عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - آمال عوّاد رضوان

صفحات: [1]
1


وَأَتَــدَثَّــرُ بِلَآلِئِ عَيْنيْــكِ الْبَحْرِيَّة



آمَال عَوَّاد رضْوَان


هذَا أَوَانِي الطَّافِحُ .. بِمَنَافِيكِ
يُــزَلْــزِلُــنِــي
أَشْبَاحُ هَــذَيَانِــي .. تُــطَـارِدُنِـي
وَصَهِيلُ وَجَــعَــكِ الْمُــزْمِنِ
 يَــــلْــــتَــــهِــــمُــــنِــي!

أَيَا الْغَرِيبَةُ الضَّالَّةُ .. فِي أُبَّــهَــةِ الْأَسْــرَارِ
هَائَــنَــذَا
ظِــلُّــكِ الْــمَــطْعُونُ بِصَـمْــتِــكِ
غَــ~ا~رِ~قٌ
فِي بَــ~حْـ~رِ الذِّكْـرَيَـاتِ!
وَبَيْنَ زُمُــرُّدِ الطَّـعْـنَـةِ .. وَمُـهْـرَةِ بَـرَاءَتِـي
أَبـْــجَــدِيَّـــةٌ.. تَــــتَــــضَــــرَّجُ
بِمَحَارِ ضَوْئِكِ.. وَبِمِلْحِ أَحْلَامِي!

أَيْنَكِ
فِي وَحْشَةِ الْغَابِ الْكَئِيبِ
تَتسَرْبَلِينَ الْبَرْدَ
وَبِاشْتِعَالِ الثَّلْجِ تَرْفُلِينْ؟

هَأَنَذَا الْمُــتَــلَــبِّــسُ
بِرَائِحَةِ شِــعْــرِكِ
أَتَــدَثَّــرُ .. بِلَآلِئِ عَيْنيْــكِ الْبَحْرِيَّةْ
أُعِدُّ لَكِ قَوَارِيرَ دَمْعِي .. تَعَاوِيذَ بَرَاءَةْ!
وَمِنْ نَاطِحَاتِ ثَرْثَرَتِي الْمُرَفَّــهَــةْ
وَحَتَّى أَقْصَايَ
أَتَدَلَّى
عَنَاقِيدَ حَنِينٍ مُعَتَّقٍ
مُنْذُ أَلْفَ رَقْصَةٍ .. وعَرِيشَةِ سَحَابْ!

هَأَنَذَا .. أَشُدُّ رِحَالَ مَزَامِيرِي
إِلَى امْبَرَاطُورِيَّةِ حَمَاقَاتِي
وَأَسْتَغْفِرُ مَمَالِكَ حَنَانِكِ!

أَيْنَكِ..
مِنْ كُهُوفِ شُرُودِي .. مِنْ قُصُورِ جِرَاحَاتِي
هَلَّا .. تَسْمَعِينَ خُطَى قَلْبِي الْحَزِينْ؟
هَلَّا تَضْفِرِينَ نُجُومَ عُمْرِي .. بِالْيَاسَمِينْ؟

أَيَا جِنِّيَّةَ الثَّلْجِ
لَكِ يَاقُوتُ دَمْعِي
 لَكِ مَاسُ قَلْبِي الْمُكَدَّسُ
رُحْمَاكِ
أَنَا الْغَرِيبُ الْمَجْهُولُ الْمُوَسْوَسُ
رُدِّي لِي
سَاحِرَتِي الصَّغِيرَةَ .. مَارُوشْكَا ..!




2
وَأَتَــدَثَّــرُ بِلَآلِئِ عَيْنيْــكِ الْبَحْرِيَّة
آمَال عَوَّاد رضْوَان

هذَا أَوَانِي الطَّافِحُ .. بِمَنَافِيكِ
يُــزَلْــزِلُــنِــي
أَشْبَاحُ هَــذَيَانِــي .. تُــطَـارِدُنِـي
وَصَهِيلُ وَجَــعَــكِ الْمُــزْمِنِ
 يَــــلْــــتَــــهِــــمُــــنِــي!

أَيَا الْغَرِيبَةُ الضَّالَّةُ .. فِي أُبَّــهَــةِ الْأَسْــرَارِ
هَائَــنَــذَا
ظِــلُّــكِ الْــمَــطْعُونُ بِصَـمْــتِــكِ
غَــ~ا~رِ~قٌ
فِي بَــ~حْـ~رِ الذِّكْـرَيَـاتِ!
وَبَيْنَ زُمُــرُّدِ الطَّـعْـنَـةِ .. وَمُـهْـرَةِ بَـرَاءَتِـي
أَبـْــجَــدِيَّـــةٌ.. تَــــتَــــضَــــرَّجُ
بِمَحَارِ ضَوْئِكِ.. وَبِمِلْحِ أَحْلَامِي!

أَيْنَكِ
فِي وَحْشَةِ الْغَابِ الْكَئِيبِ
تَتسَرْبَلِينَ الْبَرْدَ
وَبِاشْتِعَالِ الثَّلْجِ تَرْفُلِينْ؟

هَأَنَذَا الْمُــتَــلَــبِّــسُ
بِرَائِحَةِ شِــعْــرِكِ
أَتَــدَثَّــرُ .. بِلَآلِئِ عَيْنيْــكِ الْبَحْرِيَّةْ
أُعِدُّ لَكِ قَوَارِيرَ دَمْعِي .. تَعَاوِيذَ بَرَاءَةْ!
وَمِنْ نَاطِحَاتِ ثَرْثَرَتِي الْمُرَفَّــهَــةْ
وَحَتَّى أَقْصَايَ
أَتَدَلَّى
عَنَاقِيدَ حَنِينٍ مُعَتَّقٍ
مُنْذُ أَلْفَ رَقْصَةٍ .. وعَرِيشَةِ سَحَابْ!

هَأَنَذَا .. أَشُدُّ رِحَالَ مَزَامِيرِي
إِلَى امْبَرَاطُورِيَّةِ حَمَاقَاتِي
وَأَسْتَغْفِرُ مَمَالِكَ حَنَانِكِ!

أَيْنَكِ..
مِنْ كُهُوفِ شُرُودِي .. مِنْ قُصُورِ جِرَاحَاتِي
هَلَّا .. تَسْمَعِينَ خُطَى قَلْبِي الْحَزِينْ؟
هَلَّا تَضْفِرِينَ نُجُومَ عُمْرِي .. بِالْيَاسَمِينْ؟

أَيَا جِنِّيَّةَ الثَّلْجِ
لَكِ يَاقُوتُ دَمْعِي
 لَكِ مَاسُ قَلْبِي الْمُكَدَّسُ
رُحْمَاكِ
أَنَا الْغَرِيبُ الْمَجْهُولُ الْمُوَسْوَسُ
رُدِّي لِي
سَاحِرَتِي الصَّغِيرَةَ .. مَارُوشْكَا ..!




3
احتفاليّةُ  عشتار العربيَّة في عَبَلّين الجَليليّة!
آمال عوّاد رضوان
    النّادي النّسائيّ الأرثوذكسيّ في  عبلين الجليليّة استضاف النّادي النّسائيّ الشّفاعمريّ (فنجان قهوة)، وذلك بتاريخ 16/5/2023 في مقرّ النّادي في عمارة وقف الرّوم الأرثوذكس في عَبَلّين،  وكان لقاءً ثريًّا وشيّقًا حافلًا بالفرح والحبور،  أشبهَ بعُرس جليليّ، فحضرت النّسوةُ الشّفاعمريّاتُ بزفّةٍ ومهاهاة وغناء، وهبّت النّساء العبلينيّات لاستقبالهن العفويّ بالتّصفيق الحارّ والرّقص والتّرحيب والفرح والغناء، وقد هيّأن التّضييفات والحلويّات التّراثيّة بأشكالها، إكرامًا للضيوف.
    ووسط عدد كبير من النّسوة هلّ الإعلاميّ يوسف حيدر لتغطية الحدث، وليفاجئنا بطلّتهِ البهيّة الكاتب العَبلّيني زهير دعيم، وكلّنا نتأهّب  لاستقبال غاليتنا د. روزلاند دعيم ضيفة شرف هذا اللّقاء!
    ابتدأ اللّقاءَ بكلمة الأستاذ زهير دعيم التّرحيبيّة، وبارك هذه النّشاطات النسويّة الرّاقية، وهذا الاحتفاء الجميل ببعضهنّ بمَحبّة وفرح غير مشروطيْن، وأكّد على دعمه للمرأة ونشاطاتها المُشرّفة في المجتمع، وحضوره إكرامًا لابنه العمّ الكاتبة والباحثة د. روزلاند دعيم.
    ثمّ كانت كلمة تحيّة من النّادي النّسائيّ الشّفاعمري، ألقتها المسؤولة السّيّدة سعاد بحّوث، أشادت بأهمّية تبادل الزيارات والخبرات بين النّوادي النّسائيّة، لتحفيزها وتنشيطها بفعاليّات بنّاءة تدعم استمراريّتها. 
    أمّا مسؤولة النّادي النّسائي الأرثوذكسي عبلين آمال عوّاد رضوان، فقد رحّبت بجميع الضّيوف والحضور، وبضيفة الشرف د. روزلاند دعيم، وأضاءت بلمحة سريعة جوانب أساسيّة لكتابها عشتار العربية.
    وكانت مداخلةٌ ثريّة وسلِسة للكاتبة المربّية نرجس نشاشيبي حول  مضامين كتاب عشتار العربيّة،  والذي اعتبرته دليلًا سياحيًّا ثريًّا، شاملًا وحافلًا بالمعلومات الدّقيقة الوافية.
   أما د. روزلاند دعيم فقد تحدّثت عن الجهد والوقت الذي استغرقه الكتاب، والرّسالة الوطنيّة والإنسانيّة الّتي يحملها ويُوثّقها، وشكرت المنظّمين والحضور والمتحدّثين.
    أمّا  الفقرة الأخيرة وأثناء التّضييفات، فقد أثرتها الكاتبة والفنّانة نهاي بيم بصوتها العذب الرّنّان، فغنّت وأطربت وأشركت النّساء بالصّداح والغناء والرّقص، وتمّ التقاط الصّور التّذكاريّة، لأجمل نسوة  في أحلى لقاء!
        جاء في كلمة آمال عوّاد رضوان:
     عشْتَار الْعَرَبِيَّة رُؤْيَةٌ حَضَارِيَّةٌ وَدِينِيَّةٌ فِي الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِمِ للكاتبة د. رُوزْلَانْد كَرِيم دَعِيم، صدر عن دار الوسط اليوم للإعلام والنّشر رام اللّه في طبعتيه: الأولى عام 2020 والطبعة الثانية 2022، وقد صمّم الغلاف الفنّان رمزي الطّويل.
   لقد أهدت كتابها إلى والدتها تريز النابِلسي أمد الله بعمرها، وإلى روح والدها كريم الدَّعيم طيب الله ثراه، وإلى أبناء أسرتها نبع المحبة والعطاء والدعم، وإلى أبناء مدينتها الجميلة "حيفا"التي يتنازع عليها الكرمل بشموخه والمتوسط بأمواجه، وإلى أبناء موطنها عمومًا في البلاد والشتات.
    كما تقدّمت بالشّكر الجزيل لكلّ من أسهمَ بإخراج  كتابها هذا  إلى النّور: د. زاهي سلامة، د. رنا صبح، الأستاذة نادرة يونس على دعمهم وتشجعيهم وحثّهم اليوميّ على القراءة والملاحظات والتّدقيق اللّغويّ، وشكرت البروفسور علي صغيّر على قراءة فصل الموحّدين الدّروز، وإبداء الملاحظات والاقتراحات. وشكرت الأستاذة مرلين دعيم عيساوي على ترجمة المقدّمة باللغة الإنجليزيّة، والأستاذة الشاعرة آمال عوّاد رضوان على مرافقتها منذ البداية، ومتابعة الطباعة والتّدقيق والنّشر. كما شكرت دار الوسط للنشر والإعلام متمثلًا برئيسه ومديره الكاتب والإعلامي الأستاذ جميل حامد،  على التّعامل المهنيّ خلال المراحل المختلفة لإصدار الكتاب.
  كتاب "عِشتار العربية؛ رؤيةٌ حضاريّةٌ ودينيّةٌ في الأعياد والمواسم"، هو عملٌ توثيقيٌّ لذاكرةٍ حيّة في الأراضي المقدّسة الّتي عرفت دياناتٍ نشأت فيها أو قدِمَتْ لاحقًا، لتُشكِّلَ نسيجًا حضاريًّا إنسانيًّا كونيًّا، وفقَ تطوُّراتٍ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ، وضمنَ مُتغيّراتٍ حضاريّةٍ وسياسيّة، أثّرتْ في الفِكر الإنسانيّ، وفي الحضارةِ التّراكُميّةِ الثّابتةِ والمُتجدّدة، بفعلِ وتداخُلِ وتَلاقُحِ الحضاراتِ الحديثةِ والقديمة: الكنعانيّة، البابليّة، الفينيقيّة، الفِرعَونيّة، الآشوريّة، الأكّاديّة، الأمازيغيّة، الإغريقيّة وغيرها...
    كتاب "عِشتار العربية؛ هو حصيلةُ تجربةٍ ميدانيّةٍ وأكاديميّةٍ، بمنهجيّةٍ تحتاج إلى بحثٍ ومَصادرَ ومقارَنة، وإلى تحقيقٍ وتدقيق، يبحث في التّشابهِ الكبير في ممارسات واحتفالات الشّعوب، ويبحثُ عن المشترَك الإنسانيّ والحضاريّ في دورة حياة البَشر، فيما يتعلَّق بالجوانب الاجتماعيّة، الأخلاقيّة، التّربويّة والإنسانيّة، من خلال أعيادٍ دينيّة تتضمّنُ عاداتٍ وفولكلورًا وأدبًا شعبيًّا لمجتمعٍ تَعَدُّدِيٍّ، ولحضارةٍ قائمةٍ لها جُذورها الرّاسخة، أعياد تُعزِّز الانتماء، وتُسهمُ في صقلِ وبلورةِ هُويّةِ الفردِ والمجتمعاتِ المتعدّدة دينيًّا، قوميًّا، وطنيًّا، حضاريًّا وإنسانيًّا، وترفعُ الوعيَ لدى الفرد في الانكشافِ السّليم على الآخر مِنَ الفئاتِ الدّينيّةِ المختلفة، ليفهمَها ويتقبّلَها، وليتعايشَ معها باحترامٍ مُتبادَلٍ دونَ هيمنةٍ أو تَسيُّدٍ أو تَجَبُّر.
     د. روزلاند دعيم تناولت في الفصل الأوّل احتفالاتِ وطقوسَ الأعياد المسيحيّةِ الدّينيّةِ والشّعبيّةِ تاريخيًّا، اجتماعيًّا وتراثيًّا بين الماضي والحاضر، وتناولتْ تجلّياتِ الزّمان والمكان لكلٍّ منها مع الإنسانِ والبيئةِ والعالم: الميلاد المجيد، الغطاس، الفصح المجيد، القديس فالنتاين، القدّيسة بربارة، القدّيس مارجريس الخضر، رفع الصّليب، تطواف سيّدة الكرمل، تحدّثت عن الرموز، الصّلوات، العادات، الأمثال والقصص الشّعبيّة، المأكولات والحلويات المرتبطة بكلّ عيد والمُرافِقة للاحتفالات.
   في الفصل الثاني تناولتْ أعيادَ ومناسباتِ المسلمين بين الجانب الدّينيّ والجانب الحضاريّ، كمفهومٍ وتقاليدٍ وثقافة: رأس السّنة الهجريّة وسيرورة التّقويم الهجريّ، ذكرى المولد النّبويّ الشّريف، ذكرى الإسراء والمعراج، الصّوم ولمحات وصلوات رمضانيّة، الحجّ إلى الدّيار الحجازيّة بين الفترة التّكوينيّة والفترة الافتراضيّة.
   وفي الفصل الثالث  تناولتْ أعيادَ ومناسباتِ الموحِّدين الدّروز باحتفالاتٍ دينيّةٍ وشعبيّة، تتضمّن آداب، تقاليد، قصص ومعجزات، وأهداف الزّيارة للمقامات والطقوس الدّينيّة في الجليل والجولان، وزيارة سيدنا الخضر مخترق الزمان وعابر الأديان،   وزيارة مقام النّبيّ شعيب في حطين، وكرامات النّبيّ سبلان.
    جاء في مداخلة المربّية نرجس نشاشيبي:
    ها نحن الآن مع عصفورتنا الغرّيدة (د. روزلاند دعيم) في بيت لحم، نشهد معها ميلاد السّيّد المسيح، وبحسب الأناجيل الأربعة: متّى، مرقس، لوقا ويوحنّا، فإنّه ميلاد معجزة من غير أب، حلّ الرّوح القُدُس على مريم العذراء، فحبلتْ بطفل المغارة، وكانت ولادتُه عظيمة، وبدايةَ السّنة الميلاديّة والتّقويم الميلاديّ في عيد الميلاد المجيد
   ثمّ تستمرّ العصفورة الغرّيدة في رحلتها الطيّبة لنهر الأردن وعيد الغطاس، واعتماد السّيّد المسيح على يد القدّيس يوحنّا المعمدان وقوله:"أنا أُعمّدكم بالماء، وأمّا هو فسيُعمّدكم بالرّوح القُدُس".
    وفي مدينة القدس أوروشليم تصل العصفورة الغرّيدة، وأجنحتها تُصفّقُ فرحًا بعيد القيامة؛ قيامة السّيّد المسيح من بين الأموات، بعد رحلة العشاء الأخير، وإلقاء القبض عليه، ومحاكمته وموته على الصّليب.
    وتتابع العصفورة رحلة الحجّ لتصل إلى حيفا عروس البحر، تلك المدينة الجميلة حيث تنضمّ إلى موكبٍ يطوف خلاله المسيحيّون، ضمن احتفال الرهبنة الكرمليّة بمسيرة طلعة العذراء في شارع ستيلا مارس صعودًا إلى الدّير، وبحسب الرّواية هي زيارة السّيّدة العذراء لمغارة إيليّا النّبيّ، وهنالك روايات، وهذا الاحتفال هو عيد طلعة العذراء، أو عيد تطواف سيّدة الكرمل!
    وتأبى عصفورتنا الغرّيدة إلّا أن تُخلّدَ ذكرى إيجاد صليب السّيّد المسيح، مِن قِبل الإمبراطورة هيلانة القسطنطينيّة، ليتمّ الاحتفالُ بعيد الصّليبّ
     طويلة رحلة العصفورة وتطوافها، لكنّها تعمل جاهدةً للوقوف على نوافذ مواسم شعبنا الاحتفاليّة الدّينيّة وأعيادها، فتُطلُّ علينا بالاحتفال بالسّنة الهجريّة عند المسلمين، بموسم رأس السّنة وموسم أوّل العام الهجريّ، ومسوم عاشوراء لتأتي أيضًا لتعيد مع إخوتنا المسلمين العيديْن الكبيريْن: عيد الفطر وعيد الأضحى المبارَكيْن!.
   عصفورتنا لا تنسى أصدقاءَها المُوحِّدين الّذين يُفضّلون هذه التّسمية على تسمية الدّروز، فتلتقي معهم في مقام النّبيّ شعيب في عيده المقدّس، وتحوم فوق مقام النّبيّ سبلان، ومقام النّبيّ الخضر، ومقام النّبيّ اليعفوري، وكل مناسبة بتاريخها المحدّد، فتكون هناك زيارات سنويّة بمناسبة احتفال الدّروز بأعيادهم، وتقوم هناك صلواتٌ جماعيّة وإيفاء نذور في مقاماتهم.
    عصفورتنا تعيش السّنة كلَّها مُحتفلةً بأعياد ومواسمَ تُفرحُ النّفس وتُقرّبها إلى سماء إلهيّة، فتنعم بالسّلام والطمانينة، تلك السّنة زاخرةٌ بالتّحليق في ربوع أرضنا، مُهنِّئةً إيّاها معظم بالأعياد والمواسم الدّينيّة الحبيبة على قلوب الجميع. هي في الحقيقة رحلةُ تطواف بين المناسبات الجميلة، حضاريّة، دينيّة وثقافيّة، تأخذنا بها المؤلفة في زيارة لأرض الحضارات، لننهل من ينابيعها.
   معلوماتٌ وخلفيّات عقائديّة شيّقة تجمعُ الدّياناتِ الثلاث على أرضٍ واحدة، وتحثُّهم على التّمسُّك بها والعيش بسلام تحت شعار الإنسانيّة، واحترامها وتقبُّلها بمختلف أشيائها وشرائحها، إذ تعتبر المناسبات والأعياد الدّينيّة جانبًا حضاريًّا من ثقافات الشّعوب.
   لذلك، أنا أرى أنّ هذا الكتاب هو تأكيدٌ هامٌّ لجذور تلك الحضارات، وارتباطها بحياة الإنسان الفلسطينيّ وممارساته العقائديّة الّتي يقوم بها حتّى يومنا هذا، فتلك المعلومات القيّمة في هذا المرجع تُذكّر القارئ بأهمية ارتباط مواسمه وأعياده الاحتفاليّة بأرضه ووطنه، قارئ اليوم وقارئ المستقبل من أبناءٍ وأحفاد وقادمين من بعدنا إلى هذه الحياة، وتؤكّد هذه الأعياد ورموزها على هُويّة الإنسان الفلسطينيّ، وعلى انتمائه لأرضه وآثارها ومَعالمِها.
    هذا الكتاب عشتار العربية للمؤلفة د. روزلاند دعيم هو إنتاج جميل جدّا في إخراجه ومَضامينه، قيّمٌ مفيدٌ ومرجعٌ مُهمٌّ لكلّ مُحِبٍّ لهذه الأرض، سلِسٌ ولا مَللَ في قراءتِهِ أو التّنقُّل بين أروقته، حتّى إن لم يكن روايةً للاستمتاع، لكن يكفي أن يكون روايةَ شعب، وسببًا في بقائه وصموده.
    لقد سعدتُ في قراءة هذا المؤلف، وأحيانًا كثيرة أعود لقراءة بعضًا من صفحاته من جديد، لأتذكّر بعض ما ورد فيها، كي أُرسّخَها في ذهني فتبقى لي وطنا يسكن فيّ.
    أوردت المؤلفة معلوماتٍ كثيرةً بتفاصيلَ سهلةٍ واضحةٍ ومفهومة، وبموضوعيّةٍ وحياديّة، وهذا ما منح الكتابَ مصداقيّةً وثائقيّة لا جدال فيها، وفي هذا الصّدد وجدتُ نفسي مُتعلّقة بالكتاب وبما وردَ فيه من إضاءة على جزءٍ كبير من ثقافتنا، وحضارتنا الّتي لا تغيب، فهي حاضرة في التّاريخ وما قبل التّاريخ الميلاديّ!
    كون المؤلفة اهتمّت في خوض غمار الرّؤية الدّينيّة والحضارة والمواسم والأعياد، كلُّ هذا كافٍ ليدلَّ على مدى ارتباطها وانتمائها لشعبها، ولأرضها الكنعانيّة الّتي تدمج في ثناياها حضاراتٍ قديمةً سابقة: البابليّة والفينيقيّة والفرعونيّة والخ..
    هذا الكتاب هو مرجعٌ لكثير من المواقع التّاريخيّة والمزارات السّياحيّة الدّينيّة الّتي يزورها الكثير من النّاس والحجّاج والسّوّاح، يمكنهم اعتماده مرجعًا وشاهدًا صادقًا لحضارة ذلك المزار الّذي ينزلون فيه، فيُذكّرهم بأنهم ليسوا موجودين هنا بأجسادهم فقط، ولكن بقلوبهم وأرواحهم، وأنّه لا زال لنا ارتباط متجذر بأصولنا وبأرضنا عقائديًّا وتاريخيًّا.
    الكتاب يحمل رسالةَ مَحبّة، لكلّ مَن يفكّر أن يزرع بذورَ شقاق بين الفئات العقائديّة المختلفة، ليقول له: "لن تنجح"، فنحن بالمحبّة والوفاق نحيا.. سماؤُنا واحدة وأرضنا واحدة.. هواؤُنا واحدٌ وانتماؤنا واحد.. ومن لا دينَ له، فلا يزوره فرحٌ، ولا يسكن في قلبه سلام، ولا يحلُّ في نفسه رجاء!

4
أَإِلَى رَمْسِهَا .. زُفَّتْ سَمِيرَامِيسْ؟
آمال عوّاد رضوان

سُيُولٌ عَارِمَةٌ
تَـــنْـــسَـــابُ .. تَــتَـــدَفَّـــقُ
مِنْ مَنَابِعِكَ فُرَاتُ
وَهَا نَهْرُكَ .. يَفِيضُ بِسَمَكَتَيْنِ
تَدْفَعَانِ إِلَى ضِفَّتِكْ
بَيْضَةً تَطْفُو!
قَالَتْ:
يَا الْحَمَائِمُ الزَّاجِلَةْ
اِهْبِطِي .. مِنْ عَلْيَائِكِ
اِحْتَضِنِي .. بَيْضَةً مُشَرَّدَةْ
بَعِيـــــــــــــــــــــــــــدًا بعيـــــــــــــــــــــــــــــــدًا
عَنْ مَجْرَى الدَّمِ
وَارْقُـــــــدِي عَــــــلَـــــيْـــــهَــــا
لِـــتَــــفْـــــــــــــــــقِـــــــــــــــــــــسَ سَـــــــــــــــــــــــلَامَـــــــــــــــــا..!
قَالَ:
وَكُنْتِ .. طِفْلَةً مُشْرِقَةً
يَمْرَحُ الْبَدْرُ فِي مُحَيَّاهَا
بِعَيْنَيْنِ تَسْكُنُهُمَا الشَّمْسُ
تَفِيضَانِ مَجْدًا وَنُورَا
بِشَفَتَيْن نَدِيَّتَيْنِ
كَتُحْفَةٍ قُرْمُزِيَّةٍ .. تُشِعَّانِ حُبُورَا
وَكَحَمَامِ الْأَيْكِ .. أَسْرَابُها تُطَوِّقُكِ
بِــأَجْــــنِـــــحَــــتِـــــهَــــــا تَــــحُــــــفُّـــــــــــكِ
وَلَا تَـــــبْـــــرَحُـــــكِ
أَتَرُدُّ عَنْكِ حَرَّ النَّهَارِ
وبَرْدَ اللَّيْلِ؟
أَتَـــــغْـــــــبِــــــطُــــــكِ؟
قَالَتْ:
ها أَنَا ذي
تَحْتَ ظِلِّ اللهِ وَعَرْشِهْ
فِي خِيَامِ اللُّؤْلُؤِ .. تَحُطُّ الْحَمَائِمْ
بِمَنَاقِيرِهَا .. تَحْمِلُ قُوتِي
مِنْ جُبْنٍ .. وَحَلِيبِ رُعَاةْ!
لكِنْ رَاعَهُ الْحَالُ..
فَمَا لِلْجُبْنِ مَنْقُورٌ؟
وَمَا لِلْحَلِيبِ مَنْقُوصٌ؟
فَلْأتَتَبَّعِ الْحَمَائِمَ الْبِيضَ
وَلْأَبِعْ أُسْطُورَةَ الْجَمَالْ .. فِي مَوْسِمِ الزَّوَاجْ!
وَاسْتَنْجَدَتْ:
أَتُرَاها الْحَمَامَةُ سَمِيرَامِيس
فِي سُوق نينوى تَمِيسُ!؟
أَطِفْلَةٌ مُطَهَّمَةٌ .. يَنْتَقِيهَا شَابٌّ خلِيلَةْ؟
أَكَهْلٌ يَرْعَى وَرْدِيَّةَ الْخُدُودِ.. لِابْنِهِ حَلِيلَةْ؟
مَنْ يُسَاوِمُ عَلَى ثَمَنِي؟
مَنْ يُغَالِي عَلَى شَرَفِي؟
قَالَ:
هَا الْعَقِيم سِيمَا؛ نَاظِرُ مَرَابِطِ خُيُولِ الْمَلِكِ
يَتَنَهَّدُ الْفَرَجُ لَهُ .. أَيُفْرِحُ بِكِ زَوْجَهْ!؟
وَبِرَهَافَةِ دُورِيٍّ .. تَكْبُرُ الطُّفُولَةُ مَعَكِ وَبِكِ
وَفِي مُحَيَّاكِ يَفُوحَ الْفَرَحُ
كَمُهْرَةٍ .. تَسْتَدِيرُ بِكِ الْبَرَاءَةُ
نَضِرَةً .. شَهِيَّةً .. تَنْسَابُ أُنُوثَتُكِ
شَفَّافَةً .. غَامِضَةً .. لَيِّنَةً عَصِيَّةً
كَأَجْمَلِ مَا تَكُونُهُ الْحُورِيَّاتْ!
أَنَّى لِمُسْتَشَارِ الْمَلِكِ أُونُسْ
لَا يَصْعَقُهُ جَمَالُكِ؟
قَالَتْ:
وَاتَّــــكَــــــأْنَـــــا عَلَى زَفَافٍ
خَصْبِ السَّعَادَةْ
نَـمْـتَـشِـقُ الْفَرَحَ بِطِفْلَيْنِ؛
"هِيفَاتَة" وَ "هِيدَاسْغَة"
صَرَخَ:
لكِنَّ مَلِكَ نِينَوَى .. يَأْبَى إِلَّا
أَنْ يَقْتَطِفَ مِفْتَاحَ الْكَنْزِ
فِي بِلَادِ الْوَغَى .. مَا بَيْنَ النَّهْرَيْنِ!
وَاقْتَرَحَتْ:
أَبِكْتْرَا صَامِدَةٌ .. عَصِيَّةُ الاسْتِيلَاءْ؟!
إِنْ تُرْسِلْ جُنْدًا إلى
شَاهِقٍ دُونَ السَّمَاءْ
وَتَــــ~لْـــ~تَـــــ~فَّ
حَـــــــــــــــــــــــــــوْلَ
خَاصِرَةِ الْعَدُوِّ الْمُدَافِعْ
تَغْدُ بِكْتْرَا
تَحْتَ رَايَةِ مَجْدِكَ الْبَيْضَاءِ
فَلَا تَتَحَدَّرُ قُلُوبٌ
وَلَا تَفِيضُ مَدَامِعْ!
صَاحَ مُحذِّرَا:
هَا الْمَلِكُ نِينُوسْ
يَتَسَلَّقُ حِبَالَ الْهَوَا
وَقَدْ خَلَبْتِ لُبَّهُ
أَقَـــلْــــبُــــهُ الْــــجَـــــرِيــــحُ
يَــــسْــــتَـــــسْــــلِــــــمُ لِــــلْـــــهَــــوَى؟
قال:
أَيَا أُسْطُورَةَ الْحِكْمَةِ .. وَالْجَمَالِ الْفَتَّانِ
بِمُحَيَّاكِ الْمُشْرِقِ الْبَاشِّ
تُــسْـــحِـــرِيــــنَـــنِــــي
برُمُوشِكِ الْكَثِيفَةِ
تَـــرْمِــــيــــنَـــــنِــــي .. وَتَـــأْسُــــرِيـــــنَـــــنِــــــي
غَدَوْتُ فِي صَبْوَةٍ
وَأَنْتِ تَــــرْتَـــــعِـــــيــــنَ .. بَيْنَ خِلْبِي وَكَبِدِي
أَتَكُونِينَ لِي زَوْجَةً؟
أَتَكُونِينَ لِي مَلِكَةً .. لَا سَحَابًا خُلَّبَا؟
أَيَا أُونُس .. لَكَ فِلْذَاتُ كَبِدِكْ
وَلِــــــي .. قَــــــــرِيـــــــنَــــــتُــــكْ
فَلَا أَقْلَعُ عَيْنَيْكْ!
قَالَتْ:
إِلَى عَرْشِ مَمْلَكَةِ نِينَوَى
بِلَادُ الرَّافِدَيْنِ .. زَفَّتْ سَمِيرَامِيسْ
وَإِلَى الرَّمْسِ
نَعَفَتْ أونُس الْمُنْتَحِرْ!
أَمَا رَمَسَتِ الرِّيَاحُ الْأَثَرْ!؟

مِن كِتَاب الرّسّائِلِ (أَتُخَلِّدُني نَوَارِسُ دَهْشَتِك)، عام 2018، وهيب وهبة وآمال عوّاد رضوان، يليها ردٌّ قادم!
Amaalawwaadradwaan@gmail.com


5
حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟

 آمال عوّاد رضوان

      مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، اقْتَحَمَتْ سُكَونَهَا، جَرَفَتْ خَيَالَهَا إِلَى الْبَعِيدِ، وَ..
       كَرَّتْ خَرَزَاتُ الْأَيَّامِ وَالْأَعْوَامِ السَّالِفَةِ، وَحَامَتِ الْأَفْكَارُ فِي سِنِيهَا الْخَوَالِي الْجَمِيلَةِ الْمَا تَلَاشَتْ، تُفْضِي بِهَا إِلَى جِرَارِ طُفُولَتِهَا الْتَلَذُّ لِرُوحِهَا، وَتُسْعِدُ قَلْبَهَا.
       وَمَا لَبِثَتْ حَنَان تَلْهَجُ بِمَآثِرِهَا الْحَمِيدَةِ، بِحَنِينِ طِفْلَةٍ تَفَرَّدَتْ بِمَحَبَّةِ الْأُسْرَةِ، وَبِمَوَاهِبَ وَمَزَايَا عَالِيَةٍ..
        جَعَلَتْ تَفْتَحُ بِأَصَابِعِهَا الطُّفُولِيَّةِ جُعْبَتَهَا الْحَافِلَةَ بِالذِّكْرَيَاتِ، وَمَا أَعْيَتْهَا ذَاكِرَتُهَا الشَّمْعِيَّةُ الرَّهِيفَةُ..
        أَخَذَتْ تَسْبُرُهَا بِعَشْوَائِيَّةٍ، تُقَلِّبُهَا، تَنْقُشُ أَحْدَاثَهَا الْمَا عَرَفَتْ لِينَ الْعَيْشِ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا، لكِنَّ وَالِدَهَا كَانَ عَطُوفًا، يَرِقُّ لَهَا، يُغْضِرُ عَلَيْهَا حَنَانَهُ وَيُغْدِقُهُ..
    وَبِكُلِّ أَسًى..
     أَلْفَتْ نَفْسَهَا عَاجِزَةً عَنْ مُغَالَبَةِ حُلُمِهَا فِي الثَّرَاءِ..
      كَمْ كَانَ يَحْدُوهَا الْأَمَلُ وَالرَّجَاءُ..
       كَمْ كَانَتْ تُمَنِّي نَفَسَهَا بِالْفَوْزِ وَلَوْ بِبَعْضِ قُرُوشٍ.. وَكَم وَكَم..
    ويَهُزُّهَا صَوْتُ أُمِّهَا مِنَ الْمَاضِي السَّحِيقِ الْبَعِيدِ يُغَنِّي الدّلْعُونَا:
الشّايب ما ألوشُه الشّايب ما ألـــــــوشُه
لــــو حطــّـــــــــولي الدّهب مَـــــــــلاة طربـــــوشُـــــــه
يـــلــــــــــعــن الشــــّــــايب ويلــــــــعـــــــــــــــــن قروشُـــــــــــــــه
شـــــــــــــــوفــــــة حبــــــيــــــــــبي تســــــوى مليـــــــــــــونـــــا
     لكِنَّ حَنَان عَنِيدَةٌ، لَمْ تَنْطَوِ عَلَى أَحْلَامِهَا الْغَافِيَةِ، وَلَمْ يَكُفَّ رَجَاؤُهَا، فَهَل تَعْجَزُ عَنْ كَسْبِ بَعْضَ قُرُوشٍ تَلْمَعُ، وَهِيَ ذَاتُ بَدِيهَةٍ حَاضِرَةٍ وَسَرِيعَةٍ؟
      فَجْأَةً انْدَاحَتْ فِي خَاطِرِهَا فِكْرَةٌ طَارِئَةٌ، فَانْفَرَجَتْ أَسَارِيرُهَا، وَهَتَفَتْ فِي نَفْسِهَا:
-   "نَعَم هُوَ..  هُوَ وَلَا غَيْرُهُ.. إِنَّهُ كَامِلُ الْأَهْلِيَّةِ..
نَعَم.. هُوَ.. بِقَوَامِهِ الرَّشِيقِ.. بِثِيَابِهِ الْأَنِيقَةِ..
بِوَجْهِهِ الْوَسِيمِ الْمُشْرِقِ، يَتَأَلَّقُ بِشْرًا، وَيَفِيضُ حَيَوِيَّةً..
هُوَ .. بِابْتِسَامَتِهِ الرَّقِيقَةِ الْجَذَّابَةِ الْتَتَلَاعَبُ عَلَى شَفَتَيْهِ..
فَرْخُ شَابٍّ هُوَ، يَبْحَثُ عَنْ رِيشٍ، حُلْوُ الْحَدِيثِ وَالتَّغْرِيدِ..
نَعَم.. هُوَ .. وَقَد دَخَلَ فِي فُرْنِ الْمُرَاهَقَةِ..
 يَااااه.. كَمْ يَرُوقُ لِي.."
      وَباكِرًا جِدًّا فِي سَاعَاتِ السَّحَرِ وَالْفَجْرِ، يَرْكَبُ أَشْرَف بَحْرَ عَكَّا مَعَ الصَّيَّادِينَ، يُجَدِّفُونَ بِالْقَوَارِبِ، يُلْقُونَ الشِّبَاكَ فِي أَعْمَاقِ الْبَحْرِ، يُلَازِمُهُمُ الْحَظُّ الْغَائِم، وَفَوْقَ الْأَزْرَقِ الْمُمْتَدِّ يَنْتَظِرُونَ الرِّزَقَ الْعَائِم، يَسْحَبُونَ الشِّبَاكَ، يَجْمَعُونَ مَا يُصِيبُونَهُ مِنْ صَيْدٍ، يَشُقُّونَ بُطُونَ الْأَسْمَاكِ، وَيَضَعُونَهَا فَوْقَ أَلْوَاحٍ خَشَبِيَّةٍ، مِنْ تَحْتِهَا قَوَالِبُ ثَلْجِيَّةٍ.. وَ...
        فِي الْبَحْرِ يَتَزَيَّا أَشْرَف بِزِيٍّ بَحْرِيٍّ وَمَلَابِسَ فَضْفَاضَة، تُعِينُهُ لِيَكْسِبَ مِنْ نِعَمِ اللهِ الْفَضْفَاضَة، وَقَدْ بَانَتْ عَلَيْهِ النِّعْمَةُ. وَيَعُودُ إِلَى الْبَيْتِ، يَحْمِلُ لِأُمِّهِ سَمَكًا، وَالْحَمَّامُ السَّاخِنُ يَنْتَظِرُهُ، فَيَغْتَسِلُ.. يَسْتَحِمُّ، وَيَرْتَدِي ثِيَابًا أَنِيقَةً وَيَتَعَطَّرُ..
   قَالَتْ حَنَان فِي نَفْسِهَا:
-   "أَنَا لَا أُرِيدُ سِوى نُقْطَةٍ مِنْ بَحْرٍ..
للهِ دَرّكَ يَا بَحُرُ، وَمَا أَطْلَعَ مِنْ خَيْرِكَ وَكُنُوزِكَ."
    جَلَسَ أَشْرَف فِي الشُّرْفَةِ الْمُطِلَّةِ عَلَى بَحْرِ عَكَّا، وَطَفِقَ كَعَاشِقٍ سَاهِمًا سَارِحًا، يُصْغِي إِلَى ثَرْثَرَةِ الْأَمْوَاجِ، يُحَدِّقُ بِهَا تَتَدَحْرَجُ، تَتَضَاحَكُ، مَدُّهَا يُرَاقِصُ جَزْرَهَا، وَالرِّيَاحُ تُلَاعِبُهُمَا لَعْبَةَ الْقِطِّ وَالْفَأْرِ..
      تَوَارَتْ حَنَان عَنْهُ، وَانْزَوَتْ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهُ، تُرَاقِبُهُ، وَتُنْصِتُ إِلَى حَفِيفِ صَمْتِهِ..
           فَكَّرَتْ وَفَكَّرَتْ:
         "كَيْفَ يُمْكِنُهَا أَنْ تَرْشِيه، وَ(الْعِين بَصِيرَة، وَالإيد قَصِيرة)"؟
        فَجْأَةً، غَاصَ أَشْرَف فِي صَوْتِهِ يُدَنْدِنُ، فَرَقَصَ قَلْبُهَا هَامِسًا:
-   اجت والله جابها..
         نَعَم، أَتَتْ وَمِنْ حَيْثُ لَا تَدْرِي.. وَاتَتْهَا الْفُرْصَةُ عَلَى رِجْلَيْهَا، فَاغْتَنَمَتْهَا عَلَى عَجَلٍ وَمَجَّانًا..
       جَلَسَتْ بِقُرْبِهِ فَرِحَةً، تُشَارِكُهُ هَدِيرَ الْبَحْرِ فِي انْسِجَامٍ وَتَنَاغُمٍ، وَتُضْفِي عَلَى صَوْتِهِ الْعَذْبِ جَلَالًا:
هَدِّي يَا بَحر هَدِّي/ طَـــــــــــوَّلْـــــــــــنـــــــا فـــي غــــيــــــــــبــــــــــــتـــــــــنا
ودّي سلامــــــــي ودّي/  للأرض اللّـــــــــــــــــــي ربــّـــــــــتـْــــــــــــــنـــــــــــــــا
سلّم لي على الزيتونِة/ وع أهــــــــــلــــــي اللّــي ربّـــــــــونـــــــي
وْبَعْدْا إِمّي الحنونِة/ بتـْــشَمْــــــــــشم بـــــــــــمْــــخـــــدِّتْــــــنا
سلِّمْ سلِّمْ عَ بلادي/ تــربـــــة بَــــــــــيــــــّــــي وأجـــــْــــــــدادي
وبَعْدو العصفور الشّادي/  بِغَـــــرّد لعَوْدِتْــــــــــــــــــــنا
خُدي سلامي يا نْجوم/  على البيـــادر والكروم
وْبَعْدا الفراشه بِتْحُوم/  عمْ تِستنْظِر عَوْدِتْنا
    ثُمَّ سَأَلَتْهُ بِتَهَيُّبٍ وَتَوَدُّدٍ ذَكِيٍّ:
-   "هَلْ يُغَطِّي الزَّمَّارُ الْمَلْهُوفُ ذَقْنَهُ، حِينَ يَتَكَسَّبَ الْمَالَ"؟
    أَجَابَ ضَاحِكًا مُسْتَهْجِنًا:
-   طَبْعًا لَا يَجُوزُ.

-   أَشْرَف، حِذَاؤُكَ جَمِيلٌ، وَأَرْغَبُ فِي تَلْمِيعِهِ..
                هَل تَسْمَحُ لِي؟

  أَجَابَهَا بِسُرُورٍ دُونَ تَرَدُّدٍ:
-   يُسْعِدُنِي.. لَيْتَكِ تَفْعَلِينَ..

-   وَكَمْ تُعْطِينِي؟

   فَاجَأَهُ سُؤَالُهَا الْمُبَاغِتُ، فَكَّرَ بِتَأَنٍّ، وَابْتَغَى أَنْ يُدْخِلَ السُّرُورَ إِلَى قَلْبِهَا، ثُمَّ قَالَ بِنَبْرَةِ رَجُلٍ وَاثِقَةٍ:
-   أُعْطِيكِ مَا فِي جَيْبِي مِنْ عِمْلَةٍ مَعْدَنِيَّةٍ (فْرَاطَة)..

-   وَهَلْ تَبِرُّ بِوَعْدِكَ؟

-   أَكِيد.. وَدُونَ شَكٍّ..
  انْفَرَجَتْ أَسَارِيرُ حَنَان، وَتَوَهَّجَ قَلْبُهَا الْمَحْرُومُ غِبْطَةً، بَعْدَ فَتْرَةِ حِرْمَانٍ وَفَقْرٍ وَفَاقَةٍ..
    انْتَعَشَ أَمَلُهَا الْمَقْرُورُ مُسْتَدْفِئًا وَغَنَّى، إِذْ هَبَطَتْ عَلَيْهِ ثَرْوَةٌ، تُعَمِّرُ مِنْ لَحْظَاتِ طُفُولَتِهَا الشَّقِيَّةِ قَصْرًا وَدُمًى وَحَلْوًى.
 تَرَنَّحَ الْفَرَحُ بَيْنَ جَوَانِحِهَا وَفِي جُيُوبِهَا الْفَارِغَةِ، فَبَدَتْ أَكْثَرَ انْشِرَاحًا، غَدَتْ مَسْحُورَةً تَتَدَفَّقُ حَرَارَةً، تَرْكُضُ، تُهَرْوِلُ،  كَفَرَاشَةٍ تَطِيرُ، تُحْضِرُ عُلْبَةَ الدِّهَانِ (الْكِيوِي) وَالْفُرْشَاةِ..
     تَرَبَّعَتْ عَلَى الْأَرْضِ تَحْتَضِنُ الْحِذَاءَ، تَدْهَنُهُ بِلَهْفَةٍ ، تَدْعَكُهُ بِحَنَانٍ، تُلَمِّعُهُ بِخِرْقَةِ قِمَاشٍ قُطْنِيَّةٍ، وَيَفُوحُ صَوْتُهَا يُغَرِّدُ بَعْدَ دَقَائِق:
-   حِذَاؤُكَ صَارَ يَبْرُقُ بَرْقًا.. يَلْمَعُ لَمَعَانًا..  صَارَ يَلِضُّ لَضًّا..
يُمَازِحُهَا أَشرَف مُدَاعِبًا:
-   تمَاري فِيهِ، وَإِذَا شُفْتِ صُورتك أَدْفَع لَك..
       ثُمَّ يُكَافِئُهَا باشًّا مُلَاطِفًا، وَيَضَعُ فِي كَفِّهَا حَفْنَةً مِنَ الْقُرُوشِ وَالتَّعَارِيفِ وَالشُّلُونِ، فَتَطِيبُ نَفْسُهَا بِهَا، وَيُشْرِقُ وَجْهُهَا لَهَا..
             تَلْمِيعُ أَحْذِيَةٍ؟
      نَعَم، هِيَ مُهِمَّتُهَا الْيَوْمِيَّةُ الْجَدِيدَةُ الرَّسْمِيَّةُ، دُونَ حَرَجٍ أَوْ رَشْوَةٍ، تُلَمِّعُ الْحِذَاءَ، وَتَلْمَعُ الْقُرُوشُ فِي جَيْبِهَا..
       وَمَا أَسْعَدَهَا بِمُهِمَّتِهَا وَعَمَلِهَا الْجَدِيدِ!
       وَمَا أَهْنَاهَا بِقُرُوشِهَا وَشُلُونِهَا..
     لكِنْ؛ ذَاتَ مَوْجَةٍ نَزِقَةٍ.. لَمَعَ الْحِذَاءُ، وَمَا لَمَعَتْ جَيْبُهَا بِالْقُرُوشِ، بَلْ قَدَحَتْ عَيْنَاهَا شَرَرًا، اتَّقَدَتَا نَارًا، وَاشْتَعَلَتَا  لَهَبًا حَارِقًا، حِينَ نَغَّصَ أَشْرَف بَالَهَا، وَعَكَّرَ صَفْوَهَا قَائِلًا:
-   لِلْأَسَف، الْيوم جيوبي فَارغَة مِنَ الْفراطة والفرايط..
    فَغَرَتْ حَنَان فَمَهَا عَلَى مِصْرَاعِهِ فِي حَالَةِ دَهْشَةٍ عَمِيقَةٍ، مَطَّتْ شَفَتَيْهَا حَنَقًا، وَرَمَتْهُ بِنَظْرَةٍ بُرْكَانِيَّةٍ خَامِدَةٍ مُسْتَفْسِرَةٍ:
"هَل تَتَمَرَّدُ وَتَغْضَبُ؟
هَل تَضْرِبُ صَفْحًا عَنْ عِصْيَانِهِ وَتَسْكُتُ؟"
      كَانَ أَشْرَف يَقِفُ عَلَى قَيْدِ خُطْوَةٍ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُفَّ عَنِ الاسْتِمْرَارِ فِي إِثَارَتِهَا، بَلِ اسْتَرْسَلَ فِي اسْتِفْزَازِهَا، يُجَارِيهَا فِي لُعْــــبَةِ التَّوْتِيرِ وَشَدِّ الْأَعْصَابِ قَائِلًا:
-   إِنْ كُنْتِ لَا تُصَدِّقِينَ، مُدِّي يَدَكِ إِلَى جُيُوبِي وَافْحَصِيهَا.
هَيَّا..  تَأَكَّدِي بِنَفْسِكِ..
     وَدُونَ تَرَدُّدٍ مَدَّتْ حَنَان يَدَهَا إِلَى جَيْبِهِ الْأُولَى، بَحَثَتْ وَبَحَثَتْ، وَانْتَقَلَتْ إِلَى جَيْبِهِ الْأُخْرَى، قَلَّبَتْ شَقْلَبَتْ بَحْبَشَتْ، لكِنْ خَابَتْ مَسَاعِيهَا، ولَمْ تَجِدْ مُنَاهَا وَمُبْتَغَاهَا..
   بِكَامِلِ خِذْلَانِهَا وَذُلِّهَا كَانْتْ، فِي حَالَةٍ أَدْعَى إِلَى الْيَأْسِ وَالْخَيْبَةِ الْمَرِيرَةِ، لكِنْ، كَانَ يَنْقُرُ أَبْوَابَ أَعْمَاقِهَا هَاتِفٌ نمْرُودٌ عَاصٍ يَهْمِسُ بِاللَّامُسْتَحِيلِ..
    تَجَهَّمَتْ أَسَارِيرُهَا، وَجَمَ وَجْهُهَا، وَنَمَّ عَنْ سُخْطٍ وَتَبَرُّمٍ، فَانْتَزَعَتْ يَدَهَا مِنْ جَيْبِهِ غَاضِبَةً ثَائِرَةً..
   وَكَمَا الْبَحْرُ يُبَطِّنُهُ هُدُوءٌ وَحْشِيٌّ، أَفْلَتُ الزِّمَامُ، عَجَّ هَدِيرُ صَوْتِهَا وَضَجَّ، وصَارَتْ تَشُطُّ وَتَنُطُّ صَارِخَةً:
-   وَلكِن بَيْنَنَا اتِّفَاقِيَّة .. هَل نَسِيتَ؟
إِسَّا إِسَّا بدّي القروش.. هذا حقّي.. هذا حقّي..
   وَقَفَ أَشْرَف مَذْهُولًا، تَعَاظَمَتْهُ الْحَيْرَةُ، أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ هُنَيْهَةً، وَطَفِقَ يَتَخَيَّرُ كَلِمَاتٍ لِتَهْدِئَتِهَا..
     لكِنْ كَيْفَ، وَقَد أَلمَّتْ بِهَا نَوْبَةُ بُكَاءٍ حَارَّةٌ، فَخَرَجَتْ عَاصِفَةً تَجْرِي، وَتَوَارَتْ عَنْ نَظَرِهِ..
    هَمَّ بِاللِّحَاقِ بِهَا، فَمَا أَدْرَكَهَا، وَتَوَقَّفَ مُسْتَغْرِبًا مَا يَحْدُثُ عَلَى غَيْرِ تَوَقُّعِهِ، وَ..
     آثَرَ الَّصَمْتَ.. إِيثَارًا لِلسَّلَامَةِ وَالْمُسَالَمَةِ..
     وَمَا هِيَ إِلَّا هُنَيْهَات، وَإِذَا بِها تَعُودُ زَوْبَعَةً صَاخِبَةً تُزَمْجِرُ وَتُهَدِّدُ..
          تَوَقَّفَتْ أَقْدَامُهَا .. وَمَا تَوَقَّفَ إِقْدَامُهَا..
    وَنِكَايَةً وَتَشَفِّيًا بِهِ، رَفَعَتْ يَدَهَا الْمُلَطَّخَةً بِالْوَحْلِ فِي وَجْهِهِ، أَمْسَكَتِ الْحِذَاءَ اللَّامِعَ بِيَدِهَا النَّظيفَةِ، وَصَرَخَتْ بأعلى صوتها:
-   وشَرَفِي وشَرَفَك..
أَمَرْمِغ كُنْدَرْتَك بِالْوَحْل، أَو تعطِينِي القرُوش؟

     هَرْوَلَ أَشْرَف صَوْبَهَا، وَظَلَّ مَالِكًا أَعْصَابَهُ وَصَوَابَهُ، هُوَ السَّمِحُ الْمُتَسَاهِلُ، هُوَ لَيِّنُ الْعَرِيكَةِ أَمْسَكَ بِيَدَيْهَا، وَبِنَظْرَةٍ عَامِرَةٍ بِالْحَنَانِ انْفَجَرَ ضَاحِكًا:
-   أُخْتِي الْحَبِيبَة..
هَدِّئِي رَوْعَكِ، سَكِّنِي جَأْشَكِ وَأَنْصِتِي ِلي..

الْقُرُوش مَعِي، أَفْرَغْتُ جُيُوبِي مِنْهَا لِأَمْتَحِنَكِ..
 وَقَدْ نَجَحْتِ بِامْتِيَاز..

أُخْتِي الْحَبِيبَة.. صَدِّقيني
هُوَ مَقْلَبٌ مِنْ مَقَالِبِ الْحُقُوقِ.. 

وَأَنْتِ مَا كُنْتِ مِثْلَمَا قَالَ الْمَاغُوط:
"أَعْطُونَا الْأَحْذِيَةَ وَأَخَذُوا الطُّرُقَاتِ"
     ثُمّ.. دَسَّ الْقُرُوشَ فِي يَدِ حَنَان، وَأَطْبَقَ عَلَيْهَا يَدَهَا بِيَدَيْهِ..
   وَأَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهَا وَيَسْتَسْمِحُهَا..
    لكنَّ حَنَان الطِّفْلَةَ الْوَدِيعَةَ استحالتْ لَبُؤَةً جَرِيحَةً؛
   انْدَلَعَتْ ثَوْرَةُ إِعْصَارِهَا ومَا سَكَنَتْ..
     بَـــلَـــغَــــــتِ الْــــــــقِــــــــــمَّـــــــةَ..
    وبِغُلِّهَا ومِنْ أَعْمَاقِ جُرْحِهَا..
    بِمِلْءِ فِيهَا وَبِكُلِّ مَا فِيهَا...
     زَأَرَتْ زَئِيرًا مُدَوِّيًا:
-   "أَعْطُونَا الطُّفُولَة؟
"أَعْطُونَا الثُّوَّار؟
 أَخَذُوا الثَّوْرَة؟"
 حَنَان الطِّفْلَةُ الْوَدِيعَةُ ثَارَتْ عَزِيمَتُهَا، وَثَارَتْ قَبْضَتُهَا الصَّغِيرَةُ، تَتَحَدَّى الْقُرُوشَ الْكَبِيرَةَ، وَتَثْأَرُ لِكِبْرِيَائِهَا..
 رَمَتِ الْقُرُوشَ بِعَزْمٍ، قَذَفَتْهَا بحُرْقَةٍ، فَانْتَعَفَتْ فِي أَرْجَاءِ الْغُرْفَةِ وانْتَثَرَتْ فِي زَوَايَاهَا، وَصَفَقَتْ تَرْتَطِمُ، وَكَالْقَذَائِفُ تُدَوِّي بَيْنَ الْجُدْرَانِ وَالْأَرْكَانِ، تَتَعَثَّرُ وَتَتَبَعْثَرُ..
    حَنَان الطِّفْلَةُ الْوَدِيعَةُ ثَارَتْ عَزِيمَتُهَا، ثَارَتْ قَبْضَتُهَا الصَّغِيرَةُ، وَ..
      قَذَفَتْ عَنْهَا زَبَدَ خُنُوعِهَا وَقُنُوطِهَا..
    وَمِنْ يَوْمِهَا..
         فَرَطَ الِاتِّفَاقُ.. وَانْفَرَطَ الْوِفَاقُ..
    مِنْ يَوْمِهَا..
            فَرَطَ وَعْدُ مَسْحِ الْأَحْذِيَةِ، وَعَهْدُ تَلْمِيعِهَا، وَمَجْدُ تَقْبِيلِهَا..
   وَمِنْ يَوْمِهَا..
انْتَهَى عَهْدُ الْكُرُوشِ وَالْقُرُوشِ، وَزَالَ وَعْدُ الْفَرَافِيطِ والْفرَاطَة..


6

 
إصدار كتاب - عشْتَار الْعَرَبِيَّة- رُؤْيَةٌ حَضَارِيَّةٌ في الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِم- للد. روزلاند كريم دعيم  وَدِينِيَّةٌ
بقلم: آمال عوّاد رضوان
     عن (دار الوسط للنشر في رام الله)، أصدرت الباحثة الدكتورة روزلاند كريم دعيم كتابها الجديد في حُلّته وطبعته الثانية: "عشْتَار الْعَرَبِيَّة- رُؤْيَةٌ حَضَارِيَّةٌ في الْأَعْيَادِ وَالْمَوَاسِم"، وأهدته إلى والدتها تريز النابِلسي أمدَ الله بعمرها، وإلى روح والدها كريم الدَّعيم طيب الله ثراه، وإلى أبناء أسرتها نبع المحبة والعطاء، والدعم على تجربة غنية بالأعياد والمواسم والمناسبات، وعلى تحديات كونِيّة طُرِحت أمامها، لتستوعب العالم بنظرة إنسانية دون فوارق بين بني البشر، قبل أن تدرك النظرية، وإلى أبناء مدينتها الجميلة "حيفا" التي يتنازع عليها الكرمل بشموخه، والمتوسط بأمواجه، وإلى أبناء موطنها عمومًا في البلاد والشتات.
    وتقدمت د. روزلاند دعيم بشكرها الجزيل لكل من أسهم بإخراج هذا الكتاب إلى النور، بالقراءة والملاحظات والحث على الإصدار والتدقيق، وخصت بالذكر: د. زاهي سلامة، د. رنا صبح، الأستاذة نادرة يونس على دعمهم وتشجعيهم وحثهم اليومي، على القراءة والملاحظات والتدقيق اللغوي، والبروفسور علي صغيّر على قراءة فصل الموحّدين الدروز، وإبداء الملاحظات والاقتراحات، والأستاذة مرلين دعيم عيساوي على ترجمة المقدمة باللغة الإنجليزية، والأستاذة الشاعرة آمال عوّاد رضوان على مرافقتها منذ البداية، ومتابعة الطباعة والتدقيق والنشر، دار الوسط للنشر والإعلام متمثلًا برئيسه ومديره الكاتب والإعلامي الأستاذ جميل حامد،  على التعامل المهني خلال المراحل المختلفة لإصدار الكتاب.
   وقالت الباحثة في مقدمة الكتاب: "استمد الكتاب فلسفته من المجتمع في لحظة حياته الآنية، وتم جمع جزء من المادة خلال العمل الميداني، ولا ندَّعي في عملنا هذا الكمال، إذ لا مجال لاحتواء كل ما جاءت به الحضارة التراكمية والفكر الإنساني في فصل أو كتاب، فنحن ننهل من حضارة كنعانية ممتدة عميقًا، تمازجت وانسجمت مع ثقافة بابلية، وفينيقية وفِرعَونية لا تقل عنها أصالة وعمقًا، إلا أنها تشكِّل لَبِنَة في فكر معاصر لحضارة راسخة، ولعلها دعوة للباحثين، لتوثيق ملامح إضافية من الحضارة المحيطة بهم، وربما تكون مرجعًا للأجيال اللاحقة".
   تبدأ فصول الكتاب الذي جاء في 208 صفحات من القطع فوق المتوسط، بطرح مفهوم الأديان والأعياد والمناسبات والمواسم الدينية بشكل عام وخاص، وما يرتبط بها من نواحٍ وعواملَ وأسس تاريخية ودينية وحضارية، فتضمّن المحتوى ثلاثة فصول مُدرّجة: بأعياد المسيحيين، وأعياد المسلمين، وأعياد الدروز، فشمل المحتوى:
  الإهداء، الشكر ،المحتوى ، المقدمة، مدخل حول الدين والأعياد والمناسبات الدينية، ثم الفصول:
الفصل الأول: أعياد ومناسبات المسيحيين:
1.   عيد الميلاد المجيد بين الماضي والحاضر. عيد الميلاد المجيد. رسالة السيد المسيح. الاحتفال بالعيد. بداية الاحتفال بعيد الميلاد المجيد تاريخيًّا. شجرة الميلاد. شموع العيد، زينة الشجرة وبيئتها الطبيعية، مغارة الميلاد، بابا نويل وهدايا العيد، الطابع الشعبي لعيد القديس نيقولاوس، بطاقات المعايدة والتوال الاجتماعي، مائدة عيد الميلاد، وصلوات عيد الميلاد. 
2.   عيد رأس السّنة الميلادية، يشمل الاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية، والتقويم الميلادي.
3.   عيد الغطاس أو الظهور الإلهي (إبيفانياEpiphany )، ويشمل الاحتفالات الشعبية في عيد الغطاس/ الغطس في الماء، العجين والخمير  دايم دايم، حلوى العيد، الأمثال الشعبية المرتبطة بعيد الغطاس، والقصص الشعبية المرتبطة بعيد الغطاس.
4.   عيد القديس ڤالنتايْن: يشمل قصة القديس ڤالنتايْن، أصول العيد الوثنية، مهرجان الخصب؛ العيد الروماني الوثني، مهرجان لوبركاليا الروماني Luper Calia، تقديم الڤالنتايْن على الطقوس الوثنية، احتفالات عيد الحبّ المعاصرة، بطاقات عيد الحبّ، الورود الحمراء، الدببة البيضاء (الدباديب)، والقلوب الحمراء.
5.   جولة في حضارة الفصح الفلسطينية بين الماضي والحاضر، ويشمل الصوم الأربعيني الكبير، استقبال العيد، كعك العيد، بيض العيد المسلوق الملون، أرنب الفصح، ديانات عديدة وحضارة واحدة: خميس الأموات والجمعة العظيمة، المعايدة
6.   تجليات الزمان والمكان في احتفالات سيدة الكرمل العذراء مريم في حيفا، ويشمل السيدة العذراء، الفترة الافتراضية،  الاحتفال بتطواف سيدة الكرمل  وبداية مئوية جديدة، الإعلان عن المسيرة، علاقة السيدة العذراء بجبل الكرمل، تطواف سيدة الكرمل التقليدي، الخلفية التاريخية، تمثال السيدة العذراء، الطريق وطقوسها، استقبال الزوار وتكريمهم
7.   عيد رفع الصليب المحيي الكريم، شمل القسم الأول: الخلفية الحضارية، والعادات الشعبية في عيد الصليب، ومكانة عيد الصليب في حياة الفلاح الفلسطيني، وعادات زراعية مرافقة لموسم عيد الصليب، والأمثال الشعبية. وشمل القسم الثاني:  الخلفية التاريخية، البحث عن الصليب، قسطنطين الكبير، هيلانة القسطنطينية، الإعلان عن إيجاد خشبة الصليب، بناء كنيسة القيامة وكنيسة المهد، سرقة الصليب وإعادته إلى المدينة المقدسة، طقوس وتقاليد قديمة مرتبطة بالصليب، الطقوس الدينية في عيد الصليب، رموز عيد الصليب، الرمان، الرمان بمفهوم الكنيسة، الحبق. 
8.   عيد اللد  أمير الشهداء مارْ جريس الفلسطيني، من الألقاب والأسماء التي ترافقه، حياته وسيرته، مدينة اللد، معالم مدينة اللد، بناء كنيسة اللد، أيقونة القديس جوارجيوس ورموز تحملها، أسطورة القديس جوارجيوس وأصولها البدئيّة، أسطورة أندروميدا في المثولوجيا اليونانية، أسطورة بيليروفون في الميثولوجيا اليونانية، مديحة مار جريس في الأدب الشعبي، احتفال عيد اللد، عيد اللد في الحضارة الفلسطينية، أمثال الفلاح الفلسطيني في عيد اللد، وكيف تمازجت شخصية جوارجيوس  جريس مع شخية الخضر في التراث الفلسطيني 
9.   عيد القديسة بربارة العظيمة في الشهيدات: سيرة حياة القديسة بربارة، يوليانة الوثنية تنال الشهادة، الاحتفالات الشعبية في عيد البربارة، صينية  البربارة من القمح المسلوق، الطقوس التنكرية، البربارة في المدائح الدينية، البربارة في الأمثال الشعبية.
الفصل الثاني تضمن أعياد ومناسبات المسلمين، ومفهوم العيد في الثقافة الإسلامية.
1.   رأس السنة الهجرية، التقويم العربي قبل الإسلام، النسيء قبل الإسلام، الكبس عند العرب، رأس السنة الهجرية، التقويم الهجري، تحريم النسيء، الاحتفال بالمناسبة، الحكمة والتخطيط السليم بين الدعوة الإسلامية والهجرة النبوية، الهجرة الى الحبشة، عام الحزن، الهجرة الى الطائف، يثرب، الدخول في الإسلام، العقبة الأولى، العقبة الثانية، الهجرة الى يثرب، الثقة والأمانة؛ الاستعانة بالدليل عبد الله بن أُرَيْقِط، معجزات الطريق: غار ثَوْر، سراقة بن مالك، قُباء وتأسيس أوّل مسجد في الإسلام، المسجد النبوي، الاستقبال في يثرب، يثرب المدينة المنورة وتأسيس الدولة الإسلامية.   
2.   ذكرى المولد النبوي الشريف بين الجانب الديني والجانب الحضاري، شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، ولادة الرسول   وسيرة حياته، حادثة شقّ الصدر، بين جدّه وعمّه، الراهب بَحيرى وشارات النبوة، الحجر الأسود، زواجه، رسالته، الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.
3.   ذكرى الإسراء والمعراج، معنى الإسراء والمعراج، تاريخ حدوث الإسراء والمعراج، الخلفية التاريخية، أحداث الرحلة، والبُراق.
4.   لمحات رمضانية بين الجانب الديني والجانب الحضاري، رمضان في الجاهلية، الصوم في رمضان، ممارسات رمضانية بين الدين والمجتمع، الصلاة، صلاة التراويح، المدائح والتوحيشات، المؤذن، مدفع الإفطار، المسبحة، الطعام، فطرة رمضان وزكاة المال، وجبة الإفطار، وجبة السحور، مأكولات خاصة، المسحِّر وفانوسه وطبلته، والفانوس. 
5.   الحج إلى الديار الحجازية بين الفترة التكوينية والفترة الافتراضية، يشمل: بعد الحج "بمرحلة"، عيد الأضحى المبارك لدى المسلمين والموحّدين المعروفيين الدروز، الحج في الحضارة العربية، الفترة التكوينية للحج، سارة وهاجر، البيت العتيق، وتقاليد الحج المعاصرة.
الفصل الثالث عن أعياد ومناسبات الموحّدين الدروز، ويشمل:
1.   الموحِّدون الدروز، ألوان العَلم الخمسة، المقامات والطقوس الدينية في الجليل والجولان، زيارة المقامات في الجليل والجولان، أنواع الزيارات، أهداف الزيارة، تقاليد الزيارة العامة، آداب الزيارة الخاصة، مقام بهاء الدين (صلى الله عليه)، الست سارة (رضي الله عنها)، مقام الست شَعْوانة (رضي الله عنها) في عين قينيا، الجولان، ومقام سيدنا اليعفوري (صلى الله عليه) في مجدل شمس، الجولان. 
2.   سيدنا الخضر (صلى الله عليه) مخترق الزمان وعابر الأديان، عابر الأديان، مقامات الخضر (صلى الله عليه)، مغارة سيدنا إلياهو الخضر (صلى الله عليه) في حيفا، مقام سيدنا الخضر (صلى الله عليه) في كفرياسيف، أقسام المقام، مغارة سيدنا الخضر (صلى الله عليه) في البعنة  دير الأسد، قصص ومعجزات، سيدنا الخضر والاستسقاء.
3.   زيارة مقام النبي شعيب (صلى الله عليه) في حطين، النبي شعيب (صلى الله عليه)، زيارة مقام سيدنا النبي شعيب (صلى الله عليه) في حطين، والاحتفالات الشعبية والدينية.
4.   كرامات النبي سبلان (صلى الله عليه)، النبي سبلان (صلى الله عليه)، قدسية المكان، بين القصص العامة والقصص الخاصة، من القصص العامة، قصة عين الدِّرِّة، قصة وادي الحَبيس، قصة البَليلة، قصة عنزات النبي سبلان (صلى الله عليه)، قصة شجرات النبي سبلان (صلى الله عليه)، قصة السارق الذي انعقد لسانه.
وتختم البحث بالمراجع والمصادر،  INTRODUCTION، وعن المؤلفة د. روزلاند كريم دعيم في سطور .
المؤلفة د. روزلاند كريم دعيم في سطور:
       د. روزلاند كريم دعيم من مواليد وسكّان مدينة حيفا.
    حاصلة على شهادة الدّكتوراة في الفلسفة، في قسم الأدب العبراني والمقارن، جامعة حيفا.
      موضوع الرّسالة: "قصص إيليّا النّبيّ، إلياس والخضر الّتي رواها زائرو مغارة إيليّا الخضر ودير الرّهبان الكرمليّين في حيفا" - دراسة إثنو-أدبيّة.
     أستاذة جامعيّة برتبة محاضر كبير في الكليّة الأكاديميّة العربيّة للتّربية، حيفا. وتشغل منصب عميدة شؤون الطّلبة.
     باحثة في الحضارة والأدب والإثنوغرافيا الوصفيّة وأدب الأطفال، لها عدّة مقالات وأبحاث منشورة في دوريات محكَّمة.
 لها أكثر من دراسة في الأغنية الشّعبيّة للطفل، تعزيز اللّغة والهُويّة لدى الطّفل، وتقديم الأعياد للأطفال في المؤسّسة التّربوية
    كتبت عدّة قصص للأطفال، وترجمت عدّة قصص إلى العربيّة.
  ناشطة في مؤسّسات المجتمع المدنيّ؛ رئيسة جمعيّة الجليل، للجمعيّة القطريّة للخدمات والبحوث الصّحّيّة، ومقرّها في  شفاعمرو (2009-2013)، عضو الهيئة التّمثيليّة للمجلس المِلّي الأرثوذكسيّ، ولجنة المعارف الأرثوذكسيّة - حيفا، وعضو إدارة جمعيّة التّطوير الاجتماعيّ (1986-2005) - حيفا.
ومؤسِّسة ورئيسة (نادي الكنعانيات للإبداع) في البلاد.


7
عبلين الجليلية تكرم ابنتها آمال عواد رضوان!
بقلم: هيام مصطفى قبلان
    حَدَثٌ مُدهشٌ حقّا في لقاء الأجيال والشرائح العمرية والثقافية المتنوعة، فقد تسربلت قاعة المركز الثقافي (الفانوس) في عبلين بحُلّة تراثية وأجواء تراثية بامتياز، وغصّت بحضور حافل وكبير من أدباء وأصدقاء من المثلث والناصرة وحيفا والكرمل والجليل وعبلين، ونخبة من الجمهور المثقف الراقي المُصغي، وذلك احتفاءً بتكريم عبلين الجَليليّة بابنتها الأديبة الشاعرة آمال عواد رضوان، وتوقيع كتبها التراثية الثلاثة بتاريخ 30.9.2022، بمبادرة وتنسيق وتنظيم جمعية عبلين في القلب، بالمشاركة مع قسم المعارف في مجلس عبلين المحلي، والنادي النسائي الارثوذكسي عبلين، وجوقة الكروان، ونادي الكنعانيات للإبداع، والكشاف الأرثوذكسي وجمعية فسيلة، وأطر وجمعيات عبلينيّة عديدة  أخرى.
   تولت إدارة الأمسية د. روزلاند دعيم الغالية رئيسة نادي الكنعانيات للإبداع، فقدّمت البرنامج بكل ثقة وبأسلوب وصوت وكلمات رائعة تليق بآمال، فهي فعلًا الجسر الذي يوصل بين القديم والحديث كما قيل عنها على المنصة.
   ابتدأت د. روزلاند كلمتها بالترحيب بالحضور والضيوف، وقالت: يبحث الإنسان بشكل دائم عن وسيلة للتعبير عن مشاعره من فرح أو حزن، والغناء واحدة من هذه الوسائل التي تخدم الفرد والجماعة، والفنون الشعبية تعبر عن الآمال والأماني الخفية، وترافق المجتمع في مراحل دورة حياة الإنسان ودورة الحياة في الطبيعة؛ وحتى الحالات السياسية الثورية، فالفن الشعبي، إذًا، عمل فني شعبي له غرض اجتماعي ونفسي، وبالحالتين هو مخزون حضاري قيمي.
   ولأن الفلاح الفلسطيني يبدأ سنته الزراعية مع موسم الخريف في عيد الصليب، ولا يكتفي بالتعبير عن تطلعاته وأمنياته الزراعية من خلال الأرض، وما تُغدق عليه فقط، بل من خلال كل المواسم الدينية والتراثية، فينتج أرشيفًا غنيًّا من المادة التراثية، وإن كنا نتحدث عن أمنا الأرض، فإننا نتقدم بجزيل الشكر للسيدات الرائعات من النادي النسائي الأرثوذكسي على الضيافة. وللتنويه، فإنّنا نتحدث عن منتجات أرضنا الصحيّة، وعن بوفيه أخضر داعم للبيئة.
   كان من المفروض أن تتحدث المربية حنين عودة عن كتاب المهاهاة والملالاة في زغاريد الأفراح، لكنها تغيبت لظروف وفاة عمّها، فباسمي وباسم الجميع نقدّم تعازينا الحارة، ونلتقيها لاحقا على خير وإبداع.
   وأثنت د. روزلاند على كلّ من ساهم في تنظيم وتخطيط هذه الأمسية التراثية بامتياز، إذ ازدانت القاعة بحُلّةٍ وأوانٍ وديكوراتٍ وأمثال وأطعمةٍ تراثية، وبفقرات تراثية وشرائح عمريّة متعددة، ومداخلات ثقافية: أدبية ودبكة وتمثيل وغناء.
    تلاها د. خالد شيخ أحمد مدير قسم المعارف بكلمة ترحيبية وتكريمية باسم مجلس عبلين المحلي، وقد أشاد بدور ونشاط آمال عواد رضوان الأدبي اللافت، في عبلين وداخل البلاد والعالم العربي.
    قدمت جوقة الكروان بقيادة المايسترو نبيه عوّاد الأغنية التراثية (ع اليادي) بصوت أليسار حاج، بمرافقة عازفين من جوقة الكروان: صافي دعيم- قانون، سيمون أبو شحادة- كمان، موران عواودة- إيقاع/ رق، وساهر جبور- إيقاع/ رق.
    أمّا د. إلياس روحي زيدان؛ المحاضر لموضوع الإدارة التربوية في جامعة حيفا، والمستشار التنظيمي صاحب الخبرة الواسعة، فقد أتحفنا بمداخلته الشيقة عن التراث في (كتاب أناشيد المواسم - آمال عواد رضوان)، وضرورة إحياء هذا الجمال في الأجيال الصاعدة، وختم كلمته قائلًا: أمسية تليق بآمالنا - آمال الخوري عواد رضوان- وتليق بالتشكيلة متنوّعة النكهات من ثمارها الادبيّة، وبقيادتها وتمكينها للعديد من نساء عبلين، ومنحهنّ دورا وحيّزا يليق بهنّ وبقدراتهن، دمتِ آمالنا ودام عطاؤك وإنجازاتك، ودامت الأخوّة بين بنات وأبناء صفّنا.
   ثم دعا أبناء صفها وزملاء الدراسة الرائعين الذين نسقوا فيما بينهم مؤامرة جميلة، ليفاجئوها ويكرّموها ويقدموا لها أروع تكريم في هذا الحفل.
   تلتها وصلة فولكلورية لفرقة جفرا للدبكة والفنون الشعبية، وقام المدرب محمود خطيب بتقديم درع جفرا  للأديبة آمال عواد رضوان.
  أمّا الكنعانية المربية كفاية نجمي الشيخ أحمد، فقدّمت مشهدًا مسرحيًّا جميلًا بعنوان "بساط ستّي"، من تأليفها وإخراجها، وتمثيل الطالبتين :صهيل كامل عودة، وعرين أمير مواسي، للمَثل "رجعت حليمة لعادتها القديمة"، من وحي الكتاب "أمثال ترويها قصص وحكايا" لللأديبة آمال عوّاد رضوان"، ثمّ تحدثت الكنعانية كفاية عن هذا الكتاب  بإسهاب، وعن القصة التي تقف وراء كلّ مَثل.
   ولأنّ الراوي اعتاد أن يحمل تاريخ القبيلة، والحكواتي يحمل هموم الناس وأحلامهم، قدّمت السّيدة نيلي سعيد - أم إيليا عضوة النادي النسائي الأرثوذكسي عبلين، حكاية المَثل "النصيحة بجَمَل"، من الكتاب "أمثال ترويها قصص وحكايا"، بسردٍ جميل مُشوّق.
   أما الكنعانية د. روزلاند دعيم فقدّمت نبذة عن كتاب المهاهاة والملالاة في زغاريد الأفراح، ونوّهت إلى  أنّها قدّمت الكتاب بمقدّمة مستفيضة جميلة.
   وكان لونٌ آخر لنساء النادي النسائي الأرثوذكسي عبلين المبدعات، فقد اعتليْنَ المنصة، وغنّيْن ألوانًا من الأغاني التراثية بتدريب الأديبة آمال، وقدّمن وصلةً غنائية من أهازيج ومواويل وعتابا وميجانا بصوت ميلادة أبو شحادة (أم ونس) وابنها ونس، برفقة المايسترو نبيه عواد وعازفين من فرقة الكروان، فأضفنَ للجوّ رونقًا وجَمالًا تراثيًّا مميّزًا أصيلًا، وحلّقت في أجواء القاعة أصواتُ الزغاريد والأوف والميجنا والمهاهاة بأصواتهنّ العذبة.
   وفي نهاية اللقاء تحدّثت عروس الاحتفال آمال عواد رضوان؛ مديرة نادي الكنعانيات للإبداع، ورئيسة النادي النسائي الأرثوذكسي عبلين، وشكرت كلّ الحضور والمنظمين والمتحدّثين والمشاركين، على ما بذلوه من جهود في إنجاح الأمسية الثراثية:
   جمعية عبلين في القلب، مجلس عبلين المحلي، د. روزلاند دعيم ونادي الكنعانيات للإبداع، د. خالد الشيخ أحمد، د. إلياس روحي زيدان، جوقة الكروان والمايسترو نبيه عواد، جمعيّة جفرا للدّبكة بمدربها محمد خطيب، المربية كفاية نجمي الشيخ أحمد وفريقها، مصممة الديكور التراثي ياسمين غنايم سكران، نساء النادي النسائي الأرثوذكسي عبلين بكل التشكيلات والمأكولات والأهازيج التراثية، وشكرت كل المؤسسات والأطر العبلينية، وشكرت د. محمد خليل مدير منتدى الفكر والإبداع مع أعضائه، وكل الحضور من أهالي عبلين الشمّاء، وكلّ الأدباء والأصدقاء من كافة أرجاء البلاد، كما ثمّنت عاليًا الدور الإعلامي وتغطية الأمسية، متمثلا بتلفزيون هلا وكادره، والمصور الإعلامي رائف حجازي.
   نعم.. كانت أمسية تراثية بامتياز بكل ما فيها، من أجواء تراثية ازدانت بها القاعة،  فالمسرح والمنصة فرشته ياسمين سكران بطراز بُسُط وألوان تراثية جميلة، الديوان، المقاعد، الشراشف، الأواني الفخارية والنحاسية القديمة، أدوات منزلية قديمة كالمهباج، وأطباق القش، الغربال، البريموس، المكوى، دلة القهوة، وكراسي القش القديمة.
    أمّا موائد الضيافة الشهية والتنسيق الخلاب، فقد ضمت تشكيلة لذيذة من مأكولات وحلويات تراثية بيتية، ساهم بصنعها وتحضيرها نساء النادي النسائي الأرثوذكسي عبلين الحبيبات، بإدارة آمال عوّاد رضوان: دقّة، زعتر، زيت زيتون، مناقيش، زيتون أخضر مرصوص، وزيتون أسود، خبز مقلي، رُبّ الخرّوب، مُربّى تين وعنب وخوخ ومشمش وتفاح من صنع نساء النادي، بليلة وقمح مسلوق، قريش بأنواعه المختلفة وسمسم لتزيين القمح المسلوق (بربارة)، حبوب ترمس وفول، وحلويات: الغريبة، كعكات ستي بالقالب، مبروشة، هريسة، فستق عبيد بقشره، عنب وأكواز رمان وخيار تشريني، ومجففات قطين ومشمش وتمر وزبيب، وزينت الموائد القهوة العربية بنكهتها التي لا تقاوم.
    والجدير بالذكر، أنّ جدران قاعة الفانوس ازدانت بلوحات لأمثال شعبية وحزازير وأناشيد تراثية بقلم الشاعرة آمال عواد رضوان، والمدونة بكتابها (أناشيد المواسم)، وهذه الامثال تماثلت مع المعروضات للضيافة وتزيين القاعة، وكأني بآمال تريد أن تعيدنا بهذا اللقاء الحميم الى خيرات الأرض، وعفوية الناس، وتمسك الفلاح بأضه.
    ولأن الطبيعة الخلابة والسهول الخضراء تتعانق فيها الاشجار الباسقة وارفة الظلال بشموخها ورائحتها، الأمر الذي يحتم على من يرافق آمال ويقرأ لها، أن يشعر بأنها ترى بعيون خضراء كل ما حولها، فهي الطفلة العبلينية الخضراء التي درجت وتربت في بيت دافئ، تحت كنف والدين مُحبّين روحانيّين مدا لها يد العون، وغرسا في نفسها عشق الأرض ومَحبّة الآخرين.
   هكذا أنا عرفت آمال بتواضعها وعنفوانها، ببساطتها وتألقها، بدعمها كل من حولها، بتسامحها ومحبتها، وبتضحيتها من أجل الغير، ولا يسعني إلّا أن أشدّ على يديها، وأوجّه شكري الخاصّ لنساء النادي النسائي الأرثوذكسي عبلين الفعّال، واللواتي حملن جرار العمر، وعملن جاهدات للتمسك بالتراث من حكايات ومفاهيم تربوية، فتركن للأجيال القادمة إرثًا لا يُعوّض، فالشكر الجزيل لكلّ من شارك وحضر.
   وكتب د. محمد خليل: العزيزة آمال عواد رضوان، تستحقين ذلك وأكثر. بصراحة كان الحفل يليق بك وأنت تليقين به. كان احتفالًا رائعًا ترتيبًا وتنظيمًا ومضمونًا. شكرًا للكلمة الطيبة والنابعة من القلب. تهانينا مرة أخرى، وإلى المزيد من الإبداع والتميز وقطف الثمار.
   وكتب الفنان موسى إبراهيم: حضوركم في توقيع كتب الأخت امال عواد رضوان أضفى على المشهد رونقًا وزاده ألقًا ومحبة . أدام الله عطاءكم ومحبتكم، وألف وردة للأخت الأديبة آمال عوّاد رضوان، وشكرًا على ما قدّمته في احتفالية توقيع كتبها الثلاثة، وعلى البرنامج الأكثر من رائع، فقد عدنا تملؤنا الطاقة والأمل، وغُمِرنا بكرم ضيافة عَبَلّين وأهلها الكرام.

8
إصدارُ الطّبعة الثانية مِن (رِحْلَةٌ إِلَى عُنْوَانٍ مَفْقُودٌ)
للشّاعرة آمَال عَوَّاد رضْوَان - مُتَرْجَمًا لِلِإنْجلِيزيّ
ة
الوسط اليوم - رام الله / عبلين الجليليّة
  رجع أيلول عام 2022، وأُصدرَت الطّبعةُ الثانيةُ مِن الدّيوان الشّعريّ (رِحْلَةٌ إِلَى عُنْوَانٍ مَفْقُودٌ) للشّاعرةِ الفلسطينيّة آمَال عَوّاد رضْوَان، باللّغتيْنِ العربيّة والإنجليزيّة، عن دار الوسط للنّشر والإعلام في رام الله، وقد جاء الدّيوان في (160) صفحة من القطع المتوسّط.
  لقد قامتْ بترجمةِ الدّيوان للّغة الإنجليزية المُترجمةُ الفلسطينيّة  المقيمةُ في الولاياتِ المُتّحدةِ الأمريكيّة- الشاعرة فتحية عصفور، وقد تضمّنت الطبعةُ الثانيةُ مِن هذا الديوان (28) قصيدةً، هي ما تضمّنهُ الدّيوانُ الأصليّ، والّذي أُصدرَ في طبعتهِ الأولى عن دار الوسط للنشر عام 2010.
كما تضمنت الطبعة الثانية للديوان السيرة الذاتية للشاعرة آمال عواد رضوان – عبلين الجليليّة، والّتي قالت فيها:
 آمَال؛ لَيْستْ سِوَى طِفْلَةٍ خَضْرَاءَ انْبَثَقَتْ مِنْ رَمَادِ وَطَنٍ مَسْفُوكٍ فِي عُشٍّ فِينِيقِيٍّ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدْ! أَتَتْ بِهَا الْأقْدَارُ، عَلَى مُنْحَنَى لَحْظَةٍ تَتَّقِدُ بِأَحْلَامٍ مُسْتَحِيلَةٍ، فِي لُجَّةِ عَتْمٍ يَزْدَهِرُ بِالْمَآسِي، وَمَا فَتِئَتْ تَتَبَـتَّلُ وَتَعْزِفُ بِنَايِ حُزْنِهَا الْمَبْحُوحِ إِشْرَاقَاتِهَا الْغَائِمَةَ، وَمَا انْفَكَّتْ تَتَهادَى عَلَى حَوَافِّ قَطْرَةٍ مُقَدَّسَةٍ مُفْعَمَةٍ بِنَبْضِ شُعَاع، أَسْمَوْهُ "الْحَيَاة"!
عَشِقَتِ الْمُوسِيقَا وَالْغِنَاءَ، فَتَعَلَّمَتِ الْعَزْفَ عَلَى الْكَمَانِ مُنْذُ تَفَتَّحَتْ أَنَامِلُ طُفُولَتِهَا عَلَى الْأَوْتَارِ وَسَلَالِمِ الْفَنِّ، وَقَدْ دَاعَبَتِ الْأَنَاشِيدُ الْمَدْرَسِيَّةُ والتَّرَانِيمُ حُنْجَرَتَهَا، فَصَدَحَتْ فِي جَوْقَةِ الْمَدْرَسَةِ، إِلَى أَنِ اتَّشَحَ حُضُورُهَا بِالْغِيَابِ الْقَسْرِيِّ مُدَّةَ سَنَوَاتٍ، لِتُعَاوِدَ ظُهُورَهَا فِي الكُورالِ الْعَبَلِّينِيّ، "جَوْقَةِ الْكَرَوَانِ" الْغِنَائِيَّةِ! وَكَمْ عَشِقَتْ أَقْدَامُهَا الْمُعَتَّقَةُ بِالتُّرَاثِ الرَّقْصَ الشَّعْبِيَّ، وَكَانَ لِخطَوَاتِهَا الْبَحْرِيَّةِ نَكْهَةٌ مَائِيَّةٌ، تُرَاقِصُ ظِلَالَ شَبَابٍ طَافِحٍ بِالرَّشَاقَةِ فِي فِرْقَةِ دَبْكَةٍ شَعْبِيَّةٍ، إِضَافَةً إِلَى نَشَاطَاتٍ كَشْفِيَّةٍ وأَخْرَى عَدِيدَة،  تَزْخَرُ بِهَا رُوحُ فَتَاةٍ تَتَقَفَّزُ نَهَمًا لِلْحَيَاة!
وصدر للشاعرة آمال عوّاد رضوان:
*1- بَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ، كِتَابٌ شِعْرِيٌّ، عَام 2005.
*2- سَلَامِي لَكَ مَطَرًا، كِتَابٌ شِعْرِيٌّ، عام 2007.
*3- رِحْلَةٌ إِلَى عُنْوَانٍ مَفْقُودٍ، كِتَابٌ شِعْرِيٌّ، عام 2010.
*4- أُدَمْوِزُكِ وَتَتعَـشْتَرِين، كِتَابٌ شِعْرِيٌّ، عام 2015.
*5- كِتَابُ رُؤَى، مَقَالَاتٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ ثَقَافِيَّةٌ مِنْ مَشَاهِدِ الْحَيَاةِ، 2012.
*6- "حَتْفِي يَتَرَامَى عَلَى حُدُودِ نَزْفِي"- قِرَاءَاتٌ شِعْرِيَّةٌ فِي شِعْرِ آمَال عَوَّاد رضْوَان، 2013.
*7- سِنْدِيَانَةُ نُورٍ أَبُونَا سْبِيرِيدُون عَوَّاد، عام 2014
*8- أَمْثَالٌ تَرْوِيهَا قِصَصٌ وَحَكَايَا، عام 2015
*9- التراث في أناشيد المواسم، عام 2018
وَبِالْمُشَارَكَةِ مَعَ محمد حِلْمِي الرِّيشَة الْكُتُبُ التَّالِيَةُ:
10- الْإِشْرَاقَةُ الْمُجَنَّحَةُ، شَهَادَاتٌ 131 شَاعِرٍ عَرَبِيِّ، عام 2007
*11 نَوَارِسُ مِنَ الْبَحْرِ الْبَعِيدِ الْقَرِيبِ، الْمَشْهَدُ الشِّعْرِيُّ الْجَدِيدُ فِي فِلِسْطِينَ الْمُحْتَلَّةِ 1948، عام 2008
*12- مَحْمُود دَرْوِيش، صُورَةُ الشَّاعِرِ بِعُيُونٍ فِلِسْطِينِيَّةٍ خَضْرَاءَ عام 2008
13* أَتُخَلِّدُنِي نَوارِسُ دَهْشَتِك؟ رسائلُ وهيب نديم وهبة وَآمال عوّاد رضوان عام 2018.
صَدَرَ عَنْ شِعْرِهَا الْكُتُبُ التَّالِيَة:
*1 مِنْ أَعْمَاقِ الْقَوْلِ (قِرَاءَةٌ نَقْدِيَّةٌ فِي شِعْرِ آمَال عَوَّاد رضْوَان) النَّاقِدُ عَبْدُ الْمَجِيد عَامِر اِطْمِيزَة/ مَنْشُورَاتُ مَوَاقِف- عام 2013.
*2كِتَابٌ بِاللُّغَةِ الْفَارِسِيَّة: بَعِيدًا عَنِ الْقَارِبِ/ به دور از قايق/ آمَال عَوَّاد رضْوَان/ إِعْدَادُ وَتَرْجَمَةُ جَمَال النَّصَاري/ عام 2014
*3 كِتَابُ اسْتِنْطَاق النَّصِّ الشِّعْرِيِّ (آمَال عَوَّاد رضْوَان أُنْمُوذَجًا) المُؤَلِّفُ: عُلْوَان السَّلْمَان الْمَطْبَعَة: الْجَزِيرَة- 2015
*4- كتابُ "مكنوناتٌ أنثويّة" للروائية فاطمة يوسف ذياب- تحاور قصائد آمال عوّاد رضوان- عام 2019
*دِيوَانُ بَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ بالْإنْجْلِيزِيَّةِ، تَرْجَمَة حسن حجازي، مِصْر عام 2019.
إِضَافَةً إِلَى تَرَاجِمَ كَثِيرَةٍ لِقَصَائِدِهَا بِاللُّغَةِ الْإِنْجْلِيزِيَّةِ وَالطِّلْيَانِيَّةِ وَالرُّومَانِيَّةِ وَالْفَرَنْسِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالْكُرْدِيَّةِ.
  الْجَوَائِز:
* حازت لَقَبِ شَاعِرِ الْعَامِ 2008 فِي مُنْتَدَيَاتِ تَجَمُّع شُعَرَاء بِلَا حُدُود.
*عام 2011 حَازَتْ عَلَى جَائِزَةِ الْإِبْدَاعِ فِي الشِّعْرِ مِنْ دَار نُعْمَان لِلثَّقَافَةِ، فِي قِطَافِ مَوْسِمِهَا التَّاسِع.
*عام 2011 حَازَتْ عَلَى دِرْعِ دِيوَانِ الْعَرَب، حَيْثُ قَدَّمَتِ الْكَثِيرَ مِنَ مَقَالَاتٍ وَنُصُوصٍ أَدَبِيَّةٍ راقيةِ.
*عام 2013 مَنَحَتْ مُؤَسَّسَةُ الْمُثَقَّف الْعَرَبِيّ فِي سِيدْنِي الشَّاعِرَةَ آمَال عَوَّاد رضْوَان جَائِزَةَ الْمَرْأَةِ  لِمُنَاسَبةِ يَوْم الْمَرْأَة الْعَالَمِيِّ 2013 لِإِبْدَاعَاتِهَا فِي الصَّحَافَةِ وَالْحِوَارَاتِ الصَّحَفِيَّةِ عَنْ دَوْلَةِ فلِسْطِين.
*عام 2018 مَنحت وزارة الثقافة جائزة الإبداع عن الشّعر.
    وَبِصَدَدِ طِبَاعَةِ كُتُبٍ جَاهِزَةٍ:
*دِيوَانُ بَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ باللُّغَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ، تَرْجَمَة فَرَح سَوَامِس، الْجَزَائِر.
*كِتَابٌ خَاصٌّ بِالْحِوَارَاتِ
*كتاب خاصٌّ بِالتَّقَارِيرِ الثَّقَافِيَّةِ حَوْلَ الْمَشْهَدِ الثَّقَافِيِّ فِي الدَّاخِلِ الْأَخْضَر 48: مِنْ عام 2006 حَتَّى عام 2016
شاركت بمهرجانات محلية عديدة ومهرجانات دولية:
*في عمان الأردن سنويا منذ عام 2008.
*في مهرجان الشعر الدولي في رام الله عام 2010.
*4 مهرجانات شعرية في مدن مغربية عام2012.
*مهرجان الشعر الفلسطيني بكلية القاسمي عام 2014. 2016.2018.
*مهرجان القدس بيت لحم عام 2012. 2014. 2016. 2018.


9
"أسطرةُ الأسطورة في شعر آمال عواد رضوان" كتابٌ نقديٌّ للكاتبة سماح خليفة!
  صدرَ للكاتبةِ الفلسطينيّةِ سماح خليفة كتابٌ نقديّ عن دار "نور للنشر" العالميّة، بعنوان "أسطرةُ الأسطورة في شعر آمال عواد رضوان"/ ديوان "أُدَمْوزُكِ وتتعشترين" أنموذجًا، ويقع الكتاب النقديّ هذا في 92 صفحة من القطع المتوسّط، ويتقصّى أثرَ "دموزي" و "عشتار"، في الدّيوان الشّعريّ (أُدَمْوزُك وَتَتَعَشْتَرين) للشّاعرة آمال عوّاد رضوان، للكشفِ عن البُعدِ الـ (ما بعد) أسطوريّ في شِعرِها، وفقَ منهجِ التّفكير الأسطوريّ الذّي ما انفكَّ يتلبّسُ الإنسانَ، منذ بدءِ الخلقِ إلى عصرنا الحاليّ.
   وأيضًا، في ظِلِّ أسطورةٍ جديدةٍ مُبتكَرةٍ، تَجنحُ إلى أسطرةِ أسطورة، تكشفُ عن المؤثّراتِ الّتي بلورَتْ شخصيّةَ الشّاعرةَ آمال عوّاد رضوان الفنّيّة، وسبرَ أغوارِ نفسِها.
   كما اتُّخذَ مِن ديوان "أُدَمْوزُك وَتَتَعَشْتَرين" المُؤثَّثِ بالوعي الإدراكيِّ جسرًا، للعبورِ إلى عالمِ الأسطورةِ بشخوصِها ودلالاتِها، أو أطيافِها وتأويلاتِها، والتّعالقاتِ الكاشفةِ للخيطِ السّحريّ الذّي يربطُهما، للخروجِ بأسطورةٍ مُؤسطَرةٍ تربطُ الماضي بالحاضرِ وبالمستقبل.
    لقد أصبحَ توظيفُ الأسطورة - في النّصِّ المُعاصر- قضيّةً محوريّة، يجبُ الالتفاتُ إليها، وكشفُ النّقاب عنها وعن أسباب توظيفِها، فصِلةُ الشِّعر بالأسطورة قديمة.
     إنَّ الشّاعرَ الحديثَ عادَ للأساطيرِ القديمةِ ووظّفَها في شِعرِهِ، للتّعبيرِ عن تجاربهِ تعبيرًا غير مباشر، فذوّبَ الأسطورةَ في بُنيةِ القصيدة، لتصبحَ مِن صميم تركيبِها، ممّا يَمنحُها كثيرًا مِنَ السّماتِ الفاعلةِ في بقائها، وإنقاذها من المباشرة، والتّقرير والخطابيّة.

10
لماذا تضيقُ آفاقِ الفكرِ العربيِّ ورؤاه؟
آمال عوّاد رضوان
  بلغَني سؤالُهُ مُستفسِرًا عن معنى الكتابة، كوْني شاعرةً وأديبةً في ظلِّ الاحتلال، وتبادرَ لروحي قوْلُ جيفارا: "أحسُّ على وجهي بألمِ كلِّ صفعةٍ تُوجَّهُ إلى كلِّ مظلومٍ في هذه الدّنيا، فأينما وُجدَ الظلمُ فذاك وطني، وإنَّ الطريقَ مظلمٌ حالِكٌ، فإذا لم نحترقْ أنتَ وأنا فمَن سينيرُ لنا الطريق"!
    وكأنّ بلادَنا المحتفلةَ بأعيادِ استقلالِها الوطنيّةِ تتمتّع بهُويّةِ الحُرّيّة!
     وكأنّ الوجودَ العربيَّ بمعظمِ مُكوّناتِهِ مِن لغةٍ وثقافةٍ وسيادةٍ وثرواتٍ واقتصادٍ مُهدّدٌ كيانهُ المستقبليّ مِن قِبلِ قوى عظمى!
    أو كأنّنا نعملُ بالمقولةِ المأثورةِ: "نموتُ واقفينَ ولا نموتُ راكعين"!
    أو كأنّنا نرفعُ قوْلَ لنكولين شعارًا: "اِنهضوا أيّها العبيدُ، فإنّكم لا ترونَهم كبارًا، إلّا لأنّكم ساجدون"؟
    أيننا مِن مفهومِ الحُرّيّةِ والاحتلالِ العسكريّ؟
   وماذا عن الاحتلالِ الفكريِّ وزعزعةِ الإيمانِ، وخلخلةِ الثوابتِ الفكريّةِ، وخلْقِ الفوضى والفتنةِ بينَ عناصرِ الشعبِ الواحد؟
   كيفَ نفسّرُ تبعيّةَ دوُرِ الإعلامِ والدعايةِ كقوى مُحرِّكةٍ في الاحتلالِ النفسيِّ وبثِّ سمومِها المُغرية؟
    هناكَ حركاتٌ مصطنعَةٌ تدّعي الاعتدالَ والعدلَ، تُوجّهُ عقاربَها باتّجاهِ الاحتلالِ ضدَّ الروحِ والضمير، وإنّي لأسمعُ صوتَ جبران خليل جبران:
"إنّ الأمّةَ المستعبَدةَ بروحِها وعقليّتِها، لا تستطيعُ أن تكونَ حُرّةً بملابسِها وعاداتِها"!
 إذن؛ مَن يُساندُ الحقَّ إلّا أهلُهُ، ووعْيُ أمّةٍ لا تتوانى ولا تتهاونُ في حقِّها وحُرّيتِها ولا بخلطِ أوراقِها؟
ألم يقلْ نيلسون منديلا:
"الحُرّيّةُ لا تُعطى على جرعاتٍ، فالمرءُ إمّا أن يكون حُرًّا أو لا يكون، والجبناءُ يموتونَ مرّاتٍ عديدة قبلَ موتِهم، والشجاعُ لا يذوقُ الموتَ إلّا مرّة واحدة"!
    إذًا؛ لماذا تتّسعُ آفاقُ المطامعِ الغربيّةِ بشرقِنا؟
     ولماذا تضيقُ آفاقِ الفكرِ العربيِّ ورؤاه؟
   عشراتُ النداءاتِ المستغيثة تصلُني، للتضامنِ والإفراج عن مفكّرينَ وإعلاميّينَ وشعراءَ وأدباءَ أطلقوا أصواتَهم المجروحةَ للحُرّيّة، فأُطبِقَ عليها وعليهم في السجونِ والتعتيم والإعدام والتهجير، فكيفَ تنيرُ هذهِ الأصواتُ العقولَ والنفوسَ والوجودَ والكيانَ والهِممَ إنْ شُلّتْ هذهِ الألسُنُ؟
    وما أدراكَ ما الكتابة؟
   الكتابةُ طائرٌ خرافيٌّ تُشكّلُهُ فوضويّةُ الواقعِ، يُمارسُ طقوسَهُ الغريبةَ، يسبحُ ويغوصُ في لججِ الخيالِ، لينتزعَ مِن أعماقِهِ محاراتِ آمالٍ، يُحلّقُ بها إلى سمواتِ الحلمِ، فيزرعُها نجومًا وضّاءةً في عتمِ ظروفٍ كالحةٍ، مغموسةٍ بأرَقِ الهمِّ الفرديِّ والجماعيِّ.
    الكتابةُ ألبومٌ كبيرٌ للوحاتٍ مرسومةٍ بالكلماتِ، تشهدُ على بيئتِها وعصرِها وحضارتِها وثقافتِها، تحملُ بثيماتِها وتصوّراتِها وآمالِها اللامتناهيةِ رسالةً ساميةً ومؤثِّرةً وإيجابيّةً..
   الكتابةُ تتركُ بصماتِها محفورةً على جباهِ المقاماتِ، بَعْدَ انتشالِها من حُفَرِ الرمالِ المتحرّكةِ المردومةِ بقشٍّ مفخّخٍ، فتجوبُ بها آفاقًا لِتَحُطَّ في نفسِ المتلقّي، تهزّهُ وتُذهلُهُ، حينَ تُناغمُ أوتارَ قلبِهِ وإيقاعَ عقلِهِ.
 ولكن؛
    ما معنى أن تكونَ رهينًا في بلدِكَ ومحاصَرًا في أرضِكِ، لكنّكَ حرٌّ طليقٌ بفكرِكَ، تقضمُكَ الغربةُ، وتؤطّرُكَ في صناديقِ الاتهامِ السوداءِ؟
      ما معنى أن تخضع لدينونةِ العدوِّ المحتلِّ من ناحيةٍ، ولرفضِهِ لكَ بشتّى وسائِلِهِ وبأبعادِها من أجل تهجيرِكَ، ومحاربتِهِ إيّاكَ بتجزئتِكَ وشرذمتِكَ بمسمّياتٍ تتعدّدُ، وبطمْسِ معالمِكَ العربيّةِ الموحِّدةِ لكلِّ الفئاتِ؟
    وما معنى أن تواجهَ دينونةَ أخيكَ العربيِّ مِن ناحيةٍ أخرى، ويتّهمكَ بالتخلّي عن ملامحِكَ وهُويّتِكَ الفلسطينيّةِ، طالما أنّكَ أُرغِمْتَ على حَمْلِ جوازٍ إسرائيليٍّ، يُرضخُكَ للقوانينِ والشروطِ الإسرائيليّةِ والمواطنةِ الجزئيّةِ كعربيٍّ في دولةٍ يهوديّة؟
    وها أنتَ المكبّلُ بسلاسلَ من أسئلةٍ لزجةٍ تدورُ محاورُها على ذاتِها:
      مَن أنا.. وإلى أينَ أسيرُ وأُسَيَّرُ؟
      كيفَ أتحدّى وأُجابهُ مشاقَّ ووعورةَ الدروبِ المرسومةِ؟
       كيف لا يسلبُني الهروبُ مِن هذا المَسيل؟
      هل هناكَ مِن خيارٍ أمامي سوى الهجرةِ والرحيلِ إلى بلدٍ آخر؟
      وإن بقيتُ في الوطن، هل سيتمكّنونَ من أن يخلعُوا عنّي ثوبيَ العربيَّ، ويُلبسوني ثيابَهم المفصّلةَ لي بمقاساتِهمِ وألوانهم؟
     هل أخضعُ للذوبانِ والتلاشي والاضمحلالِ كما يُخطَّطُ لي؟
     وهل إخوتي مَن يعيشونَ الشتاتَ على مضضٍ، أفضلُ حالًا منّي أنا الراسخُ اللاجئُ في بيتي وبلدي؟
     وكيفَ أثبتُ أنّي ابنُ هذه الـ فلسطين ولستُ لاجئًا فيها؟
      لأكونَ كاتبًا ينبغي أن أتماهى مع الهمّ العامّ والخاصّ، لأثبتَ أنّي أحملُ جوازًا وهُويّةً إسرائيليّةً رغمًا عنّي، وأنّ هذا الأمرَ لا يُلغي البتّةَ انتمائيَ الشديدَ إلى جذوري وحضارتي الفلسطينيّةِ الراسخةِ رغمَ كلِّ الجفافِ والتجفيفِ، ورغم محاولاتِ التخنيقِ والتقديدِ والتحجيمِ، واستخدامِ لغةِ التهجيرِ بشتّى لهجاتِها الملغومةِ..
     ففي أيّة محكمةٍ عادلةٍ يُثبتُ عنادي وصمودي وإصراري في صراعي المرير، أنّي بريءٌ من دمِ هذا التاريخ المفخّخِ؟
  ما هي البراهينُ والدلائلُ من أجلِ تثبيتِ حقّي الشرعيِّ والإنسانيِّ؟
  ولماذا أظلُّ أنا الفلسطينيُّ مُلزَمًا ومتأهّبًا للدفاعِ عنّي؟
    ويظلّ هوَسٌ لا يَخبو يؤرّقُني على مدى الصحوةِ:
    هل تنجحُ أجيالُنا القادمةُ في متابعةِ مشوارِ الهمِّ العامِّ، أم أنّ الهمَّ الخاصَّ قد يقودُها إلى مقولةِ "أسألُكَ يا ربُّ نفسي"، فتخضع للتهجيرِ أو التذويب؟
    كيف يمكننا تفادي الهواجسِ المرعبةِ والتصدّي لها؟
    أسئلةٌ قائمةٌ قاتمةٌ تتأرجحُ ما بينَ زوايا حادّةٍ ومنفرجةٍ، ممزوجةٌ بفكرٍ وأحاسيسَ متألّمةٍ وفلسفةٍ متأمّلةٍ بالخلاصِ والفرجِ، نسكبُها بقوالبَ إبداعيّةٍ وتصنيفاتٍ أدبيّةٍ متعدّدةٍ، توصلُ عصافيرَ النفسِ الضالةَ إلى أعشاشِها الآمنةِ مؤقّتًا، والتي ترقى أعماقَ الكونِ الكثيفةِ بتفاصيلِهِ المتناقضةِ وخيوطِهِ المتشابكةِ، وفَكِّها ونَسْجِها، وسَبْكِها في أُطرٍ فنّيّةٍ صاخبةٍ صامتةٍ، ناطقةٍ خرساءَ، لكنّها أبدًا ليستْ عمياءَ فاقدةً اتّجاهاتِها، فهي هادفةٌ وليستْ عبثيّةً.
    اليومَ علا الصوتُ.. قويَ صداهُ.. تخطّى الحدودَ المفروضةَ بفضلِ النتّ، فصارَ مُتنفّسًا حقيقيًّا فكريًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا، إن لم يكنْ حضورًا بالجسدِ، يوصلُ الرسائلَ للخارجِ القريبِ البعيدِ، وتبادل وجهاتِ النظر وتفهّمها لظروفٍ تلاصقُ الوجعَ.
    الكاتبُ إنسانٌ أوّلًا وأخيرًا، موهوبٌ مُطّلعٌ، يتحلّى ويتزيّنُ بكلُّ ما تحملُهُ حضارتُهُ وتاريخهُ مِن جمالٍ وصِدقٍ وأمانةٍ وإخلاصٍ، يتماهى مع كلِّ العناصرِ التي تُعزّزُ كيانَهُ الإنسانيَّ في ذاتِهِ ومجتمعِهِ، ليعكسَ مرآتَهُ الحقيقيّةَ الداخليّةَ بألقِها وجاذبيّتِها، ويبذرَ فكرَهُ وحِسَّهُ في نفوسِ قرّائهِ، لمتابعةِ واستمراريّةِ الثقافةِ والهُويّة!
    الكتابةُ رحلةُ تأمُّلٍ هاربةٌ مِن حصارٍ قسريٍّ غيرِ مسلَّمٍ به، إلى أبعدِ مدى ممكن، للاطّلاعِ على ما يجولُ فيما وراءَ القضبانِ والجدرانِ، وبالتّالي تحويلِها للغةٍ فنّيّةٍ إبداعيّةٍ أدبيّةٍ، مِن أجلِ معالجةِ أمورٍ قابلةٍ للتّخلخلِ، ومن ثمَّ إعادةِ التوازنِ الناجعِ إلى الكيانِ الوطنيِّ والإنسانيِّ بقيَمِه الإيجابيّةِ الراقيةِ البنّاءةِ، فعسانا وعساهم نردّدُ دعوةَ طاغور:
    "يا ربّ، لا تجعلْني أَتَّهمُ مَن يُخالفُني الرأيَ بالخيانةِ".




11
هل الجنسيّةُ صليبُ آلامِك؟

آمال عوّاد رضوان

    أعباءُ الحياةِ لا تقتصرُ على الهموم اليوميّةِ الشخصيّةِ للمواطن، ولا تنغلقُ متطلّباتُهُ التقليديّةُ على حدودِ أسْرتِهِ وبلدِه، بل تتجاوزُها إلى لغةِ هُويّتِهِ وانتمائِهِ، وتتعدّى جذورَ جنسيّتِهِ وولائِهِ، كأنّها ثيماتُ احتلالٍ تمتصُّ نخاعَ صمودِهِ، وتُقلّبُ أبجديّاتِ صبْرِهِ في أتونِ التحدّي!
    مئاتُ آلافِ العائلاتِ تُهاجر سنويًّا إلى بلدان أكثرَ نموًّا وتطوّرًا، لتحسينِ أوضاعِهم الاقتصاديّةِ واستثمارِ أموالِهم، وآخرون يهربون مِن القمْع والقتل بحثا عن استقرارٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ ودينيٍّ وعِرْقيّ، وطلّابٌ يُسافرون إلى دول أجنبيّة للعِلم، فمنهم مَن يتزوّج بأجنبيّةٍ ويصبح مواطنًا في تلك الدول، ويحظى بكافةِ حقوق المواطنةِ أو بجزءٍ منها وبفرصِ عمَل واستقرار، ومنهم مَن يتجنّس ويحافظ على تواصلِه مع أهلِهِ وأقربائِهِ وبلدِهِ، ومنهم مَن يعودُ إلى وطنِهِ بعدَ حين، ومنهم مَن ينخرط في وطنِهِ الجديد وينسلخ كلّيًّا عن وطنِهِ الأم، لحدّ التنكّر لانتمائِهِ ولغته وكلّ ما يرتبط بالوطنِ القديم!
   كم مِن حضاراتٍ اندثرتْ كالفينيقيّة والبابليّة والآشوريّة والقبطيّة وأخرى كثيرة، طُمِست معالمُها بفِعل الاحتلال؟
   كم مِن شعوبٍ مشرّدة مظلومة، مقهورة ومهدّدة بالاندثار؟
    فكيف تحافظُ على إرثِها الإنسانيّ والوطنيّ والحضاريّ على غرارِ فلسطينيّي إسرائيل عرب 48؟
   كيف ينعكسُ الاحتلال والجنسيّةُ القسْريّةُ على شعبٍ ومثقّفين أُخضِعوا للغةِ وهُويّةِ وجنسيّةِ المحتلّ؟
   هل تعتبرُ الجنسيّة نعمةً أو نقمة؟ متى؟ ومتى تكون الجنسيّةُ شرعيّةً ومُتاحة، أو مُحرّمةً وممنوعةً تصل لحدّ التهمة بالخيانة والتطبّع؟
   ما تعدادُ الذين سيُحافظونَ على انتمائِهم للوطن، وأولئك الذين سيُسلّمون شهاداتِ ميلادِهم في مطاراتِ التجنّس؟
   ما وجهُ الشبه بين هؤلاء وبين العالقين على الحدودِ مِن حمَلةِ الجنسيّاتِ الوطنيّة، كالفلسطينيّينَ في ليبيا ممّن يحملون الجنسيّة الليبيّة؟ أين مأواهم ووطنُهم مُحتلٌّ، وبوّاباتهم مُغلقة، ولَمُّ شمْلِهم بباقي أجزاء الوطن ينتظرُ اعترافًا أمميًّا بحقّ العودة؟
   رسائلُ إلكترونيّة كثيرة تصلني يوميًّا مِن عالمنا العربيّ والمشتّت في أرجاء العالم، تتضمّن إشادةً بالفِكر وأسلوب الطرح في المقالة والتقارير الإخباريّة، وأخرى ذوّاقة لحرْفي الشعريّ الملامس لشغاف الخيال، فيطربُني الإطراءُ ويدفعُ بقلمي إلى الاستفاضةِ العابقةِ بمواجعِ الحياة على أمل الجدوى، لكن تستوقفني أسئلةٌ فضوليّةٌ وجادّةٌ، تستفسر عن هُويّتي وجنسيّتي ومَن أكون؟
   وتقفزُ ذاكرتي الشقيّةُ إلى بداياتي في النتّ، وإلى اسمي المستعار "سحر الكلمات"، حين كنتُ أستكشفُ بصمتٍ عالَمًا جديدًا، وأُطرَدُ مِن غرفِ البالتوك بسبب جنسيّتي!
   بكيتُ وبكيت حينها! فما أشقاكَ حين يكبّلُك بأغلالِ التصهينِ والجاسوسيّة أخوكَ العربيّ!
     وما أشقاه أخي بجَفلتِهِ منك وبجهله وأحكامِهِ المُجحِفة بتخوينِك، تسوقهُ إلى هاويةِ الاحتلالِ الفكريّ بحقّ فلسطينيٍّ عربيٍّ، أبى إلاّ أن يتجذّر في بلدِهِ رغمَ كلّ الرغم!
    وتتقافزُ عيني بينَ ذاكرتي الموجوعة وبينَ حروفِ عاشقٍ كنّاني بابنة موسى (يهوديّة)، وحروفٍ أخرى لحوارٍ مِن مجلّةٍ خليجيّةٍ يُحيّي فيها الداعية آمال رضوان، وحروفِ حوارٍ آخرَ مِن منبر الداعيات يسألُ عن رأيي بالحجاب، وعن سبب عدم اعتماري الحجاب بعْد؟
    وتستوقفني رسائلُ أخرى تخاطبُني بكلّ ثقةٍ على أنّني عراقيّة! سوريّة! مصرية! أردنية! خليجية! لبنانية! كلّ الاحتمالاتِ واردةٌ، لكن؛ فلسطينيّة؟
    في أيّ بلدٍ غربيٍّ تقطنين! فهل ينبغي أن أكونَ ببلدٍ آخر غيرَ موطني؟ هل يمكنُ محاكمةُ المرءِ على جنسيّتِهِ؟ مَن منّا اختارَ هُويّتَهُ الوطنيّةَ والقوميّة والدينيّةَ والعِرقيّة وجنسيّتَهُ القسْريّة؟
    وصلت خبيرة الآثار والجيولوجيا الأميركية د. جنفير آلنما إلى زقورة أور غرب مدينة الناصريّة جنوب بغداد، للبحثِ عن المرشدِ السياحيّ مُحسن المغترِب، وفوجئت به يتحدّث أكثرَ مِن خمس لغاتٍ عالميّة، لكنّه يجهلُ لغته العربيّة قراءةً وكتابة، ليؤكّدَ بذلك على شكلٍ آخر لاغتصابِ واحتلال اللغةِ والهُويّة، غيرَ الاحتلالِ الحقيقيّ القائم على غطرسةِ القوّةِ بأدواتِ القتل والقهر والاضطهاد، فهناكَ احتلالٌ يتمثّلُ بالجهلِ وبدَوْرِهِ في اتّساع رقعةِ الضياع!
   فكَم مِن مرشدين سياحيّين خدموا الاحتلالَ العسكريّ بدراية أو بدونِ دراية؟
    وكم مِن بدويٍّ مِن مُتتبّعي الآثارِ في الرمال والصحارى خدموا الاحتلال؟
    وكم مِن عشراتِ المُترجمينَ تَرجَموا لقوّات الاحتلال، وقُتلوا بعدَ إنهاءِ مُهمّاتِهم؟
    منذ سنين خضت غمارَ المقالةِ المنبثقة مِن واقع إنسانيّ مرير، لا تُغيّرُ طعومَهُ لا الأيّامُ ولا الأعوامُ ولا الدهور، ووجدتُني في حالةِ إغراقٍ فكريّ مُرهق بكلّ ما يدورُ مِن حولي في هذا العالم القريب البعيد الضيّق الشاسع، فمرّة يشدّني التاريخ الى سمومِهِ المُلوّثةِ بالمآسي، ومرّةً إلى جذورِهِ الغارقةِ بدماءِ الأبرياءِ مِن البَشر!
    وكإنسان لا يؤمنُ بحدودٍ جغرافيّة، تاريخيّة، عرقيّة، دينيّة أو سياسيّة، كتبتُ لأخي الإنسان، ذاك الذي يقعُ في كلّ مكان وزمان ومنذ الأزل، في ظلال الصراعاتِ والحروباتِ والمآزق، فيكون ضحيّة أخيهِ الإنسان على الغالب، ويدفعُ ضريبةً باهظةً قد تُكلّفُهُ حياتَهُ وزعزعة استقرارِ أسْرتِهِ وبلدِه!
    فهل يستطيعُ الكاتبُ الحرُّ أن يتعدّى حدودَهُ المُسيّجة بالألم، كي يُحاكي المُضطهَدينَ في الأرض مِن جميعِ القوميّاتِ والجنسيّات؟
     كيف يُحاكي العالَم، وحكايتُهُ تجتزُّها ألسنة القمع، وتجترُّها غوغائيّةُ الجهْل على السواء؟
    هل يُجيَّرُ الكاتبُ لصالح المُهيمنينَ، ويخدمُ المُساهمين في هدْم المجتمعات، مِن خلالِ قوانين ونُظم سياسيّةٍ وحزبيّة، تسوق إلى تفاقم الشراسةِ والاستغلال والقتل والنهب بين المجتمعات والشعوب؟
    وأخيرا..
    الكاتبُ؛ كيف يُناهضُ العاملين على توتيرِ المعايير الاجتماعية والدينيّة، ويمنعُ اختلال الأركان السياسيّة والأطر الاقتصاديّة، التي تخلق أجواءً مِن الفِتن والانتقام والهيمنة، فيَحمي المجتمعَ مِن صيرورتِهِ رهينةَ احتلالٍ فكريّ وسياسيّ وعِرقيّ ودينيّ، أو ضحيةً تتلاعبُ بها رياحُ المآسي وعذاباتٌ وضغوطاتٌ نفسيّة، تصلُ حدّ الرعب والنزاع واللعنةِ؟

12
ورشات طَشِّة ونَتْشِة التراثيّة في عبلين الجليليّة قضاء حيفا!
آمال عوّاد رضوان
عَبَلّين العريقةُ بشعارِها "العطاء"، عَبَلّين العريقةُ بلقاءِ أجيالِها وحاراتِها العتيقة، تألّقتْ وتأنّقتْ في يومِها الوطنيِّ البهيج 26.6.2022، وبمشروعِها "طَشّة ونَتْشة في حارات عَبَلّين الجليليّة العتيقة بالـ Old Village""، الّذي يمتدُّ مِن شارع الكنائس إلى شارع الجامع، وتسليط الضّوء على مَعالم عَبَلّين الأثريّة، وإشعال الحنين لجذور عَبَلّين وماضيها، وخلق دردشات في استرجاع ذكريات، وحكايات وشخصيّات من عَبَلّين.
هذا المشروعُ الثّقافيُّ التّراثيُّ الاجتماعيُّ الّذي نظّمتْهُ "مجموعة عَبَلّين في القلب"، ورغمَ أنّه ليسَ مُموّلًا وليسَ مَدعومًا مِن أيّةِ جهةٍ رسميّة، إلّا أنّه اتّسمَ ببرامجِهِ الدّسمةِ الزّخمةِ البسيطةِ والمُتنوّعة، بفضلِ الهِممِ الوثّابة، وبفضلِ تَبرُّعِ أصحابِ البيوتِ في هذه الحاراتِ بساحاتِ بيوتِهم، وعُقودِهم، وقَناطرِهم، لدعمِ وإنجاحِ هذا المشروع القيّم الّذي احتضنَ 19 جهةً نشطةً مِن جمعيّاتٍ وهيئاتٍ وأُطُرٍ عَبَلّينيّةٍ فعّالة، ومن كلِّ الشّرائحِ العُمَريّة، وخاصّةً العناصرَ الشّبابيّة:
الكشّاف الأرثوذكسيّ- بسطة بطاطا مشويّة، مدرسة الأحد- بسطة ذرة وكمبيك وشراب، ستيل درامز- عرض موسيقيّ، النّادي النّسائيّ الأرثوذكسيّ عَبَلّين- أكلات شعبيّة، وكُتب تراثيّة وأغاني نصراويّة بمشاركة الفنّان بشارة ديب، سالي عواد- ورشة طين للأطفال، عَبَلّين في القلب- بسطة وورشة كتب للأطفال، نادي المحبة- معرض لوحات فنّيّة، قهوة وشاي- معرض كُتب، جمعيّة السّلام- بسطة حلويات بيتيّة، الجبهة- بسطة عرانيس ذرة، نارة- ميكس فواكه وشيش نقانق وشيش شبس، فيت فات فود- عرايس وميني بورغر، كانون- فتوش وتبولة وكباب، صالون جوان- ورشة جدايل، كنيسة الإخوة- ترانيم وأشغال يدويّة وبسطة فول وترمس وكعك، فسيلة حياة- ورشة زرع شتلة للأطفال، جفرا- عرض دبكة، رشدي تاست- موكباتس، توب فروت فشافيش.
كلُّ هذهِ الجهاتِ عملتْ تَبرُّعًا منها، وأعطتْ مِن جيبِها ووقتِها وجُهدِها، بدافعِ الانتماءِ الوطيدِ لعَبَلّين، وإيمانًا منها بحضورِها ومُواكبةِ مسيرة الحضارة، ومُتابعةِ المشوار الثّقافيّ التّراثيّ، مِن خلال هذه البرامج الشّعبيّةِ المفتوحةِ للجميع، لتَخدمَ عَبَلّينَ الولّادةَ خيرًا وسلامًا، ولتُسعِد أهلَها بِطَشَّةٍ وجولةٍ في حاراتِها العتيقة، وتُمتّعهم بنَتْشَةٍ ولقمةٍ مِن أكلاتِها ونكهاتِها العابقة، ولتَنشرَ كلمةً طيّبةً وبسمةً مُتوهّجةً، ولتتحدّى وتتصدّى لكلِّ الظّروفِ بقولِها المُؤمنِ:
"عَبَلّين؛ طيّبةٌ عامرةٌ بطاقات ونشاطات أبنائها الإيجابيّة الخلّاقة البنّاءة"!
"عَبَلّين؛ عينٌ ساهرة على ماضيها وحاضرها ومستقبل بنيها المشرّف"!
"عَبَلّين؛ تتوهّجُ بكبارِها وصِغارِها مَحبّةً، وعطاءً، وانتماءً، ووحدةً كما عهدناها"!
عَبَلّين؛ شجرةٌ خضراءُ يانعةٌ بالنّوايا البنّاءة، شجرةٌ مُزهِرةٌ بالانتماء ومُثمِرةٌ بالعطاء.
عَبَلّين؛ مباركةٌ بكلّ أيادي أبنائِها البيضاء، وبنفوس أطفالِها وشبابِها الخضراء".

13
إِنْ كُنْتَ رَجُلًا.. دُقَّ وَتَدًا فِي الْمِقْبَرَةِ لَيْلًا!
آمال عوّاد رضوان
   رَجُلٌ مَهْيُوبٌ مَحْبُوبٌ، يَفِيضُ حَيَوِيَّةً وَنَشَاطًا بِوَجْهِهِ الْجَذَّابِ الْوَضَّاءِ، صَدْرُهُ يَكْتَنِزُ جَذْوَةً دَائِمَة الِاشْتِعَالِ بِالْغِبْطَةِ وَالْمَسَرَّةِ، يَبُثُّ الْوَعْيَ وَالتَّرْفِيهَ فِي مُحِبِّيهِ وَمُرِيدِيهِ، بِخِفَّةِ رُوحِهِ وَذَكَائِهِ الْوَقَّادِ، وَكَثِيرًا مَا يَنْفُخُ عَزِيمَةً وَمَرَحًا فِي نُفُوسِ رُوَّادِ مَقْهَى السَّمِيرِ.. يُغِيثُهُم مِن يَأْسِهِم وَكَوَارِثِهِم، فيَسْتَشِفُّونَ أَعْمَاقَهُ.. يَتَنَعَّمُونَ بِحَدِيثِهِ.. يُصِيخُونَ السَّمْعَ بِآذَانٍ مُرْهَفَةٍ لِصَوْتِهِ السَّرْدِيِّ الْجَهْوَرِيِّ الْمُشَوِّقِ، فَتَتَلَاعَبُ عَلَى شَفَتَيْهِ كَلِمَاتٌ وَبَسَمَاتٌ تَتَلَوَّنُ مَعَانِيهَا بِنَبَرَاتِ مَغَازِيهَا، وَيُسْهِمُ فِي تَخْفِيفِ أَعْبَاءِ وَعَنَاءِ الْحَيَاةِ مِنْ خِلَالِ سَرْدِهِ النَّاضِجِ، وَتَلَاعُبِهِ بِشَخْصِيَّاتِ قِصَصِهِ، وقد بَرَعَ فِي عَزْفِهِ عَلَى أَوْتَارِ الْحِكَايَاتِ والنَّهَفَاتِ، وَكَثِيرًا مَا كَانَ فِي غَمْرَةِ حُلُمِهِ، يَطْوِي جَوَانِحَهُ عَلَى مُغَامَرَةٍ جَدِيدَةٍ، فَيَصْلَبُّ عُودُهُ مُسْتَفِزًّا سَامِعِيهِ، وَيَتَعَمْلَقُ هَيْكُلُهُ فِي هَالَةٍ مِنْ لَهِيبِ تَحَدِّيهِ، وَكَثِيرًا مَا تَنْقَلِبُ الْأُمُورُ عَلَيْهِ بِأَمَرَّ مِنَ الْمَرَارَةِ، وعَلَى عَكْسِ مَا يَشْتَهِيهِ؟
   لكِن أَبُو زَيْدَان مُدَخِّنٌ صَعْبُ الْمِرَاسِ، اعْتَادَ أَنْ يَتَعَسْكَرَ وَيَتَمَتْرَسَ فِي مَكَانِهِ بِالصَّمْتِ، يُمَشِّطُ الْمَقْهَى بِنَظْرَةٍ بُولِيسِيَّةٍ بَارِدَةٍ تَسِيلُ بِاللَّامُبَالَاةِ، وَيَقِفُ لِمَشْبُوب بِالْمِرْصَادِ، يُبَيِّتُ لَهُ فِي جَوْفِهِ خَاطِرًا غَرِيبًا مُبَاغِتًا، وَيَظَلُّ يَتَرَبَّصُ وَيَتَرَبَّصُ بِفُرْصَةٍ سَانِحَةٍ يَتَحَيَّنُهَا.
  فَجْأَةً، وَبِنَبْرَةٍ تَشِي بِالْحِدَّةِ انْفَجَرَ صَوْتُهُ قُنْبُلَةً أَلْقاهَا فِي حِضْنِ مَشْبُوب، وَرَمَى عَلَيْهِ كَمِينَهُ وَشِبَاكَ مَقْلَبٍ جَدِيدٍ فَرِيدٍ، بِمُغَامَرَةٍ تَعْجِيزِيَّةٍ تُزَعْزِعُ جُذُورَ الْقُلُوبِ، وتُحَمِّلُ مَشْبُوب وَطْأَةَ تَحَدِّيهِ فِي مُخَاطَرَةٍ وَمُجَازَفَةٍ، فَوَقَفَ مَشْبُوب عَاجِزًا عَنْ مُغَالَبَةِ كِبْرِيَائِهِ وَرُجُولَتِهِ، وَرَضَخَ خَاضِعًا لِلتَّحَدِّي، لَا يَأْذَنُ وَلَا يُذْعِنُ.
   انْتَصَبَ أَبُو زَيْدَان وَاقِفًا يَهُزُّ طُرَّةَ طَرْبُوشِهِ الْأَحْمَرِ الَّذِي يَعْتَزُّ بِهِ.. أَخَذَ نَفَسًا عَمِيقًا بِسِيجَارَتِهِ.. نَفَثَ حَلَقَاتٍ كَثِيفَةً مِنَ السِّنَاجِ الضّبَابِيِّ.. زَفَرَ بِأَكْدَاسٍ هَائِلَةٍ مِنْ ضَجَرٍ، وَقَالَ بِصَوْتِهِ الْمُتَأَنِّي، وَهُوَ لَا يُلْقِي بَالًا إلَى أَحَدٍ:
   - يَا مَشْبُوب، "إِذَا رَفَعْتَهُ انْكَبَّ، وَإِذَا كَفَيْتَهُ مَا انْدَبَّ"!
  وَبِأَسْرَعَ مِنَ الْوَمْضِ أَجَابَ مَشْبُوب:
     - الطَّرْبُوش.
  وَبِعَيْنَيْنِ تَقْدَحَانِ شَرَرَ انْتِصَارٍ مُرِيبٍ، خَلَعَ أَبُو زَيْدَان طَرْبُوشَهُ، وَتَسَلَّلَ صَوْتُهُ خِلْسَةً إِلَى حُدُودِ الْحِيلَةِ، وَقَالَ بِصَوْتٍ مُتَحَشْرِجٍ أَزَّ حَادًّا ثَاقِبًا، دَوَّى كَرَزِيزِ الرَّعْدِ وَتَرَدَّدَ صَدَاهُ:
  - هذَا طَرْبُوشِي لَكَ..  لكِنَّ امْتِحَانَكَ صَعْبٌ "مِنْ قَاعِ الدِّسْت"..
  تَعَلَّقَتْ كُلُّ الْعُيُونِ بِلِسَانِ وَيَدَيْ وَعُيُونِ أَبُو زَيْدَان، إِذ وَضَعَ طَرْبُوشَهُ بَيْنَ يَدَيْ مَشْبُوب، ثُمَّ أَمْسَكَ بِحَبْلٍ يَتَدَلَّى مِنْهُ وَتَدٌ، وَقَالَ بِصَوْتٍ عَالٍ مُسْتَفِزٍّ:
   - إِنْ كُنْتَ رَجُلًا.. دُقَّ هذَا الْوَتَدَ بِجَانِبِ قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم اللَّيْلَةَ.
  رَهْبَةٌ رَهِيبَةٌ عَقَدَتْ أَلْسِنَةَ الْحُضُورِ.. أَلْجَمَتْهَا.. خَيَّمَ صَمْتٌ مُقَدَّسٌ جَمَّدَ الْوُجُوهَ وَالْأَجْسَادَ لِلَحَظَاتٍ، ثُمَّ تَبَادَلَ الْجُلَّاسُ النَّظَرَاتِ، وَنَارُ الذُّعْرِ شَبَّتْ تَمْتَدُّ.. تَتَطَاوَلُ.. تَتَزَحَّفُ إِلَى أَعْمَاقِ مَشْبُوب، فَبَدَا كَغَزَالٍ غِرِّيرٍ يُنَاوِرُ صَيَّادَهُ، وَقَدْ وَقَعَ فَرِيسَةً فِي دَوَّامَةٍ مِنَ التَّرَدُّدِ وَالتَّحَفُّزِ..
  تَضَاءَلَ مَشْبُوب فِي حَيْرَتِهِ، شُعُورٌ غَامِضٌ بَالِغُ الِانْقِبَاضِ غَمَرَ قَلْبَهُ، وَنَارٌ لَاسِعَةٌ لَاهِبَةٌ تَتَآكَلُهُ عَلَى مَهْلٍ، فَهَلْ يُقْلِعُ عَنْ عِنَادِهِ، وَلَا يَرْكَبُ مَتْنَ الصَّعْبِ مِنْ أَجْلِ التَّحَدِّي وَالنَّصْرِ؟
   لكِن؛ هَلْ ذَاكِرَةُ مَشْبُوب تَضْطَرِبُ وَتَتَزَلْزَلُ، وَهُوَ نَافِذُ الرَّأْيِ الْمُطَاوِعُ لِرُجُولَتِهِ، مَنْ خَطَّتْ مُغَامَرَاتُهُ عَلَى صُدْغَيْهِ تَارِيخًا حَافِلًا بِذِكْرَيَاتٍ، وَمُغَامَرَاتٍ، وَقِصَصٍ مُدْهِشَةٍ وَمُثِيرَةٍ؟
   قَالَ فِي نَفْسِهِ:
 - "لَا.. فَأَنَا مَشْبُوب الْمُكَنَّى بِالْمَجْنُونِ، أَعْتَزِمُ أُمُورِي بِرَأْيِي السَّدِيدِ.. أَتَّخِذُ قَرَاري الرَّشِيد، دُونَ أَنْ آبَهَ بِالنَّتَائِجِ، فَمَا كُنْتُ أَفِينًا ضَعِيفَ رَأْيٍ، وَمَا أَحْجَمْتُ يَوْمًا عَنْ تَحَدٍّ، وَلَا نَكَّصْتُ عَنْ حَمْلِ مَسْؤُولِيَّةٍ".
  بَعْدَ هُنَيْهَةٍ وَقَفَ مَشْبُوب وَالْهُدُوءُ لَا يُزَايِلُهُ، وَقَدِ اكْتَسَى مُحَيَّاهُ بِمِسْحَةٍ مِنَ الْجَدِّ الرَّصِينِ.. اعْتَمَرَ طَرْبُوشَ أَبُو زَيْدَان، فَبَدَا أَفْرَعَ طُولًا وَأَكْثَرَ فُتُوَّةً، وَبِكَلِمَاتٍ بَطِيئَةٍ مُتَمَهِّلَةٍ، وَبِنَبْرَةٍ حَاسِمَةٍ مَشْبُوبَةِ الرَّغْبَةِ وَالتَّحَدِّي أَرْدَفَ:
 - لَا حِيلَةَ لِي فِي الْأَمْرِ، سَأَدُقُّ الْوَتَدَ بِجَانِبِ قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم اللَّيْلَةَ.
  كَلِمَاتُ مَشْبُوب أَجْفَلَتِ السَّامِعِينَ مَشْدُودِي الْأَعْصَابِ، وَقَدْ خَيَّمَ عَلَيْهِمِ الصَّمْتُ.. جَحَظَتْ عُيُونُهُم مِنْ مَحَاجِرِهَا، تَرْمُقُهُ بِنَظَرَاتٍ مُتَفَحِّصَةٍ تَنْفُذُ إِلَى طَوَايَا نَفْسِهِ غَيْرَ مُصَدِّقَةٍ، تَحْدُجُهُ مِنْ عَلْيَائِهِ إِلَى أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ بِنَظَرَاتٍ ثَاقِبَةٍ، تَنْفُذُ إِلَى أَعْمَاقِهِ، تَخُضُّهُ، تَنْفُضُهُ، وَوَجْهُهُ الْيَشِي بِخَوَاطِرِهِ، لَا يَكْتَرِثُ وَلَا يَهْتَزُّ.
    طَالَعَ مَشْبُوب وُجُوهَهُمُ الشَّاحِبَةَ الْوَاجِمَةَ.. أَمْسَكَ عَنِ الْكَلَام.. أَخَذَ الْحَبْلَ وَالْوَتَدَ، ثُمَّ رَمَى (أَبُو زَيْدَان) بِنَظْرَةٍ فَاتِرَةٍ بَاهِتَةٍ، وَانْسَحَبَ مِنَ الْمَقْهَى مُنْكَفِئًا عَلَى نَفْسِهِ، وَعُيُونُهُمُ الْمَخْمُورَةُ بِالذُّهُولِ تُشَيِّعُهُ إِلَى الْبَابِ، وَقَدْ لَبَّدَ الْأَجْوَاءَ الْقَاتِمَةَ بِخَفَافِيشِ الْأَوْهَامِ، وَمَا بَدَّدَ جَحَافِلَ ضَبَابِ الشَّكِّ ثَقِيلِ الْقَبْضَةِ.
  كَيْفَ لَا يَتَحَدَّى، وَهُوَ الْأَحْوَذِيُّ الْيَسُوقُ الْأُمُورَ خَيْرَ مَسَاقٍ؟
  سَارَ بِاتِّجَاهِ الْمَقْبَرَةِ، وَقَدْ تَلَفَّعَتِ السَّمَاءُ بِأَرْدِيَةِ الْخَرِيفِ، وَأَخْفَتِ الْعَتْمَةُ وُجُومَهَا. اقْتَحَمَ الظُّلْمَةَ ثَابِتَ الْعَزْمِ، وَفِي مَأْمُولِهِ أَنْ يَنْجَحَ. سَارَ فِي أَحْشَاءِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ سَاهِمًا عَلَى غَيْرِ هُدًى، يَشْمَلُهُ صَمْتٌ ثَقِيلٌ، كَأَنَّهُ تَحْتَ تَأْثِيرِ قُوَّةٍ خَارِقَةٍ تَسُوقُهُ، تَشُدُّهُ إِلَى وَاقِعٍ مُثِيرٍ، فيَسْتَعِيدُ شَرِيطَ مُغَامَرَاتِهِ الْمَجْنُونَةِ.
  أَرْسَلَ بَصَرَهُ عَلَى سَجِيَّتِهِ، يُحَدِّقُ فِي قُبَّةٍ دَامِسَةٍ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مِنْ نُورِ نَجْمٍ يَتَسَحَّبُ بَيْنَ السَّحَابِ، أَو يُمَشِّطُ الْأُفُقَ مِنَ الضَّبَابِ، إِلَّا خَيَالهُ يُرَامِقُهُ، يُفَضْفِضُ لَهُ الصُّمْتُ خَوْفَهُ، لكِن.. مَا مِنْ أَمْرٍ يَثْنِيهِ عَمَّا عَزَمَ.
  تَبَدَّتْ لَهُ عُيُونُ اللَّيْلِ تَحْرُسُ عَوَالِمَ خَبِيئَةً، فِي قُمْقُمٍ مُعْتِمٍ فِي فَضَاءِ الْمَا وَرَاء، عَوَالِمَ مُفَخَّخَةً بِأَزْمِنَةٍ خُرَافِيَّةٍ، عَوَالِمَ مُتَخَيَّلَةً بِأَمْكِنَةٍ لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى اسْتِدْعَاءِ الْجِنِّ مِنْ كُهُوفِهَا، مِنْ مَنَازِلِهَا الْمَسْكُونَةِ، وَما الْأَشْبَاحُ سِوَى مَسَارِحِ أَوْهَامٍ،  فَقَالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِامْتِعَاضٍ وَازْدِرَاءٍ:
  - "صَحِيحٌ أَنَّ الدَّرْبَ مَحْفُوفٌ بِالْغُمُوضِ، لكِن مَا هذِهِ سِوَى قُوًى غَيْبِيَّةٍ غَبِيَّةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ رُكُوبِ الْمَخَاطِرِ وَالْأَهْوَالِ دُونَ مُحَال"!
  فَجْأَةً اكْفَهَرَّ الْأُفُقُ وَامِضًا، يُنْذِرُ بِهُبُوبِ عَوَاصِفَ رَعْدِيَّةٍ، وَفِي تَمَامِ الظَّلَامِ الْحَالِكِ، وَعَلَى قَيْدِ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمُغَامِرِ الْمُجَازِفِ، شَخَصَ فِي الْبَعِيدِ أَطْيَافًا فِي الْعَرَاءِ، أَحَسَّ بِخُطُوَاتٍ سَرِيعَةٍ تَتَمَشَّى خَلْفَهُ، تَتَقَفَّى آثَارَ لَيْلَتِهِ اللَّيْلَاءِ، تَتَحَفَّزُ لِلْوُثُوبِ وَالِانْقِضَاضِ عَلَيْهِ.
  جَثَمَ الرُّعْبُ عَلَى قَلْبِهِ ثَانِيَةً.. رَكِبَهُ خَوْفٌ خَلْخَلَ مَفَاصِلَهُ.. تَصَخَّرَ خَطْوُهُ الْمُتَثَاقِلُ.. اشْتَعَلَ فِيهِ ذُعْرٌ يُقَطِّعُ نِيَاطَ الْقُلُوبِ.. تَفَشَّى فِي أَوْصَالِهِ وَقَدْ بَلَغَ مُنْتَهَاهُ، وَبِحَرَكَاتٍ يَشُلُّهَا الِارْتِيَابُ، ارْتَدَّ لِلْوَرَاءِ بِخُطُوَاتٍ مُتَخَاذِلَةٍ مُتَرَنِّحَةٍ، حِينَ تَضَخَّمَتْ أَمَامَهُ أَشْبَاحُ الْجَزَعِ، وَنَدَّتْ عَنْ صَدْرِهِ تَنْهِيدَاتٌ دَفِينَةٌ عَمِيقَةٌ بَيْنَ الْفَيْنَةِ وَالْأُخْرَى، تُعَبِّرُ عَنْ هَلَعٍ مَكْبُوتٍ فِي صَدْرِهِ.
  لَمَحَ بَيْنَ أَشْدَاقِ الْعَتْمَةِ قُبُورًا تَائِهَةً.. أَضْرِحَةً ضَائِعَةً.. سَرَادِيبَ مُعْتِمَةً سِرِّيَّةً.. كَأَنَّمَا تُفْضِي إِلَى أَوْكَارٍ شَيْطَانِيَّةٍ.. جَفَّ قَلْبُهُ وَوَجَفَ، وَانْتَصَبَ بِرَأْسِهِ الْمُرْتَفِعِ السَّامِدِ، يَسْتَنْشِقُ خَوْفَهُ مِلْءَ صَدْرِهِ.
 تَجَهَّمَتْ أَسَارِيرُهُ، وَوَقَفَ جَاحِظَ الْعَيْنَيْنِ يَخْتَلِسُ نَظَرَاتٍ وَجِلَةً، يُحَدِّقُ فِي الظَّلَامِ.. تَلُفُّهُ أَشْبَاحُ الْقَلَقِ وَأَصْوَاتُ اللَّيْلِ، وحِينَ تَعَالَتْ صَرَخَاتُ اسْتِغَاثَةٍ مُكَلَّلَةٍ بِسَوَادِ الْمَقَابِرِ، اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَذَيَانُ قُوًى غَيْبِيَّةٍ تَكَادُ تَسْحَقُهُ، وَتَهْتَاجُ الْمَخْيَلَةُ عَلَى نَحْوٍ يُرْثَى لَهُ. اسْتَجْمَعَ قُوَاهُ الْخَائِرَةَ الْوَاهِنَةَ، وَبِحَمَاسَةٍ مُنْقَطِعَةِ النَّظِيرِ عَصَفَتْ بِهِ ثَوْرَةُ صُرَاخٍ فِيهَا بَعْضُ اسْتِجْدَاءٍ:
  - الْبُيُوتُ الْمُقْفِرَةُ فِي اللَّيْلِ تَبْدُو كَالْمَقَابِرِ، وَكُلُّ بِلَادِنَا جَرِيحَةٌ، وَكُلُّ أَوْطَانِنَا مَقَابِر!
  أَخَذَ مَعَهُ مَا يَفِي بِالتَّحَدِّي الصَّاخِبِ، فَفِي جُعْبَتِهِ تَتَكَدَّسُ مُدَّخَرَاتُهُ التُّرَاثِيَّةُ مِنْ حَزَازِيرَ وَقِصَصٍ يُفْرِغُ فِيهَا اضْطِرَابَهُ وَخَوْفَهُ.. أَخَذَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ:
  "يَحْمِلُ قِنْطَار وَلَا يَحْمِلُ مِسْمَار"؟  يَا بَحْر انْتَظِرْني، سَأَدُقُّ الْوَتَدَ فِي بَطْنِكِ، وَلَيْسَ فَقَط فِي بَطْنِ الْمَقْبَرَة.
  ضَحِكَ مَشْبُوب وَجَلْجَلَتْ ضِحْكَتُهُ، لَوَّحَ بِحَبْلِ الْوَتَدِ وَقَالَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ:
   - "الْحَبْلُ فِي رَقَبَتِهِ، وَالدَّقُّ فِي صَلْعَتِهِ".  يَا وَتَدَ الْبَلَدِ يَا مُخْتَارها لَوْلِحْ لَوْلِحْ، وَيَا وَتَدَ الْأَرْضِ يَا جِبَالها، لَوْلِحْ لَوْلِحْ.
  وَمَا أَنْ وَصَلَ إِلَى قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم فِي آخِرِ الْمَقْبَرَةِ، حَتَّى أَطَلَّ الْقَمَرُ فِضِّيًّا سَاطِعًا يَرْعَى فِي مَرَاعِي السَّمَاءِ، وَقَدْ أَمَاطَ اللِّثَامَ عَنْ أَسْرَارٍ دَفِينَةٍ، فَنَظَرَ إِلَى الْقُبَّةِ الْمُضِيئَةِ، وَرَآهَا مُنْبَسِطَةً تُزْهِرُ فِيهَا نُجُومٌ زَاهِيَةٌ تَتَرَاقَصُ نَشْوَى.. ضَحِكَ وَقَدْ زَالَتْ مَخَاوِفُهُ وَصَارَ يُغَنِّي:
   - "قِنْطَار فُول مَبْذُور مِنْ عَكَّا لَإِسْتَنْبُول"، "وغَطَا أُمِّي رقُوم رقُوم، مِنْ غَزِّة لَوَادِي الرُّوم".
       هِلِّي وطُلِّي يَا نُجُوم نُجُوم، يَا هَالَة أُسْطُورِيَّة يَاعَنَاقِيد النُّور.
 تَدَفَّقَتِ الدِّمَاءُ الشَّبَابِيَّةُ فِي عُرُوقِ مَشْبُوب.. تَوَقَّدَتِ الْحَيَوِيَّةُ فِي بُنْيَانِهِ، وَبَدَأَ بِتَنْفِيذِ الْمُغَامَرَةِ الدَّسِمَةِ وَمُهِمَّةِ التَّحَدِّي بَخَطْوٍ مُتَمَهِّلٍ رَشِيقٍ.. فَكَّ الزِّرَّ الْعُلْوِيَّ مِنْ عُرْوَةِ شَرِيطِ الرَّقَبَةِ فِي قُمْبَازِهِ الْقُطْنِيِّ.. شَكَّلَ جَانِبَيْهِ السُّفْلِيَّيْنِ.. رَدَّهُمَا لِلْوَرَاءِ.. وَضَعَ كُلَّ طَرَفٍ تَحْتَ شَمْلَةِ الزُّنَّارِ الَّتِي تَلُفُّ خَصْرَهُ، ثُمَّ طَوَى أَطْرَافَ كُوفِيَّتِهِ خَلْفَ رَقَبَتِهِ.
   قَرْفَصَ.. أَمْسَكَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى بِالْوَتَدِ، وَأَمْسَكَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى بِحَجَرٍ كَبِيرٍ، وَبَدَأَ يَدُقُّ بِالْحَجَرِ عَلَى صَلْعَةِ الْوَتَدِ، لِيَغْرِسَهُ فِي الْأَرْضِ بِجَانِبِ قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم، إِلَى أَنْ أَحْسَنَ تَثْبِيتَهُ تَمَامًا، فَارْتَسَمَتْ عَلَى شَفَتَيْهِ ابْتِسَامَةُ انْتِصَارٍ.
   لكِن.. حِينَ هَمَّ بالْوُقُوف، تَزَعْزَعَ تَوَازُنُهُ، وَسَمَّرَهُ حِسٌّ خَفِيٌّ فِي مَكَانِهِ!
 تَلَاشَتْ بَسْمَتُهُ.. انْقَلَبَتْ سِحْنَتُهُ.. جَعَلَ يُحَاوِلُ النُّهُوضَ وَيُحَاوِلُ.. يُحَاوِلُ ويُعَافِرُ وَيَسْقُطُ دُونَ جَدْوَى.. تَمَلَّكَهُ الذُّعْرُ.. رَاحَ يُغَالِبُ فَزَعَهُ مُتَرَاخِيًا.. غَمْغَمَ مُزَمْجِرًا.. وَدُونَ وَعْيٍ مِنْهُ انْطَلَقَتِ اسْتِغَاثَاتُهُ.. تَقَهْقَرَ صُرَاخُهُ فِي تَأَوُّهَاتٍ مُتَقَطِّعَةٍ، وَأَنِينٍ مَبْحُوحٍ وَكَلِمَاتٍ مُبْهَمَةٍ:
  - اِلْحَقُوووووونِي.. مسكُوووووونِي.. اِلْحَقُوووووونِي.. الْأَمْوَاااات مسكووووني!
 وَكُلَّمَا حَاوَلَ الْوُقُوفَ يَسْقُطُ، إِلَى أَنْ تَمَكَّنَ مِنَ الْهَرَبِ أَخِيرًا، وَهُوَ يَصْرُخُ مِنْ شِدَّةِ خَوْفِهِ:
- اِلْحَقُوووووونِي.. الْأَمْوَاااات مسكووووني!
   فَإذَا بِالْعَتْمَةِ تَتَسَرْبَلُ ضَوْءَ سِرَاجٍ فَجْأَةً، وَتَتَلَقَّفُهُ حَشْرَجَةُ أَبُو زَيْدَان الْتَتَنَاهِى إِلَيْهِ مِنَ الْعُمْقِ الْبَعِيدِ، وَالْأَيَادِي تَتَصَدَّاهُ وَتُمْسِكُ بِهِ، وَهُوَ لَا زَالَ يَصْرُخُ: 
- اِلْحَقُوووووونِي.. الْأَمْوَاااات مسكووووني!
  مَا هَدَأَ صُرَاخُ مَشْبُوب، وَمَا هَدَأَتِ انْفِجَارَاتُ الْقَهْقَهَاتِ الْغَلِيظَةِ، وَلا هَدَأَتِ اهْتِزَازَاتُ الْأَشْبَاحِ الْتَتَمَايَلُ بِضِحْكَاتٍ هِسْتِيرِيَّةٍ، تُشِيرُ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِهَا، وَالضَّوْءُ لَا يَكْشِفُ إِلَّا جَسَدَ مَشْبُوب.
  رَمَاهُم مَشْبُوب بِنَظْرَةٍ زَاجِرَةٍ ضَارِيَةٍ، لَعَنَهُم فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَّةً، وَهُوَ يَحْبِسُ أَنْفَاسَهُ غَيْظًا، فَبَادَرَهُ أَبُو زَيْدَان:
  - أَيْنَ شِرْوَالَكَ يَا مَشْبُوب؟ لِمَاذَا خَلَعْتَهُ؟ هَلْ أَمْسَكَ بِكَ الْأَمْوَاتُ؟  هَلْ أَخَذُوا شِرْوَالَك؟
  بُهِتَ مَشْبُوب بِالسُّؤَالِ الْمُبَاغِت.. تَوَقَّفَ جَمِيعُهُم عَنِ الضَّحْكِ.. سَادَ جَلَالُ الصَّمْتِ، وَحِينَ نَظَرَ مَشْبُوب إِلِى جُزْئِهِ السُّفْلِيِّ مِنْ جَسَدِهِ، فُوجِئَ حِينَ لَمْ يَرَ شِرْوَالَهُ الْكَانَ يَلْبَسُهُ، فَتَدَارَكَ أَبُو زَيْدَان الْمَوْقِفَ وَقَالَ:
   - لِنَمْضِ إِلَى قَبْرِ الْعَمِّ سَالِم.
     مَضَى جَمِيعُهُم إِلَى الْمَوْضِعِ، فَوَجَدُوا الْوَتَدَ مَدْقُوقٌ وَمَغْرُوسٌ فِي الشِّرْوَالِ!
    غَالَبَ مَشْبُوب ضِحْكَةً مَرِيرَةً، وَانْتَزَعَ شِرْوَالَهُ مِنْ بَيْنِ أَنْيَابِ الْوَتَدِ الْمَغْرُوسِ.. لَبِسَهُ وَهُوَ يَشْتُمُهُم بِكَلِمَاتٍ بَذِيئَةٍ، وَقَهْقَهَاتُهُم تَعْلُو وَتَعْلُو، فَقَالَ أَبُو زَيْدَان:
 - لَقَدْ دَقَقَتْ الْوَتَدَ فِي شِرْوَالِكَ دُونَ انْتِبَاهٍ مِنْكَ يَا مَجْنُون، وَظَنَنْتَ أَنَّ الْأَمْوَاتَ أَمْسَكُوا بِكَ؟ 
لكِنَّكَ حَقَّا رَجَلٌ يَا مَشْبُوب، وَالْكُلُّ يَشْهَدُ.
   وَصَاحُوا بِصَوْتٍ وَاحِدٍ: نَشْهَدُ.. نَعَم..  نَشْهَدُ.
   عَادُوا أَدْرَاجَهُم إِلَى بُيُوتِهِم، يَحْتَضِنُونَ مَشْبُوب.. يَضْحَكُونَ.. يَمْرَحُونَ، وَيُضِيفُونَ طُرْفَةً جَمِيلَةً أُخْرَى، يُعَلِّقُونَهَا عَلَى مِشْجَبِ الذِّكْرَيَاتِ.


14

* "ألبسيني أدغالَ سماواتِكِ" (ص 104). المعنى الشّكليّ للكلمتين متناقض، فالأدغال ترمزُ وتشيرُ إلى العتمة، وللمتاهات، وللشّرّ، والصّراع وللأماكن الخطرة. والسّماءُ ترمزُ للنّقاءِ، والصّفاء، والسّلام والعدالة المطلقة.
* "خطيئتي المُقدّسة"  (ص 106).. ويبدو النّقيض - القداسة والخطيئة.
* "تُخلّدُهُ نارُكِ.. ولا يؤُولُ إلى رماد" (ص 114).
* "فاضتْ كفِّي المَثقوبةُ"  (ص120). * "نهاركِ الكفيف" (ص 127).
   وتستعملُ في هذا الدّيوان بعض المصطلحات والجمل التي لا يفهمها القارئُ البسيط  والسّطحيّ  ويدرك فحواها، ويظنُّ أنّها إيحاءاتٌ  جنسيّة، وقد تعني بها الشّاعرةُ أمورًا ومواضيع وقضايا أخرى، وأبعادًا إنسانيّة وتاريخيّة ولاهوتيّة وفلسفيّة، وترمزُ إلى العطاء والثمار والخصوبة والأمومة ودورة الطبيعة والحياة والبقاء، وتلتقي في هذا المنطلق والمنحى مع الشّعراء الصّوفيين، وهي تذكرنا بالشّعراء الصّوفيّين الكبار الغزليّين، وبكتاباتهم وقصائدهم الغزليّة المُوَشَّحَة بالتّعابير الحسّيّة والجنسيّة، ويقصدون مواضيع وقضايا أخرى: فلسفيّة، وإنسانيّة، وروحيّة، وتفاني المخلوق وذوبانه حُبًّا في محبَّةِ الخالق (الحب الإلهيّ):
     يقول الشّاعرُ الصّوفيُّ الكبير ابن الفارض: "ومن أجلها طاب افتضاحي/ ولذّ لي اطراحِي وذلي بعد عِزِّ مقامي/  وفيهَا حلا بعدَ نُسكي تهَتّكي/  وَخلعُ عِذاري وارتكابُ أثامي/ فرشتُ لها خدّي وطاءً على الثّرى/  فقالتْ لك البشرى بلثمِ لثامي".
       ومن الشّعراءِ الكبار في العصر الحديث الّذين نجد في شعرهم النّفحات الصّوفيَّة المترعة بالتّعابير والمصطلحات الجنسيَّة، الشّاعر العراقي الكبير (مضفر النّوَّاب)، ويقولُ في قصيدة له من ديوانه (وتريَّات ليليَّة): "في تلكَ السّاعةِ من شهَوَاتِ اللّيل/  وعصافيرُ الشّوكِ الذّهبيَّةِ تستجلي أمجادَ ملوكِ العربِ القدماءْ/  وَشُجَيْرَاتُ البرِّ تفوحُ بدفءِ مراهقةٍ بدويَّهْ/  يكتظُّ حليبُ اللّوزِ ويقطرُ من نهديهَا في اللّيلِ/ وأنا تحتَ النّهدينِ غناءْ".
ويقولُ أيضًا في قصيدةٍ أخرى: (شبقًا في لحمِ المرأةِ كالسّيفِ العذب الفحلْ).
 وتقول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان:
* ".. وَعَتِيقُ رَجَائِي.. مَا انْفَكَّ يَتَأَنَّقُ/ بِرَائِحَةِ بَيَاضِ أُنُوثَتِكِ!" (ص26).
* " دَعِينِي أُمَرِّرُ شَفَتَيْكِ../ عَلَى شَفَتَيَّ/ لِأَنْذَهِلَ اتِّقَادًا" (ص29).
* "ها تِينُكِ المُعَسَّلُ/ يقطرُ شهدُهُ مُتَّقِدًا/ كَجَمْرَةٍ/ تَفُوحُ مِنْهُ رِائِحَتُكِ/ وَغِمَارُ أُنُوثَتِكِ الــ أَشْتَهِي" (ص31)/ * "غِماري.. في تمامِ نضجِهَا/ مُثقلةٌ.. بلذائذِ فاكهتِكِ المُشْتَهَاةِ/ تشَقَّقتْ.. مُولعَةً بنُضْجِكِ". وإلخ.. (ص32).
   ويبدُو هنا بوضوح تأثّرُ الشّاعرة بسفر نشيد الإنشاد لسليمان الحكيم.
* "أَتَــــمَـــرَّغُ.. بِبَحْرِ جُنُونِكِ/ حِينَ أَنْفَاسُكِ/ تُنْبِئُنِي.. بِجُلِّ خَلَجَاتِكِ/ وَحينَ تَندُّ عَنْكِ.. شَهْقَةُ اشْتِهَاءٍ/ فَلَا أَنْطَفِئُ!" (ص34).
* " وَأَنَا الْمَسْكُونُ بِرَغْبَةٍ/ تَطْغَى عَلَى رَبِيعِ حِرْمَانِي/ دَفْقَاتِي/ مَا عَادَتْ تَحْتَمِلُ/ أَيًّا مِنَ تَأْجِيلَاتِكِ!" (ص28).
* "ولمَّا يزل طعمُ نهديكِ على لساني../ مذ كنتُ رضيعِكِ/ ولمَّا أزلْ..أفتقدُ بياضَ حليبٍ/ يدرُّ شبقًا على شفاهي! / ما أفُلَتِ اللّذّةُ..في رعشتِهَا"(ص39).
* "رفّئيني.. بوِئامِكِ والهَناءِ!/ ولا تتنصَّلي من دفءِ جَسَدي/ أريدُكِ.. أنثى مُشْبَعَةً بي/ تَهْذي في مجاهلِ الدّفءِ/ بحرارةِ ذراعيّ" (ص134).
     وفي الدّيوان نجدُ الكثيرمن الإشعاعات والنّفحات الصّوفيَّة والفلسفيّة عميقة المعاني، جليلة الفحوى والأهداف بأبعادها الإنسانيّة، والعاطفيّة، والفكريَّة واللّاهوتيَّة، ويصعبُ جدًّا فهمها وتفسيرها على القارئ العاديّ، إلا مَن كان مُطّلعًا، ومُلِمًّا، ومُتعَمِّقًا ومُتبحِّرًا في الأدب الصّوفيّ. ويبدُو هنا بوضوح تأثُّر الشّاعرة بالفكر والأدب الصّوفيّ، وبروائع شعرائهِ الكبار المُترعة والمُشِعَّة بالحبِّ الإلهيّ مثل: جلال الدّين الرّوميّ، ومحيي ابن عربيّ، وابن الفارض، والسّهرودي، وشمس التّبريزي، ورابعة العدويَّة وغيرهم... تقول الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان: 
* "بِأَوْتَارِ جَنَاحَيْكِ../ أُحَلِّقُ قَوْسَ قُزَحٍ.. خَلْفَ غَمَامِكِ/ حَيْثُ تَسْكُنُنِي السَّمَاءُ/ وَفَوْقَ حُدُودِ الْأَجْسَادِ.. تَطُوفُ بِي خُيُوطُ أَشْجَانِكِ!/ أَنَّى لِغَابِرٍ فِي الزُّهْدِ..  أَنْ تتَعَفَّفَ بُرُوقُهُ/ وَنِيرانُكِ الْمُرَاوِغَةُ عَرّافَةٌ.. فِي مَواقِدِي تَتَأَنَّقُ وَتَتَجَمَّلُ؟" (ص82).
 وتقول أيضًا: *"هَا زِئبَقِي راكِدٌ.. فِي قوارير عُزْلَتِي/ يُومِضُكِ حَكَايَا جَامِحَةً.. في فَجْوَاتِ زَمَانِي!". وتقول: *"لِلْمَقَامَاتِ.. سُبُلٌ مُقَدَّسَةٌ/ تَتَرَجْرَجُ.. وَتُلَامِسُ أَشِعَّتي/ وَتَتَوَغّلُ فِي فُيُوضِ تَقَرُّبِكِ!/ لكنَّ تهَرُّبَكِ/ يَفْتِكُ بِحَمَائِمِ أَعْشَاشِي/ يَقْضِمُ صَوْتِي الْمُتَعَسِّرَ فِي خَرَائِبِهِ/ مُذْ فَطَمَتْنِي عَنَاقِيدُ نَارِكِ!/ هَا نِصْفِي السَّمَاوِيُّ/ غَطَّ.. فِي تَفَحُّمِ ذَاكِرَتِي النَّيِّئَةِ/ يَحْرِقُ هَوَائِيَ الْمُمَغْنَطَ../ بِقَبْضَةِ صَمْتِكِ الصَّاهِرِ" (ص84 - 85).
 ونقول أيضًا: *"هَا الْحُزْنُ الْمُخْمَلِيُّ/ يَتَوَسَّدُنِي.. كَوْمَةً شَوْكِيَّةً/ يُوغِلُ فِي مَشِيبِي/ فِي إغْفَاءَةٍ مُقَدَّسَةٍ/ وأَنَا الْمُكَبَّلُ بِتِبْرِ رُوحِكِ/ مَفَاتِيحُ الضَّبَابِ بَاتَتْ بِيَدِكِ!
أَيَا طَاعِنَةً/ فِي رَفِيفِ عِطْرِكِ السَّمَاوِيِّ/ أَنَا مَنْ ضَمَّخَنِي حَصَى فَرَاغِي/ بِنَبْضِ بَحْرِكِ/ بَاتتْ تَعُبُّني جِرَارُ الْحُرْقَةِ عُطُورًا/ وَتُغَنِّي لِلرَّاحِلِينَ/ أَلَا فَابْرِقِينِي.. بِوَمْضِ عَيْنَيْكِ/ غِيمِي حَنَانًا.. هِيمِي مَطَرًا/ وَاغْسِلِي صَخْرَ قَلْبِي/ بِزَيْتِ حُبِّكِ.. بماءِ عَفْوِكِ
لَا تُؤَثِّثِينِي/ لِشِعْرِكِ الْأُقْحُوَانِيِّ/ بَلِ اُنْقُشِينِي.. قَصَائِدَ صَلَاةٍ/ لِيَخْشَعَ.. ضَجِيجُ ضَيَاعِي
رُحْمَاكِ/ لَا تُقَمِّطِي رِيحِيَ.. بِأَسْمَالِ النَّارِ/ لَا تَلْتَهِمِي شُعَاعَ سُوَيْعَاتِي/ بِدَامِسِ ظُلمِكِ/ وَلَا تَغْسِلِي دَمِي.. بِالطِّينِ.. بالْغُبَارِ/ بَلِ اِرْوِي طَرِيقِيَ.. بِخُضْرَةِ أَنَامِلِكِ/ وَانْبُشِي أَعْشَاشَ ضَوْئِكِ/ عَلَّكِ تَبْعَثِينَنِي.. أَنَا الْمَنْسِيُّ/ فِي مِشْكَاةِ عَتْمَتِكِ الْبَهِيَّةِ/ وَعَلَّنِي أَنْبَثِقُ ذَاكِرَةً حَيَّةً/ مِنْ شُقُوقِ النِّسْيَانِ!" (ص124 - 126).
     ونجدُ في هذا الدّيوان توظيفَ عناصر الطّبيعةِ: كالعصافير، والضّباب، والسّحاب الماطر،
والشّتاء والعواصف، كرموزٍ دلاليَّةٍ لأبعادٍ وأهدافٍ عديدة، ومثال على ذلك تقولُ الشّاعرةُ:
*"غَيِّبِينِي فِي عَيْنَيْكِ.. دَمْعَةً/ وَدَعِينِي.. أَحِنُّ.. أُجَنُّ/ وَلا أَكِنُّ.. فِي عُرْيِ عَصَافِيرِكِ!/ يَا مَنْ أَسْـتَـغْـفِـرُكِ وَتَـسْـتَـغْـرِبِـيـن!؟/ كُونِي ضَبَابِيَ الْمُسَافِرَ/ إلَى سَحَابِكِ الْمَاطِرِ/ كُونِي.. قُوتَ حُلُمِي الْعَاصِفِ/ كُونِي.. قُطُوفَ شِتَائِي/ لِيَطُوفَ.. بِنَا الدُّوَارُ" (ص42).
 ونجدُ أيضًا البعدَ الوطنيَّ واتّحادَ العاشق بالحبيبة الّتي هي الأرض والوطن والهويّة وكلُّ شيء، تقولُ الشّاعرةُ:
*"رُحْمَاكِ/ أَطْفِئِي يَأْسِي.. بِنُورِكِ الْمُقَدَّسِ/ لِأَظَلَّ أَجْمَعُ ظِلَالَكِ/ أُلَمْلِمُ رَعَشَاتِ ضَوْئِكِ/ وَلِأَسْتَظِلَّ بِقَدَرِي!/ أَعِدِّي مَائِدَةَ الْحُبِّ.. لِثِمَارِ حَنَانِي/ اِخْلَعِي عَنِّي مَنْفَايَ/ وَأَلْبِسِينِي وَجْهَكِ/ لِأَنْضُجَ.. بِحَنَانِكِ". (ص46).
     ويتجلَّى بوضوح البعدَ الوطنيّ وذكرَ أسماء بعض المعالم الهامّة في بلادنا مثل: مدينة حيفا ومنطقة الجليل، والنّاصرة والبشارة في هذه الجمل الشّعريّة:
* "مَا أُحَيْلَاهُ مُرَّكِ.. يَا ابْنَةَ النَّسَمَاتِ/ كَأَنَّ رَحِيقَكِ.. تَخَلَّقَ مِنْ نَسِيمِ حَيْفَا/ أَيَسُوقُ النَّسَائِمَ أَيْنَمَا شَاءَ/ لِطِينِ الْبِشَارَةِ نَاصِرَتِي/ لِتَجْبِلَكِ عُيُونِ الْجَلِيلِ فِي الْجَنَّةِ!؟/ يَا أَرَقَّ مِنْ نَرْجَسَةٍ اشْتَمَّهَا شَاعِرٌ/ فَغَدَا مَلَاكًا" (ص100).
      وبالإضافةِ للبعدِ الوطنيّ يحوي ويشملُ هذا الدّيوانُ مواضيعَ وأبعادًا عديدةً مثل: البعد اللّاهوتيّ، والبعد التّاريخيّ والميثولوجيّ (الأسطورة)، والبعد الفلسفيّ، والعاطفيّ، والبعد الإنسانيّ والفنّيّ. والشّىاعرة آمال عوّاد رضوان في هذا الدّيوان تتقيَّدُ بالقافيةِ والقفلة أحيانًا في نهاية بعض الجُمل الشّعريّة، وتتقيَّدُ بوزنٍ واحد أيضًا في بعض الجمل وبشكل عفويّ، فتضيف جمالًا وإيقاعًا حلوًا للقصيدة، وأمثلة على ذلك: 
* "وَحْدَكِ/ مَنْ تُؤَجِّجُنِي بِالْجِنَانِ.. مَنْ تُتَوِّجُنِي بِالْحَنَانِ!/ مَنْ تَضْفِرُنِي مَوَاجِعا../ فَتَصْفِرُنِي رِيَاحُ أَحْزَانِي!/ أَتُرَاكِ تُعَاقِبِينَنِي.. بِكَمَالِكِ؟/ أَتُرَاقِصِينَنِي.. عَلَى أجْنِحَةِ هَذَيَانِي؟" (ص61).
 وتقولُ: * "مَضَيْتِ.. وَخَلْفَكِ ظِلِّي الْمَوْجُوعُ/ وَمَا انْفَكَّتْ آفَاقِي.. يَتَنَاءَاهَا الجوعُ!/ فِي أَحْشَاءِ مَدَاكِ الْمُضِيئَةِ أَرْكَعُ/ وفِي دَهَالِيزِ عَيْنَيْكِ الْمُشِعَّتَيْنِ/ كَهَرَمٍ هَرِمٍ.. أَكْبُرُ وأَخْشَعُ!" (ص103).
    في هذه الأبياتِ الشّعريّة يوجدُ التزامٌ وتقيُّدٌ بالوزن أيضًا، مع خروج بسيط عن الوزن.. والأبيات على وزن المتدارك أو الخبب. ومثال آخر على التّقيُّد بالقافيةِ وقفلة البيت:
* "سُلْطانٌ حَالِمٌ.. تنَزّلَ بغيْمِ غَابَاتِي/ وَأَغْوَانِي!/ أَسْرَجَ عَيْنَ فرَسِي هَوًى/ وَهَوَى!/ وَلَمَّا يَزَلْ.. يُلَاغِفُ
أجْنِحَةَ شيْطانِي/ يُغْمِضُ خَطِيئَةَ مَلَاكِي/ عَلَى سَلَامِ إلْهَامِي.. وَمَا أَلْهَانِي!/ وَمَضَى/ مضى بعُمْرِي يَتَلَهَّى/ يَتَلَبَّسُ حُمَّى عِطْرِي/ يَتَلَمَّسُ ظِلَّ هَذَيَانِي!" (ص117).
      والشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان في هذا الدّيوان كما ذكرت سابقًا، تُوظّفُ الأساطيرَ (الميثولوجيا) وأسماءَ بعض الآلهة، والشّخصيّات الأسطوريّة القديمة، وبعض الشّخصيّات وأسماء الأماكن وإلخ...، بشكل صحيح وجميل وفنّيّ، فلا يُحسُّ القارئ الذّكيُّ بتكلُّفٍ، أو حشوٍ  وابتذالٍ، أو تكرارٍ مُملٍّ، فلها اطّلاعٌ واسعٌ على التّاريخ والأدب، وخاصّة تاريخ وآداب الشّعوب القديمة، وهي تمتلكُ ثقافةً واسعة، بالإضافةِ إلى موهبتها الشّعريّةِ الفنّيّةِ الرّاقية والمميّزة، ولهذا فقد نجحت نجاحًا كبيرًا في توظيف شخصيّات الآلهة الأسطوريّة، والشّخصيّات التّاريخيَّة وغيرها في الدّيوان، لأهدافٍ وأبعادٍ عديدة ومعانٍ تريدها، والقارئ المتذوّقُ، وليس فقط النّاقد الذّكيّ الفذّ والمتعمّقُ والمتبحِّر، يستطيعُ أن يدركَ ويفهمَ الكثيرَ من معاني وأبعاد هذا الدّيوان والفحوى المطلوب.
     وبهذا شاعرتُنا تتميَّزُ عن العديدِ من الشّعراء المحلّيّين الّذين يتَّجهُون إلى الأساطير، ويتوكّؤون على التّراث القديم والقصص القديمة الأسطوريّة، ويقومونَ بتوظيفِ أسماء بعض الآلهة، وهم لا يعرفون تفسير معنى وَكُنهَ كلِّ إلهٍ، وما هي وظيفتُه، ولأيّ إقليم وبلد وحضارة وشعب يتبع، وما يكتبونهُ ويُخربشونهُ هو مجرّد حشو ولغوٍ، ووضع كلماتٍ مِن دون فهم وإدراك.. وهنالك أمثلة عديدة على شويعرين وشويعرات محلّيّين، يذكرون أسماء آلهةٍ قديمة فيما يكتبونه ويخربشونه من تفاهات وسخافاتٍ، ويُسمّونه شِعرًا، ولا يعرفون ما معنى اسم هذا الإله أو ذلك الإله، ومن أين جاءت التّسمية، وما هي وظيفتهُ ومُهمّتُهُ وميزاته، ولأيّ بلدٍ وإقليم ينتمي .
     وإذا نظرنا إلى هذا الدّيوان من ناحيةٍ شكليّةٍ وللبناءِ الخارجيّ، فهو على نمطِ الشّعر الحديث، غيرُ مقيّدٍ بالوزن والقافية، أو بالأحرى هو مزيجٌ بين الشّعرِ الحديث الحُرّ والشّعر التّفعيلة، لأنَّ هنالك العديدُ مِنَ الجميل، ومن العباراتِ الشّعريّة في هذا الدّيوان مُتقيّدةٌ بتفعيلةٍ ووزنٍ واحد، وحتّى الجُمَل الّتي تُدرجُ في إطار الشّعر الحُرّ يوجد فيها موسيقى داخليّة، بيدَ أنّها مُكوَّنةٌ مِن أكثر مِن تفعيلة، أي هي موزونة، ولكنّها غيرُ مقيّدةٍ وملتزمةٍ ببحور الخليل بن أحمد الفراهيدي بحذافيرها، فقد يكونُ في الجملةِ الشّعريّة أكثرُ مِن وزن، وزنان، أو ثلاثة أوزان، والقارئُ المُتذوّقُ يُحسُّ ويشعرُ بجماليّة الموسيقى الشّعريّة، وإيقاعِها وجرسِها العذب، مع أنّها ليست كلاسيكيّةً تقليديّة، وعلى عكس البعض مِن الّذين يكتبونَ الشّعرَ التّقليديَّ مَحلّيًّا، ولا توجدُ عندهم الموهبةُ الشّعريّةُ الحقيقيّةُ الرّبانيَّة، ولا المستوى الثّقافيُّ المطلوب، فتأتي قصائدُهم المُقيَّدةُ ببحور الخليل كأنّها دونَ موسيقى ووزن، وكأنّنا نسمعُ شخصًا يُكسّرُ أحجارًا، لأنّها تفتقرُ للموسيقى الدّاخليّةِ، وللألفاظِ الجميلةِ العذبة وللصُّوَر الشّعريّة، فالشّعرُ الحقيقيُّ هو صُورٌ، وأحاسيسُ، ومشاعرُ، وعواطفُ، ولواعجُ جيّاشة، ووجدانٌ مُتدفّقٌ، ومعانٍ رائعةٌ وعميقة، ومواضيعُ راقيةٌ، واستعاراتٌ ومصطلحاتٌ بلاغيّة جديدةٌ ومبتَكَرة، وتلاؤُمٌ وانسجامٌ وتناغمٌ بين اللّفظ والمعنى، بالإضافةِ إلى جزالةِ اللّغة وعذوبةِ الألفاظ، وسلاسةِ العباراتِ والجُملِ الشّعريّة بإشعاعاتِها السّاحرة، وحتّى إذا لم تكن مُقيّدةً ببحور الخليل، فتكفي هذه الأسسُ والعناصرُ أن تجعلَ من كلِّ قصيدةٍ على هذا النّحو، أن تكونَ ناجحةً وإبداعيّةً ورائعة.
     وهذا هو الشّعرُ الّذي تكتبُهُ آمال عوّاد رضوان، والشّعراءُ القديرونَ المبدعونَ المجدّدون، والّذين يواكبونَ تيَّارَ الحداثة وركْبَ التّجديد في هذا العصر، مع المحافظةِ على المستوى الفنّيّ والإبداع بمعناه الصّحيح الشّامل، والجرس والإيقاع الموسيقيّ الدّاخليّ الّذي قد يكون أهمَّ أحيانًا من الوزن الخارجيّ (بحور الخليل)، ولكن إذا كان هنالك تقّيدٌ كامل بالوزن، تكون القصيدةُ أحلى وأعذبَ وأروع، ولها رونقها وسحرها المُمَيَّز، وتكون مُشعةً أكثر بالجمال الشّكليّ.
  وأخيرًا وليس آخرا: إنَّ هذا الدّيوان يُعدُّ من أحسن وأفضل الدّواوين الشّعريّة الّتي صدرت في السّنوات الأخيرة من جميع الأسس والمفاهيم النّقديّة والفنّيّة والذّوقيَّة، وخاصّة في صدد التّجديدِ والابتكار، والتّكثيف من الصّور الشّعريّة الجميلة والحديثة، والاستعارات البلاغيّة المبتكرة، والمعاني العميقة، والأبعاد الفلسفيّة والإنسانيّة، والنّفحات الصّوفية وومضات الإيمان الّتي تسربلُ حَيِّزًا لا بأسَ به من الدّيوان، وأيضًا المستوى الفنّيّ، والثّروة اللّغويّة الكبيرة الّتي يحتويهَا، وفي توظيف الرّموز، والتّراث، والتّاريخ، والأسطورة، والمخزون الثّقافي الواسع بالشّكل الصّحيح، وبالشّكل التّقنيّ والإبداعيّ الجميل والسّلس والمميَّز.
      لقد تطرَّقتُ إلى جميع الجوانب والأمور والمجالات الهامّة في هذا الدّيوان، وخاصّة الأمور والمواضيع الّتي لم يتطرّق إليها بشكل واسع الأدباء والنّقادُ الّذين كتبوا عن هذا الدّيوان، وجميع الّذين كتبوا عنه أبدعوا، وكان نقدُهُم موضوعيًّا ونزيهًا وأكاديميًّا وعميقا. وأنا، بدوري، حاولتُ الاختصارَ قدرَ الإمكان في هذه المقالة، لأنّها ليست أطروحة جامعيّة، ولو أردت التّوسّعَ وتحليلَ كلِّ جملة شعريّة كما يجب، لكتبت مئات الصّفحات التّحليليَّة لهذا الدّيوان الشّعريّ، فاكتفيتُ بالاستعراضِ مع شرح وتحليلٍ مُقتضب، وآمل أن أكون في هذه المقالةِ قد أعطيتُ الدّيوان حَقّهُ، وألفُ مبارك للشاعرةِ المبدعة آمال عوّاد رضوان على هذا الإصدار القيّم والمُمَيَز، وعقبال إصدارات أخرى أدبيّة وشعريّة إبداعيَّة.
أسماء المصادر:
1 - سفر نشيد الإنشاد - الكتاب المُقدّس - العهد القديم.
2 - قصيدة المواكب - (جبران خليل جبران - المجموعة الكاملة - دار الجيل - بيروت - لبنان
3 - ديوان وتريَّات ليليَّة - مضفر النّوَّاب - منشورات صلاح الدّين... و(مضفر النّوَّاب المجموعة الكاملة - منشورات قنبر - لندن).
4 - ديوان امرىء القيس الكندي - دار إحياء العلوم - بيروت - لبنان.
5- ديوان ابن الفارض.

15
استعراضٌ لديوان (أدَمْوِزُكِ وَتتَعَشْتَرِين).. للشاعرة آمال عوّاد رضوان!
(بقلم: الدّكتور حاتم جوعيه - المغار - الجليل - فلسطين)
مقدِّمة: يقعُ هذا الدّيوان في 152 ص من الحجم المتوسط - صدرعن دار الوسط اليوم للإعلام والنّشر/ رام اللّه، وهو الدّيوان الرّابع الّذي تُصدرهُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان. استوحَتِ الشّاعرةُ هذا العنوان (أدَمْوِزُكِ تتعشترين) من الأسطورةِ السّومريَّةِ، مُمَثّلةً بإلهِ البحر (دموزي) حارسُ بوّابةِ السّماء، والمسؤولُ عن دورةِ الفصول ورمزُ الذّكورة. وأمّا (عشتار) فهي إلهةُ الجَمال والحُبّ والجنسِ عند البابليّين. في هذا الدّيوان الشّاعرة آمال متأثّرةٌ كثيرًا بنشيد الإنشاد لسليمان الحكيم (العهد القديم)، ففي سِفر الإنشاد المُحبُّ هو العريس، وهو المسيح حسب الشّرح والتّفسير اللّاهوتيّ المسيحيّ، والعروسُ هي الكنيسة، والسّيدُ المسيحُ هو زهرةً الشّعب اليهوديّ وسوسنةُ الشّعوب، جاءَ مِن البَرّيّةِ؛ أي مِن امرأةٍ بتولٍ لم يَمسُسْها رَجُلْ.
    في هذا الدّيوان يوجدُ مزجٌ روحيٌّ بينَ العوالمِ الصّوفيَّةِ والمفاهيمِ الرّوحيّةِ المسيحيّة، ومِن مُنطلق شرح وتفسير نشيد الإنشاد بمنظارٍ ومفهومٍ لاهوتيٍّ مسيحيّ، فقصائدُ الدّيوان متواصلةٌ ومُتداخلةٌ ومُتسلسِلةٌ وكأنّها قصيدةٌ واحدة، وهي مستوحاةٌ ومُستمدَّةٌ مِن الأسطورة السّومريَّة.
    في الدّيوان نجدُ التّحوّلاتِ في الخطاب الشّعريّ والرّؤيةِ الشّعريّة إلى خطى- ثلاثيّةِ الأبعاد؛ (صوفيٌّ، إسلاميّ،موروثٌ مسيحيّ يهوديّ وأسطوريّ)، والمناجاةُ بين الحبيب في نشيد الإنشاد شرَحَها علماءُ اللّاهوت المسيحيّ في حوارٍ بين المسيح وكنيستهِ - كما ذُكِرَ أعلاه، بيدَ أنّ هنالكَ مُفسرين آخرين يَشرحونَ نشيدَ الإنشاد ويُفسّرونهُ بشكلٍ مختلف، وينظرونَ إليه كأنّه مجرّد غزل محض، ليس فيه المعاني والأبعاد اللّاهوتيّة ونفحات التّصوّف.
   ونجدُ تعلُّقَ النّفسِ الكليَّة بالذّات المُقدّسة في حوارها الشّعريّ؛ شوق الحبيب للحبيبة، ويُقابلهُ ويُكملهُ شوقُ الصّوفي للقاء ربّهِ، وكما جاء في نشيد الإنشاد كشوق العشيقة (كالتّفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين)، وفي نشيد الإنشاد تكونُ المعرفةُ باحتساء خمور المعرفة، وفي هذا الدّيوان الشّعريّ يتجلّى الأمرُ بمفهوم الزّهد والعبادة، فتقول (ص82): "أنَّى لِغابِرٍ في الزّهد.. أنْ تَتعفَّفَ بُرُوقُهُ؟"
     النّصُّ الشّعريّ عند آمال عوّاد رضوان لهُ جماليَّاتُهُ، وصُورهُ، ولغتهُ الخاصّة، وإيقاعهُ الدّاخليّ والخارجيّ الأخّاذ، مع بُنيةٍ مُركّزةٍ تتّكئُ على افتراضيَّةٍ مُستفِزّةٍ للّحظة، وهي تعتمدُ على التّكثيفِ بالأسلوب الفنّيّ، مع إيحاءاتٍ في حقلِهِ الدّلاليّ فكريًّا ووجدانيًّا، ومع تعدُّدِ ظلالِ الرّؤية بوحدةٍ موضوعيّةٍ مُنسابة، وهذه هي المجموعة الرّابعة للشاعرة آمال عوّاد رضوان، وقبلها أصدرت ديوانها "بسمة لوزيّة تتوهَّج" عام (2005)، الدّيوان الثّاني "سلامي لك مطرًا" عام (2007)، و "رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ" عام (2015). وكان لي الشّرفُ في كتابةِ دراسةٍ مُطوّلةٍ لديوانها "بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهَّجُ".
      كتاباتُ آمال عوّاد رضوان تُعبِّرُ عن حالةٍ شعوريَّة وجدانيَّة، يتداخلُ فيها السّياقُ الجماعيُّ والجمعيّ، ونصوصُ هذا الدّيوان تُحلّقُ وتصولُ ما بين عوالم الإله (ديموزي) كرمز أسطوريّ حارسٍ لبوابة السّماء ومسؤولٍ عن دورة الفصول وعنصر الذّكوريَّة في الطّبيعة، وبين زوجتِهِ (عشتار) إلهة الجنس والحُبِّ والجمال عند البابليّين، ويُقابلُها (إنانا) عند السّومريّين، وأفروديت عند اليونانيّين، وفينوس عند الرّومان. إنّ (دموزي) و (عشتار) في فضاءاتِ الوجود يُشكّلان أسطورةً مميّزةً، بأبعادِها وأسرارِها الجماليّةِ المثيرة، وبأحداثِها المُؤثّرةِ الّتي انعكستْ علاقةً عاطفيَّةً عظيمة.
     إنّ النّصَّ الشّعريّ عند آمال عوّاد رضوان يمتلكُ قدرةً تعبيريَّة رائعةً مُترعةً بالجماليَّة، مُتجرِّدةً ومُتحرِّرةً من المألوفِ والقوالب التّقليديّةِ الرّتيبة الجاهزة، مِن خلال ديناميكيَّةٍ مُكثّفةٍ وجديدة، وينمُّ عن هذا شاعرةٌ مُرهفةٌ تدركُ جيِّدًا بذاتها الشّفافةِ المبدعِة، والخلّاقةِ لتجربتها، والمدركة للواعجِها المُتوقِّدةِ عاطفيًّا ونفسيًّا، فنصوصُ آمال الشّعريّةُ هي ترجمةٌ صادقةٌ لمشاعرِها وأحاسيسِها ولواعجِها، ولانفعالاتِها وتفاعلاتِها الكيميائيَّةِ الدّاخليّة، مُشِعَّةً بالإبداع مِن خلال رؤيا عميقةٍ، ومِن خلال توطُّدِ أنماطٍ وتقنيّاتٍ فنّيّة، تعطي حياةً وحركةً نابضةً مُحرِّكةً للنّصّ، وفي طليعتها:  1* الرّمز.  2* أسلوب الاستفهام. 3* التّكراراللّفظي، وفيه يتحقّقُ التّوازن، ويخلق موسيقى شعريَّة.
      الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان تُوظّفُ المجاز المعبّر عن لحظاتِ وسويعاتِ التّوهّج، وهي تُحلّقُ في الرّؤيا الشّعريّة، وتعكس القيمةَ الجماليَّة للرّوح الإنسانيّة، وتمتاز كتاباتها بالتّكثيف اللّغويّ والمعنويّ، وفي الصّور الشّعريّة المبطّنة والمُثخنة بالتّورية وببنية السّرد الشّعريّ، وهي تستخدم الطّاقاتِ الحسّيَّةَ والصّوتيَّةَ والعقليَّة.
     وممّا يلفتُ النّظر في هذا الدّيوان ان الشّاعرة اختارت ضمير المخاطب المؤنّث بشكلٍ مُستمرّ، وكان عاملًا مُوحّدًا إضافيًّا، على اعتبار أنّ المجموعةَ كأنّها قصيدةٌ واحدةٌ متواصلةٌ ومتسلسلة، وكأن الّذي كتبَ نصَّ هذه المجموعة (الملحمة) هو شاعرٌ وليست شاعرة، وقد استطاعتْ وبكلّ لباقةٍ وفنّيّةٍ هذه الشّاعرةُ الأنثى في عصرٍ ومجتمعٍ ذكوريٍّ محض، أن تتجسَّدَ وتتقمّصَ صوتَ الرّجل وروحَهُ وضميرَهُ، وتنطقَ بلغتهِ وأسلوبهِ وطابعِهِ وميزتِهِ، مِن غير أن تُظهرَ الأنثى الشّاعرةَ ورقّتها، ولا يبدو ضعفُها وخضوعُها وتبَعيَّتَهَا.
      لقد أثبتت الشّاعرةُ القديرةُ آمال عوّاد رضوان قدرتَها ولباقتَها، على التّحدّثِ بلغةِ وأسلوبِ وروح الشّاعرِ العاشق، وعبّرتْ عن ميولِها ورغبتها أن يكونَ تعبيرُها هو لغة الشّعراء، وفي صدى وإيقاع الصّياغة الشّعريّة، وبشكلٍ عفويٍّ تلقائيٍّ هي تُقدّمُ رسالةً جماليَّةً للشّعراء، مفادها كيفيّة خطاب الأنثى، وذلك ليرتقيَ ويرتفعَ ويَسموَ الشّعراءُ بمحبوباتِهم وعشيقاتِهم إلى مصاف (عشتار) النّموذج، وللمثال الإلهيّ الرائع المترع والممتلئ بالحبّ والحياة والجمال. تقول الشّاعرة:
"وَمَا زِلْتُ فِي حَوْزَةِ مَاضِيكِ/ أَلُوذُ بِنَبْضِكِ/ ويُشِعُّكِ/ بَيْنَ اعْوِجَاجِ أَضْلُعِي"
      ولكي يكونَ نبضُ الاسطورةِ ناجحًا، يجب أن لا يوصفَ بمجرّد المفردات والتّعابير والمعاني الأسطوريّة، بل يجب أن يُوظّفَ كقيمةٍ فنّيّةٍ جماليَّة، وبشكلٍ متناسقٍ ومتناغم، وينطبقُ مع واقعِنا اليوم، فالأسطورةُ هي وسيلةٌ للوصول إلى المطلوب والمعنى والهدف المنشود.
       في هذا الدّيوان نجدُ الكثيرَ من الاستعارات والتّشبيهات البلاغيّة الجديدة المبتكرة، والصّور الشّعريّة الحديثة والخلّابة، ومثالٌ على ذلك في هذه الجمل واللّوحات الشّعريّة الفنّيّة (ص95):
* "منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ"/  *"لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!"/
* "وَهَا مُرُوجُ تَمُّوزَ.. هَاجَتْ أَثْدَاؤُهَا/ عَلى امْتِدَادِ مَجْهُولٍ.. أَرْضَعْــتِـنِـيهِ!"
* "رُؤى مَرَابِطِي"، * "لُعَابُ نُورِكِ"، * "مَضَائِقِ كِبْريَائِي"، * "إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!"،
* "لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ؟"، * "عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ"، * "عَلَى شِفَاهِي الْمَبْتُورَةِ"، * "كَيْفَ غَصَصْتُ بِقُبْلَتِكِ؟".
      وتستعتملُ الشّاعرةُ أيضًا العديدَ من الكلماتِ الفصحى الجميلة الّتي لا يفهمُها كلُّ شخص، مثل:  * "أَسْمَالُ طُفُولَتِي تَرْتَجِفُ.. تَرْتَعِدُ" (ص122). و "ضَمِّخِينِي.. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ" (ص124) حيث تقول: "أَنَا مَنْ ضَمَّخَنِي حَصَى فَرَاغِي".
 إنه لتشبيه واستعارة جديدة لم تستعمل من قبل إطلاقا. وتقول (ص25): 
* "وَاغْسِلِي صَخْرَ قَلْبِي/ بِزَيْتِ حُبِّكِ.. بماءِ عَفْوِكِ"، وهذه الفكرةُ مستوحاةٌ ومُستمدّةٌ من الدّيانةِ المسيحيّةِ واليهوديّة- (المعموديّة والطّهارة).
 وتستعمل الشّاعرةُ أل التّعريف بدل الاسم الموصول في العديد من الجُمل الشّعريّة في هذا الدّيوان.. وأمثلة على ذلك،مثل:
* "صُورَتَكِ الْـــــ.. تُـــثِــــيـــرُ فِيَّ كُــــلَّ حِــــرْمَــــانِــي" (ص 11)، بدل (صورتُكِ الّتي تتثيرُ فيَّ كلَّ الحرمان).
* "وَمَا نَسِيتُ غُزْلَانَكِ/ الْـ.. تَنْبِضُ بِرِقَّتِي الْحَالِمَة!" (ص13)
* "فَتَشْتَعِلِينَ خَفْقًا/ كَحَالِ قَلْبِي.. الْــ تَمَسُّهُ أَطْيَافُكِ!" (ص24). 
* "غِـــمَـــارُ أُنُـــوثَـــتِـــكِ الْــ أَشْـــتَـــهِـــي" (ص31)، وهذه الجملة قد تُفهَمُ وتفسَّرُ خطأً من قِبلِ بعض النّقّاد أو القرّاء، وكأنّ فيها إيحاً جنسيًّا، وهي بعيدةٌ كلّيًّا عن هذا الموضوع وهذا المجال، وتتحدّثُ عن الخصوبةِ والثمار ودورة الطبيعة والحياة.
* "أَيَّتُهَا النَّشْوَةُ الــ.. تَسْــ.. كُـــــنْ/ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ".
و "لَا تَغْفِلِي.. عَنْ نَايَاتِي/ الْــــ لَهَا.. عَطَشُ الْحَاجَاتِ!" (ص66).
* "وَكُونِي غَزَالَتِي/ الــْ لَمْ يَزَلْ.. طَـــعْــــمُـــهَـــا/ عَلَى لِسَانِي!" (ص86)؛ أي الّتي لم يزل طعمها.
* "آهٍ مِنْ طُفُولَتِكِ الْــ  تَتَشَاقِينَهَا بِي" (ص132)، أي الّتي تتشاقينها.
* "أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ  يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!" (ص 104)، أي الّتي يوسوسها السّوس... وفي هذه الجملة جناس غير تام.
* "أَيَا مَنْفَايَ الْــ  يَتَوَارَى.. خَلْفَ حَنِينِي الْغَافِي!"، بدل (الّذي يتوارى ) (ص106).
* "أَيَا يَنْبُوعَ الْمُضِيئَاتِ/ اِغْفِرِي لِيَدِ عَبَثِي الْــ وَأَدَتْ/ خَفَقَاتِ عُمْرِي.. مِيزَانَ شِعْرِكِ/ ونَبَضَاتِ حُزْنِي.. شَقِيقِ فَرَحِكِ!" (ص113). 
* "يَنْهَشُ غَمَامَ عيْنِي الْـ تَحَجَّبَتْ" (ص118)
* "أَلَا أيْقِظِي جَدَاوِلَ نَوْمِي../ الْــ يَغْرَقُ فِي شَيْبُوبَتِهِ!" (ص121).
 قاموس آمال عوّاد رضوان الشّعريّ غزيرٌ،حافلٌ وزاخرٌ أيضًا بالكلمات الفصحى الجميلة، مثل: زمهرير؛ (أي البرد الشّديد القارص)، و(يتسربل؛ أي يرتدي ويلبس)- فتقول (ص107):
* "أَعْتِقِينِي مِنْكِ/ مِنْ إِغْرَاءَاتِ أَوْهَامِي/ مِنْ زَمَهْرِيرِ أَحْزَانِي!"..
وهذا تشبيهٌ جديدٌ ومبتكر، لم يستعملهُ شاعرٌ مِن قبل. ومثل كلمة (جحافل؛أي الجيوش الجرّارة)، وكلمة (يُضَمِّخ)، و (يشرئبُّ)، و (اضمحلال)، و (يتأجّجُ) وإلخ...
   وتستعملُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان التّكرارَ اللّفظيَّ، أو تكرارَ أحد الأحرف في نفس الكلمة، لتضيفَ للجملةِ والعبارة الشّعريّةِ تصويرًا للكلمة، وتُضفي جمالًا وسحرًا ورونقًا موسيقيّا، أو لتؤكّدَ على معنى معيّن، أو لتوضيح الصّورة والمشهد الشّعريّ الدّراميّ للقارئ، وبشكلٍ فنّيّ تقنيٍّ ذكيٍّ ومُحكم.. وأمثلة على ذلك، مثل:
* "فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ.. أَسُووووووحُ" (ص12). يتكرّر حرف الواو هنا خمس مرات.
* "آااااهٍ.. كَمْ تَشَهَّيْتُكِ" (ص28). يتكرّر حرفُ الألِف 4 مرّات في كلمة آه.
* "آااهٍ لَوْ تَعْلَمِينَ/ كَمْ يَشُوقُنِي يَنْبُوعُ قُبَلِكِ/ اِسْـقِــنِـيـهَـا.. اِرْوِنِـيـهَـا" (ص 10).
 حيث تكرّر الحرف الأول (آ) للتأكيد على المعنى والحالة النّفسية والحسرة..
* " آآآآآآآآآآه/ نَشْوَةُ آهَتِي الْمَكْتُومَةُ/ مُتْخَمَةٌ.. بِلَدْغَاتِ تَجَاهُلِكِ!" (ص39).
   يتكرّرُ حرفُ الألف في كلمة (آه) عشر مرات، وتدلُّ وتشيرُ الكلمة هنا في هذا التّكرار الحرفيّ إلى ذروةِ وقمّةِ تفاقم النّشوة الحارقةِ والمتأجّجةِ والمكتومة..
* "وَيْحِي/ إِنْ كَفَّتْ رُوحِي عَنِ التَّشَظِّي/ فِي مَدَااااااااكِ الْبَعِيــــــــــــــــــــــــدِ" (ص 70).
    وتستعملُ في العديد من الجمل كلماتٍ مُفكّكةَ ومُبعثرةَ الأحرف أفقيًّا وعموديًّا، لتُشير إلى الوضع والحالة النّفسية، ولتؤكّدَ المشهدَ الدّراميَّ وغيرها أيضًا، مثل:
* "لَكَمْ يَسْتَهْوِينِي/ تَــ فْـــ كِـــ يـــ كُـــ كِ/ قَبْلَ أَنْ أُعِيدَ إِلَيَّ.. لُـــحْـــمَـــتَـــكِ" (ص29).
  وأيضًا مثل جملة: * "بَعْثِرِي  شِـــ فَـــ ا هِـــ ي/ عَلَى ضِفَافٍ.. تَلْتَهِبُ بِنبوغِ الْقُبَلِ!".
     ويشعرُ القارئ ويحسُّ بالفعل عندما يقرأ هذه الجملة الشّعريّة، كأنّ الشّفاهَ مُفكّكةٌ بحسب طلبها وأمرها، لأنّ كلمةَ (شفاه) كُتبتْ مُفكّكة ومبعثرة وكلّ حرفٍ لوحده، ويُدخلُ إلى نفسيّة المتلقّي (القارئ) نوعيّةَ المشهد وجوَّهُ والحالةَ النّفسيّة، وأنّ الشّفاهَ مبعثرةٌ ومفكّكة..
    وأمثلة أخرى من هذا الدّيوان على كلماتٍ كُتبت أحرفُها مُفكّكة ومبعثرة مثل: 
* "أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ../  بَــ ~~ يــْـ ~~نَ../ وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ/ وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ../ بَــ ~~ يــْـ ~~نَ../ جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!" (ص4)
* "قَلْبِي الْــــ  يَــــكْـــــــبُــــــــــــــــرُ  بِكِ/ حينَ../ يَـ~~جْـ~~ـمَـ~~ـحُ../ شَجْوًا" (ص5)
* "وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً/ أَ~ تَـــ~لَــــ~وَّ~ى/.. وَ../ أَ ~ تَـــ~ لَــ~ وَّ~ عُ/ فِي قَفَصِ النِّسْيَانِ!" (ص48).. أي أتلوَّى وأتلوَّع.
* "أَيَّتُهَا النَّشْوَةُ الــ.. تَسْــ.. كُـــــنْ/ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ" (ص56).
* "فَلَا تَقْلِبِي.. ظَهْرَ النَّهْرِ/ وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا/ دَعِيهِ يَــــجْــــرِي/ لِأُتَــوِّجَــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ" (ص62).
     وتستعملُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان الكثيرَ من علاماتِ السّؤال وعلامات التّعجب في نهاياتِ
الجُمل، فوُضِعَتْ وَوُظّفَتْ بشكلها الصّحيح الجميل والفنّيّ، تفيدُ الفحوى والمعنى المنشود، وتضيفُ رونقًا وجماليّةً خاصّةً ومميّزةً للجُمل الشّعريّة، ولا تخلو صفحةٌ واحدة في الدّيوان دون وضع بضعة علامات تعجّب واستفهام.. وأمثلة على ذلك مثل:
 * "كَأَنَّ حُبِّي وَهْمٌ.. كَإِلهٍ/.. إنْ لَمْ يَتَجَسَّدْ؟!"(ص6)
* "أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!" (ص7) 
* "وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي.. تَتَحَجَّبُ/ خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ!" (ص7)
* "فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ/ عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ.. بِلَا مَصَابِيح!" (ص9) 
* "وَأَظَلُّ فَضَاءَكِ الْمُشَرَّعَ../ عَلَى قَيْدِ الاشْتِعَالِ!" (ص11)
* "فَلَا أَغْدُو فَرِيسَةً لِمَجْهُولٍ/ يَصْطَادُنِي فِي غَفْلَةٍ؟" (ص16).
* "لَا تُدْخِلِينِي.. فِي طُقُوسِ الاعْتِرَافِ/ حَيْثُ تَبُثِّينَ الرَّمِيمَ../ بِنَارِ الْحَيَاةِ!" (ص29) 
* "دَحْرِجِي النُّورَ/ عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!" (ص41) 
* "مِنْ خَلْفِ أَسْوَارِ الضَّاحِيَةِ/ تُطِلِّينَ.. بِحَيَاءِ ضَحِيَّة!/ إِلَامَ تُقَدِّسُنِي خَطِيئَتِي؟/ إِلَامَ تُؤَلِّهُنِي حَمَاقَتِي؟" (ص43).
   ونجد هنا التّشبيهَ النّقيضَ أو المعاكس، أي المشبَّه والمشّبه به متناقضان ومتعاكسان، ولا يوجد أيّ رابطٍ أو شبهٍ بينهما (سلبيّ وموجب).
* "رُحْمَاكِ/ لَا تُضَيِّقِي آهَاتي.. بِانْحِسَارِ دَهْرِي!" (ص57) 
 * "يَا مَنْ تَفُوحِينَ عِطْرَ رَبِيعِكِ صَبَابةً/ إِلَامَ تُقَلِّدِينَنِي مَحَارَاتِ سُهْدِي؟/ إِلَامَ تُؤَلِّقِينَنِي مَزْهُوًّا.. بِصَفْعِ عِنادِكِ؟" (ص61).
* "أَتَطَالُنِي آلِهَةُ حُزْنِي.. فِي مِصْيَدَةِ الْعَبَثِ!/ أَأَعْتَصِمُ بِلِقَاءِ الصُّدَفِ.. أَمْ بِسَطْوَةِ لَهْفَتِي؟/ كَيْفَ
أَقْمَعُ خَرِيفِي.. بِأُغْنِيَةِ الْمَطَرِ؟/ أَتَخْلُو قَوَادِمُ الْأَيَّامِ.. مِنْ لَهْفَةِ اشْتِهَاءٍ؟" (ص63). 
* "رُحْمَاكِ/ أَلْبِسِينِي زُرْقَةَ الْحَيَاةِ.. فِي أَوْطَانِ مَائِكِ النَّمِيرِ!" (ص68).
* "أَيَا أَيَّتُهَا الْفَاتِكَةُ بِي/ أَنَّى أَتَحَمَّلُ ذُنُوبَ فَوَاحِشِ حَرْفِكِ؟/ مُذْ غَادَرَتْنِي.. غُدْرَانُ مُحَيَّاكِ/ انْطَفَأَتْ.. ذُبَالَاتُ عَيْنَيَّ!" (ص75). 
* "أَتُنْبِتُ مَوَانِئُ الْعَتْمَةِ آمَالًا../ فِي حَقَائِبِ الْهَجِيرِ؟" (ص85) 
* "فهَلْ أَتَعَثَّرُ بِيَنَابِيعِكِ.. لِتَرْثِيَ خَوَاطِرِي الْمُتَكَسِّرَة؟" (ص89).
* "فَـقَــطَــفْــتِــنِـي اشْتِعَالًا/ وَأَطْــفَــأْتِــنِــي أَقْمَارًا مُتَكَسِّرَةً/ لكِنْ.. كَيْفَ أَتْــقَــنْــتِــنِـي جُنُونَ أَبْجَدِيَّةٍ؟" (ص91).
* "منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ/ لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!" (ص95).
* "يَا مَنْ لِحُضُورِكِ الْبَذْخُ/ كَحُضُورِ مَلِيكَةٍ كِنْعَانِيَّةٍ/ كَأُسْطُورَةٍ.. فِي خَيَالِي تَتَبَخْتَرُ/ مِنْ حَوْلِكِ مَلَائِكَةٌ تَتَمَخْتَرُ/ فِي سُبْحَةِ تَرَاتِيلِكِ/ وَرُوحُكِ تَتَجَلَّى.. فَوْقَ يَاقَةِ حُلُمِي!/ أَحُرَّاسُكِ شُدُدُ؟/ أَتَحْرُسِينَكِ مِنِّي.. أَمْ تَحْرُسِينَنِي مِنْكِ؟" (ص102).
* "كَمْ أَتُوقُ إِلَى مَنَابِعِكِ/ لِأَرْوِيَ تَارِيخًا..مِنَ الْعِشْقِ الْمَكْنُونِ!" (ص111).
* "أَلَعَلَّ قِيثَارَةَ الْبَنَفْسَجِ/ تَتَسَايَلُ شَذًى مَسْحُورًا؟" (ص112).
* "وَقْتِي يَصْحُو مُعْتِمًا/ يَشِيبُ بِعِنَادِكِ/ وَلَيْلِي يَتَقَصَّفُ/ مُتَبَرْعِمًا بِيَأْسِي الْأَزَلِيِّ!" (ص115).
* "كَمْ حَنَّ خَيَالِي الْمَهْجُورُ!/ مَا انْحَنَى هَيْكُلُهُ/ وَبَوْحُ نَايِي الرَّشِيقِ/ مَا شَاخَ أَنِينُهُ!" (ص119) إلخ...
     وتُكثرُ الشّاعرةُ في هذا الدّيوان من استعمال الفواصل على شكل نقطتين بجانب بعض (..)، وتُوظّف في هذا الدّيوان الكثيرَ من الصّور الشّعريّة الخلّابة، والاستعاراتِ البلاغيّة الحديثة والمبتكرة وبشكل مكثّف، فديوانها حافلٌ وزاخرٌ بالصّور الشّعريّة، وبالاستعارات البلاغيّة الجديدة والمبتكرة الّتي لم يستعملها أحدٌ من قبل، وبالمصطلحاتِ اللّغويّة الجديدة، وأمثلة على ذلك مثل:
* "ففِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ/ أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ/ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!" (ص7).
* "أَنَا.. مَنِ امْتَطَتْنِي وحْشَةُ الْفَقْدِ/ لَمَّا أزَلْ/ أُسَبِّحُ.. سِحْرَ سُكُونِكِ/ مَا نَسِيتُ.. ذَاكِرَةَ عُشْبِكِ الْمُقَدَّسِ/ حِينَ يَسْتَحِيلُ.. لِصَرْخَةٍ فَرِيدَةٍ!" (ص13).
* "سَلَامًا مُدَلَّهًا.. أَعْصِرُنِي/ لِنُورِكِ الْبَهِيِّ/ يَتَأتَّانِي.. مِنْ مُحَيَّا  أَتَعَشَّقُهُ/ لَهُ فِي جِرَارِ الْقَلْبِ/ أَلْفُ مَعْنًى.. وَ.. أَلْفُ مَغْنًى!" (ص18).
* "أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ/ دَعِينِي.. أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ/ أُضِيءُ كُلَّ تَفَاصِيلِكِ/ لِتُكَلِّلِينِي بِالْفَرَحِ" (ص24).
* "رُحْمَاكِ/ فِي طَوَاحِينِ خَفْقِكِ الْمَخْنُوقِ/ أَبْجِدِينِي.. بِجُنُونِكِ!" (ص36).
* "يَا الْمُتَسَلِّلَةُ.. كَشُعَاعٍ وَحْشِيٍّ/ إِلَى أَقْفَاصِ سَعْدِي/ ضَمِّخِينِي.. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ/ دَحْرِجِي النُّورَ/ عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!" (ص41)
       ويبدو هنا بوضوح تأثُّر الشّاعرة بسِفر نشيد الإنشاد لسليمان الحكيم.
* "بَوْحِي.. وَرْدٌ جَرِيحٌ/ عَلَى سِيَاجِ رَبِيعِكِ/ لَا يَحُدُّهُ نَزْفٌ/ وَلَا يَلُفُّهُ وَدْعٌ.. وَلَا حَتْفٌ!/
وَأَنْتِ وَدْعِي وقَدَري!/ أَنْتِ وَدَعِي وَسَكَنِي!/
وَكَنُبُوءَةٍ وَادِعَةٍ../ فِي تَمَامِ الْأَزْمِنَةِ/ تَبْعَثِينَني شَهْوَةً/ فِي لُغَتِكِ الْيَانِعَةِ!" (ص45).
* "أَيَا مُهْرَةَ بَوْحِي/ حَلِّقِينِي إِشْرَاقَةً.. تَجْثُو فِي السَّحَر/ لِأَتَشَدَّقَ بِفِيكِ.. برَغْوَةِ مُرَاوَغَتِكِ/ ولِتَشْرَئِبَّ شِفَاهِي اللَّهْبَى ظَمَأً/ لِعَطَشِ أَلْسِنَةِ لَهَبِكِ/ فَمَا أَرْوَعَكِ.. أَيَا مَاهِرَةَ الْبَوْحِ/ أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً.. وَلَا أَرْتَوِي" (ص52).
* "غمَامًا روحيًّا.. تَتَشكّلينَ/  فِي وَاحَةِ أشْجَانِي/ وأَبَدًا/ مَا كَانَ جَمَالُكِ.. إِلَى اضْمِحْلالِي" (ص53).
* "أَرْغِفَةُ عُمْرِي../ قَدَّدَهَا غُبَارُ أَحْلَامِي!/ كُؤُوسُ جَوَارِحِي.. تَنَاهَبَتْنِي/ فِي دَهَالِيزِ اللَّحْظَةِ!/ وَقَوَافِلُ نبضي.. تَمْضِي مُثْقَلَةً بِشُحِّهَا" (ص58).
* "يُسَاهِرُنِي اللَّيْلُ../ يُرَاقِصُ زَنَابِقَ أَحْلَامِي/ يُدَغْدِغُ مَكْنُونَاتِ رُوحِي/ وَأَتَثَاءَبُنِي.. انْسِكَابَ خُمُورٍ/ لَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا/ إِلَّا مَنْ نَادَمَ كُؤوسَ أَبْجَدِيَّتِكِ!" (ص74).
* "وَلَمَّا تَزَلْ تَنْسَلُّ.. خُيُوطُ قَلْبِي شَاحِبَةً/ فيَكِرُّ وَجْهِي.. جَمَالَكِ/ ويَتَسَلَّلُ إِلَيَّ.. ضَبَابُ اللِّقَاءِ/ وَأَخْـــشَــعُ سَــاجِــدًا/ حِينَ تَتَدَلَّى ضَفَائِرُ آمَالِي!" (ص76).
* "يَا مَنْ تُفَتِّقِينَ أَكْمَامَ الْبَرْدِ/ بِلَفْتَاتِكِ الْـ.. تَـــثْـــقُـــبُـــنِــي/ كَعُصْفُورٍ كِرْكِسِيٍّ.. مُغَرِّدًا أَنْبَثِقُنِي/ أَتَسَرْبَلُ نِدَاءَكِ/ حِينَ تُسْدِلِينَ.. زَقزَقاتِ حُرُوفِكِ الْمَائِيَّةِ/ عَلَى جِذْعِ لَيْلِي الْمُجَوَّفِ/ وَأُورِقُ.. بِمِيلَادِ طِفْلَةِ الرُّوحِ!" (ص76).
* "أَجْهَشَتْ رَقْصَةُ زُورْبَا.. تُحَاكِي أَطْلَالِي/ تُجَبِّرُ مَا بَطُنَ مِنْ كُسُوري/ فِي هَوَامِشِ خَطوي!" (ص83)... وتوظف الشّاعرة هنا شخصيّة زوربا.
* "زِئْبَقُ الْمَسَافَاتِ يَزُفُّ هَمْسِي/ يَثُورُ وَلَهًا.. يَفُورُ شَغَفًا/ يَتَوَغَّلُ فِي رُكُودِ حِكَايَةٍ جَامِحَةٍ/ وَلَا يَخْنَعُ.. لِمَا بَطُنَ  مِنْ جِرَاحِي!" (ص92)، وقد تعني هنا المسافات الطّويلة الّتي لا تحسُّ وتشعر بها، وتختفي وتتلاشى كأنّها عنصر الزّئبق.
* "أَترَاكِ تُمْعِنِينَ فِي فَتْكِي/ وَفَكِّ عَقَارِبِ وِصَالِنا الْقُرْمُزِيِّ؟" (ص93).
* "أَكَأَنَّمَا../ عَجَّتْ أَنْفَاسُ الْمَاضِي الْمَثقُوبِ/ بصَرَخاتِي الْمُنِيفَة؟/ أَيَا غَزَالةَ النَّدَى/ ها ظَمَئِي.. لَمَّا يَزَلْ يَسْتَعِرُ بفُيُوضِكِ النَّوْرَانِيَّة!/ أَنَا مَنِ احْدَوْدَبَ لَهِيبُ أَدْغَالِي.. مُذْ فَطَمَتْهَا نِيرَانُكَ/ مَا تُبْتُ عَنْ ظَمَئِكِ
الْمُدَّخَرِ!" (ص93).
   ويبدو هنا بوضوح الصّور الشّعريّة الجميلة والحديثة، والتّعابير والاستعارات البلاغيّة المبتكرة
الّتي لم يستعملها أحدٌ من قبل.
* "منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ/ لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي/ اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!/ وَهَا مُرُوجُ تَمُّوزَ.. هَاجَتْ أَثْدَاؤُهَا/ عَلى امْتِدَادِ مَجْهُولٍ.. أَرْضَعْــتِـنِـيهِ!/ فِي رُؤى مَرَابِطِي/ تَفَشَّى سَيِّدُ الرَّحِيلِ الصَّاهِلِ!"
(ص95). 
* "لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ/ حِينَ هَشَّـتْهَا أَنْفَاسُ (أُحُبُّكِ)؟"(ص96).
* "بِلَيَالِي عَطْفِكِ الشَّمْعِيِّ/ تَضَافَرْتُ.. جَدَائِلَ أَحْلَامٍ مُتَكَسِّرَةٍ" (ص98).
* "دَعِينِي أَلْتَحِفُ.. بِرَوَافِدِ أَسْرَارِكِ/ لأَزْدَانَ بِحَمَائِمِ نَقَاوَتِكِ!" (ص106).
* "بِتَجَاعِيدِ نَدَاكِ/ أَمْتَطِي خُيُولَ خَيَالِي( (ص110).
* "عُذْرِيَّةُ سُيُولِي/ أَضْنَتْهَا مَلَاحِمُ شَفَقِكِ الْنّاعِسِ" (ص112).
* "من مواقدِكِ/  أستمدُّ دَيْمُومَة التّوَقّدِ." (ص114).
* "وَقتي يصحُو مُعتمًا.. يشيبُ بعنادِكِ/ وليلي يتقصَّفُ.. مُتبرعمًا بيأسي الأزليّ!" (ص115) تعطينا الشّاعرة هنا صورة شعريّة جديدة لليأس.
* " أأهابُ دَيْنونة التّمَرُّدِ؟؟" (ص114).
* "هَدْهِدي أهدابَ سُحبي.. بدمعةِ شمسِكِ !" (ص120).
* "أنا المُكبَّلُ بتبرِ روحِكِ" (ص124).
* " وَكَمِثْلِ خَلَاخِيلِ وقْتِي الْجَرِيحِ/ غَدَتْ تَعْزِفُنِي أنْفَاسِي!" (ص127).
* "لِمَ أَعْشَاشُ ذِكْرَاكِ .. فَاضَتْ عَارِيَةً/ زَاهِدَةً .. عَنْ فِرَاخِي الْجَائِعَةِ؟" ( ص 140).
* "هَا انْسَابَ لُعَابُ نُورِكِ/ في مَضَائِقِ كِبْريَائِي". و *"يُجَرْجِرُنِي.. إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!"،  و *"لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ؟"، و *"أَنَّى يَشِينِي مَوْجُكِ الْغَافِي/ عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ؟"، و *"أَنْدَهِشُ وَأَنْذَهِلُ/ كَيْفَ غَصَصْتُ بِقُبْلَتِكِ؟"
      وتستعملُ الشّاعرةُ آمال وتُوظّفُ في ديوانها أيضًا الكثيرَ من المُحسّنات اللّفظيَّة والبديعيَّة، وخاصّةً الجناس، مثل:
* "برَغوةِ مُرَاوَغتِكِ"، و *"لتشرئبَّ شفاهيَ اللّهبى" (ص 52).
* "حِينَ تُوَشْوِشُنِي أَهْوَاءُ أَمْوَاهِكِ/ يَلْهَجُ نَبْضُ مَدَاكِ حَيَاةً" (ص99).
* " أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!" (ص104)
* "أَبِمَائِكِ أَتَحَمَّمُ وَأَحْتَمِي!" (ص127)،  وهنا جناس غير تامّ، ولكن كلمة (أتحمَّمُ) غير صحيحة من ناحية لغويّة، وقد وقع في هذا الخطأ الشّاعر والأديب المهجريّ الكبير والعالميّ جبران خليل جبران في قصيدته المواكب حيث يقول: "هل تحمَّمتَ بعطرٍ وتنفستَ بنور"، والصّحيح هو: هل
(استحممت وليس تحمَّمتَ. (نقول: استحمَّ ويستحمُّ وليس تحمَّم و يتحمّمُ).
* "بِتَجَاعِيدِ نَدَاكِ/ أَمْتَطِي خُيُولَ خَيَالِي"(ص110).
* "تتلهَّى بغيِّهَا.. تتغاوى برغوةِ عشقي" (ص113)، جناس غير تامّ.
* "هَا الْمَجْهُولُ الدَّاهِمُ.. يُزَقْزِقُ/ ومَا عَادَتْ أَنْغَامُ الْغَمَامِ.. تَلْكُؤُهُ!" (ص122).
  ويبدو هنا بوضوح قدرةُ الشّاعرةِ وعبقريَّتُها الشّعريّة وذكاؤُها، في اختيار الكلمات المعبّرة والهادفة بشكلٍ يعطي المعنى الحسّيّ والذّهنيّ الدّقيق، ويوصِل الرّسالةَ والفحوى للقارئ بشكل صحيح وكامل تقنيِّ وفنّيّ مميّز.
   وتستعملُ في هذا الدّيوان وفي غيره من دواوينها الأخرى الفعل بصيغة الأنا، أي أنَّ الشّخص نفسه يقوم بالأمر وبإلقاء العمل على نفسه، وهذا الاستعمالُ اللّغويّ والنّحويّ جديدٌ ودخيلٌ على اللّغة والأدب العربيّ ومنذ فترة قصيرة، والقلائلُ من الشّعراء العرب الحديثين والمجدّدين الّذين يستعملونه، ويتوكّؤون على هذا النّمط كلونٍ وشكلٍ من التّجديد في اللّغة - محلّيًّا وفي العالم العربيّ، وقد يكون غير مستحبٍّ وَمُحبَّذ لبعض الشّعراء والأدباء، ولكن إذا استُعمِلَ بشكل صحيح وفنّيّ، وليس بشكلٍ مكثّفٍ ومُملٍّ، يكون جميلًا شكلًا وأسلوبًا، وعلى سبيل المثال في هذا الدّيوان، مثل:
* "هَاءَنَذَا أَتْرُكُنِي لَكِ قَلْبًا سَاخِنًا/ عَلَى عَتَبَةِ لِقَائِنَا" (ص 99)، أي أَتركُ نفسي لك قلبًا.
* "عَلَى حَافَّةِ الْمَسَاءِ.. غَادَرْتُنِي" (ص127)، أي غادرت أنا نفسي بنفسي
     وتستعملُ أيضًا التّشبيهَ العكسيَّ والنّقيض، فلا يكون هنالك أيُّ وجهٍ للشبه أو أي تقارب بين المُشبَّه والمُشبَّه به، أي عكس التّشبيه المباشر والواضح الّذي يكون كالتّصوير الفوتوغرافيّ المحض، والّذي ينتَهجُهُ ويتقيّدُ به معظمُ الشّعراءِ العرب منذ الجاهليّة إلى الآن.
     وفي العصر الحديث أصبح العديدُ من الشّعراء العرب المجدّدين، والّذين يسيرون في ركْب الحداثة، يبتعدون عن القوالب الشّعريّة التّقليديّة الجاهزة، وعن التّشبيهاتِ والاستعارات البلاغيّة المتسعملة والمستهلكة الّتي أكل الدّهرُ عليهَا وشرب، وبدؤوا يتعَمَّقُون في الفحوى والجوهر، ويبتكرون الكثيرَ من الصّور الشّعريّة، والاستعاراتِ البلاغيّة، والمُحسّناتِ اللّفظية الجديدة، وخاصّة في مجال التّشبيه، حيث لا يكون هنالكَ تصويرٌ واضحٌ ومباشر، ممّا يصعبُ على القارئ البسيط تحليلَ الصّورة الشّعريّة وفهمها بشكل عميق وشامل.
      ويوجدُ العديدُ من شعراءِ الحداثة في العصر الحديث على هذا النّمط، وأمّا في العصور السّابقة فربّما يكون امرؤُ القيس الكنديّ أولَ من جدّد في هذا المجال وابتكرَ، فابتعد عن السّطحيّة والتّشبيهات البسيطة المباشرة والواضحة، وتفنّنَ بكلِّ معنى الكلمة في استعمال تشبيهات وصور واستعارات بلاغيّة لم يستعملها شاعر من قبل، وفي الكثير من الأحيان لم يستعمل أدوات التّشبيه، واستعملَ التّشبيهَ والصّورةَ المعاكسة والمناقضة، وأبدع في هذا المجال أيُّما إبداع، وهنالك من النّقاد والأدباء الأجانب الكبار مَن شبَّهَ امرؤ القيس بالشّاعر العالميّ وليم شكسبير.
يقول امرؤُ القيس مثلا: "وليلٍ كموج البحر ِأرخى سُدوله عليَّ/ بأنواع  الهُمومِ  ليبتلي/ فقلتُ لهُ لمَّا تمطّى بصلبهِ/  وَأردفَ إعجازًا وناءَ بكلكلِ"
امرؤُ القيس يشبّهُ اللّيلَ بموج البحر، وقد أرخى سدوله، وهو أول شاعر عربيّ استعمل هذا المصطلح (أرخى اللّيلُ سدوله)، ويُشبِّهُ اللّيلَ أيضًا بالجَمل، مع أنه لا يوجد أيُّ قاسم مشتركٍ، أو أيُّ وجه شبه بين اللّيل وموج البحر والجمل، وهو أيضًا أول من استعملَ هذا التّشبيه (مِكرٍّ مِفرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ)... وفي كلمات متناقضة.
 ومثال على ذلك من ديوان الشّاعرة القديرة آمال عوّاد رضوان حيث تقول:
* "ما أحيلاهُ مُرَّكِ"  (ص100) - النّقيض - المر والحلاوة.

16
جمعية حريتهم والنادي النسائي يحتفلون بالميلاد المجيد في عبلين

آمال عوّاد رضوان
    شاركت   "جمعيّة حُرّيّتهم"  بالتعاون مع "النّادي النّسائيّ الأرثوذكسيّ- عبلين"، في احتفالات عيد الميلاد المجيد الشّعبيّة والفنّيّة الحافلة في عبلين، كلَوْنٍ آخرَ من فعاليّات ونشاطات ومشاريع "جمعيّة حُرّيّتهم"، وذلك بتاريخ 22.12.2021، فبابا نويل لـ  "جمعيّة حُرّيّتهم"  زار أوّلًا مقرّ "النّادي النّسائيّ الأرثوذكسيّ- عبلين"، ووزّع الهدايا على العضوات، ثمّ اتّخذ مدخلَ "معرض أبناء عواد" مَقرًّا له مقابل ساحة الميلاد، كموقعٍ مركزيّ واستراتيجيٍّ مُتاحٍ للزّوّار والمارّين، لتوزيع هدايا مميّزة مُعلّبة، تشملُ مُعجّناتٍ وحَلويّاتٍ نباتيّةً فقط، قام بتحضيرها وصناعتها عضوات "النّادي النّسائيّ الأرثوذكسيّ- عبلين"، وقد قامت "جمعيّة حُرّيّتهم" بدعم مشروع بازار "النّادي النّسائيّ الأرثوذكسيّ- عبلين" الّذي افتُتح بتاريخ 19.12.2021، بهدفٍ من النّسوة  أن يصنعنَ الفرحَ بأيديهنّ وبأرواحهنّ، مثلما كان في القِدَم.
      مشروع المعجّنات والحلويّات النباتيّة ابتدأه وتبنّاه "النّادي النّسائيّ الأرثوذكسيّ- عبلين" بشكل عمليٍّ ناجح، كمشروع تراثيّ وصحيّ مفيد لكلّ الشرائح العمريّة، فصنع دشايش بسبانخ، سلق، وفطاير ببصل، فقع، خضروات، خبيزة، فرفحينة، وأنواع عديدة، وحلويات مشكلة من غريبة، زرد بتمر، وكعك بعجوة، كعك بفواكه، ملاتيت، كعك أصفر، هريسة،  وأنواع أخرى كثيرة، وهذه الفكرةُ المميّزة والصّحّيّة للإنسان وللبيئة، جذبت أنظار "جمعيّة حُرّيّتهم" المهتمّة بالرفق بالحيوان، وبالتغذية النباتيّة الخالية من المنتجات الحيوانية، ولفتت أيضًا انتباه المحتفلين، وكان لها وقعٌ طيّب وجميلٌ في نفوس المتلقّين، خاصّةً بعدَ أن عادت الحياةُ تنبضُ في عروق البشر بعدَ عامين من الكورونا، فبعدما كانتْ بهجةُ الأعياد تُطلُّ على استحياءٍ وحذر شديديْن، أبى عام 2022 إلّا أن يَفرشَ عتباتِهِ بالفرحة، ويفتحَ أبوابَهُ على مصاريعها للمَسَرّة، فعمّتْ أجواءُ الفرح الراقصة بعيد الميلاد المجيد البهيج السعيد، ووسطَ المحلّات المشعشعة بكرات الثلج المضاءة، والشوارع والأشجار المزيّنة بالشلّالات المُشعّة، والبيوت المنارة بزينة عيد الميلاد، فاضت الموسيقى والتراتيل والترانيم الميلاديّة، احتفاءً بميلاد المخلّص للكون.
      عساها البشريّة تنعمُ فيه بالأمن والسّلام والإنسانيّة، وعسى الأحياءَ والفقراءَ والمرضى والمُشرّدين في البراري والمخيّمات وفي كلّ مكان ينعمون بالرّحمة والرأفة، بعيدًا عن روائح الدم والموت والخراب، وبعيدًا عن مآسي الحروب والجوع والتّشرّد، فلنُعلّقْ أمانينا وآمالَنا وأحلامَنا على أشجار الميلاد المجيدة، ولنرتّلْ مع الرّعاةِ ومع أطفالٍ يركبون على عرباتِ خيولٍ مُجنّحة مع "سانتا كلوز" بأصواتٍ ملائكيّةٍ مؤمنة:
 "المجد لله في العلى، وعلى الأرض السّلام، وفي الناس المسرّة"، وكلّ عام والبشريّة ترفلُ بسربال المحبّة، والمؤاخاةِ، والرّحمة، والإنسانيّة والحياة.
Aamaal Radwan | Facebook
https://www.horeiat-hom.com/


17
عبلين تحتفي بـ "يافا رسائل في ظلال النّكبة!"
آمال عوّاد رضوان
أمسية أدبيّة أقامتها جمعية السلام الخيرية/ عبلين، وجمعية جفرا للدبكة والفنون الشعبية/ عبلين، للاحتفاء بكتاب "يافا، رسائل في ظلال النكبة"، للكاتب عبد القادر سطل، وذلك بتاريخ 27.11.2021، في قاعة جمعية السلام في عبلين، ووسط حضور من المثقفين والمهتمين بالشأن الثقافي وتاريخ يافا وفلسطين، وقد تولى عرافة الأمسية السيد يوسف حيدر، وقدم د. سمير فوزي حاج  مداخلة حول تاريخ يافا الحضاريّ، والاقتصاديّ، والثقافيّ، والسّياحيّ عبر التاريخ وما قبل النكبة وما بعدها، ثمّ تلتها فقرة تمثيلية لمونودراما يافا والنكبة، قدّمها الأستاذ غابي عابد رئيس الرابطة لرعاية شؤون عرب يافا، ثمّ تحدّث الكاتب عبد القادر سطل عن دمج تجربته ما بين السرد الصحافي والتعبير الوجداني في توجيه رسائله للقارئ، بهدف الوصول إلى قلب ووجدان كل عربيّ وفلسطينيّ في يافا أو خارجها، وشكر الحضور والمنظمين والمتحدثين، وتمّ التقاط الصور التذكارية!
جاء في مداخلة د.  سمير فوزي حاجّ:   
الحديث عن يافا شاعريّ، لكن فيه الكثير من الحسرة والمرارة والألم، يافا الألق الشّاعريّ، يافا عروس الشّعر. لم يبقَ شاعر عربيّ وفلسطينيّ بشكلٍ خاصّ إلّا وكتب يافا. حين نتحدّث عن يافا، نتحدّث عن النّكبة، النّكبة الّتي شطرت برتقالة يافا  إلى شطرين، ونحن نختزلها  بقصيدة  الحبّ والجيتو لراشد حسين، حيث تحوّلت من مدينة تصدّر البرتقال، إلى مدينة تصدّر اللّاجئين: يافا - لمن يجهلها- كانت مدينة/ مهنتها تصدير برتقال/ وذات يوم  هدمت.. وحوّلوا/ مهنتها.. تصدير لاجئين
   ليافا في التّشكيل الشّعريّ صورتان نقيضتان، واحدة قبل النّكبة تتمثّل بفسيفساء جميلة مركّبة من "برج السّاعة"، و"الميناء"، وأحياء"المنشية"، و"النّزهة"، و"البصّة"، وشوارع "العجميّ"، وإسكندر عوض، وجمال باشا، والملك جورج، و"الفنار"، وقناطر بيوت حجر، وقرميد، وبيّارات برتقال وفلّاحين، وشاطئ جميل، وميناء، وأمواج، ونوارس، وقوارب وسفن، وبحّارة، وصيّادين،  وأصداف، ورمال، وسماء، ونجوم، وأعراس، وسهرات، وكواعب، وأزهار فوّاحة الشّذى"، وهذا ما سمّيته "يافا الجميلة"، لأنّها مُلهمة الشّعراء ومتيّمتهم، ومُسْكرة حواسّهم.
    وصورة ثانية بعد النّكبة، تُصوَّر فيها يافا مكانًا مفقودًا ومسلوبًا من أهله، مسكونًا بالهدم والخراب، ومسفوعًا بالفجيعة وأسراب السّنونو، من خلال مزامير مترعة بالحسرة والمرارة  الكاوية، ومُحبّرة بالدّموع وعصير الشّوق، فتصبح مدينةً مشتهاة، ترحل إليها العيون والقلوب، من الشّتات والمنفى القسريّ، بينما تبقى الأجساد تنوب حولها عبثًا، في دروب الضّياع.
الكتابة داخل المكان: وفق  الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار: "المكان هو العلاقة الرّوحيّة، ومَن لم يعش المكان لا يستطيع الكتابة عنه".
 إميل حبيبي قال في آخر مقابلة معه حول رواية (عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني: "أنا مانعة صواعق"، بما معناه؛ مشيت مع اتّجاهات الأماكن الموسومة في الرّواية، بدل النّزول إلى البحر أخذتني إلى أعالي الكرمل، ومَن لم يَعِش المكان يجب ألّا يكتبَ عنه.
معظم اليافيين في المنفى لديهم عطشٌ ظامئ لزيارة يافا، هشام شرابي زار يافا، وهارون هاشم رشيد أتى يافا، وزار بيت زوجته مروة جبر، وإبراهيم أبو لغد كانت أمنيته "أن يصبح رئيسًا لبلديّة يافا يومًا واحدًا، أو يسهر ليلةً في شاطئ يافا، "لكنّهُ أتى يافا الّتي كانت له "سدرةَ المُنتهى "في توصيف محمود درويش، ودُفن في يافا. وشفيق الحوت كتب "من يافا بدأ المشوار". ومحمود سيف الدّين الإيراني سمّى خسارتها (الخروج من الجنّة).
محمود درويش في أعماله الأولى الّتي كتبها في البلاد قبل أن يغادر الوطن، قال عن يافا:
أحجّ إليك يا يافا/ معي أعراس بيّارة/ فناديها عن الميناء/ عن الميناء ناديها/ وشدّيني وشدّيها/ إلى أوتار قيثارة/ لنحيي سهرة الحارة/ وشوق الحبّ للحناء.
أمّا الشّاعر الفلسطينيّ ابن غزة هارون هاشم رشيد شيخ الشّعراء سنّا، كتب شعرًا غنائيًّا  مُموسقا عن يافا، وغنّت له السّيدة فيروز قصيدته المشهورة "ليل الغرباء" الّتي يقول فيها:
 أبي... قل لي بحقّ اللّه/ هل نأتي إلى "يافا"؟/ فإنّ خيالها المحبوب/ في عينيّ قد طافا/ أندخلها أعزّاء/ برغم الدّهر..أشرافا ؟
أبي... لو أنّ لي كالطّير/ أجنحة، لتحملني/ لطرت بلهفة رعناء/ من شوق.. إلى وطني/ ولكنّي من الأرض/ تظلّ الأرض تجذبني
في العام 2008 التقيت الشّاعر هارون هاشم رشيد في بيته في القاهرة، وسألته عن هذه القصيدة الّتي غنّتها السّيدة فيروز، وعن "ليلى اليافيّة" إن كانت حقيقيّة أم تخييليّة، فأجاب إنّها حقيقيّة، استوحاها عام 1948 حين كان مع بقيّة الشّباب الغزيّين يبنون الخيام للاجئين الفلسطينيّين المطرودين من بيوتهم، والهاربين إلى غزة، حين سمع طفلة يافيّة تقول لوالدها: "بابا، وينتا بدنا نرجع ليافا".
   يافا تختزل وطنًا كاملًا، والنّكبة الّتي طردت ثلاثة أرباع مليون فلسطيني من وطنه، وهُدمت 418 (أربعُمائةِ وثمانِ عشرَةَ قرية)، شرخت يافا المنكوبة بشرًا وحجَرًا،لأنّ يافا تُشكّل ذاكرةً، وتاريخًا، وبوصلةً، وأرشيفًا، ووجدانًا لكامل الشّعب الفلسطينيّ، فقد طوّحت النّكبة بأكثر من 70 ألفًا من سكّانها، وبقي قلّة ينحصرون بأربعة آلاف. كما سلبت البيّارة والدّار من أهلها، وطُرد اليافيّون من مدينتهم إلى فيافي الشّتات، وحوّلت يافا إلى جيتو، وهُدم  وقُوّض المكان، وغُيّرت أسماؤُه، ومُحيت هُويّته، وشُوّه تاريخُه وإرثُه، وما زالت إسقاطات النّكبة ورياحها السّوافي تلفح الفلسطينيّ هنا وهناك، وها هي "رسائل في ظلال النّكبة" للكاتب اليافيّ
عبد القادر سطل تصل  بعد 70 عامًا من النّكبة.
"يافا رسائل في ظلال النّكبة" سرديّةٌ بنكهة يافيّة، تحكي بحسرة كاوية يافا الحاضر الّتي حُوّلت من عروس فلسطين وبانوراما الإشعاع الثّقافيّ، إلى جيتو ومخيّم لاجئين، ومن ناحية أخرى تتماهى مع صمود أهل يافا الباقين الّذين لعقوا جرح النّكبة وشمخوا. هذه السرديّة متنوّعة  الأجناس من كتابة عن الذّات، ورسائل شفويّة، وشهادات، ومذكّرات، ورواية شخصيّة، وبورتريه،  وأوراق مُحاكة  بتنويعةٍ من الضّمائر الطّاغي فيها  ضمير الذّات، مزجت بين اللّغة الشّاعريّة المنثالة بعفويّة واللّغة الصّحفية، ممسوحة بالحزن حينًا، والتّباهي بالبقاء واللّا تلاشي في الواقع المفروض على الباقين في وطنهم، وتتموضع في سرديّات ترميم الذّاكرة، وتوعية الأجيال اليافية على تاريخها وحضارتها وهُويّتها.
كُتبت سرديّات كثيرة ومؤلمة عن النّكبة ببؤر فلسطينيّة مختلفة هنا وهناك، معظمها شهادات شفويّة لمن احترقوا بنيرانها، حفاظًا على الذّاكرة وخوفًا من الضّياع، لكن قليلة هي السرديّات
النّكبوية المكتوبة  من قبل الفلسطينيّين الباقين في وطنهم.
"يافا رسائل في ظلال النّكبة" أشبه بسمفونيّة موسيقيّة بتنويعاتها وأصواتها المتعدّدة، تتّبع الكتابة غير المبرمجة، باتّكائها على التّراجيديّ، والكوميديّ، والنّثريّ، والشّاعريّ، والصّحفيّ، والتّاريخيّ، والقانونيّ، والشّهادات الشّفويّة في تصوير نهش وهدم وتهميش يافا، من قِبل المؤسّسات الإسرائيليّة مثل بلديّة تل أبيب وعميدار..
هذه السّرديّة مُطعّمةٌ بالمحاكاة السّاخرة  من سالب المكان ومُشتّت أصحابه وأهله، وهي لا تتوانى في لسع المتعاون مع السّلطة أمثال سعيد في متشائل إميل حبيبي، لكنّها تحتفي بالابتهاج والفرح بأهل يافا الباقين في مدينتهم،  والّذين هم أشبه بالفينيق الّذي ضمّد جراحاته وتشبّث في مدينته يافا، وقام بزرع الأزاهير وشتلات البرتقال يبن الرّكام والحطام، كما تحتفي بتلامذة مدارس يافا الزّاحفين نحو العلم والشّموخ. إنّها سرديّة بنكهة يافية تحكي بحسرة كاوية رحلة البحث عن يافا الماضي بعيون جيل ما بعد النّكبة،تنوب وتصوّر وراء السّياج المكان المسلوب المعبرنة أسماؤه.
هذه السرديّة رغم محمولها التّاريخي الثّقيل من عبق وألق يافا الماضي الجميل من أسماء شوارع، ومساجد، وكنائس، ومدارس، وصحائف، ودور سينما، ومقاهٍ محفورة في الذّاكرة، وأسماء فنّانين وشعراء ومعلّمين، فهي
تحتفي بالإنسان اليافيّ الّذي ترك بصمات عميقة  في حاضر يافا، أمثال طيّبي الذّكر خالد جدي (حكيم يافا)، ويوسف الدّيك والحاج فتح اللّه سطل، كما تشيد بالمؤسّسات اليافيّة الوطنيّة الفاعلة داخل المجتمع اليافيّ، أمثال الرّابطة لرعاية شؤون عرب يافا.
لا تتّبع هذه السّرديّة التّراتبيّة والتّسلسل، وكأنّها هي الأخرى من إسقاطات النّكبة، فهي أشبه بكتابات تيّار الشّعور أو تيّار الوعي. كما أنّها لا تتموضع ضمن الكتابة عن الذّات أو جانر "أدب السّيرة الذّاتية"، وفق تعريف الباحث فيليب لوجون الّذي يرى به «حكي استرجاعيّ نثريّ، يقوم به شخصٌ حقيقيّ عن وجود الخاص»، فالخطاب السّيرذاتيّ وكذلك السّيرواية (دمج جانر الرّواية (التّخييليّ) والسّيرة (الواقعيّ)، بعيدان توصيفًا عن هذه السّرديّة اليافيّة المترعة بالحسرة والمرارة الحارقة، لِما آلت إليه يافا، والمتماهية مع شعر"المهزلة العربيّة"  لمحمود الحوت حيث يقول:
يافا، لقد جفّ دمعي فانتحبت دما/ متى أراك؟ وهل في العمر من أمد ؟/ أمسي، وأصبح، والذّكرى مجدّدة/ محمولة في طوايا النّفس للأبد.
لكنّها في شطرها الثّاني تستشرف الفرح، والرّفض، والصّمود اللّافح والمنبعث من قصيدة الشّاعر السّوري أدونيس (علي أحمد سعيد أسبر): "مقدّمة لتاريخ ملوك الطّوائف" الّتي ترسم  يافا  ثنائيّة من اليوتوبيا -  اللّامكان  ونقيضه المكان. كما تأخذ  يافا الأدونيسيّة معنًى كونيًّا  ورمزًا ومدلولًا شموليًّا، فهي رمز للدمّ النّازف من خاصرة العالم، وهي رمز لكلّ إنسان مَنفيّ ومُشرّد عن بيته وبيّارته، وهي رمز للرّفض:
"غير أنّ النّهر المذبوح يجري/ كلّ ماء وجه يافا/ كلّ جرح وجه يافا/ والملايين الّتي تصرخ: كلا، وجه يافا."

18
احتفاليّة إشهار كتاب نعيم بن حماد/ لد. محمد خليل
آمال عواد رضوان
     وسط حضور متنوّع من الأدباء والأصدقاء والأقرباء والمهتمين بشأن الثّقافة، وتماشيًا مع تعليمات وزارة الصّحّة وظروف الكورونا، تمّ عقد حلقتين أدبيّتين لإشهار وتوقيع الكتاب الجديد "نُعيْم بن حماد معارضًا للخلافة العبّاسيّة"، للكاتب والنّاقد د. محمد خليل، وقد نظّم الحلقة الأولى د. محمد خليل، في بيته العامر في قرية طرعان، بتاريخ 10.11.2021، والحلقة الثّانية أقامها منتدى الفكر والإبداع، في المكتبة العامة في شفاعمرو، بتاريخ 13.11.2021.
     بعد أن رحَّب د. خليل بالحضور، قدَّم لمحة مختصرة تُعرِّف بالكتاب، وإضاءة أوّليّة على مضمونه، والظّروف التّي رافقت تأليف الكتاب إلى أن رأى النّور، وضرورة تكثيف هذه النّشاطات، دعمًا وتشجيعًا للمبدعين، وتشجيع الوعي القرائي وتذويته، لاسيما في ظل ما تشهده الحركة الأدبيّة والثّقافيّة المَحليّة من ركود وتراجع، فمثل تلك النّشاطات تتيح الفرصة لالتقاء المبدعات والمبدعين، بهدف التّواصل، وتبادل الرّأي بقضايا تهمّ الأدباء والحركة الأدبيّة المحلية، والمشهد الثّقافيّ المّحلّي.
    الشاعرة آمال عوّاد رضوان تحدّثت عن الكتاب وأهمّيّته في التّوعية وزعزعة الرّاكد، إذ يعكس ظروفنا الرّاهنة التّي ما زالت قائمة منذ أكثر من ألف عام، هذا وقد شارك الجميع وتفاعلوا بالنّقاش والمداخلات وإبداء الرّأي، وفي نهاية اللّقاء تمّ توزيع الكتاب على الحضور. 
   في ما يلي أسماء الحضور والمشاركات والمشاركين في الأمسية: د. فهد أبو خضرة، عصام مخول، يزيد عواد، توفيق جبارين، جورج جريس فرح، نبيهة جبارين، نهاي بيم، موسى حنا، سعيد بدر، ناظم حسون، عبلة فراج، ناجي ظاهر، حسين الشاعر، حسن عيد عدوي، مها حنا، فاطمة عدوي، خالدّية أبو جبل، أمين خليل، د. ليلى حجة، غازي عدوي، الأستاذ نظمات خمايسي، إياد خليل، وفاء بقاعي عياشي، إقبال خليل، زينة فاهوم و آمال عواد رضوان.
  جاء في مداخلة د. محمد خليل:
    موضوع الكتاب هو توظيف الأدبيّ والدينيّ في السّياسي، ومقدرته كسلاح في محاولته تحقيق التّغيير الاجتماعيّ والسّياسيّ، معتمدًا على  منهج التّحليل النّقدي للخطاب أو للنَّص الذّي يوظِّفه نُعيْم بن حماد، كما يطلعنا على مواقفه المحدّدة والواضحة من الدّولة العبّاسيّة، من خلال كتابه الموسوم بـ (كتاب الفتن). كما هو معروف، لا يمكن فصل العنصر السّياسيّ عن العنصر الاجتماعيّ، أو الدينيّ، أو الثّقافيّ أو الأدبيّ، فجميعها متعالقة بعضها ببعض، والعلاقة بينها جميعًا كانت وما زالت علاقة جدليّة بامتياز. إنّ الأدب نسيج لغويّ بما يملكه من وسائل تعبيريّة، وأخرى تصويريّة متعدّدة يمكنه أن يؤدّي دورًا إبداعًّا فاعلًا، لاسيما في غياب الحياة السّياسيّة الصّحية، وما يرافقها من وسائل منع وقمع وتقييد، فكلّما ازدادت حدّة القمع والملاحقة، وكلّما ضاق أفق الحرّيّة، ازدادت الحاجة إلى الإبداع!
      أو كما يقال: "الحاجة أم الاختراع"! ما يدفع المبدع إلى أن يلجأ إلى النّص، وكذا كلّ فنّان آخر، فقد يكون الأدب والأديب مولودين شرعيين للواقع وللمجتمع، ضمن إطار زمكانيّ محدَّد، وهو ما يجعل الأدب أفضل وسيلة، وخير مقياس للمتغيّرات أو التّقلبات التّي تطرأ على المجتمع، الأمر الذّي يمنح الأدب دورًا فاعلًا في حياة مبدعه وحياة المجتمع، وفي إمكانيّة تحقيق التّغيير المنشود، فالوجود حركة لا تعرف التّوقف تمامًا، مثلما هو النّهر في جريانه هي الحياة.
    جاء في مداخلة آمال عوّاد رضوان: ميزان الحقيقة بين كفة التّفكير وكفة التّكفير!
   ليس سهلًا أن يحاول أحدهم الخروج على السّلطة، وإماطة اللّثام عن الحقيقة دون تصادم، أو تفاقم أو إعدام، أو دون التّعرض للعنة المطاردة، والمراقبة، والسّجن، والنّبذ، والنّفي، واللإقصاء، والتّغييب، والتّنكيل والتّكفير كوسيلة قمع للمعارضة، أو حتّى التّصفية النّفسيّة والجسديّة، فكم بالحري إن أراد مبدع أن يواجه أوصياء على رؤيةٍ مقدّسة، أو يعارض نظامًا سياسيًّا دينيّا وعبّاسيًّا وهو في أوجِه؟
     كان نعيم بن حماد سنيّ المذهب شيعيّ الهوى، يميل إلى علي بن أبي طالب، ويُفضّله على عثمان بن عفان، وقد قال سارتر: "الكلمات مسدّسات عامرة بالقذائف، فإذا تكلّم الكاتب، فإنّما يُصوّب قذائفَهُ نحو الخصم"! فللكلمات تأثيرٌ كبير بمدلولاتها الدّينيّة، والسّياسيّة، والاجتماعيّة، والثّقافية، وبشتّى أفكارها المتعالقة ببعضها على المدى القريب والبعيد في التّوعية، وبتبديل القيم الفكريّة، وبالتّغيير الاجتماعيّ والسّياسي.
   لقد ارتاى نُعيم بن حماد أن يوظّفَ الموروث الدّينيّ من الأحاديث النّبويّة المُكمّلة للقرآن، بكلّ أبعادها الدّينيّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، كوسيلة ومحرّك ناجع في التّخفيف من المعاناة، فهي السّلاح الأقوى، ولها السّطوة في اختراق جُدُر المؤسسات السّياسيّة الحاكمة بقالب وغطاءٍ دينيّ، وفي مواجهة أنظمتها وأجهزتها الرّافضة للتّعدّدية، والّتي اتّخذت الشّريعة الإسلاميّةَ معيارًا أساسيًّا في تسويغ وجودها وأفكارها، إذ إنّ هذه الأحاديث النّبويّةَ لها خاصّيّةِ إقناع الجمهور من جهة، وتساهم في زعزعة الدّولة ومواجهتها، وفي مناكفة الاتّجاهات الفكريّة المختلفة من جهةٍ أخرى، لأنّها تعتبر مصدرًا موثوقًا حثّ القرآن على قبولها وطاعتها الواجبة، فهي مرجعيّةٌ أصليّة، لها دلالاتها الثّابتة والقاطعة والحاسمة التّي لا يُشكّكُ في مصداقيّتها، مهما تعاقب عليها الزّمان والمكان، لِما لها من امتدادٍ تاريخيّ ودينيّ في الوعي واللّاوعي الجمعيّ للمجتمع.  وما أشبهَ اليوم بالأمس البعيد، فهو واقع أليمٌ لا زالت الحكومات العربيّة تمارسه في تهميش المعارضين من الأدباء، وفي ترويع المفكريّن، وترهيب المبدعين بالقتل، وتهجير الأفكار وأصحاب العقول خارج أوطانهم، فنعيم حماد استبق الأحداث، ورامَ السّلامة كي يواجه الواقع، فهرب بفكره المناهض سِرًّا من بغداد إلبن ى مصر لمدة 40 عامًا، وضمَّنَ "كتاب الفتن" دوافعَه وأهدافه بموضوعاتٍ جريئةٍ، مناهضة للخلافة العبّاسيّة، ولانحراف الخلفاء العبّاسيّين عن شعارات الثّورة البدئيّة، وتناول القمع، والقهر السّياسيّ، والنّفي، والاغتراب بأشكاله المتعدّدة، وتطرّق إلى تهميش العنصر العربيّ، وسيطرة السّلطة العجميّة من الفُرس والأتراك.
   أصرّ نعيم بن حماد أن يكون ناقدًا متمرّدًا صاحب موقف، وأن يسلك الطّريق الصّعب، معتمدًا على روح الحديث النّبوي، إذـ "أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر"، فكتب بدمه سفر خلاص مجتمعه من السّلطان الجائر، وأمضى 7 سنين في سجن سامراء يتلقّى شتّى فنون التّعذيب، ثمّ قضى شهيدًا للحرّيّة عام 850م في خلافة المعتصم، "وقد أوصى أن يُدفن في قيوده وقال: "إنّي مخاصم"، فلم يُكفَّنْ، ولم يُصَلَّ عليه.
     البحث في هذا المضمار يتطلّب جهودًا كبيرة في التّنقيب، والتّحقيق، وبلورة فكرة موضوعيّة شاملة تعكس الظّروف متعدّدة الجهات، وذلك بسبب كثرة المصادر المُوالِية للفترة العبّاسيّة، وقِلّةِ المصادر المُعارضة، وذلك بسبب الخوف وسرّيّة الإصدارات من ناحية، وبسبب حرق المصادر المناوئة من ناحية أخرى، وهناك أسباب أخرى كثيرة.
إذن؛ لماذا يدخل د. محمد خليل هذا المضمار الشّائك؟ هل بسبب استمرار محنة الثّقافة العالميّة منذ الأزل إلى اليوم؟ هل لأنّ الثّقافة وليدة بيئتها؟ هل يريد توجيه أنظار وألباب القرّاء والمُتلقّين إلى صُلب الواقع، ليحثّهم على التّفكير بالتّغيير الإيجابيّ في المجتمع؟

19
اختتامُ فعاليّات يوم الثّقافة الوطنيّة في في جَمعيّة السّباط في النّاصرة
آمال عوّاد رضوان
      بالتّعاوُنِ معَ وزارةِ الثّقافةِ الفلسطينيّةِ الّذي تُحييهِ وزارةُ الثّقافةِ الفلسطينيّة في 13 آ ذار مِن كلِّ عام، واستمرارًا للنّشاطاتِ الثّقافيّةِ الوطنيّةِ في جَمعيّةِ السّباطِ للحفاظِ على الثّقافةِ والتّراثِ في النّاصرة، اختتمتْ جَمعيّةُ السّباطِ فعاليّاتِها بأمسيةٍ شعريّةٍ، أحيتها الشّاعرتان آمال عوّاد رضوان وهيام مصطفى قبلان اللّتان حلّتا ضيفتيْن على جَمعيّة السّباط بتاريخ 19-3-2021، وقد كانتْ أمسيةً شعريّةً مميّزةً، وسطَ عدد مُحدّدٍ مِن أدباء وفنّانين تشكيليّين ومِن أعضاءِ جَمعيّة السّباط، وذلك تماشيًا معَ تعليماتِ وزارةِ الصّحّةِ حول الكورونا. وقد ازدانتْ زوايا وجدرانُ جمعيّة السّباط بلوحاتٍ تشكيليّة معروضة بشكل جذّاب، وتخلّلَ الأمسيةَ برنامجٌ فنّيٌّ موسيقيٌّ للشّباب من معهد زرياب بمعزوفاتٍ عذبةٍ لعبدِ الوهاب.
    وجاء في كلمةِ الباحثِ خالد عوض مدير جَمعيّة السّباط: إنّ الجَمعيّةَ وخلالَ مسيرتِها الثّقافيّة ومنذ تأسيسها عام 1999، كانتْ وما زالت تُحيي هذا النّشاطَ الوطنيّ، بالتّعاون مع وزارة الثّقافةِ الفلسطينيّة، ممثّلةً بوزير الثّقافة الدكتور عاطف أبو سيف، والكاتب رئيس اللّجنة المنظّمة عبد السلام العطاري، وقد جاءتْ فعاليّاتُ يوم الثّقافة الفلسطينيّة لتُسهمَ في تكامُلِ خارطة الوجود الفلسطينيّ في كلّ أصقاع الأرض، لتَكتملَ مَشهديّةُ الفعل الثّقافيّ الوطنيّ الفلسطينيّ، مع شقي البرتقالة (الدّاخل الفلسطينيّ والضفة الغربيّة وقطاع غزة ) والشّتات الفلسطينيّ، إذ تؤكّد هذه الخارطةُ السّياسيّةُ الثّقافيّة على حقيقةِ أنّ الثّقافةَ الفلسطينيّة واحدةٌ ومُوحّدة، وهي جزءٌ لا يتجزّأ مِن هُويّة الشّعب الفلسطينيّ رغمَ كلِّ القيود، وهو ما تصبو إليهِ إدارةُ جَمعيّة السّباط بمشاريعِها الثقافيّة، للمُساهمةِ في الحفاظ على التّراثِ الشّعبيّ، وإنقاذه من خطر الضّياع، وأن يكونَ عبارة عن مركز يُساهمُ برفع مستوى الوعي، وتعزيز الهُويّة عند الأجيال النّاشئة، ومَعلمًا هامًّا للزوّار المَحلّيّين والأجانب الّذين يزورون النّاصرة والأراضي المقدّسة في البلاد.
     وتحدثت آمال عوّاد رضوان عن تأسيس "نادي الكنعانيّات للإبداع" بإدارتها، وبرئاسة د. روزلاند دعيم، في 13-12-2019، وحول أهدافهِ ونشاطاتهِ الثّقافيّة، والعمل على تشبيكِ النّشاطاتِ الثّقافيّة المشتركة وتوطيد العلاقات مع المُؤسّسات الثّقافيّة في كلّ أرجاء البلاد.
وفي نهاية اللّقاء قامت إدارة جَمعيّة السّباط للحفاظ على الثّقافة والتّراث بتكريم الشّاعرتين آمال عوّاد رضوان وهيام قبلان، والفنّانين التشكيليّين الّذين شاركوا في معرض "أرضي زهرة في آذار": مبدّا ياسين، زياد أبو السعود الظاهر، علا سالم، منيرة تركمان، عبير زبيدات، حسن طوافرة وإلياس عاقلة. وكذلك كرّمت الشباب العازفين الّذين اضافوا رونقًا موسيقيًّا جميلًا، تفاعلَ معهُ الحضورُ الّذي جاء خصّيصًا لإحياءِ هذا الحدث الهام.
    وفي نهاية الأمسية قامتْ إدارةُ جمعيّة السباط مع الضيوف بجولةٍ في أرجاء متحف السّباط، والّذي يحوي مجموعةً كبيرةً مِن المعروضاتِ تصل إلى أكثر من 700 قطعة، تُحاكي واقعَنا الفلسطينيّ قبلَ النّكبة، مِن أدواتٍ تراثيّةٍ استخدمَها الفلسطينيّ الّذي يعيش في بلدٍ عاشتْ فيها أقدمُ الحضارات، ونشأتْ فيها الدّياناتُ السّماويّة الثلاث، وبحسب حُقبها التّاريخيّةِ إلى مجموعات:
1- مجموعة أثرية تحوي جرة وبعض صحون كنعانيّة، وقوارير و "ساركوفاج" – تابوت حجري رومانيّ وبعض الحجارة الأثريةّ.
2- مجموعة أواني زينة تعود للفترة المملوكية، 1250 - 1516.
3- مجموعة من الأواني والأدوات والأسلحة التقليدية تعود للفترة العثمانية، 1516- 1916.
4- مجموعة من الأدوات التّراثية الفلسطينيّة إبان الانتداب البريطاني: أدوات الزراعة، أدوات العمل، أدوات المطبخ، الزي الشعبي التقليدي للنساء والرجال، وإكسسوارات وحلي زينة، وادوات انارة وطهي، ومعروضات البيت العربي، وصيدلية تقليدية – الأكزاخانة، ومجموعة من السجلات والكتب الطبية والرسومات الّتي يظهر فيها تاريخ الطب القديم وحتى يومنا هذا، وكتب ومجلات فلسطينيّة قديمة.



20

صَــدَى صَــوْتِــك الْــمُــقَــدَّس


آمال عوّاد رضوان

 

عَذَارَى أَحْلَامِي

مَا انْفَكَّتْ تَسْتَحِمُّ

بِأَنْهَارِ خَمْرِ خيَالِك

تَضْفِرُ شَوَاطِئِي .. بِرَوَائِحِكِ الْمَسَائِيَّةِ!

***

ومَا انْفَكَكْتِ .. بِهَسْهَسَةِ كُؤُوسِكِ

تُــغَــــمْــــغِــــمِــــــيــــــنَ

و....

أ~ نْـ~ دَ~ لِـ~ قُ

أَ~ نْـ~ زَ~ لِـ~ قُ

خَارِجَ عِنَاقِ الْعُشَّاقِ

وَأَغْرَقُ

بِحِنْطَةِ شِفَاهٍ مُحَنَّطَةٍ

بكَلَامٍ مُبَلَّلٍ!

***

كَمْ رَاهَنَ وَمْضُكِ

عَلَى مَجْدِي!

كَمْ تَجَرَّعْتُكِ ضَوْءًا

وَاحْتَرَقْتُ ذِكْرًى

عَلَى ضِفَّةِ فَقْدِكِ!

***

قَلْبِي .. لَمَّا يَزَلْ أَعْرَجَ

يَدرُجُ

عَلَى سِكَّةِ نَهَارٍ انْهَارَ

فِي مَتَاهَةِ هَوَاءٍ مَائِعٍ!

وَعَلى كَتِفِ حُلُمٍ مَائِيٍّ

تَفَتَّحَتْ عُيُونِي .. رَبيعًا

يُسْرِعُ الخُطَى صَوْبَ ..

صَدَى صَوْتِكِ المُقدّس

***

أَنَا مَنِ اقْـتَـفَـيْـتُـكِ

بَـــهْـــــجَـــةً شَــــمْــــعِــــــيّــــَةً

تَـــوَسّــَلْـــــتُـــــكِ ضــــــوْءًا

وَبَـاغَــتَــتْــنـي

طُيُورُ حَيْرةٍ بَاهِتَةٍ

بشَهْوَةٍ

نَقَرَتْ لِسَانَ قَلْبِي

أَكَـــأَنَّــــمـــــا

اعْـــتَــــنَـــقَــــنــِي الــْغُـــبَـــارُ

وَ تَـ خَــ ا رَ قَــ ـتْـــ ـنِـــ ـي

لَعْنَةُ الْهُرُوبِ!

21
امرأةٌ وعريّةٌ في نادي الكنعانيّاتِ للإبداع- الكرمل!
آمال عوّاد رضوان
أقام نادي الكنعانيّات للإبداع أمسية ثقافيّة، احتفاءً بتوقيع كتاب- امرأة وعرية- باكورة أعمال الكاتبة تفاحة سابا، الصادر عن دار الوسط للنشر والإعلام في رام الله، وذلك بتاريخ 27.6.2020، في مركز دنيا في دالية الكرمل، في جوّ  حميميّ راقٍ وبتنظيم رائع، ووسط حضور كبير من شعراء وأدباء وأصدقاء وأقرباء، وبعد استقبال الضيوف والترحيب بهم، تولت عرافة الأمسية الإذاعية غالية ناطور قدور، وكانت مداخلة نقدية لرئيسة نادي الكنعانيات للإبداع د. روزلاند دعيم بعنوان- خواطر وعرية تكسر صمت شهرزاد، أما الكاتبة هيام أبو الزلف فقد حاورت تفاحة سابا حول توجهها الأدبيّ وإصدارها ومضامينه وبواعثه، أمّا الشاعرة آمال عواد رضوان المحررة الثقافية في الوسط اليوم فقد تحدثت عن سمة التمرد الاجتماعي والنفسي في نصوص الكتاب، وقرأت نصين شاهدين على الطرح، وقد قرأت تفاحة نصوصا بمرافقة موسيقية للفنان مروان حلبي، وختمت اللقاء بكلمة شكر للحضور والمتحدثين، وللإعلامي جميل حامد رئيس ومؤسس دار الوسط للنشر والإعلام ومتابعته الدقيقة لمراجعة وطباعة الكتاب، ثم تم التقاط الصور التذكارية. 
*مداخلة د. روزلاند كريم دعيم رئيسة نادي الكنعانيات للإبداع: خواطر وعرية تكسر صمت شهرزاد
مساؤكن ومساؤكم بعطر الصنوبر والسرو، بعطر الكرمل وعبق الجبل.
لوجودي هذا المساء بينكم ملامحُ عديدةٌ تتعالق كالتعالقات النصية وتتداخل كدوائر انتماءاتنا. تستضيفني صاحبة الحفل لأحتفي معها بصدور "امرأة وعرية"، فعلاقتنا تمتد إلى بداية دراستنا الجامعية، حيث كنا شابات واعدات نحمل أفكارًا جريئة ونبحث عن سبل تحويلها إلى وقائع؛ مغازلات فكرية وصداقة وسفر وسهر ودراسة وبحث.
للكرمل في حياتي مكان، حيث قضيت سنوات طفولتي وشبابي الأولى من خلال عمل والدتي في التدريس هنا؛ فعشت الناس والحكايا والثقافة والحضارة واللهجة والمعتقد والنادرة والأدب... وحصلت على كتبي الأولى وتحفي الأولي من الكرمل الجميل.
تم تأسيس نادي الكنعانيات للإبداع قبل أقل من عام ليكون منصة مستقلة حرة تجوب كنعان والجولان، تحمل رسالة وطنية وفكرية وثقافية، تشارك بها شابات واعدات وأستاذات متمرسات، كسبن ثقة المشهد الثقافي بجهودهن وأخلاقياتهن وإبداعاتهن، وقد أصدرت الغالية تفاحة كتابها "امرأة وعرية" في دار "الوسط اليوم" للنشر والإعلام، الراعية الدائمة لنادي الكنعانيات للإبداع.
ومع اكتمال الدوائر والتعالقات يأتي كسر الصمت. لقد صمتت شهرزاد الجريئة التي تحدت شهريار عن قول الكلام المباح لقرون، أما بنت الجبل فقد كسرت حاجز الصمت من كلمتها الأولى، فهي على لسان المرأة تحكي ولا يدركُها الصّباحُ مثل شهرزاد، ولا تسكت عن أيّ كلام مباح، لتعود إلى ميثولوجيّا بدئيّةٍ تعاصرُ تشكُّلَ الفكرِ الإنسانيّ، وتنتقد صميمَ الدّيانات، وصميمَ قصّة الخليقة وجميع موتيفات الزّواج المقدّسة بحسب الشّرائع السّماويّة والتّوحيديّة، وثورة على المعايير المجتمعيّة والدّينيّة، لتدمج بين الجانب الشّعبيّ والميثولوجيّا: نِحْكي وَلّا ننَام؟؟!!
"مونودراما خطابيّة"، من مقطوعاتٍ سرديّة وحواراتٍ جريئة، تتمرّد بها الكاتبة على جميع التّعريفات والقوالب الفنّيّة، كتمرّدها على القوالب التّقليديّة الّتي تتناولُ قضيّة المرأة تناولًا تقليديًّا، وفي كلتا الحالتيْن يكون النّاتج غنيًّا رصينًا ومثيرًا، حيث أنّها تحملُ رؤيا واضحةً، وفكرًا حضاريًّا ثقافيًّا تراكميّا.
أتت نصوصُها نثريّةً بلغةٍ بسيطةٍ مباشرة غير استعراضية تحمل صورًا ومشاهد حية، وتحملُ روحَ ومشاعرَ أنثى متمرّدةٍ على المجتمع الذّكوريّ المسيطر والمسيّر للمرأة بحسب مفاهيمِهِ المتوارثة؛ نصوصٌ تحملُ صبغةَ غضبٍ وثورةً تنتصرُ لكرامة الأنثى ولكيانها ولعزّة نفسها، تستذكرُ العصرَ الأموميَّ حين حكمت الكونَ سيّداتٌ: ربّاتٌ وآلهاتُ خصوبةٍ وجمالٍ ومعرفة، كاهناتٌ ونبيّات، وعلى ما يبدو، فإنّ لكلّ نصٍّ خلفيّةً وقصّة في نفس الكاتبة، حيث تُعبّرُ بعضُ النّصوص عن تجربتها الزّخمةِ الغنيّةِ بالمعاناة إلى جانب الاكتشافات المثيرة، ولكن ممّا لا شكّ فيه، أنّ النّصوصَ بمُجملِها تُؤكّد سِعةَ اطّلاعِها في ثقافاتٍ وحضاراتٍ شرقيّةٍ مختلفة، ويتجلّى فيها تأثّرُها بدياناتٍ بوذيّةٍ وهندوسيّة، بالإضافةِ لمعرفتِها الواضحةِ بالدّيانات السّماويّة.
تبدأ المجموعةَ بنصٍّ سرديّ مُسجّع، يحملُ عنوانَ "قصّة غير شعبيّة – نحكي ولا ننام؟" عنوانٌ استفهاميٌّ بصيغةٍ تساؤليّةٍ، وقد تكونُ تشاوريّةً أو بلاغيّة يحملُ المفارقاتِ الفكريّة؛ فمن ناحيةٍ يأتي عنوانُ النّصّ الأوّل بإعلان أنّ الحديثَ يدور حول قصّة، مع التّأكيد على أنّها غير شعبيّة، ممّا يشير بشكلٍ أو بآخر، إلى كونها النّقيض من ذلك؛ أي قصّة رسميّة، إلّا أنّ الشّطر الثاني من العنوان يتكوّن من تناص واضح، تبدأ به الحكاياتُ والخرافات الشّعبيّة "نحكي ولا ننام؟"، لتضعَ القارئَ أمام تساؤلاتٍ عديدة في محاولةِ فهمِ العنوان وتأويلاته، وتبدأ بالجملة الافتتاحيّة المعهودة للقصص الشّعبيّ الخرافيّ:
كَانْ يا ما كانْ في قَديمِ الزّمان/ في سالِفِ الْأَوانْ وقَبْلَ الْأَدْيانِ
ويبدأ الصّوت بالحكي والحكي والحكي دون كلل، لينتهي النّصّ بحركة دائريّة، تعودُ بنا إلى البداية، دون الحصول على إجابةٍ وافيةٍ، بل على العكس، مع تساؤلاتٍ كبيرة تبقى مع القارئ كزاد للتّفكير:
ثُمَّ يَسْألونَني أَيْنَ أَنْتِ مِنَ الدِّينْ؟/ ما رأيُكُم أَيُّها الْأَنام/ نِحْكي وَلّا ننام؟؟!! 
ولو بحثنا عن مكنونات العنوان: امرأة وعرية فإننا نكتشف إشاراتٍ ورموزًا متناقضة، بين مساراتٍ من اللّطف والنّعومة والأنوثة، والقوّة والضّعف، والحكمة والحنكة مما يُؤكّد أنّنا أمامَ حالةٍ صعبة تقول بضمير المتكلّم:
مَهْمَا تأنّقتُ، تَرَفَّعْتُ/ وَتَأَلَّقْتُ/ تَخْتَبِئُ في أَعْماقي/ امْرَأَةٌ أُخْرى/ صَحْراويَّة/ غَجَرِيَّة/ وَعْرِيَّة
هذه المرأةُ متعدّدةُ الوجوه والحالات والخطابات والأدوار، تتحرّك في الفراغ الباطنيّ والعقل الباطن الّذي
يتصارع مع الواعي، لا بل قد يغلبه في بعض الأحيان، تحثّها على الحركة وتهمس في أذنها، فتعيش في حالة روحانيّة "أوفورية" حتّى تغيب عن الوعي.
وتأتي اللّازمة "صحراويّة غجريّة وعريّة" لتفصل بين المشاهد والأقنعة والأصوات، وتُؤكّد برسالتها الواضحة أنه:
في كُلِّ امرَأةٍ مَهْمَا تأنّقتْ/ مَهْمَا تَرَفَّعَتْ وَتَأَلَّقَتْ/ تَخْتَبِئُ امْرَأَةٌ أُخْرى / صَحْراويَّة .. غَجَرِيَّة .. وَعْرِيَّة
وينتهي النّصُّ باعترافٍ واضحٍ ومباشرٍ بهذا التّناقض بين الإباء والكبرياء والوعورة؛ امرأة تتحدّث ببوليفونية متعدّدة الأصوات والقنوات، في حين تجمع بين تناقضات الدّاخل والخارج تتكاثف في الدّاخل أصوات عديدة متلبّسةً شخصيّات عدّة.
وتتلوّن المشاهد في عددٍ من النّصوص؛ لتعلن تمرّدها علانيّةً في "ما عدت أخاف"، ولا يأتي تمرّدُها من فراغ، فأرضُها راسخةٌ على محور الزّمان وفي كلّ مكان. فَلي مُتَّسَعٌ مِنَ اِلانْتِماءِ/ يَمْتَدُّ مِنْ ذاتي/ إلى كُلِّ الْأبْعادِ وَالْأَنْحاء/ لِأَسْتَوْطِنَ فيهِ أَوْ .. لا/ لا أَخافُ... ما عُدْتُ أَخاف!/ أَنْ أَكونَ رَبَّةَ الْكَوْنِ أَوْ إِلهَة/ نارًا مَعْبودَةً  أَو .. لا / لا أَخافُ... ما عُدْتُ أَخاف!/ أُعْلِنُها عالِيَةً فَوْقَ رُؤوسِكُمْ/ قَدْ تُصيبُ قُلوبَكُمْ وَقَدْ لا/ لا أَخاف!
وتعودُ حركتُها الدّائريّة في "هي كلّ الحكاية"، لتُؤكّد الحركة الدّائريّة الّتي امتدت من آلهات الميثولوجيّا وربّات الكون، لتُنزل البطلات عن عروشهنّ، ويستبدلنها بانكساريّة أميرات الحكايات الخرافيّة في الحضارة المعاصرة، اللواتي يعشن "ميتوس" الجمال الوهميّ.
وتُؤكّد حركتها الدّائريّة في "حيث لا أعرف": أَهيمُ عِشْقًا بِهذِهِ اللَّحظاتِ مِنَ الْهَذَيانِ/ حَيْثُ الدَّوَرانُ
وأي دائريّة هذه؟ هل هي دائريّة الحبكة الّتي لا تنتهي، أم أنّها دائريّة الرّقص المقدّس وطواف الزار؟
وأخيرًا، في قراءة النّصوص المطروحة بأدبيتها وشعريتها وفنها وثوريتها وجرأتها ورسوخها نسمع بوضوح، صرخة جريئة مغايرة تكسر حواجز الصمت عبر العصور، ورغم أن شهادتي قد تكون مجروحة، إلّا أنّها نابعة من تحد فكري، ينسجم ورؤية تفاحة المتمرّدة.
أتمنى لتفاحة السّنوات الطوال المعززة بوافر الإصدارات ولنا العديد من الحوارات والجدالات
**جاء في مداخلة آمال عوّاد رضوان مديرة نادي الكنعانيات للإبداع:
معظم نصوص تفاحة سابا تتميز بلغة متمردة ثائرة على المجتمع الشرقي، كونها تتمتع بالحقوق والحرية، وتتمسك بآرائها وعنادها، فلها عالمها المحبب الخاص بها وبشروطها، فنراها تطالب بتحرير الانثى من قيودها الاجتماعية، ومن التقاليد والأعراف السائدة، ولكل نص طبيعته وبواعثه الخاصة، فتقول تفاحة سابا في نصّ اِمْرَأَةٌ وَعْرِيَّة:
مَهْمَا تَأَنَّقْتُ، تَرَفَّعْتُ.. تَأَلَّقْتُ/ تَخْتَبِئُ في أَعْماقي امْرَأَةٌ أُخْرى.. صَحْراويَّة .. غَجَرِيَّة.. وَعْرِيَّة/ أَتَــنَــفَّـسُـهـا.. مِنَ الْوَريدِ إِلى الْوَريدِ .. تَتَقَمَّصُني كَالْجِنِّ/ تَسْكُنُنِي .. تَتَلَبَّسُنِي كَالْهاجِسِ.. تُوَسْوِسُ لِي.. تُلِحُّ عَلّيَّ أَنْ أَتْحَرَّكَ
تُوَشْوِشُنِي .. تَهْمِسُ في أُذُني.. سِرَّ الْأسْرارِ الْخَفِيّ
تَخْتَبِئُ في أَعْماقي امْرَأَةٌ أُخْرى.. ذاتَ شَعْرٍ أَسْوَدَ لَوْلَبِيّ/ تَخُطُّ الْكُحْلَ في عَيْنَيْها/ تَضَعُ في كاحِلَيْها أَكْثَرَ مِنَ خَلْخالٍ.. مِنَ الْخَرَزِ الْمُلّوَّنِ وَحَبِّ الْقُرُنْفُلِ/ تُبَلِّلُ قَدَمَيْها بِالْماءِ.. تَنْثُرُ الْعَبَقَ الشَّهِيَّ.. حَتَّى يَغْشاها .. وَتَغيبَ عَنِ الْوَعْيِ
تَخْتَبِئُ في أَعْماقي امْرَأَةٌ أُخْرى ..تُمَسِّجُ صَدْرَها النُّحاسِيَّ .. الْمُكْتَنِزَ السَّخِيَّ/ وَتَمْنَحُهُ لِلْكَوْنِ هَدِيَّة/ تُعَلِّقُ في عُنُقِها الْعِقْدَ تِلْوَ الْآخَرَ/ وَفي نَظْرَةٍ مِنْ أَلَقِ عَيْنَيْها.. تُفَكِّكُ ما تَشابَكَ مِنَ الْعُقَدِ/ تَلُفُّ حَوْلَ ذِراعَيْها وَيَدَيْها الْأَساوِرَ .. تُزَيِّنُ أَصابِعَها بِالْخَواتِمِ/ وَتَنْثُرُ الْوَشْمَ عَلى صَفاءِ جَسَدِها/ كَالنُّجومِ في صَفْحَةِ السَّماءِ .. تُعْلِنُ لِلسِّوادِ حَتْمِيَّةَ النُّورِ
تَلْبِسُ ما يَحْلو لَها.. ما يَسْتَفِزُّ الْغَرَابَةَ في النُّفوسِ .. وَالْعُيونِ .. / وما يَشي بِالْاسْتِحالَة .. تَسْتُرُ، تَكْشِفُ .. تُغَطِّي، تُعَرِّي ما يَطيبُ لَها/ ما يُبْرِزُ مَواقِعَ الْفِتْنة .. وَيُثيرُ الشَّغَبَ/ قَوانينُ التَّهْدِئةِ لا تَعْنيها/ تَنْظُرُ إِلى نَفْسِها في الْمِرْآة .. ظُهورٌ أُنْثَوِيٌّ شَقِيّ
مُعْجَبَةٌ هِيَ .. تَبْعَثُ قُبْلَتَيْنِ وَاحْتِضان .. إِلى نَفْسِها وَإِلى الْكَوْن/ وَتَخْرُجُ.. تَمْشي..  وَتَتَهادى/ تَهُزُّ الْأَرْضَ .. مَعَ اهْتِزَازِ أَطْرافِ جَسَدِها وَحُلِيِّها/ صَحْراويَّة .. غَجَرِيَّة .. وَعْرِيَّة .. لَكِنَّها تَتَجَمَّل / تَصْرُخُ بِصَوْتِ زينَتِها
في وَجْهِ مَنْ يَقْمَعُها .. مَنْ يَدْعوها أَنْ تَتَقَلَّصَ .. في وَجْهِ مَنْ مَنْ يَحْجُبُها/ تَعْزِفُ لَهُ بِموسيقى زينَتِها ../ مَعْزوفَةَ حُبٍّ/ وَتَدْعوهُ لِمُراقَصَةٍ وَحْشِيَّةٍ
تَخْتَبِئُ في أَعْماقي امْرَأَةٌ أُخْرى .. مُفْعَمَةٌ بِالنَّهَمِ هِيَ/ تَتَحَدَّى بِصَخَبِ أَلْوانِها .. رَتابَةَ صَحْراءِ الْحَياة
وَمِنْ مَواقِعِ الْفِتْنَة .. تُحْدِثُ الثَّوْرَة / نعم.. في كُلِّ امرَأةٍ مَهْمَا تَأَنَّقَتْ .. مَهْمَا تَرَفَّعَتْ وَتَأَلَّقَتْ/ تَخْتَبِئُ امْرَأَةٌ أُخْرى / صَحْراويَّة .. غَجَرِيَّة .. وَعْرِيَّة
**معظم نصوص تفاحة تتحدث بصيغة الأنا وبتمرّد نفسي، تتحدث عن نفسها بالصيغ المفردة، وتتمرد علی الماضي. لقد قالت غادة السمان: "تمرد المرأة على الحب .. معناه تمردها على أنوثتها! والتمرد على الأنوثة ليس إنتصارًا/  إنه بُؤرة الإنهزام والإنكسار.. إنه الشيخوخة المبكرة؟ فأين تقع تفاحة من هذا القول؟ دعونا نستمع ولتحكموا بأنفسكم. تقول تفاحة سابا في نص- أنا لا أُلَمْلِمُ نَفْسي:
أَنا لا أُلَمْلِمُ نَفْسيَ مُسْتَعْجِلَة/ أَوْ خَجِلَة، عِنْدَ الْحُبِّ.. أَوْ بَعْدَهُ .. وَلا عِنْدَ الْفَرَحِ/ أَنا أَنْفَجِرُ عِنْدَ الْغَضَبِ .. وَلا أَعْتَذِرُ/ أَنْسابُ في الْحُلْمِ .. أتَهَشَّمُ معَ الْحُزْنِ/ أتَفَتَّتُ مِنَ الْوَجَعِ .. وَلا أَجْفُلُ مِنْ تَناثُرِ أَشْلائي
أَنا أُطْلِقُ صَوْتَ الصَّهيلِ .. مِنْ أَعْماقي/ أَحْتَضِنُ كُلَّ الآتي.. وَأَسْتَبقيهِ حَتَّى الرَّمَقِ الْأَخيرِ وَاسْتِنْفادِ الْقوى..
أَنا لا أَجْلِسُ مَكْتوفَةَ الْيَدَيْنِ .. كَما عَلَّمَتْني مُدَرِّسَتي في الِابْتِدائِيَّة/ وَلا أَكْتُبُ بِخَطٍّ صَغيرٍ مُرَتَّبٍ مُنَمَّق/ حُروفي مُتَناثِرَةٌ .. هَوْجاءُ كَأَفْكاري... كَأَحْلامي .. كَمَشاعِري... كَخَيالاتي
أَنا لا أَضَعُ إِصْبَعي عَلى فَمي .. دَلالَةَ السُّكوتِ/ وَلا أَرْفَعُ يَدي طَلَبًا لِلْكَلامِ/ أَنا أَنْدَفِعُ مُتَدَفِّقَةً هَادِرَةً كَماءِ نَهْرٍ انْهارَ بِهِ السَّدُ
أَنا لا أَتَرَبَّعُ عَلى الْأَرْضِ مَحْنِيَّة .. كَما رَوَّضَتْني أُمِّي/ وَلا آكُلُ اللُّقْمَةَ صَغيرَة .. أُحِبُّها مِلءَ فَمي شَهِيَّة/ وَلا أَضُمُّ رِجْلَيَّ .. أَكْرَهُ مَفْهومَ الْحَشْرِ أَيْنَما حَلَّ
أَنا لا أَرْبُطُ شَعْري .. أُحِبُّهُ مَنْفوشًا/ وَصَدْري مُشَرَّعًا لِوَجْهِ الشَّمْسِ وَالْحُرِّيَّةِ، أُحِبُّهُ
أَنا أَعْشَقُ الانْزِلاقاتِ والْوقوعَ في الْحُفَرِ- وَالتَّسَرُّبَ كَالْماءِ في الرَّمْلِ/ وَالذَّوَبانَ.. وَالْمَشْيَ في الْأَزِقَّةِ الْجانِبيَّة
وَالْبَحْثَ في الشُّرُفاتِ عَنْ أَسْرارِ أَصْحابِ الْبيوتِ.. وَكِتابَةَ الْقِصَصِ
**هيام ابو الزلف تحاور تفاحة سابا
1*حدثينا عن بداياتك في الشعر ودافعيتك لكتابة الشعر؟
قصتي غريبة مع كتابة الشعر، أولا لم يكن الشعر يوما من الأنواع الأدبية التي تستهويني، دائما كان لي ما أقوله في قضايا كثيرة، ودائما سئلت من قبل أصدقاء: لماذا لا تصوغي أفكارك بصورة أدبية.
بدأت كتابة الشعر قبل أربع سنوات فقط، ضمن تجربة روحية مثيرة في معبد دمنهور في إيطاليا، وهو معبد محفور في الجبل بعمق 70 متر وبمساحة 7000 متر مربع، وهو من أكثر المعابد إثارة في العالم. يقع في منطقة  تمر فيها 4 أو أكثر من خطوط. هو عبارة عن كتاب في الحجر مليء بالأعمال الفنية: زخارف بديعة، رسومات، فسيفساء، لوحات جدارية، زجاج، منحوتات، مندلات وكلها تحكي قصة الحضارة الإنسانية والعالم، وهدفها تأكيد التعاون الإنساني المسالم.
كنت قد بدأت مسارا روحانيا متنوعا تضمنَ رحل روحانية في العالم، دراسة علم النفس البوذي وممارسة تدريبات التأمل، وكنتاج لهذا المسار تفتحت ملكات في داخلي، ولم ابق محصورة ضمن البعد العقلاني، ولكن ما حدث هناك أني رأيت مشهدا لطفلة معينة كنت متأكدة أنها أنا، رأيتها بكل تفاصيلها، وجهها، لون بشرتها، شعرها، لباسها، نظرة عينيها، كانت من فترة زمنية بعيدة (مئات السنين)، رأيت مميزات المكان، الشارع، البناء، ورأيت ما يحدث معها. وهكذا كانت أول قصيدة كتبتها عن هذه الطفلة، وعن مجموعة تجارب حدثت هناك.. لم تدخل أي قصيدة في هذا الكتاب
قد يبدو ما أقوله أشبه بالهذيان أو غير قابل للتصديق. ولكن هذا ما حدث. ومن يومها انا أكتب الشعر، وما زلت حتى اليوم أكتب بنفس الطريقة يراودني مشهد - أو تلح على رأسي جملة لها علاقة بالتأكيد بمخزوني الثقافي، وبالقضايا التي تشغلني، فأقذفها شعرا دون فلترة أو سيطرة عليها أحيانا، او تخرج كالطلق في حالة ولادة مستعصية أحيانا أخرى
2* ما هي المضامين التي تتطرقين لها
قضيتي المحورية هي الإنسان- حريته وكرامته في هذه الحياة التي تديرها الكثير من القوى العاملة على تهميشه، على قتل ملكاته وقدراته، على التلاعب بمصيره. ضمن هذه القضية الكبرى تبقى قضية المرأة هي الأهم وهي المركز في كل كتاباتي.
لا يمكن أن أنظر الى هذا العالم وأتعامل معه منفصلا عن قضية المرأة، وتحرير المرأة من القمع والاضطهاد الذي مورس ضدها على مدار عصور وتذويتها لهذا القمع لدرجة انها تؤمن بذاتها انه طبعها او أنه هكذا خلقت المرأة... هذا الواقع يتطلب أنسنة من جديد لها وللرجل على حد السواء وهذا ما أحاول أن أقوله في كتاباتي التي تكون أحيانا غاضبة،متمردة،متحدية وأحيانا حزينة منكسرة...
3* حدثينا عن غلاف الكتاب:
الغلاف هو صورة لبيلية إلهة النار والبراكين في هاواي – كنت هناك في مسار روحاني،أحد أبعاده كان التواصل مع البعد الأنثوي، وقد اخترت الصورة لثلاثة أسباب:
رأيت أنه يجب استحضار من جديد فكرة ألوهية المرأة التي سُلبت منها على المستوى الشخصي وعلى المستوى الحضاري.
أردت لهذه العظمة المتجلية بالنار والبراكين بما تحمله من تمرد على النظام القائم والقدرة على قلب الموازين أن تأخذ مساحتها في الغلاف كما لها من مساحة كبيرة في مضامين الكتاب
رأيت ان الصورة بما تحمله من التصاق بالأرض والطبيعة تتماشى مع نموذج المرأة الوعرية وتعكسه -وهو عنوان الكتاب وعنوان إحدى القصائد فيه.. رغم اني أرفض أي تنميط أو تعميم في شأن المرأة.
4* بأي مدى تعكس كتاباتك أفكارك ونهج حياتك
غالبا الشاعرات يسألن عن مدى علاقة نصوصهن بحياتهن وليس الرجال، ويكون الهدف من السؤال هو التلصص على حياتهن، واستعمال المعلومات فيما بعد كأداة تشهير ضدهن، ولأن هذا هو الواقع غالبا ما تكون الإجابة تنصلا من أي علاقة بين نصوصهن وحياتهن، وغالبا ما يحاولن تفسير ما يكتبنه في أشعارهن، على أنه حالة من الابداع والتخيل ولا يمت بالضرورة لحياتهن بصلة تماما كالتمثيل مثلا
أنا أريد أن أوضح أن كل ما أكتبه هو عني، يعكس غضبي، تمردي، حزني،خيبة املي، أحلامي، أفكاري، قيمي، مواقفي في الحياة، خيالاتي، توقعاتي، عواطفي، تجاربي، خبرتي، كيف يمكن أن يخرج نتاجا فنيا وفكريا مني ولا يكون عني؟ والسؤال الأهم ماذا نعني عندما نقول "حياة"؟ -
كلمة حياة لا تقتصر على سلوكنا الخارجي،هي كل ما نحن عليه،هي لحظات قلقنا ووجعنا وفرحنا،هي قصص حبنا وانكسارنا وجرأتنا وتحدينا،ومن يتنكر لكل هذه الشمولية في الحياة يتنكر لإنسانيته، لذلك عندما أكتب عني أنا أكتب من خلالي عن تجربة إنسانية شمولية وأكتب عن النساء عامة
وكما في الفكر النسوي الشخصي هو سياسي – ما يحدث معي كامرأة أو كإنسان يحدث معي لأني انتمي لفئة معينة. أنا آتي من خلالي بصوت غيبته الحضارة الإنسانية بما في ذلك الشعراء الذين تكلموا عن المرأة فقد تكلموا عنها من منظار رجولي.
5* قصائد تحبين إلقاءها
*التلاشي في الجرح القادم ص159 نص الاختتام بالمقارنة بالنص الأول "قصة غير شعبية – نحكي ولا نام؟) الذي يأتي بالصوت الجمعي، يعيد ترتيب التاريخ ويحكي القصة من جديد.. هذه القصيدة تأتي بالصوت الشخصي، لكنه يبين ان الشخصي عام وان الوجع الشخصي في العلاقة مع الرجل هو وجع بُنيوي ممتد على مدار حيوات، وسيتكرر أيضا ما لم تحدث عملية أنسنة للرجال في الأساس في رؤيتهم لأنفسهم، ولشريكتهم وللعلاقة فتقول: التَّلاشي في الْجُرْحِ الْقادِم/ تفاحة سابا
الْقَلْبُ يَنْزِفُ ذِكْرى حَياةٍ سابِقَة/ يَشْعُرُها حَيَّة .. يَتَحَسَّسُها بِكُلِّ تَفاصيلِها/ يَسْتَنْزِفُها نَبْضًا؛ لَهُ نَكْهَةُ الْقَهْوَةِ الْمُرَّة.../ وَلَوْنُ الْمَوْتِ الشَّاحِبِ/ يَذْكُرُ أَنَّهُ تَمَزَّقَ عُنْوَةً/ كَغِشاءِ بَكارَة في لَيْلَةِ زِفافٍ بارِدَة/ يَذْكُرُ أَنَّ دَمَهُ أُريقَ في احْتِفالِيَّةٍ بِدائِيَّةٍ/ لِعُيونٍ جائِعة .. تَتوقُ لِمَنْظَرِ الدَّم!/ تَمامًا كَتِلْكَ الْعُيونِ الْمُعَلَّقَةِ عَلى الشُّرُفاتِ/ انْتِظارًا لَعَلَمٍ يُرَفْرِفُ عُرْبونَ شَرَفِ امْرَأَة
الْقَلْبُ يَذْكُرُ/ رُبَّما كانَ ذَلِكَ فُراقًا .. رُبَّما خِيانة/ رُبَّما طَعْنَةَ ثِقَةٍ تَعَذَّرَ بَعْدَها الرَّدْمُ!/ رُبَّما زَعْزَعَة... / رُبَّما حَبيبًا ذَهَبَ إِلى الْحَرْبِ وَلَمْ يَعُدْ/ رُبَّما هاجَرَ دونَ وَداعٍ، كَما يَفْعَلُ الرِّجالُ!/ وَجَع... وَجَعٌ فَوْقَ قُدْرَةِ الْاحْتِمالِ
الْقَلْبُ يَذْكُرُ/ يَذْكُرُ وَيَنْزِفُ مِنْ جَديد/ كُلَّما دَغْدَغَتْهُ طَراوَةُ عِشْق/ كُلَّما راوَغَتْهُ وَراوَدَتْهُ.../ يَذْكُرُ وَكَأَنَّهُ خَرَجَ لِلتَوِّ .. مِنْ عَمَلِيِّةِ قَلْبٍ مَفْتوح
آهٍ لَوْ تَعْرِفُ كَمْ أَخافُ أَنْ أُعيدَ الْكَرَّة/ كَمْ أَخْشى لِخُيوطِ الرَّتْقِ أَنْ تَتَفَتَّقَ/ أَنا لا أَقْوى عَلى اشْتِياقِكَ .. / وَلا عَلى ما دونِ النَّصابِ مِنْهُ/ وَأَخافُ/ أَخافُ مِنْ عَدَمِ اسْتِعادَةِ قُدْرَتي عَلى التَّرْميمِ بَعْدِ الْهَجْرِ/ فَالذِّكْرى حَيَّة
أَنا أَخافُ أَنْ أَنْكَمِشَ أَمامَ الْحَياةِ/ فَأَغُضَّ الطَّرْفَ عَنْ مِلْءِ الْخَفَقانِ/ عَنِ اجْتِياحِ الْحُبِّ .. عَنِ الدَّوَرانِ في إِعصارِهِ/ فَالْقَلْبُ يَذْكُرُ السُّقوطَ إِلى الْهاوِيَة/ يَذْكُرُ قَسْوَةَ الِارْتِطامِ بِالْقاعِ
أَخْشى السُّقوطَ أَنا/ أَخْشى أَنْ يَنْفَرِطَ الْعِقْدُ وَتَرْتابَني الْفَوْضى/ اعْتَدْتُ التَّرْتيبَ،/ وَعالَمي قِطَعُ مَلابِسٍ وَضَّبْتُها عَلى الرُّفوفِ/ أَخافُ مِنْ بِناءِ الْجُسورِ إِلَيْكَ/ فَالْقَلْبُ يَذْكُرُ جُسورًا مَنْسوفة/ وَدُخولًا بَطيئًا شِبْهَ مَشْلولٍ بَعْدَها إِلى الْقَوْقَعَة
الْقَلْبُ يَذْكُرُ/ وَأَنا أَذْكُرُ خَوْفًا أَكْبَرَ مِنَ التَّلاشي/ في الْجُرْحِ الْقادِمِ/ وَهُوَ قادِم
*والنص الثاني صوتي زهرة لوتس ص151- نموذج إضافي يبين أن الشخصي سياسي، أي انه عندما أتكلم عني (عن إخفاء صوتي)، انا أتكلم عن فئة النساء او طبقة النساء في هذا العالم على مدار عصوره، وعن التعامل معها من خلال تغييب أجزاء منها، وإبراز أجزاء أخرى وفق رغبات وأفكار الرجال.
صَوْتي زَهْرَةُ لوتَس/ تفاحة سابا
الْأَصْواتُ كَالْعُيونِ... كَالْأَسْماءِ/ تَحْتَضِنُ رُؤانا.. تُصافِحُ الْعالَم عَنَّا وَتَحْمِلُ نَبْضَنا/ لِماذا لَمْ يَتَغَزَّلِ الشُّعَراءُ بِالْأَصْواتِ؟/ وَصَفوا الْعُيونَ وَلَحْظَها/ رُموشَها... أَلْوانَها... نَظَراتهِا/ وَالسُّيوفَ الْمَحْنِيَّةَ فَوْقَها
مَنْ ذا الَّذي اخْتَرَعَ تَعْبيرَ "صَدْرُكِ كوزُ رُمّان"/ وَ "خَدُّكِ كَالتُّفَّاحِ"/ وَ "شِفاهُكِ كَرَزٌ" وَ "رِيقُكِ شَهْدٌ يَسيل"؟
ما الَّذي جَعَلَهُم يَتَوَقَّفونَ عِنْدَ الْخَصْرِ وَالشَّامَة/ وَالشَّعْرِ الْأَسْوَدِ الطَّويل .. وَالْقَدِّ وَالْقَوامِ الْمَمْشوقِ/ وَالنُّعومَةِ وَالطَّراوَة .. وَيَنْسَوْنَ الصَّوْتَ؟
أَيْنَ اخْتَفى صَوْتي مِنْ كُلِّ مُفْرَداتِهِم؟!/ كَيْفَ يُمْكِنُ لِصَوْتي أَنْ يَصِلَ كَما هُوَ إِلَيْكَ/ دونَ الصَّدى... دونَ الْغَرْبَلَة؟!/ كَيْفَ يُمْكِنُ؟!/ وَالْمسافاتُ بَيْنَنا تَخْنُقُها عَثَراتُ الطَّريقِ وَالْمَطَبَّات؟
صَوْتي لَوْ تَعْلَمُ مُطَرَّزٌ بِرَذاذِ الْمَطَر/ كَزَهْرَةِ اللّوتَس يُزْهِرُ مَسيحًا عَلى الْماءِ/ صَوْتي شَلَّالٌ شَهِيٌّ/ يَنْهالُ أَسْئِلَةً وَعَلاماتِ اسْتِفْهام/ وَمَعَ نَغْمَةِ اسْمِكَ يُصْبِحُ أَشْهى/ وَيُصْبِحُ أَشْهى بِكَثيرٍ/ عِنْدَما تَبْتَلِعُهُ وَأَنْتَ تَلْتَقِطُ شِفاهي/ وَتُطْبِقُ عَلَيْه .. فَيُطْلِقُ الْآهَ/ وَيصبحُ شَهِيًّا بِعَشَراتِ الْمَرَّاتِ أَكْثَر/ عِنْدَما يَثورُ عَلَيْكَ/ وَيَصْرُخُ في وَجْهِكَ:
"إِلى الْجَحيمِ أَنْتَ وَعالَمُكَ،/ إِلى الْجَحيمِ أَنْتَ وَكُلُّ الشُّعَراءِ الّذينَ تَجاهَلوه،/ أَنْتَ وَكُلُّ رِجالِ الدِّين الّذينَ بِالْعَوْرَةِ وَصَموهُ / أَنْتَ وَكُلُّ رِجالِ الْحُكْمِ الّذينَ أَسْكَتوهُ"
صَوْتي نَبْعُ حَكايا وَأَحْلام/ مَوْجاتُهُ عابِرَةٌ لِلْحُدودِ... لِلزَّمانِ... لِلْمَكان/ وَسَيَبْقى رَغْمَ كُلِّ قَصائِدِكَ/ وَأَحْكامِكَ وَقَوانينِكَ/ ماءً يُدَغْدِغُ حُلْمَ الْجَنَّة/ وَنارًا يُثيرُ كَوابيسَ جَهَنَّم
**جاء في تحيّة شكرٍ وامتنانٍ تفاحة سابا:
أُقدّمُ باكورةَ أعمالي الشّعريّة "اِمرَأَةٌ وعريّةٌ" هذه، مع تحيّةِ شكرٍ وامتنانٍ لكلّ ما فاضتْ بهِ عليّ الحياةُ مِن هِباتٍ وهدايا، جعلتني أُقبلُ على ما تجودُ به عليّ، بنهمٍ وشغفٍ لا يعرفانِ الحدودَ، في واقعٍ أرادَ للمرأة أن تعيشَ ضمنَ قوالبَ مفروضةٍ، وضمنَ خارطةِ طريق مرسومة.
أُقدّمُ كتابي هذا مع تحيّةِ شكرٍ وامتنانٍ لمِا منحتني الحياةُ من تحدّياتٍ وصعوباتٍ جعلتْني أكبرُ، وجعلتْ هذا العالمَ يكبرُ في داخلي، لأصبحَ أكثرَ ليونة، وتتفتّحَ روحي على كلّ إمكاناتِهِ، فيصيرُ مثيرًا بتعدُّدِهِ، مُتاحًا لي بكلّ أبعادِهِ، مُعيدًا لتكويني كلَّ مرّةٍ مِن جديد، تاركًا إيّاي في خضمّ دهشةٍ مُستمرّة.
هديّةُ حبٍّ وامتنانٍ أقدّمُها لعائلتي- ولأبي وأمّي، على احتضانِهم غيرِ المشروط لي رغم اختلافي فيهم؛ قبولهم لي في كلّ مراحل حياتي، دعمهم لي كيفما كنتُ وأينما كنتُ، ومرافقتهم لي في كلّ الخطواتِ والمساراتِ الّتي اخترتُها، لأعيشَ الحياةَ بانسجامٍ معَ ما تصبو له روحي.
جزيل شكري لأصدقائي وصديقاتي الّذين حثّوني على مدار سنواتٍ، على إصدار ما أكتب، وأخصُّ بالذّكر قُرّائي على الفيس بوك الّذين رافقوا قصائدي على مدار أربع سنوات، وعلّقوا عليها داعمينَ مُشجّعين، وساهموا في نشرها على صفحاتهم.
شكرٌ خاصٌّ لمن رأوْا في نصوصي قيمةً مُضافة، فترجموها للغاتٍ أخرى؛ للدّكتور نبيل طنّوس على ترجمته للعديد منها إلى العبريّة، وللأستاذ هفال زاخوي الّذي نشر بعضها باللّغة الكرديّة في العراق.
جزيل شكري لكلّ من ساهم في إخراج هذا الكتاب إلى النّور؛ أخصُّ بالذّكر دار الوسط للنّشر والإعلام في رام الله، ولمديرها الإعلاميّ والكاتب جميل حامد، على المهنيّة الفائقة والمسؤوليّة الكبيرة، في مَنتجة وتنسيق ومراجعة الكتاب وطباعته.
*وشكري للشّاعرة آمال عوّاد رضوان الّتي أشرفت على التّدقيق اللغويّ وطباعة ومتابعة المجموعة الشّعريّة. وجزيل شكري للصّديقة العزيزة د. روزلاند دعيم على مقدّمتها القيّمة للكتاب.
وجزيل شكري أقدّمُهُ لكم قرّاء هذا الكتاب، على مرافقتكم لي في رحلة الغوص والتّحليق هذه، إلى دواخل ذاتي وفي العالم الخارجي، علّ روحي المنحوتة في النّصوص تثيرُ أرواحكم، وعلّ القضايا الّتي تشغلني تستثيركم ونلتقي، وأضع بكثير من الحبِّ عالمي ببعض أبعادِهِ بين أياديكم.   





22
أدب / على مدارج موجك الوعر
« في: 20:04 09/05/2020  »


على مَدارِج موجِكِ الوَعِر!

آمال عوّاد رضوان

باسقًا.. مِن علياءِ  شروقِهِ
قُرصُ حنانِكِ يُعَدِّدُني حصادَ أحلامٍ
هَوَتْ
على مَدارجِ مَوجٍ وَعِرٍ
امتدْ~دْ~دْ~دْ~دْ~دَ
عَ مي~مي~مي~مي~مي~مي~ قًا
في مرايا حرائقي!

فِراخُ غربتي
تَ شَ ظَّ تْ
غُروبًا زجاجيًّا
وها.. غموضُ منفاكِ الممزوجُ ببحرِكِ المُعَطَّر
نشرَ عباءاتِ موجهِ المُعَرَّقِ
على جذعِ صخرتي العارية!
والشّمسُ إذِ ارتشفَتْ كؤوسَ عطرِكِ
تسربلها الحدادُ
واستنزفني وُلوجُ قاعِ ظِلِّكِ المُعتّقِ بثرثرةِ الموائد!

أنا مَن تيمّمتُ برمادِ سرابِكِ مُطفأ الأماني
تناسلْتُ ضبابًا ساديًّا
وما اغتسلتُ بدمعِ الأرضِ!
أكأنّما استعذبْتُ انسياقي إلى حُلمٍ مَنسيّ؟
أيقطفُني صراعًا عبثيًّا كسوفُكِ اللاّمع؟

كيفَ لأعمًى يقودُ كفيفًا
بحَفنةٍ مِن لونِ العتمة؟

على فواصلِ بياضِكِ
تواثبْتُ باتّساعِ نعاسِكِ الفوضويّ
واستلقيْتُ حروفًا مُهندَسةً على سطورِ عِصيانِكِ!

ألا تُلقينَ بثمارِ قسماتي ضوءًا حكيمًا؛
يتشرنقُ بصخرِ تحَدٍّ لا يكِلُّ؟

هُوَذا الوهمُ الزّاني
ما انفكَّ يَهدرُ في جلبةِ تحدُّرِهِ
يستسقي أكمامَ الكونِ الذّاهِلِ
يغتصِبُ بزوغَ وطنٍ موشومٍ بأمسٍ انكسرَ ضوؤُهُ
ولسانُ شغَبِهِ المبتورِ
لمّا يزلْ ينفرطُ متلعثما؛
يَلسعُ آذانَ الملائكةِ المُطهّمةِ
ويقرِضُ دمًا غفيرًا أُهدِرَ في جُزرِ الحسراتِ 
لكن
أبدًا ما تأتّى لهُ
 أنْ يَخدشَ عيونَ فوانيسَ آمالٍ
شنّفتْ أنفاسَ غدٍ نقيِّ الرُّؤى!


على مدارج موجك الوعر للشاعرة آمال عوّاد رضوان
ترجمة للإنجليزية: فتحية عصفور
On The routes of Your Rugged Waves
By: Amal Awad  Radwan-(Palestine)
Translated by:  Fathia Asfour
Palestinian poet & tranlator

Towering high from the sky of its rising
the disc of your tenderness laments me  a harvest of dreams that have
 fa~~~llen down
on the routes of rugged waves
 stretching deep into the mirrors of my fires

The chicks of my alienation
 dispersed into fragments of a crystallized sunset
and heres the vagueness of your exile
 that's mix~~~ed with your perfumed sea
  s~p~r~e~a~d~i~ng
 the cloaks of its deeply rooted waves
on the trunk of my naked rock

And heres the sun
when sipping the cups of your perfume
it gets dressed in mourning
and I get depleted when penetrating the botton of your shadow
 that's mellowed with the babble of tables

It's me who performed
Tayammum (ablution) with the ashes of
your hope extinguished mirage
I reproduced sadatic fog
but never washed myself with the tears of the earth

As if I found it pleasant to drift into a forgotten dream !!
Does your brilliant ocultation pick me a futile conflict?

How could it be for  a blind insightless
 to lead a sightless one
 by a handful of dark colour?!

On the joints of your whiteness
I jumped up in the expanse of your chaotic slumber
And I lay down like letters engineered on the lines
 of my disobedience to you

Do you not throw a wise light cocooned in
 a rock of unflagging challenge
  with the fruits of my features?

It's this fornicating illusion
 that has always been roaring
in the tumult of its descending
invokinng the sleeves of the abstracted universe for the rain!!!!

It's this fornicating illusion
 that has always been raping
the emergence of a homeland tattooed
 by a past whose light was refracted
while the amputated tongue of its riot continues
 to be loosely stammering
stinging the ears of the perfect beautiful angels
gnawing crowded blood shedded in the islands of regrets

But never has it been facile to him
 to score the eyes of wish lanterns
 that delighted the breaths of a pure insighted day to  come
Never...Never has it been facile to him !




23
الرسالة الثانية بين آمال عوّاد رضوان ووهيب نديم وهبة- حيفا!
رسالة آمال عوّاد رضوان الثانية:
يُسْعِدُنِي أَنْ أَفْتَرِشَ وَإِيَّاكَ بَعْضَ زَغَارِيدِ الْآمَالِ لِعَرُوسِ الْكَرْمِلِ الْخَلَّابَةِ، نُرَاقِصُ مَوْجَهَا، وَيُعَطِّرُ مَسَامَاتِ الرُّوحِ رَذَاذُ لْيَلِهَا، نَرْتَشِفُ أَثِيرَ هَوَاهَا، وَتَتَلَمَّظُ دِمَاءَنَا كُرُومُ غُرُوبِهَا الْعَابِقِ بِعِشْقِهَا.
الشَّاعِرُ وَهِيب نَدِيم وِهْبِة، دَعِ الْخَيَالَ يَجُولُ وَيَصُولُ فِي بَرَاحِ سَكْرَتِهِ الْمُتَيَقِّظَةِ، دُونَ أَيِّ تَصْرِيحٍ أَوْ جَوَازِ سَفَرٍ يَتَسَكَّعُ عَلَى الْحُدُودِ، فَتَهَلَّلْ/ لِنَتَهلَّلَ بِتَهَالِيلِكَ الْعَذْبَةِ.
هَا جَوَانِحُ جَوَارِحِي
تَكْتَظُّ بِكَ .. تَتَغَلْغَلُ
فِي خَاصِرَةِ الظِّلَالِ!
أَكَأَنَّمَا
تُحَلِّقُ أَفْئِدَةُ نَوَارِسِكَ
فِي يَمِّ الْيَقِينِ؟
أَكَأَنَّمَا تَغْشَى.. قَوَارِبَ اعْتَصَمْتْ
فِي صَوَامِعِ الْوَهْمِ؟

مَحْمُومَةً تَشْرَئِبُّ
أَعْنَاقُ حُرُوفِكَ
مِنْ خَلْفِ سَوَاحِلِ .. أَبْجَدِيَّتِي الْمَوْصُودَةِ
تُــطَــاوِلُ نَفَحَاتِ مَلَكُوتٍ..
تَخَلَّدَ فِي أَقَاصِي الْأَسَاطِيرِ!

وَفِي عَتِيقِ حَيْفَا
مَا بَيْنَ
صَدْرِ السَّمَاوَاتِ .. وَعَجْزِ الْأَرْضِيَّاتِ
نَبْضُ آيَةٍ مَجِيدَةٍ
تَـحُــفُّــهَــا
تَــرَاتِيلُ أَجْــوَاقِ مَــلَائِــكَــةٍ
وَ ...
بَحْرُ حَيْفَا مَوْشُومٌ .. بِعَصْفِ الْمَنْفَى
يَـ~مُـ~و~جُ عَارِمًا
بِــكَــرْمِــلٍ يَــتَــنَــسَّــكُ
عَلَى شَوَاطِئِ قَدَاسَةٍ مَجْدُولَةٍ!

خَيَالُكَ الشَّاعِرُ
يَــثْــمَــلُ .. بِنَدَى الْكَرْمِلِ
يَــنْــسَــلُّ
فِي مَعَابِرِ أَدِيمِ الْانْتِظَارِ
يَــنْــسِــلُ
بِمِخْلَبِ حُلُمِهِ الشَّقِيِّ
خَيْطَ لِقَاءٍ.. حَاكَهُ الْمُحَالُ!!

سَبْعُونَ شَهْقَةَ شَمْعَةٍ
غُمِسَتْ طَمْسًا
فِي ثُقُوبِ ذُبَالَاتِ الضَّبَابِ!
تَقْوِيمُ مِيلَادِ وَطَنٍ
تَــآكَــلَــهُ
هُــزَالٌ مَــشْــطُــورٌ
عَلَى عَرْشِ الْحَسَرَاتِ!
وَتَحْتَ كَنَفِ غَصَّةٍ جَبْرِيَّةٍ
خُطَى دَمْعَةٍ
تَمْتَثِلُ .. لِأَضْغَاثِ وَجَعٍ!

تَقْوِيمُ مِيلَادِ وَطَنٍ
تَــآكَــلَــهُ .. هُــزَالٌ مَــشْــطُــورٌ
عَلَى عَرْشِ الْحَسَرَاتِ!
تَوَغَّلَ خَفْقًا مَثْقُوبًا
فِي بُؤَرِ الرُّوحِ
أيَعُودُ الضِّيَاءُ الْمَوْعُودُ؟

رسالة وهيب نديم وهبة الثانية:
آمَال؛ عُصْفُورَةُ الْحَنِينِ تَنْقُرُ شُبَّاكِي؟!
مَا بَيْنَ الْبَحْرِ "اللُّغَةِ" وَشُعَاعِ الْفَوَانِيسِ
تَحْمِلُ كَلِمَاتُكِ الرَّقِيقَةُ النَّاعِمَةُ.. غِنَاءَ عُصْفُورَةِ الصَّبَاحِ!
رِسَالَتُكِ الْعَائِدَةُ إِلَى الْجَبَلِ الْكَرْمِلِيِّ الشَّامِخِ تَقُولُ:
أَنْتِ الشَّامِخَةُ الْعَالِيَةُ.. أَنْتِ الْغَالِيَةُ الْمُبْدِعَةُ الرَّائِعَةُ
كَيْ تَزْرَعَ الدُّنْيَا "حَدَائِقَ الشِّعْرِ"
كَيْفَ سَقَطَ الطَّيْرُ فِي يَدِي؛ (الْكِتَابُ)؟
لِمَاذَا أَقُولُ إنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ تَفْقِدُ الْكَثِيرَ حِينَ تُقَالُ؟ إِنَّ غُمُوضَ الْبَحْثِ عَنِ الْمَجْهُولِ، مُخَيَّلَةُ الْقَادِمِ الْآتِي، تَكُونُ بِالرَّمْزِ، بِالْإِشَارَةِ، فَالدِّينُ وَحْيٌ، وَالْكِتَابَةُ إِلْهَامٌ وَهَذَيَانٌ، وَحِينَ نُفَسِّرُ سِرَّ الْكِتَابَةِ نَفْقِدُ رَعْشَةَ الْإِحْسَاسِ، وَحِينَ نُفَسِّرُ سِرَّ الْحَيَاةِ، نَفْقِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّنَفُّسِ، وَنَفْقِدُ سِرَّ الْحَيَاةِ، هذَا الْحَنِينَ الْعَتِيقَ الْغَامِضَ الَّذِي يَشُدُّ الْإِنْسَانَ لِلْبَقَاءِ.
لِمَاذَا كَتَبْتُ الْأُغْنِيَةَ؟
هِيَ قُدْرَةُ كَلِمَاتِكِ الْمَزْرُوعَةِ (حَدَائِقَ بَابِل)، الْمُثْقَلَةِ "بِاللُّغَةِ" الرَّائِعَةِ، وَالثَّقَافَةِ الْعَالِيَةِ وَالرُّوحِ الشَّفَّافَةِ.
حَتَّى أَنَّنِي كُنْتُ أَخَافُ وَأَنَا أَكْتُبُ، أَنْ أَجْتَازَ الْحُدُودَ، وَهُنَالِكَ مَنْ يُفَسِّرُ الْكَلِمَاتِ مُجَامَلَةً، أَوْ أَنَّ هُنَالِكَ مَعْرِفَةً مُسْبَقَةً، لِهذَا بَقِيَتْ كَلِمَاتِي بَيْنَ حُدُودِ النَّصِّ وَاللُّغَةِ.
الصَّدِيقَةُ الْفَرَاشَةُ الْمُحَلِّقَةُ فِي فَضَاءِ الْإِبْدَاعِ آمَال،
أَتَمَنَّى أَنْ يَسْتَمِرَّ بَيْنَنَا هذَا التَّوَاصُلُ الثَّقَافِيُّ، وَإِلَى لِقَاءٍ.

من كتاب الرسائل (أَتُخّلِّدُني نوارسُ دهشَتِك؟)


24
كثافة العبارة وعمق المعنى في (بسمة لوزية تتوهّج)
بقلم: علوان السلمان
 النّصُّ الشِّعريُّ مغامَرةٌ، تبحثُ عن لحظتِها المُستفِزّةِ للذّاتِ الجمعيِّ الآخَرِ (المستهلك)، والّذي يستجيبُ لدفْقِها الجَماليِّ المُتجاوِزِ للثّوابتِ والأشكالِ، مع تَفرُّدِها بانزياحاتِها اللّغويّةِ، وكمائنِها الفنّيّةِ الإدهاشيّةِ، وصياغتِها الأسلوبيّةِ، وكثافتِها الجمليةِ المُحتشِدةِ بالإيحاءاتِ والصّورِ والرّموز..
  وباستدعاءِ المجموعةِ الشِّعريّةِ (بَسمَةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ) الّتي أنتجتْ عَوالمَها النّصّيّةَ ذهنيّةٌ مُتوهّجةٌ، مُتفاعِلةً وفاعلةً ووجودها المُجتمعيّ، ونسَجتْها أناملُ مُنتِجتِها الشّاعرة آمال عوّاد رضوان عام 2005 بطبعتها الأولى، وأسهمتْ دار أدهم/ القاهرة ودار الوسط اليوم/ رام الله في نشرها وانتشارها عام 2019 بطبعة ثانيةٍ، باللّغتين العربيّة والإنجليزيّة، ترجمها للإنجليزيّة الشاعر المصري حسن حجازي، كوْنها نصوصًا (تشتبكُ معَ الواقعِ، فتقيمُ علاقةً تفاعليّةً معه، بلغةٍ تعتمدُ التّكثيفَ الصّوريَّ، والإيجازَ الجُمليَّ القائمَ على ثنائيّةِ الذّات (الذّاكرة) والموضوع (الواقع)، فضلًا عن تخَطّيها الحسّيّاتِ صوبَ أفقِ الرّؤيا، بمُخاطبةِ الوجودِ بلغةِ الفِكر، إضافةً إلى محاولةِ المُنتِجةِ (الشّاعرة آمال) الإمساكَ بالنّسقِ الحِكائيِّ الشِّعريّ والتّوتّرِ الدّراميّ، وهي تمارسُ طقوسَ الارتقاءِ في جُمَلِها الشِّعريّةِ، بلغةٍ حافلةٍ بالمجازِ والاستعارة، ابتداءً مِن العنوانِ العلامةِ السّيميائيّةِ، والأيقونةِ الجاذبةِ بفونيميها الثلاثة المُشَكّلةَ لجملةٍ اسميّةٍ تُحيلُ إلى معنى جَماليّ، فضلًا عن تأكيدِها على التّعاملِ النّفسيِّ والنّصِّ ببُعدَيْهِ الدّلاليّ والرّمزيّ.. فتقول ص4 و ص5

المَجهُولُ اليَكْمِنُ خَلفَ قَلبي
كَم أَرهبهُ يَتَكَثَّفَ وهْمًا
عَلى
حَوافِّ غِلافِهِ
أَخشَاهُ
يَحجُبُ برَائبِ غَيْمِهِ أَقمَارَ حُلُمي
أو تَتَطاولَ يَدُ عَقلي
تَهُزُّني ..
تُوقِظُني ..
بِلُؤمٍ سَاخِرٍ
مِن سَكْراتِي الهَائِمَة
*
كَيفَ أَمنَحُكَ قَلبي الآنَ
وقد اخْتَطفَتْهُ مَلائِكةُ الحُبِّ
 إلى فُسحَةٍ في العَراء؟

فالشّاعرةُ تكشفُ عن تجربةٍ رؤيويّةٍ مُتفجّرةٍ، تعكسُ الحالةَ الانفعاليّةَ، وتستنطقُ المكانَ (القلبَ) الّذي منحَ النّصَّ تَشظّيًا جَماليًّا، وأسهمَ في تخصيبِ المعنى وتكثيفِهِ، فأنتجتْ صورةً ذاتيّةً مُتّكئةً على هاجسِ الاستجابةِ لإيقاعِ الحياة.. وهي تبوحُ بوحًا أقربُ إلى حوارِ الذّات (المونولوجي)، مُستنطِقةً المكانَ، البؤرةَ الثّقافيّةَ، والدّالَّ الإشاريَّ المُتشعّبَ بأحداثِهِ، والّذي شكّلَ بؤرةً مركزيّةً تجتمعُ فيها خيوطُ النّصّ، فمنحَ نسيجُهُ تَماسُكًا ووحدةً موضوعيّة، مُتمثّلةً بمَشاهدِهِ المُتوالدةِ مِن تفجيرِ الفعلِ (الـيَكْمُنُ)، الدّالُّ على الحركةِ الكاشفةِ عن الافعالِ الإنسانيّةِ مِن جهة، وتعريفه لتقريبهِ مِن الاسميّةِ والدّراميّةِ مِن جهةْ أخرى، فضلًا عن توظيفِها تقانةَ الاستفهام الّتي تكشِفُ عن بُعدٍ نفسيٍّ للذّاتِ المُنتِجةِ المأزومة، والباحثةِ عن جوابٍ يُسهمُ في توسيعِ مديّاتِ النّصّ..
وتقول ص9 و ص10:
بَينَ تَعاريجِ الحُزنِ وشَظايَا الفَرحِ
نَتَّكِئُ
علَى مَسَاندِ الصَّمتِ
نَنْكأُ جُروحًا تَغفُو
لِنَنْشُرَ سَوادَ الأَلَمِ
حَلِيبًا
يَتعَشَّقهُ مِدَادُ الحَنِين!
*
قَواربُ أَحلامِنَا
تَتَرنَّحُ .. خَدِرةً
يَتنَاثَرُها
جُوعُ عَواصفِ الوقتِ الكَافِر
وفي دَوَّاماتٍ مُفرَغةِ الحُروفِ
وبِوَرعِ الضَّوءِ الخافتِ الخافقِ
نَرسِمُنا قِصَصًا
تَ~ تَ~ لَ~ وَّ~ ى
لَوعةً
في قَفصِ البَراءَة!

فالنّصُّ بصُوَرِهِ الّتي (تتشابكُ فيها الدّلالاتِ الفكريّةِ والعاطفيّةِ في لحظةٍ مِن الزّمن..) على حدِّ تعبيرِ إزرا باوند.. اتّساقٌ مُنظّمٌ بصورٍ جزئيّةٍ يُفضي كلُّ واحدٍ إلى الآخر، باعتمادِ التّباينِ الدّاخليّ، إذ بناؤهُ على المتناقضاتِ (الدّاخل والخارج) الّتي منحته التّوتّر مع حيويّةٍ حركيّةٍ، تميّزت بقدرتِها الإيحائيّةِ، إضافةً إلى توظيفِها تقاناتٍ أسلوبيّةً، كالتّكرارِ الّذي شكّلَ ظاهرةً إيقاعيّةً، أسهمتْ في إثراءِ النّصِّ، والوصولِ بهِ إلى ذروةِ التّعبيرِ عن النّفسِ المأزومة، كونهُ نابع مِن صميم التّجربةِ الشِّعريّة الّتي تسبحُ في بُنيَتيْن أساسيّتيْن: أوّلهما البُنية اللّغويّة، وثانيهُما البُنية المعرفيّة، إضافةً إلى اعتمادِ المُنتجة (الشّاعرة آمال) تقنيّةَ السّردِ الشِّعريّ، لبناءِ نصٍّ مُؤثّثٍ بالتّداعيات، مع تَراكُمِ الصّفاتِ الّتي أسهمتْ في الكشفِ عن توتُّرٍ نفسيّ، يكشفُ عنهُ التّقطيعُ الحَرفيُّ للّفظةِ (يـ تـ نا ثـ ر ها).. / ص40 و س41
ربَّاه ..
كيفَ يَغدو الألمُ
في طَواحينِ الوقتِ ؟
كيفَ يَغدو الوقتُ
في أعاصيرِ الحُبِّ ؟
ألعلِّي أغدو شوْكًا يتكلّلُ بالوَردِ
ويتشرّبُ عِطري ؟
*
أتُراني
تُشكِّلُني الأقدارُ دَمعًا خانقًا؟
تَنْـزِفُني الأوجاعُ أنينًا صَامتًا؟
وتُسدلُ على بُؤسِي سَتائرَ الأَعذار؟
*
في مَتحفِ المُنى
تتسربلُ العُيونُ حَسْرةً
زهراتُ فُلٍّ تَترقرقُ
على
ضِفافِ المُقل
تَنمُو .. تَتعرّى
تَسقطُ
زَهرةً
إثرَ
زَهرة :
أُ حُ بُّ ك !
  فالشّاعرةُ آمال تحاولُ استنطاقَ اللّحظاتِ الشّعوريّةِ، عبْرَ نسَقٍ لغويٍّ قادرٍ على توليدِ المَعاني، ومِن ثمّ توسيع الفضاءِ الدّلاليّ للجُملةِ الشِّعريّة، باعتمادِها اللّفظةَ المُركّزةَ المُكتنِزةَ بالإيحاء، والمُتميّزةَ بالانسيابِ الجُمَليّ الّذي يكشفُ عنهُ تناسُقُ الجُملة، داخلَ عوالم البناءِ المُتدفّق شعوريًّا، بوحدةٍ موضوعيّةٍ مَركزيّةٍ يُحلّقُ حوْلَها المعنى.. / ص55 و ص56
أَحِنُّ إلى حَفيفِ صَوْتِكَ
يَنسابُ
نَسِيْمًا رَطِبًا
في مَعابِرِ رُوحِي
تَجمَعُني قُزَحاتهُ
إضمَاماتٍ فوَّاحَةً
تَزدانُ بِها مَنابرُ مَسامِعي!
نَبَراتُ حُروفِكَ
تُلاغفُ جَوانِحي
أَحَاسِيسُكَ تُسوِّرني
كَيْفَ أهْرُبُ
وَمسَافاتُ الوَلهِ تَزدادُ نَقشًا
في مَسالِكِ قلبيِ؟
*
أَشتاقُكَ ..
أيُّها المَجنونُ
إلى ما لا نِهايةٍ مِن جُنونِك!
أَشتاقُك ..
وما مِن أحَدٍ يَراكَ شَفِيفًا
كَمايَ
كم أُدمِنُها دِنانُ حُزنِكَ
أنادِمُها
بِكَلماتٍ فيها بَعْثي المنتَظَر!
  فالشّاعرة آمال تستثمرُ التّداعي والتّفاصيلَ اليوميّةَ، لإضاءةِ بعضِ العوالمِ المعتمةِ بلغةٍ مَحكيّةٍ، عبرَ خطابِ الذّاتِ ومناخاتِها، للتّعويضِ عن الاغترابِ الذّاتيِّ، بخلْقِ الرّؤيا؛ الحالة المانحة للنّصِّ قدرةَ التّدفّقِ الّتي يتماهى وطقوسها ومناخاتها المستهلك (المتلقي)، إضافةً إلى استثمارِها روح السّردِ الشِّعريّ، وإقامة علاقةٍ حميمةٍ بين أجزاء النّصّ بجُملٍ موجزةٍ مُختزلةٍ، مُشبَعةٍ بالرّؤى الدّلاليّةِ والجماليّةِ المشحونةِ بطاقةِ التّوتّر، من أجل المحافظةِ على العاطفةِ المُتمرّدةِ على الواقع، ببناءٍ فكريٍّ تركيبيٍّ يعتمدُ معماريّةً متناسقةً، بصُورِهِ الّتي امتدّتْ بامتداداتِ فضاءاتِهِ الملائمةِ للحالةِ النّفسيّة، والمُستعينةِ بحقولٍ دلاليّةٍ (زمانيّةٍ ومكانيّةٍ وحدَثيّةٍ..)، بلغةٍ مسكونةٍ بأبعادِها الرّامزةِ الدّالّةِ على كثافةِ العبارة، والكاشفةِ عن عُمق المعنى..
   وبذا، قدّمتِ المُنتجةُ (الشّاعرة آمال عوّاد رضوان) نصوصًا شعريّة، تستنطقُ اللّحظةَ الشّعوريّةَ وتعايُشَها، بنَسَقٍ لغويٍّ قادرٍ على توليدِ المعاني بطُرُقٍ فنّيّةٍ، تُسهمُ في اتّساعِ الفضاءِ الدّلاليِّ للجُملةِ الشِّعريّة..


25
(تَحليقاتٌ سَماويّةٌ) ترجمتها للإنجليزية: فتحية عصفور
ترجمتي لأحلى قصيدة نثر في الارتقاء الرّوحانيّ إلى عالم النّقاء والصّفاء والطّهر، للأديبة آمال رضوان سيدة قصيدة النثر الفلسطينيّة
Divine Elevations
By: Amal Awad Radwan-(Palestine)
Translated by: Fathia Asfour
Palestinian poet & tranlator
****************************
Divine Elevations
*The ghost of my tear mumbles
 on a barren woman's breast....
rolls me in the moans of a cloud that sheds you in a pond,
 wide open for remembrance
***
* Out of my death crypts ..
my pain flows ether of hopes...
and your snowy fires
get my shirts perfumed with your features...
those overfilled with rain
***
*Velvet ...is the pupil of your bitterness
Slender are the hurricanes of its dominion
 How it drew me close to a fragment
 of your subsistence
 in the sessions of hungry ascetics !!
 And how it drew me far away
 from your waterdance
 through your divine elevations !!
***
* So why thrusting my fingertips...
those raining candles..
in the caves of dust and harshness?
***
* By the charm of your voice..
that which illuminates me!..
the bow of my loyalty strummed me
 not but on hugging strings
How the breaths of its violin warbled as well !
***
 O you , the daughter of the runnels!
Scoop me up an aromatic tale
 looking for its face in your mirror !
 Shear not the pearl of my pulsing...
For the rhythm of my rainclouds
had not gargled but in your heart ...
 and the evenings of my luster
could not have been perfect
without your bright rainfall

تَحْلِيقَاتٌ سَمَاوِيَّةٌ!
آمال عوّاد رضوان
شَبَحُ دَمْعَتِي.. غَمْغَمَ عَلَى ثدْيِ عَاقِرٍ
مَرَّغَنِي.. بِزَفَرَاتِ غَيْمَةٍ تَذْرِفُكِ
فِي بِرْكَةٍ مُشَرَّعَةٍ لِلذِّكْرَى!
***
مِنْ سَرَادِيبِ مَمَاتِي انْسَابَ أَلَمِي
أَثِيرَ آمَالٍ
وَنِيرَانُكِ الثَّلْجِيَّةُ
تُعَطِّرُ قمْصَانِي
بِمَلاَمِحِكِ الْمُتْخَمَةِ بِالْمَطَرِ!
***
مُخْمَلِيٌّ بُؤْبُؤُ مُرِّكِ
مَمْشُوقَةٌ أَعَاصِيرُ سُلْطَانِهِ
كَمْ أَدْنَانِي مِنْ كِسْرَةِ كَفَافِكِ
فِي حَلَقَاتِ جَوْعَى 
وَكَمْ أَقْصَانِي عَنْ رَقْصَةِ مَائِكِ
فِي تَحْلِيقَاتِكِ السَّمَاوِيَّة!
لِمَ أَدُسُّ أَنَامِلِي الْمَاطِرَةَ شُمُوعًا
فِي كُهُوفِ الْهَبَاءِ وَالْجَفَاءِ؟
***
وَحَقّ سِحْرِ صَوْتِكِ
الْـ يُضِيئُنِي!
أَنَا مَا عَزَفَنِي قَوْسُ وَفَائِي
إِلّا عَلَى أَوْتَارِ عِنَاقٍ
كَمْ صَدَحَتْ أَنْفَاسُ كَمَانِهِ كَمَان!
***
يَا ابْنَةَ السَّوَاقِي
اُغْرفِينِي حِكَايَةً عِطْرِيَّةً
تَبْحَثُ عَنْ وَجْهِهَا فِي مِرْآتِكِ
لاَ تَجُزّي لُؤْلُؤَ نَبْضِي 
فَمَا تَغَرْغَرَ إِيقَاعُ مُزْنِي إِلّا بِقَلْبِكِ
وَمَا اكْتَمَلَتْ مَسَاءَاتُ بَرِيقِي
إِلاَّ بِهُطُولِكِ الْمُشْرِق!


26
ما علاقةُ عمليّةِ النّورس بخلودِ نوارسِ دهشتك؟!
بقلم: سمر بنورة
ما إن قرأتُ عنوانَ الكتاب (أتُخَلِّدُني نَوارسُ دَهْشَتِك؟)، حتّى تبادر إلى ذهني عام 1979م، وتذكّرتُ "عمليّةَ النّورس عام 1979"، وصفقةَ تبادُلِ الأسرى بينَ الفلسطينيّين والاحتلال، الّتي تمّت يوم 14-3-1979 في قبرص، بين الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين- القيادة العامّة وبين إسرائيل، بوساطة "اللّجنة الدّوليّة للصّليب الأحمر".
"عمليّةَ النّورس عام 1979" أُطلِق بموجبها سراح 76 معتقلًا فلسطينيًّا، ممّن كانوا معتقلين في سجون الاحتلال من كافّة فصائل الثّورةِ الفلسطينيّة، ومِن ضِمنِهم (12*) اثنتيْ عشرة فتاة فلسطينيّة، مقابل إطلاق سراح جنديّ إسرائيليّ يدعى "أبراهام عمرام"، الّذي كانت قد أسَرَتْهُ الجبهة يوم 5-4-1978 في عمليّة اللّيطاني؛ إذ تمّتْ مهاجمةُ شاحنةٍ إسرائيليّةٍ في كمينٍ قربَ صور؛ فقُتلَ آنذاك أربعةُ جنودٍ إسرائيليّين، وأُسِرَ واحدٌ من قوّات الاحتياط.
فهل أتتِ كلمةُ "النّوارس" في العنوانيْن صُدفةً، أم أنّكما قصدتُما اختيارَكما لهذا العنوان، حيث تمَ تبادُلُ الأسرى بين الطّرفيْن، وهنا أيضًا تمَ تبادُلُ الرّسائل؟
وما أوجهُ الشّبهِ بينَ العمليّتيْن: (أتُخَلِّدُني نَوارسُ دَهْشَتِك؟)، و "عمليّةَ النّورس عام 1979"؟   
إنّ كلا العمليّتيْن خالدتان، وستبقى ذكراهُما قائمة ودائمة، وكلاهما حملتا الرّسائل والأسرى لذويهم ومُحبّيهم، وكلاهما حملتا الفخرَ والتّقديرَ لِما عانوا وتحمّلوا، وفي نفس الوقت نجدُ الفرحَ والسّرورَ في مضمونِهما.
وفي كتاب الرّسائلِ (أتُخَلِّدُني نَوارسُ دَهْشَتِك؟)، لمستُ وجدانيّةً عالية، ودفءًا وعطفًا ومحبّةً مُتبادَلة، وقد تخلّلتها فلسفة عميقة، ووجدتُ الدّهشةَ الّتي أيقظتْ في الشاعرة آمال التّأمُّلَ بطريقةٍ فارقةٍ، فخطتْ نحوَ استكشافِ بواطنِ الموهبة المتفجّرة، والّتي كرّسَتْ فيها الظّواهرَ الطّبيعيّة وعناصرَها، وولّدت المعاني الأخّاذة، وتوسّعت وحلّقتْ في آفاق الخيال، حيث الألفاظ المتميّزة برقّتِها وعذوبتها.
معروفٌ لدينا أنّ الحَمامَ الزّاجلَ والأطيارَ تنقلُ الرّسائلَ لمسافاتٍ بعيدةٍ، وبما أنّ النّورسَ جنسٌ مِن الطّيورِ الّتي تعيش على شواطئ البحار (حيفا- الكرمل)، وجدتُها تأتي إلى الشّاعر وهيب نديم وهبة، الّذي كانَ كالمعتقلِ في ذاتِهِ وفي نفسِهِ، فأتتْ كلماتُكِ (آمال عوّاد رضوان) لتهزَّهُ، حينَ لامستْ قلبَهُ، وبدأتِ الفِكَرُ تشقُّ طريقَها للنّورِ وللضّوءِ، بلغةٍ شعريّةٍ تنطلقُ من عتمةِ الرّوح، مثلَ عمليّةِ إطلاق الأسرى مِن عتمةِ السّجون.
لكلِّ أديبٍ أو كاتبٍ أو شاعرٍ طريقتُهُ في التّعبيرِ والكتابة، فكلتا الحالتيْن عبارة عن مغامرة أرادت الانتصارَ والتّحرُّرَ مِن الأسر كالأسرى، وفعلًا جازفتِ عزيزتي آمال، فالشّاعر وهيب رأى فيكِ العَظَمة، لأنّهُ شاهدَ في حروفِكِ التّواضُعَ والخيرَ والجَمالَ والعُمقَ والصّدقَ، فبادلَكِ  الثّقةَ والمغامرةَ والعملَ النّاجح، وقد استخدمتِ ذكاءَكِ في الرّدِّ على الشّاعر وهيب، لذلك كانت النّتائج الظّاهرة للعيان أنْ:
1*عمَّ جوٌّ ديمقراطيٌّ تشارُكيٌّ بين الشّاعرة آمال وبينَ الشّاعر وهيب، في الحواريّةِ وتبادُلِ الأدوار.
2*تظهرُ لنا صورةٌ غيرُ نمطيّةٍ للفتاةِ الشّرقيّة مِن حيث الجرأة والمواجهة والصّورة، فالشّاعرة آمال عوّاد رضوان في شِعرِها كسَرَت النّمطيّةَ السّائدةَ في عدّةِ مَجالات، وأهمُّها في مجال كسر النّمطيّة السّائدة في دوْرِ المرأة والرّجل، حيث لامستُ ذلك في الشّعر، فأعصابُ الشّاعرة آمال ليستْ مشدودةً طوالَ الوقتِ في القصائد، إنّما هي تتمالكُ نفسَها، لتكونَ نفسَها وذاتّها..
3* ومن ناحيةِ الأسلوبِ الشّعريّ، فيتضمّنُ التّكثيفَ اللّغويّ، والعديدَ مِن الصُّورِ الأدبيّةِ الشّعريّةِ البليغة.
4* ومن ناحيةِ العُمقِ الفِكريّ، فالرّسائل تستخدمُ كلّ أساليب الحوار، والمخاطبة، والسّردِ والوصف، بلباقةٍ وسلاسة.
5* كذلك تستخدمُ الشّاعرةُ آمال الأساطير من خلال ملاحظة الطّبيعة، والعلاقة الوطيدة بين حياة الإنسان وحياة الطبيعة، فهي تعشقُ الشّعرُ حُبًّا وعشقًا "حقيقيًّا"، كقول سلمى الجيّوسي: (مَن يُحبُّ الشّعرَ يستطيع أن يرى الجمالَ في جميع الأشكالِ الإبداعيّة، لأنّ ذوْقَهُ مُتعدّدُ الأبعاد، وعقلَهُ نشيطٌ ومُنفتحٌ على كلّ تعبيرٍ جميل).
6* ونلمسُ لدى الشاعرة آمال الجرأة في مغامرتها، والقدرة التّعبيريّة، والبراعة والإبداع في آن.
7* لقد رسمت الشاعرة آمال عوّاد رضوان لنفسها نهجًا خاصًّا في نظْمِ الشّعر، فقد كانت هي شِعرَها، وكانت هي هي، وما تُصوّرُهُ خيالاتُها وأفكارُها من أفكار الجمالِ والشّجاعة والقوّة والسّعادة، وبأفكارها استطاعت أن تكتبَ، وأن تتحدّث بذهنٍ صافٍ، وأن تُعبّر بحُرّيّةٍ وصدقٍ وبطريقةٍ سليمةٍ، كقول السّيّد المسيح: "مِن فيضِ القلب، يَنطقُ اللّسان".
*8 ولمستُ لديها أيضًا القدرةَ على التّواصلِ الفعّال، وهذا مِن أعظمِ مَفاتيحِ النّجاح، حيث قامت بتوظيفِ مهاراتِ التّواصُلِ الخاصّة بها، مِن خلالِ الإصغاءِ والحوارِ الرّاقي بحدِّ ذاتِهِ، والتّحضُّرِ بكلِّ مَعانيه.
9* وأيضًا لدى الشاعرة آمال المقدرةُ في كيفيّةِ تحريكِ أصابعِها والقلم والحَرف بطواعيّة، فقلبها وعقلها يُحرّكان أصابعَها، فلا يَخطُّ قلمُها إلّا المعرفةَ العميقةَ والفلسفةَ المتأنّية والحكمةَ المُدهِشة، وهذا ما برزَ عندَ استخدامِها للموسيقى الداخليّة، بين كلماتها الّتي تُنيرُ القلبَ وتُظهِرُ أعماقَ الشّاعرة.
10* رأيتُ في رسائلِ الشاعرة آمال عوّاد رضوان كأنّها تكتبُ روايةَ الحياة، حيث المكان لوحةٌ تشكيليّةٌ مِن الطّبيعة، والكلامُ قصائدُ مُعبّرةٌ، برزتْ فيها لغةُ الرّوحِ والشّعور، ومنحت الأشياءَ الصّامتةَ أصواتًا، وهنا يكمنُ الإبداعُ كقولها: (بكاءُ القمر، الماء الحيّ، .... وغيرها الكثير)، فالطبيعة لدى الشاعرة آمال حكايةٌ ورواية.
11* لقد وردَ في الرّسائل حكايةُ الوطن: (حيفا، عكّا، يافا، القدس، الخليل، أريحا وكلٌّ بصفتها)، فالحكايةُ هي الذّاكرة، والذّاكرةُ هنا أتتْ في سِياق الشّعر، وفي روايةِ المرأةِ القادرة على المواجهة، وفي المرأة البعيدة عن التّنميط، والمرأةُ هي نفسُها الإنسانةُ الّتي تفيضُ أنوثتُها البعيدةُ القريبة، والمرأةُ هي الحياة.
12* إنّ شعور الشاعرة آمال في رسائل (أتُخَلِّدُني نَوارسُ دَهْشَتِك؟)، كانَ همزةَ وصلٍ، وكان جسرًا يربطُ بينَ ما كانَ وما سيكون، وهنا وجدتُ الحدسَ المُتعلّقَ بالحياةِ، والفِكر، والفلسفة، فهي تملكُ الحدسَ، ولديها قوّة الرّدَ وقوّة العمق، وقوّة الثّبات وقوّة الرّواية.
ومن خلال رسائل الشّاعرَ وهيب نديم وهبة، لاحظتُ أنّه إنسانٌ رقيقٌ، طيّبٌ، هادئٌ، كأنّهُ عن عيْشِهِ في عزلةٍ، شديدُ الإلمامِ بالتّاريخ والجغرافيا، ومُغرَمًا بالأساطير، وكأنّما أتت الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان لتَكونَ خيرًا فيما كتبتْ وعملت، فهي كمَن أضاءتْ شمعةَ خيرٍ وشِعرٍ للشاعر وهيب، فقد مدّتْ يدَها عودَ ثقابٍ له، ليُشعلَ بهِ شمعةَ الأمل في حياته، وكما قال غسّان كنفاني: (الأملُ هو عمادُ الحياة، والفكرةُ النّبيلةُ غالبًا لا تحتاجُ للفهمِ بل للإحساس).
وأُلخّصُ؛ إنّ ردودَ الشّاعر وهيب نديم وهبة للشّاعرة آمال عوّاد رضوان في كتاب الرّسائل الوجدانيّة: (أتُخَلِّدُني نَوارسُ دَهْشَتِك؟)، كمِثلِ القائل: بلا خجلٍ أُناديكِ، لأنّكِ بالهوى قدَري، وكلُّ شوقٍ أهديكِ أمامَ اللهِ والبَشر، ومَهما طالَ بي بُعدي، فحُبُّكِ طلعةُ البدر!
وفعلًا، "إنّ الحياةَ أجملُ مِن مُجرّدِ أنْ نُحقّقَ الفوزَ فيها لأنفسِنا، فالأمرُ أكثرُ أهمّيّة في هذه الحياة، هو أن نساعدَ الآخرين، وها هو في كتاب (أتُخَلِّدُني نَوارسُ دَهْشَتِك؟) تألّق، وحلّقتما ما بين النّجوم، فقد رأيتُما ما لا يراهُ الغير، وسمعتُما بقلبِيكما وعقلِيكما، فأسعدتُما روحيْكما، وأسعدتُما الشِّعر والثّقافة، فالثّقافةُ معرفةٌ وإبداع، وهي نتاجُ العقلِ البشريّ الأكثر سُمُوًّا، وجَمالًا، وغذاءً روحيًّا لكلِّ إنسانٍ ولأيّ إنسان.
فهنيئًا لنا ولكما بهذه الرّسائل الوجدانيّة وبأسلوبكما الرّاقي، فالرّقيّ شيءٌ نادرٌ ليسَ في كلِّ البَشر. وكلُّ الشّكرِ والتّقدير أيّتها الأديبةُ الشّاعرةُ المُثقّفة آمال عوّاد رضوان، الّتي تملكين سلاسة الكلمة والمعرفة والإبداع. 


27
القداسة، المزامير، الاستغفار، مجد الحضور، الرّحمة، الرّأفة، الخشوع، النّور المُقدّس، الرّكوع، كلّها مفرداتٌ وطقوسٌ في العبادة والتّقديس، ويواصل "دموزي" مُناجاتَهُ وتَعَبُّدَهُ لـ"عشتار"، باستخدام المزيد من الذّخيرة التّعبُّديّة ص 114:
رُحْمَاكِ
وَشِّي كُهُوفِيَ .. بِنَوَامِيسِ الضّوء
فَلَا أنثى تَمْلِكُ تَرْقِيَتِي سِوَاكِ!
وص127:
بَحْرٌ أَنَا
أَبِمَائِكِ أَتَحَمَّمُ وَأَحْتَمِي!
عَتْمَةُ الْوَحْدَةِ تُيَمِّمُنِي
بِفِتْنَتِكِ .. تُبَلِّلُنِي
وبحَرَائِقِ حَوَاسِّكِ .. أتَوَضَّأُ
وص141:
أَيَا سَطْعَ ليْلٍ .. يُنَازِعُنِي عِطْرَكِ الْمُنَمَّقَ
هَاءَنَذَا.. أُحَاوِلُنِي رَاهِبًا
أَسْتَدْرِجُنِي .. إلَى غِيِّكِ الْخَصْبِ
لِأَتَنَسَّكَ بِكِ .. وَأَتأجّج بِبَسْمَتِكِ!
    الهدوء، الرّهبنة، التّنسُّك، التّرقية، النّواميس.. هي أيضًا مُفرداتٌ تحثُّ على العبادة والتّقديس. إنّ فِعلَ العبادةِ والمُناجاة من جانب "دموزي" للإلهة "عشتار"، سيُثمرُ في انبعاثِها مِن العالم السُّفليّ، كما تبزغُ الشّمسُ لتفضَّ الظّلام، وينبعث الوجودُ من العدم، وهذه الصّلوات والتّضرُّعات تنضوي على ضرورة حُبّ الرّجل للمرأة، والّذي سيُثمرُ بدَوْرهِ التحامُهما وتزاوجُهما معًا، لأنّه دون الحُبّ لن تستقيمَ الحياةُ الإنسانيّة، بل سيغزوها الجفافُ والتّلاشي والموت.
**ثالثًا:
انبعاث "عشتار" – تألّق الحُبّ:-
   إنّ تراتيلَ "دموزي" وعبادتَهُ لـ"عشتار" أثمرتْ في عودتِها من العالم السُّفليّ، واكتستِ الطّبيعةُ بالحياةِ والنّضارة والجَمال، وعودةُ "عشتار" تشبهُ إشراقةَ الشّمس على العالم، فصار للوجود معنى، الأمر الّذي يجب أن يتناغمَ مع ضرورة عشق الرّجل للمرأة، ليس لحاجاتِ التّناسُل أو الرّغبة الجنسيّة وحسب، إنّما لحاجاتٍ نفسيّةٍ وعاطفيّةٍ وإنسانيّةٍ وأخلاقيّة، دونها لا تكتملُ الرّجولة، فحضورُ المرأة في حياةِ الرّجل هو ذاتُهُ بقاءُ الرّوح العشتاريّة الأنثويّة في العالم، لأنّه سِرُّ كينونةِ العالم ومُبرّرُ وجودِه. ومع عودة "عشتار" أي ازدهار الطّبيعة الّتي تتألّق مع شروق الشّمس، نجد "دموزي" يواصلُ تراتيلَهُ ص7:
أَنَا / مَا كُنْتُ
مِنْ رُعَاةِ الْغَيْمِ وَالسَّمَاوَاتِ
فَــفِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ
أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ
بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!
ويقول ص 8:
دَعِينِي .. أَكْمِشُ بَعْضَ بُرُوقِكِ
واُغْمُرِينِي .. بِحَفْنَةٍ مِنْ كَلِمَاتِكِ
لِأَبْقَى .. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ!
ويتابع ص 15:
أَيَا فَاتِنَتِي
أَنَا مَنْ خُلِقْتُ.. لِأَحْتَرِقَ بِكِ
احْتَرَفْتُ الاتِّكَاءَ
عَلَى غَيْمِكِ
على لهْفَتِكِ .. على جُنُونِكِ
وَقَدْ خَضَعْتُ .. لِحُلُمِي طَوِيلًا
فِي انْتِظَارِكِ!
   حالُ هذه الرّغبةُ في الالتحام بالأنثى، تُشبهُ ازدهارَ الطّبيعةِ وتنَعُّمَها بأشعّةِ الشّمس الدّافئة، كما تُشبهُ حالَ الفراشةِ معَ النّار والنّور، حيثُ تسعى الفراشةُ بصورةٍ غريزيّةٍ نحوَ النّار الّتي تجذبُها فتحترق، لأنّ احتراقَ الفراشةِ يعني انعتاقَها واكتمالَها، والرّجلُ ينجذبُ للمرأة كما تنجذبُ الفراشة للنّار، ليَنعمَ بدفء المرأة كما تنعمُ الطّبيعة بالشّمس الّتي هي سببُ انبعاثِ الحياة فيها، لذا نجد "دموزي" مُمتنًّا لعودة "عشتار"، ومُحتفيًا بحضورها ص18::
سَلَامًا مُدَلَّهًا .. أَعْصِرُنِي
 لِنُورِكِ الْبَهِيِّ
يَتَأتَّانِي .. مِنْ مُحَيَّا  أَتَعَشَّقُهُ
لَهُ فِي جِرَارِ الْقَلْبِ .. أَلْفُ مَعْنًى وَمَغْنًى!
وتقول ص 111:
فِي سَاعَةِ نُهُوضِي
فُضِّي سَتَائِرَ ظُلْمَتِي
بِمَلَامِحِكِ الْمَعْجُونَةِ.. فِي جُزُرِ الْجُنُونِ!
وتواصل ص 50:
وَفِي دُجَايَ
تَفَتَّحَ نُورُكِ .. زَهْرًا وَنُوَّارا
بِكَفَّيْكِ أَمْسَكْتُ.. لِأَعْبُرَ أَنْهُرًا
فَأَسَرْتِ .. كُلَّ نُهُرِي
وَبَقِيتِ.. تُرَاقِصِينَ خَيَالِي!
   إنّ انبعاثَ "عشتار" وحضورَ المرأةِ في حياة الرّجل، يشبهُ لحظةَ بزوغ الشّمس عندما يحلُّ الظّلام، ويظهرُ العالمُ من وسط العماء، ويواصلُ "دموزي" احتفاءَهُ بـ "عشتار" ص41:
يَا الْمُتَسَلِّلَةُ .. كَشُعَاعٍ وَحْشِيٍّ
إِلَى أَقْفَاصِ سَعْدِي
ضَمِّخِينِي .. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ
دَحْرِجِي النّور
عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!
   لا سعادةَ تُوازي بزوغَ الشّمس وانبعاثَ "عشتار" وإطلالةَ المرأة، إنّها ثلاثيّةُ الحياة والحبّ والجَمال، وباكتمالِها يتبدّدُ الظّلامُ والعماء، ويدركُ الوجودُ ذاتَهُ، ويكتسي بالمعنى الجميل. ولا يزالُ "دموزي" محتفيًا ببزوغ شمس "عشتار" وهو يهتف ص113:
أَهْلًا بِشُرُوقِكِ
أَهْلًا بِشُمُوسِكِ الْمُغْمَضَةِ
تَسْبَحُ فِي قَيْلُولَتِي
وَبِشَقَاوَةٍ
تَتَلَهَّى بِغِيِّهَا
تَتَغَاوَى بِرَغْوَةِ عِشْقِي!
    هذا التّرحيبُ الحارُّ الّذي يعكسُ الشّوقَ واللّهفة يُشبه تراتيل أخناتون:
كم هو جميلٌ شروقك بالآفاق
عندما تُشرق وتبعثر الظّلام وتضجّ الأرضُ بالضّياء
    وما يبتغيه "دموزي" هو أعمقُ من مُجرّد عودة "عشتار"، فهو متلهّف للالتحام بها، كما في النّصوص ص106:
أَيَا مَنْفَايَ الْــ   
يَتَوَارَى .. خَلْفَ حَنِينِي الْغَافِي!
دَعِينِي أَلْتَحِفُ .. بِرَوَافِدِ أَسْرَارِكِ
لأَزْدَانَ بِحَمَائِمِ نَقَاوَتِكِ!
يَا مَنْ غَدَوْتِ .. خَطِيئَتِي الْمُقدّسة
هَا أَعْيُنُ رُوحِكِ
تَشْتَعِلُ أَجْرَامًا سَمَاوِيَّةً
فِي أَمْوَاهِ عَيْنِي!
دَعِينِي أَتَعَفَّرُ .. بِنُورِكِ الْأَبْهَى
وَبِكِ.. أَتَوَرَّطُ !
    وكما تستقبلُ الطّبيعةُ الشّمسَ مُستيقظةً على غابتِها للاستلقاء في أشعّتِها في ساعات شروقها الأولى، كذلك هي حاجة "دموزي" الرّجل للأنثى، للاستلقاء بأحضانها والالتصاق بها، ثمّ تأتي لحظة الالتحام بين "دموزي" و"عشتار" ص37:
أَيَا قَزَحِيَّةَ الْهَوَى
وَمَا انْفَكَّتْ أَنْفُاسُكِ النّورانِيَّةُ
تُرِيقِينَهَا عُذُوبَةً
مِنْ هَيْكَلِكِ الْمُقَزَّحِ / عَلَى أَوَانِي ضَوْئِي
فَيَتوهّج عِطْرُ اللَّيْلِ
نَتَلَأْلَأُ / وَنَرْتَشِفُ مِنَ الْحُبِّ.. جُنُونَهُ
وَلَا نَنْطَفِي
بَعْدَ اسْتِعَادَةِ الذَّائِقَة!
   هذا الاستقبالُ المَهيبُ لعودة "عشتار" والالتحام بها، يُشبهُ شروقَ الشّمس بدفئِها ونورها الّذي تسكبُهُ من قُرصِها، فينفض الظّلام ويُدركُ الوجودُ ذاتَهُ ومعناه، وتنتعشُ الطّبيعة والحياة، ولا يكفُّ "دموزي" عن انكفائِهِ بهذه اللّحظات ص54:
بِأَعْمَاقِي
نَبْتَةُ طُفُولَةٍ .. تَرْهَبُ أَضْوَاءَكِ
حِينَ .. تُطْرِبِينَ احْتِرَاقَاتِ خِلْجَانِي
وَبِدَبِيبِ حَرْفِكِ .. تُؤَجِّجِينَ اشْتِعَالَاتِ خَلَجَاتِي !
فَهَلْ أَنْفَرُ مِنْ ظِبَاءٍ .. تَخْشَى ظِلَّهَا؟
و تقول ص95:
هَا انْسَابَ لُعَابُ نُورِكِ .. في مَضَائِقِ كِبْريَائِي
يُفَتِّقُنِي.. وَيُجَرْجِرُنِي.. إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!
وتواصلُ ص101:
لِإِشْعَاعِكِ .. سِمَةُ النَّفَاذِ مِنْ تَحْتِ الْمِكْيَالِ
كَدَفْقَةِ ضَوْءٍ
تَسْتَرْسِلِينَ مِنْ خَلْفِ أَسْوَارِي!
   إنّ هذه النّشوةَ الّتي تبعثُها الشّمسُ والطّبيعة، سينجُمُ عنها الخصبُ والحياة والانتعاش، مثل النّشوة الحسّيّةِ عندَ التقاء الذّكورة في الأنوثة، وبهذا تكتملُ الحياةُ ويصبح لها ممّا يُعبّر "دموزي" عن سعادته بهذا النّصّر العظيم ص57:
أَبَدًا.. لَنْ أَهْمِزَ نَقَاءَكِ
فَلَا تَغِيبِي أَيَّتُهَا الْحُضُورُ!
   ويكادُ يكونُ هذا النّصُّ المُكثّفُ حجرَ الزّاوية في الدّيوان، لأنّ الحضورَ هو حضورُ الأنوثةِ الكامنةِ في الطّبيعةِ والوجود، وبغيابها يفقدُ الوجودُ معناه، وعندها لن يكونَ سوى العدم.

**رابعًا:
خصب الطّبيعة - الأنثى:-
من الواضح أنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تمثّلت أساطيرَ الخصب والخليقة الشّرقيّة، فانعكستْ عصارةُ هذه الأساطيرِ في نصوصِها الشّعريّة، فقد حملت هذه النّصوصُ بينَ طيّاتها عددًا من المفردات الدّالّةِ على عمليّة الخصب في الطّبيعة المستقاة من الأساطير القديمة، بحيث لا تتمُّ هذه العمليّةُ واستمرارُ جمرة انبعاثِها، إلّا بعدَ التقاء "دموزي" بـ "عشتار"، فتقول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان على لسان "دموزي" ص23:
لَيْسَ تَوَحُّدُنَا يَكْتَمِلُ
إِلَّا فِي وَهَجِ الْجُنُونِ!
وجُنُونِي .. لَيسَ يَشْحَذُهُ
إِلَّا دَبِيبُ نَبَرَاتِكِ النَّقِيَّةِ!
دَعِينَا نَأْتِيهِ
مِنْ حَيْثُ تَكُونُ لَذَائِذُهُ
فِي انْتِظَارِنَا
   لا يكتملُ المعنى ومُبرّرُ وجودِهِ إلّا بالالتحام العشقيّ، الّذي مِن شأنِهِ أن يجعلَ العالمَ يزدهرُ مِن بعدِ الجفاف. ثمّ تواصلُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان على لسان "دموزي" المنبهر بجَمال الطّبيعة، فبعدَ عودةِ روح "عشتار" تنبعثُ في أوصالِها، وهو يُشبهُ انبهارَ الرّجل بجَمال المرأة، وبحضورها العاطفيّ والنّفسي في حياته، فيهتف قائلًا ص 70:
قَسَمًا بِجَمَالِكِ
لَوْ وَقَعَتْ عَيْنِي
عَلَى سُفُوحِ ظِلِّكِ
لِتَفَجَّرَت أنهاري .. بِسَطْعِكِ
ولَذُبْتَ حَيَاءً!
و تواصلُ ص 93:
أَيَا غَزَالةَ النَّدَى
ها ظَمَئِي .. لَمَّا يَزَلْ يَسْتَعِرُ بفُيُوضِكِ النّورانِيَّة!
أَنَا مَنِ احْدَوْدَبَ لَهِيبُ أَدْغَالِي .. مُذْ فَطَمَتْهَا نِيرَانُكَ
مَا تُبْتُ عَنْ ظَمَئِكِ الْمُدَّخَرِ!
   سطوعُ الشّمس وفيوضُ أنوارها مِن شأنِهِ أن يبعثَ الحياة في الطّبيعة، ويُفجّرَ أنهارها العذبة لتروي ظمأَها، فتنتعشُ وتزدانُ الغاباتُ والأدغال، وفي نصٍّ آخرَ تُريد الشّاعرة آمال عوّاد رضوان التّأكيدَ على العلاقة الجدليّةِ بين الشّمس وازدهار الطّبيعة ص104:
*رُحْمَاكِ*
بِأَبْجَدِيَّةِ عِشْقِكِ الْحَيِّ
أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!
أَلْبِسِينِي أَدْغَالَ سَمَاوَاتِكِ
لِئَلَّا تَخُونَنِي خُطَايْ.. وَتُجَرْجِرَنِي .. إِلَى مَمَالِكِ الْهَلَاكِ!
أبجديّةُ العشق الحيّ تنطوي على بداهة الأنوثة في الطّبيعة، بما فيها الشّمس الّتي تكون سببَ الحياة الّتي تنمو وتتواصلُ في ضوء الشّمس، مِن بعدِ اليباب والمَحْلِ، فهذا النّصُّ أشبهُ بالتّرتيلةِ المرفوعة للشّمس والأنوثة الكامنة من خلفها، كي تُواصلَ أداءً مهتمًّا، لئلّا ينتشرَ الجفافُ في الطّبيعة، وتبدو الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في النّصوص التّالية متمثّلة تمامًا لأساطير الخصب حين تقول على لسان "دموزي" ص120:
أَيَا جَبَلِي الْمُعَلَّقُ .. فِي فَضَاءِ وَحْشَتِي
هَدْهِدِي أَهْدَابَ سُحُبِي .. بِدَمْعَةِ شَمْسِكِ!
لا تُجَدِّدِي .. سُيُولَ ضَوْئِكِ
فِي حُقُولِ غِيَابِكِ!
عَرِّفِينِي السَّبِيلَ .. إلى خَافِقَيْكِ .. وَاصْغِي
إِلَى تَضَرُّعَاتِ شَيْخُوخَةِ الْوَادِي!
وتواصل ص 21:
أَوْعِزِي .. لِغَيْمِ جِنِّي وَإِنْسِي
لتَتَسَرَّبَ فُصُولُ الْبَنَفَسْجِ
وَتَتَرَسَّبُ بِرُوحِكِ الْعَشْتَار
فَلَا يَشْتَعِلُ الْعَوْسَجُ .. بِتَــلَـعْــثُــمِــكِ!
   السُّحُب، الغيوم، الشّمس، السّهول، الحقول، الفصول، البنفسج، كلّها مُفرداتٌ خاصّةٌ بالطّبيعة، فيما روح الـ "عشتار" ترمز إلى روح الأنوثة، هي جذوةُ الحياة في الطّبيعة، وفي النّصّ التّالي تصفُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان سرَّ العلاقة الّتي تجمعُ بين الأنوثة والذّكورة في الطّبيعة وعالم الإنسان ص21:
حَسْبِي
أُدَمْــــــوِزُكِ .. وتَـــتَـــعَـــشْـــتَـــرِيـــن
أُلْقِي عَلَيْكِ .. مَلَاءَاتِي الْخَضْرَاءَ
فَتَسْتَعِيدُ أَعْشَاشِي
تَـرْتِـيـبَ عَـصَـافِـيـرِهَا
وَتَتَسَرْبَلينَ .. أنهار خُصُوبَتِكِ!
   يكاد هذا النّصُّ يُشكّلُ مُفتاحًا لبقيّة نصوص الدّيوان، حيثُ يُمثّلُ الحبُّ الكلمةَ المفتاحيّةَ لما تودّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان قولَهُ، فالحبُّ هو المفردةُ الذّهبيّةُ الحاضرةُ الّتي تُشعُّ ببريقِها على باقي المفردات.
(أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) تعني أُحبُكِ فتتألّقين وتخصبين الوجود، فتنتعشُ الطّبيعة بأعشاشِها وعصافيرها وأنهارها، ولا تكتملُ إلّا بالحبّ، وهو الرّوحُ العشتاريّة الكونيّة، وفي النّصوص التّالية تُفصح الشّاعرة آمال عوّاد رضوان عن سبب الالتحام بين الذّكورة والأنوثة الكونيّة، ليكتملَ العشقُ ولتتحقّقَ غايةُ الخصب ص12:
تَـسْـجِـنِـيـنَـنِـي .. بِمَفَاتِنِكِ
تَـنْـسِـجِـيـنَـنِـي .. مِنْ لَدُنِ رُوحِكِ
فأَطْفُوَ عَدْوَ ظَبْيٍ .. إلَى مَقَامِ الْهُيَامِ
وأُجِيدُ طُقُوسَ هُطُولِي
عَلَى أَجِيجِكِ الثّائِرِ!
وتواصلُ ص 33:
اِلْمِسِيني
لِتَعْلَمِي .. كَمْ تُثْقِلُني أَثْمَارُكِ
فَرُبَّ لَمْسَةٍ غَنْجَاءَ مِنِكِ
تَأْتِي عَلَيَّ
وَتَجْعَلُ أنهاريَ
عَلَى شِفَاهِ مَصَبَّاتِكِ
تُلَمْلِمُ أَمْوَاهِي
مِنْ نِيرَانِكِ .. الْــ  .. تدْلَهِمُّ بِاللَّظَى!
و تقولُ ص51:
أَيَا مَلَاذِيَ.. وَمَلَاذِّي
فِي مَصَبَّاتِكِ .. أَتَجَاسَرُ
وَتَتَرَاقَصُ تَدَاعِيَاتِي
كَأَنَّكِ فِي تَزَاوُجٍ بِي
يُدَاخِلُنِي ضوْؤُكِ
يُخَارِجُنِي ضَوْعُكِ
وَتَجْعَلِينَنِي .. أُفُقًا نَاعِسًا
يَتَأَبْلَسُ .. وأَتَنَرْجَسُ
إِلَى شِغَافِ أَقْصَاهُ
وَأَتَعَمْلَقُ .. مُحِيطًا نَاضِحًا
فِي بَوْحِ مَدَاهُ!
   الهطول، المطر، الشّمس، الأثمار، التّزاوج، الأنهار، المصبّات، التّضوُّر.. وإلخ، والنّتيجةُ من هذه العمليّة هي: (يُدَاخِلُنِي ضوْؤُكِ/ يُخَارِجُنِي ضَوْعُكِ)، أي النّشوة الّتي تُعبّرُ عنها الطّبيعة الخصبة، والحلقة المركزيّةُ في هذه العمليّة هي الشّمس، الّتي هي في الواقع روحُ الأنوثةِ الكبرى وعلّةُ الوجودِ في عالمنا. وفي النّصّ التّالي تحاولُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تمثيلَ إحدى عمليّاتِ الطّبيعة الحيّة الّتي تُشكّلُ مُنطلقًا لعمليّة خصب الطّبيعة ص67:
أَيَا سيّدةَ الْمَاءِ
مِنْ تَحْتِ أَجْفَانِي .. تَدُسِّينَ عَيْنَيْكِ
فِي خَرَائِطِ فَرَحِي
تُفَرِّغِينَنِي مِنِّي .. تُوَشِّحِينَ آفَاقِي
فَأَمْتَلِئُ سُحُبًا .. تَتَعَتَّقُ بِنُورِكِ
وَأَتوهّج بِعَيْنَيْكِ .. فِي نَوَافِيرِ خُيَلَائِكِ!
لكِنَّكِ تَأْبَيْنَ
إِلَّا .. وَأَنْ تَخُطِّينِي بِدُخَانِ الْجِرَاحِ
إِلَّا .. وَأَنْ تَسْطُرِينِي
عَلَى جَبِينِ الرِّيَاحِ!
   إنّ هذا النّصَّ المُكثّفَ يُلخّصُ إحدى عمليّاتِ الطّبيعةِ الحيّة، ويَروي كيفيّةَ تطوُّر الحياة الّتي تبدأ بالماء، وسيّدةُ الماءِ هي الأنوثةُ الكونيّة، أي روحُ الحياةِ الكامنة في الشّمس الّتي تسقط بأشعّتِها على الماء، فيتبخّرُ ويتكاثفُ على شكل سُحبِ وغيومٍ في الآفاق، فتحملُها الريّاحُ كالدّخان لتُمطرَ وتبعثَ الحياة في الطّبيعة، ولا تزال الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تعزفُ على ذاتِ النّغمة، كما في هذه النّصوص ص79:
هَا النّجوم تَتَلَفَّتُ صَوْبَكِ
وَلَا يُرْهِقُهَا عِطْرُ اللَّيَالِي
تَعْزِفُ تَقَاسِيمَ ضَوْئِكِ
وَالسّماء تُمْطِرُ عِطْرَكِ .. وَأَهْطُلُكِ جِنَانًا
وتتابع ص82:
بِأَوْتَارِ جَنَاحَيْكِ .. أُحَلِّقُ قَوْسَ قُزَحٍ
خَلْفَ غَمَامِكِ .. حَيْثُ تَسْكُنُنِي السّماء
وَفَوْقَ حُدُودِ الْأَجْسَادِ
تَطُوفُ بِي خُيُوطُ أَشْجَانِكِ!
أَنَّى لِغَابِرٍ فِي الزُّهْدِ ..  أَنْ تتَعَفَّفَ بُرُوقُهُ
وَنِيرانُكِ الْمُرَاوِغَةُ عَرّافَةٌ
فِي مَواقِدِي تَتَأَنَّقُ وَتَتَجَمَّلُ؟
عَطْفًا بِي.. أَنَا الْمَوْشُومُ بِالْهَذَيَانِ!
خُذِي بِيَدِي.. وَلَا تَبْتُرِيهَا
مَشْغُوفُكِ أَنَا
وسِلَالُ قَلْبِي مُثْقَلَةٌ بِثِمَارِكِ
تَتَرَصَّدُنِي.. يَانِعًا بفَجْرِك!
وتواصل ص101:
أَيَا صَانِعَةَ شِعْرِي
هَـتَـفْـتُـكِ ذَاتَ لَهْفَةٍ .. أَيَا جَنَّةَ فُؤَادِي
اُبْذُرِي حُرُوفَ سَمَائِكِ .. فِي مَسَاكِبِ نُورِي
وَعَلَى ضِفَّتِي الْأخرى
اغْرِسِي سِحْرَكِ.. فِي وَاحَاتِ نَقَائِي!
   حين نتأمّلُ هذه النّصوصَ، نجدُها تنطقُ بلغة الطّبيعة: النّجوم، السّماء، الشّمس، تقلّب اللّيل، تعاقب الفصول، الضّوء، المطر، الهطول، قوس قزح، الغيوم، الفجر اليانع، البذار، الضّفاف، مَساكب النّور، الواحات.. وإلخ، وكلّها مفرداتٌ من الطّبيعة المنطوية على عمليّة الخصب، وقد التمست الشّاعرة آمال عوّاد رضوان العودةَ بنا إلى الطّبيعة وإلى أبجديّةِ الحياة، إلى النّقاء الطّبيعيّ والعفويّة وبساطة العيش، وكأنّهُ هروبٌ مِن الحياة الاجتماعيّة المُلوّثة.
**خامسًا:
**شمس المرأة: -
   لقد أعادتنا الشّاعرة آمال عوّاد رضوان إلى الطّبيعة ومفرداتها، وهي تبحثُ عن مفتاحٍ لحلّ الإشكاليّاتِ الإنسانيّة، في المجتمع البشريّ الملوّثِ بالحروب والاستغلال والقهر والقتل، وفي هذه النّصوص حاولتْ إعادةَ الاعتبار للأنثى، في ضوءٍ ما تتعرّضُ له المرأةُ منذ أن بدأت الحضارة، وتُشكّلُ المجتمعَ الإنسانيّ الّذي انفصلَ عن الطّبيعة، وأنتجَ هذا المجتمعُ قوانينَهُ وأعرافَهُ المتعارضةَ مع الطّبيعة، حيثُ مثّلتْ بدايةَ الحضارة الإنسانيّة، ومثّلت القطع مع الطّبيعة الّتي ترى فيها الشّاعرة آمال عوّاد رضوان انقلابًا على الطّبيعة وقوانينها، حين كانت الأنوثة هي السّائدة، وكما لاحظنا في نصوصِها، فإنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تحنّ إلى ذلك الزّمن البعيد، وترى فيه الزّمن المثاليّ للحياة الإنسانيّة.
   لقد جاءَ استخدامُها لرمزيّةِ الشّمس تعبيرًا عن روح الأنوثة، وذلك لأنّ الشّمسَ هي الحقيقةُ السّاطعةُ الّتي لا يمكنُ حجبها، أو الاختفاء منها خلف بنان، والنّصوصُ التّالية الّتي تنقلُنا فيها الشّاعرة آمال عوّاد رضوان إلى العلاقةِ بين الرّجل والمرأة في المجتمع الحديث، لا تزالُ تَستخدمُ رمزيّة الشّمس، للتّأكيد على حقائقِ الطّبيعة السّاطعة، ولنتأمّلْ هذه النّصوصَ ص49:
لَعمْرِي
أَنْتِ قَارَّةُ شِعْرِي .. بَلْ قَارَّةُ صَخَبي
هَالَتُهَا قَارُورَةُ شِعْرٍ
نَهَبَتْنِي هَدْأَةَ الْوَرِيدِ!
كَمِ ارْتَشَفَتْ أَنَامِلِي
مِنْ قَارُورَتِكِ الْمُشْرَئِبَّةِ
لِأَكْتَشِفَ حَوَافَّ قَارَّتِكِ!
لكِنَّكِ .. ارْتَشَفْتِنِي وَرَسْمِي
وَمَا أَبْقَيْتِ .. عَلَى اسْمِي
إِلَّا أَجْنِحَةً.. تُؤَرْجِحُهَا خَفَقَاتُ شَمْسِكِ!
  *(لِأَكْتَشِفَ حَوَافَّ قَارَّتِكِ!): إنّ تشبيهَ المرأة بالشّمس هو تأكيدٌ على سطوع الحقيقة، كما ينطوي هذا النّصُّ على الانتقالِ من المرحلة الغريزيّةِ الطّبيعيّة، إلى مرحلةِ الإدراك؛ أي إدراك الوجود والوعي الجنونيّ، كما أنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان استخدمت الحواسَّ الخمسَ في النّصّ السّابق، وفي النّصوص التّالية للتّأكيد على المرحلةِ الغريزةِ الطّبيعة من جانب، وعلى العلاقة الجنسيّة من جانب. تقول ص52:
أَيَا مُهْرَةَ بَوْحِي
حَلِّقِينِي إشراقةً .. تَجْثُو فِي السَّحَرِ           
لِأَتَشَدَّقَ بِفِيكِ.. برَغْوَةِ مُرَاوَغَتِكِ
ولِتَشْرَئِبَّ شِفَاهِي اللَّهْبَى
ظَمَأً
لِعَطَشِ أَلْسِنَةِ لَهَبِكِ
فَمَا أَرْوَعَكِ .. أَيَا مَاهِرَةَ الْبَوْحِ
أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً .. وَلَا أَرْتَوِي!
وتتابع ص 53:
مَا كَانَ جَمَالُكِ.. إِلَى اضْمِحْلالِي
وَهَاءَنَذَا يَجْزَعُنِي دَهْرِي
أَشْتَمُّ حَرَائِقَ أَنْفَاسِكِ
كَمْ زغرَدَتْ وَكَمْ هَلَّلَتْ .. فِي صَدْرِ اللَّيَالِي!
    الحواسُّ الخمسُ الّتي بدونها لا يُدركُ الكائنُ الحيُّ ما يدورُ حولَه، حيث تدَرّجَ الإنسانُ بوعيهِ وإدراكِهِ، مُتجاوزًا المرحلةَ الغريزيّة، بحيث جعلت الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان المرأةَ هي علّةُ هذا الإدراكِ وموضوعِها، ولولاها لما صارَ بوسع الإنسان أن يتطوّر ويُدركَ معنى وجودِهِ الإنسانيّ والاجتماعيّ والرّوحيّ. وفي هذه النّصوص التّاليةِ تحاول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان أن تُكرّسَ التّماثُلَ بين الشّمس والمرأة في حقيقتِها الوجوديّة ص53:
أَيَا امْرَأَةً شَمْعِيَّةً
تُشِعُّ يَنَابِيعَ قَلْبِي .. بِشُهُبِ نُورِهَا الْعَابِثِ
وقُبَلًا تطْبَعُني.. عَلَى أَجْبِنَةِ أَقْمَارِي
و تواصل ص 59:
بِوَجْهِكِ الشّمسيّ .. تُطِلِّينَ وَضَّاءَةً
وَأَتَوَضَّأُ
بِمَرْهَمِ حَنَانِكِ الْبَهِيِّ
تَدْهَنِينَ.. قُرُوحَ مَوَاجِعِي!
حلْكَةَ يَأْسِي الدّامس .. تُضِيئِينَ
بِمَنَابِعِ آمَالِ يَمَامِكِ!
ونختتمُ بهذا النّصّ الّذي يختصرُ الرّسالةَ في نصوص الشّاعرة آمال عوّاد رضوان ص81:
خَلْفَ هَفِيفِ حُلُمِي
أَمْتَدُّ وَأَتَمَدَّدُ .. حَدَّ الْعَتَبِ
أَنَا كَفِيفُكِ .. وَقَلْبُكِ .. حُنْجُرَةُ خَيَالِي
وَبِمِلْءِ ثَغْرِي الْمُشَرَّعِ لِلدَّهْشَةِ
أَتَسَلَّلُ إِلَى ذَهَبِ عَيْنَيْكِ .. لِأَرَانِي!
وَأَبْحَثُ عَنْ قَلْبِي الْهَائِمِ..  فِي شَقَاءِ كَوْنِكِ
أُفَتِّشُ
عَنْ كَمالِ قُبْلَتِكِ ..تَشْطُرُ شِفَاهِيَ شَوْقًا
لكِنَّكِ .. تَسْتأثّرينَ بِشَامَةِ اشْتِعَالَاتِي!
وَتَرْتَفِعُ بِيَ هِضَابُكِ
وَكَمَانَا.. نَعْزِفُنَا كَمَانَا
   وبحسب هذا النّصّ لن يكونَ بوسع الرّجل أن يُدركَ ذاتَهُ ومعناهُ وحقيقتَهُ الأبديّة، إلّا بعدَ مُعاشرةِ المرأة، تلك الشّبيهةُ بالشّمس، وفي أعماقها يكمنُ سرُّ المعرفةِ الوجوديّةِ الحضاريّةِ والثّقافيّة، كما أدركَها أنكيدو بعد علاقتِهِ مع المرأة في أسطورة جلجامش.
    إنّ ديوانَ (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) للشّاعرة آمال عوّاد رضوان هو نصٌّ أدبيٌّ رائع، أعادَتنا الشاعرة من خلال نصوصه الى الطّبيعة وعبقها والى الأسطورة وسحرها، فهذه النّصوصُ المُكثفةُ تحملُ في طيّاتِها روحَ الطّبيعةِ الحيَة وأسرارَها البكر، كما تحملُ احتجاجًا صامتًا على ما يجري في حياةِ المجتمع الإنسانيّ الحديث، فاستخدمت الأسطورةَ للدّلالةِ على الحقائقِ والتّفكير بالبديهيّات الّتي جرى طمْسُها في التّاريخ الإنسانيّ، وإن كانَ انحيازُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان للأنوثة والمرأة لا يُعبّرُ عن انحيازٍ جنسيٍّ أو أيديولوجيّ، إنّما انحيازٌ للحقيقةِ الّتي تُشبهُ الشّمسَ بألَقِها وجَمال حضورِها.
   لقد عبّرتْ هذه النّصوصُ عن صفاءِ روح الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وعن إحساسِها المرهَفِ العميق بالوجود وبالتّاريخ، وهو ما يعكسُ أيضًا ثقافتَها الواسعةَ المُنسجمةَ مع ذاتِها، بوصفِها امرأة وشاعرة في ذات الوقت، وقد أثبتتْ آمال بهذا الدّيوان أنّها شاعرةٌ خضراءُ لا تعرفُ الجفاف، فكانت نصوصُها خضراءَ يانعةً تعكسُ شخصيّتها وفصولًا حيّةً تحملُ حبَّها العشتاريّ النّابض، فكانت الشّمسُ والأمطارُ والأنهارُ والأدغالُ والغاباتُ والطّيورُ كلُّها تعزفُ أنشودةَ الحياة، الّتي تُمثّلها "عشتار" السّاطعةُ كالشّمس إذا جرى عشقها، وبلغة الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، إذا جرى دموزتها لكي تتعشتر، فإنّها ستمنحُ الحُبَّ والدّفءَ والخيرَ والعطاءَ والأمان، وبهذا تكون آمال عوّاد رضوان قد زرعت بذورًا جديدةً في أرض الشّعر العربيّ، ولم تلبثْ أن تنمو وتتفتّحَ أزهارُها وتعبق بأريجها تحت شمس "عشتار" الخالدة.

انتهى


28
همسُ الأنوثة المتوهّجةِ في ديوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين!"
بقلم الأسير الفلسطينيّ: كميل أبو حنيش

   ديوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين" للشّاعرة آمال عوّاد رضوان، هو أوّلُ ديوانٍ شعريٍّ أُطالعُهُ للشّاعرة آمال، لم يسبقْ لي مُطالعة دواوينها الشّعريّة الثّلاث السّابقة، وما أنْ باشرتُ بمُطالعتي، حتّى عثرتُ بداخلِهِ على ما هو جديد، فهو نصٌّ شِعريٌّ مُختلفٌ، مُتميّزٌ بثرائِهِ اللّغويّ، وأسلوبهِ، وإحساسِهِ العميق، وعاطفتِهِ الجيّاشة، وتأمُّلِهِ بالطّبيعة والتّاريخِ الثّقافيّ والرّوحيّ البشريّ، هو نصٌ مُلغّز، يستقي مُفرداتِهِ مِن الطّبيعة، وهو ما يعكسُ ثقافةَ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وشفافيّتَها، ونُضجَها، وإحساسَها الوجوديَّ المُتجاوزَ التّاريخ البشريّ، حيثُ يَعبُرُ بنا النّصّ، ويُعيدنا إلى الأزمنةِ السّحيقة، ويَحملُنا على أمواجِ الحنينِ والشّوقِ إلى الطّبيعةِ البكر.
   هذا الدّيوانُ - مِن ألِفِهِ إلى يائِهِ- عبارةٌ عن قصيدةٍ واحدة، مَركزُها شمسُ الأنوثة كونيّة الأمّ الأولى، ومثلما تحتلُّ الشّمس مركزَ عالمِنا، أرادت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان للمرأةِ وللأنوثة أن تُشكّلَ المعنى لهذا العالم، ومركزه وعِلّة وجودِهِ، وبهذه النّصوص الّتي تأتي على لسان الذّكر في تراتيلِهِ العشقيّة، الأنثى الّتي يُقدّسُها، ويرفعُها إلى مصاف الآلهات القديمات، ويرفعُ ذاتَهُ إلى مصافِ الإلهةِ بهذا الإجلال للأنثى، وهذه النّصوص تنطوي على السُّخط والاحتجاج على جفافِ الحياة الإنسانيّة وتآكُلِ القِيم، لا سيّما قيمة الحُبّ الّتي غدت مُفردةً مُبتذلة، ومُلوّثة في عصر الاستهلاك والانحطاط، حيثُ تلتمسُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في نصوصِها عودتَنا إلى الطّبيعة البكر، إلى أزمنة الخصب، والسّكينة والسّلام، والانسجام مع روح الطّبيعة، وإعادتنا إلى عصر الأسطورة، وعبادة الإلهةِ الأنثى الّتي كانت تُعبّرُ عن روح العالم وسِرِّ بقائِه، وقد ازدهرَ في العقودِ الأخيرة استخدامُ الأسطورة، وتوظيفُها في الأدب والشّعر العربيّ، وهو ما يعكسُ الحنينَ للماضي السّحيق، وهي تصوُّراتٌ رومانسيّة حالمة لأزمنة سديميّة لفجر الإنسانيّة، حيثُ سيادة الأصل الأموميّ، فيما كان يعُم السّلام والأمان، والعدل والمساواة، والانسجام مع الطّبيعة وعبادة الأنثى.
   هذه التّصوّراتُ تنبعُ مِن رفضِ الواقع الإنسانيّ الحاليّ، والاحتجاج عليه بلغةِ الأدب والشّعر، وحسب هذه التّصوّرات، فإنّ المُجتمعَ الأموميّ القديمَ هو مُجتمعُ الانسجام مع الطّبيعةِ والخُضوعِ لقوانينِها، وأهمُّ هذه القوانينِ هو سيادةُ المرأة الّتي كانت تتفوّق على الرّجل في خصائصِها الإنسانيّةِ والعاطفيّةِ والرّوحيّة، وتسليمُ الرّجلِ لسيادةِ المرأةِ في تلك العُصور، هو إقرارٌ بتَميُّزِها، لِما كانت تبثُّهُ مِن عواطفَ في أبنائِها وداخلِ المُجتمع المشاعيّ الأموميّ، ومُساواتِها بين الأبناء، وفي إطار المشاعة البدائيّة، وهي أيضًا حارسة النّار المُقدّسة، وهي الطّبيبة الأولى، وهي الّتي تزرعُ وتطهو وتبثُّ الأمانَ والسّلام، وهي الّتي تحمِلُ وتلِدُ وترعى صِغارَها، وبهذا هي مُتماثلةٌ مع الطّبيعةِ ومُنسجمةٌ معها.
   لقد اخترعَ البشرُ الأسطورة الّتي كانَ مَركزُها الإلهةُ الأُمُّ وإلهاتُ الحُبِّ والجَمالِ الخصب، انسجامًا مع روح الطّبيعة، لأنّ الإنسانَ القديمَ تأمّلَ الوجودَ مِن حولِهِ، فعثرَ على الأنوثةِ في كلّ الظّواهر (الشّمس، القمر، الأرض، الأشجار، الحيوانات.. إلخ)، فعَبَدَ الأنوثةَ الكامنةَ خلفَ هذه الظّواهر، وربّما كانت الشّمس أبرزَ هذه الظّواهر بشُروقها وغروبها، فأدركَ أنّها سببُ الحياةِ على هذه الأرض فعَبَدَها، ولهذا اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الشّمس رمزًا للأنوثةِ الّتي تلمعُ بينَ نصوصِها الشّعريّة، والأسطورة قديمةٌ قِدَم الإنسان، حيثُ احتلّتْ أهمّيّةً فائقةً، في حياةِ الجماعات والشّعوب القديمة قبل ظهور الأديان الحديثة، فالأسطورة مجازٌ يُحاولُ أن يُفسّر الواقع، بهدف إضفاء المعنى على الوجود.
    ليس بوسع الفنّ والأدب والشّعرِ الاستغناء عن الأسطورة لا سيّما الشّعر، لأنّه يمتلكُ ما تمتلكُهُ الأسطورة مِن مجازٍ وفنٍّ، ولغةٍ متجاوزة للواقع وما يتركه من انفعالات النّفس الإنسانيّة، والشّعر هو السّليلُ المُباشرُ للأسطورة، فهو ابنها الشّرعيّ كما يقول المفكّر فراس السّوّاح.
   لقد اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الأسطورة في نصوصِها شكلًا، ومضمونًا ورمزًا، لِما تعتزمُ أن تُقدّمَهُ مِن رسائلَ في شِعرها، وما يُميّزُ آمال أنّها تمثّلت الأساطير القديمة، وأذابتْها واختارتْها لتُسقطَها في هذه النّصوص، ف"عشتار" هي رمزٌ لإلهاتِ الأمومةِ والحبِّ والجَمال، والخلقِ في مختلفِ المجتمعاتِ والثّقافات القديمة، و"عشتار" هي ذاتها "إنانا" وعشتاروت وعشيرة وعنات، وايزيش وأفروديت وفينوس، وعشرات الآلهات الأسطوريّات في هذه الثّقافات.
   إنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان متمثّلة لأساطير الخصب والخلق الشّرقيّة، الّتي حاولتْ تفسيرَ تقلّباتِ الطّبيعة مِن خصبٍ وجفاف، وتكادُ مختلفُ أساطير الخصب والخلق الشّرقيّة تتشابهُ في شكلِها ومضمونِها، فدائمًا ثمّةَ موتٌ للإله الذّكَر الّذي يرمزُ إلى موتِ وجفافِ الطّبيعة في أشهر الصّيف والخريف، فتهبُّ الإلهة الأنثى زوجةُ الإله القتيل لإنقاذ الطّبيعة من الجفاف، مِن خلال افتداء الإله الذّكر القابع في العالم السُّفليّ، وتموت عوضًا عنه، وهو مُحاكاةٌ للأنثى الّتي تلدُ وتُعاني آلام المخاض، وهي تُضحّي بنفسِها وحياتها، كي تستمر الحياة.
    لعلّ أوّلَ أسطورةٍ شرقيّةٍ معروفة هي الأسطورةُ السّومريّة الّتي تُحاولُ أن تُفسّرَ موتَ الطّبيعة وعودةَ ازدهارها، إذ يلعبُ الإلهُ "دموزي" المُلقّب بالرّاعي، والإلهة "إنانا" إلهة الحُبّ والجَمال السّومريّة، الدَّوْرَ الأبرزَ في هذه الأسطورة، حيثُ يموت "دموزي"، فتموت معه الطّبيعةُ ويهبطُ للعالم السُّفليّ أي عالم الموت، الأمر الّذي يدفع "إنانا" لتُضحّي بنفسها وتموت، وتحلّ مكان "دموزي" في العالم السُّفليّ الّذي يعود، فتزدهرُ الطّبيعةُ وتحيى من جديد، وقد جاءت الأسطورةُ البابليّة على أنقاض الأسطورة السّومريّة، بصيغةِ الإله "تمّوز" والإلهة "عشتار"، حيثُ تتطابقُ الأسطورتان ويموت "تمّوز" ويهبط للعالم السُّفليّ، فتهبط "عشتار" لتُخلّصَهُ من الموت، فتقتلُها الإلهةُ أرشيكيجال إلهة العالم السُّفليّ، وتقضي هذه الإلهةُ ببقاء "تمّوز" على وجه الأرض نصف عام ومثلها في العالم السُّفليّ، ويجري تبادلُ أدوار الحياة والموت بين "تمّوز" و"عشتار".
   هذه الأسطورةُ تكادُ تتشابهُ مع بقيّةِ أساطير الخصب الشّرقيّة، مع اختلافِ الشّكل لا المضمون، حيثُ نجدُها في ثُنائيّة "أدونيس" و"عشتاروت" الفينيقيّة وبعل وعنات الكنعانيّة وايزيوس وايزوريس المصريّة.. إلخ، والعامل المُشترك بين هذه الأساطير أنها تُحاول أن تُفسّر أسباب الخصب والجفاف في الطّبيعة علاوة على موت الإله الذّكر وافتدائه من قِبل الإلهة الأنثى الّتي تموت مكانه كما في أسطورة "دموزي" و"إنانا" و"تمّوز" و"عشتار"، أو تسارع الموت وتنتصر عليه كما في أسطورة بعل وعنات.
    *"أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين" هذا الدّيوان الّذي حمل اسم الإله "دموزي" والإلهة "عشتار"، أمّا "دموزي" فلم يكن زوجًا لـ"عشتار" وإنّما لِ"إنانا"، وربّما اختارت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان اسم "دموزي" لأسباب فنية أما اختيارها لـ"عشتار" إنّما جاء لرمزيتها ووقع اسمها وبلاغة حضورها من بين الآلهات الأسطوريّات الاُخريات. كما سنُلاحظ أثناء تحليلنا لبعض النّصوص في هذا الدّيوان أن الشّاعرة آمال عوّاد رضوان اختارت الشّمس كرمز لـ"عشتار" حيثُ جاءت مُناجاة "دموزي" أي الرّجل لـ"عشتار" أي المرأة على شكل تراتيل دينيّة، وكأن عنوان الدّيوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) أشبه بصلاة مرفوعة للشّمس أي لـ"عشتار" أي المرأة في صيغة (أعبُدكِ وتتألّقين)، أو أُحبُّكِ وتنتعشين.
    إنّ اختيارَ الشّمسِ كرمزٍ في الدّيوان لهُ مدلولاتُهُ، فالشّمسُ هي مركزُ العالم، وهي الأقوى حضورًا من بين الكواكب والنّجوم، وهي سببُ الخصب والنّور والحياة والدّفء في هذا العالم، وقد كانت الشّمسُ أوّلَ ما لفَتَ انتباهَ الإنسان القديم، منذ أن بدأ يُدركُ وجودَهُ في الطّبيعة، فعَبَدَها ونحتَ دمًى أنثويّةً على شكلٍ بشريّ في الصّخور والكهوف، ونحتَ إلى جانب هذه الدُّمى ومن فوقها منحوتاتٌ شمسيّة، وهذه الدُّمى اتّفَقَ الباحثون والمُختصّون على تسميتها بالدُّمى العشتاريّة، اختصارًا للإلهات الأُمّ.
   إنّ العباداتِ الشّمسيّةَ كانت شائعةً في الحضاراتِ القديمة، لا سيّما في مصرَ والهند وبلاد الرّافدين، حيثُ كانت الشّمسُ تُعبَدُ بوصفِها إلهة أنثى، قبل أن يجري الانقلابُ الذّكوريّ، وقبل تحويل الآلهات الإناث إلى آلهة ذكور، ففي بلاد الرّافدين استمرّت عبادةُ الشّمس لدى السّومريّين وكذلك البابليّين، حيثُ كان الإلهُ "مردوخ" إلهًا للشّمس، وفي مصرَ عُبدت الإلهة "حورس" و "رع" كآلهةٍ للشّمس، بإطار تعدّديّة عبادة الإلهة قبل أن يعتلي الفرعون أخناتون العرش، ويجعل من الإله "آتون" الإلهَ الأوحدَ في مصر، وهو إلهُ الشّمس، ويُطالبُ شعبَهُ بعبادتِهِ، وتشتهرُ تراتيلُ وتسابيحُ أخناتون المرفوعة للإله "آتون".
   هذه التّراتيلُ شبيهةٌ بنصوصِ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، الّتي جعلت "دموزي" يرفعُ صلواتِهِ وتراتيلَهُ لـ"عشتار" المرأة، وقد كان مُعتقَدُ أخناتون يقوم على أساس الإيمان بالهٍ واحدٍ للبشريّة، وهو الإله "آتون"، وهذا الإله هو قوّةٌ مُجرّدةٌ صافية ليس لها شكلٌ مُحدّد، كانت الشّمسُ مُتجلّيةً في عالم الظّواهر، فهي الطّاقةُ الكونيّةُ الّتي تبعثُ الحياةَ والمعنى والأملَ في الوجود، و"آتون" إلهُ الشّمس الفرعونيّ له ما يُوازيهِ في المُعتقدات السّومريّة، لا سيّما الإله "أوتو" أي إله الشّمس، وأيضًا الإله "دموزي"، وكذلك المُعتقدات الفينيقيّة، لا سيّما الإله "أدونيس" أو" آدون"، وهو قريب من اسم الإله آتون المصريّ، فالآلهة "أدونيس" و"تمّوز" و"دموزي" لها علاقةٌ مُباشرةُ بالشّمس، إذ تتميّزُ هذه الأساطيرُ بوصفِها أساطير للخصب والحياة، وذلكَ باختفاءِ وظهور هذه الآلهةِ مرّةً كلَّ نصفِ عام.
    وإلى جانب هذه الأساطير هناك أيضًا الأديان والمُعتقدات الزّرادشكيّة والمانويّة، وأصحاب المُعتقدات الهنديّة الّتي تقومُ على عُنصري النّور والظّلام، وعبادة بعض مظاهر الطّبيعة كالشّمس والقمر والنّجوم، وعلى ما يبدو فإنّ هذه المُعتقدات والأساطيرُ قد تركتْ تأثيرَها في وجدان الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وتمثّلتها وسكبتْها في نصوصِها الشّعريّة، بحيث جعلت النّورَ والشّمسَ رمزًا للأنثى "عشتار"، بدلًا من الآلهةِ الذّكوريّة، وقُلبت المُعادلةُ، بهدف تصحيح هذا الخلل التّاريخيّ الّذي وقعَ بفعل الانقلاب الذّكوريّ، الأمر الّذي ينطوي على الاحتجاج، ويستبطنُ الشّعورَ بالاجحاف، فأرادتْ مِن خلال نصوصِها الشّعريّةِ العودةَ إلى الطّبيعةِ، حينما كانت السّيادةُ للأنثى وإعادة تأليهِها من جديد، كما كان عليه الحالُ في عصر الأسطورة الأولى، عندما كانت الآلهةُ الذّكورُ تدورُ في فَلكِ الإلهةِ الأنثى، كما تدورُ الكواكبُ في فلَكِ الشّمس.
وفي التّرتيلة السّومريّة للإلهةِ "إنانا" الّتي هي ذاتها الإلهة "عشتار":
إنّي ملكةُ السّماء
وما من إلهٍ قادرٍ على مُنازعتي
 لي السّماءُ ولي الأرضُ
    هذه التّرتيلةُ ترمزُ إلى تفوُّقِ الإلهة الأنثى على الآلهةِ الذّكور، كما هي مركزيّةُ الشّمس في عالمِنا.
وفي ترتيلةٍ بابليّةٍ للإلهة "عشتار":
أي "عشتار"
يا سيّدةَ البَشرِ أجمعين
ومُسدّدةَ خُطاهم
   وهذه التّرتيلةُ ترمزُ إلى سيادة "عشتار"، أي المرأة في المجتمع القديم، كما تبسطُ الشّمسُ سيادتَها.
أمّا اسم "عشتار" فهو اسم بابليّ، معناهُ؛ عيش الأرض أي حياة الأرض وخصبها وازدهارها، و"عشتار" هي الإلهةُ الأمّ الكبرى، ومن هنا جاءَ اختيارُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان لـ"عشتار" من بين الآلهات الإناث، لتُتوّجَها عنوانًا لديوانها، ولتتوهّجَ حروفُها مِن بين نصوصِها الشّعريّة.
   وعلى ما يبدو، بأنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تأثّرت بالنّصوص الصّوفيّة، فتجلّى  بين النّصوص الكثيرُ من المُفردات الصّوفيّة؛ كالفيض والأنوار والإشراق، وهو ما يُسمّى بالتّصوُّف الإسلاميّ العرفان؛ أي الإحساس الباطنيّ، وفي كتابه (لغز "عشتار") يقول فراس السّوّاح: إنّ العرفانَ يُضيءُ النّفسَ في ومضاتٍ تشتعلُ وتنطفي، كأنّما تصدرُ عن تماسٍ مع قوّةٍ حفيّةٍ إلهيةٍ عبرَ قناةٍ صافيةٍ مُباشرة، قوّة رآها الأقدمون في "عشتار"، أي الحكمة الأنثويّة الخالدة (ص242).
   هذا هو حجرُ الزّاويةِ في ديوان الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الّتي اختارت "عشتار" كشمسٍ تفيضُ بأنوارِها، لتكونَ علّةً للحياة وتعبيرًا عن الحكمةِ الأنثويّةِ الخالدة.
   لقد أرادت الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان إعادتَنا إلى الطّبيعة وجَمالها وتلقائيّتها، وإعادتَنا إلى الشّمس وعطائِها وصفائِها ودِفئِها وبداهتِها، إلى "عشتار" والآلهات المعبوداتِ اللّواتي كُنّ يُجسّدنَ الزّمنَ الحقيقيّ السّاطع في التّاريخ البشريّ السّحيق، فكان شعرُها يعكسُ هذا الحنينَ الجارف لذلكَ الفهم الرومانسيّ المُتخيَّل، كما يعكسُ الظّمأّ للحبِّ الّذي تنشدُهُ المرأةُ مِن جانب الرّجل، (يُتموزُها أي يعشقها حتّى تتألّق كالشّمس وتمنح المعنى والحُبَّ والجَمال والعطاء)، وأي يأتي هذا الحُبُّ على شكل عبادة، فاستخدمت الأساطيرَ القديمةَ وصهرَتْها، لتصنعَ منها هذه السّبيكةَ الذّهبيّة، وتُعيدَ الاعتبارَ للأنثى المرأة الّتي اختصرَتْها بـ "عشتار"، واختارت الشّمسَ بإفاضتِها وشروقِها وجمالِها كما هو حضورُ المرأة، أمّا غروبها فيُشبهُ غيابَ المرأة أو موتَها أو قهرّها أو احتجازَ حرّيّتها، فيغيبُ معها الحُبُّ والأمانُ والسّلامُ عن العالم، والنّصوص الّتي سنشرعُ في تحليلِها، تحملُ ثُنائيّةَ حضورِ وغياب شمس "عشتار" المرأة، وكما تروي أصولُ العلاقةِ العشقيّةِ بين الرّجل والمرأة كما ينبغي أن تكون، وعليه قتل مثل هذه العلاقة.
**أوّلًا:
غياب "عشتار" – المرأة في العالم السُّفليّ؛ (انقلاب الطّبيعة والتّاريخ): -
   تُحاولُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان خلقَ نوعٍ مِن التّماثُل بين أنوثةِ الطّبيعة الّتي ترمز لها "عشتار"، وبين المرأة في المُجتمع ،وفي مقاربةٍ فلسفيّة تنطوي على الإيمان بأنوثةِ الكون والطّبيعة، قبل أن يجري اختلافُ دوْرِ المرأة في التّاريخ، والهيمنة عليها وقمْعِها، فالنّصوص تنبضُ بالاحتجاج وإنْ بلغةِ الصّمت، فتتمثّل الكيفيّة الّتي يجب أن تكون عليها علاقة الرّجل بالمرأة، أي العلاقة بالطّبيعة، ولكن بلغةِّ الشّعر.
   في النّصوص التّالية سنجد أن الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تمثّلت أسطورة "دموزي" و"عشتار"، وباحت بها بلغةٍ شعريّةٍ صافية، تحملُ فلسفةَ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان وتصوُّراتِها، فلولا افتداء "عشتار" للإله الذّكر القابع في العالم السُّفليّ، لَما أعادت الحياة للطّبيعة، غير أنّ "دموزي" قبل انبعاثِهِ مِن العالم السُّفليّ، نجدُهُ يُناجي "عشتار" أن تُخلّصَهُ من عالم الموت والعماء الأبديّ، حيثُ تستجيبُ لمُناجاتِهِ وتوسُّلاتِهِ، وتُضحّي بنفسِها وتحلُّ مكانَهُ في العالم السُّفليّ، فيما ينبعثُ "دموزي" إلى الحياة، فإنّه لا يكتفي فيواصلُ مُناجاتِهِ لها، لأنّه لا معنى لحياتِهِ دونها، لأنّ العالمَ سيظلُّ بحالةٍ مِن العماءِ والموت، سواء كان هو في العالم السُّفليّ أو كانت "عشتار"، ففي كلتا الحالتيْن سيظلُّ خاسرًا، لأنّه لا معنى للحياة إلّا بحضور "عشتار" وتوهّجِها كما توهُّجِ الشّمس، لتمنحَ الطّبيعةُ النّورَ والخصبَ والحياة.
   لقد أرادت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان ما هو أعمقُ من الأسطورة:
*نداءُ "دموزي" ومُناجاتُهُ هو نداءُ الحياة الخالد الّذي يتردّدُ صداهُ مِن العدم، لتلدَ الطّبيعةُ حياةً، حتّى يُدرك الوجودُ ذاتَهُ، ولا شيءَ غيرَ روح الأنثى المُتمثّل بـ"عشتار" يُمكنُهُ أن يُنجزَ هذه العمليّة.
*العالمُ السُّفليّ ينطوي على العدمِ ما قبل الولادة والعدم ما بعد الموت.
*"دموزي" يرمز إلى إرادة الحياة الكامنة، وهي تحثُّ "عشتار" لولادتِهِ من العدم الأوّل قبل الولادة، وإعادة بعثِهِ مِن جديد بعد العدم الثاني أي الموت.
*النّصوص التّالية هي مُناجاةُ الولادة من رحم العدم، ومُعاناةُ "عشتار" في هذه الحالة تُشبهُ مخاضَ الولادة.
*أمّا غيابُ "عشتار" في العالم السُّفليّ، فربّما يرمزُ إلى تغييب دوْرِ المرأة وقمْعِها واحتجاز حرّيّتها وإبداعِها، الأمر الّذي ينطوي على قتل الحياة الاجتماعيّة وجفافِها، واستغراقِها في الفوضى والحروب والقتلِ والذّلّ، وهو عصرٌ ظلاميٌّ كما تراه الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، فيما عصرُ الأُمّ المُتمثّل بـ "عشتار" هو عصرُ النّور والحياة، فتغييبُ دوْرِ المرأة في الحياة والمجتمع يُشبهُ الغيابَ الطّويل للشّمس عن العالم.
وتأتي هذه النّصوص على لسان الإلهِ الذّكر أي الرّجل، وليس على لسان "عشتار" الأنثى، حيثُ تبدو "عشتار" كما الشّمس تتصرّفُ بتلقائيّة، لأنّها مُنسجمةٌ مع روح الطّبيعة، وبهذا فإنّ نداءّ ومُناجاةّ "دموزي" أثناءّ مُكوثِهِ في العالم السُّفليّ لـ"عشتار"، كي تُنقذَهُ وتُخلّصَهُ مِن العماء، هو ذاتُهُ نداءُ الحياة في العدم الأوّل قبل الولادة والعدم الثاني بعد الموت، كما أنّها تحاولُ تسليطَ الضّوء على الجفاف في المجتمع الإنسانيّ، طالما يجري الاعتلاءُ على المرأة وتغييب دورها. لنتأمَل هذه النّصوص ص105:
هَاءَنَذَا.. جَامِحٌ فِي عَمَايَ
وَكَطَوْدٍ لَا يَتَزَعْزَعُ
أَنْتَصِبُ.. عَلَى قَلَقٍ يُمَزِّقُنِي!
رُحْمَاكِ
أَعْتِقِينِي مِنْكِ
مِنْ إِغْرَاءَاتِ أَوْهَامِي
مِنْ زَمَهْرِيرِ أحزاني!
أَزِيلِي حَرَاشِفَ الْغَشَاوَةِ
عَنْ عَيْني
وَاجْبِلِينِي .. قَصِيدَةَ ضَوْءٍ!
   وفي هذا النّصّ تستبطنُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان جدليّةَ الحياةِ والموتِ والانبعاث، ففي العدم الأوِّل ما قبل الولادة، حيثُ تكمنُ الحياةُ في حالةِ عماءٍ تنتظرُ انبعاثَها مِن العدم، حيثُ تقول الشّاعرة آمال عوّاد رضوان: *(أَعْتِقِينِي مِنْكِ): أي لِديني من العدم الأوّل وابعثيني إلى الحياة، وهي مُناجاةٌ لـ"عشتار" أي الأنثى الأُمّ الطّبيعة، أمّا في العالم الثاني أي العالم السُّفليّ، حيثُ يقبعُ "دموزي" في عماءِ الموت والعدم في انتظارِ انعتاقِهِ مِن عالم الموت، تجدُهُ يحثُّ "عشتار" للإسراع في تخليصِهِ مِن القلقِ وهاجس الانبعاث، ومن زمهرير العالم السُّفليّ وأحزانِهِ، وإعادتِهِ إلى النّور.
*(وَاجْبِلِينِي .. قَصِيدَةَ ضَوْءٍ): أي إعادة الخلقة مِن جديد، بعد أن غدا تُرابًا، وهو استجداءٌ لروح الأنثى الّتي تتمثّلها "عشتار" أن تبعث فيه الحياة، ليُدركَ ذاتَهُ مِنَ العدم الأوّل، وأن يُواصلَ حياتَهُ بعدَ العدم الثاني، ويُواصلُ "دموزي" مُناجاتَهُ لـ"عشتار" ص102:
أَنَا مَنْ كُنْتُ أَبْرَعُ
فِي لُعْبَةِ الاخْتِفَاءِ وَالتَّجَلِّي
دُونَ نُوَارِ سَمَاوَاتِكِ
فَاحَ طَوْرُ عَمَائِي!
    وحسب الأسطورة ثمّةَ تبادلُ أدوارٍ بين "دموزي" و"عشتار" في العالم السُّفليّ، واعتيادُهُ للظّهور والاختفاء أي الموت والحياة كلّ نصف عام، وهو ما يشبهُ دورةَ الحياة في الطّبيعة وتعاقُبَ الفصول، والعماءُ؛ العدم الأوّل قبل الولادة، وعماءُ العدم الثاني بعد الموت، والطّبيعةُ الأنثى هي "عشتار" أي المرأة تلدُ الوجودَ الحيّ، ليُدركَ ذاتَهَ في الطّبيعةِ النّابضة، وتُنجبَ الذّكورَ أي "دموزي" الرّجل الّذي ليستْ غايتُهُ الحياة وحسب، وإنّما مُعاودة الالتحام بالأنثى، والتّزاوج معها لمواصلةِ إنجاب الحياة.
وفي نصٍ آخر يواصل "دموزي" مُناجاتَهُ ص115:
أَيَا غَابَةَ ضَوْئِي
مَنَافِذُكِ كُلُّهَا مُغْلَقَةٌ
وَلَنْ يَكُونَ لِي أَوَانٌ آخَرُ
وَقْتِي يَصْحُو مُعْتِمًا .. يَشِيبُ بِعِنَادِكِ
وَلَيْلِي يَتَقَصَّفُ .. مُتَبَرْعِمًا بِيَأْسِي الْأزليّ!
   "دموزي" الّذي لا يزالُ قابعًا في العالم السُّفليّ، صباحُهُ كمَسائِهِ، نهارُهُ كلَيلِهِ، في مكانٍ تلفُّهُ الظُّلمةُ الأبديّة الدّامسة، ولا شيء غير اليأس المُطبق، وهو ينشدُ ضوءَ الحياة المُتمثّل بـ "عشتار" الّتي تأخّرت في المجيء، لذا نراهُ لا يكفُّ عن توسُّلاتِهِ لـ"عشتار" ص126:
لَا تَلْتَهِمِي شُعَاعَ سُوَيْعَاتِي
بِدَامِسِ ظُلمِكِ
وَلَا تَغْسِلِي دَمِي.. بِالطِّينِ .. بالْغُبَارِ
بَلِ اِرْوِي طَرِيقِيَ.. بِخُضْرَةِ أَنَامِلِكِ
وَانْبُشِي أَعْشَاشَ ضَوْئِكِ
عَلَّكِ تَبْعَثِينَنِي .. أَنَا الْمَنْسِيُّ
فِي مِشْكَاةِ عَتْمَتِكِ الْبَهِيَّةِ
وَعَلَّنِي أَنْبَثِقُ ذَاكِرَةً حَيَّةً .. مِنْ شُقُوقِ النِّسْيَانِ!
   *(فِي مِشْكَاةِ عَتْمَتِكِ الْبَهِيَّةِ): إنّها إرادة الحياة الّتي تتحفّز للانطلاق من العدم الأوّل، أي ولادة الوجود من الطّين والغبار والدّم، أي مِن الرّحم الكونيّ، أي العماء والظُّلمة الّتي يكمنُ في داخلِها النّورُ والحياةُ، وأيضًا الانعتاق مِن العالم السُّفلي، أي الموت، والانبثاقُ بذاكرةٍ حيّة أي الانبعاث من جديد.
"دموزي" الّذي يتهيّأ للانبعاث يهتفُ ثانية من العالم السُّفليّ ص129:
أنَا الْمُزَرْكَشُ.. بِظِلِّ وَسَنِي الْأَزْرَقِ
لِمَ أفْشَتْنِي .. عُيُونُ السّماء الْعَوْرَاءِ؟
لِمَ تَلَاشَتْني .. أرْيَاشُ الشّمس الْهَوْجَاءِ؟
مَنْ يَنْتَشِلُنِي .. مِنْ شَلَّالَاتِ هَوَامِشِي؟
   *في عالم الموت لا شيءَ هناك غير عتمة الظّلال القاتمة، ولا يُرى ما يَبعثُ على الأمل أو نور الحياة، ولا سُبُلَ لانتشالِهِ وإنقاذِهِ مِن هوامشِ العدم، وإعادتِهِ للحياة وولادة الوجود الحّي.
    *ثمّ يأتي دوْر "عشتار"، فتهبطُ إلى العالم السُّفليّ، وحلولُها مكانَ "دموزي" الّذي ينبعثُ ثانيةً للحياة، وهو ما يشبهُ الولادةَ مِن رحم الأنثى، حيث ينفصلُ عنها كأمّ، لكنّه ينشُدُها كزوجةٍ وحبيبةٍ لتحقيق غايةِ الخصب والتّناسُل، وأيضًا سعادة الحبّ بجانبها، فسعادتُهُ لا تكتملُ بولادتِهِ وعودتِهِ من العالم السُّفليّ، ولا بانتظار الطّبيعةِ مِن بعدِ جفافِها، لأنّه لا معنى دون "عشتار" أي دون المرأة.
  *"عشتار" الغائبة عن العالم السُّفليّ، أي البعيدة عن الرّجل تظلُّ حاضرةً في كيانِهِ وأعماقِهِ، ويُعبّرُ عن هذا الحضور بالحبِّ والشّوقْ والحنين، وكأنّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان تودُّ القولَ، إنّ الغايةَ ليست الخصبَ والولادةَ والحياةَ بحدِّ ذاتِها، وإنّما ثمة غاية أعمق عشقًا، هي غاية الحبّ والاكتمالِ، مِن خلال الاتّصال الجنسيّ بـ "عشتار"، وبغيابِها لا يكتملُ معنى الوجودِ وانبعاثُ "دموزي" من العالم السُّفليّ، بعبارة أخرى؛ الحياةُ بوصفِها مُعطًى ليست هي الغايةُ بحدّ ذاتِها، ما لم تترافقْ بوجود "عشتار" المرأة، وكأنّ الحياةَ أو عدَمَها سيّان بغياب "عشتار"، فالذّكورةُ لا تحيا دونَ الأنوثة، وهي الّتي ولدتْهُ وأوولجتْهُ إلى الحياة، والآن يأتي دورُهُ في التِماسِ "عشتار" بهدفِ الالتحام معها وإخصابها وعشقِها، لذا نجدُهُ لا يزال يُناجيها، كما لو كان لا يزالُ قابعًا في العالم السُّفليّ. وتقولُ ص4:
يَابِسَةٌ سَمَاوَاتِي
أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي
أَأَظَلُّ .. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟
   اذًا؛ لا معنى لولادتِهِ وانبعاثِهِ للحياة مِن عالم العدم، ما لم يَحظَ بالمرأة. إنّهُ يشتهي حضورَها ويتوقُ إليها، ولا يُغني انبعاثُهُ ووجودُهُ على قيدِ الحياة دونها، لذا نجدُهُ يُناجيها ويَدعوها أن تُشاطرَهُ الشّغفَ والحُبَّ، والمُناجاةَ مثلما كان يُناجيها وهو يرقد في العدم، حيثُ يقول لها ص4:
أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ ..  بَــ ~~ يــْـ ~~نَ .. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ
وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ .. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ.. جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!
عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ
مُضَمَّخٍ
بِــــالْـــــ~~دَّ~هْـــ~شَــ~ةِ
ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي .. صَدًى
 لِأَرْسُمَ .. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى!
   لأنّ انبعاثَها مِن العالم السُّفليّ يكمنُ في مناجاتِهِ والتماسِهِ كما كان يلتمسُها، وهي دعوةٌ للدُّنوّ للاقتراب والالتحام، ليكتملَ انبعاثُهُ بانبعاثها، وهذه المناجاةُ هي النّداء السّرّيّ، أي الحبّ الّذي مِن شأنِهِ أن يجذبَ الذّكورةَ للأنوثة، وهو الأمرُ الّذي سينجُمُ عنه إضفاءُ المعنى على الوجود. ويواصل القول ص7:
سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ .. انْطَفَأَتْ
مُنْذُ .. أَلْفَ عامٍ .. وَغَيْمَةٍ
وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي .. تَتَحَجَّبُ
خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ!
في غياب "عشتار" أي المرأة، لا معنى للحياة ولا معنى لخصب الطّبيعة، وإن كانت غايةُ "عشتار" بهبوطِها للعالم السُّفليّ، إنقاذَ الطّبيعة مِن الجفاف، غير أنّ ثمّةَ غايةٌ أخرى قد تكون أسمى، وهي غايةُ الحبّ الّذي دونَهُ لن يكون هناكَ انجذابٌ بين الذّكورة والأنوثة، فالحبُّ هو كلمةُ السّرّ  في الطّبيعة، وهو جذوةُ نارِها المشتعلة، لذا؛ نجدُ "دموزي" يُعلن عن هُيامِهِ بـ "عشتار" حين يهتف ص11:
صُورَتَكِ الْـــــ .. تُـــثِــــيـــرُ فِيَّ كُــــلَّ حِــــرْمَــــانِــي
وكَفَرَاشَةٍ .. أَحْتَرِقُ بِرَحِيقِ هُيَامِكِ!
أَغُورُ .. فِي صَخَبِ لِسِانِكِ
أُسْرِفُ .. فِي اشْتِهَاءَاتِهِ الْمُعَتَّقَةِ
وأَغُوصُ .. فِي صَرْخَتِكِ النَّقِيَّةِ!
   إنّ غيابَ "عشتار" هو بمثابةِ حضورٌ مُكثّفٌ في القلب، ينبعثُ على شكلِ عواطف وشوق وحبّ واحتراق وانتظار، كما في النّصّ التّالي ص17:
سَأَنْتَظِرُكِ
بِأُفُقِي الْمُشَرَّعِ عَلَى مِصْرَاعَيْكِ!
   انتظرَ "دموزي" بزوغَ شمس "عشتار" الغائبة، وهذا الغيابُ مُتأجّجٌ لوعةً وشوقًا وحرمانًا، تُعبّرُ عنه الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان على لسان "دموزي" العاشق في النّصوص التّالية ص75:
مُذْ غَادَرَتْنِي .. غُدْرَانُ مُحَيَّاكِ
انْطَفَأَتْ .. ذُبَالَاتُ عَيْنَيَّ!
   إنّ استمرارَ غياب "عشتار" هو بمثابة موت لـ "دموزي"، وكأنّهُ لا يزالُ في عماء العالم السُّفليّ، ولن يكونَ بوُسعِهِ أن يرى ثانيةً إلّا بعوْدتِها، بعبارةٍ أخرى؛ لن يكتملَ معنى وجودِهِ إلّا بحضور المرأة في حياته، وسيظلُّ يحلمُ بها كما في هذا النّصّ ص83:
فَيَغْفُو لُهَاثُ لَيْلِي
عَلَى أَهْدِابِ غِيَابِكِ!
وأيضًا في هذا النّصّ ص96:
أَنَّى يَشِينِي مَوْجُكِ الْغَافِي
عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ؟
هَا عَتَمَاتُ نُورِي
مَدْفُونَةٌ  فِي أَقَانِيمِ هُطُولِكِ
تَنْتَظِرُ مُرُورَ اللَّا مُرُور!
    نورُهُ مُعتمٌ في غيابِها، وخصْبُهُ جافٌّ دونَ هطولِها، وهذا النّصُّ يُشبهُ ترتيلةً لـ "أخناتون"، وهو يُناجي الإلهَ "آتون" إلهَ الشّمس: عندما تميلُ وراءَ الأُفق الغربيّ/ تغرقُ الأرضُ في ظلامٍ كأنّهُ الموت
    ويُعبّرُ "دموزي" أي الرّجل عن إحباطه على هذا النّحو ص109:
هَا حَاضِرِي .. مُقَنَّعٌ بِبَرِيقِ يَأْسِهِ
يَنْقُشُ الضّوء .. عَلَى مَرَايَا أحزاني!
يَا مَنْ كُنْتِ مَاضِيَّ
أتوهّج .. بِإِيقَاعِ تَقَاسِيمِكِ الْيَانِعَةِ
ومَا زِلْتِ تَنْزِفِينَ .. جَمَالًا وَشَوْقًا
عَلَى حُدُودِ الذّكرى!
   لا يزال "دموزي" يائسًا، يرتعشُ شوقًا وحبًّا بانتظار عودة "عشتار" من العالم السُّفليّ، فالماضي هو ماضي "دموزي" في العالم السُّفليّ، في لعبةِ تبادُلِ الأدوار الأزليّة الأبديّة، أمّا الماضي بالنّسبة للرّجل هو لعبةُ الولادة والخصب، ففي اللّا وعي العميق يحتاجُ إلى الأنثى الّتي أنجبَتْهُ وانفصلَ عنها، لكنّه يَنشدُها ليعودَ ويلتحمَ بها لإكمال غاية الحياة باستمرار، لأنّ وجودَهُ حيًّا ليس هو الغاية، إنّما الغاية هي الحبُّ واستمرار ذلك بالحياة، وإلّا فإنّها ستستحيل إلى عماء كما في النّصّ التّالي ص116:
وَمُذْ مَضَيْتِ .. فَقَأَتْنِي عُيُونُ أَكْوَانِي
وَفَوَانِيسِي.. الْــ عَهِدْتُها
تَلْتَقِطُ مِنْ مَحْجَرَيْكِ.. وَهْجَكِ
تَعَرَّتْ.. مِنْ أَهْدَابِ خُضْرَتِكِ
وَبَاتَتْ خَرَائِطي فَوْضَوِيَّةً
لَا تَعْرِفُ التَّمَرُّدَ
إِلَّا.. عَلَى يَبَاسِ خَيْبَاتِي!
   بدون الشّمس الأنثى الّتي تشتركُ في حياته، سيظلُّ في حالةٍ أشبهَ بعماء العدم، ويُضيفُ في نصٍّ آخرَ ص142:
سَمَائِي .. مَلْغُومَةُ الْغَمَامِ
دُونَكِ
رِيحِي مَشْلُولَةٌ .. ليْسَتْ تُزَوْبِعُهَا
 إِلَّا شَهْوَةُ حَرَائِقِكِ!
   إنّ هذا التّوقَ المُتأجّج والمُشتعلَ لـ "عشتار"؛ للمرأة وللحبّ وللخصب، سيستحيلُ إلى عبادةٍ وتأليهٍ كما درجتْ عليه عادةُ الشّعوب القديمة، في تأليهِ الأنثى الّتي تُمثّلها "عشتار" ومثيلاتها.
**ثانيًا:
العبادة – تأليهُ الأنثى:-
   إنّ نصوصَ ديوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) يتلخّصُ في عبادةِ وتأليهِ الأنثى أي عشقها، فالمعنى الكامنُ في عنوان الدّيوان ونصوصِهِ هو العبادة، أي الحبّ والعودة إلى الطّبيعة البكر الّتي ترى فيها الشّاعرة آمال عوّاد رضوان أنّها الأصلُ والأساس، وما دون ذلك يُعدُّ انقلابًا على الطّبيعة، والطّبيعةُ لا تكتملُ إلّا بانبعاث روح "عشتار" الكامنةِ في الطّبيعة، والّتي بدوْرِها لا تكتملُ ولا تتواصلُ رسالتُها إلّا بالحبّ وباتّصالِها بالذّكر، لإنجاز غاية الخصب والحياة، ومن أجل الوصول لهذه الغاية لا بدّ مِن عبادة الأنثى الكامنةِ في الطّبيعة أي عشقها، وهذا هو بيتُ القصيد، إذ تعني الشّاعرة آمال عوّاد رضوان بـ (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين)؛ أي أعبدكِ وأعشقكِ لتتألّقي وتزدهري.
   لقد أرادت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الإيحاءَ، إلى أنّ الإنسانّ عندما أدركَ وجودَهُ في الطّبيعة، عبَدَ الأنثى المُتمثّلةَ بـ "عشتار"، وهو ما ينبغي أن يتواصل، لأنّ العبادةَ أي العشق مسألةٌ مُنسجمةٌ مع الطّبيعة، ودونَ هذا الحبِّ لن يكونَ مصيرُ الطّبيعة والمجتمع الإنسانيّ سوى الجفاف والموت، ولنتأمّلْ هذه النّصوصَ الّتي تنطوي على التّقديس والتّبجيل للأنثى ص46:
أَيَا مَعْصِيَتِي الْمُبَارَكَةُ
رُحْمَاكِ
أَطْفِئِي يَأْسِي.. بِنُورِكِ الْمُقدّس
وتتابع ص50:

كَمْ مِنَ الرَّوْعَةِ تَبْلُغِينَ؟
أَمَبْلَغَ هَيْكَلِ رُوحِي؟
وَمَا عَبَّدْتُ أَتَعَبَّدُ .. فِي مَعَابِدِ نَقَائِكِ!
وتقول ص57:
فَـــلْــــتَــــسْــــكُــــنِّــــي .. نِيرَانُكِ الْمُقدّسة
مَغْمُوزَةً .. فِي آهَةٍ لَا تَهْدَأ
لَنْ أَخْفِضَ عَيْنِي الْمُزَمْجِرَةَ
فِي خُضوعِكِ
وَأَبَدًا.. لَنْ أَهْمِزَ نَقَاءَكِ
فَلَا تَغِيبِي أَيَّتُهَا الْحُضُورُ!
وتتابع ص59:
بِمَرْهَمِ حَنَانِكِ الْبَهِيِّ
تَدْهَنِينَ.. قُرُوحَ مَوَاجِعِي!
حلْكَةَ يَأْسِي الدّامس .. تُضِيئِينَ
بِمَنَابِعِ آمَالِ يَمَامِكِ!
أَيَا قِبْلَةَ قَلْبِي
مَا كَانَتْ شِفَاهُ شَبَابِيكِي
لِتَنْغَلِقَ .. عَلَى أَنَامِلِكِ الْعَاجِيَّةِ
إِلَّا لِتَلْثُمَ عَيْنَيْكِ .. بِــ وَابِل ِقُبُلَاتٍ رَؤُومَةٍ!
وتقول ص 61:
أَعَبَثًا .. تَشَهَّيْتُ قَلْبَكِ الْأَتُونَ؟!
اُسْكُبِيكِ ضَوْءَ حَيَاةٍ .. فِي مُبْتَدَايَ وَمُنْتَهَايَ!
وَفِي غِمَارِ الْحُبِّ .. وَقِطَافِ الْحُلُمِ
سَرْبِلِينِي
بِعَبَاءَاتِكِ الْمُزَرْكَشَةِ .. بِشِفَاهِكِ الْهَائِمَةِ!
   لنلاحظ استخدامَ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان لفظة "آتون"، وقد يكون استقطانًا للإله آتون إله الشّمس الفرعونيّ، لكن بصيغتِهِ الأنثويّة، ولدينا بعضُ التّراتيل الّتي كان يُرتّلُها الفرعون أخناتون لإلهة آتون، وهي شبيهةٌ بنصوص الشّاعرة آمال عوّاد رضوان وعلى شاكلة:
عندما ترتفع في الأُفق الشّرقيّ/ يملأ بهاؤكِ كل البلدان
تُحيط أشعّتُك بكلّ ما خلقت من أصقاع
وتتواصل النّصوصُ التّعبديّة لـ"عشتار" على لسان "دموزي" ص62:
أَيَا مَلِيكَتِي
هَا قَدْ بَدَأَ .. فَسَادُ الدَّهْرِ
وَلَمَّا تَزَلِي .. أزليّةً
أبديّةً .. فِي مَمْلَكَتِي الْجَبَلِيَّةِ
شِعْرُكِ .. خَرَائِطِي
رُوحُكِ .. بُوصَلَتِي
فَلَا تقلّبي .. ظَهْرَ النَّهْرِ
وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا
دَعِيهِ يَــــجْــــرِي
لِأُتوّجــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ
   إنّهُ فسادُ الطّبيعة وجفافُها، وفسادُ الحياةِ الاجتماعيّة وانحلالُها، ودون أن تعودَ الأنثى للسّيادة والتّقدير والاحترام، سيبقى هذا الحسابُ قائمًا، وعودةُ الخلافة للأنثى يُشبهُ شروقَ الشّمس اليوميّ على العالم، ببقائِهِ مُلتهبًا حيًّا ومنسجمًا مع ذاته. ولا تكفُّ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان عن استخدامِ الصّورةِ الطّقوسيّةِ التّعبُّديّة لـ "عشتار" ص73:
أَيَا نَغْمَةَ سَمَائِي الْمُقدّسةِ
يَجْتَاحُنِي جَمَالُكِ.. يُجَارِي آمَالِي
وتقول ص74:
هَاءَنَذا .. أُدَوْزِنُ أَوْتَارَ غُرْبَتِي
عَلَى كَمَانِ طَيْفِكِ الضَّبَابِيِّ
وَأَعْزِفُنِي مَزامِيرَ اسْتِغْفَارٍ
لِئَلَّا يَخْبُوَ.. مَجْدُ حُضُورِكِ!
وتتابع ص 78:
رُحْمَاكِ.. اِرْأَفِي بِي
لَيْسَتْ تَأْتَلِفُ غَيْمَتَانِ مُتَوَازِيَتَانِ
فِي وَمْضَةٍ أَوْ رِعْدَةٍ!
أَنَا.. مَنْ زَخَرَ نَبْضِي .. بـزَغَـارِيـدِ مَائِكِ
كَيْفَ أَتَيَبَّبُ؟
كَيْفَ تَسْتَوْطِنُنِي الْبَرَارِي؟
صَبَاحِي .. مُنْذُكِ زاهِدٌ
نَازَعَنِي فِيكِ
بَيْنَمَا أَنَا مُنْهَمِكٌ
فِي تَرْمِيمِ مَرَايَانَا الْمَشْرُوخَةِ
لكِنَّكِ بِطُقُوسِ بَوْحِكِ .. هَيَّجْتِ حَرْفِي وَضَوْءَ قَلْبِي
وتقول ص 99:
صَوْبَ نِعْمَةِ سَمَائِكِ .. كَفَّايَ خَاشِعَتَانِ
تَمْتَدَّانِ .. فِي أَزِقَّةِ نُورِكِ الْمُقدّس!
وتتابع ص 103:
فِي أَحْشَاءِ مَدَاكِ الْمُضِيئَةِ أَرْكَعُ
وفِي دَهَالِيزِ عَيْنَيْكِ الْمُشِعَّتَيْنِ
كَهَرَمٍ هَرِمٍ .. أَكْبُرُ وأَخْشَعُ!
   

29


مرِّغوا نهدَيَّ بعِطرِهِ الأزرقِ


 
آمال عوّاد رضوان


على عَنانِ بُشرى جائعةٍ
تماوَجْتَ..
بليلٍ لائلٍ اقتفيْتَ فيْضَ ظِلِّي المُبلَّلِ
بضوضاءِ أَصفادي
أَرخيْتَ مناديلَ عتبٍ مُطرَّزٍ بتعبٍ
تستدرجُ بِشريَ المُستحيل
وفي تمامِ امْتثالي المُتمرِّدِ تورَّدْتَ!
بومضِ عِطرِكَ العابثِ مَضـيْـتَ تـتـخـفّـى
تـقـتـرِفُ تقوَى إشاعةٍ بشوشةٍ
وأنا في سكرةِ أعماقي
أثملُ بموْجِ مُستحيلٍ
لا يُذبِلُ نُواحَهُ جنونُكَ!
أنامِلُكَ.. ما فتئتْ تتندَّى اشتعالاً دامِسًا
تُقشِّرُ سحابَ وقتِي الموْشومِ بالنّعاسِ!
ولمّا تزلْ تخلعُ أسمالَ تثاؤُبٍ
كم تيمّنَ بالأزلْ!
ولمّا تزلْ.. في سديمِ الصّمتِ المثقوبِ
تمتطي تراتيلَ كَوْني الغافي!
أسرابُ وهنِكَ المغناجِ
انسَلَّتْ
تُراقصُ نيرانَ أحلامٍ
ما غابَ طعمُها عن لساني!
طُيوفُ جراحي طاعنةٌ في سَرمديّتها
أسهْوًا..
تَشدّقها سُهْدٌ أُسطوريُّ الملامِحِ؟
أَشابها خَدرُ نَقْشِكَ الخشْخاش؟
أَعلَّقْتَ حَدْسِيَ الكفيفَ
على مِقبضِ موجِكَ الفردوسيِّ؟
زفراتُ نجومي جرَفَتْها سيولُ تمرُّغِكَ
حينما غرَّها بَسْطُكَ المُهترِئُ
وَ.. على مَقامِكَ المرْكونِ
مُــنْــصَــاعَــةً
تَــكَــسَّــرَتْ
وَ.. رصَّعتني بانكساري!
بجناحَيْ جنونِكَ انبثقْتَ عائِمًا تُرفرِفُ
اضطرَبْتَ هائِجًا تُهفهِفُ
تَستبيحُ رُفُوفَ انشِطارٍ
لَكَمْ صَفّدْتَهُ بضياعي المُنمْنَمِ
كي تمتشِقَ إِغواءاتِ احتضاري!
فتائِلُ دهشةٍ
خطفَتْ قُصاصاتِ تَوْقي مسحورةَ الطّوقِ
سمّرْتني
بينَ وعودٍ مُؤجّلةٍ وجدرانَ تتهاوى!
خُطى ريحِكَ الضّريرَةُ وَشَتْ أجنحتكَ
شبَّ لهيبُها في اقتفاءِ أثري
تنيْرَنْتَ!
تبغْدَدْتَ!
وفي مَحافِلِ التّرقُّبِ
احترفتَ تضميدَ حروقِ حروفي!
ألْسِنةُ بوْحي النّاريِّ
طليتَها بوَشوشةٍ انبجَسَتْ تستجيرُ:
سرابُ حوريّةٍ أنا؛
إِلى مسارِبِ الوَهْمِ أَغواني
بثوْبِ السّباني.. سَباني
بَعثرَ وجهيَ في ذاكرةِ الحُجُبِ
وَابتلعَ ذيليَ الذّهبيّ!
يا رُفقاءَ الأسمى
بوّابةُ سمائي مَحفوفةٌ بهياكِلَ مَجْدٍ
ساحَ ضوؤُها زركشةً تتجَنّحُ
وما انفَكّتْ بأهدابِ الذّهولِ تتموّجُ
اِستنيروا بي!
لَدُنِي المُقدّسُ كَمِ ازدانَ بأرياشِ الشّمسِ
وَمُنتشيًا
تَعَنّقَ نحوَ عُشِّ النّارِ!
بسليمانَ أغيثوني
بأسرابِ جِنِّهِ؛ تَحفُرُ قاعَ بَحري أَفلاجًا
تُهْدينيها في ليلةِ عيدي
مرِّغوا نهْدَيَّ بعِطرِهِ الأزرقِ
لتهُزَّ قلائدُ سمائي غيثًا.. يتضوّعُ حُبّا.
يا رُفقاءَ الأسْمى
مرِّغوا نهْدَيَّ بعِطرِهِ الأَزرقِ
وزُفُّوا إليَّ.. ذيْلِيَ الوضّاء





فتحية عصفور تترجم للإنجليزية (مَرِّغُوا نَهْدَيَّ بِعِطْرِهِ الْأزْرَقِ)للشاعرة آمال عوّاد رضوان


Ye! Roll My Breast In Its Blue Fragrance
By: Amal Awad Radwan-(Palestine)
Translated by: Fathia Asfour
Palestinian poet & tranlator
--------------------------------------------------------
Ye! Roll My Breast In Its Blue Fragrance

On the clouds of hungry glad tidings
 you s..u..r..g..e..d
On a long gloomy night ...you traced the flow of my wet shadoww
With the noise of my fetters
 You let down hankies of blame embroidered with tiredness...
 luring my impossible gaiety
 And at the completion of my rebellious compliance...
you glowed
With the glimmer of your trifling fragrance
 you went on disguising ...
 committing the devoutness of a jovial rumor
 while Iam in the drunkness of my depths...
 intoxicated by impossible ripple
whose wailing's not withered by your madness
---------
Your fingertips are still dewing with gloomy burning
 p..e..e..l..i..n..g
the clouds of my time, the stigmatized with slumber..
 and till now taking off rags of yawning..
 How it saw good omens in eternity !!and still..
in the haze of punched silence...
riding the hymns of my sleeping existence
----------
 The squadrons of your coquettish weakness
 s..n..e..a..k..e..d
dancing with fires of dreams
 whose taste never slipped my tongue
---------
Aged in eternity are the spectra of my wounds
Is it heedlessly that a legendary- featured sleepliness drawled them ?
Were they spoiled by the numbness of your poppy- like inscription?
Or did you hang my blind intuition on the halt of your paradisal billowss?
---------
The groans of my stars were swept away by the torrents of your wallowing...
when seduced by your worn grasp ..
and ...
on your backed power
 they submissively got s..m..a..s..h..e..d
and inlaid me with my breakage
----------
With the two wings of your madness
you emerged... adrift
fluttering ... widely agitated flapping ..
 deeming permissible shelves of split...
 How you chained it with my decorated loss!!
so as to seize the temptations of me dying !
-----------
Filaments of amazement snatched the band –
 witched scraps of my longing...
They nailed me
between deferred promises and walls collapsing
-----------
 The blind steps of your wind betrayed your wings.
 Their flames broke out in tracing me...
As if Neron you were !! ..
As if Baghdad you were !!
 and in the fora of suspension ...
you were professional in bandaging the burns of my letters
------------
The tongues of my fiery revelation ...
 you plated with a whisper that gushed out appealing:
 A nymph phantom Iam
 To the tracks of illusion he (the invader) seduced me...
by the Sabani gown.. he captivated me...
 he dispersed my face in the memory of veils..
and swallowed my golden tail
-----------
O ye , supreme comrades!
 The gate of my heaven is encircled by temples of glory
 whose light mottled winged trimming ...
and still billowing with lashes of amazement
-----------
 Be enlighted by me!
 My sacred Branches! ..
How adorned by the feathers of the sun they were !!
and ecstatically craned their necks up towards the nest of firee!!
------------
Yawp! Yawp!
 Ye! support me by Solomon
and his squadrons of Genie.. to dig the bed of my sea aflaj (gorges)
and present them to me on the night of my feast
Ye! roll my breast with its blue fragrance..
so that the necklaces of my heaven can shake rain spreding with love
-----------
O ye ,supreme comrades!
roll my breast with its blue fragrance
 and turn in procession back to me.. my bright tail


30
سِجالٌ وتَماهٍ بينَ شاعرةٍ وروائيّةٍ في مكنوناتٍ أنثويّة!
بقلم: د. روزلاند دعيم
      يُسعدُني ويُشرّفني أن أحتفي بالأديبة فاطمة يوسف دياب، وما يُعزّز حفاوتي هو محاورتها في كتابها "مكنونات أنثويّة"، لقصائد الشّاعرة الرّائعة آمال عوّاد رضوان.
      يفرض علينا النّصّ "مكنونات أنثويّة" بطبيعته القراءة، بحسب نظريّة الاستقبال، أو التّلقّي الّتي تُعنى بالعلاقة الجدليّة بين النّصّ والقارئ، إلّا أنّ هذه العلاقة تخلق جدليّة جديدة، وهي:
*"مَن هُما طرفا الحوار؟" عِلمًا، بأنّ القارئ المُتلقّي هو أحد الطّرفين، فمَن هو الطّرف الثاني!
*هل هي الرّضوانيّة صاحبة النّصوص الأصليّة (آمال عوّاد رضوان)، أم أنّها الطمراويّة صاحبة المحاورة العميقة؟
*هل هي صاحبة النّصّ الشّعريّ غزير الطّلاسم (آمال عوّاد رضوان)، أم أنّها الأديبة الذّكيّة (فاطمة دياب) والّتي تمكّنت من فكّ الشّفرة والرّمز، وقراءة النّصّ محكم البناء والنّسج، لا بل استطاعت أن تنقلّ ما فكّته وفكّكته من رموز، إلى المُتلقّي الجديد الّذي يقرأ فاطمة، والمُتلقّي الأول الّذي يقرأ آمال…
     عمليًّا..
نحن أمامَ علاقةٍ مُركّبةٍ ومُعادلةٍ مزدَوجةٍ من عملية التّلقّي، حين يُصبح المُتلقّي مرسلًا للنّصّ الأصليّ، أي للعشرين قصيدة الّتي اختارتها فاطمة من قصائد آمال، وحين يستقبل القارئ أو المُتلقّي النّصّ الأول الشّعريّ، من خلال استيعابه للنّصّ النّثريّ والحوار بينهما، وهذا يقودُنا إلى الواقع الجديد بحسب نظريّة التّأثير والاتّصال، حين يجتهد القارئ - وفي هذه الحالة فاطمة - لسبر أغوار النّصّ واستكناه معالمه الباطنة، يبحث عن نصٍّ غير صريح. ومن خلال المغازلة بين فاطمة ونصّ آمال، نشأت العلاقة الجدليّة الّتي خلّدت نصّ آمال، من خلال الكنز مكنونات أنثويّة.
       مكنونات أنثويّة:
     حين نمسك الكتاب بين أيدينا، يلفت نظرنا لون غلافه الّذي أتى بأحد درجات أقوى الألوان، الأزرق الّذي طغى على خلفيّة الصّورة وفضاء النّصّ، حيث أن "الصّورة تساوي ألف كلمة"، بحسب ما نُسب إلى الفيلسوف الصّينيّ كونفوشيوس.
      ويُطلّ من الغلاف شلال قويّ يشقّ مرتفعًا لشقّيْن، تقف عن يمينه فتاة يافعة تحت شجرة خضراء، وعن يساره فتاة، على ما يبدو أكبر سنًّا، تجلس على وجهٍ تمّ تشكيله طبيعيًّا بالصّخرة، وفي حين يتدفّق الشّلّال من ورائها تُطلق طيرًا ثامنًا إلى الفضاء، كأنّهم نوارس أو حمام زاجل، بكلّ ما تحمله تداعيات وإيحاءات وسيميائيّات هذيْن الكائنيْن، من قدرة ووظيفة على تعزيز التّواصل بين طرفي الهُوّة.

      على الغلاف أتى العنوان الرّئيس "مكنونات أنثويّة"، بينما تمّ تفصيله بعنوان جانبيّ أتى على الصّخرة اليمنى: "فاطمة يوسف ذياب تحاور قصائد آمال عوّاد رضوان"، وإن نظرنا إلى العنوان باعتباره مفتاحًا رئيسًا لقراءة النّصّ، فإنّ المكنونات هي الخفايا، ومكنونات أنثويّة هي تلك الأسرار، أو الأفكار، أو الأحلام الّتي تحملها الأنثى صاحبة مكنونات القلب والنّفس، والعقل والرّوح، فمن خلال المغازلة الأدبيّة بين الاثنتين تشكّلت هذه المكنونات، وأتت إلينا بحلّتها الأدبيّة الحاليّة.
      تقول فاطمة (ص 14) في قراءتها لديوان "رحلةٌ إلى عنوانِ مفقودِ" عزيزتي آمال عوّاد رضوان:
"شكرًا حتّى متاهات الأبجدية"!
فهي تكشف في محاورتها الأولى معنى العنوان حيث حاولت فكّ الطّلاسم، والبحث مع آمال عن معالم عنوان ديوانها المذكور، إلّا أنّ إصابتها مضاعفة، بحيث بحثت مع القارئ الجديد عن معالم عنوانها "مكنونات أنثويّة"، وبهذا التّقديم هي تعرِّف آمال الّتي تكتب بلغةٍ مُشفّرةٍ مجازيّةٍ عاليةٍ "عصيّة" غنيّةٍ بالتّضمين، وقد أتى هذا الحوارُ بعدَ سُباتٍ طويلٍ نامت فيه "دبدوبة" كما تصفُ نفسَها، حتّى أيقظتها آمال عبرَ أسلاكِ الهاتف، واستثارتْ قدرتَها المعتكفةَ بقوْلِها "اُكتبي"، ليتفجّرَ هذا الإبداعُ الّذي يستوجبُ الشُّكر.            (الإهداء ص9 - 11).
تقولُ فاطمة (ص24): هكذا أقرؤكِ … مِن وهجِ الرّماد!
وفي (ص25) تعرضُ العناوينَ الّتي تُشكّلُ معًا قصيدة، وتدعو فاطمة آمال "يا ابنة القوافي"، في ردِّها على قصيدتها "إليكِ أتوبُ غَمامًا" (ص33- 34)، وتحاورُها بأسلوب ميتا- أدبيّ: بهذه اللّوحاتِ النّصّيّةِ.. الانفصام أبدًا، وترفعُها لاحقًا إلى أعلى المراتب ص35  بقوْلها: هكذا هي آمال عوّاد رضوان؛ الشّاعرة المُتجذّرةُ بمَلكوتِها الشّعريّ تُخاطِبُ الأنثى..
وفي عنوان الفصل: آمال عوّاد رضوان شاعرة الغموض والما وراء!
(ص 92) تُدَمْوِزُ فاطمةُ آمالَ المُتَعَشتِرة ببلاغتها ونصوصها مليكةً على عرش الحروفِ واللّغات، من خلال محاورتها في ديوانها "اُدَموِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين"، ولا تكتفي بذلك، بل ترُدُّ على مقالة د. منير توما في مقالته "البوح الجنسي الرّمزي الاستعاري في مجموعة "اُدَموِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين"، فتقوم فاطمة هنا بعمليّةٍ حواريّةٍ مع أحدِ النّصوص الموازية، إضافةً إلى مُحاورةِ الأصل.
وفي خطابها الدّائم تتوجّه إلى آمال عوّاد رضوان مسبوقة غالبًا بـ "عزيزتي الشّاعرة"، فتبرقها برقيّةً عاجلة تقول فيها (ص131): عزيزتي آمال، ليس سهلًا .. الوجود والحياة، وفي نهايةِ النّصّ الموازي تختارُ فاطمة تناول قصيدة "أسطورةُ الّتياعٍ" (ص166)، لتُلخّصَ مشروعَها:
وليس من باب صدفةٍ عابرةٍ أراني أتناولُ قصائدَكِ في أكثرَ من نصّ، فبينَ حروفي وحروفك نبتَت علاقةٌ فكريّةٌ، ظلّت في بحثها عن عنوانها المفقود تنتقل مع لوحاتِكِ، ما بين واقعٍ عقربيٍّ إلى واقعٍ ياسمينيٍّ منشود، ....
      سِجالٌ وتَماهٍ بين شاعرة وروائيّة، أطلقَ إصدارًا حواريًّا بين الشّعر والنّثر، حاولت به فاطمة استنطاقَ النّصّ مبنًى ومعنًى، وتناصّت مع نصوص رضوان العشرين وتضميناتها، تقرؤُها بمستوياتها الرّمزيّةِ المختلفة. واستطاعت فاطمة بأسلوبها الرّوائيّ أن تكتبَ مكنوناتِ قلبها وعواطفِها؛ فارتقت إلى مستوى الميتا شعور، واستنطقت النّصّ على مستوى المبنى والمعنى، وغاصت في البناء اللّغويّ والنّسيج الشّعريّ والصّوريّ، واستحضرت الذّاكرةَ الجمعيّةَ للفِكر الإنسانيّ، وقدّمت قراءةً حداثيّةً مائزةً، تستدعي التّوقّف عندها.

      ونهايةً، الآثارُ الأدبيّةُ المعاصرةُ أدخلتْ تحويرًا على وظيفة القارئ، حين جعلت منه طرفًا في النّصّ، تُوكّلُ إليه مُهمّةَ المشاركة في تأليفه.،وهذا ما حدث في النّصّ الحداثيّ الّذي قدّمته لنا الرّوائيّة فاطمةدياب، في حوارها مع الشّاعرة آمال عوّاد رضوان.
وإذ أتمنّى لآمال سنوات عديدة من الإبداع، أتمنّى لفاطمة صفاء القلم والفكر، وسنوات عديدة من الحوار الأدبيّ، إلى جانب مناجاة الذات.


31
بقلم: د.جهينة عمر الخطيب
التّحوّلاتُ في المرجعيّاتِ الثّقافيّة في ديوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين"
صوفيّة إسلاميّة مسيحيّة يهوديّة وأسطوريّة
للأديبة الفلسطينيّة آمال عوّاد رضوان أنموذجًا

المُلخّص: الشّعرُ رؤيةٌ متفرّدةٌ في صياغةٍ مُتفرّدة، وقد ظنَّ كثيرٌ مِن شعراءِ الحداثة، أنّهُ لن تتأتّى هذه الرّؤيةُ إلّا بتطهيرِ "الذّاكرة" مِن روح الأسلاف، أو فيما عُرفَ عندَهم بقتلِ الأب، لكي يحتفظوا لحداثتِهم ببكارةٍ لا تنتهكُها أرواحُ السّابقين، ومِن ثمّ، فقد أحرقوا كلَّ سُفنِ العودةِ الّتي كانتْ تربطُهم بماضيهِم الشّعريّ، غافلين عمَّا للتّراثِ مِن حضورٍ قويّ على مستوى الوجدان الجمعيّ للأمّة، مُتجاهلينَ قولَ إليوت - أشهرُ شعراء العصر الحديث وأكثرُهم  تجديدًا وابتكارًا في الآن ذاتِه-: «إنّ خيرَ ما في عملِ الشّاعر، وأكثرَ أجزاء هذا العمل فرديّة وتميّزًا، هي تلك الّتي يؤكّدُ فيها أسلافُهُ الموتى حضورَهم».
وبالطّبع، لا يعني هذا الخضوعَ للتّراثِ خضوعًا مُطلقًا، أو إجلالَهُ في تسليمٍ مُتزمّتٍ، بل يعني ألّا يكونَ التّراثُ تِركةً جامدةً مُغلقة، وإنّما يتحوّل إلى قوّةٍ دافعةٍ في البدن، لا أن يكونَ مجرّدَ (حِملٍ ثقيلٍ) يُعيقُ الحركةَ والنّموّ الصّحيح، فيأتي التّراثُ الدّينيّ الصّوفيّ، والموروثُ المسيحيُّ اليهوديّ والأسطوريّ، ليُشكّلوا تحوّلاتٍ في الخطابِ الشّعريّ، بحيث جاءَ التّحوُّلُ في طريقةِ الطّرح في الخطابِ الشّعريّ، وفي أنماط التّعبير المختلفة
وستقومُ الدّراسةُ بتحليلِ ديوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين" للشّاعرة الفلسطينيّة آمال عوّاد رضوان، بحيث ستتبعُ المنهجَ التّحليليّ التّطبيقيّ، وقد لاحظنا في الدّيوانِ الشّعريّ تحوُّلاتٍ في الخطابِ الشّعريّ، إلى خطابٍ ثلاثيّ الأبعادِ صوفيٍّ إسلاميّ، موروث مسيحيّ يهوديّ وأسطوريّ، بحيث تهدفُ الدّراسةُ إظهارَ هذهِ التّحوّلاتِ مِن مرجعيّةٍ ثقافيّةٍ إلى أخرى، وتوضّحُ أهمّيّةَ هذه التّحوّلاتِ ودلالاتِها، وفي هذا إشارةٌ، قد يتّفقُ معي كثيرون حولها وقد يختلفون، بأنّ أصولَ الدّياناتِ هي واحدة.
عندما بدأتُ بقراءةِ ديوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين" للأديبةِ الفلسطينيّةِ آمال عوّاد رضوان، رأيتُ مزيجًا روحانيًّا ما بينَ التّعاليمِ الصّوفيّةِ والمَفاهيمِ الرّوحيّةِ المسيحيّةِ في سِفرِ نشيدِ الإنشاد، فارتأيتُ هذهِ المقاربةَ النّصّيّةَ الصّوفيّةَ، وقصائدُ  الدّيوانِ مُستوحاةٌ مِن الأسطورةِ السّومريّة، ممثّلةً بإلهِ الخيرِ دموزي، والأسطورة البابليّةِ مُمثّلةً بإلهةِ الحبِّ والخصبِ والجَمالِ عشتار.
الإله ديموزي هو حارسُ بوّابة السّماء، والمسؤولُ عن دورةِ الفصول ورمزُ الذّكورة،أمّا عشتار فهي إلهة الجنس والحُبّ والجَمال عند البابليّين، أمّا سِفرُ نشيد الإنشاد فالحبيبُ (العريس) هو المسيح، والعروسُ هي النّفس، والسّيّدُ المسيحُ هو زهرةُ الشّعب اليهوديّ، وهو سوسنةُ الشّعوب، جاءَ مِن البرّيّة، أي من امرأةٍ بتولٍ لم يَمْسُسْها رجلٌ.
وفيهِ مناجاةٌ بينَ الحبيبِ والحبيبة، وبينَ العروسِ وعريسِها، وبينَ حالةِ العشقِ وحاجةِ النّفسِ إلى الحبيب، وما بينَ إيجادِ الحبيبيْن لبعضِهما البعض، وما بينَ الفقدان وحاجةِ النّفسِ إلى ظِلِّ حبيبٍ لتُطهّرَ روحَها.
وحسبَ المفهومِ المسيحيّ يرتفعُ المسيحُ على الصّليب، حتّى تستريحَ البشريّةُ بظِلِّ محبّته الأبديّة، فالمُناجاةُ بينَ الحبيبيْن فسّرَها رجالُ الدّينِ المسيحيّ بأنّها "حديثٌ مِن الرّبّ المُخلِّصِ، نحوَ الكنيسةِ الّتي ضمَّها إليهِ بَعدَ أنْ مرَّ عليها، فوجدَها مُلقاةً في الطّريقِ عاريةً وَمدوسةً بدَمِها، فقدّسّها بالتّمام، وبَسطَ ذيلَهُ عليها، أي خطبَها عروسًا له، وستَرَ بدَمِهِ عارَها وعُرْيَها، وغسَلَها بماءِ المعموديّة، وألبَسَها حياتَهُ، وأعطاها إنجيلَهُ سِرَّ خلاصِها".
وقد تكونُ بينَ المسيحِ والنّفسِ البشريّةِ الّتي تتوقُ للخلاصِ ولشُربِ خمرِ الحقيقة، وقد تَلاقى هذا المفهومُ المسيحيُّ بمَفاهيمَ إسلاميّةٍ صوفيّةٍ في ديوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين"، فجاءتْ مُقاربتي ثُلاثيّةَ الأبعادِ: ما بينَ الموروثِ المسيحيّ، والموروثِ الصّوفيّ الإسلاميّ والمُناجاةِ الشّعريّة.
جاءَ الحديثُ في الدّيوانِ الشّعريِّ بلسانِ الرّجُل مُخاطِبًا حبيبتَهُ، أمّا في نشيدِ الإنشاد فقد كانَ حوارًا مُتبادلًا بينَ الحبيبِ والحبيبة.
جواهرُ القلبِ الصّوفيّةُ السّبعُ وديوانُ "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين"، وتَلاقيها معَ المفاهيم المسيحيّةِ في سِفرِ نشيدِ الإنشاد:  "جواهرَ القلبِ سبعٌ، والقلبُ فيهِ سبعُ خزائن، كلّ خزانةٍ مَحَلٌّ لجوهرة" 
*جوهرة الذكر: "إذا انفتحتْ في قلبِ العبد، يكونُ أبدًا منفردًا عن وجودِهِ، غائبًا عن شهودِهِ، ويُسمّى عندَ السّالكينَ ذهولًا عنِ الأكوان، وطمأنينةَ القلبِ بذِكرِ الله." 
وفي نشيدِ الإنشاد نشهدُ اللّهاثَ وذِكْرَ الحبيبِ دائمًا: "حبيبي لي، وأنا له الرّاعي بينّ السّوسن، إلى أنْ يَفيحَ النّهارُ وتنهزمَ الظّلالُ، أرجعُ وأُشبهُ يا حبيبي الظّبيَ، أو غفرَ الأيائلِ على الجبالِ المُشعّبة"
وفي ديوانِنا الشّعريّ نجدُ تعلّق النّفسِ الكلّيِّة بالأنثى المُقدّسة:
"أَنَا مَا اسْتَهْوَانِي.. إِلَّا أَرِيجُكِ!
كَمْ مِنَ الزَّنَابِقِ تَتَعَشَّقِينَ
لِتَخْتَصِرِينِي مَجْنُونُكِ؟"
جوهرةُ الشّوق: "وهو أنْ يكونَ العبدُ أبدًا في الشّوقِ أو الاشتياقِ إلى الله، يطلبُ الموتَ في كلِّ نفسٍ، لأنّ حرارةَ الاشتياقِ مُشتعلةٌ فيه." 
"... يَابِسَةٌ سَمَاوَاتِي
أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي
أَأَظَلُّ .. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟"
وهُنا شوقُ الحبيبِ للحبيبة، ويُقابلُهُ شوقُ الصّوفيِّ للقاءِ ربِّهِ معَ شوقِ الشّاعرة، ويتماهى أيضًا مع شوق شلوميت في نشيد الإنشاد: "كالتّفّاح بينَ شجَرِ الوعر، كذلك حبيبي بينَ البَنين، تحتَ ظِلِّهِ اشتهيتُ أنْ أجلسَ، وثمرتُهُ حلوةٌ لحَلقي" .
جوهرةُ المحبّة: "إذا انفتحتْ في القلب، يكونُ العبدُ أبدًا راضيًا عن الله وراضيًا بحُكمِهِ، بلذّةٍ وإيثارٍ لذلكَ الرّضا على كلّ ما عداه، لو وقعَ بهِ في الوقتِ أعظمُ الهلاك، لكانَ أحَبّ إليهِ مِن جميعِ الشّهوات" :
بِــالتَّــرَقُّــبِ .. تُــلَــوِّنِــيــنَ حِــكَــايَــاتِــي
أَيَا لَهْفَةَ رُوحِي .. وَيَا عِطْرَ جَسَدِي
دَعِينِي .. أَتَسَلَّلُ إِلَيْكِ
كَحَالِمٍ .. بِثِيَابِ زَاهِدٍ .. لِأَظَلَّ ظَامِئًا أَبَدِيًّا"
 وفي نشيدِ الإنشادِ نجدُ في الإصحاحِ الثّامن تأكيدًا على أهمّيّة المحبّة: "المحبّة قويّة كالموت، والغيرةُ قاسيةٌ كالهاوية، لهيبُها نارُ لظى الرّبّ، مياهٌ كثيرةٌ لا تستطيعُ أنْ تُطفئَ المَحبّة، والسّيولُ لا تَغمرُها، إن أعطى الإنسانُ كلَّ ثروةِ بيتِهِ بدَلَ المَحبّة تُحتقَرُ احتقارًا."
جوهرةُ السِّر: "هو غيبٌ مِن غيوبِ الله، لا تُعرفُ ماهيّته ولا تُدركُ، وحُكمُهُ أنْ يكونَ العبدُ في كلِّ حال، لا يتحرّكُ إلّا لله، ولا يسكنُ إلّا لله، ولا يقعُ فيهِ شيءٌ مِن مُخالفةٍ للشّرعِ أصلًا، لكمالِ طهارتِهِ" .
" وَأنَا الْمُنْهَكُ .. بِعِبْءِ أَسْرَارِي وَحَنِينِي
تَعْصِفُنِي .. أُسْطُورَةٌ سَيَّالَةٌ
تَلْوِي عُنُقِي.. وَتَتَبَرَّجُ بِأَنِينِي!"
فالسّرُّ يُتعبُ صاحبَهُ، لأنّه مُدركٌ لأشياءَ لا يُدركُها غيرُهُ، إلّا أنّه مُتعلّق به، لأنّه أوصلَهُ لهذا الاتّصال بالله والتّقرّب منه.
وفي نشيدِ الإنشاد نرى تَعلُّقَها الكبيرَ به: " ليُقبّلني بقبلاتِ فمِهِ، لأنّ حبَّكَ أطيبُ مِن الخمر. لرائحةِ أدهانِكَ الطّيبةِ. اسْمُكَ دُهنٌ مُهْراقٌ، لذلكَ أحبَّتْكَ العذارى" .
جوهرةُ الرّوح: " وهو أن يُكاشفَ بحقيقتِها وماهيّتِها كشفًا حسّيًّا، حيث لا يُخفى عليهِ مِن جُمَلِها وتفصيلِها شاذٌّ ولا فاذّ، وهي حضرةُ ورودِ الاصطلامِ سُكْرًا وصَحوًا" :
"قَلْبِي .. لَمَّا يَزَلْ أَعْرَجَ
يَدرُجُ .. عَلَى سِكَّةِ نَهَارٍ انْهَارَ
فِي مَتَاهَةِ هَوَاءٍ مَائِعٍ!
وَعَلى كَتِفِ حُلُمٍ مَائِيٍّ
تَفَتَّحَتْ عُيُونِي .. رَبيعًا
يُسْرِعُ الخُطَى صَوْبَ ..
صَدَى صَوْتِكِ المُقدّس"
فهذهِ المتاهةُ تمَّ اختيارُها ولم تُفرَضُ، فهي تَفتحُ العينيْن، على ربيعٍ آخرَ لا يَراهُ غيرُها، هو جوهرةُ الرّوح.
وَلِتَشْحَذَ نَايَاتِي.. أَنْهَارُكِ الْمَدْفُونَةُ!
لَيْسَ تَوَحُّدُنَا يَكْتَمِلُ
إِلَّا فِي وَهَجِ الْجُنُونِ!
وجُنُونِي .. لَيسَ يَشْحَذُهُ
إِلَّا دَبِيبُ نَبَرَاتِكِ النَّقِيَّةِ!
دَعِينَا نَأْتِيهِ
مِنْ حَيْثُ تَكُونُ لَذَائِذُهُ .. فِي انْتِظَارِنَا"
فاتّحادُ النّفسِ البشريّةِ بالنّفسِ الكلّيّةِ، يَكتملُ عندَ الوصولِ لمرحلةِ الهذيانِ والجنون.
وفي نشيدِ الإنشاد: إجذبْني وراءَكَ فنجري/ أَدْخِلني خدرَكَ يا مَلكي/ لنبتهج ونفرح بك/ ونذكر حبَّكَ أكثرَ من الخمر"
فلهاثُ النّفسِ البَشريّةِ لمرحلةِ الاتّحادِ بالنّفسِ الكلّيّة.
جوهرةُ المعرفة: "وهي تمكينُ العبدِ مِن الفعلِ بينَ حقيقةِ الرّبوبيّة والعبوديّة، ومعرفةِ كلّ حقيقةٍ بجميعِ أحكامِها ومقتضياتِها ولوازمِها، وهي حضرةُ النّقاء والصّحو" :
" يا من تَنْحَتِينَ الضَّوْءَ ..
لِتَصْنَعِينِي شَاعِرًا
كَمْ مِنَ الرَّوْعَةِ تَبْلُغِينَ؟
أَمَبْلَغَ هَيْكَلِ رُوحِي؟
وَمَا عَبَّدْتُ أَتَعَبَّدُ ..
فِي مَعَابِدِ نَقَائِكِ!"
وفي نشيدِ الإنشادِ تكونُ المعرفةُ باحتساءِ خمورِ المعرفة: "قطفتُ مُرّي مع طيبي، أكلتُ شَهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبَني، كلوا أيّها الأصحاب، اِشربوا واسْكَروا أيّها الأحبّاء" .
جوهرة الفقر: "إذا انفتحتْ في العبد، يشهدُ افتقاره إلى الله تعالى، واضطرارُه إليهِ في كلِّ نفسٍ مِن أنفاسِهِ، فلا يُزعجُهُ عن هذا التّمكين وَرَدِّ كلِّ خطْبٍ، مِن أضدادِ فقْرِهِ، ومَن تَمكّنَ مِن هذهِ الجوهرة، صارَ أغنى الخلقِ باللهِ عن كلِّ شيء، بحيث لا يُبالي جميعُ الخلق، أحبّوهُ أم بغضوه، أم أقبلوا عليه أم أدبروا، لكما غناهُ بالله تعالى".
وفي نشيد الإنشاد: "أسْنِدوني بأقراصِ الزّبيب،أنْعِشوني بالتّفّاح، فإنّي مريضةٌ حُبًّا، شِمالُهُ تحتَ رأسي، ويمينُهُ تُعانقُني" .
وفي الدّيوانِ الشّعريّ يَتجلّى الأمرُ بمفهومِ الزّهد:
" أَنَّى لِغَابِرٍ فِي الزّهد ..  أَنْ تتَعَفَّفَ بُرُوقُهُ
وَنِيرانُكِ الْمُرَاوِغَةُ عَرّافَةٌ .. فِي مَواقِدِي تَتَأَنَّقُ وَتَتَجَمَّلُ؟"
 فهو زاهدٌ إلّا منها، بحيثُ لا يُبالي جميعُ الخلْقِ إلّاها.
وصفُ الحبيبة- مَــلِــيــكَــةٌ كِــنْــعَــانِــيَّــة:
مَا أُحَيْلَاهُ مُرَّكِ .. يَا ابْنَةَ النَّسَمَاتِ
كَأَنَّ رَحِيقَكِ .. تَخَلَّقَ مِنْ نَسِيمِ حَيْفَا
أَيَسُوقُ النَّسَائِمَ أَيْنَمَا شَاءَ
لِطِينِ الْبِشَارَةِ نَاصِرَتِي
لِتَجْبِلَكِ عُيُونِ الْجَلِيلِ فِي الْجَنَّةِ!؟
يَا أَرَقَّ مِنْ نَرْجَسَةٍ اشْتَمَّهَا شَاعِرٌ
فَغَدَا مَلَاكًا " .
وفي نشيدِ الإنشاد: " أنا نرجسُ شارون، سوسنةُ الأودية، كالسّوسنةِ بينَ الشّوك، كذلك حبيبتي بينَ البنات، كالتّفّاح بينَ شجرِ الوعر، كذلك جبيبي بينَ البنين" .
فالمشتركُ في الوصفِ هنا نبتةُ النّرجس.
أَيَا نِدَائِيَ الْبَعِيد.. مَنْ يَتَرَصَّدُ شَلَّالَاتِ ضَوْئِي؟
هَا رُعَاةُ اللّيل
يَسُوقُونَ صَدَى صَوْتِي الشَّاحِبِ
إِلَى غَيْمَةٍ مُبَلَّلَةٍ بِاسْمِكِ
وَكَأَنَّنِي أُفْضِي إِلَى سَمَائِكِ
أَأحُطُّ عَلَى ضِفَافِكِ الْــ آمَالِ!؟
*رُحْمَاكِ*" .
وفي نشيدِ الإنشاد:" يا مَن تُحبُّهُ نفسي، أين ترعى، أين تربضُ عندَ الظّهيرة. لماذا أنا أكونُ كمقنّعةٍ عندَ قطعانِ أصحابك؟ إنْ لم تعرفي أيّتها الجميلةُ بينَ النّساء، فاخرجي على آثارِ الغنم، وارعي جداءَكِ عندَ مَساكنِ الرّعاة" .
وجاءتْ كلمةُ الرّعاةِ هنا  بمفهومٍ روحانيّ، فلو رجعنا لحياةِ الأنبياءِ، سنرى أنّ مُعظمَهم عملوا رعاةً قبلَ نزولِ النّبوّة، فالرّاعي بطبيعةِ عملِهِ في أحضانِ الطّبيعة، فهو يُواجهُ مباشرةً عالمَ الرّوحانيّاتِ ومناجاة الله.
مصطلحاتٌ صوفيّة: " إنّ كلَّ طائفةٍ مِن العلماءِ لهم ألفاظٌ يستعملونَها- فيما بينهم- ، انفردوا بها عمّن سواهم، تواطؤوا عليها، لأغراضٍ لهم فيها مِن تقريبِ الفهم على المخاطبين بها، أو تسهيلٍ على أهلِ تلكَ الصّنعة، في الوقوفِ على معانيهم بإطلاقِها."
الاختفاءُ والتّجلّي والفقد: الغيبةُ والحضور: " فالغيبةُ غيبةُ القلبِ عن عِلمِ ما يَجري مِن أحوالِ الخلق، لاشتغالِ الحسن بما ورد عليه، ثمّ قد يغيبُ عن إحساسِهِ بنفسِهِ وغيرِهِ، بواردٍ مِن تذكُّرِ ثوابٍ أو تَفكُّرِ عقاب... وأمّا الحضورُ فقد يكونُ حاضرًا بالحقّ، لأنّه إذا غابَ عن الخلق حضرَ بالحقِّ، على معنى أنّه يكونُ كأنّه حاضرٌ، وذلكَ لاستيلاءِ ذِكرِ الحقّ على قلبِهِ، فهو حاضرٌ بقلبِهِ بينَ يدي ربّهِ تعالى، فعلى حسبَ غيبتِهِ عن الحقّ يكونُ حضورُهُ بالحقّ،فإن غابَ بالكلّيّة، كان الحضورُ على حسبِ الغيبة."
" أَنَا مَنْ كُنْتُ أَبْرَعُ
فِي لُعْبَةِ الاخْتِفَاءِ وَالتَّجَلِّي
دُونَ نُوَارِ سَمَاوَاتِكِ
والفقد:
فَاحَ طَوْرُ عَمَائِي!"
"غَــابَـاتِــي تَــعـُـجُّ بِــالنُّــمُــورِ
أَنَا .. مَنِ امْتَطَتْنِي وحْشَةُ الْفَقْدِ
لَمَّا أزَلْ
أُسَبِّحُ .. سِحْرَ سُكُونِكِ
مَا نَسِيتُ .. ذَاكِرَةَ عُشْبِكِ الْمُقَدَّسِ
حِينَ يَسْتَحِيلُ .. لِصَرْخَةٍ فَرِيدَةٍ!"
وفي نشيدِ الإنشادِ يبحثُ العروسانِ عن بعضِهما، يجدانِ بعضَهُما،  ليعودا  للضّياعِ من جديد، وهذهِ الحالة مِن الفقدِ المتكرّر:
الاختفاء: "في اللّيل، على فِراشي طلبتُ مَن تُحبُّهُ نفسي. طلبتُهُ فما وجدتُهُ، إنّي أقومُ وأطوفُ في المدينة، في الأسواق وفي الشّوارع، أطلبُ مَن تُحبُّهُ نفسي. طلبتُهُ فما وجدتُه" .
التّجلّي: " حتّى وجدتُ مَن تُحبُّهُ نفسي، فأمسكتُهُ ولم أُرْخِهِ، حتّى أدخلتُهُ بيتَ أمّي، وحجرةَ مَن حبلتْ بي."
الشّطح: "هو ما ينطقُ بهِ بعضُ العارفين ممّا يوهِمُ، أو يقتضي أنّ لهم شفوفًا وعُلُوًّا على مَراتبِ النّبيّينَ والمُرسَلين" :
مَـــوْشُـــومٌ بِــالْــهَـــذَيَـــانِ
خَلْفَ هَفِيفِ حُلُمِي .. أَمْتَدُّ وَأَتَمَدَّدُ .. حَدَّ الْعَتَبِ
أَنَا كَفِيفُكِ ..
وَقَلْبُكِ .. حُنْجُرَةُ خَيَالِي
وَبِمِلْءِ ثَغْرِي الْمُشَرَّعِ لِلدَّهْشَةِ
أَتَسَلَّلُ إِلَى ذَهَبِ عَيْنَيْكِ .. لِأَرَانِي!
وَأَبْحَثُ عَنْ قَلْبِي الْهَائِمِ..  فِي شَقَاءِ كَوْنِكِ"
وفي المقابل، نرى اختلافَ الحبيب وتَفَرُّدَهُ، بما يُقاربُ إلى الشّطحِ في نشيدِ الإنشاد: "حبيبي أبيضُ وأحمرُ، معلم بين ربوة، رأسه ذهب إبريز، قصصه مسترسلة حالكة كالغراب، عيناه كالحمام مغسولتان باللبن جالستان في وقبيهما" .
*- الصّحو والسّكر: "الصّحوُ رجوعٌ إلى الإحساس بعدَ الغيبة، والسُّكرُ غيبةٌ بوارد قويّ،والسُّكرُ زيادةٌ على الغيبةِ مِن وجه، وذلك أنّ صاحبَ السُّكر قد يكونُ مبسوطًا، إذا لم يكن مُستوْفًى في حالةِ سُكرهِ، وقد يسقطُ إخطارُ الأشياءِ عن قلبه في حالِ سُكرِه، وتلكَ حالُ المتساكر الّذي لم يستوفِهِ الوارد، فيكونُ للإحساسِ فيهِ مساغٌ، وقد يَقوى سُكرُهُ حتّى يزيد على الغيبة، فربّما يكون صاحبُ السّكر أشدَّ غيبة مِن صاحب الغيبة قويّ سكره،وربّما يكونُ صاحبُ الغيبة أتمَّ في الغيبةِ مِن صاحب السّكر، إذا كان مُتساكرًا غيرَ مُستَوْفٍ.
والغيبةُ قد تكونُ للعباد، بما يغلبُ على قلوبهم مِن موجب الرّغبةِ، والرّهبة، ومقتضيات الخوف والرّجاء. والسُّكر لا يكونُ إلّا لأصحاب المواجيد."
ونلاحظُ غلبةَ هذا المفهومِ في نشيدِ الإنشاد:" أدخَلَني إلى بيتِ الخمر، وعَلَمُهُ فوقي مَحبّة."  "وحنكُكِ كأجودِ الخمرِ لحبيبي السّائغةُ المُرَقرِقةُ السّائحةُ على شِفاهِ النّائمين" .
وفي ديوانِنا الشّعريّ:
" أَنَامِلُكِ..  تَرْعَى كُؤُوسِيَ الْمَخْمُورَةَ
فَيَغْفُو لُهَاثُ لَيْلِي .. عَلَى أَهْدِابِ غِيَابِكِ!"
" عَذَارَى أَحْلَامِي
مَا انْفَكَّتْ تَسْتَحِمُّ
بِأَنْهَارِ خَمْرِ خيَالِكِ
تَضْفِرُ شَوَاطِئِي .. بِرَوَائِحِكِ الْمَسَائِيَّةِ!
بِهَسْهَسَةِ كُؤُوسِكِ.. تُغَمْغِمِينَ
أ~ نْـ~ دَ~ لِـ~ قُ
وَ~ أَ~ نْـ~ زَ~ لِـ~ قُ
خَارِجَ عِنَاقِ الْعُشَّاقِ
وَأَغْرَقُ
بِحِنْطَةِ شِفَاهٍ مُحَنَّطَةٍ .. بكَلَامٍ مُبَلَّلٍ."
*- الذّوْق والشُّرب: "ويعبّرون بذلك عمّا يجدونه مِن ثمرات التّجلّي، ونتائج الكشوفات، وبوادره الواردات، وأوّل ذلك الذّوْق ثمّ الشُّرب، ثمّ الرّيّ، فصاحبُ الذّوْق مُتساكِرٌ، وصاحب الشُّرب سكران، وصاحبُ الرّيّ صاحٍ، ومن قويّ حبّه تسرمدَ شربُهُ، فإذا دامتْ به تلكَ الصّفة، لم يُورّثُهُ الشُّربُ سكرًا، فكان صاحيًا بالحقّ فانيًا عن كلّ حظّ، لم يتأثّر بما يرد عليه، ولا يتغيّر عمّا هو به، ومَن صفا سرُّهُ لم يتكدّرْ عليه الشُّرب، ومَن صارَ الشّرابُ له غذاءً، لم يصبر عنه، ولم يبقَ بدونه" :
" يُسَاهِرُنِي اللّيل ..
يُرَاقِصُ زَنَابِقَ أَحْلَامِي
يُدَغْدِغُ مَكْنُونَاتِ رُوحِي
وَأَتَثَاءَبُنِي .. انْسِكَابَ خُمُورٍ
لَا يُدْرِكُ كُنْهَهَا
إِلَّا مَنْ نَادَمَ كُؤوسَ أَبْجَدِيَّتِكِ!
هَاءَنَذا .. أُدَوْزِنُ أَوْتَارَ غُرْبَتِي
عَلَى كَمَانِ طَيْفِكِ الضَّبَابِيِّ
وَأَعْزِفُنِي مَزامِيرَ اسْتِغْفَارٍ
لِئَلَّا يَخْبُوَ.. مَجْدُ حُضُورِكِ"
فمَن نادمَ كؤوسَ أبجديّتِها، سيمُرُّ بالمراحل الثّلاثِ: الذّوْق، الشُّرب، الرّيّ، حتّى يصل إلى مرحلة "عزف مزامير الاستغفار".
وفي نشيدِ الإنشاد: " قطفتُ مُرّي مع طيبي. أكلتُ شَهدي مع عسَلي، شربتُ خمري مع لبَني، كُلوا أيّها الأصحابُ، اِشربوا واسْكَروا أيّها الأحباء"
*- التّلوين والتّمكين: التّلوينُ صفةُ أرباب الأحوال، والتّمكينُ صفةُ أهلِ الحقائق، فما دامَ العبدُ في الطّريق، فهو صاحبُ تلوينٍ، لأنّه يَرتقي من حالٍ إلى حال، وينتقلُ مِن وصفٍ إلى وصف، ويخرجُ مِن مَرحلٍ ويحصلُ في مَربع، فإذا وصلَ تمكّن... وصاحبُ التّلوين أبدًا في الزّيادة، وصاحبُ التّمكين وصل ثمّ اتّصل، وأمارة أنّه اتّصل: أنّه بالكليّة عن كلّيّتِهِ بطل."
وَأَنَا .. خَلْفَ ظِلِّي أَرْكُضُ
يَسْتَجْدِي .. مِمْحَاةَ فَرَحِي
كَيْ تُنَاكِفَ .. لَدَغَاتِ أَلَمِي!"
فهنا مرحلة الانتقال، أي مرحلة التّلوين في بحثِهِ عن الفرح والسّعادة الحقيقيّة.
وفي نشيدِ الإنشاد: "فتحت لحبيبي، لكن حبيبي تحوّل وعبر نفسي، خرجت عندما أدبر، طلبتُهُ فما وجدتُهُ، دعوتُهُ فما أجابَني"
فلم تَنجحْ باللّقاء بالحبيب، لأنّها ما زالت في الطّريق، لم تصل بعد لترتقي به ويرتقي بها، لهذا عبر نفسها ولم يُواطنها.
*-  القرب والبُعد: "أوّلُ رتبةٍ في القرب، القربُ مِن طاعتِهِ، والإنصافُ في دوامِ الأوقاتِ بعبادتِه. وأمّا البعد، فهو التّدنس بمخالفته، والتّجافي عن طاعتِهِ، فأوّلُ البُعدِ بُعدُ التوفيق، ثمّ بُعدٌ عن التّحقيق، بل البُعدُ عن التّوفيق هو البعدُ عن التّحقيق." :
"مُـــشْـــتَـــهَـــاتِـــي
أَيَا قَزَحِيَّةَ الْهَوَى
وَمَا انْفَكَّتْ أَنْفُاسُكِ النَّوْرَانِيَّةُ
تُرِيقِينَهَا عُذُوبَةً
مِنْ هَيْكَلِكِ الْمُقَزَّحِ
عَلَى أَوَانِي ضَوْئِي
فَيَتَوَهَّجُ عِطْرُ اللّيل ..
نَتَلَأْلَأُ
وَنَرْتَشِفُ مِنَ الْحُبِّ.. جُنُونَهُ
وَلَا نَنْطَفِي
بَعْدَ اسْتِعَادَةِ الذَّائِقَة!" .
فالقربُ منها جعلَهُ يَصلُ للذّائقةِ ويَنتشي.
وفي نشيدِ الإنشادِ تنجحُ بمفهومِ القُربِ مِن الاتّحاد بالحبيب "النّفس الكلّيّة"، والانتشاء بخمر الحقيقة: "وأقودُكُ وأدخلُ بكَ بيت أمّي وهي تُعلّمُني، فأسقيكَ مِن الخمرِ الممزوجةِ مِن سلافِ رمّاني" .
*- الخواطر: "الخواطرُ سبعون ألف خاطر، تخطرُ كلَّ يومٍ على القلب، حتّى لا يُخلّفَ منها واحدٌ، لأنّ القلبَ مثلُ البيت المعمور... وجميعُها مقسومةٌ على أربعةِ أقسام بالنّسبةِ للقلب المحجوب، فقسمٌ يَلبسُهُ الشّيطانُ عندَ دخولِهِ للقلب، ويلقي له مِن وساوسه، وقسمٌ تلبسُهُ النّفس، وقسمٌ يدخلُ معهُ الملك، وقسمٌ لا يدخلُ معه شيء، ولذلك قسّموا الخواطرَ على أربعةِ أقسام، شيطانيّ، ونفسانيّ، وملكيّ وربّانيّ".
ويَطغى النّفسانيُّ في الدّيوان الشّعريّ، وفي سِفرِ نشيدِ الإنشاد:
" وأنْتِ كَغُوايَةٍ
تَمُورِينَ فِي مِشْيَتِكِ
كَسَحَابَةٍ
بَاكِيَةٍ ضَاحِكَةٍ .. لَامِعَةٍ نَدِيَّة
تَمُرِّينَ بِسِرْبِ نَوَارِسِي الْــ
يَسْكُنُهُ وَصْلٌ .. مُكدَّسٌ بالنُّعَاسِ
بِوَدَاعَةٍ
تَتَدَافَعُني دِمَائِي
صَوْبَ .. مَواقِيتي الْمُتَأَخِّرَةِ
صَوْبَ شرفةٍ.. تَمُوجُ بِي نَشْوَةً"
وفي نشيد الإنشاد نراها لا تقاومُ رغبةَ النّفسِ بلقاءِ الحبيب، "فالنّفسُ إذا طالبتك بشيءٍ ألحّت.. فلا تزالُ تُعاودُك ولو بَعد حين، حتّى تصلَ إلى مُرادِها ويحصلَ مَقصودها، اللّهمّ إلّا أن يَدومَ  صِدقُ المجاهدة، ثمّ إنّها تُعاودُك وتُعاودك" :
"في اللّيل، على فِراشي طلبتُ مَن تحبُّهُ نفسي، طلبتُهُ فما وجدتُهُ، إنّي أقومُ وأطوفُ في المدينة، في الأسواق وفي الشّوارع، أطلبُ مَن تُحبُّهُ نفسي، طلبتُهُ فما وجدتُهُ." .
الخاتمة
قامت الدّراسةُ بمقاربةٍ نصّيّةٍ ثُلاثيّةِ الأبعاد، بحيث كان مصدرُ الدّراسةِ الدّيوان الشّعريّ "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين"، ومقاربته مع المفاهيم الصّوفيّة الإسلاميّة، وسِفر نشيد الإنشاد من خلال المصطلحاتِ الصّوفيّة، والخواطر الّتي تردُ في تعاليمِ الصّوفيّة، ومقاربتها مع سِفر نشيد الإنشاد، والدّيوان الشّعريّ، والمفاهيم الأسطوريّة. فكانت هناك نقاطٌ كثيرةٌ تلاقتْ مِن خلالِها  النّصوصُ الثلاثة، نظرًا للعلاقةِ الرّوحانيّةِ الّتي تجمَعُهم مِن مناجاةٍ للنّفسِ الكلّيّة، ومن العلاقةِ الشّائكةِ بينَ النّفس البشريّة والنّفس الكلّيّة، بينَ مدٍّ وجزرٍ، وبُعد وقُربٍ، واختفاءٍ وتَجلٍّ، ممّا يجعلُنا نؤمنُ بأصول الدّياناتِ الواحدة، فحتّى في زمنِ الفراعنة، تواجدتْ فكرةُ الحلول الّتي رأيناها في بحثنا، في الدّيانةِ الإسلاميّةِ الصّوفيّة، وفي الدّيانتيْن المسيحيّة واليهوديّة، وفي الأساطير اليونانيّة..
المصادر والمراجع
المصدر:
1-آمال رضوان، "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين" (عشقيات)، دار الوسط للأعلام والنشر، رام الله، د.ت.
المراجع
2-حمدي،  أيمن قاموس المصطلحات الصّوفيّة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، 2000.
3-القشيري، زين الدّين أبي القاسم، الرسالة القشيرية،دار جوامع الكلم، القاهرة،د.ت
4-الكتاب المُقدّس، العهد القديم، سفر نشيد الإنشاد.


32
فُسْتَانُ زَفَافِكِ اعْشَوْشَبَ كَفَنًا/ ترجمة للإنجليزية: فتحية عصفور

(Your Wedding Dress was grassed over with a Shroud)
By: Amal Awad – Radwan-(Palestine)
Translated by: Fathia Asfour
Palestinian poet & tranlator

(Your Wedding Dress was grassed over with a Shroud)

A star of blurred pillows obscured my waves ...
with the thorns of the sun..
and with roaring repentance it collected ink,
 the colors of your emptiness marked
 with loose promisses that silently went out

On faint funeral rythms...
speech crescents sailed in the world of your secrets...
down to the depth of a mellowed skinned glory!

The hankies of your evenings are wounding...
They t..e..a..r... up the eyes of my butterflies
 with the sighs of their crystal... with their trapped cage

How should I ignore the holocaust of your noise...
while in the rhymes of my hodges ...
an alphabet growling and never going out?

There were seasons of woes
 whose inks melted in the straw
 of your perfidied inkbottles

The purity inkpot glowed with its pale sins...
and the eyes of violet turned yellow
at the spout of their brightness...
 as if set enacted for a wink of demise that does not blink!!

What madness is this which feels hope
 for the statues' steps to slow down?

What dawn is this which is cocooned
 wih darks of exile on the eyelids of singing?

How could a deviating sigh be a straight whoop
 in the heart of the impossible!?

The slander of your lamp ...
saddled the wrinkles of my time with the mirrors of sins.
It covered the corridors of my expatriation with foggy prayers

A foxy smile recklessly shivered
and p..o..u..r..e..d out behind walled air dams.

How its echo rushed upon the sidewalk
 of a storm breast!!

Peace...ascendig the lowest level of its ladder...
disclosing a veil of waiting...
disappeared behind the buttons of its staircase..
 to fall down stripped ...
except of its nudeness!

But they...the cities of your forgiveness...
those lamped with the seasons of your horses...

NEVER never affected by a foam of despair even if hanged ...
on the walls of deferred weddings...
even if your wedding dress was grassed over with a shroud

My night blazed with the gloom
 of intoxicated tales
And with a shiver of full moon..
 the braids of my blackbirds completely blackened...
pleading for a spot of light locked
 by the mud of darkness

But..the dust of your eyes folded my hopes...
scrambled the jungles of my burning...
and from the depth of thirst ...
gushed out the waterer of my thirst...squeezing my voice...
the crammed in the veins of mugs!

How many!! the curls of cheerful yearning peeped
 at the shoulders of illusion !...

But Never shrank
O, you the purest of the pious!
 Your twin loss sweeps me...

The tumbler of my d..i..s..p..e..r..s..i..o..n lisps
 misery on your lips

O, M..o..o..o..o..m !
Locomotives of pain
writhed on the worn rail of my certitude

The sheets of my maps breach me...
shake me off from under the perfume of my shrouds...
keep me wakeful...
get me leafed with poems of age masked
 with the mosses of your pollen!

The fountains of my verse flourished not..
without the hotness of you letter...
rippling me with the gleam of your pureness

O you !
the mouth daisy flower of the seashore
Get your teeth down
Drop your milk teeth
Put a beauty medal on me
 with the smelling of your musk

Pull me a glimmer of pureness
 to the eye of your spring...
and in the drowsiness of your glory...
cause me to sprout childhood hands catching the sun ...
so that it can fairly settle upon the Islands of Light
فستان زفافك اعشوشب كفنا/ آمال عوّاد رضوان
كَوْكَبَةٌ مِنْ وَسائِدَ ضَبابِيَّةٍ
تَغَشَّتْ أَمْواجِي.. بِأَشْواكِ الشَّمْسِ
وَلَمْلَمَتْ بِتَوْبَةٍ هادِرَةٍ حِبْرًا
وَسَمَتْهُ أَلْوانُ فَراغِكِ
بِمَواعِيدَ رَخْوَةٍ.. انْطَفَأَتْ صامِتَة!
عَلى إِيقاعاتٍ جَنائِزِيَّةٍ باهِتَةٍ
أَبْحَرَتْ أَهِلَّةُ الْكَلامِ.. بِكَوْنِ أَسْرَارِكِ
لِعَمِيقِ مَجْدٍ عَتِيقٍ مَسْلُوخ!
مَنَادِيلُ أَمَاسِيكِ جَارِحَةٌ
تُ مَ زِّ قُ مَآقِيَ فَرَاشَاتِي
بِتَنْهِيدَاتِ بِلَّوْرِهَا.. بِأَقْفَاصِهَا الْمُفَخَّخَةِ
كَيْفَ أُغَافِلُ مِحْرَقَةَ ضَوْضَائِكِ
وَفِي قَوَافِي هَوَادِجِي.. أَبْجَدِيَّةٌ تُزَمْجِرُ وَلاَ تَنْطَفِئُ؟
مَوَاسِمُ وَيْلاتٍ ذَابَتْ أَحْبَارُهَا
فِي هَشِيمِ مَحَابِرِكِ الْمَغْدُورَة
دُوَاةُ الطُّهْرِ.. تَوَهَّجَتْ بِآثَامِهَا الشَّاحِبَة
وَعُيُونُ الْبَنَفْسَجِ اصْفَرَّتْ بِفُوَّهَةِ أَلَقِها
أَكَأَنَّمَا شُرِّعَتْ.. لِطَرْفَةِ احْتِضَارٍ لاَ يَرْمشُ؟
أَيُّ جُنُونٍ ذَا.. يَرْتَجِي خُطَى التَّمَاثِيلِ تَمَهُّلًا؟
أَيُّ فَجْرٍ ذَا..يَتَشَرْنَقَ دَيَاجِيرَ مَنْفًى
عَلَى جُفُونِ الْمَغْنَى؟
كَيْفَ لانْحِنَاءَةِ زَفْرَةٍ.. تسْتَقيمُ شَهْقَةً
فِي فُؤَادِ الْمُسْتَحِيلِ؟
وِشَايَةُ سِرَاجِكِ..
أَسْرَجَتْ تَجَاعِيدَ زَمَاني.. بِمَرَايَا الْخَطَايَا
غَطَّتْ أَرْوِقَةَ غُرْبَتِي.. بِأَدْعِيَةٍ ضَبَابِيَّة!
ضِحْكَةٌ مُتَثَعْلِبَةٌ ارْتَجَفَتْ.. طَيْشًا
وَ ا نْ هَ مَ رَ تْ
خَلْفَ سُدُودِ هَوَاءٍ جِدَارِيٍّ
كم تَهَالَكَ صَدَاهَا..
عَلَى قَارِعَةِ نَهْدِ عَاصِفَةٍ!
سَلْمٌ.. يَصْعَدُ دَرَكَاتِ سُلَّمِهِ
يَفُكُّ خِمَارَ انْتِظَارٍ.. تَوَارَى خَلْفَ أَزْرَارِ أَدْرَاجِهِ
وَيسَقُطُ عَارِيًا.. إِلّا مِنْ عُرْيِهِ!
لكِنَّهَا
مُدُنُ غُفْرَانِكِ الْمُقَنْدَلَةِ بِفُصُولِ خُيُولِكِ
أبَدًا.. مَا طَالَهَا زَبَدُ يَأْسٍ
وَإِنْ عُلِّقْتِ.. عَلَى أَسْوَارِ أَعْرَاسٍ مُؤَجَّلَةٍ
وَإنِ اعْشَوْشَبَ فُسْتَانُ زَفَافِكِ.. كَفَنًا
لَيْلِي اتَّقَدَ.. بِظُلْمَةِ حِكَايَاتٍ مَخْمُورَةٍ
وَبِرَعْشَةِ بَدْرٍ احْتَلَكَتْ ضَفَائِرُ شَحَارِيرِي
تَتَوَسَّلُ بُؤْرَةَ ضَوْءٍ.. أَغْلَقَهَا طِينُ الْعَتْمِ
لكِن..
غُبَارَ عَيْنَيْكِ طَوَى آمَالِي
تَعَرْبَشَ أَدْغَالَ احْتِرَاقِي
وَمِنْ عُمْقِ الظَّمَأِ انْبَثَقَ سَاقِي أَتْرَاحِي
يَعْتَصِرُ صَوْتيَ الْمَحْشُورَ.. فِي أَوْرِدَةِ الأَقْدَاحِ!
كَمْ مِنْ لَهْفَةٍ جَذْلَى.. تَلصَّصَتْ خُصُلاَتُها
عَلَى أَكْتَافِ الأَوْهَامِ.. وَمَا انْكَمَشَتْ!
أَيَا أَنْقَى الأَتْقِيَاءِ..
يَجْتَاحُنِي فَقْدُكِ التَّوْأَمُ!
كُوبُ تَ بَ عْ ثُ رِ ي
يَلْثَغُ عَلَى شِفَاهِكِ شَقَاوَةً:
أمَّاااااااهُ.. قَاطِرَاتُ وَجَعٍ..
تَلَوَّتْ عَلَى سِكَّةِ يَقِينِي الْمُهْتَرِئَةِ
ملَاءَاتُ خَرَائِطِي..
تَنْقُضُنِي.. تَنْفُضُنِي مِنْ تَحْتِ عِطْرِ أَكْفَانِي
تُؤَرِّقُنِي.. تُورِقُنِي قَصَائِدَ عُمْرٍ مُقَنَّعٍ بِطَحَالِبِ طَلْعِكِ!
نَوَافِيرُ شِعْرِي مَا ازْدَهَرَتْ.. إِلَّا بِحَرِّ حَرْفِكِ
يُمَوِّجُنِي بِسَطْعِ نَقَائِكِ
أَيَا أُقْحُوَانَةَ الثَّغْرِ اثْغَرِّي..
أَسْقِطِي أَسْنَانَكِ الرَّوَاضِعَ
قَلِّدِينِي بِفَوْحِ مِسْكِكِ وَسَامَةً
شُدِّينِي وَمْضَ نَقَاءٍ إِلَى عَيْنِ رَبِيعِكِ
وَفِي تَهَاويمِ مَجْدِكِ
أَنْبتِينِي أَيادِي طُفُولَةٍ.. تُمْسِكُ بِالشَّمْسِ
لِتَسْتَوِيَ عَدْلًا عَلَى جُزُرِ النُّورِ!


33
مَلَامِحِي مُفَخَّخَةٌ .. بِمَوَاعِيدَ مَوْقُوتَة!
آمال عوّاد رضوان

أَيَا قَزَحِيَّ الْهَوَى
هذِي الْعَوَالِمُ الْحَالِكَةْ
مَا أَرْهَبَها
بِمِلْءِ مَرَايَاهَا الْكَالِحَةْ
لَمَّا تَزَلْ طَاعِنَةً فِي الْمَجْهُول
تَتَمَزَّقُ وَبَاءً.. تَتَفَتَّتُ مَجَاعَةْ
وَهَاءَنَذَا الْغَرِيبُ الْمَحْمُومُ بِالتَّمَنِّي
يَمْلَؤُنِي الْحُزْنُ.. يَسْكُنُنِي الْحَنِينُ
أَتَحَسَّسُ أَنْفَاسَ نَايٍ تَحُفُّنِي
تَتَغَلْغَلُ بِأَنْفَاسِي.. تُنَاغِي أَغْلَالِي
حَتَّامَ أُكَابِرُ حُطَامِي وَالتَّجَنِّي؟
أَنَّى لِي أَرَانِي إِنْسَانًا .. مَشْحُونًا بِالْحَيَاةْ؟
***
أَيَا فَزَّاعَ النُّورِ
يَا مَنْ تَتَرَصَّدُ سُبُلِي.. بِمَرائِرِ زَفَرَاتٍ لَا تَفْنَى
تَتَبَخْتَرُ فَوْقَ جِرَاحِي الْمَثْقُوبَةْ
بِقَوْسِكَ الدَّمَوِيِّ.. تَرْمِي فَضَاءَاتِي الْمَلْغُومَةْ
تَكْسُونِي بِفَوْضَى الْغَضَبِ
مُذْ سَيَّجْتَ رَجَائِي بِحِجَارَةٍ مَنْحُوتَةْ!
ومُذْ كَلَّلْتَ نُجُومِي بِهَالَاتِ ظُلْمِكْ
كَلَّتْ عُيُونِي.. وَأَظْلَمَتْ!
بِتَّ تُشْبِعُنِي مَذَلَّةً.. لَا تَزُولُ
وَغَدَوْتُ.. غَشَاوَةَ لَعْنَتِكَ وَمِيرَاثِكْ!
***
أيَا سَيِّدَةَ الْأَكْوَانِ
ها مَوَاجِعِي سَرْمَدِيَّةْ
ثَقِيلَةً.. أَضْحَتْ قُيُودِي وَأَحْمَالِي
وَلَيْسَ مَنْ يُرِيحُنِي أَوْ يَنْهَانِي!
هَا عُيُونِي تَفِيضُ.. بِأَنْهَارِ الْمَرَارِ وَالنّارِ
أَمَا مِنْ غَيْثٍ يُغِيثُنِي؟
أَتُرَانِي فِي عَيْنَيِكِ
بَرِيقَ خَرَابٍ لَا خَلَاصَ فِيهْ؟
أَتُرَانِي فِي عَيْنَيْكِ
إِبْرِيقَ خَزَفٍ لَا تِبْرَ فِيهْ؟
إِلَامَ لَهِيبُ جَرْحِي يَشْتَعِلُ زَبَدًا
فِي صَخَبِ الصَّمْتِ؟
***
هَا قَفَصُ الرُّعْبِ.. يَرْتَسِمُ فِي عَيْنَيَّ
 يَمُدُّ مِنْ حَوْلِي قُضْبَانَهْ
وَبِتَنَاغُمٍ كَاسِرٍ
تَحُومُ نِيرَانُ الْوَجَلِ.. فَوْقَ أَدْغَالِ نُورِكِ!
أَنَّى لِي أَحْمِيكِ
مِنْ عُيُونٍ اسْفِنْجِيّةٍ.. تَمْتَصُّ رَحِيقَ رُوحِكِ؟
***
هَا مَلَامِحِي مُفَخَّخَةٌ .. بِمَوَاعِيدَ مَوْقُوتَةْ
تَتَلَهَّفُ إِلَى زَمَانِ وَصْلِكِ!
وقَلْبِي .. كَزُرْزُورٍ نَاشِزٍ
يَفِزُّ فَزِعًا.. مِنْ كُوَّةِ زِنْزَانَتِهْ
يَخْلَعُ عَنْهُ سِتْرَ أَسْرَارِهْ
لكنّه "لَا يَجْزَعُ مِنْ جِراحِهْ"
يُهَمْهِمُ.. وَصَوْبَ الْمَدَى
يَهْتَزُّ مَشْدُوهًا رَاقِصًا .. فِي أَسْرَابٍ بَهْلَوَانِيَّةْ
يَفْرِدُ جَنَاحَيْهِ نُورًا .. يُمَزِّقُ حُجُبَ الْعَتْمَةْ
وَخَلْفَ ظِلِّكِ الْجَامِحِ.. يَجْرِي وَلَها
أَيَظَلُّ يَشْلَحُنِي
عَلَى شَوَاطِئِ الضَّيَاعِ.. وَفي مُدُنِ الْغُرْبَةِ؟
***
أَيَا قُدُسَ الرُّوحِ
يَا الْمَسْكُونَةُ فِي كَمَائِنِ الْإِثْمِ.. بِالْمَآسِي الْمُلَوَّنَةْ
هَا عَلَى عُنُقِكِ اشْتَدَّ نِيرُ الْمِحْنَةْ
وَمَا فَتِئْتِ تَتَرَاخَيْنَ أَلَمًا .. تَسَوُّلا
وَهَا الْمَسْكُونَةُ مَا انْفَكَّتْ
فِي غَفْلَةٍ عَنْ نُذُورِكِ
أَمَا مِنْ إِنْذَارٍ.. يُنْبِي الْكَوْنَ بِنَذِيرِ شُؤْمِ؟
***
يَا مَنْ عُلِّقَ بَهَاؤُكِ الْقُدْسِيُّ بِأَذْيَالِكِ
وَامْتَلَأْتِ بِبُؤْسِ الْعُبُودِيَّةْ
يَا مَنْ تَوَارَيْتِ خَجَلا.. تَهْجِيرا.. رَحِيلا
وَلَيْسَ مَنْ يَبْكِيكِ.. وَلَيسَ مَنْ يُعَزِّيكِ
وَلَا مَنْ يُوارِي الثَّرى بَنِيكِ
فَمَا أَنْجَدَكِ خِلَّانٌ وَلَا خَلَّصَكِ عُرْبَانُ
 أَوَلَسْتِ تَقْوَيْنَ عَلَى النُّهُوضِ؟
***
صِحْتِ بملءِ المَسْمَعِ: صَهٍ صَهْ
مَا سَقَطَ إِكْلِيلُ هَامَتِي بَعْدْ
 وَمَا فَتَرَ مِدَادُ نُورِي
مَا فَنِيَتْ رُوحِي .. مَا بَيْنَ تِيهَانِي وَتِيجَانِي
وإنّي .. أنَا أنا
لَمَّا أَزَلْ .. سَيِّدَةَ الْأَكْوَانِ!

34
الأسطورةُ في قصيدة فَوْضَى أَلْوانِي الْمُشَاكِسَةِ!
بقلم: الناقد عبد المجديد اطميزة
أولا: النّصّ

فَوْضَى أَلْوانِي الْمُشَاكِسَةِ/ آمال عوّاد رضوان

تَوَارَفْتِ ضَبابًا رَهِيفَ خَطْوٍ
يُوَاعِدُ ظِبَاءَ رُوحِي!
بحَّةً
تَ ر ا مَ حْ تِ
بِبَاحاتِ بَوْحِي
غَمَسْتِ أَصَابِعَ نَقَاوَتِكِ .. بِفَمِ أَحْلاَمٍ تَشْتَعِلُ
وَمِنْ كُوَّةِ عَتْمَتِي
سَطَعْتِ أَرْتَالَ أُنُوثَةٍ صَافِيَة!
*
مَدَدْتُ يَدِي
لأَلْتَقِطَ وَهَجًا أُسْطُورِيًّا .. يُرَمِّمُ ظِلِّيَ الْهُلاَمِيَّ
لكِنَّكِ.. أَغْمَضْتِ وُرُودَ غُمُوضِكِ
وَرَشَقْتِ سَهْمَ شَقَاوَتِكِ الْمُشِعَّةِ
وَانْخِطَافًا... اصْطَدْتِنِي!؟
كَيْفَ ذَا.. وَأَنَا مَنِ انْسَلَّ مِنْ خُرْمِ مُسْتَحِيلٍ؟
*
تَسَلَّلْتُ إِلَيْكِ
عُصْفُورًا سُومَرِيًّا تُهَفْهِفُ بحَّتُهُ
يَنْقُرُ حَبَّاتِ تِينِكِ المُعَسَّلِ
كَمْ رَطَّبَهَا نَدَى جَمَالِكِ
تَذَوَّقْتُكِ قُرْبَانًا
تَخَمَّرْتِ بِكِ مَوَّالًا
وَمَا انْفَكَكْتُ أُغَرِّدُكِ صَدَى خَيَالٍ
يَمُو/////// جُ
بِي
مَمْهُو/////// رًا
مَأخوذًا بِدَلْعَنَةِ سِرِّكِ
تَسْتَلِبُهُ رَائِحَةُ سَمَائِكِ الْمَائِيَّةِ!
*
بَيْنَ تُرَّهاتِ الزَّحْمَةِ الدّافِئَةِ بِكِ
بَ حَ ثْ تُ
عَنْ هَالاَتِ ضَوْئِكِ الْخَزَفِيِّ!
أَنَا مَنْ بفَوْضَى أَلْوَانِي الْمُشَاكِسَةِ
تَسَرْبَلَتْنِي
فُقَاعَاتُ
الْغُرْبَةِ الْمُغْبَرَّة
انْتَعَلَنِي حِذَاءُ افْتِقَادِكِ
وَخَشَعْتُ بَيْنَ مَسَافَاتِ الْغَدِ
أَتَشَهّى عَنَاقيِدَ حِلْمِكِ
أَتَهَجَّى رُوَاءَ أَطْيَافِ أَمْسِكِ!
*
سِنْدَريلايَ
هيَ ذِي ذَاكِرَتِي الْعَاقِرُ تَحْمِلُ بِكِ
تَلِدِينَني شَاعِرًا يَتَفَتَّقُ وَجْدًا
يَهِيمُ بِنِيرَانِ تِيهِكِ
وَأَنَا الْمُفْعَمُ بِخَرِيرِ غَدِيرِكِ
أَ تَ أَ مَّ لُ كِ
بِمَجَسَّاتِ حُرُوفِي
أَتَحَسَّسُ رِهَامَ خَطْوِكِ
يُوَشْوِشُنِي غُوَايَةَ قَصِيدَةٍ رَاعِدَة!
حُورِيَّتِي
مَنْ بِهَا تَأْتَلِفُ دَمْعَتِي بِبَسْمَتِي
تلَمَّسِي بِدَبِيبِ صَلاَتِكِ
أَكْفَانَ
دُرُوبِي
الْعَرْجَاءِ
عَسَانِي أَقُومُ
عَسَانِي أَفْتَرِشُ الْغَيْمَ هَسِيسَ هُرُوبٍ إِلَيْكِ!
*
غَـــــاشِـــــيَـــــــتِـــــي
يَــــا مَـــــنْ تُـــــراوِحِــــيـــــــنَــــــــنِـــــي
مَا بَيْنَ رَوَائِحِ دَمِي الْمُضْطَرِمِ بِكِ
أمْطِرِي قَلْبِيَ قَمِيصَ نُورٍ رَطِبٍ
وَمِنْ سُبَاتِهِ ابْعَثِيهِ حَيًّا بِكِ
غَسّانِيًّا
عَسَى يَخْفقُ حَرْفِيَ بِكِ
فَلاَ أَسْتَظِلُّ
بِبُرْجِ غَرِيمِي الْخُرَافِيِّ.

ثانيا: التّحليل الأدبي
العنوان: "فَوْضَى أَلْوانِي الْمُشَاكِسَةِ"
العنوانُ أوّلُ ما يُلفتُ نظرَ المُتلقّي، ويتكوّنُ مِن خبرٍ مرفوعٍ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ "هذه"، والخبرُ يتكوّنُ مِن مضافٍ ومُضافٍ إليه وصِفةٍ، وفي العنوانِ انزياحٌ بالحذف. هذا من ناحيةِ التّركيب، أمّا مِن ناحيةِ المعنى فهو يُمثّلُ محتوى القصيدة، فلِهَوْلِ المصيبةِ الّتي تُعانيها الشّاعرةُ في نصِّها، نرى أنّها تخاطبُ القصيدةَ المتُمثّلةَ في قدَرِها المجهول، أو المرسومِ لها الّذي يتخطّفُها ويَتصيَّدُها، فهي الحالمةُ الخارجةُ مِن خُرمِ مستحيلٍ، إلى كوّةِ عتمةٍ في حشاها يتربّصُ بها المستحيل، وفي خضمِّ التّخبّطِ في هذهِ الفوضى، تلجأ إلى ألوانِها المشاكسة، فتشعرُ بالفوضى الّتي تجتاحُ الرّوح، وعلى طريقةِ الرّمزيّينَ تُوظِّفُ الشّاعرةُ آمال خاصّيّةَ تبادلِ الحواس، فأسندتِ الألوانَ للفوضى، كما أنّها أسندتِ المشاكسةَ أيضًا للألوان، وما ينطوي على التّعبيرِ والتّركيبِ مِن انزياحاتٍ مختلفةٍ تُثيرُ لهفةَ المُتلقّي، وقد نجحتِ الشّاعرة آمال في اختيارها للعنوان. "ولمّا كانَ العنوانُ على مستوى وظيفتِهِ الشّعريّةِ يُحيلُ على لغةِ النّصّ، فإنّ هذا التّحوّلَ يتّصلُ أيضًا بالتّحوّلِ الّذي طرأ على بنيةِ لغةِ النّصِّ الشّعريّة، فقد اعتبر جيرار جينيت: (إنّ العنوانَ يرتبطُ بعلاقةٍ عضويّةٍ معَ النّصّ، إذ يُشكّلُ بُنيةً تعادليّةً تتألّفُ مِن مِحورَيْن أساسيّيْن في العمليّة الإبداعيّة هما: العنوان والنّصّ، فالعنوانُ هو المناصُ الّذي يستندُ إليهِ النّصُّ الموازي. كما أنّ العنوانَ لا ينفصلُ عن مُكوّناتِ النّصِّ ومَراتبِهِ القوْليّة، فإنّ اختيارَهُ لا يخلو مِن قصديّة، وهو يأتي في إطارِ سياقاتٍ نصّيّةٍ تكشفُ عن طبيعةِ التّعالقِ الّتي تتمُّ بينَ العنوانِ ونصِّهِ، مِن هنا، فإنّ عناوينَ دوواينِ الشّاعرِ لا يمكنُ قراءتُها خارجَ تلكَ الوظيفةِ الشّعريّة، نظرًا لأنّه يُعبّرُ عن جماعِ العمل، أو عن الفكرةِ الرّئيسة الّتي تُهيمنُ عليه، فهو مفتاحٌ تأويليٌّ يَسعى إلى ربطِ القارئِ بنسيج النّصّ الدّاخليّ والخارجيّ، ربطًا يجعلُ مِن العنوانِ الجسرَ الّذي يمرُّ عليه(1).
وفي مجالِ الحديثِ عن العنوانِ في اللّغةِ والاصطلاحِ في العربيّة قال بازي "العنوان.. إظهارٌ خفيٌّ ورسمٌ للمادّةِ المكتوبة. إنّهُ توسيمٌ وإظهارٌ، فالكتابُ يُخفي محتواهُ ولا يُفصحُ عنه، ثمّ يأتي العنوانُ ليُظهرَ أسرارَه، ويكشفَ العناصرَ المُوسّعةَ الخفيّةَ أو الظّاهرة بشكلٍ مُختزلٍ وموجز".(2)
الفكرة العامة
تخاطبُ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان القصيدةَ المتُمثّلةَ في قدَرِها المجهول، أو المرسومِ لها الّذي يتخطّفُها ويَتصيَّدُها، فهي الحالمةُ الخارجةُ مِن خُرمِ مستحيلٍ، إلى كوّةِ عتمةٍ في حشاها يتربّصُ بها المستحيل، وفي خضمِّ التّخبّطِ في هذهِ الفوضى، تلجأ إلى ألوانِها المشاكسة، فتشعرُ بالفوضى الّتي تجتاحُ الرّوح، وعلى طريقةِ الرّمزيّينَ تُوظِّفُ الشّاعرةُ آمال خاصّيّةَ تبادلِ الحواس، فأسندتِ الألوانَ للفوضى، كما أنّها أسندتِ المشاكسةَ أيضًا للألوان، وما ينطوي على التّعبيرِ والتّركيبِ مِن انزياحاتٍ مختلفةٍ تُثيرُ لهفةَ المُتلقّي، فتارةً ترسمُ ذاتَها بألوانِ الحياةِ الرّافضةِ للواقع المرير، وبتوظيفِ وتجييرِ عدّة صور: فترسمُ ذاتَها عصفورًا سومريًّا غِرّيدًا ينقرُ الّتينَ المُعسَّلَ، فيَخمرُ ويتخمَّرُ صوْتُهُ، ويحلو تغريدُهُ وعندلتُهُ، ويُحلّقُ في أفقِ الخيال، حيثُ تسلبُهُ رائحةُ السّماء، ويَظلُّ رهينَ الأفقِ والخيالِ صافنًا ما بينَ حِلمٍ وحُلم، وما بينَ غدٍ وأمس، تشدُّهُ إلى الأرضِ الغربةُ المغبرَّة، وتارةً ثانيةً تستحضرُ ذاتَها في أسطورةِ شقائقِ النّعمان الّذي قُتلَ، ونبتتْ مِن دمِهِ وردةٌ اسمُها شقائقُ النّعمان، فأصبحتْ هذه الوردةُ ترمزُ للدّمِ والانبعاث، لأنّ روحَ أدونيس تحوّلتْ في عشتار، وتارةً ثالثةً تستحضرُ ذاتَها في قصّةِ سندريلا العالميّة، لتتصاعدَ أحداثُ الحُلم العبثيِّ الخياليّ، لعلّها تَخلُصُ مِن غريمِها الخرافيّ.
وتستهلّ الشّاعرةُ المقطعَ الأوّلَ مُوظِّفةً طريقةَ السّردِ قائلةً:
"تَوَارَفْتِ ضَبابًا رَهِيفَ خَطْوٍ/ يُوَاعِدُ ظِبَاءَ رُوحِي/ بحَّةً/ تَ ر ا مَ حْ تِ/ بِبَاحاتِ بَوْحِي/غَمَسْتِ أَصَابِعَ نَقَاوَتِكِ بِفَمِ أَحْلاَمٍ تَشْتَعِلُ/ وَمِنْ كوّة عَتْمَتِي/ سَطَعْتِ أَرْتَالَ أُنُوثَةٍ صَافِيَة!".
"تَوَارَفْتِ ضَبابًا رَهِيفَ خَطْوٍ/ يُوَاعِدُ ظِبَاءَ رُوحِي/ بحَّةً/ تَ ر ا مَ حْ تِ/ بِبَاحاتِ بَوْحِي: تُخاطبُ الشّاعرةُ قصيدتَها المتُمثّلةَ في قدَرِها المجهول، وترى أنّ قدَرَها قد طالَ وامتدَّ واشتدَّ في عتمتِهِ، والضّبابُ يرمزُ للعتمةِ والغموض، وتُصوّرُهُ بإنسانٍ لهُ خطواتٌ، ولروحِ الشّاعرةِ ظباءٌ تُواعِدُ، وصوتُها مبحوحٌ لكثرةِ المناجاة، وتُصوّرُ الشّاعرةُ البحّةَ بإنسانٍ يركضُ مُسرعًا بباحاتِ بوحِ الشّاعرة، حيثُ تتلاعبُ بالألفاظِ، لخلقِ إيقاعٍ في السّطور.
غَمَسْتِ أَصَابِعَ نَقَاوَتِكِ بِفَمِ أَحْلاَمٍ تَشْتَعِلُ/ وَمِنْ كوّة عَتْمَتِي/ سَطَعْتِ أَرْتَالَ أُنُوثَةٍ صَافِيَة!": وهذهِ السّطورُ حافلةٌ بالصّورِ الشّعريّةِ والانزياحاتِ المختلفةِ الّتي تُثيرُ دهشةَ المُتلقّي، فللنّقاوةِ أصابعُ كما للإنسان، وللأحلامِ فمٌ يشتعلُ كما الوقود، وللعتمةِ كوّةٌ "طاقة" كما للبيت، وللقصيدةِ أرتالٌ كموكبِ السّيّارات، وللأرتالِ أنوثةٌ كما للكائن الحيّ..، والمقطعُ بكاملِهِ مِن الأسلوبِ الخبريّ الّذي يُصوّرُ مأساةَ الشّاعرة.
وتستمرّ في مقطعها الثّاني: "مَدَدْتُ يَدِي/ لأَلْتَقِطَ وَهَجًا أُسْطُورِيًّا يُرَمِّمُ ظِلِّيَ الْهُلاَمِيّ/ لكِنَّكِ.. أَغْمَضْتِ وُرُودَ غُمُوضِكِ/ وَرَشَقْتِ سَهْمَ شَقَاوَتِكِ الْمُشِعَّةِ/ وَانْخِطَافًا... اصْطَدْتِنِي!؟/ كَيْفَ ذَا.. وَأَنَا مَنِ انْسَلَّ مِنْ خُرْمِ مُسْتَحِيلٍ؟".
وفي هذا المقطع نرى أنّ الشّاعرةَ تُخاطبُ قصيدتَها، وتبوحُ لها عن قدَرِها المجهول، فهي الحالمةُ الخارجةُ مِن خُرمِ مستحيلٍ إلى كوّةِ عتمةٍ، في حَشاها يتربّصُ بها المستحيل، وفي خضمِّ التّخبّطِ في هذه الفوضى، تلجأ إلى ألوانِها المشاكسة، وتستعينُ في الكشفِ عن حالتِها النّفسيّةِ بالاتّكاءِ على الأساطير، لترميم بقايا شظاياها.
وتقول في المقطع الثالث مخاطبة قصيدتها: "تَسَلَّلْتُ إِلَيْكِ/ عُصْفُورًا سُومَرِيًّا تُهَفْهِفُ بحَّتُهُ/ يَنْقُرُ حَبَّاتِ تِينِكِ المُعَسَّلِ/ كَمْ رَطَّبَهَا نَدَى جَمَالِكِ/ تَذَوَّقْتُكِ قُرْبَانًا/ تَخَمَّرْتِ بِكِ مَوَّالًا/ وَمَا انْفَكَكْتُ أُغَرِّدُكِ صَدَى خَيَالٍ/ يَمُو/////// جُ/ بِي/ مَمْهُو////// رًا/ مَأخوذًا بِدَلْعَنَةِ سِرِّكِ/ تَسْتَلِبُهُ رَائِحَةُ سَمَائِكِ الْمَائِيَّةِ!".
ويحتاجُ الشّاعرُ دائمًا لتأثيثِ نصِّهِ بالرّموزِ المختلفةِ وبالأساطير، ليُوغِلَ في أعماقِ النّفس والكون، ويَسري بالقارئِ إلى دلالاتِ النّصِّ بطريقةٍ تجعلُهُ يُؤمنُ بالتّجربة، ولا يكتفي بتفسيرِها أضِف إلى ذلك، أنّ توظيفَ الشّاعرِ المعاصرِ للتّراثِ يُضفي على عملِهِ الإبداعيِّ "عراقةً وأصالةً، ويُمثّلُ نوعًا مِن امتدادِ الماضي في الحاضر، وتَغلغُلِ الحاضرِ بجذورِهِ في تربةِ الماضي الخصبة، كما أنّه يَمنحُ الرّؤيةَ الشّعريّةَ نوعًا مِن الشّمول والكلّيّة. (3)
شاعرتُنا في هذا المقطعِ، وبحسب الأسطورة البابليّة، تلجأُ لرسْمِ أُولى لوحاتِها الفنّيّةِ في خِضمِّ العتمةِ والّتيه، فترسمُ نفسَها عصفورًا سومريًّا غِرّيدًا يَنقرُ الّتينَ المُعسَّلَ، فيَخمَرُ ويَتخمَّرُ صوتُهُ، ويحلو تغريدُهُ وعندلتُهُ، ويُحلّقُ في أفقِ الخيال، حيث تسلبُهُ رائحةُ السّماءِ، ويظلُّ رهينَ الأفقِ والخيالِ صافنًا ما بينَ حِلم وحُلم وما بين غدٍ وأمس، تشدُّهُ إلى الأرض الغربةُ المُغبَرّة، فتلجأ الشّاعرةُ لتوظيفِ القناع، والقناعُ اصطلاحًا؛ "وسيلةٌ فنّيَةٌ لجأ إليها الشِّعراء، للتّعبير عن تجاربهم بصورةٍ غيرِ مباشرة، أو تقنيّةٌ مُستحدَثةٌ في الشِّعرِ العربيّ المُعاصر، شاعَ استخدامُها منذُ ستّينيات القرن العشرين، بتأثيرِ الشِّعرِ الغربيِّ وتقنيّاتِهِ المستحدثة، للتّخفيفِ مِن حدّةِ الغنائيّةِ والمباشرةِ في الشِّعر، وذلك للحديثِ من خلالِ شخصيّةٍ تراثيّة عن تجربةٍ مُعاصرة، بضميرِ المتكلّمِ أو بتوجيهِ الخطاب إليها أو مِن خلالها. وهكذا يندمجُ في القصيدةِ صوتان: صوتُ الشّاعرِ من خلالِ صوتِ الشّخصيّةِ الّتي يُعبّر الشّاعرُ مِن خلالِها". (4). "فكلُّ مُتلقٍّ يَستقبلُ الشّخصيّةَ المُستدعاةَ، ويتعاملُ معها وفقَ مُكوّناتِهِ الفكريّةِ والنّفسيّة، ويقومُ السّياقُ الّذي تردُ فيهِ بدَوْرٍ مُهمٍّ في توجيهِ التّلقّي وتحقيقِ جدواه ".(5) 
ويعملُ تناوُبُ السّردِ والحوارِ هنا في تشكيلِ القصيدةِ على تَنوُّعِ الإيقاع، فالقصيدةُ الّتي تبدأ بدايةً سرديّة، نرى أنّ إيقاعَها يكونُ إيقاعًا بطيئًا بعضَ الشّيء، إذ يتّجهُ الخطابُ نحوَ التّفصيلِ، والدّخولِ في الجزئيّاتِ، واستلهامِ أجواء ذاتيّة خاصّة تُقرّبُ كثيرًا من المونولوج الدّاخليّ الّذي يستدعي إعمالَ الذّاكرةِ التّأمّليّةِ، وما فيها مِن بطءٍ وهدوءٍ واستكانة، ينسجمُ تمامًا مع الأسلوب الحكائيّ الّذي جاءَ عليه السّرد "(6).
 وتستمرّ الشّاعرةُ في نصِّها في المقطع الرّابع: "بَيْنَ تُرَّهاتِ الزَّحْمَةِ الدّافِئَةِ بِكِ/ بَ حَ ثْ تُ/ عَنْ هَالاَتِ ضَوْئِكِ الْخَزَفِيِّ!/ أَنَا مَنْ بفَوْضَى أَلْوَانِي الْمُشَاكِسَةِ/ تَسَرْبَلَتْنِي/ فُقَاعَاتُ/ الْغُرْبَةِ الْمُغْبَرَّة/ انْتَعَلَنِي حِذَاءُ افْتِقَادِكِ/ وَخَشَعْتُ بَيْنَ مَسَافَاتِ الْغَدِ/ أَتَشَهّى عَنَاقيِدَ حِلْمِكِ/ أَتَهَجَّى رُوَاءَ أَطْيَافِ أَمْسِكِ!":
وفي هذا المقطعِ تتزاحمُ الصّورُ الشّعريّةُ والانزياحاتُ المختلفةُ الّتي تُثيرُ فِكرَ المُتلقّي، فللزّحمةِ مَفارقُ وتُرهاتٌ دافئةٌ كالماء، وللضّوءِ هالاتٌ خزَفيّةٌ، وللألوانِ فوضى تتصارَعُ وتَتشاكسُ، وللغربةِ فقاعاتٌ كفقاعاتِ الصّابون، وللحُلمِ عناقيدُ كعناقيدِ العنب، وللأمسِ أطيافُ رواءٍ تتهجّى، كما يتهجّى المُتعلّمُ الحروف.
"إنَّ الصّورةَ الشّعريّةَ ليستْ إضافةً تلجأ إليها الشّاعرة لتجميلِ شِعرِها، بل هي لبُّ العملِ الشّعريّ الّذي يجبُ أنْ يتّسمَ بالرّقّة، والصّدق والجَمال، وتُعدُّ عنصرًا مِن عناصرِ الإبداع في الشِّعر، وجزءًا مِن الموقفِ الّذي تمرُّ بهِ الشّاعرةُ خلالَ تجاربِها، وقد استطاعتِ الشّاعرةُ مِن خلال استخدامِها للصُّورِ الشّعريّة، أن تَخرجَ عن المَألوف، ولا شكّ في أنّ للصّورةِ الشّعريّةِ وظيفتُها وأهمّيّتُها في العمليّةِ الشّعريّة. (7)
وفي الصّورِ الشّعريّةِ يقومُ الخيالُ ويلعبُ لعبتَه، و"لا بدّ مِنَ الإشارةِ إلى أنَّ الصّورةَ الشّعريّةَ مُرتبِطةٌ بالخيال؛ فهي وليدةُ خيالِ الشّاعرِ وأفكارِه؛ إذ يُتيحُ الخيالُ للشاعرِ الدّخولَ خلفَ الأشياءِ، واستخراجَ أبعادِ المعنى؛ لأنّها طريقتُهُ لإخراجِ ما في قلبِهِ وعقلِهِ إلى المحيطِ الخارجيّ، ليُشاركَ فكرتَهُ معَ المُتلقّي؛ لذلكَ ينبغي أن يكونَ الشّاعرُ صاحبَ خيالٍ واسع؛ كي يتمكّن مِن تفجيرِ أفكارِهِ وإيصالِها إلى المُتلقّي. (8)
وفي المقطع الخامس تقول الشّاعرة:
"سِنْدَريلايَ/ هيَ ذِي ذَاكِرَتِي الْعَاقِرُ تَحْمِلُ بِكِ/ تَلِدِينَني شَاعِرًا يَتَفَتَّقُ وَجْدًا/ يَهِيمُ بِنِيرَانِ تِيهِكِ/ وَأَنَا الْمُفْعَمُ بِخَرِيرِ غَدِيرِكِ/ أَ تَ أَ مَّ لُ كِ/ بِمَجَسَّاتِ حُرُوفِي/ أَتَحَسَّسُ رِهَامَ خَطْوِكِ/ يُوَشْوِشُنِي غُوَايَةَ قَصِيدَةٍ رَاعِدَة!/ حُورِيَّتِي/ مَنْ بِهَا تَأْتَلِفُ دَمْعَتِي بِبَسْمَتِي/ تلَمَّسِي بِدَبِيبِ صَلاَتِكِ/ أَكْفَانَ دُرُوبِي الْعَرْجَاءِ/ عَسَانِي أَقُومُ/ عَسَانِي أَفْتَرِشُ الْغَيْمَ هَسِيسَ هُرُوبٍ إِلَيْكِ!":
سِنْدَريلايَ": وفي السّطرِ انزياحٌ بالحذف، يتمثّلُ بحذفِ حرفِ النّداء، والنّداءُ يُفيدُ التّحبُّبَ هنا، وتُوظّفُ الشّاعرةُ في نصِّها أسطورةَ ساندريلا الّتي توفّتْ أمّها، وتزوّجَ والدُها امرأةً أخرى تُذيقُها كلّ أصنافِ الظّلمِ والمهانة، وتنتهي ساندريلا بمقابلةِ أميرٍ يُعجَبُ بها ويَتزوّجُ منها. وهنا تتّخذُ الشّاعرةُ شخصيّةَ سانديلا كقناع، وكأنّي بالشّاعرة تحلُمُ بالتّخلُّصِ مِن ضيقِها وهمومِها وكبواتِها، كما خلَّصتِ الأقدارُ واقعَ سانريلا و"يُمثّلُ القناعُ شخصيّةً تاريخيّةً - في الغالب- ( يختبئُ الشّاعرُ وراءَها)، ليُعبّرَ عن موقفٍ يُريدُهُ، أو ليُحاكِمَ نقائصَ العصرِ الحديثِ مِن خلالِها". (9) 
ويزخرُ المقطعُ بالصّورِ الفنّيّةِ والانزياحاتِ الّتي تغزو لهفةَ المُتلقّي وتُثيرُهُ: فتُصوّرُ الشّاعرةُ ذاكرتَها بامرأةٍ عاقرٍ، والعاقرُ تحمِلُ وتلِدُ، وللتّيهِ نيرانٌ تُهامُ بها، وللحروفِ مجسّاتٌ، وللخطوِ رهامٌ ومطرٌ خفيفٌ يُوشوشُ، كما يوشوشُ الإنسانُ شخصًا آخرَ، وللصّلاةِ دبيبٌ، والدّروبُ عرجاءُ لها أكفان، والغيمُ يُفترَشُ ولهُ هسيسٌ وصوتٌ خفيفٌ، و...
وتنشدُ في المقطع السّادس: "غَـــــاشِـــــيَـــــــتِـــــي/ يَــــا مَـــــنْ تُـــــراوِحِــــيـــــــنَــــــــنِـــــي/ مَا بَيْنَ رَوَائِحِ دَمِي الْمُضْطَرِمِ بِكِ/ أمْطِرِي قَلْبِيَ قَمِيصَ نُورٍ رَطِبٍ/ وَمِنْ سُبَاتِهِ ابْعَثِيهِ حَيًّا بِكِ/ غَسّانِيًّا/ عَسَى يَخْفقُ حَرْفِيَ بِكِ/ فَلاَ أَسْتَظِلُّ/ بِبُرْجِ غَرِيمِي الْخُرَافِيِّ."
وفي هذا المقطع تخاطبُ الشّاعرةُ قصيدتَها فتقول:
"غَـــــاشِـــــيَـــــــتِـــــي/ يَــــا مَـــــنْ تُـــــراوِحِــــيـــــــنَــــــــنِـــــي": وحرفُ النّداءِ في السّطرِ الأوّلِ محذوفٌ، ويتكرّرُ النّداءُ في السّطر الثّاني، والنّداءُ في الحالتيْن يُفيدُ التّحبُّب، تحبُّب الشّاعرة لقصيدتها. وتتمنّى الشّاعرةُ في هذا المقطعِ أن تزولَ عن روحِها الغمّةُ والاضطرابُ، ويكتنفها الجمالُ والبهاء، "غَسّانِيًّا": كنايةً عن الجَمال والوضاءة، والقصيدةُ تحفلُ باستخدامِ الرّمزِ وتوظيفِ الأسطورة، و(إنّ الموقفَ الأسطوريَّ في صميمِهِ موقفٌ شعريّ).(10)
لقد كانَ لاستعانةِ الشّاعرة بهذه الصّورِ الشّعريّةِ أثرٌ جليٌّ على فِكرِها وعملِها الإبداعيّ، إذ إنّها مِن وجهتِها الفنّيِة، تُوسّعُ دائرةَ رؤيتِها للتّراثِ الإنسانيّ، فتصنعُ التّاريخَ وأحداثَهُ، والحكاياتِ الشّعبيّةَ المُتوارثةَ وجمحاتِ الخيالِ المُوفّقة، تصنعُ كلَّ ذلك مَصدرًا لإلهامِها، حيثُ يُساوي الشّاعرُ المعاصرُ بينَ هذه المصادرِ جميعًا، مُبتعدًا بها عن قيودِ الحقيقةِ التّاريخيّةِ والقداسةِ الدّينيّةِ، إلى رحابةِ التّشكيلِ الخياليّ المُبدع، غيرَ مرتبِطٍ إلّا بفنِّهِ، مُوظِّفًا هذهِ العناصرَ الأوّليّةَ في عملِهِ الجديد، بمضمونٍ تسري فيهِ روحُ عصرِنا وهمومِهِ. (11)
ونختتمُ تحليلَ هذهِ القصيدةِ ببيانِ أهمّيّةِ توظيفِ الأسطورة، فالأسطورةُ وسيلةٌ لا تَحملُ قيمةً شعريّةً في ذاتِها، وهي ليستْ مُجرّدَ قصص، وإنّما هي نظرةٌ إلى الحياة وتفسيرٌ لها، فإنّ الشّاعرَ لا يلجأ إلى الأسطورةِ كمادّةٍ جاهزة، إنّما يُشكّلُ أسطورتَهُ مِن خلالِ تجربتِهِ الشّعريّة، والشِّعرُ هو رؤيا قبلَ كلِّ شيء، والشّاعرُ يتصرّفُ في الرّمز أو الأسطورة، بحسب ما تتطلّبُهُ تجربتُهُ الشّعريّة، ممّا يعني أنّ جماليّةَ الأسطورةِ والرّمزِ لا تكمنُ في  توظيفِهما فحسب، وإنّما تكمُنُ في طريقةِ توظيفِهما، ومدى انسجامِهِما معَ السّياقِ والمعنى. ولقد نجحَ بعضُ الشّعراءِ في منحِ الأساطيرِ سِمةً فنّيّةً ازدادتْ بها القصيدةُ أثرًا وجمالًا فنّيًا، إذ عُدّتْ بعضُ قصائدِهم الأسطوريّةِ رائدةَ التّحوُّلِ الجذريِّ في أسلوبِ الشِّعر العربيّ، فيتنقلُ فيها القارئُ بين عالَمَيْن؛ عالمٍ واقعيٍّ ينقلُ آلامَ الشّاعرِ وأحزانِهِ في الواقع ، وعالمٍ أسطوريٍّ؛ يستحضرُ فيهِ أساطيرَ غابرةً، ليبعثَ فيها الرّوحَ مِن جديد.


35
أدب / طعمكِ مفعمٌ بعطرِ الآلهة
« في: 17:47 04/06/2019  »



طعمكِ مفعمٌ بعطرِ الآلهة


آمال عواد رضوان

كُؤوسُ ذِكراكِ
حَطَّمَتنِي عَلى شِفاهِ فرَحٍ
لَمْ يَنسَ طَعمَكِ المُفعَمَ بِعِطرِ الآلهَة
وَأَنا ..
ما فَتِئتُ خَيطًا مُعَلّقًا بِفضاءِ عَينَيْكِ
مَا نَضُبَتْ عَلائِقي الوَرْديَّةُ مِنكِ
وَلا
مِنْ نُضرَةِ سماواتٍ مُرَصَّعَةٍ بِانْثِيالاتِكِ اللاَّزُورديَّة!
حقولُ شَقاوَتي..
تَهالكَتْ عَلى وَصْلِ غَيْثِكِ
كَمْ تاقتْ تَخْضَرُّ بينَ ثرثرةِ أَنامِلِك
وَكَمِ اسْتغاثتْ
أَنِ اجْبِلِيها بِعصا خُلودِكِ عصافيرَ نَدِيَّةً
تَرتَسِمُ دَيمومَةَ لَوعَةٍ بِضَوْءِ عُهْدَتِكِ العَصِيَّة!
مُهْرَةَ روحِي الحافِية
أَلاَ هُزِّي عَتمَةَ وَجهِي الذّاوِيَة
سَرِّحِيهَا نَوْرانِيَّةَ عَدالَةٍ ..
فِي مَساماتِ جِهاتِ مَوازينِكِ
عَلَّني أَنغَمِسُ بِكِ خُبزَ بَراءَة
لاَ تُقْصِيني أَيا طوفانِيَ الْمُشْتَهى
نَوافِيرُ فَرارِكِ فَجَّرَتْ ضَوْئِيَ اللَّيلكِيّ
طاغِيَةُ الحُمْرَةِ باتتْ شَهْقاتُ خَيالِي الكافِرِ
كَجَذْوَةٍ مُجَمَرَّةٍ غَدَتْ خَفَقاتِي!
ثنايا انْكِساراتي..
ما فَتِئتْ تُؤْنِسُني بِصَوتِكِ المُتَهَجِّدِ
حُضورُكِ ..
مَا انفكَّ يُبْهِرُني صُداحُهُ
يَجْلِبُ لي مِنْ كُلِّ فَجٍّ المَطَرَ
يَجْعَلُنِي أَذْرِفُ كُلَّ عَنادِلَ لِبْلابي
مَنْ يُنْجِدُني مِنْ سَطْوَةِ صَوتِكِ
حِينَ تفْتَحُ لي غِرْناطَةُ السَّمَاء..
أَو..
حِينَ أَنْهَمِرُ غُيومًا عَلى كُلِّ مَوْجَةٍ
تَنداحُ مِنْ شَفَتيْكِ “حَياتي”؟
أنَّى تَعْتَلِينَ مَوْجَةَ ذُهولِي الخَرْساءَ
فَأَخْلُصُ مِنْ آثامي؟
أَنا مَنْ جِئتُكَ مَوْلودًا بِلا حُجُبٍ وَلا أَقْنِعَة
ما كُنْتُ لاهِيًا عَنْ نقاءٍ عَبَّدَ القلوبَ بِطُهْرِكِ
وَنَفَضَ عَنّي كُلَّ عَرائي!
تَمَرُّدُ خَفْقتي المَهْووسَةِ لا تَلْجُمِيها
لا تُحِيليني وَطنًا مُثقَلاً بِالمَناقيرِ
أَبَدًا..
مَناقِيري ما خَنَعَتْ لِدَساتيرِ هُرائِهِم!
عَلى أَوْتارِ “حَياتي”
عَزَفْتُ هَيْكَلَكِ الْمُنِيفِ بِكِ ضَوْءًا أَزَلِيًّا لا يَنْضُبُ
نَصَّبْتُكِ عَلى عَرْشِ عَتْمَتِي
لِيَسْتَدِلَّ بِخُشوعِكِ خُشوعي
حُنْجَرَتي الماسِيَّةُ ذابَتْ مَزامِيرَ اسْتِغْفَارٍ
عَلى امْتِدادِ جَذْوَتِكِ!
كانَ ابْتِهالِي أَعْمَقَ عَبَقًا حِينَ حَضَرَ رُواؤُهُ جِرارًا
يَتهَجَّى قِراءاتِهِ فِي مَحاريبِ حَنانِكِ!
كانَ صِيامِي أَنْقى أَجيجًا
يَتلو عَلى مَسامِعِ مائِكِ عَطَشَهُ!
بادِليني صَلاةً تَعْجَزُ عَنْ قَوْلِها لُغَةٌ قاصِرَة!
ها طَعْمي قَدِ اكْتمَلَ في حَضْرَةِ نيرانِكِ
وَدُنُوُّكِ كَفيلٌ بِإِعادَتي مُتعبِّدًا إِلى نِصابِ مَعْبَدِكِ
لاَ تَقتَلِعي أَوْتادَ جَأْشي
فَأَذُوبُ عَلى مُنْحَنى وَهْمٍ فيهِ مَحْوي
جَلْبِبيني بِظِلِّكِ الأَخْضَرِ
حينَ تَخلَعُ الأَقْمارُ قِشْرَتَها
أرْجوكِ اقتَرِبِي مِنّي
وَانتَشِليني مِنْ سُدَفِ عَتْمَتي الحَدْبَاء!
أَتُراني اسْتَسْقَيْتُ رَمادَ فُؤَادٍ
تَلَاشى في تَقاسيمِ قَفَصٍ جَلِيدِيٍّ؟
أتيحِي لِشِفاهِ لَيْلي أَنْ تَلْثُمَ مَعْزوفاتِكِ
لِتُشْرِقَ شُموسُكِ مِنْ أقداحي مَواسِمَ حَصاد!
مُنْذُكِ..
وَبَيادِري مَا اسْتَباحَتْها إِلاَّ تَسابيحُ ذِكْراكِ!
مُنْذُكِ..
وَسَنابِلي الْعَتِيقَةُ تَدَّخِرُ قَمْحَكِ
بارِكي طَواحينَ قَلْبٍ لا تَنْبِضُ إِلاَّ بِأَعاصيرِكِ اليانِعَة
اِعْصِفي بي
عَسْجِديني بِراحَتَيْكِ الشَّفَّافَتيْنِ
لَوِّنيني بِسَطْعِكِ
كَيْ يَنْضُوَ عَنْ روحي أَتْرِبَةَ الغِيابِ
نَأْيُكِ آسِنٌ يُحَوِّطُني بِمائِكِ المُقدّس
أَخْشاهُ يَسْلِبُني نَبْعِيَ المُلَوَّن!
تَخَطَّفيني مِنْ بَينِكِ مَلائِكَةَ حُروفٍ
تُذْكِي هَجيرَ قَناديلي بِاشْتِهاءاتِ الكَواكِبِ!
وَحْدَكِ مَنْ رادَفَ جَرْفُها حَرْفَها
وَغَدَوْتُ طَمْيًا عَلى ضِفافِ رَحيلِكِ!
يا مَنْ كُنْتِ كَمائِنَ اقْتِناصِي بِفِتنَتِكِ الآسِرَة
أَنا المَسكونُ بِدَفْقِ الظَّمَأِ لِتَفاصيلِ شُموخِكِ
مَتى تَغْدِينَ شارَةً عَذْراءَ عَلى عَوْدَتي الأَبَدِيَّة؟
أَنا مَنْ تَكَلَّلْتُ بِمَواسِمِ الدُّوارِ
تُراقِصُني طُقوسي المَنْذورَةُ على إِيقاعِكِ الضَّبابِيِّ
عَلَّني أَسْتعيدُ نَبْضِيَ إِنْ مَكَثتِ بَيني وَبَيني!
أَلْقيني بِحِضنِ وَقتٍ يُمْعِنُ في عِناقِكِ
كَم أَجادَ التَّفَلُّتَ مِنْ بَينِ أَصابِعي
وَنَحّاني مُغَرِّدًا وَحْدَتي
أَتوارى خَلفَ صُداحِكِ
حَيثُ طابَ لَهُ المُكوثُ الرَيّانُ
 على هامِشِ ضَوْئِكِ



(Your Taste's Filled With The Aroma OF Gods(
By: Amal Awad – Radwan-(Palestine)
Translated by: Fathia Asfour
Palestinian poet & tranlator
(طعمكِ مفعمٌ بعطرِ الآلهة) للشّاعرة  آمال عوّاد رضوان/ ترجمتها للإنجليزية فتحية عصفور!

Your Taste's Filled
With The Aroma OF Gods
The cups of your memory smashed me on lips of joy that's not forgotten your taste , the filled with the aroma of gods...and me is still a thread hanging in the space of your eyes
 My rosy ramblers never drained up of you... or of the bloom of heavens inlaid with your azure swarms
Oh ! how the fields of my misery died for attaining your rain !!
How they yearned to become green amid the chattering of your fingers!!
 And how they appealed to you to get them kneaded with the staff of your eternity , dewy birds drawn as perpetual torment with your invulnerable covenant !!
O, the filly of my barefooted soul !
If only you shake the withered darkness of my face !
 If only you discharge it a luminance of justice ..in the pores of your scales' sides ! ... so that I may indulge in you... a bread of innocence
O , my desired deluge !
Eliminate me not
The fountains of your flight
gushed out my lavendar light
The whoops of my infidel imagination have become dominantly red
Like a flaming ember became my beats
The folds of my defeats still make me feel at ease
with your voice praying the whole night
 The chanting of your presence still dazzles me .. brings me rain from every direction... makes me shed all the nightingales of my ivy
 Who saves me from the dominance of your voice when Garnada opens heaven to me ? or when I pour down clouds on every wave my life extends from your lips ?
 When will you assend the wave of my dumb maze to become then pure of my sins?
It's me who came to you by birth
With no veils or masks
 I was not heedless about a pureness that paved the hearts with your chastity.. and dusted all my nakedness off me
Restrain not the rebellion of my crazy beat
Never transform me into a homeland loaded with beaks
NEVER
My beaks never submitted to the constitutions of their nonesense
 On the strings of my life... I strummed your temple the exalted in you, an eternal light that never fades
I set YOU on the throne of my darkness ...so that my submissiveness
will be guided by yours
 My diamond throat melted psalms of forgiveness all along my burning ember
 My supplication was deeper in scent when its fullness was there in jugs...spelling its readings in the mihrab of your tenderness
 My fasting was purer in flaming.. reciting its thirst on the hearing of your water
In return, give me prayers a minor language incapable to say
Here! my taste has completed in the presence of your
fires.. and nearing me is a vouch for
getting me back a worshipper to the quorum of your
statue
 Do not root out the wedges of my strength... to get then melted on a curve of delusion
whereby is my eradication
 Jilbabize me with your green shadow at time when moons take off their crusts
Please! get near me and lift me out of the dusks of my humped darkness
I wonder if I prayed for the ash of a heart
that vanished in the looks of a glacial cage !!
 If only you make it possible for the lips of my night to kiss your pieces of music !!
so that your suns will shine seasons of harvest from my glasses
Since THEE
 my threshing floors have not been permissible but to the exaltations of your memory
Since THEE
my ancient spikes have been storing your wheat
Bless the mills of a heart that do not pulse without your mellow hurricanes
Storm in me.
Make me a golden gem with your transparent palms
 Colour me with your gleam.. so that it can remove the dusts of absence off my soul
Being distant from you is a stagnation surrounding me with your holy water
I am afraid it may plunder my coloured spring
 Seize me out of your dismissal , angels of letters stoking the strong heat of my lamps with the cravings of the planets
 Only you whose shovel and letter are identical, and me turned into mud on the banks of your departure
You, who were the snares for snipping me with your captivating charm!
I am the inhabited by the flow of thirst for the details of your highness
When would you become a virgin sign for my eternal return?
Me, who was crowned by seasons of whirling...with
my vowed rites dancing with me on your foggy rythm
Maybe I return my pulsing if you abide between me and myself
Place me in the lap of a time sustainable in hugging you
 How it was excellent in slipping through my fingers... and set me aside tweeting my loneliness
 Let me disappear behind your chanting where succulent dwelling on the margines of your light was a pleasure to time


36
أَتُنْبِتُ مَوَانِئُ الْعَتْمَةِ آمَالًا؟
آمال عوّاد رضوان
مَا أُحَيْلَاهُ مُرّكِ .. يَا ابْنَةَ النَّسَمَاتِ
كَأَنَّ رَحِيقَكِ .. تَخَلَّقَ مِنْ نَسِيمِ حَيْفَا
يَسُوقُ النَّسَائِمَ أَيْنَمَا شَاءَ
لِطِينِ الْبِشَارَةِ نَاصِرَتِي
لِتَجْبِلَكِ عُيُونُ الْجَلِيلِ فِي الْجَنَّةِ!
أَيَا صَانِعَةَ شِعْرِي
يَا أَرَقَّ مِنْ نَرْجَسَةٍ اشْتَمَّهَا شَاعِرٌ
فَغَدَا مَلَاكًا
وَيَا أَشْهَى.. مِنْ إِطْلَالَةِ صُبْحٍ
تَلْفَحِينَ بِعَبَقِكِ .. مَنْ يَمُرُّ بِوَهْجِكِ!
لِإِشْعَاعِكِ .. سِمَةُ النَّفَاذِ مِنْ تَحْتِ الْمِكْيَالِ
كَدَفْقَةِ ضَوْءٍ .. تَسْتَرْسِلِينَ مِنْ خَلْفِ أَسْوَارِي!
هَـتَـفْـتُـكِ ذَاتَ لَهْفَةٍ .. أَيَا جَنَّةَ فُؤَادِي
اُبْذُرِي حُرُوفَ سَمَائِكِ .. فِي مَسَاكِبِ نُورِي
وَعَلَى ضِفَّتِي الْأُخْرَى
اغْرِسِي سِحْرَكِ.. فِي وَاحَاتِ نَقَائِي!
أَيَا زَهْرَةً عَصِيًّةً عَلَى أَنْفَاسِ الْبَشَرِ إِلَّايَ
وَلَا تَطَالُكِ .. إِلَّا عَيْنُ اللهِ!
أَنَا مَا اسْتَهْوَانِي.. إِلَّا أَرِيجُكِ
كَمْ مِنَ الزَّنَابِقِ تَتَعَشَّقِينَ .. لِتَخْتَصِرِينِي مَجْنُونُكِ؟
يَا مَنْ لِحُضُورِكِ الْبَذْخُ
كَحُضُورِ مَلِيكَةٍ كِنْعَانِيَّةٍ
كَأُسْطُورَةٍ تَتَبَخْتَرُ فِي خَيَالِي
مِنْ حَوْلِكِ مَلَائِكَةٌ تَتَمَخْتَرُ.. فِي سُبْحَةِ تَرَاتِيلِكِ
وَرُوحُكِ تَتَجَلَّى.. فَوْقَ يَاقَةِ حُلُمِي!
أَحُرَّاسُكِ شُدُدُ؟
أَتَحْرُسِينَكِ مِنِّي.. أَمْ تَحْرُسِينَنِي مِنْكِ؟
مُطْفَأٌ.. سِرَاجُ قَلْبِي .. فمَنْ يُنْفِقُ وَقْتَهُ
يُوقِدُ فَانُوسًا فَقَدَ فَتِيلَهُ .. أَو أَتَى الْهَجِيرُ عَلَى وُقُودِهِ؟
أَيَا غَابَةَ ضَوْئِي
مَنَافِذُكِ كُلُّهَا مُغْلَقَةٌ .. وَلَنْ يَكُونَ لِي أَوَانٌ آخَرُ
مُعْتِمًا يَصْحُو وَقْتِي .. يَشِيبُ بِعِنَادِكِ
لَيْلِي يَتَقَصَّفُ .. مُتَبَرْعِمًا بِيَأْسِي الْأَزَلِيِّ!
غَدي دُونَكِ.. بِتُّ أَسْتَقْبِلُهُ بِحُطَامِي
ومَجَّانِيًّا .. غَدَا تَفَاؤُلِي لَا يَنْبِضُ بِأَنْفَاسِ غَدِكِ
وَمُذْ مَضَيْتِ .. فَقَأَتْنِي عُيُونُ أَكْوَانِي
وَفَوَانِيسِي.. الْــ عَهِدْتُها تَلْتَقِطُ مِنْ مَحْجَرَيْكِ.. وَهْجَكِ
تَعَرَّتْ.. مِنْ أَهْدَابِ خُضْرَتِكِ
وَبَاتَتْ خَرَائِطي فَوْضَوِيَّةً
لَا تَعْرِفُ التَّمَرُّدَ إِلَّا.. عَلَى يَبَاسِ خَيْبَاتِي!
بِضِحْكَاتٍ قُرْمُزِيَّةٍ .. أَجْهَشَتْ رَقْصَةُ زُورْبَا
تُحَاكِي أَطْلَالِي .. تُجَبِّرُ مَا بَطُنَ مِنْ كُسُوري
فِي هَوَامِشِ خَطوي!
ضِحْكَاتُكِ الْـــ .. تُقَدِّسُنِي .. بِعَبَثٍ تئِنُّ!
أَنَامِلُكِ..  تَرْعَى كُؤُوسِيَ الْمَخْمُورَةَ
فَيَغْفُو لُهَاثُ لَيْلِي .. عَلَى أَهْدِابِ غِيَابِكِ!
هَا زِئبَقِي راكِدٌ.. فِي قوارير عُزْلَتِي
يُومِضُكِ حَكَايَا جَامِحَةً .. في فَجْوَاتِ زَمَانِي!
وَهَا أَنَا
لَا أَخْنَعُ لتَمَوُّجِ جِرَاحِي .. ولَا أَصْدَأُ بِمُرِّ صَمْتِكِ!
أَمَا مِنْ سُلْطَانٍ لَكِ .. يُفْضِي إِلَى خَرَائِبِ سَقْطَاتِي؟
لِلْمَقَامَاتِ.. سُبُلٌ مُقَدَّسَةٌ
تَتَرَجْرَجُ.. تُلَامِسُ أَشِعَّتي .. وَتَتَوَغّلُ فِي فُيُوضِ تَقَرُّبِكِ
لكنَّ تهَرُّبَكِ
يَفْتِكُ بِحَمَائِمِ أَعْشَاشِي .. يَقْضِمُ صَوْتِي الْمُتَعَسِّرَ فِي خَرَائِبِهِ
مُذْ فَطَمَتْنِي عَنَاقِيدُ نَارِكِ!
هَا نِصْفِي السَّمَاوِيُّ غَطَّ .. فِي تَفَحُّمِ ذَاكِرَتِي النَّيِّئَةِ
يَحْرِقُ هَوَائِيَ الْمُمَغْنَطَ .. بِقَبْضَةِ صَمْتِكِ الصَّاهِرِ
قَلْبِي بَاتَ يَرْتَعِشُ.. يَفُكُّ أَزْرَارَ بَحْرِكِ
يُلَوِّحَ لِي بِأَكْمَامِهِ الْمَبْتُورَةِ .. يَهْدُرُ:
أَتُنْبِتُ مَوَانِئُ الْعَتْمَةِ آمَالًا.. فِي حَقَائِبِ الْهَجِيرِ؟

37
"A glowing luscious smile- لابَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ"
رام الله- القاهرة- الجليل
الشاعرة آمال عوّاد رضوان تُطلّ بإصدارها المترجَم للإنجليزيّة "A glowing luscious smile- بَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ"
أطلت الشاعرة الفلسطينية القديرة آمال عوّاد رضوان بمجموعتها الشّعريّة المترجمة للإنجليزيّة "بسمة لوزية تتوهّج"، متجاوزة بها حدود الوطن الفلسطينيّ، لترسم لوحة جديدة من  لوحات الإبداع الأدبيّ على خريطة الأدب الفلسطينيّ بشكل خاصّ، والعربيّ بشكل عامّ، ومؤكّدة على رسوخ الفكرة الثقافيّة والإبداعيّة، عبر التّواصل والتّعاون بين مكوّنات الفعل الثقافيّ والأدبيّ في وطننا العربيّ الكبير، عبرَ ما توّجتْهُ دار الوسط للنشر والإعلام في فلسطين، ودار الأدهم للنّشر والتّوزيع في مصر، بمساهمة جميلة وكبيرة للشاعر والمترجم حسن حجازي.
الإصدار "بسمة لوزية تتوهج" الديوان الشعريّ، ترجمه للإنجليزيّة الأديب والشاعر والمترجم المصريّ حسن حجازي، احتوى على عشر قصائد باللّغتين العربيّة والإنجليزيّة  .
الإصدار المترجَم للشاعرة آمال عوّاد رضوان جاء ثمرة للتّعاون بين دار الوسط للإعلام والنشر في فلسطين، ودار الأدهم للنشر والتوزيع في جمهوريّة مصر العربيّة، وتضمّن ترجمة لقصائد الديوان الشعريّ :بَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ، فِي مَهَبِّ رَصِيفِ عُزْلَةٍ، أَوْتَارٌ مُتَقَاطِعَةٌ، عُصْفُورَةُ النَّارِ، أَنْفُضُ الْغُبَارَ عَنْ مَتْحَفِ فَمِكَ، كَيْ لَا تَتَهَاوَى، شَوْقِي إِلَيْكَ يُشْعِلُنِي، أَيَائِلِي مُشْبَعَةٌ بِرَائِحَةِ الْهَلَعِ، غَيْرَةُ حَبِيبِي، تَعْلِيقٌ، أَحِنُّ إِلَى حَفِيفِ صَوْتِكَ، إضافة إلى الأهداء والمقدمة والسيرة الذاتية للشاعرة الفلسطينية التي ما زالت تقول:
آمال :
  لَيْسَتْ سِوَى طِفْلَةٍ خَضْرَاءَ انْبَثَقَتْ مِنْ رَمَادِ وَطَنٍ مَسْفُوكٍ فِي عُشٍّ فِينِيقِيٍّ مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ!
أَتَتْ بِهَا الْأَقْدَارُ، عَلَى مُنْحَنَى لَحْظَةٍ تَتَّـّقِدُ بِأَحْلَامٍ مُسْتَحِيلَةٍ، فِي لُجَّةِ عَتْمٍ يَزْدَهِرُ بِالْمَآسِي، وَمَا فَتِئَتْ تَتَبَتـَّلُ وَتَعْزِفُ بِنَايِ حُزْنِهَا الْمَبْحُوحِ إِشْرَاقَاتِهَا الْغائِمَةَ، وَمَا انْفَكَّتْ تَتَهَادَى عَلَى حَوَافِّ قَطْرَةٍ مُقَدَّسَةٍ مُفْعَمَةٍ بِنَبْضِ شُعَاعٍ، أَسْمَوْهُ "الْحَيَاة"!
عَشِقْتِ الْمُوسِيقَا وَالْغِنَاءِ، فَتَعَلَّمَتِ الْعَزْفَ عَلَى الْكَمَانِ مُنْذُ تَفَتَّحَتْ أَنَامِلُ طُفُولَتِهَا عَلَى الْأَوْتَارِ وَسَلَالِمِ الْمُوسِيقَا، وَقَدْ دَاعَبَتِ الْأَنَاشِيدُ الْمَدْرَسِيَّةُ وَالتَّرَانِيمُ حَنْجَرَتَهَا، فَصَدَحَتْ فِي جَوْقَةِ الْمَدْرَسَةِ، إِلَى أَنِ اتَّشَحَ حُضُورُهَا بِالْغِيَابِ الْقَسْرِيِّ مُدَّةَ سَنَوَاتٍ، لِتُعَاوِدَ ظُهُورَهَا فِي كُورَال "جَوْقَةِ الْكَرَوَان" الْفِلِسْطِينِيَّةِ!
كَمْ عَشِقَتْ أَقْدَامُهَا الْمُعَتَّقَةُ بِالتُّرَاثِ الرَّقْصَ الشَّعْبِيَّ، وَكَانَ لِخَطَوَاتِهَا الْبَحْرِيَّةِ نَكْهَةً مَائِيَّةً تُرَاقِصُ ظِلَالَ شَبَابٍ طَافِحٍ بِالرَّشَاقَةِ فِي فِرْقَةِ دَبْكَةٍ شَعْبِيَّةٍ، إِضَافَةً إِلَى نَشَاطَاتٍ كَشْفِيَّةٍ وَأُخْرَى عَدَيدَةٍ، تَزْخَرُ بِهَا رُوحُ فَتَاةٍ تَتَقَفَّزُ نَهَمًا لِلْحَيَاةِ!
أَمَّا لِمَذَاقِ الْمُطَالَعَةِ وَالْقِصَصِ وَالرِّوَايَاتِ فَكَانَتْ أَسْرَابُ شَهْوَةٍ؛ تَحُطُّ فَوْقَ أَنْفَاسِهَا حَدَّ التَّصَوُّفِ وَالتَّعَبُّدِ، مُنْذُ أَنْ تَعَلَّقَتْ عَيْنَاهَا بِسَلَالِمِ فَكِّ الْحُرُوفِ، وَكَانَ لِلْقَلَمِ الْمَخْفِيِّ فِي جَيْبِ سُتْرَتِهَا وَتَحْتَ وِسَادَتِهَا صَلِيلٌ يُنَاكِفُهَا، كُلَّمَا شَحَّ رَذَاذُ نَبْضِهِ فِي بَيَاضِهَا، فَيَفْغَرُ فَاهَهُ النَّارِيَّ مُتَشَدِّقًا بِسِحْرِهِ، كَأَنَّمَا يَحُثُّهَا لِاحْتِضَانِهِ، كُلَّمَا ضَاقَتْ بِهِ الْأَمْكِنَةُ، وَكُلَّمَا تَعَطَّشَ إِلَى خَمْرِهَا، فَتُحَلِّقُ بِهِ فِي سَمَاوَاتِ فُيُوضِهَا، وَمَا أَنْ تَصْحُوَ مِنْ سَكْرَتِهَا، حَتَّى تُمَزِّقَ مَا خَطَّتْهُ وَنَسَجَتْهُ مِنْ خُيُوطِ وَجْدِهَا، لِتَمْحُوَ كُلَّ أَثَرٍ يُبِيحُ لِلْآخَرَ أَنْ يُدْرِكَ مَا يَعْتَمِلُ فِي نَفْسِهَا، وَلِأَنَّ مَكَانَةً سَامِقَةً وَأَثَرًا جَمًّا وَمَهَابَةً لِلْأَدَبِ، تَخْشَى أَنْ تَتَطَاوَلَ إِلَيْهِ، أَوْ تُقْحِمَ نَفْسَهَا فِي وَرْطَةٍ لَا خَلَاصَ مِنْهَا.
مَا بَعْدَ الْفَتْرَةِ الثَّانَوِيَّةِ حَلَّتْ مَرْحَلَةُ مَنْفَاهَا عَنْ طُفُولَتِهَا الزَّاهِيَةِ، حِينَ اسْتَلَبَتْهَا مَخَادِعُ الدِّرَاسَةِ الْجَامِعِيَّةِ الثَّلْجِيَّةِ مِنْ أَجِيجِ نَشَاطَاتِهَا، وَمِنْ ثُمَّ؛ تَمَلَّكَتْهَا مَسْؤُولِيَّاتُ الزَّوَاجِ وَالْأُسْرَةِ وَمِهْنَةِ التَّدْرِيسِ، وَاقْتَصَرَ دَوْرُهَا الْأَسَاسِيُّ عَلَى مَرْحَلَةٍ جَدِيدَةٍ؛ هُوَ بِنَاءُ عَالَمٍ مُحَبَّبٍ آخَرَ بَعِيدًا عَنْهَا قَرِيبًا جِدًّا مِنْهَا، الْأُسْرَةُ بِكَامِلِ مَسْؤُولِيَّاتِهَا الْجَمَّةِ، وَفِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ وَبِفِعْلِ سِحْرِ الْأُمُومَةِ، نَمَا فِي قَلْبِهَا عِشْقٌ جُنُونِيٌّ لِلْعَطَاءِ، رَغْمَ طَرَاوَةِ الْحَيَاةِ وَقَسْوَتِهَا، وَكَانَ بَخُورُ الذِّكْرَيَاتِ يَعْبَقُ بِكِبْرِيَائِهَا، وَيُمَرِّغُهَا بِعِطْرِ الطُّفُولَةِ الْهَارِبَةِ!
مَا بَيْنَ رُمُوشِ نَهَارَاتِهَا وَوَسَائِدِ لَيَالِيهَا، سَاحَتْ آمَال فِي عُمْقِ بُوَارٍ لَا يَحُدُّهُ خَوَاءٌ، تَارَةً، تَأْخُذُهَا سِنَةٌ مِنْ سُبَاتٍ فِي اسْتِسْقَاءِ الْمَاضِي، وَتَارَةً، تَسْتَفِيقُ مِنْ قَوْقَعَةِ أَحَاسِيسِهَا الذَّاهِلَةِ، حِينَ تَهُزُّهَا الْفَجْوَةُ الدَّهْرِيَّةُ بَيْنَ الْأَنَا وَالْآخَرَ وَالْكَوْنِ، وَبَيْنَ مُجُونِ الضَّيَاعِ الْمُزَمْجِرِ فِتْنَةً، وَبَيْنَ حَانَاتِ الْخَطَايَا الْمُشْتَعِلَةِ كُؤُوسُهَا بِلَا ارْتِوَاءٍ، وَالْوَطَنُ يَرْتَعُ فِي شَهَقَاتِ أَلَمٍ تَعْتَصِرُ أَمَلًا مِنْ كُرُومِ الْمُسْتَحِيلِ!
لَمْ تَفْلَحْ شَفَافِيَّةُ الْوَاقِعِ الْمُرِّ حُلْوُهُ، وَلَا مَهْرَجَانَاتُ الْحَيَاةِ مِنْ صَلْبِهَا عَلَى أَعْمِدَةِ مُدَرَّجَاتِ وَمَسَارِحِ الْحَيَاةِ، بَلِ الْتَجَأَتْ بِصَمْتٍ وَهُدُوءٍ إِلَى كَهْفِ الْأَبْجَدِيَّةِ، وَاعْتَكَفَتْ فِيهِ كَنَاسِكَةٍ تَحْتَرِفُهَا فِتْنَةَ التـَّأَمـُّلِ، حَيْثُ تَصْطَفِي نَيَازِكَ حُرُوفٍ مُتَلَأْلِئَةٍ بِالنُّضُوجِ، كَادَتْ تَسْقُطُ سَهْوًا فِي مِحْرَقَةِ الْأَلَمِ، أَوْ كَادَتْ تَرْجُمُها إِغْوَاءَاتُ الدُّرُوبِ بِحَصًى يَتَجَمَّرُ، لكِنَّهَا حَاوَلَتْ أَنْ تَلْتَقِطَ بِأَنَامِلِ خَيَالِهَا تِلْكَ الْحُرُوفَ اللَّاسِعَةَ الْكَاوِيَةَ، كَيْ تُرَطِّبَ وَجْدَ آمَالِهَا الْمَوْشُومَةِ بِنَشِيجِ خَلَاصٍ قَدْ يَأْتِي!
كَمْ تَمَاوَجَتْ فِي طُهْرِ رُوحِهَا شُعَاعَاتُ إِيمَانٍ صَاخِبَةٌ بِفُصُولِ التَّوَغُّلِ وَبِوُجُوهِ الْجَمَالِ فِي غَدٍ دَافِئٍ، وَكَمْ نَقَشَتْهَا أَنْفَاسُهَا تَنْهِيدَةً مَنْحُوتَةً وَمُشَفَّرَةً، عَلَى شَاهِدَةِ عُمْرٍ يُلَاحِقُهَا، وَيُوَلِّي فِي صَحْوَتِهِ، وَلَا يَلْوِي عَلَى الْتِفَاتَةٍ تَكْتَظُّ بِالْحَسْرَةِ!
"سِحْرُ الْكَلِمَات" هُوَ عَجُوزِي الْمُسْتَعَارُ، وَرَاعِي انْتِظَارَاتِي الْمُؤَجَّلَةِ بِفُوَّهَةِ مَغَارَتِهِ الْخَضْرَاءِ، يَحْرُسُ بِتَمَائِمِهِ وَمَشَاعِلِهِ عَرَائِشَ كُرُومِي، عِنْدَمَا تَسَلَّقَتْ عَلَيْهَا دَوَالِي قَلْبِي وَذَاكِرَتِي الْمَنْهُوبَةُ، وَنُصُوصِي الوُجْدَانِيَّةُ الْمُكَدَّسَةُ عَلَى رُفُوفِ فُسْحَاتٍ تَعَذَّرَ الْتِقَاطُهَا، وَبِعَشْوَائِيَّةٍ لَذِيذَةٍ انْفَرَطَتْ قُطُوفُ أَسَارِيرِهَا عَلَى أَطْبَاقِ الْبَرَاءَةِ عَبْرَ صَفَحَاتِ النِّتّ، لِتُؤَبِّدَ دَهْشَةَ صَمْتٍ عَبَرَتْ كَالرِّيحِ، فَوْقَ ظِلَالِ الْفُصُولِ وَالْعُمْرِ، إِلَى أَنْ كَانَتْ وَمْضَةٌ مُخَصَّبَةٌ بِأَحْضَانِ سَحَابَةٍ مُتَنَكِّرَةٍ، تَرَاذَذَتْ مِنْ جِلْبَابِهَا "آمَال عَوَّاد رضْوَان"، وَمُنْذُهَا، وَآمَال لَمَّا تَزَلْ آمَالُهَا حَتَّى اللَّحْظَةِ تَتَلَأْلَأُ بـمنجزاتها الأدبيّة والثقافيّة.

38


بين الضّياع والأمل في قصيدة "إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا" للشّاعرة آمال عوّاد رضوان

عبد المجيد اطميزة

أولا: النّصّ الأدبيّ
إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا/ آمال عوّاد رضوان
وَعِرَةٌ فُصولُ وَقْتِيَ الأَرْعَنَ
يَمْلؤُها خَواءٌ
يَ تَ سَ ا كَ بُ
يَتعَفَّرُ بِغُموضِ حَوّاء
وفي تَعاريجِ التّيه بِكِ .. أَحْمِلُني ظِلالًا شَارِدَةً
تَتشاسَعُ...
أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ .. في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ
وَعَلى إيقاعِ جِهاتِكِ
مُتَماهِيًا بِي .. يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!
*
دُونَكِ.. يُنادِمُني كأْسُ النُّدَمَاء
يَلْهَثُ وَفاءُ المَواعيدِ الجَوْفاء
يَئِنُّ بُسْتانِيَ ظامِئًا
يَعْوي الصّمت في قَفصِ جُوعِهِ
يَتذاءَبُ.. يَتَوَعَّدُ حُملانَ حَكاياكِ
يَ تَ هَـ جَّ ى .. أَنّاتِ آهاتِيَ التّائِهَةِ!
*
كَيفَ أَجْتَرِحُ لَحَظاتِكِ اللاّزوردِيَّةَ
ومَلَكُوتُ صَمْتِكِ يَعْتَلي عَرْشِيَ المُجَنَّح؟!
أَمْضي إِلَيْكِ ضارِعًا
تُرْبِكُني خُطُواتُ خَيالي
أَقْتَفي ظِلالَ الفَرَح إِلَيْكِ
أَتَوَكَّأُ عَلى .. أَنْفاسِ حُروفِيَ العَرْجاء
أَيْنَكِ تُرَمِّمينَ قِبَبَ عَتَماتي؟
أَيْنَكِ تُغَبِّطينَ مُهْرَ حَرْفِيَ المَوْلودَ بِكِ؟
*
مِنْ خَلْفِ حِجابِ السَّمَواتِ
نَجْمِي السَّاهي يَتَلَصَّصُ
يُنَجِّمُ مَناجِمَكِ الجاثِمَةَ بِكُهوفي
يُعَرّي بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ
ياقوتَكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ
مَن ذا الأَباحَكِ بي؟
يا خَميرَةَ زَمانِيَ الآثِم
تَعْجِنينَ دَقيقَ حاضِري بِماءِ الماضي
تُسَوِّينَ بَشَوْبَكِ صَفائِكِ أَقْراصَ قُرْباني
تُخَمِّرينَ خُبزَ خَيالاتي بِمَتاهاتِ طُهْرِكِ
وَفي خِلوَةِ سُهْدِي .. أَتْلوني قَصائدَ وَداعَةٍ
عَلى عَتَباتِ مَراياكِ!
*
دُورِيُّ أَنا مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ!
أَسْرابُ أَنفاسِكِ تُلاغِفُ أَرْياشي
تَغْمِسُ شَمْعَ جَناحَيَّ بضَوْءِ شِعْرِكِ النَّدِيِّ
وتُعَشِّشينَ فِراخَ جَمْرٍ بِفُسَيْفِساءِ أُوَيْقاتي
أَيا ريشَةَ شعريّ الأَخَفَّ مِنْ ريشِ الهَباءِ!
مَا جَدْوايَ مِنْ أَرْياشِ الذّهب
وَحُجُبُ سَديمِكِ بَتَرَتْ مِنْقارِيَ
والقَلبُ كَسيرٌ.. أَسيرُ أَثيرِكِ؟
*
كَيْفَ أُحَلِّقُ بِقَلْبِيَ مَقْصوصَ الجَناحِ
إِلى أَسْدافِ قُدْسِكِ؟
كَيْفَ وَعُيونُ حَرْفِيَ المُقَنَّعِ كَفيفةٌ
تَتَوارى في عَتْمَةِ دُواتِكِ؟
*
أَيا إِلهامِيَ الأَضْيَعَ مِنْ سِراجٍ في شَمْسٍ!
أَقْفاصُ صَدْري مَجْبولَةٌ بِطينِ اليَبابِ
كُلَّما لَمْلَمْتِ أَكْوامَ رَحيلِكِ الكافِرِ
تَرْتَجِفُ عَصافيرُ القَلْبِ
تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ
فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني
ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني
علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي
ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ .. عَلى جَبيني!
*
كَمْ هِيَ وارِفَةٌ فُصولُ وقْتِيَ العاري
حِينَما تَفِرُّ الحُدودُ التَتَشابَحُ
وَتَنْسَلِّينَ مِنْ ظِلالِ الظُّلماتِ النَّاعِسَةِ
بُشْرَى مَسَرَّةٍ
حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ
تَسْرَحُ قُطعانُ آمالي في واحةِ بَوْحِي
لأَتَواثَبَ فوْقَ خَرائِطِ الدّهشة!
*
مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ
حينَما غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ
حِينَما تَتَبَخْتَرُ بِغَنَجِها .. تَتَمَايَلُ بِدَلالِكِ
تَتَوارَفينَ عُرى لِقاءٍ
حِينَما تَلُفِّينَ بِاخْضِرارِ زَفيرِكِ شِغافَ شَهِيقي
تَشْرَئِبُّ أَعْناقُ العِناقِ مُزاحِمَةً
وَ أَ تَ فَ تَّ تُ .. عَلى أَعْتابِ أَنْفاسِكِ
*
أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى
حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ
في فِخاخِ الانْتِظار
وحُوريَّةُ الأَمْسِ تَسِحُّ .. مِنْ بَيْنِ أَصابعِ المُوسِيقا
تَتَأبَّطُني مَغْمُورَةً بي
تَطوووفُ.. دااااااائِخَةً
تَحْمِلُ حُلُمي إلى مَعْمورَةِ هَذَياني
هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ .. وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ
لِنَتَوَشَّحْ بِفَرْحَةٍ تَهِلُّ ميلادَ أَحِبَّةٍ!
رُحْمَاكِ
هَيِّئيني بِكِ لِقُدْسِ الفَرَحِ
لأَتَقَدَّسَ بِعِطْرِ زُهْدِكِ البَرِّيِّ!
أَدْمَعُ!.. و.. أَدْمَعُ!.. وَ.. أَدْمَعُ!
مَن ذا يَغْتَسِلُ بِدَمْعِ قَناديلِ هَوايَ إِلاَّكِ؟!
مَن ذا يَبْتَلُّ بِوَهْجِ لَيالِيَّ العَذْراءَ كَماكِ؟!
هيَ ذي تَرانيمي.. إِلَيْكِ تَتوبُ غَمامًا
إعْزِفيني بِشارَةَ حُبٍّ / كِرازةَ لِقاءٍ
عَلى قيثارَةِ الفَجْرِ
عَلَّ بَشاشَةَ الغِبْطَةِ .. تُطَوِّبُ مَباسِمَ مَواسِمي!

ثانيًا: التّحليل الأدبيّ
العنوان: " إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا": من ديوانها الشّعريّ الثاني "سلامي لك مطرا." وكأنّ الشّاعرةَ تُخاطبُ نَفسَها، أو نفسَها المنصهرةَ في وطنِها، وهي تشعرُ بضَياع الآمالِ، في وقتٍ تكالبَتْ عليهِ المِحنُ وصنوفُ الضّياع، فالغمامُ رمزٌ عن الضّبابيّةِ والغموضِ والحيرةِ والقلقِ والتّيهِ والضّياع،  وفي العنوانِ انزياحٌ تركيبيّ، حيثُ تقدّمتْ شبهُ الجملة "إليك"، وحقُّها التّأخير كلّ  مِن الفعل والفاعل "أتوب" وحقّهُما التّقديم، ويوجدُ في العنوانِ أيضًا انزياحٌ إضافيّ،  فعندما يسمعُ المُتلقّي كلمةَ "أتوب"، يتوقّع أن يليها حال مثل كلمة "مستغفرًا"، لكنّه يُفاجأ ويَسمعُ عبارةَ "غمامًا"، وهذا يُثيرُ في خلدِهِ الدّهشة.

والشّاعرةُ اختارتْ عنوانَ قصيدتِها بدقّةٍ، و"يُعتبرُ العنوانُ في نظريّاتِ النّصِّ الحديثةِ عتبةً قرائيّةً، وعنصرًا مِنَ العناصرِ المُوازيةِ الّتي تُسهمُ في تلقّي النّصوصِ وفهْمِها، وتأويلِها داخل فعلٍ قرائيّ شموليّ بفعلِ العلاقاتِ الكائنةِ والممكنةِ بينَهُما. وهو عندَ جيرار جنيت مجموعةٌ مِن العلاقاتِ اللّسانيّة الّتي يمكنُ أن توضَعَ على رأس النّصّ، لتُحدّدَهُ وتَدلَّ على محتواهُ، لإغراءِ الجمهورِ المقصودِ بقراءتِهِ، ويُحدّدُ العنوانُ هُويّةَ النّصّ ويُشيرُ إلى مَضمونِهِ، كما يُغري القرَّاءَ بالاطّلاع عليه.. على أنّ وظيفةَ التّحديد تَظلُّ هي الأهمُّ مِن غيرِها، فالعنوانُ المثيرُ قد لا يربطُهُ بما يُعنونُ أيّ رابط. كما أنّ العلاقةَ بينَ مادّة العنوانِ وموادّ النّصّ ليست دائمًا مِرْآويّة، بحيثُ يكشفُ ظاهرُ العنوانِ بَواطنَ الكتاب، إذ مِن الممكنِ أن نجدَ عناوينَ فارغةً أو دالّةً على الشّكل، أكثرَ ممّا تدلُّ على المَضمون، لذلك؛ فالعنوانُ باعتبارِهِ اسمًا للكتاب، أهمُّ مُحدِّدٍ ومُميّزٍ له عن هُويّات أخرى، وإن كنّا نجدُ بعضَ العناوينِ مَبنيّةً بطريقةٍ رمزيّة أو مَجازيّة، ممّا يدفعُنا للتّأويل، لإيجادِ ألوان مِن التّطابق أو شِبهِ التّطابقِ بينَ النّصّ وعنوانِهِ، خاصّةً في الكتبِ ذاتِ الطّبيعة النّظريّةِ أو الفكريّة. أمّا عناوينُ الدّواوينِ الشّعريّةِ والرّواياتِ والقصصِ والمَقالاتِ -الحديثة على الخصوص- فهي تقومُ في أغلب الأحيانِ على المُراوغةِ والإيحاء."

ويختصرُ جنيت "أهَمُّ وظائفِ العنوان في: وظيفةِ التّحديدِ والوظيفةِ الوصفيّةِ والوظيفةِ الإيحائيّةِ والوظيفةِ الإثاريّةِ- الإغرائيّة. وكما هو واضحٌ، فهذهِ الوظائفُ تضمّنتْها الاستعمالاتُ الدّلاليّةُ المختلفةُ لكلمةِ العنوان في الثّقافةِ العربيّة".
وفي مَجالِ الحديثِ عن العنوان في اللّغةِ والاصطلاحِ في العربيّة قال بازي "العنوانُ.. إظهارٌ خفيٌّ ورسمٌ للمادّةِ المكتوبة. إنّهُ توسيمٌ وإظهارٌ، فالكتابُ يُخفي مُحتواهُ ولا يُفصحُ عنه، ثمّ يأتي العنوانُ ليُظهرَ أسرارَهُ، ويَكشفَ العناصرَ المُوسّعةَ الخفيّةَ أو الظّاهرةَ بشكلٍ مُختزلٍ ومُوجز".(1)
في المَقطعِ الأوّلِ تقولُ: "وَعِرَةٌ فُصولُ وَقْتِيَ الأَرْعَنَ.. يَمْلؤُها خَواءٌ/ يَ تَ سَ ا كَ بُ/ يَتعَفَّرُ بِغُموضِ حَوّاء/ وفي تَعاريجِ التّيه بِكِ.. أَحْمِلُني ظِلالًا شَارِدَةً/ تَتشاسَعُ/ أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ.. في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ/ وَعَلى إيقاعِ جِهاتِكِ/ مُتَماهِيًا بِي.. يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!"
"إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا": كنايةً عن ضبابيّةِ الوطنِ ومصيرِهِ، ومُراوحتِهِ بينَ التّيه والضّياع وبينَ بصيصِ أمل.
"وَعِرَةٌ فُصولُ وَقْتِيَ الأَرْعَنَ.. يَمْلؤُها خَواءٌ": كنايةً عن روح الشّاعرة وسِني عمرِها الضّائعةِ بضياعِ الوطن، وتُركّزُ الشّاعرةُ على الزّمانِ المُتمثّلِ في الفصولِ والوقتِ، كما أنّها تُركّزُ على المكانِ وهو الرّوحُ والوطن، وتتوالى الانزياحاتُ بمختلفِ صُنوفِها، فقد أَسندتِ الشّاعرةُ وقتَها للفصولِ، والفصولُ وعرةٌ كما الجبالِ، والوقتُ أرعنُ مجنونٌ كجنونِ المجانين. 
هي صورٌ فنّيّة و"الصّورة الشّعريّة كيان فنّيّ نابض بالحياة الإنسانيّة". (2) 
"يَ تَ سَ ا كَ بُ":
وهنا تلجأُ الشّاعرةُ لتقطيع حروفِ الكلمة، لخلقِ نمطٍ إيقاعيّ عذبٍ يَسري في جسدِ النّصّ، وهي تخرجُ عن رتابةِ الشّعرِ العموديّ، فحروفُ الشّاعرةِ مُتقطّعةٌ، كما أنّ الآمالَ في الوطنِ تائهةٌ، وهنا مَكمَنُ مُعطياتِ الحزنِ وانفعالاتِهِ الّتي تتساكبُ كانسكابِ وسقوطِ حبّاتِ المطر، و"أمّا النّسق الموسيقيّ فيُؤكّد القائلون بجوهريّتِهِ: أنّ أهمّيّةَ الحداثةِ الشّعريّةِ تَكمُنُ في خروجِها على نظامِ البيتِ الشّعريّ الكلاسيكيّ القائمِ على تفعيلاتٍ مُحدّدةٍ سلفًا. هذا البيتُ الّذي يُشكّلُ أساسَ القصيدةِ العربيّةِ موسيقيًّا، والّذي يُحيلُ على نمطيّةٍ عَروضيّةٍ، لم تَعُدْ تتلاءمُ والذّوق المعاصر مِن جهة، ولم تعُدْ تتلاءمُ وطبيعة الانفعال الشّعريّ مِن جهةٍ ثانية، بحيث يَصحُّ التّوكيد، بحسب هذا النّسق، أنّ الخروجَ على ذلك النّظام، هو في ذاتِهِ، دخولٌ في الحُرّيّة الّتي تُميّزُ التّجربةَ الشّعريّة، ومِن دونِهِ لن يتمكّنَ الشّاعرُ العربيُّ مِنَ التّعبيرِ عن تجربتِهِ بالشّكلِ الأمثلِ". (3)
"يَتعَفَّرُ بِغُموضِ حَوّاء": كنايةً عن الغموضِ الّذي يلفُّ الوطنَ، ويعصفُ بالمواطنِ في الضّياع والتّيه.
"وفي تَعاريجِ التّيه بِكِ.. أَحْمِلُني ظِلالًا شَارِدَةً": تزخرُ كلماتُ النّصِّ بالفقدِ والضّياع والتّيه وغموضِ المستقبل، في نحو: تعاريج، التّيه، شاردة، وفي السّطر السّابق: يتعفّر، غموض.. الخ.
"تَتشاسَعُ": يتكرّرُ صوتُ الصّامت التّاء، والتّكرارُ يولدُ إيقاعًا في النّصّ، كما أنّهُ يُصوّر التّجربة الشّعوريّة الّتي تسيطرُ على الشّاعرة، والصّيغةُ هنا تدلُّ على التّدرّجِ والزّيادةِ في التّيه والضّياع، ويُضفي صوتُ التّاء خصائصَهُ الصّوتيّةَ على النّصّ، فهو مهموسٌ يُلائمُ الإطارَ النّفسيَّ للشّاعرةِ في موضوعِ الوطن، وهو رقيقٌ يُناسبُ رقّةَ أماني الشّاعرةِ وحُلمِها، مُفعمةٌ بكلّ معاني الحبّ والإخلاصِ له، ولعلّ تكرارَ حرفِ التّاء قد أضفى على السّطر جِرسًا موسيقيًّا، وحقّقَ إيقاعًا وتلوينًا صوتيًّا خاصًّا.
ليس هذا فحسب، بل إنّ التّاء الانفجاريّةَ الشّديدةَ تُلائمُ حالةَ الضّياع، فهي تُلائمُ بصوْتِها وتكرارِها الهادر ما يعتور النّفس من معاني الغضب والشّدّة، كما لاءمتْ همساتُ العشق للوطن، وتُضفي جوًّا من الإيقاعاتِ الصّوتيّةِ الملائمةِ للنّفس البشريّةِ الهائجة، وتُناسبُ العنفوانَ والكبرياءَ الّتي تحسّ بها. لهذا؛ فإنّ صوتَ التّاء يُلائمُ معظمَ الموضوعاتِ الشّعريّةِ الّتي تَناوَلَها شعراءُ العربيّة، وتُناسبُ النّفسَ البشريّةَ في هدوئِها وتمرُّدِها.
يقول كولردج: "إنّ مصدرَ الوزنِ في الشّعرِ حالةٌ مِنَ التّوازن، تَنتجُ مِنَ انطلاقِ الانفعالِ وجُهدِ الشّاعرِ جهدًا تلقائيًّا للسّيطرةِ على الانفعال. وهي حالةٌ تُديمُ الصّراعَ الّذي يُولّدُها، وتُحيلُ الوزنَ إلى عاملِ نُموٍّ عضويٍّ يتّحدُ بلغةِ الانفعالِ الطّبيعيّة، وهي لغةُ التّعبيرِ بالصّور"(4). 
"أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ .. في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ/ وَعَلى إيقاعِ جِهاتِكِ/ مُتَماهِيًا بِي .. يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!": كنايةً في كلٍّ عن التّيهِ والضّياعِ والألفاظِ دالّة على المعنى في مثل: أطارد، مسافات، متسافكة، انعطافات، جهات، يشاكس، ونلحظُ معانقةَ الزّمانِ للمكانِ في هذه السّطورِ، وتَبرزُ الحركةُ والصّوت وما يعتري النّفس والرّوح من أحاسيسٍ وقلقٍ..، ولقد تكرّرَ صوتُ الكاف في هذه السّطور خمسَ مرّات، وتكرار الحرف "يُحدثُ نغمةً موسيقيّةً لافتةً للنّظر، لكنَّ وقْعَها في النّفس.. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ تكرارَ الصّوتِ يُسهمُ في تهيئةِ السّامع، للدّخولِ في كُنْهِ ولُبِّ الكلمةِ الشّعريّة.
"وتكرارُ صوتُ الكاف في المقطع الشّعريّ- يُحدثُ إيقاعًا نغميًّا ( تناغميًّا)، موقِظًا للدّلالةِ، وباعثًا لحراكِها الجماليّ، بوصْفِهِ مركز ثِقل الصّورِ الشّعريّة، ومحرّك حركتها وجذرها الّذي ترتكز عليه، فالشّاعرةُ إذًا؛ وَجدَتْ في هذا التّكرارِ صورةً من صورِ التّلاحمِ والتّضافرِ الفنّيّ في هذه القصيدة، ليُدلّلَ على إحساسِهِ الغزليّ الشّفيف، وصُورِهِ الرّومانسيّةِ المُتلاحمةِ الّتي تتقطّرُ حساسيّةً ورؤية، وهذا التّكرار-من شأنه- أن يرفعَ وتيرةَ الإيقاع/ والموسيقى الصّوتيّة، إثرَ تتابُعِ التّكرارِ تتابُعًا فنّيًّا موحِيًا؛ وقد عمدَ الشّعراء إلى هذا الأسلوب، ليُمتّنوا أواصرَ القصيدة، وليُحقّقوا تناغُمَها وتَلاحُمَها الفنّيّ. (5)
هذا التّكرارُ مِن أبرزِ مَهامِّهِ ووظائفِهِ الفنّيّةِ أنّه "يُحقّقُ في النّصّ الشّعريِّ الواحدِ دلالاتٍ مُختلفةً، تَتمثّلُ في مَقدرتِهِ على جمْعِ ما تَفرّقَ مِن المَقاطعِ الشّعريّة، انطلاقًا مِنَ المُعطياتِ الصّوتيّةِ الّتي تُكسبُ- بتكرارِها- النّصَّ الشّعريَّ بناءَهُ العامّ. وكذلك، فإنّ تكرارَ المقطعِ يُشكّلُ نقطةَ ارتكازٍ نغَميٍّ يُوقفُ جريانَ الإيقاع، بهدفِ التّركيزِ على نغمةٍ مُعيّنةٍ، مُوظّفةً أساسًا لتأديةِ الدّلالة الّتي تَفرضُها التّجربةُ الشّعريّة، والمُهمّ في هذا التّكرارِ أن يُؤدّي وظيفةً فنّيّةً ما، تنعكسُ على القصيدةِ ودلالاتِها كافّة."(6).

