ما نريده، أو نستسلم و نترك الحياة تدفعنا إلى ما لا نعلم".
و من إبداع الروائي أنّه قدّم لنا عبرة عن الحبّ الحقيقي و الوفاء من خلال الكلبين تسونامي و بوسي اللذين يُحبّان بعضهما، و كيف يُعامل تسونامي بوسي و يهتمّ بها و كيف كانت معاملته لها و هي حامل.
القلب حينما يُحبّ لا يتقلّب و حين يُحبّ يُخلص و حينما يُحبّ لا يستطيع أن يبيع الوعد و العهد، هذا ما جسّده لنا المبدع كريم السماوي من خلال الحيوانين الوفيّيْن لبعضهما، و الذين قدّما درسا عميقا لأوسكار كلّ يوم    و هو يشاهدهما.
الرّوائي كريم السماوي يُقدّم هنا درسا بليغا في الإنسانية و الجشع البشري و الطّمع اللامتناهي حيث يجري السّارق دوما وراء المال دون شبع أو اكتفاء كما في مجتمعاتنا الشرقية التي أصبحت موبوءة بهذا المرض اللّعين من طرف ساسة و حكّام و أصحاب الدولة.
جعلنا كريم السماوي نُدرك في مثال حيّ أنّ حُبّ الحيوان أصدق من حبّ الإنسان من خلال الكلبين حيث أنّ حبّ من لا عقل له أصدق و صادق عن أصحاب العقول المتحجّرة و القلوب الصّدئة المهترئة بالنفاق.
و حول السّعادة نذكر قول:" السّعداء لا يملكون كلّ شيء بل مقتنعين بكلّ شيء".





الخطّة المُحكمة:

تبدأ بلقاء زاك و أوسكار في حانة ميشيل عارضا عليه مساعدته ليُخلّصه من ماريو و يعطيه حقّه المسلوب دون أن يأخذ مالا مقابل أتعابه شرط أنْ يدخل معه في لعبته هو المتمثّلة في كونه لديه موكّلة ذات جمال و مال و مريضة على مشارف الموت حيث أكّد الأطباء أنّها لن تعيش طويلا،       و في أحسن الحالات بين الستّة أشهر و السّنة، لديها ثروة تزيد عن العشرة ملايين يورو، و هي تُصرّ على أن ترثها كلبتها المدلّلة.
و المطلوب من أوسكار التّقرّب منها كونها مُعجبة به حسب تصريح زاك    و قد قرأتْ جميع رواياته، فدلّه على أسهل طريقة للوصول إليها عن طريق شراء كلب من فصيلة كلبتها، أي يلتقيها عن طريق لقاء الكلبين كما أعطاه المال لشراء الكلب بوتشر الذي غيّر له اسمه فيما بعد لتسونامي و دلّه على المكان و زاده المال لشراء هندام جديد يليق بلقاء كريستينا كما أعطاه المكان المحدّد الذي يجدها فيه  و قد خطّط لكلّ شيء و بدقّة.
ثمّ أشار عليه لاغتنام حفلة عيد ميلادها ليطلب يدها ثمّ يتزوّجها و من بعدها لاستمالتها لتغيّر وصيّتها.
لُعبة المحامي زاك بدأت عندما خلّص أوسكار من الناشر ماريو ليجعله ينصب شراكه العنكبوتية ليوقّع فيها الجميلة و الثريّة كريستينا، و بين ليلة و ضحاها وجد أوسكار نفسه شخصا ثانٍ يرتدي قناع الخداع عكس حقيقته كشخص كان يملك مشاعر رقيقة.
كالقائل:" كأنّه يملكُ دولاب من الأقنعة يستطيع تبديله في كلّ ساعة     و في كلّ وقت".
وجد نفسه غنيّا و هو من كان لا يملك فيما سبق حتّى ثمن زجاجة الخمر التي يحتسيها و علبة السجائر.
يُؤنّبه ضميره فيما بعد إذ يكتشف طيبة عنصرها و أخلاقها فيُحبّها حقيقة  و يُقرّر أن يُخلص لها بدل الإحتيال عليها و يبدأ بكره المحامي الطمّاع.
ضميره هو المحرّك الوحيد الذي جعله يستفيق من دوره الذي يُمثّله       و أخذ يُعذّبه باستمرار و كيف أنشأ علاقته المزيّفة بها.
نذكرُ ما قال الرّوائي في الرّواية:
" الحيوانات لها قلوب تُحبّ بها. حبّ حتى الموت.
و تتنازل عن بعض طعامها لرفيق جائع، أليس ذلك ما أثبتته التّجارب أيضا     و أكّده مسؤول في حديقة حيوانات لندن يوما؟
الإنسان وحده غارق في الدّمار لنفسه و للحياة على الأرض أو كما يقول عنه آشلي مونتاجيو عالم الأنثربولوجيا: هو أكثر المخلوقات بلبلة إلى نفسه" قالها أوسكار لنفسه.

العقدة و الحبكة و المفاجأة من الرواية:

في مرحلة ما من الرواية نجد زاك مريضا جدّا فنتصوّر أنّه سيفارق الحياة، فيرتاح أوسكار منه و يتخلّص من جشعه و طمعه و وعده له باقتسام أموال كريستينا معه بعد وفاتها، ليتخلّص منه حتّى بعد أنْ وعده بإقناعها بتغيير وصيّتها، فيرتاح ضميره و أخيرا، لكنّنا نراهُ يتعافى و كريستينا المسكينة تتدهوّر صحّتها نحو الأسوأ يوما بعد يوم و هي تُودّع الحياة ببطء.
أوسكار و لتحرير ضميره و قلبه المتعب تُجاه ما خطّط له مع زاك يُقرّر و في آخر لحظات حياة كريستينا بمكاشفتها بكلّ شيء ليتفاجأ أنّها كانتْ على علم بكلّ شيء منذُ البداية و ما زاده دهشة أنّ المحامي زاك هو جدّها والد أمّها.
كان يظنّ أنّه يلعبُ لعبة مُحكمة عليها ليجد أنّه هو وسط لعبة مُحكمة من قبل زاك و كريستينا.
غريبٌ أمرُ الحياة.. اعتقد أنّ كريستينا ضحيّة لُعبته ليكتشف أنّه هو ضحيّة لعبة مُحكمة معه منذ البداية.. اكتشف أنّه ضحيّة زاك و كريستينا دون دراية منه منذ بداية اللّعبة التي أدخل نفسه فيها.
و أخيرا ارتاح باله و تحرّر ضميره و قلبه.
تُوفّيت كريستينا و ورّثته مالها زيادة على المال الوفير الذي كسبه من رواياته ليُورّثه أيضا زاك جزءا من ثروته بعد أنْ مات حسرة و كمدا على وحيدته كريستينا.
ثمّ إنّ زاك أوصى بماله حتى لمولن و الموظّفين.

في الأخير:

نهاية الرّواية حزينة من موت ميشيل صديق أوسكار الذي أصبح يزوره يوميّا في المقبرة، لتُفارقه كريستينا بعد أن استفحل المرض في جسدها الضّعيف و قهرها ليأخذها بعيدا عنه، فصار المسكين يُمضي وقته قرب ضريحها، و يزداد كمدا بعد أن تُوفّي زاك أيضا.
أوسكار أصبح يمضي يومه كلّه في المقبرة يبكي عليهم، لأنّه أصبح وحيدا في الحياة.
المال الوفير لم يجعله سعيدا بقدر ما جعله تعيسا مدى الحياة، هو ذا الدّرس القيّم الذي قدّمه لنا الروائي بإبداعه و أدبه و خياله الواسع.
الروائي المبدع و المتألّق " كريم السماوي" كتب رواية جدّ رائعة، أصنّفها أنا للرّواية الكلاسيكيّة العريقة كما كتب يوما "فيكتور هيجو"، رواية فيها سردا قيّما  و جيّد جدّا، فيها من العبر و الحكم و الأقوال التي تُعطينا دروسا في الحياة و الإنسانيّة.
فالحياة هي كلّ ما يجري في الوقت الذي تكون أنت تُخطّط لأمور أخرى،  و من هنا تبدأ السعادة حيثُ ينتهي الطّمع، لأنّ السعادة تنحصر في فهم معنى الحياة.


56
الفنّان العراقي "صفاء فارس" يُشارك في مهرجان مالمو الكبير (ضدّ التطرف و العنف)

 

شارك الفنّان العراقي "صفاء فارس" في المهرجان الكبير (معا نعمل ضدّ التطرف و العنف) الذي أقامته جمعيّة الصّداقة السويديّة في مدينة مالمو بتاريخ 22 من شهر نيسان الجاري، بدعوة من مدير مشاريع الجمعيّة السيّد "محمّد خورشيد".
 المهرجان شهد حضور شخصيّات مهمّة من السويد و العراق       و باقي الدّول المتواجدة جالياتها في مملكة السويد.
استهلّ الفنان "صفاء فارس" غناءه بأغنيّة للسّلام و الحبّ            و التّسامح حملتْ عنوان (السّلام لكلّ الأوطان)، ثمّ تلاها بأغنيّة عاطفيّة بعنوان ( تسألني وينك)، ثمّ صدح بصوته الجميل في موّال عراقي عن بغداد و العراق وسط تصفيق الجمهور له بحرارة، فاختلطت الدّموع بالزّغاريد و التّصفيق و الهتافات للحبّ و السّلام الذي تمنّاه جميع الحاضرين للعالم كلّه.
و مؤخّرا يستعدّ الفنّان "صفاء فارس" لتصوير أغنيّته (تسألني وينك) في السويد، من كلماته و ألحانه و غنائه، و توزيع الموسيقار عاشق الكمان "حازم فارس" التي سُجّلتْ في إسطنبول بمرافقة فرقة الفنّان التركي الكبير "إبراهيم تاتليس".
كاتبة المقال (نوميديا جرّوفي)





57

عاشق الكمان "حازم فارس" يعمل ضدّ التّطرف و العنف.

شارك الموسيقار العراقي عاشق الكمان "حازم فارس" في المهرجان الكبير ( معا نعمل ضدّ التطرّف و العنف) الذي أقامته جمعيّة الصّداقة السّويديّة في مدينة مالمو في 22 من شهر نيسان الجاري، بدعوة من مدير مشاريع الجمعيّة السيّد "محمد خورشيد"، بحضور شخصيّات سويديّة، عراقيّة، تركيّة و عربيّة.
و عن انطباعه لفقرات المهرجان و المشاركة المهمّة فيه، يقول حازم فارس: " كنتُ سعيدا و فخورا جدّا بحضور هذه الشّخصيّات الكبيرة للعمل ضدّ التّطرّف و العنف، و أكثر ما جلب انتباهي و أسعدني هو أنّ السيد محمد خورشيد كان جدّ حريص لنقل الوجه المشرق لمدينة مالمو الجميلة لأنّه يعلم أنّها خير وسيلة للوقوف ضدّ التّطرّف و العنف".
و الجدير بالذّكر أنّ الفنان المبدع و المتألق حازم فارس يستعدّ لوضع اللّمسات الأخيرة على ألبومه الموسيقي الجديد الذي تطرّق فيه إلى أفكار جديدة و مسمّيات مهمّة من تاريخ العراق، كما أنّه يستعدّ أيضا لتصوير أغنيّته الأولى( عايش أنت بداخلي) التي أدّاها بصوته، من كلمات الشّاعر فهد راشد و توزيع علي شاكر.
كاتبة المقال ( نوميديا جرّوفي)


58
   نوميديا جرّوفي، شاعرة ، باحثة و ناقدة


" و اسألهم عن القرية" للقاصّ " أنمار رحمة الله"


( و اسألهم عن القرية) عنوان الكتاب جميل و يحمل في صفحاته مجموعة من القصص الجميلة ذات الحكم و العبر الرائعة.



قصّة الرسّام:


اختار القاصّ المبدع أنمار الرسّام قبيح الشّكل، لكنّه مبدع بريشته حيث يرسم كلّ ما هو جميل، يُجسّد الجمال بأنامله السحريّة رغم قُبح مظهره، لكن رغم شكله القبيح يحملُ روحا طاهرة و طيّبة.
و من هنا نتذكّر أنّ الجمال الحقيقي هو جمالُ الأرواح و ليس المظاهر التي تكون خادعة أحيانا.
دخل الرسّام قرية كلّ أهلها متديّنون و متعجرفون، يرون أنفسهم منحوتون بالجمال و الضيّاء من السّماء، كما أصحاب العمائم في بلداننا الذين يتظاهرون بالتقوى و التديّن المتعصّب الذين يرون أنّ النّور يسطعُ من وجوههم و يلفّهم. إنّه الخيال العقيم الذي جعلهم يلقون غشاوة على الشّعوب و أصحاب النّفوس الضعيفة الذين يُؤيّدونهم دائما في نفاقهم و بهتانهم،  و هم أكبر المنافقين على وجه الأرض.
دخل الرّسام القرية طامحا في تجسيد جمال أحد الوجوه الجميلة هناك، لكنّه استُقبل بالرّفض و الطّرد و التّجهّم من قبل أهل القرية لقُبح وجهه و هُمْ أصحاب الوجوه و القلوب القبيحة باطنا و ظاهرا، مثل القول الماثور:
"الجملُ لا ينظُر أبدا لحدبته و لكنّه ينظرُ لحدبة غيره".
 و يقول شارلي شابلن في هذا الصدد أيضا:
" لن تجد قوس قزح ما دُمت تنظر للأسفل".
و لذماثة أخلاق أهل القرية تلك كانت عاقبتهم موت كلّ طفل يولد.
قرية من دون أطفال!
قرية تنعدمُ فيها البراءة و الجمال الطّفولي!
جاء المغزى العميق هنا من الطفولة مُجسّدا العنف، الدّمار، اليُتم المبكّر بسبب فقدان الأهل في الحروب غير المنتهيّة منذ أعوام و أعوام في بلداننا الشرقيّة.
انتقل بنا بعدها لرقصة المطر للرسّام، تلك الرقصة التي يهواها الأطفال. في تلك الرقصة البريئة له تحت المطر جنّ جنون أهل القرية و هُمْ يتفرّجون عليه و هو في أبهى سعادته و فرحته لأنّه الوحيد بينهم الذي كان يسمع موسيقى المطر الجميلة، كما قال نيتشه يوما:
" الذين شوهدوا و هم يرقصون كانوا معتوهين في نظر الذين لم يستطيعوا سماع الموسيقى".
هنا انقشع السّتار عن وجوه أهل القرية الحقيقي بزوال الأصباغ عن وجوههم، و كأنّ القاصّ أنمار نزع عنهم أقنعتهم المزيّفة ليظهروا بوجوههم القبيحة الحقيقية، فصاروا جميعا سواسيّة من حيثُ المظهر و القُبح ناهيك عن خُبث الخُلق.
الجمال الحقيقي هو جمالُ الرّوح، لأنّ جمال المظهر و الوجه يؤول للزّوال، هذا ما قدّمه لنا ماركس العظيم في حبّه لزوجته التي لم تحتفظ بجمال وجهها بسبب الجدري، لكن بقيت دائما جميلة في عيني ماركس و بقي وفيّا لها للأبد و لآخر عمره.
يتفاجأ الرسّام بعد أن علم من العجوز أنّه لا يوجد أيّ طفل بالقرية و ازدادت دهشته بعد أن أشارت بأصبعها إلى المقبرة التي تجمع جثث كلّ من المولودين.
لخُبث أهل القرية خلقا و خُلقا عاقبتهم آلهة الخصب بموت كلّ من يولد لينعدم جنسهم بعد أعوام.




قصّة الحكّاء:

أخذنا القاصّ أنمار لزمن جميل من الماضي، حيث كان النّاس يجتمعون حول الحكّاء الذي يروي القصص و المغتمرات لأهل القرية.
لكنْ القصّة هنا مختلفة نوعا ما، جعل أنمار الحكّاء يعود من الموت بعد أن مات و عاد لقريته ليجد مكانه حكواتي شابّ يقصّ القصص مكانه.
كان ينتظر أن يفرح به أهل القرية بعد عودته الغريبة من الموت، لكن لم يستقبله أحد أو يحتفي به، عاد و كأنّه غريب أو كأنّه لم يكن بينهم يوما و لم يعش.
استخدم القاصّ أنمار نوعا من الخيال في إعادته للحياة بعد موته في شبه معجزة، مع أنّ زمن المعجزات ولّى منذ عقود    و أجيال غابرة، كعودة النبيّ عُزير من الموت بعد مائة عام.
نعودُ للحكّاء و عودته من الموت ليجد مكانه حكواتي شابّ و هو يقصّ عليهم حكايات جديدة عن المستقبل، بينما هو كانت قصصه قديمة و متكرّرة دون جديد فيها، كتلك التي يستخدمها أصحاب التقوى عندنا و التي مازالت تُعيدُ نفسها ليومنا هذا منذ أجيال و أجيال دلالة على التخلّف العميق.
القاصّ أنمار قدّم لنا لغزا عميقا بين الحكواتي الشابّ و الحكّاء الشيخ و هو مُستنبط من الفلسفة، حيث أنّ المعرفة العلمية هي امتداد للمعرفة العاميّة كبائع الأعشاب قديما و الصّيدلي حديثا.
و هنا مقارنة بين شابّ يُطالع الكتب الجديدة و الشيخ المتخلّف الذي يسردُ دوما نفس الحكايات القديمة التي ملّ و سئم منها أهل القرية لتكرارها دون إضافات.
الشيخ كان بالنسبة لهم روتين قاتل و مملّ لهذا ابتعدوا عنه بعد عودته و ظلّوا مجتمعين حول الحكواتي الشابّ.
كما يقول دافنشي:
" إنّ الطبيعة تلطف بنا لأنها جعلتنا نعثر على المعرفة حيثما أدرنا وجوهنا في العالم"
ثمّ إنّ الحكواتي الشابّ جعلهم يفتحون أعينهم على ما كان غائبا عنهم و لم يكن منافقا أو مخادعا معهم، كما يقول العقاد في هذا الصّدد:
" الصّادقون في عواطفهم لا يُبالون بالمظاهر".
لكنّ المسكين مات غدرا بطعنة خنجر من الشّيخ الحكّاء الذي كاد يموت غيظا و حسدا منه، ظنّا أنّه بقتله سيستعيد حلقته بجمع أهل القرية إليه ليستمعوا لحكاياته التي اهترأت بمرور الزّمن و هو يُعيد عليهم عجلة الزّمن بخرافاته التي سئموا من سماعها.
لكن حدث العكس، لأنّ الحكواتي الشابّ علّمهم مطالعة الكتب و ترك لهم كُتبا كثيرة أصبحوا يقرؤونها في منازلهم و يلتقون فيما بينهم لمناقشتها.
كما قال جون هارينغتون:
" الكتب لا تزرع الحكمة إن لم تكن موجودة، و لكن قراءتها تُضيفُ للحكمة إنْ وُجدتْ".
الحكمة و المغزى هنا من قصّة الحكّاء، أنّ القديم سيزول يوما لا محالة ليحلّ محلّه الجديد لأنّ الحياة تسيرُ نحو الأفضل دوما  و ليس للوراء، كما قال دوستويفسكي:
" الحياة.. ما الحياة؟ إنّها وقفة مع كلّ صورة حلوة، و رحلة مع كلّ صورة عذبة".
و يقول مثل عربي:
" الحكمة شجرة تنبتُ في القلب و تُثمرُ في اللّسان".

