عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - محمد علي الشبيبي

صفحات: [1]
1
انقلاب 8 شباط 1963 الدامي!
(الحلقة الأولى)
ملاحظة استجابة لطلب بعض الاصدقاء لإعادة نشر ما تناولته من (ذكريات الزمن القاسي -الطبعة الأولى 2009-) عن انقلاب 8 شباط 1963، لعدم توفرها في السوق. سأنشر قدر ما تسعفني أوضاعي هذه الحلقات المنقحة والمطورة عما كانت عليه في الطبعة الاولى، آملا أن أنجح في إعادة طبعها مرة ثانية بعد اكمالها.
الأيام الأولى!
استيقظت متأخرا صباح الجمعة 8 شباط 1963 على صوت المذياع وهو يذيع البيان الأول للانقلابيين. لم أركز في البداية على صوت المذيع، الذي كان يقرأ الفقرة الأخيرة من البيان الأول وقد جاء فيها: (...أيها الشعب الكريم. إننا نعاهد الله و نعاهدكم ان نكون مخلصين لجمهوريتنا ، آمنين على مبادئنا ، مضحين في سبيلها . و كلنا امل و ثقة بأن أبناء شعبنا الكرام سيكونون وحدة متراصة للمحافظة على هذه المبادئ ، و السير قادماً في طريق التقدم و الرقي و الله ولي التوفيق). اعتقدت في بداية الأمر إن هذا أحد بيانات عبد الكريم قاسم والتي عودنا عليها في مهاجمة القوى المعادية للثورة، بينما كانت سياسته الفعلية قمع قوى الثورة الديمقراطية والوطنية الحقيقة التي كانت مصالحها مرتبطة بمنجزات ثورة 14 تموز، وفي الواقع كان يرخي الحبل لنشاط القوى الرجعية و العروبية المعادية لنهج ثورة 14 تموز. وقفت بجانب المذياع لسماع وفهم ما يذاع. وبعد فاصل من الاستراحة مصحوبا ببعض الأناشيد القومية أعاد المذيع تلاوة البيان وهو يعلن: (....لقد تم بعون الله القضاء على حكم عدو الشعب عبد الكريم قاسم وزمرته المستهترة.....) حينها أيقنت أنها حركة انقلابية وان الانقلابيين قد سيطروا على الإذاعة. وهكذا علم كل من في البيت بطبيعة الانقلاب من خلال تعليقات المذيع وأسلوبه في وصف عبد الكريم قاسم، وتجمع الكل حول المذياع لسماع ما يستجد وعلى أمل أن تحدث معجزة وتسترد الإذاعة، وإحباط الحركة الانقلابية.
كان موقف الحزب الشيوعي واضحا من أية حركة انقلابية، وهو العمل على إحباطها بكل الوسائل الممكنة، باعتبار إن أي انقلاب سوف يستهدف المكاسب الوطنية التي أنجزتها ثورة 14 تموز. وكان آخر بيان للحزب صدر قبل أقل من أسبوع يحذر من مؤامرة وشيكة، ويدعو الشعب لفضح وكشف خيوط المؤامرات التي تحاك ضد منجزات ثورة 14 تموز ومصالح الشعب. قررت الخروج للاتصال برفاقي لمعرفة حقيقة الموقف، وقد شجعني والدي على ذلك. التقيت بمرجعي الحزبي عند الباب، فقد جاء ليبلغني بتوجيه الحزب: رفيق التجمع في ساحة البلوش، و أجلب معك أي سلاح تملكه، وحشد قدر الإمكان من الأصدقاء لهذا التجمع!. لم أفهم من رفيقي ما المقصود بجلب أي سلاح ممكن، وهل نحن على وشك خوض حرب شوارع!؟ وهل بهذه الطريقة يتم إحباط المؤامرة؟ وأين دور تنظيمات الحزب في الجيش؟ غادرت البيت وبدون أي سلاح لعدم توفره في البيت، وكانت تدور في ذهني كل هذه التساؤلات، وحشدت بعض الأصدقاء من المنطقة للذهاب والتجمع في ساحة البلوش في كربلاء.                                                       
بعد تجمع المئات وقف عباس سلمان (معلم وعضو محلية كربلاء للحزب) والقى كلمة مختصرة فضح فيها الانقلاب وأهدافه وطالب من الشعب وقواه الوطنية مقاومة الانقلاب بالوسائل الممكنة! كانت المظاهرة بإشراف مسؤول التنظيم الحزبي للمدينة عبد شمران (ابو عادل)، والذي كان يشرف عليها عن بعد. أعلن قائد التظاهرة (عباس سلمان) عن تشكيل الحزب وفدا لمقابلة عبود الشوك متصرف (محافظ) كربلاء وبقية المسؤولين كمدير الأمن ومدير الشرطة لاتخاذ موقف حازم من الانقلابيين، ومطالبتهم بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، المعتقلون في مركز شرطة كربلاء منذ أشهر. وتشكل الوفد من: 1- فيصل الشامي (معلم). 2- عباس سلمان جبر (عضو محلية كربلاء مسؤول مكتب المعلمين والمدرسين). 3- والمعلم جاسم المنكوشي (عضو لجنة التوجيه الفلاحي لمنطقة الفرات الأوسط وعضو لجنة مدينة كربلاء ومسؤول خط العمال) . 4-  المعلم نعمة أمين الأطرقجي (ممثلا عن الحزب الوطني الديمقراطي). 5- الفلاح جاسم العبد (عضو المكتب الفلاحي من سكنة عين التمر). 6- الوجه النسائي الطالبة فائقة عبد الأمير.
توجه الوفد الى المحافظة لمقابلة المسؤولين، وعند وصوله الى باب المحافظة المواجه لشارع العباس، وجد الوفد جموعا من الشرطة وقوى الأمن وعلى رأسهم مدير الشرطة، والذي بدأ التفاوض مع الوفد. قدم له الوفد المطالب التالية: 1- اطلاق سراح الموقوفين، حيث كان عدد من الشيوعيين معتقلين في مركز شرطة كربلاء منذ فترة. 2- توزيع السلاح على الجماهير. 3-  اعلان موقف واضح من المتصرف "المحافظ" و الادارة بإدانة الانقلاب و تأييد حكومة عبد الكريم قاسم . وقد وعد مدير الشرطة الوفد بعرض هذه المطالب على المتصرف ووعدهم خيرا ، ولكن لم يتحقق شيئا.
 لم يتمكن الوفد من إقناع المتصرف وبقية المسؤولين من اتخاذ موقف حازم من الانقلابيين أو حتى إطلاق سراح الموقوفين الموجودين في موقف كربلاء. كان موقف المتصرف وبقية المسؤولين يتميز بالمماطلة والانتظار كي تتجلى لهم الأمور ويحسم الوضع لتحديد موقفهم، وهو موقف انتهازي واضح.                                         
سارت التظاهرة وهي تجوب شوارع المدينة منددة بالمؤامرة الدنيئة للقضاء على ثورة 14 تموز ومنجزاتها الوطنية. جابت التظاهرة معظم شوارع المدينة بما فيها المناطق السكنية المعروفة بتعاطفها مع البعثيين والقوميين، وقد تجمع نفر منهم في مناطقهم للتظاهر تأييدا للانقلاب وبعضهم ارتدى ملابس الحرس القومي وحملوا الرشاشات، وما أن شاهدوا تظاهرتنا حتى هربوا مذعورين، من دون أن تحدث مصادمات.   
حاول الحزب القيام بمحاولة للسيطرة على المدينة من خلال الاعتماد على بعض الإمكانيات المتواضعة من التسليح لدى تنظيماته الفلاحية. وكانت محاولة ارتجالية وانفعالية لم تكن مدروسة. حيث توجهت مجموعة شجاعة من الفلاحين  (7-10) فلاحين من الحسينية والعطشي وربما من نواحي اخرى، وكانت تحمل معها أسلحة بسيطة وقديمة، كان الهدف منها الوصول الى مركز شرطة كربلاء والضغط على السلطات الأمنية لإطلاق سراح المعتقلين من شيوعيين وأصدقائهم. كان من بين هذه المجموعة الفلاحية: مهدي النشمي "عضو لجنة المدينة". مهدي ... "ابو عباس ايضا عضو لجنة المدينة"، الفلاح حسن ... للأسف لا أتذكر بقية الأسماء. لكن هذه المجموعة فشلت حيث تم إيقافها في مدخل كربلاء من قبل السلطات الأمنية وتم احتجازهم!. أما التظاهرة فقد تفرقت مساء 8 شباط دون حوادث وتصادم مع البعثيين،  ومن دون أية توجيهات حزبية عن كيفية مواجهة الانقلابيين في الأيام القادمة! وبالرغم من إن الحزب كثيرا ما كان يحذر من المؤامرة التي تحاك ضد ثورة 14 تموز وخاصة التحذير الذي سبق الانقلاب بأيام لكنه فشل في تهيئة منظماته (المدنية والعسكرية) وتمرينها على كيفية مواجهة الانقلاب وإحباطه بصورة عملية وبأقل الخسائر.
كشف الانقلابيون من الساعات الأولى عن نواياهم الإجرامية  ببيانهم الفاشي، بيان رقم 13 السيء الصيت الذي قرأته هناء العمري (زوجة علي صالح السعدي) بين الساعة التاسعة والعاشرة ليلا في يوم الانقلاب وجاء فيه : [نظرا لقيام الشيوعيون العملاء شركاء عبد الكريم قاسم في جرائمه بمحاولات يائسة لإحداث البلبلة بين صفوف الشعب وعدم الانصياع إلى الأوامر والتعليمات الرسمية، فعليه يخول آمرو القطعات العسكرية وقوات الشرطة والحرس القومي بإبادة كل من يتصدى للإخلال بالأمن. وأننا ندعو جميع أبناء الشعب المخلصين للتعاون مع السلطة الوطنية بالإخبار عن هؤلاء المجرمين والقضاء عليهم]. وكانت تعليقات المذيع الحماسية تشجع على القيام بإعمال الإبادة والقتل العشوائي قبل إجراء أي تحقيق بحجة مقاومة الانقلاب. لم يكن الانقلابيون بحاجة لمبررات لإصدار بيان 13، فهم مارسوا في ظل حكم عبد الكريم قاسم القتل والاغتيالات في الموصل وبغداد والمدن الأخرى وأبدعوا أخيرا في إبادة الشيوعيين وكل وطني هب للدفاع عن الثورة. ومازال الكثير من البعثيين ليومنا هذا يتبجح بجرائمه ويبررها، وحتى الذين ابتعدوا عن البعث وكتبوا مذكراتهم يحاولون التنصل من تلك الجرائم وتحميل بعض العسكريين من بعثيين وقوميين أمثال عبد السلام عارف مسؤولية الانتهاكات.
صباح 9 شباط استيقظت على رنين مزعج ومتواصل لجرس الدار مع طرق غريب على الباب. نهضت منزعجا و قلقلا ومتعبا من فراشي بعد سهر طويل كنت أتابع فيه الاخبار عسى أن أسمع ما يسر ويطمئننا. وإذا بأبي يخبرني بأن الأجهزة الأمنية قدمت لاعتقالك. وهكذا كنت أول المعتقلين في المدينة في أول حملة اعتقالات محمومة منظمة في كربلاء. واعتقل والدي بعد أربع ساعات وهو في طريقه إلى الخالص ليلتحق بعمله كمعلم، حيث انزل من السيارة التي تقله من قبل الحرس القومي.  استمر تجميع المعتقلين في مكتب القلم السري (مساحة المكتب لا تزيد عن 20م2 ) في مديرية الأمن في مركز شرطة كربلاء حتى تجاوز عددنا العشرين وكنا طول الوقت واقفين، ولم تعد الغرفة تتسع للمعتقلين إضافة إلى موظفي الأمن بمكاتبهم وهم المسؤولين عن حراستنا. كان أحد الشرطة الأمن لا يتورع في الاعتداء على بعض المعتقلين بالضرب والشتائم، وقد ركز في ذلك على والدي كلما دخل أو خرج من المكتب. كان والدي يتحمل اعتداءاته بصبر ويحاول أحيانا صد ضرباته بيده، لكنه لم يحاول إخفاء نفسه وراء الآخرين. وحاول والدي من حين لآخر أن يستفسر منه عن سبب اعتدائه فيسأله بعتاب واستهجان: (لماذا ابني أنا رجل بعمر والدك، ماذا فعلت؟ الله يسامحك ويهديك يا ابني!). كنت أرى هذا الشرطي التافه يعتدي على والدي ولا يمكنني رده وأنا أتألم واغتاظ لسلوك هذا الشرطي القذر، فقررت أن أقف أمام والدي، لكي ابعد والدي عن طريقه. لكن هذا الشرطي استمر في الاعتداء على والدي وشتمه. بادر أحد كتاب القلم السري، اسمه جدوع، سبق وكان معتقلا معي في مركز شرطة كربلاء عام 1962 (لم أعد أتذكر سبب اعتقاله)، وكان يتعاطف معي في الموقف وكنا نشركه معنا في الطعام وجلساتنا وأحاديثنا وتكونت بينه وبيننا زمالة معتقل تركت تأثيرها الايجابي في سلوكه. طلب جدوع من والدي أن يقف قريبا منه أي خلف مكتبه ليجنبه هذه الاعتداءات من هذا الشرطي المستهتر، وكان موقفا نبيلا من  موظف يعمل في جهاز الأمن، ربطتني به علاقة زمالة في الموقف لمدة أيام معدودة.
من خلال تجربتي الشخصية في معتقلات أجهزة الأمن، لاحظت إن المخبرين السريين (شرطة أجهزة الأمن) كانوا معظمهم منبوذين اجتماعيا، ويتم اختيارهم من العناصر الفاشلة في حياتهم الاجتماعية والعملية ومن ذوي السمعة الأخلاقية المنحطة، فيلجئون للالتحاق والعمل كمخبرين في أجهزة الأمن السيئة الصيت والمحتقرة من قبل الشعب، وهم باعتدائهم على المعتقلين السياسيين يحاولون تغطية هذا النقص في شخصيتهم المنبوذة اجتماعيا، والتظاهر وكأنهم أرفع شأنا من الآخرين ويتحكمون بمصير وحرية المعتقلين.
بعد أن طال احتجازنا وازداد عددنا وبسبب ارتباك أجهزة  الأمن، حيث برزت قوة الحرس القومي باعتبارها السلطة الوحيدة لإصدار الأوامر المتعلقة بالمعتقلين، وأصبح مصيرنا بيد الحرس القومي، حينها بدأت اللامبالاة تسود بين شرطة الأمن. فعندما طلبنا أن يسمحوا لنا بالذهاب إلى المرافق الصحية بعد حجز زاد على الخمس ساعات، أجابنا أحدهم أنهم غير مسؤولين عنا ولا يمكنهم تحمل مسؤولية مرافقتنا للمرافق الصحية لقضاء حاجتنا، خاصة أن المرافق الصحية كانت في ساحة المركز وخارج الأبنية الإدارية ويتطلب الوصول إليها السير مسافة 150 م أو أكثر وتقع بالقرب من السياج الخارجي. عندما رفض أفراد الأمن مرافقتنا للمرافق الصحية، خيرتهم بين أخذنا إلى المرافق أو الاضطرار لقضاء حاجتنا -التبول- في نفس الغرفة، لأننا لم نعد نحتمل! وكان هذا مجرد سخرية مني، ولم أكن جادا، ولكن شرطة الأمن كانوا يعرفون مكانة دائرتهم فوافقوا على أن نتبول فقط في داخل الغرفة! فكنت أول المبادرين في رش بوله على جدران غرفة القلم السري لمديرية أمن كربلاء بتاريخ 9 شباط 1963 بحدود الساعة الثالثة بعد الظهر وبعلم وموافقة أفراد الأمن السري! ثم تلاني والدي فهمست بإذنه إن هذه الحادثة (التبول) ستسجل في تاريخ مديرية أمن كربلاء وفي ظل حكم البعث العربي! وبعد أن قضى رابع واحد منا حاجته منعوا الآخرين من مهمة رش البول على جدران دائرتهم لان رائحة البول انتشرت في الغرفة ووعدونا بأنهم سيتحدثون مع مسؤولي الحرس القومي.
مساء نفس اليوم من اعتقالنا -9 شباط- نقلنا جميعنا نحن المحجوزين إلى الغرفة الأكبر من غرف موقف مركز شرطة كربلاء، ومساحتها لا تتجاوز 30م2. وخلال اليومين التاليين ازدحمت غرفة المعتقل بالمعتقلين وتجاوز عددنا الثمانين! كنا من مختلف قطاعات الشعب وبمختلف الأعمار، أطباء، معلمين وأساتذة، طلبة، عمال، محامين وفلاحين. ولم تعد غرفة المعتقل تستوعب أكثر من هذا العدد، فهذه الغرفة لم تستوعب في أصعب الظروف، التي قضيت فيها أيام اعتقالي في عهد عبد الكريم قاسم، أكثر من عشرين معتقلا. لذلك كان بعضنا  يقضي ليله ساهرا متعلقا بالشباك الكبير والوحيد ذي الرف المنحدر بدرجة 45، وهو غير مريح للجلوس بسبب انحدار الرف. كان البعض يفضل احتلال هذا الرف المائل ليقضي ليلته، مفضلا ذلك على نومه وسط هذا الزحام، والبعض كان ينهكه السهر ويضطر لحشر نفسه بين الآخرين ويستسلم للنوم. وكم مرة كنا نبحث عن أحدهم ولم نعثر عليه بسبب تكدس هذه الأجساد البشرية على بعضها، وقد حدث هذا مع صـﮔر النشمي، وهو طفل لا يتجاوز عمره الخمسة عشر عاما اعتقل مع والده الفلاح مهدي النشمي، ولم نعثر عليه إلا بعد أن مدد أحدهم ساقيه دافعا صـﮔر فوق الأجساد المتكدسة، وصـﮔر مازال يغط في نومه! كان الوضع في الموقف مزريا مع تزايد عدد المعتقلين، ولم يعد المكان يتحمل زيادة العدد والاعتقالات متواصلة، حتى أن الموقف في اليوم الثالث لم يعد يسعنا ونحن جالسين! 
اعتقل أخي الأكبر كفاح في اليوم الثالث، وكان يعمل مدرسا في اعدادية كربلاء للبنين. الذين اشرفوا على اعتقاله طلبته من الحرس القومي من بعثيين وقوميين. حتى بلغ مجموع المعتقلين في الأيام الأربعة الأولى أكثر من 100 معتقلا، ولم تعد تسعنا غرف الأعتقال في المركز وعددها 2!  زاد وضع الموقوفين سوءاً عندما قرر أوباش الحرس القومي نقلنا أنا وأخي كفاح ومجموعة من المعتقلين إلى معتقل آخر لضيق المكان وتهيئته للمعتقلين الجدد، حيث إن الاعتقالات كانت مستمرة وأعدادنا في ازدياد. قيل لنا سننقل الى سجن بعقوبة، وقد أحضروا الحافلات وقت الظهيرة، وكانت بعض عائلاتنا متواجدة في باب المركز، وبدأ صراخ الأطفال وغضب وبكاء النساء يتعالى، فاضطرت قيادة الحرس القومي للتراجع عن قرار النقل. وهنا يحضرني موقفا مضحكا مؤلما، يؤشر إلى قسوة ولا أخلاقية البعثيين والقوميين من أفراد وقادة الحرس القومي، وعدم احترامهم لأساتذتهم وكبار السن. كان من بين المعتقلين الأستاذ موسى الكرباسي، وهو مدرس اللغة العربية في دار المعلمين الابتدائية، وكان قادة الحرس القومي ومنهم عبد الواحد شمس الدين من بين المشرفين على عملية التسفير لأنه آمر الحرس القومي والمسؤول الأول لمنظمة حزب البعث في كربلاء، ولما تأخر الكرباسي لأنه لم يعثر على حذائه من بين عشرات الأحذية المكدسة، صرخ مسؤول الحرس القومي حاثا أستاذه السابق الكرباسي على الإسراع ليلتحق بالمنقولين لأن الحافلات تنتظره، وكان منظر الكرباسي وهو يرتدي طقمه ورباط العنق وبقدمين حافيتين  وبضخامة جسده يبعث على الحزن والأسف في أن يعامل التلميذ أستاذه بهذه الطريقة المذلة والمهينة!  فقال له الكرباسي متوسلا: أستاذ قابل اخرج حافيا، لم أعثر على حذائي؟ فرد عليه المسؤول صارخاً: نعم اخرج حافي. وفي حديث لي بالفيس بوك "المسنجر" مع الاستاذ عبد الواحد حول هذه الحادثة، نفى تذكره لها!
كان تراجع الحرس القومي عن نقلنا وتسفيرنا خارج كربلاء مؤقتا وتجنبا لغضب عائلاتنا. ففي اليوم الثاني وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل نقلنا (40-50 معتقلا) إلى مركز شرطة الحلة حيث كان باستقبالنا صفين من الشرطة والحرس القومي، وما أن نمر وسطهم حتى ينهالوا بالعصي علينا بعشوائية، وبشتائم تنم عن حقد دفين. اخبرنا بعض المعتقلين الجنائيين إن الوجبة التي سبقتنا بالأمس من المعتقلين السياسيين أجبرهم الحرس القومي على تنظيف المرافق الصحية وتفريغها من قاذوراتها وحلق شعر  رؤوسهم، وذلك لإهانتهم وإذلالهم! كان الحرس القومي يتجنب نقل المعتقلين نهارا خوفا من ردود الفعل الشعبية، فكانوا يتسترون بظلام الليل في عمليات نقل المعتقلين. تم حجزنا في موقف مركز شرطة الحلة حتى المساء حيث نقلنا بعد الثانية ليلا إلى سجن الحلة المركزي في قسم المعمل.
محمد علي الشبيبي
كربلاء/السويد 8 شباط 2024



2
انقلاب 8 شباط 1963 الدامي!
(الحلقة الثانية)
ملاحظة استجابة لطلب بعض الاصدقاء لإعادة نشر ما تناولته في (ذكريات الزمن القاسي -الطبعة الأولى 2009-) عن انقلاب 8 شباط 1963، ولعدم توفر الكتاب في السوق. سأنشر قدر ما تسعفني أوضاعي هذه الحلقات المنقحة والمطورة عما كانت عليه في الطبعة الاولى، آملا أن أنجح في إعادة طبعها مرة ثانية بعد اكمالها.
سجن الحلة قسم المعمل
عندما وصلنا إلى السجن كان الوقت ليلا وجميع المعتقلين نيام وكانت القاعة مزدحمة بالمعتقلين فلم نجد مكانا نجلس فيه! نهض أحد المعتقلين وقدم نفسه لنا، إنه صاحب الحكيم  (أبو بشرى) وهو كادر شيوعي من مدينة النجف، كان معتقلا قبل الانقلاب، وسبق وأن تعرفت عليه لأول مرة بعد ثورة تموز المجيدة عندما تم إطلاق سراح السجناء السياسيين، وجاء مرافقا لعمي محمد علي الذي كان مبعدا في قضاء بدرة بعد إنهائه عشرة سنوات من السجن أيام النظام الملكي، وحينها عانقت صاحب الحكيم معتقدا إنه عمي، فعانقني مبتسما وأشار الى عمي الذي كان بجانبه!.
بعد أن قدم صاحب نفسه لنا دعا المستيقظين إلى التراص لتوفير مكان للقادمين الجدد. أحدث وصولنا جلبة وضوضاء، فاستيقظ معظم النزلاء، وتحلقوا حولنا يستفسرون عن آخر الأخبار ولم نكن نعرف أكثر منهم لأننا من الذين اعتقلوا في الأيام الأولى من الانقلاب الدموي. وتم تدبير مكان لنا وسط المعمل (الرواق الطويل). كان المعمل مزدحما بالنزلاء من مختلف مدن الفرات الأوسط وحتى من بغداد، كان بيننا الطلبة، الفلاحون، العمال، الأساتذة، الأطباء، المحامون ومن جميع المهن كذلك كثير من العسكريين من مختلف الرتب.
 بعد أيام من وصولنا لسجن الحلة وصل الصديق عيسى الحسيني. كان عيسى طالبا في السنة الأخيرة من دار المعلمين الابتدائية وأحد كوادر اتحاد الطلبة العام في كربلاء. اعتقل عيسى مع الراحل هاشم النقيب والراحل مهدي الصافي لنشاطهم الطلابي والشبابي، وحكم عليهم لمدة سنة قضوها في سجن كركوك، وأنهى عيسى مدة حكمه قبل الانقلاب بأيام، لكن سلطات السجن قررت إرساله إلى كربلاء ليطلق سراحه من هناك، وحدث الانقلاب وهو مازال في الموقف العام، ومن ثم نقل إلى سجن الحلة واعتقد بقي منسيا في السجن، مثل آلاف غيره كانوا محجوزين منذ أيام حكم عبد الكريم قاسم!. كان عيسى يستلقي على فراشه دائما ولم يهتم بما يدور حوله. وفي أحد الأيام سرني، بان لديه راديو ترانزيستور ويستمع منه للأخبار عما يجري في العراق، واخبرني -طالبا كتم السر- بأنه وجد محطة تدعى (بكي إيران) وهي تتحدث عن مقاومة الشيوعيين في بعض مناطق بغداد والمدن الأخرى، وتتحدث عن الاعتقالات العشوائية والتعذيب، وتذيع نداءات وبيانات من الحزب. أفرحني ما سمعته منه وتفاهمنا لنتناوب في الاستلقاء على جانبنا ونضع المخدة فوق الراديو ونستمع للبث من بكي إيران، ونتبادل ما نسمعه من أخبار وتعليقات. وكنا يوميا بعد سماع النشرة الاخبارية ننقلها على الورق للزملاء في السجن وتنتشر هذه النشرة بين معظم المعتقلين. كما إننا اخبرنا الجميع عن هذه الإذاعة وموجة بثها، وعلمنا إن هناك أكثر من راديو متوفر بين المعتقلين.
كنا نجلس طول اليوم في هذه القاعة (المعمل) المزدحمة ولا مجال للمشي والحركة فيها اطلاقا، والتهوية كانت رديئة، فالشبابيك الوحيدة كانت على ارتفاع أكثر من 2.5م ولا يمكن فتحها وهي تطل من كلا الجانبين على قاعات السجن الجديد والسجن القديم، فكان الهواء يدخل من الأبواب الموجودة في طرفي المعمل والتي تطل على الممر -رواق السجن- الذي يطوق أقسام السجن. تجاوز عدد النزلاء السبعمائة معتقل، وأدى هذا العدد لأزمة داخل قسم المعمل، ففي أي وقت تحاول أن تغتسل أو إن تذهب للمرافق تجد عشرين معتقلاً أو أكثر ينتظرون قبلك في صف طويل. ولتوضيح الصورة المزرية التي عانيناها في ظل الحكم البعثي الدموي في شباط 1963 على القارئ أن يوزع 24 ساعة (ساعات اليوم) على المعتقلين (أكثر من 500) ليرى حصة الفرد  للاستفادة من حنفية واحدة ومرحاض واحد وسيجد حصة كل معتقل يوميا من الوقت للاستفادة من المرافق الصحية لا تتجاوز 3 دقائق باليوم ليغتسل بها ويقضي حاجته! كنا نعيش هذه الحالة المزرية طول اليوم، من ازدحام السجناء وعدم توفر المرافق الصحية المناسبة عددا ونوعية، هذه الأوضاع المزرية أوحت للشاعر الشعبي الرائع الراحل لطيف بربن من أهالي الحلة، بقصيدة شعبية رائعة صور فيها حياتنا  داخل السجن وما نعانيه بأسلوب ناقد وساخر، تحدث فيها عن الازدحام وضيق المكان، عن المسطر (تعداد السجناء) وتصرف حراس السجن كعبد الله الشباب وأبو سبتي وغيرهم أثناء التعداد  والمواجهات. مازلت أتذكر بعض أبيات تلك القصيدة، وربما سيتذكرها من عاشوا تلك الفترة في سجن الحلة فينشروها أو يرسلوها لي مشكورين لأدونها كاملة، فان مثل هذه القصائد توثق ما قدمه الشيوعيون وأصدقاؤهم من تضحيات ومعاناة وتصور حياتهم في السجون كما تصور همجية وحقد البعثيين ومن شاركهم بالانقلاب. بعد الطبعة الأولى حصلت على معظم القصيدة:
ألف آه من السره والكانه[1]
الف آه من السرة والكانه
ألف آه من السره لمن تجيك
بطنك اتطورد ومكسور الأبريك
تلكه ميه واكفه تتنه البريك
والسره يوصل لعد عنانه
.............
إشلون شوغه لو ردت تنكل إبريج
أمن الظهر تلزم سره لصيحة الديج
أتكوم بطنك تربد وإلها صريج
أتشوف كلمن حاير أبز.... بانه
.............
الدايره وكت الحجي تزمط  زمط
أتكول خوش أمخضر إلكم دا نحط
أخيار تازه الوحده كيلو ونص ضبط
ومن تعضها جنها بيذنجانه
.............
من يجينه الليل تتلملم أهموم
إنام مانكدر ولا نكدر نكوم
إيصفطونه مثل تصفيط الهدوم
ولو تحرك شخص راح إمجانه
.............
من تدك الشيلمانه للحساب
أنكوم مسطر بالشمس ساعة عذاب
يجي "جمعه "ويجي "عبد الله" الشباب
و"أبو ناظم"  بالصفير إسبانه
كانت ظروف الاعتقال كما هو الحال في جميع المعتقلات سيئة جدا ويعيش المعتقلون جوا من الارهاب والرعب لما نسمعه من أساليب تعذيب واغتصاب وممارسات قمعية. كان السجن مزدحما، وحصة الفرد الواحد من المكان لا تتجاوز 40سم. أما الطعام فكان رديئا جدا وفقيرا بالمواد الغذائية، لا أبالغ إذا وصفت وجبة البامية كمثال  -وهي لا تختلف عن أي خضار آخر- في الغداء فأن حصة الفرد قد لا تتجاوز 3-6 حبات بامية رديئة جدا، مع كأس من ماء أصفر -مرق- لا أثر فيه للطماطم أو عصيرها (المعجون)، أما اللحم فهذا غير متوفر نهائيا، وأحيانا نعثر في مرق الخضار قطع قماش قذرة ويقال حتى جرذان!. أما الخبز فهو قليل ولا يشبع الكثيرين، وإذا توفر الرز بدل الخبز فهو أيضا لا يشبع ومن أردأ النوعيات. في العشاء يقدم لنا ما تبقى من مرق الغداء! وفي الفطور شوربة عدس خفيفة جدا بدون أي طعم! وكانوا أحيانا يأتون بنوعية رديئة من التمور لتكون وجبة طعام مع الخبز! ولهذا سمحت إدارة السجن لأحد السجناء الجنائيين أن يبيع التكة (قطع لحم صغيرة تشوى على الفحم)، وطبعا معها الطماطم والبصل ... لا أتذكر السعر لأني وأخي كفاح كنا معتمدين على ما تجلبه الوالدة من طعام في زيارتها لنا. ولكن أتذكر جيدا أن هذا السجين الجنائي كان يبيع حبة البصل الصغيرة بعشرة فلوس وهذا غال جدا فالكيلو لا يتجاوز سعره العشرة فلوس في ذلك الزمان! بالتأكيد كان يتقاسم الارباح مع المسؤولين. أما الرعاية الصحية فكانت معدومة، فالمريض يبقى يعاني طويلا، وأصحاب الامراض المزمنة كانوا يعتمدون على عائلاتهم لجلب ما يحتاجونه من علاج. أتذكر حالة أحد كبار السن، كان يعاني من انسداد أو ضيق بمجرى البول وكان يبكي من الألم وعدم قدرته على إفراغ مثانته، فكان يضطر الى استعمال سلك حديدي علّه ينجح في إفراغ مثانته! ولا ننسى أن هناك المئات من المعتقلين كانت عائلاتهم تجهل أنهم معتقلون أو حتى مكان اعتقالهم أو أنهم من مدن بعيدة وظروف العائلة لا تسمح بزيارتهم.
كانت الاعتقالات تجري بطريقة عشوائية وبدون أية مقاييس سياسية أو جنائية. شملت الاعتقالات الشيوخ المسنين والأطفال والنساء. وكنت أرى أحد الشيوخ في عقده التاسع، وعندما نسأله عن سبب اعتقاله، يقول: يتهمونني بأن لي ميولا يسارية! بينما أنا أسير معتدلا ولا أميل لا يسارا ولا يمينا! ثم ينهض ويمشي أمامنا ليثبت لنا انه لا يميل لأية جهة، وربما كان هو يسخر من الانقلابيين بذلك! كان هذا الشيخ الطاعن بالسن ورغم ظروف اعتقاله يهتم بحلاقة وتحديد لحيته مستعينا بشفرة حادة وعود من قصب البردي دون أن يجرح نفسه، ونقف نحن الشباب نراقبه بدهشة من قدرته على الحلاقة بهذه الطريقة البدائية!. أما أموري عفلوك ابن مدينتي وجاري الذي اعتقل في اليوم الثاني من الانقلاب في كربلاء كرهينة بدل شقيقه الأصغر حمودي، وحمودي لم يبلغ بعد ستة عشر عاما، بقي أموري معتقلا حتى بعد أن سلم حمودي نفسه بضغط من والديه، ونقل أموري معنا إلى سجن الحلة. ولبساطته رفض  أن يرتدي البجامة التي استلمها من عائلته، لأنها من لباس السياسيين كما يعتقد وتثبت عليه التهمة وهو ليس بالسياسي، وحتى يثبت عدم كونه سياسيا للحرس القومي الذين يزورون السجن ويقابلون السجناء من حين لآخر، حلق شعر رأسه وكشف عن آثار جروح  في رأسه والتي تركتها ضربات السيوف في المناسبات الحسينية في عاشوراء، وكان يتقدم المعتقلين ليكشف عن هذه الآثار في رأسه للحرس القومي ويؤكد لهم انه حسيني ويرفض ارتداء البجامة التي يلبسها السياسيون ولا علاقة له بالسياسة! لم يسلم من اعتقالات الحرس القومي حتى الأطفال الذين اعتقلوا كرهائن بدل آبائهم أو أشقائهم وتعرض الكثيرون منهم للتعذيب حتى الموت كما حدث للشهيد فاضل الصفار وعمره لا يتجاوز ستة عشر عاما واستشهد أثناء التعذيب البربري أمام أعين أمه المناضلة نرجس الصفار وهو يرفض أن يرشد الحرس القومي لمكان إقامة أبيه -زوج أمه- الشهيد الخالد جمال الحيدري.
في الفترة التي كنت فيها في سجن الحلة (مابين أواسط شباط وأواخر نيسان) ، وفي أحد الايام من تلك الفترة ، زج بمجموعة (4-6) من شباب الديوانية، وكانت أعمارهم بين 15 و 19 عاما، وآثار التعذيب والضرب على أجسادهم ووجوههم واضحة. ولما تجمعنا حولهم مستفسرين عن سبب اعتقالهم، اخبرنا احدهم وهو شاب في الصف الأول متوسط دون 16 عاما واسمه صبحي حسين، إنهم تأثروا كثيرا للتصفيات والإعدامات التي تعرضت لها قيادات الحزب الشيوعي، وقد أغاظهم تبجح الانقلابيين بادعائهم القضاء على الحزب الشيوعي وقيادته، فقرروا كتابة مناشير وبيانات ونشرها في المدينة ، ولكن نشاطهم هذا سرعان ما أكتشف لانعدام خبرتهم. وفي حديث متأخر لي مع أحد أبطال هذه المجموعة "صبحي حسين" عبر الفيس بوك يقول: كنت متقدا حماسا لنصرة الحزب بعد الهجمة الشرسة، وكنت أغلي غضبا من حصول الانقلاب الدموي. لذلك فكرت في توزيع نشرات بخط اليد تهاجم البعث والحرس القومي ولصقها على الجدران مدينة الديوانية. طرحت الفكرة على أحد أصدقائي واسمه عدنان فدعوس والذي أصبح بعد ذلك عسكريا برتبة لواء في الجيش. وفعلا قمت بخط النشرات ولصقها على الجدران ليلا ولعدة مرات. وهذا ما أثار الرعب في صفوف الحرس القومي وقوات الامن واستنفرهم. بعد ذلك طرأت على بالي فكرة طبع منشوراتنا على طابعة، ففكرت في الطابعة الموجودة في مدرستي المتوسطة. طرحت الفكرة على صديقين آخرين إذ أن العملية تحتاج لعدد أكبر من الاشخاص. فاتحت زميلي حليم عبد بالفكرة، وبدوره عرفني على طالب أكبر منا سنا يدرس في الاعدادية اسمه علي الشيباني، وهو الان شاعر شعبي معروف. بعد مراقبة حذرة لحارس المتوسطة وتحركاته ومعرفة وقت خروجه من المدرسة ليلا لتناول عشائه، حينها خططنا لتنفيذ العملية. كلفنا عدنان فدعوس لمراقبة عودة الحارس، وأنا وعلي وحليم نتسلق سور المدرسة ونتوجه بسرعة الى مكان الطابعة. نجحنا وبسرعة بكسر الباب، ورغم أن الظلام كان سائدا، ولكن بحكم معرفتي لمكان الطابعة توجهت بسهولة صوبها مباشرة، وحملها علي بأحضانه لأنه أكبر منا سنا وأقوى بنية، وعبرنا السياج والطابعة معنا. وهكذا مارسنا نشاطنا في كتابة ونشر الاخبار والبيانات التي كنا نكتبها، مستفيدين من اذاعة بكي ايران -صوت الشعب العراقي- ومن المعلومات الفكرية البسيطة التي كنا نتمتع بها. فضحت مناشيرنا أساليب عصابات البعث في الاعتقال والتعذيب ودعونا الشعب الى مقاومة هذه العصابات المجرمة. وقد تركت هذه المناشير عصابات الحرس القومي ومنظمة البعث في رعب وارتباك شديدين. وبالرغم من بساطة أفكارنا وأسلوبنا وقلة مناشيرنا، فإن تلك المناشير تركت تأثيرا وضجة كبيرة بين أهالي الديوانية وأربكت الحرس القومي وقوى الأمن. للأسف لم تجد مجموعة الشباب هذه الطريق الى اي تنظيم حزبي يمكن ان يحتويها ويستفاد من حماسهم واستعدادهم للعمل، ويقوم بتوجيههم التوجيه الصحيح. فعملت هذه المجموعة منفردة بعيدا عن أية خبرة نضالية، وبدون اية تجربة تساعدهم في تجنب عيون عصابات الحرس القومي. حيث تم اكتشافهم وزجهم في الاعتقال وتعرضوا للتعذيب.
بعد أيام من استقرارنا بقسم المعمل، وفي أحد الليالي نودي على الراحلين صاحب الحكيم و سامي عبد الرزاق لغرض التحقيق. وهب معظم المعتقلين وخاصة من كانت تربطه بهم علاقة سابقة الى توديعهم والشد على أياديهم. خيم الوجوم على بقية المعتقلين بعد فقدنا رفيقا قام بدور طوعي في تنظيم حياتنا ومعيشتنا في المعمل. ومرت أيام معدودة، عاد الينا الراحل سامي عبد الرزاق، وحدثنا عما شاهده من تعذيب للآخرين، وإن عائلته نجحت في إنقاذه من التحقيق وتبعاته من تعذيب جسدي ونفسي... في تلك الايام سمعنا باستشهاد شهيد خوجه نعمة، وسمعنا قصصا عن شراسة التعذيب الذي مورس معه، وكان من تلك الأساليب رش جسمه بالنفط وإشعاله مما أدى الى استشهاده!
بعد أسبوعين من وجودنا في قسم المعمل سمح لنا بمقابلة الأهل، وكانت هذه المقابلة مرة بالأسبوع أو مرتين بالشهر. كانت الوالدة تعاني من صعوبات الوضع الاقتصادي، حيث فقدت العائلة موردها المالي الوحيد وهو راتب والدي الوظيفي، وحتى أخي كفاح هو الاخر فقد مصدره الوظيفي، أما أخي همام فقد فقدنا الاتصال معه في بغداد ولا نعرف مصيره. فكنت وأخي الأكبر كفاح نقتات على ما يقدم لنا من طعام السجن الرديء. وعندما سمحت إدارة السجن بزيارات عائلات السجناء، نجحت الوالدة طيب الله ثراها في زيارتها لنا مع بعض شقيقاتي وهي تحمل لنا مونة من الطعام (الكبة، الطماطة، البيض المسلوق، البطاطة المسلوقة) ما يكفي لحين الزيارة القادمة، إضافة لما جلبته لنا من ملابس وغيرها من احتياجات. وهكذا تكررت زيارات الوالدة لنا في السجن وفي كل مرة تحمل لنا ما يكفينا من الطعام. وعندما سألتها بتجنب مصاريف النقل وأن تختصر زياراتها لنا وتهتم بشؤون والدي وشقيقاتي ورعايتهن والبحث عن مصير أخي همام، أخبرتني بأن جاسم السائق أبدى استعداده بالمساهمة معه زميله السائق كاظم في نقلها مجانا، قائلا لها أن علي الشبيبي وعائلته يجب أن تبقى مرفوعة الرأس وأن تعيش كريمة النفس في ظل حكم الحرس القومي، وهكذا أوفيا هذين الطيبين بتعهدهما، وللأسف لم التق بجاسم أما كاظم فكان من مرتادي مقهى حميد التي نطلق عليها مقهى الغنم، لأن معظم روادها من تجار الماشية والقصابين. وكان كاظم لاعب دومنة بارع، ويتميز بقدرته السريعة على حساب النقاط، فما أن تكشف له قطع الدومنة ومهما كان عددها يعطيك في ثواني مجموع نقاطها دون نقص أو زيادة! وكنا دائما نلتقي في المقهى ونتابع بإعجاب لعبه مع الاخرين.
 [1]- الكانة: يطلق السجناء على الملابس الرسمية المخصصة لهم والطعام المقدم لهم بالكانة. والأسماء الواردة في القصيدة -جمعة، عبد الله الشباب، وأبو ناظم- أسماء حقيقية لحراس سجن الحلة أيام شباط 1963.
 