أمّا تكرارُ صوتيّ الرّاء أربع مرّات، والياء صوت المدَ مرّتيْن في كلمتيْ: "حَرير" و "خَريرِكِ"، فلهُ تأثيرٌ في تحويلِ اللّفظِ إلى صورةٍ مرئيّة، ولصوتِ الرّاء تماثلٌ للصّور المرئيّةِ الّتي فيها تأرجُحٌ، فقد استخدَمَتْها الشّاعرةُ هنا، لتُناسبَ الشّعورَ النّفسيَّ للإنسانِ الخائفِ مِنَ التّيهِ والضّياعِ غالبًا، وتنقلَهُ حينًا بشعورٍ بالأمل، وما يجري مِنْ سلبٍ للوطن، فالخوفُ يُصاحبُهُ اضطرابٌ، بل رعشةٌ يمكنُ تَجسيدُها وإظهارُها واضحةً، إذا ما ذهبْنا بخيالِنا إلى تأرجُحِ الجسمِ وعدمِ استقرارِهِ، وهو ما يُوحي بهِ صوتُ الراء هنا، وما فيهِ مِن تفصيلٍ وحركةٍ وتأرجُح.
تقول في المقطع الثاني:
"دُونَكِ.. يُنادِمُني كأْسُ النُّدَمَاء/ يَلْهَثُ وَفاءُ المَواعيدِ الجَوْفاء/ يَئِنُّ بُسْتانِيَ ظامِئًا/ يَعْوي الصّمت في قَفصِ جُوعِهِ/ يَتذاءَبُ.. يَتَوَعَّدُ حُملانَ حَكاياكِ/ يَ تَ هَـ جَّ ى .. أَنّاتِ آهاتِيَ التّائِهَةِ!"
"دُونَكِ.. يُنادِمُني كأْسُ النُّدَمَاء": كنايةً عن السّعادة عدا ما يحصلُ في الوطن، وتتلاعبُ الشّاعرةُ بالألفاظِ كما في كلمتي: "يُنادمُني" و"النّدماء"، لخلقِ إيقاعٍ موسيقيٍّ عن طريقِ تكرارِ بعضِ الأصواتِ، وفي هذا المقطعِ تتكرّرُ أفعالُ المضارعة في نحو: يُنادمُني، يَلهثُ، يئِنُّ، يَعوي، يتذاءبُ، يتوعّدُ، وتكرارُها يُفيدُ الاستمراريّةَ والتّجدّدَ.. استمراريّةَ المأساةِ وتَجدُّدَها في روْعِ الشّاعرة.
"يَلْهَثُ وَفاءُ المَواعيدِ الجَوْفاء":
كنايةً عن مواعيد عرقوب لا تُنفّذ للفلسطينيّين. وفي السّطرِ انزياحاتٌ وصورٌ شعريّة، فللمواعيدِ وفاءٌ، وتَلهثُ كما الإنسانُ المُتعبُ، والمواعيدُ فارغةٌ كما الأوعية.
"يَئِنُّ بُسْتانِيَ ظامِئًا":
وفلسطين لجَمالِها كأنّها بستانٌ، والبستانُ بجَمالِهِ ونضارتِهِ كما الكائنُ الحيّ لهُ أنينٌ مِنَ الوجعِ ممّا يحصلُ، وهو عليلٌ مُتعطِّشٌ بفِعلِ الظُّلم.
"يَعْوي الصّمت في قَفصِ جُوعِهِ/ يَتذاءَبُ.. يَتَوَعَّدُ حُملانَ حَكاياكِ/ يَ تَ هَـ جَّ ى.. أَنّاتِ آهاتِيَ التّائِهَةِ!":
الصّمتُ لا ينطقُ، لكنّهُ لهوْلِ المَصابِ يَعوي ويَصيحُ، وتُصوّرُهُ الشّاعرةُ كالحيوانِ في قفصِ الصّيّادِ يُعاني شدّةَ الجوع، والصّمتُ يَذوبُ قلقًا ويَتوعَّدُ، والحكايا تتوعَّدُ حُملانَ الضّأن، وللخطايا حُملان.. صورٌ شعريّةٌ وانزياحاتٌ جماليّة، والصّمتُ يتهجّى حروفَ المآسي، وآهاتُ الشّاعرةِ تتوهُ في عتمةِ الفقدِ والضّياعِ في مَلهى وطنٍ يضيعُ. وتُدركُ الشّاعرةُ أنّ بناءَ القصيدةِ يحتاجُ إلى وعيٍ جماليٍّ في التّشكيل النّصّيّ، وهذا البناءُ الهندسيُّ يأتي دقيقًا وليس عشوائيًّا، بل يأتي ليكشفَ عن لذّةٍ معرفيّةٍ وجَماليّةٍ في التّشكيل.
"ولمّا كانتِ القصيدةُ بنيةً موسيقيّةً مُتكاملةً، كانَ مِن الطّبيعيّ أن تلتفتَ الشّاعرةُ في تَشكيلِها لهذهِ البنيةِ إلى العناصرِ الّتي تُحقّقُ الانسجامَ بينَ مُفرداتِها، فعمليّةُ التّشكيلِ الّتي تقومُ بها الشّاعرةُ في القصيدةِ عمليّةٌ مُعقّدةٌ غايةَ التعّقيد؛ لأنّها تأخذُ في الاعتبارِ الأوّلِ، أن تكونَ القصيدةُ- مَهما طالت- هي الوحدةُ الفنّيّةُ الّتي تَعملُ في داخلِها أشتاتٌ مِن المفرداتِ والدّقائق"(7).
وتشدو في المقطعِ الثّالث: "كَيفَ أَجْتَرِحُ لَحَظاتِكِ اللاّزوردِيَّةَ/ ومَلَكُوتُ صَمْتِكِ يَعْتَلي عَرْشِيَ المُجَنَّح؟/ أَمْضي إِلَيْكِ ضارِعًا/ تُرْبِكُني خُطُواتُ خَيالي.. أَقْتَفي ظِلالَ الفَرَح إِلَيْكِ/ أَتَوَكَّأُ عَلى.. أَنْفاسِ حُروفِيَ العَرْجاء/ أَيْنَكِ تُرَمِّمينَ قِبَبَ عَتَماتي؟/ أَيْنَكِ تُغَبِّطينَ مُهْرَ حَرْفِيَ المَوْلودَ بِكِ؟"
"كَيفَ أَجْتَرِحُ لَحَظاتِكِ اللاّزوردِيَّةَ": فاللّحظاتُ لها مشاعرُ تُجْترحُ، ولها لونٌ لازورديٌّ جميلٌ كلونِ السّماء الصّافية.
"ومَلَكُوتُ صَمْتِكِ يَعْتَلي عَرْشِيَ المُجَنَّح؟!": وللصّمتِ ملكوتٌ صامتٌ يُعتلى، وللشّاعرةِ عرشٌ مُجنَّح.
"أَمْضي إِلَيْك ضارِعًا": وتتضرَّعُ الشّاعرةُ لخالقِها، بأنْ يُزيلَ عنها لجّةَ الضّياعِ والتّيهِ، وأن يعودَ الوطنُ لسابقِ عهدِهِ وازدهارِهِ وحُرّيّتِه.
"تُرْبِكُني خُطُواتُ خَيالي.. أَقْتَفي ظِلالَ الفَرَح إِلَيْكِ":
والخيالُ يمشي ويَسيرُ ويَخطو، وللفرحِ ظلالٌ كظلالِ الأشجار. والسّطرُ كنايةً عن تَطلُّعِ الشّاعرةِ بالأمل.
"أَتَوَكَّأُ عَلى.. أَنْفاسِ حُروفِيَ العَرْجاء": وقد ذكرتِ الشّاعرةُ الحروفَ وهي الجزءُ، وأرادتْ بهِ الكلامَ وهو الكلّ، مَجاز مرسل علاقته الجزئيّة، وتتوالى الصّورُ الفنّيّة والانزياحات، فللحروفِ أنفاسٌ يُتكأُ عليها كما العكّاز، وللحروفِ أرجلٌ لكنّها عرجاء.
"أَيْنَكِ تُرَمِّمينَ قِبَبَ عَتَماتي؟/ أَيْنَكِ تُغَبِّطينَ مُهْرَ حَرْفِيَ المَوْلودَ بِكِ؟":
وقد أسندتِ الشّاعرةُ كافَ المخاطبةِ لاسم الاستفهام أين، وللعتماتِ قببٌ كما المساجدُ والمَزارات، وكأنّي بالشّاعرة تُخاطبُ نفسَها، أو أنّها تتخيّلُ شخصيّةً أخرى كعادة الشّعراءِ القدامى، تبثُّها وجعَها وأحلامَها وأمانيها، وتتكرّرُ لفظةُ "أينكِ" وكأنّها تريدُ أن تقول: أينَ أنتِ لتُرمّمي ضياعَ فكري، لأسوغَ بأفكاري أشعارًا في بكاءِ الوطن؟
في هذه السّطور خاصّةً والنّصّ عامّةً، نجد أنّ الصّورةَ الفنّيّةَ تبرزُ بقيمتِها الجَماليّةِ وحُسنِ الاختيار، وبلاغةِ المعنى الشّعريّ والتّصويرِ والتّجسيدِ، وهذا يَدلّنا على "أنّ أيّ عدَمِ توازنٍ أو خللٍ بينَ العناصرِ اللّغويّةِ والتّصويريّة والإيقاعيّة، سيُخفّفُ مِن شعريّةِ الخطابِ وتَفرُّدِهِ، إذ إنّ شعريّتَهُ تنبعُ مِن تَعانُقِ التّراكيبِ المميّزةِ معَ العناصرِ الأخرى؛ والمبدعُ الحاذقُ هو الّذي يُسخّرُ إمكانيّاتِ اللّغة ويتلاعبُ بتراكيبِها، ممّا يمنحُ نصَّهُ خصوصيّةً شعريّةً، تجعلُهُ يتميّزُ عن غيرِهِ مِن النّصوص". (8).
في المقطع الرابع:
"مِنْ خَلْفِ حِجابِ السَّمَواتِ/ نَجْمِي السَّاهي يَتَلَصَّصُ.. يُنَجِّمُ مَناجِمَكِ الجاثِمَةَ بِكُهوفي/ يُعَرّي بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ.. ياقوتَكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ/ مَن ذا الأَباحَكِ بي؟/ يا خَميرَةَ زَمانِيَ الآثِم/ تَعْجِنينَ دَقيقَ حاضِري بِماءِ الماضي/ تُسَوِّينَ بَشَوْبَكِ صَفائِكِ أَقْراصَ قُرْباني/ تُخَمِّرينَ خُبزَ خَيالاتي بِمَتاهاتِ طُهْرِكِ/ وَفي خِلوَةِ سُهْدِي.. أَتْلوني قَصائدَ وَداعَةٍ/ عَلى عَتَباتِ مَراياكِ!"
"مِنْ خَلْفِ حِجابِ السَّمَواتِ/ نَجْمِي السَّاهي يَتَلَصَّصُ.. يُنَجِّمُ مَناجِمَكِ الجاثِمَةَ بِكُهوفي": كنايةً في كلٍّ عن تَرقُّبِ الشّاعرةِ بانزياحِ الغمّةِ والهموم عن الوطن الذّبيح.. وتُتابعُ اللّغةَ الشّعريّةَ المتمثّلةَ بمختلفِ الانزياحاتِ والصّور الفنّيّة، فللسّمواتِ حُجُبٌ، والنّجمُ يَسهو ويَتلصّصُ كما الإنسان، وللشّاعرة كهوفٌ، وتتلاعبُ الشّاعرةُ بتكرارِ الحروفِ في كلمتيْ "يَنْجُم" و"مَناجم" لتوليدِ إيقاعٍ موسيقيّ.
"يُعَرّي بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ.. ياقوتَكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ":
وفي السّطرين انزياح في التّقديم والتّأخير، فالأصل: "يُعَرّي ياقوتكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ.. ": فقد قدَّمتِ الشّاعرةُ ما حقّهُ التّأخير، وهو شبه الجملة "بزمرّد لحظه" على "ياقوتُك"، والسّطرُ كنايةً عن بعضِ الأملِ الّذي يَحلمُ بهِ الفلسطيني.
"مَن ذا الأَباحَكِ بي؟/ يا خَميرَةَ زَمانِيَ الآثِم": وتنتقلُ الشّاعرةُ في هذيْنِ السّطريْنِ إلى الأسلوبِ الإنشائيّ، فالاستفهامُ يُفيدُ التّعجّب، وفي السّطرِ الأوّل هنا انزياحٌ بالحذفِ، يُفيدُ إثارةَ المُتلقّي وتوليدَ الدّهشةِ في نفسِه "من ذا الأباحكِ"، والتّقدير "مَن ذا الّذي أباحَكِ"، وللخميرةِ زمانٌ آثِم.
"تَعْجِنينَ دَقيقَ حاضِري بِماءِ الماضي": وفي هذا السّطرِ تتشابكُ الأفعالُ معَ كلّ الأزمنةِ؛ ماضيًا وحاضرًا ومُستقبلًا.
"تُسَوِّينَ بَشَوْبَكِ صَفائِكِ أَقْراصَ قُرْباني/ تُخَمِّرينَ خُبزَ خَيالاتي بِمَتاهاتِ طُهْرِكِ/ وَفي خِلوَةِ سُهْدِي.. أَتْلوني قَصائدَ وَداعَةٍ/ عَلى عَتَباتِ  مَراياكِ!":
فالشّاعرةُ كأنّها تبثّ لوعتَها وضياعَها وتيهَها لصديقةٍ تُخاطبُها، وتَشكوها حالةَ الضّياعِ والتّيهِ والغموضِ الّذي لفَّ أشرعةَ الوطن، كما أنّه يُحيطُ بفؤادِها، فكأنَّ الوطنَ دقيقٌ يُعجَنُ ويُخمَّرُ ويُخبَزُ ويُؤكَلُ فيتبخر.. وفي هذا المقطعِ تَتكرّرُ أفعالُ المضارعة الّتي تفيدُ استمرارَ المأساةِ وتصويرِها، مأساة الشّاعرة والوطن، ومِن الأفعال المضارعة في هذا المقطع: يَتَلَصَّصُ، يُنَجِّمُ، يُعَرّي، تَعْجِنينَ، تُسَوِّينَ، تُخَمِّرينَ، أَتْلوني...
تتابع الشّاعرة شدوها في المقطع الخامس: "دُورِيُّ أَنا مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ!/ أَسْرابُ أَنفاسِكِ تُلاغِفُ أَرْياشي/ تَغْمِسُ شَمْعَ جَناحَيَّ بضَوْءِ شِعْرِكِ النَّدِيِّ/ وتُعَشِّشينَ فِراخَ جَمْرٍ بِفُسَيْفِساءِ أُوَيْقاتي/ أَيا ريشَةَ شعريّ الأَخَفَّ مِنْ ريشِ الهَباءِ!/ مَا جَدْوايَ مِنْ أَرْياشِ الذّهب/ وَحُجُبُ سَديمِكِ بَتَرَتْ مِنْقارِيَ/ والقَلبُ كَسيرٌ.. أَسيرُ أَثيرِكِ؟"   
"دُورِيُّ أَنا مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ!": كنايةً عن التصاق الشّاعرة بالوطن، كما طائر الدّويري لا يغدرُ مسكنَهُ الّذي ألِفَهُ. وضميرُ الفصلِ "أنا" جاءَ لتأكيدِ المعنى. وفي عبارة "مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ! " انزياحٌ إضافيّ.
"أَسْرابُ أَنفاسِكِ تُلاغِفُ أَرْياشي": وفي السّطرِ انزياحاتٌ إضافيّة متعدّدة، فقد أسندتِ الشّاعرةُ اللّغفَ وهي بمعنى اللّعق والتّقبيل للأنفاس، وجعلتِ الرّيشَ يٌقبِّلُ كما المحبوب، وللأنفاسِ أسرابٌ كما للطّيور.
"تَغْمِسُ شَمْعَ جَناحَيَّ بضَوْءِ شِعْرِكِ النَّدِيِّ": صورٌ فنّيّةٌ مُتتابعةٌ، فللجَناحيْن شمعٌ يَغمسُ، وللشّعرِ ضوءٌ مُتوهّجٌ..
"وتُعَشِّشينَ فِراخَ جَمْرٍ بِفُسَيْفِساءِ أُوَيْقاتي": ويتكرّرُ صوتُ الشّين ثلاثَ مرّاتٍ في كلمةِ "وتُعَشِّشينَ"، كما يتكرّرُ صوتُ السّين في كلمة "بِفُسَيْفِساءِ" مرّتيْن، وصوتُ  الصّامت الواو مرّتيْن في كلمتيْ "أوقاتي" و"أُوَيْقاتي"، وصوتُ التّاء يتكرّرُ في السّطر ثلاثَ مرّاتٍ، كلّ ذلك؛ لتوليدِ إيقاعٍ عذبٍ في خلايا النّصّ، إضافةً للصّورِ الشّعريّة؛ فللجمرِ فراخٌ تُعشّعشُ كما الطّيور، وللفسيفساءِ أويقاتٌ وأوقات...
"أَيا ريشَةَ شعري الأَخَفَّ مِنْ ريشِ الهَباءِ!": وتنتقلُ الشّاعرةُ لأسلوبِ الإنشاءِ، والنّداء يُفيدُ التّحبّب، وتتعاقبُ الصّورُ الشّعريّةُ وتتوالى الانزياحاتُ، فللشّعرِ ريشةٌ كما الطائر، وللهباءِ ريش.
"مَا جَدْوايَ مِنْ أَرْياشِ الذّهب": الاستفهام يفيد النّفي، فأرياش الذّهب لا تفيدُ الشّاعرةَ شيئًا في تيهِها وضياعِها، وفي جوّ الغموضِ الّذي يلفُّ مستقبلَ وحاضرَ الوطن.
"وَحُجُبُ سَديمِكِ بَتَرَتْ مِنْقارِيَ": تزخرُ الألفاظُ الّتي استمدّتْها الشّاعرةُ مِن مُعجمٍ يوحي بالضّعف والانكسار في هذا المقطع، في نحو: ريش وأرياش، ومنقار وتعشيش، وفراخ وجناح، وأسراب وبترت، وفي السّطورِ التّالية ألفاظ: أسير وكسير وبترت، وعبارة مقصوص الجناح، وكفيفة وعتمةوغيرها، وكلّها تدلُّ على الضّعف، ضعف الطائر المرهون أمره للصّيّاد، فالطائرُ هنا يرمزُ لوداعةِ وضعف الفلسطينيّ وجَمالِ روحه، وتطلُّعِهِ للحُرّيّة والانعتاق.. والسّطرُ هنا كنايةً عن واقع الفلسطينيّ المُرّ.
"والقَلبُ كَسيرٌ.. أَسيرُ أَثيرِكِ؟":
 كنايةً عن واقعِ الفلسطينيّ المُرّ وضعفِهِ وهَوانِه.
في المقطع السّادس: "كَيْفَ أُحَلِّقُ بِقَلْبِيَ مَقْصوصَ الجَناحِ/ إِلى أَسْدافِ قُدْسِكِ؟/ كَيْفَ وَعُيونُ حَرْفِيَ المُقَنَّعِ كَفيفةٌ/ تَتَوارى في عَتْمَةِ دُواتِكِ؟"
"كَيْفَ أُحَلِّقُ بِقَلْبِيَ مَقْصوصَ الجَناحِ":
تستهلُّ الشّاعرةُ نصَّها بالأسلوبِ الإنشائيّ، والاستفهامُ يفيدُ التّعجّب، فهي تتعجّبُ مِن أن يُحالفَها الأملُ، في ظلِّ واقعٍ كسيفٍ جاءَ لصالحِ المُحتلّ، وعبارةُ "مَقْصوصَ الجَناحِ": كنايةً عن الهوانِ الّذي لحقَ بفلسطين وبقلب الشّاعرة، وما رافقَهُ مِن تيهٍ وضياعٍ وحيرةٍ وقلق.
"إِلى أَسْدافِ قُدْسِكِ؟":
كنايةً عن الظُّلم والظُّلمة اللّذيْن حاقا بمدينة القدس، وعن تَوالي نكباتها وما يُفرَضُ عليها من صفقةِ القرن.
"كَيْفَ وَعُيونُ حَرْفِيَ المُقَنَّعِ كَفيفةٌ":
والاستفهام يفيد التّعجّب، فالشّاعرة تتعجّبُ مِن وصول الفرح لقلبها؛ فأسبابُ الفرح مَعدومة، وفي السّطر مَجازٌ مُرسل علاقته الجزئيّة، ذكرت الشّاعرة الجزء وهو الحَرف، وأرادتْ به الشّعر والكلام "الكلّ". فللحرفِ عيونٌ ويُقنَّع ويُصيبُه العمى.. صورٌ شعريّة وانزياحاتٌ تُثيرُ خَلَد المُتلقّي.
"تَتَوارى في عَتْمَةِ دُواتِكِ؟": كنايةً عن الظُّلمة والضّياع الّذي يحيط بقلب الشّاعرة.
وتنشد في المقطع السابع:
"أَيا إِلهامِيَ الأَضْيَعَ مِنْ سِراجٍ في شَمْسٍ!/ أَقْفاصُ صَدْري مَجْبولَةٌ بِطينِ اليَبابِ/ كُلَّما لَمْلَمْتِ أَكْوامَ رَحيلِكِ الكافِرِ.. تَرْتَجِفُ عَصافيرُ القَلْبِ/ تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ/ فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني.. ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني/ علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي/ ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ.. عَلى جَبيني!"
"أَيا إِلهامِيَ الأَضْيَعَ مِنْ سِراجٍ في شَمْسٍ!": وتستمرّ الشّاعرةُ في توظيفِها للأسلوب الإنشائيّ، والنّداءُ يفيدُ الحزنَ، والسّطر كنايةً عن تمادي التّيهِ والضّياع اللّذيْن يغزوان قلبَ الشّاعرة.
"أَقْفاصُ صَدْري مَجْبولَةٌ بِطينِ اليَبابِ": فلليباب والخراب طينٌ، ولقلب الشّاعرة أقفاصٌ تُجبَلُ بطين الخرابِ والضّياع والفقد والحيرةِ والقلق.
"كُلَّما لَمْلَمْتِ أَكْوامَ رَحيلِكِ الكافِرِ.. تَرْتَجِفُ عَصافيرُ القَلْبِ/ تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ/ فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني.. ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني/ علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي/ ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ.. عَلى جَبيني!":
"كلما" ظرف يفيد التّكرار وغالبًا ما يكون جوابها فعل ماض، والسّطر كنايةً عن تمسك الشّاعرة بالوطن، وكنايةً عما تشعر فيه بالغربة والضّياع، وقد اختارت الشّاعرة ألفاظها من معجم يوحي بالضّياع في هذا المقطع: لَمْلَمْتِ، أَكْوامَ، رَحيلِكِ، الكافِرِ، اليباب، تَرْتَجِفُ، تُوقِدينَ، جَذْوَةَ، اللَّهَبِ، فَاُحْطِبي، أَعِينيني، لاَ تَحْطِبي، عَليّ،َ تُهْلِكيني، تعويذة، الفقد..
"تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ":
كنايةً عمّا يختلجُ قلبَ الشّاعرةِ مِن حرقةٍ وألَم.
"فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني.. ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني": كنايةً عن الشّدّةِ والغربةِ والضّياع، وما تشعرُ بهِ الشّاعرةُ في وطنِها، والأمرُ يُفيدُ التّضرّعَ والدّعاء.
"علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي": انزياحٌ بالحذف، فأصْلُ "علّ" هو "لعلَّ"، والسّطرُ كنايةً عن تمنّي الشّاعرة أن تتخلّص من حالةِ الضّياع المسيطرةِ على روحِها ووجدانِها.
"ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ.. عَلى جَبيني!": كنايةً عن الرّحمةِ في المصيبةِ الّتي تعصفُ بالشّاعرة، فللفقدِ غرّةٌ كما للإنسان، وقد ذكرت الشّاعرة "غرّة الجبين"، وهي الجزء وأرادتْ بها نفسها، مجاز مرسل علاقته الجزئيّة.
"إنّ البلاغةَ الجديدةَ بلاغةُ "الصّورة الشّعريّة"، تُعَدُّ أوسعَ نطاقًا وأخصبَ مِن مُجرّدِ التّشبيهِ أو الاستعارة، وإن أفادتْ منها"(9)
تستمر الشّاعرة في نصّها في المقطع الثامن: "كَمْ هِيَ وارِفَةٌ فُصولُ وقْتِيَ العاري/ حِينَما تَفِرُّ الحُدودُ التَتَشابَحُ/ وَتَنْسَلِّينَ مِنْ ظِلالِ الظُّلماتِ النَّاعِسَةِ/ بُشْرَى مَسَرَّةٍ/ حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ/ تَسْرَحُ قُطعانُ آمالي في واحةِ بَوْحِي/ لأَتَواثَبَ فوْقَ خَرائِطِ الدّهشة!"
"كَمْ هِيَ وارِفَةٌ فُصولُ وقْتِيَ العاري/ حِينَما تَفِرُّ الحُدودُ التَتَشابَحُ": و"كم" هنا للتكثير، والسّطران كنايةً عن عبءِ الحالةِ النّفسيّةِ المُتردّيةِ للشّاعرة، بسببِ ما يَمرُّ به الوطنُ مِن مِحَن، وتتزاحمُ  الصّورُ الشّعريّة، فللوقتِ فصولٌ تمتدُّ وتطولُ، وأوقاتُ الشّاعرةِ تتعرّى كما يتعرَّى الإنسان، وهنا انزياحٌ بالحذف في كلمةِ "الْتَتَشَابَحُ"، والتّقدير "الّتي تتشابح"، والحدودُ تفرُّ كما يفرّ الطّريد، وهنا ذكرت الشّاعرة "الحدود" وأرادتْ مَن يعيشُ فيها، مَجاز مرسل علاقته المكانيّة.
"وَتَنْسَلِّينَ مِنْ ظِلالِ الظُّلماتِ النَّاعِسَةِ": وتستمرُّ الشّاعرةُ في بوْحِها لصديقةٍ ترتاحُ لها، قائلة لها بأنّها تنسلّ مِن ظلماتِ المِحنِ والتّيه، والغموض الّذي يُخيِّمُ على الوطن أو روح الشّاعرة، وللظلمات ظلالٌ  كما الأشجار، والظّلالُ يَجتاحُها النّعاسُ كما يجتاحُ البشر.
"بُشْرَى مَسَرَّةٍ/ حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ": وهنا انزياح بالحذف، المتمثّل في حذف جواب الشّرط، والتّقدير: "بُشْرَى مَسَرَّةٍ"/: "حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ بُشْرَى مَسَرَّةٍ " فللروح أيائل كما للغابات..
وفي عبارة "أيائل روحي": كنايةً عن جمالِ روحِ الشّاعرة، رغمَ ما يعصفُ بها مِن ضبابيّةٍ ومِن مِحَن.
"تَسْرَحُ قُطعانُ آمالي في واحةِ بَوْحِي/ لأَتَواثَبَ فوْقَ خَرائِطِ الدّهشة!":
كنايةً في كلٍ عن الأملِ الّذي تشعرُ بهِ الشّاعرة أحيانًا، عندما تُحسُّ ببارقِ أملٍ في حدوثِ التّحرُّرِ والانعتاق. وفي السّطريْن تتوالى الانزياحاتُ والصّورُ الفنّيّة: فللأمالِ قطعانٌ كقطيعِ الأغنام تسرحُ وتَمرَحُ، وللشّاعرةِ واحةٌ، والواحةُ تبوحُ وتتكلّمُ كما الإنسان، وللدّهشةِ خرائط. "فالشّعراءُ المميّزونَ هُم الّذين ينسجونَ الصّورَ الجديدةَ مِن  المعاني المُجدَّدة؛ إمَّا بإعادة صياغة التَّراكيب- مَهما كانت درجتُها مِن حيث الاعتياديّة أو الرّداءة- عبر تكوين علاقاتٍ غيرِ مألوفة سلفًا، حيث إنَّ مُهمّةَ الشّاعر أن يُحسنَ صياغتَها، ويُخرجَها في صورةٍ جميلة". (10)
وتستمر الشّاعرة في نصّها في المقطع الثامن: "مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ/ حينَما غُصونُ حَرْفي.. تَميدُ بِكِ/ حِينَما تَتَبَخْتَرُ بِغَنَجِها.. تَتَمَايَلُ بِدَلالِكِ/ تَتَوارَفينَ عُرى لِقاءٍ/ حِينَما تَلُفِّينَ بِاخْضِرارِ زَفيرِكِ شِغافَ شَهِيقي/ تَشْرَئِبُّ أَعْناقُ العِناقِ مُزاحِمَةً/ وَ أَ تَ فَ تَّ تُ.. عَلى أَعْتابِ أَنْفاسِكِ".
"مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ":
كنايةً عن فرح الشّاعرة بوطنِها حينما تتغنّى به، والصّورُ الشّعريّة تتوالى، فلفرح الشّاعرةِ عرائسُ تميسُ وتتمايلُ طربًا، وفي القصيدة عامّةً وفي هذا المقطع خاصّة، تتعاقبُ الصّورُ الشّعريّة "إنّ الشّعرَ العذبَ الّذي يُشنَّفُ الأسماعَ، ويُسكرُ الألبابَ ويأخذ بمجامع القلوب، هو الشّعر الّذي يَموجُ موجًا بالصّور الشّعريّةِ الحافلةِ الّتي تشكّلُ نواةَ القصيدة، فالشّاعرُ المُتصرّفُ في فنونِ الشّعر، والّذي يتّسمُ شِعرُهُ بدقّةِ المعاني ولطافةِ التّخيّل وملاحةِ الدّيباجة، هو الشّاعر الّذي يدمغ شعرَهُ المهفهفَ في دخائل كلّ نفس، ويُوطّدُ دعائمَ أبياتِهِ المُطهّمةِ العتاق في مَدارجِ كلّ حِسّ، والأشعارُ الّتي تفتقدُ لهذه الصّورِ البديعة، يَتخطّفُها الموتُ ويكتنفُها الظلام، ولا يترنّمُ بها النّاسُ في دروبِ الحياةِ ومُتعرّجاتِها. لأجل ذلك أضحت الصّورةُ الشّعريّة هي جوهرُ الشّعر وأساسُ الحُكم عليه، ولقد اهتمَّ النّقّادُ بجانب التّصويرِ منذ قديم الأزل، وقدّموا جهودَهم في هذا الصّدد، وإن اقتصرتْ جهودُهم على حدودِ الصّور البلاغيّةِ كالتّشبيهِ والمَجاز، ولم تتعدّاها لتشملَ الصّورَ الذّهنيّة والنّفسيّة، والرّمزيّة والبلاغية الّتي تتبلورُ وتتناغمُ في وجدان الشّاعر. ولعلّ الحقيقةَ الّتي يجبُ عليّ بسْطُها هنا، أنّ الصّورَ الّتي يُعدُّها أصحابُ الحسِّ المُرهفِ أغلى مِن أقبيةِ الدّيباج المخوص بالذّهب، ليست قاصرةً على الشّعر، بل نجدُها منثورةً في حوايا النثر، والتفاتات أذهان كُتّابه. (11)
"حينَما غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ":
وفي السّطر انزياحٌ بالحذف، وهنا يظهرُ حرفُ الشّرط "حينما"، وفِعله "غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ"، ولجأتْ لحذفِ جواب الشّرط، والتّقديرُ "حينَما غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ".
"حِينَما تَتَبَخْتَرُ بِغَنَجِها.. تَتَمَايَلُ بِدَلالِكِ":
وتتكرّرُ "حينما" وهي اسمُ شرطٍ غير جازم بمعنى عندما، فغصونُ حروفِ الشّاعرة تتبخترُ في مِشيتِها، ولها غنجٌ كما العروس الّتي تتباهى في مِشيتِها ودلالِها. إنّها صورٌ فنّيّة حسّيّةٌ تتوالى..
"تَتَوارَفينَ عُرى لِقاءٍ": كنايةً عن انصهارِ القلمِ في التّعبير، وعن توَحُّدِهِ في الوطن وذوبانِهِ فيه. وفي عبارة "عرى لقاء" انزياحٌ إضافيّ يُولّدُ الإثارةَ في نفسِ المُتلقّي.
"حِينَما تَلُفِّينَ بِاخْضِرارِ زَفيرِكِ شِغافَ شَهِيقي": يتكرّرُ اسمُ الشّرطِ "حينما"، وتتعاقبُ الصّورُ الشّعريّةُ والانزياحاتُ: فللزّفيرِ لونٌ أخضرُ كالعشب، وللشّهيقِ شغافٌ كالقلب.
"تَشْرَئِبُّ أَعْناقُ العِناقِ مُزاحِمَةً": السّطرُ جوابُ الشّرط، وتتلاعبُ الشّاعرةُ في الألفاظِ بين كلمتيْ "أعناق" و"عناق"، لتوْليدِ إيقاعٍ جميلٍ في ثنايا النّصّ، فللعناقِ وللقاءِ أعناقٌ تتطلّعُ كأعناقِ الكائناتِ الحيّةِ وتتزاحمُ.
"وَ أَ تَ فَ تَّ تُ.. عَلى أَعْتابِ أَنْفاسِكِ": كنايةً عن شغفِ الشّاعرةِ بالكتابةِ عن الوطن وتعلّقِها به، واتّحادِ حِبرِها فيه وفي التّعبيرِ عنه. وجاءتِ الحروفُ مُتقطّعةً ليسهلَ تَغنّيها فيه. وتكرارُ حرف التّاء جاء ليفيدَ التّأرجُحَ ولتوليدِ الإيقاعِ في النّصّ.
ويتكرّرُ الفعلُ المضارعُ في هذا المقطع، ليفيدَ الاستمراريّةَ وبثّ الحياةِ في النّفس، وتكرارُ بعضِ الأصواتِ كصوت التّاء جاءَ لتوليدِ إيقاعٍ يسري في ثنايا النّصّ، في نحو: "تَميدُ، تَتَبَخْتَرُ، تَتَمَايَلُ، تَتَوارَفينَ، تَلُفِّينَ، وَ أَ تَ فَ تَّ تُ" و..
"إنّ الاختلافَ في التّعامُلِ معَ الأشياء، في شعر الحداثة، لا يُحيلُ على الاختلافِ في طبيعةِ التّحريضات الجَماليّةِ للأشياء، في الذّاتِ المُبدعةِ فحسب، بل يُحيلُ أيضًا على انتفاءِ النّمطيّةِ الواحدةِ أو المُوحّدةِ في الطّرحِ الفنّيّ. فعلى الرّغم من أنّ للحداثةِ وعيًا جماليًّا مُوحّدًا، إلّا أنّها لا تنطوي على نمطيّةٍ فنّيّةٍ واحدة، وما اشتمالُ الحداثةِ على عدّةِ تيّاراتٍ شعريّةٍ إلّا دليلًا على ذلك. صحيح أنّ هنالك نواظم مشتركة، ولكن هنالك أيضًا فوارقُ ملحوظة بين تلك التّيّارات، ولا شكّ في أنّ كلّ ذلك ينسجم ومفهوم الجمال الّذي يُشترطُ فيه التّميّز والحُرّيّة والحيويّة، بحسب الوعي الحداثيّ". (12)
وتقول في المقطع التاسع: "أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى/ حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ.. في فِخاخِ الانْتِظار/ وحُوريَّةُ الأَمْسِ تَسِحُّ.. مِنْ بَيْنِ أَصابعِ المُوسِيقا/ تَتَأبَّطُني مَغْمُورَةً بي.. تَطوووفُ.. دااااااائِخَةً/ تَحْمِلُ حُلُمي إلى مَعْمورَةِ هَذَياني/ هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ.. وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ/ لِنَتَوَشَّحْ بِفَرْحَةٍ تَهِلُّ ميلادَ أَحِبَّةٍ!/ رُحْمَاكِ/ هَيِّئيني بِكِ لِقُدْسِ الفَرَحِ/ لأَتَقَدَّسَ بِعِطْرِ زُهْدِكِ البَرِّيِّ!/ أَدْمَعُ! و.. أَدْمَعُ! وَ.. أَدْمَعُ!/ مَن ذا يَغْتَسِلُ بِدَمْعِ قَناديلِ هَوايَ إِلاَّكِ؟!/ مَن ذا يَبْتَلُّ بِوَهْجِ لَيالِيَّ العَذْراءَ كَماكِ؟!/ هيَ ذي تَرانيمي.. إِلَيْكِ تَتوبُ غَمامًا/ إعْزِفيني بِشارَةَ حُبٍّ/ كِرازةَ لِقاءٍ/ عَلى قيثارَةِ الفَجْرِ/ عَلَّ بَشاشَةَ الغِبْطَةِ.. تُطَوِّبُ مَباسِمَ مَواسِمي!" 
وفي هذا المقطع نرى عودةَ القوّةِ والأملِ لروح الشّاعرة، بعدَ أن سيطرَتْ على كيانِها حالةُ الضّياع والتّيه، فتنظرُ الآنَ للوطنِ نظرةً مِلؤُها الأملُ بتغييرِ الحالِ نحوَ الأفضل والأجمل:
"أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى": وللصُّبحِ أرصفةٌ كما للشّوارع مع إطلالةِ الأمل، والصُّبحُ يرمزُ للأملِ المُشرق. صورٌ شعريّة تتعاقبُ، "إنّ الصّورةَ في الشّعرِ لا تُفرضُ مِن الخارج، وليست زينةً أو حلية خارجيّة في القصيدة، بل جزءٌ مِن التّفكيرِ وطريقةِ التّعبير. ومن هنا، فالاستعارةُ أو التّشبيهُ أو الكنايةً أو غيرها من الوسائلِ البيانيّةِ والبديعيّة، ما هي إلّا طريقة للتّفكيرِ لا مجرّدَ أدواتٍ تزيينيّةٍ مُضافة للقصيدة (13).   
"حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ.. في فِخاخِ الانْتِظار": في السّطر انزياحٌ بالحذفِ المتمثّل في حذفِ جواب الشّرط، والتّقدير: "حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ .. في فِخاخِ الانْتِظار، أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى.
"وحُوريَّةُ الأَمْسِ تَسِحُّ.. مِنْ بَيْنِ أَصابعِ المُوسِيقا":كنايةً عن تحلّي الشّاعرة بالأمل في المستقبل؛ مستقبل الوطن وعودتِهِ ببهائِهِ وحرّيّتِهِ. وللموسيقى أصابعُ كما للشّخص. تصويرٌ وتجسيمٌ وبثُّ الحياة في المعاني.
"تَتَأبَّطُني مَغْمُورَةً بي.. تَطوووفُ.. دااااااائِخَةً": والحورية وهي رمز للجمال تعود لبحر فلسطين بكامل بهائها، تتأبط الشّاعرة وتطوف بها هائمة بالأمل.
"تَحْمِلُ حُلُمي إلى مَعْمورَةِ هَذَياني": كنايةً عن حلم الشّاعرة بالأمل وانتهائها من حقول التّيه والضّياع.
"هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ .. وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ/ لِنَتَوَشَّحْ بِفَرْحَةٍ تَهِلُّ ميلادَ أَحِبَّةٍ!/ رُحْمَاكِ/ هَيِّئيني بِكِ لِقُدْسِ الفَرَحِ/ لأَتَقَدَّسَ بِعِطْرِ زُهْدِكِ البَرِّيِّ!": كنايةً في كلٍّ عن حلمِ الشّاعرةِ بغدٍ أفضلَ للوطن.
"هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ": كنايةً عن المستقبل القريب المُشعّ بالأمل.
 "وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ": كنايةً عن مستقبل الوطن البعيد، وذكرت الشّاعرة "الغد" مجاز مرسل علاقته الزّمانية، فذكرت الزّمن وأراد النّاس الّذين يعيشون فيه.
"أَدْمَعُ!.. و.. أَدْمَعُ!.. وَ.. أَدْمَعُ!":
كنايةً في كلٍّ عن الدّمعةِ المنسكبةِ مِنَ العينيْن، لتحقيق الأمل المرجوّ في رفعة الوطن ولكثرة الخير ما يستدعي البكاءَ النّاتجَ عن تحقّق الحلم، والتّكرار.. تكرار "أدمع" لتوليد إيقاع عذب في قصيدة النثر، والإيقاع "إنّما "يعني انتظام النّصّ الشّعريّ بجميع أجزائه في سياق كليّ، أو سياقات جزئيّة تلتئم في سياق كليّ جامع، يجعل منها نظامًا محسوسًا أو مدركًا، ظاهرًا أو خفيًّا، يتّصلُ بغيره من بُنى النّصّ الأساسيّة والجزئيّة، ويُعبّر عنها كما يتجلّى فيها. والانتظامُ يعني كلّ علاقات التّكرار، المزاوجة، المفارقة، التّوازي، التّداخل، والتّنسيق، والتّآلف والتّجانس، ممّا يعطي انطباعًا بسيطرة قانون خاصّ على بنية النّصّ العامّة، مُكوّنًا من إحدى تلك العلاقات أو بعضها. وعادة ما يكون عنصر التّكرار فيها هو الأكثر وضوحًا من غيره، خاصّة وأن يتّصل بتجربة الأذن المُدرّبة جيّدًا على التقاطه. وليس يعني أيٌّ من تلك العناصر الإيقاعيّة في تكويناته الجزئيّة الصّغيرة المبعثرة في النّصّ شيئًا ذا بال، إذ هو لم ينتظم في بنية إيقاعيّة أساسيّة وشاملة تجمع من مختلف أطرافه"(14). 
والسّمة الجوهريّة لشعر الحداثة "تكمن، بحسب هذا النّسق، في المستوى الموسيقيّ من النّصّ الشّعريّ. فالتّحديث الموسيقيّ قد أتاح للشّاعرة أن تتخلّص من القيود الّتي تمنعها من التّعبير عن تجربتها الشّعريّة، وعن واقعها المعاصر تعبيرًا حيًّا، ينبض بالحُرّيّة والجمال الفنّيّ"(15).
"مَن ذا يَغْتَسِلُ بِدَمْعِ قَناديلِ هَوايَ إِلاَّكِ؟!": وتعود الشّاعرة في هذا السّطر والّذي يليه، للأسلوب الإنشائيّ والاستفهام بـ "مَن" في كلّ يفيد النّفي"، فلا أحد يفرح لتحقيق الأمل المرجوّ بنصرة الوطن إلّا أهله. فلهوى الشّاعرة قناديل هوى تغسِل ..
"مَن ذا يَبْتَلُّ بِوَهْجِ لَيالِيَّ العَذْراءَ كَماكِ؟!":
كنايةً عن ألّا أحد يتغنَّى بجماليّةِ السّمرِ والسّهر بتلقائيّةٍ، في ليالي فلسطين غير أهل الوطن في فلسطين.
"هيَ ذي تَرانيمي.. إِلَيْكِ تَتوبُ غَمامًا": وآمال الشّاعرة لا تلبث أن تتبدَّد وتعود ضياعًا في زحمة الضّياع.
اِعْزِفيني بِشارَةَ حُبٍّ/ كِرا

39
أسطورة التياع للشاعرة آمال عوّاد رضوان/ ترجمتها للإنجليزية فتحيّة عصفور
A Legend Of Anguish
By: Amal Awad – Radwan-(Palestine)
Translated by: Fathia Asfour
Palestinian poet & tranlator

A child
You inflitrated into the wilds of my darkness
at a time when the scorpions of my rashness
were growing between your footsteps
 and spinning with the lashes of your letters a silk of passion...
from the threads of my prime
****
A poem
A poem you emerged with shyness...
You appeared in the hut of my dreams ...
I crowned you a queen on the throne of my madness
when the lost in the jam of your echoes I was ...
Still overtaken by the revolution of your beauty
**
The smell of my seasons became immortal by you...
by the recurrenc of
sweet songs echoing a scent of torment
They whirled me in a doubt of tear dodged by
complaint.
I wonder till when I'll keep dangling like a pale music
on the ladder of your water!
**
O you , Hera! the refuge of mother women
Why chasing women
giving birth to me?
and the hundred of your eyes pollinate my eye...
 and follow up my barefooted shadow?
**
to unknown beating
in whose wind your giant jogs
killed by my carob verse
I splash the hundred of his eyes candles on your mirror crest and on the arrogance of your peacock feathers
**
How transparent the crystals of your arrogance are!!
You fluff them
You spread them out
with a riot sword that radiates me
How could I turn its glare back to your eyes as vigilance sources were extinguished by your fires?
**
With my golden chain..between the fire of dust( earth).. and the light of haze(heaven)
by your wrists I
h
u
n
g
you
a star pomply glittering a legend of anguish
while the brides of grown- up breasts
p-r-a-t-t-l-i-n-g you a rebellion of challenge that threatens me
**
Oh, my love! can pain ail her?!
Where is it from me her beauty , the rescued by your ugliness, Hephaestus ?
Your heart , that is blinded by the flash of jealousy robs the pearl of my heartbeat.
Oh! my night hides my awe and fright
and collects the memory of your scattered breaths on
the ash of my memory
**
Where is it from me ,
my love? a melody in my fields
How it expanded to
a folk of life larks that protect me!!
**
Where is it from me,
my love? a glitter planet in the heaven of my soul lighting the path of my inspiration to YOU and landing on top of a CAVE that gives birth to me.
**
O , you! who hid yourself in a bar
whose indicator is dominion
You pour me a blazing hell in the cups of loss
and the flasks of my
densely covered desert quench your thirst.. so no stray groans get you swell up
Till when will we remain acrobatic hostages ...worn by a sleepless deluge of mint?!
***
Here! the lust of my strips, that's aged with isolation adorns you
so that the rhythm of
your bells can't be disturbed
Here! the sparks of your jasmine wash me with the fires of your pistachio dust
I am the besieged by the murcury of your mirrors
Till when will the flute of my cell weep me?!
and the kerchieves of farewell keep waving me?!
أسْطُورَةُ الْتِيَاعٍ؟
آمال عوّاد رضوان
طِفْلَةً
تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي
وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ
مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي
*
قصِيدَةً
قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي
تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي
وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ
لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
*
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك
بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ
زَوْبَعَتْنِي
فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!
إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً
عَلَى
سُلَّمِ
مَائِكِ؟
*
هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ
لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي
وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ ظِلِّيَ الْحَافِي؟
*
إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ
يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ
يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ
أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا
عَلَى
قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ
وَعَلَى
اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
*
كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ
تَنْفُشينَهَا
تَفْرُشينَهَا
بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي
كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ
وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
*
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ
بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ
مِنْ مِعْصَمَيْكِ
عَ
لَّ
قْ
تُ
كِ
نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ
تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ
جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
*
أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟
أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا
يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ
يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي
آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي
يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ
عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!
*
أيْنَ مِنِّي “حَبِيبِي”
نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي
كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا
مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
أَيْنَ مِنّي "حَبِيبِي"
كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي
يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ
ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
*
يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ
دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ
تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ
وَتُرْوِيكِ قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ
فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
***
إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً
يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ
تُزَيِّنُكِ
فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة!
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي
بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ 
أَنَا الْمُحَاصَرُ بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي
وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!

40
حيفا بين حُبِّ وحنينِ عادل سالم!
إعداد: آمال عواد رضوان
الأديب عادل سالم حلّ ضيفًا على حيفا في أمسية حيفاويّة مائزة أقامها نادي حيفا الثّقافيّ، برعاية المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، وذلك بتاريخ 4-4-2019، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، ووسط حضور نخبويّ مميّز من أدباء وشعراء وأصدقاء ومهتمّين، وقد ازدان مدخل وزوايا القاعة بمنتوجات ولوحات ومعروضات فنّيّة للفنّانة التّشكيليّة سماح عوض، وتولّت إدارة الأمسية آمال عوّاد رضوان، بعد أن رحّب المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثّقافيّ بالحضور، وقدّم د. رياض كامل قراءة نقديّة تتمحور في جديد رواية "الحنين إلى المستقبل" من حيث الموضوع، ومن زاوية السّرد ومبنى الرّواية الفنّيّ، وقدّمت د. علا عويضة قراءة نقديّة لرواية "الحنين إلى المستقبل" بعنوان: الضَّياع في الحنين في سيراويّة عادل سالم، ثمّ تناول د. صالح عبود المجموعة الشّعريّة (الحب والمطر)، وقدم قراءة بعنوان (الاغتراب في شعر عادل سالم)، أخيرًا، ختم اللّقاء المحتفى به عادل سالم، شاكرًا الحضور والمنظّمين والمتحدّثين، وتمّ التقاط الصّور التّذكاريّة
مداخلة آمال عوّاد رضوان:
*أحبّائي الحضور، أهلا ومرحبًا بكم باتّساع قلوبنا المترنّمة بالمحبّة، وبشساعة أرواحكم العطشى إلى رحيق الكلمة الأثيريّة، والّتي تُقصّر المسافات، وتستقصي الأسرار، تلك الكلمة العميقة الّتي تجمع الماضي بالمستقبل، وبوح الحاضر بحنين الآتي. فأهلًا بالإبداع بكلّ مقاساته ومذاهبه ومدارسه وأصنافه.
*الفنون البصريّة التّشكيليّة: هذا الإبداع المرئيّ الّذي يُلفتُ النّاظر إليه ويُحفّز مشاعرَه، كالفنّ المعماريّ، الزّخارف، السّيراميك، الأثاث، التّصميم الدّاخليّ، الدّكورة، المجوهرات والمنحوتات، الرّسومات واللّوحات وغيرها.
المدارس الحقيقيّة الواقعيّة: ومن خلالها يتمّ نقل الواقع الموجود على هيئة فنّ وتصوير، وغالبًا ما يدخل شيء من عواطف الفنّان، فظهرت أعمال الفنّانين في الفترة الّتي نشأت فيها الواقعيّة التّصويريّة بهيئة كلاسيكيّة.
المدرسة الانطباعيّة: بدأت هذه المرحلة الفنّيّة بخروج الفنّان حاملا مرسمه من غرفته إلى الطّبيعة الخارجية، لرسم أشياء في الطّبيعة، مُعتمدًا على المُلاحظة الحسّيّة، وعلى انطباع حسي مباشر يُهيمن على اللوحات.
المدرسة ما بعد الانطباعيّة: ولأوّل مرّة تستخدم القماش، فهي مزيج من المدارس الانطباعيّة والواقعيّة، ولكن بأسلوب حديث وألوان شديدة.
المدرسة الرّمزيّة: ابتعدت عن الطّبيعة وعن الواقع كلّيًّا، واعتمدت على التّرميز.
المدرسة التّعبيريّة: ظهرت في بداية القرن الـعشرين، واعتمدت على انطباع الفنّان عن المشهد أكثر من تصويره.
المدرسة الدّادائيّة: استهدفت التّنبّه للأرصفة الملوّثة وتفاصيل مُهملة غير مهمّة.
المدرسة السّرياليّة: تعتمد على تجسيد الأحلام والأفكار، واستعادة ما في الذّاكرة.
المدرسة التجّريديّة: تعتمد على خيال الفنّان، وتجريد الحقائق من طبيعتها.
المدرسة التّكعيبيّة: ظهرت في فرنسا في بداية القرن العشرين، على يد بابلو بيكاسو قبل الحرب العالميّة الاولى، واتّخذ من الأشكال الهندسيّة أساسًا لبناء وبلورة وتجسيم العمل الفنّيّ من بيوت وجبال بشكل مكعّبات.
*عزيزنا الأديب عادل سالم: حيفا تحتضنك في إحدى أماسيها الأدبيّة، ويُسعدنا أن نتناول هذه اللّيلة عمليْن من إبداعك، يتعانقان مزهوّين بروحك وبوْحك، رواية الحنين إلى المستقبل؟ بالعادة يكون الحنين إلى الماضي، والتّوْق إلى المستقبل، فكيف قلبت الأزمان وتلاعبتَ بمفاهيم اللّغة؟ أهو خطأ في العنوان، أم هو تلاعب مجازيّ تهكميّ؟ أم..  نترك الإجابة لد. رياض كامل، ود. علا عويضة.
*أمّا المجموعة الشّعريّة المعنونة بـ "الحبُّ والمطر" الصادرة عام 2016، فيبدو العنوان منعشًا للرّوح، لأنّ الحبّ والمطر هما ركنان أساسيّان في الحياة، إذ إنّ المطر منبع الخيرات الأرضيّة، والحبّ منبع الخيرات الرّوحيّة، يبعثان الحياة والسّلام والرّحمة والإنسانيّة ما بين البشر.
مداخلة د. علا عويضة بعوان: الضَّياع في الحنين في سيراويّة عادل سالم:
لقد توّج الكاتب عادل سالم مؤلَّفه "الحنين إلى المستقبل"، من خلال تحديده للجنس الأدبيّ: رواية. لم يكتفِ الكاتب بذلك، فكتب في عتبته الدّاخليّة، بعد الإهداء مباشرةً وبالخطّ العريض: "هذه رواية، تنقلُ واقع بعض المغتربين في الولايات المتحدّة، ليست سيرةً ذاتيّةً لشخص محدّد، والأسماء الواردة فيها، من خيال المؤلِّف، فإن تطابقَت مع أسماءٍ من الواقع مرّوا بالتّجربة نفسها، فهي مجرَّد صدفة" (ص7).
يبدو أنَّ النَّصّ، في أساسه يقوم على سيرةٍ ذاتيّةٍ، غير أنَّ تقنيّات بناء الرّواية الّتي وظّفها الكاتب في عمله هذا، جعل منه جنسًا أدبيًّا آخر، حيث دمج النَّمطَين بشكلٍ مُحْكم، فلا يقف المُتلقّي بفروق محدّدةٍ بينهما، إلّا أنّنا نستطيع التّمييز بينهما فنّيّا.
تجدر الإشارة إلى أنَّ الحدّ الفاصل بين السّيرة الذّاتيّة المكتوبة بقالب روائيّ؛ (أيّ السّيرة الذّاتيّة الرّوائيّة)، والرّواية الفنّيّة الّتي تعتمد على أجزاءٍ مِن حياة الكاتب الشّخصيّة، (رواية السّيرة الذّاتيّة) هو التزام الكاتب بالحقيقة، والكشف عن غرضه؛ أي التّصريح بأنّه يكتب سيرة روائيّة في قالب روائيّ، بالإضافة إلى إعلان اسمه الحقيقيّ وأسماء الشّخصيّات والأماكن، بغضّ النّظر عن الجانب المتخيَّل في العمل. أمّا إذا اتّخذ الكاتب لنفسه اسمًا آخر (كما هو الحال في "الحنين إلى المستقبل") فيكون بهذا يكتب قصّة أو رواية سيرة، وعندها لا يجوز له الإشارة إلى أنّها سيرة. ولعلّ ذلك هو السّبب الّذي دفع الكاتبَ إلى تصدير عمله بالتّصريح بنوع هذا العمل (رواية).
أمّا فيما يتعلّق باسم المؤلّف، فلا نجدُ له ذِكرًا إلّا على الغلاف. ويبدو أنّه اكتفى بذلك، ليوفّر للمُتلقّي إمكانيّة التّخييل الّذي توفّره هذه الثّنائيّة: سيرة- رواية، مكتفيًا بضمير المتكلّم في بعض أجزاء السّيراويّة، ليقوم مقام الاسم، على نحو ما جاء في الفصل السّابع؛ الأمر الّذي يدلّ على التّطابق بين السّارد (الأنا) والشّخصيّة الفاعلة والمؤلِّف. لقد جاء هذا التّستّر على الاسم، لخدمة العمل الفنّيّ الّذي يتمثّل في إيصال بعضِ سيرتِه بقالب روائيّ.
حين يكتب الكاتبُ سيرتَه الذّاتيّة، لا يكون في حالة تصوّرٍ إنّما في حالة تذكّرٍ. وعليه، في كتابةٍ من هذا النّوع، كتابة روايةٍ تعتمد على سيرة الكاتب الذّاتيّة، على الكاتب أن يلتزم الحقيقةَ التّاريخيّة من جهةٍ، وأن يكتب بأسلوب فنّيّ من جهةٍ أخرى، مستعينًا بعناصر الفن الرّوائيّ المختلفة، نحو: التّصوير، التّخيّل، الحوار، مناجاة الذّات وغيرها.
إنَّ هذا العمل الأدبيّ نصّ استعاديّ نثريّ، كتبَ فيه الكاتب عن وجوده الذّاتيّ، مُركّزًا على حياته الفرديّة وعلى تاريخ شخصيّته. نَقَل أحداثًا ووقائعَ حقيقيّةً مختلفة، نحو: مكوثه في سجون الاحتلال، السّجن في الخارج بسبب التّهرّب من الضّريبة، الابتعاد عن الأهل، وذلك من خلال شخصيّة نعيم قطينة. أراد بذلك الإشارة إلى حياة المغتربين العرب في السّجون الأمريكيّة، والمقارنة بين حال الأسرى في سجون الاحتلال وفي السّجون الأمريكيّة. أبرز ما جاء في المقارنة بين السِّجنين هو العنصريّة، العنصريّة العِرقيّة والدّينيّة، العنصريّة تجاه العرب والسّود الّذين يتعرّضون هم أيضًا، للاضطهاد من قِبل الأمريكيّ الأبيض (ص153). وأبرز أنواع العنصريّة الّتي كرّرها الكاتبُ في أكثر من موضعٍ، هي تلك العنصريّة الموجّهة ضدّ العربيّ المسلم الّذي يتّهمه الآخر، الأمريكيّ، بالإرهاب. (مثلا ص161). ليدلّ بذلك على جهل الآخر بالحقيقة، على جهله بمفهوم الإسلام وقِيَمه وانغماس الآخر في سياسيةٍ تحريضيّةٍ.
كذلك أشار الكاتبُ إلى العديد من المشاكل الاجتماعيّة الّتي تواجه الشّبان العرب في الخارج، نحو زواجهم من الأجنبيّات بهدف الحصول على الجنسيّة ظنًّا منهم أنَّ ذلك سيوفّر لهم مستقبلا أفضل.
لقد جعل الكاتب هذه المشاهد المستقاة من سيرته في قالبٍ روائيّ، رتّب أحداثها ووقائعها لتُسرد على المُتلقّي بطريقة التّقابل، ممثّلًا بذلك للعلاقة بين الذّاكرة والمتخيَّل في السّيرة الذّاتيّة.
الحنين إلى المستقبل، عمل أدبيّ واقعيّ، يجسِّد مشهدًا واقعيّا يتقاطع مع سيرة الكاتِب نفسه، وإن أنكر هو ذلك. عادل سالم كان أسيرًا في سجون الاحتلال الإسرائيليّ، وسُجن في أمريكا بتهمة التّهرّب الضّريبيّ، فألبَس هذا العمل ثوب الحقيقيّةِ من جهةٍ وثوب الخيال من جهةٍ أخرى.
يبدو أنَّ الدّافع إلى كتابة هذا النّصّ يعود إلى جهتين: عقلاني وعاطفي. أمّا الجانب العقلانيّ فيتجلّى من خلال رغبة الكاتب في صياغة واقع ما، وإدلاء شهادته بهذا الواقع من خلال تجاربه في الحياة. أمّا الجانب العاطفيّ فيعود إلى رغبته في تحدّي الزّمن ومحاولة إدراك وجوده.
*الجماليّات: تتحقّق جماليّات هذا الشّكل السّرديّ، رواية السّيرة، بفضل التّفاعلات الخلّاقة بينهما كشكلين أدبيّين سرديّين، والّتي أدّت إلى ولادة شكل ثالث يحمل خصائص تختلف عنهما.
لقد جمع الكاتب في سيروايّته نمطيْن مختلفيْن ومتكامليْن من رواية السّيرة، يكشف كُلّ منهما عن وجه من وجوه العلاقة بين التّجربة الواقعيّة للمؤلِّف من جهةٍ، وبين المخيَّلة الإبداعيّة للمؤلِّف من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال تصويره لذاته ولمجتمعه. أمّا النّمطان فهما:
1* استخدام تقنيّات السّرد الرّوائيّ كأداةٍ لاستعادة، لإبراز وإدانة العنف الّذي تعرّض له، وتحوِّله من موقع الضّحيّة إلى موقع المقاوِم لكلِّ أشكال الظّلم والعنصريّة. يظهر ذلك جليًّا في السّجن الأمريكيّ، حين تعرّض نعيم إلى التّمييز العنصريّ والعنف الكلاميّ من قِبل أحد النّزلاء، فاستجمع قواه بدعمٍ من قوى أخرى مستضعَفة، متمثّلةً بصديقه الأسود (إي جي)، وواجه الأمريكيّ الأبيض (تيموثي) الّذي يمثّل كلَّ البيض العنصريّين. وبينما كان الأخير، الأمريكيّ الأبيض، مسلَّحًا بالقوّة والعنصريّة، كان هو، العربيّ، مسلَّحًا بقوّة الحقّ. كان ضحيّةً، لكنّه سرعان ما تحوّل إلى رمزٍ لمقاومة هذا التّمييز.
2* استخدام الشّكل الرّوائيّ كقناعٍ فنّيّ يعبِّر الكاتبُ من خلاله عن آرائه ومواقفه، ويحاول كذلك استعادة تجاربه في منظور نقديّ تأمّليّ.
*المنظور التّعبيريّ: لقد تعدّدت المستويات اللّغويّة في النّصّ، فجعلَنَا الكاتبُ أمام لغة فصيحة متوسّطة، كما أنَّ الحوار بين الشّخصيّات، رغم تفاوتها، جاء على هذا الشّكل. بالإضافة إلى استخدام اللّغة العاميّة الّتي جاءت بشكلٍ عفويّ، واستخدام كلمات أجنبيّة (أوكي..). تجدر بنا الإشارة إلى الشّتائم الأجنبيّة الّتي كانت تدور بين نزلاء السّجن في أمريكا، وقد ذكرها الكاتب في أكثرَ من صفحةٍ، ناقلًا بذلك البيئة الواقعيّة للسّجن الأمريكيّ، فالشّتائم هناك تنهال ككلمة التّرحيب "السّلام عليكم". ذكر عدة شتائم باللّغة العربيّة (ص111، 112)، وجعل الأخرى باللّغة الأجنبيّة ولكنّه كتبها بحروفٍ عربيّةٍ وحروفٍ أجنبيّةٍ (ص112، 113)، رغم أنَّ القائل واحدٌ، أجنبيّ!! أمّا سبب ذلك فهو غير واضح، ولم نجد له أيَّ مبرّر، سوى التّحفّظ من ترجمتها!
كذلك السّرد جاء متنوّعًا، فتارةً يكون الكاتبُ السّارد والرّاوي العالِم بكلّ شيء، مُستخدِمًا صيغة الغائب (كما في الفصل السّادس عشر)؛ وتارة أخرى، يأخذ دور البطل ويروي حكايته بنفسه مستخدمًا ضمير المتكلّم "الأنا" (نحو ما جاء في الفصول: الخامس، السّابع والثامن وغيرها)، حيث تماهى المؤلّف مع الأنا ومع الرّاوي، فكان ظلّه حاضرًا في الحوار، مقرّبًا بذلك النّصّ من الحياة الحقيقيّة.
لقد عبّر الكاتب من خلال ضمير المتكلّم والمونولوج الدّاخليّ عن الجانب النّفسيّ للشّخصيّة، وعن أفكاره، وآرائه ومواقفه.
أمّا الأسلوب المسيطر في السّيراويّة فهو أسلوب الرّاوي الثّاني، حيث خاطب الشّخصيّة الرّئيسيّة بضمير المخاطَب (نحو ما جاء في الفصول: الثّاني، الثّالث، السّادس، التّاسع والعاشر وغيرها)، ففصَل بين ذاته وبين الشّخصيّة الرّئيسيّة من جهةٍ، وأشار إلى نفسه من جهةٍ أخرى. كما بدا وكأنّه يخاطب المُتلقّي، جاعلًا إيّاه جزءًا فاعلًا من الحدث، يشعر بتتابعيّة الحركة في الزّمان والمكان والأحداث. لقد وُفّق الكاتب في توظيف هذه الآلية ليتآلف ذلك مع الثّنائيّة الجنسيّة للنّص: سيرة- رواية.
لم يخلُ هذا العمل النّثريّ من التّعابير الفنّيّة الشّعريّة. إنّ تقمّص النّثر للّغة الشّعريّة في بعض المواضع، إلى جانب الصّور الفنّيّة، أكسب النّصّ كثافةً وأبرز لغة الصّراع والمعاناة. لقد استخدم الكاتب كذلك الأسلوب الإنشائيّ، خاصّة صيغ الاستفهام، الأمر الّذي ساهم في منح السّيراويّة بعضًا من شعريّتها، إذ يعمّق ذلك من غموض التّجربة الإنسانيّة، ويُشرك القارئ بانفعالاته مع النّصّ.
تنثال هذه الأسئلة بشكل خاصّ في نهاية العمل الأدبيّ، فبعد أن منعته قوى الاحتلال من دخول بلاده، واتّهمته بأنّه قادمٌ للبقاء في الوطن، طرح أسئلة كثيرة تمتدّ على نحو صفحة ونصف، مُحقّقًا بذلك الشّعريّة بين الواقع والخيال، بين اليقين والشّكّ، مانحًا القارئ مساحةً للإجابة على هذه الأسئلة الاستنكاريّة. نذكر منها:
"هل أُحضرهم لزيارتي ثمّ أعيدهم لفلسطين، لعلّي أنجح في الدّخول في سنواتٍ قادمة، أم أستسلم رافعًا راية الغُربة البيضاء إلى الأبد؟ أم أنتظر حتى تتحرّر، وأعود رافعًا شارة النّصر؟
ضحك بيأسٍ!!! تتحرر؟؟ لقد دمّروا سوريا، العراق، اليمن، ليبيا. فمن سيحرّرها؟
وإلى أن يحصل ذلك، هل أتركهم في فلسطين؟ أم يلحقون بي". ص219
هذه الخاتمة إنّما هي اعتراف بالواقع المرير الّذي قاتل الكاتب بحُلمه وحنينه من أجل تغييره. هذه الخاتمة تجسِّد الصّراع مع ذاته أوَّلًا، ومع الآخر والبيئة ثانيًا، وقد صوّر ذلك من خلال الحنين الّذي رصد فيه أعماقه، راسمًا الحقيقة كما يريد بضمير المتكلّم "الأنا"، مُصوّرًا عالمه تصويرًا أدبيًّا وفنّيّا.
الزّمان كمكان:
لقد خصَّ الكاتبُ الحنينَ بالمستقبل، والمستقبل تعبيرٌ زمانيّ لا مكانيّ!!
إلا أنَّ الحنين في هذه السّيراويّة لا يقف عند حدٍّ معيّنٍ، لا زمانيّ ولا مكانيّ؛ إنّه يحنّ إلى عائلته البعيدة عنه، يحنّ إلى الحريّة المسلوبةِ منه، يحنّ إلى وطنه القابع تحت الاحتلال، يحنّ إلى سجن النّقب رغم ظروفه الصّعبة، فالسّجن في الغُربة، وإن كانت ظروفه أفضلَ، فهو أشدّ قسوةً ومرارةً.
إنَّ هذا الحنين لا ينفصل عن المكان، وبهذا تنكشف ملامح الانتماء والتّعلّق بالمكان. لقد شكّل المكان عاملًا مُهمًّا في بُنية هذا العمل الأدبيّ، شكّل زاويةً يستدعي فيها الكاتب صور حياته المختلفة.
استذكر مدينتَه الأولى والأخيرة، القدس؛ القدس ليست مكانًا جغرافيًّا فحسب، إنّما انتماء يعكس علاقة الكاتب بها وبأحداثها. فذكر أسماء مناطقَ مقدسيّة نحو: وادي الجوز، البلدة القديمة، باب العمود، باب خان الزيت، وأسماء محلّات نحو محل عاهد طقش وغيرها. بالمقابل، اقتصر ذِكر الأماكن الأمريكيّة على أسماء السّجون الّتي دخلها، والبلدة الّتي تواجد فيها.
إنَّ التّغييب الطبوغرافي للمناطق الأمريكيّة في الرّواية دليلٌ على إدانته لها، وعن ابتعاده عنها من حيث الانتماء. فلم تكن للمناطق الأمريكيّة، كما جاء ذكرها في السّيراويّة، أيّ وظيفةٍ، بل شكّلت محطةً إجباريّةً ينتقل منها الكاتب إلى أخرى. أمريكا، بالنّسبة له، لهذا الشّاب الّذي أراد العمل والعودة إلى أرضه وعائلته، هي أرض التّعاسة والشّقاء.
ارتبطت الأماكن في أمريكا بأماكن الإقامة المؤقتة، لأن إقامته بها كانت مؤقتة، فاستأجر بيتًا، نزل في فندقٍ وانتقل من سجنٍ لآخر. لقد عزّزت هذه الأماكن المؤقّتة والضّيِّقة تقنيّة الاستبطان لدى الكاتب، فكلّما ضاق عليه المكان ازدادَت دواعي لجوئه إلى نفسه، وأخذ يستذكر، يسترجع ويحلمُ.
في السّجن زارته الذّكريات، ذكريات الماضي، وفيه قلَّب حياته ومنه انطلَقَت الأحلام، أحلام المستقبل. فالذّكريات تستعيدها كما هي، أمَّا المستقبل فتنسجه بخيالك، تلوّنه كما تشاء، وتفرح فرحًا ممزوجًا بالخوف من هذا المجهول الّذي قد يخيِّب ويحطِّم أحلامكَ، أو يمحو ألوان رسمتِكَ.
إن الصّراع الدّاخليّ للكاتب (بُعده عن الأحبة وحلمه في العودة) تحوّل لاحقًا إلى صراع مع المحيط، تمثَّل في عدم السّماح له بالدّخول إلى البلاد، ممّا زاد الشّرخ، وكان دافعًا له للحنين إلى المستقبل، المستقبل الّذي رسمه هو، المستقبل الّذي تخيّله ولوّنه بريشته وأحلامه.
أمّا المستقبل الّذي رسمه فيتلخّص بالعودة، العودة لأسرته بل لوطنه، تلك العودة الّتي تحطّمت في نهاية السّيراويّة. ولعله أراد بهذه الخاتمة الّتي ذيّلها بأسئلةٍ استنكاريّة إشكاليّةٍ، أنَّ هذا الحنين إلى المستقبل سيبقى حلمًا، لأنَّ المستقبل لن يكون أفضل من هذا الحاضر؟! والأسئلة في نهاية العمل توحي بذلك.
كما توحي بالحالة الّتي يعيشها الفلسطينيّ، إلى ما يتعرّض له من سلبِ حقوقٍ واضطهادٍ، وتمييزٍ وإرهابٍ؛ الإرهاب الّذي يَفْتِكُ جسد المجتمعات.
إنَّ الأسئلة في نهاية السّيراويّة ترصد حال العالم العربيّ، وتأخذنا إلى شريطٍ أسودَ، تأخذنا إلى فلسطين القابعة تحت الاحتلال الإسرائيليّ، إلى سوريا، العراق، اليمن، ليبيا، كلّهم يعانون من تآمر الدّول الرّأسماليّة وحلفائها. منذ سنوات والدّمار يحتلّهم. كلّهم أصابتهم الهجمة الامبرياليّة، وضيّقت الدّول الرّأسماليّة عليهم الخناق. إنَّ هذه الهجمة الّتي روّجت بتحرير الشّعوب، زائفةٌ، تسعى إلى تقوية الأنظمة الرّأسماليّة، ونشر الفساد والتخلّف في الدّول العربيّة، لتمكين سيطرتها عليها وسلب كلّ كنوزها.
*الفنّانة سماح عوض: من دالية الكرمل: معلمة فنون في المدرسة الابتدائية ومرشدة وزارة المعارف (ماتيا) لمعلمات الصفوف الخاصة في دالية الكرمل وعسفيا. حصلت على لقب أوّل من جامعة حيفا ومرشدة للفنون من دار المعلمين العرب، عشقت الرسم بالاكريلك والالوان رسم لوحات للطبيعة والمرأة والإنسان والأحياء والجماد والتراث، بتقنيات مختلفة ومواد متعددة مثل جوز الهند والنس كافيه والسيراميك، ومجسماتها ترتكز على إعادة التّدوير ودعم البيئة الخضراء، تستخدم عجينة الورق والإسمنت والخردوات والمعلبات، قناني وجرائد والخ. لها أكثر من مئة وعشرين مجسّمًا بأحجام مختلفة، وأكثر من ثلاثين لوحة تمتاز بألوانها الزاهية والصارخة، اشتركت بعدة معارض محلية.
*د. رياض كامل: من مواليد المغار  8-7-1954، ويعيش مع عائلته في مدينة النّاصرة، حيث عمل في مدارسها الأهلية معلمًا، ثمّ مديرًا لمدرسة راهبات مار يوسف. حصل على اللّقب الثّالث في اللّغة العربيّة وآدابها من جامعة بار إيلان، بعد تقديم بحثه حول خطاب حنّا مينة الرّوائيّ. كاتب وناقد له العديد من الأعمال النّقديّة والدّراسات الأدبيّة والفكريّة، في مجال القصّة، والرّواية، والمسرح والشّعر. يعمل محاضرًا في كلّيّة أورانيم الأكاديميّة، منذ عام 1993 وحتّى اليوم، في قسم اللّغة العربيّة لطلاب اللّقب الأول واللّقب الثّاني. صدر له ثمانية كتب في مجال الدّراسات والنّقد، أهمها: كتاب "دراسات في الأدب الفلسطينيّ" (2017). كتاب، "الظل الآخر- دراسات في المسرح" (2015). كتاب "محاورة النص - دراسات في القصّة والرّواية" (2003). كتاب "توهج الكلمة- دراسة في لغة الشّعر لدى طه محمد علي”، (2001)، وشارك في تحرير كتاب "شكيب جهشان- إضاءات على مسيرته وأدبه" مع عضو الكنيست د. يوسف جبارين (2013). له عدد من الدّراسات تتمحور معظمها حول الأدب العربيّ الفلسطينيّ.
*الأديب عادل سالم: من مواليد القدس 1-7-1957، انهى دراسته في القدس بتفوق في الرياضيات، غادر أهله إلى أمريكا عام 1976 ولحق بهم عام 1988، وكتب في الصحف العربية: الفجر الأدبي، الشعب، الفجر، الكاتب، البيادر، الحرية، فلسطين الثورة، وعرب تايمز، وقد استمر في الكتابة في عرب تايمز، ثم أسس عام 1988 موقع ديوان العرب البارز وهو رئيس تحريره: اهتم بالكتابة الشعرية والنثرية، من كتبه: ديوانين شعريين  "عاشق الأرض" عام (1981)، و"نداء من وراء القضبان" عام (1985). دراسة توثيقية عام 1990 بعنوان: "الطبقة العاملة الفلسطينية والحركة النقابية في الضفة والقطاع من عام (1967- 1987).
"لعيون الكرت الأخضر"، مجموعة قصصية عام (2006). "أسرانا خلف القضبان" دراسة توثيقية عام (2006).  "ليش ليش ياجارة؟"، مجموعة قصصية عام (2007). رواية "عناق الأصابع" عام 2010.  رواية "قبلة الوداع الأخير" عام 2012. رواية "عاشق على أسوار القدس" عام 2012. "يحكون في بلادنا" مجموعة قصصية عام 2012. "يوم ماطر في منيابولس" مجموعة قصصية عام 2012. واليوم وفي الامسية تناولنا آخر إصداراته: المجموعة الشعرية بعنوان الحب والمطر عام 2016، ورواية الحنين الى المستقبل عام 2016.

41
من السّجن إلى حيفا يمضي باسم خندقجي!
إعداد: آمال عوّاد رضوان
كرضيعٍ مُوجَعٍ يَحتفون بهِ، وأمُّهُ ما زالت طريحةَ الفراشِ في المشفى، بين قضبان الموت والغياب وأصفاد الحياة والعذاب!؟ هي إبداعاتك بين أيادينا نحتفي بها، يا المبدعُ باسم الخندقجي، لكَ ولكلّ أسرانا البواسل تحيّةَ مَحبّةٍ وتقديرٍ لقلوبِكم النّقيّة، مِنّا أدباء وقرّاء، من حيفا وعكّا والناصرة ويافا والجليل الأشمّ، والمثلّث والنّقب الصّامد، ومِن حنايا بلدنا العتيد التليد- لكم المجد والحياة والحُرّيّة والوطن.
برعاية المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، أقامّ نادي حيفا الثّقافيّ أمسيةَ للأديب الفلسطسنيّ السّجين باسم الخندقجي، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان في حيفا، بتاريخ 21-3-2019، وسط حضور من الأدباء وذوّاقي الكلمة، وقد ازدانت القاعة بلوحات فنّيّة لكلّ من الفنّانتيْن أصالة حسن وصبحية حسن، وبعد أن رحّبَ المحامي فؤاد نقارة رئيس النّادي بالحضور وبالمُتحدّثين، وبالمُحتفى به الّذي تعذر حضوره ورواياتِهِ، تولّت عرافة الأمسية عدلة شدّاد خشيبون، وتحدّث عن روايات باسم الخندقجي كلّ من: د. أليف فرانش بمداخلةٍ حول: خسوف بدر الدّين الدّوران والتّأرجُح بين الأقطاب، ومداخلة د. جهينة خطيب بعنوان: مقاربة نقديّة في الخطاب الصّوفيّ لشخصيّتين صوفيّتين: في رواية خسوف بدر الدّين لباسم خندقجي ومسرحيّة مأساة الحلّاج لصلاح عبد الصّبور، ومداخلة د. عادل الأسطة بعنوان: سطوة الشّاعر باسم الخندقجي في "نرجس العزلة"   قرأتها ريتا عودة، ثمّ تمّ التقاط الصّور التّذكاريّة!
مداخلة د. أليف فرانش بعنوان: خسوف بدر الدّين- جدوى الدّوران والتّأرجُح بين الأقطاب
بدايةً، أباركُ للأمّهاتِ في عيدِهنّ، راجيًا أن تكونَ الفصولُ ربيعًا دائمًا بما نَمنحُ ونُمنحُ، وقبلَ البدءِ بتناول الرّواية نفسها، أودّ الإشارةَ إلى بعض النّقاط العامّةِ الّتي ترتبط، بطريقةٍ أو بأخرى، بالعملِ الرّوائيّ ذاتِه.
1* لا شكّ أنّ هذه الرّوايةَ تصطفي في مراتب الأعمال الرّوائيّة الفلسطينيّة الّتي استطاعَ كاتبُها أن يفيدَ من تقنيّات العملِ الأدبيّ، وأنْ يُجنّدَ هذه الأساليبَ في سبيلِ الوصول بعملِهِ الأدبيّ إلى هذهِ الهيئة الأدبيّة.
2* نلمح، لا سيّما في الآونة الأخيرة، نزعةً لدى أدبائِنا الفلسطينيّين، في التّعريج على التّاريخ بشكلٍ عامّ، والتّاريخِ الصّوفيّ بشكلٍ خاصّ؛ أذكرُ على سبيلِ المثالِ روايات: راكبُ الرّيح ليحيى يخلف، الصّوفيّ والقصرُ لأحمد رفيق عوض، ولا ننسى تجربةَ شعرائِنا محمود درويش وسميح القاسم وغيرهما، في اعتمادِ التّوجّهِ ذاتِهِ في الشّعر، خاصّةً الأشعار المتأخّرة؛ ولهذا أسبابُهُ، ففي هذا التّعريج والاستخدامِ خطابٌ يرنو إليهِ أدباؤُنا، يجدونَ في الحُلّةِ الصّوفيّة، أو المُرقّعةِ الصّوفيّة، إن صحّت الاستعارة، إطارًا يفيدون منه.
3* يتطلّبُ هذا المَنحى جهدًا كبيرًا مِن المؤلِّفِ الّذي يخوض في عالمٍ واسعٍ جدًّا هو عالمُ الصّوفيّة، إضافةً إلى دراسةِ التّاريخ. في هذا التّوْليف إنجازٌ كبيرٌ، لكنّ هذا الإنجازَ يتطلّبُ جهدًا مَهولًا، فبُورِكَ أصحابُه.
في محاولةٍ لرصدِ بعضِ الحركاتِ في "رواية خسوف بدر الدّين" أشير بدايةً، إلى أنّ الرّوايةَ تستحقّ دراسةً سأسمّيها في هذا المَقام بالدّراسة النّورانيّة، لتِبيانِ انعكاسِ المفاهيمِ الصّوفيّةِ فيها، وتَحليلِها وِفقَ الأنساقِ الصّوفيّةِ كوْنَها زاخرةً بها، وهي دراسةٌ لن تَفيها الدّراسة الأدبيّة النّقديّة اللغويّة كاملَ حقِّها. فقد دأبَ باسم خندقجي على تذويتِ المُعجم الصّوفيّ في بنيانِ الرّوايةِ ونسيجِها. ومنها المَنهجُ العرفانيّ الّذي يعتمدُهُ مَسارًا في بناءِ شخصيّةِ بدر الدّين: وقد اعتبرَ العرفانَ أحدَ المناهج المُتّبعةِ في الوصول إلى الله، إلى جانبِ المَنهج العقليِّ والمَنهجِ النّقليّ أو النّصّيّ. ويُفارقُ المنهجُ العرفانيُّ غيرَهُ مِن المناهج الآنفةِ الذّكر، أنّهُ لا يعتمدُ في إنتاجِ مفاهيمِهِ على العقل، ولا على ظاهرِ النّصّ الدّينيّ، بل يُرجعُها إلى الإلهامِ والتّلقّي مِن مَصدرٍ مُتعالٍ. فالمعرفةُ حسبَ طرائقِ العرفانيّةِ تَنشأُ عن مُكاشفةٍ وعيانٍ، لا عن دليلٍ وبرهان.
يمكنُ قراءةُ هذه الرّوايةِ بتوجّهاتٍ عدّة، والتّركيزُ على نَواحٍ عدّةٍ فيها أيضًا. اخترت، هنا، التّركيز على حركيّةِ الرّواية، وهي حركيّةٌ أسمَيْتُها بـ:”الدّوران وَالتّأرجُح بين الأقطاب"، وفي هذه التّسمية توازٍ بينَ حركةِ العملِ الرّوائيّ، وبينَ حركةِ المريدِ الصّوفيّ في دورانِهِ وتأرجُحِهِ واتِّباعِهِ أقطابَ المعرفةِ اللّدُنيّةِ والنّورانيّة. فكما يدورُ الصّوفيُّ دوْرتَهُ تدورُ أحداثُ الرّواية، فيتركُ بدرُ الدّين سماونة مسقطَ رأسِهِ، ويجوبُ بلدانَ العالم مُتأرجحًا بينها، لكنّه يعودُ إلى هناكَ بحركةٍ دائريّةٍ كدوْرةِ الصّوفيّ. في سيماونة يبني مَجْدَهُ، يقول ص304: "ها أنتَ قد عدتَ إلى سيماونة شيخًا، لا بل مُعلّمًا، لا بل ثائرًا، بل ممسوسًا"، ويدورُ بهِ القدَرُ والزّمنُ فينهارُ المجدُ، بخسوفِهِ بدرًا مِن النّور إلى العتمةِ، في دورةِ الزّمن تنهارُ مملكتُهُ، وهي أشبهُ بالكومونا الّتي يبناها ثوّار إبّان الثورة الفرنسيّة، أو اليوتوبيا وفقَ الأيديولوجيّة الاشتراكيّة الشّيوعيّة، حتّى وإن بدا التّوازي بينهما عسيرًا. أمّا الدّوران الأكبر فهو في عنوان الرّواية: خسوفُ بدر الدّين، ففي خسوفِ القمرِ حركةٌ دائريّةٌ أدّتْ إلى حدوثِهِ، ولولا الدّوران لربّما بقيَ الخسوف، أو لربّما ما كانَ أصلًا. لهذا فالرّوايةُ تقومُ على حركيّةِ الدّوران وما يَحملُهُ مِن تغييرٍ قد يكونُ ذا حدّيْن، ويبقى السّؤال: هل هناك مِن جدوى للدّوران، أم أنّ الجُمودَ أفضلُ في بعضِ الحالات؟
أمّا التّأرجُحُ فينعكسُ في المَحاورِ الثّلاثةِ الّتي تتناولُها الرّواية، وهذهِ المحاورُ الأساسيّةُ هي الصّراع بمختلفِ أطرافِهِ، ثمّ التّقاطُبُ كشكلٍ مُتطوّرٍ للصّراع، والخيبةُ كنتيجةٍ له، وتتلاحقُ الأحداثُ راسمةً صورةً لهذه المَحاور، لنجدَ الشّخصيّةَ الرّئيسيّة بدر الدّين، وما يحيط به/ ها مِن شخصيّاتٍ قريبةٍ، يَدورونَ ويتأرجحونَ في دائرةِ هذه المَحاور، بُغيةَ البحثِ عن إجاباتٍ وافيةٍ لأسئلةٍ لا إجاباتٌ شافيةٌ لها.
الصّراع: في الرّوايةِ عددٌ هائلٌ مِن الصّراعاتِ الّتي تذهبُ بعقل القارئِ بعيدًا، إلى تلكَ الحقبةِ التّاريخيّة، وتَدَعُهُ يتساءلُ ليسَ عن الصّراعاتِ فقط، بل وعن طبيعةِ الجنس البشريّ الّذي لا يَستكينُ، إلّا إن رأى الدّماءَ مَسفوكةً، والحياةَ مُستباحةً أمامَ نداءِ الموت؟ فيتساءلُ عن جدوى كلِّ هذا. خندقجي يقودُ قارئَهُ بحنكةٍ، ليُوصلَهُ إلى هذا التّساؤل، وذلكَ مِن خلالِ العددِ الهائلِ واللّامُتناهي مِن الصّراعاتِ المُختلفة، والّتي يُغيّرُ فيها البشرُ مواقفَهم، كما تتبدّلُ الفصولُ أو الشّهور. وفي هذا تلميحٌ وإيماءٌ لِما نُعايشُهُ، لكنّه هنا مُركّزٌ مُشدّدٌ بشكلٍ لا يتركُ مجالًا لخديعةٍ فكريّة. ومِن هذهِ الصّراعات: صراعُ الهُويّة لدى طورة، وصراعُ الجيوش، والسّلاطين، والأمم. يقول على لسان ابن خلدون ص97:”حلِّقْ في سماءِ الزّمان، ترَ الأرضَ ترتجفُ بزلزلةِ جيوشِ السّلاطين".
الأقطاب: نلمحُ في الرّوايةِ تأرجُحًا شديدًا وحادًّا تتخابط بينها الشّخصيّات، كأنّها الكُرةُ الّتي تتقاذفُها جِهتان، فمِنْ قطبٍ إلى قطبٍ تجدُ نفسَها الشّخوصُ في حركةٍ مِنَ الحيرةِ، أو القراراتِ المُتعاقبةِ تحتارُ بين قطبيْن، أو تنتقلُ بينهما، مِن صورةٍ مكنونةِ المزدوجة الّتي تُمثّلُ الطُّهرَ والعفّةَ والنّورَ والرّوحَ تارةً، والشّهوةَ والجسدَ والشّبقَ تارةً أخرى، بشكلٍ مُتقطّبٍ يدعو إلى الذّهول؛ مِن العِلم مقابلَ السّيف، مِنَ الواقع مقابلَ الغيب، والدّينِ مُقابلَ الكُفر، مِن تجاذُبِ الذّكرى أمامَ الواقع مِن ترجيح القوّةِ على العدلِ أو العكس، مِنَ الانقيادِ إلى النّقائض، الموتِ في سبيلِ الحياة. هذا التّقطّب يُسارعُ مِن حركةِ التّأرجُح، لتَخرجَ منهُ الشّخصيّاتُ مُنهَكَةً، وقد تفتّتَ فيها الجسدُ والفِكرُ، وطَرحتْ سؤالَ الجدوى مُجدّدًا حيالَ اختيارِها، أو اتّجاهِها. فهذا بدر الدّين، وأنا أقرأ ص 212: "فمَن الّذي كان ممسوسًا بالاضطرابِ والقلق، وذلكَ المزيجِ الغامضِ مِنَ السّرورِ والأسى والفرحِ والحزنِ سوى بدر الدّين؟". وينجلي التّقطّب جليًّا في التّعابير الإكسومورونيّة (الإرداف الخلفيّ الّذي يجمعُ بينَ نقيضيْن مُتلاحقَيْن) الّتي يُفاجئُنا بها خندقجي حين يقول ص95: "وأنتَ الغريبُ الوحيدُ، القلِقُ المُبصِرُ، الأعمى المُتمرّد الخانعُ، الضّالُّ المُؤمِنُ، المُخطِئُ التّائب، المُعلّمُ الجاهلُ، الفتى الكهلُ، عبدُ الشّهوةِ وعبد التّوبة". 
الخيبة: الرّوايةُ تمتلئُ بالخيبةِ والانكفاءِ، وتَبدُّدِ الآمالِ في فضاءِ الرّغبةِ والتّوْقِ والحُلم. تسعى الشّخصيّاتُ إلى تحقيقِ ما تصبو إليه، لكنّها تنكفئُ مُجسِّدةً مثالَ اللّابطل، وهو تلكَ الشّخصيّةُ الّتي لا تتمكّنُ مِن تحقيق أهدافِها ولا طموحاتِها، بل تنكفئُ على نفسِها، وخيبتُها على مستوى الرّغبة، والعمل، وحتّى الشّعور...، وهناكَ الكثيرُ مِنَ الخيباتِ: السّلطانة أمّ فرج لا تُحقّقُ مأربَها مِن بدر الدّين. علي باي الخازندار يفشلُ في الانقلابِ على الملكِ برقوق. مكنونة الّتي تفشلُ في تحقيقِ الجاه، مِن خلالِ صوْتِها والتّقرّبِ إلى أصحاب السّلطة والنّفوذ، فتدفعُ روحَها ثمنًا لذلك. لكن يبقى السّؤالُ: هل تجدُ الشّخصيّاتُ نفسَها قد قامتْ بدوْرِ البطلِ أم لا؟ هل ترى جزءَ تحقيقِ المأرب، أم جزءَ الانكفاءِ ودفْعِ الثّمن؟ أيّ جزءٍ مِن الكأسِ ترى؟ وهل دفْعُ الثّمنِ كفيلٌ بإعادةِ التّفكير، أو بزَمّ الشّفتيْن والضّربِ على الصّدر ندمًا.
الرّوايةُ تعجُّ بالخيبات؛ ما قد يدفعُ القارئَ إلى التّساؤل عن جدوى الحُلم. لماذا نحلمُ إن كانت الخيبةُ تتربّصُ بنا هناك في طرفِهِ؟ وهل هي إلى هذا الحدّ، واهنةٌ واهيةٌ تلكَ الخيوطُ الّتي ننسجُ منها أحلامَنا هذه؟ يُوجّهُ خندقجي القارئَ بفِطنةٍ إلى التّساؤل عن جدوى الإقدام، والتّغيير، والرّفض، والنّيّةِ في البناء، وكأنّي به يُحمّلُ الخيبةَ خطابًا مِن نارٍ يُشعلُ سؤالَ الجدوى مِن جديد، كما جاء على لسان بدر نفسِه ص122: "ما الجدوى من حياةٍ عجزت فيها"؟ وينبشُ في أعماقِ التّوْقِ (بالتاء) سلاسلَ طوْق (بالطاء)، قد تجعلُ الباحثَ المُكدَّ يتوقّفُ عن سَعيِهِ، فيَقبلُ الواقعَ كما هو طائعًا، مسلّمًا، ممتثلًا، راضخًا، مستجيبًا، شاكرًا، راضيًا، قانعًا، قنوعًا، صاغرًا، صغيرًا، منكفئًا، عاجزًا، مُغلِقًا مَنافذَ حواسِّهِ بيديْهِ، كتمثالِ القِرَدَةِ الثّلاثة.
ونتساءلُ حيالَ حركاتِ الدّورانِ والتّأرجُح، وحيالَ ما ينتهي به الصّراعُ مِن خيباتٍ مارّةٍ بفعلِ التّقطّب، هل يكتفي خندقجي فعلًا بسرد الحدث التّاريخيّ، مُطعّمًا بالأجواءِ الصّوفيّة مِن كشف، وأحوال، وانخطاف، وحقيقة، ونور (تكرّرت الكلمة مئات المرّات)، معتمدًا على شخصيّة بدر الدّين الّتي احتارَ التّاريخُ والمُؤرّخون بأمرِها، أم يقومُ الخطابُ الرّوائيُّ في هذا العمل، على الإحالةِ إلى الحالةِ العربيّةِ الفلسطينيّةِ أو الإنسانيّةِ عامّة، في السّؤال حولَ ما نبحثُ عنه مِن مَعانٍ، في تمرّدنا ورَفضِنا للأمر القائمِ ولواقع الحال؟ هل هناك جدوى مِن الرّفضِ والتّحدّي، وصفِّ الصّفوفِ وتجنيدِ النّاس وراءَ فكرٍ، مَهما كان ساطعًا مشرقًا إنسانيًّا وعادلًا حتّى، أم أنّ في الدّنيا توازنًا ما يفرضُه الأقوياء؟
عندها هل تبقى لجذوةِ الكفاحِ الجدوى نفسَها؟ هو سؤالٌ يخترقُ التّاريخَ والمستقبلَ، ويَجثُمُ على كاهلِ الحاضر. إنّه سؤالٌ يُحرجُ الأيديولوجيّات المختلفة، ويضعُها عاريةً أمامَ النّتائج، كما عرّت الخيبةُ الصّراعاتِ، وكما تأرجحتْ على حوافِّ الأقطاب. والمقصودُ أيديولوجيّات مَذهبيّةً وسياسيّةً علمانيّةً ودينيّة، هو ليس بالسّؤال الوجوديّ فقط، والدّائر حول جدوى الحياة وما فيها من رغبات وأهداف يسعى الإنسان إلى تحقيقها، بل ويسألُ عن هذه الجدوى مقابلَ مبدأ النّهاليّة ”النّهاليزم"، وهو مبدأ رفض القِيم القائمة، كما قال نيتشة: "الإيمانُ يعني عدمَ الرّغبة في المعرفة". فهل نحن أمامَ خطاب كهذا؟ عندها تحملُ الرّوايةُ أبعادًا خطابيّةً وجوديّةً ومنهجيّة وحياتيّة ووطنيّة، تدعو إلى قراءتِها بتَرَوٍّ كبير، وتأنٍّ، وبحزمةٍ كبيرةٍ مِن النّور.
فإنّ كان الأمر كذلك، فهذه الرّواية هي كشف حساب عميق للحركة والحركات الّتي ينتهجها المرء، وهي سؤال مفتوح لجدوى التّأرجُح مقابل القبول، وجدوى الرّفض مقابل الرضوخ، وتقبّل الواقع كما هو.
مداخلة د. جهينة عمر الخطيب:
مقاربةٌ نقديّةٌ في الخطاب الصّوفيّ بينَ شخصيّتيْن صوفيّتيْن؛ بدر الدّين محمود في رواية خسوف بدر الدّين للأديب الفلسطينيّ باسم خندقجي، والحلّاج في المسرحيّة الشّعريّة مأساة الحلّاج، للكاتب المصري صلاح عبد الصّبور
تساؤلات البحث:
هل وظيفةُ الصّوفيّ أن يبقى في بوتقتِهِ ومِحرابِهِ، أم أن يسعى إلى تحقيقِ العدل والمساواة؟ لماذا وظّفَ باسم خندقجي الشّخصيّةَ التّاريخيّةَ الصّوفيّة بدر الدّين محمود؟ هل لوجود باسم خندقجي في المعتقل وثلاث مؤبّدات تأثيرٌ على روايتِه؟ لماذا المقارنةُ بين مأساة بدر الدّين وخسوفِهِ مع مأساةِ الحلّاج؟
التّصوّف:
التّصوّفُ الإسلاميّ القويمُ هو أن يبلغَ المؤمنُ درجةَ "الإحسان"، الّتي هي أعلى الدّرجات في التّوجّه إلى الله عزّ وجلّ، والّتي يُشيرُ إليها القرآنُ الكريمُ في قوله: (والّذينَ جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وإنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنينَ). (العنكبوت:69).
مراحل التّصوّف
1- إسلام: وهو الإذعانُ والاستسلامُ، والخضوعُ للدّين عن طريق القوْل الظّاهريّ، والنّطق اللّسانيّ، وأداء العبادات. والإسلام يتمثّلُ في النّطق بالشّهادتيْن والعمل الظاهر.
2- إيمان: وهو التّصديقُ بالقلب، والاعتقادُ بالعقل، والاطمئنانُ في النّفس إلى صِدق ما يقول اللّسان.
والإيمان يتمثّلُ في اعتقادِ القلب واطمئنانِ الفؤاد.
3- إحسان: وهو التّوجّهُ الكلّيُّ إلى الله، والتّعلّقُ الدّائمُ به، والتّفكيرُ الموصولُ في صفاتِهِ وآياتِه، والمراقبةُ المستمرّةُ لعظمتِهِ وجَلالِه، والمشاهدةُ المقيمةُ لأنوارِهِ وأضوائِه، وهو: "أن تعبدَ اللهَ كأنّكَ تراهُ، فإنْ لم تكنْ تراه فإنّهُ يراك". والإحسانُ يتمثّلُ في اليقينِ والإخلاص، وهذا الإخلاصُ هو لبُّ التّصوّفِ وعمادُ أمْرِه؛ ولذلك يقول إبراهيم بن أدهم ـ وهو إمامٌ مِن أئمّةِ الصّوفيّة وزعيمٌ مِن زعمائِهم ـ حينَ يصفُ طريق التّصوّف: "أعلى الدّرجات أن تنقطع إلى ربّك، وتستأنسَ إليه بقلبك وعقلِكَ وجميعِ جوارحِك، حتّى لا ترجو إلا ربَّك، ولا تخافُ إلا ذنبَك، وتُرسِّخ محبّتَهُ في قلبك، حتّى لا تُؤْثر عليها شيئًا".
نحن أمامَ روايةٍ تاريخيّةٍ، أصبغَها الكاتبُ بخيالٍ وظّفَهُ لإظهارِ إسقاطاتات على عصرنا، فشخصيّةُ الصّوفيّ بدر الدّين محمود حقيقيّة، كذلك أصدقاؤه شيخ يمينه طورة كمال وشيخ يساره مصطفى. وعندَ قراءتِنا للرّواية نجدُ روحًا واحدةً تجمعُ الرّواية، بمسرحيّة مأساة الحلّاج للشاعر المصري صلاح عبد الصّبور، وليسَ التّشابه لكوْنِها صوفيّة، بل بما تُمثّلُهُ مِن توظيفات وإسقاطات، وهذا ما ستحاول الدّراسة توضيحَهُ من خلال أفكار بدر الدّين وأهدافه في حياته، وأيضًا علاقته بأصدقائه وفي نهايته.
بدر الدّين محمود والحلّاج شخصيّتان تاريخيّتان:
بدر الدّين محمود من العلماء الصّوفيّين، عُيّن بوظيفةِ قاضي عسكر في جيش موسى أخي السّلطان محمد. والحسين بن الحلّاج عالم صوفيّ، أحد أشهر الصّوفيّين وأكثرهم إثارة للجدل عبر التّاريخ. وُلد في البيضاء في فارس عام 244 هـ/ 857م، ثمَ انتقلت أسرته إلى واسط في العراق.
نهاية واحدة
حوكم بدر الدّين وحُكم عليه بالإعدام، وأعدم في عام 1420 في سيرس.[4] وعام 1961 دُفنت عظامُهُ في تربة السّلطان محمود الثاني الّتي في طريق الدّيوان. وقُتل الحلّاج في بغداد عام 309 هـ/ 922م، على يد رجال الخليفة العبّاسيّ المقتدر، على نحوٍ بشع، حيثُ جُلدَ وصُلبَ وقُطّعتْ جُثّتُهُ وأحرِقت، وألقيَ رفاتُهُ في نهر دجلة.
أسباب قتلهما واحدة: اتّهم  بدر الدّين بالزّندقة والتّحريض على الحاكم. أجمعَ علماءُ عصر الحلّاج  على قتلِهِ، بسبب ما نُقلَ عنهُ مِن الكفر والزّندقة. (بينما السّبب الحقيقيّ خوفهم من إحداث ثورة، بسبب آرائه في الحاكم العادل).
كلاهما اختلفت الآراء حولهما:
حِججُ أصحاب الآراء المُعادِيةِ لبدر الدّين: ظهرَ زمن السّلطان محمد شخصٌ يسمّى بدر الدّين، انتحلَ صفةَ علماء الدّين الإسلاميّ، بدأ في أزنيق في تركيا يدعو إلى مذهبه الفاسد، فكان يدعو إلى المساواةِ في الأموال والأمتعة والأديان، ولا يُفرّق بين المسلم وغير المسلم في العقيدة، فالنّاسُ إخوةٌ مَهما اختلفتْ عقائدُهم وأديانُهم. واتّهموه بأنّه قال: إنّني سأثورُ مِن أجل امتلاكِ العالم، وباعتقاداتي ذاتِ الإشارات الغيبيّة سأقسّمُ العالمَ، بينَ مريدين بقوّةِ العِلم وسرِّ التّوحيد، وسأبطلُ قوانينَ أهل التّقليد ومَذهبهم، وسأحلّلُ باتّساعٍ مشاربي بعض المُحرّمات.
آراء معادية للحلّاج: اتّهم بأنّه ادّعى النّبوّة وأنّه هو الله. فكان يقول: أنا الله. وأمرَ زوجةَ ابنه بالسّجود له. فقالت: أوَيُسجدُ لغيرِ الله؟ فقال: إلهٌ في السّماء وإلهٌ في الأرض. كانَ يقولُ بالحلول والاتّحاد. أي: أنّ الله تعالى قد حَلَّ فيه، وصار هو والله شيئًا واحدًا. قيل إنّ له كلامًا يُبطلُ به أركانَ الإسلام، ومَبانيهِ العظام، وهي الصّلاة والزّكاة والصّيام والحجّ. فكان يقول: إنّ أرواحَ الأنبياء أعيدت إلى أجساد أصحابهِ وتلامذتِه، فيقولُ لأحدِهم: أنت نوح، ولآخر: أنتَ موسى، ولآخر: أنت محمد.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( مَنْ اعْتَقَدَ مَا يَعْتَقِدُهُ الحلّاج مِنْ الْمَقَالاتِ الّتي قُتِلَ الحلّاج عَلَيْهَا، فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ; فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنّما قَتَلُوهُ عَلَى الْحُلُولِ وَالاتّحاد وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ مَقَالاتِ أَهْلِ الزّندقة وَالإِلْحَادِ كَقَوْلِهِ: أَنَا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ: إلَهٌ فِي السّماء وَإِلَهٌ فِي الأرض.. وَالحلّاج كَانَتْ لَهُ مخاريقُ وَأَنْوَاعٌ مِنْ السِّحْرِ، وَلَهُ كُتُبٌ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِ فِي السِّحْرِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَلا خِلافَ بَيْنِ الأُمَّةِ أَنَّ مَنْ قَالَ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتّحادهِ بِهِ وَأَنَّ الْبَشَرَ يَكُونُ إلَهًا وَهَذَا مِنْ الآلِهَةِ: فَهُوَ كَافِرٌ مُبَاحُ الدَّمِ وَعَلَى هَذَا قُتِلَ الحلّاج)اهـ مجموع الفتاوى (2/480).
آراءٌ مُناصرة لكليهما: بدر الدّين ظهرَ في أيّام هذا الملك شخصٌ يدعى بدر الدّين، نشرَ مذهبَهُ المُؤسّسَ على المساواةِ في الأموالِ والأمتعة، وهذا المذهبُ أشبهُ شيءٍ بآراء بعض اشتراكيّي هذا الوقت. تبعَهُ خلقٌ كثيرٌ مِن المُسلمين والمسيحيّين وغيرهم، لأنّه كان يعتبرُ جميعَ الأديان سواء ولا يفرّق بينهما.
الحلّاج: ساهمَ في المُطالبةِ في تحقيق العدالة:
أدرك الخلفاءُ العبّاسيّونَ خطورةَ هذا الطّرح النظريّ سياسيّا، وخافوا أن يتحوّلَ أصحابُهُ إلى فرقةٍ ذاتِ تأثير، فقمعوا المُتصوّفة المتمرّدين كالحلّاج والشّبلي، واتّهموا الحلّاج بالزّندقة تبريرًا لقتله.
انبهارُ رجال السّلطة بهما، والّذي أصبحَ واحدًا من السّيوف الّتي وُضعت على رقبتيهما:
بدر الدّين: "وأنت ستقوم بك الدّنيا أيّها المُقبلُ على رؤاك في زاويتك، لتنتشي بمَن حولك، فهل اكتفيتَ بتحلّقهم وتشبُّثِهم الأخير بمرّقعتك" . وصل بدر الدّنيا إلى منصبٍ مرموقٍ في الدّولة فأصبح قاضي العسكر.
الحلّاج: كانت له أسهمه القويّة عندَ بعض النّافذين، بل وصُنّاع القرار داخل البلاط العبّاسيّ آنذاك، فحسب أحد النّصوص، أنّ الحلّاجَ لمّا قدِم بغداد، استطاع أن يستغوى كثيرًا من الرّؤساء. الأهمُّ مِن ذلك، أنّ السّيّدة شغب أُمّ الخليفة المقتدر كانت متعاطفةً مع الحلّاج، لدرجةٍ أنّها تدخّلت مرّاتٍ عديدةً لمنع أيّة عقوبة ضدّ الحلّاج، وقد وصفَ البعضُ تأثيرَ الحلّاج على السّيّدة شغب، بأنّه "تأثيرٌ طاغٍ"، كما كان نصر القشورى حاجب المقتدر، واحدًا من الّذين اعتقدوا في أفكار الحلّاج، وشكّلَ مصدرَ حمايةٍ له لفتراتٍ طويلة، بل إنّه حسب وصف المصادر "افتُتِنَ به"، حتّى إنّه كان يسمّي الحلّاج (العبد الصالح)، و"دافع عنه أشدّ مدافعة، وكان يعتقد فيه أجمل اعتقاد".
مواجهة الموت بشجاعة:
بدر الدّين محمود: عندما عَرفَ أنّ مصيرُهُ الموتَ لا محالة، رفضَ الاستسلامَ والخنوع، وواجهَ مصيرَهُ بشجاعة: "وأتخلّى عن النّاس الّذين وعدناهم بالنّعيم، لنفرَّ مُتستّرينَ بدمائِهم الّتي ستُهرق بسببنا، ما هذا سوى سبيل الذلّ والخديعة، أختفي يا صاحبيّ. أنا أتجلّى بنورِ عِلمي ويقيني الإلهي."
الحلّاج: حُكم عليه بالإعدام عام (922م)، وذكر الطبري المؤرّخ الشّهير الّذي عاصر الحلّاج، والّذي توفّي بعد عام فقط مِن مقتله، في كتابهِ (تاريخ الأمم والملوك) عن هذهِ الواقعة، أنّه "أخرجَ مِن الحبس، فقُطّعت يداه ورجلاه، ثمّ ضُربَ عنقه، ثمّ أحرِقَ بالنّار". وهذا التّكتّمَ كان نتاجَ محاربةٍ لكلّ مؤلفات أو محدثين، آتوا بالذكر عن التّصوّف.
وعن إبراهيم بن فاتك قال: "لمّا أُتيَ بالحسين بن منصور ليُصلَب، رأى الخشبةَ والمساميرَ فضحكَ كثيرًا حتّى دمعت عيناه. ثمّ التفتَ إلى القوم فرأى الشّبلي بينهم فقال له: يا أبا بكر، هل معك سجّادتك. فقال: بلى يا شيخ. قال: افرشها لي. ففرشها فصلى الحسين بن منصور عليها ركعتيْن، وكنتُ قريبًا منه. فقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وقوله تعالى"لنَبلوَنّكم بشيءٍ من الخوفِ والجوع" الآية، وقرأ في الثانية فاتحة الكتاب وقوله تعالى "كلّ نفس ذائقة الموت" الآية، فلمّا سلم عنها ذكر أشياء لم أحفظها وكان ممّا حفظته: اللّهمّ إنّك المُتجلّي عن كلّ جهة، المُتخلّي من كلّ جهة. بحقّ قيامِك بحقّي، وبحقّ قيامي بحقّك. وقيامي بحقّك يُخالف قيامك بحقّي. فإنّ قيامي بحقّك ناسوتيّة، وقيامك بحقّي لاهوتيّة. وكما أنّ ناسوتيّتي مُستهلكة في لاهوتيّتك، غير ممازجة إيّاها، فلاهوتيّتك مُستولية على ناسوتيّتي غير مماسة لها. وبحقّ قِدمك على حدثي، وحقّ حدثي تحت ملابس قِدمك، أن ترزقني شكر هذه النّعمة الّتي أنعمت بها عليّ، حيث غيّبت أغياري عمّا كشفت لي من مطالع وجهك، وحرمت على غيري ما أبحت لي من النّظر في مكنونات سرّك، وهؤلاء عبادُك قد اجتمعوا لقتلي تعصّبًا لدينك وتقرّبًا إليك. فاغفر لهم، فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفت لي، لَما فعلوا ما فعلوا، ولو سترتَ عنّي ما سترت عنهم لَما ابتُليت. فلك الحمد في ما تفعل، ولك الحمد في ما تريد، ثمّ سكت وناجى سرًا. فتقدّم أبو الحارث السّيّاف، فلطمه لطمةً هشم أنفه وسالَ الدّمُ على شيبه. فصاحَ الشّبلي ومزّقَ ثوبه، وغشى على أبي الحسين الواسطي وعلى جماعة من الفقراء المشهورين. وكادت الفتنة تهيجُ، ففعل أصحاب الحرس ما فعلوا".
رؤية مشتركة للمؤلفين من الرّواية من خلال توظيف التناص التّاريخيّ:
صراع بدر الدّين: "كان يُعاندُ مصيرًا كُتب عليه. لم يكن يشأ لنفسه مقام أبيه ومصيره. سكنه إحساس بالنضج والعلوّ أسمى من وصيّة أبيه، يتخبّط ما بين موتٍ وحياة، وحربٍ وسلام، خاضَ أعماقَ الدّنيا، وخاضَ سحرَها وعوالمَها الخفيّة. تاه في نوازع نفسه. تهتّك وشهد خرابه، بعد أن علّمه الحكماء هناك أنّ السّاعي للسّموّ بذاته، عليه أوّلًا أن يحطّ من قدر نفسه وكبريائه، ليُحاربَ نفسَهُ بنفسِه"
لقد واجه صراعًا ذاتيًّا بين الكلمة والفعل، فهل على الصّوفيّ الاكتفاءَ بعالمِهِ وزاويتِه، أم عليه اختراقها لينتقلَ إلى مرحلةِ الفعل؟ "تُعبّر أوجاعُ البلوغ إلى عين عقلك، والغيُّ فيك أحرقَ قلبك وأضلعك. وأنت الغريبُ الوحيدُ القلِقُ المُبصر، الأعمى المتمرّدُ الخانعُ الضّالُّ المؤمن، المُخطئ التّائب، المعلّمُ الجاهل، الفتى الكهل، عبدُ الشّهوة وعبدُ التّوبة، اُصرخ، اُصرخْ بالله عليك وقلْ لي ماذا تريد"
لقد عانى بدر الدّين صراعًا، ذاقَ الخطيئةَ ليعرفَ قيمةَ التّوبة، وقد استقرَّ رأيُهُ رغمَ حيرتِه، بأنّ على الصّوفيّ مهمّة الفعل، ولن يكتفي  بشرنقتِهِ الصّوفيّه، فيعرفُ التّصوّف وهو استشهاد من الكاتب لقول للإمام الصّوفيّ الجنيد بقوله: التّصوّف، أن يُميتَكَ الحقُّ عنك ويُحييكَ به، الحقّ الّذي يُنيرُ الوجوهَ ويكسو الدّنيا ببياضٍ ناصع، يُذهبُ عن العباد سوادَ الجهل والخنوع."
صراع الحلّاج: من أهم الجمل الّتي جاءت في مسرحية مأساة الحلّاج:" ليس الفقر هو الجوع إلى المأكل أو العُرْي والحاجة إلى كسوة. الفقر هو استغلال لقتل الحب وزرع البغضاء". والمسرحيّة هي نقدٌ سياسيّ اجتماعيّ، وهي بالأحرى مأساةُ صلاح عبد الصّبور، مأساة المثقّف.
ما كان يشغل صلاح عبد الصّبور والحلّاج قبله، هو البحث عن الحقّ والعدل والإصلاح السّياسيّ والاجتماعيّ، وتحويل الكلمة إلى فعل، ومن هنا كمنت مأساته ليس بقتله، بل في عجزه عن تحويل الكلمة إلى فعل. وقد استدعى صلاح عبد الصّبور شخصيّة الحلّاج، وهي الشّخصيّةُ الإشكاليّة الّتي سبّبت الحيرة لمَن حوله، فبعضهم اعتبره صوفيّا، وبعضُهم اعتبرَه زنديقا. وقد اختاره صلاح عبد الصّبور لأنّ زمنَه يُشابه زمنًا عاش فيه صلاح عبد الصّبور 1964، زمن الكبت السّياسيّ الاجتماعيّ.
كما أنّ الحلّاج كان يرى التّصوّف جهادًا متواصلا للنفس، بالابتعاد بها عن متع الدّنيا، وتهذيبها بالجوع والسّهر، وتحمّل عذابات مجاهدة أهل الجور، ويبثّ روح الثورة ضدّ الظّلم والطغيان، وفي هذه الصّفات وجد صلاح عبد الصّبور ضالته، فتقنّع بقناع الحلّاج، والقناعُ هو أسلوبٌ حداثيّ في القصيدة العربيّة، يُوظّفه الشّاعر فيتقمّص شخصيّة تاريخيّة للتّعبير عن مأساة الواقع العربيّ، وعن معاناة الإنسان، فهنا تعبيرٌ فنّيّ يتجاوزُ فيه الشّاعر ذاتيّتَه، فيما تتجاوز مَعاني القصيدة محدوديّة زمنها، فيتحدّث الشّاعرُ عن نفسِهِ متجردًا من ذاتيّتِهِ بقناع شخصيّة أخرى، فالقناعُ أداةٌ رمزيّة اتّخذها صلاح عبد الصّبور، ليرمز بها إلى كلّ مثقّف عربيّ.
الحلّاج يمثّل البطل المتمرّد الّذي يحاول قول رأيه، ويطرح على المجتمع رؤيته، فالحلّاج عند صلاح عبد الصّبور قد رأى الفقر والجوع والفساد في المجتمع، فينكر عزله الصّوفيّ ويخلع الخرقة (مثال الزهد الصّوفيّ)، فينزل إلى النّاس خالعًا خرقته ليدعوهم إلى الله ليكونوا مثله أقوياء، وقد توقّف صلاح عبد الصّبور طويلًا أمامَ شخصيّة الحلّاج، وقرأ ما كتبه القدامى والمستشرقون عن هذه الشّخصيّة، وآثرَ أن يَبعثها من جديد، فيُقدّمُها  في صورة الثائر الدّينيّ والمُصلح الاشتراكيّ، فقدّم لنا بطلًا، قضيّتُهُ الأساسيّة هي محاربةُ الظلم والفقر، الفقر بمعناه الرّوحيّ والمادّيّ، ومن هنا فقد ركّز على الجوانب الّتي تجعلُ منه رجلًا ربّانيًا يكرهُ الطغيان وينشد العدل. إنّ الحلّاج الّذي أعطاه الله نورَ المعرفة، يعرفُ دوْرَهُ كثائرٍ دينيّ، وأولى خطوات هذه المعرفة أن يخلَعَ الخرقة الّتي تعني تجرّدَهُ الصّوفيّ من متاع الدّنيا وينزلّ إلى النّاس، وهو يعي أن الصّوفيّين الّذين يرون إرضاء الله بشعارهم "الخرقة"، سيرَوْن أنّهم  سيرضونه أكثر بخلعها في سبيل العبادة. إنّ البطل هنا يبدأ في أولى خطوات التّمرّد، حينما يرى في الاحتجاب من أعين النّاس احتجابًا عن عين الله وبُعدًا عنه، ولذا يخلعُ الخرقة في محبّة النّاس الّذين يُحبّهم في مرضاة الله. إن الحلّاج حينما يخلع الخرقة، فإنّما يريد أن يكون حرًّا، حتّى لا تكون هذه الشّارة قيدًا على عقله وعلى لسانه، يمنعه من التّفكير في أسباب امتلاء دنيا الله بالفقر والقهر والمهانة.
إنّ مأساة الحلّاج الحقيقيّة ليست في استشهاده، أو عجزه عن اتّخاذ قرارٍ بالهرب من السّجن، وإنّما مأساته الحقيقيّة في عجزه الفادح عن تحويل الكلمة إلى فعل، أي الصّراع بين القضيّة الضّروريّة تاريخيًّا، وبين الاستحالة العمليّة لتحقيقها، وعلى صليب هذا الصّراع يتمزّق، حتّى قبلَ أن يُصلب فعلًا عبر شكوكه، فيرى الحلّاج أنّه يستحقّ الموت لأنّه باح بعلاقته بالله. 
دلالات مشتركة لعنوان المؤلفين:
خسوف بدر الدّين: تم توظيف اسم الشّخصيّة التّاريخيّة بدر الدّين محمود. بدأها بكلمة خسوف بحيث وظّف التورية بوجود المعنى الحقيقيّ لخسوف القمر والبدر إلى خسوف.
مأساة الحلّاج: تمّ توظيف اسم الشّخصيّة التّاريخيّة الحلّاج، وتمّ توظيف كلمة مأساة بتورية، ففعلًا مصير الحلّاج شكّل مأساته، ولكن صلاح عبد الصّبور أسقط مأساة المثقّف المضطهد عليها.
علاقة بدر الدّين بصديقه طورة: "ستكون شيخ يميني يا طورة ستكون شيخ يميني"
طورة رافق صديقه ومعلمه بدر الدّين، وكان من مريديه وأتباعه، وبقي معه في كلّ الظّروف. "طورة الّذي لم يبارك سُنّةً يحفظ عبرَها اسمَه فوق الأرض، ما دام بدر لم يقتدِ بها، هو الصّديق بصمت والرّفيق بإخلاص، والمريد بوَجْد، تلاشى ليصون بدرًا ويتقن تعاليمه ورؤاه، بعيدًا عن حياة عاديّة ملؤها السّعادة والاستقرار، في بيت هانئ برفقة زوجة تحفظ نسله بأبناء مِن بعده. كان همّه بدر ورفقة بدر ومذهب بدر، لينصره حتّى الموت، حتّى الفداء."
الحوار الصّوفيّ بين بدر الدّين وطورة: "إلام تسمو يا صديقي/ إلى الحياة إلى النّور والأمل إلى الحبّ والعدل"/ هذا ما ستجده في متون كتبك وحواشيها فقط/ وضعت الكتب لفهم الحياة وإدراك مصائرنا فيها، ولم توضع في سبيل تعليم طفل، لا يملك من أمره شيئا سوى حظ أبيه وسطوته"
الحوار الصّوفيّ بين الحلّاج والشبلي: لكن يا أخلص أصحابي نبئني/ كيف أميت النّور بعيني/ هذي الشمس المحبوسة في ثنيات الأيّام/ تثاقل كلّ صباح، ثمّ تنفض عن عينيها النّوم/ ومع النّوم الشّفقة/ وتواصل رحلتها الوحشيّة فوق الطرقات/ فوق السّاحات الخانات المارستانات الحمامات/ وتجمع من دنيا محترقة/ بأصابعها الحمراء النّاريّة/ صورًا أشباحا تنسج منها قمصانًا/ يجري في لحمتها وسداها الدّم/ في كلّ مساء تمسح عيني بها/ توقظني من سبحات الوجد/ وتعود إلى الحبس المظلم/ قل لي يا شبلي أأنا أرمد/ لا بل حدّقت إلى الشّمس/ وطريقتنا أن ننظر للنّور الباطن/ ولذا فأنا أرخي أجفاني في قلبي/ وأحدّق فيه فأسعد/ وأرى في قلبي أشجارًا وثمارًا/ وملائكة ومُصلّين وأقمارا"
الكشف لدى الصّوفيّين: يعرف الكشف الصّوفيّ بأنّه كشف الحجب عن أولياء الصّوفيّة، فيرَوْن ويسمعون ويعلمون ما لا يعلمه النّاس من مغيبات، سواء الماضية أو الحاضرة أو المستقبليّة.
الكشف لدى بدر الدّين: في عمرك المرهَق لم تعتِّق فؤادَك تلك الأصواتُ الهاتفةُ الصّاخبةُ الهامسة الباكية، لتُبدي لك الأصوات الّتي كانت تقودك إلى غياب أدهش من حولك، وأثار خشيتهم الّتي كانت تقودك إلى غياب أدهش من حولك وأثار خشيتهم منك. أكثر من سبع سنين وفي كلِّ سنة كنت تنال من هذه الأصوات نبر نورها وحروف ضيائها، لتجمع الحرف على الحرف والكلمة على الكلمة والجملة على الجملة، لتُبدي لك الأصوات بسرِّها وتصدّ، ثمّ جاهدت أنت وغبت أكثر لتُصغي برهافة ووجل إلى الهمس. من أين ينبعث الهمس؟ من أين أتاك؟ من قلبك من سمائك؟ من عقلك من روحك؟ من أين أتاك الهمس فأدماك وسوّاك ممسوسًا غريبًا ملقى هنا؟ فهل أدركت العبارة يا بدر؟ وأنت تقول بسطوع نورك في حلقة العلم، وما أدراك أنّه نور وحق مبين؟ هل صدّقت أنّ عبارتك سماويّة، وأنّ نبرها وحرفها ولغتها كلّها سماء؟ هل أنت ابن كلتيهما: ابن السّماء وابن الأرض؟ هل سيرحمك ربّك."
الكشف لدى الحلّاج: الحلّاج:لا إني أشرح لك/ لم يختار الرحمن شخوصا من خلقه/ ليفرق فيهم أقباسًا من نوره/ هذا، ليكونوا ميزان الكون المعتـّل/ ويفيضوا نور الله على فقراء القلب/ وكما لا ينقـُصُ  نور الله إذا فاض على أهل النّعمة/ لا ينقص نور الموهوبين إذا ما فاض على الفقراء.
"رؤية بدر الدّين لسياسة البلاد": غير أنّ  هذا الأمير غرّه النّصر، وتغاضى عن التّقوى والرّأفة بالمغلوبين على أمرهم. وما أنا من حيرة تلبّستني، ما سببه إلا عجزي عن إفهامه وجذبه أي قيم مذهبنا ومعانيه، إذ إنّني كنت قد توسّمت فيه خيرًا وسندًا لنصرة المظلومين، ولكنّ العمى أصاب فؤاده، فالصّبر يا إخوتي، فلن تطول غيبة الإشارة. وعن طريق الدّم هذا لا ذنب لنا فيه، إذ هو طريق سيؤدّي بنا حتمًا إلى إزالة الجور وإحقاق العدل والانعتاق"
رؤية الحلّاج في سياسة البلاد: "الحلم جنين الواقع/ أمّا التّيجان/ فأنا لا أعرف صاحب تاج إلا الله/ والنّاس سواسية عندي/ من بينهم يختارون رؤوسًا ليسوسوا الأمر/ فالوالي العادل/ قبس من نور الله ينور بعضًا  من أرضه/ أمّا الوالي الظالم/ فسِتارٌ يحجب نور الله عن النّاس/ كي يُفرج تحت عباءته الشّرّ/ هذا قولي.. يا ولدي، "الشّرّ استولى في ملكوت الله/ حدّثني.. كيف أغضّ العينَ عن الدّنيا/ إلّا أن يظلم قلبي" 
بدر الدّين والغواية: "ثقلت أنفاسه وضاق صدره، وانفجر قلبه بدقّات صاخبة، ذهب صوته. لم يلتفت وهي على وتيرة فتنتها، تذهب وتجيء في ظهره، متأوّهة دافنة شبقها في ظهره. قتلته بأنفاسها وجسدها الخصب. كاد يلتفت يقع يخترقها ويدميها، كي تسمع القاهرة كلّها صرخة اكتفائها، إلّا أنّ صوتًا خفيًّا هتف في أذنه: "طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره"   حكمة للصّوفيّ الدّرويش بشر الحافي.
"لقد نالك الكشفُ، والكشفُ عريٌ مقدّس. نحن لا ننتهكُ ولا نُعرّي الجسدَ في سبيل اللّذّة والعهر، بل سعيًا وراء السّرّ والنّور. نحن ننكشف لنحتجب. اُنظر إلى الشّمس: على الرّغم من نورها السّاطع فإنّنا لا نراها، ولا نقوى على التّحدّيق إليها. هي دفؤُنا، هي المحتجبة في سرمديّة هذا الفضاء"
"لا تفتح عينيك فلن تراني، وعد من حيث أتيت، وامضِ فقد استعدت نورك، إن حجبته فسينير، وإن هربت منه فسيهرب منك إليك، فلا تجزع من غروبٍ ما بعده إلّا شروق. النّور يُشرق منك أيّها المبارك بنور الله" 
نهاية بدر الدّين وأسبابها: حوكم ثم حكم عليه بالإعدام، وأعدم في عام 1420 في سيرس.  وعام 1961 دفنت عظامه في تربة السّلطان محمود الثاني.
نهاية الحلّاج وأسبابها: قُتل الحلّاج في بغداد عام 309 هـ/ 922م، على يد رجال الخليفة العبّاسيّ المقتدر، على نحوٍ بشع، حيثُ جُلدَ وصُلبَ وقُطّعتْ جُثّتُهُ وأحرِقت، وألقيَ رفاتُهُ في نهر دجلة. "أترى نقموا منّي، إنّي أتحدّث في خلصائي/ وأقول لهم إنّ الوالي قلب الأمّه/ هل تصلح إلّا بصلاحه/ فإذا وُلّـيتــُم لا تنسوا أن تضعوا خمر السّلطة/ في أكواب العدل؟"
رؤية النّور في آخر النّفق رغم سوداويّة النّهاية:
رواية خسوف بدر الدّين: رغم سوداويّة الحياة نحن محكومون بالأمل، كما قال سعد الله ونّوس،  والأمل ينفض في كلّ حنايا الرّواية رغم النّهاية المأساويّة، فقد مات بدر الدّين، دفاعًا عن مفاهيم تبعث الأمل في النّفوس، ودفاعًا عن العدل، دفاعًا عن المساواة، دفاعًا عن الإنسانيّة بكلّ معانيها، مهما كان عرقك ولونك ودينك.
مسرحيّة مأساة الحلّاج: كذلك مسرحيّة مأساة الحلّاج تبعث الأمل رغم كلّ شيء، من خلال المطالبة بأمور مثل التآخي بين البشر، وحرية المثقّف "بل أبغي لو مدّ المسلم للمسلم كفّ الرحمة والود" (مأساة الحلّاج، ص73) كان يقول: كان مَن يقتلني مُحقّقُ مشيئتي/ ومُنفّذُ إرا دة الرحمان/ لأنّه يصوغ من تراب رجل فانٍ/ أسطور َ ً وحكمةً وفكرة". وكان يقول: إنّ مَن يقتلني سيدخلُ الجنان/ لأنّه بسيفه أتمّ الدّورة/ لأنّه أغاث بالدّماء إذ نخس الوريد/ شجرة جديبة زرعتُها بلفظي العقيم/ فدبّتِ الحياة فيها، طالت الأغصان/ مثمرة تكون في مجاعة الزّمان/ خضراء تعطي دون موعد، بلا أوان  (مأساة الحلّاج ص 11).
ما أراده باسم خندقجي وصلاح عبد الصّبور من إبداعيْهما: الإنسانيّة، المساواة بين جميع الأجناس والأعراق، العدل وحرّيّة المثقّف.
الخاتمة: خسوف بدر الدّين خروجٌ عن المألوف في رواية أدب السّجون، تميّزت بلغةٍ راقيةٍ وانسيابيّةٍ في الوقت ذاته، وتوظيفٍ مائزٍ للتّاريخ الصّوفيّ، وإبداع خلف القضبان بحبكة جاذبة.
مداخلة د. عادل الأسطة بعنوان: سطوة الشّاعر باسم الخندقجي في "نرجس العزلة".
باسم الخندقجي شاعر وروائيّ يقبع في الأسر من سنواتٍ طويلة، وهو محكوم بغير مؤبّد. صدر له حتّى الآن، ديوانا شعر وروايتان ومنثور روائيّ. بدأ باسم يكتب الشّعر ثمّ تحوّل إلى كتابة الرّواية التّاريخيّة، فصدرت له روايتان هما "مسك الكفاية" و"خسوف بدر الدّين"، والرّوايتان يعود زمنُهما الرّوائيّ إلى فترة العبّاسيّين وما تلاها.
تجربة باسم تجربة تُلفت النّظر لغير سبب، فهو يقبع في السّجن ولا يكتب عن تجربته فيه، وهو بذلك يختلف عن سجناء كثر كتبوا عن عالم السّجن وتجربتهم فيه، وتكاد أعمالهم تقتصر على تجربتهم ومحيطها، ومنهم وليد الهودلي، عصمت منصور، هيثم جابر وعائشة عودة، ومن قبل هشام عبد الرّازق.
ويحقّ للمرء أن يتساءلَ عن السّبب: لماذا يكتب باسم عن عوالم لم يعشها، ويلجأ إلى التّاريخ ولا يكتب عن عالمه؟ هل قرأ نتاجات أدب السّجن، ورأى أنّه لن يضيف إليها أيّ شيء جديد؟ هل يعتقد أنّ القارئ أشبع قراءة عن حياة السّجن، وأنّه بحاجة إلى نصوص مختلفة؟ هل هو شخصيّا مُغرم بالتّاريخ وبالرّواية التّاريخيّة؟ وهل تربّى في أحضان الرّواية التّاريخيّة، فقرأ جرجي زيدان وأمين معلوف وغيرهما، فأراد مواصلة الكتابة في هذا النّوع من الرّواية؟
ولكن باسم قبل أن يكتب الرّواية والرّواية التّاريخيّة، كتب الشّعر وأصدر فيه ديوانيْن، وتحوّل بعد كتابة الشّعر إلى كتابة الرّواية، وهو في هذا الجانب ليس استثناء. الشّعراء العرب الّذين أخذوا يكتبون الرّواية، وغدوا يُعرفون على أنّهم روائيّون أكثر مما يُعرفون شعراء، كثيرون.
ظاهرة كتابة الشّعراء الرّواية وهجران الشّعر تُحيل إلى كتب نقديّة لنقّاد بارزين التفتوا إلى هذا، وقد أصدر النّاقد المصريّ المعروف جابر عصفور كتابًا نقديًّا عنوانه "زمن الرّواية"، ويتزامن مع سؤال زمن الرّواية سؤال آخر هو سؤال موت الشّعر، وليس هذا السّؤال مقتصرًا على الأدب العربيّ، ففي فرنسا كتب مرّة ناقد في ثمانين القرن 20: "إنّهم يَدقّون آخر مسمار في نعش الشّعر".
في الأدب الفلسطينيّ التفت دارسون ونقاد إلى الظاهرة، وكتبوا عن شعراء معروفين غدوا يكتبون الرّواية، ومن الشّعراء سميح القاسم وإبراهيم نصر الله وأسعد الأسعد وزكريا محمد، وظاهرة إبراهيم نصر الله تُعدّ الأكثر بروزًا، وهو يكاد الآن يُعرف روائيًّا بالدّرجة الأولى، فرواياته هي الّتي جلبت له الجوائز في الفترة الأخيرة لا دواوينه الشّعريّة.
باسم مال مؤخّرًا إلى الرّواية، وآخر أعماله الصّادرة هذا العام في بيروت هي روايته التّاريخيّة "خسوف بدر الدّين"، وقبل عاميْن ونصف العام صدر للكاتب نصّ عنوانه "نرجس العزلة" 2016، وقد أدرج على غلاف الكتاب دال "رواية"، لكنّ الصّفحات الدّاخليّة الّتي احتوت على تصنيف المؤلف لا النّاشر، اعتمدت عبارة "منثور روائيّ، ولم تعتمد دال رواية، وإذا نظر المرء في متن النّصّ، فإنّه سيقرأ عن تجربة فلسطينيّ يكتب الشّعر، ولكنّه بدأ يحاول كتابة الرّواية، وقد كتب رواية للفتاة الّتي أحبّها في أثناء دراسته الجامعيّة، ثمّ أهداها المخطوط، ولم يعد يملك نسخة عنه، ولا يعرف صاحبه ماذا فعلت به، بعد أن تزوّجت وسافرت إلى دولة نفطيّة.
"منثور روائيّ" عبارة لافتة تُحدّد جنس "نرجس العزلة"، وفيه مزج بين النّثر والشّعر. كما لو أنّ ما كُتب هو شعر نثر. و"منثور روائيّ" تُذكّرنا بعباراتٍ عرفها الأدب العربيّ، هي نثر المنظوم أو نظم المنثور.
والصّحيح أنّ الأدب الفلسطينيّ لم يَخلُ مِن نصوص نثريّة غلب عليها روح الشّعر. من "يوميّات الحزن العادي"، إلى "ذاكرة للنّسيان"، إلى "في حضرة الغياب" لمحمود درويش،  إلى "دفاتر فلسطينيّة" لمعين بسيسو، إلى "إلى الجحيم أيّها اللّيلك" لسميح القاسم، إلى شعراء كتبوا الرّواية مثل محمد القيسي و.. و..
من بين الأسماء السّابقة الذكر يستحضر قارئ "نرجس العزلة" كتب محمود درويش النثريّة المشار إليها، وأبرزها "في حضرة الغياب"، وكأنّ سطوة الشّاعر درويش سطوة لا يقدر كثيرون على مقاومتها، وأنا طبعًا في مقالاتي منهم.
هل قرأ باسم للتوّ "في حضرة الغياب" و"يوميّات الحزن العادي" و"ذاكرة للنّسيان"، ثمّ شرع في الكتابة؟
ما يغلب على نصوص درويش في كتابيْن من الكتب الثلاثة، هو توظيف الضّمير الثاني في الكتابة، وهو ضمير الأنا أنت، حيث يُجرّد من نفسه شخصًا آخر يُخاطبه، وتغدو الكتابة مونولوجًا طويلا، وقد توقّف الدّارسون، وأنا منهم، أمام هذا الأسلوب، بل إنّني وجدتُني أوظّفه في أكثر ما كتبت، ولسوف أجتهدُ في إيجاد مبرّرات ومُسوّغات للّجوء إليه، في حالة لجأ إليه كاتب، ومثل نقّاد كثر لم أرَ فيه لعبة شكليّة أو نزوعًا نحو التّنويع في أساليب القصّ والكتابة ليس إلّا.
يبدو نصّ "نرجس العزلة" مونولوجًا طويلا، وكاتبُه الّذي يدرس الأدب في جامعة النّجاح، خلافًا لرغبة أبيه، وظّف ضمير الأنا أنت، وان كان في صفحات مُعيّنة يستخدم الضّمير الثالث وأحيانا الضّمير الأوّل، فنصغي إلى ساردٍ يقصّ بصيغة الفعل المضارع عن الشّاعر الشّاعر، وهو يحلم بكتابة رواية (ص88 وما بعدها)، ونصغي إليه يتحدّث عمّا يُلمّ به، ويورد الكاتب هنا كلام الشّخصيّة بين علامات تنصيص.
يلجأ الشّاعر إلى العزلة، ويكتب نصّه الأقربَ إلى سيرته الذاتيّة، ويعترف الشّاعر أنه شيوعيّ فلسطينيّ ينتمي إلى حزب الشّعب الفلسطينيّ، ويُقرّر العزلة الشّخصيّة لمدّة مُحدّدة، وللعزلة أسباب، فقد شعر بالضّجر والقرف ممّا آلت إليه أوضاع الفلسطينيّين، بعد نهاية الانتفاضة الأولى الّتي يتغنّى بها كثيرًا، ومع توقيع اتّفاق (أوسلو) ومجيء السّلطة، ويُقدّم نقدًا عنيفًا لمَن سار في رِكابها مِن مناضلي الأمس ويسخرُ منهم، ويظلّ يتحسّر على الشّهداء، ومنهم صديقه أمجد الّذي استشهد في الرّصاصة الأخيرة الّتي أطلقها جنود الاحتلال، قبل انسحابهم من المدن الفلسطينيّة بعد توقيع الاتّفاقيّة.
ويكون لأمجد حضورٌ كبيرٌ وتأثيرٌ بارز في ذهن الشّخصيّة المُتكلّمة في النّصّ، فقد كان صديقَهُ المُقرّبَ فكريًّا وشخصيّا، ويمكن القول إنّه مرجعيّته الّتي يتكئ عليها في رفض ما آلت إليه الأوضاع، ولم يكن المتكلم ليصدّق ما يجري، حيث النّقاء الثوريّ الّذي كان هو وأمجد وجيل الانتفاضة يتمتّعون به قد غدا من الماضي، وحلّت مَحلّه الانتهازيّة والمشاريعُ التّنمويّة المُموّلة من جهات غربيّة، لا يَهمُّها المشروع الوطنيّ، على أنّ السّببَ الأساسَ للعزلة يكمنُ في الرّغبة بالإبداع. "نعم، ستُجدّدُ عزلتك، ستفضّ المَطالع وتكتبها، ستمارس فوق الصّفحات عشق قصائدك، ستكتب نصًّا، ستبدع".
والشّخصيّة الرّوائيّة صاحبةُ المونولوج تُقرّ بأنّها شخصيّة مُتناقضة مع نفسها، فهي شخصيّة يساريّة تشرب الخمر، ولكنّها تفكّرُ في الارتباط بفتاة جامعيّة مُحجّبةٍ ومتديّنة، وهذا ما لفت نظر الأستاذة الجامعية بربارة الّتي رغبت فيه واشتهته، إذ تقول له: "لكنّها مُتديّنة أيّها الأحمق، وأنت كومونست شيوعيّ؟" (ص60).
ويعترفُ هو بأنّه شخصيّة متناقضة: "تضحك بصوت عال من تناقضك" (ص57).
ويبدو هذا اليسار

42
قراءةٌ في الجزءِ الأوّلِ مِن الرّسالةِ الثامنة للشّاعرة آمال عوّاد رضوان
(من كتاب الرّسائل: أتخلدني نوارس دهشتك)
بقلم: م. رفعت زيتون
بعدَ قراءتي للإصدارِ الجديدِ (أَتُخَلِّدُني نَوَارسُ دَهشَتِك)، وهو رسائل أدبيّةٍ بينَ الشّاعر الفلسطينيّ وهيب نديم وهبة والشّاعرةِ الفلسطينيّةِ آمال عوّاد رضوان، اخترتُ أنْ أتناولَ الجزءَ الأوّلَ مِنَ الرّسالةِ الثّامنةِ بالتّحليلِ والقراءةِ، مِن حيثُ دلالة الألفاظ، والأساليب البلاغيّة المستخدمة، وكذلك أسلوب الشّاعرة، وأودُّ أنْ أنوّه، إلى أنّ هذه القراءةَ الانطباعيّةَ ليست تفسيرًا للنّصّ، بقدر ما هي رؤية من زاويةٍ خاصّة، بناءً على بعض التّفاصيل الّتي وجدتُها، وتلك العلاقاتِ الّتي استقرأتُها بينَ السّطور والكلمات، ودائمًا يبقى المعنى الحقيقيُّ في بطن الشّاعر كما يقولون، والنّصُّ الفاشلُ هو ذلك النّصُّ الّذي يَتّفقُ القرّاءُ على معناه، فتراهُ مباشرًا ضيّقَ الأفق، لا يحتاجُ مِن القارئ أدنى مجهودٍ لفهْمِه، بينما النّصُّ الّذي يمكنُ أخْذُهُ على أكثرَ مِن معنى، يكونُ نصًّا مُدهشًا ناجحًا، شرطَ أنْ يُراعي الأدواتِ الكتابيّةَ الصّحيحةَ والبليغة، بوجودِ المفاتيح المنطقيّةِ لتلكَ الرّؤى والتّصوّرات.
تقولُ شاعرتُنا في مقدّمة هذه الرّسالة: (أَنَا الظِّلُّ الْهَائمُ/ فِي ضَبَابِ الْأَمْسِ/ مُنْذُ الْأَزَلْ!/ كَمْ تَرَنَّمَتْ بِيَ الرِّيحُ/ مُذْ تَلبَّسَتْنِي!)
تبدأ آمال عوّاد رضوان بهذا التّشبيهِ البليغ (أَنَا الظِّلُّ الْهَائمُ)، وبما أنّ لكلِّ لفظٍ هدفَهُ ومُرادَهُ الّذي يَبتغيهِ الكاتبُ لبلوغ مَعناه، فإنّه يكونُ لِزامًا على الكاتب أنْ يُوصِلَ هذا المعنى للقارئ، بأبلغ وأدَقِّ كلمةٍ ممكنة، وكذلك بسلوكِ أقصر الطّرق، وأكثرها إيجازًا وتكثيفا. وهذا ما سلكَتْهُ الشّاعرة في هذه الجملةِ القصيرة جدًّا، لتفتحَ أبوابَ التّساؤلاتِ لدى القارئ. فهل كانَ استخدامُها لهذهِ الألفاظِ بليغًا؟ وكي نجيبَ على هذا السّؤال، يجبُ أنْ نبحثَ في دلالةِ استخدام اللّفظ، وهل خدمتْ هذه الألفاظ المعنى كما يجب أم لا؟ وقد قالَ البلاغيّون في ذلك: إنّ اللفظَ خادمٌ للمعنى، ودلالة هذا اللفظ هي مَن تُقرّرُ نجاحَ ذلك مِن فَشلِه. كلمةُ (أنا) في البدايةِ توحي بتخصيصِ الحديثِ عن الذّات، وهذا هو نهجُ الشّاعرة في جُلِّ رسائلِها الّتي قرأتُ، وبالتّالي، فالقضيّة قضيّةٌ ذاتيّة، قد تُعبّرُ عن ذواتٍ أخرى تشابهتْ معها صدفة، وقد تُريدُ بها الذّات الإنسانيّة عمومًا، فما ذاتُها إلّا جزءًا مِن هذا النّسيج العامّ للبشريّة، ثمّ تأتي بتعريفِ هذه الذّات بأنّها (الظِّلُّ الْهَائمُ)، والظّلُّ هو الخيالُ النّاتجُ عن الأشياءِ في اتّجاهِ أشعّةِ الشّمس، أو أيّ مصدرٍ للضّوء.
ولْنتخيّلْ هذهِ الحالةَ للذّاتِ في تلك اللّحظةِ الوجدانيّةِ مِنَ التّعبير، فالذّاتُ هنا محضُ خيال، لو حاولتُ لمْسَهُ لوجدتُهُ لا شيء، والخيالُ ليسَ هو حقيقةُ الأشياء، وإنّما صورة لها. وخيالُ الشّيء، هذا الواقعُ في منطقةِ الظّلّ، يكونُ في منطقةٍ محجوبة عن الضّوء وكذلك عن الحرارة، لأنّ الضّوءَ والحرارةَ اصطدمتا بالشّيء الّذي كوّنَ الظّلّ، بمعنى أنّها ذلك الخيالُ القابعُ في عتمةِ الموقفِ وفي بردِه، وشتّانَ بينَ الشّيء الحقيقيّ في منطقةِ الدّفءِ والضّوء، وبينَ الخيال في العتمةِ والبرودة كما جاءَ في الآيةِ الكريمة: (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَات) سورة فاطر:19-22. وهنا أجدُ أنّ كلمةً واحدةً عبّرتْ بها الشّاعرةُ عن حالةِ موتٍ سريريّ، فالخيالُ والبرودةُ والعتمة ما هي إلّا صورةً للموتِ أو مَدخلًا له، حتّى وإنْ كان قلبُ هذا الخيال نابضًا، فلا حياةٌ ولا فرحٌ ولا محبّة تُصاحبُ هكذا حال.
لم تتوقّفْ شاعرتُنا عند هذا الوصفِ لحالةِ الذّات، وإنّما أَتبَعَتْ لهذا الظّلّ وصفًا آخرَ، عندما استخدَمَتْ كلمةَ (الْهَائمُ)، والهائمُ مُرادفٌ في معناهُ للضّالِّ والشّاردِ والتّائهِ الّذي لا يعرفُ إلى أينَ يتّجهُ. وفي هذا الوصفِ الجديدِ في كلمة (الْهَائمُ) دلالةُ السّلب والانتزاعِ للإرادةِ والرّغبةِ والمُبادرة؛ ذلك أنّ الهائمَ لا يملكُ قرارَ نفسِهِ، بلْ تُحرّكُهُ قوى أخرى أقوى مِن إرادتِهِ، كما سيأتي لاحقًا، وبالتّالي، فهذه الصّورةُ للذّات/ الخيال/ بكلّ هذا العتم والبرودة والشّرودِ، استطاعتْ أنْ تُلخّصَها الشّاعرةُ في جملةٍ واحدة (أَنَا الظِّلُّ الْهَائمُ)، وهذا تكثيفٌ ضروريٌّ للعملِ الأدبيّ، حتّى يُقالَ عنهُ إنّه بليغ.
هذهِ الحالةُ للذّات لمْ تَفصِلْها الشّاعرة عن الواقع، فجاءتْ بجملةِ (فِي ضَبَابِ الْأَمْسِ) مباشِرةً، وهنا وقفتان؛ الأولى مع دلالةِ الجملةِ ككلّ، والثانية مع دلالةِ الألفاظِ كلّ على حدة. أمّا ما يخصّ الجملة عامّة، فإنّ القارئَ يفهمُ مِن هذهِ الجملة، أنّ الذّاتَ ليست سوداويّةً استسلاميّةً وظلاميّةً بذاتِها، ولكنّها وصلتْ إلى تلكَ الحالةِ الّتي تحدّثنا عنها، بسبب واقعٍ كانَ أقوى منها، حجبَ عنها النّور، فاختصرتِ التّعبيرَ عنه بكلمةِ (الضّباب)، وهذا يُدخلُنا إلى الوقفةِ الثانيةِ مع دلالةِ اللّفظِ الواحد؛ فالضّبابُ حالةٌ مِن عدمِ وضوح الرّؤيا والتّخبّط، والانفتاح على كلّ الاحتمالاتِ في هذا المجهولِ المحيط، وهذا الأكثرُ خوفًا ورعبًا، والّذي يؤدّي إلى حالةِ الهُيام الّتي تحدثنا عنها سابقًا.
حتّى الآنَ تحدّثت الشّاعرة عن الذاتِ في واقعٍ ما، والواقعُ مرتبطٌ بالمكانِ والزّمان، فكان الحديثُ عن المكان وعنْ تفاعُلِ الذّاتِ في هذا المكان، فماذا عن الزّمانِ الّذي كانتْ فيهِ الذّاتُ على تلكِ الحالة؟ وهل كانتْ هذه الحالةُ عامّةً مِن البدايةِ إلى النّهاية؟
هذا ما تُقرّرُهُ كلمةُ (الأمس) بدلالتِها الواعية، والّتي كانتْ مفصليّةً في تحديدِ زمانِ هذه الحالةِ للذّات، وأنّها ما هي إلّا حالةً طارئةً سوفَ تتغيّرُ كما سنرى لاحقًا، فالشّاعرةُ تريدُ أنْ تقولَ: إنّ هذهِ الحالةَ للذّاتِ لها عمرٌ محدودٌ، بدأ منذُ الأزَل، واستمرّ حتّى الأمس، ولكنّهُ انتهى اليوم، ولهذا كانَ استخدامُ كلمةِ (الأزل) مُوفّقًا، وذلك لتحديدِ المُدّةِ الزّمنيّةِ لهذهِ الحالة، وقد تكونُ كلمةُ الأمس تعني الماضي وليس اليومَ الّذي سبقَ، ولكنّ دلالةَ كلِّ ذلكَ أنّهُ ماضٍ وانتهى.
وحتّى نفهمَ هذا الواقعَ، بزمانِهِ ومكانِهِ وحالةِ الذّاتِ، لا بدّ مِن بعضِ التّوضيحِ الضّروريّ لتبريرِ الوصولِ إلى هذه الحالةِ، ولإقناعِ القارئِ أكثر بالأسباب، وبإيجابيّةِ الذّاتِ الّتي ستظهرُ لاحقًا، فكانتْ جملةُ (كَمْ تَرَنَّمَتْ بِيَ الرِّيحُ/ مُذْ تَلبَّسَتْنِي)، وفي هذه الجملةِ استعارةٌ مَكنيّةٌ جميلةٌ مُركّبةٌ، أو لنِقُل استعارتيْن في جملةٍ واحدة؛ فجملةُ (كَمْ تَرَنَّمَتْ بِيَ الرِّيحُ) شبّهتْ فيها الشّاعرةُ الرّيحَ كأنّها المُنشِدُ أو المُغنّي الّذي يترنّمُ بالأناشيدِ طربًا، والتّرنّمُ فيهِ صوتٌ، وصوتُ الرّيحِ دليلُ شِدّتِها وعصْفِها، وهذا يُعيدُنا كذلك إلى حُسنِ استخدامِ اللّفظِ ليَخدُمَ المعنى، فدلالةُ التّرنُّمِ هو الصّوتُ الّذي يعلو وينخفضُ حسبَ شدّةِ الرّيح، ودلالةُ الجملة (تَرَنَّمَتْ بِيَ الرِّيحُ) دلالةٌ على حالةِ الهُيامِ الّتي ذَكَرتُ في البداية، والّتي كانتْ سببًا في سلْبِ الإرادة، ولكنّ التّرنّمَ فيهِ فرَحٌ واغتباطٌ، فكيفَ استخدمَتْهُ مع هذه الرّيحِ العاصفة، والرّيحُ غالبًا ما تأتي بالعذابِ والدّمار، على عكس الرّياحِ الهادئةِ الّتي تأتي بالخير؟!
في هذه الجزئيّةِ أقرأ سخريةَ الرّيحِ منها، وهي تعبثُ بهذا الظّلِّ الهائمِ كيفما شاءت. إذن، فهذا اللّفظُ مُرتبطٌ بذاك ارتباطًا وثيقًا واعيًا، وهذا دليلُ قدرةِ الشّاعرة على وضعِ اللّفظِ المُناسبِ في المكانِ المناسب، وكذلك ربْطُ الجُملِ بعضها ببعضها برباطٍ متين.
وعودةٌ إلى بلاغةِ الجملة (كَمْ تَرَنَّمَتْ بِيَ الرِّيحُ/ مُذْ تَلبَّسَتْنِي) واستعاراتِها، فالاستعارةُ الثانيةُ كانت في جملةِ (تَلبَّسَتْنِي)؛ وأقولُ جملةَ لأنّها فعلٌ وهو التّلبُّس، وفاعلٌ وهو الرّيح، ومفعولٌ بهِ وهو الذّات، فجعلتْ مِن الريّح جنًّا متلبِّسًا الذّات، وهنا روعةُ الاستخدامِ لخدمةِ معنى الهُيام مِن ناحية، ومعنى سلْبِ الإرادةِ مِن ناحيةٍ أخرى، فمعروفٌ في الأساطيرِ وفي الأدبيّات، أنّ الجنَّ إذا تلبَّسَ إنسانًا، سيطرَ عليهِ قوْلًا وفعلًا وسلَبَهُ إرادتَهُ، والتّلبّس مِن اللّباس في جذْرِ معناه، واللّباسُ يكونُ مُلاصِقًا للجسم ضيّقًا مُسيطرًا، كأنّهُ وعاءٌ بحجمِ ذلكَ الجسدِ، وهو يختلفُ عن القميصِ والثّوبِ في دلالتِهِ، ولهذا خصَّهُ اللهُ في الآيةِ الكريمةِ في الحديثِ عن التّقوى، فقالَ في سورةِ الأعرافِ في الآية 26: (ولباسُ التقوى ذلك خير).
هنا تتجلّى روعةُ استخدامِ اللّفظِ لإيصالِ المَعنى المُرادِ للمتلقّي، وتتجلّى حبكةُ الفكرة، ومحاولةُ الوصولِ إلى الكمالِ في صياغةِ الجُملِ، بحيثُ لا تتركُ خلفَها الثّغراتِ. هذا ما أرادتِ الشّاعرةُ، حسبَ تَصوُّري الخاصّ، أنْ يَصلَ إليّ كقارئٍ عن تلكَ الحالةِ للذّاتِ منذُ الأزلِ وحتّى تلكَ اللّحظة، فهل استمرَّ بها هذا الحالُ؟ للإجابةِ على هذا السّؤالِ نُكملُ الإبحارَ في هذا النّصِّ الجميلِ والبليغ، حيثُ تُكملُ الشّاعرةُ فتقولُ: (هَا الْأَبَدِيَّةُ/ بِغِبْطَتِي.. تَقَمَّصَتْ/ حِينَمَا انْبَثَقْتُ.. مِنْ عُمْقِ ذَاتِي/ حِـكْـــمَـةْ/ فَارْتَسَمْتُ شَمْسَ مَحَبَّةٍ/ عَلَى أَدِيمِ السَّمَاوَاتِ/ وَأَطْــلَــقْــتُــنِـي/ كَمَالًا مُحَلِّقًا/ مُحَرَّرًا مِنْ وِهَادِ الْمَوْتِ/ عَارِيًا مِنْ قيْدِي).
في هذا المقطعِ الجديدِ أقرأ بينَ السّطورِ أسطورةَ العنقاءِ الّتي تَخرُجُ مِن تحتِ الرّكامِ، تنفُضُ عنها الغبارَ وتطيرُ بروحٍ جديدة، تُقاومُ فكرةَ الموتِ والاستسلام.
جملةُ (ها الأبديّة)، فيها ما فيها من الدّلالاتِ مِن حيثُ الزّمانِ والتّوجيهِ والإيحاءِ والإشارةِ المفاجئةِ للتّغيير، وهي تُفيدُ أيضًا التّنبيهَ؛ أي تنبيه القارئ إلى تغييرٍ مفاجئ قد حدثَ للتّوّ؛ فكأنّها تُشيرُ للقارئ أن انظُرْ إلى الجهةِ المقابلة، وكأنّها تقولُ له: أَشِحْ بوجهِكَ عمّا كان، قُمْ وانطلقْ معي لآفاقِ النّور. ولكن ما علاقةُ هذه العنقاء برسالةِ المّحبّةِ الّتي ذكرتُ سابقًا؟ ولماذا لبستْ قميصَ الفرح على لسان الأبديّة؟ ولماذا اختارت الحكمةَ وشاحًا لهذا الثّوبِ الجديد؟ هذا ما سنراهُ لاحقًا بعدَ التّقدّم في تحليلِ النّصّ.
في هذا النصِّ كأنّ الشّاعرةَ تُقسّمُ التّاريخُ الخاصّ بها إلى مرحلتيْن؛ مرحلة ما قبلَ الثّورةِ والقيامة، ومرحلة ما بعدَها، لم يكن هناكَ وقتٌ للتّفكيرِ والتّخطيطِ وربّما التّردّد، ولعلّ ذلكَ يوحي بسرعةِ الرّدِّ واتّخاذِ قرار الخلاص؛ فما أن انتهتِ الشّاعرةُ مِن توصيفِ الحالةِ السّابقةِ للذّاتِ، حتّى أخرجَتْنا بسرعةِ البرقِ مِن غياهبِها وجُبِّها المُعتمِ الباردِ، إلى سماواتِ الضّياءِ والآتي مِنَ الزّمان، أي المرحلة الثانية من التّاريخ الّذي وَضعتْ مَلامحَه، فقالت (هَا الْأَبَدِيَّةُ)؛ أي انتبهْ وكنْ معي في تلك اللّحظة، ومارِسْ طقوسَ القيامة، وانظرْ كيف قامت العنقاءُ مِن الموت، أو كيفَ أقومُ أنا عنقاءَ مِن عتمتي وبردي، ومِن تحت الرّكام.
ولننظرْ إلى حُسن الاستخدامِ في الصّياغة، ففي حالةِ الظّلّ الهائمِ وتلبُّسِ الرّيح، كانت الأفعالُ ومصادرُ الكلماتِ عائدةً على فاعلٍ خارجيّ، ولكن في الفقرةِ الثانية وما بعدَها، أي في المرحلةِ الثانية من التاريخ الّذي رسمَتْهُ الشّاعرة، نجدُ تَحَوُّلَ الحالِ والحديث عن مسْكِ زمامِ الأمور من قِبَلِ الذّات، هنا الشّاعرةُ تُعيدُ الأسبابَ في هذا التّحوّلِ والفعلِ المُضادّ، والثّورة لذاتها وفقط لذاتها، وهذا نلاحظُهُ في الكلماتِ (بغبطتي، ذاتي، ارتسمتُ، وأطلقتُني). إذن؛ هي الآن صاحبة المبادرة والفعل، وليس سواها كما كان سابقا، وهذه حقيقة الثورة والتحرّر، فلا يكونُ إلّا بعزيمةِ الثّائرِ وبيدِهِ وقراره.
الجملةُ (هَا الْأَبَدِيَّةُ/ بِغِبْطَتِي.. تَقَمَّصَتْ) استعارةٌ أخرى، حيثُ حوّلت الأبديّةَ إلى كائنٍ حيّ يتقمّصُ دوْرَ الأشياءِ أو الأدوار، كذلكَ في جملة (انبثقتُ) استعارةٌ مَكنيّةٌ جديدة، وفيها تشبيهٌ للذّاتِ للفكرة، أو للفجر الّذي ينبثقُ بالنّور، ومِن مُترادفاتِها الانطلاقُ والبزوغُ والانبجاسُ والانفجارُ والبدءُ، وكلّها تصبّ في دلالةِ معنى المرحلة الجديدة المضيئة، وانبثقَ الماءُ إذا اندفعَ فجأة وتدفّق. هذه الحالةُ سادَها هالةٌ مِن الفرح والغبطة، وهذا لا يكونُ بالإكراه، فكان استخدامُ لفظ (بغبطتي)، فأفادت بذلك الإمساكَ بزمام الأمور والرّغبة في ذلك، ونلاحظُ أنّ في حالة الضّيقِ والعتمة في الحالة الأولى استخدمتْ كلمةَ (التّلبُّس)، بينما في الغبطة استخدمت (التقمُّص)، وهذه دقّةٌ في اختيار اللّفظِ الصّحيح، لأنّ القميصَ أنسبُ لحالةِ الفرح لأنّهُ فضفاضٌ، بينما اللّباسُ أنسبُ لحالةِ الضّيق.
ثمّ تُتابعُ بجملةِ (حِينَمَا انْبَثَقْتُ.. مِنْ عُمْقِ ذَاتِي/ حِكْـمَةْ)، وقلنا إنّ الانبثاقَ يكونُ للفجر بالنّور، فأيّ النّور اختارتْ، عندما كان التّحوُّلُ والانفجارُ والتّجديد؟ تدلّنا الكلمة (حكمةً) على نوعٍ خاصٍّ من النّور، نوع فيه هالاتُ القداسة، وأقولُ القداسة، لأنّها بعدَ ذلك تصفُهُ بالكمال، والكمالُ لا يكونُ إلّا لمعصومٍ عن الخطأ، وسنرى كيف سيجتمعُ كلُّ ذلك في ذاتٍ واحدة؛ العنقاء/ الحكمة/ النّور/ الحبّ/ الأسرار/ الخلود.
في البدايةِ تحدّثت عن الظّلّ، وما فيه من عتمةٍ وبرد الموقف وانتفاءِ الفرح والمحبّة، ولكن بانتهاء هذه الحالةِ وبدْءِ المرحلة الجديدة بعدَ التّغيير، كان لا بدّ من تغييرٍ مُصاحبٍ في الكلماتِ والمواقعِ والإشارات؛ ففي جملة (فَارْتَسَمْتُ شَمْسَ مَحَبَّةٍ)، صورةٌ عامّةٌ تُفيدُها الجملة، ودلالاتٌ خاصّةٌ تُفيدُها الألفاظ. هذه الجملةُ تعكسُ الحالةَ السّابقة تمامًا، كأنّ الأبديّةَ رَسَمَتْ خطًّا أفقيًّا بين السّماءِ والأرض، ليكونَ عاكسًا لحقيقةِ الظّلّ في صورتِهِ الحاليّةِ الجديدة؛ فعندَ سقوطِ الشّعاع على الشّيءِ يرتسمُ الظّلُّ على الأرض، فاستخدمتْ  بعدَ ذلك كلمةَ (فارتسمتُ)، حتّى تُعيدَ ترتيبَ الأوراقِ مِن جديد، ولكن بذاتِ اللّغةِ الّتي تَفهمُها الرّيح، فمثلما ارتسمَ هذا الظّلُّ الهائمُ بعتمتِهِ وبَرْدِهِ على الأرض رغمًا عنها، ها هي ترسمُ شمسَها بدفئِها وضيائِها بدلًا عنه، ولكن ليس ملقىً على الأرض، لأنّ الشّمسَ مكانُها السّماء، في ذلك المكان العالي الّذي لا تَطالُهُ أيدي الرّيح، وهنا كانتْ روعةُ استخدامِ هذه المفردة (الشّمس)، فهي الأصلُ الّذي انطلقَ منه شعاعُ المحبّة، فارتطمَ بالأشياءِ على الأرض فكانَ الظّلُّ، وهي بذلكَ تعودُ شمسًا أقوى من تلك الشّمسِ الّتي لم تستطعِ اختراقَ الأشياء، فعجزتْ سابقًا عن نثر الحبّ شعاعًا على الأرض، فجاءتْ ذاتُ الشّاعرةِ لتكونَ شمسًا قادرةً على بعثِ ذلك الحبِّ مِن جديد.
ولم يكن استخدامُ كلمةِ (أديم) في جملة (عَلَى أَدِيمِ السَّمَاوَاتِ) استخدامًا عبثيًّا، على العكسِ تمامًا، فأديمُ السّماواتِ للشّمسِ كانتْ مُقابلَ أديم الأرض للظّلّ، وهذا نجدُهُ مثلًا في الآيةِ الكريمةِ في 40 مِن سورة الشورى (وجزاءُ سيّئةٍ سيّئةٌ مثلُها)؛ فالسّيّئةُ الأولى هي الذّنبُ، والسّيّئةُ الثانية هي العقوبة، ولكن جاء بذات اللّفظِ لغرضِ المُزاوجة؛ ففي الكلمتيْنِ جناسُ المزاوجة اللّفظيّ، وهذا من البديع.
وفي هذه الجملةِ الشّعريّةِ رسالةٌ عظيمة، هي رسالةُ المَحبّةِ لمَن أصبحَ في مَقامِ السُّلطة، فالشّمسُ في مكانِها العالي القويّ تُعطي ضياءَها دونَ مُقابلٍ لكلّ ما حوْلَها ومَنْ حوْلَها، وهذه هي المَحبّةُ الخالصةُ الّتي اختارتْها لنفسِها صفةً بقوْلِها: (فَارْتَسَمْتُ شَمْسَ مَحَبَّةٍ)، وهذه تُقابلُ حالةَ الإكراهِ الّتي كانتْ مُصاحِبةً لحالةِ الظّلّ والقيدِ الّذي سنراهُ بعدَ قليل.
وهناكَ في الموقفِ الأوّل، حيثُ استخدَمَتِ الرّيحَ كاستئنافٍ توضيحيٍّ للحالةِ العامّةِ وأسبابِها، تأتي في جملةٍ جديدةٍ أيضًا توضيحيّة، لِما آلتْ إليه الأحوالُ بعدَ ثورتها على الواقع الّذي كان؛ فقالتْ في جملةٍ لاحقة: (عَلَى أَدِيمِ السَّمَاوَاتِ/ وَأَطْـلَـقْــتُـنِي/ كَمَالًا مُحَلِّقًا/ مُحَرَّرًا مِنْ وِهَادِ الْمَوْتِ/ عَارِيًا مِنْ قيْدِي).
كلمةُ (أَطْـلـــقْــــتُـــــنِـــــي)، كما نوّهتُ سابقًا لمثيلاتِها، جعلتْ منها الفاعلَ والمفعولَ به، فهي حرّرتْ نفسَها بنفسِها، وتحوّلتْ إلى طائرٍ أسطوريٍّ يقومُ مِن رُكامِ الموْت، كاسرًا قفصَ قيْدِهِ ليَنطلِقَ، ليسَ كطائرٍ جريحٍ مكسورِ الجناح، بل كطائرِ العنقاءِ في مُطلَقِ الكَمال، يَنطلِقُ سماويًّا إلى الخلود، كما تقولُ في جُملةٍ تالية، وفي هذا الوصفِ استعارةٌ مُركّبةٌ أخرى أو استعارتيْن؛ وذلكَ في تشبيهِ ذاتِها بالطّائر، وشبّهتْ كذلك صفةَ الكمالِ بالطّيرِ عندما قالتْ: (كَمَالًا مُحَلِّقًا)، ومِن ضروراتِ التّحليقِ والطّيرانِ أن يَتحرّرَ الطّيرُ مِن قفصِهِ وقيْدِهِ، فأتْبَعَتْ بتلكَ الجُملةِ المَجازيّة (عَارِيًا مِنْ قيْدِي)، وهنا في هذهِ الجملةِ الكثيرُ مِنَ الجَمالِ والصّنعة؛ فالجَمالُ تَمثَّلَ باستخدام كلمةِ (قيْدي) كدليلٍ على السّجن، والصّنعةُ كانتْ باستخدام كلمة (عَارِيًا)، لأنّ العُريَ ضدّ الاكتساءِ واللّباس، ويكونُ بعدَ خلْعِ الثّوب، فشبّهتِ القيْدَ أو السّجنَ بالثّوْب، أو اللّباسَ الّذي تحدّثتُ عنهُ سابقًا في حالةِ التّلبُّس.
ولكن، أليْسَ مِن عادة الكُتّابِ أن يستخدموا الكسْرَ معَ القيد؟ فلماذا استخدمتْ شاعرتُنا بدلًا عن ذلك كلمة (عَارِيًا)، جاعلةً مِن القيْدِ ثوبًا تخلعُهُ؟
الجوابُ لهُ وجهان؛ الأوّلُ بلاغيٌّ حيثُ جعلتْ مِن جُملتِها ههنا جملةَ استعارةٍ بديعةٍ غيرِ مألوفة، والوجهُ الثّاني يَخصُّ الحبكةَ في النّصّ، تمامًا كما في البناءِ الرّوائيّ، ولكي نَفهمَ هذا الوجهَ، أعودُ للتّحدُّثِ عن المُقابلةِ الّتي استخدَمَتْها الشّاعرةُ بينَ الحالتيْن، وأذكرُ عندما استخدمتِ الشّاعرةُ كلمةَ (تَلبَّسَتْنِي) مع الرّيح، فجعلتْ مِنَ الرّيح لباسًا جنّيًّا يتحكّمُ بها، ويجعلُها تسيرُ على غيرِ هدى، وجاءَ الوقتُ لتَنْضُوَ عنها هذا الثّوبَ/ اللّباسَ (القيْد)، فتصبحُ عاريةً منه.
أستطيعُ أنْ أقولَ إنّ الشّاعرةَ هنا أبدعتْ في هذا البناءِ المحبوك، وهذهِ الصّنعةِ الأدبيّةِ فائقةِ الدّقّة، بل إنّها أتقنتْ هندسةَ هذا الهيكلِ الشّعريّ الّذي يُشبهُ القصّةَ في مَضمونِه.
ونُتابعُ هذا النّصَّ الجميلَ في هذه الرّسالة، فبعدَ أن حطّمَتِ القيْدَ وخلعتْ ثوْبَهُ تقولُ: (أَكْـتَنِـزُ/ جَوَاهِرَ الْحُبِّ وَالْأَسْرَارِ!)، وهذه نتيجةٌ حتميّةٌ لمَنْ أصبحَ يَملكُ القرارَ بعدَ التّحرُّرِ والانطلاق، ولكي تُحقّقَ رسالةَ الحُبِّ الّتي ذكرْتُها في السّابق، يجبُ أنْ تكونَ قويّةً غنيّة، والغنى يكونُ بادّخارِ الجواهر، ولكن أيُّ جواهرَ تَصلحُ لتحقيقِ رسالتِها؟ إنّها حتمًا جواهرُ الحُبّ، ولو قالتْ غيرَ ذلك، لأفشَلَتْ رسالةَ شمسِ المَحبّةِ الّتي رسمتْها لنفسِها في أديم السّماء، هذا الحبّ الّذي تريدُهُ أساسًا لبناءِ الغدِ الآتي.
وعودةً إلى كلمةِ (المَحبّة) الّتي استخدَمَتْها سابقًا، والّتي تتكرّرُ هنا في جملة (أَكْــتَـــنِـــزُ/ جَوَاهِرَ الْحُبِّ وَالْأَسْرَارِ)، وهنا سرٌّ جميلٌ وعظيمٌ يَحملُ في طيّاتِهِ رسالةَ الحُبِّ للعالم والعهدِ الآتي، رسالةٌ لا يَحملُها إلّا الأصفياءُ الّذين اختارَهُم اللهَ لحمْلِ هذهِ الرّسالة، لهذا أعطاهُمْ سِرَّها، فكانَ لهم دونَ غيْرِهِم أنْ يفهموا الحبَّ وأنْ يَعرفوا الأسرار.
هنا أستطيعُ أنْ أُلبِسَ هذهِ العنقاءَ ثوْبَ المسيحِ المُطرّزِ بالحُبّ، والأسرارَ السّماويّةَ والحكمةَ الّتي ذكرتُ سابقًا. هذهِ العنقاءُ تقومُ ذاتَ القيامةِ بعدَ الموت، ليكونَ (المجدُ لله في الأعالي وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المَسَرّة)، وهذا ما يُستنبَطُ مِن كلِّ هالاتِ النّورِ الخالدِ الّتي جاءَ بها النّصُّ بعدَ ذلك.
والجَميلُ أنّ شاعرَنا وهيب التقطَ هذهِ الرّسالةَ الجميلة، فاستهلَّ ردَّهُ عليها في رسالتِهِ قائلًا: (يَا رَبُّ، يَا مَالِكَ الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ/ يَا رَافِعَ السَّمَاءِ بِلَا عَمَدٍ، يَا وَاهِبَ الْحَيَاةِ، هَبْ لَنَا عَلَى أَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ السَّلَامَ، وَفِي النَّاسِ الْمَسَرَّةَ.. وَلَنَا الرَّجَاء)...
هذا التّناغُمُ بينَ الرّسالتيْنِ كانَ مُذهِلًا، ودليلًا على انسجامٍ وانصهارٍ في الآخر، بلغَ عنانَ الفهمِ والقربِ الذّهنيِّ والوجدانيِّ ووحدةِ الهدف. إذن؛ لم تأتِ كلمةُ (الحُبُّ) وكلمةُ (الأسرار) عبثًا في هذا النّصِّ الكبيرِ في مَضمونِهِ ورسالتِهِ وصياغتِه، وإنّما جاءتِ الكلماتُ لتُحقّقَ هدفًا خاصًّا، ولتكونَ مفتاحَ عبورٍ لدهاليزِ النّصِّ المُغلقة.
وعودةً إلى باقي الفقراتِ في هذهِ الرّسالة، فحتّى لا تُلدَغُ مِن جُحرٍ مرّتيْن، كانَ لا بدَّ مِن استذكارِ الماضي بسوادِهِ، ليكونَ عِبرةً لهذا القادمِ الجميل فتقولُ: (كَمْ تَلَفَّظَتْني شِفَاهُ الْحَيَاةِ/ حَنِينًا خَالِدًا/ يَتَوَالَدُ مَحَبَّةً وَيَتَجَدَّدُ!/ يَفِيضُ نُورًا / وَيَنْبَعِثُ لِلْأَبَدِ الْآتِي!)
وهنا تذكيرٌ واستحضارٌ لماضٍ قريبٍ، لكي لا تَنسى، حيثُ كانَ الموتُ يُحيطُ بها في ذلك الضّباب، لكنّها لم تَتركْ مِن يدِها حِبالَ الأملِ والحياة، وكم كانتْ تَشدُّها إلى جانبِها بيَدِ الشّوْقِ والحنين، تَحثُّها أنْ تَنفُضَ عنها غبارَ الموْت، لتقومَ مِن جديدٍ لتحيا الخلودَ بتلكَ الرّوحِ المُتحرّكةِ الولّادةِ مَحبّةً متجدّدةً، ونورًا فائضًا يكفي إلى أبدِ الوجود.
وتُواصلُ الشّاعرةُ آمال في هذهِ الفقرةِ اتّكاءَها على الاستعاراتِ الجميلة، كما في جملة (تَلَفَّظَتْني شِفَاهُ الْحَيَاةِ)، حيثُ أنْسَنَتِ الحياةَ، وجعلتْ لها شفاهًا تلفُظُ الكلامَ وتتحدّثُ، وكذلك في جملةِ (حَنِينًا خَالِدًا/ يَتَوَالَدُ مَحَبَّةً وَيَتَجَدَّدُ)، وتستمرُّ شاعرتُنا في حَبْكِ خيوطِ المقابلةِ بينَ الحالتيْن باستخدامِ كلمة (للأبد)، وهي مُقابلُ كلمةِ (الأزل) الّتي ذكرتُ في البداية، وهذا مِنَ الطّباقِ كما في كلمَتَيْ (الحياة والموت).
بهذهِ الكلماتِ تَختمُ رسْمَ هاتيْنِ الصّورتيْنِ للحُقبتَيْنِ الزّمنيّتَيْن؛ حقبة بدأتْ منذُ الأزل وحتّى لحظةِ الثّورةِ والقيامة، وحقبة منذُ لحظةِ الثّورة والقيامة إلى الأبد. ولا يُخفى الآنَ على القارئ الدّلالاتُ الخاصّةُ بكلمةِ (خالدًا) وكلمة (الأبديّة)، فكلاهما يُشيران إلى خلود رسالاتِ الحُبّ الّتي جاء بها أهلُ الصّفوةِ مِن المختارين المعصومين إلى أبدِ الآبدين.
نلاحظُ في هذا النّصِّ القصيرِ كَمَّ الأساليبِ البلاغيّةِ المُستخدَمةِ مِنَ استعاراتٍ وتَشابيه، وهذا مِن سِماتِ النّصوصِ في هذه الرّسائل، كذلكَ الاشتغال على اللّغةِ مِن خلالِ صياغةِ تراكيب إبداعيّة، ومثال ذلك من التّراكيب: (ضباب الأمس- الظّلّ الهائم- أديم السّماوات- شفاه الحياة)، ولم يَقتصرْ ذلكَ على التّراكيب، وإنّما أبدعتْ شاعرتُنا كذلك في رسْمِ الصّورةِ الخياليّة، ومثال ذلك: (ترنّمتْ بي الرّيح- ارتسمتُ شمسَ مَحبّة- أطلقتُني كمالًا- أكتنزُ جواهرَ الحُبّ).
والخلاصة، أنّنا أمامَ نصٍّ أدبيٍّ مِن نوعِ قصيدةِ النّثر، قدّمَتْهُ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان بصورةِ الرّسالةِ الأدبيّة، نصٍّ مُتماسِكٍ قويٍّ هادف، ارتقى في صياغتِهِ الدّقيقةِ وبنائِهِ الجميلِ ووحدتِهِ، كذلك في العلاقاتِ المنطقيّةِ بينَ أجزائِهِ، والاستخدام المُدركِ للألفاظِ ذات الدّلالاتِ المُحدّدةِ للمعاني الّتي أرادتْها شاعرتُنا.

43
حيفا تحتفي برهين الجسد فادي أبو شقرة!

آمال عوّاد رضوان
أمسية أدبيّة مغايرة وبنكهة خاصّة للمبدع فادي بديع أبو شقرة، أقامَها منتدى حيفا الثقافي بتاريخ 14-3-2019، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان، وتحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني، وذلك احتفاءً بباكورة إبداعه (رهين الجسد)، وسط حضور كبير من أدباء وأصدقاء وأقرباء، وقد ازدانت أطراف وزوايا القاعة بلوحات الفنانة فاطمة رواشدة، وبعد أن رحّب المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس المنتدى بالحضورـ تولت عرافة الأمسية خالدية أبو جبل، وتحدث عن الكتاب كلّ من: د. راوية بربارة عن قناع الكاتب في النّصّ السّيْرذاتيّ، ود. محمد هيبي عن فادي أبو شقارة، "رهين الجسد" طليق الفكر والرّوح!، ثمّ ختم اللقاء المحتفى به، شاكرا المتحدثين والمنظمين والحضور، وقد تخللت الأمسية مداخلات غنائية للفنان عبدالسلام دحلة من تلحينه وصوته، ثم تمّ التقاط الصّور التذكارية!
مداخلة العريفة خالديّة أبو جبل:
أمسيتنا اليوم ليست ككُلِ الأمسيات، فهي أدبيّةٌ نعم، ومن النّوع الثّقيل. لكنّها مُميّزةٌ بالابتسامةِ الّتي ستحملونَها حين مُغادرتِكم، وأنتم تعيشونَ أرقى وأعظم حالات الإرادة والعزيمة والأمل، وأنتم تَلْمسون بأياديكم روح الحياة، من خلال روايةٍ حرّرت صاحبَها من أنّاهُ، كَسرَ القيد، وأطلق الصّرخة، فصار الكون مداه.
"الوقوف، المشي، الرّكض، ارتداء الملابس والأحذية، الاستحمام، صعود الأدراج، تسلق السّلالم، القفز بالحبل، السّباق جريًا، تسجيل هدف في المرمى، تصويب كرةً في السلة، ضرب كرة تنس بالمضرب، الغوص، السّباحة، التزلج، الرّقص، الدّبكة، الملاكمة، الكراتية، ركوب الخيل، الدّرّاجة، الأرجوحة، السّواقة، تقبيل فتاةٍ، الزّواج بها، ممارسة الجنس معها، إنجاب أولاد منها، تربيتهم، رؤيتهم يكبرون، الافتخار بهم وبالأحفاد، لن تكون لي حفلة خطوبة، ولا حفلة زواج، لن أكون أبو فلان . أسمّيها "قائمة المُحرّمات: حقوق أساسيّة تولد مع كلّ مُعافى، أنا مُعاق، هذه الحقوق بالنّسبة لي تَرَفٌ، لا تحظى به إلّا الطبقة المختارة المميّزة، وأنا لست منها".
فماذا تراك اليوم صديقي وأخي العزيز فادي، وأنت بين هذه الطبقة المُختارةِ المميّزةِ من الأدباء والشّعراء، وأصحاب الفكر والقلم، جاؤوا يحتفون بك وبرائعتك "رهين الجسد" الّتي أهديتها لكلّ البشر، لتكون رسالة إنسانيّة توقظ الضّمير من سباته، فيستحق اسم البشر. نعم، عَرَفْتَ طريقَكَ ، ووَقَفْتَ بقلمك منتصبًا، وظِلُّكَ من خلفك طويلٌ طويل.
مداخلة د. راوية بربارة بعنوان: قناع الكاتب في النّصّ السّيْرذاتيّ
مساؤكم آذاريّ. كان قد احتفى فادي قبل أيّام، تحديدًا يوم الثامن من آذار بذكرى ميلاده، أوَتظنّونها صدفة أن يولَد فادي في يوم المرأة، ذاك اليوم الّذي راح ضحيّته مئات النساء حرقًا؟ ذاك اليوم الّذي يشهد على تضحية المرأة في كلّ مجتمعٍ بطريركيّ، أوَ ليست هي رهينة العاداتِ والتقاليد وتعاني من صلافة تعامل المجتمع ونظراته؟ أوَ ليس الفقراء في عالمنا والمحرومون الحياة والجوعى هم رهناء ذلّهم؟ أوليس العاقلُ رهينَ عقلِه، على حدّ قول الشّاعر:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله         وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
لم أجد مرتاحًا جادَ وأبدعَ، فالإبداع الحقّ يولدُ مِن قلبِ المأساةِ غيريّةً كانتْ أو شخصيّة؛ فهل أبدعَ بيتهوفن أجمل موسيقاه إلّا والصّمم قد سرقه الاستمتاع بلذَة ما أنتج؟ وهل أبدعَ رهينُ المحبسيْن مِن فراغٍ فلسفيّ أم من شقائه في العمى والدّار، وعلى حدّ قوله: رهينُ المحابس الثّلاثة أنا: العمى والدّار والجلد الخبيث، وعلى علّاته أصبح فيلسوفَ الشّعراء وشاعرَ الفلاسفة، وترك لنا إرثًا أدبيّا وتراثًا نتوارثُهُ ونفخرُ به.
وأنت فادي، ماذا تركتَ بين أيدينا؟ تركتَ جرحًا مفتوحًا لا تقوى السّنونُ على تضميدِهِ، لأنّك حفرتَ عميقًا في الوجدان أخاديدَ حزنٍ ومجاريَ دموعٍ، كيف تجرّأتَ وعرّيْتَ كلَّ ذاك الألمِ، وألبستَنا رداءَ الغباء والعار؟ كيف تجرّأتَ ورششتَ بحبركَ الملحَ فوق جراحِنا ففتّقتَها؟
كم كنّا نظنّ أنّنا نُعاني الألمَ، لكنّ صرختَكَ أخجلتْ أَلَمَنا، ما أصعبَه من وصفٍ يَنطقُ صدقًا، حين وصفتَ ألمَك الجسديّ والنّفسيّ والاجتماعيّ:
"الآلامُ الجسديّة الّتي ترافقُ الإعاقةَ لا تُطاقُ. الجلوسُ لفترةٍ متواصلةٍ يُؤدّي إلى آلامٍ في الفخذيٍن، ومِن هناكَ يتصاعدُ الألمُ إلى الظّهر حتى يحتلَّ جسديّ كلّيًّا. وكذلك الأمرُ خلالَ أوقاتِ النّوم، فأحتاجُ إلى تغييرٍ في وضعيّةِ النّوم والجلوس من وقتٍ إلى آخر. ما عانيتُهُ في طفولتي كافٍ ليُدمّر حياةَ أيّ معاق.. تحديقاتُ النّاسِ وتعليقاتُهم المُشفقةُ تارةً، والسّاخرة تارةً أخرى، الّتي لا أدري أيّها مهينة أكثر، مع الآلام الجسديّة والنّفسيّة النّابعة من العجز والنّقص واليأس والإحساس بالدّونيّة والظلم، والأسئلة المتكرّرة لماذا أنا؟ أيُّ ذنب اقترفتُه؟ هل سأُشفى لاحقًا؟ كيف سيُعاملني المجتمع؟ كيف سأتحمّلُ مصيري؟ هل أحاولُ أم أستسلمُ للواقع؟ عشتُ كابوسًا لا يقدرُ كلُّ صاحبِ إعاقةٍ تجاوزَه".
 ولعلّك أيّها الرّاوي بعدَ أن أخذتَنا في رحلةِ عذابِكَ، أصبحنا فلاسفةً من الألم ومن التّأمّل، وتَذكّرنا الفيلسوفَ والمفكّرَ الفرنسيَّ ميرلوبونتي الّذي أخذَ الإنسانَ، انطلاقًا مِن واقعِهِ المَعيش، فكرةً وجسدًا وعقلًا وعاطفة ووعيًا ولا وعي، مُحاولًا أن يَجمعَ بينَ التّجربةِ المَعيشةِ والتّأمّلِ الفكريّ، وبناءً على هذا الموقفِ، طرحَ فلسفةَ الالتباس الّتي لا تريدُ أن تَحِلَّ المُشكلات، بل أن تُدرّسَها بعُمقٍ أكثر، وقال إنّ الوجودَ الإنسانيّ هو رهينُ الجسد، (أو بالأحرى البدن كمظهر خارجيّ)، فالإنسانُ لا يتعرّفُ إلى العالم، ولا يتعرّفُ إليه العالمُ إلّا باعتبارهِ جسدًا/‏ لحمًا .وهذا ما فعلَهُ الكاتبُ الضّمنيّ، فقد طرحَ في روايتِهِ فلسفةَ الالتباس، فلم يَطرحِ السّيرذاتيّ ليبحثَ عن حلٍّ، بل ليُريَنا العالَمَ مِن وجهةِ نظرِ إنسانٍ، تعرّفَ إلى الدّنيا الّتي أفقدتهُ الجسد السليمَ، فرآها بمنظاره، وأرانا إيّاها حين تدير ظهرها لإنسانٍ، وأراها كيف عامَلَها وواجهها حتّى أعطته وجهها بعد أن أبدع، بعد أن تماهى الكاتبُ الحقيقيُّ معَ الكاتبِ الضّمنيّ مع الشّخصيّةِ المركزيّة، فالتبستْ علينا نقاطُ التّقاطُع مع نقاطِ الانفصال، وكثُرتْ نقاطُ التّماسِ بينَ الرّوائيّ وبين السّيرذاتيّ، وقد تجلّتْ هذهِ النّقاطُ في التّقاطُعاتِ بين شخصيّاتِ الرّوايةِ وتجاربِها الحياتيّةِ المُشتركة، الّتي جمَعَها ذلك الجسدُ الضّعيفُ فقوّاها وجمّعها، فتناوبتْ على السّردِ، كي نرى الواقعَ مِن وجهاتِ نظرٍ مختلفةٍ؛ فكم مرّةً رأينا مروانَ يُدافعُ عن حقِّ مراد بالحياةِ الحرّةِ الكريمةِ، فيُهدّدُ ويتهجّمُ ويُقدّمُ الجسدَ لأخيهِ؟ كم مرّةً سيُقدّمُ الدّفاع؟ كم مرّةً سينجح؟ كم مرّةً سيكونُ هذا البديلُ الجسديّ نافعًا وكافيًا وسادًّا مَسدَّ الحاجة؟ هذا تركَنا كقرّاء نتساءَل:
هل نستطيعُ أن نُعوّضَ إنسانًا ما فقدَهُ؟ هل المحبّةُ تكفي؟ هل العينُ بعدَ السّمعِ تكفي مكانَهُ، أم السّمعُ بعدَ العين يَهدي كما تُهدي؟ هل استطاعَ مروان أن يحميَ حبيبةَ مراد، وأن يَقيهِ هذا العجزَ النّفسيّ؟ هل استطاعَ أن يُعينَهُ على مشاعره:
"كانت لحظة شَعَرْتُ فيها بالعجز، شعرتُ أنّ الإعاقةَ الّتي ألفتُها وألِفَتْني، عادت تُقيّدُني جسديّا ونفسيًّا، كما قيّدتْني في طفولتي! شعرتُ بعارٍ شديد، خجلتُ من نفسي، كرهتُ نفسي، كرهتُ القدَرَ، إنّه يُهينُني ويَستحقرُني مرّةً أخرى! أيُّ حبيب أنا؟ أرى حبيبتي تُضربُ أمامَ عينيَّ ولا أدافعُ عنها؟ آه لو كنتُ أمشي! لو أعطاني اللهُ هذهِ المعجزةَ لنصفِ ساعةٍ، لا أطلبُ أكثرَ مِن ذلك، نصف ساعة فقط، لأمْسَكْتُهُ وارتكبْتُ جريمةً بحقّه!"
وأسألكُم أنا: هل الحبُّ هو الّذي يفضحُ ضَعفَنا، ويُكبّلُنا ويُحوّلُنا جميعًا إلى مُعاقي مجتمعٍ؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تطرحُها الرّواية، تتركُنا مُتأمّلينَ تلكَ اللّحظاتِ الّتي تُغيّرُ مَجرى حياتِنا. إنّ تَناوُبَ السّردِ في الرّوايةِ برأيي، وُظّفَ للمقارنةِ، بل للمفاضلةِ، فأيُّ السّاردينَ وضعُه أفضل؟ الأمّ الّتي ضحّتْ بعمَلِها وخصوصيّتِها وحياتِها بكلِّ سعادةٍ من أجلِ عائلتِها، أم الأب الّذي علّمتْهُ الحياةُ أن يُبرمجَ حياتَهُ على وقعِ حياةِ الآخرين؟
 تلكَ المفاضلةُ الّتي عقدَها الرّاوي بينَ مروة ومراد؛ رأينا فيها مروة تشرحُ لنا حبَّها وعِشقَها وألمَها من خيباتِ القدَر، وكيفَ تحوّلتْ هي أيضًا لمُستهدَفٍ رهينِ أفعالِهِ ورهينِ المجتمع، وتناقشَتْ مع مراد عن أيُّهُما أصعبُ في هذا المجتمع، أن تكونَ رهينَ إعاقةٍ جسديّةٍ، أم نفسيّةٍ أم اجتماعيّةٍ، في ظلِّ مجتمعٍ يُصبحُ فيهِ الرّافضُ للخيباتِ مُعاقًا وعاقًّا، وممّا وردَ على لسانِ مروة:
"أنْ تكوني امرأةً في مجتمعٍ عربيّ يعني؛ أنْ تكوني في القاع. أنْ تكوني امرأةً مُطلّقةً يعني؛ أنْ تكوني معدومةَ الوجود. تجادلتُ مع مراد كثيرًا في سياقِ هذا الموضوع: مُجتمعُنا مَن يحتقرُ أكثر؟ امرأةً طلّقها زوجُها، أم شخصًا ذا إعاقة؟ أقول له: إنّ أوّلَ إحساسٍ يُثيرُهُ المعاق هو الرّثاء والشّفقة، أمّا أوّلُ إحساسٍ تُثيرُهُ المُطلّقةُ هو الاحتقار. وهو يَردّ: إنّ موضوعَ الطّلاقِ يتمُّ نسيانُهُ بعدَ فترةٍ، أمّا المُعاقُ فَيبقى مُعاقًا في نظرِ المجتمع. أقول له: يوجدُ يومُ المُعاقِ العالميّ، ولا يوجدُ يومٌ للمطلّقة، فَيردّ قائلًا: لو سافرنا إلى بلادٍ غريبةٍ، سيَروْنَهُ مُعاقًا ولن يَعرفوا أنّي مُطلّقة. أقول: إنّ الطّلاقَ تركَ وصمًا على جَبيني. يقولُ: إنّ الإعاقةَ وصْمٌ على جبينِهِ وجسدِهِ وقلبِهِ.."
 ويعودُ الرّاوي ليستلمَ زمامَ السّردِ الّذي أفلتَ مِن ضميرِ (هو وهي وهم وأنتم)، وانطلقَ بضمير (الأنا)، مُتجرّئًا على البوْحِ والتّصوير، مُعبّرًا، صارخًا، ساخرًا، ذلكَ أنّ الكتابةَ مَنفسٌ ومهرَبٌ وداءٌ ودواء؛ والجسدُ الرّهين حرّرَهُ الحبرُ مِن مأساتِهِ وألمِهِ، من صمتِهِ وإعاقتِهِ، مِن تخاذُلِ التّعامُل المجتمعيّ معه ونحوه، ذاك المجتمع الّذي يُحاصرُهُ:
"مُعاقون، مُعَوّقون، ذوو احتياجاتٍ خاصّة، ذوو قدراتٍ خاصّة، ذوو الإعاقة، ذوو القلوب الطيّبة، ذوو الهِمَم العالية، لا أفهمُ لماذا يَبذلُ كلُّ النّاس والمُؤسّساتِ الحكوميّةِ والصّحّيّة الطاقةَ، لإعطائنا لقبًا يُميّزُنا عن غيرنا، وكَأنّ الفرقَ الواضحَ الصّارخَ المُهينَ من ناحيةِ الحقوقِ غيرُ كافٍ؟! نطالبُ بالمساواةِ حتّى في الاسم. لا نريدُ اسمًا ولقبًا خاصًّا!
هل ننادي الأشخاصَ الّذين يُعانونَ من السُّمنةِ بذوي الدّهون الزّائدة، أو أصحاب الأوزان المرتفعة، أو ربّما أصحاب الشّهيّة المفتوحة؟ وكيف ننادي مَن يُعانونَ مِن قِصرِ القامة؟ ذوي الطول المنخفض، أو ذوي الارتفاعات المقصوفة، أو ربّما أصحاب القامة المتواضعة؟ وماذا عمّن بشرتُهُم سوداء؟ هل هم ذوو الغلافِ المُظلم، أو أصحابُ الجلدِ القاتم، أو ربّما أصحابُ البشرةِ المُتميّزة؟"
بهذا الطّرحِ الصّريحِ الجريءِ يُواجهُنا الرّاوي المُتلبّسُ بروحِ الشّخصيّةِ المركزيّة، مُعلِنًا أنّ الحياةَ مسرحٌ، والمُعاقَ لا يمكنُ أن يكونَ البطل. لا يمكنُ أن يكونَ الشّخصيّةَ المركزيّة.
وكيف عوّض الكاتب عن البطولة المفقودة؟ عوّضَ عنها بالكتابةِ. أصبحَ كاتبًا بطلًا بجرأتِهِ وطروحاتِهِ، فلنسمعْ صوتَ الرّاوي الواصفَ مسرحَ الحياة:
"في مسرحِ الحياةِ أنتظرُ خلفَ الكواليسِ فرصةً لن تأتيني وحدَها. على ملعبِ الحياةِ أجلسُ على دكّةِ البُدلاءِ. مصيري بيدِ المدرّب. في فيلم الحياةِ أنا كومبارس.. موجودٌ وغيرُ مَحسوس. على شجرةِ الحياةِ أنا ثمرةٌ تتدلّى على غصنِها، توشكُ على السّقوط ولا يَقطفُها أحد. في خزانةِ الحياةِ أنا ثوبٌ بالٍ مُهترئِ، بينَ مجموعةِ ملابس لأشهرِ مُصمّمي الأزياء. في غابةِ الحياةِ تمَّ مَحوُ صفحتي، ويجبُ إعادة كتابتِها وأنا الوحيدُ الّذي يَملك القلم. الحياةُ هي أكبرُ درسٍ لنا، ما نتعلّمُهُ مِن تجاربها لا يمكنُ للكتبِ أنْ تعلّمنا إيّاه. في البدايةِ نكونُ كالطّينةِ بين يديْها، وما نتعلّمُهُ في صِغرِنا مِن مغامراتِها ومِن المجتمعِ المُحيطِ بنا، يَرسخُ في عقولِنا وقلوبنا ويَبني شخصيّاتِنا. قدّمتْ ليَ الحياةُ جسدًا معاقًا، بكلّ ما يَحملُ معهُ مِن وجعٍ وعجزٍ وحرمان.. كُتِبَ عليّ أنْ أُحاربَ وأُصارعَ وأُقاوم، أنْ أتحمّلَ وأصمدَ وأصمت، وأنْ أُواظبَ لأصلَ إلى نفسِ النّقطةِ الّتي وصلَ إليها غيري دونَ جهدٍ أو بجهدٍ أقلّ. حياتي عبارة عن حرب على ثلاث جبهات: الجسد، المجتمع والرّوح. يحتاجُ الصّراعُ في كلّ جبهةٍ منها إلى أساليبَ وأسلحةٍ مختلفة، ويتركُ في جسديّ وقلبي نَدَباتٍ متفاوتةَ العُمق. كُتِبَ عليّ الصّراعُ حتّى لحظة الوداع.."
وأسألك فادي:
كيف يتركُ لنا القدَرُ علاماتٍ على المفارق؟ كيف يُسمّى هذا الكاتب فادي ويكون رهينَ جسدٍ؟ كيف فدانا الفادي بجسدِهِ، لنصبحَ أحرارًا من خطيئتِنا؟ هكذا فدانا فادي أبو شقارة، لنُحرّرَ مفاهيمَنا العقيمةَ نحوَ غيرنا مِن البشر. ونحنُ الآنَ نصومُ ونتذكّرُ مَن صامَ عن حلاوةِ الدّنيا. ونحن الآن نصومُ، نفهم أنّ كلًّا منّا يحملُ صليبَهُ ويسيرُ في هذه الدّنيا. ونحنُ الآن نقرؤُكَ، نفهم أنّ الحياةَ إرادةٌ، وأنّ الإبداعَ مُنقذٌ، وأنّ تبادلَ الهمّ يُخفّفُ مِن وطأتِهِ. كم كان جميلًا أن تُشاركَنا إبداعَك، وأن يَنضحَ كتابُكَ بتجربةٍ نضجتْ وأصبحتْ نبيذًا أدبيّا مُشتهى. تابِعْ مسيرتَكَ الإبداعيّةَ وطوّرْ أدواتِكَ يا فادي، ولا تُقوقعْ نفسَكَ لا في إعاقةٍ جسديّةٍ، ولا في غيرها من نظراتِ المجتمع، فنحنُ ننتظرُ عطاءَك القادم.
مداخلة د. محمد هيبي بعنوان: فادي أبو شقارة، "رهين الجسد" طليق الفكر والرّوح!
أهداني الكاتبُ فادي أبو شقارة باكورةَ أعمالِهِ الرّوائيّة "رهين الجسد". روايةٌ تمتّعتُ بقراءتِها، فهي روايةٌ تتمتّعُ بقسطٍ وافرٍ مِن الجَمال، لتَماسُكِها من حيثُ شكلِها وبناؤها وجرأة مضمونها. ويكفيك فخرًا يا فادي، أنّني أثناء قراءتي، شعرت أنّني أنا المُعاقُ ولستَ أنت. نحن جميعا، بشكل أو بآخر، رهناء أجسادنا، لكن لسنا جميعًا قادرين على الانطلاق بفكرنا وأرواحنا كما فعلت أنت. السّجن بلا جدران، قد يكون أقسى ألف مرّة، من السّجن بين الجدران وخلف القضبان. فقد شعرت أثناء قراءتي، كم أنت قادر على الانطلاق، بينما كنت أنا مُقعدًا رهين جسديّ وروايتك". وعليه، فأنا أجد في "رهين الجسد"، رواية جريئة كشفت عُرْيَنا وفضحَتنا، نزعت الأقنعة عن وجوهنا، وأزالت الألوانَ المزيّفة عن وجوهنا الممكيجة. 
"ما الإنسان"؟ سؤال فلسفي حيّر الكثيرين، وأهمّهم الفلاسفة والأدباء، لأنّ الأدبَ لا يكون إنسانيًّا، إن لم يبحث عن إجابة له. وفلسفة رواية "رهين الجسد"، أنّها حقّقت أدبيّّتها وإنسانيّتها بمُساهمتها الجادّة في الإجابة عن هذا السّؤال. فهي قصّة الإنسان العاجز أمام الطبيعة، وليس بالضّرورة جسديّا، وشغله الشاغل أن يبحث عن سبيل للخلاص من عجزه. وهذا ما يقوم به فادي الّذي بدأ في مرحلة ما، بعد ولادته، يعي معاناته، ليس بشكل ذاتيّ من خلال إعاقته فقط، وإنّما من خلال علاقته بالآخر، وما سبّبته تلك الإعاقة للآخرين من ألم وصراع ومعاناة. خاصّة أولئك الّذين تعالوْا فوق جراحهم، ووقفوا منتصبين أمام قدرهم، يُضحّون بكلّ نفيس، ماديًّا ومعنويًّا، ليلبّوا لفادي ولبطل روايته احتياجاته، لا ليخفّفوا من عجزه ومعاناته فقط، وإنّما ليقنعوه: أنت مثلنا ولا تختلف عنّا، أنت رهين جسدك ولكنّك لست عاجزًا. وهي قصّة الإنسان، الّذي مَهما ضاقت به الدّنيا، لا يستطيع أن يتخلّى عن إنسانيّته، فيبحث عن سعادته في سعادة أخيه الإنسان. كم كان بوسع الأب والأمّ والأخ والأخت، أن يتخلّوْا عن ذلك المولود المنذور لشقائه وشقائهم، وأن يتخلّصوا منه أو يتركوه لقدره في المستشفى؟ أوليس هناك من فعلها استسلامًا لإنسانيّته العاجزة؟
وكم كان بوسع الأصدقاء والزّملاء كذلك، أن يتخلّوْا عن ذاك الصّديق المعاق الّذي يُقيّد حركتهم، بقيد حركته الّذي لا ذنب لهم فيه؟ ولكن لا شيء استطاع أن يُقيّد مشاعرهم الإنسانيّة، بل زادها تدفّقا لتُترجَم أعمالًا، أقلّ ما يُمكن أن يُقال فيها: إنّها التّضحية الإنسانيّة التي لا هدف لها إلّا سعادة الإنسان وتخفيف معاناته. تلك هي متعة التّضحية التي تكره العجز الإنسانيّ، ولا تألُو جهدًا للخلاص منه. هذا هو الإنسان، الّذي يبحث عنه الأدب في دواخلنا، ليحرّرنا ويحرّر الإنسان عامّة. ولذلك، تجيء هذه الرّواية، فعلا إنسانيّا يحمل هدفيْن سامييْن على الأقل: الأوّل تحرير كاتبها من نير إعاقته، والثاني وربّما الأهمّ، تحمل اعترافه بفضل أولئك الّذين غمروه بإنسانيّتهم وحدّوا من معاناته.
سأتوقّف ما استطعت في هذه القراءة السّريعة، عند عتبات النّصّ وعناصر مبناه. كلّ ما يسبق النّصّ، من الغلاف حتى بداية النّصّ، نعتبره عتبة من عتباته. وكلّها ملامح ميتاقصيّة، من أبرز أهدافها هو أنّ إعلان الكاتب للقارئ: أنا موجود في النّصّ، ولي صلة وثيقة بكلّ ما يحدث فيه. وقد أتيتُ بهذه العتبات والملامح الميتاقصيّة لتفضح وجودي.
*العتبة الأولى هي لوحة الغلاف، لوحة فاضحة، سواء أرادتها مصمّمة الغلاف كذلك، أم لم تُردها. مضمون الصورة والألوان فيها يتقاطع مع ما جاء في النّصّ وفي عتبات أخرى، العنوان والعتبتين (ص 9 وص 11). في لوحة الغلاف، شخص بلا ملامح، تفضح إعاقته العربة التي يمتطي صهوتها، أو الـ "وينجز"، كما يُسمّيها الكاتب في النّصّ. وإلى يمينه، أشخاص بلا ملامح أيضًا، يُصفّقون، بينما الخلفيّة، أشجار سوداء يابسة يتخلّلها لون برتقاليّ، يُحيل إلى النّور الّذي سيُبدّد السواد والظلام. أعتقد أن مصمّمة الغلاف، وسواء كان ذلك من خلال فهمها للنص، أو من خلال معرفتها بالكاتب، فهمت نفسيته، أو نفسية الرّاوي والبطل، بما فيها من سوداوية بدّدها ذلك الدعم الّذي يُحيل إليه التصفيق من أناس معروفين وغير معروفين، لذلك تركتهم مصمّمة الغلاف بلا ملامح.
*العتبة الثانية، عنوان الكتاب، "رهين الجسد"، فاضح أيضًا. كأنّ الكاتب يصرخ هذا أنا. وحتى القارئ الّذي لا يعرف فادي، قد يُحيله العنوان مع لوحة الغلاف إلى أنّ الكاتب من ذوي الإعاقة. ومهما كانت قدرة القارئ على الملاحظة قليلة، لن يعجز عن فهم ذلك، أو التفكير فيه على الأقلّ.
*العتبة الثالثة كذلك فاضحة. تصريح الكاتب حول الرّواية: "أيّ تشابه بين الشّخصيّات الواردة في القصّة وأيّ شخصية على أرض الواقع هو محض صدفة.. أو لعلّها مقصودة.. أترك لكم الحكم" (ص9). العبارتان الأخيرتان، "أو لعلّها مقصودة.. أترك لكم الحكم"، أي للقارئ، تُؤكّدان ما أكّدته لوحة الغلاف والعنوان. هذا أنا، الكاتب، فادي أبو شقارة، أروي قصّتي!
*في العتبة الرابعة، يقتبس الكاتب بيت شعر لرهين جسد آخر، الفيلسوف الشاعر، المعرّي:
وردنا إلى الدّنيا بإذن مليكنا       لمغزىً، ولسنا عالمين بما غزي
المعرّي ينفي عبثية الحياة، ولكنّه عاجز عن فهم أو تفسير ما يدفع عنها تلك العبثية. وفادي كذلك في روايته، ينفي عبثية الحياة التي ظنّها في بداياته، ولكنّه يدفعها عنه بتصوير كل ما ناله من دعم وحبّ من النّاس الّذين أحاطوه بحبّهم ودعمهم. وفي مرحلة ما، تخلّى عن تفكيره الّذي كاد يحبطه، وهو أنّهم يُحبونه ويدعمونه عطفا وإشفاقا بسبب إعاقته.
رواية "رهين الجسد"، مهما حاول فادي الهروب من الاعتراف، هي رواية سيرة ذاتية له. فقد حاول أن يتهرّب فنيّا بواسطة أسماء الشّخصيّات وتعدّد الرواة وبعض الملامح الميتاقصية داخل النّصّ. ولكنّ ذلك لم يُسعفه، هذا بالإضافة إلى اعترافه، وإن كان جزئيا أو مواربا، حين وافق على غلاف الكتاب، وقال ما قاله في عتبات النّصّ. كما ساهم ملامح الميتاقص داخل النّصّ أيضًا، ولو بشكل غير مباشر، بتقديم دليل على وجود الكاتب في النّصّ، حين يقول الأب "لا أرى في انعكاس وجهي في زجاج النافذة بطلا لهذه القصّة" (ص13). وحين تقول الأمّ: "لا اعتبر نفسي بطلة هذه القصّة" (ص19). وكذلك ما تقوله الأخت في الفصل بعنوان "البكريّة"، وهي "مروة" أخت البطل، حين تقف أمام المرآة وتحدّث نفسها: "أنعم النظر بما تبقّى من مروة تلك، أرى الكثير فيها عبر المرآة عدا بطلة لهذه القصّة" (ص24). كل ذلك يطرح السّؤال: من البطل أذن؟ الكاتب ومبنى الرّواية، يقولان: ستجدونه في الفصول التالية. ومما لا شكّ فيه، هذه الملامح الميتاقصية، وما فيها من أقوال حول البطولة، تستفزّ القارئ وتدفعه نحو متابعة القراءة.
ومما تقدّم، تتبيّن لنا جرأة فادي، الّذي لا يتردّد في الاعتراف أمام القارئ، أنّ كاتب الرّواية وراويها وبطلها هم شخص واحد. بل تجاوز ذلك إلى ما يهمّه أكثر، نجاحه في كتابة الرّواية. وربّما الأهمّ من ذلك، هو شعوره وهو يُنجزها، كما حدث في نهاية الرّواية، أنّه يقف على رجليه وينتصب في مواجهة الواقع، ويسدّد الدين الّذي في عنقه لمن وقفوا معه. وقد نجح بكل المقاييس.
من الناحية الفنية، استطاع فادي بناء حبكة متماسكة لرواية فنية تقوم على تعدّد الرواة ولا أقول تعدّد الأصوات. فصوت الرّاوي، الأنا الشاهد المشارك المتكلّم، هو الّذي يطغى في معظم فصولها، حتى في الفصول التي ترويها شخصية أخرى. وهذا يُظهر إدراك الكاتب أنّ رواية السيرة الذاتية يجب أن تلتزم الأمانة في نقل تاريخ المروي عنه ومن يشاركونه هذا التاريخ. وعليه قول الحقيقة مهما كانت قاسية. نعم ... من حقّه أن ينتقي الأحداث، وأن يسردها ويعمل على تخييلها بأسلوب جميل، ولكن بلا تجميل ولا تشويه، إذ لا مجال هنا للاختراع، وإنّما لعرض الحقيقة سواء كانت جميلة أم قبيحة. ويُدرك أيضًا، أنّ السيرة الذاتية تدور حول شخصية حقيقية يتطابق فيها الكاتب مع الرّاوي والبطل، ويغلب فيها الصوت الواحد، صوت الرّاوي، على بقية الأصوات. ولذا لا يمكننا أن نعتبر "رهين الجسد" رواية بوليفونية رغم تعدّد الرواة فيها. ولكن الكاتب بهذا التعدّد، حقّق ديمقراطية النّصّ وأظهر احترامه للآخر، حين منحه حرية السّرد. ورغم كل ذلك، لم يُفلح الكاتب بطمس حقيقة السيرة، حيث التركيز في الرّواية على إعاقة الرّاوي البطل الجسديّة المطابقة تماما لإعاقة الكاتب.
الزمن في رواية "رهين الجسد" يقوم على التذكّر والاسترجاع وغيرهما من تقنيّات تيار الوعي، مثل التداعي والمنولوج والحلم. ولكنّ زمن الحكاية، أو زمن الإعاقة، موضوع الحكاية، كما في السيرة الذاتية، يسير غالبا بشكل أفقي، حيث يُحدّثنا الرّاوي عن إعاقته وأثرها عليه وعلى من يُحيطون به من أقاربه وجيرانه وأصدقائه وزملائه الطلاب، ملتزما بالمراحل الزمنية المختلفة التي قطعها منذ ولادته حتى سنّ الثامنة عشرة، وفي كل مرحلة عوامل خوفها الّذي يتجلّى كصراع داخلي لدى البطل، يوازيه صراع خارجي مع الآخر ومع الزمن. وقد ظهر هذا الصّراع من خلال السّرد وما فيه من بوح صادق في مونولوجات أحسن الكاتب توظيفها.
الحدث المركزي في الرّواية هو ولادة طفل معاق. وكل الأحداث الأخرى تتولّد عنه وتتناسل منه وتدور حوله. تعيش معظم الشّخصيّات، وخاصّة أفراد الأسرة، صراعا داخليا يدور في البداية حول كيفية التّعامُل مع الوافد الجديد، المولود المعاق، ومن ثمّ حول كيفية تغيير المسار أو الواقع الّذي يعيشه، آخذين بعين الاعتبار إعاقته وصعوبة التّعامُل معها، أو معه بسببها. ولقد انعكست في ذلك، قدرة الإنسان على التحمّل والتّضحية كفعل إنسانيّ صادق ومخلص، يدفع هو بنفسه إليه دون أن يدفعه أحد. ولذلك ليس عبثا أن أول وأهمّ من أسند إليه هذا الدور هما الأب والأم الّذين لا أحد يقدر على أخذ مكانهما أو ملء الفراغ إذا لم يقوما بدورهما. بعدهما فقط جاء دور الإخوة والأصدقاء. ومن خلال هذه الأدوار، حدث التفاعل الإنسانيّ بين الشّخصيّات، كفعل ثنائي الاتجاه، متبادل، وهو ما يجعل التأثّر والتأثير بين شخصية البطل وسائر الشّخصيّات متبادلا أيضًا.
أمّا فضاء الرّواية فقد تعدّدت فيه الأماكن، من البيت إلى المدرسة إلى الـ "وينجز" (العربة التي يستعين بها الرّاوي في تنقّله وتحرّكاته)، وهي أكثر ثلاثة أمكنة تشغل حيّزا مؤثّرا في فضاء الرّواية وتؤثّر على نفسية الرّاوي/البطل. وإذا كان الآخرون هم الّذين أوجدوا له "الوينجز" في الواقع، إلّا أنّه هو الّذي أوجدها في الرّواية، لتضع حدّا لعجزه الجسديّ، ما يُبين إصرار فادي، في الواقع وفي الرّواية، على تجاوز الإعاقة والانطلاق فكرا وروحا، وجسدا أيضًا. ومن هنا ليس عبثا اختار لها الاسم "وينجز" (أجنحة).
وإذا كان لا بد أن نتحدّث عن الشّخصيّات، وعن ألـ "وينجز" التي هي جزء من المكان، نقول بكل ثقة أن الكاتب استطاع هنا أن يُحوّل المكان إلى شخصية من شخصيات الرّواية، فقد أنسنها وأعطاها القدرة على التحرّك، فلعبت دورا في حياته لا يقلّ عن أدوار بعض الشّخصيّات الأخرى، إن لم يفقه. فهي لم تكن تحمله وتنقله فقط، بل حملته وحمته وأنقذته من مواقف ما كان ليعرف كيف سيتصرّف فيها لولا وجودها.
وقد رسم لكل شخصية دورها الّذي يُؤثّر سلبا أو إيجابا، على شخصية البطل ومسار تطوّرها، بالقدر الّذي يليق بها وبتأثيرها عليه. وهذا ينطبق على كل الشّخصيّات، سواء أعطاها الكاتب حقّ الكلام المباشر، أو نقل هو كلامها بشكل غير مباشر. وبالطبع، ليس عبثا أنّه أولى أفراد العائلة، الأب والأم والأخ والأخت، اهتماما خاصا، وأفرد لكل منهم أكثر من فصل في الرّواية. وأعطى لكل منهم حرية السّرد في فصله ومن منظوره، ولكن وفق منظور الرّاوي، فإنّ صوته كان هو الطاغي. ولكن ظنّي انّه لم يفعل ذلك بقصد الهيمنة على الشّخصيّات وإنّما بقصد تكريمها وتقديرها والاعتراف بأهمية دورها. ذلك لأنّ كل واحد من الأشخاص الأربعة، لعب دورا حاسما ومميّزا في حياة البطل.
يبدو دور الشّخصيّات أيضًا، من خلال الحوار الحيّ الّذي أحسن الكاتب توظيفه باللغة التي تليق به. فلغة الرّواية تأتي على مستويات متعدّدة، بين الفصحى في السّرد والعامية في الحوار، حيث لغة الحوار تُطابق الشّخصيّات ومكانتها الاجتماعية والثقافية. وتعكس كذلك، وبشكل يدعو للإعجاب، كل العناصر التي تتركّب منها ثقافة الكاتب الواسعة: لغة القرية والتراث المتداول فيها، لغة التكنولوجيا الحديثة وما توصلت له من أجهزة وألعاب إلكترونية مختلفة مارسها البطل، ولغة مواقع التواصل الاجتماعي على اختلافها، ولغة السينما والتلفزيون والأفلام والمسلسلات الكثيرة التي شاهدها، وأخيرا، لغة الكتب الكثيرة التي قرأها بنهم.
يقول الناقد المصري يوسف الشاروني "القصّة القصيرة تشبه دوامة على سطح النهر، بينما الرّواية تُشبه النهر كلّه". ووفقا لرواية فادي، أرى أنّها قد تشبه النهر، وقد تشبه مقطعا يطول أو يقصر منه، وذلك لأنّ القارئ في نهاية الرّواية، يخرج وهو يشعر أنّها لم تنتهِ، وأنّ خطّ سير الشّخصيّة لم يتكامل، وإنّما توقّف أو أبطأ لاتّخاذ مسار جديد. وهنا يأتي دور النهاية المفتوحة التي لا يُحيل الحلم فيها إلى التفاؤل فقط، وإنّما إلى الفرح بالإنجاز، وإلى الامتداد الّذي يعدنا فادي بأنّه سيأتي.
يرسم الكاتب لكل شخصية خطّ سيرها الخاص بها، وهذا الخطّ يلتقي بالضّرورة ويتقاطع مع خطوط أخرى لشخصيات أخرى. وخطّ سير شخصية البطل في رواية "رهين الجسد"، يُشبه جدولا صغيرا في منحدر، تكوّن من التقاء رافدين رئيسين مهمّين، هما الأب والأم. وسرعة التدفّق في هذا الجدول تُحدّدها كمية الماء التي ترفده بها الروافد الأخرى. ولذلك نرى أنّ حركة الماء في الجدول تزداد سرعتها كلما التقى مع رافد آخر. وهكذا هو الأمر بالنسبة للحركة الدرامية في الرّواية، تزداد كلما التقى البطل بشخصية أخرى. وهذا ما حدث عندما التقى خطّ سير شخصية البطل بروافد أو بخطوط سير شخصيات الأخ والأخت والأصدقاء وغيرها من الشّخصيّات. وهذا التّدفّق السّريع، ينعكس أيضًا على لغة الرّواية، فهي رغم أنّها لغة جميلة وتتلاءم في السّرد مع الجوّ العام للرواية، وفي الحوار مع طبيعة شخصية البطل والشّخصيّات الأخرى، إلّا أنّها في كثير من الأحيان، تفتقر للعمق. والأمر لا يبدو غريبا، بل مطابقا للجدول الّذي تحدّثت عنه، فمهما زاد تدفّقه يظلّ الجدول يفتقر للعمق. وهذا مطابق للفترة الزمنية التي اختارها الكاتب زمنا للرواية، فترتي الطفولة والمراهقة، إذ مهما كانت الأحداث متسارعة في الحياة في هذه الفترة، ومهما تناسبت الحركة الدرامية للرواية معها، إلّا أنّ الإنسان مهما كان ذكيا في هذه الفترة، يظل تفكيره سطحيا يفتقر للعمق. وهذا يلفت الانتباه إلى النهاية المفتوحة للرواية. ويذكرني بقول جبران عن السعادة في الحياة التي يُشبهها بالنهر: 
ومـــا السـعادة في الدّنيا سـوى شـبحٍ        يُرجى فإن صارَ جسمًا ملّهُ البشرُ
كالنهر يركض نحو السهل مكتدحًا         حـتى إذا جاءَهُ يـبـطي ويـعـتـكـر
وهكذا هي الحياة، قد تُبطئ أحيانا وتعتكر، ولكن إلى حين، لأنّ الإبطاء والاعتكار، قد يكونا نهاية مرحلة ننطلق منها نحو مرحلة تالية. وهذا تذكير للكاتب الّذي أراه كتب جزءا من الرّواية، إن فكّر بجزء آخر، أقول له: جاء دور جريان النهر في السهل، حيث الهدوء والعمق بعد السطح والاعتكار، الهدوء الّذي يُحيل إلى التروّي والعمق، والعمق بلا شكّ، يتطلّب قدرة أكبر على الغوص، في بحر اللغة وأسرار الرّواية.
وختاما، وبلا أيّة مجاملة، فادي أبو شقارة كاتب وروائي حقّق في أولى غزواته، نصرا مبينا ونجاحا باهرا. و"رهين الجسد"، رواية تستحقّ القراءة والدراسة بجدارة، تستحقّ كل ما كُتب وما سيكتب عنها. فقد ألقت وبجرأة متناهية، حجرا كبيرا في مياهنا الراكدة، وفي مستنقع عاداتنا وتقاليدنا، وفضحت إعاقتنا الفكرية والجسديّة معا.
مداخلة فادي ابو شقرة:
مساءُ الخير، مساء الفن والأدب، مساء التّحرّر من كلّ السجون الّتي تعيقنا عن الإبداع. تحياتي لنادي حيفا الثقافي والمنظمين والمتحدثين، وتحياتي للعائلة الكريمة الّتي ترافقني يد بيد، للضيوف الكرام فردًا فردًا.. لكم محبتي وتقديري.
خلال الأمسيات الخاصّة بالرّواية، إن كان إشهارُها أو المناقشات فيها، يرددون أمامي: "فادي نحن اليوم نحتفي بك، فادي أنت اليوم عريس الحفل". وكل عريس يحتاج إلى.. ماذا؟ عروس! وعروسي اليوم أكثرهن جمالًا وبهاءً وميّزة.. إنها عروس البحر.. حيفا!
بعد الإقبال الكبير على روايتي فور طباعتها ونشرها، وبعد الصدى الّذي لاقته أمسية إشهارها، وضعت نصب أعيني هدفًا واضحًا، صريحًا، جريئًا، أن أكون ضيفًا أنا وروايتي فوق هذا المنبر المحترم. ولم أكن لأقدم على هذه الخطوة وطلب الفرصة لو لم أشعر وبكل تواضع أن الرّواية من ناحية أدبيّة تستحق النقاش والتحليل داخل هذا المكان الراقي، الّذي يجمع نخبة الأدباء والشّعراء والنقاد المحليين.
تحملُ بعض كلمات روايتي في طيّاتها ألمًا، وتشعّ بعضها أملًا، تكشف غيرها ما يحمله شابٌ مقعدٌ من همّ وغمّ، وأخرى تصرخ عاليًا أنّ العزيمة والإصرار هما الأهمّ. فقد عشت في ظلال الإعاقة سنوات بدت لي دهرًا. عشت تحت وطأة نظرات رأت بي شبحًا، وتحت رحمة كلماتٍ تخلو من الرحمةِ. تلقيتُ الضربة تلو الضربة وبقيت واقفًا صامدًا إزاءها، أو وجب القول في حالّتي بقيتُ جالسًا.. صامدًا، ولم يجد اليأسُ سبيلًا إلى قلبي. ولكن لن أطيل الكلام حول الوجع الإنسانيّ الشّخصيّ داخل نص الرّواية ولا خارجها، لم أتِ حتى هنا طمعًا في كسب شفقة من الموجودين، هذا أحد المفاهيم الخاطئة الّتي أحارب من أجل تغييرها.
الرّواية ليست رواية تاريخية، ولا تتناول أي قضية سياسية، لكن هذا لا يجعل منها أقل قيمة وأهمية. قمت بكتابة رواية اجتماعية إصلاحية هادفة، تسلّط الضوء على فئة مهمّشة من المجتمع لتكون المحور الرئيسي فيها، تسعى إلى زرع أسمى القيم الإنسانيّة كالمحبة والمساواة والتواضع وتقبل الآخر. فهل وفقت في ذلك؟
الرّواية غيّرت مفاهيم خاطئة عديدة تتعلّق بأصحاب الإعاقة، كما قامت بثورة فكرية نحن بحاجة ماسة إليها، ساهمت في تحريك مشاعر وأحاسيس القراء ليتعاطفوا ويرغبوا في سماعي والدليل على ذلك أكثر من 1200 نسخة بيعت دون مساعدة أي دار نشرٍ، وأيضًا تم دعوتي من كافة القرى والمدن فزرتُ منذ إصدار الرّواية عيلوط والعزير ووادي سلّامة وعين ماهل والمشهد وكفر ياسيف والناصرة وكوكب أبو الهيجا وكفر مندا وكفر قرع وام الفحم. كما تم استضافتي عبر قناة مساواة ومرتين في برنامج الأسبوع على قناة 13 ريشت، وراديو مكان وراديو جمعية المنارة وموقع بانيت وموقع بكرا ووموقع وازكام وموقع وفا الفلسطيني.. قبل عدة أيام زارني في البيت ثلاث طالبات من الإعدادية لكتابة موضوع إنشاء عن شخصية بارزة في طرعان ووقع اختيارهن عليّ.
أما عن الجانب الأدبيّ فقد سمعنا مداخلتيْ الدكتور محمد هيبي والدكتورة راوية بربارة وتحليلاتهما العميقة وسمعنا نقدَهما الإيجابي الّذي ولّد فرحًا عظيمًا داخلي ورضا عن عملي. وسمعنا نقدهما البناء وأقول بناءً وليس سلبيًا فهو غداء للذهن ودرس سيعود عليّ بفائدة عظمى. وقبلهما تم تحليل الرّواية أدبيّا على يد البروفسور جريس خوري والدكتور الناقد رياض كامل والدكتور محمد خليل، والأستاذ فؤاد خميس والأستاذ جريس دبيات والكاتب حسين ياسين والكاتب مصطفى عبد الفتاح والشّاعر عبد حوراني والكاتبة أسمهان خلايلة والشّاعرة ساهرة سعدي والشّاعرة سناء عبد، كما حاورني الدكتور محمد هيبي عن الرّواية خلال إشهارها.
وبالإجماع أكدوا أن الرّواية على مستوى أدبيّ، جديرة بالنشر، حيث تكلموا عن العمق النّفسيّ فيها، اللغة الشّاعرية، المونولوجات، الفكاهة السوداوية، عنصر التطهير، التناص، صراع الرّوح والجسد. أنا أومن بمصداقية كل من نقد هذه الرّواية، وعلى ثقة كاملة أن التعاطف مع وضعي الجسديّ لم يكن معيارًا بأي شكل من الأشكال، بل تم تحليلها بكل موضوعية وحرفية كما هو مطلوب من ناقد يحترم اللغة والأدب. وأكبر دليل على النضوج الأدبيّ للرواية هو نشر دراسة عنها بقلم الدكتور رياض كامل، تم نشرها عبر مواقع عديدة في جريدة الاتحاد. ودراسة للكاتب مصطفى عبد الفتاح تم نشرها عبر عدة مواقع وفي مجلة الإصلاح. وتم مناقشة الرّواية في عدة منابر.. المركز الجماهيري - طرعان، متجر المها - سوق الناصرة، النادي الثقافي طرعان، نادي القراء طرعان، نادي القراء - الناصرة، نادي القراء - البطوف، نادي القراء - كوكب أبو الهيجا، سينامانا - الناصرة، وبعد أسبوعين من اليوم: نادي القراء - طمرة. والقادم أعظم..
قال محمود درويش "قف على ناصية الحلم وقاتل. ومنذ ولادتي وأنا أقاتل.. أقاتل الإعاقة، أقاتل الضعف والعجز والألم، أقاتل المجتمع وعيونه وألسنته، أقاتل الشّفقة والسخرية، أقاتل من أجل الوصول إلى أحلامي. اليوم على ناصية الحلم أقول قد قاتلت وانتصرتُ.. والدليل على انتصاري هي الرّواية الّتي ما زالت قيد الطلب والاهتمام حتى اليوم بعد نصف سنة من إشهارها، والدليل على انتصاري هو النظرة المغايرة الّتي يراني بها النّاس من معاق لا يعوّل عليه إلى مصدر إلهام للكثير وإلى كاتب أصدر عملا اجتمع هذا الكم الهائل من النّاس مهتمين متلهفين للسماع عنه.
سأنهي بكلمة شكر خاصّة لإنسانة محاربة، درعها الكلمة وسلاحها القلم، ساهمت في إنجاح أمسية إشهار "رهين الجسد" ونجاح أمسية سينامانا ونجاح أمسية اليوم، ووضعت كل ما تملك من طاقة ومحبة صادقة تخلو من أي مكاسب من أجل ذلك. لإنسانة عند مراجعتها لنص الرّواية قبل الطباعة، جاءتني حتى البيت ووعدتني أن لي مع الرّواية مشوار طويل حافل بالانتصارات.. ام طارق بارك الله بروحك الطيبة المعطاءة.. بارك الله فيكم جميعًا على حضوركم على إصغائكم واحتوائكم وتصبحون على واقع أفضل.





44
الانزياحُ والتّغريبُ في ديوان (سلامي لكَ مطرًا)/ للشّاعرة: آمال عوّاد رضوان
بقلم: كريم عبدالله .. بغداد/ العراق
تحتَ الضّغوطاتِ وبسببِ المِحَنِ وتراكُمِ الآهاتِ، يلجأُ الإنسان إلى طرقٍ عديدةٍ للتّفريغِ عمّا يَعتريهِ، أو يبتكرُ عالَمًا آخرَ مِن الخيالِ، بعيدًا عن الواقع المأزوم، ليهربَ إليه، أو يسقطُ صريعًا تحتَ وطأةِ المُعاناةِ النّفسيّةِ، تجلدُهُ سياطُ الصّعوباتِ والآلام، فإنّ ما يُعانيهِ الإنسان في هذا الواقعِ وصِراعِهِ المستمرّ، سينعكسُ أثرُهُ في عالمِهِ الدّاخليّ، وسيظلّ يبحثُ عن نافذةٍ، مِن خلالِها يُعبّر عن هذه الصّراعاتِ وغليانِها بشتّى الطُّرقِ والأساليب، فتكونُ هناكَ في أعماقِهِ مشاعرُ مُتأجّجةٌ، وعواطفُ مُتدفّقةٌ مُستترةٌ في النّفس، ولا بدّ من عمليّةِ تفريغٍ يُمارسُها للخلاصِ مِن هذهِ الشّحناتِ السّلبيّة، وبطُرُقٍ خلّاقةٍ، يُحاولُ مِن خلالِها أن يجدَ نفسَهُ في هذا الكون، ويُحقّقَ ما يصبو إليه.
هنالكَ طُرُقٌ عديدةٌ وقابليّاتٌ مختلفةٌ يُمارسُها الإنسانُ مثل: الرّسم، الموسيقا، النّحت، الرّقص، الرّياضة، الكتابة، والشّعرِ بالخصوص لإثباتِ الذّات، وتفريغًا لكلّ ما يَعتريهِ، فالشّعرُ يحتاجُ إلى موهبةٍ حقيقيّةٍ، وفطرةٍ نقيّةٍ في روحٍ تتسامى دومًا على كلّ هذا الخرابِ والقُبحِ، وبالإمكانِ صقلُ الموهبةِ عن طريقِ التّجربةِ الشّخصيّةِ، والتّراكُمِ الثقافيِّ والمعرفيِّ لدى الشّاعر، حينها يستطيعُ الشّاعرُ إعادةَ تشكيلِ الواقعِ المريرِ، وتصويرَهُ بأبهى صورةٍ، ويحاولُ مِن خلالِهِ ردْمَ الخرابِ، وأن يرفعَ صوتَهُ عاليًا بوجهِ الطّوفانِ والظلام، فيرسمُ الجَمالَ والسّلامَ على هذهِ الأرض.
إنّ قيمةَ الشّاعرِ الحقيقيِّ بقيمةِ ما يُقدّمُهُ للمُتلقّي، فهو رسولٌ بعثَهُ اللهُ لنشْرِ المَحبّةِ والخيرِ، رسالتُهُ الكلمةُ الصّادقةُ النّابعةُ مِنَ الذّاتِ النقيّةِ، فعليهِ أن يُنمّي الإنسانَ في داخلِهِ، وأن يُطوّرَ تفكيرَهُ، حتّى يستطيعَ الغوْصَ عميقًا، ويستخرجَ الكنوزَ مِن أعماقِهِ، وإلباسِها حُلّةً جديدةً زاهيةً عذبةً صافيةً تُسحِرُ المُتلقّي، وتُثيرُ في نفسِهِ الدّهشةَ، والإحساسَ بالجَمالِ، والنّقاءَ والبهجة.
الشّاعرُ لديهِ مقدرةٌ كبيرةٌ على تحويلِ القُبحِ إلى جمالٍ، ويمتلكُ خيالًا خصبًا، وقلبًا يَطفحُ بالمشاعرِ والأحاسيسِ، ولغةً غريبةً غيرَ مألوفةٍ، يَستطيعُ بحِرَفيّتِهِ تَطويعَها، لغةً كما يُعبّرُ عنها كونيتليان: (تُعبّرُ عن الحركةِ والتّجديدِ والحياةِ، على العكسِ مِنَ اللّغةِ العاديّةِ الدّالِّة على السّكونِ والنّمطيّةِ المُملّة). إذًا؛ فاللّغةُ الأدبيّةُ عندَ الشّاعرِ هي الجَناحُ الّذي مِن خلالِهِ يُحلّقُ عاليًا، ويأخذُنا معَهُ إلى منابعِ الإبداع والتّجلّي والفرح، يُبدّدُ لنا الألمَ والعناءَ، ويرتفعُ بنا عن الواقعِ وتعاستِهِ.
منذُ الوهلةِ الأولى، وأنا أطالعُ ديوانَ الشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان، انتابَني شعورٌ عميقٌ ورهبةٌ مِن لغةِ الدّيوانِ؛ لغةٌ غريبةٌ لا تشبهُ لغةَ أهلِ الأرض، حِيكَتْ بطريقةٍ مختلفةٍ، جعلتْني أقفُ مَصعوقًا أمامَ طوفانِها ورهبتِها، لغةٌ عذبةٌ، لكنّها جامحةٌ لا تَنقادُ إليكَ بسهولةٍ، بل تجعلُكَ تقفُ مُتحيّرًا كيفَ تَلِجُ إليها، ومِن أيّ الأبوابِ تدخُلُها، لغةٌ لا يُجيدُها إلّا القليلُ القليلُ ممّنِ اكتشفوا سِرَّ اللّعبةِ، وأجادوا صياغتَها بحِرَفيّةٍ عالية، وسأقتصرُ هنا على الانزياحاتِ اللّغويّةِ في هذا الدّيوان، لِما لها مِن جَماليّةٍ أخّاذةٍ تُقلقُ، وسِحرٍ أنيقٍ يَستفزُّ، ويُثيرانِ الدّهشةَ والتّأمُّلَ والتّأويلَ.
مِن عتبةِ العنوانِ (سَلَامِي لَكَ مَطَراً) تبدأُ رحلةَ هذهِ الانزياحاتِ المُثيرة، حيثُ ابتدأتْ بالسّلامِ والأمانِ والسِّلمِ والصُّلحِ، والتّحيّةُ مُقترنةٌ بهطولِ المطرِ؛ رمزِ الحياةِ والنَّماءِ والخيرِ والخصب، حيثُ الرّحمةُ الإلهيّةُ تَطردُ الجُدبَ والجَفافَ، وتبعثُ البَشائرَ، فرسالةُ الشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان عبارةٌ عن سلامٍ يَقهرُ ما حَلَّ مِن جفافٍ بينَ النّفوسِ، نتيجةً لنَوازعِها المختلفةِ وغاياتِها ونَزواتِها، إنّهُ السّلامُ بكلِّ ما يَعني الحُبُّ، والانتظارُ، واللّهفةُ والتّرقُّب.
إنّ جون كوهن يرى (أنّ الشّرطَ الأساسيَّ والضّروريَّ لحدوثِ الشّعريّةِ هو حصولُ الانزياحِ، باعتبارِهِ خرقًا للنّظامِ اللّغويِّ المُعتاد)، إذًا؛ لا شِعرٌ دونَ لغةٍ، ولا لغةٌ شعريّةٌ دونَ انزياحٍ لغويٍّ، يَرتفعُ بهذهِ اللّغةِ إلى عوالمَ أخرى مُحْكمةِ البناءِ والشّكل، تمتلكُ طاقةً نَغميّةً وإيقاعاتٍ مُتجانسةً، رَنينُها يُسحِرُ الأذن.
الانزياحاتُ اللّغويّةُ في ديوان (سَلامي لَكَ مَطَرًا):
1* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ صورةً شعريّةً جديدةً مُختلفةً عن الواقع، حيثُ نجدُ هنا رسمًا قَوامُهُ الكلماتِ، يمتلكُ إدراكًا حِسّيًّا يَنفُذُ إلى أعماقِ الأشياء، وكأنّه حالةُ استرجاعٍ ذهنيٍّ محسوسٍ، كما في هذا المقطعِ مِن قصيدة (خُـرّافَةُ فَـرَحٍ): براءةُ الفَجْرِ/ تُسْدِلُها عُيونُ المَلائِكَةِ/ مِنْ/ قُبَّةِ العَدْلِ/ عَلى/ هَديلِ يَمامِ الرّوحِ!
وكذلك في هذا للمقطع من قصيدة (اُسْكُبِيكِ في دَمِي): نَسائِمُ شُرودٍ.. تُحَلِّقُ/ تَصْفَرُّ أَعْوادُها.. تَصْفِرُ ناياتُها/ و.. تَسْفَحُ غَمامَ مُنىً/ عَلى.. أُفُقِ الصَّباحاتِ البِكْر/ أَمِنَ المُنْتَهى.. تَنْقَشِعُ طُفولَةٌ/ غافِلَةٌ.. عَارِيةٌ/ تَخْتَبِي../ في أَغْلِفَةِ العَبَقِ العُذْرِيِّ؟
إنّها اللّغةُ الشّاذّةُ غيرُ المألوفةِ، تعتمدُ التّحريفَ والإغرابَ، وطغيانَها وتدميرَها لنِظام الواقع.
2* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ العاطفة: فالعاطفةُ هي هذا الكمُّ مِنَ المَشاعرِ والأحاسيسِ الّتي تنتابُ الشاعرَ في لحظةٍ مُعيّنةٍ، وتُكوّنُ انفعالاتٍ وجدانيّةً، ومن خلالِ القصيدة يُحاولُ التّخلُّصَ منها، وإسقاطَها على الورق، إذ تنبعُ مِن ينابيعِ الرّوحِ البعيدةِ دونَ تَكلُّفٍ أو تزييفٍ، وتَتمثّلُ هذه العواطفُ على مساحةٍ واسعةٍ في ديوان (سَلامي لَكَ مَطَرًا)، كما في قصيدة (حورِيَّةٌ تَقْتاتُ مِنْ ضِرْعِ النُّجومِ):
نَحْنُ المَجْبولونَ بِالحُبِّ كَرَمْلِ حَنينٍ/ تَخارَقَهُ زَبَدُ اشْتِهاء../ أَلا تُنْقِذُنا أَمْواجُ بَراءَةٍ/ مِنْ خَطايانا؟!/ أَلا تَرْحَمُ بَقايانا/ نَواقيسُ مِنْ أَلَق؟
وكذلكَ تتمثّلُ في قصيدةِ (شاهِدَةٌ فَوْقَ لَحْدِ النَّهار): كأنَّما حَدَقاتُ آمالي/ كانَتْ أَرْحَبَ مِنْ فِرْدَوْسِ يَقينٍ/ وَكَأنَّما مَيْدانُ صَمْتِكِ/ صارَ أَضْيَقَ مِنْ ثَقْبِ شَكٍّ؟!
إنّها اللّغةُ الّتي تبتعدُ عنِ الخطابةِ، تتفرّدُ بما تَحملُ مِن طاقاتٍ، وكأنّنا نتلمَّسُ هذهِ المَشاعرَ والأحاسيسَ، ونستنشقُ عبيرَها الطّاغيَ في جوٍّ شاعريٍّ، ونتذوّقُ حلاوتَها.
3* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ الخيالَ الخصبَ: فالخيالُ هو القوّةُ التّركيبيّةُ السّحريّةُ، مِن خلالِهِ يَنقلُنا الشّاعرُ إلى عالمِهِ الغريبِ، حيثُ نجدُ اللّغةَ المُتوهّجةَ حاضرةً في طُغيانِها، بحيثُ تكونُ هي الواقعُ الحاضرُ والعيشُ العميقُ فيهِ، حينما تَتخلّى المُفرداتُ عن مرجعيّاتها، فنجد هذا الخيالَ في قصيدة (سَلامي لَكَ مَطَرًا):
في دُروبِنا العَتيقَةِ/ تُعَتِّقينَ خَواطِري فَرادَةً بِكِ/ إلامَ تَطْفو ذِكْراكِ عَلى وَجْهِ النِّسْيانِ؟/ بِغاباتِ فَرَحي المَنْذورِ لَكِ/ تَتَسَوَّلُكِ أَنْهارُ حُزْني../ ظِلالَ بَسْمَةٍ تَدْمَعُ بِكِ!
وكذلكَ في قصيدة (إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا)، حيثُ تقولُ الشّاعرةُ في بعضِ مقاطعِها: أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ/ في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ/ وَعَلى/ إيقاعِ جِهاتِكِ/ مُتَماهِيًا بِي/ يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!
استطاعتْ هذهِ اللّغةُ أن ترسمَ لنا لغةً كالحُلم، واستطاعت الاستغناءَ عنِ الواقعِ المَرير، وأن تُشكّلَ لنا كلَّ هذا الجَمالَ.
4* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ الاستعارةَ: حيثُ نجدُ أنّ هناكَ وسيلةً عُظمى، تَجمعُ بينَ أشياء مختلفة لا توجدُ بينَها علاقةٌ مِن قبل، لأجلِ إحداثِ تأثيرٍ في المواقفِ والواقعِ، ويَتجلّى هذا كما في قصيدة (سَلامي لَكَ مَطَرًا): يا مَنْ/ عَلى/ عَتَباتِ خافِقي المَهْجورِ/ تَنْبُتينَ أَشْجارَ زينَةٍ/ تَفوحُ بِزَهْرِ صَوْتِكِ/ يَزْدانُ بِكِ فِرْدَوْسُ نِداءاتي/ أَتَقولينَ:/ سَلامي لَكَ َمطَرًا!؟
وكذلك نجد هذا كما في قصيدة (شاهِدَةٌ فَوْقَ لَحْدِ النَّهار): كأنَّما حَدَقاتُ آمالي/ كانَتْ أَرْحَبَ مِنْ فِرْدَوْسِ يَقينٍ/ وَكَأنَّما مَيْدانُ صَمْتِكِ/ صارَ أَضْيَقَ مِنْ ثَقْبِ شَكٍّ!
لغةٌ هادئةٌ امتلكتْ مقدرةً على صُنعِ هذا العالمِ الزّاخرِ مِنَ الاضطرابِ، ومَزْجِهِ، وإعادةِ تَدويرِهِ بالسِّحرِ اللّغويّ.
5* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ الأحاسيس: وهو ردُّ فِعلٍ لا إراديٍّ لِما نتأثّرُ بهِ مِنَ المحيطِ الخارجيّ، وهو الّذي يُهفهفُ بأعماقِنا، ويمنحُنا المتعةَ، والشّعورَ بالجَمال، والنّقاءَ والصّدقَ، ونجدُ ذلكَ كما في قصيدة (سَماوِيَّةُ غُوايَتي):
في ضَبابِ الأُفُقِ الهارِبِ مِنْكِ/ تَتَناغَمُ فُصولُ الحُزْنِ الفَرِحِ/ بَيْنَ لِقاءِ الغِيابِ.. وَ.. بَيْنَ غِيابِ اللِّقاءِ/ يَلُوحُ مَعْبَدُ روحِكِ تُحْفَةً/ تَحُفُّهُ هالَةٌ مِنْ سُكونٍ/ يَفوحُ في انْسِكابِ نَدًى../ شَوْقٍ.. عَطِرٍ/ وَفي مِحْرابِ اللَّحْظَةِ/ تَجْثو أَحْلامُ كافِرٍ/ تَتَزاحَمُ في غَفْلَةٍ مِنْ غُروبِ إيمان!
وكذلكَ نجدُ ذلكَ كما في قصيدة (زَغَبٌ شَمْعِيّ): أشْواكُ رَحيلِكَ/ تَخِزُ أَعْصابَ الزَّنابِقِ/ سَتائِرُ ماضٍ تَتَمَرَّغُ لَوْعَةً/ في جَنَباتِ اللَّيْلِ/ تَتَذاءَبُ عُيونُ خَيالي/ مَوْجَةُ ماءٍ تُشْعِلُها/ مَوْجَةُ نارٍ تُطْفِئُها/ وَفي خِباءِ الأبْجَدِيَّةِ/ تَسْتَأْنِسُ بِحِضْنِ ضَوْئِكَ
لغةٌ تفرضُ السّعادةَ، تستمدُّ قوّتَها مِن قوّةِ المُفردةِ وتَشظّيها، وامتلاكِها طاقةً تنسكبُ في النّفوسِ، وتجعلُها تتغنّى بشلّالِها المُتدفّقِ حيويّةً وصِدقًا.
6* الانزياحُ اللّغويُّ الّذي يُجسّدُ التّجسيمَ: وهو إضفاءُ الطّابعِ الحِسّيِّ على المعنويّاتِ، بدرجةٍ تجعلُنا نرى المعانيَ وقد جُسِّمتْ، أي أنّ الشّاعرَ يُجسّمُ لنا الإحساسَ، لا أن يُخبرَنا عنه، كما في قصيدة (سَماوِيَّةُ غُوايَتي): أَيا راعِيَةَ حُقولِ القَلْبِ: أَما حانَ القِطافُ؟/ عَلى سُفوحِ التَّرَقُّبِ/ تونِعُ ابْتِساماتُ بَراعَتِكِ يَراعًا/ تَتَدَحْرَجُ/ ثِمارَ فَرَحٍ/ إلى/ سِلالِ اللَّحَظات!
وكذلك في قصيدة في (مَلاجئ البَراءَة): نحْنُ مَنْ تَلاشَيْنا/ مُنْذُ أَنْ/ هَبَطْنا/ مِنْ جَنَّتِنا/ أَقَدَرٌ أَنْ نظلَّ نَتَهاوى/ إلى غابَةٍ مُلَوَّثةٍ بِالحَرْبِ وَالعِصْيانِ؟/ أَكَأنَّما نَحِنُّ لِرَحْمَةٍ طرَدَتْنا/ حينَ عَصينا المَعْرِفَة؟!
إنّها اللّغةُ الإنسانيّةُ الصّادقةُ الخارجةُ للتّوّ مِنَ الحطامِ الواقعيِّ، مُحمّلةً برفيفِ الشّعرِ النّاصع.
7* الانزياحاتُ اللّغويّةُ الّتي تُجسّدُ التّراسُلَ: فأيُّ اشتراكٍ أكثرُ مِن حاسّةٍ في المَقطعِ الشّعريِّ، كما في قصيدة (سَماوِيَّةُ غُوايَتي): بَلِ انْهَمِري حَنانًا/ يَنْضَحُني بِطُهْرِكِ/ فَأبْرَأُ مِنْ يَبابي/ رَحْمَةً بِاليَتَسَرْبَلُ أرْجُوانَ الوَجَعِ/ تَخيطُهُ إبْرَةُ الشَّغَبِ بِخُيوطِ الشَّغَفِ../ لا تُرَتّقي جِراحَ نَرْجِسي/ بِشَوْكِ التَّمَنّي/ لا تُزْغِبي أجْنِحَةَ صَلَواتي/ بِأَرْياشِ الحَسَراتِ/ أُمْسُسي واحاتِيَ الذَّابِلَةَ/ بِخُشوعِ هَمْسَةٍ/ وَلا تَعْبَثي بي/ بَلِ ابْعَثي أَعْراسَ الزَّقْزَقَةِ / زَغاريدَ فَرَحٍ / في مَناقيرِ فِراخِ الحَنينِ!
لغةٌ نشتاقُ إليها دائمًا، نستحمُّ بينابيعِها، ونتمشّى على سواحلِها مُتراميةِ الأطراف.
8* الانزياحاتُ اللّغويّةُ الّتي تُجسّدُ الإيقاعَ في اللّغةِ: وهو حالةُ التّواترِ المُتتابعِ ما بينَ التّوقّفِ وحالةِ الصّوتِ، أو الإبطاءِ والإسراعِ، أو الحركةِ والسّكونِ، وهناكَ إيقاعٌ يعتمدُ على قافيةِ ووزنٍ خارجيّ، وهناكَ إيقاعٌ داخليٌّ يعتمدُ على ما في النّصِّ مِن قوافٍ داخليّةٍ، وبديعٍ، وحروفِ مَدٍّ أو همسٍ، وهذا نجدُهُ في قصيدة (نَدًى مَغْموسٌ بِغَماماتِ سُهدٍ): عَلى ضِفافِ القَصائِدِ/ تَتَناثَرُ محاراتُ الهَوى/ وَمِنْ ذاكِرَةِ  الهرُوبِ/ تَتَسَلَّلُ أَسْرارُ الجَوى/ فَلا نُمْسِكُ بِالمَحارِ/ وَلا نَلْحَقُ بِالأَثَرْ/ وَهَيْهات..  هيهات.. يُسْعِفُنا الوَتَرْ!
لغةٌ مُحمّلةٌ بالأسرارِ، تأخذُنا رغمًا عنّا إلى عالمٍ فسيحٍ مِنَ التّوافُقِ بينَ المُفرداتِ وصياغتِها، وتوحي بالمَزيدِ مِنَ الطّاقاتِ الموسيقيّةِ المُتجانسةِ، وبالمقدرةِ على الإيحاءِ والتّوصيل.
إنّ ديوانَ (سَلامي لَكَ مَطَرًا) للشّاعرة آمال عوّاد رضوان يمتلكُ مقدرةً فائقةً، على تغريبِ اللّغةِ والانزياحاتِ العظيمة، منَ العنوانِ إلى آخرِ مفردٍة فيهِ، فالمُتلقّي يجدُ نفسَهُ مِن خلالِ دلالاتِهِ النّصّيّةِ، وجهًا لوجهٍ أمامَ لغةٍ صادمةٍ، حقّقتْ جَماليّتَها الشّكليّةَ والمعرفيّةَ والتّعبيريّةَ، وخروجًا عن قواعدِ اللّغةِ والمعتادةِ، وخرقًا لهذهِ القواعد. إنّ هذهِ الإطلالةَ حاولنا مِن خلالِها، إثباتَ قيمةِ الانزياحاتِ اللّغويّةِ في الشّعر، وأنّ الشّعرَ العظيمَ لا يكونُ عظيمًا بغيرِها.




45

لِلوْعةِ العتماتِ نَذَرتُكِ


آمال عوّاد رضوان


أَيَا مَائِيَّةَ ابْتِهَالاَتِي
يَا مَنِ انْبَجَسَ
نَسِيمُكِ الضَّوْئِيُّ
وَاطِــــــئًـــــــــــا
مُنْحَدَرِاتِ كُوخِي النَّاعِسِ
وَهَـــفْـــــهَــــفْــــــتِ
بِفَضَاءَاتِي الْجِدَارِيَّةِ
تَــــنْــــقُــــشِـــيـــنَ
فَرَاغِيَ الْوَثِيرَ
بِمَخَالِبِ أَجْنِحَتِكِ!
*
يَا أَنْتِ الْـــــــ
تَــــتــــَّقِــــــــدِيـــــنَ
مَطَرًا عَاصِفًا
وتَـــــنْــــــــدَاحِـــــيـــــنَ
رِيحَ خَيَالاَتٍ
عَلَى ضِفَافِ جِنَانِي الْخَوَالي!
*
أَنَـــــا مَـــنْ تَــــأَهَّــــــــبْـــــتُ
لِمَصَابِيحِ رُوحِكِ
تُــــــشِـــــعُّــــــنِـــــي
أَعْرَاسَ فَرَحٍ
وفِي دُرُوبِ الوِلاَدَةِ
تَـــــــتَــــــهَـــــجَّـــــــانِــــي
ظِلاَلَ حُلُمٍ نَافِرٍ
لَكَمْ وَكَم وَكَم
نَــــذَرْتُــــــكِ
لِـــــلَـــــوْعَــــةِ الْـــعَـــتَــــمَـــاتِ


آمال عوّاد رضوان/ لِلوْعةِ العتماتِ نَذَرتُكِ/ ترجمة للإنجليزية: فتحية عصفور
(To Burning Agony of Darkness I vowed you)
By: Amal Awad – Radwan-(Palestine)
Translated by: Fathia Asfour
Palestinian poet & tranlator

O You ! the Waterity of my invocations
O You ! whose luminary breeze gushed out
trampling the slopes of my sleepy hut.
And who fluttered in my wall espaces,
Inscribing my smooth void
with the claws of your wings.
****
O You ! who flares up with stormy rain
and spreads out a wind of illusions
on the banks of my empty gardens.
***
It's me who was prepared
for the lanterns of your soul
to shine me
weddings of joy
And in the paths of birth to spell me shadows of fleeing dream
How many times and times and times!!
to burning agony of darkness
 vowed thee I

[/center]

46
النّاصرة تحتفي بإصدار د. محمد خليل المترجَم!
آمال عوّاد رضوان
بتاريخ 27-2-2019 ووسط حضور نوعي مميز، أقام منتدى الفكر والإبداع في مركز محمود درويش في النّاصرة أمسية أدبية، احتفاء بالنّاقد د. محمد خليل وبإصداره النّقديّ الثّقافيّ الأخير المترجم باللغة الإنجليزيّة جماليّةُ الخطاب في الأدبِ العربيِّ الحديث" والصّادر عن دار النشر أوستن ماكويلي في بريطانيا، وقد تولى عرافة الأمسية الشاعر سيمون عيلوطي، وتحدث عن المنجز كل من د. فهد أبو خضرة حول أهمّيّة الدراسة والنّقد، لنصوص عديدة من أدبنا المحلي وأدبنا العربي الفلسطينيّ، لأنّ هذا الأدب الّذي لم ينل حتى اليوم ما يستحقه من الاهتمام، وتحدّثت د. كلارا سروجي عن أهمّيّة ترجمة الأدب العربي الحديث، أمّا بروفيسور فاروق مواسي، وفي نهاية الأمسية تحدث د. محمد خليل شاكرا المتحدثين والحضور والقائمين على مركز درويش، ودعا عيلوطي الأدباء الّذين تناولهم الكتاب لتكريمهم بنسخة من الكتاب المترجم: أ. د. جورج قنازع، سعاد قرمان، د. فهد أبو خضرة، أ. د. فاروق مواسي، وهيب وهبة، مفلح طبعوني، محمد نفاع، فتحي فوراني، رشدي الماضي، عطاف صغيَّر، محمد علي طه، ناجي ظاهر، د. منير توما، أ. د. محمد حجيرات، نبيل عوده، زكي درويش، وفاء عياشي ونمر سعدي، وتمّ التقاط الصور التذكارية.
مداخلة سيمون عيلوطي: 
الحضور الكريم، مع حفظ الأسماء والألقاب، أسعدتم مساءً: باسمي، وباسم أعضاء منتدى "الفكر والإبداع"، ومقرّه في كليَّة النّاصرة للفنون، نرحّبُ بكم في هذه الأمسيةِ الأدبيّةِ الّتي دعا إليها مشكورًا مركز محمود درويش الثّقافيّ في النّاصرة، تحت رعاية رئيس البلدية السيِّد علي سلام، وذلك احتفاءً بصدورِ كتابٍ جديدٍ للدكتور محمد خليل، بعنوان: "جماليّةُ الخطاب في الأدبِ العربيِّ الحديث".
الكتابُ صدرَ حديثًا باللغةِ الإنجليزيّةِ في لندن، وهو عبارة عن معالجاتٍ نقديّةٍ لعددٍ من أعمالِ أدبائِنا المحليِّين والعرب، وقد جاءَ متابعةً لمشروعِهِ النّقديّ الّذي بدأهُ قبل سنواتٍ، بهدفِ تأسيسِ حركةٍ نقديَّةٍ تسعى للوصولِ إلى نقدِ النّقد، لذلك رأيناهُ يؤكّدُ من خلالِ نظرتِهِ الشَّاملةِ في النّقد على أنّ "الأثرَ الأدبيّ، شعرًا ونثرًا، وكذا كلُّ أثرٍ فنيٍّ، لا يتشكَّلُ من فراغٍ، إنَّما ينشأ مرتبطًا بسياقاتٍ متعدّدةٍ من ذلكَ المنطلقِ"، وبالتَّالي: "لا يحقُّ لأيِّ قارئٍ، أو باحثٍ، أو ناقدٍ أن يقرأَ، أو يدرسَ نصًا ما بمعزلٍ عن سياقاتِهِ الاجتماعيّةِ، والثّقافيّةِ، والاقتصاديّةِ، وحتَّى السياسيَّةِ! فالنّصُ نَفسُهُ، أدَبِيًا كان أم فكريًا، هو بُنيةٌ لغويَّةٌ فنيَّةٌ، يُعَبِّرُ عن واقعِ المجتمعِ وينبثقُ عنهُ". وفي هذا السِّياقِ قالَ أحدُ الحكماءِ بما معناهُ: "إذا أردتَ أن تعرفَ شعبًا من الشّعوب، فاذهب إلى فنونِهِ".
من هذا المنطلق: فإنَّ ناقدَنا لم يكتفِ لتحقيقِ مشروعِهِ النّقديّ- الطَّلائعيِّ بتقديمِهِ لقرَّاءِ العربيَّةِ فحسب، بل انطلقَ بهِ نحوَ القارئ الآخر في لندن، حيثُ أصدرَ الكتاب، وإلى قراءِ الإنجليزيّةِ في كلِّ مكان، ولعلَّ الرَّؤيا المنهجيَّةَ- النَّهضويَّةَ الّتي يطرحُها النّاقد خليل في نقدِهِ عامَّةً، وفي كتابهِ، موضوعُ هذه الأمسيةِ الاحتفاليَّةِ خاصّة، هو ما دعا النَّاشرَ في لندن إلى نشرِ هذا الكتاب، ودفعِهِ بالتَّالي إلى القرَّاءِ في أوربا، وفي أمريكا، وذلكَ عبرَ مقرَّاتِهِ في لندن، وكمبريدج، ونيويورك، والشَّارقة.
لا شكَّ أن ترجمةَ أعمالِنا النّقديّة والأدبيّة الفلسطينيّة والعربيَّة، لمختلفِ لغاتِ شعوبِ العالم، تؤكِّدُ على ترسيخِ ثقافتِنا العربيّةِ والإنسانيَّة، لتجسَّد بالتَّالي تحقيق الحوار المطلوب بين الثّقافات، خاصّة في هذه المرحلةِ الّتي أصبحت فيها وسائل التّواصل الاجتماعيّ متاحة لدى الجميع. لذا يجبُ علينا، بصفتِنا أدباءَ ومثقّفين أن نأخذَ دورَنا في هذا المجال، تمامًا كما فعلَ الدُّكتور خليل في كتابِهِ "جماليّة الخطاب في الأدبِ العربيّ الحديث". ونطرح ما عندنا من أدبٍ وشعرِ وإبداعٍ للآخر المختلف، ونستقبل أيضًا ما لدى شعوب العالم من أدبٍ وفكرٍ وفنٍ بما يُنمّي، ليس فقط الحوار، بل يتخطَّاهُ إلى حدِّ التَّفاعلِ والتَّناغمِ مع الثّقافات الأخرى، باعتبارِها أداة يمكن من خلالها تعزيزُ روح قبول الآخر القائم على الاحترامِ المتبادلِ بين جميعِ الشّعوب والحضارات.
يرى صاحب كتاب "جماليّة الخطاب في الأدب العربيّ الحديث"، من خلالِ طروحاتِهِ النّقديّة، أنَّ: "الطَّريقَ الأمثلَ للنُّهوضِ بالنّقد الأدبيّ، هو وضعُهُ موضعَ النّقد والمساءلةِ". من هذا المنطلق؛ اختارَ ناقدُنا أن يسيرَ في مشروعِهِ النّقديّ الرَّائدِ نحوَ الاتجاهِ الصَّعبِ، وهو: "نقدُ النّقد"، وقد كتبَ في ذلك عدَّة دراسات، وأقام الكثير من المحاضرات، وجميعُها تُؤكِّدُ سعيَهُ الدَّؤوبَ لإرساءِ حركةٍ نقديَّةٍ تعالجُ النّقد القائم عندنا بالنّقد.
مداخلة د. فهد أبو خضرة:
الأخوات والإخوة الأفاضل، مع حفظ الألقاب والمناصب. أسعد الله مساءكم بكل خير.
أرحب بكم أجمل ترحيب في هذا اللقاء الاحتفالي، باسمي وباسم جميع الأعضاء في منتدى الفكر والإبداع الّذي تمّ إنشاؤه قبل أشهر قليلة، والّذي اتخذ من كلية الفنون في النّاصرة مقرًا له، وأود أن أقدم باسمنا جميعا تهنئة من الأعماق لصديقنا العزيز الباحث النّاقد د. محمد خليل، عضو الإدارة في المنتدى، بمناسبة صدور كتابه الجديد القيّم في العاصمة البريطانية. وقد صدر هذا الكتاب باللغة الإنكليزية، وهو يحمل العنوان "جماليات الخطاب في الأدب العربي الحديث". وقد تناول المؤلف في كتابه هذا، بالدراسة والنّقد، نصوصًا عديدة من أدبنا المحلي، أدبنا العربي الفلسطينيّ. هذا الأدب الّذي لم ينل حتى اليوم ما يستحقه من الاهتمام. وهو، في رأيي، يستحق الكثير.
ويشكل صدور هذا الكتاب خطوة هامة في هذا الاتجاه. وأرجو أن تكون خطوة أولى تتبعها خطوات عديدة مماثلة، سواءٌ من المؤلف نفسه أو من مؤلفين آخرين، لأنّ هذه الخطوات قادرة أن تلفت النّظر إلى أدبنا، في داخل هذه البلاد وفي خارجها، وأن تدفع الكثيرين من الدارسين والنقاد، على مستوى العالم العربي، وعلى مستوى العالم كله، لأن يجعلوه محورًا مركزيًا لدراساتهم ونقدهم.
وأود أن أستغل هذه المناسبة، لأدعو المفكرين والمبدعين إلى إقامة مؤسّسة خاصّة تكون مسؤولة عن شؤون التّرجمة، من العربية إلى عدة لغات أخرى لها مكانتها وشهرتها في العالم. وأنا، حين أقول هذا، أعرف جيدًا الصعوبات المالية الّتي يمكن أن تواجه هذه المؤسّسة، ولكنني أعرف أيضًا أن الإرادة الصادقة لا تعترف بالمستحيل.
ونحن في منتدى الفكر والإبداع نعتقد أن الأدب الفكريّ والإبداعي جزء من الحياة العقلية لمجتمعنا، وأن الحياة العقلية جزء رئيسي في حضارة كل مجتمع من المجتمعات الراقية في العالم، وعلى هذا الأساس، فإننا نحاول أن نجمع تحت سقف هذا المنتدى أكبر عدد ممكن من مفكرينا وأدبائنا، ونعمل على إقامة ندوات شهرية دائمة، في موعد ثابت، ومكان ثابت، يُقدَّم فيها إنتاج باحثينا وأدبائنا، كما أننا نعمل في الوقت الحالي على تحضير ما يلزم من أجل إصدار مجلة فصلية، تُعنى بهذا الإنتاج.
لقد لاحظ الكثيرون من المثقفين في هذه البلاد، ومنهم أعضاء المنتدى، تراجعًا لافتًا للنظر في الحركة الثّقافيّة في مجتمعنا العربي، خلال السنوات الأخيرة، وكانت هذه الملاحظة دافعًا هامًا في سبيل إقامة هذا المنتدى. ونحن على استعداد اليوم لدعم كل خطوة مماثلة عند أي مجموعة من المثقفين، كما أننا نرحّب بكل مفكر أو مبدع يرغب في الانضمام إلى منتدى الفكر والإبداع. ولا بد هنا من الإشارة إلى ما نراه من تراجع في مجال اللغة العربية الفصيحة، وهو تراجع لا يمكن أن نقف أمامه صامتين ومكتوفي الإيدي، فاللغة عنصر رئيسي من عناصر القومية، وركيزة أساسية من ركائز التراث الأدبيّ والفكريّ والديني، وركن هامٌ جدًا من أركان التفكير. ولهذا، فإن الواجب يفرض علينا، دون أي تقصير، أن نتمسك بهذه اللغة تمسكًا مستنمرًا، وأن نؤكد انتماءنا إليها، وأن ندعم تطورها، وأن نرسخ احترامها في أبنائنا منذ الصغر. ونحن في منتدى الفكر والإبداع ندعو المفكرين والمبدعين جميعًا إلى عقد لقاءات مكثفة خاصّة بهذا الموضوع، وإلى القيام بدراسات جادّة شاملة، ثم الخروج بنتائج موضوعية وتوصيات مفصلة تدعم هذه اللغة الغنيّة الرائعة، حاضرًا ومستقبالًا. ولكم الشّكر الجزيل
مداخلة د. كلارا سروجي- شجراوي
مساء الخير، وأهلا بالجمهور الكريم، أهنّئ الدكتور الباحث محمّد خليل على إصداره لكتابه بالإنجليزيّة بعنوان The Aesthetics of Literary Discourse in Modern Arabic Literature، والصّادر في لندن.
مداخلتي ستكون في مسألة أهميّة التّرجمة إلى اللغة الإنجليزيّة بشكل خاصّ، وإلى باقي لغات العالم كعامل مركزيّ في التواصُل والتبادُل الثّقافيّ. كما نعلم، اهتمّ العباسيّون بترجمة الفلسفة والعلوم المختلفة من اليونانيّة والسيريانيّة والهنديّة والفارسيّة إلى العربيّة، لتتسعَ آفاقُ اللغة العربيّة، وتستوعبَ ألفاظا جديدة، وتقدّمَ بدائلَ عربيّة لألفاظ أجنبيّةٍ لم تكن موجودةً في اللغة من قبل. بطبيعة الحال، ساهمت هذه الترجمات على ازدهار الحضارة العربيّة- الإسلاميّة وتطويرها في مجالات فلسفيّة وحقول علميّة جديدة.
بالنسبة للترجمة في عصرنا أقول إنّ نسبة الكتب المُترجمة إلى اللغة الإنجليزيّة، من لغات مختلفة، هي ثلاثة بالمائة فقط. جزء قليل من هذه النسبة المئويّة هي لكتب عربيّة. فمجرّد إلقاء نظرة عابرة على الكتب الّتي تتضمّن مقتطفاتٍ أدبيّةً مختارة، باللغة الإنجليزيّة، سنجدها عامرة بالقصائد والقصص المترجمة من لغات مختلفة، لكنها مُجحفة في حقّ الأدب العربيّ. هذه الظاهرة إنْ دلّت على شيء، عند بعض الدارسين، فهي تدلّ على عداء متأصّل للحضارة العربيّة الإسلاميّة وللشعب العربيّ. 
هناك، إذن، نظرةٌ غيرُ عادلة عن اللغة العربيّة، بل هي متعالية على العرب وذلك على الأخصّ قبل أن ينال نجيب محفوظ جائزة نوبل عام 1988. كي أوضّح هذه النقطة أذكر أنّ أحد الناشرين في نيويورك، المعروف بآرائه الليبراليّة، طلب من إدوارد سعيد، قبل ثماني سنوات من حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، أن يقترح عليه بعضَ الروايات من العالم الثالث، بهدف ترجمتها ضمنَ سلسلةٍ من الترجمات الّتي يخطّط لها. فاقترح عليه إدوارد سعيد عملين أو ثلاثةَ أعمالٍ لنجيب محفوظ، لم تكن متداولة في الولايات المتحدة.
لكنّ الناشر، بعد مرور عدّة أسابيع على الاقتراح، يقرّر ألّا تكونَ أعمالُ محفوظ ضمن الأعمال المترجمة، بحُجّة أنّ "اللغة العربيّة هي لغة (Arabic is a controversial language) مثيرة للجدل"، فكتب إدوارد سعيد المذهول بهذه الإجابة معلّقا: "حتى الآن لا أفقه تمامًا قصدَ الناشر. لكن، أن يكون العربُ ولغتهم غيرَ محترمين بطريقة ما، وبالتالي خطرين وذوي سمعة رديئة، هو أمر، واحسرتاه، واضح لي الآن كما كان في السّابق. فمن بين الآداب العالميّة العظيمة، تبقى العربيّةُ منها غيرَ معروفة نسبيّا، وغيرَ مقروءة في الغرب".
هناك مسؤوليّة كبيرة تقع، بالدرجة الأولى، على عاتق الأساتذة والنقاد والكتاب العرب الّذين يجيدون اللغاتِ الأجنبيّة المختلفة، لكنهم لا يعملون كفاية، لنقل الأدب العربيّ الجيّد إلى لغات أوروبيّة، لينال انتشارًا واهتمامًا يستحقّهما. ولا يمكن أن نتجاهل أنّ الغرب بات معيارَ الذوقِ الأدبيّ في عصرنا، ولذلك لا يمكن أن نقبل مثلَ هذا التقصير في ترجمة الأدب العربي.  هذه الترجمات، الّتي يجب أن تكون جيّدة، لا بدّ أن تساعد في تغيير فكرة الغربيّين عن الأدب العربي، وفي تخلي المجتمع الأمريكي عن أفكاره المُسبقة عن العرب كشعب متعصّب لدينه، وموجود دائمًا في حالة حرب، ويكره كلَّ أشكال المعاصرة. 
عمليّة التّرجمة ليست بالأمر الهيّن، فقد تتطلّب من المترجم دراية عميقة بالمجتمع: عاداته وثقافاته المختلفة، لكي يفهم جيّدا كيفيّةَ استخدامِ الكلمات في سياقاتها المختلفة. عليه أن يعيش بين أفراد المجتمع، ليفهمَ لغةَ حواره اليوميّة، وبلهجات مختلفة، في بيئته الطبيعيّة، وذلك كي يخلق العملَ من جديد، بلغة سلسة تتناسب مع اللغة الّتي يترجم إليها. والواقع أنّ الأدب العربيّ كلّه قد عانى (حسب صبري حافظ) من رداءة ترجماته إلى اللغة الإنجليزيّة لزمن طويل، ولا يزال يعاني من هذا الأمر حتى الآن. فاللغة الإنجليزيّة أساسيّة لانتشار أيّ عمل في العالم، وهي ليست هيّنة كما يتوهّم البعض. لذلك لن يحتمل القارئُ الجادّ التّرجمة الضعيفة، أو ذاتَ اللغةِ المجرّدة من الحسّ الأدبيّ، وذلك بسبب الوفرة العظيمة من الأعمال الجيّدة المتاحة اليوم باللغة الإنجليزيّة. 
إنّ دراسة اللغة العربيّة في الجامعات الأوروبية قد بدأ منذ بدايات القرن السادس عشر، لكنّ اهتمام الأجانب قد اقتصر على الأدب العربيّ القديم والحضارة الإسلامية القديمة. قد يعود السبب في عدم اهتمام بعضهم بالأدب العربيّ الحديث إلى عمره الصغير، وقد يعود إلى فكرتهم المسبقة عن العرب كشعب امتاز بحضارته العظيمة القديمة، لكنه يعيش الآن إمّا في سبات عميق، أو في تناحر طائفيّ قبيح. وبالتالي، لا يستحقّ مثل هذا الشّعب أن يُدرسَ أدبُه، وتُبَذَّرَ الأموالُ على ترجمات لروايات لن تلقى رواجًا في الأسواق الأوروبية والأمريكيّة، ولن تعوّضَ خسارة إصدارها ونشرها. 
هذه الحالة من اللامبالاة بالأدب العربي الحديث استمرّت حتى عام 1962 (حسب صبري حافظ) ، عندما عُيّن محمد مصطفى بدوي أستاذا بجامعة أكسفورد. عندها فرضَ الأدبُ العربيُّ الحديثُ نفسَه بقوّة بين المستشرقين، كما أصبح من موادّ الدراسة الأساسيّة في الجامعات النّاطقة بالإنجليزيّة. عمل محمّد بدوي بنشاط كبير، مع مجموعة من زملائه ومن تلامذته، على جذب الانتباه إلى الأدب العربيّ الحديث، لا في أكسفورد فحسب بل في جامعات أخرى أيضا. وأنشأ بعد أقلّ من عَقْدٍ واحدٍ دوريّة إنجليزيّة متخصّصة بالأدب العربيّ: قديمِه وحديثِه، هي مجلة (Journal of Arabic Literature) الّتي كانت تصدر عن واحد من أعرق الناشرين في لايدن بهولندا. وازداد هذا الاهتمام بالأدب العربيّ الحديث وضرورةِ ترجمته إلى اللغة الإنجليزيّة، بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل. فكان نجاح محفوظ الخاصّ فتحًا لنجاح الآخرين من الأدباء.
نتيجة لهذا الاهتمام بالتّرجمة تأسّست عدّةُ مشروعات لتنظيم هذه العمليّة. أكبر هذه المشاريع هو مشروع التّرجمة عن العربيّة الّذي أدارته الباحثة والشّاعرة الفلسطينيّة سلمى الخضراء الجيّوسي. صدر عن هذا المشروع عددٌ كبير من الأنتولوجيّات، من مختلف الأجناس الأدبيّة في مجلّدات منفردة. كذلك يمكن أن نذكر دورَ نشرٍ مثل الهيئة المصريّة العامة للكتاب، وسندباد في فرنسا، ولينوس في سويسرا (باللغة الألمانيّة)، بالإضافة إلى المبادرة المسمّاة "ذاكرة المتوسّط" (Mémoires de la méditerranée)، الّتي تخطّط لترجمة المؤلّفات العربيّة إلى خمس لغات أوروبيّة على الأقلّ في الوقت نفسه.
كلّي أمل أن يتشكّل في بلادنا فريقٌ على مستوى مهنيّ عالٍ من الّذين يتقنون اللغة الإنجليزيّة والعربيّة، كي يعملوا على ترجمة الأدب الفلسطينيّ إلى اللغة الإنجليزيّة يضاهي ما تنجزه الجامعة الأمريكيّة في القاهرة (AUC) من ترجمات ودراسات وأبحاث.
أمنياتي للدكتور محمّد خليل بمزيد من الإصدارات القيّمة. 
مداخلة د. فاروق مواسي:
منذ أن عرّفنا ابن سلام الجمحي في "طبقات الشعراء" معنى كلمة "نقد"، وعرَفنا أنّ للّفظة علاقة بالصحيح والزائف من النّقد، وأن للنقد رسالة أهم ما فيها التقويم والتوجيه، كنا على بيّنة بأهمية النّقد الأدبيّ، وكان يجب علينا أن نطّلع على هذه المصادر المميزة من كتب الجرجانيَين- عبد القاهر وعلي بن عبد العزيز، وعلى كتب ابن قتيبة فالعسكري وغيرهم، وكل منهم أفاد وأجاد، حتى بتنا نردد مقولات ولا نسبر غورها، كالحكم على جرير بأنه يغرف من بحر، والفرزدق ينحت من صخر، فما أحرانا بالعودة إلى التراث نتسلح بثقافته الأصيلة، نستمد من التراث ما هو الأنقى ولا ينقطع الخيط.
كان أولى بنا  أن نقف طويلًا على ملاحظات نقدية ذكية ومشعة في هذا التراث الضخم، قبل أن نتمثل نقدًا  وتنظيرات بعيدة عن كينونتنا وانسياقاتنا ومتابعاتنا الصادقة. ذلك أن المدارس النّقديّة الحديثة كالتكوينية والبنائية والتقويضية التفكيكية الّتي نقرأ منها، لا قِبل لنا بها ولا تفيدنا سبكًا ومعنى، فنحن نجد خطوطًا وأشكالًا ورسومًا دون  أن نفهم رسالة النص ومؤداه، فهذي-كما أرى-  هي للاطلاع  وللمتابعة العالميّة لا للترديد والتبني، فنجيب محفوظ ذكر في عدد من أعداد مجلة "فصول"، أنا لا أفهم ماذا يريد النّاقد أن يقول، وعلى غراره اعترف بعض أدبائنا الكبار. إذن؛ فنحن نتفق على أهمية الإفادة والإجادة في طرح المضمون، فعندما كتبت نقدًا عن قصيدة للدكتور فهد، أو تحليلًا لقصة لناجي ظاهر، فقد عمدت أولًا وقبلًا أن أبين فنية المضمون، في شكل متساوق يجدي ويجزي ويمتع، وإلّا فما أغنانا عن الكتابة.
ثانية أقول: على النّقد أن يبلّغ رسالة، طرحًا، فكرة، ثيمة، تواصلًا، وإلا فلا معنى لكتابة تغرق في التعمية والضبابية المبهمة. إننا أحوج إلى كلّ نص شعرًا أو قصة أو نقدًا نذكره في سياق يلائمه ويستذكره، فنحن لا نكتب لمرّة واحدة، ونحن نكتب لمتعة القراءة وتجاوب المؤدى.
أرى أن د. محمد خليل جدّ جِدّه وهو ينقد النّقد، وهذه المهمّة خطيرة، وتتطلب متابعة واستقصاء ودراية ودراسة، وأذكر أنّه تناول "مذكّرات دجاجة"، ووقف على شهادة طه حسين في المقدمة، وشهادة اسحق موسى الحسيني ورأيه فيما كتب، ثم درس خليل ماذا كتب ب. جورج قنازع في مقالته في "الكرمل"، فتوصل بعد مقارنات وموازنات ومتابعات إلى تخطئة لقول، وتصويب لآخر.
إن د. خليل وقد نشر عددًا من الكتب في هذا المشروع الجاد، قد استقى مناهله الأولى في جامعة اليرموك حيث أشرف على دراسته أ. د يوسف بكار، وها هو يتابع هذا المنحى، حتى ارتأى أن يصدر كتابه بالإنجليزيّة عن الجمالية  الأدبيّة، وكان أن درس قصيدة لي بيضاء هي (صمت)، وهذه القصيدة الّتي قد تثير ابتسامات أو دهشة وجدت عند خليل استقصاء فريدًا، فنشر أربع حلقات في صحيفة "الاتحاد"، عرج فيها على الموسيقى والمسرح ومعاني سقراط وأرسطو، ومأثور العرب في معاني الصمت، ولماذا ومتى وأين، وكيف  عمدت في تجربتي المكثفة الغارقة في سواد اللحظة.
أبدع خليل في التحليل، كما أبدع بعده النّاقد السوري محمد السموري الّذي سخر من سذاجة من ظنوا أنّ ثمّة قصورًا أو هذرًا أو استهانة في الفكرة. أبارك لأبي إياد هذا الإصدار الّذي تزامن مع يوم ميلاده، وحق علينا أن ندعو له بمزيد من العطاء وبعيش أسعد وأرغد.
مداخلة د. محمد خليل المحتفى به:
حضرة الأساتذة، والأصدقاء والزملاء الأفاضل، مع حفظ الأسماء والألقاب والمناصب، الأخواتُ والإخوة في منتدى الفكر والإبداع، والنادي الثّقافيّ الاجتماعي طرعان، والاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيّين، الحضور الكريم، طاب مساؤكم بكل الخير والمودة والاحترام،
يسعدني ويشرفني أن نلتقيَ معًا في أمسية من أهمِّ الأمسيات الاحتفالية تحت سماء الأدب والثّقافة والإبداع، في مكانٍ، يقول اسمُه والمُسمَّى أشياءَ كثيرة. الاحتفاءُ بالكتابِ والكتابةِ الإبداعيّةِ، وكلِّ فنٍ آخرَ، يُعدُّ مَظهرًا حضاريّا بامتياز، والمشهد الّذي نراه أمامنا يؤكِّدُ ذلك بما لا يدع مجالًا للشك، وأننا، أيضًا نستطيعُ، أن ننهضَ ونتطورَ كسائر الشّعوب المتحضرة، إذ لا محدوديةَ لقدرة الفعل البشريّ! بالثّقافة والوعي، يمكننا أن نقاومَ كلَّ محاولات التّشويه لإرثنا الثّقافيّ والحضاريّ والتّاريخيّ، في ظلِّ ظروفٍ نعيشُها، أقلُّ ما يمكنُ أن نقولَ عنها: إنها ظروف استثنائية! فالنتاج الأدبيّ والثّقافيّ، بمنظور ما، هو فعلٌ وجوديٌّ بامتياز، وقد لا نجانبُ الصوابَ إذا قلنا: إنه فعلٌ وجوديٌّ ومقاومٌ بنفسِ الوقت!
أنوِّه، ابتداءً، إلى أنه لولا التعاونُ والتشجيعُ والدعمُ المعنويُّ والماديُّ ممن كتبت عنهم من الأدباء والباحثين، لما كان لهذا الكتابِ الموسومِ بـ "جمالياتُ الخطابِ في الأدب العربي الحديث" أن يرى النور. طُبع هذا الكتاب، بعد آلام مخاضٍ عسيرة وطويلة، في دار النشر المعروفة أوستن ماكويلي في بريطانيا ولها أربعةُ فروعٍ في: لُندن، وكمبريدج، ونيويورك، والشارقة. ولا تسألوا عن خبر تكلفة الكتاب: معنويًا وماديًا وجهدًا، بل ظُنُّوا خيرًا وتفاءلوا به، فالعملُ الخالدُ لا يموت أبدًا!
يقع الكتاب في مائتينِ وسبعينَ صفحة، أراني فيه منشغلًا بمعاينة النصوص في نماذجها الإجرائية، مع التركيز على السرديات وفق رؤيةٍ منهجية. هو كتابٌ نقديٌّ ثقافيٌّ تأملي في آن، يُلامسُ نتاجَ كوكبةٍ لامعةٍ في سماء الحركة الأدبيّة والبحثية المحلية وغيرِ المحلية، أملًا بأن يكونَ هذا الكتابُ قد أتى بشيء من الإبداع أو القيمة المضافة في أقلِّ تقدير.
وقد تعمدتُ أن أُصدرَ الكتابَ باللغة الإنكليزية، لدوافعَ لا تخفَى عليكم، والّتي من أهمِّها:
أولًا: أنَّ اللغةَ الإنكليزية لغةٌ عالميّة.
ثانيًا: ضرورةُ الانفتاح على الآخر، من خلال الحوار، أو التبادل الأدبيّ والثّقافيّ بين الحضارات والثّقافات.
ثالثًا: الخروجُ بأدبنا من شرنقةِ المحلية إلى آفاق العالميّة.
رابعًا: تقديمُ صورةٍ مشرقةٍ لحركتنا الأدبيّة المحلية.
يشار في سياق متصل، إلى أن العرب كانوا قد تنبَّهوا على أهميةِ التّرجمة منذ مرحلةٍ مبكِّرة على عهد الدولة الأموية، لكنها اتخذت أبعادًا غيرَ مسبوقةٍ على عهد الدولة العباسية، لاسيما على عهدِ هارونِ الرشيد الّذي أسس دارَ الحكمةِ وعلى عهد ابنِهِ المأمونِ تحديدًا، حيث شهِدت حركةُ التّرجمة نشاطًا منقطعَ النظير. كان المأمون يعطي مقابلَ كلِّ كتابٍ مترجمٍ وزنَه ذهبًا! يقول الجاحظ في شرائط المترجم من كتابه الحيوان، ج1، ص76: "ولا بدَّ للتَّرجُمان من أن يكون بيانُه في نفس التّرجمة، وينبغي أن يكون أعلمَ الناس باللغة المنقولةِ والمنقولِ إليها حتى يكونَ فيهما سواءً وغايةً"!
وأرى من واجبي في هذه المناسبة، أن أُلفتَ النّظر إلى: أنه حتى الآنْ لا يوجدُ عندنا عنوانٌ أو مؤسّسة خاصّة للترجمة، ولا أيُّ تشجيعٍ لمن يرغبُ بترجمة نتاجِنا الأدبيّ إلى اللغة الإنكليزية أو غيرها من اللغات. وكلُّ ما يُبذل من مجهودٍ محمودِ المقاصدِ في هذا المجال هو مجهودٌ فرديٌّ. لذا أهيبُ، من على هذا المنبر، بكلِّ ذي صلة، إلى المبادرةِ إلى إنشاء مشروعٍ يُعنى بتشجيع ودعم وتحفيز التّرجمة من إبداعات أدبنا المحلي إلى اللغة الإنكليزية، كأن يتمَّ، على سبيل المثال، رصدُ جائزةٍ ماديةٍ تُمنح لكلِّ ترجمةٍ، أو إلى أفضلِ ترجمةٍ في أقلِّ تقدير. هي مجردُ فكرة ليس أكثر، والفكرة أساسُ كلِّ عمل!
أما شهادتي بحقِّ كتابي وكتابتي، فهي مجروحةٌ لأسبابٍ تعرفونها جميعًا. من هذا المنطلق، فالرأيُ لكم أوّلًا وأخيرًا، والحكمُ للقارئ المختص تحديدًا. مع ذلك، يقول النّاقد الكندي نورثروب فراي: "ليست الكلمةُ الأخيرةُ للناقد الأدبيّ حصرًا، إنّما لكلّ قارئٍ قراءتُهُ"! فكلُّ نتاجٍ أدبي ينفتحُ على قراءاتٍ أو مدارسَ نقديَّةٍ متعدِّدةٍ، وهو ما يدفعُني إلى القول: لا محيدَ لنا عن قراءة الكتب، فهي حاجةٌ ماسَّة وضرورةٌ مُلِحَّة. قراءةُ الكتبِ من أهمِّ وسائل المعرفة، بل هي مِفتاحُ المعرفة على الإطلاق. فهي الّتي تنير لنا الفكر، وتنمي العقل، وتثري مخزونَ الألفاظِ والمعاني والأفكارِ، كما تهذِّبُ سلوكَنا ونفوسَنا، وتُبعدنا عن العنف بكافةِ أشكاله. وبالنّظر إلى واقعنا الثّقافيّ والاجتماعي، فقد بتنا نخشى على أنفسنا، لكثرةِ ابتعادِنا عن الكتاب وانشغالنا بالمادية المفرطة، والنزاعات المهلكة. فليتنا نصحُو قبل فواتِ الأوان! سأل أحد الصحفيين إمبراطورَ اليابان عن سبب تقدُّم اليابان في وقت قصير فأجاب: اتخذنا الكتاب صديقًا، وجعلنا العلم والأخلاقَ قوَّتَنا!
أخيرًا، أود أن أنتهز المناسبةَ لأتقدَّمَ بالشّكر الجزيل والاحترام الموصول لكلٍّ من: إقبال شريكتي في الحياة الزوجيَّة الّتي سهرت وتحملت. لأستاذيَّ: أ. د. جورج قنازع، ود. فهد أبو خضرة، لما لهما عليَّ من فضل ودعم وتشجيع وتوجيه. للمتحدثين على المنصة. لبلدية النّاصرة على هذه البادرة الطيبة. للإخوة: خالد بُطو وفؤاد عوض ومفلح طبعوني. لعريف الحفل الأستاذ سيمون عيلوطي. للحضور الكريم جميعًا، واعذروني إن نسيتُ أحدًا... شكرًا وإلى اللقاء

47
حيفا تستضيفّ الشّاعر أسامة نصّار!
آمال عوّاد رضوان
الشّاعر أسامة نصّار حلّ ضيفًا على نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ 1.2.2019، حيث أقيمتْ لهُ أمسيةً شعريّة جميلة في قاعة القدّيس يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وبرعايةِ المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وسط حضورٍ مِن الأدباء والشّعراء والأصدقاء، ازدانتِ القاعةُ بأعمالٍ تشكيليّةٍ للفنّان إياد جبارين، وقد افتتحَ الأمسيةَ المحامي فؤاد نقّارة رئيس نادي حيفا الثّقافيّ، وتولّت عرافةَ الأمسية آمال عوّاد رضوان، وتحدّثت بإسهابٍ مستفيضٍ د. روزلاند دعيم، حولّ ميزاتِ المنجز الشّعريّ لأسامة نصّار، وقد أطربَ الشّاعر أسامة نصّار الحضورَ بصوته الجهوريّ الرّخيم وإلقائِهِ العذب المُتألّق، ثمّ تمَّ التقاطُ الصّور التّذكاريّة.
جاء في مداخلة آمال عوّاد رضوان:
مساؤكم شعرًا وإبداعًا.. الإبداعُ هو وسيلةُ أداءٍ لموهبةٍ ما، تُعبّرُ بأشكالٍ فنّيّةٍ مُتنوّعة، عمّا يَجولُ في النّفسِ مِن أحاسيسَ وعواطفَ وأفكار، وحينَ سُئلَ بيكاسو عن غموضِ بعضِ لوحاتِهِ غيرِ المَفهومة، أجابهم: هذا العالم بلا معنى، فلماذا تُريدونَ منّي أنْ أرسُمَ لوحاتٍ ذاتِ معنى؟ إنّ الفنَّ يَمحو عن الرّوح غُبارَ الحياةِ اليوميّة.
وحين سئل أبو تمام: لماذا لا تقول ما يفهم؟ أجاب: لماذا لا تفهمون ما يقال؟ فهل الفنُّ كما قالَ أرسطو: هو شكلٌ مِن أشكالِ العلاج؟
نعم، فهناك الإبداعُ البصريُّ مثل التّشكيليّ مِن رسمٍ ونحتٍ ونقشٍ وتجسيم، وهناك إبداعٌ صوتيٌّ مِن مَسرح وحكاياتٍ وغناء، وهناكَ إبداعٌ حركيٌّ مثلَ  الرّقصِ والسّيرك والألعاب الرياضيّة والألعاب البهلوانيّة وإلخ، ولأنّ الإبداعَ يَعكسُ ثقافةَ شعوبٍ وتاريخَ حضاراتٍ، وواقعَ أُمَمٍ بكافّةِ تشكيلاتِها الاجتماعيّةِ ونشاطاتِها الإنسانيّة، فلا يَسعني إلّا أنْ أقول: الحضورُ الكرام، أهلًا بحضورِكم الميمونِ مُوشّحًا بالمطر، وبغمارِ الشّعر وغِلالِ الإبداع. أهلا بكم أحبّائي، وعساها أبصارُكم تتكحّلُ بجميلِ الإبداعِ مِن نحتِ ورسمِ ونقشِ مُبدعِنا النّجّار مِن الفريدس، الفنّان إياد جبارين يَزهو بأربعةِ عقودٍ، عَشّشَ الفنُّ بينَ أصابعِهِ منذُ الصّغر، فنقشَ الخشبَ ونحَتَ عليه، ولأنّ النّفاياتِ المنزليّةِ مِن ورقٍ ومَعدنٍ وبلاستيك وخشبٍ وملابس وغيرها تُشكّلُ خطرًا على البيئة، لجأ الفنّان إياد جبارين إلى إعادةِ تدويرِ النّفاياتِ المنزليّةِ، واستغلّها جماليًّا في تشكيلِ لوحاتٍ وتجسيدِ مُجسّماتٍ مِن براغي ومُعدّاتٍ وملاعقَ وعِملاتٍ انتهتْ صلاحيّتُها، ولكن، بكلّ أسفٍ مريرٍ، لم يلتفتْ إلى أعمالِهِ الفنّيّةِ أحدٌ، وظلّ على حالِهِ يُمارسُ هوايتَهُ بصمتٍ وتواضعٍ، إلى أن وافتْهُ الصّدفةُ الجميلة، وساقت إليهِ كفاح إغباريه ونجوى كبها رئيسة جمعيّة نجم للفنّ، فضمّتْهُ لمجموعةِ الفنّانين والرّسّامين، ومنذها، بدأت مرحلةُ تسليطِ الضّوءِ على فنِّهِ، مِن خلال لقاءٍ إذاعيٍّ أجرتْهُ المذيعةُ سوزان دبّيني، ومِن خلال بلال شلاعطه في تلفزيون هلا، ومِن خلفِ السّتارِ أطلَّ الفنّان بخطوتِهِ الأولى في مشوارِهِ الفنّيّ، بأوّلِ معرضٍ فنّيّ لهُ في بلدِهِ الفريديس، لينطلقَ ثابتَ الخطى في تشكيلِ لوحاتِهِ المعدنيّةِ والخشبيّة. أهلًا ببديعِ فنِّكَ في جنان الإبداع، وأهلًا بما رسمتَ ونحتتَ وشكّلتْ أنامِلُك من لوحاتٍ ومنحوتاتٍ ومُجسّماتٍ معدنيّةٍ وخشبيّة، وها نحن نقف أمام فنون المبدع إياد الدقيقة متعدّدة الحجوم والمُعدّات، لوحة فتاة مكوّنة من قطع معادن وأسلاك و3000 برغي، ولوحة الحصان من 1500 برغي، ولوحة ظلّ رجل مؤلفة من 2000 مسمار صغير، ولوحة برج إيفل من قطع نقديّة معدنيّة ومفاتيح، ولوحة سلة تتكوّن من أسلاك كهرباء نحاسيّة، وباب مدخل بيت خاصّ منحوت من الخشب، ومجسّمات من زجاجات مشروب فارغة، ومُجسّمات مدمجة من ملاعق، شوك وقطع معدنيّة وخشبيّة.
الحضور الكرام، نتمنى لكم أسعد الأوقات وأمتعها معنا هذه الليلة، ومن روعة فنّ الانامل، الليلة نمضي من هناك من ضفة البعيد القريب المبتور إلى ضفة حيفا الجليل، أحبائي وبكل البشر والفرح، وبعيدا عن اصطخاب الموج واضطرابه ما بين مد وجزر، دعونا نركب زوارق الكلام الواعي الراقي، لنمخرَ في بحر الشّعر والاحساس، ونشقَّ عبابَ القصائد المتوهجة، لنشنّفَ أسماعَنا بأعذب الكلام وأجزله، ينثرُ شذاه عطْرًا فوَّاحا، لتطرب به أرواحنا. *الشّاعر أسامة نصّار أهلًا بفوْحِ زهورك الشّعريّةِ مِن ممشاها رام الله إلى ملفاها حيفا. أهلًا بقصائدك البرقيّة الورديّة العابقة بالإحساس في جنان القوافي. أهلًا بك بيننا بكلّ عناوين المَحبّة النقيّة، وبكلّ ألوان التّرحيبِ الجميل، اسامة فيصل محمد نصّار من مواليد 1971 دمشق، أتمّ دراستَهُ الابتدائيّةَ في سوريا، والثانويّةَ والجامعيّةَ في العراق، خرّيج كليّة العلوم السّياسيّةِ جامعة بغداد عام 1993. بدأ الكتابة عام 2007، عضو اتّحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيّين، عضو اتّحاد الكتّاب العرب. مِن أعمالِهِ الشّعريّة الصّادرة *نغم وشاعر وطن، *فارس على صهوة العشق، *رجل تائه، والعمل الرابع في شهر آذار القادم باللغتيْن العربيّةِ والإنكليزيّة بعنوان *ظلال العطر، فدعونا نُحلّقُ معًا إلى ذرى العاطفة، حتّى تصدح بالنغم.
د. روزلاند كريم دَعيم:
كاتبة باحثة، محاضِرة، محرّرة وإداريّة من مواليد وسكّان حيفا. *حاصلة على شهادة الدكتوراه في الآداب المقارِنة والثقافة الشعبيَّة (جامعة حيفا). *تعمل محاضرة في الكليّةِ الأكاديميّة العربيّة للتربية- حيفا. *تشغلُ منصبَ رئيسة وحدة التداخل الاجتماعيّ فيها. *تعمل باحثة قُطريّة في مجال تقويم البرامج التعليميّةِ والتّربويّة- معهد موفيت. *باحثة وناقدة في الأدب والثقافةِ الشّعبيّةِ المُقارنة والإثنوغرافيا الوصفيّة. *باحثة في أدب الأطفال، وخبيرة في تدريس اللغات. لها مشاركاتٌ عديدةٌ بمؤتمراتٍ أدبيّةٍ نقديّةٍ وبحثيّةٍ دوليّةٍ ومَحليّة، ولها عدّةُ مقالاتٍ علميّةٍ أكاديميّةٍ منشورة في مواضيع البحث الأدبيّ والثقافةِ الشّعبيّةِ، والتّربية والعمل المجتمعيّ، ولها عدّةُ قصصٍ أصليّةٍ ومُترجَمة للأطفال. ناشطةٌ اجتماعيّة صاحبةُ خبرةٍ في إدارةِ وتطويرِ المجتمع المدنيّ والعملِ الأهليّ، تمتدّ إلى 30 عامًا شغلت خلالها مناصبَ إداريّةً ومهنيّةً مختلفة، منها رئيسة جمعيّة الجليل في السّنوات 2009-2013، ولها خبرةٌ في توثيق البرامج وتقويمِها.
مداخلة د. روزلاند دعيم بعنوان شاعر على صهوة عشق:
 أرحّبُ وإيّاكم بالشّاعر أسامة الحسن نصّار في وطنه الأمّ طيرة اللوز- حيفا. سوفَ أتناولُ في هذه العجالة ديوانَي الشّعر "فارسٌ على صهوةِ العشق" و"نغم وشاعر وطن"، في ضوءِ مناهج النّقد المختلفة، وإن كانَ الوصولُ إلى جوهر القصيد يتطلب حفرًا في النّصّ وحفرًا في المعرفة. (ميشيل فوكو)
العناوين: لو نظرنا إلى عناوين القصائد، نراها تُشيرُ بمُعظمِها إلى علاقةِ عشقٍ مع سيّدة؛ علاقة قد تصلُ حدّ العقيدة. وتتناصّ (جوليا كريستيفا) مع الإغريق وفلسفتهم وحضارتهم وآلهتهم، ونجد ترجمتَها العمليّة في طقوسِ العاشق. هذه السّيّدة الّتي وصفها على أنّها "امرأة من مطر"، "ملكة حياتي"، "المستبدّة" الّتي "يعشقها حتّى الجنون"، ويَهيم بها عشقًا وهو الفارس على صهوةِ العشقِ، كما اختارَ أن يُسمّيَ أحد الدّيوانينk، وهي "زهرة الأقحوان"، و"سيّدة الكبرياء"، و"صاحبة الجلالة"، و"الدانة"، وهو "هذا أنا"، "طبعه الوفا".
كما اختارَ أن يُسمّي الدّيوان الثاني "نغم وشاعر وطن"، فيُعلنُ بذلك مكانتَهُ كشاعر وطن، بعد أن كان قد أعلن عن نفسه أنّه الفارسُ العاشق، ومن خلال هذه المعادلة نرى أنّ قصائدَهُ ترتكز على ثلاث: "أنا" و"أنتِ" و"الوطن". ولا تقفُ موضوعاتُهُ-مِن خلال العناوين- عند هذا الحدّ؛ فقد تظهرُ عناوينُ مِن موتيفات الطبيعة ("طواحين" و"شطآن"..)، أو من موتيفات ومجالاتٍ شخصيّةٍ أو وطنيّة: (رثاء لأخي الحبيب، الجدار وأمي، أبشرك يا جدي، حكاية زمن)، ولو اكتفينا بهذا القدر من العناوين، يتبقى أن نشير إلى أن عناوين القصائد تتطلب قراءة سيميائيّة شاملة وعميقة؛ فيُعتبر العنوان نظامًا سيميائيًّا ذا أبعادٍ دلاليّةٍ رمزيةٍ وأيقونيّة شديدة التّنوّع والثّراء، كونه يتمّ في اللقاء الأوّل بين المرسل والمتلقّي، وهو أوّل ما يُواجه المتلقّي من النّصّ والعتبة لتأسيس وعي القارئ (قطوس، 2001). وتتعدّد وظائف العنوان في النّصّ الأدبيّ، ليضع القارئ أمام علاقات مختلفة، يُمهّدُ للموضوع ويُشيرُ إلى المضمون، ويُثيرُ التّداعيات والتّوقّعات، ويُشير إلى معلومة أو معلوماتٍ ذاتِ أهمّيّةٍ في النّصّ (Taha, 2000- 68). 
ولو عدنا إلى قضيّةِ النّصوص المُوازية، فهي المناصُ وعتباتُ النّصّ وكلُّ النّصوص المُرافِقة للمتن، والّتي تُعتبر مدخلًا لا بدّ منه للولوج إلى عالم النّصّ. وقد عالجَ المصطلحَ العديدُ من النّقاد المعاصرين (Genette1997).
من هنا نحن نرى أنّ عناوينَ القصائد مستوحاة من مضامينَ وفكرٍ فلسفيّ هادف.
مستوى النص وما وراءه- ثنائية المبنى والمعنى بحسب المنهج البنيوي، يكتب أسامة الشّعر الحر، ومع ذلك نراه يلتزم بالقافية ممّا يغني موسيقى الشّعر، فيقول في قصيدة امرأة من مطر (ص39- فارس على صهوة العشق):
يا امرأةً/ ينسكبُ المطرُ/ مِن حناياك جودا/ في روحي فتخضَرُّ/ وتزدادُ خِصبًا/ وتشتدُّ عودا/ (صُمودا، حُدودا، عُقودا، خدودا، رُعودا، وقعودا).
تحمل هذه القصيدة بعدًا ملوكيًّا باستخدام الشّاعر مفردات مثل: التاج، الماس والجواهر وعقود المرجان. كما أنها تحمل بعدًا عقائديا حضاريًّا بحديثه عن المواسم على أضرحتي؛ ولماذا أضرحتي بصيغة الجمع وليس ضريحي!
وتحمل على مستوى المعنى: يستعير الشّاعر معجمًا غنيًّا من الطبيعة، يمكن أن نصنفه تحت موتيفات مختلفة: الهواء، الشمس، النجوم والسماء، فوهة البركان، الدم القاني، الزلزال، العَنان، العواصف والرعد والأمطار والسيول (بصورتها العنيفة في قصيدة طائر الحُب) ومطر الحب الّذي يهطل مملوءًا بحواس العطر، والأحلام الّتي تحمله فوق الغمام في قصيدة حبيبتي)، البحور، النبع، الغمام، الموانئ والشطآن، خلجان لؤلؤ ويسبح بالمرجان.
ومن ملامح الحضارة المادية والفكرية: الطواحين، الأسوار والحصون، القصور، وجميعها تدلّ على عظمة وقوّة. ومن الحضارة الفكرية- الحب العقيدة (شعر العشق الإلهي- نشيد الإنشاد)، أسطورة العشق الإغريقيّة، (وهل هي أفروديت أم عشتار البابلية وعشتروت الفينيقية، وهل هي إنانا السومريّة أم فينوس الزهرة الرومانيّة؟)
ومن حوار بين السّطور (فارس ص22):
إن كنتِ أنتِ سيدتي نارًا فأنا على قمم الجبال بركان/ واعلمي أنني من يوقدُ كلَّ النيران ويخمدها/ فأنا أسطورة عشقِ تعيش في داخل إنسان/ أنا الماء في منابعه مطرًا وسحابٌ ينثر فيك النسيان/ أمطار الخير بين حنايا سحاباتي وعذب الفرات يلتقي بدجلة في مسافاتي/ أنا بناء فينيقي بنيت نواعير العشق في بابل/ أنا حارس العصافير والسحر في صدى الخرير/ أنا الّذي دمر كل قلاع الحب وبناها بيدين من حرير/ أنا من غزا سبأ بحروفه واقتلع مملكة وأعلن التحرير.
ملاحظات حول القصيدة: في القصيدة ترد موتيفات غير محلية كاللؤلؤ والمرجان، وإن كانت موتيفات ملوكية، وهو الّذي يتحكم بإيقاد النيران وإخمادها.
(وما زلنا في المنهج البنيوي الّذي يُعتبر أقرب المناهج إلى النّقد الأدبي)، يؤدي التحول في المبنى إلى تحول بالدلالة (دي سوسير، بياجيه)، فيكثر الشّاعر أسامة من استعمال التعابير الاستعارية والمحسنات اللفظية على أنواعها، مما يؤدي إلى انزياح في المعنى: قيثارة السلام/ سحاب الوفاء/ حممي تنفث جمر رمادها/ زلزالك يهز وجداني/ نور الشمس أضاء من عينيك
قصيدة طقوس عاشق (فارس ص32): أنتِ الكون وأنا الرسام الّذي يرسمه/ أنت المطر وأنا السّحاب الّذي يحمله/ أنت الشّعر وأنا من يكتبه/ أنت البركان وأنا اللهيب الّذي يوقده/ أنت طقوس تعانق كوني ....
(ثنائيات- يوري لوتمان وأوسبنسكي): المناهج السياقيّة الخارجيّة تجد لها صدى في قصائد الدّيوانيْن، وإن المنهج كان المنهج النفسيّ يطغى على المنهج التاريخيّ والمنهج الاجتماعيّ.
التحام الشّاعر مع ذاته: ينعكس التحام الشّاعر مع ذاته ومع احتياجاته، من خلال استعماله الضمير "أنا"؛ فيقول: "أنا طواحين" (طواحين) وتظهر ياء الملكية في: حبيبتي، ملهمتي، مدرستي. ويستعمل ياء الملكيّة ليعبر عن تجاربه: حبي، اختباراتي.
يؤكّد الشّاعر بقصيدته "طواحين" على التحامه مع ذاته من جهة، وعلى علاقته بالأخرى "هي" الّتي تدير طواحينه، وتضيء الشمس والنجوم. وباستعماله كلمة طواحين تستحضرنا حضارة طواحين القمح المنتشرة بكثرة في الجليل، إلّا أنّه يسحبنا نحو طواحين الهواء الّتي تدور بالهواء أو بالهوى! وتدور بلا هوادة. ويُطرح السّؤال: هل الدّوران جسديّ أم نفسيّ؟ وهل هو الدّوران في طقس مقدّس؟ حيث "خرجت روحي عن الجسد مترنّحة من أشواقي"، فهل هو ترنّح الإعياء أم النّشوة! وهل هو أصلًا ترنّح الموت؟ أم أنّه التّجلّي؟
ونعود للضمير أنا، إذ يقول: أنا رجل (حبك عقيدة ص5). أنا أعشق (حبيبتي ص11). أنا رجل. أنا أنا كما أنا. أنا الحرف. أنا الّذي. أنا وطن (أنا ونفسي). أنا نغم أنا الحب. أنا الأرض.
تتجلّى روحانيّة العشق في قصيدة حبك عقيدة ص5 حيث يعلن:
"أنا رجل الحب لديه عقيدة". "لا تظني عشقي غاية لإشباع رغباتي". فحبه غير محصور بالملذات. ويقول: "والوفاء عندي عنوان في كتبي الفريدة". "وعلمتني طباعي أن تكون نزواتي رشيدة". "صدقيني أعشقك بإيماني لا بترهاتي/ أنك امرأة مع روحي وليدة". "وافهمي أن كلّ هذياني وصرخاتي لأثبت لك أنّ حبي عقيدة". ومن خلال التحام الشّاعر مع ذاته، تعمّد الإعلانَ عن نفسه وعن حبّه وعن روحانيّةِ عشقه.
في قصيدة نداءِ لها ص15 يقول: "ولستِ على مذبح رجولتي إحدى قرابيني/ ندائي ليس ضعفًا أبدا ولا تعتبريه خضوعًا/ لكن مصيبتي أنّك تسرين بشراييني".
وبالرّغم من قدسيّة العشق، إلّا أنّه يشير في قصيدة قاضي الغرام ص21، إلى علاقةٍ جسديّة قد حدثت بقوله "قبلني وقبلته". وينطلق الشّاعر نحو قضايا وجوديّةٍ جوهريّة، تُذكّرنا بطلاسم أبي ماضي في قصيدته من هي...! (وطن ص7)، حيث يقول: "هي من هي/ هي أنا ونفسي". "نجم قطبي عانق المجرة ألقًا/ جاور الكواكب لتنهل منه النور وروعة المنظر". "هي من هي/ هي إيمان عاشق.../ وجاذبيّة الأرض على سطح القمر.
الجوانب الوطنيّة: لو نظرنا إلى قصائد الشّاعر أسامة الحسن، فإنّنا نراها غنيّة مُشبعة بصور العشق على أنواعها، إلّا أنّنا لا نستطيع الوقوف عند هذا الحدّ، إذ تحتوي رموز العشق تضمينًا واضحًا ليكون عشق الوطن. وما يدعم رأينا استعارة الشّاعر لموتيفات من الطبيعة الجميلة، وما هي إلّا طبيعة الوطن، ومن الطبيعة الصاخبة، وما هي إلّا طبيعة الوطن بظروفه السّياسيّة. وهذا ما أتى في عنوان ديوانه "نغم وشاعر وطن"، وهذا ما يرد علانية في قصيدته "أنا ونفسي" ص15 بقوله، "أنا وطن يسكنه وطن"، أو بقصيدته أعشقك حد الجنون (وطن- ص18)، حيث يستعمل موتيفات مألوفة في العشق والغزل: "أعشقك يا كحيلة العيون/ يا غابة الورد والبان والزيزفون" ...... "ملكة متوّجة على عرش قلبي".
ويعلن أنّه نبذ العنف وعشق السلام: من ديوان (نغم وشاعر وطن) ص20: عشقت بك سحر العيون/ وجمال القوام/ ونبذت العنف بحبك وعشقت / السلام/ لا تحسبينه ضعفا أو ترجمة/ لمعاني الانهزام، فهل هي المرأة أم الوطن؟
وترد إشارات سياسية واضحة في قصيدة رثاء لأخي الحبيب (ص66)، وفي الجدار وأمي من ديوان (فارس على صهوة العشق) ص69-70: جدار/ ومئة حصار/ وألف حوار في الأزقة والأسواق/ والحقول والبيوت/ جدران شيدت قصرا لا بالاختيار/ ولم يبقَ سوى بقايا أمي/ ويا ليت كل أمهات الأرض / كأمي/ تسكن روحي ووجداني/ أعشقها حد النخاع/ وهي كل همي
وترد اشارات مهاجمة جيوش العروبة في  أبشرك يا جدي ص74: من ديوان (فارس على صهوة العشق): أبشرك يا جدي/ قد حررت أرضي/ لا تسألني كيف/ فالسؤال غير مجدي/ لا تسأل كثيرًا فالمفاجآت كثيرة/ يا جدي/ جيوش العروبة حاربت وقبلت التحدي/ لا تصدقني فوالله أكذب عليك يا جدي/ فقد ضاع بعد الأرض بيتي وعرضي/ عدموا زعماء العرب في أعيادهم/ وجميعنا نصغي/ كنا بدولة وأضحينا بثلاث أليس هذا/ من دواعي الفخر يا جدي
وكأننا بنزار في قصيدته "الّذين يزنون بالكلام"، فيقول في حكايا زمن ص86، من ديوان (فارس على صهوة العشق):
هي طفلة في بلد عربي/ ما ذنبها زمن/ وما ذنب ابتسام وحسام/ وعمر وحسن/ أطفال بعمر الورد/ سطروا بجراهم آهات وطن/ وكتبوا على جدار التاريخ/ بأشلائهم لمَ نحن ندفع الثمّن/ بأي ذنب وأدتمونا أحياء/ ونفضتم عن جبينكم عار الزمن
على مستوى إشكالية النّقد:
يعتمد المنهج الفني على عمل الأديب، مستخدمًا الأصول والقواعد الفنية، ويتطلب النّقد الفنيّ معرفة أدبيّة وافية وقدرة نقديّة متطوّرة. وهنا لا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ الخطاب النّقديّ قد تعرّض لتحوّلات في العقود الثلاثة الأخيرة، إذ يصعب على النّاقد اليوم اعتماد المقاربة الكلاسيكيّة، أو اعتماد أسرار البلاغة والمستوى النّحويّ، حيث أنّ لغة الشّعر الحديث وتنوّع موضوعاته وانزياحاتها اللّامتناهية، تجعل الشّعر بعيدًا عن التأطير والتنظير- في بعض الأحيان- ويأتي ذلك على ضوء تعدُّد وتداخل مناهج النّقد المعاصرة.
بناء على هذه الإشكاليّة، فإنّنا نقترح قراءة النّصوص المطروحة أمامنا بمقاربة سيميائيّة، بحسب نظريّات ما بعد الحداثة، دون إلغاء القراءات السابقة.
فمن كون النّصّ مجموعة من العلاقات (بحسب البنيويّة)، فإنّ السّيميائيّة تعتبر النّص مجموعة من العلامات أو الشّيفرات، تسعى إلى تطوير طرائق منفتحة للقراءة، من خلال الاهتمام بالخطاب الفلسفيّ والدّينيّ، بوصفها أنظمة فكريّة تخفي خلفها سيلًا من المعاني، وتنتمي إلى أنظمة رمزيّة تشكل ثقافة النّصّ، كالكتابة والفن والأساطير والسلوك والطقوس (دي سوسير، شارل موريس- علميّ/ رولان بارت، لاكان، كريستيفا- كمنهج نقدي/ أو بحسب سيمياء الثقافة (لوتمان وأوسبنسكي وإيفانوف وتوبوروف- جماعة موسكو- تارتو)
وأخيرًا.. في قراءة شاملة لديواني الشّعر، يمكننا توظيف جميع المناهج النّقديّة الداخليّة والخارجيّة، ولا نتنازل بشكل جوهريّ عن المنهج الفنّيّ، لأنّه دون المستوى الفنّي اللائق، تكون كلّ قراءة نقديّة أخرى واهنة أو مبتورة، ولكنّنا نرى قيمة مضافة لقراءة القصائد مع مقاربة سيميائيّة، لما فيها من استحضار حضاريّ وثقافيّ غنيّ من ناحية، ولاتّساع دائرة المواضيع والموتيفات الّتي يصعب حصرها بقراءة بنيويّة فقط.

48
أمسيةٌ أدبيّةٌ قرمانيّة في الناصرة!
آمال عواد رضوان
أمسيةٌ أدبيّةٌ ثقافيّةٌ قرمانيّة أقامها منتدى الفكر والإبداع احتفاءً بالأديبة سعاد قرمان، وذلك في كليّة الفنون- النّاصرة بتاريخ 6-2-2019، وسط حضور من الأدباء وذوّاقي الأدب، وقد تحدّث في اللّقاء كلٌّ مِن:  د. فهد أبو خضرة عن دورها الريادي الأدبيّ والإعلاميّ، و د. محمد خليل في قراءةٍ تكاملية لنتاجِها الشعري والنثري، والأديبة آمال عوّاد رضوان تحدثت عن أثر الأسرة والبيئة في صقل شخصية سعاد قرمان، والأديب عبد الرّحيم الشيخ يوسف تحدث عن الديباجة الشعرية في حصاد العمر لسعاد قرمان لغة وأسلوبا، وفي النهاية شكرت المحتفى بها الأديبة سعاد قرمان الحضور والمتحدثين، ثم تم التقاط الصور التذكارية.
مداخلة د. فهد أبوخضرة: السيدة الأديبة سعاد قرمان رائدة من الرائدات اللاتي بدأن الكتابة في سنوات السّتّين، رائدةٌ مميّزةٌ كَتبتْ في أربعةِ مجالاتٍ مختلفة: الشّعر: النثر الأدبيّ، الإعلام، التّرجمة من وإلى اللغة الإنجليزيّة.
في الشّعر جاءت كتاباتها حول عدّة مواضيع رئيسيّة، أهمّها: الموضوع الإنسانيّ، الموضوع الوطنيّ، الموضوع الاجتماعيّ والموضوع الشخصيّ. استعملتْ في أشعارها الأسلوبَ الرومانسيّ الذي ظهر سنة 1932 وتوقف سنة 1948، بسبب الأحداث في فلسطين، إذ شكّلتْ هذه الأحداث صدمة للأمّة العربيّة، جعلتها تخرج من الرومانسيّة وتنظر إلى الواقع.
الذين استعملوا الأسلوبَ الرومانسيّ بعد سنة 1948، كانوا من الذين واصلوا كتابةً سابقة وطويلة العهد، تعتمد هذا الأسلوب، ثم جاء أتباعُ الرومانسيّة، وخلال سنوات الخمسين والستين جمعَ بعضُ الشّعراء بين الرومانسيّة والكلاسيكيّة، أو بينها وبين الواقعيّة الاشتراكيّة أو الواقعيّة النقديّة.
في هذه السنوات تميّزت الكتابةُ الشعريّة بالوضوح، وكان من المُهمّ عند الشعراء أن تصلَ أفكارُهم ومشاعرُهم إلى الجمهور، ومن هنا برزت ظاهرةُ المهرجانات الشعريّة التي كان يشاركُ فيها جمهورٌ غفيرٌ جدّا، يصل إلى عدّة مئات أحيانًا، ويتجاوزها أحيانًا أخرى، والشاعرة سعاد قرمان تميلُ إلى الوضوح بشكلٍ دائم، وبهذا ظلت بعيدةً عن أساليب الحداثة التي استعملت في الشعر العربيّ منذ أواخر سنوات الخمسين.
في النثر الأدبيّ كتبت مقالات عديدة حول مواضيع مختلفة، ولكنني أودّ أن أشيرَ بشكلٍ خاصّ إلى ما كتبته في موضوع المذكّرات حول عائلتها، وحول ذاتها، لأنّه يستحقُّ دراساتٍ جادّة.
في مجال الإعلام كان لها دورٌ كبيرٌ في سنوات الستين والسبعين، وقد استعملت اللغة الإعلاميّة المتأثرة باللغة الأدبيّة، مع اهتمام واضح بسلامة التعبير، واختيار المفردات، والالتزام بقواعد اللغة، وهو أمرٌ ذو أهمّيّة كبيرة في الماضي والحاضر والمستقبل، للمحافظة على اللغة العربيّة الفصيحة، هذه اللغة التي تتراجعُ باستمرار على أرض الواقع، مع الأسف الشديد، ونحن مدعوّون للتحرّك والقيام بما يجب، في أسرع وقت ممكن، لوقف هذا التراجع.
في مجال الترجمة عن الإنجليزيّة، يظهر لكلّ قارئٍ مُدقّق الإتقانَ الكبيرَ في الشعر العربيّ الذي صاغته، مع الالتزام إلى أكبر حدّ ممكن بالنصّ الإنكليزيّ، مدّ الله في عمرها، وكثر مثيلاتها في هذه الديار، ولها كل التقدير والاحترام.
مداخلة آمال عوّاد رضوان:
*وُلدتْ سعاد قرمان عام 1927 في حيفا لعائلةٍ محافظةٍ انتقلت من مدينةِ نابلس في بدايةِ القرنِ العشرين، وكانت حيفا في فورةِ انطلاقتِها للتّوسّعِ والازدهارِ التجاري، بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى، وحلقةِ وصْلٍ بينَ بلدانِ الشّرق الأوسطِ؛ سوريا العراق لبنان الأردنّ ومصر، وامتدَّ فيها خطُّ قطارٍ للشّام ومصرَ والسّعوديّةِ، ونتيجةً لانتصارِ بريطانيا وفرنسا في الحربِ العالميّةِ الأولى، واحتياجِ الجيشِ لمواصلاتٍ سريعةٍ تَنْقُلُ مُعِدّاتِهِ وأفرادَهُ، بُذلتِ الجهودُ نِهايةَ عام 1918م لإنهاءِ امتدادِهِ بينَ هذهِ الدّولِ الّتي أصبحتْ تحتَ الانتدابِ الإنكليزيِّ الفرنسيِّ، طِبْقًا لمعاهدةِ سايكس بيكو الشّهيرةِ الّتي قطّعتْ أوصال بلدانِ الشّرق الأوسطِ، وهيّأتْ لتوطينِ يهودِ أوروبّا والعالمِ في فلسطين.
* ترعرعتِ الطّفلةُ سعاد في جوّ من التّديُّنِ والأصالة الوطنيَّةِ في بيتِ العائلةِ الكبير المؤلف، عمل والدها بالتّجارة مع أخيهِ الأكبرِ، والوالدة عبقتْ حياتُها بروحِ الفنِّ والعِلمِ، وجدّتها لأبيها بشخصيتها الحازمة نالتِ الطّاعةَ والاحترامَ مِن جميعِ أفراد العائلة المُتآلفةِ على مائدةٍ واحدةٍ.
*كانَ العمُّ الكبيرُ عميدَ العائلةِ المخطِّطَ للأعمالِ عامّةً، ذا مركزٍ اجتماعيٍّ وطنيٍّ مرموقٍ، وكانَ والدُها مساعدَهُ ويهتمّ بتفقّد أمور العائلةِ والزّياراتِ والأعيادِ والمناسباتِ.
* كانَ لبيتِ جدّتِها لأمِّها القائمِ في الحيِّ ذاتِهِ التأثير في نفسيّة وروح الطفلة سعاد، فجدُّها كان كاتبًا في المحكمةِ الشّرعيّةِ، ربّى أولادَهُ وأبناءهُ على العِلمِ والتّقوى، وتُوفّيَ تاركًا الحِملَ على أرملتِهِ، وكانتْ خيّاطةً ماهرةً، وعلى ابنِهِ الأكبر الّذي عُيّنَ مُدرِّسًا، فاهتمَّ بتعليمِ إخوتِهِ الثّلاثة ورعى مواهبَهم؛ فتخصّصَ جمال بدران في كلّيّةِ الفنونِ التّطبيقيّةِ في القاهرةِ وبرزَ فيها، فأُرسِلَ في بعثةٍ إلى لندن حيثُ قضى أربعَ سنواتٍ، وعادَ فنّانًا مبدعًا في الزّخرفةِ الشّرقيّةِ والخطِّ الكوفيِّ، ومختلفِ فنونِ الزّخرفةِ والنّحتِ على الخشبِ والجِلدِ وغيرِهِ، وتخصّصَ الثّاني خيري بالنّسيجِ في ألمانيا وبرعَ في الحياكةِ والزّخرفةِ، أمّا الثّالث عبد الرّزّاق فتخصّصَ بالتّصويرِ الفوتوغرافيِّ بأنواعِهِ، كذلكَ إحدى أخواتِهِ نهيزة تخصّصتْ بالتّعليمِ وإدارةَ مدرسةٍ حكوميّةٍ.
*كانت أمّها الكبرى، وأختُها الأصغرُ سنًّا تزوّجتْ قريبَها الصّيدليَّ في الأردنّ، وربّتْ أبناءَها على التّكلّم فيما بينهم بالعربيّة الفصحى، ممّا كانَ يُثيرُ استغرابَنا عند اللقاء.
*الخالةُ الصّغرى تلقّتْ تعليمَها الثّانويَّ سنة (1925م) في المدرسة الإنجليزيّةِ العليا في حيفا، وكانتْ في حينِها أرقى مدرسةٍ عليا للبنات، تُضفي على طالباتِها الثّقافةَ الأوروبيّةَ والنّظامَ الإنكليزيَّ، واللّمساتِ الفنّيّةَ في كلِّ ما يتعلّقُ بالبيتِ والحياةِ.
*بينَ هذيْنِ البيتيْنِ ترعرعت سعاد، وشهدت التّوتّرَ العامّ بما يدورُ حولها مِن هجرةٍ يهوديّةٍ، وتَحَرُّكِ المُقاومةِ العربيّةِ وأخبارِ الثّوّارِ في الجبالِ، إذ كانَ بيتُ العائلةِ الحدَّ الفاصلَ بينَ الأحياءِ العربيّةِ ومنطقةِ اليهود، وكانت تراهم يحملونَ المشاعلَ وتسمعُ أناشيدَهم الحماسيةَ الغريبة، مما يثير توجُّسها، وفي سنة (1936م) أضربتِ الأوساطُ العربيّةُ إضرابَها الشّهيرَ لستّةَ أشهرٍ، ولم تكنْ قد أنهتْ تعليمها الابتدائيَّ.
*كانَ عمّها عضوًا في بلديّةِ حيفا، وعضوًا في الجمعيّةِ الإسلاميّةِ فرع حيفا الّذي تأسّس سنة (1928م). وكان اسمُهُ مُدْرَجًا في قائمةِ المنفيّينَ، فكان في بيروت، وبين العامين (1937-1938م) اشتعلتِ الثّورةُ الاضطراباتُ وضدَّ الإنكليزُ، احتجاجًا على وعدِ بلفور بتحقيقِ وطنٍ قوميٍّ لليهودِ في فلسطين، فانتقلتْ مع أمّها وإخوتها إلى بيروت، وبقيَ الوالد في حيفا في المحلِّ التّجاريِّ للمحافظةِ على الرّزقِ.
*تعلّمت في هذه السّنةِ في بيروتَ في مدرسةِ الآنسةِ أمينة المقدسيِّ الابتدائيّةِ، وعادت العائلةُ إلى حيفا ببابور صغيرٍ يشحنُ قطيعًا من الغنمِ، حُشِرَ في الطّبقةِ السّفلى من السّفينةِ، والعائلةُ على سطح السّفينةِ، وكانَ يومَها ربيعيًّا، أشبه بنزهةٍ ما بينَ ميناءَيْ بيروت وحيفا.
*استأجرت العائلة بيتًا في حيِّ الألمانيّة، لصعوبةِ السّكنِ في البيتِ القديمِ المُلاصقِ للحيِّ اليهوديِّ، فدرست سعاد لسنةٍ واحدةٍ في مدرسةِ راهباتِ الكرميليت بحيفا، وتلقّتْ مبادئَ اللّغةِ الإيطاليّةِ سنة (1940م)، لكن القلاقلُ السائدة، دفعتها مع أختها وأخيها الأصغرَ سنًّا، لمتابعة التعليم في مدارسِ غزة الحكوميّةِ، حيثُ كانتْ خالتها مديرةً في مدرسةِ البناتِ، وخالها أستاذًا.
*وهكذا حظيتُ بمعلّمةِ اللّغةِ العربيّةِ الآنسة عصام الحسيني، وكانتْ مُدَرِّسةً عظيمةً تُحبُّ اللّغةَ والأدب، وتغرسُ محبّتَها في نفوسِ طالباتِها، وكانَ جوُّ المدرسةِ وطنيًّا، ينتظمُون كلَّ صباحٍ ويننشدُون الأناشيدَ الوطنيّةَ: "نحن الشّباب"، "موطني" وغيرها، ممّا قوّى الرّوحَ العربيّةَ في نفوسِ الطّلّاب، وتأجّج الروحي بحبِّ الوطنِ واللّغةِ العربيّةِ والشِّعر، إضافة إلى نشاطاتٍ مهنيّةً إلى جانبِ التّعليمِ النّظريِّ، فكانتْ هناكَ حصّةٌ للتّدبيرِ المنزليِّ مِن طبخٍ وغسيلٍ وكيٍّ، وكانتْ حصّةٌ للتّطريزِ والأشغالِ اليدويّةِ، إضافةً إلى الرّياضةِ والأناشيدِ والقرآنِ الكريمِ والدّين الإسلاميِّ.
*عام 1940 إقامةُ مباراةٍ بينَ صفوفِ الثّوامنِ مِن المدارسِ الحكوميّةِ للبناتِ، وهكذا انهمكتْ مع بناتِ صفّها في إعدادِ برنامجِها للمباراةِ، فكانَ هناكَ قِطعٌ مطرّزةٌ منتقاةٌ، وتدرّبتْ على طبخِ صينيّةِ كبّةِ البطاطا، كما دأبتْ على حياكةِ بساطٍ مِن الصّوفِ الملوّنِ على نسقِ بساطِ غزّة الشّهيرة، وفي نهايةِ السّنةِ الدّراسيّةِ أُرسلتِ الأشغالُ اليدويَّةُ معَ المعلّمةِ المختصّةِ، والجميلُ أنّ الجميع حاز على المكانةِ الثّانيةِ بينَ تطريزٍ وحياكةٍ وطبخٍ.
*كانَ يُفترض في السّنة التّالية (14 عاما) أن تنتقلَ إلى دار المعلّماتِ في القدسِ للتّعليمِ الثّانويِّ والتّخصّصِ كمعلّمةٍ، لكنّ العائلةَ لم تعجبْها فكرةُ إرسالِ ابنتِها للدّراسةِ بعيدًا عن البيتِ، فأكملتْ تعليمها الثّانويَّ في ثانويّةِ راهباتِ النّاصرةِ في حيفا.
*لقد اخترتُ جزءًا صغيرا من حوارٍ طويلٍ أجريته مع الأديبة سعاد قرمان، هذا الجزءُ الذي أثّر تأثيرًا بالغًا وعميقًا في روح ونفسيّةِ الطفلة سعاد، وفي صقلِ وبلورة شخصيّتها التي هي عليها اليوم، وهنا تناولت الجانب التربويّ التأسيسيّ لشخصيّة الطفل، فكان البيت يُشكّلُ البيئة المثقفة الحاضنة الواعية، وكان لدور المدارس على اختلاف مشاربها وحضاراتها وأساليبها ومنهجيّتها المختلفة، الأثر العميق في إكساب سعاد الطفلة القطاف ميزةَ اقتطافِ الثمار الطيّبة الناضجة، فقويتْ لغتها العربيّةُ في غزّة، والإنكليزيّةُ في بيروت، والفرنسيّةُ في راهباتِ النّاصرةِ، عدا عن المهاراتِ المختلفةِ كالتّطريزِ والحياكةِ والتّدبيرِ المنزليِّ والرّياضةِ، التي دعّمت شخصيتها المثقفة المؤمنة بنفسها وقدراتها وطاقاتها، لتكون من الرائدات المُحرّكات في المجتمع.
*هذا الجزء من الحوار المطول يعكس الحالة الأمنية والقلاقل الثورية، ولكن هل يعكس حال المجتمع العامّ والحالة الاجتماعية العامّة في تلك الفترة؟
مداخلة د. محمد خليل:
أهلًا بكم ومعكم تحتَ سماءِ الأدب والثقافة والإبداع، وأبدأ قبل كل شيء، بفقرة لعميد الكتَّاب عبد الحميد الكاتب، يقول فيها "وتحابّوا في اللّه عزّ وجلّ في صناعتكم وتواصَوا عليها بالذي هو أليقُ لأهل الفضل والعدل والنبلِ من سلفكم. وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى ترجعَ إليه حاله... وإن أقعد أحدًا منكم الكبَرُ عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظّموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته".
وبعد، نلتقي في هذه الأمسية الأدبيّة والثقافية، حولَ مأدبةٍ من نوعٍ آخرَ، مأدبةٍ فنيةٍ مختلِفٌ طعامُها لونًا ومذاقًا ونكهةً، لما تشتملُ عليه، أو تشتهيه النَفسُ الذوَّاقة، مما لذَّ وطاب من صنوف الكلام.
سعاد قرمان اسم غنيٌّ عن التعريف، فقد عُرفت في الساحة الأدبيّة والثقافية المحلية وغير المحلية، من خلال نشاطاتها الإبداعيةِ في غير مجال، نذكر منها على سبيل المثال: التعليم والإعلام والثقافة، والترجمة، والأدب بمنثورِه ومنظومِهِ!
تلك المرايا المتجاورة، كان لها النصيبُ الأوفرُ في صقل شخصيتها الإنسانية والأدبيّة والثقافية وحضورِها الفاعل على حدٍّ سواء. كان لي شرفُ التعرُّفِ إليها عن كثب من خلال اللقاءات الأدبيّة والندوات الثقافية، وقراءتي قراءةً تكاملية لنتاجِها الشعري والنثري، فوجدتُ فيها، والحقُّ يقال، قيمةً وقامةً، إنسانيًا وأدبيّا وثقافيًا. تقول في قصيدة "كبرياء" ص92:
"أصونُ الكرامةَ بالكبرياءِ وأطوي الحياةَ بوحيِ الضميرْ
أبُثُّ شعوري في كلِّ حرفٍ / وأسبُرُ غورَ المعاني المثيرْ
ويملأُ نفسي حبٌّ كبيرْ / لأرضي، لشعبي، لطفليَ الصغيرْ"!

إلى ذلك، فقد كانت سعاد قرمان نموذجًا للمرأة المكافحة حيث قبلت التحديِّ بإصرار وشقَّت طريقَها بمجهودِها الخاص، وبَنَت نفسَها بنفسِها  لتَكونَ إنسانةً مبدعةً ومعطاءةً على الرُّغمِ من تلك الظروف الصعبة التي واجهتها في الحياة، إلى أن أصبحت وبجدارة مثالاً للمرأة المكافحةِ وللأديبةِ العصاميةِ بكل ما للكلمة من معنى، مسكونةً بالإرادة وقبولِ التحدي:
"لا وقتَ عندي للبكاءْ
لا وقتَ عندي للتردُّدِ والرجاءْ
..........
وحدِي، سوفَ أنتزعُ انتصاري"!
عبرَ تلك النافذةِ تحديدًا يمكنُنا أن نطلَّ على عالمِها الأدبيّ. إنَّ المتتبعَ لنتاجِها الأدبيّ وبشقيه الشعري والنثري، يستطيعُ أن يقرِّرَ بلا ترددٍ أن كتابتَها غنيةٌ وفنيةٌ بكل المقاييس على الرُّغم من أنها مقلَّةٌ نسبيًا، علمًا أنها لم تنشر قصائدَها في كتابٍ إلا بعدَ مرورِ عقودٍ طويلة من التأني  والتمحيص على بدء الكتابة الشعرية!
أما كتابتُها الشعريةُ والنثرية، وهي منبرُها الحر، فتعدُّ مرآةً حقيقيةً لذاتها لأنها تشبهها لدرجة التطابق التام في صدقها وشفافيتها وتواضُعِها. كتابتها الأدبيّة تضيء لنا جوانبَ معتمةً في الحياة، يشهد على تلك الحقيقة ما يلحظُهُ القارئ مما تمتحه من مخزونٍ ثقافيٍ ولُغويٍّ في المفردات والعبارات، وأسلوبٍ يمتازُ بتمكنه من مختلف الوسائلِ الفنيَّةِ، على نحو قريب من الأفهام، الأمرُ الذي يؤكِّدُ على أنها قارئةٌ جيِّدة تمسك بناصية اللغة، من جهة. وأنها تجسِّد فكرةً سبق أن نادى بها إليوت وهي أنَّ "الشعرَ يجب أن لا يبتعدَ كثيرًا عن اللغة العادية اليومية التي نستعملها" وهي لغةُ الناس! فلغتُها مفهومةٌ وميسرةٌ دون ابتذالٍ أو تكلُّف! من جهةٍ أخرى! ومن جميل ما وقعت عليه، من قصيدة "نداء ص138-139" كتبت تقول:
"عُدْ يا حبيبي.. واقترب مني فصدْرُكَ مضجعي
وصفاءُ عيْنيْكَ العميقُ يُزيحُ سترَ تمنُّعي
فأرى جماليَ عاريًا وإن اكتسيتُ-ولا أعي"/
-----------------
إلى أن تقول "وجمالُ روحِكَ قد أحالَ الكونَ أحلى موئِلا
فبقُربِكَ الدُّنيا نعيمٌ ، والنعيمُ إذا خلا
من رنَّةِ الصوتِ الحبيبِ أخاله قد أمحلا"!
وأختِمُ قائلًا: شكرًا للمحتفى بها الأديبة سعاد قرمان، شكرًا للكلمةِ التي جمعتنا، شكرًا للإبداع الذي أمتعنا، شكرًا لكم جميعًا.

49
الكاتبة فَاطِمَة يُوسُف ذيَاب والشاعرة آمَال عَوَّاد رضْوَان في "مَكْنُونَاتٌ أُنْثَوِيَّةٌ"!

رام الله- عن دار الوسط للنشر – جميل حامد :

تخاطب الكاتبة فَاطِمَة يُوسُف ذيَاب الشاعرة آمَال عَوَّاد رضْوَان في كتابهما  "مَكْنُونَاتٌ أُنْثَوِيَّةٌ "، والذي صدرَ حديثا في الأول من شباط عام 2019، عن دار الوسط للنشر في رام الله بالقول:
عزيزتي الشّاعرةُ المُقتحِمةُ لِلمُدُنِ والمَواقعِ الأخرى الّتي تأسُرُني دونَ سابقِ إنذارٍ، معكِ تكونُ البدايةُ والقراءةُ، وبصراحة، حاولتُ جاهدةً أنْ أَفُكَّ الطّلاسمَ، وأُفكِّكَ الحروفَ والكلماتِ، وأَسْبُرَ الأغوارَ، وأمْضي كي أصِلَ مَعكِ إلى مَعالِمِ هذا العنوانِ، فأَلْهَثُ وراءَ مدادِ حِبرِكِ، وهو يَخطُّ لغةً عصيّةً، تُدخلُني إلى مَتاهاتِ الأبجديّة!
مَكْنُونَاتٌ أُنْثَوِيَّةٌ فَاطِمَة يُوسُف ذيَاب تُحاورُ قَصَائِد آمَال عَوَّاد رضْوَان  .
هذا الاصدار الحواري لقصائد الشاعرة آمال عوّاد رضوان، والذي  صدرَ عن دار الوسط  للإعلام  والنشر، وصمّمَ  لَوْحَةُ غلافه  المُصَمِّم بَشَّار جَمَال، احتوى على 184 صفحة من القطع المتوسط ، قدّمَ لهُ الناقدُ العراقيُّ علوان السلمان بعنوان: "الرِّوَائِيَّةُ فَاطِمَة يُوسُف ذيَاب تَتَمَاهَى وَشِعْرَيَّة الشَّاعِرَة آمَال عَوَّاد رضْوَان".
الناقد علوان السلمان استهلَّ مُقدّمتَهُ ببضعةِ أبياتٍ للشّاعر أمين نخلة:
أُحِبُّكِ فِي الْقُنُوطِ وَفِي التَّمَنّي
كَأَنّي مِنْكِ صِـرْتُ وَصِرْتِ مِنِّي
أُتَمْتِمُ بِاسْمِ حُبِّكِ فَـوْقَ كَـأسِي
وَأَرْشـُـفُهَا.. كَــأَنَّكِ.. أَوْ كَــأَنِّي..
وقالَ السّلمان في مُقدّمتِهِ :
قدّمتْ الرِّوَائِيَّةُ فَاطِمَة يُوسُف ذيَاب نصًّا مادّتُهُ القلبُ، وفلسفةُ العاطفةِ، ووحيُ اللّغةِ الشّفيفةِ بألفاظِها الّتي تدورُ في معانيها الحسّيّةِ، كاشفةً عن إعجابِها بنسيجِ الشّاعرةِ الشّعريّ والصُّوَريّ، فتختصرُ المسافاتِ بصُورِها النّابضةِ البعيدةِ عن الاستطرادِ الوصفيِّ أمامَ المُرسَلِ إليهِ، بإيجازٍ بلاغيٍّ يُحرّكُ الذّاكرةَ للتّأمُّلِ والاستكشاف، باستنطاقِ النّصّ مبنًى ومعنًى.
وبذلك؛ قدّمتِ الأديبةُ الرّوائيّةُ فاطمة يوسف ذياب بَوْحًا نصّيًّا، مُتماهيًا وكلمات الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، مع عاطفةٍ مُنبثقةٍ مِن بين ثنايا الرّوحِ ولوْعةِ التّمنّي الإعجابيّة.
واحتوى الإصدارُ على  عشرين قراءةٍ لقصائدِ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان، بقلم الكاتبة فاطمة يوسف ذياب، إضافةً لنبذةٍ عن السّيرة الأدبيّةِ للأديبتيْن.
وقالت الكاتبة ذياب في إهدائِها:
عزيزتي آمال عوّاد رضوان.. شكرًا لكِ...
أعوامًا طويلةً غَفَتْ ونامتْ دبدوبة نوْمَتَها، وإذا بكِ تُطلّينَ فجأةً مِن بينِ غبارِ زماني وبين غربةِ أيّامي ومدادي، في جملةٍ اعتراضيّة، ويَلكُزُني بعكّازِهِ صوتُ صديقي: اُكتبي!
وأقفزُ إلى دبدوبتي أوقظُها، فتتثاءبُ بينَ الحروفِ وتتمطّى، وتُزيحُ عن نظّارتِها غطاءً سميكًا ثقيلًا مِن الرّماد.
قالت: لا بأس مِن بعض كلماتٍ وجُمَلٍ تُروّحُ عن النّفس.
قلتُ: لكن؛ ماذا عساني أكتبُ بعدَ غيبةٍ طويلة؟
صرختْ: ماذا تقولين؟ بداخلِك مَعينٌ يصرخُ ويتفجّرُ بالحكايا ولا يَنضُبُ. هيّا اكْتُبي واسْقِي تُربَتي وجُذوري وحَقلي، لِتُغرّدَ سَمائي وأمطاري!
دونَ إنذارٍ وجدتُني أجري وألهثُ مِن جديدٍ، تُلاحقُني الحروفُ وتطاردُني، لأسطرَ حكاياتٍ تغفو على سُدَّةِ ذكرياتٍ كفّنَها الموتُ منذُ سنين، يَتنهّدُ القلمُ باكيًا شوقًا، وأُجاملُهُ بتنهيدةٍ أعمقَ، وأكتبُ قراءَتي في كتابِكِ الشّعريّ "رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقود"، مِن خلالِ جوْلةِ تناصٍّ وتضمينٍ في لغتِكِ ومُفرداتِك، وأعودُ إلى قديمِ أوراقي في احتضانِ طفلٍ ضالٍّ أَعادُوهُ إلى أبوَيْهِ، وطاقةٌ تُقيمُني ولا تُقعدُني، إلّا رقصةُ قلمٍ بينَ أناملي في فورةٍ مِن حنينٍ، مُنتشِيًا بحَلقاتِ سِناجِ سَجائري، وأكتبُ رسالَتي الأولى إليكِ وأقولُ:
عزيزتي الرّضوانيّة آمال..
لكِ مدادُ عمري، وحروفُ قلبي وكلُّ أوراق حياتي، لكِ الحاضرُ والماضي والآتي، ولكِ أيّامي الّتي تتهادى وتتهاوى، خذي ما شئتِ منها، اِحرقيها بَعثِريها، وإن طابَ لكِ، أعيديها إلى سيرتِها الأولى، فأنا عزيزتي، لستُ نادمةً على شيءٍ، ما دامَ العمرُ كلّهُ لم يزلْ ينسحبُ مِن بين أصابعي، فقط كنتُ هناكَ في غمرةِ الحياةِ وضجيجِ الأيّامِ قائدةً لأكثرَ مِنْ كتيبةٍ، أُعارِكُ العمرَ معركةً تلوَ الأخرى، وكلُّ معركةٍ تُماحكُني، أهزمُها بصبري وصمودي وببدايةٍ جديدةٍ، وأكثرُ ما كانَ يُسعدُني، هذهِ العيونُ اللّامعةُ الضّاحكةُ مِنْ حَوْلي، لأُدركَ أنّي انتصرتُ، ما دمتُ أقفُ على قدميْ إصراري، وما دامَ سيْفي يَقطُرُ حِبرًا، وينثرُني أوراقًا، نقَشْتُ عليْها حُروفًا تتوهّجُ وتتّقدُ بجِمارِ دَمي، و"يا جَبَل مَا يْهِزَّكْ رِيح"!؟
لكنْ ثارَتِ الرّيحُ، وأضحتْ عاصفةً هَوْجاءَ تحملُ ما في طريقِها مِن حُروفي وأشجاري، وصارتْ تْسونامي يَأسٍ اقْتَلَعَ جِبالي مِن جُذورِها، لِأظلَّ معَ الآمالِ والأماني جُثّةً مُلقاةً على قارعةِ صُدفةٍ، لمْ يَفطنْ أحدٌ لدفنِها، أو تشييعِ جَنازتِها. عشتُ معَ موْتي، ودبدوبةُ تحاولُ إنعاشي بالحياةِ، وقبلَ شهورٍ قليلةٍ، في يومٍ لا يُشبهُ الأيّامَ، هَلَلْتِ للمرّةِ الأولى عبْرَ أسلاكِ الهاتفِ، لا أذكرُ ما قُلتِهِ أو لِماذا، لكنّي أذكرُ أنّكِ أيقظتِ دبدوبةَ، وأعَدْتِ لها بعضَ روحٍ، مع أنّي حسبتُكِ يومئذٍ مجرّدَ عابرةٍ والعابرونَ كُثُرُ، وما كُنْتِ كذلكْ..

نبدة عن الكاتبة فاطمة يوسف ذياب

* من مواليد طمرة الجليلية 27-9-1951. أنهت دراستها الابتدائيّة في قريتها، ودراستَها الثانويّة في النّاصرة.
* فازت "سِرُّكَ في بير" بجائزة مسرح بيت الكرمة عام 1978، وعُرضت على خشبة المسرح في طمره.
*حصلت على جائزة الإبداع الأدبيّ مِن قِبل وزارة الثقافة عام 2000.
*حصلت على شهادات تقديريّة وتكريم، ضمن فعاليّات تربويّة ثقافيّة في الوسط العربيّ واليهوديّ.
مؤلّفاتها:
1. رحلة في قطار الماضي/ رواية/ 1973.
2. توبة نعامة، مجموعة قصص للأطفال/ 1982.
3. علي الصّيّاد/ قصّة للأطفال/ 1982.
4. جرح في القلب/ خواطر/ 1983.
5. الخيال المجنون/ مجموعة قصصيّة/ 1983.
6. سِرّك في بير وممنوع التجوّل/ مسرحيّتان/ 1987.
7. قضيّة نسائيّة/ رواية/ 1987.
8. جليد الأيام/ مجموعة قصص وخواطر/ 1995.
9. الخيط والطزيز/ رواية/ 1997.
10. جدار الذكريات/ نصوص أدبية/ عام 2000.
11. سلسلة كتب للأطفال.
12. رواية مدينة الريح 2011 بثلاث طبعات.
13. سيرة المختار يوسف ذياب عام 2018
14. الضحك المُرّ (مقالات صحفية في صحيفة الصنارة) عام 2018.

نبذة عن إنجازات وأعمال الشاعرة
 آمال عوّاد رضوان في سطور
*1- بَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ/ ديوانٌ شِعْرِيٌّ/ عَام 2005.
*2- سَلَامِي لَكَ مَطَرًا/ ديوانٌ شِعْرِيٌّ/ عام  2007.
*3- رِحْلَةٌ إِلَى عُنْوَانٍ مَفْقُودٍ/ ديوانٌ شِعْرِيٌّ/ عام 2010.
*4- أُدَمْوِزُكِ وَتَتعَـشْتَرِين/ ديوانٌ شِعْرِيٌّ/ عام 2015.
*5- كِتَابُ رُؤَى/ مَقَالَاتٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ ثَقَافِيَّةٌ/ عام 2012.
*6- كِتَابُ "حَتْفِي يَتَرَامَى عَلَى حُدُودِ نَزْفِي"- قِرَاءَاتٌ شِعْرِيَّةٌ فِي شِعْرِ آمَال عَوَّاد رضْوَان/ 2013.
*7- سِنْدِيَانَةُ نُورٍ أَبُونَا سْبِيرِيدُون عَوَّاد/ عام 2014
*8- أَمْثَالٌ تَرْوِيهَا قِصَصٌ وَحَكَايَا/ عام 2015
*9- التراث في أناشيد المواسم/ عام 2018
وَبِالْمُشَارَكَةِ مَعَ محمد حِلْمِي الرِّيشَة الْكُتُبُ التَّالِيَةُ:
*10- الْإِشْرَاقَةُ الْمُجَنَّحَةُ/ شَهَادَاتٌ لـ 131 شَاعِرٍ مِنَ الْعَالَمِ الْعَرَبِيِّ/ تَقْدِيمُ د. شَارْبِل دَاغِر/ عام 2007
*11- نَوَارِسُ مِنَ الْبَحْرِ الْبَعِيدِ الْقَرِيبِ/ الْمَشْهَدُ الشِّعْرِيُّ الْجَدِيدُ فِي فِلِسْطِينَ الْمُحْتَلَّةِ 1948/ عام 2008
*12- مَحْمُود دَرْوِيش/ صُورَةُ الشَّاعِرِ بِعُيُونٍ فِلِسْطِينِيَّةٍ خَضْرَاءَ عام 2008
13* كتاب أَتُخَلِّدُنِي نَوارِسُ دَهْشَتِك؟ رسائلُ وهيب نديم وهبة وَ آمال عواد رضوان عام 2018.
صَدَرَ عَنْ شِعْرِهَا الْكُتُبُ التَّالِيَة:
*1 مِنْ أَعْمَاقِ الْقَوْلِ (قِرَاءَةٌ نَقْدِيَّةٌ فِي شِعْرِ آمَال عَوَّاد رضْوَان) النَّاقِدُ عَبْدُ الْمَجِيد عَامِر اِطْمِيزَة/ مَنْشُورَاتُ مَوَاقِف- عام 2013.

*2 كِتَابٌ بِاللُّغَةِ الْفَارِسِيَّة: بَعِيدًا عَنِ الْقَارِبِ/ به دور از قايق/ آمَال عَوَّاد رضْوَان/ إِعْدَادُ وَتَرْجَمَةُ جَمَال النَّصَاري/ عام 2014
*3 كِتَابُ اسْتِنْطَاق النَّصِّ الشِّعْرِيِّ (آمَال عَوَّاد رضْوَان أُنْمُوذَجًا) المُؤَلِّفُ: عُلْوَان السَّلْمَان الْمَطْبَعَة: الْجَزِيرَة- 2015
تَرَاجِمَ كَثِيرَةٍ لِقَصَائِدِهَا بِاللُّغَةِ الْإِنْجْلِيزِيَّةِ وَالطِّلْيَانِيَّةِ وَالرُّومَانِيَّةِ وَالْفَرَنْسِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَالْكُرْدِيَّةِ.
*مُحَرِّرَةُ الْوَسَط الْيَوْم الثَّقَافِيِّ الشَّاعِرَةُ آمَال عَوَّاد رضْوَان
الْجَوَائِز:
*عام 2008 حَازَتْ عَلَى لَقَبِ شَاعِرِ الْعَامِ 2008 فِي مُنْتَدَيَاتِ تَجَمُّع شُعَرَاء بِلَا حُدُود.
*عام 2011 حَازَتْ عَلَى جَائِزَةِ الْإِبْدَاعِ فِي الشِّعْرِ مِنْ دَار نُعْمَان لِلثَّقَافَةِ، فِي قِطَافِ مَوْسِمِهَا التَّاسِع.
*عام 2011 حَازَتْ عَلَى دِرْعِ دِيوَانِ الْعَرَب، حَيْثُ قَدَّمَتِ الْكَثِيرَ مِنَ الْمَقَالَاتِ وَالنُّصُوصِ الْأَدَبِيَّةِ الرَّاقِيَةِ.
*عام 2013 مَنَحَتْ مُؤَسَّسَةُ الْمُثَقَّف الْعَرَبِيّ فِي سِيدْنِي الشَّاعِرَةَ آمَال عَوَّاد رضْوَان جَائِزَةَ الْمَرْأَةِ  لِمُنَاسَبَةِ يَوْم الْمَرْأَة الْعَالَمِيِّ 2013 لِإِبْدَاعَاتِهَا فِي الصَّحَافَةِ وَالْحِوَارَاتِ الصَّحَفِيَّةِ عَنْ دَوْلَةِ فلِسْطِين.
*عام 2018 مَنحت وزارة الثقافة جائزة الإبداع عن الشّعر.
* وقد حصلت على العديدِ مِن شهاداتٍ تقديريّةٍ دوليّة.
بِصَدَدِ طِبَاعَةِ كُتُبٍ جَاهِزَةٍ:
*دِيوَانُ (بَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ) مُتَرْجَمٌ لِلُّغَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ/ تَرْجَمَة فَرَح سَوَامِس/ الْجَزَائِر
*دِيوَانُ (بَسْمَةٌ لَوْزِيَّةٌ تَتَوَهَّجُ) مُتَرْجَمٌ لِلُّغَةِ الْإنْجْلِيزِيَّةِ/ تَرْجَمَة حسن حجازي/ مِصْر
*كِتَابٌ خَاصٌّ بِالْحِوَارَاتِ
*عشرة كُتُبٍ خاصَّة بِالتَّقَارِيرِ الثَّقَافِيَّةِ حَوْلَ الْمَشْهَدِ الثَّقَافِيِّ فِي الدَّاخِلِ الْأَخْضَر 48: مِنْ عام 2006- عام 2017.
شاركت بمهرجانات محلية عديدة ومهرجانات دولية:
*في عمان الأردن سنويا منذ عام 2008.
*في مهرجان الشعر الدولي في رام الله عام 2010.
*4 مهرجانات شعرية في مدن مغربية عام2012.
*مهرجان القدس في بيت لحم عام 2012 وعام 2014 وعام 2016 وعام 2018 وعام 2019.
*مهرجان الشعر الفلسطيني في كلية القاسمي عام 2014 وعام 2016 وعام 2018.




50
الدّيوانُ الثّقافيّ السّاحوريّ يستضيف آمال عوّاد رضوان وسط حضورٍ ثقافيّ بارز! 
الضّفّة الغربيّة- بيت ساحور– الوسط اليوم – تقرير خاصّ:

تبدأ جماليّة الأمسية بجماليّة العمق الذي تخلّلته قراءة الشاعر رفعت زيتون، لرسائل الشاعريْن وهيب نديم وهبه والشاعره آمال عوّاد رضوان وما قاله: إنّ خصائص هذه الرّسائل اتّخذت شكل القصيدة النثريّة، أكثر منها رسالة أدبيّة، كتلك الرّسائل الّتي عهدناها في هذا الفنّ، فهل هذا تجديدٌ في فنّ الرّسائل، كما هي الجماليّة تكمن أكثر في تساؤل الشّاعر رفعت زيتون، إن أرادت شاعرتنا "آمال عوّاد رضوان"  الابتعاد عن أسلوب مَن سبقنها مثل مي زيادة وغادة السّمّان، أم أنّ جزءًا من هذه الرّسائل قصائدُ كُتبت سابقًا، ووجدت طريقها للنّور في هذا الكتاب؟
أمسيةٌ حازت على رضى المُنظّمين وعلى سعادة الجمهور الثقافيّ في مدينة بيت ساحور، فقد نجحَ الدّيوانُ الثّقافيّ السّاحوري في تقديم الأديبة والشاعرة آمال عوّاد رضوان، بالصّورة التي تليقُ بما حقّقتهُ الشاعرة الفلسطينيّةُ القادمة من عبلين الجليليّة لثقافة الوطن المحتلّ من جهة، ولقصيدة النثر على الجهة المقابلة، وبمقرّه قاعة دكرت- فنجان وكتاب، وفي حفل توقيع كتابها الرّسائل المشترك مع وهيب نديم وهبة (أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِكِ)، الصادر عن دار الوسط للنشر في رام الله، ووسط حضورٍ أدبيّ نخبويّ ونوعيّ رائع راق مميّز، استضاف الدّيوان الثقافيّ السّاحوريّ الشاعرة آمال عوّاد رضوان بتاريخ 31-1-2019.
استهلّ الأمسية رئيس الديوان السيد ميخائيل رشماوي بترحيب حارّ بالحضور الذي ازدحمت به قاعة الديوان وبالشاعرة الفلسطينية، وأكّد على دوْر الديوان الثقافيّ السّاحوريّ في إثراء ودعم الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة، تولّت عرافة الأمسية المربية ناديا الأطرش بالحديث عن فنّ الرّسائل الأدبيّة ومقدّمة الناقد علوان السلمان، وبلمحةٍ وجيزة عن المنجز الأدبيّ لكلٍّ مِن: وهيب وهبة، رفعت زيتون، آمال عوّاد رضوان، وبدوره تحدّث الشاعر المقدسيّ رفعت زيتون عن رسائل الكتاب، مُستعرضًا أدقّ التّفاصيل التي تضمّنها الكتاب برسائله الأدبيّة وعُمقِه الإنسانيّ.
ابتدأ رفعت زيتون سؤاله للشّاعرة آمال: ابنة الماء؟ ابنةُ البعث الجسور؟ ماروشكا الصغيرة؟ أميرةُ الملح؟ الغريبة؟ آمال؟ كلُّها أسماءٌ وصفاتٌ أردتِ أن نعرفَكِ بها، فأين تجد نفسَها شاعرتنا بين كلّ تلك الأسماء والصّفات؟ لعلّ هذه دعوة لتتحدّث الشاعرة عن نفسِها بما تريد، وكما تريد أن نعرفها؟
شدّد زيتون على صعوبةِ اختيار عنوانٍ لكتابٍ ألّفَهُ كاتبان وقال: قد يكونُ مِن الصّعب اختيارُ عنوانٍ له، في حالةِ أنّ النّصوصَ كانتْ مُنفصلة، تمامًا كما في حالةِ هذا الإصدار الّذي يحتوي على رسائلَ بين الشّاعرة آمال عواد رضوان والشّاعر وهيب نديم وهبة، لكنّهما تجاوزا هذهِ المشكلة، بأنْ جعلا العنوانَ مِن أحدِ رسائلِها، وأيضًا مِن خلالِ ردِّه.
 وتطرّقَ زيتون الى جاذبيّة التّصميم وبساطة ألوانه بالقول:
 التّصميمُ كانَ للفنّان بشّار جمال، وهو تصميمٌ بسيطٌ ومُعبّر، حيثُ اختارَ لونيْن لزهراتِهِ، تعبيرًا عن كاتبيّ الرّسائل، بحيث مزجَ هذه الأزهارَ، كإشارةٍ إلى هذا التّبادلِ الّذي صاحبَ كتابةَ هذه الرّسائل، ولونُ الخلفيّةِ كانَ هادئًا جدّا، فهل كان للشّاعريْنِ دورٌ في التّصميم؟   
وأشار في تقديمه للشاعرة والكتاب للبداية التي رافقت هذا العمل الأدبيّ خطوة خطوة فقال:
*في البدايةِ كتبَ الشّاعر وهيب نديم وهبة قصيدةً مُهداةً للشّاعرة آمال عواد رضوان، ردًّا على قصيدتِها "سلامي لك مطرا"، فتعرفُ الشّاعرة آمال بذلك بمكالمةٍ مِن المرحوم إدمون شحادة، ممّا أثارَ دهشتَها لتتساءلَ: كيف، لماذا ومتى، وهي الّتي لم يسبقْ لها أنْ أهدتْهُ ديوانَها، ولم يكنْ لها بهِ سابقُ معرفة، إلّا مِن خلالِ نصوصٍ مُتفرّقةٍ منشورةٍ هنا وهناك.
*وتقوم الشاعرة آمال عواد رضوان بعدَ ذلك بالرّدّ عليهِ بتعقيبٍ في أحدِ المواقع بدأته بِـ: (عَلَى ثَرَى أَثِيرِي.. حَطَّتْ عُصْفُورَةُ ضَوْءٍ/ تَهُزُّ عَرْشَ أَسَاطِيرِي!/ مِنْ ذَاكَ الْمَدَى.. رَفْرَفَتْ.. هَلَّتْ وَهَلَّلَتْ/ تُنْبِينِي بِهَدِيَّةٍ مَخْتُومَةٍ.. بِعِطْرِ الشّعر).
*تحاولُ شاعرتُنا أنْ تعرفَ مِن خلال رسالتِها، كيفَ وصلَ إليهِ ديوانُها (سلامي لك مطرًا)، لكنّهُ يُجيبُها بحنكةِ مَن يَعرفُ سِحرَ الغموضِ والأسرار، فيُرسلُ لها ردًّا نزاريَّ الرّوح: (إنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ تَفْقِدُ الْكَثِيرَ حِينَ تُقَالُ)، وهذا يثيرُ الفضولَ أكثرَ لديها، وتكونُ رسالةٌ ثانية، ويكون الوهجُ الشّعريُّ بينهما حتّى ميلادِ هذا الجميل الّذي بين أيدينا، (أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِكِ؟).
*يضيف زيتون:
وتبدأ عصافيرُ الشّعرِ عندَ وهيب بالتّغريد، لتختصرَ المسافاتِ بينَهُ وبينها، وتطيرُ رغمَ شوْقِها فزعةً إلى غابةٍ مُلوّثةٍ بالحربِ والعصيانِ، كما وصفتْها شاعرتُنا، وهذا هو شـأنُ الشّاعر الإنسان، فلا يَنسلخُ عن واقعِهِ، بل يعيشُهُ لحظةً بلحظة، حتّى في أقصى حالاتِ الفرح، ولا تغيبُ عن ذهنِهِ صورةُ طفلةٍ باكيةٍ على رصيفِ الوجع، لكنّهُ يبقى شاعرًا يُغرّدُ أجملَ الألحانِ فيقولُ مُفتتِحًا حديثَ الشّوق ص21: (هذَا الْوَطَنُ.. بَيْنَ رُمُوشِ الْعَيْنِ وَالْمَنَافِي/ يُعْلِنُ الْمُنَى وَالْأَمَانِي/ وَأَنْتِ هَمْسُ السَّوَاقِي.. فِي غِنَاءِ الْمَاءِ!).
*فتقولُ لهُ يماماتُها: (أَنَا مَا انْفَكَّ الدَّهْرُ/ يَعْصِفُ بِي.. يُقَصِّفُ جَنَاحَيَّ!/ وَهَا السَّرَابُ/ يُرَاقِصُنِي رَقْصَةَ حَرْبٍ/ لِئَلَّا أَضْطَرِبَ/ وَلِئَلَّا تُهْلِكَنِي حَرْبُكَ!/ أَخْشَاكَ تَتَعَثَّرُ .. بِأَسْرَابِ يَمَامِي/ حِينَ تُهَامِسُ .. فَوْضَى أَمْطَارِي!")
*وتمضي الشّاعرة آمال قُدُمًا في القصيدة، وتبدأُ برسم إطارِ هذه العلاقة الّتي تفتّحتْ زهرتُها فجأة، وتُعطّرُ هوامشَها بعبيرِ العفّةِ والنّضجِ فتقولُ: (عَنَاقِيدُ بَسَمَاتِكَ نَاضِجَاتٌ/ تُضَاحِكُ هَوًى مُنَزَّهًا/ عَنْ ظِلَالِهِ!)، وكأنّها إعادةُ توجيهٍ لبوصلةِ الشّعر، أن تُيمّمَ وجهَها شطرَ الرّسالة الأدبيّة، كأنّها الهدفُ والغايةُ المَرجوّةُ المُختبئةُ تحتَ ثوبِ الكلام الجميل، فهل خطرَ ببالِ شاعرتِنا يومًا، أن تخوضَ فنّ الرّسالة كتجربةٍ أدبيّة؟
ويتابع زيتون قائلًا:
*لقد كانت الرّسالة التاسعة للشّاعر وهيب غريبة في تركيبتها ومختلفة، فقد بدأت بصلاة، ثم استقبال، ثم حكمة، ثم نصّ، وانتهت بصلاة، وكأن هذيان الشّعر بلغ في تلك اللحظة مبلغه منه، وتساقط عليه مطرا من غيمات شتى، وربطتُ بين هذه الرّسالة وبين سابقتها للشّاعرة آمال، ووجدت هذا التناغم العجيب بينهما لغة وفكرة وهدفا، كذلك وجدت هذه الرّسالة استمرارا لذات الرّسالة الإنسانية للشّاعرة آمال، والّتي أرادت أن نعيشها في الرّسالة الثامنة السابقة، حيث صحوة النور وانطلاقه حكمة من تحت ركام الظلام، يحمل جواهر الحب والأسرار ويفيض ضياءً إلى الأبد.
*ويضيف زيتون: لعلّ الكثيرَ من النّصوص تقاطعت مع فكرةٍ لأسطورةٍ أو رمزٍ تاريخيّ، أو فكرة إنسانيّة استحضرتها الشّاعرة آمال مِن بطن التاريخ، ومن ذلك: ماروشكا، جورديس، سيزيف، كلوفيس، نرسيس،  الأنبياء، حتّى أن كلمة الأسطورة قد تكررت كثيرا كما في (تَهُزُّ عَرْشَ أَسَاطِيرِي!) ص28، (تُــطَــاوِلُ نَفَحَاتِ مَلَكُوتٍ../ تَخَلَّدَ فِي أَقَاصِي الْأَسَاطِيرِ!) ص35،  (تَرْسُمَنِي رَبَابَةً/ شَــــاهِــــقَـــةَ الضَّــوْءِ/ عَلَى جِسْرِ الْأُسْطُورَةِ!) ص48، (حَيْثُكَ هُنَااااااااك/ كَأُسْطُورَةٍ .. تَسْطَعُ) ص54، (يُــطَـارِدُنِي/ عِطْرُكِ الْأُسْطُورِيّْ!) ص59، (يَا أُسْطُورَةَ كْلُوفِيس/ سَـــوْسِـحِـــيـــنِــي) ص86.
إلى أي حدّ يخدم هذا الاستخدام الفكرة أو الرّسالة؟ وهل فعلا حققت الهدف منها؟
وهل ربما كانت تلك الرموز والأساطير تشكل أحيانا مفتاحًا لفهم الرّسالة وفكرتها؟
وهل في هذه الجزئيّة تقترب الشّاعرة آمال والشّاعر وهيب من تجربة جبران ومي زيادة ؟
وأقتبس هنا جملة من رسائل جبران حيث يقول: (ويسيُر مُترنّمًا في وادي أحلامي، بل هي كقيثارةِ أورفيس).
*واستمرارًا لهذا اللّجوء للأساطير، هناك استحضار للجنّيّاتِ في كثير من الرّسائل، ومثال ذلك (أَيَا جِنِّيَّةَ الثَّلْجِ) ص46، (بِجِنِّيَّةٍ مُجَنَّحَةٍ) ص65، (جِنِّيَّةِ عِشْقٍ) ص66، (جِنِّيَّاتُ لَيْلِي) ص67، وغيرها، فهل هذا إقرار بعجز إنسان هذا الزّمان في حلّ مشاكله، أو تحقيق أهدافه، بحيث ذهبتْ شاعرتُنا للأساطير والجنّيّات؟ لا أنكر عليها ذلك، فقد فعلتُ ذلك في ديواني الأخير، حيث طلبتُ المعجزات، وناديت ملوك الجن، ورجوت الأنبياء.
ويتابع زيتون:
*هناك الكثير من النّصوص جاءت على شكل قال وقالت، وكأنّه حوارٌ داخليٌّ في الرّسالة الواحدة، أو لنقل أكثر من مراسلة في رسالة واحدة. ألا يُبعد ذلك القارئ عن أن يعيش فكرة المراسلة بين شخصيْن، لتأخذه إلى عالم آخر أقرب للحكاية؟ أربما كان يكفي أن يجري الحوار على لسان الغريب والغريبة، لأن هذا يبقينا في عالم الشّاعرين المتحاورين؟
*وهذا يقودني إلى سؤال آخر أو مداخلة أخرى.. إنّها الغربة الّتي جاءت كثيرًا على لسان الشّاعرة آمال والشّاعر وهيب، فهل التقيا وجدانيًّا في سماءِ الغربة، بعد أن فرّقتهما المسافات؟
أو بمعنى آخر، هل التقت روحه الغريبة مع روحها الغريبة، فكانت تلك اللغة الّتي وحّدتْ إحساسَهما، وكان ذلك العزف المشترك؟ هل الغريبة هي ذاتها الّتي تبحث عنها؟ أم أنّها مرآتها؟
أم أنّها الذات الأخرى الّتي في داخلها، والّتي تمتلك من القوّة والجرأة ما لا تملك، فتقول على لسانها ما لا يقال؟
*يقول وهيب: عَشْرٌ عِجَافٌ .. لَمْ تَعْزِفِ النَّايْ/ لَمْ يُغَنِّ طِفْلُ الْحُقُولِ أُغْنِيَةْ/ لَمْ يَهْمِسْ لِقَلْبِي الْوَتَرْ/ وَلَمْ تَرِفَّ عَيْنِي لِوَاجِدَةٍ وَاحِدَةْ/ حتّى أَتَيْتِ أَنْتِ!" وأسأل شاعرنا وهيب: ماذا الّذي أيقظ هذا المارد النائم بعد طول سبات؟ وهل الرّسالة تجعلُ الشّاعر أكثر جرأة في بثّ مشاعره، وبالتّالي تُفجّرُ براكينَ الكلام والإبداع؟
يضيف زيتون: *من خصائص هذه الرّسائل أنّها اتّخذت شكل القصيدة النثريّة، أكثر منها رسالة أدبيّة كتلك الرّسائل الّتي عهدناها في هذا الفنّ، فهل هذا تجديدٌ في فنّ الرّسائل، أم أرادت شاعرتنا الابتعاد عن أسلوب من سبقنها مثل مي زيادة وغادة السّمّان، أم أنّ جزءًا من هذه الرّسائل قصائد كُتبت سابقا، ووجدت طريقها للنّور في هذا الكتاب؟
*هذه الأمسية التي وجد بها الحضور نفسه "بمتعةٍ"، مُشاركًا بكلّ التّفاصيل عبرَ مداخلاته عن الكتاب، وعن لغة الشاعرة "آمال عوّاد رضوان"، أكّدت كما أكّد "زيتون"، على أنّ سمات لغة الشّاعرة عبر هذا الكمّ الهائل من أساليب البلاغة بعلومها الثّلاث، المعاني، والبديع، والبيان، وبكلّ أدواتها من تشبيهات واستعارات ومجاز، قد أعطى قوّة للنّصوص، وعمقًا في المعنى، بل وجعل للمعنى أكثر من بُعد واحد في كلّ جملة، فمن ناحية أعتقد أنّ الشّاعرة تُقدّم للقارئ نصًّا شهيًّا دسمًا، ولكن كأنّها تطلب من القارئ أن يَتعبَ قليلًا في الوصول إلى المراد، ليتذوّق ذلك الطعم اللذيذ، فهل هذا الأسلوب يُلاقي دائمًا القبول لدى المتلقي؟ 
*وركز زيتون في محاورته للرسائل وللشاعرة على سمات النّصوص عند الشّاعرة آمال، وتلك الثنائيّات والمقابلات في الأفكار والمواقف والحالات، كما كان في الرّسالة الثامنة، حيث المقابلة بين حالة الأمس بظلاله الثقيلة وعتمته وضبابه، وبين الغد الآتي بنوره وأمله وإصراره.. ولكن في هذه الجزئيّة أردت أن أتحدّث عن هندسة القصيدة، ودقّةِ أبعادها وبنائها المتين، والّذي يدلّ على العِلم المُسبَق عند الشّاعرة للهدف المرجو والمنشود، والّذي جعلها تتخيّلُ الهيكلَ المطلوب للنصّ، وتساءل المهندس الشاعر زيتون: هل الشّاعرة تكتب بالمسطرة والقلم لتخرج القصيدة بدقّتها الّتي رأيت، أم أنّها كتبتها كما هي اليوم أمام أعيننا؟ بمعنى هل تمارس شاعرتُنا التنقيح الكثيفَ في نصوصها جرحًا وتعديلا؟
كما ركز زيتون على وفرة الجناس في الرّسائل بغزارة واضحة فقال:
كثيرةٌ هي الكلماتُ الّتي جاءتْ على شكلِ جناسٍ ناقصٍ، وبشكلٍ تتابُعيّ، حتّى باتَ ذلك سمةً واضحةً مِن سِمات النّصوص، والأمثلةُ على ذلك كثيرة (يَتَعَثّرُ- يَتَخَثّرُ، تَتَحَالَقُ- تَتَعَالَقُ، صَهْصَهَتْ- قَهْقَهَتْ، تَلَافِيف- تَجَاوِيف، بَرِيق- إِبْرِيق، سَدِيمِي- أَدِيمِي، حَنَاجِر- خَنَاجِر) وغيرها الكثير الكثير، فهل هذا يُدخِلُ النَّصَّ أحيانًا بالحشو والتكلّف، أم أنّ هذا يساعدُ في خلق الإيقاع الدّاخليّ، وبالتالي يُساهمُ في رفع درجة موسيقا الكلام، ويُرسّخُ الكلامَ أعمقَ في وجدان القارئ أو المستمع؟ ولعلّ هذا يظهر أكثر في تلك الكلمات التي جزّأتها الشاعرة على شكل حروف، فهل هي أرادت أن نقرأها حرفًا حرفًا، وأن نعيش الكلمة، ونستشعر كلّ أبعادها وتأثيرتها، وأن لا نمُرّ عليها مرّ الكرام؟
*ومن أجمل ما قيل في هذا العمل الأدبيّ الذي فرد صفحاته وتفاصيله في قاعة الرعاة " فنجان وكتاب"، إنّ الشاعرة آمال عوّاد رضوان تُجيد طهي اللغة، ومن هذا الطهي أسلوب النحت والاشتقاق إن جاز التعبير، ومثال ذلك (حَيْثُكَ) ص 54، (لِتَتَصَاخَبَ أَمْوَاجِي) ص 66، (نَتَرَاذَذُ) ص76، (تَتَرَاذَذُ شِعْرًا) ص86، (مَا تَفَرْنَسْتُ) ص84، (فَلَا تَتَأَبْلَسْ.. وَلَا تَتَشَيْطَنْ!) ص95، (أَخْشَانِي أَتَقَوْلَبُ) ص104، وغيرها)، وهي كلمات تبدو غريبة غير مألوفة، لكنّها في جذورها اللغويّة أصيلة وفصيحة اللسان، أعتقد أنّها تختصر الكلام، وتختصر الجملة أحيانًا في كلمة واحدة، ومثال ذلك مثلًا كلمة (تَتَأَبْلَسْ) ص95 والّتي تقابل الجملة (تصبح مثل إبليس في أفعالك وأوقوالك)، هذا جميل جدا ولكن، هل هذا النّحت والاشتقاق، إضافة إلى الكمّ الهائل من الاستخدامات البلاغيّة والرمزية والغموض، قد يرى فيه النقاد إرهاقا للنصّ أو للقارئ؟
يختتم الشاعر رفعت زيتون بالقول:
من خلال قراءتي للرّسائل، وجدتُ أنّ فكرةَ كلّ رسالة ومحتواها وملامحِها العامّة، ترتبط بعضها ببعض، وفيها ما يشبه بناء القصّة أو الرّواية أو الحكاية، فالرّسالة الأولى فيها الشّكرُ كمقدّمة وتمهيد للحكاية، والرّسالة الثانية حدّدت المكان للأحداث، بين سماء حيفا وبحرها وبين بلدتها عبلين، وفي الثالثة تقرّر جنس المولود عندما ذكرت غادة السمان، وفي الرابعة اختيار الشّخوص والتعبير عنهم بشخصيّات أسطوريّة مثل ماروشكا، وفي الخامسة تضع فكرة القصّة أو الحكاية، وفي الرّسالة السادسة تتطوّر الفكرة إلى أحداث وحكاية، وفي السابعة تتّسع رقعة الحكاية بسرد أحداثها وارتفاع مستوى العاطفة فيها، وفي الثامنة بدء الصّراع، وفي التاسعة والعاشرة وجدت الحوار المصاحب للسّرد في قال وقالت.. وهكذا. فهل فكرت شاعرتنا بهذا البناء الروائيّ عند كتابةِ هذا العمل؟ ومن ناحية أخرى هل تفكّرُ الشّاعرة آمال بعمل روائيّ في المستقبل، ما دام عندها هذه البرمجة الذهنية الروائية في بناء النّصوص؟
هذه الأمسيةُ الّتي حفلت بحضورٍ مميّزٍ ونُخبويٍّ مِن مُثقّفي مدينتيْ بيت لحم وبيت ساحور، أكّدت على أنّ الجسمَ الثقافيَّ الفلسطينيَّ قادرٌ على إثباتِ كينونتهِ الثقافيّةِ والأدبيّة، مِن خلال مبدعيه ومبدعاتِهِ ومؤسّساتِهِ المَحلّيّة، كما أكّدت على أنّ الثقافةَ هي قضيّةُ المبدع الإنسان، والمبدع الوطن، والمبدع المجنون، والمجنون الشاعر الّذي أخذ بهذه الأمسية الى جنون الإبداع، عبر الشاعرين وهيب نديم وهبه وآمال عوّاد رضوان، وهو الوصف الذي حملته هذه الأمسية، عبر مداخلات الحضور من المثقفين والمثقفات الّذين وجّهوا اسئلتهم إلى الشّاعرة، حول كتابهما (أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِكِ)، والذي وقّعته للحضور وسط دهشةٍ تشبه نوارسَ الخلود.


51
إبراهيم مالك وذكرياتُ الشيخ مطيع!
آمال عوّاد رضوان
أمسيةٌ أدبيّةٌ للأديب إبراهيم مالك تناولتْ الجزءَ الأوّلَ مِن كتابِهِ النّثريّ شِبه الرّوائيّ، والمعنون بـ "لن يتغيّر ما نحن فيه ما لم نغيّر ما بأنفسنا"، وذلك بتاريخ 10-1-2019 ووسط حضور من الأدباء والشّعراء وذوّاقي الأدب، في قاعة كنيسة يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، بمبادرة نادي حيفا الثقافيّ، وبرعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وقد تخلّلَ الأمسيةَ معرضٌ فنّيٌّ للوحاتِ الفنّانِ التّشكيليّ محمود جمل الشّعباويّ، وتولّتْ عرافةَ الأمسية الشّاعرة سلمى جبران، بعدَ أن رحّبَ بالحضور والمُتحدّثينَ والمُحتفى به المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس منتدى حيفا الثقافي، وقدّمَ الشّاعر أنور خير قصيدة "لمسة وفاء"، رثاءً في طيّب الذّكر المرحوم الشاعر مفيد قويقس، ثمّ قدّم الأديب د. محمد هيبي قراءةً نقديّةً مُستفيضةً حول الكتاب، وفي نهاية اللقاء تحدّثَ الأديبُ إبراهيم مالك عن سيرورةِ مشروعِهِ الأدبيّ الّذي استقاهُ من مشاربِ ثقافات مختلفة، وتحدّثَ عن رُؤاهُ للأدبِ وللثقافةِ والقِيَم الإنسانيّة، وشكرَ الحضورَ والمُنظّمينَ والمُتحدّثين، وتمّ التقاط الصّور التّذكاريّة!
مداخلة سلمى جبران: أحيّيكم جمهورَنا الوفيّ، وأتمنّى للجميع مساءً مليئًا بالخير والصِّدْق والنّور والحرّيّة وجمال الرّوح. معنا معرضٌ من أعمال محمود جمل، فنّان مِن شَعَب، درسَ في كلّيّةِ الجليل الأعلى كمرشدٍ مؤهَّلٍ للفنون، ويدرسُ للّقبِ الأوّل للفنون في كلِّية أورانيم، وعضو في جمعيّة نجم الدوليّة. فنّان له لوحاتٌ عديدة، تَمِيلُ إلى كلّ المَدارس الفنّيّة، شارك في العديدِ من المعارض خارجَ البلاد، وكُرِّمَ في أكثرَ مِن مؤسسةٍ فنّيّةٍ دوليّة ومحليّة، وهو مُؤسّسٌ لمركزٍ صغيرٍ للفنون في شَعَب، ويطمحُ في الوصول الى العالميّة.
نحتفي اليومَ بالكاتب إبراهيم مالك الّذي محا جغرافيةَ الأوطان قائلًا: يا وطنَ إنسانيَّتي، ما أبدَعكَ وأروعَكَ، حين تُعَلّمُني، فتُسعدُني وأظَلُّ طِفْلًا شائخًا...
والإصدار الّذي نتناولُهُ اليوم: (الملقَّب مطيع وولدُهُ ازدادا قناعةً: لن يتغيَّرَ ما نحنُ فيهِ ما لمْ نُغيِّرْ ما بأنفُسِنا)، عنوانٌ طويلٌ جاءَ مُحاكيًا للآية القرآنيّة الكريمة: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ سورة الأنفال: 53. وكذلك: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ....﴾ سورة الرعد: 11.
قرأتُ الكتابَ، وضِعْتُ بين الأزمنةِ والأمكنةِ، وبينَ القصصِ الشّعبيّةِ والأساطيرِ العالميّة، ولذلك نتركُ الحديثَ عَنْهُ لأديبٍ أصيلٍ، كتبَ مجموعةً كبيرةً مِن المقالاتِ الأدبيّةِ والنّقديّةِ، دارسًا الأدبَ المَحلّيَّ والعربيّ، وآخِرُها "غسّان المُرْعِب، صباح الخير"، فكانَ عميقًا وأصداؤهُ مُدوِّية، وأصدر دراسة بعنوان: "الحرّيّة والإبداع والرَّقابة- أَثَرُ الرَّقابةِ على الرّوايةِ السّوريّةِ الحديثة"، وأشهرْنا الكتابَ هنا في نادي حيفا الثقافي. 
مداخلة د. محمد هيبي تحت عنوان: إبراهيم مالك والخوف من ضياع الذّاكرة!
الكاتب إبراهيم مالك، رغمَ أنّ له بعضَ المجموعاتِ النّثريّة، إلّا أنّه عُرف أكثر، كشاعرٍ صدرَ له حتّى الآن أكثر من عشر مجموعات، الأخيرة منها، "أيّتها، أيّها، أيّة ويا"، وقد اختارَ لها عنوانًا يبدو غريبًا، إلّا أنّنا نفهمُ وجهَ الغرابةِ حينَ نتصفّحُ المجموعة، ونرى أنّه اختارَ قصائدَها مِن مجموعاتِهِ العشر، ومعظمُها قصائدُ يبدأ عنوانُها بهذهِ المفردات، وحينَ نتتبّعُ إنتاجَهُ الشّعريّ، نُدركُ أنّه شاعرٌ رومانسيٌّ يَكتبُ قصيدةَ النّثر، ويعتمدُ فيها الموسيقى الدّاخليّةَ النّابعةَ مِن ذاتِهِ، ومِن إحساسِهِ باللّغةِ وبعناصرِ الطّبيعةِ الّتي يتواصلُ معها، ومِن هنا تتداعى مفرداتُهُ وعباراتُهُ الشّعريّة.
إبراهيم مالك مغرم بالطّبيعة والأساطير، ويرى فيهما أصلَ الإنسانِ ومَصدرَ فِكرِهِ وسعادتِه، وهو واسعُ الثّقافة، فحينَ يقولُ عن الأسطورةِ "هي الوليدُ البكرُ للعقلِ الإنسانيّ"، أتخيّلُهُ يقرأ ذلك الكتابَ الرّائعَ، "مغامرة العقل الأولى"، للكاتب السّوريّ فراس السّوّاح، الرّائد والمتميّز في دراساتِهِ حول الأسطورة الّتي يرى فيها التّجربةَ العقليّة الأولى للإنسان، وهو مُغرمٌ بالسّرد كذلك، ففي معظمِ قصائدِهِ يعتمدُ الأسلوبَ القصصيّ، ويسردُ القصيدةَ كحادثةٍ عاشَها، أو يُخاطبُ فيها شخصيّةً إنسانيّةً كالمرأة عامّة، أو "فاطمة" الّتي يَرِدُ اسمُها كثيرًا في قصائدِهِ وبدلالاتٍ مختلفة، أو يُخاطبُ مفهومًا مُطلقًا كالحرّيّة، أو عنصرًا مِن عناصرِ الطّبيعةِ، يُشخْصِنُهُ ويُؤنْسِنُهُ ويجعلُهُ قادرًا على الفعل.
الكتابة فِعلُ تَحرُّرٍ وخلاصٍ، ولكن يظهرُ أنّ الشّعرَ عندَنا، أصبحَ عاجزًا عن القيامِ بهذه المُهمّة، وأنّ قَدَرَ شعرائِنا في الآونةِ الأخيرةِ، أن لا يجدوا كفايتَهم وخلاصَهم في الشّعر، فيتحوّلوا إلى النّثر، وإلى السّردِ بشكلٍ خاصّ. وهذا ما حدثَ أيضًا للمُحتفى به، خاصّةً في إصدارِهِ الأخيرِ الّذي وسَمَهُ بأنّهُ جزءٌ أوّلٌ مِن عملٍ نثريّ شبهِ روائيّ، واختارَ لهُ عنوانًا طويلًا جدًّا هو: "الملقّب مطيع وولده، ازدادا قناعة، لن يتغيّر ما نحنُ فيهِ ما لم نُغيّر ما بأنفسنا!".
لقد أحسنَ الكاتبُ صُنعًا بالوَسم المذكور، إذ إنّ ما بين أيدينا ليس عملًا روائيًّا فنّيّا، ولا هو عملٌ متكاملٌ من حيث المضمون، وإنّما هو عملٌ سرديّ قصير، لسلسلةٍ من الذّكريات الّتي يبدو من طريقةِ سرْدِها ولغتِهِ، أنّ الكاتبَ "انهرق" على تدوينِها وحِفظِها، خوفًا مِن الآتي، فهو يرى الموتَ يقتربُ، وكما يظهرُ، يرى أنّ انتصارَهُ على الموتِ والزّمنِ لا يكونُ إلّا بإنجاز هذا العمل، وذلك رغمَ أنّه لا يخافُ الموتَ، لا بل يراهُ ضرورةً حياتيّة.
يقولُ في مقدّمةِ كتابهِ، "الشّعرُ والفنّ كما أفهمُهما": "بدأ هاجسُ الموتِ يُصبحُ جزءًا مِن أحاسيسي الدّائمة، والموتُ كما أفهمُهُ ليسَ قدَرًا مفروضًا، بل حاجةُ حياة، ورغمَ ما فيهِ مِن مآسٍ، هو حياةٌ للآخرين، فالموتُ، أشعرُ لحظتَها أنّهُ جميلٌ في مُحصّلتِهِ، لأنّهُ يعني الولادةَ ويعني تجدّدَ الحياة" (ص6).
هذه العباراتُ تَشي بفكرِ الكاتبِ ورومانسيّتِهِ، حتّى في حديثِهِ عن الموتِ، وبالإضافةِ إلى ما يُحيلُ إليه العنوانُ، تَشهدُ أنّ هدفَ الكتابِ، على المستوى الفرديِّ والشّخصيّ، هو حفظُ الذّاكرةِ وخلاصُ الكاتبِ مِن حمولةٍ تُرهقُهُ، وعلى المستوى الجمْعيِّ العامّ، هو الخلاصُ مِن حالةِ الجمودِ الّتي يتحجّرُ فيها مجتمعُنا منذ قرون.
ذكرياتُ إبراهيم مالك ترتبطُ فيما بينَها، بواسطةِ شخصيّةِ الشّيخ مطيع وولده سعيد الّذي أراه يُمثّلُ الكاتبَ نفسَه، فكلاهما، الكاتب وسعيد، وُلِدا في "سمخ" في العام نفسه، ومطيع وابنُهُ سعيد كساردَيْن، يُمثّلُ كلٌّ منهما جيلًا عاشَ نكبتَهُ ومَنافيهِ، فالأوّلُ يسردُ ذكرياتِهِ لأولادِهِ، كما سمعَها منذ طفولتِهِ مِن والدِهِ، وكما عاشَها فيما بعد، ويُشاركُهُ ويَدعمُهُ ابنُهُ سعيد في سرْدِ ما سمعَهُ مِنَ الآخرين، وما عاشَهُ بعدَ ولادتِهِ وتشرُّدِهِ مِن "سمخ"، وهذا يُؤكّدُ أنّ الشّيخَ مُطيع يخشى على ذاكرتِهِ أن يأكلَها الضّبع، ويُريدُ أن يطمئنّ قبلَ موتِهِ، على حفظِها في ذاكرةِ أولادِهِ الّذين يُصغونَ إليه ويسمعونَهُ، ويَنقلونَ عنهُ ويُكمِلونَ مِشوارَه، لتصبحَ الذّاكرةُ الفرديّةُ قبلَ موتِهِ، ذاكرةً جمعيّةً تتناقلُها الأجيال. يقول: "كانت ذاكِرَتُهُ تنتعش وتعود، فيَجِدُ نفسَهُ أشبَهَ بذاك الطّفلِ الّذي كان يومًا، وقد راحَ يُصغي لِما حَدَّثَهُ أبوهُ ذاتَ زمن" (ص4).
كذلك، والدُ الشّيخ مطيع يَستعينُ بغيرِهِ، لنقلِ ذكرياتِ شخصيّاتٍ لا نعرفُ عنها إلّا القليل، وبأسلوبٍ لا يكفي لبناءِ شخصيّةٍ روائيّة، حيث يبدو حفظُ الذّاكرة هو الأهمّ، فهو هاجسُ الكاتب إذ يقول: "صَمَتَ الأبُ قليلًا، تأمَّلَ أولادهُ، رآهُم صامِتين مُصغِين، فتابعَ حديثَهُ مؤكِّدًا ما يَرْويهِ آخرون" (ص6).
الاعترافُ أنّ العملَ "شبه روائيّ"، رغمَ كوْن المصطلحَ فضفاضًا أو مطّاطيًّا، يُخفّف عن الكاتبِ مُحاسبة النّقد له كروائيّ، ولكنّه لا يُجرّده مِن مسؤوليّتِهِ الكاملةِ عن عملِهِ مَهما كانَ شكلُهُ، فهناكَ الكثيرُ ممّا يُمكن أن يُقالَ، حوْلَ ضعفِ السّردِ والحبكةِ الّتي تكادُ تكونُ غير موجودة، والشّخصيّات الّتي تفتقرُ لأيّ مَلمَحٍ روائيّ فنّي، كما أنّ سرْدَ الذّكرياتِ يَنقطعُ، لا لسبب موضوعيّ، إلّا لكوْنِها جزءًا أوّل سيتبعُهُ جزءٌ آخر، ولذلك يبدو بشكلٍ واضح أنّ الكاتبَ تقوقعَ في الحكايةِ، وأهملَ الشّكلَ الفنّيَّ الّذي كانَ من الأوْلى بهِ أن يبحثَ عنهُ ليُقدّمَها به. هذا بالإضافةِ إلى أنّ العملَ قصيرٌ جدًّا، كان باستطاعةِ الكاتب أن يتروّى قليلًا، ويُصدر ذكرياتِهِ كلّها في عملٍ واحدٍ مُتكامِل. كما أنّ في اللّغةِ وتركيب العبارات أخطاءٌ لا تليقُ به، وكنّا نتوقّعُ منه لغةً شاعريّةً تليقُ بهِ كشاعرٍ معروف، ولا مبرّرَ كذلك لترتيب الجُملِ وتقطيعِ الأسطر بشكلٍ يَمغطُ النّصّ، ولذلكَ أنصحُ بمراجعةِ هذا الجزءِ جيّدًا، وبنشرِهِ مرّةً أخرى مع الجزء التالي في عملٍ واحدٍ مُتكاملٍ ومُنسّقٍ جيّدًا.
الشّيخ مُطيع هو شخصيّةٌ رسَمَها الكاتبُ لنقلِ ذكرياتِ أجيالٍ تواصلت، أو تماهتْ مع ذكرياتِهِ شكلًا ومضمونًا وزمنًا، وهي تغطّي فترةً زمنيّةً لا تَكفيها شخصيّةٌ واحدة، وقد رسم شخصيّاتِ أولادِهِ، وبشكلٍ خاصّ ابنه سعيد، ليساعدَهُ على السّرد، وليَضمنَ امتدادَهُ فيمن سوفَ يَحملُ الذّاكرةَ لاحقا.
وعودة لا بدّ منها إلى العنوان، فالعنوانُ عادةً له وظائفُ ودلالاتٌ كثيرة، منها أنّه نصٌّ مُوازٍ يُشكّلُ نواةَ النّصّ ومرآتَهُ، أو خلاصتَه، وهذا ما يُحيلُ إليه عنوانَ الكتاب الّذي بين أيدينا، فهو يختصرُ الرّسالةَ الّتي يَحملها النّصّ. "الملقب مطيع وولده، ازدادا قناعة، لن يتغيّر ما نحن فيه ما لم نغيّر ما بأنفسنا!".
في هذا العنوان، تناصّ واضح مع القرآن الكريم، إذ يُحيلُ إلى الآيةِ الكريمة: "إنّ الله لا يُغيّر ما بقوْمٍ حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم" (الرعد11). وهذا يؤكّدُ علاقةَ حاضرِنا بماضينا، وأهمّيّةَ ما يدعو إليه الكاتبُ مِن تغيير، ويُطرحُ السّؤال: لماذا أعادَنا إبراهيم مالك، وبشكلٍ لافتٍ، إلى هذا النّوع مِن العناوين الطّويلةِ الّتي تميّزتْ بها الأعمالُ الأدبيّة القديمة؟ هل هو استلهامُ القديم لإسقاطِهِ على الحديث؟ أو استلهامُ الماضي لإسقاطِهِ على الحاضر؟ أو استحضارُ الماضي للبكاءِ عليه؟ أو لمساءلتِهِ: لماذا تحجّرَ فينا وتحجّرْنا فيهِ، وقد تُرِكَ المستقبلُ جامدًا خائفًا، يحتمي بالماضي الّذي لم نتابعْ مسيرتَنا فيهِ إلى الحاضرِ والمستقبل، كما يقتضي التّطوّرُ الطّبيعيّ للإنسان؟ أم أنّ الدّافعَ هو كلّ ما تقدّمَ، وذلك للتّعبيرِ عن ضياعِنا في الحاضرِ المتقوقع في الماضي الّذي لم نستفِدْ منهُ شيئًا، والّذي لا تُشكّلُ العودةُ إليهِ إلّا تعبيرًا عن عجْزِنا وضياعِنا، وإظهار مدى الخراب الّذي يُميّزُ حاضرَنا ويُهدّد مُستقبلَنا؟
ولهذا خلُصَ الكاتبُ بتجربتِهِ إلى أنّنا "لن يتغيّر ما نحن فيه ما لم نغيّر ما بأنفسنا!"، وأرجو أن يكونَ توظيفُ الكاتب لهذهِ العبارةِ بدلَ الآيةِ الكريمة، وعدم تعامله معها بدقّة حين ذكرَها في النصّ (ص68)، ليس انتقاصًا منها أو جهلًا بها، وإنّما ليُبيّنَ لنا أنّ ماضينا غنيٌّ بتراثٍ أهملناهُ ولم نتعلّمْ منه، وكانَ الأجدرُ بنا أن نأخذَ منه لحاضرنا ومستقبلِنا، فها نحن بعدَ خمسة عشر قرنًا نصلُ للنّتيجةِ نفسِها الّتي كان يجبُ أن ننطلقَ منها، منذ أدركتْنا وأدركناها أوّلَ مرّة، لنتطوّرَ بشكلٍ طبيعيّ، ولو فعلنا ذلك، لما تأخّرنا عن رَكْبِ الحضارةِ الّذي نحتاجُ اليومَ إلى قرونٍ حتّى نلحقَ به، ولن يحدثَ ذلك ما لم نغيّر ما بأنفسِنا.
وأعتقدُ أنّ الدّافعَ نفسَه يكمنُ وراءَ اختيار اسم "الشيخ مطيع"، فمبنى العبارةِ هنا يقومُ إمّا على التّماهي أو على التّناقض، فإمّا أنّه بهذا التّركيب يُماهي بين المشيخة والطاعة، بمعنى أنّهما في المفهوم الدّينيّ شيءٌ واحد، إذ لن يكون شيخًا إن لم يكن مطيعًا، وإمّا أن تتعارضَ مشيختُهُ مع الطّاعة، بالمفهوم السّياسيّ والاجتماعيّ للسّلطة، من حيث يجبُ أن يكونَ هو الآمر النّاهي الّذي يجبُ أنْ يُطاع. وهنا يُلفتُ الكاتبُ انتباهَنا مِن خلال المُفارقة، إلى حقيقةِ خضوعِنا للقديم وتقوقُعِنا فيه بشكلٍ يَنفي التقدّمَ، ويتركنا نُراوحُ في المكان الّذي لا نرسمُهُ، بل يُرسَمُ لنا.
مِن خلال الشيخ مطيع وذكرياتِهِ، يحملنا الكاتبُ في مضمونِ كتابِهِ، إلى وطن عربيّ أصبحَ منذ أن غزاهُ أوّلُ استعمارٍ وإلى يومِنا هذا، مسرحًا لعمليّاتٍ كثيرة من التّشريدِ والتّهجيج والنّزوح واللّجوء والمنفى، هربًا من ظلم سُلطةِ الاستعمار، وكثيرًا ما كانتْ عمليّاتُ النّزوحِ، كالهارب من الرّمضاءِ إلى النّار، فالاستعمارُ الفرنسيُّ الّذي يَحكمُ الجزائر، والّذي هربَ منه جدُّ الكاتب، هو نفسُهُ الّذي يَحكمُ سوريا الّتي لجأ إليها.
تُطلِعُنا الذّكرياتُ على أنّ الكاتبَ ينحدرُ من جدٍّ عربيٍّ عاشَ في الأندلس، ورُحِّل عنها قبل 600 عام، وفي طريقهِ تزوّجَ مِن امرأةٍ شاويّةٍ أمازيغيّة، ثمّ استوطنَ شرقَ الجزائر، وعليه فالكاتبُ ليس فلسطينيَّ الجذور، وإنّما هو من أصولٍ مغاربيّةٍ تجري في عروقِهِ دماءٌ عربيّةٌ وأمازيغيّة، ولكن، وَحّدَهُ مع الفلسطينيّين إلى جانب الانتماء القوميّ واللّغة والتّراث، قدرُهم الّذي تماهى مع قدَرِهِ من حيثُ القهر والتّشريد.
زمن "الكولون" أو الاستعمار الفرنسي ّوموبقاته ومجازره الّتي ارتكبها بحقّ الشّعوب العربيّةِ المقهورة في المغرب العربيّ، وخاصّةً في الجزائر بلد المليون شهيد، نزحتْ عائلةُ الكاتب من الجزائر، ليصبح التشرّدُ والنّزوحُ والمَنفى قدرًا لها، ولتصبحَ حياتُها سلسلةً طويلة من المنافي. فمن الأندلس إلى الجزائر إلى تونس، ثمّ إلى الإسكندريّة وحيفا، لتضعَ رحالَها في سوريا قرب دمشق، وما هي إلّا سنوات حتّى نزحت العائلة من سوريا إلى قرية "سمخ" في فلسطين، وهناك في عام 1942 وُلِد "سعيد" ابن الشيخ مطيع، وكذلك وُلد الكاتب الّذي ورث التشرّد والنزوح عن أبيه وأجداده، وجاء دورُهُ ليتشرّدَ من "سمخ" عام 1948، إلى أن لجأ عام 1949 إلى كفر ياسيف الّتي يعيش فيها حتّى الآن، لتصبحَ وطنَهُ ومنفاهُ الأخير.
ومن هنا، لكلِّ واحدٍ منّا أن يتخيّلَ هذهِ السّلسلةِ الطويلةِ مِن المنافي، وهذا الكمّ الهائل من ذكرياتٍ مؤلمةٍ شحنتِ الكاتبَ وأرّقتْهُ، وأكثر من ذلك، فهي تنطوي أحيانًا، على مفارقاتٍ أشدّ ألمًا وأقسى حزنًا. مثلًا، أثناء عمل الشيخ مطيع في حيفا، بلغتهُ رسالة أنّ ابنيْ عمّه وصلا أمّ الرّشراش الّتي صارت إيلات فيما بعد، والمفارقة، أنّهما كانا في طريقِهما إلى الهند الصّينيّة، جنودًا في خدمة الاستعمار الفرنسيّ الّذي شرّدَ أقرباءَهم، "مطيع" وأهله. 
في الصّفحةِ الأولى من النّصّ، يُلخّصُ لنا الكاتبُ مَسارَهُ المحزنَ مِن بداياتِهِ، وكأنّهُ يُلخّصُ بهِ المأساةَ الإنسانيّةَ مِن بدء الخليقة، "كأنّ شيئًا في هذه الحياة لا يتغيّرُ ولا يتبدّل، وإن تغيّر فليس لصالح الجميع، وإنّما لصالح البعض المصابين بانفلاتِ جشع بطن وجيب، وبشهواتِ جسدٍ وعقليّاتِ عنف، قهر وسيادة" (ص3). وهذا يُحيلنا مرّةً أخرى إلى العنوان الّذي يختزلُ المَسارَ في خلاصةٍ هي عصارةُ فِكرٍ يؤمِنُ بهِ الكاتب.
وعن هذه الفترة ما قبلَ النّكبةِ وما تلاها، يسوقَ لنا "سعيد" الكثيرَ مِن الذّكرياتِ المؤلمة، لِما حدثَ في القرى العربيّةِ الّتي هُدِمتْ وشُرّدَ أهلُها، أو تلك الّتي لم تُهدمْ، واستقبلت الكثيرين ممّن شُرِّدوا، رغمَ ما وقعَ عليها من ظلم، وحملتْ لنا كذلك، كيفَ تعامَلَ الغاصبُ مع المغتصَب، وكيف وقفَ المغتصَبُ أحيانًا، في صفّ الغاصبِ، أي ما حدثَ في الجزائر يتكرّرُ في فلسطين، وكأنّ التّاريخَ يُعيد نفسَه.
في هذا العمل القصير تنعكسُ ثقافةُ الكاتب الواسعة، وقد استقى الكاتبُ ثقافتَهُ مِن الأسطورة، ومن المسيحيّةِ والإسلام، ومن الوجوديّةِ والشّيوعيّة، ومِن الثقافاتِ الإنسانيّةِ كلّها. ففيه نقرأ أسطورةَ جلجامش وأنكيدو وبحثهما عن الحرّيّة، ونلتقي بأفلاطون وأبناء الإله اليونانيّ "بوسيدون" في أسطورة "القرية الضائعة". ونقرأ الإنجيل في: "مَن مِنكم بلا خطيئةٍ فليَرْمِها بحجر". ونقرأ القرآنَ في الآية الّتي يتناصُّ معها العنوانُ وغيرها، ونلتقي كذلك بالباحثين عن الحرّيّةِ وتجاربهم، مثل عبد الرحمن الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وغاندي وفلسفته في الحياة والمقاومة، ودستويفسكي والإخوة الأعداء. وغيرهم الكثير.
وخلاصة القول، حرّيّة الإنسان هي هاجس الكاتب وكتابه، والفوز بها لن يحدثَ ما لم يكنِ الإنسانُ قادرًا على الحبّ والإبداع، عاشقًا للخير والجمال، ولن يتأتّى له ذلك، ما لم يكن قادرًا على تغيير نفسِه وتطهيرِها من أدران الشرّ والخطيئة، خاصّةً مِن العنف والجشع، وهذا ما تُعانيه اليوم الإنسانيّةُ عامّة، وما نُعانيهِ نحن في مجتمعِنا العربيّ بشكلٍ خاصّ.
وبالرّغم من كلّ المَظاهر الّتي تدعو لليأس، فالكاتبُ لا ييأس، ويبدو ذلك جليًّا مِن إصغاء أولاد الشيخ مطيع، واهتمامِهم بذاكرتِهِ وحفاظِهم عليها، ومن إصرارِهِ هو الكاتب، على أن يكون معنا هذا المساء ويُحدّثنا عن ذكرياته. إبراهيم مالك كاتبٌ وشاعرٌ متفائل، يؤمنُ بضرورةِ التغيير، ويرفضُ أن يفقدَ الأملَ بأنّ التّغييرَ لا بدّ سيأتي.

52
يا ابنةَ القوافي المميّزة بمَرامِها ومَراميها
فاطمة يوسف ذياب
ردًّا على قصيدة (إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا/ آمال عوّاد رضوان)

عزيزتي آمال.. "سلامي لكِ مطرًا"
 في ليلةٍ أخيرةٍ مِن عامٍ يتأهّبُ للرّحيل، هذا العامُ الّذي يَشهدُ رعونةَ الزّمنِ في فصولِ الغمام، تقولين: (إلَيْكِ أَتُوبُ غَمَاما)، فتأخذُني حروفُكِ إلى خواءِ زمانِنا المُرّ، حيثُ يتساكبُ عشقًا ووجعًا من بين حروفِ قصيدتِكِ وعريّةِ الفُصول، والمُتعفّرةِ بمَداها الغموضيّ ما بينَ تيهٍ وضياعٍ، وأحاولُ لملمةَ الشّرودِ والمسافاتِ الشّاسعةِ بينَنا، والّتي تُطاردُكِ في انعطافاتِ عطفِكِ اللّا مُتناهي، وعلى إيقاعِ حبّاتِ المطر، تتسربلُني حروفُكِ (المُتسافكةُ) في تَناغُمٍ عاطفيّ، ما بينَ حوّاءَ هنا وخُواءً هناك، وثمّةَ اكثرُ مِن نقطةٍ مُتشاكِسةٍ بخريرٍ حريريِّ المَلمسِ والصّوتِ، يَتغلغلُ بدواخلِنا، يُدغدغُ أبجديّةَ العطفِ والانعطافِ نحوَ مدلولاتٍ لفظيّة، تبدو غائرةً في جوفِ أرضِ ووجدانِ جسدٍ يرنو لروحِهِ المُتواريةِ خلفَ (تعاريجِ ) الضّياع.
إنّهُ حرفُكِ الّذي ما فتئَ يَحملُني مِن ظلالِ شرودي، كي أنادمَهُ وطنًا مَلَّ اللّهاثَ خلفَ المواعيدِ الّتي شلحتْ ذاتَها، وتَعرّتْ بزيفِ (ورقةِ التوت)، فلا جرعةٌ مِن مَبسَمِ فجرٍ، ولا قطرةٌ تروي ظمأَ الأماني والأحلام. إنّها الأنثى المُندسّةُ تحتَ عباءةِ أرضٍ كانتْ تُدعى (وطنًا)، وظلّتْ تُدعى وطنًا، رغمَ (تذاؤُبٍ) يَعوي، لا بصَمتِهِ بل بوحشيّة، يَقتنصُ كلَّ فرَصِ الحياةِ الّتي يرنو إليها أصغرُ الحملان والأطفال، فهل تتركُ الذّئابُ فرصةً لذاكَ الحُلمِ السّاكنِ في طيّاتِ القصيدة، وتمنحُهُ فرصةَ مداعبةِ حروفِ اللّغةِ، في مجالِها الأنثويّ الرّابضِ بينَ تضاريسِ النّصّ، المُتوثّبُ المُتوهّجُ ببراعةِ الرّؤيا، رغم (أنّات الآهاتِ التّائهة)؟
بهذه اللّوحاتِ النّصّيّةِ المُفعمةِ بالصّورِ ذاتِ الدّلالاتِ الشّتّى، تُحاولُ آمال عوّاد رضوان الإنسانة، أن تسكبَ حروفَها المُتوهّجةَ بالآمال، الرّافضةَ للتّيهِ والضّياع، والمُقاومةَ لضبابيّةِ الأحداثِ، حيثُ تُعِدُّ البناءَ المُتشابكَ بينَ خلايا الرّوحِ وأعمدةِ البناءِ الحِسّيّة، لتضعَنا أمامَ تجانسٍ تامٍّ، وكما اعتدْناها دومًا في قصائدِها المُتعدّدةِ، حيثُ يَظلُّ للوطنِ وللأنثى الوجهَ الواحدَ الّذي لا يعرفُ الانفصامَ أبدًا. إنّها الأنثى الرّافضةُ لاجتراحِ اللّحظاتِ اللّازورديّةِ الثّمينةِ، في ظلِّ هذا الصّمتِ المُتعالي  والمُحلّقِ (بمَلكوتِهِ المُجَنّح)، إنّهُ صَمتُ عالَمٍ تآكلتْ فيهِ إنسانيّتُهُ وهُدِرتْ، بل ومُرّغتْ بوحلِ تَذاؤُبِهِ، لتظلّ إنسانيّةً (تقتفي الخيالاتِ) بخطاها المُرتبكةِ، بانتظارِ فرحٍ أو فرَجٍ قد يَحملُهُ لها حلٌّ سِحريّ، أو ربّما معجزةٌ مِنَ السّماء. وحتّى يتمخّضُ الحُلمُ والخيالُ ويَلدُ حلًّا، فإنّ الشاعرة آمال ستظلُّ هكذا تتّكئُ على أنفاس (حرفِها الأعرج)، الّذي قد يصلُ وقد لا يصلُ، لكنّهُ عكّازُها المُتّكَأُ، الّذي من خلالِهِ تُرسلُ نصَّها الإبداعيَّ الطّاغي بعُمقِهِ، الرافضَ لواقعِهِ، والمُتحدّيَ لكلِّ فنونِ أدواتِ القصيدةِ غيرِ العاديّة.
وهل تملكُ آمال عوّاد رضوان غيرَ إبداعِها؟ إنّهُ رسالةٌ رومانسيّةٌ عشقيّةٌ سِحريّةٌ تبدو وتتبدّى، ولكنّها مُفعمةٌ برائحةِ عكّاز النّبي موسى عليه الصّلاة والسّلام، حيثُ نَراها بحركةٍ ذكيّةٍ تخترقُ أفقَ الْما وراء، وبروحيّةٍ عميقةٍ سلِسَةٍ تشُقُّ حجابَ السّماوات، وكما الطفلة تُحاولُ أنْ تتلصلصَ ربّما على عِلمِ الغيْب، بمدلولِ مَن يُريدُ أنْ يَستكشفَهُ قدَرًا، قبلَ أنْ يُصبحَ كذلك.
هذهِ هيَ الصّورةُ الشّائعةُ لحالاتِ مَن فقدَ الحيلةَ فوقَ الأرضِ، وراحَ يَستقدمُ الغيبَ ويرجوهُ، أما مِن أملٍ قادمٍ؟ أما مِن حلٍّ آتٍ؟ هي القصيدةُ الّتي سبقتْ زمانَها في استقراءِ حاضرِها، فمَن منّا لم يَتمنَّ لو أنّه يستكشفُ ما بعدَ البَعْد، أيْ ما بعدَ هذا الّتيهِ والضّياعِ والطّرقِ اللّولبيّةِ، ليرى لونَ ونكهةَ القادمِ مِن خلفِ عتمةِ الواقع؟
هكذا هي آمال الشّاعرة المتجذّرةَ بملكوتِها الشِّعريّ تُخاطبُ الأنثى، فتسكُبُ شِعرَها الصّافيَ، وتعجنُهُ بدقيقِ حاضرِها وماءِ ماضيها، وتستوقفُنا الصّورةُ التّراثيّةُ المُتجذّرةُ بفولكلورها، صورةٌ مُتعمّقةٌ بتوْصيفِهِ وتوظيفِهِ، ومُلازمةٌ متلازمةٌ بحِرفيّةِ أدواتِهِ وأدوارِهِ: العجين، الشّوبك، صفاء الدّقيق، الأقراص، الخبز) .. إذن؟
هو الوطنُ الّذي يُعجَنُ ويُخبَزُ، يُحَمَّرُ ويُقَمَّرُ أقمارًا في فضاءاتٍ أخرى وما زال يُؤكَلُ ويُؤكَلُ، والشّاعرةُ آمال لمّا تزَلْ تُعاقرُهُ بحروفِ أبجديّتِها، مُستلهِمةً مِن تراثٍ مُتجذّرٍ في خاطرِها، تُحاول استقدامَهُ في متاهاتِ خيالاتِها، وفي (خلوةٍ سهاديّةٍ تتلوهُ قصائدَ وادعة)، لتنشرَهُ في نصٍّ أدبيّ، وتطرحَهُ (على عتباتِ المرايا)، بفسيفسائيّةٍ مُنتقاةٍ بأنفاسٍ (تتلاعبُ أرياشُها).
إنّها الشّاعرة آمال عوّاد رضوان.. تظلُّ مُخلصةً للصّورةِ الحِسّيّةِ الشّموليّةِ، مِن حيثُ البناء المتكامل المتجانس مع واقعِهِ الزّمانكيّ، ليُعاودَها السّؤالُ ذاتُه: كيف؟ كيف تُحلّقُ آمال في وطنٍ مقصوصِ الجَناحيْن، مُثقلٍ بسوداويّةِ واقعِهِ؟
في حالتِها هذه، تشعرُ كما نشعرُ نحنُ أيضًا معها، إنّنا جميعًا (ريشٌ في مهبِّ الرّيح)، تتلاعبُ بنا الصُّدَفُ والخُططُ، وتقذفُنا إلى فضاءاتِ الهباء، لكنّها الشّاعرةُ المُتمسّكةُ بسراجِها اللّغويّ، تطرَحُهُ آمالًا تُضيءُ فضاءاتِها الخاصّةَ والعامّة، لتقولَ بما يُشابهُ القول: كلّما ضاقتْ حَلقاتُها فُرِجَتْ، فبرغم (ارتجافِ عصافيرِ القلب)، تتّقدُ في دواخلِها جذوةُ اللّهبِ، وتنثرُهُ فوقَ ذرى الوطن، تستظلُّهُ رغمَ فصولِ عُريهِ النّاعسِ السّابتِ إلى حدّ الموت.
هي آمال عوّاد رضوان المُفعمةُ دوْمًا بالآمال، تُتقنُ حروفَ القصيدةِ الأخرى المُكتنزةِ بثروةِ لغتِها، والمُرتوية بينابيع جُذورها، تحملُ (بشرى المَسرّة) رغمَ أنفِ الزّمان، لنراها تتواثبُ فوقَ خرائطِ الدّهشة، وبماسيّةِ حروفِها العشقيّةِ تتعمّدُ بقدس القداسة، وتغتسلُ بنورِ قناديلِ العشقِ والهوى، وتراقصُ عزفًا روحيًّا على قيثارةِ فجرٍ تراهُ هي، وقد (يُطوّبُ مَباسمَ المواسم..)
عزيزتي آمال الغارقة بفرادةِ أدواتها..
قد يتوهُ البعضُ عن مَرامي نصِّكِ وما وراءه، لكنّه نصّكِ المخلصُ لواقعِهِ المتشابكِ في تعقيدِهِ حدّ الدّهشة، فكلُّ أنثى في شِعرِكِ وطن، ترسمينَهُ بلوحاتٍ تَخصُّكِ وتخصُّ ريشتك، وإنِ كانت في مهبِّ الرّيح، تظلُّ ريشتُكِ تَقطرُ بحِبرِ الأماني والرّؤى الموغلةِ في العمق.
هكذا وفقط هكذا، من هذا الواقع الزّمنيِ والمكانيّ تنزفينَ الوطنَ قصائدَ أخرى، تُعلّقينَها في متاحفِ النّرجسيّةِ الفوق عاديّة، وبما أنّكِ تفعلينَ هذا لأغلى مِن الأغلى، أراكِ حريصةً على انتقاءِ صُوَرك الشّعريّة مِن جذور الجذور، ومِن الصّور اللغويّةِ الممتلئةِ بتراثيتها، تستنبطين الحرف والصور، وتُجيّرينهما.
ماذا أقول لكِ يا ابنةَ القوافي المميّزة بمَرامِها ومَراميها؟ لقد أشغلَكِ الواقعُ بكلّ تعقيداتِهِ اللحظيّة وغير اللحظيّة، فكان غمسُ الرّيشةِ في فضاءاتِ شعرِكِ يقطرُ بحبرِ أمانيك، إنّه الوطنُ السّاكنُ روحَكِ وقصيدتَكِ، بل أكادُ لا أخطئ إن قلت، إنّ معظم ما رسمتْهُ ريشتُكِ كان نبراسَ حُبٍّ لعتمةِ وطن، ومن رحم الألم يولد الأملُ، سراجيًّا يبدو، لكنّه في خاطرِكِ شمسٌ وشموسٌ.
عزيزتي آمال عواد رضوان: في آخر يوم من عامٍ حزَمَ حقائبَ سفرِهِ ليُغادرَنا، بكلّ ما حملَ لنا وللوطن مِن أوجاع، أراِك وأراني نستقبل العامَ القادم، بإيقاعٍ يتماهى مع عزف الروح، ويتّكئ على سنن الأوّلين، وعلى ما حملته مغازي الإعجاز في خلايا الروح.
سلامي لك مطرا يُنبتُ لنا غلالًا مِن الآمال.
(إِلَيْكِ أَتوبُ غَمامًا/ آمال عوّاد رضوان)
 
وَعِرَةٌ فُصولُ وَقْتِيَ الأَرْعَنَ .. يَمْلؤُها خَواءٌ
يَ تَ سَ ا كَ بُ
يَتعَفَّرُ بِغُموضِ حَوّاء
وفي تَعاريجِ الّتيهِ بِكِ .. أَحْمِلُني ظِلالاً شَارِدَةً
تَتشاسَعُ...
أُطارِدُ مَسافاتِكِ المُتَسافِكَةِ .. في انْعِطافاتِ عَطْفِكِ
وَعَلى إيقاعِ جِهاتِكِ
مُتَماهِيًا بِي .. يُشاكِسُني حَريرُ خَريرِكِ!
*
دُونَكِ.. يُنادِمُني كأْسُ النُّدَمَاء
يَلْهَثُ وَفاءُ المَواعيدِ الجَوْفاء
يَئِنُّ بُسْتانِيَ ظامِئًا
يَعْوي الصَّمْتُ في قَفصِ جُوعِهِ
يَتذاءَبُ.. يَتَوَعَّدُ حُملانَ حَكاياكِ
يَ تَ هَـ جَّ ى .. أَنّاتِ آهاتِيَ التّائِهَةِ!
*
كَيفَ أَجْتَرِحُ لَحَظاتِكِ اللاّزوردِيَّةَ
ومَلَكُوتُ صَمْتِكِ يَعْتَلي عَرْشِيَ المُجَنَّح؟!
أَمْضي إِلَيْكِ ضارِعًا
تُرْبِكُني خُطُواتُ خَيالي .. أَقْتَفي ظِلالَ الفَرَح إِلَيْكِ
أَتَوَكَّأُ عَلى .. أَنْفاسِ حُروفِيَ العَرْجاء
أَيْنَكِ تُرَمِّمينَ قِبَبَ عَتَماتي؟
أَيْنَكِ تُغَبِّطينَ مُهْرَ حَرْفِيَ المَوْلودَ بِكِ؟
*
مِنْ خَلْفِ حِجابِ السَّمَواتِ
نَجْمِي السَّاهي يَتَلَصَّصُ .. يُنَجِّمُ مَناجِمَكِ الجاثِمَةَ بِكُهوفي
يُعَرّي بِزُمُرُّدِ لَحْظِهِ .. ياقوتَكِ الجاثِيَ في ثُرَيّا الفُؤادِ
مَن ذا الأَباحَكِ بي؟
يا خَميرَةَ زَمانِيَ الآثِم
تَعْجِنينَ دَقيقَ حاضِري بِماءِ الماضي
تُسَوِّينَ بَشَوْبَكِ صَفائِكِ أَقْراصَ قُرْباني
تُخَمِّرينَ خُبزَ خَيالاتي بِمَتاهاتِ طُهْرِكِ
وَفي خِلوَةِ سُهْدِي .. أَتْلوني قَصائدَ وَداعَةٍ
عَلى عَتَباتِ مَراياكِ!
دُورِيُّ أَنا مُثْقَلٌ بِفَضائِكِ!
أَسْرابُ أَنفاسِكِ تُلاغِفُ أَرْياشي
تَغْمِسُ شَمْعَ جَناحَيَّ بضَوْءِ شِعْرِكِ النَّدِيِّ
وتُعَشِّشينَ فِراخَ جَمْرٍ بِفُسَيْفِساءِ أُوَيْقاتي
أَيا ريشَةَ شِعْرِيَ الأَخَفَّ مِنْ ريشِ الهَباءِ!
مَا جَدْوايَ مِنْ أَرْياشِ الذَّهَبِ
وَحُجُبُ سَديمِكِ بَتَرَتْ مِنْقارِيَ
والقَلبُ كَسيرٌ.. أَسيرُ أَثيرِكِ؟
*
كَيْفَ أُحَلِّقُ بِقَلْبِيَ مَقْصوصَ الجَناحِ
إِلى أَسْدافِ قُدْسِكِ؟
كَيْفَ وَعُيونُ حَرْفِيَ المُقَنَّعِ كَفيفةٌ
تَتَوارى في عَتْمَةِ دُواتِكِ؟
*
أَيا إِلهامِيَ الأَضْيَعَ مِنْ سِراجٍ في شَمْسٍ!
أَقْفاصُ صَدْري مَجْبولَةٌ بِطينِ اليَبابِ
كُلَّما لَمْلَمْتِ أَكْوامَ رَحيلِكِ الكافِرِ .. تَرْتَجِفُ عَصافيرُ القَلْبِ
تُوقِدينَ بي جَذْوَةَ اللَّهَبِ
فَاُحْطِبي في حَبْلي وَأَعِينيني .. ولاَ تَحْطِبي عَليَّ وتُهْلِكيني
علَّ تَعْويذَتَكِ تَحُلُّ رِبْقَتي
ولا تُسْبِلي غُرَّةَ الفَقْدِ .. عَلى جَبيني!
*
كَمْ هِيَ وارِفَةٌ فُصولُ وقْتِيَ العاري
حِينَما تَفِرُّ الحُدودُ التَتَشابَحُ
وَتَنْسَلِّينَ مِنْ ظِلالِ الظُّلُماتِ النَّاعِسَةِ
بُشْرَى مَسَرَّةٍ
حينَما تَتَقافَزُ أَيائِلُ روحِكِ
تَسْرَحُ قُطعانُ آمالي في واحةِ بَوْحِي
لأَتَواثَبَ فوْقَ خَرائِطِ الدَّهْشَةِ!
*
مَيَّاسةٌ عَرائسُ فَرحِي بِكِ
حينَما غُصونُ حَرْفي .. تَميدُ بِكِ
حِينَما تَتَبَخْتَرُ بِغَنَجِها .. تَتَمَايَلُ بِدَلالِكِ
تَتَوارَفينَ عُرى لِقاءٍ
حِينَما تَلُفِّينَ بِاخْضِرارِ زَفيرِكِ شِغافَ شَهِيقي
تَشْرَئِبُّ أَعْناقُ العِناقِ مُزاحِمَةً
وَ أَ تَ فَ تَّ تُ .. عَلى أَعْتابِ أَنْفاسِكِ
*
أَرْصِفَةُ الصُّبْحِ تَتعَرّى
حِينَما تَخْلِبُها لَذائذُ الأَلَمِ المُؤَجَّلِ .. في فِخاخِ الانْتِظار
وحُوريَّةُ الأَمْسِ تَسِحُّ .. مِنْ بَيْنِ أَصابعِ المُوسِيقا
تَتَأبَّطُني مَغْمُورَةً بي .. تَطوووفُ.. دااااااائِخَةً
تَحْمِلُ حُلُمي إلى مَعْمورَةِ هَذَياني
هُو الغَدُ يَأْتيني بِكِ .. وَبَعْدَ الغَدِ يَأْتِيني إِلَيْكِ
لِنَتَوَشَّحْ بِفَرْحَةٍ تَهِلُّ ميلادَ أَحِبَّةٍ!
رُحْمَاكِ
هَيِّئيني بِكِ لِقُدْسِ الفَرَحِ
لأَتَقَدَّسَ بِعِطْرِ زُهْدِكِ البَرِّيِّ!
أَدْمَعُ!.. و.. أَدْمَعُ!.. وَ.. أَدْمَعُ!

مَن ذا يَغْتَسِلُ بِدَمْعِ قَناديلِ هَوايَ إِلاَّكِ؟!
مَن ذا يَبْتَلُّ بِوَهْجِ لَيالِيَّ العَذْراءَ كَماكِ؟!
هيَ ذي تَرانيمي.. إِلَيْكِ تَتوبُ غَمامًا
إعْزِفيني بِشارَةَ حُبٍّ / كِرازةَ لِقاءٍ
عَلى قيثارَةِ الفَجْرِ
عَلَّ بَشاشَةَ الغِبْطَةِ .. تُطَوِّبُ مَباسِمَ مَواسِمي!

53
كفر ياسيف تُكرّم أحمد فوزي أبو بكر!
آمال عوّاد رضوان
أقامتْ مُؤسّسة محمود درويش للإبداع، والاتّحادُ القطريُّ للأدباءِ الفلسطينيّين- الكرمل، وجمعيّة أنصار الضّاد أمسيةً احتفائيّةً بالشّاعر أحمد فوزي أبو بكر، وذلك بتاريخ 21-12-2018، في بيت مؤسّسة محمود درويش كفرياسيف، ووسط حضورٍ نخبويٍّ من الأدباءِ والشّعراء والأصدقاء، وقد تولّت عرافةَ الأمسية عايدة مغربي، وبعد أن رحّب علي هيبي الناطق بلسان الاتحاد بالحضور، وبكلمةٍ حولَ الاتّحاد وأهدافه ومنهجه، كانتْ مداخلة مستفيضة لد. سامي إدريس حول شعر أحمد فوزي أبو بكر، ثمّ تخلّلت الأمسية قراءاتٌ شعريّة لكلّ مِن: يحيى عطالله، يوسف إلياس، هشام أبو صلاح، وحسين حجازي، وقراءات للمحتفى به، وفي نهاية اللّقاء قدّم الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين الكرمل ومؤسّسة أنصار الضّاد درع تكريم للمحتفى به، وتمّ التقاط الصّور التّذكاريّة.
مداخلة عايدة مغربي: ما أجمل أن نكرّم مبدعينا، وهم لا يزالون ينبضون بالعطاء وبالتميّز والبهاء، والشّاعر أحمد فوزي أبو بكر شاعرٌ ناداه الوطن فلبّى النداء، هو شاعرٌ استحقّ التّكريم والثناء، فأقول: أنتَ شعلةُ نارٍ أضاءتْ صرخة القلوب، وصفعتَ المستحيلَ ليرحلَ مِنَ الدّروب، أنتَ الغريبُ المسافرُ بنبض المطر، تأرجحتَ بين مرايا الدّخان، وعبرتَ سالفَ العصورِ والأزمان، لتنفخَ في الكلمةِ قصيدةَ حياة، أنتَ المحاربُ الثائر العاشق، الّذي يأبى إلّا أن يسافرَ في قطار الشّجن، دموعُكَ صهيلٌ وصوتُكَ حفيفُ زيتونةٍ، تأبى الرّحيلَ عن الجذور، وقلمُكَ ما زالَ يتراقصُ حُرًّا عطِرًا في نسيج الزّمن..
مداخلة د. سامي إدريس بعنوان مَن هو أحمد فوزي أبو بكر: أحمد فوزي أبو بكر قامةٌ شعريّةٌ عالية، لها دوْرُها وخطورتُها في حركتِنا الأدبيّةِ المَحلّيّة، شاعرٌ كبيرٌ بالمعنى الّذي أرتئيه، فالشّاعرُ الكبيرُ قد يكونُ كبيرًا بالشّهرة، بفعل الظهور الدّائم في وسائل الإعلام، فيصبح نجمًا أو نجمةً لا شاعرًا، وقد يكون كبيرًا بفعل كثرة عددِ قرّائه، ولكن هناك شاعرٌ كبيرٌ لم تقل له أيٌّ من وسائل الإعلام المعهودة: إنك الشّاعر الكبير! والكبيرُ صفة اختلقَها الإعلاميّون، فوصفوا الجواهري بشاعر العرب الأكبر، تمييزًا له عن الكبير، ولكنّي أقول إنَّ أحمد فوزي شاعرٌ لا تلوِّثُ شاعريتَه صفةٌ كالكبير أو غيرها، شاعرٌ فحسب، شاعر حقيقيّ يتصارع مع أدوات التّعبير المتعارف عليها، والعروض السالك ليعلو فوق كلّ ذلك، مُجدّدًا مجترحًا بابًا جديدًا في شعرنا المحليّ، وهذا هو التّميُّز. بعضُ قصائدِه الّتي يتجلّى فيها، تعرفها دون أن يُذكرَ اسمُه عليها، بل إنّي أكاد أجزم أنّ بعض التّعابير الشّعريّة أصبحت مُلكًا للمعجم الشّعريّ لأحمد فوزي.
إنّ المهرجاناتِ والتّكريمات المبتذلة قد تُخرّجُ نجومًا، لكنّها لا تصنعُ شاعرًا واحدًا، والشّاعرُ الحقيقيّ يكتب ولا يبحث عن منصّة أو شهرة، فيقول في قصيدة تَمُرّين عنّي غريبًا:  مُعَتَّقٌ../ على شُرْفَةِ البحرِ/ تَمُرّين عنّي غريبًا/ أما كُنْتُ النّبيذَ الفَتِيَّ/ نبذتِهِ تحت الظّلالِ العتيقَة/ وسِرًّا لم تكتبيهِ رأيتُهُ ومضًا بِلحظِكِ/ وخَمرًا سَكَبْتِهِ فَوقَ قطيفةِ خَصرِك/ مُعَتّقٌ ../ أَحِنُّ لِكأسِكِ/ فلا تَذَريني لعابرةٍ في طريقي
ماذا يريدُ أحمد فوزي مِن الشّعر؟ ولماذا لا يستطيع إلّا أن يكتب؟ هذا التّساؤلُ مأخوذٌ مِن تساؤلِ الأديب الكبير يوسف إدريس الّذي يقول: "أكان لا بدَّ أن تكتبَ يا يوسف؟! هل الشّعر جسرٌ للخلاص الشّخصيّ، ومن ثمّ الخلاص الاجتماعيّ؟ سنرى لاحقًا كيف يتشكّل الأمر في دراسة واسعة تحيط بشعره على مراحل تطوّره، والصّحيح أنه من أجل الحديث عن شعره، أو من أجل كتابةِ دراسةٍ أكاديميّة طالب جامعيّ يريد أن يكتب عن أحمد فوزي، وأنا أهيب مِن هذا المنبر بتناول إنتاج شاعرنا في دراساتٍ أكاديميّةٍ جادّة، فعلى مثل هذه الدّراسة أن تواكب طفولته ونشأته، ومسقط رأسه "سالم" جنة الطبيعة في مرج ابن عامر، وتأثره بوالده الشّاعر المناضل فوزي أبو بكر، وثقافة الشّاعر والتّيّارات الشّعريّة الّتي تأثّر بها. نحن نجهل الكثير عن هذا الجانب، وربّما إذا كتب لنا مذكّراته أضاء جوانب عديدة، وربّما إذا أجرينا معه حوارًا سيكون شائقًا أكثر، إلّا أنّني استطعت أن أضع عينيّ على تأثره الكبير بوالده، صاحب الصّوت الجميل الّذي كان يؤذن في القرية، وأنّه كان جار الجامع في سكنه، وقد تجلّى ذلك في شعره، وبالنّسبة لموارده الثّقافيّة فهو يعشق المطوّلات الكلاسيكيّة، ويُسجّلها على هاتفه ويستمع إليها دائمًا غير مثل لامية الشنفرى، لامية الطغرائي، صوفيّات ابن الفارض، وغزليّات ابن زيدون، وعينية ابن سينا وغيرها الكثير، فلا يمكنك أن تكون شاعرًا وأنت لا تحفظ شيئًا من هذا التّراث الباذخ، وليس الحفظ القسريّ، ولكن العشق الّذي دونه لا تحلو اللّيلة والقعدة والمسامرة والمنادمة.
قصيدة (أبي) الّتي يُكرّسُها لأبيه المناضل (أبي حاتم) المرحوم فوزي أبو بكر، ويمكننا إدراجها تحت باب الفخر الوطنيّ الحديث، قافيتها العذبة الباء تذكّرنا بكثير من القصائد التّراثيّة ومنها: قصيدة مهيار الديلمي، فكأنّ شاعرنا أحمد فوزي يريد التمثل بالقول: أين في الناسِ أبٌ مثلُ أبي؟ وقد جعلها على تفعيلة فاعلاتن الرقيقة، باستعاراتٍ وإبداعاتٍ حديثة، فتوافق المبنى والمعنى والمعجم البارع المنتقى: كُلُّ ما فِيَّ أبِيٌّ وَأَبي/ أسْودُ الرَّايةِ حُرٌّ عَربي/ أبيضُ الرّاحةِ في عيني تَرى/ شمسَ شرقٍ في السَّما لم تُغربِ/ فأبي كان النَّبيلَ الْمُجتبى/ وأبي كان نبيَّ الغَضَبِ/ عربيَّ الرّوحِ كنعانَ الهوى/ صهوةَ الشَّامِ وسيفَ المغربِ/ قَمَريَّ اللّيل يَضوي عتمَةً/ لتهاليل سَمَت في القُبَبِ/ وأبي السَّاكنُ أحزانَ الوَرى/ وأبي في همِّ شعبٍ مُتعبِ/ وأبي دَهْشُ البَساطةِ إنَّما/ هُوَ ذا الحُرُّ سليلُ النُّجُبِ/ وأبي الأرضُ إذا ما زُلزِلَت/ وأبي دُهْمُ السَّماءِ الْمُرعِبِ/ زوَّجَ الثَّورةَ للحَرفِ مدى
للقصيدة أسرارُها، فمَن يُصدّق أنّ كاتبَ هذه القصيدة شاعرنا أحمد، وهي تكاد تتماهى مع الشّنفرى في لاميّته قبل ألف عام وأكثر، وابن الوردي والطغرائي في تناص جميل، وليس التناص ما يفهمُه البعض من الاقتباس، فالتناص تداخلُ النّصوص بعد تذويتها في الحافظة، وشاعرنا يُتقن استخدام التناص استخدامًا تلقائيًّا، بعد أن ذوّتَ كلّ هذا التّاريخ، وعايش سِيَرَ هؤلاءِ الشّعراء فيقول: 
وَلَستُ بِمحيارٍ إذا شَحَّ مؤنِسي فإنّي لِعقليَ صاحِبٌ وَمُناظِرُ/ وما دامَت السّمراءُ شُغلي وشاغِلي زَهُدْتُ بِخلٍّ يوم نحسي يغادرُ/ أُعاشرُ قومي راغبا كي يطيبَ لي فإن أهملوني فالجميلُ المهاجِرُ/ ولي في مَدادي الأنسُ لي بعض جِنَّتي إذا ضجّتِ الأرواحٌ ضَجَّت مشاعرُ/ نَطَقْتُ فأسهدتُ العذارى بلوعتي وأشهَدتُ إعلاما وَغنَّت حناجِرُ/ ولِستُ بمدّاحٍ تَحَنَّفَ سيّدًا يُغالي بشعرٍ إذ رَخُصْنَ المنابِرُ/ ولا برخيصِ ناظمٍ مُتَغَزِّلٍ يبيعُ الهوى ما تَستحيهِ العواهِرُ/ ولستُ بهجّاءٍ يُدَنّي لِسانَهُ إلى مَيّتٍ قَد أثْخَنَتهُ الخناجِرُ/ لَعَمري إذا ما اختارَكَ الدَّهرُ صاحبًا فَكَيفَ بأشباهِ الرّجالِ تُتاجِرُ/ فما قًلَّ خيرُ الناسِ فقرًا وقلَّةً ولا عَظَّمَ الخُلقَ الكريمَ الأياسِرُ
وأحمد فوزي هنا يثير مبادئ يدين بها الشّاعر تعرُّفنا على شخصيّته. أحيانًا يروق للشاعر أن يبرز مقدرته الشّعريّة على النظم، وقد تكون هذه المضامين لا تقال إلا على هذه الصّورة التقليديّة الجميلة، فهو قادر بل بارع في نظم القصائد العموديّة، مثلما سنرى براعته في الشّعر الحديث ذي الوحدة الموضوعيّة، وما أكتبه في هذه المداخلة ليس نقدًا أكاديميًّا فتملون منّي ومنه، ولكنها نتفٌ أريد أن أمتعكم بها معتمدًا على ذائقتي الجماليّة، وتجربتي الشّعريّة ودراساتي المديدة في الشّعر والنقد، ومعرفتي القريبة بالشّاعر المحتفى به، وليله قضيتها أنا وإيّاه على شاطئ يافا حتّى الصّباح، وليعذرني فهذا العام لم استطع دعوته الى مثل هذه السّهرات، لأنّني لم أعد استطيع السّياقة ليلًا لمسافات طويلة، ولا هو يستطيع، ونحتاج لرفيق ثالث.. أقول إنّه ليس نقدًا أكاديميًّا، ذلك أنّ النّقد علم جماليّ يُدْرَس ويُدرَّس في الجامعات، وله شهادات عليا وكبيرة، والناقد لا يقلّ إبداعًا عن المبدع نفسه. ربّما يتبادر الى أذهان البعض من كلمة النقد، أَنّها البحث عن أمور سلبيّة في النّصّ، فإذا لم يجد الناقد شيئًا ليقوله، فكأنّما يعجز عن الإطراء والمدح، وإظهار بواطن الجمال والسّحر والإبداع. لقد قال الشّعراء كلّ شيء في كلّ شيء، هكذا يراودني هذا التفكير أحيانًا وقد تعارضونني، وما أريد قوله اليوم، إذا لم تكن القصيدة مفزعة تهزّك وتُزلزل أركانك وتدهشك، فهي كلام أكل كأيّ كلام في السّياسة وفي الوطنيّة وفي الحبّ.
نعم قالوا كلّ شيء ولم يقولوا أيّ شيء ممّا سنقوله نحن، إذا قرأنا كثيرًا وكتبنا قليلًا، وحذفنا كثيرًا ولم ننشر كلّ شيء تنفثه قرائحنا، وهذا مأخذ آخذه على كثير من الشّعراء، لأنّ أمر النّشر أصبح سهلًا، فليس هناك مجلة ومدير التحرير الأدبي الّذي سيقرأ القصيدة، وربّما يلقي بها في هامش الأرشيف، والفيس بوك سهل جدًّا وأنت مستقلّ حُرّ كلّ يوم قصيدة، وأحيانًا أرى أنّ بعض الشّعراء لا يتريّثون، وليس لديهم صبر لضبط وزن بيت معيّن، وهم يفضّلون هذه الكلمة على سواها، حتّى وإن كسرت الوزن، وهذا يحدث لدى أحمد فوزي أحيانًا، وكأنّه يعتبر هذه القصيدة لن تكون ضمن الدّيوان، ولها هدف آنيّ سريع.
لقد كانت القصيدة التقليديّة القديمة قصيدة معلومات وشرح، واليوم أصبحت قصيدةَ تساؤل وحيرة وجوديّة، ودهشة تتشكّل وتختمر في ذهن شاعرها، وتتّسع لمرايا الإنسان والكون وقدر الإنسان ومأزِق الحياة. يبدأ الشّاعر الجديد بيتها الأول، لكنه يجهل كيف ستتحرّك أبياتها التالية، وبأيّ اتّجاه. ما يعرفه أنّه، هو الشّاعر، ينطوي على لغم من التّساؤلات.
أحمد فوزي ليس شاعر التزام سياسيّ في شعره على الأقلّ، ربّما يكون في مواقفه العامّة قريبًا من كلّ ما هو وطنيّ يخدم شعبه، وجمهوره ليس جمهورًا مهرجانيًّا، إنّما هو الجمهور المنتقى، فأنت تشاهد شعراء المهرجان عندنا وشاعراته، وترى عدد اللايكات الهائل، وعبثًا تحاول أن تفتّش عن مُعلّق يقول لماذا أعجبه هذا الشّعر فلا تجد. ويقتبس شاعرنا أحمد فوزي أبو بكر شعرًا للشّاعرة السّودانيّة المتألّقة روضة الحاج قولها: وما حاجةُ الدنيا إلى صوت شاعرٍ/ يعيدُ مُعادًا قيلَ قبلًا مُردَّدا/ تَبعتُ بحورًا أَورَدَتني سرابَها/ هرَقتُ يقيني في الطريقِ لها سُدى/ وما الشّعر إلّم يَقتلِعنا لبُرهةٍ../ عن الأرضِ إدهاشًا حضورًا تَمَرُّدًا
من قصائده الأخيرة تحت عنوان (كأنّي)، وكأنَّ شاعرَنا يُسجّلُ اعترافًا أخيرًا، تَناهى إليه بعد كلّ هذه التّجارب فيقول فيها: كأنّي ضَلَلْتُ الطَّريقَ/ فلا البئرُ بئري/ ولا الماءُ مائي.../ ولا الكَأسُ كَأسي/ هُناكَ أَراهُ يراعَ الحَقيقةِ/ خَلفَ ضبابٍ تجلّى وراءَهُ حِبْرُ المُنى/ هُناكَ أنا.. وللكأسِ روحٌ وبَوْحٌ ونَوْحٌ/ هُناكَ أنا.. ولِلْقَلَمِ مَعنًى ومَبْنًى ومغنى/ هُناكَ أَنا.. وَلَسْتُ أَنا.. كما ها هُنا/ وَلَيسَت حَقيقةُ أَمرِيَ إلّا مَجازًا/ فَعينايَ هُما حَيْرَتي/ ورجلايَ هُما عَثْرتي/ يَدايَ هُما حُفْرَتي/ وَأَنا ما أَنا/ سِوى مُضْغَةٍ للفَنا
(كأنّي) قصيدة آسرة اختمرت في لاوعي الشّاعر وتشكّلت، لتأسرك بمصداقيّتِها ومَضمونِها الفلسفيّ الوجوديّ الحائر، كلّما أعدتَ قراءتَها ثانيةً. العنوان عتبة النصّ، يتأرجح الشّاعر كأنّما يسير في العتمة حائرًا قلقًا، بالإضافة الى ما تكشفه القصيدة من هواجس وشحنات وحمولات تأويليّة شتّى، تتبدّى من خلالها ظاهرةٌ شعريّة خاصّة متميّزة، بوصف أحمد فوزي شاعرًا متمرّسًا له قاموسه ولغته الخاصّة وعروضه الخاصّ، فهو يفضّل التّعبير الّذي جادت به قريحته، ولو كان فيه ميلٌ الى النثريّة، كما له رؤاه ومراياه الخاصّة. إنّ هدف هذه القصيدة هو الخوض في المعترك الغامض والملتبس لقدَر الانسان، ولمأزق الحياة الّذي لا يوفّر إجابة، فسحر الاستعارات العالية في قوله: يراعَ الحقيقيّةِ، وحبر المنى، ولِلْقَلَمِ مَعنًى ومَبْنًى ومغنى.. تقف أمام هذه القصيدة العذبة، وتغوص في أعماقها في قراءة ثانية وثالثة، وتعود أدراجك مشبعًا بملكوت الشّعر مُسلّمًا، آمنتُ بك أيّها الشّعر رافعًا صوت الذات.. "وأنا ما أنا سوى مُضغةٍ للفنا".
وفي قصيدة نورانيّة عالية يقول: قَمرٌ يذوبُ بِخمرتي ويصير بعدَ السُّكرِ أفعى/ في كُلِّ ثوبٍ صورِةٌ تسمو كنارٍ حينَ تسعى/ صارتْ إذا عصفَ الجموحُ غزالةً في الصَّدرِ ترعى/ وترِفُّ فوقي رايةً قد أمعنَت بالعَتمِ لمعا/ تشتدُّ مثل الموجِ دفعًا زادها الملّاحُ قمعا...
ويظهر التّناص الدينيّ واضحًا في أفعى ويسعى (فإذا هي حيَّةٌ تسعى)، ناهيك عن الصّورة الشّعريّة في كلّ بيت، والتّناص أيضًا في وثيقة قريش، ومقاطعة المسلمين، والأرضة الّتي أكلت الوثيقة المعلقة في الكعبة، وهذا يدلّ على ثقافة الشّاعر، فمن لا يمتلك مثل هذه الثقافة، لا يستطيع الولوج الى أعماق القصيدة وفهمها: إنّ في عينيْك حُزنًا ودموعًا مُتعَبَة/ سَفَرًا لا ينتهي/ وتراويد عروسٍ للفنا مغتَرِبَة/ ... / عربيًّا جاسَ في إيوان كسرى/ لبوةً تحنو على ظبيٍ يتيمٍ/ في الفلا ذي مسغَبَة/ إنَّ في عينيكَ عينَيْ أَرَضَة/ قرضَت صكَّ قريشٍ/ غير "بسم الله"/ لم تبقِ عيونُ الأرَضَة
*كتب د. عمر عتيق دراسة عميقة حول التناص في ديوان من سرق السماء يمكنكم العودة إليها
مداخلة علي هيبي الناطق الرسميّ للاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل: الاتّحاد القطريّ– الكرمل ومؤسّسة محمود درويش– الجليل، شوكة في حلق قانون القوميّة وقانون الولاء للثقافة الصهيونيّة. نرحّب بكم جميعًا باسمي وممثّلًا للاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين– الكرمل ومؤسسة محمود درويش للثقافة والإبداع– الجليل، وأنتهز هذه الفرصة لتقديم جزيل شكرنا لهذه المؤسّسة ولمديرها الكاتب عصام خوري، لأنّها فتحت مصراعيْها للاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين، وكانت لنا البيت والمقرّ المؤقّت الذي يحتضن جزءًا كبيرًا من اجتماعاتنا الدوريّة، وجزءًا من نشاطاتِنا الثقافيّةِ والأدبيّة، مع أنّ البحث الدؤوب عن مقرٍّ دائمٍ للاتّحاد القطريّ، ممّا يشغل بالنا دائمًا، ومستمرّ.
هذه المؤسّسة التي تأسّست بعد وفاة الشاعر الفلسطينيّ الكبير محمود درويش وحملت اسمه، وفاء منّا لشعره ونضاله ومسيرته الإبداعيّة والسياسيّة على مدى عقود من الزمان. لقد أخذت المؤسّسة هذه، والتي أتشرّف بكوني عضوًا في إدارتها، أخذت على عاتقها نشر التراث الدرويشيّ كافّة ونشر الثقافة الوطنيّة والأدب الفلسطينيّ للحفاظ على الذاكرة والهويّة وتعزيز الانتماء الوطنيّ والإنسانيّ.
أمّا اتّحادنا، الاتّحاد القطريّ للأدباء الفلسطينيّين– الكرمل، فقد تأسّس منذ حزيران سنة 2014، وكان تأسيسه لضرورة وطنيّة وثقافيّة وحضاريّة، وكان تأسيسه عبارة عن حاجة ماسّة لملء فراغ أدبيّ وثقافيّ، حيث خلت الساحة الأدبيّة من النشاط والحراك، وأصبح الطمس والتعتيم والتغييب لثقافتنا ولمعالمنا الوطنيّة والحضاريّة هو السائد في هذه البلاد، وأصبح النيل من لغتنا مكانة وهويّة الشغل الشاغل لهذه الحكومة المتطرّفة، وعبر القوانين العنصريّة تارة، وبالممارسات المتطرّفة الرسميّة وغير الرسميّة طورًا. فقانون القوميّة الذي يقلّل من مكانة اللغة العربيّة وقانون الولاء الثقافيّ للفكر الصهيونيّ ولأسس قيام الدولة العنصريّة، والتضييق على الفنّ والأدب الإنسانيّ والاعتداء على المعالم الوطنيّة والمعابد الدينيّة وغيرها، وإفراغ شخصيّتنا من مكوّناتها الثقافيّة العربيّة ومضامينها الحضاريّة الإنسانيّة ونشر العدميّة الثقافيّة لدى أبناء شعبنا، وبخاصّة الطلّاب والأجيال الشابّة، وجعلهم يتربّون على الخدمة المدنيّة التي تقود في نهاية المطاف للارتباط بأجهزة الأمن المختلفة التي تقمع شعبنا بالاحتلال والاستيطان يمارس ضدّ شعبنا التمييز العنصريّ وعدم القبول بمبدأ المساواة. وآخر ما أفرزته هذه العقليّة والممارسة إزالة النصب التذكاريّ للكاتب الفلسطينيّ غسّان كنفاني، ابن عكّا الأصيل والحقيقيّ، ومن اقتلع كنفاني إنسانًا ونصبًا تذكاريّا يسكن في عكّا، ولكنّه بالتأكيد ليس أصيلًا ولا حقيقيًّا منها.   
لقد جاء تأسيس اتّحادنا كضرورة وطنيّة ملحّة، ينشّط الحركة الثقافيّة ويصون الهويّة الوطنيّة والشخصيّة العربيّة، ويرفع من مستوى الحراك الأدبيّ عبر تنظيم الأدباء والحركة الأدبيّة والعمل على اتّساع رقعة الفعل التثقيفيّ، ليشمل كافّة الشرائح ويدرأ عن أبنائنا وطلّابنا في المدارس خطر العدميّة والميوعة وضياع الهويّة وتشويه الانتماء. ولذلك كان نشاطنا في المدارس مكثّفًا، فقد زرنا عشرات المدارس من الرملة العربيّة إلى وادي الحمام العربيّ، وجاء تكثيفنا للندوات والأمسيات والمشاركات الثقافيّة سادًّا فراغًا كبيرًا، وأصدرنا "شذى الكرمل" هذه الفصليّة التي رأت النور في زمن شحّت بل انعدمت المجلّات التي تنقل الأدب الفلسطينيّ المحلّيّ والثقافة الوطنيّة الملتزمة، وقد فتحت صفحاتها أمام الأقلام من شعبنا الفلسطينيّ وعالمنا العربيّ، وإيمانًا بدورها لم يقتصر كتّابها على أعضاء الاتّحاد، ومن هذا الباب نسعى دائمًا إلى تطويرها ورفع مستواها قلبًا وقالبًا.
المؤسّسة والاتّحاد يسعيان دائمًا لتنفيذ هذه البرامج والأمسيات، ونعود ونكرّر أنّنا مستعدّون للتعاون مع أيّ طرف أو منتدى محليّ أو مدرسة أو هيئة أو جمعيّة أو مؤسّسة أو مجلس محلّيّ، لتنفيذ برامج وفعاليّات ثقافيّة وأدبيّة وفنيّة هادفة وملتزمة، وندعو أيّ عضو من الاتّحاد أن يبادر إلى ندوة له في بلده حتّى يتسنّى للشرائح الشعبيّة في القرى والمدن التعرّف عليه وعلى أدبه وإنتاجه وعلينا وعلى نشاطاتنا وفعاليّاتنا.
منذ شهور ندأب على إقامة يوم دراسيّ شامل، والآن يُعمل على تفاصيله وتنفيذه، بمبادرة وتنظيم وإشراف عضو الاتّحاد بروفيسور إبراهيم طه مدرّس الأدب العربيّ في جامعة حيفا.
ومن باب الاهتمام بأدبائنا والتعريف بهم ورعايتهم نرحّب في هذه الأمسية بالشاعر أحمد فوزي أبو بكر، ابن قرية سالم الواقعة في المرج ما بين العفّولة وجنين، نرحّب به وبإبداعاته في مجال الشعر، والتي ستكون محور هذه الأمسية الجميلة بحضوركم ومشاركتكم، كما نرحّب بجمعيّة أنصار الضاد من أمّ الفحم وبمديرها الأخ محمّد عدنان بركات ونحيّيهم على دعمهم المادّيّ والمعنويّ لشاعرنا أحمد ولكلّ المبدعين الواعدين ولمسيرة الإبداع عامّة في وطننا هذا، الذي لا وطن لنا سواه. كما نرحّب بالأخوة من الضفّة الغربيّة للوطن الشاعرين: الشاعر المبدع حسين حجازي والشاعر المبدع هشام أبو صلاح. ولا أنسى صاحب المداخلة الرئيسيّة لهذه الأمسية الدكتور والأديب المتواضع سامي إدريس من مدينة الطيّبة. وهذه أمسية من عدّة أمسيات أنجزها الاتّحاد القطريّ، وستكون الأمسيات تباعًا وشهريًّا. 
هذه هي مؤسّستنا، هذا هو اتّحادنا سيبقيان سبّاقيْن للحضور في المشهد الثقافيّ والأدبيّ، محرّكيْن للنشاط الوطنيّ والأدبيّ ومستعدّيْن للعمل الدؤوب لما فيه خير شعبنا وتعزيز انتمائه الوطنيّ والحضاريّ بالحفاظ على لغتنا العربيّة وحضارتنا التي لن تغيب شموسها. وسيبقيان شوكة في حلق الفكر الصهيونيّ والرجعيّ والظلاميّ، وسيقفان بالمرصاد ضدّ كلّ من يحاول النيل من حقوقنا ووجودنا وحريّاتنا وتميّزنا وإرادتنا العازمة على التطوّر الدائم والسعي الدؤوب لأخذ الحقوق وليس إلى استجدائها.                 




54
In the windward of isolation pavement
Author: Amal Radwan (Palestinian poet)
Translator: Hassan Hegazy (Egypt)

The unknown that is buried behind my heart
I much fear it condensing illusion
Over the ledges of its cover
I fear it concealing in its soft fine clouds 
the moons of my dream
For fear that the hand of my mind to stretch, 
shaking me ..
Waking me up..
With a cynical blame
from the wandering of my  agonies 
*
How can I grant you my heart now 
 and it was kidnapped by the angels of love
To a space in the open air   
*
How can the vibrations of desires to calm down
when they ripple lightly in the spaces of fantasy?
How and its echo splitting the veil of the will
and stop towards them helpless ..
strayed, out of soul !
*
Ah …!
How miserable is the woman
When she is taken, with constrained desire,
to the dungeon of her impossible dreams..
As if longing is dropping the nymphs of dreams
 in the depths of their  pits
Interbreeding terrible births
Leaving them as love embryos
On their waiting breasts
*
 I may have exhausted you;
With the noise of my thoughts,
With the loudness of my heart
I feel guilty
When I stone you with the needles of my senses
And no sin from me to commit
Only you may just incur and suffer
 from the crime of my judgment   
*
I feel a strange comfort
When I punish you with my revenge
With blemish blame
*
I need you..
With your breeze, I will be my own
And with your dust I will lose my own
So, do not pour the juices of your soul
In the cups of my weakness
Do not pierce the husk of my hopes
I fear you facing its naughty encounter
 So do not wake yearning inside me
 you have drowned it in fast sleep!
*
Will you overwhelm me every time With the moments of your sorrow and   torture,
You may kill fear and suspicion inside me
*
How can I order myself to leave you?
Your heart has occupied me
Your spirit is revealed in the mirrors of my soul
And you are my shadow
Always adjacent to me letter..
My fear..
My kindness..
I am the polished with you / the mortgaged for you
How long I have become a pledge to your charm!
I get frightened when I feel the longing
Clothing me with the dress of sin   
I get terrified, running away
Terrified, getting away 
So as not to suffer in my loneliness
the needles of pain
Do not let me a quiver
In the windward of isolation pavement
Though those breezes have become the solace for me, comforting me, and have made me sleep!

-   Book: A glowing luscious smile
-   (poetry) Amal Radwan (Palestinian poet)- First Edition – 2005
فِي مَهَبِّ رَصِيفِ عُـزْلَـةٍ!/ آمال عوّاد رضوان

الْمَجْهُولُ الْيَكْمُنُ .. خَلْفَ قَلْبِي
كَمْ أَرْهَبُهُ .. يَتَكَثَّفُ وَهْمًا
عَلَى .. حَوَافِّ غِلَافِهِ
أَخشَاهُ يَحْجُبُ بِرَائبِ غَيْمِهِ أَقْمَارَ حُلُمِي
أَنْ تَتَطَاوَلَ يَدُ عَقْلِي
تَهُزُّنِي .. تُوقِظُنِي
بِلُؤْمٍ سَاخِرٍ
مِنْ سَكْرَاتِي الْهَائِمَةِ
كَيْفَ أَمنَحُكَ قَلْبِيَ الْآنَ
وَقَدِ اخْتَطفَتْهُ مَلَائِكةُ الْحُبِّ
 إِلَى فُسْحَةٍ فِي الْعَرَاءِ؟
*
كَيْفَ لَهَا أَنْ تَهْدَأَ ذَبْذَبَاتُ الرَّغَبَاتِ
حِينَ تَتَمَاوَجُ فِي فَضَاءَاتِ الْخَيَالِ ؟
كَيْفَ وَصَدَاها يَشُقُّ حِجَابَ الْإِرَادَةِ
وَتَرْكُنَ حِيَالَهَا عَاجِزًا .. شَارِدَ الرُّوحِ !
*
آهٍ .. مَا أَشْقَاهَا الْمَرْأَةُ
حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغْبَةِ
إِلَى زِنْزَانَةِ أَحْلَامِهَا الْمُسْتَحِيلَةِ
كَأَنَّ الشَّوْقَ يَرْمِي حُورِيَّاتِ الْأَحْلَامِ
فِي سَحِيقِ هَاوِيَاتِهَا
يُهَجِّنُ وِلَادَاتٍ رَهِيبَةٍ
يَتْرُكُهَا أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلَى ثَدْيِ انْتِظَارِهَا
*
قَدْ أَكُونُ أَرْهَقْتُكَ ؛
بِضَجِيجِ فِكْرِي .. بِضَوْضَاءِ قَلْبِي
أَشْعُرُ بِالذَّنْبِ
حِينَمَا أَرْجُمُكَ بِإِبَرِ أَحَاسِيسِي
وَمَا مِن ذَنْبٍ أَقْتَرِفُهُ
سِوَى أَنْ تَتَكَبَّدَ جَرِيمَةَ حُكْمِي
أُحِسُّ برَاحَةٍ غَرِيبَةٍ
حِينَمَا أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي
بِلُؤْمٍ أَبْلَهٍ
أَحْتَاجُ إِلَيْكَ ..
بِنَسِيمِكَ أَكُونُ مَلَكْتُنِي
وَبِغُبَارِكَ أَكُونُ خَسِرْتُنِي
فَلَا تَسْكُبْ عُصَاراتِ رُوحِكَ
فِي كُؤُوسِ ضَعْفِي
وَلَا تَقُضَّ قِشْرَةَ آمَالِي
أَرْهَبُ عَلَيْكَ مُنَازَلَتَهَا الشَّقِيَّةَ
وَلَا تُوقِظْ بِي حَنينًا .. أَغْرَقْتُهُ فِي سُبَاتِ !
*
لَيْتَكَ تَغْمُرُنِي كُلَّ آنٍ
بِلَحَظَاتِ حُزْنِكَ وَعَذَابِكَ
فَقَدْ تَقتُلُ بِيَ الْخَوفَ وَالشَّكَّ
*
كَيْفَ آمُرُنِي أَنْ أُغَادِرَكَ ؟
قَلْبُكَ احْتَلَّنِي
رُوحُكَ تَتَجَلَّى فِي مَرَايَا رُوحِي
وَأَنْتَ ظِلِّي الْمُلَاصِقُ
بِحَرْفِي .. بِخَوْفِي .. بِعَطْفِي
أَنَا الْمَصْقُولَةُ بِكَ / الْمَرْهُونَةُ لَكَ
كَمْ بِتُّ رَهِينَةَ رَوْعَتِك !
أَرْتَاعُ حِينَمَا أُحِسُّ بِالشَّوْقِ
يُدَثِّرُنِي بِثَوْبِ الْإِثْمِ
أَرْهَبُ وَأَهْرُبُ
كَيْ لَا أُكَابِدَ فِي وَحْدَتِي
مَغَارِزَ الْأَلَمِ
لَا تَتْرُكْنِي رَعْشَةً .. فِي مَهَبِّ رَصِيفِ عُزْلَةٍ
رَغْمَ أَنَّ تِلْكَ النَّسَائمَ أَصْبَحَتْ
تَطِيبُ لِي وَتُغْفِينِي !

من الديوان (بسمة لوزيّة تتوهّج- عام 2005)

55


كَمْ بِتُّ أَسْتَجْدِي مُحَالَكِ!


آمال عوّاد رضوان

وَتَتَوَغَّلِيـــــــــــــــــــنَ بِــــــــــــي!؟
يَا مَنْ بِلَوْنِ أَمَانِيكِ
تَشَرْنَقَتْ دوَّامَةُ احْتِرَاقِي
تَـــتَــــشَــــاكَــــى
فِي قَطْرَةِ زَمَنٍ شَجِيٍّ!
***
بشَجَنٍ مُشَاغِبٍ
نَمَّشْتِ عَلَى صَلِيبِي
نَمْنَمَاتِ رُوحِكِ
وَفِي مَكَامِنِ جَنَّتِي!
***
أَنَا مَنْ أَحُومُ
عَلَى شفَتَيْ آهَةٍ
مِنْ عَهْدِ فَقْدِي الطُّوفَان
تَاهَ فِرْدَوْسُ حَرْفِي
فِي غَيْبُوبَةِ غَمَامٍ مَغْمُوسٍ
بِدَوَاةِ حُلُمٍ رَمَادِيِّ الأَجْيَالِ
يُنَاغِي خَتْمَ قَزَحِكِ الْمُقَدَّس!
***
قَرَابِينُ رَسَائِلِي
تَشَدَّقَتْ بِنُورِ الْخَيَالِ
تَرَتَّقَتْ أَرَقًا
عَلَى أَرْفُفِ صَمْتِكِ!
***
ضُلُوعُ أَبْجَدِيَّتِي
تَمَرَّدَتْ .. عَلَى مُرُوجِكِ الزُّمُرُّدِيَّةِ
أَنْبَتَتْ أَجْنِحَةً شَيْطَانِيَّةً
عَلَى مُنْحَنَى رَوَابِيكِ
أَتَهَبُ مَلَكُوتَ الْعَدْلِ فِتْنَةَ انْبِعَاثٍ؟
***
مَا أَشْقَاني
تَخُونُنِي إِلَيْكِ .. خُطَايَ الذَّائِبَةُ!
أَتُرَاهَا جِنِّيَّة سَحَابِكِ
تَرْفُلُ بِمَلاَمِحِكِ الْعَصِيَّةِ
أَم تَلُوذُ بِشَامَةِ حَنِينٍ .. عَلَى خَدِّ غُرُورٍ؟
***
سُحُبِي الصُّوفِيَّةُ
تَسْتَمْرِئُ مَرَاعِيَ الْمَلاَئِكَةِ
أَجْهَشُكِ نُذُورَ صَمْتٍ
أَنَا الْمُكَلَّلُ بِثَرْثَرَةِ الدَّهْشَةِ!
ولَمَّا تَزَلْ كُؤُوسُ أَبْجَدِيَّتِكِ الرَّاعِفَةِ
تُنَادِمُ تَضَرُّعِي
تُشَاكِسُ سَوَاحِلَ فَيْضِي
وَمَا أَنْهَكَهَا فَنَارُكِ !
***
عِصْمَتُكِ.. بَصْمَةٌ بِدَمِي
انْسَابَتْ قُدْسِيَّةُ عُرْيِهَا
فِي جَنَّتِي
عَانَقَتْ تَمْتَمَاتِ جِنّي
وَمَا خَدَشَهَا صَخَبُ ضَوْئِي
***
بِأَجْنِحَةِ طُفُولَةٍ مُعَمَّدَةٍ .. بِمَاءِ الْحُبِّ
رَ~ فْ~ رَ~ فَ~ تْ
تَنْهِيدَتُكِ الْمَزْفُوفَةُ .. بِمَرَاثِي مَلاَئِكَتِكِ
وَ~ حَ~ طَّ~ تْ
عَلَى كَتِفِ تَرْتِيلَةٍ عَاجِيَّةٍ
مَعْقُودَةٍ بِقُوتِ عُمْرِي الْمُرِّ
فِي مَحَافِلِ وَجَعِي الْمُرَفَّهِ!
***
مَشْبُووووبًا
أَبْحَرْتُ عَلَى مَتْنِ أُمْنِيَةٍ
وعَرَائِشُ الْمَاءِ
تُوَشْوِشُ نَوَاعِيرَ اشْتِعَالِي
بِشَذَاكِ الْغَضِّ!
***
توَسَّدْتُ شِرَاعَ أُفُقُكِ النَّدِيِّ!
تَسَرْبَلْتُ مَاءَكَ .. طَلاَسِمَ وِشَاحٍ
وَطُفْتُ بِحَلَقَاتِ مدَادٍ زِئْبَقِيٍّ
أُنْصِتُ لِشَفَافِيَّةِ جَنَائِنِ قُرُنْفُلِكِ!
أَأَفْتَرِشُ صَدْرَ سَمَاءٍ تَكَدَّسَتْ بِنَقَائِكِ
وَمَا اتَّسَعَتْ لابْتِسَامَاتِ رَبِيعِي؟
أَصَابِعُ لَوْزِكِ اسْتَأْثَرَتْ.. بِرِهَامِ فَيْحَائِي
وَانْهَمَرْتُ ضَحِكًا فَيْرُوزِيًّا!
مَزْهُوًّا؛
تَوَلَّهْتُ بِتَسَابِيحِ مُرَاوَغَتِكِ
وَاتَّكَأْتُ عَلَى فُسْحَةِ لِحَاظِكِ
تُلَألِئُنِي
وَتَلْهَجُكِ بَسَاتِينُ وَقْتِي!
***
عَرّيْتِ أَنْفَاسَ صَمْتِي
بِإِغْوَاءَاتِكِ الْمُقَدَّسَةِ
وَعُنْوَةً
انْسَدَلْتُ انْثِيَالَاتٍ تَتَوَهَّجُ
علَى عَتَبَاتِ غَمَامِ الْحُرُوفِ!
***
أَيَا وَجْدِي الصَّاخِبُ
كَمْ بِتُّ أَسْتَجْدِي مُحَالَكِ!
فِي حُقُول الْكَلاَمِ
تَعْصِفُنِي رَيَاحِينُكِ
أَتَــــسْـــــتَــــــمْـــــرِئُـــــنِـــي
سُحُبِي الْـــتَجْهَشُكِ
زَخَّاتٍ أَبَدِيَّةِ الضِّيَاء!؟

56
إصْدَارُ ديوان- أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِك؟
(كُنْ عَظِيمًا، لِيَخْتَارَكَ الْحُبُّ الْعَظِيمُ..) .. مي زيادة
هذا ما استهل به الناقد العراقي علوان السلمان مقدمته التي جاءت بعنوان رَسَائِلُ وجْدَانِيَّةٌ لديوان "أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِك؟" رَسَائِلُ وَهِيب نَدِيم وِهْبِة وآمَال عَوَّاد رضْوَان، والصادر في الثامن من أكتوبر 2018 عن دار الوسط للنشر في رام الله.
يتألف الكتاب (أَتُـخَـلِّـدُنِـي نَوَارِسُ دَهْشَتِك)، والذي صمم غلافه بشار جمال، من 36 رسالة، منها 18 رسالة للأديب وهيب نديم وهبة، و18 رسالة ردًّا عليها للشاعرة آمَال عَوَّاد رضْوَان، في كتاب من القطع المتوسط بواقع 186 صفحة . 
وقال الناقد علوان السلمان في مقدمته:
إنَّ بثَّ الوجدانِ بعوالِمِه المُؤطّرةِ بشغفٍ على ورقِ القلبِ وحِبرِ الوجْدِ يعني؛ تحقيقَ الرّسالةِ لطرفٍ يَحتلُّ مديّاتِ الرّوحِ، بصِفتِها النّاطق الكلميّ المُعبّر عن المشاعر والأحاسيسِ، والمُترجِم المرئيّ للعواطفِ، المُستنِدِ على منهَجٍ اجتماعيٍّ ونفسيٍّ ووصفيٍّ، موجزٍ بعباراتِهِ، وبُعدِ مُفرداتِهِ عن القاموسيّةِ والتّقعُّر.
  لقد شهدَ فنُّ الرّسائلِ نهضةً واضحةَ المَعالم، إذ إنّ مُسايرَتَهُ لحركةِ العصرِ الّذي وُسِمَ بعصرِ السُّرعةِ، وكانَ تَطوُّرُهُ في المحتوى والأسلوبِ، حتّى صارَ صناعةً ذاتَ قواعد وأصول، وأخذَ يستمدُّ أهمّيّتَهُ وقيمتَهُ مِن أمريْن أساسيّيْن: الخصائص والوظائف..
لقد ميّزَ صاحبُ الصّناعتيْن ما بينَها وبينَ الخطبة، كونَهُما نصّان مُتشاكلان، (إذ إنّهما كلامٌ لا يَلحقُهُ وزنٌ ولا تقفيةٌ، وقد يتشاكلانِ مِن جهةِ الألفاظِ والفواصلِ، فألفاظُ الخطباءِ تُشبهُ ألفاظَ الكُتّابِ في السّهولةِ والعذوبةِ، وكذلكَ فواصلُ الخُطبِ مثلُ فواصلِ الرّسائلِ، ولا فرقَ بينَهما إلّا في:
(الخطبةُ يُشافَهُ بها.. والرّسالةُ يُكتَبُ بها..)
وسواءً طالتْ الرّسائلُ أم قصُرَتْ، تبقى قطعةً فنّيّةً مُؤثّرةً دافعةً إلى استجابةِ المَشاعرِ لها، فنصُّ أبو هلال العسكريّ يعتمدُ آليّةَ المُقارنةِ المُضْمَرةِ، كوْنُهُ يَستحضِرُ جنسَ الشّعرِ، باعتبارِهِ المِعيار الّذي يَحتكمُ إليهِ في كلِّ عمليّةٍ تجنيسيّةٍ، فجنسُ الرّسائلِ ليسَ مُجرّدًا عن مضمونِهِ الكاشِفِ عن تأمُّلاتٍ نفسيّةٍ وعاطفيّةٍ، بل عادَ وثيقةً أدبيّةً تُعلنُ عن دواخلِ الذّاتِ الإنسانيّةِ، واشتغالاتِها الحالِمةِ باعتمادِ التّكثيفِ والإيجازِ، معَ ابتعادٍ عن التّكلّفِ، والمُبالغةِ والاستطرادِ، بتوظيفِ الأساليبِ البلاغيّةِ (مجاز/ استعارة/ كناية..)، وكلّ هذا يتطلّبُ ثقافةً معرفيّةً، وصياغةً مُتقنةً بليغة.
  وَهِيب نَدِيم وِهْبِة يقول:
آمَال؛ كُلُّ الْمَسَافَاتِ فَوْقَ وَطَنِ الْكَلِمَاتِ قَرِيبَةٌ، لِهذَا أَوَّلُ الْوَرْدِ أَنْتِ! أَنْتِ تَمْنَحِينَ لِلْإِبْدَاعِ قِيمَةً وَوُجُودًا وَكَيَانًا، بِتَوَاصُلٍ يَمْنَحُ الْحَيَاةَ قِيمَةً وَمَعْنًى، وَحَقِيقَةً أَدَبِيَّةً إِنْسَانِيَّةً، وَإِنَّنَا مَا نَزَالُ نَحْيَا الْمُعَانَاةَ، هذَا الشُّعُورُ الَّذِي يَجْمَعُ مَا بَيْنَ الْقَارِئِ وَالْمُبْدِعِ فِي بَوْتَقَةِ الْحَيَاةِ".
دَعِينِي أُهْدِيكِ أُغْنِيَةً؛
إِلَيْكِ.. وَإِلَى "سَلَامِي لَكَ مَطَرًا" لِلشَّاعِرَةِ آمَال عَوَّاد رِضْوَان:
مَا بَيْنَ زَغَبِ الْيَمَامِ وَطُيُورِ الْغَمَامِ..
غَزَالُ الْكَرْمِلِ الرَّاكِضِ.. مِنْ عَيْنِ "أُمِّ الشَّقَفِ"..
إِلَى مَرْجِ بْنِ عَامِر.. إِلَى سَهْلِ حُورَان.. 
أَمَا قُلْتُ..
هِيَ.. عَوْدَةُ الصَّيَّادِينَ مِنَ الْبَحْرِ عِنْدَ الْفَجْرِ؟
هِيَ.. صَرْخَةُ الْحَصَّادِينَ.. فِي الظَّهِيرَةِ فِي عِزِّ الْحَرِّ؟
هِيَ.. قِنْدِيلُ الْعَاشِقِ فِي ضَوْءِ السَّهَرِ؟
أَلَيْسَتْ أُغْنِيَةً.. تَنْبَعِثُ مِنْ بَيَاضِ الْوَرَقِ فِي عِطْرِ الشَّوْقِ؟
هَا أَنْتِ قَصِيدَةٌ.. تَمُوجِينَ.. مِثْلَ زُرْقَةِ الْبَحْرِ الْكَبِيرِ!
وَأَعُودُ لِلشِّعْرِ.. وَلِلْبَحْرِ
لِأَمْوَاجِ الْكَلِمَاتِ .. فَوْقَ بَيَاضِ الزَّبَدِ
لِهذَا النَّهْرِ الَّذِي .. يَخْتَارُ جِهَةَ الْفِكْرِ
لِمَصَبِّ النِّهَايَاتِ.. فِي خَوَاتِيمِ الْبَرِّ الْكَبِيرِ؛
"الْحَيَاةْ"!
لِعَصَافِيرِ الشِّعْرِ الَّتِي.. تَطِيرُ الْآنَ مِنْ أَوْرَاقِي!
سَأَكْتُبُ إِلَيْكِ أُغْنِيَةً.. وَفِي الْقَلْبِ "سَلَامِي لَكِ مَطَرًا"
آمال عوّاد رضوان تردّ:
أُسْتَاذِي وَهِيب نَدِيم وِهْبِة.. حَقًّا؛ تَنَعَّمْتُ بِلَذَائِذِ أُغْنِيَتِكَ، أَقُولُ بِمِلْءِ شُكْرِي الْعَمِيق:
عَلَى ثَرَى أَثِيرِي.. حَطَّتْ عُصْفُورَةُ ضَوْءٍ
تَهُزُّ عَرْشَ أَسَاطِيرِي!
مِنْ ذَاكَ الْمَدَى.. رَفْرَفَتْ.. هَلَّتْ وَهَلَّلَتْ
تُنْبِينِي.. بِهَدِيَّةٍ مَخْتُومَةٍ .. بِعِطْرِ الشِّعْرِ
مُظَلَّلَةٍ بِوَحْيِ حَرْفِي.. "سَلَامِي لَكَ مَطَرا".. ؟!
كَشَذَى بَتُولٍ خَاشِعٍ.. لَفْتَتُكَ الْمَلَائِكَيَّةُ
دَغْدَغَتْ سُحُبِي.. عَذْبَةَ الْجُرُوحِ
بِأَرِيجِ أَجْنِحَةِ السَّمَاءِ.. تُكَلِّلُ رُوحِي
وَأُفُقِي الشَّفِيفُ.. مَا انْفَكَّ يَنْضُجُ رَهْفَةً
عَلَى ضِفَافِ شُكْرٍ.. لِهَدِيَّةٍ تَغْلُو بِالشِّعْرِ تَرَفًا!
وَتَظَلُّ عَقَارِبُ الْأَيَّامِ ضَبَابِيَّةً..
تُمَاحِكُ سُوَيْعَاتُهَا ثَوَانِيهَا
لِتَخْتَالَ خُطَى الْبَهْجَةِ .. عَلَى بِسَاطِ الْغِبْطَةِ!
بِمُنْتَهَى حَرَارَةِ عَفَوِيَّةِ طِفْلٍ.. تَكَمَّشَ بِرَاحَةِ يَدِي
كَمَنْ يَقْبِضُ.. عَلَى مَاسَّةٍ زِئْبَقِيَّةٍ
يَخْشَى أَنْ تَنْزَلِقَ.. تَزُوغَ مِنْ أَنَامِلِهِ؟
وَبِجُنُونِ سَعَادَتِهِ الْبَاعِثِ
عَلَى إِرْبَاكِي .. عَلَى دَهْشَتِي
عَنْ صَهْوَةِ التَّحَايَا .. يَتَرَجَّلَ حَيَاؤُهُ الْجَهُورِيُّ!
نَبْضُ قَلْبِهِ يَتَهَدَّجُ.. عَلَى مَسَامَعِ الْحُضُورِ
وَمَا دَرَى .. أَنَّنِي ابْنَةُ بَلَدِهِ الْمَبْتُورِ!

الرّسالتانِ مُكتظّتانِ بالحقولِ الدّلاليّةِ المُكتنِزةِ بالعاطفةِ الّتي احتضنَتْها ألفاظٌ شفيفةٌ مُتميّزةٌ بِرقَّتِها وعذوبتِها، مع بُنْيَةٍ تتجاوزُ القوالبَ الجاهزةَ والهيكليّةَ الثّابتة، وهي تُعبّرُ عن نصوصٍ وجدانيّةٍ تَكشفُ عمّا يَختلجُ المُرسلَ لكلا الطّرفيْن (العاشق والمعشوق)، لبثِّ لواعجِ الشّوقِ، لتحقيقِ التّواصُلِ والوِصالِ واختصارِ المسافاتِ، عبرَ نثريّةٍ مُوجَّهةٍ بصياغةٍ وجدانيّةٍ مُمتعةٍ بتَوارُدِ الخواطرِ فيها، لتغدُوَ قطعةً فنّيّةً موجزةً مُؤطّرةً بإطارِ (الحُبّ) الخارجِ عنِ الذّات، مُؤثّرةً دافعةً إلى استفزازِ الذّاتِ الآخر، وتَحريكِ مشاعرِهِ للاستجابةِ لها..
     وَهِيب نَدِيم وِهْبِة يكتب:
آمَال؛ عُصْفُورَةُ الْحَنِينِ تَنْقُرُ شُبَّاكِي؟!
مَا بَيْنَ الْبَحْرِ "اللُّغَةِ" وَشُعَاعِ الْفَوَانِيسِ
تَحْمِلُ كَلِمَاتُكِ الرَّقِيقَةُ النَّاعِمَةُ.. غِنَاءَ عُصْفُورَةِ الصَّبَاحِ!
رِسَالَتُكِ الْعَائِدَةُ إِلَى الْجَبَلِ الْكَرْمِلِيِّ الشَّامِخِ تَقُولُ:
أَنْتِ الشَّامِخَةُ الْعَالِيَةُ.. أَنْتِ الْغَالِيَةُ الْمُبْدِعَةُ الرَّائِعَةُ
كَيْ تَزْرَعَ الدُّنْيَا "حَدَائِقَ الشِّعْرِ"
كَيْفَ سَقَطَ الطَّيْرُ فِي يَدِي؛ (الْكِتَابُ)؟
لِمَاذَا أَقُولُ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاءِ تَفْقِدُ الْكَثِيرَ حِينَ تُقَالُ؟
إِنَّ غُمُوضَ الْبَحْثِ عَنِ الْمَجْهُولِ، مُخَيَّلَةُ الْقَادِمِ الْآتِي تَكُونُ بِالرَّمْزِ، بِالْإِشَارَةِ، فَالدِّينُ وَحْيٌ، وَالْكِتَابَةُ إِلْهَامٌ وَهَذَيَانٌ، وَحِينَ نُفَسِّرُ سِرَّ الْكِتَابَةِ، نَفْقِدُ رَعْشَةَ الْإِحْسَاسِ، وَحِينَ نُفَسِّرُ سِرَّ الْحَيَاةِ، نَفْقِدُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّنَفُّسِ، وَنَفْقِدُ سِرَّ الْحَيَاةِ، هذَا الْحَنِينَ الْعَتِيقَ الْغَامِضَ الَّذِي يَشُدُّ الْإِنْسَانَ لِلْبَقَاءِ.
آمال عوّاد رضوان تردّ:
يُسْعِدُنِي أَنْ أَفْتَرِشَ وَإِيَّاكَ بَعْضَ زَغَارِيدِ الْآمَالِ لِعَرُوسِ الْكَرْمِلِ الْخَلَّابَةِ، نُرَاقِصُ مَوْجَهَا، وَيُعَطِّرُ مَسَامَاتِ الرُّوحِ رَذَاذُ لْيَلِهَا، نَرْتَشِفُ أَثِيرَ هَوَاهَا، وَتَتَلَمَّظُ دِمَاءَنَا كُرُومُ غُرُوبِهَا الْعَابِقِ بِعِشْقِهَا.
الشَّاعِرُ وَهِيب نَدِيم وِهْبِة؛ دَعِ الْخَيَالَ يَجُولُ وَيَصُولُ فِي بَرَاحِ سَكْرَتِهِ الْمُتَيَقِّظَةِ، دُونَ أَيِّ تَصْرِيحٍ أَوْ جَوَازِ سَفَرٍ يَتَسَكَّعُ عَلَى الْحُدُودِ، فَتَهَلَّلْ/ لِنَتَهلَّلَ بِتَهَالِيلِكَ الْعَذْبَةِ.


57
الطبيعة البنائيّة في قصائد -رحلة إلى عنوانٍ مفقود- لآمال عوّاد رضوان!
بقلم الناقد: د. منير توما
يقول أدونيس مُوضّحًا معنى الكلمة في الشّعر: "إنّ للكلمة عادة معنى مباشرًا، ولكنّها في الشّعرِ تتجاوزُهُ إلى معنى أوسع وأعمق، فلا بدّ للكلمةِ في الشّعرِ مِن أن تعلوَ على ذاتِها، وأن تزخرَ بأكثرَ ممّا تعِدُ به، وأن تُشيرَ إلى أكثرَ ممّا تقول".
هكذا كانت كلماتُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في مجموعتِها الشّعريّةِ "رحلةٌ إلى عنوانِ مفقود"، فالكلمة في الشّعر وفقًا لأدونيس، ليست مجموعة متآلفة مِن الأصواتِ، تدلُّ اصطلاحًا على واقعٍ أو شيءٍ ما، وإنّما هي صورة صوتيّة وحدْسيّة، وهذه المعاني نلمسُها في قصائدِ المجموعة الشعريّة هذه، ومعظم القصائد فيها مبنيّة على أساسِ الرّجل للأنثى، باعتبار الرّجل أو الذكر عاشقا للمرأة، أو الأنثى موضوع الخطاب الشعريّ، حيث يتمثّلُ المشهدُ في هذهِ القصائدِ في سيطرةِ نمطِ القصيدةِ الغنائيّة، على مُجملِ تجربةِ شاعرتِنا هنا، فالقصيدة لديها تقولُ بوْحَ الذات، همومَها، صدْمَها إزاء الآخر، وما إلى ذلك مِن خصوصيّاتِ الإنسان العاشق والمعشوق.
ولعلّ القضيّة الرّئيسيّة التي تُثري قصائدَ المجموعة سيطرةُ ضميرِ الأنا، وبالتّالي، القصيدة الغنائيّة في مُجملِ المشهدِ الشّعريّ عندَ آمال، إنّما يتمثّلُ في تضخيمِ أنا الشّاعر، لتصيرَ هي المرجعُ الرّئيسيّ لكلّ شيءٍ وهي الحَكَمُ والحالة، وبالتالي، دورانُ ثيمات النّصّ حولَ ذاتِ الشّاعرة، ممّا يُقلّلُ مِن إمكانيّةِ التقاطٍ جمعيّ، لأن الذات لا ترى إلاّ خصوصيّتها وخصوصيّة وعيِها وموقفِها، باعتبار هذا الوعي وهذا الموقف هما الحقيقة الوحيدة المقبولة، وتظلُّ عندَها مهارةُ الشاعرة في البناءِ، وفي التقاطِ اليوميّ وإعادةِ توظيفِهِ، وبناءِ التّفاصيلِ عبْرَ انزياحاتِ اللغة، وعن طريق الصّورةِ الشعريّة ما يُميّز شاعرتنا في هذا الإطار، فالكلمة الشعريّة نابضة بالعذوبةِ والحيويّة.
ص 21 – كم موجعٌ ألاّ تكوني أنا":
أنوثةً طاغيةً
راقصتُكِ على هفيفِ قُبلةٍ
وفي رحابِ جنّتِكِ المُترَفةِ باعتكافِكِ الأثيريِّ
غزلتُ ملامحَ أصدائِكِ .. بحرائرِ الغوايةِ
أيا ساحرةَ أشجاني
كيفَ تلاشيتُ.. قبلَ أنْ تندهني ملائكةُ الرّوحِ؟
إنّ الأنا في هذا النّصّ الشّعريّ تفرضُ حضورَها على مُجملِ المشهدِ الشّعريّ لدى شاعرتِنا آمال رضوان، ولو حاولنا التوسّعَ فإنّنا نُشيرُ إلى الاقتباس مِن قصيدة "وحدكِ تُجيدينَ قراءة حرائقي" ص 27:
منْ إِبطِ القمرِ
تسلّلتُ أتأبّطُ هلالاً
أطوي أحشاءَ المُزنِ ببطنِ السّحُبِ
وعيني الوعرةُ تطوفُ بفراغٍ نيِّءٍ
تتلمّسُ ظلَّ حوريّةٍ أمتطيهِ إلى سُلّمِ العُذريّةِ!
أيا مالكةَ وحشي المُجَنّحِ
إلى جزيرةِ عفّتِكِ خذي بيدِ ولهي
ذاك حجلي المشبوبُ
منذُ الأزلِ .. حطَّ على فننِ زماني الصّدئِ!
إنّ حضورَ الأنا يأخذ دورَهُ الفاعلُ والمباشر هنا، دون أيّ ايهامٍ بوجودِ امتدادٍ أو بديلٍ للحضورِ الطاغي للأنا، كما تشهدُ قصيدة "طعمُكِ مفعمٌ بعطرِ الآلهة" ص 31 حيث جاءَ في مستهلّها:
كؤوسُ ذكراكِ
حطّمتني على شفاهِ فرحٍ
لمْ ينسَ طعمَكِ المفعمَ بعطرِ الآلهة
وأنا/ ما فتئتُ خيطًا معلّقًا بفضاءِ عينيكِ
ما نضُبتْ علائقي الورديّةُ منكِ
ولا مِن نضرةِ سماواتٍ مرصّعةٍ بانثيالاتِكِ اللاّزورديّة!
فنحن نجدُ في الأسطر الأخيرة مِن هذا النّصّ إحالاتٍ إلى الأنا في مواجهةِ ذاتِها.
قضيّة أخرى تُثيرُها القصائدُ الغنائيّة في هذه المجموعة الشّعريّة، تتمثّلُ نتاجًا لتمركز النّصّ الشّعريّ حولَ الذات، بالتالي تصيرُ الذات بديلاً للموضوع الآخر، هنا يحدث تغييبٌ للموضوعيّ على حساب الذات، ممّا يتسبّبُ في حدوثِ انغلاقٍ للنّصّ على ذاتِه، حيث توظّفُ شاعرتنا هنا العام في همّها الخاصّ، في تركّزها حولَ ذاتِها بلسان الرّجل المُتكلّم، ومِن هنا تبرز قضيّةٌ مهمّة في قصائدِ هذه المجموعةِ الغنائيّة، والمتمثّلُ في غياب "الثيمات" العامّة، ممّا يستتبع بالضرورة استحالة قراءة العامّ مِن خلال الخاصّ، أي أنّ الخاصّ بتمركزِهِ الشّديد حول ذاتِهِ يفقدُ تواصلَهُ مع العامّ.
إنّ الغيابَ الجزئيّ للموضوعيّ العامّ في قصائدِ المجموعة، قد دفعَ شاعرتنا بمهارةٍ وانسيابيّةٍ دافقة إلى تعويض النّصّ في ثيماتها القيميّة العامّة، إلى البحث عن تعويضٍ جماليّ أو فنيّ تمثّلُ في حِرصِها الشّديدِ على إبرازِ الصّورةِ الشّعريّة، والمبالغة في الاعتناءِ بها والتعامل معها باعتبارها هدفًا وليس وسيلة، وكذلك التركيز على الانزياحات اللّغويّة، باعتبارِها لعبة شكليّة أكثر ممّا هي معاناة، علاوة على أنّ الكثيرَ مِن الأنساق اللّغويّة المستخدمة لدى شاعرتنا تتميّز بكثرةِ النعوت أو توالي الصّفات، حيث أنّ مُجمَلَ هذه الصّفاتِ تجيءُ باعتبارِها ضرورةً بنائيّة داخلَ الجملةِ الشّعريّة، يتأثّرُ بها المعنى والمبنى.
ومِن أمثلة هذه الصّفاتِ أو النعوت الواردة في قصائد المجموعة، نسيمُكِ الضّوئيّ، كوخي النّاعس، فضاءاتي الجدريّة، مطرًا عاصفًا ص71، دمعة ملجومة، إبائِكِ الوضّاء ص 75، طيني الباكي، رعودك الذابلة ص 80، فضائِكِ المائيّ، تقشّفي الوثنيّ ص 105، وغير ذلك مِن الأمثلة التي يضيقُ بها المكان لذكرها.
إنّ ما تكتبُهُ آمال عوّاد رضوان في هذه المجموعة قصائدَ عاطفيّة رومنسيّة مباشرة وعالية، بلغةٍ شفّافة رقيقة يحتلّ فيها الخطاب البؤرة، حيث يظلُّ التركيز على ما نقول وليس كيف نقول، وص 71- 73 مِن قصيدة "للوعةِ العتماتِ نذرتُك":
أيا مائيّةَ ابتهالاتي
يا مَن انبجسَ نسيمُكِ الضّوئيّ
واطئًا مُنحدراتِ كوخي النّاعسِ
وهفهفتِ بفضاءاتي الجداريّةِ
تنقشين فراغيَ الوثيرَ بمخالبِ أجنحتِكِ!
يا أنتِ التتّقدينَ مطرًا عاصفًا
وتنداحينَ ريحَ خيالاتٍ على ضفافِ جناني الخوالي!
أنا مَن تأهّبتُ لمصابيحِ روحِكِ
تُشعّني أعراسَ فرحٍ
وفي دُروبِ الولادةِ
تتهجّاني ظلالَ حُلمٍ نافرٍ
لكَمْ وكم وكَم نذرتُكِ للوعةِ العتماتِ!
تعتمدُ الشّاعرة في هذه النّصوص أسلوبَ التقاطِ المَشاهدِ الجزئيّة، عبْرَ تصويرٍ مُباشرٍ في الغالبِ لحدَث، واستخدام الاستعاراتِ الآسرة والمجاز اللّغويّ الواضح، وهنا تبرز مهارة شاعرتنا في اختيارِ وتوزيع المشاهدِ الجزئيّة داخلَ العمل.
إنّ قصائدَ آمال عوّاد رضوان في هذه المجموعة تعتمدُ أفكارًا تصويريّة، فيها كثير مِن الإحساسِ تجري صياغتها بلغةٍ شعريّة، تعتمدُ الصّورة الجزئيّة التي تتكاملُ معًا، لتُشكّلُ مع نهايةِ القصيدة صورة كلّيّة هي القصيدة ذاتها، بحيث تصبحُ الفكرة الرّئيسيّة في القصيدة هي عنوان القصيدة في الغالب.
تمتاز قصائدُ شاعرتنا بالرّغبة في الانطلاق والمغامرة والبحث عن جديد، فهي أقربُ إلى النوستالجيا العاطفيّة الثقافيّة، ويظلّ الشّعرُ في هذه المجموعة أمينًا على جوّ الغنائيّة، بمفهوم بوْح الذات ورؤية الذات، فالآخر في المشهدِ الشّعريّ ما هو إلاّ صورة الذات نفسها، أو ذات الشاعرة تُحاورُ ظلّها الآخر، حتى ولو كان هذا الآخر هو الحبيبة التي تمتزح أو تتداخل دلالتها في قصائد آمال، بين الحبيبة الأنثى والحبيب الرّجل، في مزاوجةٍ لا يكادُ يمكن الفصل بينهما أو تحديدهما. ص 104 قصيدة (عين إبرتي تتثاءبُكِ)
صوتُكِ الممشوقُ بربريٌّ
تربّعَ على عرشِ سهري في ا مْ تِ دَ ا دِ ي
وتوالدَ حريرَ فقدٍ في كفوفِ لوعتي!
كيفَ التفّتْ خيوطُ شقاوتِكِ طوقَ ريحٍ شجيّةٍ تُلملمُني؟
كيفَ جعلتِ أطرافَ ليلِكِ الموصَدِ ملاذَ حُلمٍ؟
صوتُكِ الذّهبِيُّ
بغفلةٍ مِن عينِ قدرٍ تنفّستُ روحَهُ وامتثلْتُ غِيًّا
تريّشْتُ.. وما تريّثت!
خلجاتُكِ أنثويّةُ الصّخبِ
مسّتْ شفتيّ بشهدِ الآلهةِ
صاغتْ دمي تِرياقَ مُتيّمٍ
وما صحوتُ من حُمّى سُكْري النّكتاريِّ
إنّما.. طوتني بركةً سماويّةً في مراتعِ قلبٍ لانَ
وما هانَ ربُّ المكان!
وأخيرًا يتّضحُ لنا ممّا تقدّمَ أنّ شاعرتَنا قد أكثرت من استخدام الصّور والأخيلة والاستعارات، التي طغت بشكلٍ بارزٍ على قصائدِ المجموعة، ممّا يضيفُ إلى الرّصيدِ الفنّيّ لشاعرتنا، وذلك انطلاقا لذكرى تجربة عاطفيّةٍ أو إدراكيّة غابرة، ليست بالضّرورة بصريّة، وكما عرّفها عزرا باوند:  "إنّ الصّورة هي "تلك التي تقدّمُ عقدة فكريّة وعاطفيّة في برهةٍ مِن الزمن، وهي توحيدٌ لأفكارٍ متفاوتة".
أمّا فيما يتعلّق بالاستخدام الطاغي للاستعاراتِ عند شاعرتنا، فإنّ ذلك يُضفي جماليّة على شِعرِها، لا سيّما وأنّ الاستعارة هي بنية مجازيّة أساسًا، والمجازُ يُشكّلُ ركنًا أساسيًّا في الشّعرِ الحديث، هذا المجازُ الذي يُخرجُ "الواقع مِن سياقِهِ الأليف، فيما يُخرج الكلمات التي تتحدّث عنه مِن سياقها الأليف، ويُغيّر معناه فيما يُغير معناها، مقيما في ذلك علاقات جديدة بين الكلمة والكلمة، وبين الكلمة والواقع، مُغيّرًا صورة الكلام وصورة الواقع معّا"، على حدّ تعبير أدونيس.
ورُبّ قائل يقولُ في نهايةِ مداخلتي هذه، إنّني لم أتناولْ شِعر آمال عوّاد رضوان بالتفسيرِ في مجموعتِها الشّعريّة هذه "رحلة إلى عنوان مفقود"، فأجيبُهُ بما قاله الشاعر اللبناني هنري زغيب: "كما الحرّيّة لا تُلمَس والعطرُ لا يُلتقط، هكذا الشعر لا يُفسّر بل يُمارَسُ ويُعاش، تَلقّيهِ في الإحساس به، هو هو تفسيرُهُ بكلّ وضوحِهِ، إنّه انفعال وهنا مزاجيّتُه، ولكلّ انفعالٍ إيقاع، غرابة ونضارة تضمّان كلّ المعرفة وكلّ الكون في مزيج عجيب لا يمكن تفسيرُه".
وهكذا كانت شاعرتنا آمال عوّاد رضوان في مجموعتِها الشّعريّة "رحلة إلى عنوان مفقود" ذاتَ مزاجيّة انفعاليّة إيقاعيّة هادئة، مِن خلال حرّيّة لا تُلمَس، وعطر لا يُلتقط، فلها منّا أجمل التهاني، وأطيبَ التمنيات بالتوفيق والعطاء والإبداع.


58
منتدى الفكر والإبداع في مرايا الأدب والنقد والثقافة!
آمال عوّاد رضوان
أقامَ منتدى الفِكر والإبداع ندوةً أدبيّةً في كليّةِ الناصرةِ للفنون، تناولت الكتابَ النقديَّ "مرايا في الأدب والنقد والثقافة" للدكتور محمد خليل، وذلك بتاريخ 29-8-2018، ووسط حضور نخبويٍّ من شعراءَ وأدباء، وقد افتتحَ اللقاءَ د. محمد خليل بكلمةٍ ترحيبيّةٍ بالحضور، ووقف على بعض الأمور التنظيميّةِ المُهمّةِ التي تخصُّ المنتدى، والنشاطات الثقافيّةِ الجادّةِ الموضوعيّةِ والمدروسةِ في مجالاتِ الفكر والإبداع والثقافة، والأهداف والأدوار المنوطة بهِ في الحفاظ على اللّغة العربيّةِ، وتشجيع الكتابة الأدبيّةِ الإبداعيّةِ، ونشر الثقافة والمعرفة.
تولّت عرافة الأمسيةِ الكاتبة حنان جبيلي عابد، وبعدَ التّرحيب بالحضور وبالمحتفى به وبالمتحدّثين، قدّمت إضاءاتٍ حولَ المُتحدّثين الأدباء: د. فهد أبو خضرة، وسيمون عيلوطي وعبد الرحيم الشيخ يوسف، وقد قدّم د. فهد أبو خضرة محاضرةً بعنوان: إضاءاتٌ نصّيّةٌ حولَ دراسة "وطن العصافير للأديب وهيب وهبة"، وقدّم سيمون عيلوطي بعنوان: كتاب مرايا في الأدب والنقد والثقافة" مشروعٌ رائدٌ لإرساءِ ثقافة نقد النقد في أدبنا المحلّيّ، أمّا عبد الرحيم الشيخ يوسف فقدّم مداخلة بعنوان: الشاعرة فدوى طوقان والآخر اليهودي، ثمّ ختم اللقاء د. محمد خليل بكلمةِ شكرٍ للحضور والمتحدّثين والمشاركين، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة.
جاء في مداخلة العريفة حنان جبيلي عابد: إنّ لد. محمد خليل باعٌ لا يُستهانُ بها من الدّراسات والإصداراتِ القيّمة، في مجال الأدب والنقد والثقافة والفكر. أمّا مشروعُ هذا الكتاب تحديدًا، فهو حصيلةُ عملٍ دؤوب ومستمرٍّ، حول البحث والتنقيبِ عن النّسَق النقديّ والثقافيّ، وهذا بالذات ما ينقصنا، لا سيّما ضمن الواقع الأدبيّ المحليّ، والنقد الأدبيّ والثقافيّ الذي نعيشه في بلادنا، والذي باتَ جليًّا للجميع، افتقادنا لوجود المحرّر الأدبيّ والنقد الأدبيّ والثقافيّ، وهو ما نحتاجُهُ في ظلّ الفوضى العارمةِ التي تجتاحُ أدبنا المحليَّ في الآونةِ الأخيرة، ولم تنشأ فكرةُ هذا الكتاب والدراسات من فراغ، إنّما من إلمامٍ ومثابرةٍ وتعمُّقٍ خاصّ في السّياقاتِ الاجتماعيّةِ، والثقافيّةِ والاقتصاديّة، وحتى السياسية.
وبالإجمال، فإنّ الكتابَ قيمةٌ أدبيّةٌ وثقافيّةٌ ومعرفيّة، وكلُّ مَن يمسكُ بالكتاب، لا بدّ له أن يقرأ ذلك في صفحاته، جنبًا إلى جنب الإهداء المميّز والخاصّ "إلى النادي الثقافيّ الاجتماعيّ طرعان، وقد أوشكَ الحلمُ أن يصبحَ حقيقة". هنا بالذات يتجلّى الانتماءُ الحقيقيّ للأديب والباحث والناقد، من خلال وضع الحلم موضع التنفيذ.
كذلك اختيارُ العنوانِ كانت له ميزةٌ خاصّة، فللمرآةُ دلالاتٌ ومَعانٍ لها أهمّيّتُها الخاصّة، لِما تعكسُهُ مِن صورٍ للأديب والناقد والقارئ والمجتمع كذلك. فالمرآةُ بطبعِها هادئةٌ واثقةٌ وعاشقةٌ شفّافة، وبما أنّنا نفتقدُ النقدَ الأدبيّ الأصيل، فإنّ الأدب يُعدُّ مرآةً  تكشفُ عن ذاتهِ وعن ذات مبدعهِ، تمامًا مثلما تكشفُ ذاتَ القارئ العاديِّ والناقدِ الأدبيّ الثقافيّ.
من هنا نرى أنّ د. محمد خليل قد اختارَ مقولةَ الكاتب الفيلسوف فرنسيس كافكا 1883: "ليست مهمّةُ الناقد أن يرى الحقيقةَ أو ينقلها، بل أن يكتشفَها".
كتابُ مرايا مقسّمٌ إلى ستة فصول:
القسمُ الأوّل: مَظاهرُ الحياة في فلسطين قبل النكبة. القسمُ الثاني: واقع النقد الأدبيّ قبل النكبة. القسمُ الثالث: مظاهرُ الحياة بعد النكبة. القسمُ الرابع: متابعاتٌ نقديّةٌ وأدبيّةٌ وثقافيّة. القسمُ الخامس: نماذجُ تطبيقيّةٌ في نقدِ الشعر. القسمُ السادس: نماذجُ تطبيقيّةٌ في نقد الرواية.
تُعدُّ هذه الندوةُ لمحة سريعة نسبيًّا، لأنّ د. محمد خليل لطالما بحَثَ وكتبَ في عدّةِ مجالاتٍ أدبيّةٍ ونقديّة، وأغنى مكتبتنا بإصداراتهِ على أنواعِها المتعدّدة.
جاء في مداخلة د. فهد ابو خضرة:
يتّجهُ النقدُ الذي يُكتبُ في أدبنا المَحلّيّ، وفي العالم العربيّ عامّةً، اتّجاهاتٍ ثلاثة: اتّجاها موضوعيّا، واتّجاها يَجمعُ بينَ الموضوعيّةِ والذّاتيّةِ، واتّجاها ذاتيّا. الأوّل يتقيّدُ بالنّصِّ وحدَهُ، مُتناولا جوانبَهُ المختلفة، ومُحأوّلا أن يَكشفَ أبعادَهُ كلَّها، بالاعتمادِ على لغتِهِ ومَبناهُ، ودونَ أيِّ تطرُّقٍ لصاحبِ النّصِّ أو لذاتيّةِ الناقدِ. أمّا الثاني فلا يَتقيّدُ بالنّصّ وحدَهُ، ولا يرى أيَّ مُبرّرٍ لعدمِ التطرُّقِ إلى صاحبِ النصِّ وإلى ذاتيّةِ الناقد. وأمّا الثالث فينطلقُ في الأساسِ مِن ذاتيّةِ الناقد، ويحاول مِن خلالِها أن يَكشفَ أبعادَ النّصّ، وقد يتطرّقُ إلى صاحبِ النصِّ، إذا لزِمَ الأمر.
والاتّجاه الأوّل هو الاتّجاه الذي يهتمُّ بهِ الدّارسونَ، ويَعتبرونَهُ نقدًا حقيقيّا، وكثيرًا ما يُخرجُ هؤلاءُ الدارسونَ الاتّجاهيْنِ الآخرَيْنِ مِن دائرةِ النقدِ، مع احترامي الشديدِ لهؤلاءِ الدارسينَ، وللاتّجاه الموضوعيّ، فإنّني لا ألغي الحاجةَ إلى الاتّجاهيْن الآخريْن، مُؤكّدًا أنّهما قادران، إذا أُحسِنَ استعمالُهما، أن يُقدّما إضاءاتٍ إضافيّةً للنّصِّ، وأن يَكشفا أبعادًا أخرى، لا يَلتفتُ إليها النقدُ الموضوعيّ عادةً.
في هذه الدراسةِ النقديّةِ التي أتحدّث عنها والتي كتَبَها د. محمد خليل، اختارَ الناقدُ الاتّجاه الثاني الذي يَجمعُ بينَ الموضوعيّةِ والذّاتيّة، وسأحأوّل إبرازَ هذا الاتّجاه فيما يلي:
يتناول الدكتور محمد حليل في كتابهِ "مرايا" قصّة "وطن العصافير" للشاعر الأديب وهيب وهبة، فيقرؤُها قراءةً نصّيّةً، مُخصِّصًا لها تسعَ صفحاتٍ مِن كتابهِ (ص234 – 242)، وقد قسّمَ قراءتَهُ لهذهِ القصّة إلى أربعة أقسام:
*في القسمِ الأوّل الذي يتكوّنُ مِن صفحة واحدة (ص 234)، قدّمَ الناقدُ تعريفًا عامًّا بالقصّة والشاعرِ الأديب، وهذا التّعريفُ يتميّزُ بالتقييم الذّاتيّ، إذ قالَ عن القصّة: "يُطلُّ علينا الأديب وهيب وهبة ليُتحِفَنا برائعتِهِ الجديدةِ الموسومةِ بـ "وطن العصافير"، والتي تنضافُ إلى قائمةٍ طويلةٍ مِن نِتاجهِ الإبداعيّ المُتميّز". وقالَ عن الأديب كاتبِ القصّة: "إنّه أديب مبدعٌ، مُرهفُ الإحساسِ والوجدانِ ذو خيالٍ خصب".
وبيّنَ الناقدُ في سياق هذا التقييم، عندَ حديثِهِ عن القصّة، الهدفَ الثاني الذي يَرمي إليهِ الأديبُ مِن خلالِهِ، وهو تحقيقُ السّلامِ والتّعايشِ المنشودِ بينَ شعبَيْ هذه البلاد.
ولأنّ القصّةَ مكتوبةٌ ومنشورةٌ في نسختيْنِ باللّغةِ العربيّةِ والعبريّة، فقد ذكرَ الناقدُ أهمّيّةَ الترجمةِ للتّفاعُلِ بين الثقافات، وللتّبادلِ الحضاريّ، وأضافَ إلى هذه كلمةً قصيرةً عن دوْرِ الفنّ في التّقريبِ بين الأنا والآخر.
وبالرّغم مِن التقييم الإيجابيّ الذّاتيّ المُشار إليه أعلاه، فقد ختمَ الناقدُ هذا القسمَ بالقول: "إنّ المديحَ والإطراءَ المفتعَلَ يبقيانِ أحدَ مُنزلقاتِ النقدِ الأدبيّ، ممّا يدعونا إلى أخذ الحذر، والالتزام بالموضوعيّةِ والحياديّة قدرَ المُستطاع، حمايةً لمقاربتِنا هذا النصّ، وطبعًا، يَصدُق هذا القولُ أيضًا عندَ الحديثِ عن مُقاربةِ أيّ نصٍّ أدبيّ، بحسب الاتّجاه الأوّل، الموضوعيّ.
وقد تحدّث الدكتور محمد خليل عن هذه القضيّة، قضيّة المديح والإطراء في موضعٍ آخرَ مِن كتابهِ (ص167)، حيثُ قالَ: "وغنيّ عن القولِ أنّ كلَّ المُجاملاتِ لا تصنعُ أدبًا ولا ثقافة، ناهيك بما فيها مِن إساءةٍ لحركتِنا الأدبيّةِ والثقافيّةِ معًا، لأنّه كلّما كثُرَ التّزيينُ كثُرَ التّزييفُ، فقليلًا مِن التواضُعِ والموضوعيّة." وهذا في رأيي كلامٌ سليمٌ جدّا، ومِنَ المُهمّ أن يتقيّدَ بهِ نُقّادُنا، أيًّا كانَ الاتّجاهُ الذي  يَختارونَه.
في القسم الثاني الذي يتكوّنُ مِن صفحةٍ ونصف (ص 235 – 236)، بيّنَ لنا الناقدُ ما تطمحُ إليهِ هذه القراءةُ النصّيّة، وهو تقديمُ قراءةٍ تتجاوزُ ظاهرَ معنى اللّغةِ في القصّة، وصولًا إلى باطن معناها. هذه القراءةُ تُحاولُ إنتاجَ النصِّ مِن جديد، وقد أظهرَ الناقدُ هنا، معتمدًا على الغذّاميّ، الفرقَ بينَ قراءةِ الشّرحِ والقراءةِ المُنتِجةِ أو المُضيئة؛ فالأولى تأخذُ مِن النصّ ظاهرَ معناهُ، فتكونُ تكريرًا ساذجًا يجترُّ كلماتِ النصِّ نفسَها، بينما تأخذ الثانيةُ ما وراءَ اللّغة، وصولًا إلى معنى المعنى، لكشفِ ما هو في باطن النصّ، فتكونُ فعلًا إبداعيًّا ومَظهرًا ثقافيّا. وقد توسّعَ الناقدُ عن حديثهِ في قراءتهِ الثانية، وهي دون شكّ، تستحقُّ كلّ توسُّعٍ ممكن، لأنّها كما قالَ عنها: "هي القراءةُ الحقيقيّةُ للنّصوصِ الأدبيّة". ومع ذلك، فإنّنا نقولُ دائمًا إنّه لا بدّ مِن الشّرح أوّلًا، إذا كانَ ظاهرُ المعنى غيرَ واضحٍ، لأنّ فهمَ الظاهر شرطٌ لفهم الباطن.
في القسم الثالث، وهو يتكوّنُ مِن ثلاثِ صفحاتٍ (236 -239)، أشارَ الناقدُ إلى الرّاوي في القصّة، فقالَ: "إنّه راوٍ عليم، كلّيّ المعرفة". ثمّ تحدّثَ عن القصّةِ نفسِها، مُورِدًا أحداثها الرّئيسيّة باختصار، وقد نجحَ في نقل صورةٍ واضحةٍ لهذه الأحداث، وذلك على النّحو التّالي: كانتْ هناكَ غابةٌ تعجُّ بالحياة، وتُنظّمُ فيها الأمور على أحسن ما يُرام، فهي دائمًا نشيطةٌ فرحةٌ مسرورة، وكانت العصافيرُ تسرحُ وتمرحُ في هذه الغابةِ التي هي وطنُها الغارقُ بالجَمال، وكان هناكَ حطّابٌ عجوزٌ يقطنُ على ضفافِ النّهر معظمَ فصولِ السّنة، وبينَ عشيّةٍ وضُحاها انقلبت الأمور رأسًا على عقِب، ممّا اضطرّ العصافيرَ أن تولّي هاربةً، وتغادرَ وطنَها. وتغيّرَ الواقعُ الجميلُ، فتحوّلَ إلى حاضرٍ مؤلمٍ تعيسٍ، وقد لاحظ الحطّابُ ذلك، وأدركَ حقيقةَ الأمر: ها هي الفِيَلةُ تهزُّ جذوعَ الأشجار، وتُسقِطُ أعشاشَ العصافير، والحيواناتُ البرّيّةُ الضّخمةُ الأخرى والتّماسيحُ تأكلُ وتفترسُ كلَّ ما تُصادفُهُ مِنَ العصافير، وتعيثُ في الغابةِ خرابًا وقتلًا وتدميرًا.
بعدَ هذا ربطَ الناقدُ بينَ الأحداثِ وبينَ أحداثِ الواقع الذي عاشَهُ كاتبُ القصّة، وتحدّثَ بشكلٍ عامٍّ عن علاقةِ المُبدع بالواقع، ثمّ انتقلَ ليتحدّثَ باختصارٍ شديدٍ عن تناغُمِ الرّسوماتِ التي أبدعتْها الفنّانة صبحيّة حسن مع مضمون القصّة.
القسم الرّابع يتكوّنُ مِن ثلاثِ صفحاتٍ ونصف (239 -242)، تحدّث الناقدُ  أوّلًا عن الآثارِ السّلبيّةِ التي تركتها الأحداثُ المذكورةُ في الأقسام الثلاثةِ السّابقة، مُبْرِزًا مِن خلالِها ما وردَ في نصّ القصّةِ عن ذلك الواقعِ المُذهلِ والمُؤلم الذي حلَّ بالغابة "وطن العصافير، من قتلٍ وتدميرٍ، وتشريدٍ بالقوّة للعصافير، ومُشيرًا إلى انهيارِ مبادئ الحرّيّةِ والعدلِ وقِيم الحقّ والخيرِ والجَمال، واستبدالِها بالباطلِ والظلمِ والشّرّ والقهر. ثمّ أتبعَ هذا بالموقفِ المُضادّ الُمناهِض لِما حدث، مُعلِنًا أنّهُ لا بدّ مِن إحقاقِ الحقِّ وإعادتِهِ إلى أصحابِهِ، مَهما طرأ مِن تغيّراتِ الزّمان وتحوُّلاتِ المكان. ثمّ نقلَ مِن النصِّ جُملةً رئيسيّةً هامّةً تدعمُ هذا الموقفَ، جاء فيها: "علينا إنقاذ المدينة، وإرجاع الغابة كما كانت". ومِن الواضح أنّ الناقدَ يتماهى مع هذا الموقفِ بشكلٍ كامل.
بعد هذا تحدّثَ الناقدُ عن عددٍ مِن جوانب اللّغة، فبدأ باستعمال الجُملِ الفعليّةِ التي تحملُ دلالةَ الفعل الماضي في الغالبيّةِ العظمى مِن أحداثِ القصّة، مُتوقّفًا عند وظائف الأفعال الماضية والمعاني التي تتعلق بها، كالحركةِ والتّغيير والوصف المتحرّك والخوف والقلق، وربَط هذا بالتأسّي عند الراوي، والشوق إلى الزمن الماضي بكلّ تفاصيلِهِ وأشيائهِ المُلوّنة، حين كلنت الغابةُ تنعمُ بالصفاءِ وبالزمن الجميل. واستعمالُ الفعل الماضي هنا مُبرَّرٌ دونَ شكّ، مَهما كانت القراءةُ التفسيريّةُ التي يختارُها الناقد، فهو المحورُ الرّئيسيّ الذي يدورُ حوله ذهنُ الكاتب، حين ينظرُ إلى المشكلةِ المركزيّةِ في القصّة نظرةً شاملة.
ثمّ انتقلَ الناقدُ إلى الأسلوب الشاعريّ الذي استخدمَهُ، وهو أسلوبٌ يقومُ من جهةٍ على لغةٍ سرديّةٍ بسيطةٍ سهلةٍ وقريبةٍ إلى فهم القارئ، ويقومُ من جهةٍ أخرى على لغةٍ تُماثلُ لغةَ القصّ الحديثِ التي تعتمدُ على الرمز اللغويّ المرتبطِ بالواقع، وهو رمزٌ يتّصفُ بالبساطةِ والسهولةِ، واستغلّ الناقدُ المناسبةَ، فتحدّثَ عن أهمّيّة استعمال الرمز في النصوصِ الحديثة، وعن دلالات عددٍ مِن الرموز المُستخدَمةِ في قصّة "وطن العصافير"، ثمّ أتبعَ هذا بالحديثِ عن النزاع الإسرائيليّ الفلسطينيّ الذي تدورُ حولَهُ الرموزُ كلّها.
ولا بدّ مِن القول إنّ تفسيرَ الرموز هنا وربْطها بمَرموزٍ إليهِ مُعيّن، هو النزاعُ المذكور، يتعلقُ بالقراءة التفسيريّةِ التي اختارَها الناقدُ لهذا النصّ، وهي في نظر النقدِ الحديثِ قراءةٌ واحدةٌ من بين قراءاتٍ عديدةٍ ممكنة، بل إنّ النظريّةَ التفكيكيّةَ تقولُ إنّ القراءاتِ لمثل هذا النصّ يمكنُ ان تكونَ لا نهائيّةً، وذلك لأنّ القراءة تتعلق بالقارئ، والقرّاءُ مختلفونَ جدّا، فكرًا ورؤية وظروفًا وثقافة. وإذا كان أصحابُ هذه النظريّةِ يقولونَ، بناءً على ما ذُكر، إنّ كلَّ قراءةٍ هي قراءةٌ مغلوطة، فإنّني أقولُ إنّ كلّ قراءةٍ يمكنُ أن تكونَ صحيحةً، ولكنّها ليست القراءةَ الصحيحةَ الوحيدة، فهناك دائمًا قراءاتٌ صحيحةٌ أخرى ممكنة.
بعد هذا انتقلَ الناقدُ للحديثِ عن توظيفِ السؤالِ بكثرةٍ في القصّة، باعتبارِهِ مُكوّنًا رئيسيًّا مِن مكوّناتِ القصّة الحديثة. وأودُّ أن أشيرَ هنا إلى أنّ السؤالَ قد شكّلَ مُكوّنًا رئيسيًّا مِن مُكوّناتِ الحداثةِ الغربيّة، إذ ارتبطَ طرْحُ الأسئلةِ فيها بمحاولاتِ التغييرِ الشاملِ للواقع بالإنسان، ولعلّ هذا الارتباطَ الكامنَ في وعي الناقدِ الدكتور محمد خليل هو الذي جعلَهُ يُسارعُ إلى التأكيدِ في الفقرةِ التالية، لما ذُكرَ أعلاه، على أنّ كاتبَ النصّ موضوع الدراسةِ يهدفُ أو يتطلّعُ إلى تغيير الواقع الراهن، وتغيير الإنسان تغييرًا جذريًّا، وإلى الوصول من خلال هذا التغيير إلى بناءٍ جديدٍ، وإن كان افتراضيًّا أو مُتخيّلًا.
في الفقرتيْن الأخيرتيْن مِن الدراسةِ أورِدَ الناقدُ أقوالَ الحطّاب الذي سبَقَ ذِكرُهُ، وهو شخصيّةٌ هامّة مِن شخصيّاتِ القصّة، ثمّ قالّ إنّ هذه الأقوالَ تشي بفكرةٍ جديرةٍ بالاهتمام وتدعو إلى التفكير، وهي إعمالُ العقل وتفعيلُهُ ولا تعطيلُه، وإعمالُ العقلِ هنا يعني التفكيرَ السليمَ في شؤون الواقع المَعيش، وإيجادَ مَخرَجٍ واقعيٍّ منطقيّ للمشكلةِ المطروحةِ في النصّ، وهذا المَخرجُ هو التوجُّهُ نحوَ السّلام، باعتبارهِ نشودةَ الحياةِ ورايةَ الحرّيّة. ويُشكّلُ هذا التوجُّهُ نهايةً للقصّة، يتمُّ فيها تقاسمُ الغابةِ مناصفةً بين المتخاصمين، ويتمُّ التفاهمُ والوئامُ في ربوع الغابة.
ولا شكّ أنّ هذا الحلَّ يَعكسُ موقفًا مُعيّنًا موجودًا عندَ الكثيرين مِن أبناءِ الشعبيْن، كما هو موجودٌ عندَ الأديب وهيب وهبة والناقد الدكتور محمد خليل. ومع أنّ هؤلاءَ الكثيرين يَعتبرونَ هذا الحلَّ إيجابيًّا بالنّسبةِ للنّزاع المَرموز إليه، فإنّ معظمَهم يشعرون في أعماقِهم بأنّهُ حلٌّ افتراضيٌّ متيل، وأنّه مشروط بالتغييرِ الجذريِّ المَذكورِ في القصّةِ والدّراسةِ، وهو تغييرٌ يتناولُ الواقعَ والإنسانَ في هذه البلاد.
ونحنُ مع الشاعر الأديب ومع الناقد نبقى في انتظار هذا التغيير، آمِلينَ أن يبدأ قريبًا، قريبًا جدّا، ومُقدّرينَ تقديرًا كبيرًا كلَّ مَن يُسهمُ في هذا التغييرِ مِن المُبدعينَ والنقّادِ، ورجالِ الفكرِ والإعلاميّين والمُربّينَ والسياسيّينَ وغيرهم، ونحن نقولُ لهم ومعهم جميعًا: تفاءلوا بالخير تجدوه.
جاء في مداخلة سيمون عيلوطي:
تنويه: إنّ "مرايا في الأدب والنَّقدِ والثقافةِ" للدُّكتور محمَّد خليل مشروعٌ رائدٌ لإرساءِ ثقافةِ نقدِ النَّقدِ، وأنوِّهُ بدايةً، إلى أنّ الدكتور محمَّد خليل كانَ قد أصدرَ كتابينِ في ذاتِ الموضوعِ، قبل هذا الكتابِ: الأوّل "نقدٌ على نقدٍ- عام 2007"، والثاني "أوراقٌ نقديةٌ- عام 2014". من هُنا جاءَ كتابُ "مرايا في الأدب والنقدِ والثقافةِ" موضوعُ النَّدوة، (الحلقةُ الثالثة) استكمالًا لمشروعِهِ الذي يبادرُ من خلالِهِ لتأسيسِ ثقافةِ نقدِ النَّقدِ، ويواصلُ الدكتورُ النَّاقدُ محمَّد خليل في كتابِهِ الذي صدرَ حديثًا، بعنوانِ: "مرايا في الأدب والنقدِ والثقافةِ" مشروعَهُ مع النَّقدِ، وسعيَهُ الدَّؤوبَ في معالجتِهِ لحركتِنا الأدبيّةِ والثقافيّةِ، سواءَ كانَ ذلكَ في البحثِ والدّراسةِ، أو من خلالِ محاضراتِهِ التي يقدِّمُها بينَ الحينِ والآخرَ في مختلفِ المنتدياتِ والمراكزِ الأدبيّةِ.
مظاهِر شكَّلت الأدب الفلسطينيّ: لاحظتُ من خلالِ قراءتي لكتابِ "مرايا في الأدب والنَّقدِ والثقافةِ"، أنَّ الدكتور محمَّد خليل يُسلِّطُّ الضوءَ على أهمِّ المظاهِرِ التي مرَّتْ على مشهدِنا الأدبيّ الفلسطينيِّ عبرَ مراحلِهِ التَّاريخيَّةِ- المفصليَّةِ التي تَشَكّلَ هذا الأدب في ظلِّ مُناخاتِها وتطوُّرها، فنراهُ يتوقَّفُ في الفصلِ الأوّل من الكتابِ عند: "مظاهرِ الحياةِ في فلسطين قبلَ النَّكبة"، متطرّقًا إلى "عهدِ الحكمِ العثمّانيِّ" من مختلفِ جوانبِهِ: "السّياسيَّةِ، والأدبيّةِ، وتطوُّر الصَّحافةِ والصُّحفِ العربيّةِ في فلسطينَ قبل الانتدابِ البريطانيِّ". أمَّا في الفصلِ الثاني، فيتناول "واقعَ النَّقدِ الأدبيّ قبل النَّكبةِ" ما يساعدُهُ على الولوجِ في الفصلِ الثالثِ، إلى: "مظاهرِ الحياةِ عامَّةً بعدَ النَّكبة". وتتوإلى فصولُ الكتابِ في سردِ وتحليلِ ودراسةِ الظَّواهرِ الأدبيّةِ، والاجتماعيَّةِ، السّياسيَّةِ والاقتصاديّةِ التي واكبتْ أدبَنا الفلسطينيَّ في تلكَ المراحلِ، فبلوَرَتْهُ وجسَّدتْ مَلامحَهُ، مضامينَهُ، وأشكالَهُ الفنيَّةُ الخَّاصةُ بهُويَّتِهِ التي ميَّزتهُ بنكهةٍ تختلفُ عن النَّكهةِ الأدبيّةِ التي نُحِسُّها في أدب الأقطارِ العربيّةِ، وإن كانَ رغمَ فلسطينيَّتِهِ، يُعتبرُ جزءًا لا يتجزَّأ من مشروعِها الأدبيّ خاصَّة، والثقافيّ، الانسانيِّ عامَّة.
معالجاتٌ نقديَّة: تضمَّنَ الكتابُ بالإضافةِ إلى ذلك، معالجاتٍ نقديَّةً لعددٍ من الأعمالِ الشعريَّةِ والقصصيّةِ، وقد استوقفتْني مِن بينِها دراسةٌ خصَّصَها الباحثُ لروايةِ نجيب محفوظ "حضرة المحترم"، ولعلَّ صاحبَنا الدُّكتور محمَّد خليل أختارَ هذه الرِّوايةَ، لاعتبارِها محطّةً بارزةً في أدب محفوظ، بعد محطَّتيِّ "الطَّريق" و "ميرامار" من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى، ربَّما لأنهُ أرادَ في هذه الدّراسةِ أن يَخرجَ عن الخطِّ العامّ للكتابِ الذي خصَّصهُ للنَّقدِ المحليِّ، ليُدلِّلَ على أنَّ النَّقدَ حين يكونُ موضوعيًّا، فإنَّهُ لا يُفرّقُ في معالجتِهِ بين المحليِّ والعربيّ في أيِّ حال.
الأدب لا يتشكَّلُ من فراغٍ: يؤكّدُ المؤلّف من خلالِ نظرتِهِ الشَّاملةِ، الواردُ ذكرُها آنفًا، أنّ "الأثرَ الأدبيّ، شعرًا ونثرًا، وكذا كلُّ أثرٍ فنيٍّ، لا يتشكَّلُ من فراغ، إنَّما ينشأ مرتبطًا بسياقاتٍ متعدّدةٍ من ذلكَ المنطلقِ"، وبالتَّالي: "لا يحقُّ لأيِّ قارئ أو باحثٍ أو ناقدٍ أن يقرأَ أو يدرسَ نصًّا ما، بمَعزَلٍ عن سياقاتِهِ الاجتماعيّةِ، والثقافيّةِ، والاقتصاديّةِ وحتَّى السياسيَّةِ! فالنّصُ نفسُه، أدبيًّا كان أم فكريًّا، هو بُنيةٌ لغويَّةٌ فنيَّةٌ يُعَبِّرُ عن واقعِ المجتمعِ، وينبثقُ عنهُ". وفي هذا السِّياقِ قالَ أحدُ الأدباءِ ما معناهُ: "إذا أردتَّ أن تعرفَ شعبًا من الشّعوبِ، فاذهب إلى فنونِهِ".
ثقافة نقد النقد: أرى أنَّ هذا الكتابَ يشكِّلُ قفزةً نوعيّةً في قيمتهِ المضافةِ لحركتِنا النّقديَّةِ والثقافيّةِ، لا يَندرجُ مثلَ النَّقدِ الأدبيّ عند البعضِ، تحتَ باب العلاقاتِ العامَّةِ، أو لاعتباراتٍ فئويَّةٍ حزبيَّةٍ، أو لغيرِ ذلكَ من الأمور التي لا تمتُّ للنَّقدِ الموضوعيّ بصلةٍ.                       
مؤلّفُ الكتابِ: يُغامر في الإبحارِ في بحرِ النَّقدِ المنهجيِّ، ليصلَ إلى "نقدِ النَّقدِ": يقولُ بهذا الصَّدد (ص118): "تهدفُ الدّراسةُ إلى الوقوفِ على واقعِ (نقدِ النَّقدِ) في أدبنا المحليِّ، في ضوءِ النَّقصِ الحادِّ الذي تُعانيهِ مسيرةُ حركتِنا الأدبيّةِ والنقديَّةِ. لم يحظَ هذا الموضوعُ إلى الآنَ، باهتمامِ كتَّابِ النَّقدِ الأدبيّ المحليِّ، وخيرُ دليلٍ على ذلك، أنَّ المتتبِّعَ لا يلحظُ وجودَ كتابٍ خاصٍّ بنقدِ النَّقدِ". هذه الدَّعوةُ الصريحةُ لمعالجةِ النَّقدِ بالنَّقدِ، أراها في محلِّها، وأعتقدُ أنَّها سوفَ تُحِدُّ من تلك الفوضى العارمةِ في مجالِ النَّقدِ عندَ البعضِ، والتي أخذت في الآونةِ الأخيرةِ تنتشرُ بشكلٍ لافتٍ، مستغلَّةً سهولةَ النَّشرِ على صفحاتِ مواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ، وبعضِ المواقعِ على الشَّبكةِ العنكبوتيّةِ، وما زادَ الطّين بِلّة في هذا المجال هو: غيابُ المحرّرِ الأدبيّ المختصِّ عن تلك المواقع، وعن صحافتِنا والورقيَّةِ أيضًا.
ماهيَّة نقد النَّقد: حينَ ننظرُ إلى مفهومِ الدكتور محمَّد خليل لنقدِ النَّقدِ، نراهُ يتلخَّصُ في الآتي: "هو نشاطٌ معرفيٌ يقومُ بمراجعةِ الأقوالِ النقديّةِ، كاشفًا عن سلامةِ مبادئِها النّظريَّةِ، وأدواتِها التحليليَّةِ، وإجراءاتِها التَّفسيريّةِ والتَّأويليَّةِ. في ضوءِ ذلكَ الواقعِ تبدو الحاجة ماسَّةً إلى وجودِ نقدِ النَّقدِ، وهذا يتطلَّبُ البدءَ بالتأسيسِ لهذا المشروعِ، لا سيَّما وقد مضى على عُمرِ حركتِنا الأدبيّةِ المحليَّةِ ما يزيدُ عن ستَّةِ عقودٍ، عِلمًا أنَّ العمرَ الحقيقيّ للأدب لا يقاسُ بالزَّمنِ، لكنه بكلِّ تأكيدٍ لا يحدثُ خارجَهُ".
خلاصة: ما تقدّمَ يقودُ الدَّارسَ إلى نتيجةٍ مفادُها، أنَّ: "الطَّريقَ الأمثلَ للنُّهوضِ بالنَّقدِ الأدبيّ، هو وضعُهُ موضعَ النّقدِ والمساءلةِ". من هذا المنطلق؛ اختارَ ناقدُنا أن يسيرَ في مشروعِهِ النَّقديِّ الرَّائدِ نحوَ الاتّجاه الصَّعبِ، وهو: نقدُ النَّقدِ. ومن المؤكَّدِ أنَّه نتيجةً لذلكَ، سوفَ يثيرُ من حولِه زوبعةً من العواصفِ الكلاميّةِ والكتابيّةِ، خاصةً أنَّ ثقافةَ الحوارِ ومناقشةَ الرَّأيِ بالرَّأيِ، لم تتأًصَّلْ بعدُ، في حركتِنا الأدبيّةِ النّقديَّةِ وفي حياتِنا العامّةِ أيضًا. فهل تراهُ إزاءَ هذا الوضعِ، ينجحُ في تحقيقِ مشروعِهِ النَّقديِّ لتأسيسِ ثقافةِ نقدِ النَّقدِ؟!.. أرجو ذلك.   
مداخلة المحتفى به د. محمد خليل:  بيَدِ الشكرِ الموصولِ أصافحُ الإخوةَ والأخواتِ؛ مُتحدّثينَ ومُشاركينَ وحضورًا، ثمّ أقول: الاحتفاءُ بالكتابِ والكتابةِ الإبداعيّةِ مَظهرٌ حضاريٌّ بامتياز. أنوّهُ بدايةً إلى أنّ شهادتي بكتابتي وبكتابي مجروحةٌ لأسبابٍ تعرفونَها. من هنا الرأي لكم أوّلًا وأخيرًا.
يقول العماد الأصفهاني: إنّي رأيتُ أنّهُ لا يَكتبُ إنسانٌ كتابًا في يومِهِ إلّا قالَ في غدِهِ: لو غُيّرَ هذا لكانَ أحسنَ، ولو زيدَ كذا لكانَ يُستحسَنُ، ولو قُدّمَ هذا لكانَ أفضلَ، ولو تُركَ هذا لكانَ أجملَ، وهذا من أعظم العِبَرِ، وهو دليلٌ على استيلاءِ النقصِ على جملةِ البشر.
أبدأ بالعنوان، ففيه ما فيهِ من الإشاراتِ والدلالاتِ والمعاني والأفكار. العنوانُ نصٌّ مُتكاملٌ لكلّ شيء، وهذا بحدِّ ذاتِهِ يَستحقُّ التوقّفَ والنظر. ناهيك بالمحتوى الذي يشتملُ على عناوينَ ودراساتٍ ما، يمكنُ أن تفتحَ أمامَنا نوافذَ نُطلُّ مِن خلالِها على نصوصٍ أدبيّةٍ في النقدِ الثقافيّ، وأخرى ثقافيّةٍ تستحقّ منّا القراءةَ والتوقّفَ عندها، بغيةَ التفكيرِ والتأمُّلِ بتعمُّقٍ ورويّة. أما المتعة الحقيقيّة والقيمة المعرفيّة المضافة، فأتركُ الحكمَ والبتّ فيها لكم.
هنالكَ العديدُ مِن الدراساتِ التي يشتملُ عليها الكتاب، ما يمكنُ أن يشدَّ القارئَ لمقاربتِها شكلًا ومضمونًا. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: محطّاتٌ أدبيّةٌ ونقديّةٌ وثقافيّة في مسيرةِ الحركةِ الأدبيّةِ في فلسطين قبلَ النكبة وبعدَها. مُقدّمة الكتاب "بين يدي الكتاب". كذلك دراسة نصّيّة لرواية نجيب محفوظ "حضرة المحترم".  وقد تجدرُ الإشارةُ في هذا السّياقِ إلى قول ابن العميد في كتب الجاحظ: "كُتبُ الجاحظِ تُعلّمُ العقل أوّلًا والأدب ثانيًا". آمل أن يكون هذا الكتابُ قد قاربَ حدودَ تلك المقولةِ ولو بالقدر اليسير. فشيءٌ خيرٌ مِن لا شيء.
تقولُ د. سلمى الخضراء الجيّوسي: "قلّ ما تجد أديبًا فلسطينيًّا خاليًا من الهمّ الفلسطينيّ". وأنا لستُ بحائدٍ عن هذا الطريق أبدًا.
يقول نورثروب فراي الناقد الكندي: "ليست الكلمةُ الأخيرةُ للناقد الأدبيّ، إنّما لكلّ قارئٍ قراءتُهُ". وفي الختام تحيّة تقدير واحترام لجميعكم وشكرًا.


59
وَحْدَكِ.. تُجِيدِين قِرَاءَةَ حَرَائِقِي!
آمال عوّاد رضوان
مِنْ إِبْطِ الْقَمَرِ
تَسَلَّلْتُ
أَتَأَبَّطُ هِلَالًا
أَطْوِي أَحْشَاءَ الْمُزْنِ .. بِبَطْنِ السُّحُبِ
وَعَيْنِي الْوَعِرَةُ
تَطُوفُ بِفَرَاغٍ نَيِّءٍ
تَتَلَمَّسُ ظِلَّ حُورِيَّةٍ
أَمْتَطِيهِ .. إِلَى سُلَّمِ الْعُذْرِيَّةِ!

أَيَا مَالِكَةَ وَحْشِي الْمُجَنَّحِ
إِلَى جَزِيرَةِ عِفَّتِكِ
خُذِي بِيَدِ وَلَهِي
ذَاك حَجَلِي الْمَشْبُوبُ
مُنْذُ الأَزَلِ
حَطَّ عَلَى فَنَنِ زَمَانِي الصَّدِئِ!

أَنَا يَا ابْنَةَ الْمَاءِ
مَنِ اغْرَوْرَقَتْ دَهَالِيزُ دَهْشَتِي
بِغصَّةِ زَبَدِي
اسْتَغَثْتُ:
أَلاَ هُبِّي نَوَافِيرَ رَمْلِي
اِسْتَحِمِّي بِبُحَيْرَةِ ضَوْءِ حَبِيبَتِي!
كَظَبْيَةٍ دَافِئَةٍ
رَابَطْتِ
عَلَى حُدُودِ انْشِطَارِي
وَعُيُونُ أَصْدَافِكِ تُطَارِدُ رِيحِي!

أَيَا كَآبَةَ فَرَحِي
لِمَ أَلْقَيْتِ .. بِيَاقُوتِ صَخَبِكِ
عَلَى حَوَاشِي كَبِدِي
وَوَلَّيْتِ
تَرْقُصِينَ
تُدَغْدِغِينَ بِقَوْسِكِ الْمَاسِيِّ
شِرْيَانَ غُرُوبٍ يَنْزِفُنِي؟

أَيَا رَاعِيَةَ الْخَلاَءِ
أَنَا مِزَقُ شَرِيدٍ .. اخْتَلَسَتْنِي نَظْرَةٌ
كَلَّلَتْنِي
بِسَمَاوَاتٍ آيِلَةٍ لِلْكُفْرِ
أَغِيثِينِي
لاَ تُثَرْثِرِي رَدْمِيَ الْمَسْفُوكَ
بِمِلْءِ وَرْدِكِ الْمَجْرُوح!

ذَاكَ الْمَسَاءُ
كُنْتُهُ إِلهَ صُدْفَةٍ
وَكُنْتِهِ رَغْوَةَ لُؤْلُؤٍ
كُنْهَ صَدَفَةِ رَبِيعٍ
تَغْشَى شِفَاهَ تَوَسُّلٍ مَزَّقَتْنِي
تَنْدَهُ مِلْءَ الشَّهْوَةِ
أَيَا عَذَارَى الْبَحْرِ
قَدِّمْنَ خُصُلاَتٍ مِنْ أَهْدَابِكُنَّ
قُرْبَانًا لِخَلاَصِي!

أَنَا.. مَا تَصَنَّتْتُ
وَلَا تَلَصَّصْتُ نَهِمًا
بَلْ تَدَارَيْتُ هَفْوَةَ عِشْقٍ انْذِهَالًا
وَمَا دَرَيْتُ
كَيْفَ أَحْلِبُ أَشْطُرَ الدَّهْرِ!

يَا مَنْ أَلْقَيْتِ بِزَخَّاتِ سَطْعِكِ
تَسَـــــــــــــــــابِيــــحَ سَرْمَدِيَّةً
عَلَى فَلْقَةِ قَمَرِي
لمَ غَدَوْتِ مِرْسَاةَ وَجَعِي
فِي لُجَّةِ مَنَامِي
وَمَا انْفَكَكْتِ
تَسْتَبِدِّينَ بِخِيَامِ غَيْمِي؟

هِيَ ذِي شُمُوعُ تَخَوُّفِي أَذَابَتْنِي
ضَجَّتْ بِتَعَارِيجِ غِيَابِكِ
وَمَا تَابَتْ .. فِي سَرَايَا انْطِفَائِي بِكِ.

رُحْمَاااااااكِ
أَضِيـــئِيــــنِي
بَارِكِي سَرْوَةً فِضِّيَّةً
حَاكَتْ أَعْشَاشَ السُّمَّانِ
مِنْ ظِلِّي الْمَنْتُوفِ
اِنْتَعِلِي فُصُولَكِ شَلَّالَاتِ عَفْوٍ
وَحْدَكِ
مَنْ تُجِيدِينَ قِرَاءَةَ حَرَائِقِي



60


نـُعـاسُ السُّـؤالِ تـَنـَغـَّمَ دمْـعًـا


آمال عوّاد رضوان

عَلَى شِفَاهِ الصُّبْحِ
تـَنـَغـَّمَ نـُعاسُ سُـؤالِـكَ دمْـعًـا
مغموسًا في قهوةِ البَوْحِ
وَأَحْلاَمُ نـَدَاكَ
تَـنُوسُ فِي رَنِينِ نَظْرَةٍ
كَمْ زَاحَمَتْ أَسْرَابَ هُتَافٍ
يَجْمَحُ فِي نَكْهَةِ خَفْقَة!
***
أَتَرْصُدُ رَشْفَةَ خَمْرَةِ نَجْمٍ
ذَابَتْ بَرْقـًا
فِي كَأْسِ الأَدْمُعِ؟
***
مَتْحَفُ وَجْدِكَ
يَنْحَتُ خـُطـَاكَ شِعْرًا
كَمْ سَالَ لـُهَاثَ فُتُونٍ
عَلَى نـَهْـدِ الْغـَمامِ
لكِنَّ قِيثَارَةَ حَنِينِكَ
مَا دَاعَبَـتـْهَا أَصَابِعُ صَلاَةٍ
مُنْذُ اشْتَعَلَ
غُمُوضُ الزَّهْر!
***
أَيَا حَارِسَ آذَانِ الْقَوَافِي
لِمْ تـَبـَتـَّلَ صَوْتـُكَ
فِي قـُدْسِ فـَجْـرِهَا
وَبِرَشَاقَةِ بَحْرٍ
أَنْضَجَـتـْكَ مَوْجَ قـُبَـلٍ
يَـشْـتَـعِـلُ اتـِّسَـاعـًا
فِي هَيْكَلِ الأَسْرَار؟
***
قَامَتـُكَ الْمُتوهِّجَةُ
بِصَهِيلِ الزَّنْبَقِ
فَاضَ تـَوْقُ فوْضَاهَا
وَنَبْضُكَ الْمُـثْـقَـلُ
بِمَلَكُوتِهَا
سَمَا بِـطـَوْقِ الضَّوْءِ!
***
أَتَنْقُشُ مَرْجَ عيْنَيْهَا
تَبَاشِيرَ نَشِيدٍ أَزَلِيٍّ؟
***
أَتَسْطُرُ وَابِلَ اسْمِهَا
هَوًى
يُلاَغِفُ ضُلُوعَ الرِّيحِ؟

من ديواني الثالث (رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ- عام 2010)

61
أدب / أَوْتَـارٌ مُتَقَـاطِعَة!
« في: 14:59 24/06/2018  »

أَوْتَـارٌ مُتَقَـاطِعَة!


آمال عواد رضوان

ترجمة: حسن حجازي

أَسْمَاؤُنَا .. تَحْمِلُنَا
إِلَى أَعْمَاقِ مَجْهُولٍ .. يَتَنَاسَلُ!
نَحْنُ.. فِكْرَةُ خَلْقٍ يَتَكَوَّرُ
فِي رَحْمِ الْمُنَى!
*
نُعَايِنُ ظِلَالَ اللهِ
تَكْسُو بِحَارَ الْحَوَاسّْ
تُرْبِكُنَا أَمْواجُ الرَّهْبَةِ
فَنَتَقَوَّسْ
وَبِتَثَاقُلٍ مُهْتَرِئٍ
بَيْنَ تَعَارِيجِ الْحُزْنِ
وَبَيْنَ شَظَايَا الْفَرَحِ
نَتَّكِئُ
عَلَى مَسَاندِ الصَّمْتِ
نَنْكَأُ .. جُرُوحًا تَغْفُو
لِنَنْشُرَ .. سَوَادَ الْأَلَمِ .. حَلِيبًا
يَتَعَشَّقُهُ مِدَادُ الْحَنِين!
*
قَوَارِبُ أَحْلَامِنَا .. تَتَرَنَّحُ خَدِرَةْ
يَـ تَـ نَـا ثَـ رُ هَـا
جُوعُ عَوَاصِفِ الْوَقْتِ الْكَافِرِ
وَفِي دَوَّامَاتٍ .. مُفْرَغَةِ الْحُرُوفِ
وَبِوَرَعِ الضَّوْءِ الْخَافِتِ الْخَافِقِ
نَرْسُمُنَا قِصَصًا .. تَتَلَوَّى لَوْعَةً
فِي قَفَصِ الْبَرَاءَة!
لِبُرْهَةٍ
نُومِضُ بَسَمَاتٍ .. تَرْتَشِفُ دَمْعا
وَتَتَرَشَّحُ .. حَيْرَةً حَيْرَى
مِنْ ثُقُوبِ قَلْبٍ .. يَتَفَايَضُ نُورا
لِوَهْلَةٍ
تَنْثَنِي هَالَاتٌ .. مِنْ أَسْفَارِ الْأَيَّامِ
تَتَشَكَّلُ رَغْوَةَ تَسَاؤُلٍ
عَلَى جَبِينِ الْفُصُولِ!
وَبِخِلْسَةٍ
نَلِجُ أَحْشَاءَ الْعُمْرِ .. بِشَهْوَةٍ
تَعْزِفُنَا أَنَامِلُ نَيْسَانَ 
أُكْذُوبَةً
عَلَى
أَوْتَارِ الذَّاكِرَةِ وَالنِّسْيَانِ الْمُتَقَاطِعَة!


62
الشاعرة آمال عوّاد رضوان أنموذج المثقّف الباحث عن تأصيل هُويّته!!
بقلم: وجدان عبدالعزيز
اليومَ نتحدّثُ عن نموذجٍ ثقافيٍّ تَمثّلَ بالشّاعرة آمال عوّاد رضوان، فهي شاعرة مُبدعةٌ احتلّت مكانةً متميّزةً ومعروفة، لكنّها حثّت الخطى في طُرق الثقافةِ الأخرى، فمثّلت المثقّف الّذي كرّسَ حالةَ المواطنةِ في نفوس شعبهِ، مِن خلالِ مُساهماتِها بتكريسِ حالةِ الانتماءِ للهُويّةِ الوطنيّةِ العربيّة، وذلكَ عن طريق بناءِ سياجٍ، أساسُهُ الوعيُ العالي والرّوحُ التوّاقةُ للسّموّ الحضاريِّ والارتقاءِ بالنّفسِ العربيّة، لكي تتعإلى على الصغائر، وتُهاجرَ كلُّ هفواتِ النّكوصِ والابتذالِ والتّبعيّةِ، وصولًا إلى المحافظةِ على الخصوصيّاتِ الحضاريّةِ المميّزةِ، واليومَ، أتحدّثُ عن واحدةٍ مِن قصائدِها الّتي تجلّتْ فيها روحُ الانتماءِ للآخرِ المُتمثّلِ في الحبيبِ هو الوطن، باعتبارِهِ هُويّة، وكانَ انتماؤُها بمثابةِ روحِ التصوُّفِ والذّوبانِ فيه برومانسيّةٍ؛ ليسَ مِن النوعِ الهاربة، إنّما الرومانسيّة الآيروسيّة الخفيفة، قد تُمارسُ جسديّةً لامرئيّةً أحيانًا، رغمَ أنّها تُحاكي طفلةً سكنتْ في داخلِها، والطفولةُ هي عالمٌ ورديٌّ مُزخرَفٌ بألوانِ قوس قزح الّتي تبعثُ البهجةَ والسّرورَ إلى القلبِ.. عالمٌ سحريٌّ خاصٌّ يتميّزُ بنقاوتِهِ وجَمالِهِ ورِقّتِهِ، عالمٌ مليءٌ بالتّشويقِ والسِّحرِ والغموضِ والعفويّةِ المُطلقةِ، عالمُ البراءةِ الجميلةِ.. عالمُ الانطلاقِ بلا قيودٍ وبلا حدودٍ، والطفولةُ هي العيشُ لحظةً بلحظةٍ، دونَ التفكيرِ بالغدِ وبعناءِ المستقبلِ، وما يُخبّئُهُ لنا مِن مفاجآتٍ، وهي أحاسيسُ صادقةٌ، وقلوبٌ بيضاءُ، وأيْدٍ تمتدُّ تعرفُ العطاءَ دونَ مقابلٍ ودونَ حسابٍ، ثمّ إنّها زهرةٌ بيضاءُ ناصعةٌ، تفوحُ منها رائحةُ البراءةِ القويّةِ، كزهرةِ الرّبيعِ تُعطي مِن كلِّ زهرةٍ لونًا ورائحةً مُنعشةً. إذن؛ عاشت الشّاعرةُ حالةَ استعادةٍ.
تقول في قصيدتها (أسْطُورَةُ الّتياعٍ؟)1 :
(طِفْلَةً
تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي
وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ
مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي)

في قصيدتِها أعلاه، عاشت الشاعرةُ حالةَ اختلاطِ الأصواتِ، صوتَ النُّضجِ، وصوتَ الطفولةِ، وصوتًا ثالثًا مُخاطِبًا مِن قِبلِ الشّاعرة، والأخيرَ أشارتْ لهُ بحرفِ الكاف، حتّى عاشت الشاعرةُ حالةَ التّصوُّفِ و(حريرَ وجدٍ)، فهل تكونُ تلكَ الطفلةُ هي القصيدةُ المُتمرّدةُ، الّتي تنبثقُ مِنَ الذّاتِ في لحظتِها الشعريّةِ، ثمّ تتصيّرُ إلى وعيٍ إدراكيٍّ في حفلِ التّتويجِ، لكن هذا الوعيَ يَشوبُهُ شكٌّ، فتتوالدُ الأسئلة في حينِها.
تقول الشاعرة:
(قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي
تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي
وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ
لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
*
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك
بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ
زَوْبَعَتْنِي
فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!
إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً
عَلَى
سُلَّمِ
مَائِكِ؟)
هذا القلقُ الّذي يكتنفُ الشاعرةَ هو محضُ أسئلةٍ.. إنّ السؤالَ عن الماهيّةِ- بصرفِ النظرِ عن هذهِ الأمورِ جميعًا- يُوجّهُ البَصرَ إلى أمرٍ واحدٍ، وهو ذلك الّذي يُميّزُ الحقيقةَ مِن حيث هي حقيقةٌ أم لا.
ولكن، ألا يتوجّهُ بنا السّؤالُ عن الماهيّةِ، إلى فراغِ التّعميمِ الّذي يكتمُ على أنفاسِ الفِكر؟ أليسَ مِن شأنِ المُجازفةِ بمثلِ هذا السؤال، أن تُبيّنَ أنّ الفلسفةَ كلَّها هاويةٌ لا تقومُ على أيّ أساس؟
إنّ مِن واجباتِ الفكرِ الّذي يتّجهُ إلى الواقع، أن يَصرفَ جُهدَهُ إلى إقامةِ الحقيقةِ الواقعيّةِ الّتي تُزوّدُنا اليومَ بالمعيارِ الّذي نَحتكمُ إليه، وبالسّندِ الّذي نعتمدُ عليه، ليَحمينا مِن اختلاطِ الآراءِ والظّنون.
مِن هنا قلتُ إنّ الشّاعرةَ في خضمِّ القصيدةِ تعيشُ لحظاتِ لاوعيٍ، بيْدَ أنّها تستدركُ الأمرَ لاحقًا، لتعيشَ حالاتِ الوعيِ، أي أنّها تُحلّقُ في حالاتِ تَجَلٍّ، ثمّ تَخضعُ لموجباتِ وعيٍ يُدركُ الواقعَ ولو جُزئيًّا.. وحتّى تُجْلي الأمرَ بصورةٍ أوضح، لجأتْ إلى التّناص، ومعناهُ نَصَّ الحديث يَنُصُّه نصًّا : رفَعَهُ، أي أنّ الشاعرةَ حاولتِ التّوضيحَ بقوْلِها:
(هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ
لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي
وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ ظِلِّيَ الْحَافِي؟)
وهيرا زوجةُ زيوس وأختُهُ وربّةُ الزّواج، وقد امتازتْ شخصيّتُها بكوْنِها مليكة ومهيبة، وكانت في مَجمع الآلهة، وفي جبل أوليمبوس بحسب الميثولوجيا الإغريقيّة، وهنا أُسجّلُ للشّاعرةِ امتلاكَها مَلكةً ثقافيّةً ثريّة، تَحضُرُ هذهِ المَلكةُ بحضورِ الوعيِ اللّاحقِ بعدَ اكتمالِ ميلادِ القصيدة، ومِن خلالِ هذا التّجلّي يتوضّحُ لنا انتماءَها وإبرازَ هُويّتِها، مِن خلالِ الآخر الّذي تُكوّنُهُ وتُجسّمُ صورتَهُ ذهنيًا:
(بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ
بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ
مِنْ مِعْصَمَيْكِ
علقتك نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الّتياعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ
تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ
جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!)
هذهِ الانفعالاتُ والثّوراتُ أعطتْ سياقاتِ قوّةٍ لإجازةِ مشروعِ القصيدةِ، كمشروعٍ ثقافيٍّ لإثباتِ الذّاتِ أوّلًا، والاحتكاكِ بالآخرِ ثانيًا، وتَظلُّ الأصواتُ الثلاثةُ داخلَ القصيدةِ تتبادلُ الأمكنةَ والرّؤى.
تقول الشاعرة:
(ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ
تُزَيِّنُكِ
فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة!
*
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي
بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ
أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي
وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!)
(اعتبرت الفيلسوفةُ والمُفكّرةُ ميليكن أنّ مبادئَ اللّغةِ شبيهةٌ بالوظائفِ الّتي تُؤدّي إلى بقاءِ الأجناسِ البيولوجيّةِ حيّةً. بكلامٍ آخر؛ مبادئُ اللغةِ مبادئُ بيولوجيّةٌ تَهدفُ إلى إبقاءِ التّخاطُبِ حيًّا، ومِن هذهِ المبادئِ مبدأُ قوْلِ الحقيقةِ في خِطابِنا الّذي يَضمنُ استمراريّةَ التّخاطُبِ معَ الآخر. على هذا الأساسِ تقولُ ميليكن، إنّ بعضَ الأنواعِ اللّغويّةِ في التّعبيرِ تستمرُّ في التّداوُلِ، لأنَّ إنتاجَها ونتائجَها تُفيدُ كُلًّا مِن المُتكلّمِ والمُتلقّي، وهذا شبيهٌ بما يَحدثُ للكائنِ البيولوجيِّ الّذي يَكتسبُ الصّفاتِ الّتي تُفيدُهُ في أنْ يبقى حيًّا.
وكما أنّ البَشرَ يُكرّرونَ التّصرُّفاتِ النّاجحةَ في تحقيقِ أهدافِهم، يَحدثُ تكرارُ صياغاتٍ لغويّةٍ مُعيّنةٍ، لأنّها مُفيدةٌ في الوصولِ إلى نجاحاتِنا كبَشر، هذه الصّياغاتُ اللغويّةُ (كعباراتِ الشّرطِ مثلًا)، تُشكّلُ الأعرافَ اللغويّةَ، فالأعرافُ اللغويّةُ تنشأُ وتنتشرُ، كوْنَها تُقدِّمُ حُلولًا لمشاكلِ المُتخاطِبين.
مِن هنا، نستمرُّ في إنتاجِ بعض الأشكالِ اللغويّة، لأنّها تُؤدّي بالمتلقي إلى أنْ يستجيبَ باستجاباتٍ مُفيدةٍ في تحقيقِ أهدافِ المُتكلّم، لكن، لا بدّ للأعرافِ اللغويّةِ أنْ تخدُمَ مَصالحَ المُتكلّمينَ والمُتلقّين معًا، لكي تستمرَّ وتبقى.)2.
هكذا يبدو لي مسارُ الشاعرة آمال عوّاد رضوان في ابتداعِ المعنى الباطن في القصيدة، كي تعطي للمتلقّي الحقَّ في التأمُّلِ في الظّواهرِ، وصولًا إلى المعنى الكامنِ بين أسطُرِ القصيدة، فالكتابةُ عندَ الشاعرة كينونةٌ، مِن خلالِها تَجعلُ مِنَ الرمزِ نموذجًا للصّراع، لأجلِ توطينِ المعنى وترسيخِهِ.
الهوامش:
1ـ قصيدة (أسْطُورَةُ الّتياعٍ؟) الشاعرة آمال عوّاد رضوان. تاريخ النشر: 2017-04-09
2ـ مقال (فلسفة المعنى والحريّة) حسن عجمي/ موقع مركز النور.


63
أدب / بِرْفِيرُ غُرُوبِكِ!
« في: 20:00 20/05/2018  »
مهداة إلى شرقِنا اليتسربلُ برفيرَ غُروبٍ/ في مهرجانٍ دمويٍّ ليسَ يُحَدُّ!
بِرْفِيرُ غُرُوبِكِ!
آمال عوّاد رضوان

مَذْهُولًا..
تَقَافَزَ بِرْفِيرُ غُرُوبِكِ
يَتَقَمَّزُ .. بِحِذَاءِ غُرْبَتِي
وَفِي شِعَابِ غصَّةِ اضْمِحْلاَلِي
تَسَرْبَلَ .. مَلاَمِحَ فَجْرٍ طُفُولِيٍّ
كَمْ أَخْفَقَ .. بِخَطْوِهِ الْفَصِيحِ!
*****
خِنْجَرُ يَقَظَتِكِ .. المُذَهَّبَةِ بِأَقْمَارِكِ
غَــيَّــبَـــنِــي
فِي مَنَافِي لَيْلٍ أَعْزَلَ
مَجْبُولٍ؛
بِغُبَارِ حُلُمٍ بَرِّيٍّ
بِنُورِ خَيَالٍ كَسِيحٍ
وَبِحَلِيبِ أَرَقٍ .. تَكَلَّسَ
عَلَى نَهْدِ أَبْجَدِيَّةِ نُعَاسِي!
*****
كَمَاكِ.. وَمِنْ عَيْنِ سَمَائِكِ
قُرْصُ فَرَاغِكِ
أَ شَ عَّ نِ ي
بَتلاَتِ مَسٍّ مُقَدَّسٍ
يَلْجُمُ .. ثَرْثَرَةَ لِسَانِي الثَّقِيلِ!
*****
يَا مَنْ بِقَبْضَةِ فَقْدِكِ .. الْمَسْفُوكِ بِي
أَرْخَيْتِ .. صَمْتَ إِغْرَائِكِ
عَلَى ثَغْرِ غَدٍ حَالِمٍ
كَمْ غَفَا
بِشِرْيَانِ وَرْدِكِ النَّرْجِسِيِّ!
*****
كَيْفَ أَعْتَكِفُنِي
وَأَبَاطِرَةُ ضِيَائِي الأَحْوَلِ
تَــتَـــهَـــجَّــــى
مَبَاهِجَ غُمُوضِكِ؟
*****
أَتَتْلُوكِ مَزَامِيرَ أَمْسٍ
يَ سْ تَ عْ مِ رُ ني
أَم تَسْبِيحَةَ وَجْدٍ طَاغٍ
يَرْتَسِمُ عَلَى أُقْنُومِ لَيْلِي السَّوْسَنِيِّ؟
إلامَ
أَ
قْ
طُ
رُ
نِ
ي
رِثَاءَ فِرْدَوْسٍ نَارِيٍّ
عَلَى سَوَاحِلِ بَرَاكِينِي
لِأَطْـــفُــــــوَ هَـــــشِـــــيـــــمًا
عَلَى صَفْحَةِ صَخْرِكِ الْمَائِجِ؟
*****
أَمَا لِلْغَدِ عَيْنُ حَيَاةٍ
تُذْعِنُ لِدُخَانِ الذُّنُوبِ؟
*****
أَيَّتُهَا الْمُتْرَفَةُ .. بِجَنَاحِ مَوْجَةٍ بَتُولٍ
حَطَّتْ عَلَى شِفَاهِ زَبَدِي!
تَـــــجَـــــلْـــــبَــــبِــــي
بِوِشَايةِ بَحْرٍ
وَشْوِشِي بِخِلْخَالِكِ الْفَيْرُوزِيِّ
غَـــيْـــبُــــوبَـــــتِــــي
وَدَعِينِي .. أتَخَايَلُ مُخْتَالاً
لأَمِـــــــيــــــــــسَ
فِي هَيْكَلِ مَجْهُولِكِ الْمُنَمْنَمِ!
*****
نُبُوءَاتُ نَقَائِكِ النَّدِيَّةُ .. جَدَاوِلُ
تُــزَمْـــــزِمُـــــــنِـــــــي
تُـــغـــافِـــــلُ
                        بَلاَهَةَ مَوَائِدِي الْمُوحَشَة
تُــــــكَـــــــــمِّـــــــمُ
                           أَفْوَاهَ أَشْبَاحِ مَوَاقِدِي الذَّاهِلَة
وَتَـــخْــــتَــــلِـــسُـــنِي
                        مَشَارِفُ الارْتِجَافِ الْمَثْلُومَة
بِـــــــــوَاااااااابِـــــــلٍ
          مِنْ قُبَلٍ مُتَبَتِّلَةٍ
                   تُـــــعَــــسْــــــعِــــــسُ
                                  سَحَابَ صَلَوَاتِي الْفَاتِرَة
                                                بمِشْطِ لَوَاعِجِ سَمَاوَاتِكِ!
*****
أَكَأَنَّمَا
تَجْدِلُنِي خُصُلاَتُ نُجُومِكِ الشَّقْرَاء
ضَفَائِرَ ضَوْءٍ
                يُـــنَــــمّــــِشُــــــنِـــي
                           بِيَرَاعِ بِشَارَةٍ؟
أَتُـــمَـــهْـــرِجُــــنِــــي
                          بِأَحْضَانِ الأُقْحُوَانِ؟
من ديواني الشعري الثالث (رِحْلَةٌ إِلَى عُنْوَانٍ مَفْقُودٍ)
amaalawwaadradwaan@gmail.com
xyz_amara@yahoo.com



64
قِصَّةُ الْمَطَرِ مُتَرْجَمَةٌ لِلْإِنْجْلِيزِيَّةِ!
آمَال عَوَّاد رضْوَان
"الْمَطَر" قِصَّةُ الشَّاعِرِ الْأَدِيب وَهيب نَدِيم وِهْبِة، أُصْدِرَتْ مُتَرْجَمَةً بِاللُّغَةِ الإِنْجليزِيّةِ عَنْ دَارِ الْهُدَى لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْر وَالتَّوْزِيعِ- كُفر قَرْع، في شَهْر آذَار مَارْس عَامَ 2018، ترْجَمَهَا الْمُتَرْجِمُ وَالْأَدِيبُ الْبَاحِثُ "مَحْمُود عَبَّاس مَسْعُود"- أَمْرِيكَا، وَرُسُومَاتُ الطَّبْعَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعِبْرِيَّةِ الْإِنْجلِيزِيَّةِ لِلْفَنَّانَةِ "سُهَاد عَنْتِير طَرَبِيه"، وَبِدَعْمٍ مِنْ مُؤَسَّسَةِ "أَكُوم"، جَاءَ فِي 46 صَفْحَة.
كِتَابُ "الْمَطَر" مُصَوَّرٌ مِنَ الْقَطْعِ الْمُتَوَسِّطِ، جَاءَ في 94 صَفْحَةٍ، 42 صَفْحَة لِلنَّصِّ الْعَرَبِيِّ، وَ52 صَفْحَة لِلنَّصِّ الْعِبْرِيِّ، وَلِلْمَسِيرَةِ الْإِبْدَاعِيَّةِ لِلْمُؤَلِّفِ، وَالرَّسَّامَةِ، وَالْمُتَرْجِمَةِ بْرُورْيَاهورفيتس، أُصْدِرَتِ الطَّبْعَةُ الْأُولَى عَامَ 2015، عَنْ دَارِ الْهُدَى لِلطِّبَاعَةِ وَالنَّشْر وَالتَّوْزِيعِ/ كُفْر قَرْع، وَتَمّتْ قِرَاءَةُ النَّصِّ الْعَرَبِيِّ الْمَسْمُوعِ عَامَ2017 بِصَوْتِ "عَبِير شَاهِين خطيب"، وَقِرَاءَةُ النَّصِّ الْعِبْرِيِّ بِصَوْتِ "نَتَاي شِسْلِر" عَامَ 2017.
"الْمَطَر" عَمَلٌ إِبْدَاعِيٌّ رَاقٍ، بِعَنَاصِرَ أُنْثَوِيَّةٍ طَاغِيَةٍ، وَبِلُغَةٍ فَنِّيَّةٍ مُشَوِّقَةٍ جَاذِبَةٍ طَيِّعَةٍ، وَشِعْرِيّةٍ لَا تَخْلُو مِنْ تَشْبِيهٍ وَاسْتِعَارَةٍ وَجُمَلٍ مُبْتَكَرَةٍ، وَبِلُغَةٍ عَمِيقَةٍ مَمْزُوجَةٍ بِالْخَيَالِ الْعِلْمِيِّ!
"الْمَطَر" قِصَّةٌ لِلشَّبِيبَةِ وَ"أَدَبِ الْعَائِلَةِ"، حَيْثُ تَشْمَلُ الْكَوْنَ، وَتَرْفُضُ لُغَةَ الْحَرْبِ وَالدَّمَارِ، وَتَدْعُو إِلَى تَجْدِيدِ الْحَيَاةِ بِلُغَةِ الْحُبِّ الْمُتَجَدِّدِ، مِنْ خِلَالِ ابْنَةِ الْعَاشِرَةِ رَبِيعًا، الّتِي تَتَّحِدُ مَعَ كُلِّ عَنَاصِرِ الطَّبِيعَةِ، كَيْ تَتَجَدَّدَ الْحَيَاةُ!
"الْمَطَر" قِصَّةُ رِحْلَةٍ إِلَى الْفَضَاءِ الْخَارِجِيِّ، وَمُحَاوَلَةٌ لِلتَّحْلِيقِ الْخَيَالِيِّ "بَيْنَ الصُّحُونِ الطَّائِرَةِ وَرَجُلِ الْفَضَاءِ الْقَادِمِ إِلَيْنَا"، مَا بَيْنَ وَاقِعٍ وَخَيَالٍ، وَمَا بَيْنَ أُسْطُورَةِ وَإنْجَازٍ عِلْمِيَّ، وَمَعًا نُحَلِّقُ عَالِيًا فِي السَّمَاوَاتِ، وَفِي رِحَابِ الْعِلْمِ وَأَرْجَاءِ الْعَالَمِ!
فَهَلْ نَجْمَعُ لِلْأَرْضِ، مَا يَمْنَعُ عَنْها وعنَّا حَرْبًا عَالَمِيَّةً قَادِمَةً؟
وَهَلْ مِنْ بُرُوقِ سَلَامٍ؟
هَلْ مِنْ رُعُودِ خَلَاصٍ؟
هَلْ مِنْ مُفَاجَأَةٍ صَادِمَةٍ؟
وَهَلْ لِبَطَلَةِ الْقِصَّةِ الصَّبِيَّةِ "سَارَة"، أَنْ تُنْقِذَ الْعَالَمَ؟ كَيْفَ؟ مَتَى؟
قِصَّةُ "الْمَطَر" تَحْمِلُ رَسَائِلَ حَالِمَةً، لكِنَّ "الْحَيَاةَ لَا تَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودِ التَّفَاؤُلِ، بَلْ عِنْدَ الرَّغْبَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْعَمَلِ"! ص33.
إِنَّ أَقْدَسَ الرَّسَائِلِ الْإِنْسَانِيَّةِ تَبْدَأُ مِنَ الْوَالِدَيْنِ:
مِنْ خِلَالِ تَرْبِيَةِ الْأَبْنَاءِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَدْعَمُ الْخَيْرَ، وَتَحْتَرِمُ حُقُوقَ الْأَطْفَالِ وَالْأَيْتَامِ وَالْأَرَامِلِ وَالْعَجَائِزِ، وَفِعْلِيًّا، وِفْقَ الْعُقُودِ الدُّوَلِيَّةِ، وَتَحْتَرِمُ الْآخَرَ وَالْمُخْتَلِفَ، وَتَحْلُمُ بِحَضَارَةٍ كَوْنِيَّةٍ تَتُوقُ إِلَى نَسْلٍ جَدِيدٍ قَارِئٍ مُثَقَّفٍ مُحِبٍّ مِعْطَاءٍ، وَبِجِيلٍ يَدْعُو لِرِعَايَةِ الْأَيْتَامِ وَالْمُحْتَاجِينَ، لِلتَّعَايُشِ بَيْنَ الشُّعُوبِ، لِلسَّلَامِ، لِلْعَدْلِ، لِلْحُرِّيَّةِ، لِلْمَحَبَّةِ، لِلْإِنْسَانِيَّةِ، وَتَدْعُو لِزَرْعِ ثَقَافَةِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى نَظَافَةِ الْإِنْسَانِ، وَسَلَامَةِ كَوْكَبِ الْأَرْضِ مِنَ التَّلَوُّثِ الْبِيئِيِّ، وَمِنَ الْأَمْرَاضِ.
"الْمَطَر" قِصَّةٌ تَدْعُو إِلَى طَرْقِ بَابِ الْخَيَالِ الْعِلْمِيِّ لِلْيَافِعِينَ، لِتَوْسِيعِ آفَاقِهِ، وَفِكْرِهِ، وَخَيَالِهِ، وَاخْتِرَاعَاتِهِ مُسْتَقْبَلًا.
"الْمَطَر" قِصَّةٌ تَدْعُو إِلَى طَرْقِ بَابِ التَّرْبِيَةِ الصَّالِحَةِ، وَالْأُبُوَّةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْأُمُومَةِ الطَّاهِرَةِ الْوَاعِيَةِ فيقول: "يَحْمِلُونَ تَاجَ الشَّمْسِ، وَمَنَارَةَ الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَغْصَانَ السَّلَامِ، وَرَايَاتِ الْفَرَحِ"!
فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَبْتَعِدَ الْعَالَمُ عَنِ الْإِرْهَابِ وَيَتَوَحَّدُ، مَا بَيْنَ النَّصِّ وَالرُّسُومَاتِ؟ مَا بَيْنَ الْأَلْوَانِ وَقَلَمِ الرَّصَّاصِ؟ مَا بَيْنَ الْبَلَاغَةِ وَالْمَجَازِ؟
وَمِنْ أَجْمَلِ مَا وَرَدَ فِي قِرَاءَةِ الْإِعْلَامِيِّ الْأَدِيبِ نَايِف خُورِي لِقِصَّةِ "الْمَطَر":
إِنَّ هذَا الانْسِيَابَ مَعَ الْقَارِئِ فِي إِبْدَاعِيَّةِ "الْمَطَرِ"، سَرْعَانَ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى عَرَبَتِهِ الْمُطَهَّمَةِ، وَيَسِيرُ بِكَ فِي الْغَابَاتِ، وَفَوْقَ السُّهُوبِ، وَيَبْلُغُ بِكَ أَعْلَى الْقِمَمِ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ مَعَكَ سَاقِطًا كَالْمَطَرِ، عَلَى أَرْضٍ عَطْشَى إِلَى السَّلَامِ، وَإِلَى الْأَمْنِ، وَالاسْتِقْرَارِ وَهُدُوءِ الْكَوْنِ.
مَنْ هِيَ بَطَلَةُ قِصَّةِ الْمَطَرِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ بِهَا الْحَيَاةُ؟
إِنَّهَا "سَارَة" ذَاتُ الاسْمِ عَلَى الْمُسَمَّى، وَالَّتِي تَبْعَثُ السُّرُورَ وَالْفَرَحَ وَالابْتِهَاجَ فِي الْقُلُوبِ، وَالَّتِي تَكْتَشِفُ وَجْهَهَا النَّازِلَ مِنَ السَّمَاءِ نُزُولَ الْوَحْيِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ.
وَمَنْ هُوَ الرَّجُلُ الطَّائِرُ الْخَيَالِيُّ؟ وَمَا هُوَ دَوْرُهُ؟
إِنَّ الرَّجُلَ الطَّائِرَ هُوَ الرُّوحُ الْهَائِمَةُ الَّتِي تَقِفُ بِالْمِرْصَادِ لِضَمَائِرِ الْبَشَرِ.
إِنَّهُ الضَّمِيرُ الْمُتَحَرِّكُ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالصِّدْقِ، وَيَحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ وَالْجهْدِ، وَعَدَمِ الْخُمُولِ وَالْكَسَلِ.
إِنَّ الرَّجُلَ الطَّائِرَ لَا يَحْقِدُ وَلَا يَكْرَهُ، بَلْ هُوَ رَسُولُ سَلَامٍ وَوِئَامٍ، مَبْعُوثُ وُدٍّ وَصَدَاقَةٍ، مَنْدُوبُ تَقَارُبٍ وَحُسْنِ جوَارٍ.


65
على مَدارِج موجِكِ الوَعِر!
آمال عوّاد رضوان

بَــــــاسِــــــقًـــــــــا
مِـــنْ عَــــلْــــــــيَـــــــاءِ  شُـــرُوقِـــهِ
قُرْصُ حَنَانِكِ
يُعَدِّدُنِي حَصَادَ أَحْلَامٍ
هَـــ وَ تْ
عَلَى مَدَارِجِ مَوْجٍ وَعِرٍ
امْـــــــ~تَــــــــــ~دَّ
عَمِيـــ~~~~~~يــــــــــقًا
فِي مَرَايَا حَرَائِقِي!
***
فِرَاخُ غُرْبَتِي
تَــ شَــ ظَّـــ تْ
غُرُوبًا زُجَاجِيًّا
وَهَا.. غُمُوضُ مَنْفَاكِ
الْمَمْزُ~~~و~~~جُ
بِبَحْرِكِ الْمُعَطَّرِ
يَـــــــ~نْـــــــ~ـشُـــــ~رُ
عَبَاءَاتِ مَوْجِهِ الْمُعَرَّقِ
عَلَى جِذْعِ صَخْرَتِي
الْـــــعَـــــــارِيَـــــة!
***
وَهَا الشَّمْسُ
إِذْ تَرْتَشِفُ كُؤُوسَ عِطْرِكِ
يَتَسَرْبَلُهَا الْحِدَادُ
وَيَــسْــــتَـــــنْــــزِفُـــــنِــــي
وُلُوجُ قَاعِ ظِلِّكِ الْمُعَتَّقِ
بِثَرْثَرَةِ الْمَوَائِدِ!
***
أَنَا مَنْ تَيَمَّمْتُ
بِرَمَادِ سَرَابِكِ مُطْفَأِ الْأَمَانِي
تَــــــنَـــــــاسَــــــــلْـــــــتُ ضَـــبَـــابًــــا سَــــادِيًّـــــا
وَمَا اغْتَسَلْتُ بِدَمْعِ الْأَرْضِ!
***
أَكَأَنَّمَا اسْتَعْذَبْتُ انْسِيَاقِي
إِلَى حُلُمٍ مَنْسِيٍّ؟
أَيَقْطِفُنِي صِرَاعًا عَبَثِيًّا .. كُسُوفُكِ اللَّامِع؟
كَيْفَ لِأَعْمًى يَقُودُ كَفِيفًا
بِحَفْنَةٍ مِنْ لَوْنِ الْعَتْمَةِ؟
***
عَلَى فَوَاصِلِ بَيَاضِكِ
تَـــوَاثَـــــــبْــــــــتُ
بِاتِّسَاعِ نُعَاسِكِ الْفَوْضَوِيِّ
وَاسْتَلْقَيْتُ حُرُوفًا مُهَنْدَسَةً
عَلَى سُطُورِ عِصْيَانِكِ!
***
أَلَا تُلْقِينَ بِثِمَارِ قَسَمَاتِي
ضَوْءًا حَكِيمًا
يَــــتَـــــشَــــــرْنَـــــــــقُ
بِصَخْرِ تَحَدٍّ لَا يَكِلُّ؟
***
هُوَذَا الْوَهْمُ الزَّانِي
مَا انْفَكَّ يَهْدُرُ .. فِي جَلَبَةِ تَحَدُّرِهِ!
يَسْتَسْقِي
أَكْمَامَ الْكَوْنِ الذَّاهِلِ!
هُوَذَا الْوَهْمُ الزَّانِي
مَا انْفَكَّ يَغْتَصِبُ .. بُزوغَ وَطَنٍ مَوْشُومٍ
بِأَمْسٍ انْكَسَرَ ضَوْؤُهُ
وَلِسَانُ شَغَبِهِ الْمَبْتُورُ
لَمَّا يَزَلْ يَنْفَرِطُ مُتَلَعْثِمًا
يَلْسَعُ آذَانَ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّمَةِ
يَــــقْـــــرِضُ دَمًــــا غَــــــفِــــــيـــــرًا
يُهْدَرُ فِي جُزُرِ الْحَسَرَاتِ 
لكِنْ 
أَبَـــــدًا.. مَـــــا تَـــــأَتَّـــى لَــــهُ
 أَنْ يَخْدِشَ عُيُونَ فَوَانِيسِ آمَالٍ
شَـــنَّــــفَــــتْ أَنْـــــفَــــاسَ غَـــــدٍ نَــــقِــــيِّ الـــرُّؤَى
أَبَـــــدًا.. مَـــــا تَـــــأَتَّـــى لَــــهُ!


من ديواني الشعريّ الثالث (رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقود)
amaalawwaadradwaan@gmail.com

66
تَحْلِيقَاتٌ سَمَاوِيَّةٌ!
آمال عوّاد رضوان

شَبَحُ دَمْعَتِي
يُــغَــمْــغِــمُ
عَلَى ثدْيِ عَاقِرٍ!
يُــمَــرِّغُـــنِـــي
بِزَفَرَاتِ غَيْمَةٍ
تَــذْرِفُــكِ
فِي بِرْكَةٍ .. مُشَرَّعَةٍ لِلذِّكْرَى!

مِنْ سَرَادِيبِ مَمَاتِي
ينْسَابُ أَلَمِي .. أَثِيرَ آمَالٍ
وَنِيرَانُكِ الثَّلْجِيَّةُ
تُــعَــطِّــرُ قمْصَانِي
بِمَلاَمِحِكِ الْمُتْخَمَةِ بِالْمَطَرِ!

مُخْمَلِيٌّ .. بُؤْبُؤُ مُرِّكِ
مَمْشُوقَةٌ
أَعَاصِيرُ سُلْطَانِهِ!
كَمْ أَدْنَانِي
مِنْ كِسْرَةِ كَفَافِكِ
فِي حَلَقَاتِ جَوْعَى! 
وَكَمْ أَقْصَانِي
عَنْ رَقْصَةِ مَائِكِ
فِي تَحْلِيقَاتِكِ السَّمَاوِيَّة!