قصّة المعلّم:

المعلّم، هو ذلك المثقّف الذي ساعد الحوذي بعد أن فقد حماره، لكنّه في النّهاية جوزي جزّاء سنمّار، حيث أن الحوذي الجاهل بدل أن يكافئه لحسن صنيعه معه و مساعدته جعله حمارا له و أهانه و ضربه.
إنّه الجاهل الذي قال عنه الشيخ محمد عبده:
" من النّاس من يحبّون أن يقعدوا في صندوق من الجهل        و يقفلوه على أنفسهم حتّى لا يتي فاتح و لا فرج".
و هنا الحوذي عظّ اليد التي مدّت له يد المساعدة، و عن المعلّم ينطبق المثل العربي:
" حتفُ المرء بين فكّيه".
ساعده ليّبعده عن البطالة فوجد نفسه صار حمارا له. إعتقد المسكين أنّه بإسدائه المعروف سيشكره يوما ما كالمثل الصّيني:
" إذا أعطيت رجلا سمكة فقد أطعمته يوما واحدا، أمّا إذا علّمته كيف يصطاد السّمك فقد أطعمته طول العمر".
لكنّ المعلّم هنا أخطأ في حسن ظنّه بالحوذي ، فيهرب منه في النّهاية لكثرة العذاب الذي حصل عليه من الحوذي. هرب إلى الغابة و فضّل الحياة بين الوحوش الضّارية أفضل من عذابه مع الحوذي، حيث أنّ الحيوانات أشدّ رأفة من الإنسان.
كان معلّما محترما ليجد نفسه عبدا لجاهل يسوقه كالحمار     و يضربه و يعنّفه و يهينه، كما قال جان جاك روسو:
" يو لدُ الإنسان حرّا، لكنّه في كلّ مكان يجرّ سلاسل الإستعباد".
فلو أطبق المعلّم فمه و لم يتدخّل بالمساعدة لبقي في عزّته و كرامته و لم يتعرّض للإهانة لاحقا من طرف الحوذي الغبيّ    و الجاهل الذي لم يشكره بل عذّبه شرّ عذاب.
فالفمُ المُطبق لا يدخله الذّباب، كما يقول المثل الصّيني.

قصّة العازف:

الموسيقى عذاء الأرواح
الموسيقى تنشلُ الإنسان من الحزن و تُبهجه لو كان كئيبا.
هنا أخذنا القاصّ أنمار لقرية كلّ أهلها فاقدون سمعهم و كلّ أطفالهم يولدون بدون صيوان، و هُمْ كلّ سنة يحتفلون بعيد الصّرخة. تلك الصّرخة التي بسببها فقدوا سمعهم للأبد.
جاءهم عازفٌ للكمان، و بدخوله عندهم قابلوه بإجحاف بدل استقباله و التّرحيب به، و لم يسمحوا له بالعزف و طردوه، لكنّه ظلّ يعزفُ في الخفاء فاجتمعت حوله الطّيور و الحيوانات لتسمع موسيقاه العذبة.
أهلُ القرية كانوا غلاظ القلوب فقابلوه بوحشية، لكنّه كان ذو قلب كبير رحب، كما يقول غاندي:
" إذا قابلنا الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة؟ ".
في تلك اللّيلة الأخيرة التي عزف فيها قبل مغادرته القرية نهائيّا، حيثُ طربت لأنغامه الشجيّة السحريّة القرية لم تعرف النّسوة أنّهنّ ولدن صغارا بصواوين صغيرة.
هي ذي الموسيقى التي حاول أن يشرحها لنا القاصّ أنمار    و يقدّم معناها الرّوحي و المعنوي للإنسانيّة
الموسيقى تُبهجُ القلوب و تشرحُ الصّدور و تنشر السّعادة       و الفرح.
الموسيقى فنّ راقي و سامي جدّا لمن يعرفُ معناها الحقيقي.

قصّة الهتر:

إنّه الإنسان الطيّب المُسالم، الذي يعيش في مجتمع يأكل فيه قويّهم ضعيفهم، فلا يستطيع التأقلم معهم.
و لطيبته و سذاجته يتعدّى عليه الكثيرون فينتهكون حرّيته           و يتلاعبون بها كيفما شاؤوا، كمن قال:
ثقيلة هي قيودي و الحريّةكلّ مُناي، و أشعر بخجل و أنا أحبو إليها.
ثمّ نرى ذلك الذي يكنُّ له تلك الضّغينة، حيث قال له:
" لمْ أنظر لكي أقتلك بشيء آخر غير هذه الكتب المرميّة في كلّ مكان كتاب ثقيل يكفي لكيْ أخنقك به".
كلّ إساءة كان يقابلها الهتر بحسنة و طيبة و هذا ما زاد جنون الحاقد القاتل ليقتله وسط كتبه.
ذكّرتني القصّة بالصّديقيت الذين كانا في نفس الغرفة، أحدهما كان يُصلّي و الثّاني يحلق ذقنه و يُغنّي.
لكن المفاجأة، أنّ من كان يُصلّي بمجرّد أن أنهى صلاته قتل صاحبه بطعنة.
كراهيّة غريبة من قبله، تلك التي قالت عنها مايا أنجلو:
" الكراهيّة تسبّبتْ في العديد من المشاكل في هذا العالم، لكنّها لم تستطعْ حلّ أيّ واحد بعد".
مات الهتر و ابتعد عن عالمٍ مليء بالنّفاق و الحقد و الحسد          و الكراهيّة، و كان هناك من بكى عليه في عزائه و مواراة جثمانه ل،ّه كان جدّ طيّب مع النّاس رغم سذاجته التي تسبّبت في هلاكه.
مات و ترك سؤالا محيّرا لقاتله.

قصّة التّوأم:

الصّراعات موجودة دائما منذ قابيل و هابيل، الصّراعات القبليّة، العشائريّة، الوطنيّة، و أكبرها تلك الموجودة في نفس الأسرة بين الأخوين.
و القاصّ أنمار هنا قدّم لنا مثالا عن توأم برأسين و جسد واحد، مختلفان في كلّ شيء، و أبدا لا يتفقّان على أمر واحد، دوما متنازعان، و أكبر شجار لهما كان على فتاة، كيف لا و هما يحملان قلبا واحدا؟
كلّ واحد أرادها لنفسه، لذا أحدهما قرّر قتل منافسه كما فعلها قابيل أوّل قاتل في التّاريخ لتُصبح البشريّة كلّها سلالة قابيل القاتل، و ما زال الإنسان يقتل أخيه الإنسان ليومنا هذا.
لكن في النهاية و بعد القتل، التّوأم يندم على فعلته حيث لا ينفعه النّدم.
إنّه الحسد الأعمى الذي قال عنه هيغل:
" الحسد أغبى الرّذائل إطلاقا، لا يعود على صاحبه بأيّة فائدة".
التّوأم بقتله توأمه كمن قتل نفسه، و تصحّ فيه مقولة نيلسون مانديلا:
" إنّنا نقتل أنفسنا عندما نضيف خياراتنا في الحياة".
ثمّ النّدم لا يعود على صاحبه بأيّة فائدة، و لا يستطيع تصحيح غلطته.
فمن يستطيع كبت لحظة غضب، يمكن أن يتلافى أيّام حزن كثيرة.
و عن النّدم يقول ادوارد ويانس:
" النّدم أفعى تعضّ نفسها".

قصّة المرايا:

المرآة، هي الصّورة الحقيقيّة التي يرى فيها الإنسان نفسه،    و هي انعكاسه دون رتوش، حيث يقول المثل الصيني:
" خيرُ مرآة ترى فيها نفسك.. هي عملك".
و بطلُ القصّة هنا ينظر لنفسه في الماء الصّافي فيتذكّر طفولته    و صباه في زمن جميل عاشه وقتها
و نُحسّ به كارها ناقما من كلّ شيء عندما رمى الحصى على المدينة و هو فوق ذلك التلّ.
يقول جورج برنارد شو:
" إنّ سرّ الإحساس و الشقاء هو أن يكون عندك وقت فراغ تتساءل فيه عن إذا كنت سعيدا أم لا".
و تبقى المرآة وجهنا الحقيقي الذي نراه و صراحة كلّ واحد مع نفسه.


قصّة موعد:

اختار القاصّ أنمار في قصّته هذه طرح مشكلة الكهرباء التي يعاني منها أغلب شعب العراق بسبب تلك الإنقطاعات المتكرّرة التي سبّبتْ تذمّرا.
و هنا و ككلّ ليلة في الظّلام بعد انقطاع الكهرباء، الأب يتعرّف على كلّ واحد من أبنائه بالصّوت، و في تلك الليلة و بعد دردشة مع كلّ واحد، يدخل مجرمون البيت مستغلّين ذلك الظّلام فيقتلون كلّ الأبناء على آخرهم و الأب يتفرّج مشدوها مرعوبا من أبشع جريمة على مرأى عيونه.
و للظّلام في القصّة مغزى عميق لما تعيشه العراق              و مجتمعاتنا العربيّة الشرقيّة من ظلام بسبب الدّمار الذي عمّ على أغلبها.

في الأخير:

تقديري للقاصّ المبدع " أنمار رحمة الله" لما سطّره لنا في مجموعته القصصيّة الراقية بكلّ ما تحمله من مواعظ و حكم و واقع معاش، و طريقته الإبداعيّة و الخياليّة في نقل السّرد للقارئ.






59
عاشق الكمان "حازم فارس" يُؤلّف إفتتاحيّة مهرجان( معا نعمل ضدّ التّطرف و العنف)



السيد محمد خورشيد يسلّم الفنان حازم فارس درع المهرجان السنة الماضيّة.

حاورته "نوميديا جرّوفي"
بدعوة مباشرة من مدير مشاريع (جمعية الصّداقة السويدية العراقيّة) في مالمو  UVF  Malmo السيد "محمّد خورشيد".  يتوجّه عاشق الكمان حازم فارس للمشاركة في المهرجان الكبير  (معاً نعمل ضدّ التطرف والعنف)  الذي سيُقامُ في مدينة مالمو  السويديّة بتاريخ 22 أبريل من هذا العام .
 
1-   بعد الإعلان عن تسجيل أوّل أغنيّة بصوتك                    تحت عنوان (عايش أنت بداخلي)     و التّحضيرات لتصويرها بطريقة الفيديو كليب، ستُشارك قريبا  و للمرّة الثانيّة على التّوالي في المهرجان الكبير (معاً نعمل ضدّ التطرف والعنف)، حدّثنا قليلا عن تحضيراتك للمهرجان و ماذا تعني لك هذه المشاركة؟

حازم: شكرا لتسليطكم الضّوء على مشاركتي في مهرجان     ( معا نعمل ضدّ التطرف و العنف) الذي يُعتبر حدثا مهمّا في ظلّ ظروف العنف و التّطرف الذي يشهده العالم كلّه.
أنا سعيدٌ و فخورٌ لمشاركتي الثانيّة فيه لأنّني أريدُ المساهمة في العمل ضدّ التطرف و العنف من خلال موسيقاي، و هنا وجب عليّ أن أتوجّه بجزيل الشّكر            و التّقدير للسيّد " محمّد خورشيد" لإتاحته الفرصة لي        و لتشريفي بهذه المشاركة الكبيرة التي أعطتني حافزا فقمتُ بتأليف مقطوعة موسيقيّة خاصّة لإفتتاحية المهرجان.
 
2-   حدّثنا أكثر عن هذه الافتتاحيّة                              و الأسباب التي دفعتك لتأليفها .

حازم: هي إفتتاحيّة تُعبّر عن السّلام و الحبّ و نبذ العنف    و التّطرّف سيظهرُ ذلك جليّا من خلال النّغمات و الإيقاع الذين استخدمتهما لرسم تلك الصّورة.
فمن خلال حواراتي مع السيّد محمّد خورشيد و وصفه للأعمال الجليلة التي يُقدّمها أعضاء الجمعيّة الموقّرة و بعض الأصدقاء و الصّديقات من الشّباب بتنظيم لجان ليليّة لحماية المدينة و أهلها من بعض حالات العنف التي شهدتها المدينة مُؤخّرا، جاءت كلماته كنغمات تنسابُ تلقائيّا أمامي فوددتُ لو أنّني أستطيعُ أن أكون معهم في تلك اللّحظات، لذلك قمتُ بتأليف هذه الإفتتاحيّة كنوع من المشاركة البسيطة جدّا مقارنة بما يُقدّمه غيري في مالمو من أعمال إنسانيّة كبيرة.   

3-   نغتنمُ الفرصة هنا لنسألك عن الأغنيّة التي  سوف تُؤدّيها الفنّانة "ليلى خلف" إحدى عضوات فرقة (طيور دجلة) .

حازم: الأغنيّة جميلة جدّا بعنوان ( فضلته عليك)و تحملُ معاني كثيرة، كتب كلماتها الشاعر المبدع "فهد الراشد"     و قُمتُ أنا بتلحينها و وضع التّوزيع الموسيقي لها خصّيصا للفنّانة ليلى خلف التي تملكُ صوتا جميلا جدّا و مساحة صوتيّة رائعة و إحساسا عاليا في التّعبير، خاصّة و أنّي قد استمعتُ لها أكثر من مرّة من خلال مشاركاتي الكثيرة في مهرجانات 'فرقة طيور دجلة) الرائعة تحت قيادة المايسترو العراقي الكبير "علاء مجيد" التي حقّقت إنتشارا كبيرا         و شهرة واسعة لما قدّمته الفرقة من مستوى عالي في نقل التراث العراقي للعالم،  و ليلى خلف تُجيد الغناء و تُبدع في ألوان غنائيّة متنوّعة .

4-   حدثنا عن ألبومك الموسيقي الجديد .


حازم: ألبومي الموسيقي الجديد يحملُ عناوينا جديدة        و مُهمّة للغاية، فقد تحدّثتُ عن معالم مهمّة في مدينتي الغاليّة (البصرة) و معالم كبيرة و مُهمّة في بلدي الغالي العراق.
التّسجيل و التّنفيذ كان في أكثر من دولة، لذلك أخذ منّي وقتا و جهدا كبيريْن، و من المتوقّع أن يكون جاهزا في بداية العطلة الصّيفيّة من هذا العام.

5-   كيف إحساسك و شعورك و أنت ضمن 50 فنّان شارك في تشكيل ثقافة الشّرق الأوسط حسب الدّراسة التي أعدّتها صحيفة ( هافنجتون بوست) الأمريكيّة و أنت ابن العراق أرض الحضارة العريقة الذي صنع موسيقى خاصّة وصلت للعالم و نالتْ شُهرة عالميّة كبيرة من خلال ألبومك الموسيقي ( ألف ليلة و ليلة للكمان)؟

حازم: أفتخر أنّني عراقيّ، و سعادتي لا توصف بعدما قرأتُ الدّراسة التي أعدّتها الصّحيفة، و أنّني ضمن 50 فنّانا من مختلف الإختصاصات في الشّرق الأوسط، استطعتُ أن أساهم في تشكيل الثّقافة الموسيقيّة، و هذا عنوانٌ كبيرٌ جدّا في حياتي سيدفعُني أن أكون أكثر حرصا و أدقّ اختيارا و أوسع نطاقا في مشاركاتي القادمة.

تمنيّاتنا لك بدوام التّألق و الإبداع و النّجاح.


60
أدب / نحو الحقيقة
« في: 22:39 30/03/2017  »

نحو الحقيقة


نوميديا جرّوفي


( في الميلاد الثالث و الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي و تخليدا لأرواح الشهداء الشيوعيين الأبرار الذين ضحوا بحياتهم      و شبابهم في سبيل الوطن و قول الحقيقة في وجه الظلم)

أسير نحو الحقيقة
دون أن أذكر معالم الطريق
فجأة يقطعون الطّرق المؤدّية
نحو النّور و الضياء
فيتفسّخ في قلبي جرحًا يلمع
فيصبح كشكل قلبي و لونه
ينبض مكانه
يأكل من دموعي
كبلّورٍ صافٍ
يحرق أوردتي
و يشتعل في داخلي أكثر
مع مرور الزمن
يستعمرُ جرحي أنحاء جسمي
و يعدو نيابة عن قدماي
ليفتح نافذة الحقيقة
لكنّه أبدا لا ينزف
أصبحت ذراعاي أطول
أصبح لون شعري كلون المرآة
أغسل وجهي من دمع القمر
أفتح صدري بيد التأريخ
هناك في الضّباب
ألمح جرحي يرقص
أنظر إلى اللاشيء
فأرى أنحاء جسمي مبعثرة
أجمع أشلائي
و أدفنها في تربة تتنفّس
أمسك جبهتي
و أغرزها في لحمي
فينبت جرحا آخر
يُكمّل الطّريق نحو الحقيقة



61
   نوميديا جرّوفي، شاعرة ،مترجمة، باحثة و ناقدة

خبر جديد عن آخر أعمال الموسيقار "حازم فارس"


 

آخر أعمال الموسيقار عاشق الكمان "حازم فارس" مفاجأة للجمهور


يستعدّ الفنان الموسيقار الكبير "حازم فارس" عاشق الكمان لتصوير أغنيته الأولى بعنوان ( عايش أنت بداخلي) مع المخرج المتميّز " ستار نعمه".
الأغنيّة من كلمات الشّاعر الكبير "فهد الراشد"، توزيع موسيقى و تنفيذ عازف القانون الشّهير الفنّان " علي شاكر" في أستوديو الفنّان علي شاكر ببروكسل.
و في سؤال للفنان حازم فارس عن طبيعة الأغنيّة و سيناريو التّصوير قال: " الأغنيّة ستكون مفاجأة للجمهور من جميع المقاييس، بدءا من الكلمات إلى الألحان إلى توزيع الموسيقى  و التنفيذ الذي أبدع فيه الفنّان علي شاكر، و من ثمّ الإخراج الذي سيُساهم في تغيير النّظرة العربيّة للأغنيّة العراقية"
التّصوير سيكون في مدينة بروكسل البلجيكيّة حسب السيناريو الذي وضعه المخرج الكبير ستار نعمه بتقنيّة حرفيّة عاليّة.
و من الجدير بالذّكر أنّ العمل سيرى النّور بداية شهر مايو القادم.









62
لروح الشّهيد العميد "علي الوروار"

لروح أخي الشّهيد العميد "علي الوروار" في الذكرى السنوية لاستشهاده (28/02/2016)...

جلس الزّمان أمامه يتعلّم
و اللّيل من طعناته يتألّم
علي الذي خضعتْ له قمم الدنى
و الدّهر يذكر بأسه يتكلّم
علي الذي كان الجهاد جواده
فمضى عزيزًا صادقًا يتزاعم
إن تسألوا الأيام عنه تجيبكم
كلّ السماوة و باسمه تترنّم
إن تسألوا غسق الدّجى لن تكتفي
كلّ النجوم بمدحه بل ترسم
ذكراه في العراق قاطبة فتبقى
في خشوع سرمديّ تتعاظم
كان الشهيد هنا يرابط مخلصًا
و اليوم نرثي روحه نترحّم
أين الذي قاد الفيالق ثائرًا
و الحقّ عدّته بها يتحكّم
علي الذي وهب القضية حياته
قطف الثواب و مثله يتكرّم
علي الذي أهدى العراق عمره
سأل النعيم و ثغره يتبسّم
فإلى الذي ضمّ الثرى جثمانه
نُهديه ألف تحيّة و نُسلّم
علي الشهيد بقلبنا و إلى الأبد
مثواه فردوس العلا لا يسأم
تاريخه نورٌ لنا بدروبنا
و نضاله أسطورةٌ لا تُكتمُ
(نوميديا جرّوفي)


63
   نوميديا جرّوفي، شاعرة، مترجمة، باحثة و ناقدة.

رواية "ق . م سيرة سجين سيّاسي" للرّوائي "لؤي عمران"




 

الروائي "لؤي عمران موسى" من مواليد 1961 بالسماوة، العراق. يحمل شهادة في علم الحاسوب، له ترجمات أدبية عديدة من العربية للإنكليزية و من الإنكليزية للعربية، يكتب مقالات في المجالات الاجتماعية و السياسية في عدّة مواقع و صحف.
"ق.م.. سيرة سجين سياسي" هي أوّل رواية له و هو بصدد إنجاز عمل جديد قريبا.