 محمد علي الشبيبي
كربلاء-السويد / 8 شباط 2024

3
رحيل القاص والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي


 
 
الناصرية 6/1/1951 مسرحية "فتح الأندلس بقيادة طارق إبن زياد" قدمتها مدرسة
فيصل الأول.  في الوسط    المربي علي الشبيبي وعلى يساره عبد الوهاب البدري
وخلفهم صالح مهدي. ومن التلاميذ الممثلين الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي،
والدكتور محمد موسى الأزرقي، والاستاذ كامل العضاض وسهيل علوان

غادرنا اليوم الاثنين 20 مارس الروائي والقاص عبد الرحمن مجيد الربيعي (1939-2023) بعد معاناة مع المرض. آلمني خبر وفاة الروائي عبد الرحمن الربيعي لأني لم أتمكن من اللقاء بالفقيد استجابة لرغبته، فكلما أحل في العراق لا يصادف وجوده في الوطن أو أن أوقاتنا لا تتناسب في تحديد موعدا للقاء لأننا نقيم في مدن متباعدة. كانت رغبته -طيب الله ثراه- كما رغبتي قوية في ان نلتقي وخاصة عندما عرف أني منكب على تجميع كتابات ومذكرات الوالد لنشرها وان الوالد قد أشار في مذكراته لموقفه الوفي حين التقاه في اتحاد الأدباء، وأرسلت له نص ما كتبه الوالد عنه مستفسراً منه إن كان لا يمانع في نشره، وطبعا وافق على النشر دون تردد. 
وبهذه المناسبة الأليمة أنشر ما كتبه الوالد متفاخرا بتلميذه الوفي الراحل عبد الرحمن مجيد الربيعي، وما قاله الراحل ذاته بحق والدي لمجلة "الزمان الجديد" بعددها السابع/ منتصف مايو 2000.
كتب الوالد في مذكراته (ذكريات التنوير والمكابدة) في موضوعة (مدرسة الحسين) صفحة 560/ طبعة دار المدى، فكتب: 
[وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لم تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد ....! ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه "عبد الرحمن مجيد الربيعي" كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا.
أمثال هذا كثيرون، لست بحاجة إلى ذكر أسمائهم. وإني لفخور بهم وباعتزاز. وحتى بعض الذين كانوا مستهترين وفشلوا أخيرا في الدراسة، وبعضهم اعتدى عليّ، التقيت بهم رجالا قد أدركوا خطأهم. وكفروا عن تقصيرهم فانخرطوا في صفوف العمال المناضلين.  فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا  أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان. إن بعضهم يقول: إنهم شموع تحترق لتنير الطريق للآخرين. هذا لطف من صاحب الكلمة، ولعله معلم أيضا].
وقد تطرق الروائي الراحل عبد الرحمن مجيد الربيعي عن تأثير والدي عليه في حواره مع مجلة  "الزمان الجديد" حيث كتب الراحل عام 2000:
[... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر. لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.
ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية. وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.
وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان].
لا أجد أفضل مما كتبته أعلاه لمواساة عائلة الفقيد، فهذا الموقف النبيل والوفي منه لمعلمه في الابتدائية وهو يتذكره ويرى في معلمه هو من قاده الى الأدب ووجهه الوجهة الصحيحة وشجعه. فمثل هذا النبل والوفاء قل مثيله في عراق اليوم. نم قرير العين يا أبن الناصرية الوفي هاهم أصدقاؤك والمؤسسات التي عملت ونشطت فيها في العراق وخارجه -تونس ولبنان- يفتقدوك وينعوك بحزن وألم، لروحك السلام والطمأنينة ولعائلتك ومحبيك الصبر والسلوان.
محمد علي الشبيبي
كربلاء/السويد 20-03-2023 


4
المنبر الحر / يوم المعلم
« في: 19:47 03/03/2023  »
يوم المعلم


1/11/1970. المربي الراحل علي محمد الشبيبي في طريق عودته اليومية -شتاءً وصيفً- الى عائلته
في كربلاء من مدرسة "أبو سفن" في إحدى القرى في الحلة، لأن السلطة البعثية عام 1968 أرادة في
إعادته لوظيفته بعد فصل وسجن بعد انقلاب شباط 1963 الدموي في هذه القرية النائية أن تكسر
صلابته واصراره على مبادئه وقيمه متنكرة لخدمته الطويلة في التعليم التي تجاوزت 27 سنة ولم تراع
تقدمه في العمر، هكذا هو البعث .
في يوم المعلم أحببت أن أحيي جميع المعلمين الذين بذلوا أفضل ما يمكنهم من جهود وخبرات من أجل تخريج جيل متنور ومتمسك بالعلم. وبهذه المناسبة أنشر مقتطفات من شهادة بعض التلاميذ الأوفياء للوالد والتي سبق ونشرتها في مذكرات الوالد (ذكريات التنوير والمكابدة) التي صدرت في طبعتين الأولى عن دار تموز/ دمشق عام 2012، والثانية عن دار المدى/ بغداد عام 2021.
كتب الروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي في حديث لمجلة "الزمان الجديد" بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور #معلمه علي الشبيبي وتأثيره في تجربته الإبداعية، فكتب: [... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.
لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي #العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.
ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية. وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.
وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان]
*  *  *  *
وكتب لي في رسالة الكترونية خاصة الخبير القتصادي د. كامل العضاض أحد تلامذة الوالد تعليقا على ما نشرْته من (ذكريات معلم)، لقد أسعدني برسالته الالكترونية المفاجئة لي بتأريخ 25/1/2011 وتبعها برسائل أخرى. أثبت الجزء المتعلق بشهادته بحق معلمه المربي الراحل:
عزيزي الأستاذ محمد علي الشبيبي المحترم
تحية طيبة، وكل عام وأنتم بخير
تابعنا منذ مدة ما تكتب، وخصوصا حول تراث المربي الكبير الأستاذ علي الشبيبي، والدكم، رحمه الله. لقد صدقتَ في كل ما وصفته وعرضته من سيرة رفيعة وخلاّقة لهذا الرجل الأب والمُثقِف والوطني والذي ينتمي إلى أسرة معروفة بوطنيتها، والى مدرسة ثقافية أدبية ومتنورة.
لقد كان للراحل الخالد في نفوسنا، ونحن تلامذته الصغار في مدينة الناصرية في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إعجاب واحترام كبيران لشخصيته، و لا نزال نحمل عنه في ذاكرتنا صورا جليلة، كما لا تزال تتوغل في نفوسنا ما غرس فينا من حب للغة العربية وللأدب والفن المسرحي، والحب الإنساني. نعم، لقد كان إنسانا ومعلما رائعا، فقد كان و لا يزال يشكل في ضميري، شخصيا، مَعلَما أخلاقيا وعلميا وأدبيا رفيعا، وستبقى ذكراه في نفوسنا ما عشنا. ومن حقك وحق شقيقيك، كفاح وهمام، اللذين لا اعرف أين هما الآن؟ ولم أسمع عنهما منذ منتصف الخمسينات، حين غادرت أنا الناصرية، ولم أعد إليها إلا لماما. من حقكم أن تفخروا بتراث الوالد المربي، وأن تنقلوا لأولادكم نموذجه الأخلاقي والتربوي والسلوكي، طيب الله ثراه، فهو كان من البناة الخلاقين، فحسب سقراط، "حين تُعلم الأجيال بجدارة، فأنت تخلق"، فهو كان خلاّقا....
... أرجو أن أكون قد وفيت الوالد بعض الحق لا لكونه أبا وإنما لأنشر أفكاره التربوية ونظرته الاجتماعية التي سبق بها زمانه وخاصة عندما يتحدث عن وباء الطائفية وما يسببه من تخلف وجهل ودور المؤسسات الدينية في مكافحة وباء الجهل والتظليل، وكأنه يتشوف أيامنا الحاضرة.
*  *  *  *
نشر الأستاذ الجامعي د. محمد موسى جياد الأزرقي خمس حلقات "عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح" وتطرق في أكثر من حلقة  عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى [کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن]
ويضيف د. محمد موسى في الحلقة الثانية: [.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:
لحصاها فضل علی الشهب
      وثراها خير من الذهب

تتمنی السماء لـو لبسـت
            حلة من ترابها القشب]


ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة: [کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك].
*  *  *  *
وللمربي الراحل علي الشبيبي نظرته الخاصة للمعلم ولدوره التربوي، ففي سيرة وذكريات الوالد وفي أشعاره وقصصه يجد القارئ الكريم كثير من هذه القيم النبيلة التي كان يتمسك بها المربي الراحل، ولا أريد هنا أن أتناول كل أفكاره فقد سبق ونشرتها عبر وسائل التواصل الالكتروني وفي الصحافة وفي مذكراته (ذكريات التنوير والمكابدة) ولكن هنا سأنشر مقالة قصيرة نشرها الوالد في جريدة التآخي رداً على مقالة بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق" لكاتبها "مهذار" نشرت في جريدة التآخي عدد 1294. فنشر المربي الراحل التعليق التالي كرد وتوضيح تربوي لـ "مهذار" وغيره، فكتب ما يلي:
[أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءًا جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.
انك تعيب الشمعة إذ تتركْ بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة-  فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم #جسر_خشبي يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.
كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون.
 علي محمد الشبيبي/ كربلاء- الجمعة 30/3/1973]

محمد علي الشبيبي
السويد/كربلاء 01/03/2023

5
من "كشكول سجين"
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997

علي الشبيبي في سجن الحلة 12-12-1964
من الشخصيات التي زاملها المربي الراحل علي محمد الشبيبي في سجن الحلة في الفترة (1964-1965) والتي تناولها المربي علي الشبيبي -طيب الله ثراه- في "كشكول سجين" زميله السجين الشاعر الراحل هاشم سعدون الطعان -طيب الله ثراه- فاختار إحدى قصائده التي ألقاها في السجن، وأعتقد أن هذه القصيدة لم يسبق أن نشرت وربما هي إحدى قصائد الشاعر الراحل المفقودة. لذلك وجدت ضرورة نشرها لأنها تعطي صورة عن أدب السجون في تلك السنوات ومعنويات السجناء الشيوعيين وأصدقائهم وإيمانهم بشعبهم وثقتهم بحتمية التغيير للأفضل ومستوى النشاطات الثقافية في السجون التي كان ينظمها  السجناء الشيوعيون، فكتب الوالد في "كشكول سجين":

هاشم سعدون الطّعان
1931-1981



الصورة* في سجن الحله عام 1965، من اليمين الواقفون: الناقد فاضل ثامر، الشاعر يوسف الصائغ،
المترجم سلمان العقيدي، القاص جاسم الجري، الشاعر مظفر النواب. الجالسون في الوسط من اليمين:
هاشم صاحب، الكاتب نعيم بدوي، الشاعر لفريد سمعان. الجالسون في الأسفل من اليمين: الشاعر سالم
الخباز، الشاعر هاشم الطعان، الروائي زهدي الداوودي.[/center]
هاشم سعدون الطعان أديب من الموصل. كان معلماً ثم أكمل دراسته في كلية الآداب، وعين مدرساً في مدينة البصرة. وقد أوقف في عهد –قاسم- وظل في الموقف حتى مطلع عام 1963 حيث نقل الى موقف شرطة ناحية الگرمة، ثم حكم عليه بالسجن أربع سنوات قضى قسماً منها في سجن نقرة السلمان.
شاعر وقاص، واسع الإطلاع، ظريف وجريئ، غير ان فيه حدة. وقد يتعصب لرأيه تعصباً يفقده كثيراً من ولع محبيه له، بل وربما ابتعدوا عنه وتحولت صحبتهم له عادية. ولقد أسفت لهذه الظاهرة أسفاً شديداً.
تعرفت إليه أول قدومه السجن وأعجبت به أعجاباً كبيراً، وان وجدته يكثر الحديث عن نفسه. ولقد حاول مرة أن ينتقل من الغرفة التي يسكنها لعدم ارتياحه وانسجامه مع بعض نازليها من السجناء. وعرض أسمه على غرف أخرى له فيها أصحاب ومحبون، لكنهم رفضوه بالإجماع، لأنهم كانوا يخشون الخراب معه؟! وقد ألقى هذه القصيدة –كذلك كان شعبي- في أمسية 26-6-1965 فانتخبتها ذكرى اللقاء.
كذلك كان شعبي
كمرتقبٍ لدى الميعاد الفا
      كأرض ترتجي نيسان لهفى

كما تحوي بلادي كل خير
      بشائره البشائر ليس تخفى

كما حن الصغار الى أبيهم
      ففرط الوجد في الحدقات شّفا

كما يهفو الى الأنغام عود
      بأوتار تخال الجن عزفا

كما أحببت شعبي يا صحابي
      كما أحببتكم إلفاً والفا

كما أشتاق الغدير لورد طير
      على حافاته المعشاب دَفّا

كما أم تذّوب مـقلتـيها
      لترأم طفلها والليل أغفى

كجفن صبية زهراء خَودٍ
      كأحلام الصبا البيضاء رفا

كما ذكر المسافر بـعد كدٍّ
      وتجوال موطنه فخفا

كـما تاقت قلوع بعد نوءٍ
      وإعصار الى ايماء مرفا

كما حن ابن هاني بعد منع
      الى بنت الكروم الخضر صرفا

كليلات السرار بها اشتياق
      الى قمر يضيئ الضوء لطفا

كما يتـهلل الـعربي بشرا
      اذا القى لدى الأطناب ضيفا

وشوق الشاعر المعطاء حنت
      خواطره لقافية فقفّا

كما حيا (زهير) في قريض
      شجى دمنةً من اُم أوفى

كذلك كان شعبي في انتظار
      لمن قادوا النضال المر زحفا

تلـقاهم بـقلب ظل دهراً
      على الأرزاء يزهو مستخفا

بكردستان تشافى النجم كبراً
      بدجلة عانقت جرفا فجرفا

تلـقاهـم بشوق مشرئب
      يمدّ مزغرد الترحيب كفّا

بمجد النخلة الفرعاء قامت
      تهلل باللقا رُطبا وسعفا

اذا ما أبسرت كانت رواءً
      وإما أثمرت عسلاً مصفى

وقد هـيّا لهم أمجاد الفٍ
      من الأجيال ضحت لم تكفا

وعاد الجاحظ البصري يملي
      حديثاً شيق الأخبار طرفا

وسلمهم مشاعر أكـرميه
      تذر ذر ضوءها كرما وعطفا

سناها من سنا المأمون وافى
      رحاب العلم حاشدةً فوفّى

ومن أشعار دعـبل تتقيها
      طواغيت تسوم الناس خسفا

ومن إطلالة الشيخ المعري
      يكشف والدجى يلتاث زيفا

أقام المـجد للآداب تـدعو
      الى حق وترجو ثم نَصفا

وباركـها بان اورت زنادا
      له لهب تألق ليس يطفى

وفَند ان تساقـيه غـيوثُ
      واجداب بباقي الأرض حفا

وغنى للعدالة وهي تـعطي
      كما وهبت زهور الروض عَرفا

وقد لعن المرائي في رياءٍ
      يُقرّبه الى السلطان زُلفى

وسلم شعبنا الآتين سفـرا
      تضيئ سطوره حرفاً فحرفا

ففي صفـحاته أخبار كاوا
      يقارع غاشما ويميط حيفا

وثـورات الخوارج كل شهم
      يجرّد للعلا قلباً وسيفا

وكان لو أبتغى للنفس خيراً
      ويقعد نائلاً ما عنه عفا

وفي صفحات هذا السفر حشد
      من الأمجاد أعجز منه وصفا

هنا ثار الزنوج على عـتاةٍ
      ففلوا كيدهم صفاً فصفا

هنا حمدان قرمط دك حصنا
      ينازل أرعنا ويحط حلفا

هنا من ثورة العشرين ذكرى
      أماطت عن رؤى التأريخ سجفا

وقال الشعب كلمته وأعطى
      لفتيته تراث الفكر صحفا

فباركـها الربيع بـكل نورٍ
      وآذار تململ فأستشفا

راى قوس السحاب ركام غيم
      فذرى ضوءها في الأفق ندفا

فكان ازاهراً في كل صـقعٍ
      جزت عن نعمة الألوان عرفا

اعـطارُ يـوزع كل طـيب
      هنا بين الخمائل قد تخفى

ام الأرجاء لـمّت كل عـطرٍ
      لعرس جن راقصة ودَفا

وكان البدءُ ان أوحى هـمامُ
      الى ندٍ يؤاخيه فقفى

ولبت دعوة الداعـي جموعٌ
      تعيش حياتها جدباء عجفا

وحسّ البغي ان الأرض هبت
      تثير النقع زوبعة وعصفا

فطار صوابه المغرور ذعراً
      و أفعم صدره المنخوب خوفا

فـطار يقـاوم التيار طيشا
      فلا يألو له التيار جرفا

فللأحـرار تضييقٌ وسجـنٌ
      وتشريدٌ ومشنقةٌ ومنفى

وشبت وثبة في إثر أخـرى
      تريد بدار الباغين خسفا

فكانون يحدث كـيف ثـرنا
      جحيما عاد فيه القر صيفا

وتشرين وتـموز فـمـحى
      بنا اوضار طغمتهم وعفى

فسلني كيف قد عـادت أفاع
      فعاثت في البلاد أذىً وعنفا

تألـيت الأراقـم ذات لـيلٍ
      فمجت سمها فانساب حتفا

فأودى من غـطارفة قبيلٌ
      و أرهفت الجموع شجىً وعسفا

كــأن نفوسهم واكــرمْ
      بما تهدي على الشفرات وقفا

فكم رَمَقٍ أسالوه عطــاءً
      وكم عرقٍ لفرط البذل جفا

على ان الحياة الى أنتصارٍ
      وان زعم المزور ذلك خلفا


*- نشر البعض هذه الصورة على أنها عام 1963 وفي سجن نقرة السلمان وهذا غير صحيح إطلاقاً، والصحيح انها في سجن الحلة عام 1965، لأن الكامرات دخلت -طبعاً خفية- الى سجن النقرة وبقية السجون في النصف الاول من عام 1964، حيث خفت الضغوط على السجناء مما سهل إدخال الكامرات، كما ان الشاعر مظفر النواب كان في تلك الفترة مازال معتقلا في ايران وتم تسليمه للسلطات العراقية في 28-12-1963./ الناشر محمد علي الشبيبي