لِمَ أَدُسُّ أَنَامِلِي الْمَاطِرَةَ
شُمُوعًا
فِي كُهُوفِ الْهَبَاءِ وَالْجَفَاءِ؟

وَحَقّ سِحْرِ صَوْتِكِ
الْـ يُضِيئُنِي!
أَنَا مَا عَزَفَنِي قَوْسُ وَفَائِي
إِلاّ عَلَى أَوْتَارِ عِنَاقٍ
كَمْ صَدَحَتْ أَنْفَاسُ كَمَانِهِ
كَمَان!
يَا ابْنَةَ السَّوَاقِي
اُغْرفِينِي .. حِكَايَةً عِطْرِيَّةً
تَبْحَثُ عَنْ وَجْهِهَا
فِي مِرْآتِكِ!
لاَ تَجُزّي لُؤْلُؤَ نَبْضِي 
فَمَا تَغَرْغَرَ إِيقَاعُ مُزْنِي
إِلّا بِقَلْبِكِ!
وَمَا اكْتَمَلَتْ مَسَاءَاتُ بَرِيقِي
إِلاَّ بِهُطُولِكِ الْمُشْرِق!
من ديواني الشعري الثالث (رحلة إلى عنوان مفقود)
amaalawwaadradwaan@gmail.com
xyz_amara@yahoo.com

67
أَنَا بَــحْــرُكِ الْــغَـــرِيـــق!
آمال عوّاد رضوان
وَحْدَهَا تَفَرَّدَتْ بِرَاعِيهَا .. وَمَا تَفَرَّدَ بِهَا
خِرَافُهُ .. كَثِيرَةٌ
هَيَّأَ لَهَا .. طُقُوسَ الطَّرْحِ
وَرَدَّهَا .. عَلَى أَعْقَابِ مَرَارَتِهَا
تَجُرُّ أَذْيَالَ كِبْرِيَائِهَا.. !
***
كضَحَيَّةٍ  اعتْتَكَفْتِ.. وَمَا حَقَدْتِ!
انْسَحَبَتِ بِلَا سَحابٍ.. وَاحْتَمَيْتِ .. بِحمَّى صَمْتِكِ
تُهَدْهِدِينَ قَلْبَكِ الْكَسِيحَ .. بِمَزَامِيرِ اسْتِغْفَارِي!
***
يَا الْمُتَسَلِّلَةُ .. كَشُعَاعٍ وَحْشِيٍّ
إِلَى أَقْفَاصِ سَعْدِي
ضَمِّخِينِي .. بِرِيحِ مَلَائِكَتِكِ
دَحْرِجِي النُّورَ .. عَنْ عَيْنِ دَهْرِي الْأَعْوَرِ!
أَيْقِظِي رَجَائِيَ الْـغافـِيَ .. فِي غَيْمِكِ!
اِقْرَعِي أَجْرَاسَ قَلْبِي .. بِرَنِينِ غَيْثِكِ!
خَبِّئِينِي جَمْرَةً  .. فِي  صَدْرِ عَتْمَتِكِ!
غَيِّبِينِي فِي عَيْنَيْكِ .. دَمْعَةً
وَدَعِينِي أَحِنُّ.. أُجَنُّ
وَلا أَكِنُّ.. فِي عُرْيِ عَصَافِيرِكِ!
***
يَا مَنْ أَسْـتَـغْـفِـرُكِ .. وَتَـسْـتَـغْـرِبِـيـن!
كُونِي ضَبَابِيَ الْمُسَافِرَ .. إلَى سَحَابِكِ الْمَاطِرِ
كُونِي.. قُوتَ حُلُمِي الْعَاصِفِ
قُطُوفَ شِتَائِي
لِيَطُوفَ .. بِنَا الدُّوَارُ
***
... !؟!؟ ...
مِنْ خَلْفِ أَسْوَارِ الضَّاحِيَةِ
تُطِلِّينَ .. بِحَيَاءِ ضَحِيَّة!؟!؟
إِلَامَ تُقَدِّسُنِي خَطِيئَتِي؟
إِلَامَ تُؤَلِّهُنِي حَمَاقَتِي؟
أَنَا بَــحْــرُكِ الْــغَـــرِيـــقُ
مُــــفْــــرَغٌ فِـــي كَــــفَّـــــيْـــــكِ
لِمَ تَتَهَكَّمُنِي أَمْوَاهُكِ؟
 لِمَ تُذِلُّنِي أَمْوَاجُكِ؟
وَلِمَ تُعَمِّدِينَنِي.. بِنَارِ الْحِرْمَانِ؟
إِلامَ تُنَخِّلِينَ مَائِيَ الْمَنْقُوعَ
فِي جَــمْــرِ الْــــ نَّـــدَمِ؟
من ديواني الشعريّ الرابع (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين)
amaalawwaadradwaan@gmail.com


68
الحُبُّ ملحُ الأرضِ وسِرُّ الحياة!؟
آمال عوّاد رضوان
برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا، أقام نادي حيفا الثقافي أمسية في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسية في حيفا، بتاريخ 5-10-2017،  وسط حضور مميز من مثقفين وأدباء وأصدقاء ومهتمّين بالأدب، احتفاءً بالأديب الباحث العكّي نظير شمالي وكتابه (رقاعٍ إلى صلاحِ الدينِ)، وبعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي، عُرض فيلم قصير بعنوان  لمسة وفاء"، لطيّبة الذكر ابنة عكا الأديبة سميرة عزام، ثمّ تولت عرافة الأمسية سلمى جبران، ، وكانت مداخلات نقدية جادّة لكلّ من: د. فهد أبو خضرة ود. صالح عبود، تخللتها مداخلة فنية الفنان نزار بغدادي من فِرقة الغَجَر، وقراءات شعريّة مميزة مع المحتفى به نظير شمالي وابنتِهِ غُفران شمالي يونس، كما ازدانت أرجاء القاعة بلوحات معروضة تدمج بين الصورة ونصوصِ نظير شمالي الشعريّة، ثم قدم شيخنا الأديب حنا أبو حنا ود. فهد أبو خضرة والمحامي فؤاد نقارة درع تكريم للمحتفى به، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة العريفة سلمى جبران: مساؤكم مَحبَّةٌ وعِطْرٌ وَوَفاء، وشُكرًا للحضور الجميل والشُّكْر أوَّلًا لنادي حيفا الثّقافي مُمَثَّلًا برئيسِهِ المُحامي فؤاد نقّارة والناشط الثّقافي المحامي حسن عبّادي اللَّذَيْنِ يعملانِ فيُبدِعانِ بلا حدود وبمحبّةٍ وعطاء. وشكرًا لكلِّ من يعملُ على إحياءِ هذا الصَّرحِ الرّائد تحتَ رعاية المجلس المِلّي الأورثوذُكسي برئاسة السيّد المربّي جريس خوري، وشكرًا للسيِّد فضل الله مجدلاني القائم على كل الترتيبات التِّقَنِيَّة..
بعيدًا عن متاهات التاريخ وعنِ التِواءات الحُكْم والحُكّام، نُسافرُ معًا في بحْرِ عكّا وفي زواريبِها وأقْبِيَتِها، ونُخْرِجُ لُؤلُؤَها ونُقوشَها، ونُحَلِّقُ معَ روحِها التي رفْرَفَتْ في سماءِ الشمال والجنوب والغرب والشرق، وكانت فَنارًا لحضارةٍ لا تموت مُنذُ آلافِ السِّنين. وها هو ابنُ عكّا الأصيل الباحث نظير شَمالي يأتينا شاهِدًا على مجدِها، وحاميًا لكل ما تبقّى من تراثِ عكا العِمرانيّ والمدَنيّ والشّعبيّ، شاهرًا الكَلِمة والصورة لتقولَ لكلِّ العالم: نحْنُ كُنّا هُنا ونحْنُ الآن لا زِلْنا هنا، أَلَمْ تَقُلْ: "أنا أُحبُّ عكّا.. أعشقُها.. أعشقُها حتى النُّخاعْ.. على ترابِها وُلِدتُ.. وفيها أتمنّى أن أموت، وما دامت عكا حبيبتي فلن أموتَ أبدًا، لأنَّ هذه المدينة الصابرة الرائعة المدهشة الغالية، تغذي الروح وتبعثُ في النفسِ الحياة والأمل". إليكَ منّي هذه الكلمات التي كتبْتُها عندما عِشْتُ عكّا مع مسرحيد "في زاروبِ عكّا" للفنّانة ابنة عكّا الأصيلة سامية قزموز بَكْري:
أَعيشُـها كـَما يعيشُ لاجئٌ في "أرضِهِ"، فلا أَرضَ لهُ فيها ولا سَما/ وعِشْتُ غُربتـي أَبحَثُ عنْ غربتِهِمْ فصارَ كَأسي عَلقَما/ هل تقبلينَنِي يا أُختُ في  "زاروبِ" عـكّا في الحِمى؟/ أَعيشُ غربـةً ثانيةً أَجني بها محبَّةَ الأوطانِ موسمًا فموسِما
أمّا عن الكِتاب "رِقاع صلاح الدّين" فقد قَرَاْتُهُ وعذَّبَتْني بُكائيّاتُهُ على الشّرْقِ العَرَبيّ، حتى أَنشَدْتُ مع أحمد شَوْقي:  نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا/ وَلَكِنْ كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ
د. فهد أبو خضرة: الآن أترك الحديث عن الكِتاب لروّاد هذا المِنبَر ونبدأ بشخصيّة الشاعر الأكاديميّ ابن قرية الرينة الجليليَّة الذي عَمِلَ في التدريس، ثم عَمِلَ مُحاضرًا في جامعة حيفا، وفي كليَّة إعداد المعلمين العرب في حيفا، وهو صاحب عدّة دواوين شعرية ورواية بالإضافة إلى العديد من الأبحاث اللغوية والكتب التدريسيّة. من أعمالِهِ الشعريّة: الزنبق والحروف، البحث عن أجنحة، النسور، كتابات على طريق الوصول، مسارات عبر الزوايا الحادّة وحلم ليلة ربيعية. ورواية الليل والحدود.
د. صالح عبود: ولد في حيفا وترعرع في عيلوط. حصل على لقب دكتوراه في اللغة العربية من جامعة حيفا عام 2013. يعمل مدرِّسًا للغة العربيّة في مدرسة عيلوط الاعداديّة، ومحاضرًا في كليّة "عيمق يزراعيل" الأكاديميّة. مجموعة "ديمة ربيع" باكورة إنتاجِهِ الأدبي، وهو كاتب مهتمّ بالأدب والفِكر والنّقد.
مداخلة د. فهد ابو خضرة: أتحدّث في هذا اللقاء عن مجموعة شعريّة للشاعر نظير شمالي، بعنوان (رقاع إلى صلاح الدين)، وهي مجموعة تضمّ سبع قصائد، تتبع ستٌّ منها للشعر المنثور الذي ورد ضمنه القليل القليل من الأسطر الموزونة، وتتبع قصيدة واحدة لشعر التفعيلة هي القصيدة الثالثة في المجموعة، مع العلم أنّ مفاعيلها ترتبط ببحور مختلفة لا ببحر واحد، أركّز في هذا الحديث على جانب واحد من جوانب هذه المجموعة هو جانب المضمون، لأنّ تناوُلَ هذا الجانب هامٌّ وضروريّ، إذ يفتح الباب واسعًا للدخول الى الجوانب الأخرى، فقد تناولته بالتفصيل.
القصيدة الأولى بعنوان (لفاطمة أغنية موقوتة في مخدع السلطان): والأغنية الموقوتة مبنية بناء مقطعيّا، تصل مقاطعه المُرقّمة إلى أربعة عشر مقطعًا، يتناول الشاعر فيها موضوعًا رئيسيّا واحدًا، ولكنّه لا يسير فيه بخط مستقيم لا مضمونًا ولا زمنًا، (وإنّما ينطلق مع الفكر يمينًا مرّة ويسارًا مرّة، وينطلق مع الزمن الى الوراء مرّة وإلى الأمام مرّة)، ويبدو أنّ هذا البناء يعطي للشاعر إمكانيّة التوسّع فيما يقوله، ويُلفت النظر أنّ قصائد المجموعة كلّها مبنيّة بناءً نصّيًّا مقطعيّا، أمّا فاطمة فيمكن القول أنّها تُشكّل رمزًا للوطن.
المقطع الأوّل يبدأ بحملة النداء يا فاطمة، وقد تلت هذا النداء جُمل استفهاميّة وجُمل انفعاليّة، وعدد كبير من علامات الاستفهام وعلامات التعجّب، وكلها تدفع هذا النداء "يا فاطمة" باتّجاه الحزن والألم وعدم الرضا، أمّا الناحية المضمونيّة فتنصبُّ كلّها في النقد الذاتيّ الذي يتلاءم تلاؤمًا واضحًا مع أسلوب الاستفهام والتعجّب، نحو قوله: مستضعفين أصبحنا نعاجًا لا تقاتل!/ أشدّاء أمسيْنا، إذا قاتل بعضُنا بعضا/ وسيوفنا بوجه التتار قد غدت لعبة من خشب. (ص7).
وتُختم الناحية المضمونية بالتوجّه الى الوطن النازف: ومَن لي غيرك يا وطني النازفُ يا وطني! (ص8)، وقد ذكر الشاعر في هذا المقطع التتار مرّتيْن والعلوج مرة واحدة، باعتبار كلّ منهما رمزًا للعدوّ الذي مزق الوطن. والوطن الذي يعنيه الشاعر هنا هو الوطن العربيّ الواسع الممتدّ كالحرّ تحت شمس لا تغيب (ص7)، وإذا كان هذا الوصف قد استعمل في زمن سابق في سياق الحديث عن الإمبراطوريّة البريطانيّة، فإنّ الشاعر بالتأكيد لم يقصد ربطا ولا تشبيك، وإنّما أراد أن يُشير بأسفٍ شديد، إلى هذا الجحيم الكبير الذي تمزق، وقد أكّد أسفه هذا بتكرار لفظ الوطن ستّ مرّات إمّا مُتسائلًا وإمّا مُناديا.
المقطع الثاني يبدأ بضمير الغائب المنفصل "هو"، وكذلك المقطع الثالث، ويستمرّ كلٌّ منهما في الحديث عنه، ويمكن الاستنتاج أنّ المقصود بهذا الضمير هو الوطن الممزّق الذي يمضي مُترنّمًا، لا يرى عشقه المذبوح حتى الوريد، وفي المقطع الرابع يتغيّر التوجّه تمامًا، حيث تظهر من بدايته نبرة الاعتزاز: انا المهر العربي الأغرُّ المُعلّى"، وتظهر بعدها نبرة الاشتهاء "جسدي من تراب هذي الارض مجبولٌ بدماها"، ولكن هذا التوجّه لا يطول فهو يتوقف بعد سطور قليلة، لتحلّ مَحلّه في المقطع الخامس ذكرياتٌ عن الأب الذي اغتاله التتار، وعن الجدّ الذي غيّبوه في المنافي، وعن الصغار/ الكبار الذين يحلمون بالعودة في صباحٍ أندلسيّ نديّ مُورّد الخدّيْن، ويمكن القول إنّ اسم الأندلس في هذا النصّ يُشكّلُ رمزًا للوطن الضائع، للفردوس المفقود الذي لم يحافظ عليه أصحابه محافظة الرجال، فلم يبقَ لهم بعد ضياعه إلّا أن يبكوه بكاء النساء، كما قالت تلك الأميرة الأندلسيّة لابنها الأمير، حين اضطرّ إلى مغادرتها، وقد جاء تكرار الصدى في هذا المقطع ليؤكّد عنصر التلاشي: وجوه تلاشت في رماد القطار/ وجوه تلاشت في رماد/ وجوه تلاشت/ تلاشت.. تـ .. لا .. شت (ص12).
اما اسم العلم الذي ورد في بداية هذا المقطع: علي بنُ عصفور، فهو اسم مستعار يشرح الشاعر مصدره في المقطع السادس حيث يقول: كالعصافير كنت أجوب البلاد، بلادي، بطولٍ وعرضٍ/ وأهلي أسمَوْني عليًّا كما النفوسُ الأبيّةُ في المعالي (ص13). والمقطع السادس متعلق بالمقطع الرابع ومكمّل له، إذ يبرز فيه الحلم والتفاؤل نحو قوله: أنا الصحراءُ التي تخضّبُ بالحنّاء شعرها المضفور/ تخبئُ في صدرها المكلوم مُهرَها الموعود../ أنا الأميرةُ التي اكتحتْ حلمَها/ وللوعدِ الحقِّ قد أسرجتْ خيولَ الشوق..(ص13)/ حرًّا طليقًا أغنّي/ وأنتشي بيوم النصر (ص14).
في المقطع السابع يعود الشاعر الى النقد الذاتيّ، وإلى نبرة الحزن والأسى، متوجّهًا إلى فاطمة رمز الوطن، ليقول لها: بسكّين غدرٍ نحروكِ يا فاطمة!/ ومن قبلُ ذبحناك قربانًا بيديْنا../ فتبّتْ يدانا يا فاطمة!/ فنحن القاتلُ والقتيلُ! (ص14). المقطع الثامن مخصص لبغداد التي اغتالها من يسمّيهم المُغُل الجدد، وعنهم يقول في نهاية المقطع: نحروا شرايين دجلة والفرات/ على وقعِ أنّاتٍ من قرابين الشّرّْ (ص15).
في المقاطع الثلاثة التالية التاسعِ والعاشرِ والحادي عشر، يعود الشاعرُ إلى النقد الذاتيّ، مع تركيزٍ واضحٍ على أصحاب السلطةِ الذين يسميهم "زناةَ العرب"، ويقول عنهم: صارت سيوفُهم قدَرًا مُسلّطًا فوقَ الرقاب/ باسمِ أمن العرشِ الموقّر.. (ص17)/ هم الحثالة المُهرولون وراءَ غانيةٍ ودينار (ص18).
ثمّ يتساءلُ بعدَ حديثٍ مطوّل عنهم: مَنْ مَلّكَ الأنذالَ- في الزمنِ الرديْ/ بلادًا تسامتْ أمجادُها/ ورقابًا كان ديدنُها الشّمم!؟/ مَن مَلَّلكَ الرقابَ- رقابَنا- لمازقٍ مُرتَدّ؟! (ص19).
ويستمرُّ الشاعرُ في المقطعيْن الثاني عشر والثالث عشر بتوجيهِ الذّمّ إلى أولئكَ الرؤساء، وإلى كلّ الذين يدعمونَهم، ولكنّه يتوقّفُ في عدّةِ مواضع من المقطعين ليشيد بمن سمّاهُ "زينَ بغداد" قائلا له: أيّها المُدهشُ المقدام.. (ص20) يا فارسًا باهى بفعله الأحرار/ أحرقْ بجمركَ الصخّابِ جمرَ الغضب/ لصوصًا بخناجر الغدرِ اغتصبوا عروشًا من ذهب (ص21).
في المقطع الأخير، المقطع الرابع عشر، يعود إلى مخاطبة فاطمة، رمز الوطن، مُقدّمًا لها صورةً رماديّة يظهر فيها الصمودُ والأملُ والتفاؤلُ والحلمُ، بالرغم من الواقع الأليم قائلا: أنا لي الأرضُ عشقًا تعشقني/ بعين القلب والروح زيْنَ الشبابِ تلقاني../ أنا ما مِتُّ وإنْ صدئتْ في معصمي قيودٌ وسلاسل/ ولي أحلامٌ تُناطحُ السحابَ، تُحلّقُ/ تعلو حبلًا شامخات../ أنا ما مِتُّ يا فاطمة!/ أنا ما متُّ يا فاطمة! (ص22).
وقد أحسن الشاعر صُنعًا حين ختم القصيدةَ الطويلة بهذه الصورة، فلا أقلَّ من التفاؤل والحلم في هذا الزمن الرديء الّذي يتحدّث عنه.
القصيدة الثانية هي "مَراثٍ على عتبات القادسيّة" والقادسيّة موقعٌ في العراق، وقعت فيه معركةٌ بين العرب والفُرس، وقد انتصرَ فيها العربُ بقيادة سعد بن أبي وقّاص، على الفرس بقيادة رستم، وذلك سنة 14 هـ/635م. القصيدة مقسمة الى خمسة مقاطع، يحملُ كلٌّ منها رقمًا (من1-5).في هذه القصيدة يركّز الشاعر على النقد الذاتي، وعلى ذمّ أصحاب السلطة وذمّ الأعداء، وعلى إظهار الأسى والأسف. وبعد هذا كلّه يحاولُ الشاعر في الخاتمة أن يكون متفائلًا، ولكنّه تفاؤلُ اليائسين، وهذه بعضُ أمثلةٍ على ما وردَ فيها: عادتِ الثاراتُ، عُدنا، آهٍ، أشتاتًا، بطونًا جاهليّة (ص23). من جديدٍ داستِ الأعناقَ أقدامُ التتار../ كنّا فخارًا للدُّنى، صرنا إماءً لإماء (24)/ كيف يأتي نصرُنا حُلمًا مُحنّ، كيف يأتي؟!/ كيف نصرُ القادسيّة؟ (ص29) لِمْ قسطتمْ يا عباد؟ قام أهلُ الكهفِ من عظمٍ رميم! (ص30).
القصيدة الثالثة صلاح الدين المراثي والأهازيج، وهي أيضًا مقسمة الى مقاطع كسابقتيْها مع اختلاف شكليّ في التقسيم، (يوجد عنوان لكل مقطع)، وتوجد تقسيمات داخلية في المقطعين الثاني والثالث. أمّا من ناحية المضمون فهي مختلفة تمامًا، وهذا الاختلاف يبرز في أمرين رئيسيّيْن: الأول هو ظهور التحدّي والجرأة في مواقع عديدة وبشكلٍ بارز لم نره من قبل، من ذلك قوله: يا الصوتُ الأروعُ، يا شيخي، ما الصوتُ الأروع؟/ يولد الصوتُ الأروع، يا ولدي، على شفرةِ سيف/ فيوجه السلطان../ أشعِلْ فتيلَ الصرخة، يا عبد الله، فالسيّفُ يخاف (ص33)/ أطلِقْ روحَكَ من كلّ خوف../ علّمْني الصرخةَ، يا شيخي، أو هاتِ مفتاحَ الجرأة/ ولصوتي أدُكُّ عروشَ السلطان/ تولد الصرخةُ على خدّ الخنجر.
والأمرُ الثاني هو ظهور الرابط الديني بين الأنا الشعري والمخاطبين الى جانب الرابط القومي والرابط الوطني وانطلاقا من هذا يجمع الشاعر بين يافا وخراسان وقرطبة وسمرقند وبيسان والشام ثم يقول: بعرض المدى زغردي../ وطني جهاتُ الأرضِ حيثُ كبّروا/ الله أكبرُ زغردي شعلةً من غضبِ، شعلةُ الحقّ تأبى أن تموت (36)/ زغردي.. زغردي.. لي في العشقِ ركعتان!/ لي في العشقِ ركعتان! (ص37).
ويلفت النظر أسلوبيًّا بروز التكرار في كل مقاطع القصيدة، والتكرار مرتبط في الأساس بالترسيخ (ترسيخ ما يُقال) ولكنه بالإضافة إلى ذلك، يعكس مشاعرَ التوتُّر والانفعال الناشئةَ عن غضبٍ أوكآبةٍ، أو يأس، هذه المشاعر التي تجعل الشاعرَ يدورُ في مدارٍ واحدٍ عدّةَ مرّاتٍ قبل أن يواصلَ مَسارَه.
القصيدةُ الرابعة (مصرعُ مُصارع الثيران في رقصةِ العُري)، هذه القصيدة عودةٌ إلى الحزن والأسى، والعنوانُ نفسه يوضّحُ ذلك، رغمَ كوْنه رمزًا أو استعارة، وقد جاء في بدايتِها: يقول العرّافُ، كلُّ المصابيح انطفأتْ.. ثمّ تلا ذلك بعد عدّة أسطر، بين قوسيْن، صوتُ الشاعر أو صوتُ العرّاف يقول: (لأجلك أندلس أمتطي حصانَ الوعد، أصعدُ الأسوار بأجنحة الشمع، صاعدًا للشمسِ والرُّمحُ في خاصرتي).
إنّ الأنا الشعريَّ هنا يصعد الأسوارَ بأجنحةٍ من شمع، ولا شكَّ أنّها تذوبُ حين تقتربُ من الشمس، كما حدث لأجنحة إيكاروس في الأسطورة اليونانيّة، كما أنّه يصعد للشمس والرمحُ في خاصرته، ومن المؤكّد أنّ صعودًا كهذا محكومٌ بالفشل سلفًا، وهو فشلٌ يُنهي به الشاعر المقطع الأوّل. في المقطع الثاني يكبر الحزن والأسى، ويقول الشاعر: أطفئي المصباح يا شهرزاد/ عبثٌ ما نفعل/ نبضاتُ القلب عبثٌ/ لم نعُدْ نحلمُ بالأجنّة (ص39)/ وبالفارس الآتي على فرسٍ بيضاء (ص40).
المقطع الثالث هو استمرارٌ للمقطعيْن السابقيْن، رغم الاختلاف الظاهريّ النابع من أحلام اليقظة، يقول الشاعر: فاصهلْ صهيلَكَ يا حصان، واصهلْ صهيلَكَ/ بحافرٍ ندكُّ حصونَ الحديد/ يا حصانَ الوعد، طِرْ للشمسِ الأسيرة (ص41). فالحصانُ المخاطَبُ ليس أكثرَ من حصانِ وعد، والشمس التي يطلب منه أن يطير إليها هي شمسٌ أسيرة. في المقاطع الثلاثة الأخيرة تظهر في النصّ شخصيّةٌ جديدة، يُسمّيها الشاعرُ "عازفةَ الجيتار"، وهي شخصيّةٌ مُتمّمةٌ للمَشاهد السابقة.. صبيّة منسيّة الأحزان/ بكتها شحاريرُ الأندلس../ عيناها حفرتان بلا كفن (ص42). ولذلك يعبّرُ الشاعرُ عن انساجمِهِ معها: بكيتُ حينَ بكتْ.
وحين يتحدّثُ عن الغناء بعدَ ذلك، يتحدّثُ بضمير الجمعِ: كنّا نُغنّي/ أبي عادَ حاملًا حصانًا من ورق (ص43)/ وهذا لحصانُ يُشكّلُ بلا أدنى شكَ، مَثلًا لكلّ الأحلام التي ذُكرَ فيها الحصانُ سابقًا، كما أنّ الفعلَ "عادَ" في الجملةِ نفسِها يُشكّلُ مَثلًا لكلّ أحلام العودة الحقيقيّة، ومن هنا تنتهي القصيدةُ بالأسطرِ التالية: يعود،.. يُسندُ رأسَهُ المُتعبَ/ فافرحي يا دارُ، في وحشةِ الليل/ أبي عاد .. أبي عاد.
وهي نهايةٌ تُعبّرُ عن يأسٍ شديدٍ مؤلم، يُضافُ إلى كلّ مظاهر الحزن والأسى، وهو يأسٌ نابعٌ من خيبة الأمل ومن عدم الرضا عندَ الشاعر، عمّا تحقَّقَ من عودةٍ في تلك الفترةِ التي كُتبت فيها القصيدة، وهي سنوات الثمانين (فالقصيدة كُتبت سنة1985).
في القصيدةِ الخامسةِ "ثلجٌ ستائرُكِ هذا المساء"، تستمرُّ المشاعرُ الرماديّة التي برزتْ في القصائدِ السابقة، مع اختلافِ الرموز المستعملة، كما يستمرُّ أسلوبَ التكرار الذي يرتبط بهذه المشاعر، فهي تتحدّثُ عن فارس الشرق القديم الذي لم يعُدْ شاعرَ القبيلة، فارسٍ مضى عنه الدفءُ وارتحل، وعن أميرةِ العشق المُحنّط، وعن قنديل العشقِ الذي انطفأ، وعن ليل الفجر الذي رحلت رياحُ الشوقِ عنه، وتُختتمُ بالأسطر التالية: ما عاد في القلب رنّات للوتر/ ما عاد في الأفق سِحرٌ للسَّحَر/ ورمادُ العشقِ بعيدًا.. بعيدًا.. قد سقط/ خريفيّةٌ شاحبةٌ كلُّ الكلمات/ ميتٌ وجهُ ذاكَ القمر (ص47).
القصيدة السادسة "رقاع إلى صلاح الدين"، هي خطابٌ مُوجّهٌ إلى القائد صلاح الدين، باعتباره رمزًا للخلاص. في المقطع الأوّل من هذا الخطاب، يتحدّثُ الشاعرُ عن صمودِهِ أمامَ الجلّاد، رغمَ ما يحدث، فلا يجثو ولا يركع، ثمّ يعرضُ في المقطع الثاني، أمام القائد صلاح الدين، مظاهرَ هذا الزمن الرديء، وممّا يقوله: عن شبابيكي تلكَ السنابلُ ما رحلتْ/ صارتِ النعاجُ ذئابًا في الميادين صالت (ص49).
ثمّ يطلب منه العودةَ لتقديم الخلاص المطلوب، وهي عودةٌ عجائبيّةٌ رمزيّة، ومع ذلك فإنّ الشاعرَ يرى، كما يبدو، أنّ هذا الإيمانَ يتحقّقُ، والقلبٌ هو الوسيلةُ الوحيدةُ المُتاحةُ التي تُقدّمُ الرجاءَ في هذا لزمن الذي تنعدم فيه الوسائلُ الواقعيّةُ للخلاص. ثم يتحدّث في المقطع الثالث عن التتار الجُدد قائلًا: كالنّملِ جاءتْ جحافلُهم/ مِن هنا مرّتْ كالجرادِ علوووووجٌ وعلوج (ص50).
وبالرغم من أنّ هذه الجحافلَ أطفأت كلَّ النجوم، فإنّ قنديلَ الأحلام الخاصّ بالمخاطب لم ينطفئ، وهذا المخاطبُ يمكن أن يكون فردًا هو الشاعر نفسه، ويمكن أن يكون شعبًا هو شعبُ هذا لشاعر، والسبب الذي جعل هذا القنديل لا ينطفئ هو الأمل المُستمَدّ من أحداث الماضي، قياسًا على ما كان يقول: كانوا هنا.. هنا كانوا صلاحَ الدين/ ثمّ في الأفقِ البعيدِ غابوا كالزبد. وما حدث في الماضي يمكن أن يحدث في الحاضر، ولكن ذلك منوطٌ بسيّد الأزمان كلها، فلسيّد الأزمان كلّها الأمرُ من قبلُ ومن بعد. 
القصيدة الأخيرة "ترانيمٌ رماديّةٌ في الولهِ الوحشيَ الأوّل"، قصيدةٌ مختلفةٌ من ناحية المضمون اختلافًا كثيرًا، فالشاعر فيها يتحدّث عن عنصر البراءة خارجَ أقفاص المدينة، مقابل عصر الزيف والأقنعة في مدن الرصاص، مُعبِّرًا عن حنينه المستمرّ إلى العصر الأوّل، وعن نفوره الشديد من العصر الثاني. في المقطع الأوّل تتحدّثُ الأنا الشعريّ عن ذاته، وعن المغنّي بين الأمس واليوم قائلًا: بالأمسِ كنتُ المُغنّي، حالمًا بين أجفان السفوح/ واليومَ قد نُضت مزاميرُ الغناء (ص53)، مستخدِمًا تناصًّا يُذكّرُنا بقصيدة النهر المتجمّد للشاعر ميخائيل نعيمة حين يقول: يا نهرُ، هل نضبَتْ مياهُكَ فانقطعتَ عن الخرير؟ أم قد هرمتَ وخارَ عزمُكَ فانثنينا عن المسير/ بالأمس كنت مُرنّمًا بين الحدائق والبحور/ تتلو على الدنيا وما فيها أحاديث الدهور/ بالأمس كنتَ تسيرُ لا تخشى الموانعَ في الطريق/ واليوم قد هبطت عليك سكينة اللحد العميق/ كيف ضاع الصوتُ منّي؟/ كيف ضاع الصوتُ من صوت المغني؟ كيف غاب؟
وهو يترك هذا التساؤل دون جواب، وينتقل الى المقطع الثاني حيث يتحدث عن أقفاص المدينة، وعن مدن الرصاص التي تغتاله قائلًا: إنه اصبح غريبا لا يفهمه أحد، وهنا يتذكر الكوخ السعيد، الكوخ الصغير، رمز الحياة لقروية البريئة،  والنقيض لأقفاص المدينة، فيوجّه إليه نداء في سطرين متتتاليين، وفي المقطع الثالث يوجه الخطاب الى راعية، ويطلب منها ان تسكب في القلب دفئًا من اغانيها الساحرات، وان تنزع ناب ذئب للصقيع، "فالشتاءات في الليل البهيم قد غيبت ضوء القمر (ص54).
ثم يخبرها ان القلب قد تهاوىمنذ الخريف، وفي المقاطع الثلاثة (الرابع الى السادس) يستمرّ الشاعر في توجيه الخطاب الى الراعية، طالبًا منها أن تأتي الى الطبيعة، لكي يُغنّيا معًا لعنابرها، للبحر، للروابي الخضر، لنوارس البحر، للوله الغجريّ، للمراعي المُعشوشبة، لزهر اللوز، للأيائل الجميلة، وكلها تمثل عناصر الطبيعة التي يعتبرُها النقيض التامّ لمدن الرصاص، ثمّ يُحدّثُها عن الحُبّ، وهو "ملحُ الأرضِ وسرُّ الحياة" قائلًا لها: وأنا أحبُّ كِ يا ابنةَ الغابات.. (ص55)، ويواصلُ الحديثَ عن الحبِّ حتّى آخر المقطع السادس، وفي المقطع السابع يتوجّهُ إلى الراعية، ثمّ يبدأ الحديث عن نفسه قائلًا: صرتُ المُهرّجَ الباكي (ص56)/ صرتُ الغريبَ لا يعرفُهُ أحد/ في نوبةٍ من سعالٍ ولُهاث/ أواجهُ ظلّيَ الممسوخ (ص57)/ وجهي الآن ما عادَ وجهي/ يفجؤُني وجهٌ مستعار (ص58).
وفي سياق هذا الحديث عن نفسه، يورد عن الآخرين، بين قوسيْن، حديثًا هجوميّا، فهُم مومياءاتٌ، أشباحُ أمواتٍ بقلوبٍ محنّطةٍ وعيونٍ من زجاج سميك، وكل الوجوه اكتست بالأقنعة (59)، وبعد هذا وذاك، يتوجّهُ إلى الراعية مرّةً أخرى، وكأنّها المخلصُ القادرُ على مواجهةِ هذه السلبيّات: أعيديني إليّ، أعيدي إليَّ سماوات الطفولة/ وانشري شراعًا لأرض البراءة (ص58).
ثمّ يقارن بين جمالِها والجمالَ العصريّ، فيرفعُ جمالَها إلى أعلى الدرجات، ويُنزلُ الجمالَ العصريَّ إلأى أسفل الدرجات، وفي ختام المقطع نسمع صدى المُغنّي، يُعيد ما سبقَ قوْله: ضاعَ صوْتي/ ضاع ظلّي/ صار ليوجهٌ مستعار (ص59)، ويُسمعُ صوتُ الجوقة تؤكّكُ رغبات المغنّي: أعيدوا الوجهَ لسيّدِهِ/ أعيدوا إليَّ تاجَ براءتي/ أعيدوا إليَّ كوخَ الفرح (ص59)
وتصبح هذه الرغباتُ هي الطلباتِ الأخيرةَ التي يرجو الشاعرُ المغنّي أن تتحقّق، دونَ أيِّ ضمانٍ لذلك، فالترانيم التي تضمُّها هذه القصيدة هي بحسب العنوان "ترانيم رماديّة"، وليس أمام الشاعر المُغنّي إلّا الصبر والأمل، ويبدو أنّه ليس وحيدًا في هذا المجال، وأنّ الذات الفرديّة هنا تُمثّلُ قطاعًا واسعًا من أبناء هذا المجتمع، ولكننا مع ذلك، إذا قارنّا بين هذا المجال وبين المجال السياسيّ القوميّ الوطنيّ الذي تناولته القصائد السابقة، رأينا بلا أدنى شكّ، أنّ المجالَ السياسيَّ يُمثّلُ القطاعَ الأوسعَ، ويُعبّرُ في كثير من المواضع عن الذات الجماعيّةِ تعبيرًا شاملًا، من ناحية الأسماء ومن ناحية المواقف. وأخيرًا، وبعد هذا الحديث المُطوّل، أرجو أن اكونَ قد أعطيتُ صورةً واضحةً عن جانب المضمون في هذه القصائد، وفتحتُ البابَ بقدرٍ كافٍ للدّخولِ إلى الجوانب الأخرى، وهي كثيرة، ولكم كلّ الشكر والتقدير.
مداخلة د. صالح عبود: رقاعٌ إلى صلاح الدّين: يا صلاحَ الدينِ عكّا/ قدْ وَفَتْ عَهدًا وَصَكَّا/ أَنجَبَتْ في السّورِ صَبرًا/ دَكَّتِ الضّغناءَ دَكَّا/ سَاحِلًا فيها أرَاهُ/ قَدْ غَدَا للسّورِ وِرْكا/ سُورُها بَأسٌ وَأنْفٌ/ في ذُرَى الأمجادِ حكَّا/ علَّمَ الأعداءَ دَرسًا/ مزَّقَ الأنواءَ فَكَّا/ حُسْنُكِ الجَذَّابُ غَضٌّ/ لَم يُصبْهُ الدَّهرُ وَعْكا/ قَدْ كُفِلتِ في رِجالٍ/ كُلُّهمْ ضَحَّى وَزَكَّى/ كَيْ تَدومي في صُدورٍ/ أَمنَ حَقٍّ ليسَ شَكَّا/ قَدْ كُفيتِ في نَظيرٍ/ ذِمَّةً حُبًّا وَنُسْكَا/ فالنَّظيرُ في هواكِ/ صَنَّفَ الأقوالَ سَبكَا/ مُدرِكًا أنَّ الحياةَ/ في هَناءِ العيشِ عكَّا/ في هَوى عكَّا نَظيرٌ      قانتٌ قدْ كَفَّ شِرْكَا (مجزوء بحرِ الرمَل).
مجموعةُ رقاعٍ إلى صلاحِ الدينِ، توليفةٌ شعريّةٌ عكّيّةٌ سورُها وجعٌ وساحلُها تأوُّهُ ومِدادُها الدّماءُ السائلةُ من دواةِ الرزايا، تَشرأِبُّ حروفُها رغمَ غرقِها في سحابِ البلايا، تَعزفُ نشيدًا سُباعيًّا وَموتًا وَغَصبًا إيقَاعيًّا يُكفِّنُ الواقعَ في بلادِ صلاحِ الدينِ الخصبةِ بكفّارِها ومنافقيها وطوابيرِ الخونةِ والمارقينَ والمرتزقةِ من علوجِ التاريخِ الذي عجَّلَ بِهمْ إليها، حتّى غدتْ مثوًى لهم وَمُقامًا.. تقعُ مجموعةُ أخي وصديقي الشاعرِ والبَحّاثةِ الأصيلِ المتأصِّلِ نظير أحمد شمالي ضمن ستّينَ صَحيفةً تضمُّ سبعَ قصائدَ هي على الترتيبِ الذي كسر فيه الشاعرُ التتابع الزمانيّ لنظمِها وتأليفها: القصيدةُ الأولى بعنوان: "لفاطمةَ أغنيةٌ موقوتةٌ في مخدعِ السلطانِ"، وهيَ مخاضُ عامٍ وأشهرٍ ثلاثةٍ على وجهِ التقريبِ، تترامى في أربعةَ عشرَ مقطعًا، كلُّ قطعةٍ منها تتناولُ صورةً شعريّةً دقيقةً تُفصحُ عن الحالِ العسيرِ المُتوعِّرِ والواقعِ الكؤودِ العُضالِ الذي بَلَغهُ الوطنُ العربيُّ، ورزحَ تحتَ سلطانهِ الصّفيقِ المَوْبوءِ.. يستهلُّ شاعرُنا العكّيُّ المتسوِّرُ قصيدَتَهُ ومجموعتَهُ بالصورةِ الشعريّةِ القاتمةِ الآتيةِ، فيقولُ: "يا فاطمة! أيُّ ليلٍ داهمٍ نَحنُ فيهْ؟! والعُمرُ منَّا قد تهاوى قبلَ إطلالِ الصباحْ! مِزَقًا مِزَقًا تَشَتَّتْنَا مِنْ بعدِ بأسٍ شديدْ! أيَا وطنًا تناوشتهُ أنيابُ الذئاب! مَنْ عاثَ في الوطنِ "المفدَّى" الفسادْ! مَنْ مزَّقَ الوطنَ الممتدَّ كالبحرِ تحتَ شمسٍ لا تغيبْ؟! مُستَضعَفينَ أصْبحنا، نِعاجًا لا تُقاتلْ!! أشدَّاءُ أمسَينا إذا قاتلَ بعضُنا بَعضًا، وفي سيوفِنا حلَّتْ حُمَيَّا الدماءْ، رُحماءُ إذا طلَّ التتارْ! وسيوفُنا بوجهِ التتارِ قدْ غدَتْ لعبةً منْ خَشَبْ! كَغُثاءِ السيلِ صِرنا بعدَ عِزٍّ واقتدارْ، نَعامًا ندسُّ الرأسَ في الرملِ جُبنًا في وَضَحِ النّهارْ!"..                                                                                                               
يصوّرُ شاعرُنا العكّيُّ في نصّهِ الفاتحِ دُجْنةَ الواقعِ العربيِّ وإسوادَدَهُ، فيأتي على تشيّعِ العربِ وتفرّقِهمْ، ويذكرُ نزفَ الوطنِ المستديمِ في ليلٍ نجومُهُ العلوجُ وكواكبُهُ الكُرَبُ المتهاويةُ، في وطنٍ يُطيلُ لَيلَهُ هديرٌ من دماءِ المواطنينَ الفئرانِ، الذين سامَتهُمْ محاكمُ التفتيشِ العربيّةِ الوطنيّةِ نارَ الهزائمِ والانكساراتِ النفسيّةِ الغالبةِ/ والمواطنُ الذي يصهلُ مُهرًا وقهرًا عربيًّا أصيلًا، يُفَدْفِدُ فوقَ مروجِ تاريخِهِ حالمًا بزمانٍ لمْ يُغادرْ ذاكرَتَهُ المتحصّنةَ بالنسيانِ، والوطنُ يَئِنُّ وَيَستَعبرُ من حالِ الفُرقَةِ وقيودِ الشوكِ وعرباتِ الجنودِ.                     
يصوِّرُ في سياقِ قصيدتِهِ الاستهلاليّةِ في مجموعتهِ "رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ" صورةَ العربيّ المنفيِّ المطرودِ من وطنهِ الذي لم يبقَ منهُ إلّا نشيدٌ وعلمٌ وطاغيةْ، فيستعيدُ ضمنَ مجالاتِ ذاكرتهِ الصّدئةِ المحترقةِ ببرودِ الوطنِ، ومن خلالِ بصيرةِ شاعرٍ  يتألّمُ ورقُهُ من وجعِ الكلماتِ، وتبكي حروفُهُ من حُرقةِ البداياتِ وفَجعةِ النهاياتِ، وهوَ يخاطبُ نفسَهُ أكثرَ من مرَّةٍ واحدةٍ، وذلكَ شأنٌّ جليلٌ فيهِ، فيقولُ: "أُدعى عليَّ بنَ عُصفورْ"، ثمَّ يُردفُ: "أجلْ أُدعى عليَّ بنَ عُصفورْ"، وتراهُ يعلّلُ اسمَهُ ونعتَهُ ونسبَهُ تعليلًا يقتحمُ القضيّةَ ويُجملُ البيّنةَ أيَّما إجمالٍ، فتسمَعُ مِنهُ زقزقةً رقيقةً يقولُ فيها: "أجلْ، أُدعى عليَّ بنَ عُصفورْ، لا، لم تَخُنّي الذّاكرةْ، كالعصافيرِ كنتُ أجوبُ البلادَ بلادي بطولٍ وعرضْ، وأهلي أَسْمَوْني عَلِيًّا كما النفوسُ الأبيّةُ في المعالي"، فيجتمعُ في قناعِ الشاعرِ رجلٌ علويٌّ يستعلي في معالي الوطنِ والسماءِ، ولا تكتملُ عَلَوِيَّتُهُ إلّا بفاطمةَ التي نُحرَتْ مرَّتين: مرّةً بسكّينِ غدرٍ، بَعدَ أنْ قرَّبَها أهلُها قُربانًا دونَ أنْ تدمعَ لهمْ عينٌ! فتبّتْ يدُ قومٍ قتلوا فاطمةَ ولم يَرْعَوْا فيها ذمّةً وإلًّا.. فاطمةُ البغداديّة العربيّة الشاميّة، يستبيحها مع كلِّ عصرٍ جحفلٌ من مُغُلٍ جُدُدٍ، يظهرونَ بأسماءَ وَبِزَّاتٍ عسكريّةٍ حاقدةٍ تَحشْرجَتْ مِن سُمومِها وَكُرهِها شرايينُ دِجلةَ والفراتْ. تُقتلُ فاطمةُ وَزُناةُ العربِ كلُّهمْ يصفّقونَ في حفلِ اغتصابِها قُربانًا للوطنِ، والحياءُ الذي اُقتُلِعَ منهم غابَ في سديمِ العبوديّةِ المعاصرةِ المُخدِّرَةِ، هُمُ السُكارى الّذينَ استباحوا نَخْبَ الخيانةِ العربيّةِ الوسيمةِ واستمرؤوا العربدةَ المتأصّلةَ في غرائِزِهمِ الموقَّرَةِ الساقطةِ، همُ الدُمى الخرساءُ كأهلِ الكهفِ، كمسمارٍ قعيدٍ، أبدًا لا ينطقونْ!                                                                                                                   
يستنهضُ الشاعرُ فروسيّةً غائبةً في زحمةِ العُهرِ العربيِّ المُذَقَّنِ بِذقونِ الخديعةِ والضلاليّةِ الإِفْكِيَّةِ، طالبًا منْ فارِسِ الغضبِ القادمِ أن يُحرقَ بِجَمرةِ غضَبِهِ الحقِّ لصوصَ الغدرِ الغاصبينَ، وأنْ يدوسَ بِنعلَيهِ تيجانَهُمُ الكاذبةَ.. ينتهي الشاعرُ في قصيدتِهِ الاستهلاليّةِ في مجموعتهِ المُحبَّرَةِ رِقاعًا إلى صلاحِ الدينِ بنداءٍ بعيدِ المدى لفاطمةَ التي ما ماتتْ رغمَ زَعمِهمْ، مُذكِّرًا إيّاها ونَفسَهُ أنّهُ لمَّا يَمُتْ، أنَّ عليًّا حيٌّ يا فاطمةْ!                           
كانتْ تلكَ حَسوةُ طائرٍ في صَخَبِ مخاضِ قصيدةٍ استغرقَتْ صاحِبَها عامًا وأكثرَ، ولو أردتُ الوقوفَ عندَ ما فيها من صورٍ ودلالاتٍ وتوظيفاتٍ تراثيّةٍ مُحكمةٍ، تنضحُ جميعًا عن شاعريّةِ نظيرٍ العكّيّةِ الوسيمةِ السّمراءِ، لو أزمعتُ ذلكَ، لَطفِقتُ أُلَملمُ وقتيَ إلى وَقتِكمُ جميعًا لَعلِّي أصيبُ الذي أُرجِّيهِ وَلعلِّي لا أدركُهُ!                             
لي معَ عنونةِ قصائدهِ وِقفةٌ تختزلُ كثيرًا منَ الكلامِ والإبهامِ المُبَيِّنِ، وبعضُ الإبهامِ في مذهبي ومذهبِ شيوخِنا، وقدْ تمنبرتُ المنبرَ الحيفاويَّ السّاعةَ في حضرَةِ كوكبةٍ منهمُ.. أقولُ: بعضُ الإبهامِ أوضحُ سبيلٍ للبيانِ والتبيينِ، وهوَ ما فطِنَ إليهِ شاعرُنا النظيرُ في كثيرٍ من سياقاتِ نصوصهِ السبعةِ في مجموعتهِ "رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ"، إذ يقعُ عنوانُ القصيدةِ الأولى: "لفاطمةَ أغنيةٌ موقوتةٌ في مخدعِ السلطانِ" ضمن العناوين المختزلَةِ للنصّ، رغمَ أنّ العنوانَ في بِنيَتهِ الاسميّةِ الإسناديّةِ لا يكفلُ للقارئَ من خلالِ عتبةِ النصِّ الأولى إحاطةً بما وردَ في مجملِ النصِّ، لكنّهُ يفعلُ ذلكَ على وجهٍ سليمٍ لدى القارئِ الواعي الذي أحاطَ بعد قراءَتهِ النصَّ قراءةً سياسيّةً وتاريخيّةً مشفوعةً بمنظومةٍ منَ التِقَنيّاتِ التفكيكيّةِ لعناصرِ النصِّ، ولا سيّما الموتيڤاتُ التراثيّةُ المحوريّةُ في سياقِهِ، إذ يُحيلُ العنوانُ المختارُ للقصيدةِ الأمِّ القارئَ إلى فهمٍ لدورِ فاطمةَ المحوريَّ في النصِّ، وهو ما قد يغفلُ عنهُ فيما لو التفتَ إلى موتيڤاتٍ أخرى مجاورةٍ لموتيڤِ فاطمةَ في القصيدةِ. هذا التعالقُ النصّيّ المكينُ ينسحبُ في رأينا على عناوينِ القصائدِ المتمِّمةِ لنصوصِ المجموعةِ الشعريّةِ، وَلكمْ معشرَ السيّداتِ والسادةِ أن تُخضِعوا ذلكَ لقراءاتكمُ التي أثقُ بها أكثرَ من ثقتي بِقراءَتي في الأمورِ، فانظروا إلى أيْنُ تؤولُ بكمُ قراءاتكمْ وتمحيصكمْ.                                                                                           
عرَضَ شاعرنا النظيرُ من خلالِ توظيفاتٍ تراثيّةٍ موزّعةٍ وموظَّفةٍ في نصوصهِ كثيرًا منَ الصورِ الشعريّةِ والدلالاتِ المنسولةِ من حدودِ الواقعِ، فأدّى ذلكَ بحرفيَّةٍ مقنعةٍ تعكسُ انتماءَهُ وتقديسَهُ لتراثِه العربيِّ المجيدِ، ويكادُ القارئُ يلحظُ ذلكَ عنْ وعيٍ منهُ من خلالِ الألفاظِ والمستوى اللّغويِّ والضبطِ الاصطلاحيِّ لكثيرٍ من المصطلحاتِ التاريخيّةِ المرهونةِ بالتراثِ العربيِّ وحضارةِ المسلمينَ في العصورِ الوسيطةِ، ويشهدُ على إشباعِ قصائدِ المجموعةِ بالتراثِ العربيِّ والإسلاميِّ ما يردُ فيها من مجالاتٍ للتعالقِ النصِّيِّ أوِ التناصِّ الأدبيِّ الذي يُحيلُ القارئَ لدى تسكِّعهِ بينها، يُحيلُهُ إلى وقائعَ وشخصيّاتٍ ومحطّاتٍ تاريخيّةٍ تدخلُ في صميمِ التاريخِ والتراثِ..                                                                                                                 
نأتي الآن إلى قصيدةٍ حيّرتني وَشيّبت وجداني حتّى خالَطني منها ما يُخالطُ العليلَ من داءٍ ودواءٍ، تلكَ كانتْ قصيدتُكَ التي اخترتَ لها عنوانَ المجموعةِ برمَّتها: "رقاعٌ إلى صلاحِ الدين"، وهي قصيدةٌ تثيرُ جدلًا سأضربُ صَفحًا عنهُ، إزاءَ شخصيّةِ صلاحِ الدينِ، الذي باتَ أسطورةً وحُلُمًا يستمدُّ طوباويَّتهُ وعِرفانَهُ من التأريخِ وسراديبهِ المتضاربةِ، هوَ رجلٌ وقائدٌ وعابدٌ وماجدٌ حاكَ التاريخُ والنقدُ التاريخيُّ لهُ هيئَةً قشيبةً ساميةً وأخرى أصغرَ وَأهونَ، والناسُ فيهِ بينَ رجلينِ كما هوَ حالُ أعظمِ العظماءِ دَومًا!                                     
قصيدةُ "رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ" تتألّفُ من مقاطعَ ثلاثةٍ غيرَ تزامنيّةٍ، إذ كُتبَ مقطعها الأوّل والأقصرُ في مطلعِ عامِ 2011 بعنوان: "عهد"، وهي لوحةٌ شعريّةٌ تتعهّدُ الصمودَ أمام الجلّادِ، يتعهّد فيها الشاعرُ بالوقوفِ أمامَ المكارهِ وهوَ قائمٌ لا يجثو لأحدٍ ولا يركع! أمّا المقطع الثاني في القصيدةِ ذاتِها، فقد أُلِّفَ عام 2000 وهو بعنوان: "حرائق الذاكرة"، وفيه نشهدُ نداءً شعريًّا ينتهي بالشاعرِ إلى دعوةِ صلاحِ الدينِ إلى حطّينَ جديدةٍ، وهوَ يركبُ لهيبَ ذاكرتهِ الجماعيّةِ، يَرقبُ البحرَ مُخاطبًا إيّاهُ وهوَ يصفُ حالَهُما، فيُبصرُ ذاتَهُ في حالِ البحرِ الحزينةِ بعدَ أن هجرَتهُ نوارسُ الحياةِ، فرحَلَتْ معها حقيقةُ البحرِ منَ البحرِ، وَخلَّفتِ البحرَ دونَ بحرٍ، شأنهُ شأنُ الإنسانِ، الذي رحلَ من ذاتهِ، ومن إنسانيّتهِ، فَخلَّفَ الإنسانَ دونَ إنسانٍ!                                 
تكتملُ القصيدةُ معَ المقطعِ الثالثِ فيها، وهو بعنوانِ "من هنا مرّوا"، وقد كُتبَ هذا المقطعُ عام 2017، ورهَنَ الشاعرُ في تراخيهِ الزمنيِّ دورةَ التاريخِ الذي يُعيدُ نفسَهُ أحيانًا، والشرقُ يا سادتي، حافلٌ بعودتهِ وَرجعتهِ المكروهةِ، بَيدَ أنَّ عودتهُ تلكَ لا تخرجُ عن كونها قدَرًا مُقدَّرا وقضاءً مُبرَمًا أبرمتهُ السماءُ لحكمةٍ طُوِيَتْ عنْ أهلِ الأرضِ، إذ مرَّ التتارُ من البلادِ، وعاثوا فيها خرابًا وفسادًا في كلِّ مرّةٍ اجتاحوها فيها، ثمَّ تراهم يغيبونَ ويعودونَ من جديدٍ، بأسماءٍ أخرى وأعوانٍ آخرينَ، وصلاحُ الدينِ المُنتظرُ مُنتظَرٌ! الانتظارُ والقعودُ سيّداتي وسادتي، عقيدةٌ وطريقةٌ تشكّلُ في ذاتها معركةَ الشرقِ الحقيقيّةِ، التي يخوضها قَومُها وهمْ يُسلمونَ قِيادَهم للسماءِ! وقدْ رأيتكَ في قصيدتكَ هذهِ وغيرِها، متمرِّدًا ثائِرًا وصوتُكَ المكتوبُ في رُقاعٍ إلى صلاحِ الدينِ، يقولُ مدَويًّا: كفانا كفانا! فصلاح الدينِ فينا نحنُ، والنصرُ والهزيمةُ من عندِ أنفسنا نحنُ! والأمرُ للهِ من قبلُ ومن بعدُ! بذلك يُنهي الشاعرُ قصيدتَهُ المُحيّرةَ التي وَقفتُ وَاسْتوقَفتُكم عندها، إذ تراهُ يَختمها بِإشارةٍ تناصّيّةٍ يُقلِّدُها وسامَ التسليمِ لأمرِ من لا يُردُّ لهُ الأمرُ، للهِ الواحدِ القادرِ دونَ خلقهِ على أنْ يُغيّرَ ما يصعبُ تغييرهُ في حالٍ دامتْ طويلًا، هكذا يُغلقُ الشاعرُ بابَ القصيدةِ إذ يقولُ: "دارَ الزمانُ دَورَتهُ، أيْ بُنَيّْ، فَلِسيِّدِ الأزمانِ كُلِّها الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ"، تناصٌّ مع آيةٍ قرآنيّةٍ وردت في سورةِ الروم في قولهِ تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم: "ألم، غُلبتِ الرومْ، في أدنى الأرضِ وهمْ مِنْ بَعدِ غَلَبِهمْ سَيغلِبونْ، في بضعِ سِنين، للهِ الأمرُ مِنْ قبلُ ومنْ بعدُ، ويومئذٍ يفرحُ المؤمنون" صدق الله العظيم، وقد وظّفَ شاعرُنا النصَّ القرآنيَّ والنصَّ التراثيَّ بأسلوبٍ مُقنعٍ وجادٍّ يخدمُ المعنى والإيحاءَ في كثيرٍ منم سياقاتِ قصائدهِ في مجموعتهِ رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ...                                                                                          ينصرفُ شاعرنا للتناصِّ في شواهدَ شعريّةٍ عديدةٍ في مجموعتهِ، ولعلَّ من أبرزِ حقولِ التناصّ الشعريِّ عندهُ الحقلُ التراثيُّ الدينيُّ، وذلكَ جليٌّ في التناصِّ الدينيِّ الكتابيِّ، ومثالُهُ قولُهُ في قصيدتِهِ: "مراثٍ على عتباتِ القادسيّةِ": "واستعبدَتْنَا أمَّةٌ تزني وترمي بالحجرْ!!"، وتناصّهُ القرآنيُّ الجدليُّ في قصيدتهِ: "صلاحُ الدين: المراثي والأهازيج"، إذ يقول: "أَسْرِجي الخيلَ، أمُّ الشهيدِ، أعدِّي مِنْ رباطِ الخيلِ، كَفكفي عن عينيكِ دمعةً، دَعي البكا، زَغردي.. فما قتلوهُ وما صلبوهْ"، وتناصُّهُ الحديثيُّ المنسولِ من تراثِ أدبِ الحديثِ النبويِّ المتواترِ الصحيحِ، وذلكَ في قصيدتهِ "لفاطمةَ أغنيةٌ موقوتةٌ في مخدع السلطان"، إذ يقول: "كغثاءِ السيلِ صِرنا بعدَ عزٍّ واقتدارٍ، نعامًا ندسُّ الرأسَ في الرملِ جُبنًا في وضحِ النهارْ!!"، ولشواهدِ التناصِّ بنوعيه: الدينيِّ والسياسيّ شواهدُ أخرى من اليسير على القارئِ التعرّضُ إليها..                                           
استوقفَتني قطعةٌ رَدَّت إليَّ سعادتي التي بدَّدَتْها قصائدُكَ المثخنةُ جِراحًا ونواحًا وَتَهافتًا أخي النظير، تلكَ القطعةُ المقتبسةُ مِن قصيدَتكَ الفاتنةِ "ترانيمُ رماديّةٌ في الولَهِ الوحشيِّ الأوّلِ"،  إذ تقولُ فيها مخاطبًا الراعيةَ: "وأنا أُحبُّكِ، يا ابنةَ الغاباتِ، كما الحبُّ في البدءِ كانْ، بشوقِ الأرضِ لِترياقِ المطرْ، الحبُّ قاموسُ اللغاتِ، حيٌّ لا يموتْ، الحبُّ بدءُ اللغاتْ، هوَ رُخُّ البعثِ يصحو من رمادْ، هوَ بعثُ البعثِ، وهوَ حيٌّ لا يموتْ، الحبُّ يبقى لا يموتْ، الحبُّ يبقى.. لا يموتْ"..                                                                               
ختامًا، أشكرُ لكَ أخي النظيرَ، أن جمعتَ شملَ تلكَ القصائدِ في مجموعتكَ رقاعٌ إلى صلاحِ الدينِ، وقدْ كانت قبلها ضمنَ أوراقكَ المتراكمةِ التي لم تجدْ لها سبيلًا لغيركَ، فاصنعْ خيرًا بِأنْ تنشرَ مخطوطاتِكَ المكنوزةِ في خُطاطاتِ تراثكَ العكّيِّ والإنسانيِّ الخليقِ بالقراءَةِ والكشفِ والتجرُّدِ منْ وعثاءِ الانتظارِ.. شكرًا لكم..


69
درويش يُحوِّلَ التجربةَ الذاتيّةَ إلى تجربةٍ إنسانيّةٍ!؟
آمال عوّاد رضوان
برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا، أقام نادي حيفا الثقافي أمسية مميزة، في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسية في حيفا، وسط حضور مميز من الأدباء والشعراء والأصدقاء والمهتمين بالأدب والثقافة، وذلك بتاريخ 28-9-2017، احتفاءً بالبروفيسور سليمان جبران وتوقيع كتابه (الإيقاع في شعر درويش- نظن كأنه النثر).
تولت عرافة الأمسية رنا صبح، بعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي، وقد كانت مداخلات نقدية جادة للكتاب لكلّ من: د. كلارا سروجي شجراوي حول أهمّيّة الكلمة كسلاح سلميّ برموزها في شعر درويش والإيقاع الملازم له، وتحدّث  د. حسين حمزة حول التناص والإيقاع في شعر درويش الموزون، ورغم أن قصيدة تتصدر الشعر في السنين الأخيرة، إلّا أن درويش لم يكتبها، ولدرويش تصريحات كثيرة يؤكّد فيها أنّه كتب نثرًا لا قصيدة نثر. وفي نهاية اللقاء شكر بروفيسور جبران المُنظّمين والمُتحدّثين والحضور، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة أثناء توقيع الكتاب.
مداخلة العريفة رنا صبح: على هذه الأرض ما يستحق الحياة! نهايةُ أيلولَ، سيّدةٌ تترُكُ الأربعين بكامل مشمشها، ساعة الشمس في السجن، غيمٌ يُقلّدُ سِربًا من الكائنات، هتافاتُ شعب لمَن يَصعدون إلى حتفهم باسمين، وخوفُ الطغاة من الأغنيات. حضرات الأخوة الأدباء والمفكّرين والشعراء والناقدين، الجمهور الكريم، مساؤكم طيبٌ وعنبر. يسرني جدّا أن أشارك اليوم في هذا الحفل المبارك، لإشهار كتاب البروفيسور سليمان جبران، تحت عنوان الإيقاع في شعر درويش- نظم كأنه نثر. أحيّيكم وأرحّب بكم في النادي الثقافيّ حيفا، القائم برعاية المجلس الملي الأرثذكسيّ الوطنيّ الذي آلى على نفسه، إرواء الثقافة والذاكرة والتاريخ والقلم.
الأخوة والأخوات، للشعر موسيقاه الموصولة بروح الكلمة وعبقريّتها، وللمساءِ روح تُغري بالشعر، روح تحوّل الوجدان إلى ذاكرة عظيمة، فكيف بالمساءِ حين يكون مقرونًا بمحمود درويش الغائب الحاضر، كما وصفه البروفسور جبران؟ هذا الاحتفال ما هو إلّا تأكيد لمكانة البروفسور سليمان جبران، الذي  كرّس عمره لدراسة الأدب ونقده، وفي إعمار الحركة الثقافيّة في البلاد، فوهب حياته للعلم والمعرفة والكتابة والكلمة، حتى نقش اسمه في سجلّ الباحثين الطلائعيّين المُجدّدين المُبتكرين. أسأل الله أن يطيل في عمرك بروفسور، وأن يكون مشوارك الإبداعيّ زادًا ومَعينًا لا ينضب.
محمود الذي لا يزال حتى بعد رحيله يملأ الدنيا ويشغل الناس، وُلد أكثر من مرّة، وانتقل من اسم سقط عليه كما تسقط الأسماء على جميع البشر، إلى اسم صاغه كما يشاء، اسم تتحاور فيه الهويّات، وتتنقّل من حكايات متوارثة إلى مجاز شعري كونيّ الزمن، وتتوزّع عبر فضاءات المكان والزمان. محمود: والميم/ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى/ الحاء/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان/ الميم/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته/ الموعود منفيّا، مريضَ المُشْتَهَى/ الواو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى/ ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين/ والدال/ الدليلُ، الدربُ/ دمعةُ دارةٍ دَرَسَتْ/ ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني.
 ألقت قصيدة "يُحبّونَني ميّتا" لمحمود درويش: يُحبّونني ميتًا ليقولوا: لقد كان منّا ، وكان لنا. سمعتُ الخطى ذاتَها. منذ عشرين عامًا تَدقُّ حائطَ الليل. تأتي ولا تفتحُ الباب. لكنّها تدخلُ الآن. يَخرُجُ منها الثلاثةُ: شاعرٌ، قاتلٌ، قارئٌ. ألَا تشربونَ نبيذًا؟ سألتُ. قالوا. متى تُطلقونَ الرّصاصَ عليّ؟ سألتُ. أجابوا: تمهّل! وَصَفُّوا الكؤوسَ وراحوا يُغنّونَ للشعبِ. قلتُ: متى تبدؤونَ اغتيالي؟ فقالوا: ابتدأنا.. لماذا بعثت إلى الروح أحذيةً، كي تسيرَ على الأرضِ؟ قلت. فقالوا: لماذا كتبتَ القصيدةَ بيضاء والأرضُ سوداءُ جدًّا. أجبتُ: لأنّ ثلاثينَ بحرًا تَصُبُّ بقلبي. فقالوا: لماذا تُحبُّ النبيذَ الفرنسيّ؟ قلتُ: لأنّي جَديرٌ بأجملِ امرأةٍ. كيفَ تطلبُ موتَكَ؟ أزرق مثلَ نجومٍ تسيلُ من السّقفِ. هل تَطلبونَ المَزيدَ مِنَ الخمرِ؟ قالوا: سنشرب. قلتُ: سأسألُكُم أنْ تكونوا بَطيئين، أنْ تَقتلوني روَيْدًا رُويْدًا لأكتبَ شِعرًا أخيرًا لزوجةِ قلبي. ولكنّهم يَضحكونَ ولا يَسرقونَ مِنَ البيتِ غيرَ الكلامِ الّذي سأقولُ لزوجةِ قلبي.
د. كلارا سروجي شجراوي: من مواليد حيفا. حصلت على لقبِ الدكتوراة بتفوّق من جامعة حيفا منذ 2009. لتلتحق بسلك المحاضرين في جامعة حيفا، في قسم اللغة العربيّة وآدابها، في مجالَي الأدب العربيّ الحديث والفلسفة الإسلاميّة.
الناقد والباحث د.حسين حمزة:  ولد في قرية البعنة. حصل على الدكتوراة من جامعة تل أبيب.  يعمل محاضرًا في الكليّة الأكاديميّة العربيّة للتربية في حيفا منذ 1997، ويشغل حاليًّا منصب رئيس قسم اللغة العربيّة فيها. حصل عام 1996 على جائزة لجنة التوجيه الدراسيّ، وفي 2003 على جائزة وزير الثقافة للمبدعين باللغة العربيّة.
مداخلة د. كلارا شجراوي بعنوان الانفلات من أسر المحليّة والإقلاع نحو العالميّة: أهلا بالجمهور الكريم في نادي حيفا الثقافي. نحتفي اليوم بكتاب بروفسور سليمان جبران: "نظم كأنّه نثر: محمود درويش والشعر العربيّ الحديث".
الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات كُتبَت بأوقات مختلفة، لكنّها تمتثل لخطّ سَيرٍ واحدٍ واضحٍ وهو إثبات أنّ الشاعر محمود درويش لم يتخلّ أبدًا عن الإيقاع فالتزم بالتفعيلة حتى في قصائده المتأخرة التي تبدو ظاهريّا نثريةَ الطّابع أو منتميةً لقصيدة النثر. سأتناول مقالًا واحدًا من الكتاب بعنوان "ريتا الواقع والقناع"، كي أتحدّث عن مكانة الشاعر ونزعته الإنسانيّة التي أوصلته إلى العالميّة، بعد ترجمة أعماله إلى أكثر من ثلاثين لغة، فالمقال في نظري يُقدِّم مثالًا واضحًا عن تطوُّر شعر محمود درويش من الذاتيّ إلى الإنسانيّ العامّ أو الكونيّ.
     لقد أحبّ شاعرُ المقاومة محمود درويش فتاة يهوديّة يساريّة تعرّف عليها عندما كان منتميًا للحزب الشيوعي الإسرائيلي في أواسط ستّينات القرن الماضي. هكذا وُلدَت قصيدة "ريتا والبندقيّة" لتكون ريتا الاسمَ البديل لحبيبته اليهوديّة تَمار بِن عَمي، ودام حبّهما عامَين. نُشرت القصيدة في مجموعته "آخر الليل" سنة 1967.
أهميّة هذه القصيدة متعدّدةُ الجوانب فهي تدلّ أوّلا على شخصية الشاعر المنفتحة على الآخر المختلف، وهو الذي أتقن العبريّة والفرنسيّة والإنجليزيّة. كذلك، هي دلالة على أنّ الشاعر لم يعادِ اليهودَ كشعب، إنّما تحدّى المحتلَّ والمغتصِبَ لحقوق الشعب الفلسطيني، وإلاّ كيف نفسّر اهتمامَ خصومِه ومحبّيه من اليهود بشعره فكتبوا عنه الدراسات كما ترجموا أعمالَه؟ على الأقل حبّ من باب "إعرف خصمَك". اشتهرت هذه القصيدة في العالم العربي بعد أن لحّنها وغنّاها الفنّانُ اللبنانيُّ المبدع مارسيل خليفة، دونَ العلم طبعا في تلك الفترة بأنّ ريتا الحقيقيّة هي فتاةٌ يهوديّة. ونحن نعلم أنّ القصائد التي يتمُّ تحويلُها إلى أغانٍ تساهم في شهرة الشاعر، كما حدث مع قصيدة درويش "أحنّ إلى خبز أمّي" و قصيدة "أنا يوسف يا أبي".
نشير هنا إلى أنّ القرّاءَ في العالم العربي قد فسّروا ريتا رمزًا لفلسطين المحاطةِ بالبنادق، وهذا بالطّبع ساهمَ في انتشارها. في الواقع، علاقة الشاعر بريتا اليهوديّة توقّفت بعد أن حملت تمار البندقية وتجنّدت في الجيش الإسرائيلي. وعند اكتشافِ قرّاء محمود درويش في العالم العربي حقيقةَ القصيدة أصيبوا بخيبة أملٍ كُبرى، فمن المستحيل في نظرهم أن يحبّ شاعرُ الثورة والمقاومة فتاةً يهوديّة.
من الواضح لنا أنّ الحبّ لا يعترف بالهُويّات القوميّة ولا بالفوارق الدينيّة. لكنّ الشاعر فهِمَ لاحقًا أنّ حبَّه مستحيلٌ ولذلك اختار تغليبَ النضالِ الشعريِّ على عاطفته. في نظري هذه التجربة دفعت محمود درويش نحو مرحلةٍ جديدة باتَ فيها شعرُه أكثر رمزيّة، وابتعدَ عن لهجة الخطاب الجماعيّة المثيرة في قصائده الأولى التي جعلت الجماهيرَ تطالبه بانفعال شديد بأن يردِّد عليهم قصيدته الشهيرة "بطاقة هويّة" المعروفة أيضا ب"سجّل أنا عربيّ..." بينما كان درويش يرفض خاصّة في المراحل المتقدّمة لشعره، لأنّه يهدف إلى تغيير ذائقة الجمهور كي يكشفَ لهم عالمَه الشعريَّ الجديد. أضيفُ إلى ذلك أنّه من غير المنطقيّ أن يردِّدَ الشاعرُ قصيدةَ "سجّل أنا عربيّ" في دولة عربيّة، والتي يخاطب فيها شرطيّا إسرائيليا. هذه القصيدة هي صرخةُ تحدٍّ جماعيّةٍ للاحتلال الإسرائيلي، أدّت إلى اعتقاله سنة 1967.
إذن، ريتا الأولى الواقعيّة تمثِّل عمليّا مرحلةً من مراحل تطوُّر الشاعر في بساطتها وتلقائيّتها وجمالها الرّقيق. لكنّ القصائد الثلاث التالية، عبرَ سنوات مختلفة، والتي حملت اسم ريتا، تمثِّل فعليّا، وليس عن طريق التأويل فحسب، لريتا كرمز ديناميكي، أقصد الرمزَ النشطَ المتحرِّك الخلاّق والمتغيِّر لفلسطينَ الواقعةِ تحت الاحتلال الإسرائيلي، كما تمثّل اختلاف الأمكنة التي تواجد فيها الشاعر. القصائد هي:
* "ريتا.. أحبّيني"، في مجموعته العصافير تموت في الجليل، 1969.
* "الحديقة النائمة" في مجموعته أعراس، 1977.
* "شتاء ريتا" في مجموعته أحدَ عشرَ كوكبًا، 1992.
     على سبيل المثال، كتب الشاعرُ قصيدته "ريتا.. أحبّيني" سنة 1969 قبل خروجه من إسرائيل. فيها نجد أنّ الأحداثَ تقع في الحلم ليؤكّدَ لنا الفرقَ بين ريتا الواقعيّة وريتا القناع أو الرّمز التي يراها في الحلم ويخاطبها ويحدّثها عن هواجسه ورؤاه المستقبليّة بشأن مصير هذا الوطن الممزَّق. لا يذكر الشاعرُ "فلسطينَ" بتاتا، بل يجعل اليونانَ أو أثينا هي المكان، ليكون حرّا بعيدا عن عيون الرّقابة ف"الحبّ ممنوع../ هنا الشرطيُّ والقَدرُ العتيقْ/ تتكسّرُ الأصنامُ إنْ أعلنتَ حبّكَ/ للعيون السود".  ويقول أيضا لحبيبته ريتا:
"نامي! هنا البوليس منتشرٌ/ هنا البوليسُ، كالزيتونِ، منتشرٌ/ طليقًا في أثينا"
ويفشل الشّاعرُ في امتلاك ريتا/ فلسطين حتى بعد توسّلاته الكثيرة، فليس بمقدور الشاعر الفلسطيني أن يتزوّج من ريتا إلاّ "حينَ ينمو البنفسجُ على قبّعات الجنود".
تمثّل هذه القصائدُ العلاقةَ المتأزّمةَ بين العربي الفلسطينيّ واليهوديّ الإسرائيليّ، وتبيّن استحالةَ العيشِ المشترَك دون اعتراف اليهودي الإسرائيلي بحقّ الشعب الفلسطيني. ترتسم المعركة بينهما بأنّ اليهوديّ يعتمد المسدّسَ سلاحا له بينما لا يملك الشاعر من أدوات المقاومة سوى الكلمة التي تحاول وصفَ الصّراعِ بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين بأنه "صراع بين ذاكرتين".
لا شكّ في أنّ محمود درويش هو الشاعرُ القوميُّ لفلسطين الذي استطاع أن يكون نجمًا جماهيريّا متألّقا دونَ الامتثالِ لما هو مألوفٌ ومعروفٌ وسائدٌ في الشعر. لذلك يمثِّل شعرُه علامةً فارقةً في الشعر العربيّ المعاصر وفي تغيير الذائقةِ الأدبيّة لجمهور القرّاء. استطاع أن يُسمِعَ صوت الفلسطيني المهجَّر المنكوب الذي اغتُصبَت أرضُه وانتُهكت حقوقُه الإنسانيّة، ويحوّلَ الشعر إلى أداة نضال ومقاومة. إلاّ أنّ نجاحَه العالميَّ قد تحقّق عندما استطاع، في المراحل المتقدّمة من شعره، أن يحوِّلَ التجربةَ الذاتيّةَ والمعاناةَ الفلسطينيّةَ المحليّةَ إلى تجربةٍ إنسانيّةٍ عامّةٍ تثير لدى القارئ مشاعرَ الحزنِ والوجعِ النفسيّ إلى جانب الأملِ والتفاؤلِ والقدرةِ على تغييرِ الواقع غيرِ العادل. هذا لا يعني أنّ قصائدَهُ الأولى غيرُ جميلة، فهو كشاعر موهوب (بالفطرة) منذ أن كان فتًى - فقد أصدر ديوانَهُ الشعريَّ الأوّلَ "عصافير بلا أجنحة" عندما كان في التاسعة عشرة من عمره (سنة 1960) – استطاع أن يفهمَ أهميّةَ الوصولِ إلى الشعبِ البسيطِ، فلا يكون الشعرُ وقفًا على طبقةٍ ما. يقول في قصيدة "عن الشعر" (مجموعة أوراق الزيتون 1964):
"قصائدنا، بلا لونِ/ بلا طعمٍ.. بلا صوتِ!/ إذا لم تحمل المصباحَ من بيتٍ إلى بيتِ!/ وإن لم يفهم "البسطا" معانيها/ فأولى أن نذرّيها/ ونخلدَ نحنُ.. للصمتِ!!" 
    هذا الشاعرُ المُهجَّرُ الذي عاش في عدّة دولٍ كالاتحاد السّوفييتي ومصر ولبنان وفرنسا عرف كيف يتحاور مع الأساطيرِ والرّموز ومجموعِ الحضاراتِ الإنسانيّةِ التي تعاقبت على أرض فلسطين دونَ أن ينسى أهميّةَ أن يكونَ الشعرُ قريبًا من القلب والعقل معًا، بمعنى أنّه حافظ على المعادلة الصّعبة وهي البساطةُ المعقَّدَة، وفي ذلك نجاحه. لكنّ حبَّهُ لحيفا، بكرملها الشامخ، كانَ خاصّا، فهو مهما أحبَّ من النساء فحبُّه هذا لا يعادل غصنًا من السّرو في الكرمل الملتهب، ومهما أحبّ من الحقول والبحار في البلاد المختلفة فإنّه لا يعادل قطرةَ ماءٍ على ريشِ قُبّرَةٍ في حجارة حيفا. (من قصيدة "النزول من الكرمل").  وتبقى صرخة محمود درويش عالية: آه... يا وَطَني!..
مداخلة د. حسين حمزة: محمود درويش لم يكتب قصيدة النثر، رغم أنّ هناك مقاطع نثرية ضمَّنها في عدد من إصداراته الأخيرة، وخصوصًا "أثر الفراشة" المنشور تحت صفة "يوميات"، و"في حضرة الغياب" تحت صفة "نص"، إضافةً إلى مقاطع في ديوان أقدم هي "أحبك أو لا أحبك". لم يسمِّ تلك النصوص قصائد نثر، ولو أراد لفعل ذلك.
لِمَ لمْ يبادر درويش إلى خلع صفة "قصيدة نثر"؟ هناك تصريحات كثيرة يؤكّد فيها درويش أنّه كتب نثرًا لا قصيدة نثر. في حوار طويل مع عبده وازن قال: "أكتب نثرًا على هامش الشعر، أو أكتب فائضًا كتابيّا أسمّيه نثرًا". وأيضًا: "ما دمت أكتبُ نثرًا، فأنا أكتب النثر من دون أن أسمّيه قصيدة". وفي موضع آخر أكَّد: "أنا من الشعراء الذين لا يفتخرون إلّا بمدى إخلاصهم لإيقاع الشعر. أحبّ الموسيقى في الشعر. إنّني مُشبَعٌ بجماليّات الإيقاع في الشعر العربيّ، ولا أستطيع أن أعبِّر عن نفسي شعريًّا إلّا بالكتابة الشعريّة الموزونة".
درويش فرَّق بشكل حاسم بين التعبير عن نفسه "شعريّا" وبين التعبير "نثريّا"، فهو شاعرٌ في الشعر وناثر في النثر، فلماذا نُكتِّبه قصيدة النثر عنوةً؟ كان ناثرًا موهوبًا، ولم يكن يُضيرُهُ أن يكون ذاك الناثر الموهوب إلى جانب كونه شاعرًا مرموقًا.
كان صاحب "جداريّة" حريصًا على عدم الخلط بين الأمرين، لكنّه في الوقت عينه، لعب في السنوات التي سبقت رحيله، على فكرة النثر عبر رهانٍ يقوم على إثبات براعته النثريّة داخل قصيدته الموزونة. أراد أن يُصحّح علاقته الشاقة والمُساء فهمُها مع قصيدة النثر، لكن ليس بكتابتها، بل بالإفادة من خصوصيّاتها ومناخاتها.
صادق قصيدة النثر، لكنه لم يقع في غرامها. أغلب صداقاته الأخيرة كانت مع شعراء نثر. لقد اعترف محمود مرارًا بأنّ ما يُكتب من قصائد نثر في العربيّة، أكثر جودةً من أخواتها التفعيليّات، واستثمر علاقات النثر بذكاء شديد، وأخفى الوزن في طيَّات الإيقاع الخافت ومجاهله، وأدار ظهره للصوت العالي والرمزيّات المباشرة والغنائيّة المُفرطة.
في مستهلِّ ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد" استعان بتعبير أخَّاذ لأبي حيّان التوحيدي: "أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظمٍ كأنّه نثر، ونثرٍ كأنّه نظم". أراد أن نعامل قصائده الأخيرة باعتبارها نثرًا مكتوبًا بالوزن، وفرح حين اعتبر بعضُنا أنّ "في حضرة الغياب" قصيدة نثر طويلة. لعب الشاعر في ملعبنا النثري، لكنه لم يغادر ملعبه الفعليّ، ولم يُبدِّل قميصه الإيقاعي بأيٍّ من قمصاننا النثريّة.
درويش تناول نقاط التناص والتضمين والتدوير والأم والأب، وهناك تحوّلات ثلاث في العلاقة مع أبيه، وحين ندرس الشعر العربيّ المعاصر بشفافيّة، نقف  على مراحل تطورّه بشكل أكثر موضوعيّة، واليوم نرى أن قصيدة النثر تتصدر المشهد الثقافي.
هناك بعضُ الرموز ظهرت بشكل واضح في مراحله الأخيرة مثل موتيف "الغياب"، وهذا الرصد يساعد على تَبيان مراحل تطوّر درويش الشعريّ، وهي ركيزةٌ أساسيّة في الشعر تدلّ بشكل مباشر على التحوّل في رؤيا الشاعر للواقع الذي يعبّر عنه، وتشكّل جزءًا أساسيًّا في تمثيل تجربته الشعريّة، فالتحوّل الذي طرأ على شعر محمود درويش، يمثّل الانتقال من رؤية الحدث إلى أثر الحدث، ومن التفاعل المادّيّ مع الفعل إلى استشرافه وتأمِّله، ومن الحضور إلى الغياب. قد يكون ذلك تطوّرًا أساسيًّا عند كلّ شاعر كبير، لكنّ درويش مزج بين الخاصّ والعامّ؛ بين جرحه وجرح شعبه؛ بين موته الذاتيّ وبين موت شعبه. وكان الصراع بين الأيديولوجيّ والجماليّ هو شغلُه الشاغل؛ أي كيف يوازن بين معطياتِ القصيدة الحاضرةِ في المكان والزمان، وبين تحويلِها إلى مشروع جماليّ يتقدّم فيها الفنيّ، ويتوارى فيها الآنيُّ الشفّافُ عن الواقع.



70
عود التّقوى والمحبّةِ لا عودَ الشّرِّ والنّار!
بقلم: آمال عوّاد رضوان
 في باحة بيت القديسة مريم بواردي في عبلين، أقيم حفل توقيع ديوان "عبير شوق السنين" للأديب جاسر داود، وذلك بتاريخ 20-6-2017، ووسط حضور من أدباء وأصدقاء وأقرباء ومهتمين بالشأن الثقافيّ، وبحضور وجود من سرايا عبلين الكشفية المسيحية والإسلامية، الذي  أضفى لمسة جماليّة وتنظيميّة على الحفل، وقد تولت عرافة الأمسية آمال عوّاد رضوان، بعدما بارك الكهنة الحفل بصلاة خشوع قصيرة، وتحدّث عن الديوان كلّ من الأدباء: زهير دعيم، ود. صالح عبود، وعلي هيبي الناطق بلسان اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين، وأضفى إلى الأمسية لمسة موسيقيّة فنّيّة كلٌّ من: الزجال شحادة خوري أبو مروان، ونهاي بيم بمقطع كلثومي، ومعزوفة كلثوميّة أدّاها صافي دعيم على القانون، وضارب الإيقاع شادي حاج، ثمّ قدّم نادي حيفا الثقافيّ -ممثّلًا برئيسه فؤاد نقارة وحسن عبادي- درعَ تكريم للأستاذ جاسر داود، وكذلك الأستاذ جوزيف نشاشسبي قدّم درع تكريم، وكلمة مباركة قدّمها الحفيد جاسر إلياس داود، واختتمت اللقاء الحفيدة جويل نزار بربارة بقراءة كلمة الأستاذ جاسر داود- شكر من خلالها الحضور وكلّ من ساهم في تنظيم وإحياء وإنجاح الحفل، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة مع المحتفى به. 
مداخلة آمال عواد رضوان: مساءاتكم عطرة بالنور، وأهلًا ومرحبًا بكلّ الحضور مع حفظ المقامات والألقاب، تحيّاتنا جمّة لكلّ ضيوفنا الأطياب، وبكل مَن حضر من عبلين وخارجها. أهلًا بالمتحدّثين القادمين من البلاد المحيطة، رغم صعوبة اللقاء والسفر وتزامن الأمسية مع مع وقت الإفطار الرمضاني المبارك، فبوركتم جميعا وجوزيتم كلّ خير وبركة.
معًا وبصوت واحد نتمنّى لأستاذنا جاسر بميلاده ال 65 سنين عديدة حافلة بالصحة والإبداع، وإيمانًا منّا بكلّ إنسان وبقدراته وبنجاحاته الحثيثة لارتقاء سلم الإبداع، نلتقيكم الليلة احتفاءً بأستاذنا الأديب جاسر داود، في حفل توقيع ديوانه الشعريّ الأّوّل (عبير عشق السنين)، إضافة لى إصدارات أخرى، فألف مبارك لنا بهذا الإصدار الشيّق، ونتمنى لك أستاذنا نجاحاتٍ تتعالى صوبَ السحاب وتعانق الأفق العالي.
نعم أحبائي، نحن نفخر ونرفع هاماتنا عاليًا واعتزازا بمبدعينا، ويُغبّطُ قلوبِنا كلُّ إنجازٍ بنّاءٍ يُساهم في رقيّ بلداننا وحضارتنا، فطوبى لكلّ زارع وردة، وطوبى لكلّ مَن يُساهمُ ولو بحصْوةٍ صغيرةٍ في بناء وطنِنا، وترسيخ وحدة أهلنا وزرع المحبة في البلد الواحد.
مداخلة الأديب زهير دعيم: إنّك في حضرة الأستاذ جاسر داود، وحينما تعانقُ طيبةُ القلبِ همسَ الحروفِ ووشوشاتِ الرُّوح، قد نرى السّماءَ مفتوحةً، وحينما يُحلِّقُ الحرفُ الملوّنُ فوق رُبى المشاعرِ الجيّاشةِ، قد نَلمسُ المجدَ، وحينما تعبَقُ الصّفحاتُ بشذى المحبّةِ المُزركشةِ بالرّجاءِ، قد نُلامسُ الانسانيّةَ الجميلةَ، وحينما تصولُ الرّوحُ الوثّابةُ وتجولُ في أفلاكِ الايحاء والصّورِ الشِّعريّةِ، قد نلتقي بهوميروس ودانتي وجبران وسعيد عقل، وحينما تجتمعُ كلُّ هذهِ المزايا الجميلة في بوتقةٍ واحدة، فاعلم يا صاحِ، أنّك في حضرةِ أبي الياس استاذِنا الكبيرِ جاسر، الذي يثقلُ حروفَهُ ويُحمّلها من قلبه ووجدانِهِ أثمارًا طيّبةَ المذاق.
ألَم يقل الشاعرُ الياس ابو شبكة مرّة: اِجرحِ القلبَ واسقِ شعرَكَ منهُ فدمُ القلوبِ خمرةُ الأقلامِ/ رُبَّ جُرحٍ قَد صارَ يَنبوعَ شِعر تَلتَقي عِندَهُ النُفوسُ الظَوامي/ وَعَذابٍ قد فاحَ منهُ بَخورٌ خالِدٌ في مَجابِرِ الأَحلامِ.
هذا هو شاعرُنا واستاذُنا ومبدعُنا جاسر الانسانُ الجميلُ الذي يأبى الّا أن يجرحَ القلبَ، ويسقيَ الحروفَ ويُحلّقَ في أجواء الشِّعْرِ وتلاله، وأوداء النثر وفضاءات الله، فيغوص في عمقِ الموعظةِ على الجبلِ، ليقطفَ ما شاءَ من الاطايبِ ينثرُها بلغتِه الجميلةِ البسيطةِ عطرًا ورذاذًا وأغنيّةً وشروقَ شمس.
ينادي الحسناء تارةً، ويناغيها ويؤرجحها على نوافذِ الغسقِ فُلّةً وفوْحَ ياسَمين، ويلمُّها مع الفجر قطراتِ ندى وزقزقةِ عنادل، ولا ينسى أبا الياس سماءَ الرُّوح، فينثرَ من دُررِ غزله في العِشقِ الالهيّ والعريسِ السّمائيّ القصائدَ الطوال، فها هو يناجي الكاعب الحسناء فيقول: سِنون مرّت وأنا أنتظرُ نسمةَ دفءٍ من ثغرِكِ الوهّاج، وأصلّي ربّي زِدني عِشقًا فأنا قاصدٌ وطامع بِلُقاكِ.
وها هو يناجي كما بولس الطرسوسيّ عريسَ الأجيال يسوعَ قائلًا: ربّاه، ما طمعتُ بشيءٍ غيرَ رحمتِكَ، فساعدني وأظهر لنا نحنُ الأطفالَ النُّورَ الألهيِّ الذي وعدتنا بهِ، لنقوّيَ عودَنا عودَ التقوى والمحبّةِ لا عودَ الشّرِّ والنّار، ولنحملَ تُرسَ الايمان ولنطفئ َ سِهامَ الشّرير المُلتهبةَ. أحبّكَ.. أحبُّكَ أحبُّكَ لا تتركنا غُرباءَ في هذا الوطن باقةً من الوردِ الجوريّ، أزفّها لك شاعرنَا الغالي بمناسبة صدور ديوانك الجديد "عبيرُ شوقِ السّنين"، سائلًا الإلهَ المحبَّ ان يطيلَ بعمرِك حتى تتحفَنا بدواوين َ أخَر. وأخيرًا قالَ السَّلَفُ: "وراءَ كلِّ رجلٍ عظيمٍ امرأة" وأنا أقول: وراءَ كلِّ شاعرٍ أمرأةٌ فاضلةٌ، وكذا الحال مع جارتِنا سيدر أمّ الياس، فهي السَّنَدُ والكَتِفُ ومنبعُ الحنانِ لاستاذنا الشّابّ، فلها منّي أجملُ التحايا.
مداخلة د. صالح عبود: الصورة الشّعريّة في مجموعة: "عبيرُ شوقِ السِّنين" للمبدع جاسر إلياس داود
جازَتْ بكَ الأشعارُ والشّعراءُ/ يا جاسرًا مِنكَ الحروفُ تُضاءُ/ بعبيرِ شَوقٍ للسِّنينَ أجَرْتَنا/ يا مَنْ بِشَوقِ الحالمينَ تَشَاءُ/ كَتَبَتْكَ مِنْ أُمِّ المحابرِ آيةٌ/ وَعَشِقتَ أرْضًا قَدْ رَعَتْكَ سَماءُ/ وَعَقِلتَ أنَّكَ للنُّذورِ بِشارَةٌ/ وَمِنَ الكَنائِسِ ظَلَّلتْكَ قِباءُ/ صَلَّيْتَ مَعمودًا يُناجي رَبَّهُ/ وَالقَلْبُ شَذْوٌ عُودُهُ الحِنَّاءُ/ صُلبَ المسيحُ على الفِداءِ مُخلَّدًا فَسَمى يَقينًا ينضَويهِ فِداءُ/ صُلبَ المسيحُ على الفِداءِ مُخلَّدًا فَسَمى يَقينًا ينضَويهِ فِداءُ/ فطَفِقْتَ تُكْسى بِالمناقبِ مِثْلَما/ بِرٌّ تهادى طِينُهُ وَالماءُ/ فَاسلَمْ عَزيزًا وَاعصِبَنَّ قَبيلَةً/ مِنْ قريةٍ فيها العُمومُ عَطاءُ/ يا جاسرًا فَاهْنأْ بِعمرٍ ماجدٍ/ وَاسْلَمْ وَفِيًّا فالحياةُ وَفاءُ
السيّدات والسّادة، قد جمَعَنا الليلةَ رجلٌ جميلٌ في حروفهِ وسجيَّتهِ، واختارَ لنا أن نشهدَ وإيّاهُ حفلَ توقيعِ وإشهارِ وولادةِ مجموعةٍ شعريّةٍ في ذكرى ميلادهِ هوَ، وَكأنّي بكَ تحتفلُ وَحروفَكَ وكلماتِكَ في هذهِ المسائيّةِ العبلّينيّةِ المريميّةِ الهانئةِ، وأنتَ ترصدُ كلَّ ما حبَّرتَهُ وزوَّرتَهُ في مجموعَتكَ الأنيقةِ لهذا اللقاءِ، أو لعلَّ تلكَ الموادَّ الّتي احتشدتْ في مجموعتِكَ قد اجتمَعَتْ لكَ هذهِ الليلةَ؛ كي تفيَكَ نذْرَها وتقولَ لكَ: كلُّ عامٍ وأنتَ مولانا وصاحبُنا والقائمُ فينا برضوانِ الربِّ والقدِّيسينَ والأتقياءِ..
السيّداتُ والسّادةُ، مجموعةُ شاعرنا المحتفى بهِ الليلةَ، جاسر إلياس داود، تجمعُ ثمانيةً وعشرينَ نصًّا وقطعةً شعريّةً تتراوحُ بين مفهومِ التّحديدِ والإيحاءِ بتناسبٍ غيرِ رتيبٍ، وعنوانُها مكوّنٌ من ثلاثِ كلماتٍ هيَ: "عبيرُ شوقِ السّنين"، وفي بعضِ أحرفِها تجتمعُ كلمةٌ عزيزةٌ جدًّا لدى شاعرِنا دونَ ريبٍ، ولدينا بطبيعةِ الحالِ، هيَ كلمةُ عبلّينَ..
"عبيرُ شوقِ السنين" مجموعةٌ شعريّةٌ رشيقةٌ قِوَامُها قطعٌ متجاورةٌ، تعتمدُ الإيحاءَ تارةً، ويغلبُ فيها التّحديدَ تاراتٍ أخرى. سوادُها الأعظمُ مدوّنٌ بلغةٍ عربيّةٍ فصيحةٍ جزلةٍ، وثمّةَ نصٌّ محكِيٌّ عبلّينيٌّ يتيمٌ يتوارى بينها على استحياءٍ، وهيَ في جِماعِها نصوصٌ تتراوحُ بينَ القِطَعِ القصيرةِ وَالقصائدِ المتوسِّطةِ غيرِ المطوَّلةِ، الّتي تنسجمُ كَلماتُهَا وتتناغمُ إيقاعَاتُها انسجَامًا سيمفونيًّا يتمَاهى معَهُ القارئُ أوِ السّامعُ المتلقِّي، فَتُخضعُهُ لِحالاتٍ شعوريّةٍ جميلةٍ رائقةٍ هادئةٍ، تُحيلُهُ إلى نَفْسهِ التي بينَ جَنبَيهِ ذَكرًا كانَ أَم أُنْثى.
أيّها السيّداتُ والسادةُ، أتناولُ من خلالِ إطلالَتي الحَيِيَّةِ المقتضبَةِ هذهِ، وبشاكلةٍ سريعةٍ وجيزةٍ بعضَ الموتيڤاتِ الرئيسةِ المهيمنةِ في المادّةِ الأدبيّةِ في مجموعةِ "عبيرُ شوقِ السّنينَ" لشاعرنا الجاسرِ.
1. عبلّين فاتحة المجموعة: يستهلُّ الشّاعرُ نصوصَ المجموعةِ العبيريّةِ بنصٍّ فاتحٍ بعنوانِ "يا أغلى حبٍّ عرفْتُهُ"، وهو استهلالٌ موفّقٌ من حيثُ المضمونِ، ففيهِ يعبّرُ الجاسرُ عنْ حبّهِ الثّابتِ الجليلِ لبلدتهِ العزيزةِ الغاليةِ عبلّين، فتراهُ عاشقًا لها، يرى فيها لؤلؤةً جليليّةً وجوهرةً تتوسّطُ جَنانَهُ المرهفَ بِعزَّتها وشموخِها وصلواتِها قارعةً أبوابَ السّماءِ جاثيةً في ملكوتِ الربِّ وَرِحابِهِ الأبديّةِ..
يذكرُ الشّاعرُ محاسنَ عبلّينِهِ، فيأتي على ذكرِ هوائِها وَعينِها النّميرِ الّتي رَوتْهُ طفلًا صَغيرًا وأشبعتْ ذاكرتَهُ الغضَّةَ كبيرًا، ويأتي على الصّالحينَ السّاكنينَ فِناءَها وتراتيلهِمْ الرّقراقةِ، ثمَّ تراهُ يذكرُ ما تنضحُ بهِ من محبّةٍ تُبطلُ البغضاءَ وتَجبُّ الشّنآنَ منَ النفوسِ، وكمْ هيَ بديعةٌ تلكَ الذكرياتُ الحالمةُ القائمةُ في تبصرةِ الجاسرِ، وهوَ يستذكرُ عُمُرَهُ العبلّينيَّ الأنيسَ المُستأنسَ بقمرٍ جميلٍ وَسَهرٍ طَويلٍ، يَجعلُ العمرَ كلَّهُ يومًا واحدًا تالدًا خالدًا، لا تعرفُ شمسُهُ إلّا شروقًا أزليًّا يأبى الغيابَ، ثمَّ تَراهُ يوقِّعُ نصّهُ الفاتحَ هذا بقَسَمٍ مُضعَّفٍ يعلنُ فيهِ وفاءَهُ لعبلّينَ التي ملَكَتهُ ومَلَأتْ صَدرَهُ وكيانَهُ رِضًا وقناعةً بأنّها المكانُ والزّمانُ الّذي لا بديلَ لهُ ولا نظيرَ..
السيّداتُ والسادة، هيمنتْ في سطحِ الدّلالةِ والمعاني في مجموعةِ "عبيرُ شوقِ السّنين" عدّةُ موتيفاتْ تُبرزُ في رأينا ركائزَ مادّةِ المجموعةِ برُمَّتها، وسأتعرّضُ الآنَ لِجُلِّها تعرُّضًا أوّلِيًّا غيرَ مُعمَّقٍ؛ كيْ أُيسِّرَ أمامَكمْ وأهيِّئَ لكمْ صورةً عامَّةً جامعةً لِما تكتنزهُ المجموعةُ منْ مضامينَ وموضوعاتٍ محوريّةٍ تُشكِّلُ إلى حدٍّ ما الهيكلَ المعنويَّ الدّلاليَّ للمادّةِ الأدبيّةِ الشّعريّةِ فيها..
موتيڤُ تغلبَ، حاضرٌ في بعض النّصوصِ، وقد عنونَ الشّاعرُ عنْ وعيٍ منهُ ودرايةٍ نصَّهُ الثّانيَ بـ: "واتغلباه"، وهي صيغةُ نُدبةٍ وتفجِّعٍ أَلِفتها العربُ قديمًا، وتغلبُ قبيلةٌ عربيّةٌ عريقةٌ مِن قبائلِ ربيعةَ العدنانيّةِ، وقد برزَ فيهمُ شخصيّاتٌ مجيدةٌ في تراثِنا العربيّ القديمِ منهمُ: كُليبُ بنُ ربيعةَ أعزِّ العربِ، وأخوهُ المهلهلُ أبو ليلى صنديدُها، وحفيدهُ من ابنتهِ، الشّاعرُ صاحبُ المعلّقةِ النونيّةِ عمرو بنُ كلثومٍ التغلبيّْ، وهو الّذي تكرّر اسمهُ غير مرَّةٍ واحدةٍ في المجموعةِ..
يوظّفُ الشّاعرُ موتيڤَ تغلبَ في سياقٍ إنسانيٍّ هادفٍ، إذ وجدَ فيها نموذجًا للقبيلةِ العربيّةِ النّصرانيّةِ التي لم تدفَعها نصرانيَّتها إلى الخروجِ عنْ عُصبةِ العربِ وَأمَّتِهم العربيّةِ في الجاهليّةِ، فكانت مثالًا ملائِمًا وموفَّقًا للإخاءِ بين الدّياناتِ المنصهرةِ في بوتقةِ الانتماءِ القوميِّ الشّريفِ لأرومةِ العربِ.. يجدُ الشّاعرُ في تغلبَ مجالًا لتضميدِ الذّاكرةِ الآنيّةِ المكفهرَّةِ بواقعِ التَّشَظِّي العربيِّ في عصرنا الحاضرِ الغائبِ عنِ الحضورِ، فتراهُ يقولُ في بعضِ القصيدةِ:
مقطع مقتبس رقم 1 ص: 6، يؤكّدُ الشّاعرُ من خلال القصيدةِ المقتبسةِ آنفًا أهمّيّةَ الإخاءِ العربيِّ الّذي يُرتَقُ بهِ كلُّ خَرْقٍ مِلَلِيٍّ طائفيٍّ أو عَقَديٍّ يَهتِكُ اللُّحمَةَ وَيُشيعُ الفُرقةَ بينَ مُحمَّدٍ وعيسى، فتأتي عنونتهُ وكلمتهُ الأخيرةُ في النصِّ: "واتغلباهُ! نداءً مُدوِّيًا لاستدراكِ الدّواءِ الكفيلِ بالقضاءِ على الدّاءِ المستشري في جسدِ الأمَّةِ زُهاءَ قرونٍ تترى..
تأتي مقطوعةُ بعروبتي لا أخجلُ كي تعضُدَ ما وردَ في قصيدتهِ "واتغلباه"، فيركّزُ الشّاعرُ على العروبةِ كمقوِّمٍ شموليٍّ جامعٍ مانعٍ يُنأى بالعربِ جميعهمْ دونما استثناءٍ عنِ الخلافاتِ والانقساماتِ الدّينيَّةِ المُفتِّتَةِ للكيانِ الأبِ القاتلةِ للرّوحِ الأمِّ..
تظهرُ رسالةُ الإخاءِ الإسلاميّ المسيحيِّ المتبادلِ في شعرِ الجاسرِ بجلاءٍ في قصيدتِهِ "عبيرُ الياسمينِ الشّاميَّةِ خالدةٌ"، ففيها يطالبُ بإصرارٍ وتكرارٍ لافتٍ للانتباهِ بضرورةِ الانضواءِ تحتَ خباءِ العروبةِ والانصهارِ في مفهومِ الأصلِ القوميِّ المشتركِ الّذي يُعوِّلُ عليهِ الشّاعرُ في وأدِ بناتِ التّفرقةِ والضّعفِ والهوانِ الّذي يَدُكُّ الكنائسَ والمساجدَ على حدٍّ سواءَ..
يلازمُ هاجسُ العروبةِ شاعرَنا في سياقاتٍ عديدةٍ في نصوصِهِ، ولا يغيبُ عن بالِهِ استثمارُ كلِّ فرصةٍ لتذويتِ مفهومِ العروبةِ واعبارِهِ حلًّا للآفةِ الكبرى في واقعنا المعاصرِ، فتراهُ وهوَ يُغنِّي لعكَّا في قصيدتهِ الغرَّاءْ "عكَّا يا قاهرةَ الأعداءْ"، يَذكُرُ التّآخي المسيحيّ الإسلاميّ فيها ويُثني عليهِ ثناءَهُ الجميلَ، فتسمعُهُ وهُوَ يقولُ: هناكَ جارةٌ تنادي جارَتها/ لتُعطيَها صحنَ طعامٍ تتذوَّقُهُ ظُهرًا/ معَ رفعِ الأذانِ/ مِنْ جامعِ الجزَّارِ/ وَقرعِ النّاقوسِ من كنيسةِ مارْ جِريسَ المُجاورةِ/ هكذا كانوا/ إخوةً معَ الأيّامِ والليالي/ وَسَيبقونَ في السّرّاءِ والضّرّاءِ/ هناكَ"
عكّا الّتي يراها الجاسرُ في معمعةِ الحاضرِ، تَمنعُها أسوارُها عنْ أذى الأعداءِ المعتدينَ دائمًا، وَفي سُكَّانها أسوارٌ بَشَريَّةٌ منيعةٌ تُحصِّنهم منَ الفُرقةِ المذهبيّةِ الزائفةِ الضّلاليّةِ، وتنأى بالمكانِ عن لَوثةِ الزّمانِ وآفَتهِ. السيّداتُ والسّادةُ، الصّورةُ معيارٌ فنّيٌّ في نقدِ الشّعرِ ومادَّتهِ في كلِّ عصرٍ، وهيَ قيمةٌ جماليّةٌ وحيّزٌ إبداعيٌّ ترسمُها أخيلةُ المبدعينَ شُعراءَ وشاعراتٍ..
بدأَ مصطلحُ الصّورةِ الشّعريّةِ يَظهرُ في الدّراساتِ الأدبيّةِ والنّقديّةِ معَ نهايةِ القرنِ التّاسعِ عشرَ ومطلعِ القرنِ العشرينَ الماضِي، وذلكَ بعدَ أنِ استقرَّتْ غالبُ قواعدِهِ في الأدبِ الغربيِّ، إذ صارتْ دراسةُ الصّورةِ الشّعريّةِ في الآدابِ الأخرى عنصرًا هامًّا من عناصرِ بُنيةِ القصيدةِ نزولًا عندَ اعتبارِها- أيِ الصّورةِ الشّعريّةِ- من مصادر العملِ الشّعريِّ والتّجربةِ الشّعريّةِ على نحوٍ مَا.
تستطيعُ الصّورةُ الشّعريّة بِما تَملُكُهُ من مُقوّماتٍ فنّيّةٍ رَفيعةٍ أن تهبَ المبدعَ الشّاعرَ قدرةً وَمجالًا للخروجِ عنِ العاديِّ المألوفِ، ومَا ذاكَ الخروجُ إلّا شاهدٌ ساطعٌ ودليلٌ ماتعٌ على موهبةِ الشّاعرِ وطاقتهِ الشّعريّةِ الفذَّةِ وَثقافتِهِ الفنِّيَّةِ والتّقنِيَّةِ وَمَلَكَتِهِ الحِسِّيَّةِ الجَامعةِ.
أزعمُ أمامكُمْ- السّيّداتُ والسّادةُ- أنَّ الشّاعرَ لا يَتفوَّقُ علَى غَيرِهِ بسهولةٍ وَيُسْرٍ، وَلَا يَتَمكَّنُ مِنْ هَزمِ تَرَدُّدِهِ وَإحْجَامِهِ عَنْ حَملِ نَعتِ الشّاعرِ أوِ الشّاعرةِ إلّا بِشُقِّ الأنْفُسِ، وَمَا أرَى فَضْلًا لِمنْ زَعَمَ الشِّعرَ وَلَمَّا يُنازعْ نَفسَهُ وَهَواهُ وَقَصِائَدَهُ وَذَاتَهُ تلكَ القَضِيَّةَ، هَلْ هوَ شاعرٌ فِي مِرآةِ ذَاتِه؟ أمْ أنَّهُ نَهبٌ مُقَسَّمٌ بينَ شِعرٍ صَادقٍ يَخرجُ مِنْ سُويداءِ مُهْجتِهِ، وَلَقَبٍ يَتَعاوَرُهُ النَّاسُ وَفيهمُ العارفُ النّاقدُ البَصيرُ وَالجَاهلُ الطّائشُ الغَريرُ، وَهوَ- أيِ الشّاعرُ أوِ الشّاعرةُ- علَى رَغبَتهِ الشّديدةِ في معرفةِ ذاتِهِ الشّاعريّةِ يَعيشُ حالةً منَ الضّوضاءِ والفِتنةِ الّتي لا تُعكِّرُ رغمَ مَشَقَّتِهَا وَتداعيَاتِها سَلامَهُ وَاستسلَامَهُ لسَكينَةِ الشّعرِ وَجِوارِ البيتِ وَآصِرَةِ الحَرفِ وَذِمامِ القَريحةِ عندَ نَظمهِ الآتِي..
يبلغُ شاعرُنا الجاسرُ في صورهِ الشّعريّةِ حدًّا خَليقًا بالثّناءِ، فهوَ رغمَ تورّكهِ على صورٍ شعريّةٍ مبسَّطةٍ غيرِ مُتقعَّرَةٍ ولا مُعقّدةٍ، فإنّهُ يُؤثُرُ رسمَ الصّورةِ الشّعريّةِ في نصوصِهِ بألوانٍ زاهيةٍ أليفةٍ يَألَفُها القارئُ فلا يَأنفُ منها، ويلعبُ أسلوبُ التّقريريّةِ دورَهُ في تيسيرِ الصّورِ الشّعريّة في المجموعةِ، إذ يَطغى ذلكَ الأسلوبُ بِدَورِهِ فَيَصرفُ الشّاعرَ نحوَ صورٍ شعريّةٍ محدَّدةٍ بحدودٍ قائمةِ الزّوايا لا تعرّجَ فيها ولا التواءَ..
قصيدةُ "اسمعْ صَوتي"، ص: 10-11، في قوامِها صورةٌ شعريّةٌ جليَّةٌ موجَّهةٌ للنُّخبةِ القياديّةِ في الوسطِ العربيِّ في البلادِ، تَحثُّهم وَتحضُّهم على إيلاء الاهتمامِ بمعشرِ الشّبابِ، مذكّرةً إيّاهمُ والقارئَ الافتراضيَّ أنَّ الشّبابَ في المجتمعِ همْ كنزُ المستقبلِ.. يَرسمُ الشّاعرُ في النصِّ المذكورِ آنفًا صورةً تُحدِّدُ واقعَ الشّبابِ في وقتنا هذا، فهم زهورٌ معطَّرةٌ، دائِمو الحركةِ والتَّجوالِ، أصواتُهم عاليةٌ تملأُ الأمكنةَ، لكنّها أصواتٌ لا تطولُ قهقَهَتُها، فسَرعانَ ما ترحلُ وتتوارى خلفَ نغمةٍ قاتمةٍ تُواري حسرتَهمْ وحزنَهُم وفراغَهم المقيتَ، وهمْ عالقونَ في رِحلةِ البحثِ عنِ الأملِ البعيدِ البعيدِ..
تنهضُ الصّورُ الشّعريّةُ من عقالِ التّحديدِ في الخطابِ الشّعريّ السّياسيّ لدى شاعرنا الجاسرِ، فتلحظُ في نصوصهِ السّياسيّةِ والمُسَيَّسةِ صورًا أكثرَ إقناعًا وأرفعَ منزلةً، وهوَ ما ينسحبُ على قصيدتهِ السّياسيّةِ "إِلْحِمني بثرى الوطنِ أكثرَ" ص: 12-13، فيصفُ النصُّ صورةَ طفلٍ فلسطينيٍّ يَبطحهُ ثلاثةُ جنودٍ على الأرضِ كي يعتقلوهُ ويودعوهُ السِّجنَ العسكريَّ، وهنالكَ يحاورُ الطفلُ المعتقلُ ذاتهُ مونولوجيًّا مُعبِّرًا عن صمودهِ الأسطوريِّ أمامَ العُتوِّ والقهرِ والاعتقالِ المريرِ، فتراهُ يقولُ:
مقطع مقتبس رقم 2 ص: 12-13، يَبُثُّ الشّاعرُ صورًا شعريّةً أخرى في مجموعتهِ، وتقعُ صورةُ الأمِّ ضمنَ شبكةِ التوظيفات المُعتمدةِ في نصوصهِ، فيبرزُ موتيڤُ الأمِّ في كثيرٍ من القصائدِ والقطعِ الشّعريّةِ المُكوِّنةِ للمجموعةِ، ومنها صورتُها في نصِّ: "أمَّاهُ... أنا بجانبكِ" ص: 14-15، وَصورتُها في نصِّ: "الأمومةُ الوديعةُ" ص: 16-17، وتبلغُ شَأوًا في نصِّ: "الأمُّ المقدسيّةُ" ص: 18-19، وتراهُ يُوقفُ للطّفولةِ الفلسطينيّةِ نصُوصًا عديدةً كما فعلَ في نصّهِ الجميلِ: "طفلُ التّحدّي"، ص: 25-26، وهو يَعتمدُ صورةً شعريّةً تُحاكي الطّفولةَ الشّاقّةَ العسيرةَ الّتي يُولدُ من رَحمِ شقائِها رجالُ المستقبلِ المتسلّحينَ بالعزمِ والحزمِ والجَلدِ على نوائبِ الدّهرِ وَصُروفِهِ ونوازِلِهِ، وهذَا ما ترسمهُ صورةٌ شعريّةٌ مباشَرةٌ في نصّهِ "طفلُ الألمِ" ص: 27، وفيهِ رصدٌ للطّفولةِ العَصيبةِ الّتي تُنجبُ العظماءَ الأشدّاءَ..
السيّداتُ والسّادةُ، تتعدّدُ الصّورُ الشّعريّةُ المرسومةُ بلونِ الواقعِ المريرِ، فتشهدُ المجموعةُ على صورٍ حَرِيَّةٍ بالذّكرِ، غيرَ أنّنا نَضربُ عنها صَفحًا لضيقِ الحيِّزِ والوقتِ، وكيْ نتركَ لكم، معشرَ الحاضرينَ، فرصةَ القراءةِ والحُكمِ والفصلِ في ذلك، كلٌّ حسبَ قراءَتِهِ وثقافتهِ وتدبّرِهِ في الكلامِ، ولعلَّ من أبرزِ الصّورِ الّتي ينبغي الإشادةُ بها في المجموعةِ: صورةُ المرأة (قصيدة أنوثتي لا تساوم)، الصّورة الغزليّة الواردةُ في النصّ الغزليّ (نصّ في حيِّنا فتاةٌ ص: 57)، وفيه ذكرُ محاسنِ النساءِ ونحوَ ذلكَ..
من الجديرِ ذِكرهُ أنَّ عنونةَ النّصوصِ لدى شاعرنا الجاسرِ تستجيبُ في كثيرٍ من الأحيانِ لنظامِ العنونةِ الاختزاليّةِ المحدَّدةِ والمباشَرةِ، فتقعُ معظمُ عناوينِ المجموعةِ ضمنَ إطارِ العنوانِ الّذي يرتبطُ ارتباطًا مباشرًا ووثيقًا معَ مادّةِ مَتنِهِ ونصِّهِ المرصودِ من أجلهِ..
أصُبُّ خلاصةَ ورقتي هذهِ في مسألةٍ ترتبطُ بالشّعرِ والشّعراءِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وهيَ مسألةُ التّأرجحُ بين المباني والمعاني، وتلكَ نُكتةٌ من أصولِ الشّعرِ العربيِّ القديمِ، وفيها يدخلُ تفاوتُ الشّعراءِ في الأغراضِ الشّعريّةِ، وذلك في مثلِ قولِ الجاحظ: «والشعراءُ أيضًا في الطبعِ مختلفونَ، منهمُ منْ يَسْهُل عليهِ المديحُ ويَعْسُرُ عليهِ الهجاءُ، ومنهمُ مَن تَيسَّر لهُ المراثي وَيتَعَذّرُ عليهِ الغزلُ"..
تدخلُ في مسألةُ الشّعرِ والنصِّ الشّعريِّ بينَ المبنى والمعنى، تدخلُ في صميمِ تعريفِ الشّعرِ وكونِهِ إبداعٌ يعتمدُ الموهبةَ والكسبَ في آنٍ واحدٍ، وذلكَ ما نوّهَ إليهِ القاضي الجرجانيُّ (392هـ) من جهته، فذكر في سياقِ تناولِهِ قضيّةَ الطبعِ والصَّنعةِ، وذلكَ في مؤلَّفِهِ الوساطةُ بينَ المتنبّيِّ وخصومِهِ: "الشعرُ عِلمٌ من علومِ العربِ، يشتركُ فيهِ الطبعُ والروايةُ والذّكاءُ، ثمَّ تكونُ الدَّرَبَةُ مادّةً لهُ، وقوّةً لكلِّ واحدٍ من أسبابِهِ"..
خلاصةُ الأمرِ أنَّ قدراتِ الشّعراءِ تفاوتت وفقًا لعاملِ الميلِ إلى واحدٍ منَ المذهبينِ، مذهبِ شعرِ المباني أو مذهبِ شعرِ المعاني، وكانَ أوفقُ الشّعراءِ مَنْ توسَّطهُما وجمعَ بينهما في شِعرهِ تَبَعًا للشّروطِ والضّوابطِ الّتي أرساها نقّادُ الشّعرِ العربيِّ طوالَ العصورِ الأدبيّةِ..
أبو إسحاق الحصريّ (ت 413 هـ) يؤكّد في سياق حديثه عن الشّعر الّذي يؤدّي غرضَ المعنى والدّلالة الّذي وضعَ لأجلهِ، فيقول: "والكلام الجيّدُ الطبعُ، مقبولٌ في السمعِ قريبُ المثالِ بعيدُ المنالِ، أنيقُ الديباجةِ رقيقُ الزجاجةِ، يدنو مِنْ فهمِ سامعِهِ كدُنُوِّهِ منْ وهمِ صانِعهِ، وَالمصنوعُ مُثَقَّفُ الكعوبِ مُعتدلُ الأنبوبِ، يطردُ ماءُ البديعِ على جَنباتهِ، وَيحولُ رونقُ الحُسنِ في صفحاتِهِ، كَما يحولُ السِّحرُ في الطَّرَفِ، والأثرُ في السيفِ الصَقيلِ، وَحَمْلُ الصانعِ شِعرَهُ على الإكرامِ في التَعمُّلِ وَتنقيحِ المباني دونَ إصلاحِ المعاني، يَعُضُّ آثارَ صنعَتهِ وَيُطفِئُ أنوارَ صيغَتِهِ وَيُخرجُهُ إلى فسادِ التعسُّفِ وقبحِ التكلُّفِ".. بذلكَ ينصرفُ العربُ للمعاني معَ حرصِهمْ على ضوابطِ المباني والشّكل في القصيدة الشّعريّةِ، وبذلكَ- في رأينا- يَستقيمُ المنسمُ!
السيّدات والسادةُ، رَغمَ بساطةِ الشّعرِ الحديثِ بمعانيهِ ومُفرداتِهِ إلّا أنّه يَحملُ معانيًا ومضامينَ أعمقَ من المعنى الحرفيِّ، فالشّاعرُ الحديثُ لا يبحثُ عنِ المُفرداتِ فَحسْبْ، بل يتحرَّى في انتقاءاتِهِ اللفظيّةِ عُمقَ المعنى. معَ ذلكَ، طرحتْ حركةُ الشعرِ الحديثةُ مسائلَ عديدةً ومعقّدةً في مختلفِ مجالاتِ الإبداعِ الشعريِّ، ولعلَّ من أبرزِ تلكِ المجالاتِ مسألةُ شكلِ القصيدةِ، وليسَ من نافلِ القولِ إنَّ الشكلَ الشعريَّ قد اكتسبَ مكانةً هامّةً في المفاهيمِ الشعريّةِ التقليديّةِ الكلاسيكيّةِ، حتّى بلغتْ حدًّا توهَّمَ معَهُ بعضُهمْ ولا يزالونَ أنَّ الشكلَ وحدَهُ كافٍ للتفريقِ بينَ النصِّ الشعريِّ والنثريِّ.
قصيدتا الغربة ص: 36 والمُعذَّبة ص: 37-38، وقصيدةُ لا وألفُ لا ص: 53، تفتحُ المجالَ أمامَ تساؤلٍ يرتبطُ بقضيّةٍ تؤرّقني وتدعوني للتوجّه لكَ يا شاعرنا المحتفى بإصدارهِ المشرقِ في عبلّينَ، ولثُلّةٍ من أصحابنا ممّنْ ينظمونَ الشعرَ ولا يحرصونَ على العدلِ والاعتدالِ بينَ المبنى والمعنى، فمِنهم مَن يسلبُه حرصهُ على الشّكلِ والمباني التّنبّهَ لدورِالدَّلالاتِ والمعاني في نظمِهِ، فيخرجُ نظمُه عاريًا كاسِفًا من المعنى، شَحيحًا لا يعدو عن كونِهِ ألفاظًا متَّصلةً لا تُدركُ البصائرُ منها إلّا الرّكيكَ المذمومَ، ومنهم من يوقِعهُ تقديسهُ للمعاني في نَبوةِ التّفريط بما لا يليقُ التفريطُ بهِ من أصولِ المباني! وذلكَ عيبٌ ومثلبةٌ ينبغي بالشّاعرِ التوجُّسُ منها أيّما توجّسٍ!
وقعَ شاعرنا الجاسرُ في ورطةِ التعادلِ بينَ المبنى والمعنى، فقدّم المبنى على المعنى، فأفسدَ بذلكَ النصَّ وحرمهُ منَ الجماليّةِ الّتي كانَ بالإمكانِ تحصيلها فيما لو عدلَ بينَ مبناهُ ومعناهُ، فجاءَ الاهتمامُ بالمبنى باعثًا في ركاكةِ المعنى، ونصيحتي لكَ يا أخي، واعصبها برأس أخيكَ صالحٍ، كَدِّسِ المعاني، ولا تُكرِّسِ المباني!
باتَ معلومًا أيّها السيّداتُ والسادةُ أنّ الذي يفرّقُ بينَ الشعرِ الحديثِ عن التقليديِّ ليسَ الشّكلَ الخارجيَّ وحدَهُ، رغمَ أهمّيّتِهِ عندنا، بل إنَّ المناخَ النفسيَّ والإيحاءَ معًا يشكّلانِ فَيْصلَ الفروقِ بينهما، وليستِ المسألةُ كما وُصِفتْ ذاتَ مرَّةٍ أنّها خمرٌ قديمةٌ سُكبَتْ في دنانٍ جديدةٍ، بل هيَ في المقاربةِ الواقعيّةِ خمرٌ جديدةٌ مذاقُها مغايرٌ ونكهتُها مُخالِفَةٌ.
مداخلة الأديب علي هيبي: أسعد الله مساءكم/ رمضان كريم على الجميع. المحتفى به الكاتب والشاعر أخونا جاسر داوود. الأخوة على منصّة المتكلّمين. الحضور الكرام مع حفظ الألقاب. نودّع الآن شهر رمضان المبارك ونحن لخمس ليالٍ بقين منه، ونقف الآن على عتبات ليلة القدر ومن ثَمّ نستقبل عيد الفطر السعيد، ننتهز هذه الأمسية المباركة بوجودكم وبهذه الأجواء، لنعايد عليكم مسلمين ومسيحيين سائلين الله وأنبياءه: المسيح ومحمّدًا أن يعود علينا وشعبنا العربيّ الفلسطينيّ ينعم بالاستقلال والسلام والأمن في دولته فلسطين وعاصمتها القدس، مهد المسيح ومعراج الرسول. وشعوبنا العربيّة في سوريا وليبيا واليمن والعراق تنعم بالتخلّص من الإرهاب الداعشيّ والسعوديّ والقطريّ والتركيّ والأميركيّ.
أنا من الذين يؤمنون وأعتقد أنّي مثلُ جاسر في هذا الإيمان، وفقًا لما أعرفه عنه في الحياة ومواقفها ووفقًا لما قرأت من الديوان ومضامينه وكتبه السابقة، أنا من الذين يؤمنون بأنّ المسيح ومحمّدًا رسولان عربيّان، وأنّ الاثنين لنا، وليس المسيحُ للمسيحيّين وليس محمّدٌ للمسلمين، الاثنان وفي المقدار نفسه لنا. وأنّ الكنيسة والجامع كدارين للعبادة وذويْ معنًى وطنيّ عربيّ، الاثنان لنا، وليست الكنيسة للمسيحيّين فقط وليس الجامع للمسلمين فقط، الكنيسة والجامع الاثنان لنا، وإذا أُعتديَ على واحد منهما كان الاعتداء على الآخر تحصيلًا حاصلًا، و يا ويلنا إذا اعتقدنا غير ذلك، فسيكون الجامع والمسلمون في خطر والكنيسة والمسيحيّون في خطر أيضًا. وما أخطر دعوة ذلك الشيخ الذي دعا من على درجات منبر إلى أنّ أعيادنا لنا وأعيادهم لهم، ليست هذه دعوة رجل دين حقيقيّ وصادق، رجل الدين الحقيقيّ والصادق هو ذلك الذي يقول أعيادنا واحدة، أعياد المسلمين لهم وللمسيحيّين وأعياد المسيحيّين لهم وللمسلمين. أعيادنا عربيّة والسلام.       
عرفت الأخ والمربّي جاسر داوود منذ فترة طويلة، ولكنّ العلاقة توطّدت من خلال نشاطنا السياسيّ ضمن إطار الجبهة الديمقراطيّة للسلام والمساواة. ومن خلال النشاط الأدبيّ والثقافيّ الذي نما وترسّخ وانتشر حراكه بعد تأسيس اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين قبل ثلاث سنوات بالضبط. وكان الأخ جاسر من أوائل المنتسبين له. ونحن نتشرّف ونعتزّ بهذا الانتساب.
لست ناقدًا للشعر ولا لغيره من الإنتاج الأدبيّ، ولكنّي قارئ عاديّ أمتلك أدواتي الاستقرائيّة من تجربتي المتواضعة وقراءاتي المتأنيّة، وبخاصّة في الإنتاج الفلسطينيّ المحلّيّ الغزير، والذي أعترف أنّه ألهاني عن قراءة الإنتاج الأدبيّ العربيّ من بلدان أخرى، وأقول لقد غزُر هذا الإبداع فعلًا، ففي السنوات الثلاث الأخيرة أصدر الأدباء من أعضاء اتّحادنا فقط حوالي مئة وخمسين كتابًا، في ميادين: الشعر والقصّة القصيرة والرواية والمسرحيّة والترجمة والدراسة وغيرها من مواضيع الكتابة الإبداعيّة والعلميّة. ولجاسر باع طويل في هذا الإبداع والتنوّع، فقد أبى إلّا أن يكون كاتبًا شاملًا وقادرًا على الكتابة في كثير من الأنواع والفنون، فهو إذ يصدر باكورة دواوينه، متأكّد أنّ في جعبة مكتبته وذاكرته الكثيرَ من المخطوطات التي تقبع بين طيّات ظلام الجوارير، تنتظر في محطّة سفر الوجدان لتركب قطار النور وتبلغ فضاء الإبداع والنشر.
ولجاسر مجموعة قصصيّة بعنوان "خلود جذور الوطن" صدرت قبل عامين، واحتُفِيَ بها في هذا المكان بحضور لفيف من المبدعين والمشاركين، أذكر من بينهم كبيرنا - أعطاه الله الصحّة والعافية والعمر المديد – الكاتب والشاعر حنّا إبراهيم. وله في مجال السيرة كتاب هو سيرة حياة للقدّيسة الجليليّة الفلسطينيّة مريم بواردي، وكتاب عن ستّنا مريم أمّ الكلّ، أمّ يسوع المسيح، "واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانًا شرقيّا* فاتّخذت من دونهم حجابًا فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشرًا سويّا* قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّا* قال إنّما أنا رسول ربّكِ لأهب لكِ غلامًا زكيّا* قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشرٌ ولم أكُ بغيّا* قال ربّكِ هو عليّ هيّنٌ ولنجعلَهُ آيةً للناس ورحمةً منّا وكان أمرًا مقضيّا*.
أعرف أنّ جاسر يقوم الآن بوضع اللمسات الأخيرة على دراسته حول الحسّ الوطنيّ عند الشاعر الكبير، ابن عبلّين الأستاذ جورج نجيب خليل، وأعتقد أنّ ديوانه "يا بلادي أو إلى بلادي" كان أوّل ديوان شعر قرأته في حياتي وأنا في صباي، وكانت الكتب شحيحة، وكنّا نعتقد أنّ الشاعر قد يكون بعيدًا في برج عاجيّ أو في مجرّة سماويّة أو في بلاد خيال بعيد، وما كان ليخطر ببال أحد أنّ الشاعر رجل عاديّ وحقيقيّ، يسكن في عبلّين التي تبعد عن كابول مسافة ساعة سيرًا على الأقدام، وأقلّ من ذلك لو ركبنا الحمير.
وأعتقد أنّ جاسرًا ما زال عاقدًا العزم على إخراج دراسته التاريخيّة حول قريته عبلّين، وجاسر حائز على درجة الماجستير في موضوع الدراسات الإسلاميّة وتاريخ الشرق الأوسط. فإلى الأمام أيّها العزيز، نغبطك على غزارة الوبل وعلى تنوّع الخصوبة المبدعة.
وإذا كان جاسر داوود الشاعر وديوانه "عبير شوق السنين" هو محور هذه السهرة الأدبيّة، وإذا كان جاسر وأنا وغيرُنا قد شببْنا على النهل من الرعيل الأوّل لشعرائنا الفلسطينيّين الكبار، ومن غيرهم من الشعراء العرب والشعراء العالميّين، فلا بدّ من أن يكون الوطن والإنسانيّة والحبّ والأرض والنضال والحريّة والألم والأمل مواضيعَ في أشعارنا، وإذا كنّا قد تأثّرنا بهم، وهذا غير مشكوك فيه، فلا بدّ من أن نُراكَم تجاربهم ونعتصر من وجداناتهم المضطربة كالوطن، وننهل من حيواتهم ومواقفهم ما يجعلنا نمجّد الحياة الكريمة ونقدّس الموت المشرّف الذي يُبقي صاحبه واقفًا وحيًّا كالأشجار.
وإذا كان لا بدّ من الحديث عن هاجس رئيسيّ / موتيف أساسيّ عند جاسر في هذا الديوان، فلا بدّ أنّ هاجس الوطن الصغير عبلّين والوطن الكبير فلسطين، بكلّ تشكيلاته الماديّة وبكلّ مدلولاته المعنويّة والرمزيّة، لهو المحور الموضوعيّ والمعادل الفنيّ لمعاناة الشاعر على المستوى الذاتيّ ولمعاناة الوطن على مستوى الجمعيّ. والوطن ليس دائمًا حلمًا ومعنًى ورمزًا ودلالةً، بل الوطن وفي كثير من الأحيان هو الناس والأفراد والأشياء الماديّة الصغيرة والبيت والشجرة ولقمة العيش والفدّان وتعليم الأبناء وتزويج البنات والأعراس والغناء والموتى والقبور والشواهد ومنارة الكنسية والشماس والجرس ومئذنة الجامع وهموم الصوم ولقمة الإفطار وبهجة الأطفال في العيد والملابس الجديدة والمدرسة والدفتر، والوطن هو حبّ بنت الجيران واختلاس النظرات إلى الحسان، الوطن هو جهنّم أحيانًا نكون فيه أشقياء ونصلى نار ذوي القربى والحكّام الظالمين من أمثال حكّامنا اليهود والعرب في هذه الأيّام، ولكنّه أي الوطن، مهما اشتدّت علينا حلكته وجثم على صدورنا كجدار عازل يبقى أفضل من الجنّة التي لو وُضع فيها ناظم حكمت لصاح: "آه يا وطني" فالجنّة وأنهارُها الجارية من تحتها والملائكة المحلّقة من فوق أجوائها، كلّ ذلك لا ينسي الشاعرَ وطنَه.
الوطن عند جاسر هو الوحدة الوطنيّة بالمفهوم السياسيّ أيضًا، فلا يمكن لأجراس الكنائس أن تقرع في وادٍ وتكبير الجوامع أن يرنّ في واد آخر، فالثرى والنبع والنسيم والجبال والوديان والقمر والسهر والسعادة والهناء، والتاريخ في عبلّين وهي الوطن الصغير للجميع، والعدوّ المتربّص بهذا الجميع واحد، وقد يكون هذا العدو هو الذئب والغدر وقد يكون من ناكري جميل خيرات الوطن، وقد يكون التفسّخ والتشرذم الوطنيّ والطائفيّة والعائليّة وتغليب المصالح الذاتيّة النفعيّة وتقديم مصلحة الفرد الدنيئة على المصلحة العليا للوطن.
ينعكس هذا المفهوم الإنسانيّ للوطن بلا تعصّب وبلا فئويّة أو طائفيّة عند الشاعر، فعبير شوق السنين، هذا التوالي لثلاثة أسماء يشعّب الصورة لتتشكّل من العبير المحسوس والشوق المعنويّ الذي يدلّ على نقاء الأحاسيس والزمن المجرّد الذي يعطي الوطن امتداده الماديّ والسرمديّ، منذ البدايات أو ما قبلها حتّى النهايات وما بعدها، كلّ ذلك المزيج الجميل يلوّن الصورة الشعريّة ويجعلها ذات نبض وإيحاء، يضفيان على القصيدة ظلالًا جماليّة وغنيّة بالحركة والأصوات. هذه الصورة وهذه القصيدة التي لا تنتهي حبًّا وطيبًا وشمسًا هي عبلّين، التي يعتبرها الشاعر أغلى حبّ عرفه، منذ قصيدته الأولى، حيث يتحوّل الوطن نفسه ليصبح قصيدة عشق والشاعر عاشقًا ولهانَ يعاني حالة الفراق، متلوّعًا ومحترقًا شوقًا للقاء الحبيبة الغالية والبعيدة/ الوطن الغائب والبعيد.
جمال الوطن ومعانيه القدسيّة وأشياؤه ومفرداته الحسيّة على جمالها، لا تنسي الشاعر همومه، فالوطن مألوم بواقع احتلال مقيت وبوضع عربيّ مأزوم ومهزوم، والحلم كابوس والأمل لا يلوّح بيديْه من بعيد، إلى أين يهرب الشاعر؟ والمستقبل عاجز عن المجيء لسواد في ليل حاضر جاثم كالمصيبة ذات العيار الثقيل، يبدو كأنْ لا فكاك من جبروته! قد يسعف الماضي/ الهروب إلى الخلف/ إلى عنترة وتغلب وعمرو بن كلثوم. وهل يجدي السؤال إلّا بقليل من قبس اليأس الإيجابيّ، اليأس السيرياليّ. لمن نهرب وإلى أين؟ لخادم الحرمين الوهابيّ/ للرئيس السيسي الربيعيّ/ للإخوان المسلمين الأردوغانيّين/ للإخوان الوهّابيّين وثمود/ هل نعود إلى أولئك الذين "فرشوا بقلوبهم حصونًا للغريب وقتلوا رغبات شعوبهم فأذلّوها" على حدّ تعبير جاسر في قصيدة "وا تغلباه"/ فاليمن تفرّق أيدي سبأ بعد أن هدمت فئرانُه مأربَه/ والعراق يشكو من هولاكو جديد لا يذر مكتبة ولا متحفًا/ سوريا في مهبّ رياح خطير/ مشرعّة الأبواب المخلّعة نحو الجهات الستّ/ مصر نامت نواطيرها الناصريّة عن ثعالبها وساداتها/ قلنا سيسي سيسي ولم يطلع نور ولم يتنفّس صبح ولم ينبلج ربيعٌ ولم يضحك. ومع ذلك فجاسر يهرب إلى الماضي البعيد مستصرخًا ومستغيثًا "وا تغلباه"، أو إلى الماضي القريب فيعيد إلينا جمال عبد الناصر حيًّا  كقائد ورمز للعروبة والوطنيّة والعدالة الاجتماعيّة وكرمز للطهارة العروبيّة. كلّ ذلك تعبير صادق عن حالة اليأس والإحباط والخمول والقدرة المذهلة على اللا فعل، التي تضطرب فيها هذه الأمّة بظلام قتل شبابها وبظلاميّة تقتل تفتُّحَ عقلها. فإلى أيّ درْك تأخذنا أيّها التديّن المبشنق بالظلاميّة والأصول المزيّفة/ في أيّ قاع صفصف تجعلنا أيّها العصف المدمّر.   
في هذا الديوان ثمانٍ وعشرون قصيدة، لا اعتقد إلّا في قليلها لا يمرّ ذكر الأمّ، لا أعرف سببًا حقيقيًّا لذلك، ولكنّي أكاد أجزم أنّ للأمومة والأمّ والمرأة عامّة دورًا هامًّا في نسيج التجربة الشعريّة والفنيّة عند شاعرنا، فالأمّ هي الغنى الوجدانيّ الطافح بكلّ المعاني المقدّسة، إنّها الوطن والطبيعة والأمومة والطهارة والنقاء، وهي البداية والولادة الدائمة والتجدّد الحيويّ، وهي الصدر الحنون الذي نسند إليه همومنا، والأم هي الحبّ الطاهر الذي لا نستطيع أن نحيا ونزاول حياتنا ونمارس نضالنا دونه، إنّ هذا الموتيف الذي يتردّد في الديوان من أبرز العناصر التي شكّلت العاطفة والحبّ وبصدق داخليّ، وكلّ ذلك من صميم التجربة والمعاناة الذاتيّة للشاعر ولنا، على اعتبار أنّ صوت الشاعر الصادق هو انعكاس لصدى أصواتنا الصامتة.
هناك من يردّد في بلادنا، وفي الأوساط الثقافيّة والأدبيّة، أنّنا لم نعد نملك إلّا سلاحًا واحدًا هو الثقافة، والصراع السياسيّ والقوميّ في أحد وجوهه ثقافيّ حضاريّ، هذا إلى حدّ ما صحيح وبشكل نسبيّ، وكلّ إنتـاج أو إبداع أدبيّ هو رصيد لثقافتنا الإنسانيّة ولشخصيّتنا القوميّة ولهويّتنا الوطنيّة، شريطة أن يستوفي الأسس والعناصر الفنيّة والجماليّة، ولا يكفي في هذه الحال الموضوع والمضمون، مهما كان صادقًا من الخارج، لا بدّ من الصدق في داخل الإبداع، وإلّا صار هذا الأدب عالة على مشروعنا الفنيّ والثقافيّ والوجوديّ، فالقصيدة كي تكون سلاحًا تقاتل في المعركة إلى جانب غيرها من الأسلحة، يجب أن تكون على جودة جماليّة، وإلّا تحوّلت إلى سلاح مضادّ.
ولا بدّ من التعريج على أحد الجوانب الفنيّة في الديوان، وأقصد الشكل الشعريّ، وجاسر يلجأ إلى تنويعة واضحة في قصائده، فهو يكتب القصيدة العموديّة المبنيّة على بعض الأوزان الخليليّة، وله منها سبع قصائد، وهنا أدعو الشاعر إلى دراسة أعمق لهذه البحور وتفعيلاتها وجوازاتها. ويكتب قصيدة أعتبرُها مزيجًا من الشعر المرسل والشعر المقطعيّ المزدوج، قصيدة "المعذّبة"، وقصيدة مقاطع من الرباعيّات هي "الأمّ المقدّسة"، وله قصيدة باللغة العاميّة وهي "طفل من بيت لحم"، وما بقي من قصائد فهي من شعر التفعيلة أو من قصيدة النثر أو ما بينهما، ما يشبه الخليط من هذه وتلك. واعتقد انّ هذا التنويع مكّن الشاعر من أداء تجاربه ومعانيه وفقًا لسلّم ذي طبقات صوتيّة متفاوتة الإيقاع والوقع على الأسماع والأذواق المختلفة بطبيعتها بين القرّاء، وقد لاحظت أنّ صوت جاسر الشعريّ يعلو بنبرته وصرخات قلبه المتصدّع ليصبح خطابيّا مباشرًا حين ينادي ويخاطب العدوّ مستغربًا جرائمه بحقّ الطفل والوطن والناس، وحين يستصرخ الشعراء: درويش والقاسم وزيّاد، وقد نلاحظ هذا الصراخ في بعض القصائد الحديثة حين يثوّر ويحرّض. أمّا في رسالته إلى محمود درويش، فبالرغم من كونها رسالة، والمفروض أن تكون خطابيّة نراه فيها ذا نبرة هادئة وهامسة. شأنه في هذا كشأن معظم القصائد المتحرّرة من القيود الكلاسيكيّة، ومن هنا نستطيع أن نستنتج غير جازمين، أنّه كلّما تحرّر جاسر الشاعر من القيود كان شعره أكثر هدوءًا وانخفض صوته إلى حدّ الهمس، ولكنّه بالتأكيد يصبح أعلى شاعريّة وفنيّة من حيث جودة الصورة الشعريّة والصياغة اللغويّة.
لا يمكنني أن أنهي هذه المداخلة دون التطرّق إلى الموتيف المسيحيّ في شعر جاسر، وهو ما ذكّرني بالشاعر اللبنانيّ يوسف الخال، وقد يتبادر إلى الذهن وللوهلة الأولى والثانية أنّ جاسرًا يتقوقع في صومعة دير أو ينطوي في ركن منزوٍ في كنيسة الذات، العكس هو الصحيح، وهو الذي نلمسه لمس اليد ونراه رأي العين ونعيه بأمّ العقل منذ الوهلة الثالثة والوهلات التي تليها، فالموضوع المسيحيّ فضاء إنسانيّ منفتح على الآخر، وبخاصّة الإسلاميّ بحكم العامل الدينيّ العباديّ، فالربّ واحد، وبحكم العامل الاجتماعيّ، فشرقنا العربيّ ومجتمعنا المحليّ هو ذلك النسيج الفسيفسائيّ الذي يتكوّن من رسالة الحبّ والتآخي والمودّة، بلا تمييز فعبلّين واحدة للجميع، والقدس بأقصاها وقيامتها، رمزان صامدان إلى أن تقوم قيامة المحتلّ ويتحرّر الوطن من أقصاه إلى قيامته، ومن المهد وإلى اللحد، فهذا التراب الطاهر والمعمّد بدماء الشهداء، إمّا أن نعيش عليه بشرف وكرامة أو نموت فيه وندفن بكرامة وشرف. أليس هذا ما تريد يا جاسر الطيّب؟ الموضوع المسيحيّ عند جاسر له جانب سياسيّ ووطنيّ، وله كذلك جانب روحانيّ رومانسيّ، يسمو بالنفس إلى عليّين، عندما يعطي لنا الشاعر شرعيّة للأحاسيس الإنسانيّة وأبرزها وأسماها الحبّ، وهذه المشاعر لا يمكن أن تتناقض مع الفطرة البشريّة، وهذه لا يمكن لدين أن ينكرها، بل تقرّها كلّ الأديان، فالدين لا يمكن أن يخالف الفطرة، أمّا من يروْن في الحبّ فحشًا، فأولئك هم الفاحشون الذين يجاهدون بالنكاح، المجرمون قتلة الناس والحريّات، الذبّاحون الحارقون، مدمّرو الحضارة والتاريخ والوعي الإنسانيّ، النهّابون الذين يسرقون الثروات ويبيعونها للأعداء بثمن بخس، فساء ما يفعلون. عندنا أنا وجاسر الحبّ هو الطهر والنقاء وصفاء النفس والسموّ بها.
الموضوع المسيحيّ يتناقض مع هجرة المسيحيّين وتهجيرهم من شرقنا، لا شرق بلا مسيحيّيه ومسيحه الجليليّ الناصريّ، الذي ولد في بيت لحم ومشى على الماء في طبريا، وعصر من الماء خمرًا في كفركنّا، وجاسر يعتبر في قصيدة "أوّاه يا قدس" أنّ الرحيل عن الوطن يعني الموت والثكل. لأنّ الوطن هو الأرض النابضة بالحياة والربيع الجميل، وهي الشهيدة المعمّدة بطهر التراب والماء المقدّس من عين العذراء الناصريّة ومدن الوطن ومناطقه ومعالمه: عكّا وحيفا وسخنين وعرّابة والشاغور والزابود وجبل حيدر وجامع الجزّار وكنيسة مار جريس وشعر درويش وسميح. فلنكتب الشعر! فلا خوف علينا ما دمنا ننبض شعرًا ووطنًا، ونحكي لأطفالنا قصّة الذئب الذي افترس ليلى، ونروي روايتنا الصادقة ندحض بها الزيف والكذب. وإلى الأمام يا جاسر، وإلى مزيد من الإبداع. ولك الحبّ والحياة.
مداخلة الأستاذ جاسر داود بصوت حفيدته جويل نزار بربارة: مساؤكم خيْرًا وأَهلًا وسهلًا بكم.
ما يَجمَعُنا هُنا في ساحَةِ بيتِ القدّيسَةِ مريَم بَواردي وفي مسْقَط رأسِها، هوَ إيمانُنا جميعُنا باللهِ الواحدِ المُحِبِّ للمَحبَّةِ الصادِقةِ والسلامِ الذاتي معَ النفسِ قبلَ أنْ نُعاهِدُهُ بهذا.
إِنَّ الإحتفالاتِ بهذهِ الساحَةِ لَهُوَ تعبيرٌ عنْ محَبَّتِنا لِتعاليمِ القدّيسةِ مريم بواردي، التي نادَتْ بالمحبَّةِ الإنسانيَّةِ بينَ بني البشرِ، وليسَ بينَ أبناءِ طائفةٍ مُعيَّنَةٍ. لِهذا دَعَوتُكُم وجَمَعتُكُمْ أَحِبَّتي لِمُشارَكَتي في مولودٍ أَدبِيٍّ جديدٍ لي من نوعٍ يختلفُ عن المولودِ القِصَصي والدّيني، نعَم إِنَّهُ عُصارَةُ فِكري خِلالَ عدَّةِ سنينَ، فيها وَضعْتُ مَحبَّةَ الانسانِ بالمَركِزِ كعادَتي في جميعِ أَوْ غالبيَّةِ كتاباتي متنوِّعَةِ المواضيعِ.
نعم، الانسانُ هو الوَطنُ الذي نبْحَثُ عنهُ في أحلامِنا أَو واقِعِنا، هو الجارُ القريبُ والبعيدُ، هو ابنُ بلدتي الغاليةِ على قلبي عبلين، هو ابنُ شعبي العربي الفلسطيني في الجليلِ والمُثلَّثِ والنقبِ وفي كلِّ مكانٍ في هذا العالمِ، لهذا لا أُساوِمُ عليهِ أَبَدًا، ولا أُبّدِّلُهُ بوطنٍ آخر، فالوطنُ وطنٌ باقٍ مهما تغيّرتِ الوجوهُ والحُكّامُ. ففي كلّ واحِدٍ منكُم أحِبّائي المشاركينَ معي هذهِ الفرحَةِ أَرى نورَ الوَطنِ المَرْجو، أَرى استمرارَ الحياةِ فوْقَ ربوعِهِ الخضراءِ، فأَهلًا وَسَهلًا بكم بوَطني الغالي، أَهلًا بكُم جَميعًا وشكرًا على مُشارَكتكُم هذهِ الفرحَةِ. شُكري لِلمُتحَدّثينَ من البلدةِ وعريفةِ الاحتفال، والذينَ تكَبَّدوا مَشاقَّ السفرِ في هذا الشهرِ الفضيلِ شهرِ الصوْمِ، شهرِ رمضانَ الكريمِ، أَدامَكُمِ الرَّبُّ نِبْراسًا نهتدي بهِ في حياتِنا الثقافيّة.
شُكرًا لِمَنْ ساعَدني وشجَّعَني وآزرَني في إخراجِ هذا الديوانِ للنورِ. شكرًا لكم يا شيوخَ وكهنةَ هذه البلدة وخارجها معِ الرّاعينَ لِهذا الاحتفالِ، والشكرُ لعائلةِ عمي عزات داود والفنّانة التشكيليّة تغريد حبيب، الشكرُ لِوسائل الاعلام ِالمختلفةِ، وشكري لأَولادي أَرز والياس وجريس وعائلاتِهِم، وللزوجة سيدر - أُمِّ الياس لِتحَمُّلِها أَحلامي وآمالي وجنونِياتي الكِتابِيَّةِ والشِعرِيَّةِ على مدارِ السنينَ.
شُكري لِجميعِ الشبابِ الذين استقبلوا وساعَدوا في التنظيمِ والضيافةِ، هذا هو وجهُ عبلين الحقيقي، وَلِتَبْقَ عبلينُ قِلادَةً ثمينَةً عَل

71
وكما يُدَمْوِزُهَا تَتَعَشْتَرُ

بقلم د. خليل حسونة
قراءةٌ غيرُ منهجيّةٍ لديوانها "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين" للشّاعرة آمال عوّاد رضوان
حول العنونة: الشعرُ صورةٌ ناطقةٌ وحدودُ ذاكرةٍ تُشكّلُ أبجديّةَ الطفولةِ، والشاعرُ هو ذلكَ الفاعلُ المؤتمَنُ على التوْصيلِ للانفعالاتِ، وتحويلِها للتعبيرِ عن مشاعرَ وجدانيّةٍ لا حدودَ لها، وهو ما ميّزَ هذا العملَ الموسومَ بـ "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين"، للشّاعرةِ المُجدِّدةِ آمال عوّاد رضوان، والذي تُؤكّدُ نصوصُهُ فِعلَ الشعرِ الأقوى والأكثر التحامًا بأشيائِهِ، والدّفعَ إلى التأمُّلِ عبْرَ الدهشةِ والإدهاشِ اللّذيْن يَلتقطِهُما الناقدُ الحصيفُ لمساعدةِ المُتلقّي عبرَ ذلك، للنّفاذِ لأسرارِ النصّ، حيثُ انغراسُهُ في وجدانِ مُتَلقّيهِ، والدخولُ معهُ في علاقةٍ تفاعُليّةٍ جَدَليّةٍ، كما يُؤكّدُ الناقد الغَرّافي حيثُ التأثيرُ والتأثّر.
في أعماقِ كلِّ تجربةٍ إنسانيّةٍ تنشأُ خصوصيّةُ الاختلافِ والرضا، ومِن ثمّ خصوصيّة التعبيرِ، وهي مسألةٌ ترتبطُ بأرضيّتِها الاجتماعيّةِ والنفسيّةِ، فالأديبُ الحقُّ/ هنا الشاعر/ هو الأكثرُ قدرةً على دفع الناسِ نحوَ الجديدِ، شريطةَ أنْ يُبدعَ الجديدَ، فهو مُطالَبٌ أنْ يُعَبّرَ عن مشكلاتِهِ/ كما يرى لوكاتش/ بأسلوبِهِ الخاصّ، وبرؤى جَماليّةٍ تقومُ على كسرٍ واضحٍ للتقليديِّ في الشّعرِ، والتّميُّزِ بالدخولِ في موضوعاتٍ جديدةٍ، كمَلْمَحٍ بارزٍ مِن مَلامحِ الشعرِ الحداثيّ، بما فيهِ مِنَ انفتاحٍ على القراءةِ التأويليّةِ دونَ تجاهُلِ الشفراتِ والإشاراتِ، كوْنَ التأويلِ يَتمثّلُ في إمكانيّةِ أن يَحوزَ النصُّ بعلاقاتِهِ الأبستمولوجيّةِ الفاعلة على معانٍ مختلفةٍ، عَبْرَها تتجذّرُ الكيانيّةُ الرؤيويّةُ له، حيثُ يَقتحمُها الشاعرُ، ومِن ثَمَّ تقتحمُ حُلمَهُ وتمتزجُ به حتّى الانسكابِ، فيَنطلقُ الالتفافُ والتوليدُ والتفجيرُ، حتّى لا تنزلقَ القراءةُ إلى العشوائيّةِ الفاسدةِ، وذلكَ كي تستطيعَ الحفاظَ على صورةِ المُدرِك في وجهِ المُدرَكِ، ما يَجعلُ القصيدةَ تُشكّلُ سُبكًا خاصّةً، تُؤكّدُ قدرةَ الشاعرِ على امتلاكِ صوْتِهِ بقوّةٍ، حيثُ الانسيابيّةُ المُفعَمَةُ بتقنيّةٍ جَماليّةٍ، تجعلُ حُلمَهُ غيرَ منقوصٍ البتّةَ، ومِن هنا كانَ لقاؤُنا معَ هذا الديوان.
في محاولتِنا لاستحلابِ البُعدِ الجَماليّ لهذا العملِ المُثيرِ، عبْرَ تحليلِ جُزيئيّاتِهِ ودلالاتِهِ واستنتاجِ تَجليّاتِهِ، فمنذُ البدايةِ، يَشُدُّنا العنوانُ بقوّةٍ، حيثُ يُدخِلُنا في بوْتقةِ الأسطرةِ، كأوّلِ مفتاحٍ إجرائيّ بهِ نفتتحُ مَغاليقَ النصّ، مِن أجل تفكيكِ مُكوّناتِهِ، كمَدخلٍ لعمارتِهِ وإضاءة لها، وذلكَ باستدعاءِ المُتلقّي إلى نارِها، مُتّكئةً على طاقتِها الهائلةِ في تجسيدِ سُلطةِ النصّ وواجِهتِهِ، فللعنوانِ دوْرُهُ المُهمّ، لِما لهُ مِن مُواصفاتٍ تجعلُهُ يأخذُ قيمتَهُ الدلاليّةَ منها،إذ يُشكّلُ علامةً تعبُرُ بكَ مدارات التجربةِ والأبعادِ الرمزيّةِ لها، بما لذلك من إبهامٍ واضحٍ حيثُ الغموضُ والرمزيّةُ الّتي تدفعُ لاكتشافه والبحث في دلالاتِها العميقة، كمَلمَحٍ يُبرزُ حضورَ شعريّةِ الحداثةِ، حيثُ التوهُّجُ ودهشةُ المفاجأة، وعَبْرَ لغةٍ طقوسيّةٍ صارخةٍ، لها دوْرُها كعنصرٍ فاعلٍ في بناءِ القصيدةِ الّتي يَتجلّى في أرجائِها عبقريّةُ الأداءِ الشّعريِّ، وتَبَنّي لَبِناتِها المِعماراتِ الفنّيّةَ الصاخبةَ جَماليًّا، المازجةَ بينَ الأستاتيكا والضجيج، حيثُ الإنسانُ في عواصفِهِ الفكريّةِ والروحيّة.
عندَ هذا الحَدِّ أقِفُ لأخرُجَ مِن سطوةِ العنوان، حيثُ تَداخُلُ "الأدمزة" و "العشترة"، لأدخلَ في أتونِ العملِ الذي يُظهرُ منذُ البدايةِ، كيفَ وضّحتْ لنا الشاعرةُ معَ الكلماتِ الأولى للإهداءِ، ثمّ المدخل وماهيّة الشعر بالنسبةِ إليها، وذلكَ على لسانِ مَحبوبِها الذي تتطهّرُ مُهرةُ بوْحِهِ، وهي تُحلّقُ فرِحَةً ببياضِه صوْبَ ذاكرةٍ عذراءَ بنارِ الحُبّ (ص3):
إِلَيْكَ/ مُهْرَةَ بَوْحِي فَتِيَّةً/ بِفَوَانِيسِ صَفَائِهَا .. بِنَوَامِيسِ نَقَائِهَا/ حَلِّقْ بِبَياضِهَا/ صَوْبَ ذَاكِرَةٍ عَذْرَاءَ/ وَتَطَهَّرْ/ بِنَارِ الُحُبِّ .. وَنورِ الْحَيَاة!
طاقةُ النصِّ والأسطرة: منذُ البدايةِ نستطيعُ التأكيدَ؛ على أنّ الدخولَ لعالمِ الشاعرةِ آمال عوّاد رضوان وُلوجٌ محفوفٌ بالمَشقّةِ والإجهادِ، ذلك أنّها ابتدعَتْ لنفسِها طريقًا خاصًّا بها يَتّكئُ على المُغاير، وهي تَضوعُ حكايتَها على لسان "أدموزها" الحبيبِ العاشق/ الجامحِ في عَماهُ حُبًّا، المُتلهّفُ للّقاءِ والتوَحُّدِ بها، وبشكلٍ ضديدٍ للمتعارفِ عليهِ من أبناءِ جيلِها مِن الشعراء، حيثُ تحتاجُ نصوصُها إلى التأمُّلِ الدافعِ لاستحلابِ الرؤيةِ واعتصارِ الرؤيا، وهو ما بَرَزَ على طولِ جسدِ الديوان.
في قصيدتِها المُفتتح الموسومةِ بـ "يابسةٌ سماواتي"، تَبرزُ لنا طاقةُ النصِّ المُشِعّةِ بجَلاءٍ غامضٍ وغامضٍ جَليٍّ، ما يَجعلُ استجابتَنا لحرَكتِها دافعًا لرشْفِ التجربةِ كاملةً، في حين أنّنا نستطيعُ اقتطافَ رشقاتِ العناصرِ الغنائيّةِ مِنَ الذاكرة، كعلاماتٍ لها بُروزُها في الشكلِ والبناءِ (ص4):
يَابِسَةٌ سَمَاوَاتِي/ أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي/ أَأَظَلُّ.. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟/ أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ.. بَــ~ يــْـ ~نَ.. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ/ وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ.. بَــ ~ يــْـ ~نَ.. جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!/ عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ.. مُضَمَّخٍ/ بِــــالْـ~دَّ~هْـــ~شَــ~ةِ/ ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي.. صَدًى/ لِأَرْسُمَ.. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى!
النصُّ هنا يخُطُّ جُملةً مِن التأويلاتِ المفتوحةِ والطافحةِ بالألمِ والعِشقِ الذي أطلقتْهُ الشاعرةُ على لسانِ "دموزي/ تموز"، المُعلّقةُ أحلامُهُ بينَ الوعودِ المُؤجّلةِ وأقدامِهِ الّتي تتعثّرُ بينَ جدرانِها/ صدِّها/ ولرُبّما إهمالِها أو صمْتِها، دونَ أن تَفقدَ هيبةَ الحضورِ أو مُعانقةَ العراءِ، حيثُ رنينُ الصّدى الذي يَرسُمُ ويُشكّلُ بعْثَها المُشتَهى، وهو ما تُريدُهُ منهُ وترغَبُهُ، وقد أكّدَ فيهِ التنقيطُ ذلك، كما أبرَزَ أنّ للنّصِّ مُشاغباتِهِ، حيثُ التّأنّي الدافعُ للدّهشةِ، والتي هيَ بدَوْرِها تدفَعُ للبعثِ المُشتَهى، كرَدِّ اعتبارٍ لِمَا أقدَمَتْ عليهِ بلامبالاة، وذلك بالتضحيةِ بمَحبوبها الّذي يَوَدُّ أنْ يَخُطَّ بعْثَها ويُمعِنَ النّظرَ فيهِ، وكلُّ ذلك، بلغةٍ غيرِ نوّاحةٍ، بل أخذتِ انْسيابَها مِنْ طبيعةِ موْضوعِها الّذي ارتبَطتْ بهِ، فجاءتْ كلماتُها مُتدفّقةً بفسيفساءِ الشّعورِ الجميلِ، وبالطّموحِ الأجملِ المُنطَلِقِ بقوّةٍ، بارِحًا للشّجوِ حتّى الجنون الصامت (ص5):
قَلْبِي الْــ  يَــــكْــــبُـــــرُ  بِكِ/ حينَ .. يَـ~جْـ~ـمَـ~ـحُ.. شَجْوًا/ تَــتَــيَــقَّــظُ.. ثُــغُـورُ رَبـِيـعِي الْــ غَــفَــا
هنا ذاكرةٌ، وهذهِ الذاكرةُ تَعطّلتْ فجأةً في مُحاولاتِ الحُلمِ المُتعمّقةِ، حيث الأنا/ يُجَنُّ بِكِ/ تَفرضُ نفسَها كما هي عَبْرَ أناها/ ثغورُ ربيعي/ ودونَ أنْ تبتعدَ عن/ الأنا الأخرى/، كلُّ ذلكَ عبْرَ ذكاءٍ فنّيٍّ مُتيَقّظٍ، جاءَ الإيحاءُ والتّوهُّجُ فيهِ ليُعلنَ ويُعاينَ التعبيرَ النفسيَّ للشاعرةِ ويُعايشَهُ، كما جاءَ على لسانِ مَعشوقِها الحالِم/ ديموزها/، للوصولِ إلى البعثِ المُشتَهى، حيثُ التّلاحُمُ بها/ المعشوقةِ/ الّذي يُريد. هذه الشفافيّةُ الطفوليّةُ الّتي أطلقَها "ديموزي" في مُحاولتِهِ التّصالحَ مع الذّاتِ الأخرى/ عشتار، تَستحضِرُ شبكةً مُعقّدةً مِنَ التّوازياتِ، تختلطُ فيها التّداخُلاتُ الأسلوبيّةُ، إذ تُشكّلُ رغمَ خِطابيّتِها عالَمًا مُتعدّدَ الأبعادِ والمُستوياتِ والأعماقِ، حيثُ مَلامحُ الاشتعالِ/ الاشتياقِ/ الشّهوةِ/ الأحلامِ المُعلّقةِ/ الوُعودِ المُؤجّلةِ/ ثمّ وأخيرًا/ البعث المشتهى". أليسَ في هذا صورة للقبول المَرْجو مِن أجل التّلاحُم؟
الشاعرةُ هنا تُجيبُ مُؤكِّدةً ذلك، بتعامُلِها معَ وهجِها الّذي يُؤكّدُ رؤيتَنا، وهو ما يُجيبُ على سؤالِها الصارخ، بل وعلى قُدرتِها الذّاتيّةِ الّتي أفرزَها عقلُها الباطنُ على لسانِهِ/ وهوَ يَنطقُ باسْمِها، وهيَ تُصِرُّ على الدّلالِ/ التّعشترِ/، كحالةٍ واضحةٍ غامضةٍ ومُتداخلةٍ مِن أحوالِ النّفس، وكموقفٍ وجدانيٍّ بارز، فالإنسانُ وهو الشاعرةُ كما رأينا وبكلّ رُؤاها وحالاتِها وبحسب "فرويد"، هو كائنٌ على خِلافٍ دائمٍ معَ العالمِ ومع نفسِهِ، وثمّةَ صراعٌ مُحتدِمٌ على الدوامِ بينَ الفصْلِ الواعي واللّاواعي، فإلى جانبِ الميْلِ المُتّصِلِ إلى كبْتِ الدّوافعِ في اللّاوعي، هناكَ ميْلٌ آخَرُ للحوافِزِ اللّاشعوريّةِ بالخروجِ إلى النّور، وهنا تَظهرُ الرّغباتُ المَرجُوّةُ اجتماعيّا، والتي يَطمحُ عاشقُها/ على لسانها/ لقطفِها، حيثُ خُلِقَ كما يقولُ للاحتراقِ بها، لذلكَ يَقفُ ومعَهُ مِن أجلِها على خانةِ حُبّهِ، حيثُ الانتظارُ المَرجُوُّ لتلكَ الّتي لمْ تَزَلْ تسجُنُهُ بمَفاتِنِها، ليَسوحَ حتّى الذّوبانِ في عبيرِ نَهدَيْها، كما جاءَ في قصيدتِها "غاباتي تَعُجُّ بالنّمور" (ص11-12):
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ .. أَسُووووووحُ/ فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا .. يَتَّقِدُنِي/ وَأَذْرِفُكِ .. عِطْرًا مُتَفَرِّدًا/ تَـسْـجِـنِـيـنَـنِـي .. بِمَفَاتِنِكِ/ تَـنْـسِـجِـيـنَـنِـي .. مِنْ لَدُنِ رُوحِك/ فأَطْفُوَ عَدْوَ ظَبْيٍ .. إلَى مَقَامِ الْهُيَامِ/ وأُجِيدُ طُقُوسَ هُطُولِي/ عَلَى أَجِيجِكِ الثّائِرِ!
و(ص15): أَنَا مَنْ خُلِقْتُ.. لِأَحْتَرِقَ بِكِ/ احْتَرَفْتُ الاتِّكَاءَ/ عَلَى غَيْمِكِ/ على لهْفَتِكِ .. على جُنُونِكِ/ وَقَدْ خَضَعْتُ .. لِحُلُمِي طَوِيلًا/ فِي انْتِظَارِكِ!
هنا لغةٌ وجدانيّةٌ تَرفعُ راياتِها على نحوٍ غامضٍ ومُستتِرٍ، ما أنْ تَصلَ إلى دائرةِ الفهم، حتّى تُصبحَ قضايا عقليّةً لا أثرَ للألوانِ ولا حتّى للخفايا، فيها ما يَجعلُ القصيدةَ تحتفي بسِرٍّ أعمقَ، هو سِرُّ الخَلْقِ الشِّعريِّ، إذ تُظهرُ أشياؤُها حالةً مِن حالاتِ الذّاكرةِ الناصعةِ غيرِ المُفكّكةِ، والتي تتموضَعُ عبْرَ أساليبَ مُلتويةٍ، تُثيرُها آلافُ الذّكرياتِ (ارتجاج الوعي فيها بالأنا)، والتّحوُّلُ مِن سؤالِ الــ (ماهوَ) إلى الـ (كيف) يتضمّنُ الثّوابتَ الحُلميّةَ، ويَجعلُ الأنا رهنَ شروطِها وتناقضاتِ هذهِ الشروط، ولأنّ القصيدةَ الحيّةَ كالنّار لا يَصِلُ لهيبُها إلّا بالامتدادِ، ولأنّها لا تُسلّمُ قيادَها إلّا لمَن صدَقَ حُبُّهُ لها، ولأنّ الصورةَ في النّصِّ الحَداثيِّ تنقذِفُ داخلَ نفسِ الشاعرِ وحالَ توَتُّرِهِ واسترْخائِهِ، لهذا تتغيّا الكوامنُ الشعوريّةُ ومَداركُها. هكذا جاءتْ قصيدةُ "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ" لِتؤكّدَ ذلك:
أَيَا دُرَّةَ الطُّيُورِ/ مَا عَرَفْتُكِ .. إِلَّا عُصْفُورَةَ نَارٍ/ تُضِيءُ دُرُوبِي! (ص19)
دَعِيني.. أُعِـــدُّ قُــبُــلَاتِــي/ لِحَيَاةٍ جَمَّةٍ/ تَـتَـفَـاقَـسُـنَـا/ فِي أَعْشَاشِكِ الْحَيَّةِ .. غَيْرِ الْخَرِبَةِ!
وَدَعِينَا .. نُحْيِي رَمِيمَنَا (ص20)
أُدَمْــــــوِزُكِ.. وتَـــتَـــعَـــشْـــتَـــرِيـــن/ أُلْقِي عَلَيْكِ.. مَلَاءَاتِي الْخَضْرَاءَ/ فَتَسْتَعِيدُ أَعْشَاشِي/ تَـرْتِـيـبَ عَـصَـافِـيـرِهَا/ وَتَتَسَرْبَلينَ .. أَنْهَارَ خُصُوبَتِكِ! (ص21)
أَوْعِزِي .. لِغَيْمِ جِنِّي وَإِنْسِي/  لتَتَسَرَّبَ فُصُولُ الْبَنَفَسْجِ/ وَتَتَرَسَّبُ بِرُوحِكِ الْعَشْتَار/ فَلَا يَشْتَعِلُ الْعَوْسَجُ .. بِتَــلَـعْــثُــمِــكِ! (ص21)
هنا حالةٌ وجدانيّةٌ نافرةٌ تتداخلُ فيها الرّقّةُ بالخشونةِ، حيثُ الرّبطُ بينَ الفقدِ وجُملةِ المَعارفِ الإنسانيّةِ، ليُصبحَ المَعنى ليسَ مُجرّدَ شيءٍ تُعبّرُ عنهُ، وإنّما شيئًا تُنتجُهُ. هكذا كانَ للأسطورةِ حضورُها اللّافتُ، فقد ظلّتْ شاغلًا مِن شواغلِ عِلم النفس، يَسْهُلُ تفَهُّمُهُ للإنسانِ، وتحليلُهُ لبواعثِ أعمالِهِ وكوامنِ غرائزِهِ، والكشْفِ عن عقلِهِ، ما دامتِ المعاني تُستمَدُّ مِنَ المعاني اللّاشعوريّة في النفس، ما جعلَ القصيدةَ تسترجعُ التّراكماتِ التّاريخيّةِ الّتي تعتملُ في نفسِ الشّاعر، عندما يُوازنُ بينَ الموتِ والحياة/ السّلبيّ والإيجابيّ، وهيَ تُعالجُ قضايا الوجودِ الإنسانيِّ بنَوازعِهِ وأفكارِهِ، وتُشكّلُ حقيقةَ أزمتِهِ الوجوديّة، إذ استوعبَتْ قلقَ الإنسانِ الأزليِّ الّذي يَرنو للتخلُّصِ مِن وجعِهِ، عبْرَ الاندغام والسياحةِ بها والذوبانِ في عبيرِها، وهوَ ما بَرَزَ جلِيًّا لأكثرَ مِن مرّةٍ كما نرى في قوْلِها:
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ.. أَسُوووووحُ/ فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا .. يَتَّقِدُنِي/ وَأَذْرِفُكِ .. عِطْرًا مُتَفَرِّدًا (ص12)
لَكَمْ يَسْتَهْوِينِي/ تَــ فْـــ كِـــ يـــ كُـــ كِ/ قَبْلَ أَنْ أُعِيدَ إِلَيَّ .. لُـــحْـــمَـــتَـــكِ (ص28)
وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ/ عَلَى لِسَانِي .. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ/ وَلَمَّا أَزَلْ.. أَفْتَقِدُ بَيَاضَ حَلِيبٍ/ يَدُرُّ شَبَقًا عَلَى شِفَاهِي! (ص38)
التناقضُ بينَ التّواطؤِ والرّفضِ كما الاندغام بينَ الرغبةِ والنفور، تكثيفٌ للصّورةِ الشّعريّةِ لتُصبحَ تعبيرًا عن واقعِ العلاقاتِ القائمةِ، لا عنِ الواقعِ النفسيِّ للبطل/ العاشق، وهو ما أبرزَتْهُ هذهِ النّصوصُ بجَلاءٍ، كوجهٍ مِن وجوهِ العالمِ الشّعريِّ للشاعرة آمال عوّاد رضوان مُتعدّدةِ المَلامحِ، فهي تَجمعُ وتَشُدُّ تلكَ التّناقضاتِ المُتناثرةَ عبْرَ قصائدِها ضمنَ هذا الدّيوان، لتَصِلَ بها إلى عالمٍ كُلّيٍّ كاملٍ، لا يُصبحُ حاصلَ جمْعِها، وإنّما حاصل جدَلِها، ومِن ثمّ تَعميقها وتطويرها بالمعنى الأكمل، كرؤيةٍ شاملةٍ للوجودِ العامّ حيث "الحبّ/ الكراهية/ الرضوخ/ التمرّد/ الملل والتحفّز/ ثمّ التوهّج والانطفاء"، كذلك رؤية العالمِ الداخليّ والخارجيّ معًا، وما يربطُ بينهما مِن صفاءٍ وامتدادٍ للصورة الرؤيةِ والرؤيا الصورة.
الاعتمادُ على الأسطورةِ هنا وأسطرةِ الحدَثِ جعلتِ الفكرةَ أكثرَ مرونة للمتلقّي، حيثُ أنّ إحدى تجلّياتِها السعيَ لبلوغ الإحساسِ بالحيرة والقلق في مواجهةِ أمثال تلك الظواهر، كما برزَ في قصيدتِها "اختلاسُ آمالي":
بِوَحْشَةِ ضَوْئِكِ الْفَائِرِ/ أَرْسمُنَا دَوَائِرَ تَتَحَالَقُ/ وَ.. أُحَلِّقُ حُرْقَةً/  أَ~ تَـــ~لَــــ~وَّ~ى/ وَ ../ أَ ~ تَـــ~ لَــ~ وَّ~ عُ/  فِي قَفَصِ النِّسْيَانِ! (ص48)
ولكي يَنهلَها نهلةً نهلةً كما جاءَ على لسانِها في "مُهرةِ بوْحي"، كانت الرغبةُ أكثرَ وضوحًا:   فَمَا أَرْوَعَكِ .. أَيَا مَاهِرَةَ الْبَوْحِ/ أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً .. وَلَا أَرْتَوِي (ص51-52)
الأسطورةُ مَرجعيّةٌ مشتركةٌ هي لغةُ الوجدان كما في هذا النصّ الفائر، حيثُ حضورُ عشتار/ أنانا/ الزهرة التي اختارت التضحيةَ، وذلك بنزولها إلى العالم السفليّ، لتُعيدَ روحَ الخصوبةِ من جديد، ولكي لا يتوقّفَ النّسلُ، عادتْ من عالم الموتى، وضَحّتْ بعشيقها ديموزي/ تموز، وهي خصوبة لن تكونَ إلّا بالتضحية والاندغامِ لكليهما معًا (أناها وأناه)، لذا يَطلبُ منها أن تتيحَ له فرصةَ التحليق بأجنحتِها، وهنا أرفعُ مقاماتِ التقمُّص الوجديّ والاندغام، كحالةِ عبورٍ مِن مرحلةٍ إلى أخرى، أو اضطرابٍ يعقبهُ سكونٌ وعقاب، كما جاء في أسطورتَيْ (أرتيميس وأوزوريس)، حيثُ تشيرُ الأسطورةُ فيهما الى امتزاجِ الحُبّ بالاضطراب وبالصراع والموت، وأحيانًا بصخب التحوّلِ ولقاءِ المفاهيم المُتعارضة، حيث الموتُ والحياةُ مِن جديد، وإلى درجةِ الذوبانِ الكامل.
أَنَا/ مَا كُنْتُ .. مِنْ رُعَاةِ الْغَيْمِ وَالسَّمَاوَاتِ/ فَــفِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ/ أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ/ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ! (ص7)
هكذا طفحَتِ التأويلاتُ بالوحشة والألم، دون أن تفقدَ هيبةَ الحضور في النصّ، ودونَ معانقةِ العراءِ الذي يَدفعُ للعزلةِ القاتلة، وهي تأويلاتٌ تعانقتْ بقوّةٍ مع سيرة الذات، وهنا التضحية بالمحبوب أوّلًا ثمّ بالحبيبة ثانيًا، ولامستِ المشتركَ التاريخيَّ والإنسانيّ، كما وتلاقحتْ مع جُملةِ الكائناتِ والمُكوّنات، حيث الغيمُ والسماواتُ وفصولُ البنفسج/ وبذلك عالجتْ قضايا الوجودِ الإنسانيّ بنوازعِهِ وأزماتِهِ الوجوديّة، حيث استوعبتْ قلقَهُ التاريخيَّ الأزليّ/ الموتَ والحياةَ والبعثَ، ما ساعدَنا على اكتشافِ الدهشة/ الذهول من منطلقِ الحُبِّ والخوفِ والاندغامِ بهِ وعَبرَهُ ومعَهُ، حيثُ برَزَ حُلمُ التجاوز هدفًا بعيدَ التحقيق، ما جعلَ العمليّةَ الإبداعيّة وأبقاها هاجسًا خرافيّا وعذبًا. لقد اتّضحَ لنا بجلاءٍ أنّ هذا النصَّ فِعلٌ شِعريٌّ شعوريٌّ، من الممكن قراءتُهُ في كلّ مرّةٍ بشكلٍ مختلف.
التوازنات والتوازيات بين الحُلميّة والتأويل: الإبداعُ الأصيلُ يبقى مُقيمًا في الذاكرة، حيثُ الحفاظُ على الكينونةِ من الانمحاق، ولتفعيلِ الفعلِ الإبداعيّ على مستوى الشكلِ والموضوع، فالنصوصُ هنا ومنذُ البدايةِ تُدافعُ عن نفسِها، وهكذا تتجدّدُ في كلِّ اتّجاهٍ، وتنحازُ للتّناغُم الكونيِّ داخلَ الذات، كما تُؤكّدُ لوحةُ القصيدةِ "أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتمَتِكِ":
مُنْذُ ظَمَأٍ بَعِيدٍ/ وَأَغْبِرَةُ صَمْتِي/ مَا نَفَضَهَا شِتَاءُ دَلَالِكِ!/ أَعِينِينِي عَلَى ظَمَئِي/ وَلَا تُصَافِحِي بِالنَّارِ .. سَبَئِي! (ص22)
أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ/ دَعِينِي .. أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ/ أُضِيءُ كُلَّ تَفَاصِيلِكِ/ لِتُكَلِّلِينِي بِالْفَرَحِ (ص23)
هكذا ترفعُ فلسفةُ آمال الحُلميّةِ رأسَها عاليًا، رافضةً العودةَ إلى الماضي. إنّهُ التوتُّرُ الشّاقُّ الّذي يُلامِسُ تَنبُّؤاتِ الإنسانِ، تَبِعًا لجدَليّةِ (النور- أُضيئُ تَفاصيلَكِ) و (الظلامُ- لحاءُ العتمةِ)، ومن هنا حضور/ الأنا/ وتَمركُزُها في جملة رؤى، و تموضعات على قاعدةِ حُلم آخَرَ لجنونٍ آخر. وإذا كانَ المعيارُ الأساسُ في التأويلِ هو إمكانيّة أن يحوزَ النصُّ على معانٍ مختلفة، وذلك بحسب استراتيجيّاتِ القراءة، حيثُ القلقُ النّابِهُ، والتعلّقُ بأفُقِ الفعلِ وأفقِ المعاني، ما يعني بروزَ التّشيُّؤ بشكلٍ لافتٍ، بحيث يُصبحُ التبعثرُ الرّؤيويُّ حالةَ تَشَظٍّ تُؤكّدُ رغبةً دفينةً في التبلور، ليدفعَ بحالةٍ نيرفانيّةٍ تتشكّلُ بالتّوحُّدِ المرغوب "الأدمزة والتعشتر"، والّذي عبّرتْ عنهُ الشاعرةُ لنفسِها/ وأحلامِها، مُعلّقةً بأستيتيكا جماليّةٍ سكونيّة، تُصبحُ تَشَظّياتُها ترميزًا للكثيرِ مِن القضايا/ امتزجتْ بها الشّاعرةُ إلى أن استطاعت الأنا/ أن تفرضَ نفسَها بقوّةٍ، كما في قصيدة "غمارُ أنوثَتِكِ الّتي أشتهي" والتي جاء فيها:
مُكْتَظَّةٌ بِـكَ ذَاكِرَتِي/ بـــ (حَبِيبِي) .. وبصَدَى صُدَاحِ يَمَامِكِ/ وَمَا فَتِئَتُ أسْتَيْقِظُ/ عَلَى تَنْهِيدَةِ (حَيَاتِي) (ص31)
حالةُ توليدِ المعاني هنا، تعتملُ فيها حالةُ كشفٍ لعالمٍ هو بحاجةٍ لذلك، وبوثوقيّةٍ تقفزُ خارجَ المفهوماتِ السائدةِ الّتي ترتبطُ بالصوتِ الخارجيّ، وفي نفس الوقتِ بالتعبيرِ عن حاجات الباطن، وهو ما أكّدتْهُ قصيدة "أَبْجِديني بجُنونِكِ":
نَهِمُ فَوْضَاكِ أَنَا/ كَمْ أَتَعَشَّقُ/ أَتَــــمَـــرَّغُ .. بِبَحْرِ جُنُونِكِ/ حِينَ أَنْفَاسُكِ/ تُنْبِئُنِي .. بِجُلِّ خَلَجَاتِكِ/ وَحينَ تَندُّ عَنْكِ .. شَهْقَةُ اشْتِهَاءٍ/ فَلَا أَنْطَفِئُ! (ص34)
قصائدُ "عَيْنُ دَهْرِي الْأَعْوَر" وحتّى "أيا صعداءِ عِشْقي"، مُرورًا بـ "أنا بَحْرُكِ الْغَرِيقُ" حالاتُ بوْحٍ نازفٍ حتّى الثّمالة، تنتظرُ المُقدّسَ ليُطفئَ اليأسَ والنّحسَ اللّذيْنِ يكتوي بهما وتتلبّسانِهِ، تُبرزُها ببساطةٍ طفوليّةٍ لحالاتٍ مِنَ التّصالحِ مع العالمِ والتّمرُّدِ الكائنِ خلفَ الرّضا، حيثُ وهْمُ الحرّيّةِ، والفَرح، والبراءة، ثمّ العزلة والضّجَر، بحيثُ خضعَتِ القصائدُ لشبكةٍ مُعقّدةٍ مِنَ التوازياتِ والتوازناتِ والتناقضات، لتختلطَ فيها الغنائيّةُ بالمَلحميّةِ وبالخطابيّة، وأيضًا بالتّأمُّل الذي يُشكّلُ عالمًا مُتعدّدَ الأبعادِ والأعماقِ والمستويات، وهو ما بَرَزَ جَليًّا في قصيدة "مُشْتَهَاتِي":
وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ/ عَلَى لِسَانِي.. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ/ وَلَمَّا أَزَلْ.. أَفْتَقِدُ بَيَاضَ حَلِيبٍ/ يَدُرُّ شَبَقًا عَلَى شِفَاهِي!/ مَا أَفُلَتِ اللَّذَّةُ.. فِي رَعْشَتِهَا/ وَمَا اكْتَنَزَ ارْتِوَاؤُهَا.. إِلَّا بِتَعَطُّشِكِ الصَّامِتِ (ص38)
آآآآآآآآآآه/ نَشْوَةُ آهَتِي الْمَكْتُومَةُ/ مُتْخَمَةٌ.. بِلَدْغَاتِ تَجَاهُلِكِ!/ وَتَظَلُّ خَيَّالَةُ جُنُونِكِ .. نَبْعَ مُشْتَهَاتِي!(ص39)
يبدو أنّ الفرارَ هنا نوعٌ مِن الخلاص، وإن اتّخذَ شكلَ التأرجُحِ وحيدًا على خطّ الماء، وهو خلاصٌ في نفسِ الوقتِ يَحُثُّ عمّا يَنفي هذا الخلاص، بما هو خلاصٌ قائمٌ على الفرارِ إلى الغربة، بَعيدًا عن الوطن والمُراوحةِ بين الوحشة وأشياءِ العالم، ولكنّها في نفس الوقتِ شرط العثورِ على النّفي الّذي يَمنحُ السكينةَ والسلام، وهو ما أبدَتْهُ وأبرَزَتْهُ بشكلٍ جَليٍّ قصيدةُ "سَمَائِي تَتَمَرَّغُ في رَعْشَةِ أمْسِي":
أَيَا مَلِيكَتِي/ هَا قَدْ بَدَأَ .. فَسَادُ الدَّهْرِ/ وَلَمَّا تَزَلِي .. أَزَلِيَّةً/ أَبَدِيَّةً .. فِي مَمْلَكَتِي الْجَبَلِيَّةِ/ شِعْرُكِ .. خَرَائِطِي .. رُوحُكِ .. بُوصَلَتِي/ فَلَا تَقْلِبِي .. ظَهْرَ النَّهْرِ/ وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا/ دَعِيهِ يَــــجْــــرِي/ لِأُتَــوِّجَــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ (ص62)
هذه اللغةُ المُكثّفةُ تَكتنفُها روحٌ صوفيّةٌ مُتألّقةٌ ومتأنّقةٌ (لمنظور) جماليٍّ دائريّ ولا نهائيّ (للعلاقاتيّة)، تؤكّدُ انحيازَها الروحيَّ للتناغم الكونيِّ داخلَ الذّاتِ، وذاتُها تَلهثُ بعشقٍ لا يَنقطعُ عبْرَ اتّساعِ عوالمِ الوعيِ الفسيحةِ، والتّوحُّدِ بلحظاتِها كما في "سَادِيَّتِي" وَ "مُجَوَّفٌ لَيْلِي" و "أَكْدَاسُ وَقْتِي":
*أَيَا سَادِيَّتِي*/ أَفْسِحِي لِي .. وَلَوْ مَوْطِئًا أَوْ وِسَادَةً/ تَتَعَكَّزُ عَلَيْهَا بَقَايَا رُوحِي/ فَمَا أَنَا.. سِوَى كَوْمَة طِينٍ/ تَنْتَظِرُ عَلَى قَارِعَةِ مَدَارَاتِكِ! (ص69)
مُذْ غَادَرَتْنِي .. غُدْرَانُ مُحَيَّاكِ/ انْطَفَأَتْ .. ذُبَالَاتُ عَيْنَيَّ! (ص75)
لَا.. لَنْ أَتُوبَ عَنْ ظَمَئِكِ../ وَالشَّهْوَةُ.. عَيْنُهَا أَنَا/ هَا جَسَدِي الْمَلْدُوغُ/ بِاللَّهَبِ يَكْتَنِزُنِي.. وَبِالْقَصَبِ يَلْكُزُنِي! (88)
ولأنّ الشّعرَ سَلسبيلٌ عذبٌ يَجري في الشاعر مَجرى الدّمِ في العروق، ويَمتزجُ معَ عصارةِ قلبِهِ، يَخرجُ مُضرجًا بعناءِ التّوتُّرِ، جاعلًا رمزيّتَهُ وتأوُّهاتِهِ أنفاسًا قاتلة، وبصماتُ مَشاعِرهِ تتوحّدُ فيهِ قدرةُ البَصرِ معَ قدرةِ البصيرة، ويَرفعُ الملموسَ إلى غير الملموس، فتمتزجُ الحالاتُ في إضاءاتٍ خلّابةٍ تُعانقُ الرّوحَ والوجدان، كما في قصيدةِ "مُهْرَةُ بَوْحِي" الّتي أوضحتْ أنّ الشاعرة هي قارورةُ الشّعرِ والحُبِّ المُرافِقِ في الحياة، والتي جاء فيها:
أَيَا مَلَاذِيَ.. وَمَلَاذِّي/ فِي مَصَبَّاتِكِ.. أَتَجَاسَرُ/ وَتَتَرَاقَصُ تَدَاعِيَاتِي/ كَأَنَّكِ فِي تَزَاوُجٍ بِي (ص39)
يُدَاخِلُنِي ضوْؤُكِ.. يُخَارِجُنِي ضَوْعُكِ/ وَتَجْعَلِينَنِي.. أُفُقًا نَاعِسًا/ يَتَأَبْلَسُ.. وأَتَنَرْجَسُ
 إِلَى شِغَافِ أَقْصَاهُ/ وَأَتَعَمْلَقُ.. مُحِيطًا نَاضِحًا/  فِي بَوْحِ مَدَاهُ! (ص51)
لقد اعتمدَ هذا النصُّ الغرَقَ في تفاصيلِ البوْحِ الّذي يجبُ أن يكونَ وأن يُقال، وهنا علاقةٌ جدليّةٌ بينَ الفِعلِ والمفعول، حيثُ يُمازِجُ الأنا/ معَ/ أناها/، وفي نفس الوقت مع الأنا الأخرى المُغامِرة، حيثُ يَبرزُ التّضادُّ المَعرفيُّ والحكمةُ الهادفةُ القائمةُ على علاقةٍ تَبادُليّةٍ، بينَ مُقوّماتِ العملِ وما يَعتملُ داخلَهُ، حيثُ يَبيتُ التّباعُدُ والتّقارُبُ على حدٍّ سواء، كما يتّضحُ في قصيدتِها "وَامْتَطَانِي قَلْبُكَ": 
أَنَا.. مَنْ أيْنَعْتُ مَدَادًا مَنْحُوتًا/ فِي مُتَّكَأِ حُضُورِكِ/ امْتَطَانِي الْقلْبُ.. إلَى ضِفَافِكِ الْعَذْرَاء!/ وَثْبَةً.. وَ.. وَثْبَةً.. وَ.. وَثْبَةً/ وَ.. أَدْنُو مِنْ مَوَاسِمِ قِطَافِكِ!؟ (ص90)
إذا كانت اللغةُ هنا مُوظّفةً جَماليًّا، فإنّ المعنى ليسَ مُجرّدَ شيءٍ تُعبّرُ عنه، وإنّما هو فعلًا شيءٌ تُنتجُهُ، هكذا أغرقَتِ القصيدةُ المُتلقّيَ في بحرٍ مِنَ الاتّجاهاتِ الّتي تفيضُ بتشّظياتِ المعاني، وتؤكّدُ أنّ شاعرتَنا أبدعتْ في مُناجاةِ العاشقِ والبوْحِ عن حُبِّهِ حُبَّها، كحالاتٍ لها امتداداتُها الحاليّةُ، رغمَ خروجِها مِن حالاتٍ سابقةٍ تَمثّلتْ في الترَهُّلِ والتّزلُّجِ على التّلاعب بالألفاظِ وتطويع الكلمات، لكنَّ المُفاجأةَ تَمثّلتْ فيما حمَلتْهُ قصيدةُ "مَلِيكَةٌ كِنْعَانِيَّةٌ"، والّتي أكّدتْ مِن جديدٍ أنّها (إنانا/ عشتار) ابنةُ النّسماتِ الّتي يَخلقُ طريقَها بنسماتِ حيفا، وجُبِلَ جسَدُها مِن طينِ البشارة، وهي ترفُلُ في الجنّةِ مُحدّقةً في عيونِ الجليلِ حيثُ جاءَ منها:
مَا أُحَيْلَاهُ مُرَّكِ .. يَا ابْنَةَ النَّسَمَاتِ/ كَأَنَّ رَحِيقَكِ .. تَخَلَّقَ مِنْ نَسِيمِ حَيْفَا/ يَسُوقُ النَّسَائِمَ أَيْنَمَا شَاءَ/ لِطِينِ الْبِشَارَةِ نَاصِرَتِي/ لِتَجْبِلَكِ عُيُونِ الْجَلِيلِ فِي الْجَنَّةِ! (ص100)
مانفيستو اللغة رؤى.. و رؤى: هكذا تمتدُّ النّصوصُ العاشقةُ لاهثةً، وكلّما أومضتْ برقتْ إضاءاتُها الفجْريّةُ، فوصلتْ إلى حديقةِ قلبِها وهي تُهاتفُ أبجديّتَها الخاصّةَ بها، لهذا ظلّتْ تُردّدُ شمسَها وتستقطبُ اختياراتِها الداخليّةَ والخارجيّة، عبْرَ لغةٍ اختزلتْ عواطفَها الفائرةَ وازدحامَ اللّاشعورِ بالأحداثِ المُكتنزةِ المُعقّدة والمرجُوّة، كتعاويذَ تُحرّكُ الألفاظَ كما تشاءُ، حيثُ اعتمادُها على قوى نداء/ الأنا/، ممّا أدّى إلى الخلقِ المُستحكم بما يَستفزُّ الوجدانَ ويَشدُّ الذّهنَ بتقاليدَ مرسومةٍ، عبْرَ أداءٍ هائجٍ يَمتدُّ نحوَ الانزلاق، لأنّها وحدَها مَن يَمتلكُ الارتقاءَ بهِ مِن ذلك الانزلاق، والذي اتّضحَ في "مَلَاحِمُ شَفَقِكِ النَّاعِسِ":
وَشِّي كُهُوفِيَ .. بِنَوَامِيسِ الضَّوْء/ فَلَا أُنْثَى تَمْلِكُ تَرْقِيَتِي سِوَاكِ! (ص114)
هذا النّصُّ المُنفتحُ بَرزَتْ لهُ أكثرُ مِن رؤيا، ما يعني أنّ لهُ حضورَهُ اللّافتَ المُنطلِقَ بقوّةِ الدفعِ الذاتيّ، كرغبةٍ دفينةٍ في التّبلوُرِ والحُلول، مُحَمَّلًا بشراسةِ المعاني الشخصيّةِ، وسلاسَتِها المُنضويةِ على طاقةٍ وعاطفةٍ عميقةٍ تَدفعُ إلى التّأمُّل، كما بَرزَ بشكلٍ جَليٍّ في قصائد "أُقَـشِّـرُ لِـحَـاءَ عَـتْـمَـتِــكِ" (ص22-24) و"غِــمَــارُ أُنُــوثَــتِــكِ الــ أَشْــتَــهِــي" (ص31-33)، مُرورًا بقصائد "أُنْثَى فَرَحِي" (ص25-27) و "أَبْــجِــدِيــنِــي بِــجُــنُــونِــكِ" (ص34-36)، والتي اندلعتْ إضاءاتُها الفجريّةُ الغجريّة، فوصلتْ إلى حديقةِ قلبِها وهي تُهاتفُ أبجديّتَها الخاصّةَ بها، لهذا ظلّتْ تُردّدُ شمسَها، وتستقطبُ اختياراتِها الدّاخليّةَ والخارجيّة، كما في قصيدة "سَمَائِي تَتَمَرَّغُ.. فِي رَعْشَةِ أَمْسِي" (ص62-64) والّتي ظهرتْ جليًّا في قصيدة "حَـرَائِـقُ حَوَاسِّي!" (ص127-129)، وقد جاءَ فيها ما يُؤكّدُ ذلكَ حيثُ تقولُ:
بَحْرٌ أَنَا/ أَبِمَائِكِ أَتَحَمَّمُ وَأَحْتَمِي!/ عَتْمَةُ الْوَحْدَةِ تُيَمِّمُنِي/ بِفِتْنَتِكِ.. تُبَلِّلُنِي/ وبحَرَائِقِ حَوَاسِّكِ.. أتَوَضَّأُ (ص127)
في هذا المَقولِ الشّعريِّ رأينا، كيفَ أخذتنا الشاعرة إلى عوالمَ ذاتيّةٍ صرفةٍ، حيثُ الذّاتُ تتربّعُ على عرشِ العمليّةِ الإبداعيّةِ المُمتدّةِ على طولِ مساحةِ العملِ بكاملِهِ، مُعبّرةً عن هواجسِها في الالتقاءِ بالآخَرِ المُحِبِّ والالتحامِ به.
على مِنوالِ هذهِ الشّعريّةِ الّتي تُشعرن الذاتُ شعريًّا، بأساليبَ تعبيريّةٍ في الجِدّةِ والخلقِ والحرارة، ترومُ الشاعرةُ ما تريدُ وهي تستلهمُ عن طريقِ الأسطرةِ كينونتَها مِن أجواءٍ صوتيّةٍ التحاميّةٍ مُفترَضةٍ، وكأنّها منذورةٌ لذلك، كما في "صَــدَى صَــوْتِــكِ الْــمُــقَــدَّسِ" (ص137):
بِهَسْهَسَةِ كُؤُوسِكِ.. تُغَمْغِمِينَ/ وَ~أَ~نْـ~ زَ~ لِـ~ قُ (ص137)
هذا النصُّ يُبرزُ حالةَ انزلاقٍ عِشقيٍّ لهُ سطوةُ الشّموخِ، دونَ أن تفقدَ هيبةَ الحضورِ في النّصِّ، حيثُ سقوطُ العراءِ وبروزُ وضوحِ الشامخ، وهي تُحاولُ اقتناصَ لحظتِها التاريخيّةِ ببراعةٍ، عبْرَ سردٍ إضافيٍّ / أضفى/ على المتنِ الشّعريِّ هيبةً جماليّةً مُدهشةً وفطريّةً، وهي تُحاولُ القبضَ على الشّبقِ والمُثيرِ، في محاولةٍ منها لاستعادةِ ذلكَ الإرث الوجوديّ المُمتدَّ في الذاكرة هدهدةً تتغنّى بذارَ طَلٍّ مُملّحٍ بَرزَ جليًّا في قصيدة "مَــوَاسِــمُ حَــنِــيــنِــي كَــفِــيــفــةٌ" (ص140):
هَا ابْتِسَامَتُكِ مَمْشُوقَة الْوَجَعِ/ هَدَلَتْ تُهَدْهِدُنِي/ وَتَـــنْـــعَـــفُـــنِــي/ بِذَارَ طَــلٍّ مُمَلَّحٍ! (ص140)
أَيَا نَرْجِسَ وَقْتِي الْمُحَنَّطِ/ أَعِيدِينِي إلَى صَوَامِعِكِ/ دُونَكِ/ سَمَائِي .. مَلْغُومَةُ الْغَمَامِ/ دُونَكِ/ رِيحِي مَشْلُولَةٌ/ ليْسَتْ تُزَوْبِعُهَا .. إِلَّا شَهْوَةُ حَرَائِقِكِ! (ص142)
الدّلالاتُ والآفاقُ وانزياحُ المَعنى: ونحنُ إذا ما تَطرّقنا إلى الدّلالاتِ ودوْرِها في تَبَدُّلِ المعنى، يتّضحُ لنا كيفَ أنّ المعنى عاملٌ مُشتركٌ بينَ البلاغةِ والدّلالةِ، إذ تطرأ على المعاني تبدُّلاتٌ عدّةٌ تَحْرِفُها عن التقليديّ، بوسائلَ وألوانٍ بلاغيّةٍ مختلفة، يتمّ فيها وعبْرَها انزلاقُ المعنى أو تَبدُّلُهُ، بطريقةٍ تُدخِلُ البلاغةَ في علمِ اللغةِ الدّلاليّ، حيثُ التّداخُلُ والتّنافُرُ بينَ المعنى المُعجميّ وذلك السّياقِيّ، وهنا يكونُ للشّعور/ غير المفارق للظواهر النفسيّة/، دوْرهُ كحدثٍ يَكشفُ بهِ الإنسانُ بطريقةٍ مباشرة لِما يَجري في نفسِهِ مِن عمليّاتٍ عقليّةٍ، كالأفكار والذكريات والعواطف، والذي اختصرَهُ الإهداءُ منذُ البداية، ما ساعدَ الشاعرةَ على تدوينِ مسيرتِها عبْرَ مُتوالياتٍ شعريّةٍ، تكشفُ عن المعاناةِ والرغبةِ الطافحةِ والمُتخيّلةِ لديموزي تجاهَ عشتار، ما جَعلها تلجأ إلى حُلمٍ جارفٍ وحنينٍ يافعٍ خفّاقٍ، أساسُهُ بَلورَةُ الكينونة عبْرَ تأويلاتٍ، أبرزُها الإرثُ المعرفيُّ الّذي برَزتْ تَشظّياتُه في:
*الأفق الذاتيّ والطقوسيّ: برزَ ذلكَ جليًّا في التقاطعِ الواضحِ بينَ طرَفَي الثنائيّة الـ "دموزي وعشتار"، عصبِ العمل برُمّتِهِ وما بينهما مِن حميميّةٍ وتَلاقُحٍ، كتَعبيرٍ فارقٍ يَقفزُ خارجَ المَفهوماتِ السائدةِ، كصوتٍ شعريٍّ مُتفرّدٍ، له مَلامحُ مغايرةٌ لِما هو مُتعارفٌ عليه كتعبيرٍ غيرِ تقليديّ، ما يُؤكّدُ أنّ العمليّةَ الإبداعيّة هنا تَدورُ في فَلكِ الذّاتِ المحليّةِ، بذاكرةٍ موْشومةٍ بالتّشظّي الداخليّ والحُلم الراغبِ في الالتحامِ، بفِعلِ عوامل رغبويّةٍ تاريخيّةٍ أسطوريّة، كانَ لها إسهاماتُها في إشعاعِ الحُبِّ والأملِ، مُطعّمة برؤيةٍ للعالم والإبداع، بكلّ قدرتها على تغذيةِ التأثيراتِ العميقةِ، وما يُحيطُ بها مِن وجودٍ، جوهرُهُ الذّاتُ الّتي بدونِها لن تستقيمَ العمليّةُ الإبداعيّةُ. لقد ظلّ الجسدُ يَفرضُ ذاتَهُ عبْرَ جُملةٍ مِنَ النّصوص، حيثُ نيرانُ الرغبةِ الّتي تدخلُ عالمَ الأسرارِ طواعية:
أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي/ أَأَظَلُّ .. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟ (ص4)
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ .. أَسُووووووحُ/ فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا .. يَتَّقِدُنِي (ص12)
أَنْهَلُكِ.. نَهْلَةً نَهْلَةً .. وَلَا أَرْتَوِي (ص51-52)
وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ/ عَلَى لِسَانِي .. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ (ص38)
هنا يتّضحُ لنا اللّقاءُ بينَ مَعنيَيْن؛ المَعنى المادّيّ الصّارمِ، والمعنى المَعنويِّ المُثيرِ  لماهيّةِ الشيءِ وجدَليّتِهِ، وبينَ المُفردة والمفردةِ أمورٌ حياتيّةٌ (غامضةٌ واضحةٌ) و (واضحةٌ غامضةٌ)، تستبقُ حالَ الشاعرةِ النفسيِّ، وهيَ تتحدّثُ على لسانِ ديموزي فتتعشترُ له، ما يجعلُ الأفقَ الطقوسيَّ حاضرًا بقوّةٍ، حيثُ الأسطرةُ ذاتُ الحضورِ البارزِ، فهذهِ الطفلةُ الخضراءُ الفينيقيّةُ المُتوقّدةُ /الشاعرة/ بالأحلام المستحيلة، تعزفُ تلكَ الأحلامَ/ وجْدَها/ حُزنَها/ رغبتَها/ بتوَحُّدٍ صوفيٍّ لافتٍ، كما جاءَ في سيرتِها الذاتيّة، يتقمّصُ هذا التّوحُّدُ تراثَ أرضِها الجيوتاريخيِّ، الممزوجِ بصلصالِ هواها المُلفّعِ بالعشقِ الجنونيِّ للعطاءِ اللّامتناهي الّذي تريدُهُ كناسكةٍ، تأخذُها فتنةُ الكتابةِ/ التأمُّلِ وهي تقطفُ عنبَ اللّهفةِ وتَمْرَ المعرفة، فكانَ المزجُ بينَ أسطرةِ الذّاتِ لذاتِها والأسطرةِ الّتي مثّلتْها بشكلٍ جليٍّ قصيدةُ "أُدَمْـــوِزُكِ.. وتَــتَــعَــشْــتَــرِيــن" (ص9)، وكأنّها استرجاعٌ لعشقِ قيس دموزي/ لليلى عشتار، أو روميو لجولييت/ الّتي يَطمحُ كلٌّ منهما أن تُرتّبَهُ:
أُدَمْــــــوِزُكِ .. وتَـــتَـــعَـــشْـــتَـــرِيـــن/ أُلْقِي عَلَيْكِ .. مَلَاءَاتِي الْخَضْرَاءَ/ فَتَسْتَعِيدُ أَعْشَاشِي/ تَـرْتِـيـبَ عَـصَـافِـيـرِهَا/ وَتَتَسَرْبَلينَ .. أَنْهَارَ خُصُوبَتِكِ! (ص21)
لتَتَسَرَّبَ فُصُولُ الْبَنَفَسْجِ/ وَتَتَرَسَّبُ بِرُوحِكِ الْعَشْتَار/ فَلَا يَشْتَعِلُ الْعَوْسَجُ.. بِتَــلَـعْــثُــمِــكِ! (ص21)
الشاعرة هنا/ عشتار/ ليست مفعولة بل فاعلة/، دموزي كوْنُهُ الذي يَتدَمْوَزُ وهي التي تتعشترُ، وبذلكَ تَبيتُ فاعلًا يَملكُ زمامَ المبادرةِ، خارجَ القصيدةِ والعلاقةِ القائمةِ فيما يَجري بينَ إشاراتِ النّصوصِ الّتي تُؤكّدُ حقيقتَها، عبْرَ طرْحِها لجُملةٍ مِنَ الأسئلةِ المبطّنةِ ذاتِ الفاعليّةِ الإجرائيّةِ، الّتي راكمَتْها المعرفةُ الإنسانيّة، وهي تبحثُ في أفقٍ إبداعيٍّ مفتوحٍ على شِعريّاتٍ مُجدّدةٍ ومُتجدّدةٍ، تَساوُقًا معَ تطوُّرِ القصيدةِ الحديثة.
الأفقُ التّطويريّ: لكلِّ حرفٍ عندَ الشاعرة دوْرُهُ الّذي لا غِنًى عنه في الديوان، فلو نظرنا إلى النّصوصِ برَويّةٍ، سنجدُ أنّ تَطويعَ الحرفِ وتَمطيطَهُ أعطى الشّطرةَ الشعريّةَ بُعدًا زمانيًّا إلى الماضي والمضارع معًا، فالحرفُ عندَ الشاعرةِ ليسَ حرفًا عاديًّا، بل ارتكازًا لخدمةِ القصيدةِ، مِن حيثُ تغييرِ الدّلالةِ الشعوريّة للعبارةِ، وأثرها في نفس المتلقّي، مُحمّلة بموسيقى داخليّةٍ ناتجةٍ عن تناسُقِهِ مع غيره مِن الحروف، وقد برزَ ذلكَ في عمليّةِ التّلاعُبِ بالألفاظِ، ما يعني، أنّها انتمتْ في هذا إلى المدرسةِ الحداثيّةِ المُتطوّرةِ بشكلٍ واضح، حيثُ التقطتْ خيوطَها، وطوّعتْ إشعاعاتِها بجدارةٍ كما نرى في:
أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ ..  بَــ ~~ يــْـ ~~نَ .. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ (ص4)
أَرِفُّ .. أَتَلَأْلَأُ .. وَيَفُوحُ عُشْبِي .. بَلَلًا! (ص8)
أَمْطِرِينِي .. وَلْيَحْمِلِ النَّاسُ الْمِظَلَّاتِ (ص9)
وَبِلَا آلَامٍ .. يَأْتِيهَا الْمَخَاضُ يَسِيرًا (ص11)
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ .. أَسُووووووحُ (12)
دَفِيئَتِي .. الْـــ .. عَامِرَةُ بِالْآهَاتِ (14)
مِنْ حَيْثُ تَكُونُ لَذَائِذُهُ .. فِي انْتِظَارِنَا (ص23)
فِي مَدَااااااااكِ الْبَعِيــــــــــــــــــــــــدِ (ص70)
اشْـــتِـــعَـــالَاتُ أَحْـــلَامِـــي (ص72)
لِلْمَقَامَاتِ.. سُبُلٌ مُقَدَّسَةٌ (ص84)     
فَغَدَا مَلَاكًا (ص100)
وَيَا أَشْهَى.. مِنْ إِطْلَالَةِ صُبْحٍ (ص100)
بَلِ اُنْقُشِينِي .. قَصَائِدَ صَلَاةٍ (ص125)
أَنَا دُونَكِ "لَا هَارِبَ لِي وَلَا قَارِبَ" (ص134)                                                               على كلّ حالٍ، لم تُبدع الشاعرةُ في اختيارِ الألفاظِ والحروف فقط، بل كان الإبداعُ الأكبرُ في اختيارِ العباراتِ وحرْفِ المعاني والكلمات، حيثُ التّنوُّعُ والمُحسّناتُ البديعيّة، والألوانُ البيانيّةُ، والمعنى، وطريقةُ بناءِ العبارةِ بما يَتناسبُ وسياق النصوصِ، ولِما تُريدُهُ الشاعرة كما سنرى.
التحوير                                   الأصل
*لِأَبْقَى .. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ! (ص8) --------  *لِأَبْقَى .. عَلَى قَيْدِ الحياة!
*دَعِينِي .. أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ (ص24)------ *دَعِينِي .. أُقَشِّرُ لِحَاءَ شجركِ
*هَيَّأَ لَهَا طُقُوسَ الطَّرْحِ (ص40) ---------- *هَيَّأَ لَهَا طُقُوسَ الفرَحِ
*إِلَى أَقْفَاصِ سَعْدِي (ص41) ------------ *إِلَى أَقْفَاصِ صدري (ص41)
*هَالَتُهَا قَارُورَةُ شِعْرٍ (ص49) ------------  *هَالَتُهَا قَارُورَةُ خمر
*مَوَاسِمُ حَنِينِي.. كَفِيفَةٌ (ص141) ---------- *مواسم عيوني كفيفة
*مُــجَــوَّفٌ لَــيْــلِــي (ص75) --------------- *مجنون ليلي
*هَا ابْتِسَامَتُكِ مَمْشُوقَة الْوَجَعِ (ص140) ------- *هَا قامتُكِ مَمْشُوقَة الْقوام
*اُقْطُرِي بُؤْبُؤِ جَرحِي نَدَى زَلَالًا وَاشْفِينِي! (ص123) *اُقْطُرِي بُؤْبُؤِ عيني نَدَى زَلَالًا
الأفقُ التّكامليّ: التّكاملُ الأسلوبيُّ المَعرفيُّ والرّؤيويُّ في هذا العمل واضحٌ للعيان، حيثُ يُشيرُ مفهومُ المُفارقةِ: إلى الأسلوبِ البلاغيّ الذي يكونُ فيهِ المعنى الخفيُّ، في تَضادٍّ معَ المعنى الظاهريّ وبشكلٍ حادّ، وكثيرًا ما يَحتاجُ ذلكَ إلى كدّ الذهنِ وشحْذِهِ في تأمُّلٍ عميقٍ، للوصولِ إلى التّعارضِ بينَ المعنى الظاهرِ، وذاكَ الخفيِّ الغائصِ في أعماقِ النصّ، وكشْفِ دلالاتِهِ وفضاءاتِهِ البعيدةِ، بما يَشُدُّ الانتباهَ إلى خلْقِ التوتُّرِ الدلاليّ في القصيدة، عبْرَ التّضادّ في الأشياء، والّذي لا يأتي فقط من خلالِ الكلماتِ المثيرةِ والمُراوغةِ في السّياق، بل عبْرَ خلْقِ الإمكاناتِ البارعةِ في توظيفِ مفرداتِ اللّغةِ العاديّةِ واليوميّة، وهنا يَبرزُ دوْرُ اللّغةِ الّتي هي عندَ الشاعرة ليستْ وعاءً للمعنى فقط، بل تَجاوزتْ ذلكَ، لِتُصبحَ رسْمًا شعوريًّا وربْطًا بينَ أكثر مِن ذات، رغمَ ما يبدو ظاهريًّا، حيثُ/ الأنا والأنا الأخرى/ فقط، وهي عمليّةٌ صعبةٌ، والأصعبُ فيها أن تحدثَ بامتيازٍ وعلى طولِ جسدِ الدّيوان، دونَ خللٍ بينَ ذاتيّتيْها، هكذا تظهرُ إشعاعاتُ الأفقِ التّكامليِّ المَعرفيّ.
ذاكَ الأفق الرُؤيويّ أبرزَتْهُ قصائدُ هذه المجموعةِ الّتي مثّلتْ وجهًا آخرَ مِن وجوهِ العالم الشعريّ المُعقّد، فهي تكتبُ تلكَ المَلامحَ المُتناثرةَ في جُملةِ قصائدِها، لتَصِلَ بها إلى عالمٍ كلّيٍّ لا يُصبحُ حاصلَ جَمعِها، بل حاصلَ جدَلِها وتَعميقِها وتَطويرِها بالمعنى الشّامل، هي بمعنًى آخَر؛َ رؤيةٌ شاملةٌ لكينونةِ الوجود/ الحُبِّ والتّلاحُمِ، حيثُ الاستمراريّةُ/ والعدم- الابتعاد عن التلاحم، ما يعني الالتحامَ التّكامُليَّ بينَ (السالب/ العاشق/ دموزي)، والمعشوق الموجب/ عشتار)، والامتدادَ نحوَ همومِ الإنسان بشكلٍ عامّ، فهيَ حكايةُ كلّ زمانٍ ومكان، حيثُ الاندغامُ المرغوبُ بينَ الأنا مع أناها الأخرى، بالانطلاق والتقدُّم نحو (الماء/ النهر/ الغيم/ النجوم/ الأقمار)، حيثُ رؤيةُ العالم الداخليّ والخارجيّ معًا صفاءً وامتدادًا للصوتِ الّذي يَتردّدُ مُتقطّعًا ومُختلطًا في النصوص، وكأنّهُ يَجترُّ نفسَهُ في كلّ مرّةٍ كما في قصيدة "رَعْشَةُ أمْسِي":
شِعْرُكِ.. خَرَائِطِي.. رُوحُكِ.. بُوصَلَتِي/ فَلَا تَقْلِبِي.. ظَهْرَ النَّهْر/ وَ بَـ~يْـ~نَ ظِلَّيْنَا/ دَعِيهِ يَــــجْــــرِي/ لِأُتَــوِّجَــكِ.. مَلِيكَةَ كُلِّ الْكَوْنِ (ص62)
بناءً على ما تقدّمَ، نستطيعُ التأكيدَ كيفَ حملتْ هذه النّصوصُ بكفاءةٍ مُثلى دهشةَ المفاجأةِ بدرجاتِها المُختلفة، والتي تستطيعُ الادّعاءَ أنّها أينعتْ مِن شجرةِ الحداثةِ الإبداعيّةِ، والّتي تجاوزتْ نصوصُها كلَّ ما هو كلاسيكيٌّ مُبتذَلٌ، في نصوصٍ تحملُ بكليّتِها ما هو أقربُ إلى الحرائقِ الّتي تَنشُدُ ضيقَ السّعةِ وسِعةَ الضّيقِ لصوْتيْنِ مُتنافريْنِ مُتداخليْن، (الشاعرة العاشقة) في صوتٍ واحدٍ (النصّ).
ولأنّ الشاعرَة كما ترى د. أسماء غريب هو الصّوتُ النّاطقُ للصّامتِ فينا، تَجنحُ نصوصُهُ للدّفاعِ نحوَ الاستيقاظِ الفَجريِّ للعشقِ المُلتهب، لذلكَ جاءَ النصُّ ليَبنيَ لغتَهُ مِن خلالِ التّدفُّقِ المُستحيل لكلِّ لذائذِ اللغةِ، كما يرى بارت، ومِن ثمّ يَبدو فردوسيًّا في بحْثِهِ عن فردوس الكلمات، وطوباويًّا دون مكان، الاختلاف فيه توافق، وتوافقه اختلاف، في تفاعلٍ شفّافٍ ومُطلق معَ الأنام، ودلالات المَسار للهُويّة الجماليّة، كما أكّدت القصائد التي تطرّقنا إليها، والمُرتبطةُ موضوعاتُها بعقدٍ واحدٍ/ تبتُّل دموزي لعشتار وعشقه اللّاهب لها، ما جعلَ الرؤيةَ الأنويّةَ هي الحالة المهيمنة على معظم قصائد الديوان، حولَ بوْح القصائد الّتي تسربلتْ برداءِ الذكورةِ الحالمةِ الطامحةِ للالتقاءِ بالأنوثةِ الناعمةِ الفاتنة، حتّى التوحُّش والشهرزاديّةِ في أغلب التّجسيدات، والذي يُشعُّ عبرَهُ نورُ القصائدِ الطاغي الوهّاج، فوقَ نقاطِ بياضِ الورق.
وأخيرًا، لا يَسعُنا القولَ سوى أنّ الشاعرة آمال عوّاد رضوان لديها تجربةٌ تقتحمُ عوالمَ إنسانيّةً رحبةً، تتوشّحُ بأسئلةِ الذات، وحُرقتُها مُتواشجةُ الانشغالِ الإبداعيِّ، الّذي يَرومُ الخَلْقَ والابتداع، ولا يَركنُ للسائدِ النمطيِّ في الشعريّةِ العربيّة، وبلغةٍ استطاعتْ عن طريق التكثيف والتبئير، أن تُؤطّرَ موْضوعَها العشقيّ/ الأدمزةَ والالتحامَ والتعشتُرَ، وتُحوُّلَهُ إلى قضيّةٍ فكريّةٍ تُوسّعُ معناهُ، باستحضارِ كلِّ حكايا العشقِ النظيفِ والشهرزاديّ، وتَحرُّرِ القارئِ مِن عسفِ التأويل، حيثُ تمتمةُ إحساسٍ واضحٍ بالإبداعِ الجميلِ المُكتملِ، كما رأينا في هذا العمل (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعشْترين).

72
إكسال تحتفي بذاكرة الشتات!
آمال عوّاد رضوان
بدعوةٍ من مجلس إكسال المَحلّي والنّادي الثقافيّ  في إكسال في الجليل، حلّ الأديب سميح مسعود ضيفًا على إكسال الجليليّة، للاحتفاء بإشهار الجزء الثالث من كتابه "حيفا..بُرقة البحث عن الجذور، ذاكرة الشتات"، وذلك بتاريخ 4-5-2017، في قاعة المركز الجماهيري في اكسال، ووسط حضور من أدباء وأصدقاء ومهتمّين بالشأن الثقافيّ من إكسال والبلاد المجاورة، وقد تولّى عرافة الأمسية الأستاذ عمر دراوشة، بعد أن رحّب السيد عبد السلام دراوشة رئيس المجلس المحلي/ إكسال بالحضور، ثمّ تحدّث عن المنجز كلٌّ من: بروفيسور محمود يزبك، ود. جوني منصور، ود. سهيل أسعد، و حسناء دراوشة، وقد تخللت الكلمات غناء وعزف الفنان بشارة ديب على العود، وغناء الواعدة ريم شلبي، وقدّم الشاعر الكسلاوي محمد عبدالكريم دراوشة قصيدة شفويّة ومؤطّرة أهداها لد. سميح مسعود.
في نهاية اللقاء، شكر د. سميح مسعود الحضورَ وكلّ الذين سبقوه في الكلام، وأكّد على أهمّيّة إكسال في مجال بحثه عن الجذور الفلسطينيّة التي منها بدأ مسيرته، ومنها تعرّف على مدن وقرى كثيرة في الداخل الفلسطينيّ، وسبر فيها أيّام أسلاف رحلوا، والتقى برجال ونساء من نسلهم عبّروا عن اعتزازهم وفخرهم بجذورهم الضاربة في عُمق الأرض، والتقى بمجموعة منهم لأوّل مرّة في حياته برفقة صديقه المؤرخ د. جوني منصور في حيفا، والناصرة وعارة وعرعرة وشفاعمرو وعبلين ويانوح والجديدة ودير حنا وكفر ياسيف وأبو اسنان، ثمّ تشعبت دوائر بحثه في ذاكرة المكان، واتّسع بحثه في منافي الشتات في الجزء الثالث من ثلاثيّته، وتحدّث عن تعرّفه على مجموعة من الحيفاويّين في بيروت والرباط وهيوستن وديترويت وكالغري، زارهم في أماكن عيشهم في الشتات، ووجدهم يرتبطون بجذورهم الفلسطينيّة، ويحفظون في ذاكرتهم صورًا جليّة عن مُكوّنات مدينتهم حيفا، بكلّ ما فيها من خصوصيّة متميّزة، وفي نهاية المطاف شكر إكسال وأهلها على حفاوة الاستقبال، وتمنّى للأهل في الداخل مواصلة رفع راية البقاء والثبات والتشبّث بالتراب في أرضنا المحتلة.       
مداخلة عريف الحفل الأستاذ عمر دراوشة: الحفل الكريم أسعد الله أوقاتكم جميعًا، اسمحوا لي أن أرحّب بكم باسمي وباسم أهل إكسال وباسم جميع أعضاء النّادي الثقافيّ  في إكسال، بكلّ مَن حضر حفلنا هذا وجاء من كلّ حدب وصوْب ليُشاركَنا حفلنا هذا، قائلًا لكم أهلًا وسهلًا بكم جميعًا مع حفظ الألقاب، لقد حللتم أهلًا ووطئتم سهلاً . نحن اليوم بصدد الحديث عن الكاتب سميح مسعود من مواليد مدينة حيفا، وتعود جذوره إلى قرية  برقة من قضاء نابلس، قضى سنين طفولته متنقّلًا بين حيفا وبُرقة، حتى عام النكبة 1948 الذي تمّ فيه  التّرحيل القصريّ والتّهجير الجماعيّ، إلى شتات عامّ ودائم. عاش سميح مسعود في الغربة، واستطاع في هذا الشتات، أن يجعل من نفسه شخصاً مميزاً، تعلم من رحلة الشتات أن الحياة ليست بحثاً عن الذات، لكنها رحلة لصنع الذات، لذلك  فقد  جعل أبو فادي من نفسه شخصاً يصعب تقليده،فهذا التراث الأدبي الذي خلده في ثلاثيته،قدم فيه للإنسانية خدمة  هامة في مجال حفظ الذاكرة وحفظ التاريخ والعودة للجذور.                                                         
إنّ حنين كاتبنا إلى مسقط رأسه إلى مدينة حيفا، تجلّى جليًّا في عدّة مواقع من ثلاثيّته، ولم أجد سببًا لتسمية ثلاثيّته باسمها "حيفا.. بُرقة" سوى محبّته لمسقط رأسه وكرملها ووادي نسناسها وشوارعها، وحدائقها وأشجارها بعنبها وتينها ورمّانها، ومحبّته لمدرسة البرج التي تعلّم فيها أيّام طفولته، وقد طبّق أبو فادي فعليًّا وعاطفيًّا صحّة قول أبو تمام حين قال: نقّلْ فؤادَك حيث شئتَ مِن الهوى/ ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّلِ/ كم منزل في الأرض ألفه الفتى/ وحنينه أبدًا لأوّلِ منزل
إنّ مَحبّة أبو فادي لمسقط رأسه حيفا جعلته لا يرى في الدنيا سواها، وقد استحضرني في هذه المناسبة ما قاله الشاعر الفلسطيني المرحوم راشد حسين ابن قرية مصمص بهذا الخصوص: أبو فادي أنت مجنون ولن تشفى/ أمامك جنة الدنيا/ ولا ترى سوى حيفا؟ وفقك الله أديبنا الغالي وأمدّ الله في عمرك، وزادك صحّة وقوّة ذاكرة، لتقدّم لنا المزيد من نتاجاتك الجديدة. رئيس المجلس عبد السلام دراوشة، ومداخلات من السيدة حسنة دراوشة ابنة عمّة الكاتب، والبروفسور محمود يزبك، والدكتور سهيل أسعد، والدكتور جوني منصور، وكلمة الأديب سميح مسعود مؤلّف الكتاب الذي بيّن فيه، أنه بدأ رحلة البحث عن الجذور في إكسال التي تعرف فيها على خلف عمّته نجية حمدان بعد 61 سنة من الشتات، ومن إكسال تعرّف على جذور حيفاوية وبرقاوية في أماكن أخرى في منطقتي المثلث والجليل، وفي لبنان والمغرب وكندا والولايات المتحدة، سجّلها في ثلاثيّة من ثلاثة مجلدات،  لتبقى محفوظة في مجرى الأيّام، حتى لا تُنسى وتذكرها الأجيال القادمة، وتُحيي فيهم وعيًا دائمًا للحفاظ على هُويّتهم الوطنيّة.
كلمة البروفسور محمود يزبك: الحضور الكرام، يُسعدني اللّقاء بكم هذا المساء في إكسال بلد المحبّة والتآخي، ويطيب لي في مستهلّ حديثي  تقديم الشكر لمجلسها المحلي، لإتاحة الفرصة لنا لإشهار كتاب مُهمّ، بدأت سطوره الأولى في إكسال، ففيها بدأ سميح مسعود بحثه عن الجذور، وفيها نشهر اليوم ثلاثيّته "حيفا.. بُرقة البحث عن الجذور".                                                                                                                                 
والكتاب الذي نحن بصدده  على جانب  كبير من الأهمّيّة، لأنّ البحث عن الجذور يحتلّ موقعًا متميّزًا في حفظ الذاكرة، فإضافة إلى أهمّيّة موضوع الكتاب، فالجزء الثالث منه نُشهرُه في يوم يُصادف ذكرى النكبة، التي يعيش بسببها أغلبيّة الشعب الفلسطسينيّ في ديار الغربة والشتات، وهو كتاب يوثق ذاكرة المكان في حيفا وبُرقة وعشرات القرى في المثلث والجليل، وذاكرة المكان في عدّة دول أجنبيّة تتقاطع فيها مسارات عائلات حيفاويّة وبرقاوية  كثيرة، تنتمي إلى جذور غائرة في عمق الأرض الفلسطينيّة.                                       
لقد وُفّقَ سميح مسعود في التشبّث بكلّ ما هو فلسطينيّ بين دفّتي كتابه، وبحفظ الأسماء وذاكرة المكان والزمان، بدلالاتٍ ومضامينَ ثريّة، لها مفعولها الكبير في حفظ الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة للأجيال القادمة. كتابُه ممتع، وأسلوبه يُذكّرنا بأدب الرّحلات، لكنه أكثر دقّة ومحاكاة للواقع، ومثلما أصبح أدب الرّحلات من أهمّ مصادر التاريخ، كذلك ستكون ثلاثيّة سميح مسعود. نتمنّى للصّديق سميح مسعود دوام العطاء، والاستمرار في بحثه عن الجذور، وإصدار أجزاء أخرى قادمة.                                       
مداخلة د. جوني منصور: حضور الوطن في كتاب سميح مسعود "حيفا... برقة" الجزء الثالث: يُطلّ علينا الكاتب د. سميح مسعود مجدّدًا في الجزء الثالث من كتابه "حيفا.. برقة"، وتحت عنوان فرعي "ذاكرة الشتات"، لينقلنا وسط ترحاله وتجواله ولقاءاته إلى أحداث وسِيَر أشخاص ذي صلة مع حيفا من قريب أو من بعيد، ورحلة الذاكرة في هذا الكتاب ليست محصورةً في حيفا مدينة الكاتب التي وُلد وعاش فيها عقدًا من عمره، إلى أن حلّت النكبة ومزّقت نسيج علاقته المباشرة مع هذه المدينة، إنّما منتشرة في أصقاع المعمورة حيث وصل إليها الفلسطينيون بأعدادٍ متفاوتة، بحثًا عن مأوى ومصدر عيش كريم.
 ليست مسألة الحفر في الذاكرة ترفًا ونزوة، بقدر ما هي درب آلام، يسير فيه الكاتب ومَن يرافقه بحثًا عن هذا الشخ، وعن حادثة جرت معه ومع قريبين له. خطة العمل ومسيرة هذا الجزء من "ثلاثية: حيفا.. برقة"، تؤكّد ارتباط أبناء حيفا بمدينتهم المنتشرين في بيروت واليرموك وعمان ومونتريال وشيكاغو والرباط في المغرب وغيرها من البلاد في العالم، والتي أصرّ الكاتب على الالتقاء بهم ليتحدّث معهم بتبادليّة الأفكار عن حيفا، وهذا ما يؤكّد بقاء المدينة في الذاكرة والوجدان الفلسطينيّ.
هذه التجربة المميّزة التي خاضها سميح مسعود تُبيّن لنا أهمّيّة التواصل الفلسطينيّ، مهما طال الزمان ومهما بعد المكان. فمرور الوقت لا يعني بالضرورة نسيان الانتماء إلى المكان الذي لنا به صلة قوية وعاطفيّة، ومهما فعل المشروع الصهيونيّ من محاولات ونشاطات، لتعميق نسيان الفلسطيني لماضيه وأرضه ووطنه، فإنّ هذا الكتاب يندرج تحت مسمّى "تثبيت الذاكرة وتحدّي هذا المشروع".
يأخذنا سميح مسعود في رحلة مثيرة عبر تنقّلاته في البلاد العربيّة وبالأخصّ في عواصمها، من خلال مقابلاته لحيفاويّين أو لأبناء وأحفاد حيفاويّين. ففي بيروت يلتقي مع الصحافيّة والإعلاميّة نورا البستاني حفيدة الوطنيّ البارع والأديب الأريب وديع البستاني، صاحب المواقف الوطنيّة والقوميّة الحاسمة والحازمة. ويلتقي مع العالم الكبير أنطوان زحلان ذي الباع المعروف بعطائه لمجتمعه وشعبه، ويستمع منه إلى ذكرياته عن حيفا بما تبقى منها رسوخًا في ذاكرته. وكان لقاؤُهُ المتميّز مع عبداللطيف كنفاني ابن حيّ البرج بحيفا، ومؤلّف كتاب "15 شارع البرج حيفا" الذي يعتبر من أهمّ السِّيَر الذاتيّة عن هذه المدينة، والذي يوفر لنا صورًا نراها ونلمسُها بأيدينا وعيوننا عن الزمن الجميل الذي عاشته حيفا، ولم يفقده أبناؤُها بالرّغم من فقدانهم لمدينتهم. ثمّ سلسلة لقاءاته في المغرب مع سعيد الحسن ابن طيب الذكر خالد الحسن المولود خارج الوطن، لكن الوطن مولود في قلبه وباق فيه، والحديث عن عائلة الحسن فيه الكثير من العِبر والمفاهيم والمعايير التي تُعزّز الانتماء ليس للمدينة بحد ذاتها، وإنّما من خلال المدينة للوطن الأكبر والأوسع، حيث إنّ مساهمة عائلة الحسن في خدمة المدينة وتطوّرها وأبنائها يشهد له التاريخ بتفاصيل كثيرة، وأبناء هذه العائلة الكريمة هم لبنة رئيسة في بناء ونموّ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة عبر الأجيال المتعاقبة إلى يومنا هذا.
أمّا لقاء مسعود مع منى معروف سعد فلا يقلّ أهمّيّة عن سائر اللقاءات والمقابلات، فهي ابنة المناضل المكافح الوطنيّ الشّهم الذي عاش في حيفا وعمل فيها، ثمّ تابع في لبنان بعد النكبة، مُعزّزًا الحضور القوميّ لهذا المناضل الذي دفع حياته في سبيل دفاعه عن فلسطين يوم استشهاده في 1978 في صيدا.
في حين أنّ اللقاء مع محمد عاطف نورالله في بيروت هو حلقة أخرى في مسيرة البحث عن الذاكرة المتبقّية عند ابن مؤسّس الحركة الكشفيّة الفلسطينيّة، فعاطف نورالله اهتمّ منذ فترة مبكّرة بوضع أسس النشاط الكشفيّ وتنظيمه، ليكون موازيًا ومتشابهًا مع التنظيم الكشفيّ الدوليّ الذي وضع أسسه بادن باول، وأن يكون هذا التنظيم لخدمة شباب فلسطين في حيفا ويافا وعكا والناصرة وسواها من مدائن فلسطين. وتمتلك العائلة مذكّرات عاطف نورالله المثيرة على ما أكدّه لي سميح مسعود، ولا بُدّ أن يأتي اليوم الذي تتمّ فيه خطوة إصدار هذه المذكرات، لتكشف المزيد من المعرفة عن أحوال حيفا في فترة الانتداب، وتسلّط الضوء على مُركّبات ومُكوّنات حياة المدينة في الفترة ذاتها.
وأثناء تواجده في كندا وتحديدًا في مونتريال، أصرّ الكاتب على لقاء المؤرّخة الحيفاويّة مي إبراهيم صيقلي، والتي تُدرّس في جامعة وين في آن أربر بالقرب من شيكاغو، ليستمع منها عن حضور حيفا المدينة في حياتها، لكن لم تنجح مساعيه ولم ييأس، ولِمَ اليأس ونحن في غمرة عصر التكنولوجيا؟ فالتقى معها عبر السكايب، مستمِعًا بتفاصيل دقيقة عن دور ومكانة حيفا في فترة الانتداب، وما أوردته مي صيقلي هو جزء ومُكوّن أساسيّ من أطروحتها لنيل الدكتوراة في جامعة أوكسفورد، والتي صدرت في كتاب يحمل عنوان "حيفا العربية" الصادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة ببيروت.
وكانت لقاءات بين الكاتب وأفراد من عائلة سعيد بدوان، وعلى وجه الخصوص مع الكاتب والمؤرخ علي بدوان في مخيم اليرموك، ولأنّ المخيّم يمرّ بظروف قاسية ومؤلمة، جرت اللقاءات عبر الهاتف، وزوجة سعيد بدوان هي لطفية عابدي شقيقة الفنان الحيفاويّ عبد عابدي وخالة الدكتور الكاتب ماجد خمرة. وهنا اللقاء مليء بالمشاعر والعواطف، لأنّه جمع بين أفراد العائلة الباقين في حيفا، والّذين تعرّف إليهم الكاتب من عدّة سنوات، وتوثّقت علاقته بهم وبين أفراد من العائلة ذاتها اللاجئين في سوريا، ولكن ما يجمع بين كلّ هذه التمزّقات مدينة واحدة اسمها "حيفا".
لقد كشف سميح مسعود من خلال لقاءاته ورحلاته ومقابلاته، أنّ اللجوء القاسي والمؤلم والقاتل في أحيان ما، ما هو إلاّ مُعزّز قدرة الفلسطينيّ على التّمسّك بذاكرته التي لا يمكن للغزاة سلبها منه. ووُفّقَ المؤلف بجمع قصص من اللجوء والشتات في مؤلفه هذا، مُعبّرًا من خلال فصوله على مواصلة الفلسطينيّ سعيه، للحفاظ على الترابُط والتواصُل بينه وبين أهله في الوطن، وبينه وبين وطنه. أشكر شخصيًّا أخي وابن بلدي د. سميح مسعود على هذا الكتاب الذي يؤكّد عزمنا على مواصلة مشوارنا نحو تعزيز وتعميق الذاكرة، حفاظًا على بقاء الوطن فينا وبقائنا في الوطن.
مداخلة حسناء دراوشة: لقد أورقتْ شجرةُ سميح مسعود، وأصبحتْ خضراء يانعة الأغصان وارفةَ الظلال، وعادت إليها العصافيرُ من شتى الأنحاء، لتبنيَ أعشاشها فيها وتنامُ في أفيائها، وذلك بعد أن بحث كاتبنا عن جذورها العميقةِ الضّاربةِ في عمقِ أرضِ هذا الوطن، وبعد أن سقاها محبّةً ومدادًا من قلمِه الذي لا يكلّ ولا يملّ، فأثمرت كتابًا جديدًا لملَمَ فيه ما استطاعَ من الأحبّةِ في الشّتات، ليبقوا في الذاكرةِ التي تأبى النّسيان.
ولمن لا يعرف سبب وجودي على هذه المنصّة في هذا الحفل الكريم، فالسّبب هو أنْ كان لي شرفُ إهداءِ الأديب الجزء الأوّل من هذه الثلاثيّة، وكم أنا شاكرة له على هذه الهديّةِ التي لا تقدّر بثمن، أمّا الآن فسأروي لكم قصّتي معه. الخال سميح مسعود حيفاوي المولد برقاوي الأصل، مغترب كالكثيرين من أبناء فلسطين، حيثُ أوصلُ الشتات إلى أقصى أطراف المعمورة في كندا، قرأتُ له مقالًا بعنوان "البحث عن الجذور" سنة 2009، في المنارَه التي أضاءت عتمة الدرب للعرب في هذه البلاد، ألا وهي جريدة الاتحاد، وكانت مرفقةً بالمقال صورة صغيرة لقرية بُرقَه الفلسطينيّة، وهي من ضواحي نابلس.
أثارني المقال الذي كتبَ فيه عن حيفا وعن بُرقة القرية التي أحببتها منذُ صِغري، لأنّ لي فيها جذور كثيرة، فجدّتي لأمّي "نجيّة الحمدان" كانت برقاويّة الأصل، وجدّتي لأبي "آمنه" من قرية بيت أمرين جارة برقة كان أخوالها برقاويّين. لقد كتب في المقال عن أسماء شخصيّات كنت أسمع عنها من جدتي "نجيّه" رحمها الله، التي تزوّجت في صباها من جدّي راغب شلبي، إذ كانت دائمة الحديث عن أهلها وعن أخوالها، وكانت معتزّةٌ بخالٍ لها اسمهُ فارس، وكان جزءٌ من المقال يتحدّثُ عنه، ولا زلت أذكر كلماتها عنهُ باللّهجة البرقاويّة" (انا خالي فارس المسعود بقى يحلّ عن المشنقه)، وهو من أعمام الكاتب.
عرفت وقتها أنّ مسعود قريب جدّتي، فبعثت له برسالة عبر البريد الإلكترونيّ أنا وأختي منى، وأخبرته من أنا، وشرحت له عن جدّتي، فتأكّد هو أيضًا من صِلة القربى له معها، فأصبحنا نتبادل الرسائل بشكل دائم، وبعد عدّةِ أشهر أخبرني أنّه سيأتي إلى عمّان، ولزيارة البلاد بفضل جنسيّتهِ الكنديّة، وأنّه قادمٌ لزيارتي. والتقينا لأوّل مرّةٍ في بيتي، ودعوت الكثير من أفراد العائلة ليتعرّفوا إليه، وكان اللقاء حميمًا، ومن هنا بدأت القصّة التي آمل ان لا تنتهي، فأصبحت لهُ كالابنه التي لم يُرزق بها، وأصبح كوالدي الذي فقدته.
ولم يعد طائر السنونو هذه المرّة وحيدًا، بل عاد ومعه سميح إلى حيفا مسقط رأسه. عاد كهلًا بعد أن تركها طفلًا في العاشرةِ من عمره، فبدأ يُفتّشُ في أحيائِها عن بيتهِ وعن أحبّةٍ ورفاقٍ وذكريات الطفولةِ الجميلة، فوجد البيتَ أطلالًا قد تهدّمَ جزءٌ منه، أمّا الذكريات فظلّت محفورة في قلبه، ولم يستطع المُحتلُّ مَحْوَها، وبدأ برحلةٍ جديدةٍ في البحث عن جذوره، فتحوّل المقالُ الى كتاب جمعَ فيه ذكرياته في زمن الطفوله والشباب، بين حيفا وبرقه وما بعدهما، فكان الكتابُ الأوّل سيرة لحياته المليئة بالأسفار والأحداث طولًا وعرضًا، والكتاب تحوّل إلى ثلاثيّة، نحتفلُ اليوم بثالثها، أتمنّى للخال المزيد من العطاء مِن نَبعهِ الفوّار كينابيعِ بُرقة، لأنّ ما ينفعُ الناسَ يمكُثُ في الأرض، وأختم حديثي بأبياتٍ من الشعر للشاعر العراقي محمد مهدي الجواهريّ، حين جاء زائرًا ليافا عندما كانت عروس البحر، أهديها لضيفنا الأديب ولكلّ فلسطيني هُجّر من وطنه، واستبدله بوطنٍ آخر مجبرًا: أحقًا بيننا اختَلَفت حدودٌ/ وما اختلفَ الطريقُ ولا الترابُ/ ولا افترقَت وجوهٌ عن وجوهٍ/ ولا الضادُ الفصيحُ ولا الكتابُ/ فَمِن أهلي إلى أهلي رجوعٌ/ وعن وطني الى وطني إيابُ.
مداخلة د. سهيل أسعد: عزيزي سميح، يسرّني ويُشرّفني أن أكونَ اليوم هنا في إكسال معكم، كي أشاركَ في احتفاليّة إشهار الجزء الثالث من كتاب "حيفا برقة.. البحث عن الجذور" لسميح مسعود، وقد شاركت في احتفاليّات سابقة لإشهار الجزء الأوّل والثاني، في النّاصرة حيث وُلدت، وفي حيفا حيفا حيث ترعرعتُ منذ نعومة أظافري، وفي بُرقة مسقط رأس والدي، أمّا إكسال فلها موقعٌ خاصّ، فمنها انطلقتْ حملة البحث عن الجذور لد. سميح مسعود.
بودّي مُصارحتكم، أنّه في الأيّام الأخيرة راودتني تساؤلات عن دوْري ومشاركتي في هذه الأمسية، فالسّادة محمود يزبك وجوني منصور هم أكادميّون وباحثون ولهم باع في هذا المجال، ولم يدُمْ تفكيري لمدّة طويلة، حتّى وصلت إلى قناعةٍ أنّ القاسم المشترك بيني وبين سميح كبيرٌ جدّا، فجذورُنا تجمعُنا، وكتابات سميح قرّبت ما بيننا، وكما كتب سميح في الجزء الثاني من كتابه، فإنّ التّغريبة الفلسطينيّة تُساهم في ضياع الجذور، فالحياة فيها تسير على عَجَل، والكثيرون من أبناء ما بعد النكبة، وأخصُّ بالذّكر هنا سكّان المدن المختلطة في الداخل، لا يعرفون ما خبّأه الماضي من جذورهم.
والخطر هنا لا يقف عند حدود ضياع الذاكرة الفرديّة فحسب، بل يتعدّاها الى ضياع الذاكرة الجماعيّة، وهذا ما يُراهن عليه قادةُ الحركة الصهيونيّة و(إسرائيل)، اي ضياع الأجيال الفلسطينيّة المُتلاحقة، وتحويلهم الى كمّ من المُشرّدين لا يعرفون ماضيهم وأهلهم وناسهم! هذا الرهان سقط، فالأجيال المتلاحقة تبحث وتتمسّك بالجذور، وهذا ما رأيناه في الكابري في مسيرة العودة قبل يوميْن بأروع تلاحُمٍ ووحدةِ صفّ.
أيّها الإخوان، لقد نجح سميح من خلال كتابه بأجزائه الثلاثة، في دعم وتقوية الشعور بالانتماء لحيفا وبرقة معًا، وبالتالي تقوية الانتماء الوطنيّ، ووضع التشرذم الطائفيّ والعائليّ جانبًا بل في سلة المُهملات، وبعد سماعي اسم سميح مسعود لأوّل مرّة، جالت في خاطري ذكريات من جلسات عائليّة في طفولتي في حيفا، حيث كان الكبار والدي وأعمامي يتبادلون أطراف الحديث بأمور مختلفة، جزءٌ مُهمّ من ذكرياتهم من برقة، وأسماء مختلفة من أشخاص وعائلات مثل عائلة مسعود، سيف، دغلس وغيرهم، وعرفت منذ صغري أنّ شخصًا باسم فارس المسعود كان من أهمّ شخصيّات البلد، وقد تبرّع بقطعة أرض لبناء مركز للمسيحيّين يضمّ مكانًا للصّلاة، وعيادة طبّيّة لتخدم جميع أبناء البلد وأيضًا مدرسة.
إخواني، لا أتخيّل نفسي أعيش في مكان آخر غير حيفا، لكنّ الشعورَ الخاصّ الذي يربطني ببُرقة، جعلني أكون فخورًا في مراحل مختلفة بهذا الانتماء، فمثلًا أثناء الانتفاضة الأولى، حيث كانت بُرقة مركزًا مُهمًّا لمقاومة الاحتلال ولا تزال، فكلّ أهلها مسلمون ومسيحيّون، ساهموا ويُساهمون في النضال ضدّ الاحتلال، وعدد الشهداء البرقاويّين كبيرٌ جدّا بالنسبة لعدد السكّان.
تعيدُني الذاكرة الى أحد أّيّام الانتفاضة الأولى، حيث كان علينا (مجموعةٌ من حيفا والناصرة) السفرَ إلى برقة، للمشاركة في جنازة سليمان ناصر معلّم (أبو ناصر)، وكان الخطر من تلقّي الحجارة على كلّ سيّارة تحمل رقمًا أصفر كبيرًا، فاتّصل بنا أبناء المتوفّى، وأعلمونا أنّه بإمكاننا السفر داخل الضفّة الغربيّة، لكن بالشروط الآتية: أوّلًا السفر بشكل قافلة كمجموعة، ثانيًا ببطءٍ، ثالثًا مع تشغيل الغمّازات الأربعة بكلّ السيّارات، رابعًا أن يحدث ذلك في ساعة معيّنة وفي طريق متّفق عليها.
هذا ما حصل، فشباب الانتفاضة رتّبوا ونظموا كلّ الأمور، ووصلنا بسلام وقوبلنا على الطريق بحفاوة بالغة، وشاركنا في الجنازة وعدنا الى بيوتنا سالمين. لقد ازداد فخري بهذا الانتماء بعد قراءة كتاب سميح مسعود الذي يسرد فيه قصصًا وحكايات جميلة، ويُعدّد أسماء الكثيرين من أبناء برقة وحيفا الذين وصلوا إلى مراكز مهمّة في النضال في المجالات المختلفة. إنّ الرسالة المركزيّة التي وصلتني من خلال هذه الثلاثيّة، أنّ الانتماء الوطنيّ الفلسطينيّ هو الأهمّ، وأنّ الوحدة الوطنيّة هي الوسيلة للوصول إلى هدف الشعب الفلسطينيّ في إقامة دولته المستقلة. شكرًا لكم وشكرًا لسميح مسعود.
 


73


أَحُـــلُــــمِــــي مُــــعَــــوَّقٌ!


آمال عوّاد رضوان

مهداة إلى أسرانا البواسل

منذُ احْتِطَابِ وَقْتِيَ الرَّؤُومِ
لَمْ يُنعِشْ صِلْصَالَ كَأْسِي
اخْضِرَارُ حُنْجُرَتِكِ!
وَهَا مُرُوجُ تَمُّوزَ .. هَاجَتْ أَثْدَاؤُهَا
عَلى امْتِدَادِ مَجْهُولٍ .. أَرْضَعْــتِـنِـيهِ!
***
فِي رُؤى مَرَابِطِي .. تَفَشَّى سَيِّدُ الرَّحِيلِ الصَّاهِلِ!
أَيَا مَلَكًا .. نَهِمًا
هَا انْسَابَ لُعَابُ نُورِكِ .. في مَضَائِقِ كِبْريَائِي
يُفَتِّقُنِي.. يُجَرْجِرُنِي.. إِلَى عَاجِ ضَوْئِكِ الْفَاتِكِ!
***
لِمَ فَتَّقْتِ أَسْرَارَ لَيْلِي الْخَزَفِيِّ
حِينَ هَشَّـتْهَا أَنْفَاسُ "أُحُبُّكِ"؟
أَنَّى يَشِينِي مَوْجُكِ الْغَافِي .. عَلَى لَهَبِ غِيَابكِ؟
هَا عَتَمَاتُ نُورِي.. مَدْفُونَةٌ  فِي أَقَانِيمِ هُطُولِكِ
تَنْتَظِرُ مُرُورَ اللَّا مُرُور!
***
بِشَغَفٍ خُزَامِيٍّ
 يَتَقَاطَرُ صَمْتُكِ الرَّخِيمُ .. حِبْرًا نَزِقًا
يَطْبَعُكِ حَرِيقًا .. عَلَى جِبَاهِ أَقْمَارِي!
لِمَ أَذْرُو بِذَارَ دَمِي.. قُبَلًا مِلْحِيَّةً
تزْدَحِمُ .. عَلَى شِفَاهِي الْمَبْتُورَةِ؟
***
أأَنْدَهِشُ وَأَنْذَهِلْ
كَيْفَ غَصَصْتُ بِقُبْلَتِكِ؟
كيْفَ غَصَّتْ .. بفَوْضَى مَرَايَاكِ .. مَحَافِلُ تَرَقُّبِي؟
كَيْفَ فَقَأْتِ عُيُونَ مَزَامِيرِي؟
لِمَ أنْبَتْتِنِي .. زَغَبَ حُلُمٍ كَفِيفٍ
يُنَازِعُ قمْحَكِ
وَمَا أَحْجَمَهُ عنْ رَحَايَ .. انْطِفَاءُ عَينَيْكِ؟!
***
مُنْذُكِ
وَمَوَاكِبُ التَّمَنِّي.. تبَتَّلَتْ تَضَارِيسُهَا
وَمَا لَبِثَتْ .. تُرَمِّمُكِ ذِكْرًى
وَذِكْرَاكِ مُتْرَعَةٌ بتَضَوُّرِي
تَتَرَاشَحُكِ .. تَبْسِطُنِي أَمَامَكِ فُصُولَ تَغرِيبَةٍ
وَأَتَرَقْرَقُ زَخَّ أَرَقٍ .. كَوّرَنِي عَلَى مَسِيلِ دَمْعَةٍ!
***
كَمْ تَسَوَّلْتُكِ وَطَنًا.. يَشْرَئِبُّ لِأَطْيَافِكِ الْقَزَحِيَّةِ
لكِنْ تَقَصَّفَتْ خُيُولِي.. بِطَعَنَاتِ غُرْبَةٍ!
أحُـــلُــــمِــــي مُــــعَــــوَّقٌ!؟
***
بِلَيَالِي عَطْفِكِ الشَّمْعِيِّ
تَضَافَرْتُ.. جَدَائِلَ أَحْلَامٍ مُتَكَسِّرَةٍ
وَبِتُّ أَسْتَجْدِيكِ.. سَخَاءَ وَصْلٍ
يَهُشُّ فُيُوضِي!
***
لكِنَّ تَفَاصِيلَكِ الْمُفَخَّخَة .. تَتَشهَّقُنِي
وَتَرْتَدُّ تَتَسَكَّعُ .. بِمَلَامِحِ طِفْلٍ!
هَا بَرَاءَتُكِ.. تَشُوطُ
تَتَرَامَى .. فِي مَسِيلِ نِيرَانِي
وَتَعْبُرُنِي .. بِرِعْدَةٍ مَحْمُومَةٍ
صَوْبَ عَرْشٍ مَسْبِيٍّ!
***
حِينَ تُوَشْوِشُنِي أَهْوَاءُ أَمْوَاهِكِ
يَلْهَجُ نَبْضُ مَدَاكِ حَيَاةً
فَلَا تَسْتَكِينُ لَوْعَةُ انْتِظَارِي .. وَلَا تَهْدَأُ تَبَارِيحُ تَرَقُّبِي!
صَوْبَ نِعْمَةِ سَمَائِكِ .. كَفَّايَ خَاشِعَتَانِ
تَمْتَدَّانِ .. فِي أَزِقَّةِ نُورِكِ الْمُقَدَّسِ!
***
بُلْبُلٌ أَنَا
أُحَلِّقُ فِي رِحَابِ أَمَانِيكِ .. أَجْنَحُ صَوْبَ رَحْمَتِكِ
أَلْتَقِطُ بِمِنْقَارِي
لُؤْلُؤَتَيْ أُمِّي .. تَنْزِفَانِنِي وَجَعًا
وَأَغْدُو حَسْرَةً .. تَهْذِي بِأَحْضَانِكِ!
***
هَاءَنَذَا أَتْرُكُنِي لَكِ قَلْبًا سَاخِنًا
عَلَى عَتَبَةِ لِقَائِنَا
فَلَا تُمَرِّغِيهِ بِثُلُوجِكِ .. وَلَا تَدُوسِيهِ بِبُرُودِكِ!
من ديواني الرابع: (أُدَمْوِزُكِ وَتتعشْترين)



74
أسطورة التياع تضجُّ بنكباتِنا وويْلاتِنا في متاهاتِ الفصول؟!
بقلم: فاطمة يوسف ذياب
عزيزتي الشاعرة آمال عوّاد رضوان؛ المُتيّمة بروحيّةِ النّصّ، والباحثةُ دومًا عن جديدٍ يُعالجُ المُستجدّ فوقَ أديم احتراقِنا، ها أنا أتناولُ قصيدتَكِ (أسطورةُ التياع) العشقيّةِ المُبطّنة برمزيّتِها، وليسَ مِن بابِ صدفةٍ عابرةٍ أراني أتناولُ قصائدَكِ في أكثرَ مِن نصّ، فبينَ حروفي وحروفِكِ نبتَتْ علاقةٌ فكريّةٌ، ظلّتْ في بَحثِها عن عنوانِها المفقود تنتقلُ معَ لوحاتِكِ، ما بينَ واقعٍ عقرَبيٍّ إلى واقعٍ ياسمينيّ منشودٍ، وأتركُ لحبري الّذي يَغلي فوقَ مِرجلِ حرفِكِ فرصةَ القبضِ على مرامي الماوراء، كي أنطلقَ معك!
(أسطورةُ الْتِيَاع) عنوانُ قصيدةٍ تُجَسِّدُ استمراريّةَ لوعةَ العاشقِ الشديدةَ إلى حدّ الالتياع، في تسلسلٍ وتسلُّلٍ ذكيّيْن عبْرَ قنواتِ الزّمنِ الغابر، لتُلاحقَنا برمزيّتِها ومُكوّناتِها النّصّيّةِ، كالطّفولةِ تسلّلتْ مِن براثنِ أوْجاعِنا وبراري عتمتِنا، لتندسَّ في أدَقِّ تفاصيلِنا الحياتيّةِ الزمنيّةِ مِن ماضٍ غابرٍ إلى حاضرٍ قاتل!
طِفْلَةً / تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي/ وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ/ مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي
في براري عتمةِ أبجديّتِكِ طفلةً أتسلّلُ وعقاربُ نزَقي، أحاولُ أن أنموَ بينَ خيوطِ حرفِكِ وخطواتِ أبجديّتِكِ، كي أغزلَ من رموشِ حِبري النّصَّ الآخرَ، مُلتفِعةً بحريرِ وجْدِكِ مِن بدايةِ البداية، مِن الطفولةِ المُتخيّلةِ إلى الطفولةِ المُتّهمةِ بنزَقِها، وبعقربِها الّذي يُلامسُ عقاربَ الزّمنِ بعقربةٍ تَلسعُ الوقتَ، قصيدةً تتورّقُ وتنبثقُ على استحياءٍ، لتتجلّى فتاةً بأحلامِها، حيث تقفُ الحروفُ أمامَ كوخٍ لا يكادُ يتّسعُ لجنونِ أحلامِها.

قصِيدَةً/ قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ/ تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي/ تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي/ وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ/ لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!

هكذا نمُرُّ معكِ بقصيدتِكِ (أسطورةُ التِياع)، حيثُ تَتنامى في حرفِها أصداءُ الزّحمةِ، بلوحاتٍ ثرّةٍ مِن لوحاتِ الكَرِّ والفَرِّ والإقبالِ والإدبار، ما بينَ رغبةِ الرّوحِ واهتزازِ العقلِ، وفي حالةٍ مِن التردّدِ العذب تُصوّرُهُ لنا باسمِ نزَقِها ودوَرانِ عقربِها، والجفونُ لمّا تزَلْ تُشاغلُ أزيزَ ثوْرتِها.
ياااااه، كم موجعٌ أن تصبحَ أحلامُنا مُجرّدَ أكواخٍ في مَهبِّ الرّيح، تتحكّمُ بها الأساطيرُ الغابرةُ مِن هيرا وعملاقِها بكلّ كيدِهما ومكائدِهما.
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك/ بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ/ زَوْبَعَتْنِي / فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!/ إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً/ عَلَى سُلَّمِ مَائِكِ؟
رائحةُ الفصولِ الزّمنيّةِ تُخلّدُ هيرا، بل تتخلّدُ بها بإشارةٍ مُتعمّدةٍ لحُبٍّ مُعمَّدٍ بكلّ الفصول، يعزفُ لخريفِهِ كما يُراقصُ حبّاتِ المطرِ شهيًّا كثمارِ الصّيف، نديًّا كنَسماتِ الرّبيعِ الزّهرة، والوقتُ هو الوقتُ، يفوحُ بعطرِ عشقٍ نكادُ نصلُ إلى سُلّمِ قداستِهِ، هكذا تأخذُنا القصيدةُ الطفلةُ إلى صورةٍ شعريّةٍ ناضجةٍ ببلوغ ثورتِها، وتُفجّرُ يَقينَها ما بين دلالاتٍ مستوحاةٍ مُنتقاةٍ، حيثُ عقربُ الزّمنِ اللّاسع في أديم العلاقةِ الشّاحبةِ المُتهدّلةِ مِن بين أصابعِهِ، تُحاولُ التّسلّقَ على سُلّمٍ مِن ماء، لتَصلَ ونصلَ إلى الأسطورةِ، لكنّنا ما نلبثُ أن نتوقّفَ أمامَ زوبعتِها، بل زوبعةِ الماء، والسّؤالُ هو السّؤال:
إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً / يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
عزيزتي الشّاعرة المُتألّقةُ بفيْضِ المعاني والمغازي، كم منّا يَستهويهِ الغرقُ في بحار اللّفظِ المُقنّع! لكنّي أراها حُروفَكِ المُحترقة المُتفجّرة بلوْعتِها والتياعِها تبحثُ في الأساطيرِ القديمةِ عن أسطورةٍ، تُؤكّدُ انبعاثَ الحياةِ مِن بَراثنِ الموتِ الّذي يُكبّلنا بنورانيّتِهِ الموْهومة، وبنيرانِهِ الّتي تحرقُنا، بعدَ أن أتتْ على كلّ ما فينا وما لنا.
يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ / دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ/ تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ
وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ / فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
نعم، كنعناعٍ ناعمٍ وكجلدِ أفعى أملس تسلّلتْ إلينا حضاراتُهم، وحينَ تسمّمنا بسُمومِها فقدْنا أدواتِنا، وكالمُغيّبين في حقولها بتنا نأتمرُ بأمْرِها ونستجيرُ بلهيبِها، نحرقُ ونحترقُ، نُفجّرُ ونتفجّر، وهي حيث هي تزدادُ ثعلبة وشماتة وشيطنة، بأساليبَ لامعةٌ ظاهرُها، لكنّ بواطنَها سُمُّ زعاف.
لماذا تستخدم الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الأسطورة، وتجعلُها محورًا وأحدَ أهمّ عناصر  القصيدةِ وكأني بالشاعرة آمال عوّاد رضوان تقول: إنّنا نعيشُ في زمنِ الأساطير، وقد عُدنا بواقعِنا المُترَدّي فكريًّا إلى تلكَ المتاهاتِ الأسطوريّةِ الّتي سأتجاوزُها، وإن كانتْ صرختُها تُعبّرُ عن زمنٍ مُرتجعٍ يكادُ يقذفُ ذاتَهَ وأدواتِهِ، ليحضنَها هذا الزّمنُ الّذي تداخلتْ بهِ كلُّ المَجرّاتِ الفكريّةِ والوجوديّة، وكأنّ صرخةُ الأسطورةِ تخنقُ حنجرةَ الحاضر، وهذا ما تُؤكّدُهُ الشّاعرةُ في أكثرَ مِن قصيدةٍ، فتتّكئُ على مُفرداتِها وصُوَرِها فتقولُ:
هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ/ لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي/ وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ  ظِلِّيَ الْحَافِي؟
نعم، هي هيرا والقصيدةُ تُفجّرانِ زمنًا يتّشحُ بسوادِ ليالينا! هي هيرا في براري عتمتِنا تُعشّشُ وفينا. هي قصيدةٌ انبثقتْ على استحياءٍ، وأحلامُنا لمّا تزلْ في كوخِها تُراوحُ الزّمان والمكان، ونحنُ المُتعَبونَ مِن جنونِها لمّا نزلْ نتفجّرُ ترفًا وإعجابًا بجَمالِها، ورائحةُ احتراقِنا تتمخترُ وتتبعُنا مِن زمنٍ إلى زمنٍ، وكما الفصول تتوالى علينا، وكأنّها استمرَأتْ عذابَنا وموْتَنا بينَ سُمّ عقربها وعقاربها، وعبقريّتِها في اختراعِ شتّى صنوفِ القهرِ والتّعذيب!
إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ/ يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ/ يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ
أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا/ عَلَى قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ/ وَعَلَى اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
نعم، هيرا مملكةٌ مُتوَّجةٌ على عرش احتراقِنا وعلى سُلّمِ أولويّاتِنا، تُطاردُنا بخيلاءِ طاوسيّتِها، والسّيوف سيّدتي مُعشوْشبة بادحةٌ، وما مِن حيلةٍ ترُدُّ بها سُعفَ العيونِ الشّراريّة، فنحن مُخدَّرون حتى الثّمالة، لا شيءَ يُشبهُنا غيرَ قيْدِنا، وإن كان ذهبيًّا يتبدّى!
هي الشاعرة آمال عوّاد رضوان ما انفكّتْ تُعالجُ بالعشقِ قضايانا برسالةٍ روحيّةٍ تستهوينا، وكأنّي بها تقولُ: إنّ العلاقة الإنسانيّة ما بينَ الجمادِ والمُتحرّكِ، هي ذاتُ العلاقةِ التي ترسمُ مَلامحَ القادمِ مِن بينِ عقاربِ الزّمن، فتغزلُ مِن الإيحاءِ بلاغتَها الصّوريّة، في مطاردةٍ لخفقِ المجهولِ خلفَ الظّلّ الحافي، لتصوغَهُ شِعرًا خرّوبيًّا بلون خرّوب أرضِها، ومَلامحُ وجهِ القصيدةِ حروفٌ مُنتقاةٌ مُستوْحاةٌ، ما بينَ أرضٍ وسماء، وما بين أسطورةٍ وواقعٍ مَعيش، ما بينَ صراعُ الشّرقِ والغرب، فالنّصُّ يَكادُ يُعجزُنا عن مُلاحقتِهِ أو فكِّ رموزه، فمَرّةً تتجسّسُ العيونُ مُشعّةٌ بعبثيّةٍ فوضويّةٍ، ومَرّةً نستمرئُ العذابَ ببَللٍ نتخدّرُهُ حدّ الثّمالة، ونتطوّسُهُ بغرور، وإنْ كنّا نُحاولُ الفَكاكَ من هذه الشرانقِ القابضة على رقابنا باسْم الحُبّ والقداسة!
كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ/ تَنْفُشينَهَا/ تَفْرُشينَهَا / بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي
كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ/ وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
نحن المحترقونُ المُقيّدون بقيودٍ ذهبيّةٍ نتخبّط ما بينَ (نارِ الأديم ونورِ السّديم)، وهنا أضعُ النّقاطَ ويُوقِفُني النّصّ. ترى إلى أيّ الفيافي تذهبُ بنا الشّاعرةُ وآمال عوّاد رضوان، وتجعلُنا نلهثُ وراءَ أسطوريّةِ العشق، فنحسبُنا قد قبضْنا على رموزِ المَغناة، لكن هنا تتزاحمُ الصّورةُ الأخرى لتأخذَنا إلى المَنحى الآخر، فالشاعرةُ تتفجّرُ برمزيّتِها، حيثُ تسحبُنا إلى ما تحتَ العشب وما تحت الرّيش، في تصارُعٍ ذكيٍّ يُجسّدُ صراع الحضارات، ولهاثُنا نحنُ بكلّ ما هو قادمٌ مِن أدواتِها وفِكرِها ولميعِ مَعادنِها، لنرانا كما العبيد نُهادنُ سطْوَتَها، ونستعذبُ موتَنا في حقولِها المُعشوْشبة، بيدَ أنّنا نُشاغلُ خدَرَنا ووجَعَنا وموْتَنا بسُمِّ عقربها اللفظيّ والزمنيّ، نُشاغلهُ بالحنين إلى مَواطنِ جَمالِنا الآخر، حين كنّا نحن الحضارة والرقيّ!
أَيْنَ مِنّي "حَبِيبِي"/ كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي
يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ/ ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
بإشارةٍ منكِ إلى مدينة المهدِ بيتَ لحم مهدِ وأرضِ النّبوءاتِ والحضاراتِ، كأنّكِ تستنجدينَ بكوكبٍ يُضيءُ دربَنا إلى مغارةِ الحياة؟! نراكِ تُسائلينَ هذهِ العقربةُ السّامّةُ المُتلوّنةُ ببهلوانيّة، ونحنُ المُتلبّسون بإغواءاتِها وإغراءاتِها، نرانا غرْقى في طقوس شيطانيّتِها الناعمة كما النعناع!؟ كم موجعٌ أن تنزفي واقعَنا برمزيّةِ حروفِكِ، حيثُ تُجسّديننا بأحوالِنا المُستديمةِ عبْرَ زحمةِ الأصداءِ الّتي تضجُّ بنكباتِنا ونكساتِنا وويْلاتِنا في متاهاتِ الفصول!
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي/ بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ/ أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي / وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!
وها نحنُ الحضورُ الأحدبُ في زنزاناتِ بلادِنا المُحاصرَة، كالزّئبقِ في بُؤرِ المَرايا المُقعّرةِ والمُحدَّبةِ، لا نلبثُ نُصطادُ في مواقعِ الموتِ والغربةِ والاغتراب والضّياع، نتلفّتُ، ونتفلّتُ منّا ومِن كلّ ما كان لنا، وتظلّ تلوّحُنا مناديلُ الموتِ والضّياع!
أيْنَ مِنِّي "حَبِيبِي"/ نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي
كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا/ مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
هكذا تستخدمُ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان أبعادَ العشقِ الرّوحيّ المقدّسِ، في دلالاتِها على سقوطِنا المُذِلّ بين أنيابِ الحضاراتِ السّامّةِ، والّتي ما انفكّتْ تُشاغلُنا وتَحبسُنا وتَسحبُنا كالمهووسين إلى حقولِ التشرذُمِ والضّياع، ونحن المسمومونَ المُشرذَمونَ في تَمزُّقِنا، عبثًا نحاولُ التّمسُّكَ بوطننا وبتربتِنا وجذورِنا، بيدَ أنّ الجرْفَ يسحبُنا إلى هيرا مُكبّلينَ مُنصاعين، وكأنّ على رؤوسِنا الطير، نضعُ أقدارَنا ونعيمَنا وكلّ جَمالٍ جميلٍ بينَ خيوطِ أخطبوطِها..

أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟/ أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا / يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ/ يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي
آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي/ يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ/ عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!

وأصرخُ: هيرا، لم يعُدْ جَمالُكِ يفتنُني، ما دامَ الجَمالُ لديكِ اختناقٌ وشَرٌّ وبُؤس وشقاء! نعم، يا أسطورةَ الالْتِيَاعِ، فأنتِ كما أنتِ لا جديد، مُعلّقةٌ ما بينَ الأرضِ والسّماءِ، بمليون عينٍ تَرقبينَ وتنقضّين، والطّفولةُ فريستُكِ ومفتاحُ شهيّتِكِ وشهوتِكِ، كأنّ السّماءَ خُلقتْ لأجلِكِ، وكأنّ الأرضَ طُوِّعَتْ لأخطبوطِكِ، فصارَ لكِ في كلِّ زاويةٍ مليونَ يدٍ ومليونَ ناب، تنثرينَ السُّمَّ الزّعافَ حيثُ أقمتِ وتقيمين، ليفنى كلُّ ما حولك وتظلّين هيرا الأسطورة الّتي لا تُقهر، وعملاقُكِ يبسطُ عضلاتِهِ وفكرَهُ وعقلَهُ وقدرتَهُ وقدراتِهِ، (شُبّيك لبّيك عبدك بين إيديك)، يُدغدغُ أحلامَكِ ويَرقصُ رقصتَكِ. نعم هيرا الحاضرةُ فينا، هو الزّمنُ الحاضرُ القادمُ يفتحُ ملفّاتِهِ، ليَضعَكِ أمامَ قبح رسالتِكِ، ويُعلنَ سقوطَكِ وسقوطَ أسطورتِكِ، وإنْ كانَ قبحُ وليدِك هيفايستيوس خلاصًا لكِ يفكُّ قيدَكِ، فهيهات يدومُ في الزّمانِ قبحٌ!
إنّ رغبة الحياةِ تلدُنا مِن رحمِ الوجعِ لنحيا كما أراد الله، لا كما قضَتْ أسطورتُكِ، فأنتِ كما أنت في استفحالِ شرورِك وتَوحُّشِكِ، ونحنُ وإنْ كنّا على أرصفةِ الهوامش، لمّا نَزلْ مُحنّطين، ونحن على أرصفةِ الهوامشِ لمّا نزلْ مُحنّطينَ بفتاتٍ مِن ليتَ وعسى ولوْ، وإلى آخِر حرفٍ مِن حروفِ ولوَلتِنا نشربُنا، بل تشربُنا كؤوسُ الضّياع، لنظلَّ في حرائقِ غبارِكِ الفستقيّ الفوسفوريّ والعنقوديّ مناديلَ وداعٍ للرّاحلين منّا والرّاحلينَ عنّا. هيرا، فقط لو تذكرين وتتذكّرين، أنّ العملاقَ قتلتُهُ، وأنتِ قضيتِ إلى قمقمِكِ كما تقضي كلُّ آلهةِ الأساطير:
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ / بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ/ مِنْ مِعْصَمَيْكِ
عَ لَّ قْ تُ كِ/ نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ/ تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ/ جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!

نعم سيدتي آمال، هكذا هيرا كما الأسطورة تسلّلتْ إلينا في ليلِ عتمتِنا، بكامل حاشيتِها وعتادِها وبعيون عملاقِها، لتَحيكَ ثيابَنا برموشِ حروفِ قصيدتِكِ. هي هيرا تُواكبُنا مِن جيلٍ إلى جيل باللفظِ والماوراء، وهي حاضرةٌ فينا ولا تزالُ واثقةَ الخطى، وكأنّها على استحياءٍ تبدو، لكنّها تتجلّى في ثنايا أكواخ أحلامِنا.
نعم، هم هكذا كأسطورةٍ قدِمُوا إلينا.. أتراهم برجْع أغنياتٍ عِذابٍ يَستردّونَ عطورَهُمُ المُشتهاةَ، لتظلّ تتحدّرُ موسيقانا الشّاحبةُ رجْعَ وَجَعٍ على سُلّمِ الماءِ والحياة؟! أتبقى هيرا هي الغائبةُ الحاضرةُ فينا، تستهدفُنا في أرحامِ أمّهاتِنا؟
نعم عزيزتي الشاعرة آمال رضوان، هي هيرا الّتي تسلّلتْ إلى حيواتِنا، وعبرَ نزَقِ حُروفِكِ وعبرَ السّنين، ما انفكّتْ تستهدفُ أرحامَ الأمّهاتِ والطفولةِ البريئة. هي هيرا القابضةُ على أرواح أمانينا وكلِّ ما نملكُ في جُعبتِنا المُتواضعةِ مِن رذاذِ آمالِنا وأحلامنا.
الشاعرة المُتمكّنة مِن أدواتِها تُصوّرُ لنا كيفَ تسلّلتْ تلكَ الغانية في ليلٍ خدر، وكما العقربة تجتازُ عقاربَ الزمن، فنرتمي في ليلها الحريريّ، ونحسبُ أنّنا امتلكناها، فإذا هي تقبضُ على مصائرنا وقدراتِنا وأقدارِنا ومُقدّراتِنا، لنرانا حفاة عراة في حقولها مقيدين الى سمومها تلوحنا مناديل الوداع.
نعم عزيزتي العاصفة لم تهدأ بعد، بل هي تزداد إعصارًا يكادُ يقتلعُنا بكلّ فصولنا، ولسخافاتنا وحماقاتنا بات صوتٌ يُطربنا، بل استعذبناه حتّى صار منّا وصرنا منه.. مُحنّطون ما بين نار الأديم ونور السديم، وأيّ نجمة نرنو إليها وهي النجمة المعلقة في فضاء الأماني تُشاغلنا بطغيانها وجبروتها، وعرائس الصدور الناضجة وغير الناضجة أكلها ومشربها، فهل بعدُ أقسى من هكذا وجع؟

أسْطُورَةُ الْتِيَاع؟/ آمال عوّاد رضوان
طِفْلَةً
تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي
وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ
مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي
*
قصِيدَةً
قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي
تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي
وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ
لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
*
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك
بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ
زَوْبَعَتْنِي
فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!
إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً
عَلَى
سُلَّمِ
مَائِكِ؟
*
هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ
لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي
وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ  ظِلِّيَ الْحَافِي؟
*
إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ
يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ
يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ
أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا
عَلَى
قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ
وَعَلَى
اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
*
كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ
تَنْفُشينَهَا
تَفْرُشينَهَا
بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي
كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ
وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
*
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ 
بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ
مِنْ مِعْصَمَيْكِ
عَ
لَّ
قْ
تُ
كِ
نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ
تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ
جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
*
أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟
أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا
يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
*
قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ
يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي
آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي
يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ
عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!
*
أيْنَ مِنِّي "حَبِيبِي"
نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي
كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا
مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
*
أَيْنَ مِنّي "حَبِيبِي"
كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي
يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ
ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
*
يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ
دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ
تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ
وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ
فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
*
إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً
يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
*
ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ
تُزَيِّنُكِ
فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة!
*
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي
بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ 
أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي
وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!



75

الشاعرة آمال عوّاد رضوان نموذجُ المُثقّفِ الباحثِ عن تأصيلِ هُويّتِهِ!
بقلم: وجدان عبدالعزيز
اليومَ نتحدّثُ عن نموذجٍ ثقافيٍّ تَمثّلَ بالشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان، فهي شاعرةٌ مُبدعةٌ احتلّتْ مكانةً مُتميّزةً ومعروفةً، لكنّها حثّتِ الخُطى في طُرقِ الثقافةِ الأخرى، فمثّلتِ المُثقّفَ الّذي كرّسَ حالةَ المُواطنةِ في نفوسِ شعبِهِ، مِن خلالِ مُساهماتِها بتكريسِ حالةِ الانتماءِ للهُويّةِ الوطنيّةِ العربيّة، وذلكَ عن طريقِ بناءِ سياجٍ أساسُهُ الوعيُ العالي، والرّوحُ التّوّاقةُ للسّموّ الحضاريّ والارتقاءِ بالنّفسِ العربيّة، لكي تَتعالى على الصّغائرِ، وتُهاجرَ كلُّ هفواتِ النكوصِ والابتذالِ والتبعيّةِ، وصولًا إلى المُحافظةِ على الخصوصيّاتِ الحضاريّةِ المميّزة.
اليومَ أتحدّثُ عن واحدةٍ مِن قصائدِها الّتي تجلّتْ فيها روحُ الانتماءِ للآخرِ المُتمثّلِ في الحبيب هو الوطن، باعتبارِهِ هُويّة، وكانَ انتماؤُها بمثابةِ روحِ التصوُّفِ والذوبانِ فيهِ برومانسيّةٍ، ليسَ مِنَ النوعِ الهاربة، إنّما الرومانسيّة الآيروسيّة الخفيفة، قد تُمارسُ جسديّةً لا مرئيّةً أحيانًا، رغمَ أنّها تُحاكي طفلةً سكنتْ في داخلِها، والطفولةُ هي عالمٌ ورديٌّ مُزخرفٌ بألوانِ قوسِ قزح، تبعثُ البهجةَ والسّرورَ إلى القلب.. إنّهُ عالمٌ سحريٌّ خاصٌّ يتميّزُ بنقاوتِهِ وجَمالِهِ ورِقّتِهِ، عالمٌ مليءٌ بالتّشويقِ والسّحرِ والغموضِ والعفويّةِ المُطلقة، عالمُ البراءةِ الجميلة.. عالمُ الانطلاقِ بلا قيودٍ وبلا حدودٍ، والطفولةُ هي العيشُ لحظةً بلحظةٍ، دونَ التفكيرِ بالغدِ وبعناءِ المستقبل، وما يُخبّئُهُ لنا مِن مُفاجآتٍ، وهي أحاسيسُ صادقةٌ وقلوبٌ بيضاءُ، وأيْدٍ تمتدُّ وتعرفُ العطاءَ دونَ مُقابلٍ ودونَ حساب، ثمّ أنّها زهرةٌ بيضاءُ ناصعةٌ، تفوحُ منها رائحةُ البراءةِ القويّة، كزهرةِ الرّبيع تعطي مِن كلِّ زهرةٍ لوْنًا ورائحةً مُنعشةً. إذن؛ عاشتِ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان حالةَ استعادةٍ، فتقولُ في قصيدتِها (أسْطُورَةُ الْتِيَاعٍ؟)1 :
طِفْلَةً
تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي
وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ
مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي

في قصيدتِها (أسْطُورَةُ الْتِيَاعٍ؟) عاشت الشاعرة حالةَ اختلاطِ الأصواتِ؛ صوتُ النُّضجِ، وصوتُ الطّفولةِ، وصوتٌ ثالثٌ مخاطبٌ مِن قِبلِ الشاعرة، والصوتُ الثالثُ الأخيرُ أشارتْ لهُ بحرفِ الكاف، حتّى عاشتْ حالةَ التصوُّفِ و(حرير وجد)، فهل تكونُ تلكَ الطفلةُ هي القصيدةُ المُتمرّدةُ، التي تنبثقُ مِنَ الذاتِ في لحظتِها الشعريّةِ، ثمّ تتصيّرُ إلى وعيٍ إدراكيّ في حفلِ التتويج؟ لكن هذا الوعيَ يَشوبُهُ شكٌّ، فتتوالدُ الأسئلةُ في حينِها، وتقولُ الشاعرة :
قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي
تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي
وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ
لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
*
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك
بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ
زَوْبَعَتْنِي
فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!
إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً
عَلَى
سُلَّمِ
مَائِكِ؟
هذا القلقُ الّذي يَكتنفُ الشاعرةَ آمال عوّاد رضوان هو محضُ أسئلةٍ. إنّ السؤالَ عن الماهيّةِ، بصرف النظرِ عن هذهِ الأمورِ جميعًا، يُوجّهُ البَصرَ إلى أمرٍ واحدٍ، وهو ذلك الّذي يُميّزُ الحقيقةَ مِن حيث هي حقيقة أم لا، ولكن، ألا يتوجّهُ بنا السؤالُ عن الماهيّة، إلى فراغ التعميم الّذى يَكتمُ على أنفاس الفكر؟ أليسَ مِن شأنِ المُجازفةِ بمثلِ هذا السؤال، أنْ تُبيّنَ أنّ الفلسفةَ كلّها هاويةٌ لا تقومُ على أيّ أساس؟ إنّ مِن واجباتِ الفكرِ الّذي يتّجهُ إلى الواقع، أن يصرفَ جهدَهُ إلى إقامةِ الحقيقةِ الواقعيّةِ الّتي تُزوّدُنا اليومَ بالمعيار الذي نحتكمُ إليه، والسندِ الّذي نعتمدُ عليه، ليَحميَنا من اختلاط الآراءِ والظنون.
مِن هنا قلتُ إنّ الشاعرة آمال عوّاد رضوان في خضمّ القصيدةِ تعيشُ لحظاتِ لاوعي، بيْدَ أنّها تستدركُ الأمرَ لاحقًا، لتعيشَ حالاتِ الوعي، أي أنّها تُحلّقُ في حالاتِ تَجلّي، ثمّ تخضعُ لموجباتِ وعيٍ يُدركُ الواقعَ ولو جزئيًّا، وحتّى تُجلي الأمرَ بصورةٍ أوضح، لجأتْ إلى التّناصّ، ومعناهُ؛ نَصَّ الحديثَ يَنُصُّهُ نصًّا؛ رفَعَه، أي أنّ الشاعرةَ حاولت التوضيحَ بقوْلِها :
هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ
لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي
وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ  ظِلِّيَ الْحَافِي؟
هيرا زوجةُ زيوس وأختُهُ وربّةُ الزواج، وقد امتازتْ شخصيّتُها بكوْنِها ملكيّةً ومَهيبة، وكانت في مَجمع الآلهةِ وفي جبل أوليمبوس بحسب الميثولوجيا الإغريقيّة.
هنا أسجّلُ للشاعرة آمال عوّاد رضوان امتلاكَها مَلَكَةً ثقافيّةً ثريّة، تحضرُ هذهِ الملكة بحضورِ الوعي اللّاحقِ بعدَ اكتمالِ ميلادِ القصيدة، ومِن خلالِ هذا التجلّي يتوضّحُ لنا انتماءَها وإبرازَ هُويّتِها، مِن خلالِ الآخر الّذي تُكوّنُهُ وتُجسّمُ صورتَهُ ذهنيًّا:
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ
بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ
مِنْ مِعْصَمَيْكِ
علّقتُكِ نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ
تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ
جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
هذهِ الانفعالاتُ والثوْراتُ أعطتْ سياقاتِ قوّةٍ، لإجازةِ مشروعِ القصيدةِ كمَشروعٍ ثقافيٍّ، لإثباتِ الذاتِ أوّلًا، والاحتكاكِ بالآخرِ ثانيًا، وتظلُّ الأصواتُ الثلاثةُ داخلَ القصيدةِ تتبادلُ الأمكنةَ والرؤى فتقول:
ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ
تُزَيِّنُكِ
فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة!
*
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي
بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ
أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي
وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!
(اعتبرت الفيلسوفةُ والمُفكّرةُ ميليكن أنّ مبادئَ اللغةِ شبيهةٌ بالوظائفِ الّتي تؤدّي إلى بقاءِ الأجناسِ البيولوجيّةِ حيّة. بكلامٍ آخر؛ مبادئُ اللغةِ مبادئُ بيولوجيّة تهدفُ إلى إبقاءِ التخاطبِ حيًّا. ومن هذه المبادئ مبدأ قولِ الحقيقةِ في خطابنا، الّذي يَضمنُ استمراريّةَ التخاطبِ معَ الآخر. على هذا الأساسِ تقولُ ميليكن: إنّ بعضَ الأنواعِ اللغويّةِ في التعبيرِ تستمرُّ في التداول، لأنّ إنتاجَها ونتائجَها تُفيدُ كُلًّا مِن المُتكلّم والمُتلقّي. هذا شبيهٌ بما يحدثُ للكائنِ البيولوجيّ الّذي يكتسبُ الصّفاتِ الّتي تُفيدُهُ في أنْ يبقى حيًّا. وكما أنّ البَشرَ يُكرّرونَ التصرّفاتِ الناجحةَ في تحقيق أهدافِهم، يَحدثُ تكرارُ صياغاتٍ لغويّةٍ مُعيّنةٍ، لأنّها مفيدةٌ في الوصول إلى نجاحاتِنا كبَشر. هذه الصياغاتُ اللّغويّةُ (كعباراتِ الشّرطِ مثلًا) تُشكّلُ الأعرافَ اللغويّة، فالأعرافُ اللغويّةُ تنشأ وتنتشرُ، كوْنَها تُقدِّمُ حلولًا لمشاكلِ المُتخاطِبين. من هنا، نستمرُّ في إنتاج بعضِ الأشكالِ اللغويّة، لأنّها تُؤدّي بالمُتلقّي إلى أنْ يَستجيبَ باستجاباتٍ مفيدةٍ في تحقيقِ أهدافِ المُتكلّم، لكن لا بدّ للأعرافِ اللغويّةِ أنْ تخدمَ مَصالحَ المُتكلّمينَ والمُتلقّينَ معًا، لكي تستمرَّ وتبقى.)2.
هكذا يبدو لي مسارُ الشاعرة آمال عوّاد رضوان في ابتداعِ المعنى الباطنِ في القصيدة، كي تُعطيَ للمُتلقّي الحقَّ في التأمّلِ في الظواهر، وصولًا إلى المعنى الكامنِ بينَ أسطرِ القصيدة، فالكتابةُ عندَ الشاعرةِ كينونةٌ، مِن خلالِها تجعلُ مِنَ الرمزِ نموذجًا للصّراع، لأجلِ توْطينِ المعنى وترسيخِهِ..
                     الهوامش :
1 ـ قصيدة (أسْطُورَةُ الْتِيَاعٍ؟) الشاعرة آمال عوّاد رضوان
تاريخ النشر : 2017-04-09
2 ـ مقال (فلسفةُ المعنى والحُرّيّة) حسن عجمي/ موقع مركز النور

أسْطُورَةُ الْتِيَاع؟/ آمال عوّاد رضوان
طِفْلَةً
تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي
وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ
مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي
*
قصِيدَةً
قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي
تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي
وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ
لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
*
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك
بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ
زَوْبَعَتْنِي
فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!
إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً
عَلَى
سُلَّمِ
مَائِكِ؟
*
هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ
لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي
وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ  ظِلِّيَ الْحَافِي؟
*
إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ
يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ
يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ
أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا
عَلَى
قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ
وَعَلَى
اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
*
كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ
تَنْفُشينَهَا
تَفْرُشينَهَا
بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي
كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ
وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
*
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ 
بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ
مِنْ مِعْصَمَيْكِ
عَ
لَّ
قْ
تُ
كِ
نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ
تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ
جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
*
أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟
أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا
يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
*
قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ
يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي
آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي
يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ
عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!
*
أيْنَ مِنِّي "حَبِيبِي"
نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي
كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا
مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
*
أَيْنَ مِنّي "حَبِيبِي"
كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي
يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ
ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
*
يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ
دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ
تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ
وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ
فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
*
إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً
يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
*
ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ
تُزَيِّنُكِ
فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة!
*
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي
بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ 
أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي
وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!


76
أدب / أسْطُورَةُ الْتِيَاع؟
« في: 18:42 10/04/2017  »
أسْطُورَةُ الْتِيَاع؟
آمال عوّاد رضوان

طِفْلَةً
تَسَلَّلْتِ فِي بَرَارِي عَتْمَتِي
وعَقارِبُ نَزَقي.. تَنْمُو بَيْن خُطُواتِكِ
تَغْزِلُ بِرُموشِ حُرُوفِكِ حَريرَ وَجْدٍ
مِنْ خُيُوطِ مُبْتَدَاي
*
قصِيدَةً
قصِيدَةً انْبَثَقْتِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ
تَجَلَّيْتِ.. بِكُوخِ أَحْلَامِي
تَوَّجْتُكِ مَلِكَةً.. عَلَى عَرْشِ جُنُونِي
وَأَنَا التَّائِهُ فِي زَحْمَةِ أَصْدَائِكِ
لَمَّا تَزَلْ تَفْجَؤُني.. ثَوْرَةُ جَمَالِكِ!
*
رَائِحَةُ فُصُولِي.. تَخَلَّدَتْ بِك
بِرَجْعِ أُغْنِيَاتٍ عِذَابٍ.. تَتَرَدَّدُ عِطْرَ عَذَابٍ
زَوْبَعَتْنِي
فِي رِيبَةِ دَمْعَةٍ .. تُوَارِبُهَا شَكْوَى!
إِلاَمَ أظَلُّ أتَهَدَّلُ مُوسِيقًا شَاحِبَةً
عَلَى
سُلَّمِ
مَائِكِ؟
*
هِيرَا.. أَيَا مَلْجَأَ النِّسَاءِ الْوَالِدَاتِ
لِمْ تُطَارِدِينَ نِسَاءً يَلِدْنَنِي
وَمِئَةُ عُيونِكِ.. تُلاَقِحُ عَيْنِي
وَ.. تُلَاحِقُ  ظِلِّيَ الْحَافِي؟
*
إِلَى خَفْقٍ مَجْهُولٍ
يُهَرْوِلُ عِمْلاقُكِ فِي رِيحِهِ
يَقْتُلُهُ شِعْرِي الْخَرُّوبِيّ
أَنْثُرُ مِئَةَ عُيونِهِ شُموعًا
عَلَى
قُنْبَرَتِكِ الْمِرْآةِ
وَعَلَى
اخْتِيَاِل ريشِكِ الطَّاؤُوسِيّ
*
كَمْ شَفيفَةٌ بِلَّوْراتُ غُرورِكِ
تَنْفُشينَهَا
تَفْرُشينَهَا
بِسَيْفِ شَغَبٍ يشعْشِعُنِي
كَيْفَ أَرُدُّ سَطْعَهُ إِلى عَيْنَيْكِ
وَمَنَابِعُ الْحَذَرِ أَخْمَدَتْهَا نِيرَانُكِ؟
*
بِقَيْدِيَ الذَّهَبِيِّ 
بَيْنَ نَارِ الأَدِيمِ وَنُورِ السَّدِيمِ
مِنْ مِعْصَمَيْكِ
عَ
لَّ
قْ
تُ
كِ
نَجْمَةً تَتَبَهْرَجُ أُسْطُورَةَ الْتِيَاعٍ
وعَرَائِسُ الصُّدُورِ النَّاضِجَةِ
تُ ثَ رْ ثِ رُ كِ
جُمُوحَ تَحَدٍّ يُهَدِّدُنِي!
*
أَحَبِيبَتِي يَشْكُوهَا الْوَجَعُ؟
أَيْنَ مِنِّي جَمَالُهَا
يُخَلِّصُهُ قُبْحُكَ هِيفَايْسْتْيُوس؟
*
قَلْبُكِ الْمَكْفُوفُ بِبَرِيقِ الْغَيْرَةِ
يَخْتَلِسُ لُؤْلُؤَ خَفْقِي
آهٍ مِنْ لَيْلِي.. يُخْفِي وَيْلِي
يَجْمَعُ ذَاكِرَةَ أَنْفَاسِكِ الْمَبْذُورَةِ
عَلَى رَمَادِ أَنْفَاسِي!
*
أيْنَ مِنِّي "حَبِيبِي"
نَغْمَةٌ فِي حُقُولِي
كَمِ انْدَاحَتْ قَطِيعًا
مِنْ قُبَّراتِ حَيَاةٍ تَرْعَانِي؟
*
أَيْنَ مِنّي "حَبِيبِي"
كَوْكَبُ أَلَقٍ.. في سَمَا رُوحِي
يُضِيءُ دَرْبَ إِلْهَامِي إِلَيْكِ
ويَحُطُّ فَوْقَ مَغارَةٍ تُنْجِبُنِي؟
*
يَا مَنْ تَوارَيْتِ فِي حَانَةٍ
دَلِيلُهَا الْهَيْمَنَةُ
تَسْكُبِينَنِي جَحِيمًا.. فِي كُؤُوسِ الضَّيَاعِ
وَتُرْوِيكِ.. قَوَارِيِرُ هَجْرِي الدَّاغِلِ
فَلاَ تَنْتَفِخِينَ بِآهَاتٍ مُتَشَرِّدَة!
*
إِلاَمَ نَظَلُّ رَهَائِنَ بَهْلَوَانِيَّةً
يَلْبَسُنَا طُوفَانُ نَعْنَاعٍ لاَ يَنَام؟
*
ها شَهْوَةُ شَرَائِطِي الطَّاعِنَةُ بِالْعُزْلَةِ
تُزَيِّنُكِ
فَلاَ تَخْتَلُّ إِيقَاعَاتُ أَجْرَاسِكِ النَّرْجِسِيَّة!
*
هَا شَرَارَاتُ يَاسَمِينِكِ تَغْسِلُنِي
بِحَرَائِقِ غُبَارِكِ الْفُسْتُقِيِّ 
أَنَا الْمُحَاصَرُ.. بِزئبقِ مَرَايَاكِ
إِلاَمَ تَبْكِينِي نَايُ زِنْزَانَتِي
وَتَظَلُّ تُلَوِّحُنِي.. مَنَادِيلُ الْوَدَاعِ!


77
بوركت عبلين بالفنّ وبالطاقات البنّاءة الراقية! بقلم: فاطمة يوسف ذياب
بمبادرة من النادي النسائيّ الأرثوذكسيّ في عبلين الجليليّة، وبالتعاون مع المعهد الموسيقيّ العبلينيّ، ابتهجت عبلين بالاحتفال الراقي بعيد الأم العالميّ، في قاعة الرشيد العبلينية للأفراح، بتاريخ 20-3-2017، وبحضور فاق التصوّر ومن مختلف الشرائح العمريّة، وبخفةِ الغزالةِ الرشيقةِ نرى الشاعرة آمال عوّاد رضوان مديرة النادي الأرثوذكسي في عبلين، تنتقلُ من المنصّةِ إلى زوايا القاعة الجانبيّة، مرّةً تلتقطُ الصورَ، ومرّةً تطمئنّ على سيْرِ الأمورِ، ومرّةً تُرحّبُ مع نساء النادي الأنيقاتِ بالوفود القادمة للاحتفال، فكنّ يحتفين بالأمّهات بطريقةٍ مختلفةٍ، فيُقدّمنَ لهنّ العسلَ والوردَ الجوريّ، كتعبيرٍ مجازيٍّ يُضفي لغتَهُ على كلّ مَن شاركَ الحفل، وتُوزّعنَ باقاتٍ من بسماتٍ شفافةٍ تتهادى بانتشاءٍ، وتزهو بعبلّينها التي بادلتها الحبّ بمليون قلب.
بدأ الاحتفالُ على وقع عزفٍ كشفيّ (سنير) في استقبال النسوة المكرمات، بمسيرة قصيرة من باب القاعة واعتلاء خشبة المسرح، ليعلو صوت العريفة آمال عوّاد رضوان مُرحّبة بالحضور من أمّهاتٍ وجدّاتٍ وأطفالٍ وآباء، وبكلّ المشاركين في إحياء الاحتفال، ولتتوالى فقراتُ البرنامج بحيويّةٍ وتصفيق المعجبين وتصوير لعروض ثلاث فِرق بالية التبعة لجمعية الكروان، لأجيال تتراوح ما بين الثالثة والعاشرة وبمرافقة المدرّبة النصراويّة يارا أبو سالم.
وقدّم المعهد الموسيقيّ مجموعة من طلابه العازفين: فِرقة العزف على الساكسفون قدّمت وصلةً موسيقيّة من تدريب الموسيقيّ سبيريدون رضوان، وتلتها وصلة لعازفي القانون بمرافقة الموسيقيّة القديرة مها عوّاد، ووصلة موسيقيّة لفرقة الكمان، وفرق الإيقاع بإشراف المعلّم كميل تيّم.
أما مفاجأة الاحتفال فكانت بما قدّمه النادي النسائيّ الأرثوذكسيّ من وصلةٍ غنائيّة تراثيّةٍ من الزمن الجميل، (هيهات يابو الزلف وميجانا)، ثمّ قمنَ بتكريمِ لفيفٍ من النساء مربّيات الأجيال، واللواتي وضعنَ بصمةً خاصّة في مدماك حياة عبلين: المعلمة سميرة عويّد (أم البهيج)، المعلمة جميلة سليم حاج (أم ديّان)، الروائية فاطمة ذياب، الأم سارة حاج (أم ناصر)، ومرتلة الكنيسة إيلا حبيب داوود (أم وديع).
ولا ننسى علوش الحبيب الذي حضرَ قاطعًا المسافات، ليُشاركَنا الحفلَ بصوته، ونُشاركُهُ الدبكة والرقص مع فرقة الدبكة جفرا العبلينيّة، ويقفُ الزمنُ بخشوعٍ يُطأطئُ رأسَهُ أمامَ لفيفِ النسوةِ المُكرّماتِ، وفي العيون تتراقصُ دموعهنّ بحروفِ شكرٍ وتقدير، مع الصوت الرخيم للفنّانة ألفت حاج وأغنية "ماما يا حلوة"، وبصوت الطفلة لميتا عوض تُلقي قصيدة "أحنُّ إلى خبز أمّي" للشاعر محمود درويش!
إنّها ليلةٌ مميّزةٌ، تربّعت فيها المشاعرُ على عرش الأمومة، فغدت القاعةُ راقصةً تموجُ بالفرح الأزرق، وكلّ امرأةٍ ترسمُ بمَلامِحها شارةً من الغبطةِ المؤثّرةِ بتكريمِ عزيزة لديها، هذه اللفتةُ الإنسانيّةُ تؤكّدُ حاجةَ الروحِ لفسحةٍ من وقتٍ يقولُ لهنّ: شكرًا سيّدتي، أنتِ العطاءُ ونحنُ الوفاء.
بهذه الحروفِ عبّرت الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان عن القائمين في العمل الفني المائز. باختصار، إنّها ليلةٌ تختلفُ بكلّ تَفاعُلِها وانفعالاتِها، أقولُ لكم فيها: شكرًا يا الأحبّة، ونحن على دروب الخير نلتقي ونواصل البذل بسخاء لمجتمع مُتعطّشٍ لهدأةٍ من هذا الصخبِ الجميل الذي يُدغدغُ الروح! إنّها ليلةٌ من ليالي العمر، تألّقتْ فيها الفعاليّات الفنيّة العبلينيّة، مِن عزف شرقي وغربي رقص باليه ودبكة وغناء، وأبدعت كأنّها تقولُ: كلّنا معكم بحِسّنا وأحاسيسِنا، فشكرًا لكِ عبلين بهذه الطاقات الراقية البنّاءة. شكرًا للنادي النسائيّ الأرثوذكسيّ في عبلين. شكرًا آمال عوّاد رضوان. شكرًا نبيه عوّاد. شكرًا لدكتور خالد رشيد سليم على دعمه السخيّ. شكرًا لشاهين شاهين (عسل شاهين) لتقديم العسل هدايا للأمهات. شكرا للمعلم جاسر عوّاد ولأعضاء فرقته الإيقاعيّة في سريّة الكشاف الأرثوذكسيّ في عبلين. شكرًا لرامي سبورت مارون على تقدمة دروع تكريم النساء. شكرا لفرقة جفرا الصغار ولمدربها محمود خطيب. شكرًا لصفوان مارون (s m הפקות)  على توفيره كلّ التجهيزات الصوتيّة والضوئيّة. شكرًا لكلّ من تبرّعَ ماديّا ودعم الاحتفال. شكرًا كبيرةً لجميعكم ولحضوركم، شكرًا لكلّ طفلٍ وطفلة، ولكلّ يافع ويافعة، ولكلّ من شاركنا ورسمَ الفرحةَ على الوجوه المتعبة!
وحول ذكرى عيد الأمّ وبعض ما قيل عنها جاء في عرافة الشاعرة آمال عوّاد رضوان: أهلا بكم في آذار الربيع، في آذار الثقافة والحياة. أهلا بكم في آذار الأمومة، فالأمومة هي أجمل كلمة اختزلت الوجود منذ الأزل وإلى الأبد! قالوا: أمُّ الكِتابِ الفاتحةُ، وأمُّ القُرى مكّة، والكنيسةُ أمُّ المؤمنينَ المسيحيّين، وحوّاءُ أمُّ البشرِ والأحياءِ، وقد حظيتِ الأمومةُ بالتفاتةِ أقلامِ الأدباء والشعراء على مرِّ العصورِ، فقالت ماري هوبكن: "الأُمُومَة أعظمُ هِبَةٍ خَصَّ الله بها النساء".
جوبير فيقول: "لو جرّدْنا المرأةَ مِن كلِّ فضيلةٍ، لكفاها فخرًا أنّها تُمثّلُ شرفَ الأمومةِ".
أمين سلامة: الأمومةُ أنصعُ رمزٍ لنجاحِ المرأةِ في دنيا البقاء والوجودِ"!
الأمّ هي الكائن الأرفعُ خلقًا وإبداعًا، جعلَ اللهُ الجنّةَ مِن تحتِ أقدامِها (الحديث الشريف)، وجعلَ الأمومةَ تاجًا متفرِّدًا على هامتِها، تتزيّنُ به وتتجلّى في ملكوت الأمومةِ، كما اعتقد العرب أنّ الهدهدَ أبرُّ الطيورِ بأمِّهِ، إذ جعلَ قبرَ أمِّهِ على رأسِهِ، فكافأهُ اللهُ بتاجِ الحبِّ والتفاؤلِ يكلّلُ رأسَهُ!
الكنيسة احتفلت بتوقيرِ السيّدة العذراء في أحدِ نصفِ الصومِ الكبير في إنجلترا، فكانَ يعودُ الأطفالُ في إجازةٍ مَرَّةً في العام الى بيوتهم، وهو الأحدُ الرابعُ مِنَ الصوْم الكبير لرؤيةِ ذويهم، وقد أُطلِقَ عليه أحدُ الأمّهات، ثمّ توقّف الاحتفالاتُ بسببِ الحربِ في الغربِ وأمريكا
آنا جارفيس كانت فتاة ضريرة، وعند موتت أمها عام 1905 بدأ ألمها، فجمعَتْ صديقاتِها وكتبتْ في رسائل وخطابات لجميع الوزراء ورجال السياسة تقول: عشتُ عمري كلّهُ ولم أشعرْ بأنّي ضريرة أو ينقصني شيء، حتّى حلّ يومٌ لاقت فيه أمّي ربّها.
عام 1911 أعلن يوم عيد الأم عطلةً رسميّةً في الولايات المتحدة، ثم في المكسيك، كندا، الصين، اليابان، أمريكا اللاتينية وأفريقيا.
في ألمانيا، فإنّ هتلر جعل من عيد ميلاد والدتِهِ مناسبةً عامّةً لعيدِ الأمّ، لتشجيعِ النساءِ على الإنجابِ.
كانت مصر أوّل دولة عربيّة احتفلت به رسميًّا بـ 21 /3/ 1956م، مِن أجلِ نشرِ الشعورِ باحترامِ الأمومةِ في الأسرةِ المصريّة، وباقتراحِ الأخويْن "مصطفى وعلي أمين"، مؤسّسي دار أخبار اليوم الصحفيّة، بتكريس يوم 21/ آذار وهو أوّلُ أيّام فصلِ الربيع؛ ليكونَ رمزًا للتفتّحِ والصفاءِ والمشاعرِ الجميلةِ، ومِن منطلق علي أمين القائل: "لأنّني أحببتُ أمّي، مِن أجلِها أحببتُ كلَّ نساءِ العالم". لقد تبلورتِ الفكرةُ مِن خلالِ رسالةِ أرملةٍ تشكو جفاءَ أبنائِها لها ونكرانِهم لجميلِها، ومِن ثمّ انتشرتْ هذه الفكرةُ في سائرِ الدولِ العربيّة، وفيه يُخصّصُ تكريمُ الأمّهاتِ المثاليّات اللواتي عِشنَ قصصَ كفاحٍ عظيمةٍ، مِن أجل أبنائهِنّ في كلِّ صعيد.
قال شوبير: ليستْ هناكَ في الحياةِ امرأةٌ واحدةٌ تهَبُ كلَّ حياتِها وكلَّ حنانِها وكلَّ حبِّها، دونَ أن تسألَ عن مقابلٍ إلاّ الأمُّ.
جميل الزهاوي: ليسَ يَرقى الأبناءُ في أمّةٍ ما لم تكنْ ترَقّتِ الأمّهات! حافظ إبراهيم: الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددْتَها أعددْتَ شعبًا طيّبَ الأعراقِ.
فولتير: مستقبلُ المجتمعُ بينَ أيدي الأمّهات والزوجةُ المُتعلّمةُ هي مفتاحُ البيت.
مصطفى لطفي المنفلوطي: علّموا المرأةَ لتجعلوا منها مدرسةً يتعلّمُ فيها أولادُكم قبلَ المدرسة، ويتربّى في حِجْرِها المستقبلُ العظيم.
أمّا ابنُ المُقفّعِ فيقول: بل، "مستقبلُ المجتمعِ بينَ أيدي الأمّهاتِ، وإن ضاعَ العالمُ، فهي وحدَها تستطيعُ إنقاذَهُ".
هناك نساء لم يتزوجن نلنَ مِن حظّ الأمومةِ ما يفوقُ الوالداتِ، فغذّينَ أطفالاً وأجيالاً مِن ثديِ العقلِ والحنانِ والحكمةِ والبِرِّ والرحمةِ!



78
فوقَ الجراحِ الداميةِ تعتلينَ مَدارجَ الحُروفِ!
بقلم: فاطمة يوسف ذياب
"غاباتي تعجُّ بالنّمور" عنوانُ قصيدةٍ مُغنّاةٍ على أوتارِ الوجعِ الموجوع للشّاعرة آمال عوّاد رضوان، والتي ما انفكّتْ تتّكئُ على عكّازِ الغيم، تستمطرُ الأملَ مِن سحابةٍ عابرةٍ، بتصويرٍ بلاغيّ مُخلِصٍ لأدواتِهِ النصّيّة.
عزيزتي الشاعرة آمال عوّاد رضون، وعودةٌ إلى اللهاثِ وراءَ حروفِ أبجديّتِكِ العصيّةِ المُستعصيةِ، يَستفزُّني ويُحفّزُني حرفُكِ، فأتحدّاهُ وأبحرُ في لجّتِهِ، كي أقبضَ على كوامنِ الروحِ، في نصٍّ يكادُ يَتفلّتُ مِن بين أصابع قدرتي على الغوص، وأشحذُ عزيمتي وعتادي وأبحرُ إلى ما وراءِ الوراء، حيث يُمثّلُ الاحتراقُ اشتعالَ ما وراء النصّ بتفجُّرِ القصيدة، فتتراقصُ بنا ما بينَ الموجودِ والمفقودِ، وأراني أستمتعُ بنَصِّكِ، وأغوصُ في فيْضِ غاباتِكِ وإن كانتْ تعجُّ بالنّمور، فأنا أيضًا كمثل قولك:
أَيَا فَاتِنَتِي/ أَنَا مَنْ خُلِقْتُ../ لِأَحْتَرِقَ بِكِ/ احْتَرَفْتُ الاتِّكَاءَ/ عَلَى غَيْمِكِ/ على لهْفَتِكِ.. على جُنُونِكِ/ وَقَدْ خَضَعْتُ  لِحُلُمِي طَوِيلًا/ فِي انْتِظَارِكِ
أراكِ عزيزتي الشاعرة آمال عوّاد رضوان تشتعلين باحتراقِ الوجْدِ في زمنِ المَدِّ والجزْرِ، وتتجذّرينَ في غاباتٍ تعجُّ بالنّمورِ، وتنوئينَ بحملِ احتراقكِ في وطن مُتخم باحتراقِهِ، وكظبيةٍ جافلةٍ تتلفّتينَ وتبحثينَ عنهُ في دهاليزِ المجرّاتِ، وفوقَ الجراحِ الداميةِ تعتلينَ مَدارجَ الحُروفِ، فتعودين إلى بدايةِ الفقدِ، وإلى بداياتٍ غائرةٍ في جسدٍ عُذريٍّ يَتهتّكُ بذُلّهِ وضعفهِ وهوانِهِ، وأراكِ ترسمينَ بسيفِ حرفِكِ علاقةً شاعريّةً روحيّةً مع وطنٍ يَعجُّ بالنّمورِ، علاقةً تتسربلُ بقداسةِ فقدٍ يُواصلُ أنينَهُ قائلًا:
أَنَا .. مَنِ امْتَطَتْنِي وحْشَةُ الْفَقْدِ/ لَمَّا أزَلْ ../ أُسَبِّحُ .. سِحْرَ سُكُونِكِ
وأيُّ فقدٍ هذا الذي يُراودُكِ بينَ الحينِ والحين، ليَسحبَكِ منكِ ومِن كلِّ ما حولَكِ، إلى غاباتٍ تستوطنُ الذاكرةَ عبْرَ قرونٍ خلتْ، بحثًا عن وطنٍ منشودٍ تعيشينَهُ كما يعيشُهُ كلُّ البشرِ، في وطن كهذا، أراكِ تتآكلين بحروفِك، كي تَصِلي إلى واقعٍ مُغايرٍ، وتُحاولي أن تُزيلي كلَّ الشّوائبِ المُتناثرةِ في علاقةٍ فرديّةٍ أزليّةٍ مشتهاة، ما بينك وما بينَ هذه الغابات، حيثُ نراكِ تمتطينَ وحشةَ الفقدِ، بعنادٍ يُكسّرُ كلَّ القوالبِ الجليديّةِ، وكلَّ ما في الكوْنِ مِن فرضيّاتٍ لا تقبلُ الجدَلَ، فلا معنى للاحتضانِ إلّا بملامسةِ قداسةِ العشبِ المُقدّس، فتقولين:
لكِنِّي وَمُنْذُ قُرُونٍ/ حُرِمْتُ دُخُولَ جَنَّتِكِ/ تِلْكَ مُشْتَهَاتِي.. سَخِيَّةُ الذَّوَبَانِ/ دَفِيئَتِي.. الْـــ .. عَامِرَةُ بِالْآهَاتِ/ وَمَا عُدْتُ أَتَعَرَّى.. حَيَاةً/ حِينَ تُشَرِّعِينَ.. نَوَافِذَ رِقَّتِكِ!
عزيزتي الشاعرة آمال؛ هنا أتوقّفُ عندَ بلاغةِ المُرادِ وفداحةِ الموجود؛ وقد استخدمتِ القداسةَ للعشب بإيحاءٍ ذكيٍّ، وبانصهارِ الروح بمَكانِها وكلِّ أزمانها، وبكلِّ ما رَواهُ التاريخُ عن وطنِ الزّيتونِ وعذريّةِ الزّعترِ ورائحةِ الليمون، وكلِّ ما تُنبتُ أرضُهُ، فنراكِ في ذاكرةٍ استرجاعيّةٍ طرديّةٍ تستنهضينَ صورَ الوطنِ، وتُراودينَ عشبَ الوطن المُقدّسِ، وتُناقشينَ قدسيّةَ العلاقةِ ما بينَ الإنسانِ وأرضِهِ ونباتِهِ وأعشابِهِ، حينَ تُصادَرُ حُرّيّتُهُ الفرديّة، وحين تُغتالُ العلاقةُ ما بينَ الشاعرةِ والعشبِ المُقدّسِ، وتتحوّلُ الصّرخةُ إلى علامةِ استفهامٍ واستهجانٍ، فتستدركين بقولك:
لكنّي.. مَا نَسِيتُ ذَاكِرَةَ عُشْبِكِ الْمُقَدَّسِ/ حِينَ يَسْتَحِيلُ لِصَرْخَةٍ فَرِيدَةٍ!
وننتقلُ هنا بذاكرةٍ استرجاعيّةٍ طرديّةٍ مألوفةٍ لحالاتِ الفقدِ العاديّ وغيرِ العادي، كفقدِ الحبيب والوطن، وانسحابِ عنصرِ الزمانِ مِن بين أصابعِ المكان، لنقفَ مع شاعرة الماوراء آمال عوّاد رضوان عندَ البوّابات الحالمةِ، ولنعبُرَ المساحاتِ الزمنيّةَ بتعدادِ سِنيها وقرونِها، حيثُ تَقذفُ النصَّ وتُشاغلنا بهِ في لهاثٍ عذريٍّ ما بينَ الروحِ والجسد، وحيثُ تستنهضُ صورَ الغزلانِ المُتراقصةِ فوقَ قداسةِ العشب، وترسمُ بأدواتِها النصّيّةِ وطنًا يُمثّلُ لها الماضي بكلِّ تاريخِهِ المُعشّشِ بأوْصالِها، ولتصنعَ لنا عوالمَهُ بحِرَفيّةٍ مُنتقاةٍ بأدقِّ الصورِ التعبيريّة، وأرقى مساحاتٍ مِن تفاصيلَ مُلوّنةٍ بعشبٍ وعناقيدَ وغزلان، إنّها لوحةٌ مُتحرّكةٌ تهزّ شِباكَ الذّاكرةِ، لنرى الوطنَ المُستباحَ في زمنٍ آخرَ يُظللنا بكلّ ملكوتِهِ وروحانيّاتِهِ؛ فهنا كان لنا بيتٌ، وهنا كان لنا مسجدٌ، وهنا كنيسةٌ وهنا وهنا..، وفي الـ هُنا تتداخلُ الصّورُ المُستنشَقةُ مِن عبيرِ قرونٍ مضَتْ، لنرانا في غاباتٍ تعجُّ بالنّمورِ والرموزِ اللفظيّة!
لكن، وبالرّغم مِن شراسةِ التعبير، فإنّك يا الشاعرة آمال، لم تفقدي بوّاباتِ الأملِ، ولم تُسقِطي مِن حسابِك العلاقةَ الروحيّةَ بارتباطِ الجسدِ والروحِ والمكان، بل وتُقسِمينَ بجَلالِ حنايا الوطنِ وبقُدسيّةِ أعشابهِ، وبطونِ وديانِهِ وبقوافلِ سُحُبِهِ، وتتماهين مع مرارةِ الفقدِ، فتطوّعينَهُ باستخدامٍ ذكيٍّ كي يكتملَ بناءُ القصيدة، ليصبحَ الوطنُ بكلّ تفاصيلِهِ ورموزِهِ عناصرَ مُباحةً للمداعبةِ والعناق، فهل القسَمُ عاجزٌ لا يغادرُ حدودَ صدرِ القوافي؟
لا، فيا وطني المُباحُ بكلّ تفاصيلِك، كيفَ لا تكونُ هكذا وأنتَ مِلءُ السّمعِ والعيون؟ أراكَ كلَّ يومٍ، أعانقُكَ وأشتهيكَ حُلمًا فريدًا، لا يُشاركُني بكَ أحدٌ إلّايَ وعُشبُنا المُقدّس.
عزيزتي آمال، موجعةٌ أمانيكِ، وأنتِ تتسلّقينَ البوادي بعنفوانِ قوْلِكِ:
مَا نَسِيتُ عُشْبًا/ لَيْسَ يَتَنَفَّسُهُ.. إِلَّا نَسِيمٌ/ مُحَمَّلٌ.. بِعَنَاقِيدِ شَوْقِي وَحَنِينِي/ وَمَا نَسِيتُ غُزْلَانَكِ/ الْـ .. تَنْبِضُ بِرِقَّتِي الْحَالِمَة!
بإيحاءاتٍ مُركّزةٍ مُكثّفةٍ تمتطينَ جوادَ الفقدِ، تُراقِصينَ غزلانَ الوطنِ وتَمُرّينَ عبْرَ أبوابِ الفتح، لنراكِ مع النسيمِ تُداعبينَ أوْتارَ الذّاكرةِ، وتَسبَحينَ في سكونِها الحالمِ في ملكوتِ وعوالمِ الفقدِ، وما يُمثّلُهُ مِن اشتعالٍ وتَفجُّرٍ واحتراقٍ، ولا زلتِ بانتظارِ مَن يُشرّعُ أبوابَ الوطنِ المُحترقِ لبُرقتِهِ الحالمةِ، هنا كانت الأرضُ وكانَ الوطنُ، هنا عاشتْ وتتابعتْ قوافلُ الزمنِ والأهل، في كلِّ ركنٍ لنا حكايةٌ يَزنون بها، فما عادتْ بلادُنا موصولةً بالجسد..
وَجَـــلَالُـــكِ/ أُقْسِمُ .. بِحَنَايَاكِ/ بِبُطُونِ وِدْيَانِكِ/ قَوَافِلُ سُحُبِي.. بَاتَتْ حَارِقَةً/ وَهذَا الْجَامِحُ الْمُسْتَأْسِدُ بِي/ صَارَ مَارِدًا/ يَرْعَى غَابَاتِي الْــ تَـعُـجُّ بِالنُّمُورِ
هكذا نرانا نقفزُ قفزَكِ الطريَّ المُسترسِلَ كما الغزلان فوقَ عُشبِها المُقدّس، نتنفّسُ الحُبَّ الأزليَّ مِن بين عناقيدِ الشّوْقِ والحنينِ، ونُسافرُ معَهُ عبْرَ غزلانِكِ الحالمةِ الجافلةِ المرتعِبةِ في غاباتٍ تعجُّ بالنّمور، تبحثُ عن طُهرِ العلاقةِ وأبعادِها في واقعٍ مُغتالٍ كلَّ يوْمٍ بدَمٍ كحليٍّ أسوَد، فنعرفُ مَن المُمتطى ومَن المُمتطي الذي يُساومُنا على جُرحِنا وفَقْدِنا.
الشاعرة آمال عوّاد رضوان، ورغمَ كلِّ شيءٍ تُقسِمُ بجَمالِ وجَلالِ العلاقةِ الأبديّةِ، وهذا القسَمُ يُوقفُني أمامَ قسَمٍ عظيمٍ مِن ربٍّ عظيم، عندما أقسَمَ اللهُ تعالى بالتين والزيتونِ وطورِ سنين، ببلاغةٍ تعبيريّةٍ تؤكّد قدسيّةَ العلاقةِ، ما بينَ الإنسان والنباتِ والزمانِ والمكانِ الذي هو الوطنُ بكلِّ ما فيهِ مِن أرضٍ وسماءٍ وهواءٍ وفضاءٍ، ونحن يا العزيزة آمال، ما فقدنا الزمانَ والمكانَ وكلَّ ما كانَ يَربطنا بهِ، وما زلنا نمتلكُ حُروفَ وجْدِنا واحتراقِنا في غاباتٍ تعُجُّ بالنّمور.
لكِنِّي وَمُنْذُ قُرُونٍ/ حُرِمْتُ دُخُولَ جَنَّتِكِ/ تِلْكَ مُشْتَهَاتِي.. سَخِيَّةُ الذَّوَبَانِ/ دَفِيئَتِي.. الْـــ.. عَامِرَةُ بِالْآهَاتِ/ وَمَا عُدْتُ أَتَعَرَّى.. حَيَاةً/ حِينَ تُشَرِّعِينَ.. نَوَافِذَ رِقَّتِكِ!)
عزيزتي الشاعرة آمال عوّاد رضوان، إن كنّا قد فقدنا عناصرَ الزمانِ والمكانِ، فهذه الغاباتُ التي كانتْ مَرامَنا وموطنَ عِشقِنا وقَداستِنا، وقُدسُنا التي ما عادتْ لنا، صارت تعُجُّ بالنّمور، فحيثما كنّا وأينما توجّهنا، ثمّةَ نمورٌ تعترضُ بأنيابِها حركاتِنا، وتُصادِرُ همْسَنا الغزليَّ، فلا نملكُ إلّا (صرخةً فريدةً)، تتنفّسُ الحُبَّ الأزليَّ (المُحمَّلَ بعناقيدِ الشّوقِ والحنين، ترنو إلى غزلانِها الحالمةِ الباحثةِ عن مَراميها ومَراعيها وجبالِها وحقولِها).
أينَ منّا قوافلُ السُّحُبِ وتلكَ الشّواهدُ على حميميّةِ العلاقة؟ كلُّ ما فينا مُغتالٌ يَنزفُنا الشّوقُ لقرقعةِ التاريخِ المُتجذّرِ فينا، فحيثُما توجّهنا نرانا مُحنّطينَ في ذاكرةِ زمنٍ! أوّاااااااااااااه يا وطنَ السّلبِ والنّهبِ، أنا ما خُلقتُ لأحترقَ بكَ أو أتوكّأ على أوجاعِكَ، بل خُلقتُ كي أراكَ واقعًا مُنَعَّمًا، أأراكَ مُجرّدًا مِنَ الحُلم غارقًا في فواجع الانتظارِ؟
 لكنّنا لم نَزلْ نُعانقُ الشوقَ بالأمل، ونمتطي الفقدَ بالحنين، ولم نزَلْ نُبحرُ في هاتيك الروابي التي تحتلها قطعانُ نمورٍ تُصادرُ نباتَها وتُرابَها، لنظلّ كما الأرض ندورُ حولَ مجرّاتِها. لم نفقدِ الأملَ في قوافلِ السُّحبِ الشاهدةِ على قدسيّةِ العلاقةِ وحميميّتِها، فقرقعةُ التاريخ مُتجذّرةٌ فينا، وحيث نكون نرانا مسكونين بعناقيدِ الذاكرة، تمامًا كالقوافلِ الغابرةِ التي نَراها صبحًا ومساءً حولنا تصرخُ صرختُنا، ونُهدهدُها بوعدٍ أن يكونَ القادمُ أجمل!
عزيزتي الشاعرة آمال عوّاد رضوان، باختصار، أخذني نصُّكِ البلاغيُّ إلى غاباتِكِ وغاباتِنا التي تَعُجُّ بالنّمور، والليلُ مُستأسدٌ يَتأهّبُ للانقضاضِ والافتراس، لكنّنا مثلك، لم نُسقِط أدواتِ الشوقِ والحنينِ والقسَمِ والأمل، فنحنُ نمتلكُ العودةَ إلى كلّ الصوَرِ البلاغيّةِ المُنتقاةِ، بدقّةٍ مُتناهيةٍ مُتماهيةٍ مُخلصةٍ لمَشاعرِها ولجُذورِها، كي نُعاودَ رسْمَ غاباتِنا بعُشبِها المُقدّسِ، وبغزلانِها التي لمّا تزَلْ تقفزُ في ذاكرة الأملِ وطنًا مِن غيرِ نُمورٍ، باستنساخٍ غير عاديٍّ لكلِّ الصوَرِ العالقةِ المُتجذّرةِ فينا، تمامًا كما حملتْها قوافلُ الزمنِ، وكما ترسّختْ في عقولِنا وأذهانِنا المعجونةِ بلهفتِنا وجنونِ شوْقِنا، وتَحَدّي الحُلمِ بإخضاعِهِ رغمَ تَمَرُّدِهِ.
نعم يا العزيزة، ولا زلنا نمتطي الفقدَ ونهاجرُ ونهاجرُ، ونغوصُ بأشواقِنا فيهِ، وكلُّ الرّؤى تأخذنا إليهِ بكلِّ صوَرِهِ البلاغيّة.
غاباتي تعجُّ بالنّمور/ للشاعرة آمال عوّاد رضوان
 أَنَا .. مَنِ امْتَطَتْنِي وحْشَةُ الْفَقْدِ
لَمَّا أزَلْ ..
أُسَبِّحُ .. سِحْرَ سُكُونِكِ
مَا نَسِيتُ  ذَاكِرَةَ عُشْبِكِ الْمُقَدَّسِ
حِينَ يَسْتَحِيلُ  لِصَرْخَةٍ فَرِيدَةٍ!
مَا نَسِيتُ عُشْبًا
لَيْسَ يَتَنَفَّسُهُ .. إِلَّا نَسِيمٌ
مُحَمَّلٌ .. بِعَنَاقِيدِ شَوْقِي وَحَنِينِي
وَمَا نَسِيتُ غُزْلَانَكِ
الْـ .. تَنْبِضُ بِرِقَّتِي الْحَالِمَة!
***
لكِنِّي وَمُنْذُ قُرُونٍ
حُرِمْتُ دُخُولَ جَنَّتِكِ
تِلْكَ مُشْتَهَاتِي.. سَخِيَّةُ الذَّوَبَانِ
دَفِيئَتِي .. الْـــ .. عَامِرَةُ بِالْآهَاتِ
وَمَا عُدْتُ أَتَعَرَّى .. حَيَاةً
حِينَ تُشَرِّعِينَ.. نَوَافِذَ رِقَّتِكِ!
وَجَـــلَالُـــكِ
أُقْسِمُ .. بِحَنَايَاكِ
بِبُطُونِ وِدْيَانِكِ
قَوَافِلُ سُحُبِي.. بَاتَتْ حَارِقَةً
وَهذَا الْجَامِحُ الْمُسْتَأْسِدُ بِي
صَارَ مَارِدًا
يَرْعَى غَابَاتِي  الْــ تَـعُـجُّ بِالنُّمُورِ
أَيَا فَاتِنَتِي
أَنَا مَنْ خُلِقْتُ.. لِأَحْتَرِقَ بِكِ
احْتَرَفْتُ الاتِّكَاءَ
عَلَى غَيْمِكِ
على لهْفَتِكِ .. على جُنُونِكِ
وَقَدْ خَضَعْتُ  لِحُلُمِي طَوِيلًا
فِي انْتِظَارِكِ

79
حيفا تحتفي بالكاتب سامي عيساوي
آمال عواد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافي أمسية احتفائية بالكاتب سامي عيساوي، برعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ حيفا، وذلك بتاريخ 23-2-2017 في قاعة كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، ووسط حضور من أدباء ومهتمّين بالشأن الثقافيّ، وقد تعذّر حضور سامي عيساوي للأمسية بسبب منعه من عبور الحواجز إلى حيفا. تولت عرافة الأمسية عدلة شدّاد خشيبون، وتحدّث عن منجز المحتفى به كلّ من: د. منير توما تناول رواية اللّوز المُرّ ما بين الإيحاءات والإشارات الدالة على محور الرواية، وآمال أبو فارس تناولت كتاب "زوجي لعبة تفاعليّة" وموضوع الكتابة باللّهجة العاميّة ونظرة الكاتب للمجتمع العربيّ من ناحية دينيّة وسياسيّة، وسلمى جبران تناولت كتاب "عيّوش"، وتخللت المداخلات وصلة زجليّة مع الزجّال حسام برانسي، وفي نهاية اللقاء كانت قراءة لرسالة سامي عيساوي، والتي شكر من خلالها الحضور والقائمين على إحياء هذه الأمسية!
مداخلة عدلة شداد خشيبون: يطيب لي أن القاكم تتوافدون دون كلل أو ملل ومن كلّ حيّ وبلد إلى هذه القاعة الجميلة الدّافئة شتاء والمنعشة صيفًا، ويثلج صدري أن أراكم تملآؤون المكان بعبير الثّقافة والآدب. أحبّتي على رزنامتي لمع التّاريخ، وأشرقت شمس جديدة ليكون لنا لقاء بتنا ننتظره أسبوعيًّا، وبتنا نرفض تسجيل المواعيد في ذات السّاعة وذات اليوم، فالشّكر  لذاك الجندي المعلوم الاستاذ فؤاد نقّارة وزوجته فراشة النّادي سوزي، فلكما باقة شكر لا تذبل أبدًا ما دام القلب ينبض في هذا الجسد، وللجندي المجهول فضل الله مجدلاني الذي يرتب لنا هذه القاعة ويجمّلها بنقاء استقباله. شكرًا من أعمق الأعماق لكم أحبّتي، فلقاؤنا يتجدّد اللّيلة بكم وبنوركم الآسر.   
تعذّر عليه الوصول ليكون بيننا جسدًا، لكنّ حضوره الرّوحي والصّوتي موجود في رسالته، ورسالتنا ستعرف الطّريق إليه بين تنمية بشريّة وإنجازات أدبيّة، وسنطير شوقًا لنتذوق طعمات ثلاث لكتب زيّنت مكتباتنا بجميل حبرها. اللّيلة سيغدو اللّوز المرّ حلوًا، وعيّوش ستلبس لباسًا زاهيًا، أمّا “زوجي لعبة تفاعليّة” سيحلّق عاليًا بين مفردات اللّغة، فكاتبنا سامي عيساوي من مواليد مدينة نابلس 1968،تعلّم في مدارسها، متزوج ولديه اربعة ابناء، حاصل على درجة البكالويوس في الفنون التّطبيقية من جامعة نيودلهي، وعلى درجة الماجستير في الفنون البصرية من جامعة اليرموك، يعمل كمحاضر متفرغ في كلية الفنون الجميلة – جامعة النّجاح الوطنية، وشغل منصب رئيس قسم الفنون التّطبيقية 2014-2016،  صدر له خمسة أعمال هي: اللوز المر (رواية)، و 2008عيوش (رواية) 2013، وزوجي لعبة تفاعليّة (مجموعة قصصية) 2016، ولحياة أكثر إبداعًا (تنمية بشريّة) 2014، وتخرج بكفاءة (تنمية بشريّة 2016).
د. منير توما: أديب وناقد يكتب الشّعر باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، له العديد من المقالات والدّراسات الأدبيّة التي تُنشر في الصّحف والمجلات، وقد حصل على عدّة جوائز في كتابة الشعر في اللغة الإنجليزيّة من الجمعيّة الدّولية للشعراء في الولايات المتحدة الأمريكيّة، كما حصل على جائزة الإبداع الشعريّ من وزارة الثقافة عام 2010. لا يصل كتابٌ إلى  يديه إلّا ويُعانقُ مفرداته ويطويها تحتَ معان أرادها الشّاعر ولم يصرّح بها، وهذا يؤكّد أنّ دور الشّاعر أو الكاتب ينتهى عندما يسلّم ديوانه للقارئ، فكيف إن كان قارؤنا د.منير توما وروايتنا اللّوز المرّ، ما بين الإيحاءات والاشارات الدالة على محور الرواية، فيا تُرى، هل يبقى طعم اللّوز مُرًّا بعد أن ينثر عليه. د.منير توما سكّر نقده، مُبلسِمًا بمفرداته المعهودة جرح المرارة؟
سلمى جبران: من البقيعة الحبيبة إلى حيفا وقصّة عشق للكلمة في رواية عيّوش، متزوّجة ولها ثلاثة أولاد، أنهت دراستها الابتدائيَّة في البقيعة والثانوية في قرية ترشيحا، والجامعيّة في جامعة حيفا على اللقب الأول (B.A ) في الأدب الإنجليزيّ، وعلى اللقب الثاني ( M.A ) في الاستشارة التربويَّة، وأكملت دراستها في التخصّص في العلاج الأسريّ والزوجيّ،  أثمرت أربعة دواوين شعريّة أسمتها لاجئة في وطن الحداد، ومؤخرًا صدر لها خارج مدار الذّات.
حسام برانسي: يكتب الشعر من عمر عشر سنوات، وبدأ بالظهور على المنابر وفي محافل الأدب فقط قبل ثلاث سنوات، شارك في عدّة مهرجانات وحفلات زجليّة في عدّة دول أوروبيّة، واستطاع تحقيق نجاحات كبيرة في دول أوروبيّة للجاليات العربيّة.
آمال أبو فارس: من مواليد دالية الكرمل، متزوجة في عسفيا، تعمل مدرّسة للّغة العربية، حصلت على اللقب الأوّل من كليّة دار المعلّمين العرب في حيفا، كما أنّها أنهت اللّقب الثّاني في موضوع "تعليم اللّغات اختصاص لغة عربيّة" في كلية "أورانيم"، ودوّنت تاريخ شخصيّات هامّة من القرية. وفي السّنين الأخيرة بدأت تكتب الشّعر. أصدرت مؤخرا كتابين للأطفال: قصة الحلزونة سناء، وكتاب شوكولاته، وكتابا بعنوان "عسفيا قصة وتاريخ". أقامت صفحة تواصل على الفيس بوك تحت عنوان: "المنتدى الثّقافي القطري" يكتب فيه شعراء من كلّ الأقطار العربيّة، وتُحرّر صفحة الثّقافة الأسبوعيّة التّابعة لجريدة الحديث، وتحدّثنا عن كتاب زوجي لعبة تفاعليّة حيث ستتناول موضوع الكتابة باللّهجة العاميّة ونظرة الكاتب للمجتمع العربيّ من ناحية دينيّة وسياسيّة.
مداخلة د. منير توما: "اللوز المرّ " كمفتاح من مفاتيح النصّ عنوان رواية سامي عيساوي: يُمثِّل العنوان في رواية سامي عيساوي " اللوز المرّ " عنصرًا هامًّا من عناصر تشكيل الدلالة في القصّة الروائيّة، حيث تتنوّعُ العناوين وفقًا لوظيفتها في القصّة، فعنوان الرواية يُحيلنا إلى مضمون القصّة، فهذا العنوان له طبيعة رمزيّة إيحائيّة استعاريّة، بحيث تُشكِّل رمزيّة "اللوز المُرّ" مَدخلًا أساسيًّا شاملًا، لإيضاح المعاني والمفاهيم وراء أحداث الرواية وشخصيّاتها وأسلوبها.
إنَّ الكاتب يستخدم "اللوز المرّ" في عنوان الرواية كرمز لمعاناة بطل القصّة الذي تمَّ له اجتياز هذه المعاناة بتطهير النفس من خلال عودتهِ للمخيّم، رغم ما مرَّ به من مراحل حياتيّة مُوجعة، ليعيش ذكريات تجربته العاطفية المؤلمة والمخيّبة للآمال في المخيّم، مع محبوبته زوجته الأولى التي تركت له ومعه ابنتها التي تشبهها والتي لم تكن من صلبه، وإنّما كانت ثمرة علاقة غير شرعيّة مع آخر غيره، قبل عقد قرانهِ بها ونسبتها اليهِ موافقًا أو مُرغمًا على ذلك، لغرامهِ وولعه بهذه الزوجة المحبوبة التي كان قد وقع في غرامها أثناء دراستهما الجامعيّة معًا. وحول اجتيازه لهذه المعاناة بعد فراقهما وهجران كلّ منهما للآخر، والعودة أخيرًا إلى المخيّم، مُستذكِرًا ما عبر عليه في تلك الأيّام، باعتبار ذلك تطهيرًا للنفس من مرارة ما مرَّ به ِ من انعدام وفقدان السعادة الزوجيّة.
 (loss of conjugal happiness) مع هذه الزوجة المتيّم بها بكلَّ جوارحه، والذي يوحيهِ ويرمز إليه العنوان "اللوز المرّ"، وهو يُعبَّر عن هذه المعاني والأفكار قائلًا في نهاية الرواية: "لن أعيد إنتاج التاريخ بنفس الخيبة القديمة، لأضفي عليها أسماء جديدة. سأمضي للمخيّم ولن أغادره بعد كُرهي له، كي أتوحّد مع وجعي وأصبّ على الأيام القادمة نارًا تحرقها. سأعيد تأثيث البيت والمخيّم الذي عاش فيه جدي من جديدي. أضيء شوارعه المعتمة. أجدّد أبوابه المهترئة، وأعيد تصفيح الجدران الداخليّة للقلوب التي أدماها طول انتظار، أُزوّج من لم يتزوَّج من أبنائهِ وبناتهِ. أملأ حجرات ساكنة بصور جديدة عن العودة والمقاومة والبقاء، وأعيد تصنيف الأولويّات القديمة لنسائهِ، فالنصرُ والهزيمة يأتيان من أرحامهنّ وحليب صدورهنّ، وهذه التي تُشبهك، ولها اسمك ولون عينيك وعدد شعرك وطول قامتك، وعجرفتك المسموح بها لامرأة تملك ما تملكين، هذه التي تقتلني في صباحاتها البرّيّة البريئة، وأرى غدها مرسومًا في صفحة وجهك، هي وجعي الأزليّ الباقي منك، أردّدُ على مسامعها قولَ شاعر تركيّا الكبير "ناظم حكمت": "أجملُ الأيّام تلك التي لم نعشها بعد.."، لأستنهض فيها المعاني الباقية كلها، أمّا أنا فأجمل أولادي لم أنجبهم منكِ أنتِ" (ص300). وهنا نرى أنَّ الراوي بطلَ القصّة يعتمل في صدرهِ الأمل بأيّام جميلة قادمة يُرَمِّم فيها الماضي، حيث أنَّ هذا المعنى يُذكِّرنا باللوز المُرّ رمزًا للأمل، لكنّه اللوز المُرّ أي الأمل المصحوب بالألم والذكرى المُتجهّمة.
ومن المهمّ أن نشير في هذا السياق أنَّ اللوز يرمز أيضًا إلى اليقظة (wakefulness)، وهي اليقظة المشوبة بأرق الأيّام الخوالي، وبالضيقات التي ما زالت تُراوده جاعلًا منها حافزًا محفوفًا بالذكريات، ليُشكّل اللوز المُرّ رمزًا للإيحاء والانبعاث لأملٍ متجدِّد، قد يأتي بالفرج المبتغى نحو الأحسن على الصعيدين الشخصيّ والعامّ،  لا سيّما وأنّ اللّوز المُرّ يُستخرج منه في المجال الطّبّيّ بعض الأدوية الشّافية من جهة، ونوع من المادة القاتلة السيانيد من الجهة الأخرى، فاجتمعت هنا في رمزيّة اللوز المُرّ الناحيتان الإيجابيّة والسلبيّة، بكون رجوعه للمخيّم يُعدّ وفقا للنصّ الروائيّ المقتبس السابق شفاء له، ممّا مرّ به من بؤس وضيق وإحباط، ليُعايش بهذه العودة أملًا بولادة جديدة (rebirth) يتمّ من خلالها التخلّص والشفاء من مرارة تجربته السابقة، لتُشكّل مرارة اللوز رمزًا لمرارة الدواء الشّافي، وممّا يسترعي الانتباه أنّ الكاتب قد أحسن وأجاد بإتيانه بعنوان "اللوز المُرّ"، جاعلًا من اللوز رمزًا لعدّة تيمات أيّ موضوعات مركزيّة في الرواية.
ومن حيث أنَّ اللوز عمومًا يعتبر رمزًا يُمثِّل الحلاوة والسحر الفاتن والأناقة (sweetness, charm , delicacy) فإنَّ نصّ الرواية (ص115) يقرن رمزيّة اللوز الممثّلة للجمال الأنثويّ بمرارة الموت والثبات والتحمُّل في حالات الأسى، وفي ذلك وردت السطور التالية: "القهوة المُعَدّة للمساء لها لون الكرز ورائحة التفاح المحترق، ولها عذاب عينيكِ المتّقد بالشهوة والنشوة والرغبة في الحكم والصيد والقتل، أمّا قهوة اليوم فلها طعم العزاء والجُبن المحترق على موائد الغربة، لها لون الشيب وقسوتهِ، وقد تسلّل إلى حلكة شعرها الغادر".
ومن الأوصاف التي يُطلقها الكاتب على لسان بطل القصّة الراوي، مُتحدّثًا عن الزوجة الأولى المحبوبة الأثيرة على نفسهِ وروحه قوله بأنّها "كانت تتقن فنّ العزف على كلّ الأوتار، وتتقن فن الرقص على الجراح وبين حبّات المطر، وتعزف كلّ اللغات، وتتقن رسم الكلمات وتعلم أوقات السعادة كلّها، وتُهمل أوقات الصلاة بلا تقريع أو عذاب ضمير، كانت تعلم متى تُعزَف الألحان الجنائزيّة، وتلك التي يتلوها الفرح ومتى يبدأ المطر وفي أيّ اتّجاه تهبّ الريح، ومن أين تُطلّ الشمس، عند قدميها يتفتّح الزهر، ولطلتها يبدأ هدر الرعد ونزول المطر". (ص117)، ففي هذه السطور أنَّ الكاتب باستعاراته الجميلة يريد أن يوحي ويؤكد أنَّ هذه المحبوبة هي كاللوز بحلاوتهِ ومرارته، باعتباره رمزًا للمنتج الخِصب الذاتيّ (self – productive) وكذلك رمزًا للإثمار (fruitfulness) من حيث التقلّب العاطفيّ الرومانسيّ بإيجابيّاته وسلبيّاته بكافّة أشكالهِ وصورهِ.
يتحدّث الراوي بطل القصّة عن صباح اليوم التالي لزواجهِ من هذه المحبوبة، مُستذكرًا الموقف المتّسم بوجوم الإيحاءات التي يطرحها (ص139): "في صباح اليوم التالي للفرح الأخرس بيننا، لم نتبادل تحيّة الصباح كعادة الأزواج في صباحاتهم الأولى، ولا حتى القُبَل. كان لها تاريخ قديم قرأته في سواد عينيها وظلمة قلبها، عندما تعرّت فجأة أمام نفسها، وتعرّى معها تاريخها. قرأت تفاصيل الزوايا كلها بعد أن غسلت وجهها، وأزالت اقنعتها وكحل عينيها. قرأت التاريخ كله، وقرأت أهمّ فصوله السوداء عندما لم أجد عذريّتها. كان لها تاريخ قديم ممتلئ عن آخرهِ بأنصاف الرجال".
إنَّ الكاتب قد أصاب الهدف جيّدًا في أخبار الراوي بطل القصّة لنا، عن أنّه قد وجد عروسه فاقدة لعذريّتها في ليلة الزواج، مُتّخذًا بكلّ مهارة وبراعة ترميزًا موفّقًا في كون اللوز يرمز إلى العذريّة والبكارة (virginity)، فمرارة هذا اللوز هي رمز لإحباطهِ وخيبة أمله في طهارة ونقاء زوجته محبوبته، التي يدلّ تصرفها وسلوكها قبل الزواج وعدم الاحتفاظ بعذريّتها على طيشها واستهتارها (giddiness) وغبائها، حيث أنَّ كلّ هذه المعاني هي ما يرمز اليها اللوز، وبالتحديد اللوز المرّ الذي يشير رمزيّا إلى اللاتفكير العقلاني (thoughtlessness)، والمذكور آنفًا هو أحد المؤشرات على ذلك. ومن اللافت في الرواية أنَّ الكاتب قد أوغل إيغالاً كبيرًا، وأسرفَ في الإتيان باستعارات وكنايات جنسيّة وظّفها في أوصافه اللغويّة، كإكثارهِ من ذِكر كلمة الحيض والعادة الشهريّة، وكلمات آخرى تتعلق بالحياة الجنسيّة للمرأة، وهذا يستحضر لدينا كون اللوز رمزًا لفرج المرأة (vulva)، بكلّ إيحاءات وتداعيات ما سبق وأشرنا اليه بشأن الزوجة المحبوبة المثيرة للراوي بطل القصّة، والتي عكّرت صفو حياته كما يصفها (ص138): "في الواقع كنتِ أنتِ الحاجز الماثل أمامي. كنتِ أنتِ مانع الحمل الأبديّ الذي أصابني بالعقم".
ومن الطريف أنَّ ذِكر العقم هنا مرتبط عند الرجل بالسائل المنويّ (semen)، الذي هو أحد الأشياء التي كان يرمز اليها اللوز في قديم الزمان، فالعقم المذكور في هذا السياق قد يكون بسبب خلل معيّن في السائل المنويّ للرجل الذي من الممكن أن يكون اللوز المرّ رمزًا له، وممّا يجدر ذكره في هذا المقام أنّ اللوز يرمز الى النبوءة (prophecy)، وهذا الرمز قد تمثّل في باب من أبواب الرواية الذي يحمل اسم "جدّتي سيرة ذاتيّة"، حيث ورد في نهاية هذا الباب إشارات كنائيّة عن حالةٍ مستقبليّة، قد تحمل تفاؤلاً معيّنًا للخروج من مرارة اللوز بوصفهِ رمزًا للمعاناة والضيق والتشرّد، الى غدٍ مشرقٍ عزيز يُبشّر بجعل الحلم حقيقة، وبتحقيق الآمال المنشودة في حياةٍ كريمة هانئة بالاستقلال والسيادة والكرامة. وقد جاء في هذا الباب أنّ (جدّته) قد "بقيت وحدها تدير المملكة بحنكة الرجال، حتى يعود الرشد الى ملوكها وحكّامها ووزرائها وقادة ألويتها، ويصحو من غفوتهم الأزليّة . وقتها ستتنازل جدّتي صاحبة العينيْن المعدنيّتين عن الإمارة لأصحاب السيادة، فهي أكثر الناس زهدًا في الإمارة، وأكثرهم إخلاصًا وحُبًّا للوطن، أمّا جدّتي التي تعيش معنا، فلها منّا النزر اليسير من الصفات، تجاهد للبقاء، وتمتصّ البقايا القليلة الباقية من أيّامها في الدنيا، كي تزرع بيتًا للزعتر، أو تقطف حبّة ليمون من حاكورة البيت القديمة". (ص179).
وأخيرًا، فإنّه يمكن القول أنّ رواية الأخ سامي عيساوي "اللوز المُرّ" هي عبارة عن فسيفساء إنسانيّة، تشكّلت من نسيج توليفة المرأة والرجل، وإطاره المخيّم بكلّ مكوّناته وأجوائه وخلفيّاته، ومحورُهُ الحبّ الضائع الموجع بحُزنهِ وزيفه وشقائه وإحباطاته، والذي يحفِّز وينبئ بإيحاءاته بحُلمٍ مفعم بالإشراقات المتوخّاة، كي يكون الوطن المنشود كاللوز الحلو الخالي من مرارة عالم المخيّم على سبيل التوصيف الرمزيّ، بحيث يكون لوز الوطن حلوًا خاليًا من مرارة عالم المخيّم، بحيث يبدو غريبًا أن نقترح ما جال في مخيّلتنا، من أن يكون عنوان هذه الرّواية "امرأة بطعم اللوز المُرّ"
(woman of bitter almond taste a)، دون أن يكون هناك أيّ تحفّظ وملاحظة على الاختيار الموفق الهادف للمؤلف في وضع عنوان الرواية، ولكنّ مشروع اقتراحنا آنفًا كان من منطلق أنّ المرأة  في هذه الرواية كانت المعادل الموضوعيّ (objective correlative) الذي استندت اليه الأحداث، حيث تمَّ من خلال المرأة قراءة واستكناه الإيحاءات والإشارات، والتضمينات  (connotations) وراء الكلمات والسطور التي رسمت لوحات ذهنيّة، تشمل مشاهد إنسانيّة أصليّة مأخوذة من الحياة بواقعها المتباين بألوانهِ وناسه، كلّ ذلك بلغة سرديّة قصصيّة شعريّة كما لو كانت قصيدة نثريّة. هكذا كان المخيم عالمًا صغيرًا (microcosm) لعالمٍ كبيرٍ (macrocosm)، هو الحياة بتنوّعاتها الإنسانيّة والعاطفيّة والتأمّليّة التي تضمّ المخيّم كجزء منها يعكس قضيّة الإنسان، الذي تعايش فيها الحنين والعشق وتحدّي الصّعاب  والمشاق، وما الى ذلك من معان ٍ كونية شاملة لمشاعر الحزن والفرح والعذاب .
نهنئ الأخ سامي عيساوي ونشدّ على يديه تقديرًا له على هذا الإبداع الروائيّ المتميّز، الذي يستحقّ كلّ ثناء وإطراء مع ملاحظاتنا الأخويّة البنّاءة، ولو أنّ المؤلف قد أولى اهتمامًا أكثر للمراجعة والتدقيق اللغويّ للرواية إملائيّا ونَحويّا، نظرًا لوقوع الكثير من الأخطاء اللغويّة والإملائيّة، التي كان بالإمكان تداركها لو تمّت المراجعة بالدِّقة المرجوّة، آملين أن يتمّ تصحيحها في طبعات قادمة، نظرًا للأهمّيّة في اكتمال تغطية الجوانب التحريريّة للرواية (editing aspects).
مداخلة سلمى جبران: رواية عيّوش – سامي عيساوي: "عيّوش" رواية يتعثّرُ فيها الموت بين الحبّ والحياة، وترفع فلسفةَ الطفولة إلى مرتبةٍ إنسانيّة لا يمكن أن يصلَها الظّالم، بل يقف القاتلُ أمامَها عاجزًا فاقِدًا لإنسانيّتِهِ، مُحوِّلًا الحياةَ إلى موت، وعبثيّةَ الموت إلى حياة وإلى صرخة إنسانيّة تنضحُ بالمعاناةِ المُطْلقة من الموت، فتتقدّسُ الحياة رغمَ الموت. قرأت الفصلَ الأوّل لأنَّ الرّوائي سمَحَ بتجاوُز قراءته، وبعدَ أن أنهيْتُ الرّواية فهمتُ ملاحظتَهُ، وأحسَسْتُ أنّ هذا الفصلَ دخيلٌ على الرّواية ويحِدُّ من دراميَّتِها، وهذا ما شعرْتُ به حينَ قرأتُ الوقفات! تذكِّرُني هذه الرّواية برواية "اسمي آدم" للروائيّ الياس خوري، الذي نجح في إقناع القارئ أنّها مجرّد نشْر لدفاتر آدم دنّون، وكأنّها ليست من تأليفِهِ! اقتباس: " يحدُّ غزّة من الشّرق الحرب، ومن الغرب بحرٌ ظالم، ومن الشمال الجنون، ومن الجنوب هرم خوفو الأكبر، والسؤال: ماذا يحدُّ المُعتدي من الأعلى؟" الجواب: غزّة، لأن الحياة قيمةٌ عليا، وقصّة طائر الفينيق، التي ورَدَتْ مرَّتَيْن، توحي بهذه الإجابة.
عيّوش طفلة أُنجِبَتْ بالمعاناة وعاشتْ في المعاناة فصَهَرَتْها وجَعَلَتْ أبسطَ كلماتِها أكثرَها عُمقًا وفلسفةً: قالت: "كنتُ أتأرجَحُ بينَ ما أُريد وما يُريدُ منْ همْ حَوْلي" (ص32). "الكبار يقتلونَ جرأةَ السؤال عندَ الصِّغار" (ص36). "كانت أوّلُ لحظة صَحْو تشكِّلُ صدمةَ الحياة بعْدَ تَوَقُّعِ الموت"! (ص40). أمّا "طيورُ الحديد" وما تبِعَها من صُوَرٍ لوصْفِ الحرب، فكانت سُخْرِيَةً مريرة تفوقُ أيَّ شعار أو منشور أو خطاب، حيثُ أبرَزَت التناقُضَ الصّارخ الإيروني بيْنَ مَنْ يعيشُ الحرب وبينَ مَنْ يَحكي عنْها في الخارج: شَجْب-استنكار-تغطية- سبْق صَحَفي وشِعارات أخرى!!! لذلك، فإنَّ إقحامَ الأب في المذكّرات وتحليلاته السياسيّة حَدَّتْ من دراميَّةِ المشاعر التي تصاعدت مع أحلام عيّوش ومجازاتِ خيالِها الفتيّ. 
قصّة "سباق الضّفادع" تنطبِقُ على كلّ مَرافِقِ الحياة وبضِمْنِها "الغزّاوي/الأب" الذي يدوِّنُ ويراسِل ويفضَح ما يجري ممارسًا مسؤوليَّتَهُ الوطنيّة، و"الإسكندرانيّة/الأمّ" التي تريدُ الحياة وتريدُ الابتعاد عنِ المَوْت لكنَّها لاقتِ المّوْتْ قبلَ "الغزّاوي". القصص الرمزيّة التي وَرَدَتْ: "الجزَرة والبيضة"، "عُثمان الأمين"، "الذئب والنَّمِر"، انتهَتْ بأسئلة تبدو طفوليّة بريئة ولكنَّها عميقة وتعبِّر ببساطة عن قوّة وقداسة حياة الإنسان. لا أدري إن كانت الأخطاء المطبعيّة والنَّحَويَّة مقصودة لتوحي بعُمْرِ عيّوش! وأخيرًا، أُنهي بقصّة الثعلب والأسد والحِمار ص (79-80) لأنَّها أخطرُها ويطيبُ لي أُن أُجيبَ عن السؤال الذي تلاها: الحمار لا يزالُ خيالًا واقفًا لأنَّ كلّ أعضائهِ أُكِلَتْ ولم يمُتْ بل نُصِّبَ ملكَ الغابة! بورِكْتَ الكاتب سامي عيساوي، وبورِكَ هذا الكِتاب فهوَ يُعطي مساحة كبيرة للتفكير وليسَ فقط يوثّق!
مداخلة أبو فارس: عنوان رواية "زوجي لعبةٌ تفاعلية" للأديبِ الفلسطينيِّ السيد سامي عيساوي، أُخِذ من عنوانِ القصّةِ الأولى فيه، وأتطرقُ في هذه المداخلةِ لموضوعَين: الأوّلُ الكتابةُ باللهجةِ المحكيّةِ، والثاني، إلقاءُ الضوءِ على نظرةِ الكاتبِ للمجتمعِ الفلسطينيِّ من ناحيةٍ دينيةٍ وسياسيّة. استوقفني هذا الكتابُ منذُ الصفحةِ الأولى، حين فاحت منه رائحةُ حروفِ اللهجةِ المحكيّةِ، وما تسمّى عندنا أيضًا بالعاميّة. لنْ اقولَ عنها كلمةَ عامّيّةٍ، لأنَّ كلمةَ عامّيّةٍ مشتقةٌ من العوامِ وهم عامّةُ الشعبِ، وفي ذلك حصرٌ للغةِ في طبقةٍ أقلّ قدرًا من غيرِها وهذا لا يجوزُ! وقد نبّهنا من ذلك البروفيسور سليمان جبران في مقالةٍ له بعنوان على "هامشِ التجديدِ والتقييدِ في اللغةِ العربيّة". فأطلقَ عليها اسمَ "اللهجةَ المحكيةَ" بدلّا من العاميّةِ، حفاظًا على أهمّيّتِها في حياتنا اليوميّة. هذه اللغةُ ليست مجردَ كلامٍ عابرٍ، بل هي اللغةُ التي نترعرعُ ونشبُّ ونشيخُ عليها. نتحدثُ بها في البيتِ والشارعِ خائضين بها كلَّ مجالاتِ الحياةِ، وبها نعبّرُ عن غضبِنا ويأسِنا، عن سعادتِنا وفرحِنا واستيائِنا! هي اللغةُ التي تحاكي المشاعرَ والأحاسيسَ، وحين نكتبُ بها تكونُ متعةُ القراءة أجملَ، فهناكَ الكثيرون الذين كتبوا باللهجةِ المحكيّةِ أمثال الكاتبِ والناقد اللبنانيِّ مارون عبود وغيرُه كثيرون. لكنَّ البعضَ نبذَ هذه اللغةَ مُعتبرًا إيّاها لغوًا ليس له أهمّيّةٌ أو قيمةٌ، كالدكتورِ طه حسين فقد قال عنها "لا أؤمن قط ولن استطيعَ أن أؤمنَ بأن للغةِ العاميةِ من الخصائصِ والمميّزاتِ ما يجعلها خليقةً بأن تسمّى لغةً، وإنّما رأيتُها وسأراها دائمًا لهجةً من اللهجاتِ، قد أدركها الفسادُ في كثيرٍ من أوضاعِها وأشكالِها". ومما لا شكّ فيه أنّ اللهجةَ المحكيّةَ لا تحكمُها قوانينُ وقواعدُ ثابتةٌ من ناحيةِ الإعرابِ والإنشاء، نظرًا لتعدّدِ اللهجاتِ فيها، فالأمرُ يتعلّقُ ويتأثّرُ بالمنطقةِ الجغرافيّةِ المقصودة. كما يستطيعُ الكاتبُ إدخالَ كلماتٍ اعجميةٍ دونَ أن يثورَ عليه مجمعُ اللغةِ العربيّةِ، طالبًا منه إيجادَ بديلٍ لها، وقد وجدت في نصوص الكتابِ كلماتٍ: سمارت، كومنتاته، على الوول، وغيرها. في كتاب اللوز المُرّ أرى أنَّ الأمرَ مغايرٌ تمامًا، فإنّ اللهجةَ الفلسطينيّةَ المَحكيّةَ زادت الكتابَ رونقًا وتشويقًا، وكان لها من الحسنِ ما يجعلُ القارئَ يدخلُ عالمًا من السحرِ الذي تُغلّفُه الحقيقةُ التي تعيشها النفسُ في بيئتِها الطبيعيّة، ولا ضيرَ لو تركنا اللغةَ الفصيحة بعضَ الوقتِ؛ لأنّها ستبقى محفوظةً في القران الكريم، ولن يخبوَ نجمُها ابدًا مهما ابتعدنا عنها لأنّها لغةُ الله، وستبقى ذلك الإعجازَ الذي جاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلّم.
الكتابُ عبارةٌ عن قصصٍ قصيرةٍ ومداخلاتٍ، يعرضُ فيها الكاتبُ مآسيَ الشعبِ الفلسطينيِّ من الناحيةِ الاجتماعيّةِ والدينيّةِ والسياسيّةِ والفكريّةِ، وقد جاءت على لسانِ الذكورِ تارةً والإناثِ تارةً أخرى باللهجةِ المحكيّةِ الفلسطينيّةِ وبأسلوبٍ شيّقٍ سلسٍ، فجاءت قويّةً بصياغتِها، وذيّلها بأمثالٍ شعبيّةٍ وعباراتٍ يوميّةٍ ننطقها عندما نكونُ على سجيّتِنا بعفويّةٍ تامّة، كما طغى أسلوبُ الساتيرا، وقد تعمّدَ إدخال هذا النوعِ من الأدبِ، بغيةَ إظهارِ المأساةِ التي يعيشها الشعبُ الفلسطينيُّ بنواقصِهِ وأخطائِه، لتحصلَ المفارقةُ التي تتجسّد في المَثلِ القائل: "شرُّ البليّةِ ما يُضحك".
نحن نقف أمام كاتب مختلفٍ عن الذين ألفناهم في صدقهِ وسجيّتهِ وتلقائيّتهِ، فرجلاهُ مثبّتتان على الأرض، لم يكتب ليُرضي المجتمعَ أو ليقولوا إنّهُ وطنيٌّ! لم يتغنّ بالعروبةِ ولم يستعملْ أسلوبَ التهييجِ الذي يتّبعُه البعضُ من أجلِ كسبِ الثقةِ والشهرةِ؛ وإنّما همُّه تصوير الواقعِ الذي يعيشُه أبناءُ شعبِه، فنقلَ بقلمِهِ إحباطاتِهم، عُقدَهم، صراعاتِهم النفسيةِ والتناقضاتِ التي يعيشونها من خلالِ هذه القصصِ، وقد أوردَها على لسانِ الشخوصِ بلسانِ المتكلمِ في أغلبِ الأحيان، وهنا تكمنُ جماليّتها، فترى الشخوصَ تُعبّرُ عن ألمِها ومعاناتِها بلسانِها هي، لتتماهى معها كقارئٍ ولتدخلَك الى عالمِها النفسيِّ والاجتماعيِّ، وقد ترى نفسَك كأنك أنتَ البطلُ في هذه القصةِ أو تلك، فتناول مواضيعَ مختلفةً منها: قسوة الأبِ وتسلّطهِ على أسرتهِ، والإيمان المطلق بالنّصيب، والقضاء والقدر، وتأثير الفيس بوك على الشّباب، وانعدام الحوارِ والنقاشِ البنّاءِ، واعتبار الفتاةِ عورةٌ، والعيش في المهجرِ وتأثيرُه على عقليّةِ المسلمين، ومواضيع سياسيةٌ باتت مزعجةً، والإيمان المطلق بما يقالُ، وتأثير الشّائعات وانعدام الاستفسارِ عن الحقائقِ وغيرها. باختصارٍ، نقرأُ ممّا وراءِ السّطورِ أنّ الكاتبَ يُطالبُ بالعدالةِ الاجتماعيّةِ بينَ أفرادِ الأسْرةِ الواحدةِ، وبينَ افرادِ المجتمعِ الواسعِ، ويُطالبُ بتطبيقِ الديمقراطيّةِ وحرّيّةِ الفردِ، حتى لو أنّه لم يصرحْ بذلكَ علنًا،. فها هو يَصفُ شخصيّةَ الأبِ السلطويّ الصارمِ المستبدِّ في قصّةِ "علاء الأزعر" عندما طُردَ من المدرسةِ، وكان عليه أن يُحضرَ وليَّ أمرِهِ معه فقال: "بصراحة، إنّي أجيب أوباما رئيس أمريكا أو حتى أبومازن رئيس فلسطين على المدرسة أسهل بكثير، من أنّي أجيب ولي امري اللي هو الوالد الله يديمه، فأنا علشان يرضى المدير وأبوي ما يعمل مصيبة في الدار أو يضربني أو يطلق أمي، اختصرت وبطلت أروح على المدرسة". والنتيجة: "لو عرف أبوي إنّي بطلت أروح على المدرسة احتمالين: إمّا انه ينجلط ويموت، أو بيصيبه فالج ويقعد في الدار، أو تطلع عصبيته عليّ، وكالعادة بتيجي في امّي، بروح مطلقها أو بكسر لي إيد أو بقلع لي عين".
يتطرقُ لموضوعِ الهجرةِ الى بلدانَ أجنبيّةٍ، ويرى أنّ المهجّرينَ تنفتح أمامَهم فرصُ العملِ، وينعمون بالحياةِ الكريمةِ والمالِ والجاهِ، بينما يركضُ الفلسطينيّون وراءَ رغيفِ الخبزِ، والدليل في قصّةُ "خالي عمر" الذي أصبحَ رجلَ أعمالٍ مُهمّ جدّا في أمريكا، يعتاشُ افرادُ أسرتِه في فلسطين على حسابِه من المالِ الذي يُرسلُه لهم، والسببُ في رأي الكاتب أنّه في أمريكا لا يسألونكَ عن دينِك أو جنسِك أو هُويّتِك! بينما هنا ينامون جياعًا بتقوقعهِم وضيقِ آفاقهِم وجهلهِم، لأنّهم يعتبرون أنفسَهم الأفضلَ وبقيّةَ شعوبِ اللهِ كُفّارًا. في موضوعِ الدينِ يُكثرُ من السؤالِ والتساؤلِ، والإنسانُ العاقل ذو فطنة وذكاء لا يمكنُه إلّا أن يسألَ ويتساءل،َ لأنّهُ يُفكّر حتى لو لم يحصلْ على إجاباتٍ شافية. ألم يَقلْ شمسُ التبريزي في قواعدِ العشقِ الأربعين: "رجلٌ لديهِ الكثيرُ من الآراءِ لكن ليسَ لديهِ أسئلةٌ، ثمّةَ خطأ في ذلك. إنّ المرءَ الذي يعتقدُ أنَّ لديهِ جميعَ الأجوبةِ هو أكثرُ الناسِ جهلًا"! ها هو كاتبنا يسأل أبناءَ شعبِه أسئلةً جدّيّة ملؤُها السخرية بمواضيعَ دينيّةٍ وسياسيّةٍ، ولا ينتظرُ لها جوابًا، إنّما يهدف الى لفتِ النظرِ والتفكيرِ في الأمورِ بصورةٍ جدّيّةٍ عقلانيةٍّ، بعيدةٍ كلَّ البعدِ عن سياسةِ أتباعِ القطيعِ في الفكرِ والرأيِ، فيسألُ بأسلوبِه السّاخرِ: "شو بتفكروا حالكم؟ كأنّه الله بس إلكم لحالكم، وكأنّه باقي أهل الأرض خلقهم رب ثانٍ".
يطرحُ الكاتبُ موضوعَ الإيمانِ والكفرِ والتعصّبِ الدينيّ الأعمى بدعوةٍ مُبطّنةٍ منه، داعيًا الى التسامحِ وتقبّلِ الآخرِ فيقول: "بطلعلك بعض المسلمين العرب بفكرة إنها أوروبا كافرة، وبدو ينشر الدين هناك وكأنه الأخ فاكر حاله موسى بن نصير، وبدو يكمّل فتوحات المسلمين أيّام الدولة العبّاسيّة أو المماليك". "شو مفكرين حالكم؟ بجدّ مصدقين إنه الله بحبكم أكثر من كلّ أهل الأرض؟ بجدّ.. طيّب احكولي ليش." ويتساءل بمرارةٍ ويأسٍ عن سبب الحالة التي آلت اليها العروبة في عصرِ الظلمةِ، في ربيعِها العربيّ الذي تحوّلَ الى خريفٍ، بل إلى شتاءٍ باردٍ قارسٍ جفّت منه مشاعرُ الإنسانيّة: طيّب اللي في سوريا اليوم عشو مختلفين؟ طيب المواطن الأوروبّي شو ذنبه يموت في شوارع باريس؟ بس الوحيد هشام ابن عمّه اللي بيعرف الجواب: ذنبهم إنهم السبب في اللي إحنا فيه. طيّب خليهم هم السبب؛ بس الحلّ مش العنف الأعمى بالطريقة هاي، والحل مش بالقتل والتفجيرات بالأسواق والمطارات والمسارح. أمّا ابن خاله لمّا ناقش أبوه في الموضوع قلو بالحرف الواحد: سدّ نيعك لأنك واحد جاهل ومش شايف أبعد من خشمك". وفي هذه الجملةِ التي قيلت على لسانِ خاله اثباتٌ لحالةِ الجهلِ التي يعيشُها البعضُ، وعدمِ تقبلِ الرأيِ الآخرَ المختلفِ حتى لو كان مدعومًا بالتفكيرِ ومبنيّا على المنطق والعقل.
وفي نصّ "ارفع رأسك أنت مسلم"، يشيرُ إلى موضوعِ اعتبارِ أرضِ العروبةِ أقدسَ أرضٍ، في حين يتمتّع المسلمون بكلِّ اختراعاتِ العالمِ الغربيّ من سيّاراتٍ وطائراتٍ وملابسَ وأحذيةٍ وطعامٍ. فقال على لسانِ الشيخ أبوالرائد الذي يخطب في الناس يوم الجمعة: إنّ أرضَ المسلمين ارضٌ مباركةٌ، أمّا أرضُ السويد وأستراليا وغيرِها أرضٌ نجسة! ورأيهُ في ذلكَ واضحٌ تمامًا: " أبورائد وأمثاله من الجمعة للجمعة يعملوا جلسات تنويم مغناطيسيّ، علشان نبقى عايشين بالجهل والوهم"! لكنَّ كاتبنا يُجيبهُ بسخريةٍ قائلا: "اترك عمارة الأرض للكفّار العايشين في أمريكا وروسيا وكوريا وأستراليا، ربنا خلقنا عشان نعبده، وهم خلقهم عشان يعملولنا سيّارات وجبنة صفرة، ناكل شوكولاته نوتيلا من تحت إيد الكفّار علشان نشرب بيبسي وريدبول، وفي الآخرة احنا الرابحين، لأنّا رح نلاقي ربّنا بالأركان الخمسة وهم بالآيفون والجلاكسي والسوني، رح يلاقوه في سيّارة بي ام دبل يو ومرسيدس وبيتسا هات وغير ذلك". هذا الوصف الرهيب للفكر العربيّ المريض لم يجرؤ على خوض غماره إلّا القلائل، فهو شائكٌ مقيتٌ مريرٌ، لأنّه مِن أمرِّ الأشياءِ مناقشةَ جاهلٍ لم يخرجْ من قوقعتِه الفكريّة، هناك كثير من الشواهد جاء بها كاتبنا، ليُثبت كم أنّ هذا المجتمعَ مخطئٌ في قناعاتِه وأفكارِه اتّجاه نفسِه واتّجاهَ العالم. باختصار، في شرعِ هذه الأمّةِ محظورٌ عليكَ أن تفكّرَ بغيرِ ما يراهُ القطيعُ، أو أن تسيرَ عكسَ التيّار.
مداخلة سامي عيساوي: مساء الخير لحيفا وللجميع. هل تُصدّقون أنَّ رجلًا مثلي في أواخر الأربعين، لم تطأ قدماه حيفا رغم أنّها لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن بيته، وفقط عرفتها وعرفت حاراتها وأزقّتها من تحفة غسان كنفاني "عائد إلى حيفا". مساء الخير للثقافة والأدب، الأدب الذي نطلّ من خلاله على روح الحياة، على أسرار الإنسان المخبوءة، على فرحه وحزنه، على انتصاراته وخيباته، وليس أخرًا على حيرته الوجوديّة. منذ عاميْن تقريبًا، اتصل بي رجل فاضل مستفسرًا عن رواية عيوش التي كانت قد صدرت لتوّها، وطلب الحصول على عدد من النسخ لقراءتها من قبل أعضاء النادي كما قال لي: هذا الرجل كان الصديق المحامي فؤاد نقارة، والنادي كان نادي حيفا الثقافيّ، فيما بعد انضممت إلى القائمة البريديّة للأعضاء النادي، وصار يصلني كافة نشاطات النادي من أمسيات ومقالات ومناقشات، ومنذ ذاك الوقت وأنا أتطلع لحضور امسية من امسياته، أو المشاركة في حفل توقيع أو مناقشة كتاب، حتى جاءت دعوة النادي لي لإقامة هذه الأمسية بمشاركة هذه النخبة الكريمة من المثقفين والأدباء والشعراء، لكن لم أتمكن من الحضور بسبب رفض تصريح الدخول كي أكون حاضرًا بجسدي بينكم، لكنّني اليوم وكلّ خميس مضى كنت حاضرًا بجوارحي ومحبّتي للثفافة والأدب ولكم.
أن تولد وتعيش في بيئة لا تحفل بالثقافة، وبالكتاب يعني أن تولد في العدم، أن تدفع ثمن اختلافك من روحك وصلابة مواقفك ووجودك على هذه الأرض. لقد عرفت الكتاب منذ الطفولة، ربّما لأنّني فشلت في الحصول على الصداقة المثاليّة، وخضت وقتها تجارب  انتهت بالفشل والخيبة، فجربت صداقة الكتاب، ومنذ ذلك الحين لم تخني صداقة الكتب، ولم أصب معها بالخيبة أو الندم. هذه الصداقة امتدّت واتّسعت فأصبحت لتكون شغفا لا فكاك منه. لم يكن لديّ في البداية أيّ حلم بالكتابة، وكنت أظنّ حتى وقت متأخر، (حتى بلغت أواخر الثلاثين) أنّ الكتابة خُلقت لأناس لديهم ميزات خاصّة، وهي الأفكار التي امتلأ رأسي بها ممّا قرأت عن حياة الكُتّاب والشعراء، لأدرك بعدها أنّ القراءة وإن كانت ترفًا، هي ليست كذلك في نظري، فإنّ الكتابة ليست ترفًا أو هواية نُسَرّي عن أنفسنا بها وقت فراغنا. أدركت أنّ الكتابة مسؤوليّة وجوديّة، إنسانيّة، أخلاقيّة ووطنية، فاذا امتلكت ناصيتها وأحسست بمسؤوليّتك تلك فلا مناص ولا هروب، بالرغم ممّا تُسبّبه به من مخاضات وتقلبات وألم وخسارات على بعض الأصعدة، إلّا أنّها تصبح مصدر الفرح الوحيد الباقي لك في هذه الحياة. حينها يصبح الكاتب ضمير أمّته والناطق غير الرسميّ باسمها. الكتابة الأدبيّة تحتاج إلى الثقافة هذا صحيح، لكن قبل ذلك تحتاج  إلى الحساسيّة المرهفة اتّجاه مسائل الحياة والإنسان، بنفس القدر تحتاج إلى موقف فلسفيّ اجتماعيّ سياسيّ يقف من خلفه الكاتب، ليشاهد هذا العالم ولا يكفّ عن محاولاته لصيانة عطبه الناجم عن الظلم السياسيّ والاجتماعيّ. على إيقاع "عائد إلى حيفا" ومثيلاتها أحببت الأدب والفلسفة والفنّ، فلا يمرّ شهر لا أقرأ فيه عائد إلى حيفا، وذلك كلّما احتجت إلى جرعة إضافيّة من المرارة والحزن والندم والحبّ والصمود". 
عام 2002 وأثناء الاجتياح الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة، وكردّ فعل للغضب والقهر والإحساس بالظلم بدأت بكتابة أوّل عمل لي بعنوان" لمّ الشمل"، العمل الذي لم أنتهِ منه حتى الساعة، لأنّني ببساطة ما زلت أعالجه فكريًّا وفنّيًّا، ولأنّني أعتني بالشكل الفنّيّ وأومن بجدليّة العلاقة بين المضمون والشكل الفنّيّ، فكلامها يُملي على الآخر تفاصيله. وعام 2008 كتبت رواية "اللوز المُرّ" والتي تحكي قصّة الخروج المُهين وتفاصيل العيش في مخيّمات اللجوء (ص178-181). أمّا جدّتي فلها ابتسامة ممزوجة برائحة الحنّاء وخلاصة زهر اللَّوز، ولها من المعادن صلابتها ولمعانها، ومن الورد خجله  وغيابه، ولي عندها مشاعر تركتها في حجرها  وهي تمسّد شعري، وتبكي على يتمي المُبكّر دون أن يُبلّلني دمعها. جدّتي كانت شجرة زيتون قديمة زرعها الإمبراطور الرومانيّ "تراجان" في زيارته الأخيرة للمخيّم، فلها جذور ضاربة في عنادها، لا تأمن التراب ولا  غياب المطر. جدّتي لم تكن هي نفسها، وهذه أسطورة أخرى من أساطير العائلة المتعدّدة، فقد استبدُلت بامرأة أخرى لها لون عينيها المعدنيّتيْن، ولها لون بشرتها وطول قامتها وسِعة صدرها، وعلى جبينها الواسع  كانت ترتسم خطوط الطول والعرض وجغرافيّة فلسطين. جدّتي تلك بقيت في البيت ورفضت الرحيل. كان حنينها أكبر منها ومن عزمها. جَهد الجميع وقتها في إقناعها بالرحيل عن الخطر، والبقاء بعيدًا عن زخّات الرصاص وحبّات المطر، ومن وقتها وهي تخاف المطر وتعشق صوت الرصاص.
بعناد غامض أصرّت على البقاء. قالوا لها من خلف جفونهم العارية من الصدق: بالكثير، سنعود  بعد يومين أو ثلاثة. قالت في عناد النساء الأزليّ الجميل: سأحرس البيت حتى تعودوا. لم تُفلح محاولاتهم في إقناعها بالخروج. رفضت، صرخت،  أصَّروا عليها. تمسَّكت بشواهد القبور، بالشاعوب  بالمنجل، بحمار الدَار، بالمعلف، ربطت نفسها بشجرة اللوز الهرمة، حضنت خوفها ورجاءها، لكن أنصاف الرجال قطعوا الشجرة، قتلوا حمار الدار، ونثروا الرمل في المعلف، أمسكوا بها من يدها وفقط، استطاعوا أن يقتلعوها من شعرها. في طريقها أخذت عفش البيت وحلق الباب ومكنسة الدار. أخذت الشاعوب  والمنجل وطاحونة البيت الرخاميّة. عند الباب الخارجيّ للبيت، انتصبت فجأة في وجه أنصاف الرجال، وبقوّة عشرة رجال أفلتت يديها منهم، حفرت حفرة وغرزت جسدها في ساحة البيت، أطلقت شيئًا من الدخان، وتمتمت بدعاء لم يفهمه أحد. أشاحت بوجهها عنهم جميعًا، وأطلقت بصرها في عُمق السماء. فجأة، خرج منها امرأة أخرى لها منها طول قامتها ولون عينيها. تركها الجميع هناك دون أن يفهوا السِّر ولا طهر القدر. وبقيت جدّتي تلك هناك لا نعرف عنها شيئًا، لا نعرف طعم عجينها ولا رائحة فمها، بقيت مغروسة هناك في قاع البيت القديم تحرس زيتون المواسم، وتقطف الليمون وتطعم الزعتر، ترعى الماشية وتربّي الأرانب وكلب الدّار. تسامر النجوم وتقاوم الغزاة. تُطعم الدوابّ الهائمة عقب الخروج المُهين، وتطبّب جراح الحمام  وتؤوي العقارب والأفاعي التي هزّها الحنين. من ماء عينيها تشرب الغربان بعد أن جفّت الينابيع والغدران، وفي المساء يصطفّ على باب منزلها العامر بالفرح عشرات الضالين والجائعين والمرضى، من شتى الأجناس والمذاهب والأديان. هذا رجل قلعت عينه رصاصة. وتلك أضاعت مفتاح الدار وجاءت تقضي ليلتها إلى الغد. يقفان تمامًا في نفس الصفّ الذي تقف فيه نعجة شارفت على الولادة، وليدها يُمزّق أحشاءَها ولا مُعين، ومن فوقهم ترفرف أسراب من الحمام القديم، توقف عن إصدار أصوات الحنين القديمة، واستبدلها بأناشيد الصمود والمقاومة والبقاء.
استطاعت جدّتي القديمة تلك بعينيها المعدنيّتيْن، أن تُشكّل جيشًا جرّارًا من الحيوانات الأليفة، وأن تُدجّن أنواعًا جديدة من الأفاعي والحيوانات المفترسة، كي يساعدوها في إدارة شؤون المملكة البائدة من بشر وشجر وحجر وحيوانات عجماء، سوى من شوقها إلى الدار والجبل ولون الوقت الباقي. بقيت وحدها تُدير المملكة بحنكة الرجال، حتّى يعود الرُّشد الي ملوكها وحكّامها ووزارئها وقادة ألويتها، ويصحوا من غفوتهم الأزليّة. وقتها ستتنازل جدّتي صاحبة العينين المعدنيّتين عن الإمارة لأصحاب السيادة، فهي أكثر الناس زهدًا في الإمارة وأكثرهم إخلاصًا وحُبّا للوطن. تلك كانت رواية اللوز المُرّ.
 وفي ظهيرة 27 كانون أول/ ديسمبر 2008، تعلقت أفئدتنا وأبصارُنا في الشاشات لمشاهدة فصل جديد من فصول عنتريّة المُحتلّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ، نترقّب ونتألم. أذكر حينها أنّ سؤالًا انتصب في رأسي كمارد جبّار: لماذا يحدث كلّ هذا؟ وأين العالم ممّا يحدث؟ وبقيت طوال أيّام العدوان لا أفعل شيئًا سوى التحديق في وسع الشاشات، لكن هاجسًا غريبًا دفعني ومنذ اللحظة الأولى لتسجيل التفاصيل. أعددتُ ملفّا خاصّا مِن قصاصات الجرائد والتدوينات والمقالات التحليليّة والتقارير المُصوّرة. بقي كيف أقول ذلك في رواية، لقناعتي أنّ الرواية وحدها القادرة على قول الحقيقيّة، وأنّ الفضاء الروائيّ يتّسع لسطر المشاعر وبثّ الأفكار، للتأريخ للتجربة الإنسانيّة برمّتها، وللفرح والألم وجرأة الدم وقسوة الحياة وظلم الإنسان للإنسان. لكن الأمر لم يكن سهلا، فبعدَ أن عرفت ما ستقول وهذا يُعدّ أمرًا سهلًا في أغلب الأوقات، عليك معرفة كيف ستقول ذلك. احتاج الأمرُ أربع سنوات أخرى من الجهد، كي تخرج الرواية بالشكل الذي ترَوْن.  أقتبسُ لماركيز: " قُراؤنا في غير حاجة الى أن نَظَّل نروي لهم مأساة الاضطهاد والظلم؛ فهم يعرفون تفاصيلها غيبًا. ما ينتظرونه من الرواية هو أن تكشف لهم جديدًا".
وانبثقت فكرة عيّوش الفتاة ذات الستة عشر ربيعًا التي عاشت تفاصيل الحرب، تسردها بوعيها وعلى طريقتها، فجاءت الرواية في ثلاثة فصول، الفصل الأوّل على لسان والد عيوش: "فتحي عبد المعطي رزق عوينات" وأيّ تشابه في الأسماء هو محض صدفة عابرة. الغزّاوي العائد من غربته مع زوجته الإسكندرانيّة الذي أصبح بلا تلد ولا ولد. فعندما يكون المرء بلا ذاكرة كـ"عيوش" أو مَن هم في مثل سنّها، تفاجئهم الحرب وتثيرهم، فيستلهمون من نارها ودمها شعرًا يَخترق رتابة أوقاتهم، تشقيهم وتُنضجهم قبل أوانهم، وأحيانًا تسلب سنوات كثيرة باقية من حياتهم. "عيّوش" التي أكملت ربيعها السادس عشر، ولم تتمكّن من الاحتفال بميلادها لأوّل مرّة بسبب الحرب؛ لم يُكتب في ميزانها الرَّبّانيّ حتى سيّئة واحدة، هي عنوان هذا الكتاب، وهي سطره الأوّل وكلمته الأخيرة.هي رواية الأسئلة المسكوت عنها: "في الحرب؛ عند اشتداد المعارك، عند التحام لحم الجنود بلحم الأرض، عندما تولد النار من  بطن الحديد والبارود، ويمتزج لحم البشر بأديم الأرض، تنشب أسئلة وجوديّة بلا عدد، تبقى معلقة في السماء ولا مجيب. أسئلة لا تتّسع لها رؤوس البشر عن الله،  عن الحبّ والوطن، عن الغربة والشهادة، عن كرويّة الأرض والألوان، عن الليل والنهار، وعن الجنّة والنار. وأسئلة أخرى صغيرة عن الوجبة القادمة، وعن الرعب الذي يُخلفه اختفاء النهار، عن النوم والصبر، عن "فتح" وعن "حماس"، وعن الثلاثمئة وخمسة وستين فصيلًا المنتشرة على جسد الوطن، وليس آخرًا، عن شعب الله المختار، ولماذ يختار الله شعبًا عن باقي خلقه من بني الأصفر والمجوس والهندوس والزنوج، أو حتى هنود أمريكا. "عيوش" مثلي تمامًا أو أنا مثلها والملايين ممّن يُشاركوننا إنسانيّتنا، نمتلئ عن آخرنا بالأسئلة؛ أسئلة صعبة، صغيرة، ساذجة، زئبقيّة، مُتجددة، تراوح مكانها ولا مُجيب.
الفصل الثاني هو جسد الرواية الحيّ، فقد كتبته عيوش في مذكّراتها: كتبت عيوش في دفتها/ يحدّ غزَّة من الشرق الحرب/ ومن الغرب يحدّها بحر ظالم/ من الشَّمال الجُنون/ ومن الجنوب هرم خوفو الأكبر. السؤال: ماذا يحدّ المعتدي من الأعلى؟ لتواصل عيوش كتابة يوميّات الحرب كما تراها، وهي عادة اكتسبتها من الست وداد مُدرّسة العربيّ، كي تمأ فراغ وقتها، تتبعها في كلّ مرّة بسؤال، على اعتبار "ما دمت أسأل فأنا موجود": لتتلاحق أسئلة عيوش من قبيل/ ماذا يحدّ المعتدي من الأعلى/ هل يبكي الرجال/ هل تنام النجوم/ متى سينتهي هذا اليوم/ أين يمكن أن أجد صديقا حقيقيّا/ كم تبعد أوسلو عن فلسطين/ هل البندقيّة ضارّة أم نافعة/ كم عدد فصائل العمل الوطنيّ الفلسطينيّ/ لماذا تموت الأمّهات/ عرّف الوحدة الوطنيّة/ وأين يسكن الأمل في بلادنا؟
امّا الفصل الثالث والأخير فقد كتبه الراوي في عشر وقفات: الوقفة السابعة: إعلان عن مسابقة دوليّة تكريمًا لروح عيّوش التي عاشت خوف الحياة وأمنت خوف ما بعد الموت. من يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة كاملة، فليُرسل الإجابات على شكل ملف إلكترونيّ بصيغة "PDF" الى البريد الإلكترونيّ للأمّة  "بلاد العرب أوطاني". الوقفة الثامنة: توزّع الجوائز العشر كالتالي/ الجائزة الأولى: "جنّة عرضها السماوات والأرض أُعِدّت للمُتّقين"./ الجائزة الثانية: "المجد لله في الأعالي وفي الناس المسّرة  وعلى الأرض السلام"./ الجائزة الثالثة: الحرّيّة غير منقوصة./ الجائزة الرابعة: الموت وقوفًا كالأشجار./ الجائزة الخامسة: حياة تسرّ الصديق أو ممات يكيد العدا./ الجائزة السادسة: المشاركة في حفل تنصيب الرئيس الأمريكيّ القادم./ الجائزة السابعة: رحلة الى سطح الزهرة لمشاهدة ظلم البشر./ الجائزة الثامنة: رحلة حول العالم للتأكّد من أنّ شعب فلسطين هو آخر شعوب الأرض التي ما تزال ترزح تحت الإحتلال./ الجائزة التاسعة بعد المليار السابع لعدد سكان الأرض: "معلومة هامّة "الفلسطينيون بشر يشبهونكم، لهم أربعة أعضاء، (يدان وقدمان) فم واحد وأذنان اثنتان. وفي شرايينهم دم كدمكم لونه أحمر، في قلوبهم محبّة لكم جميعًا، لكنّ وجعهم يمنعهم أحيانًا من الكلام./ الجائزة الأخيرة: لأخر مخلوق يجلس الآن على كرسيّ هَزَّاز فوق المريخ أو على سطح الزهرة، يُلوِّح لنا بالحضارة: "شكرًا لكم".
تجربتي الأخيرة كانت مع مجموعة قصصيّة بعنوان "زوجي لعبة تفاعليّة" عام 2016، فالكون يتكوّن من قصص لا من ذرات كما تقول موريل روكسير، هي قصص تعيش بيننا باللغة المحكيّة: "هذه ليست لغتي/ إنَّها لغة أبطال هذه القصص التي تورّطتُ في كتابتها رغمًا عنّي/ حاولت أن أجبرهم على لغتي ومفرداتي المنتقاه بعناية، فاختنقوا واختفوا وآثروا الصمت. إنَّها كلماتهم هم، لغتهم اليومي

80
تميم منصور بين التقبيح والتجميل!
آمال عوّاد رضوان
أٌقام نادي حيفا الثقافيّ أمسيةً تكريميّة للكاتب والمربّي تميم منصور ومنجزاته الأدبيّة، برعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، في قاعة كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وذلك بتاريخ 16-2-2017 ووسط حضور كبير من أدباء ومثقفين وأصدقاء وأقرباء من حيفا والجليل والمثلث، فرحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة مؤسّس ورئيس نادي حيفا الثقافيّ، وتولّى عرافة الأمسية الشاعر رشدي الماضي، وتحدّث عن منجزات تميم منصور الأدبيّة كلٌّ من الأدباء: آمال عوّاد رضوان، وسعيد نفاع وعبدالرحيم الشيخ يوسف، وفي نهاية اللقاء قدّم نادي حيفا الثقافيّ درع تكريم للكاتب تميم منصور، ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة.
مداخلة فؤاد نقارة: أهلا وسهلًا بكم في قاعة كنيسة يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا. أمسيات نادي حيفا الثقافي تُقام برعاية المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا. الشكر الكبير لمُشاركي أمسياتنا. نشكر موقع ودار "الوسط اليوم" للنشر والإعلام على ما تقوم به من رعاية لأدبائنا ونشر وطباعة كتبهم الأدبيّة، ونشر تقارير أمسياتنا المفصّلة للأخت الشاعرة آمال عوّاد رضوان؛ المحرّرة الثقافيّة في "الوسط اليوم"، وتوزيعها في عدّة مواقع محليّة وعربيّة وعالميّة، كما ونشكر المواقع الإلكترونية والمجلّات والجرائد التي تنشر أخبار الأمسيات. نشكر جميع العاملين والمشاركين بالكامل في النادي بمحبة وشغف تطوّعًا في أمسياتنا، من مداخلاتٍ وفِرَقٍ موسيقيّة وفنّانين، عن مبدأ ورسالة لخدمة الثقافة والأدب والإبداع والمجتمع، فالجزء الأكبر منهم يُثمّنون مشروعَنا الثقافيّ والعمل الدؤوب الذي تتطلبُهُ إقامة أمسياتنا، من ترتيبات وتحضيرات وتنسيق واتصالات، وتحضير دعواتٍ وطباعتها ونشرها وتوزيعها، وإقامة الأمسيات وتصويرها وتوثيقها، ورعاية الحضور وتقديم التضييفات لهم، ومن ثمّ نشر تقرير مفصّل مَحليّا وعربيّا وعالميّا بقلم الشاعرة آمال عوّاد رضوان المحرّرة الثقافيّة لموقع "الوسط اليوم"، وخبر بقلم خلود فوراني سرّيّة، ولكن وللأسف، هناك بعض آخر يستكبر وبعض يتنكّر!
إنّ إقامة أمسياتٍ ثقافيّة لا يُجبرُنا عليه أحد، وإنّما نقوم بذلك بدافع الواجب والتقدير، ونحن نعتقد في نادي حيفا الثقافي أنّنا نتعامل مع المحتفى به برقيّ، ونتوقّع منه أن يُبادلنا هذا الرقيّ ولو بكلمة شكر. نشاطات نادي حيفا الثقافي يُموّلها المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، والنادي مستقلٌّ تمامًا ولا يتلقّى أيّ دعم من أيّة جهة، وإنّما بما يتبرّع به أعضاءُ النادي وبعض المشاركين بجزء من ريع كتبهم. إنّ الكاتبَ الأمّيّ ظاهرةٌ منتشرة في وسط كتابنا وشعرائنا، فلا أستطيع أن أستوعبَ أنّ هناك كاتبًا لا يقرأ للآخرين، وتستطيع أن تلاحظ ضحالة ثقافتهم. نحن ندعو إلى ثقافة المَحبّة والاحترام لكلّ إنسان، وقد استضافَ النادي مبدعينا من المثلث والجليل والكرمل وحيفا ومناطق السلطة الوطنيّة والشتات، وصفحة نادي حيفا الثقافيّ على الفيس بوك، يمكنكم متابعة نشاطاتنا وأخبارنا بالكلمة والصورة والفيديو، فهذا النادي هو استمرارٌ للنهضة التي قام بها أسلافنا لخدمة لغة الضادّ والعروبة وبمسؤوليّة، يجب أن يتحمّل كلّ منّا حسب قدرته المساهمة بها، بهدف تنوير وترسيخ انتمائنا العربيّ في هذا الشرق.
الأديب تميم منصور مِن مُرَبّي أجيالنا، ومواقفُه المُشرّفة حولَ ما يدورُ في مجتمعنا تُنشَرُ على الملأ منذ عقود، وإصداراتُهُ وأبحاثه تشهد له غيرته وحرصه على شعبنا وقوميّتنا، وكمثقف راقٍ جريء كتاباته عابقة برائحة الوطن والتراث، ويُشرّفنا استضافته في نادي حيفا الثقافيّ، ونرحّبُ بالمشاركين في المداخلات: الباحث والمُربّي عبد الرحيم الشيخ يوسف، والكاتب المحامي سعيد نفّاع، والشاعرة آمال عوّاد رضوان، وعريف الأمسية الشاعر رشدي الماضي.
مداخلة رشدي الماضي: للشاعرة آمال عوّاد رضوان أقول: تعمّدتُ شاعرتي أن لا أسيءَ إلى إليكِ، لأغرقَ فيه، فأصعدُ إلى ذرى قصيدتِكِ وأعصرُ عنقودًا وأشدُّ له وترًا، أريقي النورَ في سُحُبي بردًا، ألستُ المتيّمَ، وكلُّ نيرانِكِ نيراني وتكويني؟ 
وللأديب تميم منصور ناثر تباشير الغد الآتي: أنا على مقعدي في تاريخ الحزن العربيّ، أبكي نصف الكلام، وقبلَ أن أسقط مضرجًا بدمي وحبر قصائدي، بعد أن ضاق المكان على المكان، أنتظرُ الهدهدَ ليدلّني على الطريق إلى دمعة البئر البريئة التي تبرّئ ذئب كنعان من إثم الخيانة والخطيئة. أنتظرُهُ مفتاحًا يفتح لي تمامة وتميمة، وتميم في طقوس معابد الكلام  يتهاطلُ دفء أنفاس الوطن، أبجديّة إبداعيّة تثمر حبًّا بين الإنسان والمكان، حبًّا لمّا أزل يا تميم أتلوه عشقًا بيني وبين هذه الأرض الطيّبة، وأتلوه أنشودة إباء وشموخ، وملحمة عبور نحو انتصارات الحياة، على جواد يمتطي صهوة الخلاص والقيامة والحرّيّة. كلماتك يا تميم نشيد كرامة وعزّة في هذا الزمن الذلة، صباحات شفيفات منقوعة بالزنابق، مغسولة بالنعناع والمواقف لكلّ المعذبين والرافضين الصاخبين في وطن العرب. أعلنتَ انتماءك للحياة وطنًا وقضيّة، أرضًا وإنسانًا، فانتعشت في صحراء فراشات وارتعشت حولها أطيار، وسأظلّ أنا العاري الذي لا مدينة يلبسها، أجيئك أسرق من سلاسلك المطر والفرح جذوة تمسك بالنور، يُصرّ أن لا ينقطع عن الإصغاء إلى همسك.
مداخلة آمال عواد رضوان: *سلامي لكم مطرا وإبداعًا وانتماءً لهذا البلد العامر بنا، ومباركٌ لنا "ذكرياتُ معلم" إنجاز الكاتب تميم منصور، الذي شدّني إلى حروفه، وقد لامستُ معاناتَك الصادقة ووصفك للأحداث، ووجدتُني أشاطرُكَ الكثير من أحداثه المشابهة لِما مرّ بي في مشوار معاناتي في التعيين والتنقيل وتوابعه! وكمحرّرة ثقافيّة في دار الوسط اليوم للنشر والإعلام، أشكر رئيس تحريرها الأستاذ جميل حامد على الجهود التي يُخصّصها لأصدقائي الكتّاب والمبدعين، ليس فقط في طباعة كتبهم وتنسيقها وتنقيحها ومونتاجها وتصميم غلافها، إنّما أيضًا بتسهيل إيصالها لهم، وقد كان كتاب "مذكّرات معلم" أحد الكتب في سلسلة الكتب الصادرة عن دار الوسط اليوم للنشر والإعلام، وقد أسعدَني جدّا أني كنت من أوائل من اطلع على الكتاب وأشرف على طباعته، فمبارك لنا ولك بهذا المنجز التوثيقي التأريخي القيّم.
أستاذي تميم منصور، لماذا فطنت إلى كتابة مُذكرّاتك فقط بعد تقاعدك؟ هل اكتسبتَ شجاعةً وقوّةَ مواجهة، بعد أن تحرَّرتَ من قيود التعليم ومن أجهزته؟ هل لأنك انطلقت خارج دائرة الشكّ والترهيب التي فرضتها السلطات الإسرائيليّة عليك وعلى جهاز التعليم العربيّ؟ هل كنت آنذاك مُعلّمًا جبانًا مهزومًا أمام لقمتك، تطاردُك كوابيسُ الترهيب والمخاوف، وتُلاحقك حقائق تناقضات الهُويّة والانتماء المفروضة عليك، فتعلم تاريخ معاناة اليهود، وتطمس معالم النكبة وأهلك؟ هل حقّا مُذكّراتك تتّسم بالموضوعيّة والمصداقيّة، وتعرية المتعاونين المنتفعين الوصوليّين المُتستّرين على سياسة التمييز القوميّ والعنصريّ؟ هل أردتَ لهذه المُذكّرات أن تعيدَ الحياة لأحداثٍ ولّت بعدما كانت ميّتة، وأردت أن تؤبّن الزمن الراكدَ الراقد؟ هل أردت بذكرياتك أن تفتح تابوت آلامنا وأحزاننا، وتعرض أشرطة صور وخيالاتٍ وفضائح، لتكشفَ ألقابَ وأسماءَ طواها الزمن، وتُغلقَ نوافذَ مجاملاتك وصمتك وندمك؟ ما هي العبر التي تريدنا أن نجنيَها ونعتبر منها في ذكرياتك؟ هل هي ذكريات لمجرد التوثيق والتأريخ لمرحلة عبرت، أم لأهداف خفيّة أخرى في بطن الحوت وفي نفس يعقوب؟
صحيح أنّ بعض الأجوبة نجدها في مضامين النصوص، لكن هناك كثير من الأجوبة مُغلّفة بهالاتٍ ضبابيّة مُبهَمة، فاحتملني عزيزي، هو رأسي الصغير يُتعبني حين يضجّ بتساؤلات تتوالد متناسلة، وأظلّ أستفزّك، وتظلّ ترمقني بعينيك المكتنزتين بالموج الهادئ العاصف قائلا: على رسلك يا آمال عوّاد رضوان، فهناك ص6 "ملاحظة لا بدّ منها، فأنا لم أذكر في هذه المذكّرات كلّ الحقّ، لكنّني لم أذكرْ فيها إلّا الحقّ، والعِبرة التي أضيفها أمامَ كلّ مَن يفكّر ويحملُ أداةً للكتابة وأقول: الكتابةُ ترتبط ارتباطًا عضويًّا بالحرّيّة، فعندما لا تكون حرّيّة، لا تكون كتابة"!
عن أيّة حقبةٍ زمنيّةٍ تتحدّثُ ذكرياتك السالفة؟ أتحدّث عن زمن الحكم العسكريّ ما بين الأعوام (1949- 1966) بعد أن سنّت الحكومة الإسرائيليّة قانون التعليم الالزاميّ المجّاني من جيل (5- 14 سنة)، الذي أتاح استئجار وبناء مدارس مختلفة للعرب، وفتحَ أمامنا آفاق التعلم بعدة مواضيع أساسيّة، وتعلم اللغة العبريّة والموسيقى والتاريخ والموطن، وقد عُيّن معلمون عرب أنهَوْا صفوف الثاني عشر، ومعلمون لم ينهوا المرحلة الثانويّة، وبسبب النقص في المعلمين العرب خاصّة في المثلث، عيّن في المدارس العربيّة معلمون يهود يتقنون اللغة العربيّة، وما أدراكم بحال معلمينا وطلابنا العرب آنذاك! كان الحكم العسكريّ صارمًا يُشدّد الرقابة على تعيين المعلمين وعلى التعليم العربيّ، ويُبعَد كلّ معلم له آراء سياسية وقومية عقابا له، وكان الطلاب ميسورو الحال او من لعبت معهم الظروف يُكملون دراستهم الثانوية في حيفا والناصرة والطيبة والطيرة، وفي بداية السبعينات انتشر بناء المدارس الثانوية في معظم القرى والبلاد العربيّة والتعليم المجانيّ للمرحلة الثانويّة، فازدادت فرص التعلم والتعيين أيضّا، وأنا بدوري أنهيت تعليمي الثانويّ في مدرسة يهوديّة وفرع علميّ، لكنّي عيّنت كمدرّس للتاريخ في العام 1960!؟
أستاذي تميم، ذكرياتك السالفة هذه هل تختلف كثيرًا عن حاضرنا؟ وهل اختلف كثيرًا حالُ تعيينات المعلمين اليوم عمّا كانه بالأمس؟ وهل حَمَلةُ شهادات اليوم يُضاهون معلمي الأمس معرفة وانتماءً وإخلاصًا، أم أنّ الشكليّات والظاهر والأوراق باتت تطفو قوّة وحضورًا على سطح الحقيقة المزخرفة بالتضليل والتشويه والتعتيم؟ قال: بكلّ أسف، الأوضاع التعيسة في مدارسنا العربيّة خلال 40 عام هي هي، على بؤسها تقوم، ليس فقط في البدايات، فحتى نهاية خدمتي كان وما زال السيناريو يتكرّر على نفس المسرح، وفقط يتغيّر الممثلون والديكور والملابس والكراسي! لقد كان معظم مفتشي المعارف العرب عراقيّين، وكان السموأل مفتش لغة عربّية، وكثير من مدراء المدارس منهم شولميت مديرة مدرسة حسن عرفة، وكان مدير دار المعلمين العرب في يافا إلياهو كوهين عراقيّا، وقد امتاز باستبداده وتحطيم شخصيّة المعلمين، وكذلك كان معظم المعلمين عراقيّين في اللد والرملة ويافا وكفرقاسم وجث وغيرها من قرى المثلث، فكانت لدينا صعوبة في فهم لهجتهم، وقد واجه المعلم العربيّ القوميّ الاضطهاد والملاحقة والمطاردة والتعجيز والعقاب في التعيينات البعيدة التي يتعذر التنقل والسفر الوصول إليها والمبات. ولا ننسى فصل المعلمين العرب بطريقة التفتيش الفنيّ، أي بطرق ملتوية وتقارير سيّئة متوالية ومتعاقبة لتحكيم المعلم وإثبات فشله من أجل فصله، إضافة إلى إلزام المعلمين العرب بالاشتراك في اقتناء "جريدة اليوم الحكوميّة".
نحن أمام كتاب مقالات، لو أزلنا عناوين المقالات وربطنا المواضيع  ببعضها، لكان لدينا سيروائيّة جزئيّة للكاتب، لأنها تشمل على الوصف والسرد ومعظم مقوّمات الرواية، لكنّ كاتبنا آثر أن يأخذ فيها منحى المقالة، وكمعلم سار في سلك التعليم الشائك الجارح منذ بدايات الستينات، بلغة توثيقية تأريخية حكائيّةٍ وشبه تقريريّة يكتب، فيسرد معاناته كمعلم تنقّل عبر عقد من الزمن في طمرة الزعبية، الناعورة، نين، عرب الشبلي، طرعان، جسر الزرقا، كفرقاسم وأخيرًا الطيرة، وتتبدّى لنا الحقائق حقيقيّة دون تشويه وتزوير. يسرد لنا بلغة سرديّة حكواتيّة موجوعة، وبأسلوب ساخر فيقول ص7: "إن المادة الدراسية التي تفرضها المناهج لم تتغير ولم تتجدد. الفتوحات الإسلامية أصبحت في ذمّة التاريخ، وانتصارات العرب في الأندلس كانت، والحروب الصليبيّة كانت، وشروق شمس الدولة العثمانيّة وغروبها كانت، والحضارة العربيّة بعلومها وآدابها وفلسفتها كانت، ولم تعد قضيّة فلسطينيّة، وتشرذُم العرب على حاله لم يتغيّر. وهدف الطلاب من حفظ كلّ هذه المواد وغيرها، ليس من أجل بناء أبراج شاهقة من المعرفة، بل كي تكون جسرًا عابرًا يمرون من فوقه، للحصول على شهادة المدرسة الثانويّة، وتأشيرة الدخول إلى الجامعة".
فهل يا حضرة المدير ليوم واحد فقط، اختلف حالُ أمسِكم عن حال يومنا؟ "اسمع يا أستاذ، لا تستغرب، بحبّ أقول لك، بأن رئيس المجلس في كفر قاسم ومعه عدد من الضيوف في طريقهم لزيارتك، بصراحة، هُم بحاجة إلى مدير لإدارة المدرسة الشاملة، ولم يجدوا أفضل منك لهذا المنصب". وبين يوم وليلة، ومن خلال اجتماع ارتجاليّ مفاجئ أصبحتُ مديرًا للمدرسة". كانت زوجتي أوّلَ من هنّأني بهذا الهمّ الجديد، لكن كنت أشعر بأنّ هناك صخرة فوق صدري، فحديث المفتش زاد من شعوري بأنّ هناك شيئًا يُحاكُ ضدّي (مؤامرة! وتحرّيات)! في الساعة العاشرة ليلًا، اتّصل بي رئيس المجلس المحلّيّ في كفر قاسم، وكانت كلماته مهزومة مُلطخة بالخجل، وأخذ يلفّ ويدور بطريقة طفوليّة، كأنّه يريد التوصّل لعبارات خاصّة. لم أُمْهِلْهُ وقاطعته ضاحكًا: هل رفضت وزارة المعارف اختياركم لي؟ عندها تشجّع وقال: نحن خجلون منك، يجب أن نضع رؤوسنا في التراب، بحقّ، نحن من قدِمَ إليك، وتوسّلنا إليك كي توافق على إدارة المدرسة، لكن وزارة المعارف وضعت أمامنا العراقيل. إحنا في طريقنا إليك، بمرافقة وفد من وجهاء كفر قاسم لتقديم الاعتذار".
وتقول شوقيّة عروق: "نعم يا آمال عوّاد رضوان، أمام مذكّرات مُعلّم نكتشف أنّ ليلَ المعلم له أنياب الخوف مثل الطلاب، فليله يحمل القمعَ والرفضَ والمؤامرات والقوانين، وجهاز وزارة المعارف يحاصر عقله وأحاسيسَه وأفكارَه ووطنيّته ومبادءَه، فهناك من يُتقن تفسير قسَمات الوجوه والكلمات والسلوكيّات والحركات، ومن تحت الذرائع العديدة تكون شراسة الفصل والطرد. مذكّرات معلم هي روعة التجربة، وقرع طبول التمرّد في زمن كانت قبعة قبطان الذعر تطفو فوق شواطىء الوظيفة، فتلخّص العمرَ، وتكتب على عتبة دخولها (قل كلمتك وامش.. وحذار من التردد). ليست هي مذكراتٍ خرساءَ، ولا مذكّراتِ ثرثرةٍ وترويجٍ للكراسي المكسورة أو المناصب التي نخرَ خشبَها السوسُ. هي مذكّراتُ الحقّ والحقيقة، ومحطة القطار التي شهدت بدايةَ رحلةِ السفر ورحلة العودة. إنّها وثيقةٌ وشاهدةُ عيانٍ وإثباتٍ على وجودنا  وصراعنا  الدائم، مع الذين يحاولون مسحنا وتهميشنا ورفضنا".
مداخلة الكاتب سعيد نفاع: الكاتب تميم منصور في كتابه "أّيّام فلسطينيّة" يبدعُ ويوجعُ. أتداخل اليومَ، ليس فقط كأمين عامّ لاتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين، وتميم منصور (أبو السائد) عضو بارز في الاتحاد، وإنّما أيضًا كرفيق درب ومن ثمّ صديق، ولذا فقوْلي فيه ربّما يكون مثلومًا، وهذا يتطلب منّي جهدًا خاصّا. بدايةً، هذا المنبرُ شهد ويشهد الكثيرَ من الأمسيات الاحتفاليّةِ أو التكريميّة لمبدعين، وإشهارَ إبداعاتهم وفي شتى مجالات الإبداع، وقيّض لي أن أقف أو أجلس أمامه وخلفه. وكنتيجةٍ، لا بدّ من ملاحظةٍ. أعتقد ومثلي الكثيرون، أننا عندما نجلسُ قبالةَ المنبر لا نريد أن نجلسَ كطلابِ جامعة يتلقون محاضرةً في المعاييرِ والأسسِ النقديّة، وإن كان المبدع تخطّاها سلبًا أو إيجابًا، ولا في المدارس النقديّة والتحليليّة وإلى أي ينتمي الكاتب، فلسنا بذاهبين بعد الندوة لامتحان نصبو بعدَه لشهادة، نحن ذاهبون إلى الميدانِ وميدانُنا وعِرٌ، ولذا فنحن بحاجة لمعرفة الرسالةِ التي حمل المبدع وإنتاجُه، لشحننا في مواجهةِ وعورتِه، وهذا يجب أن يكونَ دورُ المتداخل. تميم أحبّ الوعِرَةَ من الميادين، وفي كتابِه "أيام فلسطينيّة" دخل أوعرَها. وبدءًا أقول إنّ هذه الوعورة أتعبتني كثيرًا، فلا دخولَها سهلٌ ولا الخروجَ منها سهلٌ. قالت رفيقة دربه الكاتبة شوقيّة عروق منصور في تقديمه: "إن الأكاذيبَ التي وضعتها الصهيونيّةُ كثيرةً وكبيرة، ووضعُ الحقائق أمام الأجيال ليس مجرّدَ ترفٍ ونزق إعلاميّ، بل هو ينير أنفاقَ الأكاذيب، ويدفع الأجيالَ الفلسطينيّة والعربيّة والعالميّة إلى مكافحة حرب الخداع والتسليم بتاريخهم". فهل نجح تميم في هذا؟! يقول تميم في المقدمة: "ما يتوفر (من مصادر) ليس أكثرَ من بعض الغمار الموزّعةِ داخلَ صفحاتِ بعضِ الكتب، هذه الغمارُ بحاجة إلى جهد جهيد ودرسٍ متواصل لتحويلِها إلى صروح معلوماتيّة قادرةٍ على سدّ هذا الفراغِ من تاريخ شعبنا الحديث". لقد دخل في هذا الكتاب وأدخلنا في أنفاقَ كثيرةٍ ومظلمةٍ استطاع أن ينير فيها مساحاتٍ كبيرةٍ من ظلماتها. ففي الكتاب (أنفاق)، أدخلنا إليها من أبواب شتّى، عاملًا على أن ينير لنا على ما خلفها بجهدٍ كبير.
*في الباب الأول عن الحركة الكشفيّة في فلسطين(ص19): يأخذنا الكاتب عميقا في الحركة الكشفيّة الفلسطينيّة، موغِلًا في تاريخِ الحركة عالميّا. المأخذُ على الكاتب يكمُن في الصفحات (19 و23) حين يعود بنا لمؤسّسها اللورد روبرت بادن باول، دون أن يشيرَ إلى أن انطلاقتَها كانت أداةً استعماريّة، وهذا أمر يجب أن يُطرح أمام القارئ.     
الباب الثاني عن رسل الدعوة الإصلاحيّة في فلسطين (ص43): إن حرقةَ تميمٍ على فلسطينيّته جعلته يفتشُ عن كلّ حزمة نور في أيّامنا الفلسطينيّة، ومن خلال "ظبّ الغمار"، فاته أحيانًا أن يطرحَ "الزوّان". ففي هذا الفصل (ص43) يذكر الشيخَ الشاعر علي الريماوي من ضمنِ الدعاة الإصلاحيّين، رغم أنّ هذا الشيخ الشاعر كان من "المدّاحين" لدرجة أنه مدح بريطانيا.
*الباب الثالث عن المنظمات العماليّة (ص53): يستعرض تميم الحركةَ العماليّة إنجازاتِها وإخفاقاتِها، ويشير فيما يشير إلى ميشيل متري رئيس "جمعيّة العمال العرب" ويصفُه بالمناضل وهو حقّا كان كذلك ودفع حياتَه ثمنا، اغتيالا أوائل العام 1936 (؟). (ص58 و59). ما فاته هو حكايةُ اغتيال المهندس ميشيل متري، وهذه حقيقة تاريخيّة لها مدلولاتها وكان على الكاتب ألّا يغفلها. إنّ المخابرات البريطانيّة وبالتعاون مع الصهيونيّة هادفة إلى ضرب نسيجنا الوطنيّ، دأبت في تلك الفترة على إطلاق سراح مجرمين من السجون، شرط أن ينفّذوا أعمالًا يوكلوا بها تحقيقا لهذا الهدف، وكان اغتيال المهندس ميشيل متري أحد هذه الأهداف. للاستزادة يستطيع المعني قراءة مذكرات الحاج أمين الحسيني، فما جاء فيها حول هذا الاغتيال وكشف منفذيه وملاحقتهم هام جدّا.
 *الباب الرابع عن الحركة الرياضيّة في فلسطين (ص79).
*الباب الخامس عن الجمعيّات والاتحادات والروابط والنوادي في فلسطين إبان عهد الانتداب (ص123): وهنا يسقطُ تميم في هفوة، إذ يقول أو يقتبسُ لا أعرف: " في عهد الانتداب تمّ إنشاءُ ما لا يقل عن خمسَ عشرةَ جمعيّةِ فلسطينيّة وطنيّة، أكثرِها خيريّة وأدبيّة، ومن الملاحظ أن غالبيَّها كانت مسيحيّة، ويعود السببُ إلى الامتيازات التي تمتع بها المسيحيّون. ص123. إلا أنه ما يفتأ أن يعود ليقولَ: "كان نشوء الجمعيّات وغيرِها من المؤسّسات الثقافيّة والاجتماعيّة يرتبط ارتباطا عضويّا بظهور المجتمع المدنيّ من ناحية، ويرتبط بالفئة المثقفة من الناحية الأخرى (ص128). وفي هذا الباب، لا بدّ من ملاحظة تقنيّة إذا صحّ التعبير. فالاسمُ الثاني لمحمد دروزة.. ضاع بين غرّة وغزة إلى أن استقرّ على عزة في الثالثة (ص129) ولكن الملفت للنظر في هذا الباب، هو ما ذهب إليه الكاتب في وضع عائلة الحسينيّ والنشاشيبيّ في نفس الميزان في سياق حديثة عن الجمعيّات. فلا يصحّ أن توضع عائلة الحسينيّ ورغم ما يمكن أن يكون عليها من ملاحظات، في نفس المستوى مع زعامات من عائلة النشاشيبي التي هادنت الإنجليز والصهيونيّة، ولنا في راغب النشاشيبي وفخري النشاشيبي البيّنة. (ص155و156)
*الباب السادس عن الروابط الأدبيّة والثقافيّة في فلسطين (ص177)
*الباب السابع عن المكتبات في فلسطين (ص183)
*الباب الثامن عن المطابع في فلسطين (ص205): يسجّل الكاتبُ هنا حقيقةً تاريخيّةً (إذا تغاضينا عن قول نابليونَ: إن التاريخَ هو الحكايةُ التي نتفق عليها)، من المهمّ الإشارةِ إلى هذه الحقيقة على ضوء محاولات "تحنينا" للخلافة العثمانيّة، وهي أن الغرب وضع أولَ كتاب في اللغة العربيّة عام 1514م، بعد الثورة التي سبقت في عالم الطباعة، في حين أنّ الدولةَ (العليّة!) العثمانيّةَ لم تكن تسمحُ بطبع الكتب العربيّة وحتى العام 1712م. (ص209).
*الباب التاسع عن مؤسّسات الرعاية والعناية الصحيّة في فلسطين (ص219).
*الباب العاشر عن منظمات شبه عسكريّة فلسطينيّة أقيمت قبل النكبة (ص227). *النجادة. *الفتوة (ص256). *منظمة الشباب (ص269). محمد نمر الهواري (ص273) انظر( ص277 ). في هذا الفصل دخل الكاتب ميدانا من الأشدَّ وعورةً وفوق كلّ ذلك مليئاً بالألغام، ولا هو خرج منه سالما ولا أخرجنا سالمين. يبدو للقارئ وكأن الكاتبَ في مكان ما معجبُ بشخصيّةٍ كان لها ارتباطُ عضويُ في منظمة النجادة، ألا هو محمد نمر الهواري، الذي يخصّص له جزءا كبيرا من الفصل، واضعا إياه ندّا لجمال الحسيني وحتى المفتي ولاحقا الحزب الشيوعي الإسرائيلي. لا أستطيع هنا وفي مداخلة كهذه تناول الأمر من كل جوانبه، ولكني أطالب تميم بطبعة ثانية حتى يزيل كل لبس عن هذا الرجل الدخيل على النضال الوطنيّ الفلسطينيّ. 
الباب الحادي عشر والأخير عن المنظمات العسكريّة (ص287(. جيش الإنقاذ (ص291). جيش الجهاد المقدّس (ص320). في هذا الفصل الأخير في الكتاب، يطأ الكاتب حقلا أشدَّ وعورةٍ من سابقه، ولكنه هذه المرّة خرج وأخرجنا، وجراحُنا أقلُّ ثخونةٍ من السابق. فيما يتعلّق بجيش الانقاذ أعاد الكاتب لهذا الجيشِ بعضَ ما يستحقُّ مكانةً، ولكنّه في باب المعلومات أخطأ أو خُطّئ. وتكفي الإشارةُ إلى أمرين، الأوّل دخول وخروج جيش الإنقاذ وملابسات ذلك، فخلا الأمر من الدقّة التأريخيّة. والثاني عدد شهدائه (309!)، والتغاضي عن دور فوج "شكيب وهاب" أو ما أسماه فوج جبل العرب، فلم يكن كذلك أولا إذ انضم تحت لوائه كل المجاهدين في المنطقة بغض النظر عن انتماءاتهم الثانويّة، وثانيا يذكر أن شهداءه كانوا 5 ويقول: "قتلوا في معركة (كفار يوحنا) يوم 1948\04\12. هذه المعطيات أبعد ما تكون عن الحقيقة التاريخيّة حتى النسبيّة. فلا يوجد في كل فلسطين مكان اسمه "كفار يوحنا"، والمعركة هي "رمات يوحنان" في المصادر الصهيونيّة وفي أدبياتنا "هوشة والكساير"، ودامت ثلاثة أيام متوالية،  وهذا الفيلق ضمّ في صفوفه قرابة ال300 مقاتل من عرب البلاد من كل الطوائف والمذاهب، وفيها وصل عدد الشهداء 9 فقط من شفاعمرو ويركا وبيت جن، وأما من شباب الجبل ف-86 شهيدا، والأسماء متوفرة وقبورهم في شفاعمرو ويركا وبيت جن قائمة حتى اليوم.
خلاصة القول: لم يكن عليّ بتاتا من السهل الخوض في غمار هذا المؤلّف، خصوصًا وأنّ جامعه لمَّ غماره من خمسة وأربعين حقلا. مشكلتنا الأساس في روايتنا الفلسطينيّة كانت وما زالت أنّ الجلّ الكبير ممّن تناولها، تناولها بطريقة استعراضيّة بعيدًا عن النهج التاريخيّ العلميّ وعن النقد الذاتيّ، نافين كلّ ما جاء في الرواية الصهيونيّة جملةً وتفصيلًا، ومعتمدين على روايتنا منقوصة الوثائق والمصادر، وفي هذا ضعفها وانحسارها أمام الرواية الصهيونيّة. فيما يخصّ كاتبنا وكتابنا، ورغم ما قلت أعلاه، فإن الجهد الجبّار الذي بذله تميم منصور مبارك، وقد أغنى بيدرنا بالغمار الوفيرة، وأنا متأكّد أنّه تصبّب عنه الكثير من العرق، بل أكثر ممّا يتخيّل قارئ. وقد وُفّق في كلّ فصول الكتاب، اللهم إلا في الفصول الثلاثة الأخيرة، وأنا أطالبه حثيثا أن يُعيد إنتاجهما في كتاب خاصّ أو طبعة خاصّة، وأنصحه إذا كان هنالك مكان للنصيحة، أن يأخذ الرواية الصهيونيّة مصدرًا مُقارنًا ولا يكتفي بروايتنا التجميليّة التقويّة (من التقيّة). وهذا يتطلب صحّة جيّدة وعمرًا مديدًا، وهذا ما أتمنّاه لتميم، فنحن بحاجة لقلم كقلمه.       
مداخلة الكاتب عبد الرحيم الشيخ يوسف: سيرة تميم منصور هارمونيا بين الأحداث والأسلوب: يقول د. إحسان عبّاس: "بين المتحدّث عن نفسه وكاتب السيرة الذاتيّة فرق كبير، فالأوّل لا يزال كلّما أمعن في تيّار الحديث يُثير شكّنا، والثاني يستخرج الثقة الممنوحة له منا خطوة إثر خطوة، ولذلك كان الأوّل شخصًا عاديًّا أو أقلّ من العاديّ في نفوسنا، أمّا الثاني فشيء مغاير له تمامًا، لاعتقادنا أنّه لم يكتب سيرته لملء الفراغ، وإنّما كتبها لتحقيق غاية كبيرة". وأنا أقول: إذا لم يكن لكاتب السيرة الذاتية ضمن سيرته حياة ملتحمة بحياة الناس، يذوق معهم الحلو والمُرّ، ولا تعني الناس من قريب ولا من بعيد، تبقى محصورة ضمن دائرة العجب الذاتيّ، ولا يشوق أحد أن يُضيّع وقتًا بقراءتها، وأرى بكلّ وضوح وثقة واطمئنان، بأنّ سيرة تميم منصور في ثنائيّته "الأمس الذي لا يموت" و "الحاضر الذي مضى" مرآة ناصعة، تنعكس عليها لوحات خالدة من لوحات الآفاق الفلسطينيّة والعربيّة، فلسطينيّة داخل ما يُسمّى بالخط الأخضر أو عرب48، ولعلّ قيمتها تحققت عبر المواصفات التالية:
1* إنّ الكاتب لم يكتبها ليُظهر بطولته في أيّ مجال، وإنّما ليُعلن للملأ أنّه تشرّف بأن كان روحًا عايشت الأوضاع في كلّ آمالها وآلامها، وابتغى توثيقَ أجزاء وصور على صفحة التاريخ من صور عذاب هذا  الشعب المكافح، واصطباره على توحّش الظلم وغطرسته الذي مارسه بحقّه وما يزال حكّام لا أخلاق لهم ولا فهم لحقيقة الانسان. 2* إنّ الكاتب كان أمينًا صادقًا في كلّ ما عرض، فلم يزد ولم ينقص من الحقائق. 3* تشير هذه الصفحات من هذه السيرة إلى صفاءٍ فكريّ، بحيث جاءت أحداثه كأنّه يُعايشها اليوم.         4* جاءت هذه السيرة بأسلوب ذي خصائص كتابيّة، تبدو وكأنّ صاحبَها مُنشئٌ مبدع حاذق في استغلال بعض جماليّات القصّ وجماليّات اللغة. 5* تمتاز مضامين التأليف لدى الكاتب تميم بأنّها مُطعّمة بإشاراتٍ ثقافيّة مستقاة من التاريخ ومن علوم ثقافية أخرى.
الأسلوب: 1* الكلمات الغاضبة: لأنّ الظروف قاهرة أحيانًا، ومقرفة أحيانًا أخرى، لا يستطيع الكاتب الناصع الصريح إلّا أن يقذف بحممه كما البركان، ممكّنا لسورة غضبه أن تنفلت لتُلبس المجرم لباسه الحقيقيّ، ولتجلف عن الحقيقة القشور البشعة والمنتنة التي رانت عليها بخبث ودهاء وطغيان عقيم. لقد وجّه الكاتب تميم وبكلّ جرأة وصراحة كلمات نفاذة إلى أعداء العروبة واعداء الشعب الفلسطينيّ ومغتصبي حقوقه بخاصّة، كما وجّهها إلى التافهين وبائعي الذمم وعديمي الأخلاق والحسّ الوطنيّ، وكنماذج من "الحاضر الذي لا يموت" (ص16): رأيت هذا اليهوديّ يتعثر بثيابه من شدّة حرجه، وضبطته مُتلبّسًا بالعنصريّة. هناك طريق شائك يحيط بأولمرت وهم أفاعي اليمين الفاشي. و(ص108) هذا هو حال إسرائيل والعصابات التي تحكمها. تاريخها حافل بأعمال العنف والقتل والتشريد، من بين هذه الأعمال الجرائمُ التي قامت بها أجهزة الأمن الإسرائيليّة، والتي عُرفت بيوم الأرض سنة 1976. القوّة الاستيطانيّة التي تتغذى وتنمو على مستنقع الاحتلال والحروب وسفك الدماء. قطر دويلة التناقضات وأحد أذناب المؤامرة على العراق. لماذا دخلت هذه الدولة المسخ بقوّة على خط المواجهة في لبنان؟ و (ص22) لُعنتُ الساعة التي أصبحتُ فيها مُعلّمًا حتى أتعامل مع هذه الآفة الغريبة عن روح الحضارة التربويّة.
السخرية: إنّ الأسلوب الساخر هو أعلى حدّ من حدود الغضب، تمثّل السخرية بكلّ الإصرار والتحدّي ضمن الكفاح والمقاومة. "الحاضر الذي لا يموت ص141" في مملكة الحيوان تتحوّل الشرنقة إلى فراشة، أمّا في ممالك الأنظمة العربيّة فإنّ فراشات الشعب تتشرنق. وفي (جمرات داخل رماد الأيّام ص74) قولٌ لمظفر النوّاب: قمم قمم قمم معزى على غنم. و (ص98) معذرة للملكين العبدلين السعوديّ والأردنيّ. و(ص104) هذا الازدحام العربيّ أمام البوّابات الإسرائيلية أحرجها إسرائيل، لأنّها أصبحت عاجزة عن استيعاب هذا العطاء، وهذا الكرم العربيّ الذي يُصرّ على  الاعتراف بها والتعاون معها. كانت الوزيرة السحاقيّة. و (ص97) المندوبون العرب من أمراء ووزراء أصرّوا على الحجّ إلى حرَمها أثناء وجودها في نيويورك. براك أوباما أمريكيّ أبيض بوجه أسود. و(47ص) محمود عباس: إنّ البعض اتّهمه بأنّه أصبح مُدمنًا على السير فوق البُسُط الحمراء. مؤامرات القاع العربيّة. و(ص101) تذكّرت في الحال الفنانة صباح لأنّها هي الأخرى ترفض التسليم بحالة الشيخوخة، وجعلت من وجهها غرفة لعمليّات جراحة للتجميل، فخسرت الوجه والحيويّة والهيبة.
الصراحة والصدق: جميع أوصافه ولقطاته عرضت بألفاظ وتعابير غير مُبطّنة، ولم يخشَ في ذلك لوْمة لائم. ونموذج لذلك ما حدث أمامي، وأنا أشهد على ذلك مع د. حسين فوزي.
الافتتاحيّات: عبر أقوال لقادة من الماضي والحاضر أو تقديم فكريّ من عنده مُتّخذًا أسلوبَ التحليل فيما بعد. يقول المؤرّخ إدوارد جيبون: التاريخ ليس إجابة كتاب أو حتى خاصّة لقضايا تسلسليّة في الواقع، إنّه ارتباط في الماضي ويُفسّر حبّ الكاتب وقدرته على التعمّق والتحكّم. (مقدّمة الحاضر الذي لا يموت ص7): عندما تمتلئ جيوب الذاكرة بمخزون السيرة الذاتيّة، يُصبح صاحبُها كالشجرة المُحمّلة بالثمار الناضجة، وهذه الشجرة بحاجة إلى هزّة واحدة أو أكثر كي تسقط الثمار مرّة واحدة أو أكثر، أو بعض مرّات. و (ص104) لا زال الزواج هو بوليصة الأمان الأخلاقيّة والنفسيّة والاجتماعيّة للمرأة. و(ص128) اثنان في الوطن العربيّ يرتعدان خيفة من يقظة النائم هما اللصّ والحاكم. و (ص54) صدق علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه)، وذلك تعقيبًا على العنوان الذي يقول "أشقى الرعاة من شقيت به رعيّته". و(ص93) قال عبد الرحمن الكواكبي: أسفلهم طبعًا أعلاهم وظيفة. وقال يصف الأمراء والملوك العرب: أجسادهم خلقت دمّلًا على أديم الأرض وظيفتها توليد الصديد- رياح الصبا تهبّ على السعوديّة.
استشهاد وتمثل بأشعار وأقوال وإشارة إلى كتب: (الحاضر الذي لا يموت ص8) يقول الفليلسوف جوته: إنّ استحضار الذاكرة كاستحضار الأرواح فيها خطورة وألم وفرح ومعاناة وقلق. هذه الصورة المشوّهة لِما يحدث فوق أرض الكنانة، تُذكّرنا بقول الخليفة الراشدي الخامس عمر بن عبدالعزيز 717-720 حيث قال: ما رأيت نعمة موفورة إلّا وإلى جانبها حقّ ضائع. وقال أحد الشعراء: فمذ أذنابنا أصبحت رؤوسًا لنا، غدوْنا بحكم الطبع نمشي الى الوراء. وصَف الأديب العراقيّ عبدالستار ناصر حال ملوك وسلاطين وأمراء الخليج الذين يُكدّسون الأسلحة قائلًا في (الأمس الذي لا يموت ص23): يشترون الأسلحة، لكن لم تستطع هذه الأسلحة حماية مؤخّرات نسائنا. مظفر النواب: قمم قمم قمم معزى على غنم/ على سمو نعجة على حمار بالقدم وتبدا الجلسة. ورد في موسوعة الهاغاناة العبرية الجزء الثاني: ان قيادات العصابات اليهودية المسلمة قررت احتلال اكبر عدد ممكن من القرى والمدن الفلسطينيّة.
استخدام اللغة العامية والعامية المعدلة: هذا مش شغلي (الأمس الذي لا يموت ص13). همس عبدالرحيم شيخ يوسف في أذني: عِلِق، اِهْريه. محمود عباس يناطح بقرون من خزف. قطاعات كبيرة من أبناء الشعب المصريّ والسواد الأعظم من الشعب الفلسطينيّ سيّان، في المجاعة واللهث وراء رغيف العيش وحبّة الدواء ورائحة الزفَر. انت شلون تدخل في شي ما يعنيك؟ هذا ما يخصّك فهمت؟ انا أقدر أرجعلك الى جسر الزرقا. سمعت بلى أنا أقدر رجعلك. كلش زين. اكو عندكم شاي. الرئيس الفلسطينيّ محمود عباس "مشغول خالص في هذه الأيام".
عناصر الأسلوب القصصي: 1* الشخصيّات في كتاب جمرات معروفة وهي في غالبها سياسيّة، ولكن المؤلف كان يتعامل مع بعضها بأسلوب القصّة، فيظهر أبعادها وخاصّة البعد الجسميّ. قال عن هيلة ابراهام في (الحاضر الذي لا يموت ص22): جحظت عيناها واتّسعت الندوب المتناثرة في وجهها، من بقايا مرض الجدري الذي أصابها على ما يبدو قبل قدومها إلى إسرائيل. لقد رأيت أمامي وجهًا شبه محنّط هجرته الحيوية وغزاه الإرهاق والعناء، تتصدّر هذا الوجه عينان غائرتان في تجويف الوقب متعبتان، وعضلات الأهداب ثقيلة بحاجة أيادٍ لفتحها وإغلاقها.
2* تيار الوعي: إنّها حاسّة لها مُسمّيات كثيرة، هل هو العقل الباطن الذي يسيطر على إرادتنا ويدفعها أمامه؟ هل هو القدَر الذي لا رادّ له بقوّته غير الملموسة والمرئيّة، هو من أمرني وحرّكني من أمام واجهة حانوت الألعاب؟ للإجابة على هذا الإحساس وهذه التساؤلات أجد نفسي في منزلة بين المنزلتين، إحداهما تؤمن أنّ الإنسان لا يختار أعماله، وأخرى تقول عكس ذلك. (الحاضر الذي لا يموت ص22). حسنا فعلت، عندما تركت المكان، ولسان حالي يقول سوف أشتري الهديّة من كفار سابا.
3* الأسوب الأدبيّ: للكاتب تميم منصور من الخيال الشرود والمجازات القريبة والبعيدة والاستعارات بأنواعها، ما يَرقى بالأسلوب إلى دائرة التعابير الفنّيّة الأدبيّة الرائعة فيقول: قبل أن يصل إلى التقاطع الزمنيّ الذي شهد توقّف بعض الحركة التقدميّة فوق رمال شاطئه، حيث سارع التاريخ إلى لفّها بكفّه، بعد أن أبقت حيّزًا واسعًا من الفراغ المظلم الموحش داخل الشارع العربيّ (الحاضر الذي لا يموت ص75). تجمّعت غمار هذا الكتاب من حصاد الأحداث التي اختزنتها الذاكرة، فخرجت بعد اختمارها حاملة عبق التاريخ ومرايا الوجوه والأحداث، وما يُميّز هذه الغمار كونها مُكلّلة بندى الصدق والواقعيّة، بعيدة عن صنيعة الخيال والتكلف وزيف الأقنعة، ولولا ذلك لما بقيت سنابل هذه الغمار سليمة امتداد عمر إخصابها داخل أعماق الزمن (الأمس الذي لا يموت ص9). هنا حدث عكس ما هو متوقع، فبدلًا من الفرح، لأنّ مسوار العودة أخذ يلفظ أنفاسه، والليل يطوي خيمته السوداء، بدلًا من ذلك ازدادت مخاوفي كثيرًا، ووقعت في شباك الذعر (الأمس الذي لا يموت ص66).
السرد الملحمي: لعلّ أوضح لقطة تشدّ أنفاس القارئ تلك الصورة الملحميّة، على أثر انفجار القنبلة في تلّ أبيب وما أعقب ذلك. (الحاضر الذي لا يموت ص23). وكذلك يمكن الاشارة الى غربة بأنّها صورة ملحميّة للهجرة وترك المنزل.
منذ أكثر من ربع قرن شهدت وعرفت مواقف العزّة الوطنيّة والقوميّة معًا للصديق الكاتب تميم منصور، هذا الرجل الذي الذي كان وما زال وشيجة راسخة من وشائج الانتماء الوطنيّ المتين، ولا تحمل هذه الكلمات مبالغة صديق ورفيق، بقدر ماهي محاولة للاعتراف بحقّ صاحب الحقّ، أقول وقد عشت بين العبارات الملتهبة بحرارة  الكبرياء والأنفة، وعلى أرض الشمم والعزّة إلى جانب الصراحة والوضوح، أنّ هذا الكاتب ماهو إلّا مهندس فذ لتوثيق الزمن دون زيف أو رياء، وهو قارئ أمين لسفر من أسفار حياة عاشها وعشناها معه، وقد عرض علينا صفحات الأيّام الحارّة التي ارتسم بين أسطرها وبين كلماتها الغضب المتحفز، ويقينًا أنّ من يقرأ كتب تميم منصور، يعرف أنّ هذا الكاتب قارح البصيرة، جذع الإقدام، لم يُخلص إلّا للحقيقة، ولم يكتب إلّا بحبر قلبه، بعد أن قرعت الحقائق أجراسها، فنهض مُجيبًا قائلًا أنا لها. ولعلّ نبضَ الحقائق في سيرته يعكسُ لنا أنّ الكاتب لم يؤرّخ لسيرته ما أرّخ لشعبه، ولم يلهمه حبّ نفسه شيئًا في الكتابة، ولكنّ مُلهمَه الحقيقيّ هو هذا الشعب صاحب التاريخ الناطق، وإذا كانت هذه خميرة فكره، فما من شكّ في أنّ الحقائق أوضح وطريقها أصلح ولسان الحال فما أفصح.
الإيقاع المتغيّر في أسلوب بسط السيرة الذاتيّة لتميم منصور وصور بين التحبير الإنشائيّ والتعبير الكتابيّ: 1* التمهيدات العامة او الخاصة: (ص40) التمهيد لموضوع "في ضيافة الصليب الأحمر" تمهيد يعرف بقرية كفرقاسم من حيث الموقع والعلاقات مع من هم وراء خطوط وقف النار بين الاردن وإسرائيل. و(ص38-39) التمهيد لموضوع "من أوّل غزواته كسر عصاته"، وتضمّن توضيحًا وشرحًا عن مدرسة كفرقاسم الثانويّة، والتعريف بالمعلمين العراقيّين ومستواهم العلميّ، ثمّ جاء الموضوع الذي مثله إعادة طالب كان قد تسلل إلى المناطق الأردنيّة. و(ص130-130) التمهيد لموضوع "مدارسنا ودرس الرياضة المهمل" وتضمن معالجة لموضوع الرياضة وأهمّيّتها وإهمال شأنها لدينا في مدارسنا ويُفصّل النواقص، ولا يكاد يخلو أيّ موضوع وأيّة حلقة سيرة تعليميّة من تمهيد معيّن، وهذا الأسلوب ينسحب على سائر كتبه.
2* الأساليب الأدبيّة: وردت هذه الأساليب ممثلة بتمثال واسع يشبه خيال الشعراء والمترسلين البلغاء، فيقول في مطلع موضوع "شاي ودم" (ص35): "التقيت به، فدلّني إحساسي أنّ هذا الأستاذ الشابّ وراءه قصّة حزينة. وجهه الغاضب وجبهته العريضة يُشيران إلى أنّ البركان في داخله ما زال ثائرًا، تتسلّل ألسنة اللهب الحارّ مِن مسامات بَشرَتِه ومن كلماته الناريّة. و(ص46): لأنهم يعيشون داخل جرح المجزرة الذي ينزف". و(ص53) وبعد أن دخلنا إلى المختبر، همس قائلًا لي بكلمات متثاقلة، مبلولة بعرق اللهاث، كأنّه كان يصعد سلّمًا. و(ص80) وصلتُ إلى الضفة الثانية من نهر الواجبات والمستحقّات، للحصول على اللقب الأوّل بعد ثلاث سنوات. خلال هذه المدّة القصيرة نسبيًّا، لم تكن السباحة سهلة في مياه التوتر والضغط والعمل والواجبات الحياتيّة والاجتماعيّة، وغير ذلك من تعابير كثيرة لا يكاد يخلو منها أيّ موضوع في الكتاب، جاءت وكأنّها لوحات تزيّن جدران غرفة جميلة شائقة للجلوس على المقاعد الوثيرة المريحة.
3- التشبيهات: متوفرة بكثرة فتؤكد أحيانا وتقبح احيانا أخرى وتصف في حالات وتجمل في حالات فيقول ص48 فانتفضت كما تنتفض الدجاجة عندما يبتلّ ريشها بالماء. و(ص69) وقد ظهرت خيوط الفجر المُتدلية فوق جدران السجن، كجدائل امرأة أرهقها سهاد الليل، وهي تنتظر حبيبها الذي خرج ولم يعد..! و(ص144) لأنّ طبقات الغيوم الرماديّة وقفت بالمرصاد أمام الحزم الضوئيّة، لمنعها من الوصول إلى فضاء سجن أبو كبير. لكن خسرت الغيوم في النهاية هذه المواجهة مع أشعّة تمّوز المُلتهبة، لأنّ طبقات الغيوم تقهقرت وتبخّرت، وذابت كما يذوب الشحم فوق اللهب
4- دقة الوصف: يصف د. حسين فوزي (ص86): كان عجوزًا مُترهّلا مُحدَوْدبَ الظهر، تملأ التجاعيد وجهه، ومشيته بطيئة قريبة من الكبرياء، بعيدة عن التواضع، نظراته فيها بريق محيّر، ولمعان انبهار بالمكان الذي يتواجد فيه. راقبت نظراته المتأجّجة بالشهوة، فوجدتها تحطّ فوق صدور طالبات يهوديّات يجلسن على المقاعد الأماميّة، ورغم أنّ الجميع انتبه لنظراته المُتصابية، إلّا أنّه استمرّ في غرز النظرات  الناريّة. ويصف السجان (ص70): كان يتعثر أمام كلّ حرف، فمرّة يرفع النظارات عن عينيه، ومرّةً يُعيدها ومرّة يَدفن رأسه في بطاقة الهُويّة. وص144 كان عجوزًا مُترهّلا مُحدَوْدبَ الظهر، تملأ التجاعيد وجهه، ومشيته بطيئة.
رابعاً : أساليب من عالم الرواية والقصة القصيرة: الشخصيات وأبعادها:
*البعد الحسّيّ: (ص68) كان عجوزًا مُترهّلًا محدودب الظهر، تملأ وجهه التجاعيد. و(بُعد نفسيّ ص111) صاحبة صولجان العبوس. و(بُعد جسمي ص95) الوجه الكشر؟ و(بُعد اجتماعي ص78) مُفتشة.
* أسلوب القصّ يتراوح بين ضمير المتكلم الذي جاء في معظم المواضيع، لأنّ الأحداث التي يبسط الحديث فيها يكون هو في أثنائها وفي أمواج تدفقها وحدوثها ، ولكن إذا أراد اللجوء إلى المقدّمات والتمهيدات، فإنّه يعرض ذلك بأسلوب العارف الكليّ .
* تيار الوعي: معروف قصصيّا، حين يختلي البطل بنفسه ويبدأ بالمناجاة والحوار الذاتيّ، فيقول "ص80": في حَرَم الجامعة ومقاصفِها ومكتباتِها وحدائقِها وقاعاتِ المحاضرات، تعرّفتُ على ذاتي، وتفجّرتْ غالبيّة طاقتي وقدراتي، وتضاعفتْ مساحات أفقي وتعمّق انتمائي إلى وطني وشعبي.
*الاختزالات القصصيّة (ص90): قرّرتُ مراجعة المفتش الذي وعدني بالنقل في نهاية السنة الدراسيّة، وكان مكتبه في مدينة نتانيا. قرعت باب مكتبه ودخلت، وما أن رآني أمامه حتى شعر بنوع من الارتباك، ثمّ طأطأ رأسه ورفع يده ومسح جبهته العريضة. نظر إليّ نظرات عرفتُ تفسيرها فورًا.
* الحسّ المتزامن أو تبادل الحواسّ: (ص66) وجوه العمّال نحاسيّة اللون. و (ص20) أحلامي الملوّنة. و(ص36) وجوههم البلاستيكيّة. و (ص36) ابتسامتهم الثعلبيّة.
* التناص: كقوله (ص36) ابتلعته الغرفة، (من يوسف إدريس، ابتلعتها الحارة، قصة نظرة). حطّابين وسقاة ماء من أوري لبراني قال عن العرب (بأنهم يجب أن يعملوا ويعيشوا كحطابين). كلّ واحد كتابه بيمينه، من القرآن الكريم،(  فأمّا مَن أوتي كتابه بيمينه).
*أطماع اليائس: بداية جميلة ونهاية سيئة أو قبيحة كقوله: "أمّا بيوتنا فهي فنادق .. بمستوى نجمة واحدة".  الاستعارات كثيرة وتأتي في معظم مقالاته وموضوعاته كقوله (ص35): "تتسلل ألْسِنَةُ اللهب الحار". و "أمّا جدران ذلك الصف فكانت مُطرّزة.. بالشقوق والحفر والبقع السوداء".
*اللغة: وكانت اللغة بأسلوب سائد، وطعمت بلغة محكيّة أو بأمثال فلسطينيّة أو أقوال معروفة فلسطينيّا، أو بلغة غير فلسطينيّة كاللهجة العراقيّة وفيما يلي النماذج: (ص30) الظاهر أني ياما راح أوكل غيرها. و(ص16) قميصي الجديد تجعلك. و (ص19) يدبّر حالو. و (ص25) "الأساتيز" يعني الأساتذة، و "المعاليم" يعني المعلمون. و (ص29) "شو الّلي دفعك للمُرّ إلّا اللي أمرّ منو". و (ص27) معلش اتحمّلونا اليوم يا أساتذة. ومثل هذا كثير في النصوص.
*أسلوب التجميل: (ص11) سنة دراسيّة أكون أنا فيها الربّان في سفينة تهتزّ، وأحاول الإمساك بها بعيدًا عن مناطق الغرق.
*أسلوب التقبيح : شعورٌ يؤكّد لي أنّ شيئًا غامضًا سيخرج من بين جحور وزارة المعارف.          *اللهجة العراقية: "أكو شاي عندكم" (ص36). "أسمع، عندك والله خوش مدرّس" (ص144). "هذا الأستاذ كُلش زين" (ص153).
إنّ أسلوب تميم منصور في كتاباته كالثوب المرصّع بالحلي والجواهر، بأساليب شعريّةٍ وأدبيّة وبلاغيّة، وفي ذلك تخفيف وتشويق للقارئ ليكون في نزهة ممتعة تشوّقه لقراءة الكتب، فتميم منصور متدفق الشعور والأفكار متنوّع الأساليب، ومَن يطالع كتاباته يقف على متعة فنيّة، واكتساب الحقائق والمعلومات.
مداخلة تميم منصور: المحامي الفاضل فؤاد نقارة رئيسِ نادي حيفا الثقافي. المحامي حسن عبادي وجميعُ زملائهِ الأعضاءِ في نادي حيفا الثقافي، السيداتُ والسادةُ الحضور، مع حفظِ الأسماءِ والألقاب. لا توجدُ كلمة حقٍ جديرةٌ بالذكرِ أوْلى من تقديمِ كلِ الثناءِ والشكرِ لحضراتِ السادةِ أعضاءِ المجلسْ المليّ الأرثوذكسي الوطني في حيفا ، لأنهم الرافعةُ والقامةُ الشامخةُ التي تدعمُ هذا النشاطَ الدؤوبَ لناديّ حيفا الثقافي، هذا الدعمُ لا يتمُ فقط بتوفيرِ وتقديمِ هذا المكان الطاهر، بل مباركٌ كلُ ما يقومُ به هذا النادي الصاعدُ كُلَ يومٍ في سُلَّمِ النجاحِ والعراقةْ. كلمةُ حقٍ يجب أن تُقالَ في هذهِ المناسبةِ وأمامَ هذا الحضورِ الكريمِ وفي كلِ مكان، إنَّ ما يقومُ به نادي حيفا الثقافي من رفعِ منسوبِ الثقافةِ، ودفعِ عجلةِ النشاطاتِ الفكريةِ والثقافيةِ، برغمِ  إمكانياتهِ  المتواضعةْ، قد فاقَ كُلَّ تصوّر، وهذا يعودُ الى قوّةِ إرادةِ  التواصلِ وشكيمةَ أعضاءْ هذا النادي، الذينَ يَرْوْنَّ دعمَ الإبداعِ بكلّ صورهِ رسالةً مقدسةً، لا بدَ من حَمْلِها وإيصالِها الى بيتِ كلّ فنانِ و كاتبِ عربيّ في هذا الوطن. إن مسيرةَ أعضاءِ هذا النادي وإصرارَهم على الأخذِ بناصيةِ الكُتابِ والشعراءِ وكافةِ المبدعينَ، تُعتبرُ مفصلاً هامًّا في تاريخِ هذهِ الشريحةِ من العربِ الفلسطينيّينَ الذينَ انفردوا منذُ عامِ النكبةْ حتى اليومِ بصفاتٍ ومميزاتٍ خاصةْ، قَلَّ ما نجدُها لدى أيّة شريحةٍ عربيةٍ وغيرِ عربيةْ، لقد عَملَ المواطنونَ العربُ بمقتضى ما قالهُ بعض الحكماء: "إن النكباتِ تجلي معادنَ الشعوب".
عندما وجدَ المواطنونَ العربُ أنفسهمْ معزولينَ مُهمّشينَ حتى من أبناءِ جِلْدَتِهم، كان الخيارُ الوحيدُ أمامهم الاعتمادَ على أنفسهمِ، رغمَ النسيان والحصار ومحاولاتِ التجهيل ومُصادرة الانتماء، قاوموا الاغترابَ

81
المكانُ في العملِ الأدبيّ جغرافيّةٌ خلّاقة!
آمال عوّاد رضوان
أمسيةً ثقافيّةً في قاعة القديس يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 9-2-2017، ووسط حضورٍ من الأدباء والمُهتمّين بالشأن الثقافيّ أٌقامها نادي حيفا الثقافيّ، برعاية المجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، تناولت كتابَ يوميّات نسب أديب حسين بعنوان "أسرار أبقتها القدس معي"، وقد رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة مؤسّسُ ورئيسُ نادي حيفا الثقافيّ، ثمّ تحدّث المحامي كميل مويس عن أهمّيّة الكلمة وحرّيّة التعبير، واستنكر أمرَ مصادرة رواية "جريمة في رام الله" للكاتب عبّاد يحيى، كما رحّبَ بالحضورَ د. نبيه القاسم باسم العائلة، ثمّ تولّت الإعلاميّة إيمان القاسم عرافة الأمسية، وقد تحدّث عن كتاب المحتفى بها كلٌّ من د. باسيليوس بواردي، ود. عمر يوسف والمحامي حسن عبّادي، تخلّلتها قراءاتُ نسب حسين لنماذجَ من نصوصِها، وفي نهاية اللقاء شكرت حسين الحضورَ، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
افتتاحيّة المحامي كميل مويس: الحضور الكرام، نرحّب بكم أحرّ ترحيب. الكتابة مسؤوليّة وحرّيّة تعبير، والكلمة هي محرابٌ مقدّس لا يجوز العبث بها وتقييدها، وما حصل مع الكاتب عبّاد يحيى من مصادرة روايته الثالثة "جريمة في رام الله" غير مقبول علينا، يتعارض مع حرّيّة الكلمة والتعبير، خصوصًا لشعبنا الفلسطينيّ الذي يفتخر بأدبائه وكُتّابه وحرّيّاتهم في النشر والإصدارات الأدبية. تحية شكر وعرفان للمجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا لدوره الهامّ في دعم العلم والثقافة في مجتمعنا، فقد أسّس الكليّة العربيّة الأرثوذكسيّة عام 1951، والتي أصبحت مع مرّ الأعوام كليّة قطريّة، تجمع تحت كنفها كافّة فئات مجتمعنا العربيّ من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن كلّ حدب وصوب على مدار 65 عامًا، ومنذ عام 2000 قبل سبع سنوات بات راعيًا وداعمًا لنشاطات وفعاليّات نادي حيفا الثقافيّ، والذي غدا منصّة أدبيّة تستقطب الجميع وباعتزاز. نأمل أن تستمتعوا بالأمسية، وبمداخلات د. باسيليوس بواردي، والمهندس د. عمر يوسف والمحامي حسن عبادي، ومع ضيفتنا الكاتبة نسب أديب حسين التي تأتينا من منحدرات جبل حيدر الشامخ وقرية الرامة العزيزة على قلوبنا، ومع الإعلامية إيمان القاسم عريفة الأمسية.
مداخلة د.باسيليوس بواردي: يقوم الكتاب على سرد ذاتيّ للمؤلفة في مواقع عدّة من مدينة القدس، وهو سرد أقرب إلى التوثيق الأدبيّ لجولات يوميّة كانت تقوم بها في أرجاء المدينة، وتتراوح العمليّة السرديّة في الكتاب بين الوصف الواقعيّ لتفاصيل المدينة الجغرافيّة، ولمعالمها الأثريّة والتاريخيّة والاجتمماعيّة والثقافيّة من جهة، وبين حفريّات شعوريّة ذاتيّة تقرّب العمليّة السرديّة إلى التعبير الفنّيّ والجماليّ الأدبيّ من جهة أخرى. هذا التضافر بين الوصف الواقعيّ والوصف الداخليّ الشعوريّ هو برأيي ما يُقرّب هذا العمل من الوجهة الأدبيّة الفنّيّة، ويمنحه لمسة النصّ الجماليّ التي تميّزه عن الدليل الجغرافيّ الجافّ، أو كتابة اليوميّات الحافلة بالوقائع الخالية من الأبعاد التخييليّة.
يعتمد هذا الكتاب ظاهريًّا على جولات ميدانيّة للمؤلفة في أرجاء مدينة القدس، فتصفُ في تجوالها معالمها وتشرح قضاياها، وترصد الإشكاليّات الوجوديّة لواقعها المَعيش، على أنّ هذه الجولات تقوم بالأساس على التشابك المَتين بين المؤلفة وروحانيّة المدينة الأثريّة، والجغرافيّة ليست إلّا جانبًا واحدًا من هذه العلاقة الوجدانيّة العميقة التي تربط المؤلفة بكلّ جزء من هذه المدينة. ليس الكتاب وصفًا للأبعاد الجغرافيّة للقدس، بقدر ما هو كشف عن التمازج الروحانيّ بين ذاتيّة الكاتبة ووجد هذه المدينة. "أن يُرهقك عشقُ مدينة" يعني أن "تلوح أمام عينيك وتناديك: متى ستاتي؟" هذا المجيء يحمل معه في القدس بالذات أفراحًا صغيرة بحسب تعبير المؤلفة، تُفسدُها على الدوام سلوكيّات الراهن فيها من صراع على الأرض والمأوى والإنسان، فالراحة مطلبُ المؤلفة في قدسها، على أنّها راحة يُرافقها دومًا نشازُ الحال ومظاهرُ القسوة والسيطرة والجبروت فيها. المدينة المعشوقة عندها تتأرجح بين حالتين جوهرهما التناقض والتضاد. المعشوقة تُلهمها بشطحات روحانيّة تُضفي على روحها الزهو والنشوة، وفي آن تُشعرها بضيق السطوة والظلم الجاثم على حواري هذه المدينة وفي ثنايا روحها: "لماذا يُصرّون على الظهور في كلّ مرّة؟ أليثقلوا صدري وصدر المدينة؟ ألا يَحقّ لي ولو لمرّة أن أرى مدينتي بعيدًا عن بنادقهم"؟ ص101. هذه المَشاهد الممزوجة عند المؤلفة هي حقيقة هذه المدينة التي تعيش التضاد العميق في كلّ تفاصيلها؛ الجمال والبشاعة، الحرّيّة والكبت، الكبر والذلّ، الحُبّ والكراهية، هذا التضاد العميق هو الروح الحيّة لهذه المدينة، وهو الجرح النازف فيها: "الشمس تهبط رويدًا رويدًا.. تختلط المَشاهد مرّة أخرى. ما زلتُ أرى الدخيل المتّشح بالسواد يتصفح وجه المكان.. يبقى شعاعٌ صغير من جسد الشمس يوشك على الغياب.. يَشهد أحلامَنا المتناقضة.. يغيب هو.. يرحل الشعاع وأمضي.. سنرى من سيشرق ذات ذات يوم ؟" ص102.
برأيي، يتأسّس السردُ في هذا النصّ على الهُوّة الفاصلة لحدود الأمكنة الواقعيّة في النصّ، والأمكنة الداخليّة الشعوريّة العميقة في وجدان الساردة، لتصبح الأمكنة الواقعيّة أداةً لتوثيق الروحيّ المتأصّل فيها، ليست الكنائسُ والمساجد والسور والحواجز والشوارع والأزقّة الملتوية مَدخلًا إلى علم الجغرافيا أو السياحة، وليست مَواقعَ على خارطةٍ ترسمُ حدودَ الأمكنة والأزمنة، بل شواهد على رمزيّةٍ تُمثّلُ صراعَ بقاءٍ وجوديّ أو مَحوًا أبديّا. القدس في هذا السياق فضاءٌ رحبٌ يتأسّس على ثنائيّة الزمان والمكان المُتداخليْن معًا (spatio-temporel)، إنّها ليست المكانَ بقدر ما هي الممارساتِ والعاداتِ التي يَسلكُها الناسُ في هذا المكان بتأثيرٍ منه. إنّ القدسَ في جولاتِها تتمتّعُ بالديالكتيكيّة الحركيّة الساعية إلى فهم الوجود الإنسانيّ بشكلٍ أعمق. يُعطي المكانُ (القدس) للعمل الفنّيّ التخييليّ مَظهرًا واقعيّا، وهو عنصرٌ مُشاركٌ في الأحداث. يظهر المكان السرديُّ ككيانٍ مُركّبٍ كامل، ولكنّه يشتقّ وجودَهُ من اللغة، ويُؤثّرُ هذا الجانبُ اللغويُّ على طبيعة الفضاء الروائيّ، ليَجعلهُ يتضمّنُ كلّ المشاعرِ والأفكارِ والتصوّراتِ المكانيّةِ التي تُصوّرُها اللغة، ويختلفُ بذلك عن الأماكن والفضاءاتِ المُتعلّقة بالعلوم الفيزيائيّة.
المكانُ في العمل الأدبيّ شخصيّة مُتماسكة وجزءٌ مِن الحدَث، لذا؛ فهو "الجغرافية الخلّاقة"، إذ يحملُ في طيّاتهِ دلالاتٌ تُحاكي شيئًا في ذاتِ الكاتب أو في الذات الاجتماعيّة، ويؤكّدُ روسوم (rossum) على أنّ الأماكنَ تُساعدُ القارئَ في فهمهِ للشخصيّات، ويُعتبرُ المكانُ الروائيُّ مَخزنًا للمشاعر والأفكار العميقة، وتنشأ بين الإنسان والمكان الذي يعيش فيه علاقة متبادلة، فيؤثر أحدُهما على الآخر، ويساعدُنا تحليلُهُ على إيجاد المعنى الحقيقيّ والكامل للعمل الفنّيّ".Weisgerber 1978 ,P.227  كما يُبنى المكانُ أو الفضاءُ الروائيّ وفقَ نظر الشخصيّة التي تعيش فيه، وذلك وفقا لمنظور الروائيّ ووجهة نظر السرد، فيتحكّمُ فيه ويسيطر على تنظيمه، لذا فقد يظهر مُوحّدًا أو مُقطّعًا، لكنّه يُبنى أيضًا وفقَ منظور القارئ عندما يُتمّمُ الصورة الفضائيّة الأدبيّة في خيالهِ، وهذا ما أفعله أنا اليوم. يحتوي النصّ على العديد من أنواع الأمكنة التي سأختصرُها بأربعة أنواع أساسيّة، وسنقفُ من خلالها على القضايا الأساس التي تُميّز هذا العمل الأدبيّ:
الأماكنُ المُتقاطبة: يُبلورُ لوتمان (Lotman) نظريّة التقاطب المكانيّ، مُؤكّدًا بأنّ غالبيّة النماذج الاجتماعيّةِ والدينيّةِ والأخلاقيّةِ التي تُساعدُ الإنسانَ على فهم واقعِهِ، تتضمّنُ خصائصَ مكانيّةً متقاطبة نحو السماء والأرض، من خلال مبنًى هرميٍّ سياسيّ اجتماعيّ مثل: عال - منخفض، أو صراع أخلاقيّ مثل يمين- يسار. أمّا ويسجيربر (Weisgerber) فتتبنّى نظريّة لوتمان، وهي تُؤكّد على أنّهُ كلما زادت حدّة هذه التقاطبات أصبح الفضاءُ الروائيّ مُشوّقًا أكثر. إذن؛ الارتباط بينَ التقاطبات المكانيّة في العمل الأدبيّ والأبعادِ الفيزيائيّةِ والهندسيّةِ هو ارتباط واهٍ، وذلك خلافًا لِما يَظهر، وبالرغم من هذا، فهذه المفاهيمُ تُشكّلُ النظامَ المرجعيّ لتحليل الفضاء الروائيّ، بالإضافة لربطها بسياقاتٍ تاريخيّةٍ واجتماعيّةٍ وبالمعارف والعلوم الأخرى. القدس بالنسبة للمؤلفة مكانُ التقاطبات الأمثل، لأنّها تُمثّل كلّ التقاطبات الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياسيّة والثقافيّة، وهي تُترجم هذه التقاطبات مقابل الجانب الاسرائيليّ الذي يَحتلّ الجانب المعاكس للمجتمع القدسيّ وتاريخه وسياسته وفعاليّاته الثقافيّة. الجندي الإسرائيليّ المتواجد على الدوام في كلّ مكان يتقاطب وفق حسين مع المنظومة الأخلاقيّة التي تعيشها في القدس، أو على الأقلّ الذي تريد أن تعيشه. إنّه الظلم والاعتقال والتعدّي والحصار، بينما تُمثّلُ القدس بانتمائها العربيّ عند حسين القطبَ الأمثلَ للحرّيّة والكرامة والضحيّة. التقاطبُ المكانيُّ في النصّ أساسٌ لفهم مدى النقد الشامل الذي تحاول المؤلفة بثّهُ، من خلال تعميق حدّة التقاطب.
منظور الحدّ: يدّعي لوتمان أنّ وجود الحدود هو مميّز طوبوجرافيّ مُهمّ في النصّ الأدبيّ، وذلك انطلاقًا من كوْنها تقسّم العمل الأدبيَّ إلى فضاءيْن مُنفصليْن لا يلتقيان أبدًا، وهذا ما يحدث في النصّ من خلال مصطلح الحاجز أو الجدار الفاصل. لقد فرحت المؤلفة فرحًا لا يوصفُ، عندما تلقت الخبرَ عن جاهزيّة مولودها الثالث، وهي تُحدّثنا عن طفل خلف الجدار، وعن مدى تشوّقها للوصول إلى المطبعة لتلقّي النسخة الأولى من كتابها، لكنّ الفاصل يمنعها من الوصول ويُعيقُ فرحتها. هذه الحادثة على بساطتها وعفويّتها تشير بشكل صارخٍ إلى الفصل القسريّ للكينونة الفلسطينيّة: "كلّما اقتربتُ تسارعتْ نبضاتي أكثر، وخاصّة هناك اللونُ الرماديّ، هذا اللون الذي أقيمَ ليقسم شارع القدس رام الله إلى قسميْن، وليفصلَ قرية الرام عن بيت حنينا المُحاذية لها، أما كان أجدى وأعذب لو غاب عن عيني وعيون القاطنين هنا" ص48. من المثير حقّا أن نقرأ قصيدة "زيارة للبيت الفقيد" (ص72– ص74) التي ضمنتها المؤلفة في النصّ السرديّ، تخاطبُ فيه أباها وبيتَه الذي هجرَهُ بعد أن تعلّمَ في مدينة القدس. القصيدة تقودنا إلى نوع آخر من الحدود، تتمثّلُ في هذه الحالة بالباب، والبابُ هنا حدٌّ بين تاريخ ماضويّ عزيز على الساردة، وبين تاريخ حاضر يصرخُ ظلمَ الماضي. البابُ في هذه القصيدة حدٌّ بين الحنين والالم، وبين الوجود الأبويّ والوجود الأبويّ المفقود.
المكان الحميميّ: (Intimate place): القدسُ هي المكان الحميميُّ المنشود عند المؤلفة، والذي يُوفّرُ البديلَ الأمثلَ في حالة لم تُسعفْ قريتها الرامةُ مكانُها الحميميُّ الأوّلُ، فرصةَ تأمين الحماية الوجوديّةِ لها، فالمكانُ الحميميُّ يوفّرُ الحماية لقاطنيه، ومن هنا فهو يُكثّفُ الوجودَ في حدودٍ تتّسمُ بالحماية. تقول: "أتنهّد وأعترفُ أنّي تعبتُ من السفر، لكن ليس مِن السهل أن تعشقَ مكانيْن، فإنْ أجادَ كلُّ مكانٍ ضمَّكَ إلى صدره، تشعرُ أنّ لحياتكَ قيمةٌ أكبرُ، وكلما تنقّلتَ بينهما وإن أغضبكَ أحدُهما تُهوّنُ على نفسك فتقول: "لي مكاني الثاني وسيُخفّفُ عنّي". ص81-82. على أنّنا لو تمعّنّا قليلًا في أعماق السرد، سنكتشف أنّ الرامة مكانٌ حميميٌّ أساسٌ عند حسين، فالقدس قد تشير إلى المثال، والرامة تبقى الموطنَ الأوّلَ، فتقولُ محاورةً ظِلَّ أبيها عندما يسألها: "ألن تعودي إلى الرامة؟ تجيبه: سأعودُ عندما ينضج زرعي هنا" ص72. هذه الإجابة غير المتردّدة تكشف عن قيمة القدس لديها، ولكن في الوقت ذاته عن قيمة الرامة الجوهريّة في وجودها.
الأماكن الإيتوبيّة والهتروتوبيّة: يُشير (Foucault) إلى وجود نوعيْن من الأماكن الموجودة الأخرى: النوع الأوّلُ هو إيتوبيّ مثاليّ(utopias)  وهذا المكان واقعيّ مُتخيَّلٌ، يبعث الهدوءَ في النفس ويُعزّي الإنسانَ في مِحَنِهِ، وهنا نتخيّلُ مع المؤلفة القدس المُتخيّلة المُتواجدة خارج حدود الزمن الحاضر، تلك التي تحلم فيها بالأفراح الصغيرة، وفي المقابل توجد في كلّ حضارة أماكنُ واقعيّة حقيقيّة، لكنّها لا تحملُ في طيّاتها مزايا المكان المثاليّ، فهذه الأماكنُ هي خارج كلّ مكان، بالرغم من أنّها قد تشير إلى أماكنَ واقعيّةٍ، وهو يُسمّيها هيتروتوبيا (heterotopias)، وتمتاز الهتروتوبيا بميزة التعدّديّة، فالمكان الواحد قد يحوي عددا من الفضاءات نحو المسرح والسينما، والذي يحوي عددًا من الأمكنة المختلفة من خلال المَشاهد المعروضة. هذه الأماكن أيضًا قد ترتبط بالزمن بشكل تراكُميٍّ تتابُعيّ، مثل المكتبات والمتاحف التي تحوي بين ثناياها أزمنةً وحُقبًا عدّة. تتمتّعُ هذه الأماكن أيضًا بميزة ازدواجيّةِ الانفتاح والانغلاق، وهذه الميزة غالبًا ما تكون إجباريّةً مثل السجن، أو على الأقلّ مَن يدخل هذه الأماكنَ عليه الالتزام بطقوس مُعيّنة مثل الحمّام العامّ في الشرق، أو الساونا في الدول الإسكندنافيّة. الهيتروتوبيا برأيي تتواجد عند حسين في المسرح الحكواتيّ، في اجتماعات (دواة على السور) و (اليوم السابع)، فالأمكنة الثقافيّة تُشكّلُ هذا المكان الواقعيّ المتواجدَ خارجَ فاعليّة الموجود المكانيّ المُعتاد، فيه تعود الروح إلى المؤلفة وتشعر بالعزّ والعظمة.
هكذا وختاما لهذه المقاربة، يجب أن أشدّد على أنّ هذه اليوميّات التي باحت من خلالها المؤلفة بأسرار عنها وأسرارٍ عن القدس تُشكّلُ حلقةً مُهمّةً، في محاولةِ فهم الإنسان الفلسطينيّ لذاته، من خلال المكان وفهم المكان، من خلال عناق الذات معه. القدسُ عيّنة مركزيّة للكينونة الفلسطينيّة المُشرذمة القابعة في بشاعة التسلّط وجماليّة الجوهر. لقد أرادت حسين أن تُعيدَ الصلة بين القارئ والقدس، أو على حدّ تعبيرها، تُقصّر المسافة بينهما، فما كان منها إلّا أن قصّرت المسافة لفهم الفلسطينيّ الإنسان، من خلال أبعاد المكان.  "أسرارٌ أبقتها القدسُ معي" محاولةٌ ناجحة لرسم خطوط الطول الفلسطينيّة وخطوط العرض، أو لرسم خارطةٍ جماليّةٍ عميقةٍ للوجود الفلسطينيّ في القدس خاصّةً، وفي مواقع التواجد الفلسطينيّ عامّة. وأُنهي بقول أبي تمّام: وَطـولُ مُـقـامِ المَـرءِ فـي الـحَـيِّ مُـخـلِـقٌ/ لــديــبــاجَــتَــيــهِ فَــاغْـــتَــرِبْ تَـتَــجَــدَّدِ/ فَـإِنّـي رَأَيـتُ الـشَّـمـسَ زيــدَتْ مَـحَـبَّـةً/ إِلـى الـنَّـاسِ أَن لَـيـسَـت عَـلَيـهِـم بِـسَرمَـدِ
مداخلة د. عمر يوسف بعنوان نسب والكتابة مع المدينة: عندما بدأت بقراءة كتاب "أسرار أبقتها القدس معي"، شعرت بأن نسب تأخذ بيدي، وتجرّني لأمشي معها في تفاصيل المدينة، لأكتشف ملامح المكان في معالم العظمة التاريخيّة ومشاهد الحياة اليوميّة، وما أن تبعتها، حتى أدخلتني الى الحارات العديدة لتُعرّفني على قاطنيها، ثم استوقفتي في بعض الزوايا التي تعرفها، لأطل على مشاهد تستعرض فيها مدينة القدس بمفاتنها المعماريّة ومشاهدها التاريخيّة بكلّ روعة. وكما نعتقد كمعماريّين، بأنّنا نشكّل المكان وهو يُشكلنا بدوره من جديد، لم تكتفِ نسب بدوْر الدليل السياحيّ، بل أدخلتني إلى قلوب أصحابها ولمعاني الحياة على طريق المعاناة اليوميّة تحت الاحتلال وممارساته البشعة، لتنقل لي مشاعر وأحاسيس الناس وروايات قصصهم دون جعجعة، وعلى الرغم من نقص الجعجعة، لم تفقد الأمل، وكانت تُعبّئه دائمًا وتمزجه في نصّها السلس. وكثيرًا ما كنت أبتلع الطعم راضيًا، وفي بعض الحالات شعرت بالاستفزاز لأنّني تعوّدت على الكوابيس المُحبِطة، ولم أعُد أتجرّأ على الخوض في أحلام الأمل.
في البداية أنا فخور بوجودي هنا للحديث عن كتاب لإحدى طالباتنا المتميّزات في برنامج ماجستير الدراسات المقدسيّة في جامعة القدس، ويُسعدني أن أقرأ بأنّ برنامج الماجستير كان له تأثير واضح في بعض نصوص هذا الكتاب، حيث نلاحظ المنهج البحثيّ وأسلوب التوثيق العلميّ اللذان ساعداها على إصدار يوميّات مميّزة وغنيّة بالمعلومات التاريخيّة والمعماريّة الموثقة، وليس فقط بالمشاعر والأحاسيس التي تجول في روح الكاتب عند التجوّل في أزقة هذه المدينة الرائعة. من خلال هذا المشوار القصصيّ في التجوال ما بين المباني التاريخيّة وقصص الحياة اليوميّة ونبض الشارع الشعبيّ، قامت نسب بتقديم حصاد صادق لمجموعة من المشاكل الجادّة التي تواجه مدينتنا الحبيبة، وعلى كافّة المستويات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وحتى الاقتصاديّة منها، وفي نفس الوقت أدخلتنا إلى معاني الهُويّة الوطنيّة وأشكال المقاومة اليوميّة، وبهذا أرى أنّ كتابها "أسرار أبقتها القدس معي "هو يوميّاتٌ جمعت بين العامّ والخاصّ بطريقة متوازنة ومُنعشة، لتقدّم كاتالوج من القضايا المجتمعيّة التي تنتظر المزيد من البحث والمعالجة الأدبيّة والعلميّة على حدّ سواء. هكذا كتبت نسب مع المدينة وليس عن المدينة كما تقول، وفي هذا السياق شعرت بنسب ترافق القدس وتصادقها، فما كان من المدينة إلّا أن كشفت لها عن أسرارها ودلّتها على خباياها العزيزة، وعرّفتها على الأزقّة والقناطر، وفتحت لها أبواب البيوت وسردت لها كثيرًا من الخواطر، ليكتبا معًا قصّة حبّ سرمديّ سيصمد أمام صعوبات الحياة ونوائب الفراق. 
خلال مشوار القراءة الممتع، شدّني كثيرًا هذا الكمّ الغنيّ من تفاصيل الحياة اليوميّة وأبطالها الذين يُشكّلون ملامح الحياة الحقيقيّة في المدينة، ممّا أصابني في نقطة ضعفي، حيث أنّي لم أعد أؤمن بثورة الأسياد ومن يقفون على الخشبة تحت الأضواء، بل أميل إلى مَن هم وراء كواليس الحياة، إذ إنّهم في الغالب سرُّ نجاح كلّ عمل، فبينما تُفقدنا الأضواءُ حرّيّتنا لنصبح عبيد العرف المألوف، ولا نستطيع الخروج عن النصّ العامّ إن أردنا البقاء في دائرة الضوء، كثيرًا ما تُوفّر عتمة الكواليس فرصَ الابتكار والإبداع والتحرّر للعاملين في الظلّ، لذا لم أعد أصدّق الوعود الخطابيّة بالتغيير العظيم، وصرت أبحث عن الخطى الدؤوبة التي تَرى كَمّ الإنجازات الصغيرة على طريق التغيير والتحرّر. هكذا سعدت بلقاء العديد من أبطال الحياة اليوميّة والمكافحين على دروبها، فأحسست بتنهّدات الفلاحة أم صابر، وكلّ فلّاحة تتسلّل من خلال جدار الفصل العنصريّ لتبيع منتوجاتها في أسواق البلدة القديمة، وتعرّفت على هموم بائع الجرائد المخضرم أبو سلام، وهو يُجالس بابَ العامود منذ عقود رسم خلالها صورة المدينة لأجيال عديدة، وتعرّفت على ملامح مدينتي من خلال تفاصيل الوجوه الجالسة على جانبيّ السوق، ولم تكتفِ بتقديمي إلى الكثيرين ممّن يَنسجون مشهد المدينة اليوميّ، بل مرّت معي مرارًا على الجدار المشؤوم، لتستحضر في نفسي ذات القلق واللهفة اللتان عانت منهما عند محاولة الوصول إلى رام الله، بَعد التخلّص من الأزمات الخانقة حول حاجز قلنديا الكريه.
في كلّ هذا رافقتني الكاتبة كامرأة مستقلة جريئة هي أختٌ للرجال، بعيدًا عن الصورة النمطيّة التي لا تزال تُعشّش في عقول البعض المحافظ، فرأيت فيها قدوة ونموذجًا للفتيات في وقتنا الحاضر، فهي متواجدة في كلّ المناسبات من أفراح وأتراح، تُعزّي بالشهداء وتستقبل الأسرى المُحرّرين، تحاور الرجال ولا تقف خلفهم، تشاركهم في كافة نشاطاتهم وكثيرًا ما تبزهم، وعلى الرغم من ذلك، وجدت إنسانة صادقة تعترف بجميل الآخرين ودوْرهم في رعاية تجربتها وتشجيع قلمها، فهي لا تتردّد في ذكر زملائها في "دواة على السور" أو في "ندوة اليوم السابع" وكتابها، ممّن شجّعوا نسب ورعَوْا تجربتها في السنوات الأخيرة، فتراهم حاضرين في كتابها. وهنا أذكر الكُتّاب جميل السلحوت وإبراهيم جوهر، على رأيها "عمّي إبراهيم وعمّي جميل"، وكلّما سمعت ذلك منها، كنت أنسى بأنّها من الجليل وأعتقد بأنّها من جبل المُكبّر.
أمّا أسلوب الكتابة فجاء سرديًّا سلِسًا، وبلغةٍ جميلة تتأرجح ما بين أسلوب الباحث وإيماءات الشاعر، بتوازنٍ يدفع القارئ إلى التفَكّر والمراجعة الذاتيّة. أسلوب تميّز بالصدق العفويّ القادر على إيصال المواضيع المُركّبة الى روح القارئ دون تكلّفٍ أو خطابة مفتعلة، فقد تحدّثت عن السياسة والبشر بإنسانيّةٍ محسوسة حافظت على أصول العمل الأدبيّ، ولم تتحوّل إلى بيان سياسيّ يتحيّز للشعارات بدلا من شاعريّة الأدب، هكذا نجحت الكاتبة في التعامل مع التحدّي الذي يُواجهُنا كفلسطينيّين وككُتّاب الشعوب المقهورة، إذ كيف لنا أن نكتب عن المآسي الكبرى دون الوقوع في فخّ البيانات السياسيّة والكتابة التقريريّة، وهنا لا أطالب أبدًا بفصل السياسة عن الأدب، بل أؤكّد على أهمّيّة الربط بينهما ولا أستهجن ذلك حتى في قصائد حُبّنا، لكن يكمن التحدّي الأكبر في قدرة الكاتب على أن يبقى في إطار فنون الأدب، دون الانزلاق إلى لغة البيان السياسيّ والخُطب الرنّانة، بالرغم من أهمّيّتها في المجالات الاجتماعيّة الأخرى، فلكلّ مقام مقال. 
في النهاية تحضرني مقولة للشاعر الفلسطينيّ غسّان زقطان، وهو يدعو إلى "تحرير الأدب الفلسطينيّ من فقاعة البلاغة"، وقد فهمتها على أنها مطالبة بتخليص الأدب من الجعجعة السياسيّة، وجمل البلاغة والتعظيم والسجع التي كثيرًا ما تُغطّي على الحقيقة الحسّيّة وتُزاود بالشعارات، وهنا أتذكّر المثل القديم "أسمع جعجعة ولا أرى طحنا"، بمعنى كلام بدون فعل. أمّا بخصوص  كتاب "أسرار أبقتها القدس معي" فأقول مُتيقنًا، بأنّي أرى طحنًا وطحينًا ولا أسمع جعجعة. كتابٌ شيّق وتجربة رائدة بلغة إنسانيّة مليئة بالصدق والأمل.
مداخلة حسن عبادي بعنوان أسرار أبقتها القدس معي: كاتِبَتُنا نسب عاشَت القدسَ حتى النُخاعِ، بطولِهَا وعَرضِها حتى الوريد، وكتبت (ص 245) "أنا آتي في معظمِ الأيامِ إلى البلدةِ القديمةِ ليس بدوافع عبثيّة، بل لأرى وأسمعَ وأعلمَ عن قُرب ما يحصُل". ذكّرتني بقُدُسي زهرَةَ المدائنِ التي أهدتني زهرتي فتعرّفت إلى زوجتي هناك، بين أزقَتَّها في بابِ حُطّة وباب السلسلة والسعديّة، مع بائع الكعك وعرائش البطيخ، حمّص أبو شكري ومطاعم أميّة وفيلادلفيا، حلويات جعفر وبنّ إزحيمان وملحمة السنيورة في حيّ النصارى، في سهرات الدانيش تي هاوس وبارات البلدة القديمة، بشراب اللوز والتمر هندي، بشطحات مكتبة صلاح الدين وباب خان الزيت ، بدرجات باب العامود ودردشاتنا مع البائعات الخليليّات، وكتبَت نسب خواطرَها لتصوّرَ فترةً زمنيّةً بكاميرِتها الأنثروبولوجيّة، بعيدة عن الشعارات دون ابتذالٍ وأصابت الهدف.
نسب شاهدةٌ على العصر، حيث كتبت خواطرَها حسبَ رُؤيتها للأمورِ بمنظارِها وتصوُّرها دون مُواربةٍ ورياءٍ، وبنظرةٍ ثاقبةٍ تُعبّرُ عن مَوْقفها، وتصوّرُ مشاهداتٍ من الحوادثِ والقصصِ التي عاشتْها حولَ معاناة شعبِنا اليوميّة ومآسيه الصغيرةِ/ الكبيرةِ، وتُذكّرُني بتوفيق الحكيم و"يوميّات نائب في الأرياف"، ومحمد حسنين هيكل وتأمّلاتِهِ. تشخّصُ نسب في هذه الخواطر (115 خاطرة) روايةَ شعبٍ ويوميّاتِهِ حيث تَعرضُها   بأسلوبٍ مميّزٍ متألّمٍ موجوعٍ، تتطرّقُ لأشياءٍ صغيرةٍ تمُرّ في حياتنا، لا نُدركُ أهميّتَها وجمالَها، ربّما لصغرِ حَجمِها أو لعدمِ اكتراثنا بها، أو لأنّنا نضعُ نظّارةً لا ترى مثلَ هذه الأمور إلاّ إذا غيّرنا عدساتِ نظّارتِنا، وبدأنا نُقرّبُ الصورةَ لنرى تفاصيلَ الأمورِ، عندها سنرى أمورًا صغيرةً لها تؤثّرُ فينا.
أبدعتْ نسب بكتابةِ خواطرِها على أصولها: بدايةً باختيارها لعنوان كلّ منها بحيث يكونُ له صلةٌ بموضوعها، فكانت عناوينها مميّزةٌ تشدُّ القارئَ وتوحي وتلمّحُ: (حين يرقصُ النورً في أزقة القدسِ/ ابتسامة رمضان المواربة/ عين كارم والجَمال الموجع/ ابتسامة مقدسية في دربي/ سلوان وظلال أشجار تختنق في حيّ البستان/ أحلام مبتورة في سلوان)، ومن ثَمّ البداية جعلتها مُلفتةٌ وأشدّ وقعًا على القارئ من عنوان الخاطرة، كي تستهويه لمتابعة القراءة إلى النهاية، فالتعمّقُ في صُلبِ الموضوع  يكمُنُ في إبحارنا مع الخيال، فلا يقتصرُ على الواقع الذي نمرُّ به لكي نصلَ إلى مزيجٍ من الإبداعِ يصلُ بعضُهُ البعضَ بكلماتٍ مترابطةٍ، توحي إلى تزيين الواقعِ برسمِ الخيالِ وطرح عُنصر التشويقِ، وذلك بأن نجعلَ سرّها وتساؤلاتنا في بدايتها تكونُ الإجابةِ عليه في نهايةِ الكلماتِ، حتى نصلَ إلى خاطرةٍ واضحةٍ بعيدةٍ عن معاني الغموضِ ومُفعمة بالتشويق، وكأنّ نسب تكتبُ ذكرياتٍ وشطحاتٍ ومذكرّاتٍ ويوميّاتٍ مقدسيّة عن فترةٍ زمنيّةٍ لم تَكَدْ تُغادرُها، مخالِفةً كبارَ الكتّابِ الذينَ ينتظرونَ الكهولةَ ليكتبوا عن فترة شبابهم، فتميّزت باختيارها للمواضيع ووضوح الرؤيا/ فكتبت ما رأت عيناها وما جالَ في خاطِرِها لتُجذبَ القارئَ دون كللٍ أو مللٍ.
تشير نسب بهوامشها إلى المكان والإنسان: كنيسة نياحة العذراء/ قبة الصخرة/ سوق أفتيموس/ كنيسة كل الأمم/ سوق خان الزيت/ سوق القطانين/ سوق البازار/ كنيسة صياح الديك/ قلعة القدس/ كنيسة المسكوبية/ سوق الخواجات/ سوق اللحّامين/ الأسواق الثلاثة/ مقبرة مأمن الله/ برج اللقلق/ محمد إسعاف النشاشيبي/ خليل السكاكيني/ جميل السلحوت/ محمود شقير/ ديمة السمان/ طالب الدويك/ ناصر الدين النشاشيبي/ ابراهيم جوهر/ د. وائل أبو عرفة/ عزام أبو السعود/ عيسى القواسمي/ سمير الجندي / أحمد أبو سلعوم/ أبو سلام وأم طه (أهدتهم الكتاب)- مُركّزة على شخصيّاتها الأدبيّة الثقافيّة.
وترسم بهوامشها خارطة القدس وحاراتها ومؤسّساتها: جبل الزيتون/ سور القدس/ باب الخليل/ باب الجديد/ باب العمود/ باب الساهرة/ باب الأسباط/ باب المغاربة/ وحاراتها: رأس العمود/ حيّ الثوري/ سلوان/ مدينة داود/ ومؤسّساتها: مركز يبوس/ مؤسسة دار الطفل العربي/ بيت الشرقَ/ مسرح الحكواتي/ المكتبة الخالدية/ دواة على السور/ معهد ادوارد سعيد للموسيقى/ مركز التراث الشعبيّ الفلسطينيّ وغيرها، وتركّز مُنحازة بشهادتها المجروحة على المشهد الثقافيّ الذي أصبحت جزءًا لا يتجزأ منه.
مداخلة نسب أديب حسين: مساؤكم خير وحبّ وأمل. لحيفا أغنياتُ موجٍ يسافر ويعود، يتركُ عند الثغر قبلة، ويأخذ من القلب قصّة، وقبل الغياب ينثرُ على كفّ الشاطئ أحلامَ الزبد، يُناجي الجبل "أيا كرملُ، إبقَ شامخًا إلى الأزل". يكون لأسرار القدس قدرُ السفر، إلى أنحاءٍ عديدة من الوطن، وتكون حيفا في الانتظار، ليكون هذا اللقاء، فيسرّني هذا الوجود، ويُثلجُ القلبَ هذا العنوانُ الثقافيّ الحيفاويّ النابضُ والمُتجدّد، ليرسم مع عناوين ثقافية أخرى في القدس ورام الله وطولكرم ومدن غيرها، جزءًا مُشرقًا من مشهدنا الثقافيّ الفلسطينيّ. أسرارٌ أبقتها القدس معي.. إطلالة على قصّتي مع مدينةٍ، أتقنت التغلغلَ في مساحات قلبي، فبعض المدن تظهرُ جزءًا قدَريًّا في طريقنا وخيارًا طبيعيًّا، ونصيرُ أبناءها وتصير جزءًا من أحلامِنا وإن كنّا لا نعرفها. ربّما هي إرادة القدر، وربّما خيارٌ يصير طبيعيًّا كامتدادٍ لسيرة آبائنا، وقد تكون مَكمنَ فضول لاكتشاف سرّ المكان لهذا وأكثر، حين لاح ذاك السؤال المصيريّ.. إلى أين؟ أجبتُ: إلى القدس.
بدأت تجربتي في كتابة اليوميّات من جيل مُبكّر، لكن تجربتي الأولى في نشر هذا النوع من الأدب كانت مع حيفا، حين أوجعتني بيوتها المهجّرة طيلة نصف عام أقمتُ خلاله فيها، فاستطعت الوصول إلى أسلوب مختلف في كتابة اليوميّات، حين كتبتُ "حيفا ذات صيف عيون موصدة"، وبعد عودتي إلى القدس بدأت محاولتي من جديد لكتابة يوميّات المدينة بأسلوب خاصّ بي، واستمرّ العمل على هذا الكتاب أربع سنوات، حاولتُ التعامل معه من عدّة زوايا ورؤى، ليحمل المتعة والمعلومة الموثقة للقارئ، كي يكون لائقًا بالقدس. أسرارٌ أبقتها القدس معي.. ملامحُ وأحاديثُ همستها القدس في قلبي، وحاولتُ بكلّ صدق أن أنقلها لكم، لعلّ وجهَ المدينةِ يلوح ما بين هنا وهناك. شكرًا لنادي حيفا الثقافيّ والمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ على التنظيم والاستضافة، شكرًا لأستاذي المشرف على رسالتي في الماجستير د. عمر يوسف، وابنة عمي إيمان القاسم على تحمّل مشاقّ السفر من القدس إلى هنا، شكرًا لكم جميعًا على الحضور، بكُم يزدان هذا المساء وباللقاء تسقط أبعاد المسافات.
هي القدس؛ (من أسرار أبقتها القدس معي..) تزدحم الأصواتُ في رأسي، تُنهكُني وتَحقنني، وأغضب فألجأ اليها، وأتركُها تأخذني كيفما تشاء، لتحملَ عقلي وعينيّ وجسدي كيفما ارتأت، أسيرُ وتُسيّرُني، تتقاذفني الأزقة وترفعني انحناءاتُ الأقواس، وتُدهشني للمرّة الألف أو أكثر، لتفعل ما أرادت، ولتأخذ عنّي كلّ سقم يوميّ، وحزني وغضبي ووجعي من الكلمات الدخيلة الغريبة، من الوقاحة ومن تبريرات الأيدي الملطخة بالدماء. تعبتُ. سئمتُ. ودخانُ قلبي المحترق غضبًا يخنقني. لا أريد أحدًا سواها يحمل عنّي كربي. وأسيرُ لا تهمّني فوّهات البنادق عند شقوق السور ولا في الزوايا، ولا عيونٌ زُرعت عند كلّ عقبة، تفاجئها وتفاجئني. لا يهمّ. لا يهمّني ما دمتُ هنا، وما دامت تحضنني فهي كلّ شيء. أسيرُ أسمعها، لتقل ما تشاء، لينفجر رأسي من كثرة الكلام لا يهمّ. لترفعني بين النوافذ والشرفات. ليخطفني شعاع نور تسلل بين الأبواب العتيقة، وتيهِ بيوت حجارتُها تعانقت وما تركت لنا مَسربًا، لتتسرّب الروائح والأصوات إلى جسدي، ليتسلّل منّي صخب يوْمِي وأمسي، لتحتلني كيفما أرادت.. لن أقاوم.


82
حيفا تتجلّى بين نباتات وحكايات!
آمال عوّاد رضوان
ضمن النشاطات الأسبوعيّة لنادي حيفا الثقافي كانت الأمسية الثقافية للباحث والمربي فوزي ناصر حنا وإشهار كتاب بحثه "نباتات وحكايات" في قاعة كنيسة يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، برعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، وذلك بتاريخ 2-2-2017 وبحضور كبير من أصدقاء وأقرباء وأدباء ومهتمين، وقد تولى عرافة الندوة الإعلامي نايف خوري بعدما رحب المحامي فؤاد نقارة رئيس النادي بالحضور، وتخللت الأمسية مداخلات لكلّ من المهندس إلياس أبو عقصة، والشيخ نمر نمر، والإعلامية سوزان دبيني، وتساؤلات من قِبل د. أنور جمّال والأستاذ عادل مهنا ود. محمد صفوري، وقدم "منتدى الكلمة" بممثليه د. فرحان السعدي ود. نبيل طنوس درع تكريم للمحتفى به، وفي نهاية اللقاء شكر الأستاذ فوزي ناصر الحضور وكلّ من حضر وساهم في تنظيم وإنجاح اللقاء، وتمّ التقاط الصور التذكارية أثناء التوقيع!
مداخلة الإعلامي نايف خوري: أسعد الله مساءكم بكلّ خير ومودّة ومحبّة، محبّة النباتات للأرض ومحبّة الأرض للنباتات، وبقدر ما هذه العلاقة وثيقة الأواصر، بل تتعلق شرايينهما وأوردتهما بعضها ببعض، فلا أرض بدون نبات ولا نبات بدون أرض، فكيف هو الحال إذا رافقت كلّ نبتة قصّة وحكاية وأسطورة؟ وكيف هو الحال إذا أبحر كاتب نباتات وحكايات في أعماق التاريخ، بين المثولوجيا والخرافة، وبين الأسطورة والحكاية، وأتانا بباقات من أجمل القصص وأحلى الحكايات، وضمّخها بعبق الجليل وشموخ الكرمل، والتقاء الأغوار بالسهول؟! كتاب "نباتات وحكايات" الذي نحن بصدده، وضعه بعناية فائقة الأستاذ المرشد فوزي ناصر حنا. الأستاذ فوزي ترتبط جذوره بمسقط رأسه، إقرث البلدة الحبيبة، وتتّحد عروقه بينابيعها، وتتأصّل أنفاسه بكنيستها، كيف لا وهو من وطئ ترابها المقدّس ولعب بحجارتها المباركة؟! إقرث الصامدة بأهلها تنعكس على كتابات أبي طارق، فقد راح إلى الإرشاد السياحيّ كدليل في أرجاء هذا الوطن، وخاصّة في  الجليل وتحديدا في إقرث. نباتات وحكايات ينضمّ إلى نصف دزينة من المواليد الأدبيّة الرائعة، وقد استخدم بعضها ككتب تدريس ومنها: قاموس الوطن، ما وراء الأسماء، وتشهد الجذور، على دروب الجليل، وأخيرًا نباتات وحكايات. أحبّتي، إنّ النادي الثقافي في كنيسة يوحنا المعمدان، بإدارة المحامي فؤاد نقارة ولفيف من مُحبّي الكتاب، يتقدّم بخطى حثيثة للسنة السابعة، وقد تكللت أمسياته بنجاحات منقطعة النظير، وها نحن نلتئم في هذه الأمسية تحت كنف مار يوحنا المعمدان، أو يحيى، كي نُحيي أمسية دافئة أخرى بين الحنين إلى الماضي وتعميق الجذور، وبين الصمود في رحاب الوطن والمستقبل الثقافيّ. أتمنّى لكم أمسية ملؤها عبق الحبق والزعتر والنرجس والسوسن والغار، مع المُتكلمين في هذه الأمسية الكاتب الشيخ نمر نمر، والمهندس إلياس أبو عقصة، والأديب فوزي ناصر حنّا.
الشيخ نمر نمر معلم متقاعد، كاتب مقالة سياسية/ أدبيّة وقصّة قصيرة، ومترجم أدب عبري إلى العربيّة وبالعكس، مرشد سياحيّ ذو اهتمامات بالتراث والمجتمع، أحد قادة لجنة المبادرة الدرزيّة المُناهضة لتجنيد الشباب الدروز، محاضر عن التراث العربيّ والمجتمع العربيّ في المحافل اليهوديّة. مقيم في حرفيش.
المهندس الياس أبو عقصة: بدأ حياته العمليّة مهندس كهرباء، خرّيج جامعات ألمانيا، ثمّ اتّجه إلى الإرشاد السياحيّ منذ أكثر من 20 سنة، ويُرشد باللغة الألمانيّة، كاتب مقالة سياسيّة أصدر كتابًا عن تاريخ الكنيسة العربيّة، وهو عضو قياديّ في الحزب الشيوعيّ. نلاحظ أنّ كلا من الشيخ نمر والمهندس إلياس يعملان في حقل الإرشاد السياحيّ، كالأستاذ فوزي، فهم زملاء وأصدقاء وأوفياء..
الأستاذ فوزي ناصر حنّا: معلم جغرافية متقاعد، مرشد سياحيّ نشط في إرشاد مجموعات حجّاج أجانب، ومجموعات محلّية في الطبيعة، والمجتمع العربيّ والقرى المُهجّرة. يكتب الشعر والقصّة القصيرة والمقالة، ينشر في الصحف منذ 40 عامًا، أوّل من أقام ناديًا عربيًّا لمعرفة الوطن في المجتمع العربيّ، وهو نادي معالم الوطن الفعّال في الناصرة منذ 1990. الأستاذ فوزي تربطني به وشائج القربى والصداقة والمودّة، فنحن من ذات الطينة الإقرثية وذات الهواء الإقرثيّ، وذات النضال والصمود نحو العودة إن شاء الله.
مداخلة الشيخ نمر نمر: "من هنا نبدأ، لكي لا تحرثوا في البحر"، هكذا كتب المفكّر المصريّ خالد محمد خالد قبل عقود خلت. دعوني أبدأ من إقرث وكفربرعم، هما شقيقتان كما نباتات وحكايات فوزي، حتى قرار المحكمة العليا داست عليه حكومات (إسرائيل) المتعاقبة طيلة أكثر من ستةعقود خلت، هذا القرار الذي أعاد الحقَّ لأصحابه بالعودة نظريًّا، أمّا عمليًّا، فقد منعت الحكومات الإسرائيليّة تطبيقَ هذا لقرار، وكما أنّ طائرَ الفينيق ينهض من الرماد، فمعاذ الله أن يكون الأقارثة والبراعمة من الرماد، إنّهم أحياءٌ يُرزَقون، فالأجداد والأبناء والأحفاد والجيلان الرابع والخامس لا زالوا معًا ينتظرون العودة.
يُعرّجُ فوزي في جديده على 32 نبتة من نباتات البلاد، كلّ نبتة لها حكايتها وأسطورتها ووصفها، كما يُعرّفنا على 33 من الآلهة الأسطوريّة: أبولّو إله النور والحكمة، حتّى هيليوس إله الشمس في بلدة قدس الجليلية. هذا الجديد ألبومٌ حيٌّ ناطق، تتجلّى فيه مواهب فوزي الأدبيّة الفنّيّة التعددّديّة والوطنيّة الأمميّة والأخلاقيّة، فالرقم 33 يعيدنا إلى سنوات عمر السيّد المسيح على الأرض، والاسكندر المقدوني، إذ عاش كلّ منهما 33 سنة، فهناك 67 نصًّا موزّعة كالتالي: 42 نصًّا من العهد القديم، و11 نصًّا من العهد الجديد، و12 نصًّا من القرآن الكريم، فيها تسامح دينيّ.
أشار إلى تواضع زهرة عصا الراعي (الزقوقيا)، حتى اتخذها سليمان الحكيم تاجا له، لماذا يا أخي فوزي تعود بنا إلى ما قبل ثلاثة آلاف سنة، فها هو ملك إسرائيل الحالي بيبي نتنياهو وملكته سارا ياهو، هما للتواضع وللخشوع مثالٌ يُحتذى به، اللهمّ ماعدا هدايا السيجار والشمبانيا الورديّة من الملياردير ميشلين! وكأني بك تعودُ بنا إلى قول المتنبّي: "أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا/ وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ"، وتعطينا العبرة من كوز الرمّان الذي يملأ القلبَ بالإيمان، وتبقى متفائلا رغم اكفهرار الغيوم وتكاثف الضباب، فيعطي صورة بألوان الطيف الشمسيّ، مع قول الشاعر الشيخ ناصيف اليازجي في عروس الزهر الوردة: "هذي عروسُ الزهرِ نقطها الندى/ بالدُّرِّ فابتسمت ونادت معبدًا/ لمّا تفتّقَ سِترَها عن رأسها/ عبثَ الحياءُ بخدّها فتورّدا/ فتحَ البنفسجُ مُقلةً مكحولة/ غمزَ الهزارُ بها فقام وغرّدا/ وتبرّجتْ ورق الحمام بطوقِها/  لمّا رأينَ التاجَ يعلو الهدهدا/ بلغ الأزاهر أن ورد جنانها/ ملك الزهور فقابلته سُجّدا/ فَرَنَا الشقيقُ بأعين مُحْمَرَّةٍ/ غضبًا وأبدى منه قلبًا أسودا/ بسط الغديرُ الماءَ حتّى مسّه/ بردُ النسائم قارسًا فتجمّدا/ ورأى النبات على جوانب أرضه/ مهدًا رطيبًا لينًا فتوسدا/ يا صاحبي تعجبًا لملابس/ قد حاكها مَن لم يمدّ لها يدا/ كلّ الثياب يحول لون صباغها/ وصباغ هذي حين طال تجدّدا".
إنسانيّتك وأمميّتك الأستاذ فوزي ناصر أبو طارق تعيدُنا الى الصوفيّ محيي الدين بن عربي القائل في التسامح والحبّ الإنسانيّ: "لقد كنتُ قبلَ اليوم أنكِرُ صاحبي/ إذا لم يكنْ ديني إلى دينِه داني/ لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ/ فمرعى لغزلان وديرٌ لرهبان وبيتٌ لأوثان/ وكعبةُ طائفٍ وألواح توراة ومصحفُ قرآنِ/ أدين بدين الحبِّ أنّى توجّهتْ ركائبه/ فالحبُّ ديني وإيماني".
أبوطارق فوزي ناصر حنّا ونكبة الأقارثة والبراعمة وأبناء شعبنا الفلسطينيّ الذي يُصلب يوميًّا، يُعيدُنا إلى صلب الصوفيّ الكبير الحلّاج عام 922م في بغداد بتهمة الكفر والإلحاد والزندقة، وهذا ما يحدث اليوم في (بلاد العرب أوطاني). الجلاد بترَ يدَ الحلّاج المصلوب ثمّ رجله، فيده الثانية فرجله الثانية، فمرّ بجانبه أبو بكر الشبليّ فقال له الحلّاج: أمعكَ سجّادتك؟ اُفرشها لي. استغرب أبو بكر الشبلي حين رأى الحلاجَ يمسحُ وجهه بدمه وببقايا يديه المبتورتين، فقال الحلّاج: "لقد نزف من جسمي دمٌ كثير فاصفرّ وجهي، أرجو ألّا تعتقد أنّي أخشى الموت، لذلك أمسح وجهي بالدم، فلا يحمرُّ خدُّ الرجل إلّا بدمه، هما ركعتان في العشق لا يصحُّ وضوئهما إلّا بالدمِ"!
هذا هو حالنا في وطننا، وإذا ما اقتبست ما كتبه الكاتب فتحي فوراني الصفديّ النصراويّ الحيفاويّ من الغلاف إلى الغلاف أقول: كتبتَ الإهداء: إلى زوجتي أولادي وأحفادي، إلى أبناء شعبي وكلّ عاشق للوطن. وفي الغلاف الأخير عرّفت نفسك بمرشد سياحيّ، وتعيدنا الى العندليب الأسمر في أغنيته (سوّاح): "سوّاح وماشي في البلاد سوّاح/ والخطوة بيني وبين حبيبي براح/ مشوار بعيد وأنا فيه غريب/ والليل يقرّب والنهار روّاح/ وإن لقاكُم حبيبي سلّمولي عليه/، طمّنوني الأسمراني عاملة إيه الغربة فيه/ سوّاح وأنا ماشي ليالي سوّاح/ ولا داري بحالي سواح/ من الفرقة يا غالي سوّاح/ إيه اللّي جرالي سوّاح".
هكذا أنت أبا طارق السوّاح والمرشد لمعالم الوطن، وأنهي كلمتي بشكري لقرينتك أم طارق وللأسرة، وكما قال رشيد معلوف: "ربّي سألتك باسمهنّ أن تفرشَ الدنيا لهنّ/ بالوردِ إن سمحتْ يداك وبالبنفسج بعدهنّ/ حبُّ الحياةِ بمنّتين وحبهنّ بغير مِنّة/ نمشي على أجفانهنّ ونهتدي بقلوبهنّ/ فردوسهنّ وبؤسهنّ ببسمةٍ مِنّا وأنّه/ سمّارنا في غربةِ الدنيا وصفوة كلِّ جنّة/ ربّي سألتك رحمة وجهَ السماءِ ووجههنّ/ فامسح بأنملك الجراح وردّ أطراف الأسنّة/ لتطلّ شمسك في الصباح وكلُّ أمٍّ مطمئنّه"
ونُعرّجُ على الإنجيل ونُردّدُ: "كلُّ مَنْ رَفَعَ نفسّه ارتفع، وكلُّ مَن رفعَ نفسَهُ اتّضع" (لوقا 18:14). وفي القرآن الكريم: "فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض" صدق الله العظيم. (سورة الأعراف). إلى مزيد من العطاء
مداخلة المهندس إلياس أبو عقصة: الحضور الكريم، نجتمع في هذه الأمسية احتفالًا بنضوج آخر عنقود لهذا الموسم على كرمة فوزي ناصر حنّا، هذا الكاتب الباحث الشاعر، والمعلم المرشد الدليل، والإنسان المتواضع السلس، صاحب النقفات والنكات المميّزة، والشاهد على ما يدور حوله من بَشر وحجر وشجر، ومن طيرٍ يُغرّد وحيوان يدبّ على أربعة وعلى اثنتيْن أيضًا. فوزي ناصر وطنيٌّ حتّى النخاع، تربّى على حبّ الوطن والأرض والعرض، وانعكست شخصيّته في كتاباته برفق وسلاسةٍ ووضوح مُعبّر بلا رتوش، فأغنانا بالمعرفة والتدقيق بالمعلومة وما خلفها وما أصلها، وأصاب الهدف  (هيك دوز دغري بلا لفّ ولا دوران. درس وعلّم الجغرافيا، ونكش الأرض بعوده باحثا مُنقبًا، ورسم ووصف تضاريس الأرض وتجاعيدها وغاص في أعماقها ووديانها وأخاديدها، ولم يبخل على دروبها وأسمائها ولا نباتاتها.
أتقن الرسمَ وفنّ الحكاية، فجبَلها بالتاريخ والجغرافيا والشعر والأدب، ليكون منتوجه على ما يرام .انعكست شخصيّته على أعماله: (ما وراء الأسماء، على دروب الجليل، قاموس الوطن، دروس في الجغرافيا، تشهد الجذور)، أسّس نادي معالم الوطن في 1990 في الناصرة، ولا يزال يجول في ربوعه مع أصدقائه، واليوم هذا الإنتاج الخاصّ جدّا "نباتات وحكايات"، حيث سرح فينا بأسلوبه الشيّق من النبتة إلى القصّة والأىسطورة، مُتنقلا بين ثقافات الشعوب وحضاراتها. عرفته عن قرب عندما درسنا سويّا موضوع الإرشاد السياحيّ، وخلال السنتين من فترة الدراسة توثقت العلاقة، واكتشفت فيه رقّة إحساسه وأسلوبه المُعبّر ولطف نكتته وتواضعه. في إحدى جولاتنا التعليميّة سنة 1998 في منطقة الجنوب، كان الموضع "الجبهة الجنوبيّة عام 1948" مع المرشد آرييه يتسحاكي، وهذا صهيونيّ حتّى النخاع وعسكريّ متعجرف. بدأ يشرح لنا عن المعركة مع القوّات العربيّة، وشدّد على بطولاته  وقتاله بوصف دقيق، لدرجة أنّ الجنديّ ينطّ من الشبّاك ويتدحدل ثلاث أربع مرّات ويصوّب على العربيّ، ثمّ ينطّ على الشجرة ووووو، فقال أبو طارق بخفة دم   وبصوت جهوريّ واضح: هذا مثل رامبو، فضحك الطلاب العرب، واستغرب البطل ضحكنا، فأجابه أبو طارق بالعبريّة:هذا فيلم سينما؟! بهذا لمست الدعابة والنكتة اللطيفة بأسلوبه الشيّق.
قبل فترة التقينا صدفة مع مجموعاتنا في القدس، وكان المرشد أمامي ولم أعرفه حتى اقتربت منه، وألقيت عليه التحيّة قائلا: ما عرفتكش من ورا، في ناس وجهها وظهرها مثل بعض، فأجاب ضاحكًا: بس أنا مش عن الشكل فقلت له: عشان هيك معرفتكش. وحين كنت أتعلم استخدام الفيس بوك، ضغطت دون قصد على عدّة أحرف، لتتكوّن بعدها كلمة غريبة عجيبة وارسلتها دون قصد، وما هي إلّا لحظات حت يردّ أبو طارق: هاي الكلمة اللي بدَوّر عليها. أجبته: الغشيم بدّو وقت، وأنا أبحث كيف أمحوها. وحالًا كتب صديق آخر: شو هذا أبو ليلى، اُكتُبْ عربي! وكتب آخر: شو معناها؟ ردّ أبو طارق: كنت بدّي أترجمها. فأجبته: لا ممنوع لئلّا يفهموا علينا.
كتابه الأخير كان قاموسًا لي، فعندما أهداني إيّاه، لم أتوقّع ما أقرأ، فأيّ صدفة في ذلك اليوم وأثناء دورة دراسيّة جديدة، كانت المحاضرة عن الميثولوجيا عند الشعوب، فجاء الكتاب ليُعبّر بأحلى أسلوب وأغنى معلومة عن الترابط بين النبات والأشجار بحياة الناس وثقافتها وأساطيرها، وعلاقتها المشتركة مع الآلهة في العصور الغابرة، والمتصفّح في مساهماته المتعدّدة يكتشف أنّ بين ايدينا كُتب مغايرة، هي دراسات ومراجع، والكثير منها دليل سياحيّ ورسومات ومخطوطات فنّيّة، كُتبت بوضوح وباختصار لا تُتعب القارئ، وتجمع ما بين المعرفة والثقافة العامة والتوثيق التاريخيّ لقرى مُهجّرة وشعب مظلوم  مشرّد، ومُفتّشًا عمّا يَجمع هذا الشعب من تاريخ وتراث يربطه بهذا الوطن الذي ليس لنا وطن سواه. كاتبنا أبو طارق نشيط بالتجديد والإبداع، ومَن يتابع تغريداته على الفيس بوك يكتشف مدى ارتباطه بالناس وقضاياها، ويوميّا يكتب ويفتح أبواب نقاش، ويردّ بأسلوبه المعروف بجرأته المعهودة الهادفة، فسألته مرّة تلفونيّا عن تغريدة معيّنة وسبب نشرها، فأجاب: خلّي الناس تفكر.. من تغريداته: المعلم الذليل لا ينشئ جيلا ذا كرامة. أهمّ شيء أن تكون التجارة بالمادة فقط لا بعقول البشر. الاحترام والخوف ليسا توأميْن. ظاهرة خطيرة مَن يُسيطر على كيانه انتماؤُه الدينيّ، لدرجة انقطاعه التامّ عن انتمائه الوطنيّ والعربيّ والإنسانيّ، فسيحزن لحزن مَن على دينه في أندونيسيا، ويفرح لحزن جار ليس على دينه! أحيانًا تخونني جرأتي، فأمتنع عن كتابة رأيي بموضوع ما، خوفًا من أن تنفتح في وجهي أبواب جهنم. في نهاية السنة، ليُسامحني مَن قصّرت معه أو أسأت إليه. كتاباته وكتبه وأبحاثه هي مجموعة من الإنسكلوبيديا في محتوياتها التي وضعها بين أيدي القرّاء بأسلوب خاصّ، لنفهم معانيها ومصادرها وأسبابها،هي مجموعة جامعة غنيّة وجديرة بالاهتمام، دمت يا أبا طارق أستاذ فوزي ناصر حنّا، وفّقك الله وزادك قدرة على العطاء.
مداخلة الإعلاميّة سوزان دبيني: فوزي ناصر رفيقُ درب، معرفتي به تعودُ إلى أكثر من عشرين عامًا، حيث كنت عندها أقدّم برنامجًا إذاعيًّا في صوت إسرائيل باللغة العربيّة يحمل اسمَ "رايحين مشوار"، ومن خلال هذا البرنامج تعرّفت بالصديق والمرشد السياحيّ الرائع فوزي ناصر، والذي أصبح جزءًا لا يتجزّأ من البرنامج، كان يشاركني أسبوعيًّا بتقديم زاوية مسار في الطبيعة، ولم يترك مكانًا في البلاد إلّا وتحدّث عنه، وأعطى المعلومات القيّمة المُثرية، وكان يتحدّث عن النباتات والأشجار والأساطير التي تدور حولهم، ويقدّم المعلومات حول الأماكن الأثريّة والسياحيّة، وكان كلّ مَن يستمع لهذا البرنامج على مدى هذه السنوات، أنا متأكّدة أنّه اكتسبَ مُجلّدًا من المعلومات عن بلادنا. لقد دامت هذه الزاوية في برنامجي لأكثر من عشر سنوات، استطاعَ المُحتفى به الليلة من خلالها تغطية جميع مناطق البلاد السياحيّة، حقّا فوزي ناصر موسوعة متحرّكة، وكلّ ما أرجوه من الله أن يُطيلَ في عمرك أيّها الغالي المعطاء، وأرجو المعذرة إن قصّرت في حقك بالثناء الذي تستحقّ، فمداخلتي فوريّة وعفويّة صادرة من القلب.
مداخلة الأديب فوزي ناصر: أشكر أوّلًا إدارة النادي الأرثوذكسيّ على استضافتي، وأشكر الإخوة نايف خوري ونمر نمر وإلياس أبو عقصه وبعد. أبدأ باسم الكتاب الذي لا يدلّ على ما يحتوي، فالحقيقة أنّه يحوي أساطير دينيّة، خشيت أن أُلام إن أسميتُها كذلك في مجتمعنا المحافظ، وإن كان الكتاب وليد عمل سنوات خمس، فإنّ التفكير باسمه فاقَ هذا الجهد. هي أساطيرُ تربط النبات بالسماء لا بالأرض، وقد اخترت نباتات بلادنا فقط، لأنّ هدفي خدمة أهل بلدي، من خلال تعريفهم بهذه الأساطير التي اتّخذت مكانها في التراث الدينيّ على مرّ العصور، وما دفعني للكتابة أمور ثلاثة:
1* أنّ الحضارة والتراث الدينيّ والقصص أشبه ببناء ذا مداميك، يعتمد كلّ مدماك على ما سبقه، ويُشكّل قاعدة لِما بعده، فهناك العديد من زوايا إيماننا اليوم وليدة ديانات سبقتنا بقرون، فالوحي الذي نؤمن به آمنت به أمم سبقتنا، وتجسُّد الآلهة والتزاوج بينها وبين بني البشر، وقدسية المكان والنبات والعيون، كلّ هذا تراث عالميّ تضرب جذوره في عمق التاريخ. 2* ذلك السّحر في لفت انتباه المستمع، إن هو سمع ما لا يستوي مع العقل والتفكير، فتراه ينصت وينجذب للشرح، وهذا يُعينني كمرشد. 3* لاحظتُ كم من عادات نمارسها ولا نعرف أبعادها وجذورها، فهل سأل أحد نفسه لماذا نزيّن شجرة الميلاد؟ ولماذا نحمل سعف النخيل في أحد الشعانين، الذي يسميه المصريّون أحد السعف؟ ولماذا يُقدّم التمر في بيوت العزاء؟ وما علاقة النخيل بالجنائز والحجّ؟ ثمّ، لماذا يُسمّي الأوروبيون عروس الغاب شجرة يهودا؟ ولماذا تسمّى المبالغة بحبّ الذات نرجسية؟ ولماذا دُعي الورد مَلكُ الزهور؟ ولماذا تُسمّى زراعة البعل بهذا الاسم؟ كلّ هذا وتساؤلات كثيرة غيرها، تجد أجوبة لها بين دفتي هذا الكتاب، فالنخيل مثلًا رمزٌ لتجدّد الحياة والخلود، لدى شعوب كثيرة منذ آلاف السنين، وعادةُ تزيين شجرة الميلاد عادة وثنيّة جرمانيّة انتقلت للمسيحيّة في القرن الثامن للميلاد فقط، وهنالك قصص وتفسيرات كثيرة لا مجال للتطرّق لها الآن.
Xyz_amara@yahoo.com; amaalawwaadradwaan@gmail.com
الصور المُرفقة بعدسة المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسّس نادي حيفا الثقافيّ

83
الإحجامُ لغةٌ تتأرجحُ بين المَحْو والحضور!
آمال عوّاد رضوان

أقام نادي حيفا الثقافي برعاية االمجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا أمسية أدبية، وذلك بتاريخ 26-1-2017 في قاعة كنيسة القديس يوحنا المعمدان الارثوذكسية في حيفا لإشهار ومناقشة رواية "الحاجة كريستينا" للكاتب د. عاطف أبو سيف، وبعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافي، تولى عرافة الأمسية الكاتب سهيل عطالله، وتحدث عن الرواية كلّ من: د. منار مخّول، وسلمى جبران، وحسن عبادي، وخلود سرية، وفي نهاية الأمسية أجاب المحتفى به عاطف أبوسيف عن أسئلة طرحها الحضور، ثمّ شكر المنظمين والمتحدثين والحضور، وثمّ التقاط الصور التذكارية!
مداخلة الأديب سهيل عطالله: مدرسة في مخيم ومخيم في مدرسة، المدرسة غزة هاشم والمخيم جباليا، في مخيم جباليا تتحدث فلسطين عن نفسها، من جباليا المجبولة بحبّ الوطن يأتينا هذا المساء فارس من فرسان الكلمة، أهلًا بالكاتب الفلسطينيّ المبدع عاطف أبو سيف. لقد ايقظت الرواية فيّ أحاسيس وطنيّة، تزدان بلوحاتٍ او جداريّاتٍ تُوثق حياتنا الفلسطينيّة هنا وهناك، ففي هذه الرواية تختصر فلسطين نفسها، وعلى صفحاتها وسطورها وبين سطورها نجد غزة هاشم بأهلها الخيّرين الطيّبين، تُقاوم الغزاة مُصرّة على اعتناق الحياة، وفيها توثيق صادق لحياة الفلسطينيّين أينما كانوا وأينما حطّت بهم الرحال والأحوال.
الشخصيّة المركزيّة المحوريّة هي الحاجة كريستينا، وكريستانا هذه كانت فضّة الصغيرة اليافاويّة التي غادرت يافاها إلى لندن للعلاج، وهناك اعتمدت كريستينا اسمًا مستعارًا بديلًا، ففي أواخر خمسينات القرن الماضي تدفع الأقدار كرستينا للعودة، ليس إلى يافا بل إلى المخيم في غزة، حيث تعيش طوال حياتها حتى تأتي سيّارة الصليب الأحمر وتنقلها إلى حاضرة الإنجليز، وذلك إبان العدوان الإسرائيليّ على غزة عام 2009، ومن يقرأ الكتاب يجد كاتبه يربط ما بين حياة فضة وبين ما حلّ بفلسطين، بدءًا من إضراب عامّ 1936 وهو عام مولدها مرورًا بالنكبة وما بَعدها. في الكتاب سرد للمآسي التي تتعرّض لها النساء الفلسطينيّات اللواتي فقدن ويفقدن آباءَهنّ وأزواجهنّ وأطفالهنّ وأشقّاءهنّ، للبقاء وحيدات في وجه عواصف الحياة وشدائدها، ومثال هذا البقاء نجده مُصوّرًا في حياة فضّة التي فقدت أهلها كسائر الفلسطينيّين المُهجَّرين المطرودين المُطارَدين، ففي الرواية يعيش الفلسطينيّ بين عالميْن: عالم الموت والاستشهاد كحصيلة لويلات القتل والتهجير، وعالم أمل استرداد الوطن، وفي هذا الأمل تأكيد لنا ولغيرنا. إنّ الموت لا يُلغي فلسطين من ذاكرة أهلها، فهي باقية في غزة وأخواتها، باقية بمجالس رجالها ونسائها، الأمر الذي يتجسّد بموت المُسنّ الفلسطينيّ الذي اصطحب معه مذياعه الصغير ليسمع أخبار الأهل والوطن.
عاطف أبو سيف يُصوّرُ الوطن، فيستهلّ روايته بالحديث عن الشبح في بحر غزة، والشبح يتكرّر ظهوره واحتجابه كإشارةٍ حيّة لمسلسل الحرب، والمعارك القادمة لتي يحترفها ويشنّها الطغاة المُتجبّرون على أبناء فلسطين من وقت لآخر، وهذا المسلسل تتكرّر حلقاته في شخص الحاجة العائدة أوّلًا كصغيرة من لندن إلى المخيّم، وثمّ من المخيم وهي مُسنّة إلى لندن، ومنها إلى المخيّم في نهاية المطاف.
بين عودة الحاجة الجدّة من جهة، وعودة الحفيدة ابنة ياسر ابن الجدّة من جهة أخرى، نشهد مسلسلًا واضحًا يرسم أملًا لعودة الأجيال إلى الوطن الفلسطينيّ، وفي هاتيْن العودتيْن توثيقٌ للماضي الفلسطينيّ، من خلال تعزيزه في واقعنا الحاضر المُلفِت، والمُلاحَظ أنّ مبدعَنا عاطف أبو سيف يُقدّم لنا جداريّة، على صدرها تتصدّر شخصيّة المرأة، ففي المخيّم تقوم مجالس الرجال التي لا تكتمل إلّا بمجالس النساء، فالنساء هنّ صانعات الحياة وصائنات الذاكرة، ومن أرحامهنّ تخرج قوافل الشهداء، إنّهنّ الشجاعات صاحبات الرأي والمقارعات لجنود الاحتلال، فكرستينا وصفيّة ونبيلة وسلطانة وسهيلة وغيرهنّ من المنتفضات الصامدات، كنّ يجمعن الحجارة الصغيرة ويكوّمنها في الأزقّة، ليلتقطها شباب غزّة ومخيّمها ليقذفوا بها جنود الاحتلال، وكنّ يُوزّعن رؤوس البصل المهروس على الشباب لشمّه وحماية عيونهم من سموم قنابل الغاز، وعلى صدر هذه الجداريّة نشهد وحدة الفلسطينيّين بانصهار طوائفهم في مزيج قوميّ واحد، تندمج فيه مسيحيّة سلطانة مع إسلام صديقتها فضّة (كرستينا).
قارئ هذه الرواية يجد نفسه في محضر ملف يختصر تضاريس فلسطين، حيث يتجلبب الغزّيّون بحبّ الوطن، تحدّيّا للغزاة من يهود ومستوطنين ووصوليّين عرب، كانت فضة تسمع عن قبائحهم وتشكيلاتهم الفئويّة الحزبيّة الرخيصة، وذلك ليس دفاعًا عن فلسطين، بل حُبّا بالتسلط وعشق الأنا، كما وأشير إلى تغيير الأسماء في حياتنا عند العرب وتحديدًا الفلسطينيّين فالأمر مألوف، فإنّ جورج الإنجليزيّ صديق أهل فضّة اليافاويّة، والذي نقلها معه إلى عاصمة بلاده للعلاج وهي ابنة إحدى عشرة سنة، فقد رأى جورج وجوب تحويل جنسيّتها بإعلانه بأنّها ابنته من أمّ فلسطينيّة، فحوّل الاسم فضّة إلى كرستينا لتكون مقبولة في البيئة البريطانيّة الجديدة، هذا الأمر كثير الحدوث في (إسرائيل) تمامًا كما يحدث لبائع الفلافل العربيّ في تل أبيب، حيث يُغيّر اسمه من محمد إلى شلومو، وذاك العربيّ الذي صادق ورافق فتاة يهوديّة سرعان ما يُغيّر اسمه من جعفر إلى داني أو حايم، هكذا تتغيّر الأسماء عشيّة اندماجنا في بيئة غريبة، لكن تغيير الأسماء هذا لا يُغيّر ذاكرتنا الوطنيّة ولا دمنا العربيّ الفلسطينيّ المُتدفّق في عروقنا.
اسم فضّة تجوز فيه اللفظتان: فِضّة تلك المصنوعة من نفيس المعادن، والتي لم تعتمر سكوتًا ولو كان هذا من ذهب، وفَضّة في مَحكيّتنا فَضّة وفي فصحانا تعني الثابتة على صخور الوطن وعلى مبادئ لا تندثر.
مداخلة د. منار مخولي: الحاجّة كرستينا – عاطف أبو سيف
1.   قراءة الرواية من منطلق سوسيولوجيّ وليس نقدًا أدبيّ. يتطرّق النقد الأدبيّ إلى مسائل اللغة والتركيبة الفنّيّة وما إلى ذلك. تعاملي مع الرواية كنصّ تاريخيّ يحوي بداخله ترسّبات اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة.
2.   مواضيع للنقاش
i.   المحو الفلسطينيّ المتبادل:
•   مع العلم أنّ الفلسطينيّين في إسرائيل محو فلسطينيّي 1967 حتى عام 1987 بشكل كلّي تقريبًا، لكن منذ الانتفاضة الأولى هناك حضور قويّ لفلسطينيّي 1967 كشخصيّات رئيسيّة في أحداث الروايات – وأيضًا مكانيًّا – حيث توجد روايات تحكي احداث الانتفاضة الأولى في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، وهذا غير مسبوق قبل عام 1987.
•   محو "الفلسطيني الآخر": لا وجود لشخصيّات فلسطينيّة من الداخل في هذه الرواية. حتى لا توجد شخصيّات فلسطينيّة من الضفة الغربيّة! الواقع ضيّق جدّا ومحصور في قطاع غزة. ماذا يقول محو فلسطينيّو الضفة الغربية، وأيضا فلسطينيّو 1948 من رواية الحاجة كرستينا عن الهُويّة الفلسطينيّة في عام 2017؟
ii.   الإحجام: إنها رواية عن القدر والمصير والحظ. الإحجام أيضا موضوعة (theme) في الأدب الفلسطيني في إسرائيل في سنوات ال-1970. أكبر مثال على ذلك رواية المتشائل التي كانت تنادي بالإحجام وتفضيل الجلوس على الخازوق من العمل المُقدم. لكن خطاب الإحجام تغيّر بعد الانتفاضة الأولى، أيضا في كتابة إميل حبيبي نفسه الذي حذّر من الإحجام في رواية اخطية.
الإحجام هو الموضوع الأساسي في رواية الحاجّة كرستينا – مغلّف في السياق الفلسطينيّ (من النكبة وحتى اليوم). بشكل عام، يمكن القول أنّ بهذه الرواية لم يفعل بطلها أيّ شيء! هناك إحجام (passive) واستسلام في تصرّف أغلبيّة شخصيّات الرواية. مثلا كرستينا، الشخصيّة الرئيسيّة في الرواية، تأخذها الحياة وتقذفها في كلّ اتجاه، دون أية مقاومة من طرف البطلة:
1.   تقريبا جميع الشخصيّات المقدمة (active or proactive) الذين قاومت إسرائيل تُقتل أو تموت أو تسجن: زوج كرستينا وابنها.
2.   الشخصية التي قاومت ذكورة المجتمع الفلسطيني والتي طرحت خطاب ونضال نسوي جديد – قُتل حبيبها بقصف إسرائيلي.
3.   في اللحظة التي قاومت فيها كرستينا قدرها – تموت غرقًا في نهاية الرواية.
يعكس لنا هذا التصوير مدى التعاسة والأسى اللذين يسيطران على كل شيء في غزة. لكن، ما هي الرسالة التي يحاول أن يبعثها الراوي من خلال هذا التصوير للشخصيّات؟
iii.   النوستالجيا والثقافة المتجمدة:
•   في الروايات الفلسطينيّة داخل إسرائيل أتى الحنين (النوستالجيا) مربوطا بالفوكلور – وشكّل مجموعة روايات الحنين- الفولكلوريّة. تجمع هذه الروايات مُرَكّبيْن متناقضيْن: الحنين (الذي يعكس الانقطاع)، والفولكلور (الذي يحيى بالاستمرارية)، ومعًا فهما يعكسان التحوّل في الخطاب الفلسطينيّ من الإحجام الى الإقبال. محاولة لقلب الإحجام الى إقبال جماعيّ.
•   النوستالجيا في الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل تأتي في سياق البحث عن الهُويّة في الماضي. لكن رواية الحجّة كرستينا تعطي الانطباع، إنّها فقط وقوف على الأطلال وأخذها على أنّها الوضع القائم. في رواية الحاجة كرستينا الثقافة الفلسطينيّة مُتجمّدة في نوستالجيا الوقوف على أطلال فلسطين ما قبل النكبة. لم تنتج فلسطين، حسبما تصوّر هذه الرواية، أيّ أدب أو ثقافة منذ النكبة والتي يمكن ذكرها. إنّ التصوير الملتزم لا يسطّح الرواية الثقافيّة فحسب، بل والتجربة الإنسانيّة إلى معيار واحد – وهو السياسيّ، الاحتلال.
iv.   الهُويّة المزدوجة:
i.   الهُويّة المزدوجة: في الأدب الفلسطينيّ في إسرائيل تطرّقت إلى الازدواجيّة بين المُركّب الإسرائيليّ والمُركّب الفلسطينيّ والتناقضات الداخليّة بينهما، إذ تحوّلت فضّة الفلسطينية الى كرستينا البريطانيّة في غضون 11 عاما – ما يمكننا القول عن الفلسطينيّين المواطنين في إسرائيل؟
ii.   الهُويّة الدينيّة: هل فلسطينيّة فضّة- كرستينا تجمع بين مسيحيّتها وإسلامها، أم هي فلسطينيّة- مسلمة وبريطانيّة- مسيحيّة؟
مداخلة سلمى جبران: أُبارك لك ولنا بهذه الرّواية الإنسانيّة الرّائعة وكقارئة أنتقي في الرواية ما أُريد من مشاهد الجمال والتميُّز والإبداع! "يحُطُّ الشّبَح ظِلَّهُ على غزّة عدّة أسابيع ويأسُر عقول ومخيّلَة النّاس ويستثيرُ خوفَهُم، فيأتي العدوان والدّمار ليحتلَّ محل قصّة الشّبَح، فارضًا واقِعًا وتراكُمًا كبيرًا من الألم والرعب والحزن والدُّموع. كما اختفى الشّبَح تختفي الحاجّة كرستينا تحتَ غبارٍ كثيف نثرتْهُ عجلات الجيب الذي أقلَّها، مختصرًا المسافة والزّمن بينها وبينَ أهلِها في المخيَّم، وتاركًا ظلامًا كثيفًا حول اختفائها ومساحة كبيرة من الأخبار والتحليل والتفصيل والرّغَبات والمواقف". "كان النّاس يتلهَّوْن وينشغلون عن الألم بالحديث عنه، والاقتراب منه أكثر بملامسته. هكذا نفعل في مرّاتٍ كثيرة حين نشعُر بالعجْز وقلّة الحيلة، ندفع العجز إلى أقصى مداه. فعل ناجم عن اللّافعل" (ص 24).
ما أصدق وأبدع أن نبحث عن الألم وراء الحدَث والبريق في الألم والألم في البريق خوفًا من فقدانه! من البداية نرى عاطف أبو سيف يُحيكُ روايَتَهُ من أعماق نفوس النّاس حيثُ يرسو الشُّعور بها ويُحيِّدُ الشِّعار لكي يرى ونرى معهُ أبعَدَ منهُ. الحاجّة كرستينا اسم يدمجُ بينَ عالَمَيْن، عالَمٍ غريب وعالَمٍ قريب فيهِ نورٌ يشِعُّ ويخبو متنقِّلًا بين الزّمان والمكان، بينَ يافا ولندن وبين يافا وغزّة وبين الطّفولة البريئة والصِّبا الزّاخر بالحياة والحياة الممتلِئة بنعمة الحِكمة والحُبّ وصراع البقاء. ينتقل بنا عاطف من مكانٍ إلى مكان ومن زمانٍ إلى زمان بخِفَّةٍ تضاهي الأساطير والحكايات الشّعبيّة هي الحياة.
يناقشُ النّاس قصّة اختفاء الحجّة فتخرجُ المُسلَّمات والشِّعارات: الخيانة، الهرب، التّفكير الفردَوي بالنّجاة، التّداخُل بين الفرد والمجموع، فتكون الغَلَبَة للشُّعور وللحياة وللفرد فيقولون: "حياتها وهي حُرّة فيها" (ص28)، والحاجّة "تسير على حافّة الجدول وتموتُ منَ العطش" (ص33). وهي لا هنا ولا هناك تتأرجحُ بينَ أزمنة وأمكنة سنواتِها السّبعين وتكتسب كلَّ الألوان وكلَّ المشاعر بأناها الفرد وأناها المجموع لتكتشفَ فكرة "الطّريق الوحيد".
الصوَر التي وصَفَتْ المخيّم بكل دقائقِهِ ووصَفَتْ يافا الجميلة وتهجيرَها وتدميرَها والموت المحتوم فيها، تُغْني القارئ عن مليون شعار. بحثُ الحاجّة عن الانتماء وجذوة حبِّها التي لا تنطفئ وتفكيُرها الحُرّ ووعيُها يافا ومشاعرُها المتدفِّقة جعَلَتْها عونًا لذاتِها، فقدَّست الحياة من خلال والديْها اللذَيْن دهستهُما عجلاتُ الاجتياح والدَّمار التي عمِلَتْ ضدَّ الحياة، وبقي لها منهما الاسمَان ومدلولُهما! "قسوة لا يُمكن أن يعرفَها على حقيقتِها إلّا من عَرَفَ كيْفَ يُمكنُ لهُ أن ينتقِلَ من بيتٍ جميل في مدينة يجلسُ البحْرُ تحتَ أقدامِها، ويُداعِبُ أَخْمَصَيْها بِرِقَّة وتهمِسُ ريحُها لخَصَاصِ نوافِذِها، إلى خيمةٍ ستتحوَّلُ إلى بيتٍ متَهَتِّك"!(ص 63) ما أروع وأبدع رواية فلسطينيّة يسودُ فيها الشّعور ليدحرَ الشِّعار وتتعطَّرُ سطورُها بلُغةِ الشِّعر!! الشّخصيات تترجَّلُ منَ الرِّواية فتُصبِحُ الأسطورة حكاية والحكاية واقِعًا اسمُهُ حياة وعوني ومنصور وفضّة وجورج وكلّ نساء مجلس الحجّة.
فضّة في لندن اختصَرَت الزّمَن وجَنَتْ خِبرةً وحِكمةً تعادِلُ أضعافَ عُمْرِها، فنما في تراب هذه الخِبرة حنينٌ أسطوريّ حوَّلَ رائحةَ شجرة التّمرحِنّة إلى بخّور مقدَّس وملحُ بحرِ يافا أصبَحَ حُلْوًا!
موتيف الّلا خَيار يظهر جليًّا في كلّ مراحل وزوايا الرّواية ويتحوَّل إلى خَيارِ البَقاء فتصبحُ المسافة بينَ الواقع والحُلُم واهيةً وترجع الحجّة لتكون كما كانت واحدةً من المُخيّم، ولقاؤها مع يوسف حوَّلَ القضيّة بكاملِها إلى رواية يتألَّمُ فيها يوسف عندما يرى بيتَهُ المسلوب ويحتمي بمخابئهِ وتتألَّمُ هي معهُ. يوسف الأسطوريّ اليافاويّ الجميل الذي ربّما كانَ ذاتَ ال يوسف في "راكب الرّيح" ليحيى يخلِف، وخلق نَسَبًا بين الرّوائيَّيْن، أحبَّ فضّة وأحبَّتْهُ فتحوَّلَ لا خَيار التشَرُّد إلى خَيارِ الحياة وأصبحَ "قلب فضّة يهروِلُ في الشّارِعِ فَرِحًا" متتبِّعًا يوسف. وهكذا تنتفضُ معظمُ الشخصيّات في الرّواية وتصبح جزءًا من حياتنا!
التّداخُل الإيماني في الرّواية موتيف آخر نتجَ عن لاخَيار، فاتّجَهَ نحْوَ العُلا وارتقى، فارتقت بهِ النّاس بشخصيّة فضّة.
موتيف الاختفاء لم يكن كالحَجَرِ الذي يسقُط في القاع، إنّما كالدّوائرِ التي تتكوَّنُ بسببهِ على سطحِ الماء، فمنها من يتلاشى ويموت، ومنها من ينطلِقُ خارِجَ الدّائرة ويروي المدى ويعيشُهُ: اختفاء فضّة علَّمَها الحياة، واختفاء والديها أدّى إلى الزّوال، واختفاء ابنِها حوّلَهُ إلى أيْقونة، واختفاء يوسف حوَّلَهُ إلى أسطورة  حتّى بعدَ موتِهِ فانتصَبَ واقفًا فوقَ نَعْشِهِ!! وأيقونات فضّة تحوَّلَتْ إلى تعويذاتٍ وشواهِدَ أمل تنتظر رجعتَها، رجعة أهلِها، رجعة زوجِها، رجعة ابنِها ورجعة الرّوح!! (ص 140) وكل هذه التعويذات تردَّدَتْ على ألحان باخ في معزوفة "عذابات القِدّيس ماثيو"... وهذا ما حوَّلَها إلى حجر الرّحى في مجلس النِّساء وفي المخيّم.
تبدأُ الرّواية صورة مجرَّدة لخارطة البِلاد، ورُوَيْدًا رُوَيْدًا تمتلئ هذه الخارِطة بالنّاس والبيوت وكلّ أنواع النّباتات والأشجار والصّخور والشّمس والقمر والمَطَر والحياة... مجلس النِّساء كانَ عامرًا بالحوار والتفكير والتّعبير، ومع ذلك دارَ بينَ فضّة وصفيّة صديقتِها بالروح صمتٌ قويٌّ عميق، بدَّلَ الضّجيج الذي لم يحمِ ترابَ الوطن، ورفَعَ الألم إلى مصافّ الإنسانيّة وربّما إلى مصافّ الألوهيّة.. مع كلّ مصائب صفيَّة ونبيلة وفضّة وكلّ كوارث التّهجير والدّمار والموت، استعمَلْنَ الرّصاص لفكِّ الحَسَد، ولم تفكِّرْنَ بالقتال والانتقام!! لقاءات النّساء وحواراتُهُنّ تحوَّلتْ إلى لقاءاتٍ تُعيدُ نسْجَ حكاياتِ شعبٍ مشرَّد وتعي ما يدورُ حولَها، فتتعلّق سهيلة بالرّمز جمال عبد النّاصر. كانت فضّة تبعث الطُّمأنينة في الحارة وفي المخيَّم، وكانت مَصدرَ الحكمة والبديهة، وما أجمل صورة تخبئَتِها للفتى منار تحتَ كُرسيِّها وتغطيَتِهِ بتنّورتِها الطويلة الواسعة.
أمّا مجلس الرجال فكانَ بكاءً على الأطلال وعلى البُطولاتِ الضائعة! حسن الصيّاد، زوج صفيّة، كانَ أكثرَ الحضور صمتًا فهو أبى أن يزورَ يافا ويرى الخراب، وأرادَ أن يحتفِظَ بصورة يافا كما كانت.
كانَ غياب فضّة/ كرستينا جزءًا من الغياب الجَمْعي الذي تزخر بِهِ الحكاية،ذ وكانَ الانتظار أقسى من الغياب نفسِهِ. 
وهكذا يتدفَّقُ الحنين في كلِّ مسارب وطُرُقاتِ الرواية ويأبى أن يجِفّ. والحنين تدفَّقَ أيضًا في لندن: "الزمن لا يمُرّ نحنُ فقط نبتَعِدُ عنهُ" (ص 234). في عودتها إلى لَندَن شَعَرَتْ بحنينٍ يخنُقُ الروح، ولكنَّهُ يتحدّى اللا خَيار. رجوعُها إلى غزّة بعد موت جورج كانَ باللا خيار، ولكنَّها اختارَتْ البقاء في غزّة رغم موت كلّ عائلتِها، فحوّلت كل الحارة إلى عائلتِها، حتّى اعتبرَها أهلُ الحيّ "رجُلًا"! وحينَ كانت عودتُها إلى لَندَن لا خياريّة –إنقاذَها كمواطنة بريطانيّة- وجدَتْ نفسَها وحنينَها هناك، فكانت عودةً إلى الصِّبا في وطنٍ غريب. ولكنْ اشتعَلَ الحنين في داخِلِها، فكانت العودةُ الأخيرة غامضةً حتّى لمعَتْ حفيدتُها في حضن المخيَّم، لتعود إلى حضنِ شبابِها، وكانت "رحلة بينَ نقطتيْن، واحدة نعرِفُها والثّانية نجهلُها" (ص 247) أمّا المسير في هذه الرّحلة فهو لبُّ الحكاية بامتياز، فقد أعادَها الحنين إلى غزّة سابحةً في البحر بعدَ أن هاجموا سفينتَها- سفينة الحرّيّة.
"لا يوجد لدى النّاسِ خَيار آخر إلّا أن يواصلوا دربَهَم المُضني في البحث عن شُعاعِ النّور، في البحث عنِ استقرار يجمعُ بينَ الرّغبة في تغيير الواقع والخوف من أيِّ واقعٍ جديد"!(ص 249). قارِب حسن اختفى / مات وعاد بلَفْتَةٍ طيِّبة من كرستينا وعندما أدرَكَ ذلك كتَبَ اسمَها عليه. موقع "وين الحجّة" يظلّ سؤالًا، وربّما يتحوَّل اسمُهُ إلى "وين البَلَد"!!!

مداخلة حسن عبادي: إنّها رواية تُصوّر حكاية فضّة- الفتاة اليافاويّة التي تغادر إلى لندن للعلاج أبان النكبة التي تقع بغيابها لتعيش في لندن باسم كريستينا، لتضطر للعودة إلى مخيم للاجئين في غزة أواخر خمسينات القرن الماضي، لتعيش هناك طوال حياتها حتى يأتي جيب لاندروفر و"يخطفها"، لتنتقل إلى لندن خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2009. تدور أحداث الرواية في يافا الذاكرة المشتهاة ومخيّمات اللاجئين في قطاع غزة ولندن في محور البحث عن الهوية. للمرأة الفلسطينية حضور مميز بطوليّ يصوّر الفقدان الدائم الذي تعانيه، فقدان الأب والزوج والطفل والأخ، فقدانه كأسير أو مفقود أو شهيد، وفضة/ كريستينا تفقد أهلها وأسرتها بالكامل ساعة التهجير، ثم تفقد زوجها الشهيد فابنها ياسر "المفقود"، فتصاب العائلة الفلسطينية بتعويذة ولعنة الغياب المستمرّة، من غياب عائلة بطلتنا إلى غيابها عن يافا وعن المخيّم لاحقًا، ليصبح الغياب الفرديّ جزء من الغياب الجمعيّ فتصرخ " شو إلنا بغزة" (ص 201)، لأنّ عقلها يعيش في يافا أو لندن أو في انتظار ابنها "المفقود" ياسر.
يصوّر عاطف حياة  المخيم ومآسيه، ويُسلط الضوء على المعاناة اليوميّة للاجئين وظروفهم الحياتية الصعبة، خاصّة زمن الحرب والعدوان الاسرائيليّ، فيصف حالة الرازحين تحت القصف بعيدًا عن الشعارات، كلّ مع قصته الشخصية، ليُؤنسن الوجع والألم والمُصاب الفرديّ الشخصيّ، مما يذكرني بخالد جمعة وكتابه "في الحرب .. بعيدًا عن الحرب". ويصوّر عاطف صراع أبناء المخيّم اليومي في البحث عن الهوية ، فقلبها المعلق هناك دفعها للبحث عن حياتها هنا من أجل أن تكتشف كيف يمكن لها أن تجد الطريق إلى هناك (ص 247) حاذيًا حذو مريد البرغوثي في روايتيه "رأيت رام الله" و"ولدت هناك، ولدت هنا".
ينتقد عاطف النظرة النمطيّة والتأطيريّة المفروضة علينا، وعلى تصرّفاتنا اليوميّة التي تصبح تابوهات لا يمكن الخروج عن نصّها، ويتساءل بجرأة: "هل يمكن لهويتنا أن تفرض علينا نمطًا معينا من التصرف ؟ هل يجب أن تتّخذ هيئة وشكلًا محدّدين يتناسبان مع هُويّتنا (ص 229) لتثبيت وقوقعة "الهُنا" ؟  فتتحدّى بطلته كل أعراف القبيلة المتوارثة صارخةً "أنا من هنا". يتناول عاطف موضوع الحنين في كلّ المراحل، الحنين الذي يخنق الروح، فلا شيء يُشبع الحنين إذا استبدّ بنا ونحن في الغربة. ويروّح عن نفسه بقصّ قصّته وروايته، فكثيرًا ما نحتاج أن نروي لشخص غريب حكايتنا حتى نفهمها، وخلال السرد نكتشف الكثير من بواطن الغموض الذي كنا لا نفهمه قبل ذلك! يتحدّث كل من أبطاله لتفريغ الذاكرة من شحنة مُرعبة من الصور والأحداث والتداعيات وعلاج للتنفيس عن الكتمان والاحتقان، فأن تتذكر كل شيء مع التفاصيل الدقيقة شيء سيّئ للقلب، لكنه جيد للروح، ويتطرّق عاطف في روايته لصراع الهويّة وقضيّة المواطنة والوطنيّة صارخًا: "ماذا يعني كلّ شخص حين يقول كلمة وطن؟" (ص231)، يتطرّق لوكالة الغوث دورها وتداعياتها، يتطرّق للمعاناة والتغلّب عليها والبطولة، ويتطرّق إلى الاحتراب والاقتتال بين الأخوة في قطاع غزة قائلًا وبأعلى صوته: " نتقاتل من يحرس بوابة السجن لإسرائيل"! (ص 264).
أوافق عاطف بأنه كي تكونِ أديبًا عليك أن تكون مثقّفًا، وعاطف  نِعمَ المُثقّف، فأخذني معه بسلاسة ولباقة، ولكن بتكلّف وتصنّع مبتذل  لا يخدم النص، إلى عالمه - من معزوفة "الجمال النائم" لتشايكوفسكي ومعزوفة "عذابات القديس ماثيو" لباخ ورائعة مايكل أنجلو "الخلق". ليست الرواية بالتاريخيّة رغم أنّ كاتبها "درس" التاريخ الشفويّ لأهله ومن تهجّر قسرًا من يافا، و"درس" جغرافيّة فلسطين وقراها، وحارات لندن مدينة الضباب وتمرّس بهما، فكانا أرضيّة خصبة للرواية وأثْرَياها جدّا. كاتبنا يُجنّد وبكثرة أسلوب الاسترجاع والاستحضار flashback))، أي انقطاع التسلسل المكانيّ أو الزمنيّ للرواية لاستحضار مشاهد ماضية لتلقي الضوء على موقف ما، وكانت هذه التقنيّة مقصورة أصلًا على السينما، فوظفها الكتّاب لاحقًا في كلّ مجالات الأدب، ووظّف هذه التقنيّة في حينه الروائيّ نجيب محفوظ في روايته "اللص والكلاب". يُكثر عاطف من رسم السيناريوهات وتفصيلها على مدار الرواية، بدل أن يتركها للقارئ لينمّي عنصر التشويق عنده. كاتبنا يحب التكرار المُمِلّ أحيانا، ولكن ينهي روايته بعودة كريستينا بنت ياسر ابن الحاجة كريستينا إلى المخيم فجأة ودون سابق انذار. لماذا لم تُعِدها يا عاطف إلى يافا المشتهاة التي ما زالت تنتظر؟ّ!   


84
حيفا تُكرّمُ زيتونة فلسطين
آمال عوّاد رضوان
غصّت قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا بحضور كبير من المُحتفين بشيخنا الأديب حنّا أبو حنّا، وذلك بتاريخ 19-1-2017، في حفل مميّز أقامه نادي حيفا الثقافي برعاية المجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا. كلمةً ترحيبيّة باسم المجلس الملي الوطنيّ الأرثوذكسيّ في حيفا وباسم نادي حيفا الثقافيّ، افتتح بها الأمسية الاحتفائيّة الأستاذ جريس خوري عضو المجلس المِلّيّ وأمين الصندوق، ، تلتها كلمة المحامي حسن عبادي حول نشاطات نادي حيفا الثقافي المستمرّة وأثرها في المشهد الثقافيّ المحليّ، ثمّ تولّى عرافة الأمسية المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس نادي حيفا الثقافيّ، وكانت مداخلات قيّمة لكلّ من د. راوية جرجورة بربارة بعنوان  التناصّ الدينيّ مرآة الشاعر حنّا أبو حنّا، ومداخلة الكاتب المُربّي حنّا نور الحاج حول إنتاجه الأدبي، وألقى الشاعر فرحات فرحات نصوص شعريّة من كتابه ريترو تخصّ شيخنا حنّا، وقراءات شعريّة من قصائد حنّا أبو حنّا ألقاها كلّ من: الشاعرة فردوس حبيب الله واليافع مروان محمود سرّيّة، ومداخلات زجلية للزجالين شحادة خوري وحسام برانسي، ثمّ قدّمت له درع تكريم أسرة نادي حيفا الثقافي المؤلفة من الأستاذ جريس خوري والمحامي كميل مويس عضو المجلس المِليّ، والمحامي حسن عبادي عضو نادي حيفا الثقافي والناشط الأدبي، والمحامي فؤاد نقارة، وكذلك أسرة ديوان العرب المؤلفة من الأدباء عادل سالم وآمال عوّاد رضوان قدّمت درع تكريم، والأديبتين د. جهينة خطيب ووالدتها عايدة الخطيب قدّمتا درع تكريم، وكبيرتنا الأديبة سعاد قرمان (أم الطاهر) باقة ورد مغموسة بتاريخ ثقافيّ لا يفنى، ثم ختم اللقاء شيخنا المحتفى به بكلمة متزنة تحمل رسالة للوطن وأمانة التجذّر بالهوية والوطن واللغة العربية، لننتقل إلى التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة الأستاذ جريس خوري: الأستاذ الكبير حنّا أبو حنّا (أبو الأمين) موسوعة أدبيّة تاريخيّة، وذخر يمشي بقدمين ثابتتيْن من يوم مولده عام 1928 في قرية الرينة الجليليّة وحتى يومنا هذا، أطال الله بعمره. حنّا أبو حنّا أديب وشاعر وباحث ينتمي الى الجيل الأوّل من شعراء المقاومة العرب في (إسرائيل)، تنقل بين الكثير من القرى والمدن الفلسطينيّة، بحكم عمل والده في دائرة مساحة فلسطين، ما بين القدس ورام الله، وجفنة وأسدود قرية نجد وحيفا، وقد عاش مناطق فلسطين بطولها وعرضها وجميعها عاشت في قلبه ووجدانه.
أيّها الحضور الكريم، أرحّب بكم باسمي وباسم المجلس المِليّ الوطنيّ الأرثوذكسيّ في حيفا وباسم نادي حيفا الثقافيّ، وأدعوكم للتمتّع بهذه الأمسية التكريميّة لشخصيّة فلسطينيّة حيفاويّة أعني الأستاذ الكبير حنّا أبو حنّا، فأهلا بكم. عمل الأستاذ حنّا أبو حنّا مديرًا للكليّة الأرثوذكسيّة في حيفا، ومُحاضرًا في جامعة حيفا وكليّة إعداد المعلمين العرب، وحصل على الماجستير في الأدب، وشارك في تحرير وإعداد برامج الطلبة في إذاعتي القدس والشرق الأدنى، وشارك في إصدار الجديد والغد والمواكب والمواقف، في عمله في الجديد عمل مع توفيق طوبي، إميل حبيبي، صليبا خميس، جبر نقولا وعلي عاشور طيّب الله ذكراهم، ومع نبيل عويضه أطال الله بعمره، وقد امتاز الأستاذ حنّا أبو حنّا ببلاغته وسِعة آفاقه ونشاطه وتواضعه، وشارك في مهرجانات دوليّة في هنغاريا وبلغاريا وروسيا وأوكرانيا.
أصدر (21) مؤلفًا أدبيّا من دواوين للكبار وللأطفال وأبحاثًا لغويّة وأدبيّة، وبسبب عمله السياسيّ من قيادة مظاهراتٍ ودفاع عن العائدين إلى أوطانهم، فُصِل من عمله إثر قيادته لمظاهرة ضخمة في الناصرة، وفُصل معه يومها صديقه الأستاذ فؤاد خوري. وقد شرع في تأسيس "جوقة الطليعة"، يمدّها بالكلمات والأشعار، وصديقه الموسيقار ميشيل درملكنيان يُلحّنها، وعام 1958 وأثناء تواجده في بيت صديقه فؤاد خوري في الناصرة، داهمته الشرطة واعتقلته. في فترة عمله في قسم البرامج والمناهج التعليميه تمكّن من إدخال موضوع الأدب الفلسطينيّ في المنهاج، كي يتعرّف الطالب العربيّ على تراثه وتاريخه.
من أشعاره: يا إخوتي، كيف ننسى مُرَّ ماضينا/ وحاضرًا لم يزَلْ يَروي مآسينا/ ولم تزلْ حولنا الأغلال تخنقنا/ الغدر يَسعى إلى تشريد باقينا؟
مداخلة حسن عبادي: الأخوات والإخوة، مساؤكم خير. باسم نادي حيفا الثقافيّ وباسمي نُرحّب بكم وأهلا وسهلًا للمشاركةِ في هذه الامسيةِ الثقافيّةِ المميَّزةِ لتكريم الأديب الأستاذ حنّا أبو حنّا. بدايةً، نستنكرُ الهجومَ الشرسَ والاعتداءَ الغاشمَ على أمّ الحيران، وعمليّة التهجير المستمرّة لأهلنا في النقب، ونسألُ الرحمةَ للفقيد والسلامة للمُصابين.
لقد تأسّسَ نادي حيفا الثقافي قبل حوالي ستة أعوامٍ، برئاسةِ زميلي المحامي فؤاد حنّا نقارة، وبدأت الفكرة لمنتدى ثقافي لقراءةِ كتابٍ بالشهرِ،فقُمنا حتى اليوم بقراءةِ ما يقاربُ السبعين كتابًا،  وتطوّرت لعقدِ أمسياتٍ ثقافيّةٍ لإشهارِ كتابٍ بحضورِ الكاتبِ، وأقمنا عشراتِ الأمسياتِ وكذلك أمسياتِ تكريمِ أديبٍ ، بمشاركة العديد من المهتمّين وأصحاب القلم من حيفا وخارجها،  ومن ثَمّ  إحياء مِنبرٍ للشعرِ، ألا وهو أمسياتٌ عكاظيّة حيفاوية، تُشكّلُ مِنبرًا شعريًّا ومنصّةً لشعرائِنا. بكل فخرٍ واعتزاز أصبح هذا المنبرُ صَرْحًا أدبيًّا راقيًا ودفيئةً حاضنة لكُتّابنا وأدبائنا وشعرائنا ومُبدعينا، دون رقابة أو تمييز، رغم محاولات بعض المتسلّقين عرقلته، التطاول على هذا المشروع المُميَّز والمُتَميّز، ونفتخرُ أنّه أصبحَ قُدوةً يُحتذى بها في حيفا وخارجها في سبيل الحفاظ على لغتنا العربيّة، ويشرّفُنا اليوم استضافةُ مَن هوَ من أهل البيت الأديب حنّا أبو حنّا، وقد وافق أخيرًا بعد جهدٍ جهيد تشريفَنا بأمسيةٍ تكريميةٍ تليقُ به. وصفه النقادُ بزيتونة فلسطين، وأسمح لنفسي أن أصفَهُ  بأيقونةِ وبوصلةِ فلسطين الثقافيّة الأدبيّة.
في يناير 2005 دُعيتُ لأمسيةٍ ثقافية معَه في مقهى أدبي حيفاوي "الدارة"، فقبلتُ الدعوة متلهّفًا للقائِه (بالمناسبة، أُفتتح مؤخرًا مقهى أدبي حيفاويّ جديد في فتوش لصاحبه وديع شحبرات وبإدارة محمد خالد شامي وفيه مئات الكتب الجديدة، مع تخفيض لأعضاء وأصدقاء النادي)، وعند افتتاح المنتدى الثقافيّ الحيفاويّ في شهر يناير 2009 كان ليَ الشرف أن أكون تلميذَه، ليزيدَني قناعةً بفنّ القراءة المُغايرة ، فهو ميسّر وموجّه اللقاء الشهريّ مع كِتاب كلّ آخر أربعاء من كلّ شهر، ومنذ إقامة النادي قبل ستة أعوام بدأت ألقاه كلّ خميس، حيث يواظب على حضور كلّ الأمسيات، ويغضبُ حين يكون النادي في إجازة، وفي السنوات الأخيرة أصبحتُ محظوظًا أن أكونَ سائقَه بطريقنا من وإلى النادي، لأستغلّه في عصفٍ ذهنيٍ ثقافيّ، عدا عن لقاءاتِنا الأخرى التي سرعان ما تتحوّل إلى فستق أدبيّ.   
مداخلة فؤاد حنّا نقّارة عريف الأمسية: الأخوات والأخوة مساؤكم خير، الحضور الكريم مع حفظ الألقاب والمقامات، باسم المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وباسم نادي حيفا الثقافيّ وباسمي، نرحّبُ بكم في بيتكم نادي حيفا الثقافيّ الذي تُقام أمسياتُه في هذه القاعة المباركة بحضوركم، قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، يشرّفنا أن نستضيف هذه الأمسية "زيتونة فلسطين" أديبنا وشاعرنا الباحث الأستاذ "حنّا أبو حنّا"، تقديرًا ووفاءً لمسيرته الأدبيّة والنضاليّة على مدى أكثر من 60 عامًا، في خدمة الثقافة والأدب والشعر وقضيّة شعبنا، ويَسرّنا أن يشاركنا هذه الأمسية كوكبة من مُفكّرين وأدباء ومُثقفين أصرّوا على مشاركة أستاذنا هذا التكريم الخاصّ، الذي انتظرناه طويلًا من أبو الأمين الذي عارض إقامته، لأنّه كُرّم أكثر من 50 مرّة بدروع وجوائز واحتفالات!
الأديب حنّا أبو حنّا أبو الأمين "زيتونة فلسطين"؛ هو عَلمٌ وشاعرٌ ومناضلٌ وكاتبٌ وباحثٌ وراعي الأدباء والشعراء ومُعلّمٌ مُرَبٍّ، مِن الرعيل الأوّل من شعراء فلسطين البارزين بعد النكبة، ممّن حملوا وزر النكبة، وانطلق في طول البلاد وعرضها يدعو ويُحرّض مَن تبقّى مِن شعبنا في وطنهم رغم النكبة، للوقوف مرفوعي الرؤؤس وللتشبّث بأرضهم ومقاومة سياسة الحكم العسكريّ، في حين آثرَ أغلبُ المثقفين والشعراء في ذلك الحين "التقية" والتقوقع وعدم المقاومة، وقد وقف شاعرنا حنّا من على مَنابر منصّات المهرجانات السياسيّة والشعريّة، وأعلن موقفه صراحة بوجه المحتلّ الغاصب دون وجلٍ ومُواربة. هو من نخبة رفاق ورجالات الحزب الشيوعيّ وأهمّ مُثقفّيه وكُتّابه وشعرائه، ضحّى بوظيفته لأجل مبدأ آمنَ به وسار عليه وأعلنه صراحة، حتى أنّه كان مُستعدًّا للخروج من حزبه والتخلّي عن الحوافز ومغريات المناصب، إخلاصًا لمبدئه مع الحفاظ على "الاختلاف وليس الخلاف" مع رفاق الأمس. كتب وحرّر في صحيفة الاتّحاد. مِن مؤسّسي مجلة الجديد الأدبيّة ومجلة الغد التي تتلمذ في مدرستهم وعلى يديّ أبو الأمين الرعيل الثاني بعد النكبة، من كُتّاب وشعراء وأدباء ممّن كان أبو الأمين مثالًا ومُعلّمًا ومُرشدًا لهم، وما زال بيته مفتوحًا لكلّ المثقفين والأدباء لكلّ استشارة أو مراجعة أو نصيحة. أنتم يا أبا الأمين نواة الخلية الثقافيّة في البلاد بعد النكبة، وما الخليّة بدون نواة؟
ولن ننسى السيّدة الفاضلة سامية فرح أبو حنا أم الأمين، الزوجة المثقفة بامتياز والمتذوّقة للأدب والشعر، وما زالت تقفُ بجانب رفيق دربها أبو الأمين، ونحن نعلم أنّ حياة المبدعين ليست بالسهلة، تحتاج إلى قوّة ومَحبّة كبيرتين، لا يستطيع كلّ إنسان أن يصمد ويعيش ويتعايش، ونشكر فضل الله مجدلاني لمرافقتنا الدائمة بتهيئة القاعة لاستقبال الأمسيات، والشكر الكبير للمجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا راعي الأدب والعِلم والمثقفين.     
مداخلة د. راوية بربارة بعنوان  التناصّ الدينيّ ومرآة الشاعر حنّا أبو حنّا: مساءٌ حَنّائيٌّ بامتياز إذا التعبيرُ جاز، فالمحتفى به حنّا أبو حنّا، والمتحدّثان حنّا الحاج وراوية بربارة "أمّ حنّا"، ويعتقد العرب بأنّه إذا اجتمع ثلاثةٌ ولهم نفس الاسم وُجدَ الكنزُ، وهذا صحيحٌ فأنتم كنزُ الأمسية وكلِّ الأماسي الأدبيّة الثقافيّة التي ترفع شأن مجتمعِنا وتحتفي بأدبائنا وتكرّمُهم.
عندما كنتُ صغيرةً كانتِ الأسماءُ الكبيرةُ تطنُّ في قلبي، وتجلجلُ في جنباتِ عينِ العذراءِ وبيتِ الصداقة، ويحتفي أبي وأصدقاؤه بكلِّ عددٍ يصدرُ من مجلّة "الجديدِ" و"الغد"، فتسكن معنا الأسماءُ ونتخيّلُ ملامحَ أولئكَ الذين يبثّون الحياة في الورق وفي المجتمع، واسم حنّا أبو حنّا يتردّد في البيت والسوقِ والشارعِ والجريدةِ واجتماعات الأصحابِ والرفاق، وأنا لم أره، أتخيّلهُ كبيرًا عملاقًا بقدرِ عطائِه وبقدرِ محبّةِ الناسِ له، ويومًا ما خرج الماردُ من قمقمه، فكان أجملَ من الأسطورةِ، وأكثر ريًّا من بعل، كان أستاذي في جامعة حيفا وعلّمني مساق "الشعر الحديث"، علّمني مدارسَ الشّعر من الكلاسيكيّة ونيو كلاسيك والرومانسيّة والواقعيّة الاشتراكيّة والرمزيّة، وأخذنا معه في تيّار الفن للحياة والفن للفنّ، وتركَنا هناك نتساءَلُ، لماذا ما زال شعراؤنا إلى اليوم يكتبون بكلّ مدارس الشعر، فلا تنقطع مدرسةٌ ولا يختفي نوعٌ، فنجد الجواهريَّ يسبَحُ على بحور الخليلِ وأدونيس يبحث عن الجديد، ونازك والسيّاب يدوْزنان تفعيلتيْهِما، وحنّا أبو حنّا يشقّ طريقتَه بحذرٍ وجرأة، فيواربُ وراءَ الرمز تاركًا لنا أن نستعينَ بثقافتنا المتنوّعة لنسبرَ أغوارَ قصائدِه، أو أن نحذفَ قافيةً منتظرةً ونعاودَ البحثَ، أو أن نستعينَ بالجمهورِ الذي بدأ يدرك أنّ حنّا عرف أنْ يختارَ وقرّر أن يتطوّرَ، لذا نجدُهُ يحاسبُ نفسَهُ، يضَعُ المرآةَ أمامَ قصائدِه ليرى انعكاساتِها، ويقرّرُ أن يغيّرَ هندامَ أوزانِها وتسريحةَ قوافيها ورائحةَ عطرِ صورِها كلَّ مرّة، فهو منذ عام 1949، قرّر بوعيِ المثقّفِ الدارسِ أن يكتبَ "أوّل تجربة له بإيقاعٍ متغيّر ينبع من "دراميّة" الموقف ويسايرها" ، فنراه يُعلن "طلاقَ الرومانسيّة"، مقرًّا بأنّه لم يكتب من أجل الفنّ، بل من أجل الناسِ، فهو لم يكن "فوق" الورى، ويعترف بجنون الشاعر مشبّهًا إيّاه بالبزّاق الذي ينزوي في أصدافه في الوحول معتقدًا بأنّه ربُّ السهول، مُحْدِثًا جلبةً بقصائده وإبداعِهِ، كالطفل الذي يمتطي عصًا ويظنّ بأنّه يحلّقُ بينما هو على رجليْه يعدو:
كنتُ بالأمسِ شاعرًا/ ينسجُ الشعرَ/ من سُدى الأحلامِ/ سارحًا بين النجوم/ هائمًا فوق الغيوم/ لم أعش "فوق" الورى/ غير أنّي/ مثلما ينزوي البزّاقُ في أصدافِهِ/ بين الوحولِ/ حالمــــًا/ واهمًا/ أنّه ربُّ السهول/ مثلما/ يركب الطفلُ العصا "فارسًا"/ وهو على رجليْه يعدو/ حافيًا.. طائفًا دون هدى/ هكذا "أهل الخيالْ"/ يركبونَ الخشبةْ/ واهمين بالمحالْ/ مُحدثينَ جلَبةْ..!
وهذا الشاعر أحدثَ جلبةً، أتدرون لماذا؟ لأنّه أوّلًا وقبلَ كلّ شيء كتب بشاعريّته وطعّمها بالدراسةِ، فلم يفقد توازنَه من طغيانِ النظريّات على الشاعريّة أوِ العكس؛ وثانيًا لأنّه طوّرَ أدواتِه الشّعريّة على مدى سنواتٍ، لم يتقوقع في مدرسةٍ، ولا في أسلوبٍ، بل فتحَ الأبوابَ لقدرتِهِ لتقودَهُ ولتجربتِه الحياتيّة، المعيشة، المهنيّة لتوجّهَهُ؛ وحنّا أبو حنّا أحدثَ جلبةً لأنّه انتقل بسلاسةٍ، من الشعر التقريريّ، التوثيقيّ التأريخيّ، إلى الشعر الرمزيّ، الحداثيّ، وما بعد الحداثيّ؛ وحنّا أحدثَ جلبَةً لأنّه طرق موضوعاتٍ عدّةً فمن الأرضِ، إلى الطبيعة، إلى الهمّ الفلسطينيّ، إلى الهمّ الإنسانيّ، إلى الغزلِ والحبّ والمعشوقة والحياةِ اليوميّة البسيطةِ المعيشةِ، ولهذا الشاعر الجريءِ المجدّدِ، المنتقِدِ نفسَه وقصائدَه قبل حبرِ النقّاد، ستكون مداخلتي التي سأبدأها بما يتلاءَم مع الوضع الراهن، وكأنّ التاريخَ يأبى أن يمسحَ بصماتِهِ عن خدودِنا وأخاديدِنا، فكلّما تجاهلْنا أفعالَه معَنا، عادَ وصفعَنا على خدّنا الأيمن، ومهما كان إيمانُنا قويًّا لن نديرَ له الأيسر، بل سنديرَ له ترابيّاتِ أدبِنا وقصائدِنا، لنعلّمَه درسًا لن ينساه. فها هو محمود درويش يقول في حديث له: "الجديد الذي أعطانا إيّاه حنّا أبو حنّا هو ما أستطيع أن أسمّيَه بشكلٍ مجازيّ، أعطانا ترابيّةَ القصيدة، عندما جاء حنّا أبو حنّا وحوّل الأحداثَ اليوميّةَ والهمومَ اليوميّةَ والأخبارَ اليوميّة إلى قصائد، أعطانا وعيَ ترابيّةِ الشّعرِ ويوميّتِهِ "، وما أحوجَنا الآن الآنَ أن نستشعرَ عبقَ الترابِ، وأن نقرأ معًا مقطعًا من قصيدته "تقاسيمُ على سقسقات سرب القرابين":
كانت لنا وبنا/ في البدءِ/ فيها نَبَتُّ على جذورِ التين والزيتون/ وسريتُ في نبضِ الدوالي/ في اخضرار العلتِ والزعتر/ في نفحةِ الفيجن/ في تنفّسِ العبْهَر/ وجريتُ في القندولِ/ في السمّاقِ والعنبرْ/ نُسُغًا/ أنا والفصول/ أنا الفصول/ أنا والتراب/ أنا التراب:/ آدم والأديم/ أنا السمادُ/ والبذارُ والثمرْ/ ويراد لي أن لا أكون سوى السماد/ أن لا أكون سوى../ أن لا أكون!!
وهل يمكن لشعبٍ عنده شعراؤه ألّا يكونَ؟ ألم يحيي الشعراءُ والأدباءُ الماضيَ والحاضرَ، يقول أبو حنّا مستذكرًا الماضي الجميلَ في الكرمل معَ محبوبته: وأعودُ في الذكرى إلى سفحِ العبيرْ/ المقعد المهجورُ في عينيْهِ طيفُ أسًى كسيرْ/ والجذعُ مالَ إليَّ يسألني عن العهدِ النضيرْ/ والزهر والدمعُ بالندى الشاجي تعزّيه العطورْ
ومن هذا الماضي الشخصيّ القريب، نراه يستذكر مع الجدّة ماضي هافانا: "يا حفيدي../ قبل ما يقرُبُ من خمسينَ عام/ حينما كنتُ أنا ما زلتُ طفلة/ هتك الفجرُ الظلام/ ورعى النورُ شذى مليونِ فُلّة/ أحرق العبد صليبَ الرقِّ في ثورةْ/ وغدا حرّا .. وكان النير قد حدّبَ ظهره!
ألم يكتبِ الشعراءُ نبوءةَ المستقبل؟ ألم يوثّقوا التاريخ؟  فهذه أبياتٌ لأبي حنّا تحيّي الوحدة بين سوريا ومصر: من الناصرةْ/ إلى القاهرةْ/ تحيّاتُ نشوتِنا العاطرةْ/ بطيبِ عروبتنا الظافرةْ.
ألم يحفظوا لنا الجغرافيا؟ تلك الجغرافيا لوطنٍ وقد تغيّرت معالمُه، ومُحيَت لولا بقايا ديرٍ وكنيسة مهجورة تصلّي فيها الريح: نمر الصادق/ ذرّتْهُ العاصفةُ الهوجاء/ ولْمجيدل/ أطلالًا صارت/ ومعالمها تُمحى/ ومُحيتْ/ لولا ديرٌ وكنيسةْ/ تصلّي فيها الريح/ ترتّلُ فيها الغربان
والطبيعة، والبيئةُ، والبشرُ والحجر، ألم يكن لهم النصيبُ الأكبر من شِعر أبي حنّا؟ ففي رثائه للشاعر راشد حسين يجلب معه إلى القبر من كلِّ بلدٍ ذكرى، ليؤكّدَ شموليّةَ التضحية والعطاء: على الضريح المؤرّق/ جئتُ أضع إكليلا/ مضفورًا فيه قَندولُ الكرمل/ وسَرّيسُ الشاغورِ/ وغارُ الجرمق/ عابقًا.. من بيّارات الرملة/ وحبقِ الناصرة/ وطيّونِ وادي عارة/ وسنابلَ مرجِ ابنِ عامرِ/ الجبينُ الذي تطاولَ فوقَ الدخان والغيوم/ ليحالفَ الضياء/ جئتُ أمسحُه بقطراتٍ من زيت الجليل/ وفي ركنٍ من الضريح المستعيدِ كنزُه/ جئتُ أخبّئ خابيةً من عصير عنب الخليل.
في ظلّ كلّ هذا  الماضي والحاضر، والتوجّع والفقدِ كان لا بدّ للشاعر مِن مرجعيّة، فهل تعرفون إلامَ لجأ حنّا في قصائده؟ لقد اتّكأّ حنّا أبو حنّا على التناصّ الدينيّ، والتناصّ من أبرز سماتِ الشعر الحداثيّ، ومن أدقّ خصائص بنيتِه التركيبيّة والدلاليّة، إذ يمثّل التناصّ استحضارَ نصوص غائبة، سابقة في النصّ الحاضر، لوظيفة معنويّة، أو فنيّة أو أسلوبيّة؛  وقد حاولت تتبّع التناصّ في قصائد أبي حنّا، فإذ بأغلب القصائد تفاجئني باتّكائها على الرمز الدينيّ، ولعلّ القصائدَ على امتداد الشعر الفلسطينيّ من بداياته إلى يومنا لم تحفل بهذا الكمّ من التناصّ الدينيّ المسيحيّ والإسلاميّ، فلماذا فعل كذلك؟ ولماذا التجأ إلى الدين؟ أهي ثقافتُهُ، والإناءُ بما فيه ينضح؟ أم هي حاجةُ الإنسانِ إلى القوى الخارقة والمعجزات في زمنٍ تراكمت فيه النكباتُ والنكسات والمصائب والمصاعب فلم يكن للشاعر مخرجٌ إلّا البحث َ عن قوّة خارجيّة تساعده على الصمود والاستمرار؟
ففي رثاء عمر القاسم، قصيدةِ "في حاشيةِ العوسج" يعترف بحاجةِ الشعر إلى أسطورة: الشّعرُ يفتّشُ عن أسطورة/ أمّا أنتَ الأسطورة/ فأكبرُ/ أكبرُ من كلِّ الشّعرِ
إذًا هو الألم سرُّ الوجودِ، فعلى خلاف: أنا أفكّر إذن أنا موجود، يقول حنّا أبو حنّا: أنا أشكو إذن أنا موجود، فالوجع هو سرّ وجودنا: نحن نحيا/ لأنّنا/ لم نزل نشكو/ فيا لوعةَ اكتشافِ الوجودِ/ **/ نتساقى الشكوى/ نسرّي/ ولكن/ نفتحُ الجرحَ للنزيفِ الجديدِ.
وهذا الشاعر المتألّم يطفئ لهيبَ ألمِه بتعلّقه بتراب وطنه، بدغدغات اللوف والزعتر الممنوع، بأعشاب بلاده التي يبقّلها لتُقيتَهُ، لتلذعَهُ، لتبْرُدَ لسانَهُ؛ والشاعر يملأُ جرّته من عرق الجباه، من دموع الشريد، ودموع العروس يومَ زفّتها ومن شفَةِ الربيع التي تملأ البيّارات بالرعود: حملتُ سلّتي/ أبقّل العلّيقَ والمرّار/ واللوفَ- مِبرَدَ اللسانْ/ يلذعُهُ مدغدغًا/ والزعترَ الممنوع/ قرّبتُ جرّتي من عرقِ الجباه/ من مقلةِ الشريدْ/ من زفّةِ العروس/ من بيّارة الرعود/ من شَفَةِ الربيع.
وهو مستعدّ أن يضحّي بدمه كما فعل المسيح في العشاء الأخير "خذوا اشربوا هذا هو دمي الذي يُسفَك عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا"، فماذا يقول شاعرنا بعد أن شبع وارتوى من آلام ودموع بلاده؟ يقول بأنّه سيضحّي بدمه لينفّضَ الرماد عن مجامر الإباء، ليُبعِدَ هذا الرمادَ الرابضَ على مجامرِ كرامتِنا، لتَهُبَّ النخوةُ والشهامةُ والعزّةُ فينا من جديد، ولنستيقظَ من خدَرِنا وغفوتِنا: "خذوا اشربوا/ هذا دمي/ يُنفِّضُ الرمادَ عن مجامرِ الإباءِ/ ويلغَمُ الخدَرْ"
ولماذا يضحّي الشاعرُ بنفسه ليستيقظ النوَّمُ؟ لأنّ الأسماءَ اغتيلت، ولأنّ جبلَ الكرمل يعتري عورتَهُ بحّارةُ الأساطيل الحربيّة، ولأنّ مار الياس يطلّ من مغارته ويتساءَل هل قمّلت لحيةُ هذا الجبل؟ هذا الوطن؟ وما أجمله من تعبيرٍ استوحاه الشاعر من حياتِنا المعيشة، عندما نقول "قمّلت لحيتُه" كناية عن العفن والإرادة المسلوبة وقلّةِ العزيمةِ والفقرِ، فأيُّ تعبيرٍ فصيحٍ كان سيفي بالمعنى؟  وإنّما يستعين الشاعر بالتناصّ الدينيّ مع القرآن "ولا تعثَوْا في الأرض مفسدينَ" ليقول قولًا هامًّا؛ بأنّ مثلَ هذا الخراب ليس جديدًا، إنّما المفسِدون كانوا على مرِّ التاريخ، مشيرًا فيما وراءَ السطورِ إلى عقابِهم ونهايتِهم، ونراه يمزج ما بين الأسطورة والدين والواقعِ الكئيب ليشرحَ لنا مدى عدمِ وضوح هذا الحاضر الذي تعبث فيه كهنةُ الأساطير ويعيث فيه المفسدون، ويهاجَم فيه الكرمل: في "جادة الكرمل"/ حيثُ اغتيلتِ الأسماءْ/ تحت عيون "قبّة البهاءْ"/ حيثُ يقرفصُ الجبلْ/ يمدُّ ساقيهِ إلى الميناءْ/ ويعتري عورتَهُ بحّارةُ الأسطولِ/ السادسِ...السابعِ../ مهما شئتَ من أرقامْ/ وحيث "مار الياسْ"/ يُطلُّ من مغارة الدهشةِ في عينيه: - هل قمّلَتْ لحيتُهُ؟ - كهنةُ البعلِ يعيثون بها ويفتنون الناسْ
لكنّه في خضّمِ انتقاده للوضع القائمِ، ودعوتِه للتحرّكِ والتيقّظ، يذكُرُ فرسانَ اليقظة، يذكُرُ من ناضلَ، وعملَ، ونسجَ، وحاكَ مستقبلًا وضفّرَ أحلامَهُ بالنارِ، والظبيةُ تحدّت قنّاصًا لتصيدَ الفجرَ، ما أجملها من مفارقةٍ بين صياد يلاحق الظبية ليصيدها، و ظبيةٍ تلاحقُ الفجرَ لتصيدَ يومًا جديدًا تحياه، ما أبدعَ أنْ يكونَ الشعرُ مكثّفًا، واضحًا، جميلًا، أصيلًا، بِكرًا، يرسِم في جملةٍ شعريّةٍ واحدةٍ لوحةً مذهلةً، مليئةً بالكناياتِ والاستعاراتِ، فقد اشتعلَ الفتيلُ ، لكنّه فتيلُ الطيبِ والرائحةِ الجميلةِ، فتيلُ الريحان، هذه الكلمات التي تبدّل المألوفَ تُدهِشُنا، تدعونا أن نصبحَ قرّاءً مشاركين، أن نُشعِلَ فتيلَ ثقافتِنا ومخزونِنا الأدبيِّ لنجاري الشاعرَ، لنشاركَهُ تناصَّه الدينيَّ حين يقول: تتحدّى الظبيةُ قنّاصًا لتصيدَ الفجرَ/ اشتعلَ فتيلُ الرّيحانِ/ تحرّكَ نوْلُ النَسّاجْ/ يُضفِرُ بالنارِ الحُلُمْ/ فرسانُ اليقظةِ فوق الأبراجْ/ لا تأخذهم سِنَةٌ/ لا يأخذُهم نوْمُ.
هذا الشاعر مرّ بمراحلَ مختلفةٍ، فبعد طلاقه الأوّل مع الشعر التوثيقيّ الواقعيّ، طلّق الرومانسيّة، وامتطى جوادَ الرمز، فبعد أن كان توثيقيًّا، علّمته الدنيا أن يكون مراوغًا، لا يصرّحُ بحقيقة الأشخاصِ، ولا بحقيقةِ الحدث، إنّما يحتالُ على النصِّ بمفرداتٍ يستقيها من بيئته، من ثقافته، من أمكنةٍ لا يُعيّنها بالاسم، وأناسٍ لا يناديهم جهرًا، فمن هي الظبيةُ؟ أهيَ فلسطين؟ ومن هم فرسان اليقظة؟ الثوّار؟ المناضلون؟ من بقيَ في الوطن؟ وكيف تجرّأ وكنّاهم بكنية الحيّ القيّوم الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نَوْم؟ كلُّ الإجاباتِ متعلّقةٌ بمشاركةِ القارئ، فالرمز في القصيدة، وفي قصائد عَدّة في الديوان يرتقي من الإشارة sign، إلى الرمز  symbol، إلى الأليجوريا، المبنى الرمزي المتكامل الذي يوظّف فيه الشاعر عدّة إشارات وعدّة رموز، وهكذا بقدرِ محليّةِ القصيدةِ وخصوصيّتِها نرى انفتاحَها على العالَم العربيّ، على اللامكان واللازمان، لتصبحَ قصيدةَ كلِّ مكانٍ وكلِّ زمانٍ، فتضمنَ بالمراوغةِ الذكيّةِ خلودَها.
حتّى قصائدَ الغزل لم تخلُ من المراوغة حفاظًا على المحبوبة من كشفِ سرِّها، وربّما تحفّظًّا منفلِتًا، حفاظًا على هيبةِ هذا الشاعر الشقيّ، الذي عاج يسألُ عن النبيذ المشتهى في نهدَي محبوبتِهِ، راسِمًا صورًا شعريّة جميلةً مُطلِقًا أسرابَ الغزلان على الردفيْن، مطهّرًا نفسَه بالنار التي تشعلُه، بنار العيون، ولا بدّ للتناصّ الدينيّ أن يظهر ولكن أين؟ فلنستمع: مَنْ نسجَ الخمرَ وشاحًا/ للنهديْن؟/ مَنْ أطلقَ أسرابَ الغزلانِ/ على الردفيْن؟/ بالنارِ يطهّرني/ هذا السّحرُ الكامنُ/ في الجفنيْن/ لأرى خارطةَ الجنّةِ/ ما بينَ القرطيْن.
وهذه المحبوبةُ التي تسكرُه بخمر نهديها، هي التي تُسكرُ الكؤوسَ وتكسرُ القدح، أو ربّما هي محبوبةٌ ثانيةٌ، لا أوسّع ذمّتي، ولا أقول إلّا على ذمّةِ الراوي: على شجر القلبِ/ باسمِكِ/ تشدو العصافيرُ تسبيحةً/ للفرح/ حضورُكِ نبعُ الذهولِ/ فأنتِ التي تُسكرين الكؤوسَ/ وأنتِ التي تكسرينَ القدحْ
وفي حواريّة بين المحبوبيْن، حين تتساءَل المحبوبةُ إذا كان الحبُّ يسلِبُ قلبَ المحبِّ؟ نرى الشاعرَ يُكذِّبُ دموعَ العاشقين الشعراء الذين يستمرئون البكاءَ ليصيدوا الهلال، لكنّ الحبّ بريءٌ، لم تثبت إدانتُه لأنّ بوصلةَ الروحِ هي التي تتوجّه نحو المحبوب، نحو الشمال: تساءلْتِ:/ هل يسلبُ الحبُّ قلبَ المحبِّ..؟/ إذا كان حقًّا فقلبُكَ عندي/ وقلبيَ عندكَ/ - تلك شَكاةٌ/ تناقلها العربُ في خيمةِ الغزوِ/ فاستمرأَ العاشقونَ البكاءَ/ لعلّ الدموعَ تصيدُ الهلال/ تبرّأَ من ذلكَ الحبُّ/ فهو الذي يوجّهُ بوصلةَ الروحِ/ نحو الشمال
وفي عزّ الحبّ ولحظاتِ العشق يتّكئ بقوّةٍ على التناصّ الدينيّ، أظنّه يقدّسُ هذا الحبّ، يدرس الوصايا العشر من احتضان شفتي المحبوبة التي تجمعُ كلَّ الأقانيمِ في واحدة، وكأنّها الآبُ والابنُ والروح القدس، هذه المحبوبة مؤلّهةٌ سرًّا وتلميحًا، وهذا الشاعر لا ينفكّ الماضي يعلّمه ويعاوده، وهذا سرّ الحداثة في الشّعر وما بعد الحداثةِ، هذا الانفصالُ عن الماضي وهذا التواصلُ معَه، فها لهفةُ ذاكرةِ البدويّ إلى تمتمات الحليب ونجوى العسل، هي نفسُ لهفةِ الشاعر إلى شفتَي المحبوبة، وهذه المراوغاتُ الذكيّة، تأخذُنا إلى هناكَ عبرَ الزمان، وتحطُّنا هنا، من صحراء البدوي وطعمِ العسل إلى الغابة وفوح طيب نيسان، وتحاصرنا بالدين والوصايا، وتُفرِجُنا بالحبّ والغزلِ والشبق والعبقِ،  هذه المراوغاتُ إنّما تؤكّد الحديثَ القائلَ بأنّ الشعراء لا يتّبعهم إلّا الغاوون: أحضن بالشفتيْن الوصايا/ أرسِم هذا البهاءَ/ بلهفةِ ذاكرةِ البدويّ/ إلى تمتمات الحليبِ/ ونجوى العسلْ/ أيا غابةَ الطيبِ في حضنِ نيسانَ/ أنتِ الأقانيمُ/ في واحدةْ
وهكذا نراه ينوّع في المبنى، فمن الموزون المقفّى إلى شعر التفعيلة، وينوّع في موضوعاته وثيماته، فمن الأرض والتراب وكلّ نبتةٍ تشارك الشاعرَ قصائدَه ومعانيه، وتتراسل الحواسُّ فيها فنشمُّ ما نرى، ونسمعُ ما نتذوّق،  إلى الأماكن والأحداث التي يعيّنها حينًا ويعمّمها أحيانًا، فيخلّدُ الفعلَ والحدثَ المحليَّ ويغورُ في أعماق الُهنا، وبذكاءٍ مراوغٍ يحمل الأماكنَ على الرموز، لتصبحَ صالحةً لكلّ الأماكن والأزمنة، وتصبحَ خالدةً؛ ومن الأماكن إلى التاريخ وما اجترحه، والجغرافية وما محت من معالم، وما تركت من ذاكرةٍ يحملها الشاعر ويوزّعها للقرّاء حزنًا وحثًّا، ويتّكئ على التناصّ الدينيّ بشكلٍ ملحوظٍ وبكثافةٍ غير ِمسبوقةٍ في الشعر الفلسطينيّ المحليّ وذلك لحاجةِ هذا المتبقّي في أرضه إلى الإيمان والأمان، والحمايةِ الإلهيّة والأسطورة الدينيّة التي ستحيي الموتى.
وهذا أستاذي الشاعر يحمل مسؤوليّة مجتمعٍ، مسؤوليّةَ جيلٍ قادمٍ يخاف عليه من عثَرات الزمان، لذلك كلّما رآني دعاني وقال لي تعالي لزيارتي عندي وصيّة لك، وتكرّرت دعوتُهُ والأيّامُ تسرقني، وفي يومٍ حلمتُ بأنّه يجب أن أزورَه اليوم، قمتُ مسرعةً اتّصلتُ وردّت أمُّ الأمين مرحّبةً، وكانت الزيارةُ التي لا تُنسى، هناك على قمّة الكرملِ، وفي بيتٍ مشرفٍ على كلّ ما في حيفا من جمالٍ، على البحر والميناء اللذيْن يشبهان الشاعرَ، باتّساعه، بعمقِه، بامتلائه، بمحبّته، بالرسوّ عندَه، كانا في الانتظار، وكان يومًا مميَّزًا لن أنساه أبدًا، قرأ الشعرَ، وحكى وروى وحمّلني وصيّته؛ قال لي: أولادنا واللغةُ العربيّةُ أمانةٌ عندكِ، فعليكِ الاهتمامَ بالمطالعةِ، لأنّنا بالمطالعةِ نبني الإنسان، نبني اللغة، نطوّر التفكير، ننمّي مجتمعَنا، نحافظ على مستقبلِنا، وأنا أقول لكَ أستاذي العزيز، بأنّني حملتُ وصيّتَكَ وعملتُ بها، وأعلنتها سنةَ القراءة والقارئ المميَّز، ونعمل على المطالعةِ من رياض الأطفالِ، من مكتبةِ الفانوسِ إلى المكتباتِ الصفيّةِ، إلى مسيرة ِالكتابِ، والمشاريعُ قادمة، والوصيةُ أمانةٌ في عنقي، وأخيرًا، ومن وحي اتّكاءاتكَ، ومن وحي عيد الغطاس الذي يصادف اليومَ، أقول لك إنّ المسيحَ تعمّد بالروح القدس، ونحن تعمّدْنا بطهرِ عطائكَ وشاعريّتكَ، فكلَّ عام وأنتَ وأم الأمين بألف خير.
 مداخلة حنا نور الحاج: مساؤكم خيرٌ وسلام. لقاءاتي بأبي الأمين وجهًا لوجهٍ حتّى اليوم لا أظنّ أنّ مجموعَها يتجاوزُ عددَ أصابع اليدين الِاثنتينِ بكثير. من بينها لقاءُ اليوم، ولقاءان في مدرسة مار الياس الثانويّة في عبلّين، في أحدهما استضفنا هناك الأديبَ العزيز، فالتقى بنحو ستّين من طلبة الصفوف العاشرة يحسنون الإصغاءَ ويحترمون الموقف، صاروا اليوم في الخامسة والعشرين. في ذاك اللقاء الجميل، شَرُفتُ بتقديم الأستاذ حنّا أبو حنّا وبمحاورته، واليوم هئنذا أحظى بشرف المشاركة في تكريم هذا الكريم النبيل. أقلّ ما يمكنني فعلُه أن أشكر من أعماق القلب مَن أتاحوا لي هذا الحضورَ وهذه المشارَكة في التكريم.
ولأنّ التكريم لا يَحتمل إفاضات الكلام، سأحاول أن أوجز قدْر المستطاع. وإن صدر منّي ما يشبه المديح، فعذري أنّي مقتنع بأنّ ذاك ليس بمديح. هو حبّ وتقديرٌ يرتدي ثوبًا كالمديح. وإن بدا في بعض ما أقوله تعظيم، ففي الأمر بعضُ توهُّم. العظيم لا يحتاج إلى تعظيم -وإن كان يستحقّه ويستحقُّ كلَّ خير. صحيحٌ أنّ لقاءاتي الِاعتياديّةَ به لم تكنْ كثيرةً بما يرضيني، بيدَ أنّي التقيت به كثيرًا من خلال أبنائه /مؤلّفاته –وإن كنت لا أزال أشعرُ بالتقصيرِ في هذا الصدد.
بتأخّر سنواتٍ قرأتُ سيرةَ أبي الأمين الذاتيّة. صدر الجزء الأوّلُ من ثلاثيّتِه الحلوةِ تلك ("ظلُّ الغيمة") عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعةٍ وتسعين، وأنا شرعتُ ألتهمُهُ في نهايةِ عامِ ألفين وسبعة. وحين انتهيت من قراءتِه، قلت في سرّي بتوبيخٍ معنِّف: "يا عيب الشوم عليك يا حنّا!" (وبالطبع لم يكن الموبَّخ حنّا هو أبا الأمين. بل كان الموبَّخُ هو سَمِيَّه المُعِزّ. كان الموبِّخُ نفسُه هو الموبَّخَ).
أمّا الجزآن الآخران ("مَهْرُ البومة" وَ "خميرةُ الرماد" الصادران عامَ ألفين وأربعةٍ)، فقد حظِيتُ بقراءتِهما بعدَ أيّامٍ قليلةٍ منَ انتهائي من قراءةِ الجزءِ الأوّل. بدأتْ رحلتي القرائيّةُ تلك في العشرينَ منْ كانونَ الأوّلِ عامَ ألفين وسبعةٍ، وانتهت في منتصفِ كانونَ الثاني عامَ ألفين وثمانية. هي أربعةُ أسابيعَ رافقتُ فيها حنّا أبو حنّا منَ المنبعِ إلى ما بَعدَهُ بكثير. لست أنسى مقاديرَ الإحساسِ بالِاغتناءِ والِامتلاءِ الذي رافقني خلال تلك الرحلة، أدبيًّا وفكريًّا وروحيًّا. وكعادتي حين أنفعلُ وأتفاعلُ معَ ما أقرأ، لم يستطعْ لساني إلّا أن يتحدّثَ ويتحدّثَ ويتحدّث... حدّثتُ الطلّاب، وحدّثتُ الزملاء، وحدّثتُ الأصدقاء. وكان منَ اللطيف جدًّا أنّ عددًا غيرَ قليلٍ من بينهم عبّروا عن رغبتِهِم في اقتناءِ كتب حنّا أبو حنّا تلك وغيرِها، فتمكّنّا بمساعدةٍ منَ المؤلّفِ نفسِه أن نوفّرَ لهُمُ المطلوبَ بأثمانٍ شديدةِ المعقوليّة؛ إذ كانت أبعدَ ما تكون عنِ التجاريّة. ولم يكتفوا بالِاقتناء، بل انضمّوا إلى فئة القرّاء.
يا أبا الأمين، لو نجحتُ في استذكار كلِّ ما قاله قرّاؤك المحبّون وما يقولون، ولو دوّنتُه وقلته، لطال الكلام. لكنْ دعني في هذا المقامِ أتخيّرْ لك ما لا أنساه ممّا قاله المرحوم صديقي الدكتور جبّور خوري، الذي عُرِفَ باهتماماتِهِ الكثيرة والمثيرة، ومن بينها شَغَفُه العظيمُ بالقراءة، ولا سيّما قراءةِ الروايات، وبأكثرَ من لغة (بالعربيّة والعبريّة والإنجليزيّة والإيطاليّة). صديقيَ المرحومُ الطبيبُ الطيّبُ جبّور، صاحبُ الذائقةِ الصعبةِ المتشدّدةِ التي لا يُعجبُها إلّا العَجَبُ العُجاب، حين أتمّ قراءةَ تلك الثلاثيّة، قال لي بحماسة المعجَب المنفعل: "يا رجل. صدّقني... لا أتردّد إطلاقًا في القول إنّ هذا حقًّا أدبٌ عالميّ، عالميٌّ بكلّ المقاييس". لست أنسى كم سُرَّ صديقي، كم سُرَّ وسَرَّ حين بادر إلى التحدّثِ هاتفيًّا معَ أبي الأمين على مَسمعٍ واشتراكٍ منّي، ونقل إليه رأيَهُ وانطباعاتِهِ بصدقٍ وحبٍّ وتقدير!
كم حاولتُ (وأظنّ أنّه أحيانًا حالفني النجاح) أن أستثيرَ الطلبةَ والزملاءَ والأصدقاء، عبْرَ تعليقٍ على مؤلّفات الأستاذ حنّا أبو حنّا بقولي على مَسمعٍ منهم: "ما ألطَفَ أن تعرفَ وطنَك، تاريخًا ومكانًا، من خلالِ كتابٍ أدبيّ. في "ظلّ الغيمة"، وفي "مَهر البومة"، وفي "خميرة الرماد"، أنت تسافرُ في وطنِكَ الذي حرمَتْكَ مناهجُ التدريس أن تتعلّمَ تاريخَه كما يجدرُ وينبغي. بتلك الثلاثيّةِ تتعرّفُ وطنَكَ بعينِ أديبٍ وفؤادِ أديب وروحِ أديب وفِكرِ أديب. تتعرّفُ وطنَكَ فتحبُّهُ وتحبُّ مَن حبّبَكَ فيه بيـراعتِهِ البارعةِ الصادقةِ الحاذقة".
وكم حاولتُ أن أستميلَهُم إليك، وإلى الأدبِ بعامّة، حين علّقتُ على أناقتِكَ ومهارتِك في صياغةِ عناوينِ كتاباتِك (لستُ أنسى سحْرَ كتابِك "فستق أدبي" عنوانًا ومضمونًا). في العنوان الجميل "ظلّ الغيمة" تتعدّدُ الإيحاءاتُ والدلالات. وكم أشغلني هذا العنوانُ الأنيقُ العميق.  أتُراه عنوانًا ينطوي على إيحاءٍ بتواضعِ صاحبِ السيرة، إذ يعتبرُ عمرَهُ ظلًّا لغيمة، ظلًّا عابرًا سريعًا كسرعةِ سَهْمِ الوهم؟ أَمْ تُراه عنوانًا ينطوي على إيحاءٍ بحسرةٍ ما، حسرةٍ تسكنُ قلبَ الكاتبِ على انقضاءِ العمْرِ مهرولًا متعجّلًا؟ أَمْ هو يحملُ إيحاءً بتقديرٍ ما للنفسِ، باعتبارِ الغيمةِ رمزَ خيرٍ وعطاء؟ ولا تنتهي التساؤلات... غزيرةً تنثال، وفي ثنايا كلّ منها احتمالٌ لإجابة. وإن كان هنالك بَعدَ الإعجابِ مجالٌ لمخالفةٍ ما، فاسمح لي بذلك، أبا الأمين... هل سيرتُك الذاتيّةُ حقًّا ظلُّ غيمة؟ لو تُركَتِ التسميةُ لي، لكنت جعلتُها "ظلُّ الخـيمة". كتابُك كمثلِكَ هو؛ خيمةٌ تجمعُنا بك. أراه ظلَّ خيمة، في صحراءِ الخيبةِ الملتهبة. يحلو لي أن أراها على هذا النحو، وبخاصّةٍ الآن ونحن أمامك، معَكَ في مساءٍ مشرقٍ كهذا المساء، على الرغم من سواد الأرضِ واكفهرارِ السماء. وقبل أن أنسى... حين استضفنا الأستاذ حنّا أبو حنّا في مدرستنا، سُقْتُ تساؤلاتيَ السابقةَ كلَّها عليه، بشأنِ دلالاتِ العنوان "ظلُّ الغيمة"، وبأدبٍ جمٍّ -وتمامًا كما يليق حقًّا بفارسٍ مُجَلٍّ في مضمارِ الأدب- امتنعَ عن إعطاءِ إجابة. بلطفٍ شديد أصرّ أن يتركَ الأمرَ لتفسيراتِ القرّاء، نائيًا بنفسِهِ عن تقييدِ المخيِّلة والفهمِ وحصرِهما في زاويةٍ محدَّدة، أو محدِّدة.
أمّا عنوانُ الجزءِ الأخيرِ منَ السيرة، "خميرة الرماد"، فلم أبخلْ على الطلبةِ بالتوضيح أنّ الخميرةَ والرمادَ مقترنانِ بالكهولةِ وما بعدَ الكهولة، وبما فيهما من نضْجِ واختمارٍ للتجربة.
 وأمّا الجزءُ الثاني، "مَهر البومة"، فلم أشرح لأيّ كانٍ سببَ اختيارِ الكاتبِ لهذا العنوان. اكتفيتُ بإشارةٍ عاجلةٍ أنَّ الإجابةَ تتكشّفُ للقارئِ في الكتابِ نفسِه، ولا تحتاجُ إلى إعمالِ التخيُّل. وهي إجابةٌ مفاجِئةٌ مذهلة. وأنتم، أيّها الحضورُ الكرام، لن أجودَ بتوضيحٍ على أيٍّ منكم ممّن لديه فضولٌ لمعرفةٍ دلالةِ ذاك العنوانِ المدهشِ الغامضِ ("مَهر البومة")، وليتَ مَن يعرفُ ينافسُني في البخلِ المتعمَّد! ليتنا نتابع تكريمنا لهذا الرجل المهمّ، حنّا أبو حنّا، من خلال قراءتِنا لأدبِه البديعِ الرفيع (ونحنُ من ذلك كاسبون). ودعوني أُسرُّ لكم بأمنيةٍ قرائيّةٍ شخصيّة: كم أشتاقُ وأرغبُ في قراءةِ تلك الثلاثيّةِ مرّة أخرى!
أستاذَنا أبا الأمين، إنّ وجودَكم -أنت وسائرِ القاماتِ العاليةِ من أهلِ الأدبِ والفنِّ عامّةً- نعمةٌ تُشكَرُ الأقدارُ عليها. وجودُكم -أنت وهُمْ- يزيلُ بعضَ الهمّ أوِ الكثيرَ منه، ويوفّرُ لنا متعًا وفوائدَ لا تُنكرُ إطلاقًا. وجودكم يهوّنُ على المرءِ بعضَ حَيرتِهِ وارتباكاتِه. منكَ وممّن هم كمثلِكَ من نبلاءِ حقولِ الأدب، نتعلّمُ الصبرَ والأناةَ والوطنيّةَ والإنسانيّة. منك ومنهم، نتعلّمُ كيف تكونُ المبادئُ والقِيمُ خبزًا يوميًّا. أنت ممّن تعلّمنا منهم -ولا زلنا نتعلّمُ- كيف يكونُ الحزنُ نبيلًا نقيًّا بهيًّا لا يُفقِدُ حاملَهُ البوصلةَ بالرغم منَ العواصفِ والأعاصير؛ فأنت الذي قلتَ في بوّابة حدائق صبرك:
لم أخبزْ كعكًا في فـُرني/ بالدمع عجيني/ بالأحزانْ/ لكنّ خميرتَهُ الإيمانْ/ وجياعٌ أهلي/ لا مائدةَ/ ولا سكّينَ ولا شرشفْ/ في أرغفتي طعمُ المنفى/ نكهةُ أقمارٍ صَرعى/ وطعمُ ترابٍ مغدورْ/ ونبيذٌ من روحي ينزف
 
أنت ممّن تعلّمنا منهم -ولا زلنا نتعلّمُ- كيف نبكي ونتماسك، فنُحيل بكاءَنا أشرعةً من تفاؤلٍ عاقلٍ وأملٍ لا يحيا المرءُ بدونِه. فأنت الذي قلت قبل إحدى وأربعين سنة، في يوم الأرض الخالد:
على جبين السحَرْ/ دماؤُهمْ/ تطلُّ من براعمِ الرمّانْ/ تُطلُّ من شقائقِ النعمانْ/ من مُهَجِ البِطّيخِ في البطّوفْ/ وفي تَوَهُّجِ الجذوعِ/ في مواقدِ الشتاءْ/ جمرًا يُشيع الدفءَ والحنانْ/ قبورُهُمْ في القلبْ/ في الميجنا../ في الأوفِ../ في العتابا/ يا قلبُ يا مقبرةَ الأحبابْ!/ سربُ العصافيرِ الذي بدمِهِ تضرّجَ الجليلْ/ سربُ العصافيرِ / القرابينِ الذي/ يَرِفُّ فوقَ هامةِ الجليلْ/ على سفوحِ الوجدْ/ على ذُرى العذابِ والأملْ/ قنطرةٌ جديدةٌ حتّى يَهِلَّ الفجرْ
وإلى مضمارٍ آخرَ وأخيرٍ أنتقل. أقرّ وأعترف... قلّما يستهويني ما يُكتبُ لدينا من شعرٍ وقصص على أنّه مكتوبٌ للأطفال. ومَرَدُّ هذا أنّي أستشعرُ أحيانًا في ما يُكتبُ باعتبارِهِ أدبًا للأطفال، أستشعرُ إهانةً للأطفالِ أنفسِهِمْ غيرَ مقصودةٍ أوِ استهانةً بهِمْ واحتمالَ تخريبٍ لذائقتِهِمُ الخاصّةِ الغضّة. وذلك أنّ تقديمَ المعلوماتِ والنصحِ والتوجيهِ في قالَبٍ منَ الوعظِ الفجِّ، والمباشَرةِ المزعجةِ، يهبطُ بالأدب إلى مزالق ومَهاوٍ تحرمُهُ أن يُدْرَج ضمن ما تصحّ تسميتُهُ بالأدب.
في عُجالةٍ أشيرَ إلى لطفِ وظَرفِ ما كتبَهُ حنّا أبو حنّا في ديوانِ الأطفال "راعي البراعم"، ديوانِهِ الذي أعتقدُ أنَّه يحملُ طاقةً حقيقيّةً في أن يُعجَب به الصغارُ والكبارُ على حدٍّ سواء. لديّ اقتناع عميق أنَّ أجملَ أشعارِ الصغارِ هي تلك التي لا تتخطّى اهتمامَ وإعجابِ الكبار. في ما يلي بعض مقتطفات من تلك اللطائف التي يتضمّنها "راعي البراعم"، أسوقها دونما تعليق.
تقول قصيدته "بهدوء": لي أذُنٌ تسمعُ همسَ النسيمْ/ ولي بهذا الرأسِ عقلٌ سليمْ/ أفهمُ صوتًا ناعمًا دافئا/ يقولُ ما يريدُهُ هادئا/ لا أفهمُ الزعيقَ والزاعقينْ/ أفهمُكُمْ إنْ كنتمْ هادئينْ
وتقول قصيدته "لماذا؟": قل لي:/ لماذا الكبارْ/ لا يُكرمونَ الصغارْ؟/ مِنْ دونِ أنْ يسألوا/ يتّخذونَ القرارْ!/ نمشي على رأيِهِمْ/ في الليلِ أوْ في النهارْ/ أريدُ أنْ يعرفوا/ حقّيَ أنْ أُستشارْ!
وقصيدته القصيرة "أختي":/ هذهِ أختي سميرةْ/ أصبحَتْ حالًا كبيرةْ/ لبسَتْ كندرةَ الماما/ وسارَتْ كالأميرةْ
وفي المقابل تقول قصيدته "أخي":/ لَـمّا وُلدَ أخي/ أحسسْتُ بأنَّ الكلَّ يحبّونَهْ/ أمّي تحضنُهُ بحنانٍ/ وتُقبّلُ فمَهُ وجبينَهْ/ وأبي يتأمّلُهُ فرِحًا/ ويُقبّلُ خدَّهُ وعيونَهْ/ وأنا مثلُ الثوبِ البالي/ يُهملُهُ الناسُ ويرمونَهْ/ حِبّوهُ.. لكنْ لا أرضى/ أنْ أُصبحَ في حبّي دونَهْ/ إنّي أحببْتُ حلاوتَهُ/ لكنَّ الغَيْرةَ ملعونَهْ
أمّا قصيدته "محتار" فتقول:/ أمّي تَعجبُ/ وأبي يسألْ:/ "ماذا تصبحُ في المستقبلْ؟"/ لـَمّا مرضَتْ أمّي قلْتُ:/ "أتمنّى لوْ كنتُ طبيبا!"/ وقرأْتُ كتابًا أعجبَني:/ "ما أحلى لوْ صرْتُ أديبا!"/ نادتْني الطيّارةُ قالَتْ:/ "هيّا لتصيرَ الطيّارْ"/ لكنّ السفُنَ تناديني:/ "بلْ أحلى لوْ أنّكَ بحّارْ"/ أمّي تَعجبُ/ وأبي يسألْ:/ وأنا محتارٌ../ محتارْ!!
وبعد... ذاك الطفلُ المتحيّرُ الذي سكنَ في أعماقِ أبي الأمين، ذاك الطفلُ الذي دغدغتْهُ الأحلامُ وحيّرتْهُ، ذاك الطفلُ المتحيّرُ بشأنِ ما سيكون عليه حين يكبَر (هل سيكونُ طبيبًا أمْ أديبًا أمْ طيّارًا أمْ بحّارًا)... هذا الطفلُ الذي وُلِد بعدَ ولادةِ المرحوم أبي بسنة ونصف السنة، هذا الطفلُ أصبحَ كلَّ تلكَ وأكثر... أصبح طبيبًا وأديبًا وطيّارًا وبحّارًا... وأدبُهُ خير شاهد على ما أقول. تصبحون دومًا على أدب جميل... وشكرًا لكم
مداخلة الشاعر مجيد حسيس في رسالة تعذّر: الأستاذ الشاعر الأديب أبو الأمين حنّا أبو حنّا، جدير بتقدير واحترام المجتمع العربي بأسره، على ما قدّم وأعطى خلال سنوات طويلة، من العمل التربويَ والأدبيّ، وأنا كأحد طلابه في الكليّة العربيّة الأورثوذكسيّة وفي جامعة حيفا، أرفع قبّعتي منحنيًا أمام هذه القامة الأدبيّة الرفيعة، وأمام مُربٍّ أعطى من نفسه ليُثري ألباب طلّابه. وللأخ الصديق فؤاد نقاره تقديري واحترامي على لفتاته الكريمة بتكريمه كلّ الذين تركوا بصماتهم المشرّفةٓ على صفحات مجتمعنا. أرجو الاعتذار عن الحضور، بسبب نقص المناعة عندي، متمنّيًا لأستاذنا الحبيب العمر المديد ، صحةً سعادةً وهداة بال، ومزيدًا من عطاء لا ينضب معينه. فلا كانت سنينُ العمرِ تُحصى إذا خانت عهودًا للمُـربِّـــي
الصور المرافقة بعدسة الزميل الإعلاميّ رائف حجازي

85

دعيني.. أُقَـــشِّـــرُ لِـــحَـــاءَ عَـــتْـــمَـــتِــــكِ


آمال عوّاد رضوان

مُنْذُ ظَمَأٍ بَعِيدٍ
وَأَغْبِرَةُ صَمْتِي
مَا نَفَضَهَا شِتَاءُ دَلَالِكِ!
رُحْمَاكِ
أَعِينِينِي عَلَى ظَمَئِي
وَلَا تُصَافِحِي بِالنَّارِ .. سَبَئِي!
هَا نَبْضُ صَوْتِكِ
حَبِيسُ أَدْرَاجِ هَيْكَلِي المَسْكُونِ بِكِ
يُذْكِي وَجَلِي الْمُؤَجَّلَ
ويَفُضُّ خَوْفِيَ الطَّاغِي!
***
أَيَا آسِرَتِي .. تَرَفَّقِي بِي
أَطْلِقِي حَفِيفَكِ .. مِنْ قُمْقُمِهِ
لِيُمَارِسَ رَقْصَتَهُ
وَلِتَشْحَذَ نَايَاتِي.. أَنْهَارُكِ الْمَدْفُونَةُ!
***
هَا تَوَحُّدُنَا لَيْسَ يَكْتَمِلُ
إِلَّا فِي وَهَجِ الْجُنُونِ!
وجُنُونِي .. لَيسَ يَشْحَذُهُ
إِلَّا دَبِيبُ نَبَرَاتِكِ النَّقِيَّةِ!
دَعِينَا نَأْتِيهِ
مِنْ حَيْثُ تَكُونُ لَذَائِذُهُ
فِي انْتِظَارِنَا
***
أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ
دَعِينِي
أُقَشِّرُ لِحَاءَ عَتْمَتِكِ
أُضِيءُ كُلَّ تَفَاصِيلِكِ
 لِتُكَلِّلِينِي بِالْفَرَحِ
فَمَا انْتِظَارِي
 إِلَّا وَجَعَ لَذَائِذِي الْمُؤَجَّلَةِ
الْــ   مَا عَرَفَتْ طُرُقَ الْتِحَامِهَا
***
أَيَا سَلِيلَةَ هذَا الْقَلْبِ الْمُعَنَّى
حَسْبُكِ .. أَمَسُّكِ مَسًّا
 فَتَشْتَعِلِينَ خَفْقًا
كَحَالِ قَلْبِي .. الْــ تَمَسُّهُ أَطْيَافُكِ!