"سيرة سجين سيّاسي" هي مُذكّرات حيّة من زمن كابوسي، زمن لم تندمل جراحه ليومنا هذا، زمن رعب حقيقي، زمن مخابرات أمنيّة  و تقارير سريّة، زمن سجون، زمن التعذيب، زمن ذهب فيه شباب و شيوخ و عوائل كثيرة.
إنّه الزمن الذي ذاق فيه الشّيوعي،و المعارضة العراقية أبشع أنواع العذاب.
عندما نقرأ العنوان جيّدا و نتمعّن فيه، نرى الغلاف من سجن مازال محفورا في الذّاكرة لم يُنس و لن يُنس.
(ق.م) حرفان من عدد من العنابر في سجن أبي غريب أُطلقت عليها علامات لتمييزها عن بعضها فهناك (م1، م2...)                   و (ق1،ق2،...).
الرّوائي "لؤي عمران" عاد بنا لتاريخ قديم جدّا ، أخذنا معه في سرد (بسّام) قبل أربعين سنة عندما كان فتى مراهقا ذو التسعة عشرة عاما حينها يحكي ما جرى له بطريقة تجعلنا نشاهد وثائقي لا نقرأ سرد مكتوب.
بعد سنين طويلة مضت، استجمع بسّام شجاعته للحديث عن كلّ ما حصل له حينها، و ذاكرته مازالت تحفظ الأحداث كلّها، و لم ينس  و لا لحظة من تلك السّنين، قرابة الثلاث سنوات قضاها في السّجن بعد أن كان يحلم بالجامعة.
"سيرة سجين سيّاسي" هي وثيقة حيّة و إدانة أخرى لأعتى الدكتاتوريّات في الشّرق الأوسط.. كي لا يعود دكتاتور ثانيّة.
إنّها ذكريات صدى السّنين الحاكي.
هي سرد لوقائع السّجن، فترة الإعتقال من مديرية الأمن العامّة     و قبلها في سجن الخناق في المثنى، ثمّ الصعود إلى محكمة الثّورة.
صدق شاعرنا الكبير (يحيى السماوي) حين قال: " علينا أرشفة هذا التاريخ كي لا يضيع".
أجل كي يبقى بصمة تأريخيّة للأجيال القادمة و ليقرأه العالم كلّه.
بسّام يتذكّر تفاصيل سجنه بروح غفور سمحة، لكأنّما علّمته السّنين أنّ الحياة مفهوم واسع، و أنّ أولئك الجلاّدين كانوا بشكل  ما ضحايا، تروسا صغيرة في آلة القهر و الدكتاتوريّة.
إنّها مذكرة حيّة في فترة مهمّة جدّا من التأريخ العراقي في ذلك الزّمن الرّهيب.
بعد سقوط الصّنم... و بعد أكثر من ستة و ثلاثين سنة مضت يبدأ السّرد...

سرد بسّام

في منتصف سبعينيات القرن الماضي، عمل البعثيّون على السيطرة على كلّ شيء، و عملوا بصفة خاصّة للقضاء على الحزب الشيوعي و على كلّ شيوعيّ وكل معارض لنظامهم أيضا. فبثّوا شبكاتهم السريّة المسمومة لتعثر على كلّ من ينتمي للحزب الشيوعي لتسوقه للسجن و هناك العذاب الذي لا يمكن تصوّره من طرف وحوش همجيّون الحيوانات أشدّ رأفة منهم.
ففي ذلك العام الذي تمّت فيه مهاجمة مقرّات الحزب الشيوعي     و اعتقال عناصره فقد غادر من غادر العراق ، و قد أعدم من أعدم،   و اعتقل من اعتقل.
يومها كان بطل روايتنا و صاحب السّرد هنا بسّام يبلغ تسعة عشرة سنة و هو شاب من مدينة السماوة العريقة، كان قد أنهى الإمتحانات الوزارية و حلمه لا يتعدّى إكمال دراسته الجامعيّة ككلّ شابّ.
يتذكّر بسّام الساعة التي اقتحم فيها البعثيون بيته العائلي لأخذه للمديرية في قوله:

" الساعة حوالي الحادية عشرة صباحا كنتُ أراقب التلفزيون منتظرا نتائج الإمتحانات الوزارية و صوت أخي الصغير ينادي " جماعتك بالباب يردوك" رجلان لهما من الوجوه ما لا يبعث في النفس التفاؤل، كانا بارعين بعكس وجوه مخيفة ".

من هنا بدأ المسير نحو المجهول بالتحرك إلى المديرية فيبدأ القلق و الترهيب للاعتراف.

التعذيب:

في المديرية بدأ الكابوس و السير نحو المصير المجهول.
عندما قيل له (اعترف) لم يكن له ما يعترف به فأخذوه للمسلخ معصوب العينين مُقيّد اليدين و نفوسهم عطشى لسماع أصوات التعذيب و صرخات الموت.
فكيف لشاب صغير أن يتعامل مع نوع من الوحوش البشرية؟
هناك قيّدوه و علّقوه و تركوه فغاب عن الوعي و أيقظوه بعدها بركلة، ثمّ عادوا و علّقوه بطريقة أخرى و بدأوا في التناوب على تعذيبه، منهم من يضع قدمه على وجهه و آخر يبصق عليه و الجميع يضحك بقوّة و برغبة عالية مستمتعين بكلّ ما يجري حتى فقد وعيه.
و أخذوا يكرّرون معه حفلهم البغيض يوميّا و لعدّة أيّام . و بعدها قرّروا إرساله إلى النّظارة ليكون مع الآخرين.
بعد بدأ الحرب قرّروا إرسالهم ( بسّام و معه جبار سالم و محمّد) لسجن آخر من السماوة إلى سجن الخناق. في زنزانة صغيرة جدّا، رطبة، و رائحة العفونة فيه لا تُطاق.
و هناك أمضوا أكثر من تسعة أشهر، حيث لا حياة و لا موت و لا شمس و لا قمر و لا حاضر و لا مستقبل.
في تلك الغرفة الصغيرة كانت الأفرشة بالية، الرطوبة شديدة، البرد قارس ، الخنافس لا تُحصى و القمل يملأ الرؤوس.
يقول بسام:

" تسعة أشهر أو أكثر قليلا مضت، و نحن ننتظر الموت الذي قد تكون فيه نهاية للعذاب الذي نحن فيه، لا أحد يتصوّر ماذا و كيف و إلى أين تسير الأمور؟ حيث التعذيب متواصل جسديّا كان أم نفسيّا، فانتظار المجهول وحده يمنعنا من النوم كثيرا. ننام ليلا و الكوابيس تُرافقنا   و نستيقظ صباحا على أصوات الذين يُعذّبون تارة، و أخرى على أصوات أفراد الأمن و الشّرطة".
أدوات التعذيب في المسلخ:

غرفة المسلخ أرضها مغطات بقطرات الدم، و الجدران مطلية باللون الأسود، من السقف تتدلى سلاسل حديدية و من حمالة المروحة تتدلى قيود فولاذية. و عدد من الأنابيب البلاستيكية و الهراوات الخشبية منتشرة هنا و هناك في أرجاء الغرفة. مقاعد مدرسية،    و عمود خشبي مربوط ببعض الحبال، يشكلان الآلة التي تستخدم بما يسمى الفلقة. عدد من الشبابيك الصغيرة في وسط الجدران، تظهر منها واجهات لأجهزة كهربائية.

محكمة الثورة:

يقول بسام:

" صباح مثل كلّ صباح، ألم و خوف و انتظار. فُتحت باب الزنزانة، نادوا أسماءنا، عصّبوا أعيننا، قيّدوا أيدينا، و ضعونا في سيّارة. و تحرّكت السيّارة لتجوب شوارع بغداد، توقّفت أمرونا بالترجّل. رفعوا العصابة عن عيوننا، و إذا بنا في بناية مليئة بالرجال و النساء. الحزن           و الخوف، السّمة التي تعكسها وجوههم المتعبة، و نظرتهم الحائرة. عرفنا فيما بعد أنّها قاعة انتظار محكمة الثورة و هي أعلى محكمة عسكريّة في العراق".

هناك في محكمة الثورة حُكم على (بسام عمار موسى، جبار خضير عباس، محمد عبد الأمير مشل، فاضل هاني طاهر)  بالسّجن خمسة عشر عاما مع مصادرة أموالهم المنقولة و غير المنقولة.
أخرجوهم من قاعة المحكمة، قيّدوا أيديهم و عصّبوا أعينهم،          و سارت بهم السيارة إلى قسم الأحكام الخاصّة في سجن أبو غريب.
هناك مضى عليهم أكثر من خمسة عشر شهرا لا أحد يعرف عنهم شيئا و لا يعرفون عن أحد شيئا.

زيارة الأهل:

بعد عام و نصف أمروهم أن يُرسلوا البرقيات لأهاليهم في السماوة.
و من هناك بدأت زيارات الأهل لهم في اليوم الأول من كلّ شهر      و الجمعة التي تليه و كذلك اليوم الخامس عشر من كلّ شهر        و الجمعة الذي تليه.
أوّل زيارة لبسّام كانت من طرف عمّه الأصغر من والده سنّا و والدته، حيث رفض والده الزيارة خوفا من أن يفاجئه الجلادون بجثّته، و هكذا توالت الزيارات.

خارج الأسوار:

بعد ما يُقارب السنتين سجنا صدر عفو عام شمل بسّام و بعض الرفاق فغادروا السّجن و هم لا يصدقون أنّهم نجوا من الإعدام        و الموت المحتوم على يد جلاوزة البعث .

كلمة أخيرة:


"سيرة سجين سيّاسي" هي سرد وثائقي و أنا أسمّيها "مذكّرات سجين سيّاسي" لأنّها مذكّرات حقيقيّة أخذتنا لزمن كابوسي من تأريخ العراق، يبقى وثيقة إدانة للدكتاتور و ما عاناه كلّ شيوعيّ في تلك الحقبة الزّمنيّة من تعذيب جسدي و نفسي و التي لا تُنسى   و لن تُنسى أبدا فجروحها لا و لن تندمل بمرور الأعوام ليومنا هذا لتبقى وصمة للأجيال القادمة.
التقدير للروائي "لؤي عمران موسى" الذي أجاد في توصيل السّرد للقارئ بطريقته الأدبية و أسلوبه في الكتابة الراقية فجعلنا نشاهد وثائقي و نحن نقرأ إبداعه الفنّي.
تمنيّاتي له بالتألّق في إنجازه القادم و مزيدا من الإبداع و النّجاح. 

64
أدب / حبيبي عمري هاتف...
« في: 00:31 15/02/2017  »


حبيبي عمري هاتف...


نوميديا جروفي

أحبّك كما لم و لن أحبّ مثلك إنسان
أحبّك كلمة تلمس قلبي فتذيبه حبّا و رقة و حنانا
أحبّك و كلمة أحبّك تعجز عن وصف حبّ كامن بالوجدان
أحبّك و أبحث عن أبلغ منها تعبيرا فيتحيّر العقل و تنهك العينان
فلم أجد سوى أحبّك أعلنها واضحة لكلّ الأذان
أحبّك حبّا يجعلني أذوب إليك شوقا في كلّ الأحيان
و يجعلني كلّ منك و يجعلك كلّ منّي روح واحدة بجسدان
و يرسمك بعمري لون الفرح و رمز الحبّ و برّ الأمان
و يرسمك بحياتي طريقا بلا نهاية و بحرا عميقا بلا شطآن
أحبّك و أنت روح الروح و نبض القلب و الدّم الجاري بالشريان
أحبّك و أنت ربيع العمر و كلّ العمر و كلّ مالي من كيان
أحبّك و رغم حبّي الشديد لك أشعر بالتقصير و النقصان
و أودّ أن أجمع كلّ طاقة حبّ خلقت منذ البدء حتى الآن
علّني أستطيع حبّك كما أريد حبّا يستحيل عنه قلبان
فأنت الحب و الحبيب و الفارس و القائد و القبطان
و حياتي دونك حياة بلا حياة و دفن بلا أكفان
و عمري دونك عمرا ضائعا و أوقاتا سقيمة بلا زمان
فإنّي أحبّك حبّا بلا حدود حبّا يتعدّى حدود الجنان
أحبّك أحبّك أحبّك
(نوميديا جرّوفي)


65
  نوميديا جرّوفي، شاعرة، باحثة و ناقدة


جماليّة النّصوص في كتابات الشّاعر "بهاء الطّائي"

 

"بهاء هدب الطائي" من مواليد 1967 ، بالكاظميّة، بغداد، العراق، خرّيج كليّة الزراعة سنة 1991.
صنع لنفسه عالمه الخاصّ من خلال كتاباته المتنوّعة و الكثيرة ببصمته الخاصّة بإبداعه الاستثنائي من خلال قلمه و أفكاره.
تُشكّل تجربة الشاعر بهاء الطائي حيّزا إبداعيّا و جماليّا في كتاباته الأدبيّة و الإبداعيّة حيث يستخدم الرمزيّة الحديثة في كتابة الشّعر و يعتمد الصور الإبداعية في كتابة نصوصه النّثريّة، مثلما وظّف الفراشات في كتابته التّاليّة: 

أيّتها الفراشات
صمتا
حوريتي حضرت


الفراشات هي رمز الرّبيع و اخضرار الطّبيعة و بهجة الفصل، حيث تعمّ الطبيعة احتفالا و ابتهاجا بقدوم فصل الرّبيع، لكنّ الشّاعر هنا جعلها تحتفي بقدوم حوريته الأسطوريّة التي كانت غائبة ربّما و حضرت لتعمّ الفرحة من جديد كما تعمّ الفرحة بالفصل المشرق.

و في قوله:

أراك إرثي المحتوم
لن أتنازل َعن نصيبي
ولو سالت ِالحروف دماً


الشّاعر استخدم الإرث هنا لكن بمدلول لغوي جديد، يتكلّمُ هنا عن الوطن أو الأمّ أو الحبيبة، فيقول ( لن أتنازل عن نصيبي ... و لو سالت الحروف دما) مدلول لغوي له صدى في دم الحروف.
كما قيل يوما:

متى من طول نزفك تستريحُ؟
                         سلاما أيّها الوطنُ الجريح

لا يتنازلُ المرء عن الوطن أبدا فهو الأرض التي ارتوت بدماء خيرة شبابها منذ بدأ الخلق.
 
إنّه الوطن الذي قال عنه الشّاعر أحمد شوقي يوما:

وطني لو شُغلتُ بالخلد عنه
                      نازعتني إليه في الخلد نفسي

و في قول الشّاعر بهاء الطّائي:

رسالة متيّم...

من أخبر جدران مدرستك
خط اسمك خلسة ..
من أخبر
حارتك بأنّي جعلتها ميدان
تمرّد ضدّ عجائز الدّكاكين المراقبة
لكلّ من اقترب
من أخبر
بنات الحيّ سُقوطي و حُروفي
في سلّة غوايتك
لا تُصدّقي
هي حرب إشاعات لا أكثر..
عفوا..
سهوا ..
أمام دارك رسالة متيّم


كتابة الشّاعر هنا سافرت بنا للزّمن الجميل حيث لم يكن هناك نت و لا موبايل فقط الورق، حيث يتبادل الحبيبان الهيام بالرّسائل التي يبعثانها لبعضهما البعض من حين لآخر، و منها كلّ واحد يبثُّ فيها أشواقه للآخر.
عندما نقرؤها جيّدا و بتمعّن، نتذكّر كيف كانت العجائز تراقب فتيات الحيّ و تعرف ما يجري بينهنّ و تعثرُ على من يبادلهنّ الحبّ و الإعجاب.
كيف كان الشّباب يمرّ على الحيّ أو الحارة فقط لتنشّق نسيم المحبوبة، كما قال قيس حينها:

أمرّ على الدّيار ديارُ ليلى
                    أقبّلُ ذا الجدار و ذا الجدارُ
و ما حُبّ الدّيار شغف قلبي
                    و لكن حبّ من سكن الدّيارا

و في قول الشّاعر هنا:

غيابُك
جعلني تلميذا
في دمعته الأولى
قهر تعلّم العدّ
حائر كيف يلملم
نجوما تساقطت
من أنامل براءته ...
أتذكّرُ هدهدة خطواتك
يُمازحني و روحي
نداءُ عينيك


إنّه الحنين و الشّوق في غياب الحبيبة، التي جعلته في غيابها ( كتلميذ في دمعته الأولى)
كما يُقال:

الحنينُ هو اشتياق لقطعة من روحك
موجودة بمكان آخر

و يُقال:

الحنينُ، هو وجع عشوائي لا يستأذنُ من أحد.

 و الشاعر بهاء هنا استخدم لغة شعرية موسيقيّة و إبداعيّة في نفس النصّ حيث يقول:

فاتنتي ارجعي
و لك هديتي
سبّورة لا يُكتب عليها إلاّ شعرك
و رحلة تضطربُ قياما
لحضورك.


إنّه الإبداع في العثور على الهديّة الثّمينة، فالشاعر يُهدي شعرا لفاتنته  و محبوبته  في سبّورة لا يكتبُ عليها سوى شعرا خاصّا لها وحدها.

و في قول الشّاعر في نصّ آخر:

تريدني نسيانها
إذن كيف سأكتب
إسمي بعدها!!
صديقي...
وحقك وذنوبها
ألفاً من القصائد
وقوفًا سأنظمَُِها
لأشتريّ غُفرانها


راقيّة استخداماته الأدبيّة بصورها الإبداعية و فنّ استخدامه للكلمات       و الخيال الواسع أثناء الكتابة، فهو يستخدمُ دائما رموزا خاصّة وسمت شعره و منها صنع عالمه الإبداعي.
حيث يقول:

ألفا من القصائد
وُقوفا سأنظّمها
لأشتري غفرانها


يطلبُ عفوها و غفرانها بألف من القصائد يكتُبها لها حتّى تُصالحهُ، كم جميلة هذه الشعريّة و الرومانسيّة الرّاقيّة جدّا.

و في النصّ الآتي حيث جعل الحروف تشعُّ ضياءا يقول:

حروفكِ القمرية
وهمٌ جميلٌ
وسطَ ديوان ٍعنوانهُ
شمسٌ تحترقْ


جعل الشاعر برمزيّته الإبداعيّة الخاصة الحروف قمريّة تُشع بهاءا في اللّيل الحالك، جعل الحروف تُنير الظّلمة، و شبهّها بالقمرية لبياضها و ضيائها.
فقط هي حروف الملهمة القمريّة.
و سمّى ديوانه (شمسٌ تحترقُ) تشبيه و استعارة للشّوق و الحنين الذي يجعلُ القلب يتحرّق شوقا للمحبوب.

و في الكتابة الآتيّة يقول:

أميرةُ الحرف

و ما العشقُ
إن لم تكوني
أنت هيامُهُ
و ما القمر َ
إن لم يستأذنك ِ
للغسقِ
منارة ُالنور ْ

هنا الشّاعر يُناجي مُلهمته سيّدة الحرف و يخبرها أنّه لولاها ما كان العشق.. و لولاها ما كان هائما في الحبّ ، و لولاها ما كان للقمر ضياء.
إنّها أميرة حروفه و ملهمته في الكتابة هكذا وصفها في الكتابة.



كلمة أخيرة:


في الختام أقول أنّ الشّاعر بهاء الطّائي، صنع لنفسه حيّزه الشّعري الخاصّ، كتاباته لها نسمة موسيقيّة جميلة بغزل حديث، حيث يستخدم في نصوصه العديد من الآليات الجمالية فيما يحاول إيصاله للقارئ بلغة بسيطة دون غموض أو رمزيّة صعبة التّفكيك كما بعض الأشعار التي تستلزم القواميس لتفكيك ما ترمي إليه بعض الألفاظ ، لكن الشّاعر بهاء هنا و في كلّ نصوصه نجدها تمتاز باللّفظ السّهل و النّثر العذب .
جعله إبداعه يتألّق بكلّ ما تجود به أنامله و خياله الشّعري الواسع         و العميق، فحروفه بهيّة بهاء اسمه و ألقه.