6
المنبر الحر / كشكول سجين
« في: 16:26 16/10/2022  »
كشكول سجين


المربي الراحل علي الشبيبي وابنه محمد علي الشبيبي في وسط ساحة سجن الحلة عام 1964
بين مخطوطات الوالد -المربي والمناضل علي محمد الشبيبي- طيب الله ثراه مخطوطته (كشكول سجين)، وقد كتب لها مقدمة أثناء وجوده في السجن (1964-1965). وبعد نيله الحرية وتمتعه بها لكنه عانى من المضايقات الأمنية والفشل في العودة لممارسة وظيفته كمعلم، مما أضاف له وللعائلة متاعب نفسية واقتصادية شاقة. وخلال مراجعته لكتاباته السابقة في السجن ومنها "كشكول سجين"، أضافه لمقدمة الكشكول ما أطلق عليه "الخاتمة". في هذه المقدمة والتي كتبها المربي الراحل وهو في السجن تعكس قوة إيمانه بالمستقبل، ونظرته الموضوعية لحالة السجناء وتفهمه لأمزجتهم وطباعهم وما أصابها من تغيرات وتناقضات. 
وإحياء ووفاءً لذكرى الوالد واستجابة لرغبته وجدت من المناسب نشر "مقدمة" الكشكول مع "الخاتمة"، وربما نشر مستقبلا ما هو مناسب ومفيد فيما دونه في هذا الكشكول./الناشر محمد علي الشبيبي.
المقدمة
ها هي السنة 1965 السنة الثانية ابتداءً من 22/1/1964 وقد دخلت السجن الى قلعة الوزيرية ثم القلعة الوسطى حيث نقلنا بعدها الى هذه القلعة –الجديدة- وذلك من 23/1/1965 ولأقضي بقية أيام محكوميتي التي ستنتهي في 21/8/1965 إن عشت الى ذلك اليوم. وان لم تتطور الأحداث، أحداث عراقي الحبيب، وأحداث بلادي العربية، التي لا تنفصل عن أحداث العالم كله.
أني شديد التفاؤل انها الى خير. فالصراع اليوم عالمي لا يخص أمة دون أمة، ولا قومية دون أخرى. والشعوب المجاهدة من أجل حريتها تسدد الضربة تلو الضربة الى الاستعمار، وهو يعاني حشرجة النزع، رغم ما يخيف الناس ويوهمهم انه مازال قوياً جباراً، بسبب ما اندلعت من فتن وانقسامات في المعسكر الاشتراكي من جهة، وتأرجح بعض الحكومات العربية بين درب الاشتراكية العلمية والتخبط في طريق تسمح لكل أعداء الاشتراكية أن يتغلغلوا في صفوفها، ويدفعوا الركب العربي الى متاهة وتيه دونه تيه بني إسرائيل. ولكن من يعرف منطق الحياة وإنها الى الأمام لا الى الوراء، الى الأحسن لا الى الأسوأ، الى الأصلح النافع يدرك جيداً ان فجر الحرية سيبزغ على البشرية لا محالة، وان الظلام سيزول الى الأبد. سيدرك هذا مثلما يدرك ان الضحايا والقرابين ستكون أضعاف ما قدمته البشرية خلال عمرها الطويل وهي تقطع الطريق التي بدأتها، منذ كانت عارية تصارع الطبيعة بكل قواها من عواصفها الثلجية، وهجيرها اللافح، وطوفان مياهها، ووحوشها الكاسرة، وحشراتها الفتاكة، وجراثيمها الخفية. حتى أنتهى بها المسير الى غزو الفضاء الخارجي، والسيطرة عليه، لتصل أخيراً الى احتلال القمر.
وبالنسبة لي لا يهمني –وأنا متأكد من هذه النتيجة- ان أشهد هذه الانتصارات أو أموت قبل ان أرى النور، بين بنيي وعائلتي، مادمت أعرف أن الموت حق ونهاية لكل ذي جسد، ولكل إنسان مشى مع المركب أو تخلف عنه.
ومذ حللت السجن حاولت أن أستفيد من إقامتي فيه لدراسة اللغة الانكليزية، وحال دون ذلك سوء وضعنا بسبب كثرة عددنا، وما ينتج عما يعانيه السجناء من مشاكل مادية وعائلية، من أزمات نفسية، وفورات تطغي على الجميع، وتلفهم في دوامتها، مجبرين على ذلك. لأن كل ما يحدث نتيجة تلك الفورات، ليس في صالح السجناء على الطلاق. فانهيار أعصاب كثيرين وانزلاقهم الى مهوى الخسة والذلة، قيامهم بمعارك ضد إخوانهم في المصيبة أبعد يوم خلاصهم جميعاً، وازداد في أثقال سلاسلهم. فوجدت نفسي عاجزاً عن الدرس بسبب ما أعاني من أمراضي، الروماتزم، الصداع النصفي، آلام المعدة. 
ثم ما يحز في نفسي بقاء عائلتي بدون مدبر ولا معيل وموجه. فقد فصل أبني كفاح، وحكم على أبني محمد معي خمس سنين، وظل أبني همام في بغداد لا يقدر على غير أعالة نفسه، كي لا تنوشه أيدي الحاسدين والحاقدين من أجهزة أمنية وغيرها. وبقيت في فكر وألم من أجل سبع بنات وأمهن المريضة في بلد ليس لهن فيه –او ليس لي- قريب أو صديق، ولا مورد غير راتب التقاعد، الذي لم يحصلوا عليه إلا في تموز 1964[1]، وهو لا يكفي عيشهم. وهن جميعاً في مراحل الدراسة المختلفة. وإيجار الدار. وأنا في سجن الحلة وابني محمد في سجن نقرة السلمان. إن مرتبي ستة وأربعون دينارً فقط ثلثه للإيجار والكهرباء والماء، وديوننا تجاوزت المئتي دينار وقاربت الثلاثمائة.
خطر ببالي أن أضيف الى عمل المطالعة تهيئة دفتر أطلقت عليه أسم (كشكول سجين) أثبت فيه بعض ما أقتطفه، من المطالعات، او ما يعن لي من خواطر، أو ما أسمعه أو أختاره من طريف النكات، وروائع الشعر –الفصيح والشعبي- ، ولهذا السبب لم يكن على شكل تبويب أو تقسيم حسب الفصول.           وقد تم لي هذا الذي يضمه الدفتر بين دفتيه. وعسى ان يفرج عنا فنتمتع بانتشاق عبير الحرية، فننتج ما ينير الدرب ويوضح السبيل ويخدم المجموع. 
[وبعد أطلاق سراح المربي الراحل من السجن بسنتين تقريباً، راجع الراحل ما كتبه في -كشكول سجين- وكتب "الخاتمة" أدناه بتأريخ 3/4/1967  / الناشر محمد علي الشبيبي] : 
الخاتمة
ذات يوم كنت أقرأ قصة "دوريت الصغيرة" للكاتب الكبير "شارلز ديكنز" ودهشت لهذه العبارة (ان السجين تبدأ مشاعره تلين نحو السجن بعد أن يخرج منه). وعجبت كيف يحن المرء لحجز حريته. بل كيف ينسى أياماً كان كل يوم فيها يعادل عاماً. فهو ثقيل الخطى كئيب الملامح. وكيف يرتاح لتذكر ذلك المكان الضيق الذي ما يكاد يحل فيه نزيل حتى يبدأ يشعر بأنفاسه تختنق، ومشاعره تتبدل. ويتحول بعد قليل الى إنسان يختلف تمام الاختلاف عما كان عليه قبل أن يلج باب السجن. فقد يكون قبل يومه ذاك رجلاً انبساطيا، طلق اللسان، كثير الحديث، كثير العلاقات والصلات بالناس. ولكنه في السجن ينقلب رأساً على عقب، فينكمش وينطوي على نفسه في زاوية كطير كسير الجناح، في نظراته استغراب وحيرة وتساؤل. وفي خطواته وسائر حركاته حذر، وعلى قسمات وجهه كآبة عميقة. 
وقد يتحول آخر عُرف بالعكس من صاحبه الى ثرثار، كثير الحديث، كثير الضحك والدعابة، كثير الاختلاط والعلاقات، وربما كثير الشجار، وما يتبع الشجار وينتج عنه من مضاعفات قد تؤدي الى تباعد وبغضاء بين السجناء. 
وانك لتجد القول المأثور (السجن محك) مصداقاً مطابقاً فيما ترى من شخصيات كنت تحترمها، وترى فيها وقار العلم مجسداً، وسمو الإنسانية ممثلاً، والخلق الطيب الرائع يفيض بُشرا ورقة. وإذا به قد فقد –هنا- كل تلك الصفات، وتحول الى مستوى شاب مراهق، أناني بخيل، شديد اللؤم، يتوارى لأدنى سبب، ساخط شاتم، وقد تنكر لكل مثله التي جاهد في سبيلها وأحبها.
وربما أبصرت شخصاً كنت تزدريه وتنفر منه. اذا به –هنا- تتجلى فيه صفات الرجولة، وتقطر حواشيه اريحية ونبلاً، يتهلل وجهه بالبشر، ويفتر ثغره عن بسمات مشرقة، تبدد ما في نفسك من ظلمات. فلا ترى بداً من أخذ درس ثمين من سيرته، ومثلاً طيباً من شخصيته.
وأني لأتذكر ساعة أصدر رئيس المجلس العرفي في 22/1/1964 حكمه عليّ ضمن مجموعة عدد أفرادها (48) رجلاً وامرأة واحدة، بأحكام ذات مدد مختلفة. وما أن حجزنا في غرفة موقف معسكر الوشاش (حالياً حديقة الزوراء في بغداد/ الناشر)، ورحت الاحظ الوجوه، وأقرأ خطوطها. وإذا بي أرى بعضهم وقد تناثرت الدموع على خديه (من هؤلاء كان الراحل ذا المشاعر المرهفة الموسيقي لطيف المعملجي طيب الله ثراه بالرغم من تبرئته، لكنه بكى بمرارة تعاطفاً معي لصغر سني كما برر هو ذلك لي / الناشر). بينما كان آخرون تفتر شفاههم عن بسمات، تحولت الى ضحكات صاخبة، وحركات وتنقل. يداعب هذا ويناقش ذاك. وما حللنا السجن حتى انقلبت الآية. فقد أعلن الباكون، أنهم أمام أمر واقع من حياتهم وأنهم سيصمدون أمام محنة السجن ولابد من نهاية. بينما أنطوى الآخرون على أنفسهم. وراحوا يقضون معظم وقتهم في النوم، والآراء السقيمة، والهروب من الخدمة المفروضة عملاً بقاعدة التعاون لمصلحة المجموع.
ولقد تجد الى جنب هذا وذاك من لم يتغير من خلقه شيء، ولم ترتبك أعصابه ولم يختل توازنه مع شدة ذلك الدوّار وحدة الضربة. ثم كذلك هو لم يبخل بعلم ينفخ به طالبيه، وآداب يذيعها على هواة الأدب، وطُرف يروّح بها على النفوس المتألمة، ولكنه فيما عدا هذا من وقت تستولي عليه حال أشبه ما تكون بحال الغريب، رغم ما يبدو عليه من انصراف الى مطالعة أو درس، ذلك لأنه أبو صغار فقد صَباحة وجوههم، ولم يعد يسمع نغم أصواتهم، وقد فارقهم الى حرمان مؤلم، وفاقة شديدة. يهاجمهم المرض فلا من يرده عنهم، ويفتك بهم الجوع ولا من يدرأه عنهم، ويضمأون الى حنان أبيهم فتدركهم زفراتهم، ويرون صغاراً أمثالهم في يوم عيد بأثواب زاهية، ومظاهر الفرح تغمرهم فتعلج الحسرات بصدورهم، وتنحدر الدموع على خدودهم فيستنجدون بأم ضعيفة لا حول لها ولا قوة وقد علا وجهها شحوب، وأنهك وجهها هم وسهد فلا تجد لهم إلا كلمات الخائف المذعور تهدئ بها روعهم، وتخفف لوعتهم. وتمنيهم بقرب يوم يعود اليهم فيه الوالد العطوف، يحمل معه الخير والنعيم. 
استعرضت هذا يوم أنهيت استنساخ هذا الكشكول. وإذا أجد في نفسي حنيناً غريباً. ولا بد انه ليس الى تلك الجدران الشاهقة الكالحة التي تحجب عني كل بهجة. ولا الى تلك الحياة الرتيبة والزحام والضيق حين أبغي التمشي أو النوم[2]. كلا .... إذن لِمَ أدركني الحنين؟
حقاً لقد تعرفت الى وجوه غرسوا بقلبي حبهم بصورة لا تقوى أيام الفراق على محوها، لما لقيت عنهم من حب لي. ولما وجدته فيهم من سمو المشاعر الإنسانية بأوسع معانيها، وجلال العلم والمعرفة، وروائع الأدب، وتجارب الحياة. ومع ذلك فليس لهذا وحده أدركني الحنين. هنا تذكرت كلمة "ديكنز" ثم رحت أسائل نفسي. أترى المرء اذا ضاق به رحب الحياة. فوجد مجال لسانه قصيراً. ومورد عيشه شحيحاً. وسبل التفكير ضيقة مخيفة، وحتى خطواته ثقيلة محدودة، وعشراءه بالأمس يتهربون، ويشيحون بوجوههم عنه. ثم هو يدنو من الغرباء ويصغي لأحاديثهم، فإذا ما على شفاههم كذب ونفاق ودجل، يكشفون عنه عند الختام، بكلمات صريحة تدل على ما في نفوسهم من سخط على الحياة، وثورة على الإنسانية.
كيف اذن لا يسعى الى الموت أو يتمناه؟ هكذا انا وكل إنسان يفهم الحياة، وإنها ليست لقمة تملآ أجوفة سغباً، أو ثوباً يستر بدناً عارياً. هكذا انا وكل إنسان يفهم الحياة. انها ميدان لإبداع العقول وفكر يفتش عن الحقائق، ولسان يغني بمجد العقل والعبقرية. وقلم يدافع عن العدل والخير والسلام. فإذا ما أصبح العقل في محنة، والإنسانية في بلاء وشقاء، والفكر في حجر وتضييق، فالخير اذن أن أردد ما قال النبي يوسف عليه السلام. وهذا أقل درجات اليأس، وأبسط دلائل الهروب.
ولابد في الختام أن أشير الى أني لم أقصد في البدء ان أجعل مؤلفا ذا هدف وموضوع خاص. انما جمعته –كما أشرت الى ذلك في المقدمة- من أفواه السجناء، والمجلات والكتب والجرائد، شذرات وعقوداً، لهواً خيّرا الهُ به، وأقتل الوقت المسئم، وأروح عن نفسي حين تضيق بآلامها، وتضطرم فيها نار الشوق، ويجرفها تيار الحنين الى وادي الكآبة والتفكير الحزين.
ولكني وجدتها اليوم مجموعة طيبة، تآلفت فيها الأشواك والزهور، وتجاورت فيها ذكريات الفواجع، ووميض الآمال، واللئالئ والحصى، والماس والزجاج، ونهلات ادب روية، وغمسات علم دسمة، وكلمات نصح مضيئة، ونكات هزل مسلية، وعظات جد مهذبة. فعزمت على نسخه بعد أن القيت عليه نظرة تهذيب وتشذيب، وطرح لبعض ما لم أجد فيه فائدة. وأنا ذا اتركه لمن يتولى أمر ما أخلف من آثار عسى ان يعمل على إخراجه لخير الوجود. والسلام
علي الشبيبي
كربلاء /الأثنين 3/4/1967
الناشر: محمد علي الشبيبي
السويد 15-10-2022
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]- بعد اعتقال الوالد في 9 شباط 1963 تم سحب يده -أي استلام نصف الراتب الإسمي- لحين صدور قرار المحكمة. وبعد أن صدر قرار الحكم في 22/01/1964 تم فصله من الوظيفة وإحالته على التقاعد. ولكن العائلة لم تستلم التقاعد -مصدر عيشها الوحيد- إلا في تموز 1964./الناشر محمد علي الشبيبي
[2]- كان في القلعة التي عشت فيها (96) سجينا، فلا تجد فاصلاً بين أنسان وآخر. وكُلف الجميع ان لا تزيد فرشهم على   40 سم. وعدد الغرف الكبيرة مثل هذه 4 أما الباقية فهي لا تتسع لأكثر من 4 لكن سكانها قد يصلوا الى 16 وعند التمشي لا بد من التصادم بالآكتاف. 



8
انقلاب 8 شباط 1963 الدموي/ الحلقة الرابعة 
يستذكر العراقيون يوم 8 شباط من كل عام أحداث جريمة انقلاب شباط الدموي عام 1963. حيث قام الانقلابيون باعتقال الاف الوطنيين وزجهم في السجون وتعريضهم للتعذيب والتصفيات بأبشع وسائل التعذيب الفاشية، فخسر العراق خيرة أبنائه الوطنيين. وكانت عائلتنا الصغيرة من بين آلاف العوائل العراقية التي تعرضت لحملة الانقلابيين في إرهابهم البربري.   
تناول والدي -طيب الله ثراه- بتواضع وحذر شديد بعض أحداث وتبعات هذا الانقلاب الدموي في مخطوطته (ذكريات معلم)، ولكنه حاول أن يكون حذرا وتجنب الكثير من التفاصيل والشواهد بسبب ما كان يتعرض له من مضايقات وضغوط مستمرة من الأجهزة الأمنية البعثية والعارفية ... تكللت جهودي بجمع مخطوطات الوالد (ذكريات معلم) ونقلها على الوورد ومن ثم مراجعتها وتنقيحها وإملاء الفراغات الضرورية، وطباعتها عام 2012 بعنوان (الرائد علي محمد الشبيبي/ ذكريات التنوير والمكابدة). وللأسف كان نشرها جداً محدودا لضعف إمكانياتي وعدم تواجدي في الوطن. وفي عام 2021 عرض عليّ الاستاذ فخري كريم رئيس مؤسسة دار المدى بإعادة طباعة ونشر المذكرات وفاءً منه للوالد، فوافقته شاكرا مبادرته الطيبة. وهكذا صدرت الطبعة الثانية عام 2021 من دار المدى مشكورة لهذه المبادرة الرائدة  بحلة جديدة تم فيها تنقيح الأخطاء الفنية والتقنية التي وقعت فيها الطبعة الأولى، وهي متوفرة الآن في بيت المدى في شارع المتنبي (بغداد) أو في غيرها من المكتبات التي تتعامل مع دار المدى في المدن الأخرى. سأنشر بعض ما كتبه الوالد في  -ذكريات التنوير والمكابدة- عن أحداث انقلاب شباط وتبعاته. وأدناه الحلقة الرابعة تحت عنوان "قلوب تحترق!". 
السويد/ 7 شباط 2022   
محمد علي الشبيبي 
 
 "قلوب تحترق بصمت!" 
ذات يوم وقد خرجنا من الزنزانة لقضاء الحاجة. الأمهات والآباء خلف السياج في الشارع. بعض الآباء أيضا يمتعون أنظارهم برؤية فلذات أكبادهم. يسألونهم عن حالهم وما يحتاجون. أسمع صوتا شجيا، وكلمات تعبر عن أسىً عميق. إنها أم، صوتها الهادئ يصل سمعي كلحن كمان حزين. كان رأسها يميل يمينا وشمالا مع لحن كلماتها. شُغِلتُ عن كل ما حولي. ذلك الصوت وحده كان يحز في قلبي. الله ما أقسى الإنسان مع أخيه الإنسان!
حين عدنا إلى الزنزانة، عاد الشباب إلى شؤونهم. بعضهم يلزم السكون دائما، آخرون يتحدثون، بعضهم يحب الهزل والضحك، آخرون يطالعون. أنا، ما يزال صوت تلك الأم يرن في رأسي. كدت أبكي. لكن بعد هذا بقليل بكيت شعراً. كان خلفي اثنان من فرس كربلاء، قال أحدها لرفيقه، أتذكر الشاب الأشقر "همام" قالوا عنه إنه قتل! أجابه صاحبه بالفارسية "حَرفْ نَزَنْ، إنْ بُبُاشْ!" ومعناها أسكت هذا أبوه. أدرت وجهي إليهما، وقلت ما يملك أبوه لنفسه أمرا، ولا أنتما، مصيرنا بيد القدر. وثارت أشجاني، فناديت اليراع، ليحول دموعي شعرا، فكتبت: 
بُـنَـيَّ
بُني لقد أمسـى فؤادي مقسمـا
                                   
        فعندكمـو شطر وعندي هنا شطرُ

 
وفي كل شطر يـوغـل الداء إنما

        يصارع هذا الداء في محنتي الصبرُ

 
أقـول لدهري: كفَّ يا ويك وارتدع

        وحسبك إني ليس يثنيني الذعرُ

 
ويـكفيك إنـا قد تشتت شـمـلنـا
                         وان دجـانـا غاب عن افقه بـدرُ

 
ولا تـنتظـر منا أنـينـا وادمعـاً
                 

        وانْ نـزلتْ فـالحـر أدمعه جمرُ

 
بني تـحمل ما تـلاقيه بـاسـمـاً



        فـأنت فتى فيمـا تـوارثـته حرُّ

 
ودعني بـأشـواقي أذوب وحسـرتي

        تزيـد و يذكيها من اللـوعة الفكرُ

 
 معتقل مركز شرطة كربلاء 27/04/1963 
وحين خرجنا عصرا إلى المرافق، أدخلت الورقة التي كتبت الأبيات فيها بحاشية -المنشفة- ورميتها إلى أمه وأخواته. فهن أيضا كبقية الأمهات والأخوات، يقفن خلف السياج، بنظراتهن يطمئن نفوسهن على حياتنا. كُنّ يعرفن مني وسائل إيصال ما أنظم في مثل هذا المكان. كما يعرفن كيف يحتفظن به!
وهمام، إن شبحه لا يفارقني. لو قبضوا عليه لن يرحموه أبدا. إن صدورهم تغلي حقدا ضده. سألوني عنه كثيراً. وأجيب أنتم تعلمون عنه إنه طالب كلية في بغداد، فما يدريني ماذا حدث له. قال لي أحدهم، أنت نعرف أن لا صلة لك بأية حركة عمليا، لكنك تميل إليهم. قلت، بصفة شخصية مع أفراد. معرفتي بهم كزملاء في التعليم وآخرين كانوا من تلاميذي. صلتي؟ الأصح أن يقال صلتهم. ولم تتعد إلى أمور أخرى. وأنا كما حدثتكم أني كنت  في فترة من حياتي مناضلا سياسيا وشيوعيا أيضا. ولا غرابة. ثم قلت: هل لي أن أسألك، كم هو سنك الآن؟ أجاب، وما معنى هذا؟ قلت، أجبني وسأذكر لك الغرض. أجاب اثنان وعشرون عاما. أجبته: حسبما سجلته عن نفسي باني انسحبت من الحزب عام 1947 أي أن سنك يوم انسحبت سبع سنين أو أقل. ويؤسفني إنكم - وبغض النظر عن موقفكم هذا- توجهون التهم بمقتضى السماع، وهذا أسلوب يخالف أصول العمل السياسي. استشاط غضباً فوجه لي كلمات شتائم نابية. لكن واحدا نهره، وأمره أن يغادر مكانه. بعد يوم عاد إليّ ليكمل نقاشه! وافتتح كلامه، لماذا تركت حزبكم، كما تدعي؟ قلت، إني أومن إن الخدمة للوطن عن طريق العمل السياسي يجب أن لا تحتكر، ويجب أن تمثل الأحزاب مختلف الطبقات، وتتعامل فيما بينها باحترام لتكسب الجماهير. وللجماهير الحق الأكبر، بان تختار حسب فهمها لمناهج  وسياسة تلك الأحزاب. لأن بعض الأحزاب الوطنية المتحررة، تضع برامجها لصالح الطبقة المتنفذة في قيادتها. أضرب لك مثلا، إن الحزب المؤلفة قيادته من تجار وأبناء تجار لا يمكن أبدا أن يدافع عن العمال أو الطبقة المتوسطة حتى وان تعرض لذكرهم في منهاجه كفئة لها الحق بان تدافع عن نفسها وتطالب بحقوقها. سئم صاحبي من حديثي هذا . وصاح بي، كافي عاد. يحاضر براسي. وينكر ويقول آنه مو حزبي! حقا لقد أخطأت الحديث. الحديث مع مثله خطـأ، ولزمت الصمت. وعدت أفكر بـ "همام". جاءت أمه سألتها عنه. قالت: عادت خالته بعد أن يئست من الاهتداء إليه. وا أسفي عليك يا حبيبي ثم كمن همس أحد بإذنيه، قلت لنفسي، إنه سالم بلا شك، فلو كانوا قد قبضوا عليه لوصل الخبر إلى كل منظماتهم هنا. وسكن قلبي واطمأن.
وجودنا في بناية المكتبة كيفما يكن مريح بعض الراحة. فهنا عدد قليل من الموقوفين جيئ بهم من أجل التحقيق. بعضهم لذويه مكانة فهم من الطبقة البرجوازية، ولهم فضل على آباء بعض قادة الحرس القومي، إذ هم من طلبة العلوم الدينية، الذين شجعهم العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، أن يقطنوا كربلاء، وأنا أعرف كثيرا منهم منذ كانوا في النجف. فمدينة النجف لا يمكن أن يزاحم فيها أبناء النجف القادمون من مدن الجنوب أو الفرس، وفعلا تقبلوا رأيه. وان يكن ما يزال في النجف منهم من استطاع أن يثبت في العلم والدراسة، وعلى الأكثر، هؤلاء من هم ليسوا من الفقراء المهاجرين من العمارة، لذلك حلوا في النجف واحتلوا مكانة مرموقة. كان النجفيون يحتقرون أهالي الناصرية وسوق الشيوخ والعمارة، ويسمونهم -شروكية-، الواحد شروكي أي شرقي. وأنا أعرف كثير منهم منذ كانوا في النجف.
أعود فأقول، إن بعض أفراد من الأسر الكربلائية -وخاصة العلوية- المرموقة لم يمسسهم سوء. وكان التحقيق معهم من قبل الحرس لصالحهم. أنا متأكد من ذلك والمستقبل كشاف. يبدو إن ما نسمع كل يوم ليلاً من تعذيب لبعض الذين يحقق معهم صار أمرا اعتيادياً، وصرت أنام الليل دون أن أشعر بما يقلق. همست بإذن صديق بجانبي، أنت هل تسمع -على العادة- عويل المعذبين. أجاب، لا إنهم يكمون الأفواه بأكمام تشد من الفم إلى الإذنين حتى الخلف، فلا يستطع المعذب كلاما أو صياحا! 
من (ذكريات التنوير والمكابدة) للمربي الراحل
علي محمد الشبيبي

9
انقلاب 8 شباط 1963 الدموي/ الحلقة الثالثة
يستذكر العراقيون يوم 8 شباط من كل عام أحداث جريمة انقلاب شباط الدموي عام 1963. حيث قام الانقلابيون باعتقال الاف الوطنيين وزجهم في السجون وتعريضهم للتعذيب والتصفيات بأبشع وسائل التعذيب الفاشية، فخسر العراق خيرة أبنائه الوطنيين. وكانت عائلتنا الصغيرة من بين آلاف العوائل العراقية التي تعرضت لحملة الانقلابيين في إرهابهم البربري. 
تناول والدي -طيب الله ثراه- بتواضع وحذر شديد بعض أحداث وتبعات هذا الانقلاب الدموي في مخطوطته (ذكريات معلم)، ولكنه حاول أن يكون حذرا وتجنب الكثير من التفاصيل والشواهد بسبب ما كان يتعرض له من مضايقات وضغوط مستمرة من الأجهزة الأمنية البعثية والعارفية ... تكللت جهودي بجمع مخطوطات الوالد (ذكريات معلم) ونقلها على الوورد ومن ثم مراجعتها وتنقيحها وإملاء الفراغات الضرورية، وطباعتها عام 2012 بعنوان (الرائد علي محمد الشبيبي/ ذكريات التنوير والمكابدة). وللأسف كان نشرها جداً محدودا لضعف إمكانياتي وعدم تواجدي في الوطن. وفي عام 2021 عرض عليّ الاستاذ فخري كريم رئيس مؤسسة دار المدى بإعادة طباعة ونشر المذكرات وفاءً منه للوالد، فوافقته شاكرا مبادرته الطيبة. وهكذا صدرت الطبعة الثانية عام 2021 من دار المدى مشكورة لهذه المبادرة الرائدة  بحلة جديدة تم فيها تنقيح الأخطاء الفنية والتقنية التي وقعت فيها الطبعة الأولى، وهي متوفرة الآن في بيت المدى في شارع المتنبي (بغداد) أو في غيرها من المكتبات التي تتعامل مع دار المدى في المدن الأخرى. سأنشر بعض ما كتبه الوالد في  -ذكريات التنوير والمكابدة- عن أحداث انقلاب شباط وتبعاته. 
السويد/ 7 شباط 2022 
محمد علي الشبيبي
 
وواصل الوالد كتابته عن أحداث الانقلاب:   
بين الشرطة والحرس القومي!   
بعد يومين أعادوني إلى زنزانة الشرطة –في مركز شرطة كربلاء-. أليس التحقيق مع -المجرمين- في الأصل لهم!. وبعد أيام استدعيت من قبل المفوض لطيف الجبوري، أنا والمعلم يوسف أبو طحين والمضمد صالح جاسم الـﮕرعاوي. لم يفاتحنا هذا المفوض بغير كلمة لحظة سأعود. جاءنا شرطي الشعبة المدعو هادي كان بيده سوط من أسلاك الكهرباء. بدأ بالمعلم يوسف أبو طحين، ثم صالح جاسم وهو يصرخ: كلب حرامي تأكل حق الأيتام!. واستدار نحوي. يبدو انه يستحسن صلعتي، فأدماها. مددت لأدفع الضرب المؤلم، فانخلعت الساعة بضربة، أما أصابعي فاكتسبت لونا أزرق. شرطي كاتب أنفعل من قسوة زميله، فصاح به: بس، أخجل شلك عليهم. فكف ... من المؤكد أن لطيف الجبوري هو الذي أوعز إليه بهذا. 
سألت صالح جاسم، ما معنى اتهامك بقوله "تأكل حق الأيتام" أجاب: في الأعياد يوزع المستشفى ثيابا على أبناء الفقراء في حالة ختان أبنائهم. هذا الشرطي من مراتب الأمن أراد ثلاثة ثياب لأبنائه. فقلت له أن هذه لمن يختن فقط وبأمر مدير الصحة!
عدنا وعادت حالنا في المكان المزدحم. أعلنت الإضراب عن الجلوس والنوم، وهو في الواقع تحصيل حاصل. الشباب مازالوا على لهوهم. الحق معهم، إذ انعدمت الراحة، وينتظرهم العذاب. ولكن لهوهم ومزاحهم يؤدي أحيانا إلى شجار غير مناسب. ونقلت إلى غرفة النظارة، وهي لا تتسع لأكثر من عشرة متزاحمين. بعد ليلة واحدة استدعينا في الساعة 12 ليلا إلى المكتبة العامة (المكتبات العامة والملاعب الرياضية في معظم مدن العراق تم تحويلها من اليوم الأول للانقلاب الفاشي إلى مقر للحرس القومي ومركزا للتحقيق والتعذيب / المحقق).
في اليوم الأول، وصلتنا أصوات أمهات تجمعن بباب المكتبة. علوية لها ولد، وصل إلى علمها أنه أخذ إلى المستشفى. فجاءت فاقدة الرشد. وقفت بالباب تشتمهم بلا وعي عما يمكن أن يتخذوا معها من إجراء. ولكن المسألة انتهت بعودة ابنها من مراجعة الطبيب. وخطر لي أن أستعين بسائق سيارتهم، عله يدبر لي أمر الحمام. أني أشعر بشدة الوسخ. ووعدني خيرا. قال لا تبح بهذا لأحد. قبل الفجر كن مستعد. هكذا تم كل شيء ومعي كفاح ومحمد. ونظر إليّ -في الحمام- أحد أركان مبدعي حفلة ميلاد الإمام التي ابتدعت أيام تموز لمقاومتها من عمدها السيد محسن الحكيم. قلت لأبني: ستأتينني بلوى جديدة. قال ماذا حصل. قلت هذا المعمم سيقوم بعمل ضدي أنتظر. وحكيت له السبب. هذا المعمم، له مكتبة لبيع الكتب ومن حاشية السيد محسن الحكيم. أحتفظ بمقال كتبته وقدمه للحرس بعد أن رآني في الحمام. لماذا لم يقدمه في بداية مجيئهم؟ أعتقد أنه أعتقد أيضا إنهم سيقتلونني فلا حاجة أن يشارك بدمي. فلما رآني ونظر إلي نظرة حقد، أرسل إليهم مقالتي. وبالمناسبة حين عاد حزب البعث إلى الحكم عام 1968 اعتقلوا هذا المعمم مع آخر منبري. فهل أتعظ السيد؟. 
بعد يومين أعادوني إلى مركز الشرطة. لماذا؟ لا أدري. وما مرت أيام حتى جاء حرسي يطلبني. وأعادوني إلى المكتبة. وفي الساعة الثامنة ليلا. قادوني إلى غرفة وجدت فيها حاكم التحقيق السيد "أمين كمونه" ومعاون الشعبة، وعسكري ومفوض شرطة، والفرطوسي (كاظم الفرطوسي/ المحقق).
وجه الحاكم إليّ هذا السؤال: وصل إلى مسؤولي الحرس عدد من جريدة الحضارة لك فيها مقال، بعنوان "الأذناب في المؤامرات" فمن تعني؟ قلت: (الأذناب طبعا! ولكني نشرت أكثر من مقال، إن أمكن أطلع عليه). قدم لي المقال، مكتوبا بقرطاس لا بجريدة. سألني هل تعترف أنه لك؟ قلت نعم. قال، يعنينا منه فقط مَسّكَ وتعريضك بالبعثيين والقوميين إذ قلت (المزيفين من القوميين والبعثيين ...). قلت، إن حضرتك فقيه، ولا بد انك درست العربية. إن -مِنْ- يا سيدي حرف جرٍ يفيد التبعيض والتجزأة. فإذا قلت -أكلت من الخبز- معنى هذا إني لم آكله كله، أكلت بعضه. ولو قلت -شربت من الماء- معنى هذا إني شربت بعضه أيضا. هذا يطابق تماما قولي -المزيفين من القوميين والبعثيين- أي إني أقصد -المزيفين- فقط. وهؤلاء موجودون في كل حزب وكل فئة. 
وأعجب الفرطوسي أن يسأل عن أمر تم قبل دخوله المدرسة، فطلب من المحقق أن يوجه إليّ هذا السؤال (مَنْ وكم عدد أعضاء الحزب الشيوعي في النجف أيام كان المتهم مسؤولا فيها؟).  قلت: إني انسحبت من الحزب عام 1947. البعض تجنب العمل في الحزب والتحق بحزب الأمة الاشتراكي، الذي يرأسه صالح جبر. ثم وجهت أنا هذا السؤال قلت: أنا اعرف وانتم تعرفون إن التوبة شرعا لا تقبل من المريض أو ساعة الموت. إنما تقبل ممن هو في تمام العقل والصحة! لذا أستغرب الإلحاح عليّ أنا الذي تجنبت كل عمل سياسي. بينما أحد الشيوعيين -ويعرفه الفرطوسي- قدم لهم تقريرا مفصلا عن خط المثقفين الذي هو بمسؤليته. لقد خان المشاركين له الذين يقودهم وضحى بهم من أجل سلامته. مثل هذا غير مؤتمن. إنه مستعد للخيانة كلما أستدعى ظرف من أجل أن يبقى هو! وأنا الذي لا صلة لي بأي حزب وتحتجز حريتي وتحرم مني عائلتي وفي بيتي الآن اثنا عشر نسمة بين امرأة وطفل! ردّ الحاكم، اطمئن. قريبا سيطلق سراحك.
من (ذكريات التنوير والمكابدة) للمربي الراحل
علي محمد الشبيبي

10
انقلاب 8 شباط 1963 الدموي!
يستذكر العراقيون يوم 8 شباط من كل عام أحداث جريمة انقلاب شباط الدموي عام 1963. حيث قام الانقلابيون باعتقال الاف الوطنيين وزجهم في السجون وتعريضهم للتعذيب والتصفيات بأبشع وسائل التعذيب الفاشية، فخسر العراق خيرة أبنائه الوطنيين. وكانت عائلتنا الصغيرة من بين آلاف العوائل العراقية التي تعرضت لحملة الانقلابيين في إرهابهم البربري. 
تناول والدي -طيب الله ثراه- بتواضع وحذر شديد بعض أحداث وتبعات هذا الانقلاب الدموي، ولكنه حاول أن يكون حذرا وتجنب الكثير من التفاصيل والشواهد بسبب ما كان يتعرض له من مضايقات وضغوط مستمرة من الأجهزة الأمنية البعثية والعارفية ... تكللت جهودي بجمع مخطوطات الوالد -ذكريات معلم- ونقلها على الوورد ومن ثم مراجعتها وتنقيحها وإملاء الفراغات الضرورية، وطباعتها عام 2012 بعنوان (الرائد علي محمد الشبيبي/ ذكريات التنوير والمكابدة). وللأسف كان نشرها جداً محدودا لضعف إمكانياتي وعدم تواجدي في الوطن. وفي عام 2021 عرض عليّ الاستاذ فخري كريم رئيس مؤسسة دار المدى بإعادة طباعة ونشر المذكرات وفاءً منه للوالد، فوافقته شاكرا مبادرته الطيبة. وهكذا صدرت الطبعة الثانية عام 2021 من دار المدى مشكورة لهذه المبادرة الرائدة  بحلة جديدة تم فيها تنقيح الأخطاء الفنية والتقنية التي وقعت فيها الطبعة الأولى، وهي متوفرة الآن في بيت المدى في شارع المتنبي (بغداد) أو في غيرها من المكتبات التي تتعامل مع دار المدى في المدن الأخرى. سأنشر بعض ما كتبه الوالد عن أحداث انقلاب شباط وتبعاته. 
السويد/ 7 شباط 2022 
محمد علي الشبيبي   
 