86
أوركسترا الحياة تواجهُ المَدافع؟!
آمال عوّاد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافيّ أمسية احتفائيّة بإشهار المجموعتين الشعريّتين "روح محمولة على الريح" / محمد بكرية و "زهرة الميعاد" / أنور خير، وذلك بتاريخ 15-12-2016، في قاعة كنيسة يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وتحت رعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، ووسط حضور من الأقرباء والأصدقاء والأدباء، وقد تولى عرافة الأمسية الإعلاميّة إيمان القاسم، بعدما رحّب المحامي فؤاد مفيد نقارة رئيس ومؤسّس نادي حيفا الثقافيّ بالحضور، وكانت كلمة للأديب عادل سالم رئيس تحرير موقع ديوان العرب الإلكترونيّ في أميركا، عن دور الثقافة الفلسطينية وأهمّيّته، وكلمة للأديب محمّد علي سعيد عن صدور منجزه الجديد "معجم الشعراء الفلسطينيين 48"، عن الاتحاد العامّ للكتاب الفلسطينيين العرب 48، ودار سمير الجندي للطباعة والنشر، والذي يشتمل على تراجم ل 325 شاعرا وشاعرة، وهو الأشمل والأكثر حتلنة من حيث المعطيات. وتحدّث عن المجموعتيْن  الشعريّتين كلٌّ من: الإعلاميّ نادر أبو تامر والأديب فهيم أبو ركن، وقدّم المحتفى بهما قراءات شعريّة، تخلّلتها وصلات موسيقيّة وغنائيّة للفنان أمين ناطور، وفي نهاية اللقاء تمّ التقاط الصور التذكاريّة!   
مداخلة الأديب عادل سالم بعنوان تعزيز الثقافة الفلسطينية: نادي حيفا الثقافيّ مَعلمٌ بارز من معالم حيفا، والثقافة الفلسطينيّة الوطنيّة تكتسبُ أهمّيّةً كبرى في هذه المرحلة، حيث فشل السياسيّون وغيّروا بوصلتهم، فلم يبقَ لنا الآن على الأقلّ إلّا جبهة العمل الثقافيّ، للحفاظ على الوجه المُشرق للشعب الفلسطينيّ، وتَشبُّثه بأرضه وحقوقه، وتاريخه وتراثه الوطنيّ، ويتعاظم دوْر الثقافة الفلسطينيّة عندما نعلم أنّ جبهة الأعداء قد اقتحمتها، وتحاول تخريبها وتغييب الوعي الفلسطينيّ الوطنيّ، لتجعل منه أداة لتنفيذ مشاريع وأجندة غربية وتكفيريّة غريبة عن شعبنا، وتاريخه الوطني القائم على الوحدة والتلاحم.
إنّ أهمّ ما يُميّز العمل الثقافيّ الفلسطينيّ، خاصّة أنّه عملٌ غيرُ تابع لمؤسّسة حكوميّة، بل هو نتاجُ نشاطات ثقافيّة فرديّة وجمْعيّةٍ، ومؤسّسات مستقلة في الغالب متنوّعة وليست أحاديّة الاتّجاه، ولعلّ وضعَ الشعب الفلسطينيّ المُشتّت بين الداخل بتقسيماته المعروفة لديكم، والخارج الموزّع على دول الشتات الكثيرة، قد جعل منه عملًا غيرَ مُقيَّدٍ بسُلطة ولا مؤسّسة ولا بحزب، فانطلق وبفعل وسائل الاتّصال الحديثة ليُشكّل حالة متنوّعة تشبه قوس قزح بألوانه الزاهية، وقد أسهم نشطاء ثقافيّون وكتّابٌ ومُفكّرون، وموسيقيّون ومُؤرّخون ومُدوّنون، بدوْرٍ بارز في تنشيط العمل الثقافيّ الفلسطينيّ، وإبقاء القضيّة الفلسطينيّة حاضرة، رغم محاولات الأعداء مسْخها وتحويلها لملفٍّ تفاوُضيّ، ورغم حالة الشلل العربيّ الذي نشهده هذه الأيّام، ومحاولات تدمير وطننا العربيّ، وبالتالي حرف الأنظار عن واقع فلسطين، فصدرَ الكثير من الكتب الفلسطينيّة التاريخيّة والأدبيّة والفكريّة والمعلوماتيّة المختلفة، وأقيم الكثير من النشاطات الثقافيّة والفكريّة والندوات إلى آخره، لتُساهم في نقل المعرفة والتنوير إلى أكبر عددٍ ممكن من أبنائنا، وتمتين أواصر انتمائهم لهذا الوطن.
يُعَدُّ نادي حيفا الذي يجمعنا هذا المساء أحد النوادي الثقافيّة البارزة في نشر الثقافة الفلسطينيّة والحفاظ عليها، وتكتسب نشاطاته أهمّيّتها من استمراريّتها والتنويع في حضورها، ومشاركة نخبة بارزة من كُتّاب ونُقّاد الوطن في نشاطاته، ممّا عزّز حضوره، وكرّسَه كمَعلم بارز من معالم الثقافة الفلسطينيّة في الداخل الفلسطينيّ، حيث محاولات الأسرلة قائمة في كلّ اتّجاه.
على أنّنا يجب أن نلفت الانتباه أنّنا ما زلنا جميعًا نسعى أن نرتفع بنشاطاتنا الثقافيّة، لنخرج من حالة النخبة لحالة جماهيريّةٍ واسعة، بحيث تصبح نشاطاتنا الثقافيّة نشاطاتٍ جماهيريّة تشارك فيها قطاعات أوسع، وتصِلُ كلَّ بيتٍ وكلّ مكان، وهذا لا يمكن تحقيقه إلّا بتضافر جهودنا جميعًا لرفع مستوى ثقافة جماهيرنا، وتشجيعها على القراءة، وتحويل ثقافتنا لتمَسَّ مشاكلَ اهتمام المواطن العاديّ، وتُلبّي تطلُّعاته، كما علينا أن ندرك تمامًا، أنّنا في عصر أصبحت فيه قوى الأعداء والتكفير تحاول اختراق جدار ثقافتنا ووعينا الثقافيّ، من خلال الإعلام والثقافة والمال الذي خرّب كلّ شيء، واخترق من خلال بعض الأقلام التي باعت مبادئها وأقلامها ساحة العمل الثقافيّ الفلسطينيّ، والأمثلة على ذلك كثيرة. يحاولون هدم النسيج الوطنيّ الفلسطينيّ المُوحّد عبر التاريخ، ليَصبَّ في النهاية في خدمة أعداء شعبنا.
إذن؛ نحن لا نبحث عن أيّ ثقافة، بل عن ثقافة فلسطينيّةٍ عربيّة إنسانيّةٍ تنويريّة، تدافع عن حق الفلسطينيّ في أرضه وتراثه، وانتمائه العربيّ والإنسانيّ المنفتح على الثقافات الإنسانيّة، والمقاوم لكلّ أشكال التغريب والأسرلة والتكفير، ومن أجل هذا الهدف، وفي وسطٍ عربيٍّ مشحونٍ حتى النخاع بالقبليّة والطائفيّة، والمذهبيّة وأفكار التكفير، وبأنظمةٍ عربيّةٍ مُتهالكةٍ وتقوقعٍ قطريٍّ مقيت يصلُ حدّ العنصريّة، كان لا بدّ من أصوات ثقافيّة وحدويّة عربيّة تقفز فوق الصراعات والخلافات، فكان موقع ديوان العرب.
في البداية قيل لنا: لماذا ديوان العرب؟ ابحثوا عن اسمٍ أفضل أكثر جذبًا، لأنّهم لم يعلموا أنّنا كنّا نبحث فعلًا لا قولًا عن صوت عربيٍّ حُرّ، يساهم في تطوير وإحياء صوت المثقف العربيّ الوحدويّ التنويريّ، لذلك منذ البداية كان ديوان العرب صوتَ عرب الوطن، لا عرب التغريب ولا عرب التكفير، ويجول في خاطري قولٌ جميل قاله صديقنا الكاتب والمؤرخ الفلسطينيّ عبد القادر ياسين عام 2005، في احتفال أقامه ديوان العرب في القاهرة عندما قال: "فرّقتنا السياسة ووحّدتنا الثقافة"، هذا ما فعله "ديوان العرب". ختامًا، أشكر نادي حيفا الثقافيّ والمشرفين عليه، وأشكر جهودهم المتواصلة في إقامة النشاطات الثقافيّة، وأشكر الحضور الكريم الذي شرّفني بهذا اللقاء الممتع.
مداخلة نادر أبو تامر بعنوان أوركسترا الحياة أقوى من فحيح المدافع: ظننت أنّ صديقي محمد بكريّة قد تخطّى مرحلة الطفولة، لكنّني وجدته أكثر الرجال طفولة في براءته وخشوعه المرهف نحو الأمل، في صلاته إلى السماء بأن تترفّق بالإنسان. قد لا نتذكّر مَن كان ديفيد كاميرون أو تيريزا ميي، لكنّنا لن ننسى شكسبير. وقد لا نتذكّر عبد السلام عارف، لكنّنا سنذكر أبو الطيّب المتنبّي، وربّما لا نعرف من كان وزير الداخليّة الفلسطينيّ، لكن محمود درويش باقٍ معنا أبد الدهر. من هنا تأتي أهمّيّة مثل هذا الحدث الذي أشكر القائمين على تنظيمه، وإطلاقه في فضاء شحيح المعارف كثير المعارف.
بالدهشة أُصبت حين باغتتني كلماتُ الكتاب. قرأته وتابعتُ مطالعته حتى القمر لا الرمق الأخير. أنقوعة مُستخلَصة من عصير الكلمات، تفوح مع كلّ هفهفة بجناحي فراشة الشعر والنثر. روح محمولة على الريح هي ريح تجتاح الروح، تحملنا في رحلة خضراء لا تنتهي، كلمات الكتاب لها أصداء تتحلّق حول ذهنك، كدوائر تتمخّض عن صخرة تهوي في بركة من المشاعر الفوّارة، فهي تقتنص منك تفاعلات وجدانيّة عميقة لا عقيمة. تحاول أن تهرب من وهج الكلمات إلى خارج النصّ، فلا تستطيع إقفال الباب وراءك، نظرًا لأنّ إعصارَ المدلولات المنفلت منها يَحول دونك. العبارات مفتوحة على مصراعيها، وكأنّك تدخل في كلّ مرة من باب دوّار من تشبيهات وتنبيهات تشفطك إلى داخل النصّ من جديد، إلى مُجمّع من تلاقحات مُبْهِرَة ومُبَهَّرَة بتوابلَ، تضفي على طبخة الإبداع مدى لا يتوقف من المذاقات والطعمات والتطعيمات والتطميعات بالمزيد والمزيد بأنّ القادمَ أجمل.
عندما تتسلّق تضاريس النصوص تنهال التداعيات من مرتفعات الكلام الشاهقة، وتتدلّى شلّالًا من عبير ينزلق على صخور هاوية الوجع، نحو قاع منحدر من الفكر العميق العميق. يُزاوج الشاعر بين طبيعة الله وطبائع الانسان، فيمتشق من خاصرة الوادي ضمّة من الرموز الثقافيّة المستفيضة، تلقم ثقافتنا كغلاية من القهوة التي تغازل نار الفحم بتوظيفات غير معهودة. عند هذا الشاعر أنت لا تتنقل بين كلمات، بل بين محطّات تاريخيّة ورموز ثقافيّة، بين حِكم ووقفات من الأمل والتألّم، وهو يستحضر من رحيق المسافات عطرًا للوجع. يدقّ بكريّة أوتار خيامه في كلّ مكان، إنسانيٌّ هو في مفاهيمِهِ العابرة للتأطير والرامية للتأثير، يفتحها للضيوف كخيمة إبراهيم الخليل فوق الجبل مفتوحة من كلّ الجهات. فيها الفرات والعراق وإبراهيم وإسماعيل وهاجر، وموسى كليم الله والآشوريون وكافور وأبو الطيّب وشكسبير الذين يتهادون في قوافل الحجيج، صوب أفق إنسانيّ راقٍ ورائق وفائق ولائق.
في كتاب محمد بكرية لك لقاء مع محمود درويش، ومقابلة مع أبي الطيب المتنبي، وزيارة الى طاغور. يتعانق عنده الحاضر الموجوع مع الماضي المرجوع والواقع المصدوع، إن كان عراقيًّا أو محليًّا سوريًّا يتناثر على سواحله اللاجئون، لأنّه يُنقّب في الجرح ليعرف من نكون، ويحنّ إلى التراب والزمان والمكان، إلى أمّه، والدته، أبوه، أرضه، بلدته تسكن الورق بلا أرق وبكثير من الألق والحبق. إنّ هذه المركبات حاضرة فيه ذاكرته، لأنّه يتنفّسها ويتنسّمها في كلّ لفظة مشبعة بالحبر. يُوحّد الشاعر الديانات من أقصاها إلى كنائسها، فيجعلها مئذنة تطلق حنجرة الإمام، لتتمازج مع رنّات الأجراس المتدفّقة في المدى. لا يتوانى الكتاب عن خلخلة التوازنات، فتشرق من الغرب شمسُه، وتنكسر أشعّتها في الجنوب، وكي تبحر فيه أنت بحاجة الى مجاذيف من إحساس، وقارب من ثقافة لا تتناهى، إلى ويكيبيديا وموسوعة معارف، لكن ورغم ذلك فهو شفاف، مرهف، جميل، إنسانيّ، طيّب، خاشع. يُموسق هذا الكتاب الصدى والسدى والهدى والعدا، في توصيفات تسكب نضارة في صحراء تغزوها غثاثة المعاني.
يهتمّ المحتفى به بالإيقاع، لكنّه يُنحّي المعنى بين العفيف واللطيف والخفيف والطفيف والظريف، وبين العقاب والقباب والغلام والظلام والحرب والسلام. ينسابُ مرزاب الحكم والمفاهيم والاستخلاصات، ويرنو إلى الخَلَاصَات، وإذا كان يُكثر في قصائده من السجع والقوافي، فأنت لست بحاجة لها، لأنّ الموسيقى الداخليّة النابضة في الكتاب مترعة بالمعاني المتراقصة. يسكنُهُ الوطن العربيّ الكبير المَحقون في شرايينه (عيون القدس وقمرًا على دمشق..) يتمختر ويتبختر في ديوانه ما بين الياسمين الشامي والنخل اليماني والتمور (أخاف من العرب على العرب).
يُطرّز محمّد كلماته كثوب تراثيّ أصيل مشغول بالمحبّة، ينسج في أكمامه أكاليل من الشوق والشوك بتشبيهات وصور خلابة (ارفع قلبي عاليا)، ويوظف الحضارة بمهارة وشطارة ونضارة، ولا يبخل علينا بالعُصارة، فيستحضر التاريخ والجغرافية، ويُبَوْصِلُها في مسافات الريح من نيرون روما، إلى سين باريس، إلى نابليون الذي يخطف قلب الشمس، إلى هوميروس أثينا عبر ثنايا الإلياذة والاوذيسة، بين الحاضر والأمس، ومعه تمضي إلى سراديب التاريخ، وتكون بأمسّ الحاجة إلى قناديل المعرفة المُشعّة بالنور، لتفتح أمامك الطريق.
لغته منقوعة في مرطبان مليء بالقراءات والاطلاع والتجربة، كلبنة أمّه المُكعبلة المثخلّلة في زيت الزيتون الأصليّ، ومثل كوب من الأرزّ المنقوع في طشتيّة مغمورة بالماء قبل تجهيز الغداء، في غلّاية تصهر مفرداتها وتشويها على المِرْجل، لا المَرَاجل الطنّانة الرنانّة الخاوية كصوت الطبول البتول. يُحلّق بنا في ربوع الدنيا عبر حَبَقات تفوق الحَقَبات، والعَبَقَات التي تتخطّى العَقَبات، يُعنكب الفولاذ ويُهشّش السلاطين. تخضرّ الكلمات في الكتاب، فنحن نُطالعه بلهفة الباحث عن كنز يختبئ في المغارة القادمة، وعليك أن تصطحب معك ضميرَك ليهديك. تخضرّ المعاني وتنبت نخلة باسقة تبلغ الغيوم، حيث تُدلّي النوارسُ أقدامَها وإقدامَها لاجتراح أفق أنصع. صفوة القول التي تختزل مسافات الشعر والنثر هنا، هي عبارة تتركك في حالة من ذهول.. (إنّي وقد انتصرت اليوم على شهوة الدم سأغني.. سأغفو ملء جفني وأغني). ونحن معك، الشاعر الخلّاق محمد بكرية، سنغني.. ملءَ الوتر سنغني، وبعمق الجرح سنغني وبحضور الحنجرة سنغني، فأوركسترا الحياة تُخرس فحيح مَدافع الحرب وتغني.. معك سنغني..
مداخلة فهيم أبو ركن: عندما يصبح الحرف زورقا يمخر عباب الفكر، وعندما يتدفق التعبير صورا شعريّة تنبثق من أعماق الأحاسيس، يصبح الإنسان شاعرًا ويمسي الشاعر مبدعًا. بعض النقاط أرى لها أهمّيّة خاصّة بالتأكيد عليها، وأخرى سأتناولها في محاولة لاكتشاف خباياها الجميلة، ولا بدّ من تنويهٍ إلى أنّ وسائل الإعلام الإلكترونيّة وشبكات التواصل ساهمت كثيرًا –للأسف -  بخلط الغث بالسمين من النتاج الأدبيّ والشعريّ، ممّا جعل قيمة ما يُنشر فيها تنخفض إلى الحضيض، ولم يبقَ سوى الكتاب المطبوع يمكن أخذه بجدّيّة، والنظر إليه كعمل إبداعيّ جادّ، ومن هنا تنبع أهمّيّة هذه الندوة التي تخصص لإلقاء الضوء على الديوان. لهذا فالشكر الجزيل للقائمين على تنظيم مثل هذه الندوات، خاصّة هذا الصرح "نادي حيفا الثقافي" بدعم "المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا" مشكورًا بجميع أعضاء إدارته، هذا النادي الذي أصبح منارة للإبداع بمختلف أشكاله وألوانه، وهذا المجهود المبارك الذي يستحقّ كلّ التقدير والتحيّة، وتحيّة لعريفة الأمسية الإعلاميّة المتألقة الزميلة إيمان القاسم سليمان، والتي تؤدّي رسالة هامّة في خدمة المجتمع العربيّ.
أقول للشاعر أنور: لمّا الشاعر كِلْماتو بْسِحرو بِتْطيرْ/ فيّو الفَرحَه بِتْزَهّرْ حُزْنُه بْيِصْغَرْ/ بْتِحتارو هذا فرزدق  ولا جرير/ نَهْداتِ القلب سْهام حْروفُه بْتِكْبَرْ/ بِتْشوف عْيُون اللهفِه بصوتُه حريرْ/ بْتِعرفِ الشَّاعرْ هذا هُوِّي أنورْ/ أنور مش بس منوّر والعيلِه خيرْ/ بيقطف من عمق المعنى أجمل أشعارْ/ جوال بفكرُه محلق بتظنّو طيرْ/ نجمات السما بشعرُه عطر الأزهارْ/ أنور يا باشق غرّد أطلقْ نَشيدْ/ وُبِحجارِ الجرمقْ ابني شيِّدْ عمارْ/ في الفضا شْعَار نجومَك نكتبها عيدْ/ وِنْعيد نجوم شْعارك إبهاي الدارْ/ دار الكنيسِه الضاوي بدعمك فؤادْ/ بتجمعْ نجومِ الأدب غمار غمارْ/ عريفِه من زهر النجمِه تُقطفْ لِحْروفْ/ وكِلماتا تلبس عِنّا عِطر الأفكارْ
عنوان "زهرة الميعاد" يرمز إلى زهرة "كفِّ الدبّ" التي لا تأتي إلّا في ميعادها المعروف، وهي زهرة نادرة الوجود، زهرة جميلة تتفتّح في الجرمق الجليليّ البيتجنّيّ (بيت جنّ) في أوائل الربيع لمدّة أسبوعين فقط، اختصّ الله بها هذه المنطقة الجميلة، ولهذه الزهرة أسطورة تقول: إنّ شابّا وصبيّة من قرية بيت جنّ أحبّا بعضهما وقرّرا الزواج، لكن والد العروس رفض الفكرة، حينها قرّرا الهروب إلى "جبل عروس" المُحاذي لقرية بيت جنّ، وصادف وقوع عاصفة ثلجيّة في منطقة الجبل، وأغلقت جميع الطرق والمسارب إلى جبل عروس، وبعد مضي عدّة أيّام خرج أهالي القرية للتفتيش عن الحبيبيْن، وعلى مقربة من الجبل عثروا على أثار أقدام دبّ كبير تعقّبوها، ليصِلوا إلى كهف صغير حيث جلس الشاب والصبيّة داخله، ليتبيّن لأهالي القرية أنّ الدبّ الأبيض أحضر للحبيبيْن الغذاء طيلة فترة العاصفة، وتبيّن أنّ في كلّ مكان داسته كفّ الدبّ نبتت زهرة كبيرة جميلة، أطلق عليها أهالي القرية اسم "كفّ الدبّ". اختيار الشاعر لهذا العنوان فيه رمز أسطوريّ ورمز فولكلوريّ تراثيّ، يوحي بشغف الشاعر بأرضه وحبّه لطبيعتها وتراثها العريقيْن. هذا العنوان عنوان "أنا زهرة الميعاد" التي أرى فيها تفسيرًا روحانيّا وتعبيرًا عن الصراع بين القرية والمدينة، بين الأصالة والحداثة، من خلال ثلاثة مسارات.
المسار الأول؛ أصالته المرتبطة بأصالة الزهرة التي أشار إليها في العنوان "أنا زهرة الميعاد"، عنوانٌ أصبحَ جزءًا عضويّا من القصيدة لا نستغني عنه، لأنّ الشاعر يصف أصالة الزهرة في إشارة لأصالته أو أصالة مجتمعه، وهكذا يعبر عنها في بداية القصيدة، حيث تتراكم الرموز والإيحاءات فيقول: تأشيرتي عبر العصور/ عانقت تربة مجدكم/ وحام من فوقي النسور/ عشت مجدي بندرتي/ احتار في أمري الحضور/ ومهابتي في زهرتي/ توّجت زهرة الزهور.
وفي المسار الثاني عن العصرنة التي تهدد هذه الزهرة، وهي بمفهومها الرمزيّ أصالة الشاعر القرويّة المُتشبّثة بالأرض فيقول: "اِجتثني عابرٌ ساقني إلى القصور/ رغبة منه سباني/ جبّارٌ تمَلّكَه الغرور". إنه يرمز إلى محاولة خلع الصبغة القرويّة العريقة منه، ونقله إلى المدنية أو العصرنة، بمحاولة اجتثاثه ونقله إلى القصور رمز التمدّن. لكنه يرفض الغربة والتهجير، إنه يريد العودة إلى الوطن فيقول: "هيا أعدني موطني/ قبل فنائي في القبور/ إلى أرحام جبالي/ والسنديان والصخور". والجبال والسنديان والصخور هنا ترمز لثبات العقيدة والمبادئ لديه.
أمّا المسار الثالث فيأتي مقتضبًا موجزًا حازمًا في نهاية القصيدة، وكأنّه يتّخذ قرارًا حازمًا مقتنعًا به تمام الاقتناع، حيث يقول: "بعد زوال الثلج/ لي موعد مع الطيور". الثلج هو البرد والجمود، والطيور هي الحرية والانطلاق، فالشاعر كما استنتجنا أعلاه متفائلا، يرى أنه سيحظى بحرّيّته بعد أن يزول الثلج. 
في هذا المقام اليوم نحن بصدد شاعر مبدع، وديوان يستحقّ منّا هذا التحليل وهذا الجهد النقديّ. وكمثل إبداعنا في الشعر يجب أن نبدع في النقد، ولكي نبدع في النقد يجب أن نفهم الإبداع، ولنفهم الإبداع يجب أن نتعرّف على المبدع، فثمّة سمات يتّصف بها الكاتب الحقيقيّ، من خصائصَ نفسيّةٍ ومعاييرَ فنّيّةٍ وجماليّةٍ وأخلاقيّة يلتزم بها، ومبدعنا الشاعر أنور خير شابّ عصاميّ، جمَعَ في شعره بين شموخ الجليل وإباء الكرمل، بين براءة القرويّ وثقافة المدنيّ العصريّ، بين جمال الطبيعة وقسوة الحياة، فقد نعم بالحب وعانى من الفراق، أحبَّ وطنه "بيت جن"، وتغرّب عنه إلى وطن آخر احتضنه بكلّ مَحبّة "دالية الكرمل"، هذه العناصر أفضل تربة خصبة لولادة شاعر، فزيادة على ذلك هو مثقف يقرأ كثيرًا، مرهف الإحساس، ثاقب الفكر والأهمّ، يكتب بمصداقيّة. إنّ شاعرنا لا يكتب من أجل المال أو المجد أو الشهرة، إنّما القصيدة هي التي تكتبه، وهذا هو سر النجاح، لذلك جاءت قصائده مُعبّرة، تميزت بلغة سلسة ومعجم لغويّ خاصّ، اعتمد على تعابير جميلة مفعمة بعناصر الطبيعة الخلّابة، متماهية مع أحاسيس الإنسان ومشاعره في مزيج مُعبّر بين لغة الحروف وعناصر الطبيعة، فيقول (ص 52): لم أكن لأتقن أبجديات حبّها الشمسيّة/ ولا حروفها القمريّة/ فأمسيت في عشقها أمّيّا/ اقرأ في معجم/ يلغي قانون الأفعال.
ولكي نكتشف زاوية جديدة في شعره، نستشهد بقصيدة "رفقا بشعرك" ص 71، حيث يستهلها قائلا: "رويدك يا أساطيل اليأس/ أفلا ترسو بوارجك/ في مرافئ الأمل؟" يبدأ الشاعر الصورة الشعريّة الأولى باسم فعل أمر "رويدك"، طالبًا من أساطيل اليأس التمهُّل، وكأنّه يُشبّهُ نفسيّة الإنسان بالشاطئ الذي تحاول أساطيل اليأس احتلاله، فيطلب منها التمهُّل، ويزيد الشاعر في إقناعنا بأنّ الأساطيل هي أساطيل يأس، مضيفًا عنصرًا تأكيديّا للصورة الأولى، حين يصف أشرعتها بالسواد. ثمّ يُعبّر عن أمانيه بأن تتغيّر هذه الحالة باستفهام إنكاريّ حيث يقول: "أفلا ترسو بوارجك في مرافئ الأمل؟"، حيث يوحي هذا الاستفهام بالتمنّي أيضًا، وكأنّه يَطلب من هذه الأساطيل أن تغيّر هدفها وترسو في مرافئ الأمل. صورة شعريّة تشير إلى نفسيّة الشاعر المتفائلة، حيث ألبس الأمل عنصر الاستقرار بنعته متجسّدا بالمرافئ، وجعل اليأس حالة مؤقتة بوصفها بالأساطيل العابرة.
لكي يصفَ بعضُ الشعراء حبّهم الكبير، ينزلقون إلى التعابير الغزليّة الجسديّة أكثر، فيصفون مفاتن الجسد، وأحيانًا يقتربون من الإباحيّة، بينما يظهر في شعر أنور غزل مكتوم، ربما تأثيره جاء من بقايا عهد الشباب اليانع، ففي تلك الفترة وتلك الروابي النائية كان الحبّ مَخفيّا، فظهَرَ في شعر أنور كحبّ عذريّ لم يقترب إلى الإباحيّة، وبقي يتمحور في المعاني الروحانيّة فيقول: اهدئي يا أصفار العيون!/ لا تفصحي شجن الخبايا/ أسعفيني فقط ببريق/ من عيوني الخضر/ قولي لها عذرًا/ فما أنا فارس الروابي/ ولا باشق في رهبة المعاني/ أسير كبّلني بُعادُ التلاقي/ فأرّقني بركانُ الخيبة/ سامحي عند الشرود / وتقلبات الردود/ فقد غدوت تائها/ في دنياي.
ويظهر هذا الموتيف في العديد من القصائد وحتى في عناوين بعضها، ويُعبّر عن حبّ لم يولد بعد، أو عن طيفٍ لا جسد، فيقول في ختام "حبٌّ لم يولد بعد" (ص77): كانت لي في رياض الفكر توأمًا/ غاب شذاها/ ذوَتْ زهورها/ ونضرتها كساها الجليد/ لم تكتمل الطقوس/ لأنّها رحلت/ قبل أن تأتي/ فكبرياؤها أكبر/ من أن تبحر/ في عالم الحبّ الشريد!
وقصيدة خمرة الروح (ص76): جلست أرقب طيفها/ يخرج من لظى ناري. كذلك يعبر شاعرنا أحسن تعبير عن المعاني الإنسانيّة الشاملة بصيغة تفاؤليّة مُعيّنة، فيقول (ص74): كهزيم رعد مُدَوّ/ سيكتب قلمي/ لن أركع/ فلا قسوة الأزمان/ ولا تمنّعات العصيان/ ولا طقوس الأكفان/ تثنيني../ أن أكون هو الإنسان/ أنا الإنسان/ بالروح والكيان.
أكتفي بهذه النماذج من هذا الديوان الجميل الذي يعتبر خطوة أولى للشاعر في طريق الإبداع الوعريّة، والتي يَشقّها أنور خير بكل قوّة وثبات، مُعَبّرًا عمّا يختلج في ذاته من معانٍ سامية بصورٍ شعريّة، تُعبّر بمصداقيّةٍ عن مشاعر وأحاسيس من خلال هذا الديوان، في مسيرته الإبداعيّة التي نتمنى له فيها كلّ التقدّم والنجاح.

87
يا لهفةَ روحي.. والتلوُّن الحكائيّ/ بقلم الناقد: علوان السلمان
قراءةٌ في قصيدة بِــالتَّــرَقُّــبِ .. تُــلَــوِّنِــيــنَ حِــكَــايَــاتِــي/ آمال عوّاد رضوان
التجربةُ الشعريّةُ هي عمليّةُ الحياةِ والحركةُ العضويّةُ بأكملِها التي تسيرُ في الكون، على حدّ تعبير هربرت ريد.
إنّ النصَّ الشّعريَّ المَقطعيَّ (بِــالتَّــرَقُّــبِ ... تُــلَــوِّنِــيــنَ حِــكَــايَــاتِــي)- مِن الدّيوان الشعريّ الرّابع (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ)، منسوجٌ بأناملِ الشاعرة آمال عوّاد رضوان، والذي شكّلتْ فيهِ الحداثةُ مبنًى ومعنًى، بتحالفِها والتحوّلاتِ الفكريّةِ والفنّيّةِ والمؤثّراتِ الخارجيّةِ، لخلقِ عالمِها المُتماشي والعصر بديناميّةٍ لا تعرفُ السكونَ، وعبْرَ لغةٍ زئبقيّةٍ، منها تتوالدُ الصوَرُ الفكريّةُ والوجدانيّةُ وتتراكمُ حولَ بعضِها، والمنتجةُ (الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان) توقظُها، لتنسجَها بعقلانيّةٍ مَشوبةٍ بالخيالِ المُستفزّ لذهنِ المُستهلِكِ (المُتلقّي)، وتُسهِمُ في نبشِ ذاكرتِهِ، لتستنطقَ الصوَرَ وما خلف الألفاظ الرامزة، والتي هي (أداةٌ فكريّةٌ للتّعبيرِ عن قيمٍ غامضةٍ لغرضِ تصعيدِ التكنيكِ الشعريّ)، إذ فيهِ ترتفعُ التجربةُ الشعريّةُ الى حالةٍ كونيّةٍ، بانفتاحِها على آفاق إنسانيّةٍ مُتجاوزةٍ بتشكيلاتِها الصوَريّةِ، والتي تُشكّلُ رؤيا مُعبِّرةٍ عن إحساسٍ شعوريٍّ مُحقّقٍ لوجوده في المخيّلةِ الشعريّة، ولاتّسامِهِ بخصوصيّتِهِ التركيبيّةِ ووحدتِهِ العضويّةِ، مع إيحاءٍ وتَفرُّدٍ في الإيقاعِ المُنبعثِ مِن بينِ ثنايا الألفاظ، ومِن خلالِ الصوَرِ واللّغةِ الرامزةِ المُنبعثةِ مِن بينِ مَقطعيّاتِهِ الشعريّةِ..
أَيَا لَهْفَةَ رُوحِي
وَيَا عِطْرَ جَسَدِي
دَعِينِي أَتَسَلَّلُ إِلَيْكِ
كَحَالِمٍ .. بِثِيَابِ زَاهِدٍ
لاظَلَّ ظَامِئًا أَبَدِيًّا
ت.. ا.. ئِـ.. هًـ.. ا
بَيْنَ أَحْضَانِكِ!
  النصُّ يَمتلكُ وعيًا داخليًّا معَ حضورٍ اجتماعيٍّ سرديٍّ، يَتمثّلُ في عطاءاتٍ روحيّةٍ بنموٍّ نفسيٍّ مأزومٍ، ودِقّةٍ مُتناهيةٍ في الحِسِّ، وعاطفةٍ مُلتهبةٍ، معَ  قلقٍ مندافٍ بحزنٍ شفيفٍ، وقدرةٍ تصويريّةٍ للأشياءِ مِن الداخلِ، وحلولٍ صوفيٍّ يَجرُّ المُتلقّي صوبَ ابنِ الفارضِ بقوْلِهِ:
      أدِرْ ذِكْرَ مَن أهوى وَلوْ بمَلامي            فإنّ أحاديثَ الحبيبِ خيرُ مُدامِ
لِما في عباراتِهِ مِن تجرُّدٍ وتَجَلٍّ، مُحتضِنًا الصوَرَ المُنتزَعةَ مِن عالمِ الحِسِّ والحزنِ الذي يَلفُّ رؤى المنتج (الشاعرة آمال عوّاد رضوان)، والذي كانَ خطابُها خطابَ الذّاتِ ومناخاتِها، للتّعويضِ عن بعضِ الاغتراباتِ الّتي تُحِسُّ بها، فكانت رؤيتُها الشعريّةُ تتّصلُ بطبيعةِ نفسِها، وبتكوينِها الفكريِّ والروحيِّ، وبوجودِها والواقع، باعتمادِ الوحدةِ والكثافةِ الغنائيّةِ الّتي تعتمدُ ضميرَ المتكلّمِ الّذي يُميّزُها عن السرد، مع توهُّجٍ وانزياحٍ لغويٍّ عن المألوف، فضلًا عن توظيفِها سيميائيّةِ التّنقيطِ الّتي تُشيرُ إلى علامةٍ مِن علاماتِ الترقيمِ (دلالة الحذف)، الّتي تُشكّلُ نصًّا صامتًا، تتعطّلُ فيهِ دلالةُ القولِ، إضافةً إلى أنّها تُضفي بُعدًا تشكيليًّا يَفتحُ بابَ التأويلِ، فيَستدعي المُتلقّي لفكِّ مَغاليقِ النّصّ وإسهامِهِ في مَلْءِ فراغاتِهِ، وهناكَ تَقانةُ التقطيعِ الكلاميّ، الذي يَعني تعطيلَ القدرةِ التواصليّةِ للّغةِ، والكشفَ عن الحالةِ النفسيّةِ للذّاتِ المُنتِجةِ المُنفعِلةِ والمُتفاعِلةِ والواقع..
سَأَنْتَظِرُ عَيْنَيْكِ .. شَفَتَيْكِ
شِعْرَكِ .. وَشَوْقَكِ كُلَّهُ
سَأَنْتَظِرُكِ
بِأُفُقِي الْمُشَرَّعِ عَلَى مِصْرَاعَيْكِ!
   الشاعرة آمال عوّاد رضوان تُترجمُ الأحاسيسَ والانفعالاتِ، بنسْجٍ شِعريٍّ يُحقّقُ وظيفتَهُ، مِن خلالِ الفكرةِ والعملِ داخلَ اللغةِ، عن طريق خلق علاقاتٍ بينَ الألفاظِ المُوحيةِ، بوحدةٍ موضوعيّةٍ مُتفرّدةٍ بعالمِها المُتناسقِ جماليًّا، مع دقّةٍ تعبيريّةٍ ودلالةٍ مُكثّفةٍ، عبْرَ تقاناتٍ فنّيّةٍ مُحرِّكةٍ للنصّ، كالرمزِ السّمَةِ الأسلوبيّةِ التي تُسهمُ في الارتقاءِ بشِعريّتِهِ واتّساعِ مساحةِ دلالتِهِ.
وهناكَ التّكرارُ؛ الدّلالةُ الأسلوبيّةُ الّتي تُشيرُ للتّوكيدِ، باعتبارِها ظاهرة صوتيّة تحتضنُ دلالةً نفسيّةً وعاطفيّةً خارجَ الذّات، فتُعبّرُ عن الحالةِ القلقةِ الّتي تُعانيها الشاعرة، وهي تُقدّمُ نصًّا شعريًّا مُعتمِدًا التّكثيفَ بصمتٍ إيحائيٍّ مَقروءٍ، إضافةً إلى توظيفِها تقانةَ النّداءِ؛ (الحركة الزمنيّة المُتراكمة بتأثيرِ الصوَرِ في وجدانِ الشاعر تراكُمًا كثيفًا مُترابطَ الوحداتِ، وهو يعتمدُ النّموَّ الزمنيَّ)..
سَلامًا مُدَلَّهًا .. أَعْصِرُنِي
لِنُورِكِ الْبَهِيِّ
يَتَأتَّانِي
مِنْ مُحَيَّا  أَتَعَشَّقُهُ
لَهُ فِي جِرَارِ الْقَلْبِ
أَلْفُ مَعْنًى وَمَغْنًى!
  الشاعرة آمال عوّاد رضوان بوجدانِها تحاولُ استنطاقَ اللّحظاتِ الشعوريّة، عبْرَ نسَقٍ لغويٍّ قادرٍ على توليدِ المَعاني، مِن أجلِ توسيعِ الفضاءِ الدّلاليِّ للجُملةِ الشّعريّةِ، باعتمادِ اللّفظةِ المُركّزةِ المُكتنزةِ بالإيحاءِ، والمُتميّزةِ بانسيابيّتِها وتدَفُّقِها شعوريًّا، بوحدةٍ موضوعيّةٍ، وفكرةٍ مركزيّةٍ يُحلّقُ حولَها المعنى.
النصُّ بمُجمَلِ دلالاتِهِ اللفظيّةِ كتلةٌ مُعبّأةٌ بفكرةٍ وحدَثٍ وزمكانيّةٍ وعُقَدٍ دراميّةٍ، مع ضربةٍ رؤيويّةٍ وإيجازٍ لغويٍّ إيحائيّ، يَكشفُ عن دلالاتِهِ، عبْرَ ألفاظِهِ المُكتنزةِ بأبعادِها الجَماليّةِ والفكريّةِ، والمُكتظّةِ بهاجسِها الإنسانيّ، وهي تستندُ على تحليلٍ نفسيٍّ، لتصويرِ العواطفِ والأحاسيسِ الدّاخليّة بجُمَلٍ قصيرةٍ حادّة، تُعلنُ عن الحالةِ الشعوريّةِ والنفسيّةِ بأسلوبٍ ديناميٍّ حالمٍ، وعُمقٍ دلاليٍّ يَتداخلُ والسّياق الجمْعيّ بقدرتِهِ التعبيريّةِ المختزلةِ لتراكيبها الجُمَليّة، المتجاوزة للقوالبِ الجاهزةِ، والخالقة للصوَرِ المُجرّدةِ المُعبِّرةِ عن الحالةِ القلقةِ للذاتِ الشاعرة، مِن خلالِ الفكرةِ والعملِ داخلَ اللغةِ، بذهنيّةٍ مُنفتِحةٍ ورؤيةٍ باصرةٍ لوَعيِ الفكرة..
بِــالتَّــرَقُّــبِ .. تُــلَــوِّنِــيــنَ حِــكَــايَــاتِــي/ آمال عوّاد رضوان
أَيَا لَهْفَةَ رُوحِي
وَيَا عِطْرَ جَسَدِي
دَعِينِي أَتَسَلَّلُ إِلَيْكِ
كَحَالِمٍ .. بِثِيَابِ زَاهِدٍ
لِأَظَلَّ ظَامِئًا أَبَدِيًّا
تَــ~ا~ئِــ~هًـــ~ا
بَيْنَ أَحْضَانِكِ!
فَلَا أَغْدُو فَرِيسَةً لِمَجْهُولٍ
يَصْطَادُنِي فِي غَفْلَةٍ؟
***
أَنَا الْمُتْرَعُ .. بِرَوْعَتِكِ
وَكَأَنَّنِي .. شَرِبْتُ كَأْسًا أُسْطُورِيَّةً
أَهْـــدَيْـــتُـــهَـــاكِ!
***
أَيَا مُلْهِمَتِي.. وَيا نُوَاةَ فَرَحِي
بِرُوحِكِ .. اِحْزِمِي حَقَائِبَ حِقَبِي
وَبِعَيْنَيْكِ الظَّامِئَتَيْنِ
اِرْوِي نَهْرَ خُلُودِي!
***
سَأَنْتَظِرُ عَيْنَيْكِ .. شَفَتَيْكِ
شِعْرَكِ .. وَشَوْقَكِ كُلَّهُ
سَأَنْتَظِرُكِ
بِأُفُقِي الْمُشَرَّعِ عَلَى مِصْرَاعَيْكِ!
***
سَأَنْتَظِرُكِ
كَمِثْلِ أَمِيرَةٍ سَاحِرَةٍ
لتُلَوِّنِي حِكَايَاتِي بِالتَّرَقُّبِ!
وَكَمِثْلِ قَصِيدَةٍ تَتْلُونِي
وَمْضَةُ لِقَاءِ حَضْرَتِكِ!
***
سَلَامًا مُدَلَّهًا .. أَعْصِرُنِي
لِنُورِكِ الْبَهِيِّ
يَتَأتَّانِي
مِنْ مُحَيَّا  أَتَعَشَّقُهُ
لَهُ فِي جِرَارِ الْقَلْبِ
أَلْفُ مَعْنًى وَمَغْنًى!


88
حيفا تحتفي بشوقيّة عروق منصور!
آمال عوّاد رضوان
 برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني الحيفاوي أقام نادي حيفا الثقافي أمسية احتفائية بالكاتبة شوقية عروق منصور، وذلك بتاريخ 1-12-2016 في قاعة كنيسة القديس يوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، ووسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأصدقاء وأقرباء، وقد تولى عرافة الأمسية الإعلامي رشيد خير، بعد أن رحب رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي المحامي فؤاد نقارة بالجمع، وتحدث في الأمسية كلٌّ من د. محمد هيبي، والشيخ عبدالله نمر بدير المناصر لحرف شوقية المرأة، وفردوس حبيب الله، وفي نهاية اللقاء تمّ تكريم المحتفى بها من قبل النادي والمجلس الملي، والتي بدورها شكرت الحضور والمنظمين والمتحدثين، وتمّ التقاط الصور التذكارية!
مداخلة عريف المسية رشيد خير: أحبّتي الحضور بمسمّياتكم ونشاطاتكم واجهاداتكم، أرجو لكم في هذه الأمسية طيبَ غزارةِ مطرٍ وغزارة دفء مُدثّرَين بالمتعة والإثراء. ورغم ما يقال من تحفظات "أنّ أمّة اقرأْ لا تقرأ" وما يجاورها من أقاويل، إلّا أنّ حركتنا الأدبيّة المَحليّة في الداخل تشهد في هذه المرحلة ازدهارًا وَرُقِيًّا ونضوجًا(، وأستثني طبعًا الدخلاء على الإبداع، ولا أغالي إن قلت: إنّ فضلًا جمًّا وعظيمًا  لهذا الازدهار هو تحفيز وتشجيع نادي حيفا الثقافيّ التابع للمجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ الحيفاويّ، فمن على منبرِه هذا يُطلُّ أدباؤُنا على اختلاف نزعاتهم الأدبيّة والسياسيّة وانتماءاتهم المذهبيّة والجغرافيّة، يُثرون بيادرَنا الأدبيّة في جميع فنون الأدب بإحساسٍ وحميميّة، فللمحامي فؤاد نقاره وزوجته سوزي، وللمحامي حسن عبادي وزوجته، ولكلّ مَن يعطي ويتكاتف لدفع هذه المسيرة انحناءةَ إجلالٍ وإكبارٍ على هذا المجهود العطائيّ السخيّ. يقف القيّمون على نادي حيفا الثقافيّ أحيانًا أمامَ إحراجٍ وحيرةٍ في انتقائهم لشخصيّات المنصّة، فهناك من الدخلاء مَن يُحاولون فرض أنفسهم عليها بدونِ جداره تستحق، فتكون النتيجة تدنّي مستوى الإبداع، ونفور الحضور الراقي والجميل، وتحضرني في هذا السياقِ قصيدةٌ بعنوان "مديح الشعر العالي" لشاعرٍ لم يعُدْ أخي، يقول نزيه خير في ديوانه "ثلجٌ على كنعان" الصادر عام (1995):
اللهم اجعلني زنبقةً/ نزعوا عنها كلَّ صفاتِ الزهرْ/ وأشاحَ الرونقُ عنها/ وأشاحَ العِطرْ/ حرَّمتُ على نفسي همَّ العشقِ/ وهمَّ الحرفِ وقولَ الشعر/ وشددتُ رحالي/ تحملني كِنعانُ الحُلوةُ/ من حرِّ الصحراءِ الى عبقِ البحرْ../ أيتها النفسُ الموسومةُ بالحزن انتظري/ أأقولُ انتظري/ وأقولُ الصبر !؟
واسعةٌ جدًّا يا خيمتَنا الفضفاضةِ/ يا خيمتَنا الممتدةِ من ليلِ العباسيين/ الى مطلعِ هذا العصرْ/ يدخُلُك الخِسَّةُ والدجّالونَ/ وأصحابُ اللحنِ/ وأتباعُ العُهرْ../ لم يبقَ لدينا جمهورٌ يهتفُ للشعراءِ/ فأينَ جماهيرُ الشعر؟/ لم يبقَ لدينا دجّالٌ او موتورٌ/ إلّا واغتصبَ الشعر../ لو كسرَ الجرةَ عمدًا/ وسقى الارضَ شرابًا/ لأقمنا فرحًا في عشرِ ليالٍ/ وأعدنا في سِفرِ النابغةِ المولودِ/ على ذكرِ قبائلنا/ أيامَ العربِ العصماء/ جعلنا أيّامًا حُرُمًا للسّلمِ/ وأيّامًا أُخرى للشعر ../ لكنّكَ لا تفتحُ في هذا الزمنِ السيّءِ بابًا/ إلّا وترى متّهمًا بالشعر/ لا يعرفُ كيفَ يكونُ الفعلُ الماضي/ ويكون الأمر../ ويُعلّمُ جيلاً من رُوّاد الامةِ/ كيف يكون الشعر
واسعةٌ جدًّا يا خيمتنا الفضفاضةِ/ من ليلِ العباسيينَ/ الى آخرِ هذا العصر/ أهلا بعليا بنتِ المهديِّ/ أدّبها الظبيُ/ وعلَّمَها أوزانَ الروحِ .. وأوزانَ الشعر/ تعِبتْ دهرًا/ حتى أعطاها الكَهّانُ كتابَ المنتخباتِ/ أجازوا حُرقَتها في قولِ الشعر/ يا سبحانَ الخلاقِ المُعطي!/ في زمنٍ مزدحمٍ بالشعر/ هل صادفتَ طوابيرَ الحُسنِ/ وطلاتِ الإبداعِ/ وهنَّ يمارسنَ مضاجعةَ الشعر../ أيتها الخنساءُ انتصبي/ كي نبكي، ليسَ على صخرٍ/ بل نبكي زمنَ الشعر
اسم فارسةَ هذا المساء ممهورٌ بتاء المؤنث، وداخلَ هودجٍ مزركش ببريق الحروف وأصالة الجذور، تحرسه رقوة الصدق والشفافيّةِ ورقّةِ المعاني، تجلس قاصّةٌ وشاعرةٌ كاتبةٌ وإعلاميّة، قبل أن تُبصرَ أعيُنها النورَ، نزح أهلُها بعد نكبة عام 1948 من المجيدل إلى الناصرة، لتقاذفها أمواج القدر أو ربّما الهَيام، لاحقا، إلّا حضن الكاتب والمُربّي تميم منصور، ليبنيا عُشّا زوجيّا في مدينة الطيرة، وقد بدأت الكتابةَ منذ صغرها، ونشرت زوايا ثابتة في الصحف والمواقع المحليّة: كزاوية "تقاسيم" في الصنارة، و "نصف القمر" في كلّ العرب، و" قل كلمتك وامشِ" في بانوراما، ولها مقالات أسبوعيّة في صحيفة الاتحاد ومواقع عديدة أخرى. برزت بشكلِ خاصّ في زاويتها "دبابيس" في برنامج فنجان قهوة على أثير صوت إسرائيل مع الإعلاميّة إيمان القاسم سليمان، فضلًا عن نشاطها السياسيّ والاجتماعيّ، فالأديبة شوقيّة عروق منصور تكتب الشعر والقصّة القصيرة والخاطرةَ والمقالة الاجتماعيّة والسياسيّةَ، وقد أصدرت حتى الآن أحد عشر مؤلفاً.
  مداخلة د. محمد هيبي بعنوان الكاتبة شوقيّة عروق تستعيد سرير يوسف هيكل: بالطبع، لا أستطيع الحكم على مسيرتها الأدبية، إلّا من خلال مجموعتها الأخيرة، رغم أنّ لها الكثير من الإصدارات في مجال القصة والشعر والمقالة السياسية. إنّ تجربة الكاتبة غنيّة، فاسمها حاضر في المشهد الثقافي والأدبي، بغض النظر عن موقعها الفكري والسياسي. أقول هذا لأنّني أعتقد، أنّ تحوّلا فكريا سياسيا، قد حدث لديها مؤخرا. فقد كانت تنتمي لإطار مختلف، وما كانت لتتركه لولا ذلك التحوّل الفكري والسياسي الذي حدث لديها. وأنا، رغم انتمائي السياسي الواضح والثابت للحزب والجبهة، لم أكن منتميا لأيّ اتحاد أدبي. ما أريد قوله هو أنّنا اليوم، أنا وشوقية عروق، ننتمي إلى اتحاد أدبي ثقافي واحد، هو اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين. هذا التحوّل الأدبي والتنظيمي لديها، قد سبقه بلا شكّ، تحوّل فكري وسياسي معيّن، قد يكون أثّر على كتاباتها. المجموعة القصصية، "سرير يوسف هيكل" تضمّ ثلاثا وثلاثين قصة، وجدت فيها أنّ الكاتبة قطعت شوطا ملموسا في كتابة القصة القصيرة.
تعكس المجموعة، أنّ الكاتبة أصبح لديها خبرة ليست قليلة في كتابة القصة. فهي تتقن طرق السرد والتعامل مع الضمائر على اختلافها، ولكنّ عملية التنويع والتنقّل بين الأصوات المختلفة، تواجه ضعفا يكاد يكون ملاحظا في معظم قصصها. هذه العملية ليست سهلة، لأنّها لا تتلاءم كثيرا مع القصة القصيرة التي لا تتسع للكثير من الأصوات، وتعتمد غالبا على الصوت الواحد. وهذا الأمر، إلى جانب التنقّل بين الأحداث، يُؤثر على سلامة الحبكة، التي يرى القارئ أنّ الكاتبة تجتهد لتخرجها قوية متماسكة، إلّا أنّها تفلت منها في بعض قصصها فتترهل وتفقد بعضا من تماسكها. ومع ضرورة تفادي هذه العيوب، إلّا أنّنا نجد أنّه حتى كتّاب القصة القصيرة الكبار، يقعون في مثل هذا المطبّ أحيانا.
الأمر ذاته، قد نلاحظه في لغة الكاتبة، لغتها غالبا قوية كثيفة تتنقّل بين مستوياتها المختلفة وتساعدها على انسيابية السرد، بينما نجدها تخونها أحيانا، فتقطع تلك الانسيابية. في لغة الحوار مثلا، تدمج أحيانا بين الفصحى والعامية بدون داعٍ. ويُلاحظ في لغة الكاتبة أنّها مولعة بالوصف، وخاصة في بحثها عن عبارات وأوصاف خارجة عن المألوف، وكثيرا ما تنجح، إلّا أنّها أحيانا ترهق القارئ بعبارات تقطع غرابتها انسيابية القراءة ومتعتها. أضف إلى ذلك بعض الأخطاء اللغوية أو المطبعية التي تشوّش فكر القارئ وتنزعه من اندماجه أو انسجامه مع النص. ولكن، جدير بالذكر أنّ الكاتبة في كثير من نصوصها تعتمد في لغتها على السخرية. والسخرية في الأدب، هي من أقوى التقنيّات، من جهة للتعبير عن ألم الكاتب وألم أبطاله، ومن جهة أخرى للتعرية والفضح. والكاتبة في نصوصها، تحرص على تعرية المجتمع والسلطة السياسية وفضحهما.
في معظم قصصها، رغم أنّها تفسح للحلم حيّزا ملموسا، تعتمد شوقية عروق الاتجاه الواقعيّ، بأبعاده الاجتماعية والسياسية بشكل خاص. وهي تُعطي للمرأة بشكل خاص أيضا، حيّزا ملموسا تحاول فيه أن تنتصر لها، خاصة تلك المرأة التي تعاني الظلم والاغتراب في مجتمعنا، ولكنّها وبشكل لاواعٍ، لا تخفي ظلم المرأة للمرأة أو استغلالها لها، كما يبدو ذلك في قصتي "سوار تحمل حزاما ناسفا" و"سيدات يوم الجمعة" وبشكل خاص (ص172)، في قصة "هزيمة رجل أمام كمّامة الصمت". في هذه القصة أيضا، يجدر التوقف عند كيفية تعامل المرأة مع الرجل! لا شكّ عندي أنّ مجتمعنا مجتمع ذكوري يقمع المرأة ويُهمّش دورها، وهذا ما أرفضه بالطبع. ولكن أرفض أيضا أن تتوجّه المرأة إلى الحلول الخاطئة. مثل القتل مثلا أو التفكير فيه لحلّ مشاكلها. فما معنى أن تشدّ الزوجة الكمامة على وجه زوجها وتضع السكين جانبا بعد أن شعر بالعجز؟ إذا كانت المرأة لا تستطيع العيش، أو تحقيق ذاتها إلّا مع رجل مهزوم أو عاجز، فذلك يعني أنّها تستحقّ ما يفعله بها. الرجل يجب أن يتعامل مع المرأة كشريك ورفيقة درب، والمرأة كذلك يجب أن تنظر إلى الرجل من المنظور نفسه، لكي يستطيعا معا خلق مجتمع يكون فيه الاحترام متبادلا بين الأنا والآخر عامة. وبين الرجل والمرأة بشكل خاص. ولكن، كل هذا لا يعني أن شوقية عروق تكتب أدبا نِسْويّا، بل أدبًا إنسانيّا يتسع لكل أبناء مجتمعها وشعبها الفلسطينيّ، في الداخل بشكل خاصّ. ولذلك نجدها في فضاءات قصصها تمنح الناصرة حضورًا بارزا، ولكنّها قد تخرج إلى مدن وقرى أخرى في الداخل، ولا تخشى أن تدخل المطار وتل أبيب وحتى "بني براك". بمعنى أنّها تُدرك في قصصها أنّ هناك الآخر غير العربي، وتُدرك خصوصية العلاقة به سلبا أو أيجابا.
شوقية عروق في قصصها، تعاني من التشظّي النفسي والشعور بالضياع والاغتراب، وهو شعور يُلازم معظم شخصياتها، خاصة النسائية. وهذا يعني أنّ الكاتبة تعيش بصدق، معاناة الإنسان الفلسطيني عامة وفي الداخل بشكل خاصّ. فهو حيثما وجد لا يُفارقه هذا الشعور. وإذا كانت تمنح نهايات قصصها بعض الأمل، فذلك لا يخفي تشاؤمها وشعورها بالإحباط في كثير من قصصها. هذا واضح في قصة "سرير يوسف هيكل" وغيرها، وسأتحدّث بإيجاز حول عتبات النص في المجموعة، وحول نموذجين من قصصها.
عتبات النص، هي كل ما يسبق النص من غلاف، عناوين، إهداءات، فهارس، مقدمات، نصوص ممهّدة وغيرها. هذه العتبات هي مداخل تحمل مفاتيح أساسية لدراسة النص وفهمه ونقده. وقراءة هذه العتبات قراءة سيميائية، تعني أن نتعامل مع هذه العتبات كإشارات أو علامات لها وظائف دلالية هامّة، منها التعيين والإيحاء والإغراء، وكلّها قد تُؤثّر على القارئ، فتشدّه إلى النصّ أو تُنفّره منه.
في المجموعة التي بين أيدينا، لفت نظري بشكل خاص عتبتان للنصّ، عنوان المجموعة، "سرير يوسف هيكل"، وصورة الغلاف التي يتصدّرها السرير وخلفه مبنى أثريّ قديم جار عليه الزمن، بينما يُشكّل البحر خلفية واضحة لهذه المعالم. وبما أنّني لم يسبق لي أن سمعت عن يوسف هيكل وعلاقته بيافا، وبالسرير والمبنى الأثري، رُحت أبحث عن القصة التي تحمل المجموعة عنوانها. معنى ذلك أن الكاتبة كانت موفقة في اختيارها لهذه العتبات، لما فيها من إيحاء وإغراء، يشدّان القارئ إلى ولوج النص. ولذلك بدأت قراءة المجموعة بقصة، "سرير يوسف هيكل" (ص148).
بعد قراءة المجموعة كلها اخترت الحديث عن قصّتين: "أحلام بائع فلافل" و"سرير يوسف هيكل". هاتان القصتان، تمثل الأولى منهما الاتجاه الاجتماعي وتأثيره على الاتجاه السياسي، بينما الثانية تمثّل الاتجاه السياسي وتأثيره على الاتجاه الاجتماعي. وكلاهما تمثلان واقعا اجتماعيا وسياسيا يعيشه الإنسان الفلسطيني، على المستويين: الفردي والجمعي.
في قصة "أحلام بائع فلافل"، ومن خلال أحلام اليافع، بطل القصة، الذي يحلم بحياة يستمدّها من أفلام رعاة البقر (الكاوبوي)، لما فيها من حركة درامية يرى فيها البطل تحقيقا لذاته وأحلامه، الأب يدوس أحلام ابنه، باعتبارها وهماً يدلّ على فشل الابن. ويتابع الأب دوس أحلام ابنه حتى حين يتّخذ من صور أخيه الذي اختفى، نموذجا يُحتذى، حين علمت العائلة أنّه "التحق بإحدى المنظمات الفلسطينية وأصبح فدائيا، وقد وصلت إليهم صوره مرتديا اللباس العسكري المرقط وفي يده رشاش. وبدأ جسده (أي الأخ) يدخل في حلمه" (ص 12). هذا الحلم أيضا لم يرق للأب بحجّة ما جاء في (ص 13): "الفسّادين بفسدوا علينا يابا، ... بخاف يعملوا من الصور قصة طويلة عريضة ... خليك في الكاوبوي أحسنلك ...". وبعدما يُوفر الأب لابنه "كشك فلافل" ليعمل فيه، نزولا عند رغبة الأم التي رأت بابنها ولدا ذكيا، أحلامه تُعبّر عن رغبته بالابتعاد عن المدرسة، انتبه هو، أي الابن، أثناء عمله، أن كل شيء يسخر منه وأنّ شيئا ضاع منه، فبدأ يشعر أنّه مجرّد قرص فلافل منتفخ بالعجز والترهّل ...!" (ص 14). في هذه القصة نرى كيف أنّ المجتمع الجاهل والعاجز، المتمثّل بالأب والأم، لا يُحسن توجيه أبنائه، يقتل أحلامهم ويصنع منهم نماذج للجهل والعجز. وهذا يمنع تطورّهم الاجتماعي والسياسي كأصحاب قضية يجب أن يُدافعوا عنها.
في القصة، توجد إشارة واضحة إلى التخلّف الاجتماعي المتوارث في المجتمع العربي، وإلى العجز السياسي الناتج عن هذا التخلّف الذي ساعد في ضياع الإنسان وضياع الوطن. وهناك إشارة إلى أنّ التخلّف والعجز، ولّدا الفساد الاجتماعي والخوف منه، متمثّلا بالوشاة، الفسّادين عملاء السلطة، وخوف الأب من شرّهم. وبما أنّه "شرّ أهون من شرّ"، رضخ الأب لحلم ابنه الأول، حياة فتيان الكابوي، التي لا طائل منها. ما يعني ترسيخ الفشل.
أما في قصة "سرير يوسف هيكل"، فقد استطاعت الكاتبة أن تحملني من الميكرو إلى الماكرو، من الصغير إلى الكبير، أو من الخاص إلى العام، أو من الجزء إلى الكل. فلم تعد المأساة مأساة السرير من إهمال وتقطيع ثم اهتمام تجاري، أو ما أسمته الكاتبة، "سوق الأثاث المستعمل المزروع بالدكاكين التي تعرض الأثاث بطريقة الخبث التجاري" (ص 149)، وإنّما صارت مأساة أكبر بكثير، هي مأساة فلسطين التي قُطّعت وبيعت في أسواق الخبث السياسي، وصار سرير يوسف هيكل معادلا موضوعيا لفلسطين ويوسف هيكل صار هو كل فلسطيني له نكبته الخاصة والعامة. ولا أدري إذا كانت الكاتبة، أو منسّق الكتاب، قد انتبها لتثبيت هذه القصة ص148، وسواء كان ذلك عن قصد أو بدون قصد، فإنّ الرقم 48 الماثل هناك، له دلالاته في نفس كل إنسان فلسطيني، ويُؤكّد أنّ المأساة ما زالت حاضرة، كما أن الاقتلاع والنهب والبيع والتقطيع والخراب، كلّها ما زالت ماثلة تنهش في نفس الكاتبة وفي نفوسنا جميعا. وتقطيع السرير وبيعه في سوق البضائع القديمة، لم يعد تقطيعا للحديد، والبيع ليس مجرد حركة تجارية، وإنّما التقطيع هو تقطيع في اللحم الحي، يُعبر عن تشظّي النفس الفلسطينية، والبيع يُعبّر عن منفاها واغترابها.
تقوم القصة على حدث مركزي واحد، هو تقطيع السرير علي يد ابن الرجل الذي اشتراه، وهذا الرجل، ينظر إلى عملية التقطيع، بحزن وحسرة وعجز، والشعور بالعجز، يتمثّل بـ (دفن البارودة وعجز الأب عن منع عملية التقطيع، وبالدموع التي يذرفها وهو يرى ابنه يُمارس عملية التقطيع). ولهذه العملية دلالات كثيرة. فقد تكون بالنسبة للابن، محاولة للتخلص من عبء الماضي، أي النكبة، الذي أرهقه وكشف عجزه السياسي أو الاقتصادي. ولكنّ الدلالة الأهمّ والأكثر حزنا في نظري، هي أنّ عملية التقطيع الجارية في فلسطين حتى اليوم، لا تمارسها عناصر خارجية فقط، وإنّما داخلية أيضا. ومن هذا الحدث، تقطيع السرير، تتداعى الذكريات ويغوص الراوي في الماضي بما يحمله من مأساة السرير التي تسقطها الكاتبة على نكبة فلسطين واستمرارها، حيث نرى التاجر اليهودي يُنكر معرفته بأصل السرير وكونه منهوبا من بيوت المهجّرين من يافا. وإنكار هُوية السرير، هو رمز لمحاولة إخفاء الهُوية الفلسطينية ومحوها. واستعادة السرير تُمثل فرح التمسّك بالهُوية، لأنّ بطل القصة يشتريه ليوم فرحه وزواجه، ولكنّ الاستعادة، تمرّ بعملية بيع وشراء يكتنفها الكثير من الخبث والمساومة السياسية المستمرة حتى يومنا، ما يجعل الخراب والضياع، ماثلين أمام عيني الكاتبة، ويكشف ألمها وقلقها من استمرارهما.
ورغم أنّ لدى الكاتبة، في هذه القصة وغيرها، الكثير من التشاؤم والإحباط، إلّا أنّها لا تفقد بصيصا من الأمل. فإن كان الشاب قد قطّع السرير كبداية للتفريط به، نتيجة للظروف الراهنة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، إلّا أنّه لم يُفرّط بالكرات الذهبية الأربع التي كانت تُزين أطراف السرير. يقول الشاب لأبيه:
طيب يابا، علشان صاحبك "أبو هيكل" راح أخليلك هدول ...!!
وناوله أربع كرات ذهبية اللون، حيث ما زال الدهان (الطلاء) الذهبي متوهّجا ...!!!
هذه النهاية المتفائلة، لا نجدها في قصة "أحلام بائع فلافل"، ما يعني أنّ النهايات لدى الكاتبة، ليست دائما متفائلة. ما يعني أيضا أنّ خراب الواقع الذي يدفع للكتابة، ما زال مُسيطرا يُفقد الكاتبة قدرتها على التفاؤل.
وقد يُؤكّد ما أدّعيه، لجوء الكاتبة أحيانا إلى السخرية السوداء اللاذعة التي أعتبرها أقوي وأصدق أسلوب للتعبير عن القهر وضرورة فضح أسبابه واستفزاز الذين يُعانون منه. لضيق الوقت، سأكتفي بنموذج واحد.
السخرية كتقنيّة فنيّة، تقوم على 4 تقنيّات أخرى هي: المفارقة والتناقض والمسخ واليوتوبيا، أو المثالية. في قصة "أحلام بائع فلافل" نموذج جيد للسخرية المبنية على المفارقة والتناقض والمثالية، كتعبير عن الألم والقهر والعجز. فالأب الذي نعت ابنه بالفاشل لأحلامه بأبطال الكاوبوي، تراجع عن موقفه وناقض نفسه حين قال لابنه "خليك في الكاوبوي أحسنلك". وهذا الموقف لم يكن متوقّعا من الأب، لولا أن جاءه اللامتوقّع، حلم ابنه بشخصية أخيه الفدائي، فقهره وأرغمه على التراجع. والعبارة نفسها، "خليك في الكاوبوي أحسنلك"، أصبحت وضعا مثاليا بالنسبة للأب إذا ما قورن بالوضع الآخر المرفوض، أي التشبّه بالأخ الفدائي.
وختاما، شوقية عروق كاتبة مستفَزَّة ومستفِزَّة، في لغتها ومضامينها، استطاعت في معظم قصصها، أن تُذكّرنا وتحذّرنا وتحرّضنا
مداخلة فردوس حبيب الله: أسعد الله مساءكم بلغةٍ تنبض بدفءِ المعاني في حضرة الشعر والأدب والمطر، إنّنا نحتفل اليوم بالكاتبة شوقية عروق منصور وبمنتوجها الأدبي عامة، وكتابها "الخرائب المعلقة" على وجه الخصوص. إن أول ما يسطع في ذاكرتي عند ذكر اسمها جملةُ "نسوانها قلال". كانت هذه الجملةُ كافيةً لأن أرسم للكاتبة شوقية عروق منصور صورةً بملامح القوة التي تميز المرأة الفلسطينية المثابرة. تكتب شوقيه عروق منصور أنواع أدبية عديدة كالمقال السياسي والقصة القصيرة والشعر والنثر، استطاعت من خلالها مجتمعة أن تكون هي. قرأت لها العديد من النصوص النثرية والقصص والنصوص الشعرية أيضا، وأستطيع أن أبوح بكل صراحة بانحيازي لنصها القصصي الذي حمل مضامين حساسة جدا وهامّة، على أشرعة لغوية في غاية الجمال والروعة، واذا ما أمعنا النظر في المضامين التي تتناولها الكاتبة في نصوصها النثرية والشعرية، نجدها تُعدّد نكباتنا نحن الشعب العربي عامة والشعب الفلسطيني خاصة، فكتبت عن الشوارع العربية التي تنام في العسل، وعن حلاقي الحكام العرب، وما يحدث للفلسطيني من انتهاكات في المطارات العربية، وعن التهمة المطبوعة على جبين الفلسطيني لمجرد كونه فلسطينيا، كما حملت مجموعاتها الشعرية عناوين مشحونة بالذاكرة والحنين والوطن مثل ذاكرة المطر والخرائب المعلقة. من بعض السمات الفنية والموضوعية في شعر شوقيه عروق منصور:
*عنوان "الخرائب المعلقة" يشكل عتبة هامة للولوج الى أعماق الكتاب، وحين نقول الخرائب المعلقة نتذكر الحدائق المعلقة، لكن باستبدال الحديقة بالخربة، وهذا وحده كاف لأن يلقينا مباشرة أمام كاتبة لا تقبل بالمسلمات، فلها رأيها وموقفها ونظرتها للأمور. قد يأخذنا عنوان الكتاب الى الاعتقاد بأن الكاتبة ستحملنا الى اسطورةٍ ما لا يمكن تصديقها، حيث إنّ الحدائق المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع هي العجيبة الوحيدة التي يُظنّ بأنها اسطورة.
*المضامين والأفكار والمقدمات المنطقية التي دفعت الشاعرة الى الكتابة والكلام، هي أفكار تتعلق بالوطن وأخرى بالمجتمع، كالكذب، الظلم، القسوة، القتل، وحتى عمليات التجميل نالت قسطا لا بأس به من الانتقاد. كما جاء في قصيدة عملية تجميل للصبر (ص33): الصبر يدق عيادة الجمال/ لا أحد يريد إجراء عملية شد للصبر لتصغيره/ لقص أطرافه/ لتحسين شكله لأنه سيبقى خبز المظلومين والفقراء والرحمة التي تطوق أمنياتها أمطار الميلاد. الشاعرة شوقيه من النساء اللواتي لا يقبلن بالأشياء القابلة للقسمة، ففي قصيدة أظافر الغيرة (ص69) تقول: انتهز وجودك فارسم حولك دائرة الأنانية/ أنت لي اللعبة الوحيدة التي أتقنها
*لغة النصوص الشعرية في الخرائب المعلقة تتميز بالبساطة والسهولة والسلاسة، فهي لغة قريبة من اللغة المتداولة في الحياة اليومية، وقد قامت الكاتبة بتوظيف كلمات مألوفة جدا في قصائدها، الامر الذي قد يؤخذ عليها. في الجزء الاول من الكتاب نجد الكاتبة تستعمل الأفعال في الماضي والحاضر فقط، وفي المرتين الوحيدتين التي تتكلم فيهما عن المستقبل نجدها تتكلم عن الموت، حيث قالت في قصيدة موت (ص23): الموت لا بد ان يطل لا يتمهل التراب لا يصدق الا باللمس. وفي (ص36) تتساءل: الى متى سيبقى الحاجز في حلقي؟ وأتساءل ألم تعد ترى كاتبتنا في المستقبل غدا مشرقا؟!. ونجدها استعملت ايحاءات صوتية توحي بالحزن والألم كحرف الميم الساكن في قصيدة قاموس الصمت المعتق (ص12).
*للصورة الشعرية في الشعر العربي المعاصر شأن كبير، حيث قال النقاد إنّ الشعر ما هو الا تفكير بالصورة، وهنا أودّ أن أتطرق الى الصورة الشعرية الجزئية التي هي بمثابة ومضات قصيرة أشبه بفلاشات تضيء النصّ وتُجمّله، وأما الصورة الشعرية الكلية فهي تستغرق النصّ الشعريّ من أوله الى آخره، وتدخل فيها الفكرة والعاطفة بناء على عدّة بناءات كالبناء القصصي الدراميّ والبناء الدائريّ. فإذا نظرنا الى الصور الشعرية في قصائد شوقية، فإننا نجدها بغالبيتها العظمى صورًا جزئية وامضة، يلعب فيها التشخيص دورا رئيسا، إلّا أنه في بعض القصائد كانت هناك صورا شعرية كلية مبنية على السرد، أمّا البناء الدرامي فقد انعدم بانعدام الحوار. كانت بعض الصور الشعرية بقوة موج هائج في طقس عاصف، لامست بلغة جميلة وجدان القارئ كقولها في قصيدة وسادة من دم (ص46): في الصرخة الاولى استغاثة/ وفي الصرخة الثانية فريسة عانقت ذئب النهاية/ وفي الصرخة الثالثة وسادة من دم الضحية/ وبياض موت غزته فرق الخيانة/. أما بعض الصور الشعرية فقد ارتسمت بتكلف يثقل على القارئ، كما جاء في قصيدة أم أمام ابنها الشهيد (ص29) كيف استقرت الرصاصات فيه/ كيف استطاعت ان تخترق جدران حبها وسياج رعايتها وجذوع أشجار الزيتون التي طوقت لهاث حرصها؟.
وبما أن المطلق في الأشياء غير موجود، فهنالك ما يؤخذ على الكتاب أيضا، فمثلا تقنية الحذف والاضمار كانت غائبة في بعض النصوص، الأمر الذي قلل من عنصر التشويق لدى القارئ، وأضعف النصّ لغة حرف الكاف الذي كان زائدا في قصيدة عملية تجميل للصبر (ص34): الصبر يمد أضلاعه يتعلق بأسلاك المسافات وسفوح الليالي المملة، يلتف كالحلقة كالكذبة كدائرة نار جهنمية، هذا إضافة الى الاختفاء الشبه كلي للهمزة فوق الألف، كما يشكل أيضا اختفاء التشكيل والحركات في جميع القصائد عبئا على القارئ في تحديد وجهة النص الفكرية، وأيضا في فهم الموسيقى الداخلية فيه.
وكما أسلفت، فهنالك تكلف في صور شعرية عديدة يجعلها أقرب الى نص نثري عاديّ، خاصّة وأنّ غالبية التراكيب اللغوية المستعملة مأخوذة من الحقل السياسي والاجتماعيّ، وبهذا تكون الشاعرة راصدة للواقع أكثر من كونها مصوّرة له. وختاما اسمحوا لي أن أذكركم بانحيازي الى النص القصصي في أدب شوقيه عروق منصور، والذي باعتقادي شكّل لبنة أساسية في فهم الواقع الفلسطيني المؤلم، تعرضه الكاتبة بلغة جميلة تفوق جمال الشعر، فمن لا يعرف وجع الإنسان الفلسطيني، يكفيه أن يقرأ من أدب شوقية عروق منصور ويبكي ..كما حدث معي أنا.
مداخلة شوقية عروق منصور: حين غمستُ أصابعي بحبر الكتابة، شعرتُ أنّ حياتي قد كُرّستْ لفكّ شيفرة الكلمات، والجلوس على حافة الدهشة، أتمرّغ فوق رمل المجهول، أنتظر فراشات الخواطر، وأعانقُ نبض الشعر العابر، وأتسلّل إلى قصر القصّة القصيرة، أفتح خزائنَ الحروف، وأصنعُ من الوجوه المشنوقة على توهّج الأحداث قلائدَا تُعلق على سنواتي. وأنظر إلى الخلف إلى البدايات، لن أتحوّلَ إلى عامودٍ من الملحِ وأذوبُ خجلًا، لكن أنظر إلى الوراءِ، لأجدَ كلماتي تهرولُ نحو الصفحاتِ التي قضيتُ العمرَ وأنا أكتبُ وأفتشُ وأبحثُ وأشطبُ وأمزّقُ الورق، وكلّما مزّقتُ ورقةً تناسلتْ أمامي عشراتُ الأوراق، حتّى شعرتُ أنّ قَدري قد رَهنَ عُمري في رهانِ الكتابةِ، ولا أستطيع أن أردَّ قدَري. أنا أقفُ الآن في حضرةِ الكلمةِ، في البدءِ كانت الكلمة، وستبقى هي البدايةُ حتى النهاية، المجدُ لها، لأنّها الآن في هذهِ الساعاتِ أعطتني الأجنحةَ للطيرانِ، أنا الآن بفضل التقدير، بفضل الحضورِ البهيّ  وبفضل التكريم، أشعرُ أنّ الأرصفةَ التي جلستُ عليها أنتظر الفكرة وخيال القصّة، وأحيانًا أفتعلُ السباق مع القصيدة، لم تعُدْ تسخرُ مني، بل الآن تمسحُ دموعَ الفرح. شكرًا لكم ولنادي حيفا الثقافيّ الذي أصبح رافعة للأدب والأدباء في ظلّ غياب الدعم والمؤسّسات الثقافيّة، والذي يقومُ بعمل جمعيّاتٍ ونوادٍ لها العناوين البرّاقة  لكن دون فعل، يُشعل مواقد الأدب ويُحرّكُ البحيراتِ الراكدةَ، يُكرّمُ الأدباءَ ويهتم بإنتاج الشعراء والكُتّاب. شكرًا للمحامي حسن عبادي الذي لاحقَ واتّصل عدّة مرّات، هو النموذج  للإنسان المسؤول الحريص على النجاح. شكرًا للأستاذ فؤاد نقارة كابتن قلب الدفاع عن الأدب، وشكرًا للكاتب والباحث محمد هيبي على كلماته الرائعة، وشكرًا للشاعرة الصديقة فردوس حبيب الله على كلماتها المفعمة بالرقة، وشكرًا للصديق الكاتب الباحث الشيخ عبد الله بدير على كلماته التي تفيض أملًا وتفاؤلًا، وشكراً للصديق الشاعر والباحث عبد الرحيم الشيخ يوسف الذي يعمل كمهندس حفر عن آبار المواهب الأدبيّة في المثلث، وشكرًا لرئيس اتحاد الكتاب الأديب فتحي فوراني، لأنّ هذا الاتّحاد عامود  الخيمة التي تحمي وتُظلّلُ الأدباءَ في دروب الإبداع، وشكرًا للأستاذ الإعلاميّ الكاتب رشيد خيرعلى الحوار الشيّق والتقديم المميّز. وأخيرًا شكر خاصّ حميم الى القلب تميم، لأنّ تميم بصراحة ضحيّتي، فكلّ قصّة ومقال وقصيدة وخاطرة عليه أن يتحمّل همسي وجنوني وغضبي واحتراقي ومخاض ولادتي، الجميل أنه يعرف ويعلم معنى الكتابة والآم ولادة إبداع، لذلك من نعم الله أن يكون للأديبة زوجًا متفهّمًا. شكرًا لجميع الحضور فردًا فردًا، لقد منحتم الطقس العاصف دفءَ وحرارة الوجود، ودائمًا نلتقي لرفع  راية الكلمة.


89
أدموزك وتتعشترين في الجامعة العربيّة الأمريكيّة
بقلم: آمال غزال
حفل توقيع ديوان"أدموزك وتتعشترين" للشاعرة آمال عوّاد رضوان أقامه منتدى الأديبات الفلسطينيّات في جنين (مدى)، بالتعاون مع قسم الصحافة واللغة العربيّة والإعلام في كليّة الآداب في الجامعة العربيّة الأمريكيّة، في مدرّج كليّة العلوم والتكنولوجيا في الجامعة العربيّة الامريكيّة في جنين، بحضور نخبة من الأديبات والأدباء والمهتمّين بالشأن الثقافيّ بمحافظة جنين، ومجموعة من طلاب وطالبات اللغة العربيّة والإعلام في الجامعة، ووفد من النادي النسائيّ الأرثوذكسيّ/ عبلين، وقد تولّت العرافة الكاتبة حنين أمين من مخيّم جنين، ومداخلات كلّ من: د. محمد دوابشة عميد كليّة الآداب في الجامعة الأمريكيّة، والكاتب فراس الحاج محمد حول آمال عوّاد رضوان في المشهد الفلسطينيّ، وكلمة عائدة أبوفرحة رئيسة منتدى الأديبات الفلسطينيات "مدى"، وكلمة الشاعرة آمال غزال رئيسة قسم الآداب والمكتبات في وزارة الثقافة، وتقديم درع تكريم للشاعرة آمال عوّاد رضوان، ومداخلات للكاتبات دلال عتيق وإسراء عبوشي ومداخلات الحضور، وكانت قراءاتٌ شعريّة للمحتفى بها، وإجابات على تساؤلات طرحها الحضور، حول صعوبة العنوان والنحت اللغويّ، ودوْر الأسطورة في نصوص الديوان، وهل الشعر هو مَهربٌ ومُسَكّن للشعراء، وما سرّ التميّز في لغة الحبّ المغايرة في نصوص آمال رضوان ومن هو الملهم الحقيقيّ، وهل الرجل الشرقيّ يهيمن على فكر آمال رضوان، وهل استُنزفت طاقة آمال الإبداعيّة في أدموزك وتتعشترين، في بناء علاقة متكاملة مقدّسة وإنسانيّة آدميّة بلغةٍ شعريّة روحيّةٍ معنويّة، أم ما زلت معبّأة بطاقة شعريّة للخروج بمنجز شعريّ أرقى؟ ومن ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة أثناء توقيع الديوان!
مداخلة عريفة الحفل حنين أمين: أرحّب بالحضور الكريم مع حفظ الأسماء والألقاب، أهلا بكم تحت ظلال شجرة الشعر والإبداع في هذا الوطن الواحد، الشجرة العظيمة التي اختارت أرضًا خصبة هي قلوب مرهفة، فنبتت أغصانها خضراء، وأينعت وتفتحت أزهارها، مختلفة ألوانها، يجمعها سحر الإبداع والجمال، فما فائدة بائع الورد، إن لم يقتن الورد أحد يُقدّر الجَمال؟ وما فائدة الأقلام، إن لم يكتب بها أحد؟ وما فائدة الكلمة، إن لم تُقرأ وتُسمع؟
(آمال عوّاد رضوان) سماء شعر تلألأت فيها معالم النجاح والإبداع والتميّز، وها هي تمطر على أرض في اشتياق دائم لحرفها ديوانها الجديد "أدموزك وتتعشترين"، بعد أن أمطرت الساحة الأدبيّة بثلاثة إصدارات شعريّة: بسمة لوزية تتوهّج عام 2005، وسلامي لك مطرًا عام 2007، ورحلة إلى عنوان مفقود عام 2010، وإصدارات أخرى في القراءات النقديّة والبحث والمقالات. هي شاعرة كنعانيّة من عبلّين الجليليّة في فلسطين، اتخذت من مهارة النحلة في التنقل من زهرة إلى زهرة منهجًا، لتجني منها رحيقًا تحيله إلى شهد خالص ألا وهو الشعر.
 (دكتور محمد دوابشة): تتسابق الكلمات وتتزاحم العبارات، لتنظم تاجَ شكر نتوّج به هذا الصرح العظيم الذي احتضن هذا اللقاء، والذي كان له السبق في ركب العلم والتعليم، وبذل الجهود في تسليط الضوء على لوحات الأدب والجمال دون أن ينتظر العطاء، فاستحقّ أن يرفع اسمه عاليًا كعنوانٍ للتميّز، فنستمع لمداخلة دكتور محمد دوابشة؛ عميد كليّة الآداب في الجامعة العربيّة الأمريكيّة، وقراءة في ديوان "أدموزك وتتعشترين".
 (مدى): عنوان لطوق من زهرات تربّت كلّ بتلة على الأخرى، يَجمعها التميّز وتحيا فيها روح الإبداع. (مدى) منتدى الأديبات الشاعرات الكاتبات المخضرمات الشابّات، هنّ فراشات ينظرن إلى نور الإبداع بشغف وحب واتّقاد دائم، يُحلّقن بجناحين من صدق في العمل وتفان في الجهد، ويتزيّنّ صانعات للجمال من خيوط ألم وأمل. فأترككم مع كلمة رئيسة منتدى الأديبات الفلسطينيات (مدى) السيدة عايدة أبو فرحة.
(فراس حج محمد): عضو اتحاد الكتاب الفلسطينين من مواليد 30 تموز 1973 في نابلس، درس الأدب الفلسطيني الحديث في جامعة النجاح الوطنية. هو كاتب وناقد وشاعر فلسطينيّ عشق الحرف، حتّى باتت رؤاه أطيافًا تشكّلت فيما بعد على هيئة قصائد ونصوص صيغت بمختلف الطرق، ولأنّ "الكلمة رصاصة، وليس كلّ الرصاص صالحًا لإتمام المهمة" ، أصدر اثني عشر كتابًا، ونشر في العديد من الدول العربيّة، ويُحدّثنا عن آمال عوّاد رضوان ودورها في المشهد الثقافيّ الفلسطينيّ.
مداخلة عائدة أبو فرحة: بسم الله الرحمن الرحيم . أسعد الله أوقاتكم وأهلًا وسهلًا بكم. في البداية لا بدّ لي أن أحيّي هذا الصرح العلميّ العظيم برئيسه ومساعديه وهيئته التدريسيّة والعاملين جميعا، ولا يسعني إلّا أن أقدّم الشكر والاحترام والتقدير لكم لأسباب عدّة، أهمّها أنّكم منارة للعلم، وتجمَعون الوطن بشقيه في هذا الصرح، وتهتمّون بتخصّصاتٍ عديدة ومتنوّعة، كما تولون اهتمامًا عظيمًا للنشاطات المجتمعيّة، وتهتمّون بالمواهب والإبداعات وقضايا عدّة لا منهجيّة، وتتفاعلون مع كلّ فئات المجتمع، فنحن في منتدى الأديبات الفلسطينيات نشكركم وننحني إجلالًا لكم، بعد محاولتي بأن أوفي هذه الجامعة العظيمة حقها بالشكر والتقدير. اسمحوا لي أن أنتقل إلى بيت القصيد عنوان الحفل، إلى الظاهرة الإبداعيّة الفريد نوعها، إلى الكاتبة التي امتلكت الجرأة والخيال الواسع، والتي جمعت بين الحداثة والأصالة، إنّها الكاتبة والشاعرة آمال عوّاد رضوان من الجليل، من الرئة الأخرى من الوطن. أرحّب بشمسنا أجمل ترحيب، وبنجومها النادي النسائي الأرثوذكسيّ عبلين، والضيوف الكرام، والطلبة الأعزاء. أرحّب بكم وأحيّيكم. لا أريد التحدّث عن ديوان "أدموزك وتتعشترين"، وما يحويه من قصائد شعريّة جميلة جمعت ما بين الخير والحب والجمال، قصائد مستوحاة من الأسطورة السومريّة، ممثّلة بإله الخير دموزي، والأسطورة البابليّة ممثلة بإلهة الحب والخصب والجَمال عشتار. عزيزتي آمال عوّاد رضوان، حبّي لكِ غلالا.
مداخلة د. محمد دوابشة: سلام يليق بكم فردًا فردا. باسمي وباسم الجامعة وأعضاء الهيئتين الإداريّة والتدريسيّة في كلية الآداب أرحّب بكم أجمل وأحلى وأرقّ وأرقى ترحيب، أرحب بكم وبهذه القامات الثقافيّة الأدبيّة والصحافيّة على أرض الجامعة العربيّة الأمريكيّة في جنين.
أنا في الواقع شاكرٌ وعاتبٌ، شاكرٌ للأستاذ سعيد أبو معلّا المحاضر في قسم الصحافة والإعلام في الجامعة الذي تعرفونه جيّدًا بنشاطه، وعاتبٌ عليه، لأنّني لم أرَ هذا الديوان "أدموزك وتتعشترين" بحُلّتِهِ إلّا يوم أمس، وكان من المفترض أن يكون بين يديّ على الأقلّ قبل أسبوع!
حقيقة أنا لا أجاملُ في القضايا الأدبيّة، والمجاملة هي نفاق، خاصّة فيما يختصّ في أدبنا، فكثيرًا ما يأتي إلى مكتبي بعض الشعراء الناشئين الذين أحترمُهم جدّا، ويهديني ديوانًا أو عملًا أدبيًّا، فأنظرُ ما فيه في البداية، وأقرأ في صفحاته الأولى صفحتيْن وثلاثًا وأربع، وبصراحة، لا أجد لا شعرًا ولا نثرًا، فأضعُهُ جانبًا. ولكن يا سيّدتي آمال، أنتِ أسرتِني بهذا الديوان حقيقة. هو ديوان يستحقّ الاهتمام به، ولكن أيضًا عليه بعض ما عليه.
بصراحة، الديوان يمكن أن يُدرَسَ من عدّة جوانبَ فنّيّة، ومنذ زمن طويل حقيقةً، لم أقرأ هذه الجرأة الواضحة لكاتبة أنثى، فأنتِ جعلتِني أن أكون من المناصرين للمرأة!
بالنسبة للديوان حقيقة يُدرَسُ من زاويتين:
الزاوية الأولى: وكنت أتمنّى أن يكون معي متّسعٌ من الوقت، ليُدرَسَ النصُّ المحيط أو النصّ المُوازي، وتداخل الألوان مع المرأة والرجل والعلاقة الحميميّة بينهما في وسط الطبيعة والزهور والطيور، وهذا انعكاس لِما جاء في داخل الديوان، فحقيقة هناك جهد مبذول، وأنا أشكر الفنّان محمد شريف الذي صمّم الغلاف، فكلّ الاحترام للفنّان. الغلاف يعكس ما في النصّ، وأنا أعدكم وأعد الشاعرة آمال عوّاد رضوان بأن تكون هناك دراسة وافية شاملة عن هذا الديوان، وتُنشرَ في أحد المجلّات العلميّة الأدبيّة في العالم، لأنّه حقيقة يستحقّ.
نأتي إلى النصّ الخارجيّ وتداخُل الأدوات، أمّا بالنسبة للعنوان، فربّما أختلفُ نوعًا ما مع الشاعرة، فنحن الآن بصراحة، عالمنا العربيّ غيرُ ميّال للقراءة، وهذه حقيقة، وأنا مع أن نُبسّط الأمور، لكن بحيث لا تُفهم بشكل مباشر، وأن يكون فيها نوع من الإيحاء والرمز، فأنا أدركُ المغزى الذي تريده الشاعرة للعنوان "أدموزك وتتعشترين"، ولكن نحن أيضًا أصحابُ رسالة، فلو كان العنوان عشقيّات وحدها فيكفي. ويحضرني في هذا المقام محمود درويش وبحثه مدّة ستة أشهر عن عنوان "كزهر اللوز أو أبعد"، إلى أن أشاره عليه أحد الكتّاب والنقّاد اللبنانيّين، فلا نتعجّل في اختيار العنوان. وأذكر أيضًا الكاتبة الأردنيّة سناء شعلان وكتابها "أعشَقُني"، فالكلّ كان يقرأه "اِعشقني"، فكتبتْ نصًّا توضيحيًّا يقول: الرواية عنوانها أَعشقُني وليس اِعشقني! ولنكن واقعيّين، فثقافتنا محدودة ولا نطالع ولا نقرأ، وأنا معنيٌّ بهذا الديوان أن يصل إلى الكلّ وأن يفهمه، لذلك أنا مع التبسيط، ولكن كما قلت أيضًا، فيه نوعٌ من الأمل والحُلم والتخييل والخيال والحياء.
أمّا بالنسبة لقصائد الديوان، وما أدراكم ما القصائد! نعم، كان من الممكن أن يُدرَسَ هذا العنوان وهذا الديوان "أدموزك وتتعشترين" أوّلًا دراسة أسلوبيّة، والأسلوبيّة واضحة فيه، فتُشكر الشاعرة آمال عوّاد رضوان على ذلك، إذ لها أسلوبٌ خاصّ، ما يُميّزه فيه طرافة وجدّيّة وحداثة ملتصقة بها، وقضيّة أخرى، دراسة أسلوبيّة إحصائيّة، والجرس الموسيقيّ وهذا واضح للأسلوبيّة الإحصائيّة، ويمكن أن تكون أيضًا دراسة لصورة الأنثى في الديوان، والنصّ الموازي في الديوان أو النصّ المحيط في الديوان، والتكرار بأبعاده كافّة في الديوان يمكن أن يُدرَس، وهو ظاهرة ملحوظة، وما يميّز هذا التكرار أنّه تكرار غير نسخيّ، وإنّما كلّ تكرار يضيفُ شيئًا سواء كان دائريًّا أو مُسطّحًا أو ... إلخ، بغضّ النظر.
وهناك قضيّة أخرى، هي أدوات الاستفهام هي ظاهرة، فهل هذه الأدوات تعكس الأنثى وهي تستفهم ولا تجد الإجابات مثلا؟ وكذلك التشبيه رائعٌ جدًّا وممتاز، فالأنثى كانت بتفاصيلها؛ بلونها وشعرها وطولها وعشقها وأنوثتها، وربّما أرادت الشاعرة أن تنتصر للأنثى؟! أنا معها في هذا الجانب، وكنت أتوقّع أيضًا أن يكون الانتصار بأساليب أخرى!
الموضوع الثاني الذي طرحه الديوان ولا يمكن فصله عن الأوّل هو الرومانسيّة الحالمة والخيال، يعني القصائد فعلًا يعيش فيها الإنسان، وللأسف، لم أتمكّن من قراءة كلّ القصائد، ولكن حين كنت أقرأ القصائد، كنت أعيد قراءتها مرّتين وثلاث، وفي كلّ مرّة يلفت نظري شيء مختلف، فهل أرادت الشاعرة أن تُركّز على هذا أم على ذاك؟ على النتيجة؟ على بداية القصيدة أم على نهايتها؟ وهذا ما يُحسَب حقيقة لها، فكما قلت إنّ الموضوع الثاني متعلقٌ بالأوّل، ويجعل الإنسان يعيش أفكار ومخيّلات، فهذا الديوان غارق في الخيال والمشاعر والأحاسيس والعواطف الجياشة، فمثلًا تقول ص12: 
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ .. أَسُووووووحُ
فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا .. يَتَّقِدُنِي
وَأَذْرِفُكِ .. عِطْرًا مُتَفَرِّدًا
وهناك قضيّة أخرى وتُحسَبُ لها في مجتمعنا، حتّى ولو لم يتّفق بعضنا معها، هي الجرأة الواضحة ودون ابتذال، فنحن لا يوجد لدينا هذا، ومن وجهة نظري، هذا من الخطأ الشائع أن نقول: هذا أدبٌ ذكوريّ وهذا أدب نسويّ، فالأدب هو أدب، فلماذا مسموح لهذا أن يكتب، ولذاك أن لا يكتب؟ وهذا ما يجعلني أقول ما قاله نزار قباني، عندما اتُّهِمَ في شعره وقيل له: هل تريد أن تحرّر المرأة بهذا الشعر؟ قال: ببساطة، في أيّ أسرة عربيّة، لو كان هناك عندها ابنان، وارتكب الابنان نفس الخطأ، فهل سيعاقبان نفس العقوبة؟ طبعًا لا، فهذه ينزل عليها الغضب، وذاك يُطبطب على ظهره! فهذا هو واقعنا وهذا هو مجتمعنا.
وقضيّة أخرى طرحها الديوان هي التساؤلات الكثيرة، فهل ذلك يُدرَس من باب الأسلوبيّة؟ الأسلوبيّة الإحصائيّة هي التي تجيب عن مثل هذا التساؤل، وأحيانًا لا توجد إجابات، فكنت أتوقّع أن أقرأ في القصيدة أكثر، وإذا بالقصيدة انتهت! وهنا تأتي مسؤوليّة المتلقي ودوره، وهذا بحاجة إلى وقت، وليس فقط إلى ساعات.
وهناك أيضًا البحث عن المجهول، والخوف من المجهول أيضًا ما لمسته في القصائد، وأحيانًا أجد الأنثى تسوح في دائرة وفي فراغ، وهذا الأمر أدّى إلى كثرة التساؤل، وأدّى إلى كثرة أدوات النفي أحيانًا، لذلك؛ نجد الديوان مليئًا بالشيء والشيء المضادّ، وهذا بحاجة لتفسير نقديّ وجهدٍ كبير، لذلك وكما قلت: الديوان "أدموزك وتتعشترين" يستحقّ منّا الكثير، وأنا تعهّدت أمامكم أن يكون له صدر يليق بكم في القريب العاجل، فهذا حقيقة ما استطعت أن أقرأه في القصائد الأولى من الديوان، فأشكركم على حسن استماعكم، وأهلا وسهلا بكم مرّة ثانية.
مداخلة فراس الحاج محمد: آمال عوّاد رضوان وحضورها في المشهد الثّقافيّ الفلسطينيّ:
عند الحديث عن المشهد الثّقافيّ على امتداد التّاريخ الفلسطينيّ الحديث نجد أن للمرأة المبدعة حضورَها المتميز واللافت للنّظر، حضوراً يستحقّ المناقشة والتّأمُّل، ووضعَه في سياقه الثّقافيّ الّذي يجب أن يكون عليه. فثمّة شاعرات وروائيّات وباحثات ومترجمات أغنين الحركة الثّقافيّة الفلسطينيّة، من سلمى الخضراء الجيوسي وفدوى طوقان وسميرة عزّام وسحر خليفة، وصولا إلى الحضور النّسائي الحالي في المشهد الثّقافيّ الفلسطيني من سلمى جبران وهيام قبلان وفاطمة ذياب، وبالتأكيد الشّاعرة والنّاشطة الثّقافيّة المتوهّجة دائما في صلب العمل الثّقافيّ المتنوّع الشّاعرة آمال عوّاد رضوان. لا شك في أنّ الحديث عن حضور الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في المشهد الثّقافيّ الفلسطينيّ سيكون طويلا – لكنّني سأختصرُ- نظرا لتعدُّد نشاطات الشّاعرة في التّأليف الشّعريّ، وما يصاحبه من أنشطة داعمة من أمسيات شعريّة، وحفلات إطلاق الكتب والمشاركة في النّدوات ذات العلاقة وإغناء المشهد الثّقافي العامّ، والشِّعريّ على وجه الخصوص، ويكتسب حضور الشّاعرة آمال عواد رضوان أهميّة خاصّة كونها من الأصوات المميّزة في فلسطين، ولا تتوانى عن المشاركة بالأنشطة الثّقافيّة التي تنظمها المنتديات والمراكز الثّقافيّة في الشقّ الثّاني من فلسطين، لتكون جزءا أصيلا من مشهدنا الثّقافيّ المتنوّع الّذي لا يعترف بالتّقسيمات الزّمنيّة الاحتلاليّة ولا يخضع لشروط الاحتلال المُكَنْتِنَة للحالة الفلسطينيّة الجغرافيّة والسياسيّة.
أنجزت الشّاعرة آمال عوّاد رضوان إلى الآن أربعةً من الدّواوين الشّعريّة، لن يكون آخرها ديوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين"، فقد سبقه عدّة إنجازات شعريّة لاقت قبولا لدى النُّقاد والقرّاء، وهي: بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّج، وسلامي لك مطرًا، ورحلةٌ إلى عنوانٍ مفقود، كما أن للشّاعرة كتاب مقالات، وفي مجال البحث الاجتماعي فقد أعدّت كذلك كتابا بعنوان "سنديانة نور أبونا سبيريدون عوّاد"، وكتابا في التُّراث الثّقافيّ الفلسطينيّ، بعنوان "أمثال ترويها قصص وحكايا"، وقد شاركت مؤلفين آخرين بتأليف كتب مهمّة، لها قيمتها الإبداعية وهي "الإشراقةُ المُجنّحةُ" لحظة البيت الأوّل من القصيدة، ويشكّل الكتاب شهادات لـ 131 شاعراً من العالم العربيّ، وكتاب "نوارس مِن البحر البعيد القريب"/ المشهد الشّعريّ الجديد في فلسطين المحتلّة 1948، والكتابان بالاشتراك مع الشّاعر محمّد حلمي الرّيشة، رئيس بيت الشّعر في فلسطين، وأمّا الثّالث، فكتاب "محمود درويش/ صورة الشّاعر بعيون فلسطينيّة خضراء"، وشاركها في الإعداد والتّحرير غير الشّاعر الرّيشة أيضا الشّاعر ناظم حسُّون.
هذا الإنجاز المتعدّد والمفتوح الأفق على الشّعر وعلى التّجارب الشّعريّة المعاصرة، منح الشّاعرة أفقا شعريّا متحرِّرا من القوالب الشِّعريّة القديمة، وجعلها تكتب القصيدة بتقنيّات مختلفة، ليست تلك القصيدة السَّهلة المباشرة العاطفيّة المستندة على البوح الأنثويّ الفجّ، ولكنّها القصيدة الحيويّة الدّافعة للقراءة والتّأمّل، وتفتح مجالات واسعة من الرّؤيا والتّأويل في الدّراسات النّقديّة أو المقالات الانطباعيّة الّتي أنجزت حول هذه التّجربة الإبداعيّة. ولا شكّ في أنّ هذا الإنجاز الشّعريّ بخصوصيّته الإبداعيّة قد التفت إليه النّقاد فكتبوا عن المنجز الإبداعيّ للشّاعرة آمال عوّاد رضوان، فتناول تجربتها الإبداعيّة نقّاد من فلسطين والعالم العربي، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر أ.د. فاروق مواسي، والدّكتور محمّد خليل، والأستاذ عبد المجيد جابر، وعلوان السّلمان، كما أعدّ الشّاعر الإيرانيّ جمال نصاري كتابا عن الشّاعرة باللّغة الفارسيّة بعنوان "بَعِيدًا عَنِ الْقَارب". ويتبع ذلك الحضور النّقدي الّذي تجاوز المقالات الانطباعيّة إلى الاحتراف النّقديّ ترجمة العديد من القصائد إلى اللّغة الإنجليزيّة والطليانيّة والرومانيّة والفرنسيّة والفارسيّة والكرديّة.
ولم يقتصر حضور الشّاعرة آمال عوّاد رضوان على الشّعر تأليفًا واشتباكًا نقديّا وترجمة، بل امتدّ نشاطها ليشمل مجالات ثقافيّة أخرى، فهي صحفيّة وناشطة ثقافيّة، ومحرّرة في موقع الوسط اليوم، وتشارك في الأنشطة الثّقافيّة الّتي تعقدها المؤسسات والنّوادي الثّقافيّة، كنادي حيفا الثّقافيّ والمجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ، واتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين ومنتدى الحوار الثّقافيّ، وغيرها، لتترك بصمتها في كلّ لقاء سواء كان ذلك في إدارة اللقاء أو تقديم أوراق نقديّة، أو إعداد التّقارير الصحفيّة الّتي تعرّف بتلك الأنشطة. واستكمالا للحديث عن هذا الجانب في شخصيّة الشّاعرة آمال عوّاد رضوان الثّقافيّة دخولها إلى عوالم الكتاب والمؤلفين عبر حوارات أدبيّة وفكريّة موسّعة، فحاورت العديد من الكتّاب كما حاورها كثير من الصحفيين والكتّاب، وهذا النوع من النّشاط الثّقافيّ لا يستطيعه أي مثقّف أو كاتب لما له من أسس وقواعد وأصول، ليس أدناها أهمية صوغ الأسئلة وإدارة دفّة الحوار، وإنّما المعرفة العميقة بالكاتب وميّزاته الإبداعيّة، وإشكاليّاته الفكريّة والجماليّة، لذلك فإنّ لكل حوار خصوصيّتَه ومجاله حتى وإن تكرّر مع الكاتب نفسه مرّتين أو ثلاثة.
كلّ ذلك النّشاط الثّقافيّ للشّاعرة آمال عوّاد رضوان جعلها حاضرة بقوّة في المواقع الأدبيّة الإلكترونيّة الرّصينة، وفي متون الصحف والمجلّات العربيّة، لتكون علامة ثقافيّة بارزة في الصّحافة والملاحق الثّقافيّة التي توثّق الحركة الثّقافيّة المعاصرة عربيّا وفلسطينيّا، وصوتا شعريّا باذخ الإحساس إبداعيّ الجمال. بكلّ تأكيد لم نؤدِ كلّ الحقّ في التّعريف بالحضور الثّقافيّ المتميّز للشّاعرة والكاتبة والصّحفية والنّاشطة الثّقافيّة آمال عوّاد رضوان، ولكن كما قال الأسلاف: ما لا يُدركُ كلّه لا يترك جلّه، مع تمنياتنا للشاعرة والصديقة آمال عوّاد رضوان بالتوفيق والألق الدائم والحضور الجماليّ البهيّ.
مداخلة آمال غزال: سلام يليق بحضوركم الأبهى. أتقدّم بشكري الجزيل  للجامعة العربيّة الأمريكية بأسرتها التدريسية وكافة موظفيها والعاملين بها، والشكر للدكتور محمد دوابشة، والشكر موصول للجندي المجهول أ. سعيد أبو معلّا  الذي رافقني خطوة بخطوة لإتمام هذا المهمّة.
يابسة سماواتي! قالت فأعلنت انتصار الأمكنة، ولن تسلّم جوفها لليأس، ولغيلان دونكي خوت. لن تتراءى كليْل الغربة في الأرض الفقيرة بالأغنيات والعشق، بل سيشتعل في طهر روحها نار الحبّ، ونور الحياة، لتسترق زهزة لوز متوهّجة في ساعة انتظارٍ على رصيف يمتلئ بالمارّة، فتحملنا إشراقاتها المُجنّحة في رحلة إلى عنوان مفقود يتوشّح بالمجهول الأنيق، له رائحة المكان الأخير، ونسيم حيفا وآهات الجليل، وبكاء أشلائنا الممزقة على خرائب الأحلام .
كنا نتساءل: متى سنختلس العشق من أرواحنا الجافة؟ فتأتي الإجابة المتأنّية الهائمة بطعم ولون ممتزجٍ بحكايا وهمس على لسان عشتار؛ عشتارُ التي جمعت أناقة الحرف ولبّ المعنى، لتجدل لنا العشق قصائدَ ملفوفة بالحرير، عشتار التي أنجبت من حبّها للحلم والشعر مناهجَ تُدرّس للحالمين، فسلامي لك مطرًا أيّتها الشاعرة الصديقة آمال عوّاد رضوان، ودَعي سلامك لنا شعرًا، أمطرينا وتعشتري في جبّ أرواحنا كما تشائين، ولأنّ الإبداع يستحقّ الاحتفاء والتكريم، فنقدّم درعًا تكريميًّا للشاعرة آمال عوّاد رضوان، ونشكرها ونشكر كلّ من حضر، وسمح لقمر سعادتنا أن يكتمل، وكم وددنا لو نطرّز من خيوط الشمس التي لا تأفل كلماتِ عرفان وجميل، على الجهود المبذولة لنجاح هذا اللقاء..


90
المنبر الحر / حيفا وأدب السجون!
« في: 15:24 19/11/2016  »
حيفا وأدب السجون!
آمال عوّاد رضوان
برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني في حيفا، أقام نادي حيفا الثقافيّ أمسية ثقافيّة نوعيّة، احتفاءً بالباحثة د. لينا الشيخ حشمة، وإشهار بحثها الأكاديميّ "أدب السجون في مصر سوريا والعراق"، وذلك بتاريخ 17-11-2016 في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسية الحيفاوية، ووسط حضور كبير من المثقفين والأقرباء والأصدقاء، وقد رحّب المحامي فؤاد نقارة بالحضور والمشاركين وعرض برنامج النادي للقاءات القريبة، ثم تولت عرافة الأمسية خلود فوراني، وتحدث عن أدب السجون كلّ من: د. محمد صفوري، والمحامية عبير بكر، وأنهت اللقاء بكلمة شكر وتوضيح المحتفى بها، وتمّ التقاط الصور التذكارية أثناء توقيع البحث.
مداخلة د. محمد صفوري بعنوان: حشمة تتويجٌ للبحوث الأكاديميّة الراقية: إنّ المحتفى بها هي الدّكتورة لينا الشيخ- حشمة، تربطني بها علاقات متنوّعة، فهي أوّلًا طالبتي، ثمّ قريبتي، وزميلتي في العمل، وفوق كلّ ذلك لأنّي أعتبرها النّموذجَ الحيَّ للمرأة العربيّة العصاميّة التي تعقد العزم على الوصول إلى هدفها، مهما تجشّمت من العقبات والصّعاب. يقول الدّكتور غازي القصيبيّ في روايته "العصفوريّة": "النقّاد والحلّاقون يجمعهم حبُّ الثرثرة والارتزاق من رؤوس الآخرين". ويضيف البروفيسور إبراهيم طه: "النقد لا يورث إلّا الجوعَ والفقرَ، ليس هذا فحسب، بل يورث العداوةَ أيضًا". قد أتّفق مع كليهما إلى درجة كبيرة، لكنّي أرى أنّ ثرثرة الناقد إذا كانت موضوعيّةً وفي صميم العمل تعود على العمل وصاحبه وقرّائه بالنّفع الكثير، دون أن يبالي بما يلحق به من عداوة غير مبرّرة، عندما يأتي النقد صريحًا وبعيدًا عن العلاقات الشّخصيّة.
أقول قولي هذا معلنا أنّ ما سأقوله عن هذا البحث لا يمتّ بأيّ صلة لعلاقتي بمنتجته، إنّما هو نتيجة ما ينضحُ به البحث، كما أنّني لا أخشى العداوة، لمعرفتي بحلم الباحثة ومقدرتها على التّمييز بين ما هو موضوعيّ وما هو شخصيّ، فاسمحوا لي قبل الشروع في الحديث عن البحث أن أوجّه أعطرَ التحيات وأحرَّها لكلٍّ من مجمع القاسميّ للّغة العربيّة في باقة الغربيّة، ومكتبة كلّ شيء وصاحبها الأخ صالح عبّاسي على هذه الحُلّةِ القشيبةِ والإخراج الرّاقي للكتاب المنسحب على كلّ عناصر،ه وقد تآلفت معًا لتقدّم للقارئ هذه الدّرّة الثّمينة.
وصف البحث: وبعد، فقد حمل البحث اسم "أدب السجون في مصر، سوريّة، والعراق – الحرّيّة والرقيب"، تعرضُ فيه الباحثة لأدب السجون في هذه الأقطار العربيّة الثلاثة، منذ النصف الثّاني من القرن العشرين وحتّى نهاية العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، وتجعله في ثلاثة فصول رئيسيّة؛ الأوّل نظريّ والآخران تطبيقيّان. في الفصل الأوّل تناقش الحرّيّة الإبداعيّة وعلاقتَها بالثّالوث المحرّم؛ السياسة، الدين والجنس، متطرّقةً لسلطة الرقيب في هذه المجالات الثّلاثة، والآليّات الرقابية المختلفة التي يمارسها؛ من ملاحقةِ الأدباء، سجنهم، منع نشر إبداعهم ونحو ذلك، ثمّ تعرّج للحديث عن أدب السجون الذي يُكتَبُ في السجن، أو عن السجن، ويصوّر ما يعانيه المظلومون تحت وطأة الظلم، الاعتقال، الأسر، النفي والتشريد. في الفصل الثّاني تعالج أبعاد أدب السجون خارج النصّ الأدبيّ، راصدة علاقة النظام السّائد في الدول المذكورة بالإنسان المثقّف، وتجارب الأدباء الشّخصيّة، وتتطرّق في مصر للحديث عن ثلاثة عهود؛ عبد الناصر، السّادات، ومبارك. وفي سوريّة تتناول عهد حافظ الأسد وابنه بشار، وتجعل حديثَها في العراق عن عهد صدّام حسين وما سبقه من استيلاء حزب البعث على الحكم في سنوات الستين من القرن العشرين. في هذا الفصل توضّح أساليب القمع والسجن مفصّلة سلطة الرقابة بأنواعها الثّلاثة؛ السياسيّة، الدّينيّة، والاجتماعيّة في الدّول الثلاث، وتخصّ المرأة بباب تتحدّث فيه عن المرأة وحرّيّتها الإبداعيّة في تلك الدول، وممّا يثير الاستهجان في هذا المقام هو حقيقة عدم مصادرة نتاج أي كاتبة عراقيّة، لماذا؟ لأنّها لم تجرؤ على الكتابة في العراق، وآثرت الهجرة والكتابة في المنفى، ومثلها فعلت الكاتبة السوريّة، لكن بنسبة أقلّ.
أمّا في الفصل الثّالث وهو لبُّ البحث، فتعالج مضامين أدب السجون وتقنيّاته الفنيّة، حسبما أفرزته النّصوص الأدبيّة المعتمدة في البحث، وعددها أربع وثلاثون بين رواية وسيرة ذاتيّة لمختلف الكتّاب والكاتبات من الدول المذكورة، وقد رصدت في هذا الفصل آليّات القمع والسجن كما تجلّت في النصوص الأدبيّة المدروسة، العلاقة بين السجان/ السجن والسجين، الشّخصيّات؛ الجلّاد، المحقّق، السجان، السجين، ثمّ صور التعذيب الجسديّ والنفسيّ، ثمّ تحوّلت لدراسة المستويات الفنيّة في أدب السجون وما يستخدمه من آليّات، كالتّناصّ، الميتا كتابة، اللا بطولة، الزمكانيّة، النهايات، اللغة والحوار ونحو ذلك، وعلى غرار ذلك تنهج في تناولها لأدب السجون الذي أنتجته المرأة العربيّة، وتنهي البحث بإجمال لما توصّلت إليه في بحثها، مثبتة قائمة جداول، تليها قائمة بالمصادر والمراجع المعتمدة في البحث.
نتائج البحث: توصّل البحثُ إلى نتائجَ حاسمةٍ جدًّا أبرزها؛ تأكيد سقوط مقولة "إنّ حرّيّة الكلمة هي المقدّمة الأولى للديموقراطيّة" التي طالما تغنّينا بها وردّدناها مع الرّئيس جمال عبد النّاصر ، إذ يؤكّد البحث غياب الحرّيّة بصورة عامّة، والحرّيّة الإبداعيّة بصورة خاصّة في كلٍّ من مصر، سوريّة، والعراق، ويضيف أنّه رغم قتامة الصّورة في هذه البلاد، تظهر مصر أكثر دولة ليبراليّة مقارنة بسوريّة والعراق، إذ يلاحَقُ فيهما الأدباء، يعذّبون، ويختفون، ويبقى مصيرُهم مجهولًا؛ نتيجةَ التفاوت في نظرة الحكّام. أمّا في مصر، فكثير من الكتّاب يبرِّئون ساحة عبد الناصر، ويَعزون سوء معاملة الكتّاب وملاحقتهم للنظام كلّه. أدّت مصادرة الحريّات في هذه الدول الثلاث إلى تغيير مفهوم مقولة "مصر تكتب، بيروت تنشر، وبغداد تقرأ"، وصار مفهومُها في الستينات: "أنّ ما يكتبه المصريّون يُنشر في بيروت، ويُقرأ في العراق"(ص22)، وفي هذا بيان واضح لطغيان الرقابة والقيود المرفوعة في وجه الكتّاب، ممّا جعل لويس عوض يطلق على هذه الظّاهرة "عمليّة الفرار الجماعيّ".
أبرز أنواع الرقابة هي الرقابة السياسيّة، ثمّ الرقابة الاجتماعيّة، فالدّينيّة. أمّا العلاقة بين المثقّف والسلطة فمتوتّرة في الدول الثلاث، إذ يُعتبر المثقّفُ صوتًا محرِّضًا ضدّ السلطة، وعليه فهي تلاحقُه، تصادر كتبَه، تمنعه من النشر، تعتقله، تعذّبه وأفرادَ أسرتِه، ولا تتركُ أيَّ وسيلة لترويضه أو التّخلّصِ منه. نتيجة ذلك وجد المبدع نفسه أمام ثلاثةِ خيارات؛ إمّا مراضاةُ السلطة بتفعيل الرقيب الذّاتيّ، أو كبتُ الرقيب الذّاتي والكتابةُ بحرّيّة متحمّلًا عوائق رقابيّة، أمّا الخيار الثّالث فهو  رفضُ الخضوع للسلطة والتمرّد عليها رغم ما يَنتجُ عن ذلك من ملاحقة، تشريد، سجن، ونحو ذلك. وتجدر الإشارة إلى أمرين؛ أحدهما أنّ كثيرًا من الكتّاب غيّروا مواقفَهم وآراءَهم بعد الإفراج عنهم، والثّاني أنّ قوانينَ الرقابة في هذه الدول مطّاطيّةٌ، فما يُمنعُ اليومَ، يسمح به غدًا، وما يُصادَر في مصر، يتمّ نشرُه في سورية، أو العراق؛ لعدّة أسباب أبرزُها العلاقة المتوترة بين أنظمة تلك الدول.
ترى الباحثة أنّ العراق أشدُّ الأنظمة ملاحقةً للكتّاب، الأمر الذي دفعهم للهجرة والعيش في المنافي، ولم تبتعد سوريّة كثيرًا عن العراق، وتتميّز مصر  بوجود مؤسّسة دينيّة عليا هي الأزهر، ممّا أتاح الحضورَ للخطاب الدّينيّ الإسلاميّ ، فزاد الرقابةَ الدينيّةَ حدّةً، وهو أمر لم يكن في سوريّة والعراق، وتشير إلى أنّ أوّل تعامل رقابيّ في مصر كان زمن الخديوي إسماعيل باشا عام 1870 ضدّ مسرحيّة يعقوب صنوع "الضَّرّتان"؛ بسبب تعريضه بمن يتزوّج بأكثرَ من امرأة، بضمنهم الخديوي الذي خرج غاضبًا بعد أن أنّب صنوع، فشرعت السلطة بملاحقة الكتّاب، وسنّت قانون المطبوعات المعادي للديموقراطيّة عام 1881م. يعتقد صبري حافظ أنّ لرواية السجن جذورًا تاريخيّةً منذ عصر الاستعمار، أمّا متتياهو  بيلد فيرى أنّ بداية أدب السجون في العصر الحديث ظهر في الأدب العربيّ مع بداية سنوات السبعين من القرن العشرين، معتبرًا رواية اللّصّ والكلاب نموذجًا، وتلاحظ الباحثة أنّ أدب السجون ليست ظاهرة مقتصرة على الأدب العربيّ، إذ انتشر  من قبلُ في الأدب الغربيّ لكنّ الغربَ لا يعاني من ظاهرة القمع الشموليّة المنتشرة في العالم العربيّ، ويعلّقُ فيصل درّاج على ظاهرة الرقابة في العالم العربيّ معتبرا إيّاها شاهدًا على إخفاق الدولة وفشل دولة الاستقلال الوطني، فمن المفروض أن يكون الاستقلال مدخلًا إلى الحرّيّة والإبداع وتحقيق الذّات. ثمّ تورد الباحثة حقيقة دامغة تعلن فيها أنّ عدد الكتب المصادرة وصل إلى أكثر من ضعفي الكتب المسموحة، وأنّ 70% من الكتب ممنوعةٌ من المشاركة في معارض الكتب في تلك البلاد.
تجمل الباحثة ملامح أدب السجون بما يلي؛ *اللّجوء إلى التوثيق؛ لإدانة وفضح قمع النظام السياسيّ، وكشف الآليّات المستخدمة في قمع المواطن دون أن يردعها شيءٌ عن استخدام أيّ وسيلة كانت. *تسليط الضّوء على المواطن المقموع، خاصّةً السجينَ السياسيَّ المثقّف الدّاعي للتغيير. *وصف دقيق للسجن وأهواله، عنف الجلّادين ووحشيّتهم مقابل إصرار السجناء على مواقفهم. *اعتمد كتّاب السيرة على تسجيل الوقائع وتوثيق الأحداث التاريخيّة عبر المذكّرات والشهادات واليوميّات وهو ما يُعرَف بالأدب التسجيليّ، بينما لجأ كتّاب الرواية إلى البعد التخييليّ الروائيّ المستمدّ من تجارب واقعيّة، مع لجوء بعضهم إلى الخطاب السرديّ المهجّن من السيرة والرواية أو ما يعرف برواية السيرة الذّاتية. *هناك ملامح مشتركة بين أدب السجون والأدب النِّسْويّ؛ فالمرأة في كتابتها تتحدّى السلطة الذكوريّة مؤكّدةً على قيمة الكتابة في حياتها، وكاتب السجن يتحدّى السلطة مؤكّدًا على قيمة الكتابة في الانعتاق والتحرّر من آلام السجن والكشف عن قمع السلطة، فكلاهما أدب ثائر في وجه من يصادر الحرّيّة. *يوظّف أدب السجون آليّاتٍ فنيّةً متنوّعةً في سبيل تهشيم الأنساق الكتابيّة التقليديّة، والاتّكاء على تيّار الحداثة وما بعد الحداثة ومن ذلك؛ اعتماد صورة اللا بطل، تقويض الحبكة التقليديّة، تقطيع زمانيّ ومكانيّ، تعدّد الأصوات الروائيّة، الإكثار من الرمز، الغموض، الإغراب، المفارقة، والتناصّ، إضافة لتكثيف آليّات تيّار الوعي Stream of Consciousness"" مثل؛ المونولوج، الاسترجاع، الحلم، والتداعيات، ويستعير أليّات من عالم الفنّ كالتصوير الفوتوغرافيّ، الرّسم، المسرح، السينما، الشعر، الكولاج، ويكثّف من ظاهرة الميتا– كتابة "Meta – Writing"، أي الكتابة عن الكتابة، فلا يدّخر أيَّ آليّة من شأنها أن تسهمَ في الخروج على الأعراف الأدبيّة التقليديّة، وبذلك يلتقي أيضًا مع الأدب النِّسْويّ كما قدّمنا.
تقييم البحث: *يرتقي بحث الدكتورة لينا إلى مستوى رفيع جدًّا، ولعلّ ذلك هو ما دفع محكّمي البحث لمنحها درجة راقية جدًّا، ولهذه الدّرجة ما يبرّرها ومن ذلك؛ أنّ الباحثة تتّبع منهجيّة أكاديميّة– علميّة تنسحب على كلّ فصول البحث وأبوابه، فتقدّم لبحثها بفصل نظريّ، ثمّ تعمل على تطبيقه في الفصلين التاليين، وتسهب في توضيح كلِّ صغيرة وكبيرة، ليأتي بحثُها شاملًا  وصفيًّا وتحليليًّا تتوخّى فيه التفصيلَ الكثير  دون أن تتنازل عن الغوص إلى أعماق البحث.
*لا تترك الباحثة أيّ فكرة أو معلومة عائمة على سطح بحثها، إنّما تعمد إلى دعمها بآراء الدّارسين، دون أن تكتفيَ برأي واحد يتيم، بل تورد أكثر من رأي لخبراءَ وذوي العلم بالأمر، لتثبت الفكرةَ مرّة أو  تنفيها مرّةً أخرى، وفي كثير من الحالات تعمد إلى تضمين رأيها في الموضوع، ومن ذلك ما ذكرته من مقارنة الكاتب مصطفى أمين بين فترات الحكم في مصر، إذ يقول: "إذا غضب عبد الناصر قصف العمر، وإذا غضب السادات قصف القلم، وإذا غضب مبارك اكتفى باللوم والعتاب" فتعلّق قائلة: "إلّا أنّنا نخالفه الرأي بالنسبة لحسني مبارك الذي لم يكتفِ باللّوم كما أشرنا، بل كان قامعًا مستبدًّا لكلّ رأي مخالف لسياسته، ساعيًا إلى تدجين المثقّفين وتهميشهم، وإسكاتهم"، ثم تشير إلى أنّ مرجع ذلك برأيها أنّه أصدر كتابه في عهد مبارك، فلم يجرؤ على فضح قمع النظام وممارساته (ص42).
*يعكس البحث اطّلاعا واسعًا على الأدب العربيّ الحديث بصورة عامّة، وأدب السجون بصورة خاصّة، إضافة لمضامين أخرى متعلّقة بالموضوع كالأحداث التّاريخيّة، أو آراء الدّارسين من العالمين الغربيّ والعربيّ، ونحو ذلك، فتسهب في تفصيل تلك الأمور في هوامش البحث معتمدةً فنيّةً ونهجًا موحّدًا في عرض تلك الأمور، فتضيء بذلك زوايا كثيرة من شأنها أن تثريَ معلوماتِ القارئ.
*تخصُّ الباحثة المرأةَ العربيّةَ ببابين، الباب الرابع من الفصل الثّاني، والباب الثّاني من الفصل الثّالث، وقد يؤخذ عليها هذا الأمر، إلّا أنّنا نجد خصوصيّة للكاتبة العربيّة في الأقطار العربيّة تستدعي الحديثَ عن ظروفها ونتاجها؛ فمعاناتُها كانت مضاعفةً، إن لم تكن مثلّثة؛ فقد لوحقت المرأةُ الكاتبةُ من قبل السلطة كالرّجل، وفرض المجتمعُ الذّكوريُّ عليها ما يسمى "ثقافة الصّمت" فمنعت عن الكتابة أو النشر، ورأى فيها قادة المجتمع وعامّة النّاس مصنعًا لإنجاب الأطفال. وفي هذا المقام لا بدّ من استرجاع ما ذكرته الباحثة، في سياق معالجتها وضعَ الكاتبةِ العراقيّةِ وممارسات النظام ضدّها قائلة "فرض صدام حسين على كلّ امرأة أن تنجب خمسة أطفال على الأقلّ، معتبرًا أربعة فما دون، مؤامرةً على الأمن القوميّ، وشجّع الأرامل على الزّواج، وسمح بتعدّد الزوجات دون تحديد، بل ومنح مَنْ يتزوّج أرملة مكافأة ألفي دينار"(ص214). من أجل ذلك عرضت الباحثة لاثنتين وسبعين كاتبة من الدول الثلاث موضّحةً ما أحاط بهنّ من قمع، سجن، وهجرة كالرّجل، ثمّ وجدت علاقة طرديّة بين أدب السجون والأدب النسويّ، فكلاهما يقوم على التمرّد والثورة مع التأكيد على قيمة الحريّة في التّحرّر من سطوة المجتمع الذكوريّ، وعذاب السجن، وقد جمعت بين الأدبين في الآليّات الفنيّة الموظّفة فيهما، فأضافت بذلك بعدًا آخر للبحث.
*تذيّل الباحثة دراستها بثمانية جداول قيّمة جدًّا؛ لما تعكسه من الجهد المبذول في إعدادها، فتتيح للقارئ الاطّلاعَ السريعَ على مضمون البحث وآليّاته، وتعمد من ناحية أخرى إلى إثبات ما ذهبت إليه من آراء اعتمادًا على ما أفرزه بحثها، وهي تتقصّى مضامينَه وآليّاتِه. حقًّا  إنّه جهدٌ مضنٍ لكنّه ينطوي على فائدة كبيرة يمنح البحث وصاحبته كثيرا من التقدير والاحترام.
في اعتقادنا أنّ ما اعتمدته الباحثة من روايات، سير ذاتيّة، مصادر ، ومراجع أسهم كثيرا في منحها تلك الدرجة التي أشرنا إليها، إذ تناولت أربعًا وثلاثين رواية وسيرة، تقصّت فيها مضامينَ وآليّاتِ أدبِ السجون وملامحَه البارزةَ، متّكئةً على كمّ هائل من المصادر العربيّة، الإنجليزيّة، العبريّة، إضافةً للمقالات الكثيرة، ومواقع الإنترنت، ومما يزيد في الإعجاب بهذا البحث أنّ معظم مصادرها حديثةٌ جدًّا، صدرت ما بين سنة الألفين إلى العقد الثّاني من القرن الحادي والعشرين، وهذا ما يميّز بحثها عن بحوث ودراسات سابقة.
قد يأخذ بعض الدّارسين على البحث ظاهرة تكرار الحديث عن ظاهرة ما، أو عمّا لحق بكاتب معيّن من مظاهر القمع، ونحو ذلك، لكننا لا نرى ضيرًا في ذلك، لأنّ طبيعةَ البحث، فصولَه، أبوابَه، وتفريعاتِه تقتضي مثلَ هذا التكرار ، في سبيل نفي أو إثباتِ فكرةٍ معيّنة،  وكثيرا ما ابتعدت الباحثة عن التكرار عندما  لم تجد فائدةً أو حاجةً لذلك، مثلما نهجت وهي تعالج أساليبَ وتقنيّاتِ كتابةِ المرأة عن أدب السجون، إذ أشارت أنّ هذه الأساليب والتقنيّات لم تبتعدْ عمّا وجدَتْه في أدب السجون لدى الرّجل(ص 415).
وتبقى لنا بعض الملاحظات على هذا البحث الرائد في جدّيته وحداثته منها أنّ الباحثةَ غفلت عن توضيح المقصود بالمصطلح المنحوت "حدتو" ، وهو اختصار للحركة الديموقراطيّة للتحرّر الوطني في مصر، رغم تردّد ذكره داخل البحث مرّاتٍ عديدةً، وهو مصطلح  يُعتبرُ امتدادًا لمصطلح "حمتو" أي الحركة المصريّة للتحرّر الوطني، وشقيقتها حركة "حستو"، الحركة السودانيّة للتحرّر الوطني، وكان حريًّا بها توضيحُ الأمر. هذا إضافةً للمصادر التي أشدنا باستخدامها في البحث، لكننا لا نتّفق والباحثة في عمليّة ترتيب قائمة المصادر، ونرى أنها لو اتّبعت نهجًا آخر لكان أفضل، فتُدرجُ أوّلًا الرواياتِ والسيرِ المدروسة، تليها الكتب العربيّة، ثمّ مقالات الدّوريّات والصحف، فمواقع الإنترنت، ثمّ تأتي بالمصادر العبريّة، وتنهي القائمةَ بالمصادر الإنجليزيّة، وما يثير  التساؤلَ هو لماذا أثبتت الباحثة المصادرَ الإنجليزيّةَ باللغة الإنجليزيّة، ولم تفعل نفس الأمر مع المصادر العبريّة، بل أوردتها مترجمة إلى اللغة العربيّة؟!
لكن مهما يكن من أمر فإنّ هذا البحث يرتقي إلى مستوى رفيع جدًّا بكلّ مقوّماته، فيه تطلعنا الباحثة على ما يدور في الدول العربيّة من إزهاق لحريّة الإنسان عامّة، والحرّيّة الإبداعيّة خاصّة، حتّى غدت لفظة الحريّة كلمةً جوفاءَ مفرغةً من مضمونها. إنّ هذا العمل الجليل يدفع قارئَه إلى أن يحني هامته في حضرةِ باحثة في قامة لينا الشيخ – حشمة، حقًّا إنّه تتويج للبحوث الأكاديميّة الجديّة الرّفيعة المستوى. نبارك لك هذا العطاءَ، منتظرين جديدَك مستقبلّا، فألف مبروك.
مداخلة د. لينا الشيخ حشمة: الحضور الكريم، هذه ليلة يزِفّها حضورُكم قمراء، ويكسوها  بصبحِ أنواركم وبهاء، فتشرين الليلة، احتفاءً بكم خلع ستائر عتمته، وكشف سرائر بهجته، نظم قصيدة من قوافي الفرح، غزلها لأجلكم،  وبحبّكم قد صدح، فما كنت لأكون الليلة شيئًا إلّا بكم. وكم تزدان ليلتي بكم!
بدايةً أشكر جزيل الشّكر نادي حيفا الثقافيّ والمركز الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ، والقيّمين عليهما، وأخصّ بالذّكر المحاميَ فؤاد نقّارة وزوجته سوزي، والمحامي حسن عبادي وزوجته سميرة، فلكم جميعًا أقف إجلالًا وإكبارًا على عطاء لا يعرف كسلًا ولا عَذَلًا، وعلى جهد لا يدرك كللًا ولا مللًا. بوركتم وبورك عطاؤكم، ولن يفوتَني شكرُ السيّد فضل الله الذي يرعى هذا المكان بحبٍّ وجِدٍّ، وفّقك الله ورعاك. أمّا أنت عزيزتي خلود فوراني سريّة، منذ أن تعرّفت على هذا الصرح رأيت فيك حضورًا جميلًا وتألّقًا رفيعًا، فكانت كلماتك تخاطب سامعها بتغريدة راقية، برنينها رائعة. فأنت الكلمة العربيّة تعشقين، بحروفها تعزفين، وبألفاظها تغرّدين، فلك منّي أجمل كلمات الشّكر الجزيل.
أمّا العزيزة عبير، فلك منّي كلُّ الشّكر والتقدير على مشاركتك هذه الأمسية، فقد أضافت كلمتك عمقًا وجمالًا، وأضْفَت رونقًا وثراء، سُررت بالتعرّف إليك، وأرجو لك كلّ الخير والسّعادة، وأستاذي الجليل الدكتور محمّد صفوري، أقدّم لك عبق امتناني لأنّك كنت يومًا أستاذي، فالبعض يعلّمنا وننساه، والبعض يعلّمنا ونحيا ذكراه، أمّا أنت فمن أولائك الذين يمرّون في حياة تلاميذهم تاركين فيها عبقًا فريدًا وأثرًا جميلًا، تركت فيهم عشقك للغة العربيّة، وأمطرتهم من غيث معرفتك. كنت، ولا زلت، قدوة تحتذى، واعظًا حريصًا. أدامك الله ورعاك. كما أودّ أن أشكر عزيزًا واصل معي مشواري منذ اللقب الأوّل حتّى لقب الدكتوراه، مرشدي  البروفيسور إبراهيم طه، الاسمُ الساطعُ في عالم النّقد والأدب. لقد شاركني ثَمَرةً كان قد راقب نضوجها منذ حرفها الأوّل حتّى اكتمالها. فلك أسمى آيات الشكر والامتنان. ولن أنسى أستاذي العزيز د. باسيلا بواردي الذي كان سندًا رائعًا وذُخرًا لا ينتسى، فلك كلّ الشكر والتقدير لحضورك الليلة.
وبعد، هو تشرين يسكب أفراحه ويمنحها لقلوب ترقبّت، ولعيون بكت، ولنفوس صبرت. وهنا اسمحوا لي أن أوجّهَ كلمة لقلبين لم تسعفني الحياة يومًا أن أسمعهما من حروفي قبل الآن. وإن لم يكن الآن، فمتى إذًا؟ هما أمي وأبي/ أمي أبي/ هذه ليلتُكما قبل أن تكونَ ليلتي/ ولهذا بكُما أنا أحتفي/ فكلمةُ شكرٍ لا تكفي/ ودمعةٌ في العينِ لا توفي/ لا توفي فضلًا ولا حبًّا/ فيا أعزَّ الناسِ عندي وعلَيّا/ وكيف أنسى من أنا منّه حيّا؟!/ وكيف أنسى من أكرم علَيّا/ بحبٍّ يصدح علِيّا؟!/ في عيني أنا أحمل لكما قلبي وفيّا/ وعلى كفي أسكب عمري سخيّا/ أُهديه  لكما حبًّا نقيّا/ ثمّ أعزفه شكرًا جليّا/ فأنا دونكما لم أكُ شيّا.
أمّا زوجي الحبيب فأقول له عذرًا، ليس تأخير شكرك انتقاصًا ولا نسيانا، بل أنت تدرك أنّ الدّمَ في عروقي قبل لُقيانا. درك أنّ نفسي قد كانت قبل أن أراك، ولكنّ نبضَ حبِّك سيكونُ للأبدِ خفّاقا، ومعاذَ الله أن أنسى حبًّا رويتني أو دعمًا منحتني من قلبك المشتاقا. ريما وباسل، ثمرتا رحمي، لكما أُهدي ثمَرةً من ثمار جهدي، فأنتما زهرتا عمري، عيناي في غدِ روحي. أما أنتم أخواتي وأخي وصِهري فلكم أقول: كنتم لي باقةً من الحبِّ والدعم، فأذني لحبّكم تسمع، وروحي له تخشع، ومنه لن تشبع. كما لن أنسى كلَّ قريبٍ محِبٍّ أو صديقٍ عزيزٍ جاء الليلة يرجو لي نجاحًا عظيمًا وحضر داعمًا فخورًا. فاعذروني إن لم أعدّد  الأسماء،  فعيني الشاكرةُ وقلبي المحبُّ أجمل وأبقى من ذكر الأسماء. شكرًا لكم جميعًا.
لماذا؟ وكم من مرّة سئلت لماذا؟ لماذا اخترتِ عالمَ السّجون وقسوته؟ ولماذا تخترقين الثالوث المحرّم؟ فقال بعضهم: "لَعلّك تخاطرين". وقال آخرون:  "هذا موضوعٌ يحتاج إلى تحدٍّ وجرأةٍ"، فكيف لهذه الأنوثةِ أن تبحثَ في هذا الشّقاء وتقرأ هذا العناء؟ وكم من مرّةٍ قيل لي: "لم أستطع قراءة تلك الرواية فكيف تحمّلتِ أنتِ كلَّ هذا العنف والقسوة؟ لا أخفي عليكم، كلّما سئلت ازددت تمسّكًا به، رغم ما كنت أعيشه من ألمٍ وغضب حين كنت أقرأ فظاعة هذا الأدب. أمّا إذا كان السؤال من رجل، متحدّيّا أنوثتي، زادني هذا إصرارًا وعزيمة. إذ أرفض التواطؤ في تثبيت نظرة استعلائيّة ترى بالمرأة عنصرًا قاصرًا وضعيفًا، وأسعى لأن أشاركَ في تشييع جثمان الخنوع والخضوع.
وقبلت التحدي، كيف لا؟ وهو موضوع جريء وغير ُمطروق، والأوّل من نوعه في العالم العربيّ والعالم بأسره لما حمله من فكرة وشموليّة وعمق واتّساع. وتبدأ حكايتي حين جئت مرشدي بروفيسور ابراهيم طه لأبدأَ كتابة أطروحة الماجستير، وهنا أذكر تمامًا أنّه اقترح عليّ موضوعين، كان أحدهما حول أدب السجون والثالوث المحرّم. حينها لم أفكر مرّتين، لا بشُحّ المصادر، ولا بصعوبة الوصول إليها، ولا بعوائق البحث، بل قبلت التّحدي لأنّني رأيت فيه الثالوث الذي يؤرّقني ويشغل قناعاتي ويصارعُ رؤياي، بدءًا بالسياسة، مرورًا  بسلطة رجال الدين والمجتمع، وصولًا إلى المرأة في ظلِّ مجتمع ذكوريّ سلطويّ. هكذا بدأت في بحث أدب السجون في دول الخليج، ثمّ انتقلت في أطروحة الدكتوراة إلى مصر وسورية والعراق. ولكنّ حكايتي لم تكن سهلةً أبدًا، إذ واجهت عناءً شديدًا في الوصول الى المصادر والمراجع، وأنا أعالج ما هو ممنوعٌ من النشر أصلًا، وما يقع تحت قهرِ الرقابة والمصادرة إذا نُشِر ثانيًا؟ وما بالُكم إذا كنّا نتحدّث عن شهاداتٍ ووثائقَ تكشف عن تجربة التعذيب في السجون، وأساليب القمع التي يمارسها النظام بحقّ شعبِه. هكذا أماطَ البحثُ اللِّثامَ عن أزمة الحريّة في الدول العربيّة، حيث يعيش المبدع العربيّ تحت وطأة قمع السّلطة ورقابات الثالوث المقدّس: السياسة، الدّين والجنس، ويصبح هامشُ الحريّة المتاحُ له ضيّقًا جدًّا. ولا غروَ في أن قال الكاتبُ يوسف إدريس: "إنّ الحريّة الموجودة في كلّ العالم العربي لا تكفي لكاتب واحدٍ."
وفي ضوء ذلك، يمسي أدب السجون أبرز نتاج لهذا القمع، فيكشف الأدباء الذين سجنهم النظام في مصر وسورية والعراق عن تجاربِهم، ويوثّقونها في ألوان أدبيّة عديدة. وأخذت كتابات أدب السجون تزداد يومًا بعد يوم، وتكشّفت لي العشرات من الكتب، ولكنّي، ولأنّي ملزمة بعدد معيّن من الصفحات، اكتفيت هنا بدراسة أربع وثلاثين رواية وسيرة ذاتيّة دراسة تحليليّة عميقة، إضافة إلى رصد عشرات الكتب الأخرى. كما رصدت تجارب ما لا يقلّ عن مئة كاتب من كلّ قطر، واثنتين وسبعين كاتبة من الأقطار مجتمعة، ليتجاوز البحث أكثر من خمسمئة صفحة. يؤكّد أدب السجون على إدانة هذا العصر؛ فهو عصر القمع والاضطهاد، عصر الزنازين والجلّاد، وانتهاك حقوق الإنسان. إنّه صرخة تكشف عن ظلم السلطات الغاشمة، متوسّلة الحريّة والديمقراطيّة، في بلاد يسودها منعُ الحوار والرقابة الصّارمة، في بلادٍ تمسي الفكرة لعنة على صاحبها، في بلاد تدفع الكلمةُ إلى المنفى أو السجن أو حتّى القتل.
في مصر، أدى تضارب المصالح بين الرؤساء الثلاثة: عبد الناصر والسادات ومبارك، إلى كشفِ الممارسات الرقابيّة ووضوحها. كما عاد ذلك بالفائدة أحيانًا على رفع سقف حريّة التعبير. فقد حاول كلٌّ منهم أن يبحث عن أدوات سلطويّة تناقض العهد الذي سبقه، مثلما فعل السادات بأن استخدم القوى الدينيّة كأداة مناقضة للقوى الماركسيّة والناصريّة، ولم يصادر شيئا من أدب السجون ممّا كتب عن عهد عبد الناصر، وذلك لأنّه وجد فيها ما يخدم دعاياته المضادّة للناصريّة. أما سورية والعراق فكان عهد حكّامهما ثابتًا لأكثرَ من ثلاثة عقودٍ متواصلةٍ، فباتت الرقابة أشدّ قمعًا، ليكتنفَ الغموضُ كلا البلدين بسبب الجهاز الرقابيّ والتعتيم الإعلاميّ الشديدين، ويُلاحَق الأدباء المعارضون ويسجنون أو يختفون ويغيّبون، وقد يعذّبون حتّى الموت. وتبقى معظم الحالات طيّ الكتمان، إلّا إذا نجح الكاتب في الهروب من الوطن مختارًا المنفى ملاذًا له. وهذا ما جعل البحثَ فيهما صعبًا جدًّا، وذلك بسبب قلّة الموادّ الذاتيّة السيرويّة التي تكشف عن حياة الأدباء وتجاربهم الشخصيّة، وقلّة المصادر بسبب منع النشر والمصادرة أو بسبب اضطرار الأدباء إلى وأد إبداعاتهم أو إخفائها خَشيةَ المصادرة والاعتقال. من هنا كانت أوروبا وأمريكا ملاذًا للكاتب ليعيشَ أوّلًا، ولينشرَ ثانيًا.
ولهذا لا غروَ في أنّ أعدادًا هائلة من الكتب التي اعتمدت عليها في بحثي قد صدرت خارج الأوطان، ولا عجبَ أنّني اضطررت إلى طلبها من جامعات أوروبيّة وأمريكيّة، الأمر الذي كلّفني أموالًا طائلة وعلى نفقتي الخاصّة. فأدركت كيف يتآخى العلم والفقر الماديّ في هذا الزّمان، لكنّي فرحت بمعرفةٍ إلى روحي نَفَذَت، ولم أحزن لأموالٍ نَفِدَت.
أمّا شهرزادُ، المرأة التي لازالت تحكي قصّتنا نحن النّساء، تحكي قصّةَ الطغاةِ من الذّكور، لا قصّةَ الرّجال، فشتّانَ ما بين الذّكور والرجال، فقد عانت من الرّقابات السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة، ومورست عليها ضغوطٌ تجاوزت تلك التي مورست على الرجل، وذلك للواقع السياسيّ القمعيّ أوّلًا، ولأسباب جندريّة ثانيًا، حيث نظرة الرجل الاستعلائيّة وسطوة المجتمع القامعة لها بقوى الأعراف والموروث. وكثيرًا ما زجّت في السجن أو خضعت للمساءلة. لكنّ شهرزاد لم تعد تنتظر عدلًا، لم تعد رهينةً للرجل بأحلامها. وكيف تنتظر منه عدلًا وكلّهم ذكور؟ فالحاكم ذكر، والقاضي، والزوج، والأب، والأخ، والسّجان، فمن يصنع العدل إذًا؟  لم تعد شهرزاد تسكت عن القول المباح قبل طلوع الصباح. لم تعد شهرزاد تخشى سيف شهريار، ولم يعد يهمّها إذا تربّص بها عنترة العبسيّ خلف الباب، فعنترة لم يعد يصادرُ الأحلامَ من خزائنها أو يمارس الحَجْر  على عواطفها. لم تعد شهرزاد خانعةً خاضعةً، بل باتت تقول كلمتها بجرأةٍ بالغة.
لكنْ، اعذروني إنْ تراجعت قليلًا عمّا ذكرته آنفًا، فأنا وإن أعلنت انتصارَ شهرزاد إلّا أنّ معركتها لم تنته بعد، وكيف تنتهي معركتُها وشهريارُ بات يلبس عِمامةً أخرى، وبات في القرن الحادي والعشرين يحمل لها سيفين، سيفًا بقوّة الذّكورة، وسيفًا بقوّة التعصّب والتطرّف الدينيّ، وهو الأشدّ قسوةً وترهيبًا. الحقّ أقول لكم، أنا أخشى على شهرزادَ من سيف واقعٍ ملطّخٍ بالتعصّب والتطرّف. والحقّ أقول لكم، لا أخشى من هذا السيف على شهرزادَ فقط، بل بتّ أخشى منه على كلّ مثقّفٍ مفكّرٍ مخالفٍ لهؤلاء الذين يجادلون بالّتي هي أقمع، وليس بالتي هي أحسن.
يهمّني جدًّا أن أتطرّق قليلا إلى مسألة كان البعض قد ناقشني فيها، ممّن قرأ كتابي، وذلك بخصوص جمال عبد الناصر. صحيحٌ أنّني كشفت أوراقًا قد لا تروق لكثيرٍ ممّن أحبّ هذا القائد. لكن، صدقًا، لم يكن كشف هذه الحقائق سهلًا عليّ، فأنا كذلك ترعرعت في بيت يعشق عبد الناصر، في بيت له باع في السياسة، ولوالد كان ناشطًا سياسيًّا، حتى أنّه عندما أهديته كتابي خاطبني قائلًا: "بس متكونيش حكيت عن عبد الناصر". "أجبت: "لقد كتبت ما أملته عليّ الحقائق". قد تكون صورة عبد الناصر المعلّقة على الحائط في بيت جدّي حيث عشت السنوات الأولى من عمري، هي الصورة الأولى التي رأتها عيني ورسّختها ذاكرتي. ولا أنسى لحظات الأسى التي كانت تنتابني كلّما كشفت خطأ من أخطاء هذا النظام. كنت أخشى أن أقرأ ما قد يهزّ تلك الصورة المعلّقة على الحائط، وفي ذهني، فتسقط مثلما يسقط التاريخ.  لكنّي أؤمن بأنّه "لا بدّ من أن نخرج من بوتقة التقديس إلى دائرة المساءلة والمحاسبة الموضوعيّة، ينبغي علينا أن نصغي لصوت الواقع بعيدًا عن الحبّ الأعمى. أن نسائِل التاريخ عنّا، عن أمسِهِ، وعن غدِنا. علينا أن نتذكّر أنّ مساءلة أخطاء الماضي تصنع منّا مستقبلًا مشرّفًا. علينا أن نعترف أنّ هناك أخطاء قام بها نظام عبد الناصر، علمًا أنّ عبد الناصر نفسه سعى لأن يكون هو نظيفًا من كلّ خطأ، لكنّ نواياه الصادقةَ لم تسعفْه في حفظ حُكمه من الخطأ، لأنّه إنسانٌ لا إلهٌ أوّلًا، وليس معصومًا عن الخطأ، ولأنّه لم يستطع فعلَ ذلك وحدَه، ثانيًا.       إنّ الثورة لا تعني تغيير كرسيٍّ من َحاكمٍ إلى آخر، والثورة لا تعني تغيير شخصٍ في ظلّ حاشية من الفاسدين المستغلِّين. الثورة سيرورة وصيرورة، بالسين والصاد. الثورة فكرٌ، لكنّ الفكر يتشوّه في أحضان المنتفعين والانتهازيّين والمتزمّتين.
لقد كنت حريصة على منهجيّة موضوعيّة وفق ما يتطلّبه البحث الأكاديميّ، وحريصة على توثيق الآراء والحقائق وتسجيلها وتأريخها بمنتهى الدّقّة والمصداقيّة، ولم أتوانَ عن الإتيان بالرأي المؤيّد والرأي المعارض. وكم من كاتب تعمّدت ذكر شهادته التي يذمّ فيها عبد الناصر، ثمّ تلك التي يتراجع فيها عن ذمّه ويؤكّد فيها عن تأييده له، علمًا أنّ الكثيرين من الأدباء يبرّئون ساحته من التجاوزات التي ارتكبها نظامه، وينزعون عنه شخصيًّا صفة القمع ويلصقونها بنظامه ككلّ. لست هنا بموقفٍ دفاعيٍّ، فإنْ كنت قد أحببت عبد الناصر بما يمثلّه من مبادئ، إلّا أنّني لا أستطيع إلّا أن أمسح الغبارعن صورتِهِ، علّنا ندرك كيف نحفَظ صورَنا من رماد التاريخ، وليس من غبارِهِ فقط، فالتاريخ لا يرحمُ، والنوايا الصادقة لا تكفي لأن تصنع التاريخ المنشود أو لأنْ تنهضَ بالشعوب. فانظروا إلى الربيعِ العربيّ الذي سقط خريفًا، وهوى اصفرارًا وتهشيمًا. فالثورة  لأجل الحريّة والديمقراطيّة لا تتحقّق بإعلانٍ أو بشعارٍ، بل هي صادٌ وسينٌ كما ذكرت. هي فكرٌ يسير ويتغلغل في عقولٍ واعية حتى يصير  واقعًا. وما أحوجَنا اليومَ، وفي ظلّ سلطة التيّارات الدينيّة التكفيريّة إلى النقد والمساءلة والمواجهة، فالطامة الكبرى قد وقعت حين تحوّل دين السموات إلى دين الناسِ، تحوّل من الدين إلى التديّن والتعصب، إلى آلةٍ للسيطرة والتكفير، وكأنّ التراث والدين أصبحا حكرًا على فئة من الناس تحتكر لنفسها فَهْمَ الدين، فتكفّر قامعةً كلّ مخالفٍ لها أو معارض. لكنْ،  ليس بالتعصّب تحيا الشعوب، وليس بالتطرّف تسود الأمم.
هذا هو كتابي، كتابٌ يضجُ بأنين أوطان، بجراح إنسان، ونزف أديان، بصرخات المثقّفين، بآهات المفكّرين، عانوا الكبت والتدجين، ولماذا؟ لأجل فكرة، لأجل كلمة. أما الحريّة فتُحتضَر في غدرِ الأزمان وتتفتّت بين فكيّ الشيطان، لكنّه ليس الشيطان الذي تحدّثت عنه الأديان، بل هو شيطان من صنع إنسان. كتابي تصوير لما يحدث الآن، وعساه لا يحدث غدًا.  فها هي رائحة الموت تضجُّ في كلّ مكان في ثقافة "اللّا" والتغييب، في حضارة المنع والتحريم، في لغة الكُفر والتكفير. وها هو شيطان القتل يرقص على جثث البشر، يرقص حين رخُص الانسانُ وصار أرخصَ من حجر. فكيف يمكن للإنسان أن يمسي شبه إنسان؟ إلى متى سيرقص الشيطان على أجساد الأوطان؟ اعذروني إن خشيت ما سيأتي، وما سيكون، لكن، ربّما نصحو يومًا على أمس اشتهيناه، وربّما يكون غدنا أجمل من ماضٍ تركناه.




91
عين على قصيدة بحجم وطن!
بقلم: ماهر الطردة
في ضيافة بلدية تفوح ومطلع نوفمبر تشرين الثاني للعام 2016، أقام ملتقى الإعلاميّين والمثقفين العرب لقاءً وأمسية أدبيّة، استضاف فيها نخبة من روّاد النادي النسائي الأرثوذكسي/ عبلين الجليليّة، ممثّلًا برئيسته الكاتبة والشاعرة القديرة آمال عوّاد رضوان، ومنتدى الأديبات الفلسطينيّات "مدى"، ممثّلًا حضورهنّ الكاتبة والشاعرة القديرة آمال غزال/ رئيس قسم الآداب والثقافة في وزارة الثقافة الفلسطينيّة.
وقد رحّبا رئيس بلديّة تفوح الأستاذ محمود ارزيقات ونائبه الأستاذ نايف خمايسة بالحضور وبالشعراء، مُؤكّديْن على أصالة الفكر والكلمة الحرّة التي تخدم قضايانا الإنسانيّة، وقضيّتنا الفلسطينيّة على وجه الخصوص، مُشيدَيْن بدور الشعراء في حمل رسالة الحبّ والحريّة والسلام، كما أكّدا على أهمّيّة تنشيط الحركة الأدبيّة بما يليق بموروثنا الثقافيّ والأدبيّ، وبما يكفل حرّيّة التواصل بين جغرافيا الوطن التي أتعبها الاحتلال، وقد افتتح اللقاء وعرافة الأمسية رئيس الملتقى وعضو البلديّة أ. ماهر الطردة، وقدّم الشعراء المشاركين بما يليق بحضورهم، حيث اشتعلت سماء الوقت بدفء القصائد وهيبة الحضور، فشكرًا تليق بشعرائنا الذين أتحفونا ألقًا وإبداعًا: الكاتبة والشاعرة آمال عوّاد رضوان/ عبلين الجليّة، والكاتبة والشاعرة آمال غزال/ جنين، والكاتب والشاعر أمير الطردة/ تفّوح، والشاعر محمد إرزيقات "أبوفاروق"/ تفوح، والشاعر عباس مجاهد/ الخليل، وشكرًا لمن شرّفنا بالحضور وعلى رأسهم سعادة اللواء جميل الناطور والحضور الكريم كل باسمه ومكانته وحضوره.
وقد افتتح اللقاء والأمسية الأدبية الشاعر ماهر الطردة رئيس ملتقى الإعلاميين والمثقفين العرب/ بالنيابة عن د. فاطمة القاسم، أمسية أدبية تحت عنوان "عين على القصيدة وقصيدة بحجم وطن"، جاء فيها:
في بلادنا يموت الموت، ونبقى عازمين على الفرح هي الأغنيات ترحل بنا، تأخذنا هناك لضمير الكلمات رصاصتين، في كلتيهما يمور اللحن والطرب، هو الشّعر أول النداء وأول البكاء وسيد الحضور في ملامحكم، كلّما تعمّد الوقت بالمطر فها نرتله على مسامعكم مساءات من فرح وأبجديّة تليق بدفء الحبق. وقبل البدء كما كل بدء، لشهداء الحب والحرّيّة والسلام، لشهداء الكلمة والفكرة والعطاء، لكل شهداء هذه الأرض نقف انتصارا لما بدؤوه، لحظة صمت نستذكر فيها عظماء هذه الأرض على أنغام نشيدنا الوطني الفلسطيني، نقف جميعا في انتصار القصائد وهيبة الألق في دفء حضوركم، شكرا وشكرا ثم شكرا. ولأننا في حضرة بلديّة تفوح ممثلة برئيسها وأعضائها ومواطنيها، هذه المؤسسة التي أثبت جدارتها عبر محطات عديدة، تجاوزت فيها جغرافيا الوقت والمكان والخدمات، بعدما سجلت تاريخا من عطاء وانجاز، بإدارة حكيمة ورؤية واضحة الملامح. ها هي اليوم تترك بصمات واضحة في مشاهد شتى، وعلى رأسها المشهد الثقافي الذي تعتقد البلدية بأنه أساس متين لكل المحطات الإنسانيّة والاجتماعيّة والخدماتيّة، في سعيها الحثيث نحو الرقيّ والتطوّر والانطلاق، متسلحين بأدب المسؤولية وصناعة القرار، لخلق مشاهد إبداعيّة تخدم المجتمع المحليّ بكافة أطيافه وشرائحه، وبذائقته المتعدّدة الملامح، فكانت بلدية تفّوح أوّل المشهد وآخره، وستبقى المحطة الأكثر إبداعًا لتستقرّ حاضنة وحامية لكلّ منجز إبداعيّ يخدم بلدتنا.
السادة الكتّاب والشعراء والأدباء المؤسّسات الثقافيّة والإعلاميّة والأهليّة السادة: النادي النسائي الأرثوذكسيّ/ عبلين الجليليّة، ومنتدى الأديبات الفلسطينيّات/ "مدى"، الضيوف الكرام كلّ باسمه ومكانته وحضوره، وأهلنا القادمين من نصفنا الوردي من الداخل الفلسطينيّ، أهلا بكم وأنتم تحملون الورد والقصائد وتسابيح الياسمين، أهلًا بكم وأنتم روّاد الكلمة والفكرة والعطاء، أهلًا بكم وأنتم تشعلون فتيل المحبّة والسلام قناديلَ من أمل لغد أجمل، أهلًا بكم وأنتم في حضرة الزيتون في بلد الشهداء والشعراء، من حيّنا العتيق في محافظة خليل الرحمن الى شموخ الزعتر في جبال تفوح، وهذا الهواء المعمّد برائحة النشيد والشهداء، يعانق أبجديّة من هناك حضرت في ملامحكم من المثلث والجليل، من شاطئنا المنفيّ في عكّا، من الناصرة وحيفا، من نصف برتقالة في يافا، من أزقة لا زالت تتنفّس قصائد القاسم ودرويش وزيّاد، من هناك جئتم بنصف قصيدة، لتكتمل هنا على أرض خليلنا، تجاوزتم مشقة السفر ولعنة الحدود والمسافة، فحضرتم الى تفوح وهي مشبعة بالحنين والشوق لكلّ زائر يطأ الأرض، فيزرع ابتسامة ويحمل وردة تبقى مع الريح، حيث مضى من هنا الى هناك كلّ المسافة وطن، من هنا الى هناك كل المسافة انتصار ووعد باللقاء. شرفنا بحضوركم، ونسعد في ملتقى الإعلاميين والمثقفين العرب تحت رعاية بلديّة تفوح باستضافتكم، ونحن نتشارك وإياكم فعل الصمود وأغنية العودة والفرح والانتصار، لنُحيي معا أمسية أدبيّة تتنسم عبير حضوركم، وأنتم تكلّلون المساء بدفء النشيد، بصحبة نخبة من شعراء وشاعرات الوطن، هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم همّ القضية، فاستحالت كلماتهم رصاصات تكشف زيْف صهيون وهمجيّة المحتلّ، فطالما انتصر الشعراء للحبّ والسلام والأرض، فبقيت القدس عروس قصائدهم، شربنا وإيّاكم كلّ الحروف التي لا تنحني، وأتممنا مسيرة القاسم ودرويش مذ عانقت أجراس الكنائس دفء المآذن صدّاحة تغني لله والوطن.
أحبتي الحضور الكريم، يحين مساء الشعر وتعصف بنا الكلمات، لنرسو على شاطئ الدفء والأمنيات. نترككم بصحبة الشعراء لقداسة همس يرتل الوقت فرحًا وغناءْ.
آمال عوّاد رضوان: عين على القصيدة وقلب على فلسطين، لمْ تحملْ يومًا بندقيّة، ولمْ تضع يدها على زناد، لكنها اعتلتْ شرفات الحرف والأبجديّة بعبقريّة الحسّ والحرف والحضور.. تكتب الحبّ والسلام.. تعشق فلسطين شعبًا وأرضًا وقضيّة حرَّةٌ.. جابتْ كلَّ الشتاتِ.. لتجمع هُويّةً تنقش على جلد القصائد: أنا عربيّة فلسطينيّة، تقاسمتْ مع الفقراء دمعتًهم ورغيفَهم المشنوقِ على أوّل معبرْ.. أبجديّة من حبق وحنين شاعرة أتعبَ الترحال المُرّ قوافيها، لترسو كلماتها على شاطئ الحبّ والإنسانيّة والحياة، هي ابنة الجميع وأخت الجميع، من الداخل الفلسطينيّ، رحّبوا معي بالأديبة الأنيقة الكاتبة القديرة- رئيس النادي النسائيّ الأرثوذكسيّ آمال عوّاد رضوان، فلتعتلي المنصّة كما حرّة من وطني.
آمال غزال: كاتبة وشاعرة عبقرية الحسّ والخيّال، تصلّي الصبح على شاطئ البحر، فترى النوارس خاشعات، تسبّح حضورها بألف أمنية للبقاء، حملت كوفَيتها وانتهجت فكرة الحرف بروح عاشقة للحب والسلام، تروي عطش الأرض بدمعة ثكلى وفرح خجول، تراود كل أحلام الصغار بورد حسّها وجميل حرفها، فتراها في كل الأشياء حاضرة، رحبوا معي بشاعرة أنيقة حرّة من هناك من جنين القسّام، أبت إلّا أن تشاركنا عرس القصيدة وهيبة الكلمات، الشاعرة الفلسطينية/ آمال غزال/ أهلا بهيبة حضورك وأنتِ تحملين الورد والقصيدة.
الشاعر محمد ارزيقات/ أبو فاروق: شاعر تعرفه القصيدة كما نعرفه نحن، غنّى الفرح وكتب للحرب والحرّيّة السلام، أبدع في سماء الشعر فعانقه الحرف وقال: كنْ أنت الشاعر فكانْ.. أنيق الحسّ والحرف والروح والحضور، من تفّوح بلدي من فيض الإنجاز والعطاء.
الكاتب أميرالطردة: صديق الشّمسِ وقوافي العنب هو ابن الحيّ القديم من ذاك الجبل، يرافق الشمس حرفا يهمس الشعر من ألق. شاعر وأكثر، ينقش القصيدةَ بنكهةِ الفلاحِ والمِنجل، يسافرُ في خبزِ أمي، ينسجُ القوافي بعبقِ الحنّونِ والزعتر، يقولُ الشعر والطيرُ له يسمع، خط القصيدة فصارت للحلم قدر ومصعد.




92
نادي حيفا الثقافيّ يُكرّم وليد فاهوم

آمال عواد رضوان
أمسيةً ثقافيّةً مغايرةً جريئةً أقامها نادي حيفا الثقافيّ برعاية المجلس المّليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، في قاعة كنيسة مار يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 27-10-2016، ووسط حضور كبير من أدباء وكُتّاب وأصدقاء وأقرباء، إكرامًا للباحث النصراويّ المحامي وليد الفاهوم، وإشهار بحثه "دراسات في الدين والدنيا والإسلام السياسيّ"، وقد تولّى إدارة الأمسية المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسّس نادي حيفا الثقافيّ مرحّبًا بالحضور، وشارك في الأمسية كلّ من قدس الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدة متحدثا عن أهمّيّة الحوار السلميّ بين الشعوب، والأديب حنّا أبو حنا، ولظروف قاهرة تعذّر حضور المتحدثين المزمع حضورهما ومشاركتهما: الشيخ رشاد أبو الهيجا، ومحمد شريف رئيس الجماعة الإسلاميّة الأحمديّة، وتقديرًا لمشوار وليد فاهوم الأدبيّ والاجتماعيّ والسياسيّ، قدّم نادي حيفا الثقافي درع تكريم للمحتفى به، ممثّلا بـ: جريس خوري عضو المجلس الملي الأرثذكسي الوطنيّ حيفا، والمحامي كميل مويس عضو المجلس وأمين صندوقه، والمحامي حسن عبادي عضو نادي حيفا الثقافي والناشط الأدبيّ، والمحامي فؤاد نقارة، ثمّ قرأ الكاتب وليد الفاهوم ثلاث فقراتٍ من كتابه: عن فراس السوّاح والدولة العسكريّة ومآل الغطرسة، وعن سوريا التي تخوض حربًا عالميّة هي وحلفاؤها ضدّ الإرهاب الإسلامويّ، ومقطعًا من قصيدة ابن عربي أمير الصوفيّين العرب عن دين الحب، ثمّ شكر الحضور والمتحدثين والمنظمين، وتم التقاط الصور التذكارية أثناء توقيع كتابه المثير للجدل!
مداخلة المحامي فؤاد نقارة- رئيس ومؤسّس نادي حيفا الثقافيّ: الأخوات والأخوة مساؤكم خير. باسم المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وباسم نادي حيفا الثقافي وباسمي، نرحّب بكم وبرجال الدين الأجلّاء من مشاركين بالأمسية، وبكلّ مَن كرّمونا بحضورهم هذه الأمسية، أهلًا وسهلًا بكم في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، ويُشرّفنا أن نستضيف الباحث والكاتب الزميل وليد الفاهوم، تقديرًا لمجهوده الكبير والشجاع وإصدار كتابه "مقالات في الدين والدنيا والإسلام السياسيّ"، مع حفظ الحقّ لكلّ قارئ أن يختلف مع كاتبنا على ما جاء في الكتاب من رأي أو استنتاج. 
لقد تعذّر حضور الشيخ رشاد أبو الهيجاء، بسبب وفاة أخيه عمر- له الرحمة- في الأمس، واعتذر أمير الجماعة الإسلاميّة الأحمديّة الأخ محمد شريف لوجوده في الخليل.
يسرّنا أن يشاركنا هذه الأمسية قدس الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدة الغنيّ عن التعريف، الذي يُعَدُّ ليس من رجالات حيفا فقط، بل من رجالات شعبنا العربيّ، لِما يتمتّع به من علم ومعرفة ورحابة صدر والترفع عن التقوقع والانعزال والتطرّف، فكتاباته وأفكاره وتحليلاته السلميّة تُنشر على الملأ بدون رهبة وبدون محاباة، وتُمثّل رجل دين متنوّر واعٍ ومثقفٍ بامتياز، إنّه مثال لرجل الدين الذي يستحقّه شعبنا.
وليد الفاهوم الكاتب والباحث الحامل للهمّ الفلسطينيّ: من مواليد الناصرة 1943، أنهى تعليمه الابتدائيّ في مدرسة الفرير، ومن ثمّ في المدرسة الثانويّة البلديّة في الناصرة، حاصل على شهادة البكلوريوس في موضوع الفلسفة وعلم النفس من الجامعة العبرية في القدس، إجازة الحقوق 1974، مارس المحاماة لمدّة 20 سنة في الدفاع عن السجناء السياسيّين في المناطق المحتلة، وهو ناشط اجتماعيّ في العديد من المؤسّسات الوطنيّة، ومن مؤسّسي اتّحاد جمعيّات العمل التطوّعيّ في الناصرة، والذي ضمّ 33 جمعيّة تطوّعيّة، وله العديد من الإصدارات الثقافيّة.
مداخلة الأرشمندريت أغابيوس أبو سعدة: الفهم الصحيح للدين يؤدّي إلى فهمٍ صحيحٍ لله وللآخر المختلف، لا خلاف في أنّنا نعيش اليوم في عالمٍ متغيّر؛ بل شديد التّغيُّر بسبب التّقدُّم التّقنيّ وثورة الاتّصالات والمعلومات، وعصر الفضائيّات، والسّماوات المفتوحة، وتَقلُّص الحواجز والمسافات بين دول العالم؛ وكأنّهم باتوا يعيشون في قريةٍ صغيرةٍ في عصر العولمة. وقد تمخّض عن هذا؛ غزوٌ جديدٌ يُطلَق عليه الغزو الثّقافيّ والفكريّ، وأصبحت الثّقافة الأقوى تمثِّل تهديدًا قويًا للثّقافات الهزيلة الضّحلة. والى جانب هذا، أدى التّصادم بين الثّقافات المتنوّعة في غياب لغة الحوار الرّاقي المتحضِّر إلى بزوغ تصرّفاتٍ وسلوكيّاتٍ وقيمٍ وظواهرَ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ، قد تبدو غريبةً وشاذةً على الآخر.  ومع تزايد التّصادمات الثّقافيّة والفكريّة في حلبة المجتمعات الدّوليّة والمحليّة، ظهرت أشكالُ جديدةٌ للعنف- على الرّغم من أنّه ظاهرةٌ قديمةٌ قِدَم البشريّة- تبعًا لتغيُّر وسائل العدوان وتطوّرها. والعنف سلوكٌ إيذائيٌّ قوامه إنكار الآخر، واستبعاده عن حلبة التّغالب، إمّا بقهره، وإمّا بنفيه إلى خارج الحلبة، وإمّا بتصفيته معنويًّا وجسديًّا. لذا؛ فإنّ معنى العنف الأساسيّ هو عدم الاعتراف بالآخر. كما أنّ العنف يشكّل أخطر مظاهر العدوان الّتي تلازم البشريّة. والى جانب هذا، فقد تكاثرت أعمال العنف الدّامية الّتي وصلت في معظم الأحوال إلى حدود اللّامنطق واللّامعقول، وباتت تشكِّل ظاهرةً خطيرةً تلتهم أمن وطمأنينة المجتمع الإنسانيّ، وتُعطِّل أيّ استثمارٍ عقلانيٍّ لجهود النّماء الإنسانيّ.
ويشهد المجتمع الإنسانيّ ثقافةً جديدةً لعنفٍ مختلفٍ لم يعتدْهُ من قبل، لذا لا بدّ من وقفةٍ من قبل المفكّرين والباحثين في كلّ المستويات العقائديّة الفكريّة والدّينيّة لدراسة هذه الظّاهرة، ومعرفة أسبابها وجذورها والتّصدّي لها، من خلال طرح استراتيجيّاتٍ لمواجهة ظاهرة العنف العالميّ. وقد تأثّر العالم بأسره بدوره من ظاهرة العنف، لأنّه يمثِّل كيانًا لا يُستهان به من كيانات العالم الإنسانيّ، وأصبحت أشكال العنف المختلفة شائعةً في كلٍّ من الشّارع، والمدرسة، والتّلفاز، ودور العبادة، وضدّ الطّفل والمرأة، ومن خلال الممارسات الدّينيّة والسّياسيّة. وأودّ في هذه المناسبة توجيه دعوةٍ دينيّةٍ واجتماعيّةٍ وإنسانيّةٍ إلى الإصلاحيّين المستنيرين من أبناء المجتمع الإنسانيّ، من أجل الوقوف سويًّا للتّصدي لظاهرة العنف في عالمٍ متغيّر، ونأمل من الله تعالى أن يكون هذا اللّقاء صرخةً مُدوّيةً لإيقاظ الضّمير الإنسانيّ، من أجل المحافظة على إنسانيّة الإنسان، الّذي بات يعيش شريعة الغاب، بدلاً من عيشه شريعة الله الّتي هي محبّةٌ وتسامحٌ وألفةٌ ومغفرةٌ وانفتاحٌ على الآخر المختلف عنّي دينًا وعِرقًا. من هنا علينا جميعًا أن نُلغيَ حرف "الرّاء" من كلمة "الآخر"، ليُصبح هذا الأخر أخًا لي في الإنسانيّة.
لقد بات من المؤكّد والضّروريّ أنّ نشر ثقافة التّسامح والتّعايش وقبول الآخر المختلف حاجةٌ أساسيّةٌ ومُلِحّةٌ وخاصّة، في ظِلّ هذه الظّروف الحسّاسة الحرجة الّتي نمرّ بها من كافة النّواحي الّتي نحن فيها، ويجب زرع هذه الثّقافة في نفوس وعقول الجيل النّاشئ، لأنّها تُساهم بشكلٍ فعّالٍ في خلق جيلٍ واعٍ قادرٍ على تحمُّل أعباء المسؤوليّة، وقيادة المرحلة القادمة بشكلٍ إيجابيٍّ وسليم، لأنّ الثّقافة بشكلٍ عامٍّ هي ثقافةٌ إنسانيّة، لذلك لا توجد ثقافةٌ عديمةُ القيمة كلّيّا، أو ثقافةٌ كاملةٌ مكمَّلةٌ تحتكر الحقيقة الإنسانيّة، وتختزل ثراء الوجود، وتمتلك حقّ فرض معاييرها وإيديولوجيّتها وأجندتها السّياسيّة والدّينيّة على الآخرين، بما في ذلك اللّيبراليّة الّتي تعيش أبهى أيّامها وأكبر انتصاراتها. لذلك نرى بأنّ السّبب الكامن وراء الاستقرار النّسبيّ والغنى الثّقافيّ لمعظم المجتمعات الغربيّة، يعود بالضبط إلى حقيقة أنّها لا تعتمد على عقيدةٍ سياسيّةٍ وحيدةٍ أو وجهة نظرٍ واحدةٍ للعالم، ولا يتحقّق التّسامح وقبول الآخر إلاّ بالحوار والتّواصل، والمشاركة الحقيقيّة في اتّخاذ القرار، لأنّ إقامة حوارٍ بنّاء وخلق فضاءٍ للنّقد والفكر المستقلّ، يُساعد المجتمع على عيش حالةٍ من الاستقرار والسّلام والتّعايش، مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه. وإنّ الحوار والتّواصل دائمًا وأبدًا هو الطّريق الصّحيح لحلّ كافّة القضايا العالقة، وهو البديل الصّحيح عن فرض الرّأي بالقوّة، وبالحوار نحافظ على التّواصل والمحبّة والسّلام، ونعمِّق معاني الدّيمقراطية والتّعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرّد الدّعوة إليه دون اتّخاذ خطواتٍ عمليّةٍ تُترجِم ما اتُّفِقَ عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتُنمِّي الثّقة بين المتحاورين، فإذا لم يطمئنّ المتحاورين إلى المصداقيّة في إجراء الحوار، وإذا لم تُستَبعَد العوائق والموانع، يصبح الحوار سفسطائيّا دون غايةٍ أو هدف، أو مجرّد حوارٍ من أجل الحوار.
إنّ المجتمع المتجانس ثقافيًا يتمتّع بقوّةٍ مميِّزةٍ خاصّةٍ به، ويخلق مَناخًا تشترك فيه الثّقافات المختلفة لحوارٍ مُثمرٍ يعود بالنّفع على الجميع، ويساعد على إقامة حسٍّ مجتمعيٍّ تكافُليّ، وبذلك يُسهِّل عملية التّواصل الدّاخليّ بين أبنائِه، ويُغذِّي ثقافةً كثيفةً متماسكةً ويمدُّها بأسباب الحياة. وإنّ قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضّرورة الاقتناع بها، إنّما هو إقرارٌ بوجود الاختلاف معها، وبوجود هذه الثّقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثّقافة مبنيةً على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النّظر إلى الآخر المختلف من دون تمييزٍ؛ بسبب الجنس أو الدّين أو القوميّة أو الخلفيّة الاجتماعيّة أو الاتّجاه السّياسيّ أو أيّ سببٍ آخر، وطالما أنّ الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فردٌ مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكلٍ طبيعيٍّ بما تنسجم مع واقعنا ومتطلَّباته.
وإنّ التّسامح والدّيمقراطيّة لهما اتّجاهان، أي أخذ وعطاء وتفاعل إيجابيّ مع قيمٍ إنسانيّةٍ جديدةٍ بعيدةٍ عن روح التّعصُّب والكراهية وشطب الآخر المختلف. حيث إنّه بغياب الدّيمقراطيّة تنعدم إمكانيّة تكافؤ الفرص في التّعبير عن الرّأي، وبغياب العدالة السّياسيّة تنقطع فرص الحوار والتّواصل بين مُكوِّنات المجتمع، وبغياب سلطة القانون يقع الضّرر على الجميع بدون استثناء. ولكن غياب ثقافة التّسامح وقبول الآخر المختلف هو من أكثر عوامل الواقع الّذي يعاني منه مجتمعنا في الوقت الحاضر، وهذا يمثِّل مسؤوليّةً يجب أن يضطلع بها الجميع من قوًى سياسيّةٍ ومنظمّاتٍ مجتمعيّةٍ ومؤسّساتٍ ثقافيّةٍ وحتّى علماء دين، ولكن بعض ما تم ذكرها هو فاقد لما عليه أن يعطيه للمجتمع، وحيث أن فاقد الشيء لا يعطيه بأيّ حالٍ من الأحوال.
إنّ الاعتراف والإقرار بثقافة التّسامح وقبول الآخر والاعتراف به هو أمرٌ جيّدٌ ومقبولٌ نظريّا، ولكن يجب العمل والنّضال من أجل ترسيخ قيمة هذه الثّقافة، وتطبيقها في الحياة اليوميّة بشكلٍ يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء. ومن أجل العمل على نشر هذه الثّقافة، لا بدّ من اتّخاذ بعض الخطوات العمليّة في هذا المجال ألا وهي: (1) تَبَنِّي برامج علميّة وذلك لتنميّة الوعي المجتمعيّ؛ (2) وضع مناهجَ تعليميّةٍ جديدةٍ لإعداد جيلٍ واعٍ قادرٍ على تحمُّل أعباء المرحلة؛ (3) إيجاد أدواتٍ إعلاميّةٍ متطوّرةٍ على جميع الأصعدة؛ (4) نبذ كلّ أشكال التّطرُّف والتَّخلُّف والتَّشدُّد في المجتمع، عن طريق إقامة دوراتٍ تعليميّةٍ وندواتٍ تثقيفيّةٍ ولقاءاتٍ روحيّةٍ دينيّةٍ بين جميع أبناء المجتمع بمختلف أطيافه وانتماءاته المذهبيّة والطّائفيّة، ليتسنّى، على سبيل المثال، للمسلم أن يتعرّف على المسيحيّ، والمسيحيّ بدوره يتعرّف على المسلم، وهكذا دواليك. إنّ فكرة التّسامح وقبول الآخر، واللّجوء إلى الحوار وإلغاء فكرة شطب الآخر والثّأر وإناطتها بالقانون، يعتمد على استعداد الأطراف الّتي تريد بناء مستقبلها، على أساس تغليب المصلحة العامّة على الخلافات الشّخصيّة والمشاعر الدّفينة البعيدة عن التّعقُّل والتّروّي في نتائجها. وهنا لا بدّ من الإشادة إلى بعض الشّخصيّات التّاريخيّة المتسامحة:
المهاتما غاندي: من أقول صاحب سياسة المقاومة السّلميّة (فلسفة اللّاعنف) المعروف بتسامحه:
"أين يتواجد الحبّ تتواجد الحياة"؛ "إنّ اللّاعنف هو القوّة العظمى لدى الإنسان، وهو أعظم مِن ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرةً على التّدمير". تُوفّي مقتولاً برصاص شخصٍ هندوسيٍّ متعصّبٍ لم تَرُق له عظمة التّسامح الغانديّة؛
من أقوال مارتن لوثر كينغ المناضل السّلميّ ضدّ التّمييز العنصريّ: "السّلام الحقيقيّ ليس مجرّد غياب التّوتُّر، بل إنّه إحقاق العدالة". "إنّ ثمرة اللّاعنف هي المصالحة وإيجاد المجتمع الحبيب". "الكراهية تُولِّد الكراهية- علينا مقابلة الكراهية بالمحبّة". "غايتنا ليست هزيمة الرّجل الأبيض أو إذلاله، بل كسب صداقته وتفهُّمه لحقوقنا". "فلسفة اللّاعنف لا تتأسَّس على الجُبن، إذ إنّ غايتنا تكمن في بناء مجتمعٍ يعيش في سلامٍ مع نفسه".
البابا القديس يوحنا بولس الثّاني الّذي تعرّض لحادثة اغتيال عام 1981 من قِبل (علي أقجا) التركيٍّ المتعصّبٍ، خرج على أثرها بجروحٍ بالغة، وأُدخِل المستشفى وأُخضِع لعملياتٍ جراحيّةٍ كادت تودي بحياته، لكنّه بالرّغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه، وأخلى سبيله بكلّ رحابة صدر.
وبالرّغم من هذا وذاك، نلاحظ أنّ هناك تصميمًا واضحًا لدى كافّة المهتمِّين والغيورين على حريّة الإنسان وحقوقه المشروعة في الاستمرار بالعمل والنّضال الدؤوب، وبالوسائل المتاحة والممكنة في نشر هذه الثّقافة مهما كانت الضّريبة، وبفضل العولمة والتّقنيّة الحديثة، لا يمكن لأيّ مجتمعٍ اليوم عزل نفسه عن المؤثِّرات الخارجيّة، خصوصًا مع تنقُّل رأس المال والتّكنولوجيا والقوى العاملة والأفكار وما إلى ذلك، بحريّةٍ عبر الحدود الإقليميّة، وبالتّالي إنتاج صِيَغٍ جديدةٍ للتّفكير والحياة. يستحضرني ما جاء على لسان الفيلسوف ابن عربي الّذي قال: "لقد كنتُ قبل اليوم أُنكر صاحبي إذ لم يكن ديني إلى دينه دانٍ، لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورةٍ، فمرعى لغزلان، وبيت لأوثان، ودير لرهبان، وكعبة طائف، وألواح توراة، ومصحف قرآن، أدين بدِين الحبّ أنى توجّهت ركائبه، فالحبّ ديني وإيماني". إنّ كلّ الأديان تسعى في طريق التّقرُّب إلى الله، ولو بأشكالٍ مختلفة؛ فعلى المرء أن ينظر إلى الأديان باعتبارها تجلّياتٍ متتاليةٍ للحقيقة الإلهيّة، بالإضافة إلى فكرة الحبّ نفسها، وما يمكن أن ترتقي به لتصل إلى الحقيقة المرتجاة. وحين نؤمن بأنّ الحبّ هو الّذي جعل الله يرسل أنبياءه ليعلِّم النّاس طرائق الوصول إليه، ندرك أنّ ما من سبيلٍ لبلوغ مرضاته أكثر من أن يُخلص النّاس في وُدِّهم لشركائهم في الإنسانيّة، فيتجنّبون بذلك غوائل التّعصّب، الّذي يقود إمّا إلى الكراهية والحروب، أو إلى أوهام الشّعور بالتّفوُّق والأفضليّة، وهذا ما لا يتّفق مع هدف التّعارف بين الشّعوب والقبائل المختلفة، الّذي أشار اليه القرآن الكريم، فليس أحدٌ أفضل من أحدٍ إلاّ بالتّقوى، والتّقوى في جوهرها خلقٌ كريمٌ لا ينسجم مع تجهُّم المتشدِّدين وادّعاءاتهم بالتّميُّز.
مداخلة الكاتب وليد الفاهوم: أوّلًا وقبل كلّ شيء، جئت لأسمع لا لكي أتكلّم، وكم يتوق الكاتب أن يسمع صدى ما يكتب. ثانيًا، جئتُ لكي أتعلّم، فيبقى الإنسان يتعلّم من المهد إلى اللحد، لكي أتعلّم من النقد الموضوعيّ العلميّ، من نقد الفكر لا نقد الشخص، كما جرت العادة لدى بعض المتمشيخين الجدد، فيتركون الفكرة لأنّهم عاجزون عن مجاراتها أو نقدها أو نقضها، ويتعربشون بشخص الكاتب وشخصيّته؛ طويل قصير، خِرّيج موسكو، عضو حزب، عميل روسيا والولايات المتحدة في الوقت ذاته.. هذا ما حدث لي فعلًا، وهكذا تمّت مهاجمتي قبل حوالي السنة في إحدى صحف الحركة الإسلاميّة عندنا في البلاد، مع أنّني خِرّيج الجامعة العبريّة في القدس، ولست عضوًا في الحزب الشيوعيّ، إنّما صديق إلى أبعد حدود الصداقة. هذه الأمسية عبارة عن حفل إشهار لكتابي، هذا الحفل الذي أعتزّ به، لأنّه هنا في هذا النادي الحيفاويّ الوطنيّ (بالمعنى الفلسطينيّ)، كان من المفروض أن يتواجد المتكلّمون الكرام؛ شيخٌ وكاهنٌ وأميرُ الجماعة الأحمديّة، لكن تغيّب الأوّل والأخير لظروف قاهرة، فنخاطبهم من خلال حضرة الغياب، ويعوّض تلك الخسارة هذا الحضورُ المتميِّزُ بأعلى درجات التميُّز. أشكركم جميعًا من شغاف القلب، وأخصُّ بالذكر "الأخ أبونا" أغابيوس، والمجلس الملّي الأورثوذكسيّ ورئيسه وأعضائه، كما وأخصُّ الزميل المحامي فؤاد نقارة "زمبرك نادي حيفا الثقافي"، والجنديّين المجهوليْن الزميل المحامي حسن عبادي وفضل الله مجدلاني .
لقد استغرق هذا الكتاب مدّةً طويلة، وكُتب على مدار ربع قرن ما يقارب ثلثَ حياتي (حياة الإنسان العاديّ)، بعضه نُشر في صحيفة الإتحاد الحيفاويّة، أمّا المواد الأخيرة منه فهي جديدة، ولم تنشر من ذي قبل، وقد تمّ تعديلُ بعضَ ما نُشر، ليتلاءم مع روح نصوص الكتاب والمنهج الذي اتّبعته، ففي البداية رأت دار النشر (مطبعة الحكيم في الناصرة) أن تطبع مئةَ نسخة، تمّ توزيعها على الأصدقاء وبعضِ أفراد "القبيلة" وبعضِ الكتّاب، لاستطلاع واستنباط بعضِ الملاحظات، وبناءً عليها تمّ إجراء بعض التعديلات، وكذلك إجراء طباعة بأحرف مشدّدة على بعض الأفكار الرئيسيّة لإبرازها، بحيث أنّ القارئ الكسلان يستطيع أن يقرأها، فيفهم مضمونَ الكتاب خلالَ ساعةٍ أو ساعتيْن.
وهنا لا بدّ لي من بعض الملاحظات، الأولى تتعلّق بخوف الشارع من الخوض بمثل هذه المواضيع التي يتطرّق لها الكتاب، وكأنّ سكين داعش قد وصلت إلى رقبته أو حنجرته! وهذا هو أحد أهداف هؤلاء القتلة: بثّ الرعب في الناس حتى تصل القلوبُ إلى الحناجر، (على حدّ تعبيرهم في الأدبيّات التي ينشرونها مع أفلامهم المرعبة)، هذا الخوف يتمدّد حتّى إلى التنظيمات الأقلّ دمويّة التي تتعامل بالسياسة، وإلّا فبماذا نفسّر صمت الشارع الأردنيّ، في أعقاب اغتيال الكاتب الصحفي والمفكّر ناهض حتّر؟ بماذا نفسّره سوى الخوف من جماعة الإخوان المسلمين ذات القاعدة العريضة في الأردن؟ بماذا نفسّر أيضًا إحجام أحد تجّار الكتب عن توزيع هذا الكتاب، بعد أن تمّ الإتفاق معه على ذلك، بادّعاء أنّه يأكل لقمة خبزه من الحركات الإسلاميّة، وهو لا ينوي التصادم معها؟  قلنا له: "نوّع يا أخانا، فمجتمعنا بأمسّ الحاجة إلى التعدّديّة، وبأمسِّ الحاجة إلى الحوار".. وهذا ما نقوله الآن في هذه الحضرة وفي كل زمان ومكان !
أنا (وأعوذ بالله من هذه الكلمة) ممّن يؤمنون بنظريّة موت الكاتب، فالكاتب يموت بعد أن يفرغ من الكتابة، ويصبح الكتابُ مُلكًا للناس جميعًا، فمنهم من اختلف ومنهم من ائتلف، لذلك، فالجدل يجب أن يكون مع مادّة الكتاب الباقية، وليس معي ككاتبٍ زائلٍ ولو بعد حين، فاسمحوا لي أن أكلّمكم في هذه الأُمسية من وراء حجاب! اسمحوا لي إن كلّمتكم من خلف حجاب!

93
المحاق ما بين النوفيلا والرواية الطويلة!
آمال عوّاد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافي أمسية ثقافية للأديب ناجي ظاهر في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية في حيفا تحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا بتاريخ 13-10-2016، وسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأصدقاء من منتديات أدبيّة، وذلك بتناول روايته محاق، وقد تولى ادارة الأمسية الأديب محمد علي سعيد، بعد أن رحب المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس نادي حيفا الثقافي بالحضور والمشاركين، وتحدث عن الرواية كل من: د. جهينة خطيب حول سيميائية العنوان والغلاف والمضمون، ود. ماري توتري تطرقت إلى قضيّة القانون لحماية المرأة، وصورة المرأة من خلال الرواية. في نهاية الأمسية شكر ناجي ظاهر المنظمين والمتحدثين والحضور، وتم التقاط الصور التذكارية أثناء توقيعه لروايته للأصدقاء والقرّاء!
مداخلة محمد علي سعيد: في الناصرة عام 1951 ولد ناجي ظاهر؛ الكاتب والقاص (للكبار وللصغار) والروائي والشاعر وكاتب المسرحية والناقد والصِحافي، وهو في الأصل من قرية سيرين المهجرة في منطقة غور الأردن، وفيها تلقى تعليمه الابتدائي، ولكنه ترك المدرسة لظروف اقتصادية قاسية، ثم درس على نفسه فثقف نفسه بنفسه، حيث تفرغ للقراءة وللكتابة وللحركة الأدبيّة، وفي أثناء عمله التحق بالعديد من الدورات الصحفيّة والأدبيّة، يعمل صِحافيّا ومُحرّرًا أدبيّا في العديد من الصحافة المحليّة والمجلات الأدبيّة (مجلة الشرق ومواقف والشعاع)، ناشط في الحركة الأدبيّة والصحافة منذ أكثر من أربعين عاما، وهو أديب مثقف جدا في المجال الأدبي، ومن أبرز أعلام القصّة القصيرة والرواية، ينتمي الى المرحلة أو الرعيل وأميل الى الفطمة بلغة الفلاحين الثالثة: الأولى: المخضرمون، ثم بداية السبعينات ثم بداية الثمانينات. أصدر أربعين مؤلفا أدبيّا، منها: سبع روايات: الشمس فوق المدينة 1981. هل تريد أن تكتب. صَلد. حارة البومة. نزف الفراشة. غرام أو نهاية فنان. مَحاق. 2016. بميم مثلثة.
مُحاق؛ ما يُرى في القمر من نقص بعد اكتماله، والرواية تدور أحداثها في الناصرة، حول التحوّلات المفاجئة التي يمرّ بها مجتمعنا العربي الفلسطينيّ في هذه البلاد، وذلك من خلال تسليط الضوء على معاناة فنان أماته الواقع، وأعادَهُ الحُلم إلى الحياة، ليجد نفسه في مواجهة عنيفة جدّا مع واقعه، وتنتهي الرواية  بمصرع بطلها الفنان على يد زوجته، كما في روايته حارة البومة، وهذه من تيمات أديبنا ناجي. تطرح الرواية معاناة الفنان في فترة تحوّل مجتمعيّ غير واضحة المعالم، وتقدّم أنموذجًا سيّئًا لامرأة سيّئة تشبه زوجة سقراط في عنفها وفظاظتها، ولا تستسلم من المعاشرة الأولى، بل تطاردك الأسئلة الفلسفيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة. رواية محاق، أقرب الى الرواية القصيرة (النوفيلا)، منها الى الرواية الطويلة، مكتوبة بأسلوب روائيّ ناضج متدفق، يتوسّل التركيز والتكثيف لتحقيق ما يرمي إليه من متعة وفائدة، وبعيدة عن دهنيّات الكمّ الكتابيّ، وتستحقّ القراءة والمشاهدة حقا، لأنّها من حالات الاستثناء بين هذا الكمّ السرديّ الحكائيّ غير العميق فكريّا..   
*المكان: تدور أحداث جميع روايات ناجي ظاهر في الناصرة وحاراتها، ما عدا روايته الأولى الشمس فوق المدينة، فمكانها الناصرة والقدس، والمكان بصفاته العديدة ثابت، متحرّك، خاصّ، عامّ، مفتوح، مغلق، واقعيّ، خياليّ عند ناجي ظاهر، ليس إطارًا أو وعاء محايدًا للأحداث، إنّما هو شريك مؤثر فيها، يكاد يصل درجة الشخصيّة.
*التراكمية: أميل الى تقسيم ثنائيّ للأدباء: الشهابيّ والتراكميّ. الشهابيّ هو الذي بقي سجين نصّ أو كتاب نال به شهرة، وبقي مرتبطًا باسمه في الثقافة الأدبيّة الشعبيّة العامّة، وبقي يكرّر نفسه. بينما الأديب التراكميّ هو الذي لا يبقى سجين نصّه، بل يخطو الى الأمام مضمونًا وحدَثا وفكرًا وأسلوبًا وهيكلة، ويبقى دائم التجديد والتجريب بوعي شموليّ عميق وموهبة  نامية، وهكذا تتراكم خبرته وتسير نحو الأجمل والأجود، وناجي ظاهر هو كذلك أديب تراكميّ حقا.
*الحداثة: رواية "محاق" فيها كثير من مميّزات الحداثة:  كزوال الحدود بين الحقيقة والخيال. بين الواقع والحلم. بين الحي والميت. بين المعقول وغير المعقول بين الأزمنة وتداخلها، بين الأمكنة. المفاجأة بعدم التوقع لتكملة المعنى المنطقية بحسب سياق السرد وتدفقه. (كما القافية في الشعر العمودي التقليديّ).
د. جهينة خطيب   : باحثة وناقدة في موضوع اللغة العربيّة، حازت على اللقبين الأول والثاني من جامعة حيفا في اللغة العربيّة، وتابعت دراستها وحازت على اللقب الثالث عام 2010 في تطور الرواية العربية في فلسطين 48، وتعمل محاضرة في كلية سخنين في قسم اللغة العربية. صدرت رسالتها هذه في كتاب مستقلّ يحمل الاسم نفسه عام 2012، (تطرقت فيه إلى 38 روائيّا و 66 رواية)، وحاليّا تعمل على إصدار كتابين: قراءات في الأدب الفلسطينيّ المقارن، و حول أدب الأطفال في فلسطين، وتعمل أيضًا على مشروع أدبيّ مشترك حول أدبنا الفلسطينيّ مع جامعة هنديّة  إثر مشاركتها ومحاضراتها الأخيرة هناك، في الجامعة المليّة الإسلاميّة في دلهي وفي جامعة كيرالا في جنوب الهند، ومن خلال الإشراف على رسائل جامعيّة لطلاب من الهند، ولا غرابة في الأمر، فوالدتها الأخت الكريمة زميلتي المربّية عايدة خطيب شاعرة وكاتبة قصة للأطفال، وكذلك شقيقتها علا خطيب شاعرة أيضا. حقا، إن حبة التفاح لا تسقط بعيدا عن الشجرة.
د. ماري توتري: حصلت على لقب أوّل في الأدب الإنكليزيّ والفنون، وعملت كمدرّسة للغة الإنكليزيّة لمدّة 26 سنة في طمرة. حصلت على لقب أوّل (للمرة الثانية) ولقب ثانٍ في علم الاجتماع ولقب ثالث في العلوم السياسية من جامعة حيفا، وتعمل محاضرة في كلية أورانيم وجامعة حيفا.
مداخلة د. جهينة خطيب: "مساء ٌمعطرٌ بقمرٍ لا يغيبُ/ بولادةٍ متعسّرةٍ وسطَ آلامِ المخاض/ ونورٍ يهلّ من بعيد رُغم الظلامِ/ الموتُ في الحياةِ عاشَه بطلُنا في روايةِ المُحاق/ الموتُ نومٌ بلا بعثٍ ولا رُقاد/ من لا مكان/ لا وجهَ، لا تاريخ لي، من لا مكان/ تحت السماءِ، وفي عويل الريح أسمعها تناديني: "تعال"/ لا وجه، لا تاريخ.. أسمعها تناديني: "تعال"!/ عبرَ التلال/ مستنقعُ التاريخِ يعبره رجال/ عددُ الرمال/ والأرضُ مازالت، وما زال الرجال/ يلهو بهم عبثُ الظِلال/ مستنقعُ التاريخِ والأرضُ الحزينةُ والرجال/ عبرَ التلال/ ولعلَّ قد مرَّت عليَّ.. علىَّ آلافُ الليال/ وأنا- سُدىً- في الريح ِأسمعُها تناديني"تعال"/عبرَ التلال/ وأنا آلافُ السنين/ متثائبٌ ، ضجرٌ، حزين/ سأكون! لا جدوى، سأبقى دائمًا من لا مكان/ لا وجهَ، لا تاريخ لي، من لا مكان" جملٌ شعريةٌ قالها البياتي، تئِنُ هنا في روايتِنا المُحاق، دائريةٌ هذه الروايةُ تبدأ بموتٍ، ثم حياٍة ثم موتٍ جديدٍ
سيميائيةُ العُنوانِ والغلافِ: المُحاقُ عنوانٌ يدفعُ إلى الذهنِ عنوانيْ روايتين شهيرتين هما الأولى "القمرُ في المحاقِ" للروائي السوري حنا مينا، والثانية: "رأيتهما قمرين في المُحاق" للروائيّ المصريّ أحمد الشّيخ، وها نحن الآن أمامَ روايةِ المحاق لأديبنا الفلسطيني ناجي ظاهر، والمُحاقُ هو غيابُ القمرِ وراءَ الشمسِ وتواريه في الظِل، وسُمي بالمحاقِ لانمحاقِ نورِه واختفائِه، وحينئذ يحدثُ اقترانُ الشمسِ والقمرِ ومولدُ شهرٍ جديدٍ، فالمحاقُ هو آخرُ الشهرِ القمريِ، فما يلاحظُ هو نقصانٌ في القمرِ بعدَ اكتمالِهِ إلى أنْ يختفيَ، فيبدأَ شهرٌ هجريٌ جديدٌ باقترانِ الشمسِ والقمرِ، فغيابُ القمرِ يأتي بولادةِ شهرٍ جديدٍ، ورُغمَ الموتِ فهناك ولادةٌ منْ رحمِهِ  وهذا هو صوتُ الروايةِ.
سيميائيّة الغلافُ: *نرى في اللوحةِ عُصفورًا يحملُ سمكةً، يحيلُنا إلى قصةِ إياد مدّاح "سمكة وعصفور"،  وتحكي القصّةُ عن العصفورِ الجميلِ والسمكةِ المتألقةِ، ولأن السمكةَ تحبُّ تغريدَ العُصفورِ، كانت تنتظرُه كُلَّ صباحٍ على وجهِ الماءِ لتسمعَهُ وهو يغرّدُ، ومن هنا نشأت علاقةٌ حميميَّةٌ بينَ العُصفورِ والسمكةِ، ولكنَّ قسوةَ الحياةِ وضعتهم أمامَ سؤال: أين سيبنيان بيتَهُما؟ قد يعشقُ العُصفورُ سمكةً ولكن المصيبة أين سيعيشان، فهنا تكمنُ استحالةُ هذا الحبِ، وسنرى أنها إحالةٌ لأزمةِ الفنانِ في مجتمعهِ وإحساسُه بالغربة.               
*وتأتي صورةُ المرأة في الغلافِ بملامحَ ليست واضحةً وجانبية، وكأنها في هذه الحياة ِوخارجِها، وكأنها تديرُ وجهَها لهذه الحياةِ وتمسكُ في يدِها شعلةً لتنيرَ الطريقَ، ولكنَّها في الآن ذاتِهِ تجلسُ، والجلوسُ دلالةُ العجزِ، فاجتمعتِ التناقضاتُ في اللوحةِ وسَتُكْمِلُ مَعَنا هذه الثنائياتُ الضديةُ في روايتنا المصغّرةِ، فنرى ثنائيةَ السمكةِ والعُصفورِ، وثنائيةَ الأملِ والعجزِ.
ونبحرُ في الروايةِ النوفيلا: النوفيلا هي قصة طويلة، وهذا الجانرُ الأدبيُ يشيرُ إلى نوعٍ سرديٍ بينيٍ له ارتباطٌ بالقصةِ القصيرةِ ونسبٌ في الروايةِ، فكأنه خليطٌ أو مزيجٌ من النوعينِ، في صورةٍ من صورِ تداخلِ الأجناسِ وتمازج ِعناصرٍها، أي هي  الروايةُ القصيرةُ. وقد بنيت الروايةُ على الثنائياتِ الضديّةِ بدءًا بالغلافِ كما ذكرتُ سابقا، وانتهاءً بكلِ حدثٍ يحدثُ في الروايةِ إلى لحظة الذروةِ وإغلاقِ الدائرةِ بإتقان، فالسمكةُ لا يمكنُ أن تعيشَ معَ العصفوِر في مكانٍ واحدٍ، والاختفاءُ المتمثّلُ بضوءِ القمرِ يعقبهُ اقترانُ القمرِ والشمسِ وولادةُ شهرٍ هجريٍ جديدٍ.
سمكةٌ– عصفورٌ، اختفاءُ القمِر- ولادةُ شهرٍ جديدٍ، دائرةُ الموتِ والحياةِ- موتُ البطلِ– بعثُه من جديدٍ وموتُهُ مرةً أُخرى، ثنائياتٌ ضدّيّةُ تلعبُ على وترِ الإحساسِ، وتؤولُ إلى بِنيةِ العنونةِ لتنتشرَ في أرجاءِ الروايةِ، وتصيبُ دلالاتِ الأسماءِ، فها هو بطلُنا نسيم البرقوقُي، والنسيمُ هو الهواءُ العليلُ المنعِشُ إشارةً إلى الحريةِ والحياةِ، والبرقوقُ هو زهرةٌ جميلة تزهرُ في الربيعِ شهرِ تجددِ الحياةِ. عندَ قراءتِنا للروايةِ نكتشفُ التضادَ في اسمِ الشخصيةِ وفي حياتِها، فنسيم البرقوقي يعاني من موتٍ في الحياةِ، ويشعرُ باختناقٍ  وغربة. وقد جاءت دلالةُ الاسمِ المناقضةُ لتوَضِّحَ هولَ مأساةِ البطلِ، فكما قال جلال الدين الرومي: "لقد خلقَ اللهُ المعاناةَ حتى تظهرَ السعادة ُمن خلالِ نقيضِها، فالأشياءُ تظهُر خلالَ أضدادِها، وبما أنه لا يوجدُ نقيضٌ لله فإنه يظلُّ مخفيًا". وتكتملُ الثنائياتُ الضديّة ودلالةُ الأسماءِ في شخصيةِ الزوجةِ وديعة، فهي أبعدُ ما يكونُ عن الوداعةِ، متصلبةُ الرأيِ عملت على إحباطِ طموحاتِ الزوجِ، وجعلتْه ميِّتا في هذه الحياةِ وميتا روحًا وجسدا، فكانت دائما ما تردد لغةَ العصر "الفنُ لا يطعمُ خبزًا في بلادِنا"، "ما أصعبَ أن تتزوّجَ من امرأة لا تعرفُك حقَّ المعرفةِ ولا تقدّرُك، ما أصعبَ أن تجلسَ قُبالةَ لوحةٍ مشوّهِة" . هذا لسانُ حالِ بطلِنا نسيم البرقوقي
دائرةُ الحياة ِوالموتِ: نسيمُ البرقوقي عاشَ حياةً لا تشبهُهُ، تنازلَ عن أحلامهِ وطموحاتِهِ، ورُغمَ هذا حصلَ على شهرةٍ واسعةٍ بفضل تقربه ولجوئه إلى الأحزاب السياسيّة، طريقةً في البحثِ عن بريقٍ اجتماعي في ظلِ مجتمعٍ يُشعرُهُ بضآلة المبدع فيه، إلّا أنه في قرارةٍ نفسِهِ كان يعلمُ أنَّهُ لم يصلْ إلى لحظةِ تحررهِ وتعبيرهِ عن ذاتهِ في رسوماتِه، فظلّ يشعر بالغربةِ، فبقيتْ لوحتُهُ ناقصةً، وقهرتْهُ إحباطاتُ الحياةِ وأسكتتْ نبضَ قلبِهِ، ليعودَ إلى حياتِهِ مرةً أخرى لشعورِهِ أنَّهُ ماتَ ولوحتُه ُما زالت ناقصةً: فالفنُ قد أحياهُ "كيف يتركُ لوحتَه ناقصةً، ومن يُدريهِ أنّها إذا ما اكتملتْ حقّقتْ له ذاتَه، فان كوخ فلسطين" .
شعورهُ بأنه هذا الشابُ المهجرُ الذي طُرد منْ بلدِه ومن حياتِه، وفُرِضَ عليه مكانٌ ليس لهُ، فوجدَ في الرسمِ فرصةً لتحقيقِ ما لم يستطعْ تحقيقَهُ في الحياةِ، "ماذا تريدين منّي أنا المهجّر ابنُ المهجّر أن أفعلَ سوى ممارسةِ الفنِ، لكي أكون َوأحقّقَ وجودي في عالمٍ لا يريدُ أن يكونَ لي وجودٌ" . عاشَ حياتَه ولم يكن كما حَلُمَ وعندَ بعثِهِ من جديٍد أرادَ استغلالَ فرصةٍ أخيرةٍ لتكتملَ لوحةُ حياتِهِ بعيدًا عن التشويهِ: "الفنانُ يا ابنتي لا يستطيعُ أن يعيشَ حالةَ الخلقِ مرّتين، هو إمّا يمسكُ باللحظةِ حين حضورِها، وإما يفقُد فرصةً لا تتكرّرُ" . لقد توصّلَ نسيم البرقوقي إلى هذه الثنائيّة الضدّيّةِ، فيجبُ أن يتجرّدَ من جسدِه ويطلقَ لروحهِ العنانَ ليعوَد حيًّا: "هو فقط من أدرك سَّر الإبداعِ أخيرا، إنّه الشّعورُ بالموتِ والفَناءِ أولا، والحبِ الغامرِ لهذا العالمِ ثانيًا" . "فمن ماتَ وعادَ إلى الحياةِ لا بدّ أن يكتشفَ أسرارَها، وأن يعرفَ كيف يتعاملُ معَ الأصباحِ المشمسةِ والورودِ" .
مواضيعُ اجتماعيةٌ وسياسيةٌ تمّ مناقشتُها في روايةِ الُمحاق: *مناقشةُ ظاهرةِ العنفِ من منظورٍ آخرَ، من وجهةِ نظرِ الرجلِ: من الجميِل أن يتمَّ طرحُ الموضوعِ من الناحية الأخرى، فدائما يتم مناقشةُ ظاهرةِ العنفِ ضد المرأةِ كضلع ٍقاصرٍ، أما هنا فقد سبح كاتبنا ضدَ التيارِ، فظهَر الأذى الذي يتم الحاقُه بالرجلِ لنرى هنا نموذجًا  مناقضًا، فالرجلُ هنا هو الضحيةُ، والمرأةُ العربيةُ في مجتمعِنا بدأت تستغلُ قانونَ حمايتِها لتهددَ به الرجلَ فناقشَ الكاتبُ تأثرَنا بقوانينَ غربيةٍ لا تمُتُ لعاداتنا وتقاليدنا بصلةٍ، وجاءت بلا تمهيدٍ: "هذا صحيحٌ لو أنّ هذا القانونَ جاءَ على مراحلَ وبمبادرةٍ ذاتيةٍ، أمّا أن يأتيَ مرّةً واحدةً دِبْ دبتك العافية فإنّ هذا هو الخطأُ " ، لقد حذّر الكاتبُ من استغلالِ المرأةِ لحريةٍ وحقوقٍ مُنحت لها ومحاولتِها السيطرةَ على الرجلِ، فهي لا تفقهُ هذه المبادئَ الدخيلةَ على مجتمعِنا العربيِ، فيقرع كاتبُنا ناقوسَ خطرِ غزوِ ثقافاتٍ غربيةٍ لمجتمعِنا العربيّ فيطرح تساؤلا: "ماذا ترى بإمكانِنا نحن المثقفين أن نفعلَ في مواجهةِ حضارةٍ وثقافةٍ تريدان إلغاءَ كُلِّ ما يتعلّقُ بنا، وجعْلَنَا تابعين لها" ؟ ويطرح حلّا: أعتقدُ أنّ الثقافةَ هي سلاحُ من يريدُ أن يكونَ وأن يوجدَ في هذا العصرِ، نحن ينبغي أن نتقنَ لغةَ الآخرِ، بدلَ التمحوِر في عقليةٍ  جذورُها قبليّةٌ وتخضعُ في صميمِها لشيخِ القبيلةِ وزعيمِها" .
معاناة ُالمبدعِ في مجتمعِ أقليّةٍ عربيّةِ: إنّ المبدعَ في فلسطين 48 يعاني من إجحافٍ في حقِّه، فهو مُهمَّشٌ في العالمِ العربيِ ولا يجدُ مكانَه ضمنَ أقليّةٍ في ظلِّ مجتمعٍ اسرائيليّ. "أخيرًا جاءت لحظةُ الإبداعِ، هي تأخّرت، لكنها جاءت تجرجُر أذيالَها منصاعةً متراقصةً لمن أراد أن يكونَ واحدًا من أسيادِ الفنّ في عالمٍ ليس له وجودٌ على خارطةِ الإبداعِ" ، فالإبداعُ الحقيقيُ يُحيي صاحبَه حين نبحثُ عن معنى ونقدّمُ رسالةً. ويشيُر إلى ظاهرةٍ خطيرة ٍوهي حينَ يلجأ الإبداعُ للتسييسِ، فينتمي المبدعُ إلى حزبٍ معينٍ لينالَ شهرةً، عندها يصبحُ إبداعُهُ مقيَّدًا لأنه سيخاطبُ من خلالِهِ سياسةَ حزبِه: "مع هذا انسقتُ وراءَ رجالِ السياسةِ طمعًا في مكسبٍ عابرٍ بسيط،ٍ هو أقُل بمليونِ مرةٍ ممّا يمكنُ أن يمنحَكَ الفنُّ الحقيقيُّ من مكاسبَ، أنتَ لم تكنْ وحيدًا في هذا، فالفنانون في بلادِنا وفي عالمِنا الثالثِ عامةً، كانوا إلى سنواتٍ ليست بعيدةً يُنتجون ويبدعون لإرضاء آخرين من ثعالبِ السياسةِ وتجارِ الوطنيةِ وربما مدّعيها".  ويَلْخُص القولَ إلى أنّ "الفنانَ الحقيقيَّ هو مَن يعملُ على تطويِر نفسِهِ، وهو ليس بأيِ حالٍ من الأحوالِ ذلك الذي يعملُ على العلاقاتِ العامّةِ، إنهُ باختصارٍ يتركُ لفنّهِ أنْ يكونَ رسولاً للآخرين، وهو لا يمكنُ أن يكونَ بأي حالٍ من الأحوالِ رسولاً لفنّهِ" .
السردُ: إنَّ الراويَ في المحاق عليم ٌبكلّ شيء، كلّيُّ المعرفة لا ينقطعُ حضورُه إلا بالحوارِ، ولا يتركُ مجالا للقارئ ليخمّنَ أو يتوقعَ، ولا يدعُه يملأُ فجواتٍ في النّصِ، فيعرضُ المشكلةَ ويقترح حلولًا لها، فجاء في كثير من الأحيان مُلقّنًا عارضًا بشكلٍ مباشرٍ فكرتَهُ دون أنْ يتركَ  دورًا للقارئِ، فضاع ألقُ الاكتشافِ وقوّضَّ أفقَ التّلقي، وباتتِ المعلوماتُ تقريريّةً دعائيّةً في كثيرٍ من الأحيانِ، وتضمّنت الروايةُ إقحاماتٍ شعاريّةً ورسائلَ مباشرةً حولَ معاناة ِالمبدعِ الفلسطينيِّ في ظلّ ظروفٍ سياسيّةٍ: "وهل من الممكنِ أن تُنتجَ هذه البلاُد المصابةُ بعقمٍ مزمنٍ في مجالاتِ الخلقِ والإبداعِ فنانًا حقيقيّا يرفعُ اسمَها عاليا؟" ، فالكاتبُ كأنّ به يمسكُ بتلابيبِ القارئِ ويقول له: هذه هي الدلالةُ التي أعنيها، ويضيّقُ عليه الخناقَ. إلّا أنّه تدارك ذلك بنهايةٍ مُوفقةٍ سأتحدثُ عنها لاحقًا.
هذه الروايةُ النوفيلا تنتسبُ إلى منظورِ القصةِ القصيرةِ من ناحية التقنيةِ والأَداءِ السرديِ أكثرَ منها  لمنظورِ الروايةِ، وهو ما يشيُر إلى أحدِ أنماط القصةِ الطويلةِ، فرُغمَ الطولِ النسبيِّ للقصّةِ مقارنةً بالقصصِ القصيرةِ، فإنّ عددَ الشخصياتِ محدودٌ، والأحداثَ مختزلةٌ مكثّفةٌ، محصورةٌ في دائرةِ عائلةِ نسيم وعلاقتِه بالعالم المحيطِ وبزوجتهِ ومعجباتهِ. وهذه النوفيلا كانت وليدةَ قصةٍ قصيرة للمؤلفِ بعنوان "غرام" من مجموعته القصصيّة "حكاية مهرة"، والإطارُ العامّ لأحداث ِالقصّةِ القصيرةِ هو ذاتُه في روايةِ المُحاق، والجثةُ التي تروي القصّةَ من منظورِها، ودموعُ زوجتهِ المخادعةُ والمعجباتُ المتحلّقاتُ حول جسدِه الميْت، وجاءت الروايةُ لتتطوّرَ الأحداثُ بعدَها حينَ يُمنحُ فرصةً أخرى ليعيش.
لقد صدرت رواية المحاق في طبعتها الأولى عام 2013 بعنوان "غرام أو نهاية فنان"، ولكنّ العنوانَ جاء مباشرًا مقارنة بعنوانِ المُحاق وولادةِ شهرٍ جديد وأملٍ جديد، طالما هناك المرأةُ الحلمُ سلاف، ودلالة اسمها في كونها أفضلَ الخمرِ الخالص من كلّ شيء، والتي ترمزُ إلى التفاؤلِ، والابنةُ الأملُ "سهر الليالي"، فما دامَ في العمر بقيةٌ  فالحلمُ والأملُ موجودان.
ملامحُ السيرةِ في رواية المحاق: أنا لستُ من أنصارِ رولان بارت حين نادى  بموتِ المؤلفِ، فالكاتبُ شاء أم أبى يصبُّ شيئًا من روحهِ في روايته، ونرى هذا البطلَ "نسيم البرقوقي": في كونه الفلسطينيَ المّهجّر، وهذا ما نعرفه عن كاتبِنا الأديبِ ناجي ظاهر وهجرتِه وأهلِه من سيرين، فالوجعُ وحّدهما وأوحشَ نبضَهُما، وكلاهُما مبدعٌ وإن اختلفتْ مجالاتُ الإبداعِ، وصاحبنُا بطلُ الرواية فنانٌ تشكيليٌ مبدعٌ وكاتبُنا أديبٌ مبدعٌ. كذلك المكان الناصرة وتفاصيلُ أزقتها وأحيائِها والكاتبُ من الناصرةِ، وما انفكتْ بلدتُه المهجّرةُ سيرين ومدينتُه  الحاليةُ الناصرة تؤرّقان وجدانَه، ومعاناةُ المبدعِ هي أيضا معاناةُ كاتبنا، فهو متهم بأنه خارجُ السربِ دائمًا، بينما هو  ينشدُ التواصلَ مع المجتمعِ في مستوياتٍ أعمقَ.
نهاية الرواية: لقد تفوق الأديبُ ناجي ظاهر في نهاية روايته، حين أحكم إغلاقَ الدائرة التي ابتدأها في العنوان ومن ثَمّ الغلاف، فالأحداث والفكرةُ التي أرادها قالها على لسانِ الراوي: "هو فقط أدرك سَّر الإبداعِ أخيرا، إنه الشعورُ بالموتِ والفناءِ أولا والحبِ الغامرِ لهذا العالمِ ثانيًا"، وهذا ما حصلَ مع بطلِنا، ماتَ وعادَ للحياةِ، ليكتشفَ أنه لم يكن عائشًا في حياةٍ أولى، كبتَ فيها إبداعَه من أجل إرضاءِ مصالحِ الآخرينَ، وفي الفترةِ القصيرةِ  التي عاد فيها قرّرَ أن يحيا، فهو لم يحلم بأكثر من حياةٍ كالحياة. فلا يمكنُ فهمُ موتِهِ إلا فهمًا رمزيًا، فهذه الزوجةُ التي لم تأبهْ لمشاعرِه ِولا لفنهِ، نراها تقتلُه بدافعِ الغيرةِ وهو لا يقاومُ، بل اكتفى بالمقاومةِ الكلاميةِ، فاللوحةُ التي عادَ من أجلِها قد اكتملتْ، لنكتشفَ أنها لم تكن لوحةً للموديلِ العاري المرسومِ، بل لوحةً لامرأةٍ عاديةٍ تشبهُ زوجتَه وديعة، فالقتلُ هنا رمزيٌ يرمزُ إلى علاقةِ المبدع بمجتمعهِ، فهو يبدو مطرودًا خارجَ نسقِ القيمِ المجتمعيّة، وخارجَ العلاقاتِ السطحيةِ العابرةِ التي يصنعها المجتمعُ، بالرُغمِ من أنه ينشدُ التواصلَ مع المجتمعِ في مستوياتٍ أعمقَ، لهذا عندما رأت زوجتُه اللوحةَ وجدت وجهًا يشبهها، فالفنانُ يصوّر مجتمعَه ويبدي تواصلا حميميًّا، ولكن يبدو دائما معرضًا لإساءةِ الفهم ومن ثمّ إساءةِ التأويلِ، فقد يبدو المبدعُ شاذًا ومرفوضًا وكأنه خارجُ السربِ، فيلجأُ نتيجةَ إحساسهِ بالضآلة إلى بريق اجتماعيّ وسياسيّ ليعوّضَ إحساسَه في الغربة، فالنهايةُ كانت موفّقةً محبوكةَ الخيوطِ ببراعةٍ متناهية.
وأخيرًا.. أحيّي في الأديبِ ناجي ظاهر هذه الروحَ التي لم تكفَّ عن النبضِ، وهذا الألقَ الإبداعيَ في ظلِ ظروفٍ سياسيّةٍ ونفسيّةٍ تحاصرُ أُدباءَنا، فالشعلةُ كما هي في الغلافِ ما زالت مضيئةً، وأديبنُا هو الناجي من موت الإبداع في ظلِ ظروفٍ قاسيةٍ يعيشها أدباؤنا، مباركٌ لك هذا النتاجُ الأدبيُ الجميلُ.
مداخلة د. ماري توتري: أبدأ بملاحظةٍ هامشيّة، ففي الكتاب أخطاء مطبعيّة، وهي ظاهرةٌ شائعة لدى العديد من الكُتّاب العرب، خصوصًا المشهورين منهم مثل نوال السعداوي ومحمد حسنين هيكل وغيرهم، وكأنّهم ليسوا بحاجة لتنقيح كتبهم، فمثلًا يوجد على الأقل غلطة واحدة في كتب نوال السعداوي الأخيرة (3 أجزاء من أوراقي.. حياتي ومذكراتي في السجن). هذه الظاهرة تنتقص من قيمة الكتاب.
درست أدب إنجليزي للقب الأوّل، وعملت كمُدرّسة ثانويّة للغة والأدب الإنجليزيّ مدّة 26 عامًا، ومع أنّي تحوّلت من مجال الأدب إلى مجال العلوم الاجتماعيّة، حيث درست من جديد عِلم اجتماع وعلوم سياسيّة، إلّا أنّني لا أستغني عن رواية أدبيّة جيّدة، فبنظري، يمكن أن يكون الأديب أفضل من باحث في مجال علم النفس والعلوم الاجتماعيّة، ففي كتب عديدة تُضيف (enlightment) "إنارة" أو "تنوير" على فهم تركيبة النفس البشريّة، مثل كتاب بتي سميث A tree Grows in Brookline، الذي فيه تُصنّف بني البشر الى صنفيْن: مَن يتعلّم مِن تجاربه القاسية ويرتقي إنسانيّا، ومَن لا يتعلم شيئًا من تجاربه، ويُعيد الكَرّة مرّات أخرى. في بعض الحالات يمكن لرواية جيّدة أن تكون المصدر الوحيد للتعرّف على ما يدور في مجتمع ما، مثل المجتمعات المحافظة كالسعودية ودول الخليج، التي يُمنع فيها دراسة ظواهر اجتماعيّة عديدة، فكتاب عبده الخال "ترمي بشرر"، وكتاب "بنات الرياض" لرجاء عبدالله الصانع، وكتاب "ساق البامبو" لسعود السعنوسي هم أمثلة على ذلك.
في الماضي حين كنت في مجال الأدب، حت آنذاك كان اهتمامي دائمًا بالمضمون الاجتماعيّ والنفسيّ في الرواية، ولم يهمّني كثيرًا الجانبَ الأدبيّ (الرمزيّة والتورية والبلاغة وحبكة القصّة..)، طبعًا بدون التنازل عن مستوى لغويّ وأسلوب مقبول، لذلك لن أتطرّق في مداخلتي هذه للجوانب الأدبيّة في الكتاب، إنّما سأتطرّق لأحد المواضيع المركزيّة الذي طرحه الكتاب، ألا وهو "قانون حماية المرأة"، وسوف أتطرّق إلى صورة المرأة السلبيّة والتقليديّة التي ظهرت في هذا الكتاب. "قانون حماية المرأة" ليس إلّا القانون ضدّ العنف الأسريّ، ولا يُسمّى بقانون حماية المرأة، ولكن بما أنّ المرأة هي بالأساس ضحيّة العنف الأسريّ، فيمكن القول، إنّ القانونَ جاء لحمايتها من ذلك العنف الأسريّ، ولكنّ كاتبَ القصّة عرّفَ هذا القانون على أنّه "قانون حماية المرأة" الظالم الذي يَضع الرجالَ رهائنَ بين أيدي النساء، والادّعاء على أنّه مؤامرةٌ من (إسرائيل) ضدّ المجتمع العربيّ في البلاد!
لديّ مشكلة مع تبنّي نظريّة المؤامرة بشكل عامّ، ففي العلوم الاجتماعيّة التوجُّهان النقيضان: من جهة هناك نظريّات التحديث (Modernization Theories) التي تتبنّى عادةً نظرةً استعلائيّة واستشراقيّة عند دراسة المجتمعات العربيّة، وتفسّر وتوعزُ الأوضاعَ الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة المُتدنّية فيها لأسباب بُنيويّة، دون الأخذ بالاعتبار بتاريخها مع الاستعمار والأسباب الأخرى التي تفسر أوضاعَها الحاليّة، أي أنّ هذه النظريّات تضعُ كلّ اللوم على المجتمعات نفسها، لوضعها الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ المُتدنّي. من جهةٍ أخرى، هناك نظريّات المؤامرة التي تضع كلّ اللوم على الآخر (الكلونياليّة، المُحتلّ، الرجل الأبيض..)، وتُبرّئ المجتمعات نفسها من أخذ المسؤوليّة على جزءٍ ممّا يحدث لها، فهنالك مراكز أبحاث عندنا تتبنى هذا النهج بالكامل! مشكلتي مع هذا التوجّه، أنّه يضعُ كلّ اللوم على الآخر، ولا يأخذ مسؤوليّة قليلة صغيرة على وضعنا العامّ، أو على المستوى الشخصيّ!
سأعطي مثالًا من كتاب المحاق، فمثلا من عام 2000 حتى عام 2016 قتل حوالي 1.300 عربيّ على أيدي عرب، بسبب ما نُسمّيه بالاحتراب الداخليّ أو العنف الداخليّ، لكننا نضع غالبًا كلّ اللوم على الشرطة التي لا تحارب ظاهرة السلاح المنتشر في بلداتنا العربيّة، دون التطرّق لدوْرنا في هذه المشكلة ومسؤوليّتنا تجاه مجتمعنا، فعندما نتبنّى نظريّة المؤامرة، نبرّئ أنفسنا مِن اتّخاذ المسؤوليّة على حياتنا الشخصيّة أيضًا. فمثلًا في رواية (المحاق) بطل القصّة نسيم البرقوقي الفنّان مرهف الحسّ الليبراليّ في أفكاره، يُبدي إعجابَهُ مِن جون بول سارتر وسيمون دي بفوار، اللذيْن عاشا حياتهما معًا دون إطار زواجٍ لم يُؤمنا به. ونسيم البرقوقي لا يؤمن بإطار الزواج أيضًا لأنّه فنّان، ومن الضروريّ كما قال أن يبقى حُرّا، ولكن مِن جهةٍ أخرى يطلب من أهله أن "يُدبّروا له عروسًا"، والتي في النهاية لم تكن اختيارًا جيّدًا له! هنالك تناقض صارخ لفكره الليبراليّ وتصرُّفه التقليديّ، والسؤال، مَن يتحمّل مسؤوليّة زواجه من وديعة الشبيك؟
أعود للادّعاء على أنّ "قانون حماية المرأة" هو مؤامرة إسرائيليّة ضدّ مجتمعنا العربيّ، فيقول همّام الشماليّ إحدى شخصيّات القصّة، وهو كاتب وصحفيّ اعتقل مثل نسيم البرقوقي، لأنّ زوجته ادّعت أيضًا مثل زوجة نسيم البرقوقي أنّها عُنّفت من قِبل زوجها، في حديث دار بينهما (ص87-86): "بعد احتلالنا وبعد أن أصبحنا رعايا في الدولة.. إسرائيل تُوجّه ضربتها القاضية إلينا وتسنّ القوانين وتدخل بيوتنا، لتجعل من نسائنا عَدُوّاتٍ لنا". "لقد تحوّل مجتمعنا العربيّ إلى مجتمع أفاع. الويل لنا إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه. لن يبقى من العرب عربا، وسوف نكون آخر العرب في هذه البلاد"! ذكر همام الشمالي أنه ونسيم البرقوقي ليسا الموقوفين العربيين الوحيدين في هذا المعتقل، بل هناك 600 موقوف عربيّ بذات التهمة.
الادّعاءُ العامّ في هذا الكتاب هو أنّ النساء أصبحن عدُوّاتٍ للرجال، وليس هنالك ذِكْرٌ لظاهرة العنف ضدّ النساء في مجتمعنا العربيّ! سأقدّمُ بعضَ الإحصائيّات عن العنف في مجتمعنا العربيّ: ففي السنة الماضية (2015) قتلت 10 نساء عربيّات من بين 18 امرأة، بأيدي أزواجهنّ، واللواتي كان يُفترَضُ أن يحميهنّ القانونُ من هذا المصير! هذا يعني؛ أنّ نسبة النساء العربيّات تشكّلُ 55% من النّساء اللواتي قتلن في السنة الماضية، ونحن العرب نُشكّل 18% مِن مُجمل السكّان في إسرائيل، أي أنّ ضحايا العنف عندنا تشكّل ثلاثة أضعاف المجتمع اليهوديّ!؟
تبيّن في دراسة أجراها بروفسور محمّد الحاج يحيى على عيّنة من 2.000 امرأة متزوّجة، أنّ هناك نسبة عالية من النساء اللواتي يتعرّضن للعنف النفسيّ واللفظيّ والجسديّ والجنسيّ، فمثلًا 20% من النساء قلن إنّ أزواجهنّ اتّهموهنّ بأنهن فاشلات. و 22% من النساء قلن إنّ أزواجهنّ استخفّوا بهنّ وتعاملوا معهنّ بأسلوب مُهين وجارح، و 24% صرّحن أنّ أزواجهنّ أمسكوا بهنّ بقوّة أثناء نقاش حادّ، و 25% منهنّ تهجّم أزواجهنّ عليهنّ بالصفع واللطم على الأقلّ مرّةً خلال 12 شهرًا، و 9% منهنّ تهجّم أزواجهنّ عليهنّ بالضرب المُتكرّر، و 2% منهنّ تهجّم أزواجهنّ عليهنّ بسكّين أو بسلاح! حسب رأي الباحثين والأكاديميّين أنّ مشكلة العنف الأسريّ، (وبالأساس العنف ضدّ المرأة) هو أكثر انتشارًا بكثير ممّا تُفصح الدراسات عنه، لأن كثيراتٍ مِن ضحايا العنف الأسريّ يَمِلن إلى عدم الافصاح عن تجربتهنّ المؤلمة، (خجلًا، خوفًا، سبب الشعور بالذنب و..). ويلخص الباحثون والأكاديميّون أنّ الخدمات المتوفّرة لمساندة وحماية ضحايا العنف الأسريّ هي ضئيلة جدّا في مجتمعنا العربيّ، وأنّه يجب الاعتراف بأنّ المجتمع العربيّ لم ينجح بتوفير علاجًا وحماية ومؤازرة رسميّة واجتماعيّة لضحايا العنف الأسري، ولا الملاحقة القانونيّة للمُعتدين.
أنا لا أبرّئ الشرطة والدولة عن هذا الوضع المُزري لنسائنا العربيّات، اللتان تدّعيان بدورهما على "أنّ العنف مُتجذّرٌ عميقًا في المجتمع العربيّ"، أي أنّها تضع كلّ اللوم على مجتمعنا، ولا تحاول معالجة هذه المشكلة، وكمثال على ذلك قلّة الملاجئ للنساء العربيّات! (2 من بين 14 ملجأ للنساء المُعنّفات).
ذكَرَ أحد الشخصيّات: "لم أعُدْ سيّد البيت وربّان السفينة". "الواحد منّا توقف عن أن يكون رجلًا، وبات كلّ شيء بيد المرأة. بإمكان أيّة امرأة أن ترفع سماعة التلفون وتتصل بالشرطة، لتأتي بعد دقائق لإبعاد زوجها من البيت"! أعجبني جدّا تصوير الشرطة الإسرائيليّة على سرعة استعدادها للمجيء بسرعة البرق، مع أنّنا في الواقع نعرف أنّ الوضع هو تمامًا العكس، فحين يحدث شجار وإطلاق نار، يُطلب من الشرطة المجيء وتجيب عادة "بعدما تحصوا قتلاكم ويتوقف إطلاق نار اتصلوا بنا مرّة أخرى". إذا كان الوضع كما صوّر في الكتاب، أقترح في الشجار الدمويّ القادم أن تتّصل امرأة بالشرطة، وتدّعي أنّ زوجها يُهدّدها لعلّ الشرطة تصل بسرعة البرق! خلال الحوار الذي دار بين همام الشمالي ونسيم البرقوقي في المعتقل قال همام الشمالي: "نحن العرب أكثر المتضرّرين منه، (القانون) سيؤدّي لإيجاد شرخ في البيت العربيّ، لا سيّما إذا كانت فيه امرأة مجنونة"! ويستمرّ ويتساءل: "وهل توجد هناك عندنا نحن العرب امرأة عاقلة واحدة"؟! هذا التعميم هو مصيبة بحدّ ذاته، لأنّه جاء من صحفيّ وكاتب. الكتاب صوّر المرأة بصورة سلبيّة وعدائيّة، وأنا لا أنكر أنّ هناك إمكانيّة لبعض النساء أن يستغلن القانون، ولكن التعميم الأعمى وعدم الاعتراف من وجود ظاهرة العنف الأسريّ وتحويل النساء من ضحايا العنف لعدوّات الرجال، في هذا تشويه للواقع الذي نعيشه.

94
نجمة النمر الأبيض نموذج لرواية الفقد والسعي!
آمال عوّاد رضوان
الخبر: في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وتحت رعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا، أقام نادي حيفا الثقافيّ أمسية ثقافيّة بتاريخ 6-10-2016، تناولت رواية "نجمة النمر الأبيض" لد. محمد هيبي، وذلك وسط حضور كبير من الأقرباء والأصدقاء والأدباء من المثلث وحيفا وسائر الجليل، وقد رحبّ المحامي فؤاد نقارة مرئيس ومؤسس النادي بالحضور والمشاركين، منوّهًا إلى توضيح بعض ملاحظات مهمّة وأساسيّة حول نشاطات النادي وبرامجه القادمة، ثمّ تولّت عرافة الأمسية أميمة محاميد، وتحدّث عن الرواية كلّ من: د. لينا الشيخ حشمة وبروفيسور إبراهيم طه، وكان مداخلة قصيرة لعروس الدامون غدير بقاعي، تتوافق ومضمون الأمسية والرواية، وفي نهاية اللقاء شكر المحتفى به د. هيبي الحضور والقائمين على الأمسية والمنظمين والمشاركين، ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
كلمات التقرير بالتفصيل:
مداخلة المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس نادي حيفا الثقافي: الأخوات والإخوة مساؤكم خير، باسم المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وباسم نادي حيفا الثقافي وباسمي، نرحّب بكم في قاعة كنيسة القدّيس يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة، في لقائنا الثقافي مع الاخ د. محمد هيبي ومناقشة روايته الأولى "نجمة النمر الابيض". أطلب من الحضور المحافظة على الهدوء، وإغلاق الهواتف النقالة، والامتناع قدر الإمكان عن إعطاء ملاحظات لغويّة وأخرى، حفاظا على احترام المشاركين في المداخلات من على المنصة.
أشكر جميع الإخوة من أعضاء نادي حيفا الثقافي الذين يعملون بكل الجهد والطاقة تطوّعًا لإنجاح نشاطات النادي، وأخص بالذكر الإخوة: المحامي حسن عبادي، والشاعرة آمال عوّاد رضوان، وخلود فوراني سريّة، وفضل الله مجدلاني ود. جوني منصور، وأشكر المجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، ممثّلًا بالإخوة أعضاء المجلس الأستاذ جريس خوري والمحامي كميل مويس، فلولا دعم المجلس المليّ الكامل غير المشروط لبرنامج النادي واستخدام هذه القاعة لنشاطات النادي، لما تمكّن النادي من القيام بنشاطاته. الشكر أيضًا للمشاركين الدائمين الذين أصبحوا جزءًا أساسيًّا من برنامج النادي، فالحُلم بإقامة النادي راودنا منذ مدة طويلة وحققناه، فأصبحَ مؤسّسة ثقافيّة لها اسمها على مستوى الوطن، ومِن ضمن أهدافنا تقريبُ الأدباء والمثقفين من بعضهم البعض، والتعارف فيما بينهم، وإيجاد دفيئة حاضنة للفكر والثقافة المتنوّرة، وأهداف اخرى حققناها في العمل المتواصل من نشاطات النادي، حيث أصبح اللقاء أسبوعيًّا كلّ يوم خميس، له صبغة ثقافيّة واجتماعيّة بامتياز، بحسب ما نلمسه ونسمعه من الأخوات والإخوة المشاركين والمُتابعين.  وفي هذه المناسبة نبارك للأخ الزميل والأديب سعيد نفّاع بخروجه إلى الحرّيّة يوم الاثنين 10-10-2016، والنادي بصدد الاحتفاء به بإقامة أمسية لأديبنا المُحرّر.
من لا يعمل لا يخطئ، وبما أنّ نشاط النادي تطوّعيّ، فأنا مستعدّ دائمًا لسماع أيّة ملاحظات بنّاءة، لِما فيه منفعة نشاطات النادي. أمسياتنا القادمة: *بتاريخ 13-10-2016 إشهار رواية "محاق" للكاتب ناجي ظاهر. *بتاريخ 20-10-2016 إشهار الطبعة الثالثة من الكتاب الوثيقة "يوميات طبيب في تل الزعتر" للدكتور الطبيب يوسف عراقي الحيفاويّ الأصل الذي سيحضر خصّيصًا من النرويج حيث يقيم، وذلك بمناسبة الذكرى الأربعين لمجزرة مخيّم تلّ الزعتر. *بتاريخ 03-11-206 إشهار "حكاية عشق" و "جداريّات نصراويّة" للأستاذ فتحي فوراني. *بتاريخ 10-11-2016 عكاظيّة حيفا الثامنة مع الشعراء عبد الرحيم الشيخ يوسف، وسماهر نجّار، وابتهاج داود خوري، وعرافة الشاعر أنور خير المواظب على حضور كلّ الأمسيات. *بتاريخ 17-11-2016 إشهار كتاب البحث في "أدب السجون في مصر وسورية والعراق" للدكتورة لينا الشيخ حشمة. والشاعرة سلمى جبران وإشهار مجموعتها الشعريّة "خارج مدار الذات" في رام الله أوّلًا في متحف محمود درويش بتاريخ  10-10-2016، وفي حيفا مسرح الكرمة بتاريخ 16-10-2016 الساعة 19:30 نأمل تشريفكم.
الشكر الكبير لد. محمد هيبي المواظب دائمًا على حضور أمسيات النادي والمشاركة في المداخلات، ونشكرك على روايتك الرائعة، وأشكر بروفيسور إبراهيم طه، ود. لينا الشيخ حشمة وأميمة محاميد المشاركين في هذه الأمسية، وأطلب منهم التقييد بالوقت المُخصّص لهم حفاظا على نجاعة البرنامج. وأخيرًا، صفحة نادي حيفا الثقافي على الفيس بوك https://www.facebook.com/groups/334690180075215/، وهي متاحة للجميع، ننشر فيها صور وتسجيلات المداخلات والتقارير الأسبوعية عن نشاطات النادي، ويمكن التواصل معنا عبرها.
مداخلة أميمة محاميد: الكتابةُ تأتي الينا لا نذهبُ إليها، تشتاقُنا الكلماتُ كما نشتاقُها، حينها ينزلقُ القلمُ فيسيلُ الحبرُ فوق الأوراقِ المتعطشةِ بسلاسةٍ وإنسيابٍ، ليرسم ويُجسّد لنا بريشتِهِ الإبداعيّةِ أجملَ اللوحاتِ، ولكلّ لوحةٍ قصّةٌ وحكايةٌ، منها ما يُفرحُنا ومنها ما يُبكينا، وبعضُها يَستفزّنا ويحبسُ أنفاسَنا، نركبُ عُبابَ الكلماتِ ونُبحرُ في خيالِنا، لاستكشافِ ما بين السطورِ من معانٍ ومعرفةٍ وحقيقةٍ. في كثيرٍ منَ الأحيان نشعرُ أنّنا جزءٌ لا يتجزّأ مِنَ الروايةِ، نعيشُ اللحظاتِ الهاربة، نتقمّصُ الأدوارَ ونشعرُ أنّنا أبطالُ الرواية، تستوقفُنا العباراتُ والصّورُ، نعانقُ الكلماتِ ولا نتركها، نشهقُ ونقولُ: الله ما أجملكَ أيُّها الكاتبُ! وهذا إن دلَّ على شيءٍ، فإنّه يدلّ على القدرةِ الإبداعيّةِ لدى الكاتب، إذ استطاعَ أن يُلامسَ بِحرفِهِ الماسيّ إحساسَ القارئ ويُحاكي مشاعرَهُ، وهذا ما لمسناهُ في روايةِ نجمة النمر الأبيض للكاتب الدكتور محمد هيبي، إذ استطاع كاتبُنا بأسلوبِه المتميّزِ أن يستفزّ القارئ، ويُشعِلَ فتيلَ الضوضاءِ داخلَهُ ويحاكي وجدانَه، كلماتُه تدغدغ المشاعرَ، حروفه تعبقُ برائحةِ التراب وأريجِ الزعتر والزيتونِ، ممّا جعل للروايةِ نكهةً خاصّة ومميّزةً.
ماذا قال د. بسام فرنجيّة في رواية نجمة النمر الأبيض: حروف وكلمات محمد هيبي تتراقص في أعين القارئ قبلَ أن تدخل وجدانه، فالرواية ساحرة القراءة، ممتعة الأسلوب، قويّة الأفكار، ذات جاذبيّة خاصّة، وما أن يبدأها القارئ ، فلا يستطيع أن يتركها من يده حتى يُنهيها، ومِن علاماتها المميزة تلك اللغة الشاعريّة التي تنساب سلِسلة في كلّ جملة، وتلك اللغة العربيّة المتينة السبك التي يُجيدها الكاتب ببراعة لافتة للنظر، فالكاتب يغرف من بحر، بل يغرف من بحر شعريّ ولغويّ، فهو سيّد اللغة، وتأتي الكلمات من قلمه طيّعة سلِسة محبوكة بعفويّة خاصّة، بأسلوب السهل الممتنع، ممّا يزيد الرواية جمالًا وجاذبيّة وسِحرًا، وأنا أقول لك: يا فارس القلم طوبى لك وطوبى لنا.
مقتطفات من مداخلة إبراهيم طه/ نجمة النمر الأبيض نموذج لرواية الفقد والسعي: هي رواية الدكتور محمّد هيبي، تتميّز بمبنى مأنوس وثابت، وهو مبنى كلاسيكي معروف ينهض على فلسفة الفقد أو الغياب. هكذا قرأت الرواية. هكذا فهمتها. ولا شكّ في أنّ الكاتب أحسن توظيف هذه الفلسفة في هيكلة الرواية وبنائها على نحو يجعلها رواية تقليديّة. وفي مسألة الحبك استطاعت الرواية أن تصل الحدث بالحدث وتشدّ الشخصيّة إلى الشخصيّة بأدوات كثيرة منها: البعد الذاتي الصادق المقنع، والضمير الأوّل الذي يقرّب القارئ من السرد، والمشاعر الجيّاشة الدافقة في الحبّ والحنين والحزن والأمل والألم والرجاء... وهذه كلها بطبيعة الحال تجعل الرواية حركيّة دافقة دراميّة. يُصوّر الكاتب في روايته مأساة الشعب الفلسطينيّ كلّه من خلال قصّة أمّه وأبيه وعمّه، فيها يتّجه من الميكرو إلى الماكرو.
إلى جانب الفصول الجميلة في الرواية ثمّة فصول تكثر فيها الثرثرة والمونولوجات المطوّلة والمبالغات والاقتحامات البوليسيّة. وهي في الحقيقة آفةٌ عامّة، مرض طال أدبَنا الفلسطينيّ بصفة أو بأخرى في كلّ مراحل تطوّره. وفي المحصّلة الأخيرة، مشكلة الرواية مع هذه الاقتحامات في: (1) الكثرة. الوتيرة السريعة التي يظهر فيها القول السياسيّ في الرواية. (2) المبالغة. تجاوز كلّ حدّ معقول ومنطقيّ. (3) الموقع. وغالبًا ما تقطع الطريق أمام تدفّق الأحداث المتخيّلة الكافية في ذاتها لأن توصل القارئ إلى ما يسعى إليه الكاتب من قول آيديولوجي. وفي الأخير، نذكّر بأنّ الأدب نشاط حييّ، خجول، دبلوماسي، متملّص. ولا يصير الشعر شعرًا بالشعار، حتى وإن قال صاحبه: "فليسقط الاحتلال ولتسقط الرجعيّة العربيّة" ألف مرّة.
مداخلة د. لينا الشيخ حشمة: حين يضيق الواقع يمسي الحلم أداةً لترميم الذّات المشرّدة، ويصبح حقيقة، ولو على سبيل التّمنّي. هكذا يكون الخيال الأدبيّ شكلًا من أشكال الحريّة؛ يحرّر النّفس في فسحة الفعل القادر على الخلق والتّغيير. لهذا يكتب د. هيبي، يكتب تفريغًا للحزن المكبوت، وتطهيرًا لألم الفقد، ليحقّق توازنه المفقود من فقده لوطنٍ يعشقُه، ما زال فقدُه يقتلُه.
إنّ فعل الكتابة هنا هو انعتاقٌ وأمل. يكتب هيبي ليلومَ من كاد ينسى، وليذكّرَ بجرحٍ ما زال ينزف، هو جرح المنارة والمشرّدين. يكتب لينفضَ عن ذاكرة بني الأعفم غبارَ السنوات الطّويلة، لذاكرةٍ قد ضاعت في متاهات النسيان وغدر الزّمان، واعيًا  لدور الأدب في حفظ التّاريخ والذّاكرة، مؤكّدًا أنّ المنارة، وهي حكاية من اقتُلع من وطنه من بني الأعفم، من أبناء المنارة، هي الوطن الذي كان، والذي سيبقى والذي سيعود، وهذا هو حلم محمّد الأعفم، بطل الرواية.
الأعفم كما يوضّح لنا الكاتب بآليّة الميتاقصّ في الإهداء: "هو رمز للإنسان العربيّ الفلسطينيّ المشرّد في الوطن والمَنافي تسكنه المنارة، ويحملها جيلًا بعد جيل". ومحمّد الأعفم جاء إلى الدّنيا بعد النّكبة، يبلغ السّتّين من عمره،  يعيش وجع الانتظار، يحمل المنارة في قلبه وفكره، يبحث عن طريقها، رافضًا الزّواج بعيدًا عنها. هو ثمرة الخراب والضّياع، هو الضّياع،  ولكنّه الأمل الذي لا يضيع. "هو حكاية عمر استباحه الغدر، غدر الأعداء، وغدر الأخوة الأعداء. غدر الأخوة الأعداء قبل الأعداء"(ص8). هكذا صارت المنارة كومةً من حجارة، أمست حلمًا بعد أن كانت حقيقةً. لم يولد فيها محمّد الأعفم ولكنّها ولدت فيه، يراها عروسًا حسناءَ ترتدي ثوبها الأبيض، تنتظر فارسها الّذي تأخّر. أمّا هو فيأتيها فارسًا هزمه القهر والحنين، وقتلته الثرثرةُ الصّامتة عبر السنين. هي ما زالت تنتظر، أمّا هو فقد سئم الصّمتَ والانتظار.
تكثر ملامح التّصوّف في هذه الرواية، فإذا كان الصّوفيُّ يعاني غياب الحبيب إلى أن يلتحم به ويتحقّق "الاتّحاد"؛ فالأعفم صوفيٌّ يعاني في غياب حبيبته المنارة. وإذا كان واجب العاشق الصّوفيّ أن يجعل من المعشوق غايةً في ذاته، فالأعفم يجعل من المنارةِ الحقيقةَ الأسمى والغاية العليا، إلى أن تمسيَ يقينًا وينتهي إلى أحضانها. وإذا كانت الصّوفيّة هي غريزة السّؤال الّذي يلوب على المجهول والمفقود، فإنّ الأعفم يلوب متسائلًا عن المنارة المفقودة. والسّؤال هنا سعيٌ وراء الكمال، والسّعي بداية الفعل، والفعل قد يبدأ بالحلم. أمّا المتسائل فهو مسلوبٌ ومقهور؛ وقد أدخله السّلب في قوقعة التنقيب عن اليقينِ، حيث الفضاء الموجع المشرذم بالغياب. وإلى أن يمسيَ الغيابُ حضورًا يلوب عليه الوجدانُ لَوَبانَ الأمِّ على ولدِها الرضيعِ. هكذا يكون الصّوفيّ، وهكذا كان الأعفم.
إنّ الأعفم مشغولٌ بالطّريق إليها أكثر من انشغاله بالغايةِ نفسها، فكم من مرّة يكرّر كلمة "الطريق" في الرواية! ويذكّرني هذا الانشغالُ بالطّريقِ والشّوقِ إلى الخلاص ببحث صابر عن والده في رواية "الطّريق" لنجيب محفوظ، وإن اختلفت طريق صابر عن طريق الأعفم. كما أوافق أستاذي بروفيسور إبراهيم طه في قوله، بأنّها تذكّرنا كثيرًا بقصّة زعبلاوي لمحفوظ أيضًا. فإذا كان صابر يبحث عن والده ليمنحه حياة كريمة، وإذا كان الرّاوي في قصّة زعبلاوي يبحث عن زعبلاوي ليقدّم له الشّفاء والسّعادة، فالأعفم كذلك يبحث عن السّعادة في عودة المنارة. وإذا كان الأعفم يشعر بالضّياع لأنّه لم يصل إلى اليقين بعد، أيّ المنارة، فإنّه سيشعر باليقين عندما يلتقي بسلوى، امرأة المنارة، حينها يرى الأعفمان سعادتهما تتحقّق في الحلم. كذلك يجد الرّاوي السّعادة في قصّة "زعبلاوي" عندما يلتقي بزعبلاوي في الحلم.
وحين يصل الصّوفيّ إلى حالة الوجد يستطيع أن يجد التّوافق الضّائع بينه وبين نفسه، مثلما يصل الأعفم مع سلوى الى حالة الوجد وينتشي بالحبّ، ويتذوّق سعادة الوجود، فيدرك أنّه في طريق المنارة. والمحبّ الصّوفيّ يمحو من قلبه كلّ شيء إلّا المحبوب. كذلك ينفّض الأعفم قلبه من كلّ شيء إلّا المنارة، مسخّرًا كلّ علاقاته وذكرياته وهواجسه للمنارة.
صورة المرأة في الرّواية: يسعى د. هيبي للتّأكيد على مركزيّة حضور المرأة الفلسطينيّة في الرّواية. فإذا كانت الأنوثة قد اقترنت على صعيد الوعي الجمعيّ بالضّعف والخنوع، فإنّها بعيدةٌ هنا أن تكونَ خاضعة عاجزة، فقد وصلت قمّة التّفاعل مع الهمّ الجماعيّ والوطنيّ، بَدءًا بوالدة الأعفم وصولًا إلى سلوى الأعفم.  يتجلّى نضال الأمّ في عدم رضوخها لقرار أهلها في ترك زوجها، وفي رفضها التّخلي عن المنارة. ربطت مصيرها بمصير الوطن، واختارت البقاء مع زوجها وهي تدرك حياة التّشرّد الّتي ستدفعها مقابل قرارها هذا. لعبت دورًا مهمًّا في ترسيخ المنارة في ذاكرة أبنائها، فيقول الأعفم مخاطبا نفسه: "ألم تكن المرأة هي السّبب؟ ألم تكن أمّك هي المرأة التي غرست المنارة في كيانك وقبل أبيك! أججّت حبّ المنارة في قلبك؟" (ص93). ويتماهى حبّ الأمّ مع حبّ المنارة لأنّها رابطه الأوّل بالحياة وبالمنارة كذلك (ص168). إذن هي المرأة، منبع الحياة ورحمها.
ثمّ تظهر حمدة، حمدة هي تلك الشابّة الفاتنة الّتي حملته إلى المنارة فزارها معها لأوّل مرّة في حياته. كانت حمدة  في العشرين من عمرها، وكان هو صبيًّا. لم يكن يعرف المنارة، كانت ما زالت في مخيّلته مجرّد خيالٍ، لكنّها غدَتْ معها حقيقة. منذ ذلك اليوم الّذي حضنته حمدة باتت المنارة لا تفارقه، وليس جسد حمدة إلّا رمزًا للمنارة. ففي هذه التّجربة تتجسّد في نفسه تلك العلاقة الّتي ستربط عمره بالمرأة والمنارة معًا.
ثمّ تظهر سلوى الأعفم، هي امتدادٌ للأمّ وحمدة، ساحرةُ الجمال، تشبهه بالأفكار وبعشقها للمنارة. هي نموذجٌ للمرأة المثقّفةِ الجريئة القادرة على الفعل وصنع القرار. فلا يقدّم هيبي صورةً نمطيّة للمرأة المقموعة، بل يقدّمها شخصيّة أملت مكانتها واحترامها على الرّجل، فلا تقلّ عنه صبرًا وتضحية ووعيًا وإبداعًا، مؤكّدًا أنّ عدم نسيان المنارة لا يقتصر على النّضال الذّكوريّ، بل إنّ للمرأة دورًا في تثبيتها في الذّاكرة. وكأنّه يقول:  ليست ذاكرتي مثقلةً بثقافة قمعيّة ضدّ المرأة، فها هي في روايتي تتربّع على عرش الثّقافة والجرأة، وفقط في حضنها يكون الخلاص، ومعها يتحقق الحلم. الأعفم بحاجة إلى جرأتها. وفي سبيل تحقيق حلم المنارة لا بدّ لنصف المجتمع، أي المرأة أن يكون حرًّا وقويًّا ومشاركًا. كما أنّ امتلاك المرأة لمستوى ثقافيّ جامعيّ عالٍ يؤهّلها كي تنخرط في قضايا مجتمعها، ويمكّنها من الدّفاع عن طموحاتها ومشاعرها.
إنّ شهرزاد هنا لا تخاف ولا تخشى السّيف، بل تنافس الرّجل وتقتحم مملكته في حقّ الكلمة والتّعبير، وهيبي لا يريدها في صراع مع شهريار أو أن تسرق قلمه، بل هي كالأعفم، مبدعة وكاتبة ومعلمة للموضوع ذاته الذي يعلمه. هكذا يسعى ليؤكّد أنّ شهرزاد الفلسطينيّة تشارك شهريار في حمل السّيف في وجه الهزيمة والنسيان. هي نجمة النمر الأبيض. سحرها لا يقاوم، والنمر لا يروّض كما يقول البروفيسور طه نقلًا عن الكاتب زكريّا تامر، ولذا هي لا تروّض ولا تقمع ولا تنسى.
يكثر الأعفم من تساؤلاته حول سلوى وعلاقتها بالمنارة، كتساؤله عن دور المرأة في وطن مفقود: "هل يستطيع الحبّ أن يجعل الوطن امرأة؟"، "هل يصبح الوطن امرأة؟"، و"هل يكون الحبّ مشروعًا بعيدًا عن هذا الوطن/ المنارة؟. لكنّها أسئلة تؤكّد أكثر ممّا تسأل، تعلن لا تصرّح، ولا تمنح القارئَ فرصةَ المشاركةِ في عمليّة التواصل الأدبيّ، بل سرعان ما يقدّم الكاتب الإجابات جاهزة، مؤكّدًا أنّ سلوى هي الملاذ، وأنّ حبّ المنارة وحبّ المرأة شيء واحد. ألم تعلّم والدة الأعفم ابنها، أنّ "المرأة تكون كلّ شيء حين يفقد الانسان كلّ شيء" (ص 187-188).
الأعفم الذي تجاوز السّتين يعتبر نفسه مشروع عجز وضعف، لكنّه في لقاء سلوى لم يفقد الأمل الذي لا يضيع ولا يروّض. السّتون هنا هي إشارة إلى عمر نكبة المنارة. إذن المنارة، وإن طال انتظارُها، لم تفقد الأمل. وسلوى الّتي تجاوزت الثلاثين هي مشروع حماس وقوّة شباب، معها سيكفّ عن الصّمت ويخطو خطوته الأولى في الطريق. هناك سيُختصر الزمن في عمر واحد، ويقترب الحلم من الحقيقة.  "فما جدوى المرأة إن لم تكن حلما أو مشعلا ينير طريق الرجل إلى فردوسه المشتهى؟"(ص74). هكذا  يؤكّد الأعفم.
سلوى هي المرأة التي ستلهيه وتنسيه وجع المنارة وتحييه من جديد. إذن؛ سلوى المرأة تعادل الحياة والمنارة. لذا يختار الكاتب لقاءهما في آذار، "لأنّه شهر المرأة والأمّ والأرض" (ص33). كما يقول الراوي. من هنا، المرأة رمز الوطن والخصوبة والحياة. وسلوى كانت بحاجة كالأعفم إلى من ينير طريقها، "أنا بحاجة إلى رجل يحبّني" (ص120) تقول له. سلوى ما زالت تنتظر حبيبًا وتتوق إلى الأمان على صدره. هي كالمنارة تنتظر فارسًا يجعلها حقيقة، الوطن الّذي ينتظر من يحييه. هكذا يمسي المكان امرأة، وتغدو المرأة مكانًا.
ويتحقّق الحلم في الفصل الأخير، لقد رأيا الحلم ذاته في اللحظة ذاتها في غفوة واحدة (ص360-364). وفي الحلم يكون الاتّحاد، يحملها إلى المنارة ويتعانق الجسدان إلى أن يزهر الربيع في المنارة"(ص364). ولا تنتهي الرواية قبل أن يطلب الأعفم  من سلوى أن تتزوّجه. وفي هذا إشارة إلى أنّه إذا تحقّق الاتّحاد مع سلوى فلا بدّ أن تتحقّق عودة المنارة. هكذا تنتهي الرواية من الاقتراب من حدود الفعل والأمل. وليس عبثًا أن يجعل الكاتب ترتيب الفصول على هذا النّحو. فإذا كان الأعفم قد عانى بصمت طوال الفصول الأولى. فها هي اللحظة قد حانت ليتفجّر الكلام بعد دهر من الصّمت، ويصبح ما قبل الكلام كلامًا في فصل "فيض الكلام"، وهو الفصل قبل الأخير، منطلقًا نحو الفعل في  الفصل الأخير "الحلم". وهذا تأكيد على تمرّده على صمت بني الأعفم طوال الستين عامًا. فالطريق إلى الغاية تبدأ بالحركة، والحركة هي فعل، والفعل مسبوق بالفكرة،  والفكرة ما هي إلا كلمة صامتة يسمعها صاحبها، يحكيها لنفسه. وفي البدء كانت الكلمة. والفكرة من سلطة الوعي، وحلم هيبي عن وعي، والحلم بداية الفعل والأمل.
هكذا زرع الكاتب التفاؤل في روايته، فالأعفم عنده لا يموت، والمنارة هي الأمل الّذي لا يضيع. حتّى في علاقة الأعفم مع المحاضرة اليهوديّة جعل الأعفم يحقّق هدفه بالحبّ، منتصرًا عليها. فهذه المرأة الّتي لا تنفصل عن رمزيّتها للمكان، تشتهي أن يأخذها الأعفم ليعيد إليها إنسانيّتها الّتي سرقت منها، ويروي ظمأ روحها وجسدها. الحبّ حالة تتجاوز الحواجز المكانيّة، فهو القادر على رفع الإنسان إلى مرتبة تتحقّق فيها إنسانيّة الإنسان بغضّ النظر عن هويّته أو جنسه أو قوميّته. وعندما تعترف له المحاضرة أخيرًا بشرعيّة المنارة وحقيقة وجودها يتفاءل الأعفم شاعرًا أنّ  دفء كلامها يدفعه بقوّة نحو المنارة (ص263- 273).
وفي ملاحظة أخيرة أقول: يستمرئ غروري وأنا الأنثى، أن تكون المرأة هي المعادل هنا للغاية الأسمى، وأن تكون الخلاص للرجل، لكنّي أتساءل: هل يفكّر العاشق في لحظات عشقه للمرأة بالوطن؟! هل يفكّر العاشق لحظة يسكنه الشوق والحبّ بغير المحبوب؟! كنت أفضّل أن يكون الحبّ لسلوى غير مقرون بشرط المنارة إلى هذا الحدّ من التورّط. كنت أبحث عن علاقة حبّ مشحونة بالقول العاطفيّ لا بالقول السياسيّ، أو إلى هذه الدّرجة الّتي تغيب فيها الأحاسيس العاطفيّة والإنسانيّة تحت سلطة الالتزام المباشر. كنت أريده عشقًا لذاتها، لأنوثتها، وبطبيعيّة خالصة، دون أن تُمسّ فكرة الرواية، ودون أن تجرّد سلوى من رمزيّتها للوطن. وكان بإمكان زميلي د. هيبي أن يفعل، لو جعل الرواية أقلّ مباشرة وأكثر غموضًا وحداثة، لكنّه انشغل جدًّا في أدلجة الرواية، وفي تأكيد التزامه، وفي تثبيت حضور المنارة، حتى سخّر كلّ شيء لها، فطغت على النّصّ، وبتكرار إلى حدّ الإفراط. ولعلّ البرفيسور طه قد أشار إلى هذه النقطة في مقالته، لذا لن أطيل الحديث فيها. أمّا زميلي د. هيبي فحين أخبرته بملاحظتي هذه برّر ذلك بأنّه يخشى على المنارة من الضياع، إن تغافل عنها قليلًا، واعدًا بأن تكون روايته التّالية حداثيّة رمزيّة، تعتمد التلميح لا التصريح، وبعيدًا عن الالتزام السّياسيّ المباشر القاتل للإبداع والخيال الأدبيّ. في النهاية، مبارك كتابك أيّها الصديق العزيز، فقدمًا وإلى الأمام.
مداخلة د. محمد علي هيبي: هذه ليلتي وحلم حياتي، ولكنّ ليلتي بدونكم، لا ماضٍ لها ولا آتٍ، فما أسعدني بكم هذه الليلة. طاب مساؤكم فردا فردا، وأسعد الله كل أوقاتكم بكل المحبة والخير. شرّفتموني بحضوركم في هذا المساء المزيّن بزهرة الخرفيش، بنفسجة المنارة، بنفسجها يرقى بكم، وشوكها يَخِزُكم لتشرئبّ أعناقكم نحو المنارة. شرّفتموني بحضوركم، في هذا المساء المضمّخ بعبق الزعتر، ونكهة المناقيش الخارجة لتوّها من طابون ستي "لبيبة"، طيّب الله ثراها. جئتم لتحتفوا بي وبـ"نجمة النمر الأبيض"، وهذا والله يكفينا. فكّلي شكر وامتنان وعرفان بجميلكم وفضلكم عليّ وعليها.
أودّ من على هذه المنصّة، أن أشكر كل من قرأ الرواية أو سيقرأها، وأن أقول لمن استمتع أو سيستمتع بقراءتها، أرجوك لا تشكرني، بل اشكر محمد الأعفم. هذا الإنسان العربي الفلسطيني المشرّد، هو الذي كتبني ولم أكتبه أنا، فهو صاحب الفضل. ولمن قرأها ولم يستمتع أقول: أرجوك أيضا، العنّي أنا محمد هيبي، ولا تلعن محمد الأعفم ولا المنارة، فهما لا ذنب لهما في إساءتي إليك. واسمحوا لي أن أشكر باسمكم، كل من ألهمني حرفا من حروف روايتي، أو تحمّلني أثناء كتابتها، بدءا بزوجتي العزيزة التي اعطتني وتحمّلتني أكثر مما أستحقّ، وانتهاء بمن ألهمني ولو حرفا واحدا، أو مرّ مرورا ولو طفيفا. واسمحوا لي أنّ أخصّ بالشكر، نادي حيفا الثقافي والمجلس الملّي الأرثوذكسي الوطني في حيفا والقائمين عليهما، الذين شيّدوا هذا الصرح الثقافي الوطني الشامخ الذي يستحقّ أن نفخر ونفاخر به.
وأشكر على وجه الخصوص، صديقيّ العزيزين، المحاميين، فؤاد نقارة وحسن عبّادي، اللذين كانا خير سند، بما بذلاه من جهد قبل وبعد صدور الرواية، وقد توّجت هذه الأمسية الرائعة جهدهما المبارك. فألف تحيّة لكما صديقيّ العزيزين. ولا يسعني أن أنسى الأخ منصور منصور، صاحب مطبعة الطيرة، الذي ساندني في طباعة كل كتبي، ولولا كرمه وصبره عليّ لما رأت هذه الرواية النور. فتحيّة شكر وعرفان بالجميل للأخ منصور ولمطبعة الطيرة وكل العاملين فيها.
وأنت يا صديقتي العزيزة عريفة الأمسية الشاعرة المتألّقة أميمة محاميد، بأسلوبك الرائع جعلتِ من هذه الأمسية قصيدة غزل ناعم تنبض بالحياة، جبلتِ حروفها برحيق زهرة الخرفيش وعطر بنفسجة المنارة، ونسجتِ خيوطها من حرير إبداعِك، فألبستِ "نجمة النمر الأبيض" ثوبا أنيقا أبرز مفاتنها وزادها جمالا. فألف تحية مشرقة لك. وكيف أنسى أخي الحبيب، د. بسام فرنجية، الذي تمنيت أن يكون الليلة معنا. أخي بسام يعمل رئيسا لقسم اللغة العربية في كلية في كاليفورنيا في الولايات المتحدة. التقيه عام 2013، في جامعة النجاح في نابلس، في "المؤتمر الأول للأكاديميين الفلسطينيين في الشتات"، حيث شاركنا في أعمال المؤتمر لثلاثة أيام سهرنا لياليها معا، ومن يومها دبّ الحبّ والاحترام، فبقينا على تواصل.
يافا التي شُرّد أهله منها لم يزرها حتى الآن. رجوته مرارا أن يعود لنزورها معا. وقد أسعدني قبل شهر تقريبا، برسالة أسعدتني، وكم أتمنّي أن أكون جديرا بها! قال لي: أخي الحبيب محمد، إن لم أزر الوطن وأنت فيه، فلن أزوره أبدا. أفلا يستحقّ منّا كل التحيّة والتكريم؟
كنت قد أرهقته بقراءة الرواية قبل إصدارها، وقد كتب حولها مقالا نُشر مؤخّرا. لقد وعدني بزيارة قريبة، وأنا أعدكم إذا فعلها، أن نأتي معا لحضور أمسية من أماسي هذا الصرح الثقافي الشامخ.
وذات يوم، وأنا أتهيّأ لكتابة رسالة الدكتوراه، أخي أبو إياس، بروفيسور إبراهيم طه، قالي لي: عندي طالبة، موضوع رسالتها قريب من موضوع رسالتك، وأعطاني رقم هاتفها لأتشاور معها حول الموضوع، لعلّها تساعدني في تلمّس طريقي. شو إسمها يا أستاذ؟  قال: إسمها لينا الشيخ حشمة. ورُحت أقلّب اسمها وخاصة اسم عائلتها، الشيخ حشمة"، أقلّبه في رأسي وأتساءل: ما لي ولها؟ لعلها شيخة من شيوخ قبيلتها؟! وعندما التقينا فيما بعد، لم أُخفِ عنها أنّ اسم عائلتها، أوحى لي بأنّها آنسة أو سيدة متعصّبة للدين وليست من النمط الذي أستطيع التحدّث إليه. ولذلك صرفت النظر عن موضوع الاتصال بها.
بعد عام تقريبا كنا في مؤتمر حول اللغة العربية في الناصرة. بعد خروجنا من القاعة قال لي أبو أياس: تعال أعرفك على لينا الشيخ حشمة. وكانت مفاجأتي عظيمة. ليس لأنّ شكلها قمر، ولا لأنّ بسمتها تشرح الصدر، ولكن لأنّها جمعت إلى ذلك كله، خفّة الروح ودماثة الأخلاق ورجاحة العقل وحسن الحديث. وأنتم، قد شاهدتم هذا كلّه أكثر من مرّة على هذه المنصة. كل الكلمات عاجزة عن الشكر، صديقتي العزيزة، الدكتورة لينا الشيخ حشمة. واسمحوا لي باسمكم أن أبارك لها صدور كتابها، ثمرة دراستها للقب الثالث، بعنوان "أدب السجون في مصر وسوريا والعراق: الحرية والرقيب". ألف مبارك عزيزتي، وليكن فاتحة خير إن شاء الله.
وكما يقولون: "التالي للغالي". لن أعرّف به، فكل محافل اللغة العربية، محليا وعربيا وعالميا، تعرفه. وأنتم تعرفونه من خلال عمله في جامعة حيفا، ومن خلال منشوراته، ومن خلال هذه المنصة أيضا، فقد ارتقاها وارتقت به أكثر من مرة. أما بالنسبة لي، فكل الكلمات أعيى من أن تفي بحقّه. إنّه أخي الحبيب وصديقي الصّدوق، بروفيسور إبراهيم طه. أبو إياس بالنسبة لي حالة فريدة. عشر سنوات أرهقْتُه فيها بطلباتي: أثناء كتابتي رسالة الماجستير، وأثناء كتابتي رسالة الدكتوراه، وأثناء كتابتي ومراجعاتي للرواية. وما زلت أرهقه حتى اللحظة. راجع الرواية قبل إصدارها وأبدى ملاحظاته القيمة، فعملت ببعضها ولم أعمل ببعضها الآخر، رغم أنّه محقّ فيها، ولم يغضب الرجل. عشر سنوات، أرهقته ولم يتعب منّي، ولم يشْكُ. وكثيرا ما اختلفنا في الرأي، وأحيانا تضاربنا به عبر صفحات الصحف، وبقينا إخوة وأصدقاء، يحبّ أحدنا الآخر ويحترمه. الحقَّ أقول لكم، أبو إياس وحده حالة فريدة، وأبو إياس وأنا، لا أبالغ إذا قلت: حالة فريدة أيضا، حالة فريدة من الأخوّة والصداقة، أعتزّ بها لأنّها كذلك، وأعتزّ بها لأنّها حالة تستحقّ أن تُحتذى. كل التحية والاحترام أخي الحبيب، ولساني عاجز عن الشكر.
أحيانا، وأنت تكتب، قد تجتمع المتناقضات. فأنت أحيانا، قد لا تعي ما تكتب، الأفكار تتداعى، وأنت تمتح من لاوعيك. ولكن بالكتابة أيضا، أنت تحاول أن تحوّل ما يفيض به اللاوعي إلى عمل واعٍ. وهذا ما حاولته في روايتي. نجحت أم لا؟ لا أعرف! الجواب عندكم، عند القرّاء والنقّاد.
"نجمة النمر الأبيض"، كعنوان وعتبة للنصّ، و"محمد الأعفم" كبطل للرواية، و"المنارة" كمكان محلوم، باستثناء هذه الأيقونات الثلاث، أنا لا أستطيع أن أشير إلى أي تعبير في روايتي وأقول إنّه تعبير جميل أو مميّز، أو أنّني قصدته في تلك اللحظة التي كتبته فيها. هنا أيضا أترك لكم الحكم، وأنا راضٍ وسعيد به. ورواية "نجمة النمر الأبيض" هي ليست سيرتي الذاتية، رغم أنني متحتها من ذاتي. ومحمد الأعفم ليس أنا، ولكنّه قد يكون أنا، وقد يكون أنتَ أو حتى أنتِ. إنّه نحن جميعا. فقد نحتُّ الاسم والشخصية، من الإنسان العربي الفلسطيني المشرّد: همزته الإنسان، وعينه العربي، وفاؤه الفلسطيني، وميمه، ما أروع هذه الميم! إنّها ميم الجمع العربية بكلّ تجلياتها الفلسطينية. فهي من حيث النسيج الفلسطيني تعني المسلم والمسيحي، هذا هو النسيج الفلسطيني، وحين قال لي أخي أبو أياس إنّني بهذا أظلم إخوتنا الدروز، قلت له: "لا"، فهم أولا مسلمون، وهم أيضا الموحدون والمعروفيون. وكلّنا نسيج واحد متماسك، حاول أعداؤنا وأذنابهم شرذمتنا، وما زالوا يحاولون، ولم يُفلحوا ولن يُفلحوا أبدا.
أما فيما يتعلّق بالحالة الفلسطينية فالميم تعني الكثير أيضا. فهي تحيل إلى إنسان عربي فلسطيني: مشرّد، مظلوم، منتهك، منهوب، مستغلّ، مستعبد، مستعمَر، محتلّ، وباختصار، (ملتعن أمّه في عزا أبوه). ولم تنتهِ إيحاءات الميم، فإنّ لها تجلياتها الإيجابية أيضا. فالإنسان العربي الفلسطيني: مكافح، مناضل، مدافع عن حقّه، مواجه لأعدائه، رغم كثرتهم، ورغم كل ظروفه السيئة، فهو محافظ على قضيته وذاكرته وملتزم بهما.
لوسيان غولدمان، أحد منظّري الرواية، قال: "الرواية هي عملية بحث عن القيم في عالم منحط"، وكان أستاذه، جورج لوكاتش، أبو علم الجمال الحديث، قال قبله: "إنّها عملية بحث عن القيم في عالم شيطاني". وهذا ما حاولناه أنا ومحمد الأعفم، أن نبحث عن المنارة التي هي قيمة عُليا بالنسبة لنا، في عالم شيطاني ومنحط. وما دمنا لم ننجح بعد، فعملية البحث لا بدّ لها أن تستمرّ. قد نكون مرحليا، غير قادرين على بلوغ الهدف، لذلك، فلا أقلّ من الاستمرار وأن نعيش لذة البحث؟!
محمد الأعفم صمت دهرا، ولكنّه برأيي نطق حقّا. وأنا لست خائفا إذا اعتبره البعض نطق كفرا. الحقيقة أنّ الثرثرة الكافرة أطلقها أولئك الذين حملوا قضية شعبنا، في الظاهر ليحموها، بينما في الخفاء خانوها وباعوها وكادوا أن يقضوا عليها لولا تمسّك محمد الأعفم بها. هؤلاء صمتوا، وليتهم لم ينطقوا، لأنّهم كلما نطقوا، نطقوا كفرا، إلى أن أصبحت الثرثرة عيبا متأصّلا فينا؟ أصبحنا مجتمعا، بل شعبا، يأكل ويثرثر وينام؟ ألم تصبح تلك هي أسطوانة حياتنا المقيتة. وقد دفع محمد الأعفم ثمن الكفر والثرثرة، لدرجة أنّه لم يعد قادرا على الصمت. وأنا أيضا، دفعت الثمن، كما دفعه كل فلسطيني عاش نكبته، حتى وإن لم يعش الزلزال الأعظم عام 1948. فما العيب إذن، في أن يدفع القارئ بعض الثمن؟ الكتّاب يحاولون أن يكونوا مبدعين، ولكنّهم قد يُصيبون وقد يُخطئون. ولا بأس، على أن يظلّ مشروعهم استفزازَ القارئ وإخراجَه من دائرة القراءة والتعاطف، إلى دائرة الفعل والتفاعل والغضب والتمرّد، أو دفعه على الأقلّ، إلى الحلم الذي نطمح جميعا أن يصير واقعا ذات يوم.
لست أدّعي أنّ روايتي هي عمل أدبيّ فنيّ كامل الأوصاف، فهي كغيرها تحتمل النقد، ولم أنشرها إلّا بعد أن قرّرت أنّي جاهز للنقد بكل أشكاله وأبعاده. وسأكون سعيدا وممتنّا لكل كلمة تتوخّى الموضوعية والنقد البناء. "حين تدخل الأيديولوجيا أو السياسة يقلّ الأدب". هذا ما قاله صديقي أبو إياس في مقاله حول الرواية. وهذا صحيح. ولكنّي أومن بما ذكره أيضا في مقاله، نقلا عن جورج أورويل صاحب رواية 1984: "لا شيء بعيد عن السياسة". وأنا لا أنكر أنّ الحالة الفلسطينية، والعربية، والعالمية، خاصة في مجال السياسة والدين المسيّس، ألقت بظلالها عليّ وعلى الرواية. وقد تكون منعتني أحيانا من التعبير الإبداعي، فخسرتِ الرواية بعض أدبيتها هنا أو هناك. ولكنّي أردت أن أظلّ مخلصا لذاتي وقناعاتي، لأنّني كواحد من بني الأعفم، ومنذ أن وعيت على الدنيا، وجدت أنّ روح الشرّ تخيّم عليها، وأنّ روح الخير والحبّ والحقّ هجرتها، وأنّ روح شياطين الإنس تحكمها أكثر من روح الله، فقرّرت أن أقاوم بطريقتي.
وإليكم ما فوجئت به قبل أسابيع وأنا أقلّب دفاتري القديمة: "خلف أكوام الضباب/ خلف أسوار العذاب/ خلف أشواك الأحزان/ وراء الشبابيك الحزينة/ هناك.. حيث الملائكة/ تقطن أرواحٌ أبديّة/ تركتْ دنيانا الأرضيّة/ رفضت كلّ الأحزان/ أبدا يصنعها الإنسان/ من أجل عذاب الإنسان/ أرواح الخير هجرتنا/ تركت دنيانا البشريّة/ سمت عنّا.. نبذتنا/ وأبت أن تبقى إنسيّة". لا تنظروا إلى جودة النص الآن، بل انظروا إلى الشعور الكامن خلف سطوره. هذه القطعة كتبتها يوم الإثنين، الثالث من أيار عام 1976، يعني قبل أربعين عاما. فهل بالغت حين قلت: إنّني منذ وعيت على الدنيا، وجدت أنّ روح الشرّ تخيّم عليها؟
إنّنا على مدى ستين عاما وأكثر، ونحن نثرثر بحبّ فلسطين، ومحمد الأعفم ثرثر كذلك، ولكنّه بحث عن مسار آخر، فانتقل من مسار الثرثرة إلى مسار الفعل، وإن كان عبر الحلم. ربما يكون أرهق القارئ بثرثرته، ولكنّه بشكل ما، عبّر عن حاجتنا جميعا إلى هذا الانتقال. وذات صباح، بعد ليلة كثُرث هواجسها وكوابيسها، شعر بها كشهب من نار، تتشكّل في السماء ثم تنطلق إلى الأرض، لتنغرز في جسده المنطرح في سرير من نار. استيقظ بعد نوم مضطرب، يعتريه شعور أنّه لا يريد أن ينهض، وأنّ قوة غيبية تُقيّده، وأنّ ألماً قاسيا يسكن روحه وجسده، فراح يتفكّر في هذا الكون الضيّق على سعته، ويبحث عن خلاص. فهداه الله إلى "نجمة النمر الأبيض"، تلك المرأة التي لا يُقاوم سحرها، لتكون عونه وشريكه ورفيقة دربه إلى المنارة. المنارة التي شرّد منها كل إنسان فلسطيني. حتى أولئك الذين ظلّوا في أرضهم، وعجزت يد الغدر من الأعداء والإخوة الأعداء عن اقتلاعهم، ظلوا يعيشون منفاهم القسري في أرضهم ووطنهم، ينتظرون أن يتحقّق الحلم. وهم يؤمنون أنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وذات يوم، جميعا سيصعدون الجبل إلى المنارة، مع محمد الأعفم و"نجمة النمر الأبيض".

95
عكاظية حيفا السابعة!
آمال عوّاد رضوان
عكاظية حيفا السابعة أقامها نادي حيفا الثقافيّ، برعاية المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، بتاريخ 29-9-2016 في قاعة كنيسة القديس يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وسط حضور من الأدباء والأصدقاء والمهتمّين بالشأن الثقافيّ، وقد شارك في الأمسية الشعريّة كلّ مِن: يحيى عطالله، ود. نمر سمير، وشيرين القاسم ومرام محمد أبو الهيجا، وقد تولّت عرافة الأمسية الإعلاميّة ركاز فاعور، بعد أن رحّب المحامي حسن عبادي بالحضور والمشاركين، كما تخلل الأمسية فقراتٌ فنيّة غنائيّة مع الفنان نزار شايب جبارين عازف العود، وغناء اليافع الموهوب محمود طاهر محاميد، وازدانت القاعة بلوحات الفنانة التشكيلية لبنى عمرية، هذا وقد حلّ ضيفا على الأمسية العكاظيّة المحامي عبّاس عبّاس مدير جمعيّة المنارة العالميّة/ الناصرة، حيث عرض فيلمًا قصيرا يتحدّث عن جمعيّة المنارة وأهدافها ونشاطاتها وموقعها  www.arabcast.org، وفي نهاية اللقاء تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة ركاز فاعور: أيها الحضور الكرام والجمع الكريم مساؤكم خير. هذه الامسية العكاظية الحيفاوية السابعة في سلسلة أمسيات شعريّة يقيمها نادي حيفا الثقافيّ برعاية المجلس الملي الأرثوذكسيّ الوطنيّ حيفا، فللقائمين عليها والعاملين وللحضور كلّ الشكر والتقدير.
جميلة هذه الأمسيات التي تجمع بين الفكر والحلم والقلم والإبداع، لتخلق لنا حدائق غناء مزدانة تزهو بها الروح، وترقى وتنثر في حياتنا الفرح والمَحبّة. لو طلب مني أن أعرّف الشعر أقول: هو كلام جميل يتجاوز السمع الى القلب والمشاعر، يُلامس شغاف القلب، يحرّك الافئدة، يحفر له مكانة في الوجدان، ويتربّع على عرش الإنسانيّة، ويخلق فينا الإنسان من جديد. هذه الامسية تجمع الشعر مع الغناء مع اللوحات التشكيلية، آمل أن تلقى استحسانكم.
*الشاعر يحيى عطالله شاعر ومدرس للغة العربيّة في مدرسة يركا الثانويّة، حاصل على اللقب الأوّل في اللغة العربيّة وآدابها وتاريخ الشرق الأوسط من جامعة حيفا، حاصل على اللقب الثاني في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة حيفا، يعمل مُدرّسًا للغة العربيّة في مدرسة الأخوّة الثانويّة يركا، صدر له ديوانان من الشعر، "صهيل" و "أغنية لأمّي".
*المربي د. نمر اسمير هو ابن قرية كفر برعم، شغل منصب نائب مدير كلية بيت بيرل مدة ثلاثين عاما، له الكثير من الإصدارات في المناهج وتعليم الإنشاء، والعديد من مقالات نشرت في صحيفة "صدى التربية"، واليوم هو بصدد طباعة كتاب "توظيف علوم التربية والتعليم في تدريس العربية وآدابها"، يلخّص فيه خبرته. هو لا يُعدّ نفسه شاعرًا، لكنّه اليوم جاء ليقول لنا ما خطته أنامله في لحظة ما وشعور ما.
*مرام ابو الهيجاء حاصلة على اللقب الأول في اللغة العربية وتاريخ الشرق الأوسط، حاصلة على اللقب الثاني في تاريخ الشرق الأوسط وتحضر للقب الثالث، تعمل كمرشدة للغة العربية في لواء حيفا، تدرس اللغة العربية في مدرسة حوار الرسمية للتعليم البديل للفنون والإبداع.
*الرسامة لبنى عمرية هذه اللوحات التشكيلية التي تزين المكان هي رسوماتها هي ابنة قرية إبطن، حاصلة على اللقب الأوّل من كلية صفد في الفنون والموسيقى والأدب، تعمل معلمة فنون في وحدة نهوض الشبيبة في إبطن وفي راموت، اشتركت بالعديد من المعارض في البلاد والخارج.
الفنان نزار جبارين حاصل على اللقب الثاني في الموسيقى وعلم النفس، يعمل مدرسا للجوقة في أم الفحم، أخذ على عاتقه أن يرافق اليافع الموهوب محمود طاهر محاميد ابن الصف السابع، وقد بدأ الغناء في الصف الثالث. إذا كان الشعر غذاء الروح، فالغناء غذاء القلب وللموسيقى في أمسيتنا نصيب.
يحيى عطالله/ دُعابةٌ جريئةٌ: يا آدمُ/ لا تحزن يا آدم بل افرَحْ/ عاوِدْ إجراءَ حسابكَ/ اِجمعْ في الصفقة واطرحْ/ وستعلمُ أنكَ تربحْ/ بعدَ الإشراق العقليّ/ خسرتَ البستان الطافح بالنعمةِ/ لكنك في كشف السرِّ/ حظيتَ بحواءَ البكرِ/ فأصبح عندك بستانٌ أطفحْ/ أخرجك الله من الجنة والجنةُ بين يديكْ/ عذراء الله الأولى بين يديكْ/ الثمر الخارقُ بين يديكْ/ فلتأكلْ/ وعلى ذقنك تمسحْ/ ولْتجمعْ يا آدم ولْتطرحْ/ حوّاءُ مقابلَ جنّهْ/ إنك في هذي الصفقة تربحْ/ مَنْ أشهى يا آدمُ؟/ رمانُ الجنة محتشدًا في الشجر الوارفِ/ أم رمان التوأم يتدلّى تحت النحرِ/ وفوق بحيرة عاجٍ يسبحْ؟ من أجملُ؟ روضةُ أزهارٍ وخمائلَ/ أم حواءُ الطالعةُ بكلّ بهاء الأنثى/ وبكلّ تفاصيل الرونقِ/ بالقد الجامح نحوك يجمحْ؟ في الجنةِ أنت ترى حواء/ كأنك تبصر جذع شجرةٍ/ وترى نفسك، تجهلُ أنك ذكرٌ/ لا تصبو لا ترغب لا تجنحْ؟
يا ليتك تأكل من شجر المعرفة ثـمارًا أكثر /كي تعرف حواءً أكثر/ كي تخلص من جهلك أكثر/ يتحرر ذهنك
وخيالك يسرحْ/ عاود إجراء حسابكَ/ اِجمع يا آدم واطرحْ/ إن كنت تظنُّ/ بأنك تقضي في الأرض عقاب خطيئتك الكبرى/ وتريد خلاصًا وثوابا/ إن كنت تحن إلى مثواك الأول جنةِ عدنٍ/ وتريد رجوعًا وإيابا/ اِفعل ما يأتي :أحبب حواءً أكثر/ اِعرف حواءً أكثر/ عاشر حواءً أكثر/ اُطلب حواءً أكثر/ أنصف حواءً أكثر/ أطلق حواءً أكثر/ علم حواءً أكثر/ اِعشق حواءً أكثر/ بَجِّلْ حواء أكثر/ قدِّسْ حواءً أكثر/ يرْضَ عنك الله ويغفرْ كل خطاياك/ ويُدخلْك إلى جنةِ عَدْنٍ/ لا شرطٌ لخلودك فيها / لبقائك في ذات المطرحْ/ مع أكثر من حواءٍ واحدةٍ/ فلتفرحْ يا آدم فلتفرحْ.
يحيى عطالله/ عرّافةٌ جميلةٌ جدًّا: وفنجانٍ شفى غلَّ الثغورِ/ سقاه الحظ غلّاتِ السرورِ/ بغانيةٍ تقلّبَ في يديها/ تقلُّب حالـمٍ فوق السرير/ حسدتُ ثواءَهُ في راحتيْها/ وقد منّيْتُ من قلبٍ غيور/ وقلت بخاطري: يا ليت أني/ أنا الفنجان في الكف النضير/  تُقلبني أناملها برفقٍ/ وتغمرني بعطفٍ مستدير/ أعوم براحة القطن المندّى/ وأشرب من قوارير الحرير/ أطلّ على بياض الزّند يغري/ فأطمح بالرقيّ إلى النحور/ فأقطف عن لواحظها سهامًا/ وعن أنفاسها دفء العبير/ أراوغ عروة فوق الخبايا/ لتُطلعني على سر الصدور/ فأُنزل في هضاب العاج سنّي/ وعند السفح أُكثر من شروري/ صبوْتُ وعادتي أن لستُ أصبو/  أنا إلا لأشباه البدور/ إلى العرّافة اسْتقتُ التصابي/ وليس إلى العَرَافة والسحور/  فما التنجيم في عرفي سبيلًا/ إلى كشف الحقائق في الستور/ وما صدقته لو كان صدقًا/ وما قول الكتاب بقول زور/ ولكن صدفةً ألفيتُ نفسي/ بحضرة فتنةٍ فتنت حضوري/ جمال يملأ الدنيا جمالا/ وينفذ في مسامات الشعور/ جلست أمامها صبًّا وناولْــــ/ ـــتُها الفنجان من باع قصير/ وقلت لها اقرئي لي ما تأتى/ من الدنيا على حظي الكسير/ وهل ستظل أحلامي هباءً/ وتبقى الأمنيات بلا نشور/ فقالت لي: تمنَّ الآن، "اُضْمُرْ"/ مُناكَ عنِ السميع أو البصير/ فإني يا أخا الأحلام شمسٌ/ أضيء بهالتي غيب الأمور/ وأعرف ما يصح من الأماني/ وما منها يؤول إلى أثير/ وراحت تنظر الثُّفْلَ الـمُسجّى/ على أكفان فنجاني الصغير/ ورحت أنا أشاهد ما تجلّى/ أمامي من سما السحر الـمُثير/ نظرت إلى مفاتنها ولمّا/ رأيت الشهد يغلي في القفير/ تمنيت احتساء الشهد يغلي/ وأضمرتُ التصبب في الهجير/ ولم أعلم إذا علمت بأني/ عليها كنت أُضمر في ضميري/ وقلت لها: "ضَمرتُ" مناي فاسري/ وطيري في مجال الغيب طيري/ وعودي بالبشير يسر سمعي/ ولا تلقي عليّ من النذير/ وهاتي لي من الفنجان رزقًا/  يعيل فُسَيْحَة الأمل الكبير/ تأمّلَتِ السواد وقد ألجّتْ/ بليل البن تبحث عن مصيري/ وقالت لي: مرادك مثل بحرٍ/ شهيّ اللون غدار العبور/ فإن ما كنت ملاحًا دهيًّا/ تجنب يا فتى خوض البحور/ فقلت لها سأمضي خلف شوقي/ وأسعى للمنى رغم الخطور/ فإني إن تحقق ما ببالي/ سأرقص في السماء مع الطيور/ وأمطر من دمي فرحًا وأشدو/ مع الأنسام هبات السرور/ وأغدو مُترفًا من غير مالٍ/ مليكًا يستعز بلا قصور/ فمن يظفرْ بحظٍّ مثل هذا/ يعِشْ أغنى وأسعد من أمير.
يحيى عطالله/ دمشق: دِمَشْقٌ نامي جَمالًا وَانْهَضي ألَقا/ وَابْقي الْعَروسَ الّتي تَسْتَعْذِبُ الأنَقا/ رَبُّ الْجَمالِ عَلى أبْوابِها حَرَسٌ/ فَلا يَنامُ وَلا يَسْتَنْكِفُ الأرَقا/ أَعَدَّ فيكِ جَمالًا مِنْ جَلالَتِهِ/  وَفي الْعِبادِ أعَدَّ الْقَلْبَ وَالْحَدَقا/ مَنْ لا يُحِبُّكِ؟ مَنْ ذا يا دِمَشْقُ إذا/ جَدَّ السِّباقُ إلى عَيْنَيْكِ ما اسْتَبَقا/ لا كانَ لي أعْيُنٌ لا تَشْتَهيكِ وَلا/ قَلْبٌ بِحُبِّك ما غَنّى وَلا خَفَقا/ دِمشْقُ دُرَّةُ بَرِّ الشّامِ وَهْوَ كَما/ أُذْنٌ تُعَلِّقُ أغْلا دُرَّةٍ حَلَقا/ ماذا الْحَضارَةُ لَوْلا أنْ دِمَشْقُ زَهَتْ/ وَما أُمَيَّةُ لَوْ جَفَّتْ دِمَشْقُ سَقا/ دِمَشْقُ ظَلّي دِمَشْقًا لا سِواكِ لَنا/ إن رُحْتِ رُحْنا وَلكِنَّ الْهَوانَ بَقا/ عَيْني عَلى بَرَدى إنْ شَفَّني ظَمَأٌ/ وَقاسِيونَ إذا ما ظَهْرِيَ الْتَوَقا/ دِمَشْقُ عِزُّكِ عِزّي فَاشْمَخي شَرَفًا/ دِمَشْقُ ذُلُّكِ ذُلّي فاحْذَري الزَّلَقا/ سيري دِمَشْقُ عَلى دَرْبِ الثِّقاتِ وَلا/ تُواطِئي الْلَيْلَ أوْ تَسْتَأْمِني الطُّرُقا/ فإنَّ حَوْلَكِ مِنْ أهْلِ الْخَنا خَوَنٌ/ وَخَلْفَ عِرْضِكِ قَوّادٌ لِمَنْ فَسَقا/ ما أَعْظَمَ الْعَرْشَ في دينِ الطُّغاةِ وَما/ أخْطَرَ مِمَّنْ عَلى كُرْسِيِّهِ الْتَصَقا/ وَما أَحَلَّ دَمَ الإنْسانِ مُنْسَفِحًا/ في دينِ مَنْ جَعَلَ التَّكْفيرَ مُنْطَلَقا/ كَأَنَّما قَدَّمَ الدَّجّالُ ساعَتَهُ/ وَجاء للأرْضِ مأجورًا ومُرْتَزَقا/ دِمَشْقُ حَظُّكِ سَدّانٌ وَمِطْرَقَةٌ/ هذا يَدُكُّ وَهذا يُمْعِنُ السَّحَقا/  ماذا جَنَيْتِ وَماذا كُنْتِ زارِعَةً/ عَلى رَوابيكِ إلّا الْوَرْدَ وَالْحَبَقا/  كَمْ نَبْتَةٍ قُلِعَتْ مِنْ أرْضِها وَجَدَتْ/ دِمَشْقَ حَوْضًا لَها وَاسْتَأْمَنَتْ وَرَقا/ دِمَشْقُ يا مَلْجَأً طابَ الْلُجوءُ بِهِ/ أبْوابُكِ الشُّمُّ كَمْ بَشّوا لِمَنْ طَرَقا/ دارَ الزَّمانُ وَأضْحى مَلْجَأٌ شَفِقٌ/ يَبْحَثُ عَنْ مَلْجَأٍ أوْ يَطْلُبُ الشَّفَقا/ دِمَشْقُ شِدّي رِحالًا نَحْوَ أيِّ دَمٍ/ إلّا الْعُروبَةَ قَلْبًا دَمُّهُ نَفَقا/ أَعْطَيْتِ لِلْعُرْبِ لا ما تَأْخُذينَ فَما/ صانَ الْعَطاءُ وَلا دَفْقُ السَّخاءِ وَقا/ عُذْرًا دِمَشْقُ إذا ما انْتابَني حَبَطٌ/ وَإنْ حَنِقْتُ وَإنْ أسْتَثْمِرِ الْحَنَقا/ تَعَطَّلَ الْأُفْقُ عَنْ جَذْبِ الْعُيونِ فَلا/ تَرْنو الْعُيونُ وَلا تَسْتَفْقِدُ الأُفُقا/  أرَى الْعُروبَةَ في دَرْبِ الْعِطاشِ كَما/ أَرَى السَّرابَ فَلا ماءً وَلا وَدَقا/ ماذا جَنى عَرَبِيٌّ مِنْ عُروبَتِهِ/ إلّا الْهَوانَ وَإلّا الْيَأْسَ وَالزَّهَقا/ يا طالِبًا مِنْ صَحارَى الْعُرْبِ مَشْرَبَةً/ هَلْ مِنَ النّارِ كانَ الْماءُ مُنْدَفِقا/ دِمَشْقُ لا نَهْرَ يَرْويكِ سِوَى بَرَدى/ وَلَيْسَ يُغْدِقُ مَجّانًا كَما غَدَقا/ دِمَشْقُ ما لَكِ في الْلَمّاتِ مُتَّكَأٌ/ إلّا عِظامُكِ خَلّي الْعَظْمَ مُتَّسِقا/ لا غَيْرَ شَعْبِكِ عشّاقٌ صِباكِ وَلا/ رُوْحٌ تُفَدّيكِ إلّا رُوْحُ مَنْ عشقا
مداخلة شيرين قاسم: لحضورُ الكريمُ! مساؤُكمْ عطورُ الهناءِ ولَحْنُ أُنْسِ اللّقاء. أوَدُّ بدايةً أنْ أشْكُرَ الإعلاميّةَ ركاز فاعور على رَوْعَةِ تقديمِي وحسنِ عَرافَتِها الأُمسية، كما وأشْكرُ القائمينَ في النّادي الثّقافيِّ التّابعِ للمجلسِ المليِّ الأرثوذكسيِّ على مثلِ هذهِ الأمسياتِ العُكاظيّةِ، والّتي تُثْري الأدبَ العربيَّ في بلدِنا، وكما أشكركُمْ كلَّ الشّكرِ أيُّها الحضورُ الرّائعُ، على اهتمامِكُمْ وحضورِكُم هذهِ الأمسيةَ، راجية" لكم كلَّ متعةٍ وهناء.
شيرين قاسم/ حيفا: قدْ جِئْتُ حيفا لأَرْوِيها بألحانِي، وأسكب الحبَّ مِنْ حرفي لأوطاني، يا موطِنَ الحبِّ حيفا دُمْتِ يانِعةً، تُهْدينَ عطرَ البراري كلِّ إنْسانِ، منكِ الجمالُ نَما في ظلِّ ساحِلِنا، فكُنْتِ أجْمَلَ ما تشْتاقُ أحضاني، والآن سأُنشِدُ ثلاثَ قصائِدَ مِنْ أشعارِي، راجية" أن تَنالَ إعجابَكُمْ
شيرين قاسم: الِابْتسامةُ قادرةٌ على فِعْلِ المُسْتحيلِ/ فَلا عَجَبَ أنْ أنْشَدْتُ سوفَ تَبقى ابتسامَتي بَدْرَ ليلٍ/ توقظُ الحبَّ في عُيونِ الزَّمانِ أَرْتَجي الخيرَ لِلْجميعِ وأُهْدِي/ مِنْ حُروفِ الوِدَادِ لَحْنَ بَيَانِي لا أُبالِي إذا تَجَهَّمَ يوْمًا/ مَنْ يُعَادِي جَمالَ حَرْفِ البَنانِ لا يَرَى في الوُجودِ غَيْرَ سَوَادٍ/ مِنْهُ تَشْكُو الظُّنونُ مِنْهُ تُعَانِي اُنْظُرِ البُلْبلَ الجَميلَ يُغَنِّي/ يُسْعِدُ القَلبَ مِنْ جَمالِ الحَنانِ إنَّ في جُعْبَتِي مَنَابِعَ حُبٍّ/ تَسْتَثيرُ العُطورَ وَسْطَ الجِنانِ أَنْشُرُ الحُبَّ فِي فضاءِ بِلادِي/ كيْ يَعُمُّ الهناءُ كُلَّ مَكانِ يُسْعِدُ الرُّوحَ أَنَّ أَصْلَ بَيَانِي/ مِنْ عُيُونِ الكِرامِ عَبْرَ الزَّمانِ مِنْكُمُ يَسْتَقِي الفؤادُ نَداهُ/ زَادَ رُوحِي وَعُزْوَتِي وَكِيانِي ليْتَ كُلَّ الأَنامِ تَسْعَى لِخَيْرٍ/ وَنَعيشُ الحياةَ دُونَ طِعَانِ سألوني مَنْ أنتِ وما هِيَ هُوِيَّتُكِ! أجبتُ أنا مجهولةُ الهُوِيّةِ/ وأنتمي لكلِّ الدّياناتِ السّماويّةِ/ ولي ربٌّ هو اللهُ الواحدُ الأحَدُ/ ووهبَ قلبيَ للإنسانيّةِ/ فَبِتُّ أُرَدِّدُ: أنا الإِنسانُ أنا الإنسانُ/ أنا لنْ أزرعَ الكُرهَ ولا أَرضى سِوى الإحسانْ/ فكلُّ النّاسِ أَحبابي وكلُّ النّاسِ لي إِخوانْ/ أطوفُ بكلِّ أوطاني وكلُّ الكونِ لي بستانْ/ به تَسْمُو أمانِينا ويَسْعَدُ قلبُنا الرَّيّانْ/ أنارَ اللهُ هذا الكونَ بالتوراةِ والقرآنْ/ وأَهدى الناسَ قاطِبةً جمالَ العقلِ والوِجدانْ/ وأَرْسلَ للهُدى رُسُلًا فَبالحِكْمةِ والتّقْوى أَنارُوا الدَّرْبَ بالإيمانْ/ لماذا نَعْتَلِي قِمَمًا لِنَنْثُرَ فِي الوَرَى الأَضْغانْ/ ونقتُلَ بعضَنا جَوْرًا ونَرضَى الزَّوْرَ والبُهتانْ/ نُدَمِّرُ جُهدَ مَنْ سَبَقُوا وَمَنْ تَعِبوا وَمَنْ كانوا لنا العُنْوانْ/ ونَحْيَا العُمْرَ في نَكَدٍ وَفِي ضِيقٍ وفي أشْجانْ/ أَلَسْنا كُلُّنا نَدْعُوكَ يا رَبَّاهُ والأبوابُ مُؤصَدَةٌ بِروحِ براءةِ الصّبيانْ/ ونَرفعُ لِلسَّما الأَيْدِي وأُدْعِيَةً بِشَتَّى الطَّيفِ والألْوانْ/ ونَذرفُ أَدْمُعًا حَرَّى كَقَيظِ الصَّيْفِ حينَ العَجْزِ والأحزانْ/ وَنَحزنُ كُلَّما لاحَتْ أمامَ العينِ مأساةٌ فَتُدْمِي القَلْبَ والأَجْفانْ/ سَئِمْنا مِنْ مَتاهاتٍ وجَهلٍ ظَلّلَ الأَوطانْ فَكُلُّ الخَلْقِ في الدُّنيا لهُمْ مَأوى لهُمْ عُنوانْ تعالَوْا نزرعُ الأيّامَ أنغامًا مِنَ الألحانْ ونَنْسُجُ للوَرى قِيَمًا مِنَ الأخلاقِ نَنْسى الحقدَ والأَضْغانْ/ نَطوفُ بكلِّ عالَمِنا ونَبني الخيرَ والإحسانْ/ لِنُعلنَ عَوْدَةَ الإنسانْ/ سألوني عَنِ المحبةِ والعشقِ/ فقلتُ لهم: مَنْ لا تُوجدُ في كلِّ نبضةٍ مِنْ قلبِهِ محَبةٌّ فَهُوَ حتمًا شخصٌ ميِّتٌ. وسألوني كيف تقابلين مَنْ يكرَهُكِ/ قلتُ لهمْ بالمحبةِ الصّادِقَةِ/ فَهِيَ الحياةُ والحياةُ على الأرضِ عشقٌ لا يموتُ
شيرين قاسم/ الخُلودْ: هبَّ النّسيمُ يُغنّي مِنْ عِطْرِ أبهى الوُرودْ/ سَما بِلَحْنٍ شَجِيٍّ أَهْدى الحبيبَ الوَدودْ/ أذاع عِشقًا نَدِيًّا أثارَ عينَ الحسودْ/ يشتاقُ طَيْفَ الغَوانِي وَأَسيلاتِ الخُدودْ/ يَشْدو بكُلِّ هناءٍ لِمُوفِياتِ العُهودْ/ يَرْنو لنَجمٍ جميلٍ وهامَ يأبَى القُيودْ/ أذاعَ ما فِيَّ لَحْنًا ضاءَ الفَضَا والوُجودْ/ وأيقظَ الرّوحَ تَتْرى مِنْ وَهْنِها والجُمودْ/ فَدَبَّ فِيها نَماءٌ وزالَ عَنْها الشُّرودْ/ وبتُّ منْهُ أُنادي العِشقُ سرُّ الخُلودْ/ العشقُ سرُّ الخُلودْ



96
حيفا تكرّم الحجّار الأديب حنّا إبراهيم حدّادين!
آمال عوّاد رضوان
أمسية تكريمية واحتفائيّة بالأديب الشاعر الحجّار حنّا إبراهيم حدّادين، أقامها نادي حيفا الثقافي برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطنيّ حيفا، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، وسط حضور من الأقرباء والأصدقاء والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافيّ، وبعد أن رحّب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافي، تولّى عرافة الأمسية المحامي علي رافع، وكانت مداخلات حول منجزاته الأدبيّة لكلّ من: د. منير توما وسهيل عيساوي، ومداخلات حول سيرته وماضيه لكلّ من: حنّا أبو حنّا والشيخ نوراليقين بدران والفنان سليم ضو، وفي نهاية اللقاء شكر المحتفى به حنا إبراهيم الحضور والمنظمين والمتحدّثين، وقرأ نصّين شعريّين، ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة معه.
 مداخلة عريف الأمسية المحامي علي رافع بعنوان الرفيق حنا إبراهيم: عرفناه منذ نعومة أظفارنا، وعرفه أهلنا منذ نعومة أظفاره، تلك التي لم تكن ناعمة مُطلقًا، كما ورَد على لسانه في ذكريات شابّ لم يتغرّب ص11، فالرفيق حنا هكذا عرفناه وما نزال، مهما تحدّثنا عنه من جميل الخصال يبقى صحيحًا، لكنّه غير كاف في حقّ رجل مناضل قضى أكثر من سبعين عامًا في خدمة شعبه وقضيّته العادلة وحتى اليوم، فلم يملأ الدنيا ويشغل الناس فحسب، بل اشتغل مع كلّ الناس في أكثر الأعمال مشقة وصعوبة، في مقالع الحجارة والفلاحة وبناء جدران الطلياني، كما قاسى من البطالة التي استمرّت لسنوات عديدة، والأكثر من ذلك، فإنّه عانى من ظلم الأقربين له كما ورد في سيرته الذاتية في جزئيها، "يوميّات شاب لم يتغرّب، وفي "شجرة المعرفة" يتعرّف القارئ على هذه الشخصيّة التي لم تلقَ القبول والاحترام والعناية والاستماع والانتباه من أشدّ الناس قربًا له، ويمكن الاطّلاع على كل ذلك في هذا الجزء الثاني من السيرة الذاتيّة.
في هذا التقديم أتوقّف عند ذكر محطات في حياة حنّا إبراهيم، تاركًا لغيري من المشاركين تقييم أعماله الأدبيّة، وإتاحة الفرصة لباقي مشاركين ليدلي كلّ واحد منهم بدلوه بحقّ هذه الشخصيّة الشاغوريّة المتميّزة. *بتاريخ 1-11-2016 يتمّ حنّا إبراهيم التسعين من عمره المديد، وقد تعلّم في المدرسة الابتدائيّة في قرية البعنة والرامة المجاورة، أمّا الصفّ التاسع والعاشر فتعلّمهما في المدرسة الحكوميّة في عكا، وحصل على لقب الطالب الأوّل في المدرسة، لأنّه حلّ مسألة حسابيّة لم يستطع غيره من التلاميذ حلّها. ثمّ تعلّم في مدرسة الشرطة في بيت لحم، وبعد ذلك كان يُعلّم فيها، لكن بتاريخ 31-1-1948 أغلقت مدرسة الشرطة أبوابها، فرجع إلى الجليل منذ ذلك التاريخ، ليصبح شرطيًّا في مركز شرطة مجد الكروم القريبة من البعنة.
في البعنة كان أصدقاؤه؛ جمال موسى وأخوه نديم عديل حنا إبراهيم ورمزي الخوري، وهم الذين حرّضوه وشجّعوه على دخول الحزب الشيوعيّ، ليصبح عضوًا فيه منذ 1-4-1948. لكن بتاريخ 30-10-1948 تمّ احتلال الجليل، فكان يوزّع جريدة الاتحاد في البعنة ودير الأسد ومجد الكروم ونحف، واشتغل حجّارًا حتى بدأت مصادرة أراضي وقف دير الأسد التي كانت مقالع للحجارة سنة 1961، لإقامة مدينة كرمئيل التي أقيمت سنة 1964، واشتغل في بناء جدران الطيلياني.
منذ عام 1961 وحتى عام 1978 بقي عاطلًا عن العمل، فكان وضعه الاقتصاديّ صعبًا جدّا، وكان يشتهي العضّة في الرغيف حسب تعبيره، وحين يقرب ابنه ليقبله فيرفض ابنه، فيقول له حنا: أنا بحبّك واللي بحبّ بيبوس. فيجيبه ابنه: اللي بحب بيعطي عشرة (عشله)!
بقي عاطلا عن العمل لمدة 17 عامًا، حتى تمّ انتخابه لرئاسة المجلس المحلي بتاريخ 8-11-1978 لمدّة خمس سنوات في اجتماع حزبيّ في عرابة. ولكن تمّ فصله من الحزب الشيوعي سنة 1989، لأنه قال بعد زيارة قام بها للاتحاد السوفيتيّ عام 1984: إنّ العالم الاشتراكيّ سوف ينهار، لأنّه مبنيّ بلا حديد ولا إسمنت على حد تعبيره! وانهارت المنظومة الاشتراكيّة سنة 1992. عدّة نشاطات خاضها حنّا إبراهيم:
*معركة استبدال الهُويّات الحمراء المؤقتة بهُويّات زرقاء دائمة، بمساعدة المحامي حنا نقارة الذي تبرّع بهذه المهمّة، موكّلا عن أهالي البعنة ودير الأسد، وحظي بتقدير موقفه فتردّد النساء في الأعراس والأفراح: طارت طيّارة من فوق اللّيّة/ الله معاكو يا شيوعيّة/ حنّا نقّارة جاب الهُويّة/ غصبٍ عن رقبة بن غريونا. *معركة إدخال عمّال البعنة للعمل مع عمّال يهود، في الكسّارة التي أقيمت على أراضي دير الأسد والبعنة. *معركة العمل في المحاجر في وقف دير الأسد، وبعدها في أراضي ساجور، ومحاولة البوليس منع الحجّارين من العمل، بتهمة عدم الحصول على تصاريح أو رخص للمحاجر.
*معركة المواطنين العرب لإلغاء الحكم العسكريّ الجائر الظالم في الخروج والدخول إلى المناطق المغلقة عسكريًّا، والذي استُعمل كأداة لسلب الأرض وسحبها من تحت أرجل أصحابها الشرعيّين، والحصول على تصاريح للعمل في المدن المختلفة، وكان العامل يحصل على تصريح لأسبوع أو لشهر في أحسن الحالات.
*معركة عمّال قطف الزيتون (الفرّاطين) للحصول على أجر ملائم من أصحاب كروم الزيتون، ثمّ معركة أصحاب هذه الكروم ضدّ الحكومة التي حددت أسعار الزيت بمبالغ زهيدة، فمن وقفوا ضد أصحاب الأراضي بالأمس، وقفوا معهم اليوم، كما يقول حنا: أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب.
*المعركة الهامّة ضدّ مصادرة (5500) دونم من أراضي دير الأسد والبعنة ونحف من أصحابها العرب، لإقامة مدينة كرميئيل اليهوديّة عليها، والتي تمّ الإعداد والنشر لمصادرة الأراضي لغاية أقامتها سنة 1961، وتمّ تدشين المدينة سنة 1964، فكنت تسمع في الأعراس الأهازيج الشعبيّة التي كان عنوانها التمسك بالأرض وعدم التفريط بأيّ شبر منها خاصّة: نادى المنادى في الجليل/ أرض العروبة للعرب/ شاغورنا مالك مثيل/ وترابك أغلى من الذهب/ ما نرتضي عيش الذليل/ لو صرنا لجهنم حطب.
*مظاهرة الخبز والعمل في عكا (לחם עבודה). *بعد طرده من الحزب الشيوعيّ بسنوات التحق بالحزب الديموقراطيّ العربيّ، لكنّه تركه بعد أن اكتشف رئيس له حزب وليس حزب له رئيس (السيرة الذاتية). *إصدارات الأديب حنّا إبراهيم: المجموعات القصصية: أزهار بريّة عام 1973، وريحة الوطن 1978، والغربة في الوطن 1980، و هواجس يومية 1989. الروايات: أوجاع البلاد المقدسة 1997، وموسى الفلسطيني 1998، عصفور من المغرب 2002. السيرة الذاتية: ذكريات شابّ لم يتغرّب 1988، وشجرة المعرفة 199. الشعر: صوت من الشاغور 1983، نشيد للناس 1992، وصرخة في واد 2007، مجموعة شعرية معدّة للطبع (بقية البيدر).
مداخلة د. منير توما بعنوان/ حنّا إبراهيم أديبٌ وشاعرٌ شيوعيٌّ أصيل وعروبيٌّ إنسانيّ: قد يحتار من يريد أن يكتب عن الأستاذ المخضرم حنا إبراهيم الإبن العريق لقرية البعنة العامرة ِ بأهلها، ايكتبُ عن الشاعر أم القاصّ كاتب القصة ِ القصيرة والرواية، أم كاتب المقالة الصحفيّة الاجتماعيّة والسياسيّة، فهو بتعدّد مواهبهِ قد طرقَ هذه الأقانيم الأدبيّة الثلاثة بمهارةٍ وإتقان، حيث أجادَ في كتابتها جميعًا شكلًا ومضمونًا، فكان سيّدًا للكلمة الصريحة الصادقة، وباعثًا للفكرة النيّرة الجليّة، ومؤتمنًا على تاريخ عايشهُ بحلوهِ ومُرّهِ، وإن كان قد تذوّقَ مرارةَ الدنيا أكثر من حلاوتها، فحلاوةُ الدنيا لجاهلِها، ومرارة الدنيا لمن عقِلا وفقاً لقول الشاعر، ومع كلّ هذا كان قانعًا راضيًا بدربهِ ومسيرتهِ الكفاحيّة الكادحة، ومتمرّدًا على الظلم والقهر والطغيان على مرّ العقود من حياته ِ العريضةِ الطويلةِ، والملآى بالمنجزات والمآثر المثمرة على شتى الصُّعُد الشخصيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة، مُتمنّين له موفور الصّحة والعمر المديد ليبقى نموذجاً ومثالًا للإنسان الوطني الحُرّ المعطاء لشعبهِ ومجتمعهِ وعالمهِ الإنسانيّ الواسع.
وعلى صعيد أدبيات الأستاذ حنا ابراهيم، فإنني بعد أن اطلعتُ على جانبٍ كبيرٍ من إنتاج وإبداع شيخ أدبائنا المُخَضرم، فقد ارتأيتُ أن أكتبَ وأتحدث اليوم عن شعره ِ بشكل خاصّ، من خلال مجموعتهِ الشعريّة التي تحمل عنوان "صرخة في واد"، وذلك انطلاقاً من كون الشعر زينة المجالس على حدّ قول الخليفة العباسيّ المأمون، وهذا لا يعني أنّ كتابات الأستاذ حنا ابراهيم النثريّة تقلُّ جودةً أو أهميّة عن قصائده، وإنّما لا يتّسع المجالُ هنا لتناول مؤلفاتهِ غير الشعريّة الغزيرة بالبحث والتحليل، تلك المؤلفات التي تتّسم أيضًا بالأناقة الفكريّة، والرشاقة الأسلوبيّة، والتعبير التصويريّ الثريّ الذي يلامس الحياة الشعبيّة الفلسطينيّة، ومشاعر معاناة الإنسان، وظروف المعيشة القاسية، وتماهيِهِ مع محبة الإنسان للوطن، وارتباطهِ وعشقهِ للأرض التي تعكسُ تعاطفَ وتآلفَ الكاتب مع المستضعفين والمُعذبين في الأرض، بكونهِ المثقّف الكادح الذي ناضل وتألّمَ وصبرَ رغم كلِّ المنغّصات والمظالم والمشاقّ التي واجهها وكابدها دون أن ينتابه يأس أو يعتريه ابتئاس، بل أنه كان وما يزال يسيرُ بإصرارٍ متبنّيًا الروحَ الشبابيّة بفكرهِ وأدبهِ وشعره وكيانه، متحدّيًا الزمن بعنفوان النسر المُحلِّق، وحكمة العصر المُدَقِّق.
وفي ضوء هذه المعاني، فقد كان َ أوّل ما استوقفني في مجموعة شاعرنا قصيدة "نشيد للشباب" (ص25)، من حيث كون هذه القصيدة تشكَّلُ عالمًا صغيرًا (microcosm  ) وصفيًّا تراثيًّا لحياة الإنسان الفلسطينيّ القرويّ في الأرياف، يبرز فيها الشباب ركيزةَ هذا المجتمع وقوّة دفعه نحو الحياة الكريمة بحُرّيّةٍ وسؤددٍ، بعيداً عن الذُّل والهوان وامتهان الكرامات واستباحة الحقوق، فهذه القصيدة بمثابة لوحة صوتية (vocal painting ) رسمها الشاعر برفاهة حسّ، وجمال فكر، وصدق واقعٍ ملموس دون أن يبالغ أو يغالي في عرض الأمور، ممّا يدلُّ على تشبّثِه بجذوره وانتمائهِ المتمثّل في صدق لهجته، ونقاء فكرهِ، وصفاء عبارته. ونلمحُ في هذه القصيدة دلالاتِ الفرحِ والسرور في مناسبات القرية الفلسطينيّة، بكلّ ما فيها من جماليّةِ الأجواء والاندفاقِ التعبيري الجميل لأهلها وشعبها بعفويّة وتلقائية منسابة، كما يتجسّد في الأبيات التالية: وعرسًا يدبكُ الفتيانُ فيهِ/ تكاد رؤوسُهُم تصلُ السحابا/ وصفُّ السحجةِ المشهورُ يزهو/ الحداةُ بهِ فيصطخبُ اصطخابا/ وجوُّ القريةِ المملوءُ سحرًا/ يحيلُ المرَّ حلوًا مستطابا/ وتنورًا تجمّعت الصبايا/ قريبًا منهُ يغوينا الشبابا/ وشيخًا لا يفُكُّ الحرفَ يروي/ حكايا تملأ الصغرى كتابا/ فيا لكِ من ذكرياتٍ إن تداعت/ يبزُّ شريطهَا الخيلَ العِرابا/ أبيتَ اللعنَ إنْ أنشدتَ أكمِل/ولا تحتسب لذي عَذْلٍ حسابا
ويتابع شاعرنا إكمالَ الصورةِ، بإشارتهِ الى معاناةِ وفقر الإنسان العربيّ مادّيًّا، رغم الثروات التي جاد بها الخالق على الصحراء العربيّة من نفطٍ وثرواتٍ معدنيّة يتمتعُ بخيراتها أولئك الذين يُبذّرونها على الغواني، تمشّيًا مع رغباتهم وملذاتهم، مهملين شعبهم ومتناسين استصلاح ورعاية أرضهم نحو الخير العامّ، ولكنَّ شاعرنا يبقى مُعَلِّقاً الآمال على الشباب لإصلاح الأمور وتقويم الاعوجاج، فيقول في نهايات القصيدة: وينسى أنَّ للفقراء ربًّا/ دعاهُ القاعدونَ فما استجابا/ حباكَ الّلهُ صحراءَ استحالت/ رمالُ قفارِها تبرًا مذابا/ ليجري بين أثداء الغوالي/ ويتركُ أرضنا قفرًا يبابا/ فليتَ ربوعَها بقيت مراعي/ وليتَ رمالَهَا ظلّت سرابا/ ونعلمُ أنَّ بعدَ العُسر يسرا/ وأنَّ لكُلِّ مُعضِلةٍ جوابا/ ألا أنَّ الشبابَ رقاةُ سِحْرٍ/ تَفُكُّ القيدَ تختصرُ العذابا/ وتصنعُ في البلادِ سلامَ بيتٍ/ وللمحتلِّ تكتبُ الانسحابا/ وتوجِدُ للشريدِ حمىً وبيتًا/ وتمنحُ كَفَّهُ ظفرًا ونابا/ لكَ الدنيا فأوْرِثها الشبابا/ وحَمِّلْهُ الأمانةَ والكتابا
ومن هذا النمط من الكلام الهادف يقوم الشاعر بتحقيرهِ وتنديدهِ بإهمال المهملين والمتغافلين والمنتفعين من المتنفذين في بلاد العرب، وذلك بِنَفَس شعريّ أصيل، وصراحة تتجسّمُ فيها عاطفتهُ الصادقة وطاقاته الفكريّة والفنيّة، وحماسةٌ لافتة، وكلمةٌ مؤثرة ثنبثقُ منها إيحاءاتٌ وتداعياتٌ رحبةُ الآفاق.
إنَّ الأستاذ حنا ابراهيم هو شاعرٌ مُجيد تنقادُ له القوافي، وتتغلغلُ روحُ الشاعريةِ في كيانهِ، فهو الشاعرُ المُحلِّقُ المُبدعُ الجامعُ بين متانةِ اللغة وجزالةِ الأسلوب، تلمسُ روحَ الوطنيّةِ الحقّةِ الصّافية في شعره الوطنيّ وفي شعره الإنسانيّ عمومًا، وتطالعُ انتقادَهُ اللاذع في شعرهِ الإنتقادي وفي طيّات قصائدهِ، وتطربُ ويهتزُّ شعوركَ، وتشاركُهُ عواطفَهُ الجيّاشة مع قوافيهِ عندما يأتي على ذِكْرِ أمانيهِ بالسلام في هذا الوطن وهذه الديار، ففي قصيدة "ويكون سلامٌ .. أمنية" ص50) نلتقي مع حنا إبراهيم شاعرًا سلاميًّا (pacifist) يدعو للسلام بين شَعبَي هذه الديار بتحقيق حلّ الدولتين، لأنَّ في ذلك حقنًا للدماء، حيث ليس هناك من جدوى في الحرب والعداء والتشدّد، وأنَّ المصالحة وإنهاءَ الصراع هي النهايةُ المثلى التي يصبو اليها الحكماء والشرفاء، من منظور الشاعر الذي يعبِّر عن ذلك في الأبيات التالية من هذه القصيدة: ويكونُ أن يتصافحَ الغُرَماءُ/ ويكونُ أن يتصالحَ الأعداءُ/ ويكونُ أن يتعانقَ العلمان في/ القدس الشريف وتمحّي البغضاءُ/ ويرفرفُ العلَمُ الفلسطينيُّ في/ الأقصى ولا تتعكّرُ الأجواءُ/ ما ينفعُ البسطاءَ أن يتكاثرَ/ القتلى وأن تتناثر الأشلاءُ/ أو ينفعَ الشهداءَ أنَّ دماءَهم/ طُـلّتْ وأن التضحيات هباءُ/ هذا الدمُ المسفوكُ ليسَ بخمرةٍ/ بجمالها يتغزَّلُ النُدماءُ/ بلغ العداءُ القرنَ لم يثبتْ سوى/ أنَّ التشدّدَ خطةٌ حمقاءُ/ لو راجع َ المتشدّدونَ حسابَهُم/ لم يحسبوا أنَّ الدواءَ الداءُ/ ورأوْا الخسارةَ في السلامِ غنيمة/ منها القويُّ يفيدُ والضعفاءُ/ لا تُرجِعُ الوطنَ المضَيَّعَ خطبةٌ/ ناريّة وقصيدة عصماءُ/ طالَ الصراعُ ولن تكون َ نهايةٌ/ إلّا بأن يتصالحَ الغرماءُ/ ويكونُ أن يتصافحَ الأعداءُ/ ويكونَ من بعدِ القنوطِ رجاءُ/ ويكونَ.. لكن لن تكونَ نهايةٌ/ إلّا التي يسعى لها الشرفاءُ
من هنا نرى أنَّ الأستاذ حنا إبراهيم وطنيٌّ مثمرٌ  في خدمةِ القضيّة الفلسطينيةِ والدفاعِ عنها، والدعوةِ الى سلام ٍ يضمنُ الحقوق، فهو يناضل بقلمهِ ولسانه في هذا السبيل، مُثابرًا كمناضلٍ شريفٍ مُميّز، في سبيل شعبهِ  وأمّتهِ وحريّتها، ودفاعهِ عن القضايا المصيريّة، ومقاومتهِ للظلم والطغيان، وسعيهِ في انتهاجِ الحلول الإنسانيّةِ السلاميّة الواقعيّة التي تنبذُ التشدُّد والعداءَ المتواصلَ الذي لا طائلَ منه، سوى سفكِ الدماءِ وإهدارِ الطاقات. إنَّ شعر الأستاذ حنا إبراهيم يمتاز بمتانةِ العبارة على بساطةٍ وسلاسةٍ، وبرشاقةِ السياق على رصانةٍ وغزارةٍ واندفاق، فأُسلوبُهُ جليُّ العبارةِ، واضحٌ بعيدٌ عن التعقيد والمواربة، وهذه تشهدُ لصاحِبهَا بالقدرةِ على تناولِ الموضوعاتِ العامرةِ بالعاطفةِ والشعور، والوجدان الدال على صدق الأحاسيس ونُبلِ الأخلاق، والصفات وما يتمتّع به من حكمة، جرأة، وتعقُّل، وروحٍ نبيلةٍ وتصلّبٍ أمامَ الشدائدِ وتقلّباتِ الزمن. وفي دعوتهِ الى السلام والأمان والاطمئنان لشعبه وأمتهِ والإنسانية جمعاء، فإنّما يعكس شخصية إنسان تكمنُ في أعماقهِ فضائلُ المحبةِ والتسامح والوفاء التي تتجلّى في مشاعرهِ وغرامهِ الفريد ببلدتهِ البعنة الحبيبة الى قلبه، حيث يقول في قصيدة "الحب الأوّل" (ص45–46): محبوبتي يا بلدتي أيتها الأجملُ في البلدان/ يا بعنتي نفديكِ بالأرواح والأموالِ والولدان/ ويا أعزَّ موطنٍ خيرُ جليسٍ أنت في الزمان/ قريتُنا يا إخوتي لا تنجبُ الملوكَ والأبطال/ بضعةُ فلاحينَ لُصّت أرضُهم فأصبحوا عُمّالْ/ لكن لهم في الأمر عند الجدِّ ما يُقالْ/ يدرونَ أنَّ اللهَ لا يغيّرُ الأمورَ والأحوالْ/ ما لم تُغيّرها- كما هم أثبتوا- سواعدُ الّرجالْ/ بالعَزْمِ والحِكمةِ والصمودِ والنضالْ/ وهكذا أحببتُها ولمْ أزلْ أحبّها لروحها الشّمّاء/ لأنّها أرضعتِ الأجيالَ من تربتها السمراء/ وربّت النشءَ على الشموخِ والعِزّةِ والإباء/ فقال كلُّ الناس عنها البعنة الحمراء/ واليوم لا لونَ لها لكنها نقيّة كالماء .
وهكذا، وبعد هذه الجولة القصيرة في ثلاثةِ نماذجَ من شعر الأستاذ حنا إبراهيم في مجموعتهِ الشعريّة "صرخة في واد"، نكونُ قد بلورنا موجزًا تحليليًّا تقريبيًّا للموضوعات المطروقة في قصائد المجموعة، باعتبار أنَّ القصائد الثلاث الواردة في هذه الدراسة تعكس وتعبِّر عن مُجمل معاني المجموعة، كمحصّلة لِما اعتملَ في صدر شاعرنا وفكرِهِ في مواقف متعدّدة ومتنوّعة شملت الوطنيّات، والاجتماعيّات والإنسانيّات، والتي لا يخلو الكثير منها من الأبعاد السياسيّة المباشرة وغير المباشرة ذات الطابع الوطنيّ تارة ً، والأمميّ تارة ً أخرى، وبالتالي نكون قد لمسنا ما لهذا الشاعر من مواهبَ شعريّةٍ، أثبتت أنّه فيّاض القريحة، يتدفّقُ الشعرُ عندهُ بإحساسٍ وبتعبيرٍ صادقٍ عن وجدانه، مُفعمٍ بشعورٍ مستكنٍّ في أعماقٍ ضميرهِ، ويترجمُ عمّا يجيشُ في نفسهِ من حسٍّ صادقٍ أصيل، لا تصنّعَ فيه ولا تكلّفَ، فلا غرو أن يكون شاعرنا من أصدق المترجمينَ عن آلامِ شعبهِ وأحزانهِ بمختلف جزئياته، فللأستاذ الكبير وشاعرنا الأديب حنا أبراهيم أجمل التحيات، وأطيب التمنيات بالصحة والعافية وطول العمر، والمزيد من العطاء والتوفيق.
مداخلة سهيل عيساوي: مع أنَّ بعضَ النقّادِ المحليينَ تناولوا نتاجَ الكاتبِ مثلَ: نبيه القاسم، ود. حبيب بولس، ود. محمود غنايم، ومحمد حمز ة، ومحمد علي طه وغيرهُم، وقدّمَ بعضُ الطلابِ أطروحةَ الماجستيرَ حولَ شعرِهِ، وبعضِ طلابِنَا في المرحلةَ الثانويّةِ تناولوا نِتاجَهُ ضِمنَ وظائِفِ البجروتِ، لكنَّ الحقّ يقالُ، إنَّ الرجلَ لم ينلْ ما يستحقّ، فأدبُهُ مسيرةُ شعبٍ، يستحقّ دراساتٍ أعمقَ وأكثرَ جدّيّةٍ، وفي نظري، أدبه وأدب مَن مثلِهِ من الأدباءِ المَحليينَ الكبارَ يجبُ ادراجهُ ضمنَ مناهجَ التعليمِ، وعلى المُحاضرينَ العربِ الكبارِ في الجامعاتِ الإسرائيليّةِ والكليّاتِ توجيهِ طلابهم لدراسةِ الأدبِ المَحليّ، وعلى النقادِ الكبارِ تناوُل الأدبَ المَحليّ بسخاءٍ وبصورةٍ نقديّةٍ وأكاديميّةٍ. نعرفُ أنَّ أبوابَ الشهرةِ أقصرُ لو تناولوا أدبَ طه حسين، وأحمد شوقي، والبياتي ومظفر النوّاب، ويوسف إدريس، والطيّب صالح وأدونيس. إنَّ مثلَ هؤلاء الأعلامِ لهم ألفَ مبدعٍ وناقدٍ في العالمِ العربيِّ يكتبُ عنهم، حتى تصيرَ المادةُ عنهم فيها نوعًا من الاجترارِ، ولكن مَن لِمُبدعينا؟! أعرفُ أنَّ هنالك إشكاليّة مُعيّنة بكوننا أقليّة في هذهِ البلادِ، وكلّنا يعرفُ الآخرَ عن كثبٍ؛ يعرفُ شخصَهُ لا نتاجَهُ، وقد نخجلُ من توجيهِ الانتقاداتِ الموضوعيّةِ للآخرِ. حانَ الوقتُ لكسرِ هذهِ الحواجز بعدَ أن أصبحَ العالمُ قريةً صغيرةً، ويجبُ معالجة النصِّ بدون اعتباراتٍ شخصيّةٍ، لخدمةِ النصّ والقضيّةِ الأدبيّةِ والأدبِ المَحليِّ والأدبِ عامّةً، والأمرُ يعودُ بالفائدةِ على الكاتبِ نفسِهِ، وأيضًا لدينا مشكلةٌ تسويقٍ مثلَ هذه الدراساتِ محليًا .
كتابُ "صرخةٌ في وادٍ" يقعُ في 276 صفحةٍمن الحجمِ الكبيرِ، إصدار مطبعة النهضة، بطباعة أنيقة، وغلاف يحمل لوحة لواد خالٍ من الحياة، حرصَ الكاتبُ على ترجمةِ اسم الكتاب للغتين العبريّة والإنجليزيّة كعادته في مجموعاته الأخرى، ويُهدي المجموعةَ إلى جيلٍ مضى وجيلٍ لم يولدْ بعد، ونلاحظُ أنّ الإهداءَ يَنسجمُ مع اسمِ المجموعةِ، فالإهداءُ يقتصرُ على مجوعتينِ: أولى خاضتِ الحياةَ وانسحبت منها، والأخرى لم تجرّبْ حظَها بعد، وكاتبُنا لا يُحبّ المُقدّماتِ التي تتصدّرُ الكتابَ، ليتركَ القارئَ يتصفحُ قلبَ الكتابِ مباشرةً بلا مقدّماتٍ، فهو يكتبُ تحتَ عنوانِ إيضاحٍ، وفي مجموعاتٍ أخرى مثل "أزهارٌ بريّةٌ يكتبُ بدلًا مِن المقدّمةِ أو توضيح، فهو لا يسوقُ المجموعةَ، بل يوضحُ نقطةً ما للقارئِ مُلحّةً بنظرهِ، ففي توضيحِه يشيرُ إلى أنَّهُ لا يٌحاربُ من أجل عمر كما قالَ القائدُ الفذُّ خالد بن الوليد، وشعرُه يفيضُ بالمَحبّةِ لشعبِهِ ولشعوبِ الأرضِ عامّة، وهو يؤمنُ أنّ الصّراعَ بين قوى الشرِّ والخيرِ أزليّ، لكنَّه يَطمحُ بالتوازنِ والعدالةِ الاجتماعيّةِ، وأنَّ فكرة إصدارِ الكتابِ عندما تقدَّمَ بهِ العمرُ ليتجاوزَ الثمانين، فكّرَ في جميعِ القصائدِ ليزفَّها إلينا بحُلّةٍ جميلةٍ، لنجدَ أنّ لشعر حنّا إبراهيم نكهة خاصّةٍ، تمامًا مثلَ حديثِهِ اليوميّ. بينَ ثنايا الكلماتِ وتحتَ حافةِ اللسانِ كثيرٌ من الصراحةِ والحكمةِ والمباشرةِ، يحملُ أنينَ الشعبِ وصرخاتِ المجتمعِ، ورسائل مباشرة للحكامِ والشعوبِ، وصورٍ منَ الصداقةِ ووفاءِ العهدِ للأصدقاءِ الأحياءِ والراحلينَ، ومواقفَ من الدينِ والسياسةِ وقضايا الأمّةِ والإنسانيَّةِ. تحتوي المجموعةُ (95) قصيدة، معظمُها نُظّمتِ في مناسباتٍ مختلفةٍ، منها (37) قصيدة رثاءٍ لأصدقاء ومعارف، فشاعر قصائد المجموعةِ ثائرٌ على أوضاعِ العربِ والعروبةِ، والديوانُ حافلٌ بقضايا ومواقف يُسجّلُها لنا الشاعرُ. في هذه المقالةِ نستعرضُ فقط همومَ الشاعرِ المتعلقةِ بالعروبةِ وقضايا الأمّةِ، وخيبةِ أملِ الشاعرِ من مكانةِ وسياساتِ العربِ والمجتمعِ العربيِّ هنا، مع أنّنا نلمسُ بعضَ نسماتٍ من الأملِ تهبّ، خاصّةً فيما يتعلقُ بالقضيّةِ الفلسطينيّةِ، وضرورةِ انتصارِ الحقِّ على جحافلِ الباطلِ، مع ملاحظاتِنا العامّةِ على المجموعةِ، ففي قصيدة "إلى الأخ الفلسطينيّ خلف الخط الأحمر" ص10 يقولُ: وعرف أنّ الحاكمين بأمرهم/ وبأنّ حرفَ الضاد لا يكفي/ ليُعطي بعضهم نسب العرب/ الأدعياء لمجدك انتسبوا/ دسنا على الممتاز من ميراثنا/ فإذا بنا نختار ما يرضي العدا/ يا إخوتي أنا متعبٌ بعروبتي/ وبشمل أمّتنا أراه مُبدّدا/ وقيادة محتاجة لقيادة .
وفي قصيدةِ نشيدٌ لفلسطين ص14 يقول: فإنّ ليلي طويلٌ طولَ غربتنا/ وإنّ يومي أمر كله وغدي. وفي قصيدة دموع الرجال ص29 يقول بحسرة: أمّا العروبة وهي تحمد ربّها/ وتصوم في أمن وراحة بال/ لا شيءَ يُشغلها سوى الأعداد/ للأخرى وتلكم غاية الآمال/ أمّا كبار الحاكمين فحظهم/ بذخ آناء الليل والآصال.
وفي نفس القصيدة ص31 يدعو شاعرنا الى ثورة تكنس عروش الطغيان: ما لم تدكّ إلى الأساس عروشهم/ وقصور كلّ مغامر دجال/ سنمر في التاريخ طيفا عابرا/ ونعيش ما نحيا بربع خال.
وكأنّ أمنياتِ الشاعر أخذت تتحقق في ظلّ ربيع الشعوب العربيّة، وفي قصيدة "واحيانا على بكر أخينا" ص32: عرب يُقاتل بعضُهم بعضا ما/ هو في سبيل الله والاوطان ذلكم القتال/ والأرض تعرف أنّهم عربان/ ذو مال وآخر دون مال/ بل يعرف الشيطان/ كيف يُكدّس المال الحرام/ وكيف ينفق في المخازي والضلال.
إشارة إلى كثرة اقتتال العرب مع بعضهم البعض وتجويع الشعوب بحجّة أمن الوطن، وكيف تُصرَف أموال النفط على طاولات القمار والبارات، وأمعاء أطفال العرب خاوية، فيطلب الشاعر الموازنة بين الدين والعلم في قصيدة "كلام مرّ على سمع فيصل الحسيني والمتوكل طه" ص38 يقولُ معاتبا: وأنا الذي أدري بما في شعبنا/ من طاقة لا تستغل فتهمل/ أنا مثل غيري متعب بعروبتي/ يتمزّق الصف الذي لا يعقل/ يبنون جامعة فنبني جامعا/ لم لا نشيّد كليهما أنا أسأل .
ولا يدّخرُ الشاعرُ العتابَ بين الأشقاءِ، لأنَّ ظلمَ القريبِ أشدُّ قسوةً وعنفًا، وحال اليومِ هو ثمرةُ تنكّرٍ وإنكار وتجارةِ الآخرينَ بجراحِنا الثخينةِ، فيقول في قصيدة "استقبال السفير الأردنيّ ص47: ليس ظلم الغريب هو ثقيل/ ما رماني بدائه ما رماني/ بل كما قيل ظلم ذوي القربى/ رمونا الى كلاب الزمان .
وفي قصيدة "دمشق سلاما" ينتقدُ الشاعرُ الكسالى الذين يحلمون فقط بالجنة، وهو يُكثرُ من تكرارِ هذه الانتقاداتِ في هذه المجموعةِ فيقول ص59: مَن قال إنّ صرير أسنان الضعاف/ يُخيف أعداء المحبّة والسلام/ وبأنّ في الفردوس مُتّسعًا لحشد/ لا يُعدّ من كسالى والنيام/ الحالمين بألف جارية وقصر/ من رخام فوق نهر من مدام/ والمغمضين عن الأذى/ والناطقين عن الهوى.
وفي قصيدة "عتابا اخوي في مهرجان اول ايار 1985 ص83 يقول: أيّام العروبة من بسوس/ وعاشوراء تبعث من جديد/ فنهجم والغريب على أخينا/ ونفخرُ بالشهامةِ والعهودِ.
وفي قصيدة "بين الماضي والحاضر" ص89 يتصفّحُ تاريخنا، فلا يجدُ به سوى الغدرَ والخيانةَ والتقاعسَ فيقولُ: فلا أرى غيرَ ما يَندى الجبين له/ من فساد ومن عار سلاطين/ مَن يشترون بدولار وغانية/ يطبقون علينا حكم فرعون .
وعن شعبنا الاسطورة يقول في قصيدة (أوّل أيّار بعد يوم الأرض كفر ياسيف 1976 ص104 :هو كالناصري إن يصلبوه/ ظلّ حيّا مصلوبه والدفين/ اِصلبوه يقمْ بثالث يوم/ اِسجنوه وهل تخيف السجون.
وفي قصيدة نظمت بعد الفوز بانتخابات 1974 يقول منتشيًا بالنصر ص115: ويقول حين يرى عروش تزلزلت/ والكادحين بسدة الأمراء/ شرف وايم الحق إنّي كادح/ يمشي بظلّ الراية الحمراء.
وفي قصيدة "مساء الخير يا أمّنا الأرض" ص120 يعود وينتقد أحوالنا وحياة البذخ والترف عن الأمراء العرب يقول: وطويل العمر مشغول بإحياء الليالي الحمر/ والسكر على مضجع ربات الحجال/ والذي يشتار من دبسا من قفا النمس.
وفي قصيدة "صرخة ألم" ص133 ينتقد حالة الانشقاق عن الذات فيقول: ماذا أقول ولم يفرق صفنا/ إلّا زعيم قام أو متزعم.
وفي قصيدة "وداع القنصل المصري 1993" ص136 يمتدحه الشاعر وبين طيات المدح عتاب للحكام العرب، ويفطن إلى أنّ استقامة مصر من استقامة الأمّة، وعزّة مصر هي عزّة أمّة بأسرها، وأنّ الزعامة العربيّة تليق فقط بمصر أمّ الدنيا يقول: أيّها القنصل المكرّم عفوا/ إنّ للأمر عندنا أحكامه/ علمتنا مدارس الدهر ألّا نعبد المتسبدّ أو أصنامه/ فغدونا بعقدة منه حتى/ لو أتى الناس مُشهرًا إسلامه.
وفي قصيدة "دعوة للمتفرجين" عام 1959، يقول وفي ظلّ الحملة الشرسة ضدّ الشيوعيّة، وحينه كان شاعرنا من أركان الحزب البارزين: أترضى أن تكون مع النيام/ وجلدك من سياط الظلم دام/ وترضخ للإساءة مستنيما/ ولا تصحو لوخز من ملام.
وفي قصيدة "هل نحن شعب أم حمائل؟" يطرح العديد من الاسئلة الفكريّة المشروعة حول تشرذمنا غير المبرر، وينتقدُ التصنيفَ الطائفيّ والحزبيّ والحمائليّ والعائليّ بين أفراد الشعب الواحد، فيقول ص151: هل نحن شعب أم قبائل؟/ وهل ننتمي لجذور أعرق أمّة / أم نحن مازلنا خليط من حمائل؟/ أيحسّ أحمد أنّ حنا كفه/ وذراعه اليمنى وصاحبه المناضل؟ ويخلص ص153 إلى نتيجة: ما حكّ جسمَك غيرُ ظفرك/ أيّها العربيّ فاختصر الجدال.
وفي قصيدة عن المتاجرين بالوطينة عن تعمّد وسبق إصرار ص158 يستثني الذين يتاجرون بالوطن والوطنية بحسن نيّة وما أكثرهم، يهاجم الأحزاب وقادتها وأدعياء الوطنية، ويتساءل ص161: يقال عنا شيعة قبلية/ وسوى الحمولة ما لنا أنساب/ عشنا وشفنا كيف يغدر شعبه/ نذل وينعق في الخراب غراب .
وفي قصيدة "الذكرى الخمسين لاستشهاد الشاعر نوح إبراهيم" يبكي الشهيدَ، ويرفعُه إلى مرتبة ما بعد الرسولِ، ويقصُّ عليه ما آلت إليه أحوالنا من تخاذلٍ وضياعٍ، لكن حسبه أنّ السلام يلوحُ في الأفقِ القريبِ أو البعيدِ الجميلِ، وص189 يقولُ: خمسين عاما والسؤال انتقني/ أعراب أمريكا أم إسرائيلا / خمسين والأردن يلعق جرحه/ وضفاف دجلة تستغيث النيلا/ والعالم العربيّ أعني شطره/ المستضعف المستعبد المكبولا.
وفي قصيدة "رثاء الرفيق خليل خوري" من أبوسنان 1987 يقولُ مستذكرًا نائباتَ الدهرِ على شعبِنا: أم لشعب أخنت عليه الليالي/ وهموم الرحيل بعد الرحيل.
وفي قصيدة في رثاء الاستاذ عبد العزيز امون من دير الاسد يقول ص269: فلا فرق بين شعب وشعب/ وبين المسيحي والمسلم/ كرهت الطغاة وظلم الطغاة/ ومن يظلم الناس قد يظلم.
وفي قصيدة "رثاء الشاعر جورج نجيب خليل" المعروف، يدسُّ لوعتَهُ على حالِنا فيقولُ ص240: لقد غادرتنا والساح ملآى/ بأسباب التعاسة والشقاء/ وشعبك في المناطق والمنافي/ يعاني كلّ أنواع البلاء .
الشاعرَ حنّا إبراهيم أجادَ بإتقانٍ قصائدَ الرثاءِ التي خصّها لأصدقائِه ومعارفِه من سياسيّين وشعراء ورجال دين، هي عامّة قصائد قصيرة فيها الكثير من الحسرة واللوم على الفراقِ المبكّرِ، ويمتدحُ الشخصَ الذي يرثيهِ، ويذكرُ اسمَهُ وصفاتَهُ الحقيقيّةَ وقبساتٍ من تاريخِهِ وسيرتِهِ، فله معارفُ كثرٍ، ويخلصُ لأصدقائِهِ القدامى ورفاقِ الدربِ وإن تفرّقتِ السبلُ بهم، حتى نجدُهُ يرثي مختارَ البعنة خصمَهُ السياسيّ ويمتدحُ افضالَهُ، وتغلبُ الحكمةَ على أشعارِ الرثاء كأسلوب المتنبّي، والتسليم بالقدَرِ المحتومِ، فهو لا يستطيعُ أن لا يرحّبَ بالموتِ، لكنَّهُ يطلبُ أن يزورَ الأحبابَ بعد سنّ التسعين .
في مجموعةِ "صرخةٌ في واد" يكثرُ من استعمالِ الإشاراتِ الدينيةِ الإسلاميّة والمسيحيّة في قصائدهِ، لكنَّ الإشاراتِ الاسلاميةِ هي الغالبة والطاغية في جلِ قصائدهِ، وهذا الامرُ يدلّ على سعة ثقافتهِ، فالأمورَ الدينيةَ تهمّهُ من منظورِ ملاحظاتهِ ومواقفهِ من عدّة قضايا، وتخوّفهِ من التطرّفِ وقبولِ الناسِ على أساسٍ طائفيّ: الله، رسوله، جنات الخلد، معانقة الصليب مع الهلال، هابيل وقابيل، نسل أبي لهب، الأقصى، الحجاب، الصوم، الحجّ، الأمين، لم يولد ولم يلد، أنبياء، الرحمن، الصلاة، محراب، الأتقياء، طهر، لو يُبعث المصلوب، عيشة نسّاك، تلاميذ أصفياء الرسول، المسيح، طوبى، قدر القضاء، بابا نويل، الموت حقّ، يهوذا، بطرس، تحوّل الخمر، أمر الناس شورى، أحاديث، الله أكبر، يسبّحون الله، نبي كاذب، الرشد، الإنجيل، القدس الشريف، جامع، صالحين، اعتصمنا بحبل الله، جند الله، البعث، مثقال ذرة، أطيع الله ورسوله، إكليل، البابا، بنو الله، سدرة المنتهى، أوثان، كفر، سابع سما، يسوع، يوم الحساب، الناصريّ، النبي محمد، ناموس، كتاب، مؤمن.
قصائد المجموعةِ كتبت على فتراتٍ متباعدةٍ، أغلبُها كتبت إثرَ حدثٍ أو مناسبةٍ سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ أو شخصيّةٍ، فحبّذا لو لم يحرص الشاعرُ على تحريكِ الكلماتِ في جميعِ القصائدِ لضمانِ سلامة اللغة عند القراءة، فبعضُ المقاطعِ في عددٍ من القصائدِ غابت والصورِ الشعريّة، بسببِ اعتمادِ الشاعرِ على الأسلوبِ المباشرِ كقولهِ في قصيدة الى الاخ الفلسطيني خلف الخطوط الحمراء ص10 "أحسنت حين ربطت ما بين النتيجة والسبب"، تكرارُ نفسِ المعنى في أكثرِ من شطرٍ واكثرِ من قصيدةٍ مع تبديلٍ طفيفٍ في بعضِ الكلماتِ في حديثِ الشاعرِ عن الظلمِ، ربما هذا الامرُ يشيرُ الى احساسِ الشاعرِ بالظلمِ على الصعيدِ الشخصيِّ وعلى صعيدِ أبناءِ الشعبِ الفلسطينيّ، خاصّةً وأنّ الظلمَ مقدّمٌ من ذوي القربى ومن بين الأصابعِ أثناءَ المصافحةِ. يقولُ الشاعرَ في قصيدة الى عرابة مع قصب السبق 1978 ص87 : صلوا نارين: من خصم قوي/ وعلقم ظلم ذوي قربى عميل
وفي قصيدة مرة أخرى عن أكتوبر 1975 ص94: إنّ ظلم ذوي القربى كما ذكروا/ أشدّ وقعًا من الهندي إن ضربا. وفي قصيدة استراحة الشاعر ص166 يقول: وظلم ذوي القرابة والأعادي/ وطعن الغدر في ظهر وبطن. وفي قصيدة في حفل تكريم محمد شريف خليلية ص165 يقول: لتقول: هم أهلي وإن جاروا/ أحقّ الناس بالشكر الجزيل. وفي قصيدة في استقبال السفير الأردنيّ ص47 يقول: بل كما قيل ظلم ذوي قربى/ رمونا الى كلاب الزمان. وفي قصيدة صرخة ألم ص134يقول: من ظلم ذوي القربى الأشد مضاضة/ حتى كان الخصم منه أرحم.
أمّا الملاحظةَ الأخيرةَ حولَ أمورِ العقيدةِ في قصيدة في رثاء الشاعر محمد شريف خليلية ص552 يقول: ما دام أمر البعث غير مؤكد/ فاحسب بعد الموت أن لا تلاقيا. الشاعرُ هنا يقطعُ أنّ أمرَ البعثِ غير مؤكّدٍ! والبيتُ غير موفقِ في سياقهِ، خاصّةً وأنّ القصيدةَ ليست فلسفيّة إنّما في رثاءِ صديقٍ، كذلك في موضعٍ آخرٍ، نفهمُ تحاملَ الشاعرِ على من يدّعي ويمتطي الدينَ كوسيلةٍ لتحقيقِ مآربهِ الشخصيّةِ، ومن يتستّرُ ويأخذُ من الدينِ أداءَ الفرائضِ دون أن يطبّقَ القيمَ الدينيةَ الساميةَ المرجوّةَ، كاحترامِ الغيرِ والصدقِ وصلةِ الرحمِ ووفاءِ العهودِ، لكن في بعض المواضع نلمسُ التعميمَ من الشاعِر كقولهِ في قصيدة في ذكرى الخمسين لاستشهاد نوح إبراهيم ص189: والدين ما ظلّ ابن مطلق لحية/ إلّا وأمسى لإله وكيلا. وفي قصيدة صرخة ألم ص133: ماذا أقول وكلّ مُطلق لحية/ في أمّتي سبحان وائل ملهم .
خلاصة: ديوانُ صرخةُ في وادٍ مجموعةُ شعريةُ تستحقُ الوقوفَ طويلًا للدراسةِ والتحليلِ، والتأملِ في سيرةِ شاعرٍ مجدٍّ وجادٍ يعشقُ الشعرَ والحرفَ، ويطوّعُهُ للروايةِ تارةً وتارةً للشعرِ وللقصةِ القصيرةِ، حتى احتارَ اهلُ النقدِ أين يصنفونَهُ! لقد أتقنَ صاحبُنا كلَّ صنوفِ الأدبِ بجدارةٍ، لانَّهُ يكتبُ من القلبِ الى القلبِ، ومن نبضِ الشارعِ والحياةِ التي عاركَها طولًا وعاركَتهُ طويلًا المجموعةُ تحملُ في طياتِها الكثيَر من تجربةِ الحياةِ العريضةِ والعميقةِ، وحكمةِ جيلٍ عاصرِ الأحداثِ الجسامِ، شاعرُنا يأبى إلّا أن يترجمَ لنا خلجاتِ قلبهِ، ويشاطرُنا أفكارَهُ وفلسفتَهُ ومواقفَهُ السياسيّةَ والاجتماعيّةَ والشخصيّةَ والأدبيّةَ، أحزانَهُ وأحزانَ الأمّةِ.       من خلالِ هذه المقالة استعرضنا موضوعًا واحدًا وهو حنا ابراهيم شاعرٌ مثقلٌ بعروبتِهِ، الشاعرُ يصرخُ في وادٍ، ظنَّ ان صرختَهُ في وادٍ غيرِ ذي زرعٍ، لكنَّ صرختَهُ سمعَها من به صمم، هي لم تكن صرختُهُ وحدهُ، بل صرخةُ والمُ مجتمعٍ وشعبٍ يشاطرهُ همومَهُ وآهاتِهِ ومحطاتٍ في مسيرةِ شعبٍ .


97
هيام أبو الزلف ترفرف بين أطياف قزح!
آمال عوّاد رضوان
نادي مسرح بيت الكرمة استضاف الكاتبة هيام أبو الزلف في أمسية ثقافيّة فنيّة، وسط حضور من الأقرباء والأصدقاء والأدباء، لإشهار ديوانها الشعري إسار الكلام، وذلك بتاريخ 29-8-2018 في قاعة مسرح بيت الكرمة في حيفا ، وقد تولّى عرافة الأمسية الممثل الفنان نبيل ضوّ، وكانت مداخلات عن الديوان لكل من الأدباء: د. راوية بربارة، وهيام قبلان وتركي عامر، وقد تخللتها فقرات طربيّة للمطرب إلياس عطا الله بصوته الرّخيم، وفقرة مع الحكواتيّة حنان أبو الزلف بنسج حكاية لإحدى قصائد إسار الكلام، واختتمت هيام أبو الزلف المحتفى بها اللقاء بكلمة شكر للمنظمين والمتحدثين والحضور، وثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة د. راوية بربارة: ما بين الهُيام وإسار البوح: مساؤكم ككرمة لها بيتٌ في القلبِ الذي يرفّ فرَحًا، على شواطئ حيفا العامرة بحاضرتها الثقافيّة المتنوّعة المتوزّعة بين أطياف قوسِ قزحِها، تلمّ به عنبَ الأدبِ، وتحتسي خمرَ الفنون، وتسير نحو أسرِها بإسارٍ من الكلمات التي تقيّدنا بمحبّتِنا للعطاء وللتواصلِ. الثيمة الواضحة التي يتناولها هذا الإسار ويترك لها الحبلَ على الغارب، إنّما هي ثيمة الحبّ الذي لم يتحقّق وصالُه، هذا الحبُّ العارضُ الذي لا بدَّ أن يزولَ كالفرَحِ، كالعيدِ، لكن مع زوالِهِ ستخلو القصيدة من المعاني، من الثيمة التي تملأ هذا الإسار، وستفرغُ الحياةُ من معناها، وتصبحُ بلا حبٍّ الموتَ الأكيدَ: يقولون للحبِّ عيدٌ ويمضي/ وهذا لَعَمري كوعدِ الجِنانِ/ فيومٌ وأُلقي بِوِزْرٍ فأسلو/ ومما أعاني ستخلو المعاني/ يقولون.. لكنْ هو الحبُّ عُمرٌ/ ونبضُ الفؤادِ كوقعِ الثواني/ وإنْ قلتُ دعني فموتي أكيدٌ/ حنانيْكَ يا حاضرًا في زماني (ص. 33)
وهذا الحبُّ بالنسبة للذات الشاعرة بمثابةِ الروحِ، ففي التفاتٍ في استعمال الضمائر، يقول عنوان القصيدة "هو الروح"، والروح مؤنثّة اللفظ، لذلك كنّا نتوقّع "هي الروح"، وهذا الالتفات في الضمائر إنّما أتى في عتبةِ النصِّ، لينبّهَنا إلى أنّ الروح التي تسكن الشاعرة هي روح الحبيب، فهو بمثابةِ روحِها: هو الروح حلّتْ بجسمي وروحي/ وقد كان عمري بلا الروح يسري
كنتُ أفضّل في الشطر الأوّل من البيت أن تستبدل كلمةَ "روحي"، لأنّها في تتمّة البيت تقول بأنّ عمرَها كان بلا الروحِ يسري، فهي وجدتْ روحَها وضالّتَها منذ وجدتَ حبيبَها، لذلك لا مكان لكلمة "روحي" في هو الروح حلّت بجسمي وروحي. والشاعرةُ لا ترى الحياةَ وكُنهَها إلّا من خلال عيني الحبيب: وإنْ تاهَ عن ناظري كُنْهُ عيشي/ بعينيه يبدو لذاتي وفكري.
وتوارب وتواري وتوازن بين الحبيب وبين الشِّعرِ، ليصبحَ الشِّعرُ حبيبَها وروحَها، ففي تراسلٍ للحواسِّ نسمع خفقَ النبضِ صوتَ صلاةٍ متأجّجة كأنّها النار: ونبضي صلاةٌ ستخبو بموتي/ ويبقى لي الروحُ في نبضِ شِعري. مع كلّ نبضةِ دمٍ تتدفّق نسمع صوتَ الصلاةِ، لكنّها صلاةٌ ستخبو نارُها، وما روحُ شِعرِها إلّا من نبضِ روح الكلماتِ التي ستحيي الشاعرةَ بقصائدِها حتّى بعدَ موتِها.
وبعدَ أن توازنَ بينَ الحبيب وبين الشِّعرِ، ترجع لتفصلَهما عن بعض، فنجدها تتّكئ على الأوكسيمورون "الإردافُ الخلُفيّ" بين "ما كنتُ أحيا" يعني الموت، وبين "إنْ ناءَ قبري" يعني الحياة؛ ولتتالي الخيبات، والمفارقة بين المتأمَّل، المتوقَّع وبين الموجود نرى الأوكسيمورون يأسر القصيدة والكلامَ، ليدلّل على مفارقات الواقع، فهي ستغدو ترابًا وهي على قيدِ الحياةِ، بخلافِ المعروف "من التراب وإلى التراب تعود"، فما كانت تحيا دونه، حتّى ولو بعُدَ قبرُها، لأنّه روحُها.
وفي قصيدةِ الفصول الأربعة، تغيّر مسارَ الطبيعةِ ودورتَها، لتخبرَنا بأنَّ فصولَ سنتِها تختلفُ عن فصولِ سنتنا: قد أشحتُ الوجهَ عن كلِّ الفصولِ/ لستُ أهوى يا غريبًا، غيرَ فصلِكْ/ يا ربيعًا في خريفي أو هجيرًا في شتائي، إنّني أحيا لأجلِكْ (ص28).
وقد تعدّت هيام دورةَ الطبيعة لتغيّرَ أيضًا مدارَ الأفلاكِ، فنجدُ أنّها قد وجدَتْ مدارًا آخر وكواكبَ غيرَ كواكبِنا، إذ وجدتْ لها شمسًا خاصّة فيها، غيرَ الشمس التي تشرقُ من الشرقِ، ، فمن هي/ هو شمسها يا ترى؟ نقرأ معًا من قصيدة "شمسي": "إنْ حلَّ"، إذًا هو الحبيب، هذا الشخص الذي يحوّل ليلَها نهارًا: إنْ حلَّ .. ليلي نهارٌ/ قد جاء في الليل يسري/ لو غابَ واسيتُ ذاتي/ سلّمتُ للّهِ أمري/ غارَتْ من الشّرقِ شمسٌ/ قد أشرقتْ شمسُ عمري (ص34).
 ونجدُها كأغلبِ أديباتِنا وشاعراتنا تخشى البوحَ، تخافُ قراءةَ المجتمعِ للنصِّ وكأنّه هي، وكأنّه واقعُها الذي ننبشُه أثناءَ القراءةِ، لندخلَ حجراتِ قلبِها ونكشفَ الأسرار، لذلك طالَ صمتُها: لقد طالَ صمتي وحارَ الفؤادُ/  ومالي منَ الأمرِ يغدو عليَّ. وما كان لها من منقذٍ إلّا الكتابة: وكمِ شاغلَ الحرفَ فكري لأنجو/ ويبدو ليَ الموتُ منّي إليَّ
 لكنّها على بوحِها ما زالت تخشى المجاهرة بمشاعرِها، وتقسو على نفسِها فتكبِتَ كلماتِها، وتسترَ المعاني وتراعي طقوسَ العقيدة، رغم أنّ حبَّها عبادة: أراني أداري شعورًا تعالى/ فحرفي خجولٌ ويبقى شقيّا/ وساديّةُ الصمتِ فيها بلائي/ وإنْ رُمتُ جهرًا فأقسو عليَّ
فهي بين اثنتيْن كلتاهما النار، لا تستطيع صمتًا فتبلى، ولا بوحًا فتقسو على نفسِها، لذلك تستر كلَّ المعاني لتقي نفسَها، فتوازن بين عقيدتِها التي تأمر بالسترِ وبينَ شعرِها: أيا قارئًا سِتْرَ كلِّ المعاني/ يقيني  سطورٌ بوجهي جليّا/ هو الحبُّ ديني ونبضي صلاةٌ/ أرومُ انعتاقًا فأخشى العليَّ.
وبعيدًا عن ثيمة الحبّ، نرى الديوانَ يكرّم شعراءَنا وأدباءَنا الذين اختطفهم الموت، نزيه خير: "يا نزيهَ الشعرِ باقٍ أنتَ دوما/ قُرَّ عينًا أنتَ حيٌّ في القوافي" (ص29)
وشاعرَنا الكبير سميح القاسم: ليسَ في الفقدانِ سلوى أو عزاءٌ/ غيرَ أنّ الموتَ مهزومٌ مُعابُ/ حارسُ الأوطانِ باقٍ في الكلامِ/ سوفَ يحيا الآنَ أكثرُ يا غيابُ (ص49)
ولمحمود درويش تقول: "طوبى لوطنٍ تقمَّصَتْ خريطتُهُ ملامحَ وجهِكْ" (ص57)
وطبعًا لا تنسى القريب الفقد عزيزَنا سلمان ناطور: للردى أذعنتَ قلنا "مستحيل"/ في ذهولِ الصمتِ قد لاذَ الجَنان/ كيفَ يا سلمانُ تمضي طائعًا/ ما عهدنا منكَ/ إلّا العنفوان (ص58)
وكيف تهرب الذات الشاعرة من هذا الواقع الرافض للتحقّق، ومن هذا الواقع الأليم؟ باستراتيجيّة البشر المعهودة: بالأحلام، لأنّنا عادةً نحلم بما لم نستطع تحقيقه، وما لم نستطع تجاوزُهُ واقعًا نتركُ له أحلامَ اليقظةِ لتعبث بمكنوناتِه وتثملُنا ونحن على قيدِ صحوة وتصهل فينا الأحلامُ كفرسٍ تجمح لنقفزَ فوقَ روتين هذا الواقع: قصيدة "ثمالة"(ص111): يقتحمُ صهيلُكَ يقظني../ يكُرُّ في صحوي/ فيفرُّ الحلْمُ نحو النسيان/ أتابعُ فلولَهُ/ تصفعني يدُ الجمالِ.. تُربِكُ حواسي/ تسقيني اليقظةَ حتّى الثمالة/ تعيدني إليكَ.. إلى أوّلِ الحلْم.
هو إسارٌ فكَّ شاعرتنا من قيدِها، حرّرت فكرَها بالكلامٍ الذي أسرَتْهُ وأسرَّتْهُ لنا، فمبارك هذا الإسار، وكلّ إنتاج وأنتم مسرورون.
مداخلة هيام قبلان بعنوان/ الموت "في إسار الكلام": ألقي الضوء على نماذج من قصائد هيام أبو الزلف (معبد في الغيب ص70): وذات شتاء/ سترتخي أصابعي القابضة على الوهم/ ويأخذني البين منك/ وأنا أحدّق في طيفك حتى الشّهقة الأخيرة/ لن تدع العواصف أحدا يعرف برحيلي/ وهي تحمل لوعتي نحو حلولي الجديد
وص(71-72): مابين مولدي وموتي الاّتي/ أحملك يا أناي على مدى صحوتي/ وأقاوم النّوم فقد لا يستحضرك الحلم/ أنا هناك بلا وعد أو وداع/ وهنااااك، وبعد عصور/ روحي الهائمة في مسافات الزّمن/ ستحلّ بأسطورة، سيكون لي فوق القمّة/ معبد يشرف على الجهات الأربع/ يدخله من يسلّم نبضه الى دقات السّاعة/ تعود بعمره نحو الصّفر
الموت إذن لدى هيام هو ولادة جديدة، بعث وحياة، الموت ليس وداعا أخيرا ولا غيابا، إنّما هو عودة، وإن كان في الموت الحياة نتساءل: لماذا نأتي الى الدنيا ونعبر مراحل العمر، ومن ثمّ نموت ونترك وراءنا كلّ ما بنيناه وأنجزناه؟ ومن هنا كانت دورة الحياة والموت والبعث هي الفكرة المحورية في الدين والأسطورة، الفكرة التي يتمركز حولها لا شعور الفرد في الماضي والحاضر.
معظم الأساطير في الزّمن القديم، عبّرت على أنّ الموت لم يكن أبدا مرحلة نهائية تضع حدّا لوجود الفرد، بل عمليّة تؤمّن عبوره لحالة أخرى من الوجود، مختلفة عن الحالة السابقة، وجميع الأساطير في تراث الشّعوب تشتمل فكرة الصراع الأزلي بين الخير والشّر، من حفظ الحياة وإبعاد الموت والأذى، فالخير هو الحياة والخصب والسعادة والنور، والشّر هو الموت والدّمار والخوف والظّلام، لكن ما تركته لنا الحضارة المصرية القديمة من تجسيد الموت، كان واحدا من أبرز المعالم الحضارية التي عرفها تاريخ الشعوب، من حفريات واكتشاف ثروة من المعابد والأهرامات والقبور، مرفقة بوثائق ونقوش ومومياءات أثارت ذهول العالم، وكانت خير شاهد على فكرة الموت، هكذا جسّدوا الأمل بالخلود، وحين يصف الباحثون عقائد ما بعد الموت المصرية بـ (عقائد الخلود)، فهي في الحقيقة نوع من (الإسكاتولوجيا)؛ أي ما يعتقده الإنسان عن الموت من أساطير قبل الموت وبعده، أي عن فكرة خلود الإنسان بعد الموت، وبقائه حيّا بروحه وجسده في عالم الآخرة، وهي بلا شك تشكّل ركيزة من ركائز أيّ دين، سواء كان في فترات ما قبل التاريخ أو الحضارات التاريخية، ومن هنا يرى بعض المفكرين أنّ الحياة ما هي الاّ الموت نفسه، وقد صوّر لنا هذا الموقف تصويرًا رائعًا (لافونتين) في إحدى حكاياته الشهيرة التي أسماها (الموت والحطّاب)، ولافونتين من أكبر شعراء فرنسا في القرن التاسع عشر إذ يقول: "ما بالك وأنا أحاول الآن أن أجعلك ترى في الحياة ما رأيت أنا فيها، من أنّها هي الموت، وأنا إذ أقول الجد ولا أقول أنّ الحياة هي الموت في فترات اليأس، بل أصفها بذلك في أفراحها وأتراحها، في حلوها ومرّها، ولا يعنيني إذا كانت هذه اللحظة لحظة سعادة أم شقاء". إذن؛ فإنّ الإنسان لا يحيا إلا وهو يموت، ممّا يوكّد فكرة (حتمية الموت) لدى (فولتير) حين قال: "الجنس البشري هو الجنس الوحيد الذي يعرف أنّه سيموت، وهو يعرف ذلك من خلال التجربة، فكلّ البشر قدّر عليهم الموت". الشاعرة هيام في بحثها عن الحياة انطلاقة نحو تغييرعالم ومكان ونفس، مع تأكيد (حتميّة الموت) في قصيدتها سفر التكوين (ص77 وص78) تقول: تركل حلمي أرجل الانتظار/ تتلاشى روحي تحت وطأة الثّواني/ فأقول ربّاه أين هو الموت؟/ أنت لست ثابتا كالموت/ لست صادقا كالموت/ لست أبديا كالموت/ ستزول يوما ويبقى الموت/ سيفنى الكون قطعا ويبقى الموت/ وعندما تشهق اَخر ثانية في الوقت/ سيكون الموت.
هيام هنا لا تهرب من الموت، بل تؤكّد حتميته وثباته وصدقه وأبديته، هو الباقي بعد فناء الكون، هي نظرة واعية وعميقة لفلسفة الموت لدى هيام، وبتحدّ كبير دون خوف، لأنّ الولادة تقتضي الفناء والكون يقتضي الفساد، ولا بد أن يكفّر هذا العالم عن خطيئة ميلاده بالفناء، يفنى ليولد عالم جديد هي العدالة المنشودة في نظر الشاعرة هيام، من حيث أنّ الفناء كما يرى بعض الفلاسفة: أنّ الفناء تكفير الوجود بطبيعة خطيئته، أما فكرة الخلود فقد تطورت على يد ( فيثاغوروس) الذي علّم تلاميذه تناسخ الروح وتطهرها في عجلة الميلاد، لأنّ الروح تحلّ في الجسد وتغادره عند الموت، وبعد فترة من التطهير تدخل جسما اَخر .
وفي انتصار الحياة على الموت تنقلنا شاعرتنا الى قصيدة (إيزيس)ص82، وتتقن عملية إسقاط جميل في قصيدتها بانتصار الحياة على الموت، وبتجسيد أسطورة إيزيس للخروج نهائيا من دائرة الفناء، وتمكّنها من جمع أعضاء أوزيريس لترتدّ له الحياة، وهذا الرجوع إنّما هو رمز لتجدّد الطبيعة والخصب وقهر الموت، وهيام في إيزيس تخرج من دائرة صمت الضجيج الى صخب الصمت، ومن قحل خصبهم الى خصب قحلها، ومن برد دفئهم الى جذوة يذكّيها احتمال وألف ألف علامة سؤال. هكذا هيام فراشة من ألوان ونغم كما تقول: تبتسم الجفون/ معهم ..لكنّها وحيدة وحيدة/ قدّ منفاها من سكون/ ولكنّها في عرس ما له صدى/ لها الأزل والأبد وما بينهما من المدى
وتنتقل هيام الى ص84 لتقول: وفي الركن القصيّ حيث يصحو الأرق/ يرتعش بيدها القلم/ نطفة نطفة يسيل الكلام/ ويختلج الورق ...
وفي قصيدة (سيزيف- ص108) تصل الى فكرة العبث أو المحال، وسيزيف هو نموذج لعبثية الحياة، إذ يهبط في كلّ مرة من الجبل الى الوادي، ليقبض على الصخرة ويدفعها من جديد الى القمة، وتكمن قوته بتكرار عقيم، وهنا قوّة السؤال: هل تستحق الحياة أن نحياها كما تساءل (ألبير كامي) في أسطورة سيزيف؟ هو يسأل عن معنى الحياة، فيبرز تجربة (العبث) بوصفها وعيا بالموت ورفضا له في نفس الوقت، هذا الشعور عند ألبير كامي يشبّه نشأة الشعور بالعبث بمولد عاطفة الحب في قلب الإنسان، كلاهما يهبط عليه من حيث لا يدري، شعور مفاجئ قد يؤدي الى إصرار وتمرّد، لذا كان تمرّد هيام في نص (سيزيف) بسخطها على العجز والظمأ والحزن والغياب، وقد قدّمت أسطورة (سيزيف) أنّ من واجب الإنسان وكرامته احتمال الوجود العبثي أيضا في حياته والتّصدي له، وهيام فعلت ذلك بقولها: كلّ يوم أغذّ السّير اليك/ أتعب، أستظلّ بعجزي، أظمأ/ أرتوي من معين دمعي/ أجوع، ولا ينفذ حزني/ على متكأ غيابك أمضي/ ولا أصل..
هذا النضال المستفز إبهارًا هو الموت عند هيام، حياة جديدة ومتّسع للبقاء والحلم والحبّ، بإدراكٍ لا يقبلُ الشّكّ كما تقول هيام: طالما أدركت أنّ الموتَ ظلّي/ مع ثواني العمر يجري نحو رمسي/ ليس أمسي، ليس يومي والمآتي/ غير فصل واحد يجثو لحسّي/ لو يطول العمر، لي معنى لعمري/ فابق يا معناي دوما فوق رأسي/ إن تخلّى، سوف أمضي في سرور/ بين جفني طيف أحلامي وأنسي
مداخلة الشاعر تركي عامر: الجمهور الجميل، من الجولان والمثلّث والكرمل والجليل. أسعد الله مساءكم بكلّ خير وحبر وحبّ وحدب وحنوّ وحنان. مين حنان؟ حلوة؟ قدّيش عمرا؟ عندا فيسبوك؟ تذكّرت يا أخوات الفسبوكة، اللّي عامل عليّ بلوك يتفضّل يعطينا عرض كتافو يفكّ البلوك ويضيفني ويرجع لهون. هون فين يا سول مامتك؟ وجهك ع الحيط.. وجهك ع الحيط !
لم أكن أحبّ "بيت الكرمة"، أمّا اليوم فصرت أحبّه مرّتين، مرّة لاستضافته هذا الاحتفال الفاغم بتوقيع كتاب لأخت وصديقة وزميلة أحبّها وأحترمها شخصًا ونصًّا، ومرّة لأنّه ("بيت الكرمة") وفّر لنا "دوخانًا" يليق بذوي المقاسات الخاصّة.
 الفرندات والفرندون الأعزّاء، الّلايك عليكم وزحمة الكومنت وحركاته. الزّملاء، سليم ضوّ، هيام قبلان مصطفى، محمد حمد، راوية بربارة، حنان أبو الزّلف، الياس عطا الله. المحتفى بها، عروس هذا المساء هيام أبو الزّلف. أسرة المحتفى بها، آل منصور وآل أبي الزّلف (من الملعقة الصّغيرة وصولًا إلى الكفكير الأكبر. (لست ناقدًا بالمعنى الحَرفي والحِرفي. للنّقد رجاله ونساؤه وهؤلاء قوّامون وقوّامات عليه. لا تتوقّعوا منّي كلمةً مهنيّة في الكتاب. ليس في جعبتي إلّا تحيّة صديق يحبّ ما أنجبت صديقته (وين المغلي؟).
تحيّة زميل يفرح لفرح زميلته بإنجازها الجميل. ولنا مع الفرح موعد ثان إن شاء الله يوم زفاف أمل وحلمي الغاليين. ألف مبروك سلفًا وخلفًا وعقبال النّيدز أجمعين. لست ناقدًا مهنيًّا ولست وصيًّا على من يكتبون. فصمتنا قاعة واسعة تتّسع لجميع الأصوات. لكنّها فرصة لأقول لكتّابنا وشعرائنا، النّاشئين منهم والنّاتئين: إضافة إلى حرصكم على دقّة اللّغة رسمًا ونحوًا وصرفًا (وهذا مقدور عليه)، فلتتركوا الثّرثرة الإنشائيّة والكلام الخطابيّ المنشّى إلى غير رجعة، ولتبتعدوا عن الحشو والإسهاب والهذر والإطناب ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا من حذف وإيجاز وتكثيف واختصار، وليكن ما تكتبون واضحًا أنيقًا بسيطًا عميقًا، ولكن لا ضير بقليل من الغموض، فهذا يفرح قلب القصيدة وقلب القارئ أيضًا، ولتكن كيمياء الكلمات متطابقة مع فيزياء المعاني قدر الإمكان، وأخيرًا في هذه الشّأن، حبّذا كان المكتوب شديد الشّبه بالمكبوت والمكبوس، ولو كان هذا خارجًا من كابوس.
وبالعودة إلى هيام، وما أحلى الرّجوع إليها، قبل أقلّ من سنة قلت فيها: لَهَا فِي الْقِرَاءَةِ عَيْنُ الصُّقُورْ،/ تَصُولُ تَجُولُ وَلَا يَعْتَرِيهَا غُبَارُ غُرُورْ./ تَرَى مَا وَرَاءَ السُّطُورِ سُطُورًا وَرَاءَ سُطُورْ./ هُيَامُ شَقِيقَةُ رُوحٍ، رَفِيقَةُ رِيحٍ،/ بِحُبٍّ تُحَاوِرُ شِعْرِي،/ وَلَيْسَتْ تَضِنُّ بِصِدْقِ الشُّعُورْ. أمّا اليوم وبعد صدور كتابها الأوّل، أقول: لَهَا فِي الْكِتَابَةِ بَيْتٌ وَزَوْجٌ وَخَمْسُ بَنَاتْ/ وَقَلْبٌ كَبِيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاةَ،/ لَهَا فِي الْحَيَاةِ كِتَابٌ عَلَى أَرْضِنَا يَسْتَحِقُّ الْحَيَاةْ.
لا أقول ذلك من باب المجاملة الكسولة أو الضّريبة الكلاميّة. أقول ذلك لأنّنّا أمام أديبة تتقن اللّعبة الحبرولوجيّة بشكل لافت، أمام من تمتلك موهبة جميلة وتجربة طويلة وثقافة لا يخجل بها كبار الأدباء. إلى ذلك، وفي هذا السّياق المرأوي، ليس سهلًا على المرأة الكاتبة (العربيّة خصوصًا وتخصيصًا وخصخصةً) أن تكون زوجةً وأمًّا وعاملةً بوظيفة كاملة ولا يتبقّى للقراءة والكتابة إلّا القليل القليل من الزّمان والمكان. مثلّثة النّعم الأدبيّة (شاعرة وقاصّة وناقدة). لم تصدر باكورة روحها البيضاء إلّا بعد أربعين عامًا من "التّيه" في صحارى الفضاء. بعد طويل انتظار وجميل انتصار. بعد تأنٍّ وتريّث وإعادة ترتيب أوراق وأشواق وأخلاق، تتحفنا هيام بمجموعتها الشّعريّة الأولى، "في إسار الكلام" (2016)، صادرة عن "دار الكلمة" لصاحبها الصّديق الشّاعر والكاتب والفنّان معين حاطوم. ألف مبروك للصّديقة الأستاذة هيام أبو الزّلف لهذا الإصدار الباذخ. قدمًا إلى حيث الأمام يا هيام.. وإلى المزيد من العناوين في مختلف الجانرات الأدبيّة الّتي تتقنين. أمّا بعد، ولأنّي وعدت سليم ضوّ أن ألتزم بأقلّ من عشر دقائق فأكتفي بما يلي: في كتابِ هيامْ،/ "في إسارِ الكلامْ"،/ تجدونَ كلامًا يعيدُ البريقَ لفنِّ الكلامْ،/ تَجِدُونَ كَلَامًا يَقُول كَلَامًا بِدُونِ كَلَامٍ يُتَرْجِمُ بَوْحَ الْهُيَامْ/ تَجِدُونَ كَلَامًا يُعِيدُ الْحَيَاةَ لِمَا فَاتَنَا مِنْ رَمِيمِ عِظَامْ،/ تَجِدُونَ قَصَائِدَ حُبٍّ بِإِبْرَةِ حُلْمٍ وَخَيْطِ سَلَامْ،/ تَجِدُونَ قَصَائِدَ حَرْبٍ عَلَى حُلَفَاءِ الظَّلَامْ
مداخلة هيام ابو الزلف: وفي الختام كانت كلمتي حيث شكرت كل من أسهم في نجاح الأمسية، قمت بعدها بقراءة قصائد تمثل أنواع الشعر المختلفة: الكلاسيكي، وشعر التفعيلة، وقصائد النثر.
مما ورد في كلمتي: الشاعر تركي عامر القادم من أعالي الجليل، ذكرته في مقدمة الكتاب بما يلي: للْمبدع ((تركي عامر)) فضْلٌ وأثر على ما أكتب.. ولا أبالغ إن قلت أن قصيدتي قبل التَّعرّف إليه عام 2009 من خلال منتداه الأدبيّ "ورقستان" هي غيرُها بعدَه.. "أنت تكتبين الشعر الحر، وفي نفس الوقت تعتمدين السّجع، قصائدُك تبدو كرجل عصريّ بسروال جينز ولا يتنازل عن الْعباءة، إذا أردت أن تكتبي قصيدة النثر، اتركي السّجع". نعم، كنت أعتقد أنني أستمدُّ الإيقاع من القافية. وإذا هي في عرْف الشّاعر "تركي عامر" مجرَّد سجع، ما دام الشّعر لا يُلتزم فيه بالأوزان، وبأن قصيدة النّثر تستمدّ إيقاعَها من جمل قصيرة موحية.. وكم ساعدني بملاحظاته حول سمات شعر التّفعيلة، وحول ما لا يجوز في القصيدة العموديّة.
.. إليك شاعرنا أقول: لِتُرْكي وللـشِّعْـرِ أُجْزي التَّحيّة/ لحبْرٍ نظيفٍ وحُسْنِ الطَّويّة/ إلى الحقِّ والخيْرِ والحُسْنِ ترنو/ فتزهو وتسمو بِكَ الْأبْجَدِيّة/ فأرجـو لك الخـيْرَ كـيْفًا وكـمّا/ فذا الخيرُ.. منهُ الْمَعاني عليّة
شاء حسن طالعي أن أستمع إليه في مداخلتين رائعتين في أمسية الأديبة حوا بطواش، وفي أمسية الشاعرة نبيهة جبارين في نادي حيفا الثقافي الّذي يديره الرائعان الأستاذ المحامي فؤاد نقارة وزوجُه سوزي، مما جعلني أعد نفسي بأن يكون ضمن من سيدلي بدلوه في أمسيتي، إنه د. محمد حمد، وأعرف بأنني لن أفيك حقك حين أقول: امتناني دونَ حَدٍّ يا محمد/ من بنهر العلمِ والإدراكِ عُمّد/ قَد بهرتَ الكلَّ في حسْنِ البيانِ/ كم أجدْتَ الْقولَ يا فذًّا تفرّد/ ذو حضورٍ منْهُ سحْرٌ اعْترانا/ مدهش من ساح في الأرقى وأبعد
اختياري للدكتورة راوية بربارة كان أمرا بديهيّا، فهي إلى جانب ثقافتها وسعة اطلاعها أديبة، ملمة باللغة العربية، تملك أدوات نقد كل الألوان الأدبية، وأعتبر نفسي محظوظة إذ استمعت إليها في أكثر من نشاط ثقافي.. فاستمتعت واستفدت: كمًّا من الكيف قد أجزيتِ يا راوية / يا منّةً من إلهي إذ أجدْتِ العطاء/ يسمو بك الفكر والمعنى ويعْلو البيان/ إن كان من مرتجًى باقٍ فأنتِ الرّجاء / ما دام لي خافقٌ الْفضْلَ لن أغفِلَه/ جَمٌّ منَ الْحُبِّ في قلبي.. يطالُ السّماء
الصّديقة الشّاعرة هيام قبلان كانت بالنسبة لي المثلَ الأعلى، ومحطَّ إعجابي ومبعثّ فخري، وهي الرائدة من وسطنا الدرزي التي اقتحمت مجال الأدب، فسلطت عليها الأضواء لتكشف إنسانة جريئة تتحلى بالكاريزما والإلقاء الجميل. كم سحرني صوتُها وثقتها بنفسها وثقافتها، في لقاء إذاعي مع زكي المختار،كنت أتطلع إلى يوم أتقرب فيه منها وأصبح صديقتها.. ويا لي من محظوظة: هيامُ الشّعرِ جادَتْ بالكلامِ/ فكانَ الطّيبُ منْ نفْحِ الْهُيامِ/ وكانَ اللّحْنُ يَأتينا بسحْرٍ/ فتصبو الرّوحُ شوقا للتسامي/ إليْكِ الْحُبُّ منْ قلبي يسيلُ/ كنَهْرٍ نَحْوَ بَحْرٍ منْ سلامِ
أنا أدّعي أنّه وراء كلّ قصيدةٍ حكاية.. فالشعر -مع أنه جانر يختلف عن السرد- هو الابن الشرعي لقصة نسجت أو ما زالت تنسج، وقارئ القصيدة أو سامعها يطلع فقط على الاعتمالات الشعوريّة الّتي سببتها الأحداث التي خبرها ويخبَرها بطل القصة أي الشاعر.. لذا أقول لحنان أبو الزلف: كالكرملِ المطبوعِ بالزّعتر/ مجبولةٌ بالسّحرِ هذي الحنان/ أدهشتني بالسّرد أمتعتني/ أهوى حكاياتٍ تشي بالجُنان/ اسْعَيْ نحو أفقٍ وضُمّي السّنا/ هاتي لنا فخرا ونالي الأمان
قرأت عبارة بالعبرية لا أعرف من أطلقها، مفادُها أن روح الدعابة هي أمر جديّ، בדיחה זה עניין רציני، وفعلا، من يمتلكون روح الدعابة هم الأذكياء بالضّرورة، بل العباقرة، فهم يتحلون بسرعة البديهة، بالإلمام بالسياق الاجتماعي والسياسي والديني والنفسي، بالإبداع الباهر، إذ إن في كل نكتة مفارقة مدهشة، أحد هؤلاء هو سليم ضو: مثلُ الثريا في تسام باهر/ لكن من الألبابِ دانٍ مستَديم/ يستحضِرُ الإبهاج من عمق الأسى/ حتّى تخالَ الكونَ ذا مثل النعيم / خصْمي اغترارٌ واختيال بائسٌ/ لكنّني أزهو بلقيا ذا السليم/ إذا انفرجتْ أساريرُ الكـلامِ/ يجيءُ البوحُ مشدودٓ الحِـزامِ/ نُحنّي الصّمتٓ إكليلاً لِسِفْرٍ/ منٓ الأنسامِ من قلمِ الهيامِ !! الشاعر مجيد حسيسي
"في إسارِ الكلامْ"،/ تجدونَ كلامًا يعيدُ البريقَ لفنِّ الكلامْ،/ تَجِدُونَ كَلَامًا يَقُول كَلَامًا بِدُونِ كَلَامٍ يُتَرْجِمُ بَوْحَ الْهُيَامْ/ تَجِدُونَ كَلَامًا يُعِيدُ الْحَيَاةَ لِمَا فَاتَنَا مِنْ رَمِيمِ عِظَامْ،/ تَجِدُونَ قَصَائِدَ حُبٍّ بِإِبْرَةِ حُلْمٍ وَخَيْطِ سَلَامْ،/ تَجِدُونَ قَصَائِدَ حَرْبٍ عَلَى حُلَفَاءِ الظَّلَامْ. الشّاعر تركي عامر
أنا أدّعي أنّه وراء كلّ قصيدةٍ حكاية، فالشعر- مع أنه جانر يختلف عن السرد- هو الابن الشرعي لقصة نسجت أو ما زالت تنسج، وقارئ القصيدة أو سامعها يطلع فقط على الاعتمالات الشعوريّة الّتي سببتها الأحداث التي خبرها ويخبَرها بطل القصة، أي الشاعر، لذا أقول لحنان أبو الزلف: كالكرملِ المطبوعِ بالزّعتر/ مجبولةٌ بالسّحرِ هذي الحنان/ أدهشتني بالسّرد أمتعتني/ أهوى حكاياتٍ تشي بالجُنان/ اسْعَيْ نحو أفقٍ وضُمّي السّنا/ هاتي لنا فخرا ونالي الأمان


98
جريس عوّاد يقدّم على طرف اللسان حلاوة!؟
آمال عوّاد رضوان
أمسية ثقافيّة أقامها نادي حيفا الثقافيّ برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا، وذلك احتفاءً بالكاتب جريس عواد، وإشهارًا لكتبه "الصدى" و"مورد الأمثال" و"تعابير ومصطلحات" و"إبداعات وشخصيات"، بتاريخ 8-9-2016 في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، ووسط حضور من الأقرباء والأصدقاء والأدباء، وقد تولت عرافة الأمسية الكاتبة فوز فرنسيس، وتحدّث عن الكتب المذكورة كلٌ من: رشدي الماضي ود. نادر سروجي، وفي نهاية اللقاء شكر الكاتب جريس عواد الحضور والمنظمين والمتحدثين، ومن ثمّ تمّ التقاط الصور التذكارية!
 مداخلة فوز فرنسيس: الحضور الكرام مع حفظ الألقاب؛ استللتُ بعض خيوط النور من الشمس الغائصة هنا عند شاطئ حيفا، لأنيرَ بها هذا المساء الذي يجمعني بكم. مساء ينضح شوقا للّقاء بمعشوقة تجمع شملنا؛ لغتنا العربية. مساؤكم قناديل متعطشة لزيتِ حبّ المعرفة والفكر. يا طيب هذه الأمسيات التي تجمعنا في كنف نادي حيفا الثقافي وحضن المجلس الملي الدافئ مساء كلِّ خميس، في لقاءات أدبية ثقافية مميّزة، فالشكر الجزيل لمن يدأب ويعمل على التنسيق والترتيب من أجل إنجاح هذه الأمسيات. تحيّةً مودّة واحترام لكلِّ من باتت هذه اللقاءات جزءًا من نمط حياته تُغنيه وتُغذّيه، وتحية شكر وتقدير للضيوف ولكلِّ من لبّى الدعوة هذا المساء تحديدًا، آملة أن يتكللَ لقاؤنا هذا بالنجاح، فتجنون ولو نزرًا يسيرًا من المعرفة والإفادة.
قد تقضّ وتؤرّق هوايات الطّفولة مضجع الكبر، وقد تكبِّلُ الخيالَ وتغزو الفكرَ أحلامُ الصّغر، وبعض النفوس لا يستكينُ صخب هديرها، إلّا بارتطام أمواج عصفِها بآفاقٍ تفوقُ بُعدَ النظر، وتتعدّى ذبذباتها حدود البصيرة والبصر، لترسوَ هناكَ عند شاطئ الإبداع، مُودّعة نبضَ الإلهام ونزفَ الحبر والقلم.
إنّه ابن الناصرة المهندس المعماري جريس عوّاد، الذي طوّع قلمه وفقَ إرادته، فراحَ يرسم به خرائطه حينا، ويسجّل قولا وحكمة أو قصة قرأها حينا آخر، وهو الذي يرى رسوماته الهيكيليّة تتجسّد على شكل بنايات، أبى أن يحتفظ  بما اطّلع عليه من كنوز الأدب والمعرفة والثقافة لذاته، فارتأى أن يشاركنا ويطلعنا على ما اكتسب، مُجسِّدًا ذلك في إصدارات  متنوعة؛ لا غاية يرجوها سوى المساهمة كابن غيور لهذا  المجتمع  بالنهوض بمشهدنا الثقافي قدر استطاعته، من خلال حثّ  القارئ العادي صغيرًا كان أم كبيرًا على مطالعة القصص التي جمعها في إصداره الأول "الصدى"، وهي قصص قصيرة بسيطة لغويا، لكنها شائقة وهادفة تحمل في ثناياها قيمة تربوية واجتماعية، وهنا أشير الى النجاح الكبير الذي أحرزه هذا الكتاب على الصعيدين المحلي والعالمي، فترجم للعبرية والانجليزية والبلغارية والمكدونية.
لم يكتفِ جريس عواد بأن "يعطينا من طرف اللسانِ حلاوة"، بل أحبّ وشاء لنا أن نتذوّق ونجنيَ الشهد معه، فمضى يتابع خطاه يحمَل مِشعل النور ليبدّدَ ظلمة الجهل، آملا وطامحا أن يزيد الوعي والمعرفة والثقافة بين أبناء مجتمعه، ومشاركا في إثراء مكتباتنا ومخزونها الثقافي، فوضع بين متناول أيدينا "مورد الأمثال"، وأتبعه بكتاب "تعابير ومصطلحات" ليتوّجَ مشروعه الحاليّ بكتاب "إبداعات وشخصيات".
وهنا اسمحوا لي أن أنقل إليكم تجربتي الخاصّة مع كتابين من هذه الإصدارات، ربما تلقى استحسانكم فتكون مثالا لكم أو محفّزا لنشاطات أخرى مع مَن يهمّكم أمره؛ "الصدى" حيث استعنت ببعض قصص الكتاب لحصص التنوّر القرائي لطلاب السادس الابتدائي، فقد صوّرت أربعة نصوص ووزعتها على الطلاب الذين جلسوا في مجموعات صغيرة، وكان المطلوب من كلّ مجموعة أن تـتـفّق على اختيار وقراءة نصّين على الأقلّ وتحاول أن تبدي رأيها بالقصة الأجمل، ومن خلال تنقّلي بين المجموعات ومشاركتي غير المباشرة بما يدور بين أعضاء كل مجموعة من نقاش حول القصص، توصّلت الى حثّ الطلاب على قراءة كافة النصوص التي لاقت جميعها استحسانهم، فصعب عليهم بعض الشيء تحديد القصة الأجمل، وأشير هنا الى أنّي استخدمت هذا الكتاب أيضا لفعاليات مماثلة لطلاب الخامس الابتدائي.
أما كتاب "إبداعات وشخصيّات" فإنه عمل رائع يحمد عليه كاتبنا، إذ قد أتقن وأبدع في إخراجه للنّور، وإيمانًا مني أنّ كلّ كتاب يبقى ساكنًا على الرف هو كتاب ميت الى حين تمسكه يد قارئ ما،  ارتأيت أن يبقى هذا الكتاب مع بعض الكتب التي تشبهه مضمونا على سطح مكتبي  لهدفين؛ أولهما أن كثيرا من الطلاب يحلو لهم دائما أن يقلّبوا ما أضعه أمامي على طاولتي، وثانيهما أنّني قرّرت منذ ثلاثة سنوات، أن أدرِجَ أسبوعيًّا حكمة أو قولا مأثورا في موقع المكتبة المدرسيّة على الشبكة العنكبوتيّة، حيث يشارك طلاب الثاني عشر باختيار قول لأحد المشاهير، فيوثَّـق القول في الموقع ويتم نشره أيضا في مواقع التواصل بين الطلاب، فيطّلع عليه أكبر عدد من زملائهم، ويتعرّفون الى شخصيّات يجهلونها إضافة الى إبداء رأيهم واعجابهم بالحكمة. ولا ينتهي الأمر هنا، بل أدعوكم لمشاركتي الشعور بالفرح الداخليّ والرّضى، وأنا أرقب الطلاب يدخلون إلى المكتبة لاختيار الأقوال، فمنهم من كان يختار قولًا على جناح السرعة، يعلمني ويمضي منتظرا أن ننشر اسمه تحت الحكمة واسم الشخصيّة، ومنهم من كان يطيل التصفّح وتقليب الصفحات متردّدا في اختيار الشخصية، أو انتقاء أجمل الأقوال المنسوبة لها، ومؤجّلا أحيانا القرار الى لقاء آخر مع الكتاب، فهل أجمل من أن نراهم ولـو يتصفحون ويقلّبون ويقرؤون ولو حتى بعض الأقوال المأثورة لشخصيات تاريخية هامّة؟!
مداخلة رشدي الماضي تحت عنوان جريس عواد مشروع ثقافيّ معبّأ بالمعرفة: أعرفني حين أمشي في حقول كلماتك تتفتح رؤياي، تركتني في لا حدود قلمي الذي يكره النقطة في آخر السطر. تركتني أتنزّه كغيمة عابرًا غابات كلماتك، يحملني عشقي لرائحة الورق، وأنا في سفر اشتياقي تسحبني ذاتي راضيًا بحكم المعاني، لدرجة لم أعد أتلذّذ في الغوص في بحر ما تكتب، بحر تتركه يتمدّد فوق الأوراق ليغمرها بالأخضر والأزرق، ويترك الموج يداعب وجهي قارئا، لأبلّل بالملح يدي، وأمحو ما كتب الرمل على شفتي، كيف لا ومعانيك ماء لا سراب، يجري رقراقا صافيا باردا؟ كيف لا ونفسي حرّى الى المعرفة، فلم يبق أمامها يا رفيقي، إلّا أن تغترف من معينك الذي لا ينضب!
المبدع جريس، أنت عروة ذهبية في أبجديّة لبحث وحفريات المعرفة، أعرف ولو أنّك لم تبح لي، بأنّ الكتابة جاءتك قبل أن تسعى اليها، فهي في دمك تسير في أكثر من اتجاه، تسير في نقاط وطيّات الحروف، بحثًا عن حقيقة الأسماء والمأثورات والمصطلحات، مشيت في طريق إنتاج المعرفة، أليس الفكر والمعرفة يعملان معًا في خلية كتوأمين داخل رحم التشابك والارتباط، كي يمنحا الكلمة الحقّة أكثر من حياة، بعد أن ينصبّا شتاءً في قلب سبعاها السماء؟!
توأمي في اشتهاء زاد المعرفة جريس عواد، مشينا معا رفقة أربع أسفياتنا الصدى، ومورد الأمثال، وتعابير ومصطلحات، ومسك إبداعات وشخصيات، مشينا في طريق عرفنا بدايتها، لكنّنا لم نعرف متى وأين تنتهي تلك، أليست هي دروب المعرفة التي لم يبق فيها إلّا أنفار قليلون، سبقونا في البحث عمّا يقتاتون به، في زمن أصبح الوقت فيه يحمل نعشًا في جسد الضّاد، يا له من زمن طغت فيه الغشمة الثقافيّة، حتى أرانب الأسئلة المنتجة للمعرفة المرتبطة بالفكر الذي يعمل على مراجعة نفسه، باستمرار راحت تفرّ من ثعلب الثقافة الشعبويّة المدمّرة، والتي تنهر كلّ بومة (رمز الحكمة) تحمل كلمة في منقارها. لكنّك وأنت العارف أنّ الثقافة هي الخط الأخير للحفاظ على الكيف والوطن، تحالفت مع جانوس إله الأبواب، وفتحت باب لغة البحث المميّز على مسمّياتها، بعد أن اصطدت بفخاخك الواعية الشيطانة من تفاصيلها، ليبقى ما تخطّه أفكارها معبّأة بالوضوح والفائدة والمتعة، حين يقرؤها أحد متلقيك تُقرّبُه اليك وتدفعه أن يتواصل معك، لِما فيها من غزارة ثروة. لقد صغرت الأرض وانكمشت دروبها، وأصبح يفد إلينا سيل من الاصطلاحات الأدبيّة والعلمية والاجتماعية والفلسفية والسياسية والاقتصادية، ونحن لا ننكر ما أسداه عدد من الأعلام الذين حاولوا أن يُعرّفوا ببعض المصطلحات على مختلف أنواعها، ولكن هذا الذي حاولوه وما يحاولونه بقي ناقصًا، فنحن لم نجد مرجعًا للقارئ العربيّ شبيها بكتاب قصّة الأدب في العالم، الذي يعرض آداب الأمم المختلفة على مرّ العصور، لذلك نثمّن عاليًا الأستاذيْن أحمد أمين والدكتور زكي نجيب محفوظ اللذيْن صنّفاه لنا، فأسديا بذلك خدمة جليلة للغة لعربية ولقارئيها، ولن أنسى الأستاذ أحمد حسن الزياد الذي نشر قبل عقود في كتابه (في أصول الأدب في الجزء الأول تعريفًا بالرواية والمسرحية والمأساة والملهاة، إضافة الى اصطلاحات أدبية أخرى رأت النور في كتبه القيّمة، ومهما يكن من شيء ما، فإنّ بعض الأدباء الآخرين قد اهتمّوا بتعريفنا بعدد من المدارس الأدبية: الرمزية والواقعية والرومنسية، كما عرّفنا البعض الآخر على السيرة والقصة والأقصوصة وغيرها، ولقناعتنا الراسخة أنّ محيط المعرفة لا نهاية له، تظلّ حاجتنا الماسّة الى المراجع التي تضمّ طائفة كبيرة من المصطلحات والأقوال المأثورة والمدارس والشخصيات وشرحها شرحًا تامًّا، بعيدًا عن الإسهاب الذي يحتمله الكتاب المفرد او المقالة الطويلة. وأذكر في هذا الصدد، بالفترة التي سادت فيها في أوروبا ما يُعرف بالموسوعات، وصغرت هذه وكبرت، وصار التفاوت بحجمها يساعد على اقتنائها، ويجد فيها القارئ بسهولة ضالّته، ولعلّ من إشهر الموسوعات الأدبية الصغيرة موسوعة كاسل للأدب العالمي، والتي تتضمّن مُجلّدين وتضمّ تعريفات وافية عن كل مصطلح أدبيّ غربيّ، وعن الآداب الأخرى وأشهر الأعلام والكتب، كذلك نجد كتبا صغيرة تُسمى دليل القارئ، وهذه الكتب تغنينا عن الرجوع الى الموسوعات الكبيرة، ومن الضروريّ أن لا ننسى الكتاب الصادر في الولايات المتحدة الأمريكية معجم الأدب الإنجليزي، وهو دليل مختصر يعرف بالمؤلفين والكتب والأسماء وصور الشعر والمصطلحات الأدبية المختلفة.
وإذ تسجّل هذه الحقائق، لا ننسى في أدبنا أيضًا العديد من المحاولات الجادّة والمباركة في مجال كتابة وطباعة وإصدار الموسوعات المختلفة، مثل الأصفهاني وابن قتيبة والميداني والموسوعة الميسرة والموسوعة الفلسطينية وإلى أكثر من ذلك، لكن باعتقادي أنّنا بحاجة الى مشروع موسوعيّ منهجيّ دقيق، يُحتلن كلّ مصطلح يستجدّ في عالم الثقافة والاقتصاد والاجتماع والسياسة والهايتك وعلم النفس، لم أعرّج على ذكر هذه الموسوعات، إلّا لأبقي عيني مفتوحتين على أسفيات اخي جريس عوّاد، وأُبرز أهمّيتها فهي حقائق تملأ كؤوس الفكر ضياء، فهو في كلّ حقيقة يوردها في أحد كتبه يؤكّد إخلاصه للكلمة الشائعة، والموضحة التي تلغي المسافة المظلمة بينها وبين كوكبه، ونسير معه من درب معرفيّ الى درب آخر، وكلّما نأينا فيه عنه نحس أنّنا أقرب ما نكون اليه، فهو ابن الضاد الوفيّ الذي يسكن الفلك في سيل المعرفة، ويرفض أن يهدأ له طوفان، ليظلّ ظلّ الشجرة التي أوحت لها الحمامة أنّ الكلمة سديدة الأبد، نصغي اليها حين نجلس على منحدر الجفاف، لتفرد لنا جناحيها وتطير بنا، وفي مناقيرها أنفاس مشكاة من نور، تحفّ بها غيمة تهدهدها الريح، تعلمها أن لا تنام، قبل أن تهطل مطرًا يومئ الينا ويومض لنا كي لا يُظمينا الظمأ.
أخي جريس عوّاد مشروعك الثقافيّ هو مشروع فرريد ومميّز، أهنّئك بباقة ورد مغسولة بنعناع المحبة، فأنت بمشروعك الثقافيّ الهامّ تخطّيت عتبة عالم الإبداع، فسجّلت اسمك بصمة أسلوبيّة مميّزة متمايزة، وأقدّر عاليا كلّ معاناتك ومجهودك في إصداراتك هذه.
مُداخلة نادر سروجي: انتصرت حيفا بالأمس بإميلَيْها، بتوماها( إميل توما) وحبيبها (إميل حبيبي)، وترسخت بتوفيق طوبي، وتبخترت بدرويشها محمود، وحافظت على تاريخنا ولغتنا ووجودنا باتّحادها، وارتفعت بناسها من وادي نسناسها حتى شموخ كرملها، وحفرت في ذاكرتنا مبادئ التاريخ غير المشوّه، والأفكار الاشتراكية والوطنية الصادقة، وتعلّمنا أبجدية الشعر والأدب والصحافة على أدراجها وشواطئها.
الحضور الكرام مع حفظ المقامات والقامات، حيفا ليست غريبة علينا، جئناها منذُ ثلاثين سنةٍ ونَيِّف من مقاعد دراسةٍ معًا، طلبنا العلمَ معًا وعُدنا للناصرة معًا، ونعود اليها اليوم معًا وما زلنا هنا نقاوم، ينقر فُؤادُنا القابض على جمرات التواصل والتميُّز والإبداع حُبًّا وعطاءً ووفاءً لأبناء شعبه ومبدعيه.
نُحني رؤوسنا إجلالًا للقائمين على هذا المكان ولهذا الإنسان، وقد فتح للجميع كلَّ أبوابِ المعرفة وفي هذا الزمان، وقد أثبتت حيفا وبجدارة أنها ترفعُ عَلَمَ الثقافةِ والإبداعِ، متحديةً أخواتها من مُدُنٍ وقرى عربية على العطاءِ والصدارةِ والوفاء.
بالأمس فقط، سبعةُ أعوامٍ وأكثر، جاءني صديقي ورفيقي جريس عواد، ووضع على طاولتي بعضَ أوراقٍ خجولة قرأتُها، وكانت سهلة الهضم لا تحتاج الى قاموس المنجد ولا الى "لسان العرب" ولا الى معاجم وأمهات الكتب كي نفهم الفحوى والمضامين. هي خاليةٌ من الكوليسترول ولا تُكسبك الدهنيات إذا قرأتها، خفيفةٌ على المعدة ولا ترفعُ الضغط عندما تمشي مع كلماتها، قصيرة في مسافاتها بالمختصر، خفيفةٌ ومعبِّرةٌ وهادفة، فقلتُ لهُ تقدَّم يا أخي فنحن معك وبجانبك، وستجدُ هذه القصص دربها عند من يحتاجها. وبدأت عملية النبشِ والتفتيشِ عن تراثٍ وقيمٍ وأهدافٍ ساميةٍ لأجيالنا ولأجيالٍ لاحقة، لكي تكون لهم نبراسًا يهتدون به، ولربما الى طريقٍ سعادة وطريق أمان. وتصطدم بعناد مسؤول المطبعة أنك ستسير في درب ألغامٍ شائكة عندما تلجأ الى الكتابة والكتاب، فما بك يا جريس تختارُ هذا الطريقَ الشائك!
ويستعرض أمامك أسماءَ كُتّابٍ وشعراءٍ وباحثين هم قامات بارزة ومتميزة كُلٌّ في مجالِهِ، يعانون من جفاءٍ مع القراءَة والقُرّاء، وتبقى الكتب مرتاحة على خاصرة الزوايا المهملة، ويُصرُّ جريس بكلِّ عناد أن الكتاب سيُطبع وبألفِ نسخة، والألفُ الأولى مثل القبلة الأولى، لها نكهتها ومذاقها وتاريخها وكلكم تعرفون، وجاءَت من بعدها أخرى، إعجابًا وتقديرًا ثم مفاجئًا في عالم الكتاب والقراءَة، وكانت الطبعة العبرية "ההד" وغارت أختها اللغة الإنجليزية فجاء كتاب "The Echo"، وجاءَت دار نشرٍ من صوفيا في بلغاريا لتسرق حق النشر والإصدار، ويتربع الكتاب هناك على عرش قائمة عشرة الكتب الأولى، على غرار مسابقة عشرة أغاني هنا، ويتفاجأ جريس من هذا الإقبال غير المسبوق في هذا الكتاب ولهذا النوع من الأدب اللطيف والهادف، ويبدأ رحلةً مع "موردُ الأمثال"، "تعابير ومصطلحات" و "إبداعات وشخصيات".
لا أكشفُ سِرًا عندما أقول أن جريس وقفَ في وجه الريح وكانت عاتيةً، ولم يركَع ولم يخضَع ولم يخطف رأس التحدي والصمود والبقاء، وكان الكتابُ أنيسَهُ ورفيقَ دربِهِ وشمعتهُ التي تُضيء له دروبَ الصحةِ والعتمةِ والأوجاع، ونجحَ بكل إصرار، ومن رحم الأوجاع والمعاناة والعذاب جاءَ "الصدى" وأخواته، ليرسل لنا جميعًا رسالة المحبة والبسمة والسعادة. أُقدّم شكري وتقديري لصاحبِ هذِهِ الوجبات الثقافية غير الدسمة لترافقنا في ترحالنا، في غُرفِ نومنا ورحلاتنا، في باصاتنا وقطاراتنا، وفي كل زاوية ومكان حتى مع فنجان قهوتنا، ليعيد لنا ولو بشكلٍ أولي متعة القراءة والتحول والتجوال في عالم مليء بالتمزق والعنف والضياع. مُتاكِّدٌ أنا، أننا بهذا سنمنع الجريمة والعنف لو أهدينا إلى طلابنا وأبنائنا ومدارسنا وجبةً خفيفة من هذه الكتب، لأغلقنا أبواب السجون وكسرنا أقفالها، ولانكسرت النِصالُ في مكانها، وساهمت ولو بشكلٍ متواضع في نشر الكلمة بدل السكين. في كل مداخلةٍ أختارُ نصًّا لشاعرٍ أو لكاتبٍ أو لباحثٍ، واخترت لمداخلتي في هذه الأمسية بعض الأبيات من قصيدة للراحل نزار قباني بعنوان "قصيدة هوامش على دفاتر النكسة": إنْ رضي الكاتبُ أن يكون مرةً دَجَاجَةً/ تُعاشِرُ الدُيُوكَ.. أو تبيضُ.. أو تنامْ/ فاقرأ على الكتابة السلام !!
مداخلة المحتفى به جريس عواد: الأخواتُ والإخوة الكِرام مع حفظِ الألقابِ مساءَ الخير، اسمحوا لي بِدايةً أن أُحيّيكم فردًا فردًا، وأن أشدَّ على أياديكُم مُرحِّبًا بِكُم في هذهِ الأمسيةِ الثقافيّة، وأخصُّ بالذكرِ مَنْ تحمَّلَ مشاقَّ السفرِ وحضرَ من خارجِ هذهِ المدينة العزيزة وسأذكرُ شخصينِ عزيزينِ على قلبي بالاسم، والدتي أم جريس أطال الله في عُمرِها، وحفيدي الأول زهير ابن الأربعةِ أشهُر الذي أصَرَّ أن يحضُرَ بنفسِهِ ليسمعَ حديثَ جَدِّه، فأهلًا وسهلًا بِكُم جميعًا.
كما أودُّ أن أشكرَ من أعماقِ قلبي القائمين على هذا النادي الثقافيّ، المجلس الملّي الأرثوذكسي الوطني في حيفا، الأخ فضل الله مجدلاني، المحامي كميل مويس والمحامي حسن عبادي، هذا النادي الثقافيّ المتميّز الذي يُشكِّلُ منبرًا واسعًا للفكرِ والتَّفاعُلِ الاجتماعيّ والمتمثِّلِ برئيسِهِ المحامي فؤاد نقارة  ورفيقة دربه الأخت سوزي نقّارة، لكم جميعًا أُقَدِّمُ شكري وامتناني على هذا التكريم الذي أعتزُّ بِهِ كثيرًا، وأعتبرُهُ علامةً فارِقةً في مسيرتي الأدبيّة. إنَّ ما تقومون به من مجهودٍ كبيرٍ من أجلِ تكريمِ الأُدباءِ والكُتّابِ ورجالِ الثقافةِ والسّياسَةِ والمجتمع، هو شيءٌ عظيمٌ جِدًا ويُساهمُ مساهمةً فَعّالة في إبرازِ وإشهارِ ما يُقدِّمُهُ هؤُلاءِ لمُجتمَعِهِم، ويُشكِّلُ حافِزًا كبيرًا من أجلِ استمرارهِم في إبداعاتِهِم، ومن أجلِ غدٍ أفضلَ ومجتمعٍ واعدٍ نَصبو اليهِ جميعًا. كما وأشكرُ الأديب الشاعر والمُربّي رُشدي الماضي، وأخي وصديقي ورفيق دربي الذي واكبَ جميع إصداراتي المُهندس نادر سروجي، والشاعرة فوز فرنسيس على مشاركَتِهِم هذِهِ الأمسية الثقافيّة وما تفضلوا به من مُداخلاتٍ أعتزُّ بها وبقائليها.
كذلك أودّ أن أشكرَ كلّ من شارك في التقديم والتظهير لكُتبي، القاضي المتقاعد خليل عبود أطال الله في عمره ومنحه الصحة والعافية، الأديب المحامي وليد الفاهوم، الأديب الدكتور خالد تركي، الأديب والمربي فتحي فوراني، الأديب والإعلامي نادر أبو تامر، الأديب الشاعر والمربي رشدي الماضي، طيِّب الذكر الأديب الراحل د. حبيب بولس رحمهُ الله ، الأديب والروائي والقاص محمد علي طه، والأديب والشاعر حنا أبو حنا. كما وأشكُر الأخ ظافر شُربجي الذي قام بتصميم الغالبية العُظمى لإصداراتي من الغلاف الى الصفحات الداخلية، وكذلك الأخوة الأعزاء في مطبعة الحكيم على تعاونهم وعلى المهنية العالية للطباعة، كما وأشكر الناشر أخي العزيز الياس عوّاد الَّذي تحمل أعباء النشر كاملة.
قبلَ أكثرَ من عشرةِ أعوام، كنتُ في خِضَمِّ صراعٍ للبقاء، ولو قالَ لي أحدُهم حينها أنّني سأقِفُ هذا الموقف الذي أنا فيه اليوم، لكنتُ سأقولُ لهُ أنَّهُ يَهذي أو أنَّهُ يقولُ ذلكَ من قبيلِ رفعِ المعنويات. في ذاكَ الوقتِ كنتُ قد فقدتُ تدريجيا القدرة على الكلا،م وقد يكون ذلك هو المُحفّز الذي جَعَلني أخوضُ هذِهِ التجربة في محاولةٍ للتعبيرِ عمّا يجولُ في خاطري مِن أفكارٍ وأحاسيس. وكثيرًا ما كنتُ أتساءَلَ وأُسألَ لِماذا أكتُب؟ ولماذا هذه الموضوعات؟ ولماذا هذا المنهجُ الأدبيُّ بالذات؟ وقد تكون الإجابة على هذا التساؤُل تكمُن فيما قالَهُ أحد عمالقة الكُتّاب الفرنسيين في القرنِ التاسعِ عشر غوستاف فلوبير: "الكاتبُ لا يختارُ موضوعَ كتاباتِه، الموضوع هو الذي يفرِضُ نَفسَهُ عليه".
يَعيشُ شعبُنا مُعاناةً كبيرةً وتَعيشُ منطِقَتُنا الكثيرُ من المآسي والحروب والدّمار، وقد يَسأَلُ سائِلٍ: كيفَ لنا في هكذا ظروف أن نُقيمَ احتفالًا أو نستمرَّ في حياتِنا بشكلٍ طبيعيّ؟ أهو ترفُ الغنيّ أم فرحةُ الفقير؟ أم أنّنا محكومون أنّ نستمرَّ بحياتِنا بشكلٍ طبيعيّ كي نُحافظَ على انسانيّتِنا ونَحمي الأملَ الباقي فينا لغدٍ أفضل! وكما يقولُ أفلاطون: "الحياةُ أَمَلٌ... مَن فَقَدَ الأَمَلَ فَقَدَ الحياة..."
الواقعُ أنَّني أعتبرُ باكورة أعمالي، كتاب "الصدى"، الذي نُشرت طبعتُهُ الأُولى في بدايَةِ عام 2008، بمثابةِ القاطِرة التي تمنحُ قوةُ الدفعِ لِباقي المقطورات، رغمَ أنَّ جميعَهم أبنائي، لكنّ نجاحَ هذا الكتاب الذي طُرح في الأسواق بأكثرَ مِن طبعةٍ وتَمَّت ترجمتُهُ لِعدةِ لغاتٍ، كان بمثابةِ الرافعة الّتي سهَّلَت مُهِمَّةُ الاستمرارِ بالإصداراتِ بهذا الزَّخَم. وقد قام مُؤخرًا مسرح إِنسمبل فرينج الناصرة بانتاجِ مسرحيّة تحملُ اسمَ "الصدى" من إخراج هشام سليمان وتمثيل باقة من ألمعِ النجوم، والعملُ عِبارة عن مُعالجة مسرحيّة لحوالي عشرينَ قِصةً من قِصصِ الكتاب، وقد نالت هذه المسرحية نجاحًا مُنقطعَ النظير بحيثُ عُرضت لأكثرَ من ثمانين عرضًا.
هنالكَ خَيطٌ رفيعٌ يربُطُ بين إصداراتي، بَدءًا في البحثِ عن السعادةِ، ومرورًا في البحثِ عن الترفيه والمعلومة، إلى التعرُفِ على سِيَرِ العُظَماءِ والمُبدعين، وأقتبسَ فقرةً صغيرةً جاءَت في كتاب الصدى تقول: "لا يوجد وقتٌ للعيشِ بسعادةٍ أفضلَ من الآن فإن لم يكن الآن، فمتى إذًا؟ إنّ حياتنا مملوءَةٌ دومًا بالتحدّيات، لذلك من الأفضل أن نُقرِّر عَيشها بسعادةٍ أكبر، على الرغمِ من كلِّ التحدّيات. كان دائمًا يبدو لي بأن الحياة الحقيقية على وشك أن تبدأ، ولكن في كل مرة كان هناك مِحنَةٌ يجِبُ تجاوزُها، عَقَبَةٌ في الطريقِ يجبُ عبورَها، عَمَلٌ يجبُ إنجازهُ، دَيْنٌ يجب دَفْعَهُ، ووقتٌ يجبُ صَرْفَهُ كي تبدأ الحياة، لكنّي أخيرًا بدأتُ أفهمُ بأنَّ هذِهِ الأمور كانت هي الحياة. وجهةُ النظرِ هذِه ساعدتني أن أفهمَ لاحِقًا، بأنَّه لا وجودَ للطريقِ نحو السعادة، السعادة هي بذاتها الطريق.."
في نهايةِ حديثي، اعترفُ بأنّي قد رَكِبتُ الصِعابَ وربما تَجرَّأتُ باختياري لهذا المنهجِ من الكتابةِ وقد أرهقني هذا كثيرًا كما أمتعني كثيرًا أيضًا، فجاءَت كُتُبي مُتَدَثِّرَة بهذا المنهجِ العسيرِ والمُمتعِ في الوقت ذاتِه وجاءَت المعرِفَةُ والمعلومَةُ مَنسوجَةً مع الأفكارِ الأخلاقيّةِ والعِبرِ الإجتماعية نسيجًا جميلًا مُتكامِلًا يجمعُ ما بينَ الشكلِ والمضمون إن كان ذلك في كتابِ "الصدى" أو "موردُ الأمثال" أو "تعابيرٌ ومصطلحات" أو "إبداعاتٌ وشخصيات".
رُبَّما أرى نفسي في هذهِ الإصدارات لا أكتبُ الأدبَ والإبداعَ بالمعنى الكلاسيكي، لكنني أجِدُ نفسي كَمَنْ تَستدعيه حديقةُ الوعي والثقافةِ لجمعِ باقاتٍ من أزهارِها كي أنثُرَها لِمن يستمتعُ بجمالِ ألوانِها وباستنشاقِ عبيرِها. أخيرًا يُسعدني أن أنتهزَ فرصة قُربِ حلولِ عيد الأضحى المبارك لأتقدم لجميع المحتفلين بأسمى آيات التهاني والتبريكات أعاده الله علينا جميعًا بالصحةِ والسعادةِ وراحةِ البال وكُلُّ عامٍ والجميع بألفِ خيرٍ وعافِيَة.


99
التضادُّ في بناءِ معمارِ الرواية!
آمال عوّاد رضوان
استضاف نادي حيفا الثقافي الأديب يحيى يخلف، وأقام له وتحت رعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني/ حيفا أمسية أدبية، تناولت روايته الأخير "راكب الريح"، وذلك بتاريخ 1-9-2016 في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، وسط حضور كبير من الأدباء والأصدقاء والمهتمين بالأدب، وبعد أن رحّب بالضيوف والحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي، تولّى إدارة الأمسية رشدي الماضي، وقد تحدّث حول الرواية كلٌّ من: د. راوية بربارة، ود. نبيه القاسم ود. رياض كامل، ثمّ شكر المحتفى به يحيى يخلف الحضور والمنظمين والمتحدّثين، ومن ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة رشدي الماضي عريف الأمسية: أمس شربتُ نخبَ الليل.. نهَرتُ وحدتي رمادًا في أتون منفضةٍ أيقظتْ سَفرَ الاشتياق.. جلستُ قربَ شمعةٍ أحدّثها عن أسباب فرحي وشتاءِ عُمرِهِ، وعن سِرّ سَمَخ عروس بحيرة طبريا الثاوية في أنحاء روحهِ وروحي، تنظرُ وتنتظرُ ضيفًا إلى حيفا قادمًا، كي نظلّ أنا وهي على أهبةِ حُبّه، حتى يسيلَ الصباحُ نورًا يُحلّقُ في السماء، يتألّه، كي ينزلَ مِن العلياء كرملًا يَعبُرُ نصَّ كرمةٍ، يعدو خلفَ المدى ويجمعُ قرابينَ الآلهة! أرهفوا السمعَ معي، لنسمعَ جرسَ الكنيسةِ يُقرعُ، وصوتَ الآذان يُرفعُ تهاليلَ وتراتيلَ تردّد بأعلى صوتها، أهلا بضيف حيفا ونادي حيفا الثقافيّ، أهلًا بالكاتب يحيى يخلف، لتهدلَ الحمامة وتجرَّ الضوءَ، راكب ريح ابتكرَ الصعودَ على مهلٍ، صعودًا لا يريدُ لحيفا وجهًا بديلا.
خيّا يحيى؛ سلكتَ إليها من ماضي الأيّام الآتية دروبًا مترعة بالحنين. أرِحْ رأسَكَ على صدرها، تَرَ شَعرَها مُلقًى كبحر وأبعاد ليل مبعثر، أرِحهُ لتنسلّ مِن سرّةِ الوقت، تُهدهدُك ألسنة الشبق، وتسافرُ في حيفا كثيرًا دون أن تصل، لأنّك لن ترى فيها أحلى من حديث المنازل، وهمْسِ شجيرةٍ تحت ارتفاف قميص الخمائل. لقد اكملتَ براكب الريح الطريق إلى أعالي شرفات الكلام، أزِح عنك الليلة أحمالَك المُرهِقة، واستجبْ لنداء الحضور، سِر بي على أرض إبداعك الخارجةِ من عُمق تاريخ المأساة وطنًا عاد، كما علّمته ريحُك، عاد يتهجّى أبجديّة المطر، ويسقيني من بئر الذين مرّوا قرب دهشتك، وانتشروا في بيادرَ لك تُبدع معنى الحياة.
أيّها الكبير، لقد تركتَ الرواية تنطق على يديك صوتًا إنسانيًّا رهيفًا يتلمّسُ عذاباتِ شعبك، تعالَ كفكفْ لحيفا قناديلَها الدامعة، وانعفْ ليلَ شَعرها أرجوحةً مِن ضياءٍ تفيضُ بالفردوسِ جهرًا، لتعودَ صُبحًا رفقة حنظلة، وتلمُّه صبحًا تنفّس عائدا. إن رأيتَ الفكرة فوق صهوة حصان، ممزوجة بصمتٍ يُقيمُ في الصمت، قِفْ على صخرةٍ من كلام، وخُذ جرّة الضوءِ ملآنة فوق رأسك. قِفْ، حيفا زمانٌ يَمُرُّ بقربك. تمتمْ ترويدةً لطقوسٍ تشتهي تفّاحَها السكّريّ. اُكتُبْ منهمكًا بالطباشير على زيتونة المساء. أيّها الكنفانيّ، ها أنا هو العائد إلى حيفاك وحيفاي، إلى حيفا التي قد خلقنا فيها من زمان بعيد بعيد، هنيئًا لحيفا وهنيئا لفلسطين بكَ عائدا. أتيتَ وأنتَ تكتوي بمِرجل الأحداث الساخنة، لكنّك رفضتَ أن تظلَّ دموعَكَ مبتدأ الكلام عن حيفا، فصافحتَ مساربَ الرياح الآتية مِن كرملِها، ومنحتَ اسمَ حيفا أكثرَ مِن حياة. تعالَ معًا نُحسُّ بجاذبيّةٍ نحوَ الأعالي، نستنشقُ رغبة فولاذِ الصمودِ قطراتٍ مِن مطر، نُسافرُ بين أحضان راكب ريحك ممحاةً لأثر خطواتٍ، داستْ ترابَنا ودخلتْ دارَنا عنوةً، ليأخذ ما نعانيه شكلَ طيورٍ تُحلّقُ، تنطلقُ وتخترقُ طرُقًا مُزدحمةً بقضبانٍ على ارتفاع آلافِ التنهيدات. تعالَ نسقط سريعًا في مياهٍ لحيفا تنتظرُ لحظة مَدٍّ آتيةٍ، تركتْ حصانَ طروادة يَغرقُ بعيدًا بعيدًا. تعالَ يحيى لنُحقّقَ حُلمًا، بداءِ رحلةِ الشتاء صارَ مُصابًا، ليأتي ومعه نبيّ على البُراقِ سرى، يُعيدُ قدْسًا لنا هاربة.
مداخلة د. راوية بربارة بعنوان دوْر التضادّ في بناء معمار رواية  "راكب الريح" للأديب يحيى يخلف: يا راكب الريح يا مسافر على يافا/ هالحِمل ثقل جْبال حطّط عن اكتافا (اكتافها)/ يوسف مرق خيّال أو كان أسطورة/ رسم لوحة عشِق، نحتْها ع صخورا/ يونس في بطن الحوت لِم شاف هالصورة/ ما فارق هلِشطوط، وبْعُمرُه ما جافى/ يا راكب الريح يا مسافر على يافا/ يا راكب الريح يا مسافر على يافا/ بيوسف ساكن قرين من الجنّ ما عافَهْ/ سفّود نار وطار ع العسكر ما يخافا (يخافها)/ ولوحَهْ لَـ هالأحرار بِكامل   أوصافا (أوصافها)/ حِكْيِت لنا أسرار من عيون سُلّافا (سلّافها)/ سولف لنا يحيى، ع قلوب تتصافى/ يا راكبَ الريح، خُذْنا على يافا
مساؤكم انثيالاتٌ من رياحٍ خفيفةٍ تحملُنا على بساط الحكاياتِ نحو خيالٍ جامحٍ. مساؤكم عبقٌ منَ التواصلِ والتلاقي يفوحُ في حيفا، يحمل شذا القطّين من رام الله، ليملأَنا طاقةً فلسطينيّةً قادرةً على نبشِ ذاكرتنا الجماعيّة، وعلى طمر مآسينا تحت ترابٍ ينعفُ من دمشقَ الشام إلى عكّا، إلى حيفا فيافا، إلى هناكَ حيث يهتف لكم القلب: يا هلا، خذنا يا مسافر، وين؟ ع رام الله! أهلًا بك أديبَنا الكبير يحيى يخلف، وبرائعتك "راكب الريح". بما أنّ الأمسيةَ احتفاءٌ بالروايةِ، وهي روايةُ خيالٍ علميٍّ يتّكئ على واقعٍ بزمكنيّةٍ معروفةٍ، فالزمان هو القرن الثامن عشر سنة 1795، ارتأيت أن أتناول جانبًا أسلوبيًّا ساعد على تطوّر الحبكة والشخصيّات والحدثِ، فتَحَ الحكاية على أبوابِ عديدةٍ، وأدخلَنا منها إلى فجواتٍ نصيّةٍ. وهذا الجانب هو التضادُّ في بناء معمار الروايةِ.
1- التضادّ في شخصيّة يوسف: يوسف الشخصيّة المركزيّة في الرواية، من مواليد يافا والابن الوحيد لأحمد آغا وبهنانة، "وُلِد عندما غزا القائد المصريُّ محمّد بك أبو الذهب المدينةَ لافتكاكِها من الزعيم ظاهر العمر" (ص5)، وكان خراب المدينةِ حينها استباقٌ لخرابٍ آخر سيحلّ لاحقًا بالمدينةِ. "كان فتًى حيويًّا وذكيًّا وطموحًا، أحبَّ الخطَّ العربيّ، وأحبَّ الرسمَ، وأحبَّ البحرَ، وأحبَّ القفزَ من الأعالي إلىأحضان الأمواج الصاخبةِ، وأحبَّ طبيعة يافا، تلالَها، وأسوارَها ومارتَها وأسواقَها، ومساجدَها وحمّاماتِها، وخاناتِها وشاطئَها وقواربَ الصيادينَ في عمق بحرِها". كان يوسف وسيمًا، جميلَ الطلعةِ، يمتلك عيني صقر.. بل إنَّ النساءَ من أحباب بهنانة كنّ يشبّهنَ جمالَ خلقتِه بجمالِ النبيّ يوسف، الذي عشقته النساء حتّى الذهول" (ص6-7).
يوسف الرسّام الملهَم، صاحب اللوحات الفنيّة المعروضة في البازار في يافا، صاحب لوحة الأندروميدا، ولوحة المرأة مكتملة الأنوثة العيطموس، يوسف الخطّاط الماهر، العاشق الولهان، محبوب النساء، مدلَّلَ الوالديْن، يوسف الجميل الرقيق المغامر، محبَّ البحر، كان يلازمه قرينٌ، لا يعرف مَن هو ومتى يحتلّ جسدَهُ، يحوّله ساعةَ الغضبِ إلى شخصٍ آخر مختلفٍ تمامًا، إلى مقاتلٍ، فحين حرق الجندرمة حوانيت المدينة وبضمنها البازار، "غلى الدم في عروقه، توتّرَ، سخن، تحوّلت العصا بيده إلى سفّود، إلى مارج من زيت ونار، شرارة أشعلت غضبَه، وجعلت الدماء تسري حارّةً في عروقه، شرارة أشعلت الجسدَ كلَّه. هجمَ على أحدهما وأطاح به، وضربه بالعصا وأفقده صوابه" (ص129). ويتابع الراوي وصف المعركة حتّى يصل للذروةِ: "جمع نفسه وانتتر، طار في الهواءِ وسقط فوق رؤوسهم، وتحوّلت أذرعه إلى سيوف، وأرجله إلى خناجر، وأعمل فيهم؛ وأوسعهم ضربًا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرحى حبّات القمح، ومن ابتعد ولّى هاربًا ونجا تاركًا طبنجته وسلاحه الأبيض" (ص131). هذه الشخصيّة الرائقة التي تتحوّل بغمضةِ عينٍ إلى قاتلٍ لا يرى بعينيه، ويقضي على فيلق كامل، حين يعاود الوعيَ لا يدري ماذا حصل معه ويتعب، ويستغرب من أين أتاه هذا القرين وهذه القوّة، وقد سأل عن هذا الأمر دينيّا، وسأل الحكماء حتّى أبلغه أحدهم أنّه يجب أن يتقبّل الأمرَ وأن يتعاملَ مع القرين بتقبّلٍ، وأن يستفيدَ ممّا يحلّ به.
هذا التضادّ في شخصيّته أعطى الشخصيّة بُعدَيْن، بُعدَ الرقّةِ والقوّة، بُعدَ الهدوء والتوثُّب، بُعدَ الولَهِ والجفاءِ، فخرجتِ الشخصيّة من نمطيّتِها، وأصبحت تصرّفاتها غير متوقّعةٍ، حتّى في ساعةِ الحبّ ساعده القرين على اجتراح علامةٍ مكانة قبلته في عنق الجاريةِ التي أراد تقبيلَها، هذان البُعدان غير المتوقّعيْن يجعلان الشخصيّة مميّزةً، تحطّنا في حدود الواقع حينًا، وفي حدود الخيالِ أحيانًا، في حدود الدين حينًا، وفي حدود الخرافة، في حدودِ الحكمةِ، وفي حدود اللامعقول، وهكذا في حين يرتاح التضادّ في خلقِ ورسم الشخصيّة، يبقى القارئ منشغلًا في توقّعاته، متسائلًا عن سرّ الصمت في موقفٍ، وسرّ الثورة في موقف آخر.
2- تضادّ الجاريات الملكات: ومن يوسف نبقى مع العامل البشريّ لنرى التضادّ القابعَ في السيّدات والملكات، فنخشديل السلطانة كانت جارية شقراء بعينين زرقاوين من أصول فرنسيّة، خطفها القراصنة وباعوها إلى داي الجزائر الذي أرسلها هديّة للسلطان عبد الحميد الأوّل، فتزوّجا وأنجبت له ولدًا وأصبحت السلطانة الأمّ، وعملت على إدخال عادات فرنسيّة إلى القصر والسياسة الأمر الذي لم يُعجب الإنكشاريّة. والعيطموس حبيبة يوسف المرأة كاملة الأنوثة كاملة الأوصاف، كانت أيضًا جاريةً من جواري نخشديل، وغيّرت دينها واسمها ككلّ جواري القصر، وترقّت حتّى وصلت رتبة الجوزدة، كانت ترافق نخشديل في السّراء والضراء إلى أن خطفها الإنكشاريّة، فأنقذتها نخشديل وأعطتها حريّتها، ووضعتها تحت حماية جركس باشا الذي أسكنها القصر في يافا وحماها، والنبوءة تحقّقت، فصارت نخشديل سلطانة الشرق، وابنة عمّها أصبحت معشوقة نابليون سيّدة الغرب، لكن، ورغم حياة القصور التي عاشوها، نرى الحزن في عيون السيّدات والملكات، ونجدهن يحسدن الفلّاحات، فتقول العيطموس ليوسف: "أحسد النساءَ العاديّاتِ اللواتي لهنّ عائلة، أحسد النساء اللواتي ترفّ قلوبهنّ لحبيبٍ يحنو عليهنّ ويعكف على رعايتهنّ، أحسد فلّاحات القرى في الضواحي اللواتي يحصدن القمح والشعيرَ ويجمعن الخضار والفاكهة، ويبعن الغلال في الأسواق، ويمتلكن حرّيتهنّ ويُحدّدن مصائرهنّ" (ص123).
هذا التضادّ في حياة الجاريات الملكات إنّما هو مؤشّرٌ لأمرَيْن: أوّلهما "إنّ الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك، فإنْ كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك فاصبِر، فكلاهما سيخسر"، وثانيهما: إنّ السعادةَ لا تقبع خلف الغنى والمال والجاه، وهذا التضادّ أثرى الرواية، وفتحها على مجالات وأبواب وحكاياتٍ لها مغازيها ومعانيها غير المباشرة على تطوّر الحدث وتوقّعات القارئ.
3- التضادّ النساء اللاتي دخلن حياةَ يوسف: العيطموس رمز الأنوثة والكمال، وصاحبة السنّ الذهبيّة الدمشقيّة يسكنها القرين، وتهدف إلى إغراء الرجال ومعاشرتهنّ حتّى قتلهم، كما تفعل ملكةُ النحلِ بالذكر الذي تختارُهُ، والثالثة هي الهنديّة التي ماتَ زوجُها، ورفضت أن تُحرَق معه حسب الأعراف، فانتقلت تحمل الحكمة وتساعد الآخرين. المتناقضات التي تُكمل بعضها البعض اجتمعت في ثلاث نساء: الأنوثة والقوّة الغريبة والحكمة، وهذا ساعد على تكوين شخصيّة يوسف الذي أيقن مدى صعوبة عشرة النساء، وساعد على تطوير الحبكةِ والحدث، ففي ظلّ غيابِ امرأةٍ بسبب الأحداث والسفر من حياة يوسف، كانت تظهر امرأةٌ مختلفةٌ لتسدّ الفراغ النفسيّ والروحيّ والعقليّ والاجتماعيّ عند يوسف وعند القرّاء.
4- تضادّ يافا السلام والحرب، يافا الحرّة والمحتلّة: يافا الحرّة الهادئة الساكنة التي تحتضن أهلها، وتفوح عليهم من عبقِ تاريخِها وتراثِها وحاضرها، ويافا الثائرة ضدّ الدولة والجندرمة والإنكشاريّة. يافا أسطورة المجد الرابضة على شاطئ البحر يزورها حوت النبيّ يونس، ولا يقوى على مفارقة شواطئها وجمالِها. يافا التي يحوّلها واقعها الأليم إلى لقمةٍ سائغةٍ في فم الانكشاريّين وفي قبضة السلطان. يافا التي تهدّمت على رؤوس أهلها في الغزوة النابليونيّة، كما حصل مع بهنانة والدة يوسف، واختار رجالُها طريقةَ موتِهم، فاختار أحمد آغا أن يحفر قبره بيديه، وأن يُهال عليه التراب حتّى يموت، حين كان يوسف يخطّ بيديه وثيقة السلام والحكمة التي كانوا سيوصلونها إلى فرنسا وإلى العالَم، داعين إلى الحكمة والسلام. هذا التضادّ أخرج الروايةَ من دائرة السرد والوصف الجميليْن إلى دائرة الفكرة والرسالة التي يؤدّيها النصّ، فلكلّ نصٍّ رسالةٌ يريد إيصالَها، وعدا التذوّقَ الأدبيَّ والجموحَ مع الخيالِ العلميّ والأسطورة والقصّ الإبداعيّ، والحكايات التي تتوالد من بعضِها البعض، فإنّ الخراب الذي حلّ بيافا كان يحمل دعوةً للسلام، والاحتلال الموصوف كان يحثّ على السعي وراء الحريّة، وما التضادّ الذي عاشته يافا سوى تطويرٍ ذكيٍّ للحبكة وللهدف الذي وصَلَنا على مهلٍ، وفي النهايةِ وعلى امتداد مئات الصفحات. هذا التضادّ أوضح لنا فكرةً هامّةً، الانتماءَ للأرض وعدمَ الانتماءِ للدولةِ، وهذه مقولة تصلح لكلِّ شعبٍ محتلٍّ، ولكلّ دولةٍ تربض على أنفاسِ السكّان.
5- تضادّ الانكشاريّة: حتّى فيهم ربض التضاد وارتاحَ ليفتحَ أبوابَ الوعيِ السياسيِّ، ويجعلَ للحكايةِ ضدّها وغريمَها ونقيضَها، فيملؤُها أحداثًا شائقةً غريبةً متعلّقةً بعضَها ببعضٍ، فالانكشاريّون الذين لم تعجبهم إصلاحات السلطان سليم الثالث أقاموا الفتنة، وأعلنوا الثورةَ على النظام العصريّ للجيش الذي تقلَّدَ بالأوروبيين، فتحالفوا مع فقهاء متشدّدين يصدرون فتاوى تحرّم الزيّ العسكريّ الجديد المستورد من الغرب، ويحرّمون كلّ شيء، ويكفّرون كلّ ما يخالفُ الشريعةَ كما يرونها (ص137)، وكأنّنا بالتاريخ يعيد نفسَه وفي نفس المناطق المنكوبة التي جعلها موقعها الاستراتيجيّ مطمع الجميع، ممّا قبْل أولئك الانكشاريين وحتّى ما بعد تاريخِنا اليوميّ الحاضر! اجتماع كلّ هذا التضادّ في الرواية أدّى إلى تولُّدِ الصراع الذي تصاعدَ على مراحلَ عدّة وعلى أصعدةٍ عدّة، وكانت نهايةُ كلِّ مرحلةٍ تغييرَ مكانِ الحدث وانتقالَ يوسف من يافا إلى أماكن مختلفة، والإنسان محكوم بالمكان، فتصرّفاتُه وحركاته وسلوكه كلّها من تبعيّات المكان، والصراع الأوّل الكبير الذي عاشه يوسف كان حول ثنائيّة الرحيل والبقاء (ص145)، هذا الصراعُ الذاتيّ الذي انفتحَ على صراعٍ منطقيّ، شعبيّ، عامٍّ إنسانيّ مع نشر السلام ودحر الحرب والاحتلال.
وكيف تُغلَقُ أبوابُ التضادّ؟ بانغلاق الدائرةِ ودورتها دورةً كاملةً، فقد بدأتِ الروايةُ زمن خراب يافا وغزوة محمد بك أبو الذهب، والأيّام القاسيّة التي شهدت حربًا دمويّة، وانتهت الروايةُ بخراب يافا، وما بينَ الخرابيْن حياةٌ تتجدّد، وعشق وحبٌّ وفنٌّ ودفقٌ ونبضٌ واستمرارٌ لحياةٍ لا تتوقّف. ما أجملها من روايةٍ تنداح فيها الحكايا وتكبر وتنغلق، وتنفتح حكايةً جديدة، تلكَ تسير لتطوّرَ الحبكةَ، وأخرى تُحكى لتمثِّلَ لواقعةٍ وتعطيها العبرةَ والمغزى والمتعة، ويحملنا راكب الريح على بساط الريح، بساط الحكايا التراثيّة الذي كان ينقلنا من مكان إلى مكان ومن سردٍ إلى سردٍ، فنحلّق ونحن جلوسٌ، كأنّك يا هذا.. بقومٍ جلوسٍ والقلوعُ تطيرُ.
مداخلة د. نبيه القاسم/ "راكب الرّيح" والتّألّق في إبداع الكاتب يحيى يخلف: عرفنا الرواية الفلسطينيّة على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، رافعةً مشعلَ المعرفة، ومُنبّهةً الذاكرة، ومُستنهضةً الهِمَم، وباعثة الأمل وراسمة دربَ المستقبل الواضحَ الطريق. ولم تكن صرخةُ سائق الشاحنة في رواية "رجال تحت الشمس": لماذا لم تدقّوا الخزّان!؟ إلّا الصرخةَ المدوّية التي أرادها غسان كنفاني، أنْ كفانا اتّكاليّةٌ على الغير وانتظارُ رحمةِ الرّب، وأنّ علينا أنْ نأخذَ أمورَنا بأيدينا لتحقيقِ أهدافِنا التي نعمل لأجلها. بهذا الاتّجاه الذي رسمه غسّان كنفاني انطلقت معظمُ الرواياتِ الفلسطينيّة، ترسمُ خطى الحاضرِ لتنطلقَ نحو المستقبل، عازفةً عن العودة للماضي الموجعِ للقلوب، لتكونَ الاندفاعةَ لمستقبلٍ أقوى وأجدى. وكان اتّفاقُ أوسلو، وسقط الحلمُ على أرض الواقع، وتعثّرت خطواتُ المقاتل على أرض المعركة، وتراجعت الآمالُ لتتقزّمَ في واقع لا يرحم، وكانت الصرخاتُ المتألّمةُ التي أطلقتها شخصيّاتٌ صدمها تكسيرُ الحلم الكبير على أرض الواقع في الوطن الغريب، كصرخة بطل رواية "نهر يستحمّ في بحيرة" ليحيى يخلف، "أنا العائدُ أقفُ ضائعًا في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعرُ بالرّغبة في البكاء" (ص26) .
صوّرت الروايةُ الفلسطينيّة نكسةَ الفلسطينيّ واختزالَ حلمه الكبيرِ في وطن يتكوّنُ من بَلداتٍ مُتقَطّعة تحرسُها حرابُ جندِ الاحتلال، وليس للفلسطينيّ إلّا أنْ يقبلَ بالواقع ويرضى بما يمُنُّ عليه المحتلُّ الغريب. فراحَ الفلسطينيّ يهربُ من واقعه ليعودَ ليبحثَ في الذاكرة ويسردَ سِيرَ الآباء والأجدادِ، لعلّ في استحضارهم تعزيةً للحاضرين وتعويضًا لكلّ ما فقدَه من حلم ٍكبيرٍ، أمِلَ أن يكونَ الذي يُجَسّدُه على أرض الوطن.
يحيى يخلف خلال حياته اليوميّة والأدبيّة عاش هذه المراحلَ المتغيّرةَ، وعايش حلمَ الشابّ العربيّ المتوقّدِ ثورةً وعطاء وتضحية في روايته الأولى "نجران تحت الصفر"، ورافق الفدائيّ المُندفِع نحو تنفيذ المهمّاتِ الكبيرة دون وَجَل في رواية "تفاح المجانين"، وشارك المُقاتلين الواثقين بانتصار قضيّتهم وتحقيقِ أهدافهم في رواية "نشيد الحياة". لكنّه عاد وعايشَ صدمةَ انكسار الحلم الكبير وتقزيمه في رواية "نهر يستحمُّ في بحيرة"، وبكى وخافَ فقدانَ البطلِ الأب في رواية "تلك الليلة الطويلة"، وظلّ يرصدُ التّحوّلاتِ والتقلبّاتِ، ويكتبُ ويستفيد من الأحداث وتراكُماتها، ويتمزّقُ لحالة العرب التي وصلوا إليها بعد تمزّقِ ما اعتقدوه ربيعًا عربيّا، فكان خريفا قاتلا.
يحيى يخلف ليس الكاتبَ والمُفكّرَ الذي يتجمّد أمام النظريّات والمَقولاتِ والمواقف، بل هو صاحبُ الفكرِ الثوريّ النيّر الذي يستوعبُ ويستفيدُ ويتعلّمُ ويخرجُ بنتائجَ قيّمةٍ. يحيى يخلف عرف أنّ الواقعَ المعيشَ لا أملَ لنا فيه، وأنْ نبني مستقبَلَنا على ما هو قائم من ضروب المستحيلات، لهذا وجد أنّ البناءَ يجبُ أن يكونَ من الأساس والبدايات طوبة فوق طوبة كما نقول، وأنّ الحياةَ والصّراعاتِ والانكساراتِ والنّكَساتِ والأحلامَ الكبيرةَ المتكسّرةَ عَلّمَتْنا كيف نُعمِلُ العقلَ ونُهدّئُ الطاقةَ المشتعلةَ فينا، لنعرفَ كيف نرى طريقَنا، وكيف نتعاملُ مع مَنْ حوْلنا، لنبنيَ لنا الحياةَ الجديدةَ التي قد تكونُ التي نريدُ أو قريبةً منها. وكانت رواية يحيى يخلف الجديدة "راكبُ الرّيح"، واعتقدتُ لأوّلِ وَهْلةٍ أنّني سأقرأ روايةً بطلُها مَسْحوبٌ من عالمِ ألفِ ليلةٍ وليلة وأساطيرَ بعيدة في الأزمنة، أو من أجواءِ دون كيخوت أو حتى رامبو زماننا، ووجدتُني أنسابُ مع اللغة الجميلة الموقّعة، وأقلّبُ الصفحاتِ الواحدةَ تلو الأخرى، وأختار رِفْقةَ يوسفَ في قَفزه من فوق السور والغَوْص العميق في البحر، وفي مواجهةِ الحوت وملاحقةِ الفتياتِ واللهو مَعَهن، واسْتراقِ القُبَلِ من أجملهِنّ حتى وجدتُ نفسي ويوسف تأخذنا سِنَةٌ من النوم، ولم نستقيظْ إلّا وطابورٌ من الجواري الحسانِ تُحِطْنَ بنا.
يوسف الشخصية الرئيسيّة ومركزُ أحداث الرواية التي رسمها الكاتب بدقّة، شخصيّة اختارها الكاتب بدقّة وحساسيّةٍ لتكونَ كاملةَ الأوصاف، فمولدُه كان يومَ احتلال يافا على يد القائد المصري محمد بك أبو الذهب وتخليصها من يد ظاهر العمر، ليُعيدَها لحظيرة الخليفة العثماني.(ص5) والدُه عمل في التجارة، وأمُّه بهنانة اعتنت بولدها وربّته أحسنَ تربية، تعلّم في حلقات الدراسة في الجامعِ الكبير على يد كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلّم الفقهَ واللغةَ والعلوم. وأرسله والده أيضًا إلى مدرسة الراهبات فتعلّم اللغةَ الفرنسية. عشق الخطَّ العربي فتعلمَ خطَّ الثلث وخطَّ النسخ وباقي الخطوط العربيّة، وتعلم الرسمَ وأتقنَ الرسم بالفحم وبألوان الشمع وألوانِ الزيت، كما أحبَّ البحرَ وأحبّ القفزَ من الأعالي إلى البحر.
كان يوسف وسيمًا جميلَ الطلعة يمتلك عيني صقر، بل إنّ النساءَ كنّ يُشبّهنَ جمالَ خلقته بجمال النبيّ يوسف الذي عشقته النساءُ حتى الذهول. (ص7) وهو الإنسانُ النبيلُ الطاهرُ الذي رفض إيذاءَ الفتيات اللاتي أحبّهن وعرفَهنّ، تمامًا كفِعل النبيّ يوسف الطاهر الأمين الذي رفض ملاحقة الفتيات، وحتى زوجة فرعون مصر له. وما أنْ وصل إلى مرحلة الشباب المبكّر، حتى اكتسبَ لياقة وجسمًا مفتولَ العضلات، وبنيةً متينة، وجرأةً تفوّق فيها على أقرانه، خصوصًا في رياضة القَفز من أعلى أسوار يافا إلى المياه العميقة (ص8).
إضافة إلى كل ما ذُكر سكنَ جسمُ يوسف القَرينُ الذي أعطاه القوّةَ الخارقةَ التي كانت تظهر في حالات الحُبّ أو الحرب الشديدة. وقد بُهرَ بهذه القوّةِ كلَّ مَن عرف يوسف، وجذبت إليه كلَّ الناس خاصّة الفتيات وجواري وسيّدات القصور. يوسف اتّسم بمسحة إلهيّة، فهو شبيهٌ بالنبيّ يوسف بجَماله وفتنته وعِشْقِ الفتياتِ له، وهو كالنبيّ يونس قابَلَ الحوتَ، ويُدخلنا الكاتب في عالم الخيال السحريّ اللامعقول وعالم رامبو، حيث نرى يوسف في مواجهته لجُند الانكشاريّة يجمع نفسه، وطار في الهواء وسقط فوق رؤوسهم، وتحوّلت أذرعه إلى سيوف وأرجله إلى خناجر. وأعمَلَ فيهم، أوسعهم ضربًا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرّحى حبّات القمح. "(ص131). كذلك قصة قتل يوسف للفَهد الذي أراد قتلَ الغزال. (ص230). وقصّة يوسف مع جُند نابليون، حيث وصل بقَفزة واحدة، وتحكّم في طاقته، وتحوّلت أصابعه إلى صلابة الحديد، وأعمل فيهم ضربًا بحركات خاطفة، فشَلّ قدراتهم، وأفقدهم توازنهم، وضغط على نقاط ضعفهم. (ص293).
هذا الجوُّ السّحريُّ الخيالي المأخوذُ من أجواء "ألف ليلة وليلة"، واللغةُ السّلسةُ الجميلةُ المشحونةُ بالعواطف والحنين والحبّ، والحِسانُ اللاتي التقينا بهنّ كالعيطموس الفاتنةِ الجمال المُستعارةِ من حوريّات الجنّة التي تقودنا إلى أندروميدا الجميلة ابنة كيفاوس ملك مدينة يافا وكاسيوبيا، وذات السنّ الذهبيّة المُتحدّيةُ الرجالِ وقاتلتهم، تأخذنا مباشرة إلى أسطورة ميدوسا الجميلة التي مارست الجنس في معبد أثينا، فأغضبتها وحوّلتها إلى امرأة بشعة المظهر وحوّلت شعرَها إلى ثعابين، وكلّ مَن ينظر إلى عينيْها يتحوّل إلى حجر. (ويكيبيديا). وبتلك الجلسات العاطفيّة التي أقامتها العيطموس بحضور يوسف، حيث تختار في كل جلسة مَن تروي حكاية رجل عشقَ امرأةً، وكاد يفقدُ حياته بسبب هذا العشق.(ص 103-115). تأخذنا إلى قصص "الديكاميرون" المشهورة. كما أنه اعتمد الفلسفة القديمة والهنديّة خاصّة (ص165)، خاصّة في حديث الحكيم الهنديّ الذي علّمَ يوسف كيف يتخلّصُ من قرينه، الذي هو الطاقةُ الكامنة في الإنسان، باعتماده على الحكمة والعقل والتّمارين (269-271).
مركزيّة المرأة في الرواية: تستحوذُ المرأةُ على القسم الأكبر من الرواية، ويجمعُ بين كلّ النساء اللاتي كنّ في قلب الأحداث: الجَمالُ والفتنةُ، حلوُ الكلام وجرأةُ الفعل، عُلُوُّ المكانة وغنى المال واستقلاليةُ التصرّف. نساء يوسف هنّ: ماري فتاة شقراء بيضاء البشرة ذاتُ عينين زرقاويْن، ابنةُ قنصل الدولة العليّة العثمانيّة في مدينة باردو بفرنسا، أمّها طبيبة فرنسيّة وعائلتها تقضي عطلتَها الصيفيّة في منزلها الفاخر في البيوت المتدرّجة على التلة. وفيديا التي كانت في خدمة الحكيم، لفتت اهتمامَ يوسف بجمالها ولطفها ، وأحسّ بحنين قويّ لها وهي تمسك بيده وتعلّمه الرقص، أحسّ وهو ممسك بكفّها والدماء الحارّة تسري في عروقها، كأنه يمسك عصفورًا ينبض في يده (266). المرأة ذات السنّ الذهبيّة: وهي الجارة في دمشق التي عاكسَته وتحدّته ودَعَتْه: اعتلِ السورَ وتعال إلى مخدعي عندما ينتصف الليل (178). وبالفعل غامر وجاءها منتصفَ الليل فاكتشفَ خديعتَها له، ووقع في أيدي الحرس، وسلّموه للجند ووُضع في المخفر.
أمّا العيطموس فهي المرأة الأولى التي دخلت حياة يوسف، امرأة كاملة الأنوثة(27)، كاملة الأوصاف (ص67)، قالوا إنها يهوديّة، وقالوا إنها مسيحيّة، وقالوا إنها تعتنقُ البوذيّة. ولكنها شوهدت تمارسُ العبادةَ في مصلّى النساء الملحق بالمسجد الكبير في حيّ العجميّ، وأسّست تكيةً بجانب مسجد حسن بيك في المنشيّة، ولا يعرفُ أحدٌ إن كانت تركيّةً أم شركسيّة أم من أصول إغريقيّة(26)، وهي ثريّةٌ تملكُ عقارات وأموالًا وأسطولًا من السفن التجاريّة، تحظى بحماية أمير البحر جركس باشا (ص26)، أحبَّها الناسُ الفقراء والبسطاءُ لتواضعِها، إذ كانت تتصدّق على المحتاجين، وتزورُ المرضى في البيمارستان، وتوزّعُ لحمَ الأضاحي في الأعياد (28).
التناغم التاريخيّ بين الحاضر والماضي: مَن مثلُ يحيى يخلف يعرفُ مأساويّة الرّاهن العربي الذي نعيشُه؟ ومَن مثله يُدرك أثرَ هذا الواقع على إفْقاد الفلسطينيّ كلّ أمل له في تحقيق حلمه وأمله بدَحْر الاحتلال وقيامِ الدولة الفلسطينيّة العَتيدة التي قاتل لأجلها؟ لكنّ جذوةَ المبدع ورُؤيا الثوريّ، وثقةَ المقاتل بعَدالة قضيّته وقدرتَه على تحقيق الهدف، تدفعُ كلّها بيحيى يخلف نحو التفكير الهادئ الرّزين، والتّبصّرِ بواقع الحالِ وصيرورةِ المستقبل، ومِن ثمّ الاندفاع نحو الماضي البعيد والقريب لاستخلاصِ التجارب والعِبر. "التاريخُ يُعيد نفسَه" جملةٌ يتيمةٌ تتكرّرُ وتُستعادُ كبدهيّة مقبولة. ومثلها: "لا ظالمَ باقٍ"، و "لا دولةً خالدة"، و "الزمن دوّار يوم إلك ويوم عليك"، و"التاريخُ عِبرٌ ودروس". تعابير نُكرّرها ونستشهدُ بها، وكثيرا ما نسخرُ منها، لكنّها في المحصّلة بنتَ تجاربِ الشعوب، استخلصتها وصاغتها بالكلمات الموجزة الرّصينة، ويحيى يخلف وصل إلى القناعة الثوريّة الواعية: أنّ الحقَّ لا يموت، لكنْ حتى تصلَ إليه وتنالَه عليك أنْ تكونَ حكيمًا، وإن لم تحصلْ على الكلّ فاقبل بالقليل، وإن واجهتَ المستحيلَ فلا تيأسْ، وغيّر من أسلوب فكرِك وعملك، واسْعَ لشقّ الصّعاب، وإذا وجدتَ في استعمال القوّة تهوّرًا يوصلُ للدمار، ففكرْ بإعمالِ فكرك في اتّباع الحكمة والتّروّي.
هكذا ركبَ يحيى يخلف الريحَ، وحلّقَ بعيدًا في الزمان والمكان يرصدُ أرضَ الوطن، ويتابعُ حركاتِ الجيوش الزاحفة والأخرى المنهزمة، وقَتْلَ وتشريدَ الناس، وتدميرَ بيوتهم وبلادِهم. فنزل في مدينة يافا، وكانت ككلّ البلاد يومها، أواخر القرن الثامن عشر، تدينُ للحكم العثماني وتخضعُ لظُلم جُندِ الانكشاريّة. وشهد الجريمةَ التي اقترفها نابليون بونابرت بحقّ أهلها، حيث قتل الآلافَ ودمّرَ البيوتَ وحرق الزّرع. وعاد راكب الريح بعد طوافه لواقع الحاضر، ووجدَ أنّ الامبراطوريةَ العثمانية انهزمت، وجُندَ الانكشاريّةِ اختفَوْا منَ الوجود، وغيّبتِ الأيامُ والسنونُ والتاريخُ نابليون، وظلّت يافا قائمةً، وعادت لتكونَ عروسَ حوضِ البحر الأبيض المتوسط ودرّةَ فلسطين، وعاد أهلُ يافا ليُزاولوا حياتَهم ويُقيموا الأفراحَ ويرقصوا ويُغنّوا ويحلموا بمستقبلٍ أجمل، ويحيى المبدع الثوريّ المتفائل يستخلصُ العِبرَ، ويركبُ الريحَ ويعودُ من الزمن البّعيد ليحطّ في رام الله، وهو أكثرُ ثقةٍ بالآتي.
القَرين ورغبة يحيى يخلف في اتّباع طريق جديد: القَرين هو الصاحبُ أو الرفيق الذي يتطابق في الصّفات مع قرينه. وفي حديث للرسول يقول: "ما من أحد إلّا وُكّل به قرينُه من الجنّ وقرينُه من الملائكة"، وكان دوستويفسكي (1821-1881) في رواية "القرين" قد رسم هذه الشخصيّةَ المُلازمةَ لغوليادكين بطلِ الروايةِ، والدّافعةَ لها للقيام بأعمالٍ مختلفة، ويحيى يخلف جعل القَرينَ يُلازم يوسف بطلَ الرواية، ويكونُ مَصْدرَ القوّةِ الهائلة التي عُرف بها، لكنّ استعمالَ القوّةِ المفرطة بغير تَفكير وتقديرِ العواقبِ أدّى إلى الحُكمِ على يوسفَ بمغادرة يافا والابتعادِ عن بلدته وأهله وأحبّائه، ممّا جعله يُقرّرُ التخلّصَ من هذا القرينِ الذي في داخله، ليكونَ الإنسانَ العاديَّ البسيطَ الذي يفكر برويّة، ويتّخذ قرارَه بعيدًا عن تأثيرات غير محسوبة قد تعود عليه بالضّرر. وبالفعل اهتمّ بالوصول إلى الحكيم الهنديّ الذي ساعده في ذلك، وجعله يُفكّرُ أنّ طريقَ استعمالِ القوّةِ المُفرطة المتهوّرةِ توصلُ للدمار، ولا خيرَ من طريق اتّباع السلام ونشرِ المحبّة وروحِ التعاون بين الجميع. وتابع الحكيم يَشرح رسالتَه في "دفاعه عن الشرق وحكمتِه وقيَمِه وعلومِه وثقافته في مواجهة التوحّش الغربي"(ص234) قائلا: "نحن لدينا رسالةٌ، رسالةُ مَحبّة ومساواة وسلام. نحن نُبشّرُ بالأخوّة والمحبّة بين بني البشر، فالناس في دينِكم هم عيالُ الله، وهذه الأرضُ التي يتقاتلون عليها هي أرضُ الله، والبلادُ في الشرق والغرب هي مُلكُ الخالق، وهو الذي يرثُ الأرض وما عليها يوم القيامة. رسالتنا للغرب الذي يغزو الشرقَ، ويأتي إلينا ليستعبدَنا وينهبَ خيراتنا ويُذلَّ حضارتنا وأدياننا ومعتقداتنا، رسالتنا بمثابة اليد الممدودةِ له للسلام والأخوّةِ من موقع الندّ والتكافؤ"(ص241).
بعد أن رأى يوسف ما فعل جندُ  نابليون بيافا وأهلِها وباقي البلاد، صعُبَ عليه أن يتسامحَ مع عدوّه، ورفضَ دعوةَ الحكيم للمصالحة قائلا: "لا كلامَ ولا صلح مع مَن ذبحوا والدي وأهلَ مدينتي. فجاء جوابُ الحكيم هادئًا مُقنِعًا: هذه البلاد تدفعُ ثمنَ موقعها في قَلبِ العالم، وتدفع ثمنَ قداستِها، فمنها انطلقت الرّسالاتُ السماويّة، ولقد عبَرها حكماءُ وحاملو قناديلَ معرفة، وعبرتها رماحٌ وسيوفٌ ومنجنيقات. لكنّ غُزاتها مضَوْا وعبرُوا تاركينَ عمائرهم أطلالا، وهذه المدينةُ يافا تعرّضت لغزوات على مدى القرون، ومذابحَ لا تُحصى، وستتعرّض لغزوات أخرى في القرون القادمة، طالما أنّ الظلمَ قائمٌ، والقلوبَ سوداء". وختم كلامَه متوجّها إلى يوسف: "يا بنيّ، علينا أنْ نُخاطبَهم ونتحاورَ معهم بلغة الحكمة، لعلّنا نلتقي معهم عند منتصف الطريٌق" (ص331-332).
راكبُ الريح روايةٌ تبدأ مرحلةً جديدة في إبْداع يحيى يخلف، تختلفُ عن رواياته السابقة بالكثير وتتفرّدُ بـ : لغة ممَيّزة جديدة، سلسة منسابة بإيقاعيّةِ الحروف والمقاطعِ ومَخارجها (غابتْ عنك. غابَ عطر. وغابت هالةُ غواية. وغاب سوادُ كُحْل، وكَرَزُ شَفَةٍ، وعقيقُ قرط، ولؤلؤٌ يُحيط بجيدِها النّبيل.)(ص67). و "تدور وتدور معها عيناه، تدور لهفتُه. تتوقّفُ فجأة. تتوقّف عيناه على انفعالات وجهها، طائرُ الشباب يرفرفُ في عينيها، هالة سرور تُكَلّلُ قامتَها، فجأة، تُطلق هتافَ فرح وتكادُ تقفز وتطير، تهتف مثلَ صَهيلِ فرس، مثلَ حنينِ ناقة، مثلَ سَليلِ غزالة، مثلَ تغريدِ بُلبُلة"(ص98)، وتتميّز باللغةِ الجميلةِ المتداوَلةِ المطعّمةِ بالتعابيرِ الشعبية (فركة كعب)(ص52)، وبالتعابيرِ القديمة التي تزيد العبارةَ جمالا والمعاني عُمقا (مانحةٌ ومانعةٌ هي، مُقبِلةٌ مُدبرةٌ معا. محافظةٌ ومُتحرّرةٌ معا.ذاتُ عزّة وذاتُ بساط معا. عينان يرفرفُ فيهما طائر عناق وطائر فراق) (ص65). ومزيّنةٍ باقتباسات (مشت أمامه خطوةً خطوة، كمَشْي قَطاة إلى غدير)(ص66) " ولعلّها بعيدةُ مَهوى القِرط"(ص175) " كأنما الموتُ طحنَ المدينة بكَلْكله" "وعلى ليلٍ شديدِ السّواد يُرخي سُدولَه على خَوْف  ، ويُغْلقُ رتاجَه على فَزَع"(ص304)، وتتميّز ببعضِ التعابيرِ تجعل القارئ يعيشُ لحظةَ ذهول وسُكْرٍ وتَجلّ "بينهما كان يمتدّ حبلُ شوق ورذاذ أحاسيسَ ومشاعرَ"(ص97) "همسَتْ ووصلته أنفاسُها، رائحةَ سِواك وأراك ومسك، لأنفاسِها رائحةُ حديقة"(ص84) وكانت الألفاظُ ترسمُ الحركاتِ والمشاهدَ وتبعثُ الحركةَ في كلّ شيء، "سَحرَها كلامُه، وسَحَرتها إطلالتُه، وحرّكَ شهوةً في أعماقها، وأذْهلتْها جرأةُ عينيه اللتين تطلّ منهما مخالبُ."(ص106).
تألّقت اللغة في رثاء يوسف لأمّه: "اغفري لي إنْ كنتُ نسيتُ أو أخطأت. لا ظلّ إلّا ظلّك يا أمّاه. انهضي يا سيّدةَ الرّوح. انهضي يا سيّدةَ الدّفْء والطيبة. انهضي يا مَنْ قلبُك معبدٌ للمحبّة. انهضي يا سيّدةَ الأيائل وحوريّات النجوم. انهضي لتنهض يافا من جديد. "(ص317). وفي كلمات العيطموس ليوسف في اللقاء الأخير قبل الوداع: "أمّا أنتَ يا يوسف فإنّك حصان، بل مهر من أمهار البراري، مهر غير مدجّن، يرمح ويعدو على طريق البحث عن الحقيقة والمعرفة، من خلال الرّقش والتزيين والتّوريق والتّوشيح والتذهيب والتّرصيع والتّزجيج والتشجير والتزهير، وفي طريقه البكر، يتعرّفُ على لذّة المغامرة وحسن الغواية، ويركب الريحَ  ويعلو.. ويعلو.
الزّمن: اعتدنا في قراءتنا لرواياتِ يحيى يخلف أنْ يُعيّشَنا الزّمنَ المعيشَ في رواياته، ويصرُّ على مُرافقة الأحداثِ وتسجيلِ نَبَضاتِ الزّمن والناس والمواقعِ التي تطؤها الأقدامُ، لكنّنا نجدُه في روايته "راكب الرّيح" يسرقنا، ويسحبُ بنا على صَهوة الرّيح إلى زمن بعيد يعود إلى القرن الثامن عشر، فترةِ الحكم العثمانيّ وغزوِ نابليون بونابرت للبلاد، وقد يكون الكاتبُ أراد أنْ يؤكدَ حقيقةً تاريخيّةً، أنّ البلادَ التي تشهدُ احتلالَ الغرباءِ لها قد عرفت الكثيرَ من الغازين والمُحتلّين، ولكنّهم هُزموا ورَحلوا، وهذا هو مصيرُ كلِّ محتلّ ظالم غريب. وكما حدث في الماضي، هكذا سيكونُ في أيّامنا وفي كلّ زمان، مصيرُ المعتدي إلى الهزيمة، والمحتلِ إلى الرّحيل.
المكانُ بطل الرواية: تساءل الشاعرُ أدونيس: هل المكانُ يموت هو أيضا؟ هل تموتُ الأمكنةُ حقّا كما يموتُ البشر؟ عِلمًا أنّ المكانَ ليس مجرّدَ مساحةٍ جغرافيّةٍ. إنّه بالأَحْرى مساحةٌ إنسانيّةٌ- حضاريّةٌ. أنْ يموتَ المكانُ يعني أنّ البشرَ الذين يُقيمون في هذا المكان يموتون هم أيضًا، أو يميتُهم بشرٌ آخرون. ربّما يستمرُّ المكانُ ظاهريّا: سطحا ماديّا، لكنّه يستمرُ كمِثْلِ هيْكلٍ خاوٍ لا جوهرَ له. المكانُ مسكونٌ بموته مثل الإنسان. مسكونٌ ببُعْدٍ استئصاليّ يُفْرغُه ممّا هو، ويملؤُه بشيء آخر. إماتَةُ المكان تعني خَلقَه من جديد على صورة الذين أماتوه. يُخرجونه من صورته القديمة، ويمنحونه صورةً جديدةً. مُحاكاةً لانبعاث الإنسان بعد الموت". (القدس العربي 18.8.2016). وصدمةُ المكان هذه عاشَها يحيى يخلف يوم زارَ أطلالَ بلدته سمخ بعد اتّفاقِ أوسلو وعودتِهِ للوطن. "سمخ وردة كالدّهان، سدوم أكلتها الأمواج، بل أكلتها أسنانُ الجرافات. سمخ بلدةٌ غيرُ مَرئيّةٍ، وهذا الذي أراه على أنقاضها تلالٌ من بيوتِ الإسمنت، تلالٌ من الأسوار التي تحجبُ البحيرة، مدينةٌ على النمط الأوروبيّ. مكانُ سمخ صارتْ مدينةٌ يهوديّةٌ جديدةٌ فوق ترابها، على أنقاض بيوتها. سمخ مدينةٌ تمّ ترويضُها وتهويدُها " (نهر يستحم في بحيرة ص77/80).
وكما الأزمنةُ هكذا الأمكنةُ، تُبَدّلُ شكلَها الخارجيَ وتتآلفُ مع مُغتصبها الجديد وتتعايشُ معه، ولكنّها تُخفي حنينا قوميّا إلى صاحبها الأول ولا تنساه أبدا. وإذ يرى يحيى يخلف كيف تُنتَهكُ الأمكنةَ يوميًّا على طول وعرض الأراضي المحتلة، ويعملُ المحتَلُّ على محو واقتلاع كلّ أثر للمكان الذي كان، ويعملُ بكلّ جدّ لتغييرِ شَكلِ وصورةِ الأمكنةِ وتَبْديلِ أسمائها، لتُصبحَ غريبةً على أهلها الأصليّين، فتنتهي العلاقاتُ وتتقطّعُ الوشائجُ. يركبُ الريحَ ويأخذُنا إلى يافا التي عرفَتْ جريمةَ الغزو الفرنسي لها، وفضيحةَ نابليون بونابرت الذي أمرَ بقتل الآلافِ من أهل يافا وتدميرِ المدينة. أخَذَنا يحيى يخلف إلى يافا ليقولَ لنا: قد ينجحُ الغزاةُ الأقوياءُ في انتهاك الأرضِ وتدميرِها وقتلِ الناسِ وتشريدِهم، لكنّ نهايةَ كلّ محتَلٍّ مهما عظمتْ قوّتُه وسَطْوتُه إلى الزّوالِ ومَزْبلةِ التاريخ ، هكذا كان في الماضي، وهكذا يكون في الحاضر وفي المستقبل، فلا يأسَ مع الحياة ومع الثقةِ بالنفس. المكانُ في "راكب الريح" هو البطلُ الوحيدُ المستحوذُ على كلّ جوانبِ الأحداثِ والشخصيّاتِ، فالتوقفُ عند العديدِ من الأماكن يتكرّرُ ويكونُ الوصفُ الرّائعُ للمشاهدِ المختلفةِ.
مداخلة د. رياض كامل: تمكن يحيى يخلف منذ روايته الأولى نجران تحت الصفر (1976) أن يضع قدمه الثابتة في ركاب الرواية العربيّة، وأن يُشار بالبنان إلى روائيّ قادر على أن يعمل مع زملائه في العالم العربيّ على ترسيخ وتطوير هذا الفنّ العالميّ الراقي، فاختيرت ضمن أفضل مائة رواية عربيّة.
أمّا في ثلاثيّة بحيرة وراء الريح (1991)، وماء السماء (2008)، وجنة ونار (2011)، فقد تمكّن من أن يخطو خطوة أخرى، وأن يخوض في عالم الرواية الفلسطينيّة، وأن يساهم مع عدد قليل من الروائيّين الفلسطينيّين في أن يرسّخ للرؤيا الفلسطينيّة لمسيرة شعب عرف معنى التشرّد، وعرف معنى حبّ الحياة والبحث عن الجذور والتشبّث بها.
فإن كان غسّان كنفاني، برأينا، أحد أهمّ الروائيّين الذين وضعوا أسس الرواية الفلسطينيّة الحديثة في رحلتها الثانية بعد النكبة، فإنّ الروائيّ يحيى يخلف يأخذ جانبا آخر في متابعة رحلة الفلسطينيّ السيزيفيّة، منذ خروجه من سمخ حتى عودته في جنة ونار، مُتحدّيًا جميع العقبات التي شارك العالم في وضع قواعد اللعبة التي تعرقل حقّ العودة التي يؤمن بها الفلسطينيّ المشرّد، ويعيش همّها على أرض الواقع. لقد عُرف يحيى يخلف كروائيّ يوثق للرواية الفلسطينيّة منذ النكبة فالتشرّد في دول شتّى، كما أنّ كلّ رواياته السابقة دون استثناء تعالج قضايا عاشها الروائيّ أو عايشها، أمّا في روايته الجديدة راكب الريح (2016) فإنّه يدخل عالمًا جديدًا هو عالم فلسطين نهاية القرن الثامن عشر.
ملخص الرواية: إنّنا نرى أنّ الرواية عبارة عن ثلاث محطّات ترتبط ارتباطا وثيقا بالمكان، فالمحطّة الأولى هي يافا، والثانية هي الشام، أمّا الثالثة ففي الأناضول وتحديدا مدينة أضنة. تبدأ أحداث الرواية في يافا سنة 1795، وتنتهي نهاية القرن الثامن عشر مع فشل حملة نابوليون على فلسطين. وهي تتمحور حول شخصيّة الفتى يوسف وحيد أبوَيْه. ربّته والدته بهنانة وأحسنت تربيته ونبغ مُبكّرًا، إذ أرسله والده أحمد آغا تاجر الصابون إلى الجامع الكبير الذي "كان يشهد حلقات تدريس من كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلّم الفقه واللغة والعلوم، وعشق الخطّ العربيّ ومنه انتقل إلى الرسم حتى أتقنه. كما أرسله إلى مدرسة الراهبات ليتعلم اللغة الفرنسية". (ص5) يُعرف عنه منذ نعومة أظفاره حبّه للبحر والمغامرة، وبات أهل يافا ينتظرون قفزاته المميّزة من أعلى البرج إلى البحر، وذات مرّة، وجد نفسه بعد أن أتمّ قفزته وغطس، ثمّ سبح نحو عُمق البحر، وجهًا لوجه أمام حوت" (ص10)، و"من حُسن حظّه أنّ الحوت غاص في الماء واختفى، فعاد يوسف إلى الشاطئ بسلام، وفي تلك الليلة، كانت حكاية يوسف والحوت حديث المدينة، حديث القصر ومجالس الوالي والأغاوات ونقباء الأشراف، ومجلس الجواري" (ص11).
يلفت إليه أنظار أهل يافا كبيرها وصغيرها بفضل نبوغه وعلمه وجسارته واكتمال أدوات فنّه، ووسامته التي شغلت صبايا المدينة وجواري القصر، فشبّهت صديقات أمّه جماله بجمال النبيّ يوسف. يدخل يوسف مرحلة المراهقة في تجربته النسائيّة الأولى مع جارية حسناء أغوته، وما أن لامست شفتاه نحرها حتى احترق. يلتقي كعادته بالجميلات عند شاطئ يافا، ويتعرّف إلى ماري الجميلة ابنة قنصل الدولة العليّة في مدينة بوردو بفرنسا وأمّها الطبيبة الفرنسية، اللتيْن قدِمَتا برفقة العائلة لقضاء عطلتها الصيفيّة في يافا. مهّد هذا اللقاء وهذا التعارف الطريق ليوسف للسماع عن فرنسا والثورة الفرنسيّة الحديثة ضدّ النظام الملكيّ. ولما رأى الوالد أنّ ولده مولع بفنّ الرسم اشترى له بيتًا، ليكون بازارًا للرسم وتخزين الرسوم واللوحات وبيعها. لم يكتف يوسف بما تعلّمه في يافا وعكّا وحيفا، بل سافر إلى الأستانة وطاف في بلاد الشام والعراق، واطّلع على رسومات لشعوب عدّة، فتطوّرت أدواته ورسوماته وانتقل إلى الرسم بالفسيفساء. أقبل كبار موظفي السراي والعائلات الغنيّة على البازار لشراء لوحاته الثمينة. وفي إحدى المرّات تحضر ماري ووالدتها برفقة فتاة ذات حضور طاغ، وكانت تلك هي العيطموس المرأة كاملة الأنوثة والجمال، أميرة قادمة من الأناضول اقتحمت خياله ولبّه، وكانت تسكن في أحد القصور قريبًا من قصر الوالي والسراي، فتقرّبا من بعضهما جدّا، وعَرف عنها كلّ ما كان مستورًا، واتفقا أن يرسمها مقابل قبلة.
دخل يوسف في ورطة مع رجال الانكشاريّة في يافا، فأوسعهم ضربًا وتغلّب عليهم منفردًا، فكان عقابه إبعاده عن يافا مدّة سنتيْن. يترك جميلته العيطموس الشبيهة بالأندروميدا، ويصل وفق الاتفاق إلى الشام، حيث يدخل في "مدرستي ملكي سلطاني" فتزداد ثقافته ومعلوماته. يلتقي هناك بفتاة غاية في الجمال هي "ذات السن الذهبيّة"، ويمرّ بمغامرة معها كادت أن تودي بحياته، يأخذه الجنود وينجو بأعجوبة بعد أن تعرّض لصفعاتهم ولكماتهم الموجعة، لكنّه لم يتوقف عن المغامرة، ففي كلّ مرّة تظهر فيه فتاة أشبه في جمالها بحوريّات البحر الساحرات.
يُعاني يوسف، كما يقول، لأنّ قرينًا يَسكنه ويُنغّص عليه حياته، ولا يعرف كيف يتخلّص منه. يَعرض حالته على شيخ وعلى إمام، كما لم يتردّد في عرض حالته على رجليْن هنديّيْن؛ أحدهما سيخي والثاني مسلم، فيَعرضان عليه صفقة أن يسدي لهما معروفا، مُستغلّيْن مهارته في الخط والرسم، وأن ينسخ لهما "مخطوطا" من تأليف حكيم وفيلسوف وطبيب هنديّ عالم بالفلك وخبير بالموسيقى الروحيّة، مقابل تخليصه من القرين، وما عليه سوى أن يرافقهما إلى حيث يقيم الطبيب إقامته المؤقتة في جبل من جبال الأناضول. وهناك يشفى على يد الطبيب الفيلسوف الهنديّ. وما أن سمع بحملة نابليون على فلسطين وبالتدمير الذي لحق بيافا، حتى عاد على عجل يقطع البراري والقفار، فينضم إلى المقاتلين الذين يحاربون جيش نابليون الغازي، ويعمل مع غيره من أجل إعادة إعمار يافا.
فضاء يافا: تتفتّح شخصيّة يوسف وتتطوّر في ظلّ مدينة يافا ببيوتها وأزقتها وحاراتها وبَحرها وسورها وأبراجها، وبمحيط يافاوي غنيّ ثقافة وفنّا وحضارة. وكلّما كبر يومًا ازدادت قوّته الخارقة، معتقدًا أنّ هذه القوّة هي من "قرين" يسكنه، تمثلت في تغلبه على مجموعة كبيرة من جيش الانكشاريّة، ومن قبلة لجارية حسناء قبّل خدّها فحرقه، وظلّت هذه القبلة وشمًا أبديّا. كما أنّ حبّه للعلم والمعرفة وفنّ الرسم كان يزداد يومًا بعد يوم.   
تبدو لنا يافا منذ بداية السرد مدينة فيها الكثير من مواصفات عالم ألف ليلة وليلة؛ غنيّة بمعالمها وأبنيتها وتاريخها وتنوُّع ناسها وانتماءاتهم المتعدّدة واختلاف مِهَنهم وأعمالهم، وتظهر للقارئ مدينة منفتحة على عوالم عدّة، كوْن سوقها عامرة بالتجّار المَحليّين والقادمين إليها من بعيد. فيها بعض القصور، وفيها السراي الذي يقيم فيه الوالي العثمانيّ عبدالله بك، وفيها جوار وقِيان وحسناوات من بلدان مختلفة وشعوب عدّة، وفيها الجامع الكبير الذي بني بمعمار عثمانيّ فريد، وآثار قديمة من سور وبرج عال تشهد كلها على عراقتها، وفيها أسواق ومتاجر تكتظ بالباعة والمُتسوّقين المَحليّين والأجانب، وحركة تجاريّة مباركة، وفيها أدغال من أشجار الحمضيّات وساحات وباحات، فضلا عن شاطئ جميل ورمل يتسلى به الكبار والصغار، يسرحون ويمرحون على شاطئها الذهبيّ.
يقول فيليب هامون إنّ وصف المكان هو وصف لمستقبل الشخصيّة. سيرى القارئ أنّ يوسف سيدخل أسواقها ويحتكّ بناسها على أنواعهم، وسيستلهم رسوماته وفنّه من تراثها وألوانها الجميلة المتعدّدة ومن برجها وأساطيرها، وسيتفتح ذهنه على مَحبّة رملها، وسيبني هناك "قصوره" مع الصبايا الجميلات، ثمّ بعد أن شبّ وبدأ شعر شاربه وذقنه يبزغ يلتقي بجارية حسناء مُجرّبة، تغويه وتسحبه معها إلى الغابة حيث بساتين البرتقال، فيدخل معها في تجربة نسائيّة كانت هي تجربته الأولى، التي ستتكرّ

100
أسرى حَربٍ بلا حِراب!
آمال عوّاد رضوان
بتاريخ 14-7-2016، وفي قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، أقام نادي حيفا الثقافيّ برعاية المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا أمسية إشهار كتاب "أسرى بلا حراب"، لمُعِدَّيْه بروفيسور مصطفى كبها والإعلاميّ وديع عواودة، وذلك وسط حضورٍ مِن المُهتمّين بهذا الشأن، وقد تولّى عرافة الأمسية د. جوني منصور، مُرَحّبًا بالحضور وبمُعِدَّي الكتاب، ثمّ تحدّثَ مُعِدّا الكتاب عن عنوان الكتاب، وما يرمي إليه من إيقاظ الوعي الفلسطينيّ حول الرواية الفلسطينيّة، إذ أسمتهم إسرائيل أسرى وسجنتهم في معتقلات مغلقة وأخرى مفتوحة أقامتها لهم، رغم أنّ أغلبيّتهم الساحقة كانوا بلا حِراب، ولم يشاركوا بمجهود عسكريّ، بل نقلتهم بحافلات إلى المعتقلات، وبقوا طيلة الأيام الثلاثة الأولى واقفين متراصّين بلا طعام ونوم، ويتعرّضون للذلّ والضرب والعمل بالسخرة في معسكرات الجيش، وبتفريغ منازل المدن والقرى المهجّرة من محتوياتها، وذلك تعزيزًا للرواية الصهيونيّة، بأنّ الفلسطينيّين خاضوا الحرب وهزموا وقتلوا ووقعوا بالأسر، ومن أجل مساومة آلاف الشباب على حرّيّتهم مقابل تهجيرهم، وتطويع وتطبيع المتبقين منهم، بأساليب سيكلوجية تقوم على الترهيب والترويع والحرمان والتجويع والإذلال والترهيب، والممارسات النازية في معسكرات التركيز، وأيضًا للاستفادة منهم كقوى عاملة بالسخرة.
تحدّثا عن أهمّيّة الاعتماد على طريقة  المزج بين المادّة الأرشيفيّة والروايات والمقابلات الشفويّة، في عمليّة المعالجة العلميّة المهنيّة، وعن أهمّيّة توثيق وتحليل ومعالجة بحثيّة لقضية المعتقلات التي أنشأتها السلطات الإسرائيلية للمعتقلين الفلسطينيّين العرب، في عزّ النكبة وخلال احتلال المدن والقرى الفلسطينية عام 1948، وعن أحداثِ الأسرى المُعتقلين الفلسطينيّين في المعتقلاتِ الإسرائيليّة الأولى بين الأعوام (1948-1949)، بالاعتماد على مواد أرشيفية من الأرشيفات الإسرائيليّة، وأرشيف منظمة الصليب الأحمر، وكتب ويوميّات كتبها بعض المعتقلين.
تحدّثا عن قضيّة معسكرات العمل التي أقامتها السلطات الإسرائيليّة للمعتقلين، وعن قضيّة الانهيار المفاجئ للمجتمع المدنيّ الفلسطينيّ في تلك المرحلة الحرجة، وعن قضيّة تشكيل الأقليّة الفلسطينيّة سياسيًّا واجتماعيّا وحياتيّا، وتطوُّر علاقة الشيوعيّين العرب مع (إسرائيل) ومؤسّساتها، والعلاقة بين الأقليّة العربيّة وجمهور الأغلبيّة ومؤسّسات الدولة.
تحدّثا عن خبرتهما في إعداد الكتاب ونظرتهما للموضوع، وعن ردود الفعل التي تلقياها حول الموضوع من باب الماضي، وعن نظرتهما المستقبليّة، وكيف يمكن أن ننقل هذا النصّ التاريخيّ لحاضرنا ولأبنائنا، ومن ثمّ كيف يمكن أن نستفيد منه في المستقبل، بتعزيز وتمكين وتثبيت روايتنا التاريخيّة الفلسطينيّة في وطننا
كانتْ هناك مداخلاتٌ وطرحُ أسئلةٍ مِن الحضور، ثمّ تمّ شُكر الحضور والقائمين على الأمسية، وتمّ التقاط صور الإشهار التذكاريّة!
مداخلة د. جوني منصور: هذه أمسية خاصّة مميّزة، قد تكونُ مؤلمةً بموضوعِها، لكن هناكَ مواضيعَ لا بدّ مِن أن نُعالجَها، حتى بعدَ مرور أكثر مِن ستة عقود على حدثِ جدل النكبة التي عصفتْ بشعبنا وبأرضِنا ووطنِنا. موضوع كتاب "أسرى بلا حراب"، عن الأسرى المُعتقلين الفلسطينيّين في المعتقلاتِ الإسرائيليّة الأولى بين الأعوام (1948-1949)، فالكتابُ بحجمٍ كبير يتألفُ من 332 صفحة، صادر عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة في بيروت.
هنالك أهمّيّة كبيرة جدّا باعتقادي هي التوثيق والتحليل على مختلف أنواعِهِ، سواءً كان التوثيقُ مِن خلال جمْعِ الأوراق والمُستنداتِ والوثائق على مختلف أنواعِها، والتي لا تزالُ موجودةً في عددٍ كبير من بيوت أهلِنا، في مُدننا وقرانا في الجليل والمثلث والنقب والساحل والداخل، وأيضًا بين أيدي الأهل في مخيّمات اللاجئين في الضفة الغربيّة، وقطاع غزة، ولبنان والأردن وسوريا والعراق ومصر والشتات، فهنالك حاجةٌ ماسّةٌ إلى تجميع هذه الوثائق لكي توضع على طاولة البحث لدى الباحثين في مجالات مختلفة، ليس فقط في مجال التاريخ، إنّما أيضًا في مجالاتِ العلوم الاجتماعيّةِ والأنثروبولوجيّة والسيكولوجيّةِ والأدبيّة وغيرها.     
الميدان الثاني للتوثيق هو التوثيق الشفويّ، أي الشهادات الشّفويّة مِن قِبل الكبار في السّنّ الذين عايشوا فترة النكبة، وجيل ما بعد النكبة الذي استمعَ وأصغى إلى الروايات مِن قِبل الأهل عمّا حدث عام 1948. أنا لا أعتقدُ أنّ دوْرَ التوثيق هو فقط للتجميع والتخزين، إنّما هناك حاجةٌ ماسّة إلى نقل هذا المخزون من الوثائق والصّور الفوتوغرافيّةِ، والشّهاداتِ الشفويّةِ المُسجّلةِ بالتسجيل العاديّ أو السينمائيّ التصويريّ إلى الأجيال الحاضرة، كي لا نفقدَ الذاكرةَ، وهذه النقطةُ مُهمّةٌ جدّا، تُضافُ إلى النقطة الهامّةِ، وهي البحث الأكاديميّ في هذا الميدان وغيره.
الحربُ التي وقعت عام النكبة (1948) في عدد من الروايات الاسرائيليّة تطلق عليها الحرب الأهليّة، وفي المقال التأسيسيّ لهذا الموضوع، والذي أيضًا اعتمدَ عليه الباحثان لأهارون كلانن في كتاب (حرب الاستقلال) نقاش جديد صدر عام (2005)، يَذكر فيه أنّ الحرب هي حرب أهليّة، لكنّها في الحقيقة حرب اقتلاعيّة للسكان الفلسطينيّين الأصليّين أبناء هذه البلاد.
الموضوع في حد ذاته هو الحديث عن ظاهرة أو مشهد قلّ ما تحدّثنا عنه، فنحن نتحدّث عن عام (1948) والتهجير والترحيل وهدم المباني والبيوت، وتحويل وتغيير الأسماء في حيفا ويافا وطبريا وصفد وغيرها من المدن الفلسطينيّة من عام (1948) وحتى يومنا هذا، ولكن الأدبيّات التي تتطرّق إلى موضوع المعتقلين والأسرى في تلك الفترة قليلة جدّا، ويأتي هذا الكتاب ليسلّط الضوء على هذا المشهد وهذه الظاهرة الصعبة القاسية المؤلمة لأبناء البلاد، الذين تحوّلوا بفعل حرب عام (1948) إلى أسرى، وعوملوا كأسرى، وكما تدّعي الرواية الاسرائيليّة وفقا للاتفاقيّات الدوليّة (اتفاقيّات جنيف).
باعتقادي، وبناءً على المقابلات التي أجريتموها مع الأسرى والمعتقلين، أنّهم لم يسمعوا عن هذه الاتفاقيّات، اذ وقعوا فجأة في الأسر والاعتقال، ووزّعوا بين عتليت وصرفند والجليل وتل ليتفينسكي ومعتقلات أخرى.
 
الأمر الثاني الملاحظ، وبحاجة إلى توسّع أكبر، هو الصليب الأحمر الذي دخل إلى الخط، ليتعامل مع التقارير والأسرى عام (1948) و(1949).
المسألة الملفتة الأخرى في هذا الكتاب هي القسم الأوّل، والبحث عن كافة الجوانب للمعتقلين والمعتقلات وعن السّجانين، فقد دخل الباحثان في تفاصيل هامّة جدّا حول تعامل السّجّان مع الأسرى والمعتقلين، وهذا الموضوع بحاجة إلى تفاصيل أكثر وبحوث في المستقبل، لكنّهما وضعا الإصبع على الجرح.
 
لا شكّ أنّ حرب (1948) هي اعتداء على حياة الفلسطينيّين، والهدف من ورائه هو تدمير أسس حياة الإنسان كإنسان ضمن إطار العائلة والمجتمع، فهناك عائلات بأكملها تمّ تدميرُها، واختفت من هذه البقعة من بلادنا التاريخيّة التي عاشوا فيها منذ فجر التاريخ.
 أمرٌ آخرُ في الكتاب لفت نظري وأشدّد عليه، هو القسم الثاني من الكتاب من الشهادات الشفويّة التي أُدرجَت كما هي، فهناك المئات من المقابلات أجراها الباحثان حول هذا الموضوع مع المعتقلين، ومع أبنائهم القريبين منهم الذين لامسوا الألمَ والوجع والجرح الذي أصابَ ذويهم.
في القسم الثالث من الكتاب هناك قوائم طويلة عريضة لأسماء المعتقلين والأسرى في تلك المعتقلات، ومن الأرشيفات الإسرائيليّة في غالبيّتها وأرشيف منظمة الصليب الأحمر، وبعضُهم كانوا من العملاء.
قرأ د. منصور رسالة (وثيقة) لديه من أحد المعتقلين من عبلين بتاريخ (7-5-1948)، يرسلها إلى ذويه في عبلين عبر الصليب الأحمر، الذي لعب في تلك الفترة دور نقل رسائل الأسرى في الوطن إلى ذويهم في الوطن فيقول: تحية وسلام وشوق واحترام..
إلى الوالدة والعائلة والأقارب والجيران، وخصوصًا إلى آل النشاشسيبي، وأبي شوقي، وكلّ من يسأل عنّا. وإذ سألتم عنّا، نحن موجودون في كامب عتليت. تأخرنا لنظافة الكامب، والأسرى جميعهم نُقلوا إلى صرفند. تركي، وديب خشّان، ورجا عيسى سكران، وحنّا دحّا يُسلّم على أبو إدريس. وأخيرًا، نحن في صحّة جيّدة وعلى التمام.
مئات من الأسماء المذكورة في الكتاب شغلوهم في التنظيف والأشغال الشاقة ورصف الشوارع والبناء، وأيضًا في تجميع محتويات البيوت في القرى المهجرة ونقلها إلى مواقع محدّدة، وفي قطف الزيتون وغيرها من المواسم المختلفة، وهناك أسماء كثيرة من المعتقلين والأسرى في المعسكرات ونقاط الشرطة في مختلف أنحاء البلاد غير مدرجة في القوائم، فمنهم مثلا جدّي في قرية المنصورة المهجرة  على حدود لبنان، أخرجوه من القرية وهجّروهُ، وجزءٌ رُحِّلَ إلى لبنان، وجزءٌ ممّن بقيَ على موعد مع الضابط بالعودة بعد أسابيع، شُغّلوا في المعسكرات لمدّة نصف سنة، فالكتاب يذكر حوالي (11.000) أسير، لكن هناك أيضًا آلاف المعتقلين الذين ما كانوا في إطار سجون، لكن في إطار مخافر ومراكز شرطة.
أشكر صديقيْ الباحثيْن على هذا العمل المُضني، وعلى مجهودهما الكبير الّذي أضافاه، ومقارنة الوثائق في الارشيف مع الشهادات الشفويّة، وفي النهاية وضع الدراسة بشكلها المتكامل، لتكون وثيقة أمام المؤسّسة الإسرائيليّة التي تدّعي لغاية اليوم، أنّ هذا الأمرَ مسكوتٌ عنه لا يُثارُ بالرأي العامّ، وأنا باعتقادي، أنّه آن الأوانُ لفتح كلّ الملفات التي تتعلّق بهذا الموضوع بالفعل، لتكون علامة قويّة جدًّا أمام المؤسّسة الإسرائيليّة.



101
سيرةٌ ذاتيّةٌ- آمال عوّاد رضوان/ فلسطين
آمال؛ ليست سوى طفلةٍ خضراءَ انبثقتْ مِن رمادِ وطن مسفوكٍ في عشٍّ فينيقيٍّ منذ أمدٍ بعيد!
أتتْ بها الأقدارُ، على منحنى لحظةٍ تتـّقدُ بأحلامٍ مستحيلةٍ، في لجّةِ عتمٍ يزدهرُ بالمآسي، وما فتئتْ تتبتـّلُ وتعزفُ بناي حُزْنِها المبحوحِ إشراقاتِها الغائمةَ، وما انفكّتْ تتهادى على حوافِّ قطرةٍ مقدَّسةٍ مفعمةٍ بنبضِ شعاعٍ، أسْمَوْهُ "الحياة"!
عشقتِ الموسيقى والغناء، فتعلّمتِ العزفَ على الكمانِ منذ تفتّحتْ أناملُ طفولتِها على الأوتار وسلالم الموسيقى، وقد داعبتْ الأناشيد المدرسيّةُ والتّرانيمُ حنجرتَها، فصدحتْ في جوقةِ المدرسةِ، إلى أنِ اتّشحَ حضورُها بالغيابِ القسريّ مدّة سنوات، لتعاودَ ظهورَها في كورال "جوقة الكروان" الفلسطينيّة!
كم عشقتْ أقدامُها المعتّقةُ بالتّراثِ الرّقصَ الشّعبيّ، وكانَ لخطواتِها البحريّةِ نكهةً مائيّةً تراقصُ ظلالَ شبابٍ طافحٍ بالرّشاقةِ في فرقةِ دبكةٍ شعبيّةٍ، إضافةً إلى نشاطاتٍ كشفيّةٍ وأخرى عديدة، تزخرُ بها روحُ فتاةٍ تتقفّزُ نهمًا للحياة!
أمّا لمذاقِ المطالعةِ والقصصِ والرّواياتِ فكانَت أسرابُ شهوةٍ؛ تحُطُّ فوقَ أنفاسِها حدَّ التّصوّفِ والتّعبّد، منذُ أن تعلّقتْ عيناها بسلالم فكِّ الحروفِ، وكانَ للقلمِ المخفيِّ في جيبِ سترتِها وتحتَ وسادتِها صليلٌ يُناكفُها، كلّما شحَّ رذاذُ نبضِهِ في بياضِها، فيفغرُ فاهَهُ النّاريَّ مُتشدِّقًا بسِحرِهِ، كأنّما يحثّها لاحتضانِهِ كلّما ضاقتْ بهِ الأمكنةُ، وكلّما تعطّشَ إلى خمْرِها، فتُحلّقُ به في سماواتِ فيوضِها، وما أن تصحُوَ مِن سكرتِها، حتّى تُمزّقَ ما خطّتْهُ ونسجَتْهُ مِن خيوطِ وجْدِها، لتمحوَ كلّ أثرٍ يُبيحُ للآخرَ أن يُدركَ ما يعتملُ في نفسِها، ولأنّ مكانةً سامقةً وأثرًا جمًّا ومهابةً للأدب، تخشى أن تتطاولَ إليهِ، أو تُقحمَ نفسَها في ورطةٍ لا خلاصَ منها.
ما بعدَ الفترةِ الثّانويّةِ حلّتْ مرحلةُ منفاها عن طفولتِها الزّاهيةِ، حينَ استلبتْها مخادعُ الدّراسةِ الجامعيّةِ الثّلجيّةِ مِن أجيجِ نشاطاتِها، ومِن ثمّ؛ تملّكتْها مسؤوليّاتُ الزّواجِ والأسرةِ ومهنة التّدريس، واقتصرَ دورُها الأساسيُّ على مرحلةٍ جديدةٍ؛ هو بناءُ عالمٍ محبّبٍ آخر بعيدًا عنها قريبًا جدًّا منها، الأسرةُ بكاملِ مسؤوليّاتِها الجمّةِ، وفي الوقتِ ذاتِهِ وبفعل سحر الأمومةِ، نما في قلبِها عشقٌ جنونيٌّ للعطاءِ، رغمَ طراوةِ الحياةِ وقسوتِها، وكانَ بخورُ الذّكرياتِ يعبقُ بكبريائِها، ويُمرّغُها بعطرِ الطّفولةِ الهاربةِ!
ما بينَ رموشِ نهاراتِها ووسائدِ لياليها، ساحتْ آمال في عُمقِ بُوارٍ لا يَحدُّهُ خواء، تارةً، تأخذُها سنّةٌ مِن سباتٍ في استسقاءِ الماضي، وتارةً، تستفيقُ مِن قوقعةِ أحاسيسِها الذّاهلةِ، حينَ تهزُّها الفجوةُ الدّهريّةُ بينَ الأنا والآخر والكون، وبينَ مجونِ الضّياعِ المُزمجرِ فتنةً، وبينَ حاناتِ الخطايا المشتعلة كؤوسُها بلا ارتواء، والوطنُ يرتعُ في شهقاتِ ألمٍ تعتصرُ أملاً مِن كرومِ المستحيل!
لم تفلحْ شفافيّةُ الواقعِ المُرّ حلوُهُ، ولا مهرجاناتُ الحياةِ مِن صَلبِها على أعمدةِ مدرّجاتِ ومسارحِ الحياةِ، بل التجأت بصمتٍ وهدوءٍ إلى كهفِ الأبجديّةِ، واعتكفتْ فيهِ كناسكةٍ تحترفُها فتنةَ التـّأمـّلِ، حيثُ تصطفي نيازكَ حروفٍ متلألئةٍ بالنّضوج، كادتْ تسقطُ سهوًا في محرقةِ الألمِ، أو كادتْ ترجُمها إغواءاتُ الدّروبِ بحصًى يتجمّر، لكنّها حاولتْ أن تلتقطَ بأناملِ خيالِها تلك الحروفَ اللاّسعةَ الكاويةَ، كي ترطّبَ وجدَ آمالِها الموشومةِ بنشيجِ خلاصٍ قد يأتي!
كم تماوجتْ في طُهرِ روحِها شعاعاتُ إيمانٍ، صاخبة بفصولِ التّوغّلِ وبوجوه الجمال في غدٍ دافئٍ، وكم نقشَتْها أنفاسُها تنهيدةً منحوتةً ومُشفّرةً، على شاهدةِ عمرٍ يلاحقُها، ويُولّي في صحْوتِهِ، ولا يلوي على التفاتةٍ تكتظُّ بالحسرة!
"سحر الكلمات" هو عجوزي المستعارُ، وراعي انتظاراتي المؤجّلةِ بفوّهةِ مغارتِهِ الخضراء، يحرسُ بتمائمِهِ ومشاعلِهِ عرائشَ كرومي، عندما تسلّقتْ عليها دوالي قلبي وذاكرتي المنهوبةُ، ونصوصي الوجدانيّةُ المكدّسةُ على رفوفِ فسحاتٍ تعذّرَ التقاطُها، وبعشوائيّةٍ لذيذةٍ انفرطتْ قطوفُ أساريرِها على أطباقِ البراءة عبْرَ صفحاتِ النّت، لتؤبّدَ دهشةَ صمتٍ عبَرَتْ كالرّيح، فوقَ ظلالِ الفصولِ والعمر، إلى أنْ كانتْ ومضةٌ مخصّبةٌ بأحضانِ سحابةٍ متنكِّرةٍ، تراذذتْ من جلبابِها "آمال عوّاد رضوان"، ومنذُها، وآمال لمّا تزل آمالُها حتّى اللّحظة تتلألأُ بـ :
*1- بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّج/ كتاب شعريّ/ آمال عواد رضوان/ عام 2005.
*2- سلامي لك مطرًا/ كتاب شعريّ/ آمال عواد رضوان/عام  2007.
*3- رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقود/ كتاب شعريّ/ آمال عوّاد رضوان/ عام 2010.
*4- أُدَمْوِزُكِ وَتَتعَـشْتَرِين/ كتاب شعريّ/ آمال عوّاد رضوان/ عام 2015.
*5- كتاب رؤى/ مقالاتٌ اجتماعية ثقافية من مشاهد الحياة/ آمال عوّاد رضوان/ عام 2012.
*6- كتاب "حتفي يترامى على حدود نزفي"- قراءات شعرية في شعر آمال عواد رضوان 2013.
*7- سنديانة نور أبونا سبيريدون عواد/ إعداد آمال عوّاد رضوان/ عام 2014
*8- أمثال ترويها قصص وحكايا/ إعداد آمال عوّاد رضوان/ عام 2015
وبالمشاركة كانت الكتب التالية:
*9- الإشراقةُ المُجنّحةُ/ لحظة البيت الأوّل من القصيدة/ شهادات لـ 131 شاعر من العالم العربيّ/
تقديم د. شاربل داغر/ عام 2007
*10- نوارس مِن البحر البعيد القريب/ المشهد الشّعريّ الجديد في فلسطين المحتلة 1948/ عام 2008
*11- محمود درويش/ صورة الشّاعر بعيون فلسطينية خضراء عام 2008
صدرَ عن شعرها الكتب التالية:
*1- من أعماق القول- قراءة نقدية في شعر آمال عوّاد رضوان- الناقد: عبد المجيد عامر اطميزة/ منشورات مواقف- عام 2013.
*2- كتاب باللغة الفارسية: بَعِيدًا عَنِ الْقَارِبِ/ به دور از قايق/ آمال عوّاد رضوان/ إعداد وترجمة جَمَال النصاري/ عام 2014
*3- كتاب استنطاق النص الشعري (آمال عوّاد رضوان أنموذجًا)- المؤلف:علوان السلمان المطبعة: الجزيرة- 2015
إضافة إلى تراجم كثيرة لقصائدها باللغة الإنجليزية والطليانية والرومانيّة والفرنسية والفارسية والكرديّة.
*محررة الوسط اليوم الثقافي الشاعرة آمال عواد رضوان
http://www.alwasattoday.com/ar/culture/11193.html
الجوائز:
*عام 2008 حازت على لقب شاعر العام 2008 في منتديات تجمع شعراء بلا حدود.
*عام 2011 حازت على جائزة الإبداع في الشعر، من دار نعمان للثقافة، في قطاف موسمها التاسع.
*عام 2011 حازت على درع ديوان العرب، حيث قدمت الكثير من المقالات والنصوص الأدبية الراقية.
*وعام 2013 منحت مؤسسة المثقف العربي في سيدني الشاعرة آمال عواد رضوان جائزة المرأة  لمناسبة يوم المرأة العالمي 2013 لابداعاتها في الصحافة والحوارات الصحفية عن دولة فلسطين.
وبصدد طباعة كتب جاهزة:
*كتاب (بسمة لوزيّة تتوهّج) مُترجَم للغة الفرنسيّة/ ترجمة فرح سوامس الجزائر
*كتاب خاص بالحوارات/ وستة كتب خاصة بالتقارير الثقافية حول المشهد الثقافي في الداخل
*ستة كتب (تقارير ثقافيّة) حول المشهد الثقافي الأخضر 48: من عام 2006 حتى عام 2015

102


غَــــابَـــاتِــي تَــعـُـجُّ بِــالنّـُــمُــــورِ!


آمال عوّاد رضوان

أَنَا .. مَنِ امْتَطَتْنِي وحْشَةُ الْفَقْدِ
لَمَّا أزَلْ ..
أُسَبِّحُ .. سِحْرَ سُكُونِكِ
مَا نَسِيتُ .. ذَاكِرَةَ عُشْبِكِ الْمُقَدَّسِ
حِينَ يَسْتَحِيلُ .. لِصَرْخَةٍ فَرِيدَةٍ!
*
مَا نَسِيتُ عُشْبًا ..
لَيْسَ يَتَنَفَّسُهُ .. إِلَّا نَسِيمٌ ..
مُحَمَّلٌ .. بِعَنَاقِيدِ شَوْقِي وَحَنِينِي
وَمَا نَسِيتُ غُزْلَانَكِ
الْـ .. تَنْبِضُ بِرِقَّتِي الْحَالِمَة!
***
لكِنِّي وَمُنْذُ قُرُونٍ
حُرِمْتُ دُخُولَ جَنَّتِكِ!
تِلْكَ مُشْتَهَاتِي.. سَخِيَّةُ الذَّوَبَانِ
دَفِيئَتِي .. الْـــ .. عَامِرَةُ بِالْآهَاتِ
  وَمَا عُدْتُ أَتَعَرَّى .. حَيَاةً
حِينَ تُشَرِّعِينَ.. نَوَافِذَ رِقَّتِكِ!
*
وَجَـــلَالُـــكِ
أُقْسِمُ .. بِحَنَايَاكِ..
بِبُطُونِ وِدْيَانِكِ
قَوَافِلُ سُحُبِي.. بَاتَتْ حَارِقَةً
وَهذَا الْجَامِحُ الْمُسْتَأْسِدُ بِي ..
 صَارَ مَارِدًا
يَرْعَى غَابَاتِي .. الْــ تَـعُـجُّ بِالنُّمُورِ
***
أَيَا فَاتِنَتِي
أَنَا مَنْ خُلِقْتُ.. لِأَحْتَرِقَ بِكِ
احْتَرَفْتُ الاتِّكَاءَ
عَلَى غَيْمِكِ
على لهْفَتِكِ .. على جُنُونِكِ
وَقَدْ خَضَعْتُ .. لِحُلُمِي طَوِيلًا
فِي انْتِظَارِكِ!


من ديوان (أُدَمْوِزُكِ وِتَتَعَشْترين)

103
العُنوانُ ما بينَ الوظيفةِ الدّلاليّةِ والوظيفةِ الإحاليّة!
محمّد الشّنتوفي
إشكاليّةُ الحدودِ التّصوُّريّةِ لعَتَبةِ النَّصّ
"أُدَمْوِزُكِ وَ تَتَعَشْتَرِينَ" للشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان نموذجًا.
القولُ كلُّهُ يَنهضُ على البيانِ، والبيانُ بدَوْرِهِ يَتأسّسُ بخاصّيتيْن اثنتيْن هُما: العبارةُ والإشارةُ، فإذا كانت المَعاني في العِبارةِ حقيقيّةً وصريحةً، فإنّ الإشارةَ هي مُضمَرَةٌ تتّسِمُ بالمَجازيّةِ والإضمار، والقوْلُ الشّعريُّ الأصْلُ فيهِ هو الإشارة، والشّاعرُ يَجنَحُ دوْمًا إلى استعمالِ ما يَكتُبُ في مَعانيهِ المَجازيّة، ويَتحَدّى الحُدودَ الفاصِلةَ، كيْ يَمْحُوَ أثَرَ ما تُخَلِّفُهُ العِبارةُ، حتّى أنَّ حَدَّ القوْلِ الشّعريِّ قد يَكونُ هو حِفظُ الإشارةِ وصَرْفِ العِبارة، ففي الشّعرِ يَتجلّى كمالُ الكلام.
للمقاربةِ الّتي تَختصُّ بالعنوانِ أهمّيّةٌ بالغة، لأنّهُ يُشكّلُ الوَسيطَ الأوّلَ ما بينَ النّصِّ والمُتلقّي، فللعنوانِ عدّةُ مَهامّ تَرسُمُ أفقًا للانتظار، وتُمكّنُ مِن تَناوُلِ ومُناولةِ النّصّ، لأنّهُ يُعتبَرُ العلامةُ الّتي يَنفتِحُ بها العملُ الأدبيُّ عامّةً، والنّصُّ الشّعريُّ على الخصوص، فَنشاطُ القراءةِ يَبدأ كرَغبةٍ في مَعرفةِ ما هوَ مُخطّطٌ لهُ، كمَساحةٍ مَجهولةٍ بالنّسبةِ لهُ، تَتغيّى إمكانيّةَ الاكتشافِ والاطّلاع.
وحسب قوْل أنطوان فيروتيير: "عنوانٌ جميلٌ فاتنٌ هوَ الوسيطُ الحقيقيّ".(1)، وقد حدّدَ جينيت للعنوان أربعَ وظائفَ أساسيّةٍ:
1- العنوانُ هوَ أوّلُ إشارةٍ تُميّزُ النّصَّ، وتُمكِّنُ مِن تَعريفِهِ. 
 2- العنوانُ يَحمِلُ تلكَ القُدرةَ الواضحةَ على الدّلالةِ على المحتوى، وعلى إمكانيّةِ التّشَكُّلِ كمِفتاحٍ تَحليليٍّ، على حَدِّ قوْل أومبيرطو إيكو.(2)
3- العنوانُ يُشَكّلُ وظيفةً حِسّيّةً، فهو يَحملُ إمكانيّةَ أنْ يُتَرْجَمَ حسبَ المّرجعيّاتِ الثّقافيّةِ أو الأسلوبيّة.
4- للعنوانِ وظيفةٌ ذاتُ سِمةٍ إغرائيّةٍ، حينَ يَدفعُ العنوانُ بالقارئِ إلى اقتناءِ العمَلِ الإبداعيّ.
إنّ الاهتمامَ بتناوُلِ العنوانِ كَمُكَوِّنٍ دَلاليٍّ، جاءَ ضِمْنَ إعادةِ الاعتبارِ لمَجهولِ الهامش، قصْدَ تحطيم سلطةِ المَركز، بَعدَ أنْ كانَ يُعتبَرُ في المقاربةِ مُجرّدَ زائدةٍ، أو فضلةٍ لغويّةٍ للمُصَنَّف، وكانَ للتفكيكيّةِ  البادرةُ في تحقيقِ ذلك بفضلِ جاك دريدا، حيثُ اعتبَرَ أنّ العنوانَ كانَ مَقصِيًّا مِن مَجالِ التّفكيرِ الفلسفيّ التقليديّ، فالعنوانُ بفضلِ التّفكيكيّةِ هو مُكَوِّنٌ أساسيٌّ لكلِّ عمَلٍ إبداعيٍّ، يَضمَنُ حياةَ النّصّ، لأنّهُ السِّمةَ الأولى الدّالّةَ عليهِ، ما دام عتبةً مِن عتباتِ النّصّ، كوْنهُ يَمتلِكُ بُنيةً ودلالةً لا تنفصِلُ عن خصوصيّتِهِ، إذ يتّسعُ مِن كوْنِهِ تركيبًا لغويًّا إلى تركيبٍ دلاليّ، ومِن كوْنِهِ لغةً إلى علامةِ دالّ ومدلول، واعتبَرَهُ طوني بينيت(3) نوعًا مِن سُلطةِ النّصّ، درَجَةَ أنّهُ أصبحَ يُشكّلُ مَركزَ التّحليلِ والتّأويل، وقد يُحدّدُ فرضيّاتِ المُقاربةِ، ومَسارَ ما تُفضي إليهِ مِن نتائج، على الرّغم مِن كوْنِهِ أقصى اقتصادٍ لغويٍّ مُمكنٍ، فهو مِثل هَرمٍ لقاعدةِ النّصّ.(4)
وبما أنّ العنوانَ جزءٌ لا يتجزّأ مِنَ الوظيفةِ الكُلّيّةِ للعملِ الإبداعيّ، فإنّهُ يَحملُ في طيّاتِهِ السِّماتِ الدّلاليّةَ والتّركيبيّةَ للغةِ المعنى داخل المُنجَزِ الشّعريّ، فعلى مُستوى الدّلالةِ، نَلمَسُ في العنوانِ طبيعتَهُ، وهل هي حقيقيّةٌ، أم تَعمَدُ إلى توظيفِ المَجاز؟
عنوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ"(5) مُوغِلٌ في مَجازٍ خصْبٍ مُخَضّبٍ بالأسطورة: "دموزي" أو "تموز"، و"عشتار" أو "عينانا"، الأمر الّذي يَتطلّبُ إضاءةً، بالرُّجوعِ إلى الحضارةِ السّومريّةِ في بلاد الرافدين.
بالنّسبةِ للمُستوى النّحويّ والصّرفيّ للّغةِ المُوظّفةِ في عنوانِ العملِ الشّعريّ "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ"، نَلمَسُ أنّ زمَنَ الفِعلِ مُضارِعٌ حاضِرٌ، يَتّسِمُ بالدّيمومةِ، حيثُ أنّهُ يُحيلُ إلى الماضي ويَستمِرُّ في الحاضر، وهو بإرادةِ الشاعرة آمال عوّاد رضوان، يَتوقُ إلى ما هوَ آتٍ.
صيغةُ العنوانِ تتّسمُ بدعوةٍ مَبنيّةٍ على لغةِ المُخاطبة، والّتي تَنطوي على مُستوَيَيْنِ مِنَ التّأويل:
الأوّلُ يُلَمِّحُ  إلى مَدٍّ مُضادٍّ، فيهِ جَذْبٌ بينَ طرَفيْنِ ليسَ لهُما نيّةُ التّقاربِ أو الإقتراب، أو حتّى إيجادِ منطقةٍ للتَّوْقِ إلى نفسِ البُؤرة: أُدَمْوِزُكِ؛ أي أُلبِسُكِ شكلَ ورداءَ الأسطورةِ دموزي راعي الغنم، الفنّان الذي يُحْسِنُ الغناءَ والعزفَ على الآلةِ المُوسيقيّة، دموزي الّذي كانَ على قدْرٍ كبيرٍ مِنَ الخُلُقِ والعِفّةِ والاستقامة، كان مُتواضِعًا حالِمًا مُنغمِسًا في مَلكوتِهِ الخاصّ، وقد تعلّمَ كثيرًا مِن حياةِ الرّعيِ ومُعايشةِ قطيعِ الغنم، واستطاعَ أنْ يَدفعَ القطيعَ بسِحرِهِ وتواجُدِهِ إلى العطاءِ والتكاثر.
أمّا عشتار فهي إلهة الحُبّ والخصبِ والنّماء، عشتار النرجسيّة حَدَّ الغرورِ المُطلَق. "وقعَ في غرامِها الشّعراءُ، فخلّدوها بأعذبِ الأوزانِ وأحلى القوافي، وهامَ بحُبِّها الأدباءُ، فوهَبوها أجملَ النّصوصِ المَلحميَّة، وعشِقَها الفنّانون، فرسَموها على أرشقِ الأختام الأسطوانيّة، وصنعوا لها أرقى التماثيل التي تكادُ تنطقُ بالحياة، وولعَ بها الموسيقيّون، فنغّموها لحنًا راقصًا على أوتارِ العود وفوّهةِ الناي.."(6).
زد على ذلك، كوْنَها ابنةَ الإله "آنو" القادر على خلقِ كلّ الأشياء، (حكايتها مع المَلك جلجامش الذي رفضَ الزّواجَ بها، ورَثاها بقصيدةٍ مشهورة، الأمرَ الذي دفعَها للغضبِ منه، والإلحاحِ في طلب أبيها، كي يخلقَ ثورًا قويًّا ليقتل جلجامش). وكذلك هي أخت الإله "أوتو" إله الشمس.
عشتار المُستبدّةُ والفاشلةُ في أكثر من علاقةِ عشق، كانت تُحبُّ المَظاهرَ والبهرجةَ وإبراز الذات، إذ كانت على قدْرٍ فادحٍ مِنَ الجَمال، وبَسْطةٍ في الجسم والقوام، (حكاية الشجيرة التي نُقِلتْ ذاتَ يوم من على ضفة نهر الفرات إلى مدينة (الورقاء)، وزرعَتها في "بستانها المقدّس"، على أمل أن تنمو، وتصيرَ شجرةً سامقةَ الأغصان، فتصنع من خشبها عرشًا وسريرًا لها..).
إضافةً إلى أنّهُ يُمكنُنا أنْ نَلمَسَ مِن العنوان "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ" جانبَهُ التّقريريَّ الواضحَ، أي أنّ الشّاعرةَ استسلمتْ لواقع الأمر، وجاءَ مَنطوقُ العنوانِ على شاكلةِ بوحٍ مُستسلمٍ راضٍ بواقعِ الوضع ومَآلِ الحال، ليَظهرَ إلى السّطح المَلمحَ الإشكاليَّ للعنوان، وبهذا المعنى تطرحُ هذه الصّيغةَ اللّغوية "أُدَمْوِزُكِ وتَتَعَشْتَرين" إشكاليّةً تتطلّبُ توضيحًا مُسترسِلًا، وجَوابًا للسّؤال الذي تنطوي عليهِ، حتْمًا سيكونُ عاملًا مُستفِزًّا، يَدفعُ القارئَ إلى تَلمُّسِهِ بالقفزِ على العنوان، والغوصِ داخل الديوان الشعريّ، والأخذِ بتلابيب القصائدِ مُناولةً وتمحيصًا، وبذلك، تتبدّى إشكاليّةُ العنوان طُعْمًا يُغري المُتلقّي، ويَنثرُ حوْلهُ شِراكَ الغُواية.
التأويلُ اللّغويُّ المَعنويُّ الثاني لِـ "أُدَمْوِزُكِ وتتَعَشْتَرين" يُوحي إلى فرَضيّةِ التّودُّدِ واللّوْمِ، أي: أنا يا حبيبتي (علاقة مع ما جاء مُوَثقا في الصفحة الأولى: عشقيات)، أُدَمْوِزُكِ وِفقَ ما أتوقُ أنْ ألْمَسَ فيكِ مِن خِصالٍ ووُدٍّ وسلوكيّاتٍ ورهافةِ إحساس، وأنتِ تتغنّجينَ وتتمنّعينَ عُنوةً، وتَنبجسُ فيكِ صورتُكِ وصِفتُكِ الطّاووسيّةِ الفاتنةِ والقاتلةِ في نفس الآن، فترفَّقي بحالِ العاشق، وتَواضعي إليهِ مِن بُرجِكِ العالي.
هو الّذي لا يَمتلكُ مِن عتادِ الجَبَروتِ والقوّة، إلّا ما استجداهُ مِن عشقكِ الّذي على شاكلةِ الطبيعةِ العذراء، وفِطرة قطيع الغنم السعيد، وسِحر الموسيقا والشّدو والغناءِ وبساطةِ الحياة، لكنّهُ في جسدِ القصيدةِ الحمّالةِ للعنوان، يتبدّى موقفٌ استسلاميٌّ عاجزٌ، يُحسَمُ في مدى تَحقُّقِ الفرَضيّاتِ السّالفةِ، فلا تتأكّدُ إلّا فرضيّةُ المحاولةِ، ليَبقى الأصلُ هو الطّاغي والمُهيْمنُ، فيقولُ: حسبي/ أُدَمْوِزُكِ.. و تَتَعَشْتَرين.(7)
أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ: مَدٌّ وجَزرٌ بينَ إرادةٍ واضحةٍ إلى حملِ الحبيب على الحلولِ في ذاتِ "تموزي"، الّذي هو- مع ما اتَّصَفَ بهِ مِن مزايا وخصالٍ- كائنٌ ذكوريٌّ بامتيازٍ، حدَّ أحقّيّتِهِ بأنْ يُصبحَ زوْجًا لعشتار، وترضى بهِ أنْ يَحملَ هذه الصّفةَ المائزةَ، فعشتار اصطفتْهُ مِن بينِ كلِّ الرجالِ وأنصافِ الآلهة، ولعلّ هذه الرغبةَ المُضمَرةَ في فِعل "أُدَمْوِزُكِ"، تهَبُ العنوانَ مَلمَحًا غرائبيًّا، يَدفعُ إلى التساؤلِ عمّا وراءَ البادرةِ الإراديّةِ مِن أغراضٍ وأسبابٍ ذاتيّةٍ أو موضوعيّة، فكافُ الخطاب جاءتْ هنا مكسورةً، للدلالةِ على التأنيثِ، والمُخاطِبُ على الأرجح يتحدّثُ بلسانِ الذّكورة، بينما نَلمَسُ أنّ المُخاطَبَ على الراجح أنثى، حين تتعشترُ، فهي تنزحُ طبيعيًّا إلى الحالةِ الأسمى، التي يجبُ أن تكونَ عليها المرأة، فعشتار على الرّغم مِن المَواطنِ السّلبيّةِ فيها، فإنّها كانت "شابّةً ممتلئةَ الجسم، ذاتَ صدْرٍ نافرٍ، وقوامٍ جميلٍ، وخدَّيْنِ مُفعَمَيْنِ بالحيويّة، وعينيْن مُشرقتَيْن يتوفَّرُ فيها.
"إلى جانب جَمالِها الأخّاذ، فيها سُمُوُّ الرّوحِ مع رهافةِ الطبع، وقوّةُ العاطفة، والحُنوُّ على الشيوخ والأطفال والنساء، وفي فمِها يَكمُنُ سرُّ الحياة، وعلى شفتيْها تتجلّى الرّغبةُ واللذّةُ، ومِن أعطافِها يَعبقُ العطرُ والشذى، فيكتملُ بحضورها السّرورُ، ويَشيعُ معَ ابتسامتِها الأمنُ والطّمأنينةُ في النّفوس، وغالبًا ما نُشاهدُها وهي تجوبُ الحقولَ بخِفَّةٍ ورشاقة، فتتفجَّرُ الينابيعُ خلفَها بالماءِ والعطاء، وتُزهِرُ الأرضُ بالسّنابلِ والنماء."(8)                                                                       
المَلمَحُ الآخرُ الّذي يتّسمُ بهِ عنوانُ هذا المُنجَز الشّعريّ (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ)، يَدفعُ بالكشفِ عن طبيعتِهِ؛ هل هي طبيعةٌ انفعاليّةٌ، أم ندائيّةٌ، أم ضِمنيّةٌ، أو مَبنيّةٌ على الإحالةِ المُباشرةِ أو الرّمزيّةِ، فالطبيعةُ اللغويّةُ بمفهوم إنتاج المعنى، هي طبيعةٌ انفعاليّةٌ فيما يَخصُّ هذا العنوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ)، إذ تتأسّسُ على الإحالةِ الرّمزيّةِ حَدَّ الشّحنِ الأعلى والقويِّ بالأسطورة، وذلك، بدِقّةٍ مائزةٍ في الاختيارِ والتّخصيص.
العنوانُ (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ)، أتى مُكَوَّنًا مِن فِعليْنِ مَنحوتيْنِ ومُستَخرَجَيْنِ مِن أسماء ذات حمولةٍ خصبةٍ؛ وموغِلةٍ في الإيحاء، بفعليْن بصيغة المُخاطب، يُشكّلُ واو العطفِ بيْنهما وسيطًا وقنطرةً لإنتاجِ المعنى، ونحن نُدركُ أنّ كاف الخطاب هي أشدُّ وطأةً وثِقلًا في صيغةِ الجُملةِ الفِعليّة، سيَّما وأنّهُ حمَلَ دليلَ التّناقضِ بينَ المُكوّنيْن، وزادَ في توسيعِ دلالةِ المعنى، لكنّ العنوانَ كبوْحٍ انفعاليّ، غالبًا ما يَنطوي على نفَسٍ شاعريٍّ مُميّزٍ وشفّافٍ، خصوصًا، عندما يَنغمِسُ الشّعرُ في مَرجعيّةِ اللّغةِ، كخلفيّةٍ لإنتاجِ المَعنى، لا سيّما حين يَمتلكُ الشّاعرُ آليّاتِ تطويعِ اللغةِ، كما تميّزَتْ بذلك الشاعرة آمال عوّاد رضوان!
(لا أريد هنا أن أنزلقَ- بدافعِ الغُوايةِ الّتي نجحَ العنوانُ في تَشكيلِها إلى حدٍّ بعيدٍ- إلى داخل العملِ الشّعريّ، الأمرُ يَتطلّبُ مقاربةً نوعيّةً أخرى)، فأعودُ للقوْل، أنّ الشاعرةَ وبذكاءٍ، وظّفتْ عنوانًا- يَرشَحُ بدَفقٍ بهيٍّ مِن الشّحنةِ الإبداعيّةِ– كقوّةٍ إغوائيّةٍ وبيانيّة. وظّفتْ عنوانًا جاءَ بعيدًا عن اللونِ التّقريريِّ والمُباشر، وقد أكسَبَتْهُ قدرةً غيرَ عاديّةٍ على الإخصاب، وعلى دفع المُتلقّي إلى المُساءلةِ، وهو مُشبَعٌ بإمتاعٍ مَعنويٍّ جَماليٍّ فريد.
(أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ)، عنوانٌ أنثويٌّ بامتيازٍ، ولن تتوفّقَ الذّكورةُ أبدًا في هذا الجانب الجَماليِّ والإستتيقي، لأنّ السّبقَ في هذا مقرونٌ بضَماناتٍ ذات طبيعةٍ نوعيّةٍ/ جنسيّة، إذ نَلمحُ بالنّسبةِ للعناوينِ الأنثويّةِ عامّةً، هيمنةَ حفيفِ اللغةِ وفتنةَ الكلمات.
يتدثّرُ العنوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ)، برداء/ فستان المَظهرِ الاستلابيِّ والغريزيِّ الضّامر، وهو عنوانٌ لنصٍّ شِعريٍّ داخل الديوان، استبَدَّ بكلِّ عناوينِ النّصوصِ الأخرى، فقد انتزعَتْهُ الشّاعرةُ عُنْوةً، لحُمولتِهِ، والأمر ليس مُصادفةً مجانيّةً، وإنّما إراديًّا هي عمليّةُ قصْدِ لفتِ الانتباهِ إليه، عمليّةٌ أسهمَتْ في التّساؤُلِ، حولَ الحمولةِ الدّلاليّةِ لمثل هذا العنوانِ المُتفرّدِ، والرّاشِحِ بإمكانيّةٍ مفتوحةٍ على قراءاتٍ غير مُتناهيةٍ ولا محدودة. 
المراجع :
(1)Grivel, Charles . Production de l’intérêt romanesque . Paris-La Haye page 173. Seuil 2002
(2) Eco, Umberto, Le nom de la rose .Paris : Grasset 1982
(3) Tony Bennet, Formalism and Marxism, Routidge, London, New York 1989, p.57
(4) قضية اختيار العنوان في الرواية العربية، د. عبد المالك أشهبون. مجلة عمان الأردنيّة، ع 98ص54.
(5) أدموزك وتتعشترين: آمال عواد رضوان، دار الوسط اليوم للإعلام والنشر رام الله، طبعة 2015.
(6) عشتار إلهة الأنوثة والحياة، مقال رقمي، د.علي القاسمي، الرباط
(7) أدموزك وتتعشترين، ص21
(8) عشتار إلهة الأنوثة والحياة، مقال رقمي، د.علي القاسمي، الرباط

104
حيفا تكرّم الأديب سهيل عطالله
آمال عوّاد رضوان
أقامَ المجلسُ المِليُّ الأرثوذكسيّ الوطنيُّ في حيفا ونادي حيفا الثقافيّ ندوةً أدبيّة، بتاريخ 19-5-2016، في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسيّة، تناولت إشهارَ سلسلة (حديث الثلاثاء) بأجزائهِ الثلاثة للأديب سهيل عطالله، وذلكَ وسط حضورٍ كبيرٍ مِن مثقفين وأدباء وشعراء وأصدقاء وأقرباء، وقد تولّى عرافة الأمسيةِ الأديب فتحي فوراني، وتحدّث د. نزيه قسيس عن زمالتِهِ وعلاقتهِ المهنيّةِ الماضية، وقدّمتْ آمال عوّاد رضوان تحليلًا مُستفيضًا حولَ ميزاتِ السلسلةِ لغويًّا، تناصًّا، أسلوبًا وطرحًا. أمّا د. جوني منصور فقد تحدّث عن نماذج للمضامين الاجتماعيّة والسّياسيّة والتاريخيّة والتربويّةِ والوطنيّةِ، وكانت هناك مداخلاتٌ لكلٍّ مِن الزجّال شحادة خوري، والكاتب د. حاتم خوري والسيّد سهيل مخّول، ثمّ قامَ المحامي فؤاد نقارة مؤسّس ورئيس نادي الثقافيّ، مع المحامييْن كميل مويس وحسن عبادي بتقديم درعٍ تكريميٍّ للأديب سهيل عطالله، الذي ختم بدوْرِهِ الأمسية بكلمةِ شكرٍ للحضور وللمنظمين والمتحدثين، ومِن ثمّ تمّ التقاطُ الصّور التذكاريّة!
مداخلة الأديب فتحي فوراني: أيتها الصديقات، أيها الأصدقاء، أرحّبُ بالضّيوف الكرام الذين حضروا إلينا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، أرحّبُ بعشّاق عروس الكرمل؛ كرملًا وحرًّا وشاطئًا وثقافة. أرحّبُ بكم وأهلا وسهلا بكم جميعًا في بيتكم؛ نادي حيفا الثقافيّ. نشكرُ المجلسَ الملّيَّ الأرثوذكسيّ الوطنيَّ الذي يَفتحُ لنا صدرَهُ وصدرَ هذه القاعةِ الثقافيّةِ المتألّقة. نشكر الأخ والصديق فؤاد نقارة جمَلَ المَحامل، وحاملَ الشّعلة في نادي حيفا الثقافيّ، والعمّ فضل الله حارسنا وراعي أمسياتنا ودائم الخضرة والشباب، ونشكرُ كلَّ مَن يبذلُ جهدًا ولو صغيرًا، في سبيل إنجاح هذه الأمسياتِ التي تعطي لحيفا رونقها الثقافيّ، وتضعُ عروسَ الكرمل في الواجهةِ الثقافيّةِ لأبناء شعبنا في وطن الآباء والأجداد.
لا أروعَ  ولا أمتعَ مِن اللّقاءاتِ الصّباحيّةِ مع فنجان القهوة، في "مملكتي" الصّغيرة الّتي تُرصّعُ خارطتها  "إمارات" الزنبق والورد الجوري المنتشرة في أرجاء الحديقة. في "مملكة العطر" هذه تكونُ لقاءاتُ العشق الصّباحيّةِ اليوميّةِ معَ أبجديّتِنا الجميلة، ومع الصّحيفةِ الّتي أدمنّا لقاءَها منذ طفولتها، فقد تحوّلتْ هذه اللّقاءاتُ إلى طقسٍ مِن طقوسِ العبادةِ الأدبيّة، نُصلّي في مِحرابِها، ونعيشُ معها حالةَ عشقٍ عَزّ نظيرُها!
ومِن شرفةِ "صباحات الخير" اليوميّةِ تُطلُّ علينا أقلامٌ مُثقفةٌ جميلةٌ وذكيّة وشائقة، تُشكّلُ هُويّةَ هذه الزاويةِ وترسمُ مَلامحَها، وتضوعُ منها نسائمُ العطر الفوّاح كلَّ يوم وله مذاقه الخاصّ، فما إن تقع عينك على العنوان حتّى تعرفَ المكتوبَ من عنوانه، وتعرف الكاتبَ مِن عنوان "صباحيّتة"، حتّى لو كانت "الصباحيّة" بدون توقيع، فالعنوانُ والأسلوبُ والمضمونُ واللغة، تشكّلُ المَفاتيحَ الصّغيرةَ الّتي تميط اللثام عن هُويّة المبدع!
في هذه الصّباحيّاتِ الجميلةِ والمُنوّعةِ ألتقي صباحَ كلّ ثلاثاء مع صديقي وتوأم روحي ورفيق دربي الأستاذ سهيل عطا الله. ومع سهيل لي تاريخ وذكرياتٌ جميلة تمتدّ إلى أواسط القرن الهارب، وبيننا عيشٌ وملح فكريّ، وبيننا العديد من القواسم المشتركة التي تبلغ حدّ التّطابق التّامّ، وأرشيفي الأدبيّ يحفلُ بالرّسائل والحمائم الزّاجلة التي كانت تطيرُ مِن حيفا إلى كفر ياسيف، وتعودُ إليّ مُحمّلة عطرًا، مُخبِّئةً تحتَ أجنحتِها ما لذّ وطابَ من الإبداعاتِ والمُداعباتِ والمُنمنماتِ الأدبيّةِ خفيفة الظلّ.
في أحاديثِ الثلاثاء يُطِلُّ علينا الأستاذ سهيل بمواضيعَ مسحوبةٍ مِن الواقع السّاخن الحافلِ بألوانٍ شتّى، ويُعالجُها بأسلوبٍ عقلانيٍّ هادئٍ مُوجعٍ ولاذع، ذكيّ وبهيّ، فيهِ الكثير من التلميح، بعيدًا عن ابتذال التّصريح. الطريقُ شائكٌ أحيانًا، يُخيّمُ عليهِ الضّباب، غيرَ أنّ الرّؤية واضحة! ففي العقل بوصلة فكريّة، تقودُ السفينة التي تخوض الأمواجَ والأعاصيرَ، وتشقّ طريقها نحو شاطئ الأمان!
نبذة عن آمال عوّاد رضوان: تبدأ ببسمةٍ لوزيّةٍ تتوهّج، وتبعث له بسلام ينهمرُ مطرًا، فيردّ لها الصّاعَ صاعيْن، ويُحيطها بساعديْهِ، ويَضمُّها إلى صدره، ويُراقصُها ويهمسُ في أذنِها: أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين؟ مُبدعة مشاغبة تتمرّدُ على المألوف الشعريّ.. تتسلحُ بالجرأة وتخوضُ الأمواجَ والأعاصيرَ في بحار الحداثة، وتقفُ على شواطئ ما بعد الحداثة. لها في كلّ عرس قرص. شريكة في الأعراس الأدبيّةِ والثقافيّة في هذا الوطن وخارج حدود الوطن. نقشتْ على رايتها شعارَ الإنسانية، ومحبّة الآخرين، وحبَّ العطاء الذي لا يعرفُ الحدود. أدعو إلى المنصّة المشاغبة المبدعة آمال عوّاد رضوان.
مداخلة آمال عوّاد رضوان: دراسة  لمقالات حديث الثلاثاء/ الجزء الأول للكاتب سهيل عطالله:
ملاحظات تقنيّة: *جميعُ المقالاتِ في أجزاء سلسلة "حديث الثلاثاء" يَنقصُها تواريخُ نشرها. *بعضُ المقالاتِ فيها جُملٌ طويلة، مِن غير علاماتِ ترقيم وافية.
*عناوينُ المقالات في الأجزاء الثلاثة: *مُوزّعة بغير ترتيب زمنيّ، إنّما بحسب أبجديّةٍ عكسيّةٍ، تبدأ مِن حرفِ الهاء نزولًا ووصولًا إلى الهمزة، سوى بعض المقالات تخرجُ عن نظام الأبجديّة، وبمتايعةٍ ومراقبةٍ لأرشيف النشر الإلكترونيّ، نجدُ جميعَها قد نشرتْ ما بين عام 2008 حتّى عام 2013.
*المقالاتُ قصيرة نسبيّا، لكنّها مُكثّفة زخمة، ومُعزّزة بمعلوماتٍ تاريخيّةٍ ودينيّةٍ، علميّة ومعرفيّةٍ، وبأمثالٍ ومقولاتٍ، وظّفها في مقالاتِه بدقة، لذا تحتاجُ إلى قارئ مُتروّ مُثقف، لأنّها قد تُعرقلُ القارئَ أحيانًا كثيرٌ مِن الجُمل الفكريّة، وتستوقفه ليُعيد قراءتها وفهمَها، وهذا ينمّ عن عُمق فكر الكاتب، وعينه الثاقبة وذهنه المتيقظ، فكلّ كلمة منتقاة، وفي موضعِها الصّحيح تخدمُ الفكرة.
*أسلوبُ الكاتب أفلاطونيّ رشيق شيّق وسلِس، يَطرحُ المواضيعَ بأسئلةٍ مبنيّةٍ على المنطق، كقبطان ماهر يُتقنُ إدارةَ دفة الحروفِ في بحر الكلمة، والسّلسلة تؤكدُ على سِعةِ ثقافةِ الكاتب، وتَمكُّنِهِ مِن لغتهِ، وقدرتهِ على الخيالِ والتخييل. بعضُ المقالاتِ مباشرة خاصّة في البدايات، لكنّنا نرى في معظمِها إبداعًا لغويًّا وفكريّا، فمعظمُ المقالاتِ نقديّة، تواكبُ الأحداثَ الحياتيّة اليوميّة، وتحمل أبعادًا أدبيّة وجماليّة وتربويّة وإنسانيّة واجتماعيّة وسياسيّة، تنطلقُ مِن القريب إلى البعيد، فيها رؤية بعينٍ للحاضر، تتكئُ على الماضي، وتستشرفُ المستقبل، فالكاتبُ سهيل عطالله يُلامسُ الواقعَ المؤلم بوجعهِ المرير، ويُصوّرُ وينتقدُ سلبيّات ظواهر ومظاهر تعكسُ حياتنا، لينتهي بعبرةٍ تدعو إلى الإنسانيّةِ والسّلام والوئام والمصالحة، فنراهُ "وفاءً وإجلالًا للماضي، يصوغ المستقبلَ بلغةٍ إبداعيّة، ينسجُ خيوطها ويُحيكها بجودةٍ عالية، ليُشبع أذهانَ وقلوبَ قرّائه، ويُنعشَ هِممَهم للتشبّث بالجميل، وللنفور والإعراض عن الدميم.
*المقالات تحملُ فلسفة عميقة، وتُشكّلُ رسائلَ موجّهة لمشروع وطنيّ توْعويّ، بعيدًا عن الخرافاتِ والعاداتِ المخطوءةِ المتوارثة، وتحثّ على التّسابق إلى فعل الخير والإعمار، لينعمَ أهل الوطن بالازدهار. *فلسفة الأحلام وعنف المسدس البشري المحشو بالكراهية أكثرُ فتكًا من المسدس المعدني ج1ص13. *فتاوى إسلامية بين التفكير والتكفير، تنهك تاريخنا وجذورنا والهوية القومية ج1ص13. *في عهد الإرهاب الفكري تتحوّل مسدساتنا إلى اقلام ودماؤنا إلى مداد ج1ص31. *إذا أتت الغصّة شخصًا ما وكان على وشك الاختناق، ولم يكن في المكان ماءٌ بل زجاجة نبيذ، عندها من الطبيعيّ إباحة المحظور، ودفع الغصّة بشرب الخمر، مع أنّه مُنكر ج1ص46. *زادُ الطفل من الفضائل يخرج من البيت ج1ص22.
عناوين مبنية على الجناس: نشاز ونشوز ج1ص9، مُختالون ومحتالون ج1ص13، رخام وسخام ج1ص55، بيارق وبوارق ج1ص77، الاعتراف والانحراف  ج1ص92، أفعال وأهوال ج1ص94، الغيتوات والفيتوات ج1ص106، بين الحلال والحرام ج2ص19، أغيار أشرار ج2ص26، النار والعار ج2ص57، بين الشعب والشغب ج3ص79، بين استوطأ واستوطن ج3ص83، الحلاج والحجاج في تونس ج3ص120، يتحول االمعمار والاعمار الى دمار واندثار ج1ص45.
في بطن المقالات: نحن في زمن الإِحَن والمِحَن ج1ص32، يتحول حقل الاعلام الى حقل الغام ج1ص39، أصباغ من السّم نَخْنق بها الأنفاس ونُخرس الأجراس ليبقى القاتل الخنّاس مجهول الهوية طليقًا بين الناس ج1ص51، تأثر بالآية الرابعة من سورة النساء مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)، 
*عناوين تحمل صيغة الفاعل المحرك: مختالون ومحتالون ج1ص13، المتحذلقون ج1ص85، المستعرِبون ج1ص110، الفتّانون ج2ص49، اللامبالون والحارقون ج2ص53، كذبة ودجالون ج3ص29، الجاحدون ج3ص93، الانقلابيون ج3ص97، السارقون ربيع بلادي ج3ص105، المستهدِفون ج3ص112، المتعصبون ج3ص114.
*عناوين تحملُ صيغة الفاعل والمفعول والعلاقة بينهما: عشاق ومعشوقات ج3ص47، القامع والمقموع ج3ص88، الخاطف والمخطوف ج3ص103، الهازم والمهزوم ج3ص120.
*عناوين تحملُ صيغة استفهاميّة استنكاريّة: هل أولياء الامور اولياء؟ ج1ص7. *من يذبح من؟ ج1ص11. *متى يأتي الكبار؟ ج1ص15. *لماذا يجب أن نقرأ؟ ج1ص19. تعايش أم تناهش؟ ج2ص11. *أين عظمة مصر؟ ج2ص26. *المماطلة لعنة أم بركة؟ ج2ص31. *الحاجة أم الانحراف؟ ج2ص35. *هل يرحل العظماء؟ ج2ص66. هل الأمم المتحدة متحدة؟ ج2ص68. هل لنا عودة للماضي الجميل؟ ج3ص9. سؤالان محيران ج3ص54.
*عناوين فيها تداعيات تسحبُنا إلى: هذه مدرستي ج3ص11- (هذه ليلتي). قانون إيمان اليمين ج2ص-89 - (قانون دستور الإيمان عند المسيحيين). سلاحف وأرانب ج2ص109- (قصّةعالمية). المساجد السبعة ج2ص55 – العجائب السبعة. 
*تعابير تتردد بكثرة في المقالة- الخيمة للاخفاء والتواري: *المرأة تتفيأ في خيمة أفلاطون الذي دعا الى "مشاع النساء" ج1ص9. *خيمة الأخلاق المنصوبة فوق رؤوسنا ج1ص9. ستبقى النكبة بيتنا وخيمتنا الى أبد الآبدين؟ ج1ص27. لي جارة تَنصُبُ خيمتها بجانب إناء ورد، أرتّب أزهاره كلّ صباح ج1ص45.
*الدائرة في المقالة كرمز لحلقة مفرغة ولحركةٍ لا نهائيّة: دائرة الاستهداف، دوائر المحاباة والانانية والتخلف ج1ص27، دائرة النكبة، دائرة الضغط المهني ج1ص41، من دائرة الخطأ إلى دائرة الصواب ج1ص49. دائرة الصلاح والصواب ج1ص7. دائرة المزاح ج1ص8.
يذكر عادات كثيرة شعوب مختلفة: *في إسبانيا في سهرة رأس السنة يأكل الفرد اثنتي عشرة حبّة عنب مع دقات الساعة في منتصف  الليل، تمثل كلّ حبة عنب شهرًا من شهور السنة ج1ص32.
*عروس النيل صنعها العرب وليس الفراعنة، فتخيل العرب نهر النيل فتى لا يستطيع العيش بلا حبيبة معها يتمّ الإخصاب، وينتقلان بدورهما الى الضفاف لتصبح مصر هبة النيل على هذه الضفاف، فأهل الريف يبتلعون أوراقا عليها آيات بيّنات، ويشربون بعدها أكوابًا من الماء والشاي، فتتحوّل إلى أدوية لعلاج شتى الأورام وطرد شياطين الامراض والنجاسة ج1ص43.
*عبدة الأوثان الماكوبا في البرازيل: ليلة رأس السنة يحملون شموعًا بيضاء، يرسمون على الشاطئ علامات غريبة، يفرشون شراشف بيضاء يضعون عليها القرابين لربّة البحر يمانجا، وفي منتصف الليل يدخلون البحر مع هداياهم، يتركونها عائمة لتغيب عنهم، معتقدين أنّ الإلهة قبلتها ج1ص44. 
يستشهد بالتاريخ الإسلاميّ وبآيات قرآنية: *اللهم اجعلنا من الذين يقولون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون ج1ص14. *مقولة الحديث: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" ج1ص15. *عمر بن الخطاب صاحب الطبع الحارق الحديدي الذي تجلى في بدء الدعوة عندما مارس العداء للمسلمين، ليصبح بعدها أحد أعمدة الإسلام ج1ص49. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. التوبة: 34} إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا {النساء: 10) ج1ص55. 
*يستشهدُ بالتاريخ المسيحيّ وبآياتٍ إنجيليّةٍ ودينيّة: *رأي القديس يوحنا ذهبي الفم: "من بين وحوش البرية المفترسة يستحيل عليك أن تجد حيوانًا أشد أذى من المرأة" ج1ص9. *تحوّل (شاول) ذو الطبع الناريّ الملتهب من اضطهاد ومطاردة المسيحيّين، ليصبح قدّيسًا عظيمًا اسمه بولس ج1ص49. *والد القدّيسة بربارة كان من عبدة الأوثان، وعندما آمنت ابنته برسالة الناصري، فقد أبوّته وسمل عينيها ثم أحرقها.. بعد هذه البشاعة أصبحت بربارة قديسة وشفيعة للعيون ج1ص49.
*هناك تعابيرُ لغويّة ثقيلة متينة تحتاجُ لقاموسٍ لغويّ: *يوغر الأولياءُ قلوبَ أولادهم ج1ص8. *نشاز ونشوز، نشزت الزجو بزجّها أو عليه؛ تمرّدت وابغضته، والزوجُ نشز منها وعليها؛ أساء عشرتها وأذاها، من (النساء34). "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً".
*مقالاتُ حديث الثلاثاء تغصّ بأسماء تاريخيّة: *قابيل، قيرون، نيرون، هولاكو، أبو جهل، الحجّاج، الحلاج، هتلر وموسوليني ج1ص5. *بكر صدقي وحسني الزعيم ج1ص5. *عهد العنتريات والاحمدَيْن: احمد الشقيري وأحمد سعيد ج1ص25. *ابو ذر الغفاري ومعاوية بن ابي سفيان ج1ص29. *ليبرمان ونتنياهو  ج1ص30، خيول هولاكية ج1ص30. *كتاب "قذائف الحق" للفقيه محمد الغزالي عكسه قذائف الباطل ج1ص30. *تشرتشل ج1ص39. *الشاعر سميح القاسم ج1ص54. *الشاعر سليمان مرقس ج1ص54،  *قتلى بالسمّ: سقراط انتحر مسموما، والمعرّي وأبي نواس وابن الرومي، ونابليون سمّه الانجليز، وعبد الناصر وياسر عرفات، ومحاولة اغتيال خالد مشعل بالسّم ج1ص51،
*عناوين ساخرة: جوائز من لحم ودم ج2ص127، عمود الغمّ ج2ص101، الطرب بثمن ج3ص107.
يعتمد الكاتب سهيل عطالله على التصوير السّاخر: *يرفع مؤذن الديمقراطية عقيرته داعيا امتنا الى الصلاة في معابد المذهبية والطائفية والحمائلية والقبائلية ج1ص33. *سلم القيادة يرتكز على تربة اعشابها شائكة تنبت بينها اشتال لا ديمقراطية بل اشواك طائفية بغيضة تكتنفها الحمائلية والقبائلية ج1ص33. *حزب الضمير! حزب التفكير السوي! ج1ص33. *في عهد فحيح الفتاوى المتدفقة سما زعافا ج1ص35.
*الكتابة عملية اطلاق نار على أهداف طائرة تستهدف إسقاط طائر التفكير اللامع كالبرق، وطائر التفكير ليس صيدا سهلا ج1ص37. ما الكاتب الا من فئة قناصي طيور التفكير، في مداد ريشته يرسم طيور فكر، لها أجنحة تحلق بنا لاكتشاف ما لم يكتشف بعد، أما إذا كانت هذه الطيور غير مجنحة، فكيف نستطيع الوصول بها ومعها الى مواقع الابداع وروائع الابتكار؟ ج1ص37.
*في غياب الحرّيّة ترتدي الحناجر كمّامات خشية المخالف والسكاكين ج1ص39. ويتحول حقل الإعلام إلى حقل ألغام ج1ص39. لا يعرفه شاعرًا رائعًا يحمل الوطن على أجنحة سطوره ونقاطه وليزرياته ج1ص42، صحيفة يتفيأ بين سطورها كتاب وكاتبات يزهو بهم الوطن ج1ص42.
 *هل نحتاجُ الى أساطيرَ عصريّة بها نجترح المعجزات، لنوفر أمصالا لأسقامنا المستعصية؟ ج1ص44، لي جارة تنصب خيمتها بجانب إناء ورد أرتب أزهاره كل صباح تسكن قرب معشوقتي فبريقها يشرق مع إطلالة كل صباح، إنها رسم فيه معلم من معالمنا، نسكنه ونقيم فيه ليبقى فينا ونبقى فيه. في الصورة نرى موقعنا لبلداتنا الفلسطينية بأنقاضها وعمرانها ج1ص45، يتناسل لدينا القمع ونتوارث الذل والإذلال، فأحكام رؤسائنا أبدا يانعة، ورؤوسنا نحن المحكومين المقموعين أبدا يانعة ج1ص47، السباحة مع التيار رياضة سهلة تحوّل أجساد هواة العوم إلى كرات تتدافعها الأمواج في كل اتجاه ج1ص47، مدادٍ من السّم على اختلاف أشكاله وألوانه، يَغْمِسُ القاتِل ريشته ليرسم لوحاتٍ، تحكي قصّة اغتيالات لطّخت وتلطّخ جبين حياتنا وصفاء إنسانيّتنا ج1ص51،
*لغة ساخرة: يعطي لمقالاته تشبيهاتٍ ولغة تتواءمُ والمضامين فيقول: يتحاورون بالأظفار والأنياب والعصي والنار ج1ص8. وحوش التمذهب والتكفير المتنمّرون والمستأسدون ج1ص11. العمالقة بالمال والدسائس، والأقزام بالفكر والكرامة ج1ص12. يتناهشون ويتحاورون بالرّصاص وانتهاك الممتلكات الخاصّة والعامّة ج1ص45. مصانع الديمقراطية العربية تأتينا بسلع غريبة عجيبة، على رأسها تربضُ سلعة رئاسيّة اسمها "مدى الحياة" ج1ص47. شراب "مدى الحياة" علقمٌ عربيّ، نتجرّعُهُ مدى الحياة، ولا نهاية لتاريخه في صيدليّات العرب ج1ص47. *كساة في الدنيا عراة في الآخرة ج2ص86.
*عناوين لحِكم وأمثال عربية ومقولات:  أحيانا يسشهد بحكمة أو بمثل لدعم رأيه، ما قلّ ودلّ ج3ص19، وأحيانًا يكسرُهما معًا مُفندًا إيّاهما برأي مُغاير فيقول: ليس السّكوت من ذهب! ج2ص129، وفاقد الشيء يعطيه! ج2ص95. ثمّ يقلب كلمات المثل المألوف "لسانك حصانك، إن صنته صانك وإن خنته خانك فيقول: إنّما حصانك لسانك ج3ص65،
يستشهد بمقولات وحكم وأمثال في مقالاته: لو دامت لغيرك ماوصلت اليك ج1ص5. من تعلم لغة قوم أمِن مكرّهم  ج1ص15. مقولة كونفوشيوس (أن تشعل شمعة واحدة خير لك من لعن الظلام) ج1ص27. مثل إسباني: الوردة التي يشمها الكثيرون تفقد رائحتها ج1ص38. الرجل المناسب في المكان المناسب ج1ص46. من الحديث رواه البخاري: انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ تَحْجِزُهُ عَنِ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ ج1ص46. مثل شامي- من برّا رخام، ومن جُوّا سخام ج1ص55. مقولة الإمام علي: من نصب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلمُ نفسه ومؤدّبها، أحقُّ بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم ج1ص55. *رائحة لابس الحرير الزاحف على بطنه سعيًا لجاه أو منصب، ستبقى موطن نتانة كرائحة السمك في مسرحية "هاملِتْ"، و"كل عطور العرب لا تزيل رائحته من اليدين"، شيكسبير/مسرحية هاملت ج1ص55. 
إشارات: ذبابة تْسي تْسي الإفريقيّة تلسع ضحيّتها فتميته، وبصاقها موجود على شكل محلول سام تختزنه 1ص52.
تعابير صادمة: قدرة غادر ج1ص5. معجم المستحيلات ج1ص18. ما أجمل أن تاكل الحروف أعمارنا! ج1ص19، وأد الجراح ولعلعة السلاح ج1ص25. لتأكلهم أمواج البحر ج1ص26. أسلحة الباطل ج1ص30.
من عِبَر المقالات: *عندما يوغر الأولياء قلوب أولادهم ضدّ زملائهم ومعلميهم، يستشري الفساد ويغيب الخير عن العباد ج1ص8. *صباح الخير لكل سيدة تتسامى فوق النشوز والنشاز ج1ص10. *الكبارُ حكمة وحنكة وصدق خطاب ج1ص16. *عندما يحيط الصدق بالصداقة، نستبدل ثياب الرياء بحرير الوفاء، عندها يترك الخلّ الوفيّ معجمَ المستحيلات ج1ص18. *نشوز المرأة يسبب نشازا في الأسرة والمجتمع ودعوة الى الانسجام بينهما ج1ص9. *رحيقُ الكتب يُكسب حياتنا جودة، وكلامنا رونقا ج1ص20. *إنّ زادَ الطفل من الفضائل يخرج معه من البيت، فالبيت بداية البدايات، إن لم نصُنْها نغرق في ليل النهايات ج1ص22.         
*يا البروفيسور ادريس التيتي ويا أمثالَه، بانتمائكم ووعيكم القوميّ لن تنطفئ جذوة لغتنا، بكم ستبقى ضادّنا عصيّةً على الاقتلاع ج1ص24. *يا أيّها الإسرائيليّون، خذوا غصن الزيتون، وحوِّلوه إلى شجرة يتفيأ في ظلّها أبناءُ إبراهيم، لنرمِ الجراحَ مِن حياتنا، فكلّنا يستحقّ الحياة ج1ص26. *تعالوا نترجم أمنيات العيد إلى عيدٍ حقيقيّ، يجمعُنا عربًا ويهودًا، إسرائيليّين وفلسطينيّين في حياةِ وئام وانسجام ج1ص32. *كم تكونُ حياتُنا أنقى وأجملَ، عندما نكنس من حياتنا أصحاب المآرب والأهواء، ونتحلّق حول أهل الوفاء والنقاء ج1ص34. *مجافاةُ روح العصر في كتاباتنا تُعيدُنا لاجترار الماضي البعيد، وتتركُنا نلوكُ ما لاكه الآخرون من روائعَ لمعَ بريقها يوم خرجت مِن مبدعيها ج1ص438. *ما أقبحَ المفترس الّذي يرى نفسه في الآخرين ج1ص40. *إنّ بلدًا بغير محبّة لن يكون عامرًا بأهله، وعندما يتسابق أهلُ البلد الى الخير تسابقَ الجياد، ننعَمُ جمعًا بوطن عامر زاهر ج1ص45. *ما أتعسَها من حياة حين تمسي فكرة (الرجل المناسب) في قائمة المحظورات المُحرّمات! ما أقبحَهُ من عالم يتساوى فيه الظالم والمظلوم والجلاد والضحيّة ج1ص46. *إنّ شعبًا فاسدًا تفترسُهُ القبائحُ والرذائل، يفرزُ أنظمةً فاسدةً قامعة ج1ص47. *عندما يصحو شعبُنا، يوصِلُ لسدّة حكمه حكّامًا عادلين صائنينَ عزّةَ وكرامةَ شعوبهم ج1ص47. *مَن لا يُشعل قنديله، يبقى غارقا في الظلام ج1ص48. *إصرار الآثم على الإثم، يجعله يكرهُ كلَّ ما هو إنسانيّ ج1ص49. *بالسّلام بعيدًا عن الخراب والذباب، تتهاوى شريعة الغاب ج1ص52. *تقطيعُ الأوصال لا يفرز تواصلًا، بل مزيدًا مِن الكُرهِ والاقتتال ج1ص55.
المواضيع والمضامين: *مقالات موجعة للمجتمع يقارن ما  بين الماضي والحاضر على مسرح الحياة، واختلاف أدوار الممثلين والممثلات من خلال اسئلة يعطيها بعضها أجوبة: حول مفهوم حقيقة الانقلابات. حقيقة مفهوم أولياء امور بين البيولوجي والرعائي. دور المعلم والمدرسة والأهل. نجاحات وهميّة، الرشوة. وتمرّد المرأة ومشاع النساء. أهمية القراءة. سلوك طلاب في المدرسة والشوارع. الأم والأسرة مدرسة. لافتات باللغة العربية. تنازع تنظيماتنا السّياسية المُتناهشة. التدافع نحو المنابر. القبلية. العنف. العنصرية. توسع دائرة النكبة بأشكال ووسائل متعددة. الشعارات. الخطابات. الانتخابات. هوس قابيل العربي. من يذبح من؟ نداءات الربيع العربي الخريفية على امتداد الأوطان العربية والخ..
مداخلة العريف عن جوني منصور: أشعر بافتخار عندما أقول إنه تخرج من معطفي في الكلية العربية الأرثوذكسية، وإنني علمته عشق اللغة العربية، وهو واحد من الآلاف الذين أخذت بيدهم، وكان  لي الشرف في تعليمهم الألف باء في مدرسة الحياة. له أكثر من عشرين مؤلفا، والعديد من الدراسات والأبحاث. آخر أعماله العمل الموسوعيّ عن "حيفا الكلمة التي صارت مدينة"، وهو عمل رائد وتأصيل للهوية القومية لشعبنا الباقي في وطنه. في السنوات الأخيرة نذكر حيفا، فنذكره حارسًا لتاريخها، وحارسًا لشاطئها وشوارعها وأسوارها التاريخية وظاهر عمرها.
مداخلة جوني منصور: إنها مناسبة سعيدة نحتفي بها بالاستاذ والأديب الرائع والجميل سهيل عطاالله. هذا الرجل الذي عرفته مربيا قديرًا، ومعلمًا واسع المعرفة ليس في ميدان تخصصه فحسب بل في ميادين ثقافية كثيرة، تنم عن حب العلم والمعرفة والعطاء. وعطاء المعلم ليس ماديًا، بل أكبر واوسع بكثير من حدود المادة الملموسة، إنه عطاء العلم والمعرفة والأدب والأخلاق. ونحن في مجتمعنا بدأنا نفقد مثل هذه الرموز وسط تحول مدارسنا إلى مصانع لانتاج علامات وليس لانتاج معرفة وتحليل وتقييم وتضحية وانتماء.
الزمن الجميل الذي علّم فيه الاستاذ سهيل وزملائه ليس كزماننا. زماننا هو عبودية للتكنولوجية التي استقيناها ليس من الباب بل من ثقب صغير، لم نر أي شيء سوى التسلية وتمضية الوقت. الزمن الجميل لن يعود، فلا ينفع البكاء ولا النحيب مطلقًا، لكن الأمل يبقى هو البوصلة التي توجهنا، وهذا ما يؤمن به الأستاذ سهيل عطاالله. فكرّس وقته بعد تقاعده للكتابة والقراءة، لأنهما سلاح قوي بيد من يريد تحرير ذاته قبل تحرير وطنه.
عرفته زميلاً ورفيقًا أثناء تطوعنا في اللجنة التربويّة لأبرشية الجليل لمدة تجاوزت الست سنوات، عملنا خلالها على إعادة هيكلة المدارس في الأبرشيّة، وبنائها اداريًّا وماليًّا وتربويًّا من جديد. وكانت له مواقف يشهد لها كلّ من عرفه في معالجة قضايا مستعصية جدًّا. أهنئ الاستاذ سهيل عطاالله لصدور مجموعة كتبه "حديث الثلاثاء"، وأتمنى له مزيدًا من العطاء، فالتقاعد ليس القعود، بل النهوض نحو مسارات وفضاءات أخرى، ينظر فيها الرجل إلى مجتمعه ويعمل على تقويمه وتحسين ظروفه.
أما بالنسبة لكتاباته التي يميل معظمها إلى فن المقالة، فإنه اعتمده أساسًا لتلك المقالات، مُحمِّلًا إيّاها أفكارًا نقديّة لمجتمعه ووطنه وحُكامه. ووفقًا لتعريف هذا الفن فإنه: "عبارة عن قطعة نثرية قصيرة أو متوسطة، موحّدة الفكرة، تعالج بعض القضايا الخاصّة أو العامّة، معالجة سريعة تستوفي انطباعًا ذاتيّا أو رأيًا خاصًّا، ويبرز فيها العنصر الذاتي بروزًا غالبًا، يَحكمها منطق البحث، ومنهجه الذي يقوم على بناء الحقائق على مقدماتها، ويخلص إلى نتائجها"، والمادّة التي يعالجها تكونُ سهلة القراءة والفهم، تحمل في طيّاتها رسائل يرغب في نقلها إلى جهة معيّنة أو إلى المجتمع بأسره. هو لا يتحوّل إلى واعظ أو داعية، إنما إلى شخص يهتمّ بمجتمعه، ويعمل على إصلاحه بطريقته الخاصّة.
أُبيّن المواضيع التي اعتمد الكاتب سهيل عطاالله تبنيها، كجزء من مشروعه الساعي إلى إعادة بناء مكوّنات مجتمعنا العربيّ الفلسطينيّ، والمصاب حتى النخاع بأزمات اجتماعيّة، سياسيّة، اقتصاديّة، ثقافيّة، أخلاقيّة ونفسية. ولتحقيق هذه الغاية، قرأت للمرة الثانية معظم المقالات التي نشرها من على صفحات جريدة الاتحاد، لكني اخترت عن دون قصد مجموعة من هذه المقالات لأبيّن وأوضح ما قصده وما أراده. فأيّ كاتب إن أشهرَ قلمه للكتابة، فإنّه يحمل هدفًا مركزيّا، أو مجموعة من الأهداف التي يبغي تحقيقها.
الهمّ الأوّل وأعتقد الرئيس الذي يقضّ مضجعه هو تراجع القراءة في أوساط أبناء شعبنا، حيث لمسَ وهو المعلم القدير صاحب الخبرة على مدار سنوات وعقود من الزمن، أنّ شعبًا لا يقرأ سيبقى قابعًا في حفرة الجهالة، وأنّ مُعلمًا لا يقرأ كتابًا واحدًا بعد تخرجه من الثانوية فهو ليس بمعلم، وهي دعوة لمحبّة لغتنا العربية الجميلة. وفي مقالة بعنوان "أخلاقيات الحكام" يتطرّق بصراحة ووضوح إلى تفشّي ظاهرة التحرّش الجنسيّ في أوساط مسؤولين سياسيّين وشرطيّين، داعيًا المرأة إلى رفض أيّ شكل من الاستغلال الموجه من قِبل الرجل، مُحرِّضًا إيّاها للتوجّه إلى الجمعيات الناشطة في حقل الدفاع عن حقوق المرأة، وإلى رفع شكاوى ضد المعتدين في محافل القضاء.
في مقالة "الترانسفير والسعادة" يُجري مقارنة بين مستوى السعادة الذي تنشده إمارة دبي، ومستوى الترانسفير الذي يسعى البرلمان الإسرائيلي إلى تطبيقه ضدّ مواطني البلاد العرب، داعيًا إلى تبني أساسيّات التسامح والانفتاح. وفي مقالة تحملُ عنوان: "أجراس التجنيد"، لا يدعو إلى التجنيد أو رفضه، بل يروي قصّة أو بالأحرى مأساة ومصرع جندي بدوي في صفوف حرس الحدود، وتُعلّق صبية من أشكلون شاكرة ربّها أنه ليس يهوديّا. فيكفي هذا المشهد ليخلع شبابنا فكرة التجنيد في جيش الاحتلال من عقولهم.
وفي مقالة تحملُ عنوان "هللويا: عندنا أهليّات"، يتطرّق إلى مَن عرّف المدارس الأهليّة بأنها مسيحيّة، فيعلن رفضه لهذا التعريف، مُشدّدًا على أنّها مدارس أهلية عربيّة، وإن كان مؤسّسوها من الهيئات الرهبانيّة المسيحيّة، إلا أنها تحتضن الوطن بمركباته المختلفة. إنّ هذا التعبير هو موقف مشرّف نفخر به، ويجب أن يتحلى به كلّ انسان في هذا الوطن، بل أكثر من ذلك، يجب أن تتحوّل هذه المواقف المشرّفة إلى قاموس مفاهيم واصطلاحات يستعمل في المحافل الاجتماعية المختلفة.
وفي مقالة "لغة الحرب"، يُفنّد مزاعم إسرائيل بأن الفلسطيني ارهابي، في حين أن الاسرائيلي يحاصر الفلسطينيّ ويُجوّعه. ويتحقق من أنّ هناك قاموسًا اصطلاحيّا إسرائيليّا ضدّ الفلسطينيّ الذي تُصوّره وسائل الإعلام الإسرائيليّة بأنه شيطان، وهو الرازح تحت نير الاحتلال وفلتان قطعان المستوطنين. لينقلنا إلى مقال بعنوان "ما لم أره في وطني"، مُقارنًا ما رأت عينه في تايلاند من احترام للديانات السماوية والبوذية، وما لمسه من استقبال فيه الكثير من الحفاوة والاحترام للإنسان في أستراليا، في حين أنّ الإنسان يُهان في بلد السمن والعسل، ويقبع الأسرى الفلسطينيّون في غياهب السجون لأنّهم ينشدون الحرّيّة، وهو من حقوقهم الإنسانيّة كمدافعين عن وطنهم السليب. وحول التحوّلات الحاصلة في سلوك مجتمعنا يُحلل ظاهرة العنصريّة في الملاعب، وخصوصًا التفوهات والعبارات العنصريّة التي يُطلقها مشجّعو الفرق اليهوديّة ضد المواطنين العرب، خصوصًا عبارة "الموت للعرب"، ألم يقلها الألمان ضدّ اليهود في زمن النازية؟
هذه نماذج قليلة من مقالات كثيرة جدًّا، دأب الأستاذ سهيل عطاالله على كتابتها، فتناول فيها القضايا التي تُشغل فكره وهي هموم مجتمعه ووطنه، وتحمل هذه المقالات ابعادًا تربويّة واجتماعيّة وسياسيّة، فيها النقد من أجل الإصلاح والتحسين. فمجتمع يسير في طريق معوجّ بحاجة ماسّة إلى قلمٍ كقلم الأستاذ سهيل عطاالله. أعتقد أن مساهمته في إعادة بناء منظومة القيم الاجتماعيّة هي مسألة في غاية الأهميّة، في زمن غاب فيه حبّ الإنسان لأخيه الإنسان، وأصبح الهمّ الأكبر والرئيس هو "الأنا". وكنت أقترح على المسؤولين والقيّمين في جهاز التربية والتعليم، سواء الرسميّ أو الخاصّ، تبنّي أكبر عدد من هذه المقالات، لتكون مادة ترفد حصص التربية في الصفوف المدرسيّة بدلًا من إضاعتها على لا شيء، كما هو حاصل في عصرنا. مرة أخرى، تهنئ الأستاذ سهيل وعائلته وزوجته واولاده والقريبين منه، ونهنئ أنفسنا برجل كألف ألف رجل. هنيئًا لك وهنيئًا لنا جميعًا، وكل عام وانتم بخير.
العريف عن نزيه قسيس: أيّها الإخوة، رأسُ النّبع قرية إقرث التي اغتُصِبتْ في عزّ النّهار والحرّاسُ نائمون، وبقيتْ مشلوحة في غابة الغابات التي سقطت صريعة تحتَ سنابكِ الغزاة، "وواعدوها وما جاؤوا لموعدها/ وأسكروها وكنت خمرهم كذبا" (نزار قباني). يغرفُ من النّبع الثرّ لصاحبهِ العمّ شكسبير، ويَروي الأجيالَ المتعطّشة إلى لغةِ العصر، ويُبدع معجمًا يُغري الآخرين بالسّطو على كلماتهِ، واغتصابها في وضح النّهار. باحثٌ يحملُ القنديلَ ويجوبُ غاباتِ الدّراساتِ والأبحاث، يمتطي خيولَ  الشعر العامّيّ الهادف، فترمحُ الخيولُ القسّيسيّة لتقتحمَ الميادين الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. يجلسُ على قمّة جبل حيدر، فيبعثُ السّلامَ بعيدِ ميلادِ السيّد المسيح، ويكتبُ مُهنّئًا بعيدِ الأضحى. أفتحُ الملفَّ فيُبهرني ما فيه من خيرات. حصلَ على شهادة الدكتوراه في علم اللسانيّات التطبيقيّة، وتخصّصَ في علم المعاجم في اللّغتيْن العربيّة والإنجليزيّة من جامعة إكستر في إنجلترا. مُربّي أجيال تخرّجَ الآلافُ مِن معطفهِ المَعرفيِّ والإنسانيّ. هذا غيضٌ مِن فيضٍ، فالملفُّ حافلٌ يحوي في داخلهِ مُحيطا عامرًا بالخيراتِ المَعرفيّة ولا شواطئَ له.
مداخلة د. نزيه قسيس: بدأت حكايةُ الزَّمالةِ الصادقةِ بيني وبين الأستاذِ سُهيل سنة 1967، عندما أنهيتُ دراسَتي الجامعية وعُدتُ الى المدرسةِ التي تَخرَّجنا منها أنا وهو، لـنَـتشاركَ في مُهِمةِ تَعليمِ موضوعِ اللغةِ الإنكليزية. تَقَبلنا بعضَنا بِلْطفٍ واحْترامٍ من البداية وعَمِلنا معًا بِصدقٍ وتفاهُمِ وتعاوُن، وكان هَمُّنا الوحيدُ هو "مَصلحَةَ الطُّلاب!" امتازتْ شخصيةُ الأستاذِ سُهيل بالأخْلاق العاليَة، وحُسنِ التَّعامُلِ والمَرَحِ مع كُلِّ الزُّملاء والطلابِ والإدارَة، فأصبح نائبا للمدير بِجَدارَة. استمرَّت هذهِ العَلاقةُ إلى ما يزيدُ عن 30 عامًا، وعندما حانتْ ساعةُ تقاعُدِه، قامَت إدارةُ المدرسَة بتَنظيمِ حَفلِ تَوديعٍ له، فأقرأ مقطوعتيْن من قصيدةٍ باللّهجةِ المّحكيّةِ كتبتُها:
خَـيّي سُـهـيــل – يَ رْفـيـقـــي يــا أنْــبَــــل رْفــيــق/ ثُــلــث الــقَــرِن إنْــتــي وأنــا بْــنَــفـــــسِ الــطـَّـريـــق
شــــاهِــدْ أنــــــا ، ومِــنّــي شَـــهــادِه مْــوَقَّــعَــــــه/ كُــنْــتِ الــزَّمــيــلِ الألْــمَــعــي وكُــنْــتِ الــشَّــقــيـــق!
ثُــلْــثِ الــقَــرِنْ – تِــبْــنـي مَـعـي وأبْـنــي مَـــعَــــك/ تِــسْــمَــعْ كَـــلامـــي عَــالْــهَـــــــداوِه ، وأسْـــــمَــعَــك
كـــانِ الــوَفـــا ، وكـــانِ الــصِّـــدِق بـــيـــنــاتْــنـــــا/ وكـان الــصَّــفـا يِــجْــمَــع فُـــؤادي، ويِــجْــمَــــعَــك!
وكَما تَرَوْن، فإن الصَّفا والوَفا والصِّدقَ تَجمَعُنا اليومَ في لِقاءٍ تَكريميِّ جديدِ لهُ، وقد دَعاني حَبيبُنا، طالبُنا سابقًا، المحامي حسن عبادي، أنْ أقولَ كلمةً وقصيدةً، فلبَّيت الدعوَةَ بِسُرورٍ، وكَتبتُ قصيدَةً جديدَةً باللهجةِ المَحكيّةِ تَحكي عن سهيل المُعلّم وعن كتابِه، أقول فيها ما يلي:   
بِــنْــمَـــسّــي عَ كُــلِّ الــنّـــاسْ/ مِــنْ قَـــلْــب صـافــي الإحْـسـاسْ/ وبِـنْـمَـسي كِـلْماتِ كْتابْ/ مَـوْزونِه بِـتْـعَـبّـي الـرّاسْ! بِــنْـمَــسّــي عَ أبــو الـــذّيـــب/ كــاتِــــبْــــنـا الرّاقــي الأديــب/ رْفــيـــقْ أيّـــامِ الــــتَّــــعْـــلـــيـــم/ ومـــاضـــيـــنـــا الْــغـــالــي الْـحَــبـيـب رْفـــيـــقْ أيّـــامِ الـــشَّـــبـــاب/ وكـــانْ يِـــجْـــمَــــعْـــنــا لِكْــتـاب/ أيّــام أعْـــطـــيــــنـــا الــنّـــور/ تَ نِـــضْــوي عْــيــونِ الــطُّلّاب أيــام راحـــت وســــنـــيــــن/ وبَـــعْـــدو بْــــيِـــجْـــمَـــعْــــنــا الْــــحَـــــنـــــيـــــن/ وأحْـــلامْ حَــــــقَّـــــــقْــــــنــــــاهــــــا/ وأحْــــلامِ بْـــرَحْـــمِ الـــتَّـــكْــــويــــــن أحْـلامِ نْــشـوفِ الـطُّلّاب/ مَـعـاهُــن أعْـلى ألْـقـاب/ شُـفْــنـاهُــن! طاروا وصاروا/ نْـجـومْ عَ جْـناحِ الـسَّـحـاب شُـفْـنـاهُـن– مِنْ بَـعـدِ غْـيـاب/ أرْقـى صَبايا وْشَباب/ شُـفْـناهُــن صاروا شُـعّـار/ وشُـفــنـاهُـن صاروا كُــتّـاب وشـــايِـــفْـــهُــــن– أذْـى  شُــبّـــان/ وشـايـــِف كــولــيــتِ وْســوزان/ وشايِـف كَميل وْحَـسّــون/ صاروا لَـلـنّادي عِــنْـوان! وشـــايِــف مــاضـــيــنــا الّــلي كــان/ يِــتْـــنَـــبّــا بْــهـــذا الـــزَّمـــان/ وشـايِـــف فـيكْ كـاتِـب خـيـر/ كِـلـماتـو لـولـو ومُـرْجان! وشـــايِـــفْ فِ كْـــتـــابَــــك أقْـــوال/ مَــــلْـــيـــانِــه حِـــكـــمِـه وأمْــثـــال/ وشـايِـــفْ كِـلْـماتِ الأديب/ وَراهــا مْــعَــلِّــم أجْــيــال وشــــايِـــــف تَــــجـــــارِب أيـّـــــام/ مَــــكْــــتـــوبــِه بْــألْــطَـفْ كَــلام/ أوَّلْــهــا "صَـــبــاح الـــخـــيــر!"/ وآخِــرْهــا "أحْـــلــى سَـــلام!" أوَّلـْها، فـــيــهــا إيـــمــــان/ صــافــي فــي كُــلِّ الأدْيــان/ وآخِـــرْها– عِـــبْـــرَه لـــلــنّــاس / يْـعـيـشـوا إخْـــوِه بْــهَــالأوْطــان وآخِـــرْهـا عِـــبْــــرَه وْتَــعْــــبــيـــر/ حــامِـلْ تَــنْــــبــيــه وتَــحْــذيـــر/ فـــيـــهـــا حِــــوارِ الْـــعُــــقّــــال/ وفـــيــهـــا لَــــلْـــجـــاهِــــلْ تَـــنْـــويــر وفــيـهـا بَـــسْــمــاتِ وْرَسْــمـات/ وفـــيــهـــا عـــتــابِ وْهَـــمْـــسـات/ وفـيها وَخْزاتِ الدَّبْوس/ وفـيها غَـمْـزاتِ الــنَّـسْـمات وفــيـــهـــا لــلــنّــاسْ تَــذْكــيــر/ عـــن مـــاضـــي مُــــرِّ وْمَـــــريـــــر/ وفــــيـــهـــــا بُـــــشْــــرى لِـلْأحْـــبـــاب/ بْــأيّــــام مِـثْـلِ الْـحَـريــر وفــــيــــهــــــا فِـــــكْــــرِ وْثَـــــقـــــافـــــي/ وفـــــيــهـــــا رِقَّـــه وْلَــطــــافـــي/ ومَــــرّات– غَــــزِّة إبْـــــرِه/ فــــــيــهـــا الـــتِّــــريــــــاقِ الــــشّـــافـــــي ومَـــرّاتْ حَـــبِّـــةْ بَـــلّــور/ نِـجْــمِـه مِــنْــها شَــعِّ النّــور/ بْـتِـضْـوي فِ عْــيونِ الْعُـمْـيان/ بْـتِعْـمي بَـصْـبـوصِ الْـمَغْـرور! بتضوي أو بتهز الروح/ بْتِبْكي عَالْجُرْحِ الْمَفْتوح/ بْتِحْكي عَـنْ ماضي مَلْيان/ وعَـنْ حاضِر فاضـي مَـفْضوح بْـــتِــحـْكـي عَـــن حــاكِم قــــاســي/ بِــلْــســانِ الــدَّبْــلـوماسـي/ بْــتِحْــكي عَــنْ روحِ الإِجْــرام/ وعَـــنْ أوْجــاعِ الـــمَــآســـي! بْـتِـحْكي عَـن وَطَن مَـوْجوع/ وإنْـسانْ ماتِ مْــنِ الْجوع/ بْـتِـشْكي لَـلْـقاضي والْقاضي/ صـوتو وِلْـسانو مقْطوع بْـتِـشْـكــي بِـــالــعَـقْـل الْــحـــَكـــيم/ مِـنْ فِكـرِ الْجـــيلِ الـقَـديـم/ بْــتِــتْــمَــنّى خَـــلاصِ الـــنّــاس/ بِالْــعِـلْمِ وْنـــورِ الـتِّــعْــلــيم بْـتِــتْــمــَـنّى هَـالْجَـهْـلِ يْـزول/ في كُـلّ كـلْمِه بِــتْــقـــول/ وإحْـــنا مِـــثْـــلَـــك خــايْـــفــــيـــن/ نْضـــيـــع بْسِــرْدابِ الْـــمَـــجْــهـــول وإحْـــنــا هَــالـــيـــومْ مَـعــاكْ/ بْــنُــطْـــلُـــبْ مِـــنْ ألّـله يِـرْعاكْ/ بْـــنِــــتْـــمَـــنّــى الــنّــــاسْ تِــــسْــــمَـــع/ وِالـــرَّب يِـــقْـــــبَـــلْ دُعـــاك! بْـــــنِــــتْـــــمــَــنّــالَـــك عَـــالـــدَّوام/ أفْـــكـــار فـــيــهـا إلْـــهـــام/ بْـــنِـــتْــــمَـــنّــى مَـــعْ كُـــلِّ كْـــتـــاب/ نِــــمْــــشــــي خُـــطْـــوِه لَــلْأمــــام! بْـنِـتْـمَـنّـى تِـكْـتِـب وِتْزيدْ/ وْفي كُلّ ثَـلاثـا جْـديـدْ/ يِـجْـمَـعْــنـا "صَبـاحِ الْخـيــر"/ ويَـعْـطـيـكِ الْـعُــمْـرِ الْـمَديد          ويِـــجْـــمَـــعْـــنا يـــومِ الْـخَمـــيـــس/ بْـــقــاعِــةْ يــوحَـــنّـــا الْـــقِــــدّيـــس/ وتِـــجْـــمَـــــعْـــــنا ســـوزي وْفُــؤاد/ بْــعَــروسِ جــديـــدِه وْعـــــريس!
كلمة المحامي كميل مويس عضو المجلس المِلّيّ وعضو نادي حيفا الثقافيّ: أحيّي أستاذي الأديب سهيل ديب عطالله الذي كان لي شرف تعلّم اللّغة الإنجليزيّةِ وآدابها على يديْه، في الصّفّيْن الحادي عشر والثاني عشر في مدرسة حنّا مويس الثانوية في الرامة. لا زلتُ حتّى اليوم لأعشق اللغة الإنجليزية بفضلك أستاذي الكريم. وُلدَ ضيفنا في قرية إقرث المُهجّرة، ونشأ في بلده الثاني الرامة، فكان ولا زال له روابط صداقة مع جميع أهالي القرية على مختلف انتماءاتهم، ويتفاعلُ مع المجتمع الذي يعيش فيه، ويُؤثر على مُجريات الأحداث بكلّ وعي ومسؤوليّة، مُدركًا تمامًا ما يجري حوله، ويحدّد لنفسه موقفًا من كلّ حدث أو مستجدّ، ولا يتقاعس عن قول رأيه صريحًا جريئًا، ليزيد في نفوس الجميع من مكانته الأدبيّة والاجتماعيّة، ويسمو بحضوره في المواقف ومواكبة الأحداث. أشعر بالبهجة والسرور أن أقدّم لك أستاذي الكريم هذا الدرع، تقديرًا وإجلالًا لمسيرتك الأدبيّة والإنسانيّة باسمي، وباسم رئيس وأعضاء المجلس الملّيّ الوطنيّ الأرثوذكسيّ في حيفا، ممثلًا بزميلي عضو المجلس الأخ جريس خوري، وباسم المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافيّ، والمحامي حسن عبادي مُركّز سوق عكاظ الحيفاويّ في رحاب هذا النادي. نتمنى لك دوامَ العطاء والصحة والغزارة في الإنتاج. 
كلمة الأديب سهيل عطالله: في هذه القاعة التي يحتضنها يوحنا المعمدان، فتعمّد بالمعرفة وإبداعات المبدعين. قاعة متألقة أبدًا بالإخوة في المجلس المليّ وناديه الثقافيّ. قاعة تجمعُنا على امتداد أشهر السنة، وعلى فترات متقاربة بفنانين ومبدعين من أبناء وبنات شعبنا في هذا الوطن البديع، مبدعين نرضع من أثدائهم حليب الجمال وجلال الفكر وبديع الكلام. قاعتكم هذه أيها الإخوة في المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطني حيفا، هي قاعة أعراس أدبيّة وأعراس وطنيّة فيها، يجمعنا حبّ الضّادّ وحبّ ناطقيها في هذه القاعة، ويحمل أهل العلم واصدقاءَهم المحتفى بهم على أجنحة الكلمة الجميلة الملتزمة المثقِّفة.
قال أعرابيّ لأحد الولاة: الناس تبني الدّور في الدنيا، وأراك قد بنيت الدنيا في دارك! والحديث هنا لوالٍ أحبّ الكتب، فحوّلَ جدرانَ غرفته إلى "مكتبة"! هكذا أنتم يا رئيس وأعضاء المجلس المليّ الحيفاويّ، هكذا أنت أيّها العزيز المحامي فؤاد مفيد نقارة، بصحبة صحبك في النادي حوّلتم هذه القاعة إلى مسرح، على خشبته يخطو عشّاقُ الكتب من أبناء شعبنا. لا أبالغ إذا ما قلت إنّكم بعثتم عكاظًا جديدًا مُتجدّدًا، في رحاب كنيسة تعبق بالبخور وتغتسل بدموع الشموع.
يُهاتفني الكثيرون قائلين إنّهم يبدؤون قراءة الاتّحاد من الصفحة الأخيرة بزاوية (صباح الخير)، وأمست صباحهم ولحظات استراحاتهم اليوميّة. تحيّاتي للأحبّاء المهاتفين وغير المهاتفين. إنّ تقديرهم لِما يُنشر في صباح الخير هو تقدير، أو بالأحرى، تكريمٌ لعشّاق الكلمة المكتوبة. لقد كتبت في مقالة لي هذا الشهر وقبل أيّام قليلة، عن هؤلاء القراء الذين أرى فيهم مدارس خير ومعرفة وحث على العطاء من مدارس القراء. يمتصّ الكتاب رحيق المعرفة وإثراء التجربة بكم أيها الحضور الكرام، وبالجالسين على المنصّة ألتقي مثقفين أدباء وأصدقاء عمر أوفياء، أتفيّأ بطيب كلامهم وجلال مداخلاتهم.
أنتم أيّها الإخوة والأخواتُ في القلب وفي بؤبؤ العين، يا نزيه قسيس، ويا آمال عوّاد رضوان، ويا جوني منصور، ويا فتحي فوراني، ويا سهيل مخول، ويا حاتم خوري ويا شحادة خوري، إنّ كلامَكم يتدفق ألقا وأوسمة محبّة أقلدُها لكلّ مَن حضرَ من قريب ومن بعيد في هذا المساء الجميل. أشكر حضوركم فردًا فردًا. أيّها الأعزاء، من خلالكم أكرّر صادق شكري لفرسان النادي ولكلّ القراء. أنتم أيّها القراء بفضلكم تبقى أقلامُنا بأيدينا، فعندما تنصرفون عن قراءة ما نكتب، ينصرف القلم بمداده ويرحل بعيدًا عن دفاترنا. دعونا نُحلّق سويّة حول عطاء متنوّع، ترعاه كنيسة تشمخ باسم قامة نبويّة مسيحيّة إسلاميّة، هي قامة يوحنا المعمدان أو يحيى بن زكريا.
يا أبناء المجلس الأرثوذكسيّ ويا أهله، يا كواكب ناديه ومُهندسي أمسياته، أنتم حفدة أبي سري خليل السكاكيني الذي بسكاكينه المغمدة تشبّث بعروبته، مُطالبًا كنيسته الأرثوذكسيّة في زهرة المدائن إلى تعريب لغتها وتعريب صلواتها، بدلًا من أبجديّة الإغريق الهيلينيّين. أيّها الإخوة، بكم ومعكم نرعى صرح الكلمة. يقول نزار قباني في رسالة أرسلها لابنة وطنه المبدعة سلمى الحفار الكزبري: "الكلمة هي الرّبّ الوحيد الذي يستحقّ أن نمنحه زيتنا وشموعنا. هي النافذة التي بقيت لنا على السفينة التي تقطعت حيالها ومات ربّانها. لا نجاة إلّا في الحرف وبالحرف". وأخيرًا، إنّ مشروعَكم الوطنيّ في هذه الكنيسة المباركة فيه التزامٌ أدبيّ روحيّ، وفيه زخم وطنيّ أبيّ، وفيه أيضًا وفوق كلّ شيء اعتناق، أو بالأحرى عناق للغتنا العربيّة ولكلّ مَن يعاقر خمورها. حيّاكم الله وبوركتم.