66
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، باحثة و ناقدة


تلمسان مدينة الفنّ و التّاريخ (جوهرة المغرب)

تلمسان بفضل لطافة مناخها و غناء أرضها و كثرة عُيونها تُعدّ من المدن الجزائريّة الأكثر جلبا للسّواح.
خُضورة بساتين سهلها محفوظة الصّيف كلّه، نظرا لموقعها الجميل و جدارة مناظرها الملائمة للجولات المنعشة، و كثرة آثارها التاريخيّة و شماخة أطلالها – بقايا مجدها القديم – يُناسبها حقّا اسم (جوهرة المغرب).
شاهد أهلها غزوات متعدّدة لكونها توجد على الطّريق بين الشّرق و الغرب.

الرّومان:

من بين هؤلاء الغزاة، الرّومان الذين مكثوا فيها قرونا، كانت توجد بتلمسان المسماة (بوماريا) جاليّة من الرّومان و حاميّة من الفرسان لحراسة الطريق الرئيسي.
في القرن السابع ميلادي، شاهدت تلمسان المسمّاة (أغادير) الفاتحين المسلمين بقيادة ابي مهاجر دينار، ثمّ بقيادة عقبة بن نافع.
في القرن الثامن اتّخذ أهاليها مذهب الخوارج مذهبا لهم، و جعلوا رئيسهم أبو قرة من أغادير عاصمة لهم.

الإدريسيّون:

في سنة 770 م دخل السلطان إدريس الأول أغادير، و بنى بها مسجدا    - مكانه تُشير إليه المئذنة الحالية – و تمركز الإسلام في الناحية ابتداء من ذلك التاريخ، ثمّ عهد إدريس حكم أغادير إلى أخيه سليمان (المدفون بعين الحوت) و ظلّت هذه المدرسة في القرن التاسع كلّه قاعدة تابعة للإدريسيين بفاس.
ربطها الفاطميّون بالقيروان بعدما كانت تابعة للأمويّين بقرطوبة.

المرابطون:

في سنة 1079 م غزا يوسف بن تاشفين الملك البربريّ الراكشي أغادير، ثمّ شيّد مدينة جديدة في موقع معسكره سمّاها (تقرات)
في سنة 1136 أتمم ابنه علي بناء الجامع الكبير كما بنى بجانبه القصر الكبير و أقام به.

الموحّدون:

خلفاء المرابطون و رئيسهم ابن تومرت ملكوا تلمسان من تاريخ 1144 م إلى 1236 م، حاصر عبد المومن بن علي تاشفين خليفة و ابن علي بن تاشفين في 1143 م و لكن لم يتوصّل إلى أخذ تلمسان و اتجه إلى وهرانن فلحقه تاشفين و توفّي.
دخل عبد المومن وهران ثمّ رجع إلى تلمسان، فأخذها.
أحاط أبو عمران الموحّدي تلمسان الجديدة بسور، و لا تزال باب القرمادين قائمة من أهمّ بقاياه، و لم يترك الموحّدون من الآثارات إلاّ الإصلاح           و التّرميم للجامع الكبير و تأسيس مقام سيدي أبي مدين المتوفّي بعين تاقبالت في تاريخ 1197 م.

الزّيانيّون:

في تاريخ 1236 م قضى يغمراسن بن زيّان، الملك البربري من بني عبد الواد – زناتة – على ملك الموحّدين و أسّس مملكة تلمسان.
و أثناء استعراض كتائب الجنود أمام باب القرمادين سنة 1254 م  وقع عليه اعتداء من طرف الميليشيا المسيحيّة، و هو الذي بنى مئذنتي الجامع الكبير و جامع أغادير سنة 1236 م ، و أسّس المشور لمقرّ إقامته.
( حكم ابنه أبو سعيد عثمان من 1285 م إلى 1303 تحت اسم عثمان الأوّل، و هو الذي بنى مسجد سيدي بلحسن – المتحف حاليّا – سنة 1296 م ، و توفّي سنة 1303 أثناء حصار المرينيّين لتلمسان، وكان شُجاعا و مُخلصا، خلفه في الحكم انه أبو زيّان الذي واجه مدّة 4 سنوات من الحصار الرّهيب ).

المرينيّون:

عربٌ رُحّل، قدماء، حاصروا تلمسان 7 مرّات بعدما قضوا على العرش المُوحّدي بالمغرب الأقصى، و في سنة 1299 م بدأ الحصار الدّامي الذي عزل تلمسان عن العالم مدّة 8 سنوات (1299 – 1307) و شُيّد أثناء الحصار مدينة المنصورة المفتخرة بمسجدها ،قصرها، مخازنها، حدائقها، حمّاماتها و ديارها.
أغتيل السّلطان أبو يوسف من طرف أحد مواليه ففكّ المرينيّون الحصار      و رجعوا إلى المغرب، فهدّم التّلمسانيّون المدينة الجديدة – منصورة – انتقاما لما عانوه من هموم الحصار الطّويل.
في ذلك التاريخ، اشتهر بتلمسان عالمان هما الأخوان أولاد الإمام ، بنى لهما أبو حمو الأوّل، حفيد يغمراسن مدرسة و مسجدا و دارين للسّكن، كما بنى مسجدا داخل المشور.
خلّفه ابنه أبو تاشفين في الملك من تاريخ 1318 إلى 1337 م و هو سلطان فنّان، استطاع أن يجعل من تلمسان إحدى أروع المناطق في المغرب العربي، و هو مؤسّس المدرسة التاشفينيّة قرب الجامع الكبير التي هدّمها الفرنسيّون سنة 1873 م و بنى في مكانها دار البلديّة، كما شيّد الحوض الكبير ، و قصر المشور.
و قد تكلّم علماء مشهورون و مؤرّخون مثل ابن خلدون و الحسن بن محمّد الوزان (ليون لافريكان) عن ترف القصر و الحفلات الرائعة و الاستقبالات التي تُقام في قصر الملك بالمشور.

الفترة المرينيّة:

حاصر المرينيّون تلمسان للمرّة السابعة فسقطت في يد السّلطان أبو الحسن ( السلطان الأكحل) 1335 إلى 1337 م، حيث جُرح أبو تاشفين     و سُجن ثمّ قُتل.
بنى أبو الحسن مسجد سيدي أي مدين سنة 1339 م و مدرسة ابن خلدون و قصرا بجانبه سنة 1344 م كما شيّد قصر المنصورة، و دامت فترة المرينيّين الأولى 11 سنة و انتهت سنة 1348 م.
إسترجع أمير بني عبد الواد المدينة غير أنّه بعد 4 سنوات سقطت من جديد في يد أبي عنان ابن أبي الحسن المريني، و بنى بها مسجد سيدي الحلوي.
هذا الحكم الأخير لم يدم سوى سبع سنوات.
بني عبد الواد الزّيانيّون:

إسترجع أبو حمّو موسى الثاني مدينة تلمسان، و أحيا بها ملك أجداده      و دام عرشه من 1359 م إلى 1389 م. و في ذلك العهد عرف المشور شهرة جديدة . و في سنة 1363 م بنى المدرسة اليعقوبيّة و بجانبها مسجدا أُطلق عليه بعدها اسم مسجد سيدي إبراهيم.
تُوفيّ أبو حمّو الثاني في نفس السنة التي أخرجه فيها ابنه من تلمسان.
حاصر أبو فارس سلطان تونس تلمسان سنة 132 م ، غير أنّه عدل عن تخطيطه بسبب رؤية منام مزعج فقفل راجعا إلى تونس.
في عهد أبي زيّان الذي حكم أواخر القرن الرابع عشر، شهد المشور عدّة اجتماعات للماء في مختلف العلوم.
أُرغم السّلطان سعيد على التّخلّي عن الملك و عن القصر بسبب خيانته لبيت المال سنة 1422 م.
حكم السّلطا أبو العبّاس ما بين 1431 م و 1461 م ، فبنى أسوارا جديد تدعيما و دفاعا عن المشور.
حلّ الإسبان شمال إفريقيا و احتلّوا المرسى الكبير سنة 1505 م ثمّ وهران في 1505 م، بعدها تمّ لهم احتلال الأندلس.
في تلمسان انتزع السّلطان أبو حمو الثالث العرش من حفيده أبو زيّان      و سجنه، ثمّ أعلن ولاءه للإسبان و استولى على المدينة،فلهذا استنجد الأهالي بالأخوين عرّوج و خير الدّين الذين كانا قد حرّرا مدينة الجزائر.
دخل عرّوج تلمسان و أهاليها تعُمّهم البهجة فأطلق سراح أبي زيان و طرد أبي حمو، حيث لقيت تلمسان غارتين إسبانيتين في 1535 م و 1543 م تمكّن عروج من الهروب من تلمسان و لكن لحق و قُتل في معركة عند قرية المالح حسب الرواية المشهورة، ففي بني زناس بالحدود المغربية و هذا أصحّ، كونه طلب النّجدة من المغرب و اتّجاهه نحو المالح التي كانت في يد الإسبان.
دخلت تلمسان فيحكم الأتراك العثمانيّين على يد صالح ، الذي أتى عليها باب سفير سنة 1555 م ( قبره بمعصرة الفيتور أمام سيدي بوجمعة بتلمسان).
بقي الأتراك بتلمسان مدّة تزيد عن ثلاثة قرون، و لكن لم يتركوا من الآثارات إلاّ بناء مسجد سيد اليدون.
و في القرن 18 م الباي محمد بن عثمان، شيّد ثلاث حنفيّات خارج المشور، و ترميم سيدي أبي مدين و مسجد سيدي إبراهيم المصمودي.
احتلّ الفرنسيّون تلمسان للمرّة الأولى في 3 يناير 1836 م بقيادة الماريشال كلوزيل، ثمّ غادرها بعد شهر مُخلّفا بالمشور القبطان كفينباك.
بايع القبائل الأمير عبد القادر سلطانا عليهم ، فأعلن الجهاد ضدّ الفرنسيّين و هزم الجينرال تريزيل هزيمة شنعاء. و في تارخ 10 مارس 1837 م  وقعت بين الأمير عبد القادر و الجنرال بيجو معاهدة صلح تافنة، فكانت تلمسان من نصيب الأمير.
انتصر الأمير عبد القادر في معركة سيدي إبراهيم بالسواحلية، قرب الغزوات. و في سنة 1845 م اتّجه إلى المغرب فأُخرج منه و سلّم نفسه للفرنسيّين سنة 1847 م.
فظلّت تلمسان منذ ذلك التاريخ تحت سيطرة الإحتلال الفرنسي إلى فجر الإستقلال سنة 1962 م.

بعض الآثارات التاريخيّة:

الجامع الكبير: 530 هـ/1136 م ( الدولة المرابطية)
سيدي إبراهيم المصمودي: 765 هـ/1364 م ( بني زيان)
سيدي أبي مدين: 739 هـ/1339 م ( بني مرين)
سيدي الحلوي: 754 هـ/1354 م ( بني مرين)
مسجد سيدي البنا: 8 هـ/15 م ( بني زيان)
مسجد سيدي اليدون: 11 هـ/18 م ( في عهد الأتراك)
مسجد سيدي مرزوق: 8 هـ/ 15 م ( بني زيان)
مسجد الشيخ السنوسي: 996 هـ/1486 م ( بني زيان)
مسجد أولاد الإمام: 710 هـ/1307 م ( بني زيان)
مسجد المشور: 717 هـ/1317 م ( بني زيان)
سيدي أحمد بلحسن: 696 هـ/1297 م ( بني زيان)
مسجد سيدي لحسن: 850 هـ/1453 م ( بني زيان)
منصورة:  698 هـ/1299 م ( بني مرين)
 

67
  نوميديا جرّوفي، شاعرة ، باحثة و ناقدة

ممو زين.. أسطورةُ الحبّ الخالدة

 

الحبّ ... تلك الكلمة السّماويّة الطّاهرة الرّقيقة والّتي كانت أوّل عاطفةٍ عرفها قلب الإنسان الأوّل،فكانت هبةً إلهيّة منحها الله لبني آدم ، فتفجّرت في قلوبنا ينابيع عسلٍ وجداول خمرٍ وأنهار نشوةٍ مُسكّرةٍ تفيضُ بالرّوح إلى عوالم السّحر و الجمال و الرّوعة و الفتنة ، حتّى تصل بالإنسان إلى بحور الهيام ، ويا ويل الإنسان إن وصل إليها ،فبعدها لا يجد الهناء إلّا بقرب المحبوبة والطّرب لا يحلو إلّا بهمساتها والسّعادة تتجسّد في لمسات كفّها والنّشوة تكتمل عند الغرق بعينيها ،فيضمحلّ جسد هذا البشريّ ويذوبُ كما تذوب الثّلوج ، فيظلّ قلباً و روحاً و يبقى معنىً و إحساسا ... فيغدو مع كلّ صباحٍ يُترجمُ للنّاس حديث النّسيم للأغصان ، ويشرح لهم مغازلة الطّيور للأزهار، ويسير مع الأصائل ، فيقرأ لهم آيات الشّمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران ، ويردّد مع العنادل والبلابل أنغام الحبّ والجمال ، فيسكرُ النّاس بخمر عشقه ، ويطيرُ بهم بألحان قلبه ولسانه.
وأمام محراب الحبّ يتراءى لنا كثيرٌ من الشّعراء والأدباء الّذين جعلوا القلمَ أداةً للتّعبير عن سحره وسلبه القلوب والألباب،فاستفاضوا من بحر الهوى حِبراً له ، وجعلوا من أوراق الياسمين صفحاتٍ تُكْتب عليها خلجات النّفوس الّتي حلَّ بها وابل الحبّ و آلامه ، فصوّروا العاطفة أروع تصويرٍ وأصدقه وخلّدوا همسات العشّاق بين أريج  صفحاتهم ، ومن بينهم شاعرٌ لمع في الأدبِ كما يلمع البدر في السّماء، مرهف الحسّ رفيع الأدبِ ، فائق الشّاعريّة ، إنّه الشّاعر "أحمد الخاني" أحد شعراء الأكراد وعلمائهم ، الّذي خلّد ملحمة حبٍّ في روايته " ممو زين"،يصوّر فيها قلوباً كواها الحبّ المستعر وسحقها الكيد والحقد ، وقلوباً بريئة طاهرة طهارة المزن في السّحاب أذابها الشّقاء واعتصرتها يد الظّلم كما تعتصر الوردة النّاعمة في كفّ غليظة.
تُشبهُ قصة ممو زين روميو و جولييت في مسرحية شكسبير فهما يلتقيان في كرنفال أيضاً وينتهيان عشقاً حتى الموت. وهناك تشابه كبير مع قصة إغريقية رواها المؤرخ اليوناني شارس ميتلي، تتحدّثُ عن شقيقين تملأ صورهما جدران معابد وبيوت آسيا، وهما هيستابيس وزارايادرس ابنا أدونيس و إفروديت، الأول حكم بلاد ميديا والثاني حكم شمال بحر الخزر. وكان للملك هومارتيس الذي يحكم بلاد مارتان ابنة اسمها أواديتس، حلمت بزاياردس و أحبّتهُ كما حلم بها و أحبّها، لكن الأب لم يوافق على طلبه ابنته الحسناء لرغبته تزويجها أحد أفراد عائلته لضمان العرش في سلالته. تقول الأسطورة إنّ العاشق قطع المسافات مع أخيه لخطبتها      و إخراجها من البلاط وسط دهشة الجميع. الصفات متشابهة بين شخصية مم وزاريادرس وبين زينة واواديتس وبين الأمير عز الدين و هوماريتس وبين بانكين وقائد العربة إلاّ أنّ الحكاية الكردية توسّع الحكاية الأمّ الإغريقية. الحكايات و الأساطير تهاجر مثل الطيور كما يشير الباحث فاضل الربيعي في كتابه"أبطال بلا تاريخ"الذي أورد أمثلة كثيرة على هجرة الأساطير وأظهر أنّ أسطورة قصر الخورنق و جزاء سنمار مأخوذة عن أسطورة المعماري تروفونيوس وأنّ أسطورة زرقاء اليمامة مأخوذة عن أسطورة العرافة اليونانية العمياء كاسندر.
(ممو زين) قصة شعرية يُطلقُ عليها بعض الأدباء والباحثين ملحمة مم      و زين، كتبها باللغة الكردية في القرن السابع عشر الشاعر أحمد الخاني، وتقع القصة في 2659 بيتًا ثنائي القافية.
ويسمّى هذا الشكل في الآداب الشرقية بالمثنوي، ووزنه العروضي هو:
مفعول مفاعلن فعولن.
واستعمل هذا الوزن كثيرًا في مثنويات العشق، ومن جملة ذلك منظومة ليلى والمجنون للشاعر النظامي. تتألّف القصّة من مُقدّمة أو ما يسمّى بالديباجة، ثم فصول قصّة حُبّ تتّسمُ بشاعريّة فياضة و مواقف رائعة في التضحية و الشهامة لكن تنتهي نهاية مأساوية مؤثرة.
و لقصّة (ممو زين) أساس تاريخي وقعت أحداثها في إمارة (بوتان) بمنطقة حكاري في كردستان (تركيا الحالية)، وقد جرت القصة على ألسن العامة ونظّمها شعراء شعبيّون في قوالب فولكلورية خالطين الواقع بالخيال والتاريخ بالأسطورة، يتغنّى بها مُطربون أصحاب خبرة في الغناء والرواية جيلاً بعد جيل في المضائف وفي المحلات العامة. والقصة الفولكورية تعرف بـ(مم الآلاني) وقد ذاعت في أرجاء المناطق الكردية، وجذبت إليها أنظار الأدباء المحليين والأجانب، وتُرجمت إلى لغات عدّة واهتم بها مستشرقون، فقد طبعها ونشرها ألبرت سونسين سنة 1887م في بطرسبورغ ونشرها سنة 1890م باللغة الألمانية، ونشرها لي كوك في ألمانيا سنة 1903م، ونشرت في أربع طبعات متتالية من سنة 1897م إلى سنة 1904م باللغة الأرمينية، ونشرها أوسكارمان في كتابه (التحفة المظفرية) سنة 1906م، كما ترجمت إلى اللغات الروسية والفرنسية والرومانية، ولم يتخلف الأدباء العرب عن إتحاف القراء بنبذة من هذه القصّة الشعبية، فنذكر في هذا المجال عبد المسيح وزير (في مجلة الرسالة والرواية ـ 448 لسنة 1942م ـ القاهرة) وصاغ الشاعر السوري أحمد سليمان الأحمد ملخصًا للقصة باللغة العربية.