الحلقة الأولى
الحرس القومي
 .... وبعد الظهر انتهى كل شيء بانتصار القوى المتحالفة البعث العربي الاشتراكي، والقوميون العرب تساندهم كل القوى الرجعية والمشبوهة. لم يدر في خلدي أي احتمال بان إجراءات صارمة سيتخذها ألو الأمر الجدد. لكن الجو أكفهر، وساد الناس وجوم، وعلى الوجوه المنكمشة تساؤل، ماذا يا عصام؟ في العهد الملكي حدثت انقلابات كثيرة. فيسقط حكم ويتربع على كراسي الحكم حكام جدد، غالبا ما يكونون ممن مارسوا الحكم، لكن من يؤيدهم لا يصاب بسوء، الجدد يهمهم الرؤوس لا الأتباع ولا الأذناب. وحين تفجرت ثورة 14 تموز، سمينا العهد الملكي ورجاله بالعهد المباد. 
فماذا سنرى من الحكام الاشتراكيين؟ هل سيحترق الأخضر باليابس! صباح السبت 9 شباط قبيل دوام الدوائر، سيارات الشرطة تجوب الشوارع. تحمل بعض رجال شرطة الأمن. وطُرقت الباب، إنهم من شرطة الأمن.
- نادِ محمد!
- ولماذا؟
- إنه شيوعي!
أيقظته من النوم، وذهبوا به. في ذمة الله يا ولدي! إذن ليس المقصود عبد الكريم قاسم وحده. وعلا نحيب أمه وأخواته. مازال في الصف الخامس الإعدادي. ومادام الأمر أن الفئات السياسية سلكت نهجا جديدا، فماذا سنرى في قابل الأيام. والثوار اليوم هم قادة الذين خاضوا انتخابات نقابة المعلمين بأسلوب يتنافى والديمقراطية وحقوق الإنسان معاً. بل يتنافى مع مصلحة الأمة العربية  إذ هي بحاجة إلى التجمع والتكتل، من أجل صد العدوان الامبريالي وإسرائيل التي استولت على فلسطين. هذه القوى كلها لماذا لا تتوحد من أجل الهدف الذي تنادي به كل القوى السياسية في كل البلاد العربية، ومنها العراق. إذا اُحتكِر العمل السياسي لرأي واحد وفئة واحدة، فقل على الأرض السلام!
كنا في قلق شديد على مصير ولدي همام في بغداد. كما كان عليّ الالتحاق بوظيفتي في الخالص. ودعت أهلي وغادرت المنزل. معي خالة الأولاد لتبحث عن ولدي همام في بغداد. انقباض ابني همام إذن وتحسس قلبه كان نابعا من وعيه، وقد وقع!. عند أول نقطة سيطرة اُوقفت السيارة، يستفسر من ركابها لَمَ يسافر وإلى أين؟. معاون الشرطة صاحب علوان، سألني. هات هويتك، عندما أجبته معلم في قضاء الخالص. حين أبرزتها، قال: هوية جديدة من مسؤولي الحكم الجديد؟ قلت: أجددها حين أصل، ألم أقل إني معلم في قضاء الخالص! وقبل أن أركب السيارة ناداني ثانية، بلهجة عكس الأولى، تعال، أنت المعلم! تعال. عدت أجاب: إن الأخ الحرس القومي (الحرس القومي مليشيات الانقلابيين) أمر أن أسلمك إلى الشرطة. بعد فترة أكثر من شهر علمت أن اسم هذا الحرس القومي هو "مهدي الغانم" وهو معلم عين هذا العام، أخوه الأكبر يختلف عنه.
وحضرت سيارة لهذا الغرض. إن تصرفات الشرطة مضحكة، تدل على عقلية فجة، وحقد لا مبرر له. الشرطي الذي جاء بسيارة ليستلمني، أخذ طريقا عجيبا، وكأنه قام بعرضٍ اُمر أن يقوم به. فبدلا من سلوك الطريق الذي وجدني بنظارة -الأخوين- الشرطي صاحب علوان والمعلم مهدي الغانم، إنه قام بجولة، دار فيها عدة شوارع. من شارع العباس، إلى شارع "أبو الفهد" ثم شارع باب قبلة الحسين، ومنه إلى شارع الذي يوصل إلى حي الحسين، ومن حي الحسين إلى شارع المستشفى، وإلى بناية المحافظة والشرطة! بينما كان شارع العباس يؤدي مباشرة إلى بناية المحافظة ومركز الشرطة، ولا داعي لهذه الدورة الاستعراضية. ربما كان القصد من هذا الترهيب لا أكثر! يبدو أن هذا الشرطي السائق قد سمع من قراء المنابر الحسينية، إن جنود بني أمية قد طافوا بعوائل الحسين ومن أستشهد معه في شوارع الكوفة، وشوارع الشام أيضا بعد وصولهم إليها، يشهرون بهم كسبايا، خارجين على حكم السلطان. لا بأس. لقد شاهدني بعض الذين أعرفهم ويعرفونني. فوقفوا باكتئاب وهزوا رؤوسهم أسفا. وزجني بموقف السراي. كان الموقف قد ضاق بمن فيه، بينما تدفع الشرطة بالمزيد. إن الموقف -لو أنصف المسؤولون- إذا لم يقصد إيذاء الموقوفين لا يسع أكثر من عشرة. 
جن الليل، وتقدم بعض الموقوفين ليضعوا حلا لمسألة النوم. عدد المعتقلين تجاوز110، فما هو الحل؟ قال واحد منا: ينام عشرة عشرين دقيقة فقط ممن أدركهم النعاس. رد الآخر: الأحسن بالاقتراع. وتساءل آخر: حسنا وإذا وجد بعضهم نفسه غير محتاج للنوم في هذه اللحظة، ماذا يفعل؟ وأشتد اللغط. صاح أحد المحترمين، لا قرعة ولا هم يحزنون مع هذا العدد. الموقف هذا لم يسعكم إيقاظا كيف يسعكم نياماً؟ أفضل الحلول، من أدركه النعاس يدبر أمره، وعلى الله التكلان!       
وبعد يوم من اعتقالنا  اُخذ ولدي كفاح. جاء يشتري حاجات الغذاء، فأشار عبد الله أسد إلى الأمن فاقتنصوه بملابس الراحة، وزاد النواح من الأم والأخوات. لا بأس المصيبة إذا عمت هانت! هكذا يقال. ولكن الأمهات؟ الأمهات قلوبهن رقيقة... وعبد الله أسد بقال، حانوته يعود إلى البيت الذي أسكنه، والشائع عند جميع سكان الحارة إنه وكيل أمن. فلا غرابة فهو فارسي قبل المهمة ليتقي شر الشرطة على أمثاله من الأجانب. ومع ذلك فالمستقبل يجد فيه جزاء نذالته. 
في ظهيرة اليوم الثالث أو الرابع من اعتقالنا، فوجئنا بشرطي وواحد من الحرس القومي يضربون باب الزنزانة الحديدي بأيديهم وكأنهم ينبهون نياما غطوا في سباتٍ عميق، وساد صمت وسكون. هما -شرطي وحرس قومي- يصرخان بصوت عالٍ: انتبهوا جميعا. احزموا حاجاتكم، سترحلون إلى مدينة أخرى! حاول بعضهم الاستفسار، لكنهما ذهبا بعد هذا التبليغ الموجز. 
بعض الموقوفين من الشباب لم يبدُ عليهم اكتراث، أو تذمر من وضعنا الذي نحن فيه. كانوا لا يكفون عن الهزل والدعابة، وإرسال النكات كأنهم في عيد، أو على مسرح. وهب الجميع يجمعون حاجياتهم، وحدث ضجيج، وجدل، بسبب جمع الفراش والحاجات. بعض البسطاء كانوا منذ حلوا تعروهم كآبة، أهلوهم لا يعلمون عنهم شيئا، هم غرباء، وهم هنا بحكم الوظيفة وفقراء أيضا. ونهض المدرس موسى الكرباسي يخاطب الحرس القومي: أخي رجاءً أمهلوني أبحث عن حذائي، أم أخرج حافيا؟ ورد عليه الحرسي وكان أحد تلامذته: نعم أخرج حافيا! هذه هي إذن أخلاقهم وهذا هو وفاء التلميذ لأستاذه! ضج الجميع بالضحك. وأخذ الهازلون بالتعليقات. وقلدوا المدرس بندائه، وحرفوا وبدلوا ما شاء لهم أسلوبهم بالنكتة والهزل. وفي الخارج وصل خبر ترحيلنا لعوائلنا المتجمعة خارج مركز الشرطة والتي جاءت وهي تحمل طعام الغداء وما نحتاجه من مواد أخرى ضرورية ولتقصي أخبارنا. قابلت عوائلنا قرار الترحيل بالاستنكار والغضب الشديد. وتعالى صراخ الأطفال من الأبناء والأشقاء. وأمام غضب العوائل تراجع الحرس القومي عن قرار الترحيل، لتهدئة العوائل!
وعندما جن الليل مع تكاثر أعدادنا في الموقف واشتداد أزمة النوم والجميع قد أدركهم النعاس والتعب بسبب الازدحام وعدم القدرة على النوم. فوجئنا بعد منتصف الليل مجددا بضرب هيستيري على باب الزنزانة الحديدية. وابلغنا الحرسي والشرطي بالتهيؤ وجمع حاجياتنا للترحيل! ونهض الجميع وبعضهم أنهكه النعاس وأتعبه الضيق بسبب ما يعانيه من مشاكل صحية كالربو وغيرها. الكل يبحث عن حاجياته، ويتساءل هل جميعنا سنرحل أم بعضنا فقط، ومن هم المرحلون؟. هكذا جمع الموقوفون حاجاتهم. ووقف كل منهم إلا العاجزين والمرضى. ومر أكثر من ساعة، جاء حرسي وشرطي، عادوا أيضا يضربون باب الزنزانة الحديدي، استعدوا وسنعود! طال الانتظار، والموقوفون بانتظار، وفي انزعاج. وحانت اللحظة الحاسمة. وقف ألحرسي وأخذ ينادي بأسماء، لم يتجاوز العدد خمسة عشر موقوفا، كان منهم إبنايَ كفاح ومحمد، ولا نعلم إلى أين سيتم نقلهم؟. فتحت باب الزنزانة ورحنا نودعهم بلهفة واكتئاب، لا غرابة. نحن لا نعلم ما تخبئ الأقدار، إن هؤلاء الحرس يعاملوننا وكأننا قتلة! ونام بعض وسهر آخرون يتحرقون. إنها مأساة الشعب العراقي ومحنة العوائل. وعند الصباح جيئ بفوج من المعتقلين عددهم أربعون، بين معلم ومدرس من النجف وغير النجف، أربعون حلوا مكان خمسة عشر، يا للإنسانية! الإنسان يمتاز عن الحيوان بفكر. ولكننا هنا نزدري بذوي الفكر، أو أن الحكام يريدون أن نقلد أفكارهم، هي وحدها الصائبة! 
 
من (ذكريات التنوير والمكابدة) للمربي الراحل
علي محمد الشبيبي

13
14 شباط يوم الشهيد الشيوعي يوم شهداء الشعب!
في فجر 14 و15 شباط من عام 1949 أقدمت السلطة الملكية على اعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف (فهد) -سكرتير الحزب-، وعضوي المكتب السياسي زكي محمد بسيم (حازم) وحسين الشيخ محمد الشبيبي (صارم) واعدم معهما يهودا صديق شيوعي قيادي. لقد أعادت السلطة الملكية محاكمة قادة الحزب (سكرتيره -فهد- ورفيقيه عضوي المكتب السياسي -صارم وحازم-) بحجة قيادة الحزب من معتقلهم في سجن الكوت. وصدر قرار حكم الاعدام عليهما يوم 10 شباط 1949. ودفع خوف السلطة الملكية من الإدانة العالمية وضغط الرأي العام العراقي والدولي لإلغاء هذه الأحكام الجائرة والتي تتنافى مع مبادئ حقوق الإنسان فسارعت في تنفيذ الحكم بعد اربعة أيام من صدوره ودون الاعلان عنه إلا بعد تنفيذ الأحكام!
نفذ الطغاة الاعدام بسكرتير الحزب الشهيد يوسف سلمان يوسف (فهد) فجر 14 شباط في ساحة المتحف، كذلك نفذ الاعدام فجر نفس اليوم بعضو المكتب السياسي الشهيد زكي محمد بسيم (حازم) في الباب الشرقي. وفجر 15 شباط نفذ الاعدام بالشهيد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي (صارم) في باب المعظم، وكذلك بالشهيد يهودا صديق.
لقد أخفت حكومة نوري السعيد خبر تنفيذ حكم الإعدام وأحاطته بسرية تامة. ماعدا عائلة الشهيد حسين الشبيبي (صارم) حصلت على فرصة لمقابلة الشهيد دون أن تعرف أن هذا اللقاء هو الأخير وإن ساعة اللقاء هذه هي من الساعات الأخيرة المعدودة من حياة الشهيد! وكتب والدي -شقيق الشهيد الأكبر- في مذكراته عن ذلك:
[أمي لم تهتدِ إلى مكان احتجازه إلا ليلة إعدامه! لكنهم أعلموا ابن عمها الشيخ باقر الشبيبي تلفونياً قبل ظهر يوم الاثنين 14 شباط بعبارة مقتضبة: إن كان له أحد يريد مواجهته، فليتوجه إلى الموقف العسكري في أبي غريب!. وسارعت والدته تصحبها زوجته وأمها لمقابلته. أخذ يملي على سمعها وصيته. قولي للشيخ محمد رضا الشبيبي، ولأبي، ليس لديهم ما يدينونني به غير شهادة سافل واحد [1]! صاح الضابط الذي يجلس خلف منضدة، يسجل ما ينطق به هو أو من يقابله: رجاءً لا تتعرض لأي موضوع غير أن تودع أمك!. ردّ عليه الشهيد: لا بأس أصدروا حكماً آخر بالإعدام! فصاحت الأم يا ويلتاه! لكنه طالبها بالصبر، وأستمر: جاؤني بمعمم من شاكلتهم، لأشهد على يديه (أن لا اله إلا الله وان محمداً رسول الله..الخ) فطردته، إني من بيت رجاله أهل دين وأدب، لا حاجة لي بمثلك. صاح الضابط ثانية يعترض. وأكمل: أقيموا لي فاتحة! لم تعد أمنا تعي من الأمر شيئاً وهي تشهد السلاسل تربط يديه إلى الأرض. وانتهت الدقائق العشر المخصصة لزيارته، وعادت إلى بيت ابن عمها. لم تغمض لها عين، حتى إذا أشرقت الشمس، رن جرس التلفون يعلن للشيخ: أن تهيأوا لاستلام جثمانه!
هل استلموه؟ كلا! الشرطة وضعوه بسياراتهم، أرغموا العائلة أن تسلك من بغداد إلى كربلاء، وتوجهوا هم به إلى طريق الحلة!. ودفن عند حلول الظلام، وأرسلوا من يدلهم على القبر! لقد ودع الشعر بآخر قصيدة "تحية أيار" منذراً عبيد الاستعمار بقوله:
سننسف أركان ما شيدوا
                 
       فلا العبد يبقى ولا السيدُ
حسبه، وحسبنا، إننا لم ولن نتراجع أو نتخاذل أمام عسفهم واضطهادهم. وإنّا نفخر إننا قدمناه قربانا من أجل الوطن والشعب المضطهد المغلوب على أمره. ورحت أرثيه أمام أبي وهو ينشج، ويقول: سميته يا أبا عبد الله باسمك، وها هو  قد لقى الشهادة صابراً محتسباً.)
ارتقى الابطال البواسل منصة الاعدام وهم يهتفون متحدين جلاديهم العملاء. فالشهيد فهد هتف متحديا الجلادين بمقولته الخالدة (الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق)، بينما خاطب الشهيد حازم جلاديه بقوله (لو عدت للحياة مرة ثانية لما اخترت غير هذا الطريق)، أما الشهيد حسين الشبيبي (صارم) وحسب ما رواه اخ الشهيد الاصغر (محمد علي)  فقد  شاهد إعدام شقيقه بعينيه، حيث أقام ليلة إعدامه في بيت رفاق مطلاً على ساحة باب المعظم، وسمعه وهو يتقدم بخطى متزنة نحو المشنقة، ينشد مطلع قصيدة أستاذه الجواهري:
أتعلم أم أنت لا تعلم       بأن جراح الضحايا فم
ولما اعتلى المشنقة قال ما معناه:
من المناسبة الطيبة إن منصة الإعدام نصبت لي في ذات المكان الذي كنت أثير منه المظاهرات الوطنية!
رثى والدي (شقيق الشهيد حسين) بعدة قصائد. وكانت قصيدته (أحباءنا) الآولى بتاريخ 17 شباط 1949 وهو يحتضن والده المنكوب وينشد مرتجلاً أبياتها. وأدناه هذه القصيدة (أحباءنا):
أحِباءَنا
أحباءنا طالتْ علينا ليالينا       لنلقاكموا وأسـتنزف الوجدُ ما فينا
رجونا لكم عمراً مديداً نراكموا       به فوق عرش النصر يزهو رياحينا
صداكم بهذا الجو مازال داويا       يجلجلُ في الآفاقِ للحقِ يدعونا
لَشُلتْ يدُ الباغي عليكم سطا بها       ولابدّ للثاراتِ يوماً توافينا
*                                                  *                                *
علينا لكم دينٌ سنوفيه في غدٍ       فإن الوفاءَ الحرَّ يحسبُه دينا
مشيتم أمام الركبِ أخلص قادةٍ       ومارستموا دربَ الكفاحِ أفانينا
أذلَ الغـزاةُ الطامعون بلادنا       وقد أوغلتْ بالفتكِ فينا أعادينا
فأشرقَ نورُ الفجرِ منكـم مبشراً       بأنَّ على سوحِ الجهادِ أمانينا
ورحتم تشدون الصفوفَ لبعضها       لدك حصون البغي بالوعي تحدونا
وهالَ العدى ما أنتمو فيه من حجىً       يشعُ على الدنيـا لكشف مآسينا
*                                 *                                 *
لئن رفعوكم في المشانقِ عالياً       فقد كنتموا فوقا وما كنتموا دونا
وكنتم عليها كالنجومِ تألقتْ       وعانقتموها يا أباة ميامينا
والقيتموا درساً يعلمنا الإبا       ويرشدنا أن لا تسالمَ  أيادينا
عدواً أبى إلّا التمادي بغيّه       وبثّ الشِقا والبؤسِ في أرضِ وادينا
*                                *                                 *
فـخـــرنـا بـكم حـتى كأنَّ مصــابـكـم       تباشـير فــــجر لاح للمســتضــامينـا
نـعم: حيث يــوم الــظلم أصبح دانيـا       و من ذاك الاسـتعمار أصبح مجنونا
و إن عبـيد الـعجـل قـــد حـان حينهم       فـهـاجـوا. فسـاداً في الـبلادِ يعيثــونا
*                                 *                                 *
سيخضرّعود النصر من عزماتكم       ويُعشبُ وادينا وتزهو مراعينا[1]
ويجني الثمار الشعب بعد إفتقاره       ويسحق بالرجلين تلك الثعابينا
ونُعلي تماثيلاً لكم وسط سـوحها       تفوح حواشيها اقاحا  ونسرينا
*                                 *                                 *
عليّ عزيز يا حسين بأن أرى       نوادبكَ النسوانِ أو نحن باكينا
وأنتَ الـذي مازال للعين ماثلاً       تزمجر يوم الروع لا تعرف اللينا
أصالة رأي في صلابة ثائرٍ       على خصمه يدري بما سوف يأتونا
*                                 *                                *
تمنيتُ ذاك الحفل تخطبنا به       لتسمعنا الآن الجماهير واعونا
جماهير ثكلى راعها الخطبُ فجأة       وأخرسها جور العتاة  المعادينا
أخي قمْ إلينا وأخطب الجمع حاشـداً       إذا قلتَ فيه الحق  ردّد آمينا

14
التغيير والدولة العميقة‪!
منذ اندلاع الحراك الشعبي في الأول من تشرين الأول 2019 حتى بدأت تتكشف لنا قوة وتمكن الدولة العميقة وسيطرتها على مفاصل الدولة وقراراتها، حتى أصبحت هي الدولة البديلة وصاحبة القرار تقريباً!. لقد بدأ تشكل الدولة العميقة وأذرعها الضاربة (مدنية أو عسكرية) مع بداية الاحتلال مرافقاً إعادة بناء مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والمخابراتية التي حلّها الاحتلال بقرار غبي كان يراد منه تحقيق الفوضى الخلاقة. وحدث ذلك تحت أعين وعلم الأمريكان. وكخطوة أولى لبناء الدولة العميقة قامت هذه الأذرع في تصفية مختلف الكوادر (عسكرية ومدنية) بحجة انهم بعثيون! وحاولوا خلط الأوراق بتوجيه اتهام التصفيات الى جهات أخرى (كالأمريكان وإسرائيل)، وهذا لحد ما صحيح ولكن لا يعفي مطلقاً أذرع الدولة العميقة من حملة التصفيات لا بل لها حصة الأسد وخاصة في تصفية الكوادر العسكرية وحتى العلمية بحجة إنتمائها للبعث أو أنها قدمت له خدمات علمية، وكانت الدولة المحتلة -امريكا- والمسؤولة الأولى عن أمن المواطن العراقي تتخذ موقفاً متفرجا مما يجري من اغتيالات وتصفيات وتغييب لا بل شاركت شركاتها وقواتها الأمنية ببعض التصفيات العشوائية! وتتحمل دولة الاحتلال المسؤولية الأخلاقية والقانونية في ذلك‪.
لقد برزت قدرات الدولة العميقة اليوم -مع بدئ الحراك الشعبي- في بعض القرارات الأمنية والعسكرية المهمة وحتى القضائية. بل ان بعض المليشيات تمردت ورفضت الالتزام بقرارات القائد العام للقوات المسلحة! وطغى تأثير الدولة العميقة الفض على مجمل القرارات الأمنية التي رافقت الانتفاضة. فتم سحب السلاح من الاجهزة الأمنية والعسكرية الرسمية فأعطت لقرارها هذا الصبغة الرسمية والمبررات الواهية وأصبح شباب الانتفاضة تحت رحمة رصاص -الطرف الثالث-  لتقتل ما تشاء من المنتفضين او لتختطفهم او تغتالهم وحتى الاعتقالات لم تكن وفق الأصول القانونية وكانت من عدة جهات بعضها مجهول! وكل هذا يتم تحت عنوان (الطرف الثالث). أضف الى ذلك صدور قرارات أمنية وعسكرية هامة تتعلق بالأمن الوطني الهدف منها زيادة تمكين (الدولة العميقة) في السيطرة، ومن هذه القرارات نقل الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي من موقعه الأمني المهم الى دائرة الأمرة، وأخيراً جاء قرار تسليم الفريق الركن تحسين العبودي (ابو منتظر الحسيني) مسؤولية أمن المنطقة الخضراء وتم ذلك بأوامر مباشرة من قائد فيلق القدس قاسم سليماني ضمن مخطط يستهدف ترويع البعثات الدبلوماسية في البلاد (حسب ما ذكرته الحرة). وحتى قرار نقل السفاح جميل الشمري الى الناصرية قبل أيام من مجزرة الناصرية كان مخطط له للقيام بمجزرته الدموية باسم الجيش الذي اصبح مسلوب الإرادة والقرار‪. وقد لاحظ الجميع كيف كانت القوى الأمنية والعسكرية تقف بدون أي سلاح حاجزاً بين المحتجين السلميين والطرف الثالث الذي كان يوجه رصاصه وقنابله المسيلة للدموع ورصاص القناصين الى المحتجين، وكانت الأجهزة الأمنية عاجزة عن عمل أي شيء حتى أنهم تعرضوا أحيانا لأذى الطرف الثالث وتلقوا الإسعاف من قبل المحتجين، وتكللت هذه النشاطات الإرهابية المشبوهة للدولة العميقة ضد المحتجين بمجزرة السنك واقتحامها من قبل عصابات دون أن تبادر الأجهزة الأمنية بأي فعل لحماية المحتجين لا بل أن هذه العصابات اخترقت كل السيطرات بسهولة لتنفذ مجزرة السنك!.
أما القضاء هو الآخر وقع تحت سطوة الاحزاب الفاسدة وقواها المليشياوية، وهذا واضح من الأحكام القرقوشية التي أصدرها القضاء بحق بعض الفاسدين وملفات فسادهم خلال 16 سنة من حكم الأحزاب الفاسدة، وعجزه لغاية اليوم عن كشف جرائم القتل والخطف والاغتيال والمجازر بحق الناشطين.
من خلال هذا الاستعراض البسيط أريد أن أبين للقارئ الكريم ان عملية الإصلاح والتغيير سوف لن تتم بسهولة لأنها ستصطدم بإرادة الدولة العميقة وستكلف الشعب بحراً من الدماء، فالأحزاب الاسلامية (الشيعية بالذات) والتابعة لولاية الفقيه (هكذا صرح بعض قادتها متفاخراً بانتمائه) هي أحزاب مسيرة وليست مخيرة في قراراتها، وتنفذ أوامر قاسم سليماني دون نقاش او اعتبار لمصالح الشعب العراقي، وتضع مصلحة ايران وولاية الفقيه قبل مصلحة العراق،‪ وإيران وأذرعها في العراق لن تستسلم بسهولة ولن تتنازل عن مكاسبها في العراق، فالعراق تعتبره خط الدفاع الاول عن ايران، وهو سوق تصريف بضاعتها الرديئة، ومصدر لتبييض أموالها وتخفيف الحصار الاقتصادي عنها، وهو الجسر الذي عبره تتواصل فيه مع سورية وحزب الله وتمده بالأسلحة والصواريخ.
‪وقد كشفت أحداث حرق السفارة الامريكية قوة التغلغل الايراني الوقح في المفاصل الأمنية والعسكرية الرسمية ودور الدولة العميقة الذي بات مفضوحاً، وهذا ما سهل الدخول السلس لقوى الحشد الشعبي الى الوصول للسفارة وحرقها تحت مرآى وتفاهم القوى الأمنية الرسمية! وما يزيد المسؤولية على الجهات الرسمية مشاركة فالح الفياض وهادي العامري وبعض قيادات الحشد الرسمية في مقدمة الحشد الذي قام بحرق السفارة. وهذا يعكس العقلية المتخلفة وعدم الشعور بالمسؤولية الوطنية وضعف الانضباط والغوغائية لقيادات الحشد وكان المفروض على هذه القيادات الرسمية والمليشياوية ان تلتزم باحترام القانون والأعراف الدولية.
بدأت التظاهرات بمطالب إصلاحية، وتطور المطلب بعد مواجهة السلطات الأمنية لهذه التظاهرات بالرصاص الحي وسقوط مئات الشهداء الى المطالبة بالتغيير الجذري أي بتغيير المنظومة السياسية ورفض أي مشاركة للأحزاب الفاسدة. وأجبرت الاحتجاجات رئيس الوزراء على الاستقالة وهكذا حققت الاحتجاجات الخطوة الأولى في طريق التغيير. وبدأ البحث عن رئيس وزراء يترأس الحكومة لفترة محددة (فترة انتقالية) والتهيئة لانتخابات جديدة، وفق شروط وخطة طريق طرحتها ساحة التحرير!هذه الفترة التي سيرأسها رئيس وزراء موقت يجب أن تكون أشبه بفترة  نقاهة للتحرر من تبعات وتأثيرات الدولة العميقة هذا إذا أريد النجاح لعملية التغيير دون إرتداد، ولهذه الفترة مهام، الهدف منها فرض حالة من النقاهة المجتمعية وسيادة القانون والقضاء العادل ... أي القضاء على كل تأثيرات الدولة العميقة ... ويجب ان تحقق النقاهة المجتمعية مهامها والتي لا تقبل التأجيل وان تسبق أي انتخابات نيابية. بدون قيامها بهذه المهام فإن أي انتخابات ستعيد العراق الى المربع الأول! وهذه المهام هي:
‪1- التحقيق العادل والجدي في كل الجرائم والانتهاكات التي تم اقترافها منذ السقوط، وفي مقدمتها جرائم القتل والخطف والتعذيب والاعتقال بحق المتظاهرين والناشطين، وان تكون المحاكمات عادلة وعلنية.
2-  تحريك ملفات الفساد ومنع سفر المسؤولين وتجميد أموالهم المنقولة وغير المنقولة لحين براءتهم، وتقديم رؤوس الفساد لمحاكم علنية عادلة، والعمل محليا ودولياً على استعادة ما يمكن استعادته من أموال مسروقة وفاسدين هاربين، وان تكون من قرارات هذه المحاكم منع الفاسدين من ممارسة السياسة وتسلم مناصب عليا‪.
‪3-  التحقيق بدور الاحزاب الفاسدة في الفساد المالي والإداري، والعمل على استعادة الأموال والعقارات وكل الأملاك المخالفة للقانون وللعقل، ومنعها كأحزاب فاسدة وكونها مخربة من ممارسة النشاط السياسي.
4- ان يتم العمل بجدية وسرعة في إنهاء تواجد المليشيات وسحب السلاح من أفرادها وتقديم دراسة في كيفية دمجها في الجيش وان يتم بناء الجيش ومؤسساته على اساس وطني بعيدا عن الطائفية والمحاصصة والإثنية.
5- سحب السلاح من أفراد الشعب‪.
6-  إعادة دراسة ما شرع من قوانين تتعلق بقانون الانتخابات، ومفوضية الانتخابات، وقانون الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني. وأن تعرض جميع القوانين البديلة في الصحافة ووسائل الاعلام وان تشكل لجان خاصة من أجل اقرار البدائل الجيدة التي تخدم القضية الوطنية في بناء دولة مدنية تسودها العدالة الاجتماعية‪.
أخيراً لا بد ان نفهم أن أي حكومة تصريف اعمال إذا لم تعمل بجدية وحرص وجرأة على تنفيذ النقاط الستة أعلاه بصورة متوازية قبل ان تجري الانتخابات فأنها بذلك تتجرع سم الانتحار وتعطي فرصة للفاسدين والعملاء الى العودة بنا الى ما قبل 1 تشرين الأول 2019. هذه الخطوات الستة ضرورية لتقليم أظافر الأحزاب الفاسدة ومافيات الفساد وعصاباتها من مليشيات منفلتة، وتحد من تأثيراتها وإرهابها للمواطنين في اختيار ممثليهم في أي انتخابات. لذلك يجب ان تكون المرحلة الانتقالية لرئيس الوزراء القادم كافية في تنفيذ هذه المهمات الستة قبل الشروع بأي انتخابات، لأن التسرع بالانتخابات سيقودنا الى الفشل وعودة أحزاب الفساد.
‪محمد علي الشبيبي
‪السويد/العراق المنتفض
‪02-01-2020
 
 

15
المنبر الحر / وديع الغريب*
« في: 20:02 15/10/2019  »