105
اتّكاءُ آمال عوّاد رضوان على عكّازِ الرّوح!
ردُّ الرّوائيّة فاطمة ذياب على قراءة د. منير توما في أدموزك وتتعشترين!
مَقالةُ د. منير توما بعنوان البوْحُ الجنسيُّ الرّمزيُّ الاستعاريُّ في مَجموعةِ- أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ- للشاعرة آمال عوّاد رضوان قرأتُها وأُثمّنُها عاليًا، وبصراحةٍ، كادتْ تَعابيرُهُ الحلوةُ المُترابطةُ أنْ تَسحبَني لفِكرتِهِ، لكنّها لم تفعلْ، فلكلٍّ منّا قراءتُهُ ونظرتُهُ ورؤيتُهُ المَعيشةُ والمُتخيّلةُ، وبمُجرّدِ أنْ تأخذَنا نصوصُ "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ" إلى تناقضاتِ المَعنى وازدواجيّةِ الإيحاءِ، فهذا يُدلّلُ على قدرةِ الشّاعرةِ آمال البلاغيّةِ، مِن حيثُ الاتّكاءِ على عكّازِ الرّوح لبعض القرّاء، أو على عكّازِ الجنسِ عندَ بعضِ القرّاء، أو عكازِ شيءٍ آخرَ تمامًا.
قد رأيتُ د. منير توما يَقفُ على ضفافِ شاطئٍ آخرَ مِن بَحرِ المَعاني الدّالّةِ والمَدلولةِ في شعر آمال عوّاد رضوان، فشتّانَ ما بينَ الدّلالاتِ الصّوفيّةِ الّتي أستشِفُّها شخصيّا، وبينَ الإيحاءِ والبوحِ الجنسيِّ الرّمزيِّ الاستعاريِّ الّذي عناهُ د. منير توما، إذ رأى الذّكوريّةَ في عكّازٍ يتوكّأ عليهِ النّصّ الذّكوريّ، والغيمةَ المُستمطَرةَ وعاءً للرّغبةِ، بقدرِ ما كانتْ تعبيرًا للخصوبةِ والعطاءِ، ولكنّي كمحاوِرةً وقارئةٍ تعشقُ الماوراء بتحفّظٍ، وليسَ بقصدِ الدّفاعِ أو الاتّهام، عدتُ إلى النّصوصِ مُجدّدا، أحاولُ استدلالَ الما وراء مرّة أخرى، فلم أجدْني إلّا أكثرَ تَمَسُّكًا بما كتبتُ مِن مدلولاتٍ جاءتْ ضمنَ قراءتي الأولى "أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ"! فمِن وجهةِ نظري، النّصوصُ روحيّةٌ صوفيّةٌ، تتّكئُ على عكّازِ البلاغةِ التعبيريّةِ والصّورِ المُترابطةِ، ولعلّ جَماليّةَ النصّ تنبعُ مِن تعدُّدِ المَلامحِ للوجهِ الواحدِ وللجسدِ الواحد، بوجهاتِ اختلافٍ وائتلافٍ تثيرُ الجدل!
لا نُنكِرُ على الشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان جرأتَها وتَميُّزَ مُفرداتِها، لكنّ مجموعتَها الشعريّةَ العشقيّةِ هذه أدموزك وتتعشترين، ورغمَ الصّياغةِ الفنّيّةِ المُتراسِلةِ والطّانبةِ في أبعادِها، فإنّ قصائدَها تتضمّخُ بصوفيّةٍ عذراءَ وبعشقٍ صوفيٍّ أسطوريٍّ، ما كانَ لبني بَشرٍ إلّا كعشقٍ آخرَ لوطنٍ ولبلدٍ وأرضٍ، تلكَ العلاقةُ الجدليّةُ بينَ شاعرةٍ تتوهّجُ بالحُلمِ، وتُطرّزُ مَعانيها مِن عصارةِ نبضٍ يُوجعُها، فتختارُ صنوفَ المَعاني المُستقاةَ مِن الأسطورة بثيابِ عاشقٍ حدَّ الثّمالةِ، حيثُ تصبحُ المُناجاةُ صلاةً، وكأنّي بها تخاطبُ الأرضَ فتقولُ:
"صُدَاحُكِ.. شَهِيًّا.. يَتَعَالَى/ يَجْرِفُ سُيُولِي بِشَغَفٍ.. إِلَى مُدُنِ خَيَالِي/ وَصَوْتُكِ.. يَأْتِينِي مُتَلَبِّدًا.. بِجَفَافِ شَوْقِي اللَّاهِبِ/ مُبَلَّلًا.. بِشَظَايَا آهَاتِي!/ رُحْمَاكِ.. أَدْخِلِينِي غَيْمَةً شَهِيَّةً/ وَبِلَمَسَاتِكِ الْمُضْرَمَةِ بِالرَّغْبَةِ/ أَمْطِرِينِي.. وَلْيَحْمِلِ النَّاسُ الْمِظَلَّاتِ/ فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ/ عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ.. بِلَا مَصَابِيح!
أمطريني: آمالًا، أحلامًا، أمانًا، ..إلخ، ليَحملَ النّاسُ المِظلّات؟ مظلّاتِ الخيرِ والنورِ والمَحبّةِ والسّلام، بدلًا مِن أنْ نظلَّ مُبلّلين بالدّماءِ والدّمع والوجع على ناصيةِ ريحِ الغربةِ والتّشرّدِ والضّياعِ، بلا مصابيحَ ورجاءٍ، بلا بَصيصِ أمَلٍ في عتمٍ دامسٍ!
نعم، بلا مصابيحَ في ظِلِّ غيمةٍ كنّا ولم نَزلْ نُعانقُ هواها، ونتّكئُ على عكّازها:         سَأَجْعَلُ الْغَيْمَةَ/ حُـــــبْــــــــلَـــــــــى.. بِشُــــمُـــوخِــكِ/ أَحْرُسُهَا.. أَنَا رَاعِيهَا/ وسَاعَةَ الْوِلَادَةِ.. أَهُشُّ عَلَيْهَا.. بِعُكَّازِي/ وَبِلَا آلَامٍ.. يَأْتِيهَا الْمَخَاضُ يَسِيرًا.
الشاعرة آمال عوّاد رضوان تتوسّلُ الغيمةَ أنْ تحبلَ بشموخِها الطّاغي، فتستمطرُها كي تحلَّ خيرًا وعطاءً وحلًّا سِلميًّا في جَفافِ الواقع، هناكَ تقفُ الشّاعرةُ ونقفُ معها، حيثُ الغيمةُ حُبلى بشموخِ الآماني، نستمتطرُها ربيعًا بكريًّا لم يُدَنَّسْ، لِينبُتَ الكوْنُ ويُزهِرُ سلامًا في أرضِ القداسةِ!    وتقولُ: فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ.. أَسُووووووحُ/ فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا.. يَتَّقِدُنِي/ وَأَذْرِفُكِ.. عِطْرًا مُتَفَرِّدًا. هكذا أعتمِدُ الحِسَّ الأنثويَّ المُترامي في وَعيِهِ وأبعادِهِ حدَّ الاتّقاد، فهل يمكنُ أنْ نُنكِرَ الجَماليّةَ الرّمزيّةَ والوصفيّةَ، حينَ نرى شقّي الوطنِ الواحدِ المُتجسّدِ في جسدِ المرأةِ الجميلِ الخصبِ الوَلودِ، بنهدَيْها الخِصبيْنِ، وبشفتيْها الباسمتيْنِ، وبشَعرِها ومُحيّاها وقدِّها وأناقتِها؟
الوطنُ امرأةٌ فاتنةٌ لهُ فِعلُهُ في عاشقِهِ، تمامًا كنهْدَي امرأةٍ  في جسدٍ جميل، فلمْ تتحدّثْ عن ثدْيٍ واحدٍ وآخرَ مبتورٍ، إذ لا يَكتمِلُ قوامُها إلّا بكِلا ثدْييْها اليمينيِّ واليساريِّ، ولا تكتملُ بسمتُها إلّا بكلتا شفتيْها السّفلى والعُليا، فالشّاعرة آمال عوّاد رضوان تتناولُ جسدَ المرأةِ الخصبِ الولودِ الجميلِ برمزيّةٍ وتفرُّدٍ بليغٍ، يَصِلُ إلى حدِّ التّقديسِ والعبادة، كتقديسِها لكلِّ تفاصيلِ جسَدِها ووطنِها فتقولُ: تَـسْـجِـنِـيـنَـنِـي.. بِمَفَاتِنِكِ/ تَـنْـسِـجِـيـنَـنِـي.. مِنْ لَدُنِ رُوحِكِ/ فأَطْفُوَ عَدْوَ ظَبْيٍ.. إلَى مَقَامِ الْهُيَامِ/ وأُجِيدُ طُقُوسَ هُطُولِي/ عَلَى أَجِيجِكِ الثّائِرِ!
نعم، هذا الجسدُ الّذي ما فتئَ ينتظرُ هطولَ المطرِ في بوْتقةِ حُلمٍ شهيٍّ، يَتأجّجُ شوْقًا مُضرمًا للخصوبةِ المُشتهاةِ. هكذا استخدمتْ شاعرتُنا آمال عوّاد رضوان العلاقةَ القدسيّةَ ما بينَ الوطنِ الأنثى والمُواطِنِ الذكوريّ، وما التأجُّجُ إلّا أزيزَ مَشاعر تتّقدُ فينا، تخترقُنا ونخترقُها عشقًا لا يُشبهُ أيَّ عشقٍ، فهذهِ الأرضُ المُتراميةُ ما بين الغيومِ والسّحابِ ضفافٌ مِن العشقِ المُوظَّفِ بأسطورتِهِ وبَلاغتِهِ، فيجعلُ القارئَ يَسبحُ بأفكارِهِ، ويَطفو فوقَ موجِ الماوراء، فتأخذُنا إلى بُحورِها المُنتقاةِ، وتُعلّمُنا طقوسَ القُبَلِ المُلتهبةِ على شفتيْ وطنٍ، تستمطرُ حليبَ النّهديْنِ كطفلٍ رضيعٍ، مُقبِلًا بلذّةِ القُربِ والتّلاحمِ والانصهارِ في الآمال الحيّةِ الطّازجة.
آمال عوّاد رضوان شاعرةٌ رقراقةٌ نديّةٌ، تكتبُنا وتكتبُ عشقَنا للوطنِ، فتراهُ مُجسَّدًا ما بينَ نهديْنِ رمزِ العطاءِ وما بين شفتيْ قُبَل! فهل تلتقي الشّفاهُ؛ غزّة والضفّة؟ آمال بعِشقِها الأسطوريِّ استخدمَتْ وأوغلتْ في رمزيّتِها، ما بين رُموزٍ ورومانسيّةٍ حُبلى بالمُفرداتِ العشقيّة:
وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ/ عَلَى لِسَانِي.. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ/ وَلَمَّا أَزَلْ.. أَفْتَقِدُ بَيَاضَ حَلِيبٍ/ يَدُرُّ شَبَقًا عَلَى شِفَاهِي!/ مَا أَفُلَتِ اللَّذَّةُ.. فِي رَعْشَتِهَا/ وَمَا اكْتَنَزَ ارْتِوَاؤُهَا.. إِلَّا بِتَعَطُّشِكِ الصَّامِتِ/ آآآآآآه/ نَشْوَةُ آهَتِي الْمَكْتُومَةُ/ مُتْخَمَةٌ.. بِلَدْغَاتِ تَجَاهُلِكِ!/ وَتَظَلُّ خَيَّالَةُ جُنُونِكِ.. نَبْعَ مُشْتَهَاتِي!
نعم، هي رسائلُ عشقٍ ما بينَ الشاعرةِ والمكان، تُوظّفُ أدواتِ لغتِها ببراعةٍ وإتقانٍ مَلفوفيْنِ بالغموضِ والرمزيّةِ، فتتركُنا نلهثُ وراءَ رمزيّتِها ونعيشُ تصَوُّرَنا، والوطنُ الأنثى جَوْعى لتعابيرَ ملفوفةٍ ومكشوفةٍ، هي علاقةُ الرّوحِ بالجسدِ، وعلاقةُ الحُلمِ بالواقع ولا انفصامَ بيْنَهما.
أعتقدُ جازمةً أنّ في ديوان- أُدَمْوِزُكِ وتَتَعَشْترين- أكثرَ مِن فكرةٍ تُقدّمُها ليتخيّلَ كلٌّ منّا ما يريدُ، وهنا مَربطُ الفرَس؛ إنّهُ نصٌّ عشقيٌّ صوفيٌّ ما بين الجسد والوطن بشقّيْهِ، ونَهدَيْهِ وشَفتيْهِ.
أُدَمْــــــوِزُكِ.. وتَـــتَـــعَـــشْـــتَـــرِيـــن/ أُلْقِي عَلَيْكِ.. مَلَاءَاتِي الْخَضْرَاءَ/ فَتَسْتَعِيدُ أَعْشَاشِي/ تَـرْتِـيـبَ عَـصَـافِـيـرِهَا/ وَتَتَسَرْبَلينَ.. أَنْهَارَ خُصُوبَتِكِ!
نقفُ أمامَ أوجُهِ المعاني الجدليّةِ، ونَحارُ أينَ تُوجّهُها، لكنّنا نجدُها طفلةً مُسترسلةً بالانتماءِ لمَكانِها وزمانِها، تُجسّدُ العلاقة الجدليّة مِن تحتِ إبطِ مَلاءةٍ، وأعشاشٍ، وعصافير ووطنٍ نراهُ حاضرًا كما العصافير مِن زمنٍ إلى زمن، يُغرّدُنا ونُزقزقُهُ حروفًا مِن علاقاتِنا الوجدانيّةِ،  تتحدّثُ عن الطفولةِ برمزيّةِ الأعشاشِ وزقرقةِ العصافير- الأطفال!
إِهْدَاء/ أَيَا عَرُوسَ شِعْرِي الْأَخْرَس!/ إِلَيْكَ/ مُهْرَةَ بَوْحِي فَتِيَّةً/ بِفَوَانِيسِ صَفَائِهَا.. بِنَوَامِيسِ نَقَائِهَا/ حَلِّقْ بِبَياضِهَا/ صَوْبَ ذَاكِرَةٍ عَذْرَاءَ/ وَتَطَهَّرْ/ بِنَارِ الُحُبِّ.. وَنورِ الْحَيَاة!
هي الأرضُ تُطارحُها الهوى بكلماتِ شِعرٍ أخرسَ لا يَصِلُ إليها، أو هكذا يُخيّلُ لك كقارئ، تُخاطبُكَ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان بلغةٍ عِشقيّةٍ تَعزفُ على أوتارِ عشقٍ مُتفرّدٍ لغةً ومَضمونًا، نعم أيّتها الأرضُ الطيّبةُ، لكِ شِعري وحروفُ نثري، (بِفَوَانِيسِ صَفَائِهَا.. بِنَوَامِيسِ نَقَائِهَا)، تُحلّقُ وتسمو صوْبَ ذاكرةٍ عذراءَ!
هو الإهداءُ الناطقُ باللّوْعةِ والاشتياقِ عجبًا، تأخذني إليهِ مِن الحرفِ الأوّلِ، وكأنّها رسالةٌ لنا كي نقرأ عِشقَها ولغتَها العشقيّة بعُذريّةٍ، كما ذهبَتْ إليها، عساها تُمطِرُ (بِنَارِ الُحُبِّ.. وَنورِ الْحَيَاة!)! ونتدرّجُ ما بينَ النّقاطِ والفواصلِ، ونلتقي معَ الشاعرة آمال عوّاد رضوان في قصيدتِها:
يَابِسَةٌ سَمَاوَاتِي/ أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي/ أَأَظَلُّ.. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟/ أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ..  بَــ ~~ يــْـ ~~نَ.. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ/ وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ.. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ.. جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!/ عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ.. مُضَمَّخٍ/ بِــــالْــ~~دَّ~هْـــ~شَــ~ةِ/ ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي.. صَدًى/ لِأَرْسُمَ.. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى!/ قَلْبِي الْــــ  يَــــكْـــــــبُــــــــــــــــرُ  بِكِ/ حينَ.. يَـ~~جْـ~~ـمَـ~~ـحُ.. شَجْوًا/ تَــــتَـــيَـــقَّـــظُ.. ثُــغُــورُ رَبــِيــعِــي الْــــ غَـــفَـــا
مَبْسُوطَةً.. تَمْتَدُّ رَاحَةُ فَجْرِكِ/ مُخَضَّبَةً.. بِحَنَانِ أَنَامِلِكِ الظَّمْأَى/ حِينَ أَلْثُمُهَا.. يَتَّقِدُ عَبَثِي/ وَعَلَى شَفَتَيْكِ.. أَعْزِفُ ابْتِسَامَتِي/ فَأَغْدُو وَارِفَ الْمَدَى/ أَلَا يَـــتَّـــــسِــــــعُ.. لِأَوْتَارِكِ الْبَحْرِيَّة؟/ كَأَنَّ حُبِّي وَهْمٌ.. كَإِلهٍ.. إنْ لَمْ يَتَجَسَّدْ؟!/ جَمَالُكِ.. لَا تُثْمِلُهُ أَمْوَاجِي/ وَحْدَهَا أَعْمَاقِي.. تُسْكِرُ نَزْفَ أَنْفَاسِهِ!
 وَجَــــلَالُـــــكِ/ مِنْ هُوَاةِ الزَّرْعِ وَالسَّوَاقِي.. أَنَا/  وَأَطْيَبُ أَحْلَامِي.. مَا كَانَ.. فِي بَطْنِ سَاقِيَةٍ ضَيِّقَةٍ/ تَوَقَّفَ فِيهَا الْمَاءُ.. هُنَيْهَةً!/ أَنَا/ مَا كُنْتُ.. مِنْ رُعَاةِ الْغَيْمِ وَالسَّمَاوَاتِ/ فَــفِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ/ أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ/ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ!
سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ.. انْطَفَأَتْ/ مُنْذُ.. أَلْفَ عامٍ.. وَغَيْمَةٍ/ وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي.. تَتَحَجَّبُ/ خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ!/ دَعِينِي.. أَكْمِشُ بَعْضَ بُرُوقِكِ/ واُغْمُرِينِي.. بِحَفْنَةٍ مِنْ كَلِمَاتِكِ/ لِأَبْقَى.. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ! تُقَاسِمِينَنِي/ صُورَتَكِ الْـــــ.. تُـــثِــــيـــرُ فِيَّ كُــــلَّ حِــــرْمَــــانِــي/ وكَفَرَاشَةٍ.. أَحْتَرِقُ بِرَحِيقِ هُيَامِكِ!/ أَغُورُ.. فِي صَخَبِ لِسِانِكِ/ أُسْرِفُ.. فِي اشْتِهَاءَاتِهِ الْمُعَتَّقَةِ/ وأَغُوصُ.. فِي صَرْخَتِكِ النَّقِيَّةِ!
سماواتُ الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان يابسةٌ، لا تمطرُ غيرَ الجفافِ والكرهِ والتفجُّرِ والانفجارِ، في ظِلِّ حروبٍ مُدمّرةٍ، فتشتعلُ أحلامُ الشّاعرة كما تشتعلُ ثورةُ حُلمِها شهوةً ورغبةً، وتتماهى إلى حدٍّ بعيدٍ معَ الشّهوةِ الأخرى، ولا عجَب، فإنّ المادّةَ مِن حَرفِها الأوّلِ حتّى الأخيرِ مادّةٌ عشقيّةٌ، تتّكئُ على العلاقةِ ما بينَ الذكورةِ والأنوثةِ، لتُظلّلَ الوطنَ والإنسانَ في شهوةِ اللقاءِ والعناقِ، بأبعادٍ أخرى تنسجُ خيوطَ مَعانيها، كما غليانُ الحُبِّ في مَراجلِ العشّاق، مُستخرَجةً ببوحٍ عذريًّ يتسامى إلى أبعدِ مِن حدودِ العلاقاتِ البشريّة، كي يكبرَ وتكبرَ معهُ ويكبرَ بها في هوى مُستزادٍ، تتأمّلُ الأملَ الظمأى المُتّقدةَ بعبثيّةٍ على الشفاه، ويغدو مداها وارفًا يتّسعُ لأوتارِها البحريّة:    أَنَا مَن تَزْفُرُنِي.. زُرْقَةُ أنْفَاسِكِ الْبَحْرِيَّةِ/ كَمْ تُغَبِّطُنِي أَشْرِعَتُكِ.. تَخْفُقُ/ فِي سَمَاوَاتِ مَسَاءَاتِي الْمَحْرُوقَةِ!
إذن؛ هي الشّاعرة الإنسانُ، وهو وطنُها الذي تطارحُهُ الهوى والعشقَ، كي تُزهرَ حقولَ الفرحِ لديْها، ما بينَ الأملِ والقنوطِ: هَاءَنَذا.. أُدَوْزِنُ أَوْتَارَ غُرْبَتِي/ عَلَى كَمَانِ طَيْفِكِ الضَّبَابِيِّ/ وَأَعْزِفُنِي مَزامِيرَ اسْتِغْفَارٍ/ لِئَلَّا يَخْبُوَ.. مَجْدُ حُضُورِكِ
وما بينَ الرّغبةِ والحاجةِ تشتعلُ الشاعرةُ شِعرًا ولغةً نرجسيّةً، منتقاةً على مَقاسِ أحلامِها وعِشقِها المُتميّز بأرضٍ ووطن، وتَظلُّ تُصارعُ اليأسَ بقولِها: كَأَنَّ حُبِّي وَهْمٌ.. كَإِلهٍ.. إنْ لَمْ يَتَجَسَّدْ؟! فهذا الوطنُ الإلهُ لم يتجسّدْ في رُؤاها وكأنّهُ مُجرّدُ وهمٍ في خيالاتِ شاعرةٍ، فتصبو لتأليهِه!
عزيزتي آمال عوّاد رضوان، صلاتُكِ هي صَلاتُنا، وأمانيكِ هي أمانينا، وحرفُكِ يُجسّدُنا عشقًا وصلاةً ورجاءً، كي لا نظلَّ عالقينَ بحبالِ الضّياع: (دَعِي ظِلالَنَا النَّائِحَةَ.. تُلَامِسُ الْأَرْضَ/ فَلَا نَبْقَى مُعَلَّقَيْنِ .. بِحِبَالِ الضَّيَاعِ!) حتّى نُلامسَ أرضَنا ونُعانقَ عذريّةَ عشقِنا، نحن الهاربونَ معكِ إلى حدودِ الغيم، نستمطرُ الغيثَ في جفافِ سنواتِنا العِجافِ: (وَلَمَّا أَزَلْ.. مُضَاءً بِكِ.. حَدَّ الْهَرَبِ/ صَوْبَ غَيْمِكِ.. جِهَةَ ضِفَافِ الْحَيْرَةِ/ أَرِفُّ .. أَتَلَأْلَأُ.. وَيَفُوحُ عُشْبِي.. بَلَلًا!/ إِلَامَ أَبْقَى عَائِمًا.. عَلَى وَجْهِ وَجَعِي/ تُلَوِّحُنِي الرَّغْبَةُ.. بِيَدَيْنِ مَبْتُورَتَيْنِ؟)
نحنُ أمامَ شاعرةٍ صوفيّةِ الهوى، تفردُ حروفَها بإيحاءٍ عشقيٍّ مُتفرّدٍ حيث تقولُ: أَمْطِرِينِي.. وَلْيَحْمِلِ النَّاسُ الْمِظَلَّاتِ/ فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ/ عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ.. بِلَا مَصَابِيح!
مثلها نشتاقُ ونبحثُ في نواصي الريح عن ومضةِ مصباحٍ، يُنيرُ دروبَنا المعتمةَ الغارقة بظلمةِ واقعِها: وَحَقّ جَمَالِكِ/ خَفْقِي.. مَكْتُومٌ أَجَلُهُ/ يَحْبُو عِشْقًا/ عَلَى دُرُوبِ تَوَحُّدٍ.. يُعَوِّلُ عَلَيْكِ!
على دروبِ التّائهينَ في هذا الوطن الحزين ننتظرُ ساعةَ ميلادٍ، ولحظة مَخاضٍ لحُلمِنا الموعودِ، وفي تَعدُّدِ الما وراء تكمُنُ جماليّةُ المعاني: كَرِيحٍ.. تَنْثُرِينَ الشَّهْوَةَ هَسيسَ نَشْوَةٍ/ في أَعْــمَــاقِــي/ وَقَدُّكِ.. يَجْلِبُ لِيَ الْمَطَرَ/ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ فَجٍّ!/ دُونَ نُضُوبٍ.. تَسْفُكُنِي ذَاكِرَتِي/ عَلَى مَسَامَاتِ احْتِرَاقِي/ وَأَظَلُّ فَضَاءَكِ الْمُشَرَّعَ.. عَلَى قَيْدِ الاشْتِعَالِ!
كريحٍ تنتثرُ الشهوةُ هسيسَ نشوةٍ في تَعدُّدِ مَراميها وسِرُّ بلاغتِها، حينَ تُجسّدُ عشقَها ما بينَ ذكورةِ الوطنِ وأنوثةِ العِشق إلى حدِّ الاشتعالِ، فتخطُّهُ لغةً مِن أدراج العاشقين؛ نشوة، هسيس، اشتعال، شموع!
لغةٌ مُترعةٌ تضمخُ بأبعادها السماويّةِ، وإن كانتْ يابسةً سماواتُها، وحتّى صرختُها الدالّةُ والمدلولةُ (في عبيرِ نهْدَيْكِ أسوحُ)، ونمضي إلى نهدَيْنِ في جسدٍ لكن لا يَلتقيانِ، يَجمعُهما جسدُ الوطنِ الجريحِ، فأراها الضفّة الغربيّة وغزّة المُطوّقة، لكن لن يَتلاشى الجسدُ: سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ.. انْطَفَأَتْ مُنْذُ.. أَلْفَ عامٍ.. وَغَيْمَةٍ وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي.. تَتَحَجَّبُ خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ! دَعِينِي.. أَكْمِشُ بَعْضَ بُرُوقِكِ واُغْمُرِينِي.. بِحَفْنَةٍ مِنْ كَلِمَاتِكِ لِأَبْقَى.. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ!
عندَ هذهِ الخلاصةِ نقفُ، لنرى الشاعرةَ آمال عوّاد رضوان تضعُ النقاطَ على حروفِها الجوْعى للضّوءِ ولبذورِ الأمل، وقد شاغلتْنا بعِشقِها ومَلامحِهِ السّماويّةِ المُتسامية، حيثُ ترسمُ مَراحلَ تدَرُّجِها الواعي عبرَ ألفَ عامٍ وغيمة، والغيومُ ما انفكّتْ كما سلاسلُ القيدِ حلقاتٍ مِن غيرِ انفصام، فعن أيّةِ صواعقَ وعن أيّةِ نكساتٍ توحي لنا، ونحن الذين معَها نُعايشُها ونعايشُ الوطنَ ولم نزلْ، مِن نكسةٍ إلى وكسةٍ، ومِن خيبةٍ إلى مليون خيبةٍ تختصرُ حدّةَ المسافاتِ، لتقطعَ الشّكَّ باليقين، وترسمَ لنا مَرامي الكلمات!


106
حيفا تحتفي بالناقد د. نبيه القاسم!
آمال عوّاد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافي برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني في حيفا ندوة أدبية تكريما للأديب الناقد د. نبيه القاسم، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، بتاريخ 3-3-2016، وسط حضور كبير من أقرباء وأصدقاء وأدباء، وقد تولى عرافة الأمسية السيد كميل مويس، وتحدث السيد شوقي ابو لطيف رئيس مجلس الرامة المحلي، والسيد يوسف خوري رئيس  المجلس الملي  الوطني الأرثوذكسيّ، وعضو الكنيست د. باسل غطاس، وكلّ من الأدباء محمّد علي طه، وفتحي فوراني، ود. راوية بربارة، ود. عصام عساقلة، وفي نهاية اللقاء كرّمَ مسؤولو نادي حيفا الثقافيّ المحتفى به نبيه القاسم، بعد أن شكرَ الحضور والمنظمين والمتحدثين والمضيفين، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!   
مداخلة العريف كميل مويس: حضرة الأفاضل شوقي أبو لطيف رئيس مجلس الرامة المحلّيّ، والسيّد يوسف خوري رئيس  المجلس المِليّ  الوطنيّ الأرثوذكسيّ، والذي برعايتِهِ ودعمِهِ ومجلسِهِ المِليِّ الموقر استطاع نادي حيفا الثقافيّ للوصول إلى ما هو عليهِ اليوم. الأخواتُ والإخوة مع حفظ الألقاب، ضيوفنا الكرام، أسعد اللهُ مساءَكم،  نحيّيكم بتحية من القلب يَطيبُ شذاها مِسكًا وريحانا، فنحن في قمّة السعادة بحضور هذهِ الكوكبة المتألقة من أدباء وشعراء وعشاق  الأدب والكلمة. نادي حيفا الثقافيّ وخلالَ أربع سنواتٍ من الإعلان عن تأسيسِهِ أضحى صرحًا  ثقافيّا، استضافَ الكثيرَ من الأدباء والشعراء، وتمّ من خلال أمسياتِهِ إشهارُ إصداراتٍ أدبيّةٍ وشعريّةٍ لأدباء وشعراء، وأصبحَ حضنًا دافئا لكلّ أصحاب الكلمة وعشاق اللغة العربيّة، فنادينا يدأب دومًا لاحتضان المسيرةِ الأدبيّةِ والثقافيّة، ويرى أنّهُ لا بدّ أن نحافظ على جوْدتِها ومستوها الرفيع.       
يُسعدُنا ويُشرّفنا أن نستضيفَ في هذهِ الأمسيةِ التكريميّةِ الأديبَ والناقد د. نبيه القاسم ابنَ قرية الرامة الجليليّة، وإشهارُ إصدارِهِ الادبيِّ الجديد  "في الإبداع المميّز"، فضيفنا يُتابعُ مِن خلال كتابهِ هذا مشروعَهُ النقديَّ، فالكتابُ يَتناولُ بالتحليل والنقد رواياتِ وسِيَرَ ذاتيّة للعديدِ مِن أدباء وشعراء من بلادنا والعالم، وأحتارٌ ماذا يمكنٌ أن يقالً عن هذهِ الشخصيّةِ الأدبيّةِ المميّزة، لذا اخترتُ أن أقتبسَ بعضَ الآراءِ حولَ أدب ضيفِنا، فشاعرُنا الطيّب الذكرُ سميح القاسم كتب: " لقد استوعبَ نبيه القاسم التيّاراتِ النقديّة  المختلفة والبلبلة في هذا المجال، ولم يقع في شِراكِها، ورغمَ ثقافتِهِ الأكاديميّةِ المعروفة ظلَّ وفيًّا لروح النقد الشامل الذي يُعنى  بالشكل، لكن ليس على حساب المضمون، ويهتمّ بالمضمون لكن ليس على حساب الشكل".
الكاتب محمّد  علي طه  قال: "نبيه القاسم هو الناقدُ الوحيدُ المُتابعُ لحركتِنا الأدبيّة، فهو ناقدٌ جادّ ومجتهدٌ لا يكلّ ولا يتعبُ ولا ييأسُ ولا يغضبُ، ولا يُجاملُ ولا يُحابي، بل يكتبُ ما يؤمنُ به ويفكّرُ به، وهو ناقدٌ احتلّ مكانتهُ الأصيلة المرموقة بجرأة". وقال الشاعر عبد الناصر صالح عن ضيفِنا: "إنّ اهتمامَ نبيه القاسم برفع مستوى الحركةِ الأدبيّةِ في البلاد، جعلهُ يتبوّأ مكانة مرموقة بين كُتّاب شعبِنا وهيئاتِهِ ومؤسّساتِهِ الثقافيّةِ المختلفة، وينالُ  إعجابَ كلّ دارس للأدب الفلسطينيِّ المُعاصِر، حيث إنّ مؤلفاتِهِ النقديّةِ تعتبرُ مِن المَراجع الضروريّةِ لدارسي الأدب في المعاهدِ والجامعاتِ الفلسطينيّة.
د. نبيه القاسم حاصلٌ على شهادة الدكتواره مِن جامعة تل أبيب، وأطروحتُهُ  حول "الفنّ الروائيّ عند عبد الرحمن منيف"، وحصلَ على شهادة دكتوراه ثانية من جامعة سانت بتسبورج في روسيا، وأطروحتُهُ حول الحركةِ الشعريّة العربيّة في إسرائيل. يعملُ محاضرًا للأدب العربيّ في الكليّةِ الأكادميّةِ العربيّةِ للتربية في حيفا، ويَشغلُ منصبَ نائب مدير الكليّةِ وعميد الطلبة. عشقَ الكتابَ والقلم، ونشرَ الكثيرَ مِن المقالاتِ السياسيّةِ والأدبيّةِ منذ أواسط سنوات الستينات وحتى يومنا هذا. "ابتسمي يا قدس"، أوّلُ مجموعةٍ قصصيّةٍ أصدرَها عام 1978، تتضمّن 8 قصص. عام 1997 أصدرَ مجموعتَهُ القصصيّة الثانية باسم :"اه يا زمن"  وهي أيضًا من 8 قصص قصيرة. عام 2013 صدر كتابة الدراسي عن الشاعر سميح القاسم بعنوان "سميح القاسم مبدع لا يستأذن أحدا"، وعام 2014 أصدرَ كتاب "إميل حبيبي المثقف الإشكاليّ"، و "ذلك الزمن الجميل".
مداخلة محمّد علي طه: علاقتي بأبي فريد نبيه القاسم طويلة عريضة متينة، تغطّي خمسة عقودٍ من العمر الذي قدّمناهُ قرابينَ خضراء في معبدِ الكلمةِ وحرفِ الضّاد. جمعَتنا "عائشة التي ولدت طفلًا حيّا يقرأ ما تيسّر من سورة البقرة" على صفحات "الجديد"، طيّبة الذكر وأرضعَتْنا وفاءً وصِدقا وفكرًا ونهجًا وطنيّا. هذه علاقة لا أجد في مقلع الكلام كلمة واحدة تغطّيها أو تحويها. عجزت معاجمي عن ذلك. هذه العلاقة هي صداقة فيها وفاء وإخلاص ومحبّة. لم تخترقها نميمة حاسد إذا حسد، ولا نفثات ساحر في العقد. تمتّنت بنسغ سنديان  جبل حيدر وتعطرت بزعتر ميعار. ما عكّرتها غبرة او قشّة في زمن العواصف السّياسيّة والفكريّة ومواقع القال والقيل الالكترونيّة وفي زمن الأزمات القوميّة والسّياسيّة. وهي علاقة النّاقد أيضا بنصّ المبدع،علاقة متحرّرة من قيود الصّداقة وخيطان العش والملح، وعين الرّضا الكليلة عن كل عيب، لا مجاملة فيها ولا مراءاة ولا مداهنة.
نبيه القاسم ناقد قدير جادّ رافق الإبداع القصصيّ والشعريّ والرّوائيّ والمسرحيّ الذّي نسج ثقافتنا في هذا الوطن الصّغير الجميل، وتعامل معه بجدّيّة وبمسؤوليّة وباحترام وبأخلاق سامية. منذ مقالاته النّقديّة الأولى وطيلة مسيرته النّقديّة حمل ترسانة المعرفة، وتقاطع نقده مع النّصّ الأدبيّ مُظهرا متعة النّصّ، لأن النّقد يكسب شرعيته حينما يكشف ما يكمن داخل النّصّ. قلت في إحدى النّدوات مداعبًا الأخوين النّاقدين المحترمين د.نبيه القاسم و د.رياض كامل ما قاله أحد الأدباء، بأنّ النّاقد والحلاق يعيشان من رؤوس الآخرين. قد يكون في هذا الكلام شيء من الحقيقة، ولكنّ النّقد هو عملية إبداع ويشترط ذائقة أدبيّة نقديّة تميّز بين ما هو حقيقيّ وما هو غير حقيقيّ، بين ما هو جميل وبين ما هو قبيح، وهذا هو نقد نبيه القاسم. د. نبيه القاسم لم يرهق القارئ أو المبدع بالنّظريّات النّقديّة، على الرّغم من أنّه درسها وتأثّر بعضها. قال الشاّعر والكاتب ت.س.اليوت: من لا أب له عليه أن يخترعه. ولنبيه القاسم آباء في نقده.
منذ أطلق النّاقد الأمريكيّ المصريّ الأصل إيهاب حسن مصطلح ما بعد الحداثة في العام 1971، ليؤكّد تداخل الحداثة وما بعدها والنّقّاد منشغلون بذلك. يقولون إنّ الحداثة تملك مفاتيح الحقيقة المطلقة وأنّ ما بعد الحداثة تمثل حركة التّحوّل من الحقيقة المطلقة إلى الحقيقة النّسبيّة. وقد فسّر هذا الكلام النّاقد السّوريّ خلدون الشّمعة بعد خمسة وأربعين عاما، بأنّ نزعة ما بعد الحداثة ليست ظاهرة أعقبت الحداثة كما يوحي المصطلح للوهلة الأولى، وإنّما هي متداخلة معها إلى الحدّ الذي يمكن معه القول، إنّ كتّابا حداثيّين مثل كافكا وجان جينيه وصموئيل بيكت وجيمس جويس أعاد بعضُ النّقاد تعريفهم مؤخّرا، وصاروا يوصفون باعتبارهم كتّاب نزعة ما بعد الحداثة.
لم يتعبنا نبيه القاسم بهذه النّظريّات فيما كتبه، ولكنّ نبيه ناقد يتعامل مع النّصّ بجدّيّة وبمسؤوليّة وبإخلاص وباحترام. هي جدّيّة النّاقّد المثقّف العارف القادر على الغربلة، هي جدّيّة الذائقة الأدبيّة التي تتمتّع باللغة وبالأسلوب وبالفنّ الإنسانيّ الرّاقي. يكتب عن النّصّ الذي يثيره وقد يكون هذا النّصّ شعرًا أو سردًا، وقد يكون فلسطينيّا أو عربيّا أو أجنبيّا. هو لا يتقيّد بزمان أو بمكان. وهو ناقد على خلق جميل لا ينتقم من أحد ولا يعادي أحدا. لا يقيّده فكر حزبيّ أو عقائديّ ولا يتقلّب في علاقاته الإنسانيّة. ولا ينشد جاهًا ولا إعلامًا ولا مالا. أكرمني أبو فريد وأكرم نتاجي الأدبيّ القصصيّ والرّوائيّ بكتاب كامل، اختار له اسمًا إبداعيّا "محمّد علي طه كاتب راود الكلمات وراودته"، وكتب عن جميع مجموعاتي القصصيّة وعن مسرحيّاتي وعن مقالاتي. احترمت وقدّرت ما كتبه، على الرّغم من أنّني لا أتّفق معه في كلّ ما كتبه، ولا أذيع سرّا إذا قلتُ بأنّه كان النّاقد القاسي على بعض نتاجي الأدبيّ. وعلى الرّغم من صداقتنا ولقاءاتنا الكثيرة ومهاتفاتنا الأسبوعيّة واليوميّة، لم يطلعني يوما ما على ما كتبه عنّي قبل نشره، بل كنت وما زلت ألتقي بمقالاته في الصّحيفة أو في المجلّة، وما كتبتُ جملة واحدة في صحيفة أردّ فيها على نقده اللهم سوى رسالة واحدة أرسلتها إليه ونشرها في كتابه.
في أواخر السّبعينات وبعد لقاء لي بالشّاعر الفلسطينيّ الحيفاويّ أحمد دحبور في هافانا عاصمة كوبا، كتبت قصّة اسمها "خارطة جديدة لوادي النّسناس" ونشرتها يومئذ في صحيفة "الاتّحاد"، ثمّ في مجموعتي "وردة لعينيّ حفيظة"، فكتب نبيه القاسم مقالا نقديّا سلّ القصّة من الفنّ القصصيّ كما تسلّ الشّعرة من العجين. وبعد سنوات زارني أخي نبيه برفقة الصّديق النّاقد  بروفيسور محمود غنايم، وبعد أن شربنا القهوة وفي خلال حديثنا قال غنايم، إنّ قصّة "خارطة جديدة لوادي النّسناس" من أجمل القصص التي قرأها، وأعجبته وأثنى على أسلوبها وبنائها وعلى الرّؤيّة فيها وغير ذلك. كان غنايم يتحدّث وأنا أبتسم ونبيه يحدّق فيه، فلمّا انتهى من تقريظه للقصّة قلت: أشكرك يا أبا الطّيّب ولكن ما رأيك أن تقنع صاحبك أبا فريد بما قلته؟
رافقت أبا فريد إلى الأردن وإلى مصر وإلى تونس وإلى مدن وبلدات عديدة في بلادنا، وكان نعم الرّفيق المثقّف المحاضر الذي يترك أثرًا طيّبا حيثما حلّ. هذا الصّديق الكاتب النّاقد يحمل اسمًا مطابقا له. اسم على مسمّى. هو ناقد نبيه وصديق فريد وهو القاسم الذي يقول كلمة الحقّ لا يخشى لومة لائم، حتّى أنّه لا يخشى لوم سيّدة البيت الكاتبة اعتدال التّي أخذت تنافسه في الكتابة مؤخرّا. أعان الله أبا فريد على ما ينشر من كتب نثريّة وشعريّة فيها مجازر لغويّة ،ويحسب أصاحبها أنّهم بذّوا السّياب الذي لم يقرؤوه أصلا، وتفوّقوا على إدريس ومحفوظ اللذين لم يقرؤوا لهما، سوى ما ورد في كتاب النّصوص المدرسيّة، ويعاتبوه لأنّه لم يكتب عن نتاجهم. وأخيرًا أتمنّى أن يواصل نبيه مشواره ومسيرته النّقديّة، حاملا قلمه وغرباله وشجاعته متسلّحا بالمعرفة وبالأخلاق العاليّة.       
مداخلة الأديب فتحي فوراني: أبدًا على هذا الطريق! تكونُ البداية في أواسطِ القرن الماضي. كانَ اللقاءُ الأوّلُ في مدينةِ البشارة الناصرة، وفي إحدى المناسباتِ الثقافيّةِ والسياسيّةِ التقيتُ صديقي نبيه القاسم، ومنذ اللقاءِ الأوّلِ عملت الكيمياءُ الفكريّة عملَها، وتَطابَقَ المُثلثانِ تطابقًا كادَ أن يكونَ تامًّا وكاملًا. تعاهدْنا على الولاءِ للسيرِ في طريق واحدٍ؛ أدبًا وفكرًا ونقدًا ونشاطاتٍ سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة. لقد بدأنا فكُنّا وما زلنا رفاقَ دربٍ، وبيننا عيشٌ وملحٌ فكريّ، نحنُ رفاقُ الخندقِ الواحدِ، لنا رؤيا واحدة، ونحملُ رسالة واحدة، وسنظلُّ أبدًا على هذا الطريق، ولن نُبدّلَ تبديلا.
مِن صرح على جبل حيْدر، لستُ أدري مِن أين أبدأ، ومِن أينَ أدخلُ في الصرح النقديِّ مُتعدّدِ الأبراج ودوائر الأرصادِ النقديّة. لقد وقفَ نبيه على أسوارِ صرْحِهِ ليُشرفَ على آفاق واسعة. وقفَ ليرصدَ أحوالَ الطقسِ الأدبيِّ في هذا الوطن الجارح، وراحَ يَحتضنُ الكلماتِ الأدبيّة الوافدة مِن غزّة هاشم وأختها رام الله، وصولًا إلى الأقصى المُباركِ وكنيسةِ المهدِ المُقدّسةِ في زهرةِ المدائن. زهرة المدائن عاصمة العواصم، وعاصمة الإباءِ والكبرياء، والعاصمة التي باركنا حولها. لقد بسَط الرجُلُ نفوذهُ النقديَّ على مساحاتٍ واسعةٍ مِن دنيا النقد والقصةِ والأبحاثِ والدراسات. كتبَ عن الإبداع الأدبيِّ والشعريِّ في هذا الوطن، وتدفقتْ مقالاتُهُ لتصبحَ عابرةً للحدود، وراحتْ تُغطي الرموزَ الثقافيّة في العديدِ من العواصم العربيّة.
مِن "بنات الرياض" إلى "شواطئ الترحال" في إبداعه المميّز، يبدأ رحلتَهُ النقديّة بالدخول إلى أدب المرأة، فتكونُ له لقاءاتٌ أدبيّة مع طبيبة الأسنان رجاء الصانع، تُعرّفُهُ على بناتِها "بنات الرياض"، وتكونُ جلسة أنس لها مذاقٌ مميّز، ثمّ يأخذ الطائرة ويطير إلى بلاد الأرز، فيلتقي صديقتها المبدعة حنان الشيخ، وتأبى حنان إلّا أنْ تنصبَ ديوانًا، فتحكي له "حكاية شرحها يطول"، وتكشفُ له الكثيرَ من الأسرار، والكثير من المفاجآت! مِن الثنائيّ رجاء وحنان يُواصلُ رحلتَهُ النقدية، تهبط الطائرة في دمشق الفيحاء؛ دمشق الإباء والكبرياء، فيحلّ ضيفًا عند طبيبة العيون هيفاء البيطار. يجلسان في مقهى ثقافيّ، يرتاحُ على قمّةِ قاسيون، تاج دمشق، وتميط هيفاء اللثام عن وجهها، فيكتشفُ فيها "امرأة من طابقين"، ويشاركُها أفراحًا صغيرة، بعيدًا بعيدًا عن "الجزيرة. ترافقه هيفاء الدمشقيّة إلى مطار دمشق الدولي، وتكون لحظة الوداع، فتسقط دمعتان، ويتعهّدُ المبدعان على لقاءٍ آخرَ بعدَ رحيل الغيوم "المارقة"! وفي خاتمةِ رحلتِهِ في دنيا المبدعاتِ يُلقي عصا الترحال على "شواطئ الترحال"، ويكونُ لقاؤهُ مع "بنت البلد" المبدعة راوية بربارة، فترفع الصواري وتنصب الأشرعة، فيبحران معًا وتكون سياحة ثقافيّة في جزر المرجان.
دردشات على "شرفة الهذيان" وشرفات أخرى من دولة المبدعات، ينتقلُ نبيه إلى دولة المبدعين، فيجلسُ مع إبراهيم نصر الله على "شرفة الهذيان"، يُدردشُ الرجلان معًا على كأس من عصير البرتقال القادم من بيّارات يافا، ثمّ ينتقلان إلى حنا أبو حنا، ويطيب الحديث مع أبي الأمين يكون نُقله "فستقًا أدبيًّا" تحت "ظل الغيمة"، ويشق طريقه إلى أيام الطفولة البعيدة والزمن الجميل. وفي نهاية المطاف ينصب نبيه خيمته النقديّة في رامة الجليل، ويكون شوقي قسيس ابن الرامة في انتظاره. ويكون الحديث عن حيفا التي تعتز بشموخ كرملها وزرقة بحرها، ويصدر عن اللقاء البيان النهائيّ متوّجًا بالعنوان: حيفا ليست قرطبة. وبعد ساعة من القيلولة تحت زيتونة راموية، ينهض سندباد ويتابع إبحاره النقديّ، فينزل في شواطئ عالمية، في البرازيل وكولومبيا والسعوديّة، ويلتقي الثلاثي عبد الرحمن منيف و"مدن الملح" وباولو كويلو، وصديقته "فرونيكا التي قرّرت أن تموت" وجبرئيل ماركيز و"غانياته الحزينات". ثم ينتقلُ إلى سبنسر جونسون وفئرانه الأربعة، ويخترق الحدودَ إلى "محميّة" سامي ميخائيل في روايته (حَسوت). وهي رواية جميلة تدافع عن بقائها، وتقفُ صامدة أمام الاعتداء العدوانيّ الذي تشنه فئران آخر زمان!
 أتاكَ الربيع الطلق يختالُ ضاحكًا من النثر، ينتقل نبيه إلى دنيا الشعر، ويكون اللقاء مع الشاعر الذي أطلعه تراب البروة محمود درويش، فمحمود يحبّ الوطن الذي سيحبّ ويحبّ النساء اللواتي يحبّ. ولا ينسى سندباد أن يدخل إلى بحيرة الشاعر إبراهيم نصرالله الذي يعرف كيف يعيد للشعر شبابه، فيأتينا ربيع الشعر أميرًا يمتطي حصانه الأخضر الجميل، فيستقبله البحتري منشدًا: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا من الحسن حتى كاد أن يتكلما، فليت ربيعًا حقيقيًا يفاجئنا، فيطيح بليل الجاهليّة الحديثة وتنابل العواصم،ويطلع الفجر الطالع حتمًا!
 هي تشرب من فنجانها، وهو يشرب الشعر من أجفانها، أمّا مسك الختام فيكون اللقاء في لندن في قاعة نادي الكوفة، مع الشاعرة السعودية هيلدا إسماعيل التي سحرته بعباءتها البدويّة ووجهها الحنطي الجميل. كانت تندف شعرًا، وتملأ المكان صخبًا وحيوية وسحرًا، يجلسان إلى طاولة، ويدعوها لشرب فنجان قهوة، هي تشرب من فنجانها، وهو يشرب الشعر من أجفانها، فيصيبه ما أصاب أبا نواس في خمريّته المشهورة: ما زلت أستلّ روح الدنّ في لُطُف/ وأستقي دمه من جوف مجروح/ حتى انثنيتُ ولي روحان في جسدي/ والدنّ منطرحٌ جسمًا بلا روح.
في حقيبةِ نبيه القاسم الفكريّةِ هُويّة "الناقد الملتزم"، بعدَ هذا المشوارِ البانوراميّ الذي يَزخرُ بالإبداع المميّز، ولا بدّ مِن الإشارةِ إلى أنّه غيضٌ مِن فيضِ البحارِ القاسميّة، التي تُرصّعُها خمسٌ وثلاثون جزيرة إبداعيّة، تحتضنُ حدائقَ أدبيّة ونقديّة واجتماعيّة وثقافيّة، ونظرة شاملة إلى إبداعاتِ نبيه تبيّنُ لنا أنّ حصّة الأسدِ فيها للنقد الأدبيّ، فالنقدُ يَقفُ في طليعةِ الجبهةِ الإبداعيّةِ، وإلى جانبهِ تصطفُّ القصّة القصيرة والدراساتُ والأبحاثُ التاريخيّة والأدبيّة، وفي جميع هذه العناوين نخلص إلى ما يلي:
1* إنّ نبيه القاسم صاحب مشروع نقديّ متكامل، يحمل الهمّ الإبداعيّ لمعظم النصوص الأدبيّة والشعريّة التي تشكّل المشهد الثقافيّ، وتعتبر إبداعاته مراجع لدراسة الحركة الأدبيّة في هذا الوطن وخارج الوطن.   2* لقد نجح نبيه أن يكون ناقدًا موضوعيًّا متزنًا، نأى بنفسه عن المجاملاتِ النقديّة التي اتّسمت بها بعض التيّارات في الحركة النقديّة الشعبويّة، فلم يكيّل بصاعات اللحى الممشّطة، وعرف كيف يقتحمُ ساحات الوغى الإشكاليّة، وكيف يشاكس المثقف الإشكاليّ إميل حبيبي.
3* إنّ نبيه القاسم وصحبة من النقاد الجادّين في هذا الوطن يُشكّلون كتيبة طليعيّة تحمل رسالة. فقد احتضنت هذه الكتيبة الفيضَ الإبداعيَّ الذي يطغى على المشهد الثقافيّ، وعرفت واجبَها، وأدركتْ أهمّيّة المسؤوليّة الملقاة على عاتقها: أن تأخذ دوْرها في حمل البوصلة، وتوجيه السفينة التي تمخر عباب البحار الهائجة، وتأخذ بيدها ملّاحيها إلى شواطئ الأمان.
4* لن أتورط في ذكر أسماء "المجاهدين" أفراد الكتيبة النقديّة، المُكوّنة من زملائنا الذين نحترمهم ونُقدّر عطاءهم، فأنا أخشى أن أقع في مطبّ السهو والنسيان، وأخشى ما أخشاه إن نسيت أحدًا سهوًا وبدون قصد، أن تكون علقتي سوداء، فيكون مصيري التعليق على صنوبر بيروت.
5* نحن في مواجهة مع الحساسيات والعُقد التي يبرع فيها بعض عباد الله من حملة الأقلام. فتكثر الشكوك ويكثر اللغط، ويكثر الغمز واللمز، وتكثر علامات التعجب والتساؤلات، لماذا لم يذكر اسمي؟ ولماذا وضع اسم "فلان" قبل اسمي؟ أما كان أولى أن يكون اسمي أولا؟ ولماذا اسمه بالفونط الكبير واسمي بالفونط الصغير؟ وتُبنى المواقف، وهات دبّرها يا مستر دلّ!
الكلمة كالرصاصة، إذا انطلقتْ لا ترجعُ، ويجبُ أن تُصيبَ هدفًا. في كتابِهِ "الأدبُ المُلتزمُ" يُشيرُ المُفكّرُ جان بول سارتر إلى الدّوْرِ الخطيرِ للكلمة، فيقولُ "للكلمة دوْرٌ ورسالة، فالكلمة كالرصاصة، إذا انطلقتْ فهي أوّلا لا ترجعُ، وثانيًا إذا انطلقتْ يجبُ أن تُصيبَ هدفًا. وإلّا فلمَن نكتبُ؟ ونبيه يحملُ في حقيبتِهِ الفكريّةِ هُويّة "الناقد المُلتزم"، وهذه شهادة الشرف التي يحملها الكُتّابُ اليساريّونَ، الذين يَحملونَ الرسالة مِن أجل الحياةِ الأشرف والأروع، مِن أجل عالم يَسودُهُ العدلُ والحرّيّة والكرامة، ونبيه في أدبهِ ونقدِهِ ودراساتِهِ واحدٌ مِن هؤلاء. عزيزنا أبا فريد، أعطيت الصحة والعافية والعمر المديد، لتُتحفَنا بخمس وثلاثين جزيرة إبداعيّة أخرى، دمتَ لنا ودامتْ فتوحاتُكَ الإبداعيّة!
مداخلة الأديبة راوية بربارة:  مساؤكم كطعم الشبرق الذي يزهّر الآن على سفوح الكرمل، كعطر النقد الفائح البائح بجرأته، وإزهارِ الدراساتِ المتّكئةِ على المهنيّة والأكاديميّة، ولماذا في آذار نحتفي في "الإبداع المميَّز"؟ لأنّ الإبداعَ كآذار "الهدّار أبو الزلازل والأمطار"؛ مهما هدر لا بدّ أن يحملَ طيَّ أمطارِهِ ربيعًا؛ وما الإبداعُ إنْ لم يكن زلزلةً لمفاهيمَ وثوابتَ خفنا أن نهزّ عرشَها، أو تغاضيْنا عن رؤيتِها، أو صممْنا آذانَنا عن سماعِ بروقِها، حتّى أتى المبدعُ الحقُّ ليفضحَ واقعَنا، ويهدمَ مثاليّاتِنا، ويعرّي مجتمعَنا من ورقةِ التوتِ.. لتبدأَ خطيئةُ الكتابةِ، والكتابةُ عن الكتابةِ، ونقدُ الإبداع، وهذا كلّه آذاريٌّ بامتياز، لأنّه بقدْرِ هدرِهِ يصحبُ بعدَهُ الربيعَ، ربيعَ الكلمةِ الحرّة الّتي تغسل حروفَها بعصا الراعي وبشقائق النقدِ وبنباهةِ "نبيه".
ولماذا في آذار نحتفي في "الإبداع المميَّز"؟ لأنّه شهر الإبداع والخلق، ألا يكفيه إبداعًا أنّه شهر المرأة والأمّ، والأنثى التي أبدعها الخالق تشبه فصولَ السنة كلَّها وتُزهر ربيعًا لمجتمعِها؟ والمحتفى به، د. نبيه القاسم،  ربيعيٌّ بامتياز، فحبرُ المرأةِ المبدعةِ زرعُهُ وقطافُهُ، وقد أينعتِ الإبداعاتُ وأتى أُكُلُها، وها نحن نقطفها نقدًا حرًّا ودراساتٍ أكاديميّة في مجموعة مقالات  جُمعَت في كتابٍ عُنوِنَ "في الإبداع المميَّز- دراساتٌ في الرواية والشّعر".
 ولماذا اختارَ نبيه القاسم الشّعر والرواية دون كلّ الفنون الأخرى؟ لأنّه، وفي رأيي، بعد أن كان الشّعرُ ديوانَ العرب؛ يجمعُ تراثَهم ويحكي لنا عن عاداتِهم وتقاليدِهم، ويؤرّخُ أيّامَهم وحروباتِهم، ويصمّمُ ملابسَهم ومأكلَهم ومشربَهم، ها هي الرواية تحثّ الخطى لتزاحم الشّعرَ النابضَ بالقافية والصورِ الشّعريّةِ والموسيقى، وتجلسَ هي في صدر الديوان، وتصبحَ الروايةُ ديوانَ العرب الجديد الذي يقصّ آلامَهم، وحياتَهم اليوميّة، ومعاناتَهم الاجتماعيّة والسياسيّة، لذلك اختار د. نبيه الديوانيْن: الروايةَ والشّعر معًا، ولكن ليس على حدٍّ سَواء، إذ أخذتِ الروايةُ حصّةَ الأسدِ في مقالاته، لأنّها باتت الناطقَ الرسميَّ باسمِ مجتمعاتِنا، تصوّر لنا واقعنا دون زخرفةٍ ولا مساحيقَ تجميلٍ، وتتوسّع قدرَ ما شاءَت، وتضيق وتكثّف أينما رغبتْ، دون قيدٍ لوزنٍ أو قافيةٍ أو صورةٍ مبتكرةٍ، على ما فيها من حداثةٍ سآتي عليها في حديثي.
  وفي هذه الورقة المتعجّلة، المقدَّمَةِ إليكم في ندوةٍ أدبيّةٍ، سأتحدّث عن ثلاثة محاور تطرّق إليها في الرواية، ومحورَ الشّعرِ، بما يليق بالحضور المميَّز، وبالكاتب الناقد، على أن أوسّعها إلى مقالةٍ أكاديميّةٍ، كما يستحقّ د. نبيه أن تكون.
 قبل البدء بالمحاور، لا بدّ من كلمةِ حقٍّ في حقِّ نبيه الإنسان، الذي كان من أوّل من شجّعني على متابعة مسيرتي الكتابيّة، وقد كنتُ غضّةَ الحبرِ، فأتاني هاتفه على عجلٍ ليقول لي: "راوية تابعي، فأنت قلمٌ واعد وكتاباتك مميّزة"، وهل يسعني إلّا أن أشكرَكَ وأذكرَكَ في كلِّ مرّةٍ على موقفك الداعم، تلك المرّة، وكلّ مرّةٍ أصدرتُ فيها نصًّا، وشهادتُكَ بالنسبة لي مهمّة لأنّك واسعُ الاطّلاعِ، ونتاجُكَ المنشور يشهد لك بذلك، وأظنّك من أكثر النقّاد قراءةً وعطاءً وبذلًا، فمن يقرأ ما كتبتَهُ وهو كثيرٌ يعرف أنّه لا أحدَ يستطيع أن يعيّرَنا بأنّا قليلٌ كثيرُنا، لأنّ الكرامَ قليلُ؛ فحينَ قرأتُ كلّ نتاجِكَ استزدتُ معرفةً، ونهلتُ من بحرِ كتاباتك ودراساتك ونقدِكَ فوجدتُكَ تعطي الكتابَ حقَّهُ وتتناولُهُ بعينِ الناقد الباحثِ عن جديد كلِّ إصدارٍ؛ ففي المحور الأوّلِ، محورِ روايات أدب المرأة عرّفْتَنا به كجانرٍ أدبيّ، ثمّ أوردتَ نماذجَ لكاتباتٍ عديداتٍ عربيّاتٍ مختلفاتِ الجنسيّةِ لتشرّعَ للروايةِ النسويّةِ التي تعيش ككاتبتِها في المجتمع البطريركيّ، أنْ تشرحَ نسويّتَها وما ترضخُ له من انكساراتٍ وانثناءاتٍ وتنازلاتٍ وتمرّدٍ يعطي تلك الرواياتِ نكهتَها الخاصّة، وميزاتِها الخاصّة، ولغتَها الخاصّة، لأنّها كتاباتٌ وُلِدَت من رحمِ المأساة، ونالت هجومًا ذكوريًّا لم يعتد جرأتَها، كما حدث مع ليلى بعلبكي، وأحلام مستغانمي ورجاء الصانع وغيرِهِنّ ممّن أثرن حفيظةَ الرجلِ الذي يشبه أهلَ القريةِ التي كفرتْ بأنعُمِ الله، فأذاقها اللهُ طعمَ الأدبِ النسويّ، الذي نشرَ المرار على الملأ، إلّا مَن مثلُكَ، أستاذي نبيه، لم يزعزعِ المرارُ النسويّ رجولةَ نقدِهِ، بل حافظَ على رباطةِ جأشِهِ، ونظرَ للأمورِ بعينٍ متقبّلةٍ للجديد، تعرفُ كيفَ تَقرأ حركةَ الحداثةِ التي لا تسير على قضبان مرسومةٍ، ولا تسيرُ باتّجاه عقاربِ السّاعةِ. وهكذا كانت قراءتُكَ متأنّيةً لا توزّع الأحكامَ جزافًا، بل تبحث عن الجديد الحداثيّ شكلًا ومضمونًا لتوصلَه إلى المهتمّين، بشكلٍ عرْضيٍّ لا استعراضيّ، ساعدَكَ على إيجاد القاسم المشترك لكلّ بطلات الروايات النسويّة ألا وهو الكبوةُ بعد التمرّدِ بضمنيّة اعترافِكَ بالمثل المشهور "يا مؤمّن الرجال يا مؤّمّن المي بالغربال".
  أمّا المحور الثاني فهو أدب السيرةِ الذاتيّة في "ظلّ الغيمة" و "حيفا التي لن تكون كقرطبة"، وقد نبّهتنا إلى الفروقاتِ في تناول السيرةِ الذاتيّة من حقبٍ عمريّةٍ مختلفةٍ، ما بين الطفولةِ كحنّا أبو حنّا، وما قبل الولادةِ كفدوى طوقان، وفترة الشباب وما تلاها، ويطرح لنا الدراسات التي تناولت هذا الفنّ، عارضًا الآراء المختلفة، فلا نقرأ عن الكتاب موضوعِ البحث والدراسةِ فحسب، إنّما نتوسّع لنعرف النظريّات الأساسيّة التي تساعدنا على فهم وجهات النظر المختلفة في الجانر الأدبيّ الواحد.
  والمحور الثالث هو محور الروايات المترجَمةِ، وقد اتّخذ كويلو وماركيز نماذج لقراءاته المترجمةِ فأبهرَنا بحُسْنِ قراءتِه للسطور ولِما وراء السطور، ونبّهنا لجماليّات هذه النصوص ، ولم ينسَ أن يقرأ لنا نصًّا مترجَمًا من العبريّة لسامي ميخائيل ليسلّطَ الضوءَ على سلبيّة النظرة للعربيّ على امتداد الرواية، تاركًا لنا مجالًا للتفكير في كيفيّة إمكانيّة نقل الصورة الحقيقيّة عن الإنسان العربيّ للقارئ اليهوديّ، وهذه النصوص التي لا تتركك إلّا والأفكار تزاحمكَ هي نصوص أدّت مهمّتها كما يجب، لتتوالدَ منها أضواءٌ وأنوارُ.
 أمّا في محور الشّعر فقد اختار لنا حقًّا ثلاث دراساتٍ مميّزة، أولاها حوار الذات في قصائد محمود درويش، فانتحى بذلك منحى المضمون تاركًا جماليّات الشعر للكثيرين ممّن تناولوا شعر محمود، وهذه إضافةٌ، أشار لها د. نبيه، ليقولَ لكلّ كاتبٍ ولكلِّ ناقدٍ، إذا لم تكن لديك قيمة مضافة تقدّمها لنا فاتركنا وشأنّنا، لأنّنا قرّاءٌ يميّزون بين الغثّ والسمين، ولأنّ النقد الجادَّ كنقدِكَ، يجب أن يبحث عن ضالّتهِ. ثمّ اختيارك لإبراهيم نصر الله ومقارنتك بين لغة القصّ والقصيدة والرواية عنده، وتعريفك الأكاديميّ للقصيدة الومضة، والقصيدة المقطعيّة، إنّما يدلّ هذا على سعة اطّلاعِكَ واعتبارِكَ النقدَ مساقًا آخر من مساقاتك التعليميّة، يتعلّم فيه متابعوكَ عن بُعدٍ، لا المادّة الأدبيّة والنقديّة فحسب، إنّما علاقتك المحترمة بالنصّ الذي اخترتَ أن توصلَه لنا. ولتغلقَ دائرةَ التعاطي النقديّ، عدتَ إلى هيلدا إسماعيل التي تندف شِعرًا أنثويًّا نسْويًّا، لترينا كيف ترجمت المرأة مشاعرها اتّجاه الرجل في مجتمعنا الشرقيّ، بصرخاتٍ شعريّةٍ اعتبرتها الشاعرة أيقوناتٍ. وأبيتَ أن تتركنا دون أن تأخذنا في رحلةٍ مع أدب الأطفال المترجم، في القصّة الشهيرة "من حرّك جِبنتي؟"، أو من سرق الجبنة؟ وأنتَ لا تدري كيف سرقتَنا من واقِعنا اللاهث لتقولَ لنا: الأدبُ منفدٌ سحريٌّ للخلاص. الأدبُ فعلُ تحرّرٍ وتمرّد. الكتابةُ فعلُ انتصارٍ على الذاتِ المقهورةِ.
أنتَ أكّدْتَ لنا أنّ المميّز في الإبداع هو هذا النقد المنوَّعُ الذي يترك فرقًأ بين إنسانٍ قارئ وإنسانٍ غيرِ قارئ، فإذا تساءَل أحدٌ كيف تسنّى لنبيه أن يُنتج هذا الكمّ الهائل من النقد الأكاديميّ، أقول له إنّ نهج الحياةِ الذي انتهجْتَهُ لم يسمحَ لك بالركون والركود فبتَ تجوب العالم وتعيش حيواتٍ ماضية وحاضرة، ومن يقرأْكَ يجُبْ شطآن الأدبِ في يختِ المتعةِ. دمتَ بحرًا زاخرًا تُغرقنا بدراساتكَ وقراءاتكَ وتغني مجتمعَنا، وتذيقنا طعم الزعتر والنعنع والشبرق الربيعيّ.
مداخلة د. عصام عساقلة: د. نبيه القاسم، في الإبداع المميَّز: دراسات في الرّواية والشّعر: بداية، نهنّئ ونبارك أستاذنا وزميلنا النّاقد د. نبيه القاسم على إصدار هذا الكتاب النّقديّ القيّم، ونأمُل أن يكون حلقة في سلسة كتب قيّمة ومفيدة أصدرها، وما زال يُصدرها النّاقد في مجال اللّغة العربيّة وآدابها. الكتاب يحوي دراسة حول ملامح أدب المرأة، وستّ عشرة دراسة حول روايات، سير ذاتيّة، ودواوين شعريّة مختلفة: منها عربيّة ومنها أجنبيّة مترجمة.
قراءة الكتاب بتعمّق وتأنٍّ تكشف عن وجود سمات وخصائص للكتاب والنّاقد، وسوف أشير في هذه المداخلة لثلاث سمات منها، متطرّقًا لطريقة النّاقد في معالجة النّصوص:
1. كثرة الأمثلة لدعم رأي النّاقد: عندما يطرح النّاقد فكرة أو رأيًا أو يتوصّل إلى خلاصة ما يدعم ذلك بعدّة أمثلة. على سبيل المثال، خلال دراسته حول ملامح أدب المرأة يشير النّاقد إلى أنّ "حرّيّة المرأة" هي من المواضيع الّتي تطرّقت لها المرأة العربيّة في كتاباتها.
لدعم رأيه يأتينا بالأمثلة التّالية:
-* تقول بطلة رواية "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي: أريد أن أستفيد من كلّ لحظة حرّيّة،
-* لينا فيّاض بطلة رواية "أنا أحيا" لليلى بعلبكيّ تخرج من بيتها مصرّة على امتلاك حرّيّتها،
-* وبطلة رواية "بيروت 75" لغادة السّمّان، تركت بلدتها في سوريا في طريقها إلى بيروت لتمارس حرّيّتها.
-* ومثلها كانت زهرة بطلة رواية حنان الشّيخ، عرفت كيف تعيش حياتها الخاصّة بعيدًا عن عيون الأهل.
-* والجسد كان وسيلة نازك بطلة رواية "امرأة من طابقين" لهيفاء بيطار، جسدها الّذي تمرّد على كلّ مفاهيم الأهل والنّاس والدّين.
-* ولم تختلف بطلات رواية "بنات الرياض" لرجاء الصّانع في انشغالهنّ بأجسادهنّ.
-* وتتحدّث بطلة رواية "صمت الفراشات" عن جسدها.
-* وكانت بطلة رواية "مرايا الروح" لبهيجة حسين جريئة في كشف مخابئ جسدها.
-* وتعلن بطلة رواية "برهان العسل" لسلوى النعيمي بكلّ جرأة: أنا أستحضر الأجساد.
-* نلاحظ كيف أكثر النّاقد من الأمثلة مع استعمال واو العطف بهدف ربط كلّ الأمثلة معًا خدمة لرأي النّاقد.
-* إيجابيّة الأمثلة: توضّح الصّورة، تدعم الفكرة ورأي النّاقد، وتكشف عن اطّلاع النّاقد على عدّة أعمال.
-* كنت أقترح أن يتطرّق النّاقد لدوافع وأسباب وظروف كلّ بطلة في الرّوايات المعالجة، نظرًا للاختلاف بينها. كلّ بطلة كانت تفتّش عن حرّيّتها انطلاقًا من دوافع وأسباب مختلفة، مع أنّ جميعهنّ يتّفقن في دافع واحد، ألا وهو محاربة المجتمع الشّرقيّ الذّكوريّ.
ب. ثانيًا، من نفس الدّراسة، ملمح آخر يشير إليه النّاقد هو: موقف المرأة النّاقد للرّجل: يقول النّاقد: تتّفق معظم الشّخصيّات الرّئيسيّة في موقفها النّاقد للرّجل.
لدعم رأيه يأتينا بالأمثلة التّالية:
-* نشوة بطلة رواية رجاء بكريّة تتساءل: لم أفهم تمامًا لماذا يستهوي الرّجال الجري خلف الأحذية؟
-* أمّا نازك بطلة هيفاء بيطار فتقول: معظم الرّجال هاجسهم الأوّل حالما يتعرّفون بامرأة متحرّرة، هو مضاجعتها.
-* وتفضح بطلة رواية "فوضى الحواس" لأحلام مستغانمي الرجلَ المعتدّ برجولته.
كثرة الأمثلة والشّواهد تدعم وتؤيّد رأي النّاقد.
2. عرض/ مسح مختصر وموجز للأعمال المعالَجة (إضاءات حول الرّواية):
سمة ثانية للنّاقد، خلال معالجته الأعمال الأدبيّة، هو تقديم مختصر للعمل الأدبيّ قبل البدء بالتّحليل والنّقد. النّاقد يعرض أمام القارئ، باختصار، أهمّ أحداث العمل، أفكاره المركزيّة، الشّخصيّات والرّاوي. 
- مثال أ، رواية "بنات الرّياض" لرجاء الصّانع: يقوم النّاقد بعرض أحداث الرّواية مع التّطرّق لموضوعها الرّئيس ألا وهو القيود الّتي تكبّل الفتاة السّعوديّة وتمنعها من ممارسة حياتها الطّبيعيّة بحرّيّة. كما وتطرّق النّاقد إلى لغة الرّواية وأسلوب كتابتها.
- ما قام به النّاقد هو تعريفنا بالرّواية مع بعض الإضاءات على أحداثها بدون أن يبدي رأيه فيها بشكل موجز إلّا في ثلاثة مواضع: لغة الرّواية، علاقة السّنة بالشّيعة، والتّركيز على القضايا العاطفيّة.
- حسب رأيي كان من المفضّل لو تعمّق النّاقد في تحليله ومعالجته للرّواية، وكان أفضل لو دعم النّاقد آراءه بالرّواية بآراء نقّاد ودارسين آخرين، أو اعتمد على مذاهب ومدارس نقديّة أخرى.
- مثال ب، السيرة الذّاتيّة "حكايتي شرح يطول" لحنان الشّيخ: يقوم النّاقد بعرض أحداث السّيرة الذّاتيّة لكاملة والدة حنان، وهي، عمليًّا، تأريخ للأحداث الّتي عاشها لبنان منذ سنوات العشرينيّات حتّى السّبعينيّات من القرن العشرين.
- يعرض النّاقد أمامنا قصّة كاملة كما روتها لحنان: كاملة تثور في وجه القهر والخضوع والإذلال، تحب رجلًا غير زوجها، تطلب الطلاق، وتحتمل الضرب والإهانة والتّنكيل لتتزوّج بحبيبها، كاملة لا تطيق أعمال المنزل، تعشق السينما والأكل والثّرثرة والزّينة واللّهو والضّحك والتّدخين.
- أعتقد أنّ النّاقد كان موفّقًا في معالجة هذه السّيرة نظرًا لتحليله العميق للسّيرة عن طريق معالجتها من عدّة زوايا، إضافة إلى اعتماده على آراء نقّاد كبار، منهم: جيرار جينيت، فيليب لوجون، جورج ماي ويمنى العيد.
- النّاقد، أيضًا، أظهر نجاح الكاتبة في كتابة سيرة ذاتيّة تحقّق شرطين: وهما: الأوّل: التّطابق بين المؤلّف والسّارد والشّخصيّة، والثّاني: توفّر الأزمنة الأربعة.
- نظرًا لأهمّيّة السّيرة ومكانتها، كنت أفضّل لو توسّع النّاقد أكثر في التّحليل والمعالجة.
3. التّحلّي بسمات وخصائص الباحث العلميّ الجيّد:
نجد النّاقد في دراسات أخرى الشّخصَ الّذي توافرت فيه كلّ مقوّمات وكفاءات النّاقد العلميّ الجيّد، ذي الخبرة والدّراية الكافية، والثّقافة العالية.
مثال أ. دراسته حول رواية هيفاء بيطار "أفراح صغيرة أفراح أخيرة" ودراسته حول السّيرة الذّاتيّة "ظلّ الغيمة" لحنّا أبو حنّا
في هذه الدّراسات نجد النّاقد يتحلّى بالكفاءات التّالية:
أ. التّجرّد من الآراء الّتي لم يقم عليها دليل: يعطي الباحث رأيه في الرّواية ويعطينا دلائل واضحة قاطعة من الرّواية.
مثلًا: خلال دراسته حول رواية هيفاء بيطار "أفراح صغيرة أفراح أخيرة" يرى الناقد أنّ الأدب النّسويّ يعالج عدّة قضايا، منها: ثورة المرأة على عادات وتقاليد المجتمع.
يعطينا النّاقد عدّة دلائل قاطعة من مواضع مختلفة داخل الرّواية، منها:
- وثارت هيام على عادات الناس وتقاليدهم، ص 136.
- وسخرت هيام من كلّ المفاهيم الّتي اتّفق عليها النّاس، ص 188.
- وتشعر بالاختناق والموت وهي تشكو ثقل التّقاليد عليها، ص 189.

ب. الموضوعية: يتّسم الناقد في بحثه بالموضوعيّة ونراه متجردًا من آرائه الخاصة وليس متحيّزًا لآراء سابقة. كان هدف النّاقد من البحث هو التّوصّل إلى الحقيقة كما هي، مؤكّدة بالأدلة والشواهد، بعيدة عن المؤثّرات الشّخصيّة والخارجيّة.
مثلًا، دراسته حول رواية هيفاء بيطار "أفراح صغيرة أفراح أخيرة" يبدي النّاقد رأيه في صورة الطّالب الشّرقّي الّذي سافر لأوروبا طلبًا للعلم كما صوّرته روايات الرّوّاد: يَحيى حقي، توفيق الحكيم، سهيل إدريس والطّيب صالح. النّاقد هنا يسوق رأيه بشكل موضوعيّ بعد دراسة ومعالجة هذا الرّوايات، ويصل لخلاصة مفادها: أوّل ما يَبْهَر الطّالب في أوروبّا هو المرأة المتحرّرة، وسرعان ما يقع في حبّ أوّل فتاة تبتسم له.
ت. التّأنّي والابتعاد عن التّسرّع: لا يتسرع النّاقد في إصدار أحكامه. يعمل ويبحث في تأنٍّ وبطء وبُعد نظر، ومن ثمّ يصدر أحكامه.
مثلًا، بعد تحليل ومعالجة رواية هيفاء بيطار "أفراح صغيرة أفراح أخيرة" يصل النّاقد بالتّدرّج وبتأنٍّ وإعمال الفكر إلى عدّة نتائج، منها: يُؤخذ على الكاتبة تكرار المشاهد، وصف المشهد يتكرّر ويعود على نفسه، ولا يفاجئنا بأيّ حدث جديد، حتّى الكلام يكون نفسَه في بعضٍ منه، والمواضيع الذّاتيّة نفسها، فلا خيال، ولا تجديد، ولا إبهار.
ث. الأمانة والدّقة: يلاحظ النّاقد الظواهر ويصفها بدقّة، يلاحظ ويقيس ويسجّل نتائجه بشكل واضح.
مثلًا: خلال حديثه عن دقّة المصطلح "السّيرة الذّاتية"، يحاول النّاقد الإحاطة بالمصطلح من كلّ جوانبه مبديًا رأيه الموضوعيّ ومعتمدًا على آراء باحثين كبار في هذا المجال أمثال جورج ماي، عبد الله إبراهيم وفيليب لوجون.
ج. التّنظيم: لدى النّاقد القدرة على تنظيم المعلومات التي يريد نقلها إلى القارئ، تنظيمًا منطقيًّا له معناه ومدلولُه، مرتِّبًا أفكارَه ونتائجَه في أسلوب علميّ رصين.
مثلًا، دراسته حول السّيرة الذّاتيّة "ظلّ الغيمة" لحنّا أبو حنّا نجد النّاقد يرتّب دراسته كالتّالي:
-* مدخل أوّليّ. -* تعريف المصطلح معتمدًا على آراء نقّاد ودارسين. -*تأثّر كاتب السّيرة بجبرا إبراهيم جبرا ونجيب نصّار. -*جماليّات المبنى والأسلوب واللّغة في "ظلّ الغيمة". -*مستويات السّرد. -*خلاصة.
ح. الشمولية: ينظر النّاقد إلى موضوعه نظرة شموليّة محيطًا بكلّ جوانبه.
خلاصة القول: لا يمكن وضع النّاقد د. نبيه القاسم ضمن مذهب أو تيّار نقديّ واضح، فهو يأخذ من المذاهب والمدارس الأدبيّة الكبرى، مثل المذهب الشّكلانيّ، البنيويّ، مدرسة النّقد الجديد، السّيميوطيقا، الوجوديّة، المذهب الواقعيّ، السُّرياليّ، الحداثة وغيرها، ومن ثمّ ينتهج نهجًا خاصًّا به. هذا المنهج يعتمد على معالجة النّصّ الأدبيّ كما هو، محاولًا بذلك استخلاص أفكاره ورسالة كاتبه. د. نبيه القاسم يحكم على النّصّ بموضوعيّة، يقدّر النّصّ تقديرًا صحيحًا، ويبيّن قيمته ودرجته الأدبيّة.
أخيرًا، نشكركم جميعًا جزيل الشّكر على حسن الإصغاء، ونشكر النّاقد د. نبيه القاسم على جهوده في إخراج هذا العمل للنّور خدمةً لمحبّي اللّغة العربيّة ودارسيها، ونتمنى له المزيدَ من الأعمال في قادم الأيّام.
مداخلة د. نبيه القاسم: الحضور الكرام مع حفظ الألقاب لكلّ عزيزة وعزيز بينكم، فرحتُ جدا بلقائكم في هذه الأمسية الثقافيّة، وأشكركم على تلبيتكم للدعوة وتخَطّي مَشاقِ المسافات ومخاطر الطرقات. وشكري الكبيرُ للقائمين على هذا الصّرح الثقافي الذي يُداومُ أسبوعيّا على رَفْد حركتنا الثقافية بكلّ جديد وبكلّ مبدع، ويحوّل كلّ أمسية إلى عرس ثقافيّ يحرّكُ الذهنَ ويدغدغُ المعرفة ويشدّ الهمّة لمزيدٍ من البحث والإبداع والتّلاقح الثقافي والمعرفي والإنسانيّ.
أنْ نلتقي الليلةَ لنحتفلَ بصدور كتاب يعني أننا نحتفلُ بأجمل ما وهبه الله للإنسان وهو الكلمة، الكلمة التي بها نقدّسُ الربّ ونحتفل بالحياة، ونستخرجُ كلّ مكنوناتِ الإنسان الرّائعة من أفكار ومشاعر ورغبات وآمال. وأنْ نلتقيَ بهؤلاء الأعزّاء الذين سبقوني وأشكرهم على كلماتِهم: الأخ شوقي أبو لطيف رئيس مجلس محلي الرامة، والصديقين محمد علي طه وفتحي فوراني اللذَين تشهد العقودُ الخمسة التي مرّت على مَتانة الصداقةِ والأُلفة والمحبة التي تجمعُنا معًا، وكذلك تشهدُ طرقُ العملِ الثقافيّ والسياسيّ والفكريّ التي خُضناها معا. والصديقة المبدعة الدكتورة راوية بربارة التي استطاعت خلال سنوات قليلة أن تُثبّت وجودها على ساحات الإبداع، وتستفيد من كلّ جديد وكل ملاحظة، وتعمل على تطوير أدواتها وفكرها وأسلوبها، وتصبح قامة مهمّة بين قامات ثقافتنا وأدبنا. والدكتور الصديق عصام عساقلة الذي يقف لأول مرّة ليتحدّث أمام جمهور مميّز، كما أشكر صديقي وعزيزي عضو الكنيست الدكتور باسل غطاس الذي قَدِم خصّيصا من تل أبيب، وأعادني بكلماته الحميميّة لتلك الأيّام النضاليّة البعيدة في سنوات السبعين من القرن الماضي، عندما كان باسل الطالب المجتهد الواعي الثائر، وأنا الأستاذ الجديد الذي يرى في التعليم رسالة لبناء جيل وطنيّ واع وشجاع. كما وأشكر كلّا من الأخ المحامي فؤاد نقارة على الجهد الكبير الذي بذل لنجاح هذه الأمسية، والعزيز الأستاذ يوسف خوري رئيس النادي المليّ الأرثوذكسيّ على كلمته الدافئة الراعية، ولحضوره المميّر وتقديمه الدّرع الذي أعتزّ به. كما وأشكر الصديق الرائع المحامي كميل مويس الذي سهر وتعب واجتهد لإنجاح هذا الحفل، وعلى كلمته الشاملة التي سكب فيها من عطر معرفته ووعيه وشموليّة نظرته الوطنيّة الرائعة.
أيّها الحضورُ الكرامُ، فرَضَ الواقعُ علينا في هذه البلاد أنْ نكونَ كلّنا في جبهةٍ واحدة، لمُواجهةِ كلّ الممارساتِ التي طبّقت ضدّ شعبنا منذ عام النكبة. وكان حمَلة القلم مِن كتّاب وشعراء وفنّانين الكتيبة المتقدّمة في التصدّي لهذه الممارسات والقوانين الجائرة، وقد كُتبَ على الناقد كما على باقي المبدعين، أن لا يَقبلَ بالبُرج العاجيّ والاكتفاء بتطبيق حرفي لمنهجيّة النظريّات النقديّة المختلفة، وإنما رأى في العمليّة النقديّة جبهة نضال أخرى، تعمل على إيقاظ وعي الناس وتنبيههم، ورعاية الإبداعات المختلفة التي تصدر ويقرؤُها الناس. وأقول عن نفسي إنّني رفضت التقيّد بنظريّةٍ نقديّة محدّدةٍ، حيث وجدت في كلّ نظريّة ما يُستفادُ منه وما يُطبّق على النّصّ، ولهذا اخترت منهجًا  شموليّا يأخذ من كلّ منهج ما يراه، لكنّني بقيت مُخلصًا ومفضّلا لمنهج الواقعيّة الاشتراكيّة، وأميلُ للوجوديّة ومنهج التحليل النفسيّ. وحتى لا أنساق في الكلام أقول موضّحًا طريقي النقديّ: تنوّعت المناهجُ النقديّةُ وتبدّلت واختلف أصحابُها، وفاجأ البعضُ بما طرحَهُ مِن فِكر ونظريّات أثارت دهشةَ الغير، وجذبَت الكثيرين من ذوي الإبداع والفكر لاتّباعها كالنّظرية البنيويّة والنّظريّة التّفكيكيّة وغيرهما. وبالغ البعضُ من أصحاب هذه النّظريّات بدَعوتهم إلى الاستغناء عن المؤلّف صاحب النّص، وقالوا إنّ النصّ وحدَه الذي يجبُ أنْ يُشغلَ النّاقدَ ويصُبَّ اهتمامَه في دراسته. وهذه الدّعوةُ استدعتْ فيما بعد الدّعوةَ للاستغناء عن النّاقد لأنّ وسائلَ الاتّصال أغنَتْ عنه بتَمْكينها وصولِ  النصّ لكلّ قارئ وجعلِه ناقدا ومُقَيّما لهذا النصّ. ونشهدُ أخيرا تَراجعا في انتشار وتأثير هذه النظريّات، والعودةَ إلى نظريّات أكثرَ إنسانيّةٍ واجتماعيّة ونَفعيّة مثل "الواقعية الاشتراكية الجديدة" و "الوجوديّة" ساهمت في دفع الوَعْي الفَرديّ والجماعيّ عند الإنسان، وجعلته يقومُ لينهضَ بمجتمعه وشعبه، ويدفعَ به نحو التّقدّم والتطوّرِ وتَرْكِ الاتكاليّة واللامبالاة،  ممّا دفع بالشعوبِ في القرن الماضي، خاصّة في الغرب، إلى حمْل لواء التطوّر والتقدّم والوصول بالعلم إلى مراحلَ لا نهاية لها كما أظن.
والنّقدُ، كما أعتقدُ، خاصّة في وضعنا كشعب له قضاياه التي لم تجد الحلولَ لها خاصّة السياسيّة والاجتماعيّة، حتى يكونَ ذا قيمة، يجبُ أنْ يكونَ الإنسانُ مركزَه وهدفَه، لأنّ دورَ النّقد في حالتنا لا يقتصرُ على تَقييم وتناول جماليّاتِ النصّ الفنيّة ومَزاياها وتجديداته وتفرّده ، وإنما النّقد له دورُ التّوعية والتّثقيفِ والتّثوير وتنبيه النّاس إلى ما يجري وما يجبُ أنْ يقوموا به ليُغيّروا واقعَهم، ويبنوا حياةً أكثر جمالا وأمْنا وراحة. والنّصُّ الذي لا يكونُ الإنسانُ جوهرَه لا قيمة له. ولهذا لا فاصلَ بين المؤلف والنصّ، ولا استقلالَ للنصّ عن صاحبه،  والنظريّات الجامدة اللاإنسانيّة التي تُبعدُ الإنسانَ، بكلّ ما فيه من فكر ومَشاعرَ ودوافع ورغَبات وآمال، عن كامل النصّ الأدبي بادّعائها أنّ لا علاقة  للنّص الأدبي بصاحبه، حتى ذهب البعضُ إلى المناداة بموت المؤلف،  وبعد ذلك القول إنّ لا حاجة للنّاقد بسبب انتشار وسائل الاتصال العصريّة حيث أصبح كلُّ قارئ للنصّ ناقدا له ومُقَيّما. هذه النظريّات مرفوضةٌ لأنّها تهدفُ إلى مَحْو الإنسان الخالق بكلّ ما يتميّزُ به من مشاعرَ وعواطفَ وأحاسيسَ وأفكار وآمال وأحلام.
وأرى أنّه كما لا وجودَ  لكلام بغير إنسان ينطقُ به

107
أمسيةٌ شعريّةٌ وكلمةٌ هي الوطنُ!
آمال عوّاد رضوان
ضمنَ نشاطاتِ مؤسّسةِ "أنصار الضّاد" الثقافيّة، أُقيمت أمسيةٌ شعريّةٌ بعنوان "كلمةٌ هي الوطنُ"، في المركز الجماهيريّ في أمّ الفحم، بتاريخ 27-2-2016، وقد تولّتْ عرافة الأمسيةِ الكاتبةُ حنين يعقوب، بعدَ ما رحّب بالحضورِ والمشاركين الباحثُ محمّد عدنان بركات عن مؤسّسةِ أنصار الضّاد، وكانتْ مداخلاتٌ لكلٍّ مِن: الأستاذ محمد حسن كنعان، والشّاعر أمين زيد الكيلانيّ، والنّاقد والباحث ناجي الظاهر، والشّاعر عبد الحيّ إغباريّة، والشّاعر أحمد فوزي أبو بكر، والشّاعر نزيه نصر الله، والشّاعرة مقبولة عبد الحليم، والشّاعرة معالي مصاروة، والشاعرة إسراء محاميد، والكاتب محمّد علي سعيد، وقد تخلّلتِ المداخلاتِ الشعريّةَ فقرةٌ موسيقيّةٌ "لجوقة المركز الجماهيريّ" في أمّ الفحم، وفي نهايةِ اللقاءِ قامت مؤسّسة "أنصار الضّاد" بتكريم كلّ المشاركين، وتمّ التقاط الصّورِ التذكاريّةِ!
مداخلة الكاتبة حنين يعقوب: السلامُ عليكم، خيرُ ما نستهلُّ بهِ برنامجَنا الحمدُ للهِ مُقدّرِ الأقدار، الذي جمعَنا بعدَ طولِ انتظارٍ مُقلبُ القلوب والأبصار، وصلّى اللهُ اللّهمّ على نبيّنا المصطفى المختار وآلهِ الأخيار وأصحابهِ الأبرار الأطهار، مساءٌ يَعبقُ بعبق الثقافةِ الزكيّةِ، مساءٌ ليس كأيّ مساءٍ معَ جماليّةِ حضوركم الأخّاذِ. أحبّتي، بِأكاليلِ الْفُلِ وَالْيَاسَمِيّنِ والعنبرِ نرحّبُ بكلِّ مَن نمّقَ وحضرَ، بعددِ انثيالِ الشوقِ المُبلّلِ بحبّاتِ المطرِ، حيّى اللهُ هذه الوجوهَ النيّرةَ المُستبشِرة، الراضية بالقضاءِ، الشاكرة على النعماء، نخبة مِن قناديل العطاءِ مِن المثلث حتى الجليل، فكَما يقولُ شاعرُنا الراحل محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة، للتّواصل على جسر الآباء بمدادِ الروح، وهو الحرف، لنُجدّدَ العهدَ على الصمودِ والبقاءِ على هذه الأرضِ الشمّاءِ المُتوشّحةِ بمجدِ لغةِ الضّاد والإخاء. باسمي أختكم حنين يعقوب، وباسم مؤسّسةِ "أنصار الضاد" وراعيها الأستاذ محمّد عدنان بركات أرحّبُ بكم. قال الشاعر حليم دَمّوس في عِشقه للّغة العربيّة: لا تلمني في هواها/ أنا لا أهوى سواها/ لستُ وحدي أفتديها/ كُلُّنا اليوم فداها
هو باحثٌ ومحاضرٌ وُلد في مدينة أمّ الفحم؛ جعل جُلَّ وقتِهِ في خدمةِ اللّغةِ العربيّة. عُيّن عام 2010 مُرشدًا عامًّا للّغة العربيّةِ في مدارس أمّ الفحم: الابتدائيّة، والإعداديّة والثّانويّة. شارك في عددٍ مِن النّدواتِ الأدبيّةِ والمؤتمراتِ اللّغويّةِ، ونشرَ بحوثًا مُحَكّمةً في موسوعة "أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطينيّ الحديث- الأدب المحلّيّ". كتبَ مقالاتٍ نقديّةً واجتماعيّةً وأدبيّةً، ونثريّاتٍ إبداعيّةً؛ في مجلّات محكّمة وفي الصّحف المحليّة ومواقع الشّبكة العنكبوتيّة المختلفة. يُديرُ مؤسّسة "أنصار الضّاد" التي تُعنى بقضايا اللّغة العربيّة وما يَرتبط بها. عُيّن منذ عام 2013 مرشدًا لوائيًّا للّغة العربيّة: لواء حيفا؛ في المدارس الثّانويّة في وزارة التّربية والتّعليم، وهو عضوٌ فعّالٌ في مَجمع القاسميّ للّغةِ العربيّةِ بباقةِ الغربيّة.
مداخلة مدير مؤسّسة "أنصار الضّاد" الأستاذ محمد عدنان جبارين: الحضورَ الكريمَ؛ مع حفظِ المناصبِ والألقابِ، السّلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه، سلامٌ على كلِّ مَن حملَ الأمانةَ، وأمانةُ اللّغة العربيّة غالية. أهلًا وسهلًا بكم في انتمائِكم الخلاّقِ للّغة العربيَّةِ؛ انتماء يعانِقُ أصالةَ الضّادِ، ويرتقي بكُلِّ حروفِ الهجاءِ. يُشرِّفُني أن ألتقيَ اليومَ بكوكبةٍ مِنَ النّجومِ اللّامعةِ في سماءِ الشِّعر والأدب، وبكُلِّ عاشق للعربيّة الغرّاء؛ ارتبطت نفسه بتراب هذا الوطن، في أمسيةٍ أدبيّةٍ وشعريّةٍ وثقافيّةٍ وُسِمت بـِ"كلمة هي الوطن"؛  بإشراف مؤسّسةِ "أنصار الضّاد"، ورعايةٍ مكانيّةٍ للمركزِ الجماهيريِّ، ولِمَن سألني عن مؤسّسة "أنصار الضّاد"؛ أقولُ: هي مؤسّسة غيرُ ربحيّةٍ، تأسّستْ قبلَ أكثر مِن ثلاث سنوات في مدينة أمّ الفحم. تُعنى باللّغةِ العربيّةِ الفصيحةِ وما يرتبط بها من قضايا وموضوعاتٍ، تهمُّ المستخدم والقارئ العربيّ وكلّ عاشق لهذه اللّغة.
مِن أبرز أعمالِها وإصداراتِها: عقد ندوات وأمسيات شعريّة وأدبيّة وثقافيّة مختلفة ومتنوّعة- الاهتمام بالكتّاب والشّعراء والأدباء وتحفّيزهم على الإبداع وتكريمهم؛ إضافة إلى طباعةِ كتب ودواوين شعريّةٍ وأدبيّةٍ ولغويّةٍ هادفةٍ تثري المكتبة العربيّة. وتواكب المؤسّسة الإبداعاتِ الطّلابيّة على مستوى المدارس والمجتمع العربيّ ككلّ، وتنشرُ منشوراتٍ لغويّة مِن باب التّوعيةِ والإرشادِ اللّغويّ، وتزرعُ روحَ المنافسةِ الشّريفةِ، مِن خلال الإعلان عن مسابقاتٍ مختلفةٍ في اللّغة العربيّةِ، وغيرها من الفعاليّات المرتبطةِ بلغتنا العربيّة الأصيلة. أمّا المنتسبون إلى مؤسّسةِ "أنصار الضّاد": فكلّ عاشق للّغةِ العربيّةِ، وكلّ مَن يتنفّسُها، ويَتماهى معها. وختامًا؛ أشكرُ الحضورَ مِن شعراء وأدباء وكتّاب وعشّاق للعربيّة، وأشكرُ أسرة المركز الجماهيريّ بأمّ الفحم لتوفير المكان المناسب، وجوقتها الموسيقيّة بإشرافِ الموسيقار نزار الشّايب جبارين، ولا أنسى المقدّمة الفاضلة لفقرات الأمسية الكاتبة الواعدة المتميّزة حنين عايد يعقوب؛ لها الشّكر أفضله.
الموسيقار نزار الشايب جبارين: ولد بتاريخ 17-10-1955، رئيس الحزب القومي العربي ، وعضو كنيست سابق، وداعم للمشاريع الثقافيّة والأدبيّة التي تخدم المجتمع. مِن أحرف نورٍ نُسجت كلماته! طربٌ أصيل سُطِّرَتْ حروفُه بروحِ التميُّزِ؛ اخترقَنا بإشراقاتِ صور؛ لها أن تعلِّمَنا؛ فتضيء في أذهانِنا وميضَ إبداعٍ متجددٍ! بأنامل موسيقار عشق الموسيقا والفنّ الأصيل، درس اللقب الأوّل في جامعة حيفا؛ ودرَّسَ الموسيقى في مدارس أمّ الفحم، شارك في ندوات وأمسيات ثقافيّة وفنيّة، وقد حاز على جوائز عديدة وأوسمة متنوّعة؛ لجهوده الفنيّة قطريًّا وعالميًّا، ومايسترو جوقة المركز الجماهيريّ سيكون لها فقرات تتخلل الأمسية
مداخلة محمّد حسن كنعان: (عضو الكنيست السابق): منذ النكبةِ، ونحنُ الأقلّيّة الفلسطينيّة الصابرةُ والصامدةُ في البلاد، نُعاني مِن سياسةِ حكوماتِ إسرائيل كلَّ أنواع الظلم والتمييزِ ومُصادرة الأراضي، فبَعدَ أنْ كنّا نملك 92% من الأرض، أصبحنا نملك أقلّ من 4%، وبعدَ أن كنّا حوالي 650 ألف مواطن حتى عام 1948، تمّ تهجيرُنا وبقينا حوالي 150 ألف نسمة، ولكنّنا والحمد لله أصبحنا اليوم أكثرَ مِن مليون ونصف، وهذا يُقلق إسرائيل كثيرًا الأكثريّة، بعد ما أصبحنا الأقلّيّة، وبلغ التمييزُ مَداهُ في ظِلِّ هذه الحكومة اليمينيّةِ المُتطرّفة، والتي تريدُ أن تُشَرْعِنَ التمييزَ ضدَّنا من خلال سنّ القوانين، وآخرها "قانون الإقصاء من الكنيست" وغيره، وتشترط ما نستحقُّهُ مِن ميزانيّاتٍ. وحتى نصمدَ أمامَ هذه الهجمة العنصريّةِ الشرسةِ، علينا أن نتوحّدَ ونكونَ يدًا واحدة، وأنا أعي جيّدًا قيمة الكلمة وأهمّيّتها، كسلاحٍ مُؤثّرٍ في شحذ الهِمَمِ وتعزيز الصمود، وخاصّة كلمة الشعر، لأنّها مسموعة وقابلة للحفظ عن ظهر قلب، ونقولها بصوتٍ عالٍ وصريحٍ. لن يحدثَ لنا ما حدث لنا في عام النكبة 1948 وحرب ال1967، فهذه أرضُنا ونحن أصحابُها الأصليّون، وهذا وطنُنا ولا وطن لنا سواه.
مداخلة الكاتب والناقد محمّد علي سعيد: لقد رصدتُ حوالي 300 شاعرًا في كتابي "معجم الشعر الفلسطينيّ في الداخل من 1948 حتى 2015"، وسيصدرُ قريبًا جدًّا. لقد عملتُ في إعدادِهِ مُتطوِّعًا ولوحدي مدّة سنة تقريبًا، وللتنويه، المُعجمُ يَندرجُ في باب الشعراء الأحياء، والتواصل مع أهلِ المرحومين، وعليه، فهو الأشملُ والأدقُّ، وأعي المقولة "عندما يكثرُ التوثيق وليس التقييم، ويشملُ (تقريبا) كلّ مَن أصدر ديوانَ شعرٍ أو أكثر، واعتمدتُ في إعدادِهِ على التواصل المباشرِ وشعرا"، ولكنّي لا أخشى هذا الكمَّ، لأنّهُ يشبهُ سباق الماراتون، يبدأ بالمئات ولكنّ المرحلةَ النهائيّةَ يَصلُها عددٌ قليلٌ، والفوزُ يَصلُهُ واحدٌ فقط وللثقافة العامة، لقد رصدتُ وبالاسم وممّن أصدروا كتبًا، حوالي ألف (منهم 282 من الإناث، و670 من الذكور)، وذلك منذ عام 1948 حتى 2015، ومع ذلك، أتوجّهُ إلى جميع الكُتّاب وخاصّة المبتدئين، وأقول: مارسوا على نصوصكم: الكربلة ثمّ الغربلة ثم التنخيل، وبعدها انشُروا نصوصَكم.
مقبولة عبد الحليم: شاعرةٌ فلسطينيّةٌ عصاميّة مُلتزمة، مِن مواليد 11-1-1960 مِن كفرمندا، أحبّت الأرضَ والإنسانَ، وغنّتْ لهم أجملَ أغنياتِها، مُتزوّجةٌ ولها عائلةٌ من ثماني أولادٍ، لها مِن المؤلفات الشعريّة: لا تغادر، قصائدُ تبحث عن وطن، ولمساتٌ على خدّ الصباح، وفي عينيك تكتبُني القصيدة، وما زال ينتظر للطبع: وهجُ المشاعر. عضوة في: اتحاد الكتاب الفلسطينيّين حيفا، ومنتدى كفاح الأدبيّ وعدّة منتديات أخرى، ومحرّرة أدبيّة في مواقع أدبيّة، تشارك في فعاليّاتٍ أدبيّة في المدارس وفي أمسياتٍ شعريّةٍ في الداخل وفلسطين والأردن. برز دورها في عدة منتدياتٍ مَرمُوقَة بالعالم العربيّ، وأصدرتْ دَواوين شعريّة تمايزت بالتزامها الوَطَنيّ والإنسانيّ، وهي القائلة في رائعتها "اقرأ": اقرأْ فتلك هدايةٌ وصَلاحُ/ وتعلموا فلَعِلمُكمْ إصْلاحُ/ أنتم حماةُ الدّينِ هيّا فاعْلموا/ أنّ الحياةَ تَعلمٌ وكفاحُ
القدس لهفة المشتاق/ مقبولة عبد الحليم: أقصايَ في الشريان نفحُك باق/ في النبض في الخَطَراتِ في الأحداقِ/ عهدٌ وفي كُتب الوفا وثـّقـتُهُ/ بثباتِ صَخْرك قد شَدْدتَ وِثاقي/ مًهْما تَـناءى عنك جدولُ يعرب/ سَـيَظلُّ حُبُّك للفؤاد السَّاقي/ سَتظلُّ رغْم الهجر خفاقا بها/ الله أكبَرُ في مَدى الآفاقِ/ السُّورُ يَشمخُ منذُ تاريخ الوفا/ صلبَ العزيمةِ في انتظار بُراقِ/ وكَأنَّ جبهتَه الوضيئةَ فضةٌ/  مَسَحتْ عليها راحَةُ المشتاقِ/ أخذ الزمامَ من الهزائمِ عُـنوةً/ ورَقى عليها مدرجَ العُشاقِ/ قَصْدا إلى العذراء يحفظ طُهرها/ ويُشيعُ نفحَ عَبيرِها العبّاقِ/ ويُعيدُ للمجد التليد ضَياءه/ مُتَباهِـياً بزمانِه البرَّاق/ السُّورُ والأقصى وصخرتُه التي/ فَرَشتْ هواها للنبيِّ الرّاقي/ سُبُل ارتحال الطينِ في طَلبِ السَّنا/ فالأرضُ ترحلُ والسماءُ تُلاقي/ هُوَ موضِعٌ لو يُمعنونَ رأوا به/ أثرَ الغرامِ إذا انتهى بِعِناقِ/ لمّا تَعانقَ فجرُه مع فجْرِها/ قدسي تقاطرَ خافِقُ الترياقِ/ زَيْتونةٌ هَمَسْتْ له بَسّامةً/ زيتي سِـراجٌ للأصَالة باقِ/ والمَكرِ مردودٌ لمن بَدأوا به/ سَـيـبـيدُ ليلُ المكرِ بالأنفاقِ/ ما دامَ في الأرضِ ابتَسامة زعترٍ/ عبَقتْ على شَفة الصَّباحِ لِساقي/ ما دام رَحْمُ الليل مَسْكونٌ به/ صَوْتُ الوليدِ وبَـسْمةُ الأحْداقِ/ يا رائد الإصلاحِ، فرعونُ انتهى/ رهنَ السُّباتُ ولات حينَ فواقِ/ أدركْ بِراحَتكَ الرؤوفةِ عِزةً/ أنت الطبيبُ لها وأنتَ الراقي/ يا توأمَ الفجر البشيرِ وفارساً/ هذي الجيادُ تَحَضَّرتْ لسـِباقِ/ إلزم بصهوتها الفضاء وأرخها/ صوبَ الضياء لقبلة الخلاقِ/ لا لن تَهون القدس يا شيخ الوفا/ فالمشرقانِ طوالعٌ وسَواقِ/ تَـتَململ الصّحراءُ يا قدس الهوى/ فتفاءلي بتضافُر الإشراقِ
ناجي الظاهر/ الناصرة فلسطين: وُلدَ في الناصرة بعدَ سنواتٍ مِن تهجيرِ أهلِهِ عام النكبة مِن قريتِهم الوادعةِ سيرين. عاش طفولة قاسية. أحبّ القصصَ الشعبيّة منذ كان في الثالثة مِن عُمرِه، أحبّ الكتابَ منذ نعومةِ أظفارهِ، وكانَ في طفولتِهِ يتخيّلُ الجنّةَ مكتبة. مارسَ الكتابة وهو لمّا يزلْ طالبًا صغيرًا على مقاعدِ الدراسة، فعملَ في الصحافةِ منذ أكثر مِن أربعةِ عقودٍ مِن الزمن، وتوزّعتْ كتاباتُهُ على أنواعٍ أدبيّةٍ مختلفةٍ، فكتبَ الشعرَ والقصّة والرواية والمسرحيّة، إضافة إلى المقالةِ والدراسةِ والنقدِ الأدبيّ، فصدرَ له أكثر مِن أربعين كتابًا، وتُرجمَتْ كتاباتٌ لهُ إلى عددٍ منَ اللغاتِ كالعبريّة والإنجليزيّة والألمانيّة، وكُتبتْ عن نِتاجهِ الأدبيِّ عشراتُ الدّراساتِ الجامعيّة، ودخلَ عددٌ مِن نصوصِهِ الأدبيّةِ إلى مناهجِ التعليم، وآخرُ روايةٍ لهُ حملتْ عنوانَ محاق، وقد صدرتْ عن دار راية الحيفاوية، وحصلَ على جائزةِ الإبداع الأدبيّ عام ألفين، وهو ناشطٌ أدبيٌّ أقيمَ له أكثرَ مِن تكريم.
نداء الوطن/ ناجي الظّاهر: في هذا الليلِ يَدورُ القمرُ التائهُ خلفَ الأفقِ/ وخلفَ الشبّاكِ المُتقمّصِ للرّوح/ يَنبضُ في كلِّ عروقي/ يُنبئُني أنّ الريحَ تثورُ ويَرتج ُّعليها/ فتنوءُ بحَملِ جدارٍ يَنعكسُ عليهِ الظلُّ/ الشجرُ/ النورُ/ البيتُ/ تثورُ الريحُ عليَّ/ تُبرعِمُ أشجارُ الدّفءِ القابعِ في الضّوءِ/ فأصيرُ نداءً للوطنِ الراسفِ في القيدِ وللحُرّيّة.
سيريني/ ناجي الظّاهر: حملتُ فوقَ راحتيَّ الجبالَ/ أردتُ أن أعودَ بلادي قديمةَ العهودِ رائعةَ الوجودِ/ أيّتها العرّافةُ/ أتاكِ فارسي القديم شراعه/ مُحطّمٌ وقلبُهُ جديدٌ/ حملتُ في عيوني الرحيلَ/ وجنتي المُحاصَرة/ وليْلي الطويلَ/ حملتُها سيرين عاريةً مِن ثوْبِها/ أريدُ أن أراكِ ملاكيَ الصغيرَ/ فقد تطولُ رحلتي/ وقد تُقاومُ الفصولَ/ حملتُ رحلتي الطويلة/ وجئتُ مِن مَفازةِ الغرامِ أحَدّثُ الأنام/ عن قصّةٍ مِن ألف ليلةٍ وليلة/ مَوْلاي يا علاء الدين ويا حبيبي القديم/ لا بدّ أن أراكَ/ لا بدّ أن تراني/ كي أقنعَ الأحبابَ بأنّني أعودُ/ لكي أغطّي أرضَنا سخيّةَ العهودِ/ بعشبةٍ نديّةٍ/ بعوْدةِ الربيعِ معَ تمّوز/ لا بدّ أن أفوز/ بسطوةٍ كبيرةٍ تُماثلُ الربيعَ/ موْلاي يا علاء الدين/ أحبُّها/ حبيبتي سيرين.
معالي مصاروة: ابنة عارة في المثلث الشمالي، متزوجة في المكر قضاء عكا. أنهت دراستها الثانويّة في عرعرة عام 2002، وحاصلة على البكالوريوس في الطفولة المبكّرة واللغة العربيّة من أكاديميّة القاسمي باقة الغربيّة عام 2007. أصدرت ديوانها الأوّل "خطوات أنثى" في نوفمبر 2011، وسيرى النور ديوانها الثاني "تراتيل بوابة المنفى"، شاركت بالعديد من الأمسيات الثقافيّة والمهرجانات الشعريّة في الوطن وفي العاصمة الأردنيّة عمّان.
فلسطين/ معالي مصاروة: فلسطين قلمي يصوغُ الحبَّ من عبراتي/ فتتوه من طرق الهوى خطواتي/ وأخذتُ أرجوها المكوث للهفتي/ حتى تناجت لوعةُ الأهاتِ/ هي نبضُ قلبي كم حلمتُ بأرضها/ ولكم سرت من خمرها كلماتي/ هي مهجتي هي خافقي وهي/ الدمُ الساري حنينًا في مدى همساتي/ فتملّكت بالقلب كل جوارحي/ وروت حنايا توبتي وصلاتي/ ورسمتُ في السجّادِ نور رجوعنا/ ورفعتُ كفي مرسلاً دعواتي/ وقرأتُ في العينينِ سر وجودنا/ وشهدتُ فيها عشقها لثباتي/ آويتها بالقلبِ كم يهنا بها/ رمزُ الفداءِ ومقلتي وحياتي/ صافحتها حتى انحنيت توددًا/ من روحها في شعلةِ الثوراتِ/ وشعرتُ عمقَ الآه فانسابَ الصدى/ وتلعثمت لوجودها آهاتي/ وقرأتُ في سمق اللهيب قصيدتي/ وتلوتُ في إصحاحها آياتي/ ونظمتُ شعري وامتشقت جوارحي/ وصرختُ من عمق الحشا كلماتي/ سأعودُ غيثًا قد روى بترابها/ حلمًا يعيدُ قيامتي ورفاتي
إسراء محاميد: شاعرةٌ وكاتبة مِن مواليد أمّ الفحم عام 1983، ترعرعتْ لدى عائلةٍ مُحِبّةٍ للثقافة والأدب والشعر، وبدأتْ تكتبُ منذ سنّ صغيرة، فقرضت الشعرَ، وخاضتْ في غمارِ الأدب ولديها كثيرٌ من القصائدِ المنشورة في الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونيّة. لها ديوان شعريّ أصدر عامَ 2016 بعنوان (وطن على شجن)، حاصلة على اللقب الأوّل والثاني في اللغة العربيّة، مِن جامعة حيفا، تُدرّس اللغة العربية في مدرسة وادي النسور الإعداديّة في أمّ الفحم. تكتبُ الشعرَ المُقفّى والموزون، لها قصائد كلاسيكية، والتفعيلة، والشعر الحُرّ، وقصائد المنثورة. وكان انضمامُها إلى رابطة شعراء وأدباء وادي عارة والمثلث عام 2011 هو بداية انطلاقتها الحقيقيّة في عالم الشعر والأدب والإبداع، وانضمّت إلى اتّحاد الكُتّاب.
عبراتنا/ إسراء محاميد: عبراتنا في الوجد تنخر روحنا/ ودماؤنا باتت تسيل براعم/ والصبر صار حليفنا وخليلنا/ وملاذهم شعب خليل داعم/ تتربع الأحزان في قلب الدجى/ والطفل يمضي ناقما ويقاوم/ قتلوا النساء وأهدروا أرواحنا/ والصمت بين العالمين ملازم/ والطفلة السمراء باغتها الردى/ قد هيئت للصابرين مراسم/ وتواترت أرواحنا ترجو النجا/ واستنكفت أحلامنا تتزاحم/ يا رب هذا الكون أنت المجتبى/ ارحم جراح طفولة تتعاظم/ واحرق قلوب الصامتين بعبرة/ فالعرب في دم الرجال تساوم/ ضاقت دروبي في سراديب الدجى/ والحزن في عرف الطغاة طلاسم/ امنح زنود القوم بطشا ماحقا/ وامدد غزاة الأرض ما يتفاقم/ تجري الرياح هنا بما لا يشتهى/ بالموت لم يردع شباب ناقم!
قصيدة لأمّ الفحم/ إسراء محاميد: يا قرية الأجداد والأمجاد/ تيهي في دلال/ فاليوم ها نحن ارتوينا/ من مراسيم النضال/ جبنا أديم الأرض نسعى/ لاحتضان الشهد من عمق التلال/ وصليل فيض الروح / يشدو للوجود/ ينجاب نارا/ في سويداء الخلودفي قرية قد أمطرت أحلامنا سحرا/ نما في رحمه عمق احتلال/ نبكي وحرق الشوق/ في الروح احتدم/ في لجة الصمت العقيم مرارة/ حبلى بأعقاب الألم/ لا تندمل قسرا أيا جرح السنين/ فعنابر الإعصار تفضح حزننا/ وجحافل الأبطال لا ليست/ تمل ولا تلين/ والأرض لا ترضى بأشباه الرجال/ في مدّ ذاك السحر يغشى روضها/ نرجو بهذا الحشد أذيال الوصال/ والسحر في أرجائها/ والعشق في أحشائها/ أبكي ودمع العين في نحر الوجود/ وصلاة فجر قانت فاق العهود/ فأزاح أسرار الضلال/ هي قرية شماء بل عنقاء/ جادت بالرحيق/ وعيون صبار تزين جيدها/ يبكي على أطلالها جمرا/ يناجي وصلها عند النزال/ يوما سنغرس يا بلادي ثورة/ في عمقك الوضاء/ لا نخشى احتلال/ وسنمنح الصمت المسجى برهة/ لنجوب أقصاك الموشى بالجمال
الشاعر أحمد فوزي أبو بكر: عربيّ فلسطينيّ، وناشطٌ سياسيّ من قرية سالم في مَرْجِ ابن عامِر. دَرَسَ المهن التليفزيونيّة والسينمائيّة. يكتب الشّعر العموديّ وقصيدة التفعيلة. من مؤسسي وعضو الهيئة الإداريّة لاتّحاد الكتّاب العرب الفلسطينيّين الأحرار(ك.ف.اح). من مجموعاته الشعريّة: *(رغبة متوحّشة). *(مسروق السّماء). *(حَجَر أحمد)، (تِشرين).هو القائل:/ يا أَيُّها الوَرْدُ الّذي في كامِلِ الفوضى/ أعِد ترتيبَ أُغْنيتي/ كما تَبْغي/ كما تَرْضى
مَن يَمنع الرّاعي/ أحمد فوزي أبو بكر: مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا كانَت دُموعُ النّايِ/ قَد وَصَلَت/ إلى ما بعد جُرْحكَ يا ابْنَ عامِر/ مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا كانَ الحمامُ يَطيرُ/ مِن شَرْقِيَّةِ المِتراسِ/ صَوبَ غمامَةِ البَحْرِ الأخيرَه/ مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا مَرَّ الغُبارُ منَ النَّخيلِ إلى النَّخيل/ مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا بَزَغَت على الّليلِ المُكَفّنِ/ بالسّلاسلِ والسّوادِ/ الشَّمْسُ تَرْفعها الذُّرى/ مِن فَوقِ فَقّوعة/ مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا اسْتَعَرَ المُقَطّعُ في جِنينَ/ فثارَ نَهْرُ العائِدينَ/ إليكِ حَيفا/ يَرْتَوي ظَمَأَ السَّبيل/ مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا ما طارَت الأرْواحُ/ من ضَنَكِ المُخَيَّمِ/ في سما اللجّونِ والمَنْسِيِّ/ قَد فَلَّت حَديدَ البَرْزَخَيْن/ مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا قَفَزَ المسيحُ/ مُحَلِّقًا من فوقِ سالم/ قَدَّ أُفقَ المُستحيل/ مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا صَدَحَ المُؤَذِّنُ/ لَسْتُ أدْري/ أيُّ تِلْكَ القرْيَتَيْنِ/ تُسَبِّحُ الرَّحمنَ في الفَجْرِ المُعَلّى/ أيّها قد رَتَّلَت من سورةِ الإخلاص/ مَن يَمْنَعُ الرّاعي؟/ إذا ما البَدرُ/ زَوَّجَ في المدى/ الأنوارَ مِن دوثانَ عِشْقًا لِلْجليل
شمس ووطن/ عبد الحي إغبارية: طَلَعَت تتثاقَلُ مِن وَسَنِ/ والوَجهُ يَشِعُّ سَنًا وَفُتُون/ تَتَهَادَى تَنثُرُ فَوقَ الأرضِ/ ذَوَائِبَ مِن تِبرٍ مَكنُون/ أذيَالُ الغَيمِ تُوَشِّحُهَ/ وَتُدَاعِبُ فَوقَ العَينِ جُفُون/ وَمُلُوكُ الإنسِ تَهِيمُ بِهَا وَمَليكُ الجِنِّ بِهَا مَفتُون/ وَطَنِي والشَّمسُ تُلاطِفُهُ/ سُلطَانٌ فَوقَ العَرشِ يَكُون/ أزهَارُ اللَّوزِ تُكَلِّلُهُ/ وَيُعَطِّرُهُ عَبَقُ اللَّيمُون/ وَعَلى أنغَامِ جَدَاوِلِهِ/ تَتَرَاقَصُ فَوقَ المَاءِ غُصُون/ فَيَطِيبُ الجَوُّ لِسَوسَنَةٍ/ وَيُغَرِّدُ مِن طَرَبٍ حَسُّون/ فِي وَطَنِي الشَّمسُ إذَا وَلَّى أيلُولُ شَكَت بَردًا وَسُكُون/ وَالرِّيحُ تُهَادِنُ فِي آبٍ/ وَتَعُودُ تُعَربِدُ فِي كَانُون/ تَتَجَاذَبُ هَامَاتِ الصَّفصَافِ/ تُعَانِدُ أغصَانَ الزَّيتُون/ وَتَكِنُّ إذَا نَيسَانُ بَدَا فِي طَلعَتِهِ سِحرٌ وَفُنُون/ يَا وَطَنَ السِّحرِ وَمَلقَى الشِّعرِ وَلَهفَةَ مَغرُومٍ مَجنُون/ يَا أُغنِيَةً صَدَحَت فَيرُوزُ أثَارَت أحزَانًا وَشُجُون/ الزِّيبُ يُرَدِّدُ مَطلَعَهَا/ وَيُدَنْدِنُ نَغمَتَهَا اليَركُون/ فَيَمِيلُ السَّروُ لَهَا طَرَبًا/ وَيُقَبِّلُ أزهَارَ الطَّيُّون/ وَطَنِي يَا دَمعَةَ مُغتَرِبٍ/ يا نَهدَةَ شِرِّيدٍ مَحزُون/ يَا بَسمَةَ طِفلٍ تَحجُبُها/ آهَاتُ جَوًى وَرَفِيفُ عُيُون/ يَا سَبحَةَ شَيخٍ مُلتَحِفٍ/ عَانَى زَمَنًا أعيَتهُ سُنُون/ يَا عُمرًا رَاحَ سُدًى والنَّاسُ عَلى العُمرِ البَاقِي يَبكُون
يافا في القلب/ عبد الحي إغبارية: فِي سِحرِ عينَيكِ هَامَ السِّحرُ يَا يَافا/ وَهَزَّ مِن نَشوَةٍ خَصرًا وأعطَافا/ وَبَينَ كَفَّيكِ نَامَ البَدرُ مُبتَسِمًا/ تَلتَفُّ مِن حَولِهِ الأقمَارُ أصنَافَا/ وَخَلفَ كَتفِكِ ألقَى الليلُ بُردَتَهُ/ يُظِلُّ مِن تَحتِهَا عُنقًا وأكتَافَا/ وَفِي جَبِينِكِ طَافَ الفَجرُ فِي مَرَحٍ/ يُفَجِّرُ الليلَ أضواءً وأطيَافَا/ يَافَا وَأيُّ جَمالٍ تَنعَمِينَ بِهِ/ وَأيُّ حُسنٍ حَبَاكِ اللهُ يَا يَافَا/ تَرَبَّعِي فَوقَ عَرشِ المَجدِ واعتَمِري/ تَاجَ البَهَاءِ يَزيدُ النَّفسَ إشرافَا/ وأطلِقِي صَوتَكِ الرَّنَّانَ أُغنِيَةً/ تَهُزُّ فِي جَنَبَاتِ الأرضِ أطرَافَا/ وَتُنعِشُ النَّفسَ حِينَ الشَّوقُ يَحمِلُهَا/ عَلى قُلُوبٍ ذَوَت وَجدًا وَإرهَافَا/ يَافَا وَكُلُّ حِسَانِ الكَونِ قَاطِبةً/ تَغَارُ مِن حُسنِكِ الفَتَّانِ يَا يَافَا/ شَدَا لَكِ الطَّيرُ حُرًّا فِي خَمَائِلِهِ/ وَفَاضَ نَبعُكِ حُلوَ الطَّعمِ شَفَّافَا/ وَعِندَ سَاقَيكِ حَطَّ البَحرُ مُغتَبِطًا/ وَرَاحَ يَنظِمُ للخَلخَالِ أصدافَا/ وَيَنشُرُ اللُجَّةَ الزّرقَاءَ أبسِطةً/ تَجرِي عَلى وَجهِهَا الأموَاجُ أطوَافَا/ يَافَا عَلى تَلِّهَا يَحلُو الجُّلوسَ إذَا/ مَا هَبَّ حُرًّا نَسِيمُ البَحرِ أو طَافَا/ وَمَالَت الشَّمسُ نَحوَ الغَربِ تَتبَعُهَا/ نَوَارِسٌ ذَلّلت للجوِّ أكنَافَا/ تَلَفَّتَت وَوِشاحُ الغَيمِ يَحجُبُهَا/ وَوَدَّعَت وَحَنِينُ العَودِ أضعَافَا/ وَكَحَّلَ الشَّفَقُ المَجرُوحُ مُقلَتَهَا/ دمًا يَسِيلُ عَلى الخَدَّينِ مِذرَافَا/ يَافَا وَإنَّ شِغَافَ القَلبِ مَسكَنُهَا/ وَبُؤبُؤَ العَينِ شَاءَ الغَيرُ أو عَافَا/ يَافَا إذَا جِئتَ رَغمَ القَيدِ تَطلُبُهَا/ ألفَيتَ فِي أرضِهَا الجَنَّاتِ ألفَافَا
الشّاعر أمين زيد الكيلاني: ولد بتاريخ 1-1-1957، عشق اللغة العربيّة منذ صغره، درّسها في المدارس، حاضر في بعض الكليّات، من أبرز ما كتب: معلّقة ثورة الغضب، الوجه الصّبوح، قسورة، دعيني وشأني، القصيدة، رثاء أب، قَدَر، بُطء، قد راع قلبي، لو خيّروني
دع عنك عذرًا/ أمين زيد الكيلانيّ: دع عنك عذرا بثوب الذل مضطربا/ وأغلب بحزم وباﻹقدام من غلبا/ أبناء قومي لقد كانوا وما منعوا/ عنا هجوما وما شدوا لنا غضبا/ ﻻ العذل يجدي وﻻ اﻷعذار شافعة/ أمسى العذول بنار اللوم ملتهبا/ يا يوم نكبتنا، يا يوم ما غنموا/ أرضا لشعب من اﻷشتات قد جلبا/ قد حرفوا صلفا تاريخنا كذبا/ تاريخنا أبدا لم يعرف الكذبا/ ضاق الفضاء وبنت الفكر هائمة/ من بعد ما كان إشراقا لنا رحبا/ كم طال ليل ونجم الفجر مختنق/ في ظلمة كم ترى في جوفها نصبا/ واحيرتي من شباب تائه عبثا/ أو هائم في فيافي سكره طربا/ تبكي عيون بدمع الضعف نكبتنا/ من بعد خطب بجد القهر قد وقبا/ كفكف دموعا، فدمع الوهن محتقر/ يزري ملوكا، فمثل العار إذ سكبا/ بدل نواحا بصوت الحق مرتفعا/ وأرفع قواما بوجه الظلم منتصبا/ وارفق بأهل بدون اﻷهل موطنهم/ حتى يرد إلى اﻷهلين ما نهبا/ لقد أساؤوا وما زالوا لنا نغصا/ شلت يد الجور أغلاﻻ ومن ضربا/ فاحفظ عهودا عن اﻵباء غايتها/ صون البلاد، وتذكير بما سلبا/ أنعم بعلم، فعلم الدين مبتدأ/ وانهل معينا، بحور الشعر أو أدبا/ نعم العلوم التي أنعمت أنت بها/ هذي لعمري لقد صاغت لنا نجبا/ ﻻ تزرع الشوك أو ترجو به أملا/ "من يزرع الشوك ﻻ يحصد به العنبا"/ من يسرج الخيل لﻷحداث شيمته/ يوم الوقيعة خير الناس منتخبا/ "كف تلاطم مخرزا" فيا عجبي/ من شأنها، ذاك مما زادني عجبا/ هذا شعوري بشعر (الضاد) أكتبه/ هلا حفظتم بلب اللب ما كتبا/ بحر بسيط من اﻷوزان نغمنه/ فيه المعاني وكان الشرح مقتضبا
نزيه نصرالله شاعرٌ وفنان تشكيليّ من شفاعمرو: كَم ناورْتُ الشّمسَ/ بنورِكْ/ فالشمسُ خاصَمَتِ النّهارَ/ وغابتْ في الفلَكْ!/ وكمْ لوّعتُ اللّيلَ/ بجَمالِكْ/ فالليلُ نادمَ الغُرابَ وحَلَكْ!/ وكمْ هَلّلتُ للقمرِ/ بمُحيّاكِ المُتهلّلِ/ فغافلَني حياءً/ وغَفا وترَكْ!/ حينَ فاتحتُ الوردَ/ بصَباحِكِ الصَّبوحِ/ ما فتّحَ الورْدُ/ بلْ أغمَضَ بَتْلاتِهِ وَغارْ!/ ودوّارُ الشّمسِ/ بعدَ ذِكْرِ اسْمِكْ/ أَمالَ عُنُقَهُ وَتنسَّكْ/ فما تعبَّدَ الضَّوءُ/ ولا معَ الشّمسِ دارْ!/ على جُذوعِ عُمري/ نقشْتُ اسْمَكْ/ فزهَّرَ اللّوْزُ وَنوَّرَ الجُلنارْ!
مزاميري رهنُ ولادةٍ/ نزيه نصرالله: قصائدي لكِ تُصَلَّى/ ولا تُتلى/ فأينَها مسبحتُكِ/ وأينَهُ مِحرابُكِ السّرّيّ؟/ أيّتها الرّاهبةُ الزّاهدةُ المُتنسِّكةُ/ في ديرِكِ المَنسيِّ/ صلِّي/ جَدِّدي عهدي/ فمَزاميري رهْنُ ولادةٍ/ تُجيلُ هَمَّكِ/ وتَرتفِعين!/ أنا آخِرُ كُتبِكِ/ وليسَ بَعدي كتابٌ/ تَعبُدينَهْ/ فاحْرقيها/ كتبَكِ القديمةْ/ وَكتبَكِ القادِمَة!/ أنا الّذي جنّحتُ السّلاحفَ/ لتطيرَ إليكِ/ ودُونَ كللٍ/ تعبُرُ المحيطَ/ لتَعْبُدَكِ/ أنا الّذي أنعشتُ الرّيحَ/ بأسوارِ دَيْرِكِ/ لتَحْمِيَكِ!/ بحناجرِ طيوري/ لِتُطرِبَكِ!/ أتماوجُ/ في جِنَانِكِ أزرعُها/ حفيفًا مُلتهِبًا/ مِن شرايينِ قصائدي/ فاطعِميها قربانَ قلبِكِ/ كيْ لا أجوعْ!/ أنا الّذي بقصائدي لكِ/ سَيّلتُ في الصّخرِ ماءَ البِّرِّ/ لكنّكِ/ أشْعلتِ عليّقةَ أنيني!/ أنا الّذي بقصائدي لكِ/ صنعَتْني العجائبُ/ وألمّتْ بي/ أمراضُ العاشقين/ فصَلَّوْا لكِ/ ونَسَوْا/ أن يُشعِلوا.. شموعَ حنيني!/ أنا يا سيّدتي/ ما أتيْتُ لأُعبَدَ/ بل لأفرحَ بكِ/ ولأفرحَ مَعكِ/ وها أنتِ إلى الأزلِ/ تُعبَدين!
حين أُمطر عشقا/ نزيه نصرالله: أنا لستُ أثيرًا عشوائيًّا/ في مَتاهةِ المَطرْ!/ ولا طوفانًا صاخبًا/ يُهيلُ الأفقَ أطلالًا/ على أجنحةِ الشّجَرْ!/ يا سيّدتي/ أنا كالبَجَعِ في حُبِّكِ/ تَتَداخَلُ بِبَعْضِها الصُّوَرْ!/ أحاسيسي/ تَصيرُ بِلّوْرًا مِن نورٍ/ لو مسَّهُ الشّوقُ انْكسَرْ!/ وقلبي في مَداكِ/ كالنُّجومِ/ لا يَطالُها النّظرْ!/ أيّتُها الخَزّافةُ الشّهيّةْ/ صِيغِيني.. نغمةً طريّة/ وَجفِّفِيني/ كتينةٍ شهيّة/ كطينةٍ بَهيّة/ أَعِدّيني/ لدَيْنونةٍ عِشقيّةْ!/ ودَوْزِنِيني/ لِقِيامةٍ أبَديّة!

108
نادي حيفا الثقافيّ يُكرّمُ د. منير توما

آمال عوّاد رضوان
وسطَ حضور ٍكبيرٍ مِن أدباءَ وشعراءَ وأصدقاءَ مِن حيفا وكفرياسيف والجليل والمثلث، غصّتْ قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، احتفاء بتكريم الأديب د. منير توما، وذلك بتاريخ  18-2-2016، وبعدَ أن رحّبَ بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافيّ، تولّى عرافة الأمسية الشاعر عناد جابر، فافتتحَ اللقاءَ قدسُ الأب الإيكونوموس عطالله مخولي، وكانت مداخلاتٌ لكلِّ مِن الأدباء: فتحي فوراني، رشدي الماضي، صالح عبّود، يوسف ناصر، فهيم أبوركن ورمزي شحادة، وتخلّلَ الحفلَ فقرتان زجليّتان لكلٍّ مِن الزجّاليْن: شحادة خوري (أبو مروان)، وتوفيق الحلبي، وفي نهاية الحفل شكر د. توما الحضورَ والمشاركين والمُتحدّثينَ والمُنظّمين، وتمّ التقاط الصّورِ التذكاريّة!
كلمة عناد جابر: رجالَ الدّين الأفاضل، الحضورُ الكرامُ مع حفظ الألقاب والمناصب، أهلًا وسهلًا بكم في هذه الأمسية الهامّة التي نحتفي فيها بأحدِ أعمدةِ أدبنا المَحليّ، الشاعر الباحث والناقد الدكتور منير توما، أهلًا وسهلًا بكم في هذه القاعةِ المُباركةِ التي تشهَدثُ حَراكًا ثقافيًّا وأدبيًّا نشِطا، يُشرِفُ عليهِ نادي حيفا الثقافيّ، الذي يَدأبُ على تكريم كُتّابنا ومُبدِعينا، ودعمِهم وتشجيعهم وتعريفِ الجمهورِ بهم وبإصداراتِهم، فبُوركتْ جهودُهم، وسدّدَ اللهُ خطاهم. الإخوة والأخوات، قبلَ أيّام مَعدودةٍ، رحَلَ عنّا كاتبٌ ومُفكّرٌ كبيرٌ هو أحدُ ركائز أدبنا وثقافتِنا، نجمٌ ساطعٌ في سماءِ أدبنا هوى دون سابق إنذار، تاركًا بصماتٍ بارزةً لن يَمحوَها الزّمان. رحلَ عنّا الإنسانُ الكبيرُ الأديبُ والكاتبُ سلمان ناطور مُؤرّخ الذاكرة الفلسطينيّة. أدعوكم للوقوف دقيقة صمتٍ توحُّدًا مع روحِهِ الطاهرةِ وذكراهُ العاطرة.
أيّها الحفلُ الكريم، الشاعر والناقد الدكتور منير توما قامة سامقة مِن قاماتِ أدبنا المَحليّ، يُثري مكتبتنا بإصداراتِهِ الشعريّةِ القيّمةِ، ودراساتِهِ النقديّةِ وأبحاثِهِ الأدبيّةِ، صدرَ له حتى الآن ديوانا شعر بالإنجليزيّة، وستة دواوين بالعربيّة، وعددًا مِن الأبحاثِ والدّراساتِ الأدبيّةِ، وهو حائز على جائزةِ الإبداع وجوائز وميدالياتٍ مِن الجمعيّةِ الدوليّةِ للشعراءِ في الولاياتِ المتحدة. معلمٌ مُتقاعدٌ، موسوعة ثقافيّة وأدبيّة متنقلة، إنسانٌ طيّبٌ خلوقٌ حلوُ المَعشر، أحبّ الناسَ فأحبّوهُ وقدّروهُ، ولعلّ هذا الحضورَ الكبيرَ عددًا ونوعًا، خيرُ دليلٍ على ذلك.فد. منير توما يستحقّ- بلا أدنى شكّ- كلَّ التقدير لعطائِهِ القيّم الكبير، ويستحقّ كلّ التكريم. أتمنّى لهُ دوامَ الصحّةِ والعافيةِ، ليُواصلَ مسيرة العطاءِ والإبداع.
كلمة رشدي الماضي: قادمًا مِن فردوسِ شجرةِ المعاني سدرةً على يمينِ عرشِ الإبداع، لآتيني وآتيك مِن صقيع سنواتي الباردة، إلى أقصى حدودِ مساحاتٍ نصّك، لتهدأ ثورتي، بعدما يَنغرسُ كسكّينِ لوركا في قلبي، لأبقى مسكونًا به قصائدَ وأبحاثا قزحيّة الألوان، مُعمّدةً بالمُغايرةِ والتخطّي والاستباق، كيف لا، وأنا أراهُ يُلوّحُ لي مِن منطقةٍ سرّيّةٍ بعيدةٍ، نعم، يلوحُ لؤلؤةً، هي حجرُ الرهان الذي لا يُثيرُ النّواحي المُعتمة ويُضيئها، وهي الكلمة التي تنتظرُ في بئر الذاكرةِ المُشبعةِ بالرؤى، لتخطّ ما تيسّرَ مِن شفيفِ الرّوحِ فيضَ إحساسٍ مُرهَفٍ يَستحرُ الوطن، ويخط بانوراما إنسانيّة تذهبُ في كلماتِها إلى قدسيّةٍ تمنحُكَ خاتمَها السرّيّ، لتُصبحَ مُخلّصًا يَقرعُ الأجراسَ إيذانًا بالعشاءِ الأخير، وتصيرَ دمًا يُشيرُ إلى المَذبح، ليَصلَ كلامُك إلى مَن يقرأ الذي يأتي ولا يأتي.
أيُّها المُنيرُ مُنير: حروفُكَ خدوشُ أمطارٍ على وجهِ نافذةِ الإبداع، وعندما تلمّستُ عتباتِ نصوصِك، رأيتُك كبورخيس تُردّدُ معهُ: "عندما كنتُ أفكّر في الجنّة، كنتُ أتخيّلُها شكلًا مِن أشكال المكتبة"! كيف لا، وأنت مثله تقتني الكتبَ بنوع مِن الهوسِ، لإيمانِكَ أنّ الكتابَ مثل الكون حاضرٌ معك باستمرارٍ صوتًا، يبحثُ عن كُنهِ الإنسان وماهيّتِهِ، وتسمَعُهُ حتى الآذان التي لم تنفتح، أليسَ هو ادبُك الذي يُحَلّقُ في الخيال المُجنّح الضارب في أعماق الاكتشافِ والاستكناهِ والاستغوارِ والاستنباط، وفي بواطن الأساطيرِ والغنائيّاتِ والعشق الإلهيّ الصوفيّ، الذي تُسجّلُهُ بأسلوبٍ سلِس جذاب، وبمَعانٍ تتّسمُ بالصدق، لانّكَ تتوقُ بكلّ جوارحِك أن لا يُصيبَهُ البِلى، ولا يَعلوهُ الدرنُ، ولا يَغشاهُ النسيانُ، ليبقى عالمَ خلقٍ وعطاءٍ، وعالمًا أدبيًّا فسيحًا قُيّضَ له أن يَعيشَ دائمًا، يُرافقك كمالارميه خوفٌ مِن الفراغ والصفحةِ البيضاء، لذلك تفكّرُ مَليًّا في الخطوةِ الاولى التي يتموْضعُ في سكنها قطارُ عملِك الأدبيّ، وهذا يَجعلُ أسئلتَهُ تعيشُ وتتناسلُ، لا تكرارًا ولا نمطيّة لتخلقَ إضافة نوعيّة جَماليّة، ممّا يَجعلُ مُنتجَكَ يَقفُ على ارضٍ لم تطأها قدماك مِن قبل، فتؤكّدُ بذلك، بأنّك واعٍ بمسارِ مُمارستِكَ الإبداعيّةِ على مستوى الذات، كما على مستوى الموضوع، وتؤكّدُ أنك ترفضُ أن تبقى تحت جُبّةِ الأب الأدبيّ، كلّ ذلك، لتبقى إبداعاتُكَ خلقًا إضافيًّا جَماليًّا، يَجعلك تُفكّرُ دائمًا، مُناقِضًا في اكتشاف أرض النصوصِ البكر!
المبدع منير توما: أنتَ تقومُ بهذا لكونِكَ قارئَ واقعِ مُجتمعِك العربيّ، الذي يَندُرُ فيهِ الهواءُ الحُرّ، ممّا يُؤدّي إلى تقليصِ الفاعليّةِ الفكريّة، فتكونُ النتيجة أن يُصبحَ الإبداعُ عندَنا أزمة لدى المُبدع، لِما فيهِ مِن جدران مُكهرَبةٍ، ولقناعتِك كما الطاهر بن جلون، أنّ الكلماتِ يجبُ أن تولدَ في مَناخ حُرٍّ خالٍ مِن الإحساس بالخوفِ والتردُّد، لذلك وقفتَ أمامَ المِرآةِ، مُصمّمًا أن يأتي نصُّكَ مكشوفَ الأسرار والمَلامح، وهذا ما يَقودُكَ إلى ممارسةِ الكتابةِ بأسلوب المُراوغةِ المُتعمّدة، لكثرةِ الخطوطِ الحمراء ومَراصِدِ الرقابةِ المُنتصِبةِ في جميع فضاءاتِ الفكرِ في عالمِنا العربيّ، لذلك أتى إبداعُكَ واعيًا بشرْطِهِ الزمنيّ وبأسئلةِ الحاضر، ليكونَ كفيلًا باستشرافِ الآفاقِ المُمكنةِ، وقادرًا على خلقِ تَصوُّرٍ مُتجدّدٍ ومُتنوّرِ الفِعلِ الإبداعيّ، الذي لا يُؤمِنُ بمَنطق الهزيمةِ أمامَ كلّ التحدّياتِ، كي يبقى مُشبعًا برغبةِ الانطلاق، ومُناقشةِ وحوارِ كاملِ القضايا والمواضيع التي بقيتْ مُحاطةً بالأسلاكِ الشائكةِ والألغامِ الدّفينةِ، أو بتلكَ الثاويةِ وراءَ جدرانٍ مِن الإسمنتِ المُسلّح، والمدعوم بكلّ المُثبّطاتِ المُتاحةِ في هذا الزمن العربيّ الرديءِ، ولأنّني أعرفك، أسمحُ لنفسي أن أسجّلَ: أنت أنت دون شكٍّ خرجتَ مِن قمقمِك، لأنّك قرّرتَ أن تظلَّ تحكي وتُناقشُ وتُحاورُ وتُبدعُ كلَّ شيءٍ بلا خوفٍ أو نكوصٍ، لتجعلَ مَن يَجيءُ إبداعَك، يَجدُهُ مُفرداتٍ وكتابةً ذاتَ رؤيةٍ مُمتدّةٍ في فيْضٍ غزيرٍ مِنَ المُعطياتِ والمَشهديّاتِ اللغويّة، والكلماتِ المُضمّخةِ بالاستعاراتِ والانزياحاتِ والدّلالاتِ والرّمزيّاِت التي تحترفُ الرقصَ فوق الماءِ المُقدّس، وتُشغِلُ ولو لبرهةٍ الحزنَ عنّا، لتُبشّرَنا بفرحٍ عظيم. أخي الذي لم تلدْهُ أمّي، ستبقى إبداعاتُك شاماتٍ بيضاءَ، تُربّي المعانيَ التي تُنبتُ للكلماتِ أجنحةً، تجعلها تُحلّقُ في فضاءِ عشقٍ إلهيٍّ لا يَنتهي، لتظلَّ الأبجديّةُ الأيقونة الماطرةَ التي تمحو سبعانا العِجافَ، وتأتي سبعًا سِمانًا إلى بئرٍ لنا لما تزَلْ خُلّبًا.
كلمة الأديب فتحي فوراني: أيّها الأصدقاءُ، أعلنُ منذ البدايةِ أنّني لستُ مُحايدًا. إنّني مُنحازٌ بقلبي وعقلي ووجداني إلى عريسِ هذه الأمسيةِ التكريميّةِ، الصّديقِ ورفيق الطريق المُبدع د. منير توما، وفي الأمسيةِ التكريميّةِ تنزاحُ المَساطرُ النقديّة الأكاديميّة التي تملكُ قلبًا مِن رصاص، فتنزوي جانبًا، لتبحثَ لها عن فضاءٍ نقديٍّ آخرَ، فالفضاءُ التكريميُّ المُتاحُ هذهِ الليلة، لا يُتيحُ لنا أنْ نقتربَ مِن دائرةِ النقدِ الأكاديميِّ الموْضوعيّ. قالتِ العربُ: لكلِّ مَقالٍ مَقامٌ، ومقالُ الليلة مَقامُهُ التكريمُ، وليسَ النقدَ والتقييمَ والتقويمَ. ولهذا وذاك لنا لقاءٌ نقديٌّ آخرُ. عرفتُ د. منير توما لأوّلِ ذاتِ مرّة عبْرَ الهاتف، عندما ألقيتُ على عاتقي مَسؤوليّةَ التحرير الأدبيِّ لصحيفة "الاتحاد"، قبلَ أكثرَ مِن عشر سنوات، ودارَ بيننا حديثٌ وُدّيٌّ مُمتعٌ عن تنوين الفتح، وهمزتَي القطع والوصل، وعن زيْد الذي ضرب عمرو، وتطرّقَ الحديثُ عن الخلافاتِ العائليّةِ مع العمّ سيبويْه، وأبي الأسود الدؤليّ، والخليل بن أحمد الفراهيديّ، وباقي أفرادِ القبيلةِ النحويّة، وتتسارعُ وتيرةُ الدردشاتِ الثقافيّةِ، لتبلغ غايتُها، وتنشأ الرغبة الصادقة في اللقاءِ الشخصيّ، فنتواعدُ ونلتقي، ويَطيبُ لقاءٌ تتبعُهُ لقاءاتٌ! كانَ لي ما أردتُ وكانَ لهُ ما أراد، وتَقاطعَ الخطّانِ المُتوازيان، فكانتْ لنا لقاءاتٌ كثيرةٌ في المناسباتِ الثقافيّةِ والاجتماعيّةِ التي اشتركنا فيها معًا، وكانتْ لنا فيها مُساهماتٌ أثرَتْ هذه المناسباتِ، وأكسبَتها مذاقًا له نكهة مميّزة، وبخط مُوازٍ لهذهِ اللقاءاتِ الثقافيّة، كانتْ لقاءات تزخرُ عيشًا ومُلحًا، وعندما كانتْ تُنصَبُ مائدةُ العيش والمُلَح، كانَ الزمنُ الطويلُ يُختزَلُ، وما يلبثُ أن يتبخّرَ بسرعةٍ خياليّةٍ، فلم نشعرْ كيفَ تهربُ الساعاتُ السّتُّ وتختفي في رمشةِ عين. كنّا نقتحمُ الينابيعَ الثقافيّة، فنعبُّ منها ولا نرتوي، ولم يَزدْنا الوُردُ إلّا عطشًا. كانت لقاءاتُنا تطولُ لتبلغَ ساعاتٍ بدلَ الساعةِ الواحدة، ويكون الحديثُ ذا شجونٍ، يَنشرُ ظلالهُ لتغطي المساحاتِ الأدبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وبينَ الطرفة والطرفة، والشاردة والواردة، والنادرة الشعبيّةِ والأشعبيّةِ والأخواتِ الفاضلات، يُطلُّ علينا أبو نوّاس بخمريّاتِهِ النوّاسيّةِ، فيحضر وفي حقيبته ما تيسّرَ مِن بناتِ العناقيدِ البابليّةِ، ويكونُ نورًا على نور، ولا يلبثُ الخيّامُ أن يَلحقَ بهِ فيأتينا مُهرولًا، ويَنصُبُ خيمتَهُ، وينضمُّ إلى عشاق الأبجديّة د. منير توما وإبراهيم حجازي والعبد الفقير، ويَروحُ يُلقي علينا ما تيسّرَ مِن إبداعاتِهِ الشعريّةِ، فيُنشدُنا قولَ الشاعر والعالم الفارسي عمر الخيام: لا تَشغلِ البَالَ بماضي الزمان/ ولا بآتي العيشِ قبلَ الأوان، واغنمْ مِن الحاضرِ لذّاتهِ/ فليسَ في طبعِ اللَّيالي الأمان. وقولَ أبي نوّاس: القلبُ قَد أضناهُ عِشق الجمال/ والصدرُ قَد ضاقَ بما لا يُقال/ يا ربْ هل يُرضيكَ هذا الظما/ والماءُ يَنسابُ أمامي زُلال. وتكونُ اللقاءاتُ الخيّاميّة والنوّاسيّة مرّة في عروس الكرمل، ومرّة في كفر ياسيف، ومرّة في طمرة، وينتشرُ العطرُ الثقافيّ في ربوع هذا الوطن
 لم أكنْ أعرفُ شيئًا عن د. منير توما، إلى أن جاءتْني حمامةٌ زاجلة، فألقتْ بين يديّ رسالة مُغلقة مُزنّرة بشريطٍ ورديّ، قالت لي "اِقرأ"، وطارت بعيدًا. فتحتُ الرسالة فتضوّعَ شذاها، وقرأتُ فيها ما يلي: مسقط الرأس كفر ياسيف، تخرّجَ من الفرع العلميّ في مدرسة يني الثانويّة، يحملُ شهادة الدكتوراه في اللغة الإنجليزيّة وآدابها، ينظمُ الشعرَ باللغتيْن العربيّةِ والإنجليزيّة، وأتابعُ القراءة، فتفرشُ أمامي مائدة شهيّة من الإبداعات؛ شعرًا ونقدًا ومقالة، أربعة دواوين: أوراق خريفيَّة، ويبقى الهوى، تجليَّات ربيعيَّة، ورد وشجن، وديوانان باللغة الإنجليزية: أزاهير الألم، وسطور عاطفيَّة. وفي باب المقالة النقديّة كتابان: محاضرات في الفكر والأدب، ومحاضراتٌ في الآداب العالميَّة. ليسَ غريبًا إزاءَ هذا البيدر العامر من العطاء الإبداعيّ، وما يُرافقهُ مِن أحاديثَ شخصيّةٍ، أن يَصفَهُ البعضُ أنّه موسوعة تمشي على قدمين!
أيّها الإخوة، ما مِن كتابٍ شعرًا كان أو نثرًا يَشقُّ طريقهُ إلى د. منير توما، حتى يَفتحَ له أبوابَ القلب على مصاريعِها، فيُرحّبُ بهِ أجملَ ترحيبٍ، ويَحتضنَهُ ويُعانقهُ ويغمرَهُ حُبًّا وحفاوة، ويُكرّمَهُ أحسنَ تكريم. لقد فرشَ الطائرُ جناحيْهِ على مساحاتٍ شاسعةٍ مِن الإبداعاتِ التي تُشكّلُ المشهدَ الشعريّ في هذا الوطن، ولا بدّ مِن الإشارةِ إلى أنّ قلمَهُ الإبداعيَّ كثيرًا ما كان يَغُضّ الطرْفَ عن الثقوب في النصِّ الأدبيِّ الموضوع على طاولةِ التشريح، فغلبتْ على مقالاتِهِ الحفاوةُ الأدبيّة وتوجُّهُهُ الإنسانيُّ الأخلاقيّ. نحن أمامَ كاتبٍ وشاعرٍ وناقدٍ واسع الاطلاع، غزير الإبداع، ونبعٍ ثرٍّ تتدفّقُ مياهُهُ الزمزميّة بلا انقطاع! نحن أمامَ إنسانٍ إنسان، لا تستطيعُ إلّا أنْ تُحبَّهُ وتشدَّ على يديْه، وتطبعَ على جبينِهِ قبلة، ولا تبخلُ عليهِ بالكلمةِ الطيبةِ، فهل كثيرٌ علينا بعدَ هذا أنْ نُعلنَ حبَّنا لهذا القلم الحاتميّ، وأن نُكرّمَ مَن احترفَ تكريمَ الآخرين؟ لقد آن لنا أن نردَّ التحيّة بمثلها وأحسن منها. سُئلَ أحدُهم: مَن أسعدُ الناس؟ فأجاب قائلًا: أسعدُ الناس مَن أسعدَ الناس. لقد أسعدتَ يا حبيبَنا كوكبة كبيرة مِن الكُتّاب والشّعراء، وتركتَ بصماتِكَ النقدية على إبداعاتِهم، والوفاءُ يَقضي أن نكون أوفياءَ، وأن نُسعدَكَ بهذه الحفاوة التكريميّةِ، فهنيئًا لك لنا بك، دمتَ لنا بصحّة، ودام عطاؤك الإبداعيّ.
مداخلة الأديب يوسف ناصر: أيّتها الأخواتُ وأيّها الإخوة الأعزاء، كم يطيبُ لي وكم يُفرحُني أنْ أقفَ بينَكم في مناسبةٍ عزيزةٍ غاليةٍ، لنُكرّمَ رجُلًا مِن أهل القلم، أرى في تكريمِهِ أديبَيْن توأمَيْن في رجُلٍ واحدٍ، وقد كتبَ بقلميْنِ مِعطاءيْن لا بقلم واحدٍ، وكلا الأديبَيْن يُباري الواحدُ الآخرَ بلاغةً وفصاحة، وكلا القلمَيْن يَكتبُ بعطرٍ وبمدادٍ مِن رحيقٍ، إنّه د. منير توما، أمّا الأديبُ الأوّلُ فيهِ فهو ما طلع علينا مِن لآلئَ بِكرِهِ شعرًا ونثرًا، تشهدُ على سِعةِ معرفتِهِ وعلى غزارةِ عِلمهِ، وامتلاكِهِ ناصية العربيّة، وأنّه مُتطلّعٌ وكانَ وما يَزالُ وسيبقى ذا موهبةٍ وقّادةٍ أخّاذةٍ، أضرعُ إلى العَليِّ أن يُوفّقَها بيننا، لكي تُعطي مِن عطرها ومن رحيقها وسلسلِها العذب. أمّا الأديبُ الثاني إنّه ذاك الذي جَعلَ الأيّامَ والأعوامَ المتتالياتِ أقلامًا بيدِهِ، تكتبُ مِن حيث لا يَدري سيرةً عاطرةً طيّبة، تتميّزُ برَجُلٍ مُتواضع تقيٍّ ورِعٍ نقيِّ القلب، وأيٌّ منّا أيّها الإخوة والأخواتُ، ليستْ أيّامُهُ ولياليهِ وأعوامُهُ تكتبُ كتابًا عنه، إنْ شرًّا فشَرٌّ، وإن خيرًا فخيرٌ، في هذا العالم كان كتابُ د. منير توما كتابًا بليغًا، منه كانَ يغترفُ الأديبُ الأوّلُ أجملَ المَعاني وأعظمَ القِيَم، في أجمل أدبٍ وفي أبلغ شِعرٍ ونثرٍ. أيّها الأخ العزيز د.منير توما، ما جئتُ لكي أمتدحَكم، بل جئتُ لكي أقولَ ما فيكم، وفاءً لكم وعرفانًا بفضلِكم، لِما قدّمتم وما أعطيتم لمجتمعِكم، وإذا كانت البلادُ بقراها ومُدنِها لا تَكبرُ بقلاعهِا الشوامخ، ولا بقصورِها البواذخ، ولا تغنى بخزائنِها مِن ذهب ومال، بل برجالِها الأحرار الأبرار، الأتقياء الأبرار الطيّبين الصالحين، فإنّ لكفرياسيف الحقّ أن تفتخرَ وأنْ تتمجّدَ بأنّك ابنٌ مِن أبنائِها، ورجلٌ من رجالِها، وهي القرية الغرّاءُ التي عوّدتنا أن تلدَ مِن رحمِها الرجالَ الطيّبين الصالحين، شكرًا لكم وأقدّرُ حضورَكم، وإنّ حضورَكم هو شعرٌ آخرُ يُعبّرُ عن ضميرِ هذا الشعب الذي يُقدّرُ رجالَهُ، وإنَ أُمّةً لا تُكرّمُ رجالَها لن تجودَ الأيامُ على أرحامِ نسائِها بعظيمٍ يوما.   
كلمة الأستاذ رمزي شحادة: الحضورُ الكريمُ مع حفظ الألقاب، أسعدَ الله مساءَكُمْ، حيثُ أنّي أشعرُ بآرتياحٍ وبهجةٍ في مثلِ هذه الأمسياتِ التكريميّة، وأميلُ برغبةٍ حارّةٍ لل‘كثارِ منها، كما أميلُ وآمَلُ لو نسعى لتَقليلِ أمسياتِ التأبين لغياب أصحابها. هذا ما أشرتُ إليهِ في قصيدةٍ كنتُ قد كتبْتُها في ربيع عام 2013، وكان مطلعُها: دعوا التأبينَ للأحياءِ ما كَثُروا/ وليس لِميِّتٍ وارى الثرى لا يشعُرُ/ فالصخرُ بعدَ النحْتِ قد  يَتأنَّسُ/ فهل تفيضُ بهِ الأشجانُ أو يتأثَّرُ؟ 
نحنُ في هذه الأمسيةِ السّعيدةِ مُجتمعونَ لنكرِّمَ الأستاذ د. منير توما، وفي هذه المناسبةِ أقول: عرفت الأستاذ د. منير توما مُعلمًا في مدرسةِ يني الثانويّة، حين كنتُ رئيسًا للجنةِ أولياءِ أمور طلابِها، وكانت معرفتي له سطحيّة، وقد اقتصرتْ على تبادل التحيّات إذا تصادفنا، إلى أن جاءَ يومٌ فيهِ قرعتُ بابَ بيتِهِ، قاصدًا رأيَهُ في مجموعةِ قصائد كنت قد كتبتُها مِن قبل، وكانتْ هذه البدايةُ، وبعدها تكررت زياراتي له. وحقيقة لقد أسَرَتني معرفتُهُ، كما تأسُرُ الزنبقةُ النحلةَ بينَ وُريْقاتِها، فهي جامحةٌ قديرةٌ واسعة، كيف لا، وقد أكَسَتْ جدرانُ غُرَفِهِ كتُبًا وموسوعاتٍ بألْسِنَةٍ عدّةٍ، وقد شَكَّلَتْ تِلالاً في زواياها، وإنْ كنتُ قد تعثَرْتُ وأنا ألِجُ بيتَهُ ذاكَ، لأنَّ رجلي قد تعثَّرَتْ بكتابٍ أو ربما بموسوعةٍ. قالَ الشاعرُ حافط إبراهيم في إحدى قصائِدِهِ: أنا البحرُ في أحشائِهِ الدُّرُ كامنٌ/ فَهَلْ سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي؟
وأنا أقولُ: إنَّ الأستاذ د. منير توما هو البحرُ، ولكنّني لم أسألْ أيَّ غوّاصٍ عن صدفاتِهِ، لأنّني قد غُصْتُ بنفسي إلى أعماقِهِ، وتحَسّسْتُ ما صادفْتُ من صَدَفِهِ، فوجدتُهُ شاعرًا  مُبدعًا، أشعارُهُ تسمو بمَبناها وعُمْقَها، مسكوبةٌ بألفاظٍ بديعةٍ في قوالبَ يَصعُبُ تقليدُها، إذ تضمُّ تعابيرَ حُبْلى بمعانيها الهادفةِ وصياغتِها البارعةِ، تُداعِبُ أوتارَ آلغزَلِ تارةً، حيثُ تنسابُ إلى  القلبِ موسيقا شَوْقٍ وأملٍ وحنينٍ، ثمّ ترقى إلى طَوْرِ الفلسفةِ والعلمِ والأيمان تارةً أخرى، لِتَسْتَفِزَّ الفكرَ والتأمُّلَ. وجدتُهُ مُؤمنًا تقيًّا، يَلْهَجُ بآياتِ التقوى والإيمانِ ليلَ نهارَ. تبنّى المَحبّةَ رغمَ مَسالِكِها الصعبةِ المُتحدّرةِ، ومَنْ يؤمنُ بالمحبّةِ، لا بدّ أنْ ينهضَ كلَّ فجْرٍ بقلبٍ مُجَنّحٍ خفوقٍ، يَشكرُ آللهَ ويلتَمِسُ يومَ محبّةٍ آخر. إنّه نخلةٌ شامخةٌ تعطي بلا حدودٍ ومِن غيرِ مُقابلٍ، سخيٌّ لا يَضُنّ بأيّةِ خدمةٍ يُقصَدُ بها، وحين يُعطي فإنّه يعطي بفرحٍ،  ويكونُ هذا الفرحُ مكافأةً له، يُعطي الناسَ مِنْ نفسِهِ ما يُحبُّ أنْ يعطوهُ مِثله. وجدتُهُ متواضِعًا يَدعو إلى المَودّةِ والمساواةِ بعيدًا عنِ الحسَدِ والبُغضِ والكراهيّةِ، فرفعَتْهُ النّاسُ وأحبّوهُ، وهو كما قالَ الشاعرُ أبو تمام: دنَوْتَ تواضعًا وعَلَوْتَ قدْرًا/ فَفيكَ تواضُعٌ وعلُوُّ شانِ.   لا يَتوانى في أيّةِ مُناسبةٍ أنْ يَسكُبَ مِنْ مَعرفتِهِ، فيُنيرُ ما هو مُظلمٌ، ويَبعثُ دِفْئًا فيوقِظُ الذاكرةَ ويبعثُها مِن جَديد، وبهذا أقولُ: في كُلِّ أمسِيَةٍ أراكَ مُحاضِرًا/ تُلْقي شُروحًا لِلخَفايا تُشيرُ/عاقَرْتَ شِعْرًا فَاسْتَحالَ رَوائِعًا/ في الحَبْكِ عَلَمٌ في البِناءِ قديرُ/ أنتَ إسْبيلٌ لِمَنْ شَحَّتْ مَعارِفُهُ/ مَنْ  شاءَ يَمْلأُ طاسَهُ وَيَسيرُ. وبهذا أكونُ قد جَعَلْتُ بعضًا مِن دُرَرِ أعماقِهِ تطفو على السطحِ، ليتحسَّسَها الجميعُ. وبعد، أتمنّى للد. منير توما الصحّةَ والعافيةَ، ليَبقى سحابةً في العُلا تُمطرُ عِلمًا ومعرِفةً، أدبًا وأخلاقًا لفائدةِ هذا المجتمع. وفّقكَ الله.
كلمة الأديب فهيم أبو ركن: فرحتُ جدّا عندما طُلِبَ منّي أن أشاركَ في هذه الأمسيةِ، تكريمًا وتقديرًا لد. منير توما، وذلك لأنّ لهُ تاريخًا حافلًا في متابعةِ الأدبِ المَحليّ، وتحليلِ الأعمالِ الأدبيّةِ لشعرائِنا وأدبائِنا المَحليّين، وله فضلٌ كبيرٌ على جميعِنا، ويستحقُّ كلّ الاحترامَ والتقدير، وسأتحدّثُ عن دوْرهِ كناقدٍ، فجميعُنا نعرفُهُ كإنسان، ونعرفُ ما يتمتّعُ بهِ مِن خُلقٍ دمِثٍ، وكرَمٍ وإخلاصٍ للصّديق، إضافة لإنسانيّتِهِ العظيمةِ وعراقتِهِ الأصيلة، فهو ليسَ استعراضًا عاديًّا كما عوّدَنا عليهِ بعضُ النقّاد، إنما نقدٌ مميّزٌ فيهِ عُمقٌ وإبداع، وإنّني أؤكّدُ بأنّهُ لكي نبدعَ في النقدِ، يجبُ أنْ نفهمَ الإبداعَ، فهو شاعرٌ مُرهفُ الحِسِّ، وعالِمٌ موسوعيٌّ أبحَرَ في بحورِ المعرفةِ على مُختلفِ أنواعِها، وباحثٌ أكاديميٌّ حاصلٌ على شهادة الدكتوراة بجدارةٍ، فغرَفَ مِن أصولِ الدّراسةِ الأكاديميّةِ، وهو مُطّلعٌ على آدابٍ عالميّةٍ بلغتيْها العربيّةِ والإنجليزيّةِ، وهو مُتمرسٌ في النظريّاتِ الأدبيّةِ والنقديّةِ الكلاسيكيّةِ والحديثةِ على مُختلفِ مَدارسِها. لذلك، عندما أقولُ لكي نبدعَ في النقد يجبُ أنْ نفهمَ الإبداع، فإنّني أحملُ كلمة الفهم، معاني المعرفةِ العلميّةِ، الإدراكَ المنهجيّ، التجربة الطويلة، الدراية الشخصيّة، التذوّق الذاتيّ السليم والرؤيا الشاملة.
أستشهدُ بتجربةٍ شخصيّةٍ لي مع د. منير؛ فعندما صدرتْ روايتي "العبوة النازفة" عن دار فضاءات في عمّان- الأردن، طلبت من د. منير توما أن يتحدّث في الندوةِ الأدبيّةِ التي نظمها منتدى الحوار الثقافي عن الرواية في مركز البادية في عسفيا، فجاءَ بتحليلٍ رمزيّ عميق نالَ استحسانَ الحاضرين. وبعدَ فترةٍ طلبَ نادي روتاري دالية الكرمل برئاسةِ المحامي د. أمل كمال، وبالتعاون مع كليّة الكرمل برئاسة د. أكرم حسّون أن يحتفوا مشكورين بي وبالرواية، فطلبتُ من د. منير توما أن يكون أحدَ المتكلمين عن الرواية، وحسبتُ أنّه سيأتي ببعض الفقراتِ من مداخلتِهِ الأولى، ولكنّهُ فاجأني بتحليلٍ آخرَ تمامًا، مُلقِيًا الضوءَ مِن زوايا أخرى، وعلى قضايا لم يتطرّقْ إليها في مداخلتِهِ الأولى، مُحلّلًا كعادته ومستنِدًا إلى نظريّاتٍ نقديّةٍ مختلفة، وهذا لا يستطيعُ أن يقوم به سوى ناقدٌ مبدعٌ متمرّسٌ في النقدِ كد. منير توما. 
إنّ الإبداعَ عمليّةٌ فنيّة، والفنّ ظاهرةٌ إنسانيّة ارتكزتْ منذ القِدَم على عِلم الجَمال، وعالجَها الفلاسفة القدماءُ فكريًّا على ضوءِ التعليل المُجرّدِ، لتتحوّلَ إلى نظريّاتٍ مختلفةٍ ومَذاهبَ متنوّعة، تبعًا لتطوُّرِ الظروفِ الاجتماعيّةِ والبيئيّةِ للإنسان، فإذا كان الشاعرُ بوعي منه أو بلا وعي، يُوظّفُ كلَّ ما يُخاطبُ الحواسَّ، الفكرَ والعاطفة؛ مِن شكلٍ، لون، إيقاع، حجم، علاقةٍ تركيبيّةٍ وكلّ ما يؤثر على الإدراك والفهم؛ مِن العناصرِ الذاتيّةِ الداخليّة، أو المحيطة الخارجيّة، والتراثيّة، والتاريخيّة، والاجتماعيّة، والوطنيّة، والسياسيّةِ والثقافيّة، فالواجبُ على الناقد أن يُحللَ عواملَ التوظيفِ هذه، ويُبرزَ عناصرَ التخصيب بوعي كاملٍ ورؤيا شاملةٍ، وهذا ما يقومُ بهِ ويُؤدّيهِ د. منير توما على أحسن وجه. وأخيرًا لدينا الكثير ممّا نقولُهُ عن د. منير توما كشاعر أيضًا وإنسان، ولكنّي ألتزمُ بالوقتِ المُحدّدِ، وأتمنى لصديقنا العزيز الصحّة والعافية، ليُتحفَنا بمزيدٍ مِن الإبداع الذي يُثري مكتباتِنا، والذي نحن بأمَسِّ الحاجةِ إليهِ في هذه الفترة.
مداخلة د. منير توما: الآباء الأفاضل، رجال الدين الأجلّاء، أيّها الحفل الكريم مع حفظ الألقاب! أسعد الله مساءكم، وكلّ امرئٍ يولي الجميلَ محبَّبٌ/ وكلُّ مكانٍ يُنبتُ العزَّ طيّبُ. ليس بودّي أن أحدّثكم في البدايةِ حديثا تقليديًّا، بالضرورة وبحُكم المنطق، إنّما حديثي إليكم سيبدأ بتوجيهِ شكري الجزيل وامتناني الأثيل إلى المحامي فؤاد نقارة، الذي بادرَ لتنظيم هذه الأمسيةِ الدافئةِ الحميمةِ لتكريمي والاحتفاء بشخصي المتواضع، وذلك بالتعاون المُثمر دائمًا مع عقيلتِهِ الفاضلة السيدة سوزي، اللذيْن يَنطلقان من هذا المكان الطيّب الذي يُنبت العزَّ، فتُثَلج الصدور، وتنتعشُ القلوبُ بإيلاء الجميلِ لنا بفِعل لطفِهما وكرمِهما، وإنّي لأُلخّصُ لكم منذ الآن نشاطهُما وأريحيتيّهُما بكلمةٍ واحدةٍ وهي: اِعمل.
ومع هذا العمل المشكور المحمود تتجلّى هذه الروحُ الخلّاقة المعطاءة في تشجيع الثقافة، والسهر على ازدهارها من خلال رعاية مبدعي الأدب والشعر والفن في نادي حيفا الثقافيّ، بإشراف ورعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، حيث يشهدُ للأستاذ فؤاد نقارة خلفيّتُهُ وواقعُهُ الماثلُ أمامنا، اللذان يُجسّدان شخصيّة إنسان نشأ وترعرعَ في كنفِ عائلةٍ تتعاطى وتعشقُ العلمَ والأدبَ والمعرفة، ليس على الصعيد الشخصيّ العائليّ المحدودِ فحسبْ، بل تجاوزت ذلك بتقديم خدماتها في الماضي والحاضر، لبناء شعبنا في وطنِهم وفي أرضهم، فالتاريخُ ما زالَ محفورًا في الذاكرةِ، تتناقلهُ الأجيالُ المتعاقبة مترحِّمة على محامي الأرض والشعب حنّا نقارة طيّب الله ثراهُ.
إنَّ نادي حيفا الثقافي بفعاليّاتهِ ونشاطاتِهِ الدؤوبةِ إنّما يُبرهنُ مِن يوم لآخر، أنَّ العملَ مفهومٌ ديناميكيٌّ حركيٌّ يَرفضُ الجمودَ جذريًّا، وبصورةٍ قاطعةٍ ونهائيّةٍ، وهذا المفهومُ للعمل مفهومٌ فكريٌّ وروحيّ، فلا عملَ مِن هذا النوع حيث لا فكرٌ ولا روحٌ، لا بل، لا عملَ مُطلقًا، وإذا قلنا إنَّ الإنسانَ خُلق على صورةِ الله، واعتبرْنا ذلك أعظمَ اعترافٍ للإنسان بعظمتهِ وقيمتهِ، وبحقّهِ الإلهيّ في خَلْق الدنيا، امتدادًا لعملِ الخالق، فإنَّ الإنسانَ مَدعوٌّ بإنسانيّتِهِ إلى رفض كلِّ ما يَخرجُ بالإنسان عن هذا المُخطّطِ الإلهيِّ القائمِ على الحُبِّ أوّلًا، وعلى الحُبِّ ثانيًا، وعلى الحُبِّ دائمًا. وهذا في اعتقادي يَتماهى ويَتماثلُ معَ رسالةِ نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِليِّ الأرثوذكسيِّ الوطنيِّ، وبالتالي يَحضرُني قولُ الشيخ الأكبر مُحيي الدين بن عربي، كبير شعراءِ الصوفيّةِ الذي أنشدَ قائلًا: أدينُ بدين الحُبِّ أنّى توجَّهَتْ/ ركائبُهُ، فالحُبُّ ديني وإيماني، عندي كثيرٌ أقولُه ُ لكم، ولكنّي سأقفُ عندَ هذا الحدِّ، وسأقتصرُ على القليلِ مِن الكلماتِ لأكَرِّرَ التحيّة والشكرَ لنادي حيفا الثقافيّ، مُمثّلاً برئيسِهِ الأستاذ فؤاد وعقيلتِهِ سوزي على هذه اللّفتةِ الكريمةِ لتنظيم هذا الحفلِ التكريميِّ البهيج، مُعبِّرًا عن خالص عرفاني وامتناني، مقرونًا بأطيب تمنّياتي لكلّ الحضور الكِرام الذين شرّفوني، وأدخلوا السعادة إلى قلبي بتلبيتِهم الدعوة للمشاركةِ في هذه الأمسيةِ، دون أنْ أنسى أولئِكَ الأحبّاءَ أيضًا الذي تجشّموا عناءَ ومَشاقّ السفر، كما أخصُّ بعظيمِ الشكرِ والتقدير البالغ جميعَ الذين شاركوا بكلماتِهم وفنّهِم وإسهاماتِهم الرقيقة تجاهي، مُثَمناً عالياً دور عريف الحفل الشاعر الدكتور عناد جابر الذي أدارَ الأمسية مشكورًا بلباقتهِ المعهودة ومرونتِهِ المحمودة، متمنّيًا لكم جميعًا المزيد من التوفيق والازدهار. وشكراً لكم على هذا التكريم بحضوركم وتشريفكم الغالي على قلبي.

109
فلسطين بلاد بلا شعب؟
آمال عوّاد رضوان
أقامَ نادي حيفا الثقافيّ برعايةِ المجلس المِليِّ الأرثوذكسيِّ الوطنيِّ في حيفا ندوةً، للباحثِ النصراويّ خالد عوض بعنوان: الحنين إلى الماضي، والسّجلّ المُصوّر للمدينةِ الفلسطينيّةِ، وذلك بتاريخ 25-2-2016 في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، وسط حضورٍ من المهتمّين بشأن تاريخ بلادنا، وما تأتّى عليها تاريخيّا وجغرافيّا ووطنيّا من احتلال وتزوير حقائق، تحت شعار- أرض بلا شعب؟! شارك بمحاضرةٍ قيّمةٍ الباحث التاريخيّ د. جوني منصور، حولَ أهمّيّةِ الصور التاريخيّةِ المُوثقة لوجود الوطن والشعب، ثمّ كان عرضٌ شرائحيٌّ لصور فوتوغرافيّةٍ تاريخيّةٍ وأثريّةٍ، تدحض المقولة: فلسطين أرضٌ بلا شعب، مع شرح وتوضيح الباحث خالد عوض، وبعدَ العرض كانت مُداخلاتٌ للحضور، ونداءٌ صارخٌ بأهمّيّة تجميع الصور الفوتوغرافيّة أو أيّة قصاصات من مجلات وجرائد قديمة، أو اي أثر قد يخدم حضارتنا وتارخنا كشعب وكوطن، وعدم الاستهانة بموضوع الصور والوثائق، وفي نهاية اللقاء تمّ التقاط الصور التذكاريّة!   
مداخلة د. جوني منصور: عمليًّا، ما هو التصويرُ الفوتوغرافيّ؟  إنّهُ حِفظُ الماضي بكلِّ تفاصيلِهِ وأحداثِهِ الّتي جرَتْ في لحظةٍ ما، سواءً كانَ فرديًّا أم جماعيًّا. وقالَ أحدُهُم: إنّ الصورةَ الفوتوغرافيّة هي "مرآةُ ذاتِ ذاكرة"، وآخرُ: "حفظُ الحاضرِ للأبد". ويُمكنُنا رؤيةُ أشخاصٍ وشعوبٍ ومواقعَ بعيدةٍ جدًّا بلحظةٍ واقعة الآن. *الصورةُ عندَ التقاطِها تُشكّلُ علاقةً ثنائيّةً بينَ المُصوّرِ والموضوع، لكن بعد ذلك، تبني بُعدًا آخرَ، وهو علاقةٌ ثلاثيّةُ الأبعادِ: الصورةُ وموْضوعُها والمَشاهدُ، ويَخرجُ المُصوّرُ مِن دائرةِ اللعبةِ التصويريّة. *أيضًا: المُصوِّر حدّدَ لنا موْضوعاتٍ في الصورةِ، ونحن نُحدّق بها ونُفسِّرُها، بمعنًى آخرَ، أنّ للمُصوّرِ سُلطةٌ على بَصَرِنا، فالمصوّرُ هو الذي يُقرّرُ ما يَجبُ أن نراهُ.
*ما هي الصورةُ إذن؟ لا أعني الورقَ المطبوعَ، إنّما هي ناقلةٌ للمَعنى، وهي وثيقةٌ مَرئيّةٌ لدراسةِ التاريخ. *أنا أتعاملُ معَ الصّورةِ كما أتعاملُ معَ الوثائقِ التّاريخيّةِ، آخِذًا بعيْنِ الاعتبارِ الظّرفَ الزّمانيّ والسّياقَ التاريخيّ، وأيضًا آخِذًا بعين الاعتبارِ تلكَ الاعتباراتِ الأيديولوجيّةِ الّتي أثّرَتْ على المُصوّر. *سنجدُ أنّ الصورةَ الفوتوغرافيّةَ مِثلَها مِثلَ الوثائقِ التاريخيّةِ الّتي وضَعَها الأوروبيّونَ بخصوصِ بلادِنا. *باعتقادي، أنّ صورَ الأمكنةِ والأشخاصِ والعائلاتِ والجَماعاتِ تُعيدُ تَشكيلَ الوعيِ المَعرفيِّ والانتمائيِّ، والذّاكرةَ الفرديّةَ والجمْعيّة، (إذا كانت الصّوَرُ في حالةِ فلسطين مثلًا).
*بدأ التّصويرُ الفوتوغرافيُّ في أوروبّا عام 1839، وانطلقَ مُصوّرونَ يُصوّرونَ فلسطين. لماذا هذا الاهتمامُ بفلسطين؟ إنّها الدّراساتُ الدّينيّةُ والكتابيّةُ على وجهِ التّحديدِ، وتَطلُّعاتِ أوروبّا الاستعماريّةَ، لاكتشافِ خبايا وخفايا الشّرق، ونقلَ الأماكنِ المُقدّسةِ إلى المعرفةِ الأوروبيّةِ، والاهتمامُ بالآثارِ كانَ عاملًا مُهِمًّا في فلسطين ومصرَ أوّلًا.
*كانتْ صورةُ المَشرق (الليفانت) أو (الأورْيَنت) في القرن الـ 19 مرتبطةً بالرّؤيةِ الرومانسيّةِ لمنطقةِ "ألفِ ليلة وليلة"، للسّحرِ والرّغباتِ الجسديّةِ الدّفينةِ والمَكشوفةِ، فجاءتْ رسوماتُ ولوحاتُ فنّانينَ رحّالةٍ أوروبيّينَ لتُثيرَ مُخيّلةَ الأوروبيّين حولَ الشرقِ كمَوقعٍ جاذبٍ، أشهرُهم دولكروا وروبرتس. ومِن بينِ الصّورِ الأولى الّتي التُقِطتْ في الشّرقِ، لنساءٍ يرتدين أزياءَ مُتنوّعةً. لكن في فلسطين حصريًّا، ارتبطَ التّصويرُ بالأماكنِ المُقدّسةِ مُرافقةً معَ المُبشّرينَ الذينَ وَصلوا في القرن الـ 19. وأحدُ المُصوّرينَ المِهنيّين هو دوايت المندورف الأمريكيّ، وهدفُ زيارتِهِ التّصويرُ لكتاب أسماهُ: "حربٌ صليبيّةٌ بالكاميرا على البلادِ المُقدّسة"، وذلك في 1901. قامَ بتصويرِ مئة صورة لمواقعَ دينيّةٍ مُرتبطةٍ بالإنجيل. لكن سبقهُ مُصوّرونَ أوروبّيّون وأمريكيّون كثفوا مِن تصويرِهم لفلسطين. فحسب أحد الإحصاءات، فإنّ 250 مُصوّرًا قاموا بتصوير فلسطين بين 1839 و 1885.
*مَن هم المصوّرون؟ يُصنّفهم الباحث د. عصام نصار على النحو التالي: *المُصوّرون الزائرون، *المُصوّرون الأجانب المُقيمون في المنطقة. *المُصوّرون المَحلّيّون. أمّا بالنسبة للمُصوّرين الزائرين فهدفهم التقاط صورٍ لأغراض النشر في كتب مَثلًا، أو لمعارضَ، أو لعملٍ تبشيريٍّ قامت به جمعيّة تبشيريّة أمريكيّة أو أوروبّيّة. أمّا الأجانبُ المُقيمون في استنبول وبيروت والقاهرة والقدس، فكانت لهم استوديوهاتٌ ومختبراتُ تحميض، ثمّ انتشروا في مدن أخرى، مثلا في حيفا كان سافيذس اليونانيّ، وهارتش الأرمنيّ، ومن أبناء البلاد داود الصابونجي ابن يافا، وكارابديان من القدس، ثمّ خليل رعد المعروف بخروجه من الاستوديو للتّصوير خارجَهُ، مُوثقا لحظاتٍ هامّة في تاريخ فلسطين.
توجّهاتُ المُصوّرين: المُصوّرُ المُرافقُ لبعثةٍ أثريّةٍ يَلتقط صورًا لآثار. المُصوّرُ المُرافقُ لبعثةٍ تبشيريّةٍ يُصوّرُ أماكنَ دينيّة مُقدّسة. المُصوّرُ الزائرُ يُصوّرُ الأماكنَ التي يزورُها، وبعضُ الأشخاصِ يَظهرونَ فيها. فما هو القاسم المشترك؟ إنّهُ سحرُ الشرق، ونقلُ صورةٍ عن معالمِ الشرقِ للأوروبّيّين الذين لديهم صورٌ مُتخيّلة للشرق وناسِهِ ومَعالمِهِ، أمّا ميزاتُ التصويرِ فكانت التقاط صورٍ، لواجهاتِ كنائسَ ومساجدَ ومواقعَ مُقدّسةٍ أخرى، وتصويرُ مَشاهدَ ذاتِ صِلةٍ بالتوراةِ والإنجيل، مثلا الراعي حاملًا لجدي، الفلاح (المزارع) يبذرُ بذارَهُ، ويَحصدُ القمحَ أو يحرثُ الأرضَ، إنّها صورٌ كتابيّة.
أمّا ظهورُ الأشخاص في الصورِ الفوتوغرافيّةِ فكان قليلًا في البدايات، وعمليّةُ التغييب هذه تُشيرُ إلى حالةِ إزدراءٍ وإقصاءٍ وتهميش لناسِ المنطقة، فمناطق كاملة ظهرَت فارغة مِن الأشخاص، وشوارع في القدس والناصرة وطبريا ويافا. هذهِ الحالة التصويريّة استفادت منها الحركة الصهيونيّة، لتوهِمَ اليهودَ في أوروبّا وخارجها أنّ هذه الأرض بدون شعب. لكن عندما تغلغلَ المُصوّرونَ  أكثرَ في عُمق حياة الناس، مِن خلال مواسمَ دينيّةٍ، كعيد الفصح وموسم النبيّ موسى والغطاس في الأردن، بدأت تظهرُ صورٌ لأشخاص. مثال واضح: رُتبة غسْلِ الأرجل في ساحةِ القيامةِ في القدس عام 1901 لألمندورف، وحشود الناس بكثافة، ماذا كتبَ المندورف تحت الصورة؟ " حشودُ الحجّاج وآخرون"، هذه اللامبالاة والتهميش للفلسطينيّين تُدلّلُ على أيديولوجيّةِ المُصوّر، فعمليّةَ تغييب الفلسطينيين أبناء المكان ليست عابرة، إنّها تجاهلٌ مقصودٌ، ففلسطين بالنسبةِ للمُصوّرينَ هي موقعٌ دينيٌّ وأثريٌّ، حتى أنّ المُصوّرَ الأمريكيَّ ويلسون في ثمانينيات القرن الـ 19، وصفَ وجودَ الفلّاحينَ قربَ طبريّا بأنّهُ لا يَنسجمُ على الإطلاق مع طبيعةِ المنطقة، وإنّهم "مُنَفّرون"! ويلٌ لكَ يا ناكرَ وجودي يا ويلسون، يَعني بذلك؛ أنّ الناسَ لا يَصلحونَ للتصوير، بسبب شكلِهم الخارجيّ وملابسِهم الرّثّة. في حين أنّ المُصوّرَ الأسكتلنديّ "جون كرامب" خابَ أملُهُ مِن عدم قدرتِهِ على تصويرِ نساءِ بيت لحم الجميلات، لأنّهُ عرفَ أنّهُ سيُواجهُ صِدامًا معَ عشائرِ المنطقة.
يمكنُنا القول، إنّ المُصوّرين في المراحل الأولى قد أصيبوا بهوَسٍ دينيٍّ كبيرٍ، وامتلكوا رؤيةً دونيّةً لسكّان فلسطين، وإن أظهروهم في الصور، فكان ذلك نادرًا أو بصورةٍ مُشوّهة، لكن التحوّلاتِ بدأت مع نهايةِ القرن الـ 19، عندما ازداد انتشارُ آلاتِ التصوير، وكثرَ عددُ المُصوّرين، وبدؤوا بالقيام بجوْلاتٍ خارج أطر المواقع المألوفة والتقليديّة، فصوّروا قرى عربيّة في الجليل والساحل، كذلك التقطوا صورًا لأحداثٍ تاريخيّةٍ مركزيّة، منها افتتاح الخط الحديديّ بين يافا والقدس، وبين درعا وحيفا، وزيارة القيصر الألمانيّ فيلهلم الثاني وزوجته إلى حيفا وفلسطين، فحتى الحرب العالميّة الأولى اقتصر التصويرُ على اطرٍ دينيّةٍ، ومواقعَ مُقدّسةٍ وشخصيّاتٍ مُهمّة، لكن مع بدايات القرن العشرين ازدادَ ظهورُ التصويرِ العائليّ، حيث بدأنا نرى اهتمامَ عائلاتٍ بامتلاك ألبوم صور عائليّ، وهذا نمطٌ جديدٌ مِن السلوكيّاتِ داخل المجتمع، ويعني أنّ الألبوم هو عمليّة توثيق لحياةِ وتاريخ العائلة.
أمامنا عرضٌ مُصوّرٌ مُتميّزٌ لفتراتٍ زمنيّةٍ مختلفةٍ من تاريخ مُدنٍ مركزيّةٍ في فلسطين، وهي القدس وأريحا والناصرة وبئر السبع، سمّاها جامعُها ومُنسّقها ومُؤلّفُ المادّةِ النصّيّةِ حولها "سِجِلُّ مُصوّر"، إنّه الباحث الفلسطينيّ خالد عوض ابن مدينة بيسان المُهجّرة، والمولود في ناصرة البشارة عام 1964م. أنهى دراسته للدرجتيْن الأولى والثانية (الماجستير) في جامعة بير زيت، وأصدر مجموعة من البحوث حول يوم الأرض وشاعر الثورة نوح إبراهيم ابن وادي النسناس، ويُديرُ متحفَ التراث الفلسطينيّ في الناصرة، ويعملُ على إعداد مشاريعَ مستقبليّةٍ في هذا الميدان. نستضيفه هذا المساء في نادي حيفا الثقافيّ، كما نستضيفُ عرائس فلسطين الجميلات الحاضرات، وفي مقدّمتهنّ أريحا ابنة العشرة آلاف سنة، وقدسنا الغالية والحبيبة، وناصرتنا الصامدة وبئر السبع دائمًا عاصمة جنوب الوطن.
مداخلة الباحث خالد عوض/ صُورُنا وصُورُهم وأسطورةُ أرض بلا شعب: كان الشعورُ شديدًا، ولا يزالُ بحاجةٍ إلى بحثِ الواقع الفلسطينيّ، من خلال الصورة الفوتوغرافيّة، بحثًا شاملًا ودقيقًا، غيرَ أنّ قلّة المَصادرِ والمَراجع المُختصّة في هذا المجال، جعلت القيام بهذا العمل مُتعذّرًا، ولكن ومنذ أوائل التسعينات من القرن الماضي، بدأت بوادرُ ونواة هذا العمل تصبحُ أكثرَ وضوحًا، وذلك حين قام د. وليد الخالدي بإصدار مؤلفه الأوّل حولَ الصورة الفوتوغرافيّةِ الفلسطينيّة، في كتاب أسماهُ (فلسطين ما قبل الشتات)، ومع التقدّم والتطوّر والأبحاثِ الجادّة، وظهور الإنترنت وغيرها من الوسائل المرئيّة، وفتح الأرشيفاتِ حول ما كان مُخبّأ ومخفيًّا من صور ووثائق ذات صلةٍ بالقضيّةِ الفلسطينيّة، اجتهدَ عددٌ مِن الكُتّاب والدّارسين لنفض الغبار عنها، وتحليلها وإبرازها بوجهها الحقيقيّ غير المُشوّه، ومِن الكتب الفلسطينيّةِ الهامّةِ التي تتحدّث عن تاريخ التصوير المَحليّ (الفلسطيني)، كتاب (لقطات مغايرة للتصوير المحلي المبكر في فلسطين)، لد. عصام نصار، و (أطلس جغرافية فلسطين) لد. سلمان أبو سته، إضافة إلى الكُتّاب الذين اهتمّوا بتوثيق الصورة الفوتوغرافيّةِ حديثًا، وإلى المؤسّساتِ والجَمعيّاتِ التي اجتهدت في السنواتِ الأخيرة بتوثيق وأرشفةِ الوثيقةِ والصّورةِ الفلسطينيّةِ قبلَ النكبة، وبعدَها كلّ هذا فتحَ آفاقًا جديدة للاهتمام بالصورةِ الفوتوغرافيّةِ الفلسطينيّة.
يقولُ سامي أبو سالم في دراستِهِ حولَ التصويرِ الفوتوغرافيّ: بدأ المُهاجرون اليهودُ يَتدفّقون إلى فلسطين، وارتفعت وتيرة إقامة المستعمرات، وأمَدَّتْهم أوروبا وخصوصًا بريطانيا بالآلات الصناعيّةِ والزراعيّةِ الحديثةِ والسلاح، فأقيمت المزارعُ الخضراءُ والمَباني داخلَ المستعمرات، وهنا على صعيدِ التصوير الفوتوغرافيّ، آلافُ الصّورِ التقطها مُصوّرونَ يهودٌ لمَزارعِهم ومُنشآتِهم الجديدة وصدورِها إلى أوروبا، لدعايتِهم الجديدة في إبراز قدرةِ المُهاجرين اليهود على تحويل الأرض إلى جنّات عدن، فكانت هذه الصّورُ ذاتَ أثرٍ مُزدوَج، وذلك بتشجيع الطائفةِ اليهوديّةِ للرّحيل إلى فلسطين، ولكسب التأييد اللازم مِن أوروبا، الأمر الذي لاقى صدًّا واسعًا في الأوساط الأوروبيّةِ الرسميّةِ والشعبيّةِ، فكتبَ المندوبُ الساميُّ هربرت صموئيل (إنّ المستوطنينَ في كلّ أنحاءِ البلاد، يَعملون في الأرض بتلهُّفٍ وإيمان، إنّ المستنقعاتِ والقفارِ تتحوّلُ إلى حدائقَ غنّاءَ، بلادٌ مُتخلفة تتحوّلُ إلى دولٍ مُتطوّرةٍ، وهؤلاء الناس الذين يقومون بهذه الأعمال جديرون بأنْ يُحوّلوا العدوّ إلى صديق).
ويَذكرُ الباحثُ عصام نصّار مؤلف كتاب (لقطات مغايرة للتصوير المَحلّيّ المُبكّر في فلسطين)، إنّ المشاريعَ الاستعماريّة التي استهدفت فلسطين، حملتْ في طيّاتِها رغبة الانتماء لهذا البلدِ، وفي الوقتِ ذاتِهِ، تمثيلُ كلِّ ما يتعلق بهِ، على أنّه ينتمي إلى الخطاب الخاصّ بأصحاب هذه المشاريع، فالتنافسُ الاستعماريُّ أوّلًا، ومِن ثمّ التنافس اليهوديّ الفلسطينيّ ثانيًا، على كلّ ما يتعلق بتاريخ هذا المكان، جعلَ مِن مسألةٍ تاريخيّةٍ يُفترضُ أنّها بسيطة، مَحلَّ جدَلٍ وجدالٍ ولكن، فالفريضة المُبسّطة التي تقولُ إنّ المَحليّة ترتبط بقضايا مثل مكان الميلاد، أو العلاقة الأسريّة، أو مكان الإقامةِ، أو حتى الانتماء العرقيّ، أصبحت غيرَ مفيدةٍ البتة في إطار نقاشِنا الحاليّ.
عواملُ افتقار حجب الصّور: لا بدّ مِن الإشارة أنّ الكتبَ والدراساتِ العربيّة، التي نشرتْ عن تاريخ المدن والقرى الفلسطينيّة، كانت تفتقرُ في غالبيّتِها للصورة الفوتوغرافيّة، هذه الصورة التي توثق المَعالمَ والمواقعَ والأحداث فترة الحكم التركيّ، في النصفِ الثاني من القرن التاسع عشر، وخلالَ فترةِ الاستعمار البريطانيّ حتى الاستيلاء على فلسطين، ويعودُ ذلك لعدّةِ عواملَ منها:
1* اقتصارُ التصوير في نهايةِ الفترة العثمانيّةِ على المُصوّرين الأوروبيّين وأبناء الطوائف غير المُسلمة، مثل الأرمن والسريان الذن كانوا من أوائل مُحترفي مهنة التصوير في فلسطين، وبالتالي اختفت الصورة في أرشيفاتِ الأديرة والكنائس. أمّا القسمُ الآخرُ مِن الصور اجتهدَ بتصويرها مُصوّرو الأميركان كولوني في القدس، لأغراضٍ سياحيّةٍ ودينيّة، وقد قامَ (ماتسون) بنقلها معه عندما غادر البلاد عام 1946م، وقدّمَها هديّة إلى مكتبة الكونغرس في واشنطن فيما بعد.
2ـ تسليمُ آلاف الصور الفوتوغرافيّة التي صوّرَها الانتدابُ البريطانيّ، إبان سيطرتِهِ على فلسطين لليهود، كهديّةٍ تُساهمُ في تسهيل احتلال فلسطين، حيث أنّ الانتدابَ البريطانيّ وقبلَ دخولِهِ فلسطين، قامَ بتصوير القرى والمدن الفلسطينيّة، وصمّمَ الخرائط العسكريّة والجوّيّة للسيطرة على البلاد، وذلك نزولًا عندَ رغبةِ بن غوريون، الذي ألحّ على حكومةِ الانتداب تصويرَ المَواقع الفلسطينيّة، بعدَ إقرار بلفور بإقامة الوطن القوميّ لليهود في فلسطين.
3ـ حجب الصور الفوتوغرافيّة وإخفاؤها ضمنَ مُخطّطٍ مَدروس مِن قِبل اليهود، كوْنَها تعكسُ الواقعَ الحقيقيّ للأرض الفلسطينيّة ومَعالمِها، وحولَ هذا الموضوع يَقولُ سلمان أبو سته مؤسّس هيئة أرض فلسطين:    (إنّ بن غوريون لم يكتفِ بالعمليّةِ العسكريّة التي كان غرضُها الغزوَ اليهوديَّ في فلسطين عام 1948م، ومِن بَعدِها عمليّة التطهير العرقيّ التي سارتْ جنبًا إلى جنب مع العمليّةِ العسكريّة، بل كان يُؤرّقهُ أنّ هذه الأرضَ تشهدُ على تاريخ أهلِها الذي يمتدّ إلى خمسة آلاف عام، شهادةَ مُسجّلة في أسماءِ مُدنِها وقُراها وأنهارِها ووديانها، آبارها وينابيعها، هضابها وتلالها، مروجها وكرومها وبساتينها، قلاعِها وحصونِها، ومواضعَ أحداثِها وانتصاراتِها ونكباتِها، وفي نهايةِ الفقرة يَذكرُ: هذا هو الرصيدُ المعنويُّ الهائلُ، وهذا التراثُ العريقُ وهذه الأصولُ الضاربة في عُمق التاريخ، هي أبجديّة سيرةِ الشعب الفلسطينيِّ وسِجلِّ أرشيفِهِ الوطنيّ، لذلك رأى بن غوريون ضرورة إزالتِهِ، حتى لا تُواجهُهُ أشباحُ الضحيّةِ ومَعالمُ آثارِها، حتى لو استولى على الأرض.
من هذا المُنطلق اختفى جزءٌ أساسيٌّ مِن الصورة الفوتوغرافيّةِ الفلسطينيّة، لتصبحَ حِكرًا لدولة إسرائيل التي واظبت على إخفائِها لسنواتٍ طويلة، خوفًا مِن إظهارِ حقيقةِ المكان والمَعْلم.
4ـ إغلاقُ الأرشيفاتِ في إسرائيل المُختصّة بالصورة الفوتوغرافيّةِ أمام الباحثين العرب لسنواتٍ طويلة، حيث أنّ هذه الأرشيفاتِ كانتْ وما زالت تُدارُ مِن قِبل باحثين ومُفكّرين، ويَدعمُهم جهازُ الأمن الإسرائيليّ، في المقابل، نشطت الأرشيفاتُ الإسرائيليّة بإبراز الصورةِ الفوتوغرافيّة لانتصاراتِها وحروبها التي خاضتها مع العرب والفلسطينيّين، فأنشأتْ أرشيفَ (الهجاناة) وأرشيف الجيش و(البلماخ)، وأرشيفاتِ الصّحفِ العبريّةِ التي وثقت الصورة الفوتوغرافيّة، في مجموعةٍ من الكتب التي صدرت بعدَ حرب عام 1967م، تحتَ عنوان النصر الكبير، في صُورِ (هنتصحون هجدول بتمونوت) The Great Victory in Pictures ، يشملُ الكتابُ مجموعة مِن الصّورِ التي قامَ بتصويرِها (يعقوب بوران ويحزقيل هماتبري)، ونقابة الصحفيّين ووزارة الأمن (الدفاع) الإسرائيليّة.
أمّا الكتابُ الثاني فهو عبارة عن موسوعةٍ مِن عشرةِ مُجلّداتٍ، قدّمَها مُؤلّفها تحتَ اسم (موسوعة أرض بلا شعب ـ الفترات الكبيرة لشعب إسرائيل)، تحوي مئاتِ الصور الفوتوغرافيّةِ للحقب التاريخيّةِ المختلفة، وأخرى للاستيطان في فلسطين، وللحقب التي حَكمتْ فيها كلٌّ مِن الدولة العثمانيّةِ والانتداب البريطانيّ وحتى حرب عام 1948م.
إضافة للمادّةِ التاريخيّةِ وثقَ الكتابُ مجموعةً مِن الخرائطِ والوثائق التاريخيّةِ، والعملاتِ النقديّةِ القديمة، ومجموعة من الصور الفوتوغرافيّةِ للقدس اليهوديّة في مَراحلِها المختلفةِ وحتى احتلالها في حزيران عام 1967م، أمّا توثيق الصورة الفوتوغرافيّة، فتعودُ لنقابةِ الصحفيّين الحكوميّين الأرشيف المركزيّ، وقسم العلاقاتِ الجماهيريّة في هيئةِ الأمم المتحدةِ، ومتحف الإثنيّةِ والتراثِ، ومتحف كيدمان للعملات والنقد ومتحف البلاد، إضافة لاستعمال صورٍ أخرى يَملكُها بنحاس شهناب، أهرون تسوكرمان، يوسف شامي وغيرهم.
فكرة التوثيق: جاءتْ فكرةُ توثيق الصورة الفوتوغرافيّةِ الفلسطينيّةِ، التي كانتْ وما زالتْ مُغيّبة عن القارئ العربيّ والغربيّ لفتراتٍ طويلة، حيث يُلاحظ أنّ بداية اهتمامٍ خاصٍّ وإدراكٍ حقيقيٍّ، لأهمّيّتِها مِن قِبل الباحثين والمؤرّخين العرب والغربيّين، الذين رأوْا في الصورةِ الفوتوغرافيّةِ وثيقة تاريخيّة، يمكنُ اعتمادُها كمرجعٍ لإظهارِ الأماكنِ والمَعالم الفلسطينيّةِ المختلفة، وكشفِ حقيقةِ الكارثةِ التي ألمّتْ بالشعب الفلسطينيّ، إضافةً إلى إمكانيّةِ استخدامِها مِن قِبلِ الباحثين والدارسين، كمَرجعٍ بتدعيم أبحاثِهم ودراساتِهم المتعلقة بالقضيّةِ الفلسطينيّة.


110
عكاظيّة حيفا الرابعة!
آمال عوّاد رضوان
أقامَ نادي حيفا الثقافيّ والمجلسُ المِليُّ الأرثوذكسيُّ الوطنيُّ في حيفا، واتّحادُ الكرمل للأدباءِ الفلسطينيّين أمسيةً عكاظيّةً حيفاويّةً، بتاريخ 11-2-2016، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسيّةِ في حيفا، وسط حضورٍ كبيرٍ مِن أدباء وذوّاقي الكلمة الشعرية، وقد تولّى عرافة الندوة الأديب فتحي فوراني، بعد أن رحّبَ المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافي بالحضور والمشاركين، وشاركَ كلٌّ مِن الشعراء: عزالدين السّعد، وسلمى جبران، ولبنى دانيال، ونظير شمالي وابنته غفران شمالي، وتخلّلت الأمسية وصلاتٌ فنيّةٌ وفقراتٌ موسيقيّةٌ مع فرقة التخت الشرقي/ بيت الموسيقى/ شفاعمرو بقيادة عامر نخلة، وازدانت القاعة بلوحاتٍ تشكيليّةٍ للفنان جميل عمرية، وفي نهايةِ الأمسيةِ الشعريّةِ وبعد أن شكر العريف الحضور والمشاركين، تمّ التقاط الصّورِ التذكاريّة!
 مداخلة الأديب فتحي الفوراني: لا بدّ مِن كلمةٍ سريعةٍ في بدايةِ هذه الأمسيةِ العكاظيّةِ الرابعة، ولنلتفتْ إلى الوراء، إلى أكثرَ من خمسةَ عشرَ قرنًا. مِن جميع أنحاءِ الدنيا الجاهليّة يأتي العربان بجماهيرهم وفودًا وفودًا، زرافاتٍ ووحدانًا، للمشاركةِ في المؤتمر السنويّ، فيجتمعونَ في الميدان، ويُقيمون العرسَ الثقافيَّ بين الطائفِ والرياض، وعلى البوّابةِ الشاهقةِ تنتصبُ رايةٌ نقشتْ عليها العبارة: "سوق عكاظ يُرحّبُ بكم". إنّه موسمُ المواسم، إنّه مؤتمرٌ سنويٌّ عالميّ، في لغةِ هذه الأيّام، ولربّما غابَ عن بال كثيرينَ منّا السّؤالُ: لماذا سُمّي عكاظ بهذا الاسم؟ ولا يلبثُ الجوابُ أن يَعتلي المنصّةَ، فيُزيلَ الضباب، ويُميطَ اللثامَ عن صفحةٍ مِن سِجلِّ المواسم، نقرأ فيها: سُمّي عكاظ بهذا الاسم، لأنّ العربَ كانت تجتمعُ فيه فيتعاكظون، أي يتفاخرون ويتناشدون. وسوق عكاظ يقفُ في طليعةِ الأسواق التي بلغ عددها أكثر من أربعةَ عشرَ سوقًا، على ذمّةِ الرّواةِ ومُؤرّخي الجاهليّة. يُعتبرُ (عكاظ) ملك الأسواق، تُعرَضُ فيه البضائعُ المادّيّة كالتمر، والسمن، والعسل، والخمر، والملابس والإبل، وسوق للبضائع الأدبيّة، حيث يأتي الشعراء بقصائدهم لتُعرض على محكمين من كبار الشعراء والنقاد، وكلنا يعرف النابغة الذبياني الذي كانت تنصبُ له قبّة من أدم، وكان يقوم مقام الناقد أو الحكم ليبت في ما يلقى أمامه من شعر. فعكاظ سوق تجاريّ واقتصاديٌّ واجتماعيٌّ وأدبيّ مِن أسواق الجاهليّة وأشهرها. يعتبر عكاظ مؤتمرًا سنويًّا يستغرق مدة 20 يومًا، من أول ذي القعدة إلى العشرين منه. ومن أطرف ما يذكره التاريخ، أن يرى زائر السوق بعض الآباء يعرضُ بناته للتزويج. أليست الداعشية الحديثة خليفة للداعشيّةِ التي ترضع جذورها من ظلاميّة العصر الجاهليّ؟!                             
أيّها الإخوة، عكاظيتنا الحيفاوية ترتدي حلة أخرى لها مذاق آخر، إنّها عكاظيّة فصليّة، تلقي بظلالها على مواسم سنويّة أربعة، إنّها عكاظيّة أدبيّة ثقافيّة واجتماعيّة ووطنيّة، تضمّ تحت جناحيها أقلامًا جاءت من جميع أنحاء الوطن، بدءًا من الجليل الأخضر، حتى زهرة المدائن التي تنزف دمًا وتضوع عطرًا وصمودًا. وهذا المساء تُفتح الشرفات على مدينة البشارة وأسوار عكا وقرية الشعراء "البقيعة" وعروس الكرمل، وصولا إلى اللجون وزهرة المدائن. أدعو إلى المنصة الإخوة: نظير شمالي وغفران شمالي، وسلمى جبران، وعز الدين السعد ولبنى دانيال. أرحب بهذه الكوكبة، كما أرحّب بفرقة التخت الشرقي القادمة من بيت الموسيقى في شفاعمرو والتي يقودها الأستاذ عامر نخلة. أرحّب بالفنان جميل عمريّة الذي يُتحف هذه الأمسية بلوحاته التشكيليّة، وأرحّب بالضيوف الكرام جميعًا وأهلا وسهلا بكم.
*لبنى دانيال هل تعرفون المربي الأستاذ الياس توفيق دانيال. سقى الله أيّامك أيّها المربّي الطيّب. لقد علمتنا دروسًا في التاريخ في المدرسة الثانويّة البلديّة في مدينة البشارة، فأحببناك مُربّيًا وأبًا عطوفًا وكوفيّة وعقالا، ووجهًا باسمًا أبدًا. أنت في القلب يا أبا توفيق. في لقاء عابر، تعرّفت إلى حفيدته البنيّة لبنى دانيال، وكم كنت سعيدًا بهذا اللقاء الذي أعادني إلى أيّام الزمن الجميل. لقد رأيت جدّها أبا توفيق يُطلّ من عينيها وابتسامته تورق على شفتيها. لبنى دانيال خريجة الجامعة العبريّة، عاملة جتماعيّة وشاعرة واعدة، لها ديوانان "خطى" و"هنا أرضي"، وفي قلبها سرٌّ لا تفشيه لأحد!
ويحك/ لبنى دانيال: يا هذا المُرّ المار الحُرّ الفار من قيظ/ النار لصحراءٍ بلا ماءٍ تبكي هشاشتها/ يأتي الينا/ كلما نقص الغياب/ كلما نادت أرض اليباب/ واصطلينا واكتوينا بالسراب/ لا تنادِ لا أحد/ يهفو على قلبك كالمطر/ يهفو ويرسم تفاصيل قمر/ فيضيء على مفارق الوحدة/ وينهمر قصصا في ثناياها / وتر/ يدندن كلما افترقنا/ وكتبنا أنشودة الشجن/ علّنا نصالح الصباح في وتيرته/ الثابتة على شرفاتنا التي تدنو/ من/ أحلام المغيب/ لا تغيبي يا نوارس/ عن المدن الحزينة/ وأضيئيها مدارس/ وأغلقي السجون واجعلي الحرية/ تلفح صميم الناس/ علّه السكون/ النامي بعد العاصفة/ يحرّك النوايا في اتجاهات الأمل/ عاش الأمل وعاشت بلادي/ مثل شرنقة كبرت لتستفيق...
أيّها النهر الجاري/ لبنى دانيال: يعدو الغزال بخفة الظّل المتيّم بك/ يغزو الخيال أحلامك الحبلى بك/ بك بك/ سحرٌ رائعٌ/ هنا في أرض الزيتون/ لا شيء مُحال/ لا الحب/ لا الكراهية/ لا تغيّر الأحوال/ زغب اليمام على شرفات الفقراء والأمراء/ مُرّ بهم/ وسترى الفرق ما بينهم/ رؤاك/ رؤاك/ وتعاطفك مع بعضهم: هكذا تقول السريرة/ أنت الصباحيّ الرعافيّ/ الذي يزرع الزهر في قلبها الأغلال/ أيها السائر بين السائرين/ قف/ وخذ معك طفلا ينام على أرصفة الشوارع/ وعلّمه/ علّمه كيف يكون هو نفسه ويحبها/ تلك الفضيلة الجميلة/ التي حدودها السماء وصفاؤها ماء/ هنا في أرض الزيتون لا شيء مُحال/ كالفصول الأربعة/ كالخير كالأهوال/ فلا تنسَ أرض الزيتون/ أيها النهر الحُرّ الدافق/ أرض الجمال…
مداخلة الأديب فتحي فوراني: عز الدين السعد من اللجون إلى أم الفحم إلى حيفا إلى زهرة المدائن تكون المشاوير على درب الآلام النازفة. من معطفي في الكلية الأرثوذكسية انطلق الفتى، وراح يحلق في دنيا الشعر. في جعبته ثلاثة دواوين، تضمّ أشواقًا حزينة ومفاتيح معلقة على جدران القلب، يشقّ طريقه وفي الصدر حلم بالعودة إلى الجنة الضائعة، إلى ملاعب الطفولة، وإلى تراث الآباء والأجداد. أعزك الله وأسعدك يا عزالدين السعد، وحقق حلمك بالعودة إلى الجنة الضائعة. تفضل أبا يسار، ضيفنا القادم من زهرة المدائن.
عزالدين السعد/ قد بلغت الخمسين: ذات خمسين/ مررت بي/ تحرك بي الولد الذي/ كان بي/ ما زال هناك يقفز بين حاراتها/ يبني بيوتات طين/ يمرح تحت حبات المطر/ يعد لي الشعرات البيض/ في الخمسين/ يضاحكني/ ويسابق الريح بنبضي/ الذي يشع حبا أحمر/ لصباحات الندى في صيفها/ وقطف حبتي تين/ في فضاءات الشطآن/ يتراكض الطفل الذي بي/ ما بلغ بعد خمسا أو ستا ربما عشر/ في ربيعها الدافي/ أحس طفلي يقرأ في كفيّ/ خط السعادة يقطعه الحياه/ اي بنيّ.. ما زال في العمر بقيه/ ربما/ وانت انتظر سيعودون ان انتظرت انا او انت/ فانتظرهم هم عائدون/ اليوم او بعد خمسين/ سيعود العائدون/ اليك حبيبتي/ وسيلعب الاطفال في واد الست/ في عين الحجه في اللجون/ انا هنا على انتظار في الخمسين/ وانت لا تكبر وابق على انتظار/ واجمع لي الحنون واعطنيه او ضعه عليّ/ فيما تبقى لي من هذه الخمسين
 أُحبُّك يَا حَيفَا/عزالدين السعد (من ديواني-اعتذارات بأثر رجعي): لعينين من شطِّ الفنار/ هذا النشيد/ للحنّاء في ورق الصنوبر/ للظلّ المنكسر عند البحر/ لشاطئ حيفا، للكرمل/ هذا النشيد/ ليلي يفتّش عن ليل، فيكِ/ ويضيع باحثا عنكِ/ في النفق الطويل/ كنا نسير معا/ ونسير ..في النفق المظلم، الطويل/ واليوم أبحثُ في انعكاسات/ المرايا/ عن شبه، عن لحن يرن في الصدى/ عن صوتك/ وأنت/ أنت عمَّ تبحثين؟/ في النفق الطويل/ أتبحثين عن ضوء؟/ وأنت.. الشمس تحرقُني/ كلَّ حين/ أعَن وَرد؟ وأنت في عنقي/ طوقَ الياسمين/ عَمّ تبحثين؟ عمَّ ؟/ عن صمتٍ آخر/ أم عن النطقِ في صمتي؟!/ أنا يَا صديقة صَامت في عزلة/ فالنطق أصبح لعنة.. للعالمين/ أنا يا صديقة زورق/ في لُجّة البحر، يَنشُد مرفأ/ يبحث عن حَنين/ أستلُّ نصف اللقمة من فمي/ كي أضمَن قوتًا للغداة/ أبحثُ عن الحبر في دمي/ لأخُطَّ مرثاةً أو بعض آه/ جفّ دمي!/ وأنشقّت شراييني/ عن صوت مبتور.. قف!/ يسيلُ الصون.. يلدغ شفتيّ/ يُقبّلها، باسم محظور ينطقه! قف!/ أنطقُ أخرج من نفسي/ اخرج من صمتي/ تتكسّر المرايا.. فتخرجين/ أنتِ/ ينكسِر الظلّ عن البناية/ وتخرجين/ تزدادُ حمرة الحنّاء وتخرجين/ تخرجين من دَمي/ من سَوْرَتي تخرجين/ تخرجين لتصبحي جسدًا أراه/ لتصبحي صورة.. حلمًا/ فوق الخليج/ أنَدفِع نَحوكِ بكل القوة/ والحنين/ نجلس في ظل البرج/ وبين شفتيْ الكلمه/ واحدة لا أكثر/ كنت أبحثُ عن فرصة/ تدخلينَ دائرةَ صمتي/ ويعششُ صوتَك في دمي/ كنتُ سأقول: من غير مقدمات!/ أنا باختصار.. بكل اخْتصار/ أحبكِ/ أحبكَ يَا حَيفَا..
رقصة عصفورة/ عزالدين السعد (عن طفلة تواجه في القدس ما تواجهه): قلي بربك كيف يفرح/ مكلوم والجرح قاني/ ااه أيا عصفورةً/ تتقافز/ وحولها الصقور/ تشهر الأظفارَ/ تتوجس رعباً حولها/ ظمآى لدمها المسفوح/ تحت السما/ ااه يا عصفورةً/ تتقافزين جسورةً/ كأنك المريد في حلقة الصوفيّ/ يردد ملء السماء/ اسم الله يمجده/ الله الله الله الله/ تنادين وغير الله/ لا يسمعك أحد/ والله شاهدك/ وجرحنا الدامع/ ذرات وجع يتربع فوق مقصلة الفرح/ وعين تناثرت ذراتها/ بليل ٍ طال سهاده أضاع حلماً بالفرح/ تتوكأ على جناح عصفورة/ طارت الى كبد السما/ الى النجوم في ألق الدجى/ تطلّ على الكون تمجّد خالقه/ وتدعو لأبٍ وأمٍ في الحياة/ يكابدان من الوجع الخفيّ/ ويرصدان مواجع الفرح
ثمانية وأربعون/عزالدين السعد/ اللجون/ القدس(من ديواني- مفتاح يصرّ ): يتساءل عمرٌ/ يمتدُّ في الأيام عقود/ يحتار التلامذة/ والمعلمون/ شهود/ ثمَّةَ سرٌّ في المعدود/ ما من حل غير العودة/ ارتحل العادّ لا المعدود/ ناحت خيل الصبح القادم/ يا الله انت المعبود/ تالله، ما منا مساوم/ والدنا أورثنا عهدا/ ألا نترك حق مقاوم/ رايتنا للحق الثابت/ بيعتنا للوعد الصادق/ عودتنا.. ستكون العيد/ والنصر حليف للصابر/ نصر من الله قادم/ اِجمعْها فتجدها/ الأصعب/ ثمانية ٌوأربعون/ من أعلى من كل جانب/ ينتصب العدد.. يقاوم/ كان العددُ سَنَةً مَرَّه/ صار العددُ اليومَ سنينْ/ خذ مَنْ وُلدوا فيها الآنْ/ عَدُّوا للآن السِّـتـِّينْ/ أو كانوا قد وُلدوا قبلا/ فيهِمْ مَنْ جَاوَزَ تسعينْ/ ما زال المفتاحُ مخبّأ/ ينتظرُ العودةَ والعيد/ يُحصِي جيلَ الوعدِ/ ألوفا أياما وشهور سنين/ واحد وعشرون ألفا يتبعها/ مئات خمس من أيام وحنين/ لا يخطئ من عد أبدا/ قد جاوز عُمرَ الستينْ/ هذا عمي بقي وحيدا/ يتحرّقُ شوقا للعيد/ تتجدّدُ أشواقُ العوده/ فالمسجدُ أضحى منجرة/ والمنزلُ مهدومُ الحالْ/ لكن البابَ على وَعْدٍ/ والمفتاحُ والأقفالْ/ يحملُها  مولودٌ قادِمْ/ من رحم ٍبَلـَغَ السّتينْ/ جيلٌ وُلِدَ يَهُزّ القادِمْ/ خذْ مِفتاحَ البَيتِ وَقاوِمْ/ قدرٌ مكتوبٌ لو تدري/ فوق جبين ِالصُّبْحِ القادمْ/ ثمانية ٌوأربعونْ
لا تحسبوه عددٌ/ بل أناسٌ يُرزَقونْ/ مِنهُمُ، المُهَجَّرُ قـَسْرًا/ عن ديارٍلانتظارِ/ منهم الصامد فيها/ حاملا وعد السنين/ والعددُ يحمل عَلَما/ لملمَ الشـَّعبَ سِنينْ/ لاجئون، من ثمانية وأربعين/ باقون، من ثمانية وأربعين/ باقون، في ثمانية وأربعين/ عرب الثمنيه وأربعين/ فلسطِينِيّو ثمنيه وأربعين/ مواليدُ ثمنيه وأربعين/ أمواتُ ثمنيه وأربعين/ شعب كامل الصفات/ أينما حل اسمه/ رقمٌ ملثـّمٌ/ كوفية مرقمطة سوداء/ ثمانيةٌ وأربعون/ اسم للمكان وللزّمانِ، في آنٍ/ ثمانيةٌ وأربعون/ نـُعلـِّمُهُ أولادَنا، فلا َنتوهُ فيهِ/ نكبتُنا استقلالـُهم/ ميلادُهم شهادة ختموها/ وفاتَنا، لكنها قيامة/ ثمانية وأربعونْ
من بين السطور والكلمات/ من بين ذرات التراب/ ينتصب الرقم الصعب/ في شتات الشتات/ بين الطرقات في  المخيمات/ مفتاح معلق/ بين المعلبات وكرت اونرا/ بلا باب/ مفتاح يرث رقما سريا/ واحدا لكل الأبواب/ ثمانية وأربعون/ رقم الباب/ لن ننساه مهما غيبوه/ من ذاكرة/ المفاوضات/ ورموه خلف الباب/ رغم كل المغريات ينتصب/ نحو الباب الموجود/ هنا في داخل الداخل/ من كل اصقاع الدنيا/ حيث عشش ثمنية وأربعون/ ستون عاما عمر العش/ برقم لن يقبل القسمة/ لن يقبل إلا العودة/ مهما دارت السنين/ رقم ينتصب/ ثابت هو/ محفور فينا/ ابيٌّ عصيٌّ/ نقيٌّ/ يانع دوما/ تبت يدا من يمحوه/ ومن لا يتذكر/ أنه مفتاح الصبح/ رابعة النهار/ بيت القصيد/ عين القضية/ وأصل أصل/ ناموس السنين/ رقم دائم الخضرة/ مضرج بدم الضحايا/ بلا أكفان بيضاء دُفنت/ بلا أحزان سوداء/ ولا عزاء لها/ إلا، ثمانية وأربعون
نعونا في حاضرات العرب/ وأفرطوا بالنوح/ على فردوسنا المفقود/ بنار فسادهم/ رجموا الصابرين/ أسبوعا من الوعد/ وعودة  يا لاجئين/ تالله ما فتؤوا/ يحصون ذا الأسبوع/ نفدت وعود عرقوب/ التي ترجون/ ما كان فيها إلا/ ثائرٌ لا يستكين/ اِقرأ حروف الضاد/ من أعلى تجد/ في أول السطر/ ومن قاع الكلام/ لا بد تلقاك/ حروف العام/ تجمعها فلا تقرأ/ معنى السنين/ لكنها دوما/ ثمنيه وأربعين
لغز/ رقم صعب المراس/ عمره ستين/ زوجيُّ الهوا/ أمه فلسطين/ وأبوه يلتحف السما/ مذ كان في حطين/ قسماته  قمحية/ نبراته وردية/ لو كان تحت الماء/ أو فوق الثرى/ لا يتغير لونه/ لا يتبدل طعم البرتقال المر فيه/ من بعد ثمانية وأربعين/ إلا بعودة/ هو آآخر ما تبقى/ من هزيع الليل/ هو صرخة الحبلى/ على أعتاب ميلادٍ لفجر/ هو الأذان البكر/ في صحراء جاهلة/ تحمل كتاب الله/ لا تقرأ، تئن/ هو دائم ليوم الدين/ لا يموت لا يفنى/ يزداد إصرارا/ يرابط ليوم الدين/ هذا هو الشعب/ شعب الجبارين/ بدأ المسيرة والرباط/ في ثمانية وأربعين/ عجزوا أن ينكروه/ وفي كل الشتات/ المر يبقى مرابط/ دائم بأمر رب العالمين/ عاش من سماه/ وعاش، عاش  شعبك فلسطين/ عاش شعبك فلسطين
عزالدين السعد/ اللجون– القدس: يـاأنـتِ! (من ديواني -اعتذارات بأثر رجعي): يا أنتِ/ يا وردة الصبحِ المزنـَّر/ بالدجى/ قد قارب الليل في الأقمار.. الأضلعا/ والحبر جفَّ في الدواة/ ولم يَعد، في دفتر التسجيل، شبرا موضعا/ يَا أنتِ..استريحي ساعة/ وأريحي فيها بسمةَ التكوين/ قد ماسَ جذعُكِ/ منذ مال اصيلها/ لعناق موج البحر مقنَّعا/ فدخولُ سبتُ الظالمين/ أصبح موتَنا/ وخروجُه عيدا وتعبدا/ السبت ليل دامس/ ما خوفنا، من ظِلِّ سبت ماثل في صومعه؟/ إذ أنَّ فجر الصامدين/ جَحافل/ ستُفتّت القضبانَ.. وتمحو الأدمعَ/ فتَماسكي وتعاظمي/ لتُعانقي، بَحرا/ لايعكسُ الا لَونا/ من فيروز عينيكِ/ ولا تتعلَّقي ببقايا/ صُدفة/ قد تأتي، وقد لا تمرُّ بحيِّكِ/ فربَّ صدفةٍ قتلتْ/ فيمَا مَضى، للألف/ ألفِ ألفِ موعدِ
مداخلة الأديب فتحي فوراني: سلمى جبران ذات يوم حطت حمامة على كتفي وألقت بين يديّ رباعية شعرية، لاجئة في وطن الحداد. كانت اللاجئة مفاجأة إبداعية حافلة بالمشاعر الصادقة، وحافلة بعذابات الغربة، وحافلة بالإبداع. يبحث شاعر مغمورعن سلمى وديارها، ويقتله الشوق إلى معانقة خيال سلمى أحن شوقًا إلى ديار رأيت فيها خيال سلمى، فأين أنت أيتها الشاعرة المتمردة. أين أنت يا أيتها اللاجئة في وطن الحداد؟ أين أنت يا بنت الريف التي تركت بصماتها على أيام الزمن الجميل؟ أين أنت يا نينوى الدمشقية؟ أين أنت يا سلمى؟
المحَبّةُ فـي دمي/ سلمى جبران: بيني وبينَكَ ما لمْ يحتمِلْ جَدَلا/ بيني وبينَكَ عِشْقُ / دَهْرٍ عاشَ حُرًّا وانجلى/ كُـنَّا نعاقِرُ فيهِ خمْرًا بالمحـبَّةِ مُثـقَلا/ نشْقى ونحمِلُ جرحَنا/ بمحـبَّةٍ ونقولُ للأحقادِ لا/ فتعمَّدَتْ بالحُـبِّ دُنيانا/ وكُـنَّا للبساطةِ معقِلا/ عُمُرٌ قضيْناهُ وصانَ/ الحُـبُّ فيهِ المنزِلا/ زرَعَ الهوى فيهِ الحياةَ/ وغــابَ وارتَحَـلا/ بقِيَتْ بنفسي مِنْـهُ/ روحٌ تبعَثُ الأملا/ وتَصُـدُّ عَنِّـي الشَّـرَّ/ والأحقــادَ والعـَذَلا/ يا حُــبُّ علِّمـني صلاتي/ فالمحَبَّةُ في دمي صارتْ صَلا...
كَذَبَــتْ/ سلمى جبران: كذَبَتْ نواميسُ/ العروبةِ وانطفا/ قنديلُها في داخلي/ وخلعْتُ أقنعتي، أضأتُ بصيرتي/ فتكشَّفَ "الشَّرَفُ" المُكَدَّسُ/ في زوايا معقلي/ ورجعتُ أطلبُ قصَّتي/ فوجدْتُها مقتولةً/ ووجدْتُ فيها قاتلي/ ووجدْتُ أشلائي/ تغنّي للهوى وتحِنُّ/ للماضي البريءِ/ بحسرةٍ ومحبَّةٍ وتفاؤلِ/ فوقفْتُ  أُصغي عـلَّني/ أمتصُّ من نَغَماتِهِ/ حرًّا يُذيبُ سلاسلي ...
ليتَـني أسكـُبُ روحي/ سلمى جبران: يا حبيبي/ ليتَـني أسكُبُ روحي/ في سطوري/ فهيامي ذابَ في يومي/ وعاش في ضميري/ فصار عرَقًا ولُقمةً وساعدًا/ يشقى ويبني لي مصيري/***/ فالهوى سِرٌّ يذوبُ/ ليلةً يظهَرُ ليلَهْ/ يكبُرُ العاشقُ فيهِ مرّةً/ ومرّةً يكادُ أن يُجِلَّهْ/ ليتَـني أسكُبُ روحي/ في سطوري/ فأنا ما زلتُ في حُبِّكَ طِفلَهْ!
عـرْشُ "العَـرَبيَّة"/ سلمى جبران: أتوسَّلُ أستعطِفُ/ أبقى راكِعَةً/ وأُناجي عرْشَ "العربيّهْ"/ وأعودُ أَطوفُ بمملَكَةٍ يحميها/ وأُعاقِرُ خمرَتَها/ أرْشفُ منها كأسًا تِلْوَ الأُخرى/ بجنونٍ وشَهِيَّهْ/ وأَعودُ إلى زَهَراتٍ فيها/ أستنشِقُها يتخدَّرُ قلبي/ من عَبَقِ رحيقٍ فيها/ ويُثيرُ بأعماقي أحلامًا ورْدِيَّهْ/ فأحسُّ العرشَ سيبقى/ عرشًا يتَّسِعُ/ ويحوي أرجاءَ الدُّنيا/ لا يعرِفُ أيَّ حدودٍ/ تختلِطُ الغربيَّةُ منها بالشَّرْقيَّهْ/ ويرابِطُ حُرَّاسُ حدودٍ/ ما زالوا يبكونَ الأَطلالَ/ بِشِعْرٍ يستَنْزِفُ كلَّ/ دماءِ الحاضِرِ/ ويُصلِّي كي تهْطُلَ/ في "الرُّبْعِ الخالي"/ أمطارٌ صيْفيَّهْ/ فيُرابِطُ كلٌّ منهُمْ/ في زاويَةٍ/ كي يتصدَّى/ لطليقٍ حُرٍّ/ كي يُقنِعَهُ/ ببنودِ "الدُّستورِ"/ المُثقَلِ بالكلماتِ/ وبالأورامِ الدُّهنيَّهْ!/ ويروحُ "يُناضِلُ"/ كي يُنقِذَ في/ الجِسْمِ العاجِزِ روحًا/ يُمْكِنُ أن تَهْرُبَ منـهُ/ وتهاجِرَ، تسْكُنَ/ في وطَنِ الحُرّيّهْ/ تقلقُني تلكَ/ الحرْبُ الدّائرَةُ/ يُغادِرُ نفسي/ طعْمَ "الخَمْرَةِ"/ أفقِدُهُ، أصحو منهُ/ وأَفَتِّشُ، يُسعِفُني/ ضوءُ سِراجي/ عن أرواحِ الشِّعْرِ/ بمملكةِ "العربيّهْ"/ فأجِدُها ترقُصُ فَرَحًا/ وتُغنِّي/ وبأيدي كلٍّ منها/ شُعْلَةُ حُـبٍّ تتلأْلأُ/ وتُنيرُ قلوبَ المُحتاجينَ/ ببسمَةِ أملٍ عفْوِيّـهْ/ وتُغنّي شِعرًا ينطقُ/ بحروفٍ كفَرَتْ عِشقًا/ لكنَّ ال-أبجَدَ فيها/ يركَعُ ويُصلِّـي/ يمنَحُها هالاتٍ قُدْسيَّـهْ ...
وطني يسكُنُني/ الديوان القادم/ سلمى جبران: وطني يسكُنُني ويهاجِرُ بي/ يودِعُني سِرًّا/ أرَّقَ مضجَعَهُ/ لا يفقهُ إن كانَ/ بكاءًا أم شدوًا/ أو كانَ نعيمًا أم نارًا واقِعُهُ/ يتوطَّأُ أرضًا/ يعتنقُ الحُلْمَ فيصحو/ لا يجِدُ مكانًا في دنيا/ باتت تتزاحمُ فيها أضدادٌ/ ما فيها أحدٌ مَعَهُ/ فارتادَ بقاعَ الدُّنيا/ ينشُدُ وطنًا/ في الرّيحِ مواقِعُهُ/ وتهاوى الحُلْمُ/ تحوَّلَ وطني روحًا/ في كلِّ حواسي مَوْقِعُهُ!
صورةُ البِنـتِ الخجولهْ/ سلمى جبران: نُظُمُ القبيلةِ عمَّرَتْ قصرًا/ ودسَّتْ فيهِ أسرارَ الرُّجولهْ/ واستفرَدَتْ في عالمي/ إذ حجَّمَتْ أُنثايَ في كوخٍ/ يليقُ بصورةِ البِنْتِ الخجولَهْ/ حَبَسَتْ فؤادي، خفَّفَتْ من نبضِهِ/ حَرَمَتْهُ من عَبَقِ الطُّفولهْ/ وروَتْ حكاياتِ الهوى في مَسمَعي/ بطلاتُها لا جِسْمَ يحوي روحَها/ والحُبُّ يلقاها قتيلهْ/ لمَّا كَبرْتُ وأُضرِمَتْ بجوارِحي/ نارُ الهوى لمْ تَحتَرِقْ صُوَري/ ولكِنّي احتفظتُ/ بصورةِ البنتِ الخجولَهْ/ لـكنَّهُ قد لامَني/ وأزاحَ عن وجهي وشاحي/ حطَّـمَ الأسرارَ في نفْسي/ لِيَكْفُرَ بالقبيلهْ/ فَضَحَ الحقيقَةَ/ كشَّفَ الأسرارَ.. صحَّاني/ وغابَ ولمْ يَعُدْ/ لكنَّني أيْقَظْتُ في نفسي دليلَـهْ/ إذ لم يَضِعْ مِنِّي/ تخمَّرَ في دَمِي/ وأفاقَ في عَيْنَيَّ نورًا كاشِفًا/ قد أخرَجَ الإنسانَ من قصْرٍ/ تحوَّلَ سِجْنَهُ/ وأراهُ عُمْقَ الكوخِ/ فاسترْخى/ أفاقَتُ في ثناياهُ مشاعِرُهُ الأَصيلـهْ ...
مداخلة الأديب فتحي فوراني: نظير وغفران شمالي يأبى الختام إلا أن يكون مسكا. ومسك الختام نسر وعصفورة. هل رأيتم في حياتكم نسرًا أسمر يضم إلى صدره عصفورة؟ يحلق النسر بعصفورته ويعزفان على وتر واحد، ويبدعان سمفونية شعرية واحدة؟ لقد اعتاد النسر أن يطل علينا كل أسبوع، يركب زورقه وينصب الشراع، ليبحر في عباب الذاكرة الفولكلورية! من عكا التي لا تخاف هدير البحر، ينطلق الثنائي نظير وغفران شمالي أدعو عاشق التراث وتفاحة القلب ليبحرا معنا في عباب هذه الأمسية العكاظية.
مداخلة نظير شمالي: يا مسافرا طليطلهْ/ إن مرّتِ الخيلُ في هذي المدينهْ/ هاتِ من عِطر الشّرق لنا أسطوره/ من ضفائر حبيبتي/ هاتِ من عطر الشّرق موْجتيْن ناعمتيْن/ لانّي قبلَ المسا/ أحبّ أن أغنّي كعُصفورٍ طليق/ قبْلَ أن يهجُمَ الحزنُ على قلبي.
لأبي حكاياتٌ كثيره/ حولَ موقد النّار في أماسيِّ الشتاء/ عن بطلٍ يُولدُ مِن ليل الفقراء/ " من تلال القمح، من ملكوتٍ هناك" /" ياتي القمرُ الضّاحكُ بقبّعة خضراء"/" " فحقولُ القمح تغنّيكَ، يا نشيدَنا المذهّبَ، يا قمر"/ "وبالحطب نأتي.. نحتسي الشّايَ السّاخنَ عمّا قليل"/" وبالفرح نحلُم.. على جناح حكايه".
لابي حكايات عن قمر بلون الدّمِ الازرق- آهٍ، يا قمري الحزينْ ، يا قمرا من بكاءٍ وحريرْ"/ -"يولَد القمرُ من مغارات الليل المدلهمِّ"/ يحضُن عيونًا حالماتْ"/ "نصيح: يا رغيفَنا الاخيرْ"/ "يا خبزَنا الحريريّ، يا قمر"/ أحبّكِ شيئا كالمستحيلْ ليس عاديا حبّك/ يا امراةً ليست كالنساءْ/ ويا طفلةً ليست كالاطفالْ.
وفْ ساعا.. ا ..ا .. باصْفُنْ/ وباتحسّرْ ع ايّام مِ العمرْ مرّتْ/ ولاشوف العمر غيمِه وْبتمرْ../ خايفه ما بتستنّاش/ بسّ توقّفْ ع شبّاكك سيعة زمن ترتاحْ/ وإن سالني النّاسْ شو باتمنّى/ قبل ما الرّوح تْسافرْ وتروح/ باقول: بس.. اشوفِكْ انتِ/ وبعدِك. ./ خلّي العمر يُكْرجْ كرجْ!
اعرِف.. خياليّ انا، كما في الشرق البخورْ/ حلَمتُ.. حلمت.. دخلْتُ ملكوتَ العاشقينْ/ طواحينَ الهواء حاربْتُ بسيف من خشب/ ومن زبدٍ كانت كلُّ القصورْ.
ضَعفي: انّي أحبّ- حين أحبّ- كثيرا ..كثيرا/ بمنطق الأطفال أعشق حتّى النُّخاعْ/ أكرهُ ألاعيبَ الرّجال على عتَبات النّساء/ أحببتُ فيكِ براءةَ الامس القريب! ودونَ رجعةٍ.. مضى زمنُ البراءهْ.
أسكَرني حبُّكِ/ أراق دمي على حدِّ السّيفْ/ يا من خِفتُ على كفَّيكِ من لمسة الوردِ ورِقّةِ النّدى!/ فكنتِ أنتِ السّيفَ والسّيّافْ!
(1) حبيبتي صغيرهْ/ طفلةٌ لا تشيخ في الزمن الشيخْ/ والقلْبُ بِوُسْعِ الفضا الحالمِ بين احضانِ السفوحْ..
 (2) حبيبتي عندَ النافذهْ/ بثوبها الازرقِ بلون المساء قُبَيلَ المغيبْ/ تَسمع غنائي وصهيلَ جواديَ المشتاقْ:/ "قلبي وقلبُكِ التحامُ الفصولْ"/ "قلبانا (الارضُ- الجذرُ)، (العِرْقُ- الدمُ)، (النُّسْغُ- الشجرْ)"/ "فهاجري في دمي المتْرَعِ عشقا ونداءْ"/ "قلبي وقلبُكِ عِرْقٌ ودمْ"/ "فكيف يَنْبِضُ العرقُ إنْ جَفَّتْ دِماهْ؟!!"
(3)  بيتي صغيرْ/ أحلامي صغيرهْ:/ في الصباح نهرُبُ.. نعانقُ الازاهيرَ الهناكْ/ نُطْلِقُ أهازيجَ الرُّعاةِ فوق هاتيكَ السفوحْ/ "شفتاكِ زهورٌ بريَّهْ"/ "وحبّاتُ لَوزٍ وكَرَزْ"
 (4) يتساقط في اماسِيِّ الشتاء رمادْ/ لِمِدفأةٍ أتوقْ/ اليكِ أتوقُ أكثرْ../ في الخارجِ ريحٌ غَجَريَّهْ/ يا هذهِ الريحْ/ ماذا نفعل غيرَ أن نبكيَ فرحًا وعِشقَا؟!/ _ حين يَطولُ العناقُ وتغفو المِدفأهْ _/ وجهي ووجهُكِ كوكبانْ/ تعانقا في بحر المغيبْ/ أسبلي جفنيكِ قليلًا/ فالمسا يُطْبِقُ أجفانَهْ/ هاجري، يا هجيرَ الشَّوقِ، يا عطشَ المفازاتْ/ يا أنتِ، يا أجنحةَ الشوقِ وروحي الضّياءْ،/ عَطَشُ الدراويشِ لأفياءِ الإلهْ/ وروحي اللهيبُ، وروحي الظلالْ
 (5) وتفجأُ القلبَ أُغنيَّهْ:/ "بي ظمأُ الصحراءِ لطوفانِ حُبّْ"/ "وشوقُ الفارسِ العائدِ على صهوةِ الريحْ"/ "لِصَدْرِ الحبيبة البتولْ"/ "تعالَي نَهُزُّ العالَمَ الميِّتَ القلبْ"/ "نُطْلِقُ صرخةَ الحُبِّ الحبيسَهْ"/ "نصيحُ: انطلقي، انفجري، يا أعاصيرَ الحبّْ"/ "فجّري شرايينَ العالَمِ المثْلَج المذهولْ"/ "ثوري، انفجري، عشقًا، فَرَحًا، وبكاءْ"/ "فالدَّمعُ في العيون حَجَرْ"/ "الحُبُّ في القلب حجرْ"/ "وانكفأتْ للريح جَعْبَةُ العشّاقْ.."/ "تعالَي.. زمنُ البعثِ جاءْ"/ "زمنُ الحبِّ جاءْ"
 (6) حبيبتي تقولْ: "حُبُّنا لم يكُنْ كالفَجْأَةِ أوّلَ مَرَّهْ"/ "حُبُّنا في مغاور الزمنِ السّحيقْ"/ "منذُ كان الأزَلْ"/ "حُبُّنا منذُ كان الكونُ كانْ"/ "حُبُّنا بَدْءُ الخليقهْ".
مداخلة حسن عبادي: أشكر أستاذَنا فتحي فوراني على عرافَتِه المميَّزةِ لهذه الأمسية العكاظيّةِ الخاصّةِ، وأنتهزُ الفرصةَ لأهنئ أصدقاءَ النادي بإصداراتِهم الجديدةِ: *الشاعرةُ فردوس حبيب الله وديوانُها : "وجع الماء". *الأديبةُ حنان جبيلي– عابد  ومجموعتُها القصَصيّةُ: "هروب أنيق". *الكاتبُ محمد بكرية وكتابُه "على المَقعدِ المهترئ".
رحلَ عنّا مؤخرًا طيّبُ الذكرِ المرحوم الدكتور إلياس سليم سروجي الذي يعودُ له الفضلُ في إقامة نادي حيفا الثقافيّ، من حيث لا يدري، لأنّي قرأتُ كتابَه "من مروج الجليل- مذكّرات طبيب من الناصرة"، وتحدّثَ فيه عن الدورِ الثقافيِّ للمجلسِ الملّي الأرثوذكسي عهدَ الانتدابِ، وفي ذاك الأسبوعِ التقيتُ ورفيقي القارئَ ظافر شربجي، مع أخي وزميلي فؤاد نقارة في باحةِ مسجدِ الجرينةِ، (30-11-2011)، في جنازةِ المرحومةِ سَروينازْ إيراني- دقة، فحدّثتُه عن الكتابِ وسألتُه مستفِزًّا: "وينكمْ" فلم يكذّبْ خبرًا، وبادرَ لدعوةٍ تشاوريّةٍ تأسيسيّةٍ نتاجُها تأسيسُ النادي في مثلِ هذا اليومِ: الحادي 11-2-2012، واليومَ نحتفلُ بعيدِ ميلادِه الرابعِ.          فؤاد نقارة هو المحرّكُ الرئيس  لهذا المشروعِ الجبّارِ، يعملُ دؤوبًا ليلَ نهار على إنجاحِه، ويُضَحّي بوقتِه وطاقاتِه على حسابِ عائلتِه، وقرّرنا إهداءَه لوحةً عنوانُها "وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ" للمبدعِ ظافر شربجي، وباقةَ وردٍ نُعبّرُ بها عن شكرِنا وتقديرِنا لعطائِه.

111
المعرضُ العكّيُّ- ممنوع تحلم- في كفرياسيف!
آمال عوّاد رضوان
تحتَ عنوان ممنوع تحلم، افتتحتْ جمعيّةُ إبداع/ كفرياسيف معرضَ الفنّان التشكيليّ العكّيّ وليد قشاش، بتاريخ 30-1-2016 في جاليري إبداع كفرياسيف/ رابطة الفنّانين التشكيليّين العرب، وسط حضورٍ كبيرٍ مِن فنانين وسياسيين ومهتمّين وأصدقاء ومتذوقي الفنّ، من أهالي كفرياسيف وعكّا والمناطق المجاورة، برعاية المجلس الياسفاويّ المَحلّيّ. افتتحَ المعرضَ العريفُ الأستاذ عبد الخالق أسدي، بتهنئةِ الفنان وليد قشاش بمعرضِهِ والترحيب بالحضور، تلتهُ كلمةُ الأستاذ جورج توما رئيس جمعيّة الترحيبيّة، وأثنى الكاتبُ يعقوب حجازي مديرُ مؤسّسة الأسوار على الفنان، وعلى لوحاتِهِ ومسيرتِهِ الفنّيّةِ العكّيّةِ الخاصّةِ الّتي تُعبّرُ عن أشكال المُعاناةِ والألم، ومداخلة د. بطرس دلّة بكلمةٍ تحليليّةٍ عن لوحاتِ المعرض، وأهمّيّةِ مدرسةِ الحياةِ وتأثيرِها في التأليفِ بينَ التقنيّةِ الفنّيّةِ والأسلوب في تشكيلِ اللّوحات، ومداخلة لد. منير توما حولَ تحليل بعضِ لوحاتِ المعرض ومعانيها الرمزيّةِ، كما كانت هناكَ مُداخلاتٌ لكلٍّ مِن: عضو الكنيست الإعلاميّ زهير بهلول، وعضو الكنيست السابق محمّد ميعاري، والأديب نظير شمالي، والفنانة أمل مرقص، ثمّ كانت كلمة الفنان وليد قشاش صاحب المَعرضِ المُحتفى بهِ، فشكرَ الحضورَ وجمعيّةَ إبداع، والقيّمينَ على استضافةِ واحتضانِ وإنجاح مَعرضِهِ في كفرياسيف، وتمّ التقاط الصّورِ التذكاريّة.
مداخلة جورج توما رئيس جمعيّة إبداع: تحيّةً للحضور ولأعضاء الهيئةِ الإداريّةِ والفنّيّةِ والفنّانين المحترمين بالرّغم من قلّة حضورهم. أرحّبُ بالفنّان وليد قشاش ابن مدينةِ عكّا، الذي رأى أعضاءُ الهيئةِ الفنّيّة أنّ إنتاجَهُ الفنّيَّ يستحقّ أنْ يُعرَضَ في جاليري إبداع، فأشكرُهم على هذا القرار، آمِلين للفنّان وليد النّجاح في مسيرتِهِ. إخواني، إنّ جمعيّة إبداع تفخرُ بأبناءِ شعبنا الفنّانين مَهما كانت انتماءاتُهم وبلداتُهم، لأنّ مِن أهدافها تطويرُ الفنّ في الوسطِ العربيّ، وتشجيعُ الفنّانينَ ومدُّ يدِ المساعدةِ لهم. لم يُحالفني الحظُّ سابقًا بالاطّلاع على إنتاج الفنّان قشّاش، لكنّني شاهدتُ في التلفزيون الإسرائيليّ لقطاتٌ مِن إنتاجهِ الذي يَعرضُهُ في بيتهِ في عكّا، وكلّي أمل أن يُعجبَ المعرضُ ولوحاتُ الحلم الممنوع الحاضرينَ، ويتفهّموا الحُلمَ الذي يَمنعُننا الفنّانُ منهُ، أعتذرُ عن عدم تمكُّنِ رئيس المجلس السيّد عوني توما مِن الحضور لانشغالِه، وأنقلُ تهانيَهُ للفنّان وليد قشاش بنجاح المَعرض، وأعتذرُ عن عدم حضور الأخ شوقي خوري عضو الهيئةِ الإداريّةِ، بسبب رداءةِ الأحوالِ الجوّيّةِ في قريتِهِ فسّوطة، ويبعثُ بتهانيهِ وتبريكاتِهِ للفنان وللحضور.
مداخلة د. بطرس دلة: أيّها الأخواتُ والإخوة، أهلًا بكم في هذا المعرضِ المُتواضِع لصديقِنا الفنّان وليد قشاش ابن مدينةِ عكّا جارتِنا العزيزة. يقولُ المَثلُ الشعبيُّ: عندما يَزدادُ عنفوانُ الصّراعُ يَزدادُ مجدُ النّصر! والفنان وليد قشاش إنسانٌ متواضعٌ، يُسخّرُ ريشتَهُ وألوانَهُ مِن أجل أنْ يَبعثَ البهجةَ والفرحَ في نفوس مُشاهدي لوحاتِهِ، وقد اختارَ موضوعَ مَعرضِهِ "ممنوع تحلم" مِن لغتِنا المَحكيّةِ، التي على بساطتِها تحملُ الكثيرَ مِن المعاني العميقةِ، لأنّهُ مَن يستطيعُ أنْ يَمنعَ الإنسانَ مِن أنْ يَحلمَ؟ قد يَمنعُ الغاصبُ الإنسانَ عن الكلام والكتابة، وقد يمنعُهُ عن الرّسم والنّحتِ والنّضالِ، ولكن كيفَ يَمنعُهُ مِن أنْ يَحلم؟ لننظرْ إلى لوحةِ الإنسان الباكي المُعذّبِ على نصّ الدّعوةِ لهذا المعرض! إنّها لوحةٌ ناطقة بكلّ ما ضمّنَها الفنّانُ، مِن معاني النّقمةِ والثورةِ على حياةِ الذّلِّ والانكسارِ التي يُعاني منها الإنسانُ الفلسطينيّ! فكما أنّ فلّاحَنا الفلسطينيَّ يَتآنسُ بالبرقِ ويَنتشي بالرّعدِ، ويَتماهى كلّيًّا في كلّ صباح فلّاحي عندما يَخرجُ في صبيحةِ كلّ يومٍ إلى حقلِهِ، كذلك صديقنا الأستاذ وليد قشاش يُحاولُ أنْ يَرسمَ لنا طريقَ العودة، طريقَ معاناةِ اللّاجئينَ المُشرّدينَ في خيامِ الذلّ منذ عام 1948، فلا تَقيهم هذهِ الخيامُ مِنَ البردِ والزّمهريرِ في هذا الشتاءِ الباردِ، فأينَ المُنظّماتُ الدوليّةُ والضّميرُ العالميُّ، كما في اللّوحتيْن عن مُنظّمةِ هيئةِ الأمم المُتّحدة؟!
أيّها الأحبّة! الفنّانُ المُبدعُ هو ذلكَ الّذي يأخذُ مِن بيئتِهِ ومُحيطِهِ، ويُطبّقُ التقنيّاتِ الحديثةَ وأساليبَ مُختلَفِ المدارسِ الفنّيّةِ، فيُؤلّفُ بينَ التقنيّةِ والأسلوب يُعدُّهُما لمدرسةِ الحياة، حيثُ تتكاملُ فرحتَهُ بما أبدعَ، لأنّ هذا هو الإبداعُ بعينِهِ، ولأنّهُ يكونُ قد أنجزَ شيئًا مُهِمًّا في الفنّ! إنّ أطلالَ قرانا العربيّةِ المَهدومةِ ما زالتْ تبكي أهلَها الذينَ هُجّروا منها، هي حالاتُ كتابةٍ أو لوحاتٍ فنّيّةٍ ستظلُّ تسكنُ ضمائرَنا، إلى أنْ تستعيدَ كيانَها في الوجودِ المحسوسِ لا في الخيالِ والماهيّةِ فقط! هذا ما نُسمّيه الالتزام! هكذا كانَ الفنّانُ العالميُّ بيكاسو قد رسمَ لوحة الغيرنيكا، وهي القرية التي هدَمَها النّازيّونَ للقضاءِ على الثورةِ الشعبيّةِ الإسبانيّةِ (البارتيزانيّة)، فجاءتْ هذهِ اللوحةُ تعبيرًا صارخًا صادقًا عن وحشيّةِ الغزاةِ النازيّين. بيكاسو إذن كانَ مُلتزمًا! لوحةُ غزّة أليست هي اللوحةُ الغيرنيكا الإسبانيّة المُجسّدةُ، في حطامِ البيوتِ وآلافِ الجرحى والقتلى.. إلخ! الفنّانُ المُلتزمُ يَعرفُ كيفَ يَنتصرُ في النّهاية، فتنزفُ ريشتُهُ أو قلمُهُ أو إزميلُهُ، مِن خلالِ التعبيرِ وتَحقيقِ الحُلمِ الموعودِ في العودةِ إلى فلسطين! فكيفَ نمنعُ الأحلامَ إذن؟! على اللوحةِ أنْ تزخرَ بشحناتٍ مُعيّنةٍ أنْ تُقدّمَ لنا فِكرًا مُعيّنًا، وإلّا أتتْ بلا روحٍ ومعنى وبلا روعة، لأنّها يجبُ أنْ تعبرَ عن شيءٍ مُهمٍّ مِن المعاناةِ، خاصّةً كمعاناةِ الشاعرِ أثناءَ ولادةِ قصائدِهِ! يجبُ أنْ تصعقَنا الفكرةُ مِن أوّلِ نظرةٍ، وتجعلُنا نقفُ نتأمّلُها دونما رغبةٍ في البحثِ السّريع عن غيرها. هذا السّرُّ قد يُقيّدُ الباحثَ، ويجعلُهُ مُسمَّرًا أمامَ اللوحةِ وروعتِها! وهذا هو سِرُّ الفنّ العظيم الذي لا يُدركُهُ سوى مَن تعمّقَ فيهِ وأبدع!
إنّ قيمةَ اللّوحةِ ليستْ بنوعيّةِ مضمونِها الّذي يختارُهُ الفنّان، بل بمَدى مَن تُثيرُهُ هذهِ اللّوحةِ مِنَ الأحاسيسِ الجَماليّةِ الّتي تَخلقُها داخلَ المَشاهدِ الحاذق، والأستاذُ وليد قشّاش جاءَ ليُجسّدَ في هذا المعرضِ ما قلناهُ نظريًّا مِن جهتِنا وعَمليًّا مِن جهتِهِ. على اللّوحةِ أنْ تبدوَ ككائنٍ حيٍّ ينبضُ ويَتنفّسُ، ويُقيمُ حوارًا معَ الذّاتِ ومعَ الأحلام! فإذا فهِمنا كمُشاهدينَ، فإنّ اللّوحةَ ستُعطينا فنّا، أمّا إذا تعمّقنا فسوفَ تُعطينا أكثرَ مِن ذلك بكثير! ولكن إذا ما بحثنا عن التفاصيل فسوفَ يَفقدُ الفنَّ جَماليّتَهُ، لأنّنا يَجبُ أنْ نبحثُ عن التّكامُلِ قبلَ التّفاصيل. لوحةُ الجدارِ الفاصلِ الّذي اخترعَتْهُ (إسرائيل)، كي تُحوّلَ الأحياءَ العربيّةَ في المُدنِ الفلسطينيّةِ إلى غيتوات، (والغيتو لِمَن لا يعرفُ هو حيٌّ مُقفلٌ اخترعَهُ النازيّونَ ضدَّ اليهودِ في أوروبا). ولوحةُ البحرِ الهائج: إنّها تعبيرٌ صارخٌ عن حياةِ الإنسانِ الفلسطينيِّ المُعقّدةِ، بسببِ الصّراعِ اليهوديِّ العربيِّ والذي ليسَ لهُ آخِر!
ملاحظةٌ أخيرةٌ: المُشاهدُ للوحاتِ هذا المعرضِ سوفَ يُذهَلُ كثيرًا، بسبب الألوانِ التي اختارَها عزيزنا وليد قشاش، وهي ليستْ ألوانًا أصليّةً بل مُركّبةً تركيبًا فائقَ الدقّةِ، وهذا أمرٌ لا يُتقِنُهُ إلّا فنّانٌ عاشقٌ لفنّهِ، ولسانُ حالِ صاحبنا يقولُ: أنا شعبٌ لم يُولدْ بعدُ! ربّما سأولدُ في أيلول القادم من عام 2170، هذه الـ ربّما تجعلُني حزينًا حتّى الثمالة! سأقيمُ الكثير مِن المعارضِ في عدّةِ كواكب، كالمُشتري وعطارد والمريخ وزحل، فربّما يَعيشُ الحُلمُ الذي في داخلي كلوحةِ الذّاتِ الحقيقيّة! الفنان وليد قشّاش يُثيرُ لدينا الكثيرَ مِن شعورِ الاعتزازِ  بما أبدعَ في هذا المعرض، لذلك ومِن أجلِ أمورٍ أخرى تستحقُّ الحياة لكَ الحياة.                                               
مداخلة د. منير توما: الفنانُ القديرُ وليد قشاش ابنُ مدينةِ عكّا التاريخيّةِ، وابنُ الفنارِ والبحرِ والأسوار، لوحاتُهُ تتحدّى الظلمَ والاضطهادَ، فالأقدامُ والأيدي والعيونُ وما تبقّى مِن جُثثٍ كما نرى في اللوحات، تُذكّرُنا برواية "ما تبقّى لكم" للأديب الفلسطينيّ الشهيد غسّان كنفاني، لذلك يَطغى على كلّ هذه اللوحاتِ النّزعةُ الإنسانيّة، وانتماؤُهُ للحزب الشيوعيّ كان ضمنَ المُؤشّراتِ لتماهيهِ معَ المُستضعَفينَ والمُعذّبينَ. في لوحةِ الأحذيةِ الحمراء والبيضاء بتنوّعاتِها المختلفة، نجدُ فيها رمزًا إلى عهدِ العبوديّة، حيث كانَ العبيدُ حفاةً، والأحذية لا يَنتعلُها إلّا الأحرارُ، وهذه هي أحذية الشّهداءِ الّذينَ ناضلوا في سبيلِ الحرّيّةِ، فالأحذيةُ الحمراءُ رمزُ التحدّي والكفاح والدماء، بينما الأحذية البيضاءُ فهي رمزُ البهجةِ القادمةِ والانتصارِ ونيل الحرّيّة، ففي لوحاتِ الفنان وليد قشاش نرى الوجوهَ حزينةً باكيةً، وجوهًا بانوراميّة مُجسَّدةً، فكلّها مُتنوّعةُ التعبير، فيها نفحاتٌ وتلميحاتٌ مِن التّجسيدِ الميثولوجيّ، والأساطير التي تعكسُ البطولة وأبطالَ الحرّيّة رغمَ المعاناة، لأنّه لا إبداعَ دونَ معاناة، فالفنّانُ وليدُ تقمُّصِ روح المعاناة، ليسَ شكليًّا ولكن داخليًّا وحسّيّا.     
مداخلة يعقوب حجازي: وليد قشاش فنّانٌ أصيلٌ ومشاغبٌ نبيل! الفنّانُ الأصيلُ المُشاغبُ وليد قشاش صوتٌ يَهزّ الضّميرَ، ويَعكسُ بصِدقٍ حياةَ المُعاناةِ الّتي يَعيشُها أهلُ عكّا. إنّ التّحدّي الأكبرَ هو شعاعُ الأمل الّذي يَخترقُ عتمةَ اللّيل بعزمٍ وحزمٍ، يَشقُّ فجرَ المُستقبلِ بثقةٍ وتفاؤلٍ وإصرارٍ على كسبِ القضيّةِ والانتصار! وليد قشاش صوتُ المُعذّبينَ في وطنِ الآباءِ والأجداد، ويا روعةَ المسافةِ بينَ الواقعِ والحلمِ والخرافة، وبين المعاني المَشحونةِ بالكبرياءِ. يا صنوَّ النفسِ التي تفيضُ بحُبّ هذا البلد الوطن، ويا توأمَ الرّوحِ الّتي تنشدُ المَحبّةَ والسّلامَ لكلّ الناس، هذا الزّمانُ لنا، وهذا المكانُ لنا، والحاضر يدعوكَ أنْ واصِلْ إبداعَكَ، لا تُهادِنِ الجُبناء، واحضُنْ جمرَ الوعدِ وكلَّ الأوفياءِ في وطنِ الآباءِ والأجدادِ!
مداخلة وليد قشاش: ليسَ المُهمُّ أن يَفهمَ الحضورُ عملي الفنّيّ، بل الأهمّ أن يَشعروا بهِ، فالفنّانُ إنسانٌ يبحثُ في أعماق الخيال، لكي يَبعدَ عن الواقع، ويُبدعَ مِن اللّاشيء شيئا، وعندما ينمو العملُ الفنّيُّ جنينّا صغيرًا، يَكبُرُ ويكبرُ وتستمرُّ عمليّةُ الولادةُ، فأنا أعملُ لساعاتٍ وأيّام، وعندما أنتهي مِن العملِ الفنّيّ، يبدأ حواري معَ النتاج الفنّيّ، عندها أشعرُ أنّني فنّانٌ أبحثُ عن وليدِ الفنّانِ بينَ الألوانِ والأخشاب والحديدِ وموادّ أخرى، وأبحثُ عن أيّ شيءٍ بأسلوبٍ جديد. نحنُ نستطيعُ أنْ نجعلَ مِن الخيالِ واقعًا، حينَ نعترفُ أنّ هناكَ عالمًا اسمُهُ خيال، فالمبدعُ يَسكبُ كلّ حبَّهُ في أعمالِهِ وإبداعاتِهِ، ويَطبعُ بَصماتِهِ عليها.



112
سميح مسعود في مركز درويش الناصراوي!
آمال عوّاد رضوان
أقامَ مركز محمود درويش الثقافيّ النصراويّ، وبلديّة الناصرة ودائرةُ الثقافةِ والرياضةِ والشباب أمسيةً أدبيّةً لدكتور سميح مسعود لإشهار الجزء الثاني من كتابه "حيفا... برقة"، وسطَ حضورٍ كبير في قاعة محمود درويش/ الناصرة بتاريخ 22-1-2016، وقد رحّبَ الأديبُ مِفلح طبعوني بالحضور، ثمّ أدارَ الأمسيةَ بروفيسور محمود يزبك، وكانت مُداخلاتٌ حولَ الكتاب لكلٍّ مِن: د. جوني منصور، د. سهيل أسعد، مفلح طبعوني، رائد نصر الله وأحمد درويش، وفي نهاية اللقاء شكر المحتفى به د. سميح مسعود الحضور والمنظمين والمتحدثين، وتمّ توقيع الكتاب، ووُزّعَ على الحاضرين، وتمّ التقاطُ الصّورِ التذكاريّة.
مداخلة محمود يزبك/ قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة حيفا: د. سميح مسعود شاعرٌ وكاتبٌ وباحثٌ أكاديميٌّ، هُجّرتْ عائلتُهُ مِن حيفا، وعاشَ في برقة التي تنحدرُ منها عائلتُهُ. درسَ في سراييفو وبلغراد، وحصلَ على الدكتوراه في الاقتصاد. عملَ مستشارًا اقتصاديًّا في مؤسّساتٍ إقليميّةٍ عربيّةٍ، ويعملُ حاليًّا مديرًا للمركز الكنديّ لدراساتِ الشرق الأوسط. صدرتْ له مجموعة من الأبحاثِ الاقتصاديّةِ، والعديدُ مِن الدّراساتِ الأدبيّةِ والتراثيّة، وكتابُ "حيفا.. برقة" هو كتابُ بحثٍ عن الجذور وذاكرةِ المكان، يأتي بعدَ مرورِ حوالي سبعة عقودٍ على التهجير القسْريِّ المُبَرْمَج، الذي قامتْ بهِ القوّات الصهيونيّة. وعلى الرّغم مِن قسوةِ التهجيرِ واللّجوءِ والمُخطّطِ الذي سعى أصحابُه لتطهيرِ فلسطينَ عِرقيّا مِن سكّانها الأصلانيّين، أرادَ د. سميح أن يكونَ الاحتفالُ بذاكرةِ المكانِ في الناصرةِ بالذات، وفي قاعة مركز محمود درويش، لِما فيها مِن دلالاتٍ نستبشرُ بها المستقبلَ، ولا نبكي فقط على ما أضعناهُ وخسرناهُ أثناءَ نكبتِنا، فمدينةُ البشارةِ مدينةُ التلاحمِ الفلسطينيّ تُمثّلُ مَعلمًا حضاريًّا، يلتقي بهِ صليبُ الشّرقِ معَ هلالِهِ في شموخٍ وإباءٍ، ناظرًا لماضٍ عريقٍ ليَستشفَّ منهُ أملًا لِمستقبلٍ قريب.
وعلى الرّغم مِن سياساتِ التّدميرِ التي انتهَجتْها المُؤسّسةُ الإسرائيليّةُ، لتدميرِ ومحوِ مَعالمِ الحضارةِ العربيّةِ لفلسطين خلالَ خمسيناتِ القرن العشرين وعَبرَنةِ المكانِ والتاريخ، لتختلقَ أساطيرَ هزيلة، تُؤكّدُ الأجيالُ العربيّة الشابّة على هُويّتِها الفلسطسنيّةِ المُتجذرةِ في عُمقِ التاريخ، وباطنِ الأرضِ وظهرِها، وتقولُ لكلّ المُعتَدينَ على حقوقِنا: نحن هنا باقونَ ما دامَ في الوادي حجارة. البحثُ عن الجذورِ وذاكرةِ المكانِ تحكي قصّة عائلةِ سميح، والّذي هُجّرَ مِن بيتِهِ في حيفا في شارع الناصرة حين كانَ طفلًا، وانتقلَ معَ والدِهِ وباقي أفرادِ أسرتِهِ لمنبتِهم في قريةِ بُرقة، وخلالَ سعي سميح في رحلةِ البحثِ عن جذورِهِ الّتي امتدّتْ على صفحاتِ الكتاب، الجزءِ الأوّلِ والجزءِ الثاني الذي نحنُ بصددِهِ، رسَمَ لنا حدودَ المكانِ المُكوّنِ مِن خيوطٍ مُتشابكةٍ ومُتداخلةٍ بعضُها ببعض، والتي تُشكّلُ شكلًا مِن أشكالِ هُويّتِنا الفلسطينيّةِ المُتشابكةِ المُتداخلةِ، والمُترابطةِ معَ المكانِ بروابطَ سرمديّةٍ، لا يُمكنُ لأيٍّ مِن قوى الشّرِّ أنْ تمحوها، أو حتى تخدشَ تَلاحُمَها وترابُطها، وأبناءُ بُرقة المنتشرون في الجليل والمثلث وجبال النار، يُمثلونَ صورةً مُصغرّةً لباقي الأماكن الفلسطينيّةِ التي تتشابكُ بخيوطٍ مشابهةٍ، لتلكَ التي اكتشفها وأزاحَ اللثامَ عنها سميح مسعود، وهذا التّشابكُ لهو الدّليلُ الأقوى ليقولَ لكلّ الجَهَلةِ والذينَ يدّعونَ المعرفة: نحن أبناءُ هذهِ الأرض، نتمدّدُ بكلّ أرجائِها تمضّنا وتحضّنا لأننا أبناءَها، لم نتطفلْ عليها ولم نعتدِ على حُرمتِها. بيننا وبينَ أرضِنا عقدٌ طبيعيٌّ، سَنّتهُ طبيعتنا المُشتركة، ونحن مَن يعرفُ حقَّ المعرفةِ أنّ "على هذه الأرض ما يَستحقّ الحياة". هذا الكتابُ يُشكّلُ في واقع الأمر نموذجًا يُحتذى به، ودعوةً للكثيرين "للبحث عن جذورهِم"، كي تبقى ذاكرةُ المكانِ عَطِرةً بتللكَ الجذور.
مداخلة د. سهيل أسعد نائب رئيس بلدية حيفا: أعبّرُ عن مشاعرِ شكري وامتناني لأخي د. سميح مسعود، لأنّهُ نجحَ مِن خلالِ كتبِهِ وزيارتنا المشتركةِ لبُرقة، أن يدعمَ وتُقوّي الشّعورَ بالانتماءِ لحيفا ولبرقة في آن، ومشاركتي في الناصرةِ هي عبارة عن إغلاق دائرة، فبُرقة مسقط رأس والدي، والناصرة مسقط رأسي، وفي حيفا ترعرعتُ وكبرتُ، فانتقالُ والدي بجيلٍ مُبكّرٍ للتعلّمِ في مدرسةِ شنللّر للأيتام في القدس، كانَ السّببَ لعدم استمرارِ العيشِ في بُرقة، ولكن زلتُ أحافظُ على علاقةٍ وثيقةٍ مع عددٍ مِن أهالي برقة، وأقوم] بزيارتِهم عدّة مرّاتٍ خلالَ السنة، ولا تزالٌ مساحاتٌ مِن أراضي عائلتي هناك أقومُ بالإشراف عليها، خاصّةً في موسمِ الزيّتون. د. سميح مسعود نجحَ مِن خلال جزئيْ كتابهِ "حيفا.. برقة" في البحث عن الجذور، وفي إعادةِ علاقةِ أبناء برقةِ العائشين والمقيمين خارجها، وأعبّرُ عن تقديري الذي تُكنّهُ لنا ولأهلنا ولبقائِنا وصمودنا في الوطن، فبالرّغم مِن عدم وجودِ روابط عائليّة، فنحن نحافظ على صِلاتٍ اجتماعيّةٍ، ونحافظ على زيتونِنا بمساعدةٍ مِن أهل بُرقة ولن نفرط به، فبرقة مُتعدّدةُ الأديان، لكنّها تُشكّلُ عائلةً واحدةً، والعلاقةُ بينَ سكّان برقة مِن مسلمين ومسيحيّين كانت نموذجًا ومثالًا للوطنيّةِ والتمسُّكِ بالثوابت، وهذا النموذجُ يجبُ تعميمُهُ، وفرحُنا كبيرٌ بأنّ سميح قامَ بهذه المُهمّة، ناقلًا إلى العالم من خلال كتابهِ فكرةَ العلاقة بين برقة وخارجها من قرى ومدن وعائلات. الرّوايةُ البرقاويّةُ الحيفاويّةُ ليست فريدةً، فكلُّ فلسطينيٍّ يمكنُ أن يَتماثل معَها، لكنّ الفريدَ والشيّقَ هو تدوينُ سميح مسعود لهذه الرواية، وأهمّيّتِها الكبرى لذاكرة المكان في كتبِهِ، وهذا الإصدارُ الذي جاءَ في أجواءٍ ظلاميّةٍ أصوليّةٍ، لهو توكيدٌ على الرّسالةِ أنّ الدين لله والوطن للجميع!
مداخلة د. جوني منصور: حيفا.. برقة/ ذاكرةُ المكانِ وعوْدةٌ إلى الجذورِ الّتي لا تُنسى: لماذا المكانُ ولماذا الذاكرة؟ وبالتالي: لماذا ذاكرةُ المَكانِ؟ هو سؤالٌ فلسفيٌّ وفكريٌّ بقدْرِ ما يُمكنُ أن يكونَ سؤالًا رومانسيًّا: هل للمكانِ ذاكرةٌ؟ وإنْ كانتْ لهُ ذاكرةٌ، مَن يقفُ وراءَها ومَن يُفَعِّلُها؟ أسئلةٌ كثيرةٌ تُراودُ كلَّ مَنْ يَدرسُ موضوعَ المكانِ وما يرتبطُ بهِ مِن الوقائعِ والأحداثِ، وعلاقاتِ البشرِ معَ المكانِ وغيرِ ذلك. سأخوضُ في هذا الموضوع مِن جوانبِهِ الفلسفيّةِ والتاريخيّةِ مُرورًا بالإنسانيّة، وهو الجانبُ الأهمُّ بنظري في هذه الحُلّةِ. ما الذي يجعلُنا نتذكّرُ مكانًا دونَ سواه؟ ما الذي يَجعلُنا نتوقُ لمكانٍ دونَ آخر! هناكَ أمكنةٌ، حينَ نعودُ إليها، تعودُ بنا الذاكرةُ إلى الوراءِ، فنتنسّمُ عبقَ الماضي، وتتوالى مشاهدُ عِشناها أو نتخيّلُها اعتمادًا على حديثٍ سمعناهُ، أو قصّةٍ أو روايةٍ ذاتِ صِلةٍ بالمكان. لكن، أيُّهما يُشكّلُ ذاكرتَنا ويُعيدُ صياغةَ دواخلِنا أكثرَ: الزّمانُ أم المَكانُ؟ أم معًا يُشكّلانِ تلكَ اللّحظاتِ الّتي لا تُنسَى مِنَ التّجلّي، والتي تُعيدُنا إلى الوراءِ فنتذكّرُ كلَّ شيء؟ لكن هناكَ أمكنةٌ لا نشعرُ بها، ونمرُّ عليها مرورَ الكرام. وهناك أمكنةٌ أخرى تُشكّلُ مساحةً أضيقَ مِن حيّزِ الذّكريات. شخصيًّا، أرى أنّ هناكَ ارتباطًا وثيقًا بينَ الذّاكرةِ الإنسانيّةِ الفرديّةِ والجَمعيّةِ على السّواء، وبينَ ذاكرةِ الأمكنةِ. بناءً عليهِ، فإنّ استخدامَ مُصطلحِ (ذاكرة المكان) ليسَ مِن بابِ التسلية، وبما أنّنا نقولُ: هذا "البيتُ الّذي شَهِدَ مولدُ فلان" أو "هذا مَسقطُ رأسِهِ" أو "الدّار والشارع الذي حدثَ فيهِ كذا" مثلًا، فهذا دليلٌ على التفكير. إذًا؛ المكانُ يُقَدّمُ شهادةً للذاكرةِ، بتأكيدِهِ حضورَ الإنسانِ فيهِ وإنْ كانَ غائبًا عنهُ بمحضِ إرادتِهِ أو قسْريًّا، فالمكانُ سِجلٌّ تاريخيٌّ قويٌّ وعميقٌ لنِتاجِ الحضورِ الحاليِّ فيهِ، وليسَ بالضّرورةِ مادّيًّا. لهذا، ليستْ فكرةُ ذاكرةِ المكانِ رحلةً رومانسيّةً معَ الزّمنِ في المكان، إنّها حقيقةٌ واقعيّةٌ، يُعبّرُ عنها الكاتبُ شِعرًا، قصّةً، روايةً أو بحثًا، وليسَ أَدَلُّ على أهميّةِ (الشهادة) الّتي يُقدّمُها المكانُ على أحداثٍ مُعيّنةٍ، مِن واقعةٍ أو حادثةٍ أشارتْ إليها صحيفةٌ ما أو وثيقةٌ ما أو رسالةٌ ما.
إذًا؛ معنى "المكان" هو الحيّزُ المادّيُّ (أو المعنويُّ الافتراضيُّ) الذي تتكوّنُ الوقائعُ والأحداثُ والأفعالُ ضِمنَهُ، ويَستحيلُ بالتالي تَصَوُّرُ وجودِها بدونِهِ، وسيصعبُ تَذكُّرُها أو إثباتُها أحيانًا، مع زوالِ الأمكنةِ التي احتضنَتْها، فالمكانُ والحالُ هذهِ ليسَ حيّزًا مادّيّا وذاكرةً وحسْب، بل هو عنصرٌ أساسيٌّ مِن عناصرِ الحدَثِ وتفاصيلِهِ، ولا يَنبغي إغفالُهُ، فالمكانُ بما يَحويهِ مِن دلالاتٍ ويَشي بهِ مِن وجدانيّاتٍ، أضحى هو الآخرُ صعبًا على الفهمِ والإدراك. لا أقصدُ المكانَ الذي يَعني لكَ شيئًا؛ مثلَ المكانِ الذي وُلِدْتَ فيهِ ومارسْتَ فيهِ ألعابَكَ معَ أصدقائِكَ وشكّلَ ذاكرتَكَ الأولى؛ وإنما مكانًا قد تغيّرَ وتبدّلَ، أحدُهما يَقفُ عليهِ مذهولًا مأخوذًا بأشكالِهِ وواقعِهِ، وما أفاضَ بهِ عليهِ مِن مَشاعرَ، وآخرُ لا يَعني له المكانُ شيئًا، فينظرُ كالغريب والمُستغرِبِ إلى مَكنوناتِ الأشياءِ الّتي غيّرَتْ مِن نظرتِهما لذاتِ المكان، لكنّ المكانَ نفسَهُ تتغيّرُ دلالاتُهُ وإيحاءاتُه تبعًا للظروفِ ولنفسيّةِ الواقفِ عليهِ، بل قد تتغيّرُ تأثيراتُ المكانِ ذاتِهِ على إنسانٍ بعيْنِهِ، والأماكنُ هي الأخرى مثلها مثلُ البشرِ لها طبائعُ وأوضاعٌ مختلفة؛ فهناكَ مكانٌ حزينٌ يُؤثّرُ على تفكيرِكَ ويَتركُكَ مُتألّمًا، وهناكَ مكانٌ يُضفي الفرحَ والسّرورَ ويَتركُكَ سعيدًا، وإنْ كنتَ قد فقدْتَهُ فعليًّا، بفِعل حربٍ ونكبةٍ حلّتْ على شعبك.
مِن هذهِ النّقطةِ أتطرّقُ إلى كتاب "حيفا ... برقة؛ البحث عن الجذور"- ذاكرة المكان لد. سميح مسعود، حيثُ أنّ العنوانَ ذاتَهُ يَشي بالفكرةِ مِن ورائِهِ، فسميح مسعود لا يبحثُ عن المكانِ بكوْنِهِ مكانًا مادّيًّا، إنّما يبحثُ عن المكانِ الافتراضيِّ والمُتخيّلِ، والذي يَحملُ في جنباتِهِ ذكرياتٍ لناسٍ يَخصّونَهُ في هذهِ الحالةِ، أقصدُ حالةَ البُعدِ عن المكانِ، وعدمِ رؤيتِهِ ومُعايشتِهِ، هذا المكان الذي فقدَهُ الفلسطينيُّ عام 1948 ولم يَعُدْ إليهِ.  "المكانُ" الذي يعودُ إليهِ سميح مسعود هو مِن خلالِ الإنسانِ الذي يَرتبطُ بالمكانِ، أو لنقلْ، لهُ علاقةٌ بالمكانِ الّذي كانَ، وهو لا يَزالُ المكان الذي بُنيتْ وتشكّلتْ وتبلوَرَتْ فيهِ حياتُهُ وحياةُ آخرين. مِن هنا نُدركُ إلى أيِّ مدًى أهمّيّةَ الإنسانِ في المكان، فمكانٌ بدونِ إنسانٍ لا يَعني شيئًا. وبناءً عليهِ، جاءتْ رحلةُ البحثِ عن الجذور الّتي شاركتُ فيها أبو فادي ولمدّةٍ طويلة. اكتشفتُ المَحبّةَ الّتي تَغمرُ أبناءَ العائلةِ الواحدةِ، وإن تشتّتَتْ أوصالُهم بفِعلِ عوامل سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ وسِواها. لكن، وبالرّغمِ مِن أنّ صِلةَ الرّحمِ والقرابةِ عنصرٌ ومُكوّنٌ هامٌّ في مَشهدِ الحياةِ اليوميّ في أوطانِنا، إلّا أنّ الهَمَّ الكبيرَ الّذي استولى على فِكرِ ونهجِ سميح مسعود، وأنا بطبيعةِ الحالِ أُشارِكُهُ الرأيَ والتّوجُّهَ، أنّ البحثَ عن الجذور هو مسألةٌ زمنيّةٌ ومكانيّةٌ، ترتبطُ بعلاقةِ الإنسانِ معَ أرضِهِ وشعبِهِ وتاريخِهِ وماضيهِ وعاداتِهِ وتقاليدِهِ.
لقد أتيحَ لنا أنْ نقومَ وبفترةٍ زمنيّةٍ محدودةٍ نسبيًّا، بلقاءِ عشراتٍ إنْ لم يَكنْ مئاتِ الأشخاصِ القريبينَ دمويًّا، أو القريبينَ فِكريًّا واجتماعيًّا وإنسانيًّا. لقد طوّرْنا معًا خبرةَ حياةٍ متميّزةٍ، أساسُها فهْمُ شبكةِ العلاقاتِ الاجتماعيّةِ الّتي ميّزتِ الفلسطينيّينَ في حيفا والفلسطينيّينَ في قرى الوطن، وفي حالتِنا هذهِ "برقة"، تلكَ القرية القريبة مِن نابلس، والتي أوْفدَتْ مئاتٍ مِن أبنائِها إلى حيفا، للعملِ فيها في فترة الانتدابِ البريطانيّ، لكنّهم جميعًا ودونَ استثناءٍ، لم ينْسَوْا قريَتَهم الأُمّ، منهم مَن عادَ إليها في أعقابِ النكبةِ، ومنهم مَن تركَ الوطنَ مُتّجهًا إلى بلادِ اللهِ الواسعةِ، أسوةً بباقي أبناءِ فلسطين المَجروحينَ المَكلومينَ بحثًا عن لقمةِ العيش.
ما ميّزَ لقاءاتِنا بأقاربِ سميح ومَعارفِهِ وغيرِهم مِنَ الّذينَ اكتشفناهُم معًا، أنّهم يَنتسبونَ إلى قريةٍ واحدةٍ، وينحدرونَ مِن عائلاتٍ مُتعدّدةٍ تجمَعُهم المَحبّةُ، وإن انتموا إلى أديانٍ ومُعتقداتٍ مَذهبيّةٍ مُختلفةٍ، فالدّينُ للهِ والوطنُ للجميع. وكذلك تميّزَتْ أمسيةُ إطلاقِ كتابهِ في جزئِهِ الأوّلِ في قاعةِ الكليّةِ الأرثوذكسيّةِ بحيفا، حيث التقى بمجموعةٍ مِن أهالي برقة المُقيمينَ في حيفا. كذلك كان لقاؤُهُ مميّزًا معَ ابنِ صفّهِ راشد الماضي، بعد 65 سنة مِنَ الافتراق، بسببِ النّكبةِ وترحيلِ الفلسطينيّين. ثمّ تلا ذلكَ لقاءُ د. سميح مسعود مُجدّدًا معَ أهالي مدينتِهِ حيفا، في أمسيةِ إطلاقِ كتابَيْهِ "متحفُ الذّاكرةِ الحيفاويّةِ" و "مَقاماتٌ تُراثيّةٌ" في نادي حيفا الثقافيّ، في قاعتِهِ المُلاصِقةِ لكنيسةِ مار يوحنّا المعمدان في حيفا. كلُّ هذا يُؤكّدُ ما نحنُ ماضونَ مِن أجلِهِ، مِن أجلِ تثبيتِ ذاكرة المكانِ بناسِهِ وذكرياتِهِ، وما خلّفَهُ مِن آثارٍ عالقةٍ في مُجملِ مُجرياتِ الحياة.
يُطِلُّ الكاتبُ الفلسطينيُّ د. سميح مسعود بالجزءِ الثاني مِن كتابِهِ "حيفا.. برقة- البحث عن الجذور"، والصّادرُ بطبعتيْنِ؛ الأولى عن دار الجنديّ في القدس، والثانية عن دار الآن في عمّان، ولكنّ هذه الإطلالةَ تختلفُ عن سابقتِها في الجزءِ الأوّلِ. لقد اكتشفَ سميح مسعود بعدَ نشْرِ الجزءِ الأوّلِ، أنّ جذورَهُ في فلسطين أكبرُ مِن مُجرّدِ مَحدوديّتِها بمدينةِ حيفا، أو بقريةِ الأهلِ والأجدادِ "بُرقة" القريبةِ مِن مدينةِ نابلس. اكتشفَ امتدادَهُ في مَواقعَ عدّةٍ في فلسطين، وقد يكونُ في خارجها، وهذا الامتدادُ ليسَ وليدَ السّاعةِ أو وليدَ النكبةِ عام 1948، الحدثِ المُؤسِّسِ لتاريخِ الشّعبِ الفلسطينيِّ ونِضالِهِ، مِن أجل حقِّهِ في الحياةِ في أرضِهِ ووطنِهِ. تبيّنَ لمسعود أنّ الجذورَ العائليّةَ تتعدّى كوْنَها محصورةً في حيّزٍ واحدٍ أو أكثر، إنّها حيّزاتٌ إنسانيّةٌ عملت العقودُ والقرونُ على بلوَرتِها، وصِياغتِها بقوالبَ إنسانيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ وسياسيّةٍ ودينيّةٍ، فالانتشارُ الفلسطينيُّ في الحيّزِ الفلسطينيِّ حتّى عام1948 كان أمرًا طبيعيًّا، وتقبّلتْهُ شرائحُ النّاسِ بطيبةِ خاطرٍ، وتعاملتْ معهُ كأنّهُ أحدُ مُكوّناتِ بناءِ المُجتمعِ الفلسطينيّ، ومِن جهةٍ أخرى، فإنّ الأحداثَ التي وقعتْ رغمًا عن الشعب الفلسطينيِّ عام1948 أحدثتْ فجواتٍ كبيرةً وتباعُداتٍ خطيرةً، بينَ أبناءِ الشّعبِ الواحدِ وبينَ أبناءِ العائلةِ الواحدةِ الّتي شقّتْها الخلافاتُ والنّزاعاتُ السّياسيّةُ، الّتي مرّتْ على المنطقةِ منذُ ذاكَ التاريخِ الشّؤم.
يتعاملُ مسعود معَ انتشارِ عائلتِهِ في الجليلِ والمُثلّثِ والضّفّةِ الغربيّةِ وغيرِها مِنَ المَناطقِ والمَواقعِ خارج حدودِ فلسطين التاريخيّةِ، بواقعيّةِ الحدَثِ التّاريخيِّ، ويَنظرُ إلى هذا الحدَثِ بكوْنِهِ مسألةً عابرةً زمنيًّا، لكنّها ليستْ عابرةً وجدانيًّا، فهو الرّجُلُ الّذي عرَكتْهُ الحياةُ، يَعرفُ تمامَ المعرفةِ، أنّ نظرةَ الإنسانِ إلى جذورِهِ ليستْ مسألةَ تَفَكُّهٍ، إنّما واقعٍ داخليٍّ يَعملُ على تحريكِ فؤادِ وعقلِ الإنسانِ لمعرفةِ مَن هو، ومِن أينَ أتى، ومَن هُم أعضاءُ عائلتِهِ وبيئتِهِ، وكيفَ تعَامَلَ الزّمنُ معَهم؟ صحيحٌ أنّها تساؤلاتٌ كثيرةٌ قد تبدو في بعضِ الأحيانِ مُجرّدَ كليشيهات، إلّا أنّها الواقعُ الّذي يَفرضُهُ التّاريخُ الفلسطينيُّ الماثلُ لمَعاييرِ التّغييراتِ والتّقلّباتِ.
سُعدْتُ بمُرافقةِ سميح مسعود فترةً طويلةً مِن الزّمنِ في اكتشافِ جذورِهِ، وكأنّي أكتشفُ جذورَ كلِّ عائلةٍ فلسطينيّةٍ مثنتشرةٍ في الوطن، وما بَهرَني في عمليّةِ الاكتشافِ هذه، أنّ الّذينَ التقيْنا بهم معًا، أو الّذينَ التقى بهم بمُفردِهِ يَعرفونَ أصولَهم. هذا هو شعبُنا الّذي يَعرفُ جذورَهُ جيّدًا، بالرّغمِ مِن مُرورِ عقودٍ كثيرةٍ، وبالرّغمِ مِن سياساتِ التّجهيلِ ومُحاولاتِ الطّمسِ والمَحو، وهذا الأمرُ يُؤكّدُ تَمسُّكَ الفلسطينيِّ بجُذورِهِ وتاريخِهِ. أنا أعرفُ تمامَ المعرفةِ أنّ هناكَ مِن النّاسِ مَن لا يَهمُّهم الأمرُ، اقصدُ البحثَ عن جذورٍ عائليّةٍ، مِن مُنطلَقِ كوْنِهم يَنظرونَ إلى الأمورِ بمَنظورٍ أكثرَ اتّساعًا. قد يكونُ هذا الأمرُ في كثيرٍ مِنَ الحالاتِ جيّدًا، إلّا أنّ البحثَ عن الجذورِ يُحتّمُ في نهايةِ الأمرِ تَجميعَ هذهِ الجذورِ في مَوقعٍ واحدٍ، لتِبيانِ قدرةِ الإنسانِ على توْحيدِ شتاتِهِ وتَجميعِهِ. إنّهُ هاجسُ كلِّ فلسطينيٍّ يبحثُ عن كلِّ ما لهُ علاقةٌ بالماضي، ليسَ البحثُ هنا مِن بابِ النّوستالجيا- أي الحنين فحسْب، بل مِن أجلِ الانتقالِ إلى فهْمِ مُركّباتِ الحياةِ الجاريةِ وكيفيّةِ التّعاطي معَها. جُلْنا وصُلْنا في عددٍ كبيرٍ مِنَ القرى والمدنِ، والتقيْنا بعددٍ كبيرٍ مِنَ الأشخاصِ مِن كبارِ السّنّ ومِن شبابٍ وفتيان، ولسانُ حالِهم يَقولُ: زَوِّدونا بالمَعلوماتِ، لأنّنا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى إكمالِ مُركّباتِ الصّورةِ لعائلتِنا، والأمرُ يَنسحبُ على عائلاتٍ كثيرة.
إنّ الكتابَ هو أكثرُ مِن مُجرّدِ كوْنِهِ قيامَ كاتبِهِ بالبحثِ عن جذورِهِ العائليّةِ، إنّهُ كتابُ البحثِ عن الإنسانِ في أرضِهِ، وعن المكانِ المَفقودِ في حالاتٍ كثيرةٍ، والذي باتَ صورةً أو مُخيّلةً يَعملُ الفلسطينيُّ على استرجاعِها وبنائِها مِن جديدٍ، ضِمنَ المُكوّناتِ المَكانيّةِ والإنسانيّةِ. نحنُ بحاجةٍ كبيرةٍ إلى هذا النّوعِ مِن الكتاباتِ الّذي يَتعاملُ معَ الإنسانِ والمكانِ والزّمانِ، بروحٍ مُعاصِرةٍ تُؤكّدُ وجودَنا وعدالةَ قضيّتِنا وصِدقَها. التقيْنا معَ مؤلف الكتاب د. سميح مسعود بتاريخ 22-1-2016 في مركز محمود درويش في الناصرة لإشهارِ كتابِهِ، مِن خلالِ التفافٍ واسعٍ وكبيرٍ، لمُهتمّينَ بتاريخ المكانِ وتاريخِ الإنسانِ فيهِ، مِن أهالي النّاصرةِ وحيفا، ومِن سائرِ منطقتي المثلث والجليل، إكسال، عارة وعرعرة، شفاعمرو، الجدَيْدَة، عبلين، يانوح، دير حنا، أبوسنان، كفر ياسيف، كلّهم مِن أسلافِ أناسٍ رَحلوا عن دُنيانا، تتشابكُ جذورُهم على امتدادِ أرضِ حيفا وبُرقة، التَقَوْا لأوّلِ مرّةِ معًا، للِقائِهم مفعولُهُ الكبيرُ في حِفظِ الذّاكرةِ الجَمعيّةِ حيّةً للأجيالِ القادمة. هذا الكتابُ وما يَحتويهِ مِن وصفٍ للواقعٍ التاريخيّ هو شهادةٌ حيّةٌ وصادقةٌ، نابعةٌ مِن تجاربِ الحياةِ بكلِّ تركيباتِها وتعقيداتِها. آملُ أنْ يَحذوَ حذوَ الكاتبِ عددٌ آخرُ مِن أبناءِ الوطنِ المُقيمينَ فيهِ وخارجَهُ، ليَنقلوا إلينا ذلكَ الواقعَ الحياتيَّ الذي يَعيشونَهُ ما بينَ الوطنِ وخارجِهِ، وتَفاعُلَ الأمكنةِ في عقولِهم وتفكيرِهم. تهانينا الحارّة مرسلة إلى أبي فادي على هذا الإصدار، مُقدّرينَ لهُ مُساهمَتَهُ التاريخيّةَ الهامّةَ، وهنيئًا لنا جميعًا.
مداخلة رائد نصرالله/ في معركةِ الرِّواياتِ: أَن يَجري إشهارُ كتابٍ "حيفا...بُرقة- البحث عن الجذور" تحديدًا في الناصرةِ، وفي مركزِ محمود درويش على وجه الخصوصِ، في ذلك أكثرُ مِن دلالةٍ وأبلغُ مِن معنىً، ففي الأمرِ تأكيدٌ على أنَّ الامتدادَ الزّمانيَّ والبُعدَ المَكانيّ للوطن، يَتجاوزانِ حدودَ الذّاكرةِ الشخصيةِ وعمقَ الجذورِ الفرديّةِ، وهذا ما نجحَ بهِ أديبُنا د. سميح مسعود، مِن على صفحاتِ البحثِ عن جذورهِ الممتدّةِ على طولِ الوطن وعرضِهِ، عميقًا في قلب التاريخ. جاءَ الخاصُّ تجليًّا للعامّ، وبانتْ تركيبةُ العامِّ من خلالِ تفاصيل الخاصّ. ومِن معاني عَقْد الأُمسية الثقافيّة في الناصرة، أنَّ في المسألةِ جزمٌ على أنَّ هذه المدينة التي أدمنت على مديح ذاتِها بأفعالِها، كما أبدعَ في وصفِها شاعرنا محمود درويش، ليسَ لأنّها أُمُّ البدايات فحَسْب، وإنّما لأنّها عرينٌ لهُويّةِ وعنوانِ كفاحاتٍ وإبداعات، ولا تأبهُ لعثراتِ الزّمانِ العاصيات. وأمّا أنْ أنجحَ بقراءةِ كتابيْن يَشملانِ على ما يزيدُ عن ستّمائةِ صفحةٍ، وبمُتعةٍ ما بَعدَها مُتعةً، فذلك لَعَمْري إنجازٌ شخصيٌّ غيرُ عاديٍّ، في زمنِ الوقوعِ في أسْرِ الشّبكاتِ والتّواصلاتِ الافتراضيّة، وفي ذلك دليلٌ قاطعٌ أنّنا أمامَ أنتاجٍ أدبيٍّ توثيقيٍّ استثنائيٍّ في أُسلوبِهِ وتَماسُكِهِ، مِن الصّورةِ الأولى حتّى الأخيرة، وبتصاعديّةٍ جذّابةٍ حتّى الإدمان، وفوقَ كلِّ هذا وذاك، فأن تكونَ القراءةُ بِدءًا مِن الجزءِ الثاني ومِن ثمّ الجزء الأوّل، فإنّه سَبقٌ أُسجّلُهُ لصالحي، ولكن ليسَ قبلَ أن أوجّهَ الشّكرَ للبروفيسور محمود يزبك الذي تفضّل بتوفيرِ الكتابيْنِ لي قبلَ أسبوعٍ من اليوم.
لم يَخطرْ على بالي أنّي سأكونُ ضمنَ هذه الثّلّةِ مِن أصحاب الشأنِ الأدبيّ والثقافيّ والتأريخيّ، وفي مقدّمتِهم البلديّاتي الأَصيلُ صدْرُ هذه الأمسيةِ د. سميح المسعود، هكذا كنتُ أسمعُ اسمَ عائلتِهِ الكريمة؛ (دار المسعود مع ألـ التعريف)، عندما كنتُ طفلًا أزورُ قريتي بُرقة، قادمًا مِن مَسقطِ رأسي الناصرة، على غِرارِ تعريفِ كاتبِنا لجدليّةِ علاقَتِهِ بين حيفا وبُرقة. ولا بدّ أنْ أُصارحَكُم القولَ، عندما هاتفَني الأستاذ محمود اعتقدتُ للوهلةِ الأولى، وكنتُ علمتُ مُسبقًا بموضوع المُبادرة لإقامةِ هذه الأُمسيةِ مِن صديقي الأُستاذ زياد أبو السعود الظاهر، أَنّه بصَددِ دعوتي ومعارفي لحضورِ الأُمسية، وإذ بهِ يُفاجِئُني بطلب المشاركةِ مِن خلال تقديمِ مداخلةٍ دونَ تحديدِ موضوعِها وحدودِها، فرَماني إلى آلة العودةِ بالزّمنِ التي أعدَّها لقُرّائِهِ صاحبُنا المَسعوديّ، ومَن يقرأ منكم الكتابيْن، يعرفُ كم أنا مُتأثّرٌ بإعدادِ كلمتي السّرديّةِ هذه بالأُسلوبِ السّرديِّ المَسعوديّ، كما تجلّى مِن على صفحاتِ البحثِ عن الجذورِ بجُزْءَيْه!
خلالَ الأيّامِ الفائتةِ أدخلَني د. سميح إلى نفقِ الزّمانِ عبْرَ آلتِهِ الإبداعيّةِ، فسافرتُ معَهُ تَراجُعيًّا إلى تلك الصّورِ المَحفوظةِ بذاكرتِهِ الوقّادةِ، مُعتمِدًا على بوصلةٍ وطنيّةٍ تقدّميّةٍ لا يَشوبُها شائبةٌ، وعلى توَجُّهٍ فِكريٍّ صريحٍ لا يَخجلُ مِن خلالِهِ، بالانحيازِ إلى النّاسِ الكادحينَ ونِقاباتِهم وأُطُرِهِم المُكافِحة، فصالَ بي البلديّاتي وجالَ كما يَشاءُ، بينَ الأحداثِ وتواريخِها والأسماءِ وشخوصِها، وجعلني كالجاحظين بالحكواتيّ، يُتابعونَ كلَّ همسةٍ تخرجُ مِن فمِهِ، ليَعرفوا مَصيرَ بطلِ الحكايةِ، مِن ذِكرياتِهِ الأولى في حيفا حتّى عودتِهِ وتِجوالِهِ في أرجاءِ الوطنِ، مِن يانوح شمالًا حتّى عرعرة جنوبًا، مُرورًا بشفاعمرو والناصرة وإكسال وغيرها، باحثًا عن شروشِ عائلتِهِ وعائلاتِ أبناءِ بلدِهِ، كانَ ذلكَ مِن مدينتِهِ حيفا، أم مِن مَسقطِ رأسِهِ بُرقة، وفي لحظاتٍ كنتُ أتخيّلُ دقّةَ الصّورِ الموصوفةِ كتابيًّا، وكأنّي أحملُ بيديّ كاميرا "الجوجل إيرث"، تنقلُ لي أدقَّ التّفاصيلِ والأسماءِ والزوايا المَخفيّةِ، والثنايا المُنحنيةِ في الشوارعِ والبيوتِ المَحميّةِ.
ومع تَعمُّقي في بطنِ الذّكرياتِ المسعوديّة، وَجَدْتَني أمدُّ خيوطَ ذاكرتي القليلةِ كشعراتِ رأسي، لعلّها تتقاطعُ معَ جدائلِ ذاكرتِهِ الكثيفةِ الوارفةِ، فإذا بي أتذكّرُ زياراتي إلى بُرقة مع أهلي، ليس مِن خلالِ سَفرِ ساعةٍ مِن الزمن، كما كانَ يفعلُ كاتبُنا طفلًا لوحدِهِ بينَ حيفا وبُرقة، وإنّما سفرة تمتدُّ لأكثرَ مِن نصفِ نهارٍ، مِن النّاصرة إلى القدسِ فعذابات بوّابة مندلباوم (وهنا يحضرني كاتبنا الكبير الراحل إميل حبيبي بسداسيّته الرائعة)، فإلى نابلس فبُرقة، واستمرّ الحالُ بهذهِ الزّياراتِ إلى أن جاء "فرج الاحتلال"، فوحّدَ الشعبَ مِن جديدٍ بعدَ سقوطِ دُوَلِ شِعارِ المأساة "تجوّع يا سمك البحر"، ومِن وقتِها وعلى ما يبدو، بدأ حلُّ "شعبان دولتان" يَتآكلُ تدريجيًّا لصالح دولةِ الشّعبيْن، والله أعلى وأعلم!
وحينَ يُؤكّدُ كاتبُنا في صفحاتِ الكتاب وفي أكثرِ مِن مناسبةٍ على غيرتِهِ على الّلحمةِ الوطنيّةِ لأبناءِ بُرقة على كافّةِ انتماءاتهم، يُذكّرُني بما علقَ بذهني مِن ذكرياتٍ بُرقاويّةٍ، وممّا حدّثني بهِ والدي رحمة الله عليهِ، واسمه "جورج"، كانَ في طفولتِهِ يُعاني مِن أمراضٍ مختلفةٍ، كما عانيتَ أنتَ طفلًا د. سميح، وشفيتُ والحمدلله والله يمدُّ بعمرك، وبدايةً بدّلوا اسمَهُ لجريس حتى يشفى، فلم يَشفعْ له القدّيس جريس، فاقترحَتْ إحدى الجارات المُسلماتِ أن يُسمّى حسن، حتّى يَشفى ويقوى عودُه، وفِعلًا هذا ما تمّ، فصارَ اسمُهُ حسن المحصّل حتّى شُفيَ بالكامل، و"المُحصّل" هذهِ كنية كانتْ تلحقُ اسمَ العائلة، وهي مرتبطةٌ بوظيفةِ جدي يوسف عبدالله نصرالله مُحصّل الضرائب للدولة العليّة! أمّا المُفارقةُ مِن وراءِ استحضارِ الصورةِ الرائعةِ للمجتمع الفلسطينيِّ في الزّمنِ الجميل، مِن خلالِ العالم المُصَغّرِ (الميكرو كوسموس) المُسمّى بُرقة، فتخيّلوا أنْ أُسَمّى اليومَ مثلًا رائد حسن نصرالله، لكنتم رأيتم وسائلَ الإعلام العالميّة بما فيها قناة "المنار" تملأ القاعة، لتنقلَ ماذا سيُصرّحُ الليلةَ ابنُ حسن نصرالله! ولأنّ الشيءَ بالشيءِ يُذكرُ، فلا بدّ مِن استغلالِ المناسبةِ لتوجيهِ نداءِ استغاثةٍ، وبالذات لأنّي إنسانٌ علمانيٌّ أسمحُ لنفسي بتوجيهِ هذا النداءِ لكل مَن يَهمُّهُ الأمرُ، فلسطينيّا وإسلاميًّا ومسيحيّا، وباسْمِ الرّصيدِ الوحدويِّ المفخرةِ لشعبنا على صعيدِ خاصّيّةِ ومناعةِ وتاريخ نسيجِهِ الاجتماعيّ، بالعملِ على وقفِ النّزيفِ المُتواصلِ بخاصرةِ ولونِ وشكلِ وكيانِ الشعبِ، والمُتمثّلِ بالهجرةِ المسيحيّةِ مِنَ الوطن عمومًا، ومِن داخلِ القرى المشتركةِ بطوائفِها خصوصًا، فماذا يَنفعُنا التّغنّي بالتاريخ الرائع، إذا لم يبقَ ذِكْرٌ للوجودِ المسيحيّ الإنسانيّ في بُرقة مثلاً، عدا بعضِ الآثاراتِ المُهدّمةِ، أو اسمِ مدرسةِ الدير، وحتّى بناء مركزٍ إسلاميٍّ مسيحيٍّ جديدٍ في بُرقة على حوش آل نصرالله ، كما جاءَ في كتاب أستاذنا سميح؟ ماذا يَنفعُنا كلّ ذلك، وكلُّ أهل بُرقة من المسيحيّينَ مُغتربين، أو يزورونَها فقط في موْسمِ الزيتون، ليتذوّقوا طعمَ زيْتِها الرائع، أو ليأخذوا منها قطعةً مِن بقايا "نمليّةٍ"، ليَحفظوها في بيوتِهم في البلادِ أو في المهجر، كما فعلتُ أنا قبلَ سنتيْن عندما زرتُها مع شقيقي رمزي وابنه جورج، ونحنُ في طريقِنا إلى نابلس، لدعوةِ مَن تبقّى مِنَ الأقارب في نابلس ورام الله، لمُشاركتِنا فرحَ ابنتِهِ جنان؟ 
وفي العودةِ الى البحثِ عن الجذور، فقد نجحَ كاتبُنا في تجميع الذكرياتِ، وفتحِ بعضِ الأوجاعِ أحيانًا، في لوحة "بازل" لا أروعَ ولا أجمل. ليسَ هذا وحسْب، وإنّما أغنى معركةَ الرواياتِ الوجوديّة، بينَ رواية "أرض بلا شعب" ورواية "لمَن وهبت أرض كنعان؟" التوراتيّة، وتجييرُها خدمةً للفكرِ الصّهيونيّ الاستيطانيّ، وبينَ روايةِ شجراتِ الزيتونِ المزروعةِ في بُرقة وكل فلسطين منذ عُمقِ التاريخ، وحولَها سلالُ التينِ وصفُّ السحجةِ والدبكةِ وأغاني الدلعونا، وناسٌ جذورُها عميقةٌ وثابتة في وطنِها، لن تُلدغ مِن أفعى الترحيل مرّتيْن. بعدَ هذا الاستعراضِ الموجزِ لمَلحمةِ التشبيكِ الرائع بينَ ذكرياتِ الكاتب وذكرياتِ الوطن، وبين جذورِ عائلتِهِ وجذورِ شعبهِ شعبنا الفلسطينيّ، أقولُ مبارك لكاتبنا هذا الإنجاز والجهد والإبداع، فهذا السّلاحُ يُعطيكَ الصّحّةَ والعافية، والشعبُ يُطالبُكَ بالمزيد مِن العطاءِ أيّها البلديّاتي الجميل.
مداخلة سميح مسعود: نشرت بتاريخ 17-7-2009 مقالةً بعنوان "البحثُ عن الجذور"، بيّنت فيها اهتمامي بالبحث عن الجذورِ في فلسطين ما قبلَ النكبة، لإعادةِ اكتشاف الماضي بأبعادِهِ الزمانيّةِ والمكانيّة، وأحسستُ بما يكفي مِنَ الارتياح لأنّني نشرتُها على صفحاتِ جريدة الاتحاد، لأنّها تستثيرُ حنيني إلى تلكَ الفترةِ مِنَ الطفولةِ الهنيئةِ الّتي عشتُها معَ أهلي في حيفا، تتشبّثُ أعدادُها القديمةُ بذاكرتي التي كانَ والدي يُتابعُ قراءتَها في أربعينات القرن الماضي ويَتماهى بأفكارِها، وكثيرًا ما كنتُ أتصفّحُها بدونِ قراءةِ أيِّ حرفٍ منها في مرحلةٍ مُبكّرةٍ، عندما كنتُ صبيًّا صغيرًا، أذكرُ تمامًا تلكَ اللحظاتِ الخاطفةَ كما لو أنّها كانتْ بالأمس.          قرأتْ مقالتي حسناء دراوشة، واكتشفتْ مِن إشاراتٍ دلاليّةٍ عن أسرتي في سياقِ المقالةِ، أنّي أمُتُّ بصِلةِ قُربى معَ جدّتِها "نجية حمدان"، بلّغتني بمضمونِ وسياقِ تلكَ القرابةِ برسالةٍ عبْرَ البريدِ الإلكترونيّ، وبيّنتْ لي أنّ النكبةَ قد أبعدَتْ جدّتَها عن أهلِها في بُرقة، وبقيَتْ حتّى مماتِها في شوقٍ للقائِهم، وكانت دوْمًا تُكثِرُ مِن ذِكرِهم في أحاديثِها. مِن وحيِ هذهِ التجربةِ وتَعَرُّفي على أقاربَ لي في إكسال، أصدرتُ كتابًا بعنوان "حيفا.. بُرقة البحث عن الجذور" في عام 2013، سجّلتُ فيهِ شظايا أجزاءً موجَزةً مِن جذوري، في بلدي التي تمتدُّ على اتّساعِ المَكانِ في مَسقطِ رأسي حيفا وقريتي بُرقة، وأبرزتُ على إيقاعِها مشاهدَ مِن جذورِ أناسٍ غيري مِن مدنٍ وقرى فلسطينيّةٍ أخرى، واستحضرتُ فيها ببُؤرٍ لاقطةٍ جزءًا ممّا تختزنُهُ ذاكرتي، عن أيّامٍ مضَتْ في فلسطينَ، عشتُها قبلَ النكبةِ والهزيمة، ولأنّني شغوفٌ بنبشِ الذّاكرةِ؛ ظهرتْ أطيافُ طفولتي في كتابي بصفاءٍ استثنائيّ، سجّلتُ فيهِ لحظاتٍ كثيرةً تُدغدغُني وتُحرّكُ مشاعري، وتُشكّلُ جزءًا مِن حياتي؛ تَطوفُ بي دوْمًا في مسقطِ رأسي حيفا وقريتي بُرقة، فاستحضرتُ بها الطفولةَ بوعيِ حاضري الذي أحياهُ، وأعدتُ بها نصوصًا غائبةً تراكمتْ في داخلي، موْشومةً بخطوطٍ متماوجةٍ مِن أطيافِ بلادي، لم أُسَجّلْها للبكاءِ على الأطلال؛ بل مِن أجلِ التّأكيدِ على عُمقِ جذوري وجذور غيري مِن أبناءِ بلدي في فلسطين، ومِن أجلِ أنْ أنثرَ بذورَ جذوري لحفيديَّ ليث ونديم، حتّى لا يَضيعا في مَنافي الشّتاتِ القصيّة، لعلّني بهذا أدفعُهم للتمتّعِ بمُخيّلةٍ عامرةٍ عن بلدِهم، ومقدرةٍ فائقةٍ في التعبير عن حبِّهم لها، والنّضالِ مِن أجلِ عوْدَتِهم لها في قادمِ الأيّام.
بعدَ صدورِ كتابي، تعرّفتُ على أناسٍ كُثر منِ حيفا وبُرقه ومدنٍ وقرى أخرى كثيرةٍ، عبّروا لي عن تَعطُّشِهم لمعرفةِ المزيدِ عن مَنابتِ جذورِهم وكلّ ما يُذّكّرهُم بالوطن. تواصلتُ معهم عبْرَ الهاتفِ ووسائلِ الاتّصالِ الاجتماعيِّ والبريدِ الإلكترونيّ، وتعرّفتُ بينَهم على أقاربَ لي لم ألتقِ بهم مِن قبْل، تَجمَعُني بهم منابتُ الجذورِ وحُبُّ الوطنِ وكلُّ ما يُذكِّرُ بالوطن، وتعرّفتُ بأناسٍ على معرفةٍ بأمّي وأبي مِن زمنٍ مضى، وتيقّنتُ أنّ ما كتبتُهُ لم يكنْ مُجرّدَ كلماتٍ عابرةٍ؛ بل رسالةً استطعتُ أنْ أُبلِغَها إلى أبناءِ بلدي، وتمكّنتُ بها أنْ أصِلَ الوجوهَ بالوجوهِ على صفحاتِ كتابي، وأنْ تُلامِسَ أيْديهم الدافئةَ خبايا حروفي. بسببِهم اتّسعَ اهتمامي بالبحثِ عن الجذورِ وبالبُعدِ الرّوحيِّ والمَعنويِّ للمكان، وتمكّنتُ مِن خلالِ اللّقاءِ بهم في أماكنِ إقامتِهم، مِن إنجازِ الجزء الثاني مِن كتابي، دوّنتُ فيهِ ما لديهم مِن معلوماتٍ عن جذورِهم، تستوطنُ في ثنايا الذاكرة.
التقيتُ بمجموعةٍ منهم لأوّلِ مرّةٍ في حياتي على امتدادِ أيّامٍ طويلةٍ، زرتُهم برفقةِ المؤرّخ دكتور جوني منصور في  حيفا، بُرقة، إكسال، الناصرة، عارة، عرعرة، شفاعمرو، عبلين، يانوح، الجدَيْدَة، دير حنا، كفر ياسيف، أبو اسنان، كما التقيتُ أيضًا ببرقاويّين مِن قريتي، لم ألتقِ بهم مِن قبلُ يُقيمون في دُبَي، أبو ظبي، كندا، الولايات المتحدة الأمريكيّة، تشيكيا، والتقيت بسيّدتيْن مُعمّرتيْن تعرفان أمّي وأبي وبيتَنا في شارع الناصرة، الأولى زهرة عابدي خمرة حيفاويّة تقيم في حيفا، وهي أخت الفنان الكبير عبد عابدي ووالدة الدكتور ماجد خمرة، والثانية جميلة علي عبد القادر أبو حسين برقاويّة تقيم في عمّان، وهي والدة محمّد عبد اللطيف الخطيب أبو عمر. التقيتُ بأغلبهم في منازلهم، حدّثوني في نسيجٍ حكائيٍّ كثيفٍ يمزجُ الماضي بالراهن، ويُلامس بانثيالاتٍ متلاحقةٍ جملةً من الأحداثِ والمشاهدِ واللحظاتِ، في سياقِ مادّةٍ منسجمةٍ متناغمةٍ، فتحَ لي الحوارُ معهم حولَها آفاقًا واسعة للبحث عن الجذور لي ولهم ولغيرهم، بما يُساعدُ على تشكيلِ جوانب مهمّةٍ من الذاكرةِ الجمعيّةِ الفلسطينيّة الغائرةِ في عُمقِ الزمان والمكان؛ كالشجرةِ الظليلةِ في تشكيل الهُويّةِ والانتساب إلى الوطن. وقد تسنّى لي مِن خلال تلك اللقاءات التّعرّفُ على عددٍ من أبناء مسقط رأسي حيفا، منهم مجموعة مِن آل الحاج وشبلاق والصلاح يُقيمون في هيوستن وفلوريدا ومونتريال وعّمان، وعلى مجموعةٍ مِن أبناءِ قريتي بُرقة الحيفاويّين، في مُقدّمتهم الرفيق د. سهيل أسعد نائب رئيس بلدية حيفا، كما تمكّنتُ أيضًا التعرّفَ على كثيرين ممّن يَرجعونَ في أصولِهم إلى بُرقة، منهم: الرفيق غالب سيف رئيس المبادرة العربيّة الدرزيّة، والنائب د. جمال زحالقة، وأحمد درويش الشقيق الأكبر للشاعر الكبير محمود درويش، ود. هاني موسى، ود. سامي حسين، ولا أغفلُ هنا ما أكّدَهُ لي الرفيق أيمن عودة رئيس القائمة المشتركة، بأنّ والدتَهُ تنحدرُ مِن عائلةِ سيف البُرقاويّة.
سجّلتُ في كتابي الجديدِ خلاصاتِ أحاديثي معهم بمضمونِها وسياقِها، وأكّدتُ على صفحاتِهِ أهمّيّةَ التعرّفِ بوعيٍ على الذات والآخر، وضرورةَ تدوين كلِّ ما في الذاكرة من دلالاتٍ ومضامينَ عن الحياةِ الماضيةِ في فلسطين، بكلّ حناياها ومداراتِها وجزيئاتِها وما فيها مِن تفاصيلٍ، حتى لا تُنسى، وتبقى ماثلةً في أذهان الأجيالِ القادمة، كي تُحيي فيهم وعيًا دائمًا للحفاظِ على ثوابتِ هُويّتِهم، وتنحَتُ في ذاكرتِهم علاقةً دائمةً مع فلسطين، بقراها ومدنِها وترابها ورجالِها وأوجاعِها، تمنحهم في غربتِهم رؤيةً حقيقيّةً عن وطنهم، وتحضّهم دومًا على استردادِ حقوقِهم الضائعة. عبّرتُ في كتابي عن تواصُلي الدائمِ مع مسقط رأسي حيفا وقريتي بُرقة، فاكتظّتْ أوراقُهُ بتفاصيلَ كثيرةٍ، يَتداخلُ فيها الراهنُ بالماضي، ويظهرُ المكانُ مُتشبّثًا بمعاقلِ الذاكرةِ، عبْرَ مَشاهد تشكيليّةٍ مُزدانةٍ بذكرياتٍ مُتشعّبةٍ، تربطُ الزمانَ بالمكانِ في سِياقاتٍ نصّيّةٍ نابضةٍ ومُتوهّجةٍ، مُطعّمةٍ بإشاراتٍ دلاليّةٍ كثيرةٍ في دائرة اللفظ والمعنى، تظهرُ فيها الجذورُ الفلسطينيّةُ بقدرةٍ فائقةٍ على البقاءِ والاستمرارِ، على مدى الأيّامِ في عُمقِ الأرض، وهذا ما نحتاجُ إليهِ فلسطينيًّا في الزمن الراهنِ أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مضى، للتعرّفِ على الذاتِ والنّاسِ والمكان، وعلى الوطن كلّهِ بترابهِ ومُدنِهِ وقراهُ وإرثِهِ المُتراكمِ عبْر التاريخ. وبهذا يمكنُ تدوينُ الرّوايةِ الشّفويّةِ الفلسطينيّةِ، في فصولٍ نابضةٍ مُتشابكةٍ، بكلّ ما فيها مِن دلالاتٍ ومضامين، حتى لا تُنسى، وتبقى ماثلةً في أذهانِ الأجيالِ القادمةِ على مدى الأيّام.


113
نبضاتُ ضميرٍ بينَ شفرتَيْ مِقصّ!
آمال عوّاد رضوان
أقامَ منتدى الحوار الثقافيّ/ البادية في عسفيا أمسيةً أدبيّة، تناولت كتاب "نبضات ضمير" للكاتبة عدلة شدّاد خشيبون، وذلك في جاليري البادية في عسفيا بتاريخ 4-2-2016، وسط حضور من أدباء وشعراء وأصدقاء، وقد تولى عرافة الأمسية الأستاذ رشدي الماضي، وكانت مداخلاتٌ حولَ الكتاب لكلٍّ مِن د. فهد أبوخضرة، ود. محمد خليل،  والأستاذ رياض مخول، وقراءاتٌ بصوتِ المُحتفى بها عدلة شدّاد خشيبون مِن نصوص نبضاتِ ضمير، ثمّ شكرت الحضور، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة رشدي الماضي: عدلة يا ابنة الضّاد، هذا الوقت لكِ فاكتبي ما تريدين، واستكتِبي الليلَ إذا تأخر مساءً، مبدعة أنتِ وكلّك كلمة، تنوّس بين عدلة وأرق وقلق، تؤرجحُ أرجوحة نورِ المعاني عناقيدَ تنهرُ نهرًا يسيلُ في قلبكِ ظلالا، تتفيّئينها نايًا وحيدًا، تعزفين بهِ أحلامَنا الضّائعة، وتسكبين ضوءَ شموعنا في فناجين، وبسمتُك مَفتوحةٌ على العمرِ، تتكئُ على نارج كتفيْكِ، تمتدّ خيطا يُؤرّخُ اللحظة العابرة، يمسكُ بها لحظة هاربة، ليَفصلَ فيها المدى، ولتكوني سطرًا لا يُدركُ، له آخِر سطرٍ تكتبيننا بهِ أغنية خالدة.
عدلة؛ يا حالة عِشقٍ للضاد، تُعيدينَ بها ترتيبَ المكان والزمان والكلام، تفتحينَ شبّاكَكِ كلَّ صباحٍ، ترتجفين بين يديّ الشمس قصيدةً، ودوْمًا تأتينَ إلينا، ننظرُ لغلالِكِ عصفورةً ملأى بالحضور، بحرًا واسعًا يَملكُهُ الخيال، وجهًا بهيًّا مِن سماءٍ صافيةٍ يَنتظرُ على رصيفِ اللغةِ، ليَزرعَ فينا ما شئنا مِن مطرٍ، يُسِرُّ لنا أنّ فجرًا سيأتي، ويقتسمُ وإيّانا ظلّ أشجارِ الكلام لنعرفَ ما تُخفي، وما معنى أن نكونَ لها، فتنتصرُ حروفُكِ على زمن الصّمتِ ريشة تأتي، ضِحكة شمسٍ تتوارى بين أهداب كلماتك، عنقاءَ تلتهبُ، لكنّها لا تغيبُ. عدلة يا عصفورةٌ غناؤها صنّاجة المعنى، ارقدي في المدى ولو في غابةٍ نائيةٍ، لتبني عشّكِ بيننا.
مداخلة الدكتور فهد ابو خضرة/ نبضات ضمير/ للمبدعة عدلة شداد خشيبون/ دار الوسط رام الله 2015: يضمّ هذا الكتابُ خواطرَ مكتوبة بنثرٍ شِعريٍّ زاهٍ، نثر يَتجّهُ نحوَ الشّعر ويَتّسمُ بِسِماتِهِ، فهو نابعٌ مِن القلب ومَليءٌ بالإيحاءِ وبالمشاعر المُؤثّرة والمُعبّرةِ أصدق تعبير. مِن المعروفِ أنّ هذا النّثرَ الشّعريَّ هو الوسيلة التّعبيريّة التي تحلّ مَحلّ الشّعريّ، حين تكونُ العواطفُ جيّاشة والتّأثرُّ كبيرًا جدًا، وذلك، لأنّ الشّعرَ يخضعُ للتنظيم الدقيق، بينما النثر مُتحرّرٌ منه إلى حدّ كبير، والخضوعُ للتّنظيم الدّقيق مع التّأثر الشّديدِ يأتي على حساب التّأثر غالبًا، وتكونُ النتيجة غيرَ مُرضيةٍ، وحين يَستعصي الجمْعُ بينَ التنظيم المطلوب والأثر المُرافق، فلا بدّ مِن الاتّجاه إلى النّثر الشّعريّ.
إنّ هذه الخواطر وكلَّ الخواطر التي تماثلها، يمكنُ أن تتحوّلَ إلى شعرٍ منثور، حين تريدُ المبدعة أن تكتبَ شعرًا لا خواطرَ، وذلك، مِن خلال التّكثيف، والإيجاز، والاستعاراتِ والرموزِ المُتتابعةِ، التي تجعلُ الكلماتِ تقولُ ما لا تقولهُ عادة، والسّؤال هنا، هل يُسمّى شعرًا ما لا يكون موزونًا مِن الكلام؟ الجوابُ عندَ الكثيرين بالإيجاب، ولكنّ هناك بالمقابل مَن يُجيبُ بالنفي، وهناكَ مَن يَتردّدُ بين الإيجاب والنفي حتّى الآن، مع أنّ الباحثين مُتّفقون على أنّ الوزنَ وحدَهُ لا يَصنعُ الشّعرَ، وإلاّ، فهل نُعتبر ألفيّة ابن مالك في النّحوّ شعرًا؟ إنّ التّمييزَ بين الشّعر والنّظم مُهِمٌّ جدًّا، في هذه الحالةِ وما يُقاربُها، أعني ألفية ابن مالك.
هذه الخواطرُ النّثريّةُ الشّعريّة كُتبتْ بأسلوب رومانسيّ، مع أنّ المدرسة الرّومانسيّة في أدب العربيّ فقدتْ سيطرتَها منذ عام 1945، عندما حلّ مَحلّها الاتّجاهُ الواقعيّ بتأثيرٍ ظروفٍ خارجيّة، وليسَ نتيجة تطوُّرٍ داخليّ، ثمّ حلّتْ مَحلّهما الحداثة وما بعدَ الحداثة، لكنّ هذا التّوجّهَ عندَ المبدعة ليس غريبًا ولا مرفوضًا، إذ بقيَ بعد عام 1948 عددٌ غيرُ قليل مِن الشّعراءِ والناثرين يَستعملونَ الأسلوبَ الرّومانسيّ، وقد أطلقَ عليهم اسمَ "أتباعُ الرّومانسيّة"، ومنهم شعراء وناثرون كبار ومشهورون، ونحن نجدُ أنّ في شِعرنا المَحلّيّ في سنوات الخمسين والسّتين كثيرًا مِن ملامح الرّومانسيّة، وغيرَ قليلٍ مِن أتباعِها، والكتابة بالأسلوب الرّومانسيّ نابعة في معظم الحالاتِ، مِنَ الاهتمام بالمَشاعرِ الفرديّةِ الذّاتيّة، وإعطائها المكانة الأولى في مجالِ التّعبير، وأتباعُ الرّومانسيّة اليومَ في بلادِنا وفي الأقطار العربيّةِ عامّة، لا يُقيّم تقييمًا إيجابيًّا أو سلبيًّا مُسبقًا، وإنّما يُقيّم بحسب ما يَقولهُ النّصُّ أو يُوحي به، فإن كانَ قادرًا على مخاطبةِ المتلقّي والتّأثير فيه، قُيّم تقييمًا إيجابيًّا وإلاّ قُيّم تقييمًا سلبيًّا، وقد ارتبطت المدرسة الرّومانسية في فترةِ ازدهارِها وفي ما أُنتجَ بعد تلك الفترة بمعجمٍ لغويٍّ مميّز، تُستمدّ مُفرداتُهُ غالبًا من الطّبيعةِ والعاطفةِ الإنسانيّةِ والموسيقا وما إليها، وهو معجمٌ يَهتمّ بجَماليّةِ الكلمةِ وموسيقيّةِ التّركيب، سواءً كان موزونًا أو غيرَ موزون، كما ارتبطت بأسلوب تعبيريٍّ يُحاولُ أن يتوسّط بينَ الوضوح والغموض، وإن كان ميلهُ إلى الغموض هو الأبرزُ في أحيانٍ كثيرة.
الغموضُ كما هو معروفٌ في كلّ الآداب العالميّةِ الحداثيّةِ عنصرق أساسيٌّ جدّا في الشّعر، وموجودٌ فيهِ بطبيعته، لأنّ الشّعر قائمٌ على الانزياح دون غموض، ولكنّ المدارسَ الأدبيّة التي جاءت بعدَ الرّومانسيّة، مالَ العديدُ منها إلى تكثيفِ الغموض ودفعِهِ باتّجاه الإبهام في أحيانٍ كثيرة، وإذا كانَ الغموضُ لا يُثيرُ جدلًا اليوم، فإنّ الإبهامَ ما زالَ يُثيرُ جدلًا شديدًا، وما زالَ الكثيرونَ يَرفضونَهُ. وإذا كانت المبدعة عدلة شدّاد خشيبون قد اتّجهتْ في عددٍ مِن المواقع في كتابها هذا إلى الغموض المُكثّفِ، الذي يَحتاجُ إلى إعادةِ القراءة أكثرَ مِن مرّة، لاستيعاب ما يَقولُهُ أو يُوحي بهِ، فإنّ هذا الأمرَ مَقبولٌ جدّا اليوم، بل هو مُفضّلٌ في الكتابةِ والرّومانسيّةِ الرّاهنة، لأنّهُ يَربطُ هذه الكتابةَ بأسلوبٍ مُشبّعٌ في هذا العصر ومُفضّل عند الكثيرين، وفي اعتقادي، أنّ الأسلوبَ الذي سيكونَ انتشارًا في السّنوات القادمة هو الأسلوبُ المُعتمِدُ على الغموض أو الإبهام، ومَن يُتابعُ الشّعرَ الذي يُكتبُ اليومَ، يجدُ هذا الأمرَ واضحًا.
مداخلة د. محمد خليل: ((نبضات ضمير)) للكاتبة الواعدة عدلة شداد خشيبون: أهلًا  بكم ومعكم تحتَ مظلةِ الأدب والإبداع! في هذه الأمسية الأدبيّةِ الثقافيّةِ المميّزة، نقاربُ واحدًا مِن الأجناس الأدبيّةِ التي يُمكنُ تصنيفُها على أنها "خواطرُ أدبيةٌ"! ونحنُ حينَ نسجِّلُ ذلك التصنيف لـ "نبضاتِ ضمير"، فهذا لا يعني أنّنا نُبخسُ هذا اللونَ قيمتَه المعنويّةَ والفنيّةَ، أو نقلِّلُ مِن مكانتِهِ وأهمّيّتِهِ، بل العكسُ هو الصحيح! فالخواطرُ الأدبيّة فنٌّ أدبيٌّ قائمٌ بذاتِهِ، لهُ مميّزاتُهُ الإبداعيّة الخاصّة، ونحن قرّاءً ومُبدعينَ وحركةً أدبيّة مَحليّة لا يمكنُنا أن نستغنيَ عن مثلِ هذا اللونِ الأدبيِّ، لأنّه قليلٌ في مشهدِ حركتِنا الأدبيّةِ المَحليّة، لكنَّ شرطَ التلقي والقبولِ أن يَرتقِيَ إلى المستوى الأدبيِّ والفنيِّ المَطلوبيْن!
يقول د. عزّ الدين إسماعيل في كتابه (الأدبُ وفنونُه) عن فن الخاطرة  الأدبيّة: "وهذا النوعُ الأدبيُّ يَحتاجُ في الكاتب إلى الذكاءِ، وقوّةِ الملاحظةِ، ويَقظةِ الوجدان"! وقد تُعرَّفُ الخاطرةُ الأدبيّةُ على أنّها تعبيرٌ عن مكنوناتِ النّفسِ، وما يَدورُ فيها مِن صراعاتٍ أو حُبٍّ أو حزنٍ أو حتى ضيقٍ أو ألمٍ أو فرح وسعادة، بكلماتٍ أخرى، تُكتبُ الخاطرةُ الأدبيّة عندما يَتعرّضُ الإنسانُ لموقفٍ عاطفيٍّ أو وُجدانيٍّ مثلًا، فتتحرّكُ أحاسيسُهُ، ويَبقى هاجسُ الموقفِ ماثلًا أمامَهُ لمدّة طويلة! صفوةُ القول: الخاطرة الأدبيّةُ بمنظورٍ ما، هي فنٌّ أدبيٌّ وتعبيريٌّ عما يَخطرُ في القلبِ والعقلِ مِن أفكارٍ وهواجسَ يُترجمُها اللّسانُ لكلماتٍ وعبارات. إلى ذلك، تُعنى الخاطرة الأدبيةُ بوصفِ الحالةِ الداخليّة للكاتب أو نظرتِه لشيءٍ ما، ممّا يَمرُّ بهِ في الحياةِ مِن تجربةٍ أو مواقفَ أو قيمٍ إنسانيةٍ في محيطِهِ القريب، مثالُ ذلك: الأسرة، المجتمع، الصداقة، الحُبّ، وما إلى ذلك!
"نبضاتُ ضميرٍ" يمكنُ أن تُعدَّ مَرايا عاكسةً لصُورٍ تُحاكي أو تكاشفُ الكاتبةَ نفسَها، وهي في غالبيّتها العظمى، بوحٌ ذاتيٌ على شكلِ خواطرَ أدبيّةٍ مجبولةٍ على البساطةِ والتواضعِ والمَحبّة، لكنّها دامعةٌ حينًا، وباكيةٌ أو نازفةٌ أحيانًا! وهو مَعنى قولٍ يُنسب إلى كافكا: الكتابةُ انفتاحُ جرح ما، علمًا أنَّ النجومَ تزدادُ بزوغًا كلما ازدادتْ ظلمةُ الليلِ حُلكةً!
تبدأ المكاشفةُ فيها بعرضٍ لتجاربَ متواليةٍ مرّت بها المؤلفة مما يعتلجُ في أعماق الذات، وذلك من خلال رصدِ الأحداثِ المؤلمةِ والصعبة التي أعدّتها الأقدارُ وتعرَّضتْ لها المؤلفة، وتركتْ ندوبًا عميقةً في حياتِها، وقد أرختِ العَنانَ لعواطفِها كي تنطلقَ على سجيّتها، وتتكلمَ أو تكتبَ كيفما تشاءُ في شرقِنا الباحثِ عن كلِّ عاطفةٍ وإحساس! الأمرُ الذي يُذكّرُنا بالكاتب المصريّ المنفلوطيّ وكتابيْهِ "النظرات" و "العبرات" تحديدًا، وذلك لكثرةِ ما "ذرَّف" فيهما مِن دموعٍ، وأبدى من أحزانٍ على بعض جوانب المجتمع، مقلِّدًا بذلك أسلوبَ الأديبِ الفرنسي الرومانسي "ألفونس كار" (1808-1890م)، صاحبِ روايةِ "مجدولين" المعروفة، وعليهِ، نحن لا ننكرُ على المبدع أنْ يستفيدَ من تجاربِ الآخرين ويتأثَّرَ بهم، إلّا أنّه يُفترضُ بهِ أيضًا أن يُضيفَ إليها من ابتكاراتِهِ الخاصّة، وفي مقدّمتها شيفرتُه الخاصّة! إلى ذلك، قد لا أراني مُجانبًا للصوابِ إذا قلت: إنَّ العواطفَ وحدَها لا تصنعُ أدبًا، مع التنويه بأننا لم نلتقِ بربّةِ الخيال أو ربةِ الجمال في تلك الصور، إلّا في ما ندر، وكلتاهُما مِن السّمات الأساسيّة التي لازمت مفهومَ الإبداع، لكن، في المقابل والحقُّ يُقال، نراها تتقنُ فنَّ العباراتِ الُّلغويةَ والمفرداتِ الأدبيّةَ على نحوٍ لافت، والكلامُ في هذا المجال قد يَطولُ فأقولُ: تحفلُ لغةُ "نبضات ضمير" بتناصاتٍ أدبيّةٍ، وصورٍ فنيّةٍ مُتعالقةٍ بلغة الكتاب المُقدّس والقرآن الكريم، ألفاظًا وجُملاً ومَجازًا وجرسًا، كذلك، ثمّةَ تناصّاتٌ جميلةٌ متأثرةٌ بأسلوب الخنساء، وأبي العلاء المعرّي، ونزار قباني، وجبران خليل جبران، والسيَّاب، وبعضِ أدبائنا المَحليين!
وبالنظر إلى ما يَعرِضُ لهُ الكتابُ مِن واقع، فقد نجدُ أنفُسَنا أمامَ سؤالٍ مشروعٍ يتبادرُ إلى الأذهان وهو: هل الأديبُ مُجرّدُ مُصوِّرٍ يَحملُ آلةَ تصويرٍ فوتوغرافيّ على عاتقهِ لتصوير الواقعِ كما هو، ليس أكثر؟ الإبداع والمُبدعُ يحتاجان إلى القلب الكبير، جنبًا إلى جنب الذهن المتوهّج والإرادةِ القويّة، لأنه يبحث دائمًا عن كلّ ما هو جديدٍ ومُبهِر، كما أنّه يَبتعدُ عن المحاكاة والتقليد، ويبتكر ما هو متميِّزٌ وجديد! الإبداعُ الفنّيُّ نشاطٌ اجتماعيٌّ وجدانيٌّ وذهنيٌّ معًا وفي آن. من هنا كان الفنُ وما زال قادرًا، بطريقته الخاصّة، على المواجهة والتحدّي وتجاوزِ العقباتِ بُغيةَ تغيير الواقع، وأحسَبُ أنّ مَن يُقاربُ ثنايا "نبضات ضمير" بما يشتملُ عليه من خواطرَ أدبيّةٍ، يستطيعُ أن يتبيَّنَ مدى ارتباطِها بكيان الكاتبةِ نفسيًّا ووجدانيًّا واجتماعيًّا، وما تَعنيهِ مِن دلالاتٍ واضحةٍ جنبًا إلى جنب مشاعرِها وأحاسيسِها وذوقِها، التي تبدو فيها طافحةً بصدقِ العاطفةِ وحرارةِ التجربة ومرارتِها على المستوى الشخصيّ. ومع إدراكِنا التامّ لمدى صدقِها وواقعيتِها، فهي نابعةٌ من صميمِ الأعماق، الأمرُ الذي أكسبَها قيمتَها وحيويّتَها، عِلمًا بأنّ الصدقَ وحدَهُ لا يكفي، فالصدقُ يُطلبُ مِن الأنبياءِ لا من الأدباء! ومعَ اهتمامِنا وتعاطفِنا الذي قد يَصلُ حدَّ التماهي أحيانًا مع الكاتبةِ لأسبابٍ أو دوافعَ متعدّدةٍ، فإنّنا أو بعضُنا على الأقلّ، كان يَطمحُ لو أنَّ الكاتبةَ لم تكتفِ أو تتوقفْ عند شخصنةِ الأحداث، أي على المستوى الشخصيّ فحسب، إنّما حبّذا لو كانت تجاوزتها إلى أبعدَ من ذلك، كأنْ تُلامسَ وتداعبَ أيضًا ولو في بعضِ جوانبِها، خواطرَ الإنسانِ وأفكارَهُ وهمومَ المجتمعِ على المستوييْن الفرديّ والجمعيّ على حدّ سواء، وذلك تأكيدًا للتعبيرِ عن الرؤية المُعاصِرةِ للفنّ! بمعنى؛ أنَّ فعلَ الكتابةِ يُفترضُ أن يكونَ وثيقَ الصّلةِ بما هو معاصرٌ للإنسان في كلِّ مكان. من هنا، رُبَّ سائلٍ قد يسألُ: تُرى هل تجاوزت الكاتبةُ نفسَها لجهةِ حياتِها الخاصّة؟ هل أتت القارئَ بكشفٍ جديد ووعيٍ تامّ لحياتِهِ على أرض الواقع، لأجل التحرّرِ والانعتاقِ مِن ذلكَ الواقع الرّاهنِ المَعيش؟ فالقارئ وبحقّ، يبحثُ عن تربةٍ خصبةٍ فيها آليّاتُ الكتابةِ الفنّيّةِ، من أبعادٍ دلاليّةٍ وترميزٍ وتمويهٍ وإيهام، يبحثُ عن القيمةِ المُضافةِ مِن كلِّ فنّ، وفي الوقتِ نفسِهِ عن الانفعال وهو التطهير وعن التفاعل، عمّا يمكنُ أن يحرِّكَه وجدانيّا وذهنيّا، بغيةَ إثارة السؤال أو التساؤل أو التأمل والتفكير في أقلِّ تقدير. لكنَّ واقعَ الحالِ يُثبتُ أنَّ الكاتبة آثرَت الاكتفاءَ بالبوْح الذاتيّ على كلِّ ما عداه، لأجلِ ذلك كلِّهِ، أحسبُ أنّ القارئَ يُفضّلُ بالمُطلق لو أنّ الكاتبَ لا يتعجَّلُ، بل ينتظرُ حتّى تختمرَ عجينتُهُ كما يجب، ولا يَبقى مجالٌ للتساؤل: تُرى هل نحن نكتبُ أكثرَ ممّا نقرأ! إلى ذلك، يلحظُ المرءُ أنّ الكاتبةَ تشعرُ بغربةٍ اجتماعيّةٍ ونفسيّةٍ قاسيةٍ في المجتمع، على الرَّغمِ من كثرةِ النَّاسِ مِن حولِها، غربةٌ لا يعودُ سببُها لكونِها امرأةً أبدًا، إنّما لأسبابٍ خانقةٍ وظروفٍ موضوعيّةٍ قاسيةٍ وصعبةٍ تحيطُ بها، قد يَنوءُ الإنسانُ العاديُّ بحَمْلِها، مع أنّها تميلُ كثيرًا لجهة المرأة، وتتعاطفُ مع بناتِ جنسِها على نحوٍ لافت، وقد يبدو للقارئ مِن حين لآخرَ أيضًا، أنّ الكاتبةَ لم تستطع بعد التخلُّصَ أو التحرّرَ مِن شرنقةِ ما يُسمى "الرّجُل الشرقيّ المتسلط" ومِن "العبوديّة للرجل"، وما إلى ذلك مِن عباراتِ زمنٍ قد مضى وانقضى إلى غير رجعة! وإذا كنّا نلتفتُ إلى الماضي بعين، وننظرُ إلى الحاضر بالأخرى، فما كان أحرانا أن نتطلعَ إلى المستقبل بكلتيْهما!
مهما يكن، فالقيمةُ الجوهريّةُ لأيِّة آثارٍ أو إصداراتٍ، على الرَّغم من أيِّ خلافٍ أو اختلافٍ أو نقاش يُثارُ حولَها، أنّها تَظلُّ منجزاتٍ إبداعيَّةً، طبعًا بدرجاتٍ مُتفاوتةٍ نسبيّا، بكلّ ما للكلمة من معنى، فلا أحدًا يولدُ كاتبًا أو شاعرًا! وأختُمُ بالقول: لا شكَّ أنّ "نبضاتِ ضمير" هو باكورةُ نتاجِ الكاتبة، لذا فهي الخطوةُ الأولى، لكنّها خطوةٌ جريئةٌ على درب الآلام، حيثُ عذاباتِ الحروفِ والكلماتِ، في مشوارٍ قد يطولُ مسافةً ويتّسعُ مساحةً، وعندي ثقةٌ وأملٌ بأنّ غدًا سيكونُ أكثرَ فرَحًا وإشراقًا وإبداعًا، نشدُّ على يديِّ الكاتبة أملًا أن يكونَ هذا القطرُ أوّلَ الغيثِ ثمّ ينهمرُ، ونحن بالانتظار لقطف الثمارِ معًا في قادم الأيّام، فقُدُمًا إلى أمام، وشكرًا.
مداخلة رياض مخول: بعدَ قراءاتٍ كثيرةٍ متعدّدةٍ لنصوصٍ الكاتبةٍ عدلةَ في إصدارٍها الأوّلٍ، والّتي نشرَتْ جميعَها في الملحقِ الأدبيِّ لجريدةِ الاتحاد، اسمحوا لي أنْ أستغلَّ هذه الندوة لأعرّجَ على ظاهرةٍ خطيرةٍ مُقلقةٍ؛ فبعدَ مُشاركاتٍ في ندواتٍ أدبيّةٍ وثقافيّةٍ وفنيّةٍ، لمستُ أنّ الفكرَ النقديَّ أو التوجيهيَّ؛ المسموع أو المكتوب، يَضيع أحيانًا في متاهةِ المُجاملاتِ والعلاقاتِ الشّخصيّة، فلا نسمعُ أو نقرأ إلّا لغة إنشائيّة، بعيدًا عن الموضوعيّةِ والعُمق في الدّخول إلى أعماق النّصّ البنويّة الشّكليّة والفنيّة والمحتوى. دعونا نتخلّص من ذلك، ونشجّع الكتابة بموضوعيّةٍ ونقدٍ بنّاء، يُفيدُ الكاتبَ ويقودُهُ إلى إغلاق فجواتِ الضّعفِ في كتابتِهِ، وإبراز المقوّماتِ الفنيّةِ الجماليّةِ والمعنويّة، كي نوقف- إذا استطعنا ذلك- كثيرًا من الفوضى الكتابيّةِ والنّقديّةِ الّتي تجتاحُ هذا الزّمانَ الرّديء..
 الكاتبة "عدلة" في إصدارها الأوّل، عرضتْ لنا نصوصًا تتميّزُ بجَماليّةٍ خاصّةٍ، أظهرتْ مِن خلالِها قدرةً كتابيّة مُدهشة، بعباراتٍ موجزةٍ مُكثّفةٍ بالاستعاراتِ الحيّةِ النابضةِ بالحركةِ والحياة، حيث استطاعت أن تجمعَ عوالمَ مختلفةً واسعةً في النّصّ الواحد، بدْءًا مِن حياتها العائليّةِ الخاصّة ومِن مُحيطِها الصّغير، إلى محيطِها العامّ البعيدِ الداخليّ والخارجيّ سياسيًّا واجتماعيًّا، والكاتبة في هذا الإبداع لها مفاتيحُها الخاصّة، وقد استعانت بها بأساليبَ وطرائقَ متعدّدةٍ جماليّةٍ، وبما أنّ الجماليّة حالةُ مشاركةٍ أو تعاون بين العمل الأدبيّ الفنّيّ والمتلقّي، وتعتمدُ أساسًا على التّفاعل نتيجة ما نشعر به من متعةٍ واكتشافٍ، أو ارتياح أو قلق بتأثيرات هذا التّفاعل، هكذا يستطيع المتلقّي، القارئ اليقِظ أنْ يستبطنَ ويفهمَ أبعادَ أيّ نصٍّ، مِن خلالِ ربْطِ الدّلالاتِ اللّغويّةِ، والهندسةِ الجدليّةِ للجُملِ، وما تحويهِ مِن صورٍ جَماليّة. يقول محمّد مندور:" التّحدّثُ عن المبنى والمعنى كالتّحدّث عن شفرَتَي المِقصّ، والتّحدّث عن جودةِ أحدِهما كالتّساؤل عن أيّ الشّفرتين أقطع!"
نجدُ في نصوص عدلة التحامًا واضحًا في الشّكل والمضمون، في جدليّةٍ لغويّةٍ معنويّةٍ ومَبْنَويّة في ترتيبِ الجُمل،وهندسةٍ إيقاعيّةٍ تقتربُ إلى لغةِ الشّعر في صورٍ استعاريّةٍ عميقة. تكتب عدلة في النصّ الأوّل " فاتنة حبيبتي الصّغيرة": "اليوم الّذي فارقتْ نفسك الحياة، فارقتْنا الابتسامة والبهجة والسّعادة". مِن فاتنة كان استهلالُ عدلة، وكانت صرختها الإبداعيّة الأولى، فانفجرت إبداعًا وصرختْ في ألم: "انفجري يا مفردات واكتبي يا نفسي، اكتبي ما يحلو لك عن ذلك اليوم المشؤوم الّذي مرّ في شتاء هذا العام في نهاية كانون".
فجعت الكاتبة برحيل مفاجئ لأمّها أثّر فيها كثيرًا، حيث بدا واضحًا في أغلب نصوصِها، فمِن النصّ الأوّل، وتحديدًا في الصّفحات الثّلاثين الأولى، نجد سيطرةً  لمعجمٍ تعبيريّ واحد (موتيف الغياب) مشحونًا بالألم والحزن، لكنّ الكاتبة تنتفضُ في نهايةِ كلّ نصّ، وتحوّلُ ذلك إلى رؤيةٍ تفاؤليّةٍ، تستعيدُ فيها قوّةَ الحياة والانتصار على الضعف.
ومن أمثلة التعابير الدّالّة على "الغياب": التّلاشي، تلاشت، اختفى، تاهت، طريق بلا مخرج، توارى، توارت، محطّتي خالية، غيابك، ترحل لترحل، تغيب لتأتي، تغطّى، يغلّف، الغروب، الرحيل، الاحتجاب، الفراق، المغادرة، التّناثر، التّواري، الجمود، الذّوبان، الحجاب...الخ.     
ومن يتابع سائر النّصوص بعد الصّفحات المذكورة يجد أنّ هذا المعجم التّعبيريّ قد زال كليًّا وحلّ محلّه المعجم التّفاؤليّ الّذي ينتشي بالتّجدّد والتّحدّي في فرح وأمل. ومن أمثلة ذلك: "ستنمو، أجل ستنمو، ستكون بذورٌ ويكون بستان" وأيضا: "وراء كلّ خريف ربيع يبتسم".
والملاحظ أنّ الكاتبة تنوّع في أسلوبها، ويظهر أنّ "الالتفات" ظاهرة بارزة في جميع النّصوص، حيث تنتقل من عالمها الخاص لتتّصل بالعالم الجماعيّ الأوسع، وتتحوّل من خطاب إلى آخر، وتتّخذ الطّبيعة الحيّة والجامدة جسرًا في إيصال أفكارها ومشاعرها، وهكذا يظهر "الأنا المتغيّر" في أغلب النّصوص: "أنا لست أنا كلّ يوم".  " أنا لم أرفع شعار الاستسلام بعدُ؛ لأنّ النّجم في داخلي". "أيّها الأمل الغافي على كتف حريّة الضّمير، حان وقتك لتنهض". "انتعلت جرأة الجنديّ بثقة أرز لبنان". "انتفضت سمكة من قاع البحر وأخذت تحلم بعالم بلا حدود". "كيف سيعرفون زوال جمرة ملتهبة إن لم يكتشفوا من فوقها الرماد". "كيف سيعرفون أنّ في التّراب بذرةً حيّةً".
أمّا الاستعارة فقد جاءت عفويّة تحمل دِلالاتٍ وأبعادًا تتعدّى حدود الخيال،تمتزج بالواقع في فنيّة خاصّة موحية. والصّور الفنيّة في أغلب الجمل ترتكز على الاستعارات، والاستعارة حسب تعريف جاستون بلاشر هي صورة "إنّ الصّورة نبتة تحتاج إلى أرض إلى سماء وإلى جسم وإلى شكل". وهذا فعلًا ما نجده في استعارات الكاتبة، استعاراتها لها أرض خصبة وسماء كريمة في كواكبها وغيومها، في ليلها ونهارها، وبحر وفصول متعاقبة، وصحراء يمتدّ فيها الزمن ويقصر: "البحر يعطش كما الصّحراء، الصّحراء تتنفّس ماء البحر المالح، ويبقى كلاهما يبحثان عن الماء للارتواء". "الغربة غربة حجر". "حاصرهما صمت الغياب اللّعين". "هل يذوب الشّوق أم يتجمّد".
 ولنسمع/ ولنقرأ معًا بإمعان: "عذرا أيّتها الغزالة الصّفراء.. لا  ترسلي شعاعك، فأنا لست بردانة... هي عاصفة الظلم قويت على كلّ ثياب العدل والإنسانيّة، فبت أبحث عن رداء يلائم عواصف القهر؛ ليقيَنا من جور الباحثين عن دموع اليتامى ليعجنوا بها طحين تفاهتهم، ليغمسوا خبز حقدهم بزيت لؤمهم... أنت يا طفلة الحريّة لا تخافي، ويا براءة الأطفال،   لا تشعري بوحدة؛ فأنا مثلك أحبّ البحر، أعشق صوت الغمام، أتنفّس من هدير النّهر، أغفو على لحن الغربان، فخريف يعاقب خريفًا، وحلم يصارع كابوسًا، وبينهما مرجان يستصرخ أسماك القرش وحيتان القاع، وبنفسج يملأ البستان بأريجه رغم ثورة البركان... علا صوت النّاي بلحن الآهات، في كلّ بحر ملفٌّ للذّكريات".
 إنّنا نجد في هذه الاستعارات الإيقاعيّة المركّبة الحيّة عوالم مختلفة متجانسة حينًا، ومتضادّة حينًا آخر في هندسة جدليّة عفويّة، تتحرّك فيها الألفاظ والتّعابير في انسياب وجدانيّ عاطفيّ جيّاش في نغم شاعريّ، لتكوّن شبكة مفتوحة من العلاقات والثّنائيّات الّتي أرادت من خلالها إبراز كثير من مفارقات وتناقضات هذا العالم، بدءًا من المحيط الضيّق ووصولًا إلى المحيط الأبعد والبعيد بأبعاد دِلاليّة رامزة موحية.
وقد وُفّقَت الكاتبة في توظيف الموسيقا الداخليّة- التّنغيم- في هندسة إيقاعيّة  معبّرة، وهذا ما زاد من جمالية التّراكيب الاستعاريّة، كما كان  لتوظيف التجنيس بكلمتين متجاورتتْن أثر موسيقيّ بارز في إثارة القارئ وبثّ الدّهشة فيه: "أحزانها ألحانها". "الجنين والحنين". "القلق والأرق". "الأشواق والأشواك". "تسمع صدى الصّوت من ذاك السّوط". أملي أن أكون في هذه المداخلة قد ألقيت الضوء على بعض مقوّمات نصوص الكتاب،  آملا في القريب العاجل أن أفيَه حقّه في دراسة تفصيليّة واسعة، تشمل توضيحات لسدّ بعض الثّغرات البسيطة في بعض نصوص الكتاب، ننتظر إبداعًا جديدًا منك يا عدلة.
مداخلة حسام برانسي: احتفاءً بكتاب نبضات ضمير للكاتبة عدلة شدّاد خشيبون: يا مْعَمْدِه الكِلمِه بالمَحبِّة/ بصِدقِ المَشاعر عَمَّدِكْ رَبّي/ عمْ تِغِرْفي مِن نبعِةِ الإحساسْ/ وْبِعْقُولْنا الإبداع بِتْصُبّي/ فِكْرِكْ يا عَدله مِسْبَحِةْ ألْماس/ وِمْنَقّيِه حَبِّه بَعِدْ حَبِّه/ وْقَلبِكْ نَقي بِيحِبّ كلِّ الناس/ لا بْتِحِقْدي وْلا بْتِعِرْفي تْخَبّي/ وْشُو بْتِفْرَحي عَا طنّة الاجراس/ وِبْتِفْرَحي أكثرْ بَعِدْ بِكْثير/ لمّا الصّليبْ يْعَانِقِ القِبّه.
ع كْتابْها الليْله نْزِلْنا ضْيوف/ والحَرْف بالإبداعْ حَيّانا/ وَصَبِّ الوَحي فوْق السّطورِ حْرُوف/ لمْعِة فِكِرْ نوَّرْ مْحَيّانا/ وْحَتّى شموخ وْعُنفوان نْشوف/ وْنَفحِة قداسِه بْرُوح مَلقانا/ شرْحِت خبايا القلب عَ المَكشوف/ وْأخدَت مِنِ جْبال البْقيعه شْموخ/ وأخذت قداسِه مِن عُرس قانا.
قَريت الكتاب وجَمَعِت غَلّه/ حتّى الفِكِر ما يْعيش بالقِلّه/ وعَ قدْ ما قلّبِتْ بالاوْراق/ فَزّ الوَحِي مِنْ مَضْجَعُو وَقالْ لي/ شُفِتْ بِعْيونَكْ لمعِةِ الأحداق/ مِثِلْ الـْ كأنّكْ خاشِعْ تْصَلّي/ شو قَريت؟ قالْ لي، مِن زَمَنْ توّاق/ اسْمَعْ حَكي مَوْزون مِتْجَلّي/ وْبَلّشِتْ اِقْرا، وِالوَحي مِشتاق/ يُقطُفْ زَهِرْ تَا يْعَرِّمِ السّلّه/ وْلَمّا انْتهيتْ، بْلَهْفِةِ العِشّاق/ باسْ الِكْتاب وَقَبِلْ ما يْوَلّي/ قال لي بْتواضُعْ وْبُلُطُفْ أخلاق/ ما دام عِنا هيك في كُتّاب/ مْنِقدَرْ عَ أعْلا سَمَا نْعَلّي .
مداخلة عدلة شداد: في بستانِ مَحبّتِكم زرعتُ أفكاري، فارتوَتْ مِن دفْءِ كلامِكم، ومِن خِلالِكم كانَ نبضُ الضّميرِ قوّيًا، وكانَ المولودُ ضميرًا يَنبضُ بأملٍ مُتوارٍ خلفَ حكاياتِ لبنى وسعاد، وآهات بثينة وسلمى، ودمعاتِ خولة واستغاثة نورس وهزار. كانَ الضّميرُ ربيعًا في الخريف، وصيْفًا في الشّتاء، فكتبَني بمدادِ آذار المرأة والعطاء، وأيّار شهر الدّمعةِ والابتسامة. مولودةُ شتاءٍ أنا، وغيماتي ليستْ خلّب، فهي صادقةٌ، وصِدْقُها في رِعدةِ كانون وسَيْلِهِ، وحين قرّرتُ أنْ أجمَعَ نصوصي في كتاب، أتى العنوانُ وحدَهُ لا مُنافِسَ لهُ، فأسرعتُ لعلبةِ خيطاني التي ورثتُها مِن أمّي الغالية، وطرّزتُ الغلافَ، ففي كلِّ غرزةٍ نبضةُ ضميرٍ، ودقّةُ قلبٍ وشكرٍ وعرفانٍ لهذه العظيمة، فلها نبضُ روحٍ لا يَنضبُ لا ولن يموت.
فإنْ كنتُ قد اخترتُ قماشَ الكتاب أسوَدَ اللّون، فقد تمّ اختيارُ ألوان الأمل لتزيّنَهُ، فلكَ أيّها القارئُ تقعُ عمليّةُ بحثٍ لترى الأملَ في كلّ نصٍّ. عميقُ شكري لكلّ مَن غيّبَتْهُ الظروفُ ومَنعَتْهُ مِن مُشاركتي، وأخصُّ بالذّكر صديقتي ورفيقتي الكاتبة هديّة علي، فقد غيّبَتْها وفاةُ اختِها اليوم.
الصّديق فؤاد نقّارة والغالية سوزان اعتذرا، ليقوما بترتيب أمسيةٍ في النّادي للأديب سهيل عيساوي، فلهُما عميق شكري، وحباهما الله بالصحّة والعافية. عميق شكري للشاعر رشدي الماضي الذي فاجأتي بترتيب موعد هذه الأمسية، فهنيئًا لنا به وهنيئًا للبادية بشموخه. أستاذي في جامعة حيفا د. فهد أبو خضرة؛ شرفٌ كبيرٌ لي أن تكونَ نجمَ أمسيتي، فخورةٌ جدّا بكَ واعتزازي بشموخك أكثر وأكثر من الأعماق، لك باقة شكر وامتنان. وباقة شكر لد. محمّد خليل على هذه القراءة الثّاقبة، وعلى تذليله لمواعيده وحضوره، ليلقي الضّوء على نبضات ضميري. وشكري للشّاعرة آمال عوّاد رضوان على تشجيعِها الدّائم، وإصرارها على إخراج هذه النّصوص على شكل نبضات ضميري. الصّديق الأستاذ رياض مخّول الذي عانق النّبضات، وألقى الضّوء عليه من نواحٍ عدّة، شكرًا من أعمق الأعماق أستاذي العزيز. الصّديق الشّاعر الزّجال حسام برانسي الذي أراد أن يُعبّر بطريقة فنيّة مُغايرة، شكرًا لحضورِك ولإلقاءِ الضّوء بهذه الطّريقة الرّائعة، من الأعماق أشكرك. شكرًا لمنتدى الحوار الثقافي البادية وللأخ أمين قاسم على كرَم الاستضافة والَضّيافة. شكرًا لصديقاتي العسفاويات والكرمليّات ما أغلاكم، فقد سكنت أثناء تعليمي في جامعة حيفا في عسفيا، ولي فيها ذكريات جميلة. ما أسعدني بكم إخوتي وأخواتي الأعزّاء، والشّكر الأكبر لكلّ واحد منكم لكلّ مَن خطط وذلل صعابَ الوصول  ليكون معي، وحين فكّرت بالشّكر لم أتردّدْ ثانية بتطريز النّبضات كهديّةٍ رمزيّةٍ لكلّ واحدٍ منكم، وكأنّي بها أقول: ضعْها في النّبضات وستسمعك النّبضات. بارك الله بكم وألف شكر لحضوركم من كلّ حدبٍ وصوْبٍ. وأخيرًا، شكر خاصّ للرائعة آمال عوّاد رضوان على تشجيعِها الدّائم، ليبقى الضّميرُ نابضًا لنا، وأجمل النّبضات  والشكر لكلّ من كتبَ وتعذّر عليه الحضور!


114
قصصُ أطفالٍ تُسافرُ بأحلامٍ مُؤجَّلةٍ!
آمال عوّاد رضوان
أمسيةً أدبيّةً للكاتبةِ عايدة الخطيب أقامَها نادي حيفا الثقافي، والمجلسُ المِلّيّ الأرثوذكسيّ في حيفا، واتّحادُ الكرمل للأدباءِ الفلسطينيّين، في قاعةِ كنيسةِ ماريوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 28-1-2016، ووسط حضورٍ مِن أدباءَ وأقرباءَ وأصدقاء، وذلك لمناقشةِ أعمالِها الأدبيّةِ مِن قصصِ الأطفال، وقد تولّى عرافة الأمسيةِ الكاتب زياد شليوط، وتحدّثَ كلٌّ مِن د. بطرس دلة والكاتب نبيل عودة، وفي نهايةِ اللقاء شكرت المُحتفى بها الحضورَ والمُنظّمين والمُتحدّثين، وتمّ التقاطُ الصّور التذكاريّة!
  مداخلة . بطرس دلة: الكاتبة عايدة الخطيب لها ثلاثة دواوين: الجوري عمرُهُ قصيرٌ، وحمامةُ منتصفُ الليل، وأحلامٌ مؤجّلة، وهي ابنة شفاعمرو، ومعروفة في أوساطِ أدب الأطفالِ أكثرَ منها في مجال الشعر، ولها أكثر مِن أربعين قصّة في أدب الأطفال، وبعضُ قصصِها أعيدت طباعتُها أكثرَ مِن مرّة، بسبب رَواجِها وإقبال الصّغار على قراءتِها، هذا وقد تُرجمَت لها بعضُ  القصصِ إلى اللغةِ الإنجليزيّة، كما حازتْ على جائزة التفرّغ لأدب الأطفال عام 2000. كانت قد بدأت الكتابة في مرحلةٍ مُبكّرةٍ مِن دراستها الثانويّةِ في شفاعمرو، وأوّلَ مَن شجّعَها على الكتابةِ كان الأديب ناجي ظاهر النّصراويّ، والمرحوم البروفيسور نعيم عرايدة (بحسب قولها). وفي بابِ الشّعر قرأتُ لها منذ أكثرَ مِن عشر سنواتٍ "ديوان أحلام مؤجّلة"، وكتبتُ لها رسالة غيرَ شخصيّةٍ قلت فيها: أيّتها الشاعرة! لم أفاجأ بأحلامِكِ المؤجّلة، ولكنّني فوجئت بهذا التأجيل على ما فيهِ مِن عتاب كما في قول الشاعر: إذا ذهبَ العتابُ فليسَ وُدٌّ – ويبقى الودُّ ما بقيَ العتابُ!
في قصيدة "خفقات قلب" ما يَنمُّ عن مضمون الديوان كلّهِ، فتُصوّرُ متعةَ خفقاتِ القلب الأولى بالمحبّةِ الحقيقيّة، وترسمُها كلوحةٍ من أجملِ لوحاتِ الإنسانيّة عندما يتورّدُ الخدّانِ وتفتحُ أبوابَ الجنّة، فندخلها بدون استئذان وبغير جواز، وتُحلّق أرواحُنا مُشرِّعة أبوابَها للفرح، حيث لا مكانَ للحزن، وتعودين إلى الخفقةِ الثانيةِ، فتنقلبُ اللوعة والحبُّ الجميلُ إلى عتاب ومعاناة، ثمّ تُقرّرينَ خلعَ الحبيبِ مِن دائرةِ حياتك، وتُقرئينَهُ السلام لا بل الوداع! لذلك كلّه فإنّ أحلامَكِ مؤجّلة، فمَن هو هذا الذي نغّصَ عليكِ لهفة اللقاءِ في خفقةِ القلب الثانية؟! أهو الحبيبُ الإنسانُ، أم الحبيبُ الوطن الذي سُلبَ وصُلبَ على مذبح التضحيات، وعزّ فيهِ اللقاءُ الحقيقيّ، لقاءُ الاستقلال، ولقاءُ اللاجئين العائدين، وتبادل عواطف اللقاء الموعودين به؟ أنا كذلك أحلمُ بتحقيق حلم العودة وحلم الوطن الحُرّ المستقلّ، ولي بعد ذلك أحلامي الصغيرة الأخرى التي تتجدّدُ في كلّ يوم وليلةٍ، ولا نهاية لِما أحلمُ كإنسان، وكفلسطينيٍّ أسعى إلى تحقيق الأحلام في لوحاتِ الواقع! نحنُ لا نُؤجّلُ أحلامَنا، بل قد نؤجّلُ تحقيقها إذا ما تعذّرَ علينا ذلك، ومع هذا التأجيل قد نُطوّرُ أحلامَنا، لتتلاءمَ معَ الظروفِ التي نعيشُها، ولكنّنا نحلمُ أبدًا وسنحلم، لأنّهُ مِن الصّعب أن نُكبّلَ أحلامَنا، وأن نقصَّ أجنحتنا الخفّاقة برغم كلّ شيء. وجدتُ في بعضِ اللوحاتِ اللغويّة التي رُسمتْ بقلمِك، وفيها شيء مِن تجديد واستعاراتٍ جميلةٍ تحلّقين فيها كقولك: "بفتح ذراعيْهِ ليضمَّني/ أهربُ.. ألتفتُ ورائي/ فأرى الفرح يَمدُّ لسانَهُ/ ويهرب"!
هذه السّخريةُ اللطيفةُ تشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ ما كان قد قاله الشاعرُ الكبير إيليّا أبو ماضي في حديثِهِ، عندما ماتَ أحدُ أبنائِهِ ففارقتهُ السّعادة وقال: عَصَرَ الأسى روحي فسالتْ أدمُعا/ فلمَحتُها ولمَستُها في أدمُعي/ وعلمتُ حين العلمُ لا يُجدي الفتى/ أنّ التي ضيّعتها كانت معي!
تتحدّثين عن الفرح الهارب، وهو يتحدّثُ عن السّعادةِ المفقودة، والوصولُ لديكما واحدٌ، هو فقدانُ عناصرِ وأسبابِ التعلّق بالحياة، وهُما الفرحُ والسعادة! وفي مكانٍ آخرَ لفتتْ نظري توفيقة جميلة في عتاب الذاتِ  في قولِك: "حينَ يُبدّلني حبيبي/ بأخرى/ لا أعاتبُه/ بل أعاتبُ نفسي/ لأنّي لم أحُكْ شبكةَ حُبِّنا بإتقان!" فما هذا التنازُلُ الغريبُ عن طبيعةِ المرأةِ التي تتنازلُ بهذهِ السّهولةِ، للمرأة الأخرى التي تُنافسُها في حُبِّ فتى أحلامِها ولا تغضب؟ ومع ذلك تُلملمينَ أشواقك المبعثرة عطرَ ياسمين، وتوقعينَ مُعاهدةَ الإخلاصِ على صفحاتِ الزمان! فحتى آلهة الإغريق كانتْ تغارُ حتى الموت على مَن تُحِبّ، ولا تتنازلُ بهذه السّهولة، فمِن أيّةِ طينةٍ جُبلتِ أنت؟
في قصيدة "إلى آمال.. الحبّ القائم" تتحدّثين عن الحلم الذي رحلَ، فتضيعُ البوصلة وتضلُّ الهداية، لذلك فإنّ الفرحَ قد يَستثني بعضَ البيوتِ، بينما يَدخلُ الحزنُ جميعَ البيوتِ! هذه النظرةُ إلى سيطرةِ الحزن على حياةِ الناس هي وليدةُ ساعةِ الحزن فقط، مع أنّها صحيحة، إلّا أنّ الحزن لا يمكنُ أنْ يَدومَ إلى الأبد، حيث قلتُ فيهِ ذاتَ يوم: قلْ لِمَنْ يَحملُ همّا/ أنَّ همًّا لا يَدومُ/ مثلما يَفنى سرورٌ/ هكذا تَفنى الهُمومُ! فنحن البَشرُ خُلقنا مِن طينةِ النّسيان، والنّسيانُ نعمة ونقمة: إنّه نعمةٌ عندما ننسى إساءةَ الغير لنا، ونقمةٌ عندما ننسى إحسانَ الآخرين لنا!
ولا أنسى مُحاولاتِكِ لإدخال التّناص في بعض نصوصِكِ الشعريّة، ومع ذلك فإنّ لي بعضَ الملاحظاتِ السريعةِ على أدب الأطفال الذي تميّزتِ به، حيث أنّكِ  كتبتِ بلغةٍ بسيطةٍ يَفهمُها الصّغارُ كلٌّ حسبَ سِنّهِ، لأنّكِ وجّهتِ قِصصَكِ إلى مُختلفِ الأجيالِ الصغيرة، فبدَتْ نصوصُكِ سهلةً قريبة مِن عالم الأطفال. هذا ما ميّز كتابتِكِ في قصائدِك للأطفال، مع أنّكِ لا تُجيدينَ عروض الشعر في كلّ ما كتبت، خاصّة قصيدتك في حُبّ شفاعمرو مَسقط رأسِكِ، إلّا أنّ عدمَ إجادتِكِ لعروض الشعر لا تعني أنّكِ فقدتِ أفكارَكِ التربويّة ومَضامينَ قصائدِكِ التعليميّة. كذلك معظمُ قصصِكِ مُستوحاةٌ مِن عالم الواقع الذي تعيشينَهُ، والذي يَعيشُهُ أطفالنا في شفاعمرو وفي مُختلفِ قرانا ومُدنِنا العربيّة. إنّ سببَ نجاحِكِ في هذا الباب هو مُعاشرتُكِ للأطفال، وحُبّكِ الذي لا يعرفُ الحدودَ لهم، فأنتِ أوّلًا وقبلَ كلّ شيءٍ أمّ، وعاطفة الأمومةِ تَشدُّكِ أبدًا كي تبدعي لأحبابنا الصغار. أخيرًا، يجبُ ألّا يغيبَ عن بالِنا أن كاتبتنا اعتمدت العنصرَ الغنائيّ والجرْسَ الموسيقيّ الجميلَ في أشعارها، فجاء ما أبدعَتْهُ قريبًا مِن عالم الأطفال، فلكِ الحياة!
مداخلةُ نبيل عودة/ جمال عالم الطفولة بتجربة الأديبة عايدة خطيب: الأديبة عايدة خطيب من مدينة شفاعمرو، وهي كاتبة معروفة للأطفال وشاعرة، لها عشراتُ الإصداراتِ الأدبيّةِ للكبار والصّغار، واليومَ نلتقي بمناسبةٍ هامّةٍ أعتبرُها علامةً مميّزةً لمَسارٍ ثقافيٍّ هامّ، في تكريم الأدباء وهم أحياء، وعدم تجاهُلِ المُبدعاتِ مِن النساء وإنتاجهم الأدبيّ.
في السّنواتِ الأخيرةِ ألاحظُ أنّ المرأةَ تأخذ حيّزًا يَتزايدُ باستمرارٍ في المشهدِ الأدبيّ العربيّ داخلَ (إسرائيل)، وللأسفِ هناكَ عوائقُ كثيرةٌ تُشكّلُ الكثيرَ مِنَ العواملِ السّلبيّةِ على تطوُّرِ ثقافتِنا بمُجملِها مِن: *مشكلةِ النّشرِ والتّوزيع. *مشكلة غياب الصّحافةِ الثقافيّةِ، فهناك محاولاتٌ آملُ أن تنجحَ، وأن نرى مجلّةً ثقافيّةً فكريّة، كما كانت مجلة "الجديد" في وقتها. *مشكلة غياب نسبيّ كبير للصفحاتِ الثقافيّة مِن الصّحفِ المَطبوعة. *مشكلة مؤسّساتِ الجماهيرِ العربيّةِ بكلّ أنواعِها وتشكيلاتِها، لا تُقدّمُ لتطويرِ الحياةِ الثقافيّةِ أيَّ دعم، وغير ذلك الكثير.
تعرّفتُ على عايدة خطيب عبرَ نشاطِها الثقافيّ، وبالتحديد بكتاب "أشعار للأطفال" الذي وقعَ تحت يديّ بالصدفة، فشدّني بروحِهِ وصورِهِ الشّعريّة التي نقلتني لعالم الطفولةِ المُذهل بجَمالِهِ الرائع، برونقِهِ وألوانِهِ، وكان أوّلُ كتاب مَحلّيٍّ للأطفال أقرؤُهُ، ليسَ قصورًا منّي، إنّما لم أجدْ ما يَشدُّني ضمنَ مَشاغلي الكثيرة لأتعرّفَ على هذا الجانرَ الأدبيّ، الذي لا أُقلّلُ مِن أهمّيّتِهِ وقيمتِهِ الإنسانيّةِ والجَماليّةِ لتطوير وعي أطفالِنا. في السنواتِ الأخيرةِ تعرّفتُ على إبداعاتِ كُتّاب آخرين، وأستطيعُ القولَ إنّ الكتابة للأطفال أصبحتْ ساحةً مُخترَقة مِن عددٍ كبيرٍ مِن الأسماء، بعضُها رائعٌ، وبعضُها لا يخدمُ الهدفَ مِن الكتابةِ للأطفال. هل التّهافتُ على الكتابةِ للأطفال الذي تشهدُهُ ثقافتُنا العربيّةُ داخلَ (إسرائيل) هو تهافتٌ طبيعيّ، أم يُخفي وراءَهُ أهدافا لا تخصُّ النشاط الثقافيَّ، ولا مُتطلباتِ تطويرِ أجندةٍ تخصُّ عالمَ الطفولة؟ أقولُ بوضوح، ما عدا قصص قليلة ولأسماء قليلة جدّا مِن كُتّاب الأطفال، لم أجدْ إلّا كتاباتٍ تتراوحُ بينَ الإجادةِ والإجادة المتوسّطةِ مِن جهةٍ، والثرثرةِ المُؤسِفةِ والمُضِرّةِ مِن الجهةِ الأخرى.
بعضُ المميّزات لدى الأديبة عايدة خطيب في تناولها لعالم الطفل، وهو عالمٌ مُركّبٌ جدّا وآسِرٌ بجَمالِهِ، تتحكّمُ فيهِ أجملُ المشاعرِ الإنسانيّةِ وأكثرُها براءةً ونقاءً. اقولُ بثقةٍ ووضوح أنّ عايدة خطيب فاجأتْني، وأعادتني طفلًا وأنا أقرأ أوّلَ كتاب لها "أشعار للأطفال"، وقد لاحظتُ أنّها تعملُ بلا كللٍ على تطوير تجربتِها في الكتابةِ القصصيّة والشّعريّةِ للأطفال، وقد أصدرتْ حتى اليوم أكثرَ مِن أربعين قصّة وديوانَ شعرٍ يخصّ الأطفال، فالمميّز الهامُّ لديها هو قدرتها على الدخول إلى عالم الطفل وتفكيرِهِ وردودِ فِعلِهِ، حيث استطاعتْ أن تحافظ على رونق عالم الطفولة، مثلًا في قصيدتِها "أحِبُّ اللعبَ بالكبريت" نقرأ: "أحِبُّ أن ألعبَ/ بعلبةِ الكبريتِ/ فتفزعُ أمّي/ تصيحُ يا عفريت/ كم لاعبٍ بالنّارِ/ أحرقَ كلَّ الدّارِ/ وحينما تذهبُ/ أمّي إلى المطبخ/ لتطبخَ الطّعامَ/ وتُشعلَ الكبريتَ/ أعدو وراءَها وأصيحُ/ يا عفريته..."
مَن مِنّا لم يَعِشْ هذه القدرة الطفوليّة على الربط بينَ الظواهرِ وليسَ بينَ المضمون؟! مِن هنا يَنبعُ جَمالُ عالم الطفولةِ الذي عرفتْ عايدة أن تتسلّلَ إليه وتنقلهُ لنا. لغة عايدة تتميّزُ بالبساطةِ والسهولة، وتُضفي لونًا إضافيّا على النّصّ ما هو أهمُّ مِن اللغةِ، هو القدرة على دخول عالم الطفولةِ المسحورِ والأسطوريّ، والكشف عن نموّ شخصيّةِ الطفل وتكوينِها. إنّ أسلوبَ اكتشافِ الأطفال لذواتهم، لواقعِهم وإدراكِهم لعالمِهم ليسَ أمرًا سهلا. في قصيدة "أحبّكم أن تسمعوني" تقتربُ أكثرَ للتفكيرِ الطفوليّ: "حينَ تموءُ قطّتي/ وتطلبُ الطعام/ أنهَرُها بشدّةٍ/ فنحنُ في الصّيام".
في قصيدةٍ مُوجّهةٍ بالأساس للأهل، عبرَ الرؤيةِ بعينيْ طفلة، وكأنّي بها تُوبّخُ الكبارَ، خاصّةً بموضوع التفضيلِ الّذي يحظى بهِ المولودُ الذكرُ عن المولودة الأنثى، في قصيدتها "لماذا أمّي حزينة"، تمسّ عايدة قلبَ المشكلة بكلماتٍ تنغرزُ في القلب بألم: "يظلّ فكري حائرًا/ أيّامًا كثيرة/ فأمّي تبدو دائمًا/ تعيسةً حزينة/ لأنّ أمّي أنجبتْ/ أختي أمينة/ ولا أخٌ في بيتِنا/ ونشتهي البنينا".
أعترفُ أنّ أدبَ الأطفال بدأ يَشدُّني منذ قرأت "أشعار للأطفال " للأديبة عايدة خطيب، حيث اكتشفتُ الكثيرَ مِن الأفكارِ والعُمقِ الإنسانيّ الذي بدأنا نفتقدُهُ في عالم "الشاشات الإلكترونيّة"، والتي تملأ كلَّ زوايا بيوتِنا. في بعضِ ما يكتبُهُ الكبارُ للصغارِ بدأتُ ألمَسُ تطوُّرَ "النصِّ الإلكترونيّ"، ضجيجٌ لا يقولُ شيئا، ربّما لغويًّا لا بأسَ بالنّصّ، لكنّهُ خطابٌ لا يَصِلُ للعنوان الصحيح. على عكس ذلك عايدة خطيب، نجحتْ بنقلِ عالم الطفولةِ بتوهُّجِهِ، فالموضوعُ ليسَ لغة فقط، مع أهمّيّةِ اللغةِ والمُفرداتِ التي نختارُها لمخاطبةِ الطفل، إنّما النّجاحُ بتقمُّصِ تفكيرِ الطفلِ السّاحرِ والأسطوريّ، ولنحلم بلا خجلٍ كالأطفال، ربّما عندها نستطيعُ أن نحلمَ كالكبار، فبدون أن نحلمَ لا معنى لكتاباتِنا. الكتابة في جوهرها هي العلاقة بين الحلم والواقع. أتمنى لعايدة خطيب أن تُواصلَ الحلم مع الأطفال، وتمنحنا كبار وصغارا لحظاتٍ من الجمال والمتعة.
في ديوانها الشعري للكبار "أحلام مؤجّلة" لديّ بعضُ ملاحظات، إذ شعرَتْ أنّها لم تعُدْ بحاجةٍ لقدراتِها الخاصّةِ في اختراق عالم الطفولة، فهي تنشدُ لعالم تعيشُهُ بصعودِهِ وهبوطِهِ، بأملِهِ ويأسِهِ، ببؤسِهِ وفرحِهِ، فتلاشتْ مِن الديوان الكثيرُ مِن الأحلام أو أنّها أجّلتها، كما أعلنت بالاسم الذي أطلقته على مجموعتها الشعريّة للكبار "أحلام مؤجّلة"، وهل تُؤجَّلُ الأحلام؟ هل نؤجّلُ الشعر الذي كلّه أحلام؟ وماذا ينفعُ الشّعرُ للإنسان إذا صارَ قدَرِيًّا؟ فما بالكِ تتعثرين؟ الشّعرُ لا يعرفُ التّردّدَ، والحياةُ لا تعرفُ التّردّدَ، فالحياة لمَنْ يُروّضُها كذلك الشعر. رغم ذلك، في قصائدِها للكبار ظلّتْ تحملُ تأثّرًا واضحًا مِن قصائدِها للصغار. مِن هنا جاءت بعضُ التعابيرِ نثريّةً مباشرة، كان بإمكانِها أن تلجأ للشفافيّةِ أكثرَ، وأن تتركَنا نحن الكبار نجتهدُ لنفهمَ ما وراءَ الكلام، ألستِ تقولينَ في "خمائل وجدانيّة": "اِتّسِعي ما شئتِ/ بل عانقي الغمامَ/ إنْ أردتِ".
في الديوانِ عددٌ مِن القصائدِ العامّيّةِ، أعتقدُ أنّها أكثرُ حرارةً وحركةً وتمرُّدًا، لاقترابها أكثر مِن البساطة كما في قصيدةِ اعتراف: "وشَعْري على كتافي/ ربّيتُه إِلِك"، وهي قصيدةٌ تكادُ تكونُ وحدةً متكاملة، حتى وجدت صعوبة في اقتطاع مقاطع للدلالة عليها. أشير إلى قدراتِ عايدة على الصياغةِ اللغويّةِ المُنسابةِ بهدوء واطمئنان، وقدرتِها على الاستعارة وحتى النّحتِ باللغة. تتميّزُ بعضُ مقاطعِها بما يسمى "اللغة التصويريّة"، لكن أكثرَ ما لاحظته هو خيطٌ رفيعٌ مِن الحزن لا ينقطع، يُرافقُ القارئ مِن بداية الديوان وحتى نهايته، بحيث يبدو الفرحُ في بعض القصائد كإعلانٍ للتمرّدِ الذي سرعان ما يذوي وراءَ الحزن المتواصلِ في الديوان. بعضُ القصائدِ زخرت بالشعاراتيّة، وهو حقا موقفٌ صادقٌ لكنّه لا يَخدمُ الشّعرَ. أمّا المميّزُ لأكثريّةِ قصائد الديوان فهو انسيابُها الهادئُ الخجولُ أحيانا، ربّما "الطفلة" عايدة تشعرُ بارتباكٍ عندَ مُخاطبةِ الكبار، ومِن المُثير معرفة نفسيّةِ الشاعرة في الحالتيْن. وكما كتبت عايدة على الغلاف الأخير: "يحقّ لنا أن نُسافرَ بأحلامنا".. وبشِعرنا أيضًا، فهو هُويّتنا وهو "حكم القدر، إذا وُجدَ مثلُ هذا الشيء!


115
حالةٌ اقترانيّةٌ ما بينَ الرّجُلِ والخطأ
آمال عوّاد رضوان
أقامَ نادي حيفا الثقافيّ والمجلسُ المِلّيُّ الوطنيُّ الأرثوذكسيُّ/ حيفا، واتّحادُ لكرمل للأدباء الفلسطينيّين، أمسيةً أدبيّة في قاعة كنيسة مار يوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 16-1-2016، ووسط حضورٍ من الأدباء والقرّاء، احتفاءً بتوقيع المجموعةِ القصصيّة "الرّجُلُ الخطأ" للكاتبة حوّا بطواش، وقد أدارت الأمسية الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون، وشاركَ بمداخلاتٍ حولَ الكتاب كلٌّ مِن: د. محمّد حمَد/ منظومة الفجوات في قصّة المقهى، وشادية حامد، ونعمان عبدالقادر/ صورة الرّجُل في قصّتيْ "الرجل الخطأ" و"أحلام كبيرة"، ولمياء أسدي، وفي نهايةِ اللقاء شكرت الكاتبة حوا بطواش الحضورَ والمُنظّمينَ والمُتحدّثين، وتمّ التقاطُ الصّور التذكاريّةِ أثناءَ توقيع الكتاب.
 مداخلة عدلة شداد خشيبون: بدايةً أُحيّي المحامي الأستاذ فؤاد نقّارة وعملَهُ الدّؤوبَ في هذا المجال، فلولاهُ لما كنّا هنا، فباقة شكرٍ لك ولسوزانك الغالية فراشة النّادي، مُكللّة بأعذب الأمنيات بالصّحة والسّعادة ودوام العطاء، ودمتما ذخرًا للأدب وللكلمة الطّيّبة وعنوانًا آخر للعطاء. يطيبُ لي في هذا المساء البارد جوًّا الدافئ قلبًا أن نجتمعَ، مِن أجل الكلمةِ والمعنى وما وراء معنى "الرّجل الخطأ" بطل أمسيتنا هذه اللّيلة، وعروس ندوتنا الكاتبة حوّا بطواش.
حوّا الفلسطينيّة شركسيّة الأصل، وُلدتْ في قرية كفر كما في الجليل الأسفل. تعلّمت الابتدائية في قريتِها، وأنهت الثّانويّة في مدرسةِ المطران في النّاصرة. حاصلة على لقب أوّل من جامعة حيفا في موضوعَيْ علم الاجتماع والتّربية. اللغة العربيّة تأتي كدرجةٍ ثالثةٍ في البيت بعد الشّركسيّة والعبريّة. بدأتْ تنشرُ قصصَها القصيرة في صحيفةِ "كلّ العرب" ومواقع إلكترونيّة أخرى. في جعبتِها العديدُ مِن قصصٍ تنتظرُ النّشر. "الرّجل الخطأ" مجموعةٌ قصصيّةٌ حلّقتْ بها إلى فضاءاتِ الفكر، وأخذتنا معها إلى قاع البحر، وتركتنا هناكَ نعومُ، ولا مللّ يأخذنا ولا ثِقلُ كلام. الإهداءُ كانَ مقتضبًا جدّا، لكنّه مُفعمٌ بالحنين والحبّ وعشق اللّغة فتقول: إلى روح جدّي الذي ما زال حيًّا في قلبي.
ما أروعَ وأعمقَ كلمة جدّي، وتداعياتُها جمّةٌ في قلب حوّا فتقول: لجدّي فضلٌ كبيرٌ على مطالعتي، فكنتُ أذهبُ إليه وأستعيرُ الكتب لأقرأها. كانَ إنسانًا يُشعُّ مِن نفسِهِ الطيّبةِ، مُفعَمًا بالرّقّة، مَسكونًا بالرّضا والسّلام الدّاخليّ، وكانَ لهُ وجهٌ بشوشٌ، مُشرقٌ بابتسامةٍ يَرتاحُ لها الوجدانُ، وكانتْ مكتبتُهُ جامعةً وشاملة. ما وراءَ الرّجُلِ الخطأ قد تكونُ مُفارقةٌ في عنوان هذهِ القصّة بالذّات، وقد تكونُ مقارنةٌ، وقد تكونُ جريمةٌ نحصدُ مِن عواقبها دوْمًا الكثيرَ، فهذهِ اللّيلةَ سنلبسُ معًا قبّعةَ الفخرِ والاعتزازِ لكاتبةٍ مغايرةٍ، تكتبُ عنّي وعنكَ وعنهم، تختصرُ كلَّ الضّمائرِ لنتوهَ معَها في خِضمّ الحكايات. وهل الخطأ هو مِن الأخطاءِ الّتي يُمكنُ أنْ نُصلحَها؟ هذا ما سنسمعُهُ مِن المداخلات.
مداخلة د. محمد حمد/ منظومةُ الفجواتِ في قصّةِ المَقهى: عندما ننتهي مِن قراءةِ نصٍّ، تبقى هناكَ فجواتٌ ناقصةٌ مثلَ النّهايةِ المفتوحةِ أو التّناصِ أو الرّمز، سنُشيرُ إلى بعضها في هذه المداخلة. عنوانُ الكتابِ لا شكّ أنّهُ يُشيرُ إلى مضمونٍ نسَويٍّ، وقد يتساءلُ الرّجالُ: ما هذهِ الحالةُ الاقترانيّةُ بينَ الرّجل وبين الخطأ، وبالتالي، لمجرّد أن يتساءلَ الرّجلُ هذا التّساؤلَ، لا بدّ أنّ هذهِ فجوةٌ بحدّ ذاتِها، خاصّةً وأنّ العنوانَ يُغيّبُ الجملة، أي لا يوجدُ هناكَ مبنى جُملةٍ ولا فِعل، والرّجُلُ المُعرَّفُ كأنّهُ حاضرٌ في وعي الكاتبة، على اعتبار أنّ مفهومَ العنونةِ هو مفهومٌ نقديٌّ للعمل الأدبيّ، أي أنّ الكاتبَ يكتبُ نصوصَهُ، وبعدَ أن ينتهي مِن كتابةِ النّصوص، يضعُ العناوينَ ويختارُ عنوانَ المَجموعة، عمليًّا، هو لا يمارسُ سُلطة الكاتب، بل يُمارسُ سُلطة الناقد. ولذلك، فإنّ اختيارَ العناوينِ هو عمليّةٌ بوعيٍ، وعبارةً عن تسميةٍ بوعي.
سنشيرُ غلى هذا الموضوع عبْرَ قصّة "المقهى"، عندما نشيرُ إلى الرّجل الخطأ، وهذا الموقفُ عمليًّا من الخطأ يقودُ أيضًا إلى الوظيفةِ الإغرائيّةِ الإيحائيّةِ في العنوان. أعتبرُ أنّ العنوانَ تأويليٌّ في هذهِ الحالة، ويُشيرُ إلى أنّ الكاتبَ لهُ موقفٌ مِن الرّجلِ في هذه الحالة.
قد نتساءلُ: عندما نقرأ عن "الرجل الخطأ"، هل نتحدّثُ عن منظورِ الكاتبةِ أم عن منظورِ الرّاوية؟ والرّاويةُ ليسَ بالضّرورةِ أن تكونَ الكاتبة. وفي قصّةِ "المقهى" نجدُ أنّ الصّوتَ، على الأقلّ في النّصفِ الثاني مِن القصّة، بالضّرورةِ هو ليسَ صوتَ الكاتبة، وإنّما صوتٌ آخر. هل هوَ صوتُ رَجل، ويَستحيلُ أن يَكونَ في هذه الحالةِ هذا التّماهي؟ أم هو صوتُ الشّخصيّةِ التي تُقيِّمُ هذا العنوانَ وتُشير إليهِ، وبالتالي، هناكَ إمكانيّاتٌ مختلفة؟ ما هو المنظورُ الذي يَقفُ وراءَ هذهِ المَقولة، وبالتالي فهي فجوة، وما دُمنا نسألُ فهيَ فجوة. 
عندما نتحدّثُ عن قصّةِ "المقهى"، فالمقهى كما نعرفُ هو فضاءٌ عامّ، ويَذهبُ النّاسُ إلى المقاهي مِن أجل الالتقاءِ بأصدقائِهم والحديثِ معهم. المقهى له دلالةٌ تواصليّة.
حِبكةُ القصّةِ تَدورُ أنّ الرّاوية تدخلُ، وهناكَ في داخلِ المقهى تَنظرُ إلى شابّ يلبسُ بدلةً رياضيّة، وله عينان رماديّتان. تستغربُ وتتمعّنُ في هذه الشّخصيّةِ التي قد تُذكّرُها بأحدٍ ما، وبعدَ قليلٍ يَحضرُ رجلٌ في الخمسين مِن عمرِهِ، يُشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ هذا الشابّ، يلبسُ أيضًا بدلةً رياضيّة ولهُ عينانِ رماديّتان. وتتذكّرُ أنّ هذا الرّجلَ كانَ مَحطّ آمالِها، عندما كانتْ في السّابعةِ عشرة مِن عمرِها، فكانَ ابنُ الحارةِ، وكانتْ دائمًا تنظرُ إليهِ وتحتارُ في نظراتِهِ. يبدو أنّها كانتْ تُحبّهُ، ولكن لم تتحدّث، وتُغادرُ المَقهى، وينتهي هذا الصّوتُ؛ صوتُ الرّاوية الذي كانَ يتحدّثُ عن هذه الأحداث.
في المقطع الثاني يتحدّثُ الرّجلُ، بأنّ تلكَ المرأةَ الّتي كانتْ تجلسُ في المقهى، في الزاوية اليُسرى البعيدة، تُشبهُ الفتاةَ التي كانَ يُحبُّها ودائمًا يُفكّرُ بها، ويُحاولُ أنْ يُوصِلَ رسالةً مُعيّنةً إليها، وبالتالي، فهو يَسألُ النّادلَ عنها، فيقول لهُ إنّها تأتي إلى المقهى أحيانًا، وتجلسُ في هذهِ الزّاوية، فيَجلسُ في الزاويةِ اليمنى مِن المقهى وينتظرُ، ولا تأتي، لكنّه يتحدّثُ عن علاقةٍ كانتْ مع فرنسيّةٍ اسمُها إميلي، وهو الاسمُ الوحيدُ المَذكور. يتحدّثُ أنّها أنجبتْ لهُ هذا الشابَّ وانفصلَ عنها، فهو الآن مُطلّق ودونَ ارتباطٍ بإمرأةٍ أخرى، وكم تمنّى لو كان هناكَ بديلٌ لهذهِ المرأة. وعندما يَخرجُ، يلتقي مع الراويةِ الحبيبةِ الأولى، ويَنظرُ إليها وتنظرُ إليه، ويَسيرُ كلٌّ منهما في طريقِهِ دونَ أنْ يَتكلّم. سأقرأ بعضَ مَقاطع تُجسِّدُ بعضَ المفاهيم ص69:
تتحدّثُ عن الشّابّ وتسألُ: أينَ رأيتُ هاتيْنِ العينيْنِ الرّماديّتيْنِ السّاحرتيْن؟. المقطعُ الكاملُ مِن القصّة: (شعرتُ وأنا أتتبّعُ حرَكاتِهِ بفضولٍ، بأنّني رأيتُهُ في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، قبلَ هذا اليوم. صوّبتُ نحوَهُ نظرةً طويلة. أينَ رأيتُ هاتيْنِ العينينِ الرّماديّتيْنِ السّاحرتيْن؟ لكنّ الشّابّ صغيرٌ، ويبدو أنّهُ ما يَزالُ في العشرينَ ربيعًا، فكيف لي أنْ أراهُ في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، أنا المرأةُ الخمَسينيّة، العانسُ الجبانة التي لم تبادر يوما رجلا بالكلام؟)
وعن الوالد: أكادُ لا أصدّقُ أنّهُ هو. عيناهُ الرّماديّتان ما تزالان تحتفظان ببريقِهما الخلّاب رغم مرور السنين. المقطع كاملا مِن القصّة: (اختلستُ النظرَ إليه، أكادُ لا أصدّق أنه هو. عيناهُ الرّماديّتان ما تزالان تحتفظان ببريقِهما الخلاب، رغمَ مرورِ السّنين، شعرُهُ الأسودُ المُتموّجُ باتَ مَشوبًا بالرّماديّ، جسمُهُ الطويلُ والقويُّ باتَ يَميلُ إلى الامتلاء.. وفجأة، التفتَ إليّ، لمَحَني، توقّفتْ نظرتُهُ عندي، نظرةٌ فضوليّة. أتراه يذكرُ؟ ابتسمتُ لنفسي: وماذا تريدين أن يَذكرَ؟ نظرة أم ابتسامة أم سلاما؟ أيّتها الجبانة الحمقاء! لم تتغيّري. ما زلتِ تعيشينَ في أوهامِكِ. لا بدّ أنّهُ كانَ مشغولا بنفسِهِ طوالَ هذه السّنوات، وها هو الآن مشغولٌ بوَلدِهِ. ترى، مَن تكونُ زوجتُه؟ أهي مِن هنا أم من بعيد؟)
ويتحدّثُ بصوتِهِ عن خلفيّةِ السّماء الخريفيّةِ التي غطّتها سحبٌ رماديّةٌ حائمة حيرى. (المقطعُ مِن القصّة: كان المقهى على ارتفاع مِن المدينة، يُطلُّ على شاطئ البحرِ الجميل، حيث الأمواجُ تكسّرتْ وتراجعتْ إلى الوراء خجلى، مُتناهية، على خلفيّةِ السّماءِ الخريفيّةِ التي غطّتها سُحبٌ رماديّة، حائمة، حيرى. جلستُ في الزاويةِ اليمنى البعيدة، وحيدًا، حائرًا، أنتظرُ.. علّها تأتي.)
ما دلالةُ الرّماديّ؟ لوحة الغلافِ الخارجيّ باللون الرّماديّ. بالصّدفةِ شاهدتُ الليلة فيلمًا سينمائيًّا عن روايةِ "الظلال الخمسون للرّمادي"، والرّماديّ في الفيلم هو أيضًا اسمُ شخص، وفي هذه الظلال الخمسين يعيشُ هذا الرّجلُ حالة مُعيّنة مع المرأة، يقومُ بتصميمِها بشكل مُعيّن. ما هذه الحالة بما نراه؟ حتى لو نظرنا إلى اللون الرّماديّ البارز، وإلى صورةِ الرّجل الذي يلبسُ الأسودَ ولا نرى وجهَه، ويَمشي في الجليدِ والثلوج والضباب، فهل هو مكسورٌ؟ ضائعٌ؟ مسكينٌ؟ يَسيرُ إلى غير هدى؟ لماذا لا نرى وجهَه؟ هل يخجلُ بوجهه؟ لو حاولنا الانتباهَ إلى الأدوارِ التي رُسمَت في هذه القصّة، نجدُ أنّ الرّجلَ على المستوى الأوّل قد نجح في العلاقة مع الرجل مع الابن، وقامَ بإمكانيّة نقل الصفاتِ الوراثيّةِ والخاصّةِ بهِ إلى ابنه، ويلبسُ بدلة رياضيّة، والابنُ مثله أيضًا يلبسُ بدلة رياضيّة، وعيناهُ رماديّتان،  ونشيط وحيويّ، وهناكَ نجاحٌ بالنسبة للعلاقةِ بين أعضاء المؤسّسةِ الذكورية، لكنّ الخللَ هو بينَهُ وبين إميلي، وبينهُ وبينَ الرّاوية التي كانتْ هي المحبوبة. كلاهما، لم ينجحا في إقامةِ علاقةٍ وتواصُل.
الأحداث تجري في المقهى، لكن نعودُ إلى الاسترجاع الفنّيّ ونسمعُ صوتَ الرّجُلِ باسترجاع فنّيّ، ونكتشفُ أنّ الفتاةَ هي الرّاوية التي سمّتْ نفسَها العانس، والتي يزيدُ عمرُها عن الخمسين. الأسماءُ غيرُ مذكورة، وهنالكَ ذكرٌ للأرقام، كتسميةِ المقاطع بأرقام، والتركيز على العمر يعني المفاهيمَ الكمّيّة، والمفاهيمُ الرياضيّة هي الواجهة  التي مِن خلالها تُحاولُ الشخصيّاتُ التعبيرَ عن المشاعرِ وأزمةِ نهايةِ العمر، وعن الأحاسيس. المفاهيمُ الكمّيّة هي نوعٌ مِن التعبير عن الحالةِ العبثيّةِ التي يعيشُها الإنسانُ في هذا العصر، بحيث إنّهُ مُجرّدُ رقمٍ ليسَ لهُ اسمٌ، فالأسماءُ هنا غيرُ حاضرةٍ، والاسمُ الحاضرُ هو فقط اسمٌ أجنبيٌّ بعيدٌ عنّا، لا يُوحي بشيءٍ، لكن يُشيرُ إلى الغربةِ والاغترابِ والإخفاق، عندما نُقيمُ علاقةً معَ طرفٍ لا ينتمي بصِلةٍ إلى هُويّتِنا وإلى أصالتِنا، فبالتالي سيكونُ هنالِكَ فشلٌ.
ما أهمّيّةُ هذينِ الصّوتيْنِ في القصّةِ؟ هنالِكَ نوعٌ مِنَ الرّواياتِ يُسمّى الرّوايةُ البوليفونيّةُ، وهي روايةٌ متعدّدةُ الأصوات، فمثلًا كتبَ مِن هذا النّوع: جبرا إبراهيم جبرا في رواية "السفينة"، ونجيب محفوظ في رواية "ميرامار". ما الّذي يَحدُثُ في مِثل هذا النّوعِ مِنَ النّصّ؟ وما أهمّيّةُ هذا الشكلِ مِن أشكالِ السّرد؟
هذا شكلٌ مِن أشكالِ الحداثةِ، فالرّوايةُ التّجريبيّةُ حاولتْ أنْ تتخطّى المفهومَ التقليديّ، وحاولتْ كتابةَ روايةٍ تتبنّى ما يُسمّى التّجريبَ الفنّيّ على أشكالٍ مُختلفةٍ، ومِن هذهِ الأشكالِ روايةُ تعدُّدِ الأصواتِ، وفيها نتخيّلُ أنّنا نتحدّثُ عن حفلٍ، ونتخيّلُ أستاذًا ما يكتبُ انطباعاتِهِ عن هذا الحفل، وبعدَ ذلكَ يكتبُ هذا الأستاذُ وكلُّ واحدٍ مِن الحاضرينَ عن الحفل أيضًا، فهذا يَعني عمليًّا، أنّ الحفلَ هو واحدٌ، لكن كلُّ واحدٍ مِنَ السّاردينَ يَسردُ سرْدَهُ الخاصَّ بهِ، وهذا طبعًا جميلٌ، لكي نُحاولَ أنْ نستبطنَ داخلَ الشّخصيّاتِ، ونفهمَ الحدَثَ مِن وُجهاتِ نظرٍ مُختلفةٍ، وهذا  فيهِ نوعٌ مِنَ التّبئيرِ ومِنَ التّعميقِ لفهْمِنا للحدَثِ، وهي فرصةٌ لأنْ نفهَمَ مَعالمَ الشّخصيّاتِ، وكيفَ تقومُ الشّخصيّاتُ بإسماعِ صوْتِها الدّاخليّ، وهذا الصّوتُ لا يُمكنُ أنْ نَصِلَ إليهِ مِن خلالِ السّاردِ الخارجيّ، لأنّ السّاردَ الخارجيَّ هو ساردٌ واحدٌ.
لو أردنا إجمالَ منظومةِ الفجَواتِ في هذهِ القصّةِ، سنجدُ أنّ الترميزَ بالنّسبةِ للأسماءِ وعدمِ طرْحِها هو فجوةٌ تبقى عندَ القارئ، وأنّ السّردَ بصوْتيْنِ مُختلفيْنِ هو فجوةٌ تبقى عندَ القارئ، وأنّ اللّونَ الرّماديَّ يُشيرُ إلى الظلِّ وما يَحدثُ في الظلّ، في المساحةِ البينيّةِ في المنزلةِ بينَ المنزلتيْنِ، وهذا فيهِ نوعٌ مِنَ الاستشرافِ الفنّيّ لنهايةِ القصّة. انتبهوا كيف تنتهي: (عندما وصلتُ، رأيتُها، كانتْ في طريقِها إلى المقهى. خطتْ نحوي مُقتربةً، وحينَ رأتْني توقّفت، تجمّدتْ في مكانِها وجمُدْتُ في مَكاني، وأمتارٌ قليلةٌ تقفُ بينَنا.. والصّمت. نظرَتْ إليّ بعينيْنِ مُندهشتيْنِ، ونظرتُ إليها مُتفاجئًا بها، أُحِسُّ بخفقاتِ قلبي المُسرعةِ، ونفسي المُضطربةِ، وجفافِ حلقي. لم تقُلْ شيئًا، ولم أقُلْ شيئًا. وبعدَ لحظتيْن، أرْختْ نظرَتَها وراحتْ في حالِ سبيلِها.)        هكذا انتهتِ القصّةُ بشكلٍ رماديٍّ فيهِ إخفاقٌ، فلم يَسمعْ صوْتَها ولم تسمعْ صوْتَهُ، لكنّنا كقرّاءٍ سمعنا الصّوْتيْنِ، وهذه طبعًا هي روعةُ استخدامِ مثل هذا الأسلوب الفنّيّ. نتمنّى للكاتبةِ مزيدًا مِنَ النّجاح، واستثمارِ مثلِ هذهِ التقنيّاتِ الأسلوبيّةَ الّتي تُقيمُ فجوةً بينَ القارئِ وبينَ النصّ، وتُحاولُ أنْ تُعمّق أعمالَها الأدبيّة القادمة.
مداخلة لمياء أسدي: هناكَ دوافعُ جعلتْني أنتقي المجموعةَ القصصيّةَ للكاتبة حواء بطواش في دراستي الأكاديميّةِ، لنيلِ اللّقبِ الثاني وهي شتّى:
أوّلا: أنا ممّن يَدعمونَ الأدبَ المَحلّيَّ بشدّةٍ وفي هذا المِضمارِ، فلي رأيي الخاصّ والذي مِحورُهُ كالآتي:  نحنُ نحظى بكوكبةٍ مِنَ الرّوائيّينَ والقصصيّينَ البارعينَ في حياكةِ ونسْجِ القصّةِ، فلماذا لا نقرأ لهم؟ لماذا لا نُقدّمُ لهم الدّعمَ المَعنويَّ والمادّيَّ أيضًا إذا ما اقتدَرْنا؟ لماذا لا نَسمو بهم عاليًا، ونجعلُهُم نجومًا تتألّقُ في سماءِ الأدب؟ ها هي الكاتبة المَحلّيّة حواء بطواش تخُطّ بأناملِها وجعَ المرأةِ، وجرحَ الوطن، وتسرُدُ لنا أحداثًا عديدةً تستمِدُّها مِن واقعِنا وتاريخنا، أفليسَ جديرٌ بنا مُؤازرةَ هذهِ الأقلام وإغاثتِها، حتّى ترفرفَ باسقةً في أرجاءِ العالمِ العربيّ؟ جميعُنا يُشيدُ بما أوْرَثَهُ العالمُ العربيُّ مِن فنّ القصصِ والرّواية، وفي جميع الأقطارِ العربيّةِ، لكن، حتمًا هناكَ مَن يَعيشونَ ويَقتاتونَ بيننا، ويَحتاجونَ لأنْ نمُدَّ لهم يدَ العوْنِ، فمِنْ مِنظاري الشخصيّ، مَن يَنقشُ الحرفَ والكلمةَ ببراعةِ شخصٍ رضعَ نكبَتَهُ بكلِّ صبْرٍ وعناء، فيقينًا، لو شاءَ قُرّاءُ شعبِهِ، لجَعلوهُ يقطعُ عنانَ السّماءِ، ويَسبحُ في فلكٍ شاسعٍ معَ صفوةِ الأدباء.
مِن جهةٍ ثانيةٍ، استحوذَ على ذاكرتي الأدبُ النّسائيُّ في الآونةِ الأخيرةِ، فبدأتُ أدعمُ وأُشَجّعُ الكتاباتِ النّسائيّةِ، وفي المجموعةِ القصصيّةِ "الرجل الخطأ"، نلحظُ بروزَ مُصطلحَيْن هامّيْنِ يَجدُرُ التّفريقُ بيْنَهما: الأدبُ النّسائيُّ والأدبُ النّسويُّ، فالأدبُ النّسائي الّذي اِتُّفِقَ عليهِ كمُصطلحٍ يُشيرُ إلى الأدبِ الّذي خطّتْهُ يدُ امرأةٍ، بينما مُصطلحُ الأدبِ النّسويّ الّذي يَتمُّ التَّطرّقُ فيهِ إلى موضوعِ المرأةِ، وطبعًا في "الرجل الخطأ"، الكاتبة حواء بطواش جَمَعتْ بيْنَ كليْهِما.
وهناكَ دافعٌ آخرُ، هو ندائي بإدراجِ وتضمينِ هذهِ القصص في منهاج اللغةِ العربيّةِ، وتعريفِ طلّابِنا إلى كتّابِنا المَحلّيّينَ، وعلى الألوانِ الأدبيّةِ والأساليبِ والطّروحاتِ الّتي تُميّزُهم عن غيرِهم مِنَ الكُتّابِ العربِ الآخرينَ في الأقاليمِ العربيّة. أمّا الدّافعُ الأخيرُ، فأساسُهُ انطلقَ مِنْ إعجابي الشّخصيِّ بكتابةِ حواء بطواش، وبأسلوبِها والقضايا والموضوعاتِ المَطروحةِ بنكهةٍ حيّةٍ لمُجتمعِنا، وتَعاصُرِهِ مع واقعِنا، وبجزالةِ ألفاظِها وتناغُمِ الكلماتِ، ولباقةِ نسْجِ الكلمةِ مع أختِها الكلمة، وتأبُّطِ الكلمةِ لأختِها الكلمةِ بسلاسةٍ ووُدّ.
اللغةُ العربيّةُ تُعتبَرُ اللغةُ الثالثةُ في السّلّمِ اللغويِّ لديها، إلّا أنّها أتحفتْ وأبهرتْ أذهانَنا بحكاياتِها، والتي تمحوَرَتْ حولَ صورةِ المرأةِ، فإذا ما أمعنّا النّظرَ وتمحّصْنا صورةَ المرأة، نرى تجلّياتِها تُشكّلُ موضوعًا هامًّا في جزءٍ وفيرٍ مِنَ القصصِ، وقدِ ارتأيْتُ أنْ أتناولَ بعضَ هذهِ الصّورِ في دراستي بالاستعراض والتّحليل، للأدوارِ الاجتماعيّةِ المُختلفةِ الّتي كانَ لها حضورٌ واضحٌ للمرأةِ: المرأةُ البنت (العزباء)، المرأةُ الأمّ، المرأةُ العانسُ، المرأةُ العاملة، وغيرها من الصور الأخرى.
قصّةُ "بنتٌ مِن هذا العالم"، تُمثّلُ البنتَ العزباءَ الواثقةَ المُجتهدةَ الطموحة، والّتي تمتلئُ بالحيويّة والنّشاط والشّباب، وتُخطّطُ مِن أجلِ تحقيقِ مستقبلٍ سَنيٍّ زاهرٍ، وتتمرّدُ على الواقع الّذي تنوي عائلتُها فرْضَهُ عليها، وتُؤمِنُ بأنّ لها الحقّ في اتّخاذِ قراراتِها بمحضِ إرادتِها الشّخصيّة، والتّعبيرِ عن رأيها بحُرّيّةٍ تامّةٍ. هذه الرّغبةُ الصّادقةُ والعزيمةُ الثابتةُ عزّزتا لديها الشّموخَ وذروة المجد كاسمها بالضّبط (علياء)، حيث أنّها لم تُذعن لقرارِ العائلةِ بشؤونِها الخاصّة، بل تحدّتْ واتّخذتْ قرارَها بالفرارِ والاختفاء، بسبب ذلك المجتمع الفاسدِ المُتحرّشِ الطّاغي.
وفي قصة "المقهى" تبدو العانسُ بصورتِها الحائرةِ التّائهةِ، تُحاورُ نفسَها باستمرارٍ، لأنّها لا تجدُ لها ونيسًا أو صديقًا، تُشاطرُهُ بعضًا ممّا يَختلج في أعماقِها، فهي تعيشُ وحيدةً، وتكادُ تغادرُ هذا الكونَ وحيدةً كذلك، تقضي لحظاتٍ عصيبةً مِن عمرِها، تزورُ المطاعمَ بمفردِها، تحتسي القهوةَ بمفردِها، وتراقبُ تصرّفاتِ الآخرين وترصُدُ سلوكَهم بفضولٍ لا إراديّ، وصوّبتْ جُلَّ اهتمامِها لتحرُّكاتِ البيئةِ المُحيطةِ بها، لكي تشعرَ بوجودِها في هذا العالم، وكي تعيشَ قَدَرَها كما رُسِمَ لها ،إذ سُلبَ منها حقُّ الزّواج، وحرَمَها من العيشِ في ظِلِّ رجُلٍ يَحميها ويُشعرُها بكينونتِها.
والمرأةُ الأمُّ العاملةُ في قصّتيْ "مذكّراتُ عاملةٍ في السّوبر ماركت"، وقصّة "بنتٌ مِن هذا العالم"، هي الأمّ التي تُعتبرُ مصدرَ الحنانِ المُلتهبِ المُتأجّجِ ما بقيَ الزّمن، فهي ما تنفكُّ تُعيلُ عائلتَها، وتَحرصُ على تماسُكِها وثباتِها حتّى رمَقِها الأخير، ولأسفِها، أنّها دومًا عالقةٌ ما بينَ المِطرقةِ والسّندان، ما بينَ الأبناءِ واحتياجاتِهم ورغباتِهم، إزاءَ ربّ البيتِ حاسمِ الأمورِ ومُنهيها، صاحبِ الكلمةِ القاطعةِ والأخيرةِ طبعًا، وإلى آخرِهِ مِن صورٍ تنقشعُ وتنجلي، بمُجرّدِ أنْ نُسْهِمَ في تصَفُّحِ صفحاتِ هذا الكتاب، فلِمَن لم يقرأه فأنا أنصح وأوصي به، فكما قال الرسول صلعم أوصيكم بالنساء خيرا، وبهذا التناص أنهي مداخلتي "أوصيكم بالأدب المحلي خيرا"، فتابعوه، أهيجوه، رغبوه وانشروه فأنتم العماد ولكم السداد. 
مداخلة رشدي الماضي: غاليتي الأديبة حوا لطواش: أعمّدُني/ وصولًا راح يقتربُ/ ماءً/ يُراودُ الأمطارْ/ يأخُذني بعيدًا إلى/ مرفأ دواتكِ/ كي نرتشفَ عطر الآلهة/ لازوردَ ألوانٍ/ كلماتٍ وأشعارْ/ كلماتٍ وأشعارْ/ زاجلي إلى حوا سؤال ونداء..../ رشدي الماضي/ أكتبُني قصيدةً/ يطلُّ منها سؤالٌ/ وسؤال!!!/ لِمَنْ/ تجتمعُ على غُصن عينيكِ النّوارس/ وتسْتوي/ في شفتيكِ الحروفُ نفحًا سماويّا/ وكلماتٍ كلمات/ لِمنْ يا زهرةَ لوزِ آذار/ لغةً/ وأمطارًا تأتي/ بغير مسيرة التيّار!!!
غاليتي!!!/ كلامكِ رياحُ نبوءةِ الأنهار/ ومدينتي... أسئلةٌ لمحنتي/ هُبّي من وجعي إلى وجعي/ كتابًا/ يُفسّر حكمةَ الأشجارْ/ أنتظركِ... بأسرع من الزّمن/ الذي يهربُ منك ومنّي/ قُرب شرفةٍ/ يبرّر ضوؤها الأقمار بالأقمارْ/ تعاليْ!!! نحوي أبجديّةً تأتي/ تأتي كلّ ربيعٍ/ تموزًا إلى عشتارْ/ تموزًا إلى عشتارْ
مداخلة حوا بطواش: أودُّ أنْ أشكرَ القائمينَ على هذه الأمسيةِ: نادي حيفا الثقافيّ برئاسةِ الأستاذ المحامي فؤاد نقارة، والمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ- حيفا، واتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين، ومنتدى الحوار الثقافي-عسفيا. أشكرُ الحضورَ والمُتحدّثين والمُنظّمين العريفة.
الحقيقة، أنّ كتابي "الرجل الخطأ هو كتابي الأوّل الذي صدر عام 2013 ويتضمّنُ قصصًا كتبتُها منذ سنواتٍ، أي أنّها أولى قصصي القصيرة، والتي نَشرْتُ مُعظمَها في حينها في صحيفة كلّ العرب وفي مواقع الإنترنت، وهي بالنسبة لي تعكسُ بداية مسيرتي الأدبيّة، وشخصيًّا، أرى أنّني تخطّيتُ هذهِ المرحلةَ، فقد كتبتُ العديدَ مِنَ القصصِ بعدَ صدورِ هذا الكتاب، وإنّني أتطلّعُ إلى الأمامِ، وأفكّر ماذا يمكنني أنْ أُقدّمَ للمستقبلِ بطريقةٍ أفضلَ ممّا سبق، وكيف يُمكنُني أنْ أتطوّرَ.
كنتُ منذ فترةٍ أُحضِّرُ لإصدارِ روايةٍ، وكنتُ أعلنتُ عنها ونشرتُ مقاطعَ منها على صفحتي في الفيسبوك، لكنّني أحسستُ أنّهُ ما زالَ هناكَ اهتمامٌ بكتابي "الرجل الخطأ"، وأنّهُ لم يأخذْ حقّهُ في التوزيع، فأصدرتُ الطبعة الثانية للكتاب، عن طريق دار الرازي في كفر قاسم، لمالكِها الكاتب نعمان عبد القادر، ووُزّعَ الكتابُ أكثرَ، وأنا تحدّثتُ عنهُ في أمسيتيْن عدا عن هذه الأمسية، خلالَ الأيّام الثقافيّةِ في طرعان هذا العام، وفي العام الماضي في دير الأسد، وقد تحدّثتُ عنهُ في عدّةِ مناسباتٍ، وكُتب عنه قليلًا، وأظنُّ اليومَ أنّ الكتابَ أخذ حقّهُ، وبشكلٍ عامّ أنا سعيدةٌ وراضية عنه. أتمنّى أنْ أكونَ قد وُفّقتُ إلى حدٍّ ما، في جذبِ اهتمامِ وفضولِ القارئ، وإمتاعِهِ وإيصالِ جزءٍ صغيرٍ مِن أفكاري وخلجاتي بالطريقةِ التي كتبتُها، وأنا سعيدةٌ جدًّا بمُداخلاتِ ومُلاحظاتِ الأساتذةِ المُتحدّثين الموضوعيّةِ والتحليليّة، استفدتُ منها ومِن كلِّ مَن أعطاني مُلاحظاتٍ عن الكتاب وتشجيعًا ودعمًا معنويًّا، فذلك يَعني لي الكثير.

116
آمال عوّاد رضوان تحاور اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين

مع نهاية عام 2015، اوالذي شهدت ساحتهُ الأدبيّة المَحَليّة حراكًا أدبيًّا مُلفتًا،كان لي هذا الحوار مع الشاعر علي هيبي؛ الناطق الرسمي لاتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين، وتناول قضايا حساسة ومصيرية في المشهد الثقافي المحلي!
*ما هي الدّواعي لتأسيس اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين، خاصّة، وأنّ هناك اتحاد الكتّاب العرب الفلسطينيّين- 48‏ ؟

نعم هذا صحيح، في البداية ذهبنا سعيد نفّاع وأنا، بنِيّةٍ صافية وقلب سليم ومفتوح وعقل ينظر إلى مستقبل حركتنا الأدبيّة الفلسطينيّة المحليّة، بما يَتناسب مع حجمنا النوعيّ والكَميّ، آخذين بالاعتبار مكانة الأديب المحليّ الذي ليس له أحدٌ يَرعاه، وليس له أيّ تنظيم جامع وشامل. شاركنا في اجتماع عُقدَ في قاعة لبلديّة شفاعمرو، بتاريخ 29-3-2014، عشيّة يوم الأرض، حضره حوالي أربعين أديبًا، رُبعُهم ليسوا أعضاء في اتّحاد الكتّاب، بل جاؤوا ليرَوْا كيف تدور الأمور وكيف تُدار، وقفنا أمام الحاضرين وشرحنا أنا وسعيد رؤيتنا لبناء الاتّحاد وتنظيمه، من خلال العمل وفقًا لدستور ديمقراطيّ، يبيّنُ النظامّ الداخليّ والهيئاتِ المختلفةَ ومَن يَشغلها على أساس الانتخاب الديمقراطيّ، ولكنّ الأخوة في اتّحاد الكتّاب، وبعد اجتماعيْن في دار الأسوار في عكّا، ووضع مسوّدة الدستور والنشاط لضمّ أدباء من منطقة المثلّث، وقد انعقد اللقاء معهم في عرعرة في بيت الأستاذ مفيد صيداوي، كلّ ذلك كان نشاطًا منّي ومن سعيد، ولم نكن عضويْن في ذلك الاتّحاد، ورأينا أنّ اختلافًا في الرؤى حولَ كثيرٍ من الأمور التنظيميّةِ وغيرها بدا واضحًا للعيان، هذا واحد، أمّا الأمر الآخر فهو أنّ اتّحاد الكتّاب، والذي حصل على رئاسته الأخ سامي مهنّا، ولا أحدَ يَدري كيف حدث ذلك، لم يكن ملموسًا في أيّة نشاطاتٍ أو فعاليّاتٍ، ولم يَتركْ أيّ أثر في الميدان الأدبيّ أو الشعبيّ أو الاجتماعيّ، ولا حتّى في المدارس والمؤسّسات. لذلك استنتجنا بعد التشاور مع عددٍ كبيرٍ من الأدباء، مِن ذوي الباع في الساحة الأدبيّة المَحليّة ومن كافّة المناطق، أنّه لا بدّ من تأسيس اتّحادِ أدباء شامل يليقُ بنا، ويتعدّى كافّة المَضامين والأشكال الفئويّة والشخصيّة، له رؤية وتطلعّات وأهداف سامية، ونشاطات يستفيد منها الأديبُ والأدبُ والشرائحُ الاجتماعيّة، وخاصّة طلّاب المدارس، اتّحاد ينخرط بهموم الناس وقضاياهم اليوميّة والقوميّة، ولا يكون النجاح بذلك، إلّا من خلال مؤتمر مُستقلّ ديمقراطيّ وشفّاف، يَكفلُ اشتراكَ جميع الأدباء، وعلى قدر واحد من المساواة والحريّة والمسؤوليّة، وقد نجحنا بفضل مجموعةٍ من الأدباء المبادرين، بالتحضير للمؤتمر وعقده ونجاحه، وكان ذلك بتاريخ 19-6-2014، في قاعة نادي حيفا الثقافيّ. وبدأنا العملَ والنشاط منذ اليوم الأوّل، وما زلنا نحاول ونُحسّن من أدائنا، وهناك الكثير من الشواهد الملموسة.
*تأسيس اتّحاد الكرمل كجسم جديد مع وجود اتّحاد آخر للكتّاب، ألا يخلق شيئَا من الشرذمة وتبديد الإمكانيّات والقدرات؟ أليس لتوحيدهما في اتّحاد واحد أفضليّة وفائدة؟
لهذا الموضوع شقّان، وقد يكون الطرح صحيحًا من الناحية المبدئيّة المجرّدة، وأنا أقصد فكرة التوحيد، هذا لو كان الاختلاف بين فريقيْن في التفاصيل، ولكن عندما يكون الاختلاف في الرؤى والأفكار والمضامين والنهج في العمل، فإنّ التوحيد المبتذل والشكليّ لا يؤدّي إلى نتائج محمودة، ولا إلى ثمار طيّبة، وقد يؤدّي إلى شقاق يصعب جسره، ونحن لم نكن ضدّ التوحيد مبدئيًّا، وتأسيسنا لاتّحاد جديد ليس لمعاداة أحد، ولا للخصومة مع أحد، فالإخوة في اتّحاد الكتّاب هم أصدقاؤنا.
أمّا الشقّ الثاني فقد يكون قيام اتّحاد آخر محفّزًا للنشاط، من باب التعدّديّة والمنافسة الشريفة، في خدمة الناس والثقافة والرقيّ بالأدب والأدباء، وكلٌّ من منظاره ومنظوره، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
*بعد عقد مؤتمركم، ما هي الخطوات التي قمتم بها، ليَصلَ اتّحادُ الكرمل للأدباء الفلسطينيين وبزمن قصير، إلى هذا الحضور المُلفت في تحريكِ الساحةِ الأدبيّة والثقافيّة؟
مَن يُحاولُ كسْرَ حزمةِ العِصيّ لن يُفلح، ومَن يُفرّقُها ويَكسِرُها آحادًا فسيفلح. لن نبالغ بالأرقام، فقد شارك بالمؤتمر حوالي مئة عضو، أمّا الآن فعدد الأعضاء المنتسِبين حوالي مئة وخمسين أديبًا، والبابُ مفتوحٌ لمَن يَرغب بالانتساب. أولئك المئة انتسَبوا وانتخبوا هيئات الاتّحاد بشكل ديمقراطيّ، وانتُخبَ الكاتب فتحي فوراني رئيسًا، والكاتب عبد الرحيم الشيخ يوسف نائبًا للرئيس، والكاتب سعيد نفّاع أمينًا عامًّا، والشاعر علي هيبي ناطقًا رسميًّا، والدكتور بطرس دلّة رئيسًا للجنة المراقبة، وكذلك انتُخبت لجنة المراقبة ولجنة الإدارة، وكان على هذه اللجان الانشغال في السنة الأولى من منتصف 2014 وحتّى نهايتها تقريبًا بإحصاء الأعضاء وتوثيق الوثائق، ومنها الدستور الذي صُودق عليه بعد ملاحظاتِ وتحفّظاتِ الأعضاء في المؤتمر، وفي الاجتماع الأوّل انتخِبت الأمانة العامّة، وهي المحرّك الرئيس إلى جانب الإدارة.
كانت هذه هي الخطوة الأولى، نستطيع القول أنّه حتّى أواخر سنة 2014 كان التنظيم هو شاغلنا الأساسيّ، فلم نمسك بحزمةِ العِصيّ، بل فرّقناها آحادًا.
*ما هي النشاطات الثقافيّة التي نفّذتموها خلال سنة 2015، بعدَ إتمام التنظيم والتوثيق؟
فوْرَ انتهاء هيكلة الهيئات ومعرفة كلّ هيئة مسؤوليّتها ومهامّها، قمنا بأوّلِ نشاطٍ ضخم في مدينة الطيّبة، بتاريخ 18-12-2015، حيث أحيينا اليومَ العالميّ للغة العربيّة، الذي أقرّته منظمة الثقافة العالميّة "اليونيسكو" التابعة للأمم المتّحدة، وقد شارك حوالي 40 أديبًا من أعضاء الاتّحاد، بتقديم محاضراتٍ وفعاليّات لطلّاب ستّ مدارس من المراحل التعليميّة الثلاث، وقد اختتمَ ذلك اليوم باحتفال كبير، شاركَ فيه أعضاءُ الاتّحاد وجمهور غفير من أهالي الطيّبة، وقد كان هذا النشاط بالتعاون مع بلديّة الطيّبة ومنتدى الطيّبة الأدبيّ، وتوالت النشاطاتُ في كثير من المدارس، أذكر منها: مدرسة شعب الإعداديّة، ومدرسة النور الابتدائيّة في الجديدة، ومدرسة عيلوط الابتدائيّة، ومدرسة نعمت الثانويّة في مجد الكروم، وكان آخرُها إحياء اليوم العالمي للغة العربيّة لسنة 2015 في خمس مدارس في قرية الرينة، وقد شارك في ذلك اليوم حوالي 25 أديبًا من أعضاء الاتّحاد.
*هل هناك مؤسّسات أخرى إضافة لبلديّة الطيّبة والمنتدى الأدبيّ تعاونتم معها، أو شاركتكم في النشاطات المتنوّعة؟
من المهمّ أن نذكر أوّلًا أنّنا دائمًا، وفي كلّ توجهّاتنا وبياناتنا ندعو مُعربين عن استعدادنا للتعاون، مع كلّ هيئة، أو مؤسّسة، أو مدرسة، أو سلطة محليّة، أو أيّ منتدى محلّي يُعنى بالثقافة والأدب، وهأنذا أعود وأدعو الآن موجّهًا ندائي باسم الاتّحاد، معربًا وبصوت أعلى وأقوى عن هذا الاستعداد الدائم.
وبالرجوع إلى السؤال المحدّد، نعم، نحن ننظّم فعاليّاتنا مع إدارات المدارس وأقسام اللغة العربيّة فيها، تعاونّا مع المجالس والبلديّات، وتعاونّا كثيرًا مع مؤسّسة محمود درويش للإبداع في كفر ياسيف، ومع نادي حيفا الثقافيّ، وعدد من المنتديات المحليّة الأخرى، أذكر منها نادي طرعان الثقافيّ، ومع ذلك ما زلنا نقول أنّنا في بداية الطريق، ولكنّنا عبَرنا البدايات الصعبة، وقد كانت ممتلئة بالعقبات والمصاعب ككلّ بداية، وسنمضي قدُمًا وفقًا لرؤيتنا وتطلّعاتنا، نعمل بهدوء، معتمدين على العطاء المتفاني لأدبائنا، ومؤمنين برسالتنا التثقيفيّة، لا نكلّ ولا نحيد، ننظر إلى أمام، مؤمنين بأنّ أعمالنا تجعل الناس ترانا وتقدّر ما نعمل، وليس الجعجعة الجوفاء، فالوعاء الفارغ أعلى ضجيجًا، وسنسعى دائمًا وكما وعدنا منذ أولى خطواتنا، نحو العطاء الأرقى والأجود والأنفع للناس.
*ألمس من خلال حديثك اهتمامًا عاليًا باللغة العربيّة، ما هو الدافع لذلك؟
هنالك في الحقيقة عدّة دوافع، ولكن أبرزها اثنان، الأوّل هو الواقع السياسيّ الذي نعيشه كعرب في هذه البلاد، إذ نتعرّض لكثير من سياسات التمييز العنصريّ من قبل المؤسّسات الرسميّة، وعلى رأسها الحكومة، وبخاصّة هذه الحكومة التي تبيح للعنصريّة والفاشيّة أن تستشري في أوساط اليمين المتطرّف، ولذلك تتعرّض لغتنا وثقافتنا لهذا التمييز، فسياسة الطمس والتغييب لمعالمنا العربيّة ولهويّتنا القوميّة باتت أسلوبًا ممنهجًا عند السلطات الحاكمة، ولذلك كان منذ البداية، ومن البيان الأوّل للاتّحاد وفي كلّ بيانتنا، آمنّا بدور الاتّحاد في ترسيخ اللغة العربيّة والثقافة العربيّة كحافظيْن رئيسيْن لوجودنا، ولدوام تطوّرنا، وللحفاظ على هويّتنا القوميّة وشخصيّتنا المتميّزة، خاصّة وأنّ هذه اللغة نقلت للعالم وللغرب الأوروبيّ بالذات، الكثيرَ مِن الحضارة والعلوم والثقافة الإنسانيّة، وفي جميع المجالات.
أمّا الدافع الثاني فهو أنّنا نلاحظ ما تعانيه اللغة العربيّة من ظلم وإهمال في التعليم العربيّ، فقد أرادت الحكومات منذ قيام إسرائيل، أن تحرمَ الطلّاب من تعلّم لغتهم الأمّ، ليعيشوا حالة من الانقطاع التاريخيّ عن ثقافتهم العربيّة، وامتدادها من أعماق الماضي المجيد، وجهل رموزها ومؤلّفاتهم وآدابهم، وكذلك حالة من الانقطاع الجغرافيّ، كي لا يتواصلوا مع الشعوب العربيّة، فنكون ضائعين كأنّنا "مقطوعون من شجرة"، أو كأنّنا نزلنا إلى هذه الأرض التي سمارنا مِن سمارها "بالبراشوت"، فالطلّاب العرب في المدارس يُحرَمون أيضًا من المناهج التعليميّة التي تعزّز الانتماء، ومن قلّة الموارد والحصص المُعَدّة، فالمناهج تفتقر للمضامين التي تُنمّي الإحساس الوطنيّ والقوميّ، بل كانت أيضًا ترمي إلى العدميّة القوميّة، واليوم تحسّن الوضع عن ذي قبل، ليس لأنّهم صاروا يرغبون بنا، لا، بل لأنّنا نحن أصرّينا على المطالبة لنيل حقوقنا. ومن هنا جاء دور الاتّحاد ودافعه الأقوى لسدّ هذا النقص، من خلال نشاطات ومحاضرات تعرّف طلّابنا بعظمة ثقافتهم، وجمال آدابهم، وتعزّز فيهم شعور الانتماء والاعتزاز، ولتزيل الشعور باليأس والإحباط من الحالة السياسيّة التي تعيشها الأمّة العربيّة تحت شبح الإرهاب، وما يَعيشه شعبنا الفلسطينيّ، من احتلال واستيلاءٍ على مقدّراته وثرواته، وما تعيشه الأقليّة العربيّة من محاولات طمس وتغييب ومسّ بالحقوق الأساسيّة، ومن اعتداءات على الأرض والبيت والمعبد والحريّات، والعمل على محو المعالم الوطنيّة التي كانت قائمة قبل قيام (إسرائيل)، مثل كنيسة الطابغة والمدارس الأهليّة، وبلا شكّ اللغة العربيّة هي أبرز هذه المعالم. لذا علينا صيانتها، كما يصون الإنسان بؤبؤ عينه، كي تحافظ هي بالتالي علينا.
*إضافة للجانب الثقافي، هل لكم انخراط في الجانب السياسيّ؟
بالتأكيد! ليس اتّحاد أدباء فقط، بل إنّ أيّ هيئة أو مؤسّسة أو منتدى، أو أيّ تنظيم لا ينبثق من الناس وهمومهم وقضاياهم وآلامهم وآمالهم، ولا ينخرط فيها، ولا يقدّم ما يستطيع لخدمة الناس، لن يرى النجاح، ولن يكون قادرًا على الاستمرار.
نعم، لنا مواقف سياسيّة واجتماعيّة من كلّ القضايا والأحداث، فقد وقفنا ضدّ جرائم قتل النساء المستشرية في مجتمعنا، بجريرة المسّ بشرف العائلة، ووقفنا ضدّ موجة العنف التي سادت في قرانا، على اعتبارات طائفيّة أو عائليّة، ووقفنا ضدّ جرائم السلطة، عندما قتلوا شابًّا في كفر كنّا، وعندما أحرق عنصريّون كنيسة الخبز والسمك في الطابغة، وكان لنا موقف واضح ضدّ الحرب الهمجيّة، التي شنّتها "إسرائيل" على قطاع غزّة، ووقفنا مع أمين الاتّحاد العام الكاتب سعيد نفّاع، وما يمثّله من تواصل مع إخوتنا العرب في البلاد العربيّة، فقد حاكموه سياسيًّا، وهو الآن يقبع سجينًا نتيجة لذلك الحكم الجائر، واسمحي لي أن أنتهز هذه الفرصة، وأرسل له باسمي ونيابة عن جميع أعضاء الاتّحاد أسمى التحيّات، وأحرّ التمنيات بالسنة الجديدة وأقول له: "كنت حرًّا وما زلت حرًّا في سجنك، نحن بانتظارك، ولا حرمنا الله من عطائك وتفانيك القادميْن حتمًا".
*هل تعتقد أنّ هذه الفعاليّات والنشاطات ترقَى إلى درجة كبيرة من الرضا؟
لا يكون الرضا كامًلا أبدًا، أنجزنا في سنة واحدة ما يعجز عنه كثيرون في سنوات كثيرة، لنا رؤية ذات تطلّعات كبيرة، فنحن نتطلّع إلى ضمّ معظم أدبائنا إلى الاتّحاد، وهناك حتّى الآن أسماء لم نستطع الوصول إليها في الجليل والمثلّث والساحل، فمثلًا في النقب كلّ نشاطنا الآن ومن قبل، أنّنا نحاول ضمّ ولو عدد قليل من أدبائه إلى اتّحادنا، ليتسنّى لنا التواصل مع هذه المنطقة العزيزة علينا، ولن نيأس وسنصل إلى النقب هذا العام.
نحن حتّى الآن بلا مقرّ، نجتمع حتّى الآن في مقرّات مؤسّسات أخرى، ونشكر المسؤولين عنها على هذا العون، وأخصّ بالذكر الأخ فؤاد نقّارة مدير النادي الثقافيّ في حيفا، والأخ عصام خوري مدير مؤسّسة محمود درويش في كفر ياسيف. نحن نسعى لأن نكون أكثر انتشارًا في المدارس، هذا العام شهد نشاطات مدرسيّة أكثر من العام السابق، ولكنّها غير كافية، نسعى في السنة القادمة أن نُدعى إلى اثنتيْ عشرة مدرسة، أي مدرسة كلّ شهر.
في سنة 2015 عقدنا الكثير من المحاضرات والندوات والأمسيات واحتفالات التكريم وإشهار المؤلّفات للشعراء والكتّاب، ونرغب في المزيد وفي التنويع، وكذلك نرغب في امتداد عقدها في أكثر عدد من القرى والمدن، حتّى نصل إلى قرانا في النقب العزيز.
ولا بدّ من الإشارة إلى أعظم منجزاتنا، فقد اتّخذنا قرارًا ونحن نضع أيدينا على قلوبنا، خوفًا من الفشل، وهو إصدار مجلّة فصليّة أدبيّة وثقافيّة واتفقنا على تسميتها "شذى الكرمل"، ونحن بلا هيئة ولا قدرات فنيّة على التحرير وبلا تمويل، وبالمناسبة حتّى كتابة هذه السطور لم نحصل على أيّ تمويل من أيّة جهة، إنّما نموّل نشاطاتنا من أموالنا الخاصّة، ومعتمدين على تفاني أعضائنا ليس في المجال المعنويّ فقط، بل في المجال الماديّ أيضًا، ولا بدّ من شكرهم على هذا التفاني غير المحدود. ومع ذلك استطعنا أن نصدر العدد الأوّل من المجلّة بحلول الذكرى الأولى على تأسيس الاتّحاد، في حيفا في تاريخ 19-6-2015، وأنجزنا وأصدرنا العدديْن: الثاني في أيلول والثالث في كانون الأوّل من السنة الماضية.
هل نحن راضون عن المستوى المضمونيّ والفنيّ للمجلّة؟ أقول لا! ولكنّ ما أنجز كبير وعظيم، وسنسعى للأحسن والأرقى والأجمل في هذه السنة، ولا بدّ أن يشار إلى أنّ "شذى الكرمل" غطّت مساحة متواضعة من الانتاج الأدبيّ المحليّ، في ظلّ غياب مجلَات كثيرة منها الجديد والغد والمواكب، وليس ثمّة مجلّات أدبيّة كثيرة تغطّي حاجة مجتمعنا. ولقد قمنا برعاية عدد من مبدعينا الناشئين والاهتمام بهم، من خلال منابرنا، وتشجيعهم، ومراجعة مؤلّفاتهم الشعريّة والقصصيّة، ومنهم من أصدر دواوين وروايات، ولكنّ مهمّة الرعاية وتركيزها ووضع أسس لها ما زالت من انشغالات تفكيرنا.
وأخيرًا، ما هي رسالة الاتّحاد إلى الأدباء، والمؤسّسات، والمدارس، والسلطات المحليّة، والهيئات التمثيليّة، خاصّة، ونحن في مستهلّ سنة جديدة؟
أتوجّه إلى جميع أعضاء الاتّحاد وعائلاتهم الكريمة، ومن خلالهم إلى جمهورنا العربيّ هنا، وعموم شعبنا الفلسطينيّ، وأمّتنا العربيّة وإلى الإنسانيّة جمعاء، بأسمى التهنئات وأحرّ الأمنيات للجميع، بأنّ تكون السنة الجديدة سنة خير وسلام وعطاء، نتخلّص فيها من الإرهاب ومن الاحتلال، ليعيش الجميع بأمان وحبّ وسعادة.
أمّا في رسالتنا كاتّحاد أو كمؤسّسة ثقافيّة، فإنّنا ندعو لجنة المتابعة العليا واللجنة القطريّة للرؤساء وكلّ السلطات المحليّة، ندعوهم إلى الاهتمام أكثر بالثقافة، ليس كلّ الحياة كرة قدم، وإلى إيلاء هذا الجانب الهامّ اهتمامًا أعلى، خاصّة أنّه في كلّ سلطة قسم للثقاقة والمعارف، ونتمنّى عليهم تشجيع الأديب المحليّ الذي يشعر كأنّه يتيم مُهمَل، لا يكفله ولا يرعاه أحد، ولذلك نتوجّه إليهم لدعم اتّحاد الكرمل في نشاطاته وإبداعاته ومبدعيه معنويًّا وماديًّا، وتخصيص قسمًا بسيطًا من الميزانيّات له، ونطلب دعم نشر الإنتاج الأدبيّ، فثمّة أدباء لا يطبعون أدبهم لأسباب ماديّة. وفي كلّ قرية أو مدينة عدد قليل من الأدباء، فلا بأس لو ساهمت السلطة المحليّة بدعم إنتاجهم، ففي ذلك فائدة للسلطة وللأدباء وللقرّاء.
للمؤسّسات، وأقصد بالذات التعليميّة والمدارس بالأخصّ، أدعوهم للإكثار من البرامج التعليميّة اللامنهجيّة، وخلق المحفّزات ورعاية البراعم الإبداعيّة، فلدى طلّابنا الكثير من المواهب، والأقلام الواعدة تحتاج لمن يأخذ بيدها ويوجّهها ويصقلها، ونحن أعضاء الاتّحاد نبعث رسالتنا إلى كلّ المدارس العربيّة، معربين عن استعدادنا الكامل للمساعدة في هذا المجال، لنغذّي طلّابنا بخبرات وتجارب أدبائنا المتوفّرة لدينا. وكذلك فإنّ المناهج الرسميّة تفتقر لما نقدّمه.
لأعضاء اتّحادنا أتوجّه إليهم شاكرًا قدرتهم الفائقة على العطاء المعنويّ والماديّ، وأدعوهم إلى المزيد كي يبلغ اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين أشدّه، ويشتدّ عود عطائه، ويبقى رافعة للأدب والثقافة الوطنيّة، ونبراسًا يضيء درب الأدباء إلى نور الحياة الساطعة بالإبداع واللغة العربيّة، التي لن تغيب من وجداننا ووجودنا وحضورنا الحضاريّ الإنسانيّ ما بقي الليل والنهار.
وأقول كذلك للأدباء الذين لم ينضمّوا بعد، الاتّحاد بحاجة إليكم وإلى عطائكم الوضّاء، وإلى دم أقلامكم المشرق على ظلام الورق، أدعوكم للانضمام إلى الاتّحاد ليقوى بكم، ولتشهد الساحة الأدبيّة حراكًا ناشطًا وفاعلًا، ولتكونوا أعضاء رسميّين ومنظّمين، لكم حقوق وعليكم واجبات.
عام مضى وأعوام ستأتي وستبقى سفينة الاتّحاد مبحرة تتهادى على أمواج فرح وحبّ، وسيحمي المجداف توازن عشّاق الحياة.
عام مضى وأعوام ستأتي وقافلة الخير والعطاء والخصوبة ستجعل صحراء العدميّة واحاتٍ عِذابًا ومناهل خضرة ورواء لذّة للشاربين. وكلّ عام وأنتم بخير


117
عكاظية حيفا الرابعة لعام 2015!

آمال عواد رضوان

أقام نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/حيفا أمسيته العكاظيّة الحيفاويّة الرابعة لعام 2015، حيث استضاف كلّ من: إحسان أبوغوش، فردوس حبيب الله، ولاء أبو عيطة وأسامة حلبي، في أمسية شعريّة، في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 10-12-2015، ووقد ازدانت القاعة بعرض لوحات تشكيليّة للفنان التشكيلي جميل عمريّة، وتخللت الأمسية معزوفات على الكمان للفنان جواد عبد الغني، وتراتيل بيزنطية للمرتل طوني سيلا، وتولت عرافة الأمسية أميمة محاميد، بعد أن رحّبَ المحامي حسن عبادي (مُنظّم الأماسي الشعريّة العكاظيّة الحيفاويّة)  بالحضور والمشاركين.
مداخلة حسن عبادي: باسم المجلس الملّي الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وباسم نادي حيفا الثقافيّ وباسمي أرحّبُ بكم، وأهلا وسهلا للمشاركةِ في هذه الأمسيةِ الثقافيّةِ العُكاظيّةِ المميَّزةِ، مِن على مِنصّةِ نادي حيفا الثقافيّ الذي تأسّسَ قبلِ حوالي خمسةِ أعوامٍ، برعايةِ المجلسِ الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، برئاسةِ زميلي المحامي فؤاد نقارة، وبدأت الفكرة لمنتدى ثقافيّ لقراءةِ كتابٍ بالشهرِ، فقمنا حتى اليوم بقراءةِ ما يقاربُ الستين كتابًا، وتطوّرت لعقدِ أمسياتٍ ثقافيّةٍ لإشهارِ كتابٍ بحضورِ الكاتبِ، وأقمنا عشراتِ الأمسياتِ، وكذلك أمسياتِ تكريمِ أديبٍ أو شخصيّةٍ وطنيّةٍ، وأقمنا العديدَ منها، ومن ثَمّ إحياء مِنبرٍ للشعرِ، ألا وهو الأمسياتُ العُكاظيّةُ الحيفاويّةُ، لتكونَ مِنبرًا شعريًّا ومنصّةً لشعرائِنا. بهذه المناسبةِ أنتهزُ الفرصةَ لأهنئ أصدقاءَ النادي بإصداراتِهم الجديدةِ :
الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان وديوانُها (أدَمْوِزُكِ وتَتَعَشْتَرين)، والشاعر هاشم ذياب وديوانُه (فوضى البدايات)، والشاعر نزيه نصر الله وديوانُه (حبيبتي للأبد)، والشاعر إياس يوسف ناصر وديوانُه (قبلةٌ بكاملِ شهرزادَها)، والشاعر إحسان أبو غوش وديوانُه (دمعةٌ تخدعُ ظلَّها).
اليوم يصادفُ يومَ حقوقِ الانسانِ العالميّ، وأوجّه تحيًّة حارّة لكلّ سجناء الحريّة، وبالمناسبةِ، معنا الفنانُ التشكيليُّ المُلتزمُ جميل عُمَريّه، من مواليدَ وسكانِ قريةِ إبطن، يمارسُ الفنَّ التشكيليَّ على ألوانِه منذ عام 1972، وله الكثيرُ من الجداريّاتِ في البلدانِ العربيّةِ، يستعملُ في لوحاتِه ألوانًا زيتيّةً على الجلدِ، وألوان إكريليك، ونحتًا وسكبًا من الألومنيوم والبرونز، وشارك بمعارضَ محليّةٍ ودُوليّةٍ، ويعملُ في سكبِ المعادنِ ومعنا اليومَ نماذجٌ منها.
نحن اليوم بصددِ أمسيةٍ شعريّةٍ هي منبرٌ ومِنصّةٌ لشعرائِنا: مَن أصدَرَ ديوانًا ومن لم يُصدرْ. البرنامجُ مفتوحٌ لكلِّ الناسِ وكلِّ الأجيالِ مع الحفاظِ على البوصلةِ: ألا وهي  الانتماء، بحيثُ يتوجّبُ أن تكونَ الهُويّة واضحة، دونَ رقابةٍ وقيودٍ ودونَ لايكات (ليّكلي بلَيّكلك)، حيثُ أنّنا لسنا بصددِ مسابقاتٍ وجوائزَ: ليس ستار أكاديمي أو سوبر ستار أو إكس فاكتور. واسمحوا لي أخيرًا بتقديم شكري الخاصّ والعميق للمجلس الملّي الأرثوذكسيّ الوطنيّ، مُمَثّلًا بالسيّد جريس نعيم خوري، وأخي وزميلي المحامي كميل مويس، على دعمِهما السخيّ لإنجاح هذا المشروع، وأشكر الكتّاب والشعراء والأدباء الذين أهدَوْا النادي إصداراتِهم.
وبالمناسبة: أقمنا مُؤخّرًا موقعًا على شبكةِ التواصلِ الاجتماعي "ألفيسبوك" وعُنوانُه "نادي حيفا الثقافي" وبإمكانِكُم تَتَبُّعَ نشاطاتِنا عَبرَهُ، بما فيه صُوَرَ هذه الأمسيةِ.
العريفة أميمة محاميد: مساؤكم سماءٌ تُمطر وردا،  تغزلُ حُبّا وشِعرًا يُسافرُ في عَبقِ الغيماتِ بنكهة شتائيّة. مساؤكم أنفاس عِشقٍ تعصرُ الوقت خمرًا. سلامٌ على أعلامِ الشِعر والقصيدةِ. سلامٌ على الحرفِ النابضِ لحنا. سلامٌ لحضورِكم وللكوفيّةِ والجَّرةِ. سلامٌ لأرضِنا السمراءَ؛ لِلقُدسِ، لِلخليلِ، لجِنين والجليلِ. ومن مزاميرِ الزيتونِ لِحيفا سلامٌ. للقصائدِ الحُّرةِ وللحنينِ. هُوَ الشعرُ يا سادتي نافذةُ النورِ والأملِ، تٓعرِفُهُ القصيدةُ كما تعرِفُنا، نُحَّلِقُ مَعَهُ فوقَ أجنحةِ الياسمين، هناكَ نمضي لِشاطئِ الدِفءِ، لِأبجديةٍ مِن حُبٍّ وسلامٍ. نحنُ شعبٌ حينَ نَفرحُ نُغَنّي، وحينَ نُجرحُ نُغَنّي. نَقتاتُ مِن بوحِ الكلماتِ، ونزرعُ فوقَ جُروحِنا أبجديةً لِلحُبِّ، فَتنتصِرُ في حقلِنا السنابلُ أخيرًا. أعودُ وأُرَحِّبُ بكم مرةً أُخرى، وشكراً لِحُضورِكُمُ الجميلِ مع حِفظِ الألقابِ والأسماءِ، والآن نبقى وإيّاكم في حضرةِ الشِّعرِ وعذبِ الكلام، مع اللحنِ الشجيّ وموسيقا الروحِ، معَ الحرفِ الأنيقِ. للكلماتِ أجنحة نركبُ عبابَها، ونسافرُ دون تذكرة سفر، نُحلق ونسافرُ في فضاء الشعر.
حسام حلبي/ مُغناة "الكافر الجديد": لستُ من ماءٍ وطينْ/ لي أبٌ، أمٌ ودينْ/ دينُ عقلٍ كافرِ/ بالسّرابِ الظافرِ/ بالغَباءِ المُستكينْ/ لستُ من ماءٍ وطينْ/ لي كيانٌ هادرُ/ لي حضورٌ نادرُ/ لي عروقٌ بي دِماءْ/ لي فؤادٌ نابضُ/ لي حنينٌ رابضُ/ تحتَ أعتابِ السماءْ/ فوقَ أكتافِ الحياةْ/ سوفَ يصحو بعدَ حينْ/ زاهَيا عالي الجَبينْ/ حاملا عطرَ اليقينْ/ ماسِحا "دينَ الطغاةْ"!
حسام حلبي/ تساؤلاتُ شاعرٍ وبعضُ أجوبة:
(1) روحُ الحِبْرِ؟/ خالِصُ التِبْرِ؟/ أم رَجْعُ صَدى/ في لَيلِ غِنا / أبياتي أنا؟
(2) شَبَقُ المَوْجِ؟/ لَذّةُ الأوْجِ؟/ أم رُغَى؟ زَبَدٌ/ في بحرِ الهَنا/ أبياتي أنا؟
(3) هلْ سِرْبُ حَجَلْ/ للعِشْقِ وَصَلْ؟/ أمْ ذِئْبُ فَلا/ للقَنْصِ دَنا/ أبياتي أنا؟
(4) بوْحُ الرُّوحِ/ للمَجْروحِ ؟/ أم حَفيفُ هَوا/ في غَابِ العَنا/ أبياتي أنا؟
(5) أحلى الحُورِ؟ / وَرْدٌ جُورِيْ؟/ أم عُشْبٌ نَما/ حَولَ "الروزَنا" (*)/ أبياتي أنا؟
(6) شَوْقُ النَّحْلِ/ لِجَنى السَّهْلِ؟/ أم فَرَاشٌ هَوَى/ في شِباكِ المُنى/ أبياتي أنا؟
(7) مُهرٌ قد جَمَحْ/ في الرّيحِ سبَحْ/ أم ضَيْفٌ ثَمِلْ/ غَنّى "مِيْجَنا"/ أبياتي أنا؟
(8) وجْدٌ بَلْ جَوى/ في ظِلّ الهَوَى؟/ أم سَحابٌ مَضَى/ وَعْدٌ ما دَنا/ أبياتي أنا؟                              (9) وَعْدُ الحُرَّ/ حُبُّ الغَيرِ؟/ أم هَوى الذَّاتِ/ تَقْديسُ "الأنا"/ أبياتي أنا؟
(10) هي صُبحي معْ لَيلِي/ أَمْسِيْ وغَدِي الآتِي/ هي نورِي معْ ظِلِّي/ هي بعْضي بلْ ذاتي/ هي أوْجُ تَباريحِيْ/ مِرآةُ مُعاناتِيْ
(11) هي نورٌ وإنْ خَفَتَ/ في ليلِ متاهاتِيْ/ هي شَكِّي مُلتَحِمٌ / بِيقينِ قَناعَاتِيْ/ هي كُلُّ سُؤالاِتيْ
       هي بعضُ إجاباتِيْ
(12) هِيَ أوفى أعدائِيْ/ وأَلدُّ صَدِيقاتيْ/ أسوارٌ لأحزانِيْ/ مِفتاحُ فَضَاءاتِيْ/ قد يكونُ بها صَيْفي/ أوْ أقسى   شتاءاتِيْ
(13)فَقرٌ وغِنى/ عَطَشٌ وَحَيا/ أرضٌ واعِدَهْ/ كَرْبٌ وهَنا/ قَلَمٌ وقَنَا/ دَرْبٌ صاعِدَهْ/ في هذي الدُّنى/ أبْياتِي أنا!
"الروزنا"؛ أصلها فارسيّ. من معانيها التراثيّة؛ كوّة أنشئت في سقوف المنازل الطينيّة التراثيّة القديمة، إمّا لتمرير القمح الذي عُرّض لأشعة الشمس على سطح المنزل، أو ليَخرج عبْرها دخان الاحتراق في فصل الشتاء من المدفأة.
حسام حلبي/ أقولُ تعالَي: أقولُ تَعالَي إليَّ تَعالِي/ نُذيبُ هزيعًا بليلِ التَّعالِي!/ نُسامرُ فَجرا لَطيفَ الحُضورِ/ فيَصحو صَباحٌ جَميلُ الخِصالِ/ نهارٌ جَديدٌ يقول: "كفاكُمْ/ خِصاماً وغَوْصًا ببحرِ السِّجالِ"!/ صَدَقْتِ؟ صَدَقْتُ؟ فماذا رَبِحْنا/ هشيماٌ بروحِكِ، نارا بحالِي؟/ شُرودا طويلاً كطولِ انتظاري/ وفألاً عَبوسا؟ أيَبْسِمُ فالِي؟/ وماذا جَنيْتُ وماذا أصَبْتِ/ عِناداً أطاحَ بعَرشِ الجَمالِ؟/ فبِتِ مُحالا وذِئْباً جَريحا/ وبتُ صَقيعًا بِلَيْلِ المُحَالِ/ وصِرتُ مَلاكًا بغيرِ سَماءٍ/ وصِرتِ مَلاذا بعيدَ المَنالِ/ وكمْ مِنْ وُعودٍ جَفاها الوَفاءُ/ ومِتُّ شقاءً بِعَدِّ الرِّمالِ/ وكمْ مِنْ لقاءٍ أحَلْتِ سَرابا/ فعُدتِ إليكِ.. وعُدتُ لِحالِي/ عَلامَ تَنامينَ جمرا، فأغلِي/ وأصحوُ جَمودا/ كصَخرِ الجِبالِ؟/ تعالَيْ إليَّ! أريدُ سَلاماً/ مَلَلتُ السُّهادَ - شِماتَ الليالِي/ نُعيدُ صياغَةَ سِفرِ هَوانا/ بحِبرِ دَلالٍ وحَرفِ وِصالِ/ يَراعي وأنتِ حِصانٌ وسَيفٌ/ فقولي لسَيفي حَرامٌ قِتالِي!/ أكونُ لقَلبِكِ في الليلِ خِلاًّ/ فكوني لفِكري وُقودَ الخَيالِ/ أكونُ لروحِكِ في القيظِ ظِلا/ فكوني لروحِي سَريرَ ظِلالِ/ خَريفٌ يَمرُّ شِتاءٌ يَكُرُّ/ وهذا الربيعُ يريدُ نِزالي/ بِغَمزِ العُيونِ ودِفءِ الشُّموسِ/ برشِّ الورودِ وعِطرِ الدَلالِ/ فهلاّ رَكِبنا خُيولَ التلاقِي/ زَرَعنا حَنينًا لِصَيفِ الغِلالِ؟/ تعالَيْ إليّ نعدُّ خُضوعًا/ لجيشِ الربيعِ ونَجثو، تعالِي!
أسامة حلبي/ لا تَلعن الظلامَ: لا!/ لا تُشعِل الثِّقابْ!/ ترتاحُ هكذا العُيونْ/ من "نورِ" من دَعا/ لوَحدةِ الخَرابْ/ دعوةِ تَمليكِ الحَجرْ/ ترتاحُ هكذا العيونْ/ منْ نورِ من كَفرْ/ بوَحدةِ السَّرابْ/ بينَ مُحيطٍ وخليجْ/ أمواجُ كلٍ من رِمالْ/ والبرُّ كلُّهُ يَبابْ/ لا تُشعل التلفازَ! لا/ تُحرِّكَ السُكونْ دعْ جسدي هناكَ أو هُنا!/ فالنفسُ كلُّها ظُنونْ/ والعقلُ في غِيابْ
أسامة حلبي: لكم يحزنني رؤية الاقتتال باسم الدين بل باسم مذهب ولكم يُكْلمني رؤية شعراء ينظمون القصائد في مديح هذا الفريق أو ذاك ويغذون القطيعة بينهم. مللت من الدعوة الكاذبة لوحدة العرب ولم يبق منهم سوى "سني" و"شيعي" ومللت من الأخبار المتضاربة عن "انتصارات" وهمية ندفع ثمنها جميعا. لقد قتلتنا الحماسة ودخلنا في عصر تنيره القذائف والحرائق وتزينه أضواء المؤتمرات الصحفية الملخصة لايامه المتشابهة تختلف الوانها وفق محطة البث وزاوية المشاهدة والقراءة. فلماذا نشعل عود ثقاب اذا انعم علينا انقطاع الكهرباء والبث الممل بعض الراحة للعيون؟
فردوس حبيب الله/ لى العام الذي ولّى: نعم يا سيدي العام الذي ولّى/ لإنْ عدتَ/ سأقطع رأسك المُلْقى إذا اتكأ على كتفي/ تقابلنا بمثل اليوم في ساعاتك الأولى/ من العمرِ الذي خِلناهُ لا يفنى/ تعانقنا، زرعنا البسمة الحبلى/ بأرضِ الرغبةِ الهوجاءِ والإصرارِ والنجوى/ تغازلنا عزفْنا الشعر بالألوان/ الحانا بِلا جدوى/ تعاهدنا على الإخلاصِ أبحرنا/ ببحر الحب نحو مرافئ الأحلام/ علّ الريح والأمواج توصلنا/ تقابلنا بمثل اليوم عشتكَ طفلَ أحلامي/ ضممتكَ في ثنايا الروح حلّقنا/ تماوجنا كما النسْماتُ فوق غصون أشجارٍ/ كما النجماتُ في ليلٍ/ سماءَ الأرضِ توّجنا/ ملأنا الكون آمالا/ وقلنا ربّما الآنا / يكون السّلمُ بين الناس/ إكليلٌ من الأزهار والأثمارِ والسلوى/ وودّعنا سويةَ ذلك العامُ الذي خُنّاهُ/ أضنانا فشرّدَنا/ نعم يا سيدي العام الذي ولّى/ سأقطع رأسك المُلقى/ إذا اتكأ على كتفي/ تقابلنا بمثل اليوم عشتُكَ طفلَ أحلامي/ كبُرنا فيكَ في رحمي/ أكلتَ الحبَّ من لحمي/ شربتَ العيش من همّي/ نعم يا سيدي العام الذي ولّى/ أصيح اليوم خائفةً/ بأنّيَ لم أعد أقوى/ سأطوى اليومَ صفحاتٍ/ وأعبرُ نحو أعوامٍ/ تثيرُ مخاضَ أحلامي/ تجيء بطفلَ إصراري على الدنيا/ وداعا دون أن أبكي/ وأكثرْ لم أعد أشكو/ وهل لله في الأعلى/ تكون لغيرِهِ الشكوى؟
فردوس حبيب الله/ يافا .. خيانةٌ مشروعة:
يافا التي سرقتْ قلوبَ رجالنا/ غزلوا لها الحرفَ الجميل وِشاحا/ عزفوا على أوتار صِدقٍ حبَّهم/ كانوا لها لحنا يفيض جِراحا/ غنّوا لها أشعارَهم في ليلةٍ/ فغدا النسيم لمن يجودُ لُقاحا/ كانوا لها قلبا تعيشُ بنبضهِ/ كانت لهم فوق الغيومِ جناحا/ يافا سرقْتِ رجالَنا من حِضننا/ كيف السماحُ إذا طلبْتِ سماحا؟/ تدرين يافا كم أثرتِ غرورَنا/ نحن النساء وما خشينا بِراحا/ قالوا لنا يافا عروس تنتشي/ فخشينا من سهرٍ يطيبُ صباحا/ خِفنا على قلبٍ توقف نبضُهُ/ شرِبَ الخيانةَ أسهما ورِماحا/ وخشينا من أنثى تفيض عذوبةً/ فنصيرُ جيشا قد أضاع سلاحاخفناكِ يا يافا البلاد وسحرها/ ستُّ النساء تغازَلينَ صداحا/ خِفناكِ يافا دونَ علمٍ أنّه/ لا خوفَ من أمٍّ تعيشُ كفاحا/ قلنا حرامٌ يمدحوك بشعرهم/ والان قد صار الحرامُ مُباحا
إحسان أبو غوش/ في الزّنزانة: أوديبُ سالبُ روحِ والدِهِ/ ألا يعدو إلى زنزانتي ليزورَني/ ويُريحَني من سيّدٍ/ يُدعى زَمَنْ؟/ فالوقتُ في زنزانتي/ يهوى الجمودَ بلا عراكٍ/ دونَ كرٍّ دونَ فرٍّ/ كالحصانِ السّامريِّ يسيرُ نحوَ جلالِهِ/ مُستَوقَفًا من قاهرٍ/ يُدعى رَسَنْ!/ قد لا أرى/ ذاتي خلالَ فضائِها/ مترٌ إلى مترَينْ على مترٍ ونصفْ/ زنزانتي!/ ليلٌ بلا قمرٍ، سكونٌ مُستفيضٌ/ قد يُنفّرُني، ظلامٌ دامسٌ/ زنزانتي!/ وَرَدَ الذّبابُ الأسودُ/ حتّى إلى/ جسمي سَكَنْ/ اِكسِرْ حصارَكَ في يَدِكْ/ صُمْ عنْ طعامِكَ لا تَهِنْ/ اُرسُمْ على الجدرانِ نافذةً تُطلُّ/ على ضفافِ بحارِ بَسْماتِ القَمَر/ واعزفْ على الأوتارِ أغنيةً تُعيدُ/ الرّوحَ للأزمانْ/ لِتَكْتُبْ طلسمًا يُنجيكَ منْ/ قيدِ الوَهَنْ/ اُنفُضْ غُبارَ السِّجنِ عن رُمشيْكَ تلكْ/ واصنَعْ بهِ أرجوحةً أبديّةً/ تسترجعُ العيشَ الرّغيدَ/ تُعيدُ روحًا للبَدَنْ/ زنزانتي/ حُلمٌ يراودني فيُحيي/ حبكةً في قصّتي/ ذكرى تُردّدها/ من الماضي/ حكايةُ جدّتي/ أسطورةَ الشّاطرْ حَسَنْ/ أوديبُ، اِدفعْ فُلْكَ نوحٍ/ نحوَ يمٍّ للنجاة/ أوديبُ، ضَعْ نُصبًا بريقًا/ قَدْ يحوّلُ عتمةَ / السّجنِ المُريبْ/ وادي عَدَنْ...
إحسان أبو غوش/ الرّوح تخاطب الجسد:
أنْتَ الجَسَدْ/ مجرّدٌ من بلسمِ الرّوحْ والنّوى/ تقتاتُ من صمتِ الليالي والغَسَق/ على دماءِ الحرّ/ يبقى طيفُهُ دَيْنًا عليكَ/ إنْ وَعَدْ/ أنتَ الذَّكَرْ/ المادّةُ المصنّعة/ من مادةٍ خامٍ نَشَأتَ تائهًا/ الماردُ الوضيعُ من / أفواهِ قُمْقُمٍ خَرَجْتَ/ إلى القَدَر/ أنت الجمالُ الخارجيّ/ شَقائقُ النّعمانِ تزهو نحوَنا/ جمالُها الشّرقيّ، في/ بستانِ شَوْكٍ وردةً/ بين الحجرْ/ أزهارُ صَيْفٍ صُنِّعَتْ/ بلا أريجٍ خالدٍ/ يَفوحُ شَكلُها النّديّ/ بينَ البَشَر/ لكن، عذوبةُ الأريجْ/ مسائل فيها نَظَرْ! أنتَ البناءْ/ يعلو إلى أحلامِنا/ نحوَ السّحابْ/ بلا جنانْ/ بلا بَشَرْ/ أنت الوعيدْ / مالٌ وجاه/ وَصفٌ وجِسْمْ/ النّرجسيُّ عينُهُ/ أنتَ الذَّكَرْ/ في قسوتِه/ في قُدْرَتِه/ في سُلْطَتِه/ زهرُ الشّتاءِ/ بلا ثَمَرْ/ صَنَعْتَ منْ جِلْدِ الظِّباءِ/ ملابِسَ اللّيلِ المُعتّقْ/ فروَ السَّهَر/ ما قيمةُ الذّكَرْ/ في عالمِ النّساء؟/ ما قيمةُ الجَسَدِ/ بلا عطاءْ؟/ ما قيمةُ الجَسَدِ/ بلا عناءْ؟/ ما قيمةُ الذَّكَرْ؟/ ما قيمةُ الذّكَرْ؟
دُعاءُ الطّفولةْ/ بِعتمةِ لَيلٍ/ بوَقْتِ الخَفاء/ أنا/ أنا الرّوحْ/ أنا الوردْ/ بوجهي المُعَطّر/ أنوثيّةُ الشّكلْ/ ربابِيّةُ الصّوتِ/ جَماليّةُ المَنْظر/ أنا الحاضِرُ الأمميُّ/ بمُقتَبَلِ العُمْرْ/ بِحسّي، كِياني، وجودي، بِعَطْفي/ بحبي المُقَدّرْ/ أنا المُثُلُ الأبديّةْ/ أنا الجوهَرُ القِدَميّ/ أنا الحُلُمُ الدّاخليّ/ أنا العِشقْ/ أنا المَحْضَرْ/ حياتي رُخاميّةُ الشّكلْ/ جمالُ الشّقاءِ/ حياتي/ نعيدُ زُهُوَّ الأراضي/ بأيدٍ وقلبٍ/ مُعَطّرْ/ فَأعشقُ روحَ الحياةِ/ وعِطرَ الطّفولة/ وحِسَّ الأنوثةِ/ أكثر وأكثر وأكثر..
إحسان أبو غوش/ تبّت يدا الحكّام: تبّتْ يدا الحكّامِ في قصرِ العَرَبْ/ ما أغنتِ الأموالُ نفسًا.. ما الذّهبْ/ مأساةُ سوريّة ببابِ قصورِكمْ/ أقدارُها مرّت بدرعا من حَلَبْ/ نحتاجُ وردًا للطّفولةِ بَيننا/ لنعيدَ بسمَتَها إلى سِفرِ الأدَبْ/ نحتاجُ حبًّا صافيًا.. علمَ اليقينْ/ لا علمَ أنسابٍ قديمًا.. لا حَسَبْ/ نحتاجُ للإنسانِ في أحلامِكُمْ/ نحتاجُ ما نحتاجُ مِنْ غيرِ الخُطَبْ/ يا لفظةَ البحرِ المميتةِ هدّئي/ من روعِ موجٍ صاخبٍ وقتَ الغَضَبْ/ طفلٌ غريقٌ لم يُكمّلْ زهرَهُ/ بلْ أغرقَ القلبَ المُعنّى باللّهَبْ/ قلبي.. كِياني.. فكرتي وقصيدتي/ خَدَرٌ بجسمي مثلُ نارٍ في الحَطبْ/ في داخلي بركانُ نارٍ صارِخٌ/ مستغربٌ من أمّةٍ... فوقَ العَجَبْ؟!/ من شكلِ مَنْ يُدعى مجازيًّا أميرًا/ حاملًا نصَّ الخطابةِ والأدَبْ/ أدْرَكتُ قولًا من نزارٍ إذْ حَكَى:/ حُكّامُنا.. في نصِّنا ماتَ العَرَبْ
إحسان أبو غوش/ لكِ يا قدس: صُبْحٌ يلوحُ لَنا والصّبْحُ فضّاحُ/ وقبّةٌ أصبحتْ للصّبْحِ ايضاحُ/ وصخرةٌ.. صحوةٌ.. من زهرِها خرجَتْ كالبَيْلَسانِ.. كأنَّ الصّخْرَ مِفتاحُ/ تلكَ الحجارةُ.. ما لي حينَ ألمِسُها/ فالكفُّ زنبقةٌ والعطرُ فوّاحُ/ وسورُها شاهدٌ ما لا نشاهِدُهُ/ إنْ كانَ في ظُلْمَةٍ فالسّورُ مصباحُ/ أبوابُها.. سوقُها.. باحاتُها سَكَنَتْ/ أحلامَنا سَرْمَدًا والليلُ مرتاحُ/ وقِبْلَتي قُبْلَتي الأولى.. عَشِقْتُكِ يا/ شريانَ أقدارِنا والعشقُ ذبّاحُ/ يا قدسَنا أنتِ حُبْلى بالشّواهدِ من/ أمجادِنا.. وشراعٌ فيكِ لوّاحُ/ يا قدسَنا، كُسِرَتْ مرآةُ صورتِنا/ فمَنْ يُلَمْلِمُها.. والحقدُ سفّاحُ/ يا قدسَنا، سيلُ أقدارٍ يُدَثِّرُنا   / فمَنْ يُسَكِّنُهُ والقلبُ سيّاحُ/ موسى كليمٌ لذاتِ اللهِ ما بقيَتْ/ تلكَ الوصايا وما في الدّربِ ألواحُ/ لِتَلتَقِطْها بقايا.. قد تعودُ لَنا/ آفاقُنا بَلْسَمًا.. آمالُنا.. أفراحُ/ يا قُرّةَ العينِ، لا نبكي على وَجَعٍ/ يا بَسمةَ الليلِ، فيكِ الجُرْحُ جَرّاحُ
إحسان أبو غوش/ لكِ يا قدس: أسيرُ دونَ طريقٍ.. ربّما تائهًا/ أعاودُ السّيرَ في قاموسِنا المُخمليِّ/ ثائرًا أبحثُ المعنى عنِ المفرداتِ/ عن بلادٍ تُسمّى من على متْنِ نصٍّ/ أبجديٍّ رفيعْ "بلادَنا حُرّة"/ من زَهوَةِ الهُدْبِ حتّى أخمصِ القَدَمينْ/ يُفتشونَ عن الأسرارِ في جَسَدي/ يُجرّدونَ ذواتِهِم ولا قَدَري/ أُنسى كنصٍّ رَكيكٍ في بلادي ولا/ أنسى عقالًا لجدّي.. حطّةً.. صورةَ/ الفلّاحِ.. زيتونةً.. وقهوةً مرّة/ قد يُطلقونَ علينا حقدَهم وعلى/ هُويّتي.. لُغتي.. حُلمٍ يُراودني/ لا ذنبَ لي لا ولا لبشرتي البنيّة/ ألتقطْ بعضَ أنفاسي وأصرخُ عاليًا/ فلمْ يبقَ شيْءٌ ربّما بِضْعُها:/ "لِتَقتلوني أعيشُ فارِسًا شامخًا/ لِتَقْتُلوني فأحيا ألفَ مرّة ومرّة"
ولاء أبو عيطة: ضاق الفُؤاد لم يُعِرني صديقه معطف ولا بيتًا ولا كفّ طبيب سَلني كيف يعبر الشِّعر اسمٌ غريب كيف يعبره... صوتُ رصاصةٍ مُدَّت من وجهٍ قريب استيقظَت على غفلةٍ منّي وحينَ صحوتُ راحت تغيب كيف أوصل الكلمات الى ما خلف الزّجاج وأجعل رقصة فرح تكون منها تكون أقوى... من صوت اللهيب متى سأصبح رذاذًا؟ متى يرتطم الحُبّ بغيمتي ويتلاشى الضباب؟ أنظر إلى عينيك لا شيء لا شيء يحدث لا شيء يُرى لا شيء يُقال كصمت القباب ماذا فعلتَ لتكسر بارودةٍ (عنقاء) لتمزّق قبّعة رتّبتها السنين ألتقِطها هزيلةً ثمّ يسحبني الغياب أنا أكبر كلّ يوم ببيت قصيدة ببعد رصاصة بحجم غياب لا تقاومني قاوِم عدوّنا هو أولى بطلقة وانا اولى بقلب أعياه العتاب دعنا لا ننظر الى الندوب والشقوق إلى لون السحاب.
ولاء أبو عيطة: حَيْفَا.. حَيْث غادرتها منذ زمن تَمامًا كقصائدي وَتقريبًا كالشّعر.. حيث لَم تكن هُناك، هيئتك! حَيْث تُسْرَقُ المِظلّات، وَتهتِف أزهار الوَرق تُخْرج مِن بين حبّات المطر، أسْئلَة تُذكّرني بكلّ الأحبّاء تُذكّرني بك! حَيث تركت قِطعًا من الشّمس هناك قَريبًا من أعتابِ الكنيسة والبَعض قَريبًا من نفحات الطّفولة والآخر عِند عَواصف الأقدار، احداها عند صورتك حَيْث احْترق الكَرْمِلُ، حينما حاولت أن أشعل بعض الكَلمات وَهَباءً ذهبت كل الكلمات.. لَم يصل منها ولا من لهيبِها شيء اليك! عُدْتُ أدْراجِي إلى مَدِينتي.. حَيث الوَقت نِيسانَ كلّ أيّام السّنَة! حَيث الوَرد كلّه رَيحانَ، وحجارة البُيوت سِيقان لقَصائد مَهجورة إلى بيتي.. حيْث أشْتاق للقُدس.. علّني أخبرها عَنك، حين أزورها.. وألتقط مِن سمائها نُجومًا كي أجلبها معي إليك.. لا، لَم أتذكّرك أنَا.. هِيَ ذاكِرتي مُتَمرّدَة! هي مَنْ تَستعيدُك دَوْمًا.. أريدُ أنْ أحْمل إليك صَوْتًا جَدِيدًا.. لا تَعرفه ذاكِرتي، أريد قَليلًا أنْ أنْساك .! أضعتك منذ زمن طَويل، طَويل وحينَ بَدأت أمشي، سلَكت الطّريق أبحث عنك كنتُ دَوْما أفتّش عَن اسمك بين الكُتب، وعن لون دُموعك بين الدّفاتر وأعْلَم! أنّي لَم أخْطر يَوْمًا بِبالِك! وَحتى اليَوم.. لَمْ أسأل أمّي عَنك، فَأنا أخاف عَلى أمّي مِن جُنوني وأحبّ أنْ أحتَفظ بِك لِنفسي، وأن أختصرك! أتَعْلَم؟! أنا لا أحْتاجُك، وَلست ممّن يُقابلون المَوْت عِند النّسيان! كِبريائي يَقف أنيسًا عِنْد الحُدود هناك.. لكنّ حَنيني يُضرمه رَنيم السّماء ويُغلّف ذاكِرتي وَجهك! أحْيانًا.. أجْلِس مَع القَمر.. نتحدّث قَليلًا، فأجِدني أتجوّل في سيرتِك! أسْهِب في إخباره عَن غِيابك فَيَغفو القَمر، وأظلّ أنَا بلا قَمرٍ بِلا أحَدِ بِلا معصَمك! وأحْيانَا أخْلُو بِنفسي، لأتنفّس، لأستَنشِق حُبًّا جَديدًا مِن الله لأسْمع مِنْ أمنِياتي بَعيدًا عَنك.. لكنّك تَطرق البَاب وتَجعلني أبكِيك! وأحْيَانًا أكونُ بَينَ أحبّتي.. نَلهُو كَثيرًا، نَضحك، نكتُب نَقرأ ونَعزِف وَفَجْأة أخْرج لأبْحث عَنْكَ.. أفكّر أيْنَ أنتَ؟ كَيف تَبدُو حينَ أبْكي أنَا؟ ماذا تَفْعل حين أغْرق في سَديم صورك بينهم؟ وأعاني نِسيانك! أنَا لا أحْتاجك أبَدًا! لا أحْتاج حَنينًا، وَلا هَمْسًا ألا يَكْفيني الله؟ لكنّك مُختَلف هُنا! وأنانيّة أنَا، وَلَولا الجَنّة، لقَتلتُك! أخْبَرت حَيْفا أنّ عليّ أنْ أسافِر، وأنّني أخْشى عَليك منّي كَما أخْشى عَلى أمّي لكنّها أبَت أن تُعطيني جَواز السّفر! وأخْبرتني أنّ دُموعي لا تَهمّك! دُموعي لا تُساوي شيئ عِند حضرتك! أخْبَرتها أنّي أتَيْتُها هاربَة مِنك، وأنّي ما أنَا إلا مَرارة الشّاي الذي تَحتسيه أوْ رُبّمَا الألم الذي يلمّ بكَ كلّ يَوم أخْبرتها أنّي لا أُجِيدك لكنّ حَيْفَا أصرّت، ولَم تُعدني اليّ الّا بَعْد أن أنْطقتني بقَصيدة هي بالأصل مِن أجلك! أنتَ لا تُشبه الأشْياء هُنَا! وَلا حتّى أنَا.. لكنّك كَحيفا، تَبدو جَميلا في العَتمة والحُزن الذي أقرأه بَين عينيك كالذي بين ثنايا حَيفَا عجِزت أن أرسمه أو أن أرسمك! ألَم أخْبرك أنني أخْشى على نَفسي يَومًا يَخلو من طيفك، يَومًا أجرؤ به عَلى مناداتك، وتكون قد غيّرت اسمك! يَومًا نَمشي به أنا وأنت، ولا أرى ظلّك! رُبّما لا أسْتَحق! فَأنا اللّا شيء أكْبَر منّي، أعظَم منّي اللا شيء أجْمل منّي، أرْوع منّي، أكْثر منّي وَعْيًا وَأنَاقة اللّا شيء أفْضل منّي.. وربّما هُوَ أنسبُ أن يَكون بقربك! صِدْقًا! أحاول أنْ أنساك، آخذ نَفسي لتِلك المَناطق بمُخيّلتي حَيث تكون ضاحِكًا لوحدك، أوْ لَست لوَحدك لكن معَ آخرين مِنْ دونِنا فَتغضب منّي نَفسي وتَقول: "ألم يَعِدْكِ" وتُرِيني نَفْسِي الوَطَن، إذ احتفظت بِصورَة تِذكاريّة له حيث لا معنى للحدود لا معنى للجنود والنّون هي البداية والنّهاية، وهي نِدائي الذي لا تسمعه روحك! أنَانيّتي! هي وحدها جَريئة نَحوك، تُريد منّي أنْ أحْتفظ بِدُموعي، كَي أضعها مَع وَردَة بَيضاء عَلى الصّفحة الأخيرة مِن عُمرك! وهي ذاتها كَتبت هذه القَصيدَة التي تُزعجُك وأنا أعلم، لربّمَا أنتَ لا تهمّك كَلمات كهذه وهذيان كهذا وأنثى تُثير الصّداع مثلي.. فاعذرني.. وهل يُقبل عُذري عندك؟ لقّنتني "الحَمْدُ لله على كلّ حال" فالحمدُ لله أنّه منَحني هديّة تَحوي بداخِلها إنْسانا مِثلك، كلّ شيء هُو سَجدة ودُعاء سجدة ودعاء سجدة ودعاء بيني وبينك! لا حُدود، لا جُنود والبداية هي نون من عند الله، من أجلنا ومن أجلك..

118
أمسيةٌ عُكاظيّةٌ في حيفا

آمال عوّاد رضوان
 أقامَ نادي حيفا الثقافي والمجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ- حيفا "أمسيةً عُكاظيّةً شِعريّةً"، في قاعة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وذلك بتاريخ 29-10-2015 وبحضورٍ كبيرٍ وواسعٍ مِن حيفا والجليل والمثلث، ضمّتْ أدباءَ وشعراءَ ومُهتمّينَ وذوّاقينَ للكلمةِ الشعريّة، وهذه هي الأمسيةُ العُكاظيّةُ الفصليّةُ الثانية، وقد استضافتْ كلّا مِن المُشاركين: إياس يوسف ناصر، ليليان بشارة منصور، حسين جبارة ودانا بشارة، وتولّتْ عرافةَ الأمسيةِ كوليت حدّاد، وأضفت الفنّانة روزان بولس بصوْتها العذب الشّجيّ لمسةً شعريّة إضافيّة، لتكتملَ الكلمةُ بالنغمة، وبصوتٍ واحدٍ غنّى الحضورُ مُهنّئين ليليان منصور بميلادِها، خلالَ التقاط الصور التذكارية!   
مداخلة العريفة كوليت حدّاد: إياس يوسف ناصر من قرية كفرسميع شاعر ومحاضر للّغة العربيّة في الجامعة العبريّة في القدس. أنهى بتفوُّق دراسته للّقب الأوّل، وللّقب الثّاني في الأدب العربيّ والأدب المقارن في الجامعة العبريّة، وهو على وشك إتمام رسالة الدّكتوراه في الشّعر العربيّ القديم. حصل على تسع جوائز لتفوُّقه الأكاديميّ، مِن بينها جائزة رئيس الجامعة العبريّة.
صدر ديوانه الأوّل "قمحٌ في كفّ أنثى" عام 2012، عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر- بيروت. وقد كتب عن الدّيوان غير واحد من النّقّاد المحلّيّين. أقامَ أمسياتٍ شعريّةً عديدةً، وشارك في لقاءاتٍ أدبيّةٍ كثيرة، في مختلف النّوادي والمراكز الثّقافيّة في البلاد. يكتبُ القصيدةَ العموديّةَ والشّعرَ الحُرَّ أيضًا، ويتناولُ شعرُهُ موضوعاتٍ اجتماعيّةً مُهمّةً، كمكانةِ المرأةِ واضطهادها في المجتمع الشرقيّ، والانتماء إلى الوطن، وقداسةِ الإنسان وحرّيّتِهِ، هذا إلى جانب قصائد غزليّة كثيرة، يحاولُ فيها أنْ يتّخذَ الحُبَّ دواءً للأوجاع الإنسانيّةِ على مستوياتٍ مختلفة. صدر له قبلَ أيّامٍ ديوانَهُ الثاني "قبلةٌ بكامل شهرزادها"، عن منشورات مؤسسة الأفق- حيفا.
حيفا/إياس يوسف ناصر: حيفا الحبيبةُ.. أيَّ شِعرٍ في فمي/ أهدي إلى عينيكِ بعدَ غيابي؟!/ قد ذقتُ من شفتيكِ أطيبَ قبلةٍ/ وشَمَمْتُ في كفّيكِ عطرَ شبابي/ ونثرتُ شَعرَكِ فوق نهرِ قصائدي/ فتخمّرتْ في كرْمِها أعنابي/ فلتعذريني.. إنْ هجرتُكِ مرّةً/ من لي سواكِ بعودتي وذهابي!
كمان/إياس يوسف ناصر: في غابةِ الموتِ الدّغيلةِ/ لستُ أطلبُ/ غيرَ ما يحكي الكمانْ!/ لا أقرأُ الأخبارَ/ عن جسدي ولا/ أرمي شِباكَ الـحدسِ/ كي أصطادَ جرحي/ في صُداحِ البرلمانْ!/ لا شيءَ يعنيني/ سوى لغةِ الكمانْ/ في الحزنِ مهتمٌّ أنا/ في نشوةِ الهذيانِ مهتمٌّ أنا/ في بيدرِ القتلى/ المحاصرِ بالمكانْ/ في الرّيحِ إنْ شَبِعَتْ/ نُواحًا/ عند نافذة الثّكالى/ في انصداعِ الرّوحِ/ مهتمٌّ بأن أرتادَ قلبي/ مرّتينِ/ لأطمئنَّ عن الطّفولةِ/ في ترانيم الكمانْ/ هيهاتَ نصغي/ لو هنيهاتٍ/ إلى لغةِ الكمانْ!/ هيهاتَ نَعلمَ أنّ/ أعماقَ السَّكينةِ/ في دواخلِنا/ رهينةُ إمتحانْ!/ هيهاتَ نَعرفَ أنّ/ في أعماقِنا/ شيئًا طفوليًّا/ رفيفًا/ أو وريفًا/ مثلَ ظلِّ السّنديانْ/ لا شيءَ يعنيني/ سوى وطني/ أنا وطني/ صديقي/ أو قريبي/ أو غريبي/ لا فرقَ عندي/ حين أسمعُ/ صوتَ قلبي/ في مناجاةِ الكمانْ!/ لا يبقَ شيءٌ/ قد يراودُني/ إذا ناجيتُهُ/ غيرُ الحقيقةِ/ أنّني إنسانْ!
صورة الله/إياس يوسف ناصر: وطني.. ليس ترابًا وحجرْ!/ وانتسابي.. لا لبَكْرٍ أو مُضَرْ!/ كلُّ ما في الأمرِ أنّي شاعرٌ/ ريشتي قلبي.. وأوراقي البَشَرْ!/ وبلادي.. رحلةٌ لا تنتهي/ مع صدى الإنسانِ في كهفِ القدرْ/ ربّما كنتُ حزينًا مرّةً/ ربّما كنتُ سفيرًا للقمرْ/ ربّما عشتُ طويلًا مع فتًى/ يَرضعُ الشّمسَ.. ويغتالُ المطرْ/ ربّما قد أخبَرَتْني حلوةٌ/ عن صديقٍ كان شكلًا للأثرْ/ ربّما صادقتُ ظلّي حينما/ يُورِقُ القيظُ على خدِّ الشّجرْ/ وطني.. ليس خطابًا عاقرًا/ من سياسيٍّ.. ولا محْضَ خبرْ!/ وطني.. ليس حدودًا بعدَها/ تنتهي الدّنيا.. وينسدُّ النّظرْ/ وطني الكونُ.. وأهلي كلُّهم/ صورةُ اللهِ.. وأصنافُ البشرْ!
لستُ يوسُفَ يا أبي!/ إياس ناصر: همّتْ.. هَمَمْتُ.. فغلّقتْ أبوابَها/ وتمايلتْ نحوي تحدِّثُ: "هيتَ لكْ"!/ تلك الصبيّةُ.. إذ رأيتُ عيونَها/ حدّثتُ قلبي.. أنْ أتى من كمّلَكْ/ من أين تبتدئُ الأنوثةُ يا تُرى؟!/ مِن وجهِها؟! مِن كحلِها؟! ما أجهَلَكْ!/ في كلِّ شبرٍ.. ألفُ لغمٍ للهوى/ فارأَفْ بنفسِكَ.. ليس يَرجعُ من هَلَكْ!/ شفتانِ غارقتانِ في عسلَيْهما/ ونوارسُ النهدينِ.. تَصدَحُ في الفَلَكْ/ وعليهما نافورتانِ كحربةٍ/ في الدربِ قد وقفتْ لتطعنَ مَن سَلكْ/ سارتْ إليَّ.. وأسقطتْ فستانَها/ فتطايرتْ فوقي النيازكُ في الحَلَكْ!/ بل أفرغتْ كلَّ الأنوثةِ في فمي/ وتفوّهتْ: "إني أحبُّ مُقبَّلَكْ"/ "أشعِلْ فتيلَ الحبِّ في أعماقِنا/ مرِّرْ على كلِّ الحدائقِ أنمُلَكْ!"/ "وابذُرْ عليَّ.. بذورَ قمحِكَ كلَّها/ وابعثْ إلى حقلِ السنابلِ منجلَكْ"/ "لم تَبقَ في هذا الوجودِ مساحةٌ/ إلّا لتبنيَ.. فوق صدري منزلَكْ"/ أينَ النبوءةُ؟! لا أراها يا أبي/ ما جاءَ يَصرِفُني عن الحبِّ الملَكْ!/ برهانُ ربي.. كان وجهَ حبيبتي/ يا وجهُ.. إني فيكَ أعبُدُ مُرسِلَكْ/ بل إنها كانت ملاكي يا أبي/ ونبوءةً حلّتْ عليَّ بــ"هيتَ لكْ"/ عانقتُها.. قبّلتُها.. وأضأتُها/ والحبُّ يَفعَلُ بالقلوبِ بما مَلَكْ/ مِن إحدى عَشْرةَ قُبلةً قد ذقتُها/ أشعلتُ بالشوقِ الكواكبَ في الفلكْ/ فرأيتُ أني كنتُ مع معشوقتي/ قمرًا وشمسًا ساجدَينِ على الحلَكْ/ هذا قميصي.. لم يُقَدَّ.. وشاهدي/ أني سُئلتُ بُعَيْدَها: مَن قَبَّلكْ؟/ إني أحبُّ.. ولستُ يوسُفَ يا أبي!/ رؤيايَ أخرى.. غيرُ ما قد قيلَ لكْ..
مداخلة العريفة كوليت حداد: ليليان بشارة منصور: وُلدت في ترشيحا الجليليّة، حيث أنهت تعليمَها الابتدائيَّ والثانويَّ فيها. تعيش مع عائلتها (د. جوني منصور) في حيفا. نالت الدرجة الأولى في موضوعَي اللغة الإنجليزيّة والأدب المقارن من جامعة حيفا، والدرجة الثانية في الكتابة الإبداعيّة من جامعة ليدز، وتحملُ شهادة معلمة مؤهّلة لتدريس اللغة الإنجليزيّة، وتعمل مدرّسة للغة الإنجليزيّة في مدرسة شعب الثانويّة والكليّة العربيّة للتربية بحيفا. وأيضا تعمل مدربّة في التنمية البشرية. من مؤلفاتها: * كلمات على حافة الدائرة الذهبية (شعر)، الناصرة، 1994. *الندى والتين (شعر)، الناصرة، 2002. *عندما يغتسل التراب (شعر)، بيروت، 2006. *الذاكرة الفلسطينيّة في رواية بنت الغول (دراسة)، رام الله، 2009. *صديق سامي (قصة للأطفال)، حيفا، 2006.
ليليان بشارة منصور/ هفوة نسيان: قبلَ رحيلِكَ/ فاتَكَ/ أنْ تغسِلَ رِجْلَيْكَ/ في بَحرِ حيفا/***/ لِنُحْضِرْ إناءً/ ما دامَ وُصولُكَ/ إليْنا ربّما.. مُستحيلا/ لِنَغرُفْ مِن بَحرِنا ماءً ورملًا/ قصائدُنا في الظّلام/ في غرفةٍ/ يَتسلقُها/ خيطُ نورٍ/ تنتظرُ حمّامًا ساخنًا/ لترتويَ/ مِن أصابِعِكَ/ وإبريلُ في الدّربِ قادمٌ/ ويومُ القيامةِ حتمًا آتٍ.
ليليان بشارة منصور/ دائرة النبيذ: وحلمَ يومًا/ أنْ  يَسكُبَ زجاجةَ نبيذٍ/ مِن قِمّةِ رأسِها/ حتّى أصابع رِجْلَيْها/ وفي الحُلم/ يَرشفُ الحُبيْباتِ/ على مَهلٍ/ رشفةً تِلوَ رشفةٍ/ فيتكاثرُ النّبيذُ/ ويُولدُ بحرٌ/ مُتلاطِمُ الأمواج.
ليليان بشارة منصور/ رقصةُ النّوارس: وبينَ الأزقّةِ السّاكتةِ/ يَتهامسون/ بوَشوشةٍ رقيقةٍ/ عن خطايا الماءِ والتراب/ ويَعلو صوتُ الحُبِّ/ ويَتكاثرُ الإغواءُ/ على زبدٍ طائشٍ/ في ليلةٍ ليلاء/ تستيقظُ الشّمسُ/ لسفر تكوينٍ/ لسفرٍ مُتجدّدٍ بينَ الأمواج/ ورقصةُ النّوارسِ/ في الفجرِ/ احتفاليّةٌ/ طقسُ الولادةِ.. أنشودُةُ الإخصابِ/ على رِمالِها خطّتْ/ وامْتدّتْ بجسمِها/ مَدينةُ الأُنثى/ تلُفُّ ذراعَيْها/ بشالِ الصّنوبَرِ/ وتتعطّرُ بشقائقِ النّعمانِ/ تَزهو مُنتصِبةً/ تَشربُ مِن ماءِ وادٍ/ تقطّرتْ بهِ جداولُ السّماء/ وتُلامسُ العتبات/ فتنهضُ البيوتُ بقصصِها/ على الشّبابيكِ الخشبيّة/ ندًى يُحاكي الفراشاتِ/ وهنا.. في محطّةِ الكرملِ/ مَمالِكُ قدِ اعتزلَتْ/ ولمْ يَبقَ بَعدَها/ سوى مناديلِها المُشتهاة/ ووادي الصليبُ/ يَنزفُ دمًا / بَعدَ فرَحِ الولادة/ ناقوسُ الحزن/ موتُ الفرحِ/ وفي الدرب أشلاء عمامات وفصولٌ/ من حكايات/ أقفلَ الستار/ قبل أن تنهض الأنثى/ من فراشها/ وتبتسم لجسدها/ ويفرش الندى غطاءً يحمي بيتها/ وتُمسك بيدِها المفتاح/ وفي دهشةٍ.. ينثرُ الغبارَ على شمسِ الصّباح/ ويَفرشُ العنكبوتُ/ أجنحةَ البقاءِ/ هذه حيفا/ أُنثى الإغواءِ وختراقُ/ حكايةِ عِشقٍ/ بينَ الأزقّةِ السّاكتةِ/ ووشوشاتِ الصّمتِ/ وعلى أكفِّ النّوارسِ/ حيثُ يَستكينُ الاغترابُ/ وحيث تستكينُ بصمتٍ/ عذوبةُ الإغواء..
مداخلة العريفة كوليت حدّاد: دانا بشارة تبلغ من العمر 24 عاما، وُلدت لعائلة بسيطة في مدينة الطيرة، لأب وأم مُحِبّيْن وداعِمَيْن جدًّا، حَرِصا على تعليما الفنونَ من سِنٍّ صغيرة، كالرّسم والموسيقا، وعندما بلغت الرابعة عشر، كانت ترتادُ مكتبة المدرسة كثيرًا، لأقرأ الروايات بالعربيّة والإنجليزيّة، ومِن ثمّ صارت تحملُ دفترًا بشكل دائم، كمُحاولة منها لرسم ما يدور حولها بالكلمات، وفي نهاية كلّ يوم تمزّق ما كتبت لعدم رضاها! في سن السابعة عشر.. طلب أستاذ اللغة العربيّة الأديب والشاعر والمُحلّلُ الأدبيّ عبد الرحيم شيخ يوسف، كتابة ما يجولُ في الخواطر، فدُهِشَ بكتابتها، وصارَ يدعمها ويُشجّعها على الكتابة، إلى أن أصدرتْ ديوان "جرعة من الجرأة" عام 2009، وفوْر إنهائها المدرسة الثانويّة التحقتْ بمعهد التخنيون في حيفا، لدراسة الهندسة المعماريّة، وعام 2013 أنهتْ لقبها الأوّل مع رتبة امتياز. وإيمانًا منها أنّ البحثَ العلميَّ قد يُثمرُ عن "مباني ذكيّة"، قرّرتْ أن تُواصلَ دراستها للدكتوراه في مجال "المواد الذكيّة-smart materials". وما زالت تدرس وتغرق في البحث العلميّ حتّى اليوم، وبعلاقةٍ وطيدةٍ بالأدب والقراءة والموسيقا. وتكتبُ مِن حينٍ إلى آخر.
دانا بشارة/مَهلًا صَديقِي: مَهلًا صَديقِي/ اِرفِق بِالنَّجْمِ عَلى وِشاحِي/ أيْقَظْتَهُ فَجْرًا/ تَوَسَّدتَ آلامَه/ أضْحَكْتَهُ طِفْلاً/ أبكَيْتَ المَطَر/ هَدَمْتَ قِلاعَ الحُزنِ/ وأنا مِن حِجارَتِها أستَكين/ لِشموخِها الموجِعِ بِرُقِيِّ الوَجَعِ أدين/ مَزَّقْتَ عَلى أهدابِي الصُّور/ نُورُكَ اجْتاحَ خَاصِرَةَ الكَلِماتِ/ أطْرَبَها/ تَمايَلَت كَعَروسِ نيسان/ اخْتالَت.. تَكَبَّرَت.. قَبَّلَتِ المعانِي/ بِضوءِ روحِك عَانَقَت الحِبْرَ حُبًّا/ نَقَشَتْكَ شِعْرًا عَلى ضِفَافِ القَمَر/ يَسْتَعِرُ شَعْرُكَ عَلى جِباهِ لَيْلِي/ لَهُ ليْلٌ فِي القَلْبِ مَسْكَنُهُ/ يَطْبَعُ عَلى خَدّي قُبْلَةً  ويَنْطَوي/ لا تَنامُ سَماءُ قَلْبي تَحْرُسُهُ.. وَينامُ البَشَر..
مَهْلاً صَدِيقي/ ابتسامَتُكَ تَنْهالُ عَلى رأسِي مُحَمَّلَةً بِطَهارةِ الشُّطآن/ تَقْلِبُ مَوازِينِي/ تَبْتَلُّ ذاكِرَتِي بِك/ تَمْضِي الأجمَلَ مُنْذُ تاريخٍ/ والأعْمَقُ.. مِن سِرِّ البَحَر/ مَهلاً صَدِيقي/ ضَاقَتِ الأرضُ بِوُرودِها/ ولِصَدْرِكَ رَحَابَةُ الخُلْجَانِ/ وأنا المَوْجُ تائِهٌ فِي صَدْرِهِ عِقْد فُلٍّ منذ أعوامٍ/ أَنْهَكَهُ السَّفَر/ خُذ بِيَدِي/ تَسَمَّرَت عُروقِي بِدَمِها/ وأنتَ للروحِ شعشاعٌ ودِفءٌ/ وللعَينِ قُرةٌ ولَيلُ السَمَر/ خُذ بِيَدِي/ كالأطفالِ عَلِّمني المَشيَ/ أُهَرْوِلُ إلَيْكَ/ دُلَّني.. كَيْفَ المَسير/ فأنا مُنذُ أعوامٍ/ تُمْطِرُ الأفكارُ خاطِري/ تُثْقِلُ كاهِلي/ تَتَساقَطُ مِن جَبيني/ تَمحو مِن خارِطَتي الطريق/ خُذ بِيَدي/ يَنهَمِرُ وَجْهُكَ القَمَريُّ في صَدري/ تَتَلَعثَمُ قَدَمي/ تَتَكَسَّرُ الخُطى/ تَهجوني الرِّمال.. أبعثِرُها/ على صَفحاتِ كِتابٍ عَتيق/ خُذ بِيَدي/ فلا مَسقطُ رأسي يَعرِفُني/ ولا التاريخُ/ ولا مواطِنُ المياه في الشِّتاء/ تُنْكِرُنِي حُروفُ إسمي/ وتَتَنَكَّرُ لِي اقتِباساتُ الرَّناء/ غَريبةٌ عنها.. وغريبةٌ عني كل الأشياء/ خُذ بِيَدي/ البلابِلُ لا تَشدو هُنا/ يَأتي الربيعُ ولا تُزهِر الرِّياضُ/ مُكفَهِرَّةٌ سُحُب الحنين/ باكٍ وَجه السَّماء/ خُذ بِيَدي/ أرى التيهَ فِي الأمْسِ فاجِعَتي/ أشْتَمُّ فِي أنسامِهِ الهَباء/ ساعِدْني/ طالَ البَرْدُ/ أطرَقَت رأسَها على كَتِفي مُتْعَبَةٌ مواسِمُ الجَفاء/ تَصْفَعُني الرِّياحُ/ توقِظُ حواسي/ تَرْتَجِفُ أطرافِي/ أخافُ الإعياء..
دانا بشارة/ لا تَسَل ثانِيَةً: لا تَسَل ثانِيَةً/ فَلَرُبَّما تُنكِرُني كلماتِي/ الإجاباتُ كثيرة/ مُعَقدة وبسيطَة/ كَبذورِكَ في قَلبي تَنمو/ جَعَلتني طِفلَةً/ وَجَعَلَتك أميرا/ لِأنَّ الشَّمسَ لَم تَمُت/ لِأنَّ القَمَرَ لَم يَخفُت/ ولأن البحر لم يَجِف/ وَسماء حَيفا أنجَبَت روحَك أثيرا/ أراكَ تَدُقُّ/ أبواب القصيدة/ لِأن الكونَ صاخِبٌ/ لِأنَّ الكون ساكِنٌ/ لأنَّك الكون/ يبدو في عيني جميلًا ومثيرا/ لِأنَّ للرَّملِ يدٌ/ تَمتَدُّ نحوي/ تدعو لرَقصةِ السَّحاب/ لأنَّ للموجِ كَفٌ/ على كتف الأرضِ يُلقيها/ تَمحو العذاب/ لِأنك هُنا.. وأنا فِي هُناك/ أشتم قصِيدَةً بِطَعم الزعتر/ ورائحة الليلكِ/ وَتفاصِيل الجوى في سَناك/ لِأنَّ العشبَ أخضَرٌ/ يَستَحِمُّ بالنورِ/ تَرتَشِفُهُ قَدَماك/ لِأنِّي أقطِفُ السُّكَر/ وأُداعِب الفراشَ/ في غاباتِ الشِّعرِ/ كلما اعترتني عَيناك/ لِأنَّكَ طَقسِي/ وَهطولَ أعماقِي/ وَجُنونٌ/ شَيَّعَنِي أسيرَةَ حِماك/ لِأنَّك هُنا في قلبي/ وأرانِي في قلبك هُناك/ دَعني أتوَرَّطُ وحدي/ لا تُتعِب السؤال/ لِأنَّك في مِرآةِ قلبي/ آيات الجمال/ لِأنَّك هُنا/ وأنا حبيسَةٌ في هُناك/ لِأنَّ دونك/ تبكي القصيدةُ دَهرًا/ ويخبو الرجاء/ لِأن الجِبال شامِخةٌ/ يُحاصِرها المدى/ تُقَبِّلُ شِفاه السَّماء/ لِأنّ الحروفَ راكِعَةٌ/ تبتَهِلُ بِدَمعي/ عَلى سُطورِ العزاء/ ولِأنَّك تأتي مِن/ خلف الصوتِ/ تداهمني اللغة/ أكتَمِلُ أنا وأنت والمطر/ ونخيلُ بِلادي بيننا/ جميلُ الكبرياء/ ولربما لأن/ مِن قَبلِكَ/ لَم أكن حَواء..
دانا بشارة/ ضُيُوفُكَ نَحْنُ أيُّهَا اللَّيل: ضُيُوفُكَ نَحْنُ أيُّهـا اللَّيل/ فَتَحَمَّلنا وَتَجَلّد/ كَفانَا نَهــارنَا تَسَهَّد/ سَقَط غصْنُ الزَّيْتُونِ مِن مِنقَارِ حَمَامَةٍ/ وَمَا مِن أخْرَى حَمَلَتْه/ جَفَّ.. والطَّيْر تَلَبَّد/ ضُيُوفكَ جِئنا/ مُكَفَّنِين بِيوْمٍ ماضٍ/ بِصَلَوَاتِنَا ومُوسِيقانا/ بِتُقــَانا وعصيَانِنا/ بِأفْراحِنا ودمــاء شُهدائنا/ بِجنونِنـا واتِّزانِنا/ نَسألك الضُّوءَ مِن نَجْمٍ/ مُتَحاشينَ سِتْركَ الأسوَد..!/ ضُيــوفك نحْنُ أيها الليل الشجِيّ الفَرح/ المُخْتـال بِسِرَاجه.. المتزَهِّد بعتْمَتِه/ وَقَد لَا نَحِلُّ غَداً ضُيُوفـا/ فارفِق بِنَا.. إيَّاكَ نَتَوَسَّد..!/ ضيوفك نحن أيُّها الليل وابتِهـالات/ ما زالت تترنم في جوفي/ على ذات الايقاع/ تَعْتَريني/ وَيَعتَريها الحنين/ تكتبني بجَرَّةِ قلم/ تُمَجِّدُ عروبتي بأوَّلِ السَّطْرِ/ تَسْتَنْكِرُنِي مضيًـا/ تمحوني بعنفوانها/ وتقتل صرخة الصمت/ دونَ أنين/ تَتَناثَرُ.. تتبعثر/ كبنفسجةٍ في موسمها/ تتطاير.. تُحَلِّق/ كفراشةٍ ترقص في عرس الربيع/ وَتَتْرُكُنِي على أعتاب يومي/ أناجيها/ كَيْفَ لَها أن/ تَخلو مني/ تَتركني بلا ملامح/ بلا وطن/ تتركني وشحوب فلسطين..!
ابتِهـالات/ تُعانِقُ الوَقْتَ عنوَةً/ ولَا تَمتَثِلُ لِسِواه/ تَرجُو/ والرَّجاء في حُروفِها قَصيدَةٌ/ مَطْلَعُها مُهَشَّمٌ/ مَتْنُها مُهَمَّشٌ/ وَخِتامها جَريح/ فِي صَلَواتِي تداهِمِني/ كَسَيْلِ دُمُوعٍ/ تَمْسَحُ الغبارَ عن زُجاجِ قَلبي/ دُونَ رِفقٍ تَرْشِقُنِي/ تَجْرِفُ قَوْلِي/ تَترك على الشفَّاهِ نَغَمٌ كسيح/ كَيفَ أمضى الحُبُّ على الأرضِ عِبئًا؟/ مَتى رَحَلَ مِن أعماقِنا الإنسان؟/ وأصبحنا كُهولًا نندِبُ عُروبتنا/ ونجتَرُ كُلَّ مَساءٍ كَلأَ اللغَةِ من وجع الأوطان؟/ ما بالَ ريقُ الأرضِ علقَميٌّ من دَمٍ/ ولكأنما مِن بعدِ نوحٍ في الأرضِ طوفان؟/ كيف تُصلَبُ الطفولةُ كل يومٍ/ وَتُعدَم البراءةُ في ميادينِ الأديان؟/ تتسعُ هوةُ الصمتِ حِدادًا/ لا أجراسُ الكنائِس فَرِحَةٌ/ ولا خاشِعٌ صوتَ الآذان/ في سوريا ذئبٌ/ يغرسُ براثنه في لَحمِ كبشٍ باكٍ/ ومِصرُ خَلفَ قناع الحضارةِ/ وجهُ جهلٍ دامٍ/ والعراقُ شلالات دِماءٌ/ ما انفكت تنسكب منذ أعوام/ وفلسطين مُذ فُكَّت ضفائرها/ قُدسُها مُنتَهَكَةٌ/ كيف أمضت عروبتي تحت الركام؟!
حسين جبارة/سوفَ آتي: أنتِ بحرُ الشِّعْرِ/ بحرُ الحبِّ أمواجُ الليالي/ فانظُريني/ سوفَ آتي/ أنتِ إيقاعٌ ببالي/ قدْ ركبْتُ الريحَ/ أجتازُ تْسُنامي/ لنْ أبالي 
حسين جبارة/إنَني أُمُّ الوليد: وأفقْنا في صَباحٍ باكرٍ/ نقصدُ السجنَ الكبيرْ/ فيهِ أشْبالٌ كِبارْ/ دَفعَتْ أحلامَها/ من أجلِ حلمِ الآخرينْ/ سَنُعاني بازدحامٍ وانتظارْ/ بمكوثٍ وَوُقوفٍ وَتَلقٍّ  للأوامرْ/ في طريقي لِأَسيرٍ باتَ حُبَّا/ مثلَ أسرانا جميعًا/ يستحقّونَ النَّهارْ/ ووَصلنا ساحةَ السجنِ البغيضْ/ ورأينا كلَّ أطيافِ الوطنْ/ مِن شتاتٍ واحتلالٍ/ مِن جليلٍ أو نقبْ/ شعبُنا في الأسرِ واحِدْ/ لا حُدودٌ أو حواجِزْ/ لا خلافٌ أو تَشَرْذُمْ/ كلُّنا في الأصلِ شعْبٌ/ شعبُنا في "الهَمِّ" واحدْ/ وَبِساحِ السِجنِ صمْتٌ/ مِن خلالِ الصمتِ صوتٌ/ صوتُ أُمٍّ/ يَتَعالى مِن بعيدْ/ هاتِفًا اللهُ أكبَرْ/ صوتُ أُمٍّ تتباهى/ راحَ منّا يقترِبْ/ راحَ يدنو صارِخًا/ إنَّني أُمُّ الوليدْ/ أرفعُ الرأسَ افتخارًا/ بِأسيرٍ وسَجينٍ/ أتَغنَّى مِن جديدْ/ وَإباءٌ قامتي/ مَعْدِنُ السجنِ الرِجالْ/ ووليدي في المُؤَبَّدْ/ نغمةً  أشدو أُعيدْ/ شَحَنَ الصوتُ الحضورْ/ وَدَخَلْنا في الغياهبْ/ أُطرقُ الرأسَ مليًّا/ وبدربي باحثًا/ عن أسيرٍ وحبيبٍ خلفَ قضبانِ الظلامْ/ في حلكةِ الليلِ الشديدْ/ يرتئي الأسرى العبيدْ/ فجأةً صوتٌ ينادي/ وَسَمِعتُ الصوتَ أُستاذي ينادي/ فالتَفَتّْ/ ورأيتُ الشبلَ قُدامي وقوفا/ خلفَ شُبّاكِ العبوديَّةِ صلبًا كالحديدْ/ كلُّ رِمشٍ فيهِ سَهمْ/ كلُّ جَفْنٍ حارسٌ يحمي البريقْ/ جبهةٌ تعلو شموخًا/ أنفُهُ كِبْرٌ عنيدْ     
تُهتُ في بحرِ العيونْ/ يا عيوني، مَن تكونْ/ أنتَ أُستاذي ب"وردٍ"، وَأَنا كنتُ الوليدْ/ ما اقترفتُ "الذنبَ إثمًا"/ غيرَ أنّي/ عن حقوقي ما صَمَتّْ/ لستُ في الأسرِ الوحيدْ/ خلفَ قضبانٍ تراني/ في شراييني الأماني/ أهزمُ اليأسَ وأحيا/ في فضاءات ِ المعاني/ وزنازيني أُرَوِّي عشقَ أوطاني ضياءً/ في طعاني لا أُعاني/ وحقوقي قَبَسٌ/ في المدلهمّاتِ الدليلْ/ عنهُ يومًا لا أَحيدْ/ إصبعي بينَ الشِباكْ/ وعيوني في المحيطْ/ شِحنةٌ خضّتْ كياني صرتُ تلميذَ الأسيرْ/ وهوَ أُستاذي أنا/ بكلامٍ واثِقٍ ولسانٍ لاهِجٍ/ مفرداتي تمتمتْ/ كلُ شيءٍ يتغيّرْ/ وقوانينُ الدُوَلْ 
رُحتُ في الدهليزِ أمشي قاصدًا شِبْليَ الحبيبْ/ لم تُفرّقْ خَلَجاتي بينَ تلميذٍ وفيّْ/ أو حبيبٍ بالزياراتِ الجديرْ/ صارَ كلٌّ في اعتباراتي صَفيّْ/ تهتُ في سينٍ وجيمْ/ صحتُ في نفسي عميقًا/ حيِّ جيلاً صاعدًا/ لا تَخَفْ/ ما دامَ في القلبِ الإلهْ/ ما علا صوتُ النبيّْ/ أُمَّهاتٌ، رُحنَ يُرضعْنَ الصبيّْ/ بِغذاءٍ وانتِماءٍ ، وبِحسٍّ وافتداءٍ/ بِمِثالٍ/ يتغنّاهُ الأبيّْ/ بِإِلهٍ وَنَبيٍّ/ وَبِأُمٍّ وَصَبِيٍّ/ وانتماءٍ وافتداءٍ/ كلُّ أُمٍّ في بلادي ، قلعةُ الحبِّ النَّقيّْ/ كلُّ طفلٍ في ثراها، في الميادينِ العصيّْ 
الاسير وليد دقة من سكان باقة الغربية يرزح في غياهب السجن الامني منذ  ثلاثة عقود ويعتبر احد الرموز البواسل في عتمة الليل الطويل، صلبا متمرسا ويحيا لقضية مقدسة صامدا كصخر بلادي متجذرا كالزيتون. (حسين جبارة 18-12-2013)       
حسين جبارة/ العاشقونَ لشهرزاد: في الحيِّ عاشت شهرزادُ/ حَكتْ مِثالًا في الجَمالْ/ كانت عروسًا في الشَآمِ/ بَدتْ ملاكًا في الكمالْ/ ميزاتُها سِحرٌ غَمَرْ/ أوصافُها تَسبي الرجالْ/ فتقاطر الُعُشّاقُ في طُرُقاتها/ عشقوا الهلالْ/ عشقوا العيونَ/ كَما الضفائرِ زيَّنتْ/ قدَّ الغزالْ/ بعثوا اللِحاظَ رسالةً/ بالوُدِّ تخطُبُ والوصالْ/ قطعوا الدروبَ لأجلها/ جازوا السواحلَ والرمالْ/ قطفوا الورودَ قلادةً/ تُهدَى لفائقة الدلالْ/ الحيُّ اضحى قِبلَةً/ ثمَّ المزارَ بكلِّ حالْ/ جاءَ القريبُ أتى البعيدُ/ مُحَمَّلاً ماسًا ومالْ/ كلٌّ سعى للفوزِ بالحسناءِ/ تَرضَى بامتثالْ/ يا شهرزادُ بِحَيْرَةٍ/ ما تفعلينَ بذي السلالْ/ وصلَ المليكُ برهبةٍ/ يُلقي على الحيِّ الظلالْ/ مِن خلفِ بحرٍ هادرٍ/ خطبَ المليحةَ بالسِجالْ/ بالعرشِ يسكنُ شهريارُ/ رمى عروسًا بالحلالْ/ بالمالِ أو ذهبِ الدُّنا/ بالقسرِ حتى بالضلالْ/ هذي العروسُ تمنَّعتْ/ تأبى عريساً واحتلالْ/ تَرمي غريبًا آتِيًا/ يدعو لعُنفٍ واعتقالْ/ يبغي الأميرةَ عُنوةً/ والعاشقينَ الى ارْتحالْ/ الحيُّ يعشقُ شهرزادَ/ غدا جُنودًا للقتالْ/ وانضمَّ رهطٌ مِن جنوبٍ/ يَلتَقي حشدَ الشَمالْ/ خرج الورى في نخوةٍ/ لم يركعوا، حملوا النصالْ/ والعاشقونَ تشَمَّروا/ رَصدوا القصيدةَ للنضالْ/ قذفوا الحجارةَ صلبةً/ في وجهِ مَكرٍ واحتيالْ/ رفعوا الأسِنَّةَ والقنا/ طربوا على وقعِ النزالْ/ عانوا السُجونَ وقهرَها/ زُفُّوا لِمَوْتٍ واغتيالْ/ رصُّوا الصُفوفَ لِشحنِها/ والصوتَ يَبعثُهُ المقالْ/ درويشُ يعشقُ بالقصيدِ/ سميحُ يلهبها اشتعالْ/ غسّانُ يغمرُهُ الحنينُ/ جَمالُ يشدو بابتهالْ/ زيّادُ رمشٌ يَفتدي/ ناجي العليْ رسم المحالْ/ هذا الدسوقيْ مغرمٌ/ دحبورُ يرشُقُ بالنِبال/ يا راشدًا يا عاشقًا/ يا صالحًا، أطلِقْ عقالْ/ كلٌّ تغنَّى بالحبيبِ/ زها التّغنّي بارتجالْ/ والعاشقونَ لشهرزادَ/ شَدَوا لها، دفعوا الوبالْ/ هذي المليحةُ للخُلودِ/ غَدَتْ نِضارًا في المجالْ/ وقوافلُ العُشّاقِ تزحفُ/ في النهارِ وفي الليالْ/ كلٌّ رمى وَلِهًا بِها/ للفوزِ يسعى والنوالْ     
حسين جبارة/ نسيجُ الشِّبلِ والنِّمرِ: أحبّيني/ بِعزمِ السيْلِ إذ يجري/ بشوقِ النهرِ للبحرِ/ بوعدِ الغيمِ محمولا/ تَسوقُ الريحُ بالقطْرِ/ أجيبيني/ بِعذبِ البوْحِ في الفجرِ/ بهمسِ الدوح مشغوفًا/ بِطيبِ الضَوْعِ والعِطْرِ/ أيا حلمي/ أضيئي الحبَّ بالزهرِ/ وميضًا فاحَ بالعذري/ أغيثي لهْفةَ الصادي/ بِرِيقٍ فاضَ مِن ثَغْرِ/ فأنتِ النّبضُ يا قلبي/ حنينًا هاجَ في الصدْرِ/ وأنتِ الحبُّ توّاقًا/ بيومِ الوصلِ والهجرِ/ أغيثي لهْفتي بَدري/ ألستِ الدفءَ في القرِّ/ ألستِ رِحابَ شُطآنٍ/ نسيمَ البحرِ في الحرِّ/ ضَفائرُكِ التي أهوى/ حريرٌ ناعمُ الشَّعْرِ/ حريرٌ ماجَ في غنجٍ/ رشيقَ القرطِ والنَّحْرِ/ وَليْ أَصغي/ أنا عِشقٌ/ يتوهُ بغابةِ السِّحْرِ/ أنا شبلٌ بميدانٍ/ وَصَلْبُ الكِتْفِ والظَّهْرِ/ أبُثُّ إليكِ تنهيدًا/ يَهيمُ بِرقَّةِ الخصْرِ/ أضُمُّ القدَّ ملهوفًا/ أعيشُ الوَجْدَ يا عمْري/ أذيبيني بِفِنجانٍ/ مِنَ البلّورِ والتّبْرِ/ كحبّاتٍ مِنَ الحلوى/ مِنَ الأعنابِ والتَّمْرِ/ كمشروبٍ يُعافينا/ يُماهي الشَّهْدَ بالخمْرِ/ يُسيلُ الرّيقَ تِرياقًا/ أعاقرُهُ بلا حَظْرِ/ يُميلُ الرّوحَ في جسمي/ مِنَ الإعجابِ والسُّكْرِ/ أنا ثَمِلٌ/ وما أدري/ أداعبهُ إذا أوحى/ لقاءَ السِّترِ والجهرِ/ أنا الولهانُ يا روحي/ فَضُمّيني!/ بموجِ المدِّ لا الجزْرِ/ وناغيني بِإحساسٍ/ فتاخُذَني/ ورودُ العشقِ بالنثرِ/ حروفُ الشمسِ بالشعْرِ/ تَلُفُّ ملاكَ أحلامي عباءآتٍ/ نسيجَ الشِّبلِ والنّمرِ 
حسين جبارة/ جدارُ الفصلِ العنصري: يا جِدارًا يتلوّى مثل أفعى/ ووصالاً بينَ أهلي راحَ يَنْعى/ باحتيالٍ ودهاءٍ شقَّ أرضًا/ راحَ يجري/ سالبًا حقلًا وزرْعا/ يحرمُ الفلّاحَ كَرْمًا/ يمنعُ الأغنامَ مرعى/ في الروابي/ ينفُثُ السُّمَّ زُعافَا/ حينَ يسعى/ رافِعًا سدَّا وحدَّا/ فاصلاً ظِلّاً وجذعا/ بفؤادي/ يصرعُ الحلمَ ويطغى/ ويحيلُ السَّفكَ قانونًا وشرعا/ يُرسِلُ الآلاتِ مكرًا/ يُطلقُ النيرانَ لسعا/ يا جدارًا عنصُريًّا/ يسرقُ الشمسَ نهارًا/ يخطِفُ الدفءَ بلمحٍ/ يزرعُ الظلماءَ شمعا/ يتمطَّى/ مانعًا حضنًا وعشقًا/ مُبْعدًا بعلًا وزوجًا/ فاصلاً زهراً وضوْعا/ يتهادى/ ضاربًا سجنًا كبيرا/ داخلَ السجنِ حصارٌ/ ثمَّ طوْقٌ إثرَ طوقٍ/ فارضًا قمعًا فردعا/ موجعًا صفعًا فسفعا/ حائطُ العزلِ اعتداءٌ/ ثمَّ تكريسُ احتلالٍ/ حارمٌ غيثاً ونبعا/ يرتضي الأفنانَ قطعًا/ يشتهي الزيتونَ قلعا/ يُسْقطُ الغربُ جِدارا/ يحتفي فتحاً فوصلا/ يُرْجعُ الألمانَ جمعا/ في فلسطينَ يُحابي/ يمنحُ التقسيمَ عطفاً ثمَّ ضِرْعا/ يزرعُ البُستانَ تكسيرا فجرحى/ يُسقطُ الأحرارَ صرعى/ يمنحُ المُحتلَّ تقطيعاً وضمَّا/ مُلقيًا بالقمعِ روعا/ يحرمُ المحتلَّ بيتاً مستقلا/ كاسرًا في الصدْرِ ضِلْعا 
أرفضُ الأطواقَ إرهاقًا وقهرا/ حاجزَ الفصلِ أُعادي/ تهدمُ السورَ الأيادي/ إنَّني بالعزمِ أقوى/ بتُّ بِالإصرارِ أوعى/ صرتُ طيرا/ ضوعَ زهرٍ/ يعبرُ الحائطَ شوقا/ يجعَلُ الإذلالَ طاقاتٍ ودرعا/ ويحيلُ الحبَّ نسرًا/ ينقرُ السورَ بصبرٍ/ يتهاوى السورُ صدعًا/ يَتَلاشى الصُلْبُ هزعا           

119
بساق واحدة يعدو في حيفا؟
آمال عوّاد رضوان
وسط حضور من قرّاء وادباء وشعراء وأصدقاء، أقام نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ- حيفا، ندوةً أدبيّة للكاتب سامح خضر، تناولت روايته (يعدو بساق وحدة)، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، بتاريخ 15-10-2015، وقد تولّى عرافة الأمسية الشاعر هاشم دياب، وكانت مداخلات أدبيّة لكلّ من الباحث والناقد د. جوني منصور، والمحامي حسن عبّادي، والشاعر هلال الهندي، ومداخلات موسيقيّة لكلّ من الفنان العكاوي سهيل فودة مدير فرقة زمن، والذي أسّس العديد من الفرق الموسيقيّة، وعازف الكمان الفنان مارتن زكنون، والفنانة لينا فاعور والفنان فراس شحيبر اللذان قدّما مقطعًا مسرحيًّا من وحي الرواية، وفي نهاية اللقاء شكر الكاتب سامح خضر المُنظمين والمُتحدثين والفنانين والحضور، وتمّ التقاط الصور التذكاريّة!   
كلمة العريف هاشم دياب: أهلا وسهلا بالحضور الكريم، وبالضيف الكاتب سامح خضر، والمتحدثين عن الرواية من جاؤوا ليشاركونا بانطباعاتهم، وأهلا بالفنانين الموسيقيّين سهيل فودي والفنان مارتن زكنون، والمسرحيّين لينا فاعور وفراس شحيبر، الذين حضروا  ليُشاركوا بإنجاح الأمسية، وليبقى الأمل ابتسامة واعدة على مائدة الأحلام السعيدة في الأروقة المعتمة، بعد البكاء على صدر العطاء، إنه الأمل يلاطف مُسبّحًا ويستدرّ الصّدقات الصغيرة، مثل أوهام تُساور الحالم أن يسافر النهار من حال إلى حال، أو فرح بعد غياب، إنه الأمل لا يُجافي العيون الباكية، وما عداه نتركه لخيّاط يجيد لعبة التجديد في الرواية، ولن يموت أمل من ورائه رواية.
*جوني منصور نسافر معه في ندوب الذاكرة بين المنفى والوطن مع العائدين من باب الرواية يعدو بساق واحدة انه المؤرخ الفلسطيني ابن الجش الجليلية وحيفاوي الهوى والاقامة له العديد من الاصدارات عن فلسطين والصراع الاسرائيلي نعتبره حارس باب الحارة الحيفاوية القديمة
*المحامي حسن عبادي وعاشق اللغة العربية والناشط بامتياز في الوسط الثقافي وفي نادي حيفا الثقافي وهذا المساء يرصد لنا من خلال الرواية مسألة تردي الجهاز الاداري في المناطق المدارة بتصرف فلسطيني
*هلال الهندي صدرت له مجموعتان شعريتنان باسلوب شائق مراوغ ياخذنا الى الللاشيء وكل شيء من خلال الرواية في مشوار بين رام الله وغزة ويتساءل هل يمكن اعتبار رام الله جنة العودة الضيقة انه الفيزيائي
*سامح خضر الام كانت مواطنة والاب كان مغتربا ولد في القاهرة لمقاتل فلسطيني وام مصرية وحين تبدل الحال عاد الى فلسطين عام 1994 بعد اتفاق اوسلو حاصل على ليسانس في اللغة الانجليزية وماجستير في الدراسات الاسرائيلية عمل صحافيا باللغة الانجليزية في مركز الاعلام الفلسطيني ومدير عام للعلاقات الخارجية والتدريب في هيئة الاذاعة والتلفزيون في رام الله وفي 2012 تم تعيينه مديرا لمتحف محمود درويش في رام الله واستضاف العديد من اعلام الفكر والادب في العالم العربي ويعمل حاليا على عمله الروائي الثاني 
مداخلة د. جوني منصور: رواية مكثفة بأسئلة الذاكرة والمنفى والوطن
رواية "يعدو بساق واحدة" للكاتب سامح خضر، نشرت في طبعتها الأولى في 2015 عن دار الأهلية بعمّان، هي مرآة واضحة لأسئلة الذاكرة والمنفى والوطن. وحول هذه الأسئلة/ المواضيع تدور مساهمتي هذه، علّني أقوم بمهمّة توضيح الصور الاجتماعيّة والإنسانيّة والسياسيّة والاقتصاديّة الحاصلة على أرض الواقع في فلسطين، وعلّني أدرك عُمق المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطينيّ في هذه الأيّام، في ظِلّ أبشع احتلال شهدَهُ ويَشهدُهُ العالم. هو احتلال بغيض لئيم ظالم، مجرم وقاسٍ. وهذه فرصة للتعبير عن موقفنا إزاء الوضع، من خلال الإصرار على ضرورة وضع حدّ نهائيٍّ لهذا الاحتلال، والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطينيّ، وفي مقدّمتها حقّ تقرير المصير وحقّ العودة، وحقّ إقامة دولة فلسطين على أرض فلسطين وعاصمتها القدس. وليس هذا فحسب، إذ إنّ هناك ضرورة تاريخيّة مُلحّة، وهي اعترافُ (إسرائيل) بالأخطاء التاريخيّة التي ارتكبتها بحقّ الشعب الفلسطينيّ، وفي مقدّمتها إبادة الشعب الفلسطينيّ عام 1948، ضمن مسلسل جرائم حرب ارتكبتها (إسرائيل)، أدّت إلى نكبة هذا الشعب وتشتيته.
إنّ الذاكرة في رواية (يعدو بساق واحدة) كما في رواياتٍ أخرى، عبارة عن رحلة الذات في الحياة. رحلة بين عالمين الواقعيّ والتخييليّ، فالذاكرة محورٌ أساسٌ في النصّ في هذه الرواية، فلا تهتمّ بالماضي فحسب، بل تتجاوزه إلى الحاضر والمستقبل، وأنا أرى أنّ الذاكرة ليست عمليّة استرجاعيّة لزمن مضى، بل هي عمليّة انتمائيّة من خلال السلوك، وتعبير عن هُويّة الجيل الذي يعيش ثقافة تأسيسيّة لتشكيل هُويّته الوطنيّة والقوميّة، فالذاكرة لا تستطيع المطابقة مع الواقع، أو أن تكون معادِلة للماضي الذي مرّ وانتهى، إنّما هي وعي ذاتي لهذا الماضي.
أمّا المكان فهو أحد تجلّيات الذاكرة، وبالأحرى بناء المكان المتخيّل أوّلًا في حيّز المنفى، للمكان الواقعيّ ثانيا في حيز الوطن. أي أنّ الوطن في عقل المتخيّل، عندما يكون في المنفى، ليتحوّل إلى واقع آخر في الوطن. ولتوضيح هذا الجانب، نقدّم هذا النموذج من رواية خضر: "يركان أرض ميلادهما عائديْن إلى أرض انتمائهما ووطنهما الذي عاشا على ذكراه سنوات عمرهما القصير" (ص11). والسؤال المُحيّر الذي يطرح خضر حول مفهوم العودة إلى المكان (الوطن)، بقوله (ص11): "كانت فرحة مصحوبة بغصّة الرحيل المُباغت، لقد أطلق الآباء لفظ العودة على الرجوع، نعم إنّها عودة، فالمرء يعود إلى ما تركه، ولكن ماذا عن أبنائهم؟ كيف يطلقون عليها (العودة)، لمكان لم يرَوْهُ وما تنفّسوا هواءَهُ يومًا"؟
الذاكرة التي تعمل قويًّا في المنفى باتجاه الوطن، وفي الوطن باتّجاه المواطنة، تحملُ في جنباتها القوّة الفاعلة على تأكيد الحقّ في الوجود، الحقّ في المكان، الحقّ في الزمان التاريخيّ.  ويُضيفُ خضر مسألة ذات صلة بقوله: "الفلسطينيّون في المنفى يَخافون بالفطرة. يخافون من الأمن، ومن فقدان الوظيفة، ومن فقدان الإقامة. يخافون من النسيان، ومن ضياع الأوراق الثبوتيّة، يخافون من الوُشاة، ومن التطوّرات السياسيّة، حتى في الدول التي لا يَسمع عنها البعض، وقبل كلّ شيء، يخافون على حلم العودة من الضياع". (ص21).
التخبّط الكبيرُ والعميق الذي وقع فيه بطل الرواية قاسم، هو صورةٌ عن تخبّطاتِ كلّ فلسطينيّ عائدٍ إلى وطنه، في ظِلّ الظروف القائمة على أرض الواقع. يكتبُ خضر: "كانت المقارنة بين الوطن والمنفى مُستفِزّة في بعض الأحيان، فالوطن هو الوطن، ولا يُمكننا مقارنته بشيء، والمنفى كان وطنًا قبل أيّام قليلة، ولهما فيه حياة مختلفة بتفاصيل دقيقة، لا يمكن زجُّها في حسابات بشريّةٍ سطحيّةٍ مُلخّصة، هنا أم هناك؟" (ص28).
نلاحظ هنا وجود إقرار بالنسبة لمفهوم الوطن، فهذه الرواية جعلت من المكان "قيمة وجدانيّة"  و"قيمة فعليّة"، تتفاعلُ في داخل الإنسان، بمبادرته أو دونها، المكان الذي أراده، والآن يُريده نظيفا وطاهرًا مِن الفساد الآخذ بالزيادة يوما بعد يوم.
يكتب خضر ما يلي: "تترك الأماكن آثارها فينا، وتأخذ مِمّا بنته في شخصيّاتنا على مدار سنوات عمرنا. هل يمكن لمكان أن يغيب هكذا فجأة، ويتركنا هائمين في الدنيا دون هدف واضح، ومسار يقودنا إلى شيء؟ نحن لا نكون ما نحن عليه باختيارنا، بل نحن ما يصنعه الزمن، وتصنعه الأماكن والتجارب فينا". (ص33).
وحول هذا الموضوع بالذات يتساءل الكاتب والناقد الفلسطين فيصل درّاج: "من هو الفلسطيني؟" ويضيف أنّ لا الأصول ولا الجغرافيا ولا التاريخ تمثّل شيئًا ذا بال في تعريف الإنسان الفلسطينيّ، طالما أنّ فلسطين الفلسطينيّة القديمة قد دُمّرت ملامحها، وأنّ فلسطين الفلسطينيّة القادمة مشروع مُستقبليّ. يفرض هذا التصوّر تأكيد أمريْن: "أنّ الفلسطينيّ هو الذي لا ينتمي إلى فلسطين بالمعنى الجغرافي، بل إلى القضيّة الفلسطينيّة، من حيث هي قضيّة ثقافيّة سياسيّة، ففلسطين بالمعنى المجازيّ هي ما عاشه أهلها منذ عام 1948 حتى اليوم، وفلسطين بالمعنى الفعليّ هي تجربة الفلسطينيّين، والموزّعة على الشتات والمنفى والصبر والمُجالدة والكبرياء والتضحية، وعلى إتقان تجربة الانتظار في جميع الفصول، الذي يعني أنّ الظلم الذي لحق بالفلسطين لن يدوم".
وعودة إلى سؤال الذاكرة.. لقد فُعِّلت بطريقة قويّة من خلال "غياب الحضور"، و"حضور الغياب".. الحضور متفاعل جدّا لقيم الحرّيّة والتحرّر والصّمود حتّى تحقيق العودة.        وعودة مُجدّدة إلى الذاكرة، في الإطار التاريخيّ والقدس، وهما إطاريْن أو لنقل خطابيْن متناقضيْن، فالخطاب التاريخيّ من خلال النصّ يتعامل مع مُعطى حصل وانتهى، في حين أنّ الخطابَ النقديّ هو رأي في ما حدث. فمن خلال هذه العودة إلى الذاكرة ينبجس الوطن. ينبجس من خلال تجربة ذاتيّة لكاتب الرواية سامح خضر، سرعان ما تتحوّل إلى تجربة شاملة وعامّة. فالمعاناة التي يعيشها الفلسطينيّ المُقيم والعائد هي واحدة، ولا زالت الهّويّات الصغيرة والضيّقة - بل القاتلة كما سمّاها أمين معلوف- هي: ابن القرية، المدنيّ، اللاجئ، الغريب، العائد...    وفي مواجهة هذه العودة التي لطالما انتظرها وينتظرها كلّ فلسطينيّ، تبرز فكرة الرحيل، أو مشروع الرحيل.
يكتب خضر: "الرحيل هو الموت دون قبر، اُنظر إلى الراحلين، هم يَتركون كلّ شيء دون أن يأخذوا معهم سوى الذكريات، والذكريات هنا قد تكون داء الراحل الذي لا شفاء منه، الرحيل مرادف الموت، فالموتى أيضًا يتركون مُقتنياتهم ويرحلون بلا شيء. الرحيل يوجع كما يوجع الموت. ربّما لا يتعذب الميت، ولكن الراحل يتعذب كلّ يوم وحيدًا. يتعذب بالذكرى ويتعذب بالحنين". (ص89).                                                           
فمن خلال هذه الأسئلة: الذاكرة والمنفى والوطن، يُناقش سامح خضر ابن الجيلُ الجديد الواقعَ الذي خلفته اتفاقيّات أوسلو المرفوضة، والمنبوذة مِن قِبل قطاعات واسعة من الفلسطينيّين. وخلفت هذه الاتفاقيّات الصورة المتخيّلة للوطن جريحًا ومتألمًا، وبالرغم من هذا، فإنّ واقع المكان يفرض قراءة مستنيرة، فقراءة خضر فيها الضياع والبحث عن المنشود.               "أنا ضائع . لا أخفيك أنّي بتّ لا أعلمُ مَن أنا، منذ عدت إلى هنا، وأنا لم أعد أنا. لا أعلم إن كنتُ مصريًّا أم فلسطينيا.. لا أخفيك أنّي كنتُ أفكّرُ بفلسطين، أكثر عندما كنتُ في مصر، والآن أنا أفكّر بمصر أكثر..." (ص49).
هل هي محاولة هروب من واقع حاصل في فلسطين؟ الهروب الأوّل من غزة إلى رام الله.. رام الله المزيّفة أو التي زُيّفت، لدرجة أنّها فقدت من خواصّها التاريخيّة، ومن دوْرها الإنسانيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. (تلخيص وتحليل لنصّ ص189 من الرواية).
ويعود سؤال الوطن يُؤرّق قاسم، "إنّ الأوطان هي كلّ ما نألفه وما نعتاد عليه، ليست بالضرورة ما ننتمي إليه، حين تنتقل جنسيّة أهلنا لنا. الوطن هو ما تتشكّل فيه ومنه ذواتنا" (ص66). هذه رؤية انفتاحيّة غيرُ محصورة في توريث تقليديّ.
أما ثنائيّة الوطن/ المنفى فإنّها تُشكّل معاناة لقاسم، بحيث يقول: "فلسطين هي وطني الذي عشت أحلم به سنوات عمري، ومصر هي وطني الذي كوّنني وجعلني على ما أنا عليه. في مصر كانت طفولتي ومدرستي وأصدقائي، وفيها تكوّن حلم العودة إلى فلسطين. نعم، ربّما لم تكن مصر بالنسبة لي هي الوطن، ولكنّها كانت الأمّ التي احتضنتني واحتضنت حلمي، وساعدتني أن أحافظ عليه وأحققه. هل يمكن أن أسمّي مصر منفى؟ لا، هي ليست كذلك بالنسبة لي. هي أيضًا وطن، وأريدها كما أريد فلسطين، على الرغم من ضيقي بالحال والأحوال في فلسطين، وانكماش الحلم الكبير الذي كبُر فينا، من تحرير إلى إعادة انتشار، ومن حيفا والناقورة وعكا وطبريّا وبيسان ويافا والناصرة والجليل والمثلث ودالية الكرمل وغيرها من مدن فلسطين، إلى الاكتفاء بغزة وأريحا. غزة التي لا أعرف فيها أحدًا، ولا أعرفها جغرافيّا" (ص67).        وهذا هو الوصف الدقيق لحالة الفلسطيني المُنتفى في الأوطان العربيّة، بما قاله الشاعر الحبيب أحمد دحبور في زيارته لبيتي قبل ثلاثة أعوام: "وصلت حيفا، ولكنّي لم أعدْ إليها إلى الآن".
وأودُّ أن أنهي مداخلتي، مقتبسًا ما كتبه الأديب والصديق إبراهيم نصرالله على تظهيرة الرواية: "هذه شهادة لواحد من جيل شابّ عاد إلى وطنه.. حلمَ كثيرًا، وحين وصلَ لم يجد أحلامه في المكان الذي كان يجب أن يكون فيه، كما لو أنّ الأحلام أخلفت الموعد مع أصحابها".
مداخلة المحامي حسن عبّادي: بدايةً، أودّ أن أشكر عريفَ الأمسية الشاعر هاشم ذياب على مجهوده لإنجاح هذه الأمسية الثقافيّة المميّزة مع الأديب سامح خضر، وأهنّئه بمناسبة إصدار ديوانه الشعريّ الأوّل "فوضى البدايات". ونحن اليوم بصدد إشهار رواية الأديب سامح خضر "يعدو بساق واحدة"، والتي تُصوّر حالة عائد فلسطينيّ، ابن للاجئ لم يُحضّر للعودة التي حلمَ بها ليلَ نهار، ليصطدمَ بواقع جديد غير مُهيَأ لاستيعابه، ودون جاهزيّة بُنيويّة لتخفيف حدّة هذه الصدمة، فالعودة بالنسبة للاجئين الفلسطينيّين لا تقتصر على العودة للمكان فحسب، فبعد العودة للوطن، تبدأ رحلة البحث عن الهُويّة. هذا ما حاول سامح وصفه في روايته.

قاسم العائد الى غزة المُحاصرَة والسجن (الغيتو) /الاقتصاديّ/ الاجتماعيّ/ الجغرافيّ، التي تُعاني مِن التكلّس الفكريّ، وتمييزها بين فلاح ومدنيّ، بدويّ ولاجئ، مواطن وعائد، وحروباتها الدينيّة. يُحبّ نسرين و"يهرب" إلى رام الله، بدل الهجرة إلى كندا مع صديقه عبد الرحيم، ليتحطّم حلمَه في ظِلّ الانتفاضة الثانية، عند اصطدامه بالمفارقات السياسيّة والاجتماعيّة.      بعد ذهاب قاسم إلى رام الله، يتغيّر عليه المكان وتتوالى الأحداث، وأهمّ حدث هو الانتفاضة الثانية، ولم نعُد نسمع بعائلة أبو قاسم في الرواية، حتى أنّه لم يشاطرهم أفكاره، ولا يعلم عنهم الكثير. ومضت سنوات الانتفاضة دون أيّ ذكر للعائلة في غزة، أو حتى مكالمة هاتفيّة مِن وإلى والدته المصريّة، ليُشاطرَها مشاعره كمهاجرة مثله. قاسم الجامعيّ يشتغل معلمًا، عاملاً في المطاعم، بائعًا في الأسواق، وتنظيف مدخل العمارة والدرج وغيرها، تحت الخناق الاجتماعيّ والاقتصاديّ بدون أمل، لأنّ "المُفلس كما المكفوف، لا يعلم متى سينتهي ظلامه".
حلم قاسم يكشف عري رام الله التي أنتجتها أوسلو. رام الله الجميلة التي تغيّرت معالمها كثيرًا، استفزّ هذا التغيير قاسم، ليس لأنّه ضدّ التطوير، ولكن لأنّه يرى أنّ هذا التطوير لا يقوم على قاعدة الوطن والتنمية الحقيقية له، رام الله المتخَمة بالمباني والمقاهي والأبراج، وبأناس غادروا مدنهم وقراهم ومخيّماتهم، واتّجهوا صوبَها، مدينة تختنق بكلّ أصناف منظمات العمل الأهليّ، تصرفُ بغير حساب على أمور لا علاقة لها بشأن الوطن، وكوادر من أحزاب وطنيّة ويساريّة انسلخت عن أحزابها، لتفتح دكاكين تلهو بها عمّا كانت تشتغل به قبل أوسلو، وتتحوّل إلى مليشيات تحرس تلك الأبراج.
السلطة لم تبنِ بنية تحتيّة وركيزة اقتصاديّة متينة، لاستيعاب العائدين وغيرهم ممّن قدِم إلى رام الله، فمصادر دخلها الذاتيّة شحيحة، وغير كافية لتغطية حاجات المجتمع ونفقات السلطة، ممّا خلق فجوة بُنيويّة، يَجري تعبئتُها عبْرَ التمويل الدوليّ المشروط وتداعياته، وأهمّها السكوت الجماعيّ، لعدم بناء تلك البنى التحتيّة مِن قِبل سلطة أوسلو، تماشيًا مع أهداف شخصيّة وذاتيّة لهذا السكوت، ممّا أدّى إلى استيعاب المُقاتلين العائدين وخِرّيجي سجون الانتفاضة الأولى، في أجهزة الأمن التابعة للسلطة، وخِرّيجي سجون الانتفاضة الثانية حُرّاسًا للمَتاجر والأبراج الحديثة، وترك باقي شرائح المجتمع مُحتاجين!
قاسم في رواية سامح يعاني ويواجه صراعًا وتحديًا مريرًا بين  الوطن/المنفى والعائد المقيم، فهو ينتمي إلى الجيل الجديد الذي عليه أن يعاني ويناضل علّه  يحصل على جزء من تلك "الكعكة" وقد لا يحصل مما يجعله يشعر  باغتراب كبير في غزة ليتواصل هذا الاغتراب في رام الله في فترة الانتفاضة الثانية والحصار والخنق.
سامح يُصوّر بين السطور وقائع تدمي القلب، ومخازيَ سياسيّة واقتصاديّة وأخلاقيّة يَندى لها الجبين، مُحصّلتها أثرياء يزدادون ثراءً، وفقراء يزدادون فقرًا، وقضيّة تذروها رياح التغيير. حلم رام الله كان كابوسًا. نحن في زمن أصبحت الخيانة فيه وجهة نظر. ويُنهي سامح روايته برسالة إلى صديقه عبد الرحيم بوصف رحلته، فيقول: "رحلتي مثيرة، ووقت طويل استغرقني لأعلم أنني فلسطينيّ، وكأنّ هناك شيئًا ما يختلف في هُويّتنا، دون سائر الهُويّات والجنسيّات الأخرى، كأنّ هُويّات الآخرين هِبة وهُويّتنا اكتساب، ولتكتسب شيئًا، عليك أن تكون جديرًا به". هذه النهاية التي فيها الكثير من التعب في البحث عن الهُويّة والوطن كما قلت بدايةً.
كتابٌ جديرٌ بالقراءة، لأنّه يُنذر بالعاصفة قبل هبوبها، وقد أنذرتنا يا سامح إنذارًا يكفي ليهزّ كلّ شيء فينا، يكفي ليُزلزل الأرض تحت أقدامنا، وليوقظنا من سباتنا، وليفتح أعيُننا التي أغمضناها عمدًا أو جهلا على حقائق مُروّعة، لا تُنذر بعاصفة فحسب، بل بكارثة مُحققّة.
مداخلة فوز فرنسيس:  يعدو بساقٍ واحدة في حيفا؟!
حاضرٌ دائمًا في وجداننا وفِكرنا، بكلّ ما يَجول في جنباتك يا وطني، وإن آثرنا لساعات أن ندَعَكَ جانبًا، أو نُوكِلُ همّك لآخرين، لكنّ حضورك كان الأروع بين الحضور.
عشناكَ رواية مع " قاسم" و"عبد الرحيم " و "سلمـى"، وكنتَ رفيق جوْلتنا غير الاعتياديّة في مدنك وربوعك  يا وطني.
سامح خضر، لقد حاولنا أن نعدو معك عبرَ روايتك "يعدو بساقٍ واحدة"، في محاولة منّا لمتابعة رحلتك المثيرة الفريدة التي بها قمت، رحلة الحلم المنشود المُكلّل بالعودة إلى الوطن.        حاولنا أن نحيا ولو لحظات معك هناك في غزة هاشم ورام الله، وحلّقنا بخيالنا فوق مدن الوطن التي بها حلمت، وعلى ذكرها في الرواية أتيت. فرحنا للحظات فرحك الصغيرة، وآلمَنا ألمُك، وانخداش حلمك، وتبعثره أمام الحقيقة التي واجهت .
كم أنت محظوظ يا "سامح "، أحسدك لا لشيء كبير، إذ وطئت قدماك تراب الوطن من أخمص قدميه حيث غزة هاشم، وأشبعت رئتيك بنسيم بحره، ومتّعت ولو مرّة ناظريْك، بجَمال الوطن الممتدّ إلى قلبه القدس ورام الله، ليتكلّل مؤخرًا بزيارة حيفا وعكا، آملة أن تكمل رحلة الحقيقة يومًا، فتُكحّل عينيك أيضًا بسحر الجليل، فهل أروع؟!
رغم كلّ الألم الذي واجهته من شعور بالغربة وعدم الانتماء، في الوقت ذاته أحيّيك على صمودك وصبرك، وقوّة تحمّلك التي تُرجمت بالبقاء والعدول عن فكرة الهجرة، والتي حمّلـْتَـنا عِبْئَهـا وبعض ثِقلها، طول الطريق الممتدّ من بداية رحلتك في الرواية إلى نهايتها، حتّى كدنا في لحظات نيأس معك، وبِـتـنـا قيد أنملة من إعلان الانهيار والانكسار، لكنّ تبَصُّرك وإصرارك وصبرك حالوا دون ذلك، وجـعلوك تكمل المسير بخطى ثابتة واعدة، وعلى ساقين اثنتين، فطاب لنا وإيّاك المسير .
في أيّام يُعاني فيه الوطن تمزيقا وعبثًا به وبنا، جاؤوا يُعلنون معك أنّنا هنا رغم المآسي والجراح، فقد كان الوطن لساعات بدرًا مُكتمِلا، رائعًا بأبنائه الحاضرين القادمين من كلّ جهاته، مُسقِطين كلّ الحـدود الجغرافيّة والمكانيّة، ومترفّعين عن كلّ الفروق الإثنيّة والدينيّة.
تُرى، هل اشتمّوا رائحة ذلك في الرواية؟ هل اجتذبَهم ذلك الحنين لالتقاء القادم من جانب الرئة الاخرى للوطن، مُعلّقين الآمال ببسمتك الدافئة رغم ثِقل المعاناة، متشفّعين عساها تكون بلسمًا تشفي الآلام، أم أنهم جاؤوا يطمحون باكتساب درس حيّ في العزم والصمود، في زمن باتت البسمة فيه عاقرة والأمل موْؤودًا؟
سامح خضر؛ شكرًا لك على الأمسية الرائعة، كنتَ وكانت روايتك بوصلة وُجهتِنا .سأغضّ الطرفَ عن بعض ملاحظات صغيرة، ذكرت لك بعضا منها خلال لقائنا، وسأعيد التفكير بها ثانية، تاركة المجال لمن سيقرأ الرواية أن يشاطرني الرأي لاحقا، فثمّة حيّز كبير للكلام .
وأخيرًا، لا بدّ من كلمة شكر لكلّ مَن بادر لهذه الأمسية الراقية المميّزة، ولكلّ مَن ساهم وشارك في إنجاح الأمسية.
كلمة الكاتب سامح خضر: عدتُ موشومًا بالحُبّ. في الطريق إلى حيفا تتخلّصُ تدريجيًّا مِن ألوانك.. يتسلّلُ اللونُ الأبيضُ ببطءٍ داخلك، كلّما اقتربت السيّارة مِن المدينة، لتصِلَها كقطعةِ حريرٍ بيضاءَ، وتصير جاهزًا لتُطرّزَكَ المدينة على طريقتها بألوانِها، لا تتأثرُ بحرب السكاكين، ولا تُزكمُ أنفكَ رائحة العنصريّة الكريهة التي تفوحُ في الطريق إلى المدينة. ترتمي في حضنِ المدينة، بطمأنينةِ مَن يرتمي في حضن أمّهِ بعدَ غياب طويل. لحيفا طريقتها الخاصّة في إعادة المرء إلى أوّلِهِ. اُفرُكْ عينكَ جيّدًا، فعمّا قليل ستأخذك المدينة مِن يَدِكَ، لتُعيدَ تقليمَ مَفاهيمِكَ، وتُلقّمُكَ الحياةَ على طريقتِها. سيُزيّنُ اللوْنُ الأزرقُ حوافَّ عينيْكَ ككُحلٍ، تمامًا كما يُزيّنُ البحرُ جسدَ حيفا، ويُصبحُ الأخضرُ مثلَ وشمٍ مطبوع على جسدِك.
لا تشغلكَ الأمسية التي جئت لأجلِها، ولا بعنوانِها المُستمَدِّ مِن روايتك "يعدو بساق واحدة"، فلا تفكر سوى في حيفا، وما دمت هنا، لا يهمّ إن كنتَ ستعدو بساقيْن أم بساق واحدة أم ستزحف، ليُرصّعَ ترابُها ملابسَك كحبّاتِ لؤلؤ على فستان سيّدة خرجتْ للتوّ من منزلها، لتقولَ للحياة أنا هنا. تسير قفزًا مثل طفل على بساطٍ مطاطيّ في مدينة الملاهي، لترى من المدينة ما أمكن.
تسير في شوارعها بصحبة صديقيْك "فؤاد نقّارة" و"أحمد أبو طوق"، وأنت مُهيّأ تمامًا لإلقاء التحيّة على غسان كنفاني، وإميل حبيبي، وإميل توما، ومحمود درويش، وكريمة عبّود، ونجيب نصّار، ورشيد الحاج إبراهيم. تتردد أصواتهم في محيطك: هنا كنّا يا ولدي وهنا سنبقى.
تتهيأ لأمسيتك ولا تفكر حقاً فيما ستقول، فكلّ كلام في حضرة حيفا زائد.
يخذلك المشي الذي كنت بارعًا فيه، فلا تقوى على المسير. تسحبك الأرض إلى قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان، ويُحيطك أبناء المدينة بمحبّة الأهل لابنهم العائد. يمنحك الحضور ألوانًا إضافيّة تزين بها نفسك، وتذوب سريعًا بينهم.
تعود إلى رام الله وأنت تفكر في حيفا التي غافلتك، ووشمت نفسها على جسدك. وثم تنظر إليه لا لتتذكرها بل لتقرر متى سترجع إليها.


120
اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين في وقفة تضامن مع أمينه العامّ الكاتب سعيد نفّاع
جاءنا من الناطق الرسميّ لاتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين الشاعر علي هيبي:- شارك يوم أمس الأوّل الأحد وفد من أعضاء اتّحاد الكرمل في وقفة تضامن شعبيّة مع أمينه العام، قرب سجن جلبواع في منطقة المرج شرقي مدينة العفّولة، وقد مثّل الاتّحاد في هذا النشاط النضاليّ الكاتب فتحي فوراني رئيس الاتّحاد والناطق الرسميّ علي هيبي وأعضاء الأمانة العامّة والهيئات العليا الكاتب د. محمّد خليل والكاتب مفيد صيداوي والكاتب د. أسامة مصاروة والشاعرة آمال عوّاد رضوان والشاعر نزيه حسّون والكاتب هادي زاهر والكاتب أسامة ملحم، وإيمانًا منه بحقّ شعبنا في التواصل مع الشعوب العربيّة، ولاستمرار التواصل وانتشاره وتوسيعه، وكذلك استنكارًا للحكم الصادر بحقّ الكاتب والمحامي سعيد نفّاع الأمين العامّ لاتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين، بالسجن الفعليّ لمدّة سنة، والذي بدأ تنفيذه يوم الأحد، الأوّل من تشربن الثاني، وقد قام الاتّحاد من قبل بمواكبة سائر الخطوات والنشاطات النضاليّة، فقد  كرّس عدد أيلول 2015 من مجلّة "شذى الكرمل" للتضامن مع سعيد نفّاع.
وبرأس مرفوع وقامة منتصبة تقدّم نفّاع جموع المشاركين في هذه الوقفة، التي تحوّلت إلى ما يشبه المظاهرة التي تتحدّى الحكم الجائر والتنفيذ السيء له، حيث وقف السجين السياسيّ نفّاع وألقى كلمة حيّى فيها جمهور المشاركين وشكرهم على الحضور والوقوف معه قبل تسليمه لنفسه لسلطات السجن، وقد أشار نفّاع في كلمته إلى ظروف المحاكمة وملابساتها متّهمًا القضاء الإسرائيليّ بالانحياز الكامل لسياسة الحكومة اليمينيّة والمتطرفة والتي توجّه وتؤجّج العداء للعرب وتمارس أعتى أساليب التمييز ضدّهم، وعلى رأسها حقّ العرب في التواصل الإنسانيّ مع إخوانهم في البلاد العربيّة. وكذلك عبّر نفّاع عن تأكّده من استمرار التواصل كقضيّة تهمّ شعبًا كاملًا، وليست شخصيّة أو مذهبيّة، وحثّ نفّاع الوطنيّين والشرفاء من أبناء شعبنا العربيّ الفلسطينيّ على ترسيخ التواصل بين كلّ المشارب والطوائف والأحزاب وكافّة المؤسّسات والهيئات التمثيليّة، وعلى رأسها لجنة المتابعة العربيّة العليا واللجنة القطريّة للسلطات المحليّة، لأنّ التواصل هو الأرضيّة الطبيعيّة للوحدة الوطنيّة، وهي الضمان الأساس لاستمرار وجودنا وتطويره ولشحذ أدواتنا ووسائلنا النضاليّة في هذه المعركة المشروعة في وطننا الذي لا وطن لنا سواه.
وممّا يجدر ذكره أنّ وفود رسميّة وحزبيّة وشعبيّة شاركت في تلك الوقفة، برز من بينها رئيس لجنة المتابعة المنتخب السيّد محمّد بركة ورئيس القائمة المشتركة النائب أيمن عودة وأعضاء الكنيست باسل غطّاس ومسعود غنايم وعبدالله أبو معروف وعايدة سليمان وأسامة سعدي وعدد آخر من ممثّلي الأحزاب والحركات الفاعلة في الوسط العربيّ: الشيخ رائد صلاح والسيّد محمّد كناعنة، وعدد من رؤساء السلطات المحليّة الحاليّين والسابقين: السيّد رامز جرايسي والسيّد علي عاصلة.
وكذلك شارك أعضاء من اللجنة الوطنيّة للتواصل وعلى رأسهم رئيسها الشيخ عوني خنيفس، ويشار إلى أنّ هذه اللجنة بادرت ونشطت وأنجزت وواكبت كافّة الفعاليّات الكفاحيّة منذ صدور الحكم السياسيّ الجائر ضدّ التواصل الوطنيّ وضدّ سعيد نفّاع.                           