قصّة ممو زين:

تنبعث أحداث هذه القصّة من قصر أمير جزيرة بوطان " الأمير زين الدّين " ، الّذي لم يكن ذا كفاءةٍ عالية وحسب ، بل كان يتمتّع بغنى واسع ومظهر كبير من القوّة والسّلطان والهيبة والإجلال في سائر أنحاء كردستان         و إمارتها ، إضافة إلى المحبّة و الإعجاب من قلوب أمّته وسائر طبقات شعبه ، أمّا قصره الّذي كان آية من آيات الفنّ والإبداع والبذخ في التّصميم والتّشييد ، فكان يميس بعشراتٍ من الغلمان وأجمل الجواري والفتيات اللّواتي تزدن على رحابه جوّاً سحريّاً يشعّ بالفتنة والجمال ، غير أنّ الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أيّ واحدةٍ من تلك الجواري والحسان ،إنّما كانت سرّاً لدرّتين شقيقتين كانتا مثلاً أعلى للجمال ونموذجاً كاملاً للفتنة و السّحر الإلهي و إبداع الخلّاق العجيب ،    و هاتان الغادتان هما شقيقتا الأمير زين الدّين . كان اسم الكبرى " ستي " وكانت بين البياض النّاصع والسّمرة الفاتنة ، وقد أفرغ الجمال في كلّ جارحةٍ من جسمها على حدة ، ثمّ أفرغ بمقدار ذلك كلّه على مجموع جسمها وشكلها ، فعادت شيئاً أبرع من السّحر و أبلغ من الفتنة ، وأمّا الصّغرى واسمها " زين " كانت هي وحدها البرهان الدّال على أنّ اليد الإلهيّة قادرة على خلق الجمال و الفتنة في مظهرٍ أبدع من أختها           و أسمى ، فكانت هيفاء بضّة ذات قوامٍ رائعٍ وبياضٍ ناصع مزدهر فيه حمرة اللّهب ، ذات عينين دعجاوين تتجلّى فيهما كلّ آيات الفتك واللّطف الّذي يثخن الألباب فتكاً و يغمر العقل سكراً .
وتشاء الأقدار أن تلتقي هاتان الغادتان بصاحبَي مفتاح قلبهما وأسراره ، وهما "تاج الدّين " و " ممو" ، شابّان صديقان
كالأخوة ، جميلين كالبدر ، أقوياء كالأسود ، أميرين من أمراء الجزيرة ، لكلّ منهما باعٌ طويلٌ في خدمة الأمير زين الدّين ، فيتعلّق هوى ستي بروح تاج الدّين وقلب زين بكيان ممو .
 وتمضي أيّام هؤلاء العشّاق كمن يمشي على الجمر، مستمسكين بالصّبر المرّ كالعلقم، محاولين إخماد نيران الشّوق المستعرة في جسدهم والّتي تكاد أن تفتك بهم، منتظرين الأمل الّذي لم يزدهم إلّا ذوباناً ودموعاً أحرقت خدودهم كما يحترق العشب اليابس ،ولكن لا بدّ للخالق أن يستجيب وللأقدار أن تحنو وللأيّام أن تطيب، فليس بعد اللّيل إلّا النّهار والظّلام إلّا النّور والهجر إلّا الوصال والمآتم إلّا الأعراس والمآسي إلّا الأفراح والبؤس إلّا النّعيم ، فتجري سنن هذا الكون في القصّة بزواج ستي من تاج الدّين بعد أن بلغ بهما الشّوق أشدّه واستعرت ناره في ضلوعهما ولاع الفؤاد فيهما كالفراش إذ ينثر روحه على أذيال اللّهب، زفاف جميلٍِ ورائعٍ جداً يفوق الوصف، اكتملت سعادتهما، ولكن سعادة زين و ممو توقفت وتحولت إلى شقاء وهم بعد أن  بدأ بكر الكاذب المنافق حاجب الأمير زين الدين بتلفيق الأكاذيب والقصص حولهما.
 فقرر الأخ أن يحرمها من الزواج حتى لو كان ممو آخر الرجال في الأرض.
بقي الحبيبان في لظى من نار صبرهما وحرمانهما ، يقضي كلٌّ منهما اللّيالي والأيّام في صومعة انفراده لا يبصران أيّ مؤنسٍ ولا ينتهي إلى سمعهما صوت أيّ راحم ، وأنّى للتّجمّل والهدوء أن يجد وسيلة إلى القلب إن لم تجد الهموم صاحباً يخفّف من آلامها والزّفرات مواسياً يبرد حرّها . أنّى لهذين العاشقين أن يذوقا طعم الحياة في بعادهما ، وأنّى لهم هناء عيشٍ و قرارة جفنٍ و جفاف دمعٍ إن لم يكحّلا العين باللّقاء والوصال ؟.
ولا بدّ للشّرّ أن يكون له يدٌ في قصّة هذا الحبّ العظيم ، إذ يقع ممو ضحيّة فتنة ومكيدة وغدر ، فيزجّ في السّجن عاماً كاملاً كان كافياً لإطفاء شعلة هذين العاشقَين وإخمادهما عن الوجود جسداً وروحاً ،. ولكنّ مغزى القصّة كان يتجسّد في تلك السّنة الّتي تعلّم فيها ممو أن ينظر إلى الأعلى ليرى الله، ومن يرى الله لا يطيب له النّظر لغيره ولا يجد السّعادة إلّا في كنفه ولا يلقى الرّحمة إلّا من عطفه ولا يتذلّل إلّا لجلاله ، بعد أن سحقت جراحه وحرم مطلب قلبه ويئس من صبره ، فقد اهتدى إلى لطف الله واستمتع بهديه وأنس بنوره بعد أن فقد من الدّنيا كلّ أسبابها وآمالها ، وظلّ ممو في قعر ذاك السّجن المظلم راكعاً ساجداً لا يفتأ يناجي الله ويتعبّده ، يهبط على قلبه أنسٌ إلهيّ يحفّ به ويخفّف من آلامه وأحزانه ، فأخذت تعظم صلته بالله تعالى وتتعلّق آماله به وحده ، ومع كلّ محاولات الأصدقاء في إطلاق سراحه،ومع كلّ ما قام به تاج الدّين في محاولة استرضاء الأمير ونيل عطفه ، إلّا أنّ قلب الأمير الّذي أُشِْرب أكاذيب عن ممو وأخته زين لم يدرك غلطته ولم يندم على فعلته إلّا بعد أن فات الأوان ، فكان ممو يحتضر في ذاك الكهف المظلم يلفظ آخر أنفاسه ، فسارت إليه زين المضناة مع أختها ستي وبعضٌ من الأهل والخدم ، علّها تردّ الرّوح إليه وتدخل البشرى إلى قلبه ، ولكنّ الأجل قد حان ، وشاءت الأقدار أن تصعد روح ممو الطّاهرة وهو بين أحضان زين في ذاك الكهف المعتم .
أمّا زين، تلك الوردة الذّابلة قضت نحبها في النّهار التّالي وهي تبكي وتصيح على قبر ممو، تلطّخ وجهها بالتّراب الّذي لا زال رطباً وتعانقه . ودفنت كما أوصت أخاها إلى جانب حبيبها بعد أن حجبتها الدّنيا عنه حيّاً . فصعدت روح هذين العاشقين بعد أن أذيقا طعم كلّ علقمٍ عُرف في الدّنيا إلى خالقهما ، ليقدّم لهما بيد عدله كأس سعادتهما ويبارك لهما في ظلّ رحمته رحيق حبّهما ويسعدهما مجتمعين برؤية وجهه بعد أن تسامت عواطفهما عن الرّغبة البشريّة إلى أعلى مراتب الرّوحانيّة ، فكان آخر ما قاله ممو :
" واشوقاه ... واشوقاه يا مولاي إلى اليوم الموعود  "
وهكذا حكم الدّهر ألّا يجتمع ذانك الحبيبان إلّا في ظلمات تلك الحفرة ، وأن يتوارى أخيراً ذانك الكوكبان في برجٍ واحد ، وتنتهي هذه القصّة وتطوى صفحاتها الّتي كانت مثالاً للأدب الرّفيع الّذي أشرقت فيه العاطفة الملتهبة والمأساة المؤثّرة والعفّة السّامية والوفاء النّادر ، لتصبح مرجعاً في الكتابات الوجدانيّة السّامية بما احتوت من تشابيه وصور ومعان كانت قمّة في بلاغتها و مثلاً بروعة معناها وصدق وصفها ومتانة سبكها وكمال طهرها وعفّة مغزاها .
يدفن الحبيبان معاً في التراب تنفيذا لوصية زين بعد أن رق قلب أخوها لحالها وقرر أن يزوجهما لكن بعد فوات الأوان ويُدفن تحت قدميهما بكر بعد أن قتله تاج الدين في ثورة غضب عارمة..!!
وهكذا نما هذا الحبُّ عظيم، الحبُّ  الذي لم يُكتب له إلا الشقاء والتعاسة في الدنيا، حبٌّ وقفت الفتنة والكذب في وجهه كجدار ٍ لا يخترقه إلا الموت فأصبح  أجمل قصة حب نبت في الأرض وأينع في السماء.



68

رواية "الخامس و العشرون من أيلول" لعامر موسى الشيخ  و ماجد الوروار




 

نوميديا جرّوفي، شاعرة، باحثة و ناقدة

(الخامس و العشرون من أيلول) ليست رواية فقط بل هي وثائقيّة، أبطالها حقيقيّون، و سردها واقعي بكلّ تفاصيله.
هي وثيقة حيّة لإدانة الحكم البعثي السّابق بكلّ همجيّته التي ارتكبها في حقّ خيرة شُبّان ذلك الزّمن. و الصّفحات تحملُ في طيّاتها أرعب كوابيس ذلك الزّمن المرعب، و تكشفُ المستور عنه لمصير أولئك الجنود العائدين مشيا على الأقدام بعد انكسار الجيش في حرب عام 1991.
صفحات تكشفُ ما عاناه الشّباب اليساريّين في زمن الدّيكتاتور من سجن        و تعذيب تقشعرّ له الأبدان،همجيّة لا توصف، مقابر جماعيّة، أهلٌ يدفعون ثمن رصاصات إعدام أبنائهم المستسلمين من الحرب، إعدام  الثائرين الشّجعان مصلوبين في أعمدة كهربائية و ما لا طاقة للنفس البشريّة من تصوّره.
صفحات تقصّ علينا عن حركة الأنصار في كردستان العراق و أولئك البيشمركة الذين عانوا الكثير من ويلات الهمجيّة أيضا.
هي رواية جسّدها لنا الشاعر والكاتب  (عامر موسى الشيخ) بسرد صديق طفولته و ابن مدينته السّماوة و بطل الرواية (ماجد الوروار).
ماجد سرد لنا أوجاع عائلته التي هي رمز من رموز خيرة أبناء السماوة، و كشف لنا تقاسيم حزن أمّ شهداء و حرارة أوجاع ثكلى ذهب ابنيها في عزّ شبابهما شهيدين (كاظم و وصفي) ليلحق بهما أخوهما (قاسم) حسرة و كمدا و حزنا بعد أن أصيب بداء السّكري، و في بداية هذه السّنة في 28/02/2016 استشهد المقدم  البطل (علي الوروار) في أبي غريب دفاعا عن الوطن من الدّواعش.
أمّ عظيمة و قويّة، بيتها مُنار و مُشعّ بالأرواح الخالدة للشّهداء..إنّه منزل آل الوروار.
صفحات جاءت بسرد أدبيّ لامع بإبداع الشاعر والكاتب  (عامر موسى الشّيخ) الذي وصّل لنا رسالة إنسانيّة عظيمة .. حيث اعتمد في البناء السردي على استنطاق البطل في اطار سردي قائم على تقنية الاستذكار والفلاش باك فضلا عن بث الرسائل التي وضعت بين الاقواس طوال المبنى السردي للعمل ..
السّماوة.. أرض أوروك و كلكامش مروّض الأسود ..أرض ترتدي السّواد منذ موت أنكيدو.. أرض تتشكّل فيها المواكب الجنائزيّة.

رواية (الخامس و العشرون من أيلول) أعادتنا للوراء لتاريخ حرب الخليج عام 1991 و ما عاناه ماجد و هو في الجيش حينها في الطّريق للعودة للسماوة قبل خمسة أيّام من بدأ الحرب، و كيف كانت مشاعره و هو في طريق عودته مرّة ثانيّة للثكنة مع رفاقه الجنود و كلّ ما عاناه عائدا للسماوة و راجعا لمقرّه في ثكناه مع رفاقه، و يتداخلُ في السّرد العودة للماضي بجماله و كوابيسه           و طفولته و شبابه.


أدب الرواية:

تنتمي الرواية إلى الأدب الواقعي إضافة إلى انفتاحها على السيرة الشخصية فضلا عن لغتها الشعرية و الرشيقة، معتمدة على ذاكرة الأشخاص الأحياء ،وسرد قصصهم في إطار سردي؛ يستخدم طريقة الحوار وتسجيل الأحداث على جهاز تسجيل صوتي ، ويكون هو المتحدث، ليتلاشى صوت الكاتب مع  صوت البطل، وجعل البطل الراوي العليم هو الناطق ، لكن عبر جهاز التسجيل ، ليتحول إلى وثيقة تاريخية ناطقة بالأحداث الحقيقية  .. واشتملت الرواية  أيضا على اللهجة العراقية في بعض الفصول،نأخذ على سبيل المثال الحوار التالي:

-   ها ، جاي , رايح ..؟
-   ملتحق
-   الله يعينك .. منين ؟؟
-   من السماوة
-   وشخبار السماوة هم بيها قصف ..؟
-   چا هيّ وحد نفس الشي ، انت منين حجي ..؟
-   انه من العمارة
-   وشخبارها ..؟
-   خبرها عند الله ..!!!
-   يعني هسة انت تريد ترجع لاهلك
-   أي يبوية ومن امس بالليل كاعد وماكو سيارة ، زين اذا انت جنت عند أهلك لوين اجيت ؟
-   قسمتي العوجة، انعل صفحة امك ابن العوجة !!!
بعد أن سمع كلماتي ترك الشاي هاربا ... !!
تركني، من دون أن يعلّق، لكنّه أظهر ابتسامة مكبوتة و هو يطأطئ رأسه ليلوذ بصمت عميق !

ذكريات من همجيّة النّظام البعثي:
 
يقول ماجد: " تذكرت الرطوبة التي يُخلّفها بخار القطار عند وصوله إلى السماوة حيث كنا نلعب بين أروقة المحطة ، نعم إنّها محطّة السماوة ذائعة الصيت ملتقى القطارات وتحديد وجهتها ، من هذا المكان مرّقت نخبة العراق وصفوته !!!
إنّها تلك المحطة التي شهدت الملحمة الإنسانية التي سطّرها أهل السماوة بين تفاصيل هذا المكان , جلوسي على المصطبة ذكرني ببيتنا القديم و تلك الليلة التي سردت فيها أمّي علينا  قصّة قطار الموت حينما مرّ بالسماوة قاصدا سجن نقرة السلمان ، كان ذلك في تموز من  العام 1963 ، كان سائق القطار قد وصلت له معلومة بأنّ القطار النّازل من بغداد يحمل في عرباته ( الفراكين ) أغناما و ماشية ( حيوانات) ، خطّة مسير القطار كان معدّاً لها بأن يسير ببطيء ثمّ يقف عند محطّتي الحلة و الديوانية على أن يصل إلى السماوة ببطء أكثر في خطة من قبل الحكومة القمعية ، أتت متوائمة مع الظّروف المناخية القاسية      و تهدف إلى قتل من في القطار ..
سائق القطار عبد عباس المفرجي قد علم بأنّ القطار معبأ بالمعتقلين و عرف ذلك لحظة توقّفه في محطة المحمودية ، هذا التوقّف غيّر من كيانه و فكرته التي زرعتها السلطة بأنّه يحمل حيوانات و ماشية ، إلاّ أنّه علم بأنّ القطار فيه خلاصة الوعي العراقي , و من ضمنهم الشاعر مظفر النواب ، عريان السيد خلف  الكاتب الكردي محمد جميل روزبياني ، القائد العسكري محمد جعفر جلبي ، الشاعر خالد الشطري ، الشاعر علي الشباني والكاتب أبو سرحان و غيرهم من الأكاديميين و الأطباء و الحقوقيين و المثقفين ، اعتقلوا بسبب انتمائهم إلى الحزب الشيوعي العراقي و أيضا كانوا من رجال الزعيم عبد الكريم قاسم ، وجهة القطار الأخيرة كانت محطة السماوة على ان يتم نقلهم إلى سجن النقرة ، وبطبيعة الحال ووفقا للخطة هي نقل الأحياء منهم فقط وتنفيذ حكم الإعدام بهم في سجن النقرة عن طريق الضابط عبد الغني الراوي .
اخترق القطار محطتي الحلة والديوانية بسرعة فائقة على عكس ما أمر به السائق ، عربات القطار ( الفراكين ) كان قد أحكم غلقها من الخارج مع طلاء دواخلها بمادة الإسفلت الذي سيتفاعل مع حرارة الصيف والحديد ليتحول إلى مادة حارة سائلة تهدف إلى سلخ جلد من في العربات ...)
و الإصرار الإنساني لدى أهل السماوة ساهم بإنقاذ ما يُقاربُ 500 مُعتقل.
 
و يقول ماجد أثناء عودته في ذلك الطريق المجهول محدّثا نفسه:

"ها نحن نجتمع مرّة أخرى عند هذه النقطة من الخلفيات التي صارت أماميات، لا نعرف كم من الجنود تمّ إعدامهم هنا بسبب هربهم و لا نعرف من بين هذا الجمع من قام بتنفيذ أمر الإعدام القسري، كان النظام يهيّء الخلفيّات العسكريّة لهذا الأمر آمرا جنديّا مغلوبا على أمره بإطلاق رصاصة على الهارب يتمُّ دفعُ سعرها من أهله..".

الذكريات و الطّفولة من الزّمن الجميل:

يقول ماجد: " طرف جمرة سيكارتي لسع موضعها بين السبابة والوسطى ، هذه اللسعة ذكرتني كيف كنت أدخن هنا مع أصدقاء دراستي حينما كنّا نحول هذه المصطبات إلى قاعات دراسية كبيرة بلا سقوف ، الهواء البارد الذي يُلامس عارضي المحلوقين قبل ساعة ، ذكّرني بذلك الشتاء حينما كُنّا نغادر الدروب  الضيقة بحثا عن فضاء رحب من أجل التركيز بالدرس و الأحلام المؤجلة ، لستُ أنا و أصدقائي فقط كنّا ندرسُ هنا ، لا ، بل كلّ أبناء الغربي و الشرقي من طرف السماوة الكبير كان قد اتّخذ من مساحات المحطة المترامية الأطراف أماكن للدرس و الاجتماعات الحزبية و اللقاءات العاطفية و غيرها ، حتى الحرامية كانوا يلوذون بين عربات القطارات المتوقفة و العاطلة".

عن ذكريات الطفولة و الأعياد يقول ماجد:
" إلاّ أنّ دمعات بنيامين شقيقي الأصغر كبحت هذه الرغبة، و أنا أحاولُ المزاح، تذكّرتُ أيضا شقيقي علي الذي تشارك مع بنيامين بنفس الدموع كان ذلك عند اليوم الأول من أحد أعياد رمضان، حينما استحصلنا على العيديات من والدي     و اشقائي الكبار محمد و قاسم و أخوالي عبد و جبار، أنا بدوري تبرّعتث بأخذ بنيامين و علي إلى المراجيح التي تبعدُ عن بيتنا في الغربي على ما يربو المائتي متر إلى ما خلف محطّة القطار (الزقورة)"

الوصول للوحدة و ترقّب يوم الهجوم:

في قول ماجد:" الصعود في الايفا اضاف تعبا آخرَ لمفاصلي المتعبة من الليلة الفائتة ، حالة الترقب أخذت مأخذها على محيا الجميع ، الكل فاغرٌ فاهه ، هذا الترقب جاء بسبب ان تأريخ الهجوم البري هو يوم 16/1/1991 وهو الموافق يوم غد ".

الرهبة من مصير مجهول:

يقول ماجد:" وكيف أنّي تركت السماوة و أهلي عائدا إلى الجبهة حيث الموت المحقق ،  هم لا يعرفون من أي مصيبة أنا قادم وكيف أني لقمة قفزت من فك حوت الأمن الصدامي وهم لا يعرفون أيضا بأني هنا في المعسكر أستطيع البقاء أكثر فترة ممكنة في الحياة ، لا غرابة أنها بلاد  تعددت صور الموت الجاهزة فيها ، وما عليك سوى ان تلتقط صورة ليأتي من بعدك أحد يعلق الصورة على حائط  كَسَتهُ الرطوبة  واضعا عليها شريطا مائلا اسودَ , وجملة مذيلة توفي بتاريخ كذا ، الفاتحة ! أو لا تُعلق صورتك خوفا منها كونك و أنت ميت تكون مصدر قلق لأهلك".