وديع الغريب*


المربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997
فتىً في ربيع العمر. رأيته مرة قبل خمس سنين، وكنت أعهده فتى صموتاً مع رفاقه، يغرق بالتفكير، ويحدق بعينيه إلى جهة من الجهات، وعندما يحول نظره إلى جهة أخرى، يعقب التفاتته بحسرة. لا يكلم صحبه إلا بين آونة وأخرى، وأن ضحك فضحكة قصيرة هادئة.
التقيت به مرة في حياتي. وحاولت لقائه ثانية فما أفلحت، حتى خرجت ذات مرة إلى البرية عصر يوم، لاح لي قبر أبيض جديد من قبور ثلاثة. وقد جلس في ظلالهن رجل أبصرته من بعيد، كأنه شيخ هرم، دنوت منه فوجدته فتى قد أسدل شعر رأسه على كتفيه، له لحية طويلة. أما ثيابه فوافية جداً كهيأة العابد السائح. وحدّق عينيه إلى جهة الشمس، وقد أوشكت على المغيب. كان واضعاً يده اليمنى على اليسرى، مادا رجليه بهيأة المتعب. وصلت نحوه وسلمت عليه. وبعد قليل ألتفت إليّ، وبلهجة عذبة –ردّ عليّ- السلام. جلست وأنا أحدق في ملامح وجهه، وكأني أتفحص سريرته، إن كان عاشقاً ولهانَ، أو تائهاً حيرانَ، أو غريباً نازحاً. ولقد وجدت فيه البشر والكآبة، والرقة والصلابة، والحزن والفرح.
واصلت النظر إليه، وكأني أدركت، أنه هو، هو ذلك الفتى الذي رأيته قبل خمس سنين. من نظراته وسكونه. كأنه –وديع الغريب- وسوف لن أعود حتى أعرف عنه شيئاً. وأظنه صاحبي، وبي شوق لأن أراه وأكلمه.
بعد قليل سألته: الوقت شديد الحر يا أخي! فما الذي يدعوك تجلس بين القبور؟ ألست من أهل هذه البلاد؟ إن لم تكن بلدك هذه فهي بلدي، فقم معي وروح عن نفسك. فما أرى صالحا أن تحتمل الحرّ والوحشة!
حوّل وجهه إلي، وقال: لا يا أخي. لا تقل هذا. الغريب غريب في كل مكان. إذا كان مجيئك ورواحك لأي بلد عن غير إرادتك، فأنت غريب! لا تقل روح نفسك، من الوحشة. فإنما جئت إلى هنا لأروح على نفسي ممن استوحشت من مجالستهم. وقد سئمت المقام بين الناس. ولكن؟ ما الذي أعمل وقد جئت مكرهاً. أنا غريب بين أهلي، غريب بين الناس، ولست أدري متى أعود إلى موطني؟ وأفارق هذه الغربة. يا أخي أنت فتحت لي الكلام، وأنا مليء بالآلام، مالي من أجالسه، وأطرح أمامه همومي.
وجدت نفسي غريباً سجيناً، قد ضمت جسدي دار يَرن في زواياها ومنعطفاتها وسمائها صدى خرافات العجائز، مع أناس انطوت في صدورهم قلوب الإنسان القديم، وامتلأت أدمغتهم بالمخاوف التي صورها لنفسه، وتعبد من أجلها. وانقادوا مثلما ينقاد ذوو الشهوات خلف شهواتهم كحيوان أعجم!ّ والتذوا بها مثلما يلتذ النائم بالحلم الجميل، وعانقت أرواحهم أشباح الأجيال الغابرة، مثلما يعانق الصليب خشبة المشنقة!
من يوم سقطت قطرة في بحر الحياة، واختلطت بمياهه، عرفت نفسي غريباً. ولم أتعود تلك الغربة كما تعود غيري، ولكني أتذكر أني كنت في فترة من حياتي طروباً لعوباً. لا أعرف الهموم والمتاعب، أمرح مع الأطفال، وأشاطرهم في لهوهم ومرحهم. وما بلغت سن الشباب حتى رأيت هؤلاء، ينهونني عما كنت افعله زمن الطفولة، وجرياً على عاداتهم، وسنة الآداب والثقافة امتثلت أوامرهم، واندفعوا يحثونني على متابعة وتطبيق ارائهم وأفعالهم وآدابهم، غير أني كنت أستغرب منهم كل ما أسمع.
ومضى زمن اشتغلت فيه حسب أصول مبادئهم، وسرت على عاداتهم. مقلداً إياهم تقليداً أعمى، دون أن أعي منه أمراً إلا قليلاً، كان مغروساً بفكري. قبل أن تلتقيني السَكِينة بين أيديهم. وكأن هذه علمتني أن اُمحص ما يسيرون عليه. فاعتزلت بعض عاداتهم وطفقت أبحث عن مصادرها، وتطبيقها حسب اصولها، فرأيتهم يحيدونني عما أريد. فطوراً يعتبرونني كسولاً، وطوراً جاهلاً غير ممرن، فيحاولون تدريبي وفق ما يريدون! وتارة يدعونني متمرداً. غير أنني التزمت جانب الصمت، لأني عرفت أنهم لا يرتضون الصراحة في الرأي. يرفضون حرية الفكر. وأن أدّعوا أنها اساس مبادئهم، ومنذ ذاك صرت أندب عهد الطفولة، وأبكيها!
أنا أحب الطفولة وأبغضها في آن واحد! أبغضها لأني ذو مواهب سَنيّة عالية، وقد ضاعت مواهبي، وضويقت بسببها حتى ضاعت –لصغر سني إذ ذاك-. وأحبها لأني أجد فيها الحرية التامة. كنت أرى نفسي غير مقيد بقيود الشرائع والعادات! فحبذا الطفولة وآه على ما مضى!
عشت معهم هذا العمر، وكلما ازدادوا تعليماً ازددت تمرداً، فهل ترغب أن أنقل لك بعض ما يعاملوني به؟ إنهم لا يفكرون بغير ما خطته لهم الأيدي الدارسة، وطالما حاسبوني وطلبوا مني أن أسير كما يسير أخداني وأقراني. ولكني أعرف بأقراني منهم، فأبقى متحيراً بين أن أظهر لهم ما بنفوس أصحابي فأخون ذمة الصداقة، وأبقى لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، أو أبقى على فراش الألم.
ثم تنفس وزفر زفرة حادة، وغارت عيناه، وحول وجهه عني إلى جهة أخرى، واضعاً يده اليمنى على صدره، وشخص ببصره نحو العلا، وكأنما لاحت لعينيه بارقة أمل الحرية والإنعتاق من هذا الوجود، وعاد ووضع كلتي يديه على القبر الجديد. وقال بعد أن تنهد تنهيدة الطفل الضائع:
- أخي وعزيزي، ما للمنية أخذتك، ونقلتك إلى موطنك وتركتني وحدي؟ ألستُ أبنها، الست حبيبها، فلماذا تركتني؟
تعالي أيتها المنية، واحمليني إلى موطني، تعالي أيتها الأم الحنون، فقد قاسيت ألم الغربة، وعرفت مصائبها، لقد ذقت مرارة الحياة. تعالي واحمليني على جناحيك تعالي!
ثم ألتفت إليّ وقال: هذا حبيب من أحبائي زمن الطفولة. مات قبل أن أقرأ ما في نفسه، مات قبل أن أعرف ذوقه، غير أنه كان يحبني، ويألف لي كثيراً، فأحببته كثيراً.
ولقد قرأت نفسيات بعض الأخوان الذين عاشوا معي زمن الطفولة، فوجدتها كالمرآة، تنطبع في كل صورة بزوال الآخرى فهجرتهم روحي. ولم يبق بيني وبينهم إلا علائق ضعيفة، فأنا أجالسهم ساعات فرح صوري.
ونهض وخطى خطوات. ظننت أنه يريد الذهاب، قبل أن أعرف عنه شيئاً. وقبل أن أعرف أنه رفيقي أم هو غيره؟ ثم تنهد تنهيدة عميقة، وبلهجة رقيقة كمنطقه، عذبةً كألفاظه. قال: ليت هذا الجسم ساكن في حفيرة من الحفر، خير من أن تحركه آلام البشر. ليت هذا القلب طعم للديدان، خير من أن تأكله الهواجس والأحزان، وتعبث به ظنونهم القاسية...
وزاد قائلاً: ماذا أذكر لك يا أخي. أن الأرواح لا يمكنها أن تعرف عن كل مكنونها مادامت محجوبة بهذه الحجب، فما أذكر لك؟ هم يريدون مني أن أسير على ما خطته لهم أفكار آبائهم الماضين، وأن لا أحيد عن طريقهم، ومناهج آبائهم، اولئك الذين حولوا الأشياء إلى غير مجاريها، وضيقوا سبل الحياة. اولئك الذين صيروا الدين[1] يدرس بقواعد وأصول، يفنى بها عمر الطالب، على غير نتيجة تحصل من هذا!
وما هي تلك الدروس؟ وما لبابها؟   
أسرار الدين وحل الغامض فيه، وحل رموزه؟ مغربلون، ولكن لم يحصلوا شيئاً مما غربلوا. بأيديهم غربال البحث، هذه السنين الطوال، وإلى اليوم لم يحصلوا على الرأي الصائب والحكم الثابت. ولم يتوصلوا إلى حكم الله في حقهم.
وإذا ما سأل الولد أباه عن مسألة خارجة عما يدرسونه. قالوا: هذا ليس من علمنا. أو هذا لا علاقة لنا به؟ أو هذا لا يجوز التفوه به؟ هذا يؤدي إلى التشكيك!
يقولون أعبد الله عن عقلك. فإذا بحثت عن هذا. قالوا: جهول متمرد! آلوا على أنفسهم أن يلقنوا أطفالهم عقائد عقيمة من زمن آدم عليه السلام!
البشر يا أخي لا يمكنهم أن يمكثوا على طريق مستقيم يوماً واحداً. وبعد أن عرفت هؤلاء الذين أساكنهم، وأني لا يمكن أن أسيّرهم على نظام صحيح، صرت أهيم على وجهي في هذه البرية، كي أروح عن نفسي. وأذبّ عنها آلآم الوحشة، وغصص المعاشرة.
وهنا رفع رأسه بإرتخاء، وأغمض عينيه، كأنه يسحب أنفاساً من الفضاء الخاشع لحديثه، ورقد رقدة البلبل في الليلة المقمرة ذات النسيم العليل على فروع شجرة، وتحت ظلال الأغصان.
فقلت: فتى يصارع الشك واليقين. فلماذا يمنعونه من حرية الفكر؟ ولماذا يضغطون عليه؟ ويضيقون على روحه اللطيفة؟!
وبعد دقائق قليلة أفاق، وقال: أرأيت يا أخي. أني أذوب كلما ذكرت فعالهم معي، وضغطهم على حريتي! ماذا أذكر لك يا أخي؟ أذكر نظامهم البيتي، أم صورة أفراحهم، أم تربيتهم أطفالهم! يطالبون بالنظام ولا نظام! ومن ذا يضع النظام، ويد النفور بينهم. فبين الزوج والزوجة شجار دائم، يعدها وحشاً، لا تعقل ولا تفهم شيئاً، لا تصلح إلا للشهوة والخدمة! وهل تحسن الخدمة من لم يزل الجهل مخيماً على فكرها، حتى حال بين فكرها ونظرها. وأنك لتراها تكثر الكلام، وتعترض على ما تراه من ظلم فاحش، وقسوة شديدة، ومعاملة رديئة، بلهجة تصدع الخاطر، حيث تتصورها نفساً مظلومة، خرساء من داء الجهل لا يمكنها أن تفصح عن آلآمها، وتشكو من متاعبها الشاقة. تولول ولولة الطير الصغير في سجنه. وتارة تولي وجهك معرضاً عنها، تَودُّ أن لا تراها، وتسمع كلامها المتعثر، وصوتها الجهوري، الذي يصدر عن لا شعور.
يهجرونها لأنها جاهلة لا تعرف نظام البيت، ولا حسن المعاشرة، ويزعمون أنها الشر، والشر جهلهم حقاً في أن يعلموها، ويطردوا عنها الجهل.
أواه يا أخي. أنا بين أثنين كلاهما ظالم لصاحبه، معتمد عليه. ودعني ولا تسألني عن أفراحهم. وأتحرق ألماً من أجل أطفالهم وأود لو اوكل لي أمر تربيتهم. إن مرت بينهم ساعة فرح سكبوا بأذان أطفالهم كل خرافة تنمي فيهم ضعف النفس، وتقعد بهم عن الطموح، إلى ما وراء الوجود. فكأنما الحياة أقدام معدودة! ويل لهم! لقد قبضوا على تلك الأرواح بأظافر حادة، وحالوا بينها وبين ما يبدو على صفحات الوجود. مثلما يحول الظلام بين العين والفضاء. ولأجل أن يأنسوا مع صغارهم يلقنونهم الجرأة والكلام البذيء على الكبير منهم. فإذا ما كبر ونشأ ذا أخلاق ردية، ونفس ضعيفة، وإدراك فاتر تذمروا من تربيته، وهمسوا في سرهم هذه الكلمات –لقد ورث الجهل والنقص من أمه!-
هم إذن يدركون أن جهل الأم يعود وابلاً على أبنائهم، وعاقبته شنيعة. لكنهم لا يتداركون ما عملوا.
أجل. أني بين رجل تائه بين جهلاء، وكلت إليه تربيتهم فلم يدر طريق التربية، وامرأة وقعت بين قبضة الظلم وأنياب الجهل. فلم تعرف سلوكاً ولا نظاماً، وبين فتاة في زوايا النسيان، تخالج روحها فكرة جميلة لم تدركها ولن تدركها. وهي تحاول أن تعرفها. ترى حال أمها وتحاول أن تعرف السبب الذي ترك أمها في ساحة الظلم والشقاء. ولو عرفت لتمكنت أن تتملص من قبضة الجهل القاسية، القابضة على روحها كما يقبض النسر على فريسته.
الضغط؟ من الضغط تفر الروح! على أي شيء يضغطون، ولماذا؟ الروح طائر بلا جناح، ومبصر ولو في الظلام. هم أذن لا يذيبون بآلامهم غير هذا الجسم! ولن يمنعوا غير هذا اللسان، فليفعلوا ما شاؤا. غير أني كلما رأيت منهم جوراً وضغطاً، خرجت إلى هنا، كي أشم النسيم العذب الصافي النقي الخالي من أنفاسهم السامة!
جرى كل هذا وأنا ساكت لم أتكلم، ولم أحرك يداً أو قدماً. ولم أزل شاخصاً بصري أمام وجهه. أترجم ما تعبر عنه عيناه من الأسى العميق. وحين أتم كلامه، وهَمَّ بالنهوض، قلت:
- دعني يا أخي أن أسألك سؤالاً واحداً تجيبني عليه. ألست أنت –وديع الغريب- ؟ كنت أتمنى أن أراك، وقد رأيتك منذ خمس سنين. وأظن الآن –بل أعتقد- أنك هو. فما أحلى وأجمل هذه الصدفة. لقد أرتويت من حديثك هذا. ان ما فهتَ به كان يخالجني. وأن الظلم الذي اعتراك نالني وجرح روحي بأظافره الحادة. أصدقني يا أخي. ألست أنت هو؟
فألتفت إليّ. وبصوت خافت قال: أنا ....
ثم وجه وجهه نحو طريق غير طريقي. علمت من هذا انه يرغب بالمسير وحده. فودعته، وعدت من حيث أتيت. وأنا فرح مسرور حيث وجدت الأمنية الضائعة عني هذا الزمن الطويل. وحزين كئيب لما عرفت عن حاله. رجعت وأنا أقول:
رحماك يا رب.  أنزل علينا روحاً منك ينقذنا من هذه الأرواح الشريرة. أو فأرسل أشعتك على هذه الأرض وطهرها. أفتح سجن الحرية يا رب دعها ترفع البرقع عن وجهها. فتمتع الأرواح الظامئة لجمالها. أرحمنا يا رب وأغفر لنا ....
المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
النجف 1932/1933
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في مجلة العرفان البيروتية عدد 6 مجلد 25 صفحة 604/610.
1- لما كانت هذه القصة على النمط الجبراني، قد كتبتها في سن مبكرة. وقبل أن أنضج في معلوماتي وتجاريبي. بل لمجرد ضجر من الدراسة القديمة وتقيدي مبكراً بلباس العمامة وحجزت حريتي حجرا تاماً. مقيداً بأوامر الوالد وخدمة مجلسه وبموجب رأيه في كل شيء فلا غرابة من وجود أفكار مغلوطة.


16
أين نحن مما يحدث في الوطن!؟
منذ سنوات والشعب العراقي من حين لآخر يتظاهر ويحتج من أجل الخدمات ومكافحة الفساد وتوفير العمل والأمن والاستقرار ... وقد كان دائما موقف الحكومات الفاسدة بالضد من هذه التظاهرات، فمارست مختلف الأساليب البوليسية القمعية والتي تتعارض مع حقوق الانسان التي أقرها الدستور العراقي والشرائع الدولية. فضايقت الحكومة الاحتجاجات وحاصرت المحتجين وأغلقت الطرق وتصدت للمحتجين من بعد كيلومترات لتمنعهم من الوصول لساحات الاحتجاج. وعندما فشلت بذلك مارست أساليب تعكس جنون واستهتار المسؤولين وذلك بإرسال الطائرات فوق ساحات الاحتجاج لترهيب المحتجين والتشويش عليهم أو لتصوير الناشطين بينهم. كما مارست الخطف للناشطين وتعذيبهم وتوجيه الاتهامات الكاذبة لهم، وما زال بعض الناشطين مجهولي المصير (جلال الشحماني) او تم تصفيتهم! أما الناشطين إعلاميا فقد تم اغتيالهم (هادي المهدي) بطرق صدامية! وكل هذه الاحتجاجات لم تثمر شيئا غير مزيدا من تخندق مافيات الفساد والتحاصص الطائفي ... ثم هبت جماهير الشعب في الاول من الشهر (1 تشرين أول) بعد ان تبادلت الآراء والمواقف من خلال مواقع التواصل الاجتماعي للخروج في تظاهرات احتجاجية، وهكذا لبى النداء الاف الشباب بعيدا عن التدخلات الحزبية مما أثار ريبة بعض المتخلفين عن ركب الحراك الشعبي، لأن الغرور والذاتية وعدم قراءة الواقع العراقي بطريقة موضوعية وصحيحة وابتعادهم عن الجماهير لانخراطهم بالعملية السياسية الفاسدة واكتفائهم بالفتات، دفعهم الى الحذر من المشاركة في هذا التحرك الجماهيري، لكن قواعدهم خذلتهم وساهمت في الاحتجاجات بقوة، لأنها هي المكتوية من سوء الأوضاع فانخرطت في هذا الحراك وقدمت الشهداء والجرحى والمعتقلين.
لقد مارست حكومة عادل عبد المهدي أبشع الأساليب البربرية ضد المحتجين، وكشف رئيس الوزراء العراقي وشلته المسؤولة في الحكم (نواب، وزراء، المؤسسة القضائية، مجالس المحافظات والمحافظين، والأحزاب المتنفذة) عن جذورهم الفاشية في مواجهة الشعب، ورفضهم لأي عملية إصلاحية. ونحن نتابع عن بعد أحداث ما يجري اليوم في العراق من قتل وخطف ونشر قناصين وسقوط عشرات (وربما المئات) القتلى والاف الجرحى (تجاوز عدد الجرحى 6000!) إضافة الى الاعتقالات والاغتيالات لبعض الناشطين في بيوتهم ... ما تعرضه بعض الفديوات من جرائم الحكومة في التصدي للمحتجين يقشعر له البدن، ويذكرنا بأسلوب صدام المقبور في تصديه للانتفاضة الشعبانية. ونسمع ونشاهد مناشدة أبناؤنا من الداخل يطالبوننا بطرح قضيته على العالم وفضح أساليب النظام العراقي في قتل وقمع الاحتجاجات وتشويهها! وقد أقدمت حكومة عادل عبد المهدي في الإمعان في معاقبة الشعب وعزله عن العالم الخارجي بقطع الأنترنت في العراق وتركت المليشيات التابعة لتعاقب بعض الفضائيات التي كانت تتابع وتنشر الفديوات التي تفضح جرائم الحكومة بحق الشعب وذلك بحرق مكاتبها وتخريب معداتها.
لا أخفي على أحد أنني عاجز -لأسباب عدة- عن تقديم المساعدة لأبناء شعبي أكثر مما أقدمه من فضح وتحريض لأساليب حكومة عادل عبد المهدي. ولكني أجد وللأسف أن بعض الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي تتمتع بإمكانيات التحرك العلني والرسمي لما تتمتع به من جماهير وإمكانيات مادية (فهي تستلم معونات مالية من الدولة، ومعترف بها ومحمية)، أقول للأسف أن هذه الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني (جمعيات وروابط ....) لم يكن تحركها بالمستوى المطلوب واكتفت بتجمعات احتجاجية في بعض المدن ... جيد أن تقيم مثل هذه الاحتجاجات ولكنها لا تتناسب والتضحيات والدماء التي يقدمها شعبنا اليوم. ففي السويد توجد أكثر من 50 منظمة ورابطة وحزب[1] للجالية العراقية. هذه المنظمات تنشط وتجتمع وتصدر بيانات باهتة من حين لآخر وفي مناسبات مختلفة ليس لها تأثير ملموس على الواقع العراقي ... أتساءل أين هي هذه المنظمات والأحزاب، أين إمكانياتها في التحرك بإتجاه الأحزاب السياسية الحاكمة في بلدان المهجر، أين لقاءاتها بمسؤولي الوزارات الفاعلة والمؤثرة لطرح قضية الشعب العراقي من يوم حرب الاحتلال وما سببه من كوارث وتلوث وخراب في البنى التحتية ولغاية اليوم وتسليم البلد لشلة فاسدين ولصوص! من المسؤول عما أوصل العراق الى هذا المنحدر والخراب!؟ من الواجب الوطني أن تتحرك هذه المنظمات والأحزاب لمقابلة المسؤولين والوزراء والنواب والسياسيين المعنيين في هذه الدول وحثهم على مساندة الشعب العراقي لإنقاذه من الورطة التي أوقعه الأمريكان فيها وبأسم الأمم المتحدة.
أقترح على الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني العراقية المتواجدة في دول المهجر عدم الإكتفاء بالاحتجاجات والتجمعات في الساحات للتضامن مع شعبنا، بل عليها أن تعمل باتجاه توثيق وشرح مشاكل ومآسي الشعب وعرضها على هذه الدول وتقديم المقترحات من أجل الضغوط على الحكومات الفاسدة في العراق! كما عليها هذه الأحزاب والمنظمات العراقية أن تشكل لجانا من شخصيات كفوءة وطنية شجاعة لمثل هذه اللقاءات ....
لا تخونوا قضية شعبكم ... شعبنا ليس بحاجة الى احتجاجاتنا وتجمعاتنا اليتيمة في بلدان المهجر، وإنما بحاجة لإيصال قضيته ومأساته الى العالم ... شعبنا بحاجة الى فضح فساد حكومته وجمع ملفات الفساد وكشفها للعالم، وكشف ومتابعة اللصوص والمجرمين من المسؤولين ... الشعب بحاجة لتضامن العالم معه ... لقد أجرمت الحكومة بحق الشعب بقتل العشرات وجرح الآلاف، وهناك أخبار عن قيام بعض المرتزقة التابعين من العملاء يقومون باغتيال بعض الجرحى في المستشقيات ويتم رمي جثثهم!
الشعب العراقي يعاني من مجزرة همجية تنفذها بعض أجهزة الدولة الأمنية بمشاركة بعض المليشيات العميلة.... أوقفوا قتل الأبرياء
محمد علي الشبيبي
بغداد الثائرة  6/10/2019     
___________________
[1]- بعض منظمات المجتمع المدني العراقية المتواجدة في السويد:
1 ـ مؤسسة النور للثقافة والإعلام.
2 ـ اتحاد الجمعيات المندائية في دول المهجر
3 ـ الإتحاد الديمقراطي للجمعيات العراقية في السويد
4 ـ رابطة المرأة العراقية فرع السويد ـ ستوكهولم
5 ـ جمعية المرأة العراقية في ستوكهولم
6 ـ جمعية المرأة الكردستانية في السويد
7 ـ رابطة الأنصار الديمقراطيين / فرع ستوكهولم وشمال السويد
8 ـ الجمعية المندائية في ستوكهولم
9 ـ اتحاد الكتاب العراقيين في السويد
10 ـ نادي 14 تموز الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
11 ـ منتدى الحوار الثقافي الديمقراطي العراقي في ستوكهولم
12 ـ جمعية بابيلون للثقافة والفنون
13 ـ الرابطة المندائية للثقافة والفنون
14 جمعية آشور الثقافية
15 ـ جمعية بيت نهرين الاجتماعية
16 ـ رابطة شعب كردستان
17 ـ منظمة تطور المرأة الكردية
18 ـ الملتقى الثقافي المندائي في ستوكهولم
19 ـ رابطة الديمقراطيين العراقيين في ستوكهولم
20 ـ حركة العمال النقابية الديمقراطية في السويد
21 ـ جمعية زيوا المندائية في سودرتيليا
22 ـ فرقة مسرح الصداقة في ستوكهولم
23 ـ لجنة اللاجئين العراقيين في ستوكهولم
24 ـ الجمعية الثقافية العراقية في مالمو
25 ـ رابطة الديمقراطيين العراقيين في جنوب السويد
26 ـ فرقة ينابيع االمسرحية
27 ـ الجمعية الثقافية المندائية في لوند
28 ـ البيت الثقافي العراقي في يتبوري
29 ـ جمعية المرأة العراقية في يتبوري
30 ـ رابطة المرأة العراقية في يتبوري
31 ـ جمعية تموز في السويد
32 ـ جمعية الأنصار الشيوعيين في يتبوري
33 ـ التيار الديمقراطي في يتبوري
34 ـ جمعية المرأة الفيلية في يتبوري
35 ـ النادي الثقافي الاجتماعي العراقي في يتبوري
36 ـ الجمعية العربية النسائية في ترولهتان
37 ـ الجمعية الثقافية في ترولهتان
38 ـ الجمعية الثقافية في بوروس
39 ـ الجمعية العراقية في لينشوبنك
40 ـ لجنة الدفاع عن الكورد الفيليين / يتبوري
41 ـ جمعية المرأة المندائية في ستوكهولم
42 ـ جمعية الحياة امرأة في مالمو


17
المنبر الحر / أيها الإنسان
« في: 19:12 30/09/2019  »
أيها الإنسان

المربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913 - 1997
ويك أيها الإنسان! أيها المخلوق العجيب، يا مجمع المتناقضات! فيك العاقل والمجنون، والأمي والمتعلم، والفاضل والذميم، والحقير والعظيم، والمجرم والبريء، واللص والأمين، والتقي والفاجر، وذو الشره والقنوع، والأحمق والورع، والكاذب والصادق، والمرح والكئيب، والعامل والاتكالي، والخامل والنبيه، والحليم والسفيه، والكريم والبخيل.
فيك من يجزع لضرب حمار، ولكنه يهرق دماء أبناء جنسه ويتصدق على المساكين، ويمتص دمَ العاملين!. يبجل العظام الأموات، ويهين النوابغ الأحياء. ويلعن الحروب وويلاتها، ويهيئ  -من حيث يعلم أو لا يعلم- مقدماتها ومسبباتها. يؤمن باليوم الآخر، ولا يهاب الوعيد. ويذم الدنيا وهو ثمل بخمرتها.
فقراؤك يخنعون، وضعفاؤك يتملقون، وأوساطك يخادعون، وأثرياؤك يتغطرسون ويتلصصون. وأحرارك وأخيارك يموتون كفاحاً على حد السيف وأعواد المشانق، في سبيل خلاصك ونجاتك، يجتازون هذه الحياة مطاردين مرهقين محتقرين، فإذا ما فارقوها، اتخذت من تأريخهم طريقة للتدخل، ومن مراقدهم وسيلة للعيش!
اختص كل حيوان بصفة. أما أنت؟ فقد جمعت كل الصفات. مكر الثعالب إلى صراحة الأسد، شراسة النمر إلى وداعة الحمل. تيه الطاووس إلى تواضع الدجاج. شجاعة النسور إلى جبن الزرازير. وصبر الحمير إلى حقد البعير. ووفاء الكلب إلى غدر الذئاب. ووداعة الحمام إلى شراسة الصقر.
لم تدع شيئاً يؤكل إلا أكلته، النافع منه والضار، والحلال والحرام. ولا شراباً إلا شربته، منعشاً أو مخدراً، حلواً أو مراً، حاراً أو بارداً، سائغاً أو منغصاً، ما يجلب الشفاء وما يزيد في توغل الداء. ولا تفتأ تقضي على داء، حتى يتسلط عليك داء أقوى، وميكروب أخفى.
بينما نراك تغوص في بحار العلم، باحثاً عما يسعد الجميع، إذ نراك تخترع ما يهدد الحياة بالدمار والفناء. وفيما أنت تؤلف جمعيات الرفق بالحيوان، وسائر الجمعيات الخيرية، إذا بك تعقد المؤتمرات للتآمر على حريات الشعوب الضعيفة. وتحشد الجيوش، وتدفع الملايين إلى الحروب، والصراع من أجل السطوة والسلطان!
افتقدت الإناث القوة، فاتخذت الأغراء بدلا منه سلاحاً فتاكا، وشباكاً لا تخطئ الصيد. فكنّ به أشد قسوة ونكالا. وملك الرجال القوة فكانوا أكثر غروراً، وأعظم زهواً وخيلاءً.
ولعبت الغريزة الجنسية، دورها في تحدي كل فضيلة تتغنى بها، وكُلَ مُثل تتشدق بها. حتى أضطر المشرعون، إلى وضع الحدود القاسية، والحواجز العالية. فلم تفت الفروق الطبقية أن تتخذ من تلك الحدود ميزاتٍ لها، وعناوين تشمخ بها على الطبقات الدنيا خيلاء، وتتيه إعجابا وتترفع كبرياءً، وتستفيد بواسطتها ربحاً وتجارة ...
ولقد فتنت بحب الحرب والصراع. حتى لم تدع منها سبيلاً إلا سلكته، ولا أسلوبا إلا أتقنته، فحرب السيف والكلام، والمكر والخداع، والاستثمار والاستغلال.
وهكذا أجاب الملائكة الله حين قال: (.. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ[1]).
(قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[2]. وجعلت حتى الدين لخدمة أطماعك، وأهدافك، فقال عظيمٌ (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم. فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون[3])
وهكذا حولته من وسيلة للتآخي والتعاون، إلى وسيلة للتفرق والعداوات؟
فرسالة أي نبي فرّعتها إلى مذاهب متعددة، وأحزاب مختلفة. فكانت الطائفية آفة المثل العليا، وبلاء على الإنسانية النبيلة. حتى لو أن نحاتاً أراد أن ينحت لربك تمثالاً حسب تعدد أديانك ومذاهبك، لكان أبشع تمثال، لكثرة ما له من وجوه وعيون، وأكف وسيقان!
ويك أيها المخلوق العجيب. ما أقواك وأضعفك، ما أقساك وألينك؟ ما أشقاك وأسعدك؟ أني اُقدسك وأكفر بك.
أقدس منك عقلك ومواهبك، وطموحك وهمتك. وأكفر بك لقسوتك وشراستك، وتقلبك وتلونك.
وجدتك تعتبر كل جديد بدعة، فتبدي ضده مقاومة وعناداً، حتى إذا مضى عليه ردح من الزمن، وثبَتَ أمام النقد والحِجاج، سار على نهجه بعض، وغض النظر عنه آخرون.
وما أكثر ما ترتكب في السر فعالاً، تعلن استنكارها دجلاً ونفاقاً. وتهاجم أفكاراً ترتضيها في قرارة نفسك، وتؤمن بها في عقلك.
إنك تحاول فيما ابتكرته من مخترعات، ودبرت من اكتشافات، ووصلت إليه من علم وفن أن تصل إلى السعادة، وطول البقاء، فإذا بك بسبب ذلك تقترب نحو الفناء!
أيها المخلوق العجيب، حقاً ما قيل فيك: ( قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ[4])
المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
الناصرية في 20/04/1955
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الآية 30 من سورة البقرة.
2- الآية 32 من سورة البقرة.
3- من خطبة للأمام الحسين(ع)
4- الآية 17 من سورة عبَس.

18
المنبر الحر / بين القبور*
« في: 21:09 07/07/2019  »


بين القبور*

المربي الراحل علي محمد الشبيبي

 

وكنت تركت هذا النوع من العزلة، فمالي اليوم أعود إليها؟ أوجدت بها اليوم سمراً ممتعاً، وأنساً مفرحاً؟ أم لعلي أظن أن الأحجار المرصوفة فوق الرمال تكلمني، وتفشي إليّ أسرار الموتى عن قلوبها التي استحالت تراباً فامتزجت بالتراب! أم لعلي وجدت نفسي طريدة أحوال لا أرتضيها، وشريدة أوضاع لا أهواها، وأليف سرّ لا آمن عليه لساني، ولم يتسع له صدري، ولم يتحمل كتمانه قلبي، فأحببت أن انفحه زفرات على الصخور الصامتة، فوق الأجساد الهامدة والرميم؟
لعلي مجنون يجد في الوحدة لذة، ويرى انه العاقل وحده؟ لأن من يصفق للمجنون، ويستغرب الجنون أكثر جنوناً من كل مجنون!
ويح نفسي التي تقودني فأسير طوع قيادها، وويل قلبي المعذب بهواها. وتباً لعقلي الذي لا يأمر ولا ينهى!
إن كنت أتطلب العظة عن غرور المرء بنفسه، وإعجابه بعقله، فالعظة فيما يعمل الأحياء، وما يرون من العواقب أكثر وأجلى. فما لي إذن أهجر المدينة والبرد قارس، والليل كاد أن يغدق، والجو مازال أكلف. وفي المدينة كثير من القبور، فلِمَ لم يكن لها عندي حظ من الزيارة؟ هل استحقت الهجر مني والبعاد، لأنها شأن أحياء الأجساد من النبلاء أرضها مفروشة بالطنافس الرائقة الثمينة، وجدرانها مزيّنة بالنقوش، ومنارة بالكهرباء. وكثير من الناس يبيتون مفترشين  الأرض، ملتحفين السماء، لا يستضيؤن بغير القمر والنجوم!
إذا كنت قد هجرتها لهذا، فقبور –الوادي- لم تكن مراقد للبؤساء وحدهم! تلك قبور البؤساء منطمس أثرها. وتلك هي قبور السعداء، بنايات فخمة، وزخارف نادرة رائعة. وحدائق فيها الزهور تمتص عناصر الأجساد وقذاراتها، فتنشرها أريجاً عطراً، وأنفاساً طيبة، بينها وبين ما كانت تحويه تلك القلوب من نوايا السوء، وروائح الخبث بون بعيد!
ما أغرب أطوارك يا نفسي، وأكثر هواجسك. تؤمنين وتلحدين، تعلمين وتجهلين، تطمعين وتزهدين، تلحين في جمع المال، وتتعبين في السعي والكدح، وكم حملت حقداً وأوريت زندا، وحفرت بئرا، وأردت بامرئ غدراً، كأنما نسيت أن الموت أقرب إليك من ريق الفم في الحلقوم؟
فهيا الآن أنظري وفكري، واسعدي في صفاء الحال، وخلّو البال، من تفكير مضن، وإحساس مؤلم، فان فاتتكِ السعادة في الصفاء والاطمئنان عبثاً تجدينها في الذهب والفضة، والضيع والقصور وأنتِ ترين أن الذين تملكوا ذلك في الحياة لم يكفوا عن الاحتكار حتى في بنايات القبور!
وما تنفع قباب فوق  الرموس، والجسد الناعم صار طعماً للدود! وما تجدي الفرش على سطح قبر ضم جسدك، ومتوسداً تراباً، ساكناً لا يحس بالخشونة، ولا يتلذذ بالوثير، وما تنير المصابيح واللحد مظلم!
أرأيتِ في المدينة قبور النبلاء والمثرين؟ وأناس قُدسوا لما حملوا من هداية الضالين والتائهين؟
اُولاءِ اختلفوا في الحظوظ أحياءَ وأمواتا! كان البعض في حياته لا يطلب من الناس إلا الأخذ بإرشاده، والسير على منهاجه، فلم يسمع الناس صوته، ولم يفقهوا قوله، ومات كما عاش مهملاً منسياً!
وآخر اهمل في حياته، وذاق مرارة العيش صنوفاً وألواناً. وقُدَّس عند مماته!. فحمل نعشه على الأكتاف، وكُبّر لعظمته وهُلِل، ثم سقي ضريحه بوابل من الدموع والرحمات، وألوان من التقديس لم يرضها، ولم يعدل بها عظة منه في الحياة لو استناروا بها، وساروا على ضوئها!
وآخرون نالوا المنزلة العظمى من التكريم والتعظيم بدون جهد لعلم أو تعب في جد. إلا ما أكسبهم الآباء من حبوة الشرف، وسمة الورع، وشيعوا إلى قبورهم بعد آبائهم بتلك التجلة، وذلك التبجيل!
وآخرون ساعدهم الحظ  في الحياة والممات، مع علم وافر، وفضل واضح، ما أسعدهم لو نالوا الحظوة في الأخرى، لم يطالبوا بظلامة واغتصاب، ولم يحاسبوا على غش وتدليس، ولم يعاقبوا على جريمة!
وها أمامك قبور في الفلاة، بني بعضها على شكل هندسي رائع، وزخرف بالفسيفساء، وخلا من كل ساكن، كأنما غفل بانيه أن من بني عليه هذا البناء، إن ظهر قبره على القبور رفعة، فقد تلاشى جسمه كسائر الأجسام. وأمحى أثره كباقي الآثار.
واُخر. أكوام من التراب، أخذت من الأرض على الأرض. فوارت جسما صار تراباً كالأرض، وهو لم يغر ممن شيد عليه البناء الجميل، ولم يتأثر من واطئ رمسه؟
أنظري نفسي هذه القبور، ولا يكن قياسك أن من نبتت عليه الزهور اريحي جميل. أنظري وتذكري: كم عين ودَّت أن تكون للدود مأكلاً، وقلب رضي أن يكون لها مطعماً، على أن لا تدمع العين من فراق، ولا يتحطم القلب من عذاب، فصار الآن إلى ما أراد! وذي العاقبة أهون عليهم من حياتهم الاولى!
أنظري واتعظي، وما معنى العظة أن تزهدي وتتقشفي، لا بل اغتنمي الفرصة في لذاتك وأفراحك، ولا تدعي للسأم سبيلا، ولا للضجر واليأس مجالا. ولتكن عظاتك نبذ الغرور، وطرد الحسد، وسحق الأنانية والكبرياء، ومحو الفروق والأباطيل، وأعملي الجميل للجميل، ولا تتخذيه منة وفخراً. تعلنين به للشهرة، وتشهرين به للتعاظم.
هذه الجماجم بين يديك. فأقرئي ما كان مخبوءاً في داخلها من أفكار، حال الموت دون تنفيذها. وذي الأكف أنظريها، صِفراً لا تملك حتى لَّمَّ أطراف الكفن، لا بل دفع دودة واحدة، أو حَك موضع من جسد!
لا تزهدي إن كنت في بلية من العيش، فذا الزهد ضرب من البخل، ولا تسرفي إن لم تملكي شيئاً! وثقي أن (ثورة الدنيا رغيف ورداء)[1]
المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
1913 -1997
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في مجلة الاعتدال النجفية عدد 7 صفحة 454 عام 1938
1- بيت من قصيدة (ماذا تقول الساقية ...) لجبران خليل جبران، والراحل لا يخفي إعجابه في شبابه بجبران خليل جبران/ الناشر محمد علي الشبيبي.
 