121
مِن سَناسلِ حيفا يَنبعثُ صدى الانهيار!
آمال عوّاد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا ومؤسّسة الأفق للثقافة والفنون أمسيةً ثقافيّة، لإشهار "الانهيار" للكاتب المسرحيّ عفيف شليوط، في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية في حيفا شارع الفرس 3، بتاريخ 8-10-2015، ووسط حضور من المثقفين والأدباء والأصدقاء، وقد رحب المحامي (رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافيّ) بالحضور، وتولى عرافة الأمسية الإعلاميّ وليد ياسين، وتحدّث عن "الانهيار" كلٌّ من الأدباء: حنّا أبوحنّا، نبيهة جبّارين، د: محمد صفوري، والمحامي حسن العبادي، وفي نهاية اللقاء وجّه الحضور أسئلة للكاتب، ثمّ شكر شليوط الحضور والمتحدثين والقائمين على إحياء الأمسية، ومن ثمّ تمّ توقيع الكتاب والتقاط الصور التذكاريّة!
 مداخلة وليد ياسين عريف الأمسية: عفيف شليوط عرفته قبل ما يقارب أربعة عقود من الزمن، كانت بداياته في عالم الفن المسرحي، وجمعنا بعض الكرّ والفرّ في هذا المضمار لسنوات.. لكن عجلة الزمان تدحرجت وتشعّبت، فانحاز كلُّ طرَفٍ إلى مشاغله ومسيرة حياة تفرض نفسَها، وتقودُ الإنسان إلى عالم يكون أحيانًا غيرَ عالمِه. اخترتُ الصّحافة واحترافَ النّصّ السّياسيّ، الّذي تداخلَ أيضًا هنا وهناك في النصّ الأدبيّ، أو مجال العمل الاجتماعيّ، وأمّا هو، فسعى إلى استكمال مسيرتِهِ الفنّيّةِ ككاتبٍ مسرحيٍّ ومُمثّلٍ ومُخرجٍ، وباحثٍ في عالم المسرح المَحلّيّ، وطبعًا ككاتبٍ قصصيٍّ له عالمُهُ الخاصّ.
عفيف شليوط، المُشاغبُ في كتاباتِه، أثارَ أحيانًا الجدلَ حولَ إنتاجاتِهِ الفنّيّةِ وكتاباتِهِ، في انتقادِهِ الجريءِ لظواهرَ تَعامَلَ معها غيرُهُ كأبقارٍ مُقدّسة، تخوَّفوا مِن مُلامستِها، ربّما خجَلًا أو وَجلًا مِن ردّ فِعل، لكنّهُ خاضَ معركتَهُ، ولم يَعرفْ مَعنى اليأس في تَحَدّيهِ لواقعٍ نظَرَ إليهِ بشكلٍ مختلف، ونجَحَ مِن خلالِ أعمالِهِ المَسرحيّةِ والأدبيّة، وحتى في نصوصِهِ النّاقدة، بفرْضِ نفسِهِ على السّاحةِ، وحقّقَ رسالتَهُ، لا بلْ توَّجَها بإنشاء مؤسّسةٍ لرعايةِ الفنّ والإبداع الأدبيّ، في وقتٍ غابتْ فيهِ المُؤسّساتُ الفاعلة في هذا المَجال لهذا السّبب أو لآخر.
الفنان والكاتب عفيف شليوط  من مواليد شفاعمرو، لكنّه اختارَ حيفا مَقرًّا لإقامتِه، وبهذا تستحقُّ شفاعمرو وحيفا تقاسُمَ شرفِ انتسابِهِ إلى كلٍّ منهما. اختارَ في دراستِهِ الأدبَ المُقارنَ واللّغةَ العربيّة، وكرَّسَ جُهدًا للكتابةِ الإبداعيّة. شاركَ في تمثيلِ وإخراج وتأليفِ عددٍ كبيرٍ مِنَ المَسرحيّاتِ، وأثبتَ حضورَهُ اللّافتَ، سواء على المسرح أو في عالم الإبداع الأدبيّ. ونعتزّ بأنّ أعمالَهُ وصلتْ إلى العالميّة، سواء مِن خلال مشاركاتِهِ في مهرجاناتٍ مسرحيّةٍ دوليّة، أو منتدياتٍ أدبيّة.
في أحضانِ حيفا نلتقي بهِ هذا المساء، والاسم الذي اختارَهُ لمجموعتِهِ التي نحتفي بها هنا "الانهيار"، لا يُجسّدُ المرحلة التي حققها بشكلٍ تصاعُديٍّ في إبداعِهِ الأدبيّ، كما الفنّيّ.. لكنّها مرحلة تُحتّم الوقوفَ على ضفافِها، لاستقراء ما وصَلَهُ كاتبُنا في مسيرتِه. معنا في هذه الأمسية الأديبُ والشاعرُ حنّا أبو حنّا، والناقد الدكتور محمّد صَفّوري، والشاعرة نبيهة جبّارين.
مداخلة الأديب حنّا أبوحنّا: سلسلة قصص قصيرة تدور جُلُّها حولَ محوَرٍ يتصدّرُ عنوان الكتاب "الانهيار"، ومشهد مسرحيّ قبل ذلك في كتاب "السنسلة"، يدورُ أيضًا حولَ هذا المحور؛ "في النهاية ينبعثُ صوتُ انهيارِ السنسلة، وصوتُ صرخةٍ رهيبةٍ يُطلقها السيّد". ونعودُ إلى اللغة حيث "انهار" تعني انقضّ وسقط فجأة، أي هوى وانحطّ بكلِّ ثِقلِهِ وحجمِهِ وبشدّةِ صوت، تصدّعَ وتداعى وتهاوى ووقع ضعف، إلى حدٍّ فقدَ معهُ كلَّ طاقةٍ ونشاط انهيار انكسار وهزيمة".
القصّة الأولى "الانهيار": "صاحب مصلحة" يَدعو العمّال إلى بيته في ذلك المساء، ويُصرُّ على حضور الجميع. توافدوا مساءً، وانتظروا في غرفة الاستقبال، لكنّهُ كان في غرفتِهِ طالبًا عدمَ إزعاجِهِ. هؤلاء العمّال يتصرّفون كالقطيع لا يسألُ، وينساقُ صامتًا، يقولُ لهم صاحب المصلحة: تنتظرون أن أتكلّم لتعرفوا سبب الدعوة؟ وحين يشرحُ يقولُ: كنت أقرّرُ وحدي وأنتم تتمتعون بنجاحي، دون أن تتحمّلوا نتائجَ أخطائي. كنت دائمًا الشخص القويّ الذي يُقرّر. أقفُ اليوم لأخبركم بأمرٍ خطير، صدمة ربّما لم تتوقّعوها". تصبّب العرقُ من الجميع. يقولُ: يجبُ أن يحدث تغييرٌ جذريٌّ في حياتنا. يجبُ أن تُشمّروا عن سواعدِكم وتعملوا. المصنعُ لم يعُدْ قادرًا على تأمين الحمايةِ لنا. أجهشَ بالبكاء، ولم يتجرّأ أحدٌ أن يسألَ ماذا حدث. وقف. وقفوا. دخلَ إلى غرفته دونَ أن يتكلّم، أمّا هُم فعادوا وجلسوا بصمت. لم يتكلموا. أرادوا أن لا يعرفوا.
ونعود الى القطيع: "نظراتٌ تتجوّل في أنحاء المكان، دون أن يصطدمَ بعضُها ببعض، هذه العيون أتقنت جيّدًا فنّ الهروب الأزليّ". الوحيدة التي تحاولُ أن تبادرَ إلى عملِ شيءٍ هي الابنة الصغرى. حملت صينيّة عليها ما تيسّرَ من الطعام، واتّجهتْ إلى باب غرفة الوالد، و"الجميع ينظر بصمت". أغلقت البابَ وغابت. انتظروها دون أن يُبدي أحدٌ انتظارَه، لئلّا يلحظ الآخرون. "خرجتْ والخوفُ بعينيها تتأمّلُ الحاضرين". لم يسألْها أحدٌ عمّا يحدث في الداخل.
هناك قرارٌ واحدٌ اتّخذَهُ القطيع: "قرّروا إغلاقَ الببيت. إسدال السّتائر. عدم الرد على الهاتف، وقطع كلّ اتّصالٍ مع الخارج، إلى أن يتوصّلوا إلى حلّ!". وهكذا يكون "العمل في اللاعمل"، أو الحركة في اللاحركة. وأمّا نهاية "صاحب المصلحة" فقد لبستْ ثوبَ الرّمز، فهو في الداخل يتململُ جسمُهُ، يشعرُ بالتقلّ.. يُحاولُ أن يختفي.. أصبحَ جسمُهُ بحجم كفِّ اليد. اختفى رأسُهُ، ويداهُ، ورِجلاهُ تحوّلتا كالسّلحفاة. وأتركُ النّهاية للقرّاء.
القصّة "كهنة من الثلج": المنتظرونَ على الشاطئ في حيفا يُحدّقونَ في اللّاشيء طالَ انتظارهم؟ "جلسوا.. تثاءبوا.. وقفوا.. شربوا.. عادوا.. ناموا.. استيقظوا.. ركضوا.. جاعوا.. أكلوا.. عطشوا.. شربوا ولم يخرج شيء.. أمّا أمّ عاطف العرجاء فلا تحتمل عالم اللافعل وتصيح: "ولكوا تحركوا، اعملوا اشي، الشجرة الاشي الوحيد اللي تحرك" لكن صراخها لم يُحرّك ساكنًا.
وفي قصة "لحظو عابرة": ص48: "ذاتي تقرّر أن تتمرّد علي، أن تصبح شيئًا آخر، ذاتي تبحث عن هُويّتها، تحتار أيّ الضّمائر تختار: هو هي هما هم هن أنتم أنتنّ أنت أنتما.. كلّ شيء إلّا أنا". وقع الاختيار أخيرًا على ضمير الغائب. الاختيار ليس مجرّد صدفة، والعِداء للأنا ليس مجرّد صدفة. ولنلتفت إلى هذا الحوار في القصّة "القادم الجديد إلى هنا" ص40: تسأله الفتاة الإسبانيّة: من أين أنت؟ -من فلسطين. -هل تُجيد اللغة العبرية؟ - نعم."
في هذه القصص رسالة أساسيّة في صرخة أمّ عاطف العرجا، ويكون السؤال: هل كانت نكبة 1948 مثارًا لتلك الصرخة؟ ونسأل دائمًا: كيف لا نكون قطيعًا؟ لكنّنا نسأل كيف كان موقف خالد في قصّة "الخمول"؟ وكيف كان أثر أمّه عليه، وهو الذي صمد وحارب من أجل إحداث التغيير؟ لا تسألوني ولكن اسألوا الكتاب واقرؤوهُ. ولا بدّ مِن همسة لعزيزنا عفيف: ليتك راجعت أو استعنت، لتمنع عددًا مِن هفوات اللغة، ممّا لن يكون في الطبعة الثانية.
مداخلة الاديبة نبيهة راشد جبارين: السّلام عليكم وطاب مساؤكم. عندما دُعيت للمشاركة في هذه الاْمسية، لعرض وإشهار كتاب الاستاذ عفيف شليوط (انهيار – قصص قصيرة) لم أتردّد، لأنّني أجد في قصص الاستاذ نكهة خاصّة، أشتمّ منها رائحة الفنّ، وأشاهد أثناء مروري ظلالًا وأنوارًا، وتمرّ من فوقي غيمات، تحمل زخّات من الخير، وأرى أنّ الأخ الأستاذ ينظر بعين النّسر، نظرات ثاقبة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا ودينيًّا  نظراتٍ مُحِبّةً وغيورة.
ففي مشوار تجوالي بين انهيارات الكهنة من ثلج، والبحث عن وطن، والقادم الجديد الى هنا، ولحظة عابرة، ولوحده، والخمول، والضياع. تتبع ناظراي ناظريّ الاخ الكاتب والفنان الأستاذ عفيف، ونجحت أن أصل إلى نافذة إطلالاته، فأطللت منها، وإذ بها نافذة تطلّ على الوطن، والوطن الكبير، وعلى العرب والعروبة والأصالة، وعلى الحرية والإنسانية بعين الغيرة على..، وعين المحبة، والعتاب النديّ.
قصة الانهيار: هذا العنوان الذي يوحي بالسقوط والفشل والخسارة، أرى في ذات الوقت أنه يُسقط ظلاله على معنىً في اتجاه آخر، يحمل الشّموخ، والعلوّ، والارتفاع. وما بين الشّموخ والانهيار تُذرَفُ دمعاتٌ، اعتصرَها الألمُ والحنين إلى أيّام الشموخ والارتقاء. في هذه القصّة الجميلة المؤثرة، كثيرٌ مِن الحقيقة المؤلمة التي أصبحت تسيطر على المجتمع العربيّ بشكلٍ خاصّ، أنّ قيمة المرء أصبحت بما يَحويه رصيدُهُ مِن المال، وأنّ العلاقة بين الناس، وحتى أقرب الناس أصبحت تنزلقُ في مهاوي المصالح الشخصيّة، وكأنّ الناس تخلّوْا عن إنسانيّتهم، فلا توادَّ ولا تراحُم.
الأفعال الكثيرة المتلاحقة في النصّ، صوّرت لنا الأحداث كأنّها تتراكض عكس الاتّجاه، كا نرى الأشجار بجانب الشارع تركض بعكس اتّجاه المركبة، وذلك لتصوّر لنا لحظة الانهيار، بأنها كانت سريعة ومفاجئة، ومع الانهيار المادّيّ، انهارت القيم والمبادئ والأعراف، لتتقزّم شخصيّة المدير صاحب المصنع، ثم تتحوّر الى جسم صغير غريب غير مرغوب فيه حتى في البيت، ولا أعرف لماذا اختار الكاتب شخصيّة الزوجة هي المبادرة للتخلّص من هذا الجسم الذي أصبح غريبًا، بعد أن مسخه الانهيار، انهيار في الإدارة والربح، وانهيار الصورة الذاتيّة والعلاقة الأسريّة والاجتماعيّة، فسأكون متفائلة، فربّما من مبدأ "قتل الرحمة" فعلت الزوجة ما فعلت. ومِن بين زخّات الألم والانقباض والأسف والدّهشة، تأتي جملة: "خرجَتْ والخوفُ بعينيها"، لتُذكّرَنا بأنّها ذات مرة "جلست والخوف بعينيها" في أشعار نزار، وبين الأوتار في صوت كاظم، فكانت رشقة جمال وتنفّس للقارئ.
2- كهنة من ثلج: نجح الكاتب عندما انتدبَ شخصيّة الكهنة، لأنّهم عادة يحظون بالتقديس والاحترام والإطاعة، ولا يُرجى منهم إلّا كلّ خير، بكلام آخر هم مصدر قوّة عظمى، لكنّ قدومهم من بلاد بعيدة، من وراء البحار كان حدثًا غريبًا، والأغرب أنّهم كانوا يؤدّون الصّلوات، ويقومون بقيادة الناس إلى الخلاص، بشكل حركيٍّ ميكانيكيٍّ خالٍ من الأحاسيس والمشاعر الإنسانيّة، لأنّهم كهنة من ثلج، لا يحملون رسالة، وإطاعتهم عمياء، والشخص الوحيد الذي اكتشف أمرهم اعتُبِر مجنونًا بين المُصلّين. ولكنّ المثابرة جعلته يقتربُ من الحقيقة، وأمّا الحرارة والنور السّماويّ الذي دخل النوافذ، وأذابَ الثلج عن الخديعة، أتاحَ الفرصة ليتسلّم القيادة أحد أبناء الحيّ. هنا لفتة جميلة بأن حركات الشعوب التحرّرية الناجحة هي حركات ذاتيّة، وأمّا الحرارة التي تأتي من الأعلى، فهي تلك القيم والمبادئ الإيمانيّة السّماويّة، تأتي من نفس الشعب، ولا حرارة ولا مبادئ ملائمة لأيّ قيادة يمكن أن تأتي من غير دائرة الشعب. أُعجبتُ بالأفعال المتلاحقة في النصّ، وسرعة وكثرة الحركة المرسومة فيها، ومن بينها تتسلّل رائحة الملل، والانتظار ذاك الذي عانت منه الشخصيات.
الثلج الذي يرمز إلى النقاء، يرمز في ذات الوقت إلى البرودة والجمود. أمّا الحرارة والنور المنبعث من السماء فاخترق النوافذ، لتُضاء الكنيسة بنور الشمس الغائبة عنهم زمنًا طويلًا. وهل كانت الشمس إلّا رمزًا للحرّيّة والانطلاق والحياة؟ وهل كان النّور إلّا رمزًا لمعرفة الحقّ والحقيقة؟ متى يذوب كهنة الثلج، وتُؤدَّى الصّلوات بأصوات تملؤها الحرارة والصدق والإخلاص والانتماء– حيفا، عروس الكرمل تنوبُ عن أخواتها، وتنتظر هذا النور، وهذا القدّاس والصلاة التي يقيمها، ويقودها كاهن ليس ثلجيًّا، ولم يأتِ من بلاد بعيدة من خلف البحار.
3 – البحث عن وطن: لطالما كانت الألوان مبعث فرح وسعادة وحبور، ومَن منّا لا يستهويه ويجذبُهُ قوسُ قزح بألوانه المتعدّدة الجميلة المتناسقة؟ مَن منّا لا يأسرُهُ جمالُ الحدائق الغنّاء بألوانها وأزهارها المتناثرة؟ إلّا أنّ الألوان في قصّة الأستاذ عفيف "البحث عن وطن" اختلطت، وضاعت وضاءتها في فوضى السيطرة والظهور، وجعلت بطل القصّة يحرق أوراقه وكتبه، ويحرق شوقه وحنينه إلى الماضي الجميل، أحرقها في شعلة الخلاف والأنانية التي خلطت ألوان الرايات، وجعلته شلّالًا من فوضى ألوانٍ راحتْ تجري في بحر الخلاف والأنانية. وهامَ البطلُ على وجهِهِ يبحث عن وطن، يكونُ له راية واحدة، وطن يكون للجميع وليس للجَماعات.
4 – القادم الجديد إلى هنا: لقد كان القادم الجديد إلى هناك- إلى لندن، يحمل على الأقل، ومن ضمن ما يحمل من بلاده التي هُجِّر منها وشُرِّد، كان يحمل سلاحًا، هو سلاح الاعتزاز بوطنه، بجماله وخيراته. فما أن انغمسَ ناظراه بالجَمال الطبيعيّ، والعراقة في شوارع لندن، حتى سبقته عبارته بالحسرة والشوق معلنةً: "إنّ هذا الثراء من خيرات بلادي التي استعمرتموها طويلًا". لكنّه لم يجرؤ على ترديدها، لأنها إخلال بالنظام. الاعتزاز بعروبته لا تفارقه طرفة عين، فها هو يرى الجمال، ويشتمّ العزة فيمن جذورها تنتمي إلى الأندلس-لأنهم كانوا هناك- العرب كانوا هناك، في جزيرة البطولة والعزة والكرامة. وهناك تنسّم العرب واليهود أنسام التسامح والتعايش والسلام فيما بينهم، ومن يحمل هذه الذكرى الطيّبة لا مكان له بين صُنّاع القرار، وإن طالب بالسماح بإقامة الدولة الفلسطينيّة، لن يُدعى إلى أي اجتماع بعد ذلك، إلّا أنّ الحمامة في فلسطين، لا تتوقف عن التحليق خوفًا من أحد، فهي تنشد السلام من أجل السلام، ومن أجل من يحملون الحجارة.                           
5- لحظة عابرة: السرعة هي إطار اللحظة العابرة. ولكنّ سرعة المَشاهد، وحركتها وأصواتها وألوانها وتعابير الوجوه فيها، شيء يدهشني في نص القصة. الحيرة المرسومة بالكلمات وبالضمائر تحيّرني، التساؤل: لماذا أنا غير مرغوب فيّ في وطني؟ سؤالٌ يستفزني، أمام الحواجز والتفتيش والانتظار، فهي تحتجز أنفاسي، أنا في وطني سجين، لكن الفرق فقط أنّ السجن كبير. فإذا شدّني حب الإستطلاع لمعرفة ما يدور عند الحواجز، جعلني "لحظة عابرة". فالإنسان في عمر الزمان لحظة عابرة، فما باله إن كان يعاني من الضياع وفقدان الذات، وفقدان الحرية، حرية الفكر، والتعبير والتنقّل.
اللحظة أسرع من أن يُعبَّر فيها عن موقف، أو عن تساؤل معيّن، والعِداء يُغلق كل الأبواب أمام السيارة وأمام الخطوات، وحتى أما الحروف والكلمات، فإن هي إلاّ "لحظة عابرة"، هذا ما آل اليه حال البطل في القصة، عندما تساءل قرب الحاجز.
6- لوحده: مرة أخرى يطل الكاتب الاستاذ عفيف إطلالة كاشفة كيف أصبحت الذاكرة قصيرة الأمد لا تصل حتى إلى يوم واحد (أربع وعشرين ساعة)، وان العلاقات الانسانية الحميمة أصبحت فاقدة للذاكرة، فلم يعد الزميل يذكر زميله إذا ما أدار ظهره وغاب، حتى وإن كانت الزمالة تجمعهما لسنوات طويلة، حتى وإن كان هذا الغائب يحمل كل سمات الطيبة والخير والمحبة للغير. شهد على ذلك بطل القصة الذي قضى أيّامًا وساعات ينتظر اتّصالًا هاتفيًّا، أو زيارة من زملائه دون جدوى.
أجد في القصّة لغة جميلة تدعو إلى محاربة الروتين، والانغماس في العمل على حساب الراحة الشخصيّة، التي يجب أن نقتطع لها وقتًا خاصًّا أيضًا، فالبطل في صباح اليوم الثالث، عندما قرّر أن يرتشف القهوة في حديقة بيته، أخذ ينظر مليًّا حوله وهو يرتشف القهوة، نظر إلى أزهار حديقته، فاكتشف كم هي جميلة، وكأنّه يراها للمرة الأولى في حياته. شعر بالهواء المنعش وهو يلاطف وجهه صباح ذلك اليوم، وكأنه اكتشف للمرة الأولى في حياته أنه هناك هواء في هذا الكون. استعان البطل بخياله، وطاف في أماكن كثيرة، بعيدة وقريبة ليجد من يتعامل معه بالحسنى والإنسانيّة، إلّا أنّه باءَ بالفشل، فراح يخاطب نفسه قائلًا: "لا أحد يسأل عنّي أو يهاتف، أو حتى يحاول أن يمثل عليّ أنّه مهتمٌّ بي، اِكذبوا عليّ، أنا بحاجة إلى كذبكم، قولوا إنكم قلقون عليّ، وأنا أعلم أنّه في قرارة أنفسكم تفكّرون بذات اللحظة بأمر آخر، لكن لا يهمّ، أنا موافق، أنا بحاجة حتى إلى اهتمامكم الكاذب".
كلام مؤثر جميل، وصورة صادقة للإحباط، ودعوة لنساعد ولو بكلمة كما ورد في الحديث الشريف: "الكلمةُ الطّيّبةُ صَدَقةٌ"، وعندما عاد الى المدينة وتاه في الحياة العاديّة، وجد الشارع خاليًا صامتًا ولا أحدَ يهتمُّ به أو له. أمّا الحصان الضخم فهو الموارد الضخمة التي يملكها الفرسان، أي حكام الشعوب العربيّة، وأمّا أنّ ليست لهم وجوه، أي ليست لهم مواقف ثابتة ومُشرّفة. أما حيفا فهاجسُ الكاتب ورمز لكلّ الوطن الجميل الذي ينتظر أبناءَهُ ولا يتنكر لهم.
7- الخُمول: كثيرًا ما نواجه في قرانا مثل هذين القطبيْن المذكوريْن، سلبيّ وإيجابيّ. الإيجابيّ مُحِبٌّ للخير والعطاء والتطوير، أمّا السلبيُّ فهو فضلًا عن أنّه مُخالفٌ ولا يُحبُّ الخير والعطاء، فهو أيضًا أنانيّ، وربّما سلك هذا الطريق فقط من أجل الظهور واحتلال العناوين، إلّا أنّ الجميلَ في القصّة، أنّ روح التغيير والعمل والعطاء لم يؤثر عليها كلّ أساليب الإحباط، بل انتصر الخير والإيجابيّة، وجذبت القطب السّالب مُخالِفًا لقانون الطبيعة، وقد عبّر عن انتمائه لبلده ومجتمعه بالقهوة العربيّة. وزبدة القول: "لا تنتظر من لا يكترث لطلباتك، ولا يهمّه أمرك وقتًا طويلًا، بل بادِر إلى الخير وسيتبعك الأكثريّة ".
8- الضَّياع: العنوان يقودُنا إلى ضياع وتيه لا نعرف حدودَهما المكانيّة ولا الزمانيّة. الضياعُ في العمل وفي الفراغ، الضياع في الليل وممارساته، الضياع في الداخل وفي الخارج، لأننا كرويّون، والكرة يَسْهُلُ دحرجتها في أيّ اتّجاهٍ نريد. التشبيهُ جميل، فالشعب الفلسطينيّ المُشرّد أشبه بالكرة، والجميع حوله لاعبون محترفون، يُتقنون اللعب والضرب والرّكل في ملاعب الوطن العربيّ، من العاصي حتى الفرات والنيل والخليج، ومَن أراد أن يخرج عن كرويّته ويعود إلى وضعه الطبيعي وحيّزه الحقيقيّ، لا يجد إلّا المطاردة والضرب والرّكل، والعنف بكلّ أشكاله ووسائله، ويبقى شعبنا المُشرّد وحيدًا لا أحدَ يؤازره، ويبقى جائعًا للحرّيّة والسلام والحياة الكريمة. لعلّه يأتي جيلٌ يُرمّم ما انهار، ويُعيد بناءَهُ صرحًا منيعًا للحرّيّة والسلام. وفقك الله أخي عفيف لمزيد من الإبداع والعطاء.
مداخلة د. محمّد صفّوري مجموعة "الانهيار "بين الواقعيّ والغرائبيّ:                            1. مدخل: تتّسم قصص مجموعة "الانهيار" للكاتب عفيف شليوط بسمة القصر؛ فهي قصيرة في قطعها الصّغير جدًّا، وهي قصيرة في عدد صفحاتها، إذ تقع أقصرها في ثلاث صفحات، ولا تتجاوز أطولها عشر صفحات، وهي قصيرة أيضا في عدد قصصها الّذي اقتصر على ثماني قصص فقط. واعتمادّا على نظريّة الاستقبال والتّلقّي للمفكّر الألماني(Hans Robert Jauss) "هانز  روبرت ياوس(1921- 1997) ، ومن خلال تتبّع اسم المجموعة، وأسماء القصص المثبتة في الفهرس يمكننا الإشارة إلى الإيحاء السّلبي الّذي تفرزه هذه الأسماء؛ فالقصّة الأولى "الانهيار"، والأخيرة وما قبلها "الضّياع"، و"الخمول"، وعند الرّجوع لأسماء ما تبقّى من قصص نتبيّن أنّها تشترك مع القصص المذكورة أعلاه في نفس الإيحاء، كقصّة "كهنة من ثلج"، "البحث عن وطن"، وغيرهما، وفي هذا ما يشير إلى ما يؤرّق الكاتب من قضايا وأمور يبثّها في تضاعيف قصصه، أو إلى مسؤوليّته في الإشارة لما يفسد الحياة، والدّعوة لتدارك تلك الأمور وإصلاحها.
2. مضمون القصص: تعالج جُلّ القصص قضايا اجتماعيّة وقوميّة يعاني منها المجتمع العربيّ المحلّيّ خاصّةً، يعتبرها الكاتب آفاتٍ اجتماعيّةً؛ فرديّةً كانت أو جماعيّة، ثمّ يرتقي عن المحلّيّة في بعض قصصه؛ ليعالج همومًا إنسانيّة عامّة، ويلامس في بعضها قضايا سياسيّة بصورة عرَضيّة.
2.1. الهمّ الاجتماعيّ: تصوّر قصّة "كهنة من ثلج" جمود ولا مبالاة الإنسان العربيّ بمجريات الحياة، وغياب دوره في تغيير تلك الظّروف الّتي يعاني منها، يقول الرّاوي واصفًا النّاس: "أجسام بلا حياة، لكنّها تحلم بأن تعود الحياة لتدُبَّ فيها من جديد"(19)، لكنّ الحياة لا تعود ما دام الجمود يسيطر عليهم، فيعلّقون آمالهم بالكهنة والرّهبان الّذين وصلوا بالباخرة، وتتبدّد آمالهم رغم بهجتهم بقدوم هؤلاء الكهنة، حين يشعر "سامح"  أنْ لا تعابير في وجوههم ولا مشاعر، إنّهم يؤدّون قدّاسهم كالآلات، عندها يصرخ خلال القدّاس قائلًا: "إنّهم من ثلج، كهنتنا من ثلج"(23). وعندما اخترق نور الشّمس نوافذ الكنيسة بدأ الكهنة يذوبون، واختفت أجسامهم، دون أن يبقى منهم إلّا الأثواب. وفي ذلك إشارة إلى أنّ الدّين لم يستطع أن يُخرجهم من حالة الجمود وعدم الفاعليّة؛ لأنّ الأمر لم  ينبع من داخلهم، ممّا يذكّر بالآية الكريمة: {إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم} .
في قصّة "الخمول" ينبري الكاتب لمناهضة صفة الخمول، وتثبيط عزيمة من يسعى إلى تغيير واقعه الاجتماعيّ إلى الأفضل، من خلال توظيف شخصيّتين متناقضتين؛ توفيق الملقّب "جلطة" رمز الإنسان الخامل، ومقابله خالد الّذي لا ينثني عن عزمه، حتّى يُحدث في قريته التّغيير الّذي يريد، مدعومًا بهمّة أهل قريته، الأمر الّذي وضع "جلطة" أمام الحقيقة الدامغة، وليتنازل فيما بعد عن أفكاره السّلبيّة وعدائيّته لخالد.
يبدي الراوي في قصّة "الضّياع" تذمّره من تنكّر الإنسان العربيّ لذاته، ويهاجم انغماسه في الملذّات، وسيطرة المادّة عليه، وذلك عبر تجرّد الإنسان من مسؤوليّاته الأسريّة، أو تجرّده من الأخلاق، وعزوفه عن أي مبادرة لتغيير واقعه المرير.
2.2 الهمّ الإنسانيّ: لعلّ من أكثر قصص المجموعة إثارة للقارئ قصّة "الانهيار" وقصّة "لوحده"، إذ يتطرّق فيهما لمعالجة همّ إنسانيّ عامّ، ففي قصّة "الانهيار" يتنكّر أفراد الأسرة لربّها الذي قضى عمره في إدارة مصنع له دون أن يساعده أحد، حين كان يقدّم لهم جميعا كلّ ما يحتاجون، وعندما تراجع العمل وإنتاج المصنع لم يسانده أحد من الأسرة باستثناء ابنته الصّغرى الّتي واصلت خدمته والاطمئنان عليه بعد أن حبس نفسه في غرفته ولم يخرج منها، حتّى بدأ جسمه بالنّحول والتّحوّل في النّهاية إلى سلحفاة، وامتنع عن تناول طعام ابنته الصّغرى إلى أن فارق الحياة، فأحدث بموته أزمة أسريّة جديدة؛ من سيتابع المشوار وحمل المسؤوليّة؟ ماذا سيقولون للنّاس؟ وهل سيبقى في البيت ويبقون هم مدفونين داخله؟ تُسرع الأمّ قبل خروج الناس إلى أعمالهم فجرًا، تحمله في كيس قمامة، لتقذفه في عربة النّفايات، ولا تتنفّس الصّعداء إلّا بعد أن تشاهد عمّال النّظافة يُفرغون محتوياتها، منطلقين إلى مكان آخر، عندها فتحت باب البيت ونوافذه، وسمحت بالرّدّ على الهاتف. إنّها قضيّة تعاني منها كلّ المجتمعات، بل هي قضيّة العصر، قضيّة تنكّر أقرب النّاس لربّ الأسرة الّذي قضى حياته في خدمة أبناء أسرته دون أن يلقى منهم الحضن الدّافئ الّذي قد يخفّف عنه ما ألمّ به، أو يفرّج عنه كربته.
   تبلغ قسوة النّاس ذروتها في قصّة "لوحده"، وفيها نسمع صرخة الرّاوي المدوّية نتيجة تشيّؤ النّاس وتجرّدهم من الحسّ الإنسانيّ نحو إنسان خرج إلى التّقاعد، فانفصل عن زملائه، وأضحى وحيدا في هذا العالم دون أن يبادر أحد إلى مواساته. انتظر اتّصال الأصدقاء والزّملاء دون جدوى، إنّهم تحوّلوا إلى أجهزة بلا مشاعر. سعى الرّجل إلى التّخفيف عن نفسه، معتمدًا على قواه الذّاتيّة، من خلال جلوسه في حديقته الّتي شُغل عنها، أو مشاهدة فيلم ما، أو البحث عن علاقات وصداقات جديدة، لكنّه يُصدم عندما يرى النّاس قد تحوّلوا إلى آلات دون مشاعر، فيعود إلى بيته وتسوء صحته، ويغرق في مناجاة النّاس عارضا ما كان يأمل منهم من تضامن، أو مواساة، أو اهتمام ولو كذبا، وتدوّي صرخته عالية، وهو  يركض ويصرخ في أعلى الجبل محاولا طرد ما يطارده من أفكار، ثمّ يقع على الأرض ويجهش بالبكاء، يعود بعدها بسيّارته إلى حيفا وسط ظلام دامس، ويرى نفسه محاطا بفرسان بلا وجوه من كلّ جهة، إلّا أنّه ينطلق بسيّارته متحرّرا منهم.
2.3. الهمّ القوميّ: يُفرد الكاتب بعض قصصه لمعالجة الهمّ القوميّ، فيلاحظ في قصّة "البحث عن وطن" أنّ تعدّد واختلاف النّزعات القوميّة، وعنايةَ كلِّ فئة بتحقيق مصالحها الخاصّة، وانشغال أفرادها بإشباع غرائزهم على اختلافها، يؤدّي إلى ضياع الوطن، الأمر الّذي جعل الشّخصيّة تشعر بعدم الرّاحة على مساحة القصّة كلّها، وتتأزّم حالة شعوره بعدم الرّضا وعدم الارتياح في مواقف عديدة ومختلفة، حتّى يقرّر الرّحيل عن الوطن بعد ضياعه. وفي قصّة "القادم الجديد إلى هنا" يعكس صورة لحياة الإنسان الفلسطينيّ وقد أضحت رحيلّا متواصلًا، ويبدو أنّ الفلسطينيّ ذاته كان سببًا مباشرًا في هذا المصير لانعدام فاعليّته في حلّ مشكلته، إلّا أنّ الفاعليّة الوحيدة الّتي يبديها هي اهتمامه بإشباع غريزته الجنسيّة مع فتاته الّتي لم يحسن الحفاظ عليها أيضًا، فما أن ينتهي من ممارسته الجنسيّة حتّى يصفع فتاته ويرحل إلى مكان جديد. وفي قصّة "لحظة عابرة" يؤرّق الرّاوي وضع الإنسان الفلسطيني في هذه البلاد، إذ يشعر أنّه غريب في بلاده، وأنّ حياته شقاء متواصل من المهد إلى اللّحد، بعكس سائر الشّعوب الّتي تعيش لتتمتّع في حياتها، ناهيك ما يواجه من ملاحقة السّلطة وحواجز التّفتيش، وحالة الفوضى والرّعب، وما يحدث من انفجارات، تجعل الرّجل يغادر سيّارته راكضّا بحثًا عن مخرج، فتتّجه الأنظار نحوه، ويطلقون بنادقهم، ليقع أرضًا، دون أن يفهم مِن كلّ ما جرى سوى أنّه لا شيء، إنّه لحظة عابرة.
2.4. لذعات سياسيّة: يهيمن على قصص المجموعة كما أسلفنا كلٌّ من الخطاب الاجتماعيّ، القوميّ، والإنسانيّ، لكنّ الكاتب لا يتنازل عن لذعاته السّياسيّة في بعض القصص، تارة بصورة مباشرة، وأخرى بسخرية مُرّة أو فكاهة سوداء . ففي قصّة "القادم الجديد إلى هنا" يلمس القارئ إدانةً للسياسة الإسرائيليّة، إذ تجرّد كلّ يهوديّ يؤيّد إقامة دولة فلسطينيّة من مهامه في خدمة الحركة الصّهيونيّة، كما ورد على لسان فتاة يهوديّة الأب في قولها: "والدي كان عضوًا في مجلس الحركة الصّهيونيّة في إسبانيا، وفي إحدى(الصّحيح أحد) المؤتمرات قال والدي إنّه يجب السّماح للفلسطينيين بإقامة دولتهم المستقلّة، ودون ذلك لن يتحقّق السّلام. بعدها لم يُدْعَ  والدي على الإطلاق إلى أيّ مؤتمر أو اجتماع"(41).
   يواصل توجيه النّقد المبطّن بالسّخرية للسّلطة الإسرائيليّة في قصّة "لحظة عابرة"، مبيّنًا سهولة إطلاق النّار على العربيّ دون ذنب، اللّهمّ إلّا لأنّه كان يركض بعد عمليّة تفجيريّة(52).
   وفي قصّة "الضّياع" يوجّه نقدًا ساخرًا من الزّعماء العرب، يُشعر بالكوميديا السّوداء، في أثناء حديثه عن مهارة لاعب كرة قدم، فيستطرد قائلًا: "زعماؤنا في الخليج والنّيل والفرات والعاصي يتقاذفوننا، جميعهم لاعبون ماهرون"(81).
3. جماليّات الأسلوب والتّقنيّات الفنّيّة: ترتقي قصص مجموعة "الانهيار" في مجملها إلى مستوى فنّي رفيع، تؤكّد مدى اطّلاع الكاتب على أصول الفنّ القصصيّ، وتدلّل على تمكّنه من توظيف آليّاته بصورة تنسجم وعالم القصّة القصيرة، إذ يعمد في بعض القصص إلى المزاوجة بين حالة الطّبيعة وحالة الشّخصيّة لأهداف عديدة ومتباينة، قد تكون السّخرية من موقف النّاس مقابل موقف الطّبيعة، أو ليؤكّد حالة معيّنة يرسمها بالكلمات، أو لعلّه يبغي هدفّا آخر. ومن ذلك ما ورد من وصف للطّبيعة في قصّة "الانهيار" بعد أن استسلمت الشّخصيّة للبكاء، دون أن يجرؤ أحد من  أفراد أسرته على سؤاله عمّا حصل للمصنع، أو يبدي أيّ تعاطف معه. يقول الرّاوي: "كان ذلك المساء باردا. كانت الرّيح في الخارج تتوعّد، لم يجرؤ أحد في الدّاخل أن يخرج لمواجهتها" (7). ومثل ذلك نجده في قصّة " كهنة من ثلج"، بعد أن وصف جمود النّاس  وتحرّكهم دون هدف، يصف شجرة قائلّا: "شجرة وارفة الظّلال، شامخة، تتراقص يمينا وشمالًا متناغمة مع نسمات الهواء الّتي تحاول أن تحرّك هذا الجمود"، عندها تتقدّم أم عاطف العرجة نحو الحشد صارخة: "ولكوا تحرّكوا، اعملوا إشي، الشّجرة الإشي الوحيد اللّي تحرّك"...لكنّ صراخها لم يحرّك ساكنًا"(17 – 18).
   لعلّ أبرز ما يثير في قصص المجموعة هو ظاهرة مزج الواقعيّ بالغرائبيّ، وذلك لأهداف عديدة منها؛ السّخريّة المبطّنة خلف تلك الغرائبيّة، أو لتجسيد تشيّؤ الإنسان في هذه الحياة العصريّة، وتجرّده من العواطف والمشاعر، ونحو ذلك. في قصّة "الانهيار" يظهر الرّاوي برود أفراد الأسرة نحو الأب الّذي انهار اقتصاديًّا، مشيرًا إلى تراجع مؤلم في مكانته، فيصيبه الهزال، ويتضاءل جسمه شيئًا فشيئًا حتّى يمسخ سلحفاة، ويمتنع عن الطّعام، ثمّ يفارق الحياة، ليلقى بعدها في حاوية القمامة. أمّا ما يثير اشمئزاز القارئ هو موقف الأسرة من الوالد، إذ كان كلّ ما شغلهم ماذا سيقولون للنّاس، والمعارف، والأصدقاء، ومن ثمّ كيف يتخلّصون من جثّته دون أن يثيروا شبهات الآخرين؟! وفي هذا قمّة السّخرية المرّة من نمط هذه المعاملة.
   مثل ذلك نجد في قصّة "لوحده"، وفيها يتقاعد رجل عن عمله، يتوقّع مواساة الزّملاء، المعارف، والأصدقاء، منتظرًا فترة طويلة، دون جدوى، يشاهد في مخيّلته النّاس يتحوّلون إلى آلات بلا مشاعر، عيونهم لا تعبّر عن شيء معيّن، حركاتهم روتينيّة قاتلة، حتّى هو تحوّل إلى آلة لفترة قصيرة، سرعان ما خرج منها، وعاد إلى بيته في حيفا، فيفاجأ بمجموعة فرسان بلا وجوه يستعدّون لمهاجمته، لكنّه ينطلق بسيّارته بسرعة جنونيّة غير آبه بهم، وفي هذا إلحاح على فكرة تنكّر النّاس لمثله، وتجرّدهم من المشاعر الإنسانيّة. ويتكرّر توظيف هذه الغرائبيّة في قصص أخرى كقصّة "كهنة من ثلج"، فالشّجرة هي الشّيء الوحيد الّذي تحرّك؛ احتجاجا على جمود النّاس، وقطع الأمل في خروجهم من تلك الحالة، إضافة لظهور كهنة من ثلج ذابت أجسادهم عندما اخترق النّور نوافذ الكنيسة، وفي هذا إشارة إلى أنّ الدّين لن يسعفهم ما داموا على هذه الحال، دون أن يغيّروا ما بأنفسهم.
   يوظّف الكاتب متناصّاتٍ عديدةً منسولةّ من الموروث الأدبيّ العربيّ والمحلّيّ كاستخدام قوالب تعبيريّة جاهزة ومعهودة، كقوله في قصّة "الانهيار": "خرجت والخوف بعينيها تتأمّل الحاضرين"، بذلك يستحضر مقولة نزار قبّاني في قصيدة قارئة الفنجان: "جلست والخوف بعينيها تتأمّل فنجاني المقلوب" ، أو إلحاح الكاتب في تكرار  الوصف "صمت قاتل" الّذي ظهر في مواضع عديدة من قصص المجموعة كقوله: "الأعين تراقب حركاتها بصمت قاتل"(8)، أو: "سكنت بصمت قاتل"(ص16)، أو: "يخيّم على المكان صمت قاتل"(64)، وقد يظهر  هذا التركيب في القصّة الواحدة أكثر من مرّة، مع بعض التحوير أحيانًا، الأمر الذي يذكّر بمجموعة الكاتب الأولى "الصّمت القاتل " ، ويظهر مدى تعلّقه وتأثّره بها، أو لعلّ له هدفًا آخر  لا نعلمه! وكذلك قوله واصفًا عودة الشّخصيّة إلى بيتها: "إنّه عائد إلى حيفا"(64)، فيذكّرنا برواية غسّان كنفاني "عائد إلى حيفا" . لكن لا تأتي كلّ المتناصّات مباشرة، إنّما تُفهم باللّمح والإشارة مثل وصف الرّاوي حالة النّاس، وقد تجرّدوا من مشاعرهم، بالآلات، دون أن يُظهروا أيّ تعاطف مع الشّخصيّة، ممّا يستحضر في ذهن القارئ قصيدة "مقتل صبيّ" لأحمد عبد المعطي حجازي وقوله: "النّاس في المدائن الكبرى عدد" ، وفي حالات أخرى تتناصّ قصّته من حيث مضمونها وموضوعها مع قصّة أخرى، كقصّة "لوحده" التي تعيدنا إلى قصّة رياض بيدس "عمر الشّقي بقي" من مجموعة الرّيح (1987)، وفيها يتناول نفس القضيّة والحالة تقريبًا.
   تتعدّد التّقنيّات الفنّيّة الموظّفة في قصص المجموعة وتختلف، ومن ذلك استخدام تقنيّة الإرجاء والتّأجيل، وهي ما نشهدها في قصّة "الانهيار"، إذ تمتدّ القصّة لمساحة طويلة نسبيًّا دون أن يعرف القارئ، أو شخصيّات القصّة ما سبب تلك الدّعوة التي وصلت كلًّا منهم، وبذلك تتيح القصّة للقارئ فرصة المشاركة في إنتاج النّصّ، فيدخل في دائرة التّخمينات والتّوقّعات ويجتهد في متابعة القصّة إلى نهايتها، وهذا ما أشار إليه المفكّر الألمانيّ  (Wolfgang  Iser) ولفجانج آيزر(1926 – 2007)، صاحب نظريّة الاستجابة والتّأثير الّذي يرى في النصّ الأدبيّ فرصة لاشتراك كلٍّ من المبدع والقارئ في لعبة الخيال .
   تظهر تقنيّة التّكرار عنصرًا بارزا في بعض قصص المجموعة ليس للتأكيد فقط، إنّما تعبيرًا عمّا في نفس الكاتب من إلحاح على فكرة ما، ترافق القارئ على مساحة القصّة كلّها، ممّا يزيد في دراميّة الحدث وتعظيم الأثر في نفس القارئ . ففي قصّة "البحث عن وطن" مثلًا تتكرّر جملة فعليّة يتغيّر فعلها متبوعا بالتّركيب "دون أن يرتاح"، أو ما يعادل ذلك، كقول الرّاوي: "خرج دون أن يرتاح، غادر المكان دون أن يرتاح، لكنّه لم يشعر بالرّاحة، ولم يشعر بالرّاحة، وعندما خرج هذه المرّة شعر بالضّيق"(30 – 32)، الأمر الّذي يصوّر قلق الشّخصيّة وعدم راحتها للظروف التي يعيشها وشعبَه.
   يلجأ الكاتب في حالات أخرى لتوظيف تقنيّة الاسترجاع، وهي تقنيّة تعمل على إيقاف الحدث؛ لاستكمال ما فات الرّاوي ذكرُه، وتخفّف أيضًا من رتابة السّرد ونحو ذلك. ففي قصّة "لوحده" عندما يشعر الرجل بالفراغ، بعد تقاعده، يلجأ لمشاهدة فيلم تاريخيّ "ويستحضر الأحداث والشّخصيّاتِ من جديد، أشخاص رحلوا عنّا منذ مئات السّنين، لكنّهم لا يزالون يعيشون في ذاكرتنا، وموثّقون في كتبنا"(59). وبذلك يوظّف الكاتب تقنيّة الاسترجاع للتّخفيف عن متاعب الرّجل من خلال استحضار الماضي الجميل.
   لا يتنازل عفيف عن توظيف السّخرية والفكاهة السّوداء في كثير من قصصه، كما أشرنا أعلاه، ونلتقي بها في عدد من قصص المجموعة، ففي قصّة "كهنة من ثلج" يصف الرّاوي جمودَ النّاس وعدمَ اهتمامهم بإحداثِ أيّ تغيير في حياتهم، فيقول بعد انتهاء القدّاس الاحتفاليّ وعودتِهم إلى بيوتهم: "وعاد النّاس إلى أوكارهم"(20)، استهزاءً بهروبهم من مواجهة الحياة، وسخريةً من حالة الجمود الّتي تسيطر عليهم. وكذلك في قصّة "الضّياع" إذ يقول: "الشّوارع خالية من المواطنين الّذين يجوبون الطّرقات كالنّمل، نملة تشتري، نملة تبيع، أخرى تبحث عن عمل، وأخريات يبحثن عن عمل أفضل"(81)، هكذا يمسخ النّاس نملًا حينما يواصلون العيش في حالة الضّياع.
يزاوج الكاتب في قصص معيّنة بين السّرد والحوار، فيزجّ ببعض المقاطع الحواريّة للتخفيف من رتابة السّرد، أو  لأنّه يرى أحيانًا في الحوار أداة توصيل أنجع، تتيح للقارئ التّفاعل مع النصّ بصورة أكبر، كقصّة "القادم الجديد إلى هنا"، وقصّة "الخمول" على سبيل المثال.
تجدر الملاحظة أنّ قصص المجموعة لا ترتقي لنفس المستوى الفنّيّ، إذ يأتي بعضها تقريريًّا، يُعرض فيها الحدث والشّخصيّات بصورة مباشرة، دون أن تُبقي مجالًا  لدَوْر القارئ، كقصّة "الخمول"، على سبيل المثال، فهي لا تُصوّر الحدث أمام القارئ، بل تخبره بما يحدث، على نقيض ما يُفهم ممّا دعا إليه الكاتب الأمريكيّ(Henry James 1843 – 1916) هنري جيمس، أنّ على الكاتب ألّا يقولَ لنا ماذا يحدث، بل أن يدعَه يحدث أمامنا، وهو ما سمّاه "Showing Not Telling"، ومع هذا فالقصّة تجانب الفنّيّة، في قسمها الأخير بفضل تقنيّة الحوار الموظّفة فيها.
 وتبقى لنا همسة عتاب نوجّهها للأخ والصّديق عفيف شليوط تشي بضرورة تنقيحِ قصصه وعدمِ التّسرّعِ في نشرها؛ لما في القصص من أخطاءٍ نحْويةٍ، نعي تمامًا، قدرتَه على تخطّيها، منذ نعومة أظفاره كما نعهده، حتّى يأتيَ العملُ متكاملًا، لا عيب فيه. لكن مهما يكن من أمر هذه الهفوات، فقد جاءت المجموعة سريّةً بكلّ ما فيها؛ هي سريّةٌ بما ينبضُ فيها من حياة، سريّةٌ بموضوعاتها، وسريّةٌ بآليّاتها وتقنيّاتها وجماليّاتِها الأسلوبيّةِ. نحيي عفيف على هذا الجهد العظيم راجين له مزيدا من الإنتاج والعطاء.
مداخلة المحامي حسن عابدي: مساء الخير باسمي وباسم المجلس الملي الأرثوذكسي الوطنيّ في حيفا ونادي حيفا الثقافيّ نرحّب بكم، وأهلًا وسهلًا للمشاركة في هذه الأمسية الثقافيّة مع الأديب عفيف شليوط، وإشهار مجموعته القصصيّة "الانهيار". تأسّس نادي حيفا الثقافي قبل حوالي خمسة أعوام، برعاية المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، بتركيز زميلي وأخي المحامي فؤاد نقارة. بدأت الفكرة لمنتدى ثقافيّ لقراءة كتاب في الشهر، بعرافة الأديب الأستاذ فتحي فوراني، فقمنا حتى اليوم بقراءة ما يقارب الخمسين كتابًا، وتطوّرت لعقد أمسيات ثقافيّة لإشهار كتاب بحضور الكاتب، وأقمنا عشرات الأمسيات، وكذلك أمسيات تكريم أديب، وأقمنا العشرات منها، ومن ثمّ  إحياء منبر للشعر-  ألا وهو سوق عكاظ الحيفاوي، ليكون منبرًا شعريًّا ومنصّة لشعرائنا، وسيُعقد اللقاء الثاني  يوم الخميس  29 تشرين الأوّل من هذا العام .
ما يجمعنا هو حب الأدب من وجهة نظر القارئ، فأنا أعترف بأنّي لست بناقد بالمعايير التي  تكلم عنها معلمي الأستاذ أبو الأمين، والدكتور محمّد صفوري، ولست بشاعر كنبيهة جبارين، وإنّما وجهتي هي : العمل الأدبي بمنظار القارئ العاديّ، وأنا هنا أُمَثل ذلك القارئ.
مشكلة معظمنا هي أننا نفضل أن يقتلنا المدح، على أن ينقذنا النقد (كما قال نورمان بيل)، وحبّذا لو أفاقت نخبة ناقدينا بدلًا عن مادحينا، لتنهض وتعلو بكُتّابنا عاليًا. وقد قرأت كتاب عفيف بساعتين، وهذا دليل على أن خواطره الأدبية (8 خواطر/ أو قصص قصيرة كما يحلو له تسميتها)، شدّتني وشوّقتني لطريقة عرضها وموضوعها، ولكن أزعجتني بعض الأخطاء النحويّة واللغويّة و الإملائيّة ممّا ظلم عفيف، وأنا كما اعترفت في البداية لست بناقد، ولا أصبو إلى أن أكون، وهنا ألقي اللوم على الناشر المستخف بالقارئ  والظالم للأديب، حتى أنه أخطأ بضادنا (مدرجة بالدماء ص 50)، ورغم ذلك شطحت وعفيف عبر "الخمول" التي نشرت عام 1980، لأضيع مع قصّة "الضياع" التي نشرت عام 1981، على بساط خواطره القصصيّة  ورؤيته لحالنا- عرب الداخل-  في "البحث عن وطن" التي نُشرت عام 1998، وانهيار الحلم في خاطرة "الانهيار" التي نشرت عام 2000، عبر حلم الهجرة "القادم الجديد إلى هنا" التي نشرت عام 2014، لأتوحّد وإيّاه في قصّة "لوحده" التي نشرت عام 2014 .
عنون عفيف إصداره بـ "قصص قصيرة"، وأنا أراها مجموعة خواطر، وهذا النوع من الأدب يُعرف بأدب القطارات، حيث تقرأ الكتاب وتتركه في سلة القطار، ليقرأه راكب آخر من بعدك: فالقصّة القصيرة تدور عادة حول موضوع عام، وتصوّر الشخصيّة وتكشف عن صراعها مع الشّخصيات الأخرى. تركّز على شخصيّة واحدة، وتُبرزها في موقف واحد في لحظة واحدة. وحتى إذا لم تتحقّق هذه الشروط، فلا بدّ أن تكون الوحدة هي المبدأ الموجّه لها. القصّة القصيرة تعتبر فنًّا يتميّز بطريقة سرد الأحداث والأعمال، بأسلوب لغويّ ينتهي إلى غرض مقصود، عمل أدبيّ يقوم به فردٌ واحد، ويتناول فيها جانبًا من جوانب الحياة، فالقصّة القصيرة تدخل في دائرة الأدب "الّلا معقول"، فهي نوع من العبث الفكريّ.
وأخيرًا، أعتب على عفيف (والعتب على قد العشم)، ووقوعه بفخ النمطيه في تصويره للمرأة الشرقيه (المرأة انشغلت بالطهي وتحضير الحلويات وتزيين الكنيسة، بينما انهمك الرجل بالتحضير للاحتفال، جهّزوا الطبول والزمور "كهنة من ثلج" (ص20): (مسمعتش يا عفيف عن فرق الكشافه المختلطة، ولا عن مصففي الورود ومزيني القاعات؟ ولا عن الطباخين؟ والحلونجيه ؟؟) وكذلك الأمر في تصويره للرجل الشرقي العنيف ضد المرأه (صفعها بشدّة، تألمت، شتمته وغادرت المكان) "القادم الجديد الى هنا" (ص43).
وملاحظة أخيرة: كمان الرجل الغربي يبيع خضاره وفاكهته ونبيذه على حافة الشارع، ولا يعتبر ذلك تسوُّلًا "لحظة عابرة" (ص49).

122
توقيع كتاب ناي الروح للشاعر نزيه حسون
آمال عواد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافي والمجلس المِلّي الأرثوذكسي الوطني- حيفا، ومؤسسة الأفق للثقافة والفنون حيفا،  أمسية ثقافيّة للشاعر نزيه خسون وإشهار ديوانه "ناي الروح"، وذلك بتاريخ 1-10-2015، في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية/ شارع الفرس 3 حيفا، وسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأصدقاء وأقارب، وقد تولى عرافة الأمسية فردوس حبيب الله، وتحدث كل من الأدباء: د. راوية بربارة، د. بطرس دلة، عفيف شليوط، تركي عامر، والزجّاليْن نجيب سجيم ووائل أيوب، وفي نهاية الأمسية شكر حسون الحضور وتم التقاط الصور التذكارية. 
كلمة عريفة الحفل فردوس حبيب الله: مساؤكم خير وشعر. مساؤكم لغة معطرة برذاذ الحنين إلى الذات. من صميم المسؤولية الوطنيّة والحرص الأدبيّ للحفاظ على لغتنا وعلى سماتها، أشكر السيّد فؤاد نقارة وزوجته السيدة سوزي نقارة، على مساهمتهما في رسم اللوحة الأدبيّة بأبهى ألوانها وأرقى مضامينها، خاصّة في زمن بخل علينا حتى في لقمة العيش، فليست تقام وتنظم مثل هذه الأمسيات بمستواها المعهود، إلّا بإصرار وعزيمة وانتماء كالذي يملكان. وقد قيل: إنْ سُمّي الشاعر شاعرًا، لأنّه يشعر بما لا يشعر به غيره. فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ أو ابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازا وليس حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن. ومَن منا لم يقرأ في شعر نزيه حسون ولادة وابتداعًا، زيادة عند اللزوم وتنقيص في غير اللزوم؟ مَن منا لم يقرأ فيه صورًا شعريّة لم يقرأها من قبل؟ فقد قال في إحدى قصائده: لملمي طفولتك المنثورة/ بين أناملي/ وأخبريني/ كيف صار النيل نهرًا من نبيذ / كيف أغرقنا/ بوحي/ وحنين/ وحبقْ
يقول حسان ابن ثابت "متحدثا عن نزيه حسون": والشعر لبُّ لسان المرء يعرضهُ/ على المجالس أن كيسا وإن حمقا/ وإن أشعر بيت أنت قائلهُ/ بيت يقال إذا أنشدته صدقا
أعزائي : إذا أردتم أن تتعرفوا على شاعر، فاحذروا أن تقرؤوا عنه بل فاقرؤوه. فلقائي بالشاعر نزيه حسون كان قصيدة، أثارت مكامن الفكر المتأجج داخلي، وانسابت كخيوط شمس دافئة في أمواج الروح. قرأتها مرات ومرات، وكل مرة كنت أقرأها كنت أكتشف جوانبا جديدة في شخص الشاعر. تقول القصيدة: وردتُ البحرَ علّ البحر يـَحضُنني/ وعلَّ الموج جُرْحَ القلبَ يُنسيني/ فصار البحر للأعماق يسرقني/ وهب الموج صوب الشطِّ يُلقيني/ كما الاحزان عند الصبح تؤلمني/ وعند العصر تحرقني وتكويني/ الى شهناز بات الشوق يسكُنَني/ انا المسكون بالهمِّ الفلسطيني/ ايا شهناز لم يبق/ سوى عينيك لي وطنا/ فضميني إلى عينيكِ ضميني/ ولا تدعي لهيب العشق يلفحني/ ولا تدعي دماء الوجد/ تنزف من شراييني/ وعودي الآن صوب القلب عاشقةً/ فإن لم تأتي يا قدري/ ستحملني رياح الشوق في شغفٍ/ وفي شيراز قرب ثراك تُلقيني
لقد أصبح شعر نزيه حسون مسطرة يقاس بدقتها سواء الشعر، حلاوته، صدقه وبلاغته. وإلا فكيف لقلمه أن يبحر في جميع بحور الشعر بحرفية وبجمالية وفن وإبداع؟ له عدة مؤلفات، ميلادها في رحم المأساة. فغاص وغاص وبدأ في البحث عن النصر في جسد يلد النصر. وألحقها بعزفه على أوتار سمفونية الحزن المسافر وأنشد مزاميرا من سورة العشق ليكتب قصيدة اخذت ملامح محبوبته. بحث عن وطنه في وطنه وهمَّ بالتحليق في عشق على سفر، ثم تلا على مسامعنا ما تيسر من عشق على سفر واشتعل بلحظة عشق ليلد الفكرُ لآلئا براقة تنير شعلةَ الوجود فينا ليأتي بنا هنا نترنم على ألحان عزفه على ناي الروح.
ناي الروح شعرا هو عريس هذا الاحتفال. ديوان شعر آخر للشاعر نزيه حسون من إصدار مؤسسة الأفق للثقافة والفنون لصاحبها الكاتب والمسرحي عفيف شليوط. فهنيئا لك أبا العلاء بهذا الاحتفال وهنيئا لنا بهذا الإصدار. ولك أقول: الصدق صديقي ودليلي/ قول مهجورْ/ في زمنٍ أصبح سيده / كلب مسعورْ/ في زمن خان الحبُّ ملامحَ قصته الحبلى/ نورا وزهورْ/ في زمن صار الشعرُ كلاما مصفوفا وكسورْ/ قد جئتَ لتنقذ مركبتي / من غضب الموج ومن غرقٍ/ من بحر الجهل وأرضٍ بور/ لم أقصد يوما معجمك العربي وكان قصورْ/ بل زِدتَ وزدتَ فكان النصحُ/ حروفَ عبورْ/ يا قلما حرا غرسَ الشعر بذوراً / تترجمُ في رحم التاريخ سطورْ/ لا يخلو شعرك من وجعٍ/ للأرض وللوطن المقهورْ/ هل يفنى شعرك من كتبٍ/ من أدبٍ يتجلى في النورْ/ فالشعرُ وأنتَ وسحركما/ حسونٌ يُطرِبُهُ شحرورْ
جاء في كلمة راوية بربارة: تحية خريفيّة تعبق برائحة التراب الأيلوليّ المغادر، وفوح التشارين القادمة المعبّأة بالحفيف الخفيف، كما تهاجر الطيور لتعودَ ثانيةً، ها أنا ثانيةً أعود لأتحدّث عن شعر نزيه حسّون، لكنّها ستكون مختلفة لأسباب عدّة، فإذا ما بدأت بنفسي أقول: تجربتي تغيّرت، تطوّرت، صقلَت مفاهيم جديدة وأصبحت أكثر جرأة على اجتراح النقد.
وأقول: أصبحتِ القراءة اليوم مقارنة، أقارنها مع ما كان لنزيه سابقًا، وهذه المقارنة تضع الكلمة تحتَ مِجهر النقد المقارِن في محاولةٍ لترجيح إحدى كفّتي الميزان. وأقول: تجربة نزيه حسّون اختلفت، وسآتي على ما اختلف فيها في كلمتي هذه عن "ناي الروح". الناي في موروثنا الحضاريّ عزفٌ حزين وبوح الشّجَن، والحزن موتيف متكرّر في الديوان، بل هو الموتيف المركزيّ في كلّ قصائد العشق، كأنّي بالشاعر يردّد مع سابقِه: إنّ الهوان هو الهوى نقص اسمه/ فإذا هويت فقد لقيتَ هوانا
والناي ناي الروح، روح الشّاعر نزيه تعزف لحنَ الشّجن حين قال ص. 27: "في عصرٍ أمسى فيه القتل مباح/ وصهيل الدم يطاردني/ ينزف قلبي في كلّ اللحظات/ بدون جراح"
يدمج نزيه أحزانه المختلفة؛ من الهمّ الجماعيّ إلى الشّخصيّ، من الدوائر الكبيرة اجتماعيًّا ووطنيًّا إلى دوائر الأنا التي يكتنفها العشق وتبلّلها الدموع ص. 7: "ما لي يترجمني المساء قصيدة/ والروح تغرق بالأسى/ إنْ جاء يشعل مهجتي/ شجن الغروب/ هذي شغاف القلب أم بحرٌ أنا؟/ والموج يمضي من دمي/ والموجة دون إرادتي/ نحوي يؤوب"
هذه زمكنيّة ظاهرة في البيتين السابقيْن وفي أغلب القصائد، المساء بغروبه يُغرق الشاعر بالحنين، والشاطئ يبعث النوستالجيا لتحرّك أنينَ المشاعرِ الراكدة، والشاطئ هو حيفا التي يتماهى معها، فيُصبح الشاعرُ بحرَها ويُسقِط كالرومانسيين ما في نفسيّته على معالمها وموجوداتها لتصبح حيفا حزينة خريفيّة مثله تمامًا: "هل غادر الشّعراء من وجع القصيدة/ صوبَ وجهي/ ليرون حيفا في عيوني/ ترتدي شجن الخريف".
حيفا هي الطلل الذي يبكيه نزيه، ويقف عنده ويستوقف، متّكئًا على عنترة بن شدّاد في مطلع معلّقته الطلليّ: "هل غادر الشّعراء من متردّم   أم هل عرفتَ الدار بعد توهُمِ؟" وهو يتّفق مع عنترة في أمريْن؛ أوّلهما المعاني التي كتبها السابقون ولم يتركوا للشاعر ما يصوغ من بدايات الطلل، وثانيهما عشق عنتر لعبلة، وعشق نزيه لحيفا..لذلك يراها الشعراء من عينيه إذا ما صوّبوا نظرهم صوبَ وجهه..وهو يسمّي حيفا ربّةَ الإلهام: "سمّيتُ حيفا ربّة الإلهام/ إلهام الهوى/ ونبيّةَ الوحي التي أوحتْ لهذي الروح/ أن تنثال عند البحر مزمورًا/ يذوّب مهجتي حدّ النزيف"
وتتداخل الأسماء كما تتداخل الأماكن، كما تنثال الذكريات...لتصبح ربّة الإلهام إلهامَ المعشوقة، المرأة الحبيبة: "إلهام يا إلهام/ هذي الروح فتّتها الجوى/ وأحالها نهرًا من الشوق/ المعتّق والعنيف"
والنهر مصبّه البحر، ونهر الشوق المعتّق كالنبيذ، العنيف من شِدّةِ عصْفِهِ، يصبّ في بحر الهوى، وفي بحر حيفا، وفي ذات الشاعر. ومرّةً ثانيةً يتّكئ نزيه على التناصّ مع ميسون بنت بحدل زوجة معاوية بن سفيان ووالدة يزيد التي حنّت لأهلها في البادية فقالت أبياتها المعروفة: لبيتٌ تخفق الأرياح فيه/ أحبّ إليّ من قصرٍ منيفِ/ ولبسُ عباءةٍ وتقرّ عيني/ أحبّ إليّ من لبس الشّفوفِ
أمّا نزيه فيقول: ولَصخرةٌ بيضاءُ يا إلهامُ/ عند الشّطّ في حيفا التي/ كانت تهدهد روحَنا/ لأحبّ عند القلب..عند الروحِ/ من قصرٍ منيف"
ولو بقينا في الاتّكاءات التناصيّة وعرّضنا على قصيدة "مدح الرسول" نجد "كعب بن زهير" حاضرًا: "أُنبئتُ أنّ رسولَ اللهِ أوعدني/ والعفو عند رسول الله مأمول". ونزيه قال: " هذي القصائد بالخشوع توشّحتْ  فلعلّي أحرز عفوَكَ المأمولا".
وكعب شبّه الرسول بالنور، نور الهداية والسيف المسلول: " إنّ الرسول لنورٌ يستضاء به/ مهنّدٌ من سيوف الله مسلول". ونزيه قال: "أنتَ الدليل لمن أرادَ هدايةً/ والسيف أنتَ لمن أراد بديلا".
وهنا ما أخشاه عليك يا نزيه، فعندما نتّكئ على التناصّ في الأدب، نحن نعترف ضمنًا بقصور حاضرنا عن إيصال مبتغاه، فنلجأ للماضي سندًا وعكّازًا وتراثًا وتواصلًا نفاخر فيه. لكن، إذا اقتربنا من فحول الشعراء ككعب بن زهير بن أبي سلمى علينا أن نحاذرَ، فهذا التناصّ نوعٌ من المعارضات الشعريّة، خاصّةً وأنّها لامية، كلامية كعب، وللقصيدتيْن نفس الموضوع (مدح الرسول)، فإذا ما تجرّأتَ واقتربتَ عليكَ أن تتفوّقَ على سابقكَ، وأنتَ في لاميتكَ تكلّفتَ الصنعة لا الطبع، لأنّك نظمتَ نظمًا..ولم تترك المعاني تنساب على سجيّتها...لأنّك خطّطتَ أن يكونَ عدد الأبيات بعدد سني الرسول التي عاشها، لأنّك التجأتَ إلى: "أيّها المبعوث فينا/ جئتَ شرّفتَ المدينة"...
كنتُ أريدها قصيدة "طبع" لا تُعملُ فيها مِشرَط الآخرين فتجرحها، ولا تُعمِلُ فيها التشطير فتأخذ شطرًا من رثاء الزهراء لوالدها ومطلعه: "قل للمغيّب تحت أطباق الثرى"
وتضيف إليه شطرًا من عندك، فالتشطير مشروطٌ بأن لا يكونَ في تركيبه كلفةٌ ولا حشوٌ، بل أن يزيدَ الأصلَ جلاءً ومعنًى لطيفًا. فكيفَ يا نزيه دمجتَ الاعتذار للرسول، برثائه وبمدحِهِ؟  لماذا اتّكأتَ على التناصّ لتعارضَ فحول الشّعراء؟ لماذا ذهبتَ بنا إلى عصر الصنعة الشعريّة، والتشطير والتخميس، ونحن نحلّق صوبَ ما بعد الحداثة في أدبنا وشعرنا، ونبحث عن المعاني المنسابة الرقراقة المغرّدة دون كلفة؟!
تبقى الكلمة ملكك ما لم تنشرها، فإذا ما نشرتَها أصبَحَتْ مِلكَ الناس والقرّاء، وأصبَحَتْ شهادةً في حقّكَ، والشّاعر المرهف نزيه، عمر بن أبي ربيعة الفلسطينيّ، كان عليه أن يتروّى، لأنّ القصائد نقيض النبيذ، ألم تكن عجيبة السيّد المسيح تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا؟ وماذا قال له رئيس الكهنة: "كلّ امرئ يقدّم الخمرة الجيّدة أوّلًا، فإذا سكر الناسُ، قدَّمَ ما كان دونها في الجودةِ، أمّا أنتَ فحفظتَ الخمرةَ الجيّدة إلى الآن". أمّا القصائد فعلى العكس تمامًا، عليكَ أن تعتّقها وتقدّمَ الأجودَ والأفضلَ مرّةً بعد مرّة، لأنّ القارئ النشوانَ لن يسامحك إذا أغفلتَ هذه الحقيقة.
لو قارنّا نزيه الآنيّ بنزيه في دواوينه السابقة لوجدناه يعيش على الحنين والأنين والنوستالجيا والتأمّل والدراسة والصنعة، ونحن عهدناه سنونوًا محلّقًا منسابًا يبني أعشاش قصائده في حنايا القلوب. جئتُ لأستفزّكَ لأنّك قادرٌ، ولأنّني أؤمن بموهبتك الفذّة وبشاعريّتك وشعريّتك، أقول لك: فلتأسرنا الصورة الشعريّة المبتكَرة لتحلّقَ حسّونًا مغرّدًا تعزف لنا على ناي الروح جميلَ قصيدَك. نريد من الشّعر أعذبَه، ونريد من الشّعر أكذبه، ونريد من حسّوننا أن يبقى محلّقًا في سماء الشّعر الفلسطينيّ، مغرّدًا خارج السرب العاديّ، له بصمته الخاصّة وإرثه الغزليّ الذي نتغنّى به، اتركْ أحزانَكَ وأنشدنا غزليّاتكَ تعزفها على ناي الروح لتطربَ قلوبُنا. دمتَ مرهفًا، حسّاسًا، شاعرًا حسّونًا.
الأديب فتحي فوراني/ إنذار بلهجة رضوانيّة: قبل شهر تقريبًا، اتصل بي صديقي ورفيق دربي الشاعر نزيه حسون وقال: لن تتهرّبَ مني. أريدك أن تشارك في الأمسية الثقافية. حاولت أن أتهرب وأتذرع بالمعاذير الصادقة بسبب انشغالاتي الكثيرة، غير أن  جميع محاولاتي باءت بالفشل الذريع. فرفعت الراية البيضاء وقلت في سري: إنه البد الذي ليس منه بد وأمري لله. وبعد أن أسلمت أمري لله، جاء دور الإنذار الكلاسيكي الذي وضعتْ أُسسَهُ الشاعرة آمال عواد رضوان، (رضوان الله عليها!)، محذرًا وبلهجة صارمة: لا أريد لكلمتك أن تتجاوز الخط الأحمر؛ ثماني دقائق فقط لا غير. فوعدته خيرًا وغرشت، وقلت له سوف أبحبحها قليلا، وسوف أتجاوز الخط الأحمر، وأكرم عليك بدقائق معدودة، فأنا كريم وأنت جدير بالكرم.
أبى نزيه أن يكون نزيهًا! إذ طلبت من نزيه أن يزودني بمعلومات أساسية عن سيرته الذاتية، لا تتجاوز الصفحة. فبعث لي بكمّ من المقالات عن إبداعاته وما كتب عنها. لقد أمطرت السماء وابلًا من العطاء الحاتمي، وانهمرت على شرفتي عشرات المقالات النقدية، وبدلا من الصفحة التي طلبتها، غمرني بطوفان بلغت قوته حوالي مائة صفحة فقط لا غير، وقال لي: هذا غيض من فيض! ومرة أخرى أبى نزيه أن يكون نزيهًا، فقد راح يهتّ عليّ بسيف العزّ، وينذرني أن لا تتجاوز كلمتي الدقائق الثماني، وهي مهمة لعمري شبه مستحيلة، لكني سأحاول، ولن أكلف نفسي إلا وسعها!
الإحاطة في أخبار غرناطة من الأمور المستحيلة. والإحاطة في إبداعات صديقنا نزيه تحتاج إلى دراسة عميقة متأنية وشاملة لا يتسع لها الفضاء الزمني المعطى. فكيف لي أن أحشر البحر الكبير في قارورة صغيرة؟ لن  آكل خبز الآخرين، فأترك للأصدقاء على المنصة مهمة إدخال النص الشعريّ إلى غرفة التشريح، وإمال المبضع النقدي للتحليل والغوص في أعماق البحار الحسونية. لم يبق لي والحال هذه، إلا أن ألجأ إلى أسلوب البرقيات، فتعالوا معي نركب البحر ونطلق البرقيات السريعة سهلة الهضم، تعالوا معي نركب البحر، ونطلق البرقيات، وهي مقتطفات من شهادات لكتاب ونقاد أحترمهم وأجلهم.
*برقية أولى لجميل السلحوت: الشاعر ساخط على أنظمة الطغيان والخنوع التي فرطت بالأوطان وبالشعوب، ومارست الفساد والخيانة وقتل الشعوب، وتذيلت للأعداء. الشاعر مشتعل بعشقة لوطنه فلسطين، ولشعبه الفلسطينيّ، ولوطنه العربي الكبير ولأمّته العربية، وهو يعشق المرأة أيضًا، وكأنّي به يقول من لا يعشق المرأة لا يعشق الوطن.
*برقية ثانية لإبراهيم جوهر: مضمون قصائد نزيه يتمحور حول العشق؛ العشق للأرض التي تتوحد مع المعشوقة الأنثى الإنسانية فلا تكاد تنفصل  عنها.
*برقية ثالثة لبطرس دلة: يخاطب الناقد شاعرنا: أيها الشاعر المفاجئ كتابة والقاء! أنت قنديل حب تضيء لنا ليالي الشتاء، باقٍ في أحلامنا المتجددة وفي نكهة قهوتنا الصباحية، وفي همسة عاشقين وعناق حبيبين. *برقية رابعة لمحمد صفوري: إنّ ديوان "ما تيسّر من عشق ووطن" يعدّ رائعة من روائع الشّعر العربيّ الحديث، لا على المستوى المحلّي فقط، إنّما على مستوى العالم العربيّ قاطبة.
*برقية خامسة: رسالة جاءتني من صاحبة الوجه الملثم واسمها سمر. أشهد يا سمر أنك شاعرة من الطراز الأول. ويقتلني الشوق للتعرف عليك. فهل تتكرمين علينا بإماطة اللثام عن الوجه البهي لشعرك الجميل؟  *برقية سادسة لمحمد علي سعيد: كل ما في ديوانك يدل على انتقائية ذكية، تعكس ذائقة أدبية وجمالية وخبرة في حسن اختيار المفردات والتراكيب اللغوية.
وبعد، هذه البرقيات السريعة لا تغني أبدًا عن دراسات متأنية، تعطي هذه الإبداعات ما تستحقه من مرتبة في المشهد الشعري. فالفضاء الزمني البخيل، لا يتسع للطوفان الإبداعي الذي غمرنا به صديقنا ورفيق دربنا الشاعر نزيه حسون. وكلمة أخيرة لا بد منها. هل سمعتم عن الفتى المعروفي الذي دوّخ الإمبراطورية العظمى، وضحك على ذقون القتلة ولما يبلغ الاثنين والعشرين عامًا؟ لقد أرادوه أن يحمل البندقية ويصوبها إلى صدور أبناء شعبه، فلجأ إلى الطرق الالتفافية، وارتدى  القفطان واعتمر العمامة المعروفية، وأرسل لحية مستعارة وعنجر شاربين مستعارين وأطلقهما مدفعين، ومدّ لسانه إلى جلاديه ساخرًا وقائلا: ما فشرتم. كان هذا الشيخ الشاب الذي ما زال شابًا دائم الخضرة والعطاء، هو عريس هذه الأمسية الشاعر الملتزم فكرًا وعشقًا وشبابًا؛ نزيه حسون! ألست القائل يا نزيه: لله كنوز تحت العرش مفاتيحها ألسنة الشعراء؟ لقد حملت مفتاحك الإبداعي، وفجرت كنوز الرب تحت العرش، لقد غمرتنا كبًّا من عند الرب، دمت لنا أيها الشاعر المتألق دائمًا، ودامت ينابيعك الحاتمية، لقد  فجرت فغمرت فأبدعت فأمتعت.
مداخلة عفيف شليوط: برز نزيه حسون ولمع اسمه من خلال المهرجانات الشعبية التي كانت تُعقد في قرانا ومدننا العربية، كشاعرٍ ثوري تعبوي بامتياز، ملتزم بقضايا وطنه وشعبه. نحن نعلم كم كان الشاعر في العصر الجاهلي هام ومركزي في حياة القبيلة التي ينتمي لها، وكم كانت القبيلة تعتز وتفخر به، وكان الشاعر آنذاك بمثابة الناطق الرسمي باسمها، وهذا هو حالنا مع الشاعر نزيه حسون، حيث أصبح يردد الناس قصائده التي تُعبّر عن مشاعره وهمومه، وأذكر البيت التالي (من ديوان ميلاد في رحم المأساة) باكورة أعمال الشاعر: قسمًا بلينا لن نلين للحظةٍ/ يا سلطةً هوجاء فلتتعلمي
بالإضافة للشعر الثوري التعبوي، يمزج نزيه الشعر السياسي مع العشق، وفي ديوانه الأخير "نايّ الروح" يكتب قصائد عشقٍ، إلا أن العشق لدى نزيه له دلالات أخرى. فالعشق لديه هو العشق لكل ما هو جميل، ولكل ما هو عزيز على قلبه. ففي قصائده نجد العشق للأرض والوطن، العشق ببعده الانساني. ففي قصيدة "يا من بُعثت الى العباد رَسولا" يبرز عشقه للرسول الكريم، وفي قصيدة "عن الجمال وسحره" يذوب عشقاً في الجمال والطبيعة والوطن، وفي قصيدة "هل غادر الشعراء" تتحول قصيدته الى بكاء من شدّة تأثره بمعشوقته حيفا، وهو الذي أدمن العشق في قصيدة "يا قلبها"، ويهيم عشقاً بفاتنة خرساء، ويسأل الله أن يهديها لسانه، لتهمس بالسلام على سلامه في قصيدة "الفاتنة الخرساء"، وفي قصيدة "وأمام حُسنك أحرفي تتكسّرُ" نجد شاعرنا يرفع الراية البيضاء، ويعلن استسلامه أمام جمال حسناء فاتنة فيقول: مالي أَمامكِ عاجزًا أتـعـثَّــرُ/ وأمام حُسنكِ أحرفي تتكسَّرُ/ مالي يترجمني الحنينُ قصيدةً/ والشّعرُ ينزفُ أدمعًا تَــتَــــفَجَّرُ/ قلبي يذوبُ منَ الهيام كَشَمْعةٍ/ والرُّوح من جمرِ الهوى تتبخرُ/ وتفِرُّ من شفتي الحُروفُ جَميعُها/ وتخونني الكلمات حين أعبِّرُ/ هذا الجمال يفوقُ سحرَ قصائدي/ ويظلُّ منْ ورد البلاغةِ أنضرُ
وهو في إحدى اللقاءات التي أجريت معه تحدّث عن استحواذ المرأة على حيّزٍ واسعٍ من قصائدهِ يقول: لاشك أن المرأة هي عالم كامل من السحر والجمال في حياة الرجل بشكل عام، فما بالك بالمرأة في حياة شاعر مرهف الإحساس والوجدان، فالمرأة تقود الشعراء إلى فضاءات من الإبداع والهيام والتحليق.
فالمرأة معين لا ينضب من الإلهام والإيحاء للشاعر، والشاعر الذي لم يعش حالة ِعشق، ولم يبحر في كون وجمال وأسرار المرأةِ في رأيي، يفقد الكثير من مقومات الإبداع وشعر الغزل، وهو يميل الى تسميته شعر العشق، وهو احد المواضيع الهامة في ديوان الشعر العالمي عبر كل العصور.
وعودة الى الديوان "نايّ الروح"، نبحر معًا مُجدّدًا، وهذه المرّة مع القصيدة التي أطلق الديوان على اسمها "نايّ الروح": ففي هذه القصيدة القصيرة جدًّا والمعبّرة جدًّا، يكتب شاعرنا عمّا آل إليه حالنا، في عصر استباحة القتل وارتكاب أفظع الجرائم اللا انسانية، يقول: في عصرٍ أمسى فيه القتل مُباح/ وصهيلُ الدم يطاردني/ ينزف قلبي في كل اللحظات/ بدون جراح
ما أجمل هذا المقطع، فهنا يتحوّل الدم، الدم الذي يُسفك يومياً في عصرنا هذا الى جواد، وصوت صراخه يطارد مشاعر الشاعر، الذي قلبه ينزف لكن بدون جراح. إلا أنه لا يجد الحل في ظل هذا الواقع المأساوي إلّا باللجوء الى الرومانسية، يبحث عن عالمه الخاص، ربما نسميه نحنُ الماديون هروبًا من الواقع، أما هو فيسميه عشقاً روحيًّا، ويتلاعب بالألفاظ بشكلٍ مثير فيقول: في كل صباح/ أبحثُ عن نايٍ تُنقذني/ تعزفني عشقاً روحيًّا/ تعزف روحي/ كي أرتاح
تعامل الشاعر مع العشق غير المحسوس الى شيءٍ محسوس، فجعل العشق يُعزف، ومن العشق الروحي الى روحه (تلاعب في الألفاظ)، فتعزف الناي روحه لكي يرتاح. مرّة أخرى: عشقاً روحيًّا، روحي، أرتاح. فهنا العشق الروحي تحوّل الى روح الشاعر لكي يرتاح. إنّ هذه الأبيات أشبه بمعادلة رياضية، أشبه بعلم المنطق، فالشاعر يتناول حالة معيّنة، ليحوّلها الى حالةٍ أخرى ليتوصل بالتالي الى النتيجة. صدّقوني هذه القصيدة القصيرة جدًّا يمكننا الحديث عنها لوحدها طيلة هذا المساء، فكم بالحري الديوان بأكمله، ولكي تعزفوني عشقاً روحياً ، لكي أرتاح وأريحكم، لن أطيل عليكم رغم شغفي بأن أبحر أكثر وأكثر في عالم هذا الديوان، ولكن اسمحوا لي أن أتطرق قليلاً لمشروع إصدار هذا الكتاب .
إن مؤسسة الأفق للثقافة والفنون التي قامت بإصدار هذا الكتاب، تعمل من خلال هذا المشروع الثقافي على دعم الأدب في بلادنا ودعم الأديب في هذه الديار، فنحن قمنا بإصدار مجموعة من الكتب الأدبية لكتاب وشعراء محليين، دون أن يتحمّل الشاعر والكاتب أعباء تكاليف الطباعة والتوزيع، ونحن قمنا بتحمّل هذا العبء بدلاً منهم. لم نكتفِ بذلك بل بادرنا الى سلسلة نشاطات وفعاليات للترويج لإصداراتنا، على سبيل المثال قمنا في مطلع الشهر الحالي بتنظيم سلسلة فعاليات ثقافية لشريحة المُسنين في مدينة شفاعمرو، قمنا من خلالها باستضافة المؤلفين وتوزيع كتبهم مجاناً على المشاركين، لتشجيع المطالعة بين أوساط المُسنين، وكان لشاعرنا نزيه حصة لا يستهان بها من تلك الفعاليات. كذلك الأمر نعقد الندوات الثقافية حول إصداراتنا في مؤسسات ثقافية في مناطق مختلفة في البلاد والمناطق التابعة للسلطة الفلسطينية، وفي مدارسنا لتشجيع المطالعة لدى الطلاب.
وأوّد في هذا المساء أن أزّف لكم بشرى البدء بمشروع لترجمة أدبنا للغة العبرية، وسيخرج هذا المشروع الى النور في مطلع العام القادم. ومع هذه البشرى أختتم كلمتي، آملاً أن أكون قد وفقت بإلقاء الضوء على نقاط هامة لدى الشاعر المحتفى به، وعلى مشروع مؤسسة الأفق الثقافي. كما أوّد أن أنتهز الفرصة لأتوجه بجزيل الشكر لنادي حيفا الثقافي بإدارة المتفاني في دعم النشاط الثقافي في مدينة حيفا الصديق العزيز فؤاد نقّارة، حيث هنالك تعاون مستمر بين الأفق ونادي حيفا الثقافي، كما أحيي  اتّحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيّين  على مساهمته في إحياء هذه الأمسية الثقافية، هذا التعاون الأول بين الأفق والاتحاد والذي آمل أن يتعزز مستقبلاً، ومساؤكم ثقافة.
مداخلة تركي عامر: نَزِيهٌ أَنْتَ شَاعِرُنَا الْغَيُورُ/ عَلَى إِرْثٍ تُعَانِقُهُ الدُّهُورُ/ عَلَى أُمٍّ تَهُزُّ الْكَوْنَ يُسْرَاهَا/ وَيُمْنَاهَا لَنَا نِعْمَ السَّرِيرُ/ عَلَى شِعْرٍ يُغَنِّي الْحُبَّ وَزْنًا/ بِقَافِيَةٍ وَتَصْطَخِبُ الْبُحُورُ/ بُحُورُ الشِّعْرِ لَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ/ وَلَا رَمْلٌ شَوَاطِئُهَا صُخُورُ/ تَكَسَّرَتِ الرُّؤُوسُ وَلَا تَعُدُّوا/ فَفِي الْأَعْدَادِ لَا تُحْصَى الْكُسُورُ/ إِلَيْكَ أَبَا الْعَلَاءِ الْيَوْمَ جِئْنَا/ شَمِيمًا مِنْ شَذَاكُمْ نَسْتَعِيرُ/ لَنَا فِي شِعْرِكُمْ نَارٌ تَخَفَّتْ/ عَلَى مَاءٍ تَسِيرُ وَلَا تَسِيرُ/  تُدِيرُ الرَّأَسَ كَأْسٌ دُونَ خَمْرٍ/ وَخَصْرًا رَاحَ مِنْ سُكْرٍ يَدُورُ/ أُحِبُّ خِطَابَكَ الشِّعْرِيَّ جَهْرًا/ فَفِيهِ الصِّدْقُ عَذْبٌ يَا أَمِيرُ/ وَفِيهِ الْعُمْقُ مَضْمُونًا وَشَكْلًا / وَلَا مَعْنًى بِلَا مَبْنًى يَصِيرُ/ وَفِيهِ السَّهْلُ مُمْتَنِعٌ عَسِيرٌ/وَإِنَّ الشِّعْرَ أَصْعَبُهُ الْيَسِيرُ
نَزِيهٌ أَنْتَ شَاعِرُنَا الْغَيُورُ / عَلَى أَرْضٍ لَنَا فِيهَا جُذُورُ/ عَلَى شَعْبٍ يُرِيدُ الْعَيْشَ حُرًّا / عَلَى شِعْرٍ يُؤَاخِيهِ الشُّعُورُ/ تُرَاقِصُكَ الْقَصَائِدُ وَالْأَغَانِي / وَأَنْتَ الصَّبُّ عَاشِقُهَا صَبُورُ/ وَيَا حَيْفَا بـِ (نَايِ الرُّوحِ) جِئْنَا / وَ(حَسُّونًا) بِهِ فَرَحًا نَطِيرُ/ يُحِبُّ النَّاسَ مِنْ قَلْبٍ وَرَبٍّ / وَلِلْأَحْرَارِ فِي الدُّنْيَا نَصِيرُ/ عَرَفْتُكَ يَا زَمِيلِي قَبْلَ دَهْرٍ / وَحَالًا بَيْنَنَا امْتَدَّتْ جُسُورُ/ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ كَالْعُشْبِ تَحْيَا / وَلَا يُعْمِيكَ تِيهٌ أَوْ غُرُورُ/ أُحِبُّكَ يَا ابْنَ أُمِّي مِلْءَ قَلْبِي / وَعُذْرًا يَا أَخَي قَلْبِي صَغِيرُ/ وَلَكِنْ لَا عَلَيْكُمْ يَا صَدِيقِي / فَطَيَّ الْقَلْبِ مَنْزِلُكُمْ كَبِيرُ/ عَلَيَّ اللهُ فِي حُبِّي شَهِيدٌ / وَيَعْلَمُ مَا تُخَبِّئُهُ الصُّدُورُ/ وَقَعْتُ بِحُبِّكُمْ وَالْحُبُّ أَعْمَى / عَلَى أَشْكَالِهَا تَقَعُ الطُّيُورُ




123
مجيد حسيسي تسكنُهُ النزعةُ الإنسانيّة!
آمال عوّاد رضوان
 أقام المجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ– حيفا ومنتدى حيفا الثقافي أمسية شعريّة للشاعر الكرمليّ مجيد حسيسي، وذلك بتاريخ 11-9-2015 في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسية، شارع الفرس 3، حيفا، وسط حضور كبير من شعراء وأدباء وأصدقاء وأقرباء، وقد رحب الأستاذ المحامي فؤاد نقارة رئيس منتدى حيفا الثقافي بالحضور، وتولى عرافة الأمسية الأستاذ إحسان حسيسي، وكانت مداخلات نقدية لكل من د. صالح عبود بعنوان حضور المرأة في شعر المجيد، تناولت قراءة الكتابَيْن "عزفٌ على جراح الصّمت" و "بيت القصيد مشرّعٌ"، ومداخلة نقدية لد. منير توما بعنوان المشاعر الانسانية المتدفقة في شعر مجيد حسيسي، تناولت الكتابين "وطني على ظهري" و"بيت القصيد مشرّعٌ"، ومداخلة الفيلسوف معين حاطوم، وقد تخللت الأمسية قراءات شعرية للمحتفى به الشاعر مجيد حسيسي، وفقرة فنية غنائية مع الفنان قفطان عيسمي بقصيدة لحنها للشاعر مجيد حسيسي بعنوان (سميح أبو وطن)، ومداخلة زجلية للشاعر الزجلي نجيب سجيم، ومداخلة باللغة المحكية بعنوان مريول حيفا للشاعر راضي مشيلح، ومداخلة الشاعر علي ابو شاهين بقصيدة بعنوان (في كفّي ملحمةٌ)، وفي النهاية شكر الشاعر الحضور والمنظمين والمشاركين، ثم تمّ التقاط الصور التذكاريّة.
*جاء في مداخلة د. صالح عبود بعنوان (حضور المرأةِ في شعرِ المجيدِ): الحضور والسّادة الكرام،                 اسمحوا لي قبلَ وُلوجيَ في قراءتي للمرأةِ في شعرِ المجيدِ، ومن خلالِ نماذجَ منتقاةٍ منسولةٍ من مجموعتيهِ "عزفٌ على جراح الصّمت" و"بيت القصيد مشرّعٌ"، وهي غايتي الثّانيةُ من حضوري بينَكُم، أن أُسفرَ عن غايتي الأولى، وأزفَّ شُكري الجَزلَ وعرفانيَ الأجَلَّ، لشاعرنا المكثرِ النَّميرِ الفذِّ المُعبّرِ الكبيرِ في كلِّ ما نَظمَ وقرضَ من شعرٍ يَتيمٍ ومقطوعاتٍ وقصائدَ تختزلُ تجربةً شعريّةً قَمِنَةً بكلِّ ثناءٍ وتقديرٍ. وأنَا من حشدٍ ممّن يُدمنونَ قراءَةَ جَديدهِ ونشيدهِ يوميًّا في صفحته المتوقّدة صباحَ مساءَ، في موقع التواصلِ الرَقْميِّ الفيسبوك، صفحةٌ خَليقةٌ بالقراءةِ والاهتمامِ والمتابعةِ، لما فيها من نصوصٍ شعريّةٍ رفيعةٍ من إبداعِ المجيد.  وها أنا باسطٌ أَصْغَرَيَّ: جَنانيَ الحافظَ وَلسانيَ اللافظَ ثناءً وعِرفانًا لكَ أبا يوسُفَ.
يعلنُ شاعرُنا في فاتحةِ مجموعته الشعريّة "بيتُ القصيدِ مشرَّعٌ" عن مجملِ ما تحتويهِ المجموعةُ برُمَّتِها، إذ يقول: "سَيبقَى بيتُ أفكاري، تُشرِّعهُ هواجسُ قلبِ إحساسي وأحلامي/ أزيّنُهُ بِحُسـنٍ جاءَ يُبدعُهُ، حـروفًا مـــن شذَا فكري بأقــلامي".
بذلكَ، يؤكّدُ الشّاعر، بما لا يقبلُ مراءً ولا جَدَلًا، أنّ مادّةَ شعرهِ في المجموعةِ المذكورةِ تحديدًا تتّسمُ بقصائدَ ومقطوعاتٍ وَنُتَفٍ وأبياتٍ مُثنَّاةٍ ويتائِمَ، كلّها تمثّلُ هواجِسَ جَنانِهِ المرهفِ حِسًّا وأحلامًا، ينقُلها للقارئِ من خلالِ حروفِهِ المنْتظَمةِ بحُسْنٍ وتَوليفٍ ينسَجمُ معَ إيقاعِ الحياةِ وقضاياها الّتي طَرَقَها في مادّتِهِ المُقَفّاةِ. ها هوَ يُمِدُّنَا بنفسِهِ وَنظْمِهِ وقافيتِهِ، فيخبرنا عن تصوّرِهِ للبيتِ الشّعريّ، فيوجزُ فيهِ قولَهُ: "إن لم أكنْ مددًا للشّعر أنظمهُ/ بَاتت قوافي الهوى، ترثي معانيها/ فالشّعرُ قافيةٌ، إيقاعهُ شَجَنٌ/ ألفاظُهُ سهلَةٌ تسمو براويها!" (67).
الشّعرُ في عُرفِ شاعرنا المجيدِ، شعرٌ مُقَفًّى، موزونٌ، لا بأوزانٍ خليليّة أو ما بعدَ الخليلِ، بلْ وزنُهَا الماتعُ المانعُ هوَ الشّجَنُ، أي الحزنُ وَالهَمّ، ومفرداتهُ ألفاظٌ جزلةٌ سَهلةٌ لا تعيقُ القارئَ، ولا تُحجِمُهُ عنْ فَهمِهِ وإدراكِهِ، فتَجعلُ النّصَّ الشّعريَّ ساميًا في نظرهِ، دانيًا من القارئِ دُنُوَّ السّاحلِ منَ البحرِ.
تتجلّى صورة المرأة في "بيت القصيد مشرّع" عن شعورٍ صادقٍ وعاطفةٍ رقيقةٍ، وفي حضورها في حاضرةِ قصيدتِكَ وبيتِكَ شاعرَنا المجيدْ، تذكّرنا دومًا أنّها ليست مُلحقًا أو تكملةً، بل هي شِعرٌ بذاتها وَلِذاتِها، وأنَّ حضورها في البيتِ جوهرُ البيتِ وعِمادُ تبصرتِهِ وآيةُ نُبوءَتِهِ. لم يكن شاعرُنا بعيدًا في شعرهِ عن أصواتٍ شعريَّةٍ محلّيّةٍ عربيّةٍ وإنسانيَّةٍ تعتمدُ عوالمَ المشاعرِ والعواطفِ الذّاتيّةِ، بلْ تيَمّنَ سَمتَ الورودِ والرّياضِ وَغاصَ في واقِعهِ حينًا، وَارتقَى في سَناءِ خيالِهِ وَمُخَيَّلَتهِ حينًا، فبدَا في قصيدتِهِ وَبيتِهِ مُحبًّا وعاشِقًا لكلِّ جميلٍ وادِعٍ شَفيفٍ، يَسرُّ الحياةَ ويبعثُ نشوةَ الحُلُمِ والأملِ والألَمِ الخَالدةِ. المرأةُ عندَ كثيرٍ من الشّعراءِ مصدرُ إلهامٍ وعنوانُ إشراقةٍ وحنانٍ وعاطفةٍ صادقَةٍ، وشاعرُنا الكرمليّ يعشقُ الجمالَ، ويستوحي في شعره صورًا بلمساتٍ شعريّةٍ مُثخنةٍ بالصّدقِ الحقيقيّ والوجدانيّةِ المُتَّقدةِ بالرّغبةِ والطُّهرِ: "إذا كَانت بِإخلاصٍ تواعِدُني   سأبقَى العمرَ أعشقُها بإخلاصِ/ أعيشُ بها، وفيها ما تبقّى لي/ منَ الأيّامِ، سجنًا أو بأقفاصِ" (16)
هذا شاهدٌ دالٌّ على أنَّ الوصالَ بينَ الحبيبَينِ مرهونٌ بشرطٍ هامٍّ وقَبليٍّ هوَ الإخلاصُ الصّادقُ بينَهما، وقد عمدَ شاعرنا في كثيرٍ من نصوصهِ إلى تسليطِ الضّوءِ على شروطِ الحبِّ وقيَمِهِ الخالِصَةِ وفي جُؤْجُئِهَا الإخلاصُ والصّدقُ، وهمَا قِوامُ العشقِ والهُيامِ:  فلا عشقٌ إذا ما سَوَّرَتْهُ/ بوادرُ صدقٍ وإخلاصٌ يصونُ/ فإنَّ حَياتِي بغيرِ عشـــقٍ/ فَراغًا يكونُ وَلَسْتُ أكونُ.
يعترفُ شاعرنا، أنّهُ بشرٌ ولهُ- كسائر البشر- جَذوةٌ في القلبِ، وَمن مِنَّا لا تُحدِّثُهُ نفسُهُ بالشّبابِ وَصَبَابَتِهِ؟! "قالتْ أراكَ شبابًا، قَلبُكَ الأسدُ/ تُحيي فؤادًا هـــــوَى بالعشقِ يرتعدُ/ مهلاً، أجَبتُ أنا، سهامُها انطلَقتْ  فيها، أعودُ الفتى، والوصلُ مستنَدُ!" (15)
ذاكَ هوَ الوصلُ الصّادقُ الّذي يبعثُ في الرّوحِ شبابَها، وفِي نارِ العشقِ دِفئَهَا، وفِي قلوبِ البشرِ نَبضَها. حبّرتُ هذهِ الورقةَ، وزوّرتُ (زيّنتُ) فيها مقالتِي، كي أصلَ بِكُمْ إلى قصيدةٍ وَقَعَتْ في نَفسِي موقعًا حَسَنًا، فَحازَتْ في قراءَتِي للمجموعةِ حيِّزًا، فوجدتني أنقلبُ إليهَا قارئًا مرّةً ثانيةً، حتَّى استحوذَتْ على تَبصِرَتي فقَضِيَّتُها قَضِيَّتِي، وغايَتها غايَتي..
أتأمَّلُ وإيّاكُم قصيدةً رشيقةً تُثقِلُها قضيّة المرأةِ الشَّرقيّةِ، إذ يُخاطِبُ الشّاعرُ من خلالها الرّجلَ الشّرقيّ مدافعًا عنها، وناصحًا إيّاهُ، وهو يقولُ: "يَا سيّدي/ يَا حضرةَ السّي سيّدي/ إن كنتَ تعتقدُ النّساءَ مهانةً/ أو سلعةً قد تُشترى من/ سوق أسواطِ النّخاسةِ والعبيدْ/ فتكونُ من أهلٍ قضَوا../ وتَنكَّرُوا للحُلمِ يبغونَ الوئيدْ/ للمرأةِ الحقُّ الّذي تحيا بهِ/ أوْ بعضُ شيءٍ من جديدْ/ فَلَها جمالٌ قدْ صَفا/ وَلَها بنينٌ للسّلامِ وللمحبَّةِ والصّمودْ/ وَلَها جذورٌ راسخاتٌ في صخورٍ من صدودْ/ فَبرَبِّ دينكَ.. هل أتيتَ منَ العدَمْ؟/ لا تَعجبَنَّ.. فرحْمُ أُمِّكَ يستحي/ والصَّمتُ أعيَاهُ الأَلَمْ!!/ يَا سيّدِي.. يا حضرةَ السّي سيّدي../ لا فرقَ عندَ ذكورِ إنسانٍ قَزَمْ/ أن يُظلمَ الحُسْنَ الّذي وهبَ الحياةَ منَ العدمْ/ إن تقتنعْ.. صرتَ الرَّفيقَ.. وإنْ تُعارِضْ/ سوفَ تحيا ظالمًا.. وَبنفسِهِ لقدِ انظلَمْ/ ولسوفَ تحيا تائِهًا../ من غيرِ طيفٍ سابحٍ.. ومؤيّدِ!!/ يا سيّدي../ يا حضرةَ السّي سيّدي" (39-41)
قصيدةٌ تُفصحُ عن موقفِه من مكانة المرأة في مجتمعِها الشّرقيِّ، إذ يطالبُ بإطلاقِ جناحيها من قيدٍ باتَ وهمًا ميْتًا. يطالبُ لها أن تعيشَ حياتهَا حرَّةً غيرَ هيّابَةٍ، فتختارَ لنفسِها ما تشاءُ، وتُعربَ عن رأيِها دونَ وجلٍ. يخاطِبُ الشّاعرُ الرّجلَ باسمٍ يعبّر عن حالَةٍ ينبُذُها هوَ وهيَ، "السِي سيّدي"، وهي عبارةٌ تعبِّرُ بمحمولها الثّقافيِّ عن حالَةٍ ووَضْعٍ هيمنَ منذُ سنواتٍ، ولا يزالُ، في عالمِ المرأةِ المتأرجِحِ بينَ ما كَسِبَتهُ وما تطمحُ إليهِ.. اختارَ الشّاعرُ هذهِ الصّفةَ للرّجلِ الشّرقيّ، أي "السي سيّدي"، كي يُعربَ عن موقفٍ رافضٍ لها، وكَيْ ينقضَ أسبابَ وجودِ شخصيّةِ "سي السيّد" الّتي حاولَ محفوظُ في ثلاثيّتِهِ المعروفةِ تسليطَ شيءٍ من الضّوءِ عليها، وشاعرُنا يعيشُ في زمانٍ آخرَ، وفي مجتمعٍ آخرَ، مختلفٍ في كثيرٍ من تفاصيلِهِ الصّغيرةِ والكبيرةِ عن عالمِ الثّلاثيّةِ، ولكنّهُ معَ ذلكَ، ينبّهُ إلى أنّ حالةَ "سي السيّد" لا تزالُ حاضرةً، وإنْ بزيٍّ مختلفٍ، إذ لم يَعُدْ "السّي سيّد" يلبسُ تلكَ الثّيابَ ويعتمرُ طُربوشَهُ الأحمرَ، بلْ نراهُ متمدّنًا في لِباسِهِ كاشِفًا شعْرَهُ، حضاريًّا في شكلِهِ، حتَّى يصلَ عندَ قضيّةِ الأنثى، فنجدُهُ هوَ هوَ.. "السي سيّد" بأسماءَ أخرى وأشكالٍ مغايرةٍ!
تغيّرتْ فينا أمورٌ كثيرةٌ، وما يزالُ في بالِ كثيرٍ منَّا أفكارٌ قديمةٌ يعلوها غبارُ السّنينِ الهِزالِ.. ولا يزالُ "السي سيّدي" يبتغي من المرأةِ أن تكونَ صَنَمَهُ المتحجِّرَ المفرّغَ من طبيعةِ النّاسِ وفطرةِ الخَلْقِ: تتشكَّلُ الأزمانُ في دوارَنها دُولاً/ وهنَّ على الجمودِ بواقٍ.
معالجةُ شاعرِنا المجيدِ لقضيّة المرأةِ من جانبٍ، وتعدّدُ أصواتِ القصيدةِ الواحدةِ من جانبٍ آخرَ، يدلُّ على تنوّعٍ ثريٍّ في سياقِكَ وتناوُلِكَ المُجَلِّي لرؤياكَ إزاءَ تِلكُمِ القضيّة الهامّةِ. ذكّرتني قصيدتُكَ، أبا يوسفَ!، ببعضِ أبياتٍ للرُّصَافِيِّ قالَ فيها: مَا أهونَ الأنثى على ذُكراننا/ فَلقد شجاني ذُلّها وخضوعُها/ ضَعُفَتْ فَحجَّتُها البكاءُ لخصمها/ وسلاحُها عندَ الدفاعِ دموعُها/ هي متعةُ المستمتعينَ ولَيتها/ كانتْ لزامًا لا يجوزُ مبيعها/ فوَليُّها عندَ الزواج يبيعها/ وحليلها عند الطلاق يبيعها/ وكلاهما متحكّم في أمــرها/ هذا يعرّيها وذاك يُجيعها. إنَّكَ في هذه القصيدةِ، كما في غيرها، تتقمَّصُ قميصَ الواعظِ النّاصِح لمجتمعٍ منَ الرّجالِ، الّذينَ يحيونَ تائهينَ في تيهِ أفكارِهم المُظلمةِ الظّالمةِ، فتدعوهمْ للبصرِ والتّبصُّرِ في رِحابِ الفكرِ التّنويريّ المنشودِ. نحنُ أمامَ شاعرٍ مكينٍ يمتلكُ قدرةً على إبصارِ الواقعِ، وإعادةِ صياغَتِهِ بأبياتٍ وأشعارٍ صادقةٍ تخدشُ الواقعَ المتهالكَ بشعريّةٍ حَيِيَّةٍ شُجاعَةٍ تتعطَّرُ منْ شذَا حروفِهِ الصّادقةِ المُصَدَّقَةِ.. فأختم كلمتي بقولي:
حَسْبُ الْقَوافي أنْ يَكونَ مَجِيدُ/ شِعْرًا مَجِيدًا لِلقَصِيدِ رَصِيدُ/ أَبْدَعتَ فِي كَلِمَاتِكَ إِذْ شُرِّدَتْ/ وَالنَّارُ تُبْرِدُ وَهْجَكَ وَتُقِيدُ/ أَبَدِيَّةٌ فيكَ المَشَاعرُ وُقِدِّتْ/ صَوتًا تَعَالَى نَزْفُهُ التَّغْرِيدُ/ هَاجرتَ في ذاتِ المُحبِّ طَلاقةً/ وَصَبَأتَ من دينِ السُّكونِ تريدُ/ نَجعًا رَواءً للقصيدِ وللهوى/ يُنشيكَ رُوحًا يَنضَويها مَجيدُ
مداخلة الفيلسوف معين حاطوم:  كتبت مرة،  الفكر أوصل الإنسان الى القمر، والشعر أنزل القمرَ إليه، ولأن استاذي الشاعر مجيد حسيسي كان قد أنزل الأقمار إلينا على مدى ستين عاما، فأضأت أخاديد أرواحنا، وداعبت غوامض نفوسنا، وحثتنا عن حب واحترام لنقتديه، فلقد كان أستاذًا ومُربّيًا، ومن ثمّ مديرًا، دأب ألّا يبخلَ على طلابه في استنطاق نفوسِهم بجَمال الكلام، وبديع الخيال، والتشجيع على صحيح الإنشاء والمطالعة والتأليف، فلقد آمن بأن مطابخ الشعوب العظيمة من حبر ولون وورق، ولحسن حظي كنتُ أحد تلامذته، وواحدًا من العشرات الذين شجعهم على الاستمرار في طرْق أبواب الأدب والفسلفة والفن.
مجيد حسيسي شاعر يسهل الحديث عنه، فلم يترك بابًا من أبواب الشعر إلّا وطرَقه، ولم يترك موضوعًا إلّا وتفاعل معه. حمل وطنه على ظهره، ولم يتركه ليتدحرج كصخرة سيزيف. تفاعلَ مع الظواهر الاجتماعيّة السلبيّة ودحَضَها مُستنكِرًا. مجّد الوطنيّين وأنشدهم شعرًا، مثل سلطان باشا، وياسر عرفات، ومنديلا وغيرهم، وجعل من قلبه دفيئة للمعاناة والأحاسيس الإنسانيّة، مُتوِّجًا إيّاه بالحبّ والشوق والحنان من جهة، والتخوُّف والقلق من شرور الدنيا ومآسيها من جهة ثانية.
لا مجالَ في هذه الكلمة القصيرة للإسهاب والتصنيف لإنتاج الأستاذ مجيد شعرًا ونثرًا، فمواسمه الخضراء كثيرة، وحدائقة لا تشكو من وفرة الورد والشوك، ولكنّني أشعر برغبة أن أحدّثكم عن نقلة نوعيّة في نتاج الأستاذ مجيد، فهناك انطباع عامّ، بأنّ الشاعر حين يختمر بحكمة الأدب والشعر، يتصوّبُ بفكره وإحساسه نحو الخلاصات. إنّها حالة من النضوج المتسامي، يسعى من خلالها صاحبها، من فضّ المظاهر والتفاصيل الهامشيّة، بغية الوصول إلى جوهر القول، ولو نظرنا الى تاريخ الفكر الفلسفيّ، لرأينا أنّ الاشتراط هو أساس للعلائق المنطقيّة التي تقود إلى النتيجة الحتميّة، فأنت لا تشترط شيئًا منطقيّا، إلّا إذا تيقنت من كماله كفرض منطقيّ، هذا طبعًا في علم المنطق، ولكنه يتخذ شكلًا آخر من أشكال الفرْض أو الإشتراط عند الشاعر، فالفرض أو الإشتراط منوطان بحصانة معرفيّة، وتجربة ثابتة في الاستقراء النفسيّ لحقائق الوجود الحسّيّ والأخلاقيّ.
يقينًا إن الأستاذ مجيد ارتقى إلى هذه الحالة النادرة في ثقافته الحسّيّة والجماليّة، فطعّمها باشتراط هو الباب والمسلك لقول الحكمة، ولكي لا يبدو قولي غامضًا، فأنا أحدّثكم عن شرطيّات مجيد حسيسي في كتابه الذي لم يرَ النور بعد، والذي أطلق عليه اسم "إذا"! فاسمحوا لي بأن أقرأ لكم بعض قصائد هذا الديوان، وهي كما سلف أعلاه: اشتراط وطرح وخلاصة حكميّة:
إذا انطفأتْ مِنَ الأحداقِ عَـيْــــنٌ/ فعَـيْـنُ الحَـقِّ تجعَـلُـهُ البصيــــرا ! وفي مكان آخر: إذا اجتمعَتْ قوى الأخيارِ في وطني/ يباتُ المجْدُ فوقَ رؤوسِهِمْ عَلَـما! وأيضًا: إنْ أنتهي.. نعشي يكونُ مِنَ الحروفِ ومنَ الكلامْ/ فأنا أُكَـنّى الضّـادَ في عُرفِ الأنامْ.. لن أنتهيْ.. مادامَ في أرضي بقايا من عربْ أو بعضُ شيءٍ من سلامْ! وغيرها الكثير الكثير من الشرطيات الحكمية. تحياتي لأستاذي الشاعر مجيد حسيسي، وكلّي أمل أن يرى "إذا" النور حين يكتمل .
مداخلة د. منير توما بعنوان- المشاعر الإنسانيّة المتدفقة في شعر مجيد حسيسي
أتناول في هذه المداخلة مجموعتين شعريّتين للشاعر المبدع الأستاذ مجيد حسيسي؛ "وطني على ظهري"، و"بيت القصيد مُشرّعٌ"، علمًا أنه صدر لشاعرنا في السابق عدد من المجموعات الشعرية الأخرى، ولكني آثرتُ في دراستي الموجزة هذه، أن أتطرق إلى الجوانب المحوريّة التي تعكس المعاني والصور الأدبيّة، التي تنبعث من هاتين المجموعتين، باعتبارهما تمثيلًا صادقًا، ومُعبّرًا عن شاعريّة الأستاذ مجيد المتألّق دائمًا في عالم القوافي، والفيّاض برهافة الحسّ الشفافة دائمًا وأبدًا.
إنّ أكثر ما استرعى انتباهي في مجموعة "وطني على ظهري"، أنّ شاعرنا قد تناول المعاني وراء كلمة "الصمت" ومشتقاتها الواردة في القصائد بصورة مبطّنة، حيث يظهر في معظمها "موتيف الصمت" بشكل بارز، وبالتالي فإنّ الشاعر يكون قد قصد معنًى معيّنًا يعكس نفسيته في مواقف معيّنة، لتبرير وتسويغ أحاسيس تعتمل في صدره وفكره، وهذا يقودنا إلى فكرة "المعادل الموضوعي" التي ابتدعها الناقد والشاعر العالمي ت.س. إليوت، الذي من خلاله، لا يُعبّر الكاتب عن آرائه تعبيرًا مباشرًا، بل يخلق عملًا أدبيًّا فيه مقوّماته الفنيّة الداخليّة، التي تكفل فنّيًا تبرير الأحاسيس والأفكار للإقناع بها، بحيث لا يحسّ المرء أنّ الكاتب يُفضي إليه بذات نفسه بإثارة المشاعر المباشرة دون تبرير لها.
لعلّ شاعرنا في مجموعة "وطني على ظهري"، قد اختار كلمة "الصمت"، باعتبارها موتيفًا يتكرر في معظم القصائد، وذلك انطلاقًا من كوْن الشاعرية حالة نفسية منوطة بدرجة الانفعال واتساع نطاقه، وأسمى درجات الشاعرية وأفعلها في النفوس، ما كان منها واسع الانفتاح على أعماق الحياة، وصادرًا عن النشوة الداخليّة واللذة الوجدانيّة. وفي هذا الديوان تعبيرٌ عن تجربة انفعاليّة، في تمازج تامّ بين التجربة والتعبير عنها، ويستعين بتقنيّاتٍ جديدة وتغيّراتٍ شكليّة في الشعر، تنبعث من فكرة وشعور هادف يمتاز بطابع عاطفيّ قويّ. فيتحدّث الشاعر في أولى قصائده "شيءٌ من إباء" عن صمتٍ صارخ، يُفهم من إيحاته، إلى أنه تسيطر على سطور القصيدة عاطفة الأسى والحسرة للحالة التي صار إليها الوضع العربيّ، والصّمت الصارخ هنا يوحي بثورة هادئة في أعماق نفس الشاعر الذي يتألّم ويعاني بصمت ثائر فيقول: هذي عيونُ الفجرِ تسألُ/ دموعٍ في عيونٍ من مساء/ هذا جناحُ الليلِ/ الصمتُ فيها صارخٌ/ يبغي العبور(ص 9-10).
ويبدو أنّ للصمت سلطته الفنيّة والمعنويّة والإيحائيّة على الموقف المتمثل بالعاطفة المتّقدة والنفسيّة المائجة، فيقول "في ليلة" (ص14)، مشيرًا إلى فعل الصمت قائلًا: في ليلةٍ/ صمتت نجومُ الليلِ وانتحبَ القمرْ/ النّاس في بلدي تماثيلٌ...صورْ/ وخيوطُ سِرْكٍ في الملاهي كالدّمى/ وقصيدتي/ جزءٌ من الأحداثِ تُفهمُ بالوما.     هنا يعقد الشاعر مقارنة بين صمت النجوم وحالة الناس المتردية في سكونهم، وتسليمهم بالأمر الواقع المحيط بهم، ويشبّهُ الصمت من حوله بالضجيج والدوّامة، استعارة عن ثورة داخليّة هادئة بهيجانها، في جوانحه التواقة دائمًا رفض حالة الخواء والابتئاس والتراجع، التي تحدق بالأوضاع السائدة، فيقول ص18:  الصّمتُ من حولي ضجيجٌ في احتراقي/ دوّامةٌ.. تحمّلني أوزارها
وكما للصمت بريق، فإنّ "معايير الحياء" في هذه الحياة وهذا المجتمع تصمت وتتلون وتتبخر، دلالة على الخواء الأخلاقي وانعدام الالتزام بالثوابت المتعارف عليها، وسقوط المحبّة التي يجب ألّا تسقط أبدًا، لكنّ ضياع موازين الحياء التي صمتت، قد أفسدت كلَّ جمال في دنيانا، كما جاء في قصيدة "أحبّك" ص29: صمتت معايير الحياءِ.. تلوّنتْ/ وتبخّرتْ مثلَ الأثيرْ.
أمّا قصيدة "أوترحلين" ص46، فترد فيها كلمة "الصمت" والتي تشكّل معادلًا موضوعيًّا في القصيدة، باعتباره يصوّر انفعالًا خاصًّا، لتجربة حسّيّة يُثار فيها الانفعال إثارة مباشرة، وهي تُعبّر عن موقف إنساني يعتريه الشجن والحزن الممتزج بالطبيعة، حيث أنّ الصورة الشعريّة تتعاون فيها الصور الجزئية، وتحلّ الصور الجزئيّة محل الأنغام في الموسيقا، بكوْن اللغة تمتاز بالحيويّة ذات الكلمات والأسلوب السلس: أوترحلينْ؟/ والصّمتُ من أوصال مَن قطع الحنين/ العشقُ يرعى مع نجوم الليل في فلك السّنينْ/ أوترحلينْ؟ وبقيّة من فجرِ صبحٍ/ تتفجّر الأضواء فيه.. من أنين!
اللافت في الديوان أنّ الشاعر يتّسمُ بالدقّة في التعبير عن جوانب النفس، فالألفاظ حيّة، والعبارة موحية بعيدة عن التكلّف، يأتي الخيال فيها لتأييد الجو الوجدانيّ العامّ، وترسيخ العاطفة، كما في عبارة "صمت القدر" من قصيدة "سأموت" ص 54: سأكون في صمتِ القدَر/ أرجوحةً/ أو لعبةً للطّفلِ.. لم/ يجدِ الطّعامَ..  ولا الثّمرْ!  وفي "كلّ المراكب غادرت" ص114: "بالصّمت أحكي ما يجيش بداخلي"، حيث يجعل الصمت ناطقًا مجازًا، ترافقه موسيقا ناعمة سلسة بشعر خافق منساب بأشجى العواطف الإنسانيّة وأسماها، فشاعرنا يحترف استخدام الاستعارات في قصائده بالحيوية والأداء التصويري والعمق الفكري الإنساني، والابتكار المطلق والارتباط بالطبيعة، وهذه المعاني تظهر في النّص "أحلام الجدود" ص 121: صمتَ الترابُ بأرضنا متنهّدًا/ فتنهّدت فينا السّواقي والعيون/ صرنا دخانًا في فضاءٍ يستحي/ وتراثنا كجراحِنا.. فينا يهونْ. هنا تتضح لنا وحدة الجوّ النفسي المتمثّل في الأسى واليأس والألم والمعاناة.
 المجموعة الشعريّة الثانية "بيت القصيد مشرَّعٌ" للشاعر مجيد حسيسي، تمتاز بخصوصية فريدة تختلف بشكلها، من حيث إتيان الشاعر بأبيات قليلة العدد كوحدة واحدة، دون أن تشكّل هذه الأبيات قصيدة بحدّ ذاتها، لا بل أحيانًا يجود علينا الشاعر ببيت واحد منفرد، يحمل في كلماته الكثير من المعاني الثريّة بالصور والإيحاءات الأدبيّة الفنيّة، يتخلل كلّ ذلك جانبٌ كبيرٌ من الحكمة الاجتماعية الفلسفيّة جزلة الألفاظ، واضحة المعاني لا يعتريها وعورة أو تعقيد، إلّا أنّها رصينة المبنى ومتينة التركيب، وهذه الميزات تدخل في إطار ما يُعرف بالسهل الممتنع في دنيا الأدب، فينتهج غالبًا أسلوب الشعر الكلاسيكي العمودي الموزون المقفّى. في مجموعة "بيت القصيد مشرّع" يبدو شاعرنا وجدانيًّا في قصائده، مصوّرًا الأحاسيس الذاتيّة من خلال ومضات شعريّة دافئة مفعمة بالروح الهادئة، والفيّاضة محبّة وخلقًا رفيعًا يفوح بنزعة إنسانيّة، لا يتبنّاها وينتهجها إلاّ كبار النفوس من ذوي الخير والتسامح والسلام، في عالم يعجّ بالعنف من شتّى الضروب، وبالمتناقضات من مختلف الاتجاهات وبالتوتّرات البشريّة الحافلة بالعيوب الإنسانية، وبالتّالي فإنّ شاعرنا يتجه كثيرًا في أشعاره إلى نظرة صوفيّة واضحة أحيانًا، من حيث المعاني الموحية عبر كلمات ومفردات تؤكّد مدى تأثّر شاعرنا بالشعر الوجداني الصوفيّ، وإن كان هذا التّأثّر يُلمَس بالفطرة عند القارئ، ليبعث به إلى حالة من التّأمل المؤدي إلى نشوة نفسيّة روحيّة داخليّة، بفعل جماليّة الكلمة معنىً ومبنىً.
شاعرنا يأتي بمقطوعات شعريّة تفيض وجدًا وتأمّلًا، ككتلة ملتهبة من مشاعر وأحاسيس مرهفة العواطف، تتدفق بانسياب متأتّ عن استغراق في الألم الكامن المكبوت في قلب الشاعر، كما ص 12-13: يا قلبُ، في ضعفكَ المنهوكِ خاتمتي فهل تنيرُ الفضا، ركنًا بلا عمدِ؟ يا قلبُ، لو صرختْ من لهفةٍ وبكتْ فالدّمعُ حجّتُها، والصّمتُ لا يجدي قد كنتَ لي سندًا، في الوصلِ تسعفُني واليوم بتَّ قذىً في عينِ مُحتدٍ!
نلمس لدى شاعرنا مشاعر إنسانيّة أصيلة، تولي ضمير الإنسان الأولويّة في إشاعة نور الحياة في هذا الوجود، مما يشعرنا أنّ الشاعر يتألّم من غياب الضمير عند الكثير من الناس، ويبدو ذلك إشارة وتلميحًا من خلال البيت المنفرد ص23 و ص24: ضميرُ المرءِ في الدنيا شعاعٌ إذا انفقدَ الضّياءُ من الوجودِ! قد يكونُ الموتُ حقًّا تستحي منهُ الظّروفْ/ إنّما موتُ الضّمائرْ تستحي منهُ الحتوفْ .
هكذا يؤكد مدى إيلاء شاعرنا للضمير في حياة الإنسان الأهميّة القصوى التي لا تقبل المساومة أو الإلتفاف على الضمير بأيّ شكلٍ من الأشكال، وفي موضع آخر من الديوان، يأتي شاعرنا ببيتٍ منفرد من الشعر يحتوي على كثير من حكمة الحياة، فيما يتعلق بالصمت والبوح أو الكلام، مما يذكّرنا بموتيف الصمت، حيث يشير هنا إلى أنّ الصمت يكون أحيانًا أبلغ من الكلام، كما أنّ البوح يشكّل أحيانًا نوعًا من الضعف أو قصورٍ في الحكمة بشأن أمورٍ يستعصي على المرء الحصول عليها أو تحقيقها مهما باحَ أو تكلّم بخصوصها كما جاءص61: قد يكونُ الصّمت أقوى من كلامٍ لا يُقالْ أو يكونُ البوحُ ضعفًا في أمورٍ لا تُنالْ.
هكذا نخلص إلى حقيقة كون الشاعر الأستاذ مجيد حسيسي إنسانًا رقيقَ الشعور، يترفع عن الصّغائر ويعيش مع الذات الإنسانيّة في بُعدها الأخلاقيّ والوجدانيّ، تشهد بذلك أشعاره في مجموعتي "وطني على ظهري" و "بيت القصيد مشرّع"، بالإضافة إلى مجموعاته السابقة حيث يتجلّى فيها أيضًا ذلك الإنسان المتألّم مما يسود الدنيا من مثالب واعوجاج، يعاني بصمت الإنسان الراقي المتحضّر المستقيم، علاوة على كونه شاعرًا لامعًا تتنوّع أغراض شعره الفريد بشكله ومضمونه وأناقته، من حيث متانة اللغة وجزالة الأسلوب وثراء المعاني، ففي هذا الشعر نلمح نفحات صوفية خفيفة الصدى، تنبعث من روحه الطيبة المقرونة بأفكار حكيمة صائبة، ليجمع كلّ ذلك في بوتقة من شعر الحياة سلس التدفق ومعتدل الانفعالات. فلشاعرنا مجيد حسيسي أصدق وأطيب التمنيات بموفور الصحة والعمر المديد وبالمزيد من العطاء والإبداع.
مريول/ راضي مشيلح: مع بَسِمْتوُ فاق البحر والموج مثل خيول جفلانه وحيفا عروس وراكعه تْصلي تا يرجعوا مثل الفجر غيابها ال ياما وياما بالشعر غنولها وغفوا عيون الليل في جَدّولها وجاي انا بعد الوقت حامل معي سلة حروف ملوّنه مثل الطفل أول ما بلْش بالمشي خايف من خيول البحر تا توقعو ولما شفوني عيونها ع طول فتحتلي ايديها وقلبها حبيتها وبلشت ارسم طولها امي انا ومتعربش بمريولها
علي ابو شاهين/ جمجمة جدي تبرعم: معجزة هي يا سيدي أن تبرعم جماجم الموتى/ وان تزهرَ أعمدةُ المدينة وأن ينسى الفلاحون/ زهران تعال لأحدثكَ عن شيخ الشباب عن أسدٍ هصورٍ لا يخاف الذئاب عن جمجمة شهيدٍ بين الصخور داعبتها الوحوشُ نظفتها النسور/ وكان ما كان ودار الزمان وكان طوفان نوح/ وراح قابيل بقتل أخيه لا يبوح/ عادت الحمامةُ ونبش الغراب التراب وحرّم أمرؤ القيس الصبوح وسرنا على رفات الأجداد ننكر الماضي نعيش الأمجاد ونتدحرج بثوب انسان زرقاء اليمامة أنبأتنا عن جيلٍ يأتي وعن جيلٍ كان عن قصر الخَوَرنَق/ عن أجراس الكنائس عن مال قارون/عن أحلى النفائس عن تاريخٍ أبطالهُ محرومون وأنذاله مُمَجَّدون عن حجّاج فضّ غشاءَ بكارتنا/ ونام في أمان على ايهاب الغزلان رحنا يوماً نداعب أعشاش الطيور حيث جمجمة جدي دون القبور طالعتْنا نبتةٌ غريبةٌ بزهرٍ ينثُّ نور لا مثيل له بين الزهور أخبرنا عرّاف البلد ونساء القريةِ وكُلَّ الطابور من الذئب الكاسر إلى ابن وردان لنسمع صوتاً العقل فيه حار الجمجمة نبتةٌ إخضوضرتْ وبدا فيها الإزهار إبنوا حولها مقاماً مقدساً وقُبَّةَ مزار رُفع عن عيوننا الحجاب ورُشقنا بسهمٍ يحملُ أسمى آياتِ العتاب سجدنا وراء الإمام/ وقررنا أن تكون جمجمة جدي عنوانَ الكتاب في سفرٍ يُدوَّنُ فيه كل من أصاب ويبقى عبر الزمان حديث المضافة والديوان
قصيدة نجيب سجيم: يا مجيد بليلنا الغريد/ حيفا بوجودك غار منها العيد/ وأيلولها شفتو متل نيسان/ زهّر كأنك راسمو بهالإيد/ وإنت الـ عمرك للشعر ألوان/ جمعت الفصول بأجمل مواعيد/ كنت بربيعك ورد والأغصان/ كل يوم تغزلن قميص جديد/ وصيفك متل منجيرة الرعيان/ يسكب لحن ويقول عيد وزيد/ وضوّا خريفك بالحبق مليان/ وغنّاك مزراب الشتي تغريد/ والدالية بالكرمل المنصان/ بين الوراق وبين العناقيد/ قالت الك يا صاحب البستان/ بعمر الصبا عشقتك عنب حليان/ واليوم جايي أشربك يا نبيد.
مجيد حسيسي/ أبا الأوطان/ إلى روح سميح القاسم/ لحّنها وغنّاها الفنان قفطان عسيمي: أبا الأوطانِ، هلاّ قمتَ تسعى ليرقى المجدُ أرضًا في انتحابِ رسمتَ الحرفَ لوحاتٍ لتبقى مُخلّدةً على صدرِ الكتـابِ/ صنعتَ المجدَ من حرفٍ تجلّى وصنتَ السّيفَ من صدأِ القِرابِ/ زرعتَ الحبَّ في صدر المنايا وذقتَ المُــرَّ من كأسِ الشّرابِ/ حملتَ النّعشَ تسعى في جهـادٍ قطفتَ الحبَّ من كلِّ الشِّعابِ/ عشقتَ الأرضَ ترويها حنينًا وتعمـلُ دونَ قصدٍ للثّواب/ تُحنّى الحرفَ تجعلُهُ حُـسامًا يُـعرّي الغاصبينَ منَ الثّيابِ/ تُراسلُ توأمًا للروحِ سرًّا وتبكي مثلَ أنّاتِ التّرابِ/ تُـكلّلُ هامةَ الأحزانِ غارًا وتمسحُ دمعَ عينٍ من عذابِ/ فقدتَ زميلَكَ المحمودَ نورًا ليرقى، دونَ تذكرةِ الإيابِ/ وجئتَ اليومَ مُنفردًا بِـســفْرٍ وتحملُ همَّ شعـــبٍ في اكتئابِ!/ حباكَ اللهُ في مرضٍ عُضالٍ ويأبى أن تكونَ بِلا انتســابِ/ فمنتصِبًـا بقامتكِ المسيرُ ومنتشيًا كصقرٍ في اقترابِ/ أطالَ اللهُ دهرًا عِشْتَ فيهِ وأغدقَ شهدَهُ من كلِّ بابِ!/ أبا الأوطانِ هلاّ قمتَ تسعى ليرقى المجدُ أرضًا في انتحاب!
مجيد حسيسي/ حيفا والمهاجر: قد ضقتُ ذرعًا يا زماني كأنّني بحرٌ تراجعَ للفضاءِ مُسلِّما تتمرّغُ الأمواجُ فوقَ عُبـابِهِ كالأفقِ يرسمُ للثّريّا سلّما الموجُ في حيفا حزيـنٌ عاتـِبٌ قد أزبدَتْهُ خديعَةٌ.. فتألّما هاجت عواصِفُهُ تُـعِـدُّ مُخلِّصًا والرّيـحُ غاضبةٌ تصدُّ تظلّما! حيفا تنامُ على ضلوعِ مهاجرٍ والكرملُ الوسنانُ يجثو نائِـما فاحتْ زهورُ تِـلالِهِ وتعطّرَتْ.. أنفاسُ صُـبحٍ باتَ يلهو حالِما قد ضاقَ مثلي بالزّمانِ كأنّهُ أمسى مخيفا صامتًا متشائما ذابت خيوطُ النّورِ منهُ تأسّفًا صارت منارًا فوقَ ديرٍ قائما في طلعةِ العذراءِ يبكي كرملي ومآذنُ الأديانِ باتت صائمهْ! حيفا تنامُ على ضلوعِ مهاجرٍ أجراسُها صمتَتْ وعيني لائمهْ!
مجيد حسيسي/ إليكَ عنّي: يا مـَن تسربلتَ حنايا جسدي وتزودتَ من طعامي ودَمي/ وصِرتَني وصِرتَني مثلي حالمًا أو نادمًا تشكو عنائي من فمي/ صرنا على وجهِ المياهِ موجةً تكسّرَت على صخورِ العدمِ/ صرنا على صدر الليالي نجمةً تساقطت على شفاهِ النّدمِ/ صرنا على الفجرِ الرّطيبِ قُبلةً تبخّرت فوقَ الرّصيفِ المُـعتِمِ/ رسمتَني كالطّـائرِ المذبوحِ في ليلةِ إلهامي ربيعَ الموسـمِ/ أنتَ الذي جاءَ بداخلي وانتهى بداخليي سمو معي للأنجُمِ/ أنتَ الذي يُضحِكُني بدمعِهِ تبكي معي على ذراعي ترتمي/ طفلانِ كنّا حينَ ضعنا وانتهتْ هُويّتي فجئتَـني لتحتمي/ دخلتَ نفسي من سراديبِ المنى قد وشَمونا بلهيبِ الميسمِ/ صرنا معًا نمشي على غيرِ هدىً صرنا بقايا قلبِـنا المُتيّـمِ/ أنتَ الذي ابكيكَ فيَّ خاسِرًا خسِرتَني خسِرتَني كلَّ الأسهمِ يكفيكَ أنّي أحملُ الإسمَ الذي سُـمّيتَـهُ لأهلِ فخرٍ ننتمي/ أنت الذي أضعتَ منّي سيرتي إليكَ عنّي فكفاني خاتَـمي/ بإصبعي مزركشٌ.. ما غشّـني ما كان من أسبابِ تعسي المؤلِمِ/ إليكَ عنّي.. لن تبيعَ موقفي من ثورتي.. أنا لشعبي أنتمي/ إليكَ عنّي فإنّي من يَعْرُبٍ ما كمتُ يومًا في ثيابِ الأعجمي!!
مجيد حسيسي/ أنّةُ المسيحْ: يا ربُّ كفاني تجربةً فالأرضُ مثيرةُ أحزاني وتُدمي النَّفْسَ في جسدي فشعبُ الأَرْضِ أعياني نزلتُ الأرضَ بالتّقوى نثرتُ الحُبَّ في الطّرُقِ جمعتُ النَّاسَ من حولي زرعتُ الشّمسَ في الأُفُقِ وفوقَ الماءِ أحيانًا مشيتُ كأنَّ في حقلي فقالوا ذاكَ مجنونٌ وقالوا هذا من زُحلِ/ فبتُّ كأيِّ مأفونٍ وباتَ الجِنُّ في عقلي سئمتُ النَّاسَ أعلّمُهم سئمتُ الرّوحَ في بلدي أدرْتُ الخَـدَّ في جَلَدٍ شبعتُ الضّربَ في جسدي سئمتُ النَّاسَ أسامحهم سئمتُ الرّبَّ في النّـاسِ لئنْ صممتَ يا ربّي على إيفادي للأرضِ فهذي الجنّةُ اِفتحْها لأخرجَ منها للأبدِ/ فنارُ جَهَنَّمَ أُخمِدُها ونارُ النَّاسِ تكويني فسجّلْ تحتَ أقدامي وفوقَ الشّمسِ من عِبَري: مسيحُ النَّاسِ يكرهُهم لأنّ النَّاسَ مُذْ وُجِدوا يدوسون على النَّاسِ وأنّ الدّينَ لا يُجدي فدينُ النَّاسِ في النَّاسِ
مجيد حسيسي/ مـَن يا تُرى في هذه الدنيا أكونْ: من يا ترى في هذه الدنيا أكونْ؟ أمِنَ الجهالةِ والعدمْ؟/ أم من سلالةِ زاهدٍ عافَ الحيــــاةَ بكلِّ ما فيها وسافر في طريقٍ من ضبابٍ من ندمْ؟/ وأنا على هذا الرّصيفِ مواعدٌ وصلَ الظّنونْ النّورُ من وَهَجِ الفنارِ يخيفُني والصّمتُ يجعلُني شريكًا في السّكونْ أتحسسُ الأحلامَ أشربُ خمرتي.. من دَنِّ فجرٍ حالمٍ.. والنّجمُ يرقصُ في جنونْ مـَن يا ترى في هذه الدنيا أكونْ؟ أمِنَ الثَّرَى قد جئتُ طينًا ينشوي فيهِ القمرْ؟ أم من ترابٍ باردٍ لا ينكوي منه القَدَرْ؟ أم من رياحٍ عاصفهْ؟ أم من قنابلَ ناسفهْ؟ أم أنّ في الدنيا مكانًا جئتُ منه وانتهى مثلي بلا وطنٍ.. سماءٍ.. أو مطرْ؟ من يا ترى في هذه الدنيا أكون؟ أمِنَ الجُنونِ وشربِهِ كأسَ المجونْ؟ أو من تلاقي الشّـرِّ في جحرِ الفجورْ؟ أو من بلادٍ لم يعُدْ فيا التَقى.. كفرَتْ بنعمةِ ربِّها.. عبدتْ صحورْ؟ باعتْ كرامةَ جلدِها وتمرّدتْ صارت مَتاعًا .. تنتشي من خمرةٍ.. والفِسقُ فيها في الجدورْ؟ من يا تُرى في هذه الدنيا أكون؟؟ للهِ فينا.. بعضُ شيءٍ من شؤونْ !!



124
حفل توقيع ديوان (أدموزك وتتعشترين) في المكتبة الوطنية- عمان!
آمال عوّاد رضوان
دار الوسط اليوم للإعلام والنشر (فلسطين- الأردن) متمثّلة بالمخرج محمّد الجبور- مدير عامّ الوسط اليوم في الأردن، والإعلامي جميل حامد رئيس تحرير دار الوسط اليوم للإعلام والنشر الورقي والإلكتروني، نظّمت حفلَ توقيع ديوان (أدموزك وتتعشترين) للشاعرة الفلسطينيّة آمال عوّاد رضوان، في المكتبة الوطنيّة في عمّان، بتاريخ 27-8-2015، تحت رعاية وزير الثقافة الأسبق د. صلاح جرّار، ووسط لفيف من الحضور المميّز من أدباء وفنانين ومثقفين، ومدير عام المكتبة الوطنيّة الأستاذ محمّد يونس العبادي، وقد أدارَ الحفلَ الإعلاميّ حازم الخالدي.
افتتح الحفل المخرج محمّد الجبور بكلمة دار الوسط اليوم للإعلام والنشر الترحيبيّة، تلتها كلمة د. صلاح الجرار، جاءَ فيها:  إننا نستقبل على أرض الأردن شاعرةً من أرض الإسراء والمعراج التي باركها الله، هذا البلد الذي لم ينسَ قضيّة فلسطين، ولا القدس التي تنبض دائمًا بحبّ الأردن، والّذي ينقل كلّ معاناتها إلى كلّ المحافل الدوليّة، لإيجاد حلٍّ عادلٍ لها، وإنّنا نعتزّ بما تقدّمُهُ الشاعرة، ونفخرُ بإنتاجها عبر المجموعات الشعريّة، آملين بالمزيد من إتحافاتها عبر الكلمة الجميلة التي تقدّمها للقراء.
وتحدّث الشاعر راشد عيسى عن فكرة الديوان الشعري والعنوان (أُدَوْمِزُكِ وتتعشترين) مِن آلهة الأساطير دموزي وعشتار، والّذي تعودُ به الشاعرة آمال عوّاد رضوان إلى القصص والحكايات والأساطير السومريّة والبابليّة القديمة، وتُوظّفُها بطريقةٍ فنيّةٍ رومانسيّةٍ على الواقع الحديثِ، فتأخذها سحرُ الكلمات، وتلتقطُ منها أجملَ العباراتِ التي تزيد مِن تجلّياتها في الشعر.
وقدّمت الناشطة زينب مروان عرضًا لمضمون الديوان، ثمّ حيّا رئيسُ اتّحاد الكتاب والأدباء الأردنيّين الشاعر عليّان العدوان، الشّاعرة الفلسطينيّة آمال عوّاد رضوان، إذ تُشهِر كتابَها مِن المكتبةِ الوطنيّة، مُؤكّدًا على عُمقِ العلاقاتِ الأخويّةِ بين البلديْن، وأهمّيّة تعزيز الجوانب الثقافيّةِ بين المُثقفين والمفكّرين، من خلال إقامةِ النشاطاتِ والبرامج المشتركة.
وقدّمت الشاعرة آمال عوّاد رضوان برفقةِ الفنّان القدير الأردنيّ عبد الكريم القواسمي قراءاتٍ شعريّةً مِن نصوص الديوان، بعنوان (سماواتي يابسةٌ، غابتي تَعُجُّ بالنّمور، أُدَمْوِزُكِ وتَتَعَشْتَرين، أبْجِديني بجُنونكِ، خبّئيني تحتَ قميصِكِ المُعطّر، حرائقُ حواسّي، رضابي مُشمّعٌ بزقزقةِ طيورك).
وفي نهاية الحفل وقّعت الشاعرة ديوانها، وقدّمتْ إهداءاتٍ منهُ للحضور، تحت تغطيةٍ إعلاميّةٍ مُوثّقةٍ بتصويرِ كادرِ الوسط اليوم في عمّان، ومؤّسسةِ الرّيتاج للإنتاج والتوزيع الفنّيّ، بإدارة المخرج السينمائيّ محمّد الجبور، وتمّ التقاط الصّوَر الفوتوغرافيّة التذكاريّة. 
جاءَ في كلمةِ النّاقد د. راشد عيسى: سافو الصغيرة/ آمال عوّاد رضوان:
سبقَ لي أن اطّلعتُ على شِعر آمال عوّاد رضوان، وكانت لي مُداخلةٌ في (رحلة الى عنوان مفقود) ديوانها الثالث الشّيّق الجميل، وقد راقتْ لي فيهِ رمزيّة قرن الغزال (الزقوقيا)، فهي زهرةٌ برّيّةٌ مشهورةٌ في بلادِ الشّام، فأوراقُها الخضراء بشكل قلب، وأزهارُها تشبه قرن الغزال، وقبل حوالي 18 عاما حصلَ شجارٌ ما بين الوفدِ الإسرائيليّ والوفد الفلسطينيّ حولَ شعار قرن الغزال، ومنذ ذلك الوقت أسميتُها: آمال عوّاد رضوان زهرةُ قرن الغزال، فهي شاعرةٌ كنعانيّةٌ، وتحديدًا من عبلين الجليليّة في فلسطين، والتي تردُّنا إلى عبلين الأردنيّة قربَ عجلون.
سأقفُ قليلًا عند العنوان "أُدَمْـوِزُكِ وَتـَـتعَــشْـتـَـرِين"، والذي سبّبَ إرباكًا كبيرًا عندَ الكثيرين، وكانَ هذا مِن قبيل النحت، ولا بدّ للقارئ أن يعودَ إلى مسألةٍ مُهمّةٍ، بأن يكونَ عارفًا للأساطير، فالنّصوصُ كلُّها خطابٌ ذكَريٌّ مِن دموزي إلى عشتار، ولا ننسى أنّ هناك لدينا إشكاليّةً منذ أكثرَ مِن ستّين عامًا حول قصيدة النثر والتجنيس، وليس لدينا اتّفاقٌ حتى الآن حولَ الاسم، ولم تأخذ قصيدةُ النثرِ استحقاقَها في تجنيسِها الثابت.
نلاحظُ أنّ هناكَ نمطيّةً كبيرةً في كتابة مثل هذا الجنس الأدبيّ، بحيث أنّنا نكادُ لا نُفرّقُ بينَ شاعرٍ وآخر، وهذا ما يهمُّني في شعر آمال عوّاد رضوان، فهل حقًّا قدّمتْ شيئًا جديدًا وجديرًا بالقراءة، وخصوصًا أنّني أؤمن أنّ العيبَ ليس في قصيدة النثر، وإنّما العيبُ في ندرة الجيّدِ منها، والّذي يُقنعُنا أنّ هذا الجنسَ الأدبيَّ نصٌّ رائعٌ، وإلّا فكيف تفوّقَ محمّد الماغوط على أدونيس نفسه، ويَشهدُ على ذلك النقّادُ العرّب؟
أنا لاحظتُ أنّ آمال عوّاد رضوان أضافتْ ميزتيْن فنيّتيْن كبيرتيْن في هذا الدّيوان "أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن"، وذلك باستطاعتها استعادة الميثولوجيا الأسطوريّة في العشق والجوى والحب عن طريق الأسطورة، وليس عن طريق اللغة الحسّيّةِ البشريّةِ العاديّة، إيمانًا منها بقيمةِ الحبّ وقُدسيّتِهِ وجلالِه، والنقطة الأهمُّ في نظري هي التشكيل الفنّيّ، الذي لعبَ دورَهُ في التّشكيلاتِ وبِعدّةِ مستويات.     
تتجاوزُ آمال عوّاد رضوان في (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ) ثلاثةَ مجموعاتِها الشعريّة السّابقة تجاوُزًا فنّيًّا، جديرًا باستحقاقِ التّميُّزِ، فالنّصوصُ الخمسُونَ تبدو قصيدةً مَلحميّةً واحدةً، تُسجّلُ اختراقًا جماليًّا بُنيويًّا، لما هو سائدٌ ونمَطيٌّ في شكلانيّةِ النّثرِ الشّعريّ، كما تُقدّمُ إضافةً نوعيّةً على صعيد موضوعةِ العشقِ عبرَ تاريخ الوجدان البَشريّ، ولا سيّما في العصر الإغريقيّ!
الثيمةُ الجوهريّةُ في الدّيوانِ الشّعريّ (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ)، تتوازى معَ الفُيوضِ المَبثوثةِ مِن لدُنِ الرّمزِ الذّكريِّ الأسطوريّ، والمُمثَّل بدموزي إله الخير عند السّومريّين، تجاه الرّمز الأنثويّ الأسطوريّ أيضًا عشتار إلهة الخصب والجَمال والحُبِّ والجنس عندَ البابليّين، ومنذُ الصّفحةِ الأولى في الدّيوان إلى آخِرِ سطرٍ فيهِ، يَفورُ دموزي تبجيلًا لمَحاسنِ عشتار ومَفاتنها الباذخة، وهو فوَرانٌ مَحفوفٌ بظلالٍ مِنَ العتابِ، وأفانين التّرجّي، وشكوى الشوْقِ العارم، والرّغبة في الاتّحادِ الرّوحانيّ والجَسديّ معًا.
غيرَ أنّ الأبرزَ والأجمَلَ في هذا الدّيوانِ هو التّجريبُ الإبداعيُّ الشّجاع، والمُتمثّلُ بالأساليبِ الجَماليّةِ الجديدةِ في إدارةِ البُنيةِ التّشكيليّةِ، وِفقَ طِرازٍ بُنيويٍّ يَخترقُ نمَطيّةَ المألوفِ مِن قصيدةِ النّثر، فيُنقذُها مِنَ البَلادةِ والاعتياديّةِ والفهاهة.
الدّيوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ) يَغتني بالمُزاحِ اللّغويّ، الّذي يَمنحُ العبارةَ طاقةً تعبيريّةً هائلةً، تُضاعفُ مُتعةَ التّأمُّلِ والتّلقّي، وتُضيفُ للنّصِّ الأدبيِّ الجديدِ قدرةً أخرى على تَجاوُزِ طرائق التعبير، ومنح تجربة آمال عوّاد رضوان سِمةَ الفرادة، ولا سيّما في هذا الدّيوان المَشغولِ بوعيٍ فنّيٍّ ماكرٍ وبشعريّةٍ ساخنةٍ، ومِن أمثلةِ هذا المُزاحِ الخلّاق:
*الانزياح التركيبيّ؛ كقوْلِها (على قيْد البرْقِ)، انزياحًا عن (على قيْد الحياة).
*المُجانسة: مثل تنْسِجينني وتسْجِنينَني، وضَوْؤُكِ وضَوْعُكِ، ويا مَلاذي (ملجئي) ويا ملاذّي (ملذّات)، وذلكَ في الجُملةِ الواحدة.
*العدولُ الصّرفيّ: كقولها (أهْدَيْتُهاكِ) عُدولًا عن أهدَيْتُكِها، أو أيْنَني من بصمةِ بسمةٍ، فأينني عُدولا عن أينَ أنا، وبصمةِ بسمة، فيها التجنيس!
*الانحرافُ النّحويّ: وهناكَ انشغالٌ على أخلاقِ اللّغةِ وعلى مَزاد الكلماتِ، وهذا الانشغالُ راقَ لي، وقد حققت آمال بما يُسمّى بالتفلُّتِ النّحويّ، وكما تعلمون، فالشّعر هو الذي يستطيعُ أن يتفلّتَ بسبب حفاظِهِ على المعيارِ الجَماليّ كقوْلِها: لِمَ تَتَهَكَّمُنِي أَمْوَاهُكِ؟ وهي مبالغة في التهكم والسخرية وفيه بعدٌ صوتيٌّ كبير، وكذلك تهَكّمَ فعلٌ لازمٌ، قامتِ الشّاعرةُ بتَعْدِيَتِهِ.
وإضافةً إلى النّحتِ مِنَ الجَامدِ دموزي (أُدَمْوِزُكِ)، فهناكَ ثيمةُ نحْتِ النّحتِ مثل (أَبْجِدِينِي) من الأبجديّة.
*أمّا الصّورةُ الفنّيّةُ فقد تماوَجَتْ بالتّشكيلاتِ الاستعاريّةِ الرّشيقةِ، الّتي منحَتِ النّصوصَ شفافيّةً تأمُّليّةً ارتقَتْ بثيمةِ الجوى والتّوْقِ إلى مستوًى مفتوحِ الدّلالة، وبدَتْ فيهِ المَعاني غزلانًا برّيّةً جافلةً.
كما ظهَرَتْ بعضُ الصُّورِ كأنّها مَشهديّةٌ سينمائيّةٌ مُدوْزنةٌ باللّونِ والحَركةِ والصّوتِ، والعاطفةِ المُتّقدةِ المُعبّرةِ عن عُمقِ الحنينِ الذّكوريِّ، إلى أُسْطُقُساتِ الأنوثةِ.
ونجدُ ظاهرة تقطيع الكلمات بشكل كبير كبيرة في الديوان، فنجدُ صوَرًا بصَريّةً، حيث قطّعَتِ الشّاعرةُ آمال عوّاد رضوان بعضَ الكلماتِ إلى أحرُفٍ مُستقلّةٍ، وفي تلوينٍ إيحائيٍّ جديد، وبذلك أعطت معنى وتصويرًا بصريًّا، فكلُّ هذهِ المَلامحِ لم تأتِ عفويّةً كما يَبدو لنا، وإنّما عفويّةً مدروسةً، وأعتقدُ أنّها نجحتْ بذلك.
أيضًا مِن أهمّ السّماتِ في هذا الديوان هي الصّورة الفنّيّة، وهي قامتْ هنا مِن حيث التصوير الفنّيّ بالتّخييلِ الغرائبيّ وليس فقط بالتّصوير، كقوْلها مثلا:  وَأَطْيَبُ أَحْلَامِي.. مَا كَانَ/ فِي بَطْنِ سَاقِيَةٍ ضَيِّقَةٍ/ تَوَقَّفَ فِيهَا الْمَاءُ.. هُنَيْهَةً! فهذه الصورةُ ليست صورةَ مُشبّه ومشبّه به، بل هي صورةٌ حركيّةٌ صوْتيّةٌ موسيقيّةٌ ملوّنةٌ، والمَشهدُ فيها سينمائيٌّ وحيويّ.
وكما نلاحظ، فإنّ جميعَ القصائد مُقدّمةٌ بخطابِ عشقٍ ذكريٍّ، وكما نعلم، فإنّ نزار قباني كتب 55 قصيدةً على لسان المرأة، وهنا الفارق، فكيفَ استطاعتْ آمال عوّاد رضوا وهي أنثى، أن تتقمّصَ خطابَ الذّكرِ في خمسين قصيدة، وبحيث لو بدأنا بأوّل حرفٍ في الدّيوان إلى آخِر حرفٍ فيه، أو لو انتقلنا مثلًا من صفحة رقم 10 إلى صفحة رقم 20، فلن يختلفَ علينا أيُّ معنى ولا أيُّ أداء، سوى هذا الفيضِ الصّوفيّ مِن العشق والجوى، تجاهَ الذّكَرِ الذي يُعذَّبُ ويَترجّى ويتمنّى، كعادة الذّكورِ مع الإناث. 
 إنّ هذا التّشكيلَ الفنّيَّ لِموضوعةِ العِشقِ في فُيوضِهِ الأسطوريّةِ المُؤلّهةِ، إنّما يُذَكِّرُنا بسافو شاعرة الإغريقِ الأولى، ويَدفعُنا للتّساؤُلِ: هل آمال عوّاد رضوان هي سافو الصّغيرة؟!
كلمة منظّم الحفل المُخرج محمّد الجبور؛ مديرِ عامّ الوسط اليوم، ومدير عامّ مؤسّسة الرّتاج للإنتاجِ الفنّيّ:
بسم الله الرّحمن الرّحيم. السّادةُ والسّيّداتُ الحضور الكرام. إنّ مِن الشّعر لحكمة، وإنّ مِن البيان لسحرًا، والأدبُ والشّعرُ على مَدارِ التاريخ كان وما يَزالُ وسيلةً لنشرِ الأفكار والمبادئ بين الجماهير، وذلك لِما يشتملُ عليهِ مِنَ الطّرافةِ والمُتعةِ، ونقلِ الكلمةِ بأسلوبٍ يأخذُ بالألباب.
أَيَا عَرُوسَ شِعْرِي الْأَخْرَس! إِلَيْكَ .. مُهْرَةَ بَوْحِي فَتِيَّةً.. بِفَوَانِيسِ صَفَائِهَا.. بِنَوَامِيسِ نَقَائِهَا.. حَلِّقْ بِبَياضِهَا.. صَوْبَ ذَاكِرَةٍ عَذْرَاءَ.. وَتَطَهَّرْ.. بِنَارِ الُحُبِّ.. وَنورِ الْحَيَاة!
بهذهِ الكلماتِ المُضيئةِ استهلّتِ شاعرتُنا آمال عوّاد رضوان مجموعتَها الشّعريّةَ الجَديدة "أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن"، فيطيبُ لي باسمي وباسم أسرة الوسط اليوم في الأردن وفلسطين، أن نُرحّبَ بالمُبدعة والشاعرة آمال عوّاد رضوان، فقد أصدرَتْ هذه المجموعةَ عن دار الوسط اليوم للإعلام والنشر في فلسطين، وتتضمّنُ خمسين قصيدةً في 152 صفحة مِن القطع المتوسّط، فيما حملتْ لوحةُ الغلافِ إبداعَ الفنّان الفلسطينيّ محمّد شريف مِن عرّابة جنين.
هذه المجموعةُ الشّعريّةُ الجديدة "أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن" من إبداع شاعرتنا المبدعة الفلسطينية آمال عوّاد رضوان، وقد جاءتْ بعدَ ثلاثة إصدارات شعريّة سابقة لها، وهي "بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّج" صدر في عام 2005، و"سلامي لك مطرًا" صدر عام 2007، والإصدار الشّعريّ الثالث "رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ" صدر عام 2010، إضافة إلى خمسة إصداراتٍ أخرى في القراءاتِ النقديّةِ، واالتوثيق والبحث والمقالات ".
"أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن"– نصوصُ عشقيّاتٍ، حملتْ في بطنِها خمسينَ قصيدةً، كلّها جاءتْ بلغةِ عشقٍ روحيٍّ صوفيّ أسطوريّ، نحتتْها ما بين إله الخير السّومريّ "دموزي"، وإلهة الحُبِّ والخصب "عشتار" البابليّة، لتسمُوَ مِن خلال حروفِها إلى أرفعِ مَراتبِ العِشق الصّوفيّ والولهِ النّقيّ!
كما تضمّنت المَجموعةُ الشّعريّةُ الجديدة "أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن" نبذةً مِن السّيرة الذاتية للشّاعرة آمال عوّاد رضوان، وبلغةٍ شِعريّة متميّزة، وإنّنا في الوسط اليوم نُرحّبُ بها، لتُعيدَ لنا الرّوحَ الشّعريّةَ التي تُنعِشُ الرّوحَ والوجدان، وتَسطُرُ الخيالاتِ في أفكارنا، آمِلينَ أن نبقى سائرينَ في دُروب العطاء، مِن خلال ما نُقدّمُهُ مِن ثقافةٍ وشِعرٍ للجيل القادم.
وجاء في كلمة الناشطة زينب مروان: بسم الله الرّحمن الرّحيم، أصحاب المعالي والعطوفة والسعادة والحفل الكريم. أسعدَ اللهُ مساءَكم. بدايةً، أودُّ أن أشكُرَ مُؤسّسةَ الوسط اليوم للإعلام بفرعَيْها في عمّان ورام الله، وأشكرُ كذلك مُؤسّسةَ الرّيتاج للإنتاج والتّوزيع الفنّيّ، مُمثّلةً بالأستاذ محمّد جبور، المؤسّسة التي أنتمي إليها كواحد من الأعضاء العاملين فيها. أشكركم على تنظيم هذه الأمسيةِ الشّاعريّة، كما أخصُّ بالشكر المكتبة الوطنيّة، هذا الصّرح الوطنيّ العصريّ الذي نفخرُ بهِ ونفاخرُ، مُمثّلًا بعطوفة مديره العامّ السيّد محمّد العبادي المحترم، وتعاونهم في استضافة هذه الأمسية في إطلاق ديوان الشاعرة آمال عوّاد رضوان "أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن".
أشكركمُ كذلك لإتاحة الفرصة لي للمشاركةِ كقارئ عامّ، فهذا هو الديوان الشعريّ الرابع للشاعرة آمال عوّاد رضوان، حيث تسجّلُ مواظبتَها على الكتابة وتمسّكَها بلغتِها العربية، على الرغم مِن جميع المُحاولاتِ البائسةِ المباشرةِ وغيرِ المباشرة لإعاقةِ لغتِنا لغة الضاد.
فبَعدَ التأكيد على أنّني من خارج الوسط الفنّيّ والأدبيّ عامّة والشّعري على وجهِ الخصوص، إلّا أنّني مِن عشّاقِ اللّغةِ العربيّةِ، ومن المُحبّين للاستماع لها والاستمتاع بقراءتِها، ولا أُنكِرُ عدمَ تمكُّني منها بالشّكل الذي أُحبُّ وأرغب، على عكس شاعرتنا آمال عوّاد رضوان التي تذوّقَتِ العربيّة، واستطردت بمفرداتها ومصطلحاتها، فلم يُعجبْها أن تتناولَ ما هو دارجٌ ومألوفٌ، بل تحدّتْ لغتنا التي نحملُ بداخلِنا، عندما ذكرت كلماتٍ يَعتقدُ القارئُ البسيط مثلي بأنّها مُعرّبة، ويتفاجأ بحجم المَخزون اللّغويّ للشاعرة، عندما يُرجعُ الكلمةَ إلى أصلِها دون تصريفاتها، فيعرفها معرفة المُتمكّن منها عربيّةً مُستحدَثة.
تعتمدُ آمال عوّاد رضوان الأسلوبَ النثريَّ في القصيدةِ والموسيقا الداخليّة في مجموعاتِها، وتبذلُ جهودَها الجبّارة في الاستعارة وتقمُّص شخصيّة الرّجُل في طيّات هذا الديوان، لتصفَ المرأة كإنسانةٍ وحبيبةٍ وعاشقةٍ، وتجعلُ الرّجلَ المُتقمّص يرى نفسَهُ في عيون هذه المرأة، وهذا عمل قد يكون يسيرًا على بعض الرجال الشعراء بحُكم فطرتِهم، أمّا على المرأة فبالتأكيد هو في غاية الصعوبة.
اعتمدت الشاعرة آمال عوّاد رضوان في مجموعتها الشعرية "أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن" لغةً روحيّةً معنويّة، وابتعدتْ عن الوصف المادّيّ الحِسّيّ للمرأة وعن الحُبّ الجسديّ، وتركّزُ على العلاقةِ الروحيّة المُتكاملةِ، فعلى الرغم من أنّ دموزي إله الرّعي والخير والشّجاعة عند السّومريّين، وعشتار هي إلهة الأنوثة والجمال والخصوبة والحبّ والتّضحيةِ عندَ البابليّين، إلاّ أنّ آمال رضوان تحاولُ بناءَ علاقةٍ تكامليّةٍ متكاملةٍ بينهما، لا تتوقّفُ عندَ حدودِ الجسدِ والارتباطِ الحِسّيّ المادّيّ، بل تتجاوزُها لتصِلَ لقدسيّةِ العلاقةِ التّشاركيّةِ بين الرّجلِ والمرأة، علاقة إنسانيّة آدميّة حدّ العبادة.
وتساءلت، لماذا لا أجدُكِ تصِفينَ الرّجُلَ بإحدى القصائد بذات الطريقة التي تناولتِ بها المرأة؟ ولماذا لم يَحتوِ الديوان على قصائدَ، تكون فيها آمال عوّاد رضوان هي المرأة الباحثة عن الحبّ أو المُتلوّعةُ بلسانها، وترى آمال المرأة نفسها من خلال انعكاساتها في عينيه؟
نلاحظ التّأثرَ الشديدَ بالقصص القديمة الخرافيّة والأساطير وبالأديان، بلغةٍ مصبوغةٍ بالصّوفيّة، من خلال الاستشهاد بلغةٍ دينيّة مِن مختلف الرّسائل السّماويّة الثلاث، وهذا محمود، إذ إنّ الأديان وبالأخص القرآن الكريم المُعجز بلغتِهِ هو مصدرٌ أوّل للغةِ العربيّة، ومَن يقرأ به أكثر وأكثر يمتلك مَلكة الكلام ويُقال له مُفَوَّهٌ، وعلّنا نحسبكِ سيّدتي منهم.

125
أدب / نَاطُورُ الدُّجَى!
« في: 10:47 17/08/2015  »


نَاطُورُ الدُّجَى!



آمال عوّاد رضوان



ظِلاَلُ ثُقُوبِكِ تَيَقَّظَتْ مِنْ مَكَامِنِهَا
تَتَجَنَّى عَلَيَّ
تَعَرَّجَتْ
فِي أَزِيزِ سَقِيفَةٍ مَتَأَهِّبَةٍ لِلْمَشَاكَسَةِ
لكِنَّهَا تَرَهَّلَتْ ذَائِبَةً
عَلَى مَرْمَى صَهِيلِكِ الْمَوْشُومِ بِالنَّدَى
وَمَا فَتِئَتْ تَدُكُّ
أَمْوَاهَ نَارٍ انْتَصَبَتْ أَطْيَافًا
عَلَى رِمَالِ الآهِ
وَمَا هَجَعَتْ!

نَاطُورُ الدُّجَى
بَاغَتَنِي بِإِفْكِ طُقُوسِ تَسَكُّعِهِ الْمُتَطَفِّلِ
خَلْفًا دُرْررررر ... اسْتَدِرْ حَيْثُكْ
أَنْتَ وَغَدُكَ الْفَضْفَاضُ فِي غلاَلَتِهِ
بَدِيدَانِ.. رَمِيمَانِ!

اُنْظُرْكَ .. لَبْلاَبًا مَنْسِيًّا
لَمَّا يَزَلْ يَكْتَظُّ بِالْقَيْظِ
فِي صَحَارَى مَاضٍ .. تَحَلْزَنَ بِالْحُزْنِ.

هَا ضَفَائِرُ نَخْلِكَ
الْتَهَبَ فَجْرُ تَمْرِهَا
فِي سَرَاوِيلِ دَهْرِ ضَارٍ
ونَشِيدُكَ الْخَاشِعُ
كَمْ شَعْشَعَ مُتَفَيْرِزًا
مُرَفْرِفًا
هَا قَدْ شَاطَ نَبْضُهُ
عَلَى جُسُورِ تَلَعْثُمٍ مُتْخَمٍ بِالتَّفَتُّتِ!

يَا أَيُّهَا الْبَحْرُ الْعَارِي
مِنْ مَوْجِكَ الْوَثَّابِ
أَلْقِ مَا بِرَحْمِ تَبَارِيحِكَ
مِنْ أَصْدَافِ مُحَالٍ
لَمْ تَكْتَمِلْ بِمَعْبُودَتِكِ!

أَيَا سَاهِيَ الْقَلْبِ
هَوًى.. هَوَسًا
كَمْ يَقْتَاتُكَ يَمُّ الإِسْهَابِ
وَتَتَدَلَّهُ وَاجِفَا!

مَرَايَا عَزَاءٍ .. تَوَعَّدَتْكَ مُقَهْقِهَةً
أَشْعَلَتْ أَدْغَالَ أَضْلُعِكَ بِالإِعْيَاءِ 
وَاسْتَنْزَفَتْ أَغَارِيدَ قَلْبِكَ النَّحِيلٍ!

لِمَ حَبَّرَتْكَ زَمَنًا بَهْلَوَانِيًّا
شَفِيفَ وَحْدَةٍ
كَسِيفَ تَرَنُّحٍ
عَلَى حَافَّةِ مَعْقَلٍ مُعَلَّقٍ؟



126
سوقُ عكاظ الحيفاويّ في أولى أمسياتِه الشعريّة!
آمال عواد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافيّ والمجلسُ المِلّيُّ الأرثوذكسيُّ الوطنيُّ–حيفا، الأمسيةَ الشّعريّةَ الأولى من سوق عكاظ الحيفاويّ، وسط حضورٍ مِن الأدباءِ والمُهتمّينَ بالشعر، بتاريخ 30-7-2017، في قاعةِ كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة شارع الفرس 3 حيفا، حيث استضافَ كلًّا مِن: سوسن غطاس، وفاء فضل، إميل توما، وهلال الهندي، وقد تخلّلَت الأمسيةَ الشّعريّةَ مقطوعاتٌ موسيقيّة، مع عازفِ العود الفنان رمسيس قسيس، وتولّى عرافةَ الأمسيةِ المحامي حسن عبادي، بعدما رحّب المحامي فؤاد نقّارة رئيس نادي حيفا الثقافي بالحضور وبالمشاركين، وفي نهايةِ اللّقاءِ بارَكَ شيخُنا الأديبُ حنّا أبو حنّا هذا البرنامجَ الشّعريَّ، ووجّهَ بعضَ الملاحظاتِ البنّاءةِ، من أجلِ استمراريّةٍ مُجديةٍ ومُشرّفةٍ، ثمّ تمّ التقاطُ الصّورِ التّذكاريّة!
كلمة العريف حسن عبادي: باسمي وباسم نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيِّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا نرحّبُ بكم، وأهلًا وسهلًا للمشاركة في هذه الأمسية الشعريّةِ، فالنادي الثقافيّ تأسّسَ قبلَ ما يزيدُ عن أربعةِ أعوام، بتركيزِ زميلي وأخي المحامي فؤاد نقارة. *في المرحلةِ الأولى بدأنا  بقراءةِ كتابٍ شهريّ، (وحتّى اليوم بلغنا ما يقارب الخمسين كتابًا، بعرافةِ الأديب الأستاذ فتحي فوراني).
*وفي المرحلةِ الثانية قمنا بعقدِ ندواتٍ لتوقيع كتاب، مع أديب وكتاب وتوقيع الأديب عليه، (وبلغنا حتى اليوم ما يزيد على المائة أمسية ثقافية).*
أما في المرحلة الثالثةِ التي نحن بصددها فهي منبرُ  الشّعر، ألا وهو سوق عكاظ الحيفاويّ. (تاريخيًّا؛ اشتهرَ سوقُ عكاظ  كأهمّ أسواق العرب وأشهرها، وكانت القبائلُ تجتمعُ في هذا السّوق شهرًا من كلّ سنة، يَتناشدون الشّعرَ، ويُفاخِرُ بعضُهم بعضًا، وقد أوردَ الخليلُ بنُ أحمد أنّ كلمة عكاظ في اللّغةِ قوله: (وسُمّي به لأنّ العربَ كانت تجتمعُ فيهِ كلَّ سنة، فيَعكِظُ بعضُهم بعضًا بالمُفاخرةِ والتّناشُد: أي يُدعَكُ ويُعرَكُ، وفلان يَعكِظُ خصمَهُ بالخصومة: يَمعكُهُ)، ومِن أبرز شعرائِهِ امرؤُ القيس، وعمر بن أبي ربيعة، والخنساء وزهير بن أبي سلمى.
نحن اليوم نعلن عن إقامة منبر شعريّ ومنصة لشعرائنا، مَن أصدرَ ديوانًا ومن لم يُصدر، فالبرنامجُ مفتوح لكلّ الناس ولكلّ الأجيال، معَ الحفاظِ على البوصلة؛ ألا وهي الانتماء، بحيث يَتوجّبُ أن تكونَ الهُويّةُ واضحةً، دونَ رقابةٍ وقيودٍ ولايكات، حيث أنّنا لسنا بصددِ مُسابقاتٍ وجوائزَ، لسنا ستار أكاديمي، أو سوبر ستار، أو إكس فاكتور.
لمحة عن سوسن غطاس: كانت عضوًا فعّالًا في جوقة يعاد للغناء مدة 18 عاما، ومسؤولةً عن القسم الأدبيّ مِن العروض، ككلمةِ الافتتاح، وإلقاء فقراتٍ شعريّة بين الأغاني، وبَعد توقُّفِها عن العمل في الفرقةِ لأسباب خارجةٍ عن إرادتها وإرادة المسؤولين، شعرَت بفراغ كبيرٍ وعزلةٍ ذاتيّةٍ في مساحات الروح، وبدأت تعي الطاقةَ الكامنة والغيابَ الفنّيّ في داخلها، وحاجتها بأن تُعبّر عن ذاتِها وعن مشاعرها فبدأت بالكتابة، وأصدرت ديوانَها الأوّلَ وعنوانه "على متاهات الدنى"، وفي عام 2012 أصدرت ديوانها الثاني بعنوان "فوضى الذات" . سوسن مويس غطاس مواليد 1960 في قرية الرامة الجليليّة، (وقد وعدتُها في محادثتنا الهاتفيّة، أن لا أقدّمَها كأخت أخي وحبيبي كميل مويس، أو كزوجة عضو البرلمان باسل غطاس، وها أنا أفي بوعدي) وتقول سوسن: ما يدفعني للكتابة، هو كلّ المَشاهدِ اليوميّة، والحالاتِ الكثيرة التي أتعرّضُ لها في الحياة، والتي تثيرُ في داخلي أحاسيسَ مُختلفة من حزن، وفرح، وحبّ، وغضب، واستغلال، وانتهازيّة، وظلم وكلّ المشاعر الأخرى، والوطنُ بالنسبة لي هو الحُلم والبحثُ والذاكرة، هو القريب البعيد، هو الصّليبُ والمَصلوبُ والمسْلوبُ، هو السّرابُ والصّحراء.
وجع المدينة/ سوسن غطاس: كانتْ ملجأً للغجَرِ الهاربين/ مِن وجع العشب الذابل على مَرقد الهزيمة/ وكنا في مينائها لاجئين على أكفّ الباعةِ المُتجوّلين/ وجادلي زينة شعر العرائس/ والمرجان المتحجر على الشواطئ/ أتَذْكر/ يوم اعتدنا إيقاعَ الهدير وروّضناه؟/ واليومَ/ مُدَّ يديك للبحر/ وانثرْ رمادَ الانتهاء على الموج الرابضِ بين حبّاته/ مسافة تصغر بين السماء والوجع/ تكبر المَراكبُ ويصغر المدى/ تسلّقْ على جراحنا/ تكَبَّرْ على موت الكرامة في هاماتٍ تصغر حدّ التلاشي/ مُدَّ يديك للبحر/ قلْ له أن يكون الربّان والمرسى/ الهزائمُ مِن ورائنا وأمامنا/ ثمّ ماذا بعد؟/ اِركب موجَكَ أينما تأخذك الريح/ تعرّى في وجهِ الشمس/ حتى يطفو عسَلٌ على وجه الماء/ وخبزٌ على زبد الموج/ ووردٌ على جباه عرائس البحر/ ما عاد مُتّسعٌ للنّدى في الأرض/ شاخت القطرةُ وجفّت الخيام/ اِركَبِ الماء/ وخذ نفسًا مِن حسك السمك/ سمك يموت في حوضه/ لا منفذ لماء ولا هواء/ مات النخيل في صحرائه/ هجّت النوارس نحو البعيد/ ثم ماذا بعد؟/ اُنثُرْ رمادَ الانتهاء من المراكب/ مات الحبُّ في قصص الأنبياء/ وانتهى عهدُ العدل في لعبة المدّ والجزر/ لا العاصفة تُبشّرُ بالرّكود/ والغجر يهربون من وجع العشب/ الذابل في مرقد الهزيمة/ مُدّ يديك للبحر/ ليكون الربّانُ والمرسى.
سدرة المنتهى/ سوسن غطاس: في صحرائك كنتُ أفعى تخلعُ جلدَها/ في احتضارٍ أو تَجدُّدٍ/ صحراؤك حين انفلتت مِن رملِها/ وتقلّبتْ على ظهْرِها/ تحاولُ رسْمَ جسدِك هباءً/ لا وجوهٌ للصّحارى/ رأيتك تدخل في سرابك/ وتخرج  رأسًا بلا جسد/ تبحثُ عن ظِلّك/ وتُبحرُ في عُمق الرّمال/ لتولدَ من بقاياك/ تستهويكَ شهوة/ تتجرّعُ الآسيار/ تمزّق الفيافي إرَبًا/ تداخل بين جلدها ونحرك/ تحجبُ عنك الهواء/ ترتديها وتصير روحك/ توحّد لحدود الجنون/ تهلع العرافة من طالع الأساطير/ يستحيلُ الرّملُ بحرًا/ تُبحران في هيجانِ الموج/ في سفنٍ بلا أشرعة/ مفتوحة للسماء/ الرّمالُ تبقى رهينةَ البحر/ وجلود الأفاعي/ المنفلتة من حيّزها/ سريالي حيّز المكان/ رمل وماء وأثير/ وولوج إلى/ سدرة المنتهى.
 جدتي بين الأسود والزيتيّ/ سوسن غطّاس: جدّتي كانت امرأةَ النخيل/ أتفيّأ بروحها من رعدِ الغموض/ صمتُها كان الكلام/ لمنديلها هدهدةُ أحلامي/ وحكايا بنت السلطان/ والإنس والجان/ سريرُها بات مهدي الأبدي/ علّمني كيف يصيرُ النومُ/ بعيدًا عن حوافي الموت/ آمِنْ/ تعمَّدتُ بدفء يديها/ في مواسم هجرات الحساسين/ إلى مواطن السُمَّن/ في ثوبها نكهة ُالزيتون والفيجن/ في يوم تراكم فضولي سألتها/ "خبريني يا ستي/ لماذا ثوبك دائمًا أسود/ سأحضر لك الزيتي".
رمقتني بحزنٍ ثم قالت:/ "لا يا ستي/ ليرجع عمك"/ سألتها بغرابة:/ "مين عمي/ أنا لي عم؟"/ "عمُّك وراء حدود المكان"/ لم أفهم ما قالته/ كنتُ في عاميَ السادس/ شعرتُ بدموعها/ تنسالُ على وجنتي/ حين انحنيت لتقبيلها كعادتي/ أدركت بأنّ الأمرَ جلل/ في اكتمال عقدي الأوّل/ أذكر بردَه جيّدًا/ كان يومَ عطلتي المدرسيّة/ كنت أتسكّعُ في حلمي الصباحيّ/ باستسلام النسيم للفراغ/ بين حلمٍ ولا حلم/ فتحتُ عينيّ/ جدّتي جالسةٌ في سريرها/ والزيتيّ تماوجَ من رأسها/ بدت لي انتفاضة عمر/ من قمقم الحرمان/ هرولت مسرعةً/ والفرحةُ في ضلوعي/ "ستي لبست الزيتي/ ستّي لبست الزيتي"/ في ذلك المساء/ كان في بيتنا عرسٌ/ أقاربُ يتزاحمون/ وموائدُ تفتح/ بيتنا في حالة استثناء/ أتوه بين العيونِ/ أراقب الدموعَ/ ويرهقني اختلاطُ الدموعِ والفرح/ زارنا فرحُ الزيتي/ تلفعت عينا جدّتي/ بعبق الأمومة الشغوفة/ زغردت مثلما يعانقُ/ الصوتُ حنينَ الانتظار/ بكت وعانقت ثمّ نامت/ على تفتُّق الجراح/ وأنا أركض وأدور/ بين غربتي واغترابي وذهولي/ كلمح البصر/ لم أدرِ كم من أيامٍ مرَّت/ انتهتْ فسحةُ عودةِ الحياةِ لروحها/ حان موعدُ انكماشنا في حفنات اللوعة/ جدّتي وأنا/ رائحته لا زالت تعبق بصهاريجِ طفولتي/ نعم هذا عمّي/ أنا لي عمٌّ/ سيعود حيث/ رماه التشرّدُ خلفَ حيّزنا/ حين صار اللّجوءُ صليبًا وعلقمًا/ جدّتي ظلّت امرأة النخيل/ سنوات مرّت/ حلَّق نسرٌ فوق دارنا/ رفرف بجناحين/ حطّ رسالةً أخيرةً/ من وراء الحدود/ فيها صورةٌ/ لفّها شريطٌ أسود/ وعادت جدّتي/ للونها الأسود/ وصارت أيقونةَ شعبٍ/ تموت في أكباده الأحلامُ/ واليومَ أنا وابنتي/ في انتظار عناق أنوية البلح/ وأحلام امرأة النخيل/ وتفتح الألوان في شباكها القديم.
لون البلد/ سوسن غطاس: لا أحمر يشفيك/ من وجع الذلّ/ لا أصفر يردّ/ عنك مهانة الموت/ لا أخضر يتنفس من ربيع عمرك/ لا برتقالي يسقيك/ عصير البلاد/ قم من لونك/ لتعود إلى انحناء/ العلم في ملامح وجهك/ قم إلى مجدك/ بانتزاع وجودك/ من مخالب قيصر/ كي تكون أنت/ تسامى ترفع اغفر/ تسامح وتسامح وتوحّد/ هي وأنت وكلنا/ لمصير الأحرار نصبو/ لطريق الكرامة نبحر/ على هذه الأرض/ زنابق تتفتح/ كلّ صباح/ فوق تراب مشى/ عليه أجدادك/ وكلّ الأنبياء/ فلا تساوم ولا تساوم/ على إرادة شعبك/ قال كلامه كله/ واختار خارطة العلم.
كلمة العريف حسن عبادي عن إميل توما: من  مواليد 1991، رامويّ الأصل ومقيم في حيفا، وهذه المرّة الأولى التي يقف أمام جمهور. يقولُ: بين أحضان الموسيقا/ وبين أحضان المجتمع/ وبين الفراق واللقاء/ في المجتمع وبين الأهل/ ركز على انعكاس أفكاره حول قلمه/ واستنتج وأنتج على ورق/ ألما وفرحا واطمئنانا ذاتيًّا/ ومستوى ذات عشوائي ولا مبالي. وُلد إميل في قرية جليلية هو ذاته بعيدًا عنها، لكنها بقربه الباكي الشامخ- رامة الحيدر- وجعلها راية التعريف.
علّموهم/ إميل توما: الإخلاص في العمل.. الإستقرار.. الديمقراطية.. الصدق.. البلد.. العنوان.. المجتمع.. الرأي.. الدين.. المصلحة.. الاحترام.. المودة.. الهدف.. الشعب.. النضال.. المبادئ.. المبادرة.. الوطن.. الهُويّة.. الدولة.. الوجدان.. النخوة.. جميعهم  تحت عنوان: "قد خاب أملي"/ علموا أولادكم التمسّك/ بكل شيء تريدونه لهم/ وعلموهم أيضًا/ عدم التقيد بهذه الأشياء/ بين القيد والاختيار/ بين المرغوب والممنوع/ بين يجوز أو لا يجوز/ بين داخلك وخارجك/ بين أشيائك وأشيائهم/ لك شيء!
يتظاهرون/ إميل حبيبي: يتظاهرون في الشوارع لك يا أيها الوطن/ يصرخون/ ويرتدون ملابس ملتزمة لأجلك/ فحتى الفن في بلادنا أصبح لك/ وإنهم يترزقون من خلال أغنية قد صنعت لأجلك/ فما أعظمك/ جميعهم لأجلك، "منك وإليك يا أيّها الوطن الحبيب"/ يتظاهرون/ يتظاهرون/ يتظاهرون/ ويؤسفني بأن أذكرّك/ بأنهم فقط يتظاهرون..
حديثٌ في الاشتياق/ إميل توما: سألها: أتمضين الوقت معي/ أم أنّك تمضين الوقت لأجلي/ قالت له: لا أدري/ فمعك لا أشعر بالوقت أصلا/ من أين رائحتك/ غسلت نفسي وملابسي ثلاث مرات في النهار/ الأولی لأكرهك/ الثانية لأودعك/ الثالثة لأنساك/ فمن أين رائحتك تأتي؟/ أتدرين/  فالموسيقا مثلا.. أنتِ مثلها/ في الموسيقی جسد لا يبالي/ قد أمارس معها كل شيء..
علاجٌ خاصّ في الموسيقا/ إميل توما: نجلسُ لوحدنا/ لأننا نشكو ونندم/ نسعد ونهوى عن طريق الروح/ نستمع لموسيقا أردناها علاج/ نسترخي/ نتأمل ونتصافح مع أنفُسنا/ أين نحن/ أيُعقل بأننا نحتاج لدواء أقوى مِمّا هو مِن حولنا/ نعم.. فنحنُ نحتاج/ فهو الإدمان على علاج الذات/ ومَن منا أراد الشفاء/ لِيُدمن موسيقا قد صُنعت من أجلِ البقاء/ بين الموسيقا والكتابة معادلة تصعب عليَ/ فأنا أكتبُ لأسمعَها/ وأسمعُها لكي أكتب/ وهذه هي المعادلة الصعبة .
بين موتي وحبي/ إميل توما: وإني لو سأوحّد أحد/ لوحّدتك والله سيغفر لي/ وإنّي لو متّ سأراك تبكين عليّ/ في غرفتك المليئة بخطانا/ ولو أنّي إلى التراب سأعود/ فسأعود إليك/ ولو على قبري سيُحفر بأنّي مُتمّمٌ كلّ شيء/ فأنا متمم جميع واجباتي الاشتياقيّة تجاهك/ وماذا بعد/ ستبكين عليّ في غرفتك بثيابك السوداء/ لأنّهم قالوا لك قبل موتي/ بأنّي لست من ثيابكم/ وبعد يومين سوف تصحين من النوم شجاعةً جاهزةً لهدف نسياني/ حبيبتي آسف منك ومن ربي/ لكنّي اشتقت لك ولا أراك/ فأنا أحدّثك في حلمي وألقاك/ وأصحو أعاتبك على اللقاء/ والى اللقاء.
"كوني إنسان"/ إميل توما: لا شيء يُرضيني/ فأنا الإنسانُ/ لا شيءَ يُؤلمُني/ فهناك مصطلحُ النسيان/ ولا شيءَ يُشغلني/ ولا وقتَ لي بأن أُمَثّلَ دوْرَ رجلِ الحنان/ ولكنّي صامت/ وبصمتي هدوئي/ وبهدوئي تعيش ثورة أعصابي/ على الإنسان/ وهكذا/ حيرني نظري/ لم أعُدْ أدري/ بين العشق والرفق/ علاقةٌ تصعبُ عليّ/ بين الروح والقلب/ فراق لم يعدْ يطاق/ بين الحيره والغيرةِ/ مُعادلةٌ لم تُحَلّ/ بين العمل والأمل تناقُضٌ/ يخفي لي الزعلْ/ بين العينِ والعينْ فرقيْن/ عينٌ تَراكُم/ وتَراكم مَن جفا بعينٍ أخرى..
 لمحة عن الفنان رمسيس قسّيس: عازف عود، مُلحّن وشاعر غنائيّ من حيفا. ظهرت موهبته الموسيقيّة في السادسة من عمره، فبدأ مشواره في عالم الموسيقا بتعلّم العزف الكلاسيكيّ على آلة البيانو لمدّة أربع سنوات، لينطلق بعد ذلك لدراسة الموسيقي العربيّة بمجهوده الشخصيّ. عام2001 التحق بالأكاديميّة الموسيقيّة في القدس، وأنهى بامتياز اللقب الأوّل في الموسيقا والعزف على العود. إضافة لمشاريعه الموسيقيّة الخاصّة، يعمل رمسيس أستاذًا لآلة العود في كونسرفاتوار بيت الموسيقا في شفاعمرو، وقدّم عدّة تجارب في التلحين المسرحيّ الغنائيّ. أسطوانة دجَل هي باكورة أعماله، وهي دمج لعملين موسيقيّين من تأليفه؛ "ولادة" و"دجل".
وفاء فوزي فضل: ابنة حيفا، شاعرة وكاتبة من مواليد عام 1984، تنظم قصيدة النثر، وتكتب القصة القصيرة جدًا. معلمة تربية خاصّة، ومديرة مركز تعليمي في المركز الجماهيري في حي الحلّيصة في حيفا، تخصّصت في مجال العلاج بواسطة الحركة والصوت (ريو أبييرتوrio abierto)؛ وعلى عتبة إنهاء عامها الأوّل للقب الثاني في هذا المجال. وعن فلسفتها في الحياة تقول وفاء: "لم يجد المسيح عناوين السلام، لأنه لم يرَ الصورة الثانية لله على الأرض. يبحثون في الكتب تائهين، عن الحقيقة. كلَ مع كتابه المقدس، ولا يعلمون بأننا واحد، بأننا الصورة الثانية لله، لن تهدأ البشرية ولن تفهم أسرارها، إلّا إذا نظر الواحد في وجه الآخر كأنّه هو، تنقصنا المرايا يا أصدقائي.. تنقصنا المرايا".
لحنٌ فَقَدَ المدى/ وفاء فضل: فمٌ يرتبك/ وأيادٍ ترتجف في/ الريح/ سأرتوي منك عبق سنين لم تكن/ أمسحُ الطقوس من خديك/ أسمحُ للطير ان يهدّ على كتفكَ لينام/ أكشف عن الشجر مساحيق وعود المارّة/ وأعرّي يديكَ من أيادٍ مَسَحَت الطريق/ بَعْدَ أفقٍ، شممْنا أصواتَ ابتعادِهِ/ تطلبُ منّي أن أغنّي بعد/ أدندنُ صوب الشمس لاااا لااااا لا/ ولا أجد ما أقوله أكثر/ عيناكَ موجات غضب/ ينتحر شراعها/ وفي جفني تُغمِضُ/ النهار/ غفوةٌ وصحوة/ وفنجانيْ قهوة وثلاث سجائر ميتة/ هنا.. كما كانا/ دونَ يديْن/ دون الريح/ ودونَ المدى...
كوني أنت/ وفاء فضل: كوني أنت/ كوني وردةً ونجمة سينما/ كوني طرحةَ العُرس وفرحةَ الليالي المؤجّلة/ وانقذي سفينةَ نوح وارفعي وجهكِ الى السما/ كوني خالة النخيل/ وسمّي اسمكِ من جديد/ كوني زهرةً أو سما
وحيدة أنا/ وفاء فضل: كورقة شجر أيلول أولى/ ترقص بين قدميّ/ كنبتةٍ وحيدة/ تخرج من فوهة حائط/ كقلمٍ مكسور/ سقط من يدِ تلميذة مرتجفة/ كحلوى غابت في ذوبان شمس/ كحقلٍ نبتَ فيه النار/ كجفنٍ فقدَ طريق العين/ كجبلٍ لا يلتقي بآخر/ كسمكةٍ في محيط/ كشراعٍ يكتبُ العصيان
كحبٍّ سلّم دفاتر الأسرار/ كذَهبٍ كشف سوء الامتنان/ كسماءٍ حيّرت بالصلوات/ كطفلةٍ باتت شريحة اختبار/ كظلٍّ يمشي الى الوراء/ كنافذة خرجت منها الأحلام/ كضوءٍ أرجع بالصوت وخلفهُ المغيب/ كعازفة لعبت بروح الأوتار/ كنبتة وحيدة تخرج من بين رمال/ ككل شيء/ ككل شيء / وحيدة أنا / ولا تسألوا عن الاحتمال ....
العريف حسن عبادي ولمحة عن هلال ماهر الهندي: قال هلال: "البلاد الني لا تنجب شعراء ينقصها الكثير من الحظ، لكن البلاد التي ترفض الشعراء ينقصها كل شيء". الشاعر هلال ماهر الهندي، من مواليد سنة 1988، مقدسيّ الأصل ومقيم في حيفا، هر شاعر وفيزيائي، تخرّج في معهد التخنيون سنة2011، بلقب أوّل بشهادة امتياز في موضوعي الرياضيات والفيزياء. وهو يدرّس الموضوع في أكاديمية أورانيم. و"لا شيء يستحق البقاء في الذاكرة"، ديوانه الشعريّ الأوّل عام 2013. وممّا جاء فيه: "أنا لن أمارس دور المفعول به في جملتك لوقت أطول/ ولن أكون نائب الفاعل لفعل مجهول/ اقترفتِه أنت في قلبي منذ ملايين السنوات/ أنا سـأكون الفاعل/ وأنت ستظلين الجملة كما كنت دائمًا/ إعرابك صعب.. واقتباسك مستحيل/ كـأنك آية أو فصل من كتاب سماوي/ ضاع  بين الراوي وبين صوته".
في شهر شباط من هذا العام أصدر ديوانه الشعري الثاني "قد يكون اسمها مريم"، عن دار فضاءات للنشر، وعن نفسه يقول هلال: "أنا تخرجت من مدرسة محمود درويش، ولدرويش بصمة كبرى في أعمالي، أعتز بها". ومن فضاء مجموعته الشعرية "قد يكون اسمها مريم" ينشد:
ليلة مع غريبة/ هلال هندي: المومس الأخيرة غادرت/ ركبت هودجا عربيا/ لم يحمله جمل/ وحملته/ توبة الورق عن خطايا القلم/ سكبت لها كوبا من الماء/ وقلت: تفضلي/ قالت: ويداك اريدهما/ اعذرني اعاني من هوس الايادي/ قلت: خذيهما وأنا الغريب/ ويداي تحلمان بالاقتراب/ فيتحقق الحلم ويصلان/ اتركي لهما صفة الطائر/ وحرية الموج/ وامتدى على زندي الأيسر/ سهلا يخرج هضبتين/ واتركيني أبدا لعبة الشطرنج/ سامثل الدورين/ مرة حصاني أبيض/ ومرة حصاني أسود/ أربح مرة وأربح مرة/ ولا أنتهي من لعب الشطرنج أبدا
قالت: أحصنتك نائمة تحت ردائي/ ولا تريد أن تستيقظ/ وإن استيقظت فتذكر أنك/ دخلت عرين الأسد/ والأسد غائب/ واللبؤة جائعة/ قلت: سأدخل لأحكم/ أبحث نهديك كمهر يطارد أثداء امه/ هو جائع/ وأنا كما هو/ هو هي أمه/ وأنا أنت لي كل النساء
قالت: لا، ستكسر الإناء/ وسينسكب الإناء/ قلت:/ تمددي أو أمددك أنا/ تحمليني أو أحملك أنا/ عانقيني أو عنقي أقطعه أنا/ فلا رداؤك أقبله/ ولا الرداء يقبلني/ لا تناديني/ واذكري اسمه بقبلة/ وصوتك لا اريده يعلو/ ويعلو صوتي/ من حرارة القبلة/ اثيرك لا لاثير نفسي/ بل لاحميك من أصابع شهوتك/ فاصابعي لم تكن الا لاصابعي/ وجسدك لم يخلقه رب/ لتلمسه اصابع الشهوة/ بل لتلمسه اصابعي/ قالت: لك ما شئت/ هي ليلة مع غريب قلتُ: أريدكِ/ كعطارد/ لا يطيق ملابسه/ صوِّري لي الكواكب/ ودوري/ وارسمي مداراتٍ لا تُغلقيها/ ارسمي مجراتٍ بألوانٍ وردية/ تكره المجرة ألوانَ المحطة/ ....../ ......
لا أريدُ قماشًا لِجسدِ غريبتي/ أمقتهُ/ والأنثى بلا قماشٍ تَكتملْ/ القماش ما ستر امرأة/ أريد رابيتين/ وأريد غابة/ أريد يمَامة مسلوبة النظر/ وأريدُ أن أشعلَ غابة/ لأرى خروجَ نهديكِ كرابِيتين/ فتخرج بلا هديٍ يمامتي الضريرة/ تسافر في دنيا النظرْ/ ..../ .../ ..
قالتْ: أريدُ قبلها رقصة/ تذيبُ الحدود بين جسدين/ رقصةً تعيدُ الرمل ذهبًا/ في اللابحر/ رقصة تُهينُ السماء وتُعز الأرض/ نرقص فتتقشر الأرض كتفاحة/ ويذوب الهواء على خطواتنا
قلتْ: حسنًا أيتها الغريبة/ يبدو أني سأنهي رقصتي/ وتكتبني قصيدة/ فرغنا من رقصنا/ وتعبت الأرض من سمائنا/ تخدرت حواسنا/ وتنتصر الغريبة/ هي لم تكتفِ/ ولم تتركني أكتفي/ لكني اكتفيت من كتابة القصيدة
 مجندة في القطار تعجبني/ هلال الهندي: مجندة في القطار تعجبني/ بزة الجيش تلبسها وتلبسني/ سلاح يثقل كتفها ويقتلني/ شعرها الاشقر اتعب نهاري واتعبني/ عينان خضراوان نسي الخريف المرور بهما/ اقنطنت/ حزنت/ وقلت:/ اي غسيل لعقل الجمال حل بها/ واية شهوةقتل تلك التي تعيش بها/ واي الاخوين ستقتل مجندتي/ اخي في الضفة/ ام الذي في غزة اخي؟وكم من اخوتي سيظل حيا لديها/ فكيف احبها/ لا.. ساحافظ على انسانيتي
وصل القطار/ وانطفا جمالها/ ولم يبق لمعان السلاح الثقيل/ لاحظت حقيبتها ترهقها/ انسانيتي قال: ساعدها/ فساعدتها/ حملت عن كتفها حقيبتها/ ودماء اخوتي/ رافقتها الى خارج المحطة/ سالتني: لم ساعدتني؟/ اخبرتها اني احببت فيك شيئا غريبا/ ثم وقبل ان يصير لون الاشارة الخضراء أحمرا/ غدرتها/ وغادرتها/ وحيدة مع حقيبتها/ وسلاحها/ وبزة جيشها/ وتركتها على الاشارة الضوئية/ ورحلت الى انسانيتي.
شرقية/ هلال الهندي: اذا أحببتَ شرقية/ لا تخبرها أنكَ تُحبها بعمقْ/ لا تهدها وردةْ/ ستظلمكما/ انها أيام وستذبل الوردة/ لا تقبِلها/ انها قبلات/ وستجف الشفتان/ لا تعانقها/ انها ذراعان/ وَسيمل منكما العناق/ لكن لا ترحلْ/ انها بضع كلماتٍ تكتبها أنتَ لتنتهي/ ولا ينتهي أي شيء/ فلا تكتب شيئًا عن الرحيلْ
انها المرأة الشرقية/ حتى ون انكرتْ/ سيدةُ النكدْ/ سيدةُ القلقْ/ وسيدةُ التعبْ/ وسيدةُ كل شيء/ لكنها لم تكرهكَ بعد/ انْ تخلفتْ وانْ تحضرتْ/ تظلُ سيدة النساء/ وتظلُ سيدة القلب/ حاورها واسمعها طويلًا/ عانقها على الورق أكثرْ/ هي لم تكرهك هناك/ قدم لها كوبًا من/ الحليبِ المصفى مع العسل/ اياكَ وانْ تتجاهلَ اسمها الجديد/ "حبيبتي”/ والا خسرتها/ إذا كانت ليبرالية/ العبْ معها الشطرنج واخسرْ/ ستحبُ ذلك/ اذا كانت شيوعية/ تبرع بقلمك الثمين لطفل فقيرْ/ ستقدرُ لكَ ذلك/ اذا كانت يمينية/ قابلها في مناسبةٍ عامة/ ستقدسُ لكَ ذلك/ اشعر وكأنكَ تحبها لأولِ مرة/ خاطبها بلسان الذاكرة/ اقنعها أنكَ نسيتَ أمرَ الورد/ ونسيت طعمَ الشفتين/ خاطبها بلسان البداية/ اني اكتشفتُ/ بعد خمسة وعشرين عاما في الحبْ/ أن الشرقية تشعر بالنهايات سريعًا/ فتحزن/ اقنعها أن النهايات لا تأتي سريعًا/ وأن النهايات الجميلة ممكنة/ أنتَ لن تغير الكثير/ أنتَ ستزيد من حبها فقط
جاءَ في كلمة الأديب حنّا أبو حنا الختاميّة: نحن اللّيلة في نشاطٍ ثقافيٍّ له ما بَعد، وهو إرساء حجر الزاوية في لقاءاتٍ شعريّةٍ ترتقي، وعندما أعودُ بالذاكرة إلى حالِنا عند النكبة، فقد بحثنا عن كُتّاب وشعراء، إذ كانت النكبة قد حملت معها الشعراء والكُتّاب، والذين بقوا كانوا في بداية عهدِهم الكتابيّ، ولا يَصلون عدد أصابع اليديْن الاثنتيْن، وكان علينا أن نشنّ حملة واسعة، وجَهدنا كثيرًا لبناء عالمٍ ثقافيٍّ من أجل بناء ثقافتنا، لأنّ الهجومَ كانَ علينا من السّلطات، وحزب مبّاي فكان: جريدة حقيقة الأمر الأسبوعيّة، وجريدة اليوم، وجريدة الهدف جريدة ثقافيّة، ودار نشر تصدر كتب مختلفة، وحزب مبّام كان عنده جريدة المرصاد والفجر ودار نشر أيضًا، وكان علينا في ذلك الحين، أن نرى ما الذي أحدثته هذه النكبة بالنسبة للتعليم، فالمُعلّمون الذين كان لهم أن يقولوا كلمة إخلاص للطلاب ولشعبهم فُصلوا، وانتقَوا المعلمين الذين يقولون "أمرك يا سيدي"، وكثيرون منهم كانوا دون الوصول إلى ما قبل الثانوية. ولذلك كان علينا أن نقوم بجهود، ونُقيم مهرجانات شعريّة تجمع كلّ مَن هو مستعدٌّ أن يكتب الشعر، والّشعر في ذلك الحين كانَ مَنظومًا، ولم يكن عدد الشعراء كثيرًا، وكانت مغامرةً إقامةُ مهرجاناتٍ شعريّة، لأنّنا نعلم بأنّ السجن لمن يذهب بدون تصريح، ولكنّ التصريح لم يكن العائق لنا، لأنّنا عَرفنا الطريق إلى السجن، ومَن مِنَ الشّعراء لم يذهبْ إلى السّجن في ذلك الحين؟ لأنّنا تجاوزنا وتحدّينا، وقصائدنا كلّها كانت قصائدَ وطنيّة، وهذه المسيرةُ تقدّمت وتقدّمت، والبراعمُ كان منها شعراء مبدعون، وكانت حركة ثقافيّة جميلة مُدهشة، واليوم نحن بعد سنوات الخمسين مع باقة من القوى الأدبيّة، والتي نتوسّمُ فيها الخيرَ. ولكن عندي بعض الملاحظات أيّها الأحبّة:
كنت أتزعزع عندما أسمع الأخطاء اللغويّة والنحويّة، وأنا أُقدّرُ الطّاقة الشعريّة، لكن لتكن في بهجتها وفي احترامها للشعر. ولهذا أرجو من كلّ واحدٍ، أن يجلس مع أحد إخواننا الذين يُتقنون اللغة العربيّة، ويَضمن تشكيل القصيدة، وأن يَعي لماذا هذا التشكيل والتحريك، ومع الزّمن لا بدّ وأن يكون لنا شعراء مبدعون وبلغة عربية سليمة. فالفكرة والصورة جميلان، ولكن الإناءَ مكسورٌ من هنا ومن هناك، فنحن نريد شعرًا مُتكاملًا. بالطبع كان الكثيرُ من الشعر لهذه الليلة، عدا جنديّة القطار والمتظاهرون المتظاهرون، فأنا أحبّ المتظاهرين، ولا أحبّ المتظاهرين بالتظاهر (المرائين)، ولكن عندما أعود للمقارنة، فيما كان شعرنا آنذاك واليوم، فففي ذلك الحين كنّا نُساهم بالمعركة، وأحيانًا في قيادة الجوّ الحماسيّ الّذي يتحدّى، واليومَ أنا متفائلٌ، لأنّني أرى أزهارًا يانعةً مُبشّرة، ولكن طلبي لكم، أن تكونوا مُبدعين بمعنى الإبداع الفنّيّ، والإبداع في تكريم هذه اللغة الّتي نُحبّها، والتي إذا عرضناها جيّدًا، استطعنا أن نبشّرَ بهذا الإبداع ونطرب له، وتمنّياتي لكم جميعًا وتمنّياتنا لنا، أن نراكم كما تريدون وكما نريد!     



127
مجلّةُ الشرق تحاورُ الشّاعرة والأديبة آمال عوّاد رضوان!




أجرى الحوار: الشاعر جورج جريس فرح
آمال عوّاد رضوان؛ ظاهرةٌ مُميّزةٌ في أدبِنا المَحلّيّ، بل إنّها اقتحمَتْ حدودَهُ وتَجاوزتْ مَجالاتِهِ، لتنطلِقَ إلى العالمِ العربيِّ الواسع، وجوازُ سَفرِها الكلمة الّتي بَرَعَتْ آمال بتكييفِها وتَرويضِها، فانصاعَتْ لها مُطيعةً منقادَةً، تنسابُ بلطفِ انسيابِ الماءِ، لتعكسَ أبهى ألوانِ الأطيافِ الأدبيّةِ شِعرًا ونثرًا. تعالَ بنا أخي القارئ، في هذا اللقاء القصير، نستجلي بعضَ ملامح آمال عوّاد رضوان الإبداعيّة، مِن خلالِ رُدودِها على ما وجَّهنا إليها من أسئلة:     
ما الّذي يَدعو آمال عوّاد رضوان إلى الكتابة؟
هناكَ دوافع خفيّة تجتاحُني وتُحرّكُني، ولا أُدركُ كنهَها أو تفسيرَها، تقلقني ولا فَكاكَ لي منها، ودون إذنٍ منّي، تظلُّ تنكأ بجروحي حتّى تُدميها، ولا يهدأ لها بال، إلّا إذا خضعتُ لها واستسلمتُ لجموحِها. هكذا هو حالي، أظلُّ مسكونةً بعلةِ الحرفِ المُزمنة، ومتورّطةً أبدًا باقترافِ فِعل الكتابة، وكأنّي في حالةِ تنويم مغناطيسيّ، مُسيَّرةٌ شعريًّا ووجدانيًّا، ومُخيّرةٌ في التحاليل والتقارير والمقالة!
الكتابةُ بالنسبةِ لي، هي ملاذي المُثقَلُ بأحمالِ خيولٍ تنزفُ حُرقتَها، وتتزاحمُ ظامئةً لرشفةِ كرامةٍ عارمةٍ بالعدالة الكونيّة. الكتابةُ صهيلُ روحٍ تترقّبُ سلامًا، وقد أتعبَها وأنهكَها امتهانُ الإنسانيّةِ، روحٍ غصّتْ بصورٍ ضبابيّةٍ، تعجُّ بغبارٍ طازج بالوحشيّة. الكتابةُ يقظةُ وجدانٍ، تستنهضُ الضمائرَ قبلَ أن تغطّ في سباتِ الدمويّة، وتطفحُ بروائحِ الحربِ والموْتِ!
هل تفكّرين بتأثير كتابتك في القارئ أثناء الكتابة؟
عندَ كتابةِ التّقاريرِ والمقالةِ والحوارات، أُوجِّهُ بوصلةَ حرفي كيفما أرُيد وأينما أُريدُ ولمَن أُريد، وبكامل الإدراك والوعي، ولا بدّ لي أنْ أستحضرَ القارئ أوّلاً، لأنّي أوجّه حرفي لهُ مُباشرةً، بما تَحملُهُ الرّسالةُ مِن أبعادٍ قريبة بعيدةٍ وهادفة، تَصبُّ في قضايا حياتيّةٍ تَهُمُّ مُعظمَ النّسيج الاجتماعيِّ بشرائحِهِ وتشكيلاتِهِ، ولا بدّ مِن استخدامِ فنونِ اللّغةِ السّليمةِ، وأسلوبِ الإقناعِ، ودبلوماسيّةِ الطّرح.
لكن بالنّسبةِ لحرفي الشّعريِّ فمُوجّهٌ إلى روحي ومِن عالمي الوجدانيِّ الخاصّ بي، وقارئي حينَها يكونُ مُغيّبًا تمامًا، فإنّ بوصَلةَ حرفي الشِّعريِّ تتعطّلُ تمامًا في لجّة وجدانٍ غامضٍ يَتكتّمُ بالآهاتِ، ويَتخبّطُ بالقلقِ والشّكِّ واليَقين، فيَمتدُّ حرفي مارِدًا مُتمرّدًا في شساعةِ فضائِهِ المَجنونِ المُتلبّس بي، وأَنقادُ إليهِ مُستباحةً في سَكرتي، يَجرُفُني مسلوبةَ الوعي مَنهوبةَ الوقتِ، إلى أحضان سماواتٍ بعيدةٍ تعصِفُني، تُزوبعُني، لِتغسلَني مِن إثمي، ولألوذَ إلى صومعةِ اعترافي المُقدَّسِ المُتأنّق بالوجعِ المُعتمِ، حيثُ روحي تَتجلّى بشغفِها، وتُشرّعُ نوافذَها للنّورِ وللحبِّ والحياة، ولتُذيعَ صدى صمتي لنوارسَ تَتلقّفُ حروفي بمَناقيرِها، فتُحلّقُ بها عاليًا، وتُلقي بها في سماواتِ ومحيطاتِ الإبداع، حيث تتذوّقُها الأطيارُ والأسماكُ والحيتانُ، وقد يَعسُرُ هضمُها على الأسماكِ الصّغيرةِ، وقد تَغُصُّ بها، ولكن أبدًا، ما غاصَ أيُّ نصٍّ منها عميقًا دونَ اكتراثٍ.
لمستُ ذلكَ مِن خلالِ النّشرِ، فرغمَ علاقاتي الصّامتةِ المَحدودةِ جدًّا، إلّا أنّ حرفيَ انتشرَ وبشكلٍ واسعٍ، ولقيَ رواجَهُ على غيرِ توقُّعي، واهتمَّ بهِ نقّادٌ مِنَ العالمِ العربيّ، فحَظيَ بالتّرجمةِ، وبجوائزَ عالميّةٍ مُتعدّدةٍ، وهذا هو إرثي الحقيقيِّ في دربِ آلامي، وأتمنّاهُ يكونُ خالدًا، كأيّ إرثٍ ثقافيٍّ حيٍّ يَستحقُّ الحياةَ والدّيمومةَ.
وإذ إنّي أومنُ بحرفِ المُبدع الّذي يحتكُّ بجراحِهِ، ويُشعلُ أوجاعَهُ، ويُلهبُ تأوُّهاتِهِ، فهذا التّأثيرُ المُكتنِزُ بنسيجِهِ الجَماليّ، والمُؤنَّقُ بثراءِ صمْتِهِ وإيحاءاتِهِ، حتمًا سينتقلُ للقارئِ وللمُتلقّي، وقد يُحرّكُ بعضَهُ، وقد يَهزُّهُ، وقد يُبهرُهُ، وقد.. وقد.. فالتّأثُّرُ والتذوُّقُ تتفاوتُ درجاتُهُ من قارئٍ لمُتلقٍّ، فالأمرُ مُتعلّقٌ بثقافةِ المُتلقّي، وإجادتِهِ لقراءةِ الإبداعِ بكلِّ أشكالِهِ وأبعادِهِ وتأويلاتِهِ!
عرفتُ آمال عوّاد رضوان منذ حوالي أكثرَ مِن عقدٍ مِنَ الزّمنِ، مُستترةً  وراءَ "سحر الكلمات" في قوقعةٍ، سرعانَ ما انطلقتْ منها عبيرًا أدبيًا فوّاحًا يملأ الآفاق، فكيفَ كان ذلك؟
أكذوبتي الجميلةُ كانت "سحرُ الكلمات"، حينَ لبستُ قبّعةَ الإخفاءِ منذُ أواخرِ التّسعيناتِ، وكتبتُ بثقةٍ عارمةٍ، ولكن على استحياءٍ ووجلٍ، إذ كنتُ أرهبُ أنْ أجترحَ الحرفَ بهمْسي، وأخشى أنْ أمسُسَ أوردةَ الكلمةِ بخيالي الطّافحِ بالجُنونِ، وما خطرَ ببالي يومًا أنّي قد أتجرّعُ مَرارةَ هذهِ الكأسِ وحَلاوتِها في آنٍ.
كنتُ في "منتدى الكلمة نغم" مَسؤولةً رئيسةً عن كلِّ الصّوامعِ الأدبيِّة بأصْنافِها والفنّيّةِ والتّراثيّةِ، وقد صمّمتُهُ معَ الشّاعرِ المِصريِّ يحيى معوّض المُكنّى بـ (الأرز)، وذلكَ بَعدَما سمِعَني لأكثر مِن مرّةٍ أُلقي نصوصي الشّعريّةِ في إحدى غُرَفِ البالتوك الشّعريّةِ المُكنّاة "الكلمة نغم"، والّتي لاقتْ اهتمامَ الشّعراءِ وسامِعيها وإقبالِهم عليها، فكتبَ لي رسائلَ كي نُوثّقَ الكلمةَ الصّوتيّةَ المسموعةَ بالكلمةِ المَكتوبةِ، وأقمْنا معًا "منتدى الكلمة نغم"، حيثُ وفدَ إليهِ كبارُ الشّعراءِ والنّقّادِ مِنَ العالمِ العربيِّ والمَهجَرِ، وحَظِيَ برَواجٍ عالٍ، وكنتُ أُصِرُّ على الرّدودِ الشّعريّةِ ودونَ مُجاملةٍ، وقد اهتمّ النُّقّاد د. جمال قبّاني بحرْفي (مِن سوريا)، ود. إبراهيم الدّين (مِن مصر) وآخرون، مُنبئينَ بمِيلاد شاعرة.
كانَ لبيتِ الشّعرِ الفلسطينيّ دوْرٌ في إقناعي بوُجوبِ البَوْحِ باسمي الحقيقيّ، وأنّي لا أُمثّلُ نفسي فقط، وإنّما أُمثِّلُ بلدي، وكانَ إصدارُ مجموعتي الشّعريّةِ الأولى عامَ 2005 "بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ"، وقد كانَ للمجموعةِ صدًى كبيرًا في العالمِ العربيِّ، ففازَ الشّاعرُ النّاقدُ اللّبنانيُّ سامح كعوش بالجائزةِ الأولى في نقدِهِ لمجموعتي الشعريّةِ عام 2006، وتوالت الدّراساتُ النّقديّةُ مِنَ الأردن، والعراق، وسوريا، ومصر، وفلسطين، لتُرسِّخَ خطوتي الشّعريّةَ الأولى على صخرةِ تاريخي الأدبيِّ، ولِتتّسعَ حلقةُ علاقاتي الثّقافيّةِ، وتتوالى نتاجاتي الأدبيّةُ بأصنافِها، ولكن بحِرصي الشّديدِ على التّأنّي والتواضع ورفضِ الألقاب، والبُعدِ عن الأضواءِ. 
ما هي القضايا الّتي تُحاولُ آمال عوّاد رضوان مُعالجتَها في كتاباتِها دونَ سِواها؟
قضايا العدالةِ الإنسانيّةِ معَ الإنسانِ والبَشرِ هي ما تَشغَلُ فِكري وهَواجسي، قضايا تبدأُ مِنَ الفرْدِ ككَيانٍ كاملٍ مُتكامِلٍ روحًا وجسَدًا، دونَ فوارقَ جنسويّةٍ أو عِرْقيّةٍ أو قوميّةٍ وغيرها، ودونَ أنْ نتخطّى أيّةَ مَرحلةٍ مِن مَراحلِ عُمرِهِ، مَهْما كانتْ خافتةً، كي يَكونَ مُؤهّلًا بالمُساهمةِ السّليمةِ البنّاءةِ، في تكوينِ وخِدمةِ مُجتمَعِهِ الصّغيرِ والأكبرِ والأَعمِّ؛ فقضايا الطفولةِ وقضايا المَرأةِ، هي أكثرُ القضايا والجَوانبِ المُعتمةِ في مُجتمعاتِنا على مرِّ العُصورِ، وإصلاحُها حتمًا يقودُ إلى رِفعةِ ورِقيِّ المُجتمعِ الصّالحِ بأَسْرِهِ!
اللُّغةُ الشّعريّةُ هي إحدى وسائلِ الإبداعِ المُتعدّدةِ، والّتي لها أَواصِرُ مَتينةٌ معَ الرّوح ِالرّقيقةِ، والّتي قد تَخدشُها أيّةُ همسةٍ أو لمسةٍ، لذا أُحاولُ أنْ أنحَتَ مَعالمَ روحي بمُنتهى الحذَرِ الشّديدِ، وأُبرِزَ جَماليّاتِها، وأُلامِسَ شفافيّتَها، لأنّها نعمةٌ إنْ أتْـقــنّـا استخدامَها، وأَجَدْنا التّعامُلَ معَها، هذهِ النّعمةُ الّتي خصَّنا بها الباري، وفَجَّرَها في كلِّ إنسانٍ، لكن، مِنّا مَن يَغفلُ عنِ اكتشافِها ولا يَكترِثُ بها،  ومِنّا مَن يَقمَعُها أو يُهمِلُها، وباعتقادي المُتواضعِ، أنّ روحَ الإبداعِ هي أكبَرُ مُقوِّماتِ التّهذيبِ لكلّ إنسانٍ ومُفكّرٍ وسياسيٍّ وتاجرٍ وإلخ، تدعوهُ إلى التأمُّلِ والتّروّي وضبْطِ النّفسِ، لتَسْمُوَ بأفكارِهِ إلى درجاتِ الحِكمةِ، والإنسانيّةِ، والعطفِ، والمُصالحةِ معَ الذّاتِ ومعَ الآخَرينَ.
هل يجبُ أنْ يَكونَ الأدبُ هادِفًا ومُلتزمًا، أم أنَّ الالتزامَ يُفقِدُ الأدبَ الفنّيَّةَ والإبداعَ؟
كلمةُ "أَدَب" تحمِلُ مَعناها، فلا بُدَّ للأدبِ أنْ يكونَ هادفًا، يَهدفُ إلى الإبداعِ في الدّرجةِ الأولى، وإلى الإصلاحِ والبِناءِ الجَميلِ، وأنْ يَكونَ مُلتزمًا بقواعدَ أساسيّةٍ لا تَخدشُ الحَياءَ الإنسانيّ، وأنْ يَترفّعَ عمّا يُسيءُ للبَشريّةِ وللإنسانيّةِ. ولكن، وبما أنّ القِيمَ تتراوحُ على سُلّمِ النّسبيّةِ والتّفاوُتِ بينَ مُجتمَعٍ وآخَرَ، فلا بُدَّ أنْ يَتوخّى المُبدعُ كاملَ المَسؤوليّةِ البنّاءةِ، في إخراجِ إبداعِهِ سِلمِيًّا، بشكلٍ يَليقُ بالإنسانيّةِ كافّةً وليسَ لفئةٍ دونَ سِواها، كي يُخاطِبَ العالَمَ والكوْنَ، ويُؤثّرَ في طرْحِهِ وحِوارِهِ السِّلميِّ بلغةٍ مُقنِعةٍ ودبلوماسيّة.
أمّا القوالبُ الأدبيّةُ المَرسومةُ الّتي عهِدْناها، والّتي يَلتزِمُ بها كثيرونَ، فباعتقادي أنّها قد تُفقِدُ الأدبَ فنّيّتَهُ وإبداعَهُ في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ، فنرى كثيرينَ يَلتزمونَ بالقوافي ويَلْحَنون، أو بالعَروضِ فيَكسرونَ، أو يَبدو بناؤُهُم مَصفوفًا مَنظومًا خاليًا مِنَ الشّعرِ. ويَتدرَّجُ هذا في جَميعِ تَصنيفاتِ الأدبِ، فالمُبدعونَ الحقيقيّونَ لهُم أساليب تُميِّزُهم، وقواميس لغويّةٌ خاصّة بهم، لا يَخضعونَ للتّقليدِ أو الرّوتينِ والتّكرارِ، إنّما يأتونَ بإبداعٍ جديدٍ وتجديدٍ في كلِّ جديد. هذا الخَلْقُ هو ما أعتبرُهُ إبداعًا غيرَ مَكرورٍ. مُهمٌّ جدًّا للمُبدعِ أنْ تَتمتّعَ روحُهُ بالمَوهبةِ والإبداعِ أوَّلًا، وأنْ يَمتلِكَ أدواتِهِ اللّغويّةَ والنّحويّةَ، ويُجيدَ استخدامَها بلباقةٍ وليونةٍ ومُرونةٍ.       
هل تُؤمِنُ آمال عوّاد رضوان أنَّ ثمّةَ ما يُمكِنُ أنْ يُسَمّى "الأدبُ النّسائيّ"؟
لا أومِنُ أنّ هناكَ ما يُسمّى بالأدبِ النّسويِّ أو الذّكوريِّ، رغمَ ما يَدورُ مِن جدَلٍ يَحتدِمُ ويَتوَعَّرُ منذ الخمسيناتِ، لأنَّ المَرأةَ إنسانٌ وكيانٌ لها حضورٌ كبيرٌ، رغمَ أنّها هُمِّشتْ في شِبهِ سُباتٍ خلالَ عصورٍ طويلةٍ. هذا المُصطلَحُ أُطلِقَ حينَ تمرّدَتِ المَرأةُ المُضطهَدَةُ في الخمسينات، وثارتْ على عاداتِ المُجتمعِ الذّكوريِّ وعلى المَفاهيمِ الذُّكوريّةِ، فاسترْعَتِ انتباهَ النُّقّادِ والإعلامِ، وصَوّرَتِ الواقعَ السّائدَ، فانتشَرَ مُصطلَحُ الأدبِ النّسويِّ ما بعدَ الحداثة، وظهرَتِ المَرأةُ في المَركزِ مُناضِلةً مُناهِضةً مُبدِعةً، تَعتني بذاتِها الأُنثويّةِ وبجَسدِها، وترفضُ التّبعيّةَ، وتخترقُ الثّالوثَ المُحَرَّمَ: الجنسَ والدّينَ والسّياسةَ، واستخدَمتْ حبكةً غيرَ تقليديّةٍ، بتداخُلِ أجناسٍ وآليّاتٍ فنّيّةٍ كثيرةٍ كمثل؛ التّصويرِ، والرّسمِ، والسّينما، والصّحافةِ، والأخبارِ، وإلخ.. والمرأةُ أظهَرَتِ الرّجُلَ قاسيًا مُهشّمًا وضعيفًا، مُستغِلًّا لها مغتصِبًا وعاجزًا جنسيًّا. كانتْ فترةٌ انتقاليّةٌ وانتهَتْ، واليومَ هناكَ كاتباتٌ مَشهوراتٌ يَستأهِلْنَ تخليدَ أدَبِهِنَّ، فلا ينبغي إصدارَ أحكامٍ تَعسُّفيَّةٍ سَطحيَّةٍ مُعمَّمةٍ، بل علينا إنصافُهُنّ في المَيادينِ المُختلفةِ، فالإبداعُ يَحتاجُ إلى لغةٍ سليمةٍ، وأفكارٍ خلّاقةٍ ومُبدِعةٍ، تُجاري العصرَ وتَخدمَ المجتمعَ، فهل نَزُجُّ أدبَ رجالٍ كتبوا عنِ المرأةِ وبلسانِ المرأةِ، في خانةِ الأدبِ النّسائيّ؟
هل المرأةُ قاصرةٌ على الإبداع؟ فلنطّلِعْ على آخِرِ الأبحاثِ العِلميّةِ إذن؛
سيكولوجيًّا: هل للكتابةِ خصوصيّةٌ تنبُعُ مِن الجنسويّة؟
ثقافيًّا، هل للمَرأةِ أساليبٌ وطُرُقُ تعبيرٍ تُميّزُها، ولها علاقةٌ ببيئتِها الثّقافيّةِ؟
لُغويًّا: هل للمرأةِ لغةٌ أنثويّةٌ وخطابٌ، وضميرٌ، وسردٌ أنثويٌ رومانسيّ خاصٌّ مُختلفٌ عن الرّجل؟
وهل الفرْقُ التّكوينيُّ بينَ الجنسيْنِ مِن حيث تكوين المُخ، يَنعكسُ في إبداعاتِهما؟
تُبيِّنُ الأبحاثُ وتُؤكِّدُ بأنَّ المُخَّ يَنقسِمُ إلى قسمَيْنِ، القسمُ الأيْسَرُ عندَ المرأةِ أكبَرُ حجمًا، وأقوى فاعليّةً ممّا لدى الرَّجُلِ، يَشمَلُ مَراكِزَ اللّغةِ، وظائفُهُ الأساسيَّةُ لفظيَّةٌ ومَنطقيّةٌ ومُلتصِقةٌ بالحقائقِ، بينما القِسمُ الأيمنُ الّذي يَتعلّقُ بالمَجالِ البَصريِّ والخَيالِ والأحلامِ، هو أكبَرُ حجْمًا عندَ الذُّكورِ، مَسؤولٌ عنِ الخَيالِ والأساطيرِ والتّفكيرِ الاستعاريِّ والرّمزيِّ، فهل حقًّا الرّجُلُ أكثرَ ميْلًا للأساطيرِ والخيالِ، والمَرأةُ أكثرُ واقعيّةً ومنطقًا ووُضوحًا؟ عِلميًّا، القنطرةُ الّتي تربطُ بين القِسميْنِ، تُحدِثُ التّزاوجَ بين النصفيْنِ، فرَسائلُها أكبرُ حجمًا عندَ الإناثِ، ممّا يُسَهِّلُ عمليّةَ نقْلِ الصُّوَرِ، ويَجعَلُ المَجالَ الإبداعيَّ مَفتوحًا أمامَ النّساءِ بشكلٍ أكبر!
إذن؛ لماذا عددُ المُبدِعاتِ عبْرَ التّاريخِ أقلُّ عدَدًا مِنَ الذُّكورِ، رغمَ انطلاقتِها منذُ القرنِ التّاسع عشر، وانفتاحِها الثّقافيِّ والاجتماعيِّ التّحرُّريِّ، ونيْلِها الكثيرَ مِنَ الحُقوق؟ هل يَتدخّلُ المُجتمعُ ويَمنعُها ويَقمَعُ حُرّيّتَها؟ وهل الزّواجُ مَقبرةُ المرأةِ المُبدعةِ؟ وهل هناكَ فروقٌ في الإنتاج بينَ الجنسيْنِ معَ وُجودِ الحُرّيّة؟
كلمتي تقولُ: إنَّ المُجتمَعَ يَحتاجُ إلى إعادةِ حِساباتِهِ معَ نفسِهِ، ومعَ المرأةِ في كافّةِ المَجالاتِ.
كيفَ تَنظُرُ آمال عوّاد رضوان إلى المشهدِ الأدبيِّ الفِلسطينيِّ بشكلٍ عامّ، وإلى أدبِ الدّاخلِ بشكلٍ خاصٍّ؟
إنّ الأدبَ الفلسطينيَّ في الدّاخلِ راسخُ الجذورِ منذُ الجيلِ الأوّلِ، وقد اتّجهَ مؤشّرُ بوصلتِهِ صوْبَ مكانةٍ مرموقةٍ في الشعرِ العربيّ والعالميِّ! فالأديب الفلسطينيّ امتطى صهوةَ ثقافتِهِ وما ترجّلَ عنها، رغمَ الاختناقِ وضيقِ التنفّسِ، بل شنّ وعيَهُ وأدواتِهِ اللغويّةَ اللاهبةَ ضدَّ مذابحِ الغزوِ، وضِدَّ حَصْرِهِ في قواقعِ الطائفيّةِ والأقليّةِ العربيّةِ في دولةٍ يَهوديّةٍ، فعايشَ البيئةَ الجديدةَ وواكبَها بالمُواجهةِ، وتَصدّى لمَحْوِ ذاكرتِهِ التراثيّةِ وتاريخِ حضارتِهِ! كما تفاعَلَ معَ العالم الخارجيِّ، ولم يَكْنْ رَهينَ شِعرِ المقاومةِ، ورغمَ المآسي الّتي يُكابدُها، ما تَنازلَ عن ثوابتِ وكواشينِ حَواكيرِهِ، ولم يَقتصِرْ أدبُهُ على النّدبِ والشّجبِ فحسْب، إنّما أثمَرَتِ الحَواكيرُ الفلسطينيّةُ ما لذَّ وطابَ مِن شعرٍ شعبيٍّ وفصيحٍ بليغٍ، يتحدّثُ فيهِ عن الحنينِ والغربةِ والمقاومةِ والتحدّي، والحُبِّ والعِشقِ وجَمالِيّاتِ الحياةِ والمشاعرِ الإنسانيّةِ، وتعميقِ الحياةِ وتجميلِ الوجودِ وبناءِ المُستقبلِ، مِن خلالِ مساحاتٍ فكريّةٍ شاسعةٍ، وانتماءاتٍ ثقافيّةٍ مختلفةٍ وبشتّى الرُّؤى.
الأديبُ الفلسطينيُّ إنسانٌ اعترَكتْهُ الظّروفُ، فعايَشَ القهرَ، وتدرّبَ كيفَ يَعتلي سُحُبَ الخيالِ والتّصوُّرِ، ليُحلّقَ بأجنحةِ التّصويرِ والإبداعِ، كي يَخلقَ عالمًا أجمَلَ مِنَ الحقيقةِ، لذا تفاعلَ معَ البيئةِ والحياةِ وظروفِها وتفاصيلِها اليوميّةِ، بمُنتهى الحساسيّةِ الإبداعيّة، وكانَ لِشعرِ المقاومةِ أن يتصدّرَ المَشهدَ الشّعريَّ، مِن أجلِ التحريرِ والحُرّيّةِ المَنشودَيْن، ففرَضَ نفسَهُ إعلاميًّا، وتجلّى بشكلٍ بارزٍ بما يَتوافقُ والحالة الراهنة الّتي استمرّتْ واستدامتْ، وقد تُرجمَ الكثيرُ مِنَ الأشعارِ للعبريّةِ ولغاتٍ أخرى، ولوحِقَ بعضُ أصحابِها، لِما تَحمِلُهُ مِن فِكرٍ وتحريضٍ يُعارضُ سياسةَ التّهويدِ المَفروضة، وبسببِ الانتماءاتِ الحزبيّةِ، في ظلِّ غيابِ الوطنِ وسيادتِهِ الفلسطينيّة.
مِن شعرائِنا وأدبائِنا مَن سطعَتْ نُجومُهُم وحضورُهُم في وسائلِ الإعلامِ الحِزبيّة، وتركَ بصمةً زيتيّةً في الذاكرةِ الثقافيّة، وأثرًا محفورًا في سنديانِ المَهرجاناتِ الثوريّةِ والاحتفالاتِ الشعريّةِ التّحميسيّةِ، ومنهم مَن خفَتَ نجمُهُم حدَّ البصيص، وما عُرف قدْرُهم وما نالوا حقّهم، فقد توهّجَ بينَ سُحُبِ السماءِ مَن توهّج، وناسَ بينَ الغيومِ مَن وشّحتْهُ بضبابِها، وقد حوكِم الإبداعُ الأدبيُّ حزبيًّا وسياسيًّا، وبكلِّ أسفٍ ظلّتْ تخضعُ ثقافتُنا للامتحانِ وإثباتِ الوجودِ والحضورِ، وبقيتْ رهينةً تستعطفُ الودَّ العربيَّ حتّى اليوم، ويُحاولُ فلسطينيّو (إسرائيل) العربُ أنْ يَنفوا التُّهمةَ المُوجَّهةَ إليهم، كي يُثبتوا أنّهم أبرياءٌ مِن دمِ المُبايعةِ أو التسليمِ والاستسلامِ، وأنّهم عربٌ أقحاحٌ ما تَهوَّدوا ولا تَطبَّعوا ولا تأسْرَلوا!
وفي ظِلِّ التّهميشِ العربيِّ لِلمأساةِ المُستديمةِ العَليلةِ، غدا فلسطينيّو (إسرائيل) ضحيّةً مُفخّخةً موْقوتةً، ومُعلّقةً خارجَ الأحداثِ التاريخيّةِ والخرائطِ الجغرافيّةِ، فهُمُ الضّحيّةُ المَوْصومةُ بخَتْمٍ إسرائيليٍّ يَنبغي التّخلُّصَ مِنه أو تذويبَهُ، وهكذا؛ بُتِرَ شعبُنا عن شقيقِهِ الآخَرِ في الضّفّةِ وغزّة، واستُبعِدَ عن الأُمّةِ العربيّةِ وسياساتِها في صُنعِ القَرار، كأنّما توقّفتْ عجَلةُ التاريخِ عندَ شرْخِ النّكْبةِ دونَ حَراكٍ عربيٍّ مُسانِدٍ!
وكانَ للجيلِ الأوّلِ مُهمّةٌ شاقّةٌ مِن خلالِ الإبداعِ الفلسطينيِّ، هو خلْقُ نموذجِ مُقاوَمةٍ، مِن خلالِ الكلمةِ الحادّةِ اللّاهبةِ، والنّاقرةِ على شريانِ وجعِ المنكوبِ ونبْضِ مُعاناةِ الشّعبِ، إلّا أنّ البعضَ دخلوا في مرحلةِ الاجترارِ والتقليدِ للنّموذجِ السّابقِ، والبعضَ لا زالَ قادرًا على تشكيلِ رؤًى فكريّةً ناضجةً مُستحدَثةً، وإبداعيّةً مُتميّزةً بفنّيّتِها، وبمستوًى عربيٍّ عالميٍّ، وتستمرُّ حربُ الحَرْف!
أيَجهلُ المُحتلُّ ما للإعلام الوطنيّ بشتّى وسائلِهِ وتقنيّاتِهِ من دوْرٍ هامٍّ في دعْمِ الهُويّةِ الوطنيّةِ، ومحاربةِ النّزعاتِ الطّائفيّةِ، ونَشْرِ الثقافةِ المستقِلّةِ وتعزيزِ الثقةِ والانتماءِ الوطنيِّ والقوميّ؟
وهل يَخفى على المُثقَّفِ الواعي تأثيرُ الإعلام، وحضورُهُ الفعّالُ المُباشرُ مَحلّيًّا وعربيًّا وعالميًّا، وفي إعطاءِ المبدعُ فرصَ تطويرِ إمكاناتِهِ الأدبيّةِ والإبداعيّةِ، دونَ الولاءِ لجهةٍ ما أو حزبٍ داعمٍ؟
طبعًا لا، إنّما حُكْمُ القويِّ السائدُ الجائرُ حجَّمَ وقلّصَ للشعبِ الأعزل إمكاناتَهُ التّقنيّةَ التَثقيفيّةَ، لكنّهُ ما استطاعَ أنْ يُثبطَ العزيمةَ والهِمّةَ في النّضالِ الواعي، أو يُحبطَ التّصدّي العنيدَ، مِن أجلِ الحفاظِ على الكيانِ الفلسطينيِّ العربيِّ لغةً وحسًّا وانتماءً، دونَ تهجينٍ أو تذويب.
لكن؛ وبسببِ توقُّفِ الاهتمامِ والإعلامِ العربيِّ فقط عندَ أسماء مَحدودة مِن أدبائِنا، وعند نماذجَ قليلةٍ مِن شعرائِنا، مَن بيعتْ وسُوِّقتْ وتُرجمَتْ وانتشرتْ كتبُهُم في المكتباتِ العربيّة، نالَ أصحابُها حصّةَ الأسدِ في تلقّي الدّعواتِ والمُشاركاتِ والانتشارِ عربيّا وعالميّا. وبسببِ غيابِ التّنظيماتِ الثّقافيّةِ والأدبيّةِ الوطنيّةِ المحَلّيّة المُحارَبة صهيونيًّا، فقد تولّدتْ أزمةُ غيابِ النّقدِ الحقيقيِّ الموضوعيِّ المَحلّيِّ والعربيّ، فهيّأتْ مناخًا تسودُهُ الشلليّةُ المُتسلّقةُ البارزةُ، والّتي أركنتِ المواهبَ والتّجاربَ الأدبيّةَ المُتميّزةَ في هوامشِ الإبداعِ، فكساها غبارُ الإهمالِ والإحباطِ دونَ تسويقٍ، بل عمدتْ على ترويجِ الرّديءِ بدلًا مِنَ الأجوَد.
وها هي واحةُ الأدبِ الفلسطينيّةِ الزّاهيةِ لا زالتْ تُزهرُ وتُثمرُ وتُظلّلُ، وتفوحُ أزاهيرُها في صحراءَ تكثرُ فيها الرّمالُ المُتحرّكةُ لتبتلَعَها، حيثُ تنعقُ فيها الأبواقُ المَشبوهةُ والهِمَمُ الوُصوليّةُ، الّتي تنعفُ الرّمالَ الحارّةَ في عيونِ المُبدعينَ والمثقّفينَ والقرّاءِ والبُسطاء.
إضافةً إلى الشبكةِ العنكبوتيّةِ التي لعبتِ دوْرًا هامًّا في كسْرِ الحواجزِ الجغرافيّةِ والحدودِ السياسيّةِ المفروضةِ في السّنواتِ العشرِ الأخيرةِ، كما وساعدتْ في انتشارِ الثّقافةِ الرّديئةِ والجيّدة، ولكن على مستوى فرديٍّ وليس جماعيٍّ ووطنيٍّ، وهذا شقٌّ آخَرُ مِنَ المأساةِ التي توالتْ أكثرَ من ستّة عقود!
ما هو تقييمُ آمال عوّاد رضوان  لأدبِ الإنترنت؟ وهل تأثّرَ إبداعُ آمال عوّاد رضوان بوسائلِ التّواصُلِ الاجتماعيِّ الحديثةِ وعالمِ الإنترنت؟
عالمُ الإنترنت هو وسيلةٌ تكنولوجيّةٌ مُستحدَثةٌ، لها إيجابيّاتُها ولها سلبيّاتُها، كأيّةِ وسيلةٍ تكنولوجيّةٍ أخرى، قد نُسيءُ أو نُجيدُ استخدامَها، فتُقدّمُ الفُرَصَ لمَنْ يَستأهِلُها ولا يَستأهِلُها، مِن هُواةٍ ومُتمرِسينَ، ولصوصِ أدبٍ أيضًا، لكن لا بُدَّ مِن غربلةٍ إبداعيّةٍ موضوعيَّةٍ، تأخذُ حَقَّها ودَوْرَها، فليسَ كُلُّ ما يَلمَعُ على صفحاتِ النتّ ذهبًا.
شخصيًّا، وبحُكْمِ حُدودِ حركتي المَفروضةِ جغرافيًّا وأُسَرِيًّا وبحُكْمِ وظيفتي، إلّا أنّ فِكري وحَرفي الصّامتَ المُؤمنَ بدَرْبِهِ، عبْرَ الشّاشةِ الصّغيرةِ، وبهدوءِ المياةِ المُنسابةِ بينَ شُقوقِ الصّخرِ، استطاعَ أنْ يتخطّى الحُدودَ إلى العالَمِ الخارجيّ، ويَلقى صداهُ عربيًّا وعالميًّا.   
توصياتٌ ونصائحُ يُمكنُ أنْ تُسدِيَها آمال عوّاد رضوان للنّاشئينَ مِنَ الشّعراءِ والكُتّاب؟
التأنّي في الكِتابةِ وعدمِ التّسرُّعِ في النّشر، فزوّادةُ الكاتبِ هي المُطالعةُ المُتنوّعةُ الرّاقية، مِن أجلِ تثقيفِ الذّاتِ أوّلًا، والتّعرُّفِ إلى تشكيلةٍ واسعةٍ مِن أصنافِ الأدبِ الرّاقي. يَحتاجُ الكاتبُ إلى الكثيرِ مِن ضبطِ النّفسِ والتّأمُّلِ والابتعادِ عن الكتابةِ الانفعاليّةِ، ولو كَتَبَ، فعليهِ أنْ يَترُكَ النّصَّ جانبًا فترةً زمنيّةً ليُراجعَهَ بعد حينٍ، بعدَما تختمرُ الفكرةُ وتتعتّقُ، ومن ثمّ يعودُ إلى النّصّ المَكتوبِ، ليتأكّدَ مِن مَدى جَدوى صلاحيّتِهِ. ليسَ كمُّ الإصداراتِ هو المُهِمُّ، ولكنّ الأهمَّ هو النّصُّ الإبداعيُّ الحقيقيّ. لذا؛ على الكاتبِ الناشئ وغير الناشئ أيضًا، ألّا يتراكضَ وراءَ الألقابِ البرّاقةِ، ووراءَ ردودِ الاستحسانِ المُجامِلة. عليهِ أنْ يَتّخِذَ العزلةَ صومعةً تَعُجُّ بالصّمتِ، بعيدًا عنِ الأضواءِ والضّوضاءِ، وصخبِ المديحِ والإطراءِ. 
ماذا تُخبئ لنا آمال في جعبتها؟
آمال تخبئ لكم آمالها المُتجدّدة التي لا تكِنُّ ولا تستكينُ، وتظلُّ تُلاحقُها فراشاتُ الحروف المُحلّقةِ بعشوائيّتِها إلى مجهولٍ لا يهدأ. كتبُها الأدبيّةُ الثلاثة ما زالت رهينةَ عتمةِ الانتظار، لتقشعَ نورَ الإصدار: أوّلًا: كتابُ حواراتٍ، وثانيًا: كتابٌ خاصٌّ بالتقاريرِ الثقافيّة، وثالثًا: كتابٌ شعريٌّ.

نُشرَ في مجلة الشرق الصادرة عن دار المشرق في شفاعمرو
العدد الختامي الموسّع- كانون ثانٍ/نيسان 2014، ص 93 -99



128




تَجَاعِيدُ نَارِي.. مَوْشُومَةٌ بِالْعُزْلَةِ!




آمال عوّاد رضوان

 طُوفَانَ غِبْطَةٍ
فَضَّضَنِي
ضَوْءُ أَنْفَاسِكِ الْمُلَوَّنَةِ
وَانْبَلَجْتِ نَيْزَكًا
تَمُورِينَ .. بِفُوَّهَةِ سَمَائِي
تُرَوْنِقينَ هَيْكَلِي الْمُعَلَّقَ
بَيْنَكِ وَبَيْنَكِ!
***
كيف أَسْتَوِي عَلَى هَالَةِ شَهْقَةٍ
وتَعَاوِيذُ غَيْبُوبَتِكِ .. تُمَوْسِقُنِي
تُ رْ هِ مُ نِ ي
زَقْزَقَةَ غَمَامٍ .. مَبْتُورِ اللِّسَانِ؟
***
أَنَا مَنْ نَشَرْتُ نَقَاءَ رُوحِكَ
عَلَى حَوَافِّ غَيْمٍ
كَمْ ثَارَ مَائِجًا بِي
كَضَوْضَاءِ أَلْسِنَةٍ مُتَمَرِّدَةٍ
دَغْدَغَتْهَا غَيْمَةٌ نَافِرَة
وَكَم نَ عَ فَ تْ نِي
عَلَى ذُرَى نُهُودِهَا
لِأُوقِـــــدَ .. نِيرَانَ مجُوسِهَا الْمُقَدَّسَة!
***
عَيْــــنَـــــاكِ الــبَــــاذِخَـــتَــــانِ
فِي سَخَاءِ ضَوْعهِمَا
أَمَا زَالَتَا آسِرَتَيْنِ؟
***
آآآآآهٍ
كَمْ تَــوَهَّـــجْــــتُ بِصَرْخَتَيْهِمَا الْمُبْحِرَتَيْنِ
فِي عِطْرِ الرَّيَاحِينِ!
كَمْ تَغَشَّانِي طَيْفُكِ الْخُرَافِيُّ
يُزَلْزِلُ أَعْمَاقَ تَمَاثِيلِي!
كَمْ أعَدَّنِي.. لِمُحِيطَاتِ الْجُنُونِ
أَقْدَاحَ.. تُسْكِرُ رَقَصَاتِي
لِأَذُوبَ
فِي عَجْنَتِي الأُولَى لِلتَّخْلِيقِ 
فَيَخْشَعُ قَلَمِي.. لِقُدْسِيَّةِ كُفْرِكِ
ويُشَاكِسُ.. دَمْعَ أَنَامِلِي!
***
أَيَا غَادَةَ نُورِي
أَنَا مَنِ احْتَرَفْتُ اشْتِهَاءَ شَرَارَةٍ
تَجَرَّدَتْ مِنْ شَرَرِهَا
هِيَ ذِي مَوَاقِدُكِ
أَعْشَتْ عَيْنَيْ بُلْبُلٍ .. فَاصْطَدْتِهِ!
بَلْبَلْتِ أَلْسِنَةَ بَلاَبِلِي .. فِي غَابَةِ غِيَابِكِ
وَحَرْفِي الثَّمِلُ.. افْتَرَشَ سَلاَسِلِي
يَتَرَنَّمُ بِلَهِيبِ أَقْفَاصِكِ!
***
أَلاَ فَاسْكُبِيَنِي سَرَائِرَ أَطْيَافٍ
تَتَرَاقَصُ
عَ ا رِ يَ ةً
إِلاَّ مِنْ عَرَائِس دَهْشَةٍ .. تَتَلَهّى بِغِيِّهَا!
***
صَوْتُكِ الْعَارِمُ بِي .. غَضٌّ تَهَجُّدُهُ
مَا انْفَكَّ .. يُبْهِرُنِي
يُشْعِلُنِي .. بِتَمْتَمَاتٍ خَاشِعَةٍ!
***
طَــاغِــيَــةُ الــطُّــهْـــرِ .. أُنُــوثَــتُـــكِ
تَغْسِلُنِي
بِضَوْءِ مَزَامِيرِكِ النَّجْلاَءِ!
أتَغْشَى تَجَاعِيدَ نَارِي .. الــ .. مَوْشُومَةً بِالْعُزْلَةِ؟
أَتَتَقَمَّزُ رَهْبَنَةً .. في ِمُنْحَدَرِ خَطِيئَتِي؟
أَتُعَمِّدُنِي.. بِعِطْرٍ مُطَرَّزٍ بِحَنَانِكِ
أم تَمْسَحُنِي.. بِزَيْتِ كِبْرِيَائِكِ الْمُقَدَّسِ
فَــــأَطْــــهُـــــــــرُ؟


129
طفولةٌ تبتزُّها عناكبُ الشّياطينِ!
آمال عوّاد رضوان
هل نستغربُ مِن تصرّفِ مربّيةٍ، تُعرّي طفلاً وتقيّدُهُ وتصوّرُهُ مِن أجلِ ابتزازِ والديْهِ؟
النّجمةُ سيندي كروفورد تعرّضتْ لمحاولةِ ابتزازٍ، مِن خلالِ نشرِ صورِ ابنتِها العارية؛ ابنة السّبع سنوات، عن طريقِ صديقِ مربّيتِها!
ثمّ حاضنةٌ أخرى في ريعانِ شبابِها وجمالِها، تهتمُّ بشؤونِ الطّفلِ أثناءَ غيابِ أمِّهِ وأبيهِ المُوظّفيْن، لكنّها بعدَ خروجِهما بفترةٍ وجيزةٍ، تخرجُ بمعيّةِ الطّفلِ تتسوّلُ، إلى أن اكتشفَ أمرَ الطّفلِ أحدُ الجيران، فدعا والدَيْهِ ليُصدَمَا بمرارةِ الحقيقةِ العقيمة!
حاضنةٌ أخرى تعملُ على تنويمِ الأطفالِ مدّةَ وجودِهم لديها، إلى أنْ يحينَ موعدُ عودةِ الأهل، كي لا تتكبّدَ معاناةَ بكائِهم ومسؤوليّةَ رعايتِهم، لكن تشاءُ الصّدفةُ أن يُكشفَ احتيالها، إذ أعطتْ أحدَ الأطفالِ جرعةً مضاعَفة!
وهل تكونُ روايةُ "عمارة يعقوبيان" الّتي تُسلّطُ الضّوءَ الفاجعَ على طفلٍ تعرّضَ لاغتصابِ خادمِهِ المتكرّرِ، في عتمةِ ائتمانِ الأهلِ للخادمِ على الطّفل، إلاّ نموذجًا حيًّا لِكَمٍّ هائلٍ مِن أطفالٍ يَفضُّ بكارةَ طفولتِهم بعضُ خدَمٍ وأقرباء بغير توقّع!
وماذا عن تزويجِ طفلاتٍ في العاشرةِ مِن أعمارِهنّ وما دون أو ما ينيف، مِن رجالٍ ميسوري الحال، بشتّى الزّيجاتِ متعدّدةِ التّسمياتِ والأشكالِ والتّبريرات؟
على مدارِ أيّامٍ كانتِ الدّمعةُ تترقرقُ في عينيْها الذّليلتيْن، تتحاشى نظراتِ نزلاءِ الفندقِ، وهيَ تحتضنُ طفليْنِ في غرفةِ الطّعامِ ومجلسِ الاستقبال، تُلقّمُهُما الصّمتَ العاجزَ، فيجيبانِها بحركاتٍ متمرّدةٍ طفوليّةٍ، يتقافزانِ يتصايحان يتضاحكان ويتباكيان، ولا سلطانَ لها عليهما.
أينَ يغيبُ والداهُما عنهما كلَّ هذا الوقت؟ كيف ينشآنِ بكنفِ رعايةٍ منقوصةٍ مِن فلبّينيّة، يثيرُ الشّفقةَ عجْزُها، ويثيرُ البؤسَ طفلانِ ينقصُهما الحنان!
ولا زالتْ خيوطُ عنكبوتِهِ عالقةً في ذهنِ طفلةٍ لم تُصدّقْ ما يحدثُ، ويرفضُ دماغُها الطّفوليُّ الصّغيرُ البريءُ، إلاّ أن يُقرَّ بأنّ هذا الّذي رأتْهُ، ما هو سوى فعلِ خيالٍ، أو مجرّد فيلمٍ يُعبّئِ وقتَ فراغٍ بخيالٍ بعيدٍ بُعدَ السّماءِ عن الأرضِ مِنْ حيثُ الواقع!
رجلٌ منزوعُ القلبِ يخطفُ أطفالاً ويشوّههُم ببترِ أطرافِهم، وفقْءِ عيونِهم، ثمّ يُجبرُهم على ممارسةِ حرفةِ التّسوّلِ والسّرقةِ وبيْعِ المخدّرات، بوسائلَ مريرةٍ وبمنتهى القسوةِ والتّعذيبِ والتّجويع!؟
أيُعقلُ أن تكونَ هناكَ عصاباتٌ بهذهِ القسوةِ واللاّإنسانيّة؟
وهل يلتقي النّقيضان؛ القسوةُ والإنسانيّةُ معًا؟
فيلمٌ قاسٍ طوَتْهُ الذّاكرةُ، وباتَ مركونًا تُغلّفُهُ الأغبرةُ على رفوفِ النّسيان، لكنّ الواقعَ أبى إلاّ أن يُثبتَ براءتَهُ أمامَ ذاكرةٍ معطوبةٍ متعاليةٍ، تغطُّ في سباتِها المُلحِدِ!
ولا يسعُ الألمُ إلاّ أن يطفوَ على صفحةِ الواقع جثّةً نتنةً، تحرّكُها مخالبُ الحقيقةِ الرّجسةِ بأشكالِ تسوّلٍ متعدّدةٍ! شبكةُ تسوّلٍ يُشغّلُها رجلٌ مسؤولٌ عن عددٍ مِنَ الأطفالِ، يوزّعُهم على الطّرقات، يتحايلونَ على السّائقينَ ويستعطفونَهم، ليبيعوا أشرطةً صوتيّةً أو مرئيّةً، أو علبَ كبريتٍ ومناديلَ ورقيّة، أو سجائرَ وحاجاتٍ خفيفةً لا تخطرُ ببالِ سائقٍ.
ترى الأطفالَ يتراكضونَ بينَ السّيّاراتِ، يتزاحمونَ ويتسابقونَ، يتصارعونَ ويتشاتمونَ فيما بينهم، وكلُّ واحدٍ يريدُ الخلاصَ مِن حِملِهِ الّذي على كاهلِهِ مِنَ الحاجيّات بأسرعِ وقتٍ ممكنٍ!
منهم مَن يعملُ على تمسيحِ زجاجِ السّيّاراتِ المارّةِ عندَ إشاراتِ المرور، مقابلَ الحصولِ على الزّهيدِ مِنَ المالِ، يُسلّمونَها للمسؤول، ليُعطِيَهم القليلَ ممّا حصلوا عليه!
أن تجدَ أطفالاً يتسوّلون ما وراءَ الحواجزِ فذاك أمرٌ قد يبدو عاديّا أو اضطراريًّا، وقد تتشفع التّبريراتُ في جعلِهِ شبهَ طبيعيٍّ في ظلِّ الاحتلالِ وضنكِ العيشِ والفقرِ المحيقِ بأبناءِ المخيّماتِ خاصّة، لكن؛ أن تغصَّ مفارقُ البلدانِ العربيّةِ في الدّاخلِ بسنحِ أطفالٍ نحيلةٍ، أحرقتْها عيونُ الشّمسِ، واكتوتْ أقدامُها بلهيبِ الشّوارع!
كيف يصلُ آلافُ الأطفالِ مُهرَّبينَ إلى داخلِ الأراضي المحتلة 48، في أوقاتِ منع التّجوّل وإغلاقِ الحدودِ والحواجز، ولم يتجاوز أكبرهم الـ 12 سنة؟
هل بلغَ بهم النّضجُ قبلَ أوانِهِ، فجعلَ منهم رجالاً صغارًا يتجاوزون الحدودَ والحواجزَ؟
هل هو الموتُ بشكلٍ آخرَ، يدفعُهم إلى الموتِ الأرحمِ في الضّفّةِ الأخرى؟
أيّةُ جرأةٍ تدفعُ أحدَ الأطفالِ المتسوّلينَ إلى الهجومِ على امرأةٍ تقودُ سيّارتَها، ليشَدَّها مِن شَعْرِها، لأنّها لم تُحسنْ إليهِ العطاءِ؟
كانَ ذاكَ يومًا لستُ أنساهُ؛ ثلاثةُ أطفالٍ على مفرقِ النّاصرةِ حيفا طبريّا في ساعةٍ متأخّرةٍ مِنَ اللّيلِ، مبلّلونَ بالمطرِ، ترتجفُ فرائصُهم خوفًا وبردًا، يقرعونَ على زجاجِ نافذةِ السّيّارةِ، يستحلفونَ ويترجّوْن.. ليسَ مالاً إنّما مأوًى حتّى الصّباح!
دمعةُ طفلٍ جائعةٌ للحنانِ همَتْ تقولُ: فتاتٌ مِن تَصَدُّقِ المارّةِ كانَ يوْمي!
ماذا تفعلُ أنتَ يا ابنَ جلدتِهِ، والقانونُ يقفُ أمامَ إنسانيّتِكَ، فلا يجوزُ لكَ أن تُقلَّهُ بسيّارتِكَ أو تُؤويهِ في بيتِك، وإلاّ نالَكَ مِنَ العقابِ أبسطَهُ؛ غرامةً ماليّةً بآلافِ الدّولارات، أو ملاحقةَ الشّرطةِ بتحقيقٍ وتجريمٍ وسجنٍ؟
أينَ هو مُشغِّلُكُم؟ ولماذا لا يأخذُكم لتناموا في مخادعِكم المخصّصةَ حتّى الصّباح؟
للأسف، معاقبون من رئيسِهم، لأنّهم لم يحصلوا على الحدِّ الأدنى مِنَ المالِ بتسوّلِهم ذاكَ اليوم!
أيّةُ لغةِ ابتزازٍ هذهِ المستخدمة بحقِّ الطّفولةِ المنفيّةِ؟ وممّن؟ منك يا ابنَ بلدي؟
منذُ مراحلِ الطّفولةِ الأولى نلحظُ من خلالِ مشاهداتِنا لأطفالِنا حركاتٍ طفوليّةً، تتبدّى لأوّلِ وهلةٍ بسيطةً، كأن يقومُ طفلٌ بتكوينِ شلّة مِنَ الأطفالِ يتزعّمُها من خلال التقليدِ والألعابِ، فيأمرُها وينهاها، وتستجيبُ لهُ حينَ يُسلّطُها على أحدٍ ما، وتدخلُ اللعبةُ في مرحلةِ الجدّيّة، كأنْ يستضعفُ طالبًا ما أصغرَ منهُ أو يُجايلُهُ، فيأخذُ لهُ حاجاتِهِ الخاصّةَ مِن مصروفٍ، أدواتٍ قرطاسيّةٍ وألعابٍ وحاجاتٍ بسيطة، وقد تتطوّرُ إلى استغلالِهِ بتحميلِهِ الحقيبة المدرسيّة، أو تسخيرِهِ في شراءِ حاجيّاتٍ مِنَ الدّكّان، ثمّ المطالبة بمبلغٍ أكبرَ مِنَ المصروفِ، ممّا يضطرُّ المستضعَف إلى السّرقة، لينجوَ مِن بطشِ المستقوي عليه، ومن تهديدِهِ وتخويفِهِ لهُ بالضّربِ بعدَ الدّوامِ، أو تعريتِهِ أمامَ الشّلّةِ لإضحاكِ الأولادِ عليه، أو بفضحِ سِرِّهِ بالتبوّلِ اللّيليّ، أو بأساليبَ أخرى مهينةٍ يتجنّبُها المستضعَفُ.
قد يبدو الأمرُ بسيطًا للأهل، لكنّهُ تربويّا يحملُ مِنَ الخطورةِ ما يبعثُ على القلقِ، إذ إنّ السّلوكَ هذا قد يتطوّرُ سلبًا، لِما يتبطّنُ ويتضمّنُ بوادرَ سيّئةً لاحقًا، إن لم تجدْ مَنْ يَحدُّها ويوقفُها قبلَ أن تستشريَ في استفحالِها!   
وأخيرًا.. هل الابتزازُ طريقةٌ أخرى للتّسوّلِ بالإكراهِ، لإرضاءِ الذّاتِ معنويًّا ومادّيًّا وجسديًّا؟

130
الابتزازُ لغةُ رفاهيّةِ العصر!
آمال عوّاد رضوان
قد تكونُ الرّشوةُ بدافعٍ ذاتيٍّ وبرضا وطيبِ خاطر، فيها عرْضٌ وطلَبٌ قد تتمُّ الصّفقةُ فيهِ وقد لا تتمّ، إن يرضخْ لها المُرتشي ويُلبّي بالمقابلِ ما يُطلَبُ منهُ، وقد يربحُ الطّرفانِ وقد يخسرانِ معًا إن انكشفا، ولكليهما الوزنُ ذاتُهُ في ميزانِ القانونِ، أمّا إن وقفَ أحدُ الأطرافِ بخطّيْنِ متوازييْنِ ومتنافرَيْنِ متناقضيْنِ، فحينها يكونانِ قد دخلا في لعبةِ الابتزازِ!
لغةُ الابتزازِ باتتْ تتفاقمُ حدّتُها الشّرسةُ، وتتفشّى أساليبُها الإجراميّةُ اللاّمعقولةُ الممارَسَةُ والمستحدَثةُ، وتشكّلُ خطرًا مؤذيًا يُقحمُ الآخرَ على الاستجابةِ لفعلٍ كريهٍ رغمًا عنهُ، فتبدأ إشاراتُ الابتزاز بالطّلبِ بالقيامِ بعملٍ ما، وإلاّ.. عندَ المقاومةِ تأتي مرحلةُ التّعرّضِ للتّخنيقِ والحِصارِ، ثمّ للتّهديدِ الجنونيِّ المتكرّر، والإيقاعِ بالضحيّةِ مِن خلالِ الضّغطِ النّفسيِّ المُدمّرِ اجتماعيًّا، والمُحرجِ أخلاقيًّا وجسديًّا، وبلغةٍ لئيمةٍ فيها تهديدٌ بالفضيحةِ والعار!
الفئةُ الّتي يحلو لها التّمتُع بألاعيبِ وأحابيلِ الابتزاز؟
هل تكثرُ حالاتُ الابتزازِ في مجتمعاتٍ متعدّدةِ الأطيافِ والأعراقِ والدّياناتِ، لذا لا تحظى محاربتُها بتأييدٍ شعبيّ، أم أنّ الأمرَ متعلّقٌ بأسبابٍ خارجةٍ عن أعرافِ المجتمع؟ 
هل كلُّ مَن يقومُ بعمليّاتِ الابتزازِ هو سيّء السّيرةِ ومشبوهةٌ أخلاقُهُ، أو عانى مِن الأنانيّةِ وعدمِ الاهتمامِ بالبُعدِ البنائيِّ لشخصيّتِهِ في مراحلِها الأولى، التي لم ترتبطْ بقِيمِ الحياةِ الرّوحيّةِ الفاضلةِ؟
هل يقتصرُ الابتزازُ على فئةٍ وعيّنةٍ مشبوهةٍ، أم أنّها قد تطالُ أناسًا طيّبين ومثقّفين؟

ثمنُ الابتزازِ قانونيٌّ أم غيُرُ قانونيٍّ؟
ماليًّا؟ مادّيًّا؟ جنسيًّا؟ معنويًّا؟ نفسيًّا؟ عينيّا؟ الخ..؟
هل هذا ما يُعتبَرُ رشوةً كثمنٍ للسّكوتِ، بعدما يكونُ الآخرُ قد احترقَ ألمًا واشتعلَ ضعفًا؟

أشكالٌ متعدّدةٌ للابتزاز، فكيفَ تتمّ؟
تحرّشٌ لغويٌّ عبْرَ الهواتفِ؟ رسائلُ صوتيّةٌ ومكتوبةٌ بالهواتفِ والموبايلات؟
أم إرسالُ صوَرٍ وقصصٍ خليعةٍ عبْر تقنيّةِ البلوتوث بشكلٍ عشوائيٍّ ومقصودٍ؟
هل باستخدامِ وثائق، مباشِرًا برسائلَ كتابيّةٍ، أو صورٍ خاصّةٍ، أو تسجيلاتٍ صوتيّةٍ مباشِرةٍ؟
هل مِن خلالِ خطفٍ أو حرقٍ أو أناسٍ مستأجَرين، أو مُبطِّنًا ومُرمِّزًا بصورٍ مخيفةٍ لجماجمَ وخناجرَ ودم!

الأسبابُ الّتي أدّتْ إلى ظهورِ هذهِ الكمّيّةِ العاليةِ مِنَ الإفرازاتِ الغريبةِ من  الابتزاز، وتدفعُ بأفرادٍ إلى انتهاجِ هذهِ السّبلِ الوعِرة الموصلة إلى متاهةِ التّهديدِ والإساءةِ اللاحقةِ بهم؟
هل بسببِ الخروجِ عن البيئةِ والاختلاطِ والتّأثّر بثقافاتٍ أخرى، أم بسببِ الانسلاخِ عن الدّينِ وغيابِ الوازعِ الدّينيّ، أم بسببِ التّنصّلِ مِن عاداتٍ مرفوضةٍ، واستجابةً لشياطينِ الضّعفِ؟
هل بسببِ التّساهلِ في التّعاملِ وطيبةٍ زائدةٍ للفرد المستغّلِّ، وفقدانِ الخبرةِ الكافيةِ في كيفيّةِ التّعاملِ السّليمِ، وبالتالي يكونُ الانجرافُ ببراءةٍ أو حاجةٍ أو ثقةٍ زائدةٍ بالنّفس؟
هل بسببِ التّفرقةِ بينَ الشّابِ والفتاةِ في التّعاملِ والمعاملة، ونقصِ التّوعيةِ والتّثقيفِ للتّعاملِ السّليمِ في حالِ العزْلِ وتحريمِ الاختلاطِ، أو في حالِ الإباحيّةِ والحرّيّةِ اللاّمحدودةِ؟
هل بسبب الرّفاهيّةِ وطغيانِ الجانبِ المادّيِّ على الجانبِ الرّوحيِّ، والحرّيّةِ شبهِ المُطلقةِ، والانفلاتِ مِنَ الضّبطِ الاجتماعيِّ والأسَريِّ، أم بسببِ ك بتٍ وحرمانٍ وتوْقٍ للخلاصِ مِن روتينٍ مقيتٍ؟
هل بسبب دوافعِ الحسدِ والانتقامِ كأقنعةٍ حقيقيّةٍ تسترُ قبْحَ النّفوسِ السّوداءِ، كجزءٍ مِن براعةِ ألاعيبَ شيطانيّةٍ تُظهرُ عفافَهم على غيرِ حقيقتِهم؟
هل بسببِ الأوضاعِ المادّيّةِ والفقرِ والبطالةِ وأعباءِ الحياةِ وتكاليفِ المعيشةِ، والتّورّطِ بديونٍ وأقساطٍ، يكونُ الابتزازُ وسيلةً للوصولِ للاكتفاءِ الذّاتيّ؟
هل بسببِ قلّةِ وجودِ البرامجِ التّرفيهيّةِ والاجتماعيّةِ والثّقافيّةِ الجادّةِ الّتي تخدمُ الشّبابُ، ويظلّونَ فرائسَ الفراغِ الّذي أكّدتْ دراساتٌ اجتماعيّةٌ ونفسيّةٌ آثارَها المُدمّرةَ على الشّخصيّةِ واهتزازِها؟
هل بسببِ تدخّلِ التّلفزيونِ والإنترنت والشّغّالاتِ بعمليّاتِ تنشئةِ الأجيالِ بشكلٍ جريءٍ ومنفتح، في ظلِّ وجودِ تقنيّاٍت حديثةٍ يسهلُ استخدامُها؟
وهل تنحّتْ المؤسّساتُ التّعليميّةُ عن دورِها التّربويِّ في توجيهِ الطّلبةِ، لرعايةِ القِيمِ الأخلاقيّةِ الطّيّبةِ والرّوحيّةِ الحميدة؟
هل بسببِ الحرمانِ العاطفيِّ أو الجوعِ العاطفيِّ والعنوسةِ وارتفاعِ تكاليفِ الزّواج؟
هل كنوعٍ مِنَ التّباهي واستعراضِ الملَكاتِ الخارقةِ والذّكاءِ في تحقيقِ الذّاتِ أمامَ الآخرين، في التّربّصِ بالفريسةِ والاستحواذِ عليها؟
هل للمبتزِّ حصانةٌ معنويّةٌ في المجتمع، تتشفّعُ لهُ أمامَ الجهاتِ الرّقابيّةِ؟

ردودُ الفعلِ ضدَّ عمليّاتِ الابتزاز عديدةٌ، فما عقوبةُ المبتزّ؟
هل نكتفي بالشّجبِ والاستنكارِ الخفيِّ غيرِ العلنيِّ أو العلنيّ؟
هل يكفي التّوبيخُ، الفضائحُ، السّجنُ، الغرامة، الطّردُ مِنَ الوظيفةِ كعقابٍ للمبتز؟
هل السّجونُ تُشكّلُ رادعًا حقيقيًّا، أم أنّها تعدُّ مِن الرّفاهيّةِ بمكانٍ جذّابٍ لمعاودةِ الجرائمِ بذكاءٍ إجراميٍّ أكبر؟

التّصدّي لعمليّاتِ الابتزاز، ومكافحتِها وردْعِها وتطهيرِ المجتمعِ منها؟
هل يكفي الطّموحُ في استئصالِ هذهِ الآفةِ مِنَ المجتمعِ والدّفاعِ عن ملامحِهِ وقِيمِهِ المتوارثةِ، أم أنّ للمجتمعِ ذنبٌ في دفْعِ عجلةِ تفاقمِ هذهِ المآسي القميئةِ؟
كيفَ يمكنُ تدارُكُ أمرِ الابتزازِ قبلَ الوقوعِ في شرَكِ المُبتزّ؟
كيف يمكنُ عدمِ استنفاذِ طاقةِ الفردِ، كي لا يغدوَ ضحيّةً مِن ضحايا الابتزازِ؟
هل بالصّمودِ في تبنّي مواقفَ ثابتةٍ لا تستسلمُ ولا تخضعُ للابتزازِ؟
هل يكفي التّبليغُ لجهاتٍ رسميّةٍ مختصّةٍ تتولّى معالجةَ قضيّةَ الابتزاز؟
هل تتوفّرُ في أوساطِنا أقسامٌ متخصّصةٌ في دوائرِ الأمنِ العامّ تُوفّرُ الأمنَ للضّحايا؟
وأخيرًا..
هل كلُّ مَنْ أمِنَ عمليّاتِ الابتزازِ نجَا مِن أن يكونَ ضحيّةً؟
وهل كلُّ مَن أمِنَ عقوبةَ الابتزازِ يكونُ قد أخلَّ بالحكمةِ والأدبِ في نظرِ شبكةِ العصابةِ، أو بحسبِ أقاويلِ النّاسِ الرّاجمةِ؟



131
عكّا قارورةُ عطرٍ مثقوبةٌ!

آمال عوّاد رضوان

عكّا قارورةُ عطرٍ مثقوبةٌ تتقاطرُ.. تتطايرُ.. وتتسامى على هامشِ تاريخٍ كافرٍ واهٍ، مُدنّسٍ بجُملتِهِ بالسّبايا والخطايا.. مَن يَفتحُ أبوابَ التوبةِ لعكّا الشقيّة، ليُعيدَ لها مزاميرَ العدلِ وأناشيدَ العدالة؟ مَن يَنفضُ الغبارَ عن موْجِها؟ مَن يُغربلُ رملَ سواحلِها مِن تنَهُّداتِ أحزانِها ومِن شوائبِ تهميشِها؟
الريحُ ما انفكّتْ ترتعدُ بتحنُّنٍ، تطرحُ عجرفةَ الاحتلالِ الباهظِ عن فنارِها.. تشحنُ منارتَها بنبضِ الشّموخ.. وبامتثالٍ نقيٍّ.. يَخرُّ الموجُ سُجّدًا على أعتاب هيكلِ الرحمةِ..ّ ينتفضُ راعدًا.. يُدندنُ هادرًا من عُلوِّ فضائلِهِ، مُبرَّرًا من سَقطاتِهِ الرديّةِ في وهادِ الشرور!
عكّا المتوشّحةُ بالإيمان.. لمّا تزلْ تُدوزنُ أوتارَ آلامِها.. على قيثارةِ نورٍ لا تُشتّتُهُ ظلمةٌ ولا يُبدّدهُ ظلمٌ.. عكّا ذات الجراحِ النديّةِ بعطرِ موْجِها.. تأبى إلاّ أن ترحضَ رجليْها مِن مآثمِها، لتتأنّقَ في رقصتِها، فلا تتعرّى مِن نعمةِ بهائِها.
نظير شمالي الأديب والباحث العكّيّ- رافق النادي النسائي الأرثوذكسيّ- عبلين كمرشد سياحيّ، في أرجاء عكّا وأحضانها، ورغمَ صوْمِهِ الرمضانيّ، كان كغزال رشيقٍ يتقافزُ بين مَعالم عكا، مُتفرّسًا في عُلوّ السماءِ وفي بُعدِ البحرِ، ولا تغفلُ البسمةُ عن مُحيّاهُ، شارحًا وساردًا آثارً عكّا التي لا تُستقصى، ولا تُستثنى. فانتقلنا معه من حديقة البهجة، إلى جامع الجزار، فميناء عكا وجولة بحرية، فجولة في سوق عكا، ومحطة شعريّة أدبيّة في مؤسّسة الأسوار، ولقاء الأديب يعقوب حجازي وزوجته حنان حجازي، ثمّ إلى نفق الفرسان، لنعبر من خلاله إلى المحطة الأخيرة من الجهة الغربية، حيث الفنار والفاخورة والمنارة، والموج يداعب القلعة وأسوار عكا الرابضة على ظلال الصمود!
حديقة البهجة (السعادة) مكانٌ مُقدّسٌ للبهائيّين، يَظهرُ فيها فنّ العمارة الفاطميّ والصليبيّ والعثمانيّ، وقد سكنها ودُفن بها بهاء الله المؤسّسُ للديانة البهائيّة، آخر سنوات حياته الـ 12، فيها المَعقلُ ومَعبدُ بهاء الله، حيثُ قبره ومَحجُّ البهائية، وهو قِبلة البهائيّين.
وُلد بهاء الله عام 1817، لعائلةٍ كريمةٍ مِن النبلاء، كان أبوهُ وزيرًا في بلاط شاه إيران، كان عمره 22 عامًا عندما توفّي أبوه، وترك بلاط الملك ووزرائِهِ مِن ورائِهِ، وصارَ يقضي وقتهُ بمساعدةِ الفقراء والبائسين، والمرضى والمساكين. وسرعان ما أصبح يُعرف بحامي العدل، وحملَ رسالةً وحركةً جديدة متناقضة تمامًا مع المبادئ والأفكار في عصرِهِ، فلوحق مِن قِبل رجال الدين والحكومة، وتمّ إعدامُ الكثيرين من مُعتنقي البهائيّة، وتمّ إلقاؤهُ في قبو مظلم في طهران، يُسمّى "البئر الأسود". والسلاسل التي وُضعت حول عنقه كانت ثقيلة جدّا، فلم يستطِع رفع رأسه مدة 4 أشهر، ثم نُفي وأسرتُه من إيران، وتوجّه إلى بغداد التابعة للإمبراطورية العثمانيّة، وبعد عشر سنوات نُفي إلى مدن أخرى في الإمبراطورية العثمانيّة، وفي عام 1868، تمّ نفيُهُ إلى الديار المقدّسة، مع أفراد أسرته ومجموعة بهائيّين، سُجنوا في قلعة السجن التابعة لعكّا، كمجموعةِ سجناء كفّار مَنفيّين، ولكن تمّ الاعتراف بهم كطائفةٍ دينيّةٍ لها احترامُها، فسُمح لبهاء الله وأسرتِهِ بالعيش في البيت داخل أسوار مدينة عكّا، ولاحقًا، سكَن في مَعقل البهجة، وتُوفّي عن 75 سنة.
معقل البهجة مساحته تزيد عن 740 مترًا مربعًا، تمّ بناء الطبقة الثانية عام 1870 كقصر صيفيّ لـ أودي خمّار، أحد تجار عكّا الأثرياء، فوق المبنى القديم ذي الطبقة الواحدة الذي بُني عام 1821، وعندما اجتاح الوباء المِنطقة، هرب أصحاب المُلك من عكّا عام 1879، فتمّ شراءُ المعقل، ليكون مكان سكن بهاء الله.
طبقته الأرضية محاطة بالأعمدة، وقد استُخدمت لاحتياجات تشغيلية وللخزن. الطبقة العلوية مبنية حول ساحة داخلية كبيرة، وفوقها كُوّة تسمح بدخول أشعّة الشمس إلى المبنى، والساحة محاطة بغرف سكن مختلفة الأحجام تُطلّ على شرفة، والرسومات فوق النوافذ في الجدران الخارجية اختارها أودي خمّار، وهي تُعتبر نماذج رائعة للمزج بين الشرق والغرب في عكّا. پانيل الزجاج الملوّن كان نمطيًّا لتلك الفترة، وقد مكّن سيّدات البيت من الجلوس على الشرفة، والحفاظ على خصوصيّتهنّ.
تهدف الحدائق إلى إيجاد طريق لائق إلى معبد بهاء الله، وجميع الممرّات الشعاعية توصل إلى المركَز، وتمكّن الحدائق الزائر من الاختيار بين مسارات مختلفة، للطواف حول معبد بهاء الله. والطريق إلى المباني التاريخية يمرّ من خلال حدائق غير رسمية، ثمّ إلى الحدائق الرسمية المصمَّمة، المؤدّية إلى المعبد.
تمّ تصميم الحدائق وصيانتها من خلال الاهتمام بالحفاظ على البيئة، وفقط من أموال البهائيّين، وتمّ تصميم شبكة الرّيّ لتُستخدم بصورة ناجعة؛ وفي القسم غير الرسميّ من الحدائق، اختاروا نباتاتٍ وأشجارًا تصمد في الجفاف، وتمزج بانسجام بين عناصر غربية وشرقية مختلفة، كالحدائق الفارسية، وأحواض أزهار ذات أشكال هندسية، وعناصر أوروبية، وأعمدة رخاميّة، وجِرار زينة، متمازجة مع الطبيعة المحليّة من أشجار زيتون، حمضيّات، ورمّان، ودخول الزوّار مجّانيّ.
نفق الفرسان في عكا: نفق الفرسان في عكا يصل طوله إلى 350 مترًا، ويمتدّ من القلعة التمپلاريّة غربًا، حتى ميناء عكا شرقًا. يَعبر بطريقهِ الحيّ الپيزاني، وقد استُخدم كممرّ استراتيجيّ تحت الأرض، وصل بين القلعة والميناء. الجزء السفليّ من النفق مشقوق في الصخر الطبيعيّ، أمّا جزؤه العلويّ فمبنيّ من حجارة مصقولة، وفوقها قبة أشبه بتقوّس نصف أسطوانيّ.
كان التمپلاريّون (الفرسان) حركة رهبنة عسكرية، ساعدت باسم البابا المرضى والحجّاج الذين قدِموا من أوروبا إلى بلاد الشام، لزيارة الأماكن المقدّسة، واستقرّوا في القدس في جبل الهيكل، ومن هنا جاء اسمهم "التمپلاريّون" أي حرّاس المعبد. ( (temple
بعد فتح القدس بيد صلاح الدين عام 1187م، اختار التمپلاريّون عكّا مقرًّا لهم، وبدؤوا ببناء حيّهم في القسم الجنوبيّ الغربيّ، وفي الطرف الغربيّ من النفق، بُنيت القلعة الرئيسية لرهبنة التمپلاريّين، و"كان الحصن التمپلاريّ أقوى مبنًى في المدينة، وقد لامس خط البحر بغالبه، وكان مدخله محميًّا ببرجين قويّين، تصل سماكة جدرانهما إلى 28 قدمًا، وعلى جانبيِ البرجين بُني برجان أصغر؛ حيث نُصب على رأس كلّ برج أسد مذهّب بحجم ثور." (من أقوال التمپلاريّين الذين عاشوا أيام حصار 1291م).
عكا: أي (الرمل الحارّ)- ذات موقع اقتصاديّ وتجاريّ وأثريّ، من معالم وآثار قديمة صليبيّة وعثمانيّة؛ السوق الأبيض، حمام الباشا، خان العمدان، القلعة، الممر الأماني، أسوار عكا، جامع الجزار وغيرها، واليوم ومن بعد النكبة عام 1948، هناك عكا القديمة المُسوّرة بسكّانها العرب الممنوعين من ترميم حيّهم ومنازلهم، وعام 2001 أدرجت عكا القديمة ضمن قائمة التراث العالمي، اليونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة)، وهناك ضاحية جديدة تمتدّ في الشمال الشرقيّ للأسوار، وتحتلّ موقع الضاحية الشمالية لعكا الصليبيّة، وسكانها يهود وعرب. 
ميناء عكا: أقدم وأهمّ موانئ فلسطين عبر التاريخ، على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، تأسس 3000 سنةق.م، على يد الكنعانيين الجرشانيين، تعتليه منارة، ثمّ صارت عكا جزءًا من دولة الفينيقيين، واحتلها الإغريق والفرس والصليبيون، وفتحها المسلمون عام 636 على يد شرحبيل بن حسنة، وأنشأ فيها معاوية بن أبي سفيان دار لصناعة السفن، ولكن غزاها الصليبيون عام 1104م. وصارت مرساهم وحصنهم المنيع، وأقاموا فيها أحياهم الخاصة؛ بيزا، جنوة، البندقية، فرسان الهيكل. دمّرها عام 1291م. المملوك الأشرف خليل بن قلاوون، ودمر حصونها وقلاعها وأسوارها، وحررها من الصليبيين، وسادها الخراب 400 عام، وتوالت عليها أحداث على مرّ التاريخ، وبلغت أوج مجدها بزمن أشهر حكامها أحمد باشا الجزار عام 1799، إذ صمدت عكا بوجه زحف نابليون، فسحب جنوده خائبا. ولكن ازدهر الميناء خلال الفترة العثمانية والانتداب البريطاني، وبعد النكبة صار ميناءً ثانويًّا، يُستخدم فقط لقوارب الصيد، إذ طورت إسرائيل ميناء حيفا مع العالم الخارجيّ.
جامع الجزار: الحاكم أحمد باشا الجزار مسلم من البوسنة، كان حازمًا وقاسيًا، وصل عكا عام  1776م. وأخضع ضاهر العمر بفضل الحاكم العثمانيّ، واتخذها عاصمته، واهتمّ بالتوسّع العسكريّ والعمرانيّ، فحصّنها بالأسوار، وبنى جامع الجزار أهمّ مساجد شمال فلسطين عام 1782، على أنقاض جامع "يوم الجمعة" وكنيسة الصليب المقدّس، وبحجارة أثريّة جُلبت من عتليت وقيسارية، فامتاز بعظمة حجمه ومساحته الهائلة، بقبّته العالية وفنه المعماريّ الإسلاميّ، وكتابات الآيات الفاخرة بالقسم العلويّ من الجدران، وبجانب الجامع المدرسة الأحمديّة بغرف صغيرة يسكنها الطلاب، والمكتبة، وسبيل الطاسات، والملجأ والبركة، وجلب لها الماء من نبع الكابري في حالة الحصار، ولتشجيع التجارة وتأمين دخل الدولة، بنى مركز الجزار التجاريّ بمركز المدينة، وبنى خان العمدان والجامع التركيّ، ومساجد أخرى وخانات.
بمدخل جامع الجزار سبيل ماء، ودرجات نصف دائرية تفضي إلى باحة واسعة مغروسة بالنخيل والسرو، في مركزها قبّة خضراء كرويّة الشكل، قطرها عشرة أمتار مكسوة بألواح رصاصيّة  لمنع تسرّب الرطوبة، وبالجهة الغربيّة بئر ماء، ومزولة، وقبرا الجزار وخليفته سليمان باشا. يرتكز الجامع إلى أربع زوايا، بما فيها الأروقة الجانبيّة، ويتخلل كل واجهة سبع نوافذ، وفوق النوافذ شريط كتابيّ بارز الحروف من الرخام الأبيض، وقد طًلي ما بين الحروف والكلمات باللون الأزرق.
تقوم سدّة فوق الأروقة الثلاثة: الشماليّ والشرقيّ والغربيّ، تستعمل كمَصلى للنساء، نصل إليها من خلال بابيْن، أحدهما إلى المئذنة في الركن الشماليّ الغربيّ من الجامع، وفيها درج لولبيّ وبعض نوافذ للإضاءة والتهوية، وعلى رأس المئذنة عمود مدبّب من المعدن، (مانع للصواعق)، متصل بسلك موصل جيد للكهرباء، ينتهي في أسفل بركة المياه تحت مصطبة المسجد، بعدما أصيبت بصاعقة عام 1821. والباب الآخر في الركن الشماليّ- الشرقيّ من الجامع. وتحوي السدّة الغربيّة مكانًا محتجزًا من قسمها الجنوبيّ، يحيط به درابزين من الحديد، وبداخله صندوق معدني بداخله زجاجة، فيها عدة شعرات من ذقن الرسول، كان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني قد أهداها للشيخ أسعد الشقيري، عضو مجلس المبعوثان العثمانيّ، وتُعرض الزجاجة على المُصلين في ليلة القدر ليتباركوا بها. 


132
(على شواطئِ التّرحالِ) روايةُ انتهاكٍ!

آمال عوّاد رضوان
احتفتْ "دارةُ الثّقافةِ والفنون"- "بيت الكاتب" في النّاصرة بتوقيعِ رواية (على شواطئِ التّرحال)، للكاتبةِ د. راوية جرجورة بربارة، وذلك بتاريخ 28-5-2015، وبمُشاركةِ نُخبةٍ مِنَ الأدباءِ والذّوّاقينَ والأصدقاء، وقد افتتحت الأمسيةَ الباحثةُ الفولكلوريّةُ نائلة لبّس بكلمةٍ ترحيبيّةٍ بالحضورِ، وتولّى إدارةَ الأمسيةِ د. ريم برانسي، وتحدّثَ حولَ الرّوايةِ كلٌّ مِن د. محمد هيبي، ود. باسيليوس بواردي، وقد شاركَ الزجّالُ محمّد علي صالح بزجليّة تحتفي بالكاتبةِ راوية جرجورة بربارة، وكانت عدّةُ مُداخلاتٍ مِنَ الحضورِ، اختتمتْها الكاتبةُ د. راوية بربارة بكلمةِ شكرٍ للمُتحدّثينَ وللمُنظّمينَ وللحضورِ، ومِن ثمّ تمّ التقاطُ الصّورِ التّذكاريّة! 
جاءَ في كلمةِ د. ريم برانسي: للموجِ هوَجٌ حَدُّهُ المَدى، ولنا معَ الموْجِ حَكايا حُبٍّ وتَرحالٍ. للرّحيلِ دمْعٌ يَهُزُّ الصّدى، ولنا في الدّمعِ أمَلٌ بخيطِ اتّصالٍ، وعندَ شواطئِ التّرحالِ لنا شوقٌ لِدفقِ السّيولِ، ولفرحِ الأنهُرِ الأبديِّ بالوُصول، وقد وصلتِ أديبتَنا شواطئَ ذائقتِنا، فداعبَتِ حِسَّنا، وسيَّرَتِ فِكرَنا على شواطئِ تِرحالِكِ، ولمَعَ الذّهبُ في رِمالِكِ!
مساؤُكُم خيِّرٌ دافِقٌ احتفالًا واحتفاءً.. مساؤُكُم شاطئٌ يَستقبلُ موجاتِ الأدبِ وهي تندفع تِباعًا دونَ انتهاءٍ.. مساؤُكم تحتَ سماءِ النّاصرةِ تُشِعُّ نُجومَ الفنِّ فيهِ والإبداع.. مساؤُكم فرحٌ وحُبٌّ ولقاءٌ.. أديبتَنا؛ عروسَ الحفلِ؛ مُفتّشةَ اللّغة العربيّة د. راوية المحترمة.. الحضورُ الكِرامُ معَ حِفظِ الألقاب..
في البدءِ كانَ الكلمة، والكلمةُ صارَ جسدًا، ثمّ كانتِ الحياةُ، والحياةُ كانتْ نورَ النّاسِ الّذي يُضيءُ في الظّلمةِ فلا تُدركُهُ. لتلكَ الكلمةِ قوّةٌ لا تُقهَرُ، ولها في الآذانِ وقعٌ يَتغلغلُ إلى ثنايا القلبِ، فيَهُزُّهُ كما تَهُزُّ الأمواجُ صمتَ الشّاطئِ وصمتَ القلوبِ. هي الكلمةُ الّتي صنعتْها أديبتُنا صورةً تُجسِّدُ العالمَ في أذهانِنا، وقد أضحَتْ عيونُنا مِرقابًا، صاغتْها راويةُ روايةً بِكرًا، وجعلتْها شاهدًا وبُرهانًا على أنّ الإبداعَ هو ما يُميّزُ قياديًّا قائدًا عن تابعٍ، وهو النّظرُ إلى المألوفِ بطريقةٍ غيرِ مألوفةٍ، وهو القُدرةُ على ربْطِ الأمورِ بطريقةٍ استثنائيّةٍ. أمّا المُبدعُ الحقيقيُّ فهو مَن يَجعلُ مِن شرخِ المأساةِ الصّغيرِ مُنطلقًا للحياةِ، ومِن ظلامِ الحياةِ نقطةً للبداية. هذه الرّوايةُ، قصّةُ حُبٍّ قاهرةٍ بينَ أنثى يهوديّةٍ وذكَرٍ عربيٍّ، وما هيَ إلّا حياةً وواقعًا نحياهُ؛ ولكنّ أديبتَنا تقتطعُ مِن هذا الواقعِ صورةً مُؤلمةً، فتُحييها فنًّا ثلاثيَّ الأبعادِ، تُظهِرَ فيهِ الآخرَ (اليهوديَّ) والأنا (العربيَّ)، والمجتمعَ بما يَحويهِ مِن فئاتٍ أخرى. كلُّ ذلكَ يُعرَضُ بحِسٍّ مُرهَفٍ، وإيمانٍ صادقٍ بكيانِ الإنسانِ وكيْنونتِهِ. وأيُّ حكمةٍ وإحكامٍ تأتي بهِما الأديبةُ إذ تختارُ، وهيَ امرأةٌ عربيّةٌ، أنْ تكونَ المَرأةُ العاشقةُ المُتألّمةُ في الرّوايةِ يَهوديّةً، فتَعرضُ مِن خِلالِها الآخرَ كإنسانٍ يُحِبُّ ويتألّمُ، ويُضَحّي ويتَفهّمُ ويُقدِّمُ التّنازلاتِ مُقابلَ ذرَّةِ الحُبِّ. ولا تنسى بالمُقابلِ، أنْ تُنصِفَ الذَّكَرَ العربيَّ الّذي يَبدو لوهلةٍ ظالِمًا أنانيًّا؛ إذ تُفسِحُ لهُ المَجالَ في النّهايةِ أنْ يَقولَ قوْلَهُ، كما تَصِفُهُ بأنّهُ العربيُّ المُتحمِّسُ للسّلامِ، هو العربيُّ الّذي كانَ يَعتقدُ أنّ اللهَ خلقَ الإنسانَ في أجمَلِ تقويمٍ، أي في إنسانيّتِهِ، بعيدًا عن وحشيّةِ الحيوانِ والتّفريقِ العُنصريِّ والطّائفيّ، هو العربيُّ الّذي عشقَتْهُ اليهوديّةُ سارة وخاطبَتْهُ بقوْلِها: "ما أجملَكَ وأنتَ تُحبُّ التّعدّديّةَ، وتَعتبرُها جَمالًا وجوهرة". وعليهِ، فإنّ ما تَطرحُهُ الأديبةُ مِن سردٍ لأفعالِ إبراهيم المُتتابعةِ ضدَّ سارة، وظلمه لها لا يعرض عربيًّا شرقيًّا بدائيًّا مُتسلّطًا وقاسيًا، إنّما هوَ عربيٌّ مُحبٌّ مُؤمنٌ بالإنسانِ مُحترِمٌ للتعدّديّة، مُرتبطٌ بوطنٍ وشعبٍ وفِكرٍ ونبضٍ، لم يَتوانَ حتّى النّفَسِ الأخيرِ عن حُبِّهِ لسارة؛ على أنّ هذا الحُبَّ ما كانَ لِيُكتَبَ لهُ الإثمارُ في أرضٍ قاحلةٍ، وفي عالمٍ فيه كلُّ قيودِ العِرْقِ والدّينِ والانتماءِ وغيرِها مِن عقباتٍ وعتباتٍ تَخنقُ الإنسانَ.
مِن رَحمِ هذهِ الصّورةِ ثُلاثيّةِ الأبعادِ نَبضُ الرّوايةِ.. فمُبارَكٌ لنا هذهِ النّظرةُ الشّموليّةُ الإنسانيّةُ الّتي ترقى بالأمكنةِ والشّخوصِ والأحداثِ، إلى خلودٍ يَتجاوزُ كلَّ الحُدودِ! حقًّا، هي روايتُكِ الّتي تَقلبُ كلَّ المَفاهيمِ، فلا يَعودُ النّصُّ الخالدُ هو ذاكَ المُبتعدُ عن أيِّ تحديدٍ أو تَقيُّدٍ بزمانٍ أو مَكانٍ؛ إنّما يَغدو أدبًا لا يَخافُ ذِكْرَ المَكانِ، بل يُجاهرُ بهِ فيَهبُهُ الخلودَ. مِن هذا المَكانِ المُمتدِّ مِن تل أبيب إلى قرى الجليل كانَ إلهامُكِ الأوّلِ، لتَجمَحي فيهِ على خاصرةِ فرَسِ الإبداعِ على حدِّ تعبيرِكِ، فتُطوّرينَ الحدَثَ والشّخصيّاتِ على وقعِ مهمازِ انطلاقِكِ، وترسمين خطًّا آخرَ لسَيرورةِ الحدَثِ، ربّما يتحوّلُ واقعًا في النّهايةِ، تحقيقًا لنبوءتِكِ، وتجسيدًا لإيمانِكِ الحقيقيِّ بإنسانيّةِ الإنسانِ.
وإن كان ما يميّز المبدع الحقّ كما قلت، هو إحساسه المرهف بما يدور حوله، والتقاط عينِه لأصغر الأمور التي لا تلتقطُها شبكيّة الناس كمشاهدَ للكتابة؛ فإنّك بنصّك هذا كنت ذاك المبدع الذي يأبى لمولوده إلّا الخلود؛ فجعلته متحايلًا على النوع الأدبيّ ملتفًّا إليه ضمن ما يُعرف بالميتا قصّ؛ مراوغًا متجاوزًا لكلّ المسلّمات والنظريّات، مؤكّدًا على حرّيّة النصّ أن يقول ما يشاء كيفما يشاء. نقرؤه نثرًا روائيًّا فنستمتع في عمق بالشعر وما يقوم عليه من جماليّة وغموض وتناقض وتواق. هو نصٌّ يُحضر إلى أذهاننا أجمل التعابير والصور الشعرية، فها هي سارة؛ في ظلّ قناعتها التامّة بضرورة الفراق تلغي التقاطبَ بين البعد والقرب والحبّ والكراهيّة؛ إذ تترك الأبواب مشرّعة  وتديم الانتظار، فتذكّرني بمقطع شعريّ من قصيدة العاشقة لعبد الوهاب البياتيّ يقول فيه: كانت تفصلها عني/ سنواتٌ من سفرٍ- أجيالٌ/ أنهارٌ- قارّاتٌ/ كتبٌ / مدنٌ/ أسوار/ لكنّي كنت أراقبها من ثقب الباب.
هكذا هي الحالُ عندَ سارة، بعدَ الانفصالِ والتّأكيدِ على انغلاقِ كلِّ المَخارج، تُنهي روايتَها بتصريحٍ جنونيٍّ، إذ تُعيدُ رغمَ الألمِ قلبَ ساعةِ الانتظارِ على أملٍ وتقولُ: أكرهُ حُبَّكَ وأكرهُ الخلاصَ منك/ هل سأقلبُ اليومَ ساعةً رمليّةً ثانيةً وأبقى في الانتظار؟/ قلبتُها/ عساكَ تقرّرُ قبلَ أن يَنهمرَ رملُ النّدمِ ويَنفطرَ قلبي!
ولا شكَّ أنّ ما تقومُ عليهِ الرّوايةُ مِن تناقضاتٍ ومُفارقاتٍ وتَعابيرَ أوكسيمورونيّةٍ تستوقفُ القارئَ، وتُلهبُ في ذهنِهِ جمراتٍ فكريّةً وتساؤلاتٍ، ولعلَّ العنوانَ "على شواطئِ التّرحالِ" فيهِ مِن تلكَ التّناقضاتِ ما  يُجمِّلُ عالمَ الرّوايةِ بأكمَلِهِ؛ هذهِ الشّواطئُ الّتي يَجدرُ بها أن تَشتعلَ بحرارةِ الحياةِ والحُبِّ والحركيّةِ ومُداعبةِ النّاسِ للأمواجِ، تختفي منها كلُّ هذهِ المَلامحِ، ولا يَبقى فيها إلّا آثارُ أقدامِ مَن رَحلوا وخيالاتُ وجوهِهم فوقَ صفحةِ المياهِ. هكذا، تتحوّلُ الشّواطئُ إلى ميناءٍ مُختصٍّ بالرّحيلِ، يُودّعُ السُّفنَ المُغادرةَ دونَ عودةٍ، وعندَ هذهِ الشّواطئِ تتلخّصُ كلُّ المُتناقضاتِ، وكأنّ كلَّ موجةٍ تحملُ طرفًا مِن أطرافِ تناقضاتِنا الّتي تَحلمُ بالتّواصُلِ والالتئامِ، فيأبى الواقعُ إلّا الانشطارَ والتّباعُدَ؛ فاليهوديّةُ والعروبةُ، المبادئُ الذّاتيّةُ والمُجتمعُ، القلبُ والعقلُ، الأنوثةُ والرّجولةُ، الأنا والآخرُ، جغرافيّةُ الوطنِ وجغرافيّةُ السّعادةِ، الانتهاءُ والابتداءُ والرّحيلُ والبقاءُ، كلُّها تناقضاتٌ تسعى للتّماهي والانسجامِ في تقويمٍ أعمقَ هو الإنسانيّةُ والحُبُّ والسّعادة. وإن كانتْ هذهِ الأطرافُ تَعرضُ واقعًا أليمًا مُؤلِمًا، إلّا أنّ أديبتَنا لا تخضعُ لها، بل تُخضعُها بربطٍ استثنائيٍّ فيهِ مِنَ الهدوءِ ما فيهِ مِنْ تثويرٍ، ومِنَ الرّضى ما فيهِ مِنَ استغرابٍ؛ فتقولُ سارة: "وُلدَتْ لتُريَنا كيفَ تُولدُ/ الحياةُ مِن قلبِ الموْت، وكيفَ يُولدُ السّلامُ مِن قلبِ الحربِ، وكيفَ/ يُولدُ الفرحُ مِن قلبِ الأحزان!"
عندَ هذهِ الولادةِ، وفي مَواضعَ أخرى مِن الرّوايةِ، نقرأ أنّ الحربَ "انبعاثُ القتلِ والحياةِ، موتٌ وولادةٌ، انقطاعٌ واتّصالٌ، عدوٌّ وحبيبٌ، قاتلٌ وقتيلٌ، نصرٌ وهزيمةٌ، فلا عجبَ أنّ حُروفَها تحملُ الحبَّ دونَ راء، دونَ رياء

وتقولُ سارة: هذهِ الحربُ الّتي شتّتتِ البشرَ كانت سببَ اجتماعِنا! هذه الحربُ الّتي قتلتِ النّاسَ أحيتْنا مِن جديد! أأقول شكرًا للدّمارِ الّذي رمّمَ حياتي، أم للرُّعبِ الّذي قرَّبَ القلوبَ والمسافاتِ، أم للموتِ الّذي يُعلّمُ الإنسانَ معنى الحياة، أم للفُراقِ الّذي يُعرّفُكَ بقيمةِ الأحبّةِ والأهل!
في هذهِ الأجواءِ وفي ظِلِّ الانكساراتِ وواقعِ المُعاناةِ والحربِ، يَعلو جوهرُ الإنسانِ وإنسانيُّتُهُ على كلِّ لباسٍ اجتماعيٍّ سياسيٍّ أو دينيّ، كما تتلاقى الأطرافُ جميعًا رغمَ تقاطُبِها وتَتحابُّ، فمُباركٌ للتّناقضاتِ هذهِ المُصالحة، وهذا التكامل النّابض أملًا رغمَ الألم.
أديبتَنا راوية.. كنتِ في هذا الإنجازِ مُبدِعةً حقيقيّةً؛ نقرؤُكِ فنسمعُ صدى الكلماتِ يرتدُّ نغمًا فلحنًا فأغنيةً، نقرؤُكِ فنُؤْسَرُ شغفًا، وننسى معَ غذاءِ الرّوحِ الّذي قدَّمْتِهِ لنا حاجةَ أجسادِنا لطعامٍ أو شراب، فمُباركٌ لكِ،
تجاوزتِ دائرةَ الأدبِ النِّسويِّ، ورقيتِ بإنجازِكِ تَعرضينَهُ واقعًا إنسانيًّا ووجدانيًّا، فمُباركٌ لكِ ولنا هذا الإبداعُ الّذي أتى ليُؤكّدَ على شفافيّةِ المَرأةِ سطوعَ أدبِها، ورقيَّ مشاعرِها، مُباركٌ هذا الأسلوبُ الجذّابُ والرّائعُ في العرضِ، وهذه اللّغةُ الشّعريّةُ الّتي تضربُ صميمَ الرّوحِ والفؤادِ، وهذهِ المُتعةُ والتّشويقُ وحساسيّةُ الأحداثِ وصِدقُها، مُباركٌ هذا الإنجازُ الثّريُّ والمُثري، المُؤثِّرُ والمُثَوِّر،  فدموعُنا قد رافقتْ دمعةَ إبراهيمَ الّتي لخّصتْ كلَّ الحكايةِ، فانتهيْنا مِن القراءةِ، وقلبْنا كما إبراهيمَ وسارة، ساعتَنا الرّمليّةَ، وبتْنا في الانتظارِ وإنْ كانا بحزنٍ قد انتظرا اللّقاءَ، فنحنُ بشوقٍ ولهفةٍ ننتظرُ مولودًا جديدًا منكِ لكِ ولنا.
جاءَ في مُداخلةِ د. محمّد هيبي: الحبُّ بينَ مِطرقةِ المُجتمعِ وسِندانِ السُّلطة!
قرأتُ مقالًا لصديقي العزيز النّاقدِ د. نبيه القاسم، يُعالجُ فيهِ روايةَ "على شواطئ التّرحال" والقضايا السّاخنةَ الّتي جاءتْ تَطرحُها. لفتَ نظري ترديدُهُ للقبِ دكتور (د.) في المقال، يَنعتُ بهِ الكاتبةَ، ما يَشي وكأنّ مَن كتبَ الرّوايةَ هي د. راوية بربارة ،وليستْ راوية بربارة الّتي وقّعتِ الرّوايةَ باسْمِها عاريًا بلا لقبٍ. بهذا الخصوصِ، بينَ راوية بربارة ود. راوية بربارة هناكَ فرْقٌ كبيرٌ، فلا علاقةَ للّقبِ الأكاديميِّ بكتابةِ الرّوايةِ، وراوية هي الّتي كتبتْ، ودفقتْ روايتُها دفقةً صادقةً مِن أعماقِ النّفسِ واللّاوعي، ولم تَكتبْ بحثًا أكاديميًّا مِن نتاجِ العقلِ والدّرجةِ العِلميّة، وأنا على ثقةٍ أنّ صديقيَ ردّدَ اللّقبَ احترامًا للكاتبةِ، ولكنّهُ بشكلٍ عفويٍّ غيرِ مقصودٍ ظلمَ الكاتبَ والرّوايةَ، لأنّ مَن كتبَ الرّوايةَ هو راوية بربارة، تلكَ الذّاتُ القلقةُ الّتي تُعاني مِن الأوضاعِ الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ والنّفسيّةِ الجَمعيّةِ، فهي تَحملُ همًّا شخصيًّا أنكرَ حدودَ ذاتيَّتِهِ، ليُصبحَ همًّا جَمعيًّا، وفي ترديدِ اللّقبِ الأكاديميِّ حسبَ رأيي المُتواضعِ، ظُلمٌ للنّاقدِ نفسِهِ، ولنقدِهِ البنّاءِ الهادِفِ، وللكتابةِ كمَلاذٍ وخَلاصٍ، وللكاتبِ الّذي لم يُسعفْهُ شيءٌ، حتّى لقبهُ الأكاديميّ، فلجأ إلى الكتابةِ لتُخلّصَهُ ممّا يَعتملُ في نفسِهِ مِن ضغوطٍ لا علاقةَ لها بدرجتِهِ العلميّةِ، فهي ضغوطٌ نفسيّةٌ، ذاتيّةٌ وجَمعيّةٌ، تراكمتْ في أعماق نفسِهِ وطبقاتِ لا وَعْيِهِ، قبلَ نقلِها إلى طبقاتِ وَعيِهِ وعقلِهِ وإلى الأوراق. ولكن ما لا أشكُّ فيهِ، أنّ صديقي لم يَقصدْ ظُلمَ أحدٍ أو الإساءةَ إليهِ، ولا أنا كذلك في مُلاحظتي هذه، إنّما قصدتُ التّذكيرَ وليسَ الإساءة، له أو لأيِّ شخصٍ آخرَ، معاذ الله.
ممّا جاءَ في مقالِ صديقي، أنّ الكاتبةَ راوية بربارة تحرّرتْ مِن لغتِها الّتي كبّلتْها في أعمالِها السّابقةِ، وقد أصابَ في ذلك أيّما إصابةٍ. فقد أصدرتِ الكاتبةُ قبلَ روايتِها "على شواطئ التّرحال" (2015)، ثلاثَ مجموعاتٍ قصصيّةٍ: "شقائق الأسيل" (2007)، "مِن مشيئةِ جسدٍ" (2008)، "خطيئةُ النّرجس" (2010)، قيّدتْ فيها القارئَ وكبّلتْهُ بلغتِها الّتي قيّدَتْها وكبّلتْها هي أيضًا، فقد وقَعَتِ الكاتبةُ في مجموعاتِها تلكَ أسيرةَ اللّغةِ الّتي طغَتْ بمُفرداتِها وتعابيرِها وتَراكيبِها وقَواعِدِها على مَضمونِ النّصّ، بحيثُ شغَلَتِ القارئَ عنهُ، رغمَ طرْحِها لقضايا كثيرةٍ ومُهمّة، لها علاقةٌ وثيقةٌ بالمرأةِ والرّجُلِ والمُجتمعِ والوطنِ والعلاقاتِ الإنسانيّةِ عامّةً، بينما في روايتِها الأولى "على شواطئ الترحال"، نجدُ أنّ التّجربةَ قد صَقلَتِ الكاتبةَ، وحرَّرَتْها مِنَ اللّغةِ وقيْدِها، بحيثُ يُحسُّ القارئُ أنّ لغةَ الكاتبةِ، رغمَ مُحافظتِها على جَماليّاتِها، لم تَعُدْ قيْدًا، بل صارتْ أداةً طيّعةً تُوظّفُها الكاتبةُ في خدمةِ الشّكلِ والمَضمون، دونَ أن تَطغى عليْهِما وتُشغِلَ القارئَ عنهُما، ودونَ أن تتنازلَ عن جَمالِها وشِعريّتِها وشاعريّتِها. تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ الكثيرَ يُمكنُ أنْ يُقالَ إيجابًا أو سلبًا حولَ توحيدِ لغةِ الشّخصيّاتِ، ولكن، يَكفيها أنّها تُحيلُ إلى قيمةِ المُساواةِ الّتي تُؤمِنُ بها الكاتبة. في شكلٍ فنّيٍّ جميلٍ تطرحُ الكاتبةُ قضايا شائكةً، قد يَتناغمُ معَها بعضُ القُرّاءُ وقد يُصدَمُ بعضُهُم، لِما فيها مِن طروحٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ، قد يألفُها بعضُهُم وقد يَخرُجُ عليها بعضُهُم الآخرُ، وذلكَ بتأثيرِ حساسيّةِ القضايا المَطروحةِ، وحساسيّةِ اتّخاذِ المَوقفِ منها، وكيفيّةِ تعامُلِ مُجتمعِنا معَها. مِن جَماليّاتِ الرّوايةِ وبعضِ أهدافِها عامّةً، وكذا هو الأمرُ في رواية "على شواطئِ التّرحال"، أنْ تطرحَ الرّوايةُ قضيّةً أو أكثرَ، وتَخلقَ حِوارًا بينها وبين ذاتِها، وبينَها وبينَ القرّاءِ وبينَ القرّاءِ أنفسِهِم، تطمحُ ألّا يَتعدّى ذلكَ الحوارُ حدودَ إنسانيّتِهِ، وأن تكونَ لهُ نتائجُهُ الّتي تتوخّى منها أنْ تُؤثّرَ بشكلٍ إيجابيٍّ على المجتمعِ، وعلى العلاقاتِ الّتي تربطُ بينَ عناصرِهِ بكلِّ أشكالِها.
مِن حيث الشّكلِ الفنّيِّ يَبدو واضحًا، أنّ الكاتبةَ استغلّتْ بشكلٍ جيّدٍ ما تُتيحُهُ لها حدودُ التّجريبِ في الرّوايةِ الحديثة. صدّرتِ الرّوايةَ بعنوانٍ فيهِ مِن جَمال العبارةِ وسِحرِ الإثارةِ الشّيء الكثير، وبلا إهداء، استعاضتْ عنهُ بعبارة، كنَصٍّ مُمهِّدٍ (Paratext)، فيها الكثيرُ مِن الإيحاءِ، "لا أريدُ مِنَ الحُبِّ غيرَ البداية" (ص2)، اقتبسَتْها مِن محمود درويش، والأهمّ، أعقبتْها بعبارةٍ إيحائيّةٍ أخرى مِن نحْتِها، "لا أريدُ مِنَ الحُبِّ غيرَ أنْ تستمرَّ البداية" (ص2). هذه العبارةُ تَشي بما يَنتظرُنا في الرّواية. في العنوانِ والعبارتيْنِ المَذكورتيْنِ وغيرِهِما على امتدادِ الرّوايةِ، توظيفٌ لتقنيّةِ الميتاقصّ وقدرتِها على إظهارِ وعيِ الكاتبة ووعيِ النّصِّ لذاتِهِ، وتحفيزِ القارئِ واستفزازِهِ ودفعِهِ لقراءةِ الرّوايةِ والتّفاعلِ معَ القضايا الّتي تَطرحُها.
السّاردُ وطُرقُ السّردِ: تَدورُ أحداثُ الرّوايةِ حولَ حدثٍ يبدو صغيرًا، وهو أن تكتبَ البطلةُ قصّتَها أو لا، وتَظهر حيرتُها مِن خلالِ صعوبةِ اختيارِها للغةِ الكتابة، وبهذا تتّخذُ الكاتبةُ مِنَ الكتابةِ ملاذًا ترجو بهِ الخلاصَ مِن معاناتِها، ودافعًا للسّردِ وحاملًا له. "سارة" الرّاويةُ وبطلةُ الرّوايةِ، تتردّدُ بينَ الكتابةِ وترْكِها، ولكنّها تكتبُ، فهناكَ ما يُغريها بذلك. "لم يَبقَ لي إلّا أنْ أتحرّرَ مِن ذِكرياتي ومن حبّي.. سأكتبُ قصَّتَنا وأتحرّرُ منكِ إلى الأبد" (ص7)، فالكتابةُ هي خلاصُها الوحيدُ مِن معاناتِها الّتي تسرُدُها بضميرِ "الأنا"، وتُطلِعُنا عليها مِن خلالِ ما تتذكّرُهُ وتكتبُهُ، وتُعيدُنا بالذّاكرةِ إلى لقائِها الأوّلِ بإبراهيم يقولُ لها: "تحمّلي قليلًا، أريدُ أن أساعدَكِ" (ص12)، حينَ أفاقتْ بينَ يديْهِ وهو يُساعدُها لتُفيقَ مِن غيبوبتِها بعدَ سُقوطِها، نتيجةَ استنشاقِها الغازَ المُسيلَ للدّموع، في "مُظاهرةٍ سِلميّةٍ بلا حجارةٍ، تجوبُ الشّوارعَ مِن أجلِ أطفالِ الحجارة" (ص12)، جمعتْ بينَ العربِ واليَهودِ ممّنْ يُعارضونَ سياسةَ الحربِ والاحتلال.
وظّفتِ الكاتبةُ تيّارَ الوعيِ وتقنيّاتِهِ المُختلفةَ بشكلٍ مُوفّقٍ، مَكّنَها مِنَ استبطانِ دواخل "سارة"، والبوحِ بما يَعتملُ في نفسِها، عن طريق الاسترجاعِ والمونولوج. لكنّها في مرحلةٍ ما تشعرُ بالإرهاقِ مِنَ السّردِ، "تعبتُ مِن ذكرياتي ومن أناي" (ص122)، فتتنازلُ بشكلٍ أنيقٍ عن السّردِ، وتُوكّلُ المُهمّةَ إلى الرّاوي العَليمِ، كُليّ المعرفة فتقولُ: "سأتنازلُ عنِ الأنا وأتركُ للرّاوي حقَّ السّردِ، ليَفتحَ الأبوابَ ويُشرّعَها". وفي هذه العبارةِ أيضًا توظيفٌ لتقنيّةِ الميتاقصّ الّتي تستفزُّ القارئَ. إذن؛ فالكاتبةُ على درايةٍ بأشكالِ السّردِ والبناءِ، وقدراتِ الرّاوي العليمِ على استبطانِ النّفوسِ الّتي لا تستطيعُ "سارة"- الرّاوي الأنا الشاهدُ المُشارِكُ- استبطانَها. ثمّ لاحقًا، يُصرّحُ الرّاوي بأنّهُ تعِبَ هو الآخرُ مِنَ السّردِ حينَ قالَ، "لقد تعبتُ مِنَ السّردِ، أنهكَتْني قصّةُ سارة وإبراهيم، وجلَدَتْ صبري قصّةُ خولة وصادق، وأرّقتْني قصّةُ ماري.. سأعيدُ السّردَ لسارة، هي حكايتُها، فلتنقُلْها هي لكم.. كما تعيشُها وتَشعُرُها" (ص166)، فيُعيدُ السّردَ إلى "سارة" بشكلٍ أنيقٍ أيضًا، لتُتابعَهُ بصيغةِ "الأنا" المُتكلّمةِ، إلّا أنّها كثيرًا ما تلجأُ إلى ضميرِ المُخاطبِ بشكلٍ مُوفّقٍ أيضًا، ما يَزيدُ مِن حميميّةِ الخطابِ وحرارةِ الكلماتِ، لأنّها تُدوّنُ ذكرياتِها كرسالةٍ تكتبُها لزوْجِها وحبيبِها إبراهيم. التّعبُ مِنَ السّردِ عندَ "سارة" وعندَ الرّاوي العليمِ يَشي بثِقلِ المُعاناةِ، وتعقيداتِ القضايا الشّائكةِ الّتي تَطرحُها الكاتبةُ في روايتِها، فهي قضايا تُثقِلُ على الكاتبةِ وصوتِها المُتداخِلِ بصوتِ الرّاويةِ، فيَزيدُ ذلكَ مِن تأثيرِها على القارئِ الّذي يَتفاعلُ معَ تعدُّدِ الأصواتِ وتداخُلِها.
الزّمكانيّة: يَمتدُّ زمنُ الرّوايةِ المَوضوعيّ مدّةً قصيرةً لم تُحدَّدْ، ولكنّها لا تزيدُ عن زمنِ كتابةِ الذّكرياتِ، أمّا الزّمنُ النّفسيُّ فتُحدّدُهُ "سارة" مُخاطِبةً فستانَها: "أنْ أرتديكَ يَعني أنْ أتنازلَ عن خمسةٍ وعشرينَ عامًا وبعضِ الكيلوغرامات" (ص12)، ويبدأ منذُ اللّقاءِ الأوّلِ بينَ سارة وإبراهيم، ويمتدُّ إلى انتهاءِ العلاقةِ بينَهما بعدَ خمسةٍ وعشرين عامًا، وهو زمنُ المُعاناةِ النّفسيّةِ الّتي عاشتْها "سارة". يَبدأ الرّاوي بالسّردِ مِنَ النّهايةِ، فالبدايةُ هي النّهايةُ، والنّهايةُ تَعتبرُها "سارة" بدايةً جديدةً، فهي تعتمدُ الاسترجاعَ والمونولوجَ الّذي يُمكّنُها مِنَ البوْحِ، بما يَعتملُ في نفسِها مِن ذكرياتٍ سعيدةٍ وصراعاتٍ أليمةٍ أدّتْ إلى انفصالِها عن إبراهيم. نجحتِ الكاتبةُ في اختيارِها للفترةِ الزّمنيّةِ النّفسيّةِ، خمسة وعشرين عامًا، وهي فترةٌ تُوازي امتدادَ الأحداثِ بين بدايةِ الانتفاضةِ الأولى 1987، إلى ما بعد نهايةِ حملةِ "الرّصاص المَصبوب" على غزة عام 2008-2009، هذه الفترةُ كانتْ شاهدةٌ على صِداماتٍ وأحداث كثيرة، وتحوُّلاتٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ في المجتمعيْن العربيّ واليهوديّ.  أمّا المكانُ فهو موضوعيٌّ جغرافيُّ ونفسيُّ كذلك، يَمتدُّ جَغرافيًّا بينَ تل أبيب وكريات شمونة، مُرورًا بعكّا وتلك القريةِ الفسيفساءِ في الجليل وغيرِها مِن القرى الباقيةِ والمُهجَّرة. تتوسّطُ المكانَ حيفا الّتي احتضنتِ اللّقاءَ الأوّلَ وبدايةَ الصّراعِ الحقيقيّ، لذلك، فتلكَ المساحةُ الجغرافيّةُ بتركيبتِها المَذكورةِ لها دلالتُها النّفسيّةُ الّتي تُعبِّرُ عنِ الشّرخِ بيَن تل أبيب؛ مدينةِ "سارة" ومجتمعِها اليهوديّ، وبين قريةِ إبراهيم والمجتمعِ العربيّ، ذلكَ الشّرخُ الّذي أحدثَهُ الصّراعُ وتَطوُّراتُ الأحداثِ، والتّحوُّلاتُ المَوضوعيّةُ والنّفسيّةُ الّتي كشفَتْها تلكَ الأحداثُ، وبذلكَ يُصبحُ المَكانُ كالزّمانِ، جزءًا مِن المَشاكِلِ الّتي عَمِيَ عنها الحُبُّ، فأعمى بصَرَ وبصيرةَ "سارة" وإبراهيم، الأمر الّذي أدّى إلى فشلِ الحُبِّ رغمَ عدَمِ تَراجُعِهِ. وقد أحسنتِ الكاتبة أنْ جمَعَتْ بين "سارة" وإبراهيم بالزّواجِ الّذي يَقتُلُ أعظمَ حُبٍّ، "فالزّواجُ مَقبرةُ الحُبّ" (ص58) كما تقولُ "سارة"، وإن كنتُ أرى أنّ الزّواجَ هنا ليسَ هو السّببُ الحقيقيُّ لفشلِ الحُبِّ، بقدرِ ما هو إحالةٌ ذكيّةٌ إلى الأسبابِ الموضوعيّةِ للفشلِ، سواء كانت اجتماعيّةً أو سياسيّةً، مُتفرّقةً أو مُجتمعة.
الشخصيات: "سارة" الشّخصيّةُ المَركزيّةُ والبطلةُ والرّاوية، بناءٌ ذكيٌّ استطاعَتِ الكاتبةُ مِن خلالِها أن تَجمَعَ  بينَ معاناة المرأةِ مِن ظُلمِ الرّجُلِ، وبينَ مأساةِ اللّقاءِ بينَ المُجتمعيْن العربيِّ واليهوديّ، وعُمقِ الكراهيّةِ الّتي تجمَعُ أو تُفرّقُ بينَهُما، لدرجةِ أنّها قادرةٌ على قتلِ أيِّ حُبٍّ قد تأتي بهِ الأيّام، فمأساةُ المرأةِ في المجتمعِ العربيِّ تُصبحُ مُزدَوَجةً أو أكثرَ إذا كانتِ المرأةُ غيرَ عربيّةٍ، ويهوديّةً بشكلٍ خاصٍّ. لذلكَ يَصعُبُ، بل هو مستحيلٌ النّظرُ إلى "سارة" على أنّها تَحملُ همًّا شخصيًّا، كما يَتبادرُ للأذهانِ مِن بعضِ ما تبوحُ بهِ. لا شكّ أنّها تَحملُ همًّا جَمعيًّا مُزدوَجًا مِن أكثرِ مِن ناحيةٍ، أهمُّها السّياسيّةُ والاجتماعيّة، لأنّ سارة يهوديّةٌ تُحبُّ عربيًّا وتتزوّجُ منهُ، وهو أمرٌ يَرفضُهُ المُجتمعانِ العربيُّ واليهوديُّ، ولا يُصبحُ مألوفًا مَهْما تكرّرَ، خاصّةً وأنّ هذه العلاقةَ تَنشأُ في مجتمعٍ تَحكمُهُ علاقاتٌ اجتماعيّةٌ وسياسيّةٌ عِدائيّةٌ، سواء حدثَ الزّواجُ أم لم يَحدُثْ.
إبراهيم شخصيّةٌ قسَتْ عليْها كثيرًا الرّاويةُ والكاتبةُ، إذ لمْ تَكتَفِ بتَحميلِهِ مَسؤوليّةَ تدَهوُرِ العلاقةِ بينَ المرأةِ المَظلومةِ والرّجُلِ الظّالمِ، وإنّما حمّلتْهُ مسؤوليّةَ تدَهوُرِ مَنظومةِ العلاقاتِ كلِّها، حتّى بينَ أصحابِ الفِكرِ المُتقاربِ، بحجّةِ رُضوخِهِ للقبيلةِ في انتماءاتِهِ الاجتماعيّةِ والسّياسيّةِ والدّينيّةِ. لكنّ الكاتبةَ مَنحتْنا بعضَ العزاءِ، في إظهارِها بعض الأسباب غيرِ الشّخصيّةِ الّتي أدّتْ إلى فشلِ إبراهيم، عندما جعلَتِ المجتمعَ الّذي تُحيلُ إليهِ "سارة" يَتحمّلُ جزءًا مِن أسبابِ ذلكَ الفشل. أمّا الشّخصيّاتُ الأخرى الكثيرةُ فكلُّها مُهمّةٌ، لكن أهمَّها ماري وخولة وأمّ إبراهيم، هي شخصيّاتٌ رسمَتْها الكاتبةُ لتستكمِلَ بها أفكارَها حولَ القضايا المَطروحةِ، والعلاقاتِ بينَ المُجتمعيْن العربيّ واليهوديّ مِن جهةٍ، وداخلِ المجتمعِ العربيِّ مُجتمعِ الفسيفساءِ مِن جهةٍ أخرى، ذلكَ المُجتمع الّذي تربطُهُ علاقاتٌ لها خصوصيّاتُها وحساسيّتُها، طرحَتْها الكاتبةُ بجرأةٍ، سواء فكّرتْ أم لم تُفكّرْ بالجدَلِ الّذي قد تُثيرُهُ بينَ مُوافقٍ ومُعارِضٍ ومُتحفّظٍ. كلُّ شخصيّةٍ مَن الثّلاثِ تُحيلُ إلى قضيّةٍ سياسيّةٍ شائكةٍ: شخصيّةُ خولة وما حدَثَ لابنِها، تُحيلُ إلى خدمةِ الشّبابِ الدّروزِ في الجيش، وكيفَ أنّ الكثيرينَ في مجتمعِنا لا يتفهّمونَ أنّها مَصدرُ مُعاناةٍ للمجتمعِ الدّرزيّ وليستْ مَصدرَ فخرٍ. وشخصيّةُ ماري تُحيلُ إلى الإنسان الفلسطينيِّ اللّاجئِ في وطنِهِ. وشخصيّةُ أمّ إبراهيم تحيلُ إلى الشّعبِ الفلسطينيِّ الرّازحِ تحتَ الاحتلالِ وسياسةِ الحرب، وكلُّ تلكَ القضايا تُؤثّرُ وتتأثّرُ بالعلاقةِ ذاتِ الحساسيّةِ العاليةِ بينَ المُجتمعيْن العربيّ واليهوديّ. كلُّ الشّخصيّاتُ في الرّوايةِ مِن "سارة" وحتّى أصغر شخصيّةٍ، ليسَ مِن حيث الجيلِ طبعًا، تستحقُّ دراسةً اجتماعيّةً نفسيّةً أشملَ وأعمقَ لا تحتملُها هذهِ العجالة.
أمّا مِن حيثُ المَضمون، فالكاتبةُ تبحثُ في روايتِها عن عالمٍ مِثاليٍّ، أو عن مدينة فاضلة (Utopia)، يفتقدُها أولئكَ الّذينَ تَتضاعفُ مُعاناتُهم، لأنّ المَشاعرَ الّتي تتحكّمُ بهم هي مشاعرُهُم الإنسانيّةُ، الّتي يَقتلُها في هذا العالمِ الّذي نعيشُ فيهِ، أولئكَ الّذينَ تتحكّمُ بهم مَشاعرُ أخرى غيرُ الإنسانيّةِ، وهي مَشاعر تنبعُ غالبًا مِن نزعاتٍ سلبيّةٍ، تتراوحُ بينَ الأنانيّةِ والطائفيّةِ والعنصريّةِ وغيرِها الكثير، وتُشكّلُ عقباتٍ أمامَ بناءِ علاقاتٍ، تقومُ على الحبِّ وغيرِهِ مِنَ القِيمِ والمَشاعرِ الإنسانيّة. في طريقِ آلامِ بحثِها، تصطدمُ الكاتبةُ بتلكَ العقباتِ الّتي تُجهضُ الحُبَّ والمَشاعرَ الإنسانيّةَ، تلكَ القضايا الشّائكةَ ذات الحساسيّةِ الخاصّة، سواء كانَ ذلكَ في المجتمعِ الواحدِ، أو بينَهُ وبينَ غيرِهِ مِنَ المُجتمعاتِ الأخرى، الّتي تربطُهُ بها علاقاتٌ سياسيّةٌ بشكلٍ خاصّ. لذلك، ليسَ غريبًا أنّ الكاتبةَ تركتِ القصّةَ القصيرةَ ولجأتْ إلى الرّواية، فهيَ بخلافِ سائرِ الأجناسِ الأدبيّةِ الأخرى، هي الأقدرُ على نقلِ الواقعِ وإبداعِهِ، ونقلِ حركةِ الإنسانِ في تطوُّرِهِ بأشكالِهِ المُختلفةِ، وخاصّة في صراعِهِ المُتواصِلِ بكلِّ أشكالِهِ معَ أعداءِ الحياة. الكتابةُ بشكلٍ عامّ، وكتابةُ الرّوايةِ بشكلٍ خاصٍّ، يَراها لوسيان غولدمان Lucien Goldmann كتابةَ "تاريخِ بحثٍ مُنحَطٍّ (يسميه لوكاتش Lukacs "شيطاني")، فهيَ بحثٌ عن قِيمٍ أصيلةٍ في عالمٍ مُنحطٍّ، ولكن على صعيدٍ مُتقدِّمٍ بشكلٍ مُغايرٍ، ووِفقَ كيفيّةٍ مُختلفة" (غولدمان، 1993، ص 14، وGoldmann, 1975, p. 1). ذلك يَعني أنّ لجوءَ الإنسانِ إلى الكتابةِ، وإلى كتابةِ الرّوايةِ تحديدًا، يُعطي فرصةً للرّوائيّينَ، ليُحقّقوا على الورقِ ما عجزوا عن تحقيقِهِ في الواقع. وهذا ما فعلَتْهُ رواية بربارة، وبكلِّ جرأةٍ، فقد خاضتْ في ذلكَ المُستنقعِ الّذي تحكُمُهُ الأنانيّةُ والطائفيّةُ والعنصريّةُ وغيرُها مِن النّزعاتِ القاتلةِ، إلى جانبِ القهرِ السّياسيِّ، لتبحثَ عنِ القِيمِ الأصيلةِ، وتبني عليها عالمَها الخاصَّ الّذي تحلمُ بهِ، ذلكَ العالمَ الّذي تحكُمُهُ القِيمُ والمَشاعرُ الإنسانيّة، بما فيها الاحترامُ المُتبادلُ معَ الآخر، واحترامُ حقِّهِ في الحياةِ والحُرّيّةِ دونَ المَساسِ بخصوصيّتِهِ. وهذا هو ما قصَدَهُ غولدمان (Goldmann)، بالصّعيدِ المُتقدّمِ بشكلٍ مُغايرٍ ووِفق كيفيّةٍ مُختلفة، أي الشّكل والكيفيّة اللّذين يَختارُهُما الكاتبُ، وهذا ما فعلَتْهُ راوية بربارة لبناءِ عالمِها الخاصّ في روايتِها.
بجرأةٍ مُثيرةٍ، طرحَتِ الكاتبةُ قضايا شائكةً، أوّلًا في مجتمعيْن مُختلفيْن، وثانيًا في مجتمعٍ واحدٍ لهُ فسيفساؤُهُ وخصوصيّتُهُ. ولكن رغمَ حساسيّةِ تلكَ القضايا، وربّما أولويّتِها، لم تستطعِ الكاتبةُ التخلّصَ كليًّا مِن إطارِ الأدبِ النّسويِّ الّذي يَهتمُّ بعلاقةِ المرأةِ بالرّجُلِ، أو بنفسِها أيضًا، بغضِّ النّظرِ عن أنّ تلكَ العلاقةَ في هذه الرّواية لها حساسيّتُها الخاصّة، إذ تقومُ بينَ امرأةٍ يهوديّةٍ ورَجُلٍ عربيّ، ولكنّها، إذا استبعدْنا تلكَ الحساسيّةَ، لا تختلفُ عن أيّةِ علاقةٍ بينَ الرّجلِ والمرأة، تكونُ فيها المرأةُ ضحيّةً مَظلومةً، تُعاني مِن سيطرةِ الرّجلِ ومَفاهيمِ المُجتمعِ الذّكوريِّ الذي يُهمّشُ المرأةَ ويَهضمُ حقوقَها، فإبراهيم الّذي تمرّدَ أوّلَ الأمرِ، عادَ في النّهايةِ وخضعَ لمفاهيمِ المُجتمعِ الذّكوريِّ وما فيهِ مِن عصبيّاتٍ قبليّةٍ ودينيّة. وفي هذا السّياقِ بالذّاتِ، أظهرَتِ الكاتبةُ ذكاءً ملحوظًا باختيارِها لوالدَيْ سارة مِن مجتمعٍ شرقيّ: العراقيّ والمغربيّ، فقد ضربَتْ بذلك عصفوريْن كبيريْن: الأول، لأنّهُما مِن مُجتمعٍ لا يَبتعدُ كثيرًا عن مجتمعِنا في عقليّتِهِ وسُلطتِهِ الذّكوريّةِ، وبذلكَ عبّرتْ عن معاناةِ المرأةِ عربيّةً كانتْ أو غيرها، مِن ظلمِ الرّجُلِ والمُجتمعِ الذّكوريّ. وقد تمثّلَ ذلكَ في علاقةِ "سارة" بإبراهيم و"أفنر"، ومحاولتِهِما فرض سيطرتِهما عليها؛ والثّاني، عبّرتْ بذلك أيضًا عن تطرّفِ المُجتمعِ اليهوديِّ نحوَ سياسةِ الحربِ والاحتلالِ والعِداءِ للعرب، الفلسطينيّينَ بشكلٍ خاصّ، إذ إنّ المُجتمعَ اليهوديَّ الشرقيَّ هو الأكثر ميْلًا نحوَ تلكَ السّياسةِ، ودعمًا لسياسةِ اليمين في إسرائيل.
تُعاني سارة بشكلٍ مزدوَجٍ مِن كوْنِها امرأةً ويهوديّةً، وتُحمِّلُ المُجتمعيْن العربيَّ واليهوديَّ مسؤوليّةَ معاناتِها. المجتمعُ العربيُّ يتمثّلُ بإبراهيم وأُمِّهِ وغيرِهما، والمجتمعُ اليهوديُّ يَتمثّلُ كذلك بوالدَيْ "سارة" وغيرِهِما. والكاتبةُ لا تُغفلُ دوْرَ السّياسةِ، حيثُ تُحمّلُ "سارة" مسؤوليّةَ معاناتِها للسُّلطةِ السّياسيّةِ أيضًا، مُتمثّلةً بالضّابطِ "أفنر"، ابنِ خالتِها، وتُظهرُ بذلكَ، أنّ القضيّةَ هي قضيّةٌ اجتماعيّةٌ وسياسيّةٌ في آنٍ معًا. ويُعاني إبراهيمُ مِنَ المُجتمعيْنِ أيضًا، ولكنّ السُّلطةَ هي في الحقيقةِ مَن يَقلبُ حياتَهُ وحياةَ "سارة" جحيمًا، وذلك باعترافِ "سارة" أنّ فشلَ إبراهيم في إيجادِ عمَلٍ، وراؤُهُ السُّلطةُ المُتمثّلةُ بـ "أفنر". وليتَ الأمرَ يتوقّفُ عندَ هذا الحدِّ، وكما جاءَ على لسانِ "أفنر" في الرّواية أنّهُ يَعتبرُ إبراهيم، "إنّهُ ضِدّيٌّ ونقيضيٌّ، يُريدُ أن يأخذَ بلادي بعدَ أن أخذَ منّي .. منّا سارة. وإذا كانتْ هذهِ أفكارُ "أفنر" الّذي يُمثّلُ السُّلطةَ، فإنّ القضايا الشّائكةَ الأخرى في الرّواية، لن يَكونَ مِنَ الصّعبِ على المُتلقّي أن يُحيلَ أسبابَ وجودِها إلى السُّلطة، وبذلك تُصبحُ أسبابُ المُعاناةِ الحقيقيّةَ لكلِّ شخصيّاتِ الرّوايةِ، السُّلطةَ وسياستَها الّتي لا تؤمنُ إلّا بالحربِ ودوامِ الفُرقةِ بينَ أبناءِ المجتمعِ الواحد، ولا يَسْلَمُ منها حتّى أبناء المجتمع اليهوديّ. ذلك لا يعني أنّ الظّروفَ الاجتماعيّةَ بما فيها مِن ظُلمٍ لا دوْرَ لها، ولكن دوْرَ السيّاسةِ يَطغى عليهِ، فهو الّذي يُكرّسُ الظّلمَ الاجتماعيَّ والتّخلّفَ، خاصّة في المجتمعِ العربيّ، ويَعملُ على دوامِهِ. وفي كلِّ الحالاتِ، يظهرُ ذلكَ جليًّا في الدّوْرِ الّذي يَلعبُهُ "أفنر" في عِدائِهِ لإبراهيم، ومُحاولاتِهِ في تخليصِ "سارة" منهُ، فهو لا يَختلفُ عن دوْرِ السُّلطةِ وعِدائِها للجَماهيرِ العربيّةِ، فهي تُحاول أنْ تُجنِّدَ الجميعَ لخدمةِ سياستِها، كما حاول "أفنر" أنْ يُجنّدَ "سارة" الّتي "باتتْ تعرفُ أنّها فقدَتْ وطنَها، وفقدَتْ ملجأَها، فهي تَعيشُ في دولةٍ تُريدُها عينًا وفمًا وأذنًا على زوجِها وأهلِ قريَتِهِ، الدّولةُ جازتْها على إنسانيّتِها، والمُجتمع جازاها على حُبِّها!" (ص126). ولا أدري إذا كانتِ الكاتبةُ قد انتبَهتْ إلى أنّها بكلِّ ذلكَ تُحيلُ، وبشكلٍ غيرِ مُباشرٍ وإنْ كانَ واضحًا، إلى سياسةِ الفصلِ العنصريِّ الّتي تنتهجُها السُّلطةُ بينَ العربِ واليَهودِ، تُبعدُ بينَهم قدْرَ استطاعتِها، خاصّةً في مجالِ السّياسةِ، وكذلكَ إلى سياسةِ التّخويفِ "في هذهِ الدّولةِ الّتي تعيشُ على رعبٍ كأنّ النّارَ تحتَها" (ص92)، تَنشرُ الخوفَ بينَ اليهودِ، وتُوهِمُهُم بأنّ بُعدَهُم عن العربِ فيهِ خلاصُهُم وخلاصُ دولتِهم، وهي دعوةٌ صريحةٌ مِنَ الحكومةِ اليومَ إلى ما تُسمّيهِ "يهوديّةَ الدّولة". وهذا أيضًا ما يُفهَمُ مِن طلبِ "أفنر" المُتكرِّرِ مِن "سارة"، أنْ يُخلّصَها مِن إبراهيم، حين "أمسَكَها مِن يدِها، وهمَسَ في أذنِها: هذا ما نابَكِ مِنَ العربيّ؟ أتريدينَ أن أُنجّيكِ منه؟" (ص150). وحينَ قالَ لها أيضًا: "ما بكِ؟ أنا ابنُ خالتِكِ، لحمِكِ ودمِكِ، دعيني أساعدكِ في النّجاةِ من هذا العربيّ" (ص151)، وفي موْضعٍ آخَرَ، "كفاكِ عنادًا، هي أيّامٌ وسأراكَ بالجلبابِ والحِجابِ، تعالَيْ أُنقذكِ، ألم تسمعي عنِ الحركةِ اليهوديّةِ الّتي قامتْ لتخليصِ اليهوديّاتِ المُتزوّجاتِ مِن غيرِ اليهوديّ، يُوفّرونَ لكِ بيتًا وعملًا، هل ستنتظرينَ أكثرَ ممّا انتظرْتِ؟" (ص164-165). وفي خِضمِّ تلكَ السّياسةِ، تُريدُ السُّلطةُ مِنَ العربيِّ أن يُذعِنَ لها ويتقبّلَها بهدوءٍ ويتعايشَ معهُ بسَلامٍ، كما جاءَ على لسانِ أمّ "سارة": "فليَعيشوا بسلامٍ وهدوءٍ، ولِمَ يضربونَ الجُندَ بالحجارة؟" (ص10).
ما يُثيرُ الجدَلَ في رواية راوية بربارة، هو من جهة جرأتُها في طرح القضايا الشّائكةِ بشكلٍ غيرِ مسبوقٍ، ومِن جهةٍ أخرى، أنّها لم تأخذْ مَوقِفًا واضحًا مِنَ السُّلطةِ الّتي تَقفُ وراءَ تلكَ المُعاناةِ، بالتّأكيدِ ليسَ خوفًا، فهي تطرحُ الأمورَ الاجتماعيّةَ والسّياسيّةَ بجرأةٍ كبيرةٍ، وتعترفُ بدَوْرِ السُّلطةِ الهدّامِ مِن خلالِ شخصيّةِ "أفنر"، ما يَشي بأنّها تترُكُ لكلِّ مُتلَقٍّ أن يُحدّدَ موقفَهُ بالشّكلِ الّذي يُريدُ، ومِن جهةٍ ثالثةٍ، لا أدري أيضًا، إذا انتبهَتِ الكاتبةُ إلى أنّها بجرأتِها وبحساسيّةِ القضايا الّتي طرحَتْها، خاصّةً السّياسيّة منها، وبتصويرِها المُؤثّرِ لقسوةِ الألم الّذي يَنزفُ مِن تلكَ القضايا، قد أيقظتْ حساسيّةَ المُتلقّي الّتي ستتأثّرُ وتنشغلُ كثيرًا بتلكَ القضايا، وبذلكَ تكونُ قد سحقَتْ بشكلٍ ما، أفكارَها الرّومانسيّةَ أحيانًا، المِثاليّةَ أحيانًا أخرى، أو شغلَتِ المُتلقّي عنها على الأقلّ. فقد أحسستُ أثناءَ قراءتي للرّوايةِ، أنّني أمُرُّ بتلكَ الجُمَلِ الّتي تُعبّرُ عن تلكَ الأفكارِ مَرَّ الكِرامِ، لأنّ سياسةَ العنصريّةِ والحربِ والاحتلالِ و"فَرِّقْ تَسُدْ"، وغيرَها مِنَ السّياساتِ البشعةِ الّتي تنتهجُها السُّلطةُ في هذهِ البلادِ، قد طغَتْ بحيثُ جعلَتِ الإنسانَ فيها يَكفُرُ بوجودِ مثلَ تلكَ الأفكارِ، أو بوجودِ مَن يُؤمِنُ بها. تردّدَتْ تلكَ الأفكارُ على امتدادِ الرّوايةِ: "نحن أمَميّانِ، وأنتِ دولتي، أريدُ أن أصبحَ فيكِ مواطنًا لا يَحتاجُ إلى جوازِ سفرٍ ليَدخلَ دولتَهُ الحبيبة! عيونُكِ هُويّتي وانتمائي وعبادتي" (ص38)، لستِ امرأةً، ولستِ يهوديّةً، أنتِ كياني الضّائعُ، لستِ نزوةً عابرةً، بل أبَدِيَّ الدّائم، أنتِ كلُّ نساءِ الأرضِ بكلِّ هُويّاتِهم" (ص39)، "علاقتُنا لم تعترفْ لا بالحدودِ ولا بالسّياسةِ، لا بطاولةِ المفاوضاتِ المُستديرةِ ولا المُستطيلةِ، لا بالعِرقِ ولا بالدّين، لا بالحربِ ولا بالسّلامِ، لا بالعدُوِّ ولا بالصّديقِ، علاقتُنا رسَمَتْ لها خريطةً أخرى وحدودًا مفتوحةً، لم نعترفْ إلّا بأحاسيسِنا وبمبادئِنا!" (ص59)، "أنا لستُ مُلْكًا لأحدٍ، أنا مسؤولةٌ عن روحي وعن جسدي وعن كياني ووجودي! والبلاد ليستْ مُلكًا للبَشرِ، إنّها هِبَةُ الرّبِّ لنا لنسكُنَ ونحيا، لا لنتقاتلَ ونموتَ!" (ص98)، "وطنُكَ هو المكانُ الّذي يَمنحُكَ الحرّيّةَ؛ حرّيّةَ التّفكيرِ والتّعبيرِ والاختيارِ والحُبِّ؟" (ص124). وغير ذلك الكثير. فهي تُنهي روايتَها بعبارةٍ لا تختلفُ عن هذا السّياقِ، اقتبَسَتْها مِن درويش: "وقليلٌ مِن الأرضِ يَكفي لكي نلتقي، ويَحُلَّ السّلام" (ص177)، ما يُؤكّدُ أنّها مُصِرّةٌ على بناءِ عالمِها المِثاليِّ الخاصِّ، ومدينتِها الفاضلة. في الرّوايةِ دَفقٌ إنسانيٌّ مُثيرٌ وصادِقٌ، ولكن، أعتقدُ أنّهُ مِنَ الصّعبِ طرحُ قصّةِ حُبٍّ مِنَ النّوعِ الّذي تطرحُهُ الرّوايةُ، وبالتالي النظر إليها وكأنّها قضيّةٌ إنسانيّةٌ فحسْب، أو حتّى إنسانيّة اجتماعيّة، في مجتمعٍ تتحكّمُ فيهِ السّياسةُ بكلِّ شيءٍ، وتُدمّرُ كلَّ جَميلٍ. صحيحٌ أنّ راويةَ بربارة دفقَتْ كلَّ ما في وعيِها ولا وعيِها في روايةٍ تستحقُّ القراءةَ واستراحتْ، فالكتابةُ خلاصٌ، ولكنّها ستظلُّ تَحلمُ طويلًا بعالمِها المِثاليِّ ومَدينتِها الفاضلة.
------------------------------------
. نبيه القاسم. طرح القضايا الساخنة بذكاء وجمالية، حيفا: الاتحاد، ملحق الجمعة، 17.4.2015. ص14-15.
. راوية بربارة. على شواطئ الترحال، حيفا: مكتبة كل شيء، 2015..
لوسيان غولدمان. مقدمات في سوسيولوجية الرواية، ترجمة بدر الدين عرودكي، اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 1993. أو في: Goldmann, L. Tawards a sociology of the novel. 1964. Trans. Alan Sheridan. New York: Tavistock Publications, 1975.
جاء في كلمة د. باسيليوس بواردي: بدايةً أقولُ وبشكلٍ مبدئيٍّ: إنّ الرّوايةَ تستحقُّ القراءةَ كروايةٍ وقبلَ كلِّ شيءٍ، قبلَ الأخطاءِ وقبلَ سوءِ المَعلوماتِ، فهي روايةٌ تُثيرُ الجدَلَ، إضافةً إلى أنّ راوية شاعرةٌ، فلم تستطِعْ في الرّوايةِ كما في قصصِها السّابقة، أن تتحرّرَ مِن الوصفِ الشّاعريِّ الّذي قد يُعيقُ في بعضِ الأحيانِ تقدُّمَ الحبكة، ولكن برأيي، هذه راوية وهذه روايتُها، ونحنُ أيضًا فخورون بهذهِ اللّغةِ الّتي نودُّ لها أن تبقى وأن نحافظَ عليها، وأريدُ أن أكونَ ليزريًّ(أِعة ليزر) إن صحَّ التّعبيرُ، بمعنى؛ أن أدخُلَ إلى مكانٍ بسيطٍ وحيّزٍ مُركّزٍ في هذهِ الرّواية، مِن أجلِ الإشراف عليهِ، فنقدُ الرّوايةِ يَستحقُّ كتابةَ المَقالاتِ والعبثَ في سُطورِها، مِن أجلِ اكتشافِ الفوضى لديْها، وأنا أريدُ أن أُشدِّدَ على هذه الفوضى وعلى أدبِ الانتهاكِ، والسّؤالُ الّذي يُسأَلُ: هل يمكنُ اعتبار هذه الرّوايةِ ضمنَ ما نُسمّيهِ بأدبِ الزّعزعةِ أو الخلخلة، أو بكلماتِ أدونيس في مِضمارِ ما يُسمّى "الأدب المُنتهِك" أمامَ ما يُسمّى بـ "الأدب المُستهلك"؟ وحقيقةً يجبُ أن أقولَ بضعةَ كلماتٍ حولَ قضيّةِ أدبِ الانتهاكِ وأدبِ الاستهلاكِ، فأدبُ الاستهلاكِ يَخرجُ ميتًا قبلَ أن يُولَدَ، ويُسايرُ الشّاعرَ والكاتبَ والذّوقَ العامَّ، أمّا في أدب الانتهاكِ فتولدُ الكتابةُ هامشيّةً، لكنّها تصبحُ رأسَ الزّاويةِ فيما بعد، وهذا فعلٌ نبويٌّ رؤيويٌّ. 
تعوَّدَ النّاظرُ إلى الأدبِ الفلسطينيِّ الحديثِ الالتفاتَ إلى مَسألةٍ، طالما ترجعُ إلى مركزِ دائرةِ النّقاشِ الأدبيّ؛ ونقصدُ مسألةَ الدّوْرِ الّذي على الأدبِ- الأديبِ تأديَتَهُ تجاهَ المَسائلِ الجَمعيّةِ المُحيطةِ بهِ، وتُحيلُنا هذهِ القضيّةُ بالضّرورة إلى مُصطلَحَيْ "أدبُ الاتّصال"/الأدب الأيديولوجيّ، و"أدبُ الانفصال"/السّياسيّ، بمعنى؛ أنّ الاتّصالَ/الأيديولوجيَّ مُنطلِقًا مِن مَفهومِ المُحاكاةِ، يَتمُّ مِن خلالِ التصاقِ الشّاعرِ بالنُّظُمِ المَعرفيّةِ والأخلاقيّةِ الثّابتة، أي؛ النّصُّ الأدبيُّ عاكسٌ سلبيٌّ للأنساقِ المعرفيّةِ الجاهزة، والأدبُ في هذهِ الحالةِ لا يُحدِثُ تغييرًا في الموضوعاتِ، أو في تَصَوُّرِ هذهِ الموْضوعاتِ، إنّه في الحقيقةِ أدبٌ يَعكسُ الصّورةَ الثّابتةَ للعالمِ الموجودِ، دونَ مُحاولةِ تغييرٍ في مَفهومِهِ أو وعيِهِ. العقلُ مِن هذا المنظورِ يَشغَلُ حيِّزًا سلبيًّا في إدراكِ العالمِ، لأنّ الصّورةَ اللّفظيّةَ الكلاميّةَ تتطابقُ تمامًا مع هذا المَنظورِ ومعَ الصّورةَ الذّهنيّةَ، وعليهِ، فإنّ الأديبَ وِفقَ هذا المَنظورِ، يَلتزمُ بمُحاكاةِ عالَمٍ جاهزٍ دونَ أيّةَ مُحاولةٍ تُذكَرُ منهُ لإعادةِ تَشكيلِهِ. أمّا في ما يَتعلّقُ بـ أدبِ الانفصالِ/السّياسيّ، فهو انفصالُ المُبدِعِ عن العالمِ الخارجيِّ بمَلامحِهِ الثّابتةِ، نحوَ غوْرِهِ وأعماقِهِ الإنسانيّةِ والعاطفيّةِ الدّاخليّةِ، ليَصِلَ إلى العامّ مِن خلالِ الخاصّ، ويَتوسّلَ الرّمزَ للكشفِ عن الأعماقِ الإنسانيّة. بكلماتٍ أخرى، هل يُمكنُ للشّاعرِ الانفصالُ عن الذّاتِ الجَمعيّةِ، والغوْصُ في همومِ الفردِ الإنسانيّةِ، أم عليهِ الانصياعُ لقسريّاتٍ جَمعيّةٍ مَفروضةٍ عليهِ، تُجنّدُهُ لمَصلحةِ العامِّ والكلِّ، دونَ الالتفاتِ لفرديّتِهِ، أو فلنقُلْ لتَميُّزِهِ الفرديّ؟
المسألةُ إذن؛ قد تبدو أنّها تقفُ عندَ حدّيْنِ مُتقاطِبيْنِ؛ القطبُ الجَمعيُّ يُولي اهتمامَهُ لخطابِ الواحدِ، الكُلّيّ، الاندماجِ والانخراطِ والانصهارِ، وبالتّالي للوَلاءِ. أمّا القطبُ الفرديُّ فيَصُبُّ تركيزَهُ على خطابِ المُتعدِّدِ، المُختلِفِ، التّميُّزِ والفرادةِ والإبداع، وبالتّالي الرّفض. فالقسريّاتُ الجَمعيّةُ الأدبيّةُ منها وغيرُ الأدبيّةِ، تبحثُ عن مادّةِ التّلاحُمِ والانسجامِ، انطلاقًا مِن سعيِها لتأسيسِ النّظامِ الواحد. مِن جهتِهِ يَقومُ القطبُ الفرديُّ على مُحاولةِ بناءٍ مُختلفةٍ في جوْهرِها، مَفادُها تأسيسُ لنُظُمٍ فرديّةٍ مُتشعِّبةٍ، تتشابكُ مِن خلالِ اختلافاتِها مُتعدّدةِ الألوان. على أنّ أمامَ هذيْن القُطبيْنِ قد يَنبثقُ قطبٌ ثالثٌ، يُجيبُ بالأخيرِ عن مُتطلّباتِ المُبدعِ المَأزومِ أمامَ النّسقِ الجَمعيِّ السُّكونيّ. وقد نفكّرُ الأنَ جليًّا في قضيّةِ (على شواطئِ التّرحال)، فهذا القطبُ الّذي يَحملُ بعضَ سِماتِ التّوفيقِ، يُتيحُ للمُبدعِ التزامًا مِن نوعٍ آخَرَ؛ الالتزامَ بالقضايا الوُجوديّةِ والكيانيّةِ الإنسانيّةِ الّتي تَحيدُ عن الشّعاراتِ المُبتذلةِ المَألوفة. مِن هنا، يُعالجُ الفردُ المُبدعُ قضاياهُ وهمومَهُ مِن مُنطلقاتِهِ الفرديّةِ، لتَصُبَّ كخيطٍ مميَّزٍ وجَلِيٍّ، ضِمنَ نسيجِ العلاقاتِ الجَمعيّةِ المُتشابكة. إنّه إذن؛ ذلك التّشابُكُ المُثري القائمُ بشكلٍ مُستقِلٍّ في البناءِ الجَمعيِّ غيرِ المُنسلِخ، وفي الوقتِ ذاتِهِ، غيرِ المُنصهِرِ في الإطار.
أينَ تتموضَعُ هذهِ الرّوايةُ إذن؟ برأيي هذهِ الرّوايةُ تتموضعُ عمليًّا في القطبِ الثّالثِ الّذي يَرتكزُ إلى سرديّةٍ ذاتيّةٍ، تُحاورُ السّرديّاتِ القائمةِ بشكلٍ مُتَحَدٍّ، وقد تبدو السّرديّاتُ وكأنّها سرديّةُ الإسرائيليِّ اليهوديِّ مِن جهةٍ، وسرديّةُ العربيِّ الفلسطينيِّ مِن جهةٍ أخرى، وفي الحقيقةِ، تأخذُ راوية بربارة أبعادَ هذهِ السّرديّاتِ نحوَ سرديّاتٍ أكثرَ تشابُكًا وتعقيدًا وتركيبًا، وهنا بالذّاتِ تكمُنُ أهمّيّةُ هذهِ الرّوايةِ، لأنّها عمليًّا تجمَعُ بينَ السّرديّتيْنِ، فتعرِضُهُما أمامَنا، ولكنّها في الحقيقةِ تأخذُ التّفاصيلَ الصّغيرةَ، فتؤكّدُ لنا أنّ السّرديّاتِ العامّةَ لا تعنيها، إنّما تعنيها أكثرَ التّفاصيلُ اليوميّةُ المَعيشيّةُ، بل وأكثرَ مِن ذلك، تَعنيها التّفاصيلُ الكيانيّةُ الأنطولوجيّةُ الّتي تُؤثّرُ حقيقةً في عُمقِ الكائنِ الإنسانيِّ، وأُقدِّمُ مِثاليْنِ حولَ كوْنِ هذهِ الرّواية برأيي روايةَ أدبِ انتهاك، فموضوعُ الحُبِّ وكيفيّةَ تَناوُلِ الزّمنِ في الرّوايةِ يُشيران إلى ما أقصدُ، وهي بخُبثٍ كتابيٍّ أدبيٍّ مُعيّنٍ، تُوهِمُ القارئَ أنّ موض

133
فاطمة واستشرافُ مستقبلٍ إنسانيٍّ مُشرِقٍ!

آمال عوّاد رضوان
أقامتْ مؤسّسةُ محمود درويش للإبداع في مقرّها- كفر ياسيف أمسيةً ثقافيّة للأديب محمّد نفّاع، وإشهار روايتِهِ الأخيرة "فاطمة"، وذلك بتاريخ 27-5-2015، وسطَ حضورٍ مِنَ الأدباءِ والكُتّابِ والأصدقاء، وقد رحّبَ الأستاذ عصام خوري رئيسُ المؤسّسة بالحضور، ثمّ تولّى إدارةَ الأمسيةِ د. بطرس دلة، وكانتْ مُداخلاتٌ حولَ الروايةِ لكلٍّ مِن د. محمّد هيبي، د. راوية بربارة،  والكاتبة رجاء بكريّة، ومداخلاتٍ أخرى من الحضور، ثم كانت كلمة شكر للمحتفى به محمّد نفاع، والتقاط الصّور التذكارية.
جاء في مداخلة د. بطرس دلة: المنظورُ الفكريُّ في رواية فاطمة للقاصّ محمّد نفّاع:  يقولُ الكاتبُ الباحثُ حسين حمزة في كتابهِ (صورُ المرايا): لا شك أنّ كلَّ نصٍّ أدبيٍّ كيفما كانَ نوعُهُ يَتمُّ ضمنَ بُنيةٍ اجتماعيّةٍ مُحدّدةٍ، وضِمنَ مَرجعيّةٍ تقافيّةٍ تُسقِطُ تَصوُّراتِها على النّصّ، شريطةَ ألّا يتغلّبَ الواقعُ السياسيُّ على الواقعِ الأدبيّ"، وأضيفُ: شريطةَ أنْ يَبتعدَ عن المُباشرةِ والتقريريّةِ في سردِ الأحداث .
القاصّ محمّد نفّاع كانَ واعيًا لهذا الشّرط عندما كتبَ القصّةَ القصيرة، وكانَ أكثرَ وعيًا عندما كتبَ روايتَهُ فاطمة، فمِن خِلالِ وعيِهِ عرَفَ كيفَ يُحافظُ على واقعِهِ الأدبيِّ، إلى جانبِ المُحافظةِ على فنّيّةِ النّصِّ، على الرّغم مِن الظّروفِ السّياسيّةِ والاجتماعيّةِ الّتي يعهيشُها مِن جهةٍ، والّتي يَعيشُها شعبُنا العربيُّ الفلسطينيُّ من جهةٍ أخرى، فهو كإنسانٍ مُثقّفٍ وقارئٍ نهِمٍ وكاتبٍ، أصدرَ حتّى الآنَ العديدَ مِنَ القِصصِ في صحيفةِ الاتّحاد، وفي المجموعةِ الّتي كانَ آخِرُها "التّفاحة النهريّة"، وأتبَعَها بهذهِ الرّواية.
لغةُ الرّواية: محمّد نفّاع أديبٌ مُطّلعٌ على شواردِ اللّغةِ العربيّةِ وغرائبِها، ولهُ زاويةٌ خاصّةٌ في صحيفةِ الاتّحادِ الّتي هو محرّرُها المسؤولُ عنها، يُعالجُ فيها بعضَ المُصطلحاتِ اللّغويّةِ، من أجلِ تصحيحِ استعمالاتِها على أيدي الكُتّابِ والمُبدِعين، وقد جَمَعَ مئاتِ التّعابيرِ باللّهجتيْنِ الفصيحةِ والعامّيّة، فجاءتْ كتاباتُهُ خليطًا مِن هاتيْنِ اللّهجتيْن، ونحنُ نعرفُ أنّ اللّجوءَ إلى العامّيّة يُسهِّلُ على الكاتبِ الخوْضَ في كلِّ نصٍّ بحرّيّةٍ تامّةٍ، لا تُقيّدُهُ قيودُ النّحوِ والصّرفِ في قواعدِ اللّغةِ العربيّةِ، والغريبُ في لغةِ صاحبِنا أنّهُ يَحفظُ آلافَ التّعابيرِ العامّيّةِ، يَضعُها في نصوصِهِ بشكلٍ ذكيٍّ، كي تُعبِّرَ عن مُستعمِليها مِن أبطالِ روايتِهِ وقصَصِهِ، فتأتي أكثرَ تعبيرًا وقوّةً وانسجامًا معَ ما حولها، وما زلنا نذكُرُ دفاعَ أديبنا الرّاحلِ مارون عبّود عن اللّهجةِ العامّيّة، حيثُ كانَ يؤكّدُ في مُحاضراتِهِ في الجامعةِ الأمريكيّةِ ببيروت، أنّ التّعبيرَ باللّغةِ العامّيّةِ قد يَكونُ أكثرَ وقعًا أحيانًا مِنَ اللّغةِ الفصيحة (قصّة ناتع). إنّهُ يَعي تمامَ الوعيِ الفارقَ بينَ المَعاني المُباشرةِ للمُصطلحاتِ وبينَ الدّلالاتِ الخافيةِ خلفَ المصطلحات، ولو ناقشنا بعضَ هذهِ المُصطلحاتِ، لوجَدْنا أنّ بعضَها يَحملُ دلالاتٍ بصَريّةٍ وسمعيّةٍ حسبَ العلاقةِ النّصّيّة، فيَقولُ في أحدِ المواقفِ: فلان يَمشي مفاحجة! فما مَعنى مفاحجة؟ إنّها تعني أنّ فلانًا يَتعثّرُ في مِشيتِهِ، فيوَسّعُ ما بين رِجليْهِ عندَ الخطوِ، وقد يُضيّقُ ما بينهما لِعِلّةٍ تُضايقُهُ بينَ رجليْهِ، أو لأنّ الطريقَ الّتي يَسلكُها غيرُ سالكةٍ أو لأيّ سببٍ آخر! المُهمُّ أنّنا عند قراءةِ هذا النّصِّ، سوفَ تتكوّنُ في مُخيّلتِنا صورةً لذلكَ البطلِ وهو يَمشي، لا ككُلِّ مَن يَمشي! هكذا إذن فإنّ المصطلحَ العامّيَّ هنا لا يَكونُ لهُ بديلٌ باللّهجةِ الفصيحةِ.  وفي مكانٍ آخرَ يَلجأُ للمُقابلةِ الّتي تُكسِبُ النّصَّ جمالًا بديعيًّا كقولِهِ ص14: "هذا اسمُهُ تبذير وقِلّة تدبير، لكن مع مين تحكي!" هكذا يُقابلُ بينَ لفظتَيْ تبذيرٍ وتدبيرٍ، وينتهي بالعامّيّةِ في كلمتَيْ مين بدلَ مَن، وتِحكي بكسْرِ التّاءِ بدلًا مِن تَحكي بفَتْحِها. وص21 يقول: "لم تتوفّقْ في حياتِها الزّوجيّة، فقط بعدَ شهورٍ مِن فرحِها ماتَ زوجُها بغبّةِ قلب، لم تكنْ فاطمة حاملًا، العِلم عندَ الله لا وَلد ولا تلد، يمكن ابن عمّها عريسها ما غدر يجوز عليها، بخعته ومن يومها حرّمِت على الزّواج".
المُصطلحاتُ العامّيّةُ نقوشٌ تُلوّنُ النّصَّ الفصيحَ، وتُكسِبُهُ الشيءَ الكثيرَ مِنَ الجَمالِ، خاصّةً لأنّها تأتي بشكلٍ طبيعيٍّ، مُنسجِمةً معَ ما حوْلَها مِن اللّهجةِ الفصيحةِ، فلا تَعثّرَ فيهِ ولا فوقيّة ولا ابتذال. وفوقَ ذلكَ لجأ إلى أسلوبِ الحكايةِ الشّعبيّةِ الّتي تبدو بسيطةً في خارجِها، إلّا أنّ لها دلالاتٍ بعيدةَ المدى لمَنْ يَتأمّلُ النّصَّ أكثرَ مِن مرّةٍ، ويَلجأ إلى لغةِ الحوارِ مِن خلالِ السّردِ، فيَدخلُ في حوارٍ مُتوَهِّمٍ كمَن يُحاورُ ذاتَهُ ص243، بعدَ أن ماتتْ فاطمة وهو يتّكئُ إلى القبرِ حيثُ يقول: "بترودح؟ -آه برودح –عالحزن؟ -عالحزن. بكيت عليّ كثير؟ -معلوم كثير! –رحموني؟ -ألّفت الرحمات عليكي. –نوّحوا عليّ؟ –نوحوا وعتّبوا.. أجرك أحمى أجر -وزعقت من قحف رأسي.. منين بتحكي؟ اطلعي من القبر.. ورددت الخلات والمغر والوديان.. بر بر بر!"                                             
إذن؛ يلجأ إلى أسلوبِ الحوارِ من أجلِ تقويةِ أسلوبِ السّردِ، ومِن أجلِ التّنويعِ الّذي يُبعِدُ المللَ عن القارئ، وبالتالي قد يُجبرُهُ على عدمِ الاستمرارِ في القراءةِ، وفوقَ كلِّ ما ذَكرْنا، يُلاحظُ القارئُ العاديُّ أنّ الكاتبَ خفيفُ الظلّ، فيما يَسرُدُ وفيما يُحاورُ، حيثُ يَلجأ إلى الكلماتِ العامّيّةِ المُثيرةِ كقوْلِهِ: زعقت مِن قحِف راسي!
هذا الأسلوبُ في الحوارِ جعلَ لغةَ نفّاع لغةً ديناميكيّةً فيها الكثيرُ مِنَ الحرَكةِ، إلّا أنّ الأحداثَ في هذهِ الرّوايةِ لا تَتماشى مع هذا الأسلوب، فالكاتبُ يَلجأ كثيرًا إلى وصف الطبيعةِ والموجوداتِ في المكانِ الّذي تدورُ فيهِ الأحداثِ، ويُطيلُ في الوصفِ، حتّى ليَعتقِدُ القارئُ أنّ الهدفَ مِن هذهِ الكتابةِ هو وصفُ المكانِ، لأنّ حركةَ الزّمانِ بطيئةٌ، وكذلكَ الأحداثُ تمُرُّ كما يَمُرُّ التّصويرُ البطيءُ، ثمّ أنّ لجوءَ الكاتب إلى الخلطِ بينَ اللّهجتيْنِ الفصيحةِ والعامّيّةِ هو محاولةٌ لخلقِ توتُّرٍ أسلوبيٍّ في المَضمونِ، حيثُ وازى بينَ الشّكلِ والمَضمون، فهو لا يَكتبُ فنًّا مِن أجل الفنّ، بل يَكتبُ مِن خلالِ رسالةٍ سياسيّةٍ اجتماعيٍّةٍ يُؤمنُ بها كأمينٍ عامٍّ للحزبِ الشّيوعيّ الإسرائيليّ، وكمُنظِّرٍ يُؤمنُ بالنّظريّةِ الماركسيّةِ اللّينينيّةِ نظريّةً وتطبيقًا وعُمقًا، فقد تقمّصَ الكاتبُ شخصيّةَ البَطلِ عندما تكلّمَ بلغةِ الرّاوي، أي أنا الرّاوي والمُؤلّفُ، معَ كلِّ إشكاليّاتِ هذا التّقمُّصِ حتّى جلدِ الذّات، لأنّهُ لم يُظهِرْ نفسَهُ كراوٍ بَطلٍ يَحملُ كلَّ صفاتِ البطولةِ الّتي يُحبُّها القارئُ، بل إنّهُ أبرَزَ نقاطَ ضعفِهِ إزاءَ قوّةِ شخصيّةِ فاطمة، مِن بابِ احترامِهِ لبطلتِهِ فاطمة، حيثُ يَلعبُ دوْرَ الشّابّ العاشقِ لصبيّةٍ عاركَتِ الحياةَ، وعاشتِ العلاقاتِ الجنسيّةَ معَ الزّوجِ المُتوفّى أوّلًا، ثمّ معَ غيرِهِ مِن الشّبابِ والرّجالِ البالغينَ، حتّى ولو كانَ أحدُهُم راعيًا، إلّا أنّهُ بالنّهايةِ قسَا بشدّةٍ على بَطلِهِ– وهو نفسُهُ الرّاوي- فجعلَهُ يَهذي فوقَ قبرِ حبيبتِهِ  بعدَ موْتِها، لأنّهُ لم يَحتمِلْ صدمةَ موتِها وهي حبيبةُ القلب.
سُئِلَ أحدُ الكُتّابِ الكبارِ: لماذا تقسو على أبطالِكَ؟ أجابَ: كي أكسبَ عطفَ ورضى القرّاءِ عليهم! فهل كانَ هذا دافعُ كاتبِنا في إظهارِ بطلِهِ كراوٍ بصورةِ شابٍّ قليلِ التّجاربِ معَ النساءِ، وفي مُقتبَلِ العُمرِ يعيشُ بقلبِهِ لا بعقلِهِ في رومانسيّتِهِ الشّبابيّةِ، إزاءَ معشوقتِهِ فاطمة القويّةِ والمُجرّبة؟!
محمّد نفّاع الكاتبُ السّاخرُ: يُلاحظ القارئُ أنّ الأسلوبَ مُبطّنٌ، بحيثُ يَسخرُ مِن بعضِ العاداتِ والتّقاليدِ الباليةِ، ويَسخرُ مِنَ الأفكارِ الرّجعيّةِ في تقييم المُجتمعِ للمرأةِ المُنفتحة، ولكن بأسلوبٍ مُبطّنٍ غيرِ صريح! (ص217) يلجأ إلى التّناص في قصّةِ الحيّة: "صاحبةُ البيتِ راحت ترشقُ السّقفَ.. نقلتْ عشَّ الحيّةِ معَ البيْضِ إلى مَكانٍ آخَرَ. جاءتِ الحيّةُ ولم تجدْ عشَّها وبيْضاتِها، بخّت السُّمَّ في طنجرةِ اللّبنِ وغابت. أعادتْ صاحبةُ البيتِ العشَّ إلى مَكانِهِ، جاءتِ الحيّةُ ووجدت العشَّ، فما كانَ منها إلّا أنْ نزلتْ ولكّتْ على طنجرةِ اللّبنِ وقلبَتْها لينكبَّ اللّبنُ المَسموم. كلّ عاطلٍ قبالَهُ عاطل، وكلّ منيحة قبالها منيح، الحية وإلها خطيّة".
هذا الإيمانُ والمفهومُ للعملِ الجيّدِ والعملِ السّيّئِ لا يُؤمنُ بهِ سوى بُسطاءُ النّاس، فنجدُ الكاتبَ يَروي الحكايةَ كما لو كانَ مُؤمنًا بصحّتِها، مع أنّ الفِكرَ والأيديولوجيا اللّتيْن يُؤمنُ بهما لا يَنسجمانِ معَ هذهِ الحكايةِ، إلّا مِن بابِ السّخريةِ والطّعنِ بالعاداتِ والتّقاليدِ القديمة. (ص202): "والشّيوخُ في لحظاتِ الفرحِ يَتسامحونَ ويَغضّونَ النّظر، والنّظرُ مَشغولٌ!" لهجةُ السّخريةِ مِن رجالِ الدّين الشّيوخِ في تكرارِ كلمتي (والنّظرُ مشغول)! فبماذا يَنشغلُ نظرُ هؤلاء؟ إنّهُ يَنشغلُ بمفاتنِ جسدِ فاطمة الّتي ترقصُ أمامَ صفِّ السّحجةِ بالسّيفِ، وتُلقي التّعليقاتِ المُثيرةِ على هذا وذاك مِن الواقفين المُتحمّسينَ في صفّ السّحجة، والرّاوي بطلُ الحكايةِ يَحظى بكلمتيْن تخصُّهُ فيهما بشيءٍ مِنَ التّحبُّبِ الّذي توليهِ لهُ بقوْلِها: ظبّطْ سحجتَك يا نمرود!  وزيادةً في السّخريةِ يَتّخذُ الرّاوي موْقفًا لا يمكنُ أن يَقبلَهُ المَشايخُ عندما أتى بفاطمة إلى الخلوة تطلبُ دينَها، لتُصبحَ مِنَ المُتديّناتِ وهي امرأةٌ سيّئةُ السّمعة، فتثورُ كلماتُ الدّهشةِ والاستغرابِ مِنَ المُتديّناتِ في جلسةِ الخلوة إيّاها، فتقولُ إحداهنَّ (ص163): "ليكو ليكو مين جاي! الحريقة!" وتّعلّقُ أخرى: "عزا عزا عزا! الدنيا آخر وقت! وتقول ثالثة: الله يبرّينا! مشهاب من مشاهيب جهنم! وتعلّقُ أخرياتٌ بالقول: لا أهلا ولا سهلا كانت الغيبة أجلى! الممحونة اللعينة جاي على مجلس سيد الخلق! اما فاطمة فتبادر بطرح السلام قائلة: مسّيكو بالخير! ويأتي الرد: أهلًا وسهلا! وينتهي الموقفُ بقبولِ توبةِ فاطمة، لكنّهُ لا ينتهي في البيوتِ، لأنّ النّسوةَ المُتديّناتِ يتّهمنَ أزواجَهُنَّ، فيَصِلُ الحالُ بإحداهِنَّ إلى أن تتّهمَ زوجَها وتوجّهُ لهُ اللّومَ "ص168: -"كنك كاين طابب عليها يا فاعل يا تارك؟" -: "انصتي بلا قلة حيا! وتلاحقه الزوجة بقولها: قرّ الصحيح! عينك رقدت"! وهذه أخرى تُحاور زوجَها ص179: "عم تطحن ناعم مبيّن! رقّ درسك! اِحلف ما قرّبت عليها! فتقول فاطمة "ص171: هيك سلّموني الدّين! كثار طلبوا العاطل منّي. عينهن راقدة من إشي قليل؟!"
مواطنُ الجَمالِ في الرّواية: تنضحُ الرّوايةُ بالتّعابيرِ والجُمَلِ الّتي فيها الكثيرُ مِنَ الجَمال، لأنّ الكاتبَ لديهِ طاقاتٍ كبيرةً في ترصيعِ الجُملِ بالصُّوَرِ والتّشابيهِ والاستعاراتِ، وما إلى ذلكَ مِن أساليبِ البلاغة، والنماذجُ تملأُ صفحاتِ الرّواية. ففي ص217: أزاح الوعر عنه غطاء الليل"! فالاستعارةُ والتّشبيهُ يَكمنانِ في كلمتيْ أزاحَ وغطاءِ، لأنّ الإزاحةَ لا تأتي مِنَ الجَماد، حيثُ شبّهَ الوعرَ بإنسانٍ يُزيحُ الغطاءَ، واللّيلُ لا يتغطّى بغطاءٍ أسودَ بل الإنسان! هذا الوصفُ الرّائعُ مَرسومٌ بالكلماتِ. ويقولُ الرّاوي ص256: "لهبةُ السّراج كانت تقف أحيانًا كأنّها تُفكّرُ أو ترتاح من الرّقص". إنّهُ يُؤنسِنُ اللّهبةَ ويَجعلَها إنسانًا تعبَ مِنَ الرّقص. "بعدَها تعودُ تترنّحُ وتتمايلُ! النّارُ الموهوجةُ في الموقدة يَخفقُ بصوتٍ عميقِ الرّقص! والموقدة بهو بهو بهو، وخيالُ اللّهب يَتلاعبُ على وجهِها الأبيضِ، فيُحمْرق ويتورّدُ والعيونُ عليها، والدّخانُ يَميل على وجهِها قبلَ أن يُكملَ طريقَهُ إلى السّقفِ، ويَخرُجَ مِن الدّاخونِ إلى الفَلا! هذه لوحةٌ بصريّةٌ حتّى ولو عبّرَ عنها الكاتبُ بالكلماتِ، لأنّنا نكادُ نُبصرُها بعينِ خيالِنا!
تبدو لغةُ الكاتبِ بسيطةً كبساطةِ حياةِ أبطالِهِ، لكنّها لغةٌ مفهومةٌ ومُؤثّثةٌ بإيحاءاتٍ يَستطلعُها القارئُ ويتمتّعُ بها، لأنّها تأتي مُنسابةً وذاتَ إيقاعٍ جميلٍ كما الشّعر الجميلِ الموْزونِ المُقفّى، وهي ذاتُ رشاقةٍ خاصّةٍ وأناقةٍ مُنتقاةٍ بذائقةٍ مِن قاموسِهِ الغنيّ بتعابيرَ ومصطلحاتٍ تسحرُ القارئَ، وهو يَعيشُ حلمَ أبطالِهِ، ولكنّهُ لا يُحقّقُ ذلكَ الحُلم! ليسَ لدينا أدنى شكٍّ، في أنّ الكاتبَ ما زال مُتأثّرًا بما حدثَ في نكبةِ عام 1948، وتشريدِ مئاتِ اللّاجئينَ الفلسطينيّين، إلّا أنّهُ في هذه الرّوايةِ ابتعدَ عن زمنِ النّكبةِ، وجاءَ ليقرّرَ أنّهُ يَعيشُ زمانًا جديدًا فيهِ الكثيرُ مِن النّقمةِ، على الظّروفِ والأوضاعِ الّتي يَعيشُها الفلّاحُ الفلسطينيُّ في مَسقطِ رأسِهِ بيت جن. وما تصلحُ نِسبتُهُ إلى بيت جنّ الدّرزيّة، يَصلح تطبيقُهُ على جميع القرى العربيّةِ الفلسطينيّة. وإذا كانت بطلةُ الرّواية فاطمة، فإنّ اتّخاذَ المرأةِ لتلعبَ دوْرَ البطلةِ، فيهِ شيءٌ كثيرٌ مِنَ التّلميحِ إلى الأرض. وإذا كانت الخصوبةُ إحدى مميّزاتِ الأرض، فإنّ خصوبةَ المرأةِ لا تقلُّ عنها أهمّيّة! إلّا أنّه جعلَ فاطمة عاقرًا، كما أنّ نضالَ الفلّاحينَ الفلسطينيّينَ والقوى اليساريّةِ المُكافحةِ ضدّ المُحتلّ ما زالَ عاقرًا، ولم يُثمرْ في تحقيقِ النّصرِ الموعود، وهو كنْسُ المُحتلِّ وتحقيقُ الثّوابتِ الفلسطينيّة! ما يُمكنُ أن نُضيفَهُ إلى هذه الروايةِ، أنّ أسلوبَ الكاتب محمّد نفّاع مع طريقةِ السّردِ والسّخريةِ، تجعلُ الرّوايةَ قابلةً للمَسرحةِ وتحويلِها إلى مسرحيّةٍ أو شريطٍ سينمائيٍّ رائعٍ، خاصّةً بسببِ حيويّةِ الحِواراتِ والصُّورِ الكلاميّةِ الّتي أثرَتِ النّصّ.
أخيرًا: جاءَ الفصلُ الأخيرُ قويًّا ومميّزًا ومُختلِفًا عن النّمطيّةِ في الرّوايات، حيث قضى الكاتبُ على البطلةِ الجميلةِ الّتي تعلّقَ بها الراوي لتموت، فيتأسّفُ على موتها هو وكلُّ مَن تعرّفَ عليها في مختلفِ مواقفِها، وجعلَنا نحزنُ بحُزنِهِ! وزادَ على تمَسُّكِهِ بالأرضِ، أن جعلَ نفسَهُ الرّاوي في موقفِ المُدافِعِ عن الأرض، حيثُ يُصاب بطلَقٍ في فخذِهِ خلالَ دِفاعِهِ عن المكان، فيَسيلُ خيطٌ مِن الدّمِ على حجارةِ قبرِ فاطمة، لم يشعرْ معهُ البطلُ بالألمِ في البداية. وبالرّغم مِن موتِ فاطمة، فإنّ الحياةَ لم تتوقّفْ بالمرّة، لأنّ سمّاخ القمح ظلّ يَكبرُ وورقَ البرقوقِ يَرتعشُ، والعصافيرَ تُغنّي وتُزغردُ في فرح، وشبّابةَ الراعي ترشح مع الحجل، ونسرًا وقورًا يَحوّمُ في الجوّ حوماتٍ دائريّةً واسعةً فوقَ كلِّ الأرض! أيّها الصّديقُ محمّد نفّاع، لكَ الحياة!
جاءَ في مداخلةِ د. محمّد هيبي: يَقولُ ميخائيل باختين أحدُ كبارِ مُنظّري الرّواية: "إنّ الرّوايةَ عملٌ غيرُ مُنتَهٍ"، وأظنُّهُ يَقصدُ بذلك أنّها تُعادلُ الحياةَ، فهي مستمرّةٌ ما استمرّت الحياة، ومُتجدّدةٌ، وتحملُ همومَها وتعقيداتِها. فهذا القولُ في رأيي مَهَّدَ للرّوايةِ الحداثيّةِ، وما يُعرفُ اليومَ بالرّوايةِ التّجريبيّة، حيثُ يبحثُ الكاتبُ عن مضمونٍ مُميّزٍ يُقدّمُهُ في شكلٍ مُميّزٍ أيضًا. رواية "فاطمة" التي أتحفَنا بها هيَ عملٌ روائيٌّ مميّزٌ. "كون وعامر"، يَجمعُ في طيّاتهِ أكوانًا عامرةً، مُتّصلةً ومتداخِلةٍ، تزخرُ بما متحَهُ مِن فِكرِهِ التّقدّميِّ النيّرِ، وفِكرِهِ الوطنيِّ والأُمميّ، وثقافتِهِ وذاكرتِهِ، وقدّمَها لنا على طبقٍ مِن ذهبٍ اسمُه "فاطمة". وأتوقّفُ عندَ بعضِ ملامح لغةِ الرّوايةِ وبعضِ مَلامحِها السّياسيّة. لو اقتصرَتْ "فاطمة" ولغتُها الفريدةُ على أسماءِ الحيوانِ والطّيرِ، والنّباتِ والمكانِ، وعلى عناصرِ القصصِ الشّعبيّةِ والأهازيجِ والأمثالِ الّتي تُوثّقُ التّراثَ، خارجةً عن أيّ سِياقٍ، لكانَ ذلكَ يَكفيها، فما بالكَ وهي تحتضنُها جميعًا، وكلٌّ منها في سياقِهِ الّذي يَليقُ بهِ، وبنفَسٍ سَرديٍّ مُمتعٍ ومُذهل، لا أعتقدُ أنّ كاتبًا آخرَ يستطيعُ أن يَفعلَ ما فعلَهُ نفّاع، وأن يَجمعَ ما جمعَهُ، ويُوثّقُ ما وثّقهُ، وأنْ يَبني هذا الكونَ العامرَ المَدعو "فاطمة"، وبتلكَ اللّغةِ الّتي يتفرّدُ بها.
"فاطمة" بشكلٍ ما، هي عملٌ موسوعيٌّ، ونحن بحاجةٍ إلى المُعجم الّذي ذَكَرَهُ الأستاذ إبراهيم طه في مقالِهِ حولَ الرّواية، فأجيالُنا بحاجةٍ ماسّةٍ إلى معرفةِ ما يُوثّقُهُ نفّع، فأنا وإن كنتُ أعرفُ الكثيرَ مِن عناصرِ التّراثِ المُوثّقةِ في الرّوايةِ، إلّا أنّ الكثيرَ منها أيضًا، خاصّةً أسماء النباتاتِ والطّيور، لا أعرفُ مُسمّياتِها.
لغةُ الرّوايةِ لغةٌ مميّزةٌ وخاصّةٌ بأبي هشام، لا هي فصيحةٌ، ولا هي عامّيّةٌ، لغةٌ فريدةٌ طوّعَها مُستنِدًا إلى مَخزونِ فِكرِهِ وثقافتِهِ وذاكرتِهِ، وإلى لغتِهِ الّتي هي لغةُ كلِّ النّاسِ، على اختلافِ مُستوياتِهم وسلوكيّاتِهم الاجتماعيّةِ ومُعتقداتِهم الدّينيّةِ، وغير ذلك ممّا يزخرُ بهِ هذا الكونُ العامرُ الّذي لم نَعُدْ نخشى زوالَهُ؛ إنّهُ عالمُ "فاطمة" الّذي بناهُ في روايةٍ تتحدّى الزّمنَ ونَكَباتِهِ. (ص30): "ضاع خبر إخوتها في- السفربرلك- وهي على بزّ إمْها". عبارةٌ شقُّها الأوّلُ فصيحٌ بكلِّ المَقاييسِ، وشقُّها الأخيرُ عامّيّةٌ مَحكيّةٌ بكلِّ المَقاييسِ أيضًا. يَتوسّطُ الشّقّيْنِ السّفربَرْلِك، هذا الاسمُ والمصطلحُ الذي يُلائمُ اللّغتيْنِ: الفَصيحةِ والمَحكيّةِ، ويَجمَعُ بينَهُما. لغةُ الرّوايةِ تَعتمدُ السّخريةَ بدرايةٍ وبشكلٍ مُوفّقٍ، والسّخريةُ تقنيّةٌ لها أهدافٌ مُتعدّدةٌ تعتمدُ تقنيّاتٍ مُختلفةً، وهي وسيلةٌ جيّدةٌ لتعويضِ القارئِ عن خسارتِهِ بسببِ اللّغةِ المُباشِرةِ أحيانًا، أو بُطْءِ السّردِ أحيانًا أو غيرِهما. وسيلةٌ جيّدةٌ لتعريةِ الواقعِ وفضْحِهِ، وللتّعبيرِ عن الألمِ الشّخصيِّ والجّمعيِّ، ألمِ الكاتب والنّاس.
ومِن تقنيّاتِ السّخريةِ التّشويهُ أو المَسخ (Grotesque)، وقد وظّفَهُ الكاتبُ بشكلٍ مُوفّقٍ. فجاءَ على لسانِ "فاطمة" لِرَجُلِ التّسويةِ الّذي جاءَ يَقيسُ الأرض (ص185): "الأرضُ ملاك دولة"، فقالت لهُ: "روح قيس قبر إمّك وبوك، مَطرَح ما انقلزوا يا ابن الكلب". عبارةٌ تَمسخُ رَجُلَ التّسويةِ كلبًا، وإذا أطلقتم العِنانَ لخيالِكم قد ترَوْنَ في العبارةِ كلبًا ابنَ كلب، يَقيس قبرَيْ كلبَيْنِ، وربّما يَرفعُ رِجلَهُ إلى جانب أحدِهِما. وتعتمدُ السّخريةُ في الرّواية على المُفارقةِ، وهي تقنيّةٌ أخرى مِن تقنيّات السّخرية. مثلا: "وترفع إجر شنتيانها أكثر، المتديّنون يغضّون النظر قليلا". وتقول "فاطمة" في مكانٍ آخر: "حاشا أن أحط ربّي ورا ظهري"، اُنظروا الفرقَ بينَ رجالِ الدّين و"فاطمة"، مَن مَنهما يتمسّكُ أكثرَ بأخلاقيّاتِ الدّين؟ رجالُ الدّين الّذين يجبُ أن يكونوا قدوةً حسنةً، يَغضّون النظرَ قليلًا، (يعني ممكن يحطّوا ربّهن ورا ظهرهن)، و"فاطمة" الّتي يعتبرها المجتمع "فالتِة" بلا أخلاق، لا يُمكن أن تقومَ بمثلِ هذا العمل. هذه الصّورُ موجودةٌ بكثرةٍ في مجتمعِنا، يَفضحُها الكاتبُ، ويُعرّي بها المجتمعُ وخاصّةً رجال الدين.
محمّد نفّاع كاتبٌ احترفَ السّياسةَ والأدبَ وأبدعَ فيهِما، وبالفصْلِ بينَهما، فالسياسةُ عاهرةٌ تُخفي تحتَ قِناعِها الجَميلِ وجوهًا مُتعدّدةً كلُّها بشعةٌ، وأدبُ نفّاع فنٌّ جميلٌ راقٍ، لهُ وجوهٌ كلُّها جميلةٌ، سواء كانتْ بأقنعةٍ أو بلا أقنعةٍ، وقد عَرَفَ بلغتِهِ وأدبِهِ كيفَ يَجعلُ الغصّةَ تتنامى في حلقِ القارئ ثمّ تتراجعُ، ليُدخِلَ مكانَها البهجةَ والفرحَ، ففيما قدّمَهُ حزنٌ وقهرٌ، ولكن فيهِ بهجةٌ وفرحٌ أيضًا، حيثُ يعيشُ القارئُ بهجةَ ذلكَ الفتى الرّاوي وفرحَهُ بفاطمة، ويعيشُ حزنَهُ وقهرَهُ بموْتِها. روايةُ "فاطمة" ليستْ خاليةً مِنَ السّياسة كما يعتقدُ البعضُ، ولكنّ السّياسةَ فيها تحتاجُ إلى جهدٍ كبيرٍ مِنَ القارئِ ليَبلغَها، واختباءُ السّياسةِ في الرّوايةِ لا يَعني أنّ نفّاعَ عاجزٌ عن الخوضِ فيها، وعن مُواجهةِ السّلطةِ الظّالمةِ وسياستِها البشعةِ، فحياتُهُ كلُّها عبارةٌ عن معركةٍ واحدةٍ مُتواصِلةٍ وما زالتْ مُستمرّةً في مُقارعةِ السّلطةِ، لكنّهُ يَرفضُ أن يَطغى الوجهُ القبيحُ لتلكَ العاهرةِ على الوجهِ الجميلِ للأدب، فكأنّي به يُريدُ أن يَحملَ القارئَ إلى عالمٍ جَميلٍ بعيدٍ عن عُهرِ السّياسةِ وقُبحِها، إلى مدينةٍ فاضلةٍ، يوتوبيا جسّدَها في "فاطمة"، لأنَّ عالمَ "فاطمة" الداخليّ ليسَ هو نفسُهُ عالمَها الخارجيّ، وإنّما هو عالمها الخاصّ، الّذي جعلَ منها شخصيّةً مُميّزةً، وقد حاولتْ هي أن تنقلَ عالمّها الدّاخليَّ إلى النّاسِ الّذين تعيشُ معهم، بكلِّ أشكالِهم وعلى اختلافِ مَذاهبِهم. فاطمة الشّخصيّةُ المركزيّةُ البطلةُ امرأةٌ جميلةٌ ومُتميّزةٌ، كأنّها ليستْ مِن هذا العالم. جاء (ص30): "العلم عند الله أنها بدوقة! مش من ظهر هلمسكين". ولنا أن نتساءلَ: مِن ظَهر مَن إذن؟ ربّما ليستْ مِن ظهرِ أحَد، لأنّها ترمزُ للأرض. وإذا كانتْ مِن ظهرِ غريبٍ، فهل غريبٌ على المُستعمرِ الّذي اغتصبَ الأرضَ سواء كانَ تركيًّا أو إنجليزيًّا، أنً يغتصبَ نساءَها؟ هي امرأةٌ قويّةٌ وشجاعةٌ، أشجع مِنَ الرّجالِ جميعًا. (ص83): "هاي أرجل من كل الزلام"، وهي امرأةٌ مُتميّزةٌ عن النّساءِ كما (ص254): هي "مع النسوان حرمة، ومع الزلام زلمة"، فهي تخرقُ جدرانَ المُجتمعِ وتنتزعُ حقَّها الّذي يَتجسَّدُ في مُمارستِها للجنسِ معَ مَن تختارُهُ هيَ، ومعَ مَن تراهُ يَستحقُّها، (الغول والراعي مثلا). والجنسُ هنا هو رمزٌ للحرّيّةِ، وهو في رأيي تعبيرٌ عن المنشودِ وليسَ عن الموجود، وهي كذلكَ امرأةٌ لا تَسكتُ على ظلمٍ، فلا يَسلَمُ مِن لسانِها ويدِها وحذائِها مَن يعتدي عليها أو على أرضِها. (ص 83): "هجم عليها فشلحت الفردة الثانية من صرمايتها فتراجع واندسّ بين الناس". وهي امرأةٌ نشيطةٌ وعاملةٌ تشتغلُ في الأرضِ، وتُحافظُ على كرامتِها ولا تُفرّطُ بها ولا بأرضِها، كما جاء (ص83): "تفو عليك وعلى المصاري.. تفو عليك وعليهن" قالتْ ذلكَ لمَن جاءَ يُساومُها على كرامتِها وأرضِها، طبعًا لهُ ولمَنْ أرسلوهُ.
وهي امرأةٌ وطنيّةٌ ثائرةُ، تُساعد الثوّارّ وتنقلُ لهم الزادَ والعتادَ. (ص78): "أعطاها الغرض، زوّادة وشويّة فشك". وهي امرأةٌ اجتماعيّةٌ أيضًا، تُحبّ النّاس وتشاركُهم حياتَهم ومناسباتِهم، أفراحَهم وأتراحَهم. لا تطيبُ لهم "الكُبِّه" إلّا مِن يديْها، ولا يَطيبُ عرسٌ بدونِها، ترقصُ وتدبكُ وتغنّي وتُحمّسُ الرّجالَ والنّساءَ، حتى "الأجر بدونها يَظلّ باردًا، حتّى تأتي وتبدأ القوْل"، (ص110)، تنوحُ وتُعدِّدُ وتندبُ في الأتراح. وهي امرأةٌ مُتمرّدةٌ على المجتمع، لا ترهبُ النّساءَ ولا الرّجالَ ولا شيوخَ الدّين. وهي امرأةٌ مُغويةٌ تُثيرُ غيرةَ النّساءِ وغضبِهنَّ بجَمالِها وجرأتِها، ولا يَسلمُ أحدٌ مِنَ الرّجالِ مِن الوُقوعِ بشِباكِها، حتّى المُتديّنين. وهي امرأةٌ عالمةٌ بالمُجتمعِ ورِجالِهِ، عزيزِهِم ووضيعِهم، فلا تقبلُ الاقترانَ برَجُلٍ "يشبع وينام وعنده ضيف" (ص9). عبارةٌ مليئةٌ بالأرضِ والسّياسة. فكان اليهودُ أيّام الإنجليز يَفدونَ على البلاد كضيوفٍ، ولمّا وجدونا نيامًا، نهشوا العِرض والأرض.
ويَطغى على كلّ ما تقدّمَ مِن أوصافٍ عزّةُ نفسِها واستقامتِها، التي تجعلُها تترفّع عن شهوتِها عندَ الحاجة، فذلك الفتى الّذي تعلّقَ بها، أحبَّها وتبعَها، وبدأتْ تستلطفُهُ وتحبّهُ وتشتهيهِ، لكنّها لم تمنحْهُ جسدَها إلّا بعدَ أن أحسّتْ برُجولتِهِ. (ص149): "شاب في أول عمره، قلبي رشق له، حاشا أن أحطّ ربّي ورا ظهري، طمّعته في حالي. أعطيته الحلال والحرام، كلّ يوم يلزق فيّ أكثر مثل اللزّيقة. الولد انجنّ. عمري قد عمره على مرتين العلم عند الله، مثل أقوى زلمة، أهدس فيه ليل نهار". لم تمنح جسدَها لذلك الفتى إلّا لأنّها رأتْ في رجولتِهِ حُلمَها ومُستقبلَها، وإلّا لماذا "راحت الدموع تشقعُ من عينيْها وتسيلُ على عرضِ وجههِا" (ص149)، عندما عرضَ عليها الزّواجَ فاستسلمت له (ص150) وضمّتْهُ "من صماصيم قلبها وراحت تشهق ودموعها أربعة أربعة" ثم قالت له: "خذ إللي بدّك إيّاه". الأرضُ تُعطي مَن يقترنُ بها، ويُحسِنُ معاملتَها والدفاعَ عنها. لا يَفي "فاطمة" حقّها أيُّ كلام. فهي الأرضُ والحرّيّةُ والتّمرّدُ والقوّةُ والنّشاطُ وحُسنُ التّدبيرِ وعزّةُ النّفس والاستقامة. وكلّ ذلكَ يَسكنُ جَمالًا صارخًا يُثيرُ المتعةَ في الرّوحِ والجَسدش، جمالًا لهُ سلطتُهُ على كلّ النّاسِ.
وبما أنّ الرّوايةَ بعدَ نشرِها تُصبحُ نصّا مفتوحًا أمامَ القارئ، و"فاطمة" كذلك، وكما قال الأستاذ إبراهيم طه في مقالِهِ: "فاطمة فعلٌ سيميائيّ"، إذن؛ هي نصٌّ أدبيٌّ يُغري بالتّأويل. وموتُ "فاطمة" بحدّ ذاتِهِ أمرٌ مُحيّرٌ، يُغري في رأيي بالتأويلِ السّياسيّ. فهو لا يُمكن أنْ يكونَ حدَثًا شخصيًّا أو حتّى اجتماعيًّا فقط. من هذا المنطلقِ، أفترضُ أنّ الكاتبَ لم يُقدِمْ عبثًا على فِعلتِهِ بموت "فاطمة"، وإنّما لأسبابٍ نفسيّةٍ وجمْعيّةٍ لها أبعادٌ سياسيّة، إذ لا يُعقلَ أنّ امرأةً مثلَ "فاطمة"، وصَفَها الجميعُ بأبشعِ الأوصافِ خلقيّا واجتماعيًّا ودينيًّا، فهي في عرفهم (ص150) "مرتدّة، كافرة.. قتلها حلال، عرضها سايب على الدروب، داشرة، ممحونة، فالتة، مفضوحة"، وبالتالي يَبكيها الجميعُ، ويَحزنُ لموتِها الرّجالُ والنّساءُ على حدٍّ سواء، حتّى رجال الدّين الذين نشرَتْ عِرضَهم في القرية. وقد "ماتت بغبّة القلب" موتًا مُفاجئًا. هذا الأمرُ لهُ دلالاتُهُ السّياسيّة، لأنّ موتَها كان "لا على البال ولا على الخاطر، بيت وانقطع" (ص215). ألم تكن النكبةُ مُفاجئة كغبّةِ القلب، لا على البال ولا على الخاطر؟ ألم تكن الأرضُ بين أيدينا وسُحبتْ منّا فجأة، فأصبحنا بلا بيتٍ وبلا أرض وطن؟
من هنا أرى أنّ "فاطمة" هي الأرضُ الشّهيدةُ وشهيدةُ الأرضِ وضحيّةُ السّياسة، تُحيلُ بموتِها إلى الأرض التي ضاعت، وقد رأت بذلك الفتى الصّغير الشّابَّ في أوّلِ عمرِهِ (ص149)، الذي يُمثّلُ الجيلَ الجديدَ آنذاك، رأت فيهِ فارسَها الّذي اشتهتْ أنْ يُنقذَها مِن ألسِنةِ الناس وبراثنِ المُغتصبين، ولكنّ موتَها المُفاجئ باغتصابِها ومُصادرتِها، جاءَ أسرعَ وأكبرَ مِن قُدراتِهِ، فعجزَ عن إنقاذها. ذلك الشاب يُحيلُ أيضًا إلى الجيل الجديدِ اليوم، جيل الزابود الّذي يَكتبُ لهُ نفّاع، ويغرسُ في قلبِهِ وذاكرتِهِ الأرضَ وحبَّها، ويُريدُهُ أن يَرفضَ التّسليمَ بأنّ "فاطمة" ماتت، وأنّ الأرضَ اغتصِبتْ وضاعتْ، يُريدُهُ أن يَضْرِب ويُضْرَب حفاظًا عليها ودفاعًا عنها. وإذا تعمّقنا الألفاظ التي وظّفها الكاتبُ في وصف "فاطمة"، سنجد أنّها تُحيلُ كذلك إلى الأرضِ وأسباب مُصادرتها، ممّا يَجعلُ القضيّةَ قضيّةً سياسيّة. عبارات: "عرضك سايب على الدروب، داشرة، ممحونة، فالته، مفضوحة" (ص150)، كلُّها أوصافٌ يُمكنُ أن تنطبقَ على الأرضِ وتُحيلُ إليها. "عرضك سايب على الدروب، داشرة، فالته"، هي عبارات فيها إشارةٌ إلى الأرض المَشاع في فلسطين، الأرضِ غيرِ المُسجّلة التي لفتتْ نظرَ المغتصِب، فاتّخذ مِن ذلك ذريعةً لاغتصابِها ومُصادرتها.
أمّا عبارة مثل "ممحونة ومفضوحة"، فذلك لأنّ نفّاع يرى الأرضَ كالمرأةِ الشّبقةِ العاهرة الّتي تستجيبُ لكلِّ مَن يَحرثُها، حقّا أو اغتصابًا، إذ ليستِ الأرضُ هي الّتي يَجبُ أن تُقاوِمَ وتَمنعَ اغتصابَها، وإنّما أهلُها هم الّذين يَتوجّبُ عليهم الدّفاعَ عنها، وأنْ لا يَتركوها مَشاعًا كـالممحونة أو المفضوحة، التي يَفترشُها كلُّ من سالتْ شهوتُهُ عليها. وكلّنا نعرفُ أنّ في بلادِنا سُلطةً ظالمةً، وأكثرُ ما يَسيل لعابُها على الأرض. وقد صوّرَ الكاتبُ أصحابَ الأرضِ عاجزينَ عن أن يَمنعوا موتَ "فاطمة"، أي ضياع الأرض واغتصابها ومصادرتها. وقد شبّه ضياعَ الأرضِ بالموتِ المفاجئ، لأنّ اغتصابَ فلسطين فاجأ أهلَها، رغمَ أنّه كانَ نتيجةً حتميّةً للظّروفِ السّياسيّةِ وغيرِ السّياسيّة التي كانتْ سائدةً في فلسطين والعالم العربي آنذاك، نتيجةَ العجزِ الفلسطينيّ والعربيّ، ولا أقصدُ العجزَ العسكريّ فقط.
وختامًا، يَسردُ محمّد نفّاع الحاضرَ ويغوصُ في الماضي، وكلّ ذلك مِن أجلِ المُستقبل. فإذا كانت "فاطمة" هي الماضي والحاضر، حاضرَ السّردِ الذي يَنتهي بموْتِها ودخولِ حُكم اليهودِ واغتصابِ الأرض، فما علاقة كلُّ ذلكَ بسمرقند والشاعر رسول حمزاتوف وابنته (ص10) وبـ "أنادير"، تلك المدينة الروسيةِ وأهلِها وجبالِها في الدائرة القطبيّةِ الشماليّةِ (ص39)، وما علاقتُهُ بـ"كيرغينا"، تلك الفتاة الجميلة ذات "الصّدر الأبيض كالثلج الدّافئ الناعم الطري" (ص50)؟ العلاقةُ هي جَمال "فاطمة"، ولا أعني جمالَ الجسدِ فقط، يُريدُ نفّاع أن يقولَ لنا إنّ لدى "فاطمة" ومُجتمعِها من الجَمالِ ما يُضاهي جَمال "أنادير" و"كيرغينا"، ولذلك، فأصحابُ هذا الجَمال مِن فاطمة ومجتمعِها، يَستحقّون حياةً جميلةً تُضاهي تلك الحياةَ الجميلةَ الّتي شعرْنا بسعادةِ نفّاع تتدفّقُ ونحن نقرأ الصفحاتِ الأولى للروايةِ، في حديثِهِ عن "أنادير"، وجَمالِها وجَميلاتها. وإذا كان لذلكَ علاقةٌ بامرأةٍ فلسطينيّةٍ تَعيشُ في قريةٍ لها عاداتُها وتقاليدُها، تخرقها "فاطمة" وتُخرجُها عن رتابتِها، فإنّما تلكَ العلاقة هي استشرافُ مُستقبلٍ مُشرِقٍ أفضلَ، يَرجو الكاتبُ أن يَصِلَ إليه وفاطمة ومجتمعِهما والإنسانيّةُ كلّها.
جاء في مداخلة د. راوية بربارة: "فاطمة" محمّد نفّاع تحملُ التّضادَ في اسْمِها، فمِن طهارةِ فاطمةِ الزّهراء إلى عُهرِ "فاطمةِ" الرّواية.. فاطمة حبّ الرّجال وحقد النساء. هي انفلاتٌ اجتماعيٌّ غيرُ معهودٍ، فاطمة ليستْ مجرّدَ امرأةٍ، فبقدرِ أنوثتِها تطغى الرّجولةُ، وبقدْرِ نسويّتِها تَطغى القرية بكلِّ ما فيها.
  فاطمة طعمُ الشبرق والفلِّ والتّين، والمُرِّ والعلقم، وحكايةُ قريةٍ عربيّةٍ درزيّةٍ تتعالى على جُرحِها لتَسيرَ قُدُمًا، ترفضُ واقعَها لتسيِّرَهُ كما شاءتْ. فاطمة توثيقٌ اجتماعيٌّ قرويٌّ بامتيازٍ، فمِن أصغرِ حَجَرٍ وتربةٍ ونبتةٍ، إلى أعلى صخرةٍ وجبلٍ شجرةٍ، ومن كلّ "التشاقيع" الموجودةِ إلى القصائدِ المَحكيّةِ/ الزّجل، إلى اللّغةِ الفصيحة.
كيفَ تجرّأَ محمّد نفّاع أن يرتكبَ "فاطمة"، ونحنُ ما زلنا في بدايةِ القرنِ الحادي والعشرين، فيسبقُنا، ولا يترك للمبنى تأطيرَهُ، ولا للحبكةِ تصاعدَها ولا تَهافُتَها، ولا قِمَّتَها ولا تَأزُّمَها؟ لا يتركُ مَجالًا للتّسلسلِ ولا للتّسلُّلِ، كفِعلِ الولدنةِ أتتْ "فاطمة"، تنمو وتنمو بين أيادينا لتتركَنا مَدهوشين! كيف تجرّأ أن يَقْرَبَ مِن فاطمة ويكشفَ سِرَّها، وأن يكونَ عشيقَها السّرّيّ؟! كيفَ تجرّأَ أنْ يَستطردَ ويَستطردَ ويأخذَنا معَهُ في رحلتِهِ القرويّةِ، ثمّ يُعيدُنا مُنهَكينَ باحثينَ عن فاطمتِهِ وعمّا يَحدثُ معها؟؟
قالوا: "لولا الفرزدق لضاعُ ثلثُ اللّغةِ العربيّة، بل ثلثاها"، وأقولُ: لولا محمّد نفّاع لضاعَ ثلثُ تَقاليدِنا وعاداتِنا ولغتِنا ولهجاتِنا وقُرانا، وزجلنا وماضينا، بل ثلثاهم. إذًا؛ كيفَ عوّضَنا نفّاع عمّا فعَلَهُ بنا مِن دهشة؟ عوّضَنا بآليّاتِهِ الخاصّةِ، بسُخريتِهِ، بفكاهتِه، بتداعياتِهِ، بلغتِهِ، بحكاياتِهِ، بمفارقاتِهِ، وبجُرأتِهِ على كسْرِ المُسلّمات.
نفّاع الرّاوي، كنتَ تروي لنا في مقهانا الخاصِّ كلَّ يومٍ رواية، وكنتَ تتركُنا ننامُ وفاطمةُ تداعبُ أحلامَنا، وقريتُك مُشتهاةٌ، وروايتُكَ "فاطمة" علامةٌ فارقةٌ في القصّ الرّوائيِّ الفلسطينيِّ المَحَلّيّ.. وليَشهَدِ التّاريخ!
جاء في كلمة الكاتبة رجاء بكرية: الروائيّ القصصيُّ بالدّرجةِ الأولى الجميلُ والسّاحرُ، فيما كتبَهُ محمّد نفّاع أنا أعتقدُ بأنّ محمّد نفّاع هو عبارةٌ عن مشروعِ قضيّةٍ قائمةٍ بحدّ ذاتِها، ومِن هنا نستطيعُ أن نلتفَّ على الكلمةِ وعلى المُفردةِ مِن زوايا عدّةٍ ونُحيطُها، وقد لا نستطيعُ أن نُحيطَها، وسوفَ تُؤدّي إلى مَضامينَ عديدةٍ باتّجاهاتِها الاجتماعيّةِ، والسّياسيّةِ، والفِكريّةِ، والحِسّيّةِ الّتي تَعنيني بالدّرجة الأولى أكثرَ مِن أيّ شيءٍ آخر، حتّى دونَ أن أُعلِنَ عن هذهِ الزّوايا، فقلتُ فيهِ بأنّ الكلمةَ أو المُعادلةَ تنفرطُ، حينَ يَجري الحديثُ حولَ رَجُلِ حكايا توقّفَ عن عَدِّ الزّمن. ليسَ كاتبًا تمامًا، ولا يَروي حكاياهُ، بل تَرويهِ هي مِن بئرِ روايتِها، فليسَ عاديًّا في عمرِ الحكايةِ أن نمسكَ بها مِن زنّارِها، إلّا في حالاتٍ نادرةٍ، حينَ يَشتدُّ لمعانُ عيونِها، وتسقطُ فتنتُها بضوضاءِ خاتمٍ على صولجانِ قلب. وهذا ما يَحدثُ حينَ يَفُكُّ أزرارَ حكاياهُ. محمّد نفّاع. لسنا هنا أمامَ حالةٍ عابرةٍ نُسجّلُ عنها لنقلبَ صفحتَها ونَمضي، ولكنّا أمامَ ظاهرةٍ كلّما جُدْنا بنَفيسِها، جوّعتْنا قلّةُ أدواتِنا، فحينُ يُغرقُ النّفيسُ صاحبَهُ بالبريقِ، يَصيرُ الكلامُ فقيرًا ودرويشًا إن شئتم، لا يَروي ظمأ الورق، فراوينا عاشقٌ يُربّي شُخوصَهُ كزرعِ الحقلِ تمامًا، بعشقٍ لا يَرويهِ الحَكي. قرأتُ كثيرًا لكُتّابٍ، لكنّي لم أقعْ على مِثلِ وليمةِ الكلامِ التي لأبطالِهِ وشخوصِهِ. وليمةٌ لا تُحبُّ أن تمدَّ إليها يدَكَ، لئلّا تجعلَكَ بعضَ أطاييبِها، وأنت أمامَها لا تعرفُ كيفَ تنتقي ما تُحبُّهُ، لأن كلَّ ما فيها يُحبُّكَ. لا، لم أقرأ سردًا كهذا يَتعربشُكَ، ويُؤسّسُ لهُ على زنديْكَ عالمًا، وفي قلبكَ وبينَ عينيْكَ وعلى جبينِكَ يَسقُطُ ورقَ عنبٍ ناضجَ القُطوفِ، كي يُدلّلَكَ. منذ قرأتُ أعمالَهُ، وأنا أزدادُ حيرةً كلّما التفّتْ نساءَهُ عليهِ، فهنَّ يَتشابهْنَ في مَصادرِ أنوثتِهِنَّ وأنَفتِهِنَّ وثورَتِهِنَّ، أمّا عن خصرِ أجسادِهنَ ولو تمرّدْنَ، فحدّث ولا حرج. خَصبٌ يَغرفُ مِن جُرنِ الأسطورةِ، ليَجُدْنَ نضارةً وعُمرًا ومسافةً، فلهُنَّ كبرياءٌ أشَمُّ تتمنّاهُ الأنوثةُ في أماكِنِها وأزمانِها، ورغمَ ذلك، يَحفظنَ ذلكَ الحياءَ الفطريَّ الّذي بِتنا نَستحييهِ في النّساء، ولعلّهُ الجميلُ فيما يُصادفُنا اقترانُ حكايا النساء بحكايا الأرض، بشوْكِها وورْدِها، ببُطمِها وسِرّيسِها، وبتاريخ ذاكرتِها. حرصٌ يَمنحُ جُذورًا بعيدةَ الأثرِ لتاريخ الميجنا والعتابا والأغنية، فالنّصُّ تشكيلٌ فنّيٌّ لكلِّ ما لا يَخطرُ لنا ببالٍ، يَستدعي الغائبَ حاضرًا. يَجمعُ الأفعالَ ضِمنَ فِعلٍ واحدٍ. يسترسلُ ليَضربَ الضّمائرَ بالإسماء. يَستحضرُ الذّاكرةَ. يُسجّلُ أحاديثَ شِتائِها كصيْفِها في ذاتِ المُساجلةِ، ونحنُ نختارُ تمامًا ولا نُميّزُ، إذا كانَ يَشطحُ خلفَ جدائلِ غيمةٍ، أم أنّهُ يُطلقُ للزّرعِ جدائلَ مِن نسيج الحكاية! رائحةُ الترابِ والوَرقِ والنّبْتِ والتّلمِ تحتَلُّكَ، حدَّ أنّكَ لا تُميّزُ أيّها الأجملُ في حضورِ بلادٍ تستشريهِ بلا نهايةٍ. غيرَ مرّةٍ شدَهَتْني سبيكةُ السّردِ الّتي لشُخوصِهِ بأحداثِها. هو يكتبُ كما يَحكي ويَحكي كما يكتبُ. يُفصِّحُ ويُعمِّمُ بيُسْرٍ وسلاسةٍ. يُغنّي ويَثورُ بذاتِ القدْرِ مِنَ الغضبِ والسّعادةِ. لا يَهمُّهُ الجائزُ والممنوعُ، ولا خطوطٌ تُلوّنُ فواصِلَهُ. إشاراتُ المُرورِ لديهِ كما اللّغة، تمسحُها ليونةُ سرْدِهِ بيُسْرٍ وتِلقائيّةٍ، وهذا الانسيابُ النّادرُ للحديثِ بينَ أصابعِهِ، يَنطوي على جَماليّةٍ فنّيّةٍ بارعةٍ، بَعدَها، لا يُمكنُ لأيٍّ كانَ أن يَتحدّى فاطمةَ وهي تُناورُ أنوثتَها، وتتجاوزُ رجعيّةَ ربْعِها وتسبقُ زمَنَها. نسجَ نقشًا يُلغي مَعاييرَ الحكاية، فأنشأ حكايتَهُ وقاموسَهُ وشخوصَهُ وتاريخَهُ، وأعلنَ أنَّ كلَّ سطرٍ تَطؤونَهُ سجّادةٌ تَحكي عن نقوشِها الرّواية!

134
حيفا تحتفي بنبضات ضمير عدلة شداد!



آمال عواد رضوان
نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا أقامَ أمسيةً أدبيّةً، احتفاءً بالكاتبةِ عدلة شدّاد خشيبون، وتوقيع إصدارِها الأوّل (نبضات ضمير)، وذلك بتاريخ 22-5-2015، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة شارع في حيفا، وسط حضورٍ واسع مِن أدباء وشعراء وأصدقاء، وقد رحب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافي، وتحدّث حولَ الكتاب كلٌّ من: د. راوية بربارة، والأديب فتحي فوراني، ود. حسام مصالحة، والكاتبة حسام مصالحة، وقراءاتٌ أخرى لمداخلاتٍ كل من: أمين خيرالدين، وللكاتب زياد جيّوسي من الأردنّ، وللكاتبة إيمان ونوس من سوريا، والكاتب فارس حبيب من سيدني، وماري دانيال حتر من شيكاغو، وقد تولّى عرافة الندوة الأديبة سعاد قرمان، وتخلّلت المداخلات فقرات موسيقية للفنان بشارة ديب، وقصيدة يوسف عبدو خال الكاتبة عدلة، وأخيرًا، الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون شكرت الحضورَ والمتحدّثينَ والمُنظمين لهذا الاحتفاء، ثمّ تمّ التقاط الصّور التذكاريّة أثناء توقيع الكتاب!
**جاء في مداخلة د. راوية بربارة:
أن ينبضَ القلبُ فهذا عزاؤه ليُحيي الجسَدَ رهينةَ أيّامِهِ، وأنْ ينبضَ الفكرُ فهذا مرادُهُ ليُحيي العقولَ رهينةَ استنارته وإنارته، أمّا أنْ ينبضَ الضميرُ فهذا شقاؤهُ ليُحيي الأنا رهينةَ العقلِ والجسدِ، وقد اختارت عدلة أن تنسجَ نبضاتِها بأصابِعِها، وأن تحوكَ سَجّادةَ نصِّها على مِنوالِ نبضاتِ الضميرِ الحيّ، الذي لا يرتاحُ إلّا إذا وجدَ متنفّسَهُ، والمرأةُ حينَ تتكلّمُ، لا تنتظرُ إجابتكَ ولا تفاعلَكَ قدرَ ما ترتاحُ منفّسَةً عمّا يربضُ في ذاتها، فالكتابةُ رئةٌ ثالثةٌ تكونُ المَفرَّ حينَ نختنقُ بغصّةٍ، وحينَ تُزاحِمُنا الدنيا على فرَحِنا، وحين يكون الصمتُ موجعًا حدَّ الانفجارِ.
الكتابةُ حالةُ تعويضٍ عن فقْدٍ، إنّها حلُمُ اليقظةِ الذي يُراودنا عن صحوٍ ونسيّرُهُ على هوانا، وحالات الفقْدِ التي عانتها عدلة، كان لا بدَّ أن تنبضَها كلامًا أو حبرًا، بدأَتْهُ مِن زمنِ الفقْدِ لتداوي جُرحَها بالحبرِ، فحينَ فقدَتْ أختَها ذاتَ كانونٍ لجأتْ إلى الكتابة متنفّسًا: "اليومَ أرى القلم يكتبني بكلام رثاء، وكلامي عنك دومًا يصاحبه البكاء، فصرتُ بعد موتك أختًا للخنساء، فصخر الذي رثته الخنساء، ليس أعظم شأنًا منك أختاه".
ونراها تتّكئ على التناصّ مساعدًا، فكما عدّدتِ الخنساءُ مَناقبَ صخر: وإنّ صخرًا لوالينا وسيّدنا/ وإنّ صخرًا إذا نشتو لنحّارُ/ وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ به/ كأنّه علَمٌ   في   رأسِهِ نارُ
وها هي عدلة تعدّدُ مناقبَ أختِها: "كنتِ للألم قائدة، للمشورة رائدة، للصّداقة صادقة، ودومًا لراية الإيمان رافعة، رغم حملك لأقسى داء، ورغم معاناتك مع كبار الأطبّاء".
 الكتابة انطلاقٌ وانعتاقٌ، وثورةٌ صامتةٌ تؤذيكَ ضجَّتُها وتحثُّكَ على النّهوضِ، لذا عندما يَعتملُ الحنينُ في القلب، وتتهاوى الذكرى على نبضِ الواقع، كما حدثَ مع عدلة حين أسَرَها الحنينُ للمجهولِ الذي خبّأَتْهُ خلفَ النبضِ، حرّرت هذا الحنينَ بالقلمِ والبوحِ: "وتبقى كلماتي الّتي تاهت في حروف أبجديّتي، تحلّق في فضاء الرّوح، تناجيك أيّها الغائب الحاضر رغم الوجود، وللذّكرى حنين، والحنين حزين حزين".
وتتحوّلُ كلماتُ عدلة صمتًا أمامَ شهر آذار، فتستأذن أبا تمامٍ في صدقِ سيفه: السيف أصدقُ إنباءً من الكتب/ في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب. لتقولَ لآذار كيف جمعت بين المرأة في ثامنك والأمّ مع بداية ربيعك، وأبيتَ الانصراف دون آخرِكَ الذي عبَقَ بدماء يوم الأرض: "الكلام من غير كلام أصدقُ إنباءً من البوح الصّادق أحيانا، وبك يا آذار تتجلّى الأحيانُ. لك يا آذار أصوات ثلاثيّة الأبعاد تصرخ، تهمس وتثور بوثيقة عطاء".
فالمرأة التي تصرخ في الثامن من آذار لتعبّر عن حقِّها وشرعيّتها، تظهر على طَوال نبضات الضمير بأسماءَ مستعارة عديدة، كلّها أسماءُ نساءٍ تجمّعنَ في عدلة، وخرجتْ كلّ واحدةٍ من الشفّاف الأبيض لتكشفَ قصّتها، سلمى وميس ونيلم، هزار، نورس وسعاد.
وللزّمنِ اعتباراتٌ غيرُ زمنيّةٍ رغمَ أنّها تشكرُ الساعةَ، لأنّها الليلةَ ستُرجِعُ عقاربَها ساعةً، وهكذا تفوز الأنا الباحثة عن صديق،ٍ بساعةٍ إضافيّةٍ لتفكّرَ في صديقِها وتحلم فيه، إلّا أنّها تعود بحنينها إلى أشياءَ حياتيّة عاديّة، وإلى زمنٍ جميلٍ عاشت فيه مع أمِّها في كلماتٍ تتخفّى فيها عن حلمِها، وتضحكُ على ساعتِها الإضافيّة، ليتوهَ القارئُ بين الجرأةِ في البوحِ، والتنفيس المكبوتِ بسوطِ المجتمعِ الناقدِ اللاهث وراءَ حروفِنا، وكأنّها جنايات ومعصيات وخطيئة مميتة!
صديقي.. لا تُرجع ساعة قلبك. دعها تنبض وبالسّرعة الّتي تلزمها، فساعتنا بحاجة لنبض قويّ، عقاربها تلسعُنا، وثوانيها تخدعنا، سأكذب على ساعتي اليوم، وسألعب بها كيفما شاؤوا، لتضليل لا لتأكيد أو تأخير أو تأجيل، وسيبقى اللّقاء يتأرجح بين موعد قديم وآخر جديد، لكن شروق الشّمس سيخالف عقارب ساعتهم، فدع شمسي تشرق بذات عقارب ساعة شروقك.
وللزمنِ اعتباراتُ حاضرِهِ، لكنّها اعتبارات تشرينيّة تحمل الحفيفَ والحنينَ والخريفَ، تحملُ الجمالَ واللامتوقَّعَ، ففي انتظار خريفِ الصديقِ تصبح ساعات الترقّب جميلة، ويصبح تساقط الأوراق كتساقط الساعاتِ تشتهي اللقاءَ، يُصبح اقترابُ الخريفِ ربيعًا مبشّرًا بالتفاؤل فيا له من خريفٍ تهاجر عصافيرُهُ ولها عودة، ولها وطن، ولها مهجر، دونَ جوازِ سفرٍ!
وما بين النوستالجيا والحلم، تفضّل الأنا البائحةُ حلمَ اليقظةِ تسيّرُها على هواها، ليكونَ جميلًا فرِحًا، لا كالذكرى التي شبّهتْها بالأفعى التي خرجت في يوم قائظٍ لتلدغَنا بتفاصيلِها وتتركَ سمَّها في أجسادِنا: لا تعوموا في بحر الذّكريات، فأمواج بحرها قويّة وخطيرة، اِبقوا على شاطئ الأمان، تحت مظلة الأحلام ستعوم بكم بلا موج ولا حوّامات.
هي الكتابةُ الذات الباحثةُ عن ضالَّتِها، عن يقينِها في زمن اللا معروف والمشكوكِ واللايقينِ، هي الكتابةُ بوحُ القلبِ وبوحُ الفكرِ، وارتعاشٌ مستمرٌ بينهما يشدُّ طرفَهُ مجتمَعٌ لا يعي أنَّ المكبوتَ بوحُهُ انتصارٌ، وأنَّ الكتابةَ جرأةٌ نجترحُها لنتخطّى أنفسَنا أوّلًا، ولنتخطّى حواجزَ الواقعِ الشوكيّة الشائكة، ولنفجّرَ علاماتِ استفهامنا نقاطَ حذفٍ ثلاثيّةً، يتابعُ كلٌّ منّا النسجَ الذي يرتئيهِ ليرسمَ رئةً ثالثةً يعبّئها بأوكسجين الحبرِ لتتنفّسَ الأوراقُ البيضُ من تنهّداتٍ كاتمةٍ للصوتِ.
أجدتِ عدلة بخواطرِكِ التي جمعتِها في نبضاتِ ضميرٍ، والتي جمعَتْنا اليومَ لنحتفي بصدقِكِ ورقيّكِ وإبداعِكِ وبوحِكِ، ونحو مزيدٍ من عطاءٍ تتنازلين فيه عن الخاطرةِ لتنسجي رؤًى مغايرةً.
**جاء في مداخلة فتحي فوراني:
قبل خمس سنوات تقريبًا شدَدْتُ الرّحالَ إلى قانا الجليل. وصلتُ إلى "كنيسة العرس"، وشربتُ مِن مَنهلِها كأسًا من الماءِ الزّلال فدارتْ بيَ الأرضُ، ولا أدري لماذا، وتذكّرتُ رسولَ المَحبّةِ وثنائيّةَ الماءِ والخمرةِ فعرفتُ السّرّ. ثمّ واصلتُ المَسير وانتهى بي إلى بيتِ الأختِ العزيزة عدلة. في جوٍّ حميميٍّ كانَ لنا لقاءٌ، وكانَ ثالثُنا الصّديقُ سعد خشيبون الّذي تعرّفتُ إليهِ أثناءَ دراستي الجامعيّة في زهرة المدائن، فبَعدَ التّأهيلِ والتّسهيلِ والمائة مرحبا، بدأ الحديثُ عن آخِرِ نصٍّ شِعريٍّ كتبَتْهُ عدلة، وسرعان ما تطوّرَ الحديثُ ليُصبحَ عُرسًا ثقافيًّا بامتياز واستعراضًا للمشهد الأدبيٍّ والثقافيِّ في هذا الوطن. كنّا ثلاثة، أمّا رابعُنا فكانَ الحديثُ عن  الإبداع الأدبيِّ الخارج مِن ورشةِ الأبجديّةِ الّتي تُديرُها مُعلّمة اللّغةِ العربيّةِ عدلة. كانَ الحديثُ ذا شجونٍ، ثمّ أخذَ مَنحًى مُستقِلًّا تبلوَرَ وتبأّرَ حولَ رغبةِ الكاتبةِ في جمْعِ شمْلِ النّصوصِ الأدبيّةِ  وعوْدتِها مِن شتاتِها ومَنافيها في المَنابر، ثمّ إخراجها في عملٍ أدبيٍّ على شكلِ كتابٍ يَطمحُ لأن يحتلَّ مَوقعًا يَليقُ بهِ، إلى جانبِ خير جليس في الزمان وإخوتِهِ الكِرام في "ديوان العرب".
وبعدَ عمليّةٍ طويلةٍ مِنَ المَخاضِ الإبداعيِّ الّذي استمرَّ سنواتٍ، أطلَّ علينا المولودُ البكرُ حامِلًا رايةً أدبيّةً تُزيّنُها عبارة "نبضاتُ قلب". ولم تشأ هذهِ النّبضاتُ إلّا أنْ يَحتضنَها تطريزٌ على شكلِ قلبٍ كبيرٍ يَحتلُّ فضاؤُهُ ثمانيةَ قلوبٍ صغيرةٍ تُزيّنُ بوّابةَ الكتاب، هذهِ اللّوحةُ الإبداعيّةُ طرّزتْها وهندسَتْها ريشةُ عاشقةِ اللّغةِ العربيّة، فقد نضت عدلة عن ساعدَيْها وامتشقَتْ أناملَها، فأمسكَتْ بإبرتِها الفنّيّةِ وراحت هذه الإبرةُ تسوقُ خيولَ الخيطانِ الخضراءِ والحمراءِ والسوداءِ والبيضاءِ، لتصنعَ القلوبَ الدّافئةَ والمُنمنماتِ الرّاقصةَ، حتّى تمثّلتْ أمامَنا لوحةً إبداعيّةً جميلة، فعلى المَدخلِ يَستوقفُنا الإبداعُ ليَقولَ لنا من البداية: قِفْ.. أنتَ أمامَ فنّانةٍ تشكيليّة.
العنوانُ ودلالاتُهُ والإيحاءاتُ الّتي يُشِعُّها كما أراها: فكلمةُ "النّبض" توحي بالحيويّةِ والانطلاقِ في البحارِ الهائجة، والثورةِ على الجُمود ضدّ الموت. إنّها صرخةٌ تُطلقُها الكاتبة: "أريدُ أن أكونَ. يحقُّ لي أن أكون". وأمّا "الضّميرُ "فهو القيمةُ العليا في هذا العنوان والمعيارُ الثّقيلُ، والحكمُ الرّئيسيُّ الّذي يُوجّهُ السّلوكَ الإنسانيَّ نحوَ الكمالِ الّذي يَطمحُ إليهِ الإنسان.
ففي هذه الأيّامِ يَمُرُّ الضّميرُ في مأزقٍ إنسانيٍّ خطيرٍ عربيًّا وعالميًّا، إنّهُ يَعيشُ في غربةٍ قاتلةٍ  كالأيتامِ على مَآدِبِ اللّئام. نحنُ لا نُحِبُّ التّشاؤمَ، غيرَ أنّ حالةَ الضّميرِ في اللّحظةِ المُعاصِرةِ تقودُ إلى هذا التّفكيرِ السَّوْداويِّ الّذي نرجو أنْ يَكونَ عابرًا، وأن يَكونَ غمامةَ صيفٍ ستنقشعُ، وتُطِلَّ شمسُ الشّعوبِ الّتي تَصبو إلى حياةٍ مُشتهاةٍ. وما دامَ الشّيءُ بالشّيءِ يُذكرُ، فلا يَسعُني في هذا السّياقِ إلّا أنْ أستحضِرَ ما قالَهُ الشّاعرُ (عبد المهدي بن راضي بن الحسين الذي ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب- 1322-1358) قبل قرون سبعة، في تصويرِهِ للغربةِ الّتي تعيشُها المُروءة: مررتُ على المروءةِ وهي تبكي/ فقلتُ: علامَ تنتحبُ الفتاةُ؟/ فقالتْ: كيفَ لا أبكي وقوْمي/ جميعًا دونَ خلقِ اللهِ ماتوا
المروءةُ أختُ الضّميرِ مِن أُمِّها وأبيها، ويَنتمي جميعُهم إلى عائلةٍ شريفةِ النّسَب، غيرَ أنّ الكاتبةَ لا تَنثني أمامَ هذا الشاعر، وتُصِرُّ على التّمترُسِ في قلعةِ الضّميرِ الحَيِّ الذي لا يَعرفُ المُهادنة، والّذي سيَظلُّ نابضًا مَرفوعَ الرّأسِ إلى ما شاءَ الله. لا أريدُ أن أتوغّلَ في الشّعابِ الصّغيرةِ والزّوايا والمُنحنياتِ الكثيرةِ الّتي تَحفلُ بها "نبضاتُ ضمير"، إنّما سأتوقّفُ عندَ بعض المَلامح الرّئيسيّةِ، مُركّزًا على القِيم الّتي خلصتُ إليها وشدّتْني وفرضَتْ نفسَها عليّ.
*الصدق: قيمةٌ عليا في هذا الكتاب، نستشِفُّها على امتدادِ النّصوصِ مِن بدئِها حتّى مُنتهاها، فالنّصوصُ تَطفحُ بالمشاعرِ الحميميّةِ الصّادقةِ المُعبِّرةِ عمّا يَجيشُ في صدرِ المُبدعةِ من المشاعرِ الإنسانيّةِ المُتضاربة، فالكلمةُ مَسحوبةٌ مِن الواقع السّاخن، تَخرجُ مِن القلبِ وتقفُ أمامَنا عاريةً كما خلقَها ربُّها، بعيدًا عن التّكلُّفِ والصّناعةِ اللّفظيّة، وعن التّمثيلِ والدّجَلِ اللّفظيّ، وقد نجحَتِ الكاتبةُ في استدراجنا وشدِّنا للدّخولِ إلى أعماقِ مَشاعرِها، في حُزنِها وفرحِها، في مَدِّها وجَزْرِها، وفي النهاية الانصهار في دمِها الجاري في عروقِها والتّماهي معها.
التفاؤل: التفاؤلُ قيمةٌ تُسيطرُ على غالبيّةِ المَحطّاتِ في هذا العملِ الأدبيّ، فتسيرُ الكاتبةُ  في دربِ الآلام، فتسقطُ ثمّ تنهضُ، وتُواصِلُ المَسيرةَ وُصولًا إلى جلجلة الأبجديّة، فالمعاناةُ توأمُها، وهي لا تتردّدُ في الكشفِ عنها، وإماطةِ اللّثامِ عن لحظاتِ الضّعفِ في النفس الإنسانيّة، ورغمَ الانكساراتِ، فإنّ هذا لا يُثبّطُ مِن عزيمتِها، ورغمَ السّوداويّةِ الّتي تُسيطرُ على هذه الخواطرِ فهي مُتفائلة، تَمشي وتمشي وتمشي على جِراحِها، وتكتسحُ الضّبابَ الّذي يَحتلُّ المَشهدَ، لتُعانقَ شمسَ الحرّيّةِ الخضراء. إنّها إرادةُ التّغييرِ والإيمانِ العَميقِ بأنّ  المُستقبلَ لا بدَّ أن يكونَ أفضل. تقولُ الكاتبة: "كلُّ عامٍ ومَسيرتُنا للنّفوسِ أحلى. كلُّ عام ومَسيرتُنا بطبولِ المَحبّةِ أرقى. كلُّ عامٍ ومَسيرتُنا في العطاءِ أكثرَ سخاء، وفي السّخاءِ نُباري الرّيحَ ونُسابقُ الغيوم". (ص45)
الإصرارُ والتّحدّي في رحلتِها المليئةِ بالأشواكِ والصّخورِ والتّحدّياتِ السّيزيفيّة: تقفُ الكاتبةُ سدًّا منيعًا أمامَ تسونامي أحداثِ الدّهرِ الّتي تَقسو عليها، وتسعى لقمعِها وقهْرِها. قد يَضعفُ الإنسانُ في لحظةٍ ما وقد يَنهزمُ، غيرَ أنّهُ لا يَستسلمُ ولا يَرفعُ الرّايةَ البيضاءَ، فيتسلّحُ بإرادةٍ فولاذيّةٍ وتصميمٍ على عدمِ الاستسلام، ومُواصلةِ المُواجهةِ بعزمٍ وعنادٍ في وجهِ التّحدّياتِ. هذه هي عدلة تتحدّى نوائبَ الدّهرِ، وتخرجُ مِن ساحةِ الوَغى رافعةً لواءَ الإصرارِ والتّحدّي.
الانحيازُ الإيجابيُّ إلى الخير: الكاتبةُ صاحبةُ رسالةٍ ليستْ حياديّةً، وليست مُتفرّجةً إزاءَ المَشهدِ الّذي يَحتدمُ فيهِ الصّراعُ بينَ الأضدادِ في المجتمعِ الإنسانيّ. إنّها مُنحازةٌ إلى الخيرِ في صِراعِهِ معَ الشّرّ، وهو موقفٌ إنسانيٌّ ذو مَرتبةٍ عاليةٍ. فالكاتبة. إنّها تَدعو إلى الخير والمَحبّةِ والعدل، وتقفُ معَ المَظلومين في صِراعِهم مع قوى الشّرّ الّتي تعيثُ فسادًا في الأرض، وتُلوّثُ البيئةَ الأخلاقيّةَ في المجتمع الإنسانيّ.
حديثٌ في اللّغةِ والأسلوب: الكتابُ يَحفلُ بالكثيرِ مِن النّصوصِ الإبداعيّةِ المُمتعةِ لغةً وأسلوبًا، فلا نُريدُ أن نزُجَّ بهذهِ النّصوصِ في خانةِ الشّعرِ بتعريفاتِهِ ومَفاهيمِهِ المُتعدّدة، فتعريفُ الشّعرِ واسعُ الذّمّة، وهو بحرٌ مُتعدّدُ الشّواطئ وأكادُ أقولُ: لا شواطئَ له وليس هنالكَ تعريفٌ واحدٌ أحدٌ ومُحدّدٌ للشّعرِ، منذ الخليل بن أحمد وصَحبِهِ مِن الأقدمين، وحتّى أيّامِنا الّتي تَحفلُ بما هبَّ ودبَّ مِن التّقليعاتِ الأدبيّة كالحداثة، وما بعدَ الحداثةِ وما بعدَ بعدَ الحداثة.
في "نبضات قلب" نحنُ أمامَ لوحاتٍ نثريّةٍ تُعانقُ الشّعر، أو هي نثرٌ إبداعيٌّ جميلٌ يُشبهُ الشّعر، حافلٌ بالتّشابيهِ والاستعاراتِ والكناياتِ والسّجعِ والموسيقى اللّفظيّةِ وغيرِها مِن المُحسّناتِ البَلاغيّة، باستثناءِ النّصوصِ السّتةِ الّتي تَختتمُ الكتابَ، وهي لوحاتٌ وجدانيّةٌ تنتمي إلى ما اصطُلِحَ على تسميتِهِ بالقصيدةِ النثريّةِ، أو الشعرِ المَنثورِ الّذي يُسيطرُ على المَشهدِ الأدبيِّ في هذه الأيّام، فنستمتعُ بقراءةِ نثرٍ مُموسَقٍ جميلٍ ذي عبقٍ شِعريٍّ ممتِعٍ، لاشتمالِهِ على الكثيرِ مِن خصالِ الشّعرِ بالمفهومِ العامّ والواسعِ للشّعر.
يخاطبُ د. بطرس دلّة عدلة، أن تَخرجَ مِن عباءةِ النّهجِ الرّومانسيِّ الّتي يَرتديها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة، ويُخاطبُها قائلًا: اُنفضي عنك غبارَ الماضي والبَسي الزّيَّ الجديدَ، زيَّ الحداثةِ وحتّى ما بعدَ الحداثة. فأقولُ: أخي أبا حسام، لا أريدُ لعدلة أن تقطعَ علاقتَها بجبران وباقي أفرادِ العائلةِ الرّومانسيّةِ الكريمة، ستظلُّ النّفسُ الإنسانيّةُ  والرّئةُ الشّاعريّةُ بحاجةٍ إلى أوكسجين الرّومانسيّةِ شئنا أم أبينا. هل يُمكنُ أن نتصوّرَ شاعرًا بلا رومانسيّة؟
نحنُ معَ الحداثةِ وضدّ الإبهامِ المُطلَق، معَ الحداثةِ والتّجديدِ ضِدّ الرّكودِ والجُمودِ والتّكلُّسِ الأدبيّ، فقد غادرَ الشّعراءُ مِن مُتردِّمٍ، ونزَعوا عن أجسادِهِم ثيابَ التوهُّمِ، وعرفوا الدّارَ وزواياها وخباياها وأسرارَه وكلَّ نقطةٍ فيها، وحدائقَها وألوانَ أزهارِها وعرائشَ أعنابِها وشذا ورودِها الجوريّة. لقد جدّدوا وانطلقوا واجترحوا دُنى وعوالمَ جديدة وفقًا لمَعاييرِ عصْرِهم، فكلُّ عصرٍ لهُ حداثتُهُ ومُجَدِّدوهُ، ومَن نعتبرُهُم قدامى وتقليديّينَ وكلاسيكيّينَ كانوا في عصرِهم مُجدِّدينَ ومُحدِثين. وأضربُ أبا نواس مثالا، فنحن معَ الحداثةِ، ونضُمُّ صوتَنا إلى صوتِكِ في استحداثِ الجديدِ، والإبحارِ في بحارٍ لم نُبحرْ إليها بعد. أمّا ما بعدَ الحداثة وما بعدَ بعدَ الحداثةِ فلنا معها مشكلة.
لقد انطلقتِ الحداثةُ وحلّقتْ وخلبتْ ألبابَ الأدباءِ والشعراء، وكانَ لها في البدايةِ وهَجُها ورهجَتُها وجاذبيّتُها الإبداعيّة، غيرَ أنّها فقدَت الكوابحَ وانفلتت، وأدّتْ إلى زعزعةِ مَركبةِ الشّعرِ وتدهوُرِها، فقد قامتْ بعمليّةِ اجتياحٍ وتدميرِ قصورِ الخليلِ بن أحمد الفراهيدي، ثمّ قامتْ بعمليّةِ تطهيرٍ عِرقيٍّ، وأجهزَتْ على نازك الملائكة وبدر شاكر السّيّاب، وصولًا إلى مدرسةِ مجلّة "شعر". لقد انفلتتِ المَركبةُ فجُنَّ جُنونُها، وعاثتْ فسادًا ودمارًا باسمِ الحداثةِ وما بعد الحداثةِ وما بعدَ بعد الحداثة، وأحرقتْ جميعَ الجسورِ بينَها وبينَ القارئ!
نحنُ محسوبونَ على البُسطاءِ مِنَ القرّاء، ونعترفُ أنّنا عاجزونَ أمامَ العبقريّاتِ "الشّعريّة" الكامنةِ وراءَ معجزاتِ الحداثةِ، الّتي نعجزُ عن التّفاهُم معها وبناءِ جسرٍ للوصولِ إليها، وإيجادِ لغةٍ مُشتركةٍ بيننا وبينها، فقصائدُ ما بعدَ الحداثةِ مُلثّمةٌ مُدجّجةٌ بالغموضِ التّعجيزيِّ، يُحيطُها جدارٌ حديديٌّ لا قلبَ له، يَقفُ على بوّابتِها حُرّاسٌ دواعش، ويَستعصي اقتحامُها حتّى على القارئ المثقّف! لقد ضاعتِ المَفاتيحُ وتحطّمتْ على أعتابِ الدّخانِ الكثيفِ الخانق، الّذي يُسيطرُ على  قطاعاتٍ واسعةٍ مِن المَشهدِ الأدبيِّ شِعرًا ونثرًا! نحنُ مِن أنصارِ الحداثةِ وفتحِ الشّرفاتِ على التّجديدِ والانطلاقِ بها نحوَ الأجملِ والأفضل. أمّا ما بعدَ بعد الحداثةِ فكفانا اللهُ شَرَّها وشَرَّ حداثتِها الّتي أحرقت الزّرعَ والضّرعَ، فضاعتِ الطّاسةُ ونشأ مَشهدٌ شِعريٌّ عبثيٌّ، تُهيمِنُ عليهِ المُشاغباتُ الشّعريّةُ والانفلاتُ والتّسيُّبُ الأبجديّ، وكلُّ هذا باسم الحداثةِ والتّجديدِ والعصرنة، وإزاء هذا المَشهد نقفُ عاجزينَ، فقدِ اكتشفنا كم نحنُ أغبياءُ يَستعصي على عقولِنا فهْمُ المَقروءِ، وإدراك ما وراء وراء المَقروء وتخمين المَعاني الدّفينةِ عميقًا عميقا في قلب الشاعر!
أيّتها العزيزة عدلة، نحن ندعوكِ إلى الحداثة، فشرفاتُ التّجديدِ مُشرّعةٌ أمامَكِ، وبحارُ التّجديدِ حافلةٌ بالدّرِّ والمرجان، تدعوكِ لخوضِ غِمارِها واستخلاصِ الدّرّ الكامنِ في أحشائِها. عليكِ بالحداثةِ، فضُمّيها إليكِ وعانقيها وأشبعيها ضمًّا وتقبيلا، وحذارِ يا عزيزتي عدلة حذار مِن اللّعب بالنار، واقتحامِ المَيادين الّتي تَحفلُ بالمُهرّجين والراقصين على الإيقاعاتِ المُشاغبة، والّذينَ تحفلُ ورشاتُهم بالأحاجي المُغلقة إغلاقًا مُحكَمًا، وتَضعُ على بوّابتِها لافتةً كُتبَ عليها "الدّخولُ ممنوعٌ"! ولا تسمحُ للقارئ المثقف بالدخول إليها أبدًا.
**جاءَ في مُداخلةِ الكاتبة هديّة علي:
ضميرُها النّابضُ بالعواطفِ الجيّاشةِ والقِيَمِ الإنسانيّةِ والمُثُلِ العُليا، عبَقَ شذاهُ مِن نُصوصٍ مُتنوّعةٍ، وما المُحبّرُ بين طيّاتِ كِتابِها إلّا زهراتٍ فوّاحةً تناجَتْ وأحاسيسَ القارئِ، لِيتماهى بها معَ صحوةِ ضميرِهِ بعُمقِ كلماتِها، أولَيسَ العنوانُ "نبضاتُ ضمير" دالٌّ يَشي بيقظةِ الضّميرِ المُتألّمِ لمُجتمعٍ يتأوّهُ مِن العاهاتِ الاجتماعيّةِ الإنسانيّةِ والسّياسيّة؟
لقد استمتعتُ بمعظمِ النّصوص، وسأخصّصُ الجزءَ الأكبرَ مِن مُداخلتي لأكثرِها تأثيرًا بي شخصيًّا، والّتي مجّدت الكاتبة المرحومةَ أمَّها، ومازالَ وجدانُها وكيانُها يَنبضانِ بالحنين رغمَ بُعدِ الزّمنِ وطولِ البُعاد، فذِكرى أُمِّها تَحضُرُها بكلِّ مناسبةٍ عامّةٍ، "وسيبقى نداؤُكِ أجملَ نداءٍ" ص41، وهي تحتاجُ لضمّتِها وقُبلتِها، وتحِنُّ لخبزِها وقهوتِها تمامًا كالدّرويش. ونَراها تُعبِّرُ عن مَدى حُزنِها لهذا الفقدانِ الغاشمِ الآليم ص61 "في كعكة الميلاد"، حين يَحضُرُها بيتُ شِعرِ الخنساءِ في رثاءِ أخيها صخر وأكمل البيت: وما عَجُولٌ على بَوٍّ تَطيفُ بهِ/ لهُ حَنينانِ: إعلانٌ وأسرارُ/ يومًا بأوْجَدَ منها يوْمَ فارَقتْها أُمُّها(فارَقَني صخرٌ)/ وللدّهرِ إحلاءٌ وإمرارُ
وص14 "في عيدٍ وذكريات" نستشِفُّ مِن النّداء التّقارُبَ الحِسِّيَّ الوجدانيّ، رغمَ الاغترابِ الجسديِّ بين الكاتبةِ وأُمِّها، هذا النّداء الذي يُعظّم فاجعةَ الفَقد، وتعودُ لتُكرّرَ النّداءَ، وما هذا التّكرارُ إلّا للتّأكيدِ على مدى الحُبِّ والولاء، وهذا وحدَهُ مِن أعلى القِيمِ وأسمى العواطفِ الإنسانيّة فتقول: أُمّاه.. أصرخُ وصرختي صامتةٌ.. أبكي ودموعي خرساءَ عاتبة..
وأمّا في نصّها ص65 "إليك في يومك"، نجدُها تُطعِّمُ النّداءَ والشّوقَ بالسّؤالِ الإنكاريِّ الّذي يُؤكّدُ على قهرها، حين تتذكّرُها بنوّارِ اللّوز، (هل لكِ أمّاهُ نوّرَ اللّوزُ)؟
وص75 "ببطاقة وفاء لأمّي": "رغم التّصريح والاعتراف أنّ أمّها هناك في السّماء مع الخالدين، لكنّها ما زالتْ تشتاق "هي بطاقةُ وفاءٍ لأمّي هناكَ في السّماء، أمّاهُ يا مصدرَ الحُبِّ والوفاءِ، يا أريجًا فاحَ في بيداءِ الحياة، يا طعمًا حلوًا يا أعذب هواء، كم أحنُّ لضمّتِكِ، كم أتوقُ لعناقِكِ!"  وما هذهِ الكمّ الاستفهاميّةُ الخبريّةُ إلّا للتعبيرِ عن كثرةِ الحُبِّ والشّوقِ، والتّقارُبِ الحِسِّيِّ كما يَفعلُ النّداءُ تمامًا، ناهيكم عن ذِكرِها بالإهداء: "إليكِ أمّاهُ في سماءِ هذه الرّوح، كحمامةٍ تُرفرفينَ فخرًا، ودمعي تُكفكفينَ ليُبلسِمَ وجعَ الكلامِ والحنين".
كلُّ مَن فقدَ أُمَّهُ لا بدَّ وأن تستوقفَهُ النّصوصُ الصّادقةُ المُفعمةُ بالأحاسيسِ، وللتّعبيرِ عن مدى الحبّ للأمّهات تحضرُني قصيدة: اِسألي دمي/ وسعادتي وهمي/ اسألي التوفيق/ والقدر والضيق/ اسألي الدعاء الذي في صلاتي/ والدموع التي في سجودي/ اسألي دمي عن حبك يا أمّي
الحزنُ يُكلّلُ صديقتي، والشّوقُ للرّاحلةِ يَصرعُها، ولكن رغمَ اتّسامِ مُعظمِ نُصوصِها بالحزن، نجدُ بريقًا مِن الأملِ فتستمرُّ الحياة، ولغرابةِ الصُّدَفِ أنّ عيدَ ميلادِ ولدَيْها الغالييْن بشير وإميل في شهر أيّار، وهذا ما نراهُ في نصِّها "أيّار ورائحة الجلنار" ص113 حين تقول: وانتصفَ أيّارُ ليكونَ ذكرى نكبةٍ ما زالَ وجعُها يُؤلمُنا، وانطفأت شمعةٌ وأشعلْنا أخرى، ليَبقى الأملُ يُنيرُ لنا دروبَ الآلام، لتُوصلَنا لراحةٍ موعودةٍ وفرحةٍ مُنتظَرة، وبالتأكيد كلمات أبي القاسم الشّابي من قصيدة إرادة الحياة تغمرُ صديقتي تفاؤلًا وتبعثُ فيها الأمل: وتبقى البذور التي حُمّلت/ ذخيرة عمر جميل غبر/معانقة وهي تحت الضّباب/ وتحت الثّلوج وتحت المدر/ لطيف الحياة الذي لا يملّ/ وقلب الرّبيع الشّذي الخضر
هناكَ زهرةٌ أخرى استوقفتْني، وأعرفُ كم عدلة فعّالةٌ وتهتمُّ لمعظمِ شؤونِ وقضايا المجتمع، وهي "آذارُ وثيقةُ عطاءٍ" ص13: لكَ يا آذارُ أصواتٌ ثلاثيّةُ الأبعاد، تصرخ تهمس وتثور بوثيقة عطاء، وهنا نرى اهتمامَها لهذا الشّهر المميّز: ففيه يومُ المرأة العالميّ، وعيد الأمّ، ويوم الأرض، ولولا الأمّ والأرض ما كان الوجود ولا الحبُّ والعطاء، وهي بتعابيرها الرّائعة أتحفتْنا بعُمقِ إحساسٍ يُمجّدُ مِن خلالِهِ المرأةَ والأُمَّ والأرض، ويُعبِّرُ عمّا يَجيشُ في نفسِها مِن قلقٍ وتحقيقِ حُلمٍ، ومُساندة للثورة للوصول دومًا إلى الأفضل والأحسن.
**جاء في مداخلة د. حسام مصالحة:
عرفتُ الكاتبة عدلة أيّامَ دراستِنا في جامعةِ بئرِ السّبع، وربطتْ بينَنا أواصرُ صداقةٍ وقربٍ فكريٍّ في كثيرٍ مِنَ المَواضيع والمَواقف، وهي الأمُّ والزّوجةُ والمُربّية، وهاهي اليومَ تُطِلُّ مِن جديدٍ بكتابها الأوّل "نبضاتُ ضمير"، فأحيّيها على عطائِها وأخذِها الوقت لتبوحَ بمشاعرِها وأفكارِها كتابةً، وعلى شجاعتِها في نشرِها ضمنَ كتابٍ، يَقعُ في 120 صفحة متوسّط الحجم، يضمُّ 73 مقطوعة نثريّة، وصدَرَ عن دار الوسط اليوم للإعلام والنشر- رام الله، وقدّمَ لهُ الأستاذ يوسف ناصر، وعلّقتْ عليهِ السّيدة دينا سليم حنحن– أستراليا.
لغةُ الكتابِ عاليةٌ جدًّا، وقد أكثرتْ فيهِ الكاتبةُ مِنَ الوصفِ الجميل، فهُنا وريقاتٌ صفراءُ تُعاندُ أغصانًا تودُّ أن تتعرّى، وهناكَ نجدُها تلتحفُ موجَ البحرِ، تتسربلُ همساتِ النّورس، وتفيدُنا بأنّ ليسَ للحُلمِ أذرُعٍ، لكنّهُ يَعرفُ أصولَ العِناق، وللسّجعِ وللمُحسّناتِ اللّفظيّةِ مكانٌ في النّصّ، فأحزانُها وألحانُها تربطُ ما بينَ الجنينِ والحنين، وما بينَ القلق والأرق، وبين الأشواق والأشواك. وفي مواقفَ إبداعيّةٍ تُقرّرُ مُكابرةً، أنّ بكاءَها ليسَ سوى تَجَمُّلٍ، "فبعضُ العيونِ في البكاءِ أجملُ، وترسمُ صورةً ديناميكيّةً للأنا المُتغيّرِ دوْمًا "أنا لستُ أنا كلّ يوم".
وهيَ أيضًا تستثمرُ مَخزونَها المَعلوماتيَّ العلميَّ والدّينيَّ والتّراثيَّ، لتُضفيَ على النّصّ نكهةً تربويّة،  فالمأساةُ هي "أكسجين أوراقِنا الدّامعة"، وللتّراب والهواءِ صفاتٌ رائعة، فهذا يَتداخلُ بذاكَ، يتلوّثُ الواحدُ والآخرُ يتجدّدُ، ولعلّ أجملَها التّشبيهُ: "لواقعنا واقعٌ آخرُ في الأحلامِ، لكلِّ محطّةٍ هناكَ مَحطّةٌ أخرى تُقابلُها في المساحةِ، تُعاكسُها في الانتظارِ وهدفُهُ، والّتي تُناظرُ قانونَ نيوتن الثاني: لكلِّ فِعلٍ رَدُّ فِعلٍ، مُساوٍ لهُ بالمقدارِ ومُعاكسِ بالاتّجاه".
والدّينُ الّذي تُوظّفُهُ عدلة ليسَ مِن المَذهبِ المسيحيّ الّذي تتبعُهُ لوحدِهِ، فهي بينَ الحينِ والآخرِ تُصلّي "أبانا" وغيرها مِنَ الصّلواتِ الإنجيليّة، وتعودُ لتقرأ المَزاميرَ التوراتيّة، وتستقي أيضًا مِن الدّيانةِ الإسلاميّةِ: "فالظُّلمُ مَرتعُهُ وَخيمٌ"، و"لكم ساعتُكُم ولي ساعتي"، و"إنّهُ مِنَ المُخجِلِ أن أتعثّرَ بالحجرِ نفسِهِ مرّتيْن"،  و"ألَمْ يقُل اللهُ في كتابهِ العزيز: "اِصبروا فإنّ اللهَ معَ الصّابرين"؟
كذلك هي تفعلُ معَ التّراثِ: "هذا البُغضُ مِن ذاكَ الأسى"، والّتي تأتي مشابهةً للمَثلِ: هذا الشّبلُ مِن ذاكَ الأسد، وتستعملُ الرّمزيّةَ في بعضِ المَواضع، فتُكثِرُ مِن الطّبيعةِ بفصولِها ومعالمِها، خاصّةً فصْلَي الخريف والرّبيع، وتُوظّفُها في بعضِ الصّورِ الفِكريّةِ الّتي تتأرجحُ ما بينَ التّشاؤُمِ والتّفاؤُلِ، وتستعملُ قليلًا مِن السّخريةِ بأسلوبٍ تهكُّميٍّ، "ديموقراطيّةٌ بنكهةِ كرباجٍ مُعلّقٍ على مشجبٍ هوائيٍّ يَلفُّ أعناقَنا فإمّا أن.. وإلّا". و"هنيئًا لمَن فازَ بخسارةٍ، ولمَن خسِرَ بفوزٍ ساحقٍ".
أمّا مِن ناحيةِ المَضمونِ، فمواضيعُ الكتاب تتمركزُ حولَ علاقاتِ عدلة الإنسانيّةِ كامرأة وأختٍ، كابنةٍ وأُمٍّ، وتُعبّرُ بأسلوبٍ إبداعيٍّ متنوّعٍ جميلٍ يَنمُّ عن صدقٍ عاطفيٍّ نادرٍ، فبخصوصِ المرأة الواعيةِ الّتي تُمثّلُها عدلة، فالمرأةُ كالورد ولا حاجةَ لأنْ تُوزّعَ عليها الورودِ، "فهي المرأةُ "التي لديها ما تقولُ ولا تَنحني، بل تنحني لها كلُّ البطاقات"، وأقواها وأكثرُها وضوحًا حين ترفضُ سيادةَ الرّجُلِ إذ تقول: "فلا أنتَ سيّدي ولا أنا أمَتُكَ"، ودعْوَتُها للأخرياتِ إلى رفضِ الواقعِ المَفروضِ على جمهورِ النّساءِ بندائِها: لنكُنْ كما نريدُ أنْ نكون.
أما نظرتُها للواقعِ الخاصِّ والعامّ فجُلُّها التّشاؤمُ والألم، وهي تُعبّرُ عنهما بتنوّعٍ في النّصِّ والأسلوب، فالشّوكُ يُدمي يديْها، "فباتَ الجوريُّ أحمرَ وحقلُ الذّكريات يَبكي". ولا تخلو بعضُ المَقاطعِ مِن ذِكرِ الأفاعي والعقارب، "أفاعٍ.. صخرة صمّاء.. بقلب ذئبٍ وكبد حرّى.. أفعى كبيرة"، وجيوشُ اليأسِ تُحاصِرُها، وفتاةُ الطّهارةِ تُنْدَبُ، ولخوفِها لسانٌ يُحذّرُ بقدومِ أعاصيرَ.. والحكاية جافّةٌ رائحتُها حزينةٌ، تُصيبُها بزُكامٍ شديد.
بالإضافةِ لذلك، هي تُصرّحُ أنّها في ضائقةٍ نفسيّةٍ، "نفسي الضّالةُ في أزقّةِ الزّمكان"، تقومُ بوصْفِها مِن خلالِ نُصوصٍ مُتعدّدةٍ، فتتطرّقُ لخوفٍ وعدمِ أمانٍ يُسيطرانِ عليها: "أخافُ على طائرتي مِن تحليقٍ بلا هبوطٍ"، "أبحثُ عن زاويةٍ آمنةٍ في عالمٍ تكثرُ فيهِ الأفاعي، وتُبرعمُ أغصان الحقد". فهي إذًا تخافُ الموتَ والاختناقَ وبردَ الغربةِ والكآبة، وهذا ما يَطردُ النّومَ عن عينيْها ويُطيلُ ليلَها، "يهربُ النّومُ مِنَ الخائفينَ، يَطولُ ليلُ العاجزين". إلّا أنّ أسوأ شعورٍ لديها هو الوحدة، فهيَ وحيدةٌ حتى حينَ تكونُ مُحاطةً بأقربائِها وأصدقائِها، "فأنا معكم ولستُ بينكم"، والّذي أجدُ بهِ تعبيرًا عن شعورِ الاغترابِ المَعنويِّ، وربّما قصدَتْ: فأنا بينكم ولستُ معكم؟" وهي توضحُ أنّ هذا أقسى شعورٍ تُعاني منهُ: "أكثرُ قسوةٍ تلكَ اللّحظاتِ الّتي يكونُ حولَك آلافُ البَشر، ورغمَ ذلك، قاسيةٌ وموحِشةٌ وحدتُك". وتتفاقمُ الأزماتُ النفسيّةُ والمَخاوفُ لتبدو "واضحة في كسر قلمي الرّصاصِ مِن شدّةِ الألم"، وإلى ما يُشبهُ الوحدةَ الكلّيّةَ المُطلَقة، "فلَم أرَ غيرَ ذاتي في المِرآة، ولا يَظهرُ وزنُ غيري على ميزاني". لو توقفَتِ الأمورُ عندَ هذا الوصفِ وهذهِ الأفكار، لظننّا أنّنا أمامَ حالةٍ ميؤوسٍ منها، لكن عندها ما كانتِ الكاتبة ستكونُ عدلة، فهي رغمَ كلّ هذهِ الحالاتِ الّتي تصف بها شخصيّاتِ كتابِها لم تستسلمْ، "أنا لم أرفعْ شِعارَ الاستسلامِ بعد، لأنّ النّجمَ في داخلي ما زالَ يُنيرُ هذه البؤراتِ المُظلِمة"، وهي تَحتاطُ للأمرِ فتلبسُ قبّعةً "تقي هذا الرأس مِن عقاربِ الأفكار السّامّةِ وأفاعي النوايا السّيّئة".
نحنُ أمامَ انتقالٍ مِن وَضْعٍ ضيّقٍ قاتمٍ أسوَدَ وسيّءٍ إلى أقصى حدودِ السّوءِ، ومعَ ذلك، فالأملُ لا يُفارقُ أديبتنا. فهاهي تُنادي: "أيّها الأملُ الغافي على كتفِ حُرّيّةِ الضّمير، حانَ وقتُكَ لتنهَضَ"! وتتساءلُ "أوَليْست الشّمسُ تُعطي دفْئَها رغمَ احتجابِها خلفَ الغيوم؟" ولأنّ "وراءَ كلّ خريف ربيعٌ يبتسمُ"، نجدُها تستعدُّ للمُقاومة، "انتعلتْ جرأةَ الجنديِّ بثقةِ أرزِ لبنان"، وتكرزُ للثّورة: "تمرّدي يا عواصفُ"، وليبدأ "تمَرُّدُ الذات وإعلانُ العصيان"، عندها "انتفضتْ سمكةٌ مِن قاع البحر"، وأخذت تحلمُ بعالمٍ بلا حدودٍ، لها فيهِ حرّيّةُ الطيورِ المُهاجرة، دونَما حاجةٍ لجوازِ سفرٍ أو نقاطِ تفتيش. وهي كامرأةٍ ترفضُ نظرةَ المجتمع إليها، "لا تتفاوَضوا عليّ بمَزادٍ علنيٍّ وتدَّعونَ الوطنيّة، فلي عيونٌ تَراكُم"، رفضُها واعٍ وتحثُّ أخواتِها النّساءَ على التمسُّكِ بأحلامِهنّ: "لا تُؤجّلي حُلمَكِ، فالأحلامُ المُؤجّلةُ بالمِرصاد، يقفُ لها واقعٌ أليم". وتحثُّهُنَّ أيضًا على عدم الخوفِ: "انتزعي عنك كلَّ خوفٍ". ويَنقطعُ عنها الشعورُ بالوحدة، "لستُ وحدي، بهذا تعزيتي ولهذا ثورتي"، وها هي تنطلقُ "مِن كلِّ أحزاني سأُكلّلُ نفسي بالثقة، وأتبرّجُ بتاجِ الحرّيّة، مِقودي سيكون التفاؤلُ، سأجوب العالمَ بفِكري الحُرّ".
ولكن، ليتمّ لها ذلك لا بدّ مِن الانسلاخِ عن الماضي والتّحرُّرِ مِن قبضتِهِ، وهو ما تُتِمُّهُ حين توجّبَ "حرق الذّكريات"، وتُمنّي نفسَها بـ "التّجددِ معَ قدوم الربيع". الآنَ أصبحنا أمامَ عدلة أخرى مُتحفّزةً، تشتاقُ لغربةٍ مأهولةٍ بسكّانٍ لا يفهمونَ إلّا البسمة، تضيءُ شمعاتٍ عديدةَ، "ثمّ أشعلتُ شمعةَ حبٍّ، لكلِّ قريب وبعيدٍ جعلتُ قلبي يتوهّجُ مَحبّة"، وهذه الثورة هي صرخةٌ مِن نوعٍ جديد ليستْ ككلِّ الثورات، "كان دويٌّ آخرُ، دويُّ أنثى مُتمسّكةٍ بأنوثتها"، أنثى نادمةٌ على مواقفِها السابقة مِن قبولِها لسيادةِ الرّجُلِ وتقييداتِ المجتمع، "ولستُ نادمة إلّا على يومِ صَمْتٍ أبله". هذه النقلة بالوعي تغيّرُ نظرتَها إلى الأمور، وفجأةً تستقيمُ انعطافاتُ الطريق، وشروقُ الشّمس لن يأتي بحسب برامجِ المجتمع الزمنيّة، "سيُخالف عقاربَ ساعاتِهم"، وهي تُنبّهُ الجميعَ أنّه حتّى الرّماد لايزالُ يَحتفظ بالذّكريات، "كيفَ سيَعرفونَ أنّ في الرّمادِ ما زالتْ جمرةٌ مُلتهبةٌ، إن لم يَكشفوا مِن فوقِها الرّماد؟" كيفَ سيَعرفونَ "أنّ في التراب بذرةٌ حيّة؟" تحثُّ المجتمعَ على التّعمُّقِ في البحثِ وإزالةِ العوائقِ مِن أمامِ المرأة، تلكَ الّتي تحُدُّ مِن طموحاتِها وتطوُّرِها، فاللؤلؤ لا يوجد أبدًا على سطح الماءِ، والعسلُ الشّافي لا يأتي إلّا مِن الشّمع الأسوَد.
تصِفُ لنا إنسانةً جديدةً صامدةً ومُناضلةً، ترفعُ رايةَ النّصرِ أبدًا وتُصرّحُ مُؤكّدةً: "سنعودُ قريبًا، أجل سنعودُ وبأيدينا سعفُ النّخيلِ وأغصانِ الزيتون، سنُزيّنُها لأطفالِنا، وسيَطوفونَ شوارعَ المدينةِ مُهلّلينَ". مع هذه الثورةِ وكنتيجةٍ حتميّةٍ تُصرّحُ الكاتبة بأنّها ستُحقّقُ هدفَها: "سألقاه، سألقاه".
وممّا يُلفتُ النظرَ أيضًا لدى أديبتِنا هو إنسانيّتُها الّتي تُعبّرُ عنها في عدّةِ مواضِع، فهي تسعى لحرّيّةِ الذّاتِ وصفاءِ الضّميرِ، وتضامُنِها معَ الفقراءِ والكادحين، "حيثُ عزفَ الفقيرُ مَعزوفةَ الشّوقِ لحُلمِ رغيفٍ بزيتٍ وزعتر"، وهي تَصِلُ لبيتِ أرملةٍ تصُبُّ الزّيتَ في القِدْرِ وتدّعي خفوتَ النّار، علَّ أطفالَها يَنامونَ وأمَلَهُم في القِدْرِ الكبيرِ". عدا ذلك تستلهمُ الكاتبةُ مِن شخصيّةِ السّيّدِ المسيح أسلوبَهُ المُسالمَ، فهو لمْ يَأتِ كفارسٍ مُحاربٍ يَسفُكُ الدّماءَ، كما يَنفطِرُ قلبُها لأخبارِ موتِ الآخرين، خاصّة الشّهداء، "لولا قلب ذاك الرّجل الّذي قطعَ قلبي، بعدَ أن فقدَ عائلتَهُ بكاملِها"، وهي تدعو أمَّ الشهيد أن تتبنّى سائرَ الشّباب، "لأنّكِ أمٌّ وقلبَ أمٍّ تَملكين". وتتمنّى للبشرِ أن يتغيّروا "علّهُم يَصومونَ عن سفْكِ الدّماءِ ويُعلنونَ حربًا على الحربِ، يَتقاسمونَ اللّقمةَ معَ الفقيرِ المُحتاج، ويُفرّحونَ قلوبَ الصّغار". ممّا لا شكَّ فيهِ، أنّنا بهذهِ القراءةِ لم نستوْفِ الكتابَ حقَّهُ تمامًا، فهناكَ مواضيعَ تركناها للقرّاءِ الأعزاءِ، ليستمتعوا باكتشافِها بأنفسِهم عندَ قراءتِهم للكتاب!
**جاءَ في مداخلةِ الكاتبة السّوريّة إيمان ونّوس:
حينَ تلجُ عالمَ عدلة الشّعريِّ والقصصيّ، ترتحلُ بكَ آهاتُ روحِها النّابضةُ أبدًا بنقاءٍ لم تُلامِسْهُ بعْدُ أناملُ الحياةِ بشغبِها وشَجنِها وشِجارِها. هي ذي عدلة النّقيّة توأمُ الرّوح الّتي لمستُ منذُ قراءاتي الأولى لها، مَدى نقائِها ورِقّتِها وحنانِها، قد أطلقَتْ لِيَراعِها العنانَ لأجلِ الحياة، لأجلِ روحِها ولأجلِنا، ولأجل أمَلٍ نرنو إليهِ أبدًا، لأنّنا مَحكومونَ بهِ على المدى.
"أراها قد أبَتْ  أشلاءُ حروفي أنْ تُحاصِرَ يَراعي، وآثرَتْ أنْ تبقى طليقةً حُرّةً في فضاءٍ نظيفٍ، إلّا مِن غبارِ الحقدِ والأنانيّة ومسح الجوخ، بُغيةَ ترصيعِ الضّميرِ بحفناتٍ لامعةٍ وأكياسٍ جامعة".
همْسُها المُعرِّشُ منذ الحروفِ الأولى لإهداءٍ كانَ بحَدِّ ذاتِهِ تراتيلَ روحٍ توّاقةً أبدًا للحُرّيّةِ والانعتاقِ مِن ضجيجِ الأفكارِ المُتعانقةِ دومًا، علّها تُنثر في فضاءاتِ الحياةِ والأدبِ حُروفًا وشعرًا لا يليقُ سوى بيَراعِ عدلة، إهداءٌ فاقَ في رِقّتِهِ ونقاوتِهِ كلَّ ما وهبَتْنا إيّاهُ عبْرَ نصوصِ مَجموعتِها، إهداءٌ يَعبقُ بالحنينِ والوفاءِ لِمَن شاركوها نبضَ الحياةِ والضّميرِ معًا، وأجملُ ما لامَسَتْهُ روحي في ذاك الإهداءِ همْسُها: "إليك أيّها البحرُ السّاكنُ في أعماقي، نبضاتُ ضميرٍ، علّها تُخفّفُ مِن حدّةِ الموْجِ والأنين"، حيثُ لها معَ البحرِ وشائجُ مُتشبّثةٌ بجذورِ وُجودِها، علّهُ الصّديق المتفرّدُ أبدًا بارتشافِ أنينِ الرّوح. وقولُها: "إلى الـ أنتَ الّتي تسكنُني منذ مَطلعِ الفجرِ، وهروبِ الأنا مِن عاصفةِ جليدِ الغربةِ والصّقيع"، بوحٌ فيهِ هسيسُ وجعٍ يَقضُّ مَضجعَ روحٍ مُضمّخةٍ بصقيعِ غربتِها في لجّةِ صخبِ الحياة.
وفي مُناجاتِها لآذارَ تعبيرٌ واضحٌ عن ارتباطِها فكريًّا وروحيًّا بقضايا المرأةِ والأرض. آذار الحافل بأنبلِ المُناسباتِ مِن عيدِ المرأةِ إلى عيد الأمّ والأرض، وما بَينهُم مِن ارتباطٍ وثيقِ العُرى. أليست الأُمُّ أرضًا بعُمقِ ارتباطِنا بها، مَهْما غزا الشّيْبُ هاماتِنا؟ أرضًا تَهَبُنا الخيرَ والعطاءَ ومَواسمَ الأمانِ والفَرح؟ أليسَتِ المرأةُ الأُمُّ بخصوبتِها بيولوجيًّا وروحيًّا وفِكريًّا، تُضاهي الأرضَ بعطائِها، وتمنَحُ الحياةَ حياةً مُشبَعةً بالأثرةِ والوفاء؟ هذا ما باحتْ بهِ حينَ همَستْ: "لا تُوزِّعوا عليْها الوردَ، فالوردُ لا يُريدُ نفسَهُ، بل اعتنوا بثرى أرضِها، بسِياجِ بُستانِها، وانتزِعوا الأعشابَ الضّارّةَ مِن أفكارِكُم، لتكونَ زهرةً شذيّةً مِعطاء .لا تُصادِروا اليَراعَ مِن بينِ أنامِلِها، فعندَها ما تقولُ، الأصَمُّ يَفهمُها، والحبرُ الأسوَدُ يصدقُها في التّعبير. كونوا معها لتبقى معَكم، بيمينِها الّتي لا تَراها يَسارَها أوقاتَ الكرَمِ والجودِ والسّخاء". "في يومِ الأرضِ سأحرُثُ معكم كُتبَ التّاريخ، علّ عنوانًا آخرَ يَلمَعُ أمامَ ناظِرَيَّ".
لقد تناولتْ عدلة جُلَّ قضايا المُجتمعِ والحياةِ بأسلوبٍ شاعريٍّ ساحِرٍ، يَتناسبُ ورِقّةَ مَشاعرِها وصفاءِ سريرتِها ونقاءِ روحِها، فهي تُلامِسُ عُمقَ وَجعِ مُجتمعٍ يَعُجُّ بالفقراءِ والمُستضعَفينَ، مثلما يَعُجُّ بالمُرائينَ والمُنافِقينَ مِنَ السّاسةِ والقادةِ والحُكّام الّذينَ استطابوا عرَقَ الكادحينَ والفقراءِ، فنَهبوا ما نهبوا، حتّى انهزمَ ميزانُ العدالةِ الاجتماعيّةِ والإنسانيّة. هي ذي تَبوحُ بوجعِ أولئِكَ الجائعينَ التّائهينَ قائلةً: "ربّاهُ.. أينَ ثوبي الّذي رتّقتُهُ بدماثةِ الأخلاق؟ أينَ حذائي الّذي اهترأَ مِنَ الغوْصِ في وحلِ الظّلمِ والاغتياب؟ في السّوق العتيق حيثُ عزَفَ الفقيرُ مَعزوفةَ الشّوق، لحُلمِ رغيفٍ بزيتِ وزعترٍ، وكوبٍ مِن الشّاي تنبعثُ منهُ رائحةُ نعناعٍ بنكهةِ بستانِ جدّي، ويَنابيعَ  جَرَتْ مِن جبهاتِ الكدِّ والعمل"؟!
غاصتْ عميقًا في معنى الصّداقةِ الحقيقيّةِ الّتي نلوذُ بها لحظاتِ الضّيقِ والأسى، ونشدو معها لحظاتِ الفرحِ والأمل، فلولا الصّداقة لما كان للحياةِ مِن معنى، لأنّها مَحض اختيارِنا وإرادتِنا ولهفةِ فِكرِنا وروحِنا. فهاهي تُناجي صديقَها بأجملِ ما نثرَتْ: "كنْ بخيرٍ صديقي، فالحياةُ بلا همْسِكَ لا تُبشِّرُ بالحياة. في الصّباحِ سأُشعلُ لكَ شمعةً صديقي. ما أنتَ إلّا صِدقًا صارخًا في كذبةٍ اسمُها أنا". ورغمَ أنّ للصّداقةِ في عالمِها مَكانةً راقيةً، إلّا أنّها تنوءُ بثِقلِ الغربةِ والبحثِ عن الذّاتِ والآخرِ الصّادق، فتشعرُ مِن حروفِها أنّها تعيشُ خُواءً ووحدةً مريرةً، في عالمٍ مليءٍ بالنّفاقِ والحقدِ، لذا تراها أبدًا تَنشدُ الحُبَّ والحُرّيّةَ والأمانَ وتهمسُ قائلةً: "أبحثُ في ليلةِ الميلادِ واقترابِ رأسِ السّنةِ عن نبعِ ماءٍ صافٍ، لا يَشربُ منهُ إلّا مَن عَطِشَ للحُرّيّة وتَلمَّسَ الرّجاءَ. أبحثُ عن زاويةٍ آمِنةٍ في عالمٍ تَكثُرُ فيهِ الأفاعي، وتُبرعمُ أغصانَ الحقدِ وتتجذّرُ أشجارُ البُغض".
تسترسلُ عدلة في الغوصِ عميقًا، لِتضَعَ إصبعها على مَكامنِ وجعِ الحياةِ وآلامِ المُجتمعِ وأمراضِهِ المُستعصيةِ، في واقعٍ مُتشبّثٍ بقِيمٍ تَشُدُّهُ للوراءِ مَلايينَ السّنين، واقعٍ مُتعفّنٍ تنخرُهُ سياسةٌ قائمةٌ على المَصالحِ والأهواءِ والزّعاماتِ، سياسةٌ ترفضُ الآخَرَ، لا بل تُقيِّدُهُ في معتقلاتِ الرّأيِ والحُرّيّةِ، كي تترعرعَ إمبراطوريّاتُ ديكتاتوريّةٍ تَعملُ على بناءِ مُجتمعٍ يَنبضُ بالقوّةِ العضليّةِ، بدلَ قوّةِ العقلِ والعِلم، مُجتمعٍ غُيّبَ عنهُ الضّميرُ لأجلِ التّستُّرِ على عيوبِ وفسادِ الحاكِمينَ، فهي تَختزلُ هذا الواقعَ بالقول: "في حياتِنا الاجتماعيّةِ تُقيّدُنا السّياسة، وفي سياستِنا الاجتماعيّةِ يُقيِّدُنا ضميرُنا، وبينَ هذا وذاكَ نغوص ونغرقُ في يَمٍّ لا نُتقِنُ فنَّ العوْمِ فيه. سُهادُ الفِكرِ احتلالٌ للحرّيّة. بيعُ الضّميرِ ثروةُ العنتريّة، وبين هذا وذاك تنمو الدّكتاتوريّةَ في أرضٍ خصبة".
وتظلُّ عدلة على مدى صفحاتِ ضميرِها أمينةً لأحلامِها ومبادئِها، ولآمالِها الّتي عرّشتْ في فضاءاتِ ذائقتِنا، فوهبَتْنا سُلافَ روحِها وفِكرِها، لاسيّما حينَ همَسَت: "أيّها الأملُ الغافي على كتفِ حُرّيّةِ الضّمير. حانَ وقتُكَ لتنهضَ. أنا هنا أُلمْلِمُ حبّاتِ ضميرٍ، وأنثرُها في بيداءَ قاحلةٍ. اُرقُدي أيّتها الرّوح، فرائحةُ التّرابِ نقيّةٌ ومَطرُ سحابِكَ وسْمِيّ، وسَلامُ عرْشِكَ تتبادَلُهُ حمائمُ الدّوحِ وأسرابِ الحنين". هنيئًا لنا بكِ أديبةً عربيّةً، وامرأةً تعرفُ قدْرَ الحُرّيّةِ والحياةِ، وإنسانةً تنبضُ بعبقِ ضميرٍ لم تُلوّثْهُ مَعاييرُ زمنِ حضارةٍ لا تُؤمِنُ بالإنسان، حضارةٍ أقصَتِ الضّميرَ وباعتِ الوجدان.
**وجاء في كلمة زياد جيوسي:
ليستِ المرّة الأولى الّتي أجولُ بها في كتاباتِ ونصوصِ الكاتبة عدلة خشيبون، فقد تابعتُ كتاباتِها ونزفَ روحِها منذُ البداياتِ، وأذكُرُ أنّي كتبتُ مقالًا عن نصِّها "سعاد"، نشرتُهُ في الصّحافةِ وضمّنتُهُ في كتابي "فضاءاتِ قزح"، الصّادر عن دار فضاءات للنشر/ عمّان، وبدعمٍ مِن وزارةِ الثقافةِ الأردنيّةِ في مُنتصفِ عام 2009. في كلّ ما تابعتُ وقرأتُ لها كنتُ أجدُ أنّها تلجأ إلى الرّمزيّةِ الجميلةِ الّتي يُمكنُ أنْ يَنطبقَ عليها وصفُ السّهلِ المُمتنعِ، مِن أجلِ إيصالِ الفِكرةِ ببناءٍ قصصيٍّ جميلٍ وسهلٍ، لكنّهُ يُخفي وراءَ رموزِهِ الهدَفَ المَنشود، وإنْ أعطى المُؤشّراتِ للقارئِ حتّى لا يَتوهَ في البحث، فابتعدَتْ عن الرّمزيّةِ المُغرقةِ بالتّخفّي حتّى لا يَضيعَ القارئُ عن الهدف، أو أنْ يَمَلَّ القراءةَ، فيَرمي النّصّ جانبًا.
الضّميرُ والحِسُّ الإنسانيُّ والحُبُّ والوطنُ صفةٌ مُشتركةٌ في مُعظمِ النّصوصِ الّتي بلغتْ 75 نصًّا، والنّصوصُ تراوحَتْ بينَ القصّةِ القصيرةِ وبين الوجدانيّاتِ، وعدّةُ نصوصٍ يُمكنُ أنْ تُصنَّفَ ضمنَ النّصِّ الشّعريِّ النّثريّ، كانتْ عبارةً عن نزفٍ إنسانيٍّ للرّوحِ الحافلةِ بالمَحبّةِ والإنسانيّةِ، في بوْحٍ وجدانيٍّ عصيٍّ على التجنيس، فهي لا تمَلُّ منَ البحثِ عن الضّميرِ الإنسانيّ، لاقتناعِها أنّ الضّمير لا يَكفُّ عن طرْقِ القلوبِ، لعلَّ الغمامةَ تزولُ ويَعودُ البَشرُ إلى ضمائِرِهم، فالضّميرُ لديها هو بدايةُ الوعيِ وبداياتُ الطّريقِ إلى الحُرّيّة، وهو الوطنُ الّذي تَصبو إليهِ كلُّ نفسٍ، وهو الفِكرةُ والحُرّيّةُ، والضّميرُ الحقيقيُّ لا يَخشى قسوةَ البَشرِ، "أيُّها الأملُ الغافي على كتفِ حُرّيّةِ الضّمير، حانَ وقتُكَ لتَنهضَ"، فهوَ المُوَجِّهُ والقويُّ ولا يَخشى إلّا خالقَ الكون.
الإنسانيّةُ هي هدفٌ مَنشودٌ لا يُمكنُ أن تموتَ مَهما قسَتْ قلوبُ البَشرِ، والضّميرُ مَهما عانى مِنَ الموْتِ أو ا

135
فارسُ الثلّاج في الكرمل!


آمال عوّاد رضوان
أقامَ منتدى الحوار الثقافيّ في مركز التراث البادية ندوةً أدبيّة، لإلقاءِ الضّوءِ على رواية "فارس الثّلّاج" للكاتب د. أحمد سليمان ابن عكا، بتاريخ 5-5-2015، وقد استهلّ اللقاءَ الأستاذ رشدي الماضي، ثمّ مداخلة نوعيّة لد, فهد أبو خضرة، ومداخلة للناقد د. نبيه القاسم، ونظير شمالي، ومن ثمّ مداخلات الحضور، وختمَ اللقاءَ د. أحمد سليمان، شاكرًا الحضورَ والمُتحدّثينَ، ومِن ثمّ تمّ التقاطُ الصّور.
جاءَ في كلمة رشدي الماضي: أقولُ لكلماتِكَ أهلًا، فحين سألوهُ أن يَصِفَ الرّواية، أجابَ الناقد جورج ويلز: "الرّواية كيسٌ يُمكنُكَ أن تَضعَ فيهِ ما تشاءُ". قالَ ذلكَ لوَعيهِ بأنّ الرّواية هي المكانُ الوحيدُ الّذي لا يَملكُ فيهِ شخصٌ الحقيقة. أليست هي انعتاقا مِن الواقع، لتُصبحَ بالنتيجةِ خروجًا إلى فضاءٍ أكثرَ رحابةً بمساعدةِ المِخيال؟ إذًا؛ الرّواية حالةٌ مُنفلتة مِن التحديد، مع بقائِها أمكانيّةً تعبيريّة فنيّة رمزيّة، تُنتجُ وتُنضجُ الوعيَ بما يَحدثُ في الزمن والحياةِ والمكان، لتُصبحَ اتّكاءً على ذلكَ نصًّا يُغادرُ الواقعَ، لينتقلَ إلى الفنيّ وإلى التّخييل. اخي الأديب الطبيب المُبدع د. أحمد سليمان يَعرفُ مَن قرأكَ قراءةً عاشقة، إنّكَ بهذه الحُمولةِ الفنيّةِ التي ذوّتّها، فتحتَ نافذةً مُغايرةً في مغامراتِكَ السّرديّةِ الرّوائيّةِ المُشاكِسةِ والمُشاغِبة، ووَلجتَ عالمَ الكتابةِ بوعي بارزٍ وملموسٍ باشتراطاتِها الحداثيّة، ففي باقةِ مُنجزاتِكَ الأدبيّةِ مُعالجةٌ فنيّةٌ للواقع، مُطعّمةٌ بشطحاتِ الخيالِ والامتدادِ والمُجاوزة، هذا إضافة إلى الحواراتِ معَ الذات، كلُّ ذلك، بعدَ أنْ أثّثتَ عباراتِكَ بالجَماليّةِ المُترَعةِ برائحةِ الأرضِ والإنسان. حقّا يا الطبيب أحمد سليمان، نظرتُ في مرآةِ عطائِكَ الأدبيّ، فرأيتُكَ تُلقمُ جَمالَ اللّغةِ عِطرًا، وتبوحُ بوحًا ذاتيًّا، عبْرَ شخصيّاتِكَ الزّاخرةِ بالرّؤى والأفكار، فأتت خصبةً المَعنى مُدجَّجةً بخيالٍ رحب، جعَلها تُلامسُ القلبَ دونَ أن تُحزنَهُ. واثقٌ أنا أنّ مُنجزَكَ الإبداعيَّ الآتي، سيَجعلنا نتخلّقُ في شغافِ سردِيّتِهِ رايةً فنيّةً جميلة، مَنسوجةً مِن شموخِ الإبداع الحقيقيِّ المُسربَلِ باللّغةِ الإيحائيّةِ، الّتي تجعلُنا نقولُ لكلماتِكَ نعم، فأهلًا.
جاء في مداخلة د. فهد أبوخضرة: الحداثة دخلتْ إلى العالمِ العربيِّ عن طريقِ لبنان سنة 1956، وكانتِ المَرّةُ الأولى الّتي ذُكِرتْ فيها كلمة الحداثة، في كلمةِ يوسف الخال، في محاضرةٍ له تحدّثَ فيها عن العددِ العربيّ والشعب العربيّ، ولكن هذه اللفظةَ التي استعمِلَتْ، وأرادَها أن تكونَ دقيقة، لم تكُنْ دقيقة، لأنّهُ حينَ استعملها كانَ يقصدُ الحداثة وما بَعدَ الحداثة، فالحداثة ظهرتْ في أوروبا سنة 1892، وكانتْ تتّجهُ عدّةَ اتّجاهاتٍ، لكن على الأقلّ هناكَ اتّجاهانِ بارزان: الاتّجاهُ الفكريُّ كانَ عقلانيًّا مَحضًا، بعيدًا عن كلّ ما يُعتبَرُ غيبيّاتٍ، فوُصِفتْ حداثةً عقلانيّة  إلحاديّة. وإلى جانبها كانَ الاتّجاهُ الإبداعيُّ، وكلاهُما الفكريُّ والإبداعيّ كانا يَرفضان الموجود، بترْكِهِ وهدْمِهِ وإقامةِ عالمٍ جديدٍ، وكانَ مثالَهم المَشهورَ نيرونُ الذي أحرقَ روما، وبَنى روما الجديدة، ولكن الفكرةَ مِن قضيّةِ نيرون أنّه أحرَقَ روما، قبلَ أن يُفكّرَ كيفَ يُمكنُ أن تكونَ روما الجديدة،  وهُم أرادوا أن يَسيروا في نفس الطريق، يرفضونَ الماضي ويهدمونَ كلَّ ما هو موجودٌ، قبلَ أن يُفكّروا ما الّذي سيكون، فبَدؤوا بالاتّجاهِ الفكريّ واضحًا، وهذا لم يبدأ عندنا للأسفِ الشّديد، وقد بدأ الاتّجاهُ الفكريُّ في مصرَ مُتواضِعًا جدًّا سنة 1910، وامتدّ حتّى سنة 1932، ثمّ بدأ يَتراجَعُ تراجعًا كاملًا، وحتّى اليومَ نحنُ لا نَراهُ، ولا يوجدُ عندَنا حداثة عقليّة بعدَ تلكَ الفترة، ومُجرّدُ وجودِها في مِصرَ الحداثة العقليّة المُتحرّرة تمامًا إلى حدٍّ كبير، مثل: سلامة موسى، وطه حسين، ولطفي السيّد، وأحمد أمين وغيرهم، وحرَكتُهم أثارتْ رفضًا في البدايةِ إذ قالوا: نحنُ لسنا عربًا، ويَدّعونَ أنّهم مِصريّونَ ومُختلفون، ويتبعون إلى أوروبا أكثر مِن تبعيّتهم للشّرق. هذا كانَ فيهِ نوعٌ مِن التّحرُّرِ، باستثناءِ شيءٍ واحدٍ نعتبرُهُ بسيطًا، أنّه لم تكُن الحداثة المِصريّة إلحاديّةً، ولم يتجرّؤوا أن يكونوا مُلحِدينَ، وأن يَتناوَلوا القضيّةَ الدّينيّة بصراحةٍ كالأوروبيّة، وأنا لا أجرُؤ حتّى أن أُعيدَ الألفاظَ الغربيّة.
الإبداعُ الأدبيُّ الّذي رافقَ تلكَ الاتّجاهاتِ الفكريّة بدأ بَعدَ خمسٍ وعشرينَ سنة، يَجدُ أنّهُ لا يسيرُ في الاتّجاهِ الصّحيح، فيَرفضُ كلَّ شيءٍ، ويَقومُ بانقلاباتٍ هائلةٍ بعيدًا عن العقل، لأنّهم صاروا يقولونَ بأنّ العقلَ لا يَستطيعُ أن يُحقّقَ شيئًا، فظهرَتِ المدرسة الدّادائيّة، وقد اختاروا اسمَ الدّادائيّة، لأنّه لا معنى له، وبعدَ ذلك ظهرت السّرياليّة والتّكعيبيّة والمُستقبليّة وإلخ..، فسَمّوا هذا كلَّهُ باسمِ ما بعد الحداثة، لسيطرةِ وقوّةِ الحداثة الّتي لم تدُمْ عمليًّا أكثرَ مِن خمسٍ وعشرين سنة، وعندما وصلتْ إلينا الحداثة وما تبعَها في سنة 1956، كانت الحداثة قد اختلطت اختلاطا هائلًا بما بَعد الحداثة، ونحنُ اليومَ حينَ نتحدّثُ عن الحداثة، فعمليًّا نقصدُ ما بعدَ الحداثةِ، وفيها كثيرٌ مِن التظليم والرّفضِ والفوضى، ولا يوجدُ مقياسٌ، فكلُّ شيءٍ يُكتبُ هو جيّدٌ، فلا تستطيعُ أن تُميّزَ بينَ الرّائع والسخيف، وكانَ اتّجاهًا بارزًا جدًّا يَميلُ إلى كسرِ الأنواع، فرأينا الرّواية تنحرفُ انحرافاتٍ هائلة حتّى في العالمِ العربيّ، فنجدُ في سنواتِ السّتّين عند توفيق الحكيم "مَسْرِواية"، وبَعدَ ذلك نجدُ القصّة القصيرة جدّا مِن سطرٍ ورُبع، وأنا لا أدري إن كانتْ قصّة أو خبَرًا صغيرًا أو عنوانًا أو ما أشبه، وما هي صلتُها بالقصّةِ العاديّة، فأنا حتّى الآن لا أعلمُ، ونجدُ الشّعرَ أيضًا يتّجهُ إلى اللّاوزن، وأن يقولَ أشياءَ لا يمكنُ أن تُفهَمَ أحيانًا، وهناكَ مُحاولاتٌ هائلة لأن يَفهموا ما يقولهُ أدونيس، حتّى أنّ أحدَ المِصريّينَ أخذَ قصيدةً في أحدِ الفصول، وأعربَها كي نستطيعَ أن نفهمَ مِن خلالِ الإعراب مَبنى الجُملة، وراجعتُها، وقد أخطأ في إعرابها، وقد أخطأ أكثرَ مِن 50% في الإعراب، لأنّه لم يَفهمْ مَعنى الجُملة، فهو أرادَ أن يُفيدَنا، ولكنّهُ أوقعَنا في أخطاءٍ أخرى. هذا كانَ تقريبًا الوضعُ، ثمّ الخيال الهائل والاتّجاه إلى الرّؤيا، كأنّما هي أحلام يُعبَّرُ عنها، سواء كان شاعرًا أو ناثرًا أو كاتبَ قصّة أو مسرحيّة، وإن لم تفهمْ ما يقولُ يكونُ مَسرورًا جدّا، وهذا معروفٌ عن أكثر مِن كاتبٍ فرنسيّ، كانوا يَحضرونَ إحدى مَسرحيّاتِهِ، وعندما يَخرجونَ ويَشتمونَهُ، وهو يَقفُ عندَ الباب مَسرورًا ويُخبرُ المُخرجَ قائلًا: هذا يعني أنّي قد نجحتُ فيما أريد. هذا الطابعُ العامّ لهذا الشعر، والشاعر الدّبلوماسيّ الفرنسيّ (سانت جون بيرس)، أحضروا لهُ أكثرَ مِن عشر نقّادٍ ليُحلّلوا أشعارِهِ في جامعة السوربون، وسألوهُ عمّ يقولُ في نقدِهِم فقالَ: كلمةٌ واحدة ممّا قالوه لم تخطرْ ببالي. هذا كانَ الاتّجاهَ العامّ، حتّى أنا أظنّ في أدبنا العربيّ حتّى أواسط الثمانين، وأنا أُسمّيها حداثة الرّؤيا.
بعدَ سنواتِ الثّمانين الأمرُ اختلفَ كثيرًا، وإن لم يُكتبْ حتّى الآن، فقد ظهرَ في سنواتِ 1985-1987 اتّجاهٌ جديدٌ جدّا فتركَ قضيّةَ الرّؤيا إذ تراجعتْ كثيرًا، وصارَ الاتّجاهَ نحوَ الواقع أكثر، وتلاقتْ ما بعدَ الحداثةِ معَ تيّارٍ أدبيٍّ جديدٍ نُسمّيهِ الواقعيّةَ الجديدة، وهي مدرسةٌ روسيّة، فأخذت الواقعَ وأسلوبَ الحداثة ومَزجَتْ بينهُما، هذا كما يَبدو أثارَ إعجابَ الكُتّاب العرب بعدَ الانتفاضة، فاستعمَلوهُ واستغلّوه كثيرًا جدّا، فبدؤوا يأخذون المَضمونَ مِنَ الواقع، ولكن بأسلوبٍ كلّه حداثيّ، والتزموا بهذا الاتّجاهِ فترةً طويلًا، ولا أقولُ التزامًا كاملا، لأنّ قِسمًا مِن الحداثيّين ظلّوا يَكتبونَ في مَجالِ حداثةِ الرّؤيا وكسْرِ الأنواع أحيانًا، إنّما الواقعيّة الجديدة والحداثة الثانية بحسب رأيي وتسمِيَتي، كانت اتّجاهًا جديدًا جدًّا ومُلائمًا بحسب تقديري للمُجتمع العربيّ في تلك الفترة، وربّما للمُجتمع العربيّ بشَكلٍ عامّ، فاحتلّتْ مَكانةً جيّدة، ولكنّها لم تبحثْ جيّدًا، والنّقدُ لم يُتابعْها جيّدًا، لكنّهُ تابعَ حداثة الرّؤيا أكثرَ، ربّما لأنّ مُعظمَ نقّادِ الحداثةِ كانوا مِن اللّبنانيّين ومَن هُم على طريقةِ اللبنانيّين، وفي السّنواتِ الأخيرة نحن نلاحظ اختلافًا كبيرًا عن هذه وتلك، لا حداثة رؤيا ولا حداثة جديدة، إنّما ممكن أن أسمّيها الحداثة المعتدلة أو الحداثة المتوازنة، الحداثة التي تُراجعُ كلَّ هذه السّنواتِ وكلَّ ما كُتبَ منذ سنواتِ الخمسين حتّى قبلَ بضعةِ سنوات، وتأخذ ما تَراهُ جيّدًا، وتتركُ ما تراهُ مُبالغًا فيهِ أو مُنحرفًا كثيرًا أو لا يُلائمُ مُجتمعَنا، وتَخلقُ نوعًا مِن الحداثةِ معَ ما نُسمّيهِ في الأدب "المعاصرة"؛ يعني الحداثة المعتدلة الّتي تُلائمُ المعاصرة، وهذا المجتمع الموجود الآن مع تطوّراتِهِ.
كنّا في الماضي نميّزُ تمييزًا شديدًا بين ما نُسمّيهِ التّحديث وما نُسمّيهِ التّجديد، فالتّحديثُ يعني التّجديدَ الانقلابيّ شديدَ التطرُّف، وهذا نراهُ في حداثةِ الرّؤيا، ورافقها أقلّ عندما تحوّلتْ إلى الحداثةِ الواقعيّةِ أو الواقعيّة الجديدة اليوم. والتّجديدُ مَعناهُ أن تأخذَ ما حقّقهُ الجيلُ السّابقُ، وتُضيفُ إليهِ قليلًا دونَ أن ترفضَ ما وُجدَ، أي يقبلُ الموجودَ ويُضيفُ إليهِ، وهذا ما أراهُ اليومَ، إنّهم أخذوا ما حقّقتْهُ الحداثة الأولى والثانية، وما اعتُبرَ وكأنّما مُتعارَفًا عليهِ ومُتّفقًا عليهِ وشيئًا مقبولًا على الأقلّ، وبدؤوا يُضيفونَ إليه الخطواتِ الجديدة، وسآخذ مثاليْن فقط، فكُنّا نجدُ ما نُسمّيه الشعرَ القصصيّ كثيرًا جدّا، لكن اليوم لا نكادُ نرى ذلك، حتّى أنا كتبتُ سبعة قصائد في الشعر القصصيّ، لكنّي لم أكتبْهُ مِن أكثر مِن خمسة عشر سنة، وكانت تُكتبُ القصّة الشعريّة، فمثلا سلمان فراج في كتابهِ "كلامٌ للبيع"، كتبَ قصصًا شعريّة موزونة مِن أوّل حرفٍ إلى آخِر حرف، وهذا كسْرٌ للأنواع، وإحدى الروايات الفرنسيّة المَشهورة جدّا، وقد بيعَ منها أكثرَ مِن خمسةِ ملايين نسخة في حينه، كنتَ تقرا الصّفحة الأولى، وتستطيع أن تنتقلَ إلى صفحة 50، ومن ثم صفحة 90، ثمّ تعودُ إلى صفحة 2، وتستطيعُ بعدَ أن تقرأ كلَّ الصّفحاتِ أن تأخذ فكرة، ولكنّ الفكرةَ ليسَ لها أيُّ ترتيب ولا أيّ توالٍ زمنيٍّ، فكسَروا التّواليَ الزّمنيَّ كسْرًا كاملًا، والّذي هو جزءٌ أساسيٌّ في تركيب الحكاية، وأن تسيرَ مع الزمن وبتواصُلٍ إلى الأمام، سواء كانَ في الحكاية أو في القصّة.
اليومَ لا نجدُ هذا لا في أوروبّا ولا في غيرها من فرنسا وألمانيا ولبنان وإلخ..، ولا أحدَ يَكتبُ بهذا التطرُّفِ الّذي يَبتعدُ عن أصول النّوع الإبداعيّ، ولو طبع رواية كهذه، فلن نجدَ مَن يُؤيّدَها، فالاتّجاهاتُ اليومَ كما أرى، تسيرُ باتّجاهِ الاعتدالِ والتّوازن، دون التّنازلِ عمّا حقّقتْهُ الحداثة وما بعدَ الحداثة في فرعَيْها، ممّا اعتُبرَ مَقبولًا حتّى الآن، وهي تُحاولُ أن تُضيفَ إليهِ، وأنا أعتقدُ أنّ هذا التيّارَ المُناسبَ جدًّا لهذهِ الفترة إذا انتشرَ وسيطرَ، ومِن الصّعب أن أتنبّأ، ولا أرى أنّه سيستمرُّ سنواتٍ ليستْ قليلة، لأنّهُ التيّارُ المُناسبُ الذي يُخاطبُ القارئَ العربيَّ اليوم، ومَهْما كنتم مُتشائِمينَ مِن نتائج الرّبيع العربيّ، إلّا أنّهُ يَتّجهُ في الاتّجاهِ الصّحيح في رأيي، يَعني كُسرَت القوالبُ، وأصبحَ بالإمكان أن يَخرجَ الشّخصُ في مِصرَ أمامَكَ على شاشة التلفاز، وأن ينتقدَ السُّلطة والرّئيسَ، وهذا لم يكُنْ في الخمسين سنة الماضية، وهذا نوعٌ مِن التطوّرِ، وكلُّ هذه الحروباتِ والخراب والدّمارِ مَقبولٌ، فهذا بالضّبط ما حدث في أوروبّا والتّاريخ الأوروبيّ، فقد عانتْ أكثرَ مِن مئة سنة مِن الحروباتِ والانقلاباتِ واضطهادِ شعوب، منذ فترةِ الثورةِ الفرنسيّة التي اندلعتْ عامَ 1789، وفيما يُسمّى "ربيع الشعوب الأوروبيّة" سنة 1848- 1892 حيث بدأتِ الحداثة، وحينَ بدأت الحداثة بدأتْ أوروبّا الحديثة التي نراها اليوم بكلّ هذا التطوّرِ والتقدُّم، فقد اعتمَدوا العقلَ، ولكن تطرّفوا  في اعتمادِ العقل، وما يحدُثُ عندنا اليومَ ليسَ بدعة، وحداثتُنا المُقبلة يَجبُ أن لا تكونَ مُتطرّفةً بهذا الشّكل، وأنا أقولُ ليسَ مِن الضّروريّ أن نكونَ مُلحدينَ، لنكون حداثيّين وعقلانيّين.
جاءَ في كلمة د. نبيه القاسم: د. أحمد سليمان طبيبُ أسنان، لكن توجُّهَهُ لم يُخمِدْ في داخلِهِ جذوةَ الإبداع، وقد يكونُ عمَلُهُ في مُعالجةِ الأسنان والإحساسُ بآلامِهم، وسماعُ أنينِهم وشكواهم قد يكونُ سببًا في إشعال جذوة الإبداع، وهو ليس الطبيبَ الوحيدَ الذي يَحملُ البطيختيْن معًا، بطيخة الطبّ وبطيخة الأدب، وككاتبٍ فقد فرضَ نفسَهُ على السّاحة الأدبيّة، وأصدرَ العديدَ مِن المؤلّفاتِ ما بين القصّة والرّواية وقصص الأطفال والمسرحيّة، وهو يُحبُّ التاريخ، ودائمًا يبحثُ في المصادرِ والكتب، ولهذا كان التاريخ مصدرًا للعديدِ من أعمالِهِ الأدبيّة، حيث يتنقّلُ ما بين التاريخ اليونانيّ القديم والقرون الوسطى والحُكم العثمانيّ والإنجليزيّ، ويَجوبُ في بعض أحياءِ القرى العربيّةِ التي دُمّرَتْ وهُجّرتْ وشُتّتَ أهلها، لكن عكّا ظلت مدينتَهُ الأثيرةَ التي خصّصَها في إبداعِهِ، وفي روايتِهِ الأخيرة "فارس الثلّاج" يَنقلنا إلى تاريخ عكّا وأزقّتها، وكيفَ يَعيشُ الناس مِن خلال ما يَرويه لنا، فقصّةُ شابّيءن صغيريْن لا يزالان طالبيْن في الابتدائية، وفارس الثّلاج الذي يُرافقُ والدَهُ في توزيع قوالبِ الثلج على المصانع والبيوت، ويُعاني مِن الوضع المادّيّ الصّعب الذي تَعيشُهُ أسرتُهُ، خاصّة أنّ والدَهُ مُدمنٌ على شُرْبِ الخمر، ومُعظمَ ما يكسَبُهُ مِن عملِهِ يَدفعُهُ ثمنَ الخمر، ورغمَ ذلك، يُعاملُ أفرادَ أسرتِهِ بقسوةٍ، فيَضربُ زوجتَهُ ويُهينُ أولادَهُ وخاصّة فارس.
وصلَ الطفلانِ إلى بائع الفلافل الحنون العطوف على ابنِهِ، والمُهتمِّ بأخبارِهِ وصحّتِهِ، لكنّهُ فقيرٌ وما يكسبُهُ مِن عملِهِ لا يكفي لتوفيرِ الحياةِ الكريمةِ للأسرة. فارس وصلاح زميلان في المدرسة، والصّداقة جمعَتْهُما، وأحداثٌ غيرُ مُتوقّعةٍ ربطتْ مَصيرَهُما معًا، مَشهدُ قتلِ الرّجُلِ الغريب الدكتور الأجنبيّ في زقاقٍ مظلمٍ بالصّدفة، عبَراهُ في طريق عودتِهما مِن البحرِ إلى بيتِهما، وما سمِعاهُ وشاهداهُ مِن الدكتور المقتول، وما كتبتْهُ عنهما الصّحفُ وتناقلتْهُ ألسنة الناس عن بطولاتِهما في مواجهةِ القاتل، جعلهما مَسؤوليْن عن كشفِ الحقائقِ وفكّ الألغازِ التي تركَها الدكتور المقتول أمانةً في يديْهما. عمليّة البحثِ المُضنية والخطيرة استحوذت على كلِّ أحداثِ القصّة، ولم تدَع أحدًا يُفكّرُ بهمومٍ أخرى، أو يَنشغلُ بقضايا غيرها. أحداثُ المطاردةِ والتخويفِ والإهانةِ حتى الضّرب والتّعرّض لحالات قريبة مِن الموت، والتّسبّب في موتِ والدةِ فارس، وإشراكِ رجال الشرطة في القضيّةِ كلّها، أوصلتْ في النّهاية إلى تَكشُّفِ الأسرارِ، ومعرفةِ الهدف الذي سعى إليه الدكتور المقتول ودفع حياتهِ ثمنًا له، وهو البحث عن قبّعةِ نابليون، وفي النهاية أيضًا ينجحُ الصّديقان وبالتحديد فارس في حلّ اللغز والتخلّص مِن الرّجل القاتل.
القصّة تبدأ بزيارة فارس غير المتوقعة لصديقهِ، وإعلامِهِ بأنّ ساعة موتِهِ قرُبَتْ، وبأنّه جاءَ ليُودّعَهُ، وبالفعل يحدثُ أن يَموتَ فارس وهو في زيارة صديقِهِ. فارس وصلاح في السبعين مِن العمر، لكن تعبَ الحياة انهكَهُما، فيبدو فارس عجوزا مريضًا، يجُرُّ نفسَهُ جرًّا ولا يَقوى على الجلوس والمشي  براحة، إذ عاشَ حياتَهُ فقيرًا، يُساعدُ والدَهُ في توزيع قوالبِ الثلج، وقد تسبّبَ في موت والدتِهِ التي أحبّها، وعاش حياتَهُ يَشعرُ بالذنب وتأنيب الضمير، وكذلك يُبرّئُ نفسَهُ مِن قتل الرّجل الخاطئ. مثله صلاح عاش حياتَهُ فقيرًا، يَحلمُ بحياةٍ أفضل، لكنّهُ عاشَ في أسرةٍ مُحِبّةٍ ووالدٍ عطوفٍ. صلاح فضّلَ أن يعيشَ حياتَهُ وحيدًا، فلم يتزوّجْ. القصّةُ تُستعادُ مِن ذاكرةِ صلاح، فهو يَسرُدُ القصّة كلّها، والتي حدثتْ قبلَ ما يُقاربُ السّتّينَ عامًا، ويَعودُ بأحداثِها إلى أيّام كانَ في العاشرة مِن العمر، وتجري أحداثُ القصّة في أزقّةِ عكّا، وتحت الأرض بين آثارِ عكّا القديمة، مِن أيّام الحُكم البيزنطيّ وحُكم الجزّار، وبذلك يُطلِعُنا على الكثيرِ مِن المعلوماتِ التّاريخيّةِ، ويَجولُ بنا في المواقع الأثريّة.
أسلوبُ السّرد: أسلوبٌ سينمائيّ استخدَمَهُ الكاتبُ في استرجاع الأحداث، وعمليًّا كان ناجحًا، لأنّهُ نقلَ المَشهدَ مِن آخِرِ القصّة، ومِن ثمّ يَعودُ إلى الوراء وتنتهي القصّة بنفسِ المَشهدِ الأوّل، وهذا جعلَ القارئ يَنسابُ مع أحداثِ القصّةِ بدون انقطاعٍ، ويَسيرُ معَ الرّوايةِ ستين سنة إلى الوراءِ دونَ أن يَشعرَ بهذه العودة.
أيضًا خلالَ الأحداث يُعرّفُنا الكاتبُ على تاريخ عكا ومواقعَ فيها، وهذه الظاهرة عند د. أحمد سليمان ليست جديدة، فقد اتّخذ عكًا مسرحًا لمسرحيّاتِهِ ورواياتِهِ وقصصِه، فمثلًا في رواية "العكروت" يُبدي مِن خلالها عشقه لعكا وأزقتها وتاريخها، وهذه ظاهرة عند مُبدعي عكا في السّنوات الأخيرة، ونجدُ أنّ عكّا بدأتْ تستعيدُ مَكانتَها، خاصّة بين مُبدعيها وأهل عكا، لأنّها تستحقّ ذلك، خاصّة أنّها مليئة بالأحداثِ والتاريخ والآثار، وبكلّ ما يُهيّئُ الكاتبَ أن يَكتبَ عنها عشراتِ الرّوايات، وهذا الأمرُ لا يُنقِصُ مِن جودةِ الرّوايةِ، بل يَزيدُها مِن حيث العطاء والمَضمون.
في الرّوايةِ عدّةُ شخصيّاتٍ، أبرزُها شخصيّةُ فارس المُتطوّرةُ أكثر مِن غيرها، وهناكَ بالمقابل شخصيّةُ صلاح، وشخصيّةُ الرّجلِ القاتل، وهي الشّخصيّة التي تتغيّرُ وتتبدّلُ وتتبلورُ، وتتلاءمُ مع كلِّ فردٍ وحدَثٍ، وكانتْ دائمًا طاغية على الحدَث، تمامًا مثل شخصيّة فارس الزمبرك والنابض المُحرّك للأحداثِ وتغيّراتِها.
اللّغة: قد يكون مأخذ على د. أحمد سليمان، إذ إنّ اللغة السّرديّة كلّها جاءتْ على لسان صلاح بمستوًى واحد، ولكن لم يَكنْ هناكَ مستوياتٌ مختلفة، ولم تتغيّرْ لغة الشّخصيّاتِ ولم نلمَسْ اختلافًا بينَ واحدٍ وآخر. ومأخذ آخر، أنّ بطلَي الرّواية طفلان صغيران، فهل يُعقلُ أن يُفكّرا بهذا التفكير؟ عمليًّا هناكَ مشاهدُ مثل ص74: "قالَ المُحقق: حسنًا هذه بلادٌ مرّت عليها الحضاراتُ، هي قطعة مِن الأرضِ أشبهُ بحلقةِ الوصْلِ بين الشّرق والغرب، وهي موطنُ الدّياناتِ السّماويّة، ومركزٌ لانطلاقِ إحدى أهمّ عمليّات البناءِ البشريّ. نحن نعيشُ في بقعةٍ انتعشتْ فيها الإنسانيّة، وازدهرَ فيها العمران، الأمر الذي فتحَ عليها عيونَ العالم، فتعاقبَت عليها الحملاتُ، وحملة نابليون هي إحدى أشهر هذه الحملات، والحكايةُ تقولُ أنّ نابليون بونابرت وبعدَ حِصارِهِ الطويلِ لمدينةِ عكا، وعلى أثر فشلِهِ في إخضاعِها، أرسَلَ قبّعتَهُ مع بعضِ الهدايا الثمينة إلى الجزار، اعترافا منهُ بالهزيمة، وإجلالًا وإكبارًا للمدينة"! فكيفَ لشرطيٍّ أن يكونَ مُثقفًا بهذه الثقافة، ويتحدّث بهذه اللغة، ونحن نعرفُ رجالَ الشرطةِ عندنا؟
وحوارٌ آخرُ غيرُ مُقنِعٍ ص120 بينَ الرّجلِ والطفليْن، "فيَسأله: كيفَ عرفتَ أنّنا هنا؟ سألتُ وأنا أتلاعبُ ما بين الرغبة في معرفةِ طريقةِ تفكيرهِ، وتأجيل الآتي القاتم، فرأيتهُ يَنظرُ نحوي وهو يُلوّحُ بالمُسدّس باتّجاهي: تبعتكما هكذا، بكلّ بساطة كنتُ أعلمُ أنّكما لن تلبثا طويلًا بعيدًا عن المغامرة. إنّها جزءٌ من طبيعتِكما، وحين رايتكما تدخلان  ...........،   شكرًا لكما أيّها المُغامرانِ الصّغيران".
وأيضًا ص121: "أريدُ أن أسألك.. هناك أمرٌ واحدٌ يُحيّرني، لماذا تركتَ المنارةَ في تلك الليلة .... الخ"؟ حواراتٌ من هذا النّوع تدلُّ على أن أطفالًا في عمر عشر سنوات، مِن المستحيل أن يدخلوا في حواراتٍ بهذا الشكل والعمق، وكذلك تصرّفُ فارس ص124 ومحاولته أن يَضربَ الرّجلَ بقنديلٍ، ويوقِعه على الأرض، فكيف هذا الأمر يستوي مع ضخامة الرّجل؟ وغيرها مِن المشاهدِ لم تكن مُقنِعة لي على الأقلّ، وكانَ يُفضّلُ لو أن د. أحمد سليمان أعطى للطفليْن حقّهما في التعبير عن طفولتِهما، وأن يكون هناكَ نوعٌ مِن البراءة والعفويّة في الحديثِ والأسلوب، وأن يكون دفاعُهما عن أنفسهما بشكلٍ طفوليّ، كأن يُفركشا الرّجل بأرجلِهما مثلًا، ولكن أن يَدخلا معهُ في حوارٍ عقلانيٍّ وجدّيّ؟ كان هذا غيرَ مُقنع!
إذًا؛ الأسلوبُ اتّبعَ السّرديّة بمستوى واحدٍ، دون الأخذِ بالحسبان الشّخصيّاتِ المُختلفةِ للأطفالِ والرّجل والقاتل، فأعتقدُ أنّه يجبُ أن يختلفَ الأسلوبُ في إنتاجٍ آخر، وكذلك علينا أن نُعطي الشّخصيّاتِ الثانويّة أيضًا دوْرًا أكبر في بلورةِ الحدَث، فمثلًا فارس وصلاح طالبان في المدرسة، وفجأةً انقطعَتْ أخبارُهما المدرسيّة، فأين المدرسة والأهلُ، حين يخرجُ الطفلانِ صباحًا للبحثِ عن الرّجل، ويحاولانِ الإيقاع به، فماذا مع أسابيعَ تتوالى ولا نسمعُ أيّ خبرٍ بالنّسبةِ لدراستِهما، مع أنّ والدَ صلاح كان مُهتمًّا بتعليمِ ابنِهِ، فهذا الجانبُ كان مِن الأخطاءِ التي كان يجبُ التنبُّه إليها ونأخذها بالحسبان، حتّى تكون الرّواية مُقنِعة للقارئ، وليجدَ فيها الصّورة الكاملة، والحدَث نفسه وأهمّيّته في إعادةِ الاهتمام بعكا، وقبّعة نابليون كانت لفتة جميلة مِن الكاتب، إذ تحدّث عنها التاريخ كلّهُ، ولم يسألْ أحدٌ ما نوع القبّعة، وما مصيرُها وأين اختفت؟ هل مُزّقتْ، سُرقت، هل مَن احتفظ بها أو الخ...؟ أعتقدُ أنّ هذه الرّواية أعطتْ لهذا الرّمزِ مِن أيّام نابليون أهمّيّة، قد تُثيرُ اهتمامَ الآخرين بتناوُلِ النّوع في أعمالٍ أخرى. بشكلٍ عامّ أقيّمُ الرّواية بجيّدة جدّا، وكانَ بالإمكان أن تحصلَ على تقييمٍ أعلى، لو تفادى وتجاوَز د. أحمد سليمان بعضَ الهفواتِ الطفيفة! 
جاءَ في مداخلةِ الأديب نظير شمالي: رواية "فارس الثَّلاج" للفتيان، تقعُ في (128) صفحة مِن القَطْع الصّغير، وكأنّي بأديبنا د. أحمد سليمان قد أرادَ بإصدارِهِ الجديدِ هذا، أن يَسدَّ ولو فراغًا مُتواضِعًا في نِتاج أدبنا المَحلّيّ المُخصَّصِ لهذه الفئةِ العُمَريّة.
*شيءٌ عن نقدِنا المَحلّيّ الّذي ضاقَ حتّى ضُيّقَ وحُجبَ: إنّ كثيرًا مِن نقدِنا الأدبيّ المَحليّ قد تمَحورَ للأسف الشديدِ، منذ عقودٍ مُتراكمةٍ حولَ عددٍ محدودٍ ضيّقٍ مِن كُتّابِنا المَحليّين، وذلكَ لاعتباراتٍ شخصيّةٍ بحتة، الأمرَ الذي أعطى الشعورَ لدى القارئ عندنا وفي العالم العربيّ أيضًا، بأنّ هذهِ الكتاباتِ الّتي تمحوَرَ حولها النّقدُ، هي فقط الّتي تُمثّلُ أدبَنا المَحلّيّ، وهي الّتي تَستحقُّ أن تُقرأ دونَ غيرها! هذا التّقصيرُ يَدينُ عددًا كبيرًا ممّن يَتعاملونَ بالنقدِ الأدبيّ عندنا، الّذين يتعاملونَ مع فئةٍ ضيّقةٍ في إنتاجنا الأدبيّ، ولا يَرَوْنَ إبداعًا أدبيّا إلّا في حَفنةٍ مِن هؤلاءِ الكُتّاب شِعرًا ونثرا، فكتبوا وكرّروا، حتّى أرى أنّهُ يَصدُقُ في هذه الظاهرةِ المُتفشّية عندَنا قولُ النّاقد اللبنانيّ مارون عبّود: "عَمّتْ حتى خَمّتْ"! هذا قصورٌ مَعيبٌ مُتراكمٌ فاضحٌ في حركتِنا النقديّةِ المَحليّة، والّتي كانَ بمقدورِها أن تضطلعَ بدوْرٍ رياديّ أوسعَ، في رصْدِ إيجابيّاتِ وسلبيّاتِ أَكبر عددٍ مِن كِتاباتِنا الأدبيّة، لكي تنهضَ حركتُنا الأدبيّة وبكلِّ أطيافِها، وبمُختلف تيّاراتِها وانتماءاتِها السّياسيّةِ والاجتماعيّةِ والثقافيّةِ وأساليبِها وأفكارِها، وللموضوعِ حاجةٌ قصوى إلى الإفاضةِ والتّفصيلِ في مَقامٍ آخر.
*الصَّديقُ الأديبُ العَكّيّ د. أحمد سليمان مِن أهمّ الأصواتِ الأدبيّةِ الجادّةِ والبارزة، والّتي تفرضُ حضورَها وتَميُّزَها في ساحةِ أدبِنا المَحلّيّ، والّتي تُضاهي بمستواها، بل تتفوّقُ على العديدِ مِن كتاباتِنا الأدبيّةِ المَحلّيّةِ التي صَفّقَ ويُصفّقُ لها الكثيرونَ مِنَ المُصفّقينَ تصفيقًا حادّا كادَ يَصُمُّ الآذان، ويكادُ لا يَنتهي كقصّةِ إبريق الزيت، أو قصص أَلف ليلة وليلة! وإلّا، فما معنى أن يقومَ د. أحمد سليمان، وعلى مَدار أكثر مِن رُبع قرن بالكتابةِ، وإصدار عشرين إصدارًا أدبيًّا في القصّةِ القصيرةِ والرّوايةِ والمسرحيّةِ وقصصِ الأطفال، فتُطلقُ كتاباتِهِ في القصّةِ القصيرة والرّوايةِ أصداءً واسعة طيّبة لدى القُرّاء، وتفوزُ مسرحيّتُهُ "سقوط إسبارطة" بالجائزة الأولى لدى مسرح الميدان، وتتداولُ مُربِّياتُ روضاتِ الأطفالِ عندنا قصصَهُ المُكرَّسةَ للأطفال بالآلاف، وتُقبلُ دُورُ النشر المُختلفةِ على تَلقّفِ كُتبِهِ وإصدارها، ومع ذلك، فإنّ عددَ المَقالاتِ والدّراساتِ الّتي تَناولتْ كلَّ كتاباتِهِ، لا تتجاوزُ عددَ أصابع اليد الواحدة. نحن بصددِ كاتب جيّدٍ له تجاربُهُ الثّريّة، وحضورُهُ البارز، وليسَ مُبتدئًا ما زال يتلمّسُ أولى خطواتِهِ في عالم الأدب! إنّ هذا أمرٌ غريبٌ مُستهجَنٌ ومَعيبٌ مِن أهل النقدِ عندنا. نحنُ أمامَ كمٍّ كبيرٍ مِن النقدِ المُتمترسِ في خنادقَ محصورة، يأبى الخروجَ منها إلى سِواها! ونحن على يقينٍ مِن أنّ الموهبة الجيّدةَ المُتميّزة هي التي تفرضُ حضورَها أوّلًا وأخيرًا في عالم الأدب وغيرهِ، وتجاهُلُ النّقدِ والنّقّاد لها لا يَستطيعُ بحالٍ مِن الأحوالِ أن يُقزّمَها ويَطمسَها إلى الأبد، أمّا زبدُ الأدب فيَتطايرُ فقاقيعَ فارغة في فضاءِ الأدب، وإن بدَتْ زاهية الألوانِ مُتراقِصةً مُدلّلة مُتهادية في فضاءِ النقدِ الأدبيّ، الّذي يُحاولُ جاهدًا أن يُعطِيَ بعضًا منها حجمًا أكبرَ مِن حجمِها الحقيقيّ، فلا تتركُ في نهايةِ المَطافِ إلّا الفراغ، ولا شيءَ غيره، وكما تقول الآية الكريمة: "فأمّا الزّبد فيذهبُ جُفاءً".
*النَّقصُ في أَدب الفِتيان لدينا: ما زلنا نُواكبُ الحركةَ النّشطة في إصدارِ المُؤلّفاتِ المُخصّصةِ لأَدب الأطفالِ شِعرًا ونثرًا، ولندَعِ الآن جانبًا قضيّة جوْدتِها، ذلك الأدبُ المُخصّصُ لأَطفالِنا في سِنّ مُبكّرةٍ وما بَعدَها بسنوات، غيرَ أنَّنا نُلاحظ، وأمامَ هذا الكمّ الهائلِ مِن الإصدارات، نُدرةَ المُؤلفاتِ المُخصّصةِ لأَدب الفِتيانِ الّذين كادوا يتخَطّوْنَ مرحلةَ الطّفولةِ المُتأخّرة! هنا نجدُ فرقًا هائلًا جدًّا بيِّنًا في الكمّ والاهتمام بهذا الأدب، وكأنّنا نقولُ في هذا المقام لهؤلاء الفتيةِ مِن أبنائِنا فلذاتِ أكبادِنا: لقد كتبْنا لكم الكثيرَ مِنَ الأدب المُناسِب لسِنّكُم المُبكّرة وما بَعدَها بسنوات.
* تعريف وترجمة حياتيّة لد. أحمد سليمان: وُلد في مدينة عكّا عام 1960، لأبٍ مِن مَواليدِ قرية "علما الخيط" المُهجَّرة والمُدمّرة، القريبة مِن مدينةِ صفد في الشمال. تعلّمَ في مدارس عكّا، ثمَّ تابعَ دراسة طبّ الأسنان في رومانيا، وأنهى دراسته عام 1985، ومِن آثار قلمه: قصص قصيرة "أنا وملوك الأزقة" 1992- "الياطر" للدعاية والنشر والإنتاج- عكا"، والأطرش والخريف"- 2008 (مؤسّسة الأسوار- عكا). رواية "العكروت" عن دار عكا للنشر والتوزيع- عكا (1998)، رواية "الدّمية والظلال" عن مؤسّسة الأسوار- عكّا (1999)، رواية "شاعر رغم أنفه" عن مؤسسة الأسوار- عكّا (2001)، رواية "العنفقة" (2006)، رواية "دْراع الواوي" (تحت الطبع)، مسرحيّة "صرخة" (وقد قامت بتمثيلها مجموعة من الشبان العكيين فوق خشبة مسرح الأوديتوريوم في عكا)، مسرحية "مطران العرب" (حائزة على جائزة مسرح الميدان)، مسرحية "سقوط إسبارطة" (حائزة على جائزة مسرح الميدان- حيفا)، مسرحية "شرشر وجرجر" (مسرحية للأطفال)، ومن قصص الأطفال "الأميرة والجُندب"- ط2/2010 (عن دار الهدى). "صديقي الكتاب" عن دار الهدى (2010). "أبو الشوارب" عن مركز أدب الأطفال- الناصرة (2003). "صورة عائليّة" عن مركز أدب الأطفال- الناصرة. "الأرنب زرزور"، "مملكة الفرسان" إصدار جمعيّة الإثراء التربويّ- عكا (2003)، "الدّودة ودودة" إصدار مركز ثقافة الطفل/ مؤسسة الأسوار- عكا (2007)، "أجمل الأَطفال" إصدار مركز ثقافة الطفل/ مؤسّسة الأسوار- عكا (2008)، "المسحّر الصّغير" (أسطوانة غنائيّة)، وكذلك أسطوانة مدمجة مترجمة عن اللغة العبرية، وكتاب مرشد للمربيات "نزهر في البستان" صادر عن وزارة التربية والتعليم، بالإضافة الى العديد من المقالات والدّراسات المختلفة.
*بحث وتنقيب واستطلاع لآراءِ جمهورِ الهدف: لعلّهُ مِن سِرّ نجاح أديبنا في أعمالِهِ الأدبيّة المختلفة:      1* قيامُهُ بتحضيرِهِ للأرضيّة العلميّةِ والتاريخيّةِ والاجتماعيّةِ لمواقعِ وأحداثِ روايتِه، فقد أمضى وقتًا ليسَ بالقصيرِ في البحثِ والاستفسارِ والتنقيب عن بعضِ المعالم العكيَّةِ والأحداثِ المُتعلّقةِ بمدينةِ عكّا: أم أربعة وأربعين أوضة (برج الكومندار)، حملة نابليون (1799م)، المنارة، المزولة، ...إلخ. وهذا النّهج هو ذاته الذي أعرفُهُ عن أديبنا د. أحمد سليمان في جميع أعمالِهِ الأدبيّةِ المختلفة. 2* مِن المعروفِ عن أديبنا أنّهُ يُعطي النّصّ المُخصّص للأطفال (قبل دفعه الى المطبعة) لعددٍ من الأطفال ليقرأوهُ ويتفاعلوا معه، ثمَّ يستطلعُ آراءَهم، ويُدوّنُ مُلاحظاتِهم قبلَ الشروع بنشرِ نصّهِ الأدبيّ بصورةٍ نهائيّة، فهو يَعتقدُ اعتقادًا جازمًا أنّهم الفئة العُمريّة الأقدر على الحُكم على مِثل هذه النّصوص المُخصّصة لهم، وهو أمرٌ في غاية الأهمّيّة، ولهُ مردودٌ إيجابيّ كبيرٌ على جودة النصّ، ومدى ملاءمتِهِ لجمهورِ الهدف.
*موضوع الرِّواية: بطلا القصّة الرّئيسان شابّان عكيَّان في مقتبلِ العمر: فارس الثلّاج، وصديقُهُ وابنُ صفّهِ سابقًا صلاح بن بائع الفلافل، حيثُ امتهنَ كلُّ واحدٍ منهما مهنةَ أبيهِ.  القصَّة تبدأ مِن نهايتِها، قبلَ موتِ فارس الثلّاج الّذي أضحى عجوزًا أنهكَتْهُ السّنون، وهدَّهُ الإعياءُ والمَرضُ، ليُفصِحَ لصديقِهِ قبلَ موْتِهِ عن سِرِّ قضائِهِ على المُجرم القاتل.  وتعودُ الذّاكرةُ إلى أيّام الشّباب، عندما قرّرا ذاتَ يومٍ الذّهابَ في رحلةِ صيدٍ مَسائيّةٍ إلى الشّاطئ العَكّيّ حيثُ السّرطاناتِ البحريّة، وهُما يَحملانِ كيسيْن مِنَ الخيش. يتأخّرُ الصَّديقانِ بعدَ اصطيادِهِما السّرطاناتِ البحريّة (الدِّبيّات)، ليَعودا بعدَ أن كادَ اللّيلُ يَنتصفُ، وذلك في خِضَمّ الظّلمةِ الحالكةِ، والسّكونِ المُطلَقِ الذي يَقبَعُ فوقَ أزقّةِ المَدينة القديمة. ومِن هناكَ يَبدأ لقاؤُهُما مُصادفةً، بحدَثٍ غيّرَ مَسارَ حياتِهما: "عندَ مدخلِ السّوق، ومِن وسطِ الصّمتِ المُطبَقِ على المكان، سمعنا صوتًا غريبًا.. صوتَ طرقاتٍ مُتتالية: تك..تك..تك.. كانتْ طرقاتٍ رتيبةً وخفيفة.. اقتربت الطّرقاتُ منّا.." (ص16). ويُتابعُ الكاتبُ: "في نهايةِ الزّقاقِ ظهرَ ظِلُّ شخصٍ يَتمايلُ بشكلٍ غريب، تارةً نحوَ اليمين وتارةً نحوَ اليسار. لم يكنْ ثمِلًا، فهذا ظِلُّ رجُلٍ يتحرّكُ بهذا الشّكلِ قصدًا، وكأنّما شيءٌ يُعيقهُ عن الحركة.  مددتُ يدي بسرعة، وسحبتُ فارس مِن ذراعِهِ، وانزوَيْنا في عتمةِ مَدخلِ أحدِ البيوت. كادَ قلبي يَقفزُ مِن شدّةِ الخوف، فهمَستُ في أذن صاحبي:- ما هذا؟ إنّه شبح! -لا تتحرّكْ! لن يرانا هنا. سنغمضُ عيونَنا.. لن يَرانا! اقتربَ الظّلُّ المُتمايلُ أكثرَ فأكثرَ. كانَ يَحملُ شيئًا طويلًا في يدِهِ، يَضربُهُ على الأرض، فيُصدِرُ صوتًا رتيبًا ومُزعِجًا: تك..تك.. تك.. إنّهُ صوتُ عكّاز.  نظرْنا أنا وفارس نحوَ بعضِنا البعض، كُنّا أشبهَ بالبُلهاء. إنّهُ رجُلٌ عجوزٌ أعرجُ، يَتّكئُ على عكّازِهِ. وحينَ أدركْنا الحقيقةَ وقرّرنا مُتابعةَ السّير، حدَثَ ما لم يكُنْ مُتوقّعًا: مِن خلفِ العجوزِ الأعرجِ ظهَرَ ظِلٌّ أسوَدُ، ظِلُّ رجُلٍ قويٍّ لحِقَ بالعجوزِ بسرعةٍ، ثمَّ ضربَهُ بقوّةٍ على رأسِهِ.
سقطَ العجوزُ على الأرضِ وسطَ الزّقاقِ. كتمتُ صرختي، ونظرتُ إلى فارس، فرأيتُهُ يَعُضُّ على يدِهِ مانعًا نفسَهُ مِنَ الصّراخ.  انحنى الرّجُلُ فوقَ العجوزِ وراحَ يُفتّشُ ملابسَهُ. كانَ العجوزُ الأعرجُ يُحاولُ المُقاومة، ولكن دونَ نجاح. كانتْ معركتُهُ خاسرةً، بينما كنّا نحنُ كالمَشلولينَ مِن شِدّةِ الرّعب، وفجأةً، سقطَ الكيسُ مُصْدِرًا ضجيجًا عاليًا مَزّقَ سُكونَ اللّيل! سمعَ الرّجُلُ القويُّ الضّجّة، رفعَ رأسَهُ وتلفّتَ يَبحثُ عن مَصدرِها، ومِن بعيدٍ صوّبَ نظرَهُ نحوَنا! -إنّهُ يَرانا! همَسَ فارس وهو يَرتجفُ!  وقفَ الرّجُلُ القويُّ، خطا خطوةً صغيرةً في اتّجاهِنا. إنّهُ مُتأكّدٌ مِن وُجودِ شخصٍ ما في الزّاوية. يجبُ عليهِ التّحرُّك سريعًا! ارتختْ عضلاتي، أحسستُ بالخوفِ يَخنقُني. مالَ فارس نحوي يُحاولُ الإمساكَ بكتفي، وكأنّهُ يَمنعُ نفسَهُ مِنَ السّقوط، فأفلتَ كيسَهُ مِن يدِهِ كذلك، وراحتِ السّرطاناتُ تتراكضُ في كلِّ اتّجاه" (ص17-18). وقبلَ أن يَلفظَ الرّجُلُ العجوزُ الضّحيّةُ أنفاسَهُ الأخيرة، ترَكَ للفتيّيْنِ إشارةً؛ مِفتاحًا للسّرّ. وتتسارعُ الأحداثُ وتتداخلُ، ويُلاحقُ القاتلُ الصّديقيْن الشّابّيْنِ مُلاحقةً مُشدّدةً، ابتغاءَ مُساعدتِهِ في حَلِّ اللّغزِ ومعرفةِ مَكانِ الكنزِ المَدفون.
 وتكِرُّ الأحداثُ شادّةً أعصابَ القارئ، وتتشابكُ معَ الحياةِ العائليّةِ الخاصّةِ لشخصيّاتِ الرّوايةِ ومشكلاتِهم الاجتماعيّةِ في البيت. وفي نهايةِ هذه الرّوايةِ المُثيرةِ يَكشفُ فارس الثلّاج سِرَّ القضاءِ على المُجرمِ القاتل، وكيفيّةِ قتلِهِ في المَبنى الصّليبيّ الذي يَقعُ أسفلَ المَباني العثمانيّة.
**عنصرُ الإثارة والتّشويق: الرّوايةُ تشُدُّ أعصابَ الكبيرِ والصّغيرِ منّا على حدٍّ سواء، مُفعمةٌ بعنصرِ الإثارةِ والتّشويقِ مِن بدايتِها وحتّى نهايتِها، وهذا العنصرُ مِن أهمّ أركانِ نجاحِ كلِّ عملٍ أدبيٍّ، لأنّ كلَّ عملٍ أدبيٍّ يَخلو مِن الإثارةِ والتّشويق، ولا يَدفعُ القارئَ إلى مُتابعةِ قراءتِهِ برغبةٍ جامحةٍ، بل يَدفعُهُ إلى المَللِ والعُزوفِ عن مُتابعةِ قراءةِ نَصٍّ أدبيٍّ مُفلِسٍ خائب، ومِنَ الأَوْلى أن يَبقى قابعًا في دُرجِ كاتبِه، وتتجلّى الإثارةُ والتّشويقُ في كلِّ صفحاتِ الكتاب، واكتُفِيَ هنا بالإشارةِ إلى ثلاثةِ نماذجَ فقط مِن هذه الرّواية:
1* مَشهدُ وقوعِ بطلِ القصّة "صلاح" في الميناءِ بينَ أذرُعِ أُخطُبوطٍ هائلٍ ضخمٍ وصِراعِهِ معهُ بوحشيّةٍ، وهو مِن أقوى مَشاهدِ الرّوايةِ وأرسَخِها في ذاكرةِ القارئ (ص65-68).
2* مشهدُ تنكُّرِ المُجرمِ القاتل بزيِّ صيّادٍ عكّيٍّ عجوزٍ في حدَثٍ مُفاجئٍ مُرعبٍ، في مَركَبِ أحدِ الصّيّادينَ العكّيّينَ في الميناء. (ص53- 62).
3* مَشهدُ التقاءِ بطَلَي القصّة القاتلَ في قاعةِ الكريبتا: "وقبلَ أن أجيبَ، حصَلَ ما كنتُ أخشاهُ! فقدِ اشتعلَ أمامَنا عودُ ثقابٍ، أشعلَ بدوْرِهِ لفافةَ تبغ جديدة! إنّهُ القاتلُ، يُعْلِمُنا بوجودِهِ! ثمَّ تحرّكتْ شعلةُ الدّخانِ باتّجاهِنا. وفي آنٍ واحدٍ علتْ في فضاءِ القاعةِ ثلاثةُ أصواتٍ خافتة: خطواتُ الرّجلِ الزّاحفِ نحوَنا، وصوتُ صريرِ أسنانِ فارس، وأخيرًا صوتُ نبضاتِ قلبي تكادُ تخترقُ صدري وتُمزّقُهُ مِن شدّةِ الخوف!" (ص114).
** الوصف: أجادَ د. أحمد سليمان في وصفِ شخصيّاتِهِ وأحداثِهِ. ومِن هذهِ اللّقطاتِ الوصفيّة فيقول (ص6):              1* وصف فارس الثلاج: "بعدَ لحظاتٍ قليلةٍ دخل، سقطَ ضوءُ المنزلِ عليه. كانَ وجهُهُ ممتقِعًا، وعيناهُ غائرتيْنِ مُتّشحتيْنِ بالصّفار، وهالةٌ سوداءُ قاتمةٌ تُحيطُ محجريْهما. كان شكلُهُ مُرعبًا. وقفتُ، ثمَّ اقتربتُ منهُ وأنا أمُدُّ لهُ يدي". ويُتابعُ وصفَهُ: "كانَ العجزُ باديًا عليهِ، وكأنّ السّنواتِ السّبعينَ الّتي عاشَها سقطتْ فجأةً فوقَ كاهلِهِ دونَ أيِّ إنذارٍ فحنتْهُ، وتمرّغتْ على صفحاتِ وجهِهِ وجعّدَتْهُ. هذا رجُلٌ نضُبَتْ شهيّتُهُ للحياة".
2* وصفُ عربةِ فارس الثلّاج: "كانَ والدُهُ يَمتلكُ عربةً يجُرُّها حصانان، والعربةُ عبارةً عن صُندوقٍ ضيّقٍ ومُرتفع، ليتسنّى لهُ الولوجُ عبرَ أزقّةِ البلدةِ القديمة، فكانَ أشبهَ بعربةِ القطارِ الممطوطةِ الّتي تحملُ فوقَ رفوفِها الدّاخليّةِ قوالبَ الثّلج الّتي يُحضِرُها مِنَ المَصنع، ويدورُ ليَبيعَها للمحالّ والبيوت، بينما غطّى الصّندوقَ قشرةٌ معدنيّة مِن مادّةِ التوتياء، لتساعدَهُ على حفظِ برودةِ القطار العجيب" (ص7).
3* وصفُ القاتل: "كزَّ الرّجُلُ على أسنانِهِ. وصَلَ الصّريرُ إلى مَسامع فارس فجَفلَ! واشتدّتْ حدّةُ الصّرامةِ فوقَ تقاطيع وجهِهِ. كانَ الرّجُلُ أسمرَ اللّون بعيْنين سوداويْن ضيّقتيْن، وأنفٍ أقنى شديدِ البروزِ لا يَتماشى مع مبنى فكّيْهِ العريضيْن، وفوقَ خدّيْهِ نتأتْ وجنتانِ حادّتان اخترقتْ إحداها ندبةٌ قديمة امتدّت مِن زاويةِ عينِهِ اليُمنى، نُزولًا حتّى طرفِ أرنبةِ أنفِه" (ص37).
4* قولُ فارس: "إيه أيُّها البحرُ، إيه أيُّها الصّديقُ المالحُ، يا مَن تُخبّئُ في أعماقِكَ خبايا الحياةِ وجميعَ أسرارِ العابرينَ فيها، ألا تبوحُ لنا أيُّها الكائنُ العظيمُ، بما تعرفُهُ لنرتاحَ!" (ص73).
**اللُّغة: لغةُ الكاتب في جميع كتاباتِهِ نابضةٌ بالحياة، فيها سهولةٌ وحيويّة، مُطعّمة ببعضِ مفرداتٍ ومصطلحاتٍ عامّيّة هنا وهناك، "تلقيم القهوة" (ص5)، و"عصافير الجوع تزعق في بطني" (ص12).
**الاسترجاع (الفلاش باك): يَستخدمُ الكاتبُ هذه التقنيّةَ في حبكةِ روايتِهِ في سرْدِ بعضِ أحداثِ الرّواية، كما حدَث- مثلًا- في بدايةِ الرّواية وخاتمتِها.
**معالم وملامح عكيّة: أحسنَ الكاتبُ صُنعًا في رفدِ روايتِهِ هذهِ بالعديدِ مِن: أسماءِ المَعالمِ والنّماذجِ البشريّةِ، وبعضِ الأحداثِ العكّيّةِ، وبعضِ مُصطلحاتِ أهلِ مدينةِ عكّا، نحو: جامع الجزار (الحرم، المَيضأة، قبر الجزّار، وربيبه سليمان باشا العادل، المِزولة، أمّ أربعة وأربعين أوضة، الأسوار، المنارة (برج الذبابة)، الميناء، السوق، راهبة الدير العجوز "السير جينيفييف"، الدِّبيّات، حملة نابليون،... الخ.
*ملحوظة مشفوعة بالتّمني: كنتُ أتمنّى على المؤلّفِ أن يُلحِقَ بكتابهِ بعضَ الرّسومِ المُتعلّقةِ ببعضِ المَواقفِ والأحداثِ والأوصافِ الواردةِ في روايتِهِ، حيثُ يتمّ حينئذٍ ربْطَ التّعبيرِ الكتابيّ الكلاميّ للمؤلف، بالرّسوم التّوضيحيّةِ المُلائمة للرّسّام، فتُقوّي انطباعَ الكلام بالرّسوم في ذهن القارئ، وأرجو أن يكون ذلك في طبعة تاليةٍ للكتاب. هنيئًا لأديبنا د. أحمد سليمان بعكَّاه الرّائعة الصّابرة التي يَعشقها، وهنيئًا لعكّا بابنِها الأديب البارّ، وبإسهاماتِهِ الجيّدةِ المميّزةِ بهذا العملِ الأدبيّ الرّائعِ، (وأعمالِهِ الأدبيّة السّابقة) في أدبِنا الفلسطينيّ خاصّة، وأدبنا العربيّ عامّة.



136
أدب / يَابِسَةٌ.. سَمَاوَاتِي
« في: 22:46 26/04/2015  »


يَابِسَةٌ.. سَمَاوَاتِي



 
آمال عوّاد رضوان



هَا سَمَاوَاتِي يَابِسَةٌ
أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي
أَأَظَلُّ.. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟
أتَظَلُّ أَحْلَامِي مُعَلَّقَةً..  بَــ ~~ يــْـ ~~نَ .. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ
وَأَقْدَامي تَتَعَثَّرُ..  بَــ ~~ يــْـ ~~نَ .. جُدْرَانِكِ الــ تَتَهَاوَى!
***
عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ مُضَمَّخٍ بِالدَّهْشَةِ
ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي .. صَدًى
لِأَرْسُمَ.. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى
***
قَلْبِي..  يَــــكْـــــــبُــــــــــــــــرُ  بِكِ
وحينَ يَـ~جْـ~ـمَـ~ـحُ شَجْوا
تَــــتَـــيَـــقَّـــظُ .. ثُغُورُ رَبِيعِي الــ غَفَا
***
مَبْسُوطَةً .. تَمْتَدُّ رَاحَةُ فَجْرِكِ
مُخَضَّبَةً.. بِحَنَانِ أَنَامِلِكِ الظَّمْأَى
وحِينَ أَلْثُمُهَا.. يَتَّقِدُ عَبَثِي
***
عَلَى شَفَتَيْكِ .. أَعْزِفُ ابْتِسَامَتِي
وأغذو وَارِفَ الْمَدَى
أَلا يَـــــتَّـــــــــسِـــــــــــعُ.. لِأَوْتَارِكِ الْبَحْرِيَّة؟
***
كأنَّ حُبِّي وَهْمٌ
 كَإلهٍ
إنْ لَمْ يَتَجَسَّدْ؟!
***
دَعِي ظِلالَنَا النّائِحَةَ.. تُلَامِسُ الْأَرْضَ
 فَلَا نَبْقَى مُعَلَّقَيْنِ
بِحِبَالِ الضَّياع!
***
جَــمَــالُـــكِ.. لَا تُثْمِلُهُ أَمْوَاجِي
وَحْدَهَا أَعْمَاقِي .. تُسْكِرُ نَزْفَ أَنفاسِهِ!
***
وَجَــــلَالُـــــكِ
مِنْ هُوَاةِ الزَّرْعِ وَالسَّوَاقِي.. أَنَا
 وَأَطْيَبُ أَحْلَامِي.. مَا كَانَ فِي بَطْنِ سَاقِيَةٍ ضَيِّقَةٍ
تَوَقَّفَ فِيهَا الْمَاءُ هُنَيْهَةً!
***
أنا.. مَا كُنْتُ مِن رُعَاةِ الْغَيْمِ وَالسَّمَاوَاتِ
فَــ.. أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ.. بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ
فِي  أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ
***
سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ.. انْطَفَأَتْ
مُنْذُ .. أَلْفَ عامٍ.. وَغَيْمَة
وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي .. تَتَحَجَّبُ
خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ
***
دَعيني.. أَكْمِشُ بَعْضَ بُرُوقِكِ
واُغْمُريني.. بحَفْنَةٍ مِنْ كَلِمَاتِكِ
لِأَبْقَى.. عَلَى قَيْدِ الْبَرْقِ
***
لِأَبْقَى.. مُضَاءً بِكِ حَدَّ الْهَرَبِ
صَوْبَ غَيْمِكِ.. جِهَةَ ضِفَافِ الْحَيْرَةِ
أَرِفُّ.. أَتَلَأْلَأُ.. وَيَفُوحُ عُشْبِي.. بَلَلًا!
إِلامَ أَبْقَى عَائِمًا..عَلَى وَجْهِ وَجَعِي
تُلَوِّحُنِي الرَّغْبَةُ.. بِيَدَيْنِ مَبْتُورَتَيْنِ؟
*** 
صُدَاحُكِ .. شَهِيًّا يَتَعَالَى
يَجْرِفُ سُيُولِي بِشَغَفٍ .. إِلَى مُدُنِ خَيَالِي!
صَوْتُكِ.. يَأْتِينِي
مُتَلَبِّدًا.. بِجَفَافِ شَوْقِي اللّاهِبِ
مُبَلَّلًا.. بِشَظَايَا آهَاتِي
***
رُحْمَاكِ.. أَدْخِلِينِي غَيْمَةً شَهِيَّةً
وَبِلَمَسَاتِكِ الْمُضْرَمَةِ بِالرَّغْبَةِ
أَمْطِرِينِي
***
لِيَحْمِلِ النَّاسُ الْمِظَلَّاتِ
فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ
عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ.. بِلَا مَصَابِيح
***
سَأَجْعَلُ الْغَيْمَةَ
حُـــــبْــــــــــلَــــــــــــــــى .. بـــِشُــــمُــــوخِــــكِ
أَحْرُسُهَا.. أَنَا رَاعِيهَا
***
وسَاعَةَ الْوِلَادَةِ
أَهُشُّ عَلَى غيمك.. بِعُكَّازِي
وَبِلَا آلَامٍ .. يَأْتِيهَا الْمَخَاضُ يَسِيرًا
***
كَرِيحٍ .. تَنْثُرِينَ الشَّهْوَةَ هَسيسَ نَشْوَةٍ
في أَعْــمَــاقِــي
وقَدُّكِ.. مِنْ كُلِّ أُفُقٍ فَجٍّ.. يَجْلِبُ لِيَ الْمَطَرَ
***
دُونَ نُضُوبٍ .. تَسْفُكُنِي ذَاكِرَتِي
عَلَى مَسَامَاتِ احْتِرَاقِي
وَأَظَلُّ فضاءَكِ المُشَرَّعَ.. عَلَى قَيْدِ الاشْتِعَالِ
***
تُقَاسِمِينَنِي صُورَتَكِ الــ تُثِيرُ فِيَّ
كُلَّ حِرْمَانِي
وكَفَرَاشَةٍ .. أَحْتَرِقُ بِرَحِيقِ هُيَامِكِ!
***
أَغُورُ .. فِي صَخَبِ لِسِانِكِ
أُسْرِفُ.. فِي اشْتِهَاءَاتِهِ الْمُعَتَّقَةِ
وأَغُوصُ.. فِي صَرْخَتِكِ النَّقِيَّةِ
***
فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ.. أَسُووووووحُ
فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا.. يَتَّقِدُنِي
وَأَذْرِفُكِ عِطْرًا مُتَفَرِّدًا
***
بِمَفَاتِنِكِ ..  تَسْجِنِينَنِي
مِنْ لَدُنِ رُوحِكِ .. تَنْسِجِينَنِي
وَظــبـــيًـــا أَطْــفُــو
سَ~ا~ب~حً~ا
إلَى مَقَامِ الْهُيَامِ
وعَلَى أَجِيجِكِ الثّائِرِ
أُجِيدُ طُقُوسَ هُطُولِي 
           
نصٌّ من كتابي الشعريّ الآتي قريبًا


137
تكريمُ الأديبتين فاطمة ذياب وآمال غزال!

آمال عوّاد رضوان
تحت رعاية وزارة الثقافة في محافظة جنين، أقامَ منتدى الأديبات الفلسطينيّات/ جنين أمسية ثقافيّة فنيّة، في قاعة قرية حدّاد السياحيّة في جنين، لتكريم الأديبتين المبدعتين الشاعرة آمال غزال/ جنين، والروائيّة الأديبة فاطمة يوسف ذياب/ طمرة الجليليّة، وذلك بتاريخ 13-3-2015، وقد أدار الأمسية ليلة الجعبري، بمصاحبة  الفنان الشاب صالح شعبان عازف العود، وسط حضور العديد من الكُتّاب والأدباء والشعراء والمهتمّين والأصدقاء، وقد قام منتدى الأديبات الفلسطينيات/ جنين باستضافة النادي النسائيّ الأرثوذكسيّ/ عبلين، وتنظيم نشاطات سياحيّة وثقافيّة في رحاب معالم محافظة جنين الأثريّة: الزبابدة، وعرّابة، وبرقين، وجنين.
بعد النشيد الوطنيّ أولى فعاليّات الأمسية، استهلّ الأمسية عزّت أبو الرُّب مدير الثقافة بكلمة افتتاحيّة، شكر فيها منتدى الأديبات الفلسطينيّات/ جنين، وكلَّ من قام وساهمَ في تنظيم وإنجاح هذه الأمسية واللقاء، من جمعيّاتٍ ومؤسّساتٍ وبلديّاتٍ، من أجل تعزيز التواصل، وحفاظًا على وحدة الشعب الفلسطينيّ وموروثه الثقافيّ، مؤكّدًا أنّ البقاءَ لفلسطين وللشعب العربيّ الفلسطينيّ، وليس بوسع أحد أن ينفيه أو يلغيه.
أمّا الزجّالة عائدة أبو فرحة؛ رئيسة منتدى الأديبات الفلسطينيّات/ جنين، بعد أن رحّبت بالحضور قالت: إن منتدی الأديبات الفلسطينيّات/ جنين كأنّه سفينةٌ تمخرُ عبابَ البحر المتلاطم بأمواجهِ العالية بثباتٍ، وتتحدّی الصّعاب وتتجاوزَ العقباتِ، لتصلَ إلی برّ الأمان، ولترسو في ميناء المَحبّة، مُحمّلة بما هو جديد من الجواهر التي جمعَها غوّاصوها، وأشكرُ كلَّ مَن يقفُ إلی جانبنا ويَدعمُنا، ويرصف طريقنا بالأمل، فمعًا ويدًا بيد نرفعُ راية الثقافة، وأشدّدُ مُجدّدًاعلى ضرورة تنظيم ودعم وتبادلِ المزيد من هذه اللقاءات.
وفي كلمة النادي النسائي الأرثوذكسيّ/عبلين، شكرت آمال عوّاد رضوان منتدى الأديبات الفلسطينيّات/ جنين، وثمّنت الدعوة الثريّة ببرامجها المنظمة الحافلة، وشكرت جميعَ المؤسّساتِ الداعمة التي استضافت الوفد، بحفاوةٍ تفوقُ التوقّعَ خلال يومين سياحيّين ثقافيّين، وبمنتهى التعاون الوطني الهادف والراسخ في جذور الانتماء والعطاء. أمّا الكاتبة فاطمة ذياب فقد شكرتْ كلّ مَن ساهمَ وشاركَ في تكريم االأديبات الفلسطينيّات، وعرّجت بعدَها على مسيرتها الأدبيّة والحياتيّة، وما واجهتهُ مِن صعوباتٍ في بداية طريقِها، ممّا جعلها تنقطعُ عن الكتابة لمدّةٍ تزيدُ عن عشر سنوات، وأضافت الكاتبة أنّها فخورة بما حققته من إنجاز أدبيّ كرائدة، إذ تُرجمَ أدبُها إلى لغات أخرى، ونوّهت بأنها تُجسّد ما تدعو إليه في كتاباتها الأدبيّة، وأضافت نكهةً ساخرةً، حين استرسلتْ في سرْدِها حولَ طفولتِها وعلاقاتِها الأدبيّة.
تخلّل الأمسية وصلة غنائيّة بمصاحبة الشاعرة الشعبيّة والفنانة عائدة أبو فرحة، وقراءات شعريّة : للطفلة روعة مالك قبها، الطفلة شام خالد ابو فرحة، عناية النجمي، آمال غزال، هشام أبوصلاح، أسماء أبوالرُّبّ، عبلة التايه، آمنه عمارنة وسوسن داوودي عبر الهاتف، ثم ألقى د. عمر عتيق دراسة نقديّة لرواية "مدينة الريح" للكاتبة فاطمة ذياب، ودراسة لديوان "فراشة الحواس" للشاعرة آمال غزال، وفي نهاية اللقاء قدّمت آمال عوّاد رضوان وعائدة أبوفرحة دروعًا، لجمعيّة (خطوة التنموية المجتمعية) في عرابة، وللشاعرة آمال غزال، وللناقد الباحث د.عمر عتيق، وللروائيّة فاطمة ذياب، ثمّ تم التقاط الصّور التذكاريّة.
قراءة سيميائيّة في رواية مدينة الريح للكاتبة فاطمة ذياب/ بقلم د. عمر عتيق
ينبغي الوقوفُ على عنوان الرّواية وغلافِها؛ لأنّ العنوان في المنظور السيميائيّ النقديّ يُشكّلُ عتبةً، يَستشرفُ منها القارئُ آفاقَ الرّواية، ويبدأ منها فهمُ البناء الفنّيّ للعناصرِ الرّوائيّة، فالعنوانُ إطلالةٌ لغويّةٌ تختزلُ عصارةَ الرّسالة، أو الغاية التي تنطوي عليها أحداثُ الرّواية. ولأنّ الغلافَ صورةٌ بصريّة وعلامة سيميائيّة تتعالقُ حتمًا مع دلالةِ العنوان، وأيّ انفصالٍ بينهما يُفضي إلى خصام بينهما وبين مضمون الرّواية، فالعملُ الأدبيّ ثالوثٌ إبداعيّ يتكوّن من عنوانٍ وغلافٍ ومضمون.
واستئناسًا بما نقدّم، فإنّ معنى المدينة في عنوان الرّواية (مدينة الريح) ليس مدينة بعينها، بل هي الوطنُ كلُه؛ الوطن بأطيافه الزمنيّة الثلاث، مجد الماضي ونزيف الحاضر وحلم المستقبل. ولعلّ أبرزَ الدّلالات الكاشفة عن معنى المدينة جاءت في الباب الأخير من الرّواية، في قول الكاتبة في تناصّ مع كلمات الأخويْن رحباني: (منّي منكم ألف سلام لمدينة الريح أهلِها وناسها وربعها، سلامي لكم يا أهلَ الأرض المحتلة، يا منزرعون في منازلكم، قلبي معكم وسلامي لكم). وقد تجاوزتْ دلالةُ المدينة في حنايا الرّواية الحدودَ الجغرافيّة المألوفة للوطن، لتشملَ المدينة الكونيّة، مدينةَ العدالة والحرّيّة، وربّما تكونُ المدينة الفاضلة. وقد تُجسّدُ هذه الدّلالاتُ الثلاث (المجدَ والنزيفَ والحلمَ) في غيرِ موضعٍ مِن الرّواية، وقد جاءَ الإهداءُ، وهو العتبة الثانية للرّواية مُنسجمًا مع هذه الدّلالاتِ في قول الكاتبة: (في مدينتي التي أُحبّها وأبحث عنها / في مدينتي المنهكة أكثر من جدّا). كما جسّدَ  المَدخلُ- وهو العتبة الثالثة للرّواية- التّمازجَ بينَ الدّلالاتِ الثلاث السّابقة، وجاءتْ كلمة "المدينة" مُضافةً إلى كلمة الريح، التي تدلُّ في السّياق الثقافيّ الموروث على حزمةٍ مِن الدّلالاتِ السّلبيّةِ، والشّحنات النفسيّةِ المُتوتّرةِ والمُرتقبة والمُخيفة أيضًا. ولا يخفى أنّ دلالة كلمة الرّيح في القرآن الكريم قد اختصّتْ بسياقِ العذاب والدّمار، فالرّيحُ في عنوان الرّواية ذاتَ دلالةٍ مُكثفةٍ ومبأرة، لأنّها تختزلُ مآسي الوطن (الوطن)  ماضيا وحاضرا. إنّها ريحُ الاحتلال والقهر والقمع، وجاءَ الكشفُ عن هذه الدّلالاتِ في الباب الأخير للرّواية في قول الكاتبة: (.. ما زلنا نملكُ الوقت كي نتحدّث عن الذين طاروا مع الرّيح، والذين أخذتهم الرّيح إلى زمن آخر.. ونتحدّث كذلك عن الذين وقفوا في وجه الريح، وظلّوا في مواقعِهم صامدين).
  أمّا غلافُ الرّوايةِ (لوحةٌ للشاعر الفنان د. سليم مخّولي)، فيُجسّدُ لوحةً تراثيّة تُعبّرُ عن ذاكرةِ الوطن، ويتحوّلُ المهباج (المهباش) في غلافِ الرّوايةِ مِن دلالتِهِ المألوفة، إلى دلالةٍ رمزيّةٍ تُجسّدُ الأصالة والبقاءَ والصّمودَ في المدينةِ أو الوطن، ويَرمزُ طولُ يدِ المهباج (المهباش) إلى الإرادة والصّمودِ والعنفوان، ودَلالاتُ المهباش تقفُ في مواجهةِ دلالاتِ الرّيح (الدمار/ الاحتلال/ الترقب..) وبهذا الرّبط يُصبحُ الغلافُ والعنوانُ ثنائيّةً دلاليّة تتوزّعُ في حنايا الرّواية؛ لأنّ مضمونَ الرّوايةِ مُؤسَّسٌ على ثنائيّةِ النكبة (الفجيعة) والحلم (اليقين بالخلاص والنصر). وترمزُ صورةُ الرّجلِ الذي يتأمّلُ المهباج (المهباش)، إلى التعالق والتواصل والتعاقب بين الأجيال في فلسطين؛ فالرّجلُ الّذي يرتدي زيًّا تراثيًّا رمزٌ لوصايا الأجداد، والمهباج (المهباش) رمزٌ لإرادة الجيل الحاضر وصمودِهِ، وبهذا يتحقّقُ التوافق بين مُكوّناتِ الغلاف (المهباش/ الرّجل).
وفي الغلافِ تبدو بيوتُ المدينةِ وخلفَها جبالٌ شاهقة جرداء، وكأنّ الجبالَ حارسٌ أسطوريٌّ يَحمي المدينة (الوطن) مِن مخاطر التّهويدِ والتّغريب والتّهميش، وبخاصّة أنّ لونَ الجبال أزرق، ولا يَخفى أنّ اللّونَ الأزرق في الموروثِ الثقافيّ يُمثّلُ تعويذةً للحماية من الأذى والشّرور، وإن صحّ هذا التأويلُ، فإنّ ماهيّةَ الألوانِ الّتي تنتشرُ في فضاءِ الغلافِ تُمثّلُ الحاضرَ الضّبابيَّ والمستقبلَ غيرَ المرئيّ، وبهذا الرّبطِ  تُشكّلُ دلالةُ الجبالِ ثُنائيّةً ضِدّيّةً مع دلالةِ الألوان، وما يُعزّزُ هذا التأويلُ، أنّ الجزءَ العلويَّ في خلفيّةِ الغلافِ جاءتْ صورةَ عينٍ، تُراقبُ الصّراعَ بينَ دلالةِ الجبالِ ودلالةِ الألوانِ مِن جهةٍ، وتُراقبُ العلاقةَ بينَ رمزِ المهباج (المهباش)  ورمز الرّجل. ويَنسجمُ هذا التّأويلُ مع مقتطفاتٍ مِن الباب الأوّل للرّواية في قول الكاتبة: (مدينة تزرعُني في بؤبؤ العينين.. مدينة تحرسُني برعشة الشفتين).
ولا تحتاجُ الرّوايةُ إلى ناقدٍ كي يُحدّدَ نوعَها مِن أشكال الرّواية؛ لأنّ الكاتبةَ أعفتِ القارئَ استنتاجَ الشّكل الرّوائيّ، بعبارةٍ توضيحيّةٍ تُفيدُ أنّ الرّوايةَ (سيرة روائية)، وقد تجلّى حرصُ الكاتبة في غيرِ موضعٍ من الرّواية على مقتضياتِ روايةِ السّيرةِ الذاتيّة، من حيث الجرأة في طرحِ موضوعاتٍ اجتماعيّةٍ بجرأةٍ يندرُ تحقيقها في رواياتٍ أخرى، وهي جرأةٌ تُسجّلُ للكاتبة، وبخاصّةٍ المشاهدَ التي تسردُها دونَ حذفٍ أو إيحاءٍ أو تجميل، وكأنّ الكاتبة عينُ كاميرا ترصدُ شريطَ الذاكرة كما هو، كما في وصفها لكراهيةِ إنجاب الأنثى، وتصويرِ الفقر المُدقع في قولِها: (لك أن تتخيّلَ صديقي  مشهد الطبليّة، وصينيّة فتة الخبز الجافّ مع الشاي أو مرقة العدس، وثماني كنافيش يتصارعن واحدة تقول للأخرى: صغّري اللقمة..).                           
وعن تَعدُّد الزّوجات وما ينجُمُ عن التعدّد من مشاهدَ اجتماعيّة. وعن حجب الإرث عن البنات، بحجّة حصرِ الأملاك داخلَ العائلة، خوفًا من تسرُّبِ الأرض للاحتلال. وعن عقوق الأبناء الذي يندى له الجبين، كما جاءَ على لسان سناء: (لا تقولي أحفاد ولا أولاد، كلّهم في الهمّ سواء..//.. عُمَر هذا، لا أتذكّرُ آخرَ مرّةٍ كلّمني بها). وعن حاجةِ الأرملةِ الفطريّةِ الغريزيّةِ لزوجٍ في مجتمعٍ لا يرحمُ. وعن اغتصابِ الفتياتِ لأسباب سياسيّةٍ قذرةٍ، كما حصلَ للفتاةِ إيمان العبيدي في ليبيا. وعن غياب العدالةِ الاجتماعيّةِ حتّى في أوساطِ المُثقّفين، وعن أطفال العراق. لهذا، فإنّ تقنيّةَ التّشويقِ والإثارةِ لدى المُتلقّي لا سقفَ لها، لأنّ مُنحنى الأحداثِ يَتصاعدُ دونَ قطع أو توقّفٍ مُتوقّع، فكلّ ما تحويهِ ذاكرةُ الكاتبة، وكلُّ ما يصطادُهُ خيالُها، يجدُهُ القارئُ واضحًا ولافتًا ومُدهشًا. وقد عبّرتِ الكاتبة عن ماهيّةِ الحدَثِ وخروجهِ عن النمطيّةِ في الباب الأخير الّذي يُعَدُّ عصارةَ الرّواية، في قولها: (ومن هنا تمضي الرّواية بنصٍّ وحشيٍّ غجريٍّ، ويقتحمُ الأبوابَ المغلقة من غير استئذان، وببعض نقاطٍ لا مكانَ لها فوقَ الحروف، قد نُلوّنُها بألفِ لون).   
  كما تطرحُ الرّوايةُ ذروةَ الحدَثِ السّياسيِّ مُمثّلًا بالنّكبة، وتُثيرُ المَشاهدُ السّياسيّةُ جدَلًا حولَ مسؤوليّةِ سقوطِ فلسطين عام 48، وتنبه إلى التكافل والتضامن بين النّاس بعيد النكبة، وإلى الصّامدين الّذين لم ينزحوا عن أرضِهم، بأسلوبٍ حواريٍّ مُفعَمٍ بالجرأة والدّهشةِ والتشويق، وكأنّنا أمامَ مشاهدَ دراميّة. وتصوّرُ هزيمة حزيران تصويرًا دراميًّا من خلال حوارٍ في الدّيوان، يكشفُ عن فجيعةِ الهزيمةِ ووطأةِ الحدَث. وتستلُّ الكاتبة مِن مشهد هزيمةِ حزيران مشهدًا آخرَ لا يقلُّ كثافةً وحزنًا، حينما تَشْرَعُ بتصويرِ النّزوحِ واللّاجئين، وتقتربُ الرّوايةُ في هذه المشاهدِ مِن التّسجيل التاريخيّ، لأحداثٍ ما زالتْ ويلاتُها الإنسانيّةُ نزيفًا إنسانيًّا حتّى اليوم. وترصدُ محنةَ تغريب المكان، وتهويدِ الأرض، وتزوير التاريخ والجغرافيا، وبخاصّة في الباب التاسع عشر في قول الكاتبة: (عن أيّ ناصرة تتحدّث، ناصرة اليوم أم ناصرة الأمس؟ ناصرة توفيق زياد، والأوّل من أيّار والأعلام الحمراء؟ اُنظر حولك.. كلّ ما في الناصرة مُزيّفٌ الآن). وتعرض لمشاهد مِن فجيعة الخريف العربيّ.
وفي مقابل الأحداث المصيريّة والمفصليّة تحفلُ الرّواية بأحداثٍ اجتماعيّة، تبدو مألوفةً كطقوس الزّواج والدّخلة والكنّة والحماة، ولكن ما يُميّزُ هذا المألوف من الأحداث دقة الوصف، وجرأة الطرح، ورصد البُنية النفسيّة للشّخصيّات. وتعمَدُ الكاتبة في سياق الأحداث إلى أنسنة الأشياء، وإضفاء ملاح الحياة، والإثارة على الأشياء المادّيّة، كما في الباب السّادس عشر، الذي استثمر الغلاية ذات اليد المقطوعة استثمارًا اجتماعيًّا مُفعمًا بالمشاعر الأسريّة. ويتّصفُ الفضاءُ الزمنيّ بالقفزاتِ السّريعة، فالكاتبة تُصوّرُ نكبةَ ميلادِها بفقرة واحدة، ثم تقفز زمنيًّا إلى رسم مواكب الفرح لميلاد شقيقها بفقرة واحدة، وتختمُ بفقرة تاليةٍ مأساةَ موتِ أخيها. ثلاثُ فقراتٍ تختزلُ زمنًا طويلًا، لا يَشغلُ مِن الرّوايةِ بضعَ فقراتٍ مُشبعة بالتوتّرِ والانفعال وفتح آفاق التخيّلِ لدى المُتلقّي.
  وتختارُ الكاتبةُ تقنيّةَ القطع في مَسارِ مَشاهد الأحداث، وهي تقنيّةٌ تقتربُ مِنَ العرض السّينمائيّ، فحينما ينتهي السّردُ بمغادرتِها مكتب الصّحيفة، ويبدأ مَشهدُ التقائِها بصديقتِها سناء، تعودُ الكاتبة بالأحداثِ إلى مشهدِ عمَلِها في الصّحيفة، لتُخبرَ الزّميلَ الصّديقَ عن سناء، وهذه التقنيّةُ الّتي ترتبطُ بالاسترجاع أو الارتداد الزّمنيّ، تمنحُ المُتلقّي آفاقًا تخيّليّةً وتأويليّة، تعجز عنها المَشاهدُ الرّتيبة في العرض والزمن. وتجمعُ بعضَ الأحداثِ بين ثنائيّةِ المحنةِ والفرحة، والجدل والهزل، نحوَ العروس الّتي حُرمَتْ من الزّواج، بسبب عدَم الانتهاءِ مِن نسج شرشفٍ كان مهرًا لها! وتُصابُ العروسُ ليلة زفافِها بالشّلل، وتنطقُ بعدَ عشرة أيّام. أجواءٌ مثيرةٌ تقتربُ مِن فضاءاتِ ألف ليلة وليلة. بقيَ أن أشيرَ في سياقِ الحدثِ الرّوائيّ، أنّ الكاتبة وظّفتْ تقنيّةَ القطع والاستئنافِ لبعض الأحداث، كما في حكاية سناء (أم عمر).
ولا تتّسعُ المداخلة لرصدِ تجلّياتِ التّراثِ المادّيّ في الرّواية، وهي تجلّياتٌ تُجسّدُ دلالاتِ التّراثِ في صورة الغلاف، فأنواعُ التّراثِ المادّيّ تُشكّلُ مرجعيّةً تراثيّةـ وليس مِن المبالغةِ القولُ، إنّ الرّوايةَ تصلُحُ مَرجعًا بل مُعجمًا لأسماء الأدواتِ التّراثيّةِ المَنزليّةِ والزّراعيّةِ خاصّة، ومِن المُفيدِ إجراءُ دراسةٍ موسومةٍ بتجلّياتِ التّراثِ في رواية "مدينة الرّيح ". كما أنّ حضورَ الأغنيةِ الشّعبيّةِ يُمثّلُ مَفصَلًا رئيسًا للرّواية، واللّافتُ أنّ الأغنيةَ في الرّوايةِ جاءتْ مُتماهيةً مع الأحداث، إذ لا يجدُ المُتلقّي فجوةً بين كلماتِ الأغنية والبناء الفنّيّ للرّواية. أمّا اللّغة التراثيّة فحضورُها أكبرُ من التّمثيل عليها، وربّما تكونُ عبارةُ (ونظلّ نتسحسل عليها حتى غروب الشمس)، دليلًا يُثيرُ دهشة القارئ، على قدرةِ الكاتبة على نفضِ الغبارِ عن الألفاظِ التّراثيّة، الّتي تكادُ تغيبُ عن ألسنةِ النّاس، ويجدُ بعضُ النّاس حرَجًا في نطق بعض الألفاظِ الواردةِ في الرّواية، ولكن الكاتبة تختارُها بعنايةٍ، لأنّها تُمثّلُ جزءًا مِن المعمارِ اللّغويّ والدّلاليّ، فالرّوايةُ تُسهِمُ في إحياءِ جانبٍ مُندثرٍ مِن اللّغة، أو على الأقلّ تُسهمُ في حِفظِهِ وحمايتِهِ مِن الاندثار. ولا يَنبغي أن يُفهم ممّا تقدّمَ، أنّ الرّوايةَ  تخلو من اللّغة الفنّيّةِ، الّتي ترتقي إلى مستوى الشّعر أو القصائد المنثورة.
 وتبدعُ الكاتبة فاطمة ذياب في توظيف الأمثال الشّعبيّة لتحقيق حزمةٍ من الوظائفِ الدّلاليّة، نحو تعزيز واقعيّةِ الحدَث؛ لأنّ المَثلَ الشّعبيَّ يَحملُ طاقةً تعبيريّةً وتأثيريّةً، على المُتلقّي الّذي لا يَفصلُ بين دلالةِ المثل ودلالةِ الحدث، وإضفاء المتعة والسّخرية والدّعابة، الّتي لا تنفصِمُ عن العاداتِ والتّقاليدِ في المناسبات الاجتماعيّة، نحو المَثل (كلّه سَلف ودين، حتّى هزّ الوِسْط والرّدفين)، فهذا نموذجٌ من الأمثال الّتي تكشفُ عن نسيج العلاقات الاجتماعيّة، ويُضمرُ نقدًا خفيًّا ولاذعًا للموروثِ الشّعبيّ للعاداتِ والتقاليد.
ويميلُ البناءُ النّفسيُّ للأحداثِ بالتّحوُّلِ السّريع والمُفاجئ، مِن حالةِ الفرَح العارم إلى حالةِ الحزن القاتل، نحو الانتقالِ من فرح ميلادِ الأخ إلى حزن جنائزيٍّ لموتِهِ، ومِن الضّحكِ مع سناء، إلى تمنّي الأخيرة للموت. إنّ هذا الانزياح الحادّ في البناء النفسيّ للأحداث، يَجعلُ مِن آليّةِ التلقّي عمليّةً مُركّبةً ومُثيرةً وصادمةً ومُشوّقة. وفي الرّوايةِ مَشاهدُ ومَواقفُ تقتربُ مِن الأدب السّاخر الّذي يُصوّرُ الفجيعة تصويرًا كاريكاتوريا، نحوَ اقتراح الكاتبةِ على الزميل الصّديق، أن يكتبَ روايةً بعنوان (يوميّاتُ قطروز في حقل بطرس)، في سِياقٍ نقديٍّ لاذعٍ للغطرسةِ الأمريكيّة، جاءَ مُغلّفًا ومُقَنّعًا بحكايةٍ شعبيّةٍ اسمُها (ندّاهة الليل).
وتُطلُّ على القارئ شخصيّاتٌ فجأة تثيرُ الدّهشة، حينما تَشْرَعُ الكاتبةُ بسردِ واقعةٍ تتّصلُ بشخصيّةٍ لم تُفصِحْ عن اسمِها. إنّ دخولَ الشّخصيّاتِ إلى فضاءِ الأحداثِ دون تمهيدٍ أو توقُّعٍ مِن القارئ، يُضاعفُ يقظةَ المُتلقّي، وهي تقنيّةٌ لافتة في البناء الفنّيّ، تُسَجَّلُ للكاتبة، نحو اللّقاءِ مع سناء.  وهو لقاءٌ يُحوّلُ مَسارَ الحدَثِ من مشهدٍ إلى مشهدٍ مختلفٍ في مكانِهِ وزمانِهِ، ولكنّهُ مُتّصلٌ بأبعادِهِ الوجدانيّةِ والنفسيّة. وحديثُ الكاتبة عن صديقتها (هيام) يُشكّلُ سردًا صادمًا، للمتلقّي الّذي يَشرَعُ في تأمُّلِ انهيارِ منظومة الصّداقة.
وشخصيّةُ الصّديق في مكتب العمل يُجسّدُ صديقًا افتراضيّا يحتاجُهُ الإنسان في مُعترك الحياة، فهو رمزٌ  لحاجةِ الإنسان إلى الحوار مع النخبة التي تُقاسِمُنا أحزاننا وأحلامَنا وتحَدّياتِنا. شخصيّةُ الصّديق في الرّواية هو كلّ فلسطينيٍّ قابضٍ على الجمر، مُتشبّث بالعدالة الغائبة، والحالم دائما بوطن تسودُهُ الكرامة والحرّيّة. هو كلّ فلسطينيٍّ يَرفضُ الذوبان في الآخر، وهو كلّ فلسطينيٍّ لا يَستسلمُ للانكسار والخيبة، هو وهجُ الغدِ الآتي الّذي لا يُطفئُهُ رمادُ الهزيمة ودخان الغادرين العابرين.
وشخصيّة "دبدوبة" هي رمزٌ أيضًا لمناجاة النّفس، إذ حلّت دبدوبة محَلّ تقنيّةِ المونولوج الدّاخليّ في مواضعَ كثيرةٍ مِن الرّواية، وتتحوّلُ دبدوبة  في الرّواية من دلالتها الرّمزيّة على المناجاة إلى شخصيّةٍ حقيقيّة حينما تتقمّصُها الكاتبة، ففي الفصل الرّابع من الرّواية، تبدو الدّبدوبة هي الطفلة الكاتبة الّتي تحظى بالهدايا، وخاصّة الكتب من جدّها. وتتنوّعُ أشكالُ السّرد، وتتناوبُ بين سردٍ بضمائرِ المتكلّم والمُخاطَب والمُتكلّم، وسردٍ بوساطة المُذكّرات والرّسائل.
لمساتٌ فنّيّةٌ في مجموعة ( فراشة الحواسّ) للأديبة آمال غزال/ بقلم د. عمر عتيق
تحفلُ مجموعة (فراشة الحواس) بحزمةٍ من التقنيّاتِ الأسلوبيّة والأيقوناتِ الفنّيّة، الّتي تستحقُّ مُعاينةٍ نقديّةٍ جماليّة، وقد اخترت أربعَ تقنيّاتٍ أسلوبيّةٍ فنّيّة، وختمتُ مُعاينتي للكتاب بموقفٍ نقديّ.
1* التّناص: التناص كما يُعرّفُهُ النّقّاد: أن يتضمّنَ نصٌّ أدبيٌّ ما نصوصًا أو أفكارًا أخرى سابقة عليه، عن طريقِ الاقتباسِ، أو التّضمين، أو الإشارة، أو ما شابه ذلك مِن المقروءِ الثّقافيّ لدى الأديب، بحيثُ تندمجُ هذهِ النّصوصُ أو الأفكارُ معَ النّصّ الأصليّ، وتندغمُ فيه، ليتشكّلَ نصٌّ جديدٌ واحدٌ مُتكامِل. ويتوزّعُ التّناصُ في حنايا كتاب (فراشة الحواسّ) على مرايا فكريّةٍ وأطيافٍ وجدانيّة، فهو يختزلُ رؤًى ومشاعرَ مُكثّفةً مِن خلال استحضارِهِ لنصوصٍ أخرى، تتجسّدُ فيها أحداثٌ حيّةٌ مَوشومةٌ في الذّاكرة، أو تتجسّدُ فيها شخصيّاتٌ اسثنائيّةٌ كتبَتِ التّاريخَ الإنسانيَّ بمواقفِها وإنجازاتها. وقد تجلّى التّناص بثلاثةِ أشكال؛
الأوّل: التّناص التّاريخيُّ الّذي تَشكّلَ في قول الكاتبة : (أين أنتم؟.. أين هم؟.. أين نحن؟/ أين أحفاد صلاح الدّين؟/ أين صلاح الدين؟)، فهي تستدعي شخصيّةَ صلاح الدين الأيّوبيّ، لمَلْءِ فراغٍ في فضاءٍ يَخلو مِن بطولة صلاح الدين، ويَخلو مِنَ المَناقبِ الجهاديّةِ لمثل هذا الرّجُل، الّذي أضحى أيقونةً رمزيّةً تُضيءُ الذّاكرةَ في سراديبِ الضّعفِ والهوان. وتكرارُ الاستفهام في سِياق التّناص يُعبّرُ عن أمنيةٍ وحُلمٍ يَسكنانِ الوجدان، ويُثيرانِ الذّاكرةَ والذّهن؛ فالكاتبة تسألُ تارةً عن صلاح الدين نفسِه، بحثًا عن قائدٍ يَسُدُّ الفراغَ الّذي خلّفَهُ صلاحُ الدّين، وتسألُ تارةً أخرى عن أحفادِ صلاح الدّين، رغبةً في ظهورِ جيلٍ يَحملُ الجيناتِ الجهاديّةَ ورايةَ الخلاصِ والتّحرير.
**الثاني: تناصٌّ سياسيٌّ يَبرُزُ في قولها: (وحدها ميادين التحرير/ هي الهدف والبوصلة/ فاهنأ يا عدوّي واسترِح/ نَمْ قريرَ العين لا تَخَفْ/ فمنذ اليوم قد وجّهتُ بندقيّتي/ ولن اصطادّ بها إلّا داخلَ حديقتي). التّناص مُرَكّبٌ مِن فضاءيْن سياسيّيْن مُتناقضيْن، يُشكّلانِ عبقَ الكرامةِ وعطرَ النّصرِ والتّحرّرِ مِن جهة، ووخزًا في الذّاكرةِ ووجعًا في خاصرةِ الضّميرِ مِن جهة أخرى، فميدانُ التّحريرِ في القاهرة فضاءٌ، يُشكّلُ في وعينا وفي تفاصيلِ الخطاب الثقافيّ رمزًا للتّحرُّرِ والثّورةِ على الظّلم، وساحةً شَهِدَتْ سقوطَ فرعون مصر المُعاصِر، وتَحطيمَ الصّنم الأكبر، وتوجيهُ بنادقِنا إلى حدائقِنا فضاءٌ سياسيٌّ آخرُ، يَستحضرُ صورةً قاتمةً للاقتتالِ الفلسطينيّ، الّذي ما زالتْ أعراضُهُ ومُضاعفاتُهُ تنتظرُ العلاجَ والشّفاءَ باستكمالِ استحقاقاتِ الوحدةِ الوطنيّة.
***الثالث: تناصٌّ دينيٌّ يَتمثّلُ بقولِ آمال غزال: (أرض المحشر والمنشر أنتِ/ ستكونين الأمل/ وهُم زوال/ كعاصفةٍ في أيلول/ أو سحابة دخان)، فأرضُ المَحشر والمَنشر تناصٌّ يَستحضرُ خطابًا عقائديًّا راسخًا في وجدانِنا، ويَستحضرُ خطابًا فكريًّا حيًّا في أذهانِنا، بأنّ أرضَ المحشر والمنشر هي القدس في حديثٍ مَنسوبٍ إلى الرسول عليه السلام، فعن ميمونة بنت سعد مولاة النبي (صلى الله عليه وسلم) قالت: يا نبيَّ الل،ه اِفتِنا في بيت المقدس، فقال: أرض المحشر والمنشر.
2* النّسيجُ الفنّيُّ للصّورة: تبرزُ في مجموعة (فراشة الحواس) تقنيّاتٌ أسلوبيّةٌ تتّصِفُ بتكاملٍ وانسجام؛ إذ تتخلّقُ عناصرُ صورةٍ فنّيّةِ في رحمٍ دلاليٍّ فنّيٍّ واحدٍ، مِن خلالِ الانسجام في الماهيّة وتآلفِ العناقيدِ التّصوّريّة، فنقرأ من مجموعة (فراشة الحواس): ربّما يمنحنا الزمنُ لحظةً/ لحظتيْن من غفوتِهِ/ يَمضي بنا إلى الأعماق/ نمتطي جوادَ القمر/ إلى لقاءٍ أزليّ/ ترقصُ فيه النجومُ/ مُترنّحةً في صدرِ السماء/ يُزيّنها الفرحُ بأكاليلِ البنفسج/ والكواكبُ تشهدُ عرسَ الكونِ من جديد/ الغيماتُ تلبسُ ثوبَها الأبيض/ يُباركُها شيخُ المطر.
حينما  نتأمّلُ ما تقدّم، نجدُ أنّ الصّورةَ الفنّيّةَ تتشكّلُ مِن عناصرَ سماويّةٍ، وكأنّ حُلمَ الكاتبةِ وانتظارَها لمستقبلٍ واعدٍ مُشرقٍ، قد استمدّ مُفرداتِه وتفاصيلَهُ مِن بشائرِ السّماءِ وجماليّاتِ النّجومِ، وبهاءِ القمر وإشراقاتِ الكواكب وخصوبة الغيوم وعطاء المطر. ولا يخفى أنّ هذهِ الدّلالاتِ الإشراقيّةَ في السّماء، هي ذات الدّلالات الّتي تُشكّلُ الفضاءَ الوجدانيّ للكاتبة، وهو وجدانٌ تجلّتْ إشراقاتُهُ وفرحُهُ المُنتظَرُ في الصّورةِ السّماويّة الّتي أشرتُ إليها. ولا يَقتصرُ الجَمالُ التّصويريُّ على التّكاملِ والانسجامِ بينَ العناصر، بل يتجاوزُهُ إلى جماليّاتٍ مُكثّفةٍ تتجلّى في الاختياراتِ الاستعاريّةِ في قولها: (نمتطي جواد القمر.. ترقصُ فيه النّجوم.. الغيماتُ تلبسُ ثوبهَا الأبيض.. شيخ المطر..) الخ.. وهذا ليسَ تصويرًا فنّيًّا مألوفًا، وإنّما طقوس فرح وحلم، لم تجدِ الكاتبة لهذه الطقوس نظيرًا مِن مفرداتِ الواقع، إلّا قمرًا يتحوّلُ إلى جوادٍ يجولُ ويصهلُ في سهول الفرح وهضاب الحُلم، وعلى وقع صهيلِهِ ترقصُ النّجومُ، وتلبسُ الغيومُ ثوبًا أبيضَ يُباركُها شيخُ المطر. هذا طقسٌ يَتشكّلُ مِن السّموّ والنّبلِ والجَلالِ والجَمال، يَحيا فيهِ نقاءُ سريرةٍ وصفاءُ قلبٍ وطهارةُ حُلم. وفي مجموعة (فراشة الحواس) يُدهشُنا هذا التّكاملُ والانسجامُ بينَ عناصرِ الصّورةِ الفنّيّةِ في غير موضع، وهو تقنيّةٌ فنّيّةٌ تستحقُّ أن يُفرَدَ لها دراسة يتجلى فيها بهاءُ التّصوير، وعلى الرّغم من كثرةِ هذا اللّون التّصويريّ، إلّا أنّني لم أستطع إغفالَ قطعةٍ فنّيّةٍ رسمَتْها الكاتبة بقولِها: (سأشرب رحيق أزهارك ماءَ/ لينبعث في زوايا جسدي.. نبضا لحياة/ أتنفسك هواءً تحتضنه أحشائي/ أخبئه شهيقا.. وأرفض بعدها الزفير.)
لا أظنُّ أنّ النّقدَ الجَماليّ أو الرّؤيةَ النقديّة الأسلوبيّة ترتقي إلى هذا المستوى الفنّيّ الأصليّ، فأيّةُ حروفٍ يمكن أن تُعبّرَ عن الشّحنات النفسيّة،وتُصوّرُ وهجَ العشق واتّقادِ القلب سوى هذهِ الأنفاس، التي رسمت الصورة بشهيقها وزفيرها؟! ولتسمح لي الكاتبة أن أداعب وأشاكس صورتها الفنّية للأنفاس فأقول: في العمر شهيق يسكن الذاكرة وما سواه اختناق، وبين الحرف والحرف شهيق حلم وزفير حزن لا تتنفسهما  أبجديّة، وليس للحلم أبجدية سوى شهيق حرف وأنفاس دهشة.
3*الصورة الصوتية: لعل الصوت من أبرز الحواس التي تتفاعل مع دلال الحس في عنوان المجموعة (فراشة الحواس)، وقد عمدتْ الأديبة آمال غزال إلى تحميل الصورة الصوتية تموجات نفسية ووجدانية؛ إذ عبرت بالصوت عن أطياف مشاعرها وبنيتها الوجدانية، ففي قولها: (أعترف أنك تشبهني/ تشبهني حتى الثمالة/ تشبه أحزاني.. وأفراحي/ تشبه وقع الموسيقى بدمي/ و"سيمفونية" ترددها آلامي)، لا يخفى أن البعد الصوتي في هذا النص قد أحدث خرقا فنيا، وأضاف بعدا تأثيريا استثنائيا.. فصوت الموسيقى لم يؤثر على النفس أو الروح كما هو مألوف في تلقي الموسيقى والتفاعل معها.. بل إن وقع الموسيقى لدى الأديبة يسري تأثيره في دمها.. كذلك تتحول "السيمفونية من نوتة موسيقية إلى نبض ألم ووخز حزن دفين.. وهذا التحول هو انحراف فني عن المعيار الصوتي وعن رتابة التلقي للموسيقى.
4* الصورة اللونية: توظف الكاتبة الموروث الثقافي للون للتعبير عن حزمة من المشاعر الإنسانية، واللون في النص الأدبي ليس عنصرا فنيا بصريا محايدا، بل يحمل في حناياه إحساسا مكثفا ورؤى فكرية، ففي قولها: (رحل المكان عن المكان مسافرا/ تحلّق خلفه طيورٌ/ كأنها غربان بعمامات سود/ تجر خلفها عباءةَ حنيني الموشحة بالسواد).. وفي موضع آخر من القصيدة نفسها تقول: (رسموا ملامح تاريخ سطروه بريشة../ ولون أحمر.. وبندقية).. وتبقى دلالة الألوان في هذه النصوص وما يماثلها من المجموعة.. تبقى في حدود الدلالة المألوفة للونيين الأسود والأحمر.. وتبقى آلية التلقي لدلالة اللون هادئة ومألوفة ورتيبة لأنها لا تخرج عن الموروث الثقافي للون. أما حينما تغادر دلالة اللون سياقها المألوف، وتتجاوز الدلالة التي تختزلها الذاكرة الجماعية فإنها تُحدث عصفا دلاليا وانعطافا حادا للسياق الدلالي كما في قولها: (وتختفي../ خلف شفافية الماء الملون بالوجع/ الماءِ الملونِ بظلالنا المنتحرة/ في كل المنحدرات/ وفوق سطور الضباب تنحي/ مثل قوس قزح). لم يعد اللون هنا دلالة مألوفة تتناغم مع الموروث الثقافي.. بل أضحى مثيرا بصريا ومنبها حسيا يحتاج إلى يقظة المتلقي ومضاعفة انتباهه لدلالة اللون في سياقها الجديد، فالماء قد تحول من شفافيته المألوفة إلى لون من الوجع.
وبعد، فإن في مجموعة (فراشة الحواس) أيقونات فنية أخرى تستحق التأمل، وبخاصة التناغم الدلالي والنفسي بين مطلع النص وخاتمته، إذ تحتاج هذه الظاهرة إلى مزيد من التأمل من خلال محاورة نقدية للنص. كذلك خاصية التلاحق والتتابع التي تشكل صورا توليدية تفضي إلى صور عنقودية تشكل فضاء تخيليا مكثفا.
5* هوية النص/ رؤية ناقد: قد يتساءل بعضهم عن هوية النص، أو عن الجنس الأدبي لكتاب (فراشة الحواس) هل الكتاب نصوص شعرية أم نثرية؟ وهل هو قصائد من شعر التفعيلة أم قصائد نثرية؟ وهل يجوز الجمع بين نص شعري ونص نثري في كتاب واحد؟ كل هذه التساؤلات قد يهمس  بها من يقرأ كتاب آمال غزال.. ولأنني قارئ متأمل وناقد محايد أقول: إن الكتاب يجمع بين الشعرية والنثرية.. وهو جمع جائز ضمن المعايير النقدية المعاصرة التي تتيح للمبدع أن ينشئ نصا بأطياف أدبية مختلفة.. فلم يعد الجنس الأدبي مستقلا عن غيره من الأجناس الأدبية الأخرى، وهو ما يصطلح عليه النقاد المعاصرون بتداخل الأجناس أو الأنواع الأدبية، وقد أفردتْ لهذا الأمر دراسات وأبحاث، وعقدت في هذا السياق مؤتمرات وندوات دولية.. وأستطيع أن أقرر- وأنا مطمئن- أن الإبداع أكبر من هوية النص، وأن المبدع أسمى من الجنس الأدبي.. ولا ينبغي أن يُفهم من هذا التقرير أنني أدعو إلى هدم الحواجز بين الأجناس الأدبية.. ولكني أدعو بكل ثقة إلى تلوين النص الإبداعي بما ينسجم مع الدفقات الشعورية للمبدع.. ولا شك أن تدخل الأجناس الأدبية في نص واحد يشكل تحديا للمتلقي عموما وللناقد خصوصا.
وقد يكون الخطاب النقدي- اليوم- قادرا على رصد تجليات إشكالية تداخل الأنواع الأدبية في النص ما دام النص كتابا مطبوعا مقيدا بمواصفات الطباعة وإمكاناتها وطاقاتها الفنية، ولكن حينما يصبح النص الذي  تتداخل فيه الأنواع الأدبية  كتابا الكترونيا مصحوبا بالوسائط المساندة التي تمنح النص مؤثرات صوتية أو تسجيلا صوتيا وصورا صامتة وناطقة بل قد يصل الأمر إلى مقاطع مرئية (فيديو) وغيرها من الوسائط المساندة؛ فإن الخطاب النقدي سيواجه تحديا حقيقيا لإشكالية تداخل الأنواع الأدبية.