ليأتي بعدها نوم متقطّع يتخلّله كابوس الصّواريخ في قوله:
" لاسيما فصّ الأحلام حيث أخذني بطيفه, أوصلني إلى واحة رملية تحسستها بقدمي و أنا وسط صحراء بلا ملامح ، مشيت فيها بلا تحديد لوجهتي إلى أين لا اعرف ..؟؟ وخلال مشيتي تحسست أرضا رملية رخوة ، الأرض سحبت قدمي ، الرمل لفني ، اخذ قدمي الثانية ، بدأت العوم ضاربا يدي وكأني وسط نهر إلا أنه ليس نهرا ، الرمل تمكن مني ، أغرقني ، بدأت أصرخ ، أصرخ حتى خفت صوتي من شدة الاختناق بالرمل جاء صوت مدوياً ، استيقظت فزعا لأجد نفسي غارقا بتراب الملجأ وأذاني تعاني الصرير من شدة سقوط الصاروخ بظهر الملجأ ، نهضت نافضا التراب باحثا عن زملائي .
 أووف لقد  بدأ الهجوم . "




العودة للماضي:

يقول ماجد: "حلكة الليل البارد ألبستني رداء الماضي الساكن في صناديق التذكر المعلقة في رأسي المضطرب ، ههههه ، ها هي أصوات قرع أحجار الدومينو على ضفاف الفرات في مقهى علي سلمان ، حضرت متذكرا لحظة محاولتي عبور شارع العيادة الشعبية  متجها إلى أصدقائي بعد يوم مضنٍ بكافة تفاصيله قضيناه في إعدادية السماوة الصناعية ، كنا نلبس من الدراسة في الصناعة درعا واقيا ضد الوقوع في فخ الحرب العراقية الإيرانية أنا مثلا قضيت فيها خمس سنوات متباطئاً راسبا عن قصد ، لان المتخرج من الصناعة لا يجد أمامه غير الالتحاق بالجيش ، أيضا لم تكن هذه المدة وقت هدوء بالنسبة لي ولأقراني  إنها زمن الأحلام مدفوعة التحقيق إلى الأمام ، زمن التدخين و الإحساس بالرجولة ، قصص الحب ، كتابة الرسائل بأخطائها الإملائية ووضعها بظروف حمراء عليها صورة قلب يخترقه سهم في نهايته الحرف الأول من  اسم العاشق الذي ضربه اسم العشيقة  و إلى الأسفل نرسم وعاءً يجمع قطرات الدم المتساقط من القلب المخترق ، ليس هذا فحسب ، بل زمن انتقال بين الطفولة والشباب ، فكان الحنين إلى لعب الدعبل و الصكلة و التصاوير عادة ما تحضر ، فكنا حين نمر بالدرابين وبقمة الأناقة ونلاحظ الصغار يلعبون نحاول مشاركتهم اللعب بداعي الخبرة المسبقة والمتراكمة في معرفة أصول هذه اللعبة ، نعم انه زمن الانخراط في نادي السماوة وممارسة لعبتي تنس الطاولة وكرة اليد مع رفعت عبد المنعم ، علي جهادي وشقيقه إحسان ، إسماعيل ، علي عزيز وشقيقه حسين ، عامر نجم الحداد , وعاطف جبار، فاضل العوسي ، انمار عبد الخضر الصائغ, كريم عبد الزهرة ، طارق أبو الجبدة , رحيم هادي شنبارة أبو العوف والمدرب الأستاذ مسلم عباس مظلوم (أبو خلدون ) مدربا لتنس الطاولة والاستاذ علي الخطيب مدربا لكرة اليد وآخرين ، نعم ، لقد تأهل بها المنتخب الوطني العراقي إلى نهائيات كأس العالم في المكسيك ، حيث كل شيء تعطل سوى حب المنتخب والعراق رغم قساوته المفرطة ، هذا التأهل سوّق لنا ملابس تلك الدولة ، أهمها القبعة المكسيكية الشهيرة التي أهداها لي ذات يوم  المرحوم عباس بيده ، هذه القبعة كانت الوحيدة في السماوة ، وفي إحدى شطحات تلك الأيام قررت أن ارتدي القبعة المصنوعة من الخوص والتي تتسم بكبر حجمها ,عليها ألوان براقة بمخروط فارع الطول يشبه علامات المرور مع زركشات وخرز حوّطت اطرافها ، لحقها قميص أزرق اللون بأزرار مفتوحة مع عقده من الأسفل على طريقة مغنيي الهيب هوب ثم بعض من قلادات وضعتها على رقبتي وأساور يدوية بألوان مختلفة وبنطلون من الكابوي رفعته من تحت مع حذاء رياضي بلون أبيض ، أضفت إلى هذه التفاصيل غليوناً طويلاً مخصص للتدخين ، وهكذا قررت أن أخرج في ذلك اليوم لأقف في تقاطع السينما ممارسا طقسا من طقوس الصعلكة ".

عودة وصفي في زفاف شقيقه الأكبر محمد:

يقول ماجد: " بعد أن وصل المهنئون في بيت جارنا جاء الآن وقت مد سفرة العشاء وتوزيع المهام من أجل الاستعداد لتقديم الطعام ، عبرت السلم معلنا التهيؤ لاستقبال صحون الحلاوة مني ، فتحت الباب ببطء حتى لا افسد الصحون التي ملأت مساحة الغرفة وحتى مدخلها ، تركت الباب على نصف فتحة وخلفي نساء البيت ، مددت يدي ضاغطا زر الانارة وعيني على الارض ، ملأ الضوء المكان رميت بنظري على الصحون تسمرت  بمكاني متفاجئاً من وجود اقدام عند نهاية الباب بالقرب مني ، رفعت رأسي متفحصا جسد الواقف الذي دخل خلسة الى غرفتي المحكومة الغلق ، وقبل ان انطق ، هو همس بأذني ، (ااشششش لا تخلي النسوان يدخلن ) ، ومن دون مقدمات أو تعقيبات فائضة عن الحاجة خاطبت النساء بالتوقف خارج الغرفة ومنعتهن من الدخول بحجة الحفاظ على الصحون والحلاوة ، وانا كنت أريد الحفاظ على حلاوة من كان في الغرفة ، نعم كانت قدماه حلاوة ، جسده حلاوة ، وقوفه حلاوة ، دخوله السينمائي ، الغرائبي حلاوة  ، حيث لم يعلم أحد بأنه في البيت مطلقا ، كان مطاردا من قبل الامن والبعث ، إلا أنه لم يتأخر عن الحضور إلى حفل زفاف شقيقه الذي يكبره, اختراقه هذا للبيت دون علم احد حلاوة .
خداه ، عيناه ، طوله ، أناقته ، كله كان حلاوة ، نعم انه  شقيقي وصفي الذي كان خلف الباب ..
فرحتي بتواجده بيوم زواج محمد كانت قد أعطتني همة بأن اخرج كل الصّحون من الغرفة كي يبقى على رسله في الغرفة ..
وبما انه وصفي لم استغرب هذا الدخول المفاجئ فقد كان على قدر كاف من الذكاء من أجل انهاء اية مهمة ، نعم هذا وصفي مؤرق رجال الأمن والبعث ، حضنته ، قبلته ، شممته قلت له كيف ، ماذا ، قال لي : وهل تريدني أن لا أحظر حفل زفاف محمد ...!!!
بعد وليمة العشاء ومغادرة بعض الضيوف ، نزل وصفي مصافحا الجميع ومن ضمنهم الأصدقاء الذين تصرفوا ، - وبأمر من الخال جبار شلاكة - كأنهم منذ الظهيرة لم يروه! ، وهو الغائب عنهم من مدة طويلة ، من بين الحضور كان احد ما ، الذي علم بهذا الحضور، مسجلا في دفتر الموت المؤجل ، أن الصيد  قد وقع في الشبك ، العصفور دخل القفص ، الصنارة توشك أن تلتقط فم السمكة العائدة إلى مائها ، تهيؤوا للصيد ،  وصفي دخل البيت أخيرا ..
بعد إتمام مراسم الزفاف ، لم ينم وصفي ، قال لي : رافقني إلى كراج  سيارات بغداد ، كان هذا عند الساعة الرابعة فجرا ، قلت له : لم نشبع منك يا أخي ، تأخر قليلا ، قال بهدوء وابتسامة تخبئ خلفها حدسا غريبا :لا ، فعناصر الأمن سيأتون عند الساعة الخامسة ليلقوا القبض عليّ ، دعني أذهب ، رافقته  حيث أراد ، ودّعتُه... وبالفعل ما إن جاء فجر ذلك اليوم ، و إذا برجال الأمن يملؤون الشارع طارقين الباب بعنف ( وين وصفي !؟) ".

وصفي ذهب إلى بغداد ثمّة أمر ينتظره هناك، هو، وصل إلى العاصمة فرحا بزواج أخيه محمد، أبلغ الرفاق بزواج أخيه محمد و كان يروم إخبار أخيه الأكبر     و هو كاظم و اسمه الحركي (يوسف عرب)، إلاّ أنّ الرفاق أبلغوه بأنّ كاظما قد استشهد بيوم زفاف أخيه محمّد (يا لها من مفارقة)، و بخدّين باكيين مبتسمين كبت وصفي حزنه و فرحته داخل صندوق القلب، مكمّلا مسيرته خلف كاظم في شمال العراق، قال سأبقى على خطّه، لقد حقّق وصفي أمنيته و التحق به شهيدا هو الآخر.

عودة في طريق مجهول نحو السماوة :

يقول ماجد بعد أن عيّن قائدا لرفاقه للعودة للسماوة بعد انكسار الجيش:
" لا أخفيكم سرّا إنّها لعبة منّي حين صرّحتُ بأنّي أعرفُ الطّريق، و الحقيقة أنا لا أعرف من هذه الأرض إلاّ أنّها أرض عراقيّة تحوّلت إلى معسكر من أجل حماية محافظة الكويت الجديدة فقط، لكنّي قلتُ ذلك من أجل بثّ روح الإطمئنان بين زملائي... قرّرنا المسير باتّجاه اللاّ اتّجاه، اللاّ أين، اللاّ أدري"

ثمّ يقول: " الهواء العاصف بكفّه الضاربة القادمة من الشّرق صفعنا بحس الاتجاه الذي يريد دافعا ظهورنا برفسة حيث اللا ندري، ركبنا الموجة الهوائيّة مشيا لكن هذه المرّة من دون جهد عضلي لأنّ محرّكه الكوني بطاقته الدافعة الرافسة منحنا السرعة الفائقة التي أحالت الخمسة رجال إلى ثلاثة و أنا من ضمنهم، بعد ساعات من هذا الاندفاع الذي أعقبه مطرٌ غزير، غسل الرمل ملابسنا مسكّنا الهواء لأجد أنّني مع اثنين، لقد اختفى أربعة، صلاح، صالح، عماد          و جواد".
و بعد الوصول لذلك المكان المجهول (الشقّ) يقول ماجد: " لفظنا أنفاس الإستقرار النسبي مانحين السماء نظرات الترقّب و السّؤال الموجّه لها، ما هذا؟ ما الذي يجري؟ من نحن..؟ و إلى أين..؟ كيف هذا..؟ إلى متى..؟
ألمُ الأقدام الذي جاء بعد الجلوس قطع الأسئلة، لو تكن الأقدام أقدامنا لقد تمّ استهلاكنا بثلاثة أيّام من المشي من سجن قسري تحت تصلّب جلد البساطيل من جرّاء الرّطوبة و التصاق الطّين بها..."

مفاجأة الطريق المرعبة:

يقول ماجد: "ساعتان من المشي المتواصل نحو اللا نحو مع تسارع الخطوات توقفت فجأة ليصطدم زملائي أحدهم بالآخر، وقوفي لم يأت قصدا، فها أنا أمام ما يمنع إكمال المسير، هذا التوقف أرسل سعيرا إلى قدميّ التين تحوّلتا إلى حوض كبير استقبل انخراط قلبي الذي غادر قفصه الصّدري عاكسا وميضا أبيض في عينيّ مُشكّلا بداية صداع أسقطني في حوض احتمالات مرّت برأسي بلحظات خاطفة إنّها فرقة الإعدام، جيش أمريكي، لا سعودي، كمين، شرطة حدود لا لا ما هذا..؟ قلتُ ذلك كلّه في نفسي، لكنّه اختفى بعد أن مددت يدي نحو مانع المسير لأعرف أنّه كان عبارة عن فوهة مدفع منخفض تركه جنوده هاربين اصطدمت بصدري".

و بعدها يقصّ علينا ماجد كلّ ما عاناه و رفاقه للوصول و كيف وجد قدماه متورذمتان و متقرّحتان و الألم الشديد بعد نزعه البسطال و الجورب و كيف تابع المسير بذلك الألم الشديد. لكن و بعد الوصول للجسر و اجتيازه و مواصلة الطريق دعاه رفيقه ماجد الخزعلي لبيته للاستراحة و المبيت بعد أن التقاه فجأة، إلاّ أنّ رغبته بالمواصلة و الوصول للسماوة رفقة طارق جعلته يرفض الدعوة. و في هذا الصدد يقول: " إصراري كان يشدّه حنيني إلى أشقّائي المغيبين كاظم (يوسف عرب) و حيدر (وصفي) أريد أن أصل حتى أغمس بالوحل رأس كلّ بعثيّ ساهم في صناعة تقرّحات ألمي و حسرتي عليهم، أريد السماوة الآن حتى أسحق بهذا البسطال النتن رؤوسهم النّتنة".
و أخيرا الوصول للبيت و احتضان الأم التي كانت تصلي و تدعو لأبنائها بالسلامة.

أمّ قاسم ، أمّ الشهداء:

أمّ تحمل قلبا كبيرا، شجاعة، امرأة حديديّة، أمّ الأبطال الشجعان، أنجبت رجالا عظماء، أمّ الشّهداء.
لم تعلم باستشهاد كاظم إلاّ بعد سنين طويلة، علمت حينها أنّها زفّت إلى السّماء شهيدين أحدهما التحق بالرفيق الأعلى بليلة زفاف ابنها محمد و الثاني أُعدم مرّتين.
و استشهد ابنها المقدّم علي وروار سيرا على خطى و درب أخواه كاظم         و وصفي دفاعا عن وطنه في أبي غريب على يد داعش في 28/02/2016.
أمّ تحملُ جبينا مُشعّا و بيتا مُنارا بالأرواح الطاهرة الزّكيّة.

كاظم (يوسف عرب):