19
المنبر الحر / مع النفس والقلب*
« في: 22:47 21/06/2019  »


مع النفس والقلب*

 

المربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913- 1997

لشدّ ما أكثرت حساب النفس وأطلته، فلم أحظ بطائل. وعنفت القلب ولمته، فلم يجد اللوم والتأنيب.
وقلت: أرجعي أيتها النفس، ورويداً أيها القلب. وتأملا بما جاءكما عن مرح الشباب، وجمال الحياة. لا تتخذا الخيال مركباً، والعاطفة دليلاً، فتتنكبا الطريق وتضيع عليكما السبل، وتتغلب عليكما العواصف، فيتبدد الأمل، ويتضاعف الألم.
قد انخدعتما بالأصدقاء، وهم لا ينفعون، وتغنيتما بالأحباب وهم يغدرون. واعتمدتما على سواكما خاطئين. أفلم تعرفا من قال (ما حك جلدك مثل ظفرك). ومن قال:
وإنما رجل الدنيا وواحدها       من لا يعول في الدنيا على رجلِ
الناس أخوة في الرخاء وأباعد في الشدائد. فكافحا كل شديدة بحزم المنقطع، وحول المستميت، دون اعتماد على أحد، واتكال على الغير، ولا تجعلا للوهن سبيلاً، ولا للضعف دخيلاً.
من هو الذي يقول لكما: أنا الصديق الصدوق! أفيحمل في نفسه وداً أكثر منك عليك، وقد تقدمين على الهلاك في سبيل هواك.
ومن هو الذي يقول: أنا الحبيب المواسي! أفكانت رأفته رأفة الأم الحنون؟ والأب العطوف؟ وربما حارباكما لغير جرم. ونبذاكما على غير ذنب، سوى أن الزمن لم يسعد، والحياة لم تَجُدْ، فايديكما صِفر، وريعكما جديب!
لا تحسنا بالناس ظناً، ولا تحاربا الناس لمجرد سوء الظن؟ فما الناس إلا مثلكما، يتطرق إليهم حسن الظن وسوؤه! ولا يفعلون الإحسان إلا مقابل إحسان. فأحسنا إلى الناس، إن رجوتما إحسانهم. وان غدر منهم أحد ما يدريكما السبب؟ وما يدريكما الباعث؟ وهو إن أحسن فضل. وان أساء فهو بعيد، لا يحملكما بصدره، ولا يدرك عذابكما بحسه.
كم تحار أيها القلب بوادي الشكوك. كم تنغمرين أيتها النفس بلجج الأهواء، فتعود أيها القلب ساكناً وحدك كما يسكن العصفور الكسير الجناح. وتفغرين فاك أيتها النفس بالدعاء، ضلةً ترتجين النجاة.... والنجاة والعذاب في هذا الوجود، كالطائر لابد أن يأوى إلى وكر. وأنتِ وسواك وكرهما، طوراً لذا وطوراً لذا، ومنكما الداعي ومنكما السبب!
دَعا الضجر والقنوط، فالحياة حلوة وجميلة، تريانها غير هذا عندما تغشاكما سحابة اليأس والقنوط. أما إذا كنتما كالمرآة المجلوة بالاطمئنان، وكحديد الفولاذ، من قوة الأيمان، فسوف تريان، أنها جميلة أبداَ.
كوني يا نفس ضاحكة كل آن. عند الراحة والتعب، في السعادة والشقاء، فلا يكون الفوز إلا نتيجة التعب والكفاح، وبعض الألم لذة. وأكثر الراحة خمول، وعذاب للفكر الذي وجد ليدبّر!
كن يا قلبي شبيه الجو، فيه النسيم وفيه العاصفة، كالنسيم ينعش النفوس إذا خطر، وتنتشي الأجساد إذا مر، وكالعاصفة قسوة إذا اريد صلاح الموجودات اللازمة للحياة، وتدمير ما هو مضر!
خذا العبرة من كل شيء. في الراحة بعد التعب، والتعب عند الراحة والخمول، والسمعة الحسنة في العمل الصالح، والرفعة بين الناس في معرفة المقام. ولزوم الحد. وفي عثرة العاثر، ونكد المنكوب، وعاقبة المخطئ، وثمرة المجد المصيب. في هفوة اللسان المهذار، وفي عقبى السكوت الحكيم. وفي بال التسرع، ومحمدة التروي والتأمل. وبعد هذا لا تندما على خطأ وقعتما فيه، عن سهوٍ وعدم تدبر.
لا نجح مع الضجر، ولا سعادة مع التشاؤم. ولا ظفر مع الجبن. ولا رجاء مع التردد. ولا مقام للضعيف. فجاهدا بمرح وابتهاج. واطلبا السعادة مع الأمل والأيمان. وحاولا الظفر بالإقدام. والتردد لحظة هدمٌ لسعي زمن طويل. والضحك مجلبة الشقاء، ونذير الفشل، ومدعاة الاحتقار والمتاعب. والنكبات دروس وتجارب، فاحفظا تلك الدروس، وأتقنا تلك التجارب، فهما يعرّفانكما كيف الصديق ومن هو. وطريق العمل والصواب، وسبيل النجاح.
ولا يقعد بكما تفكر في خيبة، ولا يردكما خشية من عقوبة وصعوبة. فالعمل الدائب ضمين الوصول. والتصلب كفيل الفوز، والتغلب على كل عقبة وصعوبة. ومن أقعدته الخيبة عن العمل، وردّه الخوف، عاش روحاً ميتاً في ظلام دامس، دونه ظلام اللحد. وعبث به الهم دونه عبث الدود بجسده فوق تراب الرمس.
المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
1913- 1997

20
المنبر الحر / ذِكرياتٌ مُهمَلة*
« في: 20:22 13/06/2019  »
ذِكرياتٌ مُهمَلة*



المربي الراحل علي محمد الشبيبي

لا أدري لماذا أتنازل للامتزاج مع أناس لا تتلاءم أمزجتهم مع مزاجي وميولي. بل ولا تتناسب درجة وعيهم وإدراكهم مع ما عندي من يسير الثقافة. مع كل هذا أجد بُشراً وارتياحاً، حتى أن ساعات تمر، وأنا لا أدري كيف مرت، وكيف أنقضى الوقت؟
كل ليلة بعد العشاء، نجلس حول الموقد أو المصباح[1]، ولابد أن ترأس الجلسة امرأة مسنة. أو فتاة ممن يعرف ان يُشغلنا بالأحاديث فيروح شر البرد والحر. ومن الغريب أن أكثر حكاياتهن تحوي عظات بالغة، ومغازي سامية، وأهداف عالية، والأكثر من حكايات –ألف ليلة وليلة- أو مما تتداوله النساء العجائز، يلقِنّه للصغار –كرادع عن العبث والحركات المؤذية- لذا نجد أبطال تلك القصص من الخير والشياطين، والسعالي والعجائز، مما يغرس في نفوس الصغار الخوف الذي يملأ رؤوسهم، يملؤها أخيلة وتصورات، فيسيطر الخوف على مشاعرهم كلما خلوا بأنفسهم أو ساروا في طريق مظلم، أو ذكرته أمه بالجني ذي الأجنحة والقرون الطويلة، والعيون الجمرية، والأصابع المنجلية، والشعر الأشعث المنفوش، واللون الأسود[2]. تذكره حين يعصي لهاً أمراً، أو يطلب منها شيئاً لا تجده ، أو يضره. فإنها تضطر لإسكاته بتخويفه بالجني، وقد حدثته جدته العجوز –أيضاً- عنه، إنه يتشكل بكل شكل، حجارة أو قطعة صوف منفوشة!
وحتى كبرت وجدت في كتب الأقدمين، الجني يتشكل بكل شكل حي كالكلب والخنزير، وبعكسه المَلَك. فهو يتشكل بكل شكل إلا الكلب والخنزير. وهذا وجدته في كتب صنفها الأولون[3].
وكثيراً ما يضم مجلسنا هذا فتيات جيراننا مع أمهاتهن. وطالما توسلن بي لأكون المحدث! فأقص عليهن قصصاً من أقاصيصهن، وأحياناً من نوع جيد أقرأه من انتاج كتاب جيدين، وأحيانا مما ابتدعه أنا!
بين المجموعة "بُنية" من جيراننا، لا أدري لم طردتها في حين لا أجد لها ذنباً! ومن الغريب أن أمي تحدثت أمس متباهية عن يوم زواجي، وأعربت عن شديد رغبتها بالبنية تلك بالذات.
أني لأضحك من أماني الأمهات، وأعجب كل العجب من أحلامهن وتحكمهن بميول أبنائهن، والمستقبل كشاف، ان بقيت أمي على هذه الأمنية وعن هذه بالذات، على الأغلب أنها ستتنكر لرأيها، خصوصاً لو أني عدلت عن ضجري منها وملتُ إليها. هذا شيء غير غريب.
أمر آخر يهمني ويحز في نفسي، فمتى أكون شديد الوثوق بنفسي، بحيث أقوى على تنفيذ ما أحب ورفض ما أكره. أنا لا أميل لأساليب الدراسة عندنا. وطالما فتحت الكتاب للتحضير، بيد فاترة وكمن سيطر عليه نعاس أفتح الكتاب وأرمق سطوره بنظرة فاترة وسرعان ما أتحول عنه إلى سواه. وعلى أني شاعر بالخطأ فأني لم أقوَ على مخالفة نفسي في كلّ هذا!
ولكن ولعي بحفظ الشعر جيد، لا بل مفرط. وأحياناً أحس أن قصوراً واضحاً فيما انتقاه لي صديق أبي الحميم، الرجل الفاضل والفقيه التقي الشيخ عبد المحمد المخزومي وعرف باسم آل زاير دهام، ودهام أحد أجداده. لا يختار إلا مقاطع قصيرة من شعر الشريف الرضي، ومدائح أهل البيت. واستغربت كثيراً أن يكون للشاعر الماجن –أبو نؤاس-  شعر في الأمام علي بن موسى الرضا!
قيل لي أنت أشعر الناس طراً       بالمعاني وبالكلام البديهي
فلماذا تركت مدح ابن موسى       والمعاني التي تجمعن فيه
قلت: لا أسـتطيـع مدح أمام       كان جبريل خادماً لأبيه
أليس هذا الرجل متهماً بالغلمان، أو أنها تهمة مفتعلة، ربما لميله للعلويين، أو لأنه فارسي الأصل، وان كانت تربيته عراقية بغدادية، وهو صديق الخلفاء العباسيين، وسميرهم! ولا يفوتني أن أذكر لك ولعي بمجموعة شعر تنسب إلى العاشق الوله –مجنون ليلى- صرت أقرؤها كثيراً، وأرددها ولكن الشيخ –صديق أبي- يحفزني ويثيرني حين أسمعه يردد وهو ينقر غلاف الكتاب بأصابعه، كمن يضرب على العود من شعر الشريف الرضي:
من ناشد لي بعقيق الحمى       غُــزّيلاً مرّ على الــركب
أفـلت من قـانـصـه غِــــرةً       وعاد بالقلب إلى السرب
فإذا خلوت بنفسي، رددتها أنا بشجى عاشقٍ وَلهِ، ثم أتبعها بآهة، تماماً كما هو فعل. أترى جوانح الرجل قد ضمت حباً وغراماً، ولا أقول هياماً. الرجل من أقرب الناس صداقةً لأبي، متدين صادق في تدينه، مثلما هو رقيق العاطفة، أستجلي هذا من لحن ترديده للشعر العاطفي والغزلي، عند الشريف الرضي ومجنون ليلى!
وكل هذا لم يروِ ضمأي ولم يجذبني إليه تماماً، لكن أستاذي[4] هداني إلى كتاب، ما أن قرأت منه شيئاً وأنا بباب مكتبته، حتى أنجذبت إليه بشدة، وكأني أستوعبت ما فيه! ذلك هو كتاب –البدائع والطرائف-  مرامي هذا المؤلف –جبران خليل جبران- ليست يسيرة الفهم للمبتدئ، فاغلب ما فيه بالرمزية. وتابعت كتبه واحداً واحداً فكانت أكثرها غموضاً وتعقداً –المجنون، الموسيقي، رمل وزبد- عدا كتابين هما –الأرواح المتمردة والأجنحة المتكسرة-.
وتهت أنا في أودية[5] جبران العميقة الغور، المعقدة العسيرة الفهم، وصرت أكتب قطعاً على نهجه. فإذا عدت إليها بعد أمد، وجدت نفسي أمام ألغاز ضاع عليّ حلها. فأتلفت أغلبها. ورحت أطالع، طه حسين، والزيات، وغيرهما.
بقي فيّ شيء من آثار جبران. فقد أطلت شعر رأسي وأحببت الوحدة والانفراد، وكثيراً ما خرجت إلى الوادي في شدة الحر –بعد الظهر- أو حين تتراكم الغيوم. وعند الليل، أدع الضوء ضئيلاً، وكأني غريب أضاع وطنه، واني أجّد السير لأصل إليه. أو أني غريب عن هذا الوجود، عبرت عن هذا في بعض ما نظمت[6] وكأني غريب يجّد السير ليعود إلى الوطن؟
*               *               *               *               *
ولكم أود أن أذكر لك عن ارتياحي في لباسي هذا الذي أرتديه. قميص تغيّر لونه، فهو منذ أربع سنوات، هو الآن أوهى من بيت العنكبوت. ورداء رثة أطرافه، وتهرأت أذياله، ولكنه مازال يقاوم قسوة الأيام. ولولا عُمَّةٌ لا يحتمل ثقلها رأسي لَتمَ لي السرور بهذا اللباس. انها لا تمثل روحي، ولا تعبر عن اتجاهي في الحياة. أتخذوها الأكثرون كمظهر للتدين، بينما يختفي الشيطان بين طياتها. أما الحزام الطويل العريض الذي يلف حول الجذع مرات ومرات فهو كحبائل –إبليس-، عُمتي –أنا- حجمها صغير، وطياتها منتظمة، وما كانت مسبحتي سوداء، فيشملها قول الشاعر علي الشرقي:
ما أسودت السبحة إلا       لترينا عملك
وخيطهـا شيطانهـا...       بين الثقوب قد سلك
يا ذرة ما بيننا       كيف أرتقت إلى الفلك[7]
على كل أنا مرتاح لهذا الوضع وهذه الحال. وأرجو أن أوفق في حياتي إلى عيش بسيط. بعيد عن زحام المجتمع والمدنية الزائفة، مادام في الأرض متسع وفي متناول يدي البَر، وهو سهل عليّ وقريب إليّ!.
 
المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
1913 - 1997
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في مجلة الروائع البغدادية في 1/9/1938 وكتبت في 10/5/1929 (كان الراحل حينها بعمر 16 سنة/ الناشر محمد علي الشبيبي)
1- كانت الإنارة إذ ذاك المصباح النفطي.
2- طالما سببن لبعض الأطفال خوفاً فيرفض عند النعاس أن يذهب ويرقد في فراشه خوفاً من الجني!
3- في كتب كثيرة قديمة وصف الفرق بين الجني والملك، بعض العلماء يبدو أنهم من ذوي الفكر النير فهونوا الأمر وقالوا: الجني كل ما جن تحت الأرض!
4- هو المغفور له الدكتور عبد الرزاق محي الدين، أول من وجهني لدراسة الأدب الحديث والأساليب الحديثة في التأليف، فأقتنيت إلى جانب البدائع كتاب الأدب العربي للأستاذ أحمد حسن الزيات.
5- كتبت على غرار كتابات جبران خليل جبران –وادي الأحلام و وديع الغريب-.
6- من ذلك قصيدة بعنوان –نفثة الألم- و –تعالي- (هذه القصائد تضمها المجموعة الشعرية الكاملة للراحل والتي طبعت عام 2013/ الناشر محمد علي الشبيبي)
7- لديهم ما يسمونه – استخاره- يأتي أحد الناس الى رجل دين كهل –أو قل معمم- فيطلب منه –الخيرة- بالمسبحة السوداء. المستخير يذكر ما يريد في سرّه، وهذا يقرأ كلمات تقديس لله ثم يغمض عينيه ويحجز بضع خرزات بين يديه فأن -فردا- جيدة وإلا فلا؟! هي تماماً كما كان يفعل أهل الجاهلية!


21
المنبر الحر / النـــاس*
« في: 19:17 21/05/2019  »
النـــاس*



 
سالكو سبيل هذه الحياة، وملتمسو النجاة من الزلات والآفات، قد ساروا الى مصير بين الشك واليقين يحفهم الشوك والريحان، وتطلع عليهم الشمس تارة، ويظلهم عنها تارة الغمام، وتعصف بهم هوج الرياح، شرابهم رتق زلال.
قد يسرعون الخطى نحو النهاية والمصير في سبيل وهم عرفوا اسمه وما وُلد، وحلموا بظله ولم يُمَدَّ!
مصارع بعضهم تحت الأقدام. وآخرون تاه عنهم القدر، فتبعوه حتى وجدوه، وتعلقوا به فنبذهم، ثم كرّ عليهم بلهفة وصرّ عليهم بأسنانه.
قلت لنفسي مرةً، أمامكِ الناس فأقرئي سر الحياة بأوجههم، وخذي العبر من سَيرهم. ورحت أمعن النظر. وأرهف السمع، في ضحك الطفل وبكاه، بما يؤلمه، ويهمه ويشغله، بمرحه عند يقظته، واستسلامه عند هجعته فوددت لو أني بقيت طفلاً!
وصدفت إلى الشباب، فتأملته، في أمانيه وأحلامه، في غروره وطيشه، في شقوته وسعادته، في أمله وخيبته، في حبه وضغنه، وهُداه وحيرته، وريّه وضماه، في أمسه وغده، فوجدت حرارة الشباب قد الهبت فيه غُلّة العواطف، فلا تطفيها غير الشيخوخة!
وعرجت على الكهول والشيوخ، فيما حصلوا وأضاعوا، وآمنوا وجحدوا، وقدّموا وأخّروا، وضحكوا له وبكوا عليه، وسعدوا به وأشقوا لأجله. في الشيب اللامع وما بعثه، والظهور المحنية بما أنذرت، والرؤوس المرتجفة بما حملت. والعيون الذابلة في نظراتها. فعرفت أن المنتهى قريب، وكل ما بقى فيهم حسرة في الروح إن عجزت عن سحب هذا الجسم حيث تشاء، وظل لا يملك غير الذكريات في نفسه، والاستغفار منها على لسانه.
ثم انغمست بين أجناس من الناس. بين الفقير والغني، والخامل والنابه، والمعافى والسقيم، والقبيح والجميل، والخلي والشجي، والمجرم والبريء، وساكني الأكواخ والقصور.
فوجدت كُلا ً يحوز النار الى قرصه، ويحول الباطل حقاً لنفسه. يلين بلسانه ويحكم بسره كي ينال العنقود، فإذا ما ناله بنى حوله من الأنانية سياجاً، وأسدل عليه من الاستغلال ستاراً، لا يكتفي بالقليل، ولا يقنع بالكثير.
وعدت بعد هذه السياحة والاستكشاف أساءل نفسي عما عرفت وجربت؟ فنويت أن اباعد الناس، وألزم الوحدة، ولكن نفسي لم ترض من ذلك! كيف؟ ومن الناس أتعلم كل علم. وأفهم كل سر. وأحصل كل عظة ... فإن وجدت السقيم حرصت على الصحة. وإن وجدت المجرم تعلمت النزاهة والفضيلة. وإن رأيت الجاهل طلبت العلم. وإذا ما لاحظت الغني والفقير، تعلمت الرحمة وفائدة الثراء، وتعلمت الصبر من الجزوع. والحلم من الأحمق. والهدوء والسكينة بظل الصخب والضوضاء. ولذة الصمت من المهذار.
ولُقنتُ من كل صور الحياة المرح والسرور، لأن (ثروة الدنيا رغيف ورداء[1]). ونهاية الجميع موت وفناء. فلا يحملون معهم ما ملكوا، ولا يملكون أن يرقبوه أو يتمتعوا بشيء في المسكن الأخير!
وعرفت أن لابد أن أكون بعد هذه الحياة أنشودة حمد وثناء على ألسِنة بعض، ولعنةً ونقمة عند آخرين.
 
المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
1913 - 1997
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في جريدة الهاتف عدد 210 صفحة 9 عام 1939.
1- من شعر جبران خليل جبران في قصيدته (ماذا تقول الساقية) ومطلع القصيدة: سرت في الوادي وقد جاء الصباح معلنا سر وجود لا يزول ... ثم يقول: ما الفقير بالحقير ... ثروة الدنيا رغيف ورداء./ الناشر محمد علي الشبيبي

22
المنبر الحر / ثورة وسكون*
« في: 20:27 15/05/2019  »
ثورة وسكون*
كلّ حياته مشاكل. وكلٌ يحوطه غصص وأوجاع. وكلٌ أمانيه بعيدة. وإن كان يعتقد اَنَ اَهمَ مشاكله واحدة. ومذ تمكن من حلها  ذهب عنه نصف ما يعانيه، من السأم والجزع. وأنفسح أمامه مجال التأمل بعقد حياته الأخرى. لكنه مع ذلك إذا تكتلت عليه أوجاع حياته، وتراكمت عليه المشاكل أصبح لا تستهويه المناظر الجميلة، ولا تبهجه المسليات.
وفي ساعة متأخرة من أحد الأيام –نهاراً- ضاق صدره، وعاودته وساوسه. فثار ثائره، ونهض إلى مكتبه، وجلس هناك مفكراً، محاولاً أن يتغلب على الهياج النفسي، بتحليل البواعث. ونظر وتأمل بجميع ما حوله. وعرض أمام نفسه جميع ماجريات يومه، وأسبوعه. فلم يُجدِه كل ذلك نفعاً. فخلق موضوع شغب بينه وبين نفسه. علّه يجد متنفساً من غيظه، واحتج عليها بحجة واهية، وتقصير طفيف، ومع أنها سايرته حدتهُ، وتلطفت وترجت أن تهدأ ثورته، التي تجهل بالطبع هي أسبابها فلم تفلح. وظل مستمراً يكيل لها اللعنات، وينثر عليها الشتائم. ثم عمد إلى جرّة الماء فحطمها، وأتبعها ثانيةً وثالثةً.
كان كل هذا كيلا تمتد يده إلى زوجه بضربة. فهو يدرك أن لا ذنب لها ولا دخل فيما أثاره، وحبس طبعه.
أسرع إلى ملابسه فارتداها، ووجّه وجهه شطر النادي، حيث يجتمع الموظفون. وحيث أعتاد هو أن يقضي أمسياته حتى الساعة العاشرة. هناك أنقطع وحده في زاوية من إحدى ساحتي الحديقة. وعلى الرغم من أنه كان يرغب أن لا يجالس أحداً، فإن هذا ليس بمقدوره. وحالاً تجمع حوله أصدقاؤه الذين أعتاد الجلوس معهم كل يوم. إنهم من الذين يحسنون المجاملات، وهي البلسم الوحيد لديهم في مداواة السأم. واستسلم للسكوت والإصغاء لما يتحدث به الجلاس. وقد تجمعوا حلقات، مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، على القاع الخضراء، حيث يرسل القمر أشعته من بين أغصان شجر الكالبتوس. ولا يخرج لهو الجميع، عن أحد نوعين النرد والحديث! أما اللاهون بالنرد، فلا تحسبهم إلا خالين من المشاكل، سالمين من كل ما يحتاج إلى تفكير، فتراهم عكوفاً على طاولة اللعب، كما يعكف مخترع كيمياوي على اكتشاف ما يظهر من مستحضراته! ترتفع بين آونة وأخرى لهم أصوات متضاربة ونزاع حول نتيجة اللعبة، ولا يذكرون شيئاً سواها إلا عندما يمر بائع أبيض وبيض[1]!
أما الذين يتلذذون بالحديث، ويقضون ساعاتهم فيه، فهم لو رجعوا يحاسبون أنفسهم، لوجدوا أنهم أضاعوا الوقت وبَذّروا فيه. وان تكن أحاديثهم –في الغالب- لا تنطوي على مغزى ولا تنتج فائدة. هناك ذوو الأحاديث الهزلية، والمعروفة عندهم بـ -القايش[2]- أما إذا وجدوا بينهم ضعيفاً، أو سخيفاً، أجلبوا[3] عليه من كل ناحية.
وهناك الذين يكدسون وقتهم لتحليل الشخصيات التي تخطر على أذهانهم أثناء الحديث، فقد يجمعون على نقدها بكل سوء ونقص. أو ذمها بكل شين ومين. وقد ينقسمون إلى مدافعين ومهاجمين وإلى وسط بين بين. وقد يرون تقديسها وإجلالها، فيَسِمونها[4] بكل حسن ليس فيها، وسموّ هو غريب عنها.
في هذا الوسط وجد صاحبنا السكون مرضياً، والإصغاء لذةً وجمالا. ورأى أنه قد يعثر على الدر في بطون الأسماك. إذن ليصغي لأحاديث الجالسين لعل فيها ما يروق، ولعله يستطيع أن يصرف نفسه إلى الانشغال بكتابة موضوع، يوحيه له منظر الجالسين، وأساليب نزهتهم وتسليتهم. ولفت نظره شاب يشتغل في دائرة (......) يتأثر وينفعل من صاحب مقهى بجانب النادي. وبكل حرقة وغيظ يلعنه، لأنه حسب معتقده عديم الذوق باستعمال بعض الأسطوانات للأغاني الريفية العراقية. فساء هذا الرأي جماعة آخرين يميلون إلى هذا النوع من الغناء. فهو في نظرهم أقرب إلى تصوير العواطف المتألمة الشاكية. وأبعد عن الغلو والخيال. وهو إلى ذلك نزيه غير مشوب بغايات سافلة. انه عبارة عن نفثان أولئك البائسين من الريف، تنفس عنهم ما يحوطهم من البؤس والشقاء في حبهم وفي عيشهم، وفي أتعابهم، في عملهم ونوع حريتهم.
وقال آخرون: الفن يعوزهم. وأنكر بعض هذا الإدعاء، قائلاً: الفن مصطلح. يجب أن يلمس جراح السامع، وأن يمثل عواطفه، باللحن والمعاني، ويجب أن نقتصر في قيمة الغناء على ذوق السامع. والأذواق محترمة لا يحكم عليها في مثل هذا الغناء. وطال الجدل. حتى ملّ صاحبنا، وتحول يصغي إلى حديث آخرين. أخذوا يتداولون بين الجد والهزل -نظام الفتوة[5]- فمن محبذ له مرتاح، ومن ناقم يرى ذلك ضغطاً وقيداً.
قال أحدهم، وقد سند رأسه إلى يديه المتشابكتين خلف كرسي الاستراحة، نظام الفتوة يبعث في النفس القوة على العمل ويشعر الإنسان تماماً بمركزه ولياقته.
وأنا اعرف في أمثال هذا القائل من لا يحترم لأحد كرامته، ليستغل السلطة التي بيده لتحقير غيره، والضغط عليه مع انه لا يتهاون بواجبه فهل سيقوّم نظام –الفتوة- عِوَجه؟ ويخلص في نفسه الشرف والالتزام، ونزعة الخير. ويعلمه الواجب تجاه الإنسانية. أم ان سيمنحه سلطة أوسع لسلب حرية الآخرين؟
وقال آخر: حسن ذلك لو ان نظام الفتوة لا يتفق ومهنة التعليم وعلى الأقل، يجب أن لا يكلف –المعلم- ارتداء الملبس الخاص إلا حين التدريب. لأن تشبع نفس المعلم بالنظريات التربوية تجعله بعيداً عل الأساليب في الحياة العسكرية وقيودها...
وقال ثالث -ويبدو انه من المفلسين- الذين قيل فيهم اِن راتب الموظف كحلم الأعزب لا يصبح منه إلا على قذارة الثوب ونجاسة البدن! قال هذا المفلس هل يستطيع راتبه بعد التصفية، او قل، ان يقوم بواجب إعاشة عائلته وتدبير أمور البيت، والقيام بكلفة نوعين من اللباس، مدني وعسكري؟!
وانتفض رابع، فقال: انا لا أهتم إلا بشي واحد، كيف أستطيع القيام بالتدريب العسكري والتدريس مع دوامين –صباحاً وبعد الظهر- مع الاستعداد للامتحان المفروض على مثلي من وكلاء المعلمين.
فاشترك في الموضوع فضولي اجنبي عن المهنة قائلاً: في الواقع أن وضع المعارف مضحك في تناقضه وتضاربه. وان قضية فرض مثل هذا الامتحان على ناس عُينوا على فرع خاص لمن الظلم الفاحش!
فأثابه -المشمولون- باستحسان كلامه، وإعجابهم برأيه. ومن أحس بهذا منهم، أستعد لإلقاء محاضرة عن وزارة المعارف! فوكزه رفيق له. مشيراً لحضور فتى، يقال أنه يتقرب للشخصيات بما يسمع والله يعلم إن كان ينقل بلطف أو بخبث؟ سكت الحاضرون والمحاضر وحول حديثه إلى هزل، وبحذق وبلباقة –لفّ القايش- على القادم الجديد. وقطع حديثهم قادم آخر. وبعد السلام والترحيب، سألهم: لماذا جلستم اليوم في هذه الساحة مع أن الثانية أطيب وأجمل!
فرد عليه أحدهم متهكماً: لا نحب نشارك الأرستقراطيين مكانهم فنكدر صفوهم وسرورهم!
وقال الثاني: أما أنا فلأني وجدت الآخرين هنا، ولست أشعر بما يريبني من أولئك، أو لا يهمني شأنهم، فالنادي للجميع! وتصادمت الأجوبة والآراء من كل الحاضرين. وهكذا وجدوا ما يقتلون به الوقت.
لقد قارب الوقت العاشرة بعد الغروب، عاد صاحبنا إلى نفسه يسألها عما إذا كانت وحدها ذات مشاكل، إن مشكلته لا شبيه لها؟ وأجاب، أن لكل إنسان مشكلة، قد يراها أعقد من حل الطلسم، فمالي إذن يضيق بي هذا الرحب؟ وهؤلاء اللاهون... أليست لهم مشاكل؟ أفَهُمُ أقدر مني على الجهاد في الحياة؟ كلا ...
فلابد أن اكون بعد اليوم مرحاً لا اَهَم ولا أسأم، ولكن سوف لن أضيع الوقت بمثل هذا اللهو العقيم! 
 
المربي الراحل
علي محمد الشبيبي
1913 - 1917
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في جريدة الهاتف العدد 181 صفحة 11 سنة 1939.
1- هي بيض مسلوق مع قطع صغيرة من الطماطة وملح في صمونة أو رغيف خبز.
2- القايش: اصطلاح عامي. أي هزل يدور على واحد منهم للتسلية أو لغرض بينهم.
3- أجلبوا عليه: اجتمعوا وتألبوا عليه. / الناشر محمد علي الشبيبي
4- يسَمونها، من الوسم أي العلامة.
5- نظام الفتوة أبتدعه مدير المعارف العام سامي شوكت في العهد الملكي عام 1940 – 1941 شمل المعلمين والمدرسين بموجبه تدريب عسكري وواجب عليهم ارتداء بزة عسكرية وضع فيها أعلام على أكمام الردن وعلى الكتف وجعل شعاره -اخشنوا فأن الترف يزيل النعم- بينما يذكر عنه آخرون أن سرواله من حرير، كما بادر فوضع –الشبكة ذات العاقول- والتي يقطر عليها الماء، ثم المروحة لتبريد الغرفة أثناء الوظيفة فماذا يفعل في بيته؟ وفي خطبة له أفتتحها بقوله: أخشوشنوا فأن الترف يزيل النعم! وكلمة له خاصة: تعلموا صناعة الموت!؟ فرد عليه الأستاذ عبد الله الحاج –لا يحسن صناعة الموت إلا الطبيب الجاهل- مشيراً بهذه الكلمة  إلى كونه طبيباً لكنه ترك مهنة الطب وصار مدير معارف؟!

23
خطيئتي*!
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997






المعروف أن من الصعب أن يعترف المرء بخطيئته، وهذا حق! وأريد أن أعترف بخطيئتي، أمام ضميري، وها أنا أعلن ذلك.
لازمتني الكآبة زمناً كنت لا أدرك فيه سبب كآبتي، وكثيراً ما كنت أغرق بالفكر، باحثاً عن سر هذه الكآبة العميقة. ويرتد الفكر القهقرى إلى أيامي الغابرة. لعلني أجد في صفحات ما فات من عمري، الأسباب التي تثير عليّ زوابع هذه الكآبة، وعواصف التعاسة، التي تتملكني فتقصيني عن السرور، وتحجب عن نفسي لذائذ الانشراح، حتى لو كنت بين مروج الطبيعة الخضراء، ومحفل الأنس والسرور، فلم أفلح ولم أنجح.
والآن، وأنا الى جانب كوخ منفرد، تحوطه النخيل وتكتنفه المستنقعات، وقد جلست كالراكع على ركبتي، أمام فرعين من زهر النيلوفر[1]! متأملاً هذين الفرعين. كيف التقيا على ذلك الخيط الدقيق، كما التف حبيبان عند لقاء بعد فراق، على أن كل منهما شد بخيط مستقل من أسفل الساق.
وأخذت بي الفِكَر إلى وساوس شتى. ومثلت لي عوالم شتى، ثم عادت بي إلى هذه الكآبة، وخيمت على قلبي. وكأن باعثاً تعمد أن يغمرني بها، وكأنه ينتظر أن أعترف بها. ومذ ملّ بعد انتظار، ذكرني فيها هذه الساعة على حين غفلة، حين تعقدت أمام نفسي الأفكار المتشعبة، والأفكار المبعثرة.
أجل على حين غفلة ذكرني بالخطيئة، ودون أن تتأملها نفسي طأطأت بذلة وانكسار أمام محكمة الضمير! ولكن كيف تكفر نفسي عن خطيئتها وهي قديمة مرت عليها سنوات توارت كما وارت الازمان أجيالاً من البشر؟
صديقي –سعيد[2]- الشاب الظريف، وقد نشأ بين أب رؤوف وأم حنون. كان والده يًسرفُ عليه. وأسلس له حبل الحرية، فلم يلتفت إليه إن اغترّ. ولم يعاقبه إن أجرم. وهكذا شب ناعم البال تحت ظلال السعادة، ورفاه العيش!
كنت أنا صديقه الوحيد، في المدرسة نجلس على مقعدين متجاورين، ونقرأ بكتاب واحد. وحين ينتهي الدوام نعود يداً بيد إلى بيت احدنا، وقد نبيت سوية. لا نفرق بين الأهلين، وهكذا أيضاً تركنا المدرسة، وبقينا بلا عمل، نقضي الأيام بالبطالة واللهو واللعب.
كان أواسط أخوته، لكنه التزم رعاية أهله –حين توفى أبوه- بعد فترة وجيزة من تركه المدرسة، فإذا به كمن أستيقظ بعد نوم، يشمر عن ساعده لرعاية أهله وإعالتهم. فلم يترك أبوه مالاً ولا ملكاً غير البيت الذي يسكنونه وارض زراعية ليست كبيرة! لم يدخر أبوه شيئاً، كان ينفق على العائلة كل ما يكسب ويبذر دون حساب.
عاد سعيد يحمل هم العائلة، بينما لم يكترث أخوه الأكبر بكل شيء، لكنه أستقر بتدبير شأنه. اشتغل سعيد عند قماش، وكاتباً في متجر، ويعاود ارضهم الزراعية الصغيرة وما يعوز فلاحها. كل جهوده لم تُعِدْ إلى عائلته تلك السعادة التي افتقدوها بعد وفاة والده، فأنهكه الهم وثقل العبء، وسلب راحته وكساه مسحة حزن قاتمة. تغيرت ملامحه، انهارت قواه، فأصيب بالاستسقاء المعوي، فما أجدى الأطباء نفعاً في دواء. فذهب ضحية ذاك الداء الوبيل. وتوارى شبابه النضر تحت التراب.
كان يرجو لو أسرع الموت إليه، مادام أمل الشفاء مستحيلاً.
وأنا؟ أنا الصديق الودود، ماذا فعلت خلال الأشهر الأربع التي قضاها في صراع مع المرض؟ ان ذنبي لعظيم، وأن جفوتي لقاسية؟ ما السبب في كل هذا؟ لا شيء. انه بسيط، فقد عُدَته مرةً، وجفوته شهراً كاملاً، فكان هذا سبباً في خجل أستولى عليّ، وانعدام عذر معقول زادني جبناً فتضاعفت جفوتي. خجلت أن أذهب بعذر مكذوب، واستمر الجفاء بدافع الخجل وعدم وجود العذر المعقول.
لم أكفر عن الخطيئة قبل أن تصبح عظيمة، وصارت ذنباً لا يغتفر!
وفي ذات ليلة وأنا أصب الماء على يد أبي بعد العشاء، جاءت الريح بصوت: يا سعيد يبني!. كان الجو ملبداً بالغيوم. حجب القمر الذي بدا لعيني يشاطرني الحزن وكأنه أيضاً ينظر إلي شزراً، لخطأ عظيم أخطأته.
سقط الإبريق من يدي! قال أبي ما بالك؟ قلت بصوت مختنق، سعيد مات! قال كيف سمعت؟ قلت نعم: صوت أمه بعينه، صك سمعي –سعد يبني- ونهضت أتعثر بخطاي، واجماً كالأخرس، سوى دمعات تلجلجت ثم جمدت لشدة البرد. وأسرعت أمشي خلف النعش. ولما تم غسله، نوديت لإلقاء النظرة الأخيرة، فطبعت بصمت على خده قبلة الوداع الأخير. وهمت من جديد أتعثر بوادي الأموات بالقبور المتزاحمة، ابحلق بعيني بالغيوم الملبدة، فأختنق بعبرتي. هذه الخطيئة تتمثل لي كل حين، فأعترف لضميري نادماً على ما بدر مني، وكثيراً ما زرت رمسه، خصوصاً أيام الشتاء حين تتراكم الغيوم، فأكتب كلمة أو قصيدة، ثم نسيت كل شيء.
لم أعد أذكر الخطيئة ولا صديقي، إلا حين يتردد أسمه فتدركني حسرة! وفي هذه الساعة وكنت أعالج فرع زهور لتنظم حسب الاتجاه الصحيح لها، لاح لي  فرع من زهور –النيلوفر[3]-  التقى به فرع آخرمثله فأشتبكا كحبيبين تعانقا. وبذات اللحظة خطر –سعيد- أيضاً على بالي وكأني أراه ينظر إليّ نظر عاتب. وكان صوت الضمير يصرخ بي من أعماق نفسي. فعدت إلى الكوخ، وعلى ضوء مصباح عادي كتبت اعترافي هذا، بالخطيئة التي لا تغتفر، لعلني افارق وأتخلص من غيوم كآبتي، وأستريح من عذاب الضمير!
 