138
احتفالية شهر آذار في طرعان
آمال عواد رضوان
النادي الثقافيّ- طرعان وفي إطارِ فعاليّاتهِ الثقافيّة والاجتماعيّةِ والتربويّةِ المُستمرّة، أقام ندوة ثقافيّة اجتماعيّة، بأجواء احتفاليّةٍ ترحيبيّةٍ حميمةٍ مُفعمةٍ بالمودّة والمحبّة، بتاريخ 10-3-2015، وسط حضور عشراتٍ من أعضاء النادي وأصدقائه من الرجال والنساء، من القرية وخارجها، وذلك في قاعة المكتبة العامة في قرية طرعان، لمناسبة الاحتفاء بيوم المرأة العالمي في الثامن من آذار، وعيد الأم العالميّ في الـ 21 من آذار من كل عام، شهر آذار شهر المرأة والأم والأرض والربيع، فصل الطبيعة والجمال والنماء والانتماء والعطاء.
أدار الندوة د. محمد خليل عن النادي الثقافيّ- طرعان، وشارك في الندوة كلٌّ من: المربّي الفاضل راجح عياشي/طمرة، آمال عوّاد رضوان/عبلين، والطالبة الجامعيّة رقية عدوي/طرعان، كما أضفى حضورُ وصوتُ الشيخ الحاج عبد المعطي نصار إمام قرية طرعان جمالًا على الاحتفالية، بتلاوةٍ مُرتَّلةٍ عطرةٍ من سورة مريم، في نهاية اللقاء أكّدت مداخلات الحضور- (عدلة شداد/قانا الجليل، وآمال صباح، وفاطمة سلايمة، ونجلاء زرعيني، وعبلة سلامة، والمربي أسامة عدوي، وعلي رجب)- على أهمّيّة احترام ومساندة المرأة، وتكريم الأمّ الوالدة والزوجة والأخت والمربية والصديقة، وهو أمر واجب تطبيقه فعلًا لا قولًا وعلى مدار أيّام السنة، وأخيرًا، قدّم النادي الثقافيّ الورود والتضييفات على جميع الحضور، ومن ثمّ تمّ التقاط الصّور. 

جاء في كلمة رقيّة سعيد عدوي: تموت البيوت إذا غابت نساؤها
قبل فترةٍ قصيرةٍ قالت لنا أمّي إنّها ستتركنا في البيت لوحدِنا، لترى عن بُعد، كيف يمكنُ أن نتصرّفَ ونتدبّرَ أمورَنا في غيابِها، فأجبتُها على الفور: ألا تعلمين يا أمّي أنّ البيوتَ تموتُ إذا غابت نساؤها؟!
هل لنا أنْ نأْخذَ نفسًا عميقًا يحملنا إلى عالمٍ يخلو من الأنثى، فلا نجدُ به الأُمَّ، الزوجةَ، الابنةَ، الأختَ، المهندسة، الطبيبة، ربّة المنزل، المحامية، الكاتبة، الشاعرة والأديبة… تعدّدت المِهن وتنوّعت الأدوارُ، وأُقسمُ أنّ المرأة أتقنت جميعَ الأدوار، وبحرفيةٍ عزّ تقليدُها واختفى نظيرُها، وإن كان أعظم الأدوار هو دورُ الأم، لتكره بعضُ النساءِ يومَ الأم وهي تعدّ الخريف الخامسَ والعشرين دون ابن أو ابنة..
الثامن من آذار ويوم الأم بين مؤيّد ومعارض، بين مناصر ومناهض، لتبقى المرأة هي المركز وكلّ القضيّة، كلّ المجتمع لا نصفه، ولتسقط كلّ الأقلام التي تكتب النثر والشعر عن المرأة، إنْ لم يُصغِ كاتبُها في حياته لامرأة تتحدّث، ولم يسأل في يوم عمّا تُريده المرأة.
 ومن بين الأدوار التي تخوض غمارَها المرأةُ، هي التجربة الجامعيّة في الأراضي المحتلّة، فقبل عامين وضمن مساق يتناول الصّراع الإسرائيليّ العربيّ، وفي ظلّ مساندتي لقضيّة شعبي العادلة، ومُناطحة الرواية المنحازة وتجريد الواقع من حقائق، قالت لي إحداهنّ، والتي لا أعرف بالضبط على متن أيّ طائرة وصلت البلاد؛ أنّه لو لم تكن هذه الدولة يهوديّة، لما سُمح لي والدي بالخروج من البيت، ولو لم تقم هذه الدولة، لكنتُ في الصحراء، أو أُحضّر البقلاوة في البيت، أو أعمل في زراعة أشجار الزيتون!
هنا وجدت نفسي أحمل همَّ المرأة، ليس أمام مجتمعي فحسب، ولا ضمن محيطي المقرّب فقط، إنّما تعدّى ذلك ليرسم معالمَ المرأة التي حولها تدور الدوائر، ولقضيّتها التي لها تُدبّر المكائد. التجربة الجامعيّة كانت كفيلة بأنْ تجمع النماذج المختلفة، والمتنوّعة التي تدور في فلك المرأة وقضاياها، وعلى ذلك كُتِبَت وتُكتب الدراسات، ولكن التجربة وأرض الواقع أصدق قيلًا، عندما تجمع المرأة بين الزواج ومتابعة الدراسة الأكاديميّة، وأنْ تطوف بين القاعات والأروقة تحمل جنينًا في أحشائها، أو أن تتنقّل بين الغرف شاردة الذهن بطفلها الرضيع، أو أنْ تجمع بين الدراسة والعمل والانخراط في المشاريع الجامعيّة المختلفة، كالقيادة الجماهيريّة ومشاريع تُعنى بتمثيل المجتمع العربيّ على مستوى أكاديميّ عالميّ.
أنْ تكتُب عن المرأة، وأنْ تُلقي المحاضرات أو الندوات عنها، وأن تنخرط في أُطر التنظير والنظريات، ليس كمن يعيش المرأة بأحلامها وآمالها، ويرتدي لباس المرأة، ويشعر بما تشعر به المرأة، وأنْ يكون مطبخها نظيفًا يلمع بعد وليمة العشاء، وخزانتها مرتّبة وصورها وهمومها، وقد تخلّصت من بعض ملابسها القديمة، بعد أنْ اكتسبت بضع كيلوغرامات زائدة هنا وهناك…
أذكر جيّدًا صوت تلك المرأة الفلسطينيّة السوريّة التي التقيت بها في ألمانيا، والتي كانت تعمل في مركز المرأة الفلسطينيّة في دمشق: "يجب أنْ نُعيد المرأة وقضيّتها إلى المركز، والباقي تفاصيل، فالأرض أُنثى، والوطن أم، والأم أُنثى، وصفد التي لم أرها أُنثى كذلك، وعلى المرأة أن لا تخاف".
فمازحتها قائلة: "لذلك تخافين البحر وترفضين الماء"؟ فابتسم زوجها وابنها وقالت: "البحر كان الشرّ الذي لا بُدّ منه، في وقت كانت فيه الحرب هي النهاية، والمرأة تُحارب ليبقى غيرها وتنسى نفسها، وهنا الخطأ الذي ترتكبه برغبة منها".
لو لم يعترف هذا العالم المزيّف بيوم لتكريم المرأة لطالبنا به، لنُذكّر العالم بنساء يصنعن التاريخ، ويكتبن الحياة من جديد؛ هي المرأة الفلسطينيّة أوّلًا، فالعراقيّة، فالسوريّة، وسائر نساء العالم.
جاء في كلمة د. محمد خليل مؤسس المنتدى الثقافي في طرعان:
في شهر آذار شهر المرأة وعيد الأم ويوم الأرض وبدء فصل الربيع، نقول للجميع: كلّ عام وأنتنّ وأنتم بألف خير وتمام الصحّة وغاية السعادة. تكريم الوالدين وإكرامهما واجبٌ على مدار السنة. لكن كلّ المجتمع مَدينٌ للأم وللمرأة، لما تتحمّله من جهد وتعب وأعباء الحياة، وقد لا نُجانب الصّواب إذا قلنا: بغياب المرأة تغيب الحياة لا بل تنتهي، وقد قيل: إنّ الجنة تحت أقدام الأمّهات.
المرأة هي: الأمّ والزوجة والأخت والزميلة والصديقة، هي الأرض والوطن. كانت وما زالت منذ الأزل مصدرًا لإلهام الشعراء .
ورد في الأثر: أكرموا النساء، واستوصوا بهن خيرًا ، فما أكرمهنّ إلّا كريمٌ، وما أهانَهنّ إلّا لئيمٌ!
وحُكِيَ أنَّ عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ابنته عائشة، فقال: مَن هذه يا معاوية؟ فقال: هذه تفاحة القلب، وريحانة العين، وشمامة الأنف. ويكفي النساءَ فخرًا، أنّ الله تعالى أكرمهُنّ وكرّمهُنّ بسورة أسماها: سورة النساء.
ويقول شاعر النيل حافظ إبراهيم: الأم مدرسة إذا أعددتها/ أعددت شعبًا طيِّب الأعراق
وقد كان قاسم أمين أوّل من دعا إلى تحرير المرأة في العالم العربيّ عام (1889)، من خلال كتابه تحرير المرأة، وأهمّيّة الأخذ بيدها، واحترامها على قدم المساواة مع الرّجل، لأنّ تقدُّم المجتمع وازدهارَهُ ورُقيَّهُ لا يمكن أن يتحقّق إلّا بهما ومعهما والتعاون بينهما. وهذا معنى العمران البشريّ عند ابن خلدون، ومنه أخذ كلّ من كتب في المدنية الحديثة، وصولاً إلى التكامل بين جميع أفراد المجتمع، فكم بالأحرى بين الرجل والمرأة في بناء الأسرة والمجتمع.
نحن في النادي الثقافيّ طرعان كلّ عملنا خالصًا لأجل المجتمع. نريد أن نبذل كلّ جهد ممكن في سبيل وجهٍ مُشرق لقريتنا طرعان. أن ننشر المحبّة والأُخوّة والاحترام للجميع، ونكون العين السّاهرة على تماسك مجتمعنا المُصغّر في قريتنا. أن نتعاون معًا، فنشجّع وندعم بعضنا بعضا، ونأخذ بيد بعضنا البعض على أسس من القيم الإنسانيّة، كالمحبّة والاحترام والخير والعيش المشترك، وأن نتصرّف بما يليق بالإنسان المُتحضّر.
من هذا المنطلق لم يكن من قبيل المصادفة أن نتسمّى: النّادي الثقافيّ- طرعان، إنّما لكي تذوب فيه الفوارق الطبقيّة والعلميّة والنوعيّة، فكم من حمَلة الشهادات لدينا في مجتمعنا، لكن أحدًا لا يشعر بوجودهم. المقياس الحقيقيّ لوجود الإنسان هو مدى عطائه وانتمائه لمجتمعه.
مع ذلك، يبقى هنالك مجال للتساؤل:  يقال إنه لم يعد هنالك الرجل المثالي ولا الأب المثالي ولا المعلم المثالي ولا الزوج المثالي، هل ينطبق الكلام ذاته على المرأة والأم والزوجة الخ..؟ من ناحية أخرى أين واجب الاهتمام التربوي بالأسرة من الأبناء والبنات، وما زال العنف الكلاميّ والجسديّ موجودًا بيننا، أين قصرت المرأة وأين قصرنا؟ تساؤل آخر يطرح نفسه: كيف يمكن للمرأة الزوجة أن تحقق ذاتها في ما ترغب به من مجالات العمل، وفي الوقت نفسه تربّي الأولاد وتهتمّ بالأسرة وشؤون المنزل طبعًا بالتعاون مع الزوج؟ وكيف لها أن توفق بين ذلك كلّه؟
جاء في كلمة المُربّي راجح عياشي:
المرأة هي الأمّ والجدّة والأخت والزوجة والابنة والحبيبة والصديقة والزميلة. يقولون إنّ المرأة هي نصف المجتمع، وأنا أقول إنّها ثلاثة أرباع المجتمع، إذ إنّها تتحمّل كثيرًا من الأعباء التي كان يحملها الرجل، إضافة إلى المسؤوليّات التي تتحمّلها وتقع على عاتقها.
كثيرٌ من الأمّهات والزوجات والنساء مثاليّات في مجتمعنا، ويُربّين أجيالًا صالحة وطيّبة ووطنيّة.
لقد قطعت المرأة شوطًا كبيرًا من التقدّم، إذ إننا اليوم نرى حوالي 54% من طلاب الجامعات والتعليم العالي من العرب هم من النساء، وكذلك بين 10-14% من حَملة شهادة الدكتوراة هم أيضًا من النساء. المرأة المثقفة والصالحة هي عماد الأسرة الفاضلة، وتربّي أبناء صالحين ومسؤولين. لكن يؤلمني جدًا ما نسمعه ونراه جميعًا من ظلم للمرأة وعدم تقديرها، واعتبارها إلى جانب ما تقوم به دول ومجتمعات عربيّة وأنظمة ظلاميّة، تلك التي تحرم المرأة من أهمّ حقوقها. فحالات الاغتصاب والسّبي وبيع الحرائر في الأسواق، وقتلهنّ بحجج واهية لا تلائم روح العصر ما زالت تسيء إلى مجتمعنا وأدياننا السماويّة الحنيفة.
مع كل هذا، نحن نحني هاماتنا أمام نسائنا وأمّهاتنا، ونباركهنّ في العيد وكلّ أيام السنة، ونتمنّى لهنّ القوّة واستمرار التقدّم والعطاء الكريم والنّجاح في الحياة.
جاء في كلمة آمال عوّاد رضوان:
 المرأة هي أمُّ البشرية ومرآةُ الوجودِ والأوطان، وهي رمزُ الإنسانيّةِ والحقّ عبرَ العصورِ وبجدارةٍ، وذلكَ بما تُحقّقهُ  وبمصداقيّةٍ حيّةٍ في كافةِ أدوارها المُشرقة والمُشرّفة، وإضاءة جميع المجالات البيتيّة والأسريّة والثقافيّة والتربويّة والاجتماعية والاقتصاديّة والنضاليّة الوطنيّة والقياديّة والفنيّة والإبداعيّة والرياضيّة والسياسيّة.
نعتز أيضًا بشفافيّة المؤسّسات النسويّة والخيريّة والتطوّعيّة ونعزز وجودها، إذ نحن في أمسّ الحاجة إليها، ولسنا ننسى، أنّه لا يتسنّى للمرأة أن تصلَ إلى ما وصلت إليهِ من توازنٍ، إلّا من خلال تثقيفِها صغيرةً، وتربيتِها على الصّلاح والإصلاح، ومِن خلال دعم الأب ومساندةِ الزوج، والسّير الحثيث جنبًا إلى جنب الرّجل بالتعاون والمشاركة، لأجل تخطّي العراقيل ومصاعب الحياة، ولأجل بناء أسرة صالحة تنتمي للمجتمع وتخدم الوطن، فلا يَكفينا أن نحملَ شهاداتٍ جامعيّة لبناء الإنسان والكيان، بل نحتاج أيضًا إلى تعزيز أساسات وجودنا، والتمسُّك بقديمنا وجذورنا وتراثنا ليكون لنا حاضر ومستقبل، ونحتاجُ إلى استشارة كبارنا وإن كانوا أقلّ نصيبًا منّا علمًا، فلا نكبرُ عليهم كي لا نكبرَ على الوطن، لأنّ حكمة الكبار وتجارب حيواتهم، يمكنها أن تزوّدَنا بقيم أخلاقيّة ووطنيّة إيجابيّة تُعزّز حضورَنا، وتُجذرنا في المجتمع والوطن، فللحضور رجالًا ونساءً سنينَ قادمة مُبارَكة، وأعيادًا عساها تتوالى بخيرٍ وسلام ووطن. 
جاء في كلمة عدلة شدّاد خشيبون/ قانا الجليل: تحيتي في الثّامن من آذار
يشرّفني أن أكون بينكم إخوتي وأخواتي الأعزّاء، في شهر آذار، شهر العطاء والرّبيع والحياة، فليس عبثًا أن  اجتمعت في آذار كلّ  مناسبات العطاء، يوم المرأة في الثّامن منه، وعيد الأمّ وبداية فصل الرّبيع، ونهايته يوم الأرض العظيم، فالأرض هي أمّ العطاء، كما أنّ  الأم هي روح الحياة، وفي مدارسنا وضمن قيم مفتاح القلب هو شهر العطاء، إذ تتجلّى في هذه القيمة كلّ أنواع العطاء المادّيّ والمعنويّ، والطّبيعة توزّعُ بالمجّان أزهارَها وربيعَها الفوّاح، فكلّ عامٍ والرّبيع يُبارككم، وكلّ ربيع وأنتنّ بساتينه، وتحيّتي أقدّمها خالصةً للرّجال الذين أتوْا مُرافقين زوجاتهم لهذا الاحتفال.
 جاء في كلمةِ الحاجة فاطمة فاطمة سلايمة/أم محمد:
لمناسبة شهر آذار شهر المرأة والأم في عيدهما نقول لهنّ وللحضور الكريم: كلّ عام وأنتم بخير وفي تمام الصحة والعافية والسعادة الدائمة. لقد كرّم الله النساء، فأنزل سورة النساء وسورة مريم، لكنّه لم يُفضّلها على الرّجل، بل ساوى بين الاثنين، ولم يفضّل أحدهما على الآخر فقال: "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"، وجعل للمرأة والرجل حقوقًا وواجبات. كذلك وصّى الرسول (صلعم) بالنساء خيرًا فقال: "استوصوا بالنّساء خيرًا". و"رفقًا بالقوارير". وأمر بمعاملتهنّ بالحُسنى والمعروف بلطف ورقّة.
كذلك ورد في إنجيل متّى الإنجيليّ في الإصحاح 19: أما قرأتم أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى. 5وقال: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسدا واحدا. إذ ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان. وكذلك جاء في رسالة بولس القديس افي الإصحاح الخامس: كذلك يجب على الرجال أن يُحبّوا نساءهم كأجسادهم. من يُحبّ امرأتَهُ يُحبُّ نفسه، فإنّه لم يُبغض أحدٌ جسدَهُ قط، بل يَقوتُهُ ويُربّيه.
لنحفظ هذه الوصايا والتعاليم، والأهمّ أن نُطبّقها في حياتنا اليوميّة وعلى مدار السنة.


139
أتراكَ حيفا غريبًا؟



آمال عوّاد رضوان
أقامَ نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيِّ الأرثوذكسيّ- حيفا أمسيةً ثقافيّةً، لإشهار الكتاب الأدبيّ (لماذا أراك غريبا)، للكاتب والإعلاميّ نايف فايز خوري، وذلك بتاريخ  19- 2- 20 15، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة شارع الفرس 3-حيفا، بحضورِ لفيفٍ مِن الأدباءِ والشّعراءِ والأصدقاءِ والأقرباء والمثقفين المُهتمّينَ بالشّأنيْنِ الأدبيّ والثقافيّ، وقد تولّتْ عرافةَ الأمسيةِ الشاعرةُ سماهر قسّيس نجّار، وتخلّلَ اللّقاءَ مُداخلاتٌ لكلٍّ مِن الكاتب ناجي ظاهر والأديب فتحي فوراني، ومن ثمّ مداخلات مِن الحضور، وفي النّهاية شَكرَ المُحتفى بهِ كاتبُنا نايف خوري الحضورَ، وبَعدَها تمّ التقاطُ الصُّوَرِ التّذكاريّة.
جاء في كلمة العريفة سماهر قسّيس نجّار: مساء الخير للجميع
عندما نؤمِنُ أنَّ قوّةَ الكلمةِ أكبرُ مِن قوّةِ السّلاح، يَكونُ لأفكارِنا ولِقلوبِنا منبرٌ مثل هذا، وأنا أقفُ اليومَ أمامكم، مُعلِنةً إيماني بأنّ قوّةَ الكلمةِ هي الأقوى، مَهْما فتكتْ بها الأسلحة. أُهدي للكاتبِ الكبيرِ بَعضًا مِن شهاداتي حوْلَ فنّ الكتابةِ، وقد رأيتُ أنّها تتحاورُ معَ فِكرِكَ وقلبِكَ، رأيتُنا نكتبُ لكلِّ ما تقعُ عليهِ عيونُنا.. للشّمسِ والقمر، للأزهارِ المُتفرّقةِ هنا وهناك، ولحُبَيْباتِ الرّملِ تحت الأقدام، ولراحةِ البالِ في عيونِ الطّفولةِ الّتي تحترقُ كُلّما مَرّتِ السّنين.
وأحيانًا نكتبُ، لأنّنا لا نستطيعُ أنْ نقولَ لا للكتابةِ، ولا للقلمِ الّذي يَجتاحُ النّفسَ دونَ حسابٍ، وأحيانًا نكتبُ للقصيدةِ الّتي تَخترقُ مَشاعرَنا، تُحبُّنا كما نحنُ نحبُّ ذواتَنا، فلا تَعبَثُ بمشاعرِنا، ولا تَرفضُ الجُنونَ الّذي يَسكنُنا.
وأحيانًا نكتبُ للرّقصِ! للموسيقى! إنّ الموسيقى جنونُ الحياةِ. الطّبيعةُ ترتدي حُلّةَ العزفِ، والتّاريخُ تَكتبُهُ ألحانُهُ، والأزقّةُ تَختزلُ الحياةَ في سمفونيّةٍ موسيقيّةٍ، يَصعُبُ على الإنسانِ أنْ يَفهمَها أو يُراجعَها، معَ أنّهُ يُدركُ وُجودَها.
وأحيانًا نكتبُ للوجودِ وللإدراكِ، وسنواتٌ طويلةٌ لن تَكفينا، لنستدركَ نهايتَهُ قبلَ موْتِنا. أمّا الإدراكُ فخوْضُهُ مُغامرةُ رحّالٍ، وفجأةً ودون أنْ ندري، تجدُ نفوسَنا أنّها مُدرِكةٌ لأمورٍ كثيرة، فتارةً بعدَ ألمٍ كبيرٍ، مُشكلةٍ، غضبٍ، احتراقٍ، مَللٍ، فرَحٍ، ولادةٍ أو اقتحامِ الأشياءِ، أو بعد إصغاءٍ إلى هذا وذاك.
وأحيانًا وفي طريقِ العودةِ إلى البيتِ أو إلى أيِّ مَكانٍ آخرَ، وأحيانًا مِنض العبثِ نفسِهِ، وربّما مِنَ التقاطِ صورةٍ، أو استنشاقِ عطرِ زهرةٍ، أو مِن دمعةِ طفلٍ، أو خبرٍ  مِنَ القريبِ أو البَعيد، وربّما عندما أُنهي ما أكتبُ، يأتي إدراكُ شيءٍ ما. نكتبُ لفلسفةِ الحياةِ، فنجدُ انّنا في حفلٍ مِن كُتبِ عظماء قبْلنا، تأخذُنا الرّهبةُ فنتراجعُ، لكنّنا نحِنُّ إلى الفلسفةِ، كما يَحتاجُ الرّضيعُ إلى حضنِ أُمِّه.
أمّا الكتابةُ عن الوطنِ فإنّهُ الألمُ بحَدِّ ذاتِهِ، هو الدّمعُ المُحترقُ بينَ الوسائدِ وفي الحناجر، هو إدراكُ الأملِ في زمنِ اللّا أمل. وطنُنا باتَ قصيدةً، علينا أنْ لا نكتبَ عنهُ، إنّما أنْ نَكتبَهُ.. الفرح، الأولاد، الأمومة، السّلام، التّحدّي، المرأة، الإنسان، الإيمان، الحرب والتّسامح، فجميعُ هذهِ الأمورِ نكتبُ عنها بصفحاتٍ قصيرةٍ، بل بأسطُرٍ محفورةٍ في أعناقِ مَن يَزرعُ الحُبَّ في نفوسِهم، ليعيشَ كريمًا صادقًا، تمامًا، كما جعلَنا الأستاذُ نايف خوري نقفُ بينَ وقْعِ الكلماتِ المُتتابعةِ، وبين الأنفاسِ الّتي لا تنقطعُ أبدًا، عن بَثِّ روحِ الخيرِ والمودّةِ، وبين وطءِ الواقعِ المُؤلم مِن قتلٍ، وذبْحٍ، وعنصريّةٍ، وجهلٍ، وتخبُّطٍ وضياع.
(لماذا أراكَ غريبًا)، كتابُكَ يَدعو الإنسانيّةَ إلى السّلامِ الحقيقيِّ والى الأملِ الدّائم. عند وقفتي الحاضرةِ أمامَ مُحتوى الكتابِ، سمعتُ ردّ فِعلي الأوّليّ الصّادقِ لنفسي، فاعترفتُ بصوتٍ عالٍ اعترافًا مُعلَنًا، أنا أمامَ ثقافةٍ مِن نوعٍ مُختلفٍ، سميتُها "ثقافةَ الكتابة". لماذا سمّيتُها بهذا الاسم؟
لأنَّ الكتابَ يَشهدُ جودةً عاليةً في الكتابة. لأنّ استفادةً رفيعةً مِن خيراتِ اهتماماتِ الكاتب، الّتي تتناغمُ معَ اهتماماتِ شعبِهِ وبلدِهِ وعائلتِهِ. لأنَّ نقشًا فنّيًّا يَدمجُ الواقعَ معَ الخيالِ، ويضيفُ المَزيدَ إلى صُلبِ المَضمونِ. لأنّ الكتابةَ رقصٌ بينَ الرّوحِ والجَسدِ، ودعوةٌ إلى استدراجِ المعرفةِ مِن كلِّ حدْبٍ وصوْبٍ. لأنّ الكتابةَ شموليّةُ النّظرةِ إلى أبعد مِن حدودِ العين، والحقيقةُ عليها أنْ تخترقَ كلَّ الغرَفِ والأزقّةِ والفضاءِ والسّاحاتِ والحناجرِ والآفاقِ والقلوبِ والنّفوس. إنّها شجونٌ  مِنَ الماضي واحتضانٌ للغدِ الآتي، ستأتي السّطورُ دائمًا حريريّةَ المَلامح لنكتبَ، ويَكتبَ كلُّ عقلِ وقلبِ مُفكّر.
(أينَ أضعُ مِرساتي وقد قتلني الوقتُ؟/ أينَ الشّاطئُ مِن همساتي وعندَ النّبضِ مَدٌّ وجَزرُ؟/ أحقًّا ستحترقُ السُّفنُ وتغيبُ مَلامحُ المَوانئ؟/ وتهفو الهمساتُ عن فقيرٍ عارٍ مِن حصيرةِ الغدِ؟/ وليل يَرجو النّهارَ ليَهربَ مِن سكرةِ حُزنٍ لؤلؤيِّ الهمْس؟/ ألن تُقرعَ الطّبولُ قبلَ الدّقيقةِ الأخيرةِ لتُعلنَ النّصرَ البنفسجيّ؟/ دمعي حدّقَ في الأمسِ وارْتوى مِنَ الغدِ وها هو راحلٌ إلى حضنِ اليوم/ فهل لي بجَوازِ سَفرِكَ أنت؟)
أيُّها السّيّدُ القاصُّ الكاتبُ والشّاعرُ  ناجي ظاهر ابْنُ بيسان، الّذي يَقطنُ في النّاصرة، الصّحفيّ الّذي حرّرَ الكلماتِ مِن مُعتقلِ كُتّابِها إلى صحفٍ عديدة، كي يقرأها كلُّ صغيرٍ وكبيرٍ، هو صانعُ التّاريخ الّذي لم يَتوانَ عن خدمةِ شعبِهِ بقلمِهِ وإبداعِهِ وإصدارات جمّة. أدعوهُ بكلِّ فخرٍ ليُعطينا مِن نورِهِ إضاءةً جديدةً عن كتاب (لماذا أراكَ غريبًا). 
قال الأديب ناجي ظاهر: هذا هو الإنسان كما يَراهُ نايف خوري في كتابه عن الغربة:      يُثيرُ الكاتبُ الصّديقُ نايف خوري في كتابه الجديد "لماذا أراكَ غريبًا"، الصّادر مُؤخّرًا عن منشوراتِ مجلّة "مواقف" الثقافيّة الفصليّة الصّادرةُ في النّاصرة، والّتي يُحرّرُها د. فهد أبو خضرة ورهطٌ مِن الكُتّاب. يتناولُ العديدَ مِنَ القضايا الاجتماعيّةِ والثقافيّةِ الحارقة، وقد كتبتُ لها مقدّمةً باسم المَجلّة، حملتْ عنوانَ "كتابةٌ تحتفلُ بالحياة"، ما رأيتُهُ ولمستُهُ في كلّ مقالةٍ، فقرةٍ وكلمةٍ ضمّها الكتابُ، وكما قالَ مُؤلّفُهُ في كلمةٍ تعريفيّةٍ بهِ، عبارةٌ عن مَجموعةٍ مِن المقالاتِ المُنتقاةِ مِن بينِ كمٍّ كبيرٍ مِنَ المَقالاتِ الّتي كتبَها صاحبُها خلالَ السّنواتِ الأخيرةِ، بعضُها نُشِرَ وبعضُها يُنشَرُ في الكتاب أوّل مرّة.
أفتتحُ مُعالجتي لهذا الكتاب مُبتدِئًا بتقديمِ مُقاربةٍ سيميائيّةٍ دلاليّةٍ للعنوان، فلماذا أطلقَ عليه مؤلّفُهُ هذا العنوانَ اللّافتَ؟ مَن هو المُخاطَبُ، ومَن هو الخاطِبُ في هذا العنوان؟ بعدَ قراءةٍ مُتمعِّنةٍ مُتفحِّصةٍ توصّلتُ إلى أنّ المُؤلّفَ هو المخاطِب وهو المخاطَب، فهو يُوجّهُ السّؤالَ إلى نفسِهِ بصيغةٍ استنكاريّةٍ لا تبغي إجابةً، بقدْرِ ما تَطلبُ حلًّا، وهو يُجيبُ عن هذا السّؤالِ الصّعبِ فيما ضمّنَهُ كتابُهُ هذا، كأنّما هو يُريدُ بعنوانِهِ هذا أنْ يُشيرَ إلى ما يَعيشُهُ مِن غربةٍ بين الأهلِ والأحبّاءِ مِن أبناءِ مُجتمعِهِ. وهنا أقولُ: إنّ الغربةَ وما يرافقُها مِن مَشاعرِ الوحدةِ هي قدَرُ الإنسانِ المُبدع في كلِّ مكانٍ وزمان، فكيفَ تكونُ حِدّةُ هذهِ الغربة، إذا ما أُضيفتْ إليها جرعةٌ مُرّةٌ مِنَ المَظاهرِ السّلبيّةِ الّتي يَزخرُ بها مُجتمعُ الكاتبِ المُبدِع؟
لن أقومَ أيّها الإخوةُ، باستعراضٍ لِما ضمّهُ الكتابُ مِن مَقالاتٍ، فأنا لا أومنُ بعمليّةِ الاستعراضِ كثيرًا، وذلكَ لإيماني بأنّ كلَّ قارئٍ إنّما يَقرأُ ما يَقومُ بقراءتِهِ على طريقتِهِ الخاصّةِ، ومِن مُنطلقاتِهِ الذاتيّةِ البحتة، وإنّما سأقومُ بتقديمِ قراءةٍ خاصّةٍ، تُركّزُ على الدّوافعِ العميقةِ للكتابةِ وتجَلّياتِها في الكتاب، ربّما كنتُ أفعلُ هذا، مِن مُنطلق أنّني أشعرُ برغبةٍ كبيرةٍ في سبْرِ أعماقِ الكلامِ، والغوْصِ فيهِ إلى أعماقِهِ البعيدةِ القصيّة. فيما يلي أقومُ ببناءٍ منهجيٍّ لشخصيّةِ مُؤلّفِ الكتاب، كما لمستُها مِن وراءِ ما تضمّنَهُ كتابُهُ مِن مقالاتٍ، مُشيرًا إلى أنّ خيطًا رفيعًا ربَطَ بينَ هذهِ المقالات، يَتمثّلُ في شخصيّةِ المُؤلّفِ وفي رؤيتِهِ لمُجتمعِهِ.
صاحبُ الكتابِ يَظهَرُ في كتابِهِ هذا بثلاثةِ مظاهر، سأحاولُ التّطرُّقَ إليها بالتّلميحِ والإشارةِ، مُوضِّحًا كُلًّا منها بقدرِ ما يَسمحُ الوقتُ وتُتيحُ الذّاكرة؛ المَظهرُ الأوّلُ للمؤلّفِ في كتابِهِ هذا يتجلّى في رغبةٍ هائلةٍ في الانتماءِ، تتمظهَرُ في أكثرِ مِن مَقالةٍ وكلمة، وأكادُ أقولُ في الكتابِ كلِّهِ. تتّضحُ هذهِ الرّغبةُ أكثرَ ما تتّضحُ في عددٍ مِنَ المَقالاتِ، لعلَّ أبرزَها هي تلكَ الّتي تحدّثَتْ عنِ اللّغةِ، وما يَتعلّقُ بها مِنَ المَحبّةِ لكلِّ ما هو جميلٌ ورائعٌ في الحياةِ والمجتمع.
المظهرُ الثّاني هو ذاكَ الامتعاضُ مِنَ الأعراضِ السّلبيّةِ القاتلةِ في مجتمعِنا العربيِّ في هذهِ البلاد، فالمؤلّفُ ليسَ راضيًا، ونحنُ نراهُ ناقِدًا شديدَ النّقدِ للعديدِ مِن هذهِ الأعراض، لعلّ أبرزَها حديثُهُ عن غربةِ الواحدِ منّا في بيتِهِ وبينَ أهلِهِ مِن أحبّاءَ وأصدقاء، وأُشيرُ بهذا الصّددِ إلى مَقالاتِهِ عن عذابِهِ معَ المُسلسلاتِ، وفي حديثِهِ عنِ الغربةِ، ولعلّي أُشيرُ إلى ما كتبَهُ عن مَشاعرِ الغربةِ، عندما ينظرُ إلى أبناءِ الأُسرةِ الواحدةِ، وكلٌّ منهم يَنصرفُ إلى شأنِهِ الخاصِّ بهِ، مُبتعِدًا بما أتاحتْهُ لهُ الأدواتُ التّكنولوجيّةُ مِن آيْفون وآيْباد وحتّى تلفزيون، عمّن هُم حوْلَهُ في البيتِ ذاتِهِ، وربّما الغرفة ذاتها.
المَظهرُ الثّالثُ والأخيرُ هو تلكَ الحكمةُ الّتي اجتهدَ مُؤلّفُ الكتابِ في تقديمِها إلينا نحنُ القرّاء، عن كيفيّةِ تقديمِ الحُلولِ لمُعاناتِنا اليوميّةِ بينَ مَن نُحبُّ وقربه، وهذهِ الحكمةُ تتمثّلُ في العديدِ مِن الطّروحِ الباحثةِ عن حلولٍ، ولعلَّ أبرزَها تلكَ الّتي يَستعرضُ فيها عمليّةَ الاقترابِ مِنَ الآخرِ المَحبوبِ والمَرغوبِ برفقتِهِ مَهْما ابتعَدَ، وهنا تظهرُ مَقالتُهُ عن الحافلةِ الّتي يُشَبِّهُ بها المَسيرةَ المُجتمعيّةَ ذاتَ دلالةٍ وتعبيرٍ خاصّيْنِ، فهو يَقترحُ الأغنيةَ وسيلةً للوصولِ إلى الآخرِ البعيدِ عنّا وهو معنا وبالقرب منّا.
هذا عن العُمقِ الفِكريِّ لكتابةِ الأخ نايف خوري في كتابِهِ هذا، أمّا عن الشّكلِ الأدبيّ الّذي كتبَ مُنتهِجًا إيّاهُ، فإنّ ما كتبَهُ يَتّصفُ بالعديدِ مِنَ الصّفاتِ، أُشيرُ إلى أهمِّها كما رأيتُهُ، فتتّصفُ كتابةُ المُؤلّفِ بنوعٍ صارخٍ مِنَ التّعليميّةِ التّنويريّةِ، فهو لا يَكتبُ في فراغٍ، وإنّما هو يَكتبُ بعدَ الكثيرِ مِنَ الإعدادِ والتّحضيرِ، ويَلمسُ القارئُ مدى ما بذلَهُ في البحثِ والتّنقيبِ اللّغويّ، لعرْضِ ما يَودُّ عرْضَهُ مِن قضايا. المَقالةُ لدى نايف تأتي في العادةِ على النّحوِ التّالي، فهي تبدأ بطرْحِ المشكلةِ فالأمثلةِ فرأيِ الكاتب، ثمّ تنتهي بتقديمِ تلخيصٍ وإجمالٍ لِما أرادَ قوْلَهُ لنا نحنُ القرّاء. وتظهرُ في هذا كلِّهِ ثقافةُ الكاتبِ واضحةً جليّةً، الأمر الّذي يَدفعُني للقوْلِ، إنّ العديدَ ممّا كتبَهُ الصّديقُ نايف يُمكنُ أن يكونَ مادّةً دسِمةً لتعليمِ الطّلّابِ في مدارسِنا. مع هذا، أرى أنّ هذه الإيجابيّةَ في كتاباتِ المؤلّفِ عادتْ عليْهِ ببعضٍ مِنَ الوَبال، فهي كما أحسنَتْ إليهِ وإلى كتابتِهِ، أساءتْ بالقدْرِ ذاتِهِ، كوْنَها أوقعَتْهُ في نوعٍ مِنَ الرّتابةِ الّتي يَمجُّها الإبداعُ الأدبيّ، وجعلَتْهُ يَرسفُ في قيودِ النّمطيّةِ المَقيتةِ. لهذا أدعوهُ للتّمرُّدِ على رتابتِهِ ونمطيّتِهِ في كتابتِهِ ضمنَ هذا الكتاب للولوجِ إلى عالمٍ أوسع، وإنْ بَدا أضيقَ للنّظرةِ غيرِ المُتفحِّصة.
أيُّها الإخوةُ، الاحتفالُ بكِتابٍ يعني الاحتفالَ بالثقافةِ، والاحتفالُ بالثقافةِ يعني الاحتفالَ بأهلِها، والاحتفالُ بالثقافةِ وأهلِها هو مظهرٌ حضاريٌّ يَستحقُّ التّحبيذُ والإشادة. لهذا أتقدّمُ إلى نادي حيفا الثقافيّ والمجلس الملّيّ الأرثوذكسيّ بأسمى آياتِ التّقديرِ والاحترام، لا سيّما أنّني علمتُ مِن الأستاذ فؤاد نقارة، مُنظّمِ هذهِ الاحتفاليّةِ الإشهاريّة، أنّ هذا النادي المُبجّلَ يَقومُ بتنظيمِ النّدواتِ الثقافيّةِ المُماثلةِ بشكلٍ دوْريِّ. شكرًا لكَ أخي فؤاد، وتحيّةَ تقديرٍ واحترامٍ إلى صديقي الكاتب نايف خوري. شكرًا للحضور الكريم.
تُتابعُ العريفة سماهر قسّيس نجّار: عندما تحدّثتَ في كتابكَ عن موضوع " التّصفيقُ المَجّانيّ" ضحكتُ مِن قلبي، وعرفتُ أنّكَ صادقٌ إلى أبعدِ الحدودِ، ولطالما سألتُ نفسي مُتعجّبةً، كيفَ يُصفّقونَ لهذا وذاك؟ وأدركتُ بعدَ مِشوارٍ طويلٍ في  دراسةِ عِلم النّفس، أنّ التّصفيقَ هي مَرحلةُ  تطوُّرٍ هامّة، بينَ مُناجاةِ الخارج معَ الدّاخل، والخارجُ هنا هو الجمهورُ، والدّاخلُ هو الطفلُ المُبدعُ في دواخلِنا فما رأيك؟ كيف أنّنا أضعنا الدّاخلَ، وذهبَ الإبداعُ في حالِ سبيلِهِ، وبتنا نُصفّقُ للعبث؟! ومع هذا، علينا أنْ نُكثِرَ مِنَ التّصفيقِ معَ مَن تناغمَتْ نفسُهُ مع ذاتِها، فأبدعتَ وكتبتَ، ورسمتَ وعزفتَ، لأنّ الفنَّ هو الحياة. الأستاذ فتحي فوراني، أخبِرْني عنكَ، فمَن تتلمَذَ على يديْكَ، ومَن جعلْتَهم يَمتلكونَ اللّغةَ ويُبحرونَ في الحياة، لكَ منهم ألفَ شُكرٍ، ولهم منكَ  ألفَ سعادةٍ ونجاح .. أتركُ لكَ المنصّةَ، كي تُعطينا من مائِكَ لنرتوي ونرتوي.
جاء في كلمة فتحي فوراني تحت عنوان: لا غريب إلّا الشّيطان! أخي الأستاذ نايف، تسألُني: لماذا أراكَ غريبًا؟ فأحملُ السّؤالَ على مَحملِ الدّعابة، لأنّني أعرفُ يَقينًا أنّي قريبٌ منكَ أكثرَ ممّا تتصوّر، فأنا أقربُ إليكَ مِن حبلِ الوريد، ولو مرَّ سيفُ الأخطلِ الصّغيرِ بيننا، لم ندْرِ، أجَرى دمي أم دمُكَ، ففي معظمِ  طروحاتِكَ هنالكَ تَطابُقٌ كبيرٌ معَ ما أرى. يكادُ المُثلّثانِ؛ مُثلّثي ومُثلّثُكَ أن يَتطابقا تطابقًا تامًّا. ضلعانِ مُتساويانِ وزاويةٌ "قائمةٌ ومشتركة". كفانا اللهُ شَرَّ التّشرذمِ وشَرَّ الشّرَكِ وشَرَّ الصّراعِ بينَ قيس ويمن وعبس وذبيان. فأخيرًا حنَّ العودُ على قِشرِهِ وامتدّتِ الجُسورُ بين الشّاطئيْن، فعانقَ الشّاطئُ الشاطئَ، وتَعانقَ الإخوةُ وتحقّقَ الحُلم، وكانَ ميلادُ "القائمةِ المُشتركة" الّتي تحملُ راياتِ الأمل، وفسدتْ بذلكَ لكمةٌ مُدوّيةٌ لحارسِ النّوادي اللّيليّة، وغريمه بطل المغامراتِ والمقامراتِ والحماقات السّياسيّة.
جاءَ في التّراثِ قبلَ أربعة عشر عامًا، أنّ أكثم بن صيفي "حكيمَ العرب"، دعا أولادَهُ عندَ موْتِهِ، فاستدعى إضمامةً مِنَ السّهامِ، فتقدّمَ إلى كلِّ واحدٍ منهم أنْ يَكسِرَها، فلم يَقدِرْ أحدٌ على كسْرِها، ثمّ بدّدَها ونثرَها فاستسهلوا كسْرَها، فقالَ: كونوا مُجتمِعينَ ليعجزَ مَن ناوَأَكُم عن كسْرِكُم، كعجْزكُم عن كسْرِها مُجتمعة، فإنّكم  إنْ تفرّقتُم سهُلَ كسْرُكم. ثمّ أنشأ قائلًا: كونوا جميعًا يا بَنِيّ إذا اعترى/ خطبٌ ولا تتفرّقوا آح ا د ا/ تأبى الرّماحُ إذا اجتمَعْنَ تكَسُّرًا/ وإذا افترقْنَ تكسّرَتْ أفرادا.
جاءَ في الآيةِ الكريمة: ولا تنازَعوا فتَفشلوا وتذهَبُ ريحُكم. وأخيرًا، جلسَ الإخوةُ حولَ صحنٍ واحدٍ. نرجو اللهَ أنْ يَجعلَ التّمامَ على خير، فالطّريقُ أمامَنا طويلٌ، وهذه بدايةُ الطّريق، وفقط بداية، قبل يُغادر البيتَ. اعتادَ عبدُالله أنْ يُقبّلَ يدَ أُمِّهِ ويقولَ لها: أنا مِتسهِّل يمّا.. فتقولُ لهُ: الله يسهّل عليك يا حبيبي، ويجعل طريقك خضراء، ويبعد عنك أولاد الحرام. ما أجملَ هذا الدّعاءَ، إذا صدرَ مِن نبعِ الحنان الّتي تنامُ الجنّةُ تحتَ أقدامِها. سهّلَ اللهُ طريقَ "القائمة المشتركة"، وجعلَها خضراءَ خضراء، وأبعدَ عنها أولادَ الحرام.. شذاذ الآفاق!
*لنترك الدّعابةَ السّياسيّة، وننطلق منها عودًا على بدء. أخي نايف، أنا لا أراك غريبًا، أنا أراكَ قريبًا قريبًا قريبًا، فهمُّنا واحدٌ وفرَحُنا واحدٌ، وحلمُنا واحدٌ، ونحنُ نأكلُ مِن صحنٍ واحدٍ، ونعيشُ تحتَ خيمةٍ وطنيّةٍ واحدة. **نحن أمامَ مائدةٍ شهيّةٍ وعامرةٍ  بألوانِ الأدب والفِكر، ولا أستطيعُ في هذا الفضاءِ الزّمنيّ البخيلِ، أن أُحيطَ بهذهِ المائدةِ مِن ألِفِها إلى يائِها، ومِن بابِها إلى مِحرابِها، إنّما سأتنقّلُ بينَ أزهارِ الحديقةِ، وأقتطفُ وردةً مِن هنا وأخرى مِن هناك، وأجمَعُها في باقةٍ صغيرةٍ أُقدّمُها لكم في هذا المساءِ، سفيرةً  لمملكةِ الورد. سأضربُ صفحًا عن المقالاتِ الّتي تنتمي إلى عائلةِ الأبحاثِ والدّراساتِ الفكريّةِ والعقائديّة، والّتي تستحقُّ أنْ تُدرجَ مستقلّةً بين دفّتيْن، وهي مَقالاتٌ هامّةٌ دونَ شكّ، فقد رأيتُ مِنَ المناسبِ في هذا السّياقِ، أن أتوقّفَ عندَ بعضِ المحطّاتِ السّاخنةِ المزروعةِ في أرضِ الواقعِ الّذي نعيشُهُ ونتنفّسُ هواءَهُ ونكتوي بنارِهِ.
*في البدء حديث عن الهوية: الكاتبُ حريصٌ في الحفاظِ على هُويّتِهِ الفلسطينيّة، وتأكيدِ انتمائِهِ لتراثِهِ وفولكلورِه، وإزاءِ مَشهدِ التّسيُّبِ والانفلاتِ الفنّيّ، يُسلّطُ الضّوءَ على ظاهرةِ الأغنيةِ الفلسطينيّةِ الّتي تتكلّمُ بلهجةٍ مصريّةٍ تارةً ولبنانيّةٍ تارةً أخرى، مُتنكّرةً لانتمائِها، لهُويّتِها، وزيتونها، وجبالِها، وسهولها وبحرها. يريدُها أغنيةً لها هُويّتُها المُستقلّة، مغموسةً بالزّيتِ والزّعتر، وشعارُها زيتونةٌ فلسطينيّة. ويتوجّهُ إلى المبدعينَ مِن فنّانينَ تشكيليّينَ وموسيقيّين، ومطربينَ وراقصين وشعراءَ، ويدعوهم إلى التّمسُّكِ بالهُويّةِ الفلسطينيّةِ في إبداعاتِهم المختلفة.
على بُعدِ خطوةٍ أو خطوتيٍن مِن أقرث وبرعم وصفد: فالكاتبُ وفيٌّ لجذورِهِ وانتمائِهِ لوطنِهِ وترابِ قريتِهِ، ولا يستطيعُ أن يَتخلّى عن انتمائِهِ إلى أرضِ آبائِهِ وأجدادِهِ.
يقولُ نايف: يَحزُّ في النّفسِ أنْ تَسكنَ اليومَ على مرمى حجرٍ مِن بلدتِكَ السّابقةِ الّتي هجّروكَ منها، فهي على مرأى منكَ أمامَ ناظريْكَ، ويُمكنكَ أن تسيرَ نحوَها خطوةً أو خطوتيْن، فتعيشُ في أحضانِها، وتسكنُ في حاراتِها، وتمشي على ترابها، وتتنشّقُ هواءَها، وتشربُ مِن ينابيعِها ومياهِها العذبة. ترى كلَّ هذا أمامَكَ، وأنتَ تشعرُ بالحسرةِ والحرمانِ يُنغّصُ متعةَ حياتِك.
*أخي نايف، بـــي مـــثـــلٌ مــا بـك يــا حــمــامــة فــاســألــــــــي/ مِـن فــكِّ أســرِك أنْ يَــحــلَّ وثــاقـــــــــــــــــي                         بي مثلٌ ما بكَ.. فقد وقفتُ أمامَ بيتِنا في صفد، ورأيتُ غزاةً غرباءَ جاؤوا مِن وراءِ البحارِ والمحيطاتِ، فتسلبطوا على بيتي وهوائي وبئري وملاعب الطفولة، وصرتُ لاجئًا في وطني، وطن آبائي وأجدادي! فكيفَ أنسى شجرَ اللّوزِ، ورأسَ النبع، وأجملَ مصايفِ فلسطين؟ مَن لا يريدُ العودةَ إلى صفد، إلى  وطنِ الآباءِ والأجدادِ فهذا شأنُهُ، أمّا أنا فلي شأنٌ آخرُ! يَقتلني الشّوقُ والعشقُ لبيتي ومدينتي وعينيْها الكحيلتين.. يقتلني الشّوقُ لشربةِ ماءٍ عذبةٍ مِن عينِ الزّيتون، ومِن جميعِ  العيونِ الّتي تتفجّرُ ماءً زمزميًا، مِن أحشاءِ هذا الوطن النّازف. 
*ما علينا، فإقرث وبرعم وصفد والبروة والمئاتُ مِن أخواتِهنَّ اليتيماتِ، لن يتخلّيْنَ عن الحُلمِ والأملِ في تحقيقِ الحلم! فما أضيقَ العيشَ لولا فسحة الأمل! هكذا قالَ جدُّنا الطغرائي!
حديث عن التّصفيقِ المجّانيّ: مِن إقرث وصفد نَشُدُّ الرّحالَ إلى محطّةٍ أخرى، فنسمعُ عن بُعدٍ أصواتًا صاخبةً، نقتربُ مِن المحطّة، فتتناهى إلى مسامعِنا أصواتُ التّصفيقِ المَجّانيّ الّتي تطلعُ إلينا مِن كلِّ الجهات! التّصفيقُ المجانيُّ سيّدُ الموقفِ، ولهُ وكلاؤُهُ وعُملاؤُهُ في المسرحِ والفنونِ والغناءِ وُصولًا إلى الأدب. يرى الكاتبُ أنّ الطّامةَ الكبرى كامنةٌ في الأدب شِعرًا ونثرًا. يقولُ نايف: ما إنْ تردُ أيّةُ خاطرةٍ على ذهنِ هذا  الكاتبِ أو الشّويْعر، حتّى يَروحُ يُبعثرُها كيفما اتّفقَ على الصّفحاتِ البيضاء، فيبدأ التّطبيلَ والتّزميرَ، ويَنبري المُطيِّبونَ للمشاركةِ في الزّفّةِ، فيتوهّمُ "المحروسُ" أنّهُ وحيدُ عصرِهِ، غيرَ مُدرِكٍ أنّ كلامَهُ لا يَعدو كوْنَهُ لطًّا على السّحنةِ، وأنّهُ رديفُ "المفرقعات" على البلاط! 
أيُّها العزيز، نحنُ نُميّزُ بينَ المواهبِ الواعدةِ الّتي تُبشّرُ بالخير، وتستحقُّ التّشجيعَ والتّصفيقَ الصّادقَ، والتّربيتَ على الكتفيْنِ والأخذَ باليد. وبينَ رصْفِ الكلامِ الّذي يُعاني فقرَ الدّمِ الإبداعيّ، وتنقصُهُ الموهبةُ والطّعمُ والرّائحةُ والنّفَسُ الشّعريّ، فالسُّدّةُ مُعرَّمةٌ بهذهِ الإبَرِ المُشَرَّمةِ.
حديثٌ في المسلسلاتِ التّلفزيونيّةِ والزّمنِ الضّائع: ينتقدُ الكاتبُ المسلسلاتِ التّلفزيونيّةَ السّخيفة الّتي تسرقُ الوقتَ، وتُطيحُ بالعلاقاتِ الاجتماعيّةِ بينَ أفرادِ العائلةِ الواحدةِ في البيتِ الواحد.
*أخي نايف، لقد صدقت! ولكن، ماذا مع الآيفون والآيباد والسّمارتفون والجلاكسي والسامسونج، وباقي أفرادِ الشّلّةِ الّتي شَلّتِ العلاقاتِ العائليّةَ؟ تعالوا نزيح السّتارَ عن المستور، فالمشهدُ واضحٌ كلَّ الوضوح. كلٌّ في غرفتِهِ مع آيفونه وحاسوبه. للابنِ غرفتُهُ وحاسوبُهُ وآيفونُه. للبنتِ غرفتُها وحاسوبُها وآيفونها. ولربِّ العائلةِ غرفتُهُ وحاسوبُهُ ومكتبتُهُ وكتبُهُ وفيروزُهُ. وللأمّ مطبخُها وطناجرُها، وأحيانًا كتابُها وصحيفتُها. فأينَ الرّوابطُ العائليّة؟ نعيشُ معًا تحتَ سقفٍ واحدٍ، ولكلٍّ عالمُهُ، ولا علاقةَ بينَ أفرادِ العائلةِ الواحدة. إنّهُ عصرُ العوْلمةِ الّذي أبدَعَ هذا الطّوفانَ مِن "الخيراتِ" التّكنولوجيّة، وراحَ يَقصفُنا بها دون رحمة! 
على ضوءِ شمعةٍ ناعسةِ الطّرْفِ.. نلتقي! ذاتَ مرّةٍ وفي ساعاتِ المساءِ انقطعَ التّيّارُ الكهربائيُّ في المدينةِ،  فخرجَ جميعُ أفرادِ العائلةِ من غرَفِهِم الخاصّة، وتركوا حواسيبَهم طريحةً بلا حرارةٍ أو نَفَس، وهرولوا إلى غرفةِ الصّالو العائليّةِ، وجلسوا معًا على ضوءِ شمعةٍ رومانسيّةٍ ناعسةِ الطّرْفِ. أهيَ "معجزة"!؟ ربّما! لقد التمَّ شمْلُ العائلة، فتحدّثوا وتحاوَروا وتسامروا، وكانت سهرةٌ اجتماعيّةٌ ثقافيّةٌ فولكلوريّةٌ دافئةٌ لا أحلى ولا أجملَ، وتمنّيت انقطاعَ الكهرباءِ ساعةً على الأقلِّ كلَّ يومٍ، حتّى نسهرَ على ضوءِ شمعةٍ، ونسافرَ في مشوارٍ قصيرٍ ممتعٍ  إلى أيّام زمان، ونستمتعَ بلقاءٍ عائليٍّ دافئٍ، طالَ شوقُنا إليه. لقد اشتقنا إلى الفاكهةِ المحرّمة!
وبعد.. لماذا أراك غريبًا؟ أمّا "رسالة في الغربة"، فهي في نظري واسطةُ العقدِ في هذا الكتاب. يظهرُ الكاتبُ على خشبةِ المسرح، ويُطلقُ نحوَ النّظارةِ سؤالًا حارقًا: لماذا أراك غريبًا؟ وتتدفّقُ المشاعرُ الفيّاضةُ والصّادقةُ مِن أعصاب الكلمات، لتَغمرَ جمهورَ المُشاهدينَ في القاعةِ، وتَهزَّ كلَّ ذي ضميرٍ إنسانيٍّ حيّ، وهل يُمكنُ لصاحب الضّميرِ إلّا أنْ يكونَ إنسانًا ذا ضميرٍ حيٍّ؟ ويُطلقُ الكاتبُ النّداءَ الصّاعدَ مِن الأعماق، ليدخلَ إلى الأعماق، مُخاطبًا ابنَ الحارة وابنَ البلدِ وابنَ الوطن بحميميّةٍ صادقة: أحبّكَ مِن كلِّ قلبي، فلا تحرمْني مِن عطفك. أحبّكَ بكلّ جوارحي، فلا تحرمْني مِن فرصةِ عناقك. أحبّكَ مِن صميمِ فؤادي فلا تنشغلْ عنّي، كي لا أتيهَ في صحراءِ الحياةِ وبراري الجهل. أريدُكَ فلا تدعْني عرضةً للوحوشِ الّتي تُشْهِرُ أنيابَها، وتَسنُّ مَخالبَها لكي تنهشَ جسدي. أحبّكَ إلى جانبي لأدعمَكَ وتدعمَني، فلا تتركْني عرضةً للّذينَ يَتربّصونَ بي لكي يُنشِبوا مَخالبَهم في جسدي، وكأنّنا في أدغالٍ تسودُها شريعةُ الغاب".
*أخي نايف. نحن ُفي خندقٍ واحدٍ شئنا أم أبينا، وكلُّنا مُستهدَفونَ، ويدُ الإرهاب لا تُفرّقُ بينَ أحدٍ مِن أنبيائِنا، ولا تُفرّقُ بينَ عبادِ اللهِ كائنًا ما كان دينُهم ومذهبُهم ولونُهم ومسجدُهم وكنيستُهم. فكلّنا مُستهدَفون، وليسَ أمامَنا إلّا أنْ نكونَ يدًا واحدةً، ولا بديلَ لنا إلّا أنْ يَشدَّ بعضُنا بعضًا، كالبنيانِ المَرصوصِ في وجهِ مَغولِ العصر.
أخيرًا.. حديثٌ في اللّغةِ العربيّةِ: يحملُ الكاتبُ في حقيبتِهِ بطاقتيْن: الأولى بطاقةُ كاتب، والثانيةُ بطاقةُ عاشق. فصاحبُنا عاشقٌ للّغةِ العربيّة، وينتمي إلى كتيبةِ عُشّاقٍ، بعيونِها تُقاتلُ دفاعًا عن اللّغةِ القوميّة. هذا العاشقُ يعزُّ عليهِ أنْ يَرى عشيقتَهُ جالسةً على النّاصية، ترتدي ثيابًا رثّة، وتحملُ شعارًا تُطلُّ منهُ العبارة: اِرحموا عزيزَ قومٍ ذلَّ! ففي "منتدى حيفا الثقافيّ" استضفنا ذاتَ يومٍ ثلاثةً مِن أساطين اللّغةِ العربيّة: العمّ طه حسين، والخال المتنبّي والجدّ سيبويه. كانتْ أمسيةً ثقافيّةً عن اللّغةِ العربيّة، وشاهدنا معًا شريطًا سينمائيًّا يجري فيه حوارٌ بلغةٍ تنتمي إلى عصرِ ما بعد بعد الحداثة، فاستمعنا إلى الحوارِ التالي بين فتاتيْن موديل 2015، تقول الأولى:
كان بدي أشوف التلفزيون مبارح، عشان أحضر لعبة الفوتبول. أوّل شي فتحت المزغان (المكيّف)، وبعدين أخذت الشلاط (جهاز التحكّم)، وكبست على الكفتور (الزّرّ)، وشفت الكبوتساه (المجموعة) تاعتي، كان الشومير (حارس المرمى) ينطّ على الفوتبول (كرة القدم) زيّ العفريت. يقصف عمره الشومير (حارس المرمى)، كان حتيخ (جميل الطلعة)، بس كان ابن زوناه (ابن زانية)، ما حسب الشاعَر اللي فات، وكانوا اللعّيبة يعملوا كل طاعوت (خطأ) ولا أختها، بس هو عامل حالو مش شايف. لكن  الماغين (الدفاع) عمل مسيراه (تسليم) للي حدّو وكانت حلشاه (ضعيفة)، فأخذتها الكبوتساه (المجموعة) التانية اللي مبين عليهن حزاكيم (أقوياء)، وضربوها ع الريشت (الشبكة)، وغووووول (هدف)!" يييييييش! (كلمات عبرية)
أمّا صاحبتّها الّتي تعشقُ الأزياءَ العصريّة، فقد بهدلت الهُويّةَ الثقافيّة، وأبْلَتْ فيها بلاءً حسنًا، وراحتْ تتباهى بلغتِها "العربيّةِ" المُعاصِرة: شفت برنامج التلفزيون امبارح، كانت الأواعي كلها أولد فاشن (موضة قديمة)، فساتين طويلة وكمام طويلة. يعني الأوفناه (الموضة) اليوم رجعت مثل زمان. إيش بدها تلبس الوحدة على السهرة أو على البارتي (الحفلة). يعني أنا بحبّ أروح بارتي (للحفلة) وأطلع مع ماي فريند (صديقي)، بس هو بحب يوخد شوت ليكير (نوع خمر) بالأول، وبعدين شوب بيرة (نوع خمرة)، وبعدين كوسيت أوزو (كاس أوزو)، حتّى يستمخَ ويسطّل. أنا بكفيني نفس أرجيلة، وبحط شويّة ويسكي في كوس تيه (كاس شاي)، وببيّن إنّي بشرب تيه وبس، وشو بدي أحكي لك يا سوسو، خدي غمز وهمس ولمس ولعب وضحك وفرفشة. ياي.. ما بدي أحكي كلّ شي. هَياه كيفْ (حياة انبساط). سهرة من العمر".
وما إن انتهى الحوار، حتّى نظرتُ حولي فصُعقت! فرأيتُ الأساتذةَ الثلاثةَ مُجنْدَلين مطروحين على الأرض مُغمًى عليهم. فهرعَ الأستاذ فؤاد نقارة واتّصل بمحطة مَغين دافيد أدوم (نجمة داود الحمراء)، فحضر الأمبولنس (سيارة الإسعاف)، ونقلهم على الفور إلى الـ"مِيُّون" في مستشفى رمبام.  يقول المذيع: ما زال الثلاثة تحت العلاج المُكثّف. نتمنّى لهم الشفاءَ العاجل، والعودةَ مِن حيث أتوْا، سالمين غانمين!
قالت العريفةُ سماهر: وأخيرًا، أتمنّى أنّكم استمتعتم، ورغبتُ بأن أُنهي الأمسيةَ، كما أنهى الكاتبُ كتابَهُ عن فنّ النّقد. إنّ النّقدَ هو نبضُ الحياةِ، خاصّةً إنِ ارتبَطَ بقيمةِ العملِ، فمَنِ استطاعَ أنْ ينتقِدَ، فهو ما زالَ يُفكّرُ، ومَنْ توقّفَ عن النّقدِ، أصبحَ مُشاهِدًا سلبيًّا لا يَعلو صوتُهُ على صوتِ دبيبِ النّمل مُجتمعين، وأنا بينَ مُعجبةٍ وناقدةٍ، أرغبُ أنْ أقرأ نصًّا، يَعكسُ ما يَجولُ في ذِهني وقلبي، وبعدَهُ نُتابعُ: (حورٌ في حَدقةِ عيني/ هشاشة في نبض قلبي/ عمري قطراتُ ندى ....رذاذُ مَطر/
كذِبٌ أنْ أضعَ ما أصبو إليهِ فوقَ وسائدِ الماضي، هباء أنْ أختصرَ عشقيَ  في هفواتِ الفِكرِ، حرام أنْ أُعتِقَكَ مِن حضنِ حبّي، فقد لمحتْ أساطيرُ آلهةِ الحُبِّ بُطولاتي/ حرّيّتي مِن أجلك استعبدَتْ أوراقي
اختصرتُ كتاباتي بينَ أرصفةِ النّسيانِ ومَوانئِ احتراقي/ دخلتُ إلى حقائبِ اللّهفةِ وزرعتُ أناشيدَ الطّقوس/ رويتُ كعجوزٍ تاريخَ سُفنِ الهَوى في البحيراتِ/ صوّبتُ كلَّ اللّفتاتِ وتركتُ للعشقِ الرّقصاتِ/ تحدّيتُ معبدَ الكُفرِ، الفقرِ، الذّلّ والهوانِ/ تُقتُ إلى النّهاياتِ الّتي لا تُشبهُ البداياتُ
حجارةَ الحُبّ.. / انتفاضة السكينة في ذاتي
أشجار الصنوبر زيتون لانطلاقاتي/ لم يعد لكم في رصيد حساباتي/ أثور حتى على مخيلتي واحتمالاتي/ مرايا معابد روحي وأضرحة الخوف والكتمان/ لن تنعق أنوثتي في صدري كالغربان
أنسج لها ألوانا لا تشبه السواد/ أسرق من كل عنقود لذة الشهد المخمر في قوارير الشهوات/ أعد كل ليلة جواز سفر الى جزر تبيع نفاق الانسان / وما ملك من غزوه للأجساد/ لست بطلة الروايات الهزيلة على آداب الموائد/ أو لافتة لاعراف تفتعل الجرائم/ لست بقايا مقامات وشارات وكراس المناصب الكئيبات / من حضن الدنيا ... أنتفض / ألاقي السماء في وجدي وغدي بين رندي وانتصارتي)
يسرُّني أن أدعو البروفيسور سليمان جبران، لنستمع إلى بعض الملاحظات عن الكتاب.
جاء في كلمة البروفيسور سليمان جبران: مساء الخير، الحقيقة أنّي قرأتُ الكتابَ كلَّهُ، مِن الغلافِ إلى الغلاف كما يقولون، وأعجبتْني المواضيعُ العديدةُ المطروحةُ فيه، إذ يتطرّقُ إلى جوانبَ فكريّةٍ واجتماعيّةٍ ودينيّة، ولكن لديّ ملاحظة تتعلّقُ بهذا الأمر، وهي أنّي كنتُ أرى نايف الصّحفيّ في بعض المقالات، وأرى نايف رجلَ المجتمع في بعض المقالات، ورأيتُهُ الأديبَ في بعضِها الآخر، وحتّى رجل الكنيسة في بعضٍ منها، حبّذا لو انتقلَ مِنَ الشّموليّةِ والتّعدّديّةِ إلى التّخصّصِ والتّركيز. ولكن بكلّ الأحوال، هو كتابٌ جديرٌ بالقراءة، وأنْ يكونَ في كلّ بيت).
جاء في كلمةِ الكاتب المحتفى به نايف خوري: مساؤكم سعادة وفرح وخير، هذا الكتاب كما سمعتم ورأيتم، هو عبارة عن مجموعةِ مقالاتٍ نُشر بعضُها، وبعضها الآخر لم يُنشر، وهنا لا بدّ من الشكر للدكتور فهد أبو خضرة، رئيس تحرير مجلة مواقف التي أصدرت هذا الكتاب، والكاتب المبدع ناجي ظاهر المحرّر للمجلة، والّذي حرّر ودقّق هذا الكتاب، وجعلَهُ في مظهرِهِ الأنيق هذا. والشكر الجزيل الآخر إلى التي ساعدتني على الاعتكاف لساعاتٍ طوال كلّ يومٍ، وأنا منكب على الكتابة والتدقيق والمراجعة للعمل في الجريدة وفي التلفزيون وفي هذا الكتاب، فالشكر الجزيل لها زوجتي أمّ إلياس. والشكر الجزيل للمجلس الملّي الأرثوذكسيّ، ولنادي حيفا الثقافيّ للكتاب، ورئيس هذا النادي المحامي المجتهد والدؤوب على تشجيع المبدعين والأدباء الصّديق فؤاد نقارة، وللمساعدين في إدارة هذا النادي وهذه القاعة وهذه الكنيسة.
لماذا أراك غريبا هو اسم الكتاب، وأعتقد أنه سؤال مطروح للمناقشة الفرديّة والجماعية في المجتمع، ولذا سينظر كل قارئ إلى هذا الأمر بمنظاره الخاصّ، وهذه التساؤلات والأفكار المطروحة شاملة للعديد من المجالات، التي تضعني أنا ابن هذه الأرض وهذا الوطن في محور القرار، من أنا؟ ما هي هّويّتي؟ ما هو انتمائي الفكريّ والقوميّ والتراثيّ وحتى الجغرافيّ؟ تساؤلات تدور في الذهن لمحاور الحياة كافة، خاصّة وأني بدأت بطرحها اليوم بعد مرور خمس وستين عامًا على وجودي في هذه الحياة. وقد يبقى التساؤل قيد التفكير والنظر لبعدي من الكتاب ورجال الفكر، وأنا سأبدأ في الأيام القريبة القادمة بوضع شبه رواية غريبة في مضمونها ومعالجتها، أرجو أن أوفق في إنجازها في فترة قصيرة.
أتنمى لكم أطيب الأوقات بمطالعتكم للكتاب ولأي كتاب آخر.

140
[color=maroon]

مرْجَلُ انْتِظَارِي الثَّلْجِيِّ
[/color]



آمال عوّاد رضوان

طُوبَى لِعِفّةِ حَمَائِمِي
تَتَخَدَّرُ بِعَلْيَاءِ فَجْرِي
تَحْرُسُ نَوَافِذَ مَعْبَدِكِ
تَنْقُشُنِي هَدِيلًا طافِيًا.. عَلَى رَبِيعِ قَدَاسَتِكِ
وَأَتَلأْلأُ  فَرَحًا هَادِرًا.. فِي مَلَكُوتِ أَزَلِيَّتِكِ.

عَـمِـيـقٌ هُوَ حُـضُــورُكِ
وَحْدهُ يَلَذُّ لِي.. شَوْقُهُ الْمُفَخَّخُ
أُشَاغِبُهُ.. أَتَعَطَّشُهُ
كَم وَشَى بِسُلْطَانِي الوَاهِنِ.. هَمْسُ لَيْلِكِ
كم تخَطَّفَتْنِي أَطْيَافُ دُعَائِهِ
سِرًّا
وَأَغْرَقَتْنِي ظَمِئًا.. فِي غَفْوَتِكِ اللاَّسِعَة!

أَيا صَرْخَتِي الْبَاهِرَةَ
يَا مَنْ كُنْتِ.. وَصِرْتِ عَلَى أُهْبَتِي
فَاكِهَةَ مَوْجٍ
لاَ ذُبُولَ يَعْتَرِينِي.. فِي سَوَاحِلَ تَتَقَادَم!
رُحْمَاكِ
أَتِيحِي لِيَ التَّنَهُّرَ.. عَلَى سُفُوحِكِ الْحَرِيرِيَّةِ
لأَؤُولَ
إِلَى بَقَاءٍ أَبَدِيِّ الدَّهْشَة!
أَرِيقِي مَوَاسِمَ سُيُولِي
تَعَاوِيذَ طَازَجَةً
تُخَضِّبُنِي بِجَلاَلِكِ الْخَالِدِ!

أَيَا مرْجَلَ انْتِظَارِي الثَّلْجِيِّ
نَوَافِذي بَاهِتَةٌ .. نَشَبَ فِيهَا الْجَفَافُ
أَزِيلِي عَنْهَا.. فُيُوضَ مَلْحَمَةٍ
أَوْقَدَتْهَا أجْفَانُ نَرْجِسِكِ
في صِلْصَالِي الْمُتَيَّمِ!
أَبَدًا
مَا كَانَ فَاتِرًا.. عُبُورُكِ الشَّفِيفُ
وَلا أَبْقَى لِي فُسْحَةَ فناءٍ.. بَيْنَ الْفَجَوَاتِ
بَعْدَمَا كُنْتِ.. كُلَّ مَكَانِي وِكُلَّ زَمَانِي!

وَحْدَكِ.. أُسْطُورَتِي
وَحْدَكِ.. لَيْلِي الْمَفْتُونُ
بِضَوْئِكِ النَّاعِسِ
وَحْدُكِ.. يُسْرِفُنِي هَسِيسَ نَارٍ
فِي سَوَاقِي الْعَطَشِ
وَتَنْتَشِرِينَ دَبِيبًا خَدِرًا
يَعْبَثُ بِشِفَاهِي الْمُعَطَّلِة!
بِكُلِّي
أَحْمِلُ قَلائِدَ بُرُودِكِ
أُكَدِّسُ بَرِيقَكِ
فَوْقَ نُخَاعَ مَائِي اللاّهِثِ
وَبِلَحْظَةِ خَلْقٍ وَتَكْوِينٍ
أَتَجَلْجَلُ
تَنْسَابُكِ تَرَاتِيلِي الْمَائِيَّةُ
مَوْجًا مُشِعًّا.. بِحَرَائِقِي!

أَفْسِحِي لِخَطِيئَتِي
أَبْوَابَ جَنَّاتِكِ
وَبِصَوْتِكِ الْعَسَلِيِّ
اغْمِسِي حَنَاجِرَ ضَوْئِي الْمُبَلَّلَة!
أَغْدِقِي عَلَيَّ بِهُطُولِ فَرَحِي
فِي عُنُقِ قَلْبِكِ الْقِيثَار!

مَوْسِقِينِي.. بمَسَاءَاتِ تِيهِي
لِأُلاَمِسَ.. أَعْمَاقَ سَمَاوَاتِكِ
جَمِّرِي بَقَائِي.. تَأْلِيفًا مُدَوْزَنًا
دُونَ ذَوَبَان!

بَيْنَ لَحْمِي.. وَبَيْنَ دَمِي
زَفْرَةٌ مُتْخَمَةٌ بِالـ آه
لاَ وَزْنَ لَهَا.. لكِنَّهَا
 تُثْقِلُنِي بِعَنَاقِيدِ الانْبِهَارِ
تَتَفَتَّقُ أَسَاطِيرَ وَلَهٍ
لاَ يَخْفُتُ.. إلّا بِعَزْفِكِ الآمَال!

141
عسفيا وشرفة الذكرى!

آمال عوّاد رضوان
افتتح منتدى الحوار الثقافي/ البادية في عسفيا الكرمل لقاءَهُ الأوّلَ مِن عام 2015، بأمسيةٍ شعريّةٍ تناولتْ كتاب (على شرفة الذكرى)، للكاتبة نسرين حسين فرّاج، وذلك بتاريخ 29-1-2015، في صالون البادية/ عسفيا، ووسط حضور من الأدباء والشعراء والأصدقاء والأقرباء وذوّاقي الكلمة، وقد افتتح الندوة الأستاذ رشدي الماضي بكلمة ترحيبيّة، تلاه د. فهد أبوخضرة بمداخلة نوعيّة عن القصّة، ومن ثمّ مدلخلة د. بطرس دلة، تلته مداخلة الأستاذ صالح عبّود، ومداخلات أخرى لد. منير توما، ود.محمد خليل، وبروفيسور رياض إغباريّة، ومداخلة الروائية فاطمة ذياب، وقد تخلّلت المداخلات قراءاتٌ مِن نصوص الكتاب بصوت نسرين فرّاج، ومن ثمّ تمّ التقاط الصّور التذكاريّة.
جاء في كلمة الاستاذ رشدي الماضي:
قليلٌ مِن أبجديّتِكِ كثيرٌ مِنَ الذّكرى والذّكريات. أنا هنا في حديقتي التي كانت تفسّرُ هجرةَ الأشجارِ في ليالي الحالكاتِ على قارعة كانون. هي تعرفُ: لا حَطبَ في موْقدي، فجمعتُ زيتونَ حيدرَ حنينًا إلى شرفةٍ انتِ عليها ذكرى قيثارةٍ. يُبلّلُ موجُ الإيقاع أوتارَها، تجتمعُ في يدَيْها القبّراتُ صاعدةً هابطةً، لترمقكِ مِن زجاجِ طفولتهِا. تمنحينَ الكلامَ فصولَهُ الربيعيّة صلاةً تلمُّ الشّوكَ عن صدرِ المعاني، حتى يُكملَ الجَمالُ رحلتَهُ فتوحاتٍ في تَجوهُرِ اللغة، ويرجعُ بعدَ طولِ غيابٍ مساربَ دلالاتٍ، تتناسلُ بين النّصوصِ. نسرين مبدعتي، تعالي مُعجمًا وافيًا مُفرطًا في لغةِ الوقت، في دفتري قصيدةٌ ظامئة، ضاقت بما تحتملُ من الشوق لبحر حيفا، وعكا، ويافا، وشجر الجليل. اِقرعي شمالَ أبواب مدينتي، وانزلي مضاءةً بعذريّةِ ماء الكلمة، لنُعمّدَ الدّروبَ، والبيوتَ، وانسحاباتِ الأرض الحزينة، ونرفع كأسًا نرشفُ منها معًا نخبَ نصر الآلهة!
وفي مداخلة نوعية لد. فهد أبو خضرة جاء حول القصّة جاء:
ليس كلُّ ما كُتب بمستوى واحد، إنّما أقولُ وبكلّ الوضوح، إنّ لدينا كمّيّةً جيّدة جدّا مِن النّصوصِ القصصيّة، وفي مستوى جيد جدا وممتاز، ليس فقط على الصعيد المحلّيّ، وإنّما أيضًا على الصعيد العربيّ كلّه. ولكي تبرز هذه الكمّيّة الجيدة، يجبُ أن يتمّ النقد، والنقدُ لم يَقُمْ بدوره حتى الآن، فمعظمُ ما عندنا من النقد هو إمّا نقدٌ يقوم على تشجيع صاحب النّصّ، أو كنوع دعائيّ، أو كنوعٍ مَذهبيّ، أو ما يُسمّونه حزبيّ، فيه محاولة لإظهار النصّ بصورة جيّدة مهما كان مستواه، وذلك لعلاقةٍ مُعيّنةٍ بين الناقد والمنقود، وهناك النقد الصحفيّ الّذي يُحاول أن يستعرض المادة، وهذا لا يُفيدنا في شيء من ناحية النقد، لأنّه لا يُقيّم النّصّ أبدًا.
 القارئ وحده لا يستطيعُ أن يَحكم، فهو بحاجة إلى ناقد يعتمد على أسسٍ ومقاييسَ نقديّةٍ مَنهجيّةٍ معروفةٍ ومتعارف عليها، أو على الأقل على أسس مقنعة، وكل ما يمكن أن نجده الآن، نعدّه على أصابع اليدين.
هناك محاولات عديدة قامت بتجميع هذه القصص والكتابة عنها، إنّما بمعظمها كانت توثيقيّة، والتوثيق أمرٌ مُهمّ جدّا، لكنّه لا يُغني عن التقييم أبدًا، لأنّ التوثيق يجمع الجيّد والوسط والممتاز معا في كتاب واحد، وهذا لا يعطي القرّاء فكرة جيّدة عن المستويات المختلفة لهذه النصوص.
نحن الآن أيضًا بحاجة إلى مؤسّسة مُعينة، تقوم بتبنّي مشروع لجمع قصص تقييميّة، أي مبنيّة على أساس تقييميّ، وهذه يمكن أن يكون لها شأن كبير في الداخل والخارج. أظنّ أنّ هناك مؤسّسات عديدة يمكن أن تقوم بذلك، ولكن نحن بحاجة إلى نقاد، يقبلون أن يقوموا بهذا العمل، وأعتقد أنه إذا كانت هناك مبادرة، فسوف نجد نقادًا مستعدين، وهم عددهم ليس بالقليل.
في العالم العربيّ يقولون إنّ هناك أزمة في النقد، ليس فقط في القصّة القصيرة، وإنّما في الرواية والشعر أيضًا، وليس هناك منهج واحد للأدب العربيّ، يدرس فيه النقد ما يُنتج، وإنّما كلّ ناقد يتأثّر بأدب من الأداب الغربيّة وغير الغربيّة، فيأخذ مقاييسه ويطبقها على الأدب العربيّ، وهي غير ملائمة لأدبنا، لأنها ليست منه، وحين تطبق على الأدب مقاييس ليست منه، فتقييمه يصبح غير مقنع.
لماذا لا تبحث عن مقاييس تنبع من داخل المجتمع؟ من داخل أدبنا؟ ومن داخل تراثنا؟ وطبعا مع التحديث والتجديد المطلوب، وحتى أنّ الناقد نفسه أحيانًا لا يهضم المقاييس الغربيّة التي يجمعها.
لكي نعطي نقدًا جيّدا، يجب أن يكون لدينا نقد منهجيّ يدرس كل إنتاجنا، فكلّ إنتاجنا المحليّ من رواية وقصة وشعر لم يُدرَس جيّدا، وأُخِذت عنه فكرة مزيّفة وغير حقيقيّة، ومن يعود الآن ويقرأ ما كتب من قصة وشعر ورواية، سينتبه إلى أشياء عديدة ستفاجئه، فهناك أقلام جيّدة لم ينتبه لها أحد، وهناك أقلام لا تساوي شيئًا وأُعطِيت أكثر ممّا تساوي.
وهكذا فالتقييم الحقيقيّ يحتاج إلى ناقد حقيقيّ، وناقد موضوعيّ مُطّلع على المناهج، ويحتاج أيضًا إلى نوع من التذوق، لكي يستطيع أن يُنصفَ الإنتاجَ الأدبيّ الذي يتناوله ويكتب عنه.
باختصار شديد إقول: إنّ ما يجب أن يكتب عنه الناقد، وهذا ما لم يحدث أبدًا عندنا، هو أن يتناول المضمون، والشكل من الناحية الفنية، واللغة، والناحية الاجتماعيّة في هذه الرسالة التي يُحاول الكاتب أن يوصلها، فالمضمون وما يُسمّونه الرسالة أو المحتوى، هو شيء أساسيّ، وما لم تكن هناك ناحية فنيّة، فالمضمون لا يساوي شيئًا، فيمكن أن يكتب مقالة لا قصّة قصيرة، واللغة يجب أن تكون ذات مستوى أدبي جيّد جدّا، وبدون أخطاء وتراكيب ركيكة، وهي كثيرة جدّا، والأخطاء كثيرة جدا، والمتابع يلاحظ ذلك جيّدا، وأحيانا نبالغ ونقول: إنّ من يخطئ خطأ واحدًا، لا يمكن أن نُعدّهُ أديبًا، ولكن اليوم يتساهلون ويقولون: من يخطئ حتى مئة خطأ، يمكن أن نعتبره أديبا، وذلك لأنّ الأخطاء أكثر من أن تُعدّ، وهي مزعجة جدا.
وأيضًا قضيّة الأصالة والتقليد، فهل العمل أصيل ومن إنتاج الكاتب مضمونًا وفكرة وشكلا ولغة، أم أنه متأثر يحاول إعادة أشياء قرأها؟
يجب دائمًا أن نميّز بين أمرين، فيما نُسمّيه المشهور وما نسمّيه المُهمّ، فليس دائمًا المشهور هو المُهمّ، وليس دائمًا المُهمّ هو المشهور، وما نلاحظه أنّ هناك الكثير من الإنتاج القصصيّ الذي يمكن أن نصفه مشهورًا، هو ليس مُهمًّا، وهناك الكثير من الإنتاج القصصيّ المُهمّ وهو ليس مشهورًا حتى الآن، فلكي ننصف المُهمّ وننصفَ (المشهور) بين قوسين، يجب أن تكون هناك دراسات منهجيّة تقييميّة، تعيد النظر فيما كُتب حتى الآن، وبغير ذلك، لن يتقدم أدبنا، ولن نعطي فكرة صحيحة عنه، ولن نستطيع أن نسير إلى مستقبل أفضل.   
وجاء في مداخلة د. بطرس دلّة:
هذا الدّيوانُ الـمُنمنمُ هو أوّلُ إصدار لهذه الشّاعرة الواعدة، والّذي فيهِ تتجلّى موهبتُها الشّعريّةُ، في مجموعة من القصائدِ القصيرة المُنمنمة، والتي تكشفُ لنا فيها عن مكنوناتِ قلبها الدّافئ، بكلماتٍ أشبه ما تكونُ بنزفِ الرّوح حبرًا على ورق، أو قُلْ هي مناجاةٌ بضميرِ المُتكلّمة لفتى الأحلام، فيها الكثير من الرّقة والجمال، تُهديها إلى كلّ امرأةٍ نزفت روحَها ولم ينزف قلمُها، ولوالديها وزوجها وابنها وابنتها الغالييْن على قلبها، وإلى كلّ قارئ وقارئة، خاصّة أولئك الذين يقرؤونَ السّطورَ وما اختفى خلفَ الكلماتِ والسّطور.
هذا الإهداء يذكّر بما كان قد قاله محمود درويش:
اِجرْح القلبَ واسْقِ شعركَ منه      فدَمُ القلبِ خمرةُ الأقلام
حقًا؛ إنّ كلماتِ هذا الديوانِ الصّغير هي نزفٌ لِقلمٍ شامخٍ، ونفسٍ فيها الكثير من الكبرياء المُحبّبة، والتي تخاطب شغافَ القلوب، مع شيءٍ مِن المُراهقة المُحبّبة على النّفوس! فالدّيوان كلّهُ عبارةً عن مجموعةِ همساتٍ دافئة، نسجَ الحبُّ رحلتَها قصيدة في كتاب، كما تقولُ في قصيدتها الأولى. فهي تمارسُ الرّحلة الأخرى، وتتعثّر جملتان حول تانك الغيمتين الشّاردتين، اللتيْن لولاهما لما اعتلى عرشَ اللقاءِ ووهجَ القبلتين همسُ العيون، ولم تتحقق فيما بعد رحلة أخرى إلى الذّكرى.
الصّمتُ واللّقاء: يتملكها الصّمت في لقاء مَن تحبّ، فتقول إنّ لعشقها سحرَ الخيال، وعندما تلتقي الشفتان يكون الصّمت أكثر بلاغة. من هنا ومن نبيذ الشّفتين المعتّق سوف تسكبُ صمتها قصيدة، فيتحوّل الصّمتُ إلى ثورةٍ على القيود. وفي محاولة منها للتّخلّص من تلك القيود سوف تعزف سيمفونيّة الوجد وتترك له قصيدتها ليغزل من خيوطها ثوبًا للشّمس وعباءة مجد للقمر، وعندها يتحوّلُ الشّوقُ ليصبح سفيرًا لروحِها، فتصبح كلماتها شعلة صمتٍ في صخب الحَبّ.
تقول في (ص 21): "لِيكُنْ شَوقي سفيرَ روحي/ كلماتي التّائهة/ على مُنحدرِ الغياب/ شُعلةَ صمتٍ/ في صخبِ الحُبّ/ روحًا تبحثُ عن روحِها/ في متاهاتِ الكبرياء"!
وتعود في قصيدتها "رحلة إلى النّسيان"، فتلجأ إلى الصّمت الذي يتملّكها بقولها (ص 52): "عندما أسافرُ/ في بحرِ عينيْك/ يَتمَلَكُني صمتٌ/ يحتضنُ/ ألفَ سؤال/ ترسو/ في الحزنِ المكتومِ/ حيرتي/ بعدما اغتالَ رحيلُكَ/ البسمةَ والأحلام"!
وفي قصيدتها "لقاء عند مفترق الزّمان" تعود إلى الصّمت بقولها (ص65): "مِن نظراتِ الشّمسِ/ أخفيْنا عيونَنا/ حتّى لا يفضحَنا الـهُيام/ ولا تبوحَ بِسِرِّنا/ خيوطُها الممتدّةُ على صفحاتِ الأيّام/ تحتَ شمسِ الخريفِ/ عشقتُكَ بصمتٍ/ حُرِّمَ الكلامُ.. وأُسرَت الحروف/ وما بقي.. إلّا همسُ العيون"!
وفي قصيدتها "ثورةُ نجمٍ واشتياق" (ص23): فتبدع في وصف اللقاء حيث تقول: "مُعَتّقٌ لقاؤُنا/ على أعتابِ الشّوق/ سرمديٌّ شغفُنا/ لعناقٍ طويل/ ليلكيٌّ انتظارُنا وأرقُ النّجوم/ تَوقٌ.. يُثيرُ اللّيلَ والشّجون/ عناقُ العُيونِ طال/ سقطتْ نجمةُ الأحلام/ ثارتْ على عبثِ الأيّام/ تناولتْها أكفُّنا/ باركتْ ثورتَـها/ اعتذرَ منها الزمان/ وأزهرَ اللّقاءُ/ فُلًّا وريحان"! فهل هناك لقاء أجمل من هذا اللقاء؟!
وفي قصيدتها "لم يزهر رحم الورد" (ص27) تقول: "هامَ اللّيلُ/ في عشقِ جنينِ الحُلم/ توْقًا/ لربيعِ الحُبِّ/ غابَ اللّقاءُ/ غابَ الحُلْم/ولم يُزهرْ/ رحمُ الورد"!
وفي قصيدة "حضور يغمره الغياب" تعود إلى الحديث عن اللقاء (ص58): "في حضورِكَ الفوضويّ/ إثارةٌ للعشقِ/ على مدارجِ الوهمِ/ ونقشٌ للحُلمِ/ على/ لافـتاتِ الزمنِ الماضي/ ودعوةٌ/ لِفراشاتِ الأرض/ إلى حديقةٍ مُتخيّلة/ في حضورِكَ الفوضويّ/ ترتبكُ مشاعرُ الوَلَه/ في حَضرةِ شَغَفِ/ اللقاءِ المُنتظَـر/ في حضورِكَ الفوضويّ/ نكهةُ الغزلِ/ ونسيمُ لقاءاتِ الهوى/ وهمسُ العيونِ/في حضورِك الفوضويّ/ إشارةٌ/ لغيابٍ مُرتقَب"!
وتعود للحديث عن اللقاء بقولها (ص64) في قصيدتها "ثورة عشقٍ ومطر": "لحضورِكِ ورحيلِكِ/ في صَحْوي وهذياني/ يثور الشّوق أكثر وأكثر/ ولا يُخمِدُهُ اللقاءُ الـمُـؤجَّل/ ثوري قاتِلَتي/ ثوري/ ففي ثورتِك/ عشقٌ مُعَطَّر"!
وفي (ص74) في قصيدتها "طقوس الحب" تكرر الحديث عن اللقاء بقولها: "على ضفافِ اللقاءِ انحدرت/ قُبلاتٌ وأشواقٌ/ وكَلِمات/ لها نكهةُ النّبيذِ الـمُـعتّق/ ورائحةُ البَخورِ الـمُنبعِثة/ مِن مَعابِدِ الحُبِّ المـُعطّر"!
هكذا وجدناها في معظم قصائد هذا الديوان، تعود من حين لآخر، وتكرّر بعض المصطلحات مرّتين وثلاثًا وأكثر، فتكتسب هذه المصطلحات جمالًا على جمال، كما يردد المغنون ألحانهم، وفي كلّ مرّة يكتسبُ اللّحن المتكرر رونقًا خاصًّا، وجمالاً ما بعده جمال.
حوارات الحبّ والغزل: القسم الأكبر من قصائد هذا الدّيوان، يدور على طريقة الحوار بين الشّاعرة ومَن تُحب. فحينًا تلتقي فتى أحلامَها وتعاتبُهُ، وترتفعُ في وصفِ موقفها من الرّجل، الذي لا يرى في المرأة سوى جسد يُشتهى، بينما تجعل نفسها كمن يبحث عن الحبّ الرّوحاني الكامن في أعماق الرّجل، لدرجة التّجنّي على الرّجل، في قصيدتها "لا تنتظرها" (ص9)، تتجنّى على الرّجل، فتصفه كمن يبحث في أعماقها عن منفضة الشّهوة والغزل، بينما تصف نفسَها كمن يبحث في أعماق الرّجل عن روحهِ وذكريات الحبّ الحقيقيّ، مترفّعة بنفسِها عن الشّهوة والغزل!
فإذا كان الجنسُ حالة طبيعيّة، فإنّ الحاجة إليه متوازية بين الذكر والأنثى، فالمرأةُ تبحثُ عن أسباب وطرق إزالة الألم الذي يُصيبها، عندها لا تجدُ فتى الأحلام لتروي شهوتها، كذلك الرّجل عندما تعصرُهُ آلامُ الحياة، فإنه يبحث عن راحةِ البال والهدوء النّفسيّ، عندها يَركنُ إلى صدر المرأة، يستمع إلى نبضاتِ قلبها، ويعودُ بالذاكرةِ إلى أيّام كان طفلاً رضيعًا، كما قال أحد الشّعراء مُتغزّلاً:
سأغمر بالورد للشّامخين    على الصّدر أغفو كطفل وليد
وكما قال نزار قبّاني: يا شاعري ألم ألقَ في العشرين من لم يُفطمِ!
في قصيدتها "لقاء عند مفترق الزّمان" تدخل في حوار مع ذاتها، فتصل إلى حدّ الهذيان، فهي إذ تلتقي به، يكون اللقاء كمن يشرب القهوة المعطّرة بحبّ الهال. فهي تعشقه بصمت، فلا يبقى لها سوى همس العيون التي تنزف بصمتٍ، خوفًا من عقاب الطّقس والتّقاليد والدّين. لذلك فهي تدّعي أنّها تعرفه لكنّها تجهله في آن. تعبده وتنكره في آن واحد. تعشقه وتكرهه، تشتهيه وتمقُتُه. تدعوه إلى رحلة في الذّكريات، فيصبح حبيبها وعدوّها في آنٍ واحد. لذلك فهي تطلب منه أن يرحل من سطور حياتها إلى اللاّمكان، لأنّها ترفض أن يستعبدها الزّمان، وأن تسجد للنّسيان! تصل درجة التّماهي مع من تحب، فتبدأ معه "حوارية الحب" وهي إحدى قصائد الدّيوان (ص68): "قالت: أتُحبُّني أنت؟/ قال: نعم! أعشقكِ أنا!/ قالت: أمجنونٌ أنت؟/ هل تعرف مَن أنا؟/ قال: مجنونٌ أنا منذ عرفتك!/ قالت: أتعرفُني جيّدًا؟/ قال: عِطرُ زهرِك مشهورٌ/ وعسلُ خدّيْكِ مشهودٌ/ وخمرُ فمِكِ مطلوبٌ/ والسّكْرُ في عينيكِ مأمولٌ/ قالت: أنا لا أعرفُكَ!/ قال: أنا  مقتولُكِ في العشقِ/ قالت: إذن عشقُكَ مقبولٌ مقبول!"
هكذا تنتهي هذه الحواريّة بالقبول، بالرّغم من الكبرياء المارّ ذكرها، ولكنّها تبدو كنوع من الهذيان، فأيّ حبّ هذا لدرجة الهذيان، وذلك لما فيه من تناقضات كما بيّنّا!
المستحيلات: تَحدثنا عن بعض المتناقضات التي تؤدّي إلى الحبّ. والآن سنتحدّث عن بعض المستحيلات، التي تصل فيها شاعرتنا إلى الحُبّ أيضًا!
ففي قصيدتها "نوّر اللّوز في أيلول" (ص10): نجد الكثير من المستحيلات: ادّعاؤها بأنّ اللّوز نوّر في أيلول، ونحن نعرف أنّ اللّوز قد ينوّر في شهر شباط وآذار، ولكنّه لا ينوّر في أيلول لأنّ ذلك مستحيل. ثمّ إنّ الشّمسَ تشرق من الغربِ، وابتسمت أزهار الياسمين. هكذا إذن؛ طالما تكون هذه الأمور مستحيلة، كذلك فإنّ الحبّ لديها مستحيل، فلا يأتي إلاّ ثائرًا متمرّدًا على حرمة الوصل في ليل العاشقين.
وفي القصيدة التالية "رقصة على إيقاع الحُبّ" (ص11): "راقِصيني/ على إيقاعِ الحُبّ/ واغزلي/ مِن ورقِ الشّجر/ فستانَ عشقٍ أخضر/ اُتْرُكيـني/ عاشقًا/ هائمًا/ تائهًا/ غارقًا/ في عسلِ عينيْكِ/ أَمتصُّ رحيقَهما/ حتّى آخِرِ رمقٍ/ في العُمْر"!
فنلاحظ أنّها تتحدّث عن إيقاع الحب! فما هو هذا الإيقاع؟ وكيف يكون؟! إنّها استعارة رائعة! ولكنّها غير موجودة، لأنّ الحبّ ليس له إيقاع! والحُبّ يغرق ويتيه في عسل عينيها، حيث يمتصُّ رحيقهما حتّى آخر رمق في العمرِ!؟ هذه اللّغة الفنيّة هي ما تصبغ هذا الدّيوان؛ فتسبغ عليه ثوبًا من الجمال الذي ما بعده جمال!
الانتصار للمرأة وللإنسانيّة:
من يقرأ قصائد هذا الدّيوان، سيعتقد لأوّل وهلة أنّه ديوان حب، ولكن نظرة متمعّنة في مضامين القصائد سوف تكشف لنا، أننا إزاء شاعرة حسّاسة حتّى الثّمالة في محبّتها للإنسانية، وفي دفاعها عن المرأة المغتصَبَة، وفي لوعتها على الاطفال الأبرياء المشرّدين، والذين اغتُصبت طفولتهم بسبب الحروب. هكذا في قصيدتها "سأحبّك أكثر" (ص25): "وهجُ الحُبِّ يَكبُرُ ويَكبُر/ سأُحِبُّ أطفالَ العالمِ الـمُشرّدين/ على أرصفةِ الاغتصابِ/ وسُخريةِ الأقدار/ سأُحبُّ كلَّ امرأةٍ وفتاةٍ/ هُتِكَت أنوثتُها/ على مِقصلةِ الزّمنِ الغادر/ سأُحبُّ مَن خَذَلَهُ الضّميرُ الإنسانيّ/ وغابَ مِن ليْلِهِ سلامُ القلوب/ وافتقدَ نهارُهُ أمْنَ الدّروب/ سأُحِبُّ مَن أحبَّ السّلام/ هذا العام وكلَّ عام"!
وفي قصيدتها "فسيفساء وياسمين في ثورة الحنين" (ص29): لا تنسى شاعرتنا ما يحدث في سوريا من اغتصاب الحريّات، ومن مجازر الجلّادين وقتل الأبرياء من النساء والشيوخ والأطفال في قولها:
"أشلاءُ إنسانٍ أنتَ/ في سوريا/ أشلاءُ بَشَرٍ هناك/ على/أرصفةِ المدينة/ تتضرّعُ/ لِربِّ الأرضِ والسّماءِ/ طفلةٌ يتيمة/ تبكي/ دماءَ شهدائِها/ دمشقُ الحزينة/ يَعتذرُ الياسمينُ/ عن عطورِه الحائرة/ رثَتْ فسيفساءُ الشّام/ أمَّها/ أشلاءَ وطن/ باتت شامُكِ/ يا أحلامَ الطفولة/ انتفضَ التّرابُ/ وعادتْ أرواحُ الشّهداءِ/ نفضَتْ عنها ذُلَّ الهزيمةِ/ شوارعُ المدينة/ يا الله../ بعثُكَ خيرٌ وسلام/ أملُ اليتيمةِ واليتيم/ وطفلِ المدينة/ يَبحثُ فيكَ/ عن هُويّتِهِ/ بعدَما/ اعتصرَ الذلُّ فيهِ/هُويّةَ الطفولةِ/ وهُويّةَ المدينة"!
إنّ حساسيّة شاعرتنا وتأثّرها بما يدور حولنا من أحداث، كان يجب أن تتركَ أثرها في هذا الديوان، ولو بقصيدة واحدة أو أكثر. فهي في هذا المجال لا تقلّ كتابتها ولغتها الفنيّة روعة، عن كتابتها في مواضيع الحُبّ والعشقِ والجمال!
في نهاية الدّيوان وجدت قصيدة شذرات (ص76-77)، والتي رأيت فيها أجمل ما في قصائد هذا الدّيوان. ومع أنّ معظم القصائد جميلة، وقد اخترنا منها ما اخترناه، إلاّ أنّ ذلك لا يكفي للحصول على الانطباع الحقيقيّ عن الدّيوان، لأنّه من أجل ذلك على القارئ أن يطالع جميع قصائد هذا الدّيوان، وأنا أَعِدُهُ بأنّه سوف يجد متعة ما بعدها متعة في كلّ قصيدة وفي كلّ شطر. وإلى شاعرتنا الواعدة أقول: لكِ الحياة أيّتها الصّديقة!
وفي مداخلة الأستاذ صالح عبّود بعنوان اللّغة الحواريّة في حواريّات "على شرفة الذّكرى" جاء:
السّادةُ الحضور، احتفاءً بولادةِ وليدِ نسرينَ الجديدِ: "على شُرفةِ الذّكرى"، أقفُ بينَ أيديكم أُطِلُّ من خلالِ ورقتِي هذهِ، والّتي أواري بها خلَجاتٍ أورَثَتْنِيها قراءتي ما جَمَعَتْهُ مجموعَتُكِ النّسرينيّةُ يا نسرينُ.
اسمحوا لي، وقبلَ الدّخولِ في قراءتي للحواريّات وأسلوبها في مجموعة "على شرفة الذّكرى"، وهي غايتي الثّانية من حضوري بينكم، أن أعلنَ عن غايتي الأولى، وهيَ أن أزفَّ شُكريَ وامتنانيَ العظيمينِ لشاعرتِنا المعطاءةِ الفذّةِ الجميلةِ في كلِّ ما كتّبتْ، ودَوّنَتْ، وأرَّقتْ بهِ سطورَ مجموعتِها هذهِ، وسِواهَا من قَبلُ ومن بَعدُ، وقدْ أدمنتُ قراءَتها يوميًّا في صفحتها المتوقّدة صباحَ مساءَ في الفيسبوك، وهيَ صفحةٌ حقيقةٌ بالقراءةِ والاهتمامِ لما فيها من نصوصٍ وقصائدَ ومقطوعاتٍ من إبداعِ النّسرينْ.ها أنا باسطٌ أكفّيَ ثناءً وعِرفانًا.
كانَ الحوارُ مرهونًا بالفنّ المسرحيِّ دَهرًا، إلى أن وَفَدتِ النّظريّاتُ النّقديّةُ الحديثةُ، واتّسعَ نطاقُ السّردِ ومفهومُ الخطابِ والتّناصِّ، فصارَ الحوارُ بأنماطهِ المتعدّدةِ عُمدةً من عُمَدِ المباني السّرديّةِ في النّصّ الشّعريّ، كما هوَ من قَبلُ في النّصِّ النّثريِّ.
يُشكّل الحوارُ مدخلًا أساسيًّا في الحداثة الشّعريّة الّتي نُعاينُها في الشّعر العربيّ الحديث بصورةٍ عامّةٍ، ولو أنْعمنا النّظرَ في نصوصٍ شعريّةٍ تعتمدُ بنيةَ الحواريّاتِ على اختلافِ أنساقها، لعلمْنَا أنّ تقنيّةَ الحوارِ قد ساهمتْ في رفع مستوى الوعيِ، والعمقِ في الكتابةِ الشّعريّة عند لفيفٍ من الشّعراء، ولو استقصينا المساحاتِ الحواريّةِ في مادّتهمِ الشّعريّةَ، لاستطعنا الوقوفَ على حقيقةِ ذلكَ.
للحوارِ حضورٌ ملفتٌ في مجموعةِ "على شُرفة الذّكرى"، إذ يشهدُ القارئُ في مادّته ونصوصهِ الشّعريّة مساحاتٍ حواريّةً شتَّى، توظّفها الشّاعرةُ النّسرينُ بما ينسجمُ والمضمونُ من جانبٍ، والمقصدِ أوِ المغزى من جانبٍ آخرَ.
لا شكَّ أنَّ اللّغةَ الشّعريّةَ الحواريّةَ تلعبُ دورَها، في نقلِ الجوِّ العامِّ للقصيدةِ من واقعهِ الخطابيّ اللّغويّ المُحَوَّرِ، إلى واقعٍ أكثرَ موضوعيّةً ودراميّةً ووقائعيّةً، وذلك من خلالِ حواريّةٍ إيحائيّةٍ ممتنعَةٍ على التّسطيحِ المبتذلِ، فصوتُ الشّاعرِ الفونولوجيِّ يتوجَّهُ من الخارجِ نحوَ داخلِ المتلقّي، باعثًا فيهِ شعورًا بالتّماهي معَ القضيّةِ الجوهريّةِ في القصيدةِ، وبذلكَ يلعبُ الحوارُ دورَهُ التّثويريَّ والتّحفيزيَّ، ويكونً مطيّةَ الشّاعرِ في التّواصلِ معَ القارئِ.
في قصيدتها "حواريّةُ حبٍّ" ص68، جاءَ فيها: حواريّةُ حبٍّ/ قالت: أتحبّني أنتَ؟/ قالَ: نعمْ! أعشقُكَ أنا!/ قالَتْ: أمجنونٌ أنتَ؟/ هَل تعرفُ من أنا؟/ قالَ: مجنونٌ أنا منذُ عرفتُكِ!/ قالتْ: أتعرفُني جيِّدًا؟/ قالَ: عِطرُ زَهركِ مشهورٌ./ وعَسلُ فمِكِ مطلوبٌ/ والسّكرُ في عينيكِ مأمولٌ!/ قالت: أنا لا أعرِفُكَ!/ قالَ: أنا مقتولُكِ في العشقِ/ قالتْ: إذًا/ عِشقكَ مقبولٌ مقبولْ!
صورةٌ حواريّةٌ رائقةٌ بينَ عاشقينِ يتبادلانِ أسئلةَ الوجودِ في عوالمِ العشقِ، تبدأُ هيَ حوارَها معهُ، بجملتِها الإنشائيّةِ وَسؤالِها: "أتحبُّني أنت؟"، وتنتهي القصيدةُ بجملَتِها الخبريّةِ "إذًا، عِشقكَ مقبولٌ مقبولْ"، وبينَ سؤالِها الاستهلاليّ وجملتِها الخاتِمةِ للنّصِّ أسئلةٌ أخرَى توجّهها الأنثَى، فيجيبُ عنها الذّكرُ، فعمادُ المشهدِ الحواريِّ في هذهِ القصيدةِ الوجدانيّةِ هوَ الأسلوبُ الاستفهاميُّ التّتابعيُّ، المُفضِي إلى علاقةٍ تقومُ على سؤالٍ محوريٍّ حولَ الحبِّ الّذي لا يعرفُ للتّفاصيلِ الشّخصيّةِ في حالاتٍ ما منزلةً، ولا يقيمُ للفروقِ بين الحبيبِ والمحبوبِ وزنًا.
في الواقع، ليستِ المساحةُ الحواريّةُ في القصيدةِ الأخيرةِ بديلًا عنِ الغنائيّةِ، بل متداخلةً فيها، وَكَأنّي بشاعرةٍ تجمعُ بينهما في بناءٍ إبداعيٍّ متكاملٍ، وهيَ دالَّةٌ تدلُّ على وعيها الفنّيِّ، بأهمّيّة التّكاملِ بين الحوارِ اللّفظيِّ والإيقاعِ البنائيّ للقصيدةِ الواحدةِ، ممّا يضمنُ اختراقًا للسّياق اللّغويّ التّقليديّ، ويفجّرُ الطّاقاتِ الإيحائيّةَ للنّصِّ الشّعريّ وَمَداهُ الحواريِّ.
لا بُدَّ لكلّ تجربةٍ شعريّةٍ حقيقيّةٍ من دَفقٍ شعريٍّ وَقَّادٍ يستنطقُ الذّاتَ، وَيكشفُ عن مكنوناتِ النّفسِ، ويغوصُ عميقًا في خَلجاتِ الرّوحِ، وبواطنِ النّفسِ، وتقلّباتِ الحياةِ الإنسانيّة وتناقضَاتِها وصِراعَاتها، بغيةَ الوصولِ إلى رؤية فنّيّة واضحة، تحملُ رسالةَ الأدبِ النّفسيّةَ، وتنقُلُها إلى عالمِ التّجربةِ الإنسانيّةِ بصدقٍ وشفافيّةٍ، دونَ تملّقٍ أو صَنعةٍ، شريطةَ أن تنصهرَ في بوتقةِ الشّكلِ، وتلتحمَ معهُ التحامَ الرّوحِ بالجسدِ، ليولدَ الإبداعُ من خلالِ ثنائيّةِ الرّؤيا والتّشكيلِ.
في قصيدة "حواريّة ذكرٍ وأنثَى" ص 69: نُعاينُ شاهدًا شِعريًّا يَعكسُ احترافًا في توظيفِ الحوارِ، لتبئيرِ قضيّةٍ باتتْ هاجسًا لدى كثيرٍ من الإناثِ، إذ يقومُ الحوارُ فيها على صورةٍ واقعيّة غيرِ مُتخيَّلَةٍ، ترصدُ الشّاعرةُ من خلالِها حالةً مجتمعيّةً، تُنبِئُ عنِ الهوَّةِ السّحيقةِ بينَ مشاعرِ الصّداقةِ الودّيَّةِ الصّادقةِ غيرِ المُلطَّخةِ بآثامِ الغرائزِ المُنفلتةِ، وبينَ مشاعرِ الحبِّ الشّهوانيِّ المجرَّدِ منَ العفَّةِ والصّدقِ والوجدانيّةِ، إذ جاءَ في القصيدةِ الحوارُ الآتي:
حِواريّةُ ذكرٍ وأنثَى/ قَالَتْ: أنتَ صَديقِي/ قالَ: أنتِ حَبيبتِي/ قالَتْ: أنتَ أخِي ورفيقُ فِكريْ/ قالَ: أنتِ دُميَتِي وَمبعثُ عِشقي/ قالَت: أنتَ زَميلي/ قالَ: أنتِ مُلهمتِي.. في العشقِ والغَزَلِ/ قالَت: أنَا أحترمكَ/ قالَ: أنا أشتهيكَ/ قالت: أراكَ لا تؤمنُ/ بصداقةِ الأنثَى والذَكَرِ/ قالَ: أنا أؤمنُ بثقافةِ العشقِ المحرَّمِ!/ فصفَّقَ لهُ المجتمعُ/ وَنَقاهَا/ إلى جزيرةِ الإثمِ.
المكاشفة الحواريّة في القصيدة الأخيرةِ تلعبُ دورًا في إيصالِ الدّلالةِ والغرضِ منَ القصيدةِ للقارئِ المتلقِّي،
استخدمتِ الشّاعرةُ التفاتًا مقنعًا في صيغِ الأفعالِ في قصيدتها الأخيرةِ، إذ جعلتْ من فواتحِ الجملِ القوليّةِ الفعليّةِ ماضويّةً في زمنها، ثمَّ أعقبتها بصيغٍ فعليّةٍ حاضرةٍ مُضارعةٍ متمّمةٍ للسّياقِ، وذلكِ يشيرُ إلى أنَّ النّظرةَ القديمةَ الماضيةَ في المجتمعِ الذّكوريِّ للعلاقةِ بينَ الذّكرِ والأنثى، لا تزالُ ترزحُ تحتَ وطأةِ القيلِ والقالِ القديمةِ، الّتي تفترضُ أنَّ اللقاءَ بينَ الجنسينِ حبيسُ الثّقافةِ الجنسيّةِ ومفاهيمِها الغرائزيّةِ الشَّبقيّةِ.
كما أنَّ القفزَ بين زمنيّ الماضي والمضارعِ في مساحةِ الحوارِ، في سياقِ القصيدةِ والبيتِ والجملةِ، يدلُّ على تعدّد الأصواتِ، وهيَ تقنيّةٌ حواريّةٌ واعيةٌ تُفصحُ الشّاعرةُ من خلالها، كما فعل كثيرٌ من الشّعراءِ، عن موقفِها وصَوتِها إزاءَ القضيّةِ أو المسألةِ وما يتعلّقُ بها.
أنْ ينطويَ النّصُّ الشّعريّ على مساحةٍ حواريّةٍ قصيرةٍ أو متوسّطةٍ أو طويلةٍ، يُعتبرُ أمرًا ناهِضًا بالنّصِّ نحوَ وَعيٍ وإدراكٍ بِأهمّيّةِ الحواريّةِ فيهِ، لكنَّ اعتمادَ الشّاعرةِ النّسرينْ مبنًى حواريًّا متكاملًا شَاسعًا، يسعُ حدودَ النّصِّ برمّتِهِ، لَهوَ مؤشِّرٌ على امتلاكِها ناصيةَ الحوارِ، وتوظيفها إيّاهُ بوصفِهِ تقَنيَّةٌ خليقَةٌ بالتّعبيرِ عنِ الدّلالاتِ والرُّؤَى المنشودةِ. تلفّعتِ القصيدةُ بواقعِ المجتمعِ، وصوّرتهُ من خلالِ فلسفةِ الحوارِ التي تُناقش جوهرَ العلاقةَ بينَ الأنا الذّكوريّة والآخرِ الأنثويِّ، 
أختمُ بقولي: إنّنا في حضرةِ النّصّ النّسرينيِّ أمامَ شاعرةٍ، تسعَى إلى تشكيلِ حواريّاتها، كي تصوغَ في مشروعِها الشّعريِّ تفسيرًا كيفيًّا للعالمِ، من خلالِ نافذةِ الحبِّ ومفاتيحِهِ. أبارِكُكِ نسرينُ، وانتظرُ منْ غيثِكِ المزيدَ الغَدِقَ..
مداخلة الناقد د.محمد خليل المكتوبة، التي لم يتسنَّ له أن يُدلي بها، لاضطراره المفاجئ بالمغادرة جاء:
بداية، نحيي الشاعرة الواعدة نسرين لمناسبة إصدارها الأول الموسوم بـ "على شرفة الذكرى"، فكل مجهود إبداعي محمود المقاصد، مرحب به، لا بل مطلوب لما فيه من رفد للنتاج الأدبي المحلي، وإضافة لرصيدها من نتاجها الخاص. طبعًا مع تمنياتنا لها بالمزيد من العطاء الإبداعي مستقبلاً، حتى تستطيع أن تتبوأ مكانتها اللائقة بجدارة، في مشهد حركتنا الأدبية المحلية، فقدمًا إلى الأمام دائمًا، ومن نجاح إلى نجاح، ومن إبداع إلى إبداع.
ما يلحظه القارئ على الإصدار الجديد، أن الغالبية العظمى مما تضمنه من خواطر شعرية، جاءت تكرر نفسها، إن من حيث الأفكار والموضوعات والدلالات، وإن من حيث المفردات والألفاظ. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا: إن تلك الأفكار والموضوعات، مثال ذلك: (الحب، الغزل، اللقاء، الفراق، الرجل والمرأة، العادات والأعراف الشرقية، لاسيما فيما يخص النظرة إلى المرأة ومعاملتها، التي تعيدنا إلى واقع عهد قد مضى وانقضى من زمن الآباء والأجداد وما إلى ذلك) قد تكررت كثيرًا لدى الشعراء المحليين وغير المحليين، حتى استنفذ الكلام فيها تقريبًا، وأصبحت موضوعات نمطية في قوالب جاهزة.
وهنا يحضرنا مطلع معلقة عنترة الذي يقول: هل غادَرَ الشُّعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمٍ/ أمْ هل عرفتَ الدّارَ بعدَ توَهُّمِ؟ ومن قائل يقول: لقد سئمنا وشبعنا حتى التخمة، من تلك الموضوعات والأفكار التي تتكرر باستمرار!
ما يجعلنا نعلن: ألا نغادرها؟! ألا يوجد موضوعات أخرى تشغلنا، حتى تصبح تلك شغلنا الشاغل؟!
ثم هل نحصر إبداعنا في تلك الموضوعات ونتوقف عندها ولا نتجاوزها إلى سواها؟
فما كان أحوجنا إلى الابتكار والإبداع والتجديد! فالشعر ليس قوالب جاهزة من الأفكار والموضوعات والمفردات وحتى الدلالات، إنما رؤيا وكشف وتصوير وخيال خصب، وتجاوز للحاضر إلى المستقبل، تجاوز للواقع إلى عالم افتراضي متخيَّل، خارج المفاهيم النمطية السائدة، ما يمكن أن يثير ويؤثر في الوجدان والعواطف والعقل.
وقد رأى بعضهم وشدد وأكد، على أن عنصر الخيال، في أي مجال، أفضل وأهم من المعرفة!
لكن الذي يحدث في واقع الحال، كما يبدو، أنه لا بد للشاعر كل شاعر، لاسيما وهو في بداية تدرجه، أن يؤم تلك العتبات حتى يتعمد بها، ويتزود منها بتلك الموضوعات التي باتت معروفة وجاهزة.
بالنسبة للغة التي تم توظيفها في الإصدار الجديد، وهو ما يستوجب التنويه والإشارة، لأن اللغة، بمنظور ما، هي العنصر الأهم أو المادة الأساسية والأولى التي ينسج بها ومنها الأديب إبداعه، وكذا الشاعر منها يبني أبياته، فإنه من الواضح أن اللغة جاءت متناسقة ومنسجمة إلى حد كبير مع لغة الناس، مع ما هو متعارف عليه، أي أنها قريبة جدًا إلى أفهامهم، بمعنى أنها لغة سلسة وسهلة وقريبة، من دون تصعيب أو تعقيد، وهذا يسجل لصالحها حقًا، فالمفردات سهلة والألفاظ بسيطة. وبما أن الألفاظ تعد أوعية للمعاني، والعلاقة بينهما علاقة تبادلية وتكاملية، فقد جاءت الألفاظ سهلة وبسيطة بما يتلاءم مع الأفكار والمعاني، أي متلائمة ومتناسقة بعضها مع بعض.
وتجدر الإشارة في هذا السياق، وهو أمر معروف، أن لغة الشعر، كما يفترض أو يجب، لغة إشارة لا لغة عبارة، بمعنى أنها يجب أن تميل أكثر إلى التلميح لا إلى التصريح. ولا بأس من الغموض ولا نقول الإبهام أو التعقيد، حتى تشد القارئ وتستثيره إلى محاورتها، على أن لا تستجيب له من اللقاء الأول، وهو ما افتقده القارئ.
ومما تجدر الإشارة إليه أيضًا، إلى أن اللغة الموظفة جاءت تقريبًا خلوًا من لغة الابتكار والكشف والرؤيا، وهي أقرب ما أقرب ما تكون إلى اللغة المتداولة كما قدمنا.
وكتبت الروائية فاطمة ذياب:
(على شرفة الذكرى) وقفت الحروف ليلة أمس، كي تبحر في سراديب الما وراء، وكلٌّ يحاول الغوص بعُدته وعتاده إلى عمق الأعماق، فقالوا وصالوا وجالوا، والسؤال كما التفاحة شهيًّا، يتسربل بنكهة ذات مذاق يشابه مذاق العسل المر!؟ ما وراء والما وراء يخص الشاعرة كما يخص الروح والجسد.
بعيدًا في ركن قصيّ، كنت أجلس مغمضة العينين، بصمت أسجّل كلّ همسة، وأرقب هذا الإبحار، وتبارى الجمع في الغوص والتحليل واكتشاف بُعد الأبعاد، ونسرين تبلع ريقها تلهث وراء النقاط!
من منهم استطاع ولولوج بحرها الصاخب؟ من تعمق في بُعد الأبعاد؟ تدرّج النقاش ليصل إلى الشبقية ومراودة الذات للذات، حتى خرج النقاش عن طوره، وكاد البحر الصاخب يفور ولا يهدأ؟
ونظلّ نتابع نسرين وانفعالها وهدأتها ما بين الحروف والكلمات، فهل كانت نسرين ذاتها التي (ذرفت روحها ولم تذرف قلمها)؟ وسيان عندها من قرأ ومن لم يقرأ، فالأهم لديها تفجر الوجع الخاص والعام، ففي فورة الروح والجسد، تعربد الأنثى داخلها في رحلة البحث عن الذات، ونحن من (عبق الروح) نشتم التفاصيل والجزيئات، (نحالف الزمن) كي نرسم للقدر خارطة أخرى، حول خاصرة الأيام، وننسج الحب قصيدة في كتاب، ونواصل ونتواصل (تحت وهج الشمس)، ننسج بصمت (شرفة للذكرى)، ونحن كما نحن، نخوض في الممنوع، ويستوطننا الحلم فنسكبه بصمت القصيدة، ونعزف سمفونية الوجد على حافة هاوية، وبرغم كل شيء نظل وتظل الأنثى في أعماقنا، ترنو لميلاد تحت الشمس، تحيكه ثوبا من خيوط أنوثتها، كي تعانق نور الحقيقة، وعلى هامش الذكرى تظل لنا مليون حكاية، ومليون قصة تحمل بصماتنا، وألوان مساحيقنا، وروائح عذرية، أحلامنا الصغيرة والكبيرة، في محاولة جريئة تخترق كل الغيبيات والمسلمات، كي تراقص الزمن على إيقاع الحب، والحب لديك يختلف بمذاق آخر، ينسج حكاياته من ورق الشجر، عشقا هائما تائها غارقا بالتفاصيل والجزيئات، يبحث ما بين أناك وأناه، ويبحر في حضرة الغياب والعتاب، في رحلة بحث ياسميني  القسمات، وما وراء قسمات أخرى من هواجس سرمدية؟
أيتها الأنثى، هي الأنثى شعر على الكتفين وعسل عينين ومحراب ثغر، ترسمينها بين الخيوط المتناثرة بنبرة احتجاج، لكل أبجدية الحروف المشتهاة، وتعلنين ثورتك على كل الأقدار.
عزيزتي نسرين، ما بين شفتي حروفك سافرت الليلة بكبرياء، أفتش عنك فيك، في أرض أوسع من الحلم، وفي سجلات التاريخ ما بين المكان والزمان، وما بين الجسد والروح، وجدتك شاعرة تلملم الوجع، وتنثره فوق أديم الصفحات، لتكون هي الأنثى بكل اللغات، تعايشين الخاص والعام معايشة وجدانية، ما بين أرض وسماء، ولا تملين البحث عن عذرية الروح، وتصرخين: انا يا هذا أريدك أن تحبني (انثى بملامح حورية)، وأظل بين النقاط أبحث عنك بدوري، وأجدني بين سطورك والنقاط.
لقد أجدتِ الإبحار الرقيق، وأكاد أجزم انه ليس الإبحار الأول، هكذا تنطق التعابير واللغة السهلة المتمنعة، فأنت والرقة توأمان. لك مباركتي ويقيني، أنك تمتلكين الناصية والأدوات في مشوارك الأدبي، بلغة مشوقة ترسم الأعماق، وتلونها بزرقة صافية رقراقة.

وفي مداخلة بروفيسور رياض إغبارية: بعصور النهضة للأدب العربي عرف الأديب بذلك المُلمّ بعدة مواضيع، مثل الشعر والفلسفة والرياضيات والفلك والكيمياء وغيرها، ولم يقتصر كما هو اليوم على كتابة الشعر والنص الأدبي، فابن خلدون والبيروني وابن سينا وابن رشد وأبو علاء المعري وغيرهم، كتبوا الشعر والعلوم والفلسفة. ومن قرأ باكورة حوارات وأشعار الأديبة نسرين حسين فراج بعنوان "على شرفة الذكرى"، يشعر بتناغم الكلمات والأحاسيس والمشاعر والخيال والذّكريات، لترى بين السطور ووراء الكلمات جميع العلوم قد استخلصت، لتجعلها أديبة بكل ما يعني هذا اللقب، لما تثيره نصوصها بدماغ الإنسان وجسمه من تفاعلات، تخضع لقوانين الفيزياء والجاذبية بين الأحبّاء، كما تلونها بأجمل الألوان وانعكاساتها، بلوحة لم ترسم من قبل لمشاهد وحوارات، فترى أطياف الألوان وأمواج الرّوح القصيرة منها والطويلة، وذبذبات القلب عندما تلتقي العيون، أو عندما يكون الصمت سيد المشهد، ليفيض بالدماغ هورمون السعادة ليغمر شواطئه، ليتدفق بكل زاوية من خباياه. وتبيّن الأبحاث الحديثة لعلوم الدماغ بأن قمة المتعة، حين يفرز هورمون السّعادة بعد عصر غددها بالدماغ بجميع المناطق وبكلا الجهتين للدماغ. فإنّ انسياب الكلمات التي تحمل بين طياتها مشاعر هياجة، وأحاسيس لاهفة للقاء، أو فراق بصعود أو بهبوط بالماضي أو المستقبل تحت ضوء القمر أو عبق الجوري، وكلها تصب بعيون عسلية لترسي هناك، فالزمن والضوء والفلك والبحر وضفاف النهر وخفقات القلب وجمال العيون، لهو نسيج من الشعر والأحاسيس وعلوم الأحياء، والفيسيولوجيا التي تثير الدماغ ليفرز هورمون السعادة، ليفجر بركانًا من النّشوة الرّوحانية، ليعود القارئ مرة تلو الأخرى، ليقرأ ويقرأ من هذا المنتوج الأدبي الراقي والرائع. وبالنّهاية أتمنى المزيد من العطاء والتّألق لشاعرة الحيدر"..
وفي الكلمة الأخيرة لنسرين حسين فراج جاء: مساؤكم محبّة وكلماتٌ ليست عابرة في أرواحٍ وقلوبٍ احتضنتني اليومَ، واحتضنت حروفي وهواجسي وكياني. اسمحوا لي أولاً أن أتقدّم بوافر شكري وتقديري للّجنة التّحضيريّة التي بادرت لولادة هذه الأمسيّة وإشراقتها:
أشكر: الأستاذ الشّاعر رشدي الماضي، والشّاعر الدكتور فهد أبو خضرة، والأستاذ أمين القاسم، والشّاعرة المتميّزة والصّديقة العزيزة الأخت آمال عواد رضوان، والدكتور ووالدي الأدبيّ الأستاذ النّاقد بطرس دلّة، والزّميل سابقًا والاخ العزيز الدكتور صالح عبّود، وعائلتي المصغّرة والدَيَّ العزيزين، وزوجي الحبيب وابنتي وابني الغاليين، وإخوتي وأخواتي نبضُ حياتي.
وأخيرًا وليس آخرًا أنتم "عائلتي الثّانية"، لكم منّي باقات ياسمين لحضورِكم ومداخلاتِكُم ونورِكم الذي أضاء عتمة المساء، فالنّور الدّاخليّ النّابع من القلوبِ الصّافية والعقولِ الرّاقيّة ،لا يعترفُ بعتمةِ الوقت ويتخطّى حدودَ الزّمن. وتحضُرُني الآن مقولةُ الغائبِ الحاضرِ فينا محمود درويش: "سأصير يومًا ما أريد"! مقولةٌ تدفعُنا دومًا نحو خطًى ثابتةٍ راسخة للارتقاءِ في معرج تحقيق ذات.
فكانت "الأنثى المؤرّقة" والمجتمع بكلّ تعرجاته والبالي من موروثِهِ، والقيودُ الصّماء والمسلّماتُ جميعُها معًا ما نفضَ قلمي فأسالَ حبري، لأكتبَ لكلّ امرأة نزفت روحها ولم ينزف قلمُها، لأقولَ نحن لسنا ناقصاتٍ بل فكرًا يعتلي جسدًا يحملُ قلمًا حرًّا!
فنحن حينَ نكتب نصير فكرة تسكبُ الرّوحَ نصًّا يبعث صوتَ قلوبِنا وعقولِنا بعيدًا، ليعودَ إلينا الصّدى يحمل فكرةً أخرى، من رحم هواجسنا وإيماننا بذاتنا وبغيرنا وتوقنا للحريّة للارتقاء للمساواة وذبول سياسة التّمييز خصوصًا بين الذّكر والانثى. لذلكَ أكتب، لذلك أقول: تحالف وإياها على الزّمن، ولا تتحالف والزّمنَ عليها، عانق وردَها لا تترك يدَها لينسجَ الحبُّ رحلتكما، قصيدةً في كتاب، تصير هيَ أنتَ، وتصيرُ أنتَ هيَ، وتصيرُ الفصول جميعُها، ربيعًا ينثرنا فُلاًّ وريحان.


142
والله يا آمال، لا أعرفُ سرَّ هذهِ الدّراساتِ لقصائدِك! أُغبِّطُكِ على ذكاءِ علاقاتِك!
إعداد: آمال عوّاد رضوان
هذه الكلمات وردتني من إحدى الكاتباتِ في رسالة مقتضَبةٍ، وبصيغةٍ لم أُدْرِكْ حقيقةَ كُنهِها، أهو مبعَثُ فرحٍ وغِبطةٍ، أم ......؟
دارتْ برأسي الصّغيرِ احتمالاتٌ عدّةٌ، ولم أعرفْ بمَ أُجيبُ، رغم أنّني كنتُ قد كتبتُ لموقعِ المُثقّف العربيّ في أستراليا، ملفًّا واسعًا وبإسهاب، حولَ عمليّاتِ النّقدِ والتّقييم الذّكوريّ والموضوعيّ، ولكن حينَ صَبَّ السُّؤالُ في مِياهي، شَرَقَ بَحْري، ودَارَ بلبلُ الاحتمالاتِ في حَلقةِ الـ ربّما المُفرَغة، وتاهتْ بيَ الإجابات؛
أربّما هو سُؤالٌ بريءٌ حقًّا، وتُريدُ السائلةُ أنْ تُغبّطَني بكلِّ ما في الغبطةِ مِن معنًى؟ أربّما هو سؤالٌ مُبطّنٌ، يحملُ ما يحملُ في مُتونِهِ؟
جالت الاحتمالاتُ اللاتنتهي، وظلَّ السّؤالُ يَشدُّني إلى معرفةِ ما وراءِ الأكمةِ، وحين ضاقَ بيَ فضاءُ المَعنى واستجلاءِ الحقيقةِ، كانَ همّي أنْ أُنصِفَ السائلةَ وأُنصِفَني، وأُنصِفَ كلَّ مَن كتبَ عنّي مِنَ النّقّاد، أو مَنِ استحسنَ حرفي برسالة أو بمكالمةٍ هاتفيّة!
أخيرًا؛
حطّ فِكري على مَطارِ النّقّادِ مَن كتبوا عن قصائدي، وارتأيتُ أنْ أُجيبَها بأَلْسِنَتِهمْ هُم لا بلساني! ومن خلالِ ردٍّ صريحٍ أنشرُهُ عبرَ مَواقعِ النتّ، فقد يكون جوابًا عامًّا لسؤالٍ يجولُ في خواطرِ الكثيرين منّا، ولا بدَّ أنّ لكلّ ناقدٍ سرُّهُ. لذا سارعتُ إلى نسخ السّؤالِ، وتوْجيهِهِ إلى بعض مَنْ توفّرَتْ لديَّ عناوينُهم مِنَ النّقادِ الّذينَ كتبوا عن قصائدي:
(مساؤُكَ نورٌ وعفو.. أودُّ أنْ تُجيبَ إنْ أمكنكَ وبمُنتهى الصّدقِ، على سؤالٍ وَرَدَني مِن إحدى الكاتبات تقولُ: والله يا آمال، لا أعرفُ سِرَّ هذهِ الدّراساتِ لقصائدِكِ! أُغبِّطُكِ على ذكاءِ علاقاتِكِ! تحيّاتي).

كانَ ردُّ رياض الشرايطي/ من سوسة تونس الخضراء: كلامٌ ملغومٌ وغيرُ بَريءٍ.
فالجملةُ الأولى: "لا أعرفُ سرُّ هذهِ الدّراساتِ لقصائدِك"؟.. يوحي بتشكيكٍ في شاعريّتِكِ.
والجملةُ الثانيةُ: "أُغبِّطُكِ على ذكاءِ علاقاتِك!"، جملةٌ مَحشوّةٌ بالحسَدِ والاستنقاص مِنْ قيمتِكِ!

وجاءَ في ردّ الشاعر وهيب نديم وهبة/ فلسطين: لو عرفنا سِرَّ سِحرِ الوردِ وعِطرِهِ، لعرَفنا تفسيرَ الكوْنِ. هكذا هي آمال، وكأنّها القصيدة!

أمّا ردُّ النّاقدِ عبد المجيد عامر اطميزة/ مِن الخليل فلسطين: تحيّاتي أستاذة آمال عوّاد رضوان، وبوركتِ يا العميقة، وسأجيبُ السّائلةَ وبصِدقٍ. أنا حلّلتُ أعمالَ آمال عوّاد رضوان لسَببيْن؛
السّببُ الأوّلُ: عُمقُ كتاباتِكِ، وقوّةُ تراكيبِها، وما تَحمِلُهُ مِنْ صُورٍ فنّيّةٍ عذبةٍ، ومَضامينَ كبيرة. باختصارٍ، وَجدْتُ في شِعرِكِ ما يَستحقُّ الدّراسة.
والسّببُ الثّاني: بحاسّتي اكتشفْتُ صِدْقَكِ ومُروءَتَكِ. بوركتِ ووفّقكِ اللهُ.. معَ وافرِ التحايا.

وجاءَ في ردّ الأديب والناقد العراقي علوان السلمان: تحيّةً طيّبةً.. أسعدَ اللهُ وُجودَكِ، وأنزلَ غضبَهُ على تلكَ الأفواهِ الحَسودةِ الكاشفةِ عن ظنونٍ غبيّةٍ. عزيزتي، الحسدُ قائمٌ في كلِّ مَكانٍ، وهذا رِفعةٌ لشأنِكِ.
أمّا الاهتمامُ بالنّصّ الشّعريّ الّذي تكتبُهُ آمال عوّاد رضوان، فيأتي مِن كوْنِها تكتبُ بوعيٍ شِعريٍّ، يَكشفُ عن مدى امْتلاكِها لأدواتِها الشّعريّةِ، فضلًا، عن أنّها تعكسُ الهَمَّ الإنسانيَّ في نصوصِها، ممّا يُوفّرُ شرْطَ انعكاسِ الصّورةِ الذاتيّةِ، وذوبانِها في الذّاتِ الآخَر.

أمّا ردّ الناقد والأديب إبراهيم جادالله/ من القاهرة جمهوريّة مصر العربية: إبراهيم جادالله معروفٌ عربيًّا بنزاهتِهِ وحِياديّتِهِ، فأهمُّ كُتبي الصّادر في حيفا، هو عن أسماءٍ لا أعرفُ أصحابَها بالمَرّة، وكلُّ مَواقفي النقديّةِ تعتمدُ مِعيارًا واحدًا معَ مَنْ أعرفُهُ، ومعَ مَن لم أعرفْهُ.    لا علاقةَ لي شخصيًّا إلّا بالكُتّاب الجادّين، وإنّني مُمتَنٌّ للإخراج الفنّيِّ لكتابِكِ النقديّ الصّادر عام 2014 "حتفي يَترامى على حُدودِ نزفي"، الصّادر به بعضُ دراساتي عنكِ، وعن أدواتِكِ الشّعريّةِ، وعن نَصِّكِ ومَوقِعِهِ في حركيّةِ النصّ الشّعريّ الفلسطينيّ، ومِن أسَفي، أنّني اكتشفتُ أنّ أدائي فى دراستي عن بعضِ قصائدك، لم يكنْ بالمستوى الطبيعيّ لرؤيتي النقديّةِ الثّابتةِ، ولم تكنْ مُتوازيةً معَ بعضِ الدّراساتِ المُمنهَجةِ، والجديرةِ بالاحترامِ عن دواوينِكِ وقصائدِكِ، وكانت الوثائقُ العابرةُ الّتي التقيتُكِ بها، كفيلةً بأنْ تُؤكّدَ لي، أنّ نصَّكِ الشّعريَّ الباذخَ لا يَتعارضُ في مَناخاتِهِ معَ تكوينِكِ الإنسانيِّ البليغ وجسارةِ الوعي، والشّغوفِ بالمُنجَزِ الشّعريِّ العربيِّ والعالميِّ الحديث. هذا الأمرُ يَبدو جَليًّا فى نصوصِكِ، إنْ مِن حيثُ التّناولِ، أو مِن جهةِ الرّؤيةِ القافزةِ على عوائقِ التّكلُّسِ الشّعريّ، الّذي يُصيبُ القصيدةَ العربيّةَ، أو التّقليدَ المُتغابي لبعض التجارب. أتمنى عزيزتي أن ألقاك فى معرض رام الله القادم، لأهديكِ ما صدرَ لي أخيرًا من كُتب، وأهمّها كتاب (كنت هناك)، و(ليسَ مَن شاهدَ كمَن سمِع)، عن رحلتي الأولى لفلسطين.

أمّا د. جمال سلسع فقد كتب: مساءُ الخير يا آمال.. وجدتُ في كتاباتِكِ لغةً جديدةً تحتاجُ إلى الرّعايةِ والاهتمام، خاصّةً جرأتكِ في تجسيدِ الصّورةِ الشّعريّة، وعندما تناولتُ قصائدَكِ، أشرتُ إلى المواقفِ الإيجابيّةِ، كما إلى بعضِ المَواقفِ السّلبيّةِ!

وردّت الرّوائيّة فاطمة ذياب/ فلسطين: عزيزتي الشاعرة آمال عوّاد رضوان.. باختصارٍ شديدٍ، استوقفتْني ضراوةُ حُروفِكِ، ورائحةُ مِدادِ حِبرِكِ الّذي يُعربدُ في مَملكة الشّعر، ورأيتُكِ كما الغوّاص الماهر بعُدّتِهِ وعِتادِهِ، تَغوصين بصِدقٍ وبإنسانيّة، قلّما نجدُها في هذا الزمنِ الغادر، وعرفتُكِ مِن خلال حَرفِكِ شفّافةً، تَنتقينَ الأعذبَ والأجمل، وتحيكينَ بخيوطِكِ الماسيّةِ كلَّ أصنافِ الوجعِ الخاصّ والعام. نعم؛ كانتْ لغتُكِ عصيّةً مُتمنّعةً، فقرّرتُ المواجهة وهكذا كان، ومِن هنا جاءَ تناوُلي الأوّلُ لكتابكِ (رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقود)، حتى قبلَ أن تربطنا أيّةَ علاقةٍ خاصّة.
قلتها وأقولها لكِ، يا مَن تحتَ فيءِ اهتمامِكِ تستظلُّ الشّاعراتُ الواعدات.
نعم أيّتها الشاعرة الإنسانة. أنتِ وحُروفُكِ مُترادفان.. ولا بأس! فلا تُرجَمُ إلّا الأشجارُ المُثمرةُ! تابعي ولا تلتفتي لصغار النفوس، فما طالَكِ الأقزامُ ولن يَطالوكِ! لكن من حقّنا أن نَعلَمَ مَن صاحب هذا الرأي، ومِن حَقّكِ ألّا تقولي، لكن الأهمّ، أنّكِ تستحقّينَ وبصِدق، كلّ ما كُتبَ عنكِ يا مائيّةَ الحروفِ والنّبضات.

أما ردّ شيخنا الشاعر محمّد سمحان- عمّان الأردن فجاء فيه: لقد رأيتُ في لغتِكِ وصُورِكِ الشّعريّةِ، وفي مَجازاتِكِ وأسلوبِكِ، ما يُميّزُكِ عن سِواكِ، فانتبهتُ لكِ.

وفي رد د. إبراهيم سعد الدين- القاهرة جمهورية مصر العربية: أسعدَ اللهُ مساءَكِ بكلّ الخير.. أرجو أن توافيني بعنوان هذه الكاتبة، لأردّ عليها بنفسي قائلًا: إنّه في عالم النقد لا يمكنُ أن يَصحَّ إلّا الصّحيح.. وأنّ أيّة علاقاتٍ شخصيّةٍ لا تَرفعُ عملًا أدبيًّا قَيْد أنْملة في ميزان النقدِ الأدبيّ، وبالنسبة لي، كان اطّلاعي على قصائدِكِ المنشورة بموقع (الكلمة نغم) مفاجأةً كبيرة، ودون سابق معرفة.
لقد كان لي موقفٌ مُتحفظ مِن تجارب (قصيدة النثر) في بواكيرها الأولى، التي حفلت بالصّالحِ والطّالح والحابل والنابل. أقولُ كانَ شِعرُكَ المَنشورُ مفاجأةً لي، لأنه أكّدَ لي بما لا يَدَعُ مجالًا للشّكّ، أنّ تجربة (قصيدة النثر) تحتوي على أعمالٍ جادّةٍ وأصيلة، وأنّ مثلَ ما فيها من حصًى وشوائب كثيرة، فإنّ فيها أيضًا الجوهرَ الثمين. فكان أنْ كتبتُ أولى مطالعاتي لشِعرِكِ (سحر الكلمات) عام 2004 بعنوان (سحر الكلمات.. عصفورةُ النّارِ ومُهرةُ الشّعر الأصيلة)، سجّلتُ بها انطباعاتي الأولى عن قصائدِكِ المنشورة بالموقع الإلكتروني، والّتي لم تكن قد نُشرتْ بَعْدُ في كتاب.
كان هذا قبلَ أنْ أتعرّفَ على شخصِكِ الكريم (آمال عوّاد رضوان). ثُمّ أتبعتُ ذلكَ بكتابةِ تقديمٍ لديوانِكِ الثاني: سلامي لك مطرًا. بالنسبة لي لا أخلطُ مُطلقًا بينَ العلاقاتِ الشّخصيّةِ وبينَ النقد. ودليلُ ذلك، أنّ لي أصدقاء كثيرون من كبار المبدعين، ولم أكتب عن أعمالهم، وبعضهم عاتبٌ عليّ، والبعضُ الآخرُ تأثرت صداقتي له بسبب ذلك. لا بأس. لأنّهُ في النهاية لا يصحّ إلاّ الصحيح.

وفي ردّ الشاعر والناقد العراقيّ حسين الهاشمي: لا تُتعِبي نفسَكِ أو تُشغِلي وقتَكِ بالبحثِ عن إجاباتٍ لأسئلةٍ نسائيّةٍ، لا يَعنيها الجانب الفنّيّ، قدْرَ ما يَعنيها الجانب الشّخصيّ ! ومَن يُريدُ أنْ يَعرفَ رُؤيتي، فقدْ دوّنتُها في كتاباتي النقديّةِ عن نُصوصِكِ، وغيرُ هذا يُعتبرُ تسطيحًا للموْضوعِ كلّهِ! لا تستغربي، فهذه ضريبةٌ، لأنّكِ جميلةٌ ومُبدعةٌ ومشهورةٌ، وتلكَ (غيرة نسوان) أو (غيرة الوسط)، وللأسف، هي مُنتشرةٌ ولو بشكلٍ سِرِّيٍّ وغيرِ مُعلَنٍ!

"لا أعرفُ سرُّ هذهِ الدّراساتِ لقصائدِك"؟! ليسَ هناكَ سرٌّ في الموضوع، إنّما هناكَ نصٌّ وقراءةٌ ومزاجٌ وفرصةٌ مُهيّأةٌ للكتابة، ولا يَعني ذلك بالضرورة، أنّ تناوُلَ النّصّ نقديًّا، هو تفوُّقُ هذا النصِّ أو ذاك، وصدارتُهُ فنّيًّا على باقي النّصوص، بقدر ما يعني توفّرَ الفرصة للاطلاع والاكتشافِ والرّؤية، إضافة إلى وجودِ المُبرّراتِ الفنيّةِ، وحُبّ العمل والقدرة على الإقناع.
ولكن المشكلة الحقيقيّة، أنّ الكتابة عن شاعرةٍ ما، سواء كانت معروفة أو غير معروفة، قد تُثيرُ لدى بعض الوسط الأدبيّ والثقافيّ تساؤلاتٍ وشكوكًا، وربّما تثيرُ بعضَ (الغيرة) هنا أو هناك، وهو ما يُدعى بـ (غيرة الوسط)، وهو موضوعٌ شخصيٌّ ونفسيٌّ، أكثرَ ممّا هو فنّيٌّ أو ثقافيّ. والنقاد أو الكُتّاب غيرُ مَعنيّين بهذا المستوى من التّداول السّطحيّ، لأنّ العمليّة النقديّة أو الثقافيّة عمومًا، هي أبعد من الأهداف ومن الأغراض السطحيّةِ غير الدّاخلة في العُمق القيميّ والفنّيّ للأشياء، وهو نوعٌ مِن التّجاوُز أيضًا، يعني أن تكتشفَ ما لا يراهُ الآخرون، أو يَجهلونَهُ في هذا العالم، وهذه مُهمّةٌ صعبة، تحتاجُ إلى مواجهةِ الكثير من التّشكيكِ والتّهم، وحتّى الإساءات ربّما، لأنّ الفنّ عمومًا يحتاجُ حياةً كاملةً، وليسَ جزءًا منها فحسْب، وهذا سِرُّ نجاحِكِ! وطز بكلّ المُشكّكينَ والسّطحيّينَ، فحتى أنّ (نازك الملائكة) رائدةَ الشّعر الحديث تعرّضتْ في زمنِها للتّشكيكِ والهجَمات!
وجاء في ردّ أديبنا البروفيسور فاروق مواسي: هناك عددٌ مِن الأسباب. أنا مثلًا أتناولُ حسبَ المحورِ المطلوب لمجّلةٍ، أو لمؤتمرٍ، أو لدَواعٍ سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ، أريدُ أن أؤكّدَ عليها، أو لفكرةٍ أدبيّةٍ أريدُ أنْ أعرِضَها، فالكتابةُ انتقائيّةٌ، وليست لسَواد عيون فلان أو نكاية بفلان. وهناك أسبابٌ أخرى تتعلقُ بالظرف، فكتابتي اليوميّةُ في صفحتي تتعلّقُ بالرّاهن أو الحدَث، ومَن كتبتُ فيهِ شِعرًا أو قصّة أو نقدًا، لاحظت أنّني أُقانصُ المُناسباتِ والأحداث، وأعرضُ ما كنتُ كتبتُ فيها، ويومَ أنِ احتفيْنا بكتابِكِ الأوّل (بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ) في مطلع عام 2006، في الصّالون الثقافيّ في الناصرة، كانت لي ملاحظاتٌ في الطّاقةِ اللّغويّةِ، الّتي كانتْ مَثارَ التّساؤُلِ، وتتّسمُ بجرأتها وجدّتها.
وأنا لا أسألُ عن الشخص أبدًا، إنّما تهمّني الفكرةُ أو الظاهرةُ أو الموضوع. وعندما كتبتُ قصيدة وشاعر، عندها اهتممتُ بستة عشر شخصًا، فاخترتُ لكلٍّ منهم قصيدةً، وتناولتُها بشكلٍ موضوعيّ، وانتقيتُ الشعراءَ بسابقِ اطّلاعٍ وخبرةٍ دقيقةٍ وموضوعيّة. وكثير يرجونَ أنْ أكتب عنهم، وعمري ما فعلتها.
وقريبا سأقدّمُ دراسةً عن شِعركِ لجامعة جدارا، وعندها سأرسلُ لكِ الدّراسة!

أما الشاعر العراقيّ جوتيار تمر صديق فجاءض في ردِّه: الجوابُ لا يكونُ قطعيًّا في هكذا سؤالٍ، فالمسألةُ ليستْ حظوظًا وعلاقاتٍ، إنّما هناك ما يَجذبُ الأنظارَ، ويُجبرُ النّاقدَ على الانقيادِ لروحِ النّقدِ تجاهَ النّصّ، فيتّخذُهُ مَسلكًا لدراستهِ، وهناكَ ما يجذبُ نظرَ الناقدِ ليقرأ، ولكن لا يُجبرُهُ أن يَكتبَ دراسةً، وأنتِ لديكِ إحساسٌ ومصداقيّةٌ في كتاباتِكِ، تجعلُ المُتلقي يعيشُ وقعَها، وتجعلُ الناقدَ يبحثُ عن حيثيّاتِها، فتُلزمُهُ بالكتابة!
لكن واقعَنا الحاليّ يَفرضُ أحيانًا نوعيّةً من هذه العلاقاتِ، وبعيدًا عن تلكَ المِثاليّةِ الموضوعيّة، ومع أنّنا نحاولُ تجاوزَهُ، لكن يبقى الأمرُ بنظرِ الكثيرينَ مَرهونًا بالعلاقاتِ، فالواقعُ الأدبيُّ بعيدًا عن المثاليّة التي ربّما نحن قليلونَ جدًّا مَن نؤمنُ بها، فواقعُنا يَعيشُ حالة تَرَدٍّ غيرَ ما هو مفروض، فيهتمُّ بالكاتب، وإذا لم يكن الكاتبُ موجودًا، فلا داعٍ للنّصّ، ولهذا نعيشُ فتورًا في اختيارِ النّصوصِ والأدباء، ونعيش واقعًا متردّيًا، حتى في العلاقاتِ بين الأدباء، حيث الاستغلال، وحيث بعض المسائل الأخرى التي طفَتْ، وجعلتْ أسماءَ كثيرةً تسقطُ في وحلِ الواقع المُتردّي!

وأخيرًا جاء في ردّ الأديب كتب فريد شاكر حسن/ فلسطين: برأيي المتواضع، أنّ أسبابَ هذا الاهتمامِ والتّناوُلِ يَكمنُ في: نشاطِكِ الأدبيّ والثقافيّ، وغزارةِ نِتاجِكِ، وفي عطائِكِ المُتواصلِ، وإبداعِكِ المُميّزِ، وجَماليّاتِ قصيدتِكِ النثريّة، عدا عن موضوعاتِكِ الإنسانيّةِ، وتركيزِكِ على الأنثى وجسدِها ومُعاناتِها وأحاسيسِها، وكذلك الإيجازِ اللّفظيّ، والتّوهُّجِ الإشراقيّ، والجمالِ الفنّيّ النصّيّ البارز في قصائدِك، ويُضافُ إلى كلِّ ذلكَ أنوثتك، وسِحرك، وجاذبيّتك الخاصّة، وعلاقاتك الإنسانيّة الحميمة، والمُتعدّدة مع أصحاب القلم ومتعاطي الكلمة .

143
حيفا ولاجئةٌ في وطنِ الحداد!



آمال عوّاد رضوان
أقامَ منتدى حيفا الثقافي حفلَ إشهارٍ وتوقيعٍ للدّيوان (لاجئةٌ في وطنِ الحداد) للشاعرة سلمى جبران، والصّادر عام 2014 من دار نينوى في الشام حيفا، وذلك بتاريخ 8-1-2015، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، وقد رحّبَ الأستاذ المحامي فؤاد نقارة؛ رئيس نادي حيفا الثقافيّ، بالحضور، وتخلّلتِ الأمسية وصلاتِ عزفٍ على العود، أدّاها الفنان حبيب شحادة، وتضمّنت الأمسيةُ مداخلةً للأديب فتحي فوراني، وحوارًا وقراءاتٍ شعريّةً أدّتها سلمى جبران، وقد أدار الأمسية المُربّية رنا صُبُح، وكان للحضور مُداخلاتٍ فعّالةً حولَ شخصِ المُحتفى بها، ومن ثمّ شكرت سلمى جبران الحضورَ والمُشاركين، وتمّ التقاط الصُّور التذكاريّة.
جاءَ في كلمةِ رنا صُبُح الترحيبيّة: تتحوّلُ الكلمة مِن رسْمٍ على الورقِ، إلى إنتاجٍ يتنفّسُ ويتأوّهُ ويتمرّدُ، يَصدُقُ ويُصادقُ، يَعشقُ ويُفارقُ. يتحوّلُ إلى إنسانٍ مُغادِرٍ وغادِرٍ، مُقيمٍ ومُسافرٍ، مُتقلّبٍ وحائرٍ.
سلمى: يَسرُّني ويُشرّفني أن أقفَ هنا أمامَ هذا الحضورِ المُميّزِ النّوعيّ، لأختصرَ رحلةً كانتْ طويلة، فيها حِرْتِ واحترقتِ، ومِنَ الرّمادِ خرَجْتِ عنقاءَ وشاعرةً.
الحضورُ الكريم، نحتفلَ بإصدارِ الشّاعرةِ سلمى جبران مَجموعتِها الشّعريّةِ الأولى؛ (لاجئةٌ في وطنِ الحِداد)، والتي جاءتْ في أربعةِ دواوين: {دائرة الفقدان، والحُلمُ خارجَ الدائرة، ومتاهة الحُبّ، وحوارٌ معَ الذات}، والتي صَدرَتْ عن دار نينوى في الشام وحيفا. وبما أنّ الدّواوينَ الأربعةَ صَدرَتْ في آنٍ واحدٍ، إلّا أنّها مُتسلسِلةٌ في مَراحلِها الوجدانيّة، تِباعًا لِما مَرّتْ بهِ الشاعرة مِن تجاربَ، فظهَرَتِ فيها بقامةٍ شِعريةٍ فارعةٍ لها خاصيتِها، وفي هذا المَقام، لا يَسعُني سوى تقديم باقاتِ المَحبةِ والتقدير لسلمى، على إضافتِها النوعية  للشعر العربي عامة، والفلسطيني تحديدًا، وأخصُّ بالشكرِ فؤاد نقارة؛ رئيس نادي حيفا الثقافي، التابع للمجلس المِلّي الأرثوذكسيّ الوطنيّ، إذ سَعى لنلتقي  هنا، وأشكرُ جميعَ الأعضاءِ المُضيفينَ، فلكُم منا أنقى مشاعر الشكرِ والتقديرِ، على الاستقبال الطيب الدافئ في هذا اليوم القارس، وأقدّم أعطرَ باقاتِ الشكرِ للفنّان حبيب شحادة، الذي سيُرافقنا على أوتارِ عودِهِ الشجيّ في فقراتٍ فنّيّةٍ مُستقلّةٍ، والشُّكرُ الجزيلُ لتلفزيون نورسات على بثّ الأمسيةِ، وأصدقُ التحيّاتِ أُقدمُها لكم أيها الحضور، وأدفأ المُنى بأمسيةٍ شعريةٍ مُمتعةٍ،  ويُرصَدُ ريعُ الديوان لجمعية السّوار النسويّة، ومشاريعِها في مؤازرة المرأةِ، ومساعدةِ النّاجياتِ مِن الاعتداءاتِ الجنسيّة.
طرحت عريفةُ الأمسيةِ رنا صُبُح مجموعةً محوريةً وشاملةً من الأسئلةِ حول شخص وشعر سلمى.
1*رنا صبح- مَن تكونُ سلمى جبران الشاعرة والإنسان؟
 سلمى أجابتْ بنَصٍّ بعنوان (صلاة): يا رَبِّي علِّمْني أن/ أغفِرَ حِقدًا/ أَنْ أَنسى/ علِّمني كيفَ أواجهُ/ كرهًا، حجرًا أَمسى/ يضربُ أَطفالي ويحطِّمُ/ حُبِّـي ويهيِّئُ لي رمسا/ لا أعرفُ إن كانَ الحاقِدُ/ والغاضِبُ جِنًّا أم أنسا/ يا ربِّي اجعلني أُغنيةً/ يسمعُها الحاقِدُ تُطربُهُ/ علِّمني كيفَ أَرُدُّ يديَّ/ وأَقوى! روحي تضربُهُ/ وأرْشِدْني كيف أَسيرُ/ وكيفَ يهونُ عـليَّ تجنُّبُهُ/ علِّمْني كيفَ أُحيلُ عذابي/ كأسًا من خمرٍ أَشربُهُ/ علِّمني كيفَ تصيرُ حياتي/ حنجرةً تشدو للحُـبِّ فأَكتبُهُ/ وانصُرْ في قلبي أملًا حـيًّا/ يغزوهُ الحـاقِدُ يسـلبـهُ/ وامنحْهُ حُـبًّا وفـؤادًا/ وضميرًا ينهاهُ فيُرهِـبُهُ/ واجعلني مرساةً لـلآثِمِ/ ففؤادي يتواضَعُ مطـلبُهُ:/ هل يأْتـي يومٌ يصحو فيـهِ ضميرٌ؟/ أَنتظِرُ اليومَ وأَرقُـبُهُ !!
2* لماذا غبتِ عن السّاحةِ الأدبيّة، ما دُمتِ تكتبينَ مِن زمَنٍ؟
اعتقدتُ أنّ ما أكتبُ هو علاجٌ ذاتيٌّ ومُختلفٌ وغريبٌ، ولم أعرفْ أنّ مَن سيتلقّاهُ سيأخذُهُ لأماكنَ أخرى، ولكن أقولُ نصًّا (ما عادَ يُخفيها سِتارٌ): يا قلبُ بُحْ إنَّ/ المواجعَ خمرتي/ وشرابُها نارُ/ يا قلب أُنشرْ/ حرقةً تكويك/ لا خجلٌ يدثرِّها/ ولا عارُ/ فمحبّتي غابَ المُعمّدُ/ في دماها حطّمتْ/ أسرارَها الأقدارُ/ وتعطّلت كلُّ الحكايا/ في سرائرها/ وحطّم سرَّها إعصارُ/ وتصاعدت لهبًا/ أزاهيرُ الهوى/ ما عاد يُخفيها ستارُ/ أُنشرْ مواجعَكَ/ التي نامتْ قرونًا/ شقّ عتمتَها نهارُ/ ألمي وحرماني تحوّل/ لذّةً وأحال نومي/ صحوةً تنساب/ بين عروقها أشعارُ/ وأظلُّ أعجزُ أنْ/ أصُدَّ تدفّقًا منها/ فلا يبقى لدى قلمي خيارُ/ يا ربِّ اسْحقْني/ وانْشُرْني رمادًا/ في الفضا إن كنتَ/ تعلمُ أنّ حبِّي لحظةً/ سيموتُ أو ينهارُ/ يا ربِّ فيكَ ومن هُداكَ محبّتي/ اِرفقْ بها، فلديكَ / يُنصفُني القرارُ...
3*تميلُ الشاعرة جبران إلى الذاتيّةِ في دواوينِها، ونجدُها حالمةً فلسفيّةً في رُؤاها؟
أجابتْ سلمى: فلسفتي هي أنّ أبسطَ الأمورِ أعمَقُها، فأقولُ بنصٍّ بعنوان (حقيقتي): بين المضائق في أحشاءِ/ ظلماتِ القرونِ/ يعيشُ إنسانٌ يعاني/ فتصمُّ آذانُ الورى/ من صوتِ صيحتِهِ المعقّدةِ المعاني/ ويهبُّ في أعماقِهِ وعيٌ يجرّدهُ/ ويُنسيهِ قوانينَ اللسانِ/ فيعيشُ يأكلُ صرخةً/ تُحيي عظامًا مزّقتْها/ عقدةُ الإنسانِ/ فيهبُّ من بين العظامِ/ بصيصُ نورٍ لا يحبُّ/ حرائرَ الأكفانِ/ فحقيقتي في عُرفهم/ كفرٌ تخطّى كلَّ حدٍّ/ في الزمانِ أو المكان.
4*رنا صبح: مِن أين تستمِدّينَ حُلمَكِ وأمَلَكِ؟
أجابت سلمى بنَصٍّ عنوانُهُ (حُلمُ امرأَةٍ عربيّة): دومًا أتخبَّطُ، أركضُ/ وأُفتِّشُ عن حُلُمي/ حُلُمي سرقتهُ منذ قرونٍ/ كلُّ "فُتُوّاتِ" العُرْبِ/ وأَبقتْ لي/ عقلًا يقتلُ وهْمي/ لم تعرفْ أنّي/ يومًا قد أقوى/ أو أخرجُ مِن عدمي/ تركَتْني إذ قطعَتْ فيَّ لساني/ و"ارتاحت من هَمِّي"/ لم تعرف أنّي/ أملكُ قلمًا أو أنّي أقدرُ/ أن أسكُبَ روحي في قلمي/ تركَتْني أحيا/ في زنزانةِ عُرْفٍ/ وأُعاني وأُردِّدُ قَسَمي:/ إنّي لن أَقبلَ بعد اليوم/ بسجنٍ هدمتْهُ/ هجرَتْهُ قِيَمي/ فتراءى لي حُلُمي/ يسطعُ نورًا/ في وجهي إذ يكشفُ/ وجهَ الغجريّةِ فـيهِ../ فأهيمُ وأصرخُ: / هــذا حُلُمــي ...
5* رنا صبح: لمن تكتبين؟
قالتْ سلمى: أكتبُ لِنفسي كعِلاجٍ ذاتيٍّ، وللإنسانِ المَظلومِ الّذي لم يَأخذْ مَكانَهُ الطبيعيَّ في الحياة، وشِعريًّا أقولُ نصًّا بعنوان (آتي لخابيتي): آتي لخابيتي/ فإلى متى ستظلّ/ خابيتي تعتِّق خمرَها/ وتذيب أشواقي/ الحميمةَ بين ظهرانيه؟ِ!/ فأصبُّ ماءَ العمرِ/ في أحشائها .. في خمرها/ يومًا فيومًا علّني أطفيه/ لكنّ رشفة قطرةٍ منه تزيد حرارتي/ وتدبّ في قلبي/ جراح الحبِّ؛ تضنيهِ/ سأظلّ أرشفُ كلّ يوم قطرةً/ منه لكي يبقى فؤادي، هاجعًا/ يقضي لياليهِ/ سأظلّ إن طال الحنين إلى الهوى/ وتخدَّرَ القلب الذبيحُ من النوى/ آتي لخابيتي أُصحّيهِ/ قلبي تعوّد أن يطيبَ/ برشفةٍ من خمرها/ من قلبها، لمّا تكسّر/ كأْسُهُ في فيهِ/ يا ربِّ بارك خمرَها/ لتظلّ ملأى خمرةً/ ومحبةً تروي/ حنيني للهوى، تُحييهِ/ ليظلّ في قلبي هواي/ معمِّرًا ويردّ لي/ سرّ الحياة مصلّيًا/ ومردّدًا أشهى مغانيه...
6* رنا صبح: كيف تُحوّلينَ الموتَ إلى حياةٍ، والبكاءَ إلى نبعٍ، يَمنحُ الحياةَ للكروم والمَحبّةَ للبَشر؟
أجابتْ سلمى: الموتُ هو الجذعُ اليابسُ الّذي يُقلَّمُ، فتَنهضُ الحياةُ، والدّموعُ تَجلو الرّوحَ ومَحبّةَ البشر.
7*  رنا صبح: وكيفَ تَظهرُ المرأةُ العاشقة في شِعرِك؟
أجابتْ سلمى بنَصٍّ عنوانُهُ (تُعَمِّدُني بأُغنيةٍ): كـلَّما حـنَّ فؤادي للهوى/ صارَ الهوى أَكبَرَ، أَجـمَلْ/ فتزورُني روحٌ تعانقني/ وتقتلُ وحدتي../ وتُعيدُ لي تاريخِيَ الأولْ/ وتصهَرُني، تُعَمِّدُني بأُغنيةٍ/ تحكي حكايةَ فارسٍ يرحَلْ/ وصبيَّةٍ عبَثَ الجُنونُ بها/ إذ راحَ فارِسُها ولم يُمْهِلْ/ فتعثَّرَتْ في نفسِها الكَلِماتُ/ عزَّ فُؤادُها أَنْ يُقـتَلْ/ فتحوَّلَتْ آهاتُها حُـبًّا/ يعانقُ روحَها، لا يغفلْ/ ويرُدُّ جرأَتَـها وينصُرُها/ ويُعطيـها فلا يبخـلْ
وبنصٍّ عنوانُهُ (كي يرقى عشقي): أتعاطى العشْقَ/ بقلبٍ يسكُنُ جُمجُمتي/ أشربُهُ كأْسًا/ من خمرٍ يُخرجُني/ من عتمةِ أقبيَتي/ إنّي أتشهّى طعمَ/ الحرّيّةِ كي أرقى/ كي يرقى عشقي/ كي يُنتزَعَ خمارُ الظُّلْمِ/ الأسوَدِ عن أوجُهِ شعبي/ إنّي أعشقُ كلَّ حضاراتِ/ العالمِ كي أعشَقَ شعبي/ مُبتَذِلًا عُقَدَ الماضي/ من كلِّ زواياهُ../ إنّي أترقَّبُ مأْساةً/ قد تصهَرُ فينا كلَّ/ معاناةِ التاريخِ الماضي/ منذُ قرونٍ ولَّتْ/ لا تبصِرُ فرقًا بينَ/ دماءِ شهيدٍ وشهيدهْ/ قد تنجبُ فينا/ رجلاً آخر وامرأَةً أُخرى../ قد تخلقُ فينا/ معنىً آخرَ للحرّيّهْ/ قد تنجبُ منّا أجيالًا/ تفهمُ أكثرَ منّا/ تبصرُ أبعدَ ممّا نبصِرْ/ تنقذُنا، تعطينا/ معنىً آخرَ للحرّيّهْ/ تعطينا معنىً آخرَ/ للإنسانيَّة..
8*رنا صبح: للنقدِ الاجتماعيِّ نصيبٌ في شِعرِ سلمى جبران، وفي قصائدِكِ تُوجّهينَ انتقادًا شديدًا ولاذعًا لفئةٍ مِن البَشر، فئةٍ استغلاليّةٍ، مُنافِقةٍ، مُتعاليةٍ، مُختالةٍ ومُحتالة.
بنصّ (رسالةٌ غريـبةٌ) قالتْ سلمى: تصِلُنـي في كلِّ ليلةٍ/ رسالةٌ أوراقُها/ كلامُها، حروفُها غريبهْ/ أَفتحُهـا تسيلُ من/ طيَّـاتِها دموعْ../ تَغيبُ بي حروفُها وتختفي/ والحبرُ في سطورِهـا يذوبْ/ تختلِطُ الحروفُ في صفحتِـها/ فيصبحُ الكلامُ/ صورةً مظلِـمةً مُريبـهْ/ لبشرٍ تشابكتْ أَطرافُهُـمْ/ والتحمتْ أَجسادُهُمْ/ فكوَّنَتْ دائرةً رهيبهْ!
9*رنا صبح: كيف تعاملتِ مع الصّورِ البَشريّةِ التي اعترضَتْ طريقَ إنسانيّتِكِ وأمومتِكِ وأنوثتِك؟
أجابتْ سلمى: (المّحبّةُ في دمي): بيني وبينك ما لم يحتمل جدلا/ بيني وبينك عشق/ دَهْرٍ عاشَ حُرًّا وانجلى/ كُـنَّا نعاقِرُ فيهِ خمْرًا بالمحـبَّةِ مُثـقَلا/ نشْقى ونحمِلُ جرحَنا/ بمحـبَّةٍ ونقولُ للأحقادِ لا/ فتعمَّدَتْ بالحُـبِّ دُنيانا/ وكُـنَّا للبساطةِ معقِلا/ عُمُرٌ قضيْناهُ وصانَ/ الحُـبُّ فيهِ المنزِلا/ زرَعَ الهوى فيهِ الحياةَ/ وغــابَ وارتَحَـلا/ بقِيَتْ بنفسي مِنْـهُ/ روحٌ تبعَثُ الأملا/ وتَصُـدُّ عَنِّـي الشَّـرَّ/ والأحقــادَ والعـَذَلا/ يا حُــبُّ علِّمـني صلاتي/ فالمحَبَّةُ في دمي صارتْ صلا...
10*رنا صبح: وهل هناكَ دوْرٌ لسَلمى الأمّ في شِعرك؟ وكيفَ تظهرُ الصّورة؟
أجابتْ سلمى: خـذْ كُـلَّ متاعِ الـدُّنـيا/ خذْ منهُ الجِـسْمَ/ وخذْ منهُ الإسْـمَ/ وخذْ منهُ اليـدْ/ خُـذْ كُـلَّ متاعِ
الـدُّنـيا وارتـدّْ/ خُذ شِعرًا خُذ فـنًّا / يُعطيكَ المجْدْ/ واترُكْ لي روحًا أعشقُـها/ وحنينًا وصغارًا أَحضـنهُمْ/ هذا يُغنيني عن/ كُـلِّ كنوزِ الأرضْ.
11*رنا صبح: وأين الوطنُ في شِعر سلمى؟
أجابتْ سلمى: في قصيدةٍ لمْ ترَ النّورَ بَعدُ أقولُ: وطني يسكُنُني ويهاجِرُ بي/ يودِعُني سِرًّا/ أرَّقَ مضجَعَهُ/ لا يفقهُ إن كانَ/ بكاءً أم شدوًا/ أو كانَ نعيمًا أم نارًا واقِعُهُ/ يتوطَّأُ أرضًا/ يَعتنقُ الحُلْمَ فيصحو/ لا يجِدُ مكانًا في دنيا/ باتت تتزاحمُ فيها أضدادٌ/ ما فيها أحدٌ مَعَهُ/ فارتادَ بقاعَ الدُّنيا/ ينشُدُ وطنًا/ في الرّيحِ مواقِعُهُ/ وتهاوى الحُلْمُ/ تحوَّلَ وطني روحًا/ في كلِّ حواسي مَوْقِعُهُ !
12*رنا صبح: الحزنُ في شِعرِكِ يَبدو مُختلفًا، فهل الفرَحُ يَبدو مُختلفا؟
أجابتْ سلمى: الحزنُ والفرحُ يَتماثلانِ بحِدّةِ المَشاعرِ، فأقولُ بنَصِّ (لحنُ السُّكون): قلبي تخدَّرَ/ من خمورِ الحزنِ/ واسترخى بمثواهُ/ ليرقُدَ متعَبًا/ في أضلُعي/ فأحسُّ في نبضاتِهِ/ لحنَ السُّكونِ/ يريحُني، يُطفي/ حرارةَ أدمُعي/ وتزولُ من جسدي/ شراراتُ الهوى/ لـكنَّ نورَ حقيقتي/ لا ينطفي/ يبقى معي..
13*رنا صبح: باعتقادِكِ، ما هو أخطرُ شيْءٍ على الشاعر؟
أجابَتْ سلمى: الخطرُ ممّنْ يَتطرّفونَ، ولا يَتقبّلونَ ماذا يُفكّرُ الآخرُ، ومِن تحويلِ المَشاعرِ إلى مواقف.
14*رنا صبح: أينَ شاعرتُنا مِن مَواقعِ التّواصُلِ الاجتماعيّ؟
أجابتْ سلمى: هذهِ المواقعُ تَلبسُ الثوبَ الّذي تُقرّرينَهُ لها، وعَلّمَني الفيسبوك أنّ الناسَ تتلقّى القصيدة مِنْ مَواقعَ مُختلفةٍ، وتأخذُها إلى أبعادٍ وأماكنَ مُختلفةٍ، وهذا يُعطيني اكتفاءً ومُتعةً فكريّةً وحِسّيّةٍ.
15*رنا صُبُح: مَن يُعجبُكَ مِنَ الشّعراءِ العرَبِ والمَحليّين؟
أجابتْ سلمى: "في البدءِ كانتِ الكلمة"، وتعجبُني الكلمةَ الصّادقةَ العفويّةَ الشّاعرةَ، دونَ التّأثُّرِ بمَنْ كتبَها.
16*رنا صُبُح: وكيف تكتبين؟ هل تحتاجينَ إلى أجواءٍ مُعيّنةٍ للكتابة؟
أجابتْ سلمى: في كلّ الحالاتِ، القصيدةُ تَفرضُ نفسَها عليّ، وليسَ لي قوْل كيف، وأين، ومتى، ولماذا؟
وفي مداخلةِ الأديبِ فتحي الفوراني جاء: سلمى جبران.. لاجئةٌ في وطنِ الحداد!
لقد صدَقَ حبيبُنا الشاعرُ توفيق زياد، عندما وَصَفَ قرية البقيعة بأنّها قريةُ الشّعراء، فهذهِ القرية الطيّبة جامعةٌ للشّعر، تخرّجَ مِن مِعطفِها كوكبةٌ مِنَ الشّعراءِ، الّذين ساهموا في بناءِ المَشهدِ الشّعريّ في هذا الوطن، مِنهم الشّعراءُ الرّاحلون: مُنيب مخّول، ونخلة مَخّول، وسلمان أسعد فضول، وسالم جبران، وسميح صبّاغ،  والإخوة  الشّعراء الباقون: نايف سليم، وحسين مهنّا، ومروان مخّول، وسامي مهنا، أمَدّ اللهُ في أعمارِهم جميعًا، ثمّ جاءتْ صديقتنا الشاعرة سلمى جبران، لتؤكّدَ مَقولةَ توفيق زياد، وتضيفَ نورًا على نور. وبدءًا مِن سلمى، تُصبحُ هذهِ القريةُ الجليليّةُ قريةَ الشّعراءِ والشاعرات، زادتْها بهاءً، فأضفتْ نكهةً مُميّزةً للمَشهد الشّعريّ.
جاءَ في تراثِ الأمثال، أنّ أوّلَ الغيثِ قطرٌ ثمّ يَنهمرُ، ولم تشأ سلمى، منذ اللّحظة الأولى والإبداعِ الأوّل، إلّا أن تقفزَ عن القطر، فتكونُ غيْثًا وطوفانًا  تسوناميًّا، يَحملُ في  خضمّهِ أربعةَ شلّالات، انصبّتْ على المشهدِ الشّعريّ دُفعةً واحدة، فقد تلبّدَتْ سماءٌ بالغيوم، وبلا سابقِ إنذارٍ فتحتْ أبوابَها، ثمّ هطلتْ أمطارَ الإبداعِ غزيرةً، وامتلأتِ الدّنيا كبًّا مِنَ الرّبّ، فارتوَتِ الأرضُ العطشى، ثمّ جاءَ الرّبيعُ مُختالًا فرحًا، وفتحَ صدرَهُ ليَحتضِنَ سلمى وإبداعاتِها الأربعةَ، ويُشبعَها ضَمًّا وتقبيلًا. إنّهُ العطاءُ الأنثويُّ الإبداعيُّ بأبهى تجلّياتِهِ، فأهلًا وسهلًا باللّاجئةِ في وطنِ الحداد.
لقد عشتُ يوميْنِ كامليْنِ معَ الدّواوينِ الأربعة، فوجدتُ نفسي أمامَ دنيا كبيرةٍ، تزخرُ بفيضٍ مِنَ المَشاعرِ الصادقة. حاولتُ جَسَّ النّبضِ، فوجدتُ عروقَ القصائدِ تنبضُ بفيْضٍ مِنَ العاطفةِ الجيّاشةِ، التي تخرُجُ منَ القلبِ، وتدخلُ مباشرةً إلى القلب، بلا شور ولا دستور ولا استئذان، كما اعتادَ النّقادُ أنْ يَقولوا. تقفُ سلمى على خشبةِ المسرحِ، يَعتصرُها ألمٌ غيرُ عاديٍّ، وفي صِراعِها معَ الألمِ، تظلُّ شامخةً مرفوعةَ الرّأسِ، وصوْتُها يُجلجلُ عاليًا: ها أنذا/ وهذه قصائدي/ أنا كما أنا/ كطعامِ الفقراء/ فقد خرجتُ من رَحمِ البُسَطاء/ ها أنذا أقفُ أمامَكُم/ بلا رتوشٍ/ وبلا أقنعة/ هذه أنا كما أريد/ وليس كما يُراد لي/ هذه أنا!/ ولن أرفع الرّايةَ البيضاء!
أيُّها الأحبّةُ، في عصرِ الدّجلِ الشّعريّ تَروجُ القصائدُ المُلثّمةُ، الّتي لا نعرفُ مَلامحَ وجْهِها، ولا لوْنَ عيْنيْها، ولا نُحسُّ بلفْحِ أنفاسِها! إنّها ترتدي الزّيَّ الأسودَ مِنْ رأسِها حتّى أخمص قدميْها، تُحيطُها أسوارٌ فولاذيّةٌ خانقةٌ، ويقفُ على بابِها حُرّاسٌ لا قلوبَ لهم. هذهِ القصائدُ المُلثّمةُ هي ما يُميّزُ العديدَ مِنَ الكلماتِ الدّعيّةِ، مَغموزةِ النّسَبِ والمَرصوفةِ عشوائيًّا، والّتي تنتمي إلى عائلةِ ما بعد بعد الحداثة. نقفُ على أبوابِها ونحاولُ الدّخولَ، فنجدُها مُغلقةً إغلاقًا مُحْكَمًا. نحاولُ أنْ نكسرَ الأقفالَ، لندخلَ إلى عالم الأفهام، فيَستعصي فهمُها على النّخبةِ مِنَ المُثقّفين، ولا يَبقى أمامَنا إلّا أنْ نلجأ إلى المُنجّمينَ والعرّافين وقارئات الفناجين، فمسرحيّاتُ الدّجلِ الشّعريِّ على أشُدِّها!
وعلى الشّاطئِ الآخَرِ مِنَ النّهرِ الشّعريّ، تقفُ سلمى وقفةَ عِزٍّ وإباء، وتُميطُ اللّثامَ عن مَشاعرِها الصّادقة، فتقفُ شامخةً لتقولَ لهؤلاء بتواضعٍ وكبرياء: لكُم دينُكُم ولي دين! وتُعلنُ عن إقامةِ دولتِها الشّعريّةِ المُستقلّةِ، الّتي تأبى أن تكونَ شبيهةً لأحدِ أيًّا كانَ مِنَ الشّعراء. إنّها هي هي سلمى جبران، تحفلُ أبجديّتُها بصِدقِ مَشاعرِها، وبَساطتِها الشّامخةِ التي تتوثّبُ عِزّةً وكبرياء! إنّها تقفُ بَعيدًا عن الصّنعةِ الّتي تَحفلُ بالزّخارفِ والبهلوانيّاتِ اللّفظيّةِ. تقفُ بعيدًا عن الغموضِ والإبهامِ، والانغلاقِ الّذي يُعتبَرُ سيّدَ المَرحلة. تقفُ بعيدًا عن الدّجلِ الشّعريّ الّذي أصبحَ سيّدَ المرحلة، ويَحملُ شِعارًا كُتبَ عليهِ: أَغْرِبْ تُعْجِبْ!
مِن قاع الألمِ تنطلقُ عصافيرُ الفرح، وهي تؤمنُ بالصّدقِ معَ النفس، ويشعرُ القارئُ بهذا الصّدقِ في كلّ كلمةٍ مِن سيرتِها الشّعريّةِ، ورغمَ دربِ الآلامِ المَليئةِ بالحواجزِ والأسلاكِ الشّائكةِ والألغام، فقد عرفتْ كيفَ تتحدّى وتظلُّ شامخةً مرفوعةَ الرّأس، لا تُلقي سِلاحَها، بل وتُواصِلُ المَسيرة، وعرَفتْ كيفَ تكونُ سفيرةَ المُعذَّبينَ في الأرض، وإذا دخلنا إلى أعماق الشّاعرة، نكتشفُ ثقتَها بنفسِها وإيمانِها العميق، بأنّها تملكُ القُدرةَ على التّغيُّرِ والتّغيير، وأنّها عرفتْ كيفَ تُحوّلُ الألمَ إلى فرح، فتخرجُ مِن قاعِ الأحزانِ، وتَنهضُ كالعنقاءِ مِنَ الرّمادِ، وتنطلقُ بجَناحيْها لِمُعانقةِ شمسِ نيسان الخضراء.
عرفتُ سلمى زميلةً لي في الكليّةِ الأرثوذكسيّة، وكانتْ تُجاهرُ بعلاقتِها الحميمةِ مع العمّ شكسبير، والخال جيمس جويس، وابن العم وليم بليك، وباقي الشلّة الناطقة باللغة الإنجليزيّة، ولم يَكنْ في أحاديثِنا اليوميّةِ في ساعاتِ الفراغِ، ما يُوحي أو يَشي بالينابيع الارتوازيّةِ السّرّيّةِ التي تسري في أعماقها، إلى أنْ جاءتْ عصفورةٌ زرقاءُ، وألقتْ بين يديَّ رسالةً مكتوبةً على ورقِ الورد الجوريّ، فأزالتِ السّتارَ عن الطفولةِ الشّعريّةِ  لهذه البُنيّة، وتكشّفتْ أمامي المعلومةُ المثيرةُ، فقد بدأتْ علاقةُ سلمى بربّةِ الإلهامِ الشّعريِّ منذ نعومةِ أظفارِها، وبدأتْ تُعاقرُ خمرةَ الشّعر، وهي طفلةٌ عمرُها اثنا عشر عامًا!  وطيلةَ هذه الفترةِ الّتي جمعَتْنا تحتَ خيمةِ التّدريس، نجحَتْ في التستُّرِ على هذه العلاقةِ السّرّيّةِ بينَها وبينَ ربّةِ الشّعر!  جاءَ في الأمثال العامّيّةِ: تحت السّواهي دواهي، وقد اكتشفتُ أنّ تحت سواهي سلمى الجبرانيّة نبعًا ثرًّا من الدّواهي الشّعريّة!
ختامًا لا بدَّ مِنَ المِسك، ولا بدّ مِن مُلاحظةٍ هامّةٍ، فقد رَصَدتْ سلمى ريْعَ رباعيّتِها تبرُّعًا لجمعيّةِ السّوارِ الدّاعمةِ للمُعذّباتِ في الأرضِ، اللّواتي سقطنَ ضحايا الاعتداءاتِ الجنسيّةِ، فلها نُوجّهُ باسْمكُم أصدقَ التّحيّاتِ، ونَشدُّ على يديْها.. كثر الله من أمثالها.
أيّتُها العزيزة سلمى، نتمنّى لكِ المزيدَ مِنَ العطاءِ الإبداعيِّ، والمزيدَ مِنَ الصُّمودِ والتّحدّي في وجهِ العواصفِ. لا تأبَهي يا سلمى بهدى ولا بغير هدى، فأنتِ فوقَ العواصف! إلى اللقاءِ مع رباعيّةٍ أخرى، مِن يَنابيعِكِ المِعطاءة. شكرًا لك على هذهِ الكلماتِ الصّادقةِ.. شكرًا للعزيزة رنا صديقتي وتلميذتي في عشق اللغة العربية. والسلام عليكم وكل عام وأنتم وشعبنا بألف خير.

144

فُسْتَانُ زَفَافِكِ اعْشَوْشَبَ كَفَنًا



امال عواد رضوان


كَوْكَبَةٌ مِنْ وَسائِدَ ضَبابِيَّةٍ
تَغَشَّتْ أَمْواجِي.. بِأَشْواكِ الشَّمْسِ
وَلَمْلَمَتْ بِتَوْبَةٍ هادِرَةٍ حِبْرًا
وَسَمَتْهُ أَلْوانُ فَراغِكِ
بِمَواعِيدَ رَخْوَةٍ.. انْطَفَأَتْ صامِتَة!

عَلى إِيقاعاتٍ جَنائِزِيَّةٍ باهِتَةٍ
أَبْحَرَتْ أَهِلَّةُ الْكَلامِ.. بِكَوْنِ أَسْرَارِكِ
لِعَمِيقِ مَجْدٍ عَتِيقٍ مَسْلُوخ!

مَنَادِيلُ أَمَاسِيكِ جَارِحَةٌ
تُ مَ زِّ قُ مَآقِيَ فَرَاشَاتِي
بِتَنْهِيدَاتِ بِلَّوْرِهَا.. بِأَقْفَاصِهَا الْمُفَخَّخَةِ
كَيْفَ أُغَافِلُ مِحْرَقَةَ ضَوْضَائِكِ
وَفِي قَوَافِي هَوَادِجِي.. أَبْجَدِيَّةٌ تُزَمْجِرُ وَلاَ تَنْطَفِئُ؟
مَوَاسِمُ وَيْلاتٍ ذَابَتْ أَحْبَارُهَا
فِي هَشِيمِ مَحَابِرِكِ الْمَغْدُورَة
دُوَاةُ الطُّهْرِ.. تَوَهَّجَتْ بِآثَامِهَا الشَّاحِبَة
وَعُيُونُ الْبَنَفْسَجِ اصْفَرَّتْ بِفُوَّهَةِ أَلَقِها
أَكَأَنَّمَا شُرِّعَتْ.. لِطَرْفَةِ احْتِضَارٍ لاَ يَرْمشُ؟

أَيُّ جُنُونٍ ذَا.. يَرْتَجِي خُطَى التَّمَاثِيلِ تَمَهُّلًا؟
أَيُّ فَجْرٍ ذَا..يَتَشَرْنَقَ دَيَاجِيرَ مَنْفًى
عَلَى جُفُونِ الْمَغْنَى؟
كَيْفَ لانْحِنَاءَةِ زَفْرَةٍ.. تسْتَقيمُ شَهْقَةً
فِي فُؤَادِ الْمُسْتَحِيلِ؟

وِشَايَةُ سِرَاجِكِ..
أَسْرَجَتْ تَجَاعِيدَ زَمَاني.. بِمَرَايَا الْخَطَايَا
غَطَّتْ أَرْوِقَةَ غُرْبَتِي.. بِأَدْعِيَةٍ ضَبَابِيَّة!

ضِحْكَةٌ مُتَثَعْلِبَةٌ ارْتَجَفَتْ.. طَيْشًا
وَ ا نْ هَ مَ رَ تْ
خَلْفَ سُدُودِ هَوَاءٍ جِدَارِيٍّ
كم تَهَالَكَ صَدَاهَا..
عَلَى قَارِعَةِ نَهْدِ عَاصِفَةٍ!

سَلْمٌ.. يَصْعَدُ دَرَكَاتِ سُلَّمِهِ
يَفُكُّ خِمَارَ انْتِظَارٍ.. تَوَارَى خَلْفَ أَزْرَارِ أَدْرَاجِهِ
وَيسَقُطُ عَارِيًا.. إِلّا مِنْ عُرْيِهِ!
لكِنَّهَا
مُدُنُ غُفْرَانِكِ الْمُقَنْدَلَةِ بِفُصُولِ خُيُولِكِ
أبَدًا.. مَا طَالَهَا زَبَدُ يَأْسٍ
وَإِنْ عُلِّقْتِ.. عَلَى أَسْوَارِ أَعْرَاسٍ مُؤَجَّلَةٍ
وَإنِ اعْشَوْشَبَ فُسْتَانُ زَفَافِكِ.. كَفَنًا
لَيْلِي اتَّقَدَ.. بِظُلْمَةِ حِكَايَاتٍ مَخْمُورَةٍ
وَبِرَعْشَةِ بَدْرٍ احْتَلَكَتْ ضَفَائِرُ شَحَارِيرِي
تَتَوَسَّلُ بُؤْرَةَ ضَوْءٍ.. أَغْلَقَهَا طِينُ الْعَتْمِ
لكِن..
غُبَارَ عَيْنَيْكِ طَوَى آمَالِي
تَعَرْبَشَ أَدْغَالَ احْتِرَاقِي
وَمِنْ عُمْقِ الظَّمَأِ انْبَثَقَ سَاقِي أَتْرَاحِي
يَعْتَصِرُ صَوْتيَ الْمَحْشُورَ.. فِي أَوْرِدَةِ الأَقْدَاحِ!

كَمْ مِنْ لَهْفَةٍ جَذْلَى.. تَلصَّصَتْ خُصُلاَتُها
عَلَى أَكْتَافِ الأَوْهَامِ.. وَمَا انْكَمَشَتْ!
أَيَا أَنْقَى الأَتْقِيَاءِ..
يَجْتَاحُنِي فَقْدُكِ التَّوْأَمُ!
كُوبُ  تَ بَ عْ ثُ رِ ي 
يَلْثَغُ عَلَى شِفَاهِكِ شَقَاوَةً:
أمَّاااااااهُ.. قَاطِرَاتُ وَجَعٍ..
 تَلَوَّتْ عَلَى سِكَّةِ يَقِينِي الْمُهْتَرِئَةِ
ملَاءَاتُ خَرَائِطِي..
تَنْقُضُنِي.. تَنْفُضُنِي مِنْ تَحْتِ عِطْرِ أَكْفَانِي
تُؤَرِّقُنِي.. تُورِقُنِي قَصَائِدَ عُمْرٍ مُقَنَّعٍ بِطَحَالِبِ طَلْعِكِ!
نَوَافِيرُ شِعْرِي مَا ازْدَهَرَتْ.. إِلَّا  بِحَرِّ حَرْفِكِ
يُمَوِّجُنِي بِسَطْعِ نَقَائِكِ

أَيَا أُقْحُوَانَةَ الثَّغْرِ اثْغَرِّي..
أَسْقِطِي أَسْنَانَكِ الرَّوَاضِعَ
قَلِّدِينِي بِفَوْحِ مِسْكِكِ وَسَامَةً
شُدِّينِي وَمْضَ نَقَاءٍ إِلَى عَيْنِ رَبِيعِكِ
وَفِي تَهَاويمِ مَجْدِكِ
أَنْبتِينِي أَيادِي طُفُولَةٍ.. تُمْسِكُ بِالشَّمْسِ
لِتَسْتَوِيَ عَدْلًا عَلَى جُزُرِ النُّورِ!

145
احتفالٌ ماسيٌّ للشّاعر جورج فرح في حيفا!

آمال عوّاد رضوان
احتفاليّةٌ أدبيّةٌ أقيمتْ في قاعةِ مار يوحنّا الأرثوذكسيّة في حيفا، بالتّنسيقِ ما بين نادي حيفا الثقافيّ، ومُنتدى الحوار الثقافيّ عسفيا، والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ بحيفا، ومكتبةِ كلّ شيْء، احتفاءً باليوبيل الماسيِّ للأديب جورج جريس فرح، وتكريمًا لدَوْرِهِ الأدبيِّ العريض في الحَرَكةِ الثقافيّةِ الفلسطينيّة، وذلك بتاريخ 27-11-2014، وسط حُضورٍ كبيرٍ مِنْ شعراءَ وأدباءَ وأصدقاءَ وأقرباء. وقد افتتحَ الفنّانُ بشارة ديب الاحتفالَ بمعزوفةٍ يُرافقُها صوتُهُ العذب، وتولّى عرافةَ الأمسيةِ الأديبُ والإعلاميُّ نايف خوري، وتضمّن الاحتفاءُ مداخلاتِ كلٍّ مِن الأديب رشدي الماضي، ود. بطرس دلّة، وقد حاوَرَتْهُ آمال عوّاد رضوان حولَ قصائدِهِ المُغنّاةِ وأرْشَفَتِها وتكلفتِها، وكانت مُداخلةٌ غنائيّةٌ لإحدى قصائدِهِ بصوْتِ الفنّانة الإعلاميّة تغريد عبساوي، وأخرى بصوت الفنان بشارة ديب، وكلمةُ العائلةِ ألقتْها كريمتُهُ فاتن جورج فرح، وبرقيات من الأديبة سعاد قرمان، وبرقية مقروءة للبروفيسور فاروق مواسي. وقد قدّمَ درعَ التكريمِ لِلمحتفى بهِ جورج فرح كلٌّ مِن؛ جريس خوري وفؤاد نقّارة، ومِن ثمّ شكرَ الأديبُ جورج الحضورَ، وألقى قصيدتيْن، ليتمّ بعدَها التقاطُ الصّورِ التّذكاريّة.   
جاء في كلمة الإعلاميّ نايف خوري: شاعرنا الّذي نحتفي كلُّنا معَه بمناسبةِ يوبيلِهِ الماسيّ، خمسة وسبعون سنة مرّتْ في حياةِ الشّاعرِ مليئةً بالعملِ الدّؤوب، بالعطاءِ المُستمرّ، وبالإبداع الّذي لا يَنضُبُ. شاعرُنا عملَ في عدّة مَجالاتٍ، منها المعيشيّةِ العاديّةِ، ومنها الإبداعيّةِ ككتابة الشّعر والتّرجمة، فهو مُترجمٌ بارعٌ، وبرنامَجُنا التّكريميُّ حافلٌ اللّيلةَ، مُفعمٌ بالمَحبّةِ، ومَليءٌ بالمودّة ومغمورٌ بالإلفة.
إنّ تكريمَ المُبدعينَ الأحياءَ ميزةٌ طيّبةٌ ورائعةٌ، لكي يَشهَدوا مَحبّةَ الجمهور لهم، وهذا ما يَجنيهِ المُبدعُ، أنْ يَلقى ثمارَ إبداعِهِ عن طريقِ هذا التّجاوُبِ والتّفهُّم والتّحبُّب لِما يَقول وما يُعطي. وهنا نُشيرُ إلى تكريم العُظماءِ الّذين تَكَرَّمَ عددٌ منهم في حياتِهم، ومنهم مَن تَكرّمَ بعدَ وفاتِهِ، وإذا كان آخِرُ الكبارِ المُتوفّين هما الشاعر سعيد عقل والصّبّوحة شحرورة الوادي، فقد أوصت الصبوحةُ بتكريمِها بعدَ وفاتِها بمَظاهرِ الفرَح والرّقصِ والغناءِ، وليسَ بالحزنِ والغَمّ والبكاء. ولذا دَعُونا نُصفّقُ تحيّةً لروحيْ هذيْنِ الكبيرَيْن، وسنستمعُ في أُمسيَتِنا إلى أغنيةٍ مِنَ الفنّانةِ تغريد عبساوي تكريمًا للأسطورة صباح، كما سنستمعُ إلى عددٍ مِنَ البرقيّاتِ الّتي أُرسِلَتْ أو جاء أصحابُها لِيُسلّموها مباشرةً إلى المحتفى به شاعرنا جورج فرح. وأولى هذه البرقيات من الشاعر البروفيسور فاروق مواسي، الّذي يبعثُ بتهانيهِ لشاعرِنا، ويقولُ إنّهُ يَستحقُّ التّكريمَ نظرًا لإبداعِهِ الرّاقي، ويُهنّئُهُ لِحصولِهِ على جائزةِ الإبداع في مَجالِ التّرجمةِ لهذا العام، فهو أهلٌ لها.
جاءَ في مُداخلةِ د. بطرس دلة/ زبدٌ فوقَ الرّمال- للشاعر جورج فرح:
الأمّةُ الّتي تَعرفُ كيفَ تُكرّمُ مُبدِعيها وقادَتَها هيَ أُمّةٌ جَديرةٌ بالحَياةِ! وأنتم أيُّها الأحبّةُ في نادي حيفا الثقافي، عندما تُكَرّمونَ صديقَنا وابْنَ حيْفا سابقًا الأستاذ الشاعر جورج فرح، إنّما تعمَلونَ على أنْ تكونوا جديرينَ بالحياةِ، فلَكُم منّا إلفُ شكرٍ وقبلةِ مَحبّةٍ صادقةٍ، على دوْرِكُم هذا في خدمةِ الكلمةِ الطيّبةِ والإبداعِ الأدبيّ.
أخي جورج، أيّها الشّابُّ البلديُّ الطّالعُ مِنْ رَحمِ الأرضِ إلى لهفةِ القلوبِ وإلى توَثُّبِ الغزلان، يا وعْدَ الفقراءِ ويا خَميرةَ العرائس، يا انبثاقَ الحياةِ على وجْهِ الأرضِ، أيّها العَلَمُ القمْحِيُّ النّاهضُ مِنْ سَواعدِ الرّجالِ، ومِنْ أرْومةِ آل فرَح الأماجد، كلُّ الأنهارِ الكبيرةِ تَجري في مَساراتِها إلى أن تُعانقَ البحرَ الكبيرَ، أمّا الجداولُ الصّغيرةُ فليسَ لها إلّا أنْ تَرضى بالجَفافِ في آخِرِ المِشوار، قبلَ أنْ تَصِلَ إلى البَحْرِ. وأنتَ أيُّها العزيزُ، وصَلتَ مَثلَ كُلِّ الجَداولِ الكبيرةِ. لقد تعلّمتَ في مَدارسِ الوَجع، أنّ أسوأ عِلاجٍ لجرحٍ نازفٍ، هو أنْ نُطأطئُ رُؤوسَنا إزاءَهُ، وتعلّمتَ كذلكَ أنّ قوّةَ إرادةِ الإنسان أقوى بكثيرٍ مِن قوّةِ ذراعِهِ، كذلكَ أنّ الحُرّيّةَ صناعةٌ لا يُتقِنُها إلّا مَن صَنَعَها بيَدَيْهِ! ولمّا كُنّا شعبًا مُتفائِلًا بطبيعتِهِ، يُحِبُّ الحياةَ والحُرّيّة، فلذلك لا بُدّ مِنْ أنْ نَصنعَ هذه الحُرّيّة، إنْ لم يَكُنِ اليوْمَ فغدًا القريبَ جدًّا لا محالة!
أنتَ أيُّها الصّديقُ، في دواوينِكَ الأربعة أثبَتَّ أنّكَ إنسانٌ مُرهفُ الحِسِّ حتّى الثّمالة، وكلماتُكَ في دواوينِكَ تأتي حُبْلى بالمَشاعرِ الجيّاشةِ تُجاهَ الحَبيب، فليَبْدأ اللّيلُ بكَ عتمةَ تَماهٍ ورضى، كي يَنتهي أُوارُهُ فيها، فكيف إذن قدّمْتَ للحبيبةِ ثلاثَ ورْداتٍ؛ إحداها بلوْنِ الحنين، وأنتَ بلوْنِ الشّوْقِ، وأنتما معَها بلوْنِ المَسرّة! لقد علّمَتْكَ ذاكرةُ الرّيحِ أنّ الجبالَ قد تسْقُطُ وتنهارُ ذاتَ يوْمٍ، فهل تستطيعُ إقناعَ ديكٍ فصيحٍ بعدَمِ الصّياحِ صَباحًا؟ أنتَ أيّها الصّديقُ ذلكَ الدّيك، فتابعَ صِياحُكَ كي تُصَحّيَ النّيامَ عن حُقوقِهِم وإلى توَثُّبِهِم الثّوْريّ!
أنتَ تَبدو في دَواوينِكَ قنديلُ حُبٍّ تُضيءُ للعُشاقِّ ليالي الشّتاءِ، ليَبقوا في أحلامِهِم المُتجدّدةِ تُويْجةَ  ياسَمين، وفي الصّباحِ الحالِمِ نَكهةَ القهوةِ الصّباحيّةِ، وفي همَساتِ العُشّاقِ كلمةً حلوةً، وفي عِناقِ المُحِبّينَ همسةً ربيعيّةً دافئة. إنّ ما وثّقْتَهُ في ديوان "زبَدٌ فوْقَ الرّمال" وإبداعاتِكَ على الأوراقِ البيْضاءِ، هي مُحاولاتٌ مِنْ أجلِ أنْ تَرتسِمَ البَسماتُ على الشّفاهِ، فتصْحو الذّاكرةُ العربيّةُ، لأنّ ما قلتَهُ في الحُبِّ والغزَلِ هو خبزُ الحياةِ فعْلًا، لأنّهُ شبيهٌ جدًّا بالشّرفةِ البيْضاءِ على المَدى الأزرقِ، وكالصّمتِ الأخضرِ على شِفاهِ العاشِقينَ المُراهِقينَ، وكلذعةِ النّارِ في جَمراتِ المَواقِد!
في ديوانِكَ "زبَدٌ فوْقَ الرّمال" قدّسْتَ مَحبّةَ الآخرينَ منذُ القَصيدةِ الأولى، وأكّدْتَ هذهِ المَحبّةَ بقصيدتِكَ الأخيرة، ففي الأولى دعَوْتَ الآخَرَ كي يَبقى معَكَ وتبقى معَهُ، وفي الأخيرةِ دَعَوْتَ ذلكَ الصّديقَ إلى أن يُبقي حَبْلَ الصّفوِ مَوْصولًا فيما بيْنَكُما، لأنّكَ مُستعِدٌّ لأنْ تَمُدَّ لهُ يَدَكَ لتحفظَهُ مِنَ السُّقوطِ، فلا يَهوي ولا يَذبُلُ! ثمّ في نفسِ القصيدةِ تَركَبُ معَ الحبيبِ موْجةً، وصَلَتْ بكُما إلى الشُطآنِ بالزّبَدِ، لتَرقُصا معًا فوْقَ رَملِ هذهِ الشُّطآنِ، وتعزفا لَحْنًا لا نهايةَ لهُ، فتُمْعِنان في صَبابَتِكُما إلى الأبد!
أمّا في قصيدةِ "أراك" فأنتَ تَعشقُ مَحبوبتَكَ حتّى درجةِ العِبادةِ، ولا تتذمّرُ مِنْ تِلكَ العُبوديّةِ، لأنّكَ سوفَ تزدادُ تَعلُّقًا بها، إلى درجةِ الرُّكوعِ بينَ يدَيْها، تتلو صَلاةَ عِشقِكَ، وتَسكُبُ العَبَراتِ على مَذبحِ الحُبِّ بقوْلِكَ ص14-18: "وحينًا أراكِ بصَفْوِ الحَياةِ/ كحُوريّةِ البحرِ في الأمْسياتِ/ ... فأخشعُ كالعبْدِ لِلحُبِّ حتّى/ لَأجْثُو هُناك فأتْلو صَلاتي!
فأيُّ حُبٍّ هذا الّذي يَصِلُ إلى درجةِ العِبادة؟!
(ملاحظة: أتذكُرونَ أيّها الأحبّةُ أغنيةَ محمّد عبد الوهاب الّتي يَقولُ فيها: مِسكين حالي عدم من كثر هجرانك/ يللي هجرت الأهل والأوطان على شانك! التقاه الخديوي بعد أن غنّاها وسأله: أأنت المُغنّي الّذي غنّى هذه الأغنية؟ قال نعم. فقال له الخديوي: إيه ده؟ إنت بتبيع الوطن ببنت مفعوصة؟!)
صحيحٌ أنّ هذهِ القصيدةَ مِن نوعِ الغَزلِ النّاعمِ الرّقيقِ، الّذي يَصِلُ فيهِ شاعرُنا حَدَّ نُكرانِ الذّاتِ، إرضاءً لمَعشوقتِهِ هذه، لكنهُ لا يَكتفي بذلك، بل يَتعدّاها إلى غيْرِها مِنَ القصائدِ، حيثُ يَسعى إلى الوِصالِ معَ مَنْ يُحِبُّ، كي يَضمَنَ للحبيبةِ أجمَلَ ليالي الحُبّ! كذلكَ في قصيدتِهِ "انتظار" ص27 يُعطينا بعضَ صِفاتِ مَعشوقتِهِ، لكنّه لا يُصَرِّحُ باسْمِها. مِن هنا، فإنّها قد تكونُ أيّةَ فتاةٍ عابرةٍ، أو أيّةَ جَميلةٍ ألْهَمَتْهُ ما كَتبَ فيها، وأبْقى اسْمَها في سِرِّهِ خوْفًا عليْها، وطمَعًا في وِصالِها حينما يَستجيبُ القدَر. يقول: وعندَ الأصيلِ ووَقتِ السَّحَرِ/ صَلاتي/ رَجائي/ ابْتهالي/ دُعائي/ لِمَوْعِدِنا الدّائمِ المُنتظر/ أُسائِلُ طيْفَكَ حينَ يَلوحُ/ مَتى يَستجيبُ الدُّعاء القدَر؟!
أنقضي ليلةً أخرى؟ هذا هو عنوانُ القصيدةِ الّتي وَصَلَ فيها الشّاعرُ معَ مَحبوبتِهِ، درجةَ الوِصالِ الّتي كانَ يَصبو إليْها، حيثُ قَضى معَها ليلةً ليلاءَ، وهي لذلك تَرجُوهُ مُتسائلةً: هل يَقضي معَها ليلةً أخرى؟ فيهمسُ: بزَحَمِ النّاسِ/ فوْقَ رَصيفِ ميناءٍ لَمَوْعِدِنا/ ضمَمْتُ الخصلةَ الرّيّا بأدْمُعِها/ إلى صدْري/ وقد عَزَّ الوَداعُ/ فلاحَتِ الأشْواقُ مِنْ ذِكرى سُوَيْعاتٍ قضَيْناها/ كما الأحلامُ/ نسْرِقُها وتَسرقُنا/... ونَسمَعُ خَفقَ قلبَيْنا/ ودفقًا في العُروق طغى/ وصَعّدَ نَهدةً حَرّى.../ بخِلسةِ سارقٍ طُبِعَتْ/ على شَفتيّ قبلتِها/ وعيناها تُسائِلُني/ أنَقضي ليلةً أخرى؟
أمّا قصيدتُهُ "ليْلُ الوَداع" ص57، فيتألّمُ فيها شاعرُنا كلَّ الألمِ، لأنّهُ يَعرفُ أنّ أصعبَ ساعةٍ عندَ المُحِبّينَ هي ساعةُ الفراقِ، فيقولُ ص59: إذا لاحتْ خُيوطُ الفجرِ تَدعو للمَسير/ أو سمعتَ هديلَ هاتيكَ الحَمائمِ تَستَجير/ أغلِقِ الأبوابَ دونَ الضّوءِ/ دونَ الصّوتِ/ دونَ الوَقتِ/ إنّ الوَقتَ وغدٌ لا يُطاق... / عندَ ساعاتِ الفراق.
فاذا تمّ الفراقُ، فإنّهُ يَشكو مِنْ دَهْرِهِ الّذي تَرَكَ لهُ غَصّةً في الحلقِ، بعدَما قسَا عليْهِ وسَقاهُ مُرَّ العذاب، كما يَبدو في قصيدتِهِ "لو أنْصَفَ الدّهرُ" ص71-73 حيثُ يَقول: وكيفَ رُمِينا بداءِ الفراق/ وكيف قسَا دَهْرُنا فرَمانا/ وأعْجَبُ كيفَ أصَرَّ الجفاءُ/ على قهْرِنا/ فقضى ودَعانا/ ولو أنْصَفَ الدّهْرُ يوْمًا/ لأبْدى/ لنا العُذْر مَنْ مَرَّ ما قد سَقانا.
إنّ موْضوعَ هذه القصيدةِ ليسَ جديدًا، لأنّ الكثيرينَ مِنَ العُشّاقِ انْتهَتْ علاقاتُهم بالفراق، فاتّهموا الدّهرَ بأنّهُ سببُ الفراقِ، ومعَ ذلكَ، فإنّ هذهِ القصيدةَ مِنْ أجملِ ما في هذا الدّيوان، لأنّ شاعرَنا يُعبّرُ بلُغةٍ بسيطةٍ، فيها مِسحةٌ مِنَ الجَمالِ ولَمسةٌ مِنْ لَمَساتِ أفروديت ربّةِ الحُسْنِ والجَمال.
الشّعرُ الوَطنيُّ: في ديوان "زبَدٌ فوْقَ الرّمال"، وديوان "بدء الحصاد" يَكتبُ شاعرُنا على مِحْوَرَيْنِ؛ المِحور الغزليّ والمِحورِ الوَطنيّ، مع أنّ الغزلَ يَغلبُ على هذا الدّيوان. لكن حتّى ولو كانتْ مُعظمُ قَصائدِ هذهِ المَجموعةِ تَنطوي تحتَ عُنوانِ قصائد غزليّة، إلّا أنّ شاعرَنا كمُعظمِ الشعراءِ الفِلسطينيّين، لا يَنسى وطنَهُ، حيثُ يُكَرِّسُ للوطنِ أكثرَ مِن قصيدة، كقصيدته "تلك التي" ص(77- 79)، الّتي يُعلنُ فيها مَحبّتَهُ لِلوطنِ، لأرضِ الوطنِ، ففلسطينُ بالنّسبةِ لهُ هيَ جنّةُ اللهِ على الأرض، ولكنّها مُغتصَبةٌ وجَريحَةٌ، وهو يَرصُدُ مَنْ يَهديهِ إلى سَبيلِ جَنّتِها، وإلى خلاصِها مِنَ المُغتَصِبِ المُحتلّ حيثُ يَقولُ فيها: "تلكَ الّتي منها أنا/ والبُعدُ عنها مُستحيلٌ/ في حُبِّها ذقت الضّنا/ ما مِثلُ آلامي مَثيلُ/ في أرضِها الزّيتونُ والصّبّارُ/ يُفضي للنّخيلِ/ ... مِنْ حَرْفِها صغتُ القصائدَ/ كالقلائدِ/ للبلابلِ كي تُغرّدَ/ والحمائمُ للهَديلِ/ غنّيتُ كي/ صَلّيتُ كي/ يَبقى النّضالُ الحُرُّ/ كي يَنزاحَ عنها ليْلَها/ ذاكَ الثّقيل.../ قالوا تجَلّدْ/ قلتُ طالَ اللّيلُ بالصّبرِ الجَميل/ لكن صبْري قاتلي/ فيها أنا صِرتُ القتيل/!  يا ليتَ شِعري هل إلى/ أبوابِ جَنّتِها/ سَبيل؟!
إنّهُ إذن؛ ناقمٌ وحاقدٌ وثائرٌ على أوضاعِ هذا الوطن، ولكنّ ثوْرتَهُ هادئةٌ كلَّ الهُدوءِ، لأنّهُ لا يَدعو إلى الهَبّةِ الشّعبيّةِ ولا إلى الثّورة، بل يَكتفي بالصّلاةِ والأُمنياتِ! فهل يَتحَرّرُ الوطنُ بالأُمنياتِ وبالصّلواتِ؟ مِن هنا يُهاجمُ شاعرُنا عُروبَتَنا المُتخاذلةَ، فيَنعاها لأنّها ميّتةٌ كما يقولُ: "ونبقى نحنُ في الدّنيا/ وإن عِشنا، كأموات" (ص89). هكذا وَجدناهُ يَلجأ إلى القصيدةِ الأليغوريّة، (والأليغوريّة هي نوعٌ مِنَ الشّعرِ التّأمُّليِّ الّذي يَجعلُ الإصغاءَ العاشقَ للشّيءِ المَحسوسِ عنصُرًا أساسيًّا للقصيدةِ أو للقصّة، وهي نوعٌ مِنَ التّرميزِ كما في كليلة ودمنة مثلًا.)
مُعظمُ قَصائدِ هذا الدّيوان وما سَبَقهُ هي شِعرٌ مُباشرٌ، ذو عِباراتٍ واضحةٍ لا تَحتمِلُ التّأويلِ، فيهِ رسالةٌ إنسانيّةٌ واضحةٌ، وتمْجيدٌ للحبيبِ في شِعرِهِ الغزليّ، فالحُبُّ والوطنُ والنزعات الإنسانيّةُ القيّمةُ هي شُغلُهُ الشّاغلُ! 
الجرْسُ المُوسيقيّ: شاعرُنا يُجيدُ كتابةَ الشِّعرِ العَموديِّ المُقَفّى بجرْسٍ موسيقيٍّ رائعٍ، فقد وَجَدْناهُ يَلجأ في غَزليّاتِهِ إلى بُحورِ الشّعرِ الّتي قلّما يَطرُقُها الغزليّون. هكذا جاءتْ قصيدَتُهُ "إنذار" (ص32) على وزن البحر المحدث الّذي تفعيلاته فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن مع جوازات فاعلن.
وقصيدته "انتظار" (ص26) على وزن البحر المتقارب، والّذي تفعيلاته فعولن فعولن فعولن فعول مع جوازات فعولن هذه.
وقصيدته "في ليلة ماطرة" على وزن البحر المديد فاعلاتن فاعلاتن فاعلات مع الجوازات.
وقصيدته "بأول كرة" على البحر المتقارب فعولن فعولن فعولن ... الخ .
وقصيدته "بعنف النّبض" (ص43) على وزن مجزوء الوافر فاعلاتن فاعلاتن.
أخيرًا اسْمَحوا لي أنْ أقولَ ما قالَهُ الأديبُ الكبيرُ علي الخليلي: "يا ضمّةَ الزّنبقِ والغَمام/ عبّأت مِن محبّتي/ كأسًا إلى الجمام/ فاجترحوا/ واخترعوا/ واجتمعوا/ على دروب الحقّ/ والسلام! يا حبّي الكبير! أنا فارسٌ يُطاولُ السّحابَ عِزّةً / ويُخجلُ النّسور/ يا خطوةً على دُروبِ الشّمس/ والنّجوم/ يا حُبّي العظيم امتشقوا اليراع في تلهُّفٍ ثم انثروا العبير.
لكَ أيُّها الشّاعر الصّديقُ جورج فرح أقول: لقد عمّدَتْكَ ربّةُ الشّعرِ بمِياهِ النّهرِ المُقدّس، فنشأتَ مُحِبًّا ومُبْدِعًا، وسبَقتَ الكثيرينَ مِنَ الشُّعراءِ إلى إثراءِ مَكتباتِنا بما أبدعْتَ. ستَذكُرُكَ الأجيالُ القادمةُ أبدًا، لأنّكَ فتحتَ أمامَها أبوابَ الشّعرِ، وعرَفتَ الإبداعَ، وأصبحْتَ سيّدَ الكلمةِ الشّاعريّة. لم تَكسَلْ في أيّ يوْمٍ، ولمْ تَتوانَ عنِ العَطاء، وذلكَ لأنّكَ تَعرفُ في قرارةِ نفسِكَ، أنّ الّذينَ يُعطونَ هُم أبناءُ الله. لِعَطائِهِم يَبتسِمُ اللهُ في عَليائِهِ، ويُصَفّقُ لهُم جبريل ومَلائكتُهُ في السّماء. فطوبى لكَ لأنّكَ أعطيْتَ بغيْرِ حِسابٍ، وتُعطي وتُقدّمُ لنا الجميلَ والمُحَبّبَ والمُمَيّزَ مِنْ شِعرِ القافيةِ العموديّ وغيْرِهِ. نحنُ نُغبِّطُكَ كلَّ الغبطةِ، ونَرجو لكَ العُمرَ المَديدَ والرّأيَ السّديدَ والصّحّةَ والعافية، لِتَظلَّ كشجرةِ الزّيتونِ المُتجذِّرةِ في باطنِ أرضِ هذا الوطن، تُعطي أكلها في حينِهِ، وتَضحَكُ للرّياحِ العاتيةِ الّتي لا تَهُزُّ جذورَها، بل تُلاعِبُ أغصانَها في رقصةٍ ربيعيّةٍ حالِمة! لكَ الحياةُ أيُّها الصّديق!
وحولَ قصائد جورج فرح المُغنّاة حاوَرَتْهُ آمال عوّاد رضوان:
آمال: فضْلًا عن الشّعرِ الفَصيح، لكَ كثيرٌ مِن كلماتِ الأغاني. فمَن لَحّنَ وغنّى لكَ؟
جورج: لي العديدُ مِنَ الأغاني الّتي تمّ تَلحينُها وغناؤُها. لحَّنَ لي كُلَّ مِنَ الفنّانِ المَرحومِ حكمت شاهين، والمرحوم جورج درماركوريان، والأستاذ فرَنْسْوا الخِلّ، وقد غنّى كلماتي الفنّان إبراهيم عزام (قُمْ يا مُغَنّي اللّيْل) وبشارة عوّاد، وسمير فارس، وفوْزي سعْدي، وعلاء شُرُّش، كما قامت الفنّانة تغريد عبساوي بتلحين وغناء قصيدة "إذا مضيْتَ"، وهيَ مِنْ توْزيع الفنّان ميشيل سجراوي، وأغنية عيونُ بلادي، لحّنَها مؤخّرًا الأستاذ نبيه عوّاد.
آمال: مَتى وكيف بدأتَ بتأليفِ الأغاني؟
جورج: يَعودُ ذلكَ إلى بدايةِ الخمسيناتِ مِن القرن الماضي، إلى سنوات التقشّف، ففي تلكَ الأيّام كتبَ صاحبُ الظّلِّ الخَفيفِ المرحوم جورج سليمان كلماتِ أغنيةٍ "عَ النّونا"، على لحن أغنية "ع الياني الياني". استهوتْني الأغنية، ولم أتَجاوَزْ آنَذاكَ الثالثةَ عشرة مِن عُمري، فأضفتُ مِنْ عندي بعضَ الأبيات، وغنّيْتُها في نزهةٍ عائليّةٍ على شاطئ الطابغة (طبريّا)، وصادفَ أنْ كانَ المرحوم جورج سليمان قريبًا منّا، فلمْ أكَدْ أبْدأ مَطلَعَ الأغنية، حتّى تَصدّى لي قائلًا إنّ الأغنية لهُ. فدعَوْتُهُ للاستماعِ حتّى النّهاية، وبَعدَ أنِ انتهيْتُ مِنَ الغناء، عانقَني بِحَرارةٍ واعتذَر.
كان مطلع الأغنية: ع النّونا النّونا النّونا/ ضرايبكُم هدُّونا/ ضريبة دخل وماس مُوتروت، ضريبة سُكْنى وأَرْنونا. {ماس موتروت؛ ضريبة الكماليّات، فرضَتْها (إسرائيل) آنذاك على كُلِّ المُنتجاتِ غيرِ الضّروريّةِ للمَعيشة}.
من الأبيات التي أضفتُها: أمَّا عدل أمَّا إنصاف/ شيّلْتُونا عَ الأكتاف/ شَهَّيْتُونا الخبْزِ الْحاف/ حتّى البيضة حَرَمْتونا/ ولك يا دايْرة التّموين/ ثلاث أرباعْنا عيَّانين/ كوكوز وشِيمِن ومَرْجَرِين/ ثلاثة عَمُوا عينينا.
وأثناء العدوان الثلاثيّ على مصر عام 1956، جادَتِ قريحتي بأكثرِ مِنْ أغنيةٍ، دارتْ على ألسُنِ النّاس، أذْكُرُ منها على سبيل المثال أغنيةً قلتُ فيها:
بين حانا ومانا/   ضاعتْ نيتسانا/ وبين إنجلند وفرنسا/ ضيَّعنا سينا!
هي أغنيةٌ تهَكُّميّةٌ تناولتُ فيها زُعماءَ العدوانِ آنذاك: إيدن بريطانيا، وغيموليه فرنسا، وبن غوريون إسرائيل. ونيتسانا هي المعبر الحدوديُّ البَرّيُّ الرّئيسيُّ بين إسرائيل ومصر، تعبُرُهُ شحناتٌ مختلفةٌ للسُّلطةِ الفلسطينيّةِ، مِن سِلَعٍ غِذائيّةٍ، وخضرواتٍ، ومنسوجات، وتَوابلَ، وزجاج، ومُنتَجاتٍ كيماويّة.
وحينَ تحدّثَ الأديبُ جورج فرَح عن التّكاليفِ الباهظةِ الّتي يتكبّدُها المُبدعُ في بلادنا، مِن إصداراتٍ وتسجيلاتٍ ونشرٍ وتوزيعٍ، وعلى حسابِهِ الخاصّ، وتوزيعِها كهدايا لِلمعارفِ والأصدقاء وليسَ للبيْع، فجّرَ السّؤالُ حميةَ المحامي فؤاد نقارة؛ رئيس نادي حيفا الثقافيّ، وأعلنَ عن استعداد النادي لتشكيل جمعيّةٍ مِن أدباء وشعراء وقرّاء، تُساهِمُ بدَعم المُبدعينَ وإصداراتِهم ونِتاجاتِهم.
جاءَ في مُداخلةِ رشدي الماضي: جورج خريطةُ الفَرَح:
حينَ رَحلتُ منّي إلى عُبابِ فراشتي الّتي تَشتعِلُ نَشوَةً ولا تَحترِقُ، وَجَدْتُني أُطِلُّ مِنْ شُقوقِ سِلالِ الإبداع، وأخطِفُ إليْهِ نظرةً. ولأنّهُ صعْبٌ عَليَّ أنْ أكونَ خارجَ تَضاريسِ نَصِّهِ، تَرَكْتُني أَحْبو على عَتبةِ خَجَلي، مِنْ عَنَاقيدَ أبْجَديّةٍ تَدلَّتْ، حتّى دَلفَ إلى حُجرةِ لغةِ الشِّعرِ، حُجرةٍ مُرَصَّعةٍ بوَشْمِ الكَلماتِ، فالتَقَيْتُهُ بعدَ قصيدةٍ ثاويةٍ على كتِفِ الإبداع، عندَ ضفافٍ زَلِقةٍ، تُمَسِّدُ جَدائِلَها أجنحةٌ مَسكونةٌ بقلَقِ السُّؤالِ والجَوابِ، قلَقٌ مُستغْرِقٌ في الذّاتِ يَتَهيَّا، ولو بعدَ حينٍ، أنْ يَلبَسَ ثوْبَ الحقيقة. فما الغريبُ أنْ أتَناوَلَكَ كِسرةً كِسرَة كيْ أراكَ؟!
نعم، أراكَ تُحاورُ الحَرفَ المُعتَّقَ، لِتَرْسُمَ القصيدةَ مَغموسةً بصِدقِ البَوْحِ والوَفاءِ لِتَفاصيلِ الواقع، خاصّةً، حينَ تَراهُ يَتَرنَّحُ مَخمُورًا، مِنْ شِدَّةِ رائحةِ العُنفِ وعَفنِ المَواقِفِ، والدُّخانِ الأسْوَدِ الّذي يرْمينا بشَرَرِ التّمزُّقِ والتّكفيرِ ونَزيفِ الانْكِساراتِ، كيْ يَتْرُكَنا حاضِرًا مُوجَعًا، لا تَسْتَفيقُ في صَباحاتِه إلَّا المجزرة! أبا ربيع، يا شَريكي في حِراسةِ القصيدةِ! تَعالَ نُمْطِرُ الشِّعرَ مَعًا، ونُعَرِّجُ على الحُلْمِ المُنمَّقِ بحَريرِ الكَلام، كلامٍ يُنادينا أنْ نُؤَجِّلَ رغبةَ الهزيمةِ إلى رُفاتِ زَمَنٍ مَنْفِيِّ، إنْ أصَرَّ أنْ يَأتِيَ، تَأكَّدْ أنّهُ لنْ يَصِلَ، فلمْ يَعُدْ يا شاعري وسعٌ للأنين.
أنا، والشّمسُ شاهدةٌ، مُصَمِّمٌ أنْ أُواصِلَ السّعْيَ بيْنَ المِسْكِ والزّيتونِ، سَفَرًا بيْنَ صَوْتِكَ ومَعناهُ، أُوقِظُ قَصيدتَكَ المُوغِلةَ بالدّلالةِ، سحابةً تَحُطُّ قبلةً تَنعَجِنُ في تُرابِ أرضِنا المُبارَكةِ قبلةً، يَدُها إلهٌ ينْحَتُ الوَطنَ الجَريحَ لوْحةً تنزعُ الأغلالَ عنَّا، وتَكْسِرُ الأصْفادَ الّتي تَربطُ أقدامَنا حُلمًا، يُسْرِعُ إلى الإقامةِ تحتَ عشبةٍ أبديّةِ الكلمة، حامِلةٍ حقيقةَ الحياة.
شاعري جورج فرح، وأنتَ خريطةٌ لِلفرَحِ، صَحيحٌ أنّنا معًا في هذا المساءِ الماسِيِّ للإبداعِ والقَلمِ، معًا للحظاتٍ لا غيْرَ، لكنْ تأكَّدْ يا أخي الّذي لَمْ تَلِدْهُ أُمّي، أنّ القصيدةَ ستَبقى المِنجَلَ الّذي يَحصُدُ حتّى "الحرب"، وفقط حينَ تَبْتُرُ راءَها، كي تَعودَ إلى أصْلِها حَبًّا، نَعَم حَبًّا، يَتَجَمَّعُ حوْلَهُ الجَسدُ والنّفسُ والرّوحُ أرْضًا طيّبةً، تَرفَعُ حَبْلَ مَشيمتِها إلى الله، كيْ يُبارِكَ خُصوبَتَها كلَّ صباحٍ، وأنتَ بقصيدةٍ مِنها كلُّ شيْءٍ حيٌّ، ولكَ المَسرّةَ والسّلامَ حتّى مَطلع الفجر!
إذا مضيتَ/ كلمات جورج جريس فرح/ ألحان وغناء تغريد عبساوي
إذا مضَيتَ مضى كمالٌ عقلي مَعَكْ/ والقلبُ إذ قد غَدا بجِنَّةٍ مُولَعَكْ
الأذنُ في لَوعَةٍ تتوقُ أن تَسمَعَكْ/ والعَينُ مَهما التَقَت/ بالعَينِ لن تَشبَعَكْ
يضيقُ بي مضجَعي فأشتَهي مضجَعَكْ/ وتشتَهي أدمُعي أن تلتَقي أدمُعَكْ
فأسأَلُ الشوقَ أن يثورَ كَي يرجِعَكْ/ تزورُ في غَفوَتي/ أقولُ من لَهْفَتي/ للهِ ما أروَعَك!
وفي كلمة العائلة، ألقتها كريمة الشاعر الآنسة فاتن جورج فرح:
يقولُ الشّاعرُ الإغريقيُّ سوفوكليس: "ليسَ هناكَ فرَحٌ أعظمُ مِنْ فرَحِ الابْنِ بمَجْدِ أبيهِ، ومِن فرَحِ الأبِ بنَجاح ابْنِهِ"، وأنتَ يا أبي مَصدرُ فرَحٍ دائمٍ لنا.
والدنا الحبيب، نقدّمُ لكَ في هذا اليوْمِ الرّائعِ، في عيدِ ميلادِكَ الماسيّ، كلَّ باقاتِ الوُدِّ والحُبِّ والاحترام. كيفَ لا، ونحن هنا لِنحتفيَ بكَ  شاعرًا، أديبًا، فنّانًا، زوْجًا وأبًا! ماذا نقولُ لكَ وعنكَ؟ أنت الّذي ربّيْتَنا على التّواضع، وعلى أنْ لا نُباهِيَ ونُفاخرَ، ونحنُ لا نَستطيعُ أن نتحدّثَ عنكَ إلّا بكلِّ فخْرٍ ومُباهاة! ماذا نَقولُ يا أبي، والكلماتُ تهربُ منّا الكلمات.
ماذا نقولُ لكَ يا مَن لا يَعرفُ طريقَ المَللِ ولا الكَلل، بل تَعمَلُ دونَ تعبٍ أو عجزٍ. يا مَن ضحّيْتَ لأجْلِنا ولإسْعادِنا. يا مَنْ أشبَعْتَنا بدِفْءِ حنانِكَ وحُبِّكَ. يا مَن ربّيْتَنا فأحسَنتَ التّربية، وعلّمتَنا فأحسنتَ التعليم. يا مَن أعطى ولم يَزلْ يُعطي بلا حدود.
إليْكَ يا أبي العزيز نبعثُ باقاتِ حُبٍّ واحترام. نحبُّك. كيف لا، وقد كرّسْتَ حياتَكَ لنا، وبذلتَ ما بوسْعِكَ مِن أجْلِنا، ومِن أجْلِ حياةٍ كريمةٍ، لِترانا اليوْمَ أمامَكَ كِبارًا ناضِجين. ليسَ غريبًا أن يَعتزّ الأبناءُ بأبيهم، ولكن ليسَ كلُّ الأبناءِ مَحظوظينَ بأبٍ مِثلك، أنتَ الحكيمُ المُتواضعُ، ذو القلب الكبيرِ والصّدرِ الواسع، المُتعدّدِ المَواهبِ والمَنافِع، وخيْرِ المَصادرِ والمَراجع.
والدنا العزيز.. كم نفخرُ بك! لا يَسعُنا اليومَ، إلّا أن نتمنّى لكَ العمرَ المديدَ، والمَزيدَ مِنَ الإنجاز والعطاء. فكلُّ التّحيّة والتقدير لك، وكلّ عامٍ وأنتَ بألفِ خير.
بعد أن شكر الشاعر جورج جريس فرح الحضورَ، تلا على مسامِعِهم قصيدَتَيْنِ:
قصيدة سِرْ مُنقَلِبًا/ للشاعر جورج جريس فرح

المنطقُ يبدو مَوروبا/ والباطلُ أصبحَ مَرغوبا/ والعَدْلُ اختلَّ توازنهُ/ والحَقُّ تَبَـدَّدَ مَسْلوبا/ ميزانُ  النَّحْوِ  بهِ  خَلَلٌ فالرَّفْعُ أتانا مَنصوبا
قد كانَ لإنَّ شقيقاتٌ هاجَرْنَ شَمالًا وجَنوبا/ فغدَتْ من ضَعفٍ عاجِزَةً/ أن تأخُذَ  في النَّحوِ نَصيبا/ والممنوعاتُ مِنَ الصَّرفِ ﭐنصرفتْ لا تخشى تأنيبا
المشرِقُ تغشاهُ دَياجٍ تمتدُّ قُرونًا وَحُقوبا/ والمغرِبُ قد أمسى شرقًا يتَوَهَّجُ نورًا ولهيبا/ والأرنَبُ    يَتَبَوَّءُ عَرْشًا والأسَدُ تبَدّى مَركُوبا/ والنَّعجَةُ تقتاتُ لحومًا والذِّئبُ حَشائشَ وعُشُوبا             وتَطِلُّ عَلَينا أَحكامٌ/ تُسمِعُنا في الحُكمِ عَجيبا/ أن تبقى أنتَ بلا وَطَنٍ/ أو تحيا في الوَطَنِ غَريبا/ في  زَمَنٍ أصْبحَ مَعكوسًا/ مَفهومُ العَدْلِ ومَقلوبا/ سِر مُنقَـلِبًا حتى تَبقى فـي نَظَرِ العالَمِ محبوبا
حكايات جدّي/ للشاعر جورج جريس فرح
كانَ جدّي/ مثلَ حاسوبٍ وأكثَرْ/ يحفظُ الأشياءَ عن غَيبٍ/ فلا يحتاجُ دفتَرْ/ يستقي الأخبارَ من أوثقِ مصدَرْ/ ثم يرويها انسيابًا/ ليسَ يعثُرْ
ينبشُ التاريخَ من/ أيامِهِ الأولى البعيدةْ/ ليسَ يقرأ من كتابٍ/ أو جريدَةْ/ فهو لم يذهبْ لكُتّابٍ/ ولَم يُجِدِ القراءَةْ/ وهو درويشٌ وسيمٌ/ بالبساطةِ والبراءَةْ
كانَ جدّي/ يُتقِنُ التفصيلَ بالقولِ الوجيزْ/ كانَ كلُّ الحيِّ مشغوفًا/ بذيَّاكَ العجوزْ/ ضاربِ الأمثالِ حلاّلِ الرموزْ/ لم أزلْ أذكرُ منهم/ جارنا عبدَ العزيزْ/ كانَ هذا/ يستزيدُ الجدَّ أكثر/ وهو يُطري هاتفًا: أللهُ أكبر!
باشتدادِ البرد في كانونْ/ بعدَ وقدِ النارِ في الكانونْ/ كانَ جدّي/ يجمعُ الجيرانَ حولَهْ/ ثمَّ يمضي
قائلاً ما شاءَ قولَهْ.../ يقتفيها من أبي زَيدٍ وعنترْ/ عبرَ هولاكو/ وتاتارٍ وبربَرْ!
ذاتَ يومٍ قالَ: يا عبدَ العزيزْ/ دالتِ الأتراكُ قبلَ الإنجليزْ/ قُل لمن يبكي على أطلالِ خَولَةْ/ صالَ جنكيزخانُ صًولَةْ/ لَم تدُمْ للظُّلمِ دَولَةْ!


146
نادي حيفا الثقافي يكرّم فاطمة ذياب!
آمال عوّاد رضوان
أقام نادي حيفا الثقافيّ أمسيةً تكريميّة، احتفاءً بالأديبة الروائيّة فاطمة يوسف ذياب، بتاريخ 27-9-2014 في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة، شارع الفرس 3، حيفا، وسط حضور نوعيّ خاصّ من أدباء وشعراء ومهتمّين بالأدب، وقد تولّى عرافة الأمسية الأستاذ رشدي الماضي، وتخللت الأمسية مداخلة فنية للكاتبة نهاي بيم، ومداخلات أدبيّة لكلّ من: عدلة شداد خشيبون، وعايدة الخطيب، ورحاب بريك، ووهيب وهبة، وجودت عيد، وآخرين، ومن ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة.
جاء في كلمة رشدي الماضي بعنوان: فراشتي لك، في نعمة النوم واليقظة، وقد أوقفتني جنيّتي الزرقاء في حلم القصيدة، أنا الهابط من أبديّة الكلام، أوقفتني آمِرة، فتبعتها ولم أسألها، كي لا أعصى لها أمرًا، فأنا هو الذي قد كنت دائمًا مُدمنًا على الرحيل في لغتي مدينتي، حيث تخبّئ الأرصفةُ في عبق الضادّ سرّي.. أحفظ طعمَ الحليب، وأسافر دون أن يُضنيني السفر، مُتكئًا على زوّادة من قمح وذكريات وموال حزين.. أستأنس بعزلتي، مثل شمس تأكلها أنياب الغربة في الشتاء، أنا الذي كنت دائمًا أبحث في مسافات المدينة.
وجدتني ذات صبح جديد بعد ليل طويل، أحسّ شيئًا في جوهر الشيء، رأيت فيه ما أريد، ها هي الشمس تكمن فيّ قصيدة خالدة، تحدّق لترى، لتفهم، لترسم النهار سرًّا يُفسّر السرّ، ويوقظ الحجر، ليضعَ حرفًا فوق حرف، حاولت ألّا أضيع، فاخترت شارعًا لا يخون خطاي، ومشيت تغمرني أزهار الوقت، كي أظل في نشوة مُدهشة.. ناداني فنارٌ لا يُضلّل السفن، دلفت إلى فضاء رحراح، ينتهي بباب من شعاع، فإذا بي داخل مدينة سمّتها فاطمة ذياب "مدينة الريح"، أعشاشها زلقة، مَزاريبها مُندّاة تصفع الغيوم، وتأخذ الريح إلى أعلى النافذة. وقفت أمامها طويلًا، حدّقت فرأيت وجهها في المرآة نصفَ حزين، لكن عليه براءة الضحى، أصغيت لهمس فيض الكلام، فبلّلني نهر يفيض ويمضي، ثمّ يعود أجراسَ، خلاخيلَ، وحفيفَ أقراط وخشخشة أساور.. توسّلت إلى إلهٍ، فصحّح أخطاء وجهي وأخطاء يديّ، تقدّمت وأمسكت بفاطمة، أولستُ أنا الذي لها وهي التي لي، فإذا بها لمّا تزل قلبًا مطمئنًّا بعد صراع وانتصار أمام العاصفة، ومبدعة تترك ريشتها تهتزّ، لتنتفض وتؤصّل لفرح قادم، وتهبّ لتستمدّ من الحروف المكشوفة لها إبداعًا جميلًا.
فاطمة ذياب غيمة مثل اللغة، تمتلئ بالحزن والفرح، بالحبّ في أعمق معانيه، ليمرّ النمل إلى جذع شجرة واقفة، كما السراج من النهر إلى البحر.. فاطمة أيتها النسمة التي تهبّ في مدينة الريح بسمة، أنا لا أريدك شجرة وحيدة، فلتظلي أمام باب الحرف تغتسلين بالماء الذي يتدفق، قدماك الريح، وجسدك الأثر، فاطمتي، أنتِ أعلنت الحبّ في الناس، وصارعت قسوة الزمن وانتصرت، فاطلبي بسلام الرب وسلامٍ حتى مطلع الفجر، سلامَ الخروج نحو الحياة!
جاء في كلمة وهيب وهبة: أقول بما يليق بهذا المكان وهذه الكنيسة، عندما أصدرت كتابي (مفاتيح السماء) تم تكفير النص وكاتب النص، فقامت الكاتبة فاطمة ذياب بكتابة مقالة رائعة، دفاعًا عن كتاب مفاتيح السماء وسيرة سيدنا المسيح، والدفاع بهذا العنفوان والإصرار عن كلمة الحق، وأن تقول من هو السيد المسيح كما أراد ان يقول وهيب وهبة تمامًا، وأنه يبعث رسالة المحبة والسلام والإخاء، هذه الإنسانية المطلقة في العالم هي رسالة السيد المسيح، فهذا الموقف بالذات جعلني أنظر إلى فاطمة بعين أخرى تمامًا، وعدت إلى جميع ما كتبته فاطمة، حقا لقد كنت قد قرأت كل ما كتبت، لكن بعد هذا الموقف بعد قراءتي لكتابات فاطمة ذياب شعرت أن حياة هذه الكاتبة والمرأة الفلسطينية يجب أن تكون فيلما سينمائيا يعرض في العالم العربي، كي تكون نموذجا للمرأة الفلسطينية الناجحة المكافحة، في خضم صراع مستمر لا ينتهي، من أجل الحياة ومن أجل أن تكون موجودة، بالرغم من العمل والترمل، ولا ،ريد ،ن أذكر المأساة والكلام الحزين، فقد كانت عنيفة في الكتابة بقدر ما كانت عنيفة في الحياة، فهي تحدت الحياة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فمن يفكر ان امرأة تستطيع إقامة كشك في المدرسة لتبيع الفلافل للطلاب ككاتبة وكإنسانة مناضلة، متحررة وتعمل في الصحافة، وتكتب لنا فكيف نظرنا اليها؟ أنا أقول بأننا مجتمع ظالم، نظلم المرأة في العمل، في الصداقة، في العلاقة، بالنظرة الدونية التي ننظر بها إليها، فهي كيان وهي وجود، وقد أرادت فاطمة أن تقول: إنني موجودة.   
عن أدب فاطمة المحور الثاني في حديثي أقول، أدبها كُتب ليكون ليس فقط باللغة العربية، بل ترجم إذ قامت الصحافة العبرية بمواكبة كل ما تكتب خصيصا لانها تكتب عن الانسانية والإنسان بصورة مطلقة، هذه هي الحميمية في الكتابة، أن تحمل رسالة لها مضامين وعاطفة، فهذا العالم الذي نعيش فيه يحتاج الى عاطفة، وهناك من يعتقد أن الإنسان يستطيع ان يعيش بلا حب، وانا لا أعتقد أن هناك مخلوقًا ناطقا يستطيع أن يحيا بلا حب، وفاطمة واكبت هذا الحب بالرغم من كل الصعاب، وبرغم الحياة القهرية والزواج والترمل والعمل، فأنا أبارك لها ولنا هذا الاحتفال، كونها استطاعت أن تشق طريقها بقامة عاليةأ وبخطوات ثابتة راسخة في عالم الأدب، وكل عام وانت بخير.
جاء في كلمة عدلة خشيبون: أقدم لفاطمة ذياب بطاقة تهنئة لأيلول، فمساؤك خير عطر وسلام، ومساؤنا معك له نكهة  التّراب المعطّر بمطر وسميّ وأحلام.
سيّدتي، أيّتها المحتفى بها في ليلة خريفيّة، أبت إلّا أن تحمل الرّبيع في أحشائها، دعيني في هذه اللّيلة أعشق الحريّة، أثمل من رحيق الإنسانيّة، وأهتف لك عفوًا ليس لك الهتاف، بل لأيلول، شكرًا أيلول شكرًا من أعمق أعماق الرّوح، لإهدائك نفحة روح مميزة بفاطمتنا الغالية، ولك يا جميلة بكلّ المعاني أقول: طوبى لك يا امرأة عشقت الحرف فاحتواها، ولاذت بمفردات دافئة، تعالج صقيع الغربة بثوب نسجته على نول محبتّها، فكان الثّوب دافئًا، وانقشع ضباب الآنين. طوباك يا امرأة طوّعت طوفان الذّل بسفينة أحلامها، لتصل شاطئ الآمان، ولسان حُلمها يقول لا مستحيل أمام الإرداة.
سيّدتي، أقولها ويمتلئ ثغري بالفخر، وتتزاحم معاني الإنسانيّة، يا امرأة حصدت قمح محبّتها، طحنته بمطحنة حنينها، عجنته بعرق كدّها، ونكهة مِلحهِ كانت من دموع عصيّة، وخميرتها كانت الكلمة الطّيبة، وقدمته رغيفًا تسابق إليه الجائع والفقير، شكرًا لأنّك سوّدت بياض أوراقنا، بمفردات جعلت منها للرّيح مدينة، وجعلتنا نسكن هذه المدينة العاصفة حبّا وسلامًا، ومن دفء مفرداتك نسجت لنا معاطف الأمان، حيث تقولين: (اصرخي كلّما احتجت للصراخ أصرخي بأوراق ومن غير أوراق.. كلّنا نحتاج للصراخ وصراخ الكتابة أصدق صراخ).
شكرًا لأيلول الذي بارك لنا بهدية، ومن قال أنّ الخريفَ خائن، سأدعوه لأن يلقاك يا امرأة جميلة بكلّ المعاني، أيلولنا يحمل في حناياه ربيعًا، يكسر فوضى الحواس بنسيم لطيف، من رقيق الكلام وعذوبة المفردات، علامة الاستفهام التي يرسمها هذا الزّمن القاسي، يُحوّلها مدادك إلى صرخة تصل الآذان دون استئذان، كلّ عام وأيلولك ينضح بمطر وسميّ رقيق كرقتك، عذب كعذوبتك، كلّ عام وأيلولك يترجم لنا زخات الشّتاء بشقائق النعمان والرّيحان. وأخيرًا.. من قال إنّ أيلول شهر خريفي بائس، فقد ظلمه، فكيف يكون بائسًا وقد أهدانا تاريخًا زيّن لنا رزنامتنا به، هو السابع والعشرين يومك يا غالية، كلّ عامّ وأنت الخير  وإلى سنين عديدة من العطاء.
وجاء في كلمة رحاب بريك: قراءة في كتاب مدينة الريح للأديبة فاطمة ذياب، ابنة قرية طمرة، حين تقرأ رواية الأديبة فاطمة ذياب، لا بد أن تتفاعل مع كل صفحاتها، أحداثها وتفاصيلها الكبيرة والصغيرة، وستلاحظ منذ الوهلة الأولى أنك أمام أديبة جريئة، تتناول الحديث عن مواضيع، إن لم نقل لم يُكتب عنها من قبل، علينا أن نقول بأنه نادرًا ما كُتب عنها، كما أعتقد بأن الكثير مما كتبته عن بطلة القصة، هو واقع فاطمه ذياب، وسيرة حياة الأديبة فاطمة ذياب.
شدتني أحداث روايتها، وأسلوبها الشيق في إلقاء الضوء على الكثير من قضايانا الاجتماعية والسياسية، ولم تنسَ بالتأكيد وضع المرأة العربية في مجتمع ذكوريّ، عادة وغالبًا لا يُنصفها، ويبدأ ذلك منذ اللحظة الأولى التي تولد فيها الطفلة الأنثى، التي غالبًا كانت حسب توقعات العائلة والأب بالذات (صبي). أكثر ما شدني هو أسلوبها الناقد الساخر بنفس الوقت، وهذا الأسلوب بالكتابة يشبه فاطمة بالواقع إلى حدّ بعيد، فمن يعرف فاطمة ذياب، سيكتشف امرأة كبيرة، عصامية، موجوعة، وسيشعر بمعاناتها حتى ولو كانت تلتزم الصمت، فإنّ وجهها مرآة تعكس خبايا ذاتها، ولكنها بالرغم من كل هذا، تحدثك عن هموم المرأة وهي مبتسمة.
في الرواية لم تنسَ قضية الإعلام، وقد تحدثت عن بطلة القصة التي كانت تعمل كصحافية، وشرحت عن وضع الصحافيين والإعلاميين، كيف أنهم غالبًا ما يضطرون لكبت آرائهم، وتقييد حريتهم من قبل المرؤوس، وحتى من قبل زوجة المرؤوس، وهذا ليس بغريب على كاتبة، هي بالأصل صاحبة رسالة جريئة، لا تتراجع عن جعل قلمها مسنونًا، ليُلامس القضايا المركونة في زوايا نسياننا .
الجميل برواية فاطمة، أنها تأخذنا أحيانا في رحلة زمنية، تتنقل بنا بين الزمن الحاضر والزمان الماضي، فتكتب عن عادات وتقاليد كانت مُتّبعة، تثور من خلال كلماتها على بعض منها، وتكتب ببساطة عن بعضها، كقصة العروس التي لم تنجح ابنة عمها أخت العريس، بإتمام تطريز شرشف السرير قبل العرس، ممّا جعل أهل العروس يقرّرون تأجيل العرس حتى يتمّ تطريزه. ومن يقرأ أحداث روايتها، لا بدّ أن يلاحظ بأنها تمتلك روح مرحة، وذلك يتجلّى بالذات من خلال قصّتها عن صينية الدجاج، حين أرسلها والدها لإحضار صينية دجاج من عند الفران، ليقدمها كوجبة غداء لضيوفه، ولكن فاطمة البنت الشقية كانت طوال طريق عودتها، تمدّ يدها إلى الصينيّة التي وضعتها فوق رأسها، وتتناول قطع الدجاج تباعًا، حتى أتت على أغلبها.
في الرواية تلفت انتباهنا ثلاث شخصيات مركزية: الشخصية الأولى بطلة الرواية، التي كانت تتأرجح بين قوتها وضعفها، بين قيدها وتمرّدها على بعض العادات البالية، وقيدها الموضوع فوق لسانها قبل قلمها، وبين عشقها لحريّتها الفكريّة ورسالتها الأدبيّة، هذه كما أعتقد بالضبط هي سيرة ذاتية للكاتبة المرأة، الأم العاملة المكافحة، المناضلة في سبيل العيش الكريم فاطمة ذياب، حتى لو أدخلت وغيرت بعض التفاصيل، إلّا أنك تقرأ شخصية البطلة التي تظهر جليّا من خلال كل السطور. الشخصية الثانية: زميلها بالعمل الذي كانت تدخل معه بحواريات بين الحين والآخر، حواريات شيقة لا تخلو من بعض الحِكم والفلسفة. والشخصية الثالثة والجميلة بالرواية هي دبدوبة، الموجودة بكل امرأة فينا، فكل امرأة فينا كما لدى الكاتبة، لديها وجها تريد أن يراه الجميع، ودبدوبة أخرى طفلة صغيرة ضعيفة خائفة، أو امرأة قوية متمردة ثائرة ككل دبدوبة فينا، تريد أن تخفيه عن الجميع.
كانت بطلة الرواية تجري حوارا ذاتيًّا مع دبدوبتها، فتجد دبدوبة ثائرة متمردة أكثر من بطلة القصة نفسها، وتتحدث دبدوبة عن نفسها فتقول: صحيح بأني دبدوبة متسامحة قلبي طيب، ولكني سأتحوّل خلال ثانية إلى نمِرة، ومستعدة أن تمزق كلّ من يحاول مسّ أولادها بمكروه، هنا أيضًا لم تنسَ الكاتبة فاطمة ذياب أن تعطي مكانًا ومكانة للأم، فهي كأمّ ربت أولادها لوحدها، فعكست مشاعرها، حيث عبرت عن استعدادها للتحوّل للأمّ النمرة، التي ستكون على استعداد لأن تؤذي نفسها، كي تحافظ على سلامة أولادها.
أخيرًا، لا يسعني إلّا أن أقول: بأنّي شخصيّا استمتعت بقراءة الرواية، وشدتني تفاصيلها وأحداثها، وأنصح كل من يحب قراءة الروايات، أن يبحث عن رواية فاطمة ذياب (مدينة الريح)، فاطمة كياسمينة تعربشت على مدخل دارها، وتناثر عطرها مُرحّبًا بزوّارها، امرأة جميلة بملامح طفلة صغيرة، جلجلت ضحكتها البريئة فرحًا، فسمعتها ملائكة السماء، توسدت خدها المبتسم، وغفت لعلها تستريح، في مدينة عصفت فيها الريح!
جاء في كلمة عايدة الخطيب: قاب قوسين أو أدنى كنت قريبة من الموت، حاصرك كأخطبوط، لفّ ذراعيه على شرفة أيامك، وأراد الانقضاض عليك، أحيانا كان يحاورك، وأحيانا أخرى كان يقفل شبابيك الحوار، حتى أحيانا عجز الطب من تشخيص حالتك، كنت مرارا أسألك: فتجيبين الفايروس اللعين، دخل جسدي الضعيف وعجز الأطباء عن تشخيصه، اقتربتِ من حافة الموت، وكانت العافية تمد لك لسانها وتلاعبك الغميضة، ومن ثم تهرب، كنت على يقين أن جسدك الضعيف لا يستطيع اللحاق بها، فتزيد من سرعتها، أما أنت كنت تنتظرين فرصة أخرى، وليس أمامك وأمامنا سوى الدعاء برجوع العافية. كنت تتأرجحين بين اليأس والتفاؤل، مشيت على طريق الشوك، وبإرادتك القوية مسحت الدماء، وبعنفوان صبرك وبإيمانك القاطع، أنك ما تزالين في دائرة الإبداع والعطاء، كنت تتحملين وتصبرين.
كنت دائما أتساءل، هل ستتغلب فاطمة ذياب الزميلة والنسيبة والمحببة إلى قلبي، على وعكتها، أم ستخط كلمة النهاية المؤلمة، كنت أغوص في دائرة التشاؤم والتفاؤل، وأمنّي نفسي وأقول، فاطمة شجاعة تغلّبت على معضلات كثيرة، والمرض سيكون من إحدى المعضلات، فقمت بالدعاء لك كثيرا في صلواتي، وطلبت من الله أن يهبك الشفاء والعافية، فاستجاب لدعواتي ودعوات محبي الأديبة فاطمة ذياب، فما زال للعمر بقية، وعلى الأرض ما يستحق الحياة، ثمّ توصلت إلى مقولة تقول: الكتاب والأدباء والشعراء لا يموتون بسرعة، فإبداعهم لا يتركهم. كل عام وأنت بألف خير صديقتي وزميلتي فاطمة ، والسعادة والعافية تخيم عند أعتاب بيتك.
جاء في مداخلة جودت عيد: ما أعرفه عن الكاتبة فاطمة ذياب أنها دمثة الخلق جميلة، وفي القراءات القليلة التي قرأتها لها كنت أتمتع بما تكتب، وأذكر أن مجلة الشرق خصصت لها عددا في تكريمها، وكان مثيرا لي أن أتصفح هذه الصفحات، ولكن بقي الهاجس أن أتعرف عليها شخصيا، واليوم كان قراري جميلا بأن استطعت أن أتعرف عليها عن قرب، وأشكر الله على هذا اللقاء الجميل معك ومع الحاضرين، وأعتذر منك ويجب على كل شعبنا أن يعتذر، لأنه لا ينكشف على الآخر وعلى مَن حوله، وإنما نعمل اعتبارا لكل ما ومن يأتينا من الخارج، فنتوجه لإصدار كتبنا في الخارج ولأسباب عدة، مع العلم أنّ لدينا خامات محلية مشرفة، ودائما كانت لدي نظرة جميلة ومشرفة لما تكتبين، واليوم بلورت هذه النظرة بتكريمك، فأنا لم أعلم عن نصك شيئا بسبب هذا الانحسار، والآن أعلم تفاصيل عديدة عنك، فأشكر حضورك المتميز الجميل والمتواضع هذا، والذي يخفى اليوم وللأسف عن كثيرين من المبدعين، فيحق لك هذا التكريم، فأنت كما الزهور في أمسية أيلولية الحضور.. وحاليا أكتب حوارية أيلولية بين رجل وامرأة على الساحة الافتراضية، وهي حوارية شعرية نثرية، فأيلول يعنينا كما يبدو، وأنت زينت أيلول بميلادك وبحضورك وبهذا الاحتفاء بك وبإبداعك، وإن شاء الله مزيدا من العطاء ومن الإبداع.
 

147
أدب / اُسْكُبِيكِ في دَمِي
« في: 22:44 18/08/2014  »
اُسْكُبِيكِ في دَمِي
آمال عوّاد رضوان

نَسائِمُ شُرودٍ تُحَلِّقُ
تَصْفَرُّ أَعْوادُها .. تَصْفِرُ ناياتُها
تَسْفَحُ غَمامَ مُنىً
عَلى .. أُفُقِ الصَّباحاتِ البِكْر
أَمِنَ المُنْتَهى تَنْقَشِعُ طُفولَةٌ
غافِلَةٌ.. عَارِيةٌ
تَخْتَبِي في أَغْلِفَةِ العَبَقِ العُذْرِيِّ؟
*
أَرْياشُ عَينَيْكِ؛
تُرْبِكُ وَهْجَ  مَوْجِيَ العاصِفِ
تَسْتَرِقُ وَمْضِيَ السَّاهي
لِتُشْرِقَ هَمْسَةً بَيْضاءَ
ضَمَّخَها طَلُّ حَياءٍ
*
هِيَ ذي حُروفُكِ
تَتَهادَى عَلى سَحابَةِ جُنونٍ
تُذيعُ بَوْحَ اللَّيْلَكِ في مَنافِيَ لَيْلِكِ
تَتَسايَلُ في ثُقوبِ الرُّوحِ
*
هِيَ ذي  رُموشُكِ
تَخْتَلِسُ قَميصِيَ البَحْرِيَّ
تَتَماوَجُ في هالاتِ العَوْسَجِ
تَتَوالَدُ نَعيمًا..
تَكْوينًا يَتَخَلَّدُ..
*
تَتَفاقَسُ بِأَعْشَاشِ فَرَحٍ آتٍ
دَمْعَةٌ .. شااااارِدَةٌ
مَبْهورَةٌ بِمَنْحوتَةِ ابْتِهاجٍ
تَحُطُّ .. عَلى أَجْنِحَةِ بَسْمَةٍ شَفيفَةٍ
تَهْمِسُ بِضَوْءٍ قُدْسِيٍّ:
ما مِنْ حَمائِمَ تَسْتَوي
عَلى بَيادِري.. إِلاَّكِ..
*
أشْتاقُكِ
وَالشَّوْقُ إِلَيْكِ
مَعْصِيَةٌ لا تُغْتَفَر!
*
مُلْهِمَتي
طِبْتِ بِفَيْضٍ مِنْ إبْداعٍ
اِسْطَعي أُنْشودَةً
تَذْرِفُ نوَّارِيَ الشِّعْرِيَّ
بَعْثِريني في لُجَّةِ الشِّعْرِ حَدائِقَ بَرِّيَّةً
تَغْمِسُ حَبَقَ عَبَراتِي الفَوَّاحَةِ
بِأَثيرِ أَحْلامِيَ العَذْبَةِ
*
عَباءاتُ نَواطيرِكِ تُهَفْهِفُ
فَوْقَ .. مَساماتِ وَجْدي
تُحَلِّقينَ مَغْمورَةً
بِشُعاعٍ مِنْ ظِلِّ دُعائي
أُرَقِّيكِ مِنْ كُلِّ يَبابٍ
بِاُسْمِ أَشْجارِيَ الوارِفَةِ
فَلْتَحُلَّ عَلَيْكِ بَرَكَةُ خُضْرَتي
:
مُبارَكَةٌ أنْتِ بي
مُبارَكَةٌ هِيَ أَنْساغُكِ / أَجْراسُكِ
وَمورِقَةٌ هِيَ الحَياةُ بَيْنَ كَفَّيْكِ
*
نَضارَةَ الحُبِّ..
أَعيديهَا في جُذوعِيَ العَلِيلَةِ
بأَغْصانِيَ العارِيَةِ
لِتورِقَ.. لِتُزْهِرَ
وَأَتَذَوَّقَكِ ثِمَارًا تُونِعُ في فَمي
*
يَا مَنْ بَحَريرِ حَرْفِها
تَغْزِلُني شَرنَقَةً
تَبْعَثُني نَحْلَةً في صَوْمَعَةِ اللَّيْلِ
هِي ذي أَطْرافُ الدَّهْشَةِ
تَسْتَعْسِلُني
كُلَّما ساحَ في مُقْلَتَيْكِ.. رَقْراقُ عَيْنَيَّ
لَوِّنيني بِعَبَثِيَّتِكِ
اُنْقُشي هَمَجِيَّتَكِ دُروبًا
عَلى تِلاواتِ نَشيدي
اُسْكُبيكِ في دَمي
لأَخْمَرَ.. لأَسْكَرَ بِسِحْرِ طُهْرِكِ!


148
حين يحنُّ الليلُ يجنُّ الحنين!


آمال عواد رضوان
أقام المنتدى الثقافي في جاليري البادية-عسفيا الكرمل أمسية شعرية، احتفاءً بديوان "حِينَ يُجَنُّ الحَنين"- حنان جريس خوري، في نهاية أيار/مايو2014، وسط عدد من الأدباء والشعراء والأصدقاء، وقد تولى عرافة الأمسية الأستاذ رشدي الماضي، ومداخلة كل من الكاتب والمؤرخ الأستاذ إسكندر عمل، حول دَور الفرح في ديوانها، ومداخلة الأستاذ فتحي الفوراني حول مواكبته مشوارها الشعري، من لحظة ميلادها شعريا حتى إصدار ديوانها الأول، وقد تخللت المداخلات هذه قراءات شعرية بصوت حنان خوري، للقصائد: "رَقصٌ في ذاكِرَتي"، "حُرَّةٌ أَنا"، و"ڤِيا دِيلّا روسّا الحزين"، ومن ثم كانت مداخلات من الحضور والتقاط الصور التذكارية.
جاء في كلمة رشدي الماضي: المركزية في "دولة الثقافة" تحتّم علينا أن نُحدث منعطفًا في المشهد الثقافيّ، لكسرٍ إيجابي ّلهذه المركزيّة، وفتح الأبواب لاقتحام فرسان الانفجار الإبداعيّ.
حنان فارستي القادمة على صهوة الشعر، لقد قرأت قاموسك شعرًا مفتوحًا على أسئلة الحياة، يجري بسيولة تعبيريّة هامسة، صوتها وشوشة الإنسان للإنسان، شعرًا يَجري ويُغري القارئ أن يجري معه، فيضًا رهين المشاعر والحواسّ. شاعرتي الفارسة دخلته مفرداتٍ نابضةً، ركضتُ بين السطور، لا لأسرق عفة النصّ، بل لأفكّ كيمياء عبارات شاردة، من زمن إبداع سقط من زمن الإبداع. ألم أقُل لك: "أنتِ وُلدتِ وفي فمك ملعقة من الشعر؟" اِمضي شاعرةً كي نمضي كذلك نحن معك.
وفي مداخلة الأستاذ إسكندر عمل بعنوان "الفرح في جنون حنين حنان":
قبل أن أبدأ كلمتي في هذه النّدوة الأدبيّة المخصّصة للديوان الأول للشّاعرة حنان جريس خوري "حين يُجنُّ الحنين"، أودّ أن أشير إلى أنّ وصالي الأول مع بدايات حنان الشّعريّة كان في جريدة الشّعب "الاتّحاد"، في بداية التّسعينيات من القرن الماضي، وكنت محرّرًا لصفحتي الطّالب و "قوس قُزح"، وكانت تأتي إلى مكاتب التّحرير في شارع الحريري، حيث كنّا نناقش محاولاتها الشّعريّة، ثمّ كنت أنشرها في صفحة قوس قُزح.
هنا لا بدّ من التّأكيد على حقيقة، وهي أنّ التّوقف عن الحديث عن دور "الاتّحاد" كمدرسة تخرّج منها الشعراء والأدباء من الرّعيل الأول بعد النّكبة فقط، كتوفيق زيّاد، وسميح القاسم، ومحمود درويش، وسميح صبّاغ، وإميل حبيبي، ومحمد علي طه، وفتحي فوراني، وحنّا أبو حنّا، وغيرهم من المبدعين الّذين نفخر بهم، هو ظلم للاتّحاد ولعشرات الكتّاب والشّعراء، الّذين بدؤوا مسيراتهم الإبداعيّة على صفحاتها بعد هؤلاء الأدباء الأفذاذ، ولاقوا كل دعم وتشجيع من محرّريها. حنان واحدة من كثيرات وكثيرين بدؤوا في صفحة الطّالب وهم في الصّفوف الابتدائيّة، أو في قوس قزح في الصّفوف الثّانويّة، ثمّ أكملوا الطّريق في الصّفحات الأدبيّة الأخرى في "الاتّحاد"، كميسون أسدي، ورجاء بكريّة، وصفاء نعامنة، ودريد زرقاوي، ود. جريس خوري، وآخرين كثيرين واكبت انتاجهم الأدبي وهم في أول الطّريق.
قرأت الدّيوان وشدّني الفرح الّذي فيه، في الكلمات والعبارات والمعاني والصّور الشّعريّة والموسيقى، فقرّرت أن أتتبّع هذا الفرح بكل أشكاله. الفرح أصبح عملة نادرة في هذا الزّمن، وفي هذه الظّروف الّتي نعيشها ونعايشها. فلا يمرّ يوم الّا ويتناقص الرّفاه في "دولة الرّفاه"، فمن أين سيأتي الفرح، والغلاء يستفحش، والبطالة تتفاقم، والحرب سيف مُصَلّت على رقاب العباد. لكن رغم كل ما ذكرت أبت حنان إلّا أن تكون فرحة تارة، أو هازمة للحزن حينًا، أو متمرّدة على مسبّبات الألم والمعاناة دومًا، فالحبّ فرح، والنّغم العذب والأغنية والمنى والبشائر والدّمعة، آخر دمعة فرح.
من تاريخ منهار ومن بردٍ وليل صواعقَ ارتقت، وحلمت وأصرّت أن تكبر وتكبر، "حتّى يموج الفرح ويترقرق". رغم الجراح والضّياع والإعصار غنّت للشّمس للحرّيّة، والحبّ تدفّقَ من شعرها وقلبها أَنهارَ أمنيات. الأمل بالفرح عند حنان لا يقاوَم، فهو لا بدّ قادم، وستدخله من بوابة القمر، رغم غدر الحبيب والزّمان والسّفر، تخاف أن يحرقها فرح الكلمات الّذي غرقت به وتلاطمت أمواجه، لكنّها تستدرك وتتحدّى:
"لا .... تقهرني قيود، ولا تحجبني عن المحال دمعة، فخطوي نار نار وَورود، ومن دمعيَ تولد شموس وآفاق ووعود".
حتّى بعد الطّوفان، وكم من طوفان يغمر حياتنا، أتت غصنًا أخضر يبشّر بنهار جديد، وفجر جديد، وفرحٍ فرحٍ أكيد: "سأقطف نهارًا من القلب المجرّح/ وأحرق ليلًا بفجرٍ يتفتّح، ويأكل العناصر والأشياء سأفرح/ أنا سأفرح." لا تنسى حنان وطنها وإن نسيته الأحلام، فهي تبشّره بحياة عذبة، وفجر منبلج، وألحان خضراء:
"إليك الحياة فلتفرح ولتفرح يا وطن الأحلام المنسيّة".
في قصيدة "حرّة أنا" لا تذكر لفظ الفرح، ولكنّ الفرح يحلّق في أجواء القصيدة، وتبدو حنان فراشة أو نحلة أو بلبلًا مغرّدًا يأبى القيود. حنان تحلم بغدٍ يزرع في دربها فرح الحياة، وحتّى في ليلها تغزو النّجوم لتصل إلى الفرح، وهو قادم لا محالة. الصّور الشّعريّة والأبيات تقفز فرحة سلسة عذبة، ينساب القارئ، السّامع، معها، لا يعتريه ملل ولا يشعر بثقل.
أرقص ملء الدّهر/ أغزل من رقّة ليل/ أجمل عمر/ لي عمر من وردٍ/ لي دهر من شهدٍ/ لي صوت/ وصدى/ لي سِفرٌ/ وسحرٌ/ وبريقْ/ صديقي/ أمسح ليلك بالوعد / وأملأ ثغرك بالورد
يا شعرُ/ خُذني اليكَ/ حيث تمرُّ عيوني/ حين هدوئي... وجنوني/ خُذني اليكَ/ حيثُ لا زمنَ/ لا وطنَ/ سوى عينيكَ/ ويكون عزفٌ ويكونْ/ عزفٌ دافئٌ... حنون/ يملؤني رقصًا/ رقصًا/ رقصًا وجنونْ.
 حرّة أنا قالت في إحدى القصائد، فجابت الطّبيعة والحلم والحبّ، وتحرّرت من قيود الوزن حينًا، ومن الحرف والقافية أحيانًا، وصاغت من الكلمات لآلئ، ورسمت لوحات شعريّة خاطبت الرّوح والفكر والعاطفة، فاهْنئي يا حنان بهذه البواكير، ونحن بانتظار حصادٍ خيّر قريب.
 
ثمّ كانت الكلمة للأستاذ فتحي فوراني، مُدرّسها في الكلية الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا، فتحدّث عن اكتشافه موهبتها الواعدة، فقال: لن أقوم هذا المساء بدور النّاقد، فقد آثرت أن ألعب دور الشّاهد! سأحكي لكم حكاية طريفة. حكاية ميلاد الديوان.. «حين يُجنّ الحنين»! واسمحوا لي، بدءًا، أن أعترف أمامكم بالتّهمة المنسوبة إليّ. إنّي أعترف بالذنب الجميل الذي اقترفته. أعترف بحصّتي في ارتكاب الخطيئة.. خطيئة الإبداع! وأنا سعيد بهذا الاعتراف".ومن ثم روى الحكاية ودوره في مواكبة وتشجيع الشّاعرة منذ اللّحظة الشّعريّة الأولى، وحثّها على مواصلة العمليّة الإبداعيّة، وصولًا إلى إصدار الديوان.
"رَقصٌ في ذاكِرَتي"/ حنان جريس خوري- قَلبٌ .. وَحَبَق/ وَ قَمَرٌ مَنثورٌ عَلى وَرَق/ وَ أَلفُ قَصيدَةٍ/ تَغسِلُ الَّليلَ / بِرَوعَةِ غَسَق.../ هَمسٌ .. وَ حَنين/ وَ قُبَلُ قُرُنفُلٍ لِعَينَيكَ/ لِلمَوجِ الحَزين .../ تَمُرُّ قَوافِلُ صَدى/ تَرسُمُ في الصَّفَحاتِ/ دَمعًا.. وَ نَدى/ وَ مِن حُلمٍ مُقمِرٍ / يُولَدُ عُمرٌ .../ وَ يَصحو مَدى
رَقصٌ رَقصٌ في ذاكِرَتي/ وَنَهارٌ يطلعُ مِن نافِذَتي / وَ آلِهَةُ عِشقِ/ تَهِفُّ عَلى عُمقي / ..وَ يَكونُ قَلبٌ
وَ يَكونُ حَبَق/ وَ قَمَرُ حُبٍّ مَنثورٌ على وَرَق / وَ أَلفُ قَصيدَةٍ/ تَغسِلُ الَّليلَ / بِرَوعَةِ غَسَق......
ڤِيا دِيلا روسّا اٌلحَزِين/ حنان جريس خوري                         
ڤِيا دِيلا روسّا اٌلحَزِين/ يا أَلفَ قَصيدةٍ/ مُعتَّقَةٍ.../ يا أَرْوِقَةً مِن حَنينْ/ يا نَهراً من رُؤىً مُقَدَّسَةٍ/ يا دَهراً من لَيلٍ و أَنينْ/ تَحمِلُني إِليكَ رُوحي/ تُعَمِّدُني/ تُقَطِّرُني/ ماءَ زَهرٍ ...رَياحِين
هَل تَلمحُ خَيالاتِ حُبٍّ جَديدْ ؟/ هَل تَلمَحُ عِندَ غَيهَبِ العمرِ/ عُمراً آخَرَ.../ ...يَنثُرُ شُموساً/ يَهمِسُ : قُدُّوساً/ قُدُّوساً/ قُدُّوساً .... مِن بعِيدْ ؟...
يا ڤِيا دِيلا روسّا الحزينْ/ هَوَت نَفسِي في نَفسِكَ/ وَ أَمسِي تَوارى في أَمسِكَ/ فَانتصرتَ كالنُّورْ .../ يا دَربَ الآلام المُعَطَّرِ / يا دَربَ رَعَشاتٍ مَلهوفَةٍ/ يا دَربَ فَرَحٍ مَهجورْ... / هَل تَلمَحُ ؟.../ سَحاباتٍ مِن دَمعٍ و بَخور  .../ هَل تَلمَحُني أُعانِقُ أَوراقَ الوَردِ ؟/ هَل تَلمَحُني حِينَ اندثارِ البَردِ؟
يا ڤِيا دِيلا روسّا الحَزين / كُلُّ خُطُواتي تَحمِلُني إِليكَ / كُلُّ دَمْعاتي تَصيرُ عَينَيكَ/ كُلُّ الدُّروبِ/ وَ الطُّيوبِ/
تُسافِرُ في راحَتَيكَ / حَيثُ يُجَنُّ الحَنينْ/ يا ڤِيا دِيلا رُوسّا الحَزينْ..........

حُرَّةٌ أَنا/ حنان جريس خوري
حُرَّةٌ أَنا/ مِثلُ غُصنِ زَيتونِ/ حُرَّةٌ أَنا/ وَمِثلُ أَجملِ جُنون/ مِثلُ مخاضِ شِعر/ عِندَ حُدودِ الكِلمِ/ حُرَّةٌ أَنا/ مِثلُ السَّماء.../ ومازالَ في القلبِ/ بَعضُ سماءْ/ بَعضُ جَنَّةٍ وضِياءْ/ ومازالِ في العمرِ/ بَعضُ دُهور/ ودِفءُ صَلاةٍ يَملَأُني سِرًّا/ وَنُورْ
ومازالَ في الدّربِ/ بَعضُ ياسَمين/ هَمَساتِ صَيفٍ/ وَدَمعاتِ حَنين/ وَمازالَ مَوسِمُ حُبٍّ/ وَجَنى/ وحُرَّةٌ/ حُرَّةٌ .. مثلُ اللَّونِ أَنا/ مِثلُ لَونِ قَصيدَة/ مِثلُ كونِ أسطورةٍ جَديدَة/ ومِثلُ زَهرِ لَونٍ وليدْ/ ونَهرُ حُبٍّ وَعيدْ/ مِثلُ أَسراب المُنى/ حُرَّةٌ.. حُرَّةٌ../ حُرَّةٌ أنا...
آلِهَةُ الطَّريقِ آلِهَةُ الطَّريقِ/ حنان جريس خوري
لِي عُمْرٌ مِنْ وَرْدِ/ لِي دَهرٌ مِنْ شَهْدِ/ وَلِي ليلٌ وَقَمرَ/ وَأَبَدِيَّةٌ مِن نَهرْ
وَلي.. سرٌّ في القَلْبِ/ وَأَجْمَلُ حُبٍّ في الدَّربِ/ وَليَ دَمْعٌ مِن نَدى/ وَلي صوتٌ .../ وَصَدَى
ولِي سِفْرٌ/ وسِحْرٌ/ وَبَريقْ/ وَهُنا أنا... آلِهَةُ الطَّريقِ ...







149


رسالةٌ لأدباءَ وأشباهِ مُبدِعين!



آمال عوّاد رضوان!


"نحنُ كالذُّبابِ بينَ أيدي الأرباب/ كالأطفال تعبثُ بنا/ إنّهُم يَقتلونُنا/ مِن أجلِ رياضةِ صيْدِهِم". (شكسبير)!
فما أكثرَ أرْبابَنا، وما أغزرَ أسيادَنا، وما أحوجَنا لحِكمةٍ عميقةٍ، تمخُرُ عُبابَ نفوسِنا الهزيلةِ، لِتسوقَها إلى الخلاصِ، وسواحل الكرامةِ والإنسانيّة!
نحنُ المُزَنِّرونَ بأزرارِ فيروز.. بزَفيرِ الهَزارِ والزيزفونِ..
نحنُ المُنغمِسون بشهقةِ المِزمارِ.. بالزيت والزيتون..
كيفَ غدوْنا مِنَ الغاوينَ.. نتغلغلُ في غواياتِ الغِيدِ..
نتزحلَقُ بقشورِ الكلام.. وننزلِقُ بوشوشاتِ الياسمين؟!

نحنُ المَحفوفونَ بالجِراحِ.. بالحرائق..
كيف بِتنا خاوينَ مِنْ نبْضِ المَحارِ.. مُمتلِئينَ بشَرانقِ الأنا؟
أنّى نزحَفُ على حصى الأضرِحةِ..
وننسحِبُ بحَنانٍ مِن تحتِ أسِرّةِ الاحتضارِ..
كحَيّاتٍ نحيلةٍ.. تتعَرّجُ مُتراقِصةً.. على أنغامِ فحيحِها..
تأكُلُ أحشاءَها.. تُغافِلُ الضّبابَ..
وتتوارى في ضِحكةٍ مُلوّنةٍ بانتصاراتٍ خبيثةٍ؟!

نحنُ الرّاقصونَ على إيقاعِ نَشيجِ القِراحِ..
كأصنامٍ مَنصوبَةٍ..
تُطبِقُ شِفاهَها على أقداحٍ ناريّةٍ.. تأكلُ ألسِنَتَها..
والعُيونُ مَعصوبَةٌ.. تُحملِقُ في الخواءِ المُلَوّنِ..
ولمّا نَزَلْ.. نَهيمُ في فَضاءٍ مُقفِرٍ.. إلّا مِنْ تَوَجُّسِنا..
نلهَثُ خلفَ سَرابِ مَجْدٍ.. لا ندري كُنْهَهْ..
حيثُ هُناكَ.. هاوياتٌ زئبقيّةٌ.. فاغِرةُ الأفواهِ.. تترَبّصُ بأجِنّتِنا؟

رحيلٌ.. لاسِعُ الخطى.. يُطاردُنا
ترحيلٌ.. لاذعُ المُنى.. يُلاحِقُنا
بكافّةِ الانتِهازاتِ الشيطانيّةِ.. بلوْحاتٍ حريريّةٍ ملائكيّةٍ..
ونحنُ المَشغوفونَ بالشُّهرةِ..
تُحرّكُنا حَدائقُ الحروفِ الوُصوليّةِ..
يَسلبُ ألْبابَنا.. هَسيسُ حَرائقِ الدّيباجةِ والإطنابِ.. 
وندووووورُ.. في حلقاتِ الأنا.. في مداراتِ المُراءاةِ..
نتهلّلُ بوَميضِ أُكذوبةٍ..
ونَشيحُ بأعيُنِنا المُقذّاةِ.. ببَصيرَتِنا المُعَمّاةِ..
عنْ غصّاتِ حقٍّ.. يُغيَّبُ عن مآتِي العدل!!

وبمزيدٍ مِن تَحَفُّزٍ.. تنبُتُ وُجوهٌ طُفيليّةٌ باهِتةٌ..
بوحشِيّةِ عِربيدةٍ.. تَنبثِقُ مِنْ صَدَفَةِ الصّدْفةِ..
تَخرُجُ مِن ثقوبِ النّايِ صارخةً..
فلا الصّمتُ يُبَدِّدُ نَشازَ نَشيجِها..
ولا هيَ ترحَلُ إلى خوارِها..

ها الإنسانيّةُ تتأوّهُ مَهدورةً.. مُغلّفَةً بأكفانِ المَجهولِ..
تتكَوّرُ في رِمالِ الغربةِ..
يَسوقُها أربابٌ مُتجَبِّرونَ مُتألِّهونَ.. إلى ما وراءِ حِجابِ الموْتِ
لِتركُنَ فينا ساكنةً.. ونرقُدَ وإيّاها.. في سُباتٍ دفين!
 
يا أيُّها الخامِلونَ.. المُعَلّقونَ بأهدابِ الشّمسِ..
تُحدِّقونَ إلى أشباحِ جَهالَتِكُمْ غيْرَ مُتَهَيِّبينَ..
ها أذيالُ العاصِفةِ الثّائرةِ عليْنا بغِشٍّ.. تجرِفُنا إلى حيثُ لا ندري..
ولا تَحْفِلُ بأثيرِ إبداعاتٍ شمعيّةٍ..
بلْ.. تُطْبِقُ بأجنِحَتِها الشّوكيّةِ.. أجفانًا مُعْوَجَّةً.. على أناها..
تُقوِّضُ قوائمَ عُروشٍ.. أسوارَ قُصورٍ..
بنيْناها على رِمالِ الغُرورِ ووُحولِ الزّوال!

ها نحنُ المَهزومونَ.. في غَياهِبِ الكَراماتِ المَنسِيّةِ..
ننتصِبُ كأصنامٍ عرجاءَ في فيْحاءَ..
ما أن تحرِقَ أذيالَها النّيرانُ.. حتّى نجري في أقبيةِ ذاكرةٍ مُعتِمةٍ..
كرَصاصِ شيطانٍ طائشٍ دونَ عنوانٍ..
نلهَثُ خلفَ مجْدٍ وهْمِيٍّ..
في كُهوفِ شُهرةٍ فانيَةٍ.. تَترَعُ بهَواجِسِ النّرجِس!

كَمْ هيَ عَظيمةٌ مَراحِمُ الحَنينِ الندِيّةُ..
نستمِدُّ مِنها بحّةَ الرّيحِ الضّاحِكة!
هناكَ..
ما بينَ أرضٍ تَئِنُّ بالفوْضى.. وسَماءٍ تعِنُّ بالضّوْضاءِ..
وفي غفلةٍ.. مِن مَساكِبِ ألغامٍ مَزروعَةٍ في أنفاسِنا..
نحتفي بفضاءِ أوطانٍ مُورِقةٍ بالزُّرْقةِ..
خَصبةٍ بالبَلحِ الشّاميِّ.. بالعِنبِ اليَمنيِّ..

على مَسارحِ الآمالِ.. تتراكَضُ أرواحُنا..
مَشفوعةً بكُفوفٍ مبْسوطةَ الصّلاةِ والدّعاء..
تحمِي أحلامَنا مِنَ الضُّمور!
هياكِلُ أجسادِنا شاهِقةُ الجَوارِحِ..
ليْسَتْ هَشّةً.. تنوءُ بأحمالِ ضَعفِها..
ليستْ مَسكونةً بالشّكِّ.. فلا تَستكينُ إلى يَقينٍ..
إنّما.. تجثو.. راكعةً للحرّيّةِ.. ساجدةً للحَقٍّ..
وبإيمانٍ خاشعٍ.. تتوقُ للحياةِ.. للإنسانيّةِ.. للكرامة.. للوطن!


150
رسالةٌ إلى أبينا بولس اليازجي!



آمال عوّاد رضوان

وما انفكَتْ أوتارُ قلبي مشدودةً مُتوتّرةً، تلك الّتي دوْزنَها بتناغُمٍ إخوةٌ وأحبّةٌ وأدباءٌ وأصدقاءٌ غوالٍ سوريّون، عرفتُهم برِقيٍّهم الأخلاقيّ الثقافيِّ السامي! ولمّا يَزَلِ الألمُ والأرقُ يُفتّقانِ روحي إلى ما وصلتْ إليه سوريا الحبيبة إلى الآن، وخاصّة، منذُ علمتُ بخطفِ أستاذي المطران بولس اليازجي في خضمِّ الأحداثِ السوريّةِ الراهنةِ، مَن عرفتُهُ عن كَثبٍ بروحانيّتِهِ العالية المُسالِمةِ، ومحبّتهِ العارمةِ لعروبتِهِ ولسوريا وللإنسان، عساهُ وجميعُ الأهل يَعودون إلى أحضانِ سوريا بسَلامٍ وحياةٍ آمنة، وعسى جميع أسرانا يَتحرّرونَ مِن سجونِ الظّلمِ وكمائنِ الشرور، لنحيا وسوريا وفلسطين والعراق وكافةِ بلدانِنا العربيّةِ والبشريّةِ في هذا الكوْن فصحًا مجيدًا، وعيدَ قيامةٍ وخلاصًا لإنسانيّتنا مِن الحروب والآلام!
أستاذي الحبيب بولس اليازجي..
ربّةُ الذكرى ما انفكّتْ تُوصِدُ الذكرياتِ على بخورِ المَسافاتِ العتيقةِ، وما فتِئتْ تَجدلُ فتيلَ الماضي لحنًا بيزنطيًّا جَهوريًّا، يَتبَوْلَسُ مُتعَمْلقًا في شقوقِ الرّوحِ، ويَتقَبْرَصُ الوجعُ نُحاسيًّا ويَتقرفَصُ، يَطرُقُ بعكّازِ شُموخِهِ دمعًا خانقًا تحجّرَ في صخبِ المَدامع.
هناكَ في نيقوسيا/ قبرص
لقّنتَني الموسيقا البيزنطيّة.. وهَبْتَني مَفاتيحَ أبوابِ الرّوحِ.. جعلتَ قلبيَ المغمورَ باليقينِ، يَتسلّقُ سُلّمَ الحياةِ فرحًا، ويُحَلّقُ بأجنحةِ الملائكةِ إلى سَماواتِ السّلامِ الرّوحيّ.
كانَ صوْتُكَ الحاني الشّاخصَ بي يَلكُزُني، يُدَثّرُني بنُذورِ الأولياءِ، يَجُرُّني إلى سَماواتِ الأنبياء: هيّا احْمِلي الأمانةَ ورَتّلي!
ويتأجّجُ ارْتِباكي أمامَ إصرارِكَ المُؤمِنِ بتِلميذتِكَ، وأنتَ المُشِعُّ بالإيمانِ، تُزجي غيومَ روحي بحنانٍ، وَتسوقُها إلى قُدسِيّةِ سعادةٍ تَكمُنُ في إنسانيّتِنا، وأدْمَعُ ببَسْمَتِكَ المُشعّةِ نُورًا، وتَغرَوْرِقُ عينايَ برُوحِكَ الواثقة.

حَمَلْتَ صوْتي مُصَوَّرًا في أحشاءِ كاميرَتِكَ، وحَمَّلْتَني صليبَ البارالايي والصّولفيج البيزنطيّ أمانةً عشّشَتْ في خلايا كياني..
ويَضحَكُ ليَ الزّمانُ الأعرجُ.. يُضَمّخُ روحيَ بالزّوفا، ويُطِلُّ الأرشمندريت فيلوثيوس في الناصرة قادِمًا من حيفا، لتعليمِ أصولِ الموسيقا البيزنطيّة.
مدفوعةً مضيتُ إلى هناك، بعدَما ألزمَني تشجيعُ زوجي الحبيب أن أتابعَ موْسقتي البيزنطيّة، فجَلسْتُ وحيدةً (أنا الأنثى) على حياءٍ، خلفَ جمْعِ المُرتِّلينَ الذكور، أحملُ رضيعي ذا الشهورِ الثلاثة، وأُصغي بصمْتٍ نَهِمٍ. لكن، بعدَ شهور قليلةٍ انفضَّ جمعُ المُرتّلينَ، ووحدي بقيتُ في الغربالِ دونَ الأربعينَ الآخرين.

كان المشوارُ البيزنطيُّ شاقٌّ وطويلٌ، يحتاجُ إلى دراسةٍ جدّيّة ومتابعةٍ، فهرَّ الجمعُ مِن ثقوبِ الموسيقا على الدروب، ومضيتُ بروحي إلى حيفا، لأتابعَ تلقّي دروسي الفرديّة بإخلاصٍ من قِبل الأرشمندريت فيلوثيوس، ولمْ أتوَانَ لحظةً عن حَمْلِ أمانَتِك، إلى أنْ أتقنْتُ القراءةَ، وحِفظَ جَميلِكَ الماطِر العاطر بفترةٍ وجيزةٍ مُكثفةٍ.
يا البولسُ اليازجي راعينا..
يا مَن تجسّدتَ في ابتهالاتي طوْعًا، تُعِدُّ أجِنّةَ السُّحُبِ مَلائكةَ نورٍ للأرضِ، بالأمسِ القريبِ عاينتُ الأعوامَ تحْمِلُكَ على أعناقِها سَنابلَ أحلامٍ، وقفتُ أمامَ أيقونةِ الآلامِ، تنسِجُني خيوطُ الدمعِ والآمال، وكما في كُلِّ عامٍ، يَدايَ مَبْسوطتانِ مَزاميرَ اسْتِغفارٍ، أُسَبِّحُ مُرتّلةً بصوتٍ متهدّجٍ متهجّدٍ ما لقّنتَني وصوّرتَ:
"ها هو ذا الختنُ يأتي في نِصفِ اللّيل، فطوبى للعبدِ الّذي يَجِدُهُ مُستيقِظًا، أمّا الّذي يَجِدُهُ مُتغافِلًا، فهوَ غيرُ مُسْتَحِقٍّ، فانظري يا نفسي لِئلّا تَغرَقي في النّوم، ويُغلَقُ عليْكِ خارجَ المَلكوتِ، وتُسَلَّمي إلى الموتِ، بل كوني مُنتبِهةً صارخةً، قُدّوسٌ قدّوسٌ قدّوسٌ أنتَ يا الله، بشفاعةِ القِدّيسينَ ارْحَمْنا".
يا اليازجي بولس سيّدنا..
يا المحفوفُ بصلواتِ ودعواتِ مُحِبّيكَ الخلاصيّة، ويا المُكَلّلُ بإبَرِ شوْكِ الفُصولِ المُهمّشةِ، ها أنتَ لمّا تزَلْ حاضرًا فينا ومعَنا في هذا الأسبوعِ العظيمِ مِن آلامِ المسيح وفي كلِّ آنٍ، تُرَتِّقُ جِراحَ مَناراتٍ مُمَلّحةٍ، وتُواسي المحزونين بإيمانِك وروحِك الطاهرة، فالمجدُ لطولِ أناتِكَ!
يا أبانا البارّ بولس اليازجي..
ها عيناكَ تنبثقانِ مِن ثقوبِ صوْتي خاشِعتانِ، تُمَسِّدانِ بدَمْعِهِما شَعرَ طفولةٍ وأمومةٍ وكهولةٍ وشيخوخةٍ مضَمّخٍ بالدّمِ، تُرمّمان ِأقبيةَ حُزنٍ تَرَسَّبَ فوْقَ طواحينِ الوَقتِ المُهشّمةِ، براحتِكَ اليُمنى تَهُشُّ عرائشَ اليأسِ، وتَدُسُّ قلبَكَ خلاصًا مُقدّسًا في صدورِ عرائسِ المَنفى، وتَمسَحُ عن وجْهِ التُّرُهاتِ أنفاسَ المُتعَبينَ المَغموسةَ بنبْضِ النّارِ، يَترَعْرَعُ الرّجاءُ في شفتيْكَ، وتَطبَعُ قبلةَ حنينٍ على جَبينِ سوريا الحبيبةِ، وأسمعُ صوتُكَ هاتِفًا:

سوريا أيا آخرَ عذراواتِ الموسيقا المُهَلِّلةِ بالشّعرِ/ ويا وَريثةَ الكرامةِ والخُلودِ، مَنْ أباحَ عِطرَكِ المُعَتَّقِ في جِرارِ الياسمينِ والبنفسجِ/ ليَتطايَرَ نخيلًا نحيلًا خاويًا مِن فِراخِكِ البَرَرة؟/ مَنْ أرْخى جُفونَ الحرْبِ على مُقَلِكِ المُدَمّاةِ بالخوْفِ والعُرْيِ وظِلالِ الضّلالِ؟/ بَنوكِ يَلِجونَ أزِقّةَ الضّياعِ/ يَتقَوّسونَ فسائِلَ خيْبةٍ/ يَتعثّرونَ في غَياهِبِ هَواجِسَ تَتلاحَقُ/ تَتكَثّفُ عُقْمًا مُتَعَكِّرًا على وجهِ الوطَنِ/ أيّتها الحبيبةُ سوريّتَنا/ أتيحي لنا الحياة!

151
لقاءٌ حميميٌّ في مملكة الحنين!
آمال عوّاد رضوان
بأجواء ملؤها الغبطة والفرح والحنين، احتفى خريجو الفوج الثامن لعام ١٩٨٠في ثانوية عبلين القديمة باحتفالٍ حميميٍّ، وذلك بتاريخ 2-8-2014، بقاعة الرشيد في عبلين، وقد أضفت جوقة الكروان جوًّا راقصًا على الأمسية بقيادة المايسترو نبيه عواد، وإيقاع كميل تيم، وغناء الشابتين الجميلتين ساندرا حاج وكليمانس عواد، وقد تولى العرافة كل من جمال حيدر وآمال رضوان، ليستمر اللقاء قرابة سبع ساعات بحفاوة دامعة تتعطش حنينا للماضي، فيتحلق الحضور حول مائدة المحبة، يتناولون عشاء ذكريات الشيطنة والصبينة الجميلة على طاولات الدراسة، من مقالب ونهفات شقاوة عذبة، ومن ثم تم تكريم كل من الأساتذة إلياس جبور، د. محمد سكران، شاكر رسلان، عاصم خوري، رمزي مسلّم، جاسر داود، فواز حلاس، جوزيف نشاشيبي، ومنير موسى، وكان لكل من الأساتذة والطلاب كلمة هامسة دافئة من نسائم الماضي الجميل، ومن ثم تم التقاط الصور التذكارية الغالية على قلوب الجميع، وتوزيع أقلام طُبع عليها اسم الفوج والمدرسة.
جاء في كلمة آمال رضوان: أعزاءَنا الغوالي مملكة الحنين تشرّع أبوابها لنجوم تعزف عهدًا فتيًّا، من خلال لقائنا الأول، وقد غمر اللقاء جو فائق الحنين، يضم طلابا وأساتذة، لتكتمل المسرة الوضاءة بلقاء نجومها في مملكة الحنين، التي ما يزال صدى حنينها كحصان يمتطي القلوب والأعمار، فيصول ويجول في حنايا وخفايا ماض كناه، فيذيبنا شوقا، ويمحو حدود أمكنة وأزمنة زحفت إلى ملامح حياتنا وأرواحنا، لنسعد وإياكم بومضات حنين تعيدنا برمشة عين إلى مملكته الذهبية، إلى أيام خلت، تعجّ بشقاوة طفولية نابضة بنا، وبفيض ذكريات تنساب ندية وفية!
وفي كلمة جمال حيدر جاء: في هذه الأمسية نلتقي بعد انتظار 33 عاما من تخرّجنا عام 1980 من مدرسة عبلين الثانوية القديمة، ومن غرف قديمة مستأجرة في بيت شحادة سلمان، تدلف إليها مياه الأمطار عبر السقف المشقق، لتبلل كتبًا كثيرة ودفاتر وطاولات، إلا أن هذه الغرف كانت دافئة بطلابها ومعلميها، نعود اليوم إلى الصف الثاني عشر، تاركين ألقابنا بهذه الأمسية، أمسية الحنين الأول. نرحب بالمعلمين الأفاضل الذين لبوا دعوتنا، وأضافوا رونقا خاصّا لهذا اللقاء، ونتكرّم بحضورهم الليلة وبجهودهم التي بذلوها من أجل تخريج هذا الفوج وأفواج أخرى في الماضي والحاضر .
دعونا نستذكر بعض المعلمين ممّن علمونا وليسوا معنا اليوم، وأرواحهم حاضرة دائما تحلق بنفوسنا: الأستاذ ميخائيل سلمان، الأستاذ حنا عويّد، والأستاذ سليم خوري .. رحلوا لكن ذكراهم خالدة أبدا بيننا.
هذه الفكرة راودت كثيرًا من الأصدقاء منذ زمن، لكن انشغالنا كلّ في عمله لم يسنح لهذا اللقاء أن يتم، حتى قام بعض الأصدقاء بتجهيز قائمة بأسماء الخريجين، وتمّ تشكيل لجنة مبادرة اجتمعت عدة مرات ونسقت لهذا اللقاء، وهي مكوّنة من: عماد زيدان، خضر سواعد، آمال الخوري، ليلى النجمي مغندف، وجمال حيدر، ونور سلمان.
وها نحن نجتمع هذه الليلة لنتذكر سوية أيامنا تلك، على أمل أن نعاود هذه اللقاءات قريبًا ونكرّرها، فالسهرة طالما انتظرناها، والقلب يملؤه الحنين والحنان لرؤية الأحبة الغوالي، لنعلن معًا عن ميلاد فجر جديد وإن تأخر، لتتلألأ السهرة بنجومها الخريجين وكواكبها المعلمين الأفاضل، هي سهرة العمر الباقي الى الأبد.




























152
الكروان تغني الوطن في ليالي ميلاد 2013!

جوقة الكروان العبلينية الجليلة أحيت حفلا غنائيا مميزا بقيادة المايسترو نبيه عواد في عبلين الجليلية، وهي الامسية السابعة ضمن برنامج احتفالات ليالي الميلاد 2013، والتي نظمتها لجنة ليالي الميلاد 2013، بتخطيط وتنفيذ جوقة الكروان لكل برامج هذه الليالي، وقد احتضنت ساحة الميلاد العبلينية هذه الاحتفالية، بتاريخ 25-12-2013، وعلى خشبة المسرح وفي الهواء الطلق القارس، ووسط حضور كبير متفاعل ومتعطش للفرح من أهالي عبلين، أطفالا وشبابا وصبايا ومن كل الشرائح الاجتماعية، لتستدفئ بفرحة الميلاد، وبأصوات جوقة الكروان التي غنت الوطن والميلاد والطرب والفلكلور، وصدحت تغني "احكيلي عن بلدي"، وبيقولوا بلدي زغيّر"، لتتابع في ترانيم الميلاد بأصوات مفردة وجماعية، من خلال ألفت حاج، شادي تلحمي، كليمانس عواد، وبأغنية طربية بصوت ساندرا حاج "حيرت قلبي معاك"، وليختتم الاحتفال الفنان الكرواني بصوته المجلجل "سليم خليل"، بأغاني جبلية وفولكلورية راقصة.  
ويجدر الأشارة الى ان هذه الامسية الاحتفالية جاءت ضمن مشروع مفعال هبايس، والمحدد بـثلاثة ايام تربوية  في جميع انحاء البلاد، وفي فترة محددة فقط ما بين: 25-12-2013 و 26-12-2013 و27-12-2013، وقد حل ضيفا على هذا الحفل السيد عوزي ديان رئيس مؤسسة مفعال هبايس، حيث انه اختار حضور احتفال جوقة الكروان في عبلين، من ضمن 130 عرض ستقام في الوسط العربي في الايام الثلاثة المذكورة
ويستمر برنامج ليالي الميلاد 2013 مع:
بتاريخ 27-12-2013 عرض غنائي للفنانة الكروانية مريم طوقان.
وبتاريخ 29-12-2013 ستكون الامسية الختامية، تشمل عرض كونسيرت موسيقي من طلاب المعهد الموسيقي في عبلين، وعرض ستاند اب كوميبدي لفرقة سمّة بدن، ومواهب عبلينية، ودبكة شعبية!
تصوير- جورج سلمان










































153
احتفاليّةُ مؤسّسة محمود درويش للإبداع بعامِها الخامس!


آمال عوّاد رضوان
 وسطَ حضورٍ كبيرٍ مِن أدباءَ وفنّانينَ وشخصيّاتٍ اعتباريّةٍ واجتماعيّةٍ وروحيّةٍ وسياسيّةٍ ورجال أعمال محلّيّين، ووفودٍ مِن بلجيكا وفلسطين، احتفلتْ مؤسّسةُ محمود درويش للإبداع- كفرياسيف الجليل بعامِها الخامس، وذلك بمشاركةِ توأمتِها البلجيكيّة "مؤسّسة سوليداريس"، في قاعةِ قصر الباشا بدير الأسد الجليليّة، بتاريخ 6-12-2013، وبالتعاون مع مجلس دير الأسد.
وقد ضمّ الوفدُ البلجيكيّ الضيفُ رفيعُ المستوى مِن مؤسّسة سوليداريس كلًّا مِن؛ وزيرة الثقافة البلجيكيّة السيدة فضيلة لعنان، والسيّد فيليب ماو رئيسُ كتلةِ الحزب الاشتراكيّ في مجلس الشيوخ، وعضوَ إدارة جمعيّةِ سوليداريس ووزيرَ التعليم السابق السيّد فريدريك بوفيس، والسيّدة ليندا كولت ممثلة حركةِ النساء في مؤسّسة سوليداريس ومديرة المركز الصحي والوقاية للنساء، والسيّد مرتان ووتي مدير مهرجان التضامن والمدير الإعلاميّ في مؤسّسة سوليداريس، ورئيسَ الوفد حسين شعبان مدير مؤسسة سوليداريس. وشاركَ أيضًا وفدٌ ثقافيٌّ فلسطينيٌّ تألّفَ مِن الأدباء: يحيى يخلف، جورج إبراهيم، عزام الأحمد وجمال زقوت.
تولّى عرافةَ الحفل الإعلاميُّ زهير بهلول، وتوالت كلماتُ كُلٍّ مِن: السيد عصام خوري مدير المؤسّسة، ورئيسُ المجلس المحلّيّ دير الأسد السيد أحمد ذباح، والسيد حسين شعبان مدير مؤسّسة سوليداريس البلجيكيّة، والسيد عبد الخالق أسدي، والكاتب محمّد علي طه، والكاتب يحيى يخلف، وكلمة وزيرة الثقافة البلجيكيّة فضيلة العنان، وكلمة المحامي جواد بولس. وقد تخلّلَ الكلماتِ وصلةٌ موسيقيّة غنائيّة للفنانة ميرا عوض، والمايسترو د. تيسير حدّاد، مِن كلمات محمود درويش، أضفتْ لمسةً إبداعيّةً فنيّةً. وفي نهاية الاحتفال تمّ تكريمُ أعضاء الوفد البلجيكيّ، والتقاطُ الصور التذكاريّة!
جاءَ في كلمة عريف الحفل الإعلاميّ زهير بهلول: هذا المهرجانُ تتبنّاهُ "مؤسّسة مركز محمود درويش للإبداع- كفرياسيف"، بالتعاون مع مجلس دير الأسد المحلّيّ، لإبقاء إرث الراحل محمود درويش إلى الأبد.
وأَضاف: هناكَ شخصيّاتٌ سردميّةٌ قابعةٌ في القلوب دائمًا وأبدًا، رغمَ أنّها رحلتْ عنّا. "مؤسّسة محمود درويش للإبداع" نقشتْ على رايتها، أهمّيّةَ إبقاءِ هذا الإرث لإحدى الشخصيّات الرياديّةِ في حياتنا الثقافيّة، وإن شئتم، في حياتنا السياسيّة. رحلَ محمود درويش، ولم يَغِبْ عنّا هذا الإرثُ الكبير، ولكن أنا لا أستطيعُ أن أتحدّثَ معكُم في بداية هذا اللقاء، دون أن أذكرَ رحيلَ شخصيّةٍ أخرى، رسمتْ خريطة الطريق للقرن الحديث. رحلَ عنّا نلسون مانديلا، ونحن إذ نستذكِرُ أنفسَنا، نكون دائمًا على يقينٍ، بأنّ طريقَ هذه الشخصيّة الأسطوريّة، هي تمامًا كطريق الشعب الفلسطينيّ، الذي عانى الأمرّيْن خلالَ عقودٍ طويلةٍ من الزمان.
كتبَ الكثيرونَ عن نلسون مانديلا، وأشارتْ إحدى الصحف، بأنّه "وُلدَ عبدًا، ولكنّه ماتَ حُرّا". ولا أعتقدُ أنّ هناكَ كلماتٍ صائبة أكثرَ مِن ذلك، كي تعكسَ دربَ هذه الشخصيّةِ الرياديّة، كما رُسمتْ ونقشت في قلوبنا، وفي أسفار التاريخ التي ستكتب عنه الكثيرَ الكثير، ولكن ما العمل، وتاريخ الشعوب في هذه الدنيا جعلت مِن الناسِ مَن يَعيشُ أحيانًا في قمع وإجحافٍ ما بعدَهُ إجحافٍ وقمع، وإن كانت هذه الأمورُ ليست بعِدويّة، فهي نوعٌ مِن العدويّة التي يرتئيها البعض حقيقة الأمر.
إنّ محمود درويش حينما رحلَ، تركَ لنا الكثيرَ كي نُذكّر ونستذكرَ، وهذه المؤسّسة التي تقفُ وراءَ هذه الفكرة، هي مؤسّسة ثريّة العطاء، وخلال خمس سنوات استطاعتْ أن تُحقق الكثيرَ، وأعتقدُ بأنّ هذا الكمّ وهذا النوع ما قبل الكمّ، هو الذي يعكسُ أهمّيّة مؤسّسةٍ مِن هذا القبيل، وهذا أكثر مِن مؤشّر، بأنّه بالرغم من سياسةِ الإقصاءِ التي تتبنّاها الحكومة الإسرائيليّة، إلّا أنّ القضيّة الفلسطينيّة باقية ومتنفسة، تضربُ وتَركلُ وتعيشُ إلى الأبد.
حينما وصلَ نبأ رحيل نلسون مانديلا، أغمضتُ عينيّ وتذكّرتُ وقلتُ لنفسي: اضطهاد؟ فنحن مِن المضطهَدين. عنصريّة؟ فنحن ممّن نُعاني مِن هذه العنصريّة. معاناة؟ فنحن نُعاني ونئنُّ تحتَ وطأةِ المعاناةِ مرّة تلوَ الأخرى. السجن الذي قبَعَ فيهِ مانديلا؟ فكَم منّا قبَعَ في السجن، المَنفى، الغربة، العزلة، الاكتئاب؟ ولكن إلى جانب ذلك كان النضالُ، وانتصابُ القامةِ والشموخ، والكرامة كانت بمثابةِ نبراسٍ اهتديْنا به، وسنستمرّ نهتدي به حتّى الرمق الأخير، وسيعيشُ هذا الشعب إلى الأبد، وسيُحقق أمانيهِ وأحلامَهُ، وستقومُ في نهاية المطاف دولةُ فلسطين، فأهلًا بالإخوان القادمينَ مِن المناطق الفلسطينيّة، مَن حضروا الليلة، الأخ يحيى يخلف، عزام الأحمد، جمال زقوت، و(أنا حينما أرى الأخ جورج إبراهيم أنفعِلُ)، فأنتم دائمًا في القلوب حيّاكم الله، وأنتم دائمًا لنا العنوان والمصدر.
وجاءَ في كلمة السيّد عصام خوري مدير المؤسّسة: الأخواتُ والإخوة مساء الخير. كلّ الوجوهِ التي عرفتُها وعرفتني تُلاقيني بجماليّةٍ عاليةٍ هذا المساء، فاسمحوا لي في البداية أن أشكرَكم وأحيّيكم، وأرحّبَ بكم جميعًا بأعذب عباراتِ الودّ والترحيب ومَشاعر الأخوّة والصداقةِ والإخلاص. أشكرُ الجمهورَ الكريم، جمهورَ مؤسّسة محمود درويش للإبداع، الذي يُعتبرُ العمودَ الفقريَّ لهذهِ المؤسّسة.
الزملاءُ المتحدّثونَ في هذه الأمسية؛ عريفُ الحفل، والفنّانونَ، والزملاءُ أعضاءُ مجالس مؤسّسة محمود درويش، والمجلس الاستشاريّ، والمجلس الثقافيّ الأعلى، والأخ العزيز مفيد حزان مُراقب الحسابات، الذي وقفَ معنا منذ اليوم الأوّل بدون مقابل أشكرك، وأشكر الزميل الشاعر معين شلبية على إدارة موقع المؤسّسة، أشكر الجميعَ على الدعم والتوجيه والمشاركة في رسم وتنظيم وتنفيذ مشاريع ثقافيّة قمنا بها خلال السنوات الخمس الفائتة، وأصبحنا من خلال عملنا الدؤوب مؤسّسة ثقافيّةً فاعلةً في مجتمعنا العربيّ الفلسطينيّ.
"مؤسّسة سوليداريس"، والتي يقفُ على رأسها الأخ والصديق العزيز مديرُها حسين شعبان، يَعجزُ اللسانُ عن وصفِ قيمتِها ودعمِها لنا، ووقفتِها معنا في أحلكِ وأصعبِ المواقفِ والظروف، والتي لولاها لما استطعنا إنجازَ ما أنجزناهُ إلى الآن.
الوفدُ البلجيكيُّ الضيفُ رفيعُ المستوى مِن مؤسّسة سوليداريس؛ وزيرةُ الثقافة البلجيكيّة السيدة فضيلة لعنان، والسيّد فيليب ماو رئيسُ كتلةِ الحزب الاشتراكيّ في مجلس الشيوخ، وعضوُ إدارة جمعيّةِ سوليداريس ووزيرُ التعليم السابق السيّد فريدريك بوفيس، والسيّدة ليندا كولت ممثلة حركةِ النساء في مؤسّسة سوليداريس ومديرة المركز الصحي والوقاية للنساء، والسيّد مرتان ووتي مدير مهرجان التضامن والمدير الإعلاميّ في مؤسّسة سوليداريس، والعزيز رئيسُ الوفد حسين شعبان مدير مؤسّسة سوليداريس، أهلًا بجميعكم.
الوفدُ الثقافيُّ الذي يُمثّلُ الكُتّابَ والشعراءَ والفنانينَ والمثقفينَ مِن رام الله، برئاسة الكاتب والأخ الصديق يحيى يخلف وزير الثقافة السابق، وبمشاركة الأخ عزام الأحمد، وجمال زقوت، والأخ جورج إبراهيم، مرحبًا بكم.
الكُتّابُ والشعراءُ والمثقفونَ المَحلّيّون، وأعضاء الكنيست، ورموز الإعلام والثقافة والفن، ورجالُ الأعمال، ورؤساءُ وأعضاءُ بلديّاتٍ ومجالسَ محليّة أهلا بحضوركم. أشكرُ مجلسَ دير الأسد على استضافتِهِ لنا، وتقديمِهِ الدعمَ الكافي لإنجاح هذه الأمسية، وأشكر رئيسَ المجلس السيد أحمد ذبّاح، وجبهة دير الأسد الديمقراطيّة، وأخصُّ الإخوةَ نصر صنع الله، وقاسم خطيب.
ولنا الشرفُ العظيمُ لانضمامِ ثلاثة أعضاء شرف لإدارة مؤسّسة محمود درويش وهم: السيّدة فضيلة لعنان وزيرة الثقافة البلجيكيّة، والسيّد فيليب ماو رئيس كتلة الحزب الاشتراكيّ في مجلس الشيوخ، والسيّد حسين شعبان مدير عام مؤسّسة سوليداريس.
وجاء في كلمة السيد أحمد ذبّاح رئيس مجلس دير الأسد المحليّ: مع حفظ الألقاب أضمُّ صوتي لصوت أخي عصام خوري، وأُحَيّي جميعَ الشخصيّات التي ذُكرتْ أسماؤُها، مِن ضيوفٍ وأهل بلد، أهلًا وسهلًا بكم جميعًا، وأُرحّبُ بكم في هذا المكان، وفي هذه الأمسيةِ اللامعةِ التي يُزيّنُها حضورُكم، للاحتفال بذكرى طيّبةٍ عزيزة نعتزّ بها ونُحييها معًا، وهي الاحتفال بالذكرى الخامسة لمؤسّسة إبداع، التي تحملُ اسمَ شاعرنا الكبير محمود درويش ابن دير الأسد، وابن البروة، وابن الوطنِ وكلّ قريةٍ ومدينةٍ عربيّة في هذا الوطن، الذي يَعتزُّ ويَتباهى به كلُّ عربيٍّ في كلّ مكان، ونفخرُ بمؤسّسة إبداع وباسمِها، وبمُؤسّسيها وكلِّ مَن يرعاها، وكلّنا فخرٌ بكَ يا محمود، أيّها الجارُ الطيّبُ منذ صبانا، ومنذ قلتَ: سجِّلْ أنا عربيّ. كلّنا شموخٌ بكَ وبدوْركَ الرائدِ الوطنيّ، والأدب المُقاوم الذي تشهدُ عليهِ أشعارُكَ الكثيرة، والمُدوّنة في كتبك المنتشرة في كلّ مكان. كلّنا كبرياءٌ وقوّةٌ بصوتكَ وشعركَ وقوْلكَ الذي يُعطي طعمًا للحياة، حينما قلتَ: "على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة". لقد قلتها ورحلتَ. قلتَها لأبناءِ شعبكَ ولأجيالِهِ القادمة، فهنيئًا لكَ بما قلتَه في الحياةِ مِن أجل حياتنا، فما زالَ عطرُ ذكراكَ في دير الأسد التي ضمّتكَ طفلًا في بيتها، وتلميذًا في مدرستِها، وعشتَ بين أهلِها وناسِها الذينَ ما زالوا يَذكرونَكَ، وحينما رحلتَ، كانَ رحيلُكَ عليهم أليمًا. إنّ المؤسّسة التي أُقيمتْ لذِكراكَ، تحتفلُ اليومَ بعامِها الخامس، وتطلُّ علينا مِن براءةِ عُمر الطفولة، وهي تمضي في إبراز أدبكَ، لتَطَّلِعَ عليهِ الأجيالُ، وليكونَ ناموسَ حياةٍ كريمةٍ فوق هذه الأرض التي أحببتها أنت، وليكونَ أدبًا مُتواصِلًا مع أسمى الآداب، ومع أبناءِ شعبنا في كلّ مكان، مِن خلال الندوات والتكريمات الثقافيّة لرجال العلم والأدب والإبداع لشعبنا عامّة. باسمِ المجلس المحلّيّ لدير الأسد؛ ورئيسِه، ونائبه المحامي نصر صنع الله، وأعضائِه.
باسمِ مؤسّساتِ دير الأسد وبيوتِها وأرضِها وتاريخها الذي نفخرُ به، وباسم التاريخ الذي يَفخر بكوْن محمود درويش أحد مواطنيها صامدًا، نرفع رؤوسنا عاليًا بفخرٍ كبيرٍ لهذه المؤسّسة، ونحني هاماتنا فخرًا وإجلالًا لكم ولجهودكم. دمتم ذخرًا ورمزًا للعطاء.   
وفي مداخلةِ السيّد عبد الخالق أسدي جاء: محمود درويش في ذاكرة دير الأسد:
سيّداتي سادتي؛ أيّها الحضور الكريم مع حفظِ المناصب والألقاب، أسعدتم مساء بكل الخير. أتقدّمُ بخالصِ الشكر والتقدير للقائمينَ على هذا الاحتفال، بإدارةِ الكاتب عصام خوري، والمحامي جواد بولس، وبالتعاون مع مجلس دير الأسد المحليّ برئاسة أحمد ذبّاح. إنّها لفتةٌ إنسانيّةٌ ثقافيّةٌ إبداعيّةٌ ووطنيّةٌ من مؤسّساتِنا العربيّة، تليقُ بمقامِ شاعرِنا العظيمِ الذي نقفُ إكبارًا وإجلالًا له، لإحياءِ ذكراهُ، وإنعاشِ ذاكرةِ الأجيالِ القادمةِ لمَسيرتِهِ الطويلةِ، العامرة بالعطاء شعرًا ونثرًا، والشامخة بالإباء والعِزّ والفَخَار. إنّنا أمّةٌ عريقةٌ بالحضارةِ والعِلم، والثقافةِ التي انطلقتْ مِن بلادِ الشامِ من دجلة والفرات إلى نيل مصر، من المشرق العربيّ إلى المغرب العربيّ، بهدفِ الحفاظِ على جذورِنا الراسخة في تاريخنا العريق، من العصور الذهبية التي وصلتْ إلى الأندلس حتّى أيّامنا هذه: نحن الذين أعرْنا الكوْنَ بهجتَهُ/ لكنّما الدّهر إقبالٌ وإدبارُ/ منّا اكتسبَتْ حُقب ألوانها وبنا/ رفّتْ على الصورِ الجرداءِ إطارُ/ تذوّبَتْ في بناتِ الضادِ أنظمةٌ/ وفلسفاتٌ وآراءُ ...  وأفكارُ
 وفي هذا السياقِ أردتُ أن أحصُرَ كلمتي، بالفترة الزمنيّةِ التي عاشَها محمود درويش في دير الأسد، ما يقاربُ العشر سنوات وعلاقتي الشخصيّة معه. كنّا أولادَ صفّ، وتعلّمنا معًا المرحلةَ الابتدائيّة في دير الأسد، في النصف الأوّلِ مِن سنوات الخمسين من القرن الماضي، وكانت تربطُني به علاقةٌ حميمةٌ، وبالمرحوم الأستاذ أحمد محمود أسدي- أبو رؤوف، وكانت الراديو إحدى الوسائل التي جمَعَتْنا مع بعض عند أبي رؤوف، وعندي راديو الأمل الكبيرة تعملُ على بطاريّةٍ كبيرةٍ مثل بطاريّةِ السيّارات، ولها أنتينة على سطح البيت مثل تلفزيونات اليوم، فاستمعنا معًا لأغاني عبد الحليم، وعبد الوهاب، وأمّ كلثوم الذين أرهفوا حِسَّنا الوطنيَّ في زمن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. أحبَّ درويش البرامجَ الإذاعيّة مِن القاهرة، وكنّا نجلسُ الساعاتِ الطِّوالَ حولَ المذياع، نستمعُ لبرنامج: "لغتُنا الجميلة" لفاروق شوشة الذي كان يَبدأ، إنَّ البحرَ في أحشائِهِ الدُّرُّ، فهل سألوا الغوّاصَ عن صدفاتي؟ وبرنامج "على الناصية"، لآمال فهمي الذي كانَ يُذاعُ في الساعةِ الواحدةِ والنصفِ مِن كلِّ يومِ جمعة لمدّة ساعة، وبَعدَها نستمعُ إلى التعليق السياسيِّ للصحفيِّ المُخضرَمُ محمّد حسنين هيكل (أطالَ اللهُ في عُمرِه)، تحت عنوان "بصراحة"، الذي كان يُذاعُ مِن صوتِ العرب، في الساعة الثانية والنصف من كلّ يوم جمعة.
وأذكرُ أنّ محمود درويش تولّعَ منذُ صِغرِهِ بنجاة الصغيرة وعشِقها كثيرًا، وكانَ محمود قد بدأ يُخربشُ الشعرَ على أوراقٍ صغيرةٍ يُخفيها عن الجميع، إلّا عن أبي رءوف الذي كان يُنافسُهُ في حبِّ اللغةِ العربيّة. امتازَ محمود بأدبيّاتِ اللغة، وامتازَ أحمد بقواعدِها، وتذوّقَ الأدبَ والشعرَ، فكان يُصلِحُهُ بالقواعدِ والحركات. كانَ يقرأ محمود الشعرَ أمامَنا، وشَعراتُهُ الشُّقرُ تتدلّى على وجهِهِ، ويُداعبُهم ويَشدُّهم بأصابعِهِ مُمعِنًا النظرَ بالورقة ويَنشُقُ، وأحمد يَضحكُ، ويَستمعُ ثمّ يُبدي ملاحظاتِهِ، وأنا أشاهدُ معهما المسرحيّة، وليسَ لي كما لهما مِن مَلَكةِ الشعرِ وقواعدِ اللغة، إنّما شاهدٌ عليهما وعلى العصر. 
عرفتُ محمود من الابتدائيَة قارئًا عنيفًا، إن أمسكَ كتابًا لا يتركُهُ حتّى يُنهيه، ولا ننسى أنّ أحمد وزكي مِن هذه الأسرةِ العريقةِ أدبًا وقصّة، أمّا بالثانويّة فكان محمود مِنَ القرّاء الجبابرة، مُطالِعًا مِن الدرجة الأولى، وكانت الكُتبُ عزيزةً في النصف الثاني مِن الخمسينات من القرن الماضي، وكانت تصلُ إلى الثانويّة كُتبٌ مِن الجامعةِ العبريّة، يتنقّلُ الكتابُ في الليلةِ الواحدة بين عددٍ كبيرٍ مِن طلّابٍ مُتعطّشينَ للقراءة، ومحمود أوّلُ الواردينَ على الشعرِ والأدب، وأوّلُ الساقينَ مِن شرابِ شِعرهِ العذب.  كان مِن رفاقِ دربِهِ وأولادِ صفّهِ الأديبُ والشاعرُ المرحوم سالم جبران، وأطالَ اللهُ في عمرَيْهما الأديبُ محّمد علي طه والكاتب نمر نمر. وآخِرُ نادرةٍ أذكرُها عندما كُنّا في الصفّ الثاني عشر، وكنتُ جالسًا بجانبه، وكانت تُعلّمُنا درسَ العبريّ معلّمةٌ يهوديّة، من الصفّ التاسع حتى الثاني عشر، اسمُها شوشنة لبيدوت، وكان المألوفُ حينَها أن يقفَ الطلّابُ احترامًا للمعلّم، مع دخولِهِ للصفّ في بداية كلّ درسٍ، وكانت للمعلّمة شخصيّةٌ قويّةٌ عسكريّة، اقترحَ محمود أن لا نقفَ لها عندما تدخلُ إلى الصفّ، وهكذا كان. طلبَتْ منّا القيامَ فرفضنا، فتركت الصفّ وأحضرَتِ المدير، وكان المديرُ يهوديًّا عراقيًّا اسمُهُ عوزي لويا ابن عرب، أي يُجيد اللغة العربيّة جيّدًا جدًّا، طلبَ منّا القيامَ فرفضنا، فتوجّهَ المديرُ لمُربّي صفّنا المرحوم نمر توما، فجاءَ واحترمناهُ، وأشارَ محمود لنا بالقيام  فقُمْنا.
وكانَ آخِرُ لقاءٍ لي معهُ في حيفا بمطعم إسكندر، قبلَ أن يُغادرَ إلى الاتّحاد السوفييتي عام 1971، طلبتُ منهُ ألّا يُغادرَ فرفضَ، لأنّ طموحاتِهِ الشخصيّةَ منذُ صِغرِهِ أن يَشتهرَ، ويُصبحَ شاعرًا عربيًّا مشهورًا عالميًّا، وحقّقَ ما كان يَصبو إليه، هذا هو محمود كما عرفتُهُ مِن علاقتي المتواضعةِ معه، رحمَ اللهُ شاعرَنا عاشقَ فلسطين وعصفورَها المُغرّد، شاعرَ البلادِ والعبادِ، شاعرَ الأشجارِ والأحجارِ، شاعرَ الجرح الفلسطينيّ درويش، الأسطورة التي مِن الصعبِ أن تتكرّرَ، وقلّما يَجودُ الزمانُ بمِثلِه.   
وفي مداخلة رئيس الوفد حسين شعبان مدير مؤسّسة سوليداريس جاء: لماذا محمود درويش؟ لأنّ محمود درويش كانَ وما يزالُ أجملَنا. لا نستطيعُ أن نُصنّفَه كشاعرٍ عاديّن، فهناكَ بعضُ الشعراء الذين اختارتهم الأقدارُ ليكونوا رموزًا، وليسوا فقط شعراء. وفي تقديري أنّهُ واحدٌ مِن هؤلاء الشعراء، فقد احتلَّ مكانةً أكبرَ بكثير مِن مُجرّد أنّه شاعرٌ كبير، ولهذا حينما يُقيَّمُ كشاعرٍ في مسيرةِ الشعر العربيّ والعالميّ، نقفُ وقفةَ إجلالٍ وإكرامٍ لتراثِ هذا الشاعر الكونيّ العظيم!
ولماذا مؤسّسة سوليداريس تحترمُ وتُقدّرُ وتتعاملُ مع مؤسّسة محمود درويش للإبداع بالذات؟ انطلاقًا مِن مفهوم معنى الثقافة لدينا، واتّكاءً على مِحورها ورَكيزتِها الأساسيّة، ألا وهو الإنسان، جاءَ تعاملُنا وعونُنا ودعمُنا للبرامج والمشاريع المتنوّعة، التي تقومُ بها هذه المؤسّسة العونُ في مجال التنمية البشريّة وبناءِ القدراتِ، فتنوّعتْ وتعدّدتْ، وهي تستهدفُ الشرائحَ الأكثرَ تأثيرًا في المجتمع، ألا وهي الثقافة، وكيف لا، وهي تُرسّخُ إرثَ وأثر وميراثَ صاحب الكلمة، الشاعر الكبير محمود درويش، بواسطة مؤسّسته هذه، المؤسّسة التي صانت وتصونُ وبكلّ أمانة وإخلاص طريقَ الإنسانيّة، وذلك سعيًا منها لإحداثِ النقلة النوعيّة فيها، بتخليق طاقاتها وصقل مهاراتها، يما يُمكّنها من أن تصبحَ أدواتِ بناءٍ فعّالة، تُسهمُ في إحداث التنمية، وإدارة عجلتها، وتجديدِ منابعها، تحقيقًا لنهضةِ وطن ثقافيٍّ وبناءِ مستقبله! لقد أولتْ مؤسّسةُ سوليداريس اهتمامَها بمؤسّسة محمود درويش للإبداع/ الجليل، انطلاقًا مِن رؤيتِنا بأنّها هي المَخرجُ الآمِنُ، والمفتاحُ الذي يمكنُ عن طريقِه أن نفتحَ الباب على مصراعيْه، لنُعلنَ اليومَ أنها المؤسّسةَ التوأمّ لمؤسسة سوليداريس، وهي مَن تُمثّلُ مؤسّستَنا في هذه البلاد، وذلك تقديرًا واحترامًا لعملِها ومسيرتِها، وخاصّةً للإخوة؛ مديرها وإدارتها.
وأنتم مَعشرَ المُثقفين، سيّداتي وسادتي، جئتم وجئنا خصّيصًا، كي نحتفي بالشعر، بالكتابة، بالفنّ، نحتفي معًا بمناسبةِ مرور خمس سنوات على تأسيس مؤسّسةِ محمود درويش للإبداع، ولأنّنا نحتفي بالإبداع، ولأنّنا نحتفي بالحياةِ الكلمة، تلكَ الكلمة التي تخترقُ الأبعادَ بدون تأشيرةِ دخول، تحملُ شعارَها الأوّل "في البدءِ كانَ الكلمة"، وقد كان لي الشرفُ العظيم أن أكونَ أحدَ المُساهِمينَ في حركةِ وحَراكِ هذه الكلمةِ وتطوّرها، كإحدى الأدواتِ الأهم في التواصل الحضاريّ والثقافيّ والإنسانيّ بين الأمم والشعوب، على اختلاف ثقافاتها وتوجُّهاتها الفكريّة، فالفنون تُوحّدُ البشرَ بما تحملُهُ مِن قِيمٍ ومَعانٍ تُشكّلُ جوهرَ الإنسان، وتُعبّرُ بأرقى وأصدقِ ما يمكنُ عن روحِهِ ووجدانِهِ وانتمائِهِ الأكبر للبشريّةِ والإنسانيّة، فيما يتعدّى الانتماءاتِ الضيّقةَ التي تَخطّتها الفنونُ والآدابُ الإنسانيّة عبرَ العصور، ولا بدَّ لنا في هذه الأمسيةِ أن نستذكرَ أحدَ أهمّ وأكبر رموزِ أدبنا المحليّ والعربيّ والعالميّ، الشاعر الراحل محمود درويش، وما من شكٍّ أنّ غيابَ محمود درويش المبكّر، يُلقي على عاتقِنا مسؤوليّةَ العمل على تطوير أدبنا وإبداعِنا، بحيثُ يتوافقُ مع المستوى الرفيع الذي أوصلَهُ محمود درويش إلى العالم، وعي جميع الشعراء والكُتّاب والفنانين والمُبدعين، أن يكونوا أمناءَ لرسالةِ الإبداع الراقية هذه. أباركُ لكم أيّتها الأخوات والأخوة بهذه الأمسية، وأتمنّى أن نلتقي على الخير والمحبّة دائمًا، وأن يعمّ السلامُ أرضَ السلام على هذه الأرض المُقدّسة.
وأخيرًا؛ إنّنا في مؤسّسةِ سوليداريس نقدّمُ العوْنَ، ونسعى لترسيخ عملٍ ثقافيٍّ مجتمعيٍّ يقومُ على قواعدِ الشراكةِ والديمومة والابتكار بيننا، وبين مؤسّسة محمود درويش للإبداع الجليل، فكلُّ عام وأنتم بألف خير.
وجاءَ في مداخلة الكاتب محمّد علي طه: جمَعَتنا قصيدتُك، وفرّقتنا قصيدتُك، منذ سقطَ ريشُ الحرام عن عصافيرك، ونمَتْ لها أجنحةٌ، وحطّتْ على أوراق زيتون الجليل الخضراء، تغرّدُ للعاشق الفلسطينيّ الذي صمّمَ أن يَدحَرَ آخرَ الليل، ونحنُ نُرافقُكَ، نشربُ القهوةَ مع سرحان في الكافيتيريا، ونُغنّي للحبيبة كي تنهضَ مِن نومِها، هي أغنيةٌ في مَديح الظلّ العالي، ظِلِّ العملاقِ الأخيرِ المُعلّقِ على الجداريّة، الذي قُتِلَ في الحصارِ الأخير. جمَعَتنا قصيدتُك، رحلتَ وغادرْتنا، وتركْتَها ترى ما تريد. نلتقي بها يوميًّا حينما نتناولُ فطورَنا مِن خبز أمّهاتِنا، ونتذكّرُ وصايا حوريّة، وعزيزة، وجميلة، وفاطمة وزينب، نشربُ قهوتهنَّ المُهيّلةَ، وننتشي برائحتِها وطعمِها. سألني طفلٌ أسمرُ في تل السبع، كما سألتني طفلةٌ خضراءُ العينيْن في عيلوط، إن كنتُ أعرفُكَ أو جلستُ معك، وقمتُما غابطيْن، وهمسَتْ في أذني تلميذةٌ مثلَ الزنبقةِ في ترشيحا: هل صحيح أنّ صاحبَكَ كان يُحبُّ الزيتَ والزعترَ؟ فقلتُ: والملوخيّة أيضا.
جمعَتنا قصيدتُكَ على هذه الأرض، سيّدةُ الأرض، ما يستحقُّ الحياة. جمَعْتَنا في حُبّ الكلمةِ النقيّةِ الطاهرة، في حُبّ الكمنجاتِ واللازوَرد، والتراب والطيور، والنحل والفراشات والغزالات، في حُبّ النساءِ الطويلاتِ والقصيرات، الشقراوات والسمراوات والقمحيّات، ونَحومُ ولا نرُدُّ بعدَمٍ إن غزانا المرضُ والهرم. جمَعَتنا في حُبّ المُهرةِ والحصانِ، والبئرِ الأولى، وقنطرة البيت، وطريق الساحل، وشجرة الخرّوب، وشجرة الصبّار التي تقول: هنا كانت البروة، وهنا كانت ميعار. جمعَتنا قصيدتُكَ في ساحةِ العين في كفرياسيف، التي تحملُ مؤسّستُها للإبداع اسمَكَ، إلى ساحةِ المنارة في رام الله، حيثُ ضريحك ومؤسّستك وأناسك، إلى عمّان ودمشق، وبيروت والقاهرة، وتونس وباريس، هناك تقول البيوتُ: كان الفتى هنا، وتشهدُ الشوارعُ بأنّ الفتى مرَّ مِن هنا.. وفرّقتْنا قصيدتُك، واختلفنا في مقدار حُبّنا لها وحُبّنا لك. أسفروك ليأخذوك منّا، من الصداقة والمَحبّة، وصارَ أبطالُ روايات نجيب محفوظ وماركيز وكازانتزاكيس يَزعُمون، بأنّهم شربوا القهوة والنبيذ والشاي معك، وأكلوا وإيّاك الفول والطعميّة، وتزعُمُ سناء أنّكَ أنتَ الخجولُ غمَزْتَها على شاطئ النيل، ويدّعي سنتياغو أنّك سكنتَ معه على سطح بيتٍ في الحيّ القديم، ويُقسِمُ زيد بأنك كنتَ توقظُهُ في آخِرِ الليل، لتقرأ له قصيدتَك التي لم تقرأها لسليم وحورية.
أسطروكَ.. أسطوروكَ يا خيا؛ دخلَتْ قصيدتُكَ بيوتَ الأهل والأصدقاء والأحباب، وراوحْتَ بيوتَ الأعداء. تذكُر في الستينات، قرأ ليفي أشكول مَقاطعَ مِن قصائدِك في الكنيست، ليُبرّرَ ظلمَهُ لشعبنا، واستمرارَ الحُكم العسكريّ البغيض علينا، وفي أواخر الثمانينات قرأ يتسحاق شمير قصيدتَك "عابرون في كلامٍ عابر" في الكنيست، أيضًا ليُبرّرَ الاحتلالَ وتكسيرَ العظام. كانوا وما زالوا يَخافونَ قصيدتَك. هل يقرأ أيتامُ شارون ما تقولُهُ قصيدتُكَ اليوم؟ وهل يَفهمُ بيبي أبياتَها، ويتذوّقُ موسيقاها وتفعيلاتها؟ هل يتطهّرُ بحروفِها، أم أنّهم يتلونها رعبًا؟   
أمشي كأنّي واحدٌ غيري/ وجرحي وردةٌ بيضاءُ إنجيليّة/ ويَدايَ مثل حمامتيْن على الصليب/ تُحلّقانِ وتَحملانِ الأرض/ لا أمشي/ أطير/ أصيرُ غيري في التجلّي/ لا مكانَ ولا زمان/ فمَن أنا/ أنا لا أنا في حضرةِ المعراج/ لكني أفكّر/ وحده/ كان النبيّ محمّد يتكلّمُ الفصحى/ وماذا بعد/ ماذا بعد/ وفجأةً صاحتْ جنديّة/ أوي فِ أفوي/ هل أنتَ ثانية/ ألم أقتلك/ قلتَ: قتلتِني/ ونسيتُ/ مثلكِ/ أن أموت.
جمعَتنا قصيدتُكَ وفرّقتْنا قصيدتُك، فشكرًا لمَن جمعَنا في هذه الأمسية، وسلامًا لمَن جمَعَنا ويَجمعُنا.
عقّبَ عريفُ الحفل الإعلاميُّ زهير بهلول: هناكَ أحيانًا مجالٌ لكلماتٍ مُسهبةٍ ولكلماتٍ هادفة، كما جاءتْ على لسان الأستاذ الكاتب محمّد علي طه، وأنا أحاولُ أن أبرهنَ ذلك، فرغم أنّ هذا العهدَ هو عصر الآيفون والتابلت، ورغم أنّ الأولاد والنشء يلتئمون مع التكنولوجيا أكثر ممّا يلتئمون مع كلماتكم أنتم الأدباءُ والشعراءُ، ولكن إن أخذنا المثالَ لشاعرنا الكبير الراحل محمود درويش، فهل نستطيع أن نقول بأنّ هذا النشء، لم يكن ليكترثَ لهذه الكلمات وهذه القصائد؟ ألم يُعرّجْ إلى جانب هذه الكلمات وهذه الأبيات؟ ألم تكن هذه الكلمات بمثابةِ النحتِ في الصخر؟ ألم تُنقش في نفوس أولادنا وبناتنا؟ إن كان محمود درويش هو مثالٌ على جدوى هذه الكلمةِ، وبقائِها مُتنفّسةً باقيةً، فأنا أُعوّلُ عليكم أنتم الأدباءُ والشعراء، بأن تستمرّوا في هذا العطاء المستفيض، كي يَذهلَ منكم مَن لا يريد ذلك. ولكن إن كنتم ذوي إبراقاتٍ في كتاباتكم وحياتكم، فإنّهم لا بد أن يَقرؤوا وأن يتأثروا مِن هذا العطاء، الذي يَجيء مِن خلال كلماتكم وعطائكم أنتم، فهذه الكلماتُ والتداعيات جاءتني بفضل كلمات الأستاذ محمّد علي طه، التي نُقشتْ في الفهم وأثّرت، وأعتقد بأنّك بلا شك تُمثّلُ استمرارًا لهذا المذهب الذي بدأ بمحمود درويش، ولا ينتهي لا اليومَ ولا غدًا ولن ينتهيَ أبدا.
أمّا الآن فنكون مع الفنان د. تيسير حداد ابن ترشيحا، وميرا عوض بنت الرامة، التي كانت إلى ما قبل فترةٍ من الزمان عروسَ الجليل، ونرجو أن تعودَ إلى سابق عهدِها، كما غابَ الكثيرُ مِن النشْءِ في قرانا وبلداتنا، فنرجو أن يعودَ هذا المجدُ إلى صفوفِ وربوع هذا البلد.
وفي كلمة السيّد فيليب ماو رئيسُ كتلةِ الحزب الاشتراكيّ في مجلس الشيوخ، التي ترجمَها للعربيّةِ الأستاذ سهيل عطالله جاء:
بمناسبة إحياء الذكرى الخامسة لتأسيس مؤسّسة محمود درويش للإبداع، بدايةً، أنا كرئيس لمنظّمة سوليداريس البلجيكيّة التي أتشرّفُ برئاستِها، أعلنُ دعمَنا لمؤسّسةِ محمود درويش للإبداع. أعي جيّدًا أنّ الأهمّيّةَ الرئيسةَ لعملِ مؤسّسةِ محمود درويش مع الشباب، ومع الحركات النسويّة، ومع باقي الهيئاتِ، وأنّ تراثَ محمود درويش يجبُ أن يُصانَ، أنّه تراثٌ ثقافيٌّ ليسَ فقط للعالم العربيّ، بل للإنسانيّة جمعاء، لذا مِن الضروريّ علينا كهيئاتٍ تثقيفيّةٍ أن نستمرَّ في نشرِ رسالةِ محمود درويش، التي هي رسالة التسامح والدعم والأمل والإخاء، وعلى مؤسّسة محمود دررويش للإبداع أن تستمرّ في تثقيف الأجيال الشابّة، للتمسّك بهذه الأمور وهذه القضايا، لذا على الشباب أن يستمرّوا في نشر رسالة المحبّة والسلام والحرّيّة، ومن أجل هذه الطموحاتِ أؤكّد لكم دعمَنا، وبهذه المناسبة أذكرُ المرحومَ العظيم نلسون مانديلا، وأؤكّد لكم في هذا المساء قيمةَ نلسون مانديلا، رمزَ التضامن والمُساواة والكفاح من أجل محبّة الإنسان للإنسان، وعلى الديمقراطيّة أن تترعرعَ وتنتشرَ في كلّ أنحاء العالم.
وقال العريف زهير بهلول: لا يسعني إلّا أن أذكرَ في هذه الليلة الشاعرَ أحمد فؤاد نجم، شاعرَ العامّيّة الذي تواصَلَ مع قلوب الناس بكلماتِهِ وفنّه، وقد رحلَ عنّا قبلَ أيّامٍ، وأذكرُ اسمًا آخرَ في هذه الليلة، اسمَ زميل وصديق الراحل محمود درويش أطال الله في عمره، ومدّهُ بمديد العمر والصحّة الشاعر الكبير سميح القاسم.
وجاء في كلمة الكاتب يحيى يخلف: أحيّيكم باسمِ وفدِنا القادم من فلسطين المحتلة من مدينة رام الله، التي تحتضن حديقة البروة محمود درويش، والتي تضمُّ تاريخ الشاعر، ومتحف الشاعر، ومركزًا ثقافيًّا باسم الشاعر، والتي يؤمُّها البسطاءُ والفقراء وأبناءُ البلد وأعيانها، وقادةُ الدول، مثلما يزورون ضريحَ الراحل ياسر عرفات، وأوجّهُ تحيّةً لهذا البلد الأمين دير الأسد وجارتها البعنة، وأوجّه تحيّةً خاصّةً إلى معالي الوزيرة فضيلة لعنان، ولصديقي حسين شعبان مؤسّس جمعية سوليداريس، وأوجّه تحيّة خاصّةً لمؤسّسة محمود درويش في عيدها الخامس، وإلى القائمين عليها من هيئة إداريّةٍ، ومجلس إدارة ومجلس أمناء، وأخصُّ بالذكر الصديقيْن السيّديْن جواد بولس وعصام خوري.
السيدات والسادة، في هذا اللقاء الحميم الذي جمعَنا في حبِّ محمود درويش، أشعر أنّ روحَهُ ترفرفُ في هذه القاعة، وتباركُ توَحُّدَنا، وتضامنَنا، ورسالة المَحبّة التي نُطلقُها لهذه الأرض، التي عليها ما يستحقّ الحياة، ولإنسانها الذي يُطوّرُ حياتَهُ ويُعمّرُها، والذي قد يجوع ويعرى، ولكنّهُ يتحدّى ويَنشدُ الأشعار. ترفرف روحُهُ فوقَنا لتقولَ لنا، لا تتركوا الحصانَ وحيدًا، أحبّوا بعضُكم بعضًا، فالبحُبّ كنوزُ الخير فيكم تتفجّرُ"، ويستشهدُ بقصائد فدوى طوقان ويُكمل، "وستخضرُّ أغانيكم على الحُبّ وتُزهر، لا تتركوا الحصانَ وحيدًا، فالدرب ما زال طويلا، والطريق ما زالت شاقة، والمؤامرات تُحاك، والاحتلالُ يتوغّلُ ويتغوّل، وجرّافات برافر تقتلعُ الجذور، فاتّحدوا حتى يطردَ وحشة الطريق وكآبة المنظر وسوءَ المُنقلب، لا تتركوا الحصانَ وحيدًا. فقد قال محمود درويش عندما كان في بيروت: "وحدي هنا أدافعُ عن جدارٍ ليس لي". وعندما عاد إلى أرض الوطن قال: "لست وحدي، أنا هنا مع شعبي، وأدافع عن جدار لنا". وإنّها رسالة توفيق زياد وسميح القاسم وإبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي ومعين بسيسو، وكلّ المُدافعين الشجعان عن الحريّة والديمقراطيّة والكرامة والإنسانيّة، ورسالة الحركة الوطنيّة في الداخل، رسالة الجبهة ورسالة توفيق طوبي وحنا نقارة وإميل توما وإميل حبيبي. لا تتركوا الحصانَ وحيدًا، فالحصان يُذكّركم هذا اليوم ببطولة القِيم، يُذكّركم بارتقاءِ أيقونة الحرّيّة إلى العلا، أيقونة إفريقيا نلسون مانديلا الذي انتصر على الأبارتهايد والعنصريّة، وألهَمَ الأحرار والشرفاء والمناضلين من أجل الحرّيّة، ومن أجل عالمٍ أكثرَ عدلًا ودفئًا، هزمَ الأبارتهايد بإرادته، فلتكن إرادتُكم صلبةً في مواجهة العنصريّة الجديدة، فوق هذه الارض التي تستحق الحياة، توحّدوا، فالوحدةُ الوطنيّةُ هي سلاحُ الانتصار!
عقّب زهير بهلول: في ظِلّ الفئويّة التي لازمتنا ولا تزال، وخاصّة في الفترة الأخيرة، نحن نبحث عن بارقة أمل فيها إجماعُ. إرث محمود درويش هو بلا شك إرثٌ كما ذكَر الأستاذ يحيى يخلف، فكم نحن بحاجة إلى عناوينَ فيها إجماعٌ، في هذا المجتمع الذي آثر في الفترة الأخيرة أن يتشتّت ويتشرذم ويتفكّك للاسف الشديد، فشكرًا على هذه الكلمة، لأنّها كانت في بالي وجالت في خاطري وفي لبّي، وأنت سبقتني إليها أستاذ يحيى يخلف، وكلمة سولاداريس هي من كلمة سوليداريتي، والتي تعني تضامن وتعاضد، ونبحث عن هذا التضامن خلالَ تفاعلنا وأنشطتنا، واعتقد بانّ هذا الجمعَ الغفير في هذا اليوم الحافل، هو خيرُ دليلٍ على أنّ للكلمة لا يزالُ وقعٌ، وأنّ الناسَ يُؤْثِرونَ أحيانًا الإتيانَ والوصول إلى أماكنَ فيها كلمة، فيها أدب وقصيدة، وفيها إرث ولا يلتئمون فقط مع الموسيقى والمسلسلات، فأنتم بهذه العيّنةِ ذات الجودة الخاصّة، تُمثّلون أهمّيّة هذه اللقاءات، ونشكرُ الأستاذ عصام خوري وجواد بولس على هذا اللقاء، والحفاظ على هذا الإرث!
وجاءَ في كلمةِ وزيرة الثقافة البلجيكيّة فضيلة لعنان التي ترجَمَها حسين شعبان: إخواني، أحبّائي وأصدقائي الأعزّاء، والحضور الكريم؛ يُسعدُني أن أكونَ بينكم في الذكرى الخامسةِ لمؤسّسةِ محمود درويش للإبداع. محمود درويش كان شاعرًا عظيمًا، كان شاعرَ فلسطين، شاعرَ المنفى. كانَ مِن الأعلام، وأعظمُ ما قالَهُ الشعراءُ في عالمِنا العربيّ المُعاصِر، وكذلكَ سميح القاسم وتوفيق زياد، نظروا لإبداع الكلمة مِن أجل السلام والحوار الفلسطينيّ الإسرائيليّ والسلام العادل، والذين أعتبرُهُم بشكلٍ شخصيّ، بأنّهم ناضلوا بشِعرِهِم، وهذا برأيي أسمى أنواع النضال والمقاومة، فهُم بالنسبة لي مِن شعراءِ الحرّيّةِ والسلام. 
مؤسّسة محمود درويش لها دورٌ ورسالةٌ كبيرة، وخاصّةً بالنسبة للشبيبةِ والحركاتِ النسائيّة، ودوْرِها الخاصّ في المحافظة على الهُويّةِ الثقافيّة الفلسطينيّةِ في عصرنا هذا. مِن أجل هذا، سأدعمُ بكلّ ما أتيحَ لي مِن قوّةٍ وإمكانيّاتٍ هذهِ المؤسّسة المُوقّرة، واسمَحوا لي أن أقولَ كلمتي لصديقي يحيى يخلف، وقد التقيتُ بالسيّد يحيى يخلف في رام الله قبل سنوات، وكنتُ ما أزالُ وزيرةً صغيرة وجديدة، ونظّمت لي لقاءاتٍ عديدةً بأدباء وفنّانين في رام الله، ومن أجل دور السينما الفلسطينيّة، وقد حدث شيء خاصّ بيني وبين يحيى يخلف، فقد وقعت في حبّ الأدباء والفنّانين الفلسطينيّين، وبفضل هذا الحبّ منذ تلك اللحظة، عام 2008 نظّمتُ لمهرجان كبير، ودعوْت 150 فنّانًا فلسطينيًّا جاؤوا لبلجيكا، وقدّموا عدّة عروض، والشّعب البلجيكيّ اكتشفَ القوّة الفنيّة عندَ الشعب الفلسطينيّ، وأريدُ أن أنهي كلمتي هذه، ببعض مقاطع أعجبتني بشكلٍ خاصّ، لمحمود درويش وسميح القاسم، وتوفيق زياد، مقاطع تؤكّدُ على صمودِ وتحدّي الشعب الفلسطينيّ وإيمانِهِ بقضيّته.
يقول محمود درويش: يُحبُّ بلادًا ويرحلُ عنها/ فهل المستحيلُ يُحبُّ بلادًا/ ويرحلُ عنها/ هل المستحيلُ بعيدٌ؟ يُحبُّ الرحيلَ إلى أيِّ شيء/ ففي السَفَرِ الحُرِّ بين الثقافات/ قد يجدُ الباحثونَ عن الجوهرِ البشريِّ مقاعدَ كافيةً للجميع/ هنا هامِشٌ يتقدّمُ/ أو مَركزٌ يَتراجَعُ/ لا الشرقُ شرقٌ تمامًا/ ولا الغربُ غربٌ تمامًا/ فإنّ الهُويّةَ مفتوحَةٌ للتعدّدِ/ لا قلعةٌ أو خنادق.
وبمقطعٍ مِن قصيدةِ سميح القاسم: أحبُّكِ كما يَشتهي الموت/ أثقلُ وزنًا وأقصر قامة/ أعتلي تجربتي وأمضي/ ما دمت قمّةَ العالم/ ما دام سطحُ الكرةِ الأرضيّةِ مُحدّبا/ فأنا أهبطُ وأبتعدُ/ أهبط وأبتعدُ/ ذاتَ يوم تتلقّفُني الرمالُ المُتحرّكة/ أغوصُ رويدًا رويدًا في أبدِ حُبّكِ المُعتم/ أغيبُ عن الوعي/ أختفي عن الأنظار/ ستشهدُ الجماهيرُ طقوسَ موتي/ ويَحسدُني المُغامرونَ والشعراء/ امّا أنتِ/ فتُلقينَ جوهرةً جديدةً في صندوق شهدائِكِ/ أحبُّكِ/ لا تندمي/ لا تمُدّي يدًا لتنتشلَني/ اِسمَحي لي أن أُحبّكِ/ كما يَشتهي الموت.
 وبمقطعٍ مِن مقطعٍ لتوفيق زياد أختتمُ: وأُعطي نصفَ عمري/ للّذي يَجعلُ طفلًا باكيًا يضحك/ وأعطي نصفَهُ الثاني/ لأحمِيَ زهرةً خضراءَ أنْ تهلَك/ وأمشي ألفَ عامٍ خلفَ أغنيةٍ/ وأقطعُ ألفَ وادٍ شائكِ المَسلك/ وأركبُ كلَّ بحرٍ هائج/ حتّى أَلُمّ العطرَ عندَ شواطئِ اللّيلك/ أنا بشَريّةٌ في حجمِ إنسان/ فهل أرتاحُ والدّمُ الزكيُّ يُسفَك/ أغنّي للحياة/ فللحياةِ وهبتُ كلّ قصائدي/ وقصائدي هي كلُّ ما أملِك.
 علق الإعلاميُّ زهير بهلول: بعدَ هذه الكلمات أقولُ للأدباء والشعراء، إن اجتزتُمُ الحدودَ والمحيطات، فأنتم يتوجّبُ عليكم دائمًا أن تبتعدوا عن الخلاف. كتبوا في الآونة الأخيرة، أنّ النّاقديْن الرّوائيّيْن الفيلسوفيْن الفرنسيّيْن ألبير كيمو وجان بول سارتر، قد قاما بطعن طريقِهما مِن خلال كتابةٍ تسرّبتْ ورشحتْ إلى وسائل الإعلام، ولكن أنا لا أستطيعُ إلّا أن أقول، بأنّ الأدبَ الذي نشأ في فرنسا، هو أدبٌ خالدٌ وقائمٌ إلى الأبد. والأدبُ الذي يأتي مِن خلال عطائِكم وكتاباتكم، هو الذي سيكونُ بمثابةِ الإرث المردود، خلالَ كلّ السنوات التي سنعيشُها وتعيشُها الأجيالُ القادمة. 
أمّ المحامي جواد بولس فقد نقلَ للحضورِ كلمةَ الإعلاميّ الشاعر زاهي وهبي:
عزيزي جواد، لمحمود درويش مكانةٌ راسخة في القلب، ومساحةٌ واسعةٌ في الوجدان. صدقًا لا يكاد يمرُّ يومٌ واحدٌ لا يَحضرُ فيهِ محمود في الذاكرة، أو في الأحاديثِ الأليفةِ مع باقةٍ نبيلةٍ نادرة مِن الأصدقاءِ والمُحبّين. شعر محمود درويش يُمثّلُ لنا سببًا إضافيًّا لحُبّ الحياة وعيْشها، كلّما استطعنا إليها سبيلًا، مثلما يُشكّلُ مُكوّنًا عضويًّا مِن مُكوّناتِ الهُويّةِ الوطنيّةِ للشعب الفلسطينيّ، وذخيرةٍ حيّةٍ للإنسانيّةِ جمعاء. شِعرُهُ يُحرّضُنا على الحبّ والحريّةِ والمُقاومة، إلى أن تبزُغَ شمسُ الاستقلال الفلسطينيّ، وتقومَ الدولةُ الفلسطينيّةُ الحُرّةُ المُستقلّة، وعاصمتُها القدس الشريف، وهذا آتٍ لا مَحالة. أستطيعُ كتابةَ مُجلّداتٍ عن محمود وشِعرِه وشعبهِ الرائع، الذي يُشرّفُني أن أحملَ هُويّتَهُ، لكنّني أكتفي بهذا القدر كي لا أُطيلَ عليكم، مُتمنّيًا لمؤسّستكم الزاهرة المَزيدَ مِن التقدّمِ والعطاءِ والحرصِ على الإرثِ المُضيءِ لمحمود درويش، وللإبداع الفلسطينيّ عمومًا، مُعاهِدًا على الاستمرار معًا يدًا بيد، وقلبًا بقلب حتّى مَطلع الحرّيّة. كما يُسعدُني أن أنقلَ لكم تحيّةَ كثيرٍ مِن الأصدقاءِ والمُناضلينَ مِن هنا، من بيروت المنتصرة على جبروت الاحتلال الإسرائيليّ، وكذلك تحيّات المُجاهدة الكبيرة جميلة بوحيرد، التي تفرحُ بزيارة لبنان ولقاء أهلِهِ ومقاوِميه، كما تفرحُ أكثرَ ،لأنّها كما تقول: "تشعرُ بكوْنِها هنا، أي في لبنان، أنّها أقربُ إلى فلسطين". مع أمثال أبو حيرد، ومحمود درويش، وأحمد فؤاد نجم، ونلسون مانديلا، وسواهم مِن مُناضلين، نشعرُ حقًّا أنّ فلسطينَ أقربُ، وكذلك فجرُ الحرّيّة الآتية غدًا بإذن الله، وبعزيمة شعب الجبارين.
ونقلَ أيضًا كلمةَ مرسيل خليفة:  عزيزي جواد، تحيّاتي لكم جميعًا أيّها الأحبّاء، معكم أحتفي بهذه المناسبة السعيدة، وأتمنّى أن تستمرَّ مؤسّستكُم بالعملِ والعطاءِ والتقدّم. كم أشتاقها فلسطين! وكم أحبُّ جليلَها.. لأقولَ: "أذرفُ دمعَ الكلام وأناجيكَ، كلّما تنهّدتُ في منامي خفَقَ قلبي. هل سأجدُ ما يكفي من الألحان لأغنّيك لأعزفَك؟ أتمشّى على الشاطئ اللازورديّ عاريًا، إلّا مِن ظلالِ ضوءِ القمر، ألقيت ُفي يمِّ البحر نوطاتي، ويَسيرُ الحلمُ فوقَ عيونِ الماءِ كحصانٍ مُندَّى. أغرقُ في حنايا الشعر، وأذوبُ في طراوةِ المعنى كقمرٍ مُكتمِلٍ، كإشراقةِ شمسٍ، كموجٍ هادرٍ، كضوءٍ مُتموّجٍ، كليْلٍ مُشتهى، كفجرٍ زاهٍ، كحفنةِ نسيمٍ، كحبّةِ قمحٍ، كمدينةٍ ساحرة، كأرزةٍ راسخةٍ، كطيورٍ عاصيةٍ، كأقاصٍ زاخرة، كنبوءةِ حُلمٍ. أعود طفلاً، أُرنّمُ في ذلك الفجرِ الذي طلعَ عليّ في قريتي الساحليّة، وحيثُ حملَتْني الفصولُ إلى مُدنٍ بعيدة. يَغمرُني نورُكَ، أناديكَ لحنًا، همسًا، حُبًّا، حلماً، قصيدةً، أغنيةً، فهل تسمعُني؟ كم ضاقَ هذا العالم برَحيلِك!"
وتابعَ المحامي جواد بولس كلمتَهُ قائلًا: لقد أبقى محمود درويش كنوزًا لنا وللإنسانيّة جمعاء، فأقمنا جمعيّةً، سُجّلتْ في حينِهِ كجمعيّةٍ قانونيّةٍ، ما زالتْ تعملُ مِن خلال مكتبٍ صغيرٍ في كفرياسيف، ومن خلال مجلس إدارة، لم يكن يومًا ولن يكونَ محصورًا على أبناءِ عائلةٍ أو حزبٍ ما، أو على أصدقاءَ قريبين أو بعيدين، فالجمعيّةُ مفتوحةٌ لكلّ مَن يُحبُّ أن يَعملَ ويُعطي، وأن يَسمو بما يُعطي لا بما يأخذ، وها أنا أُزجيها أمامَكم وأمامكنّ دعوةً مفتوحةً غيرَ مشروطة، بالانضمام لهذه الجمعيّةِ دونَ قيدٍ أو شرط. لا شروطَ لنا إلّا أن نُحبَّ ما علّمنا محمود، وما أبقاهُ لنا ميراثًا سنصونُهُ، ولذلك نقولُ إنّها جمعيّةٌ صغيرة. صحيح أنّ مَن يَبرزُ بيننا الأخ عصام خوري، فهو يعمل كبوّاب وقهويجي ومدير عامّ وكلّ شيء في هذه المؤسّسة، ولكن هذا الحفل أقرّتْهُ لجنةٌ مُكوّنةٌ مِن سبعةِ أشخاص هم الآن في هذه القاعة: الأستاذ فتحي فوراني، علي هيبي، أنور سابا، شادي شويري، محمد بكري وعودة بشارات، وهُم أصحابُ القرارات، وأيضًا مَن يَلفي علينا، مثل سهيل ديب وآخرون يُشاركوننا هذا الهمَّ وهذا  النشاط.
لماذا اخترنا دير الأسد لاحتفال اليوم؟ لأنّ دير الأسد عتبتْ، وكان معها الحقُّ في العتب. لديْر الأسد قسطٌ في محمود، كما لأيّة بلدة أخرى، ومن باب العتب، نحن لم نُقرّر ديرَ الأسد مجازًا فقط، فقد كنّا في قلنسوة وباقة وغيرها، فنشكر دير الأسد على هذه الاستضافة، ونشكر مجلس دير الأسد الذي عندما خططنا، كان المجلس برئاسة نصر صنع الله، وعندما نفّذنا كان برئاسة أحمد ذباح، ولكن أحمد ونصر الآن يتبوآن هذا الدير، ونحن نباركُ هذه الوحدة وهذا العمل.
في البدايات لم يكن معنا أيُّ مبلغ لاستئجار مكتب، فطرَقنا أبوابًا لبعض الذين لم يتخلّفوا، وهُم في هذه القاعة، ومدّوا يدَ العون، ومن باب السترة لا أذكرُ أسماءَهم، فنحن جمعيّةٌ فقيرةٌ مادّيًّا نعيشُ على مصدرَيْن، ومُحاسبُنا المُتطوّعُ مفيد حزان، ويستطيعُ أيُّ شخصٍ الاطّلاعَ على حساباتِنا المكشوفة، ليسَ مِن باب إلزامٍ قانونيّ، وإنّما من بابِ ما نؤمنُ به مِن شفافيّةٍ وأخلاقيّة. في البدايات كان القرارُ بإقامةِ مؤسّسةِ محمود درويش الدوليّة في رام الله، وأن نكونَ ذراعًا لها في الوطن لاعتباراتٍ مفهومة، فنحن نعيشُ على مصدرَيْن شحيحَيْن؛ الأوّلُ مَحلّيٌّ يَكفي لسدِّ رمقِ استئجارِ المكتب وبعضِ المصاريف، والمصدرُ الثاني إلى أن جاءنا المدَدُ مِن جمعيّةِ سولاديريس في بلجيكا، وربّما هي مفارقة أن تقرّرَ سوليداريس إقامة هذه التوأمة معنا، نحن كمَن يُمثّلُ ما آمنَ بهِ محمود، ربّما الأقربُ إلى ما تُمثّلُهُ سوليداريس، هذه المؤسّسة الكبيرة الهامّة الإنسانيّة الناشطة في بلجيكا البلدِ الأوروبيّ، تأتينا بوفدٍ فيه شخصيّتان بارزتان مُؤثّرتان؛ واحدة من أصولٍ مَغربيّةٍ (فضيلة لعنان)، والثانية جليليّ الأصل (حسين شعبان). أما في ذلك مفارقة، لكي نفهمَ لماذا تُتوئِمُ سولاديريس مع مؤسّستنا محمود درويش، التي تطمحُ وتطمعُ أن تُمثّلَ ما آمن به محمود درويش، كما قالت السيدة فضيلة، بأنّ للإنسانيّةِ مكانٌ للجميع؟
مِن هنا نحن نفخرُ بهذه التوأمة، وسنوطّدُ هذه العلاقة، ومِن هنا نقول: رغمَ شُحِّ مصادرِ جمعيّة إبداع، وقلّةِ مَن يقومُ بها بنشاطٍ فاعلٍ، وعلى ما نأملُ أن يكونَ لها دوْرٌ في المستقبلِ مِن أحلامٍ سنُجسّدُها، نقولُ لكم بأنّنا نفخرُ في هذه الليلة بجميعكم، فنرى هنا سادةُ فِكرٍ وقلمٍ، وأقولُها بكلّ تواضُعٍ، على هذا الدرب نحنُ نَسيرُ، وكما قيلَ "أنا أشعرُ أنّ روحَ درويش هنا وهو فرِحٌ"، فأولئكَ إخوانُهُ لمحمود مَن حضَروا، ولكن نحن نقولُ بأنّنا في هذه الدولة يُريدون لنا أن نتشظّى شظايا، ولا يُريدون لنا أن ننجحَ، ولو في بؤرةٍ صغيرةٍ مِن إنجازٍ قد يُدَعِّمُ حصوةً في سورٍ قد يَميل، ولذلك، نحن سنمضي بكلّ ما أوتِينا من عزمٍ وقوّةٍ، ونتمنّى أن نترفّعَ عن عتبٍ أو مَلامةٍ أو مُحاسبة أو قصاص، فنحن ربّما نهفو ونسهو، وربّما نغلط وربّما وربّما..، ولكن أبوابُ المؤسّسة مفتوحةٌ لكلّ مَن يستطيعُ أن يُعطي كتفًا على كتف، وأن يَدعمَ هذه المسيرةَ التي نُريدُ لها أن تنجحَ، فنجاحُ صيانةِ إرثِ محمود درويش هو مِسمارٌ هامٌّ في نعشٍ نريدُ أن يتمَّ التئامُهُ لسياسةٍ عنصريّةٍ، والعدميّةُ القوميّةُ التي تريدُها لنا حكوماتُ هذه الدولة. شكرًا لفلسطين التي بعثتْ مَن أحبّهُ محمود وأحبّوه، وشكرًا لكلّ الحضورِ ولكلّ الشعراءِ والأدباءِ والسياسيّين، والشّكرُ الأهمّ لكلّ مَن يُجيدُ تلقّي هذا المثال، فلولا جهود القرّاء لَما أبدَعَ المُبدعون، لذلك؛ نحن نفخرُ بكُم وبهذه المؤسّسة، ونُعاهدُ مَن حضرَ وغابَ أن نستمرَّ، ونبقى على درب محمود درويش الكبير، والعصِيِّ على التحزيب والجغرافيا، والعائليّة والمنطقيّةِ والمحليّة.


154
حيفا تحتفي بالكاتب د. سميح مسعود



آمال عوّاد رضوان
وسط حضورٍ واسعٍ مِن أهل بُرقة الحيفاويّين، وعددٍ من المثقفين والأدباء من حيفا وسائر مناطق الجليل والمثلث، أقيمت أمسيةٌ أدبيّةٌ للكاتب د. سميح مسعود، بتاريخ 29-8-2013، احتفاءً بإشهار كتابه "حيفا... بُرقة- البحث عن الجذور"، وذلك في قاعة الكليّة الأرثوذكسيّة، شارع إسحق ساديه 32، حيفا، وقد نظّم الحفلَ الهيئاتُ التالية: المجلس الملّي الأرثوذكسيّ الحيفاويّ، ونادي حيفا الثقافيّ، ومكتبة كلّ شيء. تحدّث في الأمسية كلٌّ من الأديب حنّا أبو حنّا، ود. سهيل أسعد، والفنان عبد عابدي، وحسناء دراوشة، والأديب جريس طنوس، وتولّى عرافة الحفل د. جوني منصور، وفي نهاية اللقاء قدّم الفنان ديب بشارة لوحة خطيّة لضيف الأمسية، وأغنية بصوته: "يا غايبين بهواكم قلب دايب"، ومن ثمّ تحدّث د. سميح مسعود  عن كتابه، وشكر الحضور ومُنظّمي هذا الحفل، وبعدها تمّ التقاط الصور التذكاريّة.
د. سميح مسعود ولد في عام 1938 في حيفا، لعائلة أصلها من قرية بُرقة (نابلس). درس في مدرسة البرج بحيفا. تشرد مع أهله عام 1948. تابع تعليمه في قرية بُرقة. نال الدكتوراة من جامعة بلغراد في موضوع الاقتصاد. عمل مستشارًا اقتصاديًّا في مؤسّسات وهيئات عربيّة. يعمل حاليًّا مديرًا للمركز الكنديّ لدراسات الشرق الأوسط في كندا. ساهم في تأسيس الصالون الثقافيّ الأندلسيّ. له مؤلفات عديدة، منها: "الموسوعة الاقتصاديّة"، "الأزمة الماليّة العالميّة"، "تحدّيات التنمية العربيّة"، "الوجه الآخر للأيّام" (مجموعة شعرية)، "رؤى وتأمّلات" (نصوص نثرية)، ويكتب مقالات ادبية وسياسية ونقدية في جرائد ومواقع عربيّة. مقيم في مونتريال- كندا.   
جاء في كلمة العريف د. جوني منصور: الأخوات والإخوة.. مساؤكم كلّه خير. مساء حيفا الجميلة التي سمّاها البعض في زمن غابر "أمّ الغريب"، ولكنها في واقع الأمر نزعت عنها هذا الثوب، والتحفت بثوب السحر والجَمال والعيش المشترك، جمعت تحت جناحيْها كلّ من طلب الرزق، وكانت المدينة التي اتسعت للجميع، وفهمت الجميع وأحبّتهم.
قصَدَها أبناء فلسطين من الجليل ومن نابلس وقراها، ومن أم الفحم وبناتها، ومن غزة ومن القدس وقراها، وكان اللقاء مميّزًا بين أبناء الشعب الواحد. شمّروا عن سواعدهم، وشرعوا يبنون حيفا، حيفا الحلم والأمل والمستقبل، واتّسعَ قلبُ هذه المدينة بمن أحبّها من خارج فلسطين، ولبنان، والشام الحبيبة، وشرقيّ الأردن، والعراق، ومصر، والسنغال، ونيجيريا وغيرها.
إنّها الأمّ التي حوّلت الغريب الوافد إليها ابنًا. شكرًا لك يا حيفا، لأنك جمعت الأب. لكن مشروع هذه المدينة لم يكتمل، فوقعت النكبة، وسقطت عروس الكرمل والبحر بيد الغرباء، عابري البحر القادمين من بلاد بعيدة، لا صلة لهم بها وبالوطن، إلّا بكونهم أدواتٍ في مشروع اقتلاعيّ احتلاليّ.
تشتت الأبناء وتفرّقوا، وحبّ حيفا الجميلة عالق في وجدانهم وحياتهم يوما بعد يوم. هذا هو اليوم الذي تعود حيفا فيهن لتجدد جمع أبنائها في هذا المكان المتميّز والخاصّ، صرح العلم والثقافة والانفتاح. ها هو اليوم الذي تقول حيفا فيه: فرحي بعودة دائمة لأبنائي، فحقّ العودة مقدس ولا تنازل عنه مطلقا.
في هذا المساء أيّها الأحباء، يسعدني أن أرحّب بالضيوف الكرام، الذين جاؤوا من خارج حيفا، وأرحب بدكتور سميح مسعود وزوجته، ود. نوفل ومرافقيه، وهو ابن حيفا، وحبّه لحيفا لا يقلّ أبدًا ومطلقًا عن حبّنا لها، فأنتم أبناء هذه المدينة، ترحّبون بنا في بيتكم هذا؛ الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة في حيفا. هنيئًا لنا جميعًا بهذا اللقاء الذي بعد 65 عاما من النكبة، يثير فينا مشاعر الانتماء والهُويّة والبقاء. أشكر المجلس المليّ الأرثوذكسيّ، ونادي حيفا الثقافيّ، ومكتبة كلّ شيء، لرعايتهم هذا اللقاء.
"حيفا.. بُرْقة": عنوانٌ جميل يجمع حركة المدينة وجمال القرية. بُرقة ليست بعيدة عن حيفا، كما أنّ حيفا ليست بعيدة عنها، لكن سميح مسعود ربط بينهما، بسيرة حياته التي أعلن أنّها بحث عن الجذور، سيرة ذاتيّة تحمل مخزونًا كبيرًا من الذكريات الجميلة المفرحة والحزينة. إنّها ذكريات من عاش على هذه الأرض، وأدرك ولا يزال، أنّ "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة".
حول السيرة الذاتية وكتاب سميح مسعود، أتحفنا وشرّفنا بكلّ اعتزاز الأستاذ والأديب حنا أبو حنا بمداخلته فقال:
التقيت مع الأخ سميح مسعود عبر كتابه في حيفا، أنا الذي عرفت حيفا عام 1935، تعلمت في المدرسة الابتدائية حيث اليوم بيت هجيفن، وعولجت في مستشفى د. حمزة حيث ليس هو الآن، وأجريت لي عملية، ومع أنّي أكبرك بعشر سنين، لكنّني سرت معك في شوارع حيفا، شارع مصر وشارع العراق، وذهبنا معًا إلى سينما الأمين، وهناك شاهدت فيلم عنتر وعبلة، وما زلت أذكر من الدعابات، كيف كان يناجي عنتر عبلة، فأراد خادم عنتر أن يناجي صاحبة عبلة، وهو يبحث عن لغة مشتركة فقال لها: "يا ريتك تقلعي لي عين، وأنا أقلع لك عين، ونعيش عور نحنا الاثنين".
ومن الطرائف الأخرى، سرنا معًا في شارع الملوك، وهناك تذكّرت نقاشًا بين صديقين، أحدهما يقول للآخر: كلّ شيء مكتوب بالقرآن. وحين مَرَّا من أمام "مكتب كوك للسياحة" قال له: وهل كوك موجود في القرآن؟ فأجابه: نعم. "وإذا رأوْا تجارة أو لهوًا انفضّوا إليها، وتركُوكَ قائمًا".
 ودخلت معه إلى السوق الأبيض وساحة الحناطير، وأنا عرّجت على مطبعة نجيب نصّار؛ رجل قصير، وطربوشه طويل، وعزيمته قويّة، وإيمانه بالقوميّة العربيّة والوطن شديد، فأعدّ عام 1908 أقدم الصحف الفلسطينيّة، التي عالجت الشؤون السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، حين تعرّف إلى المخطط اليهوديّ، وفكرة إقامة دولة اليهود على أرض فلسطين.
كثيرة هي الأماكن التي زرناها، لكنّي أيضًا عايشت المأساة، ففي شارع يافا هنالك وقفت أمام مبنى يدعى بيت النجّادة، وهو فرع من بيت النجّادة في الحلّيصة، (حيث لم تواجه القوات الصهيونيّة مقاومة شديدة، إلّا في حيّ الحليصة باتجاه النجّادة، وهو بيت حركة الكشّاف العربيّ القائم على ملتقى طرق هامّ يربط الهدار بالحليصة والبلد التحتا، في شارع هجيبوريم (صلاح الدين سابقًا)، وما زال البيت قائمًا وشاهدًا حيًّا على أهمّيّة الموقع، بالنسبة للمقاومة الفلسطينية التي فقدت عددًا من الشهداء، في سبيل حماية حيفا، وسقط بيت النجّادة على يد الكتيبة 22 من الهجاناه) .
في بيت النجّادة وجدت شبابًا يحملون عصيًّا، ويلبسون ملابس النجادة، فكلّ الأمور اختلطت بنقاشات سياسيّة هنا وهناك، والمأساة أنّ الأمور كانت تحمل الحماسة العنترية، التي لا تقل عنها أيّة جهود. لقد بقي في حيفا عشرة آلاف، وهذا بحث جديد جاء به د. عادل مناع من أرشيفات سريّة، ولكن الذين أُبقوا من العشرة آلاف فقط 3200، فكلّ الأمر كان مُخطّطًا ومدروسًا، وكتاب حبيبنا مسعود مفعمٌ بروح التعلق بتراب الوطن، وعندما نطوف معه في حيفا نطوف معه بذكرياته، وحين أمرُّ ببيوت أعرف أصحابها وسكانها، أذكر موسيقى حوافر خيل الحناطير، خاصّة وهي صاعدة في شارع الجبل، إنّها موسيقى جميلة.
د. سميح مسعود مفعم بروح المحبة والتعلق بالوطن، وصفة نادرة أنّ هذا الرجل يبحث عمّن له علاقة بحيفا، وحين يتعرّف إلى أحدهم يذهب للبحث عنه. وفي النهاية نهنّئه بالشفاء، بعد العملية التي أجريت له على أيدي أطبّاء عرب.
ملاحظتان قصيرتان: ورد في كتابه، أن نشيد يا ظلام السجن خيّم لإبراهيم طوقان، إنّما هو لنجيب الريّس الشاعر السوريّ، كتبه عام 1922 وهو سجين، ولا زلت أذكر أبي ينشده وهو يحلق ذقنه:
 يا ظلامَ السجنِ خيِّمْ/ إنّنا نهوى الظّلاما/ ليسَ بعدَ اللّيلِ إلّا/ فجرُ مَجدٍ يَتسامى/
إيهِ يا دارَ الفخارِ/ يا مقرَّ المُخلصينا/ قد هبَطْناكِ شبابًا/ لا يهابونَ المَنونا/
وتعاهدْنا جميعًا/ يومَ أقسمْنا اليمينا/ لن نخونَ العهدَ يومًا/ واتّخذْنا الصِّدقَ دينا/
أيّها الحُرّاسُ رِفقًا/ واسْمَعوا منّا الكلاما/ مَتِّعونا بهواءٍ/ كان مَنْعُهُ حَراما/
لستُ واللهِ نسيًّا/ ما تقاسيهِ بلادي/ فاشْهَدَنَّ يا نجمُ إنّي/ ذو وفاءٍ وودادِ/
يا رنينَ القيدِ زِدْني/ نغمةً تُشجي فؤادي/ إنّ في صوتِكَ معنًى/ للأسى والاضطهادِ/
لم أكنْ يومًا أثيمًا/ لم أَخُنْ يومًا نظاما/ إنّما حُبُّ بلادي/ في فؤادي قد أقاما
والنقطة الثانية: هي أنّ المتّهم في هذا الكتاب هي القيادة الفلسطينيّة، ولكن الصواب أنه كانت هناك مؤامرة لتقسيم فلسطين. (وقرأ فقرة تأريخية وسرية من كتاب تاريخ لتأكيد المؤامرة المرسومة). والمؤامرة استمرت فيما بعد، فمثلًا، عقدت الأردن صلحًا مع إسرائيل، ولكنها لم تطالب باسترداد ما كان معها. وكذلك قادة مصر أيضًا عقدوا صلحًا مع إسرائيل، ولم يستردّوا ما لهم، فالجرح كبير والألم شديد، ولكن علينا أن نعود إلى هذه الأمور، لنتعلم الدروس الضروريّة، ولنورث الوعي لأبنائنا.   
وتابع العريف د. جوني منصور: بُرقة.. كثيرون حتى من بين الحاضرين لم يسمعوا بها، ومنهم من لم تطأ قدمه أرضها. إنّها برقة نابلس القرية الوادعة الجميلة المستلقية على هضاب وجبال نابلس، زيتونها صامد، وشعبها صامد، ترَكَتها عائلات كثيرة قبل عام 1948 بحثًا عن لقمة العيش. أليس هذا من حق الإنسان؟ منهم من عاد إليها، ومنهم من بقي فيها، ومنهم من هاجرها لبلاد الاغتراب، فسكانها اليوم ستة آلاف، ومهاجروها أكثر من عشرين ألفا.
من أهالي بُرقة عائلات كثيرة استقرّت في حيفا، وبَنت بيوتًا لها، وأصبحت جزءًا فاعلًا وناشطا ومؤثرًا في مشاهد حياتها اليوميّة، وطبيب الجسد لم يتوقف أمره عنده، إنّما يهتمّ ويُساهم في بناء المجتمع، وتحسين ظروفه التربوية والاجتماعيّة، ويشهد له حبّه لهذه المدينة ولأهلها، فنسائم بُرقة تجري في عروقه.
د. سهيل أسعد يقول كلمته باسم حيفا وباسم بُرقة: "ما يدور حولنا من أعياد وأحداث وأفكار له أهمّيته في حياتنا، فعلينا تقبّل اختلافاته، والاستمتاع به، واحترامه، وتقديره، وجعل الوطن قاسمًا مشتركًا في حياتنا". هذا ما قاله عبد الفتاح مسعود في حيفا عام 1946 لابنه سميح.
فارس مسعود أحد أهمّ أعيان بُرقة والقضاء، وكان قد قدّم عشرة دونمات هديّة منه لمسيحيّي بُرقة، لبناء الدير الذي استعمِل لاحقا عيادة عامّة، ومن ثمّ مدرسة. في هذه العيادة خدم ولسنين عديدة أقرباء العائلة، خدموا أفراد البلدة أجمعين  بكلّ محبّة وإخلاص.
وشاءت الصدف أن يصل راهب ألمانيّ من القدس إلى بُرقة، للبحث عن تلاميذ، ليُكملوا دراستهم هناك في العشرينات من القرن الماضي، فكان والدي وأعمامي وآخرون من العائلات المسيحية مِن المختارين، وهنا بدأ التحوّل.
كان التحوّل للعمل خارج القرية في مجالات مختلفة عام 1948، وبعد الاحتلال انتقل قسم كبير من أفراد العائلة للسكن في حيفا، وها نحن اليوم هنا جيل آخر من أهل بُرقة الحيفاويّين، أرضنا في بُرقة محافظون عليها، بالتعاون مع أهل البلد القاطنين فيها، وسوف نحافظ عليها ولن نهملها.
 لقد كتبتَ أيّها الخبير الاقتصاديّ موسوعة اقتصاديّة، وكنتَ رئيسًا لمَحافلَ اقتصاديّة مختلفة، وقد كتبتَ كتابًا جميلًا، بوُدّي أن أقرأ فقرة منه في وصف بستان الخيّاط: "يتكوّن البستان من مساحة واسعة من الأرض، مرصّعة بشجيرات الزينة الجميلة، وأشجار مُثمرة مختلفة أنواعها، وفيه مُدرّجات حجريّة وإسمنتيّة، وبرَك، وقنوات مياه متشعّبة، ونوافير وشلالات خطيرة، تجري فيها المياه تحت تأثير انحدارات أرضيّة مُصنّعة، تأتيها المياه من عين السيّاح، تتدفق نحو البستان من بقعة عالية ما بين الصخور".
و(يُتابع مُتحدّثا في زيارته مع عائلته)، "طُفنا فيه وتعرّفنا على كلّ أجزائه، فكلّ شيء فيه جميل، وتعود إلى ذهني الآن ذكريات زيارته بصورة متقطّعة، وبلمحات سريعة أتأمّل منظر شلّالاته، كومضات تسطع من الماضي. أتذكرها بهدوء، كان صوت سقوط مياهها يشدو بأصوات مفعمة بالموسيقى، تحنو باختلاطها مع شدو عصافير كانت ترفرف على مقربة منها، وكان أريج الأزهار المتفتحة والأعشاب تفوح في كل مكان".
بصراحة، قليل من المتخصّصين في الاقتصاد يكتبون مثل هذا الأدب الجميل، وها نحن اليوم بصدد الدفاع عن هذا البستان؛ بستان الخياط، وعن السكان العرب الساكنين بمحاذاته. ومن هؤلاء النشطاء في الدفاع عن بستان الخياط هو الفنان عبد عابدي.
أيّها الإخوة، من الواضح أنّ هذا الرجل د. سميح مسعود كبُرَ وترعرع في أجواء عائليّة مُحِبّةٍ ليبراليّةٍ ومُتسامِحةٍ ووطنيّة، والدليل على ذلك، الجلسات الحواريّة المُتعدّدة بينه وبين والده، والتي كتب عنها في هذا الكتاب، ودليلٌ آخرُ على رِقيّ ووضوح الرؤية عند السيد عبد الفتاح مسعود، هو جملة قالها أثناء نقاش سياسيّ في بيته، حين دافع عن موقف صحيفة الاتحاد وكُتّابها بالقول: يُقنعني أيّ رأي يأتي من خارج الزعامة التقليديّة المُتحجّرة، لأنها تتغنّى دومًا بجلب الضرر والمصائب للقضيّة الوطنيّة، وعلى الأقلّ، لم يُلوَّث اليسار الفلسطينيّ بالاغتيالات، وبالتصفيات، وبآراء نشطاء لا علاقة لهم بالزلمنة، والعشائريّة، وتقديس الزعماء.
أيّها الإخوة؛ هكذا أبٌ بُرقاويٌّ أنجبَ هكذا ابنًا حيفاويًّا. فهنيئًا لكم ولنا بسميح مسعود. 
وتابع العريف د. جوني منصور: فنّان عاشق للفن وعاشق لمدينته، وعِشق المدينة سِرٌّ لا يفقهه، إلّا مَن يحمل في داخله حبَّ المدينة. عَكَسَ حبَّهُ هذا في أعماله الفنّيّة، التي تنطق وهي صامتة، بما يجب علينا أن ننطق به. تنطق بالحُرّيّة، وحُبّ الأرض، والوطن، والنبات وباقي الكائنات.
إنّه الفنان عبد عابدي، الذي تربطه علاقة خاصّة مع د. سميح مسعود فقال: هذا الكتاب هو ملفّ الماضي أمام الجمهور، وهذا هو اللقاء الثاني عمليّا، الذي يربطني بأخي د. سميح مسعود. كان لقاؤنا الهاتفيّ الخليويّ السابق قبل نصف عام، عن طريق صديقنا المشترك صخر الخطيب، الذي هو ابن عمّ غسّان الخطيب، ووالد صخر الخطيب هو أحد القادة الفلسطينيّين الذين قادوا الثورة ضدّ الاستعمار، وكان رئيس تحرير مجلة الغد. بهذا اللقاء الخليويّ تعرّفت على سميح، وعلى الربط  عمليّا بين بُرقة ونابلس.
في جيل النكبة كنت في عداد النازحين واللاجئين في المخيّمات الفلسطينيّة، ابتداءً من بيروت، والشام، ودمشق، وإلى الآن أختي موجودة في مخيّم اليرموك. دون شك ربطته مع النزوح، فارتباطه مع القرى المُهجّرة حصلت عمليّا بعد رجوعنا إلى حيفا، بما يُسمّى لمّ شمل العائلات، كوْن والدي بقي في حيفا ولم يتركها. وتأتي ببالي أسماء قرى قليلة في الواقع، كوْني كنت فتى صغيرًا راجعًا من الغربة، ولكن بُرقة كانت لها مكانة خاصّة في بيتنا في وادي النسناس، لأنّ والدي عام 1954 على ما أذكر، آوى أوّل شخص مُتسلّل مِن بُرقة في وطنه، وبسبب إجراءات التسلل سُجنَ أبي أربعة أشهر، بسبب إيواء شاب من بُرقة اسمه أمين، وطبعًا أرجعوه إلى المناطق.علاقتي ببُرقة مميّزة، ومن هنا الارتباطات متشعّبة، وتبيّن لي من خلال المحادثة الخليويّة، أنّ معرفة أخي سميح بواقع الطوبوغرافية والهُويّة والمجتمع الحيفاويَ لدرجة كبيرة، فسألني عن أماكن وأزقّة، يشعر أنّه غير مطمئنّ أو متأكّد لتحديد اتّجاهاتها جغرافيّا، وأنا كنت مفعمًا عمليّا بهذه المعلومات الطوبوغرافيّة والجغرافيّة عن حيفا، لدرجة أنّي اعتقدت أنّه متواصل مع هذا المكان المُسمّى حيفا.
ومحادثة أخرى جرت ثانية، بعد مقالة كتبها بعد زيارته لإحدى بحيرات كندا، كوْنه يسكن في كندا، وهو متنقّل بين كندا وعَمّان. هناك في وصف البحيرة الكنديّة حسٌّ شاعريّ فنّيّ، بإمكان هذا الحسّ أن يتحوّل إلى لقاء تشكيليّ، واعتبار سميح مسعود ليس فقط خبيرًا في الاقتصادن وقد درس في دولة اشتراكيّة في يوغسلافيا آنذاكن لكنّه مُتمكّن من التفاصيل الدقيقة.
في الواقع، في هذه السنة من اللقاءات، اعتبرت أنّ علاقتنا استمرّت من 1948 إلى اليوم، وهناك في التعارف الأوّل بيننا سألني أين أسكن في حيفا، وفي أي شارع؟ فقلت له في شارع حداد رقم 13. فقال لي: في شارع حداد رقم 14 يسكن صديق طفولتي راشد الماضي. فوصفت له علاقتي الطيّبة والجيرة الحسنة التي تربطني براشد الماضي، وهكذا في وصف الصديق العزيز كان الوضع مثيرًا، في دقة التعبير عن مشاعر إنسانيّة.
يقول في أحد الفصول، أنّه رأى صديقه مكتئبًا، وتبيّن أنّ له مشاكل عسيرة في التعلّم، فقدّم له المساعدة، ليتمكّن من الخروج من مأزقه. وشيءٌ آخر أذكره، أنّ لوحتي التي كان من المفروض أن تُزيّن غلاف كتاب د. سميح، لأسباب تقنيّة لم تتمكّن من تزيين الكتاب، ولكن في مجال آخرَ سوف يجد العديد من الأعمال المشاركة، لها الحيّز التاريخيّ الذي يربطنا، كوْننا في حيفا، وكوْن حيفا تسكن فينا.
تابع د. جوني منصور: كان للعزيزين الصديقين الأستاذ جريس طنوس ود. سميح غنادري، الفضل الكبير في التعرف على د. سميح مسعود. فلهما جزيل الشكر على هذه الهديّة الكبيرة والثمينة.
قال الأستاذ جريس طنوس: شاءت الظروف أن يزورني د. سميح مسعود وبالصدفة، عن طريق أحد طلابي صخر الخطيب، وحدث تماهٍ وتشابُك وتقارُب، وبالصدفة، كان أحد أبنائي قد عمل لي بطاقات وإيميل، و(تابع بتواضعه وبروح دعابته مازحًا عاتبًا)، أنا معلم متقاعد، فـ (اعترض الأديب حنا أبوحنا قائلًا: أنت كاتب أيضًا)، ضحك وقال: المهمّ عملت حالي قبضاي، ووزّعت البطاقات، فأنا موديرن عصريّ وعندي كمبيوتر.
وإذا بي تصلني رسالة طويلة منه بحدود الصفحة! فكيف أجيبه وأنا لا أعرف استخدام الكممبيوتر؟ استنجدت بحفيدي، ووعدته أن أعطيه كذا وكذا مقابل أن يكتب لي ردّ الرسالة، فكتبت له رسالة قصيرة جدًّا، وكأنني من هواة الكتابة القصيرة والاختصار، مع أنّ مُعلّمي اللغة والأدب يعتمدون على الحكي. وصرت كلما وصلتني رسالة منه رسالة أحمل الهمّ، وكانت النتيجة أنّي تعلّمت أن أكتب رسائل طويلة وشيّقة.
ولكن المشكلة الثانية التي واجهني بها ضيفنا العزيز د. سميح مسعود، أنّ لغته العربيّة عالية جدًّا لا تقلّ عن لغة الأستاذ حنا أبوحنا وفتحي الفوراني، وأنا معلم للّغة العبريّة، وأكتب باللغة العربيّة، ولكن ليس بهذا المستوى، وبالكاد أسجّل تعابير جميلة باللغة العربيّة، وإذا بصديقي د. سميح شاعر لا يُشقُّ له غبار، وكانت علقتي علقة. كان اللقاء بيننا، وتبادلنا الكتب، وذكّرته بالمحافل التي أُدعى لها وهي قليلة، فأنا معلم متقاعد ولا يدعوني أحد. وهكذا كان؛ علّمني شيئين: علّمني كيف أحترم لغتي، وعلّمني كيف يعيشون الوطن في الغربة، ونحن غرباء في أوطاننا. 
وحول كتابة هذا الكتاب، وإعادة سميح سميح إلى بلده، حدثتنا قريبته حسناء دراوشة فقالت: في بحثه عن جذوره، تعرفت على جذور عديدة وتوصلت إليها من خلال الصدفة، فحُبّي للقراءة أوصلني إليه، من خلال قراءتي لمقاله في ملحق جريدة الاتحاد الثقافيّ. وما شدّني للمقالة هو صورة صغيرة لقرية بُرقة، وبعد الانتهاء من القراءة، أخبرت زوجي وإخوتي بأنّ الكاتب يمتّ بصلة قرابة لجدّتي نجيّة، والتي كانت تخبرنا عن عشقها لبُرقة، وعن خالتها الحجّة سكّر، والتي تبيّن فيما بعد أنّها زوجة عمّه، فأرسلنا رسالة له وأجابنا بسرعة، وهكذا توطدت صلة القرابة البعيدة، من خلال العلاقة والتواصل. أشكر كل من ساهم في إحياء هذا الحفل وإشهار الكتاب، لأنّ اسمي خُلّد في كتابه، وهي أعظم هديّة تلقيتها في حياتي من بعد زوجي وأولادي.
في نهاية اللقاء قال د. سميح مسعود: لم أحلم يومًا أن ألتقي بهذه الوجوه الجميلة، وأن أرى بوجوهكم كلّ هذا الحنين للذين كانوا هنا وما زالوا هنا. أريد بداية أن أقدّم كلّ الشكر للجهات المُنظّمة لهذه الأمسية، للمجلس الملّي الأرثوذكسيّ، الذي يُذكّرني بالنادي الأرثوذكسيّ الذي ذكرته في كتابي، عندما كنت مع والدي وقال لي: هذا النادي الأرثوذكسيّ فيه أهمّ شخصيّة، الشاعر الكبير عبد الكريم الكرمي أبو سلمى. وقال لي: إنّ جورج أحد شباب بُرقة، يلعب كرة القدم في النادي الإسلاميّ. وكان والدي دائمًا يُعطيني هذه الأمثلة عن التآخي والمحبّة ما بين أبناء الوطن الواحد.
وأشكر نادي حيفا الثقافيّ، مُمثّلًا بالأستاذ فؤاد نقّارة، والذي كتب لي رسالة قبل يوميْن، ورفع من معنويّاتي وقال: أهلًا بك في بيتك، في هذا النادي- نادي حيفا الثقافيّ.
وأشكر أيضًا مكتبة كلّ شيء، وصاحبها ومديرها الأستاذ صالح العبّاسي، لأنّ له الفضل في إيصال كتابي إلى مدينة حيفا، فأنا لم أتمكّن من إرسال إلّا نسخ قليلة، مع أخي جوني منصور، والأخ حسين منصور، ومع قريبي عبد السلام دراوشة وزوجته حسناء، ولكن صالح العباسي اتّصل بي عبر الهاتف وقال لي: تستطيع أن ترسل أيّة كميّة تريدها. وهكذا أرسلت كلّ هذه الكتب عبره، والشكر موصول لكلّ الأصدقاء والأحبّاء، وأوّلهم شاعرنا الكبير حنّا أبوحنّا الذي قرأت له الكثير، وكنت أحلم أن ألتقي به وأشكره، لأنّه سار معي وتجوّلنا في حيفا، وأشكر ابن بُرقة قريتي د. سهيل أسعد، والذي عرفت قبل ثلاثة أيّام، أنّه قريب أعزّ أصدقائي في بُرقة، فالدير كان قريبًا ومُحاذيًا لبيتي وبيوت أعمامي تمامًا، وأنا أتذكّره تمامًا حين كان الوطن والتراب هو القاسم المشترك بيننا، والآن نعيش في عصر جاهليّ تكفيريّ، حيث التنفير والتكفير وإقصاء إخوة التراب، وهذا يُحزنني جدًّا، وكنت في هذا الكتاب دومًا أحاول أن أعزف على هذا الوتر، وأنّ الوطن وتراب فلسطين فوق كلّ شيء حتى فوق المعتقد، لأنّ الله لن يغفر لإنسان لا يُدافع عن وطنه، فالوطن هو قبل كل شيء، والفنان الكبير عبد عابدي ذكر أشياء جميلة، عن كيف تعارفنا، ومن وحي لقائي الخليويّ به كتبت المقال، واستغربت من الردود والتعليقات التي جاءتني، إذ تحدثت عن المدرسة والأساتذة والشوارع، وتجوّلنا ووصلنا إلى محلّات بيع البوظة وإلخ، وحين تحدثت مع أخي أبو أمير عابدي، جاء في أحد التعليقات: ما دام أنتم تحافظون على هذه الذكرى، فهل تضيع فلسطين؟
وأخيرًا وليس آخِرًا أخي العزيز جوني منصور. أنا تابعت كتاباته، ولاحظت أنه يكتب في نفس المكان الذي يكتب فيه جريس طنوس، فحييّته وأسميته في مقالتي "مؤرّخ حيفا". ولكن للأسف، في الشتات والخارج هذه الأسماء غير معروفة، وقد نشرنا في الصالون الأندلسيّ 15 كتابًا حتى الآن، وخمسة كتب إلكترونيّة، فهذه المقالات بين الحين والآخر أجمعها وأنشرها في كتاب، وأوّل شخص تعرفت عليه في الداخل هو جريس طنوس، وفي كتابي "رؤى وتأمّلات" كتبت عن تعرّفي عليه. يوجد تعاون الآن ما بين الصالون ود. جوني منصور، وسوف نصدر قريبًا كتابًا عن القصص الشعبيّة الفلسطينيّة في الشمال الفلسطينيّ في حيفا وفي الجليل، لشخص في الثمانيات من عمره، أمضى أكثر من أربعين سنة في تجميع هذه القصص.
لماذا أذكر هذا؟ لأقول إنّنا نستطيع في الشتات أن نجمع بعضنا، وأن نبحث عن جذورنا، وسوف نجد دومًا جذرًا في مكان ما لنا علاقة به. فهذا الكتاب لا يتحدّث فقط عن علاقتي مع إكسال وأهلها وآل دراوشة، ولكن عن أهمّيّة البحث عن الجذور، لنقول إنّه كان لنا وطن وما زال.
كان البحث عن الجذور مقالة كتبتها، فقرأتها حفيدة عمّتي حسناء، ومن ثمّ فُتحت لي أبواب كثيرة سجّلتها في هذا الكتاب، جعلتني أتحدّث عن أمور كثيرة في بُرقة وغيرها، ومن خلال هذا البحث توصّلت إلى ننتائج كثيرة، تشعرني بالسعادة على حدّ تعبير التوحيدي: "الكلمات تزدحم في حلقي/ ولا أستطيع أن أقولها". عندما التقي بزميل طفولتي الذي تركته في الثالث الابتدائي وعندما جاء عبدالسلام دراوشة يقول له هناك من يذكرك وكتب عنك . نحن في المهجر البعيد نعيش الوطن وكأننا فيه، ولا أغالي حين أقول، بأنّني أحنو لحيفا وشم في العين، وأشعر أنها جزء من دمي، تعيش معي، وأسير بها في كلّ الأماكن الجميلة الموجودة، ولا أرى حتى جمالًا لتلك الأماكن، والمقالة التي كتبتها وتحدث عنها الفنان عابدي، وقال إنّ بها لمحات فنيّة وشاعريّة، كنت وأنا أكتبها أتذكر حيفا وكل ما كان في حيفا في ذلك الزمان البعيد، من مفردات وجزيئات جماليّة.
بهذه الأمور التي نخرجها من خلايا الذاكرة، نستطيع أن نجمع الذاكرة الجمعيّة، والتي هي التاريخ الحقيقيّ لنا، سواء كُتبت شعرًا أو نثرًا أو جغرافية أو تاريخ وإلخ، لأنّ التاريخ السياسيّ في رأيي مُزوّر، وهو تاريخُ مَن قاموا برسم المؤامرات والقضاء على وطننا.
الذاكرة الجمعية يجب أن تبقى، ويجب أن نُحدّث أولادنا وأحفادنا، فلي حفيد واحد، وللأسف أنه لا يتكلم اللغة العربيّة، وسوف أحاول أن أعلّمه العربيّة قبل أن أرحل عن هذه الدنيا، كي يقرأ عن فلسطين وحيفا وبُرقة، وعن كل ما كان وما زال، وأنا مازلت أشعر أني جذر في روابي حيفا.

















155
النّاصرةُ تُكَرِّمُ الشّاعرَ الزّجّالَ سُعودَ الأسدي
آمال عوّاد رضوان
دارةُ الثقافةِ والفنونِ، ومجلسُ الطائفةِ الأرثوذكسيّةِ، ونادي العائلةِ الأرثوذكسيُّ التَّابعُ لمَجلسِ الطائفةِ الأرثوذكسيّةِ في الناصرة، أقامتْ حفلًا تكريميًّا للشاعرِ الزجّالِ سعود الأسدي، وذلك بتاريخ 5-6-2013، في قاعةِ مركزِ الأحداثِ الأرثوذكسيّ في الناصرة، والّتي غصّتْ بالحضورِ مِنْ مُختلفِ البلادِ والشرائحِ الاجتماعيّة، مِن رؤساء مجالس مَحلّيّةٍ وبلديّاتٍ، وأعضاء كنيست، ورجالِ دين، ورؤساءِ هيئاتٍ تعليميّةٍ وثقافيّةٍ، ووفودٍ مِن مختلفِ بلادِ الجليلِ والمُثلّثِ، والوسط العربيّ مِن أصدقاء وأدباء وشعراء وممثّلينَ، ونيابةً عن النّادي، افتتحتِ اللقاءَ الباحثةُ التراثيّةُ المُربّيةُ نائلة لِبّس بكلمةِ اعتزازٍ وترحيبٍ بالمُحتَفى بهِ، وبالجمهورِ الغفيرِ الّذي حَلّ لتكريمِ عَلَمٍ مِن أعلامِ الثقافةِ الفلسطينيّةِ، ثمّ حاوَرَهُ الإعلاميُّ فهمي فرح، والّذي  نَوَّهَ إلى جائزةِ الثّقافةِ الفلسطينيّةِ لهذا العام، كما أبرزَ أهمّ لمحاتٍ عن أدوارِهِ الشّعريّةِ الجادّةِ بالفُصحى والمَحكِيّة، والّتي رَسَمَ مِن خلالِها لوحاتِ شِعرٍ إنسانيٍّ وتراثيٍّ بفنّيّةٍ عاليةٍ، وتحدّثَ عن تأثُّرِهِ العظيمِ بالمُتنبّي والمِعرّي، وبالموسيقى الشرقيّةِ والغربيّةِ الكلاسيكيّةِ في شِعرِهِ وصُوَرِهِ، وقد أتحَفَ الحُضورَ بدَماثةِ حديثِهِ الشّيّقِ السّلِسِ، وروحِ دعابتِهِ الطريفةِ بعرضِ لمَحاتٍ عن سيرتِهِ الطفوليّةِ ومَسيرتِهِ الأدبيّةِ، وأدهشَ الحُضورَ بزخَمِ ذاكرتِهِ وحِفظِهِ للشّعرِ وللتّفاصيلِ الدقيقةِ، وقد تخلّلَ الحوارَ مجموعةٌ مِن قراءاتٍ شِعريّةٍ بصوتِ الزجّالِ، وكذلكَ وصلاتٍ مِن شِعرِهِ المُغَنّى، أدّاها كُلٌّ مِنْ أبنائِهِ الفنّانينَ تميم وإياد وبشير في وصْلَتَيْنِ فنّيّتيْنِ، وأغنية أمّ كلثوم  "كم بعَثنا معَ النّسيمِ سلامًا"، كما قدّمَ  الفنّانُ عازفُ البُزقِ جورج سمعان أغنيةَ "لاهيت ستِّي"، مِنْ تَلحينِهِ وغِنائِهِ، ومِن كلماتِ الشّاعرِ سعود الأسدي، بمُرافقةِ إيقاعِ الفنّانِ سالم درويش، وفي ختامِ الحفل التكريميّ، قدّم د. عزمي حكيم ونائلة عزَّام لِبِّس دِرعَ النادي الأرثوذكسيّ للشّاعرِ الأسدي، وكذلك  قدّمَ الأستاذُ جمال أبو مُخّ من باقة الغربية دِرع المثلّث للأسدي.
وجاء في كلمة نائلة عزّام لبّس: باسْمِ مجلسِ الطائفةِ العربيّةِ الأرثوذكسيّة، ودارة الثقافة والفنون، ونادي العائلة أُرَحِّبُ بكُم، فهَدفُ المجلسِ الأوّليّ والأهَمّ بناءُ الإنسان، مقولةٌ كرّرناها مُنذ قرّرنا إدارةَ شؤونِ الطائفةِ والبلدِ وكُلِّ أبناءِ شعبنا، وقد توالتْ بَرامجُنا منذ عام 2007 بخُططٍ مَدروسةٍ وتخطيطٍ سليم، بدْءًا بالطفولةِ وحضانةٍ على أعلى مستوى، ثمّ الفتيان والشباب، وناديهم الأرثوذكسيّ الّذي يَعُجُّ بالفعاليّاتِ والدّوراتِ الرياضيّة، إلى الشّيوخِ ونادي المُسنّينَ والمُسنّات، ثمّ تنمية المَواهبِ في دارة الثقافةِ والفنون، مِن عزْفٍ على مُختلفِ الآلاتِ الموسيقيّة، ودوراتٍ في الفنّ التّشكيليّ، وكذلك الكشّاف، ونادي العائلة الّذي نحن في ضِيافتِهِ هذه الأمسية، وقد حمَلنا على عاتقِنا مُهمّةَ تكريم مُبدِعينا ومُبدِعاتِنا، وتَسليطِ الضّوءِ على عَطائِهم وتَمَيُّزِهِم، كي يكونوا عبرةً للأجيال الشابّةِ. وفي هذهِ اللّيلةِ نَستضيفُ أحدَ أبرزِ مُبدِعينا كروانَ الدّيْر، "الّذي عاشَ وعشّشَ في عَرينِ الأسودِ والنّاصرةِ الّتي صاهَرَها وأنشأ فيها عائلةً كريمة، إنّهُ سعود الأسدي اسمٌ لامعٌ، لا حاجةَ لنا بتعريفِهِ، فلا كلمةُ أستاذ تكفيهِ، ولا لقبُ شاعرٍ تَفيهِ حقَّهُ، ولا مُتذَوِّقُ الموسيقى تُغطّيهِ. إنّهُ خليطٌ مِنْ مجموعةِ فنونٍ، تجعلُ مِن سامعيهِ يُنصتونَ لكثافةِ الحَلاوةِ الّتي سيَعيشون بها، على مَدى السّويْعاتِ القادمةِ، فأهلًا وسهلًا بهِ وبكم جَميعًا.
وجاءَ في حِوارِ الإعلاميّ فهمي فرح، بعدَ أن دَعا الشّاعرَ سعود الأسدي للمِنصّة: الشاعرُ سعودُ الأسدي صاحبُ ديوانَيْ "أغاني مِنَ الجليل"، و"نسماتٌ وزوابعٌ"، و"عَ الوَجَع"، وشَبَقٌ وعَبَقٌ، ودَعسةُ بنتِ النّبيّ، وإشراقةُ الشّعرِ الغنائيِّ اليونانيِّ، وكتابُ الجَفرا، وأوبرا عايدة، وأوبرا لابوهيم. وُلدَ في قريةِ دير الأسد الجليليّة عام 1938، وتُؤكّدُ ذلك جدّتُهُ زليخة بقوْلِها: "إجا سعود عَ الدنيا يوم الجمعة، في الجمعة الأوّلانية مِن شهر أيلول دبّاغ الزتون. وَعى منذُ طفولتِهِ وصِباهُ الإيقاعاتِ الشّعريّةِ الفصيحةِ والعامّيّة، ونَما على حُبّ الأدب، تُسعِفُهُ في ذلكَ نفائِسُ الكُتبِ في مَكتبةِ والدِهِ الشاعرِ محمّد إبو السعود الأسدي، حتّى أنّه نسَخَ ديوانَ المُتنبّي وحَفظَهُ غيبًا وهو ابنُ سبعة عشرَ عامًا، وتَعلّمَ في ثانويّةِ كفرياسيف ينّي ينّي، ودرَسَ الأدبَ العربيَّ في جامعةِ القدس، وتعرّفَ بشغَفٍ كبيرٍ إلى مكنوناتِ الأدبِ العربيّ والفِكرِ الإسلاميّ في مكتبتِها العربيّة، وأبحاثِ المُستشْرقينَ. قدِمَ عام 1960 الناصرة ليُدَرّسَ اللغةَ العربيّةَ في مَدرستِها الثانويّة، وثانويّةِ القدّيسِ ماريوسف، وثانويّةِ عكّا ومَدارس أخرى، وأمضى بمِهنةِ التعليم 33 عاما.
اشتدَّ ميْلُهُ بعدَ عام 1967 إلى الكتابةِ بالّلهجةِ العامّيّةِ الفلسطينيّة، فتمرّدَ على الأشكالِ التقليديّةِ في الشّعرِ العامّيّ، حتّى صارتِ العامّيّةُ حَداثيّةً بفضلِ إبداعِهِ، فهو واجهةٌ كبيرةٌ مِن واجهاتِ الأدب الفلسطينيّ المُعاصِر، عالَجَ مَواضيعَ ثقافيّةً مُتعدّدةً، منها التّراثُ الفلسطينيّ، والفنّ التّشكيليّ، والموسيقى الكلاسيكيّة العربيّة والغربيّة، ولهُ فيها كتاباتٌ مُبتكَرة، وهو يُحاضِرُ في الأدبِ عامّة والشّعر خاصّة، ويُقيمُ النّدواتِ ويُشاركُ في المؤتمراتِ الثقافيّة، ولهُ قصائدُ مُترجَمةٌ لعِدّةِ لغاتٍ، كما تَرجَمَ لهُ الشاعرُ العبريُّ بيرتس دْرور بَناي פרץ דרור בנאי مجموعةً شِعريّةً بعنوان دواليب الهوى" במעגלות האהבה".
وقد جَمَعَ الأسدي ضِفتَي الشّعرِ الفصيحِ والمَحكِيّ، ومِن قصائدِهِ: ذكرى المُتنبّي، والتّيهِ الأخير، ورأيتُ الشّامَ في حُلمي، وبغدادُ على الصّليب، وغمَسْتُ خُبزي بمِلْحي، و"مأساةُ ضرْبِ رأسِ تمثالِ أبي العلاء المِعرّي"، والآنَ تحتَ الطبع ديوانُ شِعرِهِ الفصيح بعنوان "لكُمْ مِزمارُكُمْ ولي مِزماري"، على غِرار قصيدةِ جبران "لكُمْ لُبنانُكُم ولي لبناني".
وبعد أن رحّبَ الأسدي بالضيوفِ بقصيدةِ تكريمٍ مطلعُها: يا شعر حَيِّ بصَوْتي حارة الرومِ/ للرأي في دعوة منها لتكريمي/ وحارة الروم كانت حارتي/ وأنا أكّن للناس فيها كلّ تعظيمِ/ أحبّتي مِن أيّامِ الشّبابِ وكم أحييْتُ ليلي بها مِن غير تعتيمِ/ ناوَمْتُ ليلي وقد نوّمتُهُ وأنا سهرانُ والليلُ لم يَظفَرْ بتَنويمي.
ثمّ تحّدّثَ عن طفولتِهِ: بدأتُ تعليمي في مجدِ الكروم، ربّما لحُسنِ الحظّ أو سوئِهِ، لا أعلمُ، فأنْ أنزلَ إلى مجد الكروم وأتعرّفَ على بيئةٍ مُغايرة، فهذا نعمةٌ مِن نِعَم الله، وقد كنتُ أذهبُ صيفًا وشتاءً مشيًا على الأقدام، وأمُرُّ بجانبِ دعسةِ بنت النبيّ، فكانَ المُديرُ يُسجّلُ الأطفالَ للصّفِّ الاوّل مَن بَلغوا سبعَ سنين، فوَضعَ المُديرُ مَبلغًا مِنَ النقودِ على الطاولة، وطلبَ منّي أنْ أعُدَّها وأحْسِبَها، فقالَ لهُ والدي: واللهِ بزَمانِهِ ما رأى قرشًا، فكيفَ سيَعرفُ القرشَ والمِلَّ والتعريفةَ ويَحسبُها؟ وكانَ القِرشُ يَسوى زلَمة، وحين سألني عن الّلغةِ قلتُ شِعرًا في الحثّ على اقتناءِ الخيْل: أحِبُّوا الخيلَ واصْطَبروا عليْها/ فإنّ العِزّ فيها والجَمالا/ إذا ما الخيلُ ضيّعَها أناسٌ/ ربَطناها فأشْرَكَتِ العيالا/ نُقاسِمُها المَعيشةَ كُلَّ يومٍ/ ونَكسوها البَراقعَ والجَلالا.
حينها سجّلَني المُديرُ، وتعلّمتُ في مَجدِ الكروم سنتيْن، حتّى كانت أحداثُ النكبة، فانتقلتُ إلى مدرسةِ قريةِ البعنة، وكانَ مُديرُها الأستاذ سهيل خوري عاشقُ اللغةِ العربيّةِ والشّعر، وهذا الشّخصُ أثّرَ بمَسيرتي جدًّا، مِن خِلالِ تَحفيظِنا عشراتِ القصائدِ وآلافِ الأبياتِ الشّعريّة، وكانتِ الرامة بلدًا ثقافيًّا عريقًا في زمنِ الانتدابِ، وبها مُعلّمون كُثُر، وحينَ لمَسَ المُديرُ عيسى الصّالح أنّي ألهَجُ بالشّعر،  طلبَ منّي أن أُعيدَ القصيدة: وطنبورٍ مليحِ الشكلِ يَحكي/ بنغمتِهِ الفصيحةِ عندليبا/ رَوى لمّا ذوى نغمًا فِصاحًا/ حَواها في تقلُّبِهِ قضيبا/ كذا مَنْ عاشَرَ العُلماءَ طفلًا/ يكونُ إذا نشأ شيخًا أديبا/
وطلبَ منّي المُديرُ أن أُعَلّمَ طفلًا آخَرَ ولمْ أُفلِحْ، بلْ صِرتُ أقولُ مثلَهُ: "وطنبورٍ مليحِ الشكح يكحي"، وأخذَ عصا طويلة وضربَني 4-5 جردات، لِيُعَلّمَني كيفَ أُعلّمُ بشكلٍ مليح.
 حدّثنا عن والدِهِ الزجّال محمّد أبو السعود الأسدي، وعن قصّةِ قصيدتِهِ في المُعتقَلِ عام 1948 في سجنِ عتليت، مِن قِبلِ جَيش الهاجاناه الإسرائيليّ مع مئاتِ الأسرى العرب، فأرسَلَ لنا معَ الصليبِ الأحمر رسالةً لا زلتُ أحتفظُ بها فيها قصيدة قالَ فيها: حَنّ الفؤادُ لرؤيةِ الأولادِ/ فبكيتُ أهلي والحِمَى وبلادي/ وطفِقتُ في حُكمِ الأسيرِ مُغرِّدًا/ بالهَجـر والتقييـدِ والإبعـادِ/ قامتْ بَناتُ الشّعرِ في أحزانِنا/ ودَقّقنَ مِن فوْقِ الصّدورِ أيادي/ لولا مُنادٍ في المَنامِ يَقولُ لي: اِصْبِرْ على حُكمِ القَضا يا حادي/ لظننتُ أنّي بينَهُنَّ بمَأتمٍ/ ولَخِلتُ أنّ الموتَ ضَمِنَ فؤادي/ فإليكَ مِنّي يا "سعودُ" تحيّتي/ وإلى "الأمينِ" بُغْيتي ومُرادي/ عِّرجْ على "المَأمونِ" مَرجعَ مَجْدِنا/ أمَلي بهِ فهوَ المَسيحُ الفادي/ و"لفيصلٍ" منّي تحيّةُ والدٍ/ وهو الصّغيرُ وفي السّرير يُدادي/ أُوصِيكُمُ في والدٍ مُتألّمٍ/ سَئِمَ الحياةَ على البَنينِ يُنادي
كنتُ ابنَ عشرَ سنوات حينها، ولمّا عادَ أبي مِنَ الأسْرِ، واجتمَعَ الناس في بيتِنا للتهنئةِ بالسلامة، وأثناءَ السّهرةِ سألَني عن رسائلِه إلينا، وكانَ يأتي بها الصليبُ الأحمرُ، أينَ الرسائل يا سعود؟ وأينَ القصيدة التي بعثتها إليكم؟ قلت: هيَ في خزانةِ أمّي. قالَ هاتِها! قلت: لا حاجةَ إلى إحضارِها، فأنا أحفظُها غيبًا. فقال: أسمِعْنا. ولما أسمعتُهُم قالَ: لماذا لم تبعَثْ إليّ بقصيدةٍ جوابيّة؟ لم أحَرْ جوابًا يومَها، فأنا ابنُ عشر ولا عِلمَ لي بكتابةِ شِعرٍ أو نثرٍ، وشَعرتُ أنّ والدي قد حشَرَني في الزاوية، ولم أجِدْ بُدًّا بعدَ 28 سنة مِن كتابةِ الشّعر، فأصدرتُ أوّل كتاب لي "أغاني من الجليل"، إذ ذهبت عند عبد المزاوب أبو خليل الله يرحمه، فكتب قصائدي بخطّه وبالرصاص خلال سبعة أشهر، فأمسكَ أبي الكتاب وقلّبه وقال: ما هذا؟ جواب لقصيدة 1948: مرة شفت بعد المسا واحد فقير/ في الصيف فارِش عَ سطحْ بيتُه حَصير/ قاعِد تا يتعشّى أمامُه صحن زيت/ مع زعتر ومسراب من خبز الشعير/ صار يتمنى على ربّه يا ويت ينزِلُّه وجبِة مْنِ السّما ةماهو كثير/ وبين الألم والأمل شْوية رأيت/ حفنة نجوم نزلت بصحنه الزغير/ بالصحن نزلت تسبح ومنها بنيت فكرة جميلة/ بيوعى عليها الضمير/ خبز الغني لو غمّسُه بأشهى طعام بيتغمس بنجمِ السما خبز الفقير 
تحدّثَ سعود الأسدي عن البيئةِ الّتي عاشَ بها وانتقل إليها فقال: مِن دير الأسد والشّاغور الجليليّ أتيتُ، مِن بيئةٍ ريفيّةٍ حيثُ تحتضنُ ديرَ الأسد المُغُرُ، وقالَ فيها والدي: نِحنا بدير الأسد شيّدنا دار/ عمدانها مِنَ الزجَلِ والاشعار/ صارتْ بلدنا للشّعرِ كعبة/ تقصد إليها سائرُ الزوّار/ صارتْ بلدنا للشّعر كعبة/ وعقولنا بنظْمِ الشّعرِ خِصبة/ نحنا جمَعنا الفنّ في علبة/ مثل المِسك في علبة العطّار.
هذه البلدُ الّتي بها الطبيعةُ والشّعرُ وكرومُ الزيتون، وفيها الاسمُ دَيْرٌ، هذا الاسْمُ الجميلُ ديْرُ الأسد جارةُ يَركا والخلوة المعروفيّة، وسحبات الأوف والعتابا والميجانا وصفّ السّحجة، وجارتها البعنة الغالية الحبيبة، ديْرُ الأسد ديْرُ الشّعر، هواؤُها يَتنفّسُ الشّمال الجبليّ النّديّ، والغرب البحريّ الأرجوانيّ، وطقسُها ممتزجٌ بتواشيحِ الصّوفيّة، وفيها مقام بقبْتيْنِ وأعلام، ومِن هناكَ في البعنة كانَ يَدقُّ جرسَ كنيستِها الشرقيّة الخوري خليل الله يرحمُهُ، وأسمَعُ الترانيمَ البيزنطيّةَ والآذان مِن غير مكرفون، ونُشنّفُ آذانَنا بهِ وفي أوقاتِهِ،و بعدَ أن أنهيتُ دراستي الثانويّةَ في كفرياسيف، التحقتُ بالجامعةِ العبريّةِ في القدس، وتخرّجتُ وجئتُ إلى الناصرة بتاريخ  1-9-1960، فقالوا: جاءَ شاعرٌ مُعلّمٌ يَحفظ المتنبي عن ظهر قلب"، فقالَ لي والدي: اِذهب في يومِكَ الأوّل مِن قدومِكَ للنّاصرة الى صديقي الأستاذ عمر القاسم، وهو يُدبّرُ لكَ أوضة (غرفة)، وعن البَرندة (الشرفة) نادى على سليم الشّيخ، وطلبَ منهُ أن يُدبّرَني في غرفتِهِ، وكانَ لقاءٌ جميلٌ في الحارة الشرقيّة، وسهرٌ معَ الشباب، وحديثٌ عن قصصٍ وذكريات.
حدثنا عن النشأةِ الأولى في دير الأسد وعن فلّاحينَ يُغنّونَ على البيادرِ أهازيجَ هزليّةً للتسلية،  وكلّ واحدٍ يُضيفُ مِن إبداعِهِ مِن حزنِهِ على الدجاجة، وحزن الدجاجة علينا، ولا أكلنا دجاجة ولا قليناها، فقالوا كما يلي: الجاجة راحتْ دار أبوها زايرة/ طلعت على حيطانهم دارْجِة/ وقفت على مِنقارها غِميانة/ يا دمْها طيّحْ سبع وديان/ ويا لحمْها ما أكْلتُه العُربان/ يا ريشها فْراش للنّعسان/ مُصرانها حْبال للجَمال/ يا شحِمْها في لحمها قلوها/ عزموا عليها الأهل والخلّان/ أحلف لكم يا جماعة ما حكيت الزور/ ميتين ليلة طبَخنا شقة العصفور/ وعزمنا عليها حلب والشام وإسطنبول/ وكان ما بتصدقوا هي اللحم في قاعات الدور
وعن أيّام الحصّادين والدرّاسين: كانتْ أيّام جوعِها أكثر مِن أيّام شبَعِها، وعَطشِها أكثر مِن رَيّها، والفلّاحُ كانَ يَحصدُ ويُرجدُ ويَشيلُ القشّ عن الجمل، ويَشتغلُ ويُخفّفُ عن حالِهِ بأغاني: أنا خيّال المنجل والمنجل خيّال الزرع/ منجلي يابو الخراخش منجلي في الزرع طافش/ منجلي يا منجلاه أخذته للصايغ جلاه/ منجلي يابو ريشة يا معلق بالعريشة/ منجلي منجل عمّي يْزَوِّل عن قلبي هَمّي/ منجلي منجل أختي ومْعلّق بالزنزلختة/ يا منجلي يا أبو رزة ويش جابك من بلاد غزة/ يا ريت الحصيدة كلّ عام تعود/ ونحصد الحصايد وندرس عَ القاعود/ أحصد بدري قبل ما تيجي الشوبة/ يا حصاد عويد عويد نقّي القمح من السويد
كلُّهُ سجعٌ جميلٌ وموزون، كُنّا نُذوّتُهُ في وجدانِنا مِن وزن وقول، ولمّا كنّا نخفّفُ عن حالِنا عناءَ الشمس المُحرِقة حينَ ندرُسُ على لوحِ الدّراس، والله أنا أقول وأعني، ما كان لدى ثلاثةٍ طقيّة أو قبّعة يَعتمرونها على رؤوسِهم، وكنّا طول النهار نَفنّ على البيدر بالشمس، ولمّا ننعس ننامُ على لوح الدراس، والفدّان يَدورُ بهِ وهو نائم، وكنّا نُخفّفُ عن حالِنا بأناشيد ونغنّي شِعرًا، وكان الآخرُ على البيدرِ البعيدِ القريب يُردّدُهُ، وكنّا نُطلِقُ أصواتَنا، وهذا التمرينُ كم كانَ مُفيدًا في تفتيحِ الحنجرةِ بصوتٍ قويٍّ مِن بعيدٍ، وكنّا نقول: يا بو ديِّح يا بو داح وين خبّيت الرّياح (الحبل الذي نشدّ به الدّابة)، بين عَلْما وبينْ سَلْما (في الشمال)/ وبين عروق السيسبان (شجر)، سيسبان مع سيسبان/ سيسبان خيْل المْوالي/ وانقطع حزم الحصان/ مِن وراه ومِن قدّام/ سرديّة مع سرديّة/ (عرب في الحولة تشرّدوا وسمّوهم الطربشيّة، كانوا يعملوا حصر مِن الحلفى، لأنّ مياهَ الحولة كانت تُنبتُ غاباتٍ مِن الحلفى، وقشّ الحلفى للحُصُرِ الطربشيّة)، سرديّة بنت السلطان/ حاجبْها يفرُطُ الرمّان/ (وهذه صورة شعريّة جَميلة وفطرة جميلة، أي حَبّ العَرَق مثل حَبّ الرمّان)، يُفرُط مِدِّ ورِبْعيّة/ (ربعيّة= صاعيْن، والربعية= نصف صاع بمِكيالهم)، زغِرْتِيلُه يا بْنَيِّة/ تكونْ زِغريتِة قويّة/
ونَسمعُ البنتَ مِن البيْدرِ البعيدِ تُزغردُ، وهذا الجوّ الجميلُ مِن الشبابِ والصبايا على البيادرِ لن يَتكرّرَ، فذاكَ عهدٌ قدِ انتهى ووَلّى، وكانتْ هناكَ أهزوجةٌ يَقولُها الختيارُ لأحفادِهِ، ويُتشْتِش للأولاد الكبار فيقول: لْدِيِّ يا وْلادي لْدِيِّ (تعالوا لدَيّ)/ عايِبْها شيخ الرديّة/ (عيب على شيخ أن يَصنعَ الرديّة، وهو درسٌ في الأخلاق)، كنت سارِح ومْرَوِّح/ ومْدَرِّجْ بأوّلِ شْلِيِّة/ (شلعة وشلية الغنم)، طبّْ عليِّ الحراميّة/ كتّفوني بيدَيِّ/ ورَمُوني عَ بيت النمِل/ والنمِلْ يقرِّصْ برِجْلَيِّ
وفي حكايتِهِ عن الجغرافيا الفلسطينيّةِ وتَعامُلِ الأطفالِ معَها كنّا نقول: يا جاجةً طِلعتْ عَ راس السّطح تتهوّى/ يا وِقعِتْ عَ راسْ مِنقادِها غِميانة/ (أرادَوا أن يَذبحوها، وحين يَعلمُ أهلُ القرية بفلان ذبح دجاجة، فللدّجاجة حكاية)، سكّينة النصراويّة ما قطعتْ رْقيبِتْها/ وسكّينة الترشيحاوية ما قطعتْ رْقيبتها/ ونُقرّبُ إلى البعنة، سخنين، مجد الكروم، عرّابة وإلخ، ونعمل جغرافية للقرى الفلسطينيّة مِن المطلّة لحدّ رَفح، لأنّ النّهار طويل ونريدُ أن نتسلّى، وأنا كنت شاطر في الجغرافية، لأنّ أبي كان يذهب للأعراس، ويعودُ وبجعبتِهِ أسماءٌ عديدة وغريبة لا نعرفها، وكنّا ندرُس هذه الجغرافيا على البيادر، وذهب دِفْؤُها ولمْ يَعُدْ.
أحببتُ الرّاديو جدّا، وإذا فتحَ الجيران الراديو واستمعنا إلى أغاني نجاح سلام، وأغنية السيّدة في يدِها ساعة، كان ذلك يُشعِلُ خيالَنا، فصِرتُ أُلِحُّ على أبي ليَشتري لنا راديو، ورفضَ والدي، ويومَ كان يَرى الشبّابة معي حين كنت أذهبُ إلى المرعى مع الشّلْية، لمْ يَكُنْ يَدري أنّي بحاجةِ شبّابة لتُسلّيني في الوعر.
وحينَ أنهيتُ المرحلةَ الابتدائيّة، انتقلتُ إلى مدرسة ينّي ينّي الثانويّة في كفرياسيف، وسكنتُ عندَ شفيق أبو حزّان وكان عندَهُم راديو، وفي أيّام العُطل كنتُ أغتنمُ الفرصة، وأذهبُ إلى رفيق ابْنِ شفيق عازف العود، وكان يَفتحُ الراديو ويعزفُ على عودِهِ وكنتُ أنتعشُ، لأنّ جوعي الفنّيّ كانَ يَركبُني، وكنتُ أسَجّلُ كلماتِ الأغاني وأكتبُها، وكانتْ أوّلُ أغنيةٍ كتبتُها أغنيةَ كوكبِ الشرق من ألحان أبو العلا محمد: كمْ بعثنا مع النسيمِ سلاما/ للحبيبِ  الجميلِ  حيثُ  أقاما/ وسمعنا الطيورَ في الروضِ تشدو/ فنقلنا عن الطيورِ كلاما/ نحن قومٌ مُخلَّدونَ وإنْ كنّا/ خُلِقنا لكي نموتَ غراما/ وإذا نامت العيون فهذي/ يا حبيبي قلوبُنا لن تناما/ خافقاتٌ تدُقُّ مِن ألمِ الوجْدِ نشيدًا فتُحسُّ الأنغاما/ قد قنِعنا بحُبّهِ ورضينا لو بقيَ ساعة ويهجر عاما/ ولكَمْ زارَ في الكرى فودَدْنا لو قضينا هذهِ الحياة نياما/ فرَقّتْ قبلنا العيونُ اللّواتي نمن مِن صحّةِ الجَمال سقاما/ فكأنّ القلوبَ كانت لواءً وكأنّ العيونَ كانتْ سِهام.ا
وعن ذكرياتِهَ في الناصرة قالَ: في أحدِ الأيام كنتُ بغرفتي اكتب وأقرأ، وأدخّن لأني مولَعٌ بالتدخين، وأسهرُ كثيرًا لأنّ النّومَ مَخسَرٌ للإنسان، وإذا بالجَمل مَفكوكٌ يَمدُّ رأسَهُ مِن بينِ مَشبكِ الشّباك، فخِفتُ أن يَنتِشَني، فنَدهتُ على الجيران كي يأخذوا جَمَلهم، فقالوا: لقد جاءَ ليُدخِّنَ عندكَ، ووضعتُ السيجارة أمامَهُ، وظلّ الجَملُ يَتنشّقُ منها، بَعدَها ذهبَ لينامَ حتّى الصباح.
وتحدّثَ عن المُسجّلِ الصوتيّ، ومرحلةٍ مُتقدّمةٍ في بداية 1960، حينَ وصَلَ إلى استقلالٍ اقتصاديّ ومعاشٍ شهريٍّ يَصلُ إلى 250 ليرة تنطح ليرة، وقرّرَ أنْ يَشتري جهازَ تيب ريكوردر بألف ليرة، وصار يُسجّلُ لأمّ كلثوم وأمين حسنين، ويُسجّل برنامجَ "من أرشيف الأغاني" من إذاعة مصر، و"من الرفوفِ العالية" من إذاعة بغداد، فتعرّف على الجالغي بغداد، والموّال العراقيّ، والعتابا الجبوريّة والأبودية بصوت محمّد القبّانجي، ورشيد القندرجي، وعفيفة إسكندر، وسليمة مراد، وناظم الغزالي. وسجّلَ القديمَ مِن برنامج "بين القديم والحديث" من إذاعة القدس، وسجّل حوالي عشرين شريطًا، وكلّ شريط يظلّ يرقع يوميًّا 16 ساعة. وحينَ جاءَ الوالد سألني: ما هذا؟ وكم ثمنه؟ يا ويْلَكَ مِنَ الله، عند دار بكري جيراننا أربع دونمات أرض تساوي 600 ليرة، فمَن أحسن؟  وأقنعتُهُ أن يُغنّي شِعرًا بنوع المْعَنّى: لا تفتكر أنّ الدّهر كلّه حنان/ لا تفتكر أنّ الدهر كلّه آمان/ ألفين مِدفعجي عَ سور الدردنيل/ في حين مال الدهر صاحوا آمان/ لا تفتكر أنّ الدهر بيرحَمْ عليل/ لا تفتكر أنّ الدهر بيشفي غليل/ ولا تفتكر أنّ الدهر ميلُه قليل/ ويا ابني تاع اتْسمّع الأشعار/ وخلّي الدراسة عَزمَك وحِمّك/ أعطِ الفقير لِترين مِن دَمّك/ ولمّا تقوم بواجبك/ تصير كعبة تؤُمّها الأحرار.
فسألته: وكيف المُسجّل؟ قال: بْرِنْجي وكلّ فْرَنجي بْرِنْجي، بالتّركي. وبعد هذا المسجّل كان خمسين ستين مسجّل، وخمسين ستين أسطوانة، وكنتُ أدفعُ خمسَ ليرات بالشهر، لِتسجيل أسطوانات قبلَ شراء المُسجّل.
وتحدّث عن شغفِهِ بالموسيقى الشرقيّة والغربيّة: عام 1964 سكنتُ في دار قسطندي مْعمّر في حارة الروم، وكان يُعنى بالموسيقى الكلاسيكية، فنادى عليّ أولادُهُ إلياس وسمير في ليلة رأس السنة الميلاديّة لأسهرَ معهم، وحين سمعتُ أسطوانة الموسيقى الغربية، أحسستُ بموسيقى إلهيّة وطلبتُ أن أسَجّلها، ثم سجّلت أوبّرات وسمفونيّات، وكونشيرتات وسونيتات، وفوجا ومدريجال، فكتبت عن أوبرا عايدة هذه القصة المدهشة التي وجدوها في الآثار الفرعونيّة، مكتوبة بالخط الهيروغليفي، والأجانب كتبوها قصّة أوبرا إيطاليّة مبنيّة تركيبيًّا بأسلوب أوبرا غنائية فرنسيّة، وأنا ترجمتُها شعرًا مسرحيًّا باللغة العربيّة، عن فتاة حبشيّة أُسِرَت عند فرعون مصر، وكبرتْ في القصر، وكانت معركة بين الحبشة ومصر، فأحبّ القائدُ الحبشيّ عايدة الأسيرة الجميلة، فصارت تُنافسها ابنة الملك الحبشيّ، وتتعقّد القصّة وطنيًّا وعاطفيًّا بتصعيدٍ دراميٍّ رهيب، وفي النهاية يُلفّقون على القائد أنّه أفشى أسرار الدولة لعايدة، فحَكموا عليه بالدفن حيّا، فسبقته عايدة إلى القبر، وحينَ سمعَ أنينَها، خرجَ صوتٌ ثنائيٌّ لكليْهما يقول: وداعًا لدُنيا قد حَلمْنا بحُبِّها/ فلمْ يشفنا حُبٌّ ببعدٍ ولا قربِ/ وداعًا لأزهار بها العطرُ والندى/ تُقبِّلني بالحِلمِ من فمِكَ الرّطبِ/ وداعًا لأنغامٍ عزفنا جَمالها/ بأيدي أمانينا على وتر القلبِ/ وداعًا لأحلامٍ نراها تبدّدت/ فكانتْ كعصف الريحِ تلعبُ بالسُّحُبِ/ وداعًا لأرضٍ قد رتَعْنا برَحْبِها/ فصرنا بقبرٍ ضيّقٍ ليس بالرّحبِ/ سعيْنا إلى الخُلدِ الذي ضمّنا معًا/ ولولاهُ لَما كنّا لنسعدَ بالحبِّ. 
ثمّ انتقلت للسّكن في حارة النبعة (المسمّاة حارة الموارنة قرب كنيسة مار مطانس)، في دار حبيب الخوري في بيت أنيق قديم، سقفُهُ من خشب منقوش من فنّانين أتَوْا من لبنان في بداية القرن الماضي، وتركوا بصماتهم على سقوف كثير من البيوت القديمة في الناصرة، وكان في بيت حبيب الخوري مكتبة صغيرة فيها كتب قيّمة عن ملوك العرب لأمين الريحاني، وأسطوانات أغاني قديمة عربيّة كلاسيكيّ، وإلى جانب الأسطوانات جهاز فونوغراف (صندوق غناني كما كنّا نُسمّيه) قديم مهجور وبوق نحاسي، ولِحُسن حظّي كان الفونوغراف يشتغل وعلبته مليئة بالإبر، وكنت كلّما انبرت إبرة استبدلتها بغيرها، حتى أتيت سمعتُ وحفظتُ كل الأسطوانات.
وتحدّثَ عنْ تَعَرُّفِهِ على زوجَتِهِ مها فقالَ: أمّ تميم بنتُ أصل، وأبوها مِن الطيرة وإخوتها أفاضل، ويَخلِفُ الله عليها لأنّها تحمّلتْني كثيرًا، لأنّي أضعُ الأذنية في أذني لسماع الموسيقى حتّى الصباح، وتُلملمُ أوراقي المبعثرة كلّ يوم، وتعطيني رأيَها بالجُمل الشّعريَة وبالقصائد، فهي ناقدتي الأولى وليست هَيّنة، ففي إحدى المرّات جاءَ أبي للمدرسة حيثُ أُعَلّم، وطلبَ مِنَ البناتِ في الساحةِ أن يَندَهْنَني، فرأى يافعةً ممشوقةً تركضُ بخفّة لتُناديني، ومثلما قالَ أحمد شوقي: تلفتت ظبية الوادي فقلت لها/ يا شبه ليلي فدتك الأعين السود/ أخذت سحر الهوى عن سحر مقلتها/ لا اللحظ فاتك من ليلي و لا الجيد/ ليلي مناد دعا ليلي فخفت له/ ولهان في خلوات الأرض شريد. هكذا أعجبَتْ مها والدي، وراحتِ الحكايةُ تسعَ سنين، والله بَعث لي أستاذ وقالَ لي: ابنة جيرانك! وكنت عند دار فراس الخوري، فقالت لي أُمّ حبيب: دايِر تْدوِّر عَ الرّوبة والرّوبة حَدّنا؟ ولمّا صارتِ القسمة، أحضرنا جاهة بخمس تاكسيات، وحين قالوا مبروكة، خرجت العروس لتقدّم القهوة فقال والدي: عليّ الحَرام هذه التي ركضت قبل تسع سنين لتناديك. أتاري كان عند الوالد إلهامٌ ربّانيّ، وأنا لا أُخَيِّبُ إلهامَ أبي لا بالشعر، ولا بالمتنبّي، ولا بالمعرّي، ولا بالناصرة حيث طلبَ أن أُرَبّي أولادي.
تحدّث عن مهرجان المتنبي وقصيدة "ذكرى المتنبي" عام 1965: أنا أقول أن لا مُعلّم بدون المتنبّي والمعرّي، فكتبتُ قصيدةً عن المتنبّي، والآخرونَ كتبوا عن حياتِهِ وأبوابِ شِعرِهِ فقلت: يشيد بذكراك الحسام المشطّبُ ويُثني على ذاك اليَراعُ المُذهّبُ/ ومعرفة البيداء لما بلوتَ/ وخيل وليل حالك الجنح غيهبُ/ ودهر يغني في علاك قصائدا/ تزانُ بدُرٍّ من لغاك وتُقشبُ/ اتيت الى الدنيا فكبر اهلها/ وقالوا نبي قوله لا يُكذّبُ/ وفضت بشعر ليس ينضبُ نبعُهُ/ اذا ما ينابيع البواطن تنضبُ/ يقولون للسيف اليماني طيِّبٌ/ وانت من السيف اليماني اطيبُ/ ابا الطيب ان جاب الزمان على هدى/ وها هو يعطيك الذي كنت تطلبُ/ اباحك ملكا لا يُحدُّ/ ممنّعا تُحكَّمُ في ارجائه وتُقَرَّبُ/ فلا الذِّكْرُ يُغني عن وسيعِ إمارةٍ طلبتَ وكمُلْكٍ يزول ويذهبُ/   وما أنا إلاّ شاعرٌ وابنُ شاعرٍ/ إلى متنبي الشعر بالشعر يُنسبُ/
وقع بيدي كتاب الزير سالم، وفيه وصيّة كليب لأخيه الزير سالم المهلهل أبو ليلى، كتبها بدمِهِ على الصخرة البلاطة يقول فيها: يقول كليب اسْمَعْ يا مهلهل/ مذلّ الخيل قهّار الأسود/ على ما حلّ مِن جساس فيا طعني طعنة منها بعود/ أيا سالم توَصّى باليتامى صغار بعدهم وسط المهود/ واسْمَع ما أقلك يامهلهل وصايا عشر افْهَم المقصود/ فأوّل شرط أخوي لا تصالح ولو أعطوك زينات النهود/ وثاني شرط أخوي لا تصالح  ولو أعطوك مالا مع عقود/ وثالث شرط أخوي لا تصالح  ولو أعطوك نوقا مع كاعود/ ورابع شرط أخوي لا تصالح  واحفظ زمامي مع عهود/ وخامس شرط أخوي لا تصالح  وقد زادت نيراني وقود/ وسادس شرط أخوي لا تصالح فإن صالحت لست أخي أكيد/ وسابع شرط أخوي لا تصالح واسْفِك دمَهم في وسط بيد/ وثامن شرط أخوي لا تصالح واحْصد جمعهم مثل الحصيد/ وتاسع شرط أخوي لا تصالح فإني اليوم في ألم شديد/ وعاشر شرط أخوي لا تصالح  وإلّا قد شكوتك للمجيـد.
وقد خرج عبدالناصر بلاءات المهلهل المشهورة لا تصالح، وشعرت أنّ هذا الشعر شفاءٌ للنفوس، وكنتُ أسمعُ بالراديو بولَعٍ وشغفٍ كبيرٍ الزجلَ اللّبنانيّ والزغلول وموسى زغيب والشحرور وزين شعيب وطليع حمدان وغيرهم، فكتبت أوّلَ قصيدة ونشرتها في الاتّحاد: عَ طريق العيْن ياما احلى المَشي/ يوم اللِّ غمزتيني وقلتِ بترمشي/ وفهمت يلا ع الوعر نطلع سوا/ ونهوش الزعتر وقلبي تهوشي/ وفهمت يلا ع الوعر نطلع سوا/ وِهْناك كُنّا أنا وإنتِ لا سِوا/ ولما نْعود وقبل نوصَل عمْسوا بيتكُم يقوم يشبقني بالمشي/ وكنتِ بروصِ الحِسِن شسنّ ببرعمِ/ وبالعطر شهقت كل زهرة مفعمِ/ نسرح ونمرح في براءة منعمِ/ ونلعب سوا يا قريمشة ويا نميمشة/ وناكل خبزة مقحمشة/ وبتعضّي بِسْنانِكْ عَ شِفّة مْخَمّشة/ وخدِّكْ مْورَّد متل خدّ المشمشة/ وأكمش النجمات من السما وانت تكمشي/ وكله على ذِكر الصبا تتقرمشي/
وأنشد قصيدة "جيبتين لوز": التي تحفل بالصور والشعر الريفي الفلسطيني: لاهيْت سِتِّي/ وْفُتِتْ عالوزْاتْها/ وْمن عُبّ لوزِه/ مْشَقْت جيبِةْ لوزْ/ وِلْحِقْت سَمْرا / سارْحَه بْعَنْزاتْها/ وْلاعَبْتها الكَمّوك/ فَرْد وْجوزْ/ خَوْثَتْني (جَنَّنَتْني) خِفِّةْ دَمّها وْلَفْتاتْها/ وِخْسِرْت مَعْها وْكان إلها الفوزْ/ أيْ قَشْقَلَتْني (خَسَّرتني)، شاطْرِه بْلُعْباتْها/ وْمن بَعِدْها ظَلّيت رايحْ دوزْ/ دُغْري لَسِتّي وْفُتِتْ عالوزاتْها/ وِمْشَقْت أُخرى مَرَّه جيبِةْ لوزْ !!
لعبة "الكَمّوك" من ألعاب التسلية يلعبها أطفال فلسطين، فيُطبق أحدهم يديه على بضع حبّات من البنانير، أو بزر المشمش، أو اللوز، أو الكرز، أو الزعرور، ويهزّ الحبّات بين يديه، ثمّ يفصل يديه، ويمدّهما ويقول لزميله:  بالجوز وِلاّ بالفرد؟ فإن حِزر ظفِر، وإن أخطأ خِسِر !!
تحدّثَ عن إصابتِهِ بانفجارٍ دماغيٍّ قبلَ عاميْنِ: وكما قال أبو القاسم الشابي: سَأعيشُ رَغْمَ الدَّاءِ والأَعداءِ كالنَّسْر فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ/ أرْنُو إلى الشَّمْسِ المُضِيئةِ هازِئاً بالسُّحْبِ والأَمطارِ والأَنواءِ/ لا أرْمقُ الظِّلَّ الكئيبَ ولا أرَى مَا في قَرارِ الهُوَّةِ السَّوداءِ/ وأَسيرُ في دُنيا المَشَاعرِ حالِماً غَرِداً وتلكَ سَعادةُ الشعَراءِ/
فقال الأسدي: الانسان معجزة، فحين كان عمري سنتين، أصابني التيفوئيد الخانق، والحكيم حمزة جاء من بلاد الشوف، وبنى مستشفى في حيفا والذي صار بقدرة قادر اسمه "رمبام"، ولم تكن ادوية للمرض فتركوني على طبيعتي في غرفة عزرائيل بالمستشفى، وابي كان مشغولا بالحركة الوطنية مع احمد حلمي باشا في القدس، وامي الله يرحمها كانت كل يوم تأتي إليّ مشيا من دير الأسد الى شارع السلطاني عكا صفد، لتنزل بالباص الى حيفا وتنزل عند جسر الشيخ، وتقطع مسافة بعيدة الى مستشفى حمزة، ولك يكن كيوسكات ومطاعم، فرأت على محطة الباص نساء يأكلن فلافل، فقالت: عزا عزا- هالخايبات ما بيستحوش ع دمهن بياكلوا قدام الناس؟ وكانت امي تنط فوق الشريط قبل ان ينتهي موعد الزيارة وتمسك بيدي الصغيرة، وتدعولي بالشفاء، وكان ابي يعود ويعاتب امي لايش مغلبة حالك ماهو بغرفة عزرائيل وبكرة بتلفوه بشريطة وبتجيبوه ونؤاويه، وصارت حرارتي 44 مثل ما قال د. حمزة وطبت وشفيت، ورأيت عزرائيل ينطنط فقلت له حل عني ودوّر لك على واحد تاني، فأجابتي: لتعرف؟ ولا عدت أسأل عنك. وحين خرجت امي بي من المستشفى ناداها د. حمزة وقال: بدي اطمنك سعود ماعاد يموت. وانا نشالله بقدر أكذب د. حمزة؟
ما في حدا لا يخاف الموت لأن الحياة ما في أغلى منها: خوفي أنا من الموت مش عادي/ بخاف منه خوف بزيادة/ وخوفي مش أنانية وما هو على أهلي وعلى وْلادي/ وماهو على تحقيق أمنية/ كل الأماني إلي منقادة/ ماهو جبن من شيء او نية في الهرب من نيران وقادة/ وماهو ضعف او زود حنية/ الموت عندي نوم ع وسادة/ بخاف بكرة ان متت عينيّ ما يعودوا يحظوا بشوفة بلادي!
أنا بَحِبّ الحياة وبَعشقُ بلادي، وبَتصدّى للموت بالخلود في إبداعي، وأنا اليوم بعدَ إصابتي، أحسنُ من الأوّلِ بمليون مرة والحمدلله، وحين كنتُ في مستشفى رمبام في حيفا، حضر رئيس بلديّة الناصرة رامز جرايسي ورآني فقالَ لي: ما بِكَ؟ لماذا أنتَ مُمَدّدٌ هنا في المستشفى؟ فقلتُ لهُ: ولا شيء، أنا مُطَعَّمٌ بالمتنبّي، ومُحَصَّنٌ بأبي العلاء المعري، ووالله لو جاءَني عزرائيل، سأُفَلِّتُ عليه المتنبّي، ورَبُّه ما رَح يْخلّصُه مِن قوْلِ المتنبّي:
أُطاعِنُ خَيْلًا مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ/ وَحيدًا وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ/ وأشْجَعُ منّي كلَّ يوْمٍ سَلامَتي/ وما ثَبَتَتْ إلّا وفي نَفْسِها أمْرُ/ تَمَرّسْتُ بالآفاتِ حتى ترَكْتُهَا/ تَقولُ أماتَ المَوْتُ أم ذُعِرَ الذُّعْرُ/ وأقْدَمْتُ إقْدامَ الأتيّ كأنّ لي/ سوَى مُهجَتي أو كان لي عندها وِتْرُ/ ذَرِ النّفْسَ تأخذْ وُسْعَها قبلَ بَيْنِها/ فمُفْتَرِقٌ جارانِ دارُهُما العُمْرُ/ ولا تَحْسَبَنّ المَجْدَ زِقًّا وقَيْنَةً/ فما المَجدُ إلاّ السّيفُ والفتكةُ البِكرُ/ ما مقامي بأرضَ نخلةَ إلّا/ كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ/ مَفرشي صهوةُ الحصانِ/ ولكنّ قميصي مَسرودة مِن حديدِ/ أبدًا أقطعُ البلادَ ونجمي/ في نحوسٍ وهِمّتي في سعودِ/ ضاقَ صدري وطالَ في طلبِ الرّزقِ قيامي وقلَّ عنهُ قعودي/ عِشْ عزيزًا أو مِتْ وأنتَ كريمٌ بينَ طعْنِ القنا وخفقِ البنودِ/ لا كَما قد حَييتَ غيرَ حميد وإذا مِتَّ مُتْ غيرَ فقيد/ فاطلُبِ العِزّ في لظًى ودَعِ الذُّلّ/ ولو كان في جنّاتِ الخلود/ لا بِقوْمي شُرِّفْتُ بل شُرِّفوا بي وبنفسي فخَرْتُ لا بجُدودي/ وبهم فخرُ كُلُّ مَنْ نَطقَ الضّــادَ وعوْذُ الجاني وغوْثُ الطريد/ إن أكُنْ مُعجَبٌ فعَجَبٌ عجيبٌ لمْ يَجِدْ فوْقَ نفسِهِ مِنْ مَزيدِ/ أنا تَرِبُ النّدى ورَبُّ القوافي وسمامُ العِدا وغيظُ الحسودِ/ أنا في أُمّةٍ تَدارَكَها الله غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ
وعن الشام قال: الشامُ هي شامُنا وشامُ الدنيا، لأنّنا نحنُ الرّومُ هنا مِن سلالتِها، وعندما عملت الشّام الدولةَ العربيّة، فكلُّ المُوظّفين في دواوين الدولةِ ودواوين الجند، والضرائب والمكوس وغيرها، كانوا مِنْ مَسيحيّي الشام، والشامُ هي مدينةٌ لحضارةٍ عربيّةٍ أصيلة، كانت ولا زالت وستبقى، وكلُّ الطوائفِ المَسيحيّةِ الشرقيّةِ كانَ لها دوْرٌ هامٌّ في الحضارةِ الإسلاميّة، لأنّ الغساسنة الذين كانوا في الشام، كان أكبرَ شعراءِ العربِ منها حسّان بْنُ ثابت، كان يأتي إلى دمشقَ ويقولُ: للهِ درُّ عصابةٍ نادمْتُهُم/ يومًا بجلقٍ في الزمانِ الأوّلِ / أولاد جفنة عند قبر أبيهم/  قبر ابن مارية الكريم المفض/ يسقون من ورد البريص عليهم/ بردى يُصفق بالرحيق السسل/ يُغشون حتى ما تهر كلابهم/ لا يسألون عن السواد المقبل/ بيض الوجوه كريمة أحسابهم/ شُمُّ الأنوفِ مِنَ الطّرازِ الأوّلِ 
ومن قصائد سعود الأسدي للشام: هتفـتُ بالشامِ ما أحْلاكِ يا شامُ/ والشامُ تشهــدُ أنّ اللهَ رَسَّـامُ/ بريشةِ الحُسْنِ ربُّ الكونِ زَخْرَفَها/ كالشعـرِ زَخْرَفـَــهُ مَعْنىً وأنغـامُ/ يـا شـامُ يـا شامـة َالدّنيـا وبسمتـَها / لولاكِ ما قـلتُ: ثغرُ الدهـر ِبسّامُ/ ولـم اُعيّــدْ فأعيـادي رَحَلـْـنَ وما / تفتّحَـتْ في ريـاض ِالـرّوح ِأكمامُ/ ولا عَـزَفـْـتُ على قيثـارتي نغمـًا/عَذبـًـا لتـَـدْمُــرَ قــد نَـــدّاهُ إحـكامُ/ ولا شـَـدَوْتُ بأشعـارٍ مُعَتَّقَـةٍ /غَنّى بهـا بَعْـــــدَ عشتـاروتَ آرامُ مـن جاسمٍ ، وأبــو تمّـامٍ اتّسقـَتْ/ أشعــارُه وهـو للأشعـار تمّـامُ/ وهو الذي اعتامَ من شعرِ الحماسةِ مـا/ يَعْتامُه الـذوقُ، والأشعـارُ تـُعتامُ/ وَمَنـْبـِجٍ، ووليـدُ الشعْـر أرْسَلـَـه/ كالغيـم يَهْمي له في الحِـسِّ إرْهامُ/ حتى غَــدَا كلّ قــوس ٍفوقهُ قـُزَحا/ مُضَمَّخًـا تستــقي رَيـّــاهُ أنسـامُ/ يا شعرُ عَرِّجْ على الشهباءِ شامخةً/ بمـا ابتناهُ زكيّ العِـرْق ِمقـدامُ/ قد كانَ ســيفًا وَصَمْصَامًا لدولتِهِ/ ما كلُّ سيفٍ بيومِ الرّوْع ِصَمْصَامُ/ وَسَـلْ رُباهـا ورَبَّ الشعـرِ ملحمةً/ تعيـدُ مجدَ الألـَى في مجدها هاموا/ للهِ دَرّكَ يـا كِنـديُّ كمْ دُرَرٍ / لكَ اشتهى نظمَهـا في السِلـْكِ نَظّامُ/ أقمـتَ بالشعـر مُلكًا لا حـدودَ لـه/ بمثـلـِــه أبـَدًا مـا هـَـــمّ هَمّـامُ/ ونلتَ خُلدًا وذي الأحقـابُ شاهـدةٌ / وسائـرُ الناس ِأيـّامٌ وأعـوامُ/ وفي المَعَـرّةِ عِمْلاقٌ بـه طلعـت/ شمـسٌ فـزالَ عــن الأفكار إظلامُ/ عَـرّى الحقائقَ حتى بانَ غامضُها / كالصبـح ِ وانـزاحَ تضليـلٌ وإيهـامُ/ قـد شـادَ للعقـلِ لمّـا أن أشــادَ بـه/ صَـْرحًا، ولكنْ قليـلُ العقـل ِهَـدّامُ/ من لي بعقـل ِ"رهين ِالعقلِ" أعبدُهُ/ ربًّـا، فمـا يعبـدُ الجهّـالُ أصْنامُ/ والدين فيهــم نِفاقٌ لا نَفـاقَ له/ وإنّـهُ فيهــمُ قتــــــلٌ وإجــــــرامُ/ قد جيّشوا الغربَ والأَعرابَ يخدمُهم / في معرضِ الكذبِ والتضليل إعلامُ/ وهي "الجزيرة" عنوان الفسادِ بها / إمامُ فسقٍ له الخَـدّام "خَـدّامُ"/ يا شعـرُ عُـدْ بي إلى الفيحاء أسألها/ رشفًا لروحيَ ممّـا تسكـبُ الجَـامُ/ فإن سَكِرْتُ فإنّ الوَجْــدَ أسْكـَرَني/ شـوقًـا إليهـا وبعضُ الوَجْـدِ إكـرامُ/ وإن شَقَقـْتُ ثيابي فاعذروا رجلاً / صلّى وصامَ لمنْ صَلَّوا ومنْ صاموا/ إنّي لأسجـدُ في الفيحـاءِ مستلمًا/ ركنــاً لتاريخِــها والعــدلُ قــــوّامُ/ على ضفافٍ لنهـرٍ جالَ في خَـلـَدي / منذ ُ الطفـولةِ ، فيـه الطيـرُ عَـــوّامُ/ كأنّمـا الطيـرُ خيــلٌ فيــه ســابحـة / لهـــا مــن الرّيــح إسـراجٌ وإلجـامُ/ والزهـرُ في ضِفـّتيه نرجسٌ عَبـِقٌ/ أنفاسـُـهُ لاغَضًى يُــؤذي وقـُـلاّمُ/ وظبيـةُ الأنس تشـدو فـي رفارفـِه/  يا ليلُ" والليلُ رَغْـمَ السِّتر نَـمّـامُ/ والراقصاتُ حواري النبع ِقد أنِسَتْ/ والوارداتُ ضفـافَ النهـرِ آرامُ/ والحاملاتُ بَخُورًا مِسْنَ من طرَبٍ/ مَيْســًا، وَرَفـّــتْ مناديــلٌ وأكمــامُ/ سُمْرٌ وشقـرٌ بناتُ الشام ِقد وُصِفتْ/ بشعـرِ من شِعْــرُهُـمْ تهْــواه أفهـامُ/ فذا نـزارٌ وقـد أصْغـَى الوجـودُ لهُ / مُذ جـادهُ من إلـهِ الشــــــعـر إلهـامُ/ أعـادَ سحـرَالهـوى يا حسنَه غـَزَلًا/ فـَـذًّا، همــومٌ بــهِ تُجْلَـَـى وأسقــامُ / وذاكَ شبلي الذي غنّت قصايـــــدُهُ / ببأس ِقـوم ٍعلى الأتــراك ِ قد قامُـوا/ وإنّ سلطانَ باشا قائدٌ علـمٌ/ بالنصرِ يخفــقُ ما وارَتـْهُ أعـلامُ/ قـد ثـارَ والنـاسُ قـد ثـاروا لثورثـِهِ / ورامَ فــوزاً وقـد فـــازوا بما راموا/ وميسلونَ ثـَــوَى ليـــثٌ بساحتـِهــا/ هُــوَ ابـنُ عَظـْمَـة َقد وَافــاهُ إعظـامُ/ أولاءِ أقطــابُ مَجْــدٍ تـَمَّ عِقـْـدُهُمُ/ لمّا أتـى الشيــخُ عــزُّالديــنِ قسّــامُ/ كم صالَ في ساحةِ الهيجا وصال بها/ كأنّـه في رَحَى الميـدانِ ضِرْغَــامُ/ وهـو الشهيدُ قضَى في يَعْبَـــدٍ ولقد/ باتـَتْ تظلّـلـهُ فـي الأرض آجامُ/ أولاءِ قومـي وقد اُرضِعْـتُ مجدَهُمُ/ وقــد كَبـِـرْتُ ولمّــا يَـأن ِ إفطـامُ/ من صُغر سنّي حلمـتُ الشامَ أقدُمُها/ وهـي التي صاغَـها عــزمٌ وإقـدامُ / قد كنتُ طفلاً بأحلامي ويسـعدُنــي/ بأنْ أظــلَّ، وهـــلْ فـي الحُلـْم ِاُلتـامُ/ واليومَ حينَ رأيتُ الشامَ في حُلـُمي/ وقد سعدتُ، فهلْ لي بعـدُ أحلامُ/ حقّقتُ حُلْميَ في حُلْمي فـَوافـَرَحي/ فللحـزيـنِ مـن الأفراح أيّـامُ/ آلامُ روحيَ قد زالتْ برؤيتهـا/ فعَـنْ فلسطيــنَ هــلْ تنـزاحُ آلامُ/ فالقدسُ في جُرْحِها والجُرْحُ يُؤلمُ/ والشــامُ ينتابُهـا للجـرح إيـلامُ/ طوباكِ يا شامُ كمْ عِبءٍ نهضت ِبه/ ففيكِ للمجدِ أخـوالٌ وأعمـــامُ/ في الشام أهلي وقلبي فيه موضعُهم/ فلـنْ يَضُــرَّ بحـُـبِّي الشـامَ لـُــوّامُ/ إنّ العروبة َإنْ ضاقـَتْ بها سُبُلٌ/ نادَتـْكِ فانفرجتْ، لبّيكِ يا شامُ !ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش: 1-  تدمُر: مدينة سورية تاريخية من أشهر ملوكها أذينة وزوجته زنوبيا . 2-جاسم: مدينة في حوران ولد فيها أبو تمّام حبيب بن أوس الطائي الشاعر الحكيم، صاحب ديوان الحماسة. 3-منبـِج: مدينة في شمال سوريا ولد فيها الوليد بن عبادة البحتري. 4-الكِنـْديّ: هو أبو الطيّب المتنبي شاعر العرب الأكبر، نسبة إلى كندة قرب الكوفة. 5-رهين العقل: هو رهين المحبسين الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعرّيّ نسبة إلى معّرة النعمان قرب حلب الشهباء/ البيضاء مدينة سيف الدولة الحمداني . 6-الفيحاء: هي دمشق سُمّيت الفيحاء لاتساعها. 7-النهر: نهر بردى . 8-نزار: هو نزار قبّاني شاعر الغزل الأكبر. 9- شبلي: هو شبلي الأطرش: أمير شعراء العامة، له ديوان ضخم يحوي قصائد ملحمية تحكي عن أمجاد ثورة جبل حوران على الأتراك، وفيه تصوير لمعاناة جبل حوران من بطش الأتراك، وشدة بأس بني معروف في قراع، مدحت باشا وعسكره، وما لاقاه شبلي الأطرش من نفي وتشريد عن الأهل والوطن في الأناضول وجزيرة رودس وماطة وسواها، ولكن ديوان شبلي للأسف غير مخدوم بالشرح والتعليق ناهيك عن طباعته السيئة. 10- سلطان: هو سلطان باشا الأطرش قائد عام الثورة السورية ضد المستعمرين الفرنسيين حتى نالت سوريا استقلالها. 11-ميسلون: موقعة قرب دمشق استشهد فيها القائد يوسف العظمة في معركة ضد الفرنسيين. 12- الشيخ عز الدين القسّام: ثائرمن جبلة في سورية قدم إلى فلسطين، وقاد ثورة 36 على الإنجليز، استشهد في أحراش يعبد قرب جنين.









156
كميل ضو وحنان جريس خوري بين حرف ولون!
آمال عوّاد رضوان
لقاءاتُ منتدى الحوار الثقافيّ تتجدّد شهريًّا، وفي مركز التراث" البادية" عسفيا الكرمل بتاريخ 26-3-2013  يتكلّل اللقاءُ بالمعرض الحروفيّ للفنان كميل ضوّ، وبحروف الشاعرة الواعدة حنان جريس خوري، وبعد استعراض اللوحات، افتتح اللقاءَ رشدي الماضي فجاء في كلمته:
مع افتتاحيّةٍ من لونٍ آخر، فالأنا الذي ملأ اللغات محاسنًا/ جعل الجمالَ وحسنهُ في الضَّاد/ حوار الحروف والألوان جعل/ القصيدة لوحةَ صامتة واللوحة قصيدةً صائتة.
كميل ضو والضاد توأمة إبداعيّة فنيّة، الحرف والوعي الجماليّ به ومداعبة صهيله الداخليّ أحجار الزاوية التي توصل اللغة إلى قمّة السموّ، حيث تأتي لوحات إبداعيّةً مفعمة بنبض الحياة، لوحات ما أن تلقي بشباكها حتى تصطاد اللغة وطنًا، ليس طريدا ولا مقتولًا. أعرف يا مبدعي أنّك مليءٌ بالطاقات والمواهب والمشاعر والأحاسيس القويّة المتدفقة، لذلك وهذا ليس بغريب على كميل الذي أصبح مشروعًا فنيًّا شخصيًّا، ورحلة في فضاءاتِ الحرف لا يقوم بها إلّا مسافر خلّاق، وحده يسعى إلى الانعتاق من النفي اللغويّ. وهنا أرى لزامًا عليّ أن أبوح لك بأنّي أتحسّس شوق أصابعك إلى القلم، شوقًا يشتهي دومًا حروف الكلمات قبلات ظامئة، فأنت يا كميلي تغوص في أعماق النفس، لتبحث فيها عن مناظر لم ترها العين المجردة، وعن أصوات لم تسمعها الأذن الأولى ولا شقيقتها الثانية. ولأنّ الفنّ هو جوع إلى واقعِ زمن جميل، أعترف أمام ربّان الجمال فأقول: يلذّ جوعي إلى حبر إبداعك، وظمئي إلى تدفّق شتاء ألوانك التي تنفض الحروف فوق الورق، لتخطّ لوحة مشبعة بالمطر وبروائح تراب الأرض.
أيّها المبدع الكامل والمكمل كميل، تؤكّد تجربتك لمن يرافقك سيرة ومسيرة، أنّك منذ سنوات سمان لمّا تزل تحفر وتنقّبُ في أسرار وأركيولوجيا الحرف والكلمة، احترفتَ ركوب صهوة الذات حتى تدرك مبتغاك، وما من زاد لديك غير اللغة والخيال واللون والريشة والقلم، لترسم الحروف لوحات ترفض أن تغادر عناوين تضاريس الوطن، كي تجعل منه لحظات إبداعيّة تنضح بالجمال، تُبقيك أيّها الفنان المزارع المزارع في حقل الكلمات الذي يرتب وينقّي بيادر حنطتها، تاركا ريشته دوريًّا يزقزق على صفصافة الكلام في حواكير النفس والوطن، لم تكمل بعد لنا مشروعًا ولم تتمم علينا نعمة إبداعك، إذًا واصل الخروج كل صباح، وابتع لك قلمًا وزرقة وحبرا وألوانًا، فانت وحرفك توأمة إبداعيّة خلّاقة، توأمة لا تلد سوى لوحات هي فاتحة شبابيك الجمال المغلقة، وأبواب المدن الأمل غير القلقة.
وفي مداخلة نوعيّة لد. فهد أبو خضرة: تحدّث عن جماليّات الخطّ العربيّ، وعن المشاكل التي يواجهها الخط العربيّ اليوم، فالخط العربيّ فنّ من الفنون العريقة المعروفة عند العرب، وقد استعملوه لتزيين المساجد خاصّة، واللوحات في المتاحف والمعارض. ولوحات كميل ضوّ في المعرض نموذج.
في العصور الوسطى لم يتعرّض الخطّ العربيّ لمشاكل جدّيّة، بل حافظ على جماليّاته باستمرار، وأوّل المشاكل كانت في بداية ظهور المطبعة، حيث اضطرّ المشتغلون بالطباعة إلى صبّ الحروف وصقلها في الطباعة، ووجدوا أنّ عدد صور الحروف كبير جدّا وصل 470 صورة، وهذا فقط في خط النسخ، وهم اختاروا خط النسخ لوضوحه وجماله، وطبعًا بدأت أفكار مختلفة واقتراحات لتقليص عدد الحروف، ولم يكن نجاح في هذا المجال، وظلّ الأمر حتى ظهور ماكنات الجمع الآليّ حيث بدأت المشاكل تزداد، وكان لا بدّ من تقليص عدد وصور الحروف، وظهرت اقتراحات جديدة وانقلابيّة مثل استعمال صورة واحدة للحرف فقط، أو اقتراح الكتابة بحروف لاتينيّة وترك الحرف العربيّ، ولكن رُفضت هذه الاقتراحات، واستمرّوا في تقليص عدد الصور، وازداد الأمر سوءًا بين المُجدّدين والمُقلّدين، وازداد الجدل عند ظهور برامج الحاسوب وعند ظهور الطباعة بالليزر، فتقنيّو الطباعة وآليّات الطباعة جدّدوا وقلّصوا الحروف، ولكن على حساب جماليّات الحرف ممّا أدّى إلى ردود فعل غير راضية من الخطاطين والمحافظين، لأنّه تشويه للحرف، وهذا أمر ضرروريّ حتى لو كان على حساب جماليّة الحرف، من أجل استعمال الحروف بصورة عمليّة أكثر من استعمالها لجماليّاتها، لأنّ الجماليّات محصورة في نطاق الخطاطين واللوحات الفنيّة كي يكون مقروءًا، وقد تمّ تقليص عدد ساعات الخطّ في المدارس، وتمّ إلغاء كراسات تعليم الخط العربيّ بصورة عمليّة، لأنّ هذا الأمر خاصّ وفرديّ، ومن غير الممكن جعل جميع الطلاب خطّاطين.
وفي كلمة الفنان كميل ضوّ عن الخط العربيّ قال: هناك اثنا عشر نوعًا اساسيًّا للخط العربيّ، وكلّ خطّ له عشرات الأنواع، فمثلًا الكوفيّ له سبعين نوعًا، وكان لكلّ بلد أو قرية أو مدينة نوع خطّ يُميّزها، وكانت هناك هندسيّة وبزوايا حادّة، وتحتاج إلى الوقت في كتابتها، وفي زمن الأتراك ومع ضرورات الحياة والأمور الحياتيّة اليوميّة ومستجدّاتها وُجد الخط الرقعيّ، وهكذا تطوّر الخط العربيّ بآفاق تتجدّد مع ضرورات الحياة.
لقد عرف تاريخ الثقافة والفنون العربيّة فنّ الزخرفة الحروفيّة في الإسلام والعروبة، وعرفها التاريخ والإبداع الإنسانيّ، فالإنسان هو الحياة، وهو جدليّة التحوّل الكيانيّ والكونيّ مع التطوّر والرقيّ، إذ يُفرز من خلال الحياة أشياء متكرّرة أو مبتكرة تولد وتشكّل تراث الإنسان والحضارة. اللغة العربية هي أقدم اللغات الساميّة وأرقاها، لفصاحتها واتساع أفاقها وتناسق وجماليّات حروفها وتكوينات خطوطها، فاستخدم الخط العربيّ كمادّة جماليّة مجرّدة، وكمادّة رمزيّة تشكيليّة لونيّة ذات بُعد واحد"، في اللوحة التشكيليّة الكلاسيكيّة وبتقنيّات مختلفة، كما استعمل بحالات وأشكال ذات أبعاد لونيّة وتشكيليّة، بتجانسها ما بين الحرف والعديد من رموز الحضارة العربيّة، فيظهر على شكل مدن ذات مآذن وقباب، وعلى شكل خيول جامحة، وعلى "شكل أمواج حوار جدليّ فلسفيّ"، كما يقول الفنان اللبناني وجيه نحلة، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الخالدة لكبار الفنانين العرب في العراق ومصر وفلسطين ولبنان وبلاد الجزيرة العربية كلّها، ممّن امتازوا بهذا العمل الإبداعيّ وخصوصيّاته، فأطلق البعض منهم على نفسه صفة (الحروفيّين)، وأطلق على هذا النوع من الفن التشكيليّ تعبير (الحروفيّة). هذا التاريخ الابداعي كوّن ملاحم وقصائد زخرفيّة، وشواهد حضارة لم تعرفها أيّة حضارة أخرى عبر هذا الزمن البعيد! فتاريخ جماليّات الخط العربيّ يرجع إلى العقدين الأمويّ والعباسيّ، إذ اشتهر آنذاك الخطاط العربي الأوّل خالد أبي الهياج بكثرة كتابته للمصاحف والتجويد بها، بحيث أصبحت مؤشّرًا بارزًا في حياته الفنيّة، وفتحت آفاقا واسعة أمام هذا الفن العربيّ والإسلاميّ، وقد تعاقب الخطّاطون والمُجوّدون وفنّانو الزخارف والمنمنمات العربيّة الشرقيّة، في خلق الكمفيّة الهائلة من اللون والحركة والتشكيل.
وعن سيرة إبداعه ومسيرته الفنيّة قال: إنّي بدأت الكتابة بجيل ثلاث سنوات منذ عام 1960، بعدما انتقلت العائلة من الرامة للسكن في حيّ الكبابير في حيفا، وكان الأستاذ موسى عودة يعشق الخط العربيّ، وقد شدّتني روعة جمال خطه على اللوح آنذاك، وشغفت بالحرف العربيّ، وبدأت أقلّد وأكرّر كتابة عناوين الكتب، وعندما انتقلت لأتعلّم في الكليّة الأرثوذكسيّة في حيفا لأتعلم المرحلة الثانويّة، التقيت بالأستاذ والأديب والخطّاط حنّا أبو حنّا، وللأسف لم تكن هناك حصص خط، ومن حين لآخر بدأت أكوّن بعض الأفكار حول الخط العربيّ، وتمكّنت مع نهاية المرحلة الثانويّة من معرفة جميع أنواع الخط العربيّ وقواعدها.
في نهاية الصفّ الثاني عشر اتّصل بي الأستاذ حنّا أبو حنّا، وكان يعمل في جريدة الاتّحاد، وطلب منّي أن أتابع مشوار الخط بدلًا منه، وخلال ثماني سنين بدأت أكتب هذا النوع من الخط، وكان الشاعر طيّب الذكر عصام العبّاسي يقول لي، يجب على الخطّاط أن يرسم لو أمكنه. وأتذكّر أنّني حين كنت أكتب العناوين، وقعت نقطة حبر على ورقة مصقولة، وبدأت أرسم أشكالًا متنوّعة حول هذه النقطة، وأكتب أحرفًا وبعض الكلمات، وبدأت تتبلور الفكرة في رأسي، وفي سنوات السبعينات كنّا في فترة انغلاق عن العالم، ومن غير فضائيّات، وبكتب قليلة من العالم العربيّ، وبدأت أطّلع على فكرة بدون أن تكون لي سابق خلفيّة عنها، وعندما قرأت فيما عن الحروفيّة، وجدت أنه في العراق والسودان وسوريا ومصر بدؤوا في هذه الفترة باستعمال الحرف في بناء اللوحة التشكيليّة، وكان التقارب فيما بعد بديهيّا.
مع نهاية المرحلة الثانويّة دعيت لأعمل خطاطًا في جريدة الاتحاد، وفي نفس الوقت قدّمت لمدرسة مار يوحنا رسالة أطلب أن أدرّس فيها. وقد استجاب لطلبي في حيفا مدير مدرسة مار يوحنا الإنجيليّ الأسقفيّة العربيّة الأستاذ ناجي فرح، إذ أُعجب بخطّ رسالتي، واستدعاني ليلقي عليّ مهمة تدريس فنّ الخط العربيّ لطلاب مدرسته، وقد كانت رحلة ممتعة مع الطلاب وتدريسهم الخط العربيّ وتطوير المواهب عند الطلاب. وما جعلني أؤكّد على هذه الحصص، هو الحفاظ على تراثنا الفنيّ هذا، ولا أبالغ إن أقول إنّ حرفنا العربيّ بأنواع خطوطه أجمل خطوط العالم قاطبة، ومن جهة تعليم الخط العربي في مدارسنا، فهناك تحَدّ كبير، إذ علينا أن نبذل جهودًا أكبر في الحفاظ على هذا التراث.
وهكذا جعلت أتدرّج وأعلو في سلّم الفن والخط، لأغدو من أوائل روّاد فن زخرفة الخط والحروف التشكيليّة في البلاد، وبدأت رحلتي مع الحروفيّة والرسم بالكلمات.
عام 1978 أقيم لي المعرض الأوّل في قاعة الأوديتوريوم بحيفا، حيث عرضت 30 لوحة أساسها بناء اللوحة التشكيليّة من الحروف والكلمات، بالحبر الصيني الأسود على مساحات صغيرة بيضاء، وقد عُرض في القاعة ثلاثين لوحة فنيّة خطوطيّة، والذي كان له خصوصيّة في لفيف من الحضور المميّز من أدباء ومُفكّرين وشعراء وفنّانين وسياسيّين مَحلّيين؛  د. إميل توما، إميل حبيبي، وسميح القاسم، وعلي عاشور، وصليبا خميس، وحنا أبو حنا، وزاهي كركبي، والفنان عبد عابدي، وعصام العباسي الذي كان يحثّ الخطاط كميل على الرسم، إذ بمقدور كلّ خطاط أن يكون فنانًا تشكيليًّا أيضًا. وبيع أكثر من نصف لوحاته آنذاك.
ومنذ ذلك الوقت أقيم لي 18 معرضًا فرديًّا في البلاد وخارجها، وعشرات المعارض التي اشتركت بها. وعام 1979 أقمت في مركز سانت لوكس بحيفا معرضًا كبيرًا يضم 60 لوحة، بادر له القس الدكتور نعيم عتيق، رئيس مدرسة مار يوحنا الإنجيليّ، الذي ساندني كشابّ وكفنّان، وأشاد بأعمالي الفريدة والانطلاقة الكبيرة التي حققتها في هذا المجال.
وعام 2005 كانه لي معرض آخر في هذا البناء، حيث عرضت 30 لوحة من الخط العربيّ، وافتتح المعرض القس الدكتور شحادة شحادة. ومن خلال عملي في مدرسة مار يوحنا الإنجيليّة في حيفا، توطّدت العلاقة بيني وبين المطران سمير قفعيتي؛ مطران الكنيسة الإنجيليّة الأسقفيّة العربيّة في القدس، والمنحدر من أصل حيفاوي، فأقام لي عام 1982 معرضًا تشكيليًّا في مؤسسة (y.m.c.i) المقدسيّة، وكان من أوائل المعارض الفنية لفنان جليليّ في رحاب المدينة المقدسة، عرضت فيه 32 عملًا تشكيليًّا في فن الخط العربيّ والزخرفة، لم تقتصر على اللون الأسود والابيض فقط كسابقاتها، بل احتوت ألوان أحبار أخرى، وتقنيّات تشكيل لونيّ متعدّدة، وبيع العديد من أعمالي لمُحبّي هذا الفن، كظاهرة نادرة وداعمة لي في مداها النفسيّ والمعنويّ.
وعام 1987 وفي رحاب المبنى المحاذي لكنيسة سانت لوكس في حيفا بطابقيْه، أقمت معرضي الثالث، ليحتوي الطابق الأول مجموعة من أعمال فن الخط والزخرفة العربيّة، والطابق الثاني مجموعة من أعمال التصوير اللونيّ (الرسم الملون) متعدّد التقنيّات، ذات الانتماء الانطباعيّ في تكوينه، ومشاهد "طبيعة صامتة"، رسمت فيها معالم من مدينة حيفا وأماكن ورموز أخرى. وقد افتتح المعرض الشاعر الأديب حنا أبو حنا، فأثنى على مسيرتي الفنّيّة، وعلى ثباتي وإيماني بأدواتي وقدراتي الفنّيّة، وبـعرض 72 لوحة من أعمالي الأخيرة التي تنتمي إلى مرجعيْن أساسيّيْن، هما الله والوطن، وبحضور حافل لافتتاح المعرض  ظهرت فيه أنماط وأساليب عمل فنيّ له معالم الخصوصيّة بكميل ضو، والتي تتحوّل فيها لوحة فنّ الخط والزخرفة العربيّة إلى لوحة حروفيّة، قوامها تجلّيات الحرف العربيّ في تجرّده من المكنون اللغويّ الكامن فيه.
عام 1992 افتتح جاليري الكرمل أقمت المعرض الرابع لأعمالي الفنيّة، وقد افتتحه الشاعر سميح القاسم. وعام 2005 رتبت لي د. روت أورن معرضًا في جامعة حيفا، ضمّ 30 لوحة، وافتتح المعرض البروفيسور بطرس أبو منة.
وفي عام 2009 اقيم معرض "حوار الشعر والحروف" تكريما للشاعر والأديب الكبير الأستاذ حنّا أبو حنّا. وفي عام 2012 كان هناك معرض "صمت الحروف... صوت الألوان" تكريمًا لشاعرنا الرائع الأستاذ رشدي الماضي.
كما وصدر عن أعمالي كتاب "حروف مشرقة" عن دار النشر الفنلنديّة "بيفا" باللغتين الفنلنديّة والإنكليزيّة. ومؤسّسة كيميديا وإدارتها أقامت مركزًا لتعليم الخطّ العربيّ في حيفا يعنى بتعليم الخط العربيّ لجميع الأجيال.
وقال عزت حرش: "رسم كميل ضو الكثير من الأعمال، خاصة في مجال الفنون الحروفية المتجانسة في تكوينها، ذلك ما بين اللون والانحناء وتجويد الحروف والكلمات، لقد أطلّ علينا بأعماله الجميلة منذ أوائل الثمانينيات، وأذكر من تلك الأعمال لوحة حملت كلمات فيلسوف لبنان جبران خليل جبران، في مطلع لزومية قصيدة "المواكب".. التي رتلتها الرائعة فيروز على هيكل مذبح قدسيتها، حيث صدح صوتها بتلك الكلمات هاتفة "أعطني الناي وغن".. ولا تزال ملامح اللوحة الحروفية التي رسمها الفنان كميل ضو تسكن في مخيلتي، كحلم يتراقص بين ما أبدعه جبران وما صدح به صوت فيروز الملائكي، وكدعوة حبّ متفجرة إلى كلّ بركان قلب عاشق، قتلته سموم الحياة وغربتها، في لجّة بحثه عن جنة الخلاص الأبديّ.. ولم يزل يبحث عنها دون طائل! يبقى الفنان كميل ضو مسكوناً بهواجس عذبة راقية مرهفة الإحساس، مصدرها "كلمات ليست كالكلمات".. تلك المولودة بعفويّتها من بطن الحياة المتراكمة عبر الزمن. كأزهار البرقوق وفروع السندان.. تسكن الجُمل المحبّبة إليهِ في فضاء ذهنه.. تذهب وتعود، وترسم حروفها في الهواء بموسيقى "عرائس المروج".. والناي والخلود!! وعلى حين غرة، وفي لحظة بريق يتساقط كضوء الشمس على كتلة من جليد، تنبعث في روحه تجلّيات لونيّة لحروف جملة ما.. وتتكوّن في غضون إنجازها على المساحة البيضاء. قصيدة تشكيليّة للوحة قوامها الحروف والألوان.. تقرأ في أعمال كميل ضو الحروفيّة.. نماذج من التعبيريّة والرمزيّة والتكوينيّة والتكعيبية والتجريد.. وتقرأ في بعضها نماذج كلاسيكية ضوئية أيضًا.. كلها في لمسة إنشاء خاصة تستطيع أن تعرف من بوتقة تكوينها الشموليّ، أنّها تعود لشخص واحد.. لفنان يدعى كميل ضو".
وكان لنا وقفة أخرى مع الحرف الشعريّ والصوت الدافئ للشاعرة الشّابة حنان جريس خوري فقالت:
أنا من مواليد حيفا، تخرّجت من الكليّة الأورثوذكسيّة العربيّة. ثمّ التحقت بالجامعة العبريّة بالقدس، وتخرّجت بلقب أول فيزياء ورياضيّات، ولقب أوّل في العمل الاجتماعيّ مع تقدير خاص من الجامعة. منذ الثانويّة ابتدأت في مشوار الشعر، و كنت أكتب وأقرأ في صفي، حتى بدأت أنشر في جريدة الإتحاد، ولاقيت دعمًا من القارئين، ممّا حثّني على الاستمرار  بالكتابة والنشر، ولكن مع سفري للقدس، بدأت خيالاتي تسافر إلى تجارب جديدة، تحمل كلمات رقيقة اعبّر فيها عن عالمي وتجاربي وشعبي.
لقد ملأني بيتي حبًّا ودفئًا، ومنحني كلّ الدعم والمحبّة، وخاصّة أبي الذي لم يناقشني مرّة بمشاعري المنسابة في قصائدي، وإنّما كان يصغي لي بقلبه وبحسّه العميق، يرشدني إن كان هناك خطأ لغويّ من تجربته كأستاذ في اللغة العربيّة لعشرات السنين، وقد اشتركت في لقاء أدبيّ في جامعة حيفا، وألقيت قصيده "لحظة ... أيها المارد"، ولاقت إعجاب المستمعين من شعراء وأدباء . وفي جامعة القدس العبريّة كان هناك من يطلب مني إلقاء قصائدي ونشرها في مجلّاتهم الخاصّة، وبعدها توقّفت عن نشر قصائدي، لأنتظر فرصة ولادة ديواني الأول. ولأسباب وظروف لم تسنح لي فرصة إصدار ديوان شعري الأوّل الذي وعدت به كلّ من طلب منها ذلك، وكلّ من أحب شعري... و لكن في الأمسية هذه التي استضافتني  سألقي باقة من أشعاري:
قصيدة حرة أنا:
حرة أنا/ مثل غصن زيتون/ حرة أنا / و مثل  أجمل جنون/ مثل الحلم.../ مثل مخاض شعر/ عند حدود الكلم/ حرة أنا.../ مثل السماء.../ و ما زال في القلب بعض سماء/ بعض جنة .. و ضياء/ ما زال في العمر / ... بعض دهور/ و صلاة تملأني سرا/ ... و نور/ و ما زال في الدرب/ بعض ياسمين/ همسات صيف/  و دمعات حنين/ و ما زال موسم / حب و جنى.../ و حرة ... حرة / مثل اللون أنا/ مثل لون القصيده/ مثل  أسطورة جديده / و مثل زهر لوز وليد/ و نهر حب .. و عيد/ مثل أسراب المنى/ حرة / حرة.../ حرة أنا
وقصيدة في عينيك ...أنت:
في عينيك .../ أزهر الفجر / و جن الليل / في عينيك قيد/ شهد / و سحر ../ في عينيك أغنية/ يعزفها البحر/ فتهدأ الساعات / و يبسم العمر/  إذا هامستني / أو بنظرة رقيقة قتلتني/ ففي عينيك أحيا/ و يسري ... في عرقي شعر/ لو ذبل القلب / أو ظمئ الدرب / ففي عينيك لي ورد / لتورق الخطوات/ و يدرك القدر/ أني في عينيك قد تهت/ و تاه الحلم ... و السفر

وفي نهاية اللقاء وبعد مداخلات الزملاء والزميلات من الحضور، كان مسك الختام مع د. فهد أبو خضرة، حيث أعلن عن قراره بإصدار الديوان الأول للشاعرة حنان خوري في مجلة مواقف، حتى نهاية السنة الحالية، ومن ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة.














157
المنتدى الأدبي الشفاعمري يُكرّم الشاعر جورج جريس فرح!
آمال عوّاد رضوان



أقام المنتدى الثقافيّ الشفاعمريّ أمسية أدبيّة في قاعة دار الثقافة والفنون بشفاعمرو بتاريخ 15-3-2013، احتفاء بتكريم الشاعر والأديب جورج جريس فرح لأدواره الثقافيّة البنّاءة المتعدّدة، وذلك بحضور واسع من المثقفين والأدباء والشعراء والأصدقاء والأقرباء.
تولّى عرافة حفل التكريم الإعلاميّ والأديب نايف خوري، وبعد أن رحّب بالحضور، سرد نبذة قصيرة عن سيرة الشاعر فرح، وعن منجزه الشعريّ والأدبيّ، ثمّ تحدّثت السيدة عزيزة دياب مديرة المنتدى الثقافيّ الشفاعمريّ عن نشاطات المنتدى، وأهمّيّة تكريم الشاعر فرح لاستحقاقه، كما قدّم السيد ناهض خازم رئيس بلديّة شفاعمرو كلمة تكريميّة بحقّ الشاعر فرح، وأشاد بدوره الحثيث في المساهمة بنهضة الحركة الثقافيّة والأدبيّة.
بعد ذلك قامت آمال عوّاد رضوان بمحاورة الشاعر فرح، وتسليط الضوء بومضات خاطفة على مخزون الشاعر فرح، بقبّعاته العديدة التي اعتمرها خلال مشواره الأدبيّ، تحدّث عن طفولته البائسة، عن أمّه الأرملة  العصاميّة التي كافحت من أجل تربية أبنائها، وعن نشأة ميوله الأدبية وبلورتها وتطوّرها خلال مراحل حياته، وعن قصائده المختلفة باللغة الفصحى واللهجة المحكيّة وعن مضامينها المختلفة، وعن قصائده المغنّاة، وتراجمه، ومواهبه الفنيّة الإبداعيّة في الرسم والتمثيل.
وقد تخلّل الحوار مداخلتان غنائيّتان من جوقة الكروان، لليافعة المتألقة ساندرا حاج بأغنية ست الحبايب، وشادي تلحمي غنّى عيون بلادي، من كلمات الشاعر جورج فرح، وتلحين الفنان نبيه عواد مايسترو جوقة الكروان!
وفي نهاية الأمسية قام السيّد ناهض خازم رئيس بلديّة شفاعمرو، وعزيزة دياب مديرة المركز الثقافي الشفاعمريّ بتقديم درع التكريم للمحتفى به الشاعر جورج جريس فرح، ومن ثمّ قدّم كلمة شكر للحضور ومُنظمي هذا الاحتفاء، وبعدها تمّ التقاط الصور التذكاريّة.
وفي كلمة العريف الإعلاميّ والأديب نايف خوري جاء:
أيّها الحضور الكرام، رئيس بلديّة شفاعمرو المحبوب، الأدباء، من كتاب وشعراء، الفنانون من أطياف وألوان الإبداع كافة، المحتفى به العزيز أبو ربيع جورج جريس فرح، أسعدكم الله بكل خير ومحبة.
أنت، أنت أيّها المتعدّد وفي التعدّديّة فائدة، أيّها المتنوّع وفي التنوّع متعة، أنت أيّها الجالس على عدّة مقاعد، وفي ذلك الغنى والتقدير، أنت أيّها المتربّع على عروش الإبداع وفي ذلك نبع لا ينضب، ألست مِن المتصدِّرين لعالم الشعر؟ ألست من المُتبوِّئين لمجال الترجمة؟ ألست من المسهمين في حقل الرسم؟ ألست من العارفين في مضمار الأدب؟ وماذا أقول بعد، لأننا لو نظرنا وأحصينا المراتب والمراكز التي أشغلتها، لوجدنا فيك صفات الشموليّة ومزايا الإنسانيّة، ألم يقل فيك الشاعر وهيب وهبة إنّك فارس القصيدة؟ تجول في الميادين والسهوب، وكأنّك تقف بين حبّة الرمل وبين حنين الجسد، وأنّ الحروف المشيّدة من هياكل وقصور الخيال، عبرت عن طريقك إلينا. وأتت بكلّ هذا الألم الإنسانيّ المتوّج بغضب الأرض، وعصف الشجر، وقصف الرعد والصخر، وعنفوان الثورة والصبر والإيمان والمحبّة. لأنّك أنت الإنسان المفكّر والمتجوّل في ساحات المجد.
أتساءل بيني وبين نفسي، أيّها المكرَّم، لماذا يُكرّمونك في مثل هذا اليوم؟ ألأنّه عيد الشعر، أم عيد الأدب؟ ألأنّه عيد ميلادك مثلا، أم مناسبة فوزك بجائزة؟ أم ماذا؟ رأيت أنّك تستحقّ التكريم لا لمناسبة معيّنة، بل طيلة الوقت وعلى مدى الأيّام، وخاصّة في مطلع فصل الربيع، ولذا أعتبر تكريمك مناسبة ربيعيّة وأنت أبو الربيع، ولكن ليس كالربيع العربيّ الذي سرعان ما أضحى خريفا كئيبًا، فأنت مُشعّ، منير، ساطع لا يخبو لك نور.. فهنيئا لك بهذا التكريم، وهنا لا بدّ من توجيه الشكر للقائمين على تنظيم هذا الحفل التكريميّ، المنتدى الأدبيّ الشفاعمريّ، دار الثقافة والفنون، بلديّة ومدينة شفاعمرو كلّها التي يمثلها رئيس البلديّة السيد ناهض خازم، وأدعو أوّلا الأخت عزيزة دياب مديرة دار الثقافة لترحّب بالحضور
وفي كلمة عزيزة دياب جاء: مساء الخير للجميع مع حفظ الألقاب، حضرة رئيس بلديّة شفاعمرو السيد ناهض خازم، أعضاء المجلس البلدي المحترمين، المحتفى به الشاعر جورج فرح. يسعدني أن نفتتح اليوم انطلاق آذار الثقافة في دار الثقافة والفنون بهذه الأمسية التكريميّة للشاعر جورج فرح. تأتي هذه الأمسية ضمن مشروع آذار الثقافة القطريّ لمركز مساواة للسنة الثانية على التوالي. تؤكّد أمسية اليوم رؤية ومضمونا على سعينا في دار الثقافة والفنون، على دعم الحركة الإبداعيّة الشفاعمريّة والفلسطينيّة، والمحافظة على موروثنا وهُويّتنا الثقافيّة. الشاعر جورج فرح هو عضو فعّال في المنتدى الأدبيّ الشفاعمريّ، والذي يسعى إلى خلق إطار ثقافيّ اجتماعيّ يجمع بين الأدباء ومُحبّي الأدب والكتابة الإبداعيّة، بهدف تطوير ودعم الحراك الثقافيّ في المدينة. ومن هنا أوجّه دعوتي لكلّ من يرغب في الانضمام للقاءات المنتدى الأدبيّ أيّام الإثنين، مع بداية كلّ شهر هنا في هذه الدار، وبكلّ تواضع أعتبر أنّنا محظوظون في دار الثقافة لأن نكون جزءًا من مُنتِجي الثقافة، والمُساهِمين للتغيير في المشهد الثقافيّ المحلّيّ. تتميّز قصائد الشاعر جورج فرح بالحسّ الوطنيّ والغزليّ والإنسانيّ، فنصوصه مليئة بالصور والموسيقى، وتدعونا لنتفاءل معًا بمستقبل أفضل. بودّي أن أشكر كلّ مَن ساهم في إنجاح هذه الأمسية: بلديّة شفاعمرو، المنتدى الأدبيّ الشفاعمريّ، الأديبة آمال عوّاد رضوان، الموسيقيّ نبيه عوّاد، والصحافيّ نايف خوري. ولا أنسى زملائي من طاقم العمل في هذه الدار. لكم جميعًا جزيل الشكر والتقدير، وأتمنّى لكم أمسية ممتعة.
 
وفي كلمة رئيس البلدية السيد ناهض خازم جاء: يُشرّفني أن أقف على هذه المنصّة مرّة أخرى، لأشارك دار الثقافة والفنون في مشروعها المبارك "آذار الثقافة"، الذي تفتتحه اليوم بأمسية تكريميّة للشاعر والكاتب وواضع النصوص المتميّز جورج جريس فرح، على ما أنجزه في مسيرته الممتدّة لأكثر من نصف قرن.
إنّها مناسبة لأحيّي دار الثقافة والفنون، بمديرتها السيدة عزيزة دياب إدريس، وطاقم العاملين فيها على النشاط المتواصل على مدار العام، وعلى حرص الدار على ردّ الجميل للمبدعين أمثال الأديب الشاعر جورج فرح، وكوكبة مثقفي وأدباء وشعراء هذه المدينة الغالية. وتوطئة لمشاركتي في هذه الأمسية، كان لا بدّ من الاطّلاع من جديد على إنتاج شاعرنا وتقييمات نقاد الأدب له، وإن سبق لي أن قرأت بعضه في مختلف المطبوعات. اطلعت على إنتاج وفير وقيّم، وعلى كلام صادق لشاعر أنشد للأرض والوطن، للزيتونة والوجود، وكتب عن المحبّة والحبّ والسلام، وطرق الجَمال وجَمال المرأة تحديدًا، فأشاد النقاد الكبار بسلاسة القصيدة وانسيابيّتها، ورقة المعاني وعذوبتها، منوّهين إلى اللغة السهلة التي يتّبعها شاعرنا، اللغة المفهومة للقارئ بعيدًا عن التعقيدات والرمزيّة، كما أشاروا إلى الخفة والرشاقة في موسيقى العديد من قصائده، كما كتب الناقد المعروف منير توما في تقييمه مجموعة "همسات في العاصفة"، مضيفًا أنّه لمسنا هناك السهولة والمتانة في المفردات، وإنها قصائد تفوح بعبق الماضي وعذوبة المستقبل".
واكب المحتفى به في القصة القصيرة والمقالة والقصائد قضيّة وهموم شعبنا الفلسطينيّ، بل كانت الأحداث المأساويّة دافعًا لكتابة العديد من القصائد، عَكَسَ فيها صدق وجدانه وآلامه وآماله، وأعرب عن عظيم أسفه لِما آلت إليه الأوضاع وما زالت، مِن تَرَدٍّ وانعدام سلام، فكتب متشائمًا أو متشائلا على حدّ تعبير الأديب إميل حبيبي: عام مضى/ أو بعض عام/ والهمس في الأنحاء قام/ هل يا ترى ضاع السلام/ حتّى الأبد؟
ونحن يا أبا الربيع وعموم الأخوات والإخوة الحضور، نتمنّى أن يتحقّق السلام العادل، لتُنظَم قصيدة بهذه المناسبة ،ونرجو لشاعرنا جورج جريس فرح موفور الصحّة وكلّ النجاح، ومزيدًا من الإبداع والعطاء.  
وتابع العريف نايف خوري قائلا: شكرا لرئيس البلدية. أينهم؟ "كم من رفيقٍ عند ضحكي يختفي عند البكاءْ، كم من قريب عند أخذٍ غاب في وقت العطاء، كم من حبيب في الهنا، أين الأحبة في الشقاء؟ كم من صديق عابر هل من صديق للبقاء". هذا ما قاله هذا المكرم في مجموعته بدء الحصاد.
المبدع جورج جريس فرح يعتمر أكثر من قبعة كما وصفه الأديب محمد علي سعيد، أبو علي، فهو شاعر غنائيّ مرهف، رسام يرسم بالريشة والقلم، مترجم بليغ. وكان أبو ربيع قد ولد في حيفا عام 1939 وهو يقيم في شفاعمرو من منطلق بلاد العرب أوطاني. متزوج وأب لراوية، فاتن، ربيع، أفنان، ومراون، وجدّ لنصف دزينة وأكثر وما شاء الله.
تعلّم المحتفى به صديقنا أبو ربيع المرحلة الثانويّة في الكليّة الأرثوذكسيّة في حيفا، وتخرّج من المعهد الإسرائيليّ للتأمين، ودرس المحاسبة، ثم إدارة الأعمال، ودورات استكماليّة شتى.
متعدّد النشاط في جمعيّات وهيئات مختلفة مثل، عضو إدارة في رابطة الكتاب الفلسطينيّين سابقا. عضويّة في اتّحاد المترجمين، سابقا، عضو اتّحاد الكتاب العام، سابقا، عضو اتّحاد الكتاب الفلسطينيّين في حيفا، عضو جمعيّة أنصار الأدب للسلام، عضو هيئة تحرير مجلّة مواقف، عضو هيئة تحرير مجلّة الشرق. هذه المجلّة العزيزة رصدت له عدّة مقالات تحدّثت عن أبي ربيع، مثل الدكتور محمود عبّاسي، الدكتور حسين حمزة، الدكتور منير توما، الدكتور بطرس دلة، البروفيسور فاروق مواسي، والكتاب والشعراء سعاد قرمان، ناجي ظاهر وفهيم أبو ركن.
أصدر "بدء الحصاد"، شعر. "صوت يبحث عن صداه"، شعر. "همسات في العاصفة"، شعر. "زبد فوق الرمال"، شعر.
ألم يتدارك الأمر صديقنا الشاعر رشدي الماضي إذ قال عنك: "أيّها الصوت الشعريّ الدافق، لأنّك تمتطي صهوة الحرف، وتسافر نحو الآتي والمستقبل، تعمل مُزارعًا في حقول الكلمات، تُنقّي بيادر حنطتها، بحيث ستظلّ تجربتك متجذرة في تربة مشهدنا الثقافيّ، ومعطفًا يختبئ ويحتمي فيه كلّ المرتعشين من صقيع الحياة.
ولم تغفل الشاعرة آمال عوّاد رضوان عن الحديث عن مزاياك ومناقبك وصفاتك، في أحاديثها وكتاباتها فقالت: أنت شخصيّة عصاميّة ذات مبادئ رفيعة، فكيف لا تُبهرنا أقوالك المأثورة إذ قلت: إنّ الدمعة؛ هي عصارة المشاعر ومداد العاطفة، والحبّ؛ هو رحيق القلوب وحريقها، والمرأة؛ هي تاج متى رغبت، وقيد متى غضبت، والطفولة؛ فردوس البراءة. وإزاء هذه الحِكم تصبح أيها العزيز ذاك الشيخ البليغ.
لماذا نقتبس من آمال أقوالها؟ لنستمع إليها وإليه في هذا الحوار، ويرافقهما موسيقيًّا الفنان الموسيقيّ المبدع نبيه عواد، مدير المعهد الموسيقي الكرواني في عبلين، فأدعوها لتسلم زمام الأمور.
وابتدأت آمال عوّاد رضوان حوارها مع الشاعر جورج جورج جريس فرح بقولها: هذا الآتي من خلف طاحون الزمن الأسود، ومن بين أنقاض النكبة، طفلٌ يفتح عينيه ورئتيه ليتنفس الحياة، أترك له النعوت، لنلمسها بحروفٍ نقشتها الحياة على خريطة مشواره.. جورج الطفل جاء يتيمًا في رحمِ أمّه، وهو الطفل الذي لم يكن له اسم بعد، جاء ليحدّثنا عن طفولته، عن مسيرته الأدبيّة وبروز الجانب الأدبيّ، عن المرحلة الثانويّة، وعن نشر أوّل قصيدة كتبها بعنوان "ابتسم"، وعن رعاية موهبته الأدبيّة رغم الظروف القاسية، وليقرأ لنا بعض قصائده في الطفل، الغزل، المرأة والشعر الساتيري، والوطن والأرض والمقاومة.
تخلّل الحوار فاصلٌ غنائيّ، "ست الحبايب" بصوت ساندرا حاج، ليحدّثنا عن أمّه وما تُشكّل الأمّ في شعره، وليفاجئنا بحفيدته جونا ربيع فرح التي ألقت قصيدة للأم من قصائد جدّها جورج فرح، لنتابع الحوار بلمحات موجزة عن هواياته ومواهبه الأخرى كالرسم والتمثيل، ولمحةٍ عن كتاباته النثريّة في القصّة القصيرة جدًّا، وعن مشروعه في  الترجمة.
ثمّ كان فاصلٌ غنائيّ كروانيّ آخر بصوت شادي تلحمي، من كلمات جورج فرح، وتلحين الفنان نبيه عوّاد مدير المعهد الموسيقيّ الكروانيّ في عبلين، في أغنية "عيون بلادي"، كمفاجأة للشاعر فرح، ولينتقل الحوار للحديث عن قصائده الزجليّة وقصائده المُغنّاة.
وختم العريف نايف خوري اللقاء قائلًا:  شكرًا للشاعرة والكاتبة آمال عوّاد رضوان، ولأخيها الموسيقيّ الأستاذ نبيه عوّاد، والآن أدعو رئيس البلديّة مرّة أخرى إلى المنصّة لتقديم الدرع التكريمي، ومن ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة.
بواكير قصائده: ابتسِم..! أيلول 1955/ بإشراف الشاعر عصام عباسي: ابتسِم ثمَّ ابتسِم لا تغضَبِ/ واتركِ الهمَّ ولا تنتَحِبِ/ يا أخي كم في الدُّنا من مُحزِنٍ/ عارمٍ من صُبحِنا للمَغرِبِ/ هل تُرى نقضي أسًى من ويلِنا/ أم تُرى نرنو معًا للأرحَبِ؟/ فتبسَّم، رغم ليلٍ حالِكٍ
وتجلَّد في صراعِ النُّوَبِ/ واجهِ الدَّهرَ بثغرٍ باسِمٍ/ يتوارى الهمُّ خلفَ الحُجُبِ/ فالأسى يا صاحبي يدعو الأسى/ وابتسامُ الثغرِ زادُ الغالِبِ!
قصيدة غرور: أتقولُ لا؟/ ولمَن نَظَمتَ وقُلتَ أبياتِ الغَزَل؟/ ولمَن بَعَثتَ مع العصافيرِ القُبَلْ؟/ ما زالَ مِن عَهدِ الدراسةِ في كتابي ذِكرياتْ/ ودفاتري مَلآى بخطّكَ أغنياتْ/ والمقعدُ الشرقيُّ/ سَلهُ فإنَّهُ باقٍ هناكْ/ كم مَرَّةٍ حفَرَتْ عليهِ اسمي/ بأشياءٍ يداكْ؟/ وتقولُ لا../ ألتستَرِدَّ الدَّينَ منّي؟/ يا مُغَفَّل!/ ألأنني ما كنتُ أجرؤ أن أجيبَكَ حينَ تسأل؟/ قد كنتُ أخشى أن يعمَّ السرُّ/ إني كنتُ أخجلْ/ أن يمضَغَ الطلاّبُ إسمي/ أو تسمَعَ الأخبارَ أمّي/ فيتمُّ حَبسي/ داخلَ البيتِ المقيتْ/ وتعيشُ نفسي/ في دُجى السّجنِ المميتْ/ وتموتُ مِن شوقٍ إليكْ/ روحٌ غَدَتْ تخشى عليكْ/ وتقولُ لا؟
قصيدة كابِرْ:/ تمادى أيها المغرورُ/ وَيلي مِن غرورِكْ/ قُلْ كَم نذَرتَ وكَم حرَقتَ ليومِ وصلي/ مِن بخورِكْ؟/ وتردّني إذ جئتُ ظمآى أستقي؟/ أتردّني؟/ وتقول: لا، لن نلتقيْ!/ وغدًا إذا صَدّقتُ قولَكَ وارتَحَلْتْ/ وصحوتَ بعدي مِن غُروركَ واعتَدَلْتْ/ ورجعتَ تسألُ يا مُغَفَّلْ/ أتظنّني سأعودُ أقبل؟/ واللهِ لا...
قصيدة في الغزَل/ بِعُنفِ النبضِ: أتمتحِنينَ مَقدِرَتي؟/ وهلْ تبغينَ في التَّردادِ إِرْباكي؟/ سئمتُ اللَّومَ سيِّدَتي/ فعُودي عن خَطاياكِ/ وكُفّي عن مُعاتَبَتي/ فلمْ تعرفْ مآقي العَيْنِ طعْمَ الدَّمْعِ/ لولاكِ/ تعالَي نمخُرُ الأحلامَ/ نسبحُ بينَ أفلاكِ/ ونرتَشِفُ الهوَى عذبًا/ وننسى الماضيَ الباكي/ لأغفوَ فَوْقَ نهدَيْكِ/ وأغرقَ في ثناياكِ
وَهَبْتُكِ كلَّ إِحْسَاسي/ فلا أَشتاقُ إلاّكِ/ رَأَيْتُ القلبَ يَسْتَغني عَنِ الدُّنيا/ وإياكِ/ وكم أفْضَى وكلَّمَني/ بعُنْفِ النَّبْض حدَّثَني/ وَقالَ بأنَّ لا جَدوى/ لهُ/ في غَيْرِ دُنياكِ!/ صدى النَّبَضَاتِ أرَّقَني / تعالَى فوقَ أسْمَاكِ/ فضجَّ الكوكَبُ الزَّهْريُّ/ مِن شغَفٍ لرُؤياكِ/ ووارَتْ وَجْهَهَا النَّجَماتُ/ من خَجَلٍ ومن حَسَدٍ/ لِمَسْمَعِها بأنَّ اللهَ/ أبدَعَ حِيْنَ سَوَّاكِ!
قصيدة في حب الأرض/ أحبُّ عذابي فيكِ/ لأنَّكِ أمّي/ ومن قبل أمّي ومن بعدِ أمّي.../ لأنّكِ حُبّي/ وفي الحبِّ كلُّ سروري وغمّي/ أحبُّ عذابي فيكِ وهمّي!/ لأنَّكِ وحيُ قصيدي وشعري/ وخفقةُ قلبي/ وبسمةُ ثَغري../ لأنَّكِ سرُّ شقائي وقهري/ لأنّي بحملِكِ قد ناء ظهري/ فها قد حملتُكِ من بطنِ أمّي/ أحبُّ عذابيَ فيكِ وهمّي!/ لأنكِ كلُّ الأماني الطليقَةْ/ وحُلميَ أنتِ/ وأَنتِ الحقيقةْ/ وهوَّة قبري ولحدي السحيقَة/ لأنَّكِ في البالِ كلَّ دقيقَةْ/ وفيكِ اليقينُ يبدّدُ وهمي/ أحبُّ عذابي فيكِ وهمّي!/ أحبُّكِ قدري أنا مرَّتَينِ/ وأكثرَ أكثرَ مِن مرَّتَينِ/ لأنَّ سلامَكِ دِيني ودَيني/ لأنَّ ترابَكِ كُحلٌ لعَيني/ لأنَّكِ أمّي/ ومِن قبل أمّي/ ومِن بعدِ أمّي/ أحبُّ عذابيَ فيكِ وهمّي!
قصيدة خمري دمي: للعُيونِ السّودِ في بَلَدي/ حِكاياتٌ جميلةْ/ شدَّ الرِّحالَ لأجلِها النّاسُ/ مَسَافاتٍ طويلةْ/ للجِباهِ السُّمرِ في بَلَدي/ رواياتٌ أصيلَةْ/ تروي الجبالُ فُصُولَها/ والمَرْجُ يَضفُرُها جَديلَة/ للمُروجِ الخُضْرِ في بلدي/ نُجَيماتٌ دَليلةْ/ تحجُبُ الظُلُماتِ حتّى/ يهتَدي الغادي سَبيلَهْ/ ولذاك الصَّخْرِ لو تدرونَ أعماقٌ سَليلَةْ/ رَسَّخَ الزَّيتُونُ فيها/ لمدَى الدَّهرِ أصُولَهْ.../ وأنا... مجنونُ زَيتوني وكَرْمي/ وأنا...أهوَى مِنَ الكَرمِ خَميلهْ/ وأنا من خَيرِ كَرمي كُلُّ خَمْري/ وأنا خَمري دَمي آبى بَديلَه!
قصيدة في المرأة- هُــنَّ... أيطيبُ لي مِن بعدِهِـنَّ العيشُ لو أبعَدتَهـنَّ؟/ بل كيفَ تعتمِرُ القلوبُ بنَبضِها من غيرِهنَّ؟/ ولئنْ يكــنَّ السّمُّ في عَقَصاتهنَّ، وقرصِهِنَّ/ ولئنْ بلغنَ من الدَّهاءِ الأوْجَ، مَرْخِيَّ الأعِنَّةْ،/ لكنّما يَبقَيْــنَ هُنَّ السِّحــرَ، هنَّ الوَحيَ هُنَّ.../ قــد صَوَّر اللهُ الجَمَــالَ مُلخّصًـا بجَمَالهِنَّ!/ وأراهُ قــد جَعَلَ الحَنــانَ مُجسّدًا بقلوبهِـنَّ../ ويطيبُ لي أن أرتَوي مِن نبعِهِنَّ وصَفوِهِنَّ.../ ويلذُّ لي أن أكتَوي، إذ أكتَوي، في نارِهِنَّ/ فــي لحظهــنّ أسِنّةٌ، أوّاهُ من تلكَ الأسِنَّةْ!/ لكنَّهُنَّ، إذا غضِبنَ، جَعَلنَ عذبَ اللَّحنِ عَنَّةْ/ فاسترضِهِنَّ وراعِهِنَّ بفطنةٍ/ من كَيدِهِنَّ/ واحفَـظْ لهُــنَّ مقامَهِنَّ، ولا تحمّلهُــنَّ مِنَّةْ/ ودارِهِنَّ فإنهُنَّ، متى أرَدْنَ/ جَعَلنَ للأخشابِ رَنَّـة./ وبكِلْمَةٍ.. وبلَحْظةٍ / يجعَلنَ نارَ الأرْضِ جنَّةْ!
قصيدة الشرقية: همُ ابتلـوها وقالـوا/ بأنَّ فيـها البَليَّـةْ/ وكبَّلــوها وشَدُّوا قُيـُودَها القَهْريَّـةْ/ غنيـمـةً  صَيّـروهـا  وسُلعـةً وهَديّـَةْ/ يا وَيحَهُـم صوّروهـا مَنبــوذةً سَلبيّـةْ/ قالوا: لها نِصْفُ عَقْلٍ، فـهـَـل تكــونُ ذكــيَّةْ؟/ ليسَتْ كما وَصَفوها لِكـَونها شَرْقيَّـةْ/ لكنّـهمْ غيَّبـوها عن مـَوْكِبِ البَشَريَّةْ/ واليـَـوْمَ يُطلَبُ مِنهـا أن تَدْحَـرَ الغَربيَّةْ/ في العِلْمِ والفَهْمِ حتّى في جَوهرِ الحُريّةْ/ يا قومُ لا تظلموها، لا تجعلـوها ضَحِيَّةْ/ فإنَّ  فيهـا كُنــوزًا  وثــَـرْوةً  وَطَنـيَّــةْ/ واستنهِضُوها بحَـثٍّ وَحِكمَـةٍ وَرَوِيَّــةْ/ ومهّـِدوا الدَّربَ حتّى تَسيرَ فيــهِ أبيَّـةْ/ مَرْفوعَةَ الـرَّأسِ فـِكرًا وقــُدرةً أدَبـيّـَةْ/ تجنوا ثِمارًا، لعَمْري، لـَذيـذةً وشَهيّـةْ/ من يزرعِ الجَهْـلَ يَحْصِدْ بَيَـادرَ الأمِّيّـَةْ!
قصيدة في الطفل: هاتوا الصّغارَ أضمُّهُم: هاتوا أياديكُمْ/ إذا تَعِبَتْ وأضناها العَمَلْ/ هاتوا أقَبِّلْها/ وأغسِلْها بدمعٍ في المُقَلْ/ هاتوا كواهِلَكُمْ/ فقد حمَلَت مدى العُمرِ الثِّقَل/ والأرضُ منكُم لم تَزَلْ/ مِعطاءَةً منذُ الأزلْ/ هاتوا معاوِلَكُم/ أزيِّنْها/ بشاراتِ الظَّفَرْ/ هاتوا مواجِعَكُم/ أطيّبْها/ بزيتٍ من شجَرْ/ زيتونِنا الطفّاحِ من جوفِ الحجَر!/ هاتوا صِغارَكُمو/ أضمّهمو/ إلى الصدرِ العَطِرْ/ هاتوا/ لأطبعَ فوقَ جبهَتِهِم قمَرْ/ فهُمُ البدايةُ والنهايةُ/ والحكايةُ والخبَرْ/ وهمُ القضيَّةُ والهويَّةُ/ والمسيرةُ والأمَلْ!
قصيدة موطني الدنيا: مَوطني الدُّنيا/ وَحُبُّ الخَلقِ ديني/ وَسَلامُ الأرضِ إيماني/ يقيني/ ضَحْكَةُ الأطفالِ في عُرفيَ أشجى/ مِن رَنينِ العُودِ واللَّحْنِ الحَنونِ/ ونَعيقُ البُومِ  في الأجْواءِ حُرًّا/ لهو أحلى مِن غِنا الطيرِ السّجينِ/ وَوُرودُ الرَّوْضِ/ فَوْقَ الغُصُنِ/ أبهى مِن وُرودٍ داخلَ الزِّقّ الثمينِ!/ لا تقولوا: ذاكَ مَجنونٌ/ وتمضوا/ ليتَكم تَدرونَ بَعْضًا مِن جُنوني!/ فاعذروني في هَوى قلبي/ لأنّي أعْشَقُ الأحْجارَ في بَرٍّ أمينِ/ أعشقُ الأمْطارَ والأنْسامَ/ حتّى أعْشَقُ الوَمَضاتِ في صَفوِ العُيونِ/ فاترُكوني، في غَرامي مُستَهيمًا/ وكِلوني لسلامي وشُجوني/ فإذا شِئْتُم/ هَلمّوا/ رافِقوني/ بسَلامٍ خاطِبوني/ وسَلامًا بادِلوني/ واركَبوا بحريْ/ ونَوئي وسَفيني/ واحمِلوا حُبّي وهَمّي وشُجوني/ وتعالَوا نزرعُ البَحْرَ سَلامًا/ نفرشُ الأرضَ بزَهرِ الياسَمين.ِ
قصيدة في الشعر الساخر: لا تقولوا مائلة!
لا فرقَ إن شَدَّت وإن أرخَت/ فما مِن مُشكلَهْ/ ها نحنُ في أحلامنا نحلُّ كلَّ مُعضِلَهْ/ ونحنُ في أوهامِنا نجتازُ كلَّ مرحلَهْ / فلا تثيروا القلقَلَة/ ولا تزيدوا البلبلهْ/ ولا يقضُّ نومَكم تفكٌّر في مسألهْ/ وإن تَرَوا مُعوَجَّةً فلا تقولوا: مائلهْ!/ مرّوا بها مرَّ الكرامِ كما تمرُّ السابلهْ/ فالصمتُ أسلم ما يكون/ لكي تظلَّ القافلة/ تمشي على الدربِ بلا مُعترضٍ أو عرقلَهْ/ لا تتعِبوا أعصابَكم/ لا تجهِدوا أفكارَكُم/ فإن نطقتم فاحذروا من بنتِ فِكْرٍ قاتلة/ فكل ما تبغون سهلٌ نيلُهُ/ ما أسهلَهْ/ من فلقةِ الصابون حتى المغسلهْ/ من قارب الصيادِ حتى الناقلهْ/ من مركب الحنطورِ حتى الحافلَهْ/ من قشة الكبريت حتى القُنبلَهْ/ فلنحمد اللهَ الذي أزاحَ عنا الأحملَهْ/ وخصَّها بغيرنا/ من غير ما أن نسألَهْ/ فليعملوا، وليجهدوا/ ولينتجوا كلَّ الذي نحتاجُ أن نستعملَهْ/ أو نلبسَهْ/ أو نأكُلَهْ/ يجري بنا أو نحملَهْ/ وليحفظ اللهُ لنا أمخاخَنا المعطَّلَهْ/ مرتاحةً مُدلَّـلهْ/ ونحن في المحصّلة/ جميعنا يدركُها أعرافنا المهلهلهْ/ لكننا اعتدنا على قيودها المكبِّلَهْ/ حتى غدت في طبعنا/ والطبعُ لا طبيبَ لهْ!
قصيدة سِر منقلِبًا: المنطقُ يبدو مَوروبا/ والباطـلُ أصبحَ مَرغوبا/ والعَدْلُ  اختـلَّ  توازنهُ/ والحــَقُّ تَبَـدَّدَ مَسْلوبا/ ميزانُ النَّحْوِ بهِ خَلَـلٌ/ فالـرَّفْعُ أتانا   مَنصوبا/ قد كانَ لإنَّ شقيقاتٌ/ هاجَرْنَ شَمالاً وجَنوبـا/ فغدَتْ من ضَعفٍ عاجِزَةً/ أن تأخُذَ  في النَّحوِ نَصيبـا/ والممنوعاتُ مِنَ الصَّرف انصـرفت لا تخشى تأنيبا/ المشرِقُ تغشاهُ دَيـاجٍ/ تمتــدُّ قـُرونًا وَحُقوبا/ والمغرِبُ قد أمسى شرقًا يتـَـوَهَّجُ    نــورًا ولهيبـا/ والأرنَبُ    يَتَبَوّءُ  عـَرْشًا/ والأسَـدُ   تبَـَدّى  مَركـوبا/ والنَّعـجَةُ  تقتاتُ  لحومًا/ والذِّئبُ حَشائشَ وعُشُوبا/ تَطـِلُّ  عَلَينا  أَحـَكـامٌ/ تُسمِعُنا في الحُكمِ عَجيبا/ أن  تبقى أنتَ  بلا  وَطَنٍ   / أو تحيـا في الـوَطَنِ غَريبا/ في  زَمَـنٍ  أصْبَحَ  مَعكوسًا/ مَفهـومُ  العَدْلِ  ومَقـلـوبا/ سِر مُنقَـلِبًا  حتى تَبـقـى/ فـي نَظَـرِ العـالَمِ  محبوبا
قصيدة في الاجتماعيات: هناكَ عِندَ المنعَطَفْ:هناكَ عِندَ المنعَطَفْ، في آخرِ الطَّريقْ،
قد كانَ لي صَديقْ/ أعزّهُ، أحبُّهُ مَحبَّةَ الشَّقيقْ/ منذُ الطُّفولةِ والصِّبا كانتْ لنا أيّامْ/ كانتْ لنا جَولاتنا/ كانتْ لنا سَهراتنا/ أخبارُنا، أسرارُنا/ كانت لنا الآمالُ والأحْلامُ والأوْهامْ/ تمشي على أقدامْ/ لكنّما انشغالنا/ في زَحْمَةِ السِّباقْ/ في عَصْرِنا هذا الذي يدعوكَ لِلّحَاقْ/ قد أبعَدَ المزارَ/ وأسْدَلَ السِّتارَ/ ولم نعُدْ لنلتقي برغمِ الاشتياقْ.../ أقولُ كُلَّ يومْ:/ لا بدَّ أن ألقى غدًا صديقيَ الحَميمْ/ لا بدَّ أن نَعودَ ما كُنّاهُ في القَديمْ/ والوَقتُ يمضي مُسرِعًا/ يومًا وراءَ يوَم/ يمضي كما الِّلصُّ فلا أكادُ أستفيقْ/ إلاّ وقد ودَّعْتُ عامًا قبلما أفيقْ!/ البابُ يُطرقُ في الصَّباحْ/ أقولُ: يا فتاّحْ!/ أجري فأفتحُ كي أرى/ جارًا لنا في البابْ/ يغشاهُ الاكتئابْ/ يقاومُ البُكاءْ/ يقولُ باقتضابْ: صَديقُكَ العَزيزُ عندَ المُنعَطَفْ/ لكُمْ طولُ البقاءْ!
قصيدة يا صديقي: قد لا يمكن لي أن أمنَعَ عثرةَ قَدَمَيكْ/ لكنْ، يمكنُ لي مد يدي كَي لا تهوي/ قد لا تجمعنا أحلامٌ أو آمالٌ/ لكني أسقي آمالَكَ كَي لا تَذوي/ قد لا يحلو لي طعمُ شرابٍ تشربُهُ/ لكني أرجو أن تنهَلَ ممّا يُروي/ قد لا يُعجِبُني رأيٌ منكَ ومُعتَقَدٌ/ أو قَولٌ ينبُعُ عن عَمدٍ أو عَن سَهوِ/ لكنّي أصغي، إكرامًا لصداقتِنا/ كي يبقى موصولاً أبدًا حَبلُ الصَّفوِ
قصيدة عيون بلادي: شو غنّوا لَعيون الزُّرْقْ/ ويامَ غنّوا لَعيون السُّودْ/ رَح غنّي لعيون بلادي/ إلما عِرْفتْ للجُود حْدودْ/ بْغَنّي للمرج الأخضَرْ/ وترابو الحلْوِ الأسمَرْ/ بْغَنّي لَغْلالِ البَيدَرْ/ وسواعِد تزرَع وزنودْ/ عيون بلادي مَنبَع خَيرْ/ مَنهَل حُبّْ ومَرتَع طَيرْ/ يسري حُبَّا بدمّي سير/ مِتْأًّصِّلْ عن سبْعِ جْدودْ
موال: بلادي بْيوم ما ربِّي جَبَلْها/ وأخصَبْ سَهِلْهَا وعَلَّى جَبَلها/ جبَلها بالوفا، ولمَّا جَبَلها/ ضِحِكْلا وقال: يا أحلى البلادْ!
مْنِ عْيونا ينسابِ النَّهْرْ/ يخلّي المَرج يفتّحْ زهْرْ/ ويِطلَعْ فَجْرْ ويدفَعْ مَهْرْ/ تا يقطُفْ مِنْها عنقودْ!
قصيدة حلوة الأوصاف: بتتذكّري يا حلوة الأوصافْ/ عَ حْفاف مجرى المي ملقانا/ نقعد بفيّة شجرة الصفصاف/ ونوشوش الميات نجوانا/ بتتذكّري، بعمر الورد كنّا/ وغير اللعب بالحبّ ما عِنّا/ لو كان فينا نرجّع الأيام/ ونذكّر الميات شو قُلنا/ بعدو النهر جاري وميّاتُه/ بتوشوش الصفصاف نغماتُه/ وبعدو القمر بيطل في هالليل/ والليل متباهي بنجماتُه/ وبعدِك بقلبي زغيَّرة وحلوة/ وبعدو خيالك والقمر في المَيّ/ وبعدك على شفاف الهوى غنوة/ بتدور في سهرات أهل الحيّ!
رسالة من شاعرٍ مسلوب الإرادة في الخدمة العسكرية في أرضٍ محتَلَّة: كانون الثاني 1987 (إبانَ الانتفاضة الأولى): حبيبتي/ من بقعةِ ما ههنا/ في أرضنا "المحرَّرَةْ"/ أخطُّها رسالةً/ إليكِ غَيرَ عاطِرَةْ/ حبيبتي/ لا تفزعي مِن لهجتي المغَيَّرَةْ/ فكلُّ ما يحيطُ بي مُستَنكَرٌ كما أرى!/ حجارةُ البيوتِ تبدو كالوجوهِ الساخِرَةْ/ أفواهُها مفغّرَةْ/ كأنّما تهمُّ أن تبتلِعَ المجنزَرَةْ!/ والريحُ حَولي هادرَةْ/ عاصفةٌ مزمجِرَةْ/ وأعيُنُ الأطفالِ كالمصائدِ المحضَّرَةْ!/ بالأمسِ يا حبيبتي/ خرجتُ في مهمّتي/- مهمّتي المقرَّرَة-/ وكانَ في معيَّتي/ لا أستطعُ قولَ ذا/ فالبَوحُ محظورٌ هنا/ والقَولُ يا ما أخطَرَهْ!/ حصيلةُ القَولِ إذَن/ موجزةً مقصَّرَةْ/ أن عادتِ القوَّاتُ مِن مَيدانِها/ مظفَّرَة!/ حبيبتي/ يومٌ مضى/ أودُّ ألاّ أذكُرَهْ/ قد عُدتُ يا حبيبتي أجرُّ ذَيلَ خَيبَتي/ مِن ذاتيَ المُقَهقَرَةْ/ هزيمتي في داخلي/ بعارِها مؤَزَّرَةْ/ وصورةُ الإنسانِ في قرارتي/ مصدوعةٌ مكسَّرَةْ...
حبيبتي/ بطولتي في الأحرُفِ المزهِّرَةْ/ بالحبِّ، بالإيمانِ/ بالإنسانِ في ما طَوَّرَهْ،/ في كِلمَةٍ أقولها/ مضيئةً معبِّرَةْ/ عن صورَةِ اللهِ التي أهداكِ مِنها مِسطَرَةْ،/ وقهرُ شعبٍ أعزَلٍ بطولةٌ مزوَّرَةْ!/ حبيبتي/ قولي لهُم/ لإخوَتي، لقادَتي/ قولي لهُم: يا سادَتي/ لا تقتلوا الإنسانَ في الإنسانِ كَي لا نخسرَه! وإن أنا في خِدمَتي/ تشوَّهَت هويّتي/ فلتأخذي بريشتي/ ولتكتبيها قصَّتي/ ولتكملي قصيدتي/ فأنتِ بعدي شاعرَةْ/ وألفَ ألفَ معذرَةْ!
من قصائده القصصيَّة الرمزية: من مشتل السلام: مِن مَشتَلِ السَّلامْ/ زرَعتُ في بُستاننا في سالفِ الأيَّـامْ/ شُجَيرةً صَغيرةْ/ شجَيرةَ الأحْلامْ/ رَعَيْتُـها، روَّيتُـها/ حَفِظتُهـا/ مِن كُلِّ شرٍّ مُحدِقِ/ مِن يَومِ حَرٍّ مُحرِقِ/ ومِن شِتاءٍ مُغرِقِ/ شُجَيرَتي قد أينَعَتْ فأورَقَتْ وأوشَكَتْ/ أن تَبدأَ الإزهارَ/ لتُعطِيَ الأثمارَ...
وذاتَ يَومْ/ حَطَّتْ على شُجَيرَتي جَرادَةٌ عَنيدَةْ/ تَنهَشُ في أوراقِها مَسرورةً سَعيدَةْ/ حاوَلتُ أن أردَعَها بجُملَةٍ مفيدَةْ/ حاوَلتُ أن أطرُدَها لجِهَةٍ بعيدَةْ/ لكنَّها تَمَرَّدَتْ/ تَوَعَّدَتْ وهدَّدَتْ/ واستنفَرَتْ مِن جِنسِها جماعَةً مَزيدَةْ/ وأعلَنَتْ بأنَّها السُّلطانةُ الفَريدَةْ/ والنَّهْشُ مِن شُجيرَتي/ في عُرفِها، عَقيدَةْ/ ولم أجِدْ في إخوَتي مَن يُدرِكُ المكيدَةْ/ فكلُّهم مُقيَّدٌ ولازمٌ حُدودَهْ/ وكلُّهُم مسيَّرٌ وكاظمٌ رُدودَهْ/ وكلُّهُم/ لو أدركوا/ حقولُهُم مَرصودَةْ...!/ وأصبَحَتْ شُجيرتي/ مِن مَشتلِ السَّلامْ/ مَحزونةً كئيبَةْ/ وَلم تزَلْ غريبَةْ/ تنتظرُ العجيبَةْ/ في مَوكِبِ الأيَّامْ..
قصيدة من قصائدي الوطنية:غضِبَ التُّرابُ:
قذفـوا إلـى لُجَـجِ البــحار برايــتي/ فمضَتْ شراعًا غالَبَ الإعصارا/ هَـدَروا دمائـي في مساربِ عَـودتي/ فغــدَت دمــائي للرفــاقِ منــارا/ وضعوا السلاسل والقيود بساعدي/ فأخــذتُ منهــا اللحنَ والأوتارا/ سرقوا مدادي حين خافــوا كِلْمَتي/ فَطفِقْــتُ أكتبُ بالـدَّمِ  الأشعارا/ وبدَت كــأروعِ ما تكــونُ قصائدي/ فاغتاظَ جلاّدي  وشـدَّ حصـارا/ قلعــوا الكــرومَ وأحــرقوا بيّــارتي/ غضِبَ  الترابُ  فأنبتَ  الصبّارا/ نزعــوا سلاحي خشيـةً من ثورتي/ فقذفتُ في وجهِ  الطغاةِ   حجارا/ نسفــوا المنازلَ والبيــوت بقـريـتي/ فتخـذتُ  حقّــي  منــزلاً  وديارا/ وبقيــتُ مُعتصــمًا بحـقّــي مؤمــنًا/ أَنّــي سَأُبْعَـثُ  مـاردًا  جبّــارا
قصيدة يا مجرى المي: كلمات: جورج فرح وألحان: بشارة عواد: يا مجرى المي/ فاكر بعدك أيامه/ يا مجرى المي/ يا زهور الفي، ذبلوا عيونك أو ناموا/ يا زهور الفَي/ يا أهل الحي خلوا القلب بأحلامه/ وشوي شوي يا ويلي وشوي شوي/ وشوي شوي عاللي مجروح بقلبه/ واللي في الضَّي ماشي ومش شايف دَربه/ أوف ويا بَي مغناته بقصة حبه  أوف وياباي
موال: يا مجرى المي سلِّم لي عليهم/ قتلني الشوق يا أهل الله إليهم/ ظلمني القلب/ ما بعمره نسيهم/ تراهم بدلوا غيري حباب!
قلبي يا خي/ من يوم فراقه ناطرْ/ قولوا  يا خْطَيْ/ كلمة جبر الخواطرْ/ يلويني لي/ والله بتعذيبي شاطرْ/ يلويني لَيّ/ ضيَّعت صْبَايْ/ يا أهلي لا تلوموني/ لا تزيدوا عْلَي/ وين دْروبُه دِلُّوني/ ما بعدُه شَيْ/ ياهْل الله  يِملّا عيوني/ ما بعدُه شًي/ إيه والله ما بعدُه شَي
قصيدة العود: كلمات: جورج فرح وألحان: بشارة عواد
دوزن أوتارك يا عودي/ ويا ناي بألحانك جودي/ غني لي وعيدي يا ليالي/ يا ليالي اللي راح تعودي/ دوزن أوتارك سمعني/ صوتك وأنينك يشجيني/ لو كان الجرح بيوجعني/ رنة أوتارك تشفيني/ ما بين الكاس وأنغامك/ دنياي وصفوة أيامي/ ما بين سكوتك وكلامك/ لهفي وأشواقي وأحلامي/ دوزن يا عود/ غرد يا عود/ بدِّد أحزاني وأوهامي/ إلعب يا عود/ إطرب يا عود/ أنغامك بلسم آلامي
قصيدة يا حلوة يا اللي فبالي: كلمات: جورج فرح وألحان: شفيق زهر
يا حلوة يا اللي فبالي/ شو حبك عندي غالي/ لو كانت ايدي بتطول/ لبنيلك قصر العالي/ يا حلوة مين قدك مينْ/ قدامك ضاعوا الحلوين/ لو غبتي من عيوني سنينْ/ ما راح غيرك يحلالي/ يا حلوة حبك غلاب/ دوَّبني وعمره ما داب/ لو هالليل الأسود شاب/ ما بغيّر عنك حالي/ قالوا الحب دروب دروب/ وأنا اللي بحبك مغلوب/ غرقان وما بدّي توب/ نيّالي يا نيّالي
قصيدة فيِّي على الأحباب- كلمات: جورج فرح وألحان: ميشيل ديرملكنيان
فيِّي على الأحبابْ/ يا شجرة العنابْ/ لو يعرف اللي غابْ/ قلبي عليه شو دابْ/ بتتذكري أيام كنا بفيّتك نرتاح/ يُسرق النغماتْ منَّا البلبل الصدَّاح/ شو همسَتِ النسماتْ عنا بعِطرها الفوّاح/ يا ملتقى الأحباب... يا شجرة العناب/ دارت الأيام فينا والهوى شو دار/ وبعدك بطيات قلبي للهوى مشوار/ شو كتبنا وشو محينا بالهوا  أسرار/ والدَّهر قلاب... يا شجرة العناب
القمر لو غاب/ لازم نقشعُه بُكرَه/ والأمل في القلب، لا بد نلتقي مرَّة/ واللي حفظلك عَهدِكِ وعايش على الذِّكرى/ راجعلك ولو غاب...    يا، يا شجرة العناب!
قصيدة يا جارتي السمراء: كلمات: جورج فرح وألحان: ميشيل ديرملكنيان
يا جارتي السمراءْ/ يا نفحةَ العطرِ/ رموشك السوداء/ تنهل بالسحرِ/ تقول لي العينان:/ أهواك يا جاري/ في موجة الألحان/ دوَّنتُ أشعاري/ يا جارتي إنّي/ أخشى على قلبي/ يا لَوعَتي منّي/ ومن ضنى حبّي/ الحب أعياني/ من ذاكَ يشفيني؟/ فغمَستُ ألحاني/ في برد تشرينِ/ قد مزّقت قلبي/ دوامة الإعصار/ فصرختُ: يا حبي/ رحماك يا جبار!/ يا جارتي السمراء/ القلبَ  أهديكِ/ في حرقة الأشواق/ روحي تناديكِ !   
قصيدة حلمك علينا: كلمات: جورج فرح و ألحان: ميشيل ديرملكنيان
حِلْمَك علينا يا هوى/ حِلمَك علينا/ لا بد ما نلاقي الدوا، ونرحم عينينا/ راحوا الحبايب طوّلوا/ وما ودّعونا/ هم اللي باعوا يا هوى/ واحنا اشترينا/ صبرك علينا يا هوى/ وحياة عيونك/ مهما الفؤاد داب وانكوى مش راح نخونك/ إن طال عليك ليل النوى ودبّل جفونك/ نِسْهَر بدالك يا هوى/ واشهَدْ علينا/ حلمك علينا يا اللي في حلمك معاني/ ينساني عمري إن كنت أنساك في زماني/ ما أقدرش أروح للناس أبوح وأكشف هواني/ من خوفي منهم يا هوى يحكوا علينا

















158
آمال عوّاد رضوان ما بينَ الممكنِ والمستحيل!

آمال عوّاد رضوان
ولأنّني عاشقةٌ جبرانيّةٌ منذُ تفتّحت مجسّاتُ حواسّي على الحياةِ، كان جبرانُ سميري وخليلي وحبيبي، أتعزّى بحروفِهِ في حزني، وأتلهّى بكلماتِهِ في ضجَري، فيغمرُني ببصيصِ فرحٍ يُغبّطُني، ويُواسيني مداعبًا عاتبًا:
"ما أكثرَ ما تمتلىءُ البئرُ الّتي تسقين منها ضحكاتِكِ بفيضِ دموعِكِ، فعَلى قدْرِ ما يغوصُ الحزنُ في أعماقِكِ، يَزيدُ ما تستوعبينَ مِن فرحٍ، أليستِ القيثارةُ الّتي تَسكُنُ لها نفسُكِ، هي قطعةُ الخشبِ الّتي حفَرَها سكّين؟ حين يَستخِفُّكِ الفرحُ اِرجعي إلى أعماق قلبِكِ، فترَيْنَ أنّكِ في الحقيقة تفرحينَ بما كان يومًا مصدرَ حزنِكِ، وحين يَغمرُكِ الحزنُ تأمّلي قلبَكِ مِن جديدٍ، فسترَيْنَ أنّك في الحقيقةِ تبكين ممّا كان يومًا مصدرَ بهجتِكِ، فدعي الحاضرَ يُعانقُ الماضي بالذّكرى، والغدَ بالحنين!"
ولطالما يتمدّدُ الليلُ في اضطرابِهِ الكئيبِ يُناجيني، يَتثنّى نسيمُهُ العابثُ مُتمايلًا، بشَجيِّ نايِهِ يُناغيني، يُوشّحُني بأشباحِ الرّهبةِ وطَرحةِ الأخيلة، لتَزفَّني عرائسُ العتمةِ بنشيدٍ وديعٍ إلى كوّةِ الحزنِ، حيثُ أنّاتُ خليلي تنسابُ إلى عُمقِ روحي المُلبّدةِ بالسكينةِ!
تتسلّلُ.. تندسُّ في ثقوبِ خلوتي، تتخلّلني، تُجَبْرِنُني بعشِقِه المُفعمِ بأذيالي، وتُبشّرُني بفرحٍ آتٍ، يُتوّجُني بإكليلِ الحياةِ كي أكون! تتلبّبسني البسمةُ: أكونُ؟ كيف أكونُ؟ وأينَ أكون؟ ومتى أكون؟
هناك.. في الأفقِ الغافلِ عن مواعيدِهِ، تنهّدَتْ أجراسُ الحنينِ بأنفاسِها المسحورةِ، تُسكرُني بحنانِها الممشوقِ، وتدعوني مصابيحُها المُعطّرةُ بالنّور، إلى كأسٍ تمتلئُ بهتافِ غبطةٍ هامسٍ:
يا الكائنةُ ما بينَ الممكنِ والمستحيلِ، عسى قراءتي تلقى استحسانَكِ، وتنشرينها أينما ترغبين!
بسرورٍ، يا الناقد عبد المجيد جابر، يا مَن تُلهب غروريَ المتواضعَ بتحليلكَ الأدبيّ للقصيدة:

في مَهبِّ رَصِيفِ عُـزلَـة/ للشّاعرة: آمال عوّاد رضوان!؟
المَجهُولُ اليَكْمُنُ خَلفَ قلبي
كَم أَرهبُهُ يَتَكَثَّفَ وهْمًا
عَلى/ حَوافِّ غِلافِهِ
أَخشَاهُ يَحجُبُ برَائبِ غَيْمِهِ أَقمَارَ حُلمي
أن تَتَطاولَ يَدُ عَقلي
تَهُزُّني ../ تُوقِظُني ..
بِلُؤمٍ سَاخِرٍ
مِن سَكْراتِي الهَائِمَة
كَيفَ أَمنَحُكَ قلبيَ الآنَ
وقدِ اخْتَطفَتْهُ مَلائِكةُ الحُبِّ
إلى فُسحَةٍ في العَراء
كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ
حينَ تَتماوجُ في فَضاءاتِ الخَيالِ؟
كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ
وتَركُنَ حِيالَها عَاجِزًا .. شارِدَ الرُّوح !
آهٍ .../ ما أَشقاهَا المرأةَ
حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ
إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة ..
كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ
في سَحيقِ هَاوياتِها
يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ
يَترُكَها أَجِنّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها
قَد أَكونُ أَرهقتُكَ؛
بِضَجيجِ فِكري/ بِضَوضاءِ قلبِي
أَشعرُ بالذّنْبِ
حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي
وما مِن ذَنْبٍ أَقترِفهُ
سِوَى أن تتكَبَّدَ جَرِيمةَ حُكْمِي
أُحِسُّ برَاحةٍ غَريبةٍ
حِينَما أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي
بِلُؤمٍ أَبْلَه
أَحتَاجُ إليكَ ..
بِنَسيمِكَ أَكُونُ مَلكْتُنِي
وَبِغُبَارِكَ أَكُون خَسِرْتُنِي
فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ
في كُؤوسِ ضَعفِي
ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي
أَرهبُ عليكَ مُنازلتَها الشَّقِيَّة
ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا أَغرقتُهُ في سُبَات !
لَيْتكَ تَغمُرني كلَّ آنٍ
بِلَحظاتِ حُزنِكَ وَعذابِكَ
قَدْ تَقتُلُ بِيَ الخَوفَ والشَّكّ
كَيفَ آمرُنِي أَن أُغادِرَكَ ؟
وقَلبُكَ احْتَلَّنِي
رُوحُكَ تَتجلَّى في مَرايا رُوحِي
وأنتَ ظِلِّي المُلاَصِقُ
بِحَرْفي ../ بِخَوْفي ../ بِعَطْفي ..
أنا المَصقُولةُ بِكَ / المَرهونةُ لَك
كَم بِتُّ رَهِينةَ رَوعَتِك !
أَرتَاعُ حِينَما أُحِسُّ بالشَّوقِ
يُدثِّرُني بِثَوبِ الإِثْم
أَجزَعُ وأَهرُبُ
كي لا أُكَابِدَ/ في وحدَتي
مَغَارزَ الأَلَم
لا تَترُكْني رَعشةً
في مَهبِّ رَصِيفِ عُزلَة
رغم أَنَّ تلكَ النَّسائمَ أَصبحتْ
تَطِيبُ لي وتُغفِيني !
*ثانيًا: التّحليلُ الأدبيّ:
جوُّ النّصّ:  تتحدّث عن معاناة المرأة في صمتِها، ما بين البوح والكتمان، وما بين الممكن والمستحيل، وما بين المفروض والمطلوب، والحاجة الشخصيّة والحاجات المجتمعيّة، بكلّ الأحاسيس التي تُكابدها الأنثى في عزلتها، فهي تريد أن تكون شريك الرَّجُل أو أقلّ درجة، لكنّها لا تجد ذاتها، ولا تتلمّس كيانَها، في ظلّ مجتمع لا يُراعي أمانيها أو نبضَ أحاسيسها، فتظلّ أسيرةَ الوحدة... 
*الأفكارُ الرّئيسة:     
1. شعورُ الشاعرة بالرهبة والخوف، وهي ترى واقعَها وهمًا وخيالًا، فأقمارُ أحلامِها قد حُجبت واستُتِرتْ بفِعل المجتمع.
2. تتحسّسُ الشاعرةُ مرارةَ اليأسِ مِن جرّاء عزلتِها، لكنّ أحاسيسَها تسخرُ منها، وضميرَها يُؤنّبُها على عجْزِها.
3. ترى الشاعرةُ أنّ المرأة لم تعُدْ تثقُ بالرّجُل، أو المجتمع الّذي أبعدَها عن دوْرها الطبيعيّ، وقَلَبَها نبْعَ عطاءٍ اختطفتْهُ ملائكةُ الحُبّ.
4. تُعلنُ الشاعرةُ أنّ المرأة لديها رغباتٌ جامحةٌ وأمانٍ وأحلامٌ، لكنّها عاجزةٌ عن تحقيقِها، فتراها شاردةَ الذهن والوجدان أمام هذا الواقع المهمِّشِ لرغباتِها وأمانيها.
5. تُصوِّرُ الشاعرةُ ما في داخل المرأة، فهي امرأةٌ شقيّةٌ متوجّعةٌ، تُساقُ ورغباتُها وأحلامُها رغمًا عنها في غياهبِ الضّياع.
6. المرأةُ تُطالبُ بحقوقِها، لكنّ مطالبَها لا تتحقّقُ، وهي تشعرُ بتأنيبِ الضّميرِ، وهي عاجزةٌ بأحاسيسِها المُتدفّقة نحو الرّجُلِ الذي لا يُصغي لها.
7. المرأةُ تُعاقِبُ الرّجُلَ وتُعاتِبُهُ؛ لأنّه لا يستمعُ لمطالبِهان ولا يعملُ على تحقيق أمانيها، فكأنّهُ أبلهٌ لا يُحلّلُ ولا يعي ما تريدُه.
8. تتمنّى الشاعرةُ مِن المجتمع أن يَسمعَ لمطالبِها ونبضاتِ قلبِها وشوقِها، لتَسكُبَ في روح الرّجُلِ  حنانَها، ولِيُحَسِّسَها بمكانتِها، لكنّ الرّجُلَ يَصُمُّ أذنَيْهِ، ويخسَرُ هذا السّيلَ المُتدفّقَ مِن رِقّةِ أحاسيسِها وفيْضِ عطائِها.
9. انعدامُ الثّقةِ بينَ المرأةِ والرّجل، بينَ مَن يُنادي وبينَ مَن لا يَسمع.
10. تريدُ المرأةُ أن تتوحّدَ روحُها مع روح رجُلٍ لا يُهمِّشُها، لكن دون جدوى.
11. المرأةُ تبقى أسيرةَ وحدتِها.
لذلك نرى أنّ الأفكارَ عندَ شاعرتِنا في مقطوعتِها هذه مُنْصَبَّةً في قلبِ عناصر العملِ الأدبيّ مجتمِعة، (لقد بيّن روّاد الشعر العربيّ الحُرّ، كيف تندمجُ الأفكارُ مع بقيّة العناصر المُكوِّنةِ للقصيدة، بحيثُ لا يمكنُ فصْلُها عن السّياقِ الشعريّ، إذ تصبحُ جزءًا مِنَ البناء الفنّيّ والصّورة الفنّيّة. فالبياتي يرى "أنّ الأفكارَ تختلفُ في الصورةِ الشعريّة، فلا يَبرُزُ مِن القصيدة غيرَ بنائِها الفنّيّ وصُوَرِها الشّعريّة"(1 ). فالفكرةُ جزءٌ مِن عناصرَ كثيرةٍ تُكَوِّنُ مادّةَ القصيدة، ولا يُمكن فصْلُها عن المجموع أو تمييزِها مِن القصيدة. إنّها "ليست قيمةً تُضافُ إلى قيمةِ الفنّ في الشّعر، فيُصبحُ بها غيرَ ما هو، أو غيرَ ما كان"( 2)، بل هي مبثوثةٌ في كلّ العناصرِ المُكَوِّنة. 
الأشياءُ تفقدُ في الفنّ شيئِيَّتَها والأفكارُ فِكرِيَّتَها، لأنّها تنسلخُ عن أصلِها وتَلبَسُ فنّيّتَها، تُصبحُ رمزًا. الواقعُ في القصيدة يتخلّصُ "من نظامِهِ المكانيّ والزّمانيّ والنفسيّ والموضوعيّ"(3). 
*العاطفة:         
1. عاطفةُ الرّهبةِ والخوفِ مِن واقعِها الوهْميّ، والخيالُ مِن واقعِ عُزلتِها في المجتمع.
2.  التّبرُّمُ مِن مرارةِ اليأس، والسّخريةُ مِن نفسِها لعجزِها وضياعِها. 
3. عاطفةُ الأسى والحزن، بسبب انقطاعِ حبْلِ الثّقةِ بين الرّجُلِ والمرأة، ومِن شرودِ ذهنِها، وعجزِها.
4. التّوجُّعُ والتّألُّمُ مِن واقعٍ مرير. 
5. عاطفةُ الدّهشةِ والتّعجب مِن تصرّفاتِ الرّجُلِ الّذي يُفضِّلُ عُزلةَ المرأة، على أن تنسكِبَ وتتوحّدَ روحُهُ في روحِها.
6. عاطفةُ الحزن الشاعرة، فهي أسيرةُ وحدتِها.
      وتستمدُّ الشاعرةُ أفكارَها ومعانيها مِن تجربةٍ صادقةٍ، وعاطفةٍ قويّةٍ، فلا ريبَ في ذلك، فهي مُرهفةُ الأحاسيسِ، تُحِبُّ وتطمحُ في مشاركتِها للرّجُلِ وأعبائِهِ، مُتلهِّفة للرّجُل للتّوحُّدِ معهُ، على أن يُحسِّسَها بذاتِها وقيمتِها، بعيدًا عن واقعِ حياةٍ لا تَرحمُ، وقد تكرّرتْ معاني العُزلةِ ومترادفاتُها كثيرًا في المقطوعة؛ لتأكيدِ تَطلُّعِها وشوقِها بالإحساسِ بذاتِها وكيانِها، فهي تهربُ بقلبِها عن واقعٍ وحياةٍ سلبَتْها الحقوقَ، وأثقلتْ عليها بالواجباتِ، فوجدتْ في العُزلةِ والاعتزالِ خيرَ صديقٍ، وهيَ تَعجزُ عن التّغييرِ، فها هي تُعايشُ الأحداثَ بنفسِها، فانعكستْ تلكَ على أحاسيسِها ووجدانِها، وقد غلبتْ على المقطوعةِ نزعةُ الرّفضِ للواقعِ المُرِّ والمُزري، فارتفع صوتُها رافضًا هذا النّسيجَ المَبنيَّ على عدَمِ تقديرِ الإنسانِ لإنسانيّتِهِ، فتَهرُبُ أمامَ العجزِ وعدمِ التّمكُّنِ مِن التغيير، إلى خيرِ جليسِ وحدتِها وقلمِها، لتسطُرَ ما يحلو لها شعرًا نثريًّا، طلبًا للذّاتِهِ العقليّةِ والوجدانيّةِ، فهي المُلقي، والشِّعرُ هو الوسيلة، علّها تجدُ المتلقّي الذي يسمو بفِكرِهِ نحوَ الإبداع، ففي الشِّعر تُعبِّرُ عن ذاتِها وحُبِّها وآمالِها وأمانيها. 
*الخصائصُ الأسلوبيّة: أوّلًا: التّصويرُ الفنّيّ-
        *التّشبيهات: 

 أ. التّشبيهُ البليغُ: (وأنتَ ظِلّي المُلَاصِقُ): شَبَّهَت الشّاعرةُ نفسَها بظِلِّ الرّجُلِ، تشبيهٌ مفردٌ/ بليغ.
ب. التّشبيهُ التّمثيليّ: (يَترُكَها أَجِنّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها): صورةُ الرّجُلِ الذي يُهملُ عواطفَ المرأة، ولا يلتفتُ لأحاسيسِها، وهي تترقّبُ استجابتَهُ لها ولا يستجيبُ، بصورةِ الطّفلِ الّذي ينتظرُ ثديَ أمِّهِ ولا يحصلُ عليه.
*الصّوَرُ والاستعاراتُ:
المَجهُولُ اليَكْمِنُ خَلفَ قلبي
كَم أَرْهبُهُ يَتَكَثّفُ وهْمًا/ عَلى حَوافِّ غِلافِهِ
أَخشَاهُ يَحجُبُ برَائبِ غَيْمِهِ أقمَارَ حُلُمي
أن تَتَطاوَلَ يَدُ عَقلي
تَهُزّني ../ تُوقِظني ../ بِلُؤْمٍ سَاخِرٍ
مِن سَكْراتِي الْهَائِمَة
هنا مجموعةٌ مِن الصّورِ المُتلاحقةِ المُتتابعةِ، وهي كما القنواتُ العذبةُ،  تجري كلُّها وتتدفّقُ لتصبَّ جميعُها في الصّورةِ الكُلّيّةِ، وتتمثّلُ في صورةِ المرأةِ الّتي أُهمِلت في مجتمعِنا، وهي عاجزةٌ عن التّغييرِ، وغيرُ راضيةٍ على هذا الواقع، تتلوها صُوَرٌ جزئيّةٌ أخرى متتابِعةً ومتلاحِقة.
الصّورةُ الأولى: صورةُ امرأةٍ تشعرُ بالرّهبةِ والخوف، وهي ترى واقعَها وهْمًا وخيالًا، فأقمارُ أحلامِها قد حُجبتْ واسْتُتِرَتْ بفِعل المجتمع.
والصّورةُ الثّانية: صورةُ امرأةٍ تَشعُرُ بمرارةِ اليأسِ مِن جرّاء عُزلتِها، لكنّ أحاسيسَها تسخَرُ منها، وضميرَها يُؤنّبُها على عجْزِها.
كَيفَ أمنَحُكَ قلبِيَ الآنَ
وقدِ اخْتَطفَتْهُ مَلائِكةُ الحُبِّ/ إلى فُسحَةٍ في العَراء
صورةُ امرأةٍ لم تَعُدْ تثِقُ بالرّجُلِ، أو المجتمع الّذي أبعَدَها عن دوْرِها الطّبيعيّ، وقلبُها نبعُ عطاءٍ اختطفَتْهُ ملائكةُ الحُبّ.
كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ
حينَ تَتماوجُ في فَضاءاتِ الخَيالِ؟
كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ
وتَركِنَ حِيالَها عَاجِزاً .. شارِدَ الرُّوح!
صورةُ امرأةٍ لديها رغباتٌ جامحةٌ وأمانٍ وأحلام، لكنّها عاجزةٌ عن تحقيقِها، شاردةُ الذهنِ والوجدانِ أمامَ هذا الواقع المهمِّش لرغباتِها وأمانيها.
آهٍ .../ ما أَشقاهَا المرأةَ/ حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ
إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة ..
كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ
في سَحيقِ هَاوياتِها/ يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ
يَترُكَها أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها
صورةُ المرأةِ الشّقيّةِ المُتوجّعةِ تُساقُ ورغباتُها وأحلامُها رغمًا عنها في غياهبِ الضّياع.
قد أَكونُ أَرهقتُكَ؛
بِضَجيجِ فِكري/ بِضَوضاءِ قلبِي
أَشعرُ بالذّنْبِ/ حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي
وما مِن ذَنْبٍ أَقترِفهُ
سِوَى أن تتكَبَّدَ جَرِيمةَ حُكْمِي
صورةُ المرأةِ الّتي تُطالبُ بحقوقِها فلا تتحقّقُ، وهي تشعرُ بتأنيبِ الضّميرِ، وهي عاجزةٌ بأحاسيسِها المُتدفّقةِ نحوَ الرّجُلِ الّذي لا يُصغي لها.
أُحِسُّ برَاحةٍ غَريبةٍ/ حِينَما أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي
بِلُؤمٍ أَبْلَه
صورةُ المرأةِ الّتي تُعاقبُ الرّجُلَ وتُعاتبُهُ، لأنّهُ لا يَستمعُ لمَطالبِها، ولا يَعملُ على تحقيقِ أمانيها، فكأنّهُ أبلهٌ لا يُحلّلُ ولا يَعي.
أَحتَاجُ إليكَ ..
بِنَسيمِكَ أَكُونُ مَلكْتُنِي/ وَبِغُبَارِكَ أَكُون خَسِرْتُنِي
فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ
في كُؤوسِ ضَعفِي
ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي
أَرهبُ عليكَ مُنازلتَها الشَّقِيَّة
ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا/ أَغرقتُهُ في سُبَات!
صورةُ المرأةِ الّتي تتمنّى أن تُبادلَ الرّجُلَ الّذي يَسمعُ لمَطالبِها، لنبضاتِ قلبِها وشوقِها، وتسكبَ في روحِهِ حنانَها، ويُحسِّسُها بمكانتِها، لكنّ الرّجُلَ يَصُمُّ أذنيْهِ، ويخسرُ هذا السّيْلَ المُتدفّقَ مِن رِقّةِ أحاسيسِها وفيْضِ عطائِها.
لَيْتكَ تَغمُرُني كلَّ آنٍ/ بِلَحظاتِ حُزنِكَ وَعذابِكَ
قَدْ تَقتُلُ بِيَ الخَوفَ والشَّكّ
صورةُ المرأةِ هي بحاجةٍ لرَجُلٍ يَسمعُ لآرائِها، ويُشاركُها آمانيها، ويوقظ أحاسيسَها النّائمة الّتي نوّمَها التّجاهلُ والتّهميشُ، وحينَها ستثقُ بالرّجُل، وتُزيلُ عن روحِها غشاوةَ الخوفِ والشّكّ.
كَيفَ آمرُنِي أَن أُغادِرَكَ/ وقَلبُكَ احْتَلَّنِي؟
رُوحُكَ تَتجلَّى في مَرايا رُوحِي
وأنتَ ظِلِّي المُلاَصِقُ
بِحَرْفي ../ بِخَوْفي ../ بِعَطْفي ..
أنا المَصقُولةُ بِكَ/ المَرهونةُ لَك
كَم بِتُّ رَهِينةَ رَوعَتِك !
أَرتَاعُ حِينَما أُحِسُّ بالشَّوقِ/ يُدثِّرُني بِثَوبِ الإِثْم
أَجزَعُ وأَهرُبُ
كي لا أُكَابِدَ/ في وحدَتي/ مَغَارزَ الأَلَم
لا تَترُكْني رَعشةً/ في مَهبِّ رَصِيفِ عُزلَة
رغم أَنَّ تلكَ النَّسائمَ أَصبحتْ/ تَطِيبُ لي وتُغفِيني !
صورةُ المرأةِ تريدُ أن تتوحّدَ روحُها في روحِ الرّجُل، وتُصبحَ الرّوحانِ مُنسكبتَيْنِ في روحٍ واحدة، وتتمنّى منهُ ألّا يُهمِّشَها، لكن أمانيها تذهبُ أدراجَ الرّياح، وتبقى أسيرةَ وحدتِها. 
والدّلالةُ السيميائيّةُ لصُوَرِ المرأةِ الجزئيّةِ المُتلاحقةِ والمتتابعةِ في هذهِ المقطوعة، تجتمعُ وتتوحّدُ كلّها في فضاءٍ نفسيٍّ وفِكريٍّ واحدٍ، وتعودُ لأصلِها الأمّ الدّلالةُ الكبرى، أو الصّورة الكبرى المُتمثّلة في تهميش دوْرِ المرأةِ في المجتمع.
ويرى كروتشيه أنّ المضمونَ والصّورةَ يجبُ أن يُميَّزا في الفنّ، لكن لا يمكنُ أن يوصَفَ كلٌّ منهما على انفرادٍ بأنّه فنّيّ، لأنّ النّسبة القائمة بينهما هي وحدها الفنّيّة، أعني الوحدة لا الوحدة المجرّدة، بل الوحدة العيانيّة الحيّة.(4)
إنّ الوصفَ والمجازَ والتّشبيهَ  يمكنُ أن يخلقوا صورةً، أو أنّ الصّورةَ يُمكنُ أن تُقدَّمَ إلينا في عبارةٍ، أو جملةٍ يَغلبُ عليها الوصفُ المَحضُ، ولكنّها توصِلُ لخيالِنا شيئًا أكثرَ مِن انعكاسٍ مُتقنٍ للحقيقةِ الخارجيّة.(5)
*ومن الاستعارات المكنيّة ما يلي: 
شبّهَت العقلَ بشيءٍ يَهُزّ ويوقظُ ويلومُ ويسخرُ.(تَهُزُّني../ تُوقِظُني../ بِلُؤمٍ سَاخِرٍ):
وشبّهَت السّكراتِ بكائنٍ حيٍّ يَهيمُ: (مِن سَكْراتِي الهَائِمَة/ كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ/ حينَ تَتماوجُ في فَضاءاتِ الخَيالِ؟)
شبّهتِ الرّغباتِ بشيءٍ يتذبذبُ ويتماوجُ: (كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ)
شبّهَت الرّغبة بسجينٍ يُقيَّد:      (حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ)
شبّهَتِ الشّوقَ بإنسانٍ يَرمي:     (كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ)
شبّهَتِ الحجارةُ بإبرةِ ترمي:    (حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي)
شبهت الروح بثمرةٍ تُعصَر:      (فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ)
شبّهَت الضّعفَ بسائلٍ يُوضعُ في كأس:   (في كُؤوسِ ضَعفِي)
شبّهَت الآمالَ بشيءٍ لهُ قشرةٌ:       (ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي)
شبّهَت الحنينَ بإنسانٍ نائمٍ:   (ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا أَغرقتُهُ في سُبَات!)
شبّهَت كُلًّا مِن الحزنِ والعذاب بشيءٍ يَغمرُ: (لَيْتكَ تَغمُرني كلَّ آنٍ/ بِلَحظاتِ حُزنِكَ وَعذابِكَ)
 شبّهّت الشّوْقَ بإنسانٍ يُدَثّرُ، والإثمَ بإنسانٍ يَرتدي ثوبًا: (أَرتَاعُ حِينَما أُحِسُّ بالشَّوقِ/ يُدثِّرُني بِثَوبِ الإِثْم).
*ب. الاستعارة التصريحيّة:
 شبّهَت الشّاعرةُ ثورةَ الفِكرِ بالضّجيج، ورفْضَ القلبِ للواقعِ بالضّوضاءِ: (قَد أَكونُ أَرهقتُكَ؛/ (بِضَجيجِ فِكري/ بِضَوضاءِ قَلبِي):
شبَّهَت الشّاعرةُ إزالةَ كلّ مظاهرِ الخوفِ والشّكّ بالقتل: (أَشعرُ بالذَّنْبِ/ قَدْ تَقتُلُ بِيَ الخَوفَ والشَّكّ)
شبّهَتِ الشّاعرةُ تَمَلُّكَ الرّجُل لقلبِها بالاحتلال: (وقَلبُكَ احْتَلّنِي)
*الكنايات: 
(في مَهبِّ رَصِيفِ عُـزلَـة): كناية عن عُزلةِ المرأة.
(المَجهُولُ اليَكْمِنُ خَلفَ قَلبي): كناية عن واقعِ المرأةِ المجهولِ مستقبلًا.
(كَم أَرهبهُ يَتَكَثَّفَ وهْمًا/ عَلى/ حَوافِّ غِلافِهِ أَخشَاهُ يَحجُبُ برَائبِ غَيْمِهِ أَقمَارَ حُلُمي): كناية عن خوفِ المرأةِ مِن استمراريّةِ تجاهلِ الرّجُلِ لها.
(مِن سَكْراتِي الهَائِمَة): كناية عن ذهولِ المرأةِ في هذا الواقعِ المُهين. 
(كَيفَ أَمنَحُكَ قَلبي الآنَ/ وقد اخْتَطفَتْهُ مَلائِكةُ الحُبِّ/ إلى فُسحَةٍ في العَراء): كناية عن أنّ المرأةَ لن تَمنحَ الرّجُلَ عذبَ أحاسيسِها ما دام مُتجاهِلًا لها.
 (كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ/ حينَ تَتماوجُ في فضاءاتِ الخَيالِ؟/ كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ): كناية عن تألُّمِ المرأةِ لعُزلتِها.
(وتَركُنَ حِيالَها عَاجِزًا.. شارِدَ الرُّوح!): كناية عن عجْزِ المرأة وعدمِ قدرتِها في التغيير. 
(حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ/ إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة): كناية في كلٍّ عن قيودِ المرأةِ التي تكبِّلُ مِعصمَيْها.
(كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ/ في سَحيقِ هَاوياتِها/ يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ): كناية عن ضياعِ أحلامِ المرأة.
(يَترُكَها أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها): كناية عن ترقُّبِ المرأةِ.
(حِينَما أَرجُمُكَ بِإبرِ أَحاسِيسي): كناية عن غضبِ المرأةِ لتصرُّفاتِ الرّجُلِ ومحاولتِهِ تهميشها.
(أُحِسُّ برَاحةٍ غَريبةٍ/ حِينَما أُوقِعُ بِكَ قِصَاصِي/ بِلُؤمٍ أَبْلَه): كناية عن راحةِ المرأة في عقابها للرَّجُلِ المُهمِّش دوْرضها في الحياة.
(أَحتَاجُ إليكَ ../ بِنَسيمِكَ أَكُونُ مَلكْتُنِي/ وَبِغُبَارِكَ أَكُون خَسِرْتُنِي): كناية عن حاجةِ المرأةٍ لرَجُلٍ يُقدِّرُ أحاسيسَها، ويُشعرُها بذاتِها ووجودِها.
(فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ/ في كُؤوسِ ضَعفِي/ ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي): كناية عن مُطالبةِ المرأةِ للرّجُلِ ألّا يَستغلَّ ضعفَها، ويستمرَّ في تضييعِ آمالِها.
(ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا أَغرقتُهُ في سُبَات!): كناية عن فقدِ المرأة لعذبِ أحاسيسِها، في غمرةِ التقصيةِ والتّهميش. 
لَيْتكَ تَغمُرني كلَّ آنٍ/ بِلَحظاتِ حُزنِكَ وَعذابِكَ/ (قَدْ تَقتُلُ بِيَ الخَوفَ والشَّكّ): كناية عن تطلّعِ المرأة لتلعبَ دوْرَها في الحياة، واللّحاق بعربةِ التقدّم.
(كَيفَ آمرُنِي أَن أُغادِرَكَ ؟/ وقَلبُكَ احْتَلَّنِي/ رُوحُكَ تَتجلَّى في مَرايا رُوحِي/ وأنتَ ظِلِّي المُلاَصِقُ/ بِحَرْفي ../ بِخَوْفي ../ بِعَطْفي ../ أنا المَصقُولةُ بِكَ/ المَرهونةُ لَك): كناية في كلٍّ عن التصاقِ المرأةِ بالرّجُل، وخاصّة إذا قَدّرَ أحاسيسَها.
(كَم بِتُّ رَهِينةَ رَوعَتِك !/ أَرتَاعُ حِينَما أُحِسُّ بالشَّوقِ/ يُدثِّرُني بِثَوبِ الإِثْم/ أَجزَعُ وأَهرُبُ/ كي لا أُكَابِدَ / في وحدَتي / مَغَارزَ الأَلَم/لا تَترُكْني رَعشةً/ في مَهبِّ رَصِيفِ عُزلَة / رغم أَنَّ تلكَ النَّسائمَ أَصبحتْ/ تَطِيبُ لي وتُغفِيني !): كناية في كلٍّ عن تألُّمِ المرأةِ لواقعِها المُهمَّش.
*المجاز المُرْسَل: (أن تَتَطاولَ يَدُ عَقلي): ذكَرَت الشّاعرةُ اليدَ (الجزءَ)، وأرادت بهِ الكلَّ، مَجازٌ مُرسَلٌ علاقتُهُ الجزئيّةُ أو السّببيّة.
*ثانيًا: التعبيرُ (اللغة والأساليب): ويذهبُ عزّ الدّين إسماعيل إلى أنّ القصيدةَ الحديثةَ غامضةٌ على مستوى رؤيا الشاعر ولغتِهِ المستعملة، "لأنَّه ما دامت الرّؤيا مغايرةً لِما هو مألوفٌ، وكانت اللّغة المستخدمَةُ خاضعةً لطبيعةِ هذه الرّؤيا، فإنّه مِن الطّبيعيّ أن يُغلّفَ القصيدةَ إطارٌ مِن العتمة، ويجعلَ الولوجَ إلى عالمِها شاقّا" (6).   
وقد تعرّضَ روّادُ الشّعرِ العربيّ الحُرّ لظاهرةِ الغموضِ في القصيدةِ الحديثة، وعَدُّوا ذلكَ مِن طبيعةِ الشّعر، لأنَّهُ رؤيا تكشفُ المجهولَ، وتتجاوزُ الرّاهنَ، وتقولُ المستقبل. ولأنّ لغتَهُ إبداعيّةٌ تخترقُ العادي، لتقولَ ما لا تستطيعُ اللّغةُ العاديّةُ قولَه.(7)
*1.الألفاظ والتراكيب
أ. العنوان: القصيدة بعنوان (في مَهبِّ رَصِيفِ عُـزلَـة)، فالعنوانُ يتشكلُ مِن جارٍّ ومجرورٍ، وهو خبرٌ لمبتدأ محذوف، يتلوهُ مُضافٌ ومضافٌ إليهِ مرّتيْنِ، وكلمة (مهبّ):
ابن سيّده: هَبَّتِ الريحُ تَهُبُّ هُبُوبًا وهَبِـيبًا: ثارَتْ وهاجَتْ؛ وقال ابن دريد: هَبَّتْ هَبًّا، وليسَ بالعالي في اللّغة، يَعني أَنّ المعروفَ إِنّما هو الـهُبُوبُ والـهَبيبُ؛ وأَهَبَّها اللّهُ. الجوهريّ: الـهَبُوبةُ؛ الرّيحُ الّتي تُثِـير الغَبَرة، وكذلك الـهَبُوبُ والـهَبيبُ. تقول: من أَين هَبَبْتَ يا فلان؟ كأَنك قلت: مِن أَين جِئْتَ؟ من أَينَ انْتَبَهْتَ لنا؟ وهَبَّ من نَوْمِهِ يَهُبُّ هَبًّا وهُبُوبًا: انْتَبه؛ أَنشد ثعلب: فحَيَّتْ، فحَيَّاها، فهَبَّ، فحَلَّقَتْ، * مَعَ النَّجْم، رُؤْيا في الـمَنام كَذُوبُ وأَهَبَّه: نَبَّهَه، وأَهْبَبْتُه أَنا. وفي حديث ابن عمر: فإِذا هَبَّتِ الرِّكابُ أَي قامَت الإِبلُ للسَّير؛ هو مَن هَبَّ النائمُ إِذا اسْتَيْقَظَ. وهَبَّ فلانٌ يَفْعَل كذا، كما تقول: طَفِقَ يَفْعَلُ كذا. وهَبَّ السّيفُ يَهُبُّ هَبَّةً وهَبًّا: اهْتَزَّ، الأَخيرةُ عن أَبي زيد. وأَهَبَّه: هَزَّه؛ عن اللّحياني. الأَزهريّ: السيفُ يَهُبُّ، إِذا هُزَّ، هَبَّةً.(8)
فكلمة (مَهَبّ) هي اسمُ مكانٍ أو مصدرٌ ميميّ، ومعناها الدّلاليُّ التّحرّكُ والانطلاقُ، ولكنّ الحركةَ ليست موجبة، بل تحملُ في ثناياها ما لا يُحمَدُ عقباه، كهُبوب الرّيح عندما تحملُ معها الغبرة. وعبارة (رصيفُ عزلة): كناية عن الشّيءِ المركونِ مُنعزلًا، فكأنّي بالشّاعرة تريدُ أن تقولَ، بأنّ المرأةَ هنا معزولةٌ، لا يُسمَعُ لها رأيٌ.
عزل: عَزَلَ الشّيءَ يَعْزِلُهُ عَزْلًا، وعَزَّلَهُ فاعْتَزَلَ، وانْعَزَلَ وتَعَزَّلَ نَحَّاهُ جانِبًا فَتَنَحَّى، وقولُهُ تعالى إِنَّهُم عن السَّمْع لَمَعْزولون، معناهُ أَنَّهم لَمَّا رُمُوا بالنّجوم، مُنِعوا منَ السَّمْع، واعْتَزَلَ الشّيءَ وتَعَزَّلَهُ ويتعدّيانِ بعَنْ، تَنَحَّى عنهُ، وقولُهُ تعالى فإِنْ لم تُؤْمِنوا لِي فاعْتَزِلونِ، أَرادَ إِنْ لم تؤمنوا بي فلا تكونوا عَليَّ ولا مَعِي، وقَوْلُ الأَخوص يا بَيْتَ عاتِكةَ الَّذي أَتَعَزَّلُ حَذَرَ العِدى، وبهِ الفُؤادُ مُوكَّلٌ، يكونُ على الوجهيْن، (* قولُهُ «يكون على الوجهيْن»، فلعلهما تعدي أتعزل فيه بنفسه وبعن كما هو ظاهر)، وتَعَاَزَلَ القومُ انْعَزَلَ بَعْضُهم عن بَعض، والعُزْلةُ الانْعِزال نفسُه، يُقالُ العُزْلةُ عِبادة، وكُنْتُ بمَعْزِلٍ عن كذا وكذا، أَي كُنْتُ بموْضعِ عُزْلةٍ منه، واعْتَزَلْتُ القومَ أَي فارَقْتهم وتَنَحَّيْتُ عنهم. قال تأَبَّط شَرًّا: ولَسْتُ بِجُلْبٍ جُلْب ريحٍ وقِرَّةٍ، ولا بصَفًا صَلْدٍ عن الخير مَعْزِل، وقَوْمٌ من القَدَرِيَّةِ يُلَقَّبونَ المُعْتَزِلة زعموا أَنّهم اعْتَزَلوا فِئَتي الضّلالةِ عندهم، يَعْنُون أَهلَ السُّنَّة والجماعةِ والخَوَارجَ. (9).
ب‌. استخدَمت الشّاعرةُ في نصّها لغةً سهلةً موحِية تخاطبُ عقولَ النّاس، وقد جاءت ألفاظ معجمِها الشعريّ مناسِبة ومعانيها مطابقة للأفكار، ولقد اختارت ألفاظها وكلماتها مِن معجم يوحي بالضياع، وتمنّي الخروج من عزلتها.
ج. ولقد‌ جاءت تراكيبُها متناغمة بعضها مع بعض، رقيقة متينة موحِية، فيها من الرّمز الجزئيّ تعبرا عن رفضها للواقع، فاستخدمت أسلوبَ "الاتّساع" وهو واحد من الأساليب التّحويليّة، الّتي تطرأ على العبارات والتراكيب النحويّة، ويُعرّفُه المُحْدِثون مِن المشتغلين بالدّراساتِ اللّغويّة، بأنّه عمليّةٌ نحويّة تأتي عن طريق إضافة بعض العناصر الجديدة إلى المُكوّناتِ الأساسيّة، دون أن تتأثّر تلك المُكوّنات"، كالاستعاراتِ الكثيرةِ والتشبيهات والكنايات، ووضّحَ بعضُ البلاغيّينَ هذهِ الظاهرة، وأطلقوا عليها مصطلح "الاتّساع.
وقد عبّر عن هذا المفهوم، مفهوم الاتّساع أو الانزياح "جان كوهن" وقال: بأنّه الأسلوبُ في كلّ ما ليس شائعًا، ولا عاديًّا، ولا مُطابِقًا للمعيارِ العامّ المألوف، وهو يُشخّصُ اللّغة الشّعريّة باعتبارِها انحرافًا عن قواعدِ قانون الكلام، ورأى جاكوب كورك أنّ أكثرَ الوظائفِ حيويّة للصّورة الاستعارة والصّورة الشّعريّة، أي خلق معانٍ جديدة مِن خلال صِلاتٍ جديدة، ومنها في النّصّ الاستعاراتُ والتّشبيهاتُ والكنايات، والحذف...
ويرى بعضُ النّقّادِ الأسلوبيّينَ أنّ الانحرافَ مِن أهم الظّواهر الّتي يَمتازُ بها الأسلوبُ الشّعريّ عن غيره، لأنّه عنصرٌ يُميّزُ اللّغة الشّعريّة، ويَمنحُها خصوصيّتَها وتوهّجَها وألقها، ويجعلُها لغة خاصّة تختلفُ عن اللّغة العاديّة، وذلك بما للانحرافِ من تأثيرٍ جَماليٍّ، وبُعدٍ إيحائيّ. واتّسمت القصيدةُ بمجموعةٍ مِن الخصائصِ الفنّيّةِ، مُتمثّلة في الوحدةِ العضويّةِ والموضوعيّة. 
*2. الأساليبُ الخبَريّة والإنشائيّة:
 ا. راوحت الشّاعرةُ بين استعمال الأساليبِ الخبَريّة والإنشائيّة؛ فاستهلّت قصيدتَها بالأسلوب الخبَريّ لتأكيدِ الذّات؛ وليُناسبَ الغرضَ، فاستخدَمَته؛ لتُجسّدَ مدى تقديرِها لمشاعرِها وأحاسيسِها، حماية لها مِن عَبثِ العابثين، ولتأكيدِ ذاتِها بارتباطِها بآمالِها وأحلامِها، ثمّ استَخدَمَت الأسلوبَ الإنشائيّ، فاستخدمت:
* الاستفهامَ في قولِها، ويُفيدُ في كلّ التّعجّب:
(كيفَ لَها أن تَهدأَ ذبذباتُ الرَّغَباتِ).
(كيفَ وَصَداها يَشُقُّ حِجابَ الإرادةِ).
 (كَيفَ أَمنَحُكَ قَلبي الآنَ).
*. ومِنَ الأساليبِ الإنشائيّة الّتي وظّفتها الشاعرةُ أسلوبَ النّهي: 
فَلاَ تسكبْ عُصاراتِ رُوحِكَ/ في كُؤوسِ ضَعفِي.
ولا تَقُضَّ قِشرَةَ آمالِي.
أَرهبُ عليكَ مُنازلتَها الشَّقِيَّة.
ولا تُوقِظْ بِي حَنينًا أَغرقتُهُ في سُبَات !
والنّهيُ في كلٍّ يُفيدُ الالتماسَ.
ج. استخدمت الشّاعرةُ أسلوبَ المتكلّم (لي)؛ لتأكيد الذّات، والذّات المخاطبة تُحاولُ الفرارَ مِن واقعِها الأليم لتشكيلِ عالمها الخاصّ، وضمير الأنا يستشعرُ هوْلَ المأساة ومرارةَ الواقع المُهين والمُزري، وتُدركُ أنّها تنتمي إلى زمنٍ رديءٍ مرٍّ مُهين. كما استخدمت ضميرَ الآخر (أنت) كما في قولها: ( أنتَ ظِلّي المُلاصِق). كما استخدمت أسلوبَ الغيبة والفعل المبنيّ للمجهول؛ لتبيان دوْر المرأة المُغيَّب كما في قولها: 
آهٍ .../ ما أَشقاهَا المرأةَ
حِينَ تُسَاقُ مُقَيَّدَةَ الرَّغبةِ/ إلى زَنزَانةِ أَحلامِهَا المُستَحِيلَة ..
كأَنَّ الشَّوقَ يَرمِي حُوريَّاتِ الأَحلامِ
في سَحيقِ هَاوياتِها/ يُهجِّنُ وِلادَاتٍ رَهيبةٍ
يَترُكَها أَجِنَّةَ حُبٍّ عَلى ثَديِ انْتِظَارِها
 د. استخدمت أسلوبَ الإيجازِ بالحذفِ كما في عنوانِ القصيدة، وكما في قولها:          (المَجهُولُ اليَكْمِنُ خَلفَ قَلبي)، والتقدير: (المَجهُولُ إليَكْ يا مِنُ خَلفَ قَلبي)
ه. استخدمت الشّاعرةُ أسلوبَ الخطاب كثيرًا للتّحبّب والتقرّب للرّجُل، عسى أن يسمع لها ويُخرجها من هاويةٍ عُزلتِها، في مثل: أمنحُكَ، أرهقْتُكَ، أرجُمُكَ، بكَ، عليكَ، إليكَ، ملكتُني، خسرتُني، تغمرُني، روحُكَ، حُزنكَ، عذابكَ، روعتكَ.. كما استخدمت أسلوبَ المُتكلّمَ لتأكيد الذات، وتبيان أهمّيّة موقعِها في الأسرة والمجتمع في مثل: قلبي، حلمي، عقلي، حكمي، ضعفي، وحدتي، قصاصي، تهزّني، توقظني، بِحَرْفي، بَخوْفي، بِعَطْفي، تتركُني، تعفيني، تغمرني، ملكتني، احتلّني، خسرتُني..
*3. المحسِّنات البديعيَّة :
أ. الترادف:، كما في مثل: (قَد أَكونُ أَرهقتُكَ ؛/ بِضَجيجِ فِكري/ بِضَوضاءِ قَلبِي).
*ثالثا– الوزن والموسيقى:
نظَمت الشّاعرةُ مقطوعتَها على نمطِ الشّعرِ النثّريّ، وموسيقاها تقفُ في منتصف الطريق بين النّثر والشّعر الموزون، فاستخدمت الموازنة بينَ الكلماتِ في سطورِها الشّعريّة؛ لخلق إيقاعٍ موسيقيٍّ: بِحَرْفي ../ بِخَوْفي ../ بِعَطْفي ..
أو النّسق الموسيقيّ في نهايةِ بعضِ السّطور:
لا تَترُكْني رَعشةً/ في مَهبِّ رَصِيفِ عُزلَة
وهذا النّسقُ الواحدُ أشاعَ في النّصِّ إيقاعًا موسيقيًّا داخليًّا، كما لجأت إلى التّكرارِ حينًا كتكرارِها لـ (كيف)، إنّ هذا التّكرارَ للكلمة نفسِها (كيف) المتّفقة في شكلها وعددِ حروفِها، يكونُ توافقًا صوتيًّا، وهذا التّوافقُ الصّوتيُّ مِن شأنِهِ أن يُحدِثَ موسيقى داخليّة، بالإضافةِ إلى موسيقى البيتِ، وإنّ نغمة هذهِ الكلمات المتكرّرة تُبرزُ إيقاعَ النفسِ المُنفعلةِ والمُندهشة (10). 
فقد تخلّصتْ مِن الرّتابةِ في القافيةِ المُوحّدة، وتمكّنت الشاعرةُ بهذا في الانطلاق برحابةٍ أوسعَ في قاموسِها الشّعريّ؛ لتُحَمّلَهُ المضامينَ الكبيرة، وجاءت السّطورُ الشّعريّة حسبَ التّدفّق العاطفيّ للشّاعرة، ممّا ساهمَ في المحافظةِ على الوحدةِ العضويّةِ والموضوعيّةِ في النّصّ.
*رابعًا- شخصيّة الشاعرة: اتّسمت المعاني والأفكارُ والصّورُ الفنّيّة التي اتّكأتْ عليها الشّاعرةُ بالبساطةِ والرّقّةِ والعذوبة، لكنّها عميقةٌ في معانيها، واسعةٌ في مدلولاتِها، وشاعرتُنا مبدعةٌ بحَقٍّ امتطتْ صهوةَ الشّعرِ النثريِّ بجدارة؛ مُستعينة بالألفاظِ والتراكيبِ الموحِية؛ لأنّ وقْعَها على النّفس أبلغُ، إذ تبدو الشّاعرةُ مِن خلالِها جيّاشة المشاعرِ، رقيقة العاطفة، مُرهفة الإحساس، مُحِبّة لعهودِها، وفيّة لمبادئِها، رافضة للذلّ والمذلّة. 
وآخِرُ دعوانا أنّ الحمدَ لله ربّ العالمين.
من الكتاب الشّعريّ الأوّل- بسمة لوزيّة تتوهّج
الهوامش
(1) دراساتٌ نقديّة في النظريّة والتطبيق: محمّد مبارك ـ منشورات وزارة الإعلام ـ الجمهوريّة العراقيّة 1976 (ص 151).
(2) طبيعة الشّعر: أحمد محمّد العزب (ص 58).
(3) ثورة الشّعر الحديث: عبد الغفار مكّاوي ـ ص 32، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، القاهرة 1972.‏
(4). انتروبولوجية  الصورة والشعر العربيّ قبل الإسلام، قصي الحسين، 389، الأهليّة للنشر والتوزيع، ط1 ، 1993. 
(5). الصورة الشّعريّة، سي دي لويس، 21، ترجمة أحمد الجاني ورفاقه، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، العراق، دار الرشيد، 1982.
(6) مفهوم الشّعر في كتابات الشّعراء المُعاصرين: عزّ الدّين إسماعيل/ فصول مج 1 ع 4 1981 (ص 56).   
(7). مفهوم الشّعر عند روّاد الشّعر العربيّ الحُرّ، د. فالح علاق ص201، منشورات اتّحاد الكُتّاب العرب، دمشق 2005. 
(8) لسان العرب، ابن منظور ص11 ج9، دار الحديث، القاهرة، 2002.
(9). المرجع نفسه، ص233 ج6، دار الحديث، القاهرة، 2002.
(10). قراءة أسلوبيّة في الشّعر الجاهليّ، د. موسى ربابعة، دار جرير، عمان، 2010  ص 24.