يقول ماجد: " لم تكن مراهقته عادية مطلقا ، مراهقة عُبئت  بالسياسة مبكرا ، لكنّ هذا لم يؤثر على أناقته و شياكته وابتسامته التي اتسمت بالإفراط ، كان كريما بتوزيع الابتسامات على الوجوه لكنه كان شحيحا بها على البعثيين و رجال الأمن ، تلك الابتسامات التي تظهر بياض أسنانه مع لمعة ساحرة من عينيه الزرقاوين المائلة للخضرة كانت توقع كل من شاهدها بحبه وتسجيل الإعجاب بشخصيته ـ معذرة أنا لا أمتدح أخي لأنه أخي ولكني اسرد لكم حقيقته ـ ضحكاته تلك كانت تسحر الجميع وخصوصا النساء إلا أنها كانت مصدر ازعاج مستمر لكل بعثي مكلفٍ بمراقبته ! ولم لا، فهم كانوا يحاربون حتى الابتسامة ، دعوني اذكركم بشيء من ضحكات كاظم ، ذات مرة كان يلاطف أمّنا في البيت كما هي عادته اليومية ، هو أطلق ضحكة عريضة بصوت عال جدا  اخترقت الشبابيك والجدران ، فلم يكن أمام أمي إلا أن تفزع إلى باب البيت لكي تتأكد من أنّ (الدربونة) كانت خالية من رجال الأمن والبعث والمخبرين السريين ، ويقينا كاظم استمر بضحكته غير آبه بشيء ، لكنه قلب والدة خائفة على فلذتها ، أسرد لكم الآن وكأن ضحكاته مثل صور معلقة على جدران بيتنا القديم .
كان من النشطين في مجال الرياضة والمسرح مرحا بشوشا لا تفارقه الابتسامة  جديا في النقاش ، ابتدأ رياضيا يمارس كرة اليد في نادي السماوة الرياضي ومن ثم مسرحيا ، بعد ذلك الدراسة الإعدادية التي عانى منها الكثير من المضايقات واجبر على الذهاب إلى الناصرية لإكمال الدراسة الإعدادية  ( السادس) حيث كان يدرس السادس المسائي هناك وينام في سيارة عاطلة نوع ( رف روسي ) كسرت زجاجتها الخلفية وفي الصباح الباكر يذهب مع عمال البناء لكي يقوت نفسه ويوفر الطعام, سنة دراسية كاملة ينام في تلك السيارة المهجورة ، وبعدها الدراسة الجامعية ( الجامعة التكنولوجية في بغداد) حيث حاول النظام  إلقاء القبض عليه داخل الحرم الجامعي ولم يتمكنوا من ذلك فهرب من الباب الخلفي للقسم واتجه إلى غرفة عتيقة في بيت كبير بمنطقة الكاظمية حيث يختبئ أكثر المطاردين هناك ، وكان على اتصال بمجموعة من رفاقه  ، في مقدمتهم  " جمال وناس "  جودي"  زهير عمران موسى ، و باقر ملك , وخالد عزيز ديبس ومحمد وروار , و ... , كانت هناك جولات عبارة عن " ندوات متحركة " حيث تثار النقاشات حول مختلف المواضيع الثقافية والسياسية . رجال الأمن     و جلاوزة  البعث كانوا يرصدون تلك التحركات ،  وحاولوا التحرش به وبرفاقه  أكثر من مرة ، بل وانتقد بعض الرفاق  الجبهويين كاظم واعتبروا جولاته هذه مضرّة بمسيرة عملية التحالف القائم مع حزب البعث يومها .
مع تصاعد الهجمة البوليسية من قبل أجهزة النظام القمعية في عام 1978 اختفى كاظم عن الأنظار ، لفترة قليلة وجاء إلى السماوة متخفيا وقام بنقل أثاث مقر الحزب والمكتبة والمنشورات والوثائق هو ومجموعة من الرفاق لكي لا يبقي دليلا واحدا على الرفاق وتنظيمات الحزب ، جمعها ، نقلها ، أخفاها ، أنا و وصفي كنا معه في تلك اللحظات الحرجة ، حملنا معه وثائق الحزب ومكتبته إلى البيت كان هذا تحديدا الساعة الثانية عشرة ليلا ، كاظم لمعت في رأسه فكرة لإخفاء تلك الوثائق ، قال هيا لخلع أبواب البيت الخشبية وفتح كبسها ، لم ننتظر خلعنا أبواب البيت و أخفينا الوثائق بين أخشابها و أرجعناها على ما كانت عليه وكأن شيئاً لم يكن , قبل الفجر ودّعنا كاظم .
 وذهب إلى بغداد ...
أتذكر جيدا تلك التفاصيل ، كان السؤال عن كل شيء يدور في رأسي  ، ومن كثرة تداخل الأسئلة قلت له قبل أن يغادر : لماذا كل هذا العذاب ، فانا احبك معنا وأن تترك ما آنت عليه ..؟
قال : سيأتي اليوم الذي تعرف فيه لماذا أنا على هذا الطريق ، يا ماجد إنّ المسيحي يمكن أن يصبح مسلما ولكن المسلم لا يمكن أن يتحول مسيحيا ،  يا ماجد أريدك أن تكون كذلك ، قالها ، و رحل ...
بقي في بغداد ونحن نحصد الأخبار يوما بعد يوم دون أن نراه و المخبر السري     و جلاوزة النظام  اخذوا مأخذا منا فهم في كل يوم لهم زيارة ميدانية في بيتنا إن لم تكن في كل ساعة في الغداء وفي العشاء لم نذق حتى طعم الأكل ولا النوم , ومرت سنة وعدة أشهر ونحن نتتبع الأخبار عنه , وفي يوم ربيعي كان هناك موعدٌ لي مع وصفي في بغداد , وصفي هو ( حيدر) الأخ الذي يصغر كاظم ويكبرني شاب وسيم لا يتجاوز عمره عند الاستشهاد ثلاثةً وعشرين ربيعاً .., كان لقاءً دوريا بيننا آو إذا كان هنالك طارئ ما أو ورقة سرية أو منشور يريد إيصالهما لشخص ما عندها نلتقي..
كاظم كان قائد المجموعة  في قرية (سويله مش) سهل (شهره زور ) من ناحية سيد صادق  شمال غرب السليمانية.
كاظم العربي الأصل كان قد مزج نفسه معهم بالزيّ الكردي ، كان قافزا على كلّ فارق متحدا مع الإنسان و الجبل و السهل والوادي .
كاظم ( يوسف عرب ) ، آراس أكرم ( سامال ) ، محمد علي فرج ( غه مبار ) ، سلام عرب ، ياسين , اتفقوا بالصعود على التل من أجل المراقبة وتأمين المكان لهم خشية هجوم مباغت من قبل قوات صدام مع الطلب من البقية بالمكوث في الجامع والبيوت لإكمال الإجراءات من ثم الصعود فجرا إلى الجبل .
«التحرّك المنبعث من عمق الوادي بدأ يقترب أكثر مرتفعا إلى حيث الأعالي المحيطة بالقرية، إلا أن الغموض سيطر على الرؤى والمرأى والتفكير والتمكن من بسط هيمنته على تفكير الخمسة الماكثين على خط الترقب.
احذروا من هذا التحرّك ، هذا ما قاله الهابط توا من الجبل لكاظم  حيث أجهزة الرصد تمكنت من معرفة أنّ الحركة التي في العمق هي قطعات عسكرية مكونة من الجحوش البعثيين والجيش تريد الانقضاض على القرية ومن فيها ،هو بدوره أرسل تعليمات للجميع , من في القرية والجامع بأن يستعدوا لهجوم قادم .
صباح آخر بدأ يشرق كشف كل شيء ، المشاغلة كانت فخاً لإسقاط المتقدمين حتى يكونوا امام مرمى الكلاشنكوف والقاذفات أسلحتهم الوحيدة ، كل الرصاصات كانت تعرف مستقرها في اجساد المتقدمين .
أربعة وعشرون ساعة استمرت على هذا الحال ، مناوشات أرهقت الجيش المقابل وألبستهم رداء الحيرة امام هذا الاصرار الغريب الذي شكل حائط صد مكوناً من المرتفعات والاشجار والمنضوين بين الجنبات ...
أتت الاوامر بالانسحاب التدريجي  والعودة إلى الجبل ليلا ، كاظم ورفاقه الخمسة على مكانهم من أجل صد تقدم الجحوش واعطاء فرصة للرفاق بالانسحاب.
وفي الليل سيطر الهدوء على المكان إلا من بعض الإطلاقات التي تمر من هنا وهناك ، هذا المجال مكن الطرف المقابل من التحضر لهجوم شرس مدعوما بالمدفعية و الهاونات و القذائف ، كل هذا كان يجري ليلا ...
خلو القرية إلا من هؤلاء الخمسة وقليلا من الأنصار كان محسوبا أيضا ، لكن هذا لم يمنع شهوة القذف الصاروخي  على القرية ... "
"صواريخ الطائرات المنسحبة كانت سببا لصناعة هدوء رهيب لدى معسكر الثلاثة ، ليقابله هدوءٌ آخر من طرف الجحوش ، مع انسحاب آخر طائرة التي بعثت بصاروخها الأخير المتشظي بجمر لهيب وصل إلى فخذ كاظم الأيسر  ليتكئ على سلاحه زحفا إلى آراس المصاب هو الآخر  بكتفه الأيسر  بمسافة ملمترات عن قلبه الذي ينبض على رفيقهم سلام العرب الذي أصيب بقدمه اليمنى .
تكاتف الثلاثة تاركين بقع دمهم تجر خطا خلفهم نحو يمين المرتفع حيث الغطاء الذي رسمه الرفاق من فوق السفح الذي صار بعيدا ، صعب المنال ، الجراح المثخنة أجبرتهم بسلك الطريق البديل من الجانب الأيسر  حتى يتمكنوا من إسعاف أنفسهم والوصول إلى الرفاق ...
التفاف الحجوش بزي الانصار من الخلف كان متواجها مع مسير الثلاثة ، تربصوا لهم من خلف الاشجار والمرتفعات الصغيرة ، الهدوء والمشي ترافقا جيدا معهم مع سماع  اصوات ارتداد الرصاص ، توقف ، قالها الجحش الكبير  رشيد صالح (ره شيه ى صالحه ) ، رفع كاظم يده من على فخذه ، آراس اسبل يده من كتفه ، سلام انهى سحب قدمه المتثاقل ، لقد وقعوا في الأسر  ...!!!

وصفي (حيدر):

هو الآخر كان مطاردا من قبل رجالات الأمن  مذ كان عمره سبعة عشر ربيعا وبالضبط عندما انطلقت التظاهرة التي سميت بتظاهرة الشيخ ( مهدي السماوي) وشدد التحري عنه بعد المنشورات التي التصقت على جدار متوسطة التحرير ومدرسة غرناطة في منطقة الغربي التي تدين النظام على أفعاله ، في العام 1981 ذهب الى بغداد ودخل الجامعة بكلية الإدارة والاقتصاد , وبدأت من جديد نشاطاته الطلابية المعارضة للنظام هو ومجموعة من الطلبة المعارضين.
كان وصفي يقلقني كثيرا عندما التقي به ، لا تعرفه ماذا يفعل غامضٌ جدا وحذر رغم انه دقيق في مواعيده , وفي احد اللقاءات بعد سلامي عليه رأيت من بعيد الشهيد عبد الحسين كحوش الذي كان نحيفا و بعقل كبير جدا يقرأ كل الأشياء ، لا يبقى في مكان واحد ولا يكرر العودة إليه إلا بعد مرور أيام , وقعت أنظار وصفي عليه فقال لي سألقاك بعد ساعة انتظرني في المكان الفلاني كان ذلك في منطقة الميدان سوق السراي, وبعد مرور الساعة لم يأت بل أتى مبعوث منه ليقول لي اذهب فهو لا يأتيك اليوم  , وبعد ثلاثة أيام هي المدة التي استطيع البقاء بها في بغداد وقبل سفري إلى السماوة ظهر أمامي وصفي طبيعيا من دون تعجب بابتسامة جميلة هادئة لا تستطيع أن تكون عصبيا أمامها, كان سريا غامضا هادئا يكتم الأسرار وببرود أعصاب (راح تسافر ماجد ) قالها  دون أن يثير شيئاً . هو كان حلقة الوصل بيننا وبين كاظم حيث كان يلتقي به خارج بغداد , لقد عانى الأمرين بين تنظيمه السري في بغداد الذي قاده إلى حبل المشنقة بعد سنين من النضال والمطاردات في الكلية وفي الأقسام الداخلية مع أصدقائه وفي بيوت الأقارب و الأصدقاء وفي شمال العراق ولقاءاته بكاظم .
في بغداد كان وصفي يعد العدّة مع رفاقه لعملية اغتيال الرئيس صدام حسين كان معه عبد الحسين كحوش وآخرون ، مدينة الثورة كانت منطقة تحركهم متخذين  من بيت رفيقة لهم مقرا ، كان زوجها يعمل في الخط المائل ، الا أنهم كشفوه ، وقتله الأمن ، وكان قد أعدّ مكانا بديلا  في اليرموك وهو  بيت ام نصير وناطق الذي فضلته على أبنائها ، ومنحته ما كان قد فقده من أمه التي هجرها مرغما مطاردا.
ليلا وفي البيت البديل بمدينة الثورة كانت  المرأة التي اسمها (نادية) الشقراء زوجة الرفيق قد قطعت موعدا مع وصفي عند الساعة السابعة صباحا أمام مستشفى اليرموك غدا من أجل التهيؤ للقيام بالهجمة ، حيث سيمّرُ صدام من ساحة التحرير عابرا جسر الجمهورية ليصل إلى القصر الجمهوري  ، وقبل التحويلة التي في بداية شارع الزيتون  ستتم عملية تفجير العبوة الناسفة على رتل صدام حسين عند مدخل العلاوي. 
الساعة السادسة والنصف من صباح اليوم التالي ، أبلغ وصفي ام نصير بأنه سيجلب لهم خبز الفطور من الأسواق القريبة ، خرج على الرغم من اعتراضات ام النصير ، إلا انه برر ذلك بالخبز ، خرج موصدا الباب ، هبط الرصيف ، ترك الشارع خلفه ، وقف أمام المخبز متأملا خفّة أيادي العاملين وهي تتحسس حرارة الخبز  واضعيها على المنضدة الأمامية أمام طابور الزبائن.
وصفي ترك هذا ، ترك المطعم القريب ، تأمل بائع الشاي ، منح شباك تلك الفتاة التي كانت تراقبه كل يوم نظرة خارج التوصيف ، ترك أيضا منطقة الشوارع الأربعة خلفه ليصل إلى بوابة المستشفى عند الساعة السابعة.
تباطأت أمامه سيارة تاكسي (سوبر ) وعلى غير العادة مقعدها الأمامي كان مشغولا من امرأة ، دقق وصفي النظر ، ليجد أنّ من فيها نادية ، أقلت السيارة للتمويه ، نادية الشقراء ، بدت بعينين لامعتين ، وتبرج أغوى سائق السيارة ، أشارت له بأن يقترب منها ، بلا مقدمات صعد وصفي السيارة من الباب الخلفي. تهيأ السائق بانطلاق بطيء ، لمح وصفي في مرآة السائق أنّ سيارة لاندكروز  تسمرت خلفهم ، تحركت السوبر  لبضع خطوات ، وبذات السرعة تقدمت خلفهم السيارة الأخرى مشرعة أبوابها ونزول من فيها , تركوها ركضا باتجاه التاكسي ، ليضع أحدهم مسدسه برأس وصفي .
الشقراء ، قالت لهم ، هذا هو اخذوه ، أنزلوه بمقاومة شديدة ، أحدهم صفعه على رأسه ، ليرده بأقوى منها ، نفضهم ، ضربوه ، ضربهم  ، ليكمل حديثه ببصقة على وجه الشقراء التي تحولت إلى كائن مختلف ، تمكنوا منه , كبلوه , وضعوه في السيارة الأخرى .

المقدّم علي الوروار:

التحق عليّ بالجيش مرة أخرى نقلوه إلى السليمانية ليتسرب من وحدته إلى حيث الأنصار ، ابلغهم بأنه شقيق يوسف عرب ( كاظم ) لم يصدقوه أظهر صورته وصورة وصفي كانتا مثل تميمة في محفظته تدوران حيث يدور ، صدقوه ، استقبلوه استقبالا يليق بتضحيات شقيقه مقطوع اللسان ، خيروه بأن يهاجر ، يعود ، يبقى ...
اختار البقاء معهم مرتديا زيهم حاملا السلاح معهم مكملا طريق شقيقيه...
بقي علي يجول العراق متخفيا حتى إحدى مساءات العام 1993 وضع رأسه في حجر أمّه قائلا: " يمه انسيهم ماتوا وانه وكفت على قبر كاظم".
علي عاد ليكون ضابطا في الجيش العراقي ، وهاهو كل شيء استقر الآن بحسرة تتكرر على تلك الدماء التي سالت من أجل هذا الذي اسمه عراق.
و في الثامن والعشرين من شباط من هذا العام  استشهد علي في أبي غريب على يد الدواعش دفاعا عن أرض الوطن.

أيلول:

يتدرج صوت الكاتب ممررا رسالته بين كلام البطل ليضع رسالة مختصرة في المنتصف : " إنّه أيلول السلاح والسلام ، لكنه فرق الحاء والميم  ، وكبير هو الفرق  بين الحرية والموت بدم فاسد ، صوت الرصاصات في الجبل كانت تعادله سياطهم على ظهر من كان في دائرة الأمن ، أي بلاد هذه ؟ إنّ دائرة أمنها تشكل أخطر  من الخطر ذاته على مواطنيها ، فرق المعنى واضح في بلاد التهشيم والسحق ، فرق المعنى يشكل مجالا بين الحياة و اللاّ حياة ، بين الحلم و اللاّ حلم ، فكل رصاصة موجهة إلى صدر بعثي من كاظم كانت تسكب الملح على جرح الأب الذي في الزنزانة الثالثة على بعد من الزنزانة التي احتوت ماجد بكل قذارتها ، رجال الأمن يفرطون بالتأنق والتعطر الدّائمي وهو معادل موضوعي لقذارة صمّموها لتكون مسلخا لجلد من يقول لا ...
لا .... لا ... ذاتها كان يطلقها كاظم مع الرصاص ، لا... لا.... كان يقولها وصفي في بغداد ، ... لا ... لا ...لا ، كان يقولها الأب والابن في دائرة الأمن عند صباح الزواج ... "

نعم إنه نهار الخامس والعشرين من أيلول نهاية معركة سويله مش بهذه الموقعة الدموية مع اعتقال الأب والشقيق في دائرة أمن السماوة  بعد ليلة زفاف الشقيق الأكبر  ، كم من الصفحات يراد لها اختصار هذا الذي لا ينتهي فمازالت الحروف تدون الحروب التي عاشتها الأجساد الغضة ، لم ينته بعدُ تاريخ الانتفاضة ولا الحصار ولا زمن الهجرة التي تقاسمها الأشقاء بعد العام واحد وتسعين دون علم الأم بما جرى للاثنين  لكن قلبها كان ينكؤها  بوخزات انتهت بدموع لا إرادية ذات نهار  ما.

القتل و التعذيب الهمجيّ:

•   تعذيب كاظم و استشهاده:

 يقول ماجد: "وسط الساحة كان ثمة عمود يحمل الأسلاك الكهربائية ، إلاّ أنّهم أضافوا عمودين آخرين من الخشب إيذانا بصلبهم  ...
اربطوهم على الأعمدة هذا ما قاله كبيرهم ، بأيادٍ مكبلة وجراح نازفة خطت دمها على الأرض ، قدموهم إلى الأعمدة وتراجع الستة إلى الوراء دون أن يديروا الوجوه الى الثلاثة أمام تقدم رشيد صالحه براز البعث المتكوم على تلّ ، ليتقابل مع الشموس.
هرعة ، باكية،  بلهفة تريد التقرب من هذا التجمهر الأصفر ، بذهول هبطت ( أمّ ياسين ) الوادي تطارد قطعة هابطة منها تتدحرج أمامها ، حاملةً الجبل معها بقمته يريد التعرف على الذي هناااااك معها ، إنه السؤال الكبير ، سؤال النهاية ، هل أن ابنها من بين هؤلاء الثلاثة المكبلين ؟ ، كان كاظم يتطلع إليها وهي تهبط باتجاههم ، وصلت أمام زحام الرؤوس ، باعدت بينهم ، اخترقتهم متقدمة إلى الأمام ،  أزاحت طفلا كان قد دس برأسه من بين أقدام أبيه ، لتجد نفسها وسط الدائرة نفسها.
صمت مطبق محيط ترتب على بساط  نظرات مستقيمة باتجاه الثلاثة المصلوبين على الأعمدة كسره صوت رشيد صالح بسؤال باتجاههم من منكم سلام عرب ؟؟؟؟ ، العجوز ومن بين الجموع أدارت النظرات نحوها بصرخة مفجوعة أين ولدي  ....؟
النظرات عادت إلى الأعمدة تركزت على فم كاظم حين نطق : أنا سلام عرب !، لينطق آراس أيضا : أنا سلام عرب ! ، أنا سلام عرب قالها سلام غاضباً ! ، الثلاثة سلام عرب ، من هنا سلام عرب ، نحن سلام عرب كل من بهذا الزي سلام ! أنا عربي وافتخر ولم أخن العرب و الأكراد , وأنت كردي خائن للأكراد والقضية الكوردية , كانت هذه الجُمل أشبه بسهام تخرج من فم كاظم ، وكلما طأطأ رأسه رفعه بسلام عرب ، هبط الرأس ، ارتفع  تجاه صالحه ومن معه : نحن سلام عرب ! ، وبدلا من ان يكون سلام واحداً أصبحوا ثلاثة لتتكوم الأم  وسط الجموع غارقة ببركة دموع اختلطت مع الدم السائل منهم باتجاه الأعمدة لكنها راحت تراقب المشهد ، كلكم سلام عرب ... , كان حملا ثقيلا لم تتمكن من تحمله.
ارتعد صالحة ، تقدم إليهم ، نتف لحية كاظم
- حقير  تريد تكون بطل ...
- فكّ حبلي ... و نشوف منو البطل ........
- عيونك حلوة ولسانك طويل .... يراد له گصْ ...!!!
امسكوه قالها صالحة لقطيع كلابه الذين نبحوا من حول كاظم ، قَدْموا رأسهُ للأمام محدثين مجالا بين ظهره والعمود وتَحَوّلا إلى شبه يد قانة للسماء ... صالحة مركزا في عيني كاظم الخضراوين من دون شعور راح يتحسس  جسده باحثا عن حربته من غير ازاحة النظر عن كاظم  ، الكلاب زادوا من تقديم الرأس وفتح فمه مخرجين لسانه ، مسكه صالحة من طرف لحيته نتفا ، كان يريد اضعافه .. سحب الحربة ملوحا بها  أمام عينه ، انزلها إلى الأسفل ، مسحها بدم جرح فخذه الأيسر النازف منذ ليلة  ، رفعها مرة أخرى قاطرة منه  ، مسح بها لحيته ، أحالها إلى حمراء ، انزلها أمام فمه المفتوح إلى الأعلى ، وضع حافّتها على طرف من لسانه ،  كان يريد إضعافه !! ، وهو لم يستسلم له  أبدا ، ارتعد ، انهار ، صرخ ، حتى امتلأت البقعة الدائرة بدم جديد طري ، حار  ، نيّئ ، لقد قطع لسانه .....
رجع صالحة ضاحكا بهستيريا إلى الوراء ، أنزل كاظم ووجَّه من الارتفاع العالي  ببصقةً على وجهه من دمه الفائض غاسلا صالحة بالمتبقي من لسانه مع خيط لعاب دموي من فمه حيث وجهه ....
عينا صالحة أصابهما الغواش من أثر البصاق ، مسح وجهه ليظهر أمامه كاظم مرة أخرى بفم نازف مرتفع إلى الأعلى من نظرة استهزاء لكل المحيط ، كاظم كان يرتفع بقوة الضوء إلى الأعلى وصالحة يتقدم مرة أخرى إليه ، تحسس الحربة مرة أخرى ، تقدم أكثر وهو متلطخ بالدم الحار ، الأصابع الحمراء اللزجة بأظافر قذرة غير مُقَرّضة تقدمت مرة أخرى إلى الوجه النازف ، سأقلع عينيك اللتين فتنتا الكورديات ، منح كاظم وجهه له دون تراجع ، قلع العين الأولى ، كاظم يبتسم ، قلع الثانية ، كاظم يكرر البصاق ، تراجع صالحة   موسعا الدائرة المحيطة ، ليرتفع ضوء الثلاثة  مُزيدا  من مساحة الدائرة الكلبية التي وجهت الفوهات إلى صدورهم معلنة نهايتهم مرتفعين على مدرج الحرية إلى الضوء العلوي.
 