الهامش
*- نشرت في جريدة الهاتف عدد 7 صفحة 5 عام 1935. 
1- زهر النيلوفر نوع من النباتات المائية تنمو في المياه الراكدة، وهو نبات معمر جذوره عميقة، يمد سيقانه الى سطح الماء حيث تورق وتزهر النبتة على سطح الماء، ازهاره بيضاء وصفراء زاهية./الناشر محمد علي الشبيبي
2- هو سعيد بن شيخ كاظم بيذره. كان أبوه طبيباً أهلياً على الطريقة اليونانية القديمة والأدوية العشبية، ونحن جاران أيضاً.
3- كنت من هواة الزهور قبل أن أكون موظفاً في التعليم. وفي بداية تعيني معلما في قرية، جئت ببذور ونسقت مربعاً أمام كوخي وبذرت فيه بعض بذور بسيطة. كما نمت في بركة ماء عذب زهرة النيلوفر.


24


صور*
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997




مقدمة لابد منها
سبق ونشرت لوالدي علي الشبيبي -طيب الله ثراه- مجموعتين قصصيتين (السر الرهيب) و (هذا من فضل ربي). ومن اليوم سأسعى لنشر مجموعة الوالد القصصية الثالثة بعنوان (وادي الأحلام) وهي 17 قصة وحكاية، كتبها -كما أعتقد- ما بين عام 1930-1938، وهي من بدايات محاولات الوالد في الكتابة القصصية. إن أفضل ما أقدمه لذكرى والدي هو العمل على نشر تراثه. هذه الأمنية التي كانت تراوده طيلة حياته لكن الظروف السياسية القاسية وانعكاسها على وضعه العام -من فصل، وملاحقات واعتقال، وسجون، وتبعات أخرى- كانت حائلا جديا لعدم تمكنه من طباعة ونشر مخطوطاته، مع العلم أنه نشر الكثير -الممكن- منها في بعض الصحف العراقية والعربية.
وعن مجموعته هذه -وادي الأحلام- كتب والدي التعليق أدناه، وقد نشرته خطأ في مقدمة المجموعة السابقة (هذا من فضل ربي)، لذلك أعتذر عن هذا الخطأ. ومع هذا أجد أن التعليق صالحا لكل مجموعاته القصصية والأدبية الأخرى.  لذلك وجدت من الضروري نشر تعليقه لأنه يعطي صورة متكاملة عن محاولات الوالد في كتاباته وتطور اسلوبه وتفكيره، وهو يكتب عن كل ذلك بتواضع وصدق. فكتب الوالد بتاريخ 17/10/1966 في إحدى مخطوطاته الملاحظة التالية عن قصصه:
((هذه مواضيع كتبتها في أول شبوبي (بين اعوام 1930-1938 كما استنتج من ملاحظات الوالد وبعض التواريخ/ الناشر)، وفي ظروف ما كنت فيها ذا نهج معين. فأنا أتلقف ثقافتي من مصادر مختلفة. أبي وأصحابه من جهة، وأساتذتي الذين أدرس بحضرتهم، الفقه وأصوله، العربية وآدابها[1]. ومن جهة ثانية أندية النجف ومجالسها وما تتضارب فيها من اتجاهات مختلفة وأراء متباينة. هذا الى جانب ما فيّ من نوازع الشباب ونفوره، ومطامحه وغروره، وجهلي الناجم عن ضغطه عليّ وتقييده لحريتي، وحجزه لأفكاري ورغباتي.
كل هذه الفوضى، وانعدام التوجيه المنظم، خلقت بي عقدا، وسببت لي إنطوائية، طغت على كل مشاعري، وأحالتني الى كشكول درويش. فأنا جبراني الاسلوب -تقريبا- في كتاباتي، والكآبة التي تغمرني والغموض الذي يكتنفني. وأنا فكه أحب النكتة اللاذعة للفراغ الذي يملأ حياتي من جهة، والكتب التي ترهق نفسي من جهة ثانية وأنا مثالي صارم مع نفسي وأصدقائي في كثير من الامور بسبب المحيط الذي يحصرني بين ابي والمجالس النجفية التي لا تخرج الى ابعد من اجترار الأدب الموروث، والجدل -البيزنطي- السقيم. وأنا متمرد! ولكن تمرد مكتوف اليدين، موثوق الساقين، مكموم الفم.
عن مثل هذه الحياة التي حييتها، انعكست هذه المواضيع فلا تستغرب قارئي الكريم، إذا ما وجدت فيها تناقضات أو أخيلة، أو ترهات!
وحسبي ان استقامت أفكاري بعد حقبة من السنين[2] ... إلا أني حباً بذكريات شبابي، واعترافا بأخطائي، أحتفظ بهذه المواضيع، ليس اعجابا بها ولا إيمانا بصحتها، إنما هي بالنسبة لي كالأبناء للوالد، يكون فيهم الأبله، والذكي، والقبيح والجميل، والجاهل والفهيم، ولكنه يحبهم جميعا، حبا تختلف درجته وحنواً تتفاوت نوعيته.
فليكن لي العذر من أي جيل كان وأي زمن! كربلاء/ علي محمد الشبيبي))
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد/العباسية الشرقية
25/01/2019
صور*
نقحت وفيها استفسار ‏25‏/09‏/2014 ، نقحت 08/12/2018 صالحة للنشر، ثبت كلمة (الغواني)
لابد أن أوافيك بما يشغل فراغ يومك. سواء لدي أوجدت بها تلك اللذة التي تبحث عنها في الأسفار العلمية والأدبية أو لم تجد. ومادمتُ أنقل صوراً من أوضاع في سيرهم ونزههم، في حديثهم ونظراتهم، فاني أرى هذا لو استطعت تحليله أقرب إلى النظرات الفلسفية من المعرفة.
وأنا يا صديقي كلما شعرت بألم، أخذت القلم وحررت إليك رسالة. فإذا ما نفثت ما امتلأ منه رأسي، وضاق عنه صدري، كلمات على هذه الوريقات، يهدأ قلبي وينعم، ويطمئن إلى الراحة. وأظل نشوان كأني إلى جنبك،  أحدثك عندما أفكر بوصول الرسائل فتطالعها.
عصر كل يوم بعد الهبوب من القيلولة، أهرع كالناس للتمشي. أقصد الأمكنة التي يجد بها الناس راحة كما يزعمون. ولكني لا أركب إلا رجليّ فقط. فلا أرفع أول قدم من باب المحل الذي أقطنه إلا وتركت للبصر مداه، بالتقاط الصور التي تعرض له في الشارع. أولئك ناس يمشون بأقدام ثابتة، ووجوههم طافحة بالبشر والمرح. ونظراتهم بالدعة والاطمئنان. تلتهم أقدامهم مسافة الشارع كأنما هم يداعبون السعادة.
ناس آخرون يضارعون أولاء بسرعة السير، لكن عيونهم ترمي الشرر بنظراتها، ترتسم على وجوههم أمارات الشرر، وتنبعث من أنفاسهم سموم الغدر، يشبهون الناس بأشكالهم ويختلفون في نياتهم. لو علم بهم من أضمروا لهم السوء لأقتصوا منهم قبل الجناية.
آخرون يمشون بأقدام متراخية، وحركات فاترة، نظراتهم هادئة ساكنة، وملامحهم تنم عن الأسف والكدر، وتنبأ عن اليأس والقنوط، كأنما أرواحهم لا صلة لها بأجسادهم، إلا بمقدار يدفع أقدامهم للمسير، وشفاههم لهمس هادئ. لذلك هم –كما يبدو- لا يحسون كل صوت إلا بعد إلحاح. ولا يحيدون عن طريق ضويقوا به إلا قريب اصطدام.
وترى فتيات يهمسن بالحديث همساً. وينقلن الأقدام متثاقلات، لم يستخدمن العيون أثناء الحديث الخفي، إلا ليبصرن الطريق، ويهتدين إلى السبيل. وقد تزعجهن مشية شباب ما خرجوا إلا لتمثيل الرذيلة، والحرب على الفضيلة. يقطعون الشوارع كي ينشروا شباكهم لإيقاع العنيد فيها. يتمايلون بقدود ممشوقة، وشعور براقة. يديرون الحاظهم حواليهم بأسرع من دورة المروحة الكهربائية، علّهم يرون صيدهم فيرمون إليه شباكهم.
وتعجبك همة شيخ عجوز. يقصد النزهة للترويح عن نفسه، وتسليتها عما أثقل كاهله به الحِقَبُ. وجرّ عليها الزمن من عذاب وشقاء. أو متذكراً ما منحته الحياة من سعادة وهناء. يسير عليها متوكئاً على عصاه. ترتجف شفتاه، ويرتعش رأسه عجباً، كيف خطف الزمن ما وهبته الحياة من شباب ناضر، وسلبته المتاعب من قوة الساعد.
الناس تروح وتغدو على جانبي الطريق في زحام شديد، وحركة مستمرة، وضجيج دائب. بينما ترى العجلات لا ينقطع مرورها تحمل أوانس وشباناً، أو رجالاً، علم الله بمَ تخفق قلوبهم، وتشتغل أفكارهم. ولفت نظري منظر الباعة السيارة، إذ يسيرون بقلوب واجفة من كثرة الصياح للإعلان عن بضاعتهم، وطول المشي على أرجلهم. ولا أريد أن أرثيهم، فقد تكون حالهم تساعد على أداء الضريبة المفروضة عليهم، والتي فروا منها. لا أدري إلا أن ضعة البضاعة التي يلتمسون الربح من ورائها، وكثرة أمثالهم وما يدعوهم للتنازع، من تخفيض الأسعار، ليكسبوا رغبة المشتري، على الأخص أبناء اليهود الصغار[1] الذين لن يدعوا المار يفلت من أيديهم بكل وسيلة مغرية، ما لم يحوزوا رضاه فيأخذوا دراهمه، لقاء حاجاتهم العتيقة.
وينتهي بي السير بعد المرور على الشارع العام. وهو أحد المعارض التي تجلس أو تمر منها الأوانس، والغواني[2]. فيستعرضهن الشباب الوقح، دون مراعاة للآداب والأخلاق! فأستقر في مقهى هناك، اعتاد جماعتي الجلوس فيه. فإذا ما جلست هناك وحدي، قبل أن يأتي إليه أحد رفاقي، اتكأت على ساعدي واستسلمت إلى أحلامي، بين ضجيج الحاكي، وأصوات الجلاس، وطقطقة اللاعبين بالنرد، فلا تصل تلك الضوضاء إلى أذني مفهومة لتصادم بعضها ببعض فتكون حاجباً لأذني منها فلا تشوش ما تشتغل به نفسي، فيتساوى لدي الضجيج والسكون.
وحتم عليّ الآن أن أذكر القرية[3]، وأنا أحاول نسيانها. بتبدل تلك المناظر الجافة، بهذه المناظر، بما فيها من رائق نزيه، أو مبذول دنس. فقد جلس جنبي فتى جميل الطلعة، حلو العينين، رشيق القوام، عذب المنطق، غير أن فيه نفوراً وشموخاً، يظهران أحياناً في عينيه وفي خطوط ترتسم على جبهته!
نظرته مرة، ورددت تحيته، وعدت إلى وضعي. إذا به يصرخ صرخة الجبار على عبده، ينادي ساقي الماء؟ كلب... جلف...! إلى ما هناك من ألفاظ الشتائم!
تأثرت لذلك المسكين، انه من القرى التابعة للعاصمة. وأنا أدريه شاطراً، خفيف الحركة، سريع الامتثال، لا يتعذر جواباً واستجابة، ولا يرد سؤالاً، وأن خرج من دائرة مسؤوليته، مجاراة للأخلاق وراحة الجلاس، وقد أبتلع الإهانة ولزم الصمت.
فرحت ألعن المدينة الغاشمة، إن كان مثل هذه الصور تعتبر –مدنية-! 
 
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في جريدة الهاتف عدد 93 صفحة 7 عتم 1937.
1- في تلك الأعوام كان اليهود هم المسيطرون على التجارة.
2- الغواني: يعتقد البعض أن الغواني هي رديف للمومسات، وهذا خطأ شائع. فوجدت من الضروري توضيحه بالاعتماد على ما جاء في لسان العرب.  الغانيَةُ من النساء: التي غَنِيَتْ بالزَّوْج ... والغانية: التي غَنِيَتْ بحُسْنِها وجمالها عن الحَلْي، وقيل: هي التي تُطْلَب ولا تَطْلُب، وقيل: هي التي غَنِيَتْ ببَيْتِ أَبَويْها ولم يَقَعْ عليها سِباءٌ. ... وقال ابن السكيت عن عمارة: الغَواني الشَّوابُّ -جمع شابة- اللَّواتي يُعْجِبْنَ الرجالَ ويُعْجِبُهُنَّ الشُّبَّانُ.... وقال غيره: الغانية الجاريَةُ الحَسْناءُ، ذاتَ زوْج كانت أَو غيرَ ذاتِ زَوْج، سميِّتْ غانِيَة لأنها غَنِيَتْ بحُسْنِها عن الزينَة. (لسان العرب)/ الناشر محمد علي الشبيبي.
3- ناحية الفيصلية (المشخاب) كنت فيها معلماً وفي هذه المدة أقيم في بغداد من أجل دورة صيفية للدراسة.


25
المنبر الحر / مُصَلّي وسكارى*
« في: 21:41 03/02/2019  »


مُصَلّي وسكارى*
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997



مقدمة لابد منها
سبق ونشرت لوالدي علي الشبيبي -طيب الله ثراه- مجموعتين قصصيتين (السر الرهيب) و (هذا من فضل ربي). ومن اليوم سأسعى لنشر مجموعة الوالد القصصية الثالثة بعنوان (وادي الأحلام) وهي 17 قصة وحكاية، كتبها -كما أعتقد- ما بين عام 1930-1938، وهي من بدايات محاولات الوالد في الكتابة القصصية. إن أفضل ما أقدمه لذكرى والدي هو العمل على نشر تراثه. هذه الأمنية التي كانت تراوده طيلة حياته لكن الظروف السياسية القاسية وانعكاسها على وضعه العام -من فصل، وملاحقات واعتقال، وسجون، وتبعات أخرى- كانت حائلا جديا لعدم تمكنه من طباعة ونشر مخطوطاته، مع العلم أنه نشر الكثير -الممكن- منها في بعض الصحف العراقية والعربية.
وعن مجموعته هذه -وادي الأحلام- كتب والدي التعليق أدناه، وقد نشرته خطأ في مقدمة المجموعة السابقة (هذا من فضل ربي)، لذلك أعتذر عن هذا الخطأ. ومع هذا أجد أن التعليق صالحا لكل مجموعاته القصصية والأدبية الأخرى.  لذلك وجدت من الضروري نشر تعليقه لأنه يعطي صورة متكاملة عن محاولات الوالد في كتاباته وتطور اسلوبه وتفكيره، وهو يكتب عن كل ذلك بتواضع وصدق. فكتب الوالد بتاريخ 17/10/1966 في إحدى مخطوطاته الملاحظة التالية عن قصصه:
((هذه مواضيع كتبتها في أول شبوبي (بين اعوام 1930-1938 كما استنتج من ملاحظات الوالد وبعض التواريخ/ الناشر)، وفي ظروف ما كنت فيها ذا نهج معين. فأنا أتلقف ثقافتي من مصادر مختلفة. أبي وأصحابه من جهة، وأساتذتي الذين أدرس بحضرتهم، الفقه وأصوله، العربية وآدابها[1]. ومن جهة ثانية أندية النجف ومجالسها وما تتضارب فيها من اتجاهات مختلفة وأراء متباينة. هذا الى جانب ما فيّ من نوازع الشباب ونفوره، ومطامحه وغروره، وجهلي الناجم عن ضغطه عليّ وتقييده لحريتي، وحجزه لأفكاري ورغباتي.
كل هذه الفوضى، وانعدام التوجيه المنظم، خلقت بي عقدا، وسببت لي إنطوائية، طغت على كل مشاعري، وأحالتني الى كشكول درويش. فأنا جبراني الاسلوب -تقريبا- في كتاباتي، والكآبة التي تغمرني والغموض الذي يكتنفني. وأنا فكه أحب النكتة اللاذعة للفراغ الذي يملأ حياتي من جهة، والكتب التي ترهق نفسي من جهة ثانية وأنا مثالي صارم مع نفسي وأصدقائي في كثير من الامور بسبب المحيط الذي يحصرني بين ابي والمجالس النجفية التي لا تخرج الى ابعد من اجترار الأدب الموروث، والجدل -البيزنطي- السقيم. وأنا متمرد! ولكن تمرد مكتوف اليدين، موثوق الساقين، مكموم الفم.
عن مثل هذه الحياة التي حييتها، انعكست هذه المواضيع فلا تستغرب قارئي الكريم، إذا ما وجدت فيها تناقضات أو أخيلة، أو ترهات!
وحسبي ان استقامت أفكاري بعد حقبة من السنين[2] ... إلا أني حباً بذكريات شبابي، واعترافا بأخطائي، أحتفظ بهذه المواضيع، ليس اعجابا بها ولا إيمانا بصحتها، إنما هي بالنسبة لي كالأبناء للوالد، يكون فيهم الأبله، والذكي، والقبيح والجميل، والجاهل والفهيم، ولكنه يحبهم جميعا، حبا تختلف درجته وحنواً تتفاوت نوعيته.
فليكن لي العذر من أي جيل كان وأي زمن! كربلاء/ علي محمد الشبيبي))
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد/العباسية الشرقية
25/01/2019
مُصَلّي وسكارى*
في غرفة واحدة هي احدى غرف مخفر شرطة القرية تضم الغرفة أربعة موظفين اشتركوا باستئجارها. أحدهم يؤدي الصلاة، فأتجه إلى القبلة وألتفت إلى أحدهم:
- على رسلك. ليَسِرْ كل منكم وراء لذته، وليتمتع بحريته ولكن دعوا لي حريتي...
أحدهم: أنت ماذا ستفعل؟
- أنا أصلي!
- ولكن ما هي الصلاة؟
- ربما عرفت منها شيئا!
- ربما؟ يا للعجب؟ انك تعمل ما لا تعرف؟
- قلت ربما... ولكن انت لماذا؟ لا تصلي؟
- لأني لا أعرف الصلاة!
- أنا أعلمك شرط ان تترك الخمرة.
- لا. لا. هذا لن يكون. الشاعر علي الشرقي يقول: (في يد مصحف وخمر بأخرى!)
- ولكن الله يقول (لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى...)
- أجلْ... وأنا أعاهدك، اني لم اقترب من الصلاة سكران! ولن أصلي مادمت سكران، والله وجه الخطاب إلى الذين آمنوا أما أنا وأنتَ لسنا منهم.
- أنا!؟ أنا مؤمن... أما أنت...؟
- أنا لست مؤمناً!
- أنت؟ لا تؤمن بالله!
- أؤمن ولكن ليس كأيمانك!
- لا كأيماني؟  وماذا عرفتَ عن إيماني؟
- لا اعرف... ما إذا كنت مؤمنا مثل ايماني بمنفعة الخمرة!
- تباً لك... يا أسفه الناس؟ افي الخمرة نفع؟
- ولماذا؟ ان الله قال «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.»[3]. رجاءً أترك هذا الحديث وأقم صلاتك. لأعرف كيف تصلي!
المصلي يدخل في الصلاة وهم في لهوهم، قائلاً وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض!
أحد السكارى: بربك اعطني ماءً...
الثاني يهم ان يملأ الكأس من كوز المصلّيَ.
المصلّي، يضرب على فخذيه الله أكبر، الله أكبر... الله أكبر!
السكارى يضحكون...
العطشان: أعطني ماء...
الثاني يهم مرة ثانية... هاك
المصلي: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر!
وينهي الفرض الأول.
ويخرج من مكانه الأول، قائلا: ان لم يكن ضرر السكر سوى الضغط على حرية الغير، والسخرية من رأيه، فهذا أكبر اثم!
يغادر الغرفة قائلاً:
- سأصلي تحت السماء الصافية، والقمر يرسل أشعته الجميلة في الفضاء، والنجوم تزهو كأنها تسبح في بحر من النور. وهناك تسبح في الفضاء الحر، بحر اللانهاية، يداعبها النسيم العليل، ولأترك لكم غرفتكم تتصاعد فيها أنفاسكم حتى السقف ثم تتساقط عليكم نتنه، بعد أن تسممت بخبث نفوسكم، وقد عجزتم عن مقاومة عواصف الحياة. وتكلفتم ثقل الوقار، فراحت أرواحكم تطلب لضعفها الفرار إلى حيث المجون والجنون...
أحد السكارى (يتطلع من النافذة نحو القمر...)
- أنظروا القمر ما أجمله! فهو أبهى من وجه الحسناء، هيا بنا إلى سطح الغرفة! نشرب على ضوء القمر والنجوم وأشباح النخيل تسبح فيه.
- الان وقد عرفت انكم تمشون من حيث لا تشعرون. فاني اترككم وشأنكم. على انكم لستم بقادرين على غيري؟
- ولماذا؟ ... قل ماذا تريد ان نعمل ...
- لقد تخدرت أعصابكم، فلا أراكم تتمكنون من ضرب الكؤوس ضربة او تحركونها حركة!
السكارى وهم يركلون المنضدة عدة ركلات فتتكسر الكؤوس وتنسكب بقية الخمرة على الارض. ثم -مع التصفيق- يهتفون .... انظر كيف قدرنا! ويرقصون
قدرنا يا مصلي، قدرنا يا مصلي، قدرنا يا مصلي...!
*          *          *          *
كتب المربي علي محمد الشبيبي -بعد أعوام (ربما عام 1986)- التعليق النقدي أدناه على نصه المسرحي أعلاه : ليست هذه المسرحية –على ركتها وضعفها- من بنات الخيال. انها حقيقة واقعة. كنت اصلي، بينما كانت تجمعنا غرفة واحدة، هي احدى غرف مخفر شرطة سوق شعلان. اليوم وأنا أعيد نسخ مجموعة أولى كتاباتي التي أطلقت عليها أسم –وادي الأحلام- صرت انسخ وأضحك من الأخطاء والركة في التعبير والحبك، وقصرها أيضاً.
ومع ذلك فأنا أعتز بها. أولا، لأنها تمثل مرحلة من حياتي. حين انتقلت من حياة لها لون خاص وطعم خاص، تعودناها من آبائنا الذين نشئونا نشأة خاصة، هي بمقتضى ما يرغبون لا ما نرغب. وسواء كنا نفهم ما نفعل أو إنّا على جهل وضلال مبين.
ولن أنسى ما حدث لي مع أستاذي –الشيخ محمد طاهر الشيخ راضي- . إذ كنت أدرس كما يدرس أمثالي ومن هم في سني، كتاباً صغيراً، عنوانه –الحادي عشر[4]- وهذا يدرَّس خاصة في شهر رمضان، حيث توقف جميع التدريسات، تخفيفاً عن الصائمين.
هذا الكتاب عن أصول الدين، لكنه يبدأ بحثه بأبيات شعر[5] محصورة في دائرة هي:
فيك يا أعجـوبة الكون       غدا الفكر كليلا
أنت حيرت ذوي اللب       وبلبلت العقولا
كلما أقدم فكري       فيك شبرا فرّ ميلا
تائها يخبط في       عمياء لا يُهدى سبيلا
أخذ أستاذي يشرح بادئا في البيت الأول. –لا بأس- قلت في سري. المسألة عويصة وصعبة للغاية. ولما بدأ يشرح البيت الثالث:
(كلما أقدم فكري       فيك شبرا فرّ ميلا)
قلت لأستاذي –ضاحكاً- ضحكةً بين الهزل والعجب، ثم قلت:
- أليس من الأفضل يا شيخي أن لا أقرأ هذا الكتاب!؟. لأجل أن أبقى بمكاني –في معرفة الله- أليس خيراً أن أبقى على معرفتي البسيطة خير من أن أفر ميلاً مع كل شبر.
ولم أشعر إلا وصفعة قوية، بمنتهى القوة على خدي –الأيسر-. وطارت عمامتي منها وتدحرجت مسافة أكثر من متر. وسيطرت الدهشة على الجماعات الأخرى المتحلقين حلقات حلقات، بعضهم يتحدثون، وبعضهم يتلون القرآن، وبعضهم يدرسون مثلما أنا أدرس.
لقد هزّ الجميع أسفاً ما فعله أستاذي معي –وهم لا يعلمون السبب- . وتقدم شاب له معرفة بي وقدم لي عمامتي. ونهضت وقلت:
- من الأفضل ان أبقى على ما لدي من المعرفة البسيطة بـ -الله- خير من أن أرتد أميالاً مع كل شبر. بل إنك جعلتني الآن أبرأ من كل ما تريد، لأنك أهنتني.
بعد أربعة أيام ناداني أبي. سألني: لماذا قاطعت دراسة الحادي عشر –عند شيخك- ؟
قلت: لأنه لا يملك الدليل، دليله الوحيد الصفعات أمام جموع الجالسين! إذا كانت معرفة الله لا تتيسر إلا بالإهانة، فأنا لا أريد تلك المعرفة! ثم لماذا، أتراجع ميلاً كلما تقدمت شبراً الى الأمام!؟ فإذا بي أبعد من يكون عن ربي!
هذه الحال -عند الصائمين- فقدان التروي والانبساط، والتروي لما يطرحه الطالب من استفهام، وجدتها عند الكثيرين، خصوصاً –المتدينين- لماذا؟ لست أدري!
ومن ثم أخذت أطالع وأسأل الكثيرين من هم أنضج مني عن هذه المعضلة –الله والكون-. ثم وجدت عالماً فاضلاً هو العلامة –الشيخ محمد جواد البلاغي[6]- وقد أعتاد أن يقيم في الكوفة أيام الربيع. وجدته قد فرش تحته سجادة صغيرة وأمامه صندوق خشبي عليه محبرة وأقلام وبيده أوراق يكتب فيها. استأذنته في الجلوس، فأذن لي. وسألته:
- أود أن أدرس الفلسفة الدينية فما رأيكم؟ واَيّ كتاب؟
نظر إليّ الرجل الفاضل، وقال: أولاً من أنت وأبن من؟. فعرفته ...
أجاب بإختصار: درست الفلسفة أنا وعدد من الطلبة يربو على الأربعين، فظلّ الجميع إلا اثنان أنا وطالب آخر. لا تقترب منها وحسبك دليلاً هاما هو كاف. هذه المخلوقات التي لا يحصيها عد كلها تعرف كيف تتخلص من أعدائها، وكيف تبحث عن غذائها ومأواها. يكفي لأن تثق بأن لها جميعاً مكوناً أعطى كل نفس هداها. ثم أنهى حديثه: أدرس لتعرف ولا تتعجل اليأس فربما توصلت إلى طريق الصواب.
علي محمد الشبيبي
كربلاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*-  نشرت في جريدة الهاتف للأستاذ جعفر الخليلي عدد 3 عام 1935. (وقد وجدت أن الوالد كتب تعقيبا نقدياً على هذا النص المسرحي القصير، ففضلت نشره مفصولا أسفل النص./ الناشر محمد علي الشبيبي)
1- في النحو واللغة درست عند متعددين، أولهم الشيخ خلف البهادلي ثم الشيخ حسن لحامي، وفي المنطق الشيخ محمد رضا المظفر، وفي الفقه وأصوله عند الشيخ طاهر الشيخ راضي وقريبه الشيخ هادي، والسيد أمين الصافي والسيد مير صهر السيد ابي الحسن الاصفهاني.
2- تعود الى أعوام الاربعينات حيث أقبلت على الصحف والمجلات التقدمية والفلسفة المادية. حيث أقبلت بشغف على مطالعة الفلسفة الحديثة للدكتور عبد المنعم خلاف وغيره.
3- سورة البقرة آية 219./ الناشر محمد علي الشبيبي
4- الحادي عشر- المقصود شرح (الباب الحادي عشر)  التي أضافها العلامة الحلي لكتاب (مصباح المتهجد) للعلامة الطوسي (هو أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي (385-460)هـ = (1201-1274)م ، المشهور بـشيخ الطائفة والشيخ الطوسي). وشرح الباب الحادي عشر هو للمقداد (جمال الدين أبو عبد الله المقداد بن عبد الله بن محمد بن الحسين بن محمد السيوري الحلي الأسدي -توفى 826هـ-) . / الناشر محمد علي الشبيبي
5- هذه الأبيات للشاعر عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد، أبو حامد عز الدين (586-656هـ = 1190-1258م). من أعيان المعتزلة/ الناشر محمد علي الشبيبي
6- الشيخ محمد جواد البلاغي (1865-1933)م، رجل دين وفقيه ومفسّر شيعي عراقي، وشاعر وأديب باللغة العربية إضافةً إلى كونه باحث في الأديان، ومتمكن من بعض اللغات الحية كالفارسية والإنجليزية والعبرية، كما كانت له مشاركة سياسية بارزة في ثورة العشرين./ الناشر محمد علي الشبيبي


26
المنبر الحر / مأساة فلاح عراقي*
« في: 21:09 25/01/2019  »

مأساة فلاح عراقي*
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997






مقدمة لابد منها
سبق ونشرت لوالدي علي الشبيبي -طيب الله ثراه- مجموعتين قصصيتين (السر الرهيب) و (هذا من فضل ربي). ومن اليوم سأسعى لنشر مجموعة الوالد القصصية الثالثة بعنوان (وادي الأحلام) وهي 17 قصة وحكاية، كتبها -كما أعتقد- ما بين عام 1930-1938، وهي بدايات محاولات الوالد في الكتابة القصصية. إن أفضل ما أقدمه لذكرى والدي هو العمل على نشر تراثه. هذه الأمنية التي كانت تراوده طيلة حياته لكن الظروف السياسية القاسية وانعكاسها على وضعه العام -من فصل، وملاحقات واعتقال، وسجون، وتبعات أخرى- كانت حائلا جديا لعدم تمكنه من طباعة ونشر مخطوطاته، مع العلم أنه نشر الكثير منها في بعض الصحف العراقية والعربية.
وعن مجموعته هذه -وادي الأحلام- كتب والدي التعليق أدناه، وقد نشرته خطأ في مقدمة المجموعة السابقة (هذا من فضل ربي)، لذلك أعتذر عن هذا الخطأ. ومع هذا أجد أن التعليق صالحا لكل مجموعاته القصصية.  لذلك وجدت من الضروري نشر تعليقه لأنه يعطي صورة متكاملة عن محاولات الوالد في كتاباته وتطور اسلوبه وتفكيره، وهو يكتب عن كل ذلك بتواضع وصدق. فكتب الوالد بتاريخ 17/10/1966 في إحدى مخطوطاته الملاحظة التالية عن قصصه:
((هذه مواضيع كتبتها في أول شبوبي (بين اعوام 1930-1938 كما استنتج من ملاحظات الوالد وبعض التواريخ/ الناشر)، وفي ظروف ما كنت فيها ذا نهج معين. فأنا أتلقف ثقافتي من مصادر مختلفة. أبي وأصحابه من جهة، وأساتذتي الذين أدرس بحضرتهم، الفقه وأصوله، العربية وآدابها[1]. ومن جهة ثانية أندية النجف ومجالسها وما تتضارب فيها من اتجاهات مختلفة وأراء متباينة. هذا الى جانب ما فيّ من نوازع الشباب ونفوره، ومطامحه وغروره، وجهلي الناجم عن ضغطه عليّ وتقييده لحريتي، وحجزه لأفكاري ورغباتي.
كل هذه الفوضى، وانعدام التوجيه المنظم، خلقت بي عقدا، وسببت لي إنطوائية، طغت على كل مشاعري، وأحالتني الى كشكول درويش. فأنا جبراني الاسلوب -تقريبا- في كتاباتي، والكآبة التي تغمرني والغموض الذي يكتنفني. وأنا فكه أحب النكتة اللاذعة للفراغ الذي يملأ حياتي من جهة، والكتب التي ترهق نفسي من جهة ثانية وأنا مثالي صارم مع نفسي وأصدقائي في كثير من الامور بسبب المحيط الذي يحصرني بين ابي والمجالس النجفية التي لا تخرج الى ابعد من اجترار الادب الموروث، والجدل -البيزنطي- السقيم. وأنا متمرد! ولكن تمرد مكتوف اليدين، موثوق الساقين، مكموم الفم.
عن مثل هذه الحياة التي حييتها، انعكست هذه المواضيع فلا تستغرب قارئي الكريم، إذا ما وجدت فيها تناقضات أو أخيلة، أو ترهات!
وحسبي ان استقامت أفكاري بعد حقبة من السنين[2] ... إلا أني حباً بذكريات شبابي، واعترافا بأخطائي، أحتفظ بهذه المواضيع، ليس اعجابا بها ولا إيمانا بصحتها، إنما هي بالنسبة لي كالأبناء للوالد، يكون فيهم الأبله، والذكي، والقبيح والجميل، والجاهل والفهيم، ولكنه يحبهم جميعا، حبا تختلف درجته وحنواً تتفاوت نوعيته.
فليكن لي العذر من أي جيل كان وأي زمن! كربلاء/ علي محمد الشبيبي))
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد/العباسية الشرقية
25/01/2019
 
مأساة فلاح عراقي*
في أواخر سلطة العثمانيين، يوم كان مدحت باشا والياً على العراق من قبل حكومته. أيام كان العراقيون يرتجون منهم تخفيف وطأة الظلم عنهم. فمدحت باشا كان يعمل بكل جهد، على إخراج العراق من ربقة استعمار آل عثمان.
وبهذه الآونة التي كان يرجى ختام رواية الاستعباد والتتريك بحكمة ذلك الوالي الذي يرى فيه الناس رحمة وحناناً وعدلاً وإنصافاً. كان بهجت بك –التركي- قائم مقام النجف، إذ ذاك، قد أستعد لتمثيل دور مناقض لما يريده مدحت باشا. فيه كل ما يناقض سياسة مدحت باشا، لدور جديد فيه كل ما يمكن أن يتصوره المستبد من الظلم الفاحش.
في تلك الأيام المظلمة، وفي حقبة ذلك العصر المليء بالمخاوف والفواجع، يوم كان الأحرار، يصارعون أنفسهم أن تخضع –وهي الأبية-، ويوم كان الفلاح العراقي يعاني أشد الظلم والعناء من تلك الحكومة الجائرة المستبدة، والتي لا تعرف للرحمة اسماً ولا للعطف ذكراً. في ظلال تلك الأيام السود عاش –سعد- ذلك التعيس المنكود الحظ، وكان بطل هذه المسرحية التي مثلها بهجت بك.
كان سعد فلاحاً، يحرث أرضه ويسقيها، وما كان نتاجها في ذلك الوقت يقيم اِوَدَهُ. فتراكمت عليه الديون، وشح عليه حتى الدرهم، إلا اليسير الذي يقيت به عياله!
وسعد واحد والديه، وكانا طاعنين في السن، مالهما غيره، سوى صبية صغار، وكان والده الشيخ لا يستطيع أن يقوم بأي عمل، وقد توّلت عينيه غشاوة الكبر. فكان سعد مثال الجد وتحمل البلاء. فما استطاعت المحن أن تمحو الابتسامة عن شفتيه. ولم تبدل أناشيده التي يرددها حين يسقي ألواح الزرع. فهو مافتئَ مرحاً طروباً، لطيف الابتسامة، جميل المحيّا، لذيذ الحديث، رخيم الصوت، وعذوبته هي التي جذبت إليه التعاسة. وشاء القدر أن يجعل هذا الشاب رمزاً لحياة الفلاح.
في صباح يوم من تلك الأيام، بينما كان سعد يشتغل في بستانه بعمل من أعماله، لاحت له بالتفاتة عن يمينه إلى جانب النهر، فتاة كانت تنظر إليه بوله، وكأن جسده النحيل قد تجمد، وأسبلت هي يديها الى الأرض بارتخاء وشبحت بعينيها إلى جهة سعد وبكل هدوء، كانت تصغي الى أغانيه، إنه مأوى الهموم والأحزان والشقاء. وكأن طرب سعد وأفراحه في أيامه السالفة، كان كاستفسار عن هذه الروح التي صادفته ذلك اليوم.
تملكت سعد تلك الساعة دهشة، وعرت جسمه رعشة، وعصف بقلبه اضطراب، فالقى المنجل من يده، واستسلم لا يدري ماذا حل به. ولا يعرف ماذا سيكون. وفي هذه الآونه تم بين روحيهما وعينيهما تفاهم غريب. ترك كلا منهما اليف السهر. وقلب تلك الأناشيد الضاحكة من سعد أناشيد حزن وألم.  تسيل دموعه كلما سقى الزرع، ويئن كلما غنّت الناعورة، ويحن كلما غردت طيور حقله، وظل بين ساعة وساعة يقف بمكان الذكرى. مكان حبيبته التي لم تعد لتزور ذلك البستان منذ ذلك اليوم، الذي فارقته حاملة جذوة الحب المقدسة بقلبها الحساس. فلم يجدها بعد تلك المرة بين الفتيات والنساء اللاتي اعتدن المجيء إلى البساتين لغسل الثياب، والارتياح بين الماء والزرع، لكنه عرف منذ ذلك اليوم اسمها ومكانها وأسرتها. غير أنه لم يستطع أن يمر على باب دارها، رعاية للشرف.
ومضت شهور قاسى فيها سعد الألم، فقلبه يتقطع حرقةً ووجداً. حتى أسعده الحظ يوماً. وأنعم عليه بزيارة حبيبته. وقد غلب عليها الشوق، فجاءت تتستر برداء الصبر، وبلا شعور أستقبلها سعد، وكاد من الفرح يطير.
كان البستان ذلك قليل الوافدات، وفي ناحية بعيدة أجتمع بها، والحياء ما بينهما رقيب، وسلطان الحب اهاب بهما عن كل سوء، وارتفع بهما عن كل شهوة. فطارحها الشوق والغرام. وكاشفته هي اللوعة والسقام. فلم يمتع نفسه منها بقبلة لأن رهبة اللقاء أنسته كل شيء. وفارقها وكان هذا فراقاً أبدياً! لم يخلف في قلب سعد غير الحسرة والزفير.
بعد أيام قصيرة من هذا اللقاء، جاء بنو عم لتلك الفتاة فزُوِجَت من أحدهم، في بلاد نائية ليس لسعد فيها صلة ولا قرابة.
وهام سعد على وجهه لا يعرف العمل، ولا يأوى لبيته ولا لبستانه، هام في الوادي التفر، بين قبور رهيبة، وحفر موحشة. وظل والده الشيخ للنواح والبكاء. حتى ذهب بصره. وقعد به الهم عن ان يفتش عن ابنه الشقي. واستولى الخراب على حقله الزاهي باليسير من الزرع فعاد قفراً ما فيه غير سعفات يابسات.
وجاءت شرطة -بهجت بك- تطالب بالضريبة المفروضة على ذلك البستان الخراب، الذي لا يؤدي نتاجه ربع أتعابه، فلم يجدوا سعداً وما كان من الشرطة إلا ان دخلوا الكوخ فشردوا العيال. وراحوا يوسعون ذلك الشيخ ضرباً موجعاً. وظلوا يراجعون الكوخ كل يوم لكنهم لم يعثروا على سعد اليائس.
وفي يوم شديد الحر، اختلج قلب سعد، فحن وتذكر والديه الشقيين وصبيته الذين كان لهم ولياً. عطفته نحو عائلته عاطفة الحب، وعاد ظهر ذلك اليوم كالغريب. عاد إلى أهله بعد فراق طويل. وعصر ذلك اليوم جاءت شرطة ذلك الباغي الظلوم، ودخلوا الدار فجأة، فوجدوا سعد تحف به عائلته الشقية. يذرفون الدموع وينشجون نشيجاً. لكن هذا المنظر لم يؤثر على تلك القلوب الصخرية. بل صاحوا بهم صيحة أخرستهم. فبهتوا محدقين بعيون متجمدة نحو الشرطة، ثم توسلوا إليهم، فلم يجد التوسل والاستعطاف، وقادوا سعداً من بين أهله لا يعرف ما يراد به، وراحوا به إلى القائم مقام بهجت.
حين رآه بهجت تقدم إليه بحدة وركله ركلة قوية كانت سبباً لوفاته بعد ساعتين! ولكن من ذا يعترض، ومن ذا يتكلم، وحمل شهيد البؤس والغرام ميتاً. أما حبيبته فقد جاءت يوم دفنه، وصدرها رحيب بأمل اللقاء، ويا بؤسها. فأنها عندما سألت لم تحصل إلا على من يدلها على قبره تبكيه وتندبه.
للمربي الراحل
علي محمد الشبيبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في جريدة الراعي العدد 13 صفحة 9 في 05/10/1943. أوحى لي بكتابتها الأستاذ عبد الوهاب الصافي الذي رأس جمعية الرابطة ثم عُين قاضياً. وكان هذا قبل تأسيس الجمعية (1932). واليوم بعد زمن طويل، كنت أقرأ عن العثمانيين في العراق فورد أسم –بهيج- قائم مقام في النجف. ولكن ليس في عهد مدحت باشا، كما ذكر لي السيد عبد الوهاب. فمدحت باشا كان في العراق عام 1869م بينما كان هذا في عام 1915م. وقد نشرت القصة ولم يلاحظ أحد هذا الخطأ!
الواقع أني أنقل هذا الذي كتبته قبل 45 عاماً، وأنا متعجب كيف نشر الخليلي هذه وأمثالها وهي ركيكة أسلوباً وأسس قصة وتسلسل الحدث وكيفيته. ولكن تذكرت أن المرحوم الأستاذ جعفر الخليلي هو الذي خدم النجف وشبابها وفسح المجال لهم. فان هم قصروا في أول الشوط  فقد برزوا بعد هذا. فهو مدير مدرسة القصة والرواية في النجف، بل في كثير من مدن العراق.
1- في النحو واللغة درست عند متعددين، أولهم الشيخ خلف البهادلي ثم الشيخ حسن لحامي، وفي المنطق الشيخ محمد رضا المظفر، وفي الفقه وأصوله عند الشيخ طاهر الشيخ راضي وقريبه الشيخ هادي، والسيد أمين الصافي والسيد مير صهر السيد ابي الحسن الاصفهاني.
2- تعود الى أعوام الاربعينات حيث أقبلت على الصحف والمجلات التقدمية والفلسفة المادية. حيث أقبلت بشغف على مطالعة الفلسفة الحديثة للدكتور عبد المنعم خلاف وغيره.


27
المنبر الحر / غرام
« في: 21:10 14/12/2018  »


غرام*
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997



 
جاء في أساطير الأولين أن الملك النبي سليمان، حين غضب على الهدهد سجنه مع البوم. وهذا ما حدث لي تماماً!
في ليلة من ليالي كانون الثاني، أشتد البرد، واختفت حتى القطط. كنت في غرفة الموقف رقم (2)، وقد وقف الشرطي الحارس بعيداً عن الباب، ليحتمي من زمهرير البرد. أما أنا فقد لجأت إلى زاوية الغرفة ألتحف ببطانيتين، وأجلس على ثالثة، مسنداً ظهري إلى مخدة بيني وبين الجدار البارد جداً.
كانت الساعة الثانية عشرة وأنا أعالج نفسي علّ عينيّ تنعمان بغفوة، وعبثاً حاولت. فقد مرت الأحداث أمام عيني كشريط سينمائي. وغبت عما حولي ولم أفكر بشيء من ذلك. ولم أعر انتباه لشيء حتى صفير العسعس الذي يطلقه بين آونة وأخرى، لاهياً أو متقصداً لأمر.
وعلى حين غفلة سمعت ضوضاء وصياحاً، وشرطة يدفعون ثلة من الناس عن باب المركز. وساقوا أربعة نفر أمامهم إلى حيث مفوض ومعاون الخفر، لإجراء التحقيق.
ماذا يعود عليّ في هذا الوقت من الليل؟ لابد أن يكون هؤلاء من أرباب المباذل؟ وسوف لن يحشروهم معي في هذه الغرفة. فقد أصبح الخوف من عدوى الأفكار أهم من الخوف من الأمراض والأوبئة؟ وها هي السجون تضم بين جدرانها من أحرار الفكر أضعاف ما تضمه من القتلة واللصوص وسائر المجرمين.
وهذه الغرفة لي منذ خمسة أيام. وما مرت عشرون دقيقة حتى أقبل الشرطي المسؤول، وزج بثلاثة منهم معي. كان أحدهم أفندياً أشيب الرأس، نحيف الجسم، طويل القامة، مستطيل الفكين، صغير العينين براقهما، دقيق الأنف، ملابسه تدل أنه من ذوي اليسر. وحالما دفع إلى الزنزانة، تهالك إلى أحد جدرانها، فاقد الوعي، إلا عينيه اللتين كانتا ترسلان بريقاً كعيني لص! وتأوه آهةً عالية، ثم أغفى إغفاءة من عاود إلى نوم عميق...
وشابان، كان أحدهما رشيق القوام، أنيق الهندام، ذا شعر فاحم، وقمصلة على أحدث طراز، جميل الطلعة. كان رغم شدة السكر، رابط الجأش، ولم تبرح عيناه باب الزنزانة... وكان الثاني، شاباً خشناً أسمر أرقش الوجه، ذا بزة تنم على أنه من صغار الموظفين، ومن الأسر الصغيرة.
سعل الأفندي الأشيب، والتفت نحوي، يتكلف اللهجة الفصحى بلسان أثقله السكر:
- حسناً أيها الموقوف، إنك تتمتع بثلاث بطانيات. واحدة كفاية! لا بأس ناولني واحدة ألتحف بها، ليت الست دخلت معنا، هه، هه! إنها جميلة أليس كذلك؟ ومن أجلها احتجزت معك هنا! من تكون؟
يبدو أنك لست من اللصوص، ولست من القتلة! هِمْ! لابد ان تكون مديناً أو متهماً سياسياً. على الأكثر كما أقول. فهذه الكتب بين يديك تنبي  بصحة ما أقول. خير لك أن تحرقها أيها السيد! إنها في هذا الزمان لا تجلب غير البلاء. وبرغم ما يقال، إنها تثقف العقل، وتصقل الذهن، أرى أنها على العكس، كثير المطالعة لا يفهم من الحياة شيئاً!. ولا يستفيد أيضاً. فأنت كما يبدو مبتلي بالمواقف والسجون والإفلاس! .... تمام؟! أما أنا فدائماً في مباهج الحياة ولذاتها، أتبع الجمال أينما يكون، والمال بخدمتي، وبه أحظى بكل حسناء، مثل –توتو- ولفظ أسمها كمن يضغط بأسنانه.
وأستمر: ولا تستغرب إن كنا نحن الثلاثة، مغرمين بهذه الست. فالعسل يجذب إليه الذباب.
- أخرس، عجوز، مستهتر!
صاح به الفتى الجميل. وضحك الشاب الآخر. وزوى بين عينيه، وقال:
- شيب وعيب! أحنه شباب ما علينه لوم، أنت ليشْ؟ والمصيبة أنك متزوج! والمن تركت السيدة؟! هاه هه، هه.
وأستوى الأشيب جالساً، وعيناه تلمعان.
- أنا عجوز مستهتر أيها الشابان، حسناً، وأنتما؟ تقيان؟ كلا، عالمان؟ سياسيان؟ طبعاً من المستهترين أيضاً. هه، هه. إنما المستهترون إخوة. لا فرق بين شابّهم وأشيبهم، ثريهم وفقريهم، وأبيضهم وأسودهم. أليس كذلك يا حضرة الـ...؟ لا أعرف ما يكون أسمك؟ تكلم. ألا يرق لك أن تتحدث معنا؟ أما أنا فأسمي -حامد- موظف في دائرة الزراعة، وإليك هذا الفتى الجميل –راشد- وظيفته.... لا أدري... يكفيه جماله.
ثار الشاب الجميل، ورماه ببصقة! قابلها الأشيب بضحكة ولا مبالاة؟! وأستمر وهو يشر إلى الشاب الثاني:
- هذا المنحوس –مشكور- أما هيَ –توت معان- أنا حبيبها الأول. عفواً، هي محبوبتي. وهذا الجميل، محبوبها! وقد يصدق علينا قول الشاعر
جُننا بليلى وهي جُنت بغيرنا       وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
ان ما حدث الليلة لها أمر مزعج. طبعاً لا تعرف ما حدث. ولا يهمك بقدر ما يهمنا نحن الثلاثة. هذا، وأشار إلى الفتى الأسمر الأرقش، جاء الليلة إلى «الماخور» قبلي، وقبل الفتى الجميل. وقبل أن يمارس ما توجه لأجله، جئت أنا. كانت العادة تترك كل شيء من أجلي، ألأني أنا جميل؟ كلا طبعاً. كنت أيام الشباب جميلاً. وكانت الحسان يتعشقنني، لجمالي ومالي، أما الآن فللمال وحده... لا تضجر، إن السكر سبب لي صداعاً، وثقلاً بعيني ولساني... إسمع تمام الحديث... ومن باب المجاملة أغضيت عنه وعنها. ولكن مفاجأة ثانية حدثت فقد دخل الفتى الجميل.
وأمال ذقنه، هازئاً، جانب الفتى الجميل. وأستمر الأشيب يتحدث: - وما أن رأته حتى غمرها فرح وابتهاج. وأقبلت عليه بكل جوارحها، عانقته وقبلته. والتفّتْ –كطفل أستقبل أباه- عليه بيديها وساقيها. أما أنا وهذا المسكين، هه، هه، ها. أنا لزمت الصمت... ولكن هذا كان قد خلع ملابسه، مستعداً للمصارعة. عفواً، للعناق والتلاق. أجل، رجع يفتش عن ملابسه، فوجد أن نقوده قد سرقت. فأخذ يصيح!
من قال، ان لديه نقود كثيرة!؟ أنا لا أعتقد إنها تزيد على نصف دينار؟! والخلاصة أن الشاب المحترم ثار على –القوّادة- مطالباً بما سُرق منه، أو تدخل توتو معه؟! وامتنعت توتو، وتحولت إلى لبوة ضارية، وحملت عموداً، وصالت وجالت؟.... تأمل المنظر!
وراح يضحك، وهو متمدد، ثم تابع حديثه: - مسكين، هذا الفتى، كاد ينقسم شطرين بين القوادة وبين توتو؟! وقد تهدل شعر رأسه على وجهه. كان مخموراً لحد الإعياء. وتقدمت أنا لأحول بينهما. وما كدت أدنو منهما، حتى أنقض عليّ هذا الوحش الأرقش، فدفعني وسقطت متهالكاً. اي. لكني نهضت بسرعة، واشتبكت معه بصراع عنيف! وانجلت المعركة بتدخل الشرطة، هكذا جلبونا إلى هنا! طبعاً الآن عرفت كل شيء؟ إذن هات بطانية!
ومد يده لينتزع البطانية، فجلجل صوت شرطي وهو يدخل الزنزانة المقابلة، وبلهجة الفرح:  - تعالي يا توتو
- هاي وين؟ صاح الأشيب
أجاب الشرطي: - هاه! هاي وين! المعاون يا أفندي طلع، والمفوض يريد يسوي وياها تحقيق؟! وبعدين آنه... هم ...؟!
وعاد الثلاثة يتراشقون بالشتائم، وانطرح الأشيب فجأة، وأتكأ على ساعده. وراح يغني على طريقة المقام العراقي:
نظري إلى وجه الحبيب نعيم       وفراق من أهوى عليّ عظيم
وسمع صوت من الشارع، والباب يدق بعنف. ودخلت أم كاظم وصوتها يدوي: - أريد أشوف المعاون، شنو الداعي لهذا؟ أحنه كل يوم بهل العزه؟!
تساءلت في سري، رباه، هذه المرأة المتاجرة بالأعراض، تجد لطفاً واحتراماً من لدن هؤلاء القائمين بحراسة الدولة وشؤونها. ولكن ممن؟ من المستعمر؟ المستعمر يصرف أمور، ويدير سياسة البلاد وهو مختبئ وراء الخونة من أبناء البلاد، على النهج الذي يجعل مصالحه مضمونة، فيطارد وكلاءه المخلصين من أبناء الوطن. يزجهم في السجون، والمعتقلات البعيدة في قلب الصحراء، أو يحكم عليهم بالموت.
وقطع عليّ هذا التفكير صوت شرطي قميء، مشوه الوجه. أمسكَ باب الزنزانة الحديدي بكلتا يديه، وهو يتكلف البشاشة، وضحك ضحكة شوهاء كوجهه، وراح يلاطف الموقوفين الثلاثة: - على أي حال، أنتو تطلعون، ما تبقون للصبح، أم كاظم تعرف تتفاهم، وانتو تعرفون؟! احنه هم إلنه نصيب؟!
ثم حول وجهه ناحيتي، بلهجة مستهتر أبله: - وأنت يا الملفلف، يا المهتلف؟ هذي نومتك، بس دير بالك، لا تدَّحَكْ بالجماعة! ذوله شلون ما يصيرون أشرف منك!؟
- أنت حضرتك شنو ها اللغوة منك، أصيح للمفوض؟
قال هذا بلهجة غضب الفتى الأرقش. وضحك الشرطي، وتراجع، قائلاً: - تمام، تمام. يجوز كهربك بكلمة، بكلمتين مسمومة!
وبدا وجه المفوض مبتسماً: - ها سيد حامد، ترَ هذا العمل، وهاي الحال ما تناسب وظيفتك ولا سنك. صحيح هي الوظيفة وراتبهه ما تهمك! ما دام آمنت نفسك من المستقبل! اكسبت، وادخرت، عوافي! خلينه أحنه، على ها الراتب الحقير، والمهامش ويه أم كاظم وغيرها! وأقول، خو ما سولف وياكم –الأخ-، تره هو وأمثاله بالشر ويجتر!.
- يا أخي تره ماكو داعي لها الكلام. رجال لا نعرفه ولا يعرفنه، وما سمعنه منه كلمة حتى الله بالخير؟ قال هذا الفتى الجميل.
- طبعاً، طبعاً. تريده يقول لك –الله بالخير- ليش هو من اليعرفون الله!؟
وأشار إليّ –أنتَ- انشاء الله، يخلصنه منك. بكره يتقرر مصيرك؟ مو أنت موظف، وراتب محترم، ليش تحارب حكومتك، الوطنية لحساب دولة كافرة؟ أعوذ بالله لو الله يخلصنه من المعلمين، كان استرحنه! والحقيقة مو كل المعلمين مثلك. الأكثرية منصرفين لواجبهم وراحتهم. ناس هادئين يقضون وقت الفراغ بالنادي، ما عدهم شي مخبَّه! صحيح يشربون، ويلعبون ورق، هذا دور مر بيه كل شاب. هذا احسن من اللعب بأعمال لتدمير الوطن لحساب عدو الوطن والدين؟! ها. شتـﮕول، لو تثوب لربك؟
وأعتدل حامد بجلسته، وقال: - عزيزي، سيد عريبي. أرجوك جوز عن حاله. الرجل ما فتح فمه بكلمة، الله أعلم ما بقلبه. لابد عنده عائلة، زوجة وأطفال، أب، أم، ثم أكو قانون، وأكو تحقيق، وهو هسه مثل ضيف بحمايتكم، مو تمام؟!
يبدو ان المفوض أحس بخسة موقفه، فختم ثرثرته: - على كل، انشاء الله، تطلعون بخير قبل الصبح، مع السلامة!
وسمع صوت أم كاظم ومعها توتو تردد اللعنة على الشيطان، وتوقفت عند زنزانتنا، حيتهم بالخير. وبأسف قالت: - ليش عيني .... والله ما كان يحصل هذا لو ما الشيطان؟!
ضحك الأشيب وعلق: - مسكين هو الشيطان، نتهمه بكل جرم نعمله، وان الخير كلّه من الله والشر كلّه من الشيطان؟ وأحنه؟ ... آلات تنفذ!
ولوى لسانه، وكأنه يسحب الكلمة منه سحباً، هكذا قال قدماء اليونان، للخير إله وللشر إله!
وردت ام كاظم: - لا باس المفوض طيب، ونعمة الإنسان! هسه تطلعون بعون الله؟ تصبحون على خير!
قال الفتى الأرقش معلقاً: - بعون الله لو بعون ام كاظم، ودَهِنه اليسير؟!
وعاد الشرطي يلعن ويشتم: - تعالوا يا ساده، يريدكم البيك. حرمتنه اُم كاظم الله يحرمه؟َ
نهض حامد، وترنح قليلاً بمشيته، ورتب هندامه، وقال: - طبعاً هسه نطلع. ولا تنسون حق المفوض؟ وأشار إلى الفتى الأرقش، وقال الأخ ضاعت فلوسه؟ ولا يهمك آنه عندك! والتفت إلي وقال، متكلفاً الفصحى: - وأخيراً لم تقل لي أيها السيد من تكون؟ ولم جيئ بك إلى هنا؟
- أيهمك ذلك؟ باختصار. أنا تحرشت بالسيدة العجوز الكبيرة؟!
ردَّ علي: –فهمت، أنا فهمت من أول نظرة، الكتب التي بين يديك تشير إلى ذلك! ما تشوفنه على حق، احنه ندفع عنا البلاء والشبهات لما نقضيهه بين الكاس والماخور! لأن العدالة تطارد من يراود العجائز؟! لكن اليغتصبون العذارى، ويعربدون في المواخير، بأحضان العواهر يعيشون بأمان؟!
 المربي الراحل علي محمد الشبيبي
 (1913-1997)
 
____________________
*- أعتقد أن والدي، المربي الراحل طيب الله ثراه، كتبها في نهاية الاربعينات حيث أعتقل عدة مرات في مركز شرطة بغداد والتحقيقات الجنائية. وقد عثرت على دفتر صغير كتب فيه ملاحظة تشير الى أن قصص هذه المجموعة (هذا من فضل ربي) كتبها بين الثلاثينات والاربعينات./ الناشر محمد علي الشبيبي
# الصورة الجماعية: بغداد (معتقل الموقف العام 12/2/1948) مجموعة من المعتقلين الشيوعيين والديمقراطيين.
الواقفون من اليمين: الشهيد ساسون دلال، المحامي محمود صالح السعيد، عبد اللطيف هاشم السعدي، رشيد بكتاش، عبد الحسين جواد الغالب، الشهيد المحامي توفيق منير، الشهيد المحامي كامل القزانجي، المربي الراحل علي الشبيبي، موريس شاؤول، جاسم الجبوري.
الجالسون من اليمين: الياهو حبيب، هاشم الواسطي، فيصل مهدي.


28
المنبر الحر / عريف المخفر*
« في: 21:57 11/12/2018  »



عريف المخفر*
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997




   
-1-
وقف أبو علاء في ساحة بيته الجديد، شارد الفكر، متجهاً بعينه إلى الأفق البعيد. بيته هذا يشتمل على كوخين، يحوطهما سياج مصنوع من القصب. وتحيطه المياه من كل جانب. المياه هنا تغمر معظم تلك الأراضي، حتى أنه ليس باستطاعة أحد أن يتنقل دون أن يستعين بقارب صغير. القصب والبردي هنا يحتل أرجاء القرية مثل الماء تماماً، ومع ذلك فالناس كثر، لا يبدو عليهم السأم، فللجاموس والبقر جمالها وهي تخوض المياه. ونقيق الضفادع في الليل مستمر، وكأنها تحرس نفسها من الأفاعي التي تطاردها على الدوام. بينما تزدان ضفاف الجزر التي أقيمت عليها بيوت القصب بالبط –الأهلي- والحمام على سطوح البيوت المصنوعة من القصب، بعضها مدهش رائع في زخرفته. فهنا صنّاع للبيوت مهرة، لم يدرسوا علم الهندسة، لكنهم لم يخطئوا في المقاييس، والأشكال التي تتخلل واجهات بعض البيوت، خصوصاً «المضايف».
أما اُم علاء، فقد وقفت هي الأخرى فاغرة الفم، دهشة من هذا الوضع الذي أصبحت فيه كأسيرة. لقد عرفت أبا علاء معلماً يستوفي راتباً لا بأس به، وله بين زملائه مكانة فهو يتفوق على أغلبهم في حبه للمطالعة، وممارسة الكتابة. تزوجته فرأت نعمة ورفاهاً، وعيشة رغداً. سكنت بيتاً يحتوي الاثاث الجيد، ومزود بالضروريات جميعها، والكماليات أكثرها. ولكن الحرب؟! آهٍ من الحرب .... تلك الآفة ابتلعت سعادتها وهناءها، فبيع أهم أثاثها.
إنها تقف ذاهلة تفكر بهذا المصير، وكيف ستعيش مع هؤلاء الناس؟ وجوه صبغتها الشمس وأبخرة المياه التي تطوق البيت فتبدو وكأنها مصبوغة بالسواد. ولكن لماذا؟ لقد رأت جمالاً ساحراً مثلما رأت فقراً مدقعاً، فتيات في ريعان الشباب، وميعة الصبا، يتجولن بين البيوت في قواربهن الصغيرة. عائدات بعد صيد السمك، وبيعه. ودهشت أنهن يستوفين الثمن في الأغلب مقايضة . سمكة من وزن معين يقابلها صوف أو –نثر- أو شعير أو حنطة، أو تمر. هذا ما لم يسبق لأم علاء أن تراه قبل اليوم.
ورمقها أبو علاء بنظرة، وافترّ ثغره عن ابتسامة ناعمة، وقال مهدئاً: - الهوى اهنا طيب جداً، منعش، والحياة هادئة ومريحة.
ردت عليه بلهجة تنم عن كآبة بالغة: - طبعاً... راح نعيش على هَوه طيب منعش، ونقضي الأيام بالنوم، مادامت الحياة هادئة؟! المعدان سكنوا المدن، واحنه نسكن الأهوار، وهذا كله بفضل مَشيَك ويَّ التعرفهم؟! احنا شكارنا بالسياسة، وشجابنه عليهه؟
قال ابو علاء وهو يبتسم: - هسه تشوفين كل شي على كيفك. اهنا أستر علينه، واحفظ إلنه من طلايب المدن، وقلاقل الحرب، وجيبوهم وردوهم. وبالنسبة إلي هم خير، انا ما اقدر أدير وجهي عن الأصدقاء، مهما تكن سُمعتهم. اهنا لا عين تشوف ولا قلب اليحزن؟!
- والعيشه! ناكل هوَ؟!
قبل أن يرد ابو علاء سُمع صوت طفل من باب السياج: علاء علاء
هو لا يعرف أن –علاء- طفل لم يتجاوز السنة الثالثة من عمره. وهتف ابو علاء: - من؟ أدخل.
دخل ثلاثة من تلاميذه في الصف الرابع يحملون بأيديهم زوجين من طيور الوز المدجن وقال أحدهم:
- هذه هدية الى علاء. احجزوهن مقدار أسبوع حتى يتعودو على بيتكم.
شكرهم ابو علاء، وحملهم الشكر الى ذويهم. ثم التفت إلى أم علاء: - الان اقتنعت أنهم ناس طيبين. وأيام الشته اشبعي من لحم الخضيري، وانواع الطير، والدجاج والبيض، وسمك المزّبد. وجارنا ابو عبد الصمد، تعهد يحصل النه اللحم والخضرة بكل وقت وبأرخص الأسعار.
وقطع كلامه، حيث سمع ضحكاً وتبادل نكات من خارج البيت. ثم صوتاً ينادي «أبا علاء» خرج ليستعلم، وعلا الضحك والنكات من جديد. إنهم زملاؤه في المدرسة. يتقدمهم مدير المدرسة. كان إثنان منهم من أبناء القرية نفسها. وأدخلهم إلى الكوخ الذي خصصه للراحة وللزائرين.
لم يمكثوا طويلاً، وبعد أن قدم لهم كؤوس الشربت أعلموه أنهم اتفقوا على جدول عملوه بدعوتكم إلى بيوتهم، وان له الخيار أيهم ليلاً، وايهم نهاراً وطبعاً مع العائلة.
كانت أم علاء تصغي إلى نكاتهم وأحاديثهم، فابتهجت. وحين خرجوا، كادت تعلق وتقارن بينهم وبين الشرطي «عبد الصمد». لكنها سمعت صوته، وهو يرد على نكات المعلمين، فقد وجدوه على مسافة غير بعيدة عن البيت. فقالت وهي تخمش وجهها: - اسكت، هم زين ما علقت، ما أدري بالكلب قادم. قال –ابو علاء- رجاء لا تكونين بهذه الصورة، الرجل يساعدنه، أنعم الله عليه، يعني قولي آنه أقدر على تدبير الخضرة واللحم لولا مساعدته؟
وصاح ابو عبد الصمد: - ابو علاء!
أجاب أبو علاء: - ادخل.
لكن المعلمين، كانوا جميعاً قد تناوشوه بالنكات اللاذعة. أحدهم يقول: - ابو الويو، دير بالك على صاحبنه لا تخويه؟! آخر يقول: - ولا تلدغه. وهو يرد عليهم بأمثالها، وبصوت عال قال: - أنا سبقتكم إلى دعوة أبو علاء، خلونه نشوف كرمكم يا معلميّه؟
ابو عبد الصمد قصير القامة، صغير الوجه، بارز الوجنتين، عريض الفم، شفتاه الغليظتان كأنهما إجاصتان، ومع هذا لم تكفِ لتغطية أسنانه العليا. فيبدو