159
هل تصرخُ بوجهِ الزمنِ وتدعو للجَمال!
آمال عوّاد رضوان
يا وطني الأحببتُه بإنسانِهِ وسمائِهِ وأرضِهِ وهوائِهِ.. ويا بلدي العشقتُهُ بخيراتِهِ وغمزاتِهِ، بماضيهِ المنكوبِ وآتيهِ المطمونِ، لكَ نذرتُني حرفًا يَنبضُ بحقِّكَ صلاةً لا تُنهَبُ، لكَ وهبتُني مَدادًا مغموسًا بجَمالِكَ غبطةً لا تنضبُ!
كنتُني فيما مضى أغرقُ في لججِ حرفِكَ الشِّعريّ، تُقلّبُني على نيرانِكَ المُتأجّجةِ وأتلذّذُ دونَ مُنازعٍ، لكنّك اليومَ تَرْفَعُني بعرائِكَ عاليًا على صليبِكَ، ومساميرُ المسؤوليّةِ تنخرُ وجداني بآلامٍ لا تتناهى، وحرْبتُكَ الكلمةُ تُطعنُ في خاصرتي، لتُذكيَ وجعي الأخضرَ بمهمّةٍ تُشقيني كتابةً، وأزدادُ توعُّرًا وتوغّلًا في مَسالكِ عشقِكَ الشائكِ، ليزهوَ قلمي بدمِك، وليس مَن يَطويني في رمسِ كتاب!
ها المقالةُ تسرقُني من هدأتي، لينتشلَني حوارٌ مع كهلٍ تتراقصُ دمعةٌ خرساءُ في عينِهِ، ولتتنازعُني لقاءاتٌ ثقافيّةٌ ما بينَ صحوةٍ وغفوةٍ، لأظلَّ على أهبةِ مشاريعَ تتراكمُ تدوينًا وتأجيلًا، في حين الجيبُ يَغلي إفلاسًا، وما باليَدِ حيلةٌ، والقلبُ ينفثُ حسراتِه لوعةً، بقصيدةٍ مجمورةٍ لا تترمّدُ!   
حالي هو حالُ شعرائِكِ وأدبائِكَ يا وطني الضائع، وليسَ مَن يأخذُ بأيادينا ولا بحروفِنا، ليُسْكِنَها في سمواتِ النور، لتستضيءَ ببهاءِ وجهِكَ الحقيقةُ وكلُّ الشعوب، فمتى نستنير بالكلمة الحقة، في أحضان أمومةٍ ثقافيّةٍ ترعى بَنِيها البرَرة من الأدباء والقرّاء؟!
وتشاءُ الصدَفُ الكريمةُ، وفي غمرةِ فِكرِي الحائرِ الموجوعِ بتساؤلاتهِ، أن تتلألأَ حروفُ "وجدان عبد العزيز" الناقد العراقيّ مشكورًا، وتتبسّمَ بحنانٍ في غفلةٍ من هذياني، لتهدّئَ مِن روْع قلبي، بل وتُلهبُهُ بقولِها: على رسلِكِ عزيزتي، اِقرئي ما كتبتُهُ عن آمال عوّاد رضوان، فأنا وعيني لا نعرفُكِ إلّا مِن حرفِكِ المنشورِ!
كَتبَ وجدان عبد العزيز يُفاجئُني بلفتتِهِ الكريمة- "مرغوا نهديَّ بعِطرِهِ الأزرقِ" – آمال عوّاد رضوان! 
في مساءٍ برودتُهُ شفيفةٌ، حاولتُ أن أفتديَ نفسي بمثاقيلِ الذهبِ البرّاقِ لقاءَ استراحةٍ بسيطةٍ، ثمّ حاولتُ رفْعَ نفسي، لأرى مساحةَ الكون وخضمّ الحياة، بغيومٍ مبلّلةٍ بالألم واليأس، وبقيتُ أحاولُ، وأحاولُ علِّي أجدُ كوّةَ ضوءٍ في العتم الرماديّ!
كلُّ هذه النوازع تتواردُني، وأنا أدخلُ حدائقَ الشعرِ، وأمتحُ من أزاهيرِهِ، أحسُّ أريجاتِهِ فتهدأ نفسي، وتمتلئُ بحبِّ الحياة، وكلّما كانَ الشعرُ صادقًا، كانَ أكثرَ جمالًا، لأنّ الصدقَ يُضيفُ للشعرِ قيمةً عُليا، تترسّخُ في مكنوناتِ الكلمةِ، مِن خلالِ لغةِ الأحاسيسِ المُشتركةِ ما بينَ الشاعرِ والمتلقّي، كذلك، فالشِّعرُ هو الأداةُ التي مِن خلالها نستطيعُ البوحَ بها، عن المعاناةِ الّتي تلفُّنا دوّامتُها منذُ زمنٍ بعيد.
فالشِّعر هو فنُّ الكلامِ المُنمّق، الّذي يحملُ معه وشاحًا هادئًا من النبرةِ المتّزنة، كي يُدخلَ البهجةَ إلى النفوسِ الظامئةِ للحقيقة، فهو القامةُ الّتي تتشبّثُ بها همومُ المجتمع، ورؤى المتطلِّعينَ إلى غدٍ مُشرقٍ جميل، وهو لغةُ الخيالِ والعواطفِ، لها صلةٌ وُثقى بكلِّ ما يُسعِدُ ويَمنحُ البهجةَ والمتعةَ السريعة، أو الألمَ العميقَ للعقلِ البشريّ. إنّهُ اللغةُ العاليةُ الّتي يتمسّكُ بها القلبُ طبيعيًّا، معَ ما يَملكُهُ مِن إحساسٍ عميق.
"الشِّعرُ ليسَ تاريخًا للواقع"، يقولُ الشاعر محمّد إبراهيم أبو سنّة، لكنّه تجسيدٌ لرؤية الشاعر لهذا الواقع، وتعتمدُ هذه الرؤيةُ على وعي الشاعر وثقافتِهِ، وكلّما اتّسعَ وعيُهُ وثقافتُهُ، جاءت قصيدتُهُ مكتنـزةً ومُعبِّرةً.
أسوقُ هذهِ المقدّمةَ، لأدخلَ إلى عوالمِ كاتبةٍ تعدّدتْ مَحطّاتُها في عالم الحرفِ والكلمة، وبما أنّي ميّالٌ للشِّعر، وهو يغزو أعماقي دون أيّة مُمانعةٍ منّي، أتناولُ الكاتبة آمال عوّاد رضوان هنا، كشاعرةٍ في قصيدةٍ لا تخلو مِن مُشاكسةٍ وبحثٍ عن حقيقة، قد عانتْ منها الشاعرة، وهي بعنوان (مرِّغوا نهدَيَّ بعِطرِهِ الأزرقِ)!
مِنَ العنونةِ نجدُ حِدّةَ المُغايَرةِ ظاهرةً للعيان، ومثيرةً لخلجانِ الإنسان بفِعلِها الأمر (مرّغوا)، إلى كلمة (نهد)، فالعنوانُ فيهِ خصوبةٌ في كلّ الجوانبِ، سواء العاطفيّة المُثيرة للحواسّ، أو كوْن النهد رمز الحياة، وعنوان النموّ فيها إلى العطرِ الأزرق، كَحُلّةٍ جَماليّةٍ أو عاملِ جذْبٍ مُغرٍ.
إنّ القصيدةَ بُنيتْ على عوالمَ مُغايِرةٍ قالتها الشاعرة، وأحجمتْ عنها في ذات الوقت، فـ (الشاعر ينقلُ تجربةً ذاتيّةً مُثقلَةً، تستندُ بلا شكٍّ إلى خلفيّةٍ فيها، بالإضافةِ إلى المشاعر، هناك مُدرَكاتٌ وثقافةٌ وتجاربُ واقعيّةٌ وأفكارٌ. فيها تجربةُ عقلٍ مُدركٍ، وفيها أيضًا خيالٌ مُبدِعٌ، وعاطفةٌ جيّاشةٌ، وتوتّرٌ مِن نوعٍ ما، فهذه الانفعالاتُ هي الأبرزُ وهي العنوان، وهي الإعلاءُ مِن حجم العناصرِ الشعوريّةِ، أو الإعلاءُ مِن حجمِ الإعلانِ عنها، إلى الدرجةِ الّتي لا يمكنُ معها رؤيةُ ما في التجربةِ مِن إدراكٍ وفِكرٍ ومفاهيمَ، وهي عمليّةُ تعتيمٍ لا واعيةٍ، لا نجدُ لها تفسيرًا مُقْنِعًا). ص 84  في الأدب الفلسفيّ.
فـ (إنّ قوّةَ الفنّ لا تكمنُ فيما يقولُهُ الشاعر وحسْب، بل فيما لا يقولُهُ أيضًا، أي فيما يرمزُ إليه ويوحي به، وهذا بعضُ سِرِّ خلودِ الأعمالِ الفنّيّةِ الأصيلةِ وحيويّتِها المُتجدّدة، والعملُ الفنّيُّ يقتربُ مِن لحظةِ الإبداعِ الكلّيّة، بقدْرِ ما يحملُ مِن غنًى في المضمونِ في إيحاءاتِهِ ودلالاتِهِ، بحيث يبقى لكلِّ مُتقبِّلٍ لذلكَ العملِ تجربتُهُ الخاصّةُ المُتميّزةُ إلى حدٍّ ما، عن تجربةِ غيرِهِ ) ص49-50 الأدب الفلسفيّ.
لذا؛ كانت قصيدةُ الشاعرة آمال عوّاد رضوان تحملُ عدّةَ دلالاتٍ وتأويلاتٍ، تُغدِقُ بدفقِها على الذائقةِ المُتلقّيةِ الكثيرَ مِن عطاءاتِ المعنى، فهناكَ ظاهرٌ، وهناكَ باطنٌ... تقول الشاعرة:
وأنا في سكرةِ أعماقي
أثملُ بموْجِ مُستحيلٍ
لا يُذبِلُ نُواحَهُ جُنونُكَ!
أنامِلُكَ.. ما فتئتْ تتندَّى اشتعالًا دامِسًا
تُقشِّرُ سحابَ وقتِي الموْشومِ بالنّعاسِ!
ولمّا تزلْ تخلعُ أسمالَ تثاؤُبٍ
كم تيمّنَ بالأزلْ!
ولمّا تزلْ..
في سديمِ الصّمتِ المثقوبِ
تمتطي تراتيلَ كَوْني الغافي!
وإنّي أرى هنا، ليسَ باستطاعتي التوقّفَ عندَ النصّ بدلالاتِهِ الباثّة، وقد تكونُ المُغلقة، إنّما أجدُ انفتاحَ النصِّ على ثقافاتٍ أخرى، تُحرّكُ الحساسيّةَ الثقافيّةَ لهُ، باتّجاهِ اكتشافِ مناطقَ حياديّةٍ في النصّ، وهذهِ مشاركةٌ بينَ المُبدعِ والمُتلقّي..
ينقلُ الأستاذ الدكتور محمّد صابر عبيد في كتابه (بلاغة العلامة وتأويل الرؤيا): (إنّ الدراساتِ السيميائيّة للنصّ الأدبيّ تتميّزُ بحِرصِها الشديدِ على فهْمِ العلامةِ الأدبيّة، في مستوى العلاقةِ الجدَليّةِ بينَ النصِّ الأدبيِّ والمجالاتِ الثقافيّةِ الأخرى) ص10، وأضاف قائلًا: (بحيث يتجلّى فهْمُ الإنسانِ داخلَ وسطٍ كثيفٍ وثريٍّ وعميقٍ مِن الحساسيّةِ الثقافيّةِ العامّة، وهي تتداخلُ وتتحايَثُ معَ الحساسيّةِ النصِّيَّةِ، لتُؤلّفَ هذا الجَدلَ المعرفيَّ الذي يقودُ إلى إنتاجِ المعنى) نفس الصفحة.
ومِن عنونةِ القصيدةِ إلى مَتنِها البلاغيّ، نجدُ الشاعرة آمال عوّاد رضوان تستفزُّ المكانَ، لتغليفِ ذاتِها بِعِدّةِ أقنعةٍ بلاغيّةٍ، تتخفّى مِن خلالِها في بوْحٍ استنفاريٍّ للغةِ الجسد، مُحاوِلةً منها حضورَ الجسدِ في تجلّياتِهِ الآيروسيّةِ (الإيروتيكيّة)، ورَمزتْ لهذا بالنهد، ولكنّها استمرّتْ في رحلةٍ استكشافيّةٍ لذاتِها، ولمقدارِ تَعلُّقِها بالآخَرِ الّذي يُكمِّلُ فراغاتِ الجَسد، ويُعادِلُ موضوعيّةَ الروح، كوْنَ الشاعرة، هي باحثةٌ عن الجَمالِ وعن حقيقةِ الحياة، في مساحةٍ لغويّةٍ تحوّلتْ إلى نصٍّ يَجترحُ معنًى كامنًا، وهي تخاطبُهُ: (ولمّا تزلْ/ في سديمِ الصّمتِ المثقوبِ/ تمتطي تراتيلَ كَوْني الغافي!).
فالكينونةُ لا تكونُ إلّا بهِ لاستيقاظِ تلكَ الغفوة، وتستمرُّ قائلةً:
طُيوفُ جراحي طاعنةٌ في سَرْمَدِيّتِها
حينما غرَّها بَسْطُكَ المُهترِئُ
وَ.. على مَقامِكَ المرْكونِ
مُــنْــصَــاعَــةً
تَــكَــسَّــرَتْ
وَ.. رصَّعْتَني بانكساري!
هذا الصراعُ السرمديُّ يَخلقُ قوّةَ الإصرارِ في البحثِ عن حقيقةِ الغياب، وعن حقيقةِ الحضورِ الجَماليِّ في العلاقاتِ الإنسانيّةِ بينَ الآخَرِ والآخَر، فوسطَ هذهِ التحوّلاتِ تزدادُ آمال عوّاد رضوان قلقًا، ويتعاظمُ قلقُها مع ازديادِ حالةِ الغياب.
يقولُ الدكتور علي الشامي: (على الأدب مُهمّةُ التعبيرِ عن هذه المعاناة، وإعادةُ الاعتبارِ لقيمةِ الإنسانِ الّتي ضاعتْ وسطَ المَسارِ المأساويّ للعِلم والحضارة الحديثة، وما تطوُّرُ الإتّجاهاتِ الرومانسيّةِ والواقعيّةِ الإنسانيّةِ في الأدب الغربيِّ الحديث، إلّا انعكاسًا لردّةِ فِعلِ الأدب تجاهَ هذا المسارِ المُؤلِم).
وتبقى الشاعرة آمال عواد رضوان بإحساسٍ مُرهَفٍ تعاني مشكلاتِها، وتحاولُ إيجادَ المُبرّراتِ المُقْنِعةِ للمتلقّي شريكِها في المِحنة فتقول:
بجناحَيْ جنونِكَ انبثقْتَ عائِمًا تُرفرِفُ
وفي مَحافِلِ التّرقُّبِ
احترفتَ تضميدَ حروقِ حروفي!
ألْسِنةُ بوْحي النّاريِّ
طَليْتَها بوَشوشةٍ انبجَسَتْ تستجيرُ:
سرابُ حوريّةٍ أنا؛
إِلى مسارِبِ الوَهْمِ أَغواني
لا شكَّ أنّها تعيشُ مِحنةَ أنثى، هي محنةُ عصرِ توتّرٍ بينَ الحقيقةِ والوهم، بينَ الحُرّيّةِ ومفاهيم التحرّر، بين الأنوثةِ المُحجَّبةِ بحجابٍ مُقدّسٍ، وأخرى مُحجَّبةٍ بحجابٍ مُدنَّسٍ، بينَ مفاهيم الحِفاظ على حوريّةِ السراب، وبين أن تكونَ حوريّةً بحقيقةِ الخلْقِ الإنسانيّ، وليسَ التابَوِيّ الموضوعِ بقوالبَ مُزيّفةٍ.
إنّ قصيدةَ الكاتبة آمال عوّاد رضوان (مرِّغوا نهدَيَّ بعِطرِهِ الأزرقِ)، صرخةٌ في وجهِ العصر، ودعوةٌ في نفسِ الوقتِ لجَمالِ البوْحِ، وجَمالِ الحُبِّ، وجَمالِ العلاقة، ودعوةٌ لفتْحِ نافذةٍ مُشَرّعةٍ للتحليلِ والنقاش، وهذا عُمْقٌ في الرؤيةِ والأفكار.
مرِّغوا نهدَيَّ  بعِطرِهِ الأزرقِ
آمال عوّاد رضوان

على عَنانِ بُشرى جائعةٍ
تماوَجْتَ..
بليلٍ لائلٍ اقتفيْتَ فيْضَ ظِلِّي المُبلَّلِ
بضوضاءِ أَصفادي
أَرخيْتَ مناديلَ عتبٍ مُطرَّزٍ بتعبٍ
تستدرجُ بِشريَ المُستحيل
وفي تمامِ امْتثالي المُتمرِّدِ تورَّدْتَ!

بومضِ عِطرِكَ العابثِ مَضـيْـتَ تـتـخـفّـى
تـقـتـرِفُ تقوَى إشاعةٍ بشوشةٍ
وأنا في سكرةِ أعماقي
أثملُ بموْجِ مُستحيلٍ
لا يُذبِلُ نُواحَهُ جنونُكَ!
أنامِلُكَ.. ما فتئتْ تتندَّى اشتعالاً دامِسًا
تُقشِّرُ سحابَ وقتِي الموْشومِ بالنّعاسِ!
ولمّا تزلْ تخلعُ أسمالَ تثاؤُبٍ
كم تيمّنَ بالأزلْ!
ولمّا تزلْ.. في سديمِ الصّمتِ المثقوبِ
تمتطي تراتيلَ كَوْني الغافي!
أسرابُ وهنِكَ المغناجِ
انسَلَّتْ
تُراقصُ نيرانَ أحلامٍ
ما غابَ طعمُها عن لساني!

طُيوفُ جراحي طاعنةٌ في سَرمديّتها
أسهْوًا..
تَشدّقها سُهْدٌ أُسطوريُّ الملامِحِ؟
أَشابها خَدرُ نَقْشِكَ الخشْخاش؟
أَعلَّقْتَ حَدْسِيَ الكفيفَ
على مِقبضِ موجِكَ الفردوسيِّ؟

زفراتُ نجومي جرَفَتْها سيولُ تمرُّغِكَ
حينما غرَّها بَسْطُكَ المُهترِئُ
وَ.. على مَقامِكَ المرْكونِ
مُــنْــصَــاعَــةً
تَــكَــسَّــرَتْ
وَ.. رصَّعتني بانكساري!

بجناحَيْ جنونِكَ انبثقْتَ عائِمًا تُرفرِفُ
اضطرَبْتَ هائِجًا تُهفهِفُ
تَستبيحُ رُفُوفَ انشِطارٍ
لَكَمْ صَفّدْتَهُ بضياعي المُنمْنَمِ
كي تمتشِقَ إِغواءاتِ احتضاري!
فتائِلُ دهشةٍ
خطفَتْ قُصاصاتِ تَوْقي مسحورةَ الطّوقِ
سمّرْتني
بينَ وعودٍ مُؤجّلةٍ وجدرانَ تتهاوى!
خُطى ريحِكَ الضّريرَةُ وَشَتْ أجنحتكَ
شبَّ لهيبُها في اقتفاءِ أثري
تنيْرَنْتَ!
تبغْدَدْتَ!
وفي مَحافِلِ التّرقُّبِ
احترفتَ تضميدَ حروقِ حروفي!
ألْسِنةُ بوْحي النّاريِّ
طليتَها بوَشوشةٍ انبجَسَتْ تستجيرُ:
سرابُ حوريّةٍ أنا؛
إِلى مسارِبِ الوَهْمِ أَغواني
بثوْبِ السّباني.. سَباني
بَعثرَ وجهيَ في ذاكرةِ الحُجُبِ
وَابتلعَ ذيليَ الذّهبيّ!
يا رُفقاءَ الأسمى
بوّابةُ سمائي مَحفوفةٌ بهياكِلَ مَجْدٍ
ساحَ ضوؤُها زركشةً تتجَنّحُ
وما انفَكّتْ بأهدابِ الذّهولِ تتموّجُ
اِستنيروا بي!
لَدُنِي المُقدّسُ كَمِ ازدانَ بأرياشِ الشّمسِ
وَمُنتشيًا
تَعَنّقَ نحوَ عُشِّ النّارِ!
بسليمانَ أغيثوني
بأسرابِ جِنِّهِ؛ تَحفُرُ قاعَ بَحري أَفلاجًا
تُهْدينيها في ليلةِ عيدي
مرِّغوا نهْدَيَّ بعِطرِهِ الأزرقِ
لتهُزَّ قلائدُ سمائي غيثًا.. يتضوّعُ حُبّا.
يا رُفقاءَ الأسْمى
مرِّغوا نهْدَيَّ بعِطرِهِ الأَزرقِ
وزُفُّوا إليَّ.. ذيْلِيَ الوضّاء!
____________________________
*تنيرتَ/ تشبّهتَ بنيرون *تبغددت/ تشبّهتَ بأهل بغداد
*السّباني نسبة إلى سبن قرية عراقية في نواحي بغداد
والسّبنيّة هو أزر أسود للنساء
*سَباني الثانية تعود إلى السّبي والأسْر

160
صرخة عربيّة تُدوّي في روسيا؟
آمال عوّاد رضوان



كنيسه مار جريس الجديده يافه الناصره (3)

هل قضية الخوري رومانوس رضوان سَكَس هي قضيّة وطنيّة بلونٍ مُغايرٍ، تتفجّرُ اليومَ من فوّهة بركانٍ خامدٍ، لتُعلنَ صرختَها المُدوّية؟
هل هي قضيّة شخصيّة؛ قضيّة الأب رومانوس سَكَس/ البروة- الناصرة، أو قضيّة المطران عطالله حنا/ الرامة- سبسطية، أو قضية ميليتيوس بصل/ كفرياسيف- رام الله، أو قضية الأرشمندريت خريستوفوروس حنا  في الأردن، وآخرين كثيرين من سلك الكهنة والرهبان العرب؟
هل هي قضية المسيحيّين العرب الأرثوذكسيّين في فلسطين والأردن والشرق الأوسط، التي تهدف إلى طمس معالم المسيحيّين العرب، واضطهادهم وتهجيرهم، وتفريغ الشرق من المسيحيّين!
وللإجابة عن هذه التساؤلات، واستجابة للمؤمنين من أبناء يافة الناصرة وخارجها، وجمعيّة صوفيّا، وجمعيّة مار جريس وغيرهم، الذين طلبوا التعرف على سرّ الكهنوت، والوضع الراهن العامّ في أوساط الرئاسة الكنسيّة الحاليّة، ودعمًا لموقف الخوري رومانوس الذي يقوم بعمله وبحسب القانون الكنسيّ، أقيمت محاضرة توضيحيّة بتاريخ 9-2-2013، في كنيسة مار جريس الأرثوذكسيّة في يافة الناصرة، وسط حضور كبير من أبناء الرعيّة العرب والروس في يافة الناصرة والجليل، قدّمها سيادة المطران صفرونيوس؛ رئيس أساقفة سانت بطرسبرغ وشمال روسيا، ترجمها للعربيّة الأب رومانوس، ليطّلع الجميع على مصداقيّة رسالة الخوري رومانوس كنسيًّا وروحيّا، والاضطهاد الذي تمارسه ضدّه بطريركيّة الروم الأرثوذكس في القدس، وما يواجهه من حرمان وتعنيف، رغم أنّه يقوم بعمله على أكمل وجه، وذلك لأهداف ليست كنسيّة ولا دينيّة!
وكان سيادة المطران صفرونيوس؛ رئيس أساقفه سانت بطرسبرغ وشمال روسيا قد وصل إلى البلاد بتاريخ 25-1-2013، حيث أتى من روسيا، خصّيصًا للتضامن مع قدس الأب رومانوس رضوان سَكَس، راعي الطائفة العربية الأرثوذوكسيّة في يافة الناصرة، وراعي المسيحيّين الناطقين باللغة الروسيّة في البلاد، بتعيينٍ من قِبل البطريركية المقدسيّة الأرثوذوكسيّة منذ عام 1992، بتكليف من المرحوم البطريرك ذيوذوروس، إذ إنّ الأب رومانوس كان قد أنهى دراسة اللاهوت في جوردن فيل في أميركا، في كليّة اللاهوت الروسيّة البيضاء، ويُتقن عدّة لغات إضافة للعربيّة والروسيّة.
المطران صفرونيوس اطّلع على وضع البطريرك إرينيووس السابق المخلوع من منصبه، والمسجون في الدير مجرّدا من كامل صلاحيّاته الكهنوتيّة، من خلال محادثة مصوّرة معه ومترجمة، كما اطّلع وتحقّق من الظلم الذي يُعانيه الأب رومانوس في عمله الرسوليّ، وقد قام بالصلاة معه في يافة الناصرة وأماكن أخرى، ولن يتركه لأنّه في المسار الصحيح، وهذا الأمر موجودٌ في روسيا أيضًا، من ملاحقاتٍ للمؤمنين ورجال الدين الحقيقيّين!
وطلب المطران صفرونيوس من الحضور دعمَ موقف الأب رومانوس  الدينيّ والكنسيّ والرسوليّ، وأعلن أّنّ قرار الحرمان هو باطلٌ ومرفوضٌ كنسيًّا، ويجب عدم التعامل معه، ويجب إلغاؤه حالًا، لأنّ الأب رومانوس التقيّ الورع لم يهرطق، ولأنه بكامل رشده العقليّ والجسديّ، ويعمل على نهضةٍ روحيّة وطنيّةٍ تُذكّرنا بالرّسل الأوائل، الذين ثبّتوا المسيحيّة، وجاهدوا وعانوا الاضطهاد من أجلها، فهو كاهن بكامل الصلاحيّات لأداء المهامّ الروحيّة والاجتماعيّة، وقضيّته إن لم تنتهِ في القريب العاجل، سيكون لها صدى أكبر، ليس على نطاق الأراضي المقدّسة، بل سننقلها للمحافل وللمؤسّساتٍ العالميّة، لتفضح المؤامرات التي تحاك بالأراضي المقدّسة، فأمثال الخوري رومانوس هم فخر واعتزاز لنا بعملهم الروحيّ والاجتماعيّ، وعلى هذه الأعمال يجب أن يُكرَّموا، لا أن يطارَدوا ويُحرَموا، إرضاءً لجهاتٍ وأهداف بعيدةٍ كلّ البعد عن الكنيسة وأهدافها المجيدة.
الخوري رومانوس نذر نفسه وشبابه وعمره لثوبه الكهنوتيّ، وخدم بتفانٍ وإخلاص، وبحسب تعاليم الإنجيل وحياه القدّيسين والرسل، وكان الكاهن الشاب الأوّل في فلسطين ابن 24 عامًا، ترك عالم الفنّ ودراسته الجامعيّة في حيفا، وسافر إلى أمريكا ليدرس اللاهوت، ولينذر حياته للكنيسة، ممّا أثّر إيجابيًّا على تشجيع الشباب لدراسة اللاهوت، والانضواء في سلك الكهنوت، من أجل النهوض بالرعيّة المسيحيّة الغارقة في سباتها، وتواضعًا منه، وظلّ يعمل بصمت وتسامح.
خدم كنيسة قسطنطين وهيلانة في مدينة شفاعمرو منذ عام 1998- 2007، ولكن البطريرك ثيوفيلوس أغلق باب الكنيسة في وجهه، بعدما غيّر أقفالها، وأعطى حقّ خِدمتها لمساعد الخوري رومانوس، ودون سابق إعلام أو إنذار، وتمّ نفيه الى يافة الناصرة، لخدمة كنيستها!
حين أحسّ الأب رومانوس بلعبة الاضطهاد التي تلاحقه وتطارده، عمل عام 2007 على تأسيس جمعيّة صوفيّا الخيريّة، من أجل إحياء نهضة روحيّة في البلاد، من ترميم الكنائس في القرى المهجّرة، وبناء كنائس جديدة، وطباعة كتب دينيّة وتثقيفيّة، ومساعدة المحتاجين.
عام 2004 اهتمّ بمدينة المجيدل العربيّة المهجّرة، والتي يسكنها حاليًّا فقط اليهود، فقام بترميم كنيستها بمساعدة سكّانها المهجّرين الأصليّين من مسلمين ومسيحيّين، وبالرغم من التهديد والترويع والتدمير الذي واجهه من المستوطنين اليهود، إلّا أنّه أتمّ البناء، وتبرّعت عائلة أوكرانيّة لبناء سور الكنيسة، فجعل الكنيسة ديرًا صغيرًا ومحجًّا، وصار منذ عام 2005 يخدم أهل المجيدل العرب المهجّرين، وكذلك المسيحيّين الروس في المنطقة، وصار يخدم كنيسة المجيدل وكنيسة يافة الناصرة، ولكن تتكرّر مأساته ثانية عام 2010، وتُغلق أبواب كنيسة المجيدل في وجهه، وتُلقى حاجاته الخاصّة في النفايات، ويُحرم من أداء مهامّه الكهنوتيّة في كنيسة المجيدل، ودون سابق إعلام، لتُسلّم المفاتيح ليد أخرى!
وكان الأب رومانوس قد بدأ بترميم كنيسة معلول المهجّرة عام 2008، ولكن عام 2009 أُخِذت منه مفاتيح الكنيسة، وسُلّمت للأرشمندريت إيلاريون في جبل طابور!
الأب رومانوس تابع في نهضة عمرانيّة أخرى في يافة الناصرة، بمشروع ضخم لكنيسة كبيرة ومن تحتها قاعة كبيرة تخدم ليس الرعيّة فقط، بل وأهل يافا أيضًا، وهذا المشروع كان الأب ديمتري الزرّيني قد وضع أساساته، وتقديرًا لمجهوداته، قامت رعيّة يافة الناصرة بتنظيم حفل تكريم مؤازر له في 19-12-2010،  بمناسبة اليوبيل الفضيّ، 25 عامًا لخدمته الكهنوتيّة، واليوبيل الذهبيّ لسنّه الخمسين، وذكرى لوفاة البطريرك ديوذوروس. ولكن؛ في نفس يوم التكريم، وصلت رسائل لكل الكهنة والرهبان العرب في الجليل من البطريرك، تمنعهم من المشاركة في حفل تكريم الأب رومانوس!
بدأت التذمّرات المفبركة والشكاوي الموجهة ضدّ نشاط الأب رومانوس، وصارت تكبر وتزداد من النفوس المناهضة والقلوب المعادية، وازدادت الرعيّة مؤازرة له وتشبّثًا به وبموقفه، فما كان في نهاية عام 2011 إلّا حرمان الأب رومانوس من مخصصّات البطريركيّة له، ولكنّه لم يتوقف ولم يرضخ، وتابع يعمل بصمت، وفي شهر آذار عام 2012 أرسلت له البطريركية مساعدًا، لرعيّة صغيرة لا تحتاج الى مساعد.
بتاريخ 10-5-2012، وفي فترة عيد الفصح، وبحسب بروتوكول رقم 481، أرسلت له البطريركية تهنئة خاصّة جدًّا بحرمانه، وقد  عمّمت هذه التهنئة في رسالة على كلّ الكنائس العربيّة والمواقع الإلكترونيّة، في الناصرة والجليل وطبريا ودير الطور، تُعلن فيها حرمان الأب رومانوس من كهنوته، وحرمانه من أداء واجباته الرعويّة والروحيّة، وعدم استقباله في كنائسها، بل وإعادته للحياة العاديّة المدنيّة!
 هذا البيان والقرار اعتبرته رعيّة يافة الناصرة مُجحفًا وباطلًا وعنصريًّا، وطالبت بإلغائه على الفور، لأنّه مستند على أباطيل وافتراءات كاذبة، بعكس حقيقة أعمال قدس الأب الخوري رومانوس سَكَس، لكن الأب رومانوس وبمرارة تفوق الألم، انصاع مُسالِمًا لهذا القرار المُجحف مدة أربعة شهور وبصمت، على أمل المصالحة وإيجاد لغة تفاهم بين الطرفين، وقد تدخلت عناصر للإصلاح، ولكن موضوعه ظلّ رهين وعود مؤجلة، ودون اكتراث أو اهتمام، مما حدا برعيّة يافة الناصرة إلى إجراء انتفاضة ضدّ البطريركيّة، منذ شهر آب 2012، فقامت بطرد الكاهن الذي عيّنته البطريركية، وألزمت الأب رومانوس أن يواصل خدماته الكهنوتيّة، وكأنّ قرارًا لم يكن!
تابعت رعيّة الطائفة الأرثوذكسيّة في يافة الناصرة مشوار انتفاضتها، وحاولت أن توصل صوت المظلوم لوسائل الإعلام، إلّا أنّ معظم وسائل الإعلام لم تتجرّأ أن تطرح هذه القضيّة الشائكة الحسّاسة، وقد أوصلتها الطائفة الروسيّة إلى روسيا، داعمة الأب رومانوس، الذي يقود نهضة روحيّة وطنيّة إنسانيّة عمرانيّة، من أجل التشبّث بالوطن، ومن أجل ترميم كنائس بقرى مهجرة، وإعادة الحياة والماضي إلى القرى المهجرة، مثل كنيسة المجيدل ومعلول، وبناء كنيسة مار جريس الضخمة الحديثة في يافة الناصرة، بالتعاون مع أبنائها ولجنة الكنيسة وجمعيّة صوفيا الخيريّة، كما ويقوم بتثبيت المسيحيّين الأرثوذكسيّين الناطقين باللغة الروسيّة، ويمنعهم من التهوّد، ويساعد الفقراء والمحتاجين والمرضى، ويبشّر بالمسيحيّة من شمال البلاد على الحدود اللبنانيّة حتى النقب والحدود المصريّة، ويقيم الصلوات ويعيد للأرثوذكسيّة مجدها وعهدها ونورها وأصالتها وانفتاحها على المجتمع، ويُقرّب أبناء الرعيّة من كنائسها، ويدعوهم على أهمّيّة المحافظة عليها وعلى وجودهم في البلاد، لأنّ المسيح هو ابن فلسطين والشرق، وليس غربيًّا ولا مُستوردًا من الغرب، والناصرة وطبرية والجليل وبيت لحم والقدس تشهد كلّها أنّه ابن فلسطين، الأرض المقدّسة!
الأب رومانوس صوته الحرّ الصارخ عدلًا، يُطالب البطريرك ثيوفيلوس الثالث وأخويّة القبر المقدس بوقف الإجحاف بحقّ الطائفة العربيّة، وبحقّ الناطقين بالروسيّة، واحتضانهم، والتعامل مع الرهبان والكهنة العرب الوطنيّين بمحبّة وأُخوّةٍ دون عنصريّة، ووقف ملاحقتهم والتضييق عليهم، وإعطائهم حرّيّة العمل الروحيّ والدينيّ والاجتماعيّ دون تقييدات ولا عقبات، وإعطائهم الصلاحيّات التي هم محرومون منها، كالمطران عطالله حنا، والريّس مليتيوس بصل، والريّس خريستوفوروس حنا، الذين يعانون الكثير ويمنعون من أداء واجبهم كما يجب.
شكر الخوري رومانوس رضوان سَكَس أبناء رعيّته المبارَكين والمخلصين في يافة الناصرة، على وقفتهم الشجاعة وموقفهم المشرف وصمودهم، ورفضهم لقرار الحرمان الذي فرضه البطريرك ثيوفيلوس الثالث وأخويّة القبر المقدّس عليه، والذي يتنافى مع القانون الكنسيّ، ومع كلّ التعاليم المسيحية، وهو قرار باطل ومجحف مستند على افتراءات وأكاذيب، أهدافها وقف النشاط الرعائيّ، والذي لم يخطر بباله يوما أنه يقف موقفا كهذا خلال ال 28 عام من خدمته الرعائيّة ورسالته الروحيّة، وهو الذي نذر نفسه للعمل الرسوليّ الروحيّ، وسيبقى مخلصًا للتعاليم المسيحيّة وللكنيسة وللقوانين الشريفة، ولن يخون ولن يغدر ولن يخضع لبراثن الغش والخداع والاحتيال، من أجل أن يكسب رضى الرئاسة الموجودة حاليًّا، مفضّلًا العناء والاضطهاد مع أبناء رعيّته الذين يحبّهم ويُقدّرهم كثيرًا، ويُثمّن عاليًا وقفتهم الشجاعة والصامدة والمبدئيّة.
كما أعرب عدد من أبناء رعيّة يافة الناصرة المطّلعين على تفاصيل القضيّة، بأنّ هذا القرار اتّخذ لإرضاء فئات سياسيّة، همّها إنهاء الوجود المسيحيّ في البلاد المقدّسة وفي الشرق الأوسط، والعمل على تهجير  المسيحيّين العرب والروس من هذه البلاد، من خلال اتّباع سياسة "فرِّق تسُد"، ومن خلال التهميش والتجهيل والاضطهاد والتخويف للرعيّة وللكهنة العرب الروحيّين والوطنيّين، بالاستناد الى قرارات عنصريّة مبطّنة، وتحت ذرائع مختلفة لا تمتّ إلى الحقيقة بشيء، إنّما تحويل كنيسة المؤمنين البشر إلى كنيسة حجر، والعمل على فصل أبناء الرعيّة العربيّة عن شعبهم العربيّ الأصيل، وعن حضارتهم العريقة وإيمانهم القويم، وهذا النهج طبّقه اليونانيّون منذ عام 1534، بعد أن قام العثمانيّون بطرد البطريرك العربيّ عطا لله في القدس، وتعيين بطريرك يونانيّ بفرمان وقرار من الباب العالي، وهكذا تسلّم الرهبان اليونان إدارة البطريركيّة العربيّة المقدسيّة، تحت مسمّى "أخويّة القبر المقدّس"، وهم من الرهبان اليونان، يحكمون الرعيّة العربيّة وأوقافها، والتي تهدف تثبيت حكم العِرق اليونانيّ، وإبعاد الرهبان العرب والكهنة والرعيّة العربيّة، بقوانين عنصريّة لا تمت الشرع المسيحيّ وتعاليمه بصلة، انّما محاربة الرهبنة العربيّة. 
لقد بدؤوا باضطهاد الراهب العربيّ المطران عطالله حنا، وحرمانه روحيًّا واجتماعيًّا، ولكنّه  بقواه الشخصيّة  وبايمانه، لا يزال يفرض وجوده بالنضال المستمرّ، فهو مطران بدون صلاحيات. لماذا؟
كذلك الأمر بالنسبة للراهب الأرشمندريت مليتيوس بصل من كفرياسيف، والذي تمّ إبعاده عن دير التجلي في مدينه رام الله، وسُحبت منه صلاحيّاته، لأنه يعمل على توثيق العلاقة بين الكنيسة والرعية، فكانت مكافأته النفي من مكان لآخر، تحت عناوين وذرائع مختلفة.
والأمر نفسه يتكرّر مع الراهب العربيّ الأرشمندريت خريستوفوروس حنّا، قائد النهضة الروحيّة في الأردن الحبيب، وفصله من عمله في المحكمة الكنسيّة، تحت مسمّيات وذرائع وأكاذيب مختلفة، لكن الحقيقة أنّه يقود نهضة روحيّة، فقد استطاع إقامة أديرة لرهبان وراهبات بالأردن ومن الرعيّة العربيّة، ليكسر عنوان أخويّة القبر المقدّس اليونانيّة، وكأنّه لا يوجد شبّان وشابّات عرب يريدون أن يسلكوا في سلك الرهبنة، وأن يضحوا من أجل رعيّتهم وشعبهم، وهذا الكسر والفضح للتعامل اليونانيّ الحقيقيّ العنصريّ للرعيّة العربيّة، كان أجره العناء، ونصيبه الحرمان، ومكافأته فصله من وظيفته بالمحكمة الكنسيّة، وذلك للضغط عليه من أجل إلغاء الرهبنة العربيّة!
في نهاية اللقاء تمّ توزيع رسالة كتبها الأب رومانوس للبطريرك باللغة العربيّة والروسيّة جاء فيها:
صاحب السيادة رئيس أساققة ثابور سابقا، والجالس حاليًّا على الكرسيّ البطريركيّ الأورشليميّ
السيد ثيوفيلوس الجزيل الاحترام
اسمحوا لي يا صاحب السيادة بعد لثم أياديكم، أن أكتب لكم هذه الرسالة الصريحة بدون مراءاة، مُعبِّرًا  فيها عن مبادئي وأفكاري فيما يتعلق بالمشاكل التي بيننا، بعد أن رفضتم مرارًا سماعها منّي شفهيًّا بالكامل.
يعلم سيادتكم أن سيامتي الكهنوتية التي تمت عام 1985 من قبل المثلث الرحمات السعيد الذكر البطريرك ذيوذوروس الأول، هدفها خدمة الرب وكنيسته المقدّسة في بلادنا المقدّسة. وقد أوصاني وقتها غبطته بالاهتمام بإرشاد وتعليم الناطقين باللغة العربيّة أوّلًا، ثمّ لاحقًا الناطقين باللغة الروسيّة وغيرها من اللغات، بأسس وتعاليم ومبادئ الإيمان الأرثوذكسي القويم، نتيجة للجهل والفراغ الروحيّ الذي كان سائدًا. وقد أشاد أيضا بمبادئ واستقامة الدير والسمينار الروحيّ اللاهوتيّ الروسيّ في أمريكا، الذي فيه تعلّمت. وعلى هذه المبادئ والتوصيات سِرت وما زلتُ أسير حتّى يومنا هذا.
ما حدث عام 2005 من انقلاب في بطريركيّتنا، أدّى الى خلع البطريرك الحاليّ إيريناوس الأوّل عن كرسيّه، ثمّ عزله والإغلاق عليه وحجز حرّيّته، رغم عدم توافر سبب قانونيّ كنسيّ يستوجب ذلك، وهذا لهو سابقة لا مثيل لها في تاريخ بطريركيّتنا وكنيستنا. وعلى الرغم من ذلك، فقد أغلقنا أعيننا، وسددنا أفواهنا، ولم نقم بـأيّ ردّ فعل، فتعاونّا معكم مثلما كان ذلك في كفركنّا قانا الجليل، عندما كنتم رئيسًا روحيًّا عليها قبل جلوسكم على العرش، وتعاونّا في كل ما يتعلق بالمنفعة الروحيّة التنويريّة لأبناء رعيتنا الأرثوذكسيّة الناطقة بالعربيّة، من خلال النشاطات التبشيريّة المتنوّعة، وعلى رأسها إيصال وتوزيع نشرات ومجلّات نور المسيح والرزنامات السنويّة.
وللأسف الشديد، فإنّكم منذ أكثر من خمسة سنوات وأنتم تلاحقونني، وتحاولون تدبير المؤامرات لعرقلة كلّ النشاطات الروحيّة والتبشيريّة والخيريّة. بدأتم ذلك بشفاعمرو بزرع الشقاق مع الكاهن المساعد الآخر، وأمره بعدها بتغيير الأقفال وإخراجي من الكنيسة، وفي المجيدل التي قمنا فيها بترميم كنيسة القديس نيقولاوس، وبناء سور يحيط بها لحمايتها، وإعادة الصلوات والخدمات الروحيّة إليها والقيام بفعاليّات أخرى، قمتم بتدبير مؤامرة جديدة فيها، ومنعي من الصلاة والخدمة فيها، وأيضا منعتم قرع الجرس، وأمرتم بهدم كلّ ما تمّ عمله لتحقيق الفعاليّات الخيريّة المختلفة. لماذا فعلتم ذلك؟ هل تستعيبون بانتمائنا وتقاليدنا المسيحيّة الأرثوذكسيّة؟ هل تخافون قلّة من المتطرّفين اليهود، الذين يُعادون الوجود المسيحيّ الأرثوذكسيّ، في أيّ بلدة يهوديّة كمجدال هعمك. أذكركم بكلام الرب : " كلّ من يعترف بي قدّام الناس، أعترف أنا به قدّام أبي الذي في السموات، ومن ينكرني قدّام الناس أنكره أنا قدّام أبي الذي في السماوات" (متى 10:32). أتعلّم يا صاحب السيادة، كم كنت سبب عثرة الكثيرين، وبالذات للأطفال الذين كانوا ينتظرون العطل المدرسيّة، ليأتوا الى كنيسة مار نقولا بالمجيدل للصلاة والفعاليّات الخيريّة المختلفة. ألم تصلكم صرخة أولئك الأطفال الأبرياء، الذين كانوا يتحسّرون ويبكون ويضطرّون للبقاء في البيوت، أو التسكع بالشوارع وممارسة الأعمال غير المفيدة. تذكّروا كلام الربّ أيضّا: "من أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلّق في عنقه حجر الرحى ويغرق في لجة البحر". (متى 18:06).
تابعتم أوامر منع تأدية الخدمات الكنسيّة لإخوتنا المؤمنين من الناطقين بالروسيّة، في كلّ من الرامة والبعنة وترشيحا. أمّا في يافة الناصرة فحاولتم أيضًا زرع الفتن، ومنع ممارسة الخدمات الروحيّة للجالية الروسيّة، ودمجهم مع الرعيّة المحليّة الناطقة بالعربيّة، ومنع القيام بأعمال البِرّ والرحمة، لكنّكم هذه المرّة لم تنجحوا، حيث أنّ الرعيّة التي كانت شاهدة على ما حصل من مؤامرات في كنيسة المجيدل المجاورة، صحيت لهذه المؤامرة الجديدة، ووقفت صامدة ولن تسمح بتكرار ما حصل في شفاعمرو والمجيدل والرامة والبعنة وترشيحا وغيرها.
قمتم بقطع معاشي منذ أوائل السنة الحالية 2012، وأرسلتم عن طريق المطران كرياكس تطلبون حضوري، ولكنني لم أكن لأحضر من تلقاء نفسي، لأنّي سئمت الجلوس معكم لرفضكم الصراحة والمواجهة مع الاطراف الأخرى من الوشاة والمشتكين. لذلك طلبت من المطران كرياكس بنفسه أن يعيّن موعدًا لحضوري، إلّا أنّ ذلك لم يتمّ، فأصدرتم بعدها أمرًا انتقاميًّا مزاجيًّا غير قانونيّ بحرماني من سرّ الكهنوت،  وعمّمتم ذلك في كلّ الكنائس التابعة للبطريركيّة، وللإرساليّة الروسيّة أيضًا، ومن خلال وسائل إعلام ومواقع مختلفة، تهدّدون وتخيفون الكهنة والشعب، وتمنعونهم من مشاركتي بأيّة خدمة كنسيّة. أذكركم بكلام بولس الرسول: "لا موت ولا حياة، ولا ملائكة، ولا رئاسات، ولا قوّات ولا أشياء حاضرة ولا مستقبلة، تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربنا" ( رومية 8:35).
وما يخصّ الطاعة، أيّة طاعة تطلبونها سيادتكم؟ الطاعة التي فيها أذى وضرر للقريب، ومخالِفًا الوصيّة الأساسيّة تحبّ قريبك كنفسك؟ أذكركم بأنّني كنت طائعًا دومًا حتى الموت، في كلّ ما فيه خدمة ومنفعة وتثبيت الأرثوذكسيّين في حفاظهم على إيمانهم. وقد غامرت بحياتي قبل حوالي 12 سنة، لأصل قرية الزبابدة لإجراء إكليلين فيها وقدّاسًا إلهيًّا يوم أحد، في فترة منع التجوّل وإغلاق الطرق نتيجة لحالة الحرب مع العراق، أيّام الرئيس صدام حسين، وقد غامرت وتعرّضت للخطر في وقت السفر الى هناك، ولكنّني كنت مبتهجًا، بأنّني منعت عائلتين بأكملهما من الانتقال الى طائفة أخرى، نتيجة عدم وجود كاهن أرثوذكسيّ في ذلك الوقت.
وما يخصّ جمعيّة صوفيّا لرفاهة المسيحيّين الأرثوذكسيّين، فقد أنشأناها لعمل الخير للإنسان الأرثوذكسيّ، بغضّ النظر عن انتمائه القوميّ، وترميم الكنائس المهجّرة التي على رأسها كنيسة مار نقولا بالمجيدل، وكلّ ما فيه منفعة المسيحيّين الأرثوذكسيّين وتقويتهم وتثبيتهم في الأراضي المقدّسة. لماذا تحاربون هذه الجمعيّة، وقد بعثنا لكم ملفًّا بدستور وأفكار الجمعيّة ورسالة لطلب البَرَكة، ولكنّكم رفضتم التعاون.
لا تفكّروا يا صاحب السيادة أنّكم من خلال سياسة التجويع والتحطيم والتهديد، تستطيعون أن تثنوني عن إيماني وأعمالي التي أحاول فيها المحافظة على دقّة عقائد وتقاليد وطقوس كنيستنا المقدّسة، وعلى إخلاصي لدعوتي الكهنوتيّة التي جعلتم منها وظيفة لمعاش، وربطتموها بالأختام والأوراق، واهتممتم بالشكليّات، في حين أهملتم المضمون والجوهر. واعلموا أنّي لا أملك المال الكافي لرشوة أحد، ولا صلة لي مع أصحاب السلطة والحُكم. لكن ما أملكه هو إيماني الثابت، وقناعتي التي لا تتزعزع بالطريق الضيق المؤدّي إلى الخلاص، الذي يتطلّب احتمال المشقّات والإهانات، من أجل الحفاظ على الإيمان المسيحيّ القويم نقيًّا ثابتًا لا عيبَ فيه، أمّا الطريق الرحب والسهل الذي تنصحون به، وهو المؤدّي إلى الهلاك فأنا رافض له . تذكّروا قول الرب: "ولا تخافوا ممّن يقتل الجسد ولا يستطيع أن يقتل النفس، بل خافوا ممّن يقدر أن يهلك النفس والجسد في جهنّم". ( متى 10:28).
بعد قراركم بحرماني، وبناءً على تدخل البعض من مطران وكهنة وعلمانيّين لحلّ هذه المشكلة، فقد تنازلت عن الكثير عاملًا ضدّ ضميري، فكتبت رسائل مختلفة فيها الاعتذار، وتوقّفت عن الخدمة الكنسيّة لفترة محدّدة، ولكن عبثًا وبدون أيّة جدوى.
ألا تذكرون كم كنت في الماضي أتردّد عليكم، وأحاول فتح مواضيع روحيّة مهمّة لم تكونوا لتعيروها أيّ اهتمام، بل كنتم تغيّرون الموضوع، وتتحدّثون بأمور عالميّة وإداريّة، ثمّ تحاولون إسكاتي وإنهاء حديثي بتقديم بعض من المال؟
إنّكم تهدّدون يا صاحب السيادة، وتتوعّدون كلّ من يُصلّي معي بالحرمان، والبعض الآخر تقدّمون لهم الرشاوة والإغراءات لتمنعوهم من الاتّصال بي. وأمّا أنا فأقول لسيادتكم، مُعتمِدًا على القول الإلهيّ: "لي النقمة أنا أجازي يقول الربّ. فليس ما أُهدَّد به، سوى أن أذكّركم بيوم الدينونة الرهيب، كيف سيقف كلّ منّا أمام الديّان العادل، مُقدِّمًا أعماله وما صنعه في حياته.
بناءً عليه، أعلن مع أبناء رعيتي المباركين والمخلصين للكنيسة المقدّسة وتعاليمها، عن تحرّرنا من سلطانكم الجائر، وانفصالنا عن رئاستكم الظالمة غير القانونيّة . وأملك لنفسي الحق الكامل في الالتجاء إلى أيّ مجمع مقدّس أرثوذكسيّ تقليديّ قويم، يسير على العقائد والعبادة الحسنة، ويتعامل معنا بالحقّ والعدل والاستقامة، حيث نتمكّن من الاستمرار في مسيرتنا الكهنوتيّة الى الأمام بمخافة الله وباستقامة.
اعذروني يا صاحب السيادة، أنّني أخاطبكم هكذا وليس كما تتمنون يا صاحب الغبطة، لأنّ صاحب الغبطة موجود وهو حيّ يُرزق. إلّا إذا كنتم قد وضعتم قانونًا جديدًا، يسمح بوجود بطريركيْن معًا في نفس البطريركيّة. واعذروني أيضًا أنّني أعمّم هذه الرسالة على  وسائل الإعلام، والمواقع التي عمّمتم فيها قرار حرماني، لتوضيح الحقيقة الكاملة أمام كلّ مؤمن يهمّه هذا الأمر. "ليس مكتومٌ إلّا سيُعلن، ولا خفيٌّ إلّا سيُعرف. الذي أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور، والذي تسمعونه في الأذن اِكرزوا به على السطوح". (متى 10:27).
وفي الختام أدعو نفسي وأدعو سيادتكم لمراجعة ضمائرنا، والعمل في حياتنا الحاضرة على إرضاء الله، لا على إرضاء شهواتنا وكبريائنا، لكي نستحقّ الحياة الأبديّة، علّه يستجيب لنا.. آمين.
بإخلاص ومحبة لا رياء فيها: الأب رومانوس رضوان سَكَس
راعي كنيسة الروم الأرثوذكس- يافة الناصرة
يافة الناصرة في 21 تشرين ثاني شرقي/ 4 كانون أوّل غربي 2012







اجتماع تضامني مع الخوري رومانوس (2)


اجتماع تضامني مع الخوري رومانوس (3)


اجتماع تضامني مع الخوري رومانوس (4)


كنيسه مار جريس يافه الناصره (7)


وفود تضامن مع الخوري رومانوس (2)


وفود تضامن مع الخوري رومانوس (3)





161
خطواتٌ فرنسيّة فوقَ جسدِ الصّحراءِ!




آمال عوّاد رضوان
صدرت الترجمة الفرنسيّة لكتاب- خطوات فوق جسد الصحراء- للشاعر الأديب وهيب نديم وهبة، حول مسرحة القصيدة العربيّة، ترجمه للفرنسيّة الشاعر عادل سلطاني، "بئر العاتر الجزائر"، وهذه الترجمة صادرة باللغة العربيّة والفرنسيّة معًا، وكان الكتاب الأوّل "المجنون والبحر" من الرباعيّة لمسرحة القصيدة العربية، قد صدر في باريس عن دار النشر العالمية  PANTHEON باللغة الفرنسيّة لوحدها، ترجمة الأديبة " ِARLETTE   DANIEL!
وكان الشاعر وهيب نديم وهبة قد اختتمَ رباعيّتَهُ الإبداعيّة، والتي يُجملُ فيها مشروع "مسرحة القصيدة العربية". تتضمّنُ هذه الرّباعيّة:
الرحلة الأولى: "المجنون والبحر1995" التي ترجمت إلى لغات عديدة، ويتحدّث الكتاب عن العدالة المطلقة، ويدخلُ هذا الإبداع ضمنَ الحداثة كما قيل عنه في الثورة النقدية الإيجابية التي حدثت لحظة صدور الطبعةِ الإولى، ثم صدر منه ثلاث طبعاتٍ باللغة العربيّةِ عن مطبعة الكرمة حيفا، وقد دخلَ حالةً أدبيّةً في التجديد ومسرحة القصيدة العربيّة، وهذه الحالة كانت بمثابةِ عمليةِ "مزيج" لجميع عناصر الأدب، ذلكَ أنّ إيقاعَ العصرِ المُتجدّدِ المُتغيّرِ المُتنقّلِ مِن ثقافة إلى أخرى، كان الدّافعَ الأساسيّ للبحثِ عن سُبلٍ في التجديد، وبذلك تحوّلَ الكتابُ إلى حدثٍ في النقدِ وعددِ الطبعات، وحدثٍ عالميٍّ في الترجمة، وكانت شهادةُ النعمان الفخريّة بمثابةِ شهادة تحرُّرٍ أولى يعتزُّ ويفتخرُ بها الشاعر وهيب وهبة، شأنه شأن أيّ مبدعٍ فلسطينيّ، إذ ساعدتهُ على الخروج من داخل الحصارِ الثقافيّ ومِن جحيم الاختناق الأدبيّ، في منطقةٍ تعجُّ بالصّراعات.
ثمّ كانت الرحلة الثانية في كتاب "خطوات فوق جسد الصحراء"، "رحلةٍ نبويّةٍ من الجاهليّةِ حتى حجّة الوداع"، صدر هذا الإبداع الأدبي عام 1999 –على نهج المجنون والبحر – مسرحة القصيدة العربية، وهنا كانت التجربة أكثر عمقًا وأوضح صورة. فالمضمون يتطرّق إلى "العدالة الإلهيّة"، والدّخول إلى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية/ البداية الجاهلية – تحديد النهاية للفصل الأول – حجة الوداع ، لهذا كان الحدث يتصاعد مع  تطوّر النصّ، ويدخل حتى في المجال العلمي، فيدخل النّصّ في صميم التاريخ ويتّحد الأدب والتاريخ والشعر والمسرح معًا في تتويج مسرحة القصيدة، ثمّ يتبلورُ النّصّ حتى أسمى درجات الإيمان. تلك المعادلة الحضاريّة الرّاقية بما تحمله من رسالةِ النّورِ والتنويرِ وعصرِ الإنسان.
منشورات دار روان الفلسطينيّة الرام/ القدس أصدرت الاسطوانة عام 2001 لتوثيق النص النهائي للجزء الأول من خلال الاسطوانة، وذلك بصوت الشاعر لتوضيح فكرة مسرحة القصيدة من ناحية، ومن ناحية ثانية الموضوع لتوجيه الاهتمام إلى المضمون وأبعاده، ومن ناحية أخرى تمّ إدخال الآيات القرآنية بأصوات حقيقية في الأسطوانة، ممّا منح مساحة أوسع عند قراءة النّصّ، وقد تمّ التسجيلُ في استوديوهات الكرمل/ 2001.
ومن ثمّ كانت الرّحلة الثالثة في "كتاب الجنة 2006" الذي نال الجائزة اللبنانية للثقافة ضمن مشروع نشر عالميّة الأدب العربي، فمنحت الشاعر وهيب وهبة جائزة التكريم عن الأعمال الكاملة عام 2006، وفي تلك المسابقة للنصوص تمّ تقديمُ كتاب "الجنة" الموثق الآن في كتاب الجائزة بالعربية والإنجليزية والفرنسيّة، ونُشر كتاب الجنة عام 2009 القسم الأوّل مع مجلة مواقف في حيفا.
كتابُ الجنّة فيهِ يتضمّنُ البحث عن الإنسان وعن رسالةِ التنوير ووجود الإنسان هناك في الجنة، فقد استطاعَ كتابُ الجنّة المثولَ أمامَ الرّمز؛ وعظمة الخالق أمام الخلق، هذه العظمة التي لا تأتي بصيغةٍ مباشرةٍ ولا تقتحمُ النّصّ، بل ومنذُ البداية يرتكزُ الحوارُ والسّردُ إلى الرّمز، وهذه الفقرة مِن موسوعة المعرفة جاءت تقول: كتاب "الجنة" يرمز إلى الخلود وعدل الله.
ومع الرّحلة الرّابعة "مفاتيح السماء" التي تقفلُ الرباعيّة نقول:
هنيئا للشّاعر الأديب وهيب نديم وهبة بهذه الإنجازات الإبداعيّة، وهنيئًا لكلّ المُبدعين بدارِ النعمان وبكلّ مؤسّسةٍ مباركة ترعى وتدعمُ المبدعين بشكلٍ موضوعيّ، دون تحيّزٍ إلى لونٍ أو عِرق أو قوميّة أو جنسيّة، وذلك لترفعَ مِن شأن حضاراتِنا الإنسانيّة وثقافاتِنا الرّاقية!
أرفق بعض القطع من خطوات فوق جسد الصحراء باللغة العربية والفرنسية:
العتبةُ:
بينَ يديْكَ الآنَ .. حريقٌ منْ حطبِ الْكلماتِ، في مَوْقدِ الشّمسِ الْحارقةِ السّاقطةِ، فوقَ أرضِ الْجزيرةِ الْعربيّةِ.
أنتَ الْواقفُ أمامَ عتبةِ النّصِّ، عليْكَ الآنَ، أنْ تملكَ حرارةَ الصّحراءِ في الْقلبِ، وكثيرًا منْ عشقِ  المْجدِ ..
كيْ يستريحَ النّصُّ.. بينَ يديْكَ مثلَ السّيفِ الْعائدِ منَ النّصرِ. ولكيْ تَجْتازَ الْعتبةَ، وتدخلَ معي في سَفَري، عليْكَ أنْ تَتركَ هُنا كلَّ مَتَاعِ الدّنيا .. وتكونَ معي في سَفَرِ التّاريخِ إلى الْوراءِ.
نقطةُ الانطلاقِ، زمنُ الْجاهليّةِ
نهايةُ المْطافِ، حجَّةُ الوَداعِ
تلكَ محاولةٌ للدّخولِ في تاريخِ الْحضارةِ العربيّةِ الإسلاميّةِ.
des pas sur le corps du désert
19 décembre 2009
Seuil:
entre vos mains maintenant.. Un feu de bois des Mots, sous le soleil brûlant allumé tombant, sur la terre de la péninsule arabique.
toi le debout sur le seuil du texte, vous devez posséder maintenant, la chaleur du désert dans le cœur, et beaucoup d' amour de gloire..
pour que le texte se repose.. Entre vos mains comme une épée retournant de victoire. Et pour franchissant le seuil, et d'entrant avec moi dans mon voyage, vous devez laisser ici tous les plaisirs de ce monde .. Et tu seras avec moi dans le voyage de l'histoire à rebours.
le Point de départ, le temps de l'ignorance" l'ère de eldjahilia"
la fin de compte, le pèlerinage d' 'adieu "hadjat el ouadaa
C'est un essai d'entrer dans l'histoire de la civilisation arabo-islamique

[center




]الْبابُ:[/center]
تَفتحُ البابَ الآنَ .. على مهدِ الْجزيرةِ الْعربيّةِ. تدخلُ مدينةَ الشّعرِ، ومدائنَ النّثرِ، وصَرْحَ التّاريخِ، وجسدَ الْأرضِ الْجغرافيا. لا تَبْحثْ عني بينَ سطورِ الْكتابِ.. هُوَ أنتَ هذا الْعربيُّ الْقادمُ إلى الْجزيرةِ الْعربيّةِ. قلْتُ .. وأقولُ الآنَ: في تجربتي الثّانيةِ (عنْ مسرحةِ الْقصيدةِ الْعربيّةِ) هنا مزيجٌ لجميعِ عناصرِ الْأدبِ معًا. يتوافَقُ معَ النّصِّ ..
هُنا تَجِدُ الْقمرَ والْبحرَ والرَّمْلَ والصّحراءَ والتّاريخَ وقَدْ دَخَلَ الْواحِدُ في الآخرِ حتَّى ضاعَتِ الْفروقُ بينَ الشّعرِ والنّثرِ بينَ التّاريخِ والْجغرافيا، بينَ المْسرحِ والْقصّةِ وبينَ الْواقعِ والْخيالِ.
ربّما يَرْفَعُ منْ قيمةِ النّصِّ .. أنّني أصلُ الآنَ، بينَ حاضري وجذوري. هذا الْخليطُ المْتراكمُ أُسمّيهِ على طريقتي:  "مسرحةُ الْقصيدةِ"، وهنا تكونُ التّسميةُ: "مَسْرَحةُ القصيدةِ فوقَ جسدِ الصّحراءِ".
La porte:
Ouvrez vous la porte maintenant ..Sur Le berceau de la péninsule arabique. Entrez-vous la ville de la poésie, et les villes de la prose, et le monument de l'histoire, et le corps de la terre géographie.
Vous ne me cherchiez pas entre les lignes du livre.. Est-vous cet Arabe venant à la péninsule arabique. J'ai dit.. et Je dis maintenant: Dans ma deuxième expérience (sur la Dramatisation de poème arabe) ici une combinaison Compatible avec le texte.. De tous les éléments de la littérature ensembles.
Ici, vous trouverez la lune et la mer et le sable et le désert et l'histoire et l'un entrant à l'autre même perdu les différences sont perdus entre la poésie et la prose entre l'histoire et la géographie, entre le théâtre et l'histoire entre la réalité et le fantasme
Peut être augmenter de la valeur du texte.. Je suis attaché maintenant entre mon présent et mes racines. Ce mélange accumulé je le nommé selon ma méthode.. Dramatisation du poème, et ici la nomination sera, la dramatisation du poème sur le corps du désert

قمرٌ
فوقَ ليلِ الْجزيرةِ/ ويداكَ منْ فضّةٍ/ وجسمُكَ مِنْ ترابٍ/ وسماؤُكَ مِنْ نحاسٍ/ وَعِشْقُكَ منْ سَرابٍ.
ماذا سَتجنِي منْ سرابِ الْقلبِ؟/ ماذا سَيأتي منْ غابرِ الزّمانِ؟
قمرٌ/ يرسمُ ظلَّ الّلونِ/ يلعبُ في فرشاةِ الضّوْءِ/ يرسمُ بحرًا وجزيرةً،/ يرسمُ قصرًا في صنعاءَ .. تسْكُنُهُ أميرةٌ ../ وخيالاتٌ بعيدةٌ .. تطلُّ منْ قصرِ غَمَدانَ ..
كانَ الْقمرُ يتنزّهُ في بستانِ الْأرضِ/ يصْغي إلى أصواتِ أغنياتِ المْاءِ/ تموجُ تندفعُ تتدفّقُ في أبراجِ فلكِ الرّغبةِ
Lune
Durant la nuit de l'île
Vos mains d'argent
Ton corps est de la terre
Et ton ciel estde cuivre
Ton amour est de mirage.
Quoi vous avez récolter de cœur de mirage?
Quoi ce qui va venir des temps immémoriaux?
une Lune
dessine l'ombre de couleur
Joue dans un pinceau de lumière
se dessine une mer et un île
se dessine un palais à Sanaa.. Habité par une princesse..
Et des fantasmes lointains.. surplombant de Palais de Ghamdan..
La lune il est se promener dans le jardin de la terre
il est écouter les sons des chansons d'eau
s'ondulant se dévalant se coulant dans les tours d'orbite de dési

ويُدَحْرِجُ نصفَ الضّوْءِ/ فوقَ غاباتِ الشّجرِ الْعالي/ نِصفُ دوائرِ أشكالِ ألوانٍ لقوسِ قزَح/ تدورُ في نفسِ الْمكانِ/ ترسمُ شكلَ الْوطنِ الْقائمِ بينَ الْبحرِ وبينَ الرّملِ../ ترسمُ خارطةً على شكلِ سكّينٍ/ صنعَتْ ذاتَ/ زمنٍ مسكونٍ بالمْجدِ/ إمبراطوريّةً عربيّةً/ حَمَلَتِ الأرضَ على كفِّ السّماءِ
ويَهْمِسُ الْقمرُ .. ../ حينَ يندسُّ الضّوْءُ في المْاءِ/ ويَعْلو المْوجُ إلى الْقمّةِ/ ويختلطُ الشّعاعُ بالياسمينِ/ والنّورُ بالْعتمةِ لتحيا الْحياةُ.
il roulera la moitie du lumière
Au-dessus des hauts arbres forestiers
les demi-cercles des formes des couleurs de l'arc en ciel
Tournent dans le même lieu
Dessinent l'allure de pays situé entre la mer et le sable..
Dessinent une carte sous la forme d'un couteau
fabriquent certain temps hanté de gloire
une empire arabe
se prend la terre sur la paume du ciel
Et chuchote la lune .. ..
Lorsque la lumière cachant dans l'eau
et Les vagues surmontent au sommet
Et le rayant se mêlé avec le Jasmine
Et la lumière avec l'obscurité pour vivre la vie.

قمرٌ/ يَرْسمُ وخيالاتٌ بعيدةٌ../ دَخَلتْ مدائِنَ الرّخامِ والْحريرِ/ وأجواءِ الْخيامِ وبراري الْهيامِ../ وبساتينِ الْعطورِ وغاباتِ النّخيلِ/ واغتَسَلتْ في ماءِ الْبحرِ/ وانتَظرَتِ الْفارسَ الْقادمَ منْ صحراءِ الْجزيرةِ/ يغْرزُ سهمًا في هوى القلبِ/ وسيفًا في الرّمالِ..
نادَتْ عَليهِ مِنْ علياءِ طاقةِ الْقصرِ/ يُقالُ: زرعَ النّورَ عندَ أسوارِ المْدائنِ/ يُقالُ: حينَ اكتملَ الْبدرُ/ كانَ قمرُ الزّمانِ/ وكانَتْ بدرُ البدورِ/ وكنْتُ في وادٍ .. وكنْتِ في وادٍ/ وما بيننا كانَتْ صحراءُ
صحراءُ/ امرأةٌ كالرّيحِ مكشوفةُ الْوجهِ/ صعدتْ إلى معابدِ الشّمسِ/ حتّى احترقتْ في مواقدِ الشّعرِ والْحنينِ/ وانخفضتْ حتّى لامَسَتْ جدائلَ الّليلِ/ ومغيبَ الْأفقِ ../ وجسَدَ الْأرضِ .. وخَرَجتِ امرأةٌ
سمراءُ/ تساهرُ النّجمَ حتّى ينامَ في ليلِ الْباديةِ/ لمَعَتْ .. برَقَتْ .. سطعَتْ ../ مثلَ لؤلؤةٍ معلّقةٍ فوقَ ليلِ الْيمنِ ../ وغرِقَتْ ../ غرِقَتْ بالضّياءِ ونجرانُ/ تغتَسِلُ بالضَوْءِ/ وتسطَعُ في بهاءِ السّماءِ/ وتنامُ في بحيرةِ الْفلكِ
قمرٌ/ يا بدرَ الْبدورِ يُغطّي السّماءَ/ يَفتَحُ سِفْرَ التّكوينِ وَرَسْمَ التّلوينِ/ وخرائطِ أقاليمِ الْهجرةِ منْ مكانٍ ما
une Lune
se dessine et des lointains fantasmes..
Entre les villes de marbre et de soie
et l'ambiance des Tentes et et les déserts de la passion ..
Et les vergers des parfums Et les forêtsde palmiers
Et se lavé à l'eau de la mer
Et attend le chevalier venant de désert d'Arabie
enfonce une flèche dans l'amour du cœur
Et une épée dans le sable..
Elle Appellelui du haut de la fenêtre du palais
l'on dit que: Semer la lumière aux pieds des murs des villes
l'on dit que: Quand la Luneest complété
il était kamer elzaman
elle était Badr el boudour
J'étais dans une vallée.. et tu étais dans une vallée
Et entre nous était un désert
Désert
Une femme comme le vent de visage dévoilé
S'avança vers les temples du soleil
jusqu'à elle se brûle dans les poêles du poésie et du nostalgie
Et se baisse jusqu'à elle se touche les tresses de nuit
et le coucher d'horizon..
Et le corps de la terre.. Et une femme Brunette est sorti
conciliabule l’étoile pour a dormir dans la nuit du désert
brillait.. fulgurait.. éclairait ..
Comme une perle suspendue sur la nuit de Yémen..
Et a coulé..
Elle a oulé de lumière et Najran
se Lave de la lumière
Et brille dans la splendeur du ciel
Et se dormit dans le lac d'orbite
une Lune
Oh Badr el boudour couvre le ciel
ouvre la genèse et le dessin de coloration
et les cartes des régions de migration d'un quelconque lieu
عادل سلطاني، بئر العاتر- الجزائر - 


162



أنّى يُبَلِّلُني غُبارُ التَّثاؤُبِ جَذِلًا؟



آمال عوّاد رضوان





أَعْشاشُ البَريدِ التَتَخَضَّرُ بِطَلِّ ظِلِّكِ اللَّيْلِيِّ
بِسَرابِهِ ..
مَسَّدَ عَتْمُ الغِيابِ أَسْرابَها
هامَتْ فراخُ الفَراغِ
في فَيافي عُزْلَةِ الوَقْتِ
عُصْفورٌ أَنا
تَتَهَدَّلُ
روحُهُ تَصَحُّرا
أَتَيَمَّمُ بِالوِحْدَةِ..
تُشَقْشِقُني جُفونُ الأحْلامِ
تَنْتَفِضُ أقْفاصي
حينَما تَهُزُّها يَدُ فَجْرٍ يَتَفَجَّرُ
أنّى يُبَلِّلُني غُبارُ التَّثاؤُبِ جَذِلا؟
*
في دَهاليزِ المَرافِئِ الهارِبَةِ مِنْ مَناراتِكِ
تَتَوارى هِضابُ اللُّغاتِ
تُغَشِّي سِراجَ القَلْبِ
بِدُخانِ مَواعيدَ بَكْماءَ.. عَمْياء
وَيَشُقُّ الرَّحيلُ ثَوْبَ مِشْوارِهِ اليَزْأَرُ
*
في دُروبِ الحِكايَةِ تَتيهُ بوصَلَةُ القَلَمِ
في غُرْبَةِ الجِهاتِ
أيَشيبُ مِدادِيَ اليَتَوالَدُ آمَالا؟
*
بِفَضاءِ فَوْضاكِ أُقَدِّدُ أرْغِفَةَ الوَقْتِ المُكَهْرَبِ
عَلى
مَوائِدِ اللَّحَظاتِ
تُلَمْلِمُ فَيْضَ أحْزاني
يَتَرَنَّمُ غَمامِيَ اليَتَجَمَّلُ بِلَواعِجِ الأَحْلامِ
أيَتَناغَمُ الجَسَدُ وَالرُّوحُ في رَقْصَةِ ارْتِقاء؟
*
عَلى
حَوافِّ عَرْشِ اللِّقاءِ
تَتَهافَتُ زَرافاتُ الذِّكْرَياتِ
تَحْجِلُ مَمْهورَةً بِدَلالِها المَمْشوقِ
وَفي مِحْرَقَةِ اللَّهْوِ
يَغْفو سراجُ آمالي في حِضْنِ مَواقِدي
أَوَهْمًا تَمُرُّ ريحُكِ بِلا أَثَرٍ؟!
*
توقِظين مِحْطَباتي
فأَتْركُ لِبَحْرِكِ الصَّامِتِ انْطِفائي
عَلى
حينِ مَدٍّ  
يَغْدو يَمُّ الهَواجِسِ
مَرْتَعَ أمْواجِ رِحْلَةٍ تَتَضارَبُ
تَتَعانَقُ..
تَتَلَعْثَمُ التَّعابيرُ
يَنْدَهُ الشَّوْقُ مُتَشَظِّيًا:
تَعالَيْ
*
أُخْفي مَرايا الرُّوحِ خَلْفَ كُوَّةِ الانْتِظارِ
وَفِي حَشا السُّؤالِ ألْفُ بُرْكانٍ
كَيْفَ تَقْوى الكَفُّ عَلى المُغالَطَةِ
حينَ يَفيضُ ثَغْرُ الشَّمْسِ بِبَسْمَةٍ وَضَّاءَةٍ؟
*
أَفْلاكُ الفُؤادِ تَمْلَؤُها أَقْمارُكِ
تُضيئُني قَصائِدَ بِعَصْفِ اللَّيالي
تَسْكُبُ
خَوابِيَ اللَّيالي المُعَتَّقَةِ
خُمورًا
في خُضْرَةِ كُؤوسٍ تَتَوَسَّدُ عَيْنَيْكِ
*
قُصاصاتُ ابْتِساماتِكِ تَتَطايَرُ عُطورًا
تُزَقْزِقُ هساسَها .. تُهَدْهِدُ أَسِرَّةً
تَتَباهَجُ بِظِلالِ أَطْيافٍ تَحْتَشِدُ بِكِ
*
مِنْ أَعالي سُفوحِ القَلْبِ المَسْحورَةِ
تَنْداحُ
سَطْوَةُ النُّعاسِ العَذْبِ
تَتَجَلَّى عَرائِسُ عَيْنَيْكِ هَفْهافَةً
تَتَغَنَّجُ
تُوقِظُ عُمْرًا مِنْ لَيْلٍ كَسيحٍ
عَلى مَرْمى قُطْبِكِ الغافي
*
تَتَسَرَّبُ مِنْ قارورَةِ المُحالِ
أَسْرابُ فَراشِ
تَ
فْ
رُ
شُ
عَلى أَجْنِحَةِ الأسْرارِ بِساطًا
مِنْ وَميضِ بَراءَةٍ
يُلَوِّحُ باسِمًا بِكَوْنِ سُكوني
*
مُقَلُ الْحُروفِ تَتَرَقْرَقُ بِفَرَحٍ ساهِمٍ
يَسِحُّ
عَلى وَجْنَةِ البَوْحِ ذُهولاً
يَنْهَمِرُ العارِمُ بِكِ زاهِدًا
إلاَّ عَنْ وَجْهِكِ الآخَرَ
*
يَنْغَمِسُ خَمْرُ مَوْجي
في خِماراتِ خَفْقِكِ
يُشَكِّلُ اخْتِماراتِ الحَواسِّ
موسيقا..
دِفْءَ قَصيدَةٍ
عَصافيرَ بَوْحٍ
تَذوبُ ألْوانًا تَتَماهى بِأَقْدارِها
في خُفوتِ الألْسِنَةِ
*
جَمالُكِ؛ يَشُقُّ غِشاواتِ روحي بِطَلْعِهِ
صَداكِ؛ أزَلُ قَصائِدَ رَخيمَةٍ  
شَذاكِ؛ عَبَقُ أمْطارٍ تَتْلو صَلَواتٍ
تُحْيي بَصَرًا تَكَلَّسَ في عَيْنِيْ قَداسَتِكِ
*
خُطى وَرْدِكِ الضَّاحِكِ تَطَأُ بَساتينَ وَجْدي
تَضوعُ أَنْفاسي في باحاتِ أَريجِها
تَسْتَحِمُّ أَنْداءُ العُيونِ بِهَسيسِ النِّداءاتِ
تَنْدَلِعُ أمْطارُ اشْتِعالاتِها
تَتَنَهَّدُ شِعْرًا..
تَتَبَسَّمُ  عَفْوًا..
وَتَتَهَلَّلُ في أَرْواحِنا.. أَغْمارُ غِبْطَة!

xyzamara@hotmail.com
من كتابي الثاني- سلامي لك مطرا



163
أمسيات روز شوملي الشعريّة في الجليل!
آمال عوّاد رضوان
مع مطلع العام الجديد 2013 أحيت الشاعرة الأديبة الفلسطينية روز شوملي من بيت ساحور- رام الله أربع أمسيات شعريّة موسيقيّة في كلّ من الناصرة والرملة وعبلين ودالية الكرمل، بعدما حصلت على تصريح خاصّ بمناسبة الأعياد المجيدة في زيارة الجليل.
صالون نهى زعرب قعوار الأدبيّ استضاف الشاعرة للفلسطينيّة روز شوملي في أمسية شعريّة، وذلك بتاريخ 2-1-13، وسط حضور من نخبة المثقفين والشعراء وذوّاقي الحرف والكلمة، وبين الفقرات الشعريّة حاورتها آمال عوّاد رضوان حول مسيرتها الأدبية كشاعرة ومتخصصة في أدب الطفل ونقده، ودورها في الأبحاث والتراجم التي تجريها، ومن ثم كانت مداخلات شعرية للحضور أثرت اللقاء بمزيد من البهجة والرقيّ.
أما المركز الجماهيري العربيّ في الرملة، فقد أقام أمسية شعريّة فلسطينيّة للشاعرة الأديبة الباحثة الفلسطينية روز شوملي، بتاريخ 3-1-13، وسط حضور خاص وشريحة مميّزة من الأطفال والأمّهات، وقد حاورتها آمال عواد رضوان حول علاقتها بأدب الطفل ودورها الفاعل في المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان، من أجل تأسيس رياض الأطفال ومساندة الأطفال والأمهات في تلك الحرب والمرحلة العصيبة، وقد أضفى الأطفال على الأمسية جوًّا جميلاً مختلفًا ومبتكرًا أسعد جميع من تواجد بالأمسية، ولا سيّما الأطفال منهم، إذ اعتلَوْا المنصة بثقة ليقرؤوا من قصائد روز الشوملي، التي تحاكي الطفل والأرض الوطن والإنسان، ومن ثمّ تمّ تكريم الشاعرة الشوملي من قِبل عضو البلدية ورئيس مجلس المركز الجماهيريّ العربيّ بالرملة المربّي فايز منصور، ومدير المركز الجماهيريّ المربّي ميخائيل فانوس، والمدير الفنيّ للمسرح الجماهيريّ الفنان والمخرج أديب جهشان، ومُركّزة مشروع النساء في المركز الجماهيريّ العربيّ الكاتبة الصحفيّة رانية مرجية، التي نظمت هذه الأمسية، لأهمّيّة التواصل بيننا نحن فلسطينيّو الداخل وفلسطينيّو الضفة. 
واستمرارا لنهايات الأسبوع الموسيقيّة التي يقيمها المعهد الموسيقيّ في عبلين في كانون الثاني من السنة الجديدة، فقد استضاف المعهد الموسيقيّ العبليني الجليليّ وجوقة الكروان العبلينيّة الشاعرة الأديبة المناضلة الاجتماعية روز شوملي، في أمسية شعريّة موسيقيّة متميزة في مقرّ المعهد الموسيقيّ القائم في مركز عبلين بتاريخ  4-1-2013، وبين الفقرات الموسيقيّة الثلاث وعزف طلاب المعهد الموسيقيّ، حاورتها ابنة عبلين آمال عواد رضوان، حول طفولتها في حقل الرعاة في بيت لحم، وكيفيّة تأثرها بالمشاهد والاحتفالات الميلادية، التي ساهمت ولعبت دورا أساسيًّا في تشكيل وبلورة مواهبها الموسيقيّة والشعريّة.
البداية كانت مع العزف الموسيقي، حيث شمل البرنامج ثلاث فقرات:
لطلاب آلة القانون بتدريب مها عوّاد: صافي دعيم، ماريا حاج، ماريا سليم، ايفا حبيب، إبراهيم عواد.
وطلاب الأورغ تدريب مها عوّاد: مجد عويّد، ديما شيخ أحمد، هديل حاج، صافي دعيم، شروق نجمي، ناصر خوري، ريم علي، آدم إدريس، راية مريح، فرحة عبيد، لورين سمرة، ميار محسن، إلياس أبو غنيمة، جاكي حاج.
وطلاب آلة الجيتارة بتدريب فريد متى: يارا دعيم، يونتان حاج، نيقولا فرهود، توفيق نصرالله، ياسمين طباجة، راشد سليم، جواد حسين، ماريا خليفة، هيا مريح .
وقد أدّى الطلاب عزفا متميّزًا في فقرات شرقيّة وغربيّة جميلة جدًّا، بتركيبات وتوليفات ملوّنة ومتناسقة، لاقت استحسان الحضور.
تحدثت الشاعرة روز شوملي عن طفولتها وغربتها في لبنان وعودتها الى بيت ساحور، وأكثر ما أدهشها وأفرحها اكتشافها أن جزءًا من أبناء عائلة الشوملي يتواجد في عبلين وشفاعمرو/ في الجليل.
في الفقرة الأخيرة من البرنامج قامت روز شوملي بقراءة شعريّة لبعض قصائدها بمرافقة عازف الجيتارة فريد متى، كما قامت ثلاث طالبات من المعهد الموسيقيّ ماريا سليم وهديل حاج وماريا حاج بقراءة قصائد روز شوملي .
في نهاية اللقاء قام مدير المعهد الموسيقي وجوقة الكروان الأستاذ نبيه عوّاد بتقديم هدية تقدير وشكر على  المشاركة والزيارة المهمّة للجليل، لتقوية أواصر الأخوّة والعلاقات بين أفراد الشعب الواحد.
أمّا المركز الثقافي في دالية الكرمل فقد استضاف الشاعرة الأديبة روز شوملي، بتاريخ 5-1-13 في أمسية شعرية مميّزة ، نظمها الشاعر مجيد حسيسي من دالية الكرمل وآمال عوّاد رضوان، وقد تخللت الأمسية قراءات شعريّة لروز شوملي ومجيد حسيسي، أمّا آمال عوّاد رضوان فقد حاورتها حول منجزها الشعريّ وقصص الأطفال، وحول دوْرها كمديرة عامّة لطاقم المرأة والمنجزات والمشاريع التي أنجزتها، وحول مواضيع الأبحاث والتراجم التي تعكف على مزاولتها في المرحلة الأخيرة، ومدى أهمّيّتها في عكس الوجه الفلسطينيّ أمام الرأي العالميّ.
 وبين الفقرات الشعرية عزف الفنان فراس نصر الدين ببراعة على آلة (المجوز) وآلة (اليرغول)، حيث نال استحسان الحضور، وقد برز بين الحضور الأديبة فاطمة ذياب والشاعر وهيب وهبة والشاعرة ملكة شاهين.
وجاء في كلمة روز شوملي الانطباعيّة حول زيارتها للجليل، وتحت عنوان الشعر والموسيقا والحبّ هي عناوين رحلتي هذه وكلها غذاء الروح تقول:
كأنما الذين بقوْا في الأرض حافظوا على أصالتهم وأصالتها. ذهبْتُ أحمل قلقي معي، وعدتُ أحمل في قلبي صورهم جميعًا: الكُتّاب والشعراء والمثقفين، الأطفال، النساء العاديات، عائلتي التي اكتشفتها هناك، وعودتي إلى الجذور مع الموسيقا.
آمال عواد رضوان الشاعرة الرائعة التي نظمت لي بدل الأمسية أربع أمسيات، فرحة بنتاج ما نظمته من جهود  من أجل أن يتعرف الكتاب الفلسطينينون بعضهم ببعض. آمال عوّاد رضوان التي أهدتنا السلام مطرًا في الذهاب والإياب، كرّست لي من وقتها الكثير الكثير، وكانت محاوِرتي في اللقاءات المختلفة.
فاطمة ذياب، القاصة القديمة المتجدّدة دائمًا، التي كتبت ولا تزال للصغار والكبار، وعينها الثاقبة تنقد وتحلل كلّ ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، استضافتني في بيتها في الليلة الأولى، كأنّما تستضيف أختها التي عادت بعد عقود غياب.
الرائعة آمال، قريبة آمال عوّاد رضوان، استضافتني في بيتها أربعة أيام وعاملتني كأنني أختها المدللة.
أمّا الشاعرة نهى زعرب قعوار التي جعلت من  بيتها صالونًا ثقافيًّا وأدبيًّا للكُتاب والمثقفين، استقبلتني في صالونها لأتحدّث عن تجربتي الشعرية، وأقرأ بعضًا من قصائدي.
في قلبي صور كلّ من التقيتهم من الشعراء: جورج جريس فرح، وهيب نديم وهبة، والأديب والناقد الدكتور بطرس دلة، والناقد د. منير توما، والقاص الأديب ناجي ظاهر، وغيرهم، والأستاذ القاصّ محمّد علي طه كاتب القصص المصوّرة للأطفال وهو الباحث والمترجم، والأستاذ الأديب محمّد على سعيد الذي بنى مكتبة يقصدها من يريد مرجعًا لاتمام بحوثه، ولا يجده في مكان آخر، وعضو البلدية ورئيس مجلس المركز الجماهيري العربي بالرملة المربي فايز منصور، ومدير المركز الجماهيريّ المربّي ميخائيل فانوس، والمدير الفنيّ للمسرح الجماهيريّ الفنان والمخرج أديب جهشان، ومُركّزة مشروع النساء في المركز الجماهيريّ العربيّ الكاتبة الصحفيّة رانية مرجية، والأستاذ نبيه عوّاد مايسترو جوقة الكروان ومدير المعهد الموسيقيّ في عبلين الجليليّة، والشاعر مجيد حسيسي ابن دالية الكرمل، وأخيرًا الإنسان الرائع الذي دفع الكثير لقاء مبادئه وجرأته على قول الحق والحقيقة، أستاذنا ومعلمنا حنا إبراهيم إلياس- الشاعر الحجّار، كلّهم وجميعهم أضافوا إلى تجربتي ومعرفتي وأغنَوْها.
أما الأطفال فقد التقيتهم كأفراد ومجموعات، فوجدوا في قلبي مرتعًا لهم. الطفل مطلق، حفيد القاصة فاطمة ذياب، الذي تحدثت معه عن اهتماماته واهتماماتي في عمره، كان يصغي باهتمام، ورغم أن لقائي به لم يكن طويلاً، لكن حديثه دخل قلبي وأتمنى أن أكون قد تركت  لديه نفس الأثر.
أما الأطفال الذين التقيتهم كمجموعة، بعضهم حصل على فرص جميلة، مثل أطفال عبلين الذين وفّرت لهم جوقة الكروان الغنائية والمعهد الموسيقيّ العبليني مجالاً رائعًا لتنمية مواهبهم وصقلها، لكن بعض الأطفال في مناطق أخرى، خاصّة في الجنوب، ما زالوا يعيشون في حالة ضياع، وهم في أمسّ الحاجة لظروف تنهض بهم، وفي مثل حالتهم، هم بحاجة إلى جهد مضاعف كي يعوض ما فاتهم.
حدّثت أطفال الرملة عن أطفال المخيمات في لبنان، وكيف عملوا على تغيير وضعهم حتى وهم في صف الروضة، وحدّثت الأهالي عن كيفيّة مساهمة الأهالي في عملية التغيير، ووجّهت الخطاب للمعلمات والمعلمين في الحديث عن كيفيّة تمكين معلمات الروضة من استخدام المكان بموارده البشريّة والماديّة، من أجل جعل الروضة مرتبطة مع البيئة المحليّة بعلاقة تكامليّة.
أما عائلتي – الشوملي- فقد اكتشفت أن عددها كبير في عبلين. كانت الدهشة كبيرة. جاؤوا للترحيب بي. الغريب أن سيماءهم كانت تشبه سيماء وجوهنا، هي الوراثة بلا شك.















164
من وحي الربيع في قمم الكرمل!



آمال عوّاد رضوان
أسرة منتدى الحوار الثقافي في مركز التراث البادية عسفيا الكرمل استضافت كلّيّ الوقار سيادة المطران بطرس المعلم، للتحدّث عن كتابه "من وحي الربيع"، وذلك بتاريخ 27-11-2012، تزامنًا مع افتتاح معرض رسومات الفنانة ماري قعبور روحانا في مركز التراث، التي وافت الحضور بنبذة قصيرة عن مشوارها مع الرسم، ومرحلة توقفها الطويل بسبب الواجبات الأسرية، لتعاود مشوارها الفني من جديد، وتتابع الرسم وتطوبر ملكاتها وأدواتها الفنيّة من خلال متابعة متابعة التعلم والدراسة في مجال الرسم. 
استهلّ اللقاء الأستاذ رشدي الماضي، ومن ثمّ تحيّة زجليّة خاصّة بالمطران من الزجال اللبنانيّ نجيب سجيم، ثمّ كلمة ترحيبيّة من السيد وجيه كيوف رئيس مجلس عسفيا، تلتها مداخلة نوعية لد. فهد أبو خضرة، وثمّ توطئة شخصية للأديب الإعلاميّ نايف خوري، وتلتها مداخلة خاصّة للمحامي علي رافع، وقد تخلّل المداخلات قراءات من نفس الكتاب قدّمتها سماهر نجّار، أعقبها تعقيبات الحضور، وكانت كلمة مسك الختام المبارك للمحتفى به كل الوقار سيادة المطران بطرس المعلم.   
وفي كلمة ترحيبية ألقاها الشاعر رشدي الماضي جاء فيها: جاءني وحيُ ربيعك وحيًا يهتف مناديًا: أيّها البطرس، ها هي الروح القدس تبعث بـ الضاد إليك أمة ربّ مباركة، لتُقرئك فتُبشّرك أنّك "المعلّم" الكلمة التي تتجسّد في بطن الحوت كلمات مؤمنة، طوبى لها مُبشّرة بالأمل مستبشرة بالخير "دون أن تراه". صحيحٌ أنّها ترفض عامدة متعمّدة أن تصارع التنّين كي تبقى عاصمة فاضلة لابنها الإنسان "ابن الانسان"، اذًا؛ ليس غريبًا عليها إذا تقمّصت مصباح ديوجين بوصلةً نورانيّة، واعتلت الصخرة تراقب متأنّية زماننا العربيّ الرديء، تراقبه وهي العارفة أنّ زيت قنديل إشراقه شحيح ونور مشكاته شاحب خافت!
نعم؛ أنت يا بطرسي ترى ألوان هكذا محنة دونما دهشة. لماذا؟ لأنّك تعي أنّ أبناء غسق "خطيئة التفاحة" لمّا يزالوا كُثرًا، تنخر بهم "شهوة" ظامئة للإثم، وبين جلجلة وجلجلة في محطة من محطات طريق الآلام نسمع الآب يناديك: أنا يا بُنيّ لم أتركهم أمس، ولن أتركهم في قابل الأيام!
وها هي سيدة الأيقونة قد غادرت "عشائي السرّيّ"، تحمل ربيعك أبجديّة من "وحي الروح" و"خشبة للخلاص"، خذهما أيّها "البطرس المعلّم" يدًا شافية ليصل إلى الأرض السلام وتهبط على الناس المسرّة. خذهما لأنّك واحدٌ من رُسُل الكلمة تلاميذ الآب الأوفياء. خذهما لتظلّ ضادُّكَ جرسًا يُقرع، وصلاةً تبتهل في حضرة الإله، تُقرع وتُصلّي صوتًا تعمّد وتناول ليصعدَ مُقدّسًا مُبارَكًا سلّمَ القيامة؛ سرَّ الديمومة والبقاء.
نعم يا معلّمي، وحيُ ربيعك هُدهدٌ في صحراء تضاريس زماننا العربيّ القاتم. هُدهد يحمل رسالتك الإنسانيّة "نهرًا" طاهرًا طهورًا، "الأرجل" عطشى تنتظر مَن يغسلها لتعود وتتجسّد إنسان العقيدة والإيمان، الذي يشعر حقًّا أنّه إنسان ابن انسان.
بطرس المعلم أيّها الثوب المقدّس، واصِل التعبّد في هيكل الكلمات. واصِل عظتك ليبقى صليبك هو هو "الفداء" على كتف الحقيقة فداء، يجعل "الراجمين" يُعيدون إلى "صخرتك" حجارتها كي تكمّل عمارة "بيت الله" محبّة ومَسرّة، قيامة وحياة!
وفي مداخلة د. فهد أبو خضرة حول فكرة تطوّر العقلانيّة وتاريخها جاء: العقلانيّة هي من تجلّيات الثقافة الأوروبيّة وابتكار غربيّ حديث، وذلك بعد النهضات والثورات والفتوحات التي شهدتها أوروبا منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر، وعصر الأنوار في القرن الثامن عشر، مرورًا بعصر الحداثة والثورة الصناعيّة في القرن العشرين، وصولاً إلى عصر ما بعد الحداثة والعولمة وثورة المعلومات في القرن الحادي والعشرين. الحداثة أبرزت مكانة العقل البشري بشكل لافت، وقد سُفِكت فيها دماء وأُحرقت كتب وصَدرت مراجع وأطروحات، لكن مسيرة التطوّر العقليّ ظلّت مستمرة لإعادة اعتبار الذات الإنسانيّة ومكانتها المتجدّدة، والاعتراف بالحرّيّة الذاتيّة للأفراد. ففي حين كان الخروج من استعمال للفكر مقيّدًا جدًّا إلى استعمال للفكر واسع حُرّ إلى حدّ ما، ولكن ظلّ في تلك الفترة خاضعًا للرقابة الدينيّة والزمنيّة، وإذا لم يحدث تعارض بين الفكر العقلانيّ والفكر الدينيّ أو فكر السلطات آنذاك فلم تكن هناك مشكلة، ولكن إذا حدث تعارض فهناك مشكلة كبيرة، وغالبًا هذا الفكر الحُرّ كان يتراجع.
استمرّ تطوّر الفكر العقلانيّ تحت السلطة الدينية أو الزمنيّة سنوات طويلة، وفي كلّ مرة كانت تحدث محاولات لتحرّرٍ أكبر، واستعمال التوجّه العقلانيّ بصورة حُرّة غير خاضع للمراقبة، ولم يحدث ذلك إلاّ في أواخر القرن التاسع عشر، وبالذات في سنة 1892  وهي بداية الحداثة في الفكر العالميّ المعاصر، ومن هناك انطلق الفكر حُرًّا حُرّيّة كاملة.
المشكلة أنّ هذه الحرّيّة اقتضت أن يكون الاتّجاه العقلانيّ اتّجاهًا إلحاديًّا، فاقترن التحرّر بالإلحاد والخروج عن الدين خروجًا كاملًا، وكان الأمر مقبولًا في كلّ أوروبا ولكن لفترة محدودة جدًّا، لأنّه خلال أقلّ من ثلاثين سنة تبيّن لهم أنّ هذا الاتّجاه هو اتّجاه غير مقبول، ولا يمكن أن يكون مفيدًا للعالم، فقد طوّروا الأسلحة ووسائل الدمار، ولكن لم يُطوّروا ما يفيد الإنسانيّة، ولم يستطع العقل وحده أن يحلّ مشاكل البشريّة، وبدأ التراجع عن هذا الاتّجاه، ولا زال الخلاف موجودًا في أوروبا حتى هذا اليوم.
نحن في العالم العربيّ تأثّرنا بالحداثة الغربيّة ابتداء من سنة 1910، عندما أقيمت الجامعة في مصر، وجاء المستشرقون وألقوْا محاضرات، وتطوّر هذا التأثير خلال الثلث الأوّل من القرن العشرين من سنة 1930 حتى 1940، فكان الاتّجاه عقلانيًّا ولكن ليس مُلحدًا، إنّما حاول أن يجمع بين الدين والحرّيّة بحذر شديد، ويبدو أن قسمًا آخَر خاصّة من الأدباء تأثّروا بالاتّجاه الغربيّ أكثر، فكانوا يحاولون أن يتركوا الدين جانبًا، وحتى أن يُغيّبَ العقل أيضًا، أي تغييب للعقل والدين معًا. وما زال موجودًا بما يُسمّى الحداثة وما بعد الحداثة. اليوم العالم العربيّ في تساؤلات كثيرة: ما هو الاتّجاه؟ أي هل يمكن أن تكون الحداثة الغربية هي المُوجِّه لنا؟ معظم المفكّرين العرب يقولون لا، فما الذي نجده عند سيادة المطران بطرس المعلم في كتابه "من وحي الربيع"؟
نجد اتّجاهًا عقلانيًّا فيه خضوع للناحية الدينيّة، ولكن خضوع داخليّ أي رقابة داخليّة، ولا تقتضي الرقابة الذاتيّة دائمًا أن يكون الكاتب رجلَ دين، ويكفي أن يكون واعيًا ومسؤولًا فيما يكتب، كي يكون هذا الاتّجاه اتّجاهًا سليمًا، وهذا التوازن بين الاتّجاه العقلانيّ والرقابة الدينيّة الداخليّة هي التوجّه الصحيح والسليم إلى حداثة عربيّة سليمة، تجمع بين ما يُسمّونه الدين والعقل، والعلم والإيمان.
هذه نماذج ممتازة جدًّا بهذا التوجّه يمكن أن تُناقش، ليُستنتج منها فيما بعد التوجّه الصحيح المبنيّ على نفس هذا الأساس، وأنا أعتقد أنّ هذه الكتابات التي قدّمها لنا سيادة المطران بطرس المعلم، يمكن أن تكون نموذجًا جيّدًا جدًّا لهذا التوجه، وهو التوجّه الذي نبحث عنه اليوم لهذه الفترة الحرجة من تاريخنا، والربيع العربيّ الذي نتحدّث عنه أنا متفائل منه وقد بدأ، ومهما حدَث فإنّه سيمتدّ امتدادًا خيِّرًا إلى الأمام، لأنّ الزمان لا يعود إلى الوراء أبدًا، فوحيٌ من الربيع سيؤدّي إلى الربيع حتمًا مهما حدث من عراقيل، ونحن في بحثنا عن الربيع في الحداثة العربيّة، لا يمكن أن نأخذ الحداثة الغربية وحدها كنموذج، بل يجب أن تكون الحداثة نابعة منّا، وهذا الكتاب هو نموذج ناجح جدًّا للحداثة العقليّة الدينية.
وفي مداخلة المحامي علي مصطفى رافع: "هو، قبل كلّ ذلك وبعده وفوقه، هو إنسان" جاء:
يوم الخميس 2-2-2012 مساءً، اتّصل بي هاتفيًّا سيادة المطران بطرس المعلم، وأبلغني أنّه مسافر في اليوم التالي إلى لبنان للمشاركة في السينودس، وقال إنّه عازم على إصدار مقالاته الأخيرة، التي كتبها بعد صدور كتابه الأخير "من وحي الأحداث" في كتاب جديد، واختارني لأكتب مقدّمة للكتاب مع سيادة المطران بولس ماركوتسو، فلم أتردّد للحظة في قبول هذا التكليف، الذي أعتبره تشريفًا وليس تكليفًا فحسب. هذا التشريف جاء بعد أن توطّدت علاقتي مع هذا المطران الإنسان، الذي يمتاز بحُسن الخُلُق وطلاوة الحديث، والاطِّلاع الواسع على مختلف الثقافات والفنون، فهو محدِّثٌ لَبِقٌ موسوعيّ المعرفة، لا تملّ من الاستماع إليه في جميع المواضيع التي يطرقها أو يتطرّق إليها .
وكنت قد بدأت أتعرّف عليه من خلال لقاءاتنا في مؤتمراتِ "مركز اللقاء" في عدة أماكن من وطننا العزيز. وفي شباط 2011 شاركْنا سويّة في مؤتمر اللاهوت في دير مار إلياس في حيفا، وهناك أهداني كتابه الأخير "من وحي الأحداث". سهرتُ تلك الليلة وقرأتُ الكتاب وكتبتُ عنه مراجَعةً تلوتُها في اليوم التالي على مسامع الحاضرين، الأمر الذي أثار إعجابَ المطران واستغرابه كيف قرأتُ الكتاب بصفحاته المئة والسبعين واستوعبتُه وكتبتُ عنه في ليلة واحدة. من هنا بدأت تتوطّد العلاقات فيما بيننا.
الكتاب الذي أقدّمه، مثل الكتب التي نشرها المطران المعلّم من قبل، يتضمّن مقالات في مناسبات عديدة، عاشها وعايشها شخصيًّا، وعلّق عليها بأسلوبه المنفرد والمميّز، مواكِبًا الأحداث في تسلسلها الزمنيّ. أمّا أنا فسأراجع بعضها وفقَ ترتيبٍ شخصيّ، عفويّ، أستوحيه من فكر المعلّم المهيمن على جميع المقالات، والذي يربط بينها كسِلكٍ ذهبيّ، فيه تندرج لآلئ هذا العقد الفريد..
وبدايةً، أشير إلى أنّ أكثر ما يعجبني في كتابات هذا المعلم، أنّه إذا كتب في موضوعٍ معيّن، واستشهد فيه بآياتٍ من الإنجيل المقدّس، فإنّه يستشهد أيضًا بآياتٍ مشابهةٍ من القرآن الكريم، إذا ورد في القرآنِ ذكرٌ للموضوع نفسه. وحسبُنا شاهدًا على ذلك ما ورد في مقالة "العالم يحترق ولكن..."، حيث الكلام على بشارة الملاك للسيّدة العذراء مريم، فيذكر النصوص الإنجيليّة والقرآنيّة في تَوازٍ رائع (لوقا 1: 26-28، 42/ آل عمران 42، لوقا 1: 29-32/ آل عمران 45؛ لوقا 1: 34-37/ آل عمران 47). ومن هذه المقاربة في النصوص يدعو سيادته إلى مزيدٍ من التقارب بين المسيحيّين والمسلمين، لا بل يدعوهم إلى جعل عيد البشارة المسيحيّ عيدًا دينيًّا مشتركًا، أسوةً بما فعل إخوانهم وجيرانهم في لبنان، الذين اتّفقوا وقرّروا جعل هذا العيد عيدًا وطنيًّا مشتركًا للجميع. وأنا شخصيًّا من محبّذي هذه الفكرة، بل قد عرضتُ أن نحتفل كلّنا معًا، مسيحيّين ومسلمين بعيد الميلاد المجيد، وبعيد المولد النبويّ الشريف. ولكن هذا يقتضي إعدادًا واستعدادًا يبدو أنّهما، لسوء الحظّ، غير متوفّرَيْن بعدُ عندنا إلى الآن.
السيّد المسيح عيسى ابن مريم يحتلّ كلّ كيانِ وفكرِ وقلبِ ووجدانِ المطران المعلّم. فالمسيح هو مِثاله وقدوته وأسوته الحسنة، يسير على خطاه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ويقدّر كلّ كلمةٍ أو قولٍ أو عمل أو حركة قام بها السيّد المسيح. ويشعر القارئ بأنّ المطران إذا كتب عن المسيح، فإنّه يكتب بإجلال ومحبّة لا يوازيهما أي إجلال أو محبّة لأيّ شخص، وهذان؛ الإجلال والمحبّة ينسابان، كما في عدوى سريّة، من تحت قلم الكاتب إلى قلب القارئ. ففي المقال "نريد أن نرى يسوع" نرى الكثيرين يتلهّفون إلى رؤيته، حتّى اشتاقت أرواحنا نحن أيضًا ليسوع. وفي المقال "على مدار الساعة لليوم الأخير" يتأثّر مَن كان مثلي حتّى الأعماق، إذ يرافق يسوعَ في ليلته الأخيرة مع تلاميذه، حيث يغسل أقدامهم ليُعطيَ لهم ولنا وللإنسانيّة جمعاء درسًا عمليًّا في التواضع لا أسمى ولا أبلغ، ومحبّة المطران ليسوعه ليست مجرّد عاطفة سطحيّة، بل هي انتماءٌ والتزامٌ لا يتزعزعان، لأنّ هذا المسيح ليس كائنًا غيبيًّا متفرّجًا ينظر إلينا من بعيد، أو يحرِّك العالم بملقط. ففي عصرِ "الثورات" الحائرة أو المتذبذبة أو المتعثّرة يبقى، هو "المسيح الثائر"، (لا بالعنف والبطش وحقّ القوّة، بل بصلابة الحجّة وقوّة الحقّ) على كلّ ظلم واستبدادٍ وقهرٍ للحرّيّة والعدالة. وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذه الثورة الفريدة. الرئيسُ الشهيدُ الراحل ياسر عرفات، باسم شعبنا الفلسطينيّ كلّه، ألم يعتبرْ سيّدَنا يسوعَ المسيح الشهيدَ الفلسطينيّ الأوّل، الذي استشهد فعلاً وحقًّا، لتكون كلمةُ الله هي العليا، وكلمة أعداء الحقوق الإنسانيّة المشروعة هي السفلى؟
هذا "اليسوع"، الذي يمثّل للمطران أسمى القِيَم على الأرض، يبقى في الكتاب المنظارَ الذي من خلاله يرى المؤلّف باقي المواضيع أشخاصًا وأحداثًا. فـ "الصغيرة الكبيرة" القدّيسة تريزيا الطفل يسوع، التي زارت ذخائرُها بلادَنا على مدى شهريْن ونصف الشهر، هي القدّيسة التي تستحقّ المحاكاة والتأمّل، لِما فيها من إيمانٍ صادق عميق، لا يداخله أي شكّ أو انحراف. أمّا البابا يوحنّا بولس الثاني، الذي يُخصّص له المطران أربع مقالات في الكتاب، فهو وجهٌ من ألمع وجوه الإنسانيّة في العصور الحديثة، إذ كان أوّلَ من كسَرَ قيودَ العزلة خلف جدران الفاتيكان، فطاف العالم كلّه، وعاش آلامه وآماله وحمل إليه رسالة "المسيح الثائر"، فأجرى فيه الكثير من التحوّلات الجذريّة، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها. وقد كان للمطران المعلّم شرف الحظوة بصداقته الحميمة، ممّا قلَب منحى حياته.
ولأنّ المسيح، في نظر المطران المعلّم، يبقى هو المرجعيّة الأخيرة في كلّ شيء، فمن خلاله يتوجّه إلى المسيحيّين (المنقسمين على ما لا يعلمون)، في المقال "إلامَ الخُلْفُ بينكم إلامَ"، وفي المقال "عام جديد: خواطر وتأمّلات"، داعيًا إيّاهم إلى المحبّة والوحدة، ومستشهدًا في المقال "وأنت ماذا تقول؟" بقول المهاتماغاندي: خذوا مسيحيّاتكم كلّها واتركوا لنا المسيح، فلا أمل لنا إلاّ فيه. ومن سياق الكلام أنا أفهم أنّ الدعوة تتجاوز المسيحيّين إلى المسلمين أيضًا. فالطريق إلى الوحدة تبدأ بمحاسبة النفس وتغيير الذات قبل الطموح إلى تغيير الآخرين: "علينا جميعًا أن نتغيّر بالنصر الذي يؤتيناه الله..." (1 كورنثس 5: 51-57). أليس عندنا في القرآن "إنّ الله لا يغيّر ما يقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم" (الرعد 11).
غريبٌ شأن هذا المطران، فهو كمسيحه لم يأتِ لفئةٍ دون أخرى، بل لخدمة الإنسان وكلّ إنسان، وقبل أن يكون مطرانًا أو علمانيًّا، مسيحيًّا أو مسلمًا، درزيًّا أو يهوديًّا، فلسطينيًّا أو إسرائيليًّا، رجلاً أو امرأة... هو، قبل كلّ ذلك وبعده وفوقه، هو إنسان. ذاك هو تعريفه بنفسه في المقال: "إلى قرّائي الكرام". ولذلك فهو في "الفضيل المبارك" يعايد المسلم في رمضانه، وفي "الأضحى والضحايا" يشارك كلّ متألّم مسحوق في ألمه. وفي "ويكيليكس والمغارة" كما في "كنيسة المهد إن حكَتْ" حديثٌ صامت بين المطران وقارئه، يُفهَم منه أنّ العيد ليس زينةً ومظاهر، يكون كلّ شيء فيها حاضرًا إلاّ صاحب العيد، أي وليدَ المغارة وكلّ فقير مهمّش مثله. فالمسيح يجب أن يكون في قلبِ وفكرِ ووجدانِ كلّ مؤمن، أي أنّ على المسيحيّ أن يكون مسيحًا حيًّا. أليس أنّ إسلامنا أيضًا يطلب من المؤمن أن يتّخذ الرسولَ قدوته؟
وهذا المطران، الذي يعيش بين شعبه، ويجسّ نبضه، ويشاركه آلامه وآماله، يرى في "موسم الزلازل" وفي "عيد الأقباط... وسينودس المسلمين" واجبَ التنبيه والتحذير من خطر الفتنة، التي أخذت تعصف حولنا باسم التطرّف والتعصّب الدينيّ المتزمّت. وإذ نحن نشارك سيادته هذا القلق والخوف من الخطر الداهم، نريد أن ندعو علماءَنا إلى تأييد سيادته في الدعوة إلى حريّة الفكر والتعبير والعبادة والضمير بجميع أشكالها. فكما عندنا سورة للمؤمنين فعندنا أخرى للكافرين، ومَن خالفنا في المعتقد فلكم دينكم ولي ديني، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. ومن الشطط تسخير الدين للسياسة والسياسة للدين. وفي النهاية لا سلام يُرتجى ما لم تؤمَّن لكلّ إنسان حريّة ضميره واختياره.
وهناك في الكتاب مقالان على جانب كبير من الأهميّة. فـ "يوبيل اللقاء" وثيقةٌ ثمينة كتبها سيادته مؤخّرًا في اليوبيل الفضّي لمجلّة "اللقاء". وأنا الذي عايش المجلّة منذ نشأتها، بل "مركزَ اللقاء" منذ تأسيسه قبلها، كم استفدتُ من هذا المقال في أمورٍ كثيرة كنتُ أجهلها!
أمّا "حنّا الفاخوري مع الخالدين" فأشبه بدائرةِ معارف عن هذا الكاهن الراهب، العملاقِ في شؤون اللغة والأدب والفلسفة العربيّة. كنّا لا نكاد نعرف عنه سوى أنّه صاحب "تاريخ الأدب العربي"، الذي قلّما تخرّج طالب في العالم العربيّ كلّه دون المرور به. وإذا نحن نكتشف في المقال أنّه خلَّف أكثر من مئة وأربعين كتابًا في خدمة العربيّة. فكم نحن له مدينون، وكم نحن في حقّ إكرامه مقصّرون! وكم نحن فخورون أنّ مطراننا المعلّم هو أحد تلاميذه، بل ساعده في بعض الكتب، وقد كانت له التعزية بحضور مأتمه في6-10-2011، (وكان قد توفّي في 4 منه عن 97 سنة).
وهل يمكن أن أنسى هنا المقال الأوّل من الكتاب "نعي المفاوضات" الذي كُتب في10-2-2010، ومقالاً آخر بعنوان "الربيع" والميلاد بتاريخ 23-12-2012 وبينهما سنة؟ إنّي لأعجب حقًّا من حدْس هذا المطران ومن ثاقب نظره ودقّة تحليله في مواكبة الأحداث. هل كان في المقال الأوّل يتنبّأ؟ هو لا يدّعي ذلك، ولكن تصويره "للربيع" في آخر السنة، هل جاء مخالفًا لِما كان توقّعه في أوّلها؟ يا ليت أرباب السياسة ومعلّقي وسائل الإعلام يقرؤون تلك السطور، فلَكَم كانوا يستفيدون ويُفيدون!
فيما كنت أقرأ هذا الكتاب للمطران، وأقرأ منه عن أستاذه حنّا الفاخوري، كانت ترتسم في ذهني أوّل كلمة في قرآننا الكريم "اِقرأ". فأين اليوم في شعبنا وأمّتنا الذين يقرؤون لأمثالهما؟ ألا يصحّ فينا ما نسمعه مرارًا، وبحقّ، ومن كُتَّابنا أنفسهم: "أمّة "اِقرأ" لا تقرأ"؟ أمنيتي في نهاية هذه السطور أن يُقْبِلُ أبناؤنا وشبابنا على هذا الكتاب الثريّ وأمثالِه، فيتعلّموا فيه صفاء اللغة وإشراقها، مع رجاحة العقل وسداد التفكير، إلى جانب القيم الأخلاقيّة والروحيّة السامية. وأملنا أن لا يطول الوقت حتّى يُطلَّ علينا سيادة المطران المعلّم "المتقاعد، ولكن المِش قاعد"، أن يُطلّ علينا قريبًا بكتاب، بل بكتبٍ جديدة أخرى، لإثراء تراثنا الثقافيّ والإنسانيّ، فيزيدنا علمًا بما ينفعنا ونفعًا بما يعلّمنا، وأن يُرينا الحقّ حقًّا ويرزقنا اتّباعه، والشرّ شرًّا فيرزقنا اجتنابه.
وفي مداخلة نايف خوري جاء: سيقدّم الشاعر وهيب وهبة النسخة الأولى من كتابه الرباعية الكاملة من دار النعمان في لبنان، التي لم تصدر بعد، ولكن تم تصميمها خصّيصًا لهذا اللقاء، وذلك لأنّ المطران بطرس المعلم كان أوّل من قرأ كتاب "مفاتيح السماء" فأعطى الملاحظات والتصويبات وأثنى على الكتاب، وباركه ليتمّ طبعه في لبنان، وقد حاز كتاب السماء على جائزة نعمان بتوصية من المطران بطرس المعلم أثناء وجوده في بيروت.
ومن ثمّ كانت مداخلات للزملاء والزميلات، وقبل التقاط بعض الصور مع المحتفى به سيادة المطران بطرس المعلّم، قدّم شكره لجميع الحاضرين والقيّمين على هذه الأمسية الأدبية الخاصّة بكتابه "من وحي الربيع".   



















165
ريترو ومحطاتٌ مُبعثرةٌ في حيفا



آمال عوّاد رضوان
بمبادرة من نادي حيفا الثّقافيّ أقيمت أمسية أدبيّة للشاعر فرحات فرحات، بمناسبة صدور كتابه “ريترو” محطّات مبعثرة، في قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة- شارع الفرس 3، حيفا، وقد حضر هذه الأمسية جمهور من الأدباء والشعراء، وشارك في الأمسية كلٌّ من  الكاتب فتحي فوراني، والقاصّ علاء حليحل، ود. خالد داود تركي، والشاعر فرحات فرحات، بمرافقة الفنّان عازف العود ماهل وهبة، وذلك بتاريخ 22-11-2012.
جاء في كلمة الكاتب فتحي فوراني عريف الأمسية الريترويّة:
أسعدتم مساء. أرحّب بكم باسم منتدى حيفا الثقافيّ، وأشكر المجلس الملّي الأرثوذكسيّ الذي يُهيّء لنا هذا البيت الدافئ للقيام بنشاطاتنا الأدبيّة والثقافيّة، بدءًا.. أسمح لنفسي أن أكشف لكم  سرًّا أكشفه لأول مرة. في مرحلة ما في زمن مضى ولأسباب معيّنة، نشرت بعض الكتابات من مقالات وقصص وقصائد  بتوقيع ف.ف، وقبل مدّة قرأت مقالاً في مجلّة كرمليّة بتوقيع ف.ف. ولم أستطع أن أخفي دهشتي وتساءلت: من الذي تجرّأ على مزاحمتي على هُويّتي الأبجديّة وأقنعتي الأدبيّة، "ولَطش" منّي هذيْن الحَرفيْن؟
فتحرّيت وتقصّيت وبحبشت، وكان أن اكتشفت الرجل! ففي الرابع من الشهر الماضي، وفي نهاية أمسية أدبيّة، تقدّم منّي شاب لطيف يشعّ طيبة، أراه لأوّل مرّة، غير أنّني أحسست أنّي أعرفه من ألف عام، وأهداني عمله الإبداعيّ "ريترو"! عرّفني بنفسه وقال لي: أنا أيضًا ف.ف.. فرحات فرحات! ففرحت لهذا الكشف الذي لم أتوقّعه! لقد ذاب الثلج وبان المرج، وجاءني بالأخبار مَن لم أزوّد، واكتشفت أنّنا دولتان جارتان صديقتان تحملان اسما واحدًا وعَلمًا واحدًا وحُلمًا واحدًا! وعندما قرأت الكتاب وقعت في ورطة أخرى، فقد اكتشفت أمّيتي المعلوماتيّة!
لم أكن أعرف أن صديقنا فرحات فرحات ولد عام 1952 وتخرّج من الكليّة الأرثوذكسيّة في حسفا، ولم أكن أعرف أنّه درس العلوم السياسيّة والفلسفة والعلوم الاجتماعيّة في جامعة حيفا. ولم أكن أعرف أنّه حصل على لقب أم.إي  (M.A.)في موضوع الاتصالات من جامعة كلارك في الولايات المتحدة.
ومن أمّيّةٍ معرفيّة إلى أمّية ثقافيّة! فقد اكتشفت أمّيتي الثقافيّة. وقد يسأل سائل: وكيف كان ذلك يا طويل العمر؟ ولا يلبث المجيب أن يجيب: من عادتي منذ فتحت عينيّ على الأبجديّة العربيّة أن أتابع معظم ما يصدر من منشورات أدبيّة  شعرًا وقصة ونقدًا أدبيًّا ومقالة سياسيّة، في هذا الوطن الصغير وفي الوطن الكبير، وما بعد بعد الوطن الكبير.
ولم أكن أعرف أنّ فرحات فرحات يُزاحمني  بفائَيْه على فائَيّ، فقد أصدر عام 1975 بالاشتراك مع الشاعر مجيد حسيسي رواية "القضية رقم 13"، وهي تجربة روائيّة غير مألوفة على المشهد الأدبيّ في هذا الوطن، ولم أكن أعرف أنّه أصدر بعدها كتابًا عن معالجة السجين المُسرَّح بعنوان "لكلّ إنسان الحق في بداية جديدة"، ولم أكن أعرف أنّ له ديوانَ شعر بعنوان "أن نشرب السراب"، الذي صدر عن دار شمس للنشر والإعلام في القاهرة، عاصمة المُعزّ لدين الله الفاطمي، ولم أكن أعرف أنّه يخوض حربًا ضروسًا ضدّ الإدمان والجريمة، وله مساهمات عديدة في كتابة الأبحاث والمقالات الاجتماعيّة، وخاصّة في قضايا العنف الذي أصبح سيّد المشهد في هذه الأيّام! أليست هذه أمّيّة ثقافيّة من الطراز الأوّل! إنّي أعترف بأمّيّتي! غير أنّني مدين بالشكر الجزيل للكاتب فرحات فرحات لأسباب ثلاثة:
السبب الأوّل: أنّه أتاح لي فرصة اللقاء به والتعرّف عليه، فساهم بذلك في توسيع دائرة أصدقائي الذين أحبّهم، وأضفت إلى القائمة صديقًا جديدًا، فازدادت بذلك ثروتي من الأصدقاء الذين أعتزّ بهم، ووضعت إلى جانب الاسم فرحات فرحات كلمة Like.
والسبب الثاني: أنّه أنقذني من ورطة الجهل، فكشف لي عن الرجل المتخفّي خلف الحرفيْن  ف.ف. وبذلك وفّر عليّ خمسة آلاف شيكل كنت سأدفعها للمحامي فؤاد نقارة، لكي يتّخذ الإجراءات القانونيّة ويوصلني إلى صاحب القناع ف.ف.
السبب الثالث: أنّه أهداني إبداعاته "ريترو"، وشدّني إلى محطاته المبعثرة، فقرأت الكتاب واستمتعت، ورأيت نفسي في محطات سبق أن شاهدتُها وعشتُها، وتجاربَ مُرّة مررتُ بها فمرمرتني وتركتْ غصّة في حلقي، وجرحًا عميقًا في قلبي!
أذكر منها واحدة، ولها أخوات كثيرات! فقد وصلتْ والدي- رحمه الله- رسالة من الجنرال الحاكم بأمره واسمه "دوف"، يستدعيه فيها إلى مكتبه، وسأله بأدب جمّ عن ابنه ف.ف. وأصدقاء ابنه وصديقاته، وعن مطالعاته واهتماماته الأدبيّة ونشاطاته الاجتماعيّة والثقافيّة وآرائه السياسيّة، وقال له: إبنك بيقرا الاتخاد! وبعد سنوات استدعى الجنرال الحاما بأمره شيخًا جليلًا اسمه قفطان، وهو جد فرحات فرحات، وكان يومها ما زال فتى يافعًا في الكليّة الأرثوذكسيّة وقال له مُحذّرًا: شيخ كوفطان.. خفيدك فرخات بيكرا جريدة الاتخاد"! لقد كانت قراءة هذه الصحيفة جريمة كبرى أغلقت أبواب الرزق أمام البعض من ناحية، وأرعبت الجنرال الحاكم بأمره من ناحية أخرى!
لقد تماهيت مع مضمون الكتاب والكثير من الأحداث، فقد عشتها بنفسي وذقتها على جلدي، أو كنت شاهدًا عليها، ولا سيما المشاهد والأحداث والشخوص التي شكّلت الخارطة في الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة، واسمحوا لي أن أعترف أنّني مصابٌ بداء "التعصب"! فأنا لا أستطيع إلاّ أن أتعصّب لهذه القلعة الوطنيّة الثقافيّة، إنّها بيتي الثاني الذي أفنيت فيه أحلى سنوات العمر، إنّني أعتزّ بانتمائي إليها، وأعتزّ بالأجيال التي علّمتُها العشق؛ عشق اللغة العربيّة والاستمتاع بأسرارها الجميلة، وأعتزّ بخرّيجيها الذين تخرّجوا من معطفها، وأشعر بكبرياء عندما أراهم وقد وصلوا إلى أعلى المراتب والمناصب، وصاروا سفراء لنا ولشعبنا، وكواكبَ تزيّن سماء الوطن وخارطة الدنيا!
كنت شاهدًا على شخوصها، ابتداء شيخ الشباب الظريف شكري الخازن مدير الكليّة، مرورًا بأبو إلياس حارس الكليّة، وانتهاءً بأمّ إلياس وزيرة التموين والغذاء وشطائر البستراما! وكنت شاهدًا على اللهجات الجميلة التي احتضنتها الكليّة، فقد اجتمعت تحت سمائها جموع الطلاب من أقصى البلاد  إلى أقصاها، من حيفا وقراها والجليل والمثلث وبئر السبع وقرى أهلنا في جبال الكرمل، وكنت شاهدًا على العقبات الكأداء والحواجز العالية التي وضعها الجنرال في طريق مُربّي الأجيال، ومعايير التعيينات أمام المُعلّمين اليساريّين الذين أبو إلاّ أن يدافعوا عن شعبهم النازف وعن الأجيال الصاعدة نحو حياة حُرّة كريمة!
ويتحدّث فرحات عن تجاربه الشعريّة عندما كان طالبًا في الصفّ العاشر، فقد كان يقرض الشعر ويُسلّم الأمانة إلى  صديقه زهير؛ راوية شعره، ويَعرضه على الأستاذ شكري الخازن، ويستشهد الكاتب بدعابة شكري الخازن عن رابع الشعراء! فقد صنّف الأقدمون الشعراء إلى أربع طبقات، وقالوا: الشعراء فاعلمن أربعه/ فشاعر يَجري ولا يُجرى معه/ وشاعر يخوض وسط المعمعه/ وشاعر لا تشتهي أن تسمعه/ وشاعر لا تستحي أن تصفعه
وعلى ذلك فقد جرى القول في متشاعر  يتوهّم أنّه شاعر: إنّه من رابع الشعراء! فلا تستَحِ أن تصفعه كفًّا وتسطله سطلا!
ثمّ ينتقل إلى سينما البلد وساحة الحناطير، والمريحوانا في المؤسّسات الأكاديميّة العليا، وتأهيل السجين وترميمه، وكيس الطحين، وعلى الناصية (آمال فهمي) والتحقيق أمام الاشخاص الثلاثة ذوي الوجوه المُغبرّة، ونزهاته اليوميّة على الشاطئ لصيد السمك، ويتحدّث عن "هذاك المرض" اللعين، وحفظك الله ونشلك، شفاك وعافاك يا حبيبنا، وأطال عمرك لتعيش وتتمتع بالحياة، وتبدع وتبقى نبعًا أدبيًّا لا ينضب!
وقد  أعجبني بشكل خاصّ وصفه للعلاقة المميّزة مع والده؛ ذلك الشيخ المثقّف الوطنيّ الذكيّ.. لست أدري لماذا تذكّرت نزار قباني في قصيدته "أبي"، فقد صعَق نزار نبأُ رحيل أبيه ولم يصدّق! أمات أبوك؟ ضلال أنا لا يموت أبي/ في البيت منه روائح ربٍّ وذكرى نبي
إنّه فصل ممتع ومثير فعليكم به! وللأستاذ حنّا أبو حنّا نصيب في هذا الكتاب، وحكايته مع الطالبة التي كانت تقول في الإعراب: بدلاً من المُضافِ إليه.. المُداف إليه! فينرفز الأستاذ حنا! وبعد دقائق تُحاول هذه الطالبة أن تستفزّه فتقول في إعراب الكلمة: مُدااف إليه بمدّ الألف تعنّتًا وتأكيدًا على موقفها من حرف الضاد ومن لغة الضاد ومن الناطقين بالضاد! فإنّ البيئة التي نشأت فيها الطالبة، أقامت حواجز الغربة بينها وبين اللغة القوميّة!
وعن الإشكال اللفظيّ والصراع  بين حرفَي الضادّ والدال، تروي كتب التراث العربيّ طُرفة طريفة عن شيخ كان يُدرّس فتاة جميلة اللغة العربيّة والقرآن الكريم، فكان يقول الآية "إنّ أبانا لفي ضلال مبين"، فتردّد الفتاة: إنّ أبانا لفي دلال مبين! فيقول الشيخ: شدّدي على لفظ الضادّ "إن أبانا لفي ضلال مبين، فتقول: إنّ أبانا لفي دلال مبين! فينرفز الشيخ قائلا: إنّ أبانا لفي ضلال مبين، فتردّد قائلة: إنّ أبانا لفي دلال مبين! ويطير ضبان عقله ويكاد يجنّ! فيمرّ بهما رجل  فضوليّ ويصيح بالشيخ: يا شيخ.. دَعها في دلالها، وابقَ أنت على ضلالك!
وبعد فاصل موسيقي عزفه الفنّان عازف العود ماهل وهبة، كانت مداخلة القاصّ علاء حليحل التي جاء فيها:
كتاب "ريترو" احتضنته دار النشر راية، ريترو هو عنوان مخادع، لأنّ ريترو لِمَن يتتبّع الأخبار الفنيّة والثقافيّة والأزياء والموضة كلمة ارتبطت بعصرنا الحديث، الذي يحاول أن يرجع إلى موضات قديمة، كالعودة إلى أزياء ريترو وتسريحات ريترو، ونجاح فرحات في أخذ هذه الكلمة وتحويلها إلى حالة ذهنيّة إنسانيّة، يستحضر فيها الجميل وغير الجميل من تاريخه.
ريترو؛ هو خيار جميل جدًّا ومفاجئ لأنّ مَن يقرأ العنوان، ومن يَعي استخدامات الكلمة حداثيًّا، سيُفاجأ للإيجاب، وهو كتاب موفّق جدًّا، وسأبدأ من تعريف الكتاب؛ "محطّات مبعتثرة":
أنا أعتقد أنّ الاختيار دقيق جدًّا، خاصّة وأنّ فرحات يُنجز كتابًا ليس بالرواية وليس بالمجموعة القصصيّة، وأعتقد أنّ هذا منحه حرّيّة كبيرة في الكتابة بدون قيود وبدون ضابط زمنيّ، فهو ينتقل بين الأزمان بحرّيّة وبدون ضابط مكانيّ، والشخصيّة المركزيّة التي تتحدّث في الكتاب "الراوي"، تأخذ كامل الحرّيّة ومطلقها في التحدّث عن أيّ شيء، بدون أن يكون له رابط بعد أو قبل، ولكن هناك روابط طبعًا، ولكن ليس بالحدّة أو بالمطلب الصارم الذي يتطلّبه عمل روائيّ أو مجموعة قصصيّة لها عمود فقريّ تستند إليه.
الحريّة ملموسة يمكن للإنسان أن يشمها ويتذوقها في النصوص المنجزة، وهذا بتقديري كان خيارًا جميلاً جدًّا لدى فرحات، في انتهاج هذا النوع من النهج في الكتابة، والتحرّر من قيود السرد المتين الموجود قي الرواية والقصّة عادة، لأنّه يكتب عن تاريخ لا يودّ له أن يكون تاريخًا، وهذه ليست كتابة تاريخيّة، وهي بعيدة جدًّا عن كتابة الحنين نوستالجيا التي نعرفها ونخبرها في السِّيَر الذاتيّة في فلسطين وفي العالم العربيّ أيضًا.
فرحات يتعامل مع المحطات التي كَتب عنها بخفّة دم وسخرية ذاتيّة، وبكثير من الكلبيّة– Cynicism، وتستند أخلاقيّات الكلبيّين بشكل عامّ، إلى رفض الأعراف الاجتماعيّة، التي يميِّزون بدقة بينها وبين الطبيعة التي كانوا يدَّعون الرغبة في الرجوع إليها، من هنا، يمكن تفسير ازدراءهم الكبير بالعلم وتأكيدهم بأنّ الخير الوحيد إنما هو الفضيلة، وأعتقد أن هذا النمط وهذا الروح الطاغي على الكتاب منحه الكثير من الجاذبيّة والدفء والقرب من القارئ، وهذه نتيجة يتمنّاها أيّ كاتب بتقديري وبأيّة طريقة يكتب بها.
الزمن كزمن مشتهى وزمن مقدّس، أنتم تعلمون أنّ الأبطال يكتبون سِيَر ذاتيّة، وكأنّ زمانهم كان أفضل الأزمان ويجب العودة إليه وليس لغيره، وحتى أنّ غير الأبطال مَن يكتبون ذكرياتهم، يحاولون أن يُسبغوا هذه الفترة بمثاليّات وكلمات كبيرة وبمحطات مزعزِعة، تودّ أن تُعلّم البشريّة دروسًا. أنا أعتقد أنّ اختيار فرحات بدلاً مِن أن يشتغل ميجور أن يشتغل ماينور، بمعنى؛ أن يتحدّث عن الأمور الكبيرة التي يمكن أن تُستشفّ من النصّ الدفين هنا، بكتابة عن المواضيع الصغيرة والمشاعر الشخصيّة وعن المواقف الإنسانيّة الحزينة. هذه النزعة التي ميّزت كتاب ريترو هي سرّ نجاحه، وأنا أعتقد أنّ أيّ افتعال كان يمكن أن يقع به فرحات، كافتعال الدراما أو افتعال الأهمّيّة في الكتابة والصياغة، كان سيوقعه في مطبّ كبير. بالعكس فالدراما والأهمّيّة في الفترة التي يتحدّث عنها فرحات والفترات الكثيرة المشحونة في الكتاب، تكتسب أهمّيّتها من منطلق بسيط جدًّا، وهي أهمّية الإنسان والفرد في نقاط ضعفه وقوّته، وفي نقاط الحيرة والخجل والدفء وفي نقاط الحميمية والحزن والفرح، فهذه كلّها تبني الإنسان، وهذا ما يبنيه الكتاب ريترو، وأعتقد أنّ هذا هو نجاحه الكبير.
هناك بُعدٌ آخر في الكتاب استمتعت به وأنا دائمًا فضوليّ لدرجة كبيرة في قراءة نثر لشاعر أو شعر لناثر، فالانتقال بين اللغتين، وأنا أسمّيهما لغتين مع أنّه يكتب باللغة العربيّة، ولكن لغة الشعر في مفاهيمها وتوجّهاتها تختلف عن لغة النثر، والانتقال والرقص في هذيْن العُرسيْن يمكن أن يكون رقصًا جميلاً جدًّا، ويمكن أن يكون شيئًا غير جميل في أقلّ ما يُقال، ولكن ما يجعل كتاب ريترو جميلاً وجذّابًا ودافعًا، هو الحالة الشعريّة التي تطغى في أماكن معيّنة، ولا أتحدّث عن مقاطع الشعر في الكتاب، بل أتحدّث عن النثر ولكن بمزاج شعريّ وبلغة حميميّة، والبلاغة المبطّنة تنعكس في الكتاب، والكتاب خالٍ من الإطناب وهذا نادر في مشهدنا الأدبيّ، وعلى هذا نُحيي فرحات، إذ إنّ الكتاب خالٍ من الحشو والمبالغة في النصوص، وليست هناك نصوص طويلة أكثر من اللازم، وكل كلمة محسوبة لديه، ويبدو أحيانًا أنّ فرحات كان خجولاً في الكتابة، وكانت تتبدى رغبته في الاقتصاد والإيجاز، وبالتالي إنشاء البلاغة التي تهمّه كشاعر، فالشاعر يبحث عن البلاغة بطرق عديدة، ولكن أوّلها ومن أهمّ أدواتها طبعًا الإيجاز والتكثيف، فهناك حالة تكثيف بارزة في نصوص ريترو أنا أعجبت بها جدّا، ولمست الشاعر الموجود في داخل النصوص النثريّة. وأقتبس من ص 101 تحت عنوان "هذاك المرض": 
"قبل ثلاثة أعوام بالضبط وجدت نفسي أشارك القراء عِبر بعض المواقع بما أصابني، وأنا ما زلت على مفترق طرق، لا أدري ما هي وجهتي وإلى أين يُوجّهني شرطيّ المرور القابع في السماء. لا اريد أن أشغل بالكم، وأخيرًا أصبت بسرطان المعدة.؟ قلت لأمّي مع بداية هذا الصيف: أشعر أنّ هذه الآلام التي تنتابني ليست عاديّة، ولا أدري لماذا، لكنّي أعتقد أنّ جسمًا خبيثًا قد استوطن بي".
هذه رهافة شاعر حين يعلن للناس أنّه مصاب بالسرطان. ليست هناك ذرّة من الدراما وليس هناك نوع من البكاء والحزن والكمد الذي حلّ على جسده المصاب بالسرطان، وأعتقد أنّ هذا ينضمّ إلى نوع من الفكاهة الخجولة، هناك فكاهة سوداء خجولة بين السطور، وهي تنضوي كلّها في الكتابة الرشيقة الخفيفة البسيطة التي ترتكز على متانة وعمق، وهذا هو السهل الممتنع أو سمّوهُ ما شئتم، ولكنّه أيضًا يحتاج إلى مراس ومهارات.
وألخّص أنّ كتاب ريترو مليء بالدراما ولكن بلا دراماتيكيّة، وهناك سرد ولكن بلا التزام بتاريخ مرتّب، وهناك سيرة ذاتيّة بلا محطّات ترغب أن تكون كبيرة، فالنصّ خفيف ورشيق، وكلمة محطّات التي عنون بها الكتاب هي كلمة عبثيّة بالنهاية، كأنّ الزمن قابل للتصنيف وللقولبة، لكنّه ليس كذلك، فهذا وهْمٌ نحن صنعناه، إذ نُقسّم حيواتنا إلى مراحل ومحطّات وتواريخ، لكن الزمن لا يعترف بهذا الانقسام، فالزمن شيء مستمرّ لا يتوقّف عند محطة يبدأ بها أو ينتهي، وتوجد نصوص جميلة نعتقد أنّها محطّات، وأعتقد أنّ أحد هذه المحطّات الجميلة هو "ريترو".
أما مداخلة د. خالد تركي فجاء فيها:
تُثلج صدري لقاءات الخميس، الثَّقافيَّة الدَّوريَّة والشَّهريَّة، التي ينظِّمها النَّادي الثَّقافي في حيفا، للمجلس الملِّي الأرثوذكسي، حيثُ تروي ظمأ العِطاش وتروي لنا، بعد أن تجمعنا بأديبٍ أو شاعرٍ أو فنَّانٍ، روايةً أو فنًّا أو تراثًا أو شعرًا ويكون الكتابُ جديدُ الإصدار، حلقةَ الوصل.
خرجتُ من اللقاء السَّابق قبل شهر ونصف، والذي كان مع الشَّاعر والأديب والمحاضر للغة العربيَّة في القدس والمتميِّز والمتفوِّق في كليَّة الآداب بالقدس، إياس يوسف ناصر، وفي كنانتي بعضُ الإصدارات، ومن بينها محطَّات مبعثرة ومجتمعة في كتاب "ريترو" للكاتب والشَّاعر والأديب فرحات فرحات، وكان الكتاب زادي لتلك الليلة الأنيسة، حيث تشبَّثت جفوني بالمحطَّات، بعيدة عن بعضها البعض، رافضةً أن تقبِّل بعضها البعض وتتعانق خلودًا للنَّوم، وبدأتُ في تلك الليلة أقرأ "ريترو" بنهمٍ وشوقٍ وحنينٍ إلى أيَّام الثَّانويَّة العزيزة في الكليَّة العربيَّة الأرثوذكسيَّة، حيث يُعيدنا الكاتب بذكرياته، بأسمائها وحوادثها، إلى مقاعد الدِّراسة في الكليَّة، ويجمعنا بالاستاذيْن الجليليْن والرَّسوليْن حنَّا أبو حنَّا وشكري الخازن وبحارس الكليَّة، أبي الياس، والباستراما الشهيَّة من أمّ الياس السَّخيَّة، وملاحقات المخابرات الاسرائيليَّة لقرَّاء صحيفة الاتِّحاد في زمن الحكم العسكريِّ وما بعده، لأنَّ قراءة الاتِّحاد كانت تهمة وجريمة لا تُغتفر، تلك الصَّحيفة التي كانت وما زالت البيتَ الدَّافئ للكلمة الوطنيَّة الحرَّة والشُّجاعة، ولا عجب في كونها مدرسةً للأدب التَّقدميِّ  والممانع ومرجعًا لتاريخ شعبنا، فهي صحيفة الشَّعب..
لقد كان هنا، في هذه القاعة، لقاؤنا المباشر الأوَّل، وقد تجاورنا وتحاورنا في جلستنا. وجه مألوف ومعروف لكن من أين؟ وكان العلم عند المولى القدير، فبعد أن التقت مآقينا في تجاورنا وتحاورنا، تجاوزنا بتجاورِنا حدَّ الجلوس واستبدلنا صمتنا بالسَّلام والكلام وانقطع الشَّكُّ باليقين، إنَّه الاستاذ والأديب فرحات فرحات، وانتقلَت لقاءاتُنا من على صفحات المواقع الإلكترونيَّة الملتزمة، أو الصحف الثَّقافيَّة المثقِّفة إلى البثِّ المباشر..
ويحدِّثنا بجرأة عن صعوبة وحواجز وموانع التَّوظيف في المدراس الحكوميَّة، للذي يرتبط اسمه بالاتِّحاد وحركتها الوطنيَّة، المتمثِّلة بالحزب الشُّيوعي، لانَّ ارتباط جهاز التَّعليم العربيِّ بجهاز المخابرات، الشِّين بيت، هو ارتباط عضويٌّ وثيق غير منفصل وغير منفصم، فقائمة المعلّمين الّذين طُرِدوا واعتُقِلوا وفُصِلوا من سلك التّعليم طويلة جدًّا، وكان السّبب أنّهم رفضوا كلّ إغراءات المخابرات والوزارة التّابعة لها من توظيف وتعيين وتنصيب بمركز تعليميٍّ مرموق، لكن هيهات، لقد أرادوهم ختمًا في يدهم وخاتمًا في خنصرهم، أرادوهم ببغاوات، وطبولاً جوفاء، أرادوهم أن يُعلِّموا طلاَّبهم "كيف جفّفنا مستنقعات الحولة وأقمنا المستوطنات"، وأن يُنْشِدوا مع طُلاّبهم "عيد استقلال بلادي غرَّد الطَّير الشَّادي"، وأن يُدرِّسوهم قصيدةً عن الدّولة، التي أقاموها على تراب هذا الوطن بعد أن طردوا شعبه، لإلقائها في احتفالاتهم بنكبة شعبنا "نورٌ تألّق في سماء المشرِق جمُّ الضِّياء بليله المتلبِّدِ" عن ظهر قلب، وأرادوهم معلّمين يُخَرِّجون طُلابًا حطّابين وسقاة ماء ورعاة، لأنّهم يخافون من الكلمة والدّراسة والتّطوّر. فالكلمة والقلم الّذي يكتبها والعلم الّذي ندرسه ونتعلّمه أقوى وأمتن سلاح. فقد جاء في الحديث الشَّريف: فضل العلم خير (أو أحبُّ إليَّ) من فضل العبادة، أطلبوا العلم ولو في الصين. فكم هو العلم مُهمٌّ في تطوّر الأمم.
لقد أذرفَ كاتبنا فرحات دمعي وأبكاني حين حدَّثنا عن والده المتوفَّى، معلِّمه الأوَّل، بلغة المخاطبة شوقًا منه وحبًّا له وفخرًا وفخارًا به وعزَّةً لا تُضاهى، وتقديرًا لأتعابه وفضله على تربيته في حبِّه للغته العربيَّة وشعبه العربيِّ، فمن شابه أباه فما ظلم. لقد كانت غبطتي كبيرة وسروري عظيمًا حين صدقتَ في أمنيتكَ وكنتَ كما تمنَّيتَ حين كتبتَ: "أرجو أن أكون مخطئًا في تصوُّري هذا، حتَّى لا نكون قد غيَّرنا الشَّكل دون المضمون والمسمَّيات دون الجوهر" في محطَّتك المبعثرة "ثورات" في محاورة شخصيَّة تعدَّت السِّرِّيَّة، وهنا لا بدَّ لي أن أقول كاتبًا ما يلي والكتابة هي بالفُصحى لتوحِّدنا، وبدون "لهجات" تفرِّقنا بين نقب وجليل ومثلث وساحل  أو بين أولاد (الكُرى) القرى وأولاد المدن، وحتَّى أنطق القاف قافًا وليس كافًا أو آفًا والضَّاد ضادًا وليس دادًا، كما يجب وكما كتبتَ أحسن ما "ينفضح الطَّابق":
لقد قرَّرتُ ان أكتب عن هذه المحطَّة، لأنَّه إن لم أدخلها، فلن أرحم نفسي ولن أغفر لها ولن يرتاح ضميري، ولن أسامح قلمي الذي أطاعني وجلس مستريحًا بين إبهامي وسبَّابتي ووسطاي كاتبًا. لهذا قرَّرتُ أن أتطرَّق لهذا الموضوع حتَّى لا أُتَّهم أنَّني تجاهلتُه، أو أنَّني أحمل ذات الموقف الذي اتَّخذه كاتبنا العزيز تجاه سوريا، فمداخلتي هذه لا تنتقص من تقديري لكتابه ولأسلوبه الشَّائق والمبدع في وجدانيَّته وإحساسه المرهف، فكما يقول أمير الشُّعراء أحمد شوقي في مجنون ليلى: الأنِّي أنا شيعيٌّ وليلى أمويةٌ؟ اختلاف الرَّأي لا يُفسِد للوُّدِّ قضيَّة. وأعرف أنّك بريءٌ كبراءتك من رمي الأستاذ يوسف بحجر بالمغِّيطة بعد أن أصابه زميلك سهيل بوجهه.
لقد تطرَّقَ أديبنا لليمن وليبيا ومصر وسوريا، ووضعها في سلَّة واحدة، وكان الأجدر، في نظري وفي رأيي، أن يضعَ جميع الدُّول العربيَّة في سلَّة واحدة على أن تكون سوريا وأحرار الوطن العربيِّ ومقاوموه وشرفاؤه الأعزَّاء في سلَّة أخرى مُميَّزة ومتميِّزة.
ولا غرابة في ذلك، لأنَّه عندما نرى أنَّ الغرب البغيض الاستعماريّ المسَبِّب الوحيد لآلامنا ومصائبنا ونكباتنا المتتالية، من خلال تقسيم الوطن العربيِّ إلى دولٍ دون أن يأخذ رأي صاحب الشَّأن، الأمر الذي أبقاه جريحًا نازفًا، وأبقى غالبيَّتها قابلةً للاشتعال في كلِّ لحظة، من خلال أدواتها من الرَّجعية العربيَّة الممثَّلة بقوَّادها، القوَّادين على شعوبهم، من المحيط السَّاكن والسَّاكت إلى الخليج الخائن والكابت والخانس، ناهيك عن أحفاد السَّلاجقة الجدد في الباب العالي، فمن الذي دعم قاتل والده ليتسلَّم سدَّة الحكم في قطر، ومن حكَّم آل سعود حكَّامًا على أرض الجزيرة العربيَّة الطَّاهرة والشَّريفة ودنَّس ترابها وقداستها، ومَن دَعم وتآمر مع الذي اتَّهم والده بأنَّه مصاب بمسٍّ من الجنون حتى يتسلَّم مكانه ويحكم البلاد ويتحكَّم بالعباد، ويسخِّر مقدَّرات الشَّعب والوطن لخدمة الاستعمار البريطاني وأذنابه وفِطريَّاته وطُفيليَّاته، إنّهم هُم هُم متآمرو اليوم..
هذا لا يعني أنَّه لا يتوجَّب على سوريا أن تكمِّلَ مسيرة إصلاحاتها التَّشريعيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيَّة التي بدأت بها، لكنّهم "مش مهدِّين لها بال"، ومع ذلك ستبقى فيحاء الشَّام، أرض الياسمين، قلب العروبة النَّابض، مسرح الاحرار الأوَّل. لقد أعلنوها حربًا عالميَّة، كونيَّة بامتياز، على سوريا وعلى جميع أحرار العالم وشرفائه لكسر شوكتهم الباقية في عيون المتآمرين عليها وهي في حلوقهم.. كقطعة الزُّجاج كالصَّبَّار".
أتمنَّى للكاتب الأستاذ فرحات فرحات دوام الصِّحة والعافية والمزيد من العطاء والإبداع، وبعيدًا عن "هذاك المرض" وبعيد عن السَّامعين كذلك، بُعد الأرض عن الشَّمس أو يزيد..
وكانت مداخلة موسيقية للفنّان عازف العود ماهل وهبة، رافقت الشاعر فرحات فرحات في باقة من القصائد والنصوص النثريّة:
أبي.. ها قد مضى على فراقنا ستة أعوام. يوم رحلت لم أكتب لك قصيدة رثاء كما يفعل الشعراء عادة، وقفتُ يومها بين جمهور المُشيّعين وقلت فيك كلامًاً بسيطًاً كبساطة فعل الولادة والموت، كبساطة موتك تلك الليلة. كنتُ حزينًا شاردًا، رأيت في عينيك ذاك اليوم إشارة الفراق. شيءٌ ما همس لي أن أبقى معك، لكني لم أسمع صدى الصوت. انصرفت إلى أعمالي وتركتك تُحدث من حولك عن قانون الميزانيّة الذي لم يستطع أعضاء الكنيست إقراره. قلت لك وأنا خارج: ما لنا وما لهم! يضربوا. وكأنّي أردت القول: "خلّينا في اللي فينا". ألا ترى كيف تدهورت صحّتك يا أبي؟
لم أكتب لك قصيدة رثاء. ولو فعلت على عجالة وكتبت، لاستفقتَ من سباتك الأبديّ لتزجرني: هذا ليس شعرًا! كم حاولت إقناعك أنّ الشجر يبكي، وأن السماء تضحك، وأنّ القمر يكتئب، وأنت على إصرارك بأن هذا هراء، وأن الشعر الحديث بكلّ أشكاله إنّما زيف وضعف ومؤامرة على المتنبي وامرئ القيس. كنتَ تسعد عندما أتلو على مسامعك قصيدة عموديّة، حتى ولو خلت من التشبيهات والجماليّات، ويكفيك أنّها موزونة ومُقفاة. هكذا رأيتَ الشعر يا أبي وهكذا أردت أن يكون. ها أنا أجول بين أوراقك المبعثرة أحاول أن ألملم شمل قصائدك التي اصفرّت أحرفها على مدى الأعوام، تنتظر منّا أن ننقلها إلى مسكن جديد من ورق صقيل لامع يليق بهذا الميراث الذي أبقيته لنا، وهو كنزنا الأبديّ:
إني وجدتُ معالمي ومكاني/ بين الرفاق وقد بلوتُ زماني/ وخرجتُ من تلك المعالم ساخرا/ متأفّفًا بمطامعِ الإنسان/ وذهبتُ في حبّ الإخاء مُفاخرًا/ أهوى السلام لسائرِ الإخوان/ فبعدتُ عن كل المطامع تاركا/ حقد النفوسِ ودارة الإضغان/ اِخترْ لنفسك منهجًا تسمو به/ عن عالم الأحقاد والأدران/ اِحفظْ لسانك بالحديث فإنّ في/ حفظ اللسان معزّة وتفاني/ وإذا رمَتك النائبات ببلوة/ اِصبر فإنّ اللهَ ربٌّ حاني.
أتجوّلُ بين أوراقك بهدوء وسكينة، أقلّب صفحات الماضي في محاولة لاكتشافك من جديد. هل كنتُ أعرفك حقًاً يا أبي؟ يبدو لي أحيانًا أنّ حديثًا ما كان يجب أن يدور بيننا ولم نفعله. أتحسّر على هذا الحديث المنقوص، رغم أني لا أدري كنهه ولا المكان الذي كان سيوصلنا إليه. أشعر بالحزن وخيبة الأمل إزاء هذا النقص، الذي لا أستطيع كما قلت لك تحديد ملامحه. ربّما لم تكن لديّ الشجاعة الكافية لاختراق ذاك الحاجز الوهميّ الهلاميّ، أو ربّما خشيت أن لا ألاقي من القبول قدرًاً كافيًا. هكذا نحن بنو البشر، عندما يتواجد الشخص لا نجد عمّا نتحدّث، وعندما نجد عمّا نتحدّث لا يتواجد الشخص. أعلم أنّي أظلم علاقتنا حين أصوّرها بهذا الشكل، فلم يكن يمضي يومان أو ثلاثة دون أن نتجاذب أطراف الحديث، حيث كان يبدأ خجولاً في محاولة منّي لاستدراجك إلى ملعبي حيث تكون الغلبة لي. ورغم أنّك كنت تدرك رغبتي هذه في الخروج منتصرًا في أيّ سجال بيننا، إلاّ أنّك لم تكن يومًا على استعداد لرفع الراية البيضاء، ولطالما كان ينتهي النقاش بيننا بتدخّل من أهل البيت: "يلاّ فضّوها سيرة عاد". كنت أدري مسبقًا أنّك منافسٌ قويٌّ في الأدب الجاهليّ وفي أمور الدين ومسألة الإيمان. كان هذا ملعبك بامتياز، ولطالما اخترقتَ شـِباكي بأهداف رائعة، تركتني مذهولا ًأمام أفكاري المهشّمة عند القائم الأيمن أو الأيسر. لطالما سألت نفسي، من أين لك كلّ هذه المعلومات، وأنت لم تكمل سوى الصفّ الرابع؟ كنت ستجيبني: طبعًا المطالعة. إنها ليست المطالعة وحدها، فلم تترك لنا مكتبة يشار إليها بالبنان. أفتّش في مكتبتي علّني أشتمّ رائحتك في أحد الكتب فلا أقتفي أثرًا لها. أعلم أنّك كنتَ مولعًا بالأدب العربيّ الجاهليّ، وقد حرصت على اقتناء كتب أبي العلاء المعرّيّ وبعض الكتب الدينيّة والفلسفيّة. جئتك يا أبي مرّة بكتاب أنيس منصور "في صالون العقّاد كانت لنا أيّام"، كان الكتاب ثقيلاً ولا يمكن قراءته محمولاً لضخامته، قدّمته لك بكثير من الإعجاب بعبّاس محمود العقاد الشاعر الأديب والفيلسوف، الذي شكّل ندًّا قويًّا للدكتور طه حسين، رغم أنّه لم تبلغ ثقافته حدّ الصفّ الرابع. قلتُ لك مازحًا: يبدو أنّ سرًّا ما في ثقافة الصفّ الرابع، اُنظرْ إلى هذا الشخص. علَتْ وجهُكَ ابتسامة خجولة وكأنّكَ أدركت محاولتي الإطراء لك.
يعلم الله يا أبي مدى شوقي إليك في هذه الأيّام. احتجتك كثيرًا في السنوات الأخيرة. كم من مرّة أردت أن أختبئ في عينيْك العسليّتيْن هاربًا ممّا ألمّ بي أو لأقول لك: أترى يا أبي؟ وأخيرًا تعادلنا. حتّى في المصائب تعادلنا. حين رافقتك بعد أن بُحّ صوتك، قال لك الطبيب أنّك تعاني من سرطان في الحنجرة. طأطأتُ رأسي محاولاً الهرب من نظراتك. أمسكتَ يدي بقوّة وقلت بصوت فيه من الحدّة والرقّة معًا: شدّ حيلك مالك ارتخيت؟ بعد سنوات قليلة أردتك أن تكون بجانبي، لأمسك بيدك حين رمقتني الطبيبة بنظرة مجرّدة، وزفّت إليّ خبر مرضي ثمّ مضت لمريض آخر "ولبشرى" أخرى. تعلّمت منك أن أتقبّل الأمر بأعصاب هادئة. مضيْنا إلى البيت بهدوء لا عاصفة وراءه؛ هدوء مَن لا يدخل حربًا يعرف أنه لن ينتصر فيها، هدوء من يعرف أن يطأطئ رأسه أمام المِحَن حتّى تمرّ من فوقه بسلام. وقد مرّت عليك وعلينا بسلام ونسينا.
أحاول الآن أن أمرّر شريط حياتك أمامي من جديد. أحيانًا، تَخفى عن حياتنا حقائق سهوًا أو لأننا لم نُعِرْها الانتباه اللازم، ثمّ كما يحصل عند مشاهدة فيلم سينمائي للمرّة الثانية، تتكشّف تفاصيل ذات مدلولات وأهمّيّة غابت عن وعينا بادئ الأمر. هكذا أرى هروبك من بيت جدّي مرّتيْن والتحاقك في الجيش الإنجليزي، وهكذا أرى تمرّدك ومحاولة تحقيق ذاتك خارج تلك الأطر التقليديّة في مجتمع قرويّ بسيط. عندما كان أولاد جيلك يتزوّجون وهم في السادسة عشرة، فعلتها في الثلاثين. عندما كان معظمهم "لا يفكّون الحرف" كنت تكتب الشعر، وتتحدث اللغة الإنجليزيّة بطلاقة شبه تامّة. كم كنت فخورًا بك يا أبي يومَ وقفت في باحة المجلس المحلّيّ، وأنت في زيّك الدينيّ ولحيتك البيضاء، تخطب أمام الناس باللغة الإنجليزيّة بعفويّة الأطفال، على شرف حفيد السير أوليفنت الذي طلب مقابلتك خصّيصًا كحفيد لحفيد، إذ كان جدُّك "أبو ذياب" مساعد وسكرتير جدّه، يوم أقام هذا الأخير بين سكّان البلدة آنذاك معزَّزًا مُكرّمًا. كنتَ قليل الكلام يا أبي، تصمت إلى حدّ الخنوع أمام مَن يُحدثك، وكم كان هذا الوضع يستفزّني فأصرخ في داخلي مرارًا: يا إلهي، لماذا يصمت أبي وهو أفهم الحاضرين وأكثرهم فطنةً! كفى تواضعًا، لا أطيق هذا التواضع. وأنت كما أنت، تحترم الكبير والصغير، تتنازل عن حقّك وتبقى على صمتك. أصرخ في داخلي، أودّ أن أصرخ في وجهك، ثمّ يلفّني الصمت أنا الآخر وكأنّها عدوى عائليّة.
أعلم أنّ حياتك لم تخْلُ في مرحلة معينة من الهزار والدعابة. لم تكن تعترف أمامي بمعظمها، وعندما كنت أمازحك كان جوابك أنّ فلانًا "يُبَهِّرُ" تلك الحكايات عمدًا، أو يلصقها بك حتى يُبعدها عن نفسه. سمعت عن طيّارتك التي صنعتها وحاولت كالأخويْن رايت التحليق بها فلم تنجح . قال يومَها في هذه الحكاية الشيخ أبو صقر جابر: يا رجا سكّر محلّ نجارتك/ وكسّر المنشار واحبسْ فارتك/ حنطورتي مِن شهر إلها ضايعة/ عم تشتغل في البحث عن طيّارتك. فأجبتَـَه: الطيارة العم بتطير/ فوق الغيم وفوق الريح/ قايدها فارس نحرير/ لا بيخاف ولا بيزيح/ مش مثلك عالحناطير/ قاعد من خوفك بتصيح/ يا عالم شو هالتعتير / مش قادر إدعس فرام.
لكنّك سرعان ما تعود إلى رصانتك لتخاطب حوّاء بهذه الأبيات المقتطفة: سيري على درب الكمال إلى العلا/ وتزوّدي بالعلم ثمّ ترفّقي/ هذا التبرّج لا يليق بغادة/ كبرت على حبّ الثناء الشيّق/ الغرب ليس بقُدْوة في زيّه/ كي تقتديه مع اللباس الضيّق/ تلك الملابس لا تليق بحُرّة/ تأبى لباس الضائعات الفسّق.
يبدو لي يا أبي أنّ حديثنا المنقوص سيظلّ حبيس غرف قلبي، فأنا الشخص وأنت الشخص غريبان في حدود هذا الزمان والمكان، ننظر إلى أنفسنا وإلى مَن حولنا، فلا نرى إلاّ صدأ هذا العمر، وفرص حياة تبخّرت بين أيدينا دون أن نعرف أنها كانت بقبضتنا يومًا.
وفي نصّ آخر بعنوان اِهـْـدأ يقول: اِهدأ !/ فعواصف ُ الصحراءِ ما حكمتْ عليكَ/ بأن تبقى هنا أو بالرحيلْ/ هي لا تراكَ/ هي لا تراكَ لأنّ لونكَ باهتٌ/ ولأنّ سروَ الشمسِ حين تلوحُ/ ما عادت تميلْ/ هي لا تراكَ ألا ترى؟/ فاحمِلْ شراعَكَ وابتعدْ/ رتِّبْ حجارةَ لعبةِ الشطرنجِ في ثوبٍ جديدْ/ واصنعْ قلاعاً من حديدْ/ واذهبْ إلى ليلٍ يطولُ فلا ترى/ شفقًا يبوح/ عن فارسٍ مِن دونِ سرج ٍ أو سراج/ لا غابةَ تحنو لهُ/ لا ماردًا يبني لهُ أسطورةَ الأمجادِ/ سورًا مِن رمادْ/ هي لا تراكَ ألا ترى؟/ لم تبقَ إلاّ قطرةٌ سوداءُ عالقةٌ هناكْ/ لم تبقَ إلاّ نقطةٌ غبراءُ في صدرِ السهادْ/ اِهدأ/ ها أنتَ منبعثٌ إلى صبحٍ جديدْ/ وشموعُ ليلةِ أمسِ باتتْ ذاويةْ/ ما عُدْتَ تمشي فوقَ جمرٍ كاذبٍ/ هو جمرُ حبّاتِ القلوبِ الخاويةْ/ لا تستحي إنْ كانَ صدرُكَ مُثقَلًا / بالتّيهِ بالكلماتِ بالآهاتْ/ هي رسمةٌ تحكي فصولَ حديقةٍ/ جفـّتْ وما بعـَثتْ حياةْ/ لا تستحي واحزنْ على أنشودةٍ/ ذهبتْ هباءً في فضاءٍ مِن سباتْ/ هي لا تراكَ/ لأنَّ صدرَكَ أبيضٌ ولأنَّ قلبكَ أبيضٌ/ ولأنَّ في عينيكَ زهرُ اللوزِ متّسعٌ لكلِّ الناسِ/ في عينيكَ مُتّسعٌ/ ولأنَّ سهمًا قد أصابكَ عندَ منعطفِ الطريقْ/ فإذا ذهبتَ ولم تعُدْ/ قالوا: حريقٌ أو غريقْ/ هوَذا المسارُ يضيقُ حينًا يلتوي حينًا/ ويغفو عندَ قارعةِ المضيقْ/ أوَليسَ أجدرَ أن تكونَ مسافرًا في قاربٍ/ فقدَ الشراعَ وغاصَ في رفقٍ/ ببطنِ البحرِ في نومٍ عميقْ؟ اِهدأ/ فأنتَ اليومَ مولودٌ جديدْ/ لكَ كلُّ ألعابِ الطفولةِ والغواني والسماءْ/ لكَ علبةُ الأسرارِ سرُّ الكونِ مفتاحُ الضياءْ/ لكَ نجمةٌ عليا لكَ نجمةٌ سفلى/ لكَ ملعبٌ حبٌّ فضاءْ/ فعلامَ تجمعُ كلَّ أنفاسِ العذاب/ بدميةٍ أبتِ البقاءْ/ وتُصِرُّ أن تبقى لديكَ إليكَ لكْ/ وتُصِرُّ أن تَحكيَ لنا قصصًا عليك/اِهدأ/ لـَعلّكَ لا تفيـقُ على رجاءْ/ فاللهُ يَهدي مَن يشاءْ/ واللهُ يُعطي مَن يشاءْ/ هي لكَ هي لكْ
وفي نصّ صرخة يقول: عتبي عليكَ/ ألا ترى أنّي طريدُ كآبتي/ والموتَ يدنو حاملاً وجهَ الأديمِ -كساءَ روحي- حينَ كانت لذّةُ الأحلامِ تَنزعُ مِن دروبِ الرعبِ/ آخرَ مسربٍ للنورْ/ يا أيّها المفتونُ في شحذِ السيوفِ: ألا ترى طلاًّ يُعانقُ بسمةً في شرفةِ الأحلامِ كي يرنو/ إليكَ ضبابُ مَن رَحلوا وباتوا في لظى الحممِ انقشاعا/ تخطفُ الأبصارَ، أنتَ مرادفُ الديدانِ تنهشُ في/ كهوفِ العتمِ شامةَ طفلةٍ شاميـّةٍ عصيتْ عليكَ فغـُيبتْ/ إنّي سألتكَ هل صباحـُكَ ناعسٌ مثلُ الصباحات التي تغدو/ لنا، فيها اختزالُ الكون، حبُّ الليل، متعةُ غفوةٍ أو كبوة/ لا فرقَ، هل تشدو بصوتٍ خافتٍ لحنًا تعربشَ فوقَ حبلٍ/ مِن حبالِ الصوتِ حتّى مُزّقتْ أوصالُهُ فغدا على صبحٍ/ نشازًاً لا يلينْ؟ يا أيُّها المفتونُ في شحذِ السيوفِ بربِّ/ مَن سمـّاكَ، هل ما زلتَ تأخذُ وجبةَ الإفطارِ حافلةً/ وطفلُكَ- خدُّه ُ كالورد- يجرعُ في سكونِ السيّدِ المأفونِ/ أكوابًا مِنَ الألبانِ كاملةَ الدسَمْ؟ وعلى تلالٍ أو وهادٍ لا/ يهمُّ، تكادُ تلمسُ طرْفَها، أطفالُ حمصَ، رصاصُكُم قوتٌ/ لهمْ وشرابـُهم شذراتُ بارودٍ تعالتْ في الفضاءْ/ عتبي عليكَ/ وأنا صريعُ كآبتي؟/ لا، لا أظنُّ/ فمعذرة/ يا سيّدَ الأكوانِ/ عذرًا مرّةً أخرى وأخرى من رعاعٍ إمّعةْ/ إن كنتَ تبغيني رمادًا هافتًا لبّيك/ إنّي حفنةٌ سوريّةٌ فانْثُرْ رماديَ في الغيابْ.
وفي نص بعنوان أبراج قال: الحمل: ما لونُها ما شكلُها أشيائي/ سقطتْ على قفرٍ بلا استحياءِ/ وتناثرتْ وتبعثرتْ وتحطّمتْ/ وبقيتُ وحدي تائهًا بفضائي/ هجَرَتْ إلى عهدِ الطفولةِ دمعتي/ وعيونُ أُمّي لا تردُّ رجائي/ ولطالما ناجيتُ طيفــَكِ مثلما/ ناجيتُ روحي أن تصُدَّ ندائي.
الثور: صمتُ القبورِ مساحةٌ للرائي/ فيه اختزلتُ سكينتي وصفائي/ ودفنتُ في ثوبِ المعاصي سكرتي/ وبلّلتُ مِن رمدِ العيونِ ردائي/ ولَئِنْ طويتُ مشاعري ومهابتي/ وجعلتُ منها خرقةً لغطائي/ أبقى الحبيبَ طريدَ حبّي مثلما/ تبقينَ وشمًاً هائمًا بسمائي.
الجوزاء: في حالِكِ الأسفارِ كنتِ رفيقتي/ وحبيبتي وأنيستي وضيائي/ ترمينَ مِن خلفِ المعابرِ همسة/ مرسومةً بالشهدِ والحناءِ/ فإذا وصلتِ وقلتِ إنّي ها هنا/ تبدينَ وهنًا شاحبًا بفنائي/ فجعلتُ مِن بيتِ القصيدةِ مضجعي/ وأخذتُ مِن رسمِ الحروفِ دوائي.
السرطان: تأبى الشفاهُ بأن تكونَ مجازة/غبراءَ تنفضُ مسحةً لطلاءِ/ عجزتْ مناداتي فباتتْ صخرة/ صمّاءَ تعلو فوقَها أشلائي/ إنّي أُناديها بحرقةِ عاشق/لا تسكبي جمرًا على الرمضاءِ/ تمـّوزُ إنّي خائرٌ متنائر/ تمـّوزُ مهلاً هل تودُّ عدائي؟
الأسد: صمتُ القبورِ مهابةٌ لوفائي/ كيفَ الرجوعُ وما حفظتِ وفائي/ مَن أنتِ هل أنتِ التي غازلتُها/ ونقشتُ مِن أسمائِها أسمائي؟/ وزرعتُ عندَ الخصرِ جُـُلَّ مواسمي/ ورويتُ مِن طيبِ الهوى بإنائي/ ولقد غزلتُ مِنَ الشقاءِ قلادتي/ اللــهُ إنّي قد سئمتُ شقائي.
العذراء: عصَفَ الجنونُ بخاطري وبمهجتي/ وفقدتُ في بعثِ الركامِ إبائي/ ونظرتُ حولي في عناءٍ مـُثقل/ بالصمتِ والإنكارِ والإيماءِ/ عـلَّ الذي يبدو سرابًا عابرًا/ أو طيفَ نجمٍ حامَ في العلياءِ/ إنّي فقدتُ مواكبي ومراسمي/ ونقشتُ مِن عطرِ الدموعِ كسائي.
الميزان: عودي إلى دربِ الحريرِ أميرة/ مصحوبةً بنسائمِ الآلاءِ/ عودي إلى قمرٍ يداعبُ ظـلـّه/ رملَ الأماسي في مدى الصحراءِ/ عودي إلى طـلٍّ ترقرقَ خلسة/ فوقَ الشفاهِ بخفةٍ وأداءِ/ عودي إلى نهرِ الحياةِ غزالة/ شلالُ عشقكِ لا يودُّ رثائي.
العقرب: أنتَ الذي أتعبتني وقهرتني/ وجعلتَ منّي خرقةً لبلائي/ أيُّ النجومِ زرعتَ في بوابتي/ أيُّ الصدودِ نثرتَ في أنحائي/ فيكَ الحطامُ تراقصتْ أشلاؤُهً/فيـكَ احتضنتُ مسيئـَتي ومسائي/ إنّي أخافـُكَ أن تظـلَّ مُلازمًا/ ظـلّي أمامي وجهتي وورائي.
القوس: أسْدِلْ ستارَكَ فالوجوهُ تعاقبتْ/ وتبدّلتْ وتناثرت بهباءِ/ ما عادَ في عُنقِ الزجاجةِ ماردٌ/ يروي لنا أسطورةَ الآباءِ/ أسْدِلْ ستارَكَ ما رَويْتُ حكايتي/ إلا ّ لعازفِ ليلةٍ ظلماءَ/ إنّي رسمتُـُكَ شعلةً في مسربي/ فعلامَ تبدو شاحبَ الأضواءِ؟
الجدي: "ليلى" ألا هُبّي إليَّ وعانِقي/ ذئبًا تلـظى قلبُهُ للقاءِ/ إنْ تشربي دمعَ العيونِ فحسبُنا/ أنّي شربتُ هشاشتي ودمائي/ وقعُ الدروبِ يئـنُّ عندَ مرورنا/ وقعُ الحروفِ بسينِها أم فائي/ "ليلى" أحنُّ إلى صباحٍ مشرقٍ/ "ليلى" أتوقُ لليلةٍ ليلاءِ.
الدلو: ولقد دخلتُ إلى دفيئةِ خيمتي/ وجعلتُ منها عزوةً لعزائي/ أضحكْتِني أتعسْتِني أغرقتِني/ أسعدْتِني أجهشْتِني ببكاءِ/ أنتِ النساءُ وأنتِ كلُّ قصائدي/ وسحابةُ الأحلامِ في الضرّاءِ/ ألمي دموعي شمعتي وفراشتي/ شمسي سمائي عتمتي وسنائي.
الحوت: أنتِ السكينةُ في ندوبِ حياتنا/ وأنا أسيرُ متاعبي وعنائي/ ولكم ظفرتُ من الحياةِ بنظرة/ لا قاومتْ شعري ولا إغرائي/ إنّي أتيتـُكِ حاملاً روحَ الصبا/ ما خـطَّهُ الشعراءُ للشعراءِ/ أنتِ النساءُ وأنتِ مَن صنعتْ يدي/ فيكِ اختزلتُ مصائبي وشفائي.










166
مدينةُ ريح لا يذروها نُواح!
آمال عوّاد رضوان

بمزيدٍ مِن طواحينَ مَسرّةٍ عتيقة، تبشّرُ أسرة منتدى الحوار الثقافي بمدينة ريح لا تذروها رياح ولا نواح، للروائية فاطمة ذياب، وذلك في لقائها الشهري المعقود بالفرح 27-9-2012، في مركز تراث البادية عسفيا، والذي صادف تاريخ ميلادِها، والاحتفاء بهذه المناسبة.
استهلّ اللقاء الشاعر رشدي الماضي بكلمة ترحيبيّة جاء فيها:
تماهيتُ معكم أنا المُنتمي مُريدًا إلى رعاة الريح، والتقتْ في دريئةِ الإبداع طفلةٌ خضراءُ (آمال عوّاد رضوان) ودبدوبة متمرّدة (فاطمة ذياب)، ومتّبعًا بوصلة مبدعي رولان بارت أوليس وهو القائل: "وما يجب على المرء أن يقومَ لقراءة كتاب اليوم ليس الالتهام والابتلاع، ولكن الرَّعي بدقة والجزّ بعناية".
لذلك جئتكِ بشغف، جئتكِ وقرأتكِ رواية أردتِها أن تبقى بعيدة عن الضوضاء والأضواء، لا بل تبقى عصافيرَ لا يملكُها أحدٌ سواكِ، ليُواصلَ دولابُ ذاكرتكِ حراكَهُ ودوَرانَهُ زمنًا ممتدًّا، يحفظ ويحافظ ويحتفظ بمكانكِ نيّئًا، فالمكان هو الذي يروي حكاية ساكنيه، ويحمي مروحة ذاكرتهم من عوامل التعرية.
لكنّ شاعرتنا العواديّة الرضوانيّة (آمال عوّاد رضوان) أصرّت عامدةً متعمّدة أن تُخالف تيمّمنا، لتُبقيكِ "أنتِ أنتِ وتبقي الديار ديارا"، وهذا ليس بغريب عليها، فهي تعرف وكذلك نحن، أنّكِ يا فاطمتي رأيتِ الكثير وعاينتِ العالمَ الرحبَ في حياتك، فغصتِ عميقا تلتقطين صورًا فسيفسائيّة لمقاطعَ مِن واقعِكِ. لماذا؟ لتسجّلي وتكتبي الوجع والألم والأحزان والفقد والانكسارات، في عمل مُتحرّرٍ مِن عنف الأيديولوجيا، مُتشبّعٍ بالرغبة في الخوض في تفاصيل حكاية تملأ الدوائرَ الفارغة، في مدينة قريبة ملامحها وموازية لما حبَرتِهِ وشفتِهِ وعرفتِه.
أقول: آمال عوّاد رضوان وعَت بعُمق ماهيّة بوحك، فكيف تتركُكِ لازمة يُكرّرها لوركا: "والآن لا أنا أنا/ ولا البيت بيتي".
نعم يا دبدوبتي كيف؟ وهي العارفة أنّكِ تحملين قبسَ إيمان قادر على مواجهة ومجابهة تآمر الظروف عليكِ، لذلك لبّت راضية نداءَ الواجب مسنودة بوعي إبداعيّ، لتشاركَكِ في نسج مدينة الريح رواية طوّقت عوالم متعدّدة، طارحة أبعادَ الشخصيّات الجوانيّة العميقة دون أن تخدش براءتَها.
فاطمتي أيّتها الدبدوبة المدللة والمتمرّدة في دفيئة جغرافيا الإبداع.. فضاءُ مدينتكِ أمكنة وأزمنة، وهي دارٌ ترصدُ العلاقاتِ الحميميّة في نسيج التواصلات الاجتماعيّة، يُسيّرُها دولابُ الذاكرة فكرًا ثقافيًّا وتكوينًا نفسيًّا وأيديولوجيا كآبة عذبة. أمّا السياق فهو فنّيّ وجماليّ وقد جاء في انسيابيّة وعذوبة، ممّا أدّى إلى تماسُكِ بنائِهِ تماسكًا اسمنتيًّا، أقصى بعيدًا إزميلَ التشظّي، هذا وقد رأيتُني مُلزَمًا أن أجيزَ لنفسي أن أضيفَ، "مدينتُكِ نصٌّ يتّسمُ بالشعريّة الصافية، ممتعٌ رائقٌ مُقطّرٌ مِن روحك المشتعلة حبّا وإنسانيّة محتشدة بالرؤى وجريان الأحداث. واصِلي عطاءَكِ مِن نور إبداع لا يَغربُ، لتجعليهِ كلماتٍ تبثُّ في قلب كلّ مَن يقرؤُها، كي تَبقى مُتجذّرة في الذاكرة طويلاً طويلا، مِن فرطِ ما تمتلكه من القدرة الفنيّة والدلاليّة والإدهاش.
ثم كانت مداخلة نوعيّة للد. الشاعر فهد أبو خضرة جاء فيها:
سأتحدّث حول الرواية. إنّه عملٌ جادٌّ جدّا يستحقُّ أن يُقرأ مرتيْن، وأن يُدْرسَ بعمق، وآمل أن يدرسَهُ الباحثون دراساتٍ عميقة، ليكشفوا ما فيه من أشياء كثيرة تطرقت إليها.
مكتوبٌ على الغلاف رواية، وأنا لا أظن أنني أمام رواية صافية، هي سيرة ذاتيّة رواية، أو رواية سيرة ذاتيّة، والفرق أنّ السيرة الذاتية يتطابق فيها المؤلف والراوي والمرويّ عنه، بينما في الرواية لا يتطابق الكاتب مع المرويّ عنه، ولكن هنا التطابق واضحٌ في كلّ العمل، ولذلك هي أقربُ إلى السيرة الذاتية، وإن أردتم إلى السيرة الرواية.
هذا أوّل خرق لِما نُسمّيه الأجناس الأدبيّة، أي مزج بين السيرة والرواية، ولكن هناك خرق آخر وأهمّ، وهو هذا التعاون في صياغة المادّة بين الأديبة فاطمة ذياب، والشاعرة آمال عوّاد رضوان، وظهر واضحًا الاتجاه الشاعريّ في الرواية، وهذا ما نُسمّيه كسرًا عبْرَ الأجناس، أي مزج لغة الرواية التي هي لغة نثريّة مع لغة الشعر، وهذا ما كُتب في بعض الدراسات عن شعريّة الرواية، وهذا مثال ممتاز لشعريّة رواية مدينة الريح، أي فيها الكثير من الشعر. والسؤال هو: هل هذا جيّد أم غير جيّد؟
اليوم الاتجاه هو إلى أنه جيّد وإيجابيّ، في مرحلة يحاولون فيها كسر الأنواع، فلا يوجد شعر صافٍ، فاليوم هناك شعر منثور، أي خليط بين الشعر والنثر، وعند العرب في سنوات الستين كَتب توفيق الحكيم "مَسْـــرِواية"، أي مسرحيّة رواية، فممكن أن نشتق لهذا النص أيضا "سِيــرِواية" أي سيرة رواية. هذا الخرق للأجناس الأدبيّة يتزايد اليوم، باعتبار أنّه لا يوجد جنسٌ أدبيّ نقيّ، وفي رأي الدارسين يجب أن لا يكون، أو قد يُكتب على الغلاف "نصّ روائيّ" وليس رواية، حتى يُظهروا أنّ هناك خرقا. فماذا يفعل الكاتب أو الأديب حين يتجاوز الجنس الأدبيّ؟
هو أوّلاً يخرج عن المألوف، ويحاول أن يقول أشياء تدهش القارئ، وهذا بدأ منذ بداية الحداثة وما بعدها، وهذه سمة مميّزة من سِمات الحداثة؛ من مخالفة العُرف وخرْقِ المألوف وكسْرِ الأجناس، وهذا يُعطي للقارئ محاولة لإعادة النظر في كلّ ما عرفه وخاصّة القارئ العربيّ، لأنّه محافظ على الأجناس الأدبية كثيرا، وبسبب هذه المحافظة هناك قسم من الأدباء لا يعتبرون قصيدة النثر شعرا، وفي منهج اللغة العربية الإسرائيليّ دخلت قصيدة النثر، ولكنها ليست موجودة في البلاد العربيّة، لأنهم لا يعترفون بها كجنس أدبيّ أصليّ، وهذا يدلّ على أنّ المحافظين حتى الآن لا يعترفون بكسر الأجناس، إذن ماذا سيقولون حين يقرؤون هذه الرواية التي فيها كسر للأجناس من ناحية سيرة رواية، وكسر للغة من ناحية لغة أدبية ولغة شعريّة؟ هذا يضعها اليوم أمام الدارسين كخرق للمألوف. 
ليس عندنا في البلاد نصوص كثيرة روائية خاصّة تخترق حدود المألوف والعُرف الروائيّ. في النصوص الأخرى كالقصص القصيرة وبعض الكتابات موجود الخرق، فتجد الآن الكثيرين يكتبون على الغلاف نص دون أن يُعرّفوه إن كان خواطرَ أو قصصًا أو ما شابه ذلك، وهناك خليط عجيب، وأحيانا في خارج البلاد ينتقل الشاعر من نوع ما من الكتابة الشعرية، في داخلها نوع من الكتابة النثرية ثم يعود، وأدونيس فعل ذلك أكثر من مرة في سنوات الثمانين، وفي كتاب الحصار ذلك واضح.
ولكن حين كان الخروج سريعًا واجه الحداثويّون هوّة، لأنّها حداثة ما بعد الحداثة. لقد بدأت الحداثة الشعرية في الغرب عام 1892، ولكن في الشرق بدأت عام 1956، وكانت هناك حداثة فكريّة عربيّة، ولكن لم يَطُلْ عمرُها مع أسفي الشديد، وكانت الحداثة بعيدة جدًّا كالبناء العلويّ، كأننا بنيْنا السطح ثم بدأنا نبني الجدران والأعمدة والأساس، وذلك لأنه ليس لدينا جمهور حداثويّ لا في التفكير ولا في الثقافة، إلاّ عددًا قليلا فقط ، وظهرت الحداثة كأنها مستوردة من الغرب وكأنها تُبنى من الأعلى، فيوجد لدينا فواصل وحواجر بين هذه الحداثة وما بعد الحداثة وبين الشعب.
الرواية قيّمة. ولكن الرواية الحداثيّة لا تلقى القبول حتى الآن، وكذلك القصة الحداثية، فمثلا قصص زكريا تامر تجد الشخصية فيها تُغيّر كلّ تفاصيلها في منتصف القصة، وتصبح شخصيّة أخرى، فيقف القارئ أمامها غير فاهم لماذا يحدث ذلك. نحن بحاجة إلى تطوّر حداثيّ جديد فكريّا ثم شعريّا، وهذا قد يأخذ  مئة سنة ولكني متفائل، إذ أعتبر أنّ الربيع العربيّ الذي حدث في السنة الماضية هو بداية الحداثة العربية الجديدة، مهما كانت الظروف المرافقة له، ومهما كان التشاؤم المرسوم على وجوه الملايين، لأنّ المطالبة بالحق الفرديّ هو أول خطوة لحرية الجماعة، بعد ذلك تأتي حرية التعبير وحرية الفكر، إلا أنّنا مشيْنا خطوة والزمان لا يعود الى الوراء، وقد بدأت ثورة وستستمر.
هذا النوع من هذه الرواية ربما بعد عشرين سنة ستقرأ بطريقة أفضل ممّا ستقرأ اليوم، لأنّ كسر الأجناس سيصبح أمرا مألوفا ومتعارَفا عليه، وعمل كهذا يحتاج إلى مدقق لغويّ ومُحرّر للمراجعة اللغويّة والتنسيق والتدقيق، كما هو الحال في العالم الغربيّ والعبريّ، فلو أخذنا مثلا الكاتب محمد شكري فهو جدّا مشهور ومعروف على المستوى العربي والعالم، ولكن عندما يكتبون عن لغته فيقولون، إنها لغة اللاّ أدب، أي هو بعيد عن الكتابة الأدبية، فلا تكفي الأحداث فقط وإنما أحداث مصوغة بلغة أدبية جميلة، وحين تكون مصوغة بلغة شعريّة أيضا، فهذا يزيدها جمالا، والنغمية في رواية مدينة الريح بارزة، لذا الرواية تستحق القراءة مرات والدراسات العديدة.
الدكتور الناقد والشاعر منير توما: بعد قراءتي لرواية مدينة الريح للكاتبة فاطمة ذياب، وجدت أنّ هذه الرواية هي بمثابة استبطان لنفسيّة المرأة في مجتمع يغلب عليه الطابع الذكوريّ، حيث تبرز المرأة في هذه الرواية إنسانة متبرّمة غيرَ راضية عمّا يجري حولها، وقد رأينا في هذه الرواية أنّ الكاتبة هي الراوي وهي البطلة على مدار فصول الرواية التي تتخللها شخصيّة دبدوبة، التي أعتبرُها أنّها الذات الأخرى للكاتبة أو الراوي، وهي ما يُعرَف في علم النفس بالمصطلحات الأدبيّة (the alter ego)، وذلك لكوْن دبدوبة هو الصوت الناطق بما يعتمل ويختلج في صدر معظم النساء المغبونات مهضومات الحقوق في هذا المجتمع الذكوريّ، فدبدوبة هي الثائرة على وضع اجتماعيّ سائد تكون فيه المرأة مهيضة الجناح.
إنّ الكاتبة فاطمة ذياب تسلك في هذه الرواية مسلكًا ساخرًا من أوضاع ترفضها، وذلك من خلال قالب فكاهيّ خفيف الظلّ، لكنّه لا يخلو من جدّيّة الموضوع المطروح في معظم الأحيان، والنصّ التالي من الرواية يعكس هذه المعاني ويؤطّر لمضمون الرواية الهادف، فتخطب ساخرة  ص 54:
"دبدوبة: حقًّا نريد مَن ينزل إلينا ويتماهى مع همومنا. لا نحتاجُ سلّمًا كي نصعد إليه ونحن ولا نملك ثمن درجة من درجاته، على الأقلّ أعطوهم زلاّجة كي يهبطوا إلينا. لا نريد أن ننتخبهم للبكاء فقط، فدعونا نحن النساء نفعل هذا ولنجرّب. مطلوب حالاً نوّاحة عربيّة تبكي بالعربيّة وتتعرّى بالعبريّة، ومطلوب مصنع لمناديل ورقيّة، وباحشو قبور وربطات عنق وجنازات رسميّة لتشييع جثامين أحلام النساء، اللّواتي يقضين ويمُتنَ في معارك الجهاد والرباط، ويحرثن الأرض بالطول والعرض كي لا تسقط احداهن من فوق".
وفي هذا النصّ نشعر بمدى خيبة أمل الكاتبة بلسان دبدوبة، واستيائِها مِن عدم إتاحة الفرصة للنساء من التعبير عن ذواتهنّ وتحقيق طوحاتهنّ، وذلك من خلال لغة الاستعارة المُعبّرة عن هذه الحالات والاوضاع، باستخدامها عبارة "تشييع جثامين أحلام النساء"، ممّا يشير إلى القدرة اللغويّة البلاغيّة للكاتبة، في التعامل مع المجاز اللغويّ، كما تؤكّدُهُ كثيرٌ من الحوارات الواردة في فصول الرواية.
تخوض الكاتبة في هذه الرواية غمارَ عدّة أفكار ومواضيع حياتيّة ترتكز أساسًا على عالم المرأة، وترتبط بأحوالها في المجتمع الذكوريّ الذي تحيا به، فالكاتبة تطرح مسألة ترشيح المرأة للانتخابات وخوضها معركة سياسيّة في هذا الاتّجاه، لأنّها ترى أنّ ذلك حقّ من حقوقها كفرد في هذا المجتمع، يتمتّعُ بالأهليّة لهذه الممارسات الاجتماعيّة والسياسيّة، علاوة على ذلك، فإنّ الكاتبة تتناول موضوعًا حسّاسًا يتّصل بعالم المرأة وعلاقتها مع الرجل، يتمثل في لعب القمار وانحرافهم اجتماعيّا.
ومن المواضيع الأخرى التي تتطرّق إليها الكاتبة، ما يدور في عالم المرأة من نشاطات، كانتخاب ملكات الجمال ومناسبات عرض الأزياء، وكلّ ذلك من خلال مزيج من السرد والحوار الذي يطغى إلى حدّ ملموس في الرواية.
ومن اللافت أنّ الكاتبة لا تنسى التعرّض لموضوع زواج الفتيات، متّخذة من دبدوبة وسيلة، تقدّم بواسطتها بقالب فيه بعض الدعابة والفكاهة الكثيرَ من النصائح للعروس المقبلة على أوّل سنة زواج، حيث تبدو دبدوبة خبيرة في مثل هذه الأمور، باعتبارها امرأة عاركت الحياة وخاضت العديد من تجاربها وتقلّباتها، ومن الواضح في هذه الرواية أنّ الكاتبة تُصوّر دبدوبة بكونها مخلوقة طيبة القلب متسامحة، رغم أنّها لا تحتمل الضيم ولا تترك حقها يضيع هباء، فحين ضرب الولد ابن دبدوبة بحجر، وسال الدم من رأسه، تخبرنا الكاتبة من خلال النص قائلة:
"مَن لا يعرف دبدوبة ومدى تعلقها بأولادها؟ أما دبدوبة فأنا أعرفها جيّدا ولا أبالغ .. طيبة القلب هذه تصبح كالنمرة الشرسة إن تعدّى أحدُهم حدود عائلتها أو أولادها، ولها مقولة تردّدها بمناسبة وبغير مناسبة: "الحق حقّ ولو على قطع الرأس" ص 118.
ومن ضمن الاستعارات العديدة التي تلجأ إليها الكاتبة، ما أوردته في حديثها عن حريّة الأنسان عامّة والأنثى خاصّة، في مجال العمل الذي يتطلّبُ من الإنسان، لا سيّما الأنثى في هذا المجتمع، الكثيرَ من التنازلات والخنوع للفساد والظلم والاستبداد للسيد رئيس أو صاحب العمل في المكتب أو غيره، فتقول الكاتبة في هذا الصدد:
"هكذا يا صديقي.. هكذا اخترنا ورضينا أن نكون قطاريز في حقل بطرس، وأغمضتُ عينيّ عن كلّ ما أعرفه من قوانين السادة والقطاريز. كنتُ أعرفُ جيّدًا أنّني كي أُقبل قطروزة في حقل بطرس، عليّ أن أفعلَ ثلاثة؛ أن أرى بعينَي السيّد، وأن أسمعَ بأذنيْهِ وأن أتكلّم بلسانه، ولأنّني حشرتُني داخل المثلث المغلق، رضيتُ أن أكون كذلك، وسريعًا جدًّا تعلّمتُ كيف أغلق عينيّ وأذنيّ ولساني، وأعلّقهم جيّدًا على المشجب الصغير وراء باب غرفة المدير. أسفة. أقصد السيّد الجديد. تعلّمتُ كيف أكون حدّاءة أروّجُ بضاعة السيد حتى وإن كانت فاسدة غير صالحة للأكل وللاستعمال. المُهمّ أن تصلَ بضاعة السيّد، أعني المدير، وكذلك زوجة المدير". ص 194.
وفي كلّ هذ نقدٌ اجتماعيّ لخيانة المبادئ والقيم في سبيل العيش، خصوصًا إذا كانت الأنثى هي مَن تقوم بذلك، سعيًا وراء العمل والوظيفة الّتي تؤمّنُ لها المالَ اللازم لها ولأولادها، ومن حيث أنّ المرأة أو الأنثى تدرك خطورة ما تقوم به، وتعلم أنّ ذلك مُنافٍ لأصول الحرّيّة الإنسانيّة، فإنّها تُصرّحُ بحقيقة تصحيح الأوضاع التي كانت قابعة فيها قائلة: "صديقي.. لا يمكننا أن نُعلّمَ أولادَنا عشق الحرّيّة، ونحن بأنفسنا نعشق أغلالنا". ص 195
وهنا تظهر شجاعة الأنثى، حين تقول للرجل الذي يعاني من ظاهرة الخنوع الوظيفيّ الطوعيّ لرئيس العمل في بقيّة حوارها معه: "كم تألّمتُ عندما سمعتك تقول: ليتني صديقتي أمْلكُ نصفَ ما لديكِ من شجاعة، حتى أغادرَ قصر السيد غيرَ آسِفٍ وغيرَ نادِم. يومَها حاولتَ أن تضع المبرّرات الوهميّة لهذا العشق الخرافيّ، ولذاك الخنوع اللامتناهي، بل الأسطوريّ، وظللتُ عن بُعدٍ أراقب انتحارَكَ على عتبة باب السيد حتى آخِر قطرة دم، وأنت تنزف آخِر نقطة حبر فوق أوراق السيّد". ص 195
إنّ في هذا الحوار إشارة إلى كوْن المرأة أو الأنثى في كثير من الأحيان، تكون قادرة ومتمتّعة بالشجاعة أكثرَ من الرجل في تحدّيها وثورتها على أوضاعٍ ملتوية، انطلاقًا مِن شعورها بأهمّيّة الحرّيّة، رغم ما قد يعود عليها من ضرر مادّيّ، فهي بذلك تكون قد عرفت طريق الكرامة والحرّيّة غيرَ آبِهةٍ أو مُكترثة بالمغريات المادّيّة،
وإذا حاولنا أن نبحث عن سبب تسمية الكاتبة لروايتها بمدينة الريح، فإنّه يمكننا أن نقول، بأنّ هناك تماهيًا بين الأنثى والمدينة، من حيث كوْن المرأة أو الأنثى متقلّبة في عواطفها ومشاعرها وسلوكها، دائمة التغيّر كالمدينة المقترنة هنا بالريح، التي تميل دائمًا في اتّجاهات مختلفة، وقد تحدُثُ في مسارها تغييرات جوهريّة. "نعم أيّتها الأنثى المقيمة في المدينة الباحثة عن نقطة ضوء في دهاليز المدينة، سقطت أوراق التوت والتين والتفّاح والرحيق والقرنفل. سقط القناع عن وجه المدينة، ومع كلّ هذا، ما زلتُ أيّتها الأنثى الرقم الصعب في مفكّرتي، والسطر الأوّل في حروفي، والجُملة الأولى في كتاباتي".
وهكذا يتّضح ممّا تقدّم، أنّ هذه الرواية تتراوح في بنيتها بين الحوار والسرد، وهي أقربُ للمذكّرات الشخصيّة للراوي الممثَّل بالمرأة أو الأنثى، التي صوّرتها الكاتبة في بعض الحالات بأنّها صعبة المراس أحيانا، ومُواسية للآخرين أحيانًا أخرى، وكوْنها موضوعيّة في جانب من آرائِها وتصرّفاتها، لكنّها تبقى الأنثى الشفافة التي يتنازعها الحنين إلى الرجل في كلّ زمان ومكان، فللأخت الكاتبة فاطمة ذياب أجمل التهاني وأصدق التحيّات، مع أطيب التمنيّات بدوام التوفيق والإبداع والعطاء.   

وجاء في مداخلة الشاعر فهيم أبو ركن في مدينة الريح ثلاث تحيات:
الأولى: للأستاذ أمين القاسم مدير جمعية البادية، والثانية لمجلة مواقف على لفتتها الكريمة في هذا المشروع، ألا وهو إصدار كتاب لأحد الأدباء في عدد خاصّ بين الحين والآخر، والثالثة للمُحتفى بها الأديبة فاطمة ذياب على هذا النتاج الأدبيّ المتميّز.
وعلى هامش التحيات نستهلّ حديثنا عن "المقدّمة التي تحييّ فيها المؤلفة فاطمة صديقتها الشاعرة آمال عوّاد رضوان، تلك التي "طلت فجأة من غبار زمان المؤلفة وغُرّة أيّامها ومدارها، ودفعتها للانتعاش والاستفاقة من جديد، والعودة لعالم الإبداع". وهذه المقدمة أعتبرُها جزءًا لا يتجزأ من الرواية، لفهم خيوطها وإنارة بعض زواياها الغامضة.
في حديثي هذا سأتناول بعض النقاط التي يمكن أن تكون مادّة للنقاش، والرواية التي تثير نقاشًا تكون ناجحة، لأنّها تطرح تجديدًا غيرَ مألوف، أو رؤيا فريدة في تميّزها.
من هذه النقاط؛ لغة الرواية التي تمتدّ وتتقلّص بين السرد الروائيّ النثريّ، ولغة الشعر والانزياحات الإيحائيّة، خاصّة في الفصول الأولى من الرواية، حيث يزداد الحوار تدريجيّا مع تقدّم الأحداث.
نقطة أخرى، هي استعمال المؤلفة للحروف والرموز مثل (ن – ج ....) وغيرها، بدل الأسماء! فهل استعمال الرموز أفضل من اختيار أسماء لا علاقة لها بالواقع؟... نقطة للنقاش!
ثالثا: استعمال اللغة الإنجليزية بحروف عربيّة مثلا صفحة 38: "سوري آي هاف تو جو. صفحة 39: واي نط؟ أوكي ماي فراند، يو كان جو...، يو ماست جو!". فهل مثل هذه الاستعمالات تضيف للعمل أم تضعفه؟ وهل كان من الأفضل كتابتها بلغتها الإنجليزية، أو ترجمتها إلى العربيّة؟
رابعا: شعرت أنّ استغراق المؤلفة أحيانًا بالصناعة اللغويّة الشعريّة، أفقد كما أحسست بعض التشويق الروائيّ، ممّا أوحى للقارئ أن الحبكة غير متينة، فالمؤلفة اعتمدت على التعامل اللغويّ أكثر من تعاملها مع البناء الدراميّ، وربّما يكون هذا أسلوبًا قريبًا من سرد السيرة الذاتيّة، فلو كان الاسم غير رواية لَما تطرّقنا إلى الحبكة الروائيّة التي تمثل العنصر الأساس في التشويق، ففي هذا السرد نجد أنفسنا أمام قضايا جديدة دون تمهيد مُسبَق، وهذا يُشعرنا بحدّة الانتقال من موضوع لآخر، ممّا يوحي ببعض الفوضى والتقلّبات، وربّما عنوان الرواية "مدينة الريح" جاء ليُعبّر عن هذه التقلبات!
ونقطة أخرى تثير نقاشا أيضًا، وإن جاءت في السياق فهي تُعبّر عن موقف معيّن، وهي حُكمها القاسي على الرجل، ففي صفحة 102 تقول على لسان صديقتها: "عندما يخون الزوج لا يفكّر بالأخطاء.. يخون لأنه خُلق وجُبل وطُبع هكذا!". وص 42: "لا زوج فاجر ولا ابن فاجر، الزوج عذاب، والابن الأكبر هم.."!
ونقطة أخرى لاحظتها، وهي الارتقاء والانخفاض بين عبارات مبتكرة وبين عبارات مُعادة ومكرّرة، فمثلا هناك أمثلة كثيرة من التعابير الجميلة مثل: "طويلا ركنتك وراء الغيم الأسود، مهملة في صقيع لا حدود لسواده، مع كثير من ذكريات مخللة". تعابير لم نسمع مثلها مِن قبل، أو ندر استعمالها لتفاجئنا وتخلق لدينا الدهشة المطلوبة من العمل الإبداعيّ. بينما نجد عبارات مكرّرة استعملها العديد من الأدباء والشعراء فقالوا مثلا: "اشتقت إليك شوق المريض إلى عافيته، ص 40. شوق الغريب إلى وطنه، شوق السجين إلى ...حريّته".
من العناصر الكثيرة الإيجابيّة في "الرواية" عنصر تراثيّ إيجابيّ، وهو ذَكَرَ مواقع مرّت بها المؤلفة وآلات وأدوات تراثيّة، قليل من الأجيال الصاعدة تعرفها بأسمائها القديمة، مثل "المهباج"، وهذا موتيف إيجابيّ يُلقي الضوء على حياة آبائنا وأجدادنا.
أخيرا أعتقد أن الأديبة فاطمة ذياب قدّمت لنا هنا عملا يستحقّ الدراسة بعمق أكثر، وما ذِكْرُ هذه النقاط المذكورة أعلاه، إلاّ من أجل النقاش حولها وتحليلها تحليلاً أكاديميًّا علميًّا، فهذا العمل يُضيف إلى أدبنا المحليّ وساما آخر نفخر به وبمؤلفته، حتى لو اختلفنا معها في بعض القضايا التي تطرحها، أو في أسلوبها، وذلك لا يُنقص من قيمة هذا العمل الإبداعيّ الفريد، في تناوله للأحداث التي مرت بها المؤلفة، أو بطلة القصة، والتي تُعبّرُ عن مجتمع كامل وتاريخ حافل. ألف مبروك وبالتوفيق 
وفي مداخلة وهيب وهبة جاء:
فاطمة ذياب لم تنزل من السماء كالملائكة، خرجت من الأرض بكلّ غبار الأيام مُكافِحة كادِحة قادِمة بكلّ عنفوان الرغبة في التحدّي والتصدّي والنضال، فاطمة ذياب سفرُ الريح على جراح القصيدة، لهذا كتبَتْ رواية مدينة الريح المنهكة المتعبة التي تهزّ كيانك، وأنت تعرف أنّها تعزف على وتر الحياة المقطوع، وتر الشقاء والحرمان والترمّل والفاجعة الكبرى. مكانُك ليس مكانَك، دائما تختلف الأدوار، ولكننا لسنا نحن في معظم الأوقات، وما نصبو إليه لا يأتينا، وما الحياة سوى هذا الخيط المُعلّق على أرجوحة الآمال أو أرجوحة الريح، يا مدينة الريح التي قد تكون مدينتك ومدينتي. فاطمة ذياب لكِ تحيّة أكبر من لغة الكلام، أكبر وأكثر من صفحات مدينة الريح.
وبعد مشاركة الزملاء كانت هناك باقة من تعقيبات وإضافات، أعقبتها مداخلة المحتفى بها الأديبة فاطمة ذياب جاء فيها:
ستون!؟ هم يقولون، أنا لم أزل طفلة، والناس من حولي يكبرون. ستّون آه يا رقصة المهباج ويا بيت المختار، مِن السنين وهبتُكِ عمري، ومن الأيام حلوي ومُرّي، ومن حبر دمي منحتُكِ نصفه، والنصف الآخرُ خبّأته لكِ! ستّون سنة وسنة أخرى، آه يا عمرًا اتّسع فيه المدى والصدى، أشتاقُكَ عمري والشوق شهقة مغيب يداعبُ الشفق، أشتاقُكَ سيلاً عارمًا على سنا برقٍ ينتظرُ بالقبل، ستّون يا ألف سنبلة في خوابيكِ لمّا تزلْ، تراودُ الفجر كما الفجرُ يُراودُ الأمل!
يا ستين عُمقٍ مُقيم في جذوري مشدودًا بألياف شراييني، يأخذني إلى تربتي وبيدري، إلى طفولة تحبو على مسطبة بقاع الدار، ستون مِن رحم أبجديّتي! أراه منجلي لامعًا بين أصابعي، هناك يعانق مرابعي، في كلّ سهل وكلّ واد وفي كلّ حاكورة وجَبل، وأكوام السنابل وحصانُ عمي قاسم الدحدل، ولوح دراس عتيق شُدّ
إلى الحصان، وشلّة من الصغار تزاحم دورته ليحملنا وندور، ونلفّ وندور ومن أرجلنا تتقزّع سنابل الذهب وتتكسّر، يصمد من يصمد ويقعُ مَن يقع، وكما القرود نعاود اللفّ والدوران، وصراخنا يملأ الفضاء: ركّبْني أنا يا عمي، وعمّي قاسم ذاك الدحدل على مزاجه بنا يتدحدل، فمرّة يداهن طفولتنا ومرّة يزجرنا وينهرنا بصوته الغليظ مُلوّحًا بالكرباج، فيُسيء الحصان ظنّه ويهربُ ولا نهرب نحن، ويجنّ جنون عمّي قاسم، ويحمل شاعوبه مهدّدا بفلخنا وبعجْننا.         
يا لستين شوقا إلى خلة سلمى وخلايل النور، والصبايا زرافات والقفف على رؤوسهنّ تفيض بالعِلت والسّلق، تفاجئهنّ غيمة شباطيّة مجنونة، تُداهمهنّ مِن غير دستور ولا إنذار، ويضحك جنونها ويغسلُ بُقولَهُنّ، وأجسادُهنّ تتسابق إلى شجرة خروب تحميهنّ حتى هدأة الريح والمطر! ويا لشوقي الذي يحملني إلى الحمرة وإلى مراجيح الطفولة أعيادًا بين أشجار الزيتون، و"طيري وهدّي يا وزة، عَ بلاد غزة يا وزة، وأبوكِ مات يا وزة، وخلّف بنات يا وزة، بناته سود يا وزة، متل القرود يا وزة"! وكما القرود نتشعبط أشجار الزيتون، وحروفنا لغاتٌ تُغنّي دون أن نكلّف أنفسنا الغوص فيما وراء الحروف.
سريري بريري أبوك يا جمال!؟ ويطلّ من فوق الحبلة وجه جدّي صبري، فنسارع بالقفز عن الأراجيح ونطلق السيقان للهرب وللريح، لنعود إلى بيوتنا، ومثل الطبول دقات قلوبنا تدقّ خوفها بين الضلوع، ونبحث عن العيد في أزقتنا فلا نراه.. هناك تركناه خلفنا مُعلّقًا بين الأشجار!
شوقي إلى الهربة ونبعها وصخرة ملساء ملتصقه بحضنها، لعبة أوجَدَتها لنا الطبيعة كي نأتيها عصرًا نتسحسل حتى غروب الشمس، وفي الوادي القريب يرقد همّام وينام، يغطي بحطته وجهه، نغافله ونغزو كرْمه، نقطف الحصرم ونملأ احراجنا ونهرب، ونماحكه ونماحك بعضنا في استدعاءٍ غنائيّ: والله لَ احلش وآكُلْ وأمَلّي عْبابي سِمسم، حللوش راحت حاكورتك يا همّام، واحلش يحلش حللوش!؟ أكذب عليكم إن قلتُ إني أعرف مصدر اللفظ ومعانيه، ألم أقل لكم إن كثير من الألفاظ تخصّ ذاك الزمن، بتركيبة غريبة من عدّة لغات؟
شوقي إلى العش والنساء يجمعن الحطب ركسات ركسات، يربطنها بأغصان الخرّوب الطريّة مؤونة للموقد ولفصل الشتاء، يحملنها على رؤوسهنّ ومن تحتها المَداس، يمشين والأقدام حافية لا لشيء، فقط لكي لا يهترئ الحذاء! وللزعتر مواسم أخرى وجلسات أمام البيوت، ولكلّ مقعد من حجر أملس وضع في زاوية وعُرف باسم صاحبته، يُمشّقن أوراق الزعتر مع حفنة من أخبار البلد، وقال وقلنا واستروا على ما قلنا، وياساتر على هكذا أخبار وأحوال و"حوّلْ يا غنّام حوّلْ"!
ياه يا ستون شوقًا ياخذني إلى كلّ والد وما ولد، وإلى كلّ ذرة تراب في هذا البلد، إلى الرجوم ورمّانة اللفاني وتينة الموازي وإلى حاكورة الضبع الذي يطقّع بذيله! شوقي إلى السوس والقرقندة وأيّام اللوف والجعدة، شوقي إلى بير الطيرة مفرق البلد، والرعاة يزاحمون بعضهم بعضًا كلٌّ يعرف أغنامه كما يعرف أولاده وهي تعرفه، يهشّون على أغنامهم مُلوّحين بعصيّهم يتسابقون إلى النبعة التي لا تنضب، وشوقي إلى باب النصب وقوافل الجمال تحمل غلة الحصاد، ومجموعة من البنات والصبية يلتقطون ما سقط على الأرض من السنابل، ويغافلون القطروز لسرقة بريئة من أحمال الجمال، ندقّها وننزع القشّ عنها، وعمّي صالح عيدي يأخذها مقابل بضع حبّات من الملبّس والحلوى! يا ستون زقاق وفرن وخزق في سناسل البلد، ما بين ظلمة وشمعة لم أزل هناك طفلة، على مقعد دراسة في بيت ستّي وطفة، وأظلّ هناك طفلة ولا أغادر!
إخوتي وأهلي وناسي..
صُدفة يا لها من صُدفة ترنو إلى صدفة أخرى، مدينة الريح وستون سنة وسنة أخرى، ما كانت لتجمعنا لولا تلك الصدفة، والمكالمة صدفة، والأبعادُ الأخرى، وأراني أمام بوّابة المواقف أحني هامتي وحروف أبجديّتي، شكرًا لهكذا احتضان أعادني إلى روض الإبداع إنسانة أخرى، بعد غيبة دامت عشر سنوات هي في عمر الزمان قد تكون غفلة، لكنّها في حياة الإبداع طامة كبرى. نعَم عشر سنوات ومدينة الريح وأنا معها بانتظار، وصدفة وفقط صدفة تكون المكالمة الأولى من الشاعرة آمال عوّاد رضوان في التّعارف الأوّل قبل عام، ويأتي اللقاء تحت ظلّ هذه الخيمة، وألتقي بأعضاء مواقف، ليُشرّعوا الأبواب في وجهي كي أعْبُرَ ومدينتي ونلتقي الضوء من جديد، فهل أكتفي بشكر وحيد، أم أقدّم مليون وردة لهكذا مواقف وهكذا منتدى ثقافيّ يستظلُّ بأفيائه المبدعون؟
إخوتي وأخواتي.. من خوابي الزمنيّ والكونيّ، ومن زمن الغربة والاغتراب، ومن عُمق أعماق بحر نساء العرب المُداس والمُغتصب تُحاورني صفرة الأوراق، أين كنّا، ولماذا غبنا وابتعدنا، وكيف عُدنا كي نقف الليلة في وجه الريح حكاية أخرى وميلادًا آخر!
ياه.. يا ستّون شوقا إلى وجوهٍ لم تزل تعانق ذاكرتي ومدادَ حبري، أيّام كنّا نحبو على مصاطب الأدب نتهجّأ الحروف والكلمات، ليأخذ بيدنا الشاعر الإنسان الذي أمدّنا بالأمل، حين ظلّت أصابعه تُربّت على أكتافنا وعلى أوراقنا. أذكره.. نعم أبي الروحيّ الشاعر ميشيل حداد.
وتُعرّجُ ذاكرة الزمن إلى أخي الشاعر جورج نجيب خليل، ويؤكّد معي حضوركما وفضلكما الرعيل الأدبيّ الذي لامسَ حدودَ شفافيّتكما وإنسانيّتكما، ومَن يُراجعُ ملفّ الأيّام الخوالي يعرف كم كنتما صادقيْن صدوقيْن ومِن غيرِ أذى في خدمة الأدب والإبداع وتبنّي المواهب الناشئة، ومن صفرة هاتيك الأيّام ينبثق ميلاد فجر جديد مع دائرة الثقافة العربيّة ومهرجان المبدعات الأوّل، الذي جاء ليعزف الإيقاع الآخر، فتنشط في عهده الحركة الإبداعيّة والأقلام النسائيّة، ليسجّل في تاريخ هذه الحركة علامة فارقة بارزة، تسجّل دون مواربة لرجل من رجال المواقف الراحل موفّق خوري، والذي من خلال مؤسّسته ظهرت طفرة ادبيّة لا يُستهان بها، ومن ضمنها جليدُ أيّامي عودة بعد غيبة، وكانّني أحتاجها صدفة كي أعود كما لو كنت طفلة.
إخوتي.. نعم في داخل كلّ منّا طفولة تحتاج إلى من يأخذ بيدها ويشدها إلى الأمام وإلى قلب الحدث، فأين نحن الآن؟ أين نقف وإلى أين نسير؟ هل نقذف بكلّ احمالنا على مجلة مواقف الراعية الداعمة، دون أن تكون هناك خطة مدروسة للمتابعة والدعم؟
سؤالي الأن ليس صدفة، بل هو في سياق النصّ والحوار؛ لماذا وإلى متى نظلّ نحن مُشرّدون ما بين نقابة من غير أعضاء، واتحاد من غير اتحاد، ورابطة من غير روابط؟ وخذ من الأسماء ما شئت، ولكلّ معالمه وتضاريسه وأهله وناسه، ولا تقولوا صدفة. بصراحة.. من ذاك المونولوج القديم الذي حملت فيه أوراقي الأولى باحثة عن دار نشر وعن أناس يقرؤون في رحلة القطار الماضي، مرورًا بكلّ إنتاج يسبقني إلى السوق في مماحكة ومناكفة لكلمة حقوق الطبع محفوظة للمؤلفة؟ كلنا في سوق التجارة مجرّد أدوات، بل عملة لمن يلعبها جيّدًا، وعلى المكشوف نرانا مهابيل هذا الزمان نباع ونُشرى، ولا نأبه إلاّ بالشهرة، وكأننا لا نملك فكرًا وأفكارًا تحتاج مَن يرعاها ماديّا واجتماعيّا ونفسيّا، لتشحن من خلالها الطاقات لإبداعات أخرى وأخرى، وتحضرني أسماء عدّة من الوجوه الذكوريّة والنسائيّة التي تشاطرني الرأي، وترنو مثلي لوحدة الصف والحركة الإبداعيّة بكلّ مسالكها واتجاهاتها، لكي تنضوي تحت راية الفكر الرائد بالعطاء، فأعود وأكرّر أني احني هامتي وحروف ابجديّتي بشكر ينبض بالمحبة والإكبار لأسرة مواقف، التي احتضنت روايتي مدينة الريح في طباعتها، وفي تخصيص ندوة تتناولها، لتزيل عن صفرة أوراقها غبار عشر سنوات، وشكري للحضور ولكلّ مَن تناول روايتي قراءة ونقدًا.


167
أدب / فِتْنَةُ رُؤًى عَذراء
« في: 10:01 23/09/2012  »

فِتْنَةُ رُؤًى عَذراء



آمال عوّاد رضوان


تَتَوَغَّلُ خُطى الكِبْرِياءِ
في اخْتِفاءِ الصَّحارى
تَذْرو رِمالَ الهَواجِسِ في عُيونِ السَّرابِ الكَفيفَةِ
تَنْخَسِفُ أقْمارُ المُنى في مَتاهاتِ نَيْسانَ
فَلا أَلْوي عَلى حُلُمٍ
وَلا عَلى آمَال!
*
فِتْتَةُ رُؤًى عَذراءَ
تُسَرِّحُ ذُهولَها بِمِشطِ الهَذَيانِ
باتَ بَهاؤُها.. تَخْمِشُهُ مَخالِبُ ظِلالِك
*
وِشاحٌ مِنْ تَرانيمِ الطُّلولِ
يَ
نْ
دِ
فُ
عَلى سُفوحِ القَلبِ
أوَتَعودُ تشِعُّ نَبْضًا في صُدورِ اللَّيالي؟
أيَبْتُرُ شَلاّلُ الشُّجونِ أَذْرُعَ العِناقِ؟
أتَنْشُرُ جُنونَ الرَّذاذِ عَلى حِبالِ القُبَلِ؟
*
ضَبابُ الضَّواحي الكافِرُ
كُنّاهُ غَمامًا يَخْشَعُ
يَهْدِلُ
أتُشْعِلُهُ قَرابينُ القَصائِدِ
زُرْقَة ً مُضَفَّرَة ً بِالتَّراتيلِ؟
*
نَكهَةُ جَبَروتِكَ حارَّةٌ تَلْسَعُ
آآآآآآآآآآآآه
شَهْقَةُ شَفافِيَتِكَ حارِقَةٌ تَصْهَلُ  
تُرْبِكُ سُكونَ النَّدَمِ
*
سُدًى
تُلْقي بِجَمْرِ الوَقْتِ الكَسيحِ في مِحْجَرَيَّ
تَشُقُّ دَمِيَ الرَّبيعِيَّ بِعَصا الوَحْدَةِ
تُدَثِّرُني بِنَزْفٍ لا يَضِلُّ
أتَيَبَّبُ
وَتَنْضُبُ كُؤوسُ العَتْمَةِ
عَلى
شِفاهِ الصَّمْتِ
تَغْمِسُ الرّوحَ بِشَهْوَةِ البُكاءِ
تَتَرَقْرَقُ بسمَةً خَرساءَ
شُموعًا بِعُيونِ النُّعاسِ
تَعْزِفُ مُنًى تُناغي ضَبابًا
عَلى
مَرايا المُحال
وتَشْرَقُ جَداوِلُ الحَنينِ بِطَلِّ النِّداءِ
*
تَسْكُبُ نُجومُ روحي نارًا
 في انْدِلاعِ الفَجْرِ
وَعلى
جُفونِ الانتظارِ
تَتَحَرَّقُ قُبَّراتُ ضَوْئِك
*
شَمْشومِيَ اليَتَجَبَّرُ
لَسْتُ غُوايَةً تَتَدَلَّلُ
تُقَصِّفُ جَدائلَ جَبَروتِك
*
باهِتَةٌ تَهاليلُ المَوْتى..
إنْ تُسقِطِ الهَيْكَلَ
إنْ تَتَّخِذْ صَدْرِيَ الأجْوَفَ قَبْرًا لِلنُّسورِ
أوْ خَفْقِيَ الهادِرَ بوقَ حُزْنٍ
حينَما يَنْتَحِرُ الضَّوْءُ قُلْ: ربّي!
لي وَلأَحِبّائِيَ الحَياة
لِتُظَلِّلْنا أَرْياشُنا
وَلمّا تَزَلْ تَحُفُّنا هالَةٌ مُخَضَّبَةٌ بِنا
أبَدِيَّةَ التَّأَلُّقِ!
 
من ديوان – سلامي لك مطرا
 


168
الواقع اللغويّ وأزمة الهُويّة!





آمال عوّاد رضوان


بدعوة من مجمع اللغة العربيّة في حيفا، عقدت مدينة الناصرة العربيّة مؤتمرًا في فندق جولدن كراون، تحت عنوان "مؤتمر اللغة العربيّة في الواقع اللغويّ في (إسرائيل)، وذلك بتاريخ 25-8-2012، ووسط حضور من المثقفين والأدباء.
وفي كلمة رئيس المجمع البروفيسور محمود غنايم جاء:
الأخوات والإخوة.. الواقعُ اللغويّ للّغة العربيّة في إسرائيل لا يستدعي عملاً فرديًّا فحسب، بل عملاً مؤسّساتيًّا تتضافر فيه جميعُ الجهود، لوضع لغتنا العربيّة في مقدّمة الأمور التي يجب الحفاظُ عليها. أقول عملاً مؤسّساتيًّا، لأنّ استثناءَ أيّةِ مؤسّسة ثقافيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة أو دينيّة خطأٌ، لن يقودَ إلاّ إلى الاتكاليّة وإلى التباطؤ والترهّل، بدلَ شدِّ الأحزمة والتشمير من أجلِ البناء والعمل المُثمر.
إنّ ما تقوم به بعضُ المؤسّسات للمحافظة على اللغة العربيّة، وإعطائها مكانتَها كلغة قوميّة على جميع الأصعدة، عملٌ يجب أن يُشجَّع، ويجب أن يَلقى الدعمَ جماهيريًّا، وأخصُّ بالذكر بهذه المناسبة ما تقوم به بلديّةُ الناصرة من سنّ القوانين، لوضع اللغة العربيّة في مركز حياة المواطن، سواء من خلال التعامل بها في المكاتبات الرسميّة، أو من خلال إبرازِها في المشهد المكانيّ على الأماكن العامّة والخاصّة. وأُهيب بالبلديّات والمجالس العربيّة أن تحذوَ حذوَ الناصرة في سنّ القوانين المساعِدة، لإكساب اللغة العربيّة مكانَها ومكانتَها التي تستحقها في المشهد اللغويّ، سواء من خلال المراسلات، أو من خلال علامات الإشهار وغيرِها. نحن في مجمع اللغة العربيّة أقمنا العديدَ من المؤتمرات والندوات والأيّام الدراسيّة حول اللغة العربيّة، وأقمنا مؤتمرًا قبل سنتيْن عن اللغة العربيّة في المشهد اللغويّ، وها نحن نعود ثانية لهذا المؤتمر الذي يعالج هذه الظاهرة. نأمُل أن يكونَ هذا اليومُ الدراسيّ مُثمرًا، ولا بدّ أن تتبعَه أيّامٌ أخرى، لتبقى اللغةُ العربيّة في مركز الوعي الجماهيريّ. 
الأخوات والإخوة.. هناك في علم السيمياء ما يُسمّى بالرموز، واللغةُ هي رمز، والتعامل معها ليس مجرّدَ اتخاذها وسيلةً للاتّصال والتخاطب اليوميّ، بل لها وظيفةٌ فارقة في رؤية الإنسان لذاته على المستوى الشخصيّ أوّلاً، وعلى المستوى الجمْعيّ ثانيًا. ولقد بات من البديهي أنّ اللغةَ ليست وسيلةَ اتّصال فحسب، بل هي دالةٌ على الوعي السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. إن الاعتزازَ باللغة العربيّة والتمسّكَ بها هما جزءٌ من الاعتزاز بشخصيّتِنا، سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا. كما أنّ هذا الاعتزازَ لن يتأتّى إذا لم نُطوّر في مجتمعنا وفي أبنائنا وبناتنا الوعيَ لهذه الجزئيّة من حياتنا.   
إنّ التسمياتِ التي تُطلق على المواقع والشوارع والبلدان هي جزءٌ أساسيّ من تمسُّكِنا بهُويّتنا ومجتمعنا وثقافتنا، ويجب عدمُ التهاون في هذه الرموز التي قد تبدو للبعض ليست مُهمّة. العكسُ هو الصحيح، إذا استهنّا بالظواهر الفرديّة والظواهرِ الهامشيّة، ولم نقفْ لها بالمرصاد قبل أن تستفحلَ، فلن يتوانى البعضُ عن التفريط بأكثرَ من ذلك. تبدأ بحرف وبكلمة ولا نعرف أين تنتهي. لذلك انشغلنا في السنة الأخيرة بالتوجّه للمؤسّسات المختلفة، للمحافظة على وجود اللغة العربيّة في اللافتات وفي الجامعات وفي المؤسّسات المختلفة، وعلى النقد المتداوَل بصورة صحيحة وحسبِ قواعد اللغة، ويأتي هذا المؤتمر لتأكيد ما نؤمن به في مجمع اللغة العربيّة.
سنقود معركةً ليست هيّنة ولا بسيطة على قضيّة تسميات المدن والمواقعِ واللافتات في الطرق، وهذه قضيّةٌ تحتاج إلى دعمٍ جماهيريّ وسياسيّ. نحن كمؤسّسة ثقافيّة لا نعمل في السياسة بصورة مباشرة، ولكنّنا على اتّفاقٍ وعِلم، أنّ الكثيرَ من القضايا اللغويّة والتسميات لن تُحَلَّ إلاّ بقراراتٍ سياسيّة، وهذه القراراتُ لن تُتّخذَ إلاّ بالوعي الجماهيريّ لِما يجري على الساحة المحليّة.
المؤسّسة الأدبيّة من كُتّاب ونقّاد لها دورٌ كبير في غرزِ القيم الثقافيّة والتراثيّة في المجتمع، من خلال التركيز على الأسماء في الأدب، سواءٌ لتعزيز العلاقة مع المكان أو الزمان أو الإنسان. ليست القضيّةُ لعبةَ حروف وكلمات، بل هي بناءُ حضارة عبرَ الحفاظ على المخزون الثقافيّ والتراثيّ الذي يصلنا بالمكان والزمان. إنّ بلورةَ روايةٍ تاريخيّة مدعمةٍ بالأسماء، هي جزءٌ أساسيّ من بلورةِ الهُويّةِ الكلّيّةِ لهذه الجماهير الفلسطينيّة في هذه البلاد، ونحن في صراع على الحيّز، بكلّ ما يحمل هذا الحيّزُ من دلالة معنويّة ومادّيّة.
وكوني أتيتُ من حقل الأدب وتحليل النصّ، فقد استوقفتني كلماتٌ في أغنية فيروز:
أسامينا شو تعبوا أهالينا
الأسامي كلام شو خصّ الكلام
   تَ لاقوها وشو افتكروا فينا
عينينا ... هنّي أسامينا

نعم الأسماءُ هي الهُويّة، وكم تعبت الأجيالُ السابقة وهي تَسِمُ هذه الرموزَ وتطبعُها في الذاكرة التاريخيّة وفي الحضارة الإنسانيّة، الأسماءُ ليست مجرّدَ كلام، إنّها العيونُ التي ننظر بها، والهُويّةُ التي نُعْرَفُ من خلالها.

وفي كلمة المهندس رامز جرايسي؛ رئيس بلدية الناصرة واللجنة القطريّة جاء:
اِسمحوا لي أن أُعبّر عن التقدير لمجمع اللغة العربيّة بكلّ ما يقوم به، من أجل تعزيز اللغة العربيّة، والقيام بجهد لعملٍ هامّ يتعلّق بملاءمة احتياجات العصر لتطوير اللغة، وتحديد استعمالات يوميّة تُلائِم أمورًا استُحدِثت نتيجة التطوّرات العلميّة والعصريّة بشكلٍ خاصّ، فأهمّيّة الندوة تأتي على خلفيّة جانبَيْن هما وجهان لنفس العملة:
الجانب الأوّل: كون اللغة جزءًا من الهُويّة الوطنيّة والثقافيّة لأيّ شعب.
والوجه الآخر: في واقعنا وخصوصيّة واقعنا هي التحدّيات، التي تواجهها اللغة في ظلّ واقعنا كأقلّيّة قوميّة، ضمن دولة تعتمد لغةً أخرى كأساس في تعاملها، وهذا الأمر يُحتّم أن تُلائِمَ الأقليّة نفسَها لهذا الواقع، وفي عمليّة الملاءمة تلك، يجري تآكلٌ في مكانة واستعمالات اللغة الأمّ. اللغة العربيّة في هذه الحال، والأمر ليس فقط نابعًا من واقع وتطوّر طبيعيّ ضمن هذا الواقع، وإنّما أيضًا من خلال عمل منهجيّ مؤسّساتيّ، للحدّ من مكانة اللغة العربيّة وتقليص التعامل بها.
نحن نشهد في الفترة الأخيرة تعاظمًا في الهجمة على اللغة، كجزء من الهجمة على الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة في هذه البلاد. الهجوم على اللغة وكلّ المحاولات للمسّ بمكانتها الرسميّة ومكانتها الفعليّة، هو جزء من كلّ ما يتعلّق بموجة التحريض المُعادي للعرب، التي تسود وتتعاظم في هذه الدولة.
يمكن أن نُعدّد الكثير من النماذج، ولكن يكفي أن أشير إلى نموذجيْن من الفترة والسنوات الأخيرة:
النموذج الأوّل: حوالي سنة 2009، تمثّل بوضع تسميات وتغيير في تسميات المواقع، وفي نفس الوقت اعتماد النص العبريّ في كتابتها اللغة العربيّة، مثلاً الناصرة تصبح في اللغة العربيّة نتسرات، ويافا تصبح باللغة العربيّة يافو، وشفاعمرو تصبح باللغة العربيّة وتكتب بالحروف العربية شفارعام، وتمّ نشر هذه التسميات على موقع وزارة المواصلات في حينه، ولإعطائها شرعيّة تمّ إقحام اسم بروفيسور راسم خمايسي ضمن اللجنة، التي يُفترض أنّها أقرّت هذه الأسماء، وطبعًا، وبعد لفت نظر بروفيسور خمايسي لهذا الأمر، طلب إسقاط اسمه من اللجنة، وهذا ما تمّ، لأنّه حينما توجّهت برسالة إلى وزير المواصلات، وهدّدت بالتوجّه إلى محكمة العدل العليا حول هذا الموضوع، قاموا بتغيير الصفحة الأولى، وكتبوا عليها باللون الأحمر "مسودة تيوتا"، ولكن فعليًّا، مَن يُتابع اللافتات التي يتمّ تجديدها في كثير من الأحيان، فقد اعتمدوا أسلوب السلامة اسمًا بعدَ اسم، حتى يُقلصوا مِن قوّة مواجهة هذا التصرّف.
في الرسالة التي وجّهتها قلت: إنّ هذا ليس مجرّد تغيير أسماء، إنّما هو اعتداء على التاريخ واعتداء على الحضارة، وهو جريمة ثقافيّة، وتحديدًا بالنسبة لمدينة الناصرة، فقد هدّدتُ بالتوجّه إلى اليونيسكو، لأنّ اسم الناصرة هو ليس مجرّد اسم مكان، إنّما هو قيمة في التراث الإنسانيّ، وطبعًا، أسماء معظم المواقع والبلدات العربيّة هي ليست مجرّد أسماء أماكن، وليست مجرّد لفظ، إنّما هي جزء من تاريخ وحضارة وتراث إنسانيّ، وأيّ اعتداء على هذه التسميات، هو اعتداء على التاريخ والحضارة والتراث الإنسانيّ، وطبعًا، بالنسبة لنا، على التراث الوطنيّ.
والنموذج الآخر، هو محاولة تغيير حتى الجانب الشكليّ في مكانة اللغة العربيّة من ناحية القانون، فمبادرة الوزير ديختر، وهو لا يُعتبر من اليمين المتطرّف، واليوم لا أعلم ما هو اليمين وما هو اليمين المتطرّف، وحتى أحيانًا ما هو اليسار، فيما يتعلّق بالتعامل معنا، مع الأقليّة العربيّة الفلسطينيّة المواطنين في الدولة، طبعًا هذه محاولة بائسة لتثبيت ما هو قائم.
في سنوات الخمسينيات والستينيات كانت القوانين والأنظمة تُترجَم للغة العربيّة، وكانت أيضًا تُطبَع باللغة العربيّة وتُوزّع باللغة العربيّة، ولديّ في بلدية الناصرة العديد من هذه القوانين والأنظمة باللغة العربيّة، وكان يتمّ تراسل حتى مع مؤسّسات رسميّة باللغة العربيّة، وكانت المؤسّسات الرسميّة تدأب على أن يكون هناك من يعرف اللغة العربيّة، وانتهى من زمن، وأصبح موضوع أنّ اللغة العربية لغة رسميّة في البلاد، ليس أكثر من أمر شكليّ.
أمّا من ناحية الممارسة فبعيدٌ جدّا عن التعامل معها كلغة رسميّة ثانية في البلاد. طبعًا عندما يصل الأمر  حتى إلى المؤسّسات الجامعيّة، تلك المؤسّسات التي يُفترَض أنّها متنوّرة حضاريًّا كما حدث مع جامعة حيفا، التي اضطرّت إلى التراجع عن التوجيهات التي أُعطِيت بإسقاط اللغة العربيّة من شعار الجامعة، هذا يدلّ أيضًا، أنّه يمكن التأثير في لجم هذا التدهور، ولا شكّ أنّ لكلّ منّا دورًا، وهناك مَن عليه أن يُترجم هذا الدوْر إلى فعل على أرض الواقع، ومنها السلطات المحليّة، ونحن في اللجنة القطريّة وأكثر من مرّة، بحثنا هذا الموضوع وتوجّهنا بنداءات إلى كلّ رؤساء السلطات المحليّة أوّلاً، باعتماد اللغة العربيّة كلغة التعامل داخل السلطة المحليّة، وما بين السلطة المحليّة والمواطنين.
أحيانًا، ما باليد حيلة، لأنّ التعامل مع المؤسّسات الرسميّة يتمّ باللغة العبريّة، وهذا أصبح واقعًا ليس بيدنا أن نُغيّره، ولكن على الأقلّ، بيدنا أن نفرض التعامل باللغة العربيّة داخل مؤسّساتنا وما بيننا وبين المواطن، وقد وُوجِهْنا في كثير من الأحيان من مدراء دوائر وأقسام، أن ليس لديهم المقدرة اللغويّة لصياغة مثلاً مَحضرًا باللغة العربيّة، فيُصاغ باللغة العبريّة. أو محام يُوجّه رسالة باللغة العبريّة، وعندما يُطلب منه أن يكتبها باللغة العربيّة، يجيب: تعلمت باللغة العبريّة وليست لديّ المقدرة بأن أصوغ الرسالة باللغة االعربيّة.
هذه النتيجة تعني أنّ هناك عمليّة متواصلة، في جوهرها تآكل اللغة العربيّة، وتبدأ من المدارس، وعندما قبِلَ وزير المعارف حين كنتُ أحد الذين توجّهت إليه، بأن يفرض أن يكون هناك مستوًى وحدّ أدنى من معرفة اللغة العربيّة لدى أيّ معلّم يتمّ تعيينه، وليس بالضرورة للغة العربيّة، لأنّه لا يُعقل أن يقف المعلم أمام الطلاب، وليس بمقدوره أن يُعبّر عن الموضوع والفكرة التي يريد إيصالها للطالب بلغته وبصورة جيدة ومقبولة. من هنا تبدأ المشكلة.
أصبح موضوع تعلم اللغة العربيّة والتقدّم لامتحانات البجروت التوجيهيّة بخمس وحدات في اللغة العربيّة معضلة، ربّما أكبرمن معضلة الرياضيّات واللغة الإنجليزيّة، ولذلك أصل إلى مَن تحمّلون أيضًا المسؤوليّة، فقلت السلطات المحليّة، وما تمّ الإشارة إليه من سنّ قانون مُساعِد، نأمل أن يتمّ المصادقة عليه قريبًا، لإلزام أيّة مؤسّسة وأيّ إعلان في حدود المدينة، أن يُصاغ على الأقلّ ثلثه باللغة العربيّة إن كان بثلاث لغات، أو نصفه بلغة عربيّة إن كان بلغتيْن، وهذا ينطبق أيضًا على اسم الموظف في البنك، يجب أن يكون أيضًا باللغة العربيّة.
وأيضًا للمدارس، ولمدراء المدارس، وللجان أولياء أمور الطلاب في المدارس دوْر في الإصرار على أن يكون للغة العربيّة مكانة متميّزة، ضمن برنامج التعليم لأيّ طالب، من روضة الأطفال فصاعدًا، والآن أصبح التعليم من جيل ثلاث سنوات مجانيًّا، فمِن هنا يبدأ إدخال أهمّيّة اللغة إلى إدراك الطفل، وبالتالي ينمو مع فكرة أهمّيّة اللغة عندما يكبر.
وأودّ أن أشير إلى أمر أيضًا في رأيي له أهمّيّة ضمن واقعنا، وكما هو معروف، منذ سنتيْن بدأت تعمل في مدينة الناصرة أوّل كليّة أكاديميّة معترف بها من مجلس التعليم العالي، ورئيسها بروفيسور جورج قنازع، وطبعًا دون أن يكون هناك أيّ تمويل، لأنه كما يظهر، أنّ مَن أعطى المصادقة كان على ثقة مِن عدم إمكانيّة تفعيل مؤسّسة أكاديميّة بدون تمويل، مؤسسة جماهيريّة طبعًا، ولكن في نهاية السنة الحاليّة ستُصدر المؤسّسة أوّل شهادات B.A  و B.S.C ،  والأمر المهمّ والذي نأمل أن يتمّ إنجازه قريبًا جدًّا، وكان قرارًا استراتيجيّا، هو بناء سيلابوس لتدريس اللغة العربيّة للقب الأوّل كلغة أمّ، فالأمر غير القائم في كلّ الجامعات الإسرائيليّة، التي تُدرّس فيها اللغة العربيّة كلغة أجنبيّة، وفي كثير من الأحيان هناك دروس باللغة العبريّة، وهذا طبعًا له دلالة، ليس فقط أنّه يتيح الفرصة لتخريج خريجي اللغة العربيّة بمستوى أعلى من المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة، وإنّما له أيضًا دلالة معنويّة هامّة.
وألخّص؛ بأنّ لهذا الموضوع أهمّيّة كبيرة على خلفيّة واقعنا وموقعنا، وضمن مُجمَل التحدّيات التي نواجهها ونناضل من أجل الأرض والقرى غير المعترف بها والقرى المُهجّرة، وبنفس المستوىن يجب أن نناضل من أجل الحفاظ على لغتنا، وفي هذا النضال دوْرنا الذاتيّ أكبر بكثير من دوْرنا الذاتيّ في الإشكالات والتحدّيات التي نواجهها، وأن يقوم كلّ منّا ضمن مجتمعنا بأقصى ما يمكن لتحقيق هذا الهدف، لأنّ البديل هو الضياع القوميّ، والضياع الوطنيّ، والضياع الحضاريّ، وطبعًا أزمة الهُويّة!     

ومن ثمّ ابتدأت الجلسة الأولى، فتناولت البُعدَ التاريخيّ لموضوع اللغة العربيّة والتسميات، وقد تولى رئاستها محمود كيّال، وألقى المحاضرة الأولى بروفيسور راسم خمايسي في جامعة حيفا، بعنوان أسماء المواقع في بلادنا بين الماضي والحاضر:
تحدّث عن تدارس ونقاش مسألة المكان في الواقع اللغويّ، وكيف نستطيع أن نُحضّر وننتج معرفة، ونربط بين اللغة العربيّة والمكان، خاصّة على خلفيّة هجمة التحريض، وعمليّة محاولة عبرنة الأسماء وتذويتها، سواء بواسطة الخرائط ، أو الإعلام والإنتاج المعرفيّ الأكاديميّ.
وقد قدّم دراسة تناولت أسماء المواقع بين خارطتيْن، فترة في الماضي والحاضر، بحيث رصد وناقش كيفيّة نشوء أسماء المواقع ومسمّياتها، كجزء من الموروث الحضاريّ والتراث اللغويّ، والواقع الموضوعيّ للغة العربيّة في حيّزنا، وكيف أنّ هناك عمليّة ممنهجة ومبرمجة لتغييب وإنكار هذه الخارطة، بواسطة عبرنة الأسماء وخلق خارطة بديلة .
 هناك صراع بين خارطتين ، والذي يُعبّر عن الصراع السياسيّ الحيزي الثقافيّ بين مشروعيْن على هذه البلاد، وحاولت أن أترجم كيفيّة إبراز هذه الخارطة العبريّة مكان الخارطة العربيّة، من خلال أدوات تُستخدَم فيها المؤسّسة، يُستخدَم فيها الإعلام، تستخدم فيها إنتاج اللغة العبريّة، وعمليًّا، محاولة إنكار اللغة العربيّة في هذا الواقع، وقد أعطيت عدة توصيات:
عمليّة نشر الأبحاث واجب على السلطات العربيّة، وأن تقوم بإعداد خرائط تمثّل الموقع وتُبرز الموقع والفولكلور المحليّ بتسميات المواقع، ولديها القدرة ولديها الإمكانيّات، ودون أيّ مانع .بالإضافة لذلك، هناك نوع من حالة إنتاج الخارطة العربيّة كما هي، قبل الثمانية وأربعين، وكذلك إنتاج الخارطة كما نتجت في الواقع الجديد الذي نشأ، بحيث يكون فيها تعبير للغة العربيّة، للواقع العربيّ، ولهذا الحضور العربيّ .
يُشكّل الصراع على أسماء المواقع أحدَ مُركّبات الصراع الرئيسة بين المجموعات القوميّة، الإثنيّة، الثقافيّة التي تعيش في نفس الحيز، وكلّ مجموعة تسعى إلى تغليب حضورها وسيطرتها على الحيّز، من خلال فرض أسماء مستقاة من تراثها وثقافتها.
لا شك بأنّ الاسم هو نتاج لغة مجتمع ذي تراث، ثقافة وحضور، وكلّ غالب في صراع يسعى إلى خلق خارطة أسماء للمواقع، تعبّر عن روايته، ثقافته وتراثه؛ ولذلك نجد أنّ فرض أسماء على المواقع تخلق غُربة بين المجموعة القوميّة الثقافيّة وبين محيطها، إذا لم يكن هناك تجانس وانسجام بين أسماء المواقع، وبين تاريخ وتراث المجموعة التي تعيش في الحيّز.
كانت الحركة الصهيونيّة على وعي بأهمّيّة خلق خارطة أسماء مواقع، كجزء من عمليّة مُبرمَجة لاحتلال المكان وإقصاء الإنسان العربيّ الفلسطينيّ، وتغييب تراثه، وتزييف تاريخ المواقع العربيّة الفلسطينيّة من خلال عرض مسطرة تاريخية انتقائيّة أو مُحرّفة؛ لذلك بدأ الصراع على وضع اسم للبلاد عامّة، وعلى اسم كلّ بلدة، واد، جبل...إلخ، خاصّة، منذ أن بدأ المشروع الصهيونيّ يُنفّذ في بلادنا، وتمّ تنظيم عمليّة تبديل وتحريف أسماء المواقع بعد إقامة "لجنة الأسماء المنبثقة عن الكيرن كيّيمت" عام  1922، وفي عام 1952  تمّ إقرارها بموجب قانون لتصبح لجنة الأسماء الحكوميّة، وهذه اللجنة خلقت خارطة جديدة لأسماء المواقع، وهي ما تزال فاعلة، تتخذ قرار وضع اسم لكلّ موقع.
تهدف المحاضرة إلى وضع عرض نظريّ لعلاقة الصراع على تسمية المواقع وأثرها في خلق الحيّز العامّ، وكيفيّة تطبيق تغيير أسماء المواقع في بلادنا، وتعرض المحاضرة حالة خلق خارطتيْن لأسماء المواقع: واحدة تُمثّل الرواية، التراث، الثقافة والحضور العربيّ الفلسطينيّ؛ وأخرى تمثل الرواية الصهيونيّة الإسرائيليّة، كما تتناول المحاضرة دوْرُ ثنائيّة الخرائط في خلق غربة بين الإنسان وحيّزه، ولأجل مواجهة تغيير وتحريف الخارطة الأصلانيّة، وتأمين المشاركة في إنتاج الحيّز العامّ والحضور فيه، تَعرض المحاضرة بعض التوصيات لمواجهة السياسات الحكوميّة المُبرمَجة، لأجل تغليب الأسماء المفروضة، ومحاولة محو الأسماء التاريخيّة من الواقع والذاكرة العربيّة الفلسطينيّة، وبالموازاة وضع أسماء تتجانس وتتناسب مع التراث والحضور العربيّ.

أمّا د. عبد الرحمن مرعي من كليّة بيت بيرل فكانت له محاضرة تحت عنوان: الصراع اللغويّ على الحيّز وانعكاسه في مسميّات البلدات واللافتات.
الصراع العربيّ الإسرائيليّ قديم حديث، فهو وليد الأحداث التاريخيّة والدينيّة في القديم، وترسّخت جذوره حديثًا في المناحي السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، وهو في جوهره صراع بقاء على الأرض والسيطرة على الحيّز، وتشكّل اللغة الوسيلة الرئيسة في هذه المعركة الوجوديّة، فوجود اللغة في بيئة تكثر فيها الصراعات، وتَناقُضُها مع لغة أخرى، يجعلانها أكثر بكثير من أداة اتّصال يوميّ، إذ تتحوّل إلى تعبيرات مُركّبة لها مدلولات عميقة، منعكسة عن قلب الصراع الدائر بين الأطراف المعنيّة، كما يؤكّد الباحث ياسر سليمان.
تتناول هذه المداخلة جانبًا واحدًا من هذا الصراع، وهو تغيير أسماء البلدات العربيّة بعد قيام الدولة عام 1948 ، وحضور اللغة العربيّة في المشهد اللغوي. منذ نشأة الحركة الصهيونيّة وحتى اليوم، أقيمت لجان مختصّة تُعنى بمسمّيات البلدات والمواضع الجغرافيّة، وفق رؤية سياسة واضحة تسعى إلى محو الذاكرة الجماعيّة، عن طريق تهويد المكان، أي عبرنة أسماء البلدات والمواقع العربيّة.
لقد عملت الدولة على تغيير معالم المكان، وطمس المشهد الفلسطينيّ بإلغاء الاسم العربيّ، وجعله اسمًا عبريًا، بغية إضفاء الطابع اليهوديّ- التوراتيّ على المكان.
يخدم الاسم العبريّ الصالح العام الإسرائيليّ ،لأن الأجيال الشابّة العربيّة التي لم تشهد النكبة ولم تقرأ عنها، تتقبّل الاسم كأمرٍ مسلّمٍ به، على اعتبار أنّ المكان أو الحيّز مُلك لليهوديّ.
استخدمت عدّة طرق لتغيير المسميّات العربيّة، منها استعمال الاسم العربيّ وملاءمته للفظ العبريّ، أو تحريفه أو ترجمته، أو إعطاء اسم مقابل له من التوراة والمصادر اليهوديّة.
أمّا الصراع على محتويات اللافتات ،فلم تخمد أنفاسه حتى اليوم، ففي البداية كانت غالبية اللافتات في الطرقات بين المدن ثنائية اللغة بالعبريّة والإنجليزيّة، والمسمّيات العربيّة كانت قليلة ومليئة بالأخطاء، وبعد تدخّل محكمة العدل العليا، ألزمت الشركة القوميّة للطرقات في إسرائيل أن تُكتب العربيّة في اللافتات وبشكل صحيح، وفي عام 2006 تمّ تعليم مساق في موضوع الخرائط واللافتات، تحت إشراف لجنة المسمّيات الحكوميّة ومجمع اللغة العبريّة، يهدف إلى إضافة أسماء بلدان بالعربيّة على لافتات لم تتضمّن هذه الأسماء، وكذلك تصحيح أغلاط إملائيّة كانت السبب في اللفظ غير الدقيق لأسماء بلدان كثيرة.
وما حصل على أرض الواقع، كان نحو الأسوأ، وهو كتابة المسمّيات العربيّة وفق اللفظ العبريّ، مثل يافا- يافو، عكا- عكو... أمّا في البلدات المختلطة فيخوض السكّان صراعًا مريرًا مع السلطة المحليّة، في مسألة مسمّيات الشوارع التي تطلق عليها أسماء يهودية.
بهذا الصد، من الجدير ذكره أنّ المسميّات العربيّة تُساهم في تثبيت الحضور العربيّ في المدينة، لمواجهة سياسة التهويد، وتثبيت الحقّ التاريخيّ على الأرض، وترسيخه في الذاكرة الجماعيّة للأجيال القادمة، بالإضافة إلى تخليد ذكرى الشخصيّات الرائدة، التي تركت بصماتها على المجتمع، وناضلت في معارك البقاء والتراث، على اعتبار أنّها تشكّل رمزًا ومثلاً يحتذى به.
بعد الانتهاء تمّ توجيه الأسئلة للمحاضرين ومناقشة المواضيع المطروحة.

بعد استراحة قصيرة عقدت الجلسة الثانية تحت عنوان الأسماء العربية في التجربة الأدبيّة، وتولّى عرافة الجلسة د. نبيه القاسم.
ابتدأ المحاضرة الأولى د. محمود أبو فنّه - باحث وعضو مجمع اللغة العربيّة ورئيس لجنة القضايا اللغويّة اليوميّة- حيفا، وتناول موضوع دلالة المكان في أدب الأطفال المحلّي فقال:
تأخّر ظهور أدب الأطفال المحلّي مقارنة مع ظهور هذا الأدب في العالم العربيّ لأسباب سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة واقتصاديّة؛ حيث صدر الكتاب الأوّل للأطفال في البلاد عام 1954، وكان مسرحيّة "ظلام ونور" لميشيل حدّاد وجمال قعوار، ثمّ صدرت المجموعة الشعريّة "ألحان الطالب" لجورج نجيب خليل عام 1956، وفي الستينات من القرن الماضي أصدر الأديبان محمود عبّاسي وجمال قعوار 15 كتابًا أو كتيّبًا للأطفال، متأثّريْن بموقف المجتمع اليهوديّ المحتفي بالأطفال وب"نموذج" الكيلاني في الكتابة للأطفال!
بعد تجربة عبّاسي وقعوار ظهرت بوادر اهتمام - نسبيّ- بأدب الأطفال، وبدأ كُتّاب محلّيّون يكتبون للأطفال إلى جانب كتابتهم للكبار مثل: سليم خوري، مصطفى مرار ..، وتدريجيّا، ولعدّة عوامل، أخذت المؤلّفات الخاصّة بالأطفال تزداد وتتنوّع، سواء في الأدب الأصيل أو في الأدب المترجم، وقد ساهمت مراكز أدب الأطفال التي أنشئت في هذا الانتعاش.
أمّا بالنسبة للمكان والتسميات في أدب الأطفال، موضوع المحاضرة، فمن الجدير ذكره أنّ لذكر المكان أو البيئة أهميّة في العمل الأدبيّ عامّة، وفي النصوص القصصيّة خاصّة؛ حيث يشكّل المكان عنصرًا أساسيّا فيها إلى جانب الزمان والعناصر الأخرى (الحبكة والأحداث، الشخصيّات، اللغة والأسلوب، الفكرة المحوريّة...)، وقد تتعدّد أنواع المكان (المغلق، المفتوح واللا متناهي)، وتتعدّد دلالاتها ووظائفها (وظيفة معرفيّة، وظيفة اجتماعيّة، وظيفة وطنيّة...) في النصوص الأدبيّة، وخاصّة في النصوص الموجّهة للمتلقين الكبار، الذين يمتلكون تجربة وثقافة وذائقة نقديّة تفوق ما لدى المتلقين الأطفال.
اقتصرت العيّنة في هذه الدراسة على أدب الأطفال المحلّي الأصيل، الذي كتبه أدباء محلّيون واستثنيَ الأدب المترجم، كما حاولنا تمثيل" أدب الأطفال المحلّي في مراحله المختلفة، وكان التركيز على لونيْن بارزيْن هما: القصّة والشعر.
في مجال القصّة تمّ فحص حوالي ثلاثين كِتابًا، وفي مجال الشعر تمّ فحص أكثر من عشرة دواوين شعريّة. أتناول في هذه المحاضرة نتائج هذا الجرد، متعرّضًا لأنواع المكان في أدب الأطفال المحليّ، ودلالات هذه الأنواع والتسميات المختلفة.

وفي مداخلة القاصّة والروائية فاطمة ذياب جاء: للتسميات دلالات لفظيّة ومجازيّة، وبداية اسمحوا لي أن أنطلق من ذاتي كي أصل إليها، من خلال معاقرة حروف الأبجديّة في حالة مخاض وولادة، ومن ثمّ تسمية المولود، وتحضرُني الآن تلك الحالة المُغلّفة بكثير من الحيرة والتردّد، فأيّ اسم أمنحه لكلّ قادم جديد، لا بدّ وأن يترك أثره على القارئ، فإمّا أن يدعوه إليه ويُحفّزه في تناوله، وإمّا أن يتردّد في ذلك، ومهما يكن الاختيار، فإنّه لا بدّ أن يتماهى مع النصّ من حيث الدلالات اللفظيّة والمجازيّة، مع انّنا في كثير من الاحيان نجد أنّ الاسم قد شذّ عن النصّ، فجاء النصّ غيرَ مُعبّر عن خواصّه وأبعاده.
لكلّ كاتب أسلوبه وأدواته وتجلّياته، وإن اختلفت هذه الأدوات والتجلّيات، يظلّ الاسم هو المفتاح السحريّ الذي يأخذنا إلى دهاليز النصّ، سواء جاء العنوان مُشفّرًا أو غير مُشفّر، وكما ذكرت، قد يحملنا العنوان إلى عوالم من الغرابة والغموض والإبهام، ممّا يجعلنا نتردّد في السفر بين النصوص، بل ربّما يستفزّنا هذا الغموض، فنُصرّ على كشف مكنونات النصّ.
بالنسبة لي، فقد لعب الموروث القادم من جذوري الشعبيّة دوْرَه في النصوص وفي التسمية، من حيث الانتماء للمكان والزمان، وحتى الشخوص والأدوات، وعلى سبيل المثال، لم يأتِ عنوان "دقة المهباج" لقصّة من مجموعة "جليد الأيام" اعتباطًا أو مصادفة، لو لم يكن المهباج يدقّ في خلايا الروح والجسد والذاكرة، لأنّي طفلة تراقصها الأدوات والذكريات والزمان والمكان، فأدعوه عنوانًا يُراقصني على أنغام الصفحات وعند حدود النصّ، فآخذه من بيت المختار كي أبرزه بخطّ عريض عنوانًا مُلتزِمًا لزمانه ومكانه، ليس هذا فحسب، بل أتعمّد كذلك في روايتي "مدينة الريح" الصادرة عام 2012، أن أنقل من بيادر الذكريات صورة مُكثّفة وصورة متأرجحة لكلّ أدوات ذاك الزمان، فهناك اللعبة المُسلّية مع "الزهر الأصفر"، وما بين أبوك سبع ولاّ ضبع، وما بين السبع والضبع تبادل حرفان ليتغيّر المعنى والمغزى، وهنا أيضّا صورة تحمل الأبعاد الأخرى ص 164:
"أيّتها الأنثى.. آخذك وآخني إلى بيادر الذكريات، يوم غادرت أمّي إلى البيدر، تحمل تحت إبطها بعض أرغفة من خبز الطابون الساخن جدّا، وعلى رأسها يسترخي الغربال، يحمل داخله القفّة، والقفّة تحمل القُبْعة والقبعة تحمل الصاع الخشبيّ المحروق، يومها كانت خالتي وعمّاتي وجدّتي والقطروز يستعدّون ليوم طويل من الغربلة. كانت جدّتي ترفع طرَفَي الشنتيان، وخالتي تربط أطراف فستانها بالزنّار، وعمّتي تشدّ عصبتها السوداء، أمّا القطروز فكان عند كومة السنابل يُلملم بشاعوبه الطويل ما تبعثر منها، ليُعيدها إلى الكومة الكبيرة.
ولم أُسقِط من حسابي الأماكن ومدلولاتها في سياق النصّ، فللناصرة حضورها القويّ، حتى بمناسباته الرمزيّة، ففي الفصل الثامن من رواية "مدينة الريح" كتبت:
"معًا سرت وصديقي في شوارع الناصرة، المدينة التي تصفعني هي الأخرى وأُحبّها، سمعته يقول: للناصرة نكهة خاصّة تحتلّ زائريها، فمَن يَزُر الناصرة لا يملك إلاّ أن يعود إليها. قلتُ: عن أيّة ناصرة تتحدث؟ ناصرة اليوم غير ناصرة الأمس؛ ناصرة توفيق زياد والأعلام الحمراء والأوّل من أيّار. اُنظُرْ مِن حولك.. كلّ ما في الناصرة مُزيّف الآن، حتى الوجوه واللافتات والشوارع والأسماء. أشعر أنّها مُهجّنة من عدّة أماكن. قال بألم: إلى حدّ ما أنتِ مُحقّة، فالناصرة اليوم تبحث عن مَخرَج لأزمتها السياحيّة!"
رواية "مدينة الريح" تتضمّخ بالصور الشعبيّة والأسماء التي تنتقل في أروقة التراث والتاريخ والجغرافيا، من عرابة الجليليّة إلى سخنين، ومن كابول إلى طمرة وصولاً إلى عبلين وشفاعمرو، أضِف إلى ذلك أكثر من مئتَيْ مثَلٍ شعبيّ ضمن سياق النصّ ودون افتعال، فكلّنا نحاور النصّ ونُعايشه قبل أن نمنحه الاسم الذي يُجسّده ويُجسّدنا، وقد ذكرتُ القرى المهجرة الدامون الرويس ميعار وغيرها في كتابي "الخيط والطزيز"، هذا العنوان الأكثر إثارة واستفزازًا وغرابة، من حيث الأبعاد الحسّيّة وغير الحسّيّة، فغرابة العنوان قد تجعلنا نتردّد في تناول النصّ وربّما يستفزّنا بغرابته، فنُقبِل عليه لكشف المطمون ومعرفة ما وراءه، كما حدث معي حين استفزني عنوان ديوان "رحلة إلى عنوان مفقود" للشاعرة آمال عوّاد رضوان، فالكثير من الأعمال الأدبيّة هي بمثابة بطاقة هُويّة، تحمل جذور الولادة والأزمنة التي عايشها الكاتب بأماكنها الجغرافية والتاريخيّة، من باب الصدق مع الذات والجذور، ومن باب ترسيخها في أذهان الأجيال القادمة، وكثيرًا أيضًا ما يحمل النصّ ملامحَ الكاتب بارتباطه زمانًا ومكانًا، وكلّما توغّلنا بالمَحلّيّة انطلقنا إلى العالميّة.
وفي المداخلة الأخيرة للقاصّ محمّد علي طه بعنوان "رائحة المكان وأنامل الزمان" قال:
  ربط والدي، رحمه الله، منذ طفولتي، علاقتي بالمكان وأسمائه بوثاق حريريّ منسوج بحروف حُبّ المكان وحُبّ الحياة. كان بيتنا القرويّ الصغير الدافئ الجميل يقع في أقصى الحارة الجنوبيّة لقريتنا ميعار، ولا بيت بعده من تلك الناحية. وكان يُطلّ على قمم جبال الجليل الأسفل والجليل الغربيّ الخضراء، وعلى السفوح المكسُوّة بأشجار السنديان والعبهر والسرّيس والخرّوب، كما يُطلّ على واد سحيق يمنحه النهار جمالاً خلاّبًا ويهبه المساء رهبة.
  عندما كان والدي يمسك راحتيّ ويوجّهني إلى الغرب كنت أرى الكرمل، أنف الغزال الجميل ومدينة حيفا التي زرتها لأوّل مرّة وأنا شاب في الثامنة عشرة من عمري وتعلّق قلبي بها. وكنت أشاهد رأس الناقورة والبحر الأزرق والسهل الساحليّ الأخضر، وكنت أحيانًا أقف مع والدي ومع الجيران في ساعات الأصيل في أيّام فصل الشتاء، ونُصغي لتلاطم الأمواج في كهوف رأس الناقورة، نسمعها من مسافة بعيدة، وعندئذ يُحدّد الراصد الجوّيّ لبلدتنا أنّ الليلة عاصفة بإذن الله تعالى.
  كان والدي يصحبني في أيّام فصل الربيع المشمسة الدافئة إلى أرضنا الواسعة المسمّاة "وادي الشيخ علي"، على اسم جدّ أبي الشيخ الضرير حافظ القرآن، ومرجع القرية في الفتاوى والأمور الدينيّة. يردفني على الحمار أحيانًا وعلى الفرس أحيانًا أخرى، أو نسير راجليْن في طريق تُرابيّ بين الأعشاب الخضراء والأزهار الجميلة التي لثمها الندى. نمشي ويُعلّمني أبي الأسماء مثلما علّمها الله تعالى آدم. يُعلّمني اسم كلّ نبتة واسم كلّ شجرة واسم كلّ زهرة. هذا البلاّن وهذا القندول وهذا السرّيس وهذا الشومر، وهذا العلت وهذه الخبّيزة وهذا اللوف وهذا المُرّار، وهذه القُرْصعنّة وهذا الخُرفيش وهذه لفّة سيدي وهذا النرجس وذلك الأقحوان.
  نشاهد حقل القمح الأخضر ونقطف أغصان الميرميّة والزوفا، ولا ينسى في مشوار العودة أن يُعرّج على نبعة الزرزروق لنغسل أيدينا ونرطّب وجهيْنا ورأسيْنا بمائها البارد، ونشرب منه حتى الارتواء.
   كان يأخذني في فصل الصيف إلى السهل الساحليّ، حيث مقاثي البطيخ والشمّام وحقول السمسم والذرة البيضاء، وفي ذهابنا وإيابنا كان يُعرّج على بير الصفا لنشرب ونبترد ونسقي الدابّة. كنت مُعجبًا بهذه البئر. تجتمع حولها الرعاة وقطعان الماعز والغنم والبقر والإبل، ويَرِدُها الفلاّحون الذاهبون إلى الساحل أو العائدون منه. كنت مُعجبًا بالاسم. بير الصفا. نبع الصفا. وكنت أصعد عدّة درجات حتى أصل إلى خرزة البئر وأجلس بجانب السقّاء عوض، على مقعدٍ حجريّ أملس، وأُحدّق في ظلام البئر العميقة وفي الدلاء التي تصعد ملأى بالماء الزلال وتعود إليها فارغة، كما كنت أُحدّق بقدمَيْ عوض الطويلتيْن الحافيتيْن السمراويْن اللتيْن تُحرّكان بَكَرَة الدلاء.
  سرقت النكبة طفولتي وألعابي وبيتي وأترابي وأصحابي وحوّلتنا إلى عائلة فقيرة.
 بقي حُبّي للطبيعة صامدًا أمام النكبة. كنت في يومَي الجمعة والسبت من كلّ أسبوع، أرافق أترابي في رحلة صيد العصافير، فنجوب الوديان والسفوح والحقول، نركض وراء عصفور صغير لنصيده. عرفنا مواقع الأرض وأسماءَها ونباتاتها وأشجارها وصخورها وعيونها. عرفت أزهار ونباتات كلّ موسم وطيور كلّ فصل من فصول السنة.
  كانت القرية: فلاّحوها ورجالها ونساؤُها وأطفالها ومواشيها وحقولها وزرعها وأزقّتها ودواوينها وهواؤُها وخُبزها وقهوتها ولغتها وأمثالها، وصمود الناس في معركة بقائِهم في الوطن والأرض مُتَحَدّين السلطات من الحاكم العسكريّ إلى المختار، ممثّل السلطة، هي عالم قصصي في مجموعاتي الأوائل، وبخاصّة في قصص "اللجنة"، و"المعركة"، و"المنغرسون في الأرض"، و"عناقيد العنب"، و"الاستثناء والقاعدة"، و"وردة لعيني حفيظة" وغيرهنّ.
  تعمّدت أن أذكر في قصصي أسماء النباتات والأشجار في حقولنا وأراضينا وهضابنا وأوديتنا وجبالنا، كما تعمّدت تدوين أسماء الأماكن العربيّة الفلسطينيّة. كنت أرى يوميًّا عبرنة وصهينة وأسرلة المكان. كان عليّ أن أحمي عروبة المكان وفلسطينيّته. هذا الجدول اسمه نهر المُقَطّع وليس الكيشون، وهذا اسمه نهر العوجة وليس اليركون، وهذه جبال الروحة وليس رمات مِنَشّه، وهذا الجرمق وليس ميرون، وهذه الجاعونة وليست روش بينة، وهذه الخالصة وليست كريات شمونة، وهذه البروة وليست أحيهود، وهذه ميعار وليست ياعَد. هذه الأرض اسمُها البصّ ومراح الغزلان وأمّ السحالي وبرّاد وراس البير، والهروبّة وراس الزيتون وبير الصفا والقسطل، والملّ ومرج ابن عامر ووادي الحوارث والبطوف.
  لأنّني ابن قرية مُهجّرة لم يبقَ منها سوى أطلالها ومقبرتها وشجيْرات صبّار وزيتونات تعلّق قلبي بالقرى المُهجّرة. وجدت قريتي ميعار في أطلال الطنطورة وفي أطلال الزيب، حيث أُحبّ أن أسبح. كلّما زرت الزيب مستجمًّا وجدت ميعار هناك وتذكرت طفولتي وأترابي. كتبت قصّتيْن عن قرية الزيب: القصّة الأولى اسمُها "العاديات"، حيث روَتْ لي العاديات الباقية في الزيب في المتحف الذي أقامه إيلي أفيفي قصصها وقصص أصحابها، وأمّا القصّة الثانية فاسمُها "رسالة الزيب في الأمر الغريب".
  في إحدى زياراتي للزيب رافقتني باحثة جامعيّة فلسطينيّة تُقيم في لندن. تجوّلنا في المكان ووصلنا إلى مدخل بيت عطايا مختار القرية، البيت الوحيد الباقي هناك، فوجدنا السيّد ايلي أفيفي يقف عند المدخل. عرض عليّ باللغة العبريّة أن يؤجّرني غرفة نوم عطايا وسريره مقابل مبلغ مالي زهيد. سألتني ضيفتي عمّا يقوله الرجل عن عطايا، فأجبتها بأنّه يشرح عن بيته ولم أقل لها الحقيقة. لقد حوّلوا بيت عطايا وديوانه وغرفة نومه إلى مبغى.
  كم تتحمل من إساءات أيّها الوطن!!
  مدينة عكا هي المدينة الأولى التي زرتها في العام 1947، وشربت من سبيل الطاسات واشتريت كعكبانًا بقرش كما اشتريت قلمًا ملوّنًا وطابة. ما زلت أذكر تلك الزيارة وسفري لأوّل مرّة في الباص من ميعار إلى عكّا ذهابًا وإيابًا. استوحيت من عكّا عدّة قصص مثل قصّة "ليرة ولوحتان"، ومسرحيّتي "فساتين" التي تحدّثت فيها عن فتاة عكّاويّة انضمت إلى المقاومة، ثم عادت إلى عكّا بعد صفقة تبادل أسرى تبحث عن فستان طرّزته لها أمّها ليوم عرسها، فتلتقي برجل تعرفه يمشي في السوق وينادي "عَ النظيف، يا عيني ع النظيف، أنا بيّاع النظيف" فتبحث معه عن الفستان.
  عملت في حيفا مُدرّسًا في الكليّة الأرثوذكسيّة العربيّة خمسة وعشرين عامًا، وعرفتها جيّدًا وأحببتها كثيرًا. عرفت وادي النسناس ووادي الصليب والحلّيصة ووادي الجِمال وشارع أللنبي، وشارع الخوري وشارع قيسارية وشارع الحريري، وشارع الجبل وشارع يافا وشارع الملوك، وشارع الكرمة وشارع عبّاس وشارع المتنبّي والألمانيّة والمحطّة وأدراج المدينة وأزقّتها.
  تجري أحداث قصّتي "حكاية إبريق الزيت" في حيفا، ويُصرّ البطل أنّ ساحة باريس اسمُها ساحة الحناطير مع أنّه، والله العظيم، لم يَرّ في حياته حنطورًا فيها، كما يُصِرُّ على أنّ مفرق تشيكبوست هو مفرق السعادة.
  في قصّة "خارطة جديدة لوادي النسناس"، التي كتبتها بعد لقائي في هافانا في صيف العام 1977 مع الشاعر أحمد دحبور ابن وادي النسناس، الذي غادره مع أهله طفلاً صغيرًا ويعيش في سوريا. كان أحمد دحبور يسألني يوميًّا عن وادي النسناس، أنا الذي أزور الوادي في معظم أيّام الأسبوع، حيث تقع مكاتب جريدة "الاتحاد". قمت بدراسة ميدانيّة عن الوادي قبل النكبة، عن أهل الوادي وعن البيوت والمتاجر والأفران، وعن حيفا وشواطئها وسهلها، عن شاطئ أبو نصور الذي صار اسمه هحوف هشاكيط، وعن مستشفى حمزة الذي صار اسمه مستشفى رامبام، وعن منطقة الموارس التي صار اسمها كريات أليعيزير، وعن وعنو...، وهذا ما برز في قصّتي التي أشار النقاد إليها معجبين بأسلوبها وبالرؤيا التي تحملها.
  في قصّتي "مشوار الأصيل" التي مثلتني في أنتلوجيا القصّة العربيّة، التي صدرت باللغة الإنجليزيّة في أمريكا يسير الرجل المتقاعد يوميًّا، من شارع عبّاس إلى شارع الجبل الذي صار اسمه شارع الأمم المتحدة، فلمّا زعلت إسرائيل من الأمم المتحدة أسمته شارع هتسيونوت أي الصهيونية، ثمّ يسير إلى الهدار ويصل إلى شارع الأنبياء.
هناك قصص عديدة لي تدور أحداثها في حيفا. عندما خرجت من القرية، من كاتب القرية، كانت حيفا هي المدينة التي احتضنتني. قصصي الحيفاوية وهي كثيرة تدور أحداثها في شارع عبّاس وشارع المتنبي وشارع المطران حجّار ووادي الجمال ووادي النسناس، وشارع الحريري والحليصة وفي البلدة القديمة. وجدت نفسي في هذه الأماكن التي حافظت على عروبتها وعلى فلسطينيّتها. رائحة المكان في هذه الأماكن تختلف عن رائحة المكان في أحياء الكرمل، في دينْيا وأحُوزا وجِبعات الموجي وجبعات جولدا. الهواء يختلف. النبات يختلف. هنا الياسمين البلديّ والنعنع والميرميّة والزعتر. اللغة تختلف. راديو المقهى يختلف. هنا رائحة الخبز في الأفران ورائحة الفلافل والحمّص والفول وليس رائحة الجبنة البلغاريّة المعفّنة ورائحة سمك الفسيخ المسمى داغ ملووّح. هنا رائحة القهوة البلديّة وليس رائحة الإسبريسو.
  وأمّا المدينة الثالثة التي كتبت عنها فهي القدس. كتبت قصّة "الخط الوهميّ" قبل العام 1967، وكانت أوّل قصّة تنشر لي في مجلة "الآداب" البيروتيّة، وأمّا بعد احتلال القدس في حزيران فكتبت قصّة "وصادروا الفرح في مدينتي"، التي بطلها الشيخ نصر الدين المعروف بجحا، الذي يزور المدينة المحتلة، ويسير على قدميْه من شارع صلاح الدين إلى باب العمود، ثم يمشي في السوق العتيقة، ثمّ كتبت قصة "سورة زهرة المدائن" التي تغنّيت بها بالقدس عروس الوطن وأمّ القضية.
  كتبت عدّة قصص تدور أحداثها في الناصرة وشفاعمرو وطبريّا، وقد دهشت حينما اكتشفت أنّ معظم قصصي النصراويّة يعيش أبطالها في حيّ الصفافرة، ما عدا قصّة واحدة تدور أحداثها في منطقة العين. هناك أكثر من قصّة تدور أحداثها في المدن المحتلة مثل نابلس "قصة الساعة"، ورام الله قصة "ندى"، وقصّة "ديمة والحسون" وبيت لحم والخليل وجنين وغزة.
  المخيم الفلسطيني مكان هامّ في قصصي، فالمخيم هو عنوان ملايين الفلسطينيّين في لبنان وسوريا والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة. سكّان المخيّمات هم وقود الانتفاضات والمظاهرات. هم أساس مقاومة الاحتلال ومقاومة الظلم والجوع والمرض. زرت مخيمات عديدة. زرت مخيّم بلاطه ومخيّم عسكر ومخيّم عين بيت الما في نابلس، وزرت مخيّم الأمعري ومخيّم قلنديا ومخيّم الجلزون في رام الله، وزرت مخيم الدهيشة في بيت لحم، وزرت مخيّم جنين ومخيم جباليا في قطاع غزة، وزرت مخيّم الوحدات في عمان ومخيم اليرموك في دمشق. عندما تضع قدميْك في الخطوة الأولى من الزقاق الأوّل للمخيّم تكتشف عالمًا آخر. تنتقل من عالم إلى عالم. تلتقي مع الفقر ومع البؤس ومع الغضب. تلتقي مع الصمود. صمود الناس في وجه قسوة الحياة. صمود الناس في وجه سفالة العالم ولا أخلاقه.
   هزّتني حرب تل الزعتر في صيف 1976، حينما حاصرت هذا المخيّم ميليشيات الكتائب اللبنانيّة، وداهمته الدبّابات السوريّة البعثيّة وجنود الرئيس حافظ الأسد، الرئيس الذي كان شعاره: أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة. وحدة حرّيّة اشتراكيّة. كتبت يومئذ قصّتي "عائد الميعاري يبيع المناقيش في تلّ الزعتر". اخترت الاسم عائد لبطل القصّة، لِما فيه من إيحاء وموقف فكريّ وسياسيّ، واخترت البطل صبيًّا لإيماني بالمستقبل، وكَنّيْتُهُ ميعاريًّا.
  قريتي ميعار مشهورة بزعترها وهذه النبتة منتشرة بكثرة في السفوح والهضاب والأودية، والفولكلور الفلسطينيّ يحفظ أكثر من طرفة عن ذلك. الفلاح الميعاري الذي وصل إلى مدينة عكا وسمع بائعًا ينادي "فطور العافية صحّة للنظر"، فتذكّر جوعه ومعدته الخالية، فتقدّم من البائع وطلب وجبة فطور، فناوله رغيفًا مع الزعتر فقال الفلاح مستغربًا: إذا كان هذا فطور العافية صحّة للنظر، فمعناه أنّ حمير بلدتنا ترى كنوز الأرض.
  ولا أنسى عندما كنّا في السنة الأولى التي أعقبت النكبة نسكن في بلدة سخنين في غرفة استأجرها والدي، وكان فطورنا الخبز وزيت الزيتون والزعتر والشاي. وحدث أن كان جارنا السخنينيّ موجودًا عندنا وقت الفطور، فألحّ عليه والدي أن يُمالحنا، وما أن أكل اللقمة الأولى حتى أبدى إعجابه بزعترنا، وسأل من أين لكم هذا الزعتر؟ فأجابه أبي: قطفناه من أرض ميعار وجففناه ثمّ أعدته أمّ العيال. فقال: وزعترنا قطفناه من ميعار، ولكن هذا الزعتر فيه حموضة زاكية وشهيّة ولا توجد في زعترنا. ومن المعروف أنّ هذه الحموضة هي ثمرة السمّاق الذي أضافته أمّي إلى الزعتر. قال أبي: هناك مواقع مختلفة. مواقع زعترها حامض ومواقع زعترها لفّاني ومواقع زعترها حلو. فقال جارنا: حينما تقطفون الزعتر في الربيع القادم، أرجو أن تدلّوا زوجتي على الموقع الملائم.
  لا توجد عائلات في المخيّم، ولا تستطيع أن تشير وتقول هذه حارة المحاميد أو حارة زبيدات، أو حارة دار طه أو حارة دار غنايم أو حارة دار ذياب. تحمل الحارات في المخيّم أسماء بلدات فلسطينيّة، هذه حارة المياعرة وهذه حارة الصفافرة والبراونة والدوامنة.
  كان عائد الميعاري في أثناء بيعه المناقيش يرسم خارطة فلسطين. يمرّ قرب الرجل اليافاويّ فالكناويّ فالصفوريّ فالنصراويّ، ويُنادي على بضاعته مُذكّرًا بشُهرة كلّ مدينة وبلدة. برتقال يافا. ملوخيّة صفورية. رمّان كفر كنا وهكذا، وكان يفهم السياسة بالفطرة، فالولد خرّيج مدرسة النكبة وكليّة المخيّم، وكان مُعجبًا بثوّار فيتنام ويكره أمريكيا وكان عائد يقود أترابه، مجموعة الأولاد وهو يُغنّي: " فيتنامي يا فيتنامي، يا ابن العزّ والكرامة، انت وراك هانوي وأنا وراي...." فيصرخ الأولاد: دمشق، فيصرخ عائد: طزّ. وهكذا يطزطز لجميع العواصم العربيّة: بغداد وعمّان والقاهرة وصنعاء وبيروت والرياض وطرابلس وتونس وغيرها، وفي النهاية يقول:" فيتنامي يا فيتنامي، يا ابن العزّ والكرامة، انت وراك هانوي، وأنا وراي حرامي".
  دخل عائد البيوت الفلسطينيّة وأحبّوه وسألوني عنه كثيرًا. رجال وسيّدات وآنسات سألوني عنه وما زالوا يسألونني عنه حتى اليوم. لا أعرف ماذا جرى له. هل خرج مع رجال المقاومة من بيروت إلى تونس أو الجزائر أو اليمن؟ هل عاد بعد اتّفاق أو

169
مرِّغوا نهدَيَّ  بعِطرِهِ الأزرقِ

آمال عوّاد رضوان

على عَنانِ بُشرى جائعةٍ
تماوَجْتَ..
بليلٍ لائلٍ اقتفيْتَ فيْضَ ظِلِّي المُبلَّلِ
بضوضاءِ أَصفادي
أَرخيْتَ مناديلَ عتبٍ مُطرَّزٍ بتعبٍ
تستدرجُ بِشريَ المُستحيل
وفي تمامِ امْتثالي المُتمرِّدِ تورَّدْتَ!

بومضِ عِطرِكَ العابثِ مَضـيْـتَ تـتـخـفّـى
تـقـتـرِفُ تقوَى إشاعةٍ بشوشةٍ
وأنا في سكرةِ أعماقي
أثملُ بموْجِ مُستحيلٍ
لا يُذبِلُ نُواحَهُ جنونُكَ!

أنامِلُكَ.. ما فتئتْ تتندَّى اشتعالاً دامِسًا
تُقشِّرُ سحابَ وقتِي الموْشومِ بالنّعاسِ!
ولمّا تزلْ تخلعُ أسمالَ تثاؤُبٍ
كم تيمّنَ بالأزلْ!
ولمّا تزلْ.. في سديمِ الصّمتِ المثقوبِ
تمتطي تراتيلَ كَوْني الغافي!
أسرابُ وهنِكَ المغناجِ
انسَلَّتْ
تُراقصُ نيرانَ أحلامٍ
ما غابَ طعمُها عن لساني!

طُيوفُ جراحي طاعنةٌ في سَرمديّتها
أسهْوًا..
تَشدّقها سُهْدٌ أُسطوريُّ الملامِحِ؟
أَشابها خَدرُ نَقْشِكَ الخشْخاش؟
أَعلَّقْتَ حَدْسِيَ الكفيفَ
على مِقبضِ موجِكَ الفردوسيِّ؟

زفراتُ نجومي جرَفَتْها سيولُ تمرُّغِكَ
حينما غرَّها بَسْطُكَ المُهترِئُ
وَ.. على مَقامِكَ المرْكونِ
مُــنْــصَــاعَــةً
تَــكَــسَّــرَتْ
وَ.. رصَّعتني بانكساري!

بجناحَيْ جنونِكَ انبثقْتَ عائِمًا تُرفرِفُ
اضطرَبْتَ هائِجًا تُهفهِفُ
تَستبيحُ رُفُوفَ انشِطارٍ
لَكَمْ صَفّدْتَهُ بضياعي المُنمْنَمِ
كي تمتشِقَ إِغواءاتِ احتضاري!
فتائِلُ دهشةٍ
خطفَتْ قُصاصاتِ تَوْقي مسحورةَ الطّوقِ
سمّرْتني
بينَ وعودٍ مُؤجّلةٍ وجدرانَ تتهاوى!
خُطى ريحِكَ الضّريرَةُ وَشَتْ أجنحتكَ
شبَّ لهيبُها في اقتفاءِ أثري
تنيْرَنْتَ!
تبغْدَدْتَ!
وفي مَحافِلِ التّرقُّبِ
احترفتَ تضميدَ حروقِ حروفي!

ألْسِنةُ بوْحي النّاريِّ
طليتَها بوَشوشةٍ انبجَسَتْ تستجيرُ:
سرابُ حوريّةٍ أنا؛
إِلى مسارِبِ الوَهْمِ أَغواني
بثوْبِ السّباني.. سَباني
بَعثرَ وجهيَ في ذاكرةِ الحُجُبِ
وَابتلعَ ذيليَ الذّهبيّ!

يا رُفقاءَ الأسمى
بوّابةُ سمائي مَحفوفةٌ بهياكِلَ مَجْدٍ
ساحَ ضوؤُها زركشةً تتجَنّحُ
وما انفَكّتْ بأهدابِ الذّهولِ تتموّجُ
اِستنيروا بي!
لَدُنِي المُقدّسُ كَمِ ازدانَ بأرياشِ الشّمسِ
وَمُنتشيًا
تَعَنّقَ نحوَ عُشِّ النّارِ!

بسليمانَ أغيثوني
بأسرابِ جِنِّهِ؛ تَحفُرُ قاعَ بَحري أَفلاجًا
تُهْدينيها في ليلةِ عيدي
مرِّغوا نهْدَيَّ بعِطرِهِ الأزرقِ
لتهُزَّ قلائدُ سمائي غيثًا.. يتضوّعُ حُبّا.

يا رُفقاءَ الأسْمى
مرِّغوا نهْدَيَّ بعِطرِهِ الأَزرقِ
وزُفُّوا إليَّ.. ذيْلِيَ الوضّاء!
____________________________
*تنيرتَ/ تشبّهتَ بنيرون *تبغددت/ تشبّهتَ بأهل بغداد
*السّباني نسبة إلى سبن قرية عراقية في نواحي بغداد
والسّبنيّة هو أزر أسود للنساء
*سَباني الثانية تعود إلى السّبي والأسْر


170
جوقة الكروان تضيء عتمة نيسان في حيفا

آمال عواد رضوان

أشعّ الكرمل وسواحل حيفا بجوقة الكروان العبلينيّة الجليليّة في عملها الأخير الباهر "عتمة نيسان"، وبعرضها المسرحيّ الغنائيّ المتألق، وسط المئات من الحضور الذوّاق للموسيقا والفنّ الراقي، وذلك بتاريخ 17-7-2012 وعلى مسرح كريجر الياهو حكيم 6. الكرمل الفرنسي حيفا.
"عتمة نيسان" عمل غنائيّ مسرحيّ راقص؛ بقيادة المايسترو الأستاذ نبيه عوّاد قائد جوقة الكروان ومدير المعهد الموسيقي في عبلين، ومن تأليف وإخراج إلياس مطر المتفجّر طاقة إبداعيّة وفنا وحيويّة، وبمرافقة أوركسترا جوقة الكروان، وغناء وتمثيل أعضاء جوقة الكروان، وحوريّة الكروان الجميلة مريم طوقان!
"عتمة نيسان" عمل فنيّ جديد، وعهدٌ قطعته على نفسها جوقة الكروان بتاريخ 6-6-2012 في عملها الغنائيّ المسرحيّ السابق "اِحكيلي". إنه سكتش إبداعيّ أتى يهفهف ويرفرف ويترغل ويروي قصّة بلدة منسيّة غافية بين تلال الزمان، بلدة غبّرها اليأس، وسكّانها نسَوْا طعم الأحلام، ويمكن ذابت طموحاتهم بين أمطار الشتاء المكويّة وندى السماء الملحيّة، وفجأة ومتل الطلّ المستحي الحالم، طلّت علينا بأصواتها المميّزة وألحانها الحنونة الشجيّة، وسرقتنا لأبعد حدود المكان، لنقطة خفيّة، وأخذتنا لمفرق سهران على حفاف الزمان!
"عتمة نيسان"؛ سكتش يمزج بين حياتنا اليوميّة المُبكية، وبين مشاهد مسرحيّة مضحكة، ولا يهدأ لها بال إلاّ حين تُرقّصنا على عتبات الواقع الموجع، وتُؤرجحنا على حبال الخيال في رقصة فنيّة ولا أحلى.
"عتمة نيسان" أشعّت بإبداع جديد، وأضاءت النفوس بصرخة حلم، يُعزّز إيماننا بمواهبنا الكامنة في قلوبنا، وصحّت آمالنا الساهية في أرواحنا، ولسان حالها وحالنا يقول: معقول؟ كلّ إنسان منّا قادر على تحقيق أحلامه وطموحاته إذا شاء ونوى؟ لكن كيف؟
"نيسان" الحلوة بيّاعة متجوّلة تبيع سحر الأحلام في سلالها، ومثل الغزالة تتهادى وتتنقّل وتتقمّز بين الجبال والوديان، ولمّا وصلت بلدنا ضوّت العتم بوهجها، وغمرت أرواحنا بالعزيمة والمثابرة والإيمان.
وهكذا وكما عوّدتنا جوقة الكروان الأنيقة الحالمة، جعلت تمضي بإيمانها العميق بفنّها وبمثابرتها الدؤوبة، في دروب وعرة تزيّنها بفنّها الأخضر، وجعلت تناضل وتعمل بجدّيّة ومثابرة لرفعة الموسيقا والغناء، لأنه لا يسعها إلاّ أن تعانق الفنّ الراقي، ولايمكنها إلاّ أن تحتضن تحت أجنحتها الدافئة، وفي عشها الحميم العصافير الكروانية المخلصة، لتتألّق بأدائها المعهود، وهكذا جعلت تتدرّج على سلّم الفنّ، وتحلّق عاليًا في سماء أعمالها الفنيّة المتجدّدة الرائعة، فلجوقة الكروان كلّ التوفيق والنجاحات السامقة المتتالية، والمتدّرجة إلى أسمى لغات الموسيقا والعزف والغناء والفن الراقي.



171
جوقة الكروان في مهرجان الزبابدة الرابع!
فاطمة ذياب
تحت رعاية وزارة السياحة والآثار الفلسطينيّة اختتمت فعاليات مهرجان الزبابدة الرابع للسياحة والثقافة والفنون بعرضين فنيين لجوقة الكروان من عبلين الجليلية داخل الخط الأخضر، وفرقة الفينيق من رام الله، وسط حضور كبير من أبناء الزبابدة والبلدات المجاورة.

وفي سفر يختلف فيه الزمان والمكان وفي عرض خاص لجوقة الكروان العبلينية الجليليّة ضمن أيّام خاصّة لمهرجان الزبابدة الرابع للسياحة والثقافة والفنون (محافظة جنين)، تأتي مرافقتي التي أُصِرّ عليها لهذه الجوقة المتألقة، والتي تفخر بكلّ ما أنتجت من عازفين ومطربين ومطربات على امتداد مساحتها الزمنيّة، والتي تعود بجذورها إلى عام 1994، ففي الساعة الثانية ظهرًا يوم الجمعة الموافق 13-7-2012 غادرت الحافلة التي تقلّ أعضاء جوقة الكروان بقيادة المايسترو نبيه عوّاد، لأغادر معهم الجليل الأشمّ، وتنبّهني صديقتي الشاعرة آمال عوّاد رضوان إلى أهمّية حيازتي لبطاقة هويّتي من أجل عبور الحواجز، وتقفز حينها أمامي ساعات الانتظار عند الحواجز الفاصلة ما بين القلب والجسد، والتي يفرضها الاحتلال. وفي طريقنا للضفة الغربيّة، شرع كلّ مَن في الحافلة يستعيد ذكريات أليمة تعرّض لها عند عبور هذه الحواجز، وما لقيه من معاناة قاهرة إلى أبعد حدود القهر، وبدا لي أنّ حرارة الطقس أشدّ سخونة، فلي أيضًا انتظاري وقصص وحكايا لا تقلّ سخونة واشتعالا، وحاول بعضهم أن يطفئ الحرارة بدندنة متعمّدة، وحاول البعض قتل الوقت في مراجعة بعض الألحان التي ستقدّم ضمن العرض، إذ نحن مضطرّون إلى التوجّه إلى حاجز جبارة طول كرم البعيد عنا، لأنّ حاجز جنين القريب مغلق منذ الظهر يوم الجمعة، ولا زال أمامنا سفر طويل كما أشار المايسترو نبيه عوّاد، وهكذا في سفرٍ التفافيّ تُفرّخه الأوضاع القهريّة، ظلّت الحافلة تعبُر بنا ونعبُر معها من الجليل إلى المثلث، ومن ثمّ إلى أراضي الضفة الغربيّة التي ترزح تحت نير الاحتلال، وبدا البوْن الشاسع ما بين الجليل والمثلث، وهذه البقعة الجغرافيّة التي بُترت من أصولها وجذورها، كي تظلّ هكذا تستصرخ بصمت مُتفجّر ضميرَ الإنسانيّة، علّه يُعاود ترتيب الأوراق ويُعيد للأجزاء المشتتة لملمتها وروحها، وكذلك الشوارع الضيّقة الترابيّة والبيوت المنتشرة بعشوائيّة وجدران الفصل العنصريّ، كلّها تُذكّرنا أنّ على الأرض لم تزل مجموعة من البشر، تحلم وتطمح أن تعيش مثل خلق الله. باختصار، كان السفر جدّا متعبًا وقلِقًا ومُتوتّرًا، خاصّة عندما ضلّ سائق الحافلة طريقه، ومضينا في طريق وعر وهر، وكأننا في قارّة أخرى.
ونتجاوز كلّ شيء ونصل أخيرًا وجهتنا "المتنزة البلديّ لمدينة الزبابدة في محافظة جنين"، حيث بدأت أستردّ أنفاسي أمام مسحةٍ جماليّة وشوارع مُعبّدة وبيوت مختلفة، وأمام رجال شرطة تشارك في حفل مهرجان الزبابدة الرابع في جنين، وكلها دلالات تؤكّد اهتمام القيّمين على هذه البقعة من الضفة المحتلة، في الجانب الثقافي للمجتمع وتفعيله من خلال الندوات والمهرجانات والمؤتمرات التي تلعب دورا رئيسيا لزيادة الوعي الثقافي للمجتمع والمواطن في تنمية السياحة وتفعيل دورها وافتتاح لمعرض للتراث الفلسطيني وللمنتجات والصناعات الفلسطينية التي شاركت فيه مجموعة من الشركات الفلسطينية رافد اقتصادي قوي لدعم اقتصادنا القومي ولما لها من أبعاد تاريخية وحضارية وتراثية تحكي تجذر أجدادنا في هذه البلاد وضرورة المحافظة على هذا الموروث الأثري وعلى النسيج الاجتماعي الذي يمثل العمق والركيزة لأصالة الشعب الفلسطيني وحقه الأصيل في ثقافته وفنونه الممتدة عبر الأجيال المتلاحقة، وذلك من خلال مهرجان الزبابدة الذي استمر من الحادي عشر وحتى الثالث عشر من شهر تموز 2012، وتقديم عروض ثقافية متنوعة من فلكلور وزجل ودبكة وفنون شعبية على مدى انعقاد المهرجان بعدما افتتحته وزيرة الثقافة سهام البرغوثي ومحافظ جنين اللواء طلال دويكات ومحافظ طوباس مروان الطوباس ومحافظ طولكرم جمال سعيد والمقدم عصام نبهان نائب قائد المنطقة ووكيل وزارة الحكم المحلي مازن غنيم واحمد نعيرات ممثل عن وزارة السياحة والآثار والرائد مجاهد ربايعة مدير فرع العلاقات العامة والإعلام وممثلا للمقدم محمد تيم مدير شرطة المحافظة ورئيس الغرفة التجارية هشام مساد وممثلين عن الطوائف المسيحية في بلدة الزبابدة جنين وممثلين عن الأجهزة الأمنية في محافظة جنين ومحافظة طوباس وراعي الحفل المحسن نزيه خليل أبو سليم ومدراء المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ورؤساء مجالس وبلديات من محافظة جنين وعدد من محافظات الوطن ورئيس بلدية الزبابدة السيد فتكور خضر وممثلين عن الفعاليات الوطنية والشعبية في المحافظة.
واذا بالمتنزه يعج بالشباب والصبايا وكل الاجيال، وأن الوقت القليل المتبقي لبداية الحفل كان يطاردنا، فلم يضيع المايسترو نبيه عواد لحظة واحدة، وكخلية نحل توجه مع أعضاء جوقة الكروان إلى المنصّة مباشرة للإعداد والترتيب والتوزيع لفرقة العزف وللغناء، ولوضع اللمسات الأخيرة قبل العرض، وفي زاوية جانبيّة جلست أحتسي قهوتي، وبدأت أستعيد أنفاسي وهدأتي، وبدأت الألحان الكروانيّة تصدح، لتملا الفضاء والآفاق بعزف وغناء شجيّ تعود بنا إلى ألف ليلة وليلة، فهل ترجع تلك الليالي يا ترى؟
دقائق وامتلأت المقاعد المُعدّة تحت فضاء الزبابدة محافظة جنين، رجالاً ونساء، شيبًا وشبّانا، صبايا وأطفالا عطاشى لليالي ألف ليلة وليلة، وبدأ عرض المهرجان بمعزوفة موسيقيّة، ثمّ بكلمة المنظّم المسؤول رامي دعيبس عريف الاحتفال، وبتعريف مختصر لجوقة الكروان المستضافة، والتي رأت النور عام 1994 وتضمّ أكثر من أربعين عضو ما بين عزف وغناء، ينشدون الأندلسيات والموشحات، ويغنون الكلثوميات والوهابيات والكلاسيكيات والفيروزيات والرحبانيات، والاغاني التراثية والوطنية، كي تظلّ هذه الألحان تحكي لنا قصص حكايا صراع الأجيال، ويرحّب بالجوقة ويعلن البدء، والبدء عود أحمد إلى يافا، حين نادانا البحر وهيّأنا له المجداف، وحين عدنا بالشوق إلى يافا، فهل كان الصيد وفيرًا حين كنّا نلهو بغيوم الماء، والريح تهبّ وتصيح من حولنا عاصفة هوجاء، كانت عاصفة البحر الليلية داكنة قاتمة مظلمة، ويومها قالوا إنّنا ضائعون وإننا هاربون، لكنّنا عدنا مع الصدى وجئنا مع الريح ودخلناها مدينة يافا، ولم تزل الأنغام تتوعّد والريح تهب تزمجر وتصيح سنرجع يا يافا.
أين ترانا سنرجع يا جوقة الكروان والطرب، يا لحظة خاطفة من عمر الزمن تُغيّبنا عن كلّ ما حولنا من هموم آتية، لتأخذنا معها إلى الهمّ الأكبر والأشمل، إلى الوطن الذي يُشابه الغيم الأزرق والندى والزنبق، هذا الوطن حيث يتسع فيه المدى ويصبح كاتساع الدني يا وطني، وكي نظلّ هكذا على أبوابه قصيدة يستذكرها جيران القنطرة، الذين عاشوا ولما تزل جذورهم فيه من مية سنة ومن ألف سنة ومن أول الدني، وتظلّ تصدح جوقة الكروان لهذا الوطن القوي، الذي يكبر في النفوس والأرواح، وتظل تطلب مَن يحكي لها عن الأهل والبيوت والبلد وعن جيران الطفولة، احكيلي، وحياتك خبّرني كيف حال الزيتون والصبي والصبيّة بفية الطاحون، ونشمّ رائحة اللوز والأرض والسماء والهواء يعبق بشذا الألحان، وصدور الجمهور يجيش فيها الحزن، وبإصغاء وانبهار إلى مساحات شاسعة تأخذه الألحان إلى صوت مريم طوقان الكروانية، التي عاشت فصولاً و15 عامًا من حياتها الغضة في جوقة الكروان، فانزرعت وتربّت وانطلقت منها، لتطلّ بقامتها وقوامها الممشوق وبشعرها الطويل المنسدل بانسيابية، الذي لا يفصلها عن موطئ قدميها سوى بضع سنتيمترات، وبملامح ومعالم فيروزية أطلت في وصلة متواصلة مع جذورها وتربتها الخصبة الأم جوقة الكروان، ويا بيّاعة خديني ع حيّ البياعين، وأنا أهلي حطوني ناطورة الجناين، وفي غفلة منها سرقوا لها البساتين، وضاعت على المفارق حين غفل عنها الأهل وغادروا، وضاعت المفارق والعناوين، وصفّق الجمهور متحرّرًا من هموم الوطن، لترفض الأساور والعقود والذهب وكلّ مغريات الزمن، كي تظلّ مُصرّة على الوطن الذهب الأغلى والأحلى!
ومن عتم الذاكرة يطلّ وجه ساندرا حاج الكروانيّة، ليأخذ الأجواء منّا ويعيدنا إلى طفولتنا، حين تصدح "سوا ربينا وسوا مشينا وسوا قضينا ليالينا"، وتتساءل هل يعقل أن يمحو الزمن أسامينا ويمحو الفراق الذاكرة، فننسى الأبواب والأعتاب والعناب؟ أيعقل أن نصبح بعد كلّ هذه العشرة والرفقة الطيبة مجرّد ورقة صفراء تأخذها رياح الخريف إلى قارعة طريق؟
وإذا به ونس أبو شحادة يهدر بصوته الجبليّ الحنون، كي يعلن رفضه وخضوعه، ويعلن للقمر مدى صبره وجَلَده وصموده، وبقاء ضوئه كنافذة أمل تتجدّد مع كلّ خطة قدم على الأرض، تهدر وتنزرع في أعماق الأعماق خطواتِ عزٍّ مرفوعة، وكما المهر الأصيل يصعد ويصاعد، وتتسامى معها وتيرة الانفعال والتفاعل، وتلتهب الأكفّ تصفيقا.
وبعودة الكروانية العبلينية مريم طوقان مأمورة بامر الهوى إلى عهد الصبا، تظلّ تنادي شمس المساكين وتنطر على كلّ الأبواب، وترجو الله ان لا ينساها، فلا أحد سواه لها، فالطرقات غطاها الشوك، وترجوه أن يبعث من لدنه أحدًا يُطلّ عليها، ولما تزل تناديه من ايام المظلومين، ليبارك زهوره ويساعد بعدله، فلا أحد يعدل وينصف سواه، تلك صلاة الروح في فضاء تخاطب فيه بمناجاة وخشوع، وتعلن جوقة الكروان قسمها أنّها ستظلّ تكتب اسم البلاد على الشمس التي لا تغيب، وأن لا حبّ يعلو على حبّ الوطن لا المال ولا الأولاد، وليس أغلى من اسم الوطن مشعًّا على وجه الشمس، التي تتكلم كما تتكلم الأرض لغة عربيّة، مُذكّرة الحضور أنّنا في الأصل من ماء وطين وتراب، والإنسان يبدع بالغناء للأرض وللوطن وللوجود.
هكذا هي جوقة الكروان؛ حروفٌ أبجديّة منغرسة في وجدان ورحم الألحان، تعزف لنا فنطرب، وتشدو فترتفع هاماتنا إلى الفضاء، وتتجدّد في دواخلنا خلايا الروح والعزيمة، إذ تلتزم بالعطاء المميّز.
ويقدّم عضوا بلديّة الزبابدة ماجد دعيبس وعبد الرؤوف تركمان درع محافظة جنين للمايسترو نبيه عوّاد، تقديرا لجهوده ولتدريبه جوقة الكروان، فكانت ليلة جنين وليلة الزبابدة بطعم مختلف بزمانها ومكانها ووجوهها التي استقبلت معنا في الفقرة الثانية فرقة الفينيق من رام الله، والتي تشرف على تدريبها مصمّمة الرقص سمار رصرص، فأذهلت الجمهور بعرضها الشيق الذي خلال نصف ساعة، لتكون مسك الختام لفعاليات المهرجان الذي استمر ثلاثة أيّام، فمثلت اللحظة التي هزّت العالم ولن ينساها، جريمة قتل الطفل الشهيد محمد الدرة في أحضان والديه في غزة، ونقلت الجمهور لقلب الرواية ومسرح الحدث، ليعيش اللحظة والصورة والأثر، وواقع المعاناة اليومية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في كل ساحات الوطن من قتل وقهر، وتمجيد لشهداء تزفهم فرسانًا لأرض الوطن مسجّيين بعلم فلسطين

وكانت فعاليات المهرجان أقيمت برعاية رجل الأعمال الفلسطينيّ المغترب نزيه الخليل، وشركة الوطنية موبايل وبنك فلسطين، ومحافظة جنين وجمعية الكتاب المقدس الفلسطينيّة، ومشاركة الغرفة التجاريّة الصناعيّة والزراعيّة في جنين، التي نظمت معرضًا للصناعات الوطنية والإغاثة الزراعيّة الفلسطينيّة.
ولمّا يزل الوطن يرزح تحت نير الاحتلال الثقيل، بانتظار صحوة الضمائر المُغيّبة في دهاليز الزمن، وبني العُرب من أوطاني مشغولون بقضايا الربيع، ألعل الربيع المُنتظر يأتي باليقين وبالخبر اليقين، ويعلن ميلاد ضميرٍ حُرّ ينتبه إلى هذه البقعة المنسيّة المشوّهة في الخارطة، والتي ترنو للميلاد والتحرر من قبضة القهر والظلم والاحتلال؟  



172
مفاتيح السماء تُشرّعُ أبوابَ الفرح!
آمال عوّاد رضوان





أسرة منتدى الحوار الثقافيّ في عسفيا الكرمل أقامت لقاءَها الشهريّ بتاريخ 31-5-2012، في مركز تراث البادية عسفيا، وناقشت ديوان "مفاتيح السماء"؛ جديد الشاعر المبدع وهيب نديم وهبة، وسط عدد من الأدباء والشعراء والأصدقاء والأقرباء، وبعد التجمّع والتضييف افتتح اللقاء عريف الندوة الأديب رشدي الماضي بكلمة جاء فيها "وهيب وهبة في طريق الجلجلة":
أمام عبقرية دموع الصليب تتعملق أعمدة الفراق، ويخضوضر الحزن المعتّق في كرمة المأساة وآلام المُعلّم، كيف لا، وكلماتك مفاتيح لأبواب جراحه المقفلة، وشاهدة فجّرت حواجز حول الخيانة كي نرى الموت، نراه يبرز أمامنا عاريًا مغتسلا بدم نتن صديد، لكنك يا شاعري وأنت العارف اسراره، رجوته أن يناديَهم ففعل، ولبّى الأولاد وأتوْا إليه ينشدون "قدر الإنسان أن يحيا على نبض الجراح، إننا ميلاد شعب ردّ للكون الحياة"، فامتدّت يد المخلص؛ "يده الشافية" وعمّدتهم بماء صبح طاهر طهور، وما الغريبُ وانت يا شاعري وهيب كنت على موعد مع ألم المعاناة، تحلّق بسموّ ممهور بقطرات فيرونيكا المقدسة، تحلق بعدما عشت حاملاً أثقال المعاني تتلوّى حتى تلد في مكان قصيّ "الكلمة" التي تمجد الأمل، وتتفاءل فتجده في طريق الجلجلة،
تصويرك لألم الواقع جاء شفافا جليًّا، لأنّك الشاهد الوحيد والحقيقيّ على جريمة هكذا زمن لئيم رديء،
صحيح أنّ كلماتك أتت المعلم تشكو وهي مؤرقة ومنهكة، لكنّها أبت أن تهيم في شوارع المهد العتيقة صوتًا يُردّد: "كم مرّة سأموت بعدك، وكم سيقتلني رحيلك؟"
نعم يا شاعري.. كلماتك جاءت محمّلة بأجراس أقانيم الآب والابن والروح القدس وهي تقول: "صار موت المعلم مفتاحًا لأبواب الحياة، وها هو النهار يبزغ من شرايين دماه، ومن عينيه يطلع القمر، وها هي القيامة تحملها يداه".
حقا يا شاعري وهيب انت أعلنت ولاءَك لقدس أقداس جرح الصليب، فانعصرت حسرة ولوعة، فأثريتنا بهذه الملحمة محمّلة بحقول الدلالات والمعاني الرمزية، ترْشَحُ حرارة وعاطفة وتتلألأ وميضًا، وتحلّق خيالاً..
هنيئًا لك مفاتيحك.. لم تترك أبوابًا للسماء مغلقة، لأنها ابنة وفيّة نديّة فتيّة لليلة قدر الفتح المبين، وسأظلّ أردّد معك: "الحقّ الحقّ أقول لكم، قدرُ الإنسان أن يحيا على نبض الجراح، وقدَرُ الجلاّد أن يهلك في زحف الصباح".
وفي مداخلة الإعلامي والأديب نايف خوري قدّم لمفاتيح السماء مطوّلاً وقال:
"جاءني وهيب يوما قائلا: أريد إتمام الرباعية التي بدأتها، ولذا أرغب بالكتابة عن السيّد المسيح. قلت له: على الرحب والسعة، ولكن ماذا تريد من السيّد المسيح؟ قال: أرشدني إلى ما يجب كتابته، فقلت عليك بالإنجيل المقدس. ودفعت إليه بالإنجيل وقلت له اقرأ. فقال إنها مساحة واسعة وشاسعة، فإلى أيّ نقاط ترشدني، قلت عليك بإنجيل متى، الموعظة على الجبل فهي المسيحيّة كلّها، بصلب العقيدة والإيمان. ثمّ عليك بأحداث مميّزة من حياة المسيح كميلاده، عمّاده، أولى عجائبه في عرس قانا الجليل، انطلاقته، أحداث تواضعه العظيمة كميلاده في مغارة، غسل أرجل تلاميذه، خيانة يهوذا، الصلب وأهمّها القيامة.
راقت الفكرة لوهيب وغاب نحو أسبوعين أو ثلاثة، وإذ به يقول سأرسل لك شيئا ممّا كتبت، على أن تبدي رأيك فيه. وهكذا وضع بين يديّ قصيدة طويلة جدًّا، ولكن قرأتها دون أشعر بطولها بل لم أرتو منها، واستطاع وهيب أن يجذبني ويشدّني إلى ما كتب بشكل لم أعهده من قبل، وشرعت بكتابة ملاحظاتي وإذ بي أكتب ردًّا يبلغ عددًا من الصفحات وأرسلتها إليه، فقال على الفور هذه ستصبح مقدّمة وسيصدران في كتاب".
وأضاف نايف قائلا: "أعزائي، لم أقصد أن أجعل الشاعر وهيب مسيحيًّا، ولا هو سيجعلني درزيًّا أو مسلمًا، بل استطاع أن يحترم مسيحيّتي كما احترمت درزيّته أو توحيديّته، ومن هذا المنطلق تمّ تقديم الكتاب إلى دار نعمان لنشر الثقافة في بيروت، وفوجئنا بإعلان الدار أنّ "مفاتيح السماء" يفوز بالجائزة التي هي عبارة عن إصدار الكتاب ونشره في العالم. وقرأنا رسالة جاءت من دار النعمان بخصوص الإعلان عن الجائزة.
ومن ناحية ثانية فقد قرّرت مجلة مواقف إصدار هذا الكتاب، تزامنا مع إصداره في بيروت، وأصبح الكتاب الآن بين أيديكم".     
أما في مداخلة آمال عوّاد رضوان بعنوان "أهزوجةُ مفاتيح السّماء في قبضةِ الشاعر وهيب وهبة" فجاء:
عنوانٌ غريبٌ يستفزُّ الجسدَ بلغةِ إيماءتِهِ الدّلاليّةِ ولفتاتِهِ العفويّة، ودون استئذانٍ يُزلزلُ أوتارَ الكمان والكيان، يُحدّثُ النفسَ بحروفِ ياسمينِهِ الهاجسةِ المُتوجّسة، وكدوريِّ الحقلِ المتمرّدِ يحترفُ حرّيّة التحليقِ السّماويّ، بعيدًا عن سُلطةِ الأرض وعُروشِها المُتزلزلة، باحثًا عن نوافيرِ ضوءٍ تنتشلُهُ مِن عتمةِ المآسي والمواجعِ العاريةِ من الرّحمة، ولا ينحرفُ، بل يعودُ إلى عُشِّهِ الإنسانيِّ، وفي منقارِهِ يحملُ جذوةً مِن محبّةٍ وحفنةً مِن نور، فيتراءى في عينِ قلبه منظورُ آمالٍ متراقصٍ جديد، وملءُ حوصلتِهِ أبجديّة خضراء تنسكبُ طيوبَ حياةٍ في تجاعيدِ الرّوح الخاوية!
جائزة المتروبوليت نيقولاَّوس نعمان للفضائِل الإنسانيَّة، حازَ عليها الشاعر وهيب نديم وهبة ابن دالية الكرمل، الكاتبُ والمُرَبِّي الفِلِسطينيّ، عن مخطوطه المُعَنوَن بـ "مفاتيح السَّماء" والتي صدرت عن دار نعمان للثَّقافة ومؤسَّسة ناجي نعمان للثَّقافة بالمجَّان، بعد إصدار نتائج جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة الهادِفَة لعام 2012 في بيروت، وهو جزء من مشروع "مسرحة القصيدة العربية".
وجرى نشرُ الأعمال الفائزة خلال شهر نيسان (أبريل) الماضي، من ضمن سلسلة "الثَّقافة بالمجَّان" التي أنشأها ناجي نعمان عام 1991، وما زال يُشرفُ عليها؛ وستوزَّعُ بالمجَّان، كما ستُنشرُ في موقع الدَّار الإلكترونيّ: www.najinaaman.org
وكان ناجي نعمان أطلقَ عام 2007، في مناسبة الذِّكرى الخامسة والعشرين لغياب المتروبوليت نقولاَّوس نعمان سلسلةَ جوائزه الأدبيَّة الجديدة، وهذه الجوائز، على العكس من جوائزه السَّابقة، هادِفَةٌ لجهة الموضوعات، ومَحصورةٌ بأبناء الضَّاد وبناته، وعددَ الفائزين بها محدَّدٌ بشخصٍ واحدٍ سنويًّا عن كلِّ فئة، فيما قوامُ الجائزة طباعةُ المخطوط الفائز في سلسلة "الثَّقافة بالمجَّان"، واكتِسابُ الفائز عضويَّةَ دار نعمان للثقافة، وهي عضويَّةٌ لمدى الحياة لا تستَوجبُ من حاملها شيئًا، بل تؤهِّلُه وبشروطٍ معيَّنة لطباعةِ نتاجهِ الأدبيّ في السِّلسلةِ المجَّانيَّة السَّابقة الذِّكر.
إنّ "مفاتيح السماء" صدرَ في آنٍ واحدٍ في كلّ من دالية الكرمل، حيث أصدرُتُ مجلّة "مواقف"، وفي بيروت حيث أصدرته دار النعمان، ضمن سلسلة الثقافة خلال شهر نيسان أبريل الماضي، وهكذا مُنحت جائزة المتروبوليت نيقولاّوس نعمان اللبنانية للفضائل الإنسانية لعام 2012 للشاعر وهيب وهبة، حيث تمنح هذه الجائزة مرة واحدة في السنة لأحد الشعراء أو الأدباء.
وقد كتبَ مقدّمةً مُطوّلة لهذا الكتاب الأديبُ الإعلامي "نايف فايز خوري"، وصمّمَ لوحة الغلافِ الشاعرُ "جورج جريس فرح"، ووضعَ الدّكتور فهد أبو خضرة تظهيرًا للكتاب.
يستعرض الشاعر في "مفاتيح السّماء" رحلة سيدنا المسيح من أرض كنعان إلى أرض الكنانة، والعودة لنشر رسالة الله والعدل والمحبة، وبصدور "مفاتيح السماء" يكون الشاعر وهيب نديم وهبة قد اختتمَ رباعيّتَهُ الإبداعيّة، والتي يُجملُ فيها مشروع "مسرحة القصيدة العربية".
تتضمّنُ هذه الرّباعيّة:
الرحلة الأولى: "المجنون والبحر1995" التي ترجمت إلى لغات عديدة، ويتحدث الكتاب عن العدالة المطلقة، ويدخلُ هذا الإبداع ضمنَ الحداثة كما قيل عنه في الثورة النقدية الإيجابية التي حدثت لحظة صدور الطبعةِ الإولى، ثم صدر منه ثلاث طبعاتٍ باللغة العربيّةِ عن مطبعة الكرمة حيفا، وقد دخلَ حالةً أدبيّةً في التجديد ومسرحة القصيدة العربيّة، وهذه الحالة كانت بمثابةِ عمليةِ "مزيج" لجميع عناصر الأدب، ذلكَ أنّ إيقاعَ العصرِ المُتجدّدِ المُتغيّرِ المُتنقّلِ مِن ثقافة إلى أخرى، كان الدّافعَ الأساسيّ للبحثِ عن سُبلٍ في التجديد، وبذلك تحوّلَ الكتابُ إلى حدثٍ في النقدِ وعددِ الطبعات، وحدثٍ عالميٍّ في الترجمة، وكانت شهادةُ النعمان الفخريّة بمثابةِ شهادة تحرُّرٍ أولى يعتزُّ ويفتخرُ بها الشاعر وهيب وهبة، شأنه شأن أيّ مبدعٍ فلسطينيّ، إذ ساعدتهُ على الخروج من داخل الحصارِ الثقافيّ ومِن جحيم الاختناق الأدبيّ، في منطقةٍ تعجُّ بالصّراعات.
ثمّ كانت الرحلة الثانية في كتاب "خطوات فوق جسد الصحراء"، "رحلةٍ نبويّةٍ من الجاهليّةِ حتى حجّة الوداع"، صدر هذا الإبداع الأدبي عام 1999 –على نهج المجنون والبحر – مسرحة القصيدة العربية، وهنا كانت التجربة أكثر عمقًا وأوضح صورة. فالمضمون يتطرّق إلى "العدالة الإلهيّة"، والدّخول إلى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية/ البداية الجاهلية – تحديد النهاية للفصل الأول – حجة الوداع ، لهذا كان الحدث يتصاعد مع  تطوّر النصّ، ويدخل حتى في المجال العلمي، فيدخل النّصّ في صميم التاريخ ويتّحد الأدب والتاريخ والشعر والمسرح معًا في تتويج مسرحة القصيدة، ثمّ يتبلورُ النّصّ حتى أسمى درجات الإيمان.
تلك المعادلة الحضاريّة الرّاقية بما تحمله من رسالةِ النّورِ والتنويرِ وعصرِ الإنسان.
منشورات دار روان الفلسطينيّة الرام/ القدس أصدرت الاسطوانة عام 2001 لتوثيق النص النهائي للجزء الأول من خلال الاسطوانة، وذلك بصوت الشاعر لتوضيح فكرة مسرحة القصيدة من ناحية، ومن ناحية ثانية الموضوع لتوجيه الاهتمام إلى المضمون وأبعاده، ومن ناحية أخرى تمّ إدخال الآيات القرآنية بأصوات حقيقية في الأسطوانة، ممّا منح مساحة أوسع عند قراءة النّصّ، وقد تمّ التسجيلُ في استوديوهات الكرمل/ 2001.
ومن ثمّ كانت الرّحلة الثالثة في "كتاب الجنة 2006" الذي نال الجائزة اللبنانية للثقافة ضمن مشروع نشر عالميّة الأدب العربي، فمنحت الشاعر وهيب وهبة جائزة التكريم عن الأعمال الكاملة عام 2006، وفي تلك المسابقة للنصوص تمّ تقديمُ كتاب "الجنة" الموثق الآن في كتاب الجائزة بالعربية والإنجليزية والفرنسيّة، ونُشر كتاب الجنة عام 2009 القسم الأوّل مع مجلة مواقف في حيفا.
كتابُ الجنّة فيهِ يتضمّنُ البحث عن الإنسان وعن رسالةِ التنوير ووجود الإنسان هناك في الجنة، فقد استطاعَ كتابُ الجنّة المثولَ أمامَ الرّمز؛ وعظمة الخالق أمام الخلق، هذه العظمة التي لا تأتي بصيغةٍ مباشرةٍ ولا تقتحمُ النّصّ، بل ومنذُ البداية يرتكزُ الحوارُ والسّردُ إلى الرّمز، وهذه الفقرة مِن موسوعة المعرفة جاءت تقول: كتاب "الجنة" يرمز إلى الخلود وعدل الله.
ومع الرّحلة الرّابعة "مفاتيح السماء" التي تقفلُ الرباعيّة نقول:
هنيئا للشّاعر الأديب وهيب نديم وهبة بهذه الإنجازات الإبداعيّة، وهنيئًا لكلّ المُبدعين بدارِ النعمان وبكلّ مؤسّسةٍ مباركة ترعى وتدعمُ المبدعين بشكلٍ موضوعيّ، دون تحيّزٍ إلى لونٍ أو عِرق أو قوميّة أو جنسيّة، وذلك لترفعَ مِن شأن حضاراتِنا الإنسانيّة وثقافاتِنا الرّاقية!
وفي رسالة ناجي نَعمان صاحِبُ دار نَعمان للثَّقافة رئيسُ مؤسَّسة ناجي نَعمان للثَّقافة بالمجَّان جاء:  
العزيزُ الغالي وهيب نديم وهبة، حضرةَ المُنتَدين الكِرام، حضرةَ القيِّمين على هذا الحَفل الرَّائع في مركز تراث البادية ومنتدى الحوار الثَّقافيّ بِعسفيا، وفي دائرة الثَّقافة العربيَّة بالنَّاصرة، أيُّها الحُضورُ المُمَيَّزُ الثَّقيف،
تحيَّةَ حَرفٍ يَنقُلُ فِكرًا مُبدِعًا، وبَعدُ، وصلَتني دعوةُ الكلام بالوَساطَة في حَفلكم الكريم قبل ثلاثة أيَّامٍ فقط على مَوعد تَحلُّقكم حول الأخ وهيب لمكافأته ومكافأة الحَرف يَنسابُ فِكرًا على يَده؛ وصلَتني الدَّعوةُ فيما، بين يدَيَّ، النُّسَخُ الأولى من كتاب "مفاتيح السَّماء"، وقد خرجَ طازَجًا حِبرًا عَطِرًا على وَرَق، وفي حلَّةٍ قَشيبَة، كما هي الحالُ مع مَنشورات دارِ نَعمانَ للثَّقافة ومؤسَّسةِ ناجي نَعمان للثَّقافة بالمَجَّان.
نَعَم، خرجَ الكتابُ في حلَّةٍ قَشيبَة، وإنَّما، أيضًا، حامِلاً علامةً فارِقَةً، عنَيتُ "جائزةَ المتروبوليت نقولاَّوُس نَعمان للفضائل الإنسانيَّة"، وقد استَحقَّها وهيبٌ، نَديمُ اللهِ وشاكرُه على ما وهبَهُ إيَّاه من نِعَمٍ، إذ طَفَقَ يُسَخِّرُ قلمَه لتَمجيد الخالِق وترسيخِ فضائل السَّيِّد المسيح في أرض السَّيِّد المَسيح، فِلِسطينَ العزيزة، كما في أربعة أصقاع العالَم.
خرجَ كتابُ وهيبٍ هذا العام، تمامًا كما سبقَ وخرجَ، في العام المُنصَرِم، كتابُ جليلٍ جليليٍّ آخَر، عنَيتُ يوسف ناصِر الَّذي استحقَّ جائزةَ أنجِليك باشا لتَمتين الرَّوابط الأُسَريَّة عن مَخطوطه "قلائد العَقيق".
خرجَ الكتابان، والمُشكلةُ هي هي، تَتَمثَّلُ في كَيفيَّة إيصال نُسَخٍ منهما إلى أصحابِهما، ومن ثَمَّ، إلى أصحاب الأرض الأصيلين، وفي "أرض المعركة الفِكريَّة" بالذَّات.
خرجَ الكتابان، ويَتَلقَّفُهما القارئُ اللُّبنانيُّ والعربيُّ عبرَ أكشاك الكُتُب المجَّانيَّة وفي مناسباتٍ ثقافيَّة مختلفةٍ لعلَّ أبرزَها الصَّالونُ الأدبيُّ الثَّقافيُّ الَّذي عمَّدتُه باسم "لِقاء الأربَعاء"، ولم يَتَلقَّفْهما أصحابُ الشَّأن إلاَّ بالقطَّارة وعن طريق الخارج.
العزيزُ وَهيب، ما تَعَوَّدتُ الإطالَة، ولن أُطيلَ، في انتِظار الفرحة الكبرى، هَنيئًا لكَ فرحةُ اليوم، وإنِّي، اللَّحظةَ، أرفعُ إليك، وإلى جميع مَن هم حَولَك، ألفَ تحيَّةٍ وتحيَّة، وأخصُّ بالذِّكر الأديبَ نايف فايز خوري، والشَّاعرَ الدُّكتور فهد أبو خضرة، وعضوَ دار نَعمان للثَّقافة الفخريَّة الشَّاعرةَ المُحَلِّقةَ آمال رضوان عوَّاد، كما أشكرُ مُسبَقًا مَن يقرأُ كلمتي هذه، على أمل أنْ نتعارَفَ يومًا.
نَعَم، للجميع أرفعُ ألفَ تحيَّةٍ من لبنانَ، وأرفعُ قُبَّعتي احترامًا وإجلالاً لأرض القداسة وشعبِها الأصيل، مُشَدِّدًا على ما سبقَ وقلتُه، عامَ 2004، تَتويجًا لِلَقب "مَجنون الثَّقافة بالمَجَّان" الَّذي أُطلِقَ عليَّ منذ عُقودٍ، والَّذي به أفخَر، من أنَّ "الثَّقافةَ لا تُشرى ولا تُباع"، ومُشَدِّدًا أيضًا، على ما ابتدَعتُه، منذ عام 1969، من أنَّ "الثَّقافةَ، الحُرَّةَ والمُنفَتِحَةَ، تَصنعُ السَّلام". فهلاَّ يَسمعُ "مَن له أذنان صاغِيتان"، أم أنَّ الطَّرَشَ غَدا سِمَةَ العَصر؟!
وفي مداخلة فاطمة ذياب مفاتيح السماء على حافة حلم جاء:
أراه الشاعر مُصادِرًا جسد الأرض على حافة حلم، وفي "حالة هيام في الغمام غير المتناهي"، كما جاء في مقدمة الزميل نايف خوري. أحاول بدوري أن أقتني مفتاحًا من هذه المفاتيح المعلقة على شجرة الميلاد التي تزين الغلاف، لا لشيء إلاّ كي أسبر أنوار نصّ أثار الجدل، حتى وهو لم يزل نطفة في رحم نصّ، فكُفّر الشاعر كما كُفّر نصُّه، وتجاوزتُ المقدّمة كي لا تتداخل المفاتيح وتتوه في تبيان خاصّتنا من المفاتيح، وأقف أمام الجملة ص 27: "أوقفني الصوفيّ على حافة حلم/ كان هائمًا يحمل نهر الأردن مُتوّجًا من السماء/ قاصدًا أرض كنعان/".
من الذي أوقفه؟ الصوفيّ؟ أين؟ على حافة حلم؟ أي مابين يقظة ونوم يراه الشاعر هائمًا، يحمل فوق ظهره نهر الأردن إلى أين؟ إلى أرض كنعان؟ فلسطين لما تزل هي الأخرى في ذاكرة الشاعر وفي خاطرته أيقونة على حافة حلم هائم، ترتب ذاك لنهر المتدفق كي تغتسل من خطاياها، وما يفعل بها على مرأى وعلى مسمع دقات القلوب، بانتظار عدالة مُتوّجة من السماء، أو حتى بدعوة للصعود إلى العدالة نصًّا وحُلمًا وأمانيا، كي نخاطب تلك العدالة ونحاورها تمامًا كما يحاورنا الصدى والمدى.
هكذا يوحي إلينا النص بمفرداته البلاغيّة وصوره الشعريّة الشاعريّة، ويستفزّنا كي نحاول معه أن نجد لنا لغة أخرى تُشاغل الريح، حتى لو كانت هذه المُشاغلة والمُساءلة من خلال "قميص نخيطه من زفرات وأنين جسد الأرض، كي نصنع من أجسادنا نحن جسرًا نعبر فوقه إلى كلّ أولائك وهؤلاء، والذين نتمنى أن تدوسهم الخيول الجوامح من أمانيهم، والذين ما زالوا يَعْدون ما بين ريح وغمام، وتتوه الأمكنة والأزمنة في مناطق السراب". إذن هي لوحة من أماني الروحانيّات حبيسة تتصارع في ضجر، تستصرخ مداد حبره كي يلوّنها ويُخرجها بطاقة لولوج العوالم الأخرى، التي يختار أن يوظفها لخدمة أمانٍ على حافة حلم، فتغدو ملحمته شفافة مرهفة تحمل في رحمها أسمى آيات الغربة والمنافي. إنّها حقا مساحة من حلم، "كما اليمام تنام على شرفة بحر، وكما الأطفال تلهو بنشيد، إنه النشيد الآخر الذي يرسم ويُلوّن بأصابع الكائنات، ويعزف على أوتار غابات الريح، وأيضًا على أوتار الأفق الأبعد من مداه".
حين يعلن وهيب وهبة من بين حوافر التاريخ وضجيج الانتظار، أنّ الفرح العاصف أتٍ، أهتف وأنا كلي إيمان، وأعرف لماذا يحمل الصوفيّ فوق ظهره نهر الأردن، قاصدًا أرض كنعان، وعند حافة الحلم يا وهيب وهبة تتشابك الأماني والأحزان، فنرانا قد غدَوْنا نستقدم الصوفيّة المُطهّرة المُنزّهة من كلّ رجس، كي تطلعنا على ما وراء الأفق، وكي تخبرنا أننا على مرمى قصيدة، ونصل حنجرة الأماني، ونعلن أننا قد تمكنّا من القبض على الفرح، وأطلقنا العنان لنشيد الملكوت وإنني أصلي.
على حافة حلم نرجسيّ فوق صخرة تقاوم في وجه الريح، تظلّ الملحمة تُسابق حروفها الروحيّة، بانتظار المسيح القادم للخلاص، وقد هاله ما على جسد الأرض من جراح، "والتاج الأزرق في يديك وعينيك يشكّل الأرض"، وكأني بوهيب هنا مستغيثًا بالله أن يرسل أسرابًا من الملائكة، كي تنشر الحبّ والسلام والمحبّة، وكأني به خالق صورة لهذا الواقع المعيش، وهذه الحالة التي آل إليها بنو البشر، حيث عادوا إلى ما قبل الرسالات والرسل والأنبياء، والأنكى أننا بتنا نتكئ على عكاز معتقداتنا، وكلٌّ يُغلّب شرائعه تمامًا كما يُغني كلنا موّاله لليلاه ولمولاه ولشيخه وفتواه، حتى بات لكلّ عائلة شيخ، ولكلّ فرد قاضيًا يُفتي له ويُدرّسه أمورَ دينه ودنياه. ولا عجب في هذه الحالة من الضياع والتشرذم وعدم الاستقرار وغياب الطمأنينة والهدوء الروحيّ والنفسيّ، لا عجب أن يجلس وهيب وهبة ونجلس معه على حافة حلم نحاور الصوفيّ ويحاورنا، ونأخذه ويأخذنا الاستهجان "مستوطنا الأماني"، مشتعلا بشمس من وهج النار تصحو وتغفو على ملاعب القمر، وأيّ قمر وأي شمس هذه التي يرنو إليها الشاعر متداخلاً بين النص والحلم؟
وبقفزة سريعة الى الناصرة، يداه في الأفق الأبعد من مداه يطلبه حثيثا، ويرجوه رمزا على حافة أرجوحة تهتز في ليل معلق، "يرنو الى فرح يراقصه حتى طلوع الشمس وطلوع النهار، إذن في فورة من الحلم والرجاء يظل الشاعر مستندا الى الرمز والخلاص من ملحمة ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
"يداه النبع الآخر عند المنحدر/ آتيا حاملا قناديل الكلمات ومصباح من بلور"، تلك إشارة ودلالة لا تحتمل الإيحاء أو التأويل، من أن رغبة الشاعر في أن يرى الأرض حقولا من حروف، وكروما من كلمات، وبساتين لغة تبشر بعالم جديد خالٍ من الحقد والأحقاد، هذا هو وهيب الشاعر الذي رأيته باحثا عن إنسانية الإنسان في مناشدة روحية تملؤه حتى الثمالة، وتُسكره حتى الوصول الى حافة حلم، فيعيش لحظاته تلك متنقلا متفردا في بحثه وخصوصياته، مستنبطا أسلوبا جديدا، كافرا بكلّ المسميات الأدبية الاخرى التي لم توصله، كما لم توصل رسالات الآخرين، وكان بعودته الى الروحانيات نصّا واسلوبا آخر سلاح يُصوّبه في وجه الواقع الذي يسعى لتغييره، مستخدما عذرية مريم من عذرية أرض كنعان، ونصرة الناصرة من نصرة المسيح، ومن البشارة بشرى لأمل قادم مع غناء جوقة الملائكة، "تراقص الخيول الغابرة"، أسمع صهيل الخيل الراكضة وراء جوق الملائكة، غذن هي الرموز مجتمعه تهفو اليها الروح، "تغادرنا أرواحنا ما بين الطرقات والمسافات وما بين الروح والجسد، "هي ثورة الأرض عاصفة في تبديل الفصول، وعادلة في تبديل الظلمات بنار العدل ومجد افراح المحبة"، وهنا أقول أن لكل أديب أو شاعر أو مبدع حرية الرؤيا واستحضار النص الذي يشاء، ما دام هذا النص لا يتعرض لعقائد الآخرين تجريحا أو حتى تلميحا بذلك، وأنا هنا لست في مجال حتى مناقشة التكفير وما قيل حول ذلك، لأنني لم أجد النص إلاّ ملتزما كل الالتزام بأدواته الفنية والإبداعية، وإن اختار الشاعر حياة السيد المسيح الحافلة بالعذابات، فإن هناك رسالة قوية مليئة بالرمزية الهادفة والصادقة لمدلولات القضية الأم، حيث وضع لنا وهيب وهبة من مداد حبر الكلمات ثورة الأرض، كما اعتادت ثورة الفصول وتبديلها، وكأني به يقول أن ما يحدث لنا جميعا في هذه البقعة الكونية، ما هو إلاّ نتاج ظلم ارتكبناه بحق أنفسنا ودينننا ودنيانا وعقائدنا وكينونتنا، وهنا أيضا أراه مسلما بمسلمات آنية لم تزل على أرجوحة حافة حلم، حين يقول: "أترك القصيدة وحيدة، أشعل شمعة أمام النجوم"، ص 36 مستقدما درب السيدة العذراء مريم، التي خصها الله بسورة مريم، تماما كما خصّ بيتها وآل عمران بسورة أخرى، وخص معجزة المائدة فأحببناها مريم، وأحببنا ولدها مخلصا مبشرا ونذيرا، "وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا"، هكذا إذن نجده النص كمرايا البلور وكما المنارة مستوطن بالوحي، والرمزية بنار النور سماء بيت لحم والسيدة تعانق الظلام، وهنا تتجلى براعة البلاغة في التماهي والتناص وحتى الاستعارة الصورية، فنرانا قضية تبحث عن مبيت قضية تطوف الشوارع والحارات والدول والمنظمات، وكلها صرخات ليل الريح تتبعها من كل حدب وصوب، هي قضية أنثى كان اسمها مريم، وكانت تحمل في رحمها روحا من الله نبيا قادما ومخلصا للعذابات.
هكذا قرأتها ملحمتك الشعرية، وهكذا سمعتها مع كل الأقاليم من ايام الفرس وانتشار المغول وهولاكو، وكل من طمع بها وجاءها غازيا، حتى آخر طامع لم يزل يجاهد بخطيئته، ولا يجد من يُذكّره أن الزمن العاصف آت وأنا كلي ايمان.
إذن هي رسالة لى أولادك القادمين الذين ظلوا والذين رحلوا، يقول وهيب "النور بين أيادينا يستوطن فضاءاتنا، ولكنا عمينا فلم نعد نراه"، أغلقت المدينة أبوابها ونامت ونام سكانها على العتمة، والشوارع والطرقات هاجرت المكان"، ومن هذه الظلمات ينبثق النور، "من تلك المغارة المتواضعة أشرقت شمس الحرية" ص 38، وفي ص 40 يعيدنا الشاعر الى القضية من جذورها، حين "تحضنه السيدة خوفا ويأتي الحلم كما الأسطورة، "خذ ما استطعت واحمل صغيرك وارحل أمامك مصر". لماذا مصر؟ وماعلاقة مصر بالذات مع السيد المسيح والسيدة العذراء والبشارة؟
هذه رموز أتركها على حافة حلم آخر يراوده عن نفسه، في ليل تأرجحت فيه الأحلام ما بين يقظة ونوم، وظللنا نحن وهواجسنا نشاغلها وتشاغلنا، الى "أن تستيقظ نفس الانسان وتخضع لمحبة الله".
هكذا من ملحمة ميلاد السيد المسيح عليه السلام نرانا قضية تطوف ارجاء مملكة أبناء كنعان، بلُغتها نصًا وروحا وقلبا وقالبا، على الأقل من وجهة نظر قراءة ذاتية، "وداخلُهُ زمن مضى، وخارجه زمن يأتي والإنسان يأتي ويمضي" ص 44، وعطر رذاذ الكلمات يشق جبين الصباح وعتمات الغسق. نهض الصوفي من عباءة الغيب مبتلا بالحكمة، متوجا بالدمع وقال، اتبعني.. وجهتي الآن طريق النور". خلاصة القول هي قضيتنا الأولى والأخيرة من خلال ميلاد السيد المسيح، في توظيف ينأى عن الابتذال، بل يرتفع كي يلامس أرحجوحة الواقع.
أخيرا أشكر الشاعر وهيب وهبة الإنسان ذا الحس المرهف وأقول، أتراني انحدرت في مداركي الى متاهات وأنفاق أخرى؟ هي محاولة وكلّ محاولة هي خطوة سفر من الاسفار، على هذه الأرض التي كانت ذات يوم، وأضحت في سفر وترحال.
أمّا فهيم أبو ركن فقال: في مداخلتي هذه لا أريد أن أحلل أو أشرح، فقد وضع المقدم الأستاذ نايف خوري إصبعه على نقاط هامة، مشيرا في البداية إلى العقيدة اللاهوتيّة والعمق الروحيّ والفكر السماويّ وتعظيم القديسين، ثم إلى البعد الجغرافيّ في النصّ كالتنقل ما بين القدس، طبريا، الناصرة، نهر الأردن، وبيت لحم وغيرها... وقد نوه الأستاذ نايف قائلا: "لم يتناقض كلامك مع أي فِقْرة من الإنجيل المقدس، بل أضفت ضوءًا عاطفيًّا وشعورًا تكريميًّا لكي يتنبه القارئ إلى كلّ كلمة قالها يسوع".
ثمّ استشهد برسالة يسوع عن المحبة، ويفسر قائلا عن خلاصة المسيحيّة: "فإذا أحببت لن يصدر عنك شر، وإذا أحب الجميع بعضهم بعضا فلن يصدر الشر أبدا ولن يبقى له وجود. وهكذا نصبح في حالة النعيم، السماء، الخير، وسائر القيم المطلقة".
لقد أردت أن أطرح تساؤلا: "لماذا توجه الشاعر إلى العمق الفلسفيّ اللاهوتيّ ليعبر عن أفكاره ومشاعره؟ ولا أبغي في هذه العجالة الإجابة على هذا التساؤل، إنما أنوّه إلى أن الشاعر لم يفاجئنا بهذا التوجّه، فقد كان توجه سابق في كتاب (المجنون والبحر) وكتاب (خطوات فوق جسد الصحراء) وتوجه سابق آخر في كتاب (الجنة)، وجاءت هذه القمة لتتوج مرحلة هامة في مسيرة الشاعر الأدبية تحتاج إلى دراسة عميقة، دراسة أكاديمية جادة، فربما نجد من خلالها الإجابة التي تلقي أضواء على زوايا هذا العمل، وترقى لتحليل أفكاره العميقة، هذا بالإضافة لصوره الشعرية المبتكرة، الجميلة والمعبرة عن الفكرة والغاية، والتي تدل على تمكن الشاعر من أدواته الشعريّة، ويكفينا أن ينهي الشاعر كتابه مع مقولة سامية وهي رسالة الإنسان التي يتركها بين يدي القارئ وهي المحبة.
واسمحوا لي أن أشير إلى نقطة واحدة، والتي تذكرني بالمثل القائل "شر البليّة ما يضحك"، وهي ترتبط في هذا النص بتجاوز مرحلة الغضب لدى الشاعر، ليصل إلى مرحلة الفرح بدل الغضب، فعندما يتجاوز الإنسان مرحلة الغضب ويكبح جماحه ويسيطر عليه، يصل مرحلة الفرح، وكلنا نذكر أغنية فيروز وجملتها الشهيرة: "الغضب الساطع آتٍ"، ولكن الشاعر استعمل الفرح بدل الغضب فقال: "الفرح العاصف آتٍ"، وهذا يخلق لدى القارئ إيحاءات ودلالات عميقة. لقد أحببنا الكتاب بمقدمته، ونصه وخاتمته التي جاءت مسكا من الدكتور فهد أبو خضرة، فجاء عملا متكاملا سعدنا به وأحببناه كما نحب صاحبه ونسعد به دائما.
 وبعد إضافات الزميلات ومداخلات الزملاء، كان للمحتفى به الشاعر وهيب نديم وهبة كلمة جاء فيها:
بداية.. أشكر  ربي الذي وهبني موهبة الكتابة التي منحتني محبة الزملاء والأصدقاء والأحباب، وهنا في هذه الأمسية الرائعة، أشكر الصديق الشاعر رشدي الماضي على الكلمة الطيّبة بحقي وأنا مدين لهُ، فهذه هي الأمسية الثانية التي يحتفي بها بإصدار لي، وشكر خاص للدكتور الشاعر فهد أبو خضرة رئيس المنتدى الذي خصّني بقصيدة كتبت خصيصّا لمفاتيحِ السماء، ورافقني بالمودة بالرغم من كلّ صعوبات الإصدار.. شكرا من الأعماق.
تحية مع فائق المودة والاحترام لصديقي الأديب نايف خوري الذي كان معي منذُ الكلمة الأولى، وترك كما قالت الشاعرة الرائعة آمال عوّاد رضوان مفاتيحَ السماء في قبضة يدي.
والآن أنتِ أيتها الشاعرة الفراشة آمال عوّاد رضوان تهيمين بين حقول المخيلة وبين واقعيّة النقد، أترك بين يديكِ مفاتيح النصّ وأنسحب..
تحياتي وتقديري لصديقي الشاعر جورج جريس فرح الذي هتف وهو يصمم الكتاب ويقوم بالمراجعة، حقا هذا النص سوف يكون لهُ مكانه مرموقة.. ضحكتُ عندها لهذه المجاملة اللطيفة، حتى أتى التكريم والجائزة من لبنان، وهنا أشكر دار ناجي نعمان التي منحتني جائزة الفضائل الإنسانيّة لعام 2012، وأتمنى أن أقدم لهذه الدار الكريمة في العام القادم هديّة أدبيّة تليق بها.
وأخيرًا وبداية.. أشكر زوجتي سامية والأهل والأصدقاء والزملاء، بكم ومعكم تسمو الكلمة ويسمو اسم الله. 
تحية خاصّة للصديق أمين القاسم مدير مركز تراث  البادية، على الجهد المبارك المبذول من أجل نجاح الأمسية ورفع مكانة الأدب والثقافة، وتقديري ومودتي للجميع.                   
                           
 


 

173
عطر المكان يفوح وجعًا في قرى فلسطين المهجرة!
آمال عوّاد رضوان




تتزامن الأحداث ما بين بسمة ودمعة ومحبة ولوعة مع تفاصيل الحياة الفلسطينيّة ودقائقها ونكبتها، ويُقيم نادي المحبة في عبلين معرضًا للصّور الفوتوغرافيّة، تحت عنوان عطر المكان لقرى مُهجَّرة، كان قد نظمه مسؤولو وداعمو نادي المحبّة، والذي تمّ افتتاحه بتاريخ 21-5-2012 في عمارة المركز التجاريّ - وقف الروم الأرثوذكس، ليتمّ اليوم اختتامه!
"عطر المكان" لقرى مُهجرة، بعدسة الدكتور جبّور جريس خوري من عبلين، وصور من الطبيعة بعدسة مجدي عساف من معليا، ولعطر المكان حنين خاصّ للماضي وللمكان وللإنسان، ولعدسة د. جبّور رنين خاصّ في الذاكرة الفلسطينيّة ببعض ما التقطته من قراها المُهجّرة، تلدغ التهميش والتجاهل بوخزاتها، لتستفيق من غفوتها عقود ستّة ولّت من زمن النكبة، وظِلال المكان لا زالت تعبق بعطرها النافذ وبحسرة شعبها الدامع، فتشيعُ في النفس همسات حزينة، لكنّها تحمل التحدّي والآمال، فرغم الإهمال ما انفكّ فستان طبيعتها المهلهل الرّثّ يزخر بالجَمال والصّفاء والخضرة والحياة، لتعمّق في عين رائيها قيمة تثقيفيّة وجَماليّة، وتُرسّخ في بواطن فِكره وذهنه الحاضر جذورَ الماضي وفضاءَ المستقبل والوطن.
قام عدد من أعضاء جوقة الكروان العبلينية وعدد من أعضاء النادي النسائي الأرثوذكسيّ العبيلينيّ بزيارة المعرض، لدعم نادي المحبّة ومؤسّسات عبلين الثقافية والخيّرة، والتي تسعى إلى تواصل الأجيال وربط حاضرها بماضيها ومستقبلها.
تحدث د. جبّور خوري عن بداية اهتمامه بالتصوير الفوتوغرافيّ، من خلال رواية للأديبة الفلسطينيّة سوزان أبو الهوى كتبتها بالإنجليزيّة وتُرجمت للإيطاليّة، وعن تجاربه ومتعته وإصراره في متابعة التصوير من زوايا مُحدّدة، رغم المصاعب والمخاطر الكثيرة التي ترافق جولاته التصويريّة في القرى الفلسطينيّة المهجّرة، وتأبى هذه العدسة المجنونة إلاّ أن تعيدنا إلى شريط النكبة ومرارته عام 1948، وأعود لأفتح بطون المواجع والمراجع الفلسطينيّة، وأيّام الرعب والترهيب والشتات، حيث تمّ ما يربو عن 35 مجزرة بالشعب الفلسطينيّ، وتهجير 530 بلدة فلسطينية من آهليها، معظمها في الجليل، وتبلغ مساحتها 18.6 مليون دونم، أي ما يعادل 92% من مساحة ما يسمى "إسرائيل"، وكان لهذه العدسة الجامحة أن تلتقط بومضاتها الثاقبة معالم ألم صارخ فوّاح محفور في المكان، كأنّما تؤنب ضمائر أهل الكهف مَن غطّوا في سباتهم المأفون!
قرية البروة المُهجّرة:
حالاً يتبادر إلى أذهاننا ابنها محمود درويش، وأهمّ مآثر سكّانها المشهورة، حين ساهم مسلموها في تعيين كاهن لمسيحيّي البروة الخوري جبران، ووقّعوا على عريضة موافقة وأرسلوها إلى البطريرك الأورشليميّ، لأنّه سيمثل كلّ البروة وسيكون خوري البروة، فتأثر البطريرك بكلامهم ووافق على تعيينه!
البروة قرية فلسطينيّة مهجرة تابعة لقضاء عكّا، تقع على بعد 10.5 كم، عرفت باسم برويت عند الصليبيّين، وانتزعها العثمانيّون من المماليك في القرن السادس عشر الميلاديّ، وفي القرن التاسع عشر كانت البروة كبيرة تضمّ مسجدًا وكنيسة ومدرسة للبنين، وفي الانتداب البريطانيّ بُنيت أيضا مدرسة للبنات، وروى الكاتب صبحي ياسين انه في 19-7-1938 قام عدد من المجاهدين بوضع لغم عند مفرق قرية البروة، وحين مرّت ثلاث سيارات عسكريّة آتية من مدينة عكا ومتجهة نحو قرية سخنين، انفجر اللغم ممّا أسفر عن مقتل 12 جنديًّا، من بينهم قائد معسكر سخنين، وجُرح خمسة، فعادت السيّارتان الباقيتان إلى عكا، وحضرت بعد ذلك قوّات كبيرة شرعت في القيام بأوسع عمليّة تخريب ونسف وتنكيل واعتقال في البروة وشعَب والدامون، سُمّيت "موقعة الصبر"، لأنّ القوات البريطانيّة جمعت رجال القرية وأجبرتهم على قطع ألواح الصبر، ثمّ قامت بإلقائها عليهم، وفي 11-6-1948 احتلها اليهود واستولوا عليها، وطُرد أهلها وصاروا لاجئين، وبُني على أرضها كيبوتس أحيهود وياسور عام 1949 و1950.
قرية الخصاص المُهجّرة:
تقع في قضاء صفد إلى الشمال الشرقيّ وللغرب منها تل البطيحة يرتفع (164) متر، على نهر الحاصبا بين مفرق الحدود الفلسطينيّة اللبنانيّة السوريّة، وتنتشر أشجار الفاكهة بمحاذاة مجرى الحاصبانيّ من جهة الشرق، وشجر الزيتون في غرب القرية، وقد طُرد السكّان من قريتهم عام 1949م إلى جبل كنعان، ثم إلى وادي الحمام، وبقوا حتى سنة 1952م، فرفعوا شكوى إلى محكمة العدل لإعادتهم إلى قريتهم وصدر الحكم بإعادتهم، ولكن السلطات العسكريّة أصدرت أمرًا آخر بإخراجهم لأمور أمنيّة.
قرية ميرون المُهجّرة:
هي واحدة من قرى قضاء صفد، وقد ذكرها الجغرافيّ العربيّ الشهير الدمشقي في القرن الرابع عشر للميلاد، فتقع في السفح الشرقيّ لجبل الجرمق أعلى جبال فلسطين على منطقة صخريّة خفيفة الانحدار، وتطلّ على تلال الجليل الأعلى، حيث يمرّ في المنطقة الجنوبيّة من القرية وادي ميرون، وبالقرب من القرية بعض الخِرَب يعود تاريخها إلى أوائل عهد الرومان والقرن الثالث عشر الميلاديّ، فيها قبور محفورة بالصخر وصهاريج مياه وغيرها من الآثار القديمة، وكان أهلها يعتاشون من الاعتناء ببساتين الزيتون، حيث تتواجد بكثرة في القرية ومن كلّ جوانبها وبالذات شمالها الشرقيّ. ذكَرَها الرحّالة بيدكر عام 1912 فقال: "إن ميرون قرية قديمة على يبدو وسكانها من العرب المسلمين"، وفي الإحصاء السكانيّ عام 1931 كانت ميرون تشمل حارتين؛ حارة العرب إلى الشمال الغربيّ تضمّ نحو 259 عربيًّا، وحارة اليهود حيث كانت قائمة بالقرب من المقام "الكهف"، حيث يرقد الحاخام بار حاي كما يعتقد اليهود وتضم 31 يهوديًّا، وكانت الحارتان متقاربتيْن، وعام 1945 أشارت الإحصاءات إلى أنّ جميع السكان في ميرون هم من العرب، لكّنهم طُردوا على مرحلتيْن، الأولى بعد سقوط مدينة صفد بيد "الهاغاناة" في 10-5-1948،  والثانية في 29-10-1948 بعد سقوط ميرون ضمن عمليّة "حيرام" التي استهدفت قرى قضاء عكا، وبعد قصفها وقصف ترشيحا بثلاث طائرات، وعام 1949 أُسّست مستعمرة "ميرون" إلى الشمال من موقع القرية العربيّة ميرون.
قرية دير القاسي المُهجّرة؛ زنبقة الجليل:
في أقصى شمال فلسطين في الجليل، في العهد العثمانيّ كانت بلِواء صفد، وفي عهد الانتداب البريطانيّ تبعَت قضاء عكا، ويصل أقصى ارتفاع في الشمال الغربي للقرية 753 م جبل سراج وقلاع الراهب وتلّ الرويس، وتمرّ في القرية طريق تقسم القرية إلى حارتيْن شرقيّة وغربيّة يصل إلى ترشيحا وسحماتا وفسّوطة إلى الأراضي اللبنانيّة. تبعد عن عكا 20 كم شمال الشرقيّ و5 كم جنوب الحدود اللبنانيّة تحيط بها من الشمال أراضي فسوطة والمنصورة، ومن الغرب أراضي إقرث، ومن الجنوب أراضي ترشيحا وسحماتا، ومن الشرق حرفيش والقرى اللبنانيّة القريبة منها رميش، عيتا الشعب، وتربيخا ،وتتزوّد القرية بالماء من الينابيع المجاورة مثل ينبوع وادي الحبيس وعين البخرة وبركة ماء كبيرة في الحارة الشرقيّة.
في القرية مقام الشيخ جوهر ومقام أبو هليون وزاوية للطريقة الشاذلية، وفي كلّ حارة جامع، ومناخ دير القاسي بارد ممطر شتاءً، ومعتدل في الربيع وحار بالصيف، تعتمد القرية في معيشتها على الزراعة البعليّة، كزراعة القمح والشعير والذرة والتبغ، والتين والزيتون، وقد احتلها الصهاينة في 20-10-1948، حيث نزح الأهالي القرية إلى لبنان.
قرية عكبرة المُهجّرة:
تقع 2 كم جنوب صفد، وقد سقطت في 9-5-1948، وتُعدّ القرية ذات موقع أثريّ يحتوي على جدران متهدّمة وصهاريج ومعصرة زيتون وقبور وناووس مزدوج منقور في الصخر قرب عين صالح، بالإضافة إلى خربة العقيبة في الجنوب الشرقيّ على ارتفاع 464 م عن سطح البحر، وتعنى سفح الجبل التي كانت تقوم عليها (قرية عكبر) في العهد الرومانيّ تحتوي على أساسات، حجارة منحوتة ومبعثرة، معاصر خمر، وحظائر، وكانت مأهولة في العهد العثماني (1904م)، وكان بعكبرة مسجد واحد ومدرسة للذكور، وعُرفت في العهد البيزنطيّ بأشبار، وما زال خمسة عشر منزلا من المنازل القديمة قائما في الموقع، فضلاً عن مبنى المدرسة، ولم تقم مستوطنة على أرض عكبرة. كانت تنتشر على طرفي وادي عميق يمتدّ من الشمال الى الجنوب وبعد الوادي تل يواجه القرية، وكانت طريق ترابية تصل عكبرة بمدينة صفد المجاورة، وإلى الجنوب الشرقيّ من عكبرة كانت خربة العقيبة، التي يُعد موقعها مطابقًا لموقع قرية أخاباري الرومانيّة عام 1904، وهذه الخربة قرية آهلة (سالنامة ولايت بيروت في عام 1322 ه ص 194)، مذكورة في (د 6/2 : 183) في أواخر القرن التاسع عشر، كانت قرية مبنيّة بالحجارة، وكان معظم سكانها من المسلمين، وقد نُقّب في الخربة المجاورة، فظهرت أثار لأسس أبنية دارسة وحجارة منحوتة ومعاصر للخمر.
قرية الجاعونة المُهجّرة:
الجاعونة تقع على سفح جبل كنعان وتشرف على غور الأردن من الجهات كافة ما عدا الغرب، قريبة من الجانب الغربيّ لطريق عامّ يوصل إلى صفد وطبريّا، وعام 1596 كانت الجاعونة في ناحية جيرة لواء صفد، وعدد سكانها 171 نسمة، وكانت تؤدّي الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير والزيتون، بالإضافة إلى عناصر أُخرى من الانتاج والمستغلات كالماعز وخلايا النحل وطاحونة تعمل بالقوّة المائيّة. في أواخر القرن التاسع عشر كانت الجاعونة مبنيّة بالحجارة، وعدد سكانها 140-200 نسمة يعملون في زراعة التين والزيتون كلّهم من المسلمين، فيها مدرسة ابتدائية للبنين أُسّست أيّام العثمانيّين، وعلى الرغم من قلة موارد المياه عندهم، فقد كانوا يزرعون الحبوب والزيتون والتين الهندي والعنب.
كان مصير الجاعونة وثيق الارتباط بمصير مدينة صفد المجاورة، ويقول المؤرخ الإسرائيلي بِني موريس أن نزوح سكان الجاعونة كان حدث في وقت ما قبل 2-5-1948، وأُفرغت من سكانها في 9-6-1948 إبان الهجوم النهائي على صفد، وعلى الرغم من الاحتلال الصهيونيّ للجاعونة، فقد بقي بعض سكّانها فيها حتى حزيران 1949، وطُردوا منها بالقوّة بعدما أرغمت شاحنات الجيش الإسرائيليّ السكانَ على الصّعود إلى الشاحنات، وأفرغتهم منها على سفح تل أجرد بالقرب من قرية عكبرة المهجرة، واليوم باتت مستعمرة روش بينّا تحتلّ موقع القرية، وقد بقي الكثير من منازل القرية قائمًا؛ بعضها يشغله سكّان المستعمرة، وبعضها الآخر حجريّ مهجور ومدمّر، ولأحد المنازل باب تعلوه قنطرة.
قرية الصفصاف المُهجّرة:
تقع بين قريتي الجش وميرون على ارتفاع 750 م عن سطح البحر شمال غرب صفد بحوالي 9 كم على الحدود الشرقيّة لقضاء عكا، وتبلغ مساحة أراضيها 7391 دونما، تحيط بها أراضي قرى الجش، ميرون، قديثا وبيت جنّ، وكان عدد البيوت داخل البلدة عام 1931 (124 بيتا)، وكذلك مدرسة ابتدائية للأولاد، وتعود ملكيّة أراضي البلدة لسكانها العرب، حيث لم يسكن أيّ يهودي أرض الصفصاف إلاّ بعد سقوطها واحتلالها يوم 29-10-1948، ولا زال في الصفصاف 3 بيوت قائمة حتى يومنا هذا، وهي محتلة من اليهود وتستعمل كمخازن للمزارعين اليهود في مستعمرة صفصوفا والتي أقيمت على أراضي البلدة، وكانت أراضي الصفصاف مقرّ قيادة منطقة صفد في حرب 1948، ومثلها مثل الكثير من القرى التي قاومت حتى الرمق الأخير، وكان نصيبها مجزرة رهيبة ذهب ضحيّتها الكثير من الشهداء أُعدموا رميًا بالرصاص، ثمّ وضعت جثثهم في بئر البلدة وطُمرت إلى الأبد، وكانت تسمى سفسوفا (Safsofa) أيام الرومان، وكانت تؤدّي الضرائب على عدد من الغلال كالقمح والشعير والزيتون والفاكهة، والماعز وخلايا النحل، وكان سكانها كلهم من المسلمين، لهم مسجد وسطها وبضعة دكاكين، ومدرسة ابتدائيّة أُنشئت أيّام الانتداب، وكانت الزراعة عماد اقتصاد الصفصاف، وكان شجر الزيتون وغيره من الأشجار المثمرة يُستنبت في الأراضي الواقعة شمالي قرية الصفصاف.
قرية سحماتا المُهجّرة:
تقع في قلب الجليل الأعلى إلى الشمال الشرقيّ من عكا وتبعد عنها 17كم، أزيلت عام 1948م وأُقيم على أراضيها المسلوبة (موشاف حوسين) عام 1949م، يمرّ بمحاذاتها طريق عام يربطها بمدينة صفد، وبمدينتي نهاريا وعكا وبعض القرى، تحدّها قرية ترشيحا غربًا، وكفر سميع والبقيعة جنوبًا، وبيت جن جنوب شرق، وحرفيش وسبلان شرقًا، ودير القاسي وفسوطة شمالا، وذكر المؤرخ الفلسطينيّ مصطفى الدباغ في كتابه "بلادنا فلسطين" أنّ أصل تسمية سحماتا قد يكون قد حرّف من "سماحا" السريانيّة بمعنى النور والإشراق، أمّا الشيخ سمعان، أبو عفيف (1912-1999) فيقول:
كانت القرية القديمة موجودة على الجهة الشماليّة من القرية الحاليّة، وكان فيها كنيسة يعود تاريخها إلى ما قبل أكثر من 1500 سنة وكان اسمها قرحاتا، يمكن الاسم بيزنطي، وكان يعيش فيها وجيهٌ اسمه متى، مرض متى مرضًا قويًّا وعجز المطبّبون عن علاجه، فنقلوه إلى تلة جنب القرية، فيها هواء نقيّ وماء نظيف وطبيعة حلوة، بعد فتره شفي وصارت الناس يقولون: "صح متى، صح متى"، بعدها تحوّلت الصّاد لسين، وصارت سحماتا.
كان أغلبيّة سكانها من المسلمين، ولكنها كانت مثالاً يحتذى في التسامح والترفع عن الطائفيّة والتعصّب الدينيّ، ورغم وجود ثلاثة مخاتير فيها فكانت الكلمة الأخيرة للمختار قيصر السمعان، إذ كان موضع ثقة الناس ومرجعًا لحلّ مشاكلهم، حتى المعاملات الشرعيّة كانت تتم عن طريقه، لدرجة جعلت القاضي الشرعيّ في عكا يلفت نظر مشايخ سحماتا إلى هذه الظاهرة، فما كان منهم إلا أن لخّصوا موقفهم بكلمات بسيطة مُعبّرة: "نحن على دين قيصر"، فأُعجب القاضي بهذا الموقف ووعدهم بأنه سيعطي الأولويّة للمعاملات التي تحمل توقيع قيصر السمعان.
اشتهرت سحماتا بزراعة الدخان والحبوب والتين والصبر والعنب، وأشجار الزيتون والسنديان والبطم والزعرور، فكانت سحماتا بهجة للناظر، وتكوّنت سحماتا من حارتين أساسيتين تفصل بينهما البرك وساحة القرية الرحبة التي كانت تشهد ليالي الأعراس؛ فالحارة الغربية (التحتا) يتوسطها المسجد والكنيسة، وكانت تضمّ المدرسة الابتدائية التي اسسها العثمانيون في العام 1886، والدراسة فيها كانت حتى الصفّ الرابع، وتضم أيضًا المنزول (الديوان)، والحارة الشرقية (الفوقا) التي تقع في أعاليها القلعة التي بناها الصليبيون، وفي القرب منها جنوبًا كانت المدرسة الزراعية التي تأسست أيّام الانتداب البريطانيّ تحيطها حديقة مساحتها عشرة دونمات لتدريب الطلاب على طرق الزراعة العمليّة، تربية الدواجن (الدجاج والحمام)، وتربية النحل بالأسلوب الحديث، ولكن لم يفلت أهالي سحماتا من تعذيب وهمجيّة جيوش الانتداب البريطانيّ، خاصّة أنّ أهالي سحماتا ناضلوا وثاروا ضد الانتداب وتحيّزه للحركات الصهيونيّة.
تمّ إسكان اليهود في بيوت سحماتا إلى أن تمّ الانتهاء من بناء مستوطنات لهم على أراضيها، بعد ثلاث سنوات، دُمّرت القرية تدميرا كاملا حتى يفقد الأهالي الأمل في العودة إليها، وأقيمت على أراضي سحماتا مستوطنتان هما: (حوسن وتسورئيل)، والجناح الشرقيّ من مستوطنة (معلوت)، وكذلك البحيرة الاصطناعيّة.
قطع الأهالي عهدًا على أنفسهم للقيام بأعمال تطوّعية أسبوعيّا للمحافظة على المقدّسات والمقابر، التي لم تتورّع السلطات عن تدنيسها وإدخال الأبقار والحيوانات إليها، فقام المستوطنون بسرقة شواهد القبور وآثار سحماتا ووضعها في ساحات بيوتهم للزينة، وما زال مُهجّرو سحماتا يخوضون معركتهم من خلال جمعيّة أبناء سحماتا التي تأسست عام 1996، فقِسم منهم وصل إلى سوريا وضواحي دمشق، والغالبيّة منهم حطّت بهم الرحال في مخيّمات لبنان وبعض مدن وقرى لبنان، وبقاع العالم كبقية لاجئي فلسطين.
قرية الكويكات المُهجّرة:
قرية عربيّة ساحليّة تقع على بعد تسعة كم شمال شرق مدينة عكا الساحليّة في لواء الجليل العربيّ، ترتفع (55) متراً عن سطح البحر، وتنتشر على تلٍ قليل الارتفاع في الجزء الشرقيّ من سهل عكا، وطرق فرعيّة تربطها بطريق عكا صفد العامّ وبالقرى المجاورة، وكان الصليبيّون يسمّونها (كوكيت)، والرحّالة الذين زاروها في أواخر القرن التاسع عشر وصفوها بأنها قرية مبنيّة بالحجارة تقع على سفح أحد التلال، وكان عدد سكان الكويكات عام 1881 م 300 نسمة، يزرعون الزيتون جميعهم من المسملين، وفيها مدرسة ابتدائيّة بناها العثمانيّون عام 1887، ومسجد ومقام للشيخ الدرزي أبو محمد القريشي، وبسبب قرب القرية من عكا استطاع سكّانها الاستفادة من الخدمات التربويّة والطبيّة والتجاريّة المتاحة في المدينة، وكانت الآبار تمدّ القرية بالمياه للريّ وللاستخدام المنزليّ، وأراضيها تعتبر من أخصب أراضي المنطقة، وكانت الحبوب والزيتون والبطيخ منتوجاتها الرئيسية، وتربية الدواجن وإنتاج الألبان، وكانت المواقع الأثريّة في سحماتا وجوارها وتل ميماس تضمّ خزانات قديمة للمياه، ومعاصر للعنب ومدافن محفورة في الصخر.
قرية هوشة المُهجّرة:
قامت على تلال قليلة الارتفاع فاصلة بين سهل حيفا ومرج ابن عامر، يمتدّ الى الغرب منها واد واسع يُشكّل الحدود بينها وبين خربة الكساير، وذهب بعض الباحثين إلى اعتبارها مُطابقة لبلدة حوصة التوراتيّة، من مواطن سبط بني أشير الإسرائيليّ، وقد صُنفت هوشة مزرعة في معجم فلسطين الجغرافيّ المفهرس زمن الانتداب، ومنازلها تتجمع على شكل العنقود حول مركز القرية الذي كان فيه صهريج مياه، وكان سكانها من المسلمين يشاركون خربة الكساير المجاورة في مقبرة، أمّا اقتصاد هوشة فكان يعتمد على الزراعة وتربية المواشي، وكانت الحبوب أهم محاصيل القرية وتزرع في الأراضي الجنوبيّة الغربيّة للقرية، كما خُصّصت مساحة صغيرة إلى بعض الخرائب القديمة العهد، منها أسس أبنية دارسة ومقام لنبيٍّ يدعى هوشان، وبئر وقبور منقورة في الصخر وأرضيّات من الفسيفساء.
دُمّرت هوشة وسُيّجت المنطقة وأُعلنت موقعًا أثريًّا، ولم يسلم منزل واحد في القرية من الهدم، مع أنّ حيطان عشرين منزلا تقريبًا بقيت قائمة، وما زالت أُطر النوافذ والأبواب في الأبنية الحجريّة بادية للعيان، وتنتصب شجرة نخيل وحيدة في الموقع الذي غلب عليه شجر التين ونبات الصبّار، واستمرّ البدو المقيمون في الجوار يستعملون المقبرة الواقعة جنوبيّ الموقع، وثمّة مقام قريب وبستان سرو شمالي الموقع.
قرية الخصاص المُهجّرة:
تقع في الجزء الشمالي من سهل الحولة، على مصطبة طبيعية عرضها مئة متر تقريبًا، تشكلت قبل آلاف السنين من تقلص بحيرة الحولة القديمة، والتي كانت ذات مرة تغطي حوض الحولة كله، وكان نهر الحاصباني يمرّ إلى الغرب من الخصاص شاقا مجراه عبر الجبال، طريق فرعية تصل الخصاص بطريق عامّ يؤدي إلى صفد وطبريّا، وقد وصف الجغرافي العربيّ ياقوت الحموي (توفي سنة 1229) الخصاص بأنّها من قرى بانياس السوريّة، وعام 1945 كان عدد سكانها في موازاة نهر الحاصباني، بينما كان شجر الزيتون مغروسًا في الجهة الغريبة، وفيها مقام لشيخ يدعى عليّ يقع في الجوار، وبضعة قبور منقورة في الصخر، وتُعدّ الخصّاص ذات موقع أثريّ يحتوي على مدافن منقورة في الصخر ونحت في الصخور، وللغرب من القرية يقع تل البطيخة يرتفع 164 م عن سطح البحر، ويحتوي على تل أنقاض، شقف فخار على وجه الأرض، وحجارة مبعثرة.
قرية الحسينية المُهجّرة:
كانت مبنية على تل قليل الارتفاع، في الركن الجنوبيّ الغربيّ من سهل الحولة، وفي الجانب الشرقيّ من طريق عام يفضي إلى صفد وطبرية. وقد لحظ الجغرافي العربي ياقوت الحموي (توفي سنة 1229) قِدم أبنيتها، وامتدح واحدًا منها زعم أنه كان في الأصل هيكلاً، وربما كان بناه سليمان؛ وكان ماؤه شديد الحرارة، لكنه صاف تمامًا وعذب، يتدفق من كلّ واحدة من كوى البناء الاثنتي عشرة، وكان الماء الدافق من كلّ منها يشفي بحسب ما قيل من داءٍ مخصوص، واعتبره الحمويّ موضعًا من عجائب الأرض، وكانت منازلها مبنيّة بالحجارة، وفيها مدرسة ابتدائية تشاركها فيها قرية تليل المجاورة، وأراضيها خصبة وغنيّة بالمياه الجوفيّة والسطحيّة المستمدّة من الينابيع والجداول والآبار الارتوازيّة، وكان سكانها مسلمين، ويعتمدون في تحصيل رزقهم على الزراعة وتربية المواشي.
قرية الغابسيّة المُهجّرة:
كانت مبنيّة على تل صخري ينتأ من سهل عكا، وكانت تقع عند أسفل جبال الجليل الغربيّ إلى الجنوب تمامًا من طريق عام يربط ترشيحا بمستعمرة نهاريا وبعكا، والكهوف الكثيرة استخدمت كمقابر، وكانت آهلة في العصر الكنعاني، وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت الغابسيّة مبنيّة بالحجارة على قمّة تل، وكان عدد سكانها 150 نسمة تقريبًا وتحيط بها أشجار الزيتون والتين والرمّان والبساتين.
كانت القرى الثلاث الغابسيّة والشيخ داود والشيخ دنون قريبة جدًّا من بعضها، والشيخ داود والشيخ دنون كانتا متداخلتين في بعض الأجزاء، أمّا الغابسيّة فكانت تقع على بعد 500 متر منهما، وكان السكّان كلهم من المسلمين، وكان في الغابسيّة مدرسة بناها العثمانيون في سنة 1886، وكانت منازل القرية مبنية بالإسمنت المسلح والحجارة المتماسكة بالطين والأسمنت، وكان اقتصادها يعتمد على تربية الحيوانات وزراعة الحبوب والخضروات والزيتون الذي كانوا يعصرونه في معصرتين تدران بالحيوانات، في الغابسيّة والشيخ داود.
قرية البصة المُهجّرة:
كانت القرية تقع على سفوح تلّ صخريّ إلى الشمال من وادي البصة، وكانت طريق فرعية تربطها بالطريق العام الساحليّ بين عكا وبيروت، ولعلّ اسمها مشتق من اللفظة الكنعانية (بصاة) وتعني المستنقع، وكان اسمها بيزيث في الفترة الرومانيّة، وأشار إليها عماد الدين الأصفهاني (توفي سنة 1201)، وهو مؤرّخ كان مُقرّبًا من السلطان صلاح الدين الأيوبيّ في كتاباته باسم عين البصّة، كانت تابعة لناحية تبنين لواء صفد، تزرع القمح والشعير والزيتون والقطن والفاكهة، بالإضافة إلى تربية الماعز وخلايا النحل والمراعي. كانت البصّة تقع في منطقة مدار نزاع، ما بين ظاهر العمر الذي أصبح الحاكم الفعليّ لشمال فلسطين لزمن قصير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبين زعماء جبل عامل، أمّا خليفة ظاهر العمر، أحمد باشا الجزار فقد جعل البصّة الناحية، وفي أواخر السبعينات من القرن التاسع عشر كانت البصة مبنيّة بالحجارة، ويسكنها 1050 نسمة تقريبًا، وكانت تقع على طرف سهل وتحيط بها بساتين الزيتون والرمان والتين والتفاح، وكانت جزءًا من لبنان قبل الحرب العالميّة الأولى، غير أنّها أُلحقت بفلسطين بعد الحرب عندما رسمت بريطانيا وفرنسا الحدود بين هذين البلدين.
توسعت البصة خلال الانتداب البريطانيّ لتشمل تلة الجبيل، وعام 1948 كان عدد منازل البصّة يفوق 700 منزل، وكلّ منزل يشتمل على غرفة واحدة واسعة ذات سقف عال، وحوش كبيرل لنشر الغسيل وحفظ الحيوانات فيه، والحوش يشمل غرفًا لحفظ الحبوب وعلف الحيوانات، وبئرًا تجمع مياه الأمطار فيها. وكانت المنازل القديمة مبنية بالحجارة ومتقاربة بعضها من بعض، ويفصل بعضها عن بعض بعض شوارع وأزقة مرصوفة حجارة، ويحصلون على مياه الشرب من أبار تتجمع مياه الأمطار، ومن نبع داخل محيط القرية ومن بئر ارتوازية حفرت في الأربعينات على بعد نحو 1.5 كم غربي القرية، والمنازل الجديدة التي بنيت بعد الحرب العالميّة الأولى فكانت مكوّنة من طبقتيْن، والحوش كان في الغالب يشتمل على حدائق منزليّة فيها أنواع من أشجار الفاكهة والخضروات، وفي فترة 1944\ 1945 كان عدد سكان البصّة وخربة معصوب المجاورة 1590 مسيحيًّا و1360 مسلمًا، وعام 1948 كان العدد يُقدّر بنحو 4000 نسمة، وكانت الزيادة تُعزى إلى فيض من المهاجرين من مناطق أخرى، وجدوا لأنفسهم أعمالاً في القواعد العسكريّة البريطانيّة القريبة، وإلى انخفاض نسبة الهجرة من القرية. كانت البصّة ثانية كبرى القرى في المنطقة من حيث عدد السكان، وقد أُنشئ مجلس فيها عام 1922، وأنشئت شبكة من قنوات المياه التي مدت منازل القرية بمياه الشرب، كما ساعد المجلس القرويّين في الشؤون الزراعية كاستئجار النواطير للحقول، وإرشادهم في شؤون الزراعة وتوقيت مواسم الحصاد لشتى المزروعات.
وكان في البصّة مدرسة ابتدائيّة رسميّة للبنين شيدتها الدولة العثمانية عام 1882، ومدرسة ثانويّة خاصّة ومدرسة ابتدائيّة رسميّة للبنات، وناديان رياضيّان ومسجدان وكنيستان وأضرحة ومقامات عدّة، ومنتزهات ومقاهٍ، وأسّس العمال في البصّة فرعًا محلّيًّا لاتحاد العمال الوطنيّ الفلسطينيّ، يُدافع عن مصالح العمال، ومتاجر تعاونيّة، وما يزيد على عشرين متجرًا تلبي حاجات القرى، وحِسبة أيّام الآحاد؛ سوق مفتوحة للمنتوجات بالجُملة والمُفرّق وسط البصّة، إضافة للحرف وصناعة الصابون، فضلاً عن العمل إجراء في القواعد العسكريّة البريطانيّة، والزراعة وتربية الحيوانات والمواشي والدواجن، وفي أوائل الأربعينات كان في البصّة تعاونيّة للفلاحين تملك الأدوات الزراعيّة وشاحنة وآلة للحصاد، وقد عثر على أثريّات داخل البصّة وخارجها، وبقايا قرية قديمة وأجزاء أرضيات من الفسيفساء، وبعض الآبار والقبور المنحوتة في الصخر، كما كشفت دائرة الآثار الفلسطينيّة عام 1932 مقبرة مسيحيّة عُثر فيها على نقود وزجاجيّات تعود إلى القرن الرابع للميلاد، وإلى جوار القرية ما يفوق على 18 خربة.
قرية النبي يوشع:
تقوم على تلال شديدة الانحدار بالقرب من مجرى واد صغير، مشرفة على سهل الحولة إلى الشرق والجنوب، وطريق تربطها وصلة مرصوفة بالحجارة بالطريق العام المفضي إلى صفد وطبرية، ومقام يعتقد أنه مثوى النبي يوشع، ففي أواخر القرن الثامن عشر، أنشأت أسرة من آل الغول إظهار التقوى وخدمة المقام، وكانوا يتألفون من خمسين شخصًا تقريبًا، وهم أوّل من أقاموا في الموقع وزرعوا الأرض المحيطة، وتحول الموقع لاحقًا الى القرية، وقد اختار البريطانيّون القرية في أثناء الانتداب موقعًا لبناء مركز للشرطة، وكان سكان النبي يوشع وجميعهم من المسلمين يقيمون موسمًا في الخامس عشر من شعبان، مماثلاً لموسم النبي روبين الذي كان يقام في قضاء الرملة، وكان سكان القرية يكسبون رزقهم من الزراعة.
قرية النبي روبين:
كانت تقع على الضفة الجنوبيّة لنهر روبين، وتبعد 3 كم عن البحر الأبيض المتوسط، ولها أهميّة عظمى لدى الفلسطينيّين، لأن فيها مقام النبي روبين الذي كان يُجلّ إجلالاً عظيمًا بموسم سنويّ، تقام فيه احتفالات إسلامية وشعبيّة، ففي التراث اليهوديّ كان روبين بِكر يعقوب من زوجته ليئة (التكوين 29: 32)، ولم يكن من غير المألوف عند المسلمين الفلسطينيّين أن يُجلّوا أمثاله من أنبياء العهد القديم ببناء المقامات لهم؛ فقد بنوا مقامًا للنبي موسى مثلاً جنوبي أريحا، غير بعيد عن الموضع الذي رُوي أنه دفن فيه، ومن المعتقد أنّ مقام النبي روبين أُقيم في موضع هيكل كنعانيّ، وأنّ الموسم نفسه يعود تاريخيًّا إلى أصل وثني قديم، وكان الموسم يدوم من شهر تموز/ يوليو إلى أيلول/سبتمبر، وكان أحد أكبر موسميْن لنبيّيْن من أنبياء العهد القديم. أمّا الموسم الآخر فكان موسم النبيّ موسى، وكان الناس يتوافدون إلى المقام من يافا واللدّ والرملة، ومن قرى المنطقة، ويُنشدون الأناشيد الدينيّة والدنيويّة/الشعبيّة، ويرقصون الدبكة ويقيمون الأذكار، ويشاهدون سباقات الخيل والألاعيب السحريّة، ويستمعون إلى الوعاظ أو إلى الزجّالة، وكان المشاركون في هذه الأنشطة يقيمون في خيام يضربونها حول الموقع، وتُقدَّم لهم المرطبات من مقاهٍ ومطاعم مؤقتة، ويشترون البضائع من أكشاك تقام هناك، وكان السكان من قبيلة أبو صويرة، المتحدرة من بدو المالحة الذين كانوا يعيشون في سيناء، وكانت مساحة أرض القرية المغطاة في معظمها بكثبان الرمل، ثاني أكبر مساحات القرى بعد يبنة في ذلك القضاء، وكانت تعدّ من جملة الأوقاف الإسلاميّة، وكان بعض منازلها مشيّدًا داخل بساتين الفاكهة، وقد بني بعض المتاجر ودار للسينما في جوار المقام، وكانت القرية تتزود بالمياه من عدّة آبار وينابيع، كما بُنيت فيها مدرسة ابتدائية للبنين عام 1946، كان يؤمّها 56 تلميذًا في أواسط الأربعينات، وكان السكان يعملون في زراعة الحبوب والحمضيات والعنب والتين وتربية المواشي، ويبيعون الطعام للزوّار أيّام الموسم، وكانت أشجار الكينا والأزدرخت (الزنزلخت) تنبت على ضفة النهر، وتغطي رقعة كبيرة من أراضي القرية، وفي أقصى الطرف الجنوبيّ الغربيّ من أرض القرية، كانت تنتصب منارة روبين المبنيّة على أطلال مرفأ يبنة القديم، الذي كان يُسمّى يامنيتاروم بورتوس-Iamnitarum Portus أيام الرومان، وقد كشفت التنقيبات الحديثة هناك عن سور من الطين المرصوص، مربّع الشكل على وجه الإجمال، طول ضلعه 800 م، ويعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد.



174
عودة آمال عوّاد رضوان وهيام قبلان من الملتقيات الثقافية المغربية!




آمال عوّاد رضوان
آمال عوّاد رضوان وهيام قبلان تعودان من المغرب، بعد مشاركتهما في أربعة ملتقيات ثقافية في جرسيف، زرهون، مريرت وتيفلت، والفرحة عامرة في قلبيهما، والذكرى حافلة بجمال المغرب وحفاوة أهله!
بحضور عدد كبير من الشعراء والتشكيليين والزجالين والأدباء والمثقفين من داخل المغرب وخارجه، وتحت شعار- الإبداع التزام واع ومتجدد- أقامت جمعية الهامش الشعري ملتقى جرسيف الدولي الخامس للشعر والتشكيل في المغرب بفضاء دار الطالب جرسيف، بعد أن تمّ استقبال المشاركين بفضاء فندق أطلس جرسيف.
قام السيد عامل عمالة إقليم جرسيف يرافقه وفد بافتتاح الملتقى والمعرض التشكيلي الجماعي "سفر على الهامش 5" في 5-4-2012 مساء، الذي شارك قيه كل من التشكيليين بوزيد بوعبيد– تطوان، ومحمد شريفي– الرباط، وداليزار شطورو– تونس، وعز الدين الدكاري– طنجة، ونتاشا نوفاك– ليتوانيا، ومصطفى الغزلاني– المحمدية، وأنس حمودان– شفشاون، ومحمد الدودي– طنجة، وبدر لمريزق– طنجة، ومحمد يتون– طنجة، ونبيلة السعيدي– وجدة.
بعد كلمة وزير الثقافة، تمّ تكريم الشاعر عبد الكريم الطبال مع شهادة في حقه، وكذلك تمّ تكريم الفنان التشكيلي بوزيد بوعبيد  مع شهادة في حقه، ومن ثمّ  كانت القراءات الشعرية للزجال "إدريس المسناوي" وأخرى للشاعر المحتفى به "عبد الكريم الطبال"، والشاعرة التونسية "ليلى الزيتوني".
 
بعد حفل الشاي على على شرف ضيوف الملتقى كانت الجلسة الشعرية الأولى بعرافة الزجال حفيظ المتوني، وقد شارك فيها كل من الشاعر عدنان الصايغ- العراق، محمد العياشي- مريرت، ريحانة بشير- الرباط، هيام مصطفى قبلان- فلسطين، زين العابدين اليساري- تيفلت، بوزيد حرز الله- الجزائر، الزبير افراو- جرسيف، فريال الدالي- ليبيا، محمد الزروالي- تازة، فوزي عبد الرحيم- ازغنغان واحميدة بلبالي- تيفلت.
كما أقامت جلسة شعرية بعرافة الشاعرة ليلى الزيتوني شارك فيها كل من: نعيمة قصباوي- خنيفرة، جمال أزراغيد- الناظور، آمال عوّاد رضوان- فلسطين، عزيزة احضية عمر- طانطان، محمد الراشق- الخميسات،  محمد العيوني- تاونات، صابرين الصباغ- مصر، عبد الحكيم ايت تاكنيوين- ورززات، ابراهيم قهوايجي- سبع عيون، محمد ضريف- بوجنيبة، مصطفى الغزلاني- المحمدية
وبعد استراحة الشاي كانت جلسة شعرية أخرى  بعرافة الزجال عادل لطفي شارك فيها كل من: أحمد السبتي- تيفلت، محمد اعشبون- هولندا، علال الحجام- ، سميرة جودي- مكناس، فرج عمر الأزرق- تونس، حفيظ المتوني- جرسيف، عبد الرحيم أويري- مرزوكة- محمد زرهوني – جرسيف.
وفي الجلسة النقدية حول الإبداع والالتزام، تولى العرافة الزجال سيّرتها الناقدة خديجة شاكر من سلا، والناقد محمد البدوي- تونس، وبنعيسى بوحمالة – مكناس
وفي مولاي ادريس زرهون احتفى المهرجان التاسع لربيع الشعر بزرهون بالشاعر المغربي الريفي المهاجر محمد أعشبون، والذي نظمته جمعية الأوراش للشباب فرع زرهون تحت شعار "الشعر وأسئلة الربيع العربي" بتاريخ 8-9-10 أبريل 2012.
افتتح المهرجان الأستاذ محمد الشرادي بكلمة ترحيبية للحضور وللجمعية التي تكرم وجها إبداعيا وإنسانيا يستحق التفاتة كبيرة؛ ابن الريف من الحسيمة محمد أعشبون، الذي هاجر إلى هولندا ولم يتخل عن القلم بل ظل وفيا للإبداع ومخلصا له ومواكبا للأنشطة الثقافية المقامة بالمغرب.
ثم أعقبتها كلمة ترحيب رئيس الجمعية عبد الرحيم الحليمي بالمشاركين من داخل الوطن المغربي والوطن العربي فلسطين، العراق، تونس، مصر، الجزائر، وتحدث عن المجهودات التي تبذلها الجمعية للوفاء بتنظيم هذا المهرجان سنويا، وشكر جميع الجهات الداعمة كوزارة الثقافة، والمجلس البلدي وساليدور وغيرها وكلمة رئيس المجلس البلدي أشادت بهذا النشاط الثقافي الراقي الذي تنجزه الجمعية بمعية شركائها والتي تجعل المدينة كل سنة محجا للشعراء والزجالين المبدعين من المغرب وخارجه وأهمية الدور الكبير للثقافة في تحقيق التنمية الفعلية والمساهمة في هذا الفعل الإبداعي الجميل.
كما انتقل الحضور الى حفلة شاي وإلى لحظات إبداعية تمّ فيها توقيع الدواوين الشعرية التي أصدرها الشعراء وهي على التوالي: "غنج المجاز" لجمال أزراغيد (الناظور)، "أناديك قبل الكلام" لإبراهيم قهوايجي (سبع عيون) ، وديوان "أقرأ  لتراني" لزين العابدين اليساري (تيفلت)، ثم ديوان "احتمالات السقوط" والمجموعة القصصية "المقبرة الشرقية" لمحمد أعشبون (الحسيمة/ هولندا)، وديوان "حين يتكلم الماء" لريحانة بشير (الرباط).
وعودة الى جلسة شعرية أدارها مدير المهرجان "حسن إمام"، وشارك فيها الشعراء الذين وقعوا دواوينهم فقط، وأعقبتها وقفة التكريم والاحتفاء بالشاعر والقاص المبدع محمد أعشبون، فقدمت له جوائز تقديرية من جمعية الأوراش للشباب، وجمعية الهامش الشعري بجرسيف، وجمعية المبدعين المغاربة بتفلت، وقد تخللت هذه الأمسية الافتتاحية وصلة غنائية لفرقة وليلي بمولاي ادريس زرهون.
ثم كانت الجلسة الشعرية الثانية بإدارة عزيزة احضية وجمال أزراغيد، وساهم فيها كل من:
عدنان الصائغ الشاعر العراقي المقيم بلندن، وعلال الحجام(مكناس)، عبد الحكيم تاكنوين (ورزازات)، آمال عوّاد رضوان (فلسطين)، وعبد العالي أواب (الشماعية)، وفاطمة الزهراء أمسكين(الرباط)، وصابرين الصباغ (مصر)، وعبد الرحيم أويري (قلعة مكونة)، وهيام قبلان (فلسطين)،واسماعيل الغربي (الجزائر)، ومراد العلاوي والزبير الخياط (زايو).
وفي الليل كانت أمسية شعرية وزجلية وفواصل موسيقية بادارة ادريس الشجاع والدكتور خالد لوكيلي شارك فيها: خديجة شاكر (سلا)، عليا الإدريسي (الرباط)، عزيزة حضية( طانطان)، سميرة جاودي(مكناس)، خالد لوكيلي (زرهون)، وفرقة الملحون وليلي بزرهون.
وفي اليوم الثاني كانت جلسة نقدية أدارها إبرهيم قهوايجي حول شعار الدورة: "الشعر وأسئلة الربيع العربي"، ساهم فيها د. محمد بدوي (رئيس اتحاد كتاب تونس)، ود. محمد الديهاجي اللذان أبرزا مميزات وخصائص الشعر الذي ظهر إبان الربيع العربي، والذي لم تكتمل صورته بعد.
وفي المساء كانت أمسية زجلية أدارتها الشاعرتان: عليا الإدريسي وفاطمة الزهراء أمسكين، شارك فيها زجالون مغاربة: ضريف محمد (خريبكة)، شيخ الزجالين ادريس المسناوي،احمد السبتي (تيفلت)، محمد مومر، عبد الحق طريشة (تاونات) مليكة فتح الاسلام (الشماعية)، خالد الموساوي (فاس)، أمينة الخياطي (زرهون)، عبد الكريم الينوس (الشماعية) وغيرهم…
وفي الصباح انتقل موكب الشعراء والزجالين إلى موقع وليلي الأثري للتعرف عليه وإلقاء قصائد الومضة في جو شعري احتفالي رائع.
وعبر ملتقاها الدولي الرابع للشعر بقاعة عدال/مريرت، نظمته جمعية "إيمولا" بالتنسيق مع المجلس البلدي لمريرت، وتحت شعار "فليخضر الأطلس شعرا"، بتاريخ 11 و 12 أبريل.
رحب الشاعر محمد زرهوني الحضور والمبدعين من المغرب، فلسطين، تونس، العراق، مصر، السعودية، القادمين للاحتفاء بهذا العرس الشعري، ثم كانت كلمة لإبراهيم قهوايجي (إدارة الملتقى)، فاطمة الزهراء الزرقاني (رئيسة الجمعية)، محمد عدال (المجلس البلدي)، الناقد محمد بدوي (كلمة المشاركة العربية)، والزجال حفيظ اللمتوني (كلمة المشاركة المغربية).
وبعد حفل شاي كانت أمسية شعرية بمشاركة:
عدنان الصائغ (العراق)، آمال عوّاد رضوان (فلسطين)، محمد أعشبون (هولندا)، إبراهيم قهوايجي (سبع عيون)، محمد زرهوني (جرسيف)، نجيب طبطاب (مكناس)، محمد العياشي (مريرت)، صابرين الصباغ (مصر)، إسماعيل زويرق (مراكش)، عبد الرحيم ايويري (قلعة مكونة)، سميرة جودي (مكناس)، محمد البلبال (تيفلت)، إلهام زويرق (مراكش)، لحسن عايي (الراشيدية)، أمينة حسيب (مراكش).
وفي اليوم التالي كان الاحتفاء بالناقد المغربي نجيب العوفي وندوة نقدية حول "تجربة الشاعر والناقد نجيب العوفي"، بمشاركة محمد الوالي، عبد السلام الفيزازي (أكادير)، بنعيسى بوحمالة (مكناس)، محمد بدوي (تونس) وكانت كلمة للناقد نجيب العوفي عبر فيها عن سعادته في رؤية تجربته في مرايا الاَخرين ومدى اعتزازه بكلماتهم، كما شكر الجمعية المنظمة ومريرت على هذا الاحتفاء
وفي المساء كانت أمسية شعرية وزجلية بمشاركة: ناجي حرابة (السعودية)، حفيظ اللمتوني (جرسيف)، هيام قبلان (فلسطين)، إسماعيل هموني (كلميم)، فتيحة المير (برشيد)، خالد الموساوي (فاس)، فتيحة رشاد (الدار البيضاء)، نعيمة قصباوي (خنيفرة)، أوحمو الحسن الأحمدي(تارودانت)، وقد تخلل الملتقى مشاركة الفنان الأمازيغي عبد الله زرزوقي وتوقيع ديوان "منابع الأشواق" لمحمد العياشي، و"أناديك قبل الكلام" لإبراهيم قهوايجي.
وفي قاعة دار الشباب 9 يوليوز بمدينة تيفلت بالمملكة المغربية وبشراكة بين اتحاد المبدعين المغاربة وجمعية الإشعاع الثقافي، الأمل للتنشيط الاجتماعي والثقافي وبدعم من المجلس البلدي للمدينة، كانت الدورة الثانية لملتقى تيفلت العربي للشعر.
وبتآلف حميمي بين الحضارة الامازيغية العريقة والوالعربية، وبتنظيم موسيقي شعري راق ومميز عنصره شباب وصبايا، وذلك بتاريخ 14-15-16 أبريل 2012، اختتمت آمال عوّاد رضوان وهيام قبلان زيارتهما الشعرية في ملتقيات المغرب الثقافية، والتي لا زال عبقها يخمر الذاكرة بحفاوة وبسمة وطيبة المغرب وأهله.
قدم الشاعر والقاص محمد بالخاوري رئيس اتحاد المبدعين المغاربة كلمة ترحيبية باسم الجمعيات المنظمة، وبدأت الأمسية الشعرية الأولى بعرافة علية الإدريسي وعبد الحميد شوقي بقراءات شعرية لكل من:
رجاء الطالبي،  إبراهيم الجريفاني من المملكة العربية السعودية، محمد أعشبون من هولندا، نزار سرطاوي من الأردن، زين العابدين اليساري من المغرب، والزجال احميدة بلبالي،  إبراهيم قهوايجي، محمد البلبال بوغنيم، ومحمد العناز.
وبعد حفل شاي كانت الأمسية الشعرية الثانية، بعرافة حميدة بلبالي وابراهيم قهوايجي، شارك فيها  كل من:  سعد الغريبي من المملكة العربية السعودية، عبد السلام الدخان، هيام قبلان من فلسطين، محمد مومر، محمد زرهوني، تم الاحتفاء بالشاعر الزجال إدريس امغار المسلاوي، عبد الرحيم تكانيونين وعبد الرحيم الحليمي وعبد الحميد شوقي.
وفي اليوم التالي صباحا كانت ندوة حول عنوان الحداثة ورهان الكتابة المعاصرة بمشاركة النقاد: محمد البدوي من تونس، محمد معتصم، محمد يوب، محمد رمصيص ونور الدين بوصباع.
وفي المساء كانت أمسية شعرية شارك فيها كل من: محمد بالخاوري، سليمان دغش من فلسطين، خالد الموساوي، فوزية العكرمي من تونس، عبد الله ايت بولمان، نور الدين بوصباع، الطيب هلو، عبد الرحيم أبو صفاء، الميلودي العياشي، أحمد السبتي، علية الإدريسي البوزيدي، حسن اعبيدو، نجاة ياسين من بلجيكا، فاطمة الزهراء امسكين، محمد الزرهوني، حفيظ اللمتوني وآمال عوّاد رضوان.
 
     

175
علبةٌ مِن ذهبٍ تُدحرجُها عيونُ الهُدى!
آمال عوّاد رضوان
حين يكون الإبداعُ طريفا هادفا ومُوجّهًا للخير، وحين يكون عمادُه الحبّ والموسيقا والحرّيّة وجمال الطّبيعةِ والمصالحة السّلميّة بينَ الإنسانِ والمخلوقات، وتعزيز هذه هذه القيم في النفوس، من خلال الدّمج بينَ الخيالِ العلميِّ والواقع، فلا بدّ من التغني بهكذا إبداع، ولا بدّ من تداوله بإصدارات تتجدّد وتتكرّر، وها علبة من ذهب للشاعر الأديب وهيب نديم وهبة، تعود حروفها تتدحرج ثانية على مُعدّات الطباعة في دار الهدى، لتصدر الطبعة الثانية 2012 بنسخة جديدة وتنقيح جديد، ومباشرة بعد صدور كتابه "مفاتيح السّماء"، الذي نال الجائزة اللبنانيّة لهذا العام.
"علبةٌ مِن ذهب" قصّةٌ تُناسبُ الأجيالَ النّاشئةَ واليافعينَ، الطّبعةُ أنيقةُ الشكلِ بغلافٍ سميكةِ، والورقٌ سميكٌ ومصقولٌ، توشّي القصّةَ وتُحَلّيها رسومٌ ناطقةٌ ومُعبِّرةٌ وجذّابةٌ، أشرفتْ عليها الفنّانةُ الفارسيّةُ فاطمة بور حاتمي، وتولّى مهمّة المراجعةِ اللّغويّةِ الشاعر جورج جريس فرح، من إصدار دار الهدى للطباعة والنشر كريم (2001) م.ض، وهي طبعة ثانية مزيدة ومنقحة2012.
وجاء في خبر التعريف: ( الْقِصَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ رِحْلَةٍ إلَى أَقَاليمِ الْعَالَمِ السِّبْعَةِ، مُغَامَرَات فِي عَوَالِمَ خَيَالِيَّةٍ فِكْرِيَّةٍ فِي نَسيجٍ إنْسَانِيٍّ مُتَرَابِطٍ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَالْخَيَالِ ، وَتَوْظِيفُ الأُغْنِيَةِ فِي سَبِيلِ تَحْرِيرِ الذَّاتِ وَالأَرْضِ).
وأقدّم بعض المقتطفات التي كتبت ونشرت وقيلت عن الطبعة الأولى في "علبة من ذهب".
كتب الشاعر الدكتور فهد أبو خضرة عند صدور الطبعة الأولى يقول:  

الكتابُ ينتمي إلى النّوعِ الأدبيِّ الّذي يُسمّى (الحكاية)،أمّا عمليّة التّحديدِ الدّقيق فليستْ سهلةً، وهنا يُمكنُ القولُ أنّ هذا الكتابَ يضمُّ حكاية إطار، أو حكايةً خارجيّةً تحوي في داخلِها سبع حكايات داخليّة.
الحكايةُ الخارجيّةُ والحكاياتُ الداخليّةُ كلُّها خياليّةٌ، أمّا الخيالُ الّذي تنتمي إليهِ فهو مُنَوّعٌ، منها خيالٌ علميٌّ، وخيالٌ تعليميٌّ، وخيالٌ أسطوريٌّ وخيالٌ خرافيٌّ.
حكايةُ الإطار تنحو نحو حكاياتِ السّحَرة والأميراتِ المسحورات، وتُشكِّلُ نوعًا مِن الخيالِ الخرافيِّ، أمّا الحكايات الدّاخليّة فتدورُ حول رحلاتٍ يقوم بها السّاحرُ والأميرة.
لغةُ الحكاياتِ أدبيّةٌ فصيحةٌ وجميلةٌ، بينما لغة الأغنياتِ عامّيّةٌ، أمّا مستوى اللّغةِ الفصيحةِ فيتراوحُ بينَ السّهولةِ والجزالةِ، وهو مُلائِمٌ للصّفوفِ العُليا في المرحلةِ الابتدائيّة.
قلتُ أنّ لغةَ هذهِ الحكاياتِ لغةٌ أدبيّةٌ جميلةٌ، وأستطيعُ أن أضيفَ الكثيرَ مِن الكلامِ في مدحِها، في الختام أعبِّرُ عن تقديري للأديبِ وهيب وهبة، وأقولُ أنّنا بحاجة إلى هذا النّوعِ مِن الكتاباتِ الأدبيّةِ الرّاقيةِ والأصيلةِ خيالًا وتعبيرًا، فإلى الأمام وإلى مزيدٍ من هذا الإبداع الّذي يُثري مكتباتِنا.
وكتبت آمال عوّاد رضوان:
عن مضمون القصّة (علبةٌ من ذهب)، إذ تبتعدُ عن خلْقِ عوالمَ ورديّة تُبعِدُ الفتى عن واقعِهِ، بل تُعالج موضوعًا ذا بعدٍ اجتماعيٍّ ونفسيٍّ، وتَعمدُ إلى غرسِ قيمًا خالدةً كالتّسامحِ والمحبّة والصّدقِ والتّعاونِ والتّآلفِ، فالقصّةُ طريفةٌ وهادفةٌ وموجِّهةٌ للخيرِ وللإبداعِ، وتستنبتُ في كيانِ اليافع انتماءَهُ للهويّةِ الإنسانيّةِ الشّاملةِ، وتدمجُ بينَ الخيالِ العلميِّ والواقع، وتُركّزُ على عنصرِ التّخييلِ الفانتازيا، إذ يُعدُّ حافزًا استراتيجيًّا في ثقافةِ الطّفلِ واليافعِ.
الشّاعر وهيب وهبة يُشكّلُ في القصّةِ عالمًا ديناميكيًّا خاصًّا وجميلًا، عالمًا عارمًا بالتّصوّرِ والأحلامِ المشروعةِ القابلةِ للتّحقّقِ، مِن خلالِ حُبِّ المغامرةِ والسّعيِ الدّؤوبِ دونَ كللٍ، فيُلامسُ كلَّ الضّفافِ بدون عناءٍ، فيُخبرُ عن عاداتِ الشّعوبِ وتقاليدِها، وطبيعةِ عيشِها، وأطوارِ وأنماطِ حيواتِهم المختلفةِ الّتي يُمارسونَها.
القصّةُ تتّكئُ على قبابِ السِّحرِ، وقد وشّحتْها اللّغةُ بسِحرٍ فاتحٍ، يُدخِلُ مَسرّةً للقلبِ والعقلِ!
 بلغةٍ قريبةٍ مِن عالمِ اليافعِ، بلغةٍ ثريّةٍ ويسيرةٍ ووجدانيّةٍ ورقيقةٍ وبسيطةٍ يصوغُ الأحداثَ، مازجًا بينَ فنّيّةِ السّردِ المُشوِّقِ والتّصويرِ، وبعنايةٍ نابضةٍ بالشّعريّةِ والوضوحِ والبساطةِ، يُوظِّفُها بشكلٍ طيِّعٍ وبمهارةٍ دونَ تكَلُّفٍ، كأنّما استكنهَ دواخلَ وأسرارَ وخبايا عوالم اليافعين!
والأسلوبُ في القصّة سلِسٌ وشيّقٌ بعيدٌ عنِ الغموضِ، يتدرّجُ مِنَ السّهلِ إلى الصّعبِ، فقد صِيغتِ القصّةُ بأسلوبٍ يَشُدُّ القارئَ دونَ الوقوعِ في فخِّ الوعظِ، وتخلّلتها ممارسةٌ حضاريّةٌ تدمجُ بينَ الحِسِّ والوجدانِ، وبينَ التّعاملِ بالفِكرِ والجسدِ، فتجاوزتْ مِن الجزئيِّ إلى الكُلّيِّ.
أمّا الشاعر والرّوائيّ فهيم أبو ركن فكتب:
"علبة من ذهب" قصّةٌ بسيطةٌ، وكلُّ القصصِ العظيمة تعتمد على البساطة وعدم التّعقيد، وهذه القصّة توظّفُ البساطةَ إلى جانب رمزيّةٍ شفّافةٍ، لتقولَ الأشياءَ العميقةَ الّتي ترتبطُ بواقعِ حياتِنا، وبمصيرِنا كمجتمعٍ وشعبٍ وبني بشر. ويمكنُ أن نقرأها بنمطِها السّرديِّ والواقعيِّ والرّمزيِّ، فالأميرةُ الّتي تريدُ التّخلّصَ مِن سجن الحكايات، هي الأمّةُ العربيّةُ الّتي تريدُ أن تتخلّص مِن التّعلّقِ بأمجادِ التّاريخِ وسجنِ بعض التّقاليدِ الرّجعيّةِ!
إذن، الجميلُ في هذا الكتاب أنّهُ مبنيٌّ على ثنائيّةِ الظّاهرِ والباطنِ، إذ يمكنُ أن يُفسّرَ كما هو للأطفال، ويمكن تفسيرُهُ باطنيًّا ليُشيرَ إلى قضايا تهمُّ الكبار ومِن عالمِهم، وبأفكارِهم، قضايا تهُمُّ الإنسانيّةَ جمعاء. هكذا اصطادَ الكاتبُ عدّة عصافيرٍ بحجرٍ واحدٍ..
وربّما لا نخطئ إذا عرّفنا هذا الكتابَ بأنّهُ قصّةٌ للأطفال، يَقرأها الشّبابُ ويفهمُها الكبارُ، لها نهايةٌ سعيدةٌ تترجمُ تفاؤلَ الشّاعرِ وإيمانَهُ بجوهرِ الإنسانِ الخيِّر.
والأديب الإعلامي نايف خوري كتب:
استطاعَ وهيب وهبة أن ينقلنا عبرَ هذه العوالم الجديدة القديمة، والتي بسببها نظنّ لأوّل وهلةٍ بأنّنا نرى ونصادفُ حياةً أخرى مِن كواكبَ جديدة، وشخصيّاتٍ لا تمتُّ إلينا بِصِلة، فلا نعرفها مِن قبل ولا نُعيرها أيّ اهتمام، ولكن بعدَ إمعان النظر والتأمّل مليًّا، تتّضحُ لنا طروحٌ فكريّة هي بمثابة حياتنا اليوميّة، ونجد أنّ هذا العالم الأسطورة هو الفضاء الذي نعيش فيه، وهو محيطنا، كما أنّنا نتمنى أن نحيا فيه ونبني مستقبلنا في ثناياه، ولذا لا  يتطلب الأمرُ منّا سوى رؤية واقعنا والانتباه إلى سلوكنا، والتطلّع إلى تصرّفاتنا وإعادة النظر في عاداتنا وتقاليدنا، فهذه القصة ليست وقفًا على الصّغار ولا حكرًا على الكبار، بل هي كسائر الأعمال العالميّة تخاطب الإنسان حيث هو، وإنّي كقارئ لم أستطع إلاّ أن أحبّ هذه الأسطورة وشخصيّاتها ومؤلّفها.
أمّا الشاعر والباحث الناقد بيان غضبان فكتب:
وهيب نديم وهبه، هو شاعرٌ وأديبٌ معروفٌ، تُرجمة كتاباته لأكثر من لغةٍ، وَوَصَلت معظم بلدان العالم. يحتضنُ الآنَ أدب الأطفال، ويتجلى توجُهُه هذا بكتابه "علبةٌ من ذهبٍ"، أبدعَ فيه الأديب الشاعر بكونه ينعتقُ من حوامة الدوران الذاتية، كما نراهُ عند كُتَّاب أدب الأطفال، فهم يصورون الطفل المتحدث عن نفسهِ، بنوعٍ من الرُبوطية البعيدة عن الانفعال الوجداني، وبكلماتٍ متكلفة نقرأها ونستمتع بها إلا أننا ننساها لبُعدِها عن النفس والشعور، أما "وهيب وهبه"، فيجعل الطفل أكثر ديناميكية، فالطفل عنده ليس مجرد قالب نُصِّبَ فيه كلماتٍ جافة وأحيانًا جوفاء، بل طفل يتصور، ويحلم ويسعى لتحقيق أحلامه. الطفل عنده ليس فقط جسرًا تعبر من فوقه كلمات ومعان نريدها أن تعبر وقد لا يريدها الطفل نفسه، بل الطفل عنده "كومبارس" رئيسي، يحلمُ ويناقش وينكر، إذًا هو يطبق عمليًا أفكاره التي يؤمن بها، في سلوك نقدي مُعاشى.
الأديب الشاعر، يحاول في كتابه هذا معالجة النفس البشرية وهي ما زالت بذرة، قبل أن تنمو وتتفتح، وتكبرُ وَتَستحوذُ عليها الأنانية وحب الذات، يُريد لهذه البذرة (الطفل) أن تنمو وتكبر ومعها تنمو وتكبر المحبة للآخرين، والتضامن معهم، بالسراء والضراء، وأن الإنسان لا يستطيع أن يحيا بدون الحرية، التي هي حلم كل حر يريدُ العيشَ بكرامةٍ وسلام.
والشاعر الأستاذ  رشدي الماضي يكتب:
يظلُّ التّلاقحُ التّوالُجِيُّ بينَ الخيالِ والإبداعِ أبَ الينابيعِ الخصبة، الّتي ينهلُ منها "عمّال مصنع الكلمة"، مِن أجلِ أن تُواصلَ بناتُ أفكارِهِم الحمْلَ فالولادة. هذا ما تُجسِّدُهُ قصّةُ أديبِنا وشاعرِنا وهيب نديم وهبة، فمِن نظرتِكَ الأولى الّتي تُلقي بها على ثريّاها بمفتاحٍ تأويليٍّ، تنهضُ في خزانة ذاكرتِكَ نوستالجيا تعيدُكَ إلى ما يُعرفُ بأدبِ الخيالِ العلميِّ، بكلِّ أجوائِهِ وفضاءاتِهِ الشّائقةِ.

وأما الأديب الجليل الشّاعر والكاتب حنّا أبو حنّا
فقد نوّهَ لنقطةٍ هامّةٍ، وهي قلّةُ أدبِ الأحداثِ واليافعين في الأدبِ العربيِّ عامّةً ولدينا خاصّةً، لهذا جاءت قصّة "علبة من ذهب" قصّة أحداث بامتياز، وأسلوب سرديّ غاية في الرّوعة والجَمال والدقّة.
لماذا يَلجأُ الشّاعرُ وهيب وهبة إلى القالبِ السّحريِّ في القصّة؟

هل لأنّ هذهِ القصصَ هي نتاجُ العديدِ مِن الثّقافاتِ وتلقى انجذابًا وشعبيّةً على امتدادٍ عالميٍّ واسعٍ؟
هل مِن الصّعبِ ارتيادُ وعبورُ الأحداثِ اليوميّةِ المزعجةِ والمُحيِّرةِ، إلاّ مِن خلالِ قالبٍ سحريٍّ يُمكِّنُهُ أن يرقى بخيالِهِ ولغتِهِ نحوَ آفاقٍ أرحبَ،أم أنّهُ يَرقى إلى عالمٍ سِحريٍّ، كي يوليَ الأحداثَ عنايةً أكبرَ، يستطيعُ من خلالها تجاوزَ الممنوعاتِ، فيَسهُلُ عليه أن يُبهِرَ اليافعَ بضروبِ الخيالِ والغرابةِ؟

هل هذا الكون السِّحريُّ الغريبُ يزيدُ مِن ديناميكيّةٍ معنويّةٍ ونفسيّةٍ، تولي إشكاليّاتِ الحياةِ حبكةً مشرقةً تفتحُ آفاقَ الأحلامِ والخيالِ؟
وهيب وهبة شاعرٌ مسرحيٌّ لهُ العديدُ مِنَ الأعمالِ الشعريّة والمسرحيّةِ:
"الملاكُ الأبيض"، "هدايا وقُبَل"، نَهْدُ أسواره، أنتِ أحلى، وقْعُ حوافر خيل، المجنونُ والبحر، نافذةٌ للموتِ وأخرى، خطواتٌ فوقَ جسدِ الصّحراء".
ومِن أجلِ هذا تمريرِ هذا الإبداعِ المسرحيِّ، نحتاجُ إلى فضاءاتٍ ترفيهيّةٍ، ودورِ شبابٍ ومسارحَ، ودورِ نشرٍ، تدعمُ وتشجّعُ المبدعين الشّباب، فعساها مجتمعاتنا العربيّة تسعى إلى الاهتمام بالحسّ الفنيّ الإبداعيّ لأطفالنا، والعمل على تنميته والاعتناء به في تربة إبداعية خصبة وصالحة، لتزهو فضاءاتنا بمبدعينا الأطفال ومبدعي المستقبل الزاهر.



176
جوقة صغار الكروان في جنينة سِحِر!
آمال عوّاد رضوان

تحت رعاية جوقة الكروان والمعهد الموسيقي في عبلين الجليليّة، وبمناسبة عيد الأمّهات ويوم الأسرة، وما بين عذرية التمثيل وعشق الألحان ودفء الغناء، أقامت جوقة صغار الكروان الذي تشرف على تدريبه الفنانة سمر عوّاد، احتفالاً بهيجًا ومتميّزًا بعنوان "جوقة صغار الكروان في جنينة سحِر"، وذلك في قاعة أودوتوريوم مار إلياس في عبلين بتاريخ 22-3-2012، فقدّمت عرضًا تمثيليًّا مسرحيًّا غنائيًّا طفوليًّا مُكثّفا لا يتجاوز السّاعة، لكنّه كالحلم مرّ خاطفًا ألباب وحواسّ االمئات من الحضور، وقد غصّت القاعة بالحضور المتفاعل بالبسمة والدمعة في عرض طفوليّ شيّق وعفويّ، ومن جميع الأجيال والشرائح في عبلين، والجمع بأكمله مأخوذ بكلّ ثانية وبكلّ دقيقة من إبداع وأداء هؤلاء الأطفال الموهوبين.

جوقة صغار الكروان قامت بعمل فنيّ غنائيّ راقص طفوليّ، يدمج بين الغناء والرّقص والتمثيل بطريقة مبتكرة، بحيث أنّ قسمًا منها أغان أصليّة تعنى بأغاني الأم، ولكن بأسلوب جديد وبدمج أصوات الأطفال مع المغنيين الأصليين في الأستوديو الكروانيّ، وبتمثيل أدوار ساحرات وسحرة، وببراءة ملائكيّة ترنمت بأناشيد الأمّهات في جنينة سِحِر، وهللت لأراجيح أمومة تترندح وتتأرجح الملائكة في أحضانها المغمورة بالحنان!

"جوقة صغار الكروان في جنينة سحِر" عمدت إلى تفجير الطاقات والمواهب الكامنة في نفوس الأطفال المبدعين في شتى المجالات الفنية، بحيث لفتت الانتباه إليها، وسلبت الحضور كبيرهم وصغيرهم كامل تركيزه وترقبه.

"جوقة صغار الكروان في جنينة سحِر" عرض خلاب شيق من إنتاج جوقة الكروان، قام بالإشراف التنظيميّ الموسيقي المايسترو نبيه عوّاد، وباشتراك جوقة صغار الكروان، ومنال حاج ، والفنان الكروانيّ الشاب المتميز بصوته العذب الرنان ونس ابوشحادة، والفنانة الكروانية الواعدة ساندرا حاج، والموسيقا التصويريّة أكرم حدّاد، وقام الفنان العبليني المخرج إلياس مطر بإخراج هذا العمل باكورة بداياته، التي أدهشت الحضور بلباقتها وخفة ظلها، وانتهى الحفل ولا زال الحضور جالسا لم يرتوِ بعد ممّا تذوّق، وظلّ ينتظر المزيد والاستزادة.

وبلمحة خاطفة نعود إلى جوقة الكروان للكبار التي تأسست منذ عام 1994 بقيادة المايسترو نبيه عواد، وقد دمجت بين الكلمة والحركة والرقص والتمثيل في عروضها، وارتأى المايسترو بعد قرابة عقدين من التدريبات الحثيثة الجادة والدؤوبة لجوقة الكروان الغنائية، ولفرقة العزف التي أسسها في المعهد الموسيقيّ الذي يديره، أن يؤسس "جوقة صغار الكروان"، لتتسع الحلقة الكروانية الفنية الموسيقية، وتضم أعضاء من شتى الشرائح العمريّة، من عمر أربع سنوات حتى سن الخامسة عشرة.

جوقة صغار الكروان هي الأولى والوحيدة في الجليل وفي فلسطين، تأسست منذ قرابة السنتين، يقوم على تدريبها الفنانة عازفة البيانو الفنانة سمر عواد، ابنة المايسترو نبيه عواد، وقد  تجاوز عدد أعضاء جوقة صغار الكروان 40 طفلا، معظمهم يتلقون دروسا في الموسيقا الشرقية والغربية والعزف على الآلات الموسيقية، وقد شرعوا منذ قرابة الشهر بتلقي دورة تمثيل ورقص، ليكتمل العمل الإبداعي غناء وتمثيلا ورقصا، ولتكون هذه الخطوة الأولى نحو عمل مغاير وشامل، على غرار ما تقوم به جوقة الكروان منذ البدايات في سكيتشها الغنائي "صراع الأجيال، والمسرحية الغنائية " وتعود الأحلام"، والعمل الأخير "اِحكيلي"، الذي ضجت به الساحة الفنية لرقي العمل والأداء والغناء والحضور.
 


177
الكرمل يكشف عن نساء مغريات في التوراة!
آمال عوّاد رضوان






منتدى الحوار الثقافي عقد لقاءه الثقافي في مركز تراث البادية في عسفيا الكرمل، وذلك بتاريخ 15-3-2012 لمناقشة كتاب "نساءٌ مغرياتٌ في التوراة"، لمؤلفه الأديب العبري يومي عيني، وقام بترجمته الكاتب الصّحفيّ نايف خوري، وأصدرته "مكتبة كلّ شيء" لصاحبها الاستاذ صالح عبّاسي حيفا، والغلاف للفنانة العبريّة نعومي فوكس، وقد حضر اللقاءَ عددٌ من الشعراء والأدباء والمهتمّين بالثقافة المحليّة، والمؤلف يومي عيني ومجموعة من أصدقائه، والفنانة نعومي فوكس صاحبة المعرض والغلاف.
بعد زيارة معرض الرسومات واللوحات للفنانة نيتسا نعر الذي أقامته في جاليري البادية في نفس الأسبوع بلوحاتٍ تختص بالحياة البدوية، تحدثت عن لقائها بالأستاذ أمين القاسم مدير مركز البادية في أحد معارضها، وتعرّفت إليه وإلى نشاطاته الفنية والتنظيميّة، وشكرت الجميع لزيارة معرضها.
ثمّ افتتح اللقاء الأديب رشدي الماضي بكلمة ترحيبيّة وأخرى جاء فيها:
الترجمة جسر تواصل الحضارات، ولا تقلّ الترجمة أهمّيّة كعمل نسقيّ عن باقي العلوم الإنسانيّة الأخرى كالنقد والادب، والمعروف أنّها ليست عمليّة نقل آليّ ميكانيكيّ من لغة إلى أخرى، بل هي عمليّة إبداعيّة لا تخلو من مياسم الجَمال والشعريّة والجدّيّة والابتكار، هذا ناهيك غلى ما تحمله من رؤية للعالم، شأنها شأن الفنّ الإبداعيّ إن لم نقل إنّها تتجاوزه، حين تجمعُ بين البُعدِ الجَماليّ والبُعد التخييليّ.. لماذا؟
لكونها عمليّة إبداع ثان لنصّ مبدع بلغة معيّنة لها اساليبها وتراكيبها الخاصّة، إلى لغة ثانية تشذّ عنها في التراكيب والتعابير والأساليب، لذلك يتحتم على المُترجم المحافظة على نفس المعاني ونفس التأثير باختيار الصّيغ المناسِبة، وإذا عدنا إلى تاريخ هذا المنجز الإبداعيّ، نرى بأنّ الترجمة إبداعٌ قديم، من الإغريق والفراعنة وصولا إلى تشييد صرح نظريّ متكامل عنها أواخر القرن العشرين.
هذا ومن الترجمات المعروفة قديمًا ترجمة الحدَث الذي يتضمّنه الكتاب المقدس "سفر التكوين"، وظهور أهمّ ترجمة أدبيّة وهي "ملحمة جلجامش"، الباحث عن عشبة الخلود. لذلك لا بدّ ان نُثمّن ونشدّ على يد مبدعنا نايف خوري، لقيامه بترجمة كتاب كاتبنا العبريّ المعروف يومي عيني "نساء مغريات في التوراة".
بورك جهدك لأنك أذكيت جذوة التوقّد الفكريّ في مجال الترجمة، وأبقيت شبابيك التثاقف المتبادل مشرّعة على مصاريعها، كما نُحيّي الأستاذ صالح عباسي صاحب "دار الكتاب الكبرى" مكتبة كلّ شيء، على قيامه بطبع ونشر مؤلّف كاتبنا يومي عيني بصورة فنيّة راقية، وهو بذلك يكون قد ساهم في تعميق التفاهم الحضاريّ بين شعبي البلاد.
 
ثمّ كانت مداخلة الدكتور الشاعر فهد أبو خضرة ول اهميّة الترجمة وخاصة ترجمة أدبنا العربي المحلي للغات العالم، والمطالبة بإنشاء مؤسسات تهتم بهذا الجانب، كما تحدّث عن بداية بلورة الفكرة في كلية القاسمي بالترجمة الى العبرية والانجليزية، وأهمية تجنيد الكوادر المناسبة لهذا العمل الهامّ!
 
وفي مداخلة الشاعر جورج جريس فرح بعنوان جولة في كتاب "نساء مغريات في التوراة" جاء:

يستعرضُ الكاتبُ يومي عَيني قصصَ الإغراءِ الواردةَ في العهدِ القديم، بِدءًا من آدمَ وحوَّاءَ، وينتهي باستخدام الموساد  لهذه الوسائل من أجل تحقيق أهداف عسكريّة وسياسيّة.
يقول الكاتب، في الفصل الخامس عشر "الموساد والشريعة": "إنّ ممارسة الجنس مع العدوّ من أجل تحقيق هدف قوميّ هو "الدّليل التوراتيّ" للعامِلات في جهاز الموساد، وإِنَّ رجالَ الشريعةِ اليهوديةِ قَد أفتَوْا بأنّ مثل هذه الممارسات تُعتبر فضيلةً بل فريضةً"!
خصّص الكاتب فصلاً منفردًا لكلّ شخصيّة، في كتابٍ أنيقٍ يمتدُّ على مائةٍ وسبعٍ وأربعينَ صفحةٍ، من القياس المتوسط، مزدانةٍ برسوماتٍ رائعة بريشة الفنانة نعومي فوكس.
الفصل الأول:
الحيّةُ، التي يفسِّرُها بعضُ رجالِ التلمودِ على أنّها رمزٌ لِقُوى الخيال، تُغري حوَّا، فتقومُ هذه بإغراءِ آدمَ ليأكلَ من الشجرةِ المحرَّمَة، فيخْسرَ بذلكَ الفِردَوسَ.
الفصل الثاني:
بنتا لوط، اللتانِ تعتقدانِ أنَّ البشريةَ كلَّها قد أُبيدَت، ولم يبقَ سواهُما وأبيهما، تُسكِرانِه وتضاجعانِه وتَلِدانِ منه موآبَ وبن عامي.
يذَيَّل الكاتبُ هذا الفصلَ بقولِهِ: إن بعضَ المفسرينَ يقولونَ إن الشَّهوةَ تكونُ على انفرادٍ، ولذا فإن لوطَ هو الذي اشتهى ابنتَيهِ، لا هما منِ اشتهتاهُ.
الفصل الثالث:
سيسرا قائدُ الكنعانيّينَ، الذي انهزم أمام جيشِ النبيَّةِ دبورا، يلجأ إلى خيمةِ ياعيلَ، يطلب ماءً فتُسقيهِ لبنًا وتغطِّيه! واللبنُ هنا نوعٌ من الخَمرِ، إذ كانوا يضعون اللبنَ في وَطْبٍ مِنَ الجِلدِ فيختمر. أمّا الغِطاءَ فيرمزُ إلى المضاجعَة. ويقول الكاتبُ في ص 35 إنّ الحكماءَ يُجْمِعونَ على حتميةِ وقوعِ المضاجعة. وبعد أن يغفو سيسرا، تتناول ياعيل وتدَ ﭐلخيمة وتغرِسهُ في صَدغِهِ فتقتله.
الفصل الرابع:
راعوثُ الأرملةُ الموآبيَّة، نسبةً إلى موآب ابنِ لوطَ من إحدى ابنتيه، وراعوث هي جدّةُ جدةِ الملكِ داود لأمّه، بعد أن تغتسلَ وتتطيّبَ، تدخلُ خيمة بوعز وتستلقي تحت أقدامه، فيتزوّجها بوعز مخالِفًا تعاليمَ التوراةِ القائلة:
"لا يأتِ عمونيُّ وموآبيٌ مَعًا أمامَ الرّب".
وبعد أن يتزوجَها، يجدونَ فتوىً ومخرَجًا لهذهِ المخالفةِ، بقولهم إن المقصود بالآيةِ همُ الموآبيونَ وليسَ الموآبياتِ!!
الفصل الخامس:
يهوديت تخرج من أورشليمَ المحاصَرةِ، تتوجَّهُ إلى قائدِ جيشِ العدوِّ، فتُبرِزُ له مفاتِنَها بهدفِ الإيقاعِ به.
ملاحظة: هنا وقع الكاتب في خطأ تاريخي، إذ وَرَد في ص 46 إنّ يهوديت سارت إلى الملِكِ، لكنَّ الملكَ آنذاك كان نبوخذ نصّر الأوَّل، أما الذي خرجت إليه يهوديت فقد كان القائدَ أليفانا، كما يؤكد الأصحاح الثاني من سفر يهوديت، الذي جاء فيه:
(1)   وفي السنة الثالثةَ عشرةَ لنبوكد نصر، وفي اليوم الثاني والعشرينَ من الشهر الأولِ، تمت الكلمة في بيت نبوكد نصر ملكِ أشور بالانتقام (2) فدعا جميع الشيوخِ وكلَّ قوَّادِه ورجالَ حربِه وواضَعَهم مشورةً سِريةً (3) وقال لهم إن في نفسِهِ أن يخضع كلَّ الأرضِ لمُلكِهِ (4) وإذ حَسُنَ ذلك لدى الجميع، استدعى نبوكد نصر الملكُ، أليفانا قائدَ جيشِهِ (5) وقال له اخْرُجْ على جميع ممالكِ الغرب، وخصوصا الذين استهانوا بأوامري (6) ولا تُشفِقْ عينُكَ على مملكةٍ ما، وأَخضِعْ لي جميعَ المدنِ المحصَّنة.
خلاصة الأمر، أن القائدَ أليفانا قد فُتِن بيهوديت فدعاها إلى وليمة، ثم دعاها إلى خيمتِهِ، وبعد أن سَكِرَ وقضى وتيرتَهُ ونامَ، استلَّتْ خِنجرَهُ وقطعت رأسَهُ بضربتين، وانسلت هي ووصيفتُها تحملان رأسَهُ إلى أورشليم.
الفصل السادس:
لَم أجدْ أيَّ قاسمٍ مُشتَرَكٍ بين هذا الفصلِ وباقي فصولِ الكتاب، فلا ذِكرَ فيه للإغراءِ أو الإغواءِ أو الزِّنى، سوى أن إيزابيلَ كانت ذاتَ نفوذٍ عظيم. كانت المملكةُ العبرية في تلك الحقبةِ الزمنيةِ منقسمةً على ذاتها: مملكةُ إسرائيل في الشمالِ وعاصمتها السامرة، ومملكةُ يهوذا في الجنوبِ وعاصمتها أورشليم.
وإيزابيلُ هذه فينيقة الأصْل، وابنةُ أتْبَعْلَ ملكِ الصدُّوقيينَ، ويُروَى أنَّها لما تزوَّجها آحابُ ملكُ السامرة، أخذت معها صنمَ البَعْلِ وصنمَ عشتاروت بصحبةِ 450 كاهناً وثنيًّا، يأكلونَ ويشربون على مائدتِها، ويقيمونَ شعائرَ عبادةِ الأوثانِ خلافاً لشريعةِ التوحيدِ التي سنَّها النبيُّ موسى.
الفصل السابع:
الرّواية هنا مُقطَّعَةُ الأوصال - ومن المؤكد أنها كانت كذلك في الأصل العبري، وَحبَّذا لو أنَّ المترجِمَ حاول أن يصل بين أطرافِها عن طريق بعض التصرُّف – إذ لا يمكن لمن لا يعودُ إلى قراءة الرّواية الأصليّة في التوراة أن يربطَ الأطرافَ ببعضِها. وكلّ ما استلخصته هو أن المديانيين سلَّطوا بناتِهِم على الإسرائيليينَ لمضاجعتهم وإغرائهم بالزِّنى وعبادةِ الأوثان، وكانت في مقدمتهنَّ كُزبي ابنةُ صور.
اختلط عليَّ الأمرُ لدى قراءة هذا الفصل، فبينما نقرأ أن زمري بن سالو تزوَّج من كزبي ابنةِ صور، فإننا نقرأ في نهاية الفَصلِ أن كزبي ابنةَ صور قد زنَت مع زمري بن سالو رئيسِ قبيلةِ شمعون!
فهل نستنتج أنه تزوّجها بعد ارتكاب الزّنى؟ لكننا نعلم أن التلمودَ يحرّم الزانيةَ على من زنَتْ معهُ!
الغموض الثاني كان في نَسَبَ كزبي، فتارة هي ابنةُ ملك مِديان، وطورًا هي ابنةُ بالاق ملكِ موآب! والمعروف أن المديانيين كانوا حلفاءَ الموآبيين في ذلك الحين، ولم يكونوا شعبًا واحِدًا، فهل كان للشَّعبين ملكٌ واحد؟
الفصل الثامن:
راحاب الزانيةُ المُطَّلِعَةُ على أسرارِ الدولة، تستقبل في بيتها في أريحا جاسوسَيْن من بني إسرائيل، ثم تقوم بتهريبهما، وعندما يدخل الإسرائيليون أريحا يُبيدون كلّ سكانها، إلاّ راحابَ وأهل بيتها، وبالتالي يتزوّجها القائد الإسرائيليّ يشوع بن نون، مخالِفًا بذلك أوامر النبي موسى الذي أمر بإبادة كلّ سكان أريحا عَن بكرةِ أبيهم.
من نسل راحاب هذه تولدُ النبيَّة خولدة وسلسلةٌ من الكهنة والأنبياء.
وكأني بالله سبحانه، الذي حرّم الزِّنى في وصاياهُ العشر، وفي غيرها من الآيات الواردة في العهد القديم، وأمرَ برجم الزانية وحرقها، يكافئ الزانية ويجعل من نسلها الأنبياء والكهنة!!؟
وفي هذا الفصلِ يتطرّق الكاتبُ إلى مهنة الزنى كأقدم مهنةٍ في التاريخ، ويذكُرُ أن الزنى دخَلَ في طقوس العبادة لدى بعضِ عبَدةِ الأوثان، وأن الفرعون خوفو قد أرسل ابنته للعمل في ماخورٍ من أجل تمويلِ بناء الهرم!
الفصل التاسع:
يتحدَّث الكاتب في هذا الفصلِ عن زليخةَ، زوجةِ فوطيفار خَصِيِّ الفرعون، وكيف حاولت استدراج يوسفَ لمضاجعتِها، ويُنهي الفصل بتساؤله وقولِهِ: لا أفهم سببَ رفض يوسفَ مضاجعَةَ المرأة. هل لأنه ظنَّ أنه سيخطئ إلى الرّبّ؟ هذا غير معقول، فقد كان شابًّا يافعًا، حسن المظهر، ولم يلامس امرأة من زمن بعيد. أَيُعقلُ؟
الفصل العاشر:
إستر تستغل فتنَتها الأنثويةَ في إغراءِ الملكِ الفارسيِّ أحشويروش، تكشُف مِن جسدها أكثر ممّا تستر، فيشتهيها ولا يحتملُ الابتعادَ عنها، ويعدُها بأن يلبِّيَ لها كُلَّ ما تريد، حتى لو طلبَتْ نصفَ المملكة! تسمح له بمضاجعتها وتنتزع منه وظيفةً مرموقةً لابن عمها ومُربّيها مردخاي. ويتَّخذها الملك الفارسي زوجةً له، فتغدو مَلِكةً واسعةَ النفوذ، لدرجةِ أن الوزيرَ هامان عدوَّ اليهود، يضطرُّ إلى اللجوءِ إليها في حجرتها، يتوسّلها ويستدرُّ عطفها، فيضبطُهُ الملكُ في وضعٍ مُريب ويأمرُ بقتله.
الفصل الحادي عشر:
يُفهَم من هذا الفصل أنه كان للملك داود ثماني عشرةَ زَوجةً، وأنه إذ شاخَ وفقد مقدرتهُ الجنسيَّة، أوصى الأطباءُ بأن يُحضروا له فتاةً عذراءَ لتدفِّئ سريرَه، أحضَرَ الكثيرون مِن رجال إسرائيل بناتهم إلى داود لينتقيَ مَن يشتهي. وكانت أبيشاج من بين العذراواتِ الحسناوات. لكنَّ داودَ لم يعرِفْها، بِمَعنى أنّه لم يضاجِعْها. منهم من فسَّر أن داودَ امتنع عن مضاجعتِها لأن لَديهِ ثماني عشرةَ زوجةً، وقد حُظَر على الملكِ إضافةُ أخرى. ومنهم من عزا ذلك إلى ضعفِه الجنسي، وأنه خَشيَ أن يُخفقَ كما أخفقَ من قبلُ مع باتشيبع.
وهنا أيضًا واجَهْتُ المتناقِضاتِ واحترتُ في الأمر، فبينما نقرأ أنه أخفق مع باتشيبع، نقرأ في موضع آخر من الفصل ذاته، أنه عندما اشتكت أبيشاج من عجزهِ الجنسي، دعا داودُ باتشيبع فأتى عليها ثلاثَ عشرةَ مرّة! فما هي إذَن حقيقةُ أمرِ داود؟
يعودُ الكاتب إلى ذكر أبشياج الشونمية في صفحة 142 ليعلمَنا أن القائد أوريّا رَغبَ بالزّواج منها، وليوضح لنا أن تقليدًا غريبًا سادَ آنذاك وهو أن من يضاجعُ حَظِيَّةَ الملكِ أو عشيقتَه يحقُّ له أن يرثَ المُلكَ! ومن الأمثلة التي يوردها، حكايةٌ رؤوبين ابن يعقوب الذي ضاجع بلهة حَظِيَّةَ أبيه. لكن هذا المثل لا ينطبق على الممثّلِ به. فهل فات الكاتب أن يعقوب لم يكن ملكًا، وأن رؤوبين قد حُرِمَ من بَرَكةِ أبيه وهو على فراش الموت، رغمَ أنه كان بكرَ أبيه، وكان من حق البكر أن يحصل على نصيبٍ مضاعَفٍ من الميراث.
الفصل الثاني عشر:
شمشون وهو آخرُ قضاةِ بني إسرائيلَ الإثنَيّ عشر، يمارس الزنى مع ثلاثِ نساءٍ فلسطينيات، آخرُهنَّ دليلةُ التي أفضى لها بسرِّ قوَّتِه الكامنَةِ في شَعْرهِ الطويلِ. فبعد أن أسكرته قامت بقصِّ شَعرِه، وأسلمته للفلسطينيين الذين أسَروهُ وفقأوا عَينيه. وحين أحضر الفلسطينيون شمشونَ الأعمى إلى احتفالٍ ليسخروا منه، كان قد استعاد شَعْرَهُ وقوَّتَهُ، فدفع بالعمودين اللذَين يرتكز عليهما البناءُ، فسقط البيت على من فيه.
الفصل الثالث عشر:
داودُ الملك، أثناء تمشِّيه على سطح بيته، يلمح باتشيبع، زوجةَ القائدِ أوريا الحثّي، تستحمُّ عاريةً فيشتهيها. وتَعْلَمُ باتشيبع أن داودَ يراها، فتتعمَّدُ إغراءَه. يستدعيها ويضاجعُها. ويرسل داودُ زَوجَها أوريا إلى الجَبهَة ليُقتَل فيها. في هذه الأثناء تُخبِرُ بتشيباع داودَ بأنها حاملٌ منه، فيقوم باستدعاءِ أوريا من الجبهة، ويطلب منه مضاجعةَ زوجته بتشيباع للتمويه. لكنَّ أوريا لا يفعلُ، بل إنه يرفُضُ الدخول إلى بيته. وإذ يقنطُ داودُ من إقناعِه، يُعيده إلى الجبهةِ ويحمّلُه رسالةً إلى يوآب قائدِ الجبهة. ويا للسخرية، فَإنه حمل أمرَ موته بيده. كان مضمون الرسالة: «اجْعَلُوا أُورِيَّا فِي وَجْهِ الْحَرْبِ الشَّدِيدَةِ، وَارْجِعُوا مِنْ وَرَائِهِ فَيُضْرَبَ وَيَمُوتَ». وهكذا قُتلَ أوريا، فأعلنَ داودُ الحدادَ عليه، وبعد انتهاءِ فترةِ الحدادِ، تزوّج من بتشيباع.
الفصل الرابع عشر
أمّا الملكُ سليمانُ ابنُ داودَ فقد ضاجع الملكةَ مَكْدَةَ ملكةَ سَبأ، التي جاءت لزيارته إعجابًا بحِكمتِه. لكِنَّه أوقَعَها في كمين رومانسي نصبه لها. ففي اليوم السابقِ لليوم المقرَّرِ لعودتِها إلى مملكتها، دعاها إلى مأدُبة وقدَّم لها الطعامَ المتبّلَ بقصدِ إعطاشِها للماء. ثم دعاها لتقضيَ الليلةَ في قصره، متعهدًا بأن لا يَمَسَّها شريطةَ ألأَّ تأخذَ شيئًا من القصر. لكنها عطِشَت أثناءَ الليل، فقامت لتشربَ الماءَ، وكان لها بالمرصادِ. قال لها إن الماءَ أثمنُ شيءٍ في مملكتِهِ، وقد أخذته دونَ استئذانٍ، وعليها أن تدفع المقابل. وكان المقابلُ مضاجعةً، فحمَلَتْ منه، فأعطاها خاتَمَهُ ليتعرَّف من خلالِه على ولدِهِ في المستقبل.


***
في الكتاب أيضًا حكايتان لطيفتان عن سليمانَ والنحلةِ وسليمانَ والهدهد، لن أتطرق إليهما، وأترك للقارئ المعنيِّ أن يعودَ إليهما.
ويقول الكاتبُ إن هذا النوعَ من الإغراءاتِ يسمُّونه باللغة المهنية "مصيدةَ العسل" وكان آخرَ مَن اصطيدَ بهذهِ المصيدةِ محمودُ المبحوح في دُبَي في شهر يناير 2010.
ويُضيف: إن الأسبقيةَ تُعطى للعزباوات للقيام بمثل هذه المَهمَّات، وأمّا المتزوجة فيوصى بأن يطلِّقَها زوجُها ريثما تنجزُ المَهمَّةَ، ثم يستعيدُها بعد ذلك، لئلاّ تُعتَبرَ أنها خانتْ زوجَها ومارستِ الزِّنى وهي في ذمَّتِهِ.
بقي أن أقول إنه لم يتسنَّ لي قراءةُ الأصلِ العبري، فلا يمكنُني إبداءُ رأيي في الترجمَةِ من حيثُ الدقَّةِ والشمول، لكنَّ أسلوبَ النصِّ والصياغةِ يبدو أنه متأثرٌ بالأصْلِ العبري، الذي يناسبُ القارئَ العبريَّ الملِمَّ بتلك الأحداث أكثرَ من غيره، بينما يبدو للقارئ العربي مُختَزَلاً مَبْتورًا وغيرَ مستَرسِلٍ.
مع ذلكَ لا بدَّ من كلمةِ شكرٍ وتقديرٍ لما بذلَه المترجمُ من جَهْدٍ، لينقلَ إلينا هذا العملَ المُفعَمَ بمعلوماتٍ، ربما كانت خافيةً عن الكثيرينَ.
سَلِمَت يداك يا أبا الياس، ووفقك الله لتُطلِعَنا على المزيدِ من ثمارِ أعمالكَ المشكورة.
ثمّ كانت محاورة أدارها المترجم نايف خوري والكاتب يومي عيني والحضور، حول الهدف من هذا الكتاب وسبب ترجمته وفائدته للمجتمع العربي، وما يمكن أن يضيفه، وفي نهاية اللقاء كانت قراءات شعرية.



178
لا نخلقُ نساءً بل نُصيّرُ نساءً!
آمال عوّاد رضوان
لطالما أنّ المرأة كانت في سالفِ التاريخ ولقرونٍ طويلةٍ حاكمةً وقائدة، فهل بإمكانِها أن تكون شخصيّةً قويّةً وقياديّةً تواجهُ الحياةَ بإصرارٍ على البقاءِ والحضور؟ كيف؟
كيف لها أن تتحدّى الأعرافَ والتقاليد التي تعمل على تهميشها وتكبيلها، أو تقليصها وإلغائها؟
هل هي بحاجةٍ لاقتناعٍ داخليٍّ بقوّتِها وقدرتِها على تحقيق طموحاتها، والصّمودِ في وجهِ الانتهاكاتِ التي تتعرّضُ لها؟
كيف يكون لها ذلك وما هي الأساليب والطرق والخطوات اللازمة؟
شاعَ تداولُ الحركاتِ النّسويّة إعلاميًّا وأكاديميًّا وأدبيًّا في فرنسا وبريطانيا وأمريكا وأوروبا، بعد الثورة الفرنسيّة عام 1789م، وقد أعلنت حركة "أولامب ده غوج" في باريس عن "حقوق المرأة والمواطنة" عام 1791م، وألّفت "ماري والستونكرافت" كتابَها "مطالب بشأن حقوق المرأة" في بريطانيا 1792م.
هذهِ الحركاتُ النّسويّةُ عبّرتْ عن مضمونٍ فلسفيٍّ وفكريٍّ بشكلٍ متخبّطٍ وغيرِ واضح المَعالم عندَ تأسيسِها، وذلكَ لانعدامِ الأطُرِ التي تستقي منها فِكرَها ومبادئها، فدعتْ إلى تحريرِ المرأة ميدانيًّا ومدنيًّا، ونادت بشعارِ تغييرٍ جذريٍّ وفعليٍّ في ميادين العملِ والمجتمعِ والحياة، وإنصافِ وجودها ككيانٍ إنسانيّ، وتحقيقِ ذاتِها واستقلاليّتِها وسُلطتِها، مِن حيث أدوارِها وحقوقِها ورفْع الظّلمِ والحرمانِ والإذلالِ والمهانةِ عنها، ومساواةِ حقوقِها المدنيّةِ والسّياسيّةِ والقانونيّةِ والاقتصاديّةِ بحقوق الرّجل، ككائنٍ له احترامُهُ وقدْرُهُ وكينونتُهُ، وليسَ كأصْلٍ للشّرورِ والرّجسِ والخطيئة.
لقد تعدّدت المدارسُ والمناهجُ والرّؤى الفلسفيّة والأطروحاتُ في معالجةِ قضايا المرأة، مِن خلالِ ثوراتٍ سياسيّةٍ وصراعاتٍ فكريّة، فتمرّدت على التّاريخِ البشريّ والتّقاليدِ والأعرافِ والنُّظُمِ الاجتماعيّةِ في جميع مناحي الحياة، وصارَ شعارَها قولُ الفرنسيّة سيمون دو بوفوار في كتابها:
"لا نخلقُ نساءً بل نُصيِّرُ نساءً"!

كيف يمكنُ أن نُصيِّرَ نساءً وبأيّةِ نوعيّة، رغمَ التّباينِ الثّقافيّ والتّكوينِ الاجتماعيّ والسّياسيّ والثّقافيّ؟
اليومَ وبتفاوتٍ كبير، باتت المرأةُ تحتلُّ مكانةً في مختلفِ المناشطِ الحياتيّةِ التي تقودُها وتُسهمُ بها، تماشيًا مع تيّارٍ معتدلٍ وغيرِ متطرّف، كما كانَ في بداياتِ نشأةِ الحركاتِ النّسويّةِ وطرْحِ الرّائداتِ الأوائل لقضيّةِ المرأةِ وحقوقِها.
وتؤكّدُ د. شذى سلمان؛ باحثة إسلاميّة مقيمة في بريطانيا بقولِها:
"شهد عام 1968 في أمريكا ظهورَ فرْعٍ نسائيّ جديد، أكثرَ تطرّفًا وراديكاليّة مِن رائداتِ الحركةِ الأوائل للحركةِ النّسويّة، حيث استَخدمت أعضاؤُهُ وسائلَ عنيفةً لإبرازِ القضيّة".
بينَ القبول والرّفضِ للقضيّة النسويّة، كانت هناكَ عدّةُ طروحاتٍ وتساؤلاتٍ تتسرّبُ وتتفشّى، حولَ تحليلِ وضعيّةِ المرأةِ في المجتمع، وتحديدِ مرافقِ ومصادرِ الظّلمِ الذي يقعُ عليها، وتعيينِ الأهدافِ وطرُقِ وآليّاتِ الفحصِ والعلاج، وسقفِ الطّموح في الوصولِ إلى الأفضل.
هل تدعو المرأةُ أختَها المرأة، للانعتاق والتحرّرِ والاستقلال مِن عقائدَ اجتماعيّةٍ وعقدٍ دينيّةٍ مجحفةٍ بحقّها، أم تدعوها إلى انحلالٍ أخلاقيٍّ مِن المُسلّماتِ الفطريّة، ليتمَّ استغلالُها جنسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا؟ لماذا؟
في منتصفِ القرن العشرين ما بين 1946 – 1975، ومع نشوءِ الأمم المتحدة، اتّخذت الحركاتُ النّسويّة طريقَها إلى الأمميّة والعولمة، فكان أوّلُ مؤتمر في المكسيك عام 1975 "العام العالميّ للمرأة"، وعام 1979 مؤتمر "القضاء على كافة أشكال التّمييز ضدّ المرأة"، وعام 1980 مؤتمر "المساواة والتنمية والسّلم"، وعام 1995 المؤتمر العالمي الرابع "المعني بالمرأة في بكي الأمريكية"، وعام 2000 المؤتمر الخامس في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي أعلن فيه الأمينُ العامّ بيانًا يُساوي "المتزوّجين الشّواذّ بالتّقليديّين"، وعام 2005 عقد المؤتمر السّادس في نيويورك!
هل في عولمةِ الحركات النسويّةِ لغةُ تسويقِ شعاراتٍ وهيمنةٍ متطرّفةٍ لنظريّاتٍ غربيّة، مِن خلالِ تجنيدِ المرأة ذاتها وقوى مجتمعِها، وتفعيلِ المنظماتِ النّسويّةِ غيرِ الحكوميّة، وإلغاءِ السّلطةِ الذّكوريّةِ بكافّةِ أشكالِها؟
الحركاتُ العالميّة على اختلافِ مناشئِها الاجتماعيّة ومنابتِها الاقتصاديّةِ والسّياسيّةِ، نادت بعضُ تيّاراتِها المعتدلة بالحُرّيّة والمساواة بحقوقِ الرّجل، وتحسينِ وضْع المرأةِ في مجالِ العِلم والعملِ والصّحّةِ والحماية القانونيّة، والحضورِ الفعّالِ في ميادينِ الحياةِ دونَ تطرّف.
فما مدى نجاح الحركاتّ النّسويّةِ في الحدِّ مِن استغلالِ المرأةِ جنسيًّا واقتصاديًّا والاتّجار بها تحتَ مُسمّياتٍ مختلفة؟
المنظّماتُ النّسويّة والمراكزُ والنقاباتُ العُمّاليّة والهياكلُ الرّسميّة والحكوميّة والأهليّة والشّعبيّة، حاولت بتعمّقٍ تحقيقَ أفكارِها وتعزيزِها وتنفيذِ القوانين على أرض الواقع، لتصيرَ مظهرًا سلوكيًّا مُذوّتًا في المجتمع دون تزويرِ مضمونِه، مِن خلال تغييرِ الإراداتِ والقراراتِ السّياسيّة، وبالوصولِ إلى مواطنِ صُنْعِ القرار، وتشكيلِ ضغطٍ عليها لإثباتِ حضورِها وتجذيرِ فاعليّتِها، بوسائل صناعةِ السّينما والإعلام والفنّ والأدب والحوارِ والخطابِ المقنِع، لبثّ أفكارِها ورؤاها إلى أكبرِ شريحةٍ في المجتمع وأوساطٍ فكريّة وأكاديميّة وباحثين ومنظّماتٍ دوليّة وأمميّة، لخلقِ وعيٍ اجتماعيٍّ بتلك القضايا والتّعامل معها.
هل استطاعتِ الحركاتُ النسويّة تقديمَ حلولٍ جذريّة وواقعيّة لقضايا المرأة المنتشرة ولو جزئيًّا، أم أنّها أخفقت في تحقيقِ شعاراتِها بدمج المرأة في مجتمعِها دون تصادم؟
هل ما زالت المرأةُ، ورغمَ وصولِها إلى صُنعِ القرارِ وصياغةِ الخططِ والبرامج، تُعاني في مخبرِ التجاربِ والدّيمقراطيّة المزعومة؟ لماذا؟
لقد تداركَ العالمُ العربيُّ والشرقيُّ ثورةَ الحركاتِ النّسويّةِ العالميّةِ المُتطرّفة، وركّزَ في دعْمِهِ للحركاتِ النّسويّةِ الشّرقيّة، على تعليمِ المرأةِ ومشاركتِها الفِعليّةِ وكفاحِها في بناءِ مجتمعِها اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، مِن خلالِ عِلمِها وتعديلِ القوانين المتّصلةِ بأحوالِها الشّخصيّةِ مِن زواج وطلاق!
ما مدى نجاح تغييرِ القوانين بينَ النّظريّةِ والتّطبيق، التي حصلتْ في مجتمعاتِنا الشّرقيّةِ بحقّ المرأةِ، من ناحيةِ تعليمِها وعِلمِها وعملِها وزواجِها وطلاقِها؟
ما هي العوائقُ التي تقفُ بالمِرصاد؟
هل العملُ المنزليُّ للمرأةِ والإنجابُ وتشكيلُ الأسرة كلّها عوامل تُشكّلُ نوعًا مِن التّسلّط الذّكوريّ، وحالةَ قمْعٍ لحقوقِ المرأةِ اقتصاديًّا وقانونيًّا؟
وهل هناك في الأفقِ رؤًى مغايرة لإنصافِها؟

179
هل جيفارا شهيدُ الإنسانيّةِ وقضايا الظّلم!
آمال عوّاد رضوان

تخرّجَ بشهادةِ طبٍّ عام 1953، جعلت ارتباطَهُ وطيدًا بطبقةِ الفقراءِ والمظلومينَ والمنبوذينَ والمرضى المحرومين بسببِ التّفاوتِ الاجتماعيّ، بعدما تأثّرَ بمشاهدِ بؤسِ الفلاّحينَ الهنود، واستغلالِ عمّالِ المناجمِ الأمريكيّةِ في تشيلي فكتبً:
 "أؤمنُ بأنّ النّضالَ هو الحلُّ الوحيدُ لأولئكَ النّاسِ الّذينَ يُقاتلونَ لتحريرِ أنفسِهم، والثّورةُ قويّةٌ كالفولاذِ، حمراءُ كالجمرِ، باقيةٌ كالسّنديانِ، عميقةٌ كحُبِّنا الوحشيِّ للوطن"!
إنّهُ أرنستو تشي جيفارا الكوبي الثّوريّ ، الّذي تزوّجَ عام 1955 مِنَ المناضلةِ هيلدا أكوستا وأنجبَ طفلةً، وحينَ سافرَ للمكسيكِ التقى بفيدل كاسترو، وإيمانًا منهُ أنّ "الإمبرياليّةَ نظامٌ عالميٌّ ومرحلةٌ أخيرةٌ مِنَ الاستعمار، يجبُ أن تُهزَمَ بمواجهةٍ عالميّة"، انضمَّ للثّورةِ الكوبيّةِ كطبيبٍ في البعثةِ، الّتي ستحرّرُ كوبا مِن دكتاتوريّة باتيستا.
لماذا، وهو أرجنتينيُّ المولد؟
"لا يهمُّني متى وأين سأموتُ، ولا أعرفُ حدودًا، فالعالمُ بأسْرِهِ وطني، وإنّ الطريقَ مُظلمٌ وحالكٌ، فإذا لم تحترقْ أنتَ وأنا فمَن سينيرُ الطّريق؟ إمّا أن ينتصرَ أو يموت، وكثيرونَ سقطوا في طريقِ النّصرِ الطّويل، والثّوّارُ يملؤونَ العالمَ ضجيجًا كي لا ينامَ العالمُ بثِقلِهِ على أجسادِ الفقراء، ولن يكونَ لدينا ما نحيا مِن أجلِهِ، إنْ لم نكنْ على استعدادٍ أن نموتَ مِن أجلِهِ".
دخلَ جيفارا كوبا مع ثمانينَ ثوريًّا كوبيًّاعلى ظهر زورق، ومارسوا حربَ العصاباتِ مِن عام 1956- 1965، بقيَ منهم عشرةُ ثوّارٍ فقط، وبرزَ جيفارا كقائدٍ شرسٍ برتبةِ عقيدٍ وليسَ مجرّد طبيب، بسبب إقدامِهِ وسرعةِ بديهتِهِ في الأزمات، وفي عام 1959 طلّقَ زوجتَهُ الأولى، وتزوّجَ إليدا مارش وأنجب منها 4 أبناء، وصدرَ قانونٌ كوبيٌّ أعطاهُ حقَّ الجنسيّةِ والمواطنةِ الكاملة، ومِن ثمّ تولّى منصبَ رئيسَ المصرفِ الوطنيّ عام 1959، ووزارةِ الصّناعةِ عام 1965، ومناصبَ أخرى تصدّى مِن خلالِها لتدخّلاتِ الولاياتِ المتّحدة، وفي عام 1965 اختفى مِن كوبا، بعدما تركَ رسالةً لكاسترو مفادها:
"أشعرُ أنّي أتممتُ ما لديَّ مِن واجباتٍ تربطُني بالثّورةِ الكوبيّةِ على أرضِها، لهذا أستودعُكَ وأستودعُ الرّفاقَ، وأستودعُ شعبَكَ الّذي أصبحَ شعبي، وأتقدّمُ رسميًّا باستقالتي مِن قيادةِ الحزبِ ومِن منصبي كوزير، ومِن رتبةِ القائدِ ومِن جنسيّتي الكوبيّة، فلم يَعُدْ يربطُني شيءٌ قانونيٌّ بكوبا".
ما الّذي استدعى قرارَ جيفارا الفجائيّ؟
جاءَ ردُّهُ ناقدًا لاذعًا للحُكّام ولمسيرةِ الثّورةِ لاحقًا:
"إنَّ الثّورةَ تتجمّدُ، وإنّ الثّوّارَ ينتابُهم الصّقيعُ حينَ يجلسونَ فوقَ الكراسي، وأنا لا أستطيعُ أن أعيشَ ودماءُ الثّورةِ مُجمّدةٌ داخلي"!
هل يُطالبُ بمزيدٍ مِن الثّوريّةِ والدّمويّةِ؟
إنّما رفضَ فكرةَ مَن حاولَ التّسلّقَ على أكتافِ الآخرينَ والمُجاهدينَ في اتّحادِ الجمهوريّاتِ السّوفييتيّةِ وكوبا، أو الاعتمادَ المتزايدَ على الاتّحادِ السّوفيتيّ، لذا قرّرَ الانسحابَ!
ما الّذي يدفعُ جيفارا  للبحثِ عن قضيّةٍ ثوريّةٍ عالميّةٍ أخرى؟
"إنّني أحسُّ على وجهي بألمِ كلِّ صفعةٍ تُوجَّهُ إلى مظلومٍ في هذهِ الدّنيا، فأينما وُجِدَ الظّلمُ فذاكَ هو وطني!"
لكن؛ وإنْ كنتَ أمميًّا، فمَن نصّبَكَ وصيًّا على المظلومين، ومُحرّرًا لهم بحربِ العصاباتِ؟
"أنا لستُ مُحرّرًا، والمُحرِّرونَ لا وجودَ لهم، فالشّعوبُ وحدَها هي مَن تُحرّرُ نفسَها".
الثّائرُ جيفارا توخّى حربَ العصاباتِ عاملاً مساعِدًا للثّورةِ مِن أجلِ حياةٍ تستحقُّ العيش، لذا توجّهَ إلى الكونغو، وواجهتْ فكرتُهُ ومساعيهِ لحربِ العصاباتِ مصاعبَ كثيرةً لدى بعضِ القادة، ومنها إلى إفريقيا قادَ 125 كوبيًّا لمساندةِ الثّوراتِ التّحرّريّة، وانتهى في مستشفى للنّقاهةِ في براغ!
كاسترو الّذي احتفظَ بجميعِ رسائلِ جيفارا التّوثيقيّةِ عن نشاطِهِ العسكريّ، زارَهُ لينهاهُ عن حُلمِهِ الثّوريّ ويرجوهُ بالعودة، لكنّهُ رفضَ العرْضَ وبقيَ في زائير مُحارِبًا بجانبِ قائدِ ثورةِ الكونغو، ثمّ في بوفيليا لثورةٍ جديدة!
كتبَ جيفارا يوميّاتِ المعركة، وتعرّضَ لمطاردةٍ شرسةٍ كونه قائد الثّوّار، فقسّمَ جنودَهُ الأربعين المُتبقّين في الأدغال بينَ الهزالِ والجوعِ والعزلةِ والمطاردة، وإذا بوحدةٍ مكوّنةٍ مِن 1500 مِن قوّاتِ الجيش البوليفي تباغتُهُ في هجومِها على مجموعتِهِ في وادٍ صخريٍّ وعر، واستمرّ القتالُ ستَّ ساعاتِ إلى أن وقعَ في الأسرِ حيًّا، بعدما ماتَ جميعُ أفرادِ مجموعتِه ال 16 فردًا!
بتاريخ 9-11-1967 ، نُفّذَ فيه حكمُ الإعدامِ في ساحةِ المدرسة، مِن قِبلِ الجيشِ البوليفيّ ووكالةِ المخابراتِ الأمريكيّة، بإطلاقِ النّارِ عليهِ في منطقةِ الخصر وما دون بعيدًا عن منطقةِ القلبِ والرّأس، كي تطولَ فترةُ احتضارِهِ ومعاناتِهِ، ثمّ بُترتْ يداهُ للتّعرّفِ على بصماتِهِ، ودُفنَ في مكانٍ مجهولٍ كي لا يكونَ مزارًا للثّوّار. لكن؛
ظهرتْ مذكّراتُهُ ويوميّاتُهُ للنّور، لتُحدثَ بلبلةً عنيفةً، سمّيتْ "أزمةُ كلمات جيفارا"، وعام 1997 كُشِفَ النّقابُ عن جثمانِهِ وأعيدَ إلى كوبا، ليَدفنَهُ الرّئيسُ الكوبيُّ السّابق كاسترو بصفةٍ رسميّة!
تركَ جيفارا في رصيدِهِ الأدبيّ الّذي خلّدَهُ: حرب العصابات، ذكريات الحرب الثّوريّة الكوبيّة 1968، الإنسان والاشتراكيّة في كوبا 1967،  الأسفارُ تُكوّنُ الشّباب والوعي، مـانسيت!
شهيدُ الإنسانيّةِ وقضايا الظّلمِ جيفارا لم تخبُ ذكراهُ التّمرّديّة، لأنّهُ أسطورةُ بطولةِ أحلامِ الملايين مِن المظلومين، وقد استشرفَ بتحذيراتِهِ مخاوفَهُ المتوقّعةَ مِن مشكلةِ انهيارِ كوبا لاحقًا، وعجزِها عن إطعامِ شعبِها، إن لم تسْعَ إلى تنويعِ الزّراعةِ، والتّوسّعِ في محصولِ قصبِ السّكّر الّذي تتبادلُهُ مقابلَ البترول السّوفييتيّ، وإن هرولتْ وراءَ النّموذجِ الصّناعيّ والإنتاجِ والتّنافسِ في السّوق العالميّ!
لقد آمنَ جيفارا بالإنتاجِ الكوبيّ المَحلّيّ الّذي يحتاجُهُ شعبُها، مع مراعاةِ المحاولاتِ المجتمعيّةِ الّتي تخلقُ مجتمعًا أكثرَ إنسانيّة، ورفضَ معيارَ الكفاءةِ والإنتاجِ مِن أجل السّوقِ العالميّ، الّذي يسعى إلى خلْقِ مجتمعٍ مادّيّ!
وأخيرًا ..
أين بلادنا من هذا الإيمان الجيفاري والرّؤية الجيفارية؟ وهل هناك مَن يتّعِظ؟



180
لماذا ينتحرُ الزّعماءُ العظماء!
آمال عوّاد رضوان

تعدّدتْ الأشكالُ والأسبابُ والألوانُ، وظلَّ الموتُ يحملُ صبغةً واحدةً هي الموت!
كثيرونَ مِن المُعْدَمين الفقراء وهم الأحياءُ المعدومونَ بسياطِ الحياةِ ومواجعِها، ممّنْ ينسحبونَ مِنَ الحياةِ الّتي ليستْ بحياة، لا تأتي على احتوائِهم ذاكرةُ الرّثاء، ويبقوْنَ مجرّدَ أرقامٍ تتداولُها مؤسّساتُ البحوثِ والإحصاءِ، أو يظلّون نكراتٍ في عالمِ الإنكار شأنَ مَن لا شأنَ له، وما أكثرَهم وما أرحبَ شرائحَهم المثقوبة بالفقرِ والذُّلّ، والمُرتّقة بأملٍ بعيدٍ ينوسُ في ضبابِ الأفقِ الهاربِ الّذي لا يأتي.
لكن،
وما أن يموتَ زعيمٌ أو أحدُ العظماءِ على فراشِ المرضِ أو الهَرم  أو الخرَفِ، فالأمرُ يمضي مغايرًا إعلاميّا، مغموسًا بنبعِ دمعٍ لايجفُّ، وحدادٍ شعبيٍّ ملوّنٍ بمناديل الحزنِ لأيّام وشهور، ثمّ تقومُ مِن بَعدِهِ مهرجاناتٌ وعماراتٌ تحملُ اسمَهُ وريْعَهُ، ليَحصدَ أمجادًا أرضيّةً في حياتِهِ وذكرى لا تخبو حتّى في مماتِهِ!
أمّا وأن يُقتلَ زعماء، فالويلُ لحاضرٍ يتشرذمُ، ثمَّ الويلُ لمستقبلٍ تعُمُّهُ فوضى الضّياعِ والانشطارِ مِن بعْدِهِ بينَ أبناءِ البلدِ الواحد، فيضيعُ الزّعيمُ المقتولُ بينَ البطولةِ والشّماتةِ، وبينَ النّقمةِ عليه والتّرحّمِ على أيّامِه، كما حدثَ تمامًا مع صدّام حسين وياسر عرفات دون ألقاب، كي لا يُؤخذَ على كلامي موقفًا مِن مُعادٍ أو مُحايدٍ أو مُعاضدٍ.
لكن
ماذا عن سياسيّين وزعماءَ وملوكٍ وحزبيّينَ ينتحرونَ في لحظةِ حسْمِ انتصارٍ أو انكسار؟
هل يكونُ في نبْشِ سِيَرِهم إقلاقًا لراحاتِهم الأبديّة، أم هروبًا مِن مواجهةِ مرارةِ الحقيقةِ وشُرْبِ كأسِ العلقم، أم ....؟
وهل فكرةُ الانتحارِ هذه مستجدّةٌ أم قديمةٌ متوارثةٌ منذُ أزلِ التّاريخ؟
وهل الانتحارُ هاجسٌ يُلازمُ الزّعماءَ في جميع لحظاتِ حياتِهم؟

ها هو الملك مثير يادس (132-63 ق.م) يخاف الموتَ مسمومًا بأيدي أعدائِهِ، فيطلبُ مِن خادمِهِ وضعَ القليلِ مِن السّمومِ في طعامِهِ تدريجيّا ليعتادَ جسمُهُ عليه، وحين قرّرَ الانتحارَ مسمومًا لم يمُتْ، فطلبَ إلى أحدِ حرّاسِهِ أن يدقّ رأسَهُ بحَجر !

أمّا الملكةُ بوديسا ملكةُ إنجلترا وقبل قرنيْن مِنَ الزّمان، فقد قادتْ تمرّدًا عنيفًا مُقاوِمًا للامبراطوريّةِ الرّومانيّة، وحينَ فشلتْ في تحقيقِ الحرّيّةِ لشعبِها تناولتِ السّمَّ بيدِها، وفَرَّتْ إلى الموتِ برِجْليْها!
أمّا هانيبال الأسطورة القرطاجي/ الليبي وأعظمُ القادةِ العسكريّينَ في التّاريخ ما بين (221- 183 ق. م)، فقد كان بارعًا بالتكتيكِ العسكريّ والتخطيطِ في مواجهةِ الامبراطوريّةِ الرّومانيّة، ولكن حينَ أيقنَ بحتميّةِ وقوعِهِ أسيرًا، تعلّقَ بحرّيّتِهِ وآثرَ الانتحارَ رفضًا للإهانة!
وها مارك أنطوني القائد الرّومانيّ وعشيقُ كليوباترا، يحاولُ التّصدّي لقوّات أوكتافيانوس قيصر روما الجديد، التي وصلتْ إلى مشارفِ الإسكندريّة في صيف عام 30 ق.م، وحين ذهبتْ جهودُهُ سدًى، وبلَغَهُ كذبًا موتُ كليوباترا فضّل الموتَ على الحياةِ بتناول السّمّ، ليتلوهُ انتحارُ الملكة الفرعونيّة كليوباترا بالأفعى السّامّة، بعدَ سماعِها خبرَ انتحارِ حبيبِها أنطونيوس!
لماذا ينتحرانِ في نفس التّوقيتِ؟
أهو حزنٌ على حبِّهما أم وفاء؟
أهو شكلٌ من التّواري عن الهزيمةِ العسكريّة والفضيحة وخوفًا منَ الأسْر والمشي بالأكبال بالحديد في مواكب النصر الرّومانيّ؟
 أمّا نيرون إمبراطور الإمبراطوريّة الرّومانيّة عام (27 – 68)، فقد كثرتِ المؤامراتُ والاغتيالاتُ السّياسيّة، وكانتْ أمُّهُ "أجريبينا" إحدى ضحاياه فماتتْ وهي تلعنُه، وقتل "أوكتافيا" زوجتَهُ بالصّولجانِ أثناءَ أدائِهِ مسرحيّة، وأشهرُ جرائمِهِ إحراقُ روما عام 64م، مشيرًا بإصبع الاتّهام إلى المسيحيّين، وليتحوّلَ إلى اضطهادِهم وتعذيبهم بوحشيّة، فعمّ الإفلاسُ والفوضى لكثرة الحروبِ الأهليّة، وصار نيرون عدوَّ الشّعب، ولا يسعُهُ حينذاك، إلاّ أن يدسَّ خنجرًا مسمومًا في معدتِهِ! 
الزبّاءُ ملكة الجزيرة وقنسرين حين وقعت في أيدي قصير وعمرو، وكانتْ جميلةً حكيمةً حازمة، فعزمتْ على الثأر مِن قاتل أبيها ودعتْ جذيمة إلى قصرِها، فنصَحَهُ قصير بن سعد بعدم الثقةِ بدعوتِها، لكنّهُ لم يُبالِ بالنّصيحة، فقبضتْ عليهِ وقطعتْ "راهشيه" ليهلكَ نزفًا. ويصمّمُ عمرو بن عدي على الثأر منها، فاحتال الدّاهية قصير بن سعد من حاشيةِ جذيمة ومِن رجال عمرو بن عدي بجدع أنفِهِ وقطع أذنيْهِ، وقصدَ الزّبّاءَ شاكيًا، زاعمًا أنّ عمرو بن عدي فعل  هذا، وحين أمنته، قام بإدخال جنود عمرو بن عدي في "جوالق" محمولة على الجِمال واحتلّوا مدينتها، وحينَ وصلَ إليها عمرو بن عدي، مصّتِ السّمَّ الذي تحتفظ بهِ في أحدِ خواتمِها قائلة:
"بيدي.. لا بيد ابن عدي"، مؤْثِرةً بذلكَ أن تنتحرَ على أن يقتلَها عمرو!
أما أدولف هتلر السياسي الألماني النازي المولود في النمسا (1889 – 1945)، وزعيم حزب العمال الاشتراكي الوطني، فقد تميز بكاريزما فذة في إلقاء الخطب، والذي اختارته مجلّة تايم واحدًا مِن مائةِ شخصيّةٍ تركتْ أثرًا كبيرًا في تاريخ البشريّة، في معاداةِ السّاميّة والشيوعيّة، والعمل على إرساءِ دعائم نظامٍ تحكمُهُ النّزعةُ الفاشيّةُ الدّكتاتوريّة، مِن أجل رخاءِ ألمانيا، لكن، وفي الحربِ العالميّةِ الثانية تمكّنتْ جيوشُ الحلفاءِ مِن اجتياحِ ألمانيا مِن جميع جوانبِها، ممّا اضطرّ أدولف هتلر وزوجتُه إيفا براون الانتحار!
وأخيرًا..
هل لانتحارِ العظماءِ فلسفةٌ شرَخَها الفشلُ في متابعةِ ومزاولةِ مهامّ مارسوها مِن قبل.. أم .....؟

181
قهوة الشّرق تتراقص على أوتار الغرب!
آمال عوّاد رضوان
القهوةُ في لغةِ الكِيف والانبساطِ والاستئناسِ خمرةٌ مشروعة، ومصدرُ افتخارٍ واعتزازٍ لمَن يتحلّقونَ حولَ نكهتِها في المجالِس والدّواوين!
القهوة في لغةِ الطّبِّ الشّعبيِّ عقاقيرُ شفاءٍ متداوَلة، وفي الأساطيرِ والرّواياتِ تأرّختْ في كلام النّبيّ داوود الملك، حين ذكَرَ غرسَها وقطفَها في اليمن وخواصَّها مِن قوّةٍ ونشاط!
القهوة في قصّة أخرى ورد، أنّ الرّاعي كلداي الأثيوبيّ عام 850 م انتبهَ إلى انتعاشِ وابتهاج قطيع أغنامِهِ بعدَ أن أكلَ حبوبَ القهوةِ، فأصابَهُ مِنَ السّعادةِ والنّشاطِ والمرح ما أصاب القطيعَ حين أكلَ منها.
 
هكذا عرفها الأحباشُ، وغلَوْها وأكلوها نيّئة حتّى أواسطِ القرن التّاسع الهجريّ!
 
ومِن ثمّ شاعَ منقوعُ البنّ في اليمن، بواسطةِ الشّيخ الإمام جمال الدين بن سعيد الذبحانيّ، بحسب ما وردَ في كتاب "عمدة الصّفوةِ في حلّ القهوة"، للفقيه الشّيخ عبد القادر بن الأنصاريّ الحنبليّ، إذ وُصفتِ القهوةُ له كدواءٍ يُخفّفُ الدّماغ وينشّطُ البدن ويُذهبُ النّعاسَ والكسل.
 
أمّا في كتاب "الكواكب السّائرة بأعيان المئة العاشرة" للغزالي، فأبو بكر الشّاذلي مرّ بشجر البنّ المتروك، وعلى عادةِ الصّالحين اتّخذهُ قوتًا وشرابًا فيهِ تنشيطٌ للعبادةِ واجتلابِ السّهر، ثمّ ظهرتْ القهوةُ برواقِ اليمن في الجامع الأزهر في مصر، في ليلةِ الذّكرِ والخميس!
 
ومِنَ العرب انتقلتْ إلى إسطنبول في عهدِ السّلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر، ومنه إلى إيطاليا، فحازت القهوةُ على قبولٍ واسعٍ بعدَ أن تمَّ اعتبارَها مِنَ المشروباتِ المسيحيّة عام 1600.
 
دخلت القهوة إنجلترا وفرنسا عام 1657، وإلى النمسا عام 1683 بعد معركةِ فيينّا، وانتقلت إلى هولندا وأوروبا، وإلى أمريكا عام 1717 باسم كوفي العربي، وبدأتْ صناعةُ البنّ البرازيلي مِن تهريب بذورِهِ من باريس عام 1727، وازدادَ الطّلبُ على القهوةِ في أمريكا الشّماليّة خلالَ الحرب الثّوريّة، بسبب عدمِ توفّر الشّاي، إذ قامت إنجلترا عام 1812 بقطع واردات الشّاي، فارتفعَ الطّلبُ والسّعر للقهوة خلالَ الحرب الأهليّة الأمريكيّة، ومنذ ذلك الحين صارت القهوةُ سلعةً مهمّةً وأساسيّة!
زراعةُ البنِّ في الغرب:
 ظلّ المصدرُ الأساسيُّ لشجرِ البنِّ هو اليمن حتّى القرن السّابع عشر، لكنَّ الهولنديّينَ تحَدّوْا الحظرَ العربيَّ لتصدير نباتاتِ وبذورِ البنِّ غير المحمّصة، فقام بيتر فان دين برويك بتهريب شتلاتِ البنّ مِن عدن إلى أوروبا، والمحصولُ تمَّ زرعُهُ في جاوة وسيلان، وبدأ التّصديرُ عام 1711 من أوروبا، وانتقلتْ زراعةُ البنِّ إلى سيريلانكا عام 1658، وإلى أندونيسيا عام 1696، وإلى هاييتي عام 1715، وإلى سورينام عام 1718، وإلى جزر المارتيك عام 1723، وإلى كوبا عام 1748.
 
عرف الأمريكان أشجار البن عام 1723، فقام الضابط البحري الفرنسي "جابريل دي كليو" بنقل حبوب البن لجزيرة "مارتينيك"، وفي عام 1777 زرع حوالي 1920 مليون شجرة بن على هذه الجزيرة، وفي المكسيك زرع البن عام 1790، وفي جزر هاواي عام 1825، وفي السّلفادور عام 1840.
 
المقاهي في الغرب:
مع ازديادِ الطّلبِ على القهوةِ المنعِشةِ، افتُتحتْ محلاّتٌ خاصّة ببيعِها للنّاس وللصّفوةِ مُعَدّةً جاهزة، وسُمّيتْ هذه الأماكنُ "بيت القهوة" ومن ثم بالـ "مقهى"، وقد ارتبطتِ المقاهي بالموسيقا وبفتياتٍ عاملاتٍ لجذبِ الزّبائن، كما اقترنت بالبقشيش أو التيبس Tips، من أجل الحصول على خدمةٍ أسرع ومكان أفضل.
 
كان أوّل مقهى (مدرسة العلماء) في إسطنبول عام 1577، افتتحَهُ رجلان مِن حلب ودمشق، وكانَ يأتيهِ الأدباءُ والأعيان.
وافتتح أوّلُ مقهى أوروبيٍّ في إيطاليا عام 1645، وعام 1652 افتتحَ أوّل مقهى إنجليزيٍّ في لندن "بيتي يونيفيرسيتيز"؛ ترجمتُهُ جامعة بمصروفات، وليست مجانية، وكدليلٍ على أنّه مغايرٌ عن الحاناتِ والباراتِ. ثمّ كانَ مقهى إدورارد إليودز عام 1688 في لندن، والذي تحوّلَ فيما بعد إلى شركةِ تأمين.
وفي فيينا عام 1683 كان أوّلُ مقهى بعدَ هزيمةِ الأتراك، الذين تركوا في مخزون هزيمتِهم البّنّ، وأوّلُ مقهى في بوسطن أمريكا كانَ عام 1689.
أمّا الملكُ الفرنسيّ لويس الرّابع عشر فقدِ اتّخذ شجرة البنّ رمزًا له، فأُنشئَ أوّلُ مقهى عام 1713، وفي برلين كان أوّل مقهى عام 1721.
في عام 1750 انتشرتْ فروعٌ للمقاهي مِن بلدٍ لبلد، منها مقهى "جريكو"، وهو مِن أوائلِ المقاهي التي أنشئتْ في أوروبّا، وفُتحَ فرعٌ لهُ في روما، وفي عام 1763 أصبحتْ فينسيا تمتلكُ ما يزيد عن 2000 مقهى.
في عام 1995 تحوّلتِ القهوةُ مِن أهمِّ السّلع اليوميّةِ والعالميّةِ في الاستهلاكِ، وعلى مستوى العالم بأسرِهِ، فهو مِن المشروباتِ المشهورة والمستهلكة والمنتشرة، فتعدّدتْ أسماؤُها مع التّاريخ، فبدأت القهوة العربيّة المُرّة بغلْيِها بالماءِ بإضافةِ الزّنجبيل والهال والقرفة، ثم كانتِ القهوةُ التّركيّة الّتي أضافتْ لها السّكَّر، والقهوةُ المصريّةُ بسُكر زيادة أو على الرّيحة، ومن ثمّ القهوة الإفرنجيّة في أوروبا وأمريكا.
 
في كلِّ رقعةٍ جغرافيّةٍ للقهوةِ طرقٌ خاصّةٌ في الإعدادِ والشّرب، وقد يشربونَها مسلوقةً، مغليّةً، ساخنةً، باردةً أو مُثلّجةً، أو صافيةً بالماء أو مضافًا إليها الحليب وموادّ أخرى.
 
القهوةُ مرّتْ عبْر التّاريخِ بسلسلةٍ من الاضطهاداتِ والتّحريم على حواجزِ القبول والرّفض، وذلك لأسبابٍ تنوّعتْ رؤاها، مِن روحيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ وعقائديّةٍ وطبّيّة، فاستُعمِلتْ في الاحتفالاتِ الدّينيّةِ، وكانت البديلَ للخمور بعدَ الإسلام في الطّقوس الرّوحيّة، لكن بمرسومٍ عثمانيٍّ أوقِفَ استهلاكُها وتمَّ حظرُها، ثمّ اعتُبِرتْ مشروبًا إسلاميًّا، فمُنِعتْ مِن قِبلِ مسيحيّي أثيوبيا حتى عام 1889، كما وحُظرتْ في إنجلترا لأسبابٍ سياسيّة وأخرى طبّيّة وإعلاميّة، وتظلُّ القهوةُ تتلاعبُ بها رحمةُ الإعلام.
 
القهوةُ تُباعُ وتُشرى في الأفران، كسلعةٍ قابلةٍ للتّداول بينَ المستثمرينَ والمُضاربين، ولحبوبِ القهوةِ المُحمّصةِ شروطُ تخزينٍ مُحكمٍ، وبأماكنَ باردةٍ لئلاّ تفسدَ نكهنتُها، بسببِ الرّطوبةِ والهواءِ والحرارةِ والضّوء.
طحْنُها النّاعمُ والخشنُ يتمُّ إمّا في المنازل أو المحامص وبالمطحنةِ الكهربائيّة، أو بسحْق الحبوبِ بالهاون والمهباج أو الطّاحونةِ اليدويّة! ويختلفُ مُحتوى الكافائين المختلفة مِن وجبةٍ لوجبة، بحسبِ طرقِ التّحميصِ والتخزينِ والتّحضير.
وإنْ كنّا نتحدّثُ عن شروطِ التّخزين، فماذا عن الفائضِ مِنَ البُنِّ وكسادِهِ؟ عام 1938 قامتْ شركة نستله Nestle  باشتقاقِ مشروبٍ مِنَ القهوة "نسكافيه"، لتساعدَ الحكومةَ البرازيليّةَ في حلِّ مشكلةِ الفائض!
وأخيرًا..
هل الإفراطُ بشُربِ القهوة، يمكن أن يؤدّي إلى نقصِ الحديدِ وفقرِ الدّم لدى الأمّهاتِ والأطفال؟ وهل حقّا رائحتُها كفيلةٌ باستعادةِ الشّهيّةِ بعدَ الطّهي؟

182
قناديلُ ملكِ الجليل تُضيءُ فضاءَ النّاصرة!




آمال عوّاد رضوان
بدعوةٍ من بلديّة النّاصرة؛ دائرة المراكز الجماهيريّة، أقيمت ندوةٌ ثقافيّة حول رواية "قناديلُ ملكِ الجليل"، للشّاعر الرّوائي الفلسطينيذ الأردنيّ إبراهيم نصرالله، وذلك في مكتبة أبو سلمى البلديّة العامّة، في قرية توفيق زياد التعليميّة في حيّ شنلر، بتاريخ 8-2-2012، وبحضورِ عددٍ كبيرٍ مِن المُثقّفين والمُتابعين للحركة الثقافيّة في البلاد، وهذه الرّواية تتحدّث عن القائد الفلسطينيّ ظاهر العمر؛ مؤسّس مشروع أوّل دولةٍ فلسطينيّةٍ في القرنيْن السابع عشر والثامن عشر، وقد رحّبَ الشاعر مفلح طبعوني مركّز هذه الندوة بالضّيوف، ومن ثمّ قدّم المهندس المعماريّ الفنّان زياد أبو السّعود الظاهر شرائحَ وصورًا فنيّة عن تاريخ القائد ظاهر العمر، واختتمَ اللقاء د. جوني منصور بمحاضرةٍ وافيةٍ وغزيرة، عالجَ فيها أحداثَ الرّواية وتطوّراتها تاريخيّا.
افتتح الندوة الشاعر مفلح طبعوني بكلمة ترحيب بالحضور والضيوف وقال:
في هذه البلاد نحن نعتزّ بظاهر العمر الذي تواصلَ مع الأرض والوطن بكلّ الطّرق الإيجابية، وكانت قمّة التواصل بالسّير فوقها حافي القدميْن ليشعرَ بها وتشعرَ به، ليشعرَ بترابها وبرْدِها وحرارتها، ونحن نعتزّ بأنّنا أحفادُ ظاهر العمر الذي عانق الوطنَ والوطنيّة، كما تعانقُ الأمّ أحفادَها، وقد نشرَ العدلَ ودافعَ عن المرأةِ وتصدّى للطّائفيّة.
وبمُراجعةٍ ثاقبةٍ لصفحاتِ التّاريخ وأرشيفِهِ في تلك الفترة الظّاهريّة، نستدلّ على وضوح الرّؤية عند ظاهر العمر، وأهمّية بناء الدولة القوية بالاقتصاد والعسكرة والأهمّ بالديمقراطيّة!
ومِن أقوالِهِ الرّائعة والمتسامحة: "لا تهزمْ مهزومًا مرّة اخرى، ففي الأولى يفهمُ أنّكَ هزمتَهُ كجنديّ، أما في الثانية فإنّك ستهزمُهُ كإنسان، وبها لن يغفرَ لك"!
الصّراعُ طويلٌ وكبيرٌ بيننا وبين الأرض، وعلينا العمل بمثابرة على زرعِها وبنائِها، فهُم يقلعون ونحن نزرع، وهُم يهدمون ونحن نبني، ونحن نتعاطى مع تصوُّراتِها وتطوّراتها  الماضية والحاضرة مِن أجل مستقبل أفضل للجميع.
الوضوحُ والشّفافيّة في عهد ظاهر العمر ساعدتا على تمركُزِهِ فوقها رغمَ قوّة التّشكيكِ والتآمر عليه  وعلى مشروعِهِ الوطنيّ القوميّ، بعيدًا عن التعصّب والغضب، قريبًا مِن العطاءِ والوفاء، فهو بلوَرَ وأبرزَ هُويّة الأرض، وعملَ على هندسةِ الدّولةِ وكيانها، فاسمحوا لي ان أبعث بتحيّاتنا إلى الصّديق الشّاعر والرّوائيّ إبراهيم نصرالله على هذا العمل الجبّار، ونقول له: نحنُ بانتظارِ ملحمةِ قنايل مِن البحر إلى النهر!
وكانت لنا وقفة مع المُهندس المعماريّ الفنّان الرّسّام زياد أبو السّعود الظاهر، والذي ينحدرُ مِن سلالةِ القائدِ ظاهر العمر، الذي تحدّى الإمبراطوريّة العثمانيّة الاستعماريّة في أوج عظمَتها، وقد رسمَ تاريخَ ظاهر العمر بريشتِه، مُستوحِيًا لوحاتِهِ مِن التّاريخ وأبطالِه، لوحات تتمحورُ حولَ صُور شخصيّات، ولوحات حول مواقع أثريّة، مثل خان الشّواردة في عكّا وقرية صفّورية المُهجّرة، وقلعة شفاعمرو، فيرسمُ الأبطالَ الّذين تأثّرَ بهم، كلوحةِ الظاهر عمر حين كان مُتّجِهًا لمعركة بحيرة الحولة عام 1771 مع أبنائِهِ الثّمانية، وهو يجُرُّ مِن خلفِهِ ثلاثَ جيوش!
تهدذث الفنان زياد عن اللّقاء الذي دارَ بينَهُ وبين الشّاعر إبراهيم نصرالله في معرض رسّامين أردنيّين عن الخيول العربيّة، ودارَ الحديث بيننا عن الفنّانين الأردنيّين وتطرّقنا لتاريخ ظاهر العمر، وحينها أخبرني بأنه معنيٌّ بمعرفةِ تاريخ ظاهر العمر، ولكن لديهِ معلوماتٍ قليلةً ومُتفرّقة، فأهديتُهُ كتاب "تاريخ ظاهر العمر" من تأليف المحامي توفيق مُعمّر، مِن مُلحق الآثار، وقبلَ شهر ونصف وصلت رواية "قناديل ملك الجليل"، وسُررتُ جدّا بأنّني ساهمتُ في كتابة هذه الرّواية. 
وبالنّسبة لكتاب ظاهر العمر من تاليف المحامي توفيق معمّر، فقد ابتدأت بالبحث عن أبنيةِ  ظاهر العمر عام 1978، وكنتُ اتردّد على مكتب المحامي توفيق معمّر، وكان يُنقّلني تاريخَ ظاهر شفهيّا، وطلبَ منّي أن أصوّر بعض المواقع الأثريّة، وطبَعَها في كتاب عام 1979، ومِن ذاك الوقت وأنا أصوّرُ في الأماكن الأثريّة!
هاجرت قبيلة الزيادنة مِن الحجاز إلى بلادِ الشّام، واستقرّت في عرّابة في الجليل، في عهد جدّ ظاهر العمر عام 1650 عمر الزيداني، الذي وَلدَ صالح، وصالح وَلدَ خمسة أولاد أصغرهم ظاهر العمر الذي وُلد عام 1689 وتوفي عام 1775، وعام 1698 ورث الشّيخ عمر الزيداني عن والدِهِ التزامَ سهل البطوف والقرى المحيطة به، وعندما توفّي عام 1703 تركَ ديونًا متراكِمة على سهل البطوف، فرفضَ الإخوة تحمّلَ مسؤوليّة الالتزام، وسجّلوا الالتزامَ الرّسميّ لمنطقة البطوف مِن قِبل والي صيدا العثمانيّ باسم ظاهر العمر، وكان عمرُهُ 14 سنة آنذاك، لكنّه بسياستِهِ الحكيمةِ وعلاقاتِهِ الطيّبة مع جيرانِه، استطاعَ أن يحميَ أهلَ القريةِ مِن استغلالِ الوالي التّركيّ في صيدا، وتحوّلَ عبءُ الالتزام إلى مصدرِ رزق خصب، وإلى نواةٍ لحُكمٍ مُستقلٍّ في شمال فلسطين.
قدّمَ الفنان زياد شرائحَ مُصوّرة للوحاتٍ فنّيّةٍ رسمَها عن ظاهر العمر، الذي خلّف ثمانية أبناء وبنتيْن، فعرضَ الفنّانُ شريحة شجرة العائلة لظاهر العمر، الذي نقلَ مركزَهُ إلى عكّا عام 1746، وحينها بدأ بتعيين أبنائِهِ حُكّامًا، فأعطى طبريّا لابنِهِ الأكبر صْليبي ونسلُهُ في كفرمندا، وأعطى صفد لعليّ ونسلُهُ في رودوس وسوريا، وشفاعمرو لعثمان ونسلُه في تركيّا، وصفورية لسعيد ونسلُه في طمرة، وجبل عجلون لأحمد ونسلُه في إسطنبول، وصالح ونسلُه في طمرة،  وسعد الدّين وعباس نسلُهما في النّاصرة!
عرضَ بورتريه ظاهر العمر الذي أخذه عن تاريخ بلاد الشام من الجامعة العبريّة، وألبسَهُ الملابسَ التي كانت مستعملة في ذاك الزمان، وعن الرّسام البريطانيّ ديفيد روبنس، كما عرضَ شريحة لبيت الشيخ عمر الزيداني في عرّابة، وأخرى فيها خارطة حدود دولة ظاهر العمر، أصدرتها منظّمة التحرير الفلسطينيّة التي قسّموها لثلاث مراحل: الأولى كانت بين عرابة وطبريا والناصرة، والمرحلة الثانية هي شفاعمرو وصفد، والمرحلة الثالثة بعد عام 1744 عندما نقل عاصمته غلى عكّا، وآخِر خمس سنواتن مِن حُكمِهِ احتلّ مِن بيروت شمالاً حتى جبال القدس وغزة جنوبًا، ومِن جبل عجلون ودمشق شرقًا حتى السّاحل الفلسطينيّ، ومن عام 1710 – 1775 كانت فترة حكمه 65 عامًا.
عرض شريحة عن تاريخ الوطن العربيّ خلال 14 قرن، من إصدار الجامعة العربيّة عام 1981، والتي  تُبيّن 22 دولة عربيّة، والمراحل التي حكَمَها الحُكّام منذ الخلفاء الرّاشدين والأمويّين  والعبّاسيّين وحتى العثمانيّين والانتداب البريطانيّ الإنجليزيّ و"احتلال إسرائيل"، وفي الوسط دولة فلسطين المستقلة التي اعتبروها في فترة عمر ما بين عام 1750 و1775.
عرضَ شريحة أخرى عن سرايا الناصرة وأول بناية بناها عام 1730 لزوجتِهِ الدمشقيّة نفيسة، وكان يتردّد على السّرايا مرّة في الشّهر من عكّا، وعرض شريحة لقلعة صفورية التي بناها أحمد عام 1745 على أساساتٍ صليبيّةٍ، وبالقرب منها هناك مدرسة بُنيت عام 1920 في زمن الانتداب البريطانيّ!
عرض شريحة لقلعة شفاعمرو بناها عثمان بن ظاهر عام 1768، وعرض شريحة عن عكا بين الماضي والحاضر، وفي يوم دراسي نظّمته مؤسّسة الأسوار عام 1995 بمناسبة مرور 220 عام على وفاة ظاهر العمر، ورسمت عكّا الحاليّة وجامع الجزار والجامع الشّعبي خان الشواردة آخر خان بناه ظاهر العمر عام 1775، وعرض شريحة لقلعة شفاعمرو عام 1772، ظاهر العمر على يمينِه ابنه عثمان، وعلى يساره علي بيك الكبير حاكم مصر وحليف ظاهر العمر بعد احتلال دمشق.
عرض شريحة عن طبريا سمّاها "الاستعدادُ للمعركة"، وفيها ظاهر العمر طالع مِن بوّابة طبريا ضدّ سليمان باشا وادي الشام، الذي حاصرَ طبريّا عام 1741 مدّة شهرين ولم يستطع احتلالها، وعاد سنة 1742 وحاصرها 80 يومًا ولم يستطع احتلالها، ثمّ عادَ في أيلول 1743 ونزلَ في قرية لوبيا، وفي نفس اليوم أصابته حمّى في الأمعاء وتوفّي بعد ثلاثة أيّام، فهرب جيشه إلى دمشق وترك الأسلحة الثقيلة والعتاد على أرض لوبيا، ولا زالت آثار سور طبريا وسرايا طبريا.
عرض لوحة أخرى عام 1771 الظاهر عمر مع أولاده الثمانية، يخرجون مِن عكّا في معركة بثلاثة فِرق من الجيش، و16 مدفع، و7500 جنديّ مع ظاهر العمر، واجتمعَ في الناصرة مع المتاولة 2500 جنديّ مِن آل نصّار وآل أرسلان وآل جنبلاط من جنوب لبنان، واتفقوا أن يلتقوا في بحيرة الحولة، وكان بمواجهتهم 15.000 جنديّ من الأتراك، وكان النّصرُ حليفَ ظاهر العمر في أكبر معركة!
أمّا ضريح ظاهر العمر في مقبرة قرية المنشيّة بجانب مقام أبو عتبة ففيهِ غرابة، إنّ طوله 270 سم وعرضه 140 سم، وفي المصادر التي كُتبت عن تاريخ ظاهر العمر، مثل كتاب عبود الصّبّاغ ابن ابرهيم الصبّاغ، "الرّوضُ الزّاهرُ في أخبار ظاهر"، مخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنية في باريس، رقم 1853، فإنّ إبراهيم الصّبّاغ كان طبيبَ ووزيرَ ظاهر العمر، وفي الكتاب الثاني "تاريخ ظاهر العمر الزيداني حاكم الجليل"، لبنان 1935 لميخائيل نقولا الصَبّاغ حفيد إبراهيم الصّبّاغ، كتبوا أنّه عام 1775 في شهر آب وصلت لميناء حيفا 12 سفينة حربيّة، بقيادة حسن باشا الجزائري قائد الأسطول العثمانيّ، وبعثَ مرسالاً لظاهر العمر أن يدفع سبعة آلاف كيس ذهب، لمدّة 25 سنة مضت وخلت منذ عام 1750 حتى 1775، فلم يدفعها، وكان المفاوض بينهما أحمد آغا الدّين قائد جيوش ظاهر العمر مدّة أربعين عامًا، الذي تآمرَ مع حسن باشا على فتح أبواب عكّا، مُقابلَ أن يُولّيه بدلَ الظاهر عمر، وحين شعرَ ظاهر بالخيانة خرجَ مِن السّرايا مع حاشيته باتّجاه حلفائِهِ في جبل لبنان، وفطِنَ إلى أنّه نسيَ زوجتَهُ عيشة في عكّا، فعادَ ليأخذها، لكن أحمد آغا أرسلَ له جنديّيْن قتلاه عن بُعد، وحين وقعَ عن حصانِهِ قطعا رأسَهُ وأحضراهُ لأحمد آغا، ليُقدّمَهُ هديّة على طبقٍ لحَسن باشا، فما كان مِن حسن باشا إلا أن قطعَ رأس أحمد آغا جزاءَ خيانتِهِ لسيّده، بتاريخ 27-8-1775.           
د. جوني منصور شكر الفنّان زياد لهذه اللّوحات التي ترسمُ تاريخ شعبنا والمكان الجغرافيّ وملامحَ الشخصيّاتِ التّاريخيّة، ووسط هذه الأجواء نقلَ تحيّات الشّاعر والرّوائي إبراهيم نصرالله، وإنّ هذهِ النّدوة الأولى التي تُعقدُ في الوطنِ عن روايته.
وتابع: في حديثٍ دارَ بيننا قبل أربع سنوات حول تجميعِهِ لمعلوماتٍ وافيةٍ عن ظاهر العمر، وقال: حين توجّهتُ إلى فلسطينيين في المخيّمات، يبدو أنّ الهمّ الفلسطينيّ رابضٌ على قلوب ورؤوس شعبنا في المخيّمات، وحتّى أن كثيرين منهم لم يعرفوا مَن هو ظاهر العمر، فقلت له: إنّكَ لم تذهبْ بعيدًا، فلدينا أيضًا ظاهرة تشبه هذه  الظاهرة، وهي أنّ التّاريخَ البعيدَ نوعًا ما، هو ليس قريبًا مِن القلب، لأنّنا نحن في همّ سياسيٍّ تاريخيٍّ خطيرٍ جدًّا، نعيشُهُ منذ عام النكبة 1948، وهو همٌّ وجوديٌّ وهمٌّ كيانيٌّ وهمٌّ مصيريّ، وانطلقنا مِن هذه النقطة، بأنّ حاجته ماسّةٌ إلى كيفيّةِ توفير المعلومات، إضافة إلى كتاب توفيق معمّر عام 1979، واستطعتُ تزويدَهُ ببعض المخطوطات والكتب مثل كتاب عبود الصبّاغ: "الرّوضُ الزّاهرُ في أخبار ظاهر"، (مخطوطة محفوظة في المكتبة الوطنيّة في باريس، رقم 1853)، وقد تمّ تحقيق هذه المخطوطة عدّة مرّاتٍ ومِن عدّةِ إشخاصٍ وباتّجاهاتٍ مُختلفة، وأيضًا توجّه إلى مجالِ الأدب وما كُتبَ عنهُ شِعريًّا، وعمليًّا؛ كلُّ ما يمكن أن يُكوّنَ له الفكرة حولَ كتابةِ هذه الرّواية، وهو همّ إبراهيم؛ مشروع أن يكتب التّاريخ الفلسطينيّ بشكلٍ روائيّ، مثل "زمنُ الخيول البيضاء"، وعلى امل أن تُترجَمُ على الشّاشة الصّغيرة في مسلسلٍ يُعَدُّ له، ولكن هناك بعض العقبات في مقدّمتها القضايا الماليّة!
لن أُعالجَ الرّواية مِن باب العمل الأدبيّ، لأنّه ليس مجالي بل مجال المُتخصّصين في اللّغةِ العربيّةِ وآدابها والعملِ الرّوائيّ، ولا أريدُ أن أُلخّصَ لكم الرّواية المُكوّنة من 550 صفحة، حتى تتمكّنوا مِن قراءتها بتفاصيلها الكثيرة والدقيقة التي وردت فيها، إنّما أريدُ أن أُعالجَ الأحداثَ التّاريخيّة في هذه الرّواية، وأحاولُ أن أفهمَ كيف يُقدّمُ الرّوائيّ الأحداثَ التاريخيّة بصورةٍ روائيّة، دون أن يفقدَ الحدَثُ أهمّيّتهُ وواقعيّتَهُ وحقيقته، ومِن الضّروريّ جدًّا أن نغوصَ في تاريخ ظاهر العمر!
لماذا نهتمُّ الآن بالذات بظاهر العمر وفي هذه المرحلة؟ ولماذا يُطلق على مشروعِهِ دولة أو دويلة؟
إنّني لا أرى فيها لا دولة ولا دويلة، بل محاولة حاكم بأخذِ نوعٍ من الاستقلاليّة، بما نسمّيهِ اليوم بمفهومنا "الحُكم الذّاتيّ، ولكن لماذا هذه الأهمّيّة التي تُعطى لظاهر العمر في هذه الفترة حصريًّا؟
في السّنة الماضية احتفلنا في حيفا بمرور 250 عام لتأسيس المدينة الجديدة، وأصدرنا كرّاسة صغيرة من بضع صفحاتٍ توجز تاريخ المدينة، وأهمّيّة ظاهر العمر في إطلاق مدينة جديدة، وعلى فِكرة، حيفا هي المدينة الفلسطينيّة الأخيرة التي تأسّست في تاريخنا، وليس هناك مدينة فلسطينيّة أخرى، ولكن هناك قرى أصبحت مدنًا بفعل نظام البلديّات المعمول به في بلادنا، وهذا يدلّنا أنّ هذا الرجل استطاع برؤيةٍ ثاقبةٍ أن ينظرَ إلى المستقبل، مِن خلال إقامة مدينة حديثة ليست بعيدة عن عكا، ولكنها ليست عكّا، وهذه نقطة مهمّة جدًّا في بناء مشروع مدينة، لها مكوّناتُ ومقوّماتُ المدينة الحديثة المعاصرة، ولكن في نفس الوقت لها مكوّناتُ المدينة العصريّة الشّرقيّة والإسلاميّة، التي يُميّزها السّور والأبراج، ولكن ما ميّز مدينة حيفا أنها كانت تحملُ في داخلها وجهيْن أساسيّيْن، أوّلاً الوجه الشّرقيّ العروبيّ الإسلاميّ، وفي نفس الوقت كانت منفتحة نحو الغرب، مِن خلاِل المشروع الذي قامَ به ظاهر العمر.
إحدى النّقاط التي لفتت نظري وأبهرتني جدًّا عند مراجعة الرّواية تاريخيًّا، قبل الإصدار بعام، هو التسلسل التاريخيّ الذي يسير فيه، فمَن يقرأ الرّواية دون ان يكون مُؤرّخًا أو مُعلّم تاريخ أو مهتمّ بالتاريخ، يستطيعُ أن يُدركَ الأعمالَ التي قام بها ظاهر العمر خلال فترةِ حُكمِه، على مدى أكثرَ مِن ستين عامًا في فلسطين! والنقطة الثانية أنّه يربط بين الحدَثِ التاريخيّ والمكان الجغرافيّ، لأنّ هناك ارتباطًا قويًّا جدًّا بينَ الجغرافيا والتاريخ، ولا يمكن فصل كلّ منهما على حدة، خاصّة حين نتحدّث عن التاريخ الفلسطينيّ في أيّة فترة كانت، فهناك ارتباطٌ كبيرٌ جدًّا بين المكان والزّمان، وكي نفهمَ الرّواية وكلَّ الأحداثِ والتّفاصيل الكثيرة جدًّا، يجبُ أن نميّزَ الحدَث بذاتِهِ، والمُحدّدَ بسيرورتِهِ وبمُكوّناتِهِ الأساسيّة من سببٍ ونتيجةٍ وما بينهما مِن سيْر أحداث، وبين ما حول الحدَث، فالرّوائيّ يأخذ الحدَث بمُجملِهِ ويُحاولُ أن يبنيَ حولَ هذا الحدّث، لذلك يُطرحُ السّؤالَ:
أين هي الحقيقة الواقعيّة؟ وأين هو الخيال؟
وحتى الخيال في هذه الرّواية وفي رواية "زمن الخيول البيضاء"، فهو مرتبطٌ ارتباطًا قويًّا جدًّا بواقعيّةِ الحدَث التاريخيّ، وبالنّسبةِ لنا كفلسطينيّين، إذا لم يكن لدينا بعض المعلومات الأوّليّة والأساسيّة، سوفَ نُواجهُ بعضَ الصّعوباتِ في قراءةِ الرّواية، وهذه الصعوباتُ قد تتبدّدُ خلالَ قراءةِ الرّواية، فمن ناحية أنا أتنبّأ حياة ظاهر العمر وكيف سارت أحداثُها، ومِن جانب آخر، كيفَ تطوّرت الأحداثُ التّاريخيّة في تاريخ فلسطين في القرن الثامن عشر، وما تركَهُ لاحقًا على القرن التاسع عشر! 
كان الظاهر عمر قد تزوّجَ مِن فتاة دمشقيّة ورثَ عنها بعض المال واستفادَ من هذه الثروة، وبدأ في المراحل الأولى في منطقة طبريا، ثمّ كان الانتقال إلى مرحلةٍ أخرى متقدّمة في الناصرة، وبعَد ذلك إلى عكّا ثمّ حيفا. بمعنى؛ أنّه لو أدركنا هذا البُعدَ الجغرافيّ الذي ربطَ بهِ بينَ بحر الجليل؛ أي بحيرة طبريّا وبين البحر الأبيض المتوسّط، لأدركنا أهمّيّة هذه المنطقة في السّياق التاريخيّ، وحصريًّا في تلك الفترة التي نحن بصدد الحديث عنها، وقد تزوّجَ مِن عدّة نساء وأنجبَ عددًا مِن الأبناء، وقد وقفوا معه لفترة طويلة ولكن في صعودٍ وهبوط، وكانت علاقته مع أبنائِهِ مبنيّة على علاقاتٍ فيها نوعٌ مِنَ التوتّر والنقاش والجدال والأخذ والعطاء في كثير من القضايا، ولكن في نهاية الأمر، أيضًا أبناؤه ثاروا عليه وحاولوا أن ينقلبوا على والدهم، وهذا كان أحد الأسباب التي أدّت في نهاية المطاف إلى سقوط ظاهر العمر، ونهاية محاولة هذه التجربة الفريدة من نوعِها في التاريخ الفلسطينيّ!
وهناك نقطة أخرى لها أهمّيّة، وهي في محاولتِهِ الوصول إلى الشاطئ والسّاحل، اي حيفا وعكا والسّاحل، وقد بدأ من المناطق الدّاخليّة، واستطاع أن يدركَ أنّ للمناطقِ السّاحليّة أهمّيّة كبرى، وتلعبُ دورًا مركزيًّا ورئيسيًّا في بناء قوّتِهِ الاقتصاديّة، بمعنى، أنّه بتطوير الاقتصاد المَحلّيّ وقطاعاتٍ من الزراعة، وخاصّة في منطقة الجليل، وحصريًّا المناطق القريبة من عكّا والناصرة وبعض مناطق مرج ابن عامر، هي ذات أراضٍ خصبة جدّا، وإمكانيّةُ زراعة القطن وتطويرها فيها يؤدّي إلى ها القطاع، كما كانت له علاقلاتٌ تجاريّةٌ قويّة جدًّا بين تجّار عكّا مع تجّار أوروبّا، وبالتّالي استطاع أن يجنيَ أموالاً، ومِن هذه الأموال استطاعَ أن يبنيَ قوّتَهُ العسكريّة، ليُواجهَ الحُكّامَ مِن المناطق المجاورة، وأيضًا ليُواجهَ الضّغوط التي تُفعّلُها الدّولة العثمانيّة، ومن جهة أخرى، ما نلمسُه في قراءة الرّواية "قناديل ملك الجليل"، هو تشديد كاتب الرّواية إبراهيم نصرالله وتركيزُهُ على بعض المحطات التي تُميّز شخصيّة ظاهر العمر، تلك الشخصيّة التي تعتمدُ عليها أحداثُ الرّواية، والتي تلعبُ الدّورَ التّاريخيّ والدّورَ الرّوائيّ، وهذا التّركيزُ يُعطي الشّعبَ الفلسطينيّ الآن، سواءً كان في الدّاخل أو في الضّفة أو في اللّجوء، يُعطيهم شخصيّةً لها دوْرٌ قياديّ، استطاعت أن تُوحّدَ أبناءَ الشّعب ليصيرَ واحدًا، وتمنحَ هذا الشّعبَ قوّة الوجود وقوّة الاندفاع نحوَ المُطالبَة بنوعٍ مِن الاستقلال في ذلك الوقت، ويُبرزُ الرّوائيّ بعضَ النّواحي التي تُركّبُ وتُكوّنُ شخصيّة ظاهر العمر، وهي مُكوّناتٌ مُهمّة جدًّا، لولاها لَما استطاعَ أن يصمدَ هذه الفترة الطويلة، وعلى سبيل المثال، التسامح الدّينيّ!
اِهتمّ بالتسامح لأسبابٍ كثيرة:
أوّلاً لتوطيد حُكمِهِ، ثانيًا لأنّه أدركَ أنّ طبيعة المنطقة التي يتولى حُكمَها فيها تركيبة سكّانيّة ودينيّة وطائفيّة متعدّدة، فاستطاع أن يُرضي كلّ الفئات وكلّ الأطراف، وهذا ما يثميّز سياسته المتسامحة والمنفتحة تُجاه سكّان هذه المنطقة، فانفتح على الطوائف المسيحيّة وكنائسها في الناصرة مثلا، وشجّعها على إقامةِ المُؤسّسات الدّينيّة ودور العبادة، إضافة إلى مناطق عديدة في منطقة الجليل حصريّا.
والميزة الثانية أنّه اهتمّ بانتشار الأمن والاستقرار، ففي حين كانت الدّولة العثمانيّة مُصابة بحالةٍ مِن الضّعف وبداية الترهّلِ وتفكّكِ بعض المؤسّسات، استطاع ظاهر العمر أن يُفرضَ نوعًا مِن الأمن والاستقرار على المنطقة، ممّا أدّى إلى ازدهار المنطقة ليس فقط اقتصاديًّا، بل أيضًا بشريّا، نتيجة هجراتٍ داخليّةٍ في بلاد الشام السوريّة غير المُحدّدة بحدودٍ سياسيّةٍ مثلما هي اليوم، وازدادَ الحَراكُ البشريّ، ممّا أدّى إلى انتقالِ كثيرٍ مِن العائلات من المناطق السّوريّةِ واللّبنانيّة وشرقي الأردن إلى الجليل، بهدفِ الاستفادة من هذه الأجواء والفضاءات الهادئة والمريحة لفترة زمنية، وبالتالي يتمّ تطوير القطاعات الأخرى، وأهمُّها القطاع الاقتصاديّ، وهناك ارتباطٌ قويٌّ جدًّا بين الاستقرارِ وبينَ انتعاشِ الحالةِ الاقتصاديّة في المنطقة!
والميزة الأخرى التي يمكن أن ندركَها في قراءتنا التاريخيّة لهذه الشخصيّة، هي تركيز ظاهر العمر على هُويّةِ المكان وتلك المنطقة، فنحن بعد 250 سنة نحاولُ بأدواتِنا ومفاهيمِنا ومصطلحاتِنا أن نعودَ إلى الوراء، بمعنى؛ أن نستفيدَ مِن الاصطلاحيّة المُعاصرة، ونحاولُ أن نُحلّلَ الأوضاعَ التي كانت، وأن نهتمّ بإعطاءِ هُويّةٍ للمنطقة، وإبرازها على أنّها منطقةُ ربطٍ ومنطقةُ مُفترقٍ هامّ جدًّا في المنطقة، وليس فقط للمنطقة وحدها وإنّما للعالم أجمع!
كثيرون يعتقدون أنّ الاهتمامَ العالميّ بمنطقةِ الشّرق الأوسط قد بدأ في القرن العشرين أو ما قبله بقليل، ولكن في واقع الأمر، فحتى لو عدنا غلى غياهب التاريخ ندرك، أنّ هذه المنطقة كانت منطقة جذب لكثيرٍ مِن الأطماع الاستعماريّةِ التّوسّعيّة بكافة أشكالها، حتى مِن أيّام إسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، ويمكن من يحلّل التّوسّعات التي قامَ بها يدرك، أنّه كانت لديه رؤيةٌ مِن العولمة وتوحيدِ المناطق التي كانت تحتَ سيطرتِهِ، ضمنَ إطارِ حضارةٍ واحدة. طبعًا هذا الحلم لم يكن عند ظاهر العمر، ولكن كان حلمُهُ إعطاءَ نوعٍ مِن هُويّةِ المكان وهُويّةِ الإنسان، الذي يعيش على هذه الأرض، مِن خلال بناء هكذا مشروع؛ نوع من الاستقلال وليس الاستقلاليّة التامّة!
ومِن خلال المتابعة أيضًا، هناك تشديدٌ على الموروثِ العمرانيّ، وهذه نقطة هامّة جدًّا، فالموروثُ العمرانيّ الذي تركه ظاهر العمر ليس فقط في الناصرة وفي عكا وطبريا وعرابة وشفاعمرو وصفد، وفي بعض القرى الأخرى في الفضاء الجليليّ، فكلّ هذه المشاريع العمرانيّة ما كانت لتقفَ على أرض الواقع، لو أنّه لم يكن لديه اقتصادٌ قويٌّ ،لأنّها بحاجةٍ إلى مبالغَ كبيرة من الأموال، فالسّرايا في الناصرة وقلعة شفاعمرو ليستا مشاريع صغيرة، فهي ضخمة وهامّة جدًّا بمفاهيم بلادنا، لا نقارنها مع مشاريع عمرانيّة في أوروبّا، فكلّ هذه البلاد والأماكن مذكورة في الرّواية، بهدف التشديد على هُويّةِ المكان، وربطِ المكان بالحدَث التاريخيّ، لأنّ الرّبط بين هُويّة المكان مع هُويّة الحدَث التاريخيّ هو هُويّة الإنسان الفلسطينيّ؛ الضّاربة جذورُهُ في أرض هذه البلاد، لأنّ هذه البلاد لم تأت من فراغ ومن عبث، بل كان لها حضورًا ووجودًا وتاريخًا.
في نهاية اللّقاء شكَرَ الشّاعرُ مفلح طبعوني مُركّزُ هذه النّدوة الرّوائيّ إبراهيم نصرالله والمُحاضرين والحضور، وفتح بابَ النقاش، وقد كانت مداخلاتٌ عدّةٌ قيّمةً داعمةً ومُبارِكةً للشّاعرِ والرّوائيّ إبراهيم نصرالله عملَهُ الهامّ والجبّار، والذي يُعتبرُ الحَلقة المفقودة في سياسة تغييبها المقصود وتهميشها، وكأنّ الشّعبَ الفلسطينيّ لا تاريخَ ولا جذورَ له على أرضِه، والرّواية هي أيضًا الحلقة المفقودة في مناهج تدريسِ التاريخ للفلسطينيّين العرب، والتي تُعلّمُهم عن تاريخ العالم إلاّ عن تاريخ  فلسطين وأجدادِهم!

 

183
معرضٌ ذاكرة إنسان للفنان د. سليم مخولي!





آمال عوّاد رضوان
إبداع؛ رابطة الفنانين التشكيليّين العرب في كفرياسيف أقامت معرضًا فنّيًّا تشكيليًّا للفنان الشاعر د. سليم مخولي، بتاريخ 4-2-2012، في صالة جاليري إبداع في كفرياسيف، وخصّصت زاوية خاصّة لمؤلفاتِه، وذلك بحضور كبير من الرّسّامين والفنانين والأدباء والشّعراء والأصدقاء والأقرباء!
تولّى عرافة الحفل الأستاذ عبد الخالق أسدي؛ عضو جمعيّة إبداع فقال:
وفاءً واحترامًا وتقديرًا للغالي د. سليم مخولي ارتأت جمعيّة إبداع أن تقيمَ احتفالاً تكريميًّا لذكراه، بما يستحقه إكبارًا وإجلالاً لروحِهِ الطاهرة، ولقيمتِهِ الأدبية والشّاعريّةِ والفنيّةِ والإنسانيّة، كطبيبٍ عالجَ الجسدَ، وكشاعرٍ عالجَ الذوق والإحساس، وكأديبٍ ارتقى بسِماتِهِ الحضاريّة، وكفنّانٍ لامسَ الحسّ الإنسانيّ بلوحاتِهِ ورسوماتِهِ الناطقةِ بالتعبير، والصّادقة بالمعنى الرّمزي والتّشكيليّ!
 
د. سليم مخولي تلقى علومَهُ ودراستهُ بمدارس كفرياسيف الابتدائيّة والثانويّة، والتحقَ بكليّةِ الطبّ بالجامعةِ العبريّةِ بالقدس، وعملَ في خدمةِ مجتمعِهِ من عام 1965 حتى عام 2004 ما يقاربُ الأربعة عقود، حيث تفرّغَ بعدَها للفنّ والأدب والشعر، وهو مِن مؤسّسي جمعيّةِ إبداع الأوائل.
 
مارسَ هوايتَهُ الفنّيّة منذ الصّغر، مُلازِمًا ذلك خلالَ دراستِهِ الجامعيّة، وحتى رحيلِهِ زاولَ الطّبّ كأنّه فنٌّ، واكتسبَ الأدبَ كأنّهُ عِلم، فهو شاعرٌ في رسوماتِهِ ورسّامٌ في قصائدِه، طرَق أبوابًا عديدة في قصائد اجتماعيّةٍ سياسيّةٍ ثقافيّةٍ فلسفيّةٍ خياليّةٍ فنيّةٍ ومصيريّة!
 
انتمى د. سليم مخولي إلى المدرسةِ الواقعيّة، فعبّرَ عن لواعج قلبهِ المُنفتح وفِكرهِ المُتنوّر، ليطرحَ معاناته اتجاهَ ما يحدثُ في الإنسانيّة، وكتبَ القصّة والمقالة والمسرحيّة النثريّة، وكان صاحبَ رؤية مستقبليّةٍ تحملُ تطلّعاتِ وأحلامَ كلّ الناس، نحوَ عالمٍ راقٍ وإنسانيّ، ولوحاتُهُ لا تقلّ شاعريّة عن قصائدِهِ، فقد مزجَ الكلمة بالموقف، والكتابة بالنضال، وكلماتُهُ مُعبّرةٌ تعكسُ الهَمّ والألمَ والوجعَ، وآمَن بحُرّيّةِ الفكر والنقد والأدب والفنّ!
كان د. سليم مخولي عضوَ الهيئة الإداريّة لجمعيّة إبداع، وفاعلاً كبيرًا في أروقتِها، وعضو اتحاد الكتّاب العَرب في البلاد، ومِن مؤسّسي لجنة الدّفاع عن الأرض، ومن مؤسّسي لجنة اليوبيل في كفرياسيف!
قامَ بالعديدِ مِن النشاطات في حركة "سلام الآن"، وعام 1987 انتُخِبَ بالإجماع رئيسًا لمجلس الطائفة الارثوكسيّة في كفرياسيف، وعام 2002 حاز على جائزة التفرّغ الأدبيّ مِن قسم الثقافة العربية في وزارة العلوم والثقافة والرياضة، وله 14 مؤلّفًا في الشّعر والأدب والمسرح والقصص.
 
د. سليم مخولي مِن شخصيّات كفرياسيف البارزة الذين لا زالوا عالقين في ذاكرتي، بجَوهرِهم الدّاخليّ ومَظهرِهم الخارجيّ، في الأناقةِ والعراقةِ منذ وطئتْ قدماي أرضَ هذا البلد العامر بعِلمِهِ وثقافتِه، لتلقي العِلم في مدرسةِ يني الثانوية في النصف الثاني من سنوات الخمسين من القرن الماضي.
د. سليم مخولي صاحبُ الرّيشتيْن؛ الطبيبُ والشاعرُ الفنّان، فهو باقٍ في ذاكرتِنا ومُخلّدًا في عالمِهِ المُحتضِن للقيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والأدبيّة والفنيّة.
 
أسوقً نبذة موجزة عن الشاعر الأديب الفنان د. سليم مخولي:
من مواليد سنة 1938 – 2011/ رسّام كاتب شاعر وطبيب عائلة/
خرّيج مدرسة الطب- الجامعة العبريّة في القدس/ عضو اتحاد الكُتاب العرب في البلاد/
مِن مؤسّسي لجنة الدّفاع عن الأرض مع بعض الشخصيّات الحزبيّة والشعبيّة المستقلة/
مِن مؤسّسي لجنة اليوبيل الأهليّة في كفرياسيف التي تأسّست عام 1975 لخدمة أهالي البلدة  وسكرتيرًا لها/  المجلس العام لجمعية "إبداع"- (جمعية الفنانين التشكيليين العرب في البلاد)، درس الفن في دورات في بتساليل وفي كلية الجليل الغرب/
له عدّة إصدارات شعريّة ومسرحيّة ونثريّة في اللغة العربية ومجموعة قصص/
ينشر من إنتاجه في الصحف والمجلات العربية في البلاد وخارجها/
شارك في عديد من الندوات الأدبيّة والمهرجانات الشعريّة/
حائز على جائزة التفرغ والإبداع الأدبيّ من قسم الثقافة في دائرة المعارف، وشهادات تقدير من مؤسّسات عديدة/ له نشاطات اجتماعيّة وعضو لجان شعبيّة عديدة.
من معارضه المختارة:
ثلاثيات؛ معرض فرديّ في كفرياسيف/ جاليري المركز الثقافي في كفرياسيف/
جاليري المركز الجماهيري- جولس/ جاليري ترشيحا- معلوت/
المعرض القطري للفنانين التشكيليين العرب بيت الكرمة حيفا/
معرض فناني "إبداع" المركز الثقافي الناصرة/ معرض في كلية الجليل الغربي/
معرض في جاليري أمّ الفحم/ معرض "الأرض والإنسان" 1 في المركز الثقافي- الناصرة/ معرض "الأرض والإنسان" 2 في المركز الثقافي كفرياسيف/
"إيقاعات شرق أوسطية" جاليري ليؤوناردو- تل أبيب/ معرض "حوار الصمت" – مجدل شمس/ معرض فناني "إبداع" – طول كرم/ "بين الرؤية والرؤيا" معرض ثنائي- المركز الثقافي–الناصرة/ معرض فناني "إبداع" – طول كرم/ "ذاكرة مكان" معرض فردي- المركز الثقافي – كفرياسيف/ "الإنسان والأرض" في بيت الفنانين القدس/
"حجارة تحكي عن السلام" عمل نحتي في هبيما تل أبيب/ معرض في بيت المسن في يانوح/ عمل نحتي في مهرجان النحت على الحجر الجليلي في كفرياسيف/
تصميم النصب التذكاري لعين الماء في كفرياسيف بالمشاركة مع بعض فناني ابداع /
معرض "كفى" / معرض "ذاكرة إنسان" في جاليري إبداع كفرياسيف
إصدارات:
معزوفة القرن العشرين- شعر – سنة 1974/ صدى الأيام – شعر –1974
الناطور – مسرحية نثرية – 1979/ ذهب الرمال – شعر –1989
تعاويذ للزمن المفقود – شعر – 1989/ رماد السطوح ورخام الأعماق – شعر – 1996 
ما يخط القلب في سفر التراب – شعر – 2002 / إليك – شعر 2003
رفيقة يومي – شعر  2003/ ألأبواب المفتوحة  - مجموعة قصص - 2005
عثرنا على ذاتنا  - شعر-  2006 / نسيج آخر للوقت  -  قصائد نثرية   
جناح لدوري الحقل  -  خواطر/ مسرحية الزينة - 2011
 
ومن ديوان د. سليم "عثرنا على ذاتنا"- ومن قصيدة سأدعوك حلمًا ص 54 أقول:
إلى أين تمضي يا حبيبَ جراحِنا/ وجرحُكَ إيمانٌ توتّر ناميًا/ وكنتَ ثقيلاً في موازين حقبةٍ/ خفيفًا عليلاً في رحيلِكَ ساميا/ ومثلُكَ مَن يلقى الصّعابَ ببسمة/ ويطوي المنايا في مرامِهِ ناهيا/ سأدعوكَ حُلمًا في الحقيقة ماشيا/ إلى أين تمضي في رقادِك/ إلى أين ترقى في غيابك/ كدعواك فينا مذ عرفتك داعيا/
وجاء في كلمة جورج توما رئيس جمعيّة إبداع:
رأت جمعيّة إبداع وأعضاؤها في الهيئة الإداريّة والفنيّة، وبتأييدٍ كاملٍ مِن أعضائها المخلصين، أن تكرّمَ الفنان الدكتور سليم مخولي ، الذي وافته المنية في أوائل شهر تشرين ثان 2011، وذلك بتخليد ذكراه وتكريمه في جاليري إبداع صالة العرض لرابطة الفنانين التشكيليين العرب، والتي كان ينتمي إليها منذ تأسيسها سنة 1994، وقد ثابر على مؤازرته لهذه الرابطة ودعمها مادّيَّا ومعنويًّا طيلة أيام حياته، وقد ضحّى بالكثير من وقته الثمين من أجل الاستمرار في نشاطاتها، ولمّ شمل أعضائها من الفنانين والرّسّامين والنحّاتين .
شارك في عشرات المعارض في كفرياسيف وخارجها سواء كانت معارض فرديّة أو جماعيّة، كما ساهم في تصميم النصب التذكاريّ لعين الماء في كفرياسيف بشكل بارز، مع بعض زملائه الفنانين من إبداع، حيث يقف هذا النصب شامخًا على ساحة العين في قرية كفرياسيف .
 
إنّ تكريم الفنان سليم مخولي واجب يستحقه، وهو أقلّ ما يمكن لأخوان أن يعملوه، ليذكروا أخًا لهم رافقهم مسيرة سنوات طويلة وشاركهم في العطاء، وها نحن اليوم نصدر هذا الكتالوج المصوّر الخاصّ بالمعرض المُقام تخليدًا لذكراه الطيّبة، حيث تظهر فيه بعض الرسوم والصور التي توثق تاريخ كفرياسيف، مبانيها القديمة، شوارعها وأزقتها، عاداتها وتقاليدها، وتوحي لنا بتمسّكه بترابها والتغنّي بمعالمها الأثريّة والدّفاع عن أرضها وأشجار زيتونها، وهذا يصوّر لنا مواقفه الشجاعة والثابتة في الدفاع عن الأرض، والمشاركة في المظاهرات والإضرابات كما يظهر في بعض رسوماته.
إنني أشكر رئيس اللجنة الفنيّة الأخ الفنان ايليا بعيني منظّم المعرض، على اختياره هذه اللوحات وترتيبها، كما أقدم شكري باسم جمعيّة إبداع للدكتور منير توما، على معاينته هذه اللوحات والرّسوم وشرح وتحليل بعض الإيحاءات التي توحيها لنا هذه الرّسومات .
وأخيرًا.. أوجّه شكري لعائلة د. سليم مخولي وأقاربه على التعاون معنا، والمساهمة في توفير ما لزم لإنجاح وإصدار هذا الكتالوج .
وفي كلمة السيد عوني توما رئيس مجلس كفرياسيف المحلي جاء:
لفتة كريمة وخطوة مباركة أن بادرت جمعية إبداع للفنانين التشكيليين العرب أن يقوموا بتكريم ابن كفرياسيف البار د. سليم مخولي، والذي كان عضوًا في هذه الرابطة وسندا لها. إنه يستحقّ كلّ تكريم واحترام، فقد كان من المواطنين الصالحين في هذه البلدة، يحارب من أجل كرامتها وسمعتها، ويعمل جاهدًا على رفع شأنها.
أعرف د. سليم كجار عزيز لوالدين عزيزين علينا وعلى عائلتنا طوال عشرات السنين، وعندما انتقلنا إلى بيوتنا الجديدة بقيت العلاقات والروابط وثيقة بيننا، على الرّغم من اختلافات الرّأي بيننا أحيانا.
أريد أن أشيد بخدمته لبلده في المجال الصّحيّ الطبيّ، فقد عالج الكثيرين من المرضى والمحتاجين لمساعدته منذ الستينات، وعمل في عيادة صندوق المرضى في كفرياسيف، وفي عيادته الخاصّة، وأسعف الكثيرين من الناس.
وفي المجال العائليّ؛ بنى عائلة محترمة كريمة وربّى أولاده خير تربية، ولم يمنعه عمله واهتمامه بعائلته عن الاهتمام بهواياته وميوله الفنية والأدبية، فكتب الشعر والنثر في الصّحف والمجلات، وأصدر كتبا كثيرة وشارك في الندوات الأدبية.
وفي مجال الفن والرسم والنحت؛ برز مع خيرة فناني بلادنا، وعُرضت أعماله الفنية في كثير من المعارض والمتاحف في البلاد، وها نحن اليوم في صالة جاليري إبداع نستعرض بعضًا من آثاره الفنية، ورسوماته التي وثقت تاريخ البلدة وحاراتها ومؤسّساتها.
 
أمّا في المجال الاجتماعيّ والدّينيّ، فكان له دور في رئاسة المجلس الملي الأرثوكسي، وقد بدؤوا في إقامة بناية الكنيسة الجديدة "كنيسة السيدة العذراء" في أيام رئاسته، وكان يقوم بنفسه بجمع التبرعات وزيارة البيوت من أجل هذه الغاية الجميلة.
 
أمّا في المجال السّياسيّ فقد عُرفَ أنّه مِن المناضلين في الدّفاع عن حقوق شعبه، وفي الدّفاع عن الأرض الغالية، وإلغاء الضرائب الباهظة عنها، وإنّني أعتزّ بوقوفي هنا أمامكم وفخورٌ جدًّا بتكريم مثل هذه الشخصية البارزة في المجتمع الكفرساويّ بعد مماته، كما كرّمناهُ في حياتِهِ عندما قامت جمعيّة إبداع بتكريمه في المركز الثقافيّ البلديّ قبل سنوات، وقامت جمعيّة التطوير الثقافيّ والاجتماعيّ بتكريمِهِ أيضًا.
 
ومع الممثل الحكواتيّ لطف نويصر صديق الدّكتور كانت فقرة مؤثرة جدًّا فقال:
كان إنسانًا أعطى من المعاني ومن الكلمات، حتى تبقى على طول الأيّام منارة ولكلّ الأجيال، وسنة 1970 كان عمري 20، وصُعقت بوفاة الزعيم عبد النّاصر وتأثرت وانفعلت، وقدست حياتي للفنّ، وأقتبس بعض الكلمات لمَن ترك لنا بعض كلماتِهِ ولوحاتِه، لتكون المسارَ الصّحيح لكلّ صغير ولكلّ كبير، واجتمع  أهل الناصرة من كلّ الأماكن والأطياف على تلة صغيرة، وحين رأى الوفود والأهالي والانفعال، قال الخوري الأب سمعان نصّار:
كنت أتمنّى لو أنّ هذه الوفود كانت في استقبالك وليس في وداعك يا جمال!
 
وما زالت هذه الكلمات محفورة في عقلي ووجداني وأقول: إن هذا الإنسان يستحق هذا الاحترام والكلام، وهذا الحضور جاء لاستقبالك وليس لوداعك، وقبل الحديث عن القصّة التي اضطرّتني إلى الحضور، فأقرأ ما كتب د. سليم في مقدّمة مسرحيّة الزينة:
"للصّغار حتى يكبروا، وللكبار قبل أن يكبروا أو يتكبّروا"! 
ما أجمل هذه النصيحة، والرّاوي يقول:
كان يا ما كان، كان ملك جبّار عنيد، يعيش في جزيرة نائية في بحر بعيد، وكان هذا الملك ظالمًا شرّيرًا، يحكم بقسوة لا يرحم كبيرا أو صغيرا، يقتل من رعيّته الكثير بلا سبب وأحيانًا لأيّ سبب صغير، خافه الناس وابتعدوا عنه حتى كان يوم ذكرى الجلوس على العرش المجيد، أراده الملك أن يكون عظيمًا كأنه عيد، أمر أن تزين المدينة بكلّ ما هو جميل، وان تكون احتفالات تليق بهذا الحدث الجليل".
كيف يمكن أن أنساه وقد ترك لنا هذه الكلمات وهذا التوقيع على كتابه المُهدى إليّ:
"تقديرٌ إلى الممثل القدير لطفي نويصر مع التقدير"!
مرّتان بحياتي تكرّمت، وبالنسبة لي كانت أكبر بكثير من أن أكون في هوليوود وآخذ جائزة، ولكن شيخا كبيرا من الجولان مع كلّ المحبّة والاحترام، وكثير خجلت من هذا الكلام، وكثير أحسست برهبة فظيعة لمّا قبّل رأسي وقال:
"والله يا خيّي إنّك ممثل قدير.. ليك يا خيّي.. بدّي أقبّل راسك لأنّي احترمك"!
 
رنّ التلفون: :- صباح الخير يا فنّان/ :- صباح النور/ :- كيف الحال/ :- والله الحمدلله/
قال:- بعدَ الفحص والتمحيص لقيت إنك الإنسان والفنان الذي يمكن أن يقوم بهذا العمل، وأنا كتبت مسرحيّة، وأريدك أن تقرأها وتعطيني رأيك فيها، وبلكي مِن محاسن الصّدف استطعنا أن نعمل عمل محلي أحسن ما يكون!
وأنا فعلاً ارتجفت وكانت بالنسبة لي خيرة الكلام، ووقفت أفكاري وتجمّد الدّم في عروقي وأنا أسمع شيئًا لا يوصف، وصادف أنني سأحضر إلى كفرياسيف بتاريخ 16-11-2011 لعرض مسرحيّة جدار العنكبوت، عند صديقي رفول بولس، فقلت له:
- سأعزمك لحضور المسرحيّة/
قال:- وأنت معزوم على فنجان قهوة عندي في البيت، ولكن أنا سأرسل لك المسرحية في البريد. قلت:- ولماذا أنت مستعجل يا د.؟
أحاسيس غريبة راودتني عندما وجدت المسرحيّة بسرعة في البريد، وليسَ من عادتي أن أقرأ العمل أو أنهيه في نفس الليلة، لكني قرأت مسرحيّة الزينة من بدايتها لنهايتها في نفس الليلة، وتمتّعت بكلماتها وبموضوعها الأمني الاجتماعيّ السّياسيّ، والطاغية الجزّار الشّرّير الذي يأكل حقّ الناس، ولكن الكاتب لم يسمح له من خلال كلماته التي قالها، وسمّى المسرحيّة "الزينة"! وما صدّقت أن يطلع النهار لأهاتفه وأقول:
- أشكرك على هذا الشرف العظيم في هذا العمل الرائع، وكأنني أقرأ أبو زيد الهلالي والزير سالم وعنترة بن شداد، لكن المسرحيّة طويلة تحتاج إلى إعداد وإمكانيات، وإن شاء الله تكون لدينا الإمكانية والفرصة من ميزانيات وإعداد من المسرح ومؤسسة إبداع، في إتمام هذا العمل.
 
وخلص الكلام بوداع وإطراءات، وخرجت من البيت ومرقت من مكان فيه إعلانات، قرأت الاسم في الإعلان ولم أصدّق، قلت إن لدينا أسماء كثيرة متشابهة، ورفضت أن أنظر إلى الصورة، وعندما عدت في المساء فتحت موقع بانيت، رأيت الصورة والإعلان!!!!
هل كانت محادثة الصباح رسالة وأمانة؟
ليت أحدكم يجيب على هذا السؤال.. لكنه أطلّ بنظرته من فوق النظارة ومن تحتها، وبصوته أعطاني الشجاعة لأقفَ أمامكم وأقول كلمة منقوشة في الذاكرة في حقّ د. سلين مخولي!
 
تلا العريف قصيدة وديع الصافي لد. سليم مخولي:
صافي كماء المزن ينقط صافي/ في القلب صوتك يا وديع الصافي/ ينساب صوتك في المسامع خمرة/ أنغام همس جداول وضفاف/ يا أرز لبنان الحبيب تحيّة/ لمليك فنّ نادر الاوصاف/
ومع الفن ننتقل إلى الفنان الشاب الأنيق عازف الكمان والمُلحن مراد خوري، لنسمع إلى معزوفةٍ شجيّة ومقطوعة موسيقيّة مِن تأليفه!
 
ثم تلا العريف من قصيدة بين الورد والخنجر لد. سليم مخولي:
وأرض صراع/ طابة مطاط/ تعلو تهبط/ تأتي تذهب/ كالريشة آه في ريحٍ/ تضحك تبكي/
تغفو تصحو/ وطن يصغر/ وطن يكبر/ بين الوردة والخنجر/ شعب يتغيّر/ شعب يتحرّر/
 
وكان لنا وقفة قصيرة مع الصّحفيّ نايف خوري المنتدب عن المنتدى الثقافيّ في عسفيا:
في الندوة الأخيرة التي أقامها منتدى البادية في عسفيا حول مسرحية الزينة، تحدّثنا مطوّلاً وبإسهاب وبتوسّع عن أفكاره التي طرحها في المسرحية قبل وفاة د. سليم بأيّام، والمنتدى يفتقد لهذه الشخصيّة المُشرّفة، وهذا الطعم الجميل الذي لمسناه في شعره ونثره، ونُعزي أنفسنا بأن ذكراه باقية في نفوسنا وقلوبنا.
أكثر ما يحز في النفس أن يتحوّل المتوفى إلى رقم، ولكن د. سليم كبُرَ مع إنتاجه وإبداعه وإعماله، وخاصّة في المجال الفنيّ في رابطة إبداع، وكانت له الفكرة الصّائبة والرّؤية إلى ما بعدَ ما تراه العين، وها هي الجمعيّة تتابع المسير بعد افتقاده!
يُروى عن مؤتمر عُقد في اليابان لجرّاحين ومتخصّصين، لبحث آخِر مستجدات الطبّ وكيفية وضع الأمور الحديثة في حياة الإنسان، وقال رجل دين كان معهم:
- أنتم تستطيعون اجراء عمليات وزرع أعضاء، ولكنكم لا تعرفون أين موطن روح الإنسان، والأمر الثاني أنكم لا تستطيعون إعادتها..
 ولكن د. سليم باقٍ في أرواحنا وأرواح  مُحبّيه وفي عائلته الواسعة، فما تحوّلت روحه إلى مجرّد رقم ومجرد إنسان أو روح هائمة، بل إلى شخص كبير، إلى هرم كبير يجب أن نقوم بواجبنا تجاه أفكاره ونشاطاته.
في يوم سألني:- كيف أستطيع أن أخدم قضية القرى المُهجّرة إقرط وكفربرعم؟
فذهبنا مع مجموعة من الفنانين لهناك، وقضَوْا يومًا كاملا في رسم معالم هاتيْن القريتيْن وحجارتها المُهدّمة وقال:
- نرسم هذه الحجارة المُهدّمة والمنازل التي سقطت، لأنّنا نريدُها أن تعود واقفة، وإن لم تكن واقفة على أرض الواقع، فعلى الأقل نريدها أن تكون واقفة ونثبتها في لوحاتنا..
 
ما أرجوه من المؤسّسات التي كان فيها د. سليم عضوًا فعّالا وليس مجرّد عضو، مثل منتدى البادية في عسفيا، رابطة إبداع، وفي مجتمعه كفرياسيف وفي مجتمعنا العربي، أن نوفيِه حقه بتأبيد ذكراه الطيّب، إمّا بفعاليّات ونشاطات وإطلاق اسمه على مواقع ومؤسّسات تُخلّده.   
 
العريف تلا قصيدة لد. سليم مخولي:
عن ذاتك اخرجْ- اِتبعني/ اُخرجْ من قطرة ماء/ من حزمة ألوان الصّمت اتبعني/ أَغمض عينيك هنا/ للحظة أفاف تجهلها/ أعمق من ليل الغجرية/ أقسى من موجة ريحٍ وحشيّة..
ونبقى مع كلمة د. منير توما:
أيّها الحفل الكريم.. لا أريد التحدث عن د. سليم مخولي الأديب والشاعر، بل سأتحدّث عن الفنان التشكيليّ في شخصه الكبير، الذي اجتمعت فيه مواهب وصفات صاحب الرؤية التي جعلت منه فنانًا أصيلاً، لأنّ كلّ صاحب رؤية هو فنان، وليس كلّ فنان صاحب رؤية!
كان د. سليم مخولي الفنان الصّادق في فنّه؛ رومانسيًّا وواقعيًّا، وهو الذي كان يُزاوج بين الذاتية والموضوعية مزاوجة الائتلاف!
لقد أحبّ وعشق الفنون الجميلة إلى أقصى الحدود، لأنه أدرك وأيقن بحدسه الثاقب أنها عنوان تمدّن الأمم، والدليل على ذلك، ما بلغه فنّه في الرّسم والنحت من درجة في السّموّ الرّوحانيّ، لأنّ الدّاعي إلى حبّ الفن والميل إليه والولوع به هو حبّ الجمال، والباعث لنشاطه لطافة الذوق ورِقّة الإحساس وقوة الشعور الحيّ، فالفنّ يكون جميلاً عندما تعمل اليد والرأس والقلب معًا، وهذا ما اتّصف وتحلّى به في حياته المُفعمةِ بروح العطاء والإبداع على مختلف الصّعد، فكان إنسانيّ النزعة بكلّ ما في هذه الكلمة من معنى، وعلى شتى المستويات عامّة وفي فنّه خاصّة، فالفنّ هو الأسلوب، والأسلوب هو الإنسان، ومِن طبيعة الفنانين الصّفاء والتسامح والانفتاح، وكلّ فنّ يحملُ نورًا إلى الآخَر.
د. سليم ككلّ فنان أصيل كان يغمس فرشاته في روحه، ويرسم طبيعته الخاصّة في رسومه ولوحاته، ليكون الرّقيّ لديه في اجتماع الفنّ والعلم والأخلاق.
إنّ الفنّ لا يقوم على المواد من ألوان وأقلام وحجارة، ولا هدفه التسلية والإغراء والشعوذة، بل هو أوّلاً وأخيرا أداة تهذيب، وهو رسالة سامية مقدّسة. إنّه الشّيء الآخر الأبعد في الإنسان، والذي نسعى لأن يجد شكلاً يُعبّر عنه، ولم نجده حتى الآن، ومع أن كلّ شيءٍ ينقضي، فإنّ الفنّ وحده يبقى لنا؛
فالتمثال يدوم أكثر من العَرش، واللّوحة الرّائعة الخلاّبة تعيش أكثر من أصحاب العروش، حيث يرجع الفضل في ذلك إلى الفنان الذي أبدع وجسّد ذلك بأصابعه وبيديه وبريشته وإزميله، وهكذا فإن كلّ رسمٍ رُسِمَ بعاطفة وإحساس هو رسمٌ للفنان لا للنموذج المرسوم، وهذا ما كان يتبنّاه ويؤمن به د. سليم مخولي ممارسة وتطبيقا، كسائر الفنانين الموهوبين الكبار!
لقد تماهى من خلال لوحاته الفنيّة الرّائعة شكلاً ومضمونًا مع قول جبران خليل جبران، بأنّ الفنّ ليس بما نسمعه أو نراه، بل هو تلك المسافات الصّامتة وبما توحيه إليك الصّورة، فترى وأنتَ مُحدّقٌ إليها ما هو أبعد وأجمل منها، وبالتالي كان يرى أنّ الفنّ ليس غاية في حدّ ذاته، بل وسيلة لمخاطبة الإنسانيّة في الحياة، حيث نعيش ونتألّم ونجهد.
وأخيرًا لا بدّ لي من القول بأنّ عظمة د. سليم مخولي كفنان ليست في يده، وإنّما في قلبه، فاليد لا تستطيع أن تفعل أكثر ممّا يوحي به القلب، فقد كان فنّانًا حقيقيًّا لأنّه كان شديد الحساسيّة، قادرًا على التعبير المُخلص الصّادق، ولم يكن بإمكان حساسيّته أن تعزله عن مجتمعه، بل كانت دائمًا تشدّه إليه، وبديهيّ أنه كان يُعبّر عن إحساسه بصدق وإخلاص، فإنّه لم يكن يُعبّر إلاّ عن مجتمعه وعن إحساسه وآلامه وأمانيه، فهو مُلتزم بمجتمعه ووطنه وأرضه وشعبه كفنان إنسان، وبجمال الطبيعة بوجهها الطاهر النقي الذي اعتبرَهُ بهاءً للخير، وشيئًا رائعًا وغريبًا يُبدعُهُ الفنان من فوضى العالم في عذاب روحه!
وأختم كلمتي بالأبيات التالية لأحد الشعراء، والتي تعكس لوحة فنيّة مرسومة بالكلمات، تحمل ما ورد من المعاني الشفافة حول عشقه للفنّ وللجَمال، ولا سيّما وأنّه كان يقدّسُ الجَمال الفنيّ بكلّ تجلّياتهِ البشريّة والطبيعيّة، وفي هذا المعنى يقول الشاعر:
كم تحدّى سرَّ الجَمال أناسٌ/ أقدموا نُكُصًا وقاموا قعودا/ فرآه المخمور كفًّا تُديرُ الكأ/ سَ صِرفًا أو تعصرُ العنقودا/ ورآه الغنيّ وَقْعَ دنانـ / يرَ يُشنّفنَ سَمْعَهُ تغريدا/ ورآهُ الفقيرُ في العُريِ ثوبًا/ مع الجوع قصعةً وثريدا/ هكذا أبصرَ الجَمالَ أناسٌ/ حدودَهُ فأخطؤوا التّحديدا/ فاتَهُم أن يَرَوْا ملائكةَ العر/ شِ حواليْهِ رُكَّعًا وسُجودا/ ويدُ الله فوقَهم ترسُمُ الفجْـ/ رَ على الأفقِ مُقلتيْنِ وَجِيدا/
وفي كلمةِ العائلة قال ميخائيل بصل؛ ابن أخت الفقيد ومدير قسم المعارف في مجلس كفرياسيف المحلّيّ:
أهلاً وسهلاً بكم يا أهلَ الفنّ والآداب وأَيُّها الأحِبّة والأصحاب
هُدُوءٌ فَسَكينَةٌ وَعَبْرَةٌ مُنْسَكِبَةٌ وتوأَمَتُها على أَسْكُفِ العين مُتَلأْلِئَةٌ.. وكَأَنَّنا عَلى سَمْعِ وَقْعِ دَعَساتِ قَدَمَيْهِ على الدرَجاتِ المُؤَدِيَةِ لِهذا المَكان َودُخولِ شَخْصِهِ المَهيبِ حَسَنَ الحِبْرِ والسِبْرِ! أَوَيُعقلُ أَنْ يَلْتَئِمَ اليَوْمَ شَمْلُنا بِدونِهِ ولِذِكْراهُ؟
أَتَتْ ساعةُ الزَّوالِ ومالت ِالشَمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّماءِ، بلَمْحَةِ طَرْفٍ فَقَدْناهُ فَما وَجَدْناه، وَكَأسُ الفَنِّ ما زالَت طافِحَةً بِيَدَيْهِ.. باغَتَنا الفَرْضُ المَقيتُ فدَبَّ الفَزَعُ بأَعْماقِنا زارِعًا في النَفْسِ جَزَعَ التَلْميذِ توما حينَما قال:- "إنْ لمْ أُبْصِرْ في يَدَيهِ أَثَرَ المساميرِ، وأَضَعْ إصبعي في آثارِها كما أَضعُ يَدي في جَنبِهِ، لا أومِن".
اليقينُ كَرَدَ أوصالَ الشكِ كردًا وبعثرَها رمادًا في الفضاء، فصارَتْ لهُ بينَ الناسِ جَنازةٌ وبَيْن المَلائِكةِ حَفاوَةٌ.. سُدِلَ السِتارُ بينَهُ وَبَيْنَ الحَياةِ، وَسُرِّحَت الرّوحُ مِن صاحِبِها الحُرِّ الأبيِّ مُنْطَلِقَةً نَحْوَ السّماءِ، فافْرَحي أيّتُها السَّماءُ وابْتَهِجي بِما تَحْمِلين، فأنْتِ الرابِحَةُ وَنَحْنُ الخاسِرون..
وَعادَ الشلا الهَشُ مِن حَيْثُ أَتى لِيُطَيِّبَ الثَرى، فَمَحْسودَةٌ أَنْتِ أيّتُها الأَرْضُ بِالمَقْدور وَقَد اسْتَرْجَعْتِ غَدْرًا أَضْعافَ أَضْعافَ ما أَعْطَيتِ.. فَشَتّانَ ما بَيْنَ الصّبا والنّهاوَنْدِ، وبَيْنَ ما كُنّا عَلَيْه وَما نَحْنُ فيه.
أَنْتَ خالي... وَما أَعْظَمَهُ مِنْ لَفْظٍ يَحْمِلُ أَرَقَّ وَأَسْمى المَضامينِ وَالمَعاني! بِشَهْرِ أيّار عام 2008 هاتَفَتْني سِكْرتيرةُ جَمْعِيةِ "إبْداع" وَطَلَبَت مُوافَقَتي بِناءً عَلى طَلَبِكَ، عَلى نَشْرِ ما كَتَبْتُهُ لَكَ في مُدَوّنَةِ المُلاحَظات، يَوْمَ شارَكْتُكَ كَغيري في افْتِتاحِ مَعَرض ِرُسومَاتِكَ، الذي حَمَلَ اسْمَ "كفرياسيف بلدي"، وَكانَ لَكَ ما شِئْتَ كَما دائمًا، فَأَنْتَ خالي، كَتَبْتُ لَكَ ما شَعرْتُ بِهِ تجاهَك في حينِها، الأَمْرُ الّذي أَسَرَّكَ وَقَدْ سُرِرْتُ لِسُرورِكَ، وَقَدْ خَطَّ قَلَمي ما يلي :
لَدَيْنا في صالَةِ العَرْضِ التابِعَةِ لِجَمْعِيَةِ "إْبداعٍ" عَمَلٌ فَنِيٌّ جَديدُ وَمُمَيَّزٌ يَحْمِلُ اسْمَ "كَفْرِياسيف بَلَدي"، حقًّا إنَّهُ حِكايَةُ قَرْيَةٍ؛ قَريَتي. كُلُّ عَملٍ فَنّيٍّ جَديدٍ يَنالُ كَاْلعادَةِ مُعالَجَةَ النّاقِدِ الْفَنيِّ، الذي يُوَجِّهُ مِن خِلالِ نَقْدِهِ القارِئَ أوِ المُسْتَمِعَ أوِ المُشاهِدَ إلى مَدى نَجاحِ العَمَلِ ذاتِهِ، وأيًّا كانَ قَرارُ النّاقِدِ فَهُو لَيَسَ بِالضَرورَةِ الحُكْمُ النّهائِيَّ عَلى العَمَلِ، إِنّما يُقاسُ نَجاحُ النّتاجِ الفَنِّيِّ بِمَدى تَفَاعُلِ الإنْسانِ العاديِّ مَعَهُ.
فَمَن يَرى الرّسوماتِ المَعْروضَةِ يَحيى وَيَعيشُ مِنْ خِلالِها الماضِيَ الجَميلَ، بَعيدًا عَن الحاضِرِ وَمَشاكِلِه، وَتَحْضُرُهُ ذِكْرَياتٌ يَتوقُ إليْها مِنْ أَعْماقِهِ، وَيَقِفُ فاغِرًا فاهَهُ اسْتِهْجانًا لِجَرِيمَةِ التَنَازُلِ عَنْ هذا الجَمالِ والتَّخَلُصِ مِنْهُ، وكأنَّهُ أمْرٌ مَعيبٌ، مِنْ أَجْلِ مُواكَبَةِ الحَضَارَةِ والشَّارِعِ والسَّيَارَةِ. عُنْصُرُ التَفاعُلِ هُنا قَويٌ جِدًّا، فَالمُشاهِدُ لِهذِهِ الرّسوماتِ يَرْتَبِطُ بِها ارْتِباطَ الطِفْلِ بأُمِّهِ، ويَشْعُرُ بِحاجَةٍ روحانِيّةٍ لِهذا الارْتِباطِ، كَحاجَةِ تيَنةِ السَبْتاءِ لقطْرَةِ الطلِّ.
فَهَل مِن حاجَةٍ لِناقِدٍ فَنِّيٍّ يُقَيِّمُ هذا العَمَلَ المُتفاعَلَ مَعَهُ لَحْظَةَ الانْكِشافِ لَهُ؟!
يا أبا الفُنونِ الجَميلَةِ؛ النَحْتِ والرَسْمِ والشِعْرِ.. يا صاحِبَ الأنامِلِ الرَشيقَةِ التي جَسَّدَتْ تَفْكيرًا وَطَنِيًّا وَفِكْرًا حَميمًا، وَأَحْيَتْ تاريخًا ما زالَ عَبَقُهُ يَسْحَرُنا، لَقَدْ رَوَّضْتَ ريشَةً عَصْرِيَّةً مُتَمَرِدَةً وَجَعَلْتَ لِتاريخِنا لَوْحَةً شاهِدَةً عَلى ما مَضى لأَجْيالِ الحاضِرِ والمُسْتَقْبَلِ.. إرْثُكَ أَكْبَرُ مِن لَبَد.
أَنْتَ قُدوَةٌ لِلتَّمَثُّلِ والاحْتِذاءِ بالانْتِماءِ لِهذهِ القَرْيةِ العَريقَةِ، فَأنْتَ المُنْتَمِي فِعْلاً، وانتِماؤُكَ انْتِماءُ فِعْلٍ لا انْتِماءُ قَوْلٍ، ولا انْتِماءُ رَفْعِ شِعارٍ بِمُناسَبَةٍ عابِرَةٍ .
واختتمتُ كاتِبًا مُتسائِلًا بِتَواضُعٍ ودَعابَةٍ: هُناكَ مَثَلٌ شَعْبِيٌ يَقولُ " ثُلْثَيْنِ الوَلَد لخالو" مثلٌ قَدْ يَكونُ فيهِ اليَوْمَ بَعْضُ عَزاءٍ لأُمي رَغْمَ أَنَهُ حَيَّرَني وأخرَجَني عَنْ طَوْعي وَأَرْهَقَني؛
فأَنْتَ الطَّبيبُ المُداويَ وأَنا بِالكادِ أُضَمِّدُ جَرْحي/ أنتَ شادي الشعرِ وأَيْنَ أَنا مِنْ أَحْرُفِ الهِجاءِ/ أَنْتَ الرّسَّامُ وَريشَتي أَنا تَأْبى إلاّ أَنْ تَكبُوَ لِتنام / أَنْتَ النَحَّاتُ وَازْميلي أَنا صدئٌ أَصْلَد / أنت َميرُ الكلامِ مِنْ مَنْثورِ القَوْلِ وَمَنْظومِهِ/  وَأَنا مُجَرّدُ مُسْتَظِلٍّ بِدَوْحَتِكَ الفَيْنانَةِ الغَنَّاءِ؟/
وَفي النّهايَةِ وبَعْدَ هذِهِ التّساؤُلاتِ وَجَدْتُ نَفْسي مٌعَزّزةً مُنْتَصِرَةً بِكَ، "فَمَنْ لَهُ خالٌ مِثْلُكَ يَسْتَطيعُ كَما قالَ المَثُلُ: "أَنْ يَحْلِقَ شَعْرَهُ وَيَهِتَّ بِشَعْرِ خالِهِ ."
هذا ما كتبتُ.. وَبَعْدَ أَيامٍ، صُدْفَةً الْتَقَيْنا، بادَرَني بِسُؤالٍ تَكَلَّلَ بِابْتِسامَتِهِ الخاصّةِ: هَلْ حَلَقْتَ شَعْرَك؟ فابْتَسَمْتُ مَسْرورًا لِرِضاهُ عَنّي .
هُناكَ دائِمًا رَجُلٌ واحِدٌ يُحْدِثُ الفَرْقَ، هَكَذا كان فارِسًا في كُلّ مَيْدان نَقَشَ اسْمَهُ في سِفْرِ الوُجودِ، وهكَذا سَيَبْقى حَيَّا في وُجْداني وَفي وُجْدانِ البَقاءِ، فَكُلُّ رَجُلٍ يَموت وليسَ كلُّ رجلٍ يحيا، فَهَل نَحْزَنُ فُراقَهُ فَحَسْبْ، أَمْ نَحْزَنُ وُجودَنا بِدونِهِ؟
تَرَكَنا، فَإِنَما الدّنْيا لُعَاعةٌ والعُمْرُ دَعْداعٌ نَخالُهُ أَحْيانًا أَزلا، بَعْدَ أَنْ مَدَدَنا بزادٍ لَهُ عِنْدَنا المَنْزِلَةُ الشَّريفَةُ، فَمِنْ زَرْعِ يَديِهِ يَطيبُ الحَصادُ، وَبَيْنَما يَحْتَلُّنا شَبَحُ غِيابِ الجَسَدِ، يَلُفُّنا عَطاؤُهُ الجَزيلُ ليُبْقِيَهُ بَيْنَنا دائِمًا، وَكَأَنّ لِسانَ حَالِهِ يَقولُ:- "لا.. لا أُريدُ أَنْ يَنْتَهِيَ عُمْري".
فَهَنيئًا لَهُ، لأَنَّ سَجاياهُ في النّفوسِ ترَسّخَتْ لِنَتَذَكَرَهُ أبَدًا، بِثَغْرٍ باسِمٍ وَبِهامَةٍ مَرْفوعَةٍ وَبِعَيْنٍ دامِعَةٍ، فالتِّذْكارُ شَكْلٌ مِنْ أشْكالِ اللِّقاءِ.
وَإلى أُسْرَتِهِ المَفؤودَةِ وَما أَقْرَبَها إليَّ أقولُ:
سيروا عَلى دَرْبِهِ الحَبيبِ، فَنِبالُكُم كَسِهامِكُم ثاقِبَةٌ، وَتَمَتّعوا في نَعيمِ العَيْشِ، فَسَليمُكُم سَبْطُ اليَدينِ فاخَرَ إبراهيمَ بِالفِداءِ، عاوِدوا بَيْتَ والِدِكُم، لأنَّ ماضِيَكُم يَقْطُنُ فيهِ، ولتستدفِئوا بِعَطْفِ أُمّكُمُ الحنونِ!
وتحدث مُنظّمُ المعرض الفنّان إيليّا بعيني- "ذاكرة إنسان":
معرضُ "ذاكرة إنسان" نقيمُهُ تكريمًا لذكرى رحيلِه، رحيل طيّب الذّكر الشاعر الأديب الفنّان د. سليم مخولي!
في أحد أيام عام 1995، توجّه الرّاحلُ إليَّ مُستفسِرًا حول إمكانيّاتِ استكمالِ تعليمِهِ للفنون، فاقترحتُ عليه الالتحاقَ بقسم الفنون في كليّة الجليل الغربي، وهناك أنهى فيما بعد دراسته، فانضمّ إليّ في مسيرة دربٍ طويل؛ ابتدأناه معًا في فكرةٍ ثمّ تصميمٍ وعمل، وأنهيْناهُ مُكلّلاً بورودِ النّجاح؛ ابتدأناه بإقامةِ رابطةٍ للفنانين التشكيليين العرب "إبداع"، وأنهيْناهُ في تطوير الفن وتعزيزه في مجتمعنا؛ بدأنا معًا، وسِرنا معًا، كابنٍ وأبٍ يَسيران سويًّا في دربِ الفنّ، لكن سرعان ما اختطفته يدُ المنون، ليترجّلَ عن حصان الفنّ، تارِكًا آثارًا تقطرُ بالشّهدِ والدّسم.
لقد رسم الفنّانُ بيتًا، فكان البيتُ مأوًى للمحبّةِ، بل منزلاً هجَرَهُ المُحبّون قهرًا.
لقد رسم الفنان شجرةً، فراحت أوراقها تتأرجحُ خفيفةً لتختالَ الثّمارُ بينها؛ ثمرُ الرّوح الوديعة والنّفس الهادئة؛ بل شجرة لربّما تكسّرت أغصانها، لتبقى جذعًا صامدًا في وجهِ الرّيحِ، وجذورها متأصّلة في ثرىً يحتضنُ رفاتِ الأجداد.
رسمَ الفنّانُ بالماءِ مِن زرقةِ اليمِّ سماءً، فأمسى البحرُ جيّاشًا تقذفُ أمواجُهُ درَرَ التاريخ الغابر، وتكشفُ كنوزَ الآباءِ والإباء وقد سبَرَها الأجل.
قال جبران خليل جبران:- "الفنّ أن نؤدّي روحَ الشّجرة، لا أن نصوّرَ جذعًا وفروعًا وأغصانًا وأوراقًا تشبهُ الشّجرة.. الفنّ أن نأتي بضمير البحر، لا أن نرسمَ أمواجًا مُزبدة أو مياهًا زرقاءَ هادئة"!
لقد رحلَ رفيقي وغاب أليفي، ولكن وإن ماتَ فلا زال يتكلّم بعد. لذكراكَ يا صديقي أُنظّمُ هذا معرض "ذاكرة إنسان"!
وتحدّث الفنّان التّشكيليّ إبراهيم حجازي عن انعكساتٍ وطنيّةٍ في لوحاتٍ فنّيّة:
لوحاتٌ فنيّة بألوانٍ مائيّة.. تغرق الأوراق بعناصرَ تشكيليّةٍ مِن الوطن؛
عقودُ البيت العربيّ القديم، كرومُ  الزّيتون، طرقاتُ وأزقّةُ البيوت، عين الماء، برجُ الكنيسة، والعديدُ من اللوحات الفنيّة مِن أجواءِ وملامح قرية كفر ياسيف.
هذا التّوجّهُ في الرّسم يدلُّ على مدى ارتباط الفنّان حسّيًّا وتشكيليًّا بوطنه، من خلال توثيق ذاكرة المكان وخاصّة بلده كفر ياسيف.
استطاعَ الفنان د. سليم مخولي أن يُوظّفَ اللّونَ بتقنيّةٍ عاليةٍ في خدمةِ موضوعاتِهِ الفنيّة.. ويُسخّرَ اهتمامَهُ البارزَ بشفافيّةِ الألوان وبتحسّسِهِ لروح المادّة، التي تعني تفاعل الفنان تقنيًّا وفكريًّا مع مخزون الصّور الذّهنيّة، لمُركّباتِ الوطن مِن الماضي البعيد القريب..
 نلاحظ  جيّدًا المداعبة بين اللّون والشكل في تكوينات اللّوحة عند د. سليم، لتضيفَ رونقًا وإيقاعًا في أسلوبٍ انطباعيٍّ مُميّز، في توثيق ذاكرةِ المكان والزّمان...
 
رافقتُ الدّكتور سليم في جولةِ رسم في الطبيعة في قرية البصّة المُهجّرة، ضمنَ مشروعِ معرض بعنوان "مشهدٌ من بلدي" بتاريخ 28-3-2009، الذي قمتُ بتنظيمِهِ والإشراف عليه في صالة العرض التابعة لجمعية "ابداع"، وما زلتُ أتذكّرُ خطواتِ الدكتور سليم في تحرّكاتِه وطريقة رسمه، وهو يتنقّلُ مِن مكان إلى آخر، في حالةِ تأمّلٍ وتفحُّصٍ لبقايا أشياء موجودة لأبناء وطننا النازحين..
لفتَ انتباهَهُ الطّلاءُ المنقش الموجود على جدران البيوت، ما يدلّ على البُعد الزّمنيّ للتّهجير..  كان يعملُ تخطيطاتٍ سريعة بقلم الفحم مِن زوايا مختلفة .. حتى على سطح البيوت .. محاولاً احتضانَ المكان بكلّ جوارحِهِ وأحاسيسهِ .. ليستكشفَ مشهدًا جديدًا ..
كان يلمسُ حجارة المكان وبعضَ ما تبقّى مِن شبابيك وبلاط من البيت المُهجّر .. يُسجّلها في تخطيطاتِه .. التي حوّلها فيما بعد إلى لوحةٍ بالألوان، لتترك انطباعًا قويًّا لدى المتلقّي ..
الدّكتور سليم مخولي كان فنّانًا شاعريًّا برسوماته، وشاعرًا رسّامًا بأشعاره .. كان ذاكرةً لإنسانٍ رحلَ عنّا جسديًّا، ولكن فنّه وروحه خالدان فينا ..
 
  وتلا نعيم سليم مخولي النجل قصيدة بعنوان عتب:
 
اِدمعي  يا  عين  دمعاتك  سخيّة/ اِدمعي واسقي خدودَ ورديّه
قالت، نشف البحر اللّي كان يدمع/ وتا إدمع  بعد  ما  عاد  فيّي         
بقولو، كثر الزعل شو عاد ينفع/ وكفّي  حياتك  اليوم  يوميه
قلتلن، كيف ممكن والقلب يوجع/ وما بينفعو ولا عمليّة جراحيّة
سألت الزمن بلكي شويّة يرجع/ ويمحالي لحظة من حياتي، خريفيّة 
قالّي بإيدي ما عاد شي يطلع/ طلبك، عند ربّ السّماوات العَليّه
وعا سكون الليل، اللّي غيرو ما كنت أسمع/  وقمر سهران، ونجومو حواليّه
وقفت، وعالسّما عيوني صرت أرفع/ صرخت بصوت، وبغصّة قويّ،
قلت، قلت كيف إلك قلب يا رب تقطع/ خيوط الحياه عن نفس بَيّي
مِن بَيّي يا ربّ ما لحقت إشبع/ يا دلّ إختي؛ ويا دلّ خيّي
قالي يا بنيّي، منّك ما كنت أتوقع/  هيك حكي، وترَوّى شويّة                                       
روح بيّك، في جنينتي تتمتع/ بنعيم حياتها الأبديّة                                         
روح خبّر البشر تا الكلّ يقشع/ شوعِمل بيّك بحياتو الغنيّة
بيّك لغير الرّب ما كان يركع/ وبحياتو ما انحنى للرّيح العتيّة
وللذلّ، بعمرو ما كان يخضع/ تحدّى الظلم بأعمالو السّويّة
وسِهر الليل مع نجم يلمع/ تا يلبّس هالوطن، حلّة بهيّة
بالمال والمظهر، ما كان يطمع/ وما همّتو هالأمور الهامشيّة
للناس، بالأدب والفن كان مَرجع/ برَسْم، ونحت، وأبيات شعريّة
وما في حفيد إلاّ عصدرو ادّلع/ وضمّو بعطفو، وبكلّ حِنّيّة
قالي، قالي شو بَعد بدَك تسمع تا تسمع ...
لو شكرت ربّك، باليوم ألِف مرّة/ ما راح تكافيه، عَ هيك عطيّة       
 
وسكرتيرة رابطة إبداع نادة شحادة كانت لها مشاركة بعنوان: تـَعجـّلتَ الرّحيلَ
بـَكـَتــْكَ نـفـسي/ بــكائي سقــيـم/ عيـنــي حزيــنـةٌ/ ودمعــي يتــيـــم 
تعـجّــلتَ الرحيلَ/ مِـن دونِ موعــدٍ/ فـبـاتَ العــمـــرُ/ مشــوارًا حـزيــن
بـــتــنـا رمــــادًا/ على أطــرافِ دهــر/ تـذرونــا الريــاح / تقلبــنـا السنين   
تــعـجّلتَ الرحـيـلَ/ في عــزّ النــــهارِ/ فالشمــسُ ثـكلى / والمساءُ حــزيــن
سـهـامُ المــوتِ/ تـغتــالُ الغـوالـي / وسيــفُ الغــدرِ/ حــرٌ لا يـــليـــن
عهـدتـُك شامـخًا / فـي كــلّ مَحـضرٍ/ أبـيًّــا وفــيّـًا / مـعطـاء رزيـــن
روحـُك البـيــضاءُ/ في الجنــّات تلهو / وصوتـُــك الرنــّــان/ يـهمـسُ بالحنـين
تـقلـّدْتَ المناصبَ/ دون فــخـرٍ/ فـَعـِشت حُــرًّا / مرفـوعَ الجبـيــن
أنـت في الإبـداع ِ/ بـحرٌ مـن خيــالٍ/ تـجــودُ  بــروحـكَ/ فـي كـلِ حيــن
أبـا حــبـيــــبَ/ أهديـكَ دمعــي / جرحــي كبـيــرٌ/ يـنضــحُ بالأنـيــن 
تــصــونُ العهــدَ/ لا تــرضى بـِزائـفـةٍ/ كـَحِدّ السيـف تـقطـع / لكـن دون إيــــــــلام
تاريــخـك المــعهــودُ/ رمــز  لكـُلِ حـُرًّ/ إن لم تشهدْهُ نفسي / فلـْتشْهَدْهُ  أيـّامي 
نلـومُ  المـوتَ/ إذ واراك عنّـا / لا يـُـجدي لـومي/ ولا يُجدي عتابي
كريــمُ النـفسِ/ صادقًــا ورعًـا / لا يفنـى حــرٌّ/ تحـت الــترابِ
جـئـتُ راثــيـة ً/ أمـام روحـِك أنـحَنـي / عزيـزًا جليــلاً/ لا يعلو على أحدِ
الرّجـالُ بالأفعـالِ/ تـُحتـَسَبُ / لا بالـرقمِ والـعددِ
أُقـدّسُ فيـكَ/ روحَ الـعلمِ والأدبِ/ رمـزَ العطاءِ/ مدى الأزمان والحقَبِ
لـِمَ الفـُراق أبا حـبيــبَ/ وقـد عـزّ اللقـاء/ قـد كنت نورًا/ يضيءُ أرضًا/ فـَـبـِتّ نجمًا/ يسطع ُفي السّماءِ
كريــمُ الــدّار/لا تفنى مودّتــُهُ/ يــجودُ بحـُـبـِهِ/ بين الدّقائق والثواني / يهيمُ في بـحر البـحور
مُستشْعـِرًا  لـَبـِقًا / فشعره يزخرُ بالمعاني
حملتَ رايةَ الإبداع ِ/ وكنـتَ صاحبـَـها/ صنعــتَ العجائبَ/ مِـن أرض العـَدَمْ/
حبـرُك ســّيالٌ/ ولونــُك ناضـرٌ/ بـَكـَتْـكَ ريشتـُك/ وبـَكـاكَ القلم  ْ 
هـَرَم ٌتــوارى في الثـّـرى / بـِطيـب الـروح ِوالجسد/ لن ننساك أبا حبيــب/ ذكرك باقٍ إلى الأبــدِ




184
أهزوجةُ مفاتيح السّماء في قبضةِ الشاعر وهيب وهبة؟!

آمال عواد رضوان
 
عنوانٌ غريبٌ يستفزُّ الجسدَ بلغةِ إيماءتِهِ الدّلاليّةِ ولفتاتِهِ العفويّة، ودون استئذانٍ يُزلزلُ أوتارَ الكمان والكيان، يُحدّثُ النفسَ بحروفِ ياسمينِهِ الهاجسةِ المُتوجّسة، وكدوريِّ الحقلِ المتمرّدِ يحترفُ حرّيّة التحليقِ السّماويّ، بعيدًا عن سُلطةِ الأرض وعُروشِها المُتزلزلة، باحثًا عن نوافيرِ ضوءٍ تنتشلُهُ مِن عتمةِ المآسي والمواجعِ العاريةِ من الرّحمة، ولا ينحرفُ، بل يعودُ إلى عُشِّهِ الإنسانيِّ، وفي منقارِهِ يحملُ جذوةً مِن محبّةٍ وحفنةً مِن نور، فيتراءى في عينِ قلبه منظورُ آمالٍ متراقصٍ جديد، وملءُ حوصلتِهِ أبجديّة خضراء تنسكبُ طيوبَ حياةٍ في تجاعيدِ الرّوح الخاوية!

جائزة المتروبوليت نيقولاَّوس نعمان للفضائِل الإنسانيَّة، حازَ عليها الشاعر وهيب نديم وهبة ابن دالية الكرمل، الكاتبُ والمُرَبِّي الفِلِسطينيّ، عن مخطوطه المُعَنوَن بـ "مفاتيح السَّماء" والتي صدرت عن دار نعمان للثَّقافة ومؤسَّسة ناجي نعمان للثَّقافة بالمجَّان، بعد إصدار نتائج جوائز ناجي نعمان الأدبيَّة الهادِفَة لعام 2012 في بيروت، وهو جزء من مشروع "مسرحة القصيدة العربية".

هذا وسيجري نشرُ الأعمال الفائزة خلال شهر نيسان (أبريل) المُقبِل من ضمن سلسلة "الثَّقافة بالمجَّان" التي أنشأها ناجي نعمان عام 1991، وما زال يُشرفُ عليها؛ وستوزَّعُ بالمجَّان، كما ستُنشرُ في موقع الدَّار الإلكترونيّ: www.najinaaman.org
وكان ناجي نعمان أطلقَ عام 2007، في مناسبة الذِّكرى الخامسة والعشرين لغياب المتروبوليت نقولاَّوس نعمان سلسلةَ جوائزه الأدبيَّة الجديدة، وهذه الجوائز، على العكس من جوائزه السَّابقة، هادِفَةٌ لجهة الموضوعات، ومَحصورةٌ بأبناء الضَّاد وبناته، وعددَ الفائزين بها محدَّدٌ بشخصٍ واحدٍ سنويًّا عن كلِّ فئة، فيما قوامُ الجائزة طباعةُ المخطوط الفائز في سلسلة "الثَّقافة بالمجَّان"، واكتِسابُ الفائز عضويَّةَ دار نعمان للثقافة، وهي عضويَّةٌ لمدى الحياة لا تستَوجبُ من حاملها شيئًا، بل تؤهِّلُه وبشروطٍ معيَّنة لطباعةِ نتاجهِ الأدبيّ في السِّلسلةِ المجَّانيَّة السَّابقة الذِّكر.

إنّ "مفاتيح السماء" سيصدرُ في آنٍ واحدٍ في كلّ من دالية الكرمل، حيث ستصدرُهُ مجلة "مواقف"، وفي بيروت حيث ستصدره دار النعمان، ضمن سلسلة الثقافة خلال شهر نيسان أبريل المقبل.
وهكذا مُنحت جائزة المتروبوليت نيقولاّوس نعمان اللبنانية للفضائل الإنسانية لعام 2012 للشاعر وهيب وهبة، حيث تمنح هذه الجائزة مرة واحدة في السنة لأحد الشعراء أو الأدباء.
وقد كتبَ مقدّمةً مُطوّلة لهذا الكتاب الأديبُ الإعلامي "نايف فايز خوري"، وصمّمَ لوحة الغلافِ الشاعرُ "جورج جريس فرح"، ووضعَ الدّكتور فهد أبو خضرة تظهيرًا للكتاب.

يستعرض الشاعر في "مفاتيح السّماء" رحلة سيدنا المسيح من أرض كنعان إلى أرض الكنانة، والعودة لنشر رسالة الله والعدل والمحبة، وبصدور "مفاتيح السماء" يكون الشاعر وهيب نديم وهبة قد اختتمَ رباعيّتَهُ الإبداعيّة، والتي يُجملُ فيها مشروع "مسرحة القصيدة العربية".

تتضمّنُ هذه الرّباعيّة:
الرحلة الأولى: "المجنون والبحر1995" التي ترجمت إلى لغات عديدة، ويتحدث الكتاب عن العدالة المطلقة، ويدخلُ هذا الإبداع ضمنَ الحداثة كما قيل عنه في الثورة النقدية الإيجابية التي حدثت لحظة صدور الطبعةِ الإولى، ثم صدر منه ثلاث طبعاتٍ باللغة العربيّةِ عن مطبعة الكرمة حيفا، وقد دخلَ حالةً أدبيّةً في التجديد ومسرحة القصيدة العربيّة، وهذه الحالة كانت بمثابةِ عمليةِ "مزيج" لجميع عناصر الأدب، ذلكَ أنّ إيقاعَ العصرِ المُتجدّدِ المُتغيّرِ المُتنقّلِ مِن ثقافة إلى أخرى، كان الدّافعَ الأساسيّ للبحثِ عن سُبلٍ في التجديد، وبذلك تحوّلَ الكتابُ إلى حدثٍ في النقدِ وعددِ الطبعات، وحدثٍ عالميٍّ في الترجمة، وكانت شهادةُ النعمان الفخريّة بمثابةِ شهادة تحرُّرٍ أولى يعتزُّ ويفتخرُ بها الشاعر وهيب وهبة، شأنه شأن أيّ مبدعٍ فلسطينيّ، إذ ساعدتهُ على الخروج من داخل الحصارِ الثقافيّ ومِن جحيم الاختناق الأدبيّ، في منطقةٍ تعجُّ بالصّراعات.
 
ثمّ كانت الرحلة الثانية في كتاب "خطوات فوق جسد الصحراء"، "رحلةٍ نبويّةٍ من الجاهليّةِ حتى حجّة الوداع"، صدر هذا الإبداع الأدبي عام 1999 –على نهج المجنون والبحر – مسرحة القصيدة العربية، وهنا كانت التجربة أكثر عمقًا وأوضح صورة. فالمضمون يتطرّق إلى "العدالة الإلهيّة"، والدّخول إلى تاريخ الحضارة العربية الإسلامية/ البداية الجاهلية – تحديد النهاية للفصل الأول – حجة الوداع ، لهذا كان الحدث يتصاعد مع  تطوّر النصّ، ويدخل حتى في المجال العلمي، فيدخل النّصّ في صميم التاريخ ويتّحد الأدب والتاريخ والشعر والمسرح معًا في تتويج مسرحة القصيدة، ثمّ يتبلورُ النّصّ حتى أسمى درجات الإيمان.

تلك المعادلة الحضارية الرّاقية بما تحمله من رسالةِ النّورِ والتنويرِ وعصرِ الإنسان.
منشورات دار روان الفلسطينية الرام /القدس أصدرت الاسطوانة عام 2001 لتوثيق النص النهائي للجزء الأول من خلال الاسطوانة، وذلك بصوت الشاعر لتوضيح فكرة مسرحة القصيدة من ناحية، ومن ناحية ثانية الموضوع لتوجيه الاهتمام إلى المضمون وأبعاده، ومن ناحية أخرى تمّ إدخال الآيات القرآنية بأصوات حقيقية في الأسطوانة، ممّا منح مساحة أوسع عند قراءة النّصّ، وقد تمّ التسجيلُ في استوديوهات الكرمل/ 2001.
ومن ثمّ كانت الرّحلة الثالثة في "كتاب الجنة 2006" الذي نال الجائزة اللبنانية للثقافة ضمن مشروع نشر عالميّة الأدب العربي، فمنحت الشاعر وهيب وهبة جائزة التكريم عن الأعمال الكاملة عام 2006، وفي تلك المسابقة للنصوص تمّ تقديمُ كتاب "الجنة" الموثق الآن في كتاب الجائزة بالعربية والإنجليزية والفرنسيّة، ونُشر كتاب الجنة عام 2009 القسم الأوّل مع مجلة مواقف في حيفا.

كتابُ الجنّة فيهِ يتضمّنُ البحث عن الإنسان وعن رسالةِ التنوير ووجود الإنسان هناك في الجنة، فقد استطاعَ كتابُ الجنّة المثولَ أمامَ الرّمز؛ وعظمة الخالق أمام الخلق، هذه العظمة التي لا تأتي بصيغةٍ مباشرةٍ ولا تقتحمُ النّصّ، بل ومنذُ البداية يرتكزُ الحوارُ والسّردُ إلى الرّمز، وهذه الفقرة مِن موسوعة المعرفة جاءت تقول: كتاب "الجنة" يرمز إلى الخلود وعدل الله.
ومع الرّحلة الرّابعة "مفاتيح السماء" التي تقفلُ الرباعيّة نقول:
هنيئا للشّاعر الأديب وهيب نديم وهبة بهذه الإنجازات الإبداعيّة، وهنيئًا لكلّ المُبدعين بدارِ النعمان وبكلّ مؤسّسةٍ مباركة ترعى وتدعمُ المبدعين بشكلٍ موضوعيّ، دون تحيّزٍ إلى لونٍ أو عِرق أو قوميّة أو جنسيّة، وذلك لترفعَ مِن شأن حضاراتِنا الإنسانيّة وثقافاتِنا الرّاقية!

185
حيفا تستضيفُ الرّوائيّ العراقيّ صاموئيل شمعون!



آمال عوّاد رضوان
صاموئيل شمعون الكاتبُ والنّاشرُ العراقيُّ الآشوريّ صاحبُ "موقع كيكا" و"مجلة بانيبال" حلّ ضيفًا عزيزًا على "مكتبة كلّ شيء" في حيفا لصاحبها صالح عبّاسي، واستضافَهُ مركز الكرمل الثقافيّ التربويّ الأكاديميّ الحقوقيّ، مركز مساواة لحقوق المواطنين العرب، المشغل للثقافة والفنون، وأقامَ له ندوة أدبيّة تحت عنوان "الأدب العربيّ المناهض وترجمته إلى اللّغة الإنكليزيّة"، بالتعاون مع "مكتبة كلّ شيء"، وذلك يوم الإثنين الموافق 31-10-2011، في مقرّ  مركز الكرمل (شارع سانت لوكس 5 حيفا)، وقد حضرَ إلى هذه الندوة عددٌ كبيرٌ مِن المدعوّين والمُشاركين والمثقفين وأصدقاء الكاتب صاموئيل.

استهلّ اللقاءَ الشاعر رشدي الماضي بكلمة ترحيبيّة جاءَ فيها:
حيفا كما تعرف أسرتها، على مختلف أطيافِها وشرائحِها بلدٌ مضياف أبوابُهُ ونوافذهُ دومًا مُشرّعة على كلّ الجهات، وحيفا تنتقي ضيوفها من كوكبة مَن تحبّهم، لأنّهم جعلوا من قلوبهم حجرة دافئة لها، لماذا؟ لأنه ما أن تطأ قدما الواحد منهم شوارعَها، ويستنشق نسيمَ بحرِها النديّ الطريّ العليل، ويحتسي نبيذ كرمةِ كرملِها المُعتّق، يتغلغلُ عميقا في كلّ جوارحِهِ عشقها الجارف، ومَن يُصغي إلى همسِها هذا المساء المميّز، يسمع لها صوتيْن؛ في الأوّل تقول لحبيب غالٍ:
حيفا أرضكَ، وهل لا يمطرُ مِن تحتِ أقدامه أرضه؟
فهيّا نردّد معها: أهلاً وسهلاً بضيفها الكبير، أهلا أهلا بك مطرُ خيرٍ وخصوبةٍ وبركة.
أمّا صوتها الثاني فيقول:
شكرًا لصاحب "دار الكتاب" كلّ شيء الأستاذ صالح عبّاسي، الذي أبى إلاّ أن يكون مُضيفَ ضيفِنا، ليُتيحَ لأسرة هذا البلد أن نلتقيَ به وجهًا لوجهٍ في لقاءٍ ثقافيّ خصب.
وشكرًا لمَركز الكرمل وكلّ مؤسّساتِهِ؛ مساواة جمعيّة التوجيه والمشغل، شكرًا لجعفر فرح الذي جعلَ مِن "كرملِهِ" صرحًا ثقافيًّا ملتزمًا، والشّكرُ الكبير لكم على تلبيتكم دعوتنا لحضور هذه الأمسية الخاصّة.
الحضور الكريم..
ضيفنا الغالي أخي صاموئيل شمعون مشروعٌ ثقافيّ حضاريّ وطنيّ بكلّ ما تحملُ هذه الكلمات مِن دلالاتٍ، وللتوضيح أقول:
روت الشاعرة سلمى الخضراء الجيّوسي للأديب بسّام الهلسة عن مستعربٍ أبدى دهشتهُ واستغرابَهُ، لِما يضمُّهُ شِعرُنا القديم مِن قصائدَ حبّ فيها المعاني الإنسانيّة والمشاعر الجيّاشة، لأنّها برأيِهِ متضادّة مع ما عليه العرب من بداوة وشظف عيش وهم جفاة!
صورة مشوّهة لحقيقتنا قامت ولمّا تزل تقومُ بها المراكزُ والدّوائرُ وقوى الذهنيّة الاستشرافيّة السّلبيّة.
كيف ردّ ضيفنا الحبيب على ذلك؟
طبعًا بمشروعٍ شاملٍ مُنظّم، ليُطبّقَ شعارَ "ضرورة أن يعرفَ أهلُ الحضارات بعضَهم بعضًا جيّدًا.
سلمت يداك وبوركت جهودُكَ الحضاريّة اخي العزيز صاموئيل شمعون؛ يا ابنَ الرّافديْن. تظلُّ حيفا لكَ وردة تنمو ببطءٍ لتشقّ الفضاء وتكسرُ قيدًا، هاك كلّ باقات الورود العبقة من أسرة حيفا العروس.


وفي مداخلة آمال عوّاد رضوان قدّمت نبذة قصيرة عن سيرةِ صاموئيل شمعون جاء فيها:
 صاموئيل شمعون كاتبٌ وصحافيٌّ عراقيٌّ آشوريّ، وُلد في مدينة الحبانية العراقيّةعام 1956، تلك المدينة متعدّدة الثقافات، وُلد لعائلةٍ مسيحيّةٍ فقيرة لم تكن تملك أيّ كتاب على الإطلاق. أوّل كتاب رآه في حياتِهِ كان قرآنًا مُعلّقًا على رفٍّ عالٍ في منزل الجيران، وبدأ تعلّم القراءة والكتابة، قبلَ أن يدخلَ المدرسة، فصعدَ فوق كرسيّ، وأنزلَ القرآن مِن فوق الرّفّ وبدأ يقرأ فيه.
 
صاموئيل شمعون يقيمُ في لندن، ولم يَزُر العراقَ منذ يناير 1979، ويُعتبرُ من الأدباءِ العراقيّين البارزين.
 
عام 1998 أسّسَ مع زوجته مارغريت مجلّة "بانيبال" الفصليّة، التي تُعنى بترجمةِ الأدب العربيّ إلى الإنكليزيّة، وهو المسؤولُ عن برمجةِ موادّ مجلة "بانيبال"؛ من رواياتٍ ودواوينَ شعريّةٍ عربيّة من أجل برنامج المجلة، واستطاعَ مع زوجته أن يقدّما شيئًا مُدهشًا للأدب العربيّ المُترجَم إلى الإنكليزيّة، إذ تَرجمت مجلّة بانيبال مئاتِ الكُتّاب والشّعراء العرب، الذين يكتبون بالعربيّة أو الفرنسيّة أو غيرها من اللّغات.
 
كما أقامت عدّة أمسياتٍ شعريّةٍ وروائيّة، وعملت جولاتٍ أدبيّةً لكُتّاب وشعراء من العالم العربيّ، طافوا في مدن بريطانيّة عديدة، كما استحدثا "جائزة سيف غباش- بانيبال"، لترجمة الأدب العربيّ إلى الإنكليزيّة، وهذه الجائزة تُمنَحُ في أكتوبر من كلّ عام.
عام 2007 سعت المجلة إلى تشجيع الترجمة من العربيّة إلى الإنكليزيّة.
صاموئيل بدأ بمشروع فيلم عن الأدب العربيّ على شريطٍ سينمائيّ عن تأسيس مجلّة بانيبال منذ سنوات، وصوّرَ العديدَ مِن الشعراء والكُتّاب.
عام 2004 أنشأ موقع كيكا الثقافي الإلكترونيّ.. وقد جاء في تعريف الموقع "كيكا" ما يلي:""
في بداية القرن الماضي، وُلدَ طفلٌ أصمّ وأبكم قُتلَ أفرادُ عائلتِهِ والعديد من الأشوريّين في عمر الثماني سنوات، وبقيَ وحدَهُ هاربًا متشرّدًا بينَ الجبال وبين الخوف، ونشأ يتيمًا وسطَ حروبٍ طاحنةٍ بينَ القبائل والمِلل والنّحل القاطنة في جبال وسهول شمال العراق، وكبر ذلك الطفل وصارَ ذاتَ يومٍ أباه. كان الناسُ يُسمّونَهُ "كيكا"، وعندما سأل أمّهُ من أين جاءت هذه التسمية، قالت له بكلّ قسوة: "لأنّه أخرس وأطرش".
"لقد أحبّ أن يسمّي هذا الموقع باسم الإنسان الذي وُلد يتيمًا وبلا لغة، في جغرافيا هلاميّةٍ لا ترحم، تُرسَمُ في كلّ فترة بشكلٍ مُختلِف، لأنّهُ متأكّدٌ مِن أنّه لا يمكنُ أن ينحاز في الأخير إلاّ للقِيَمِ الإنسانيّة".
 
ومِن خلال عملِهِ كمُحرّرٍ في مجلة "بانيبال"، استطاعَ أن يُتابعَ الرّواياتِ العربيّةَ الجديدة الآخذة في تحقيق نجاحاتٍ كبيرةٍ على صعيدَي الشّكل والمضمون، وتعلّم الكثيرَ من خلال الأفلام المولَع بها، ولاحقًا في مركز بوبور في باريس قرأ الكثيرَ من الأدب الإيرلنديّ والأميركيّ، وتعرّفَ على الكُتب والكتّاب بشكلٍ جيّد.
 
عام 2005 أصدرَ روايتَهُ الأولى "عراقيّ في باريس"، حين أحسّ بالموت يُطاردُهُ، وأبى أن يرحلَ عن هذه الدّنيا دونَ أن يَروي قصّة الطفل الذي أحبّ السّينما، وقصّة الجغرافيا اللّعينة المُعادية له وللأحلام.
إنّها سيرةٌ ذاتيّةٌ روائيّة شبيهةٌ تمامًا بشخصيّتِهِ الموزّعةِ بين السّينما والرّواية، وقد لاقت نجاحًا كبيرًا، وصدرت بتسع طبعاتٍ عبْرَ ثلاث دور نشرٍ هامّة في بيروت والقاهرة والدّار البيضاء، وتُرجمت إلى لغاتٍ عديدة.
 
الرّواية مليئة بالخيال والواقع بأسلوبٍ سلِسٍ بسيطٍ مُباشرٍ في السّرد بعيدٍ عن العنتريّات، استمدّ وقائعَها من حياتِهِ، وصُنّفت الرّواية كأكثر الرّواياتِ العربيّة جرأة وكشفًا للجحيم السّفليّ.
 صاموئيل شمعون سافرَ إلى لوس أنجيليس أكثرَ من مرّة، وأقام هناك لأسابيعَ في هوليوود، ولكنّه بدلاً من أن يبحث عن وكيلٍ فنيّ أو عن منتجٍ سينمائيّ مِن أجل الرّواية، كان يُمضي أوقاتَهُ في الحاناتِ الجميلة، خصوصًا المُطلّة على المسابح!



الرّواية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسمُ الأوّلُ تحتَ عنوان "الطريق إلى هوليوود"، تبدأ بفلاش طويلٍ أكثرَ مِن ثلاثين صفحة، تتحدّثُ عن "البطل" الذي كانَ يجلسُ أمامَ موظف اللجوءِ السّياسيّ في باريس، وكان يُحدّثُهُ عن كيفيّةِ خروجِهِ مِن بلدِهِ وحتى وصوله إلى باريس.
في القسم الثاني يتحدّث عن تشرّد البطل في شوارع وحانات باريس، حالِمًا بإنجازِ فيلمٍ سينمائيّ عن أبيه الأخرس الأطرش الفرّان، وبدلاً مِن إنجاز هذا الفيلم، يلجأ إلى منزلٍ مهجورٍ ليكتبَ رواية قصيرة، تُشكّلُ القسمَ الثالث مِن الكتاب، وهي بعنوان "البائع المتجوّل والسّينما".
 
بدأ رواية "عراقي في باريس" من الوسط ثمّ إلى النهاية، وعاد من ثمّ إلى الطفولة والبداية، وقد تأثّرَ بفيكتور هوغو وهنري ميللر وسكوت فيتزجيرارد وكنت، أولئك مَن عاشوا حياة المنفى والألم والملاحقة والتشرّد والتسكّع، وأيضًا عاشوا حياة النّعيم بامتياز.
 
لصاموئيل شمعون رواية أخرى بعنوان "الثوريّ الآشوريّ".
سؤالٌ صارخٌ يضجُّ في فيافي الحياة: هل صاموئيل شمعون جبان؟

في نيّتِهِ أن يكتبَ مجموعة حكاياتٍ ساخرة بطابعٍ فكاهيّ، وسيختفي لبعض الوقت؟!
ما هي مضامين هذه الحكايات؟ ولماذا يُخطّط إلى الاختفاء؟ هل هي مصدرُ خجلٍ أو عارٍ أو خوفٍ أو كشْفِ أسرارٍ تهدّدُهُ؟
الجوابُ في بطن الحوت.. بانتظار جديد صاموئيل شمعون وما يخفي في طيّاتِهِ..
 
أهلاً وسهلاً بكَ في ربوع حيفا.. في أرضِ فلسطين وبينَ إخوتِك الفلسطينيّين، ونُثمّن عاليًا جرأتَكَ التي تتحدّى رفض المُثقفين العرب بزيارةِ بلدِنا، بحُجّة أنّها تحت الاحتلال، ونعلمُ تمامًا ما ينتظرُكَ مِن محاربةٍ ومقاطعةٍ قد تُفرَضُ عليكَ من الاتّحاداتِ الثقافيّةِ لخطوتِكَ هذه، ولكن لا بدّ أن تتغيّر وجهة النظر المتزمتة هذه، والمسيئة لنا بشكل كبير، فأهلاً ومرحبًا بكَ بين أهلِكَ وفي وطنِك!
 
أمّا الشاعر مروان مخول فقد أجرى حوارًا مع الضيف صاموئيل شمعون، عن مَحاورَ أساسيّة في مشوارِهِ الأدبيّ، وإنجازاتِهِ في مشاريع التّرجماتِ التي حققها ويحقّقها في العالم العربيّ، وأهمذيّة تسليطِ الضّوءِ على شعراء وأدباء جدد وقدامى لم يُعرَفوا، ولم يُنشَرْ عنهم لأوضاعٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ واجتماعيّة، وكذلكَ تحدّث عن الدّعم المؤسّساتيّ العربيّ شبه المعدوم للأدب، على عكس المؤسّساتِ الأجنبيّةِ التي تَرعى كُتّابها، وتهتمُّ بترجمةِ أدبهم إلى لغاتٍ عديدة لتعريفِ العالم بهم، ومِن ثمّ وُجّهت عدّة أسئلةٍ مِن الحضور للضّيف صاموئيل حولَ الحركةِ الأدبيّةِ العربيّة المُعاصرة، وأثر التّرجمة في انتشارِ أدبنا المَحلّيّ بجهودٍ فرديّةٍ وشخصيّة. وفي نهايةِ اللقاء شكرَ جميعَ الحضور والقائمين على هذه الندوة وكلّ مَن شارك فيها.   
 
 

صفحات: [1]