•   تعذيب وصفي و استشهاده:

تسعة وعشرون يوما قضوها بالتعذيب المبرمج (عبد الرزاق وكريم قد اعتقلا أيضا مع الرفيقة وصال شلال بعد أن كشفتهم الشقراء )، أجسادهم صارت حقل تجارب لأساليب  التعذيب المستوردة ، موزعين على الغرف تحت السياط         و أسلاك الكهرباء غارقين بتعرق الأجساد التي تيبست عليها الملابس ، استمرار هذا لم يجد نفعا لم ينطق الخمسة بأي اعتراف ، كسر العطش كان يأتي من دم لسنٍ مكسور من أثر ضربة على الفم ، الريق الناشف يستمد بلله من الدم ، شعيرات الأنف تحجرت بذات الدم من أثر الركلات ، لم يفكر احد ما بقص أظافره لأنها قُلعت من أول ليلة مخلفة تورم أصابع غير قادرة على فعل حك فروة الرأس ، تسعة وعشرون يوما بدأت عند اليوم الثاني من آذار عام 1984 وصولا إلى آخر هذا الشهر  ، لقد جهزوا الأجساد بدقة عالية خلال هذا الشهر  ، كل شيء كان افتراضياً عندهم ، حتى الأحلام!
ارتعد ضابط الأمن بعد صفعه بيده التي تلطخت بدم فمه ، صارخا اعدموه غدا صباحا ، فهو  يوم ميلادهم (31 من آذار) .
إلى الممر المؤدي إلى المقصلة سحبوه صباح اليوم التالي، استجمع قواه ، انتفض ، دفعهم إلى الجدران ، ركلهم  ركلوه ، ضربهم ضربوه ، أسقطهم أرضا أسقطوه , صرخ السجانون , لحق بهم آخرون ...
من عمق الممر المظلم جاء أحدهم راكضا مفردا عطفي بدلته متنكبا سلاحه قفزا عليه  بضربة من  أخمس البندقية على رأسه ، تلقفه الجدار ،  مدا يده على مقبض باب لغرفة كانت تشهد تعذيب أحد آخر ، هوى أرضا لم يبق إلا نفسه  المتقطع ، لم يصمد النفس أمام هذا كله ، فاضت روحه ، حملوه ، أكملوا حمله إلى المقصلة ، أغلقوا الباب رفعوه على الحبل ، نفذوا القتل مرة أخرى ، لتواجه عيناه السقف وقدماه متوازيتان مع رؤوس جلاديه.
و هكذا أُعدم وصفي مرّتين...

في الأخير:

الخامس و العشرون من أيلول جعلتني أذرف دموعا كثيرة، عشتُ فيها الأحداث و عاد بي الأخ ماجد للوراء للتأريخ منذ الثمانينات..
إنّها تراجيديا شهداء (آل الوروار).
سرد جعلني أتابع سيناريو فيلم وثائقي و كأنّي جالسة أمامه أستمع له          و أصغي لكلّ كلمة بأذني و ليس قراءة.
سرد بسيمفونية حزينة تحمل في طيّاتها آلاما و جروحا لا تندمل و لا تُنسى أبدا.
موسيقى كئيبة جدّا لكنّها تُمجّد الأرواح الطاهرة.. إنّها أرواح شهداء آل الوروار الذين دافعوا بالنفس و النفيس لإعلاء كلمة الحقّ و دماؤهم زكيّة تُخلّدُ ذكراهم، و أسماؤهم صنعت بطولتهم في التأريخ الذي سيظلّ يذكرهم للأجيال القادمة.
المجد و الخلود للشهداء.
تقديري للأخ ماجد الوروار الذي سرد لنا حقائق تاريخيّة و قاسمنا أوجاع قلبه القويّ.
و تقديري للصديق الروائي و الشاعر عامر موسى الشيخ الذي دوّن لنا السّرد بتقنية أدبية راقية و رائعة و أخذنا معهما لكلّ الأحداث.














   

69
أدب / تمنّي
« في: 21:56 04/12/2016  »
تمنّي

أستحلفك يا ريّاح
أخبريه بحبّي الكبير
أحضريه على بساطك السّحري
فأنا مشتاقة له
أستحلفك يا غيوم
كوني رفيقة به
حنونة عليه
و على أجنحة حنانك
احمليه برفق
أستحلفك يا أنسام الهوى
إلى ربوع قلبي أنزليه
لكي يتنفّس أنفاسي
و يسمع نبض قلبي
و بستنشق عبير زهوري
هلّمي يا ريّاح و اسرعي
بسرعة البرق على جناح عطفك
أشعر بقلبي يرفرف كالطّير
لاستقبال حنانه و عطف قلبه
(نوميديا جرّوفي)

70
  نوميديا جرّوفي، شاعرة، باحثة و ناقدة

   
ديوان "حين يتكرّرُ الوقت، يتوقّف.." للشاعر "سعد ناجي علوان"



الشاعر "سعد ناجي علوان" مواليد الديوانية، العراق.
عضو إتّحاد أدباء و كُتّاب العراق، يكتب في النقد السينمائي إضافة لكتابة الشّعر. ينشُر في العديد من الصّحف العراقيّة، أهمّها صحف الصّباح، المدى و المنارة و المجلات الفنيّة و الأدبيّة. عضو مُؤسّس لنادي السينما في الديوانيّة.له العديد من القصائد و المقالات الأدبيّة و السينمائيّة في المواقع الأدبيّة و الفنيّة و المجلاّت على النت. و مؤخّرا يُعدّ لمجموعة شعريّة جديدة عنوانها ( خزف سماوي).

و موضوع دراستي هنا ديوان ( حين يتكرّر الوقت.. يتوقّف..)

في قصيدته (بدء) يقول:

الكلّ يكذب
حين يتّسع الوقت
للصّدق

تحدّث عن المنافق الذي يٌقال عنه: لسانه يسرّ و قلبه يضرّ، قوله جميل     و فعله الدّاء الدّفين.
و الكذّاب حديثه شيء و حقيقته شيء آخر. و صدق القائل: نحن في زمن يملؤه الكذب لدرجة أنّه أصبح هناك لعبة الصّراحة.
و صدق الإمام عليّ في قوله: لا خير في وُدّ امرئ مُتملّق حلو اللّسان     و قلبه يتلهّب، يلقاك يحلف أنّه بك واثق، و إذا توارى منك فهو العقرب، يُعطيك من طرف اللّسان حلاوة و يروغ منك كما يروغ الثّعلب.

و في قصيدته (وجع) يقول:

إذ يرحلون دون وداع الأمّهات
و الصّباح يأفل على خشب
البنادق
أحتاج لكثير من الجرأة..
لأنظر إلى شجرة

إنّهم الشهداء الأبرار الذين رحلوا دون وداع الأمهات، إنّهم الأبرياء و خيرة الشباب في ذلك الزمن الذين ضحّووا بالنفس و النفيس و ماتوا غرباء و لم يودّعوا أمّهاتهم و لم يكن لهم شرف ذلك الوداع المقدّس من أمّهات أصبحن ثكالى و دموعهنّ تسيلُ على فلذات أكبادهنّ الذين غادروا دون عودة.

و في قصيدته (نسيان) يقول:
 
أفق هجرته الطّير
و غفت سنابله
لون يتكسّر
و لا تنعكس الشّمس عليه
و الأصابع تجهله

شبّه الشاعر فصل الخريف بالنسيان، الشهر الذي تهاجر فيه الطيور بعيدا، الشهر الذي يكون لونه باهت حزين. هو الشّهر الذي يكشف عن حقيقة الأشخاص كما الأوراق، بعضها تسقط في أوّله، و منها من يبقى مرتبطا بأصله مهما كان الخريف مُكابرا. و قلّة من يفهم أنّ جنون الرّبيع إنّما هو وليد حزن الخريف.


و في قصيدته ( قمر عاشوراء) يقول:

قمر في الأرض
قمر في السماء
قمر في الشّرفات المزدانة بالحمد لبيوت الربّ
قمر للأرامل .. قمر لليتامى
قمر لزهوّ الحسين و حربه
قمر لزينب تحت ليل السّبايا
قمر للغريب
قمر لا يغيب

أخذنا الشاعر لعاشوراء و حزن عاشوراء و مقتل شهداء عاشوراء.
شبّه الشاعر الحسين بقمر عاشوراء في كربلاء، القمر المنير في الليلة الحالكة السواد و شديدة الظلمة. جعله منيرا في تلك الليلة التي مازلنا نبكيه و نرثيه ليومنا هذا و نلبس السواد.
إنّها الليلة التي ذهب فيها الشهداء و سالت دمائهم الطاهرة الزكيّة.
وقيل عنه: إنّ لدم الحسين حرارة في نفوس المؤمنين لن تبرد أبدا.

و في قصيدته (نتوء) يقول:

نهارات من أسلحة تتكدّس
يعلو فوق بيوت الربّ غبار
وطني
لعبة رمل تتكرّر
بيد الصّبيان

عندما قال الشاعر: وطني.. لعبة رمل تتكرّر أخذنا مباشرة للأحزان المتوالية التي لم تزل ليومنا هذا منذ دهر و عصور في العراق الذي لم تجفّ دمعته.
منذ بدأ التأريخ و العراق حزين و يدور في دوّامة الحزن كلعبة الرمل التي نقلبها كلما تنتهي لتبدأ من جديد، هكذا هي آلام العراق لا تنتهي أبدا و لا نعلم متى تتوقّف و تعمّ الفرحة و السكينة في البيوت التي ذرفت فيها كلّ أمّ دموعا على من ذهب و لم يعد في زمن البعث.

و في قصيدته ( تحيّة لشاعر ) يقول:

في الصّباح وقت ما
للقصيدة
للذكرى.. للألم
و لليقين بعمق
أنت بذات الحزن
ستبقى وحدك

وحده الشاعر يبكي في جحيم الكلمات، وسط دغل من أساطير تداعت،      و سحاب من رماد الأمنيّات، و ظلال من بقايا حلم، تمتدّ من الفجر الرّمادي إلى اللّيل، لتفنى في حقول الذّكريات.


و في قصيدته ( تسام) يقول:

أن تكون دون أب
شجرة تورّق في الخريف
دون دمعتين

جعل غياب الأب و فقدانه كتلك الشجرة التي تورّق في الخريف لشدّة الحزن و بكاء أخرس من دون دمعتين، بكاء من نوع خاصّ، بكاء لا يفهمه سوى يتيم الأب الذي فقد حضنه الدافئ و ذلك الصدر الذي يشبه الوطن.

و في قصيدته ( طفولة ) يقول:

حول السبورة
في الساحات
في الفم
و في حديقة المنزل
ورد أقسى من أسلاك

عاد الشاعر للطفولة و حنين لزمن البراءة و ذلك الزمن الجميل حيث كانت السبورة في المدارس في الساحات و الكل يتعلّم  و الجميع مسرورون مبتسمون عكس زمننا هذا التي غادرت فيه البسمة الشفاه لكثرة الأحزان.
قصيدة وطن تحولت وروده لأشواك و أسلاك شائكة تدمي الأيادي.

و في قصيدته (بلادي) يقول:
الجنوب
أقنعة البلاد
فم الجغرافيا
حيث يتكسّر ظلّ الجنرال
ينبت العنبر فوق الأجساد
التي لم يحصها الرصاص

إنّها قصيدة ذات عمق و مفهوم كبيرين، تعود للثمانينات في الجنوب في حرب الخليج التي ذهب فيها خيرة شبان العراق في ذلك الزمن الوحشي و الهمجيّ و الديكتاتوري، زمن دفع فيها الآباء ثمن رصاص أبنائهم، و أجساد دُفنت حيّة في مقابر جماعيّة لم يمسسها الرّصاص.

في الختـــام:

الشاعر "سعد ناجي علوان" ذو كتابات تحمل معاني عميقة، و هو يعتمد على البساطة في شعره التي يفهمها القارئ دون صعوبات.
ديوان حمل في طيّاته الكثير من زمن جميل ذهب دون عودة، أحزان لوطن منهوب، حنين للأب و الأم ، كما أخذنا لمراسيم عاشوراء في كربلاء، و ذكر لهمجية زمن يبقى كابوسا لا يُنسى لويلاته التي عاشها الشعب العراقي.
 

71
أدب / الموصل
« في: 23:01 10/11/2016  »


الموصل


نوميديا جرّوفي

الدّقائق و السّاعات توقّفت
صمت القلمُ لبرهة من الوقت
كأنّها استراحة يقضيها بأوّل سطر
أو كأنّه لا يعلم كيف يبدأ
تغفو عيني تارة فأراها
نينوى
و أستيقظ لتتغيّر كلّ الموجودات
من حولي
الأشياء جميعها ترقبني
هيكل المكان بكامله يتبدّل
داخل كيانها هي
داخل حدودها هي
نينوى
يا هودج الأحلام الجميلة
يا فرح النّبض الحزينة
جئتُ إليك شاكية نزيف الزّمان
كسفينة أسكنها البحر الثائرُ
جوف النّسيان
تاريخا يبكي قسوة القضبان
رحيق الورد منذ ألف عام مسجون
الآن فقط أريد أن أكون
سأضرب الأسوار بكلّ قوّة
سأصرخ في جنون
نينوى
تعبت النّجوم من السّهر
تعبت قيتارة الشوق
و نزف الوتر
تعبت السّماء من البكاء
اليوم ستنتهي دموع المطر
سيبتسمُ الطّفلُ الرّضيع
ستتفتّح الأزهار
سيولد الربيع من جديد
نينوى
يا عمر البسمة على الشّفاه
يا عريقة غرقت في نبضي
رجفة الضّلوع تجتاح أوصال الحبّ
نام اللّيلُ و أشرق الفجر
نينوى
شاهدي الشّمس النّائمة منذ سنين
إقرئي تاريخ القصيدة المدوّن
ربّما تُخبرك حضارة الحبّ
أين ذهب الحنين
أنصتي لوعة الفرحة في الوريد
يا موصل أوجعتنا بصمتك
تحدّثي بأيّ لغة
بأيّ طريقة
كنت نائمة في عيوني
و رويتك من نبض شرياني



72
أدب / حُبّك إدمان
« في: 21:02 02/11/2016  »

حُبّك إدمان

نوميديا جرّوفي

كيف أكتبُ الحبّ
القصيدة و الأسماء؟
كيف أكتبُ الحزن؟
أكتبُ الجنون و الدّماء
و السيوف اجتمعت حول أعناقنا
و السّماء لم تعد سماء
كيف أكتبُ للوطن
و قد صار شلاّلات بكاء؟
أين أهربُ معك
إذا الأرض أصبحت شقاء؟
أين أفرُّ بك و أنا فيك؟
لا تطلب منّي المستحيل
فأنا عاشقة لا تُجيدُ بين سلطة الأباطرة رثاء
فلا المساجد عادت مساجد
و لا الكنائس باتت تستقبل العذراء
لا تطلب منّي المستحيل
فما أنا بقيس
و لا عنترة
و لا أمير الشّعراء
حبّي لك لغة لا تعرفُ الإنتهاء
حبّي لك كون لا يعرفُ الفناء
أحبّك وطنا
أحبّك إدمانا
لا بسلطة قيصر و لا بقانون العرب
و لا بريشة الأدباء
أحبّك بالمستحيل و أرفضُ الطّاعة
أهوى السّفر في عيون من زجاج و ماء
و القانون يمنع الأحرف و الكلمة و الشّعراء
فالحبُّ في عصرنا مُحرّم
و الحبّ في عنتريّات الخطابة مُحرّم
و الحزنُ في عينيك مُحرّم
و حُبّي لك داءٌ مُحرّمٌ عليه الدّواء
فتعال معي بعيدا عن بلاغات الخُطباء


73
نوميديا جرّوفي، شاعرة،باحثة و ناقدة

رواية "باب اللّيل" للروائي "وحيد الطويلة "

رواية "باب الليل" محكمة البناء في السّرد و هي متصلةً و منفصلة في نفس الوقت.
اتّخذ الرّوائي "وحيد الطويلة" من تونس أرضًا لها ومن المقهى مسرحا و مجالا طبوغرافيًّا لمجرى أحداثها      و حكاياتها، فكلّ المناورات تحدث في المقهى، و ما يحدث هناك هو نبذة مصغّرة عمّا يحدث في العالم الخارجي حيث معظم الأفراد فيه يلهثون  وراء لذاتهم الجسدية و شهواتهم الغريزية فقط.
يتوه القارئ بين أبواب الرواية حيث تبدأ من ''باب الحمام''، و كلّ شيء يحدث في الحمام كما يقول الكاتب.
و يعتبر هذا المقهى الذي يسمّيه البعض فيهم ''لمّة الأحباب" نقطة جذب للمرتادين إليه، فيكشف أسرارهم وشخصياتهم ويحتضن آلامهم وأحلامهم ويغدو لهم المقر الدائم، كما يسحرهم ويغويهم باستمرار..                             
   و في نفس الوقت نرى أنّ تصميم المقهى بحدّ ذاته غرائبي و مصممه عشيق صاحبة المقهى.
فلكلّ زبون تاريخ من الهزائم في حياته. و المقهى يروّح عن الجميع ويكوّن جسرا للتواصل بينهم و في نفس الوقت هو مستنقع حيث تصطاد فيه بائعات الهوى الرجال و هنّ يتربّصن بكلّ شرقيّ و غربيّ بالتّودّد أولا فيكسبن منهم ثمّ يرحلن إلى آخرين في دورة لا تتوقّف أبدا و كأن الزمن في المقهى لا يتوقّف أبدا و الرّحلة لكسب المال لا تهدأ أبدا.. فالرجال والنساء فيه على حافة الهاوية والجنون رائدهم الذي يسيّرهم و الجشع للمال والجنس للابتعاد عن واقعهم فيكشفون عن زيف الواقع المرير في حياتهم الحقيقية.
نلتمس أيضا أنينا مكتوما من بعض جرحى الزمن بسبب الهجر والإهمال.
نلتقي ب "أبو شندي، "أبو جعفر"، "غسان"، "شادي"و بعض النساء أمثال: "لالّة درّة"، "نعيمة" و "حلومة" و هنّ قاتلات و قتيلات في نفس الوقت..
فنعيمة مثلا في الفصول الأولى نكتشف كيف غدرت بها أختها الصغرى و خانتها و سرقت منها خطيبها الإيطالي،    و من هناك بدأت تكره الرجال خاصة الأجانب، و منها بدأت تنتقم منهم فتنهب أموالهم و أجسادهم، و يوميا تبحث عن أجنبي جديد يدخل المقهى إلا مجيد اللبناني الذي سئمت منه و من ماله.
و الغريب في نعيمة أنها تهبط إلى المقهى كل يوم باستثناء يوم الجمعة حيث لا تقبل أن تضاجع أحداٍ ليلتها أو يومها، ولا توافق مهما تلقت من هواتف، لا تحب أن تكسر قدسية اليوم والليلة.
فهي ترى أن الجمعة، تنتشر فيه الملائكة بأعداد كثيفة.
كلّ شخصية في الرواية تناضل لاستمرارها في الحياة بطريقتها و الكلّ يخوض حرب الحياة. فشخصية " أبو شندي" على سبيل المثال تكشف المأساة الإنسانية والسياسية و هو أحد العناوين الكبير للثورة ، بعد أن كان واحدا من أبطالها وجد نفسه منفي عن العالم كأحد يتامى الثورة .
.للكاتب "وحيد الطويلة" تقنية سردية بديعة و رائعة و مختلفة خاصة عند بداية كل فصل الذي هو باب جديد
و وراء كل باب اكتشاف.



صفحات: [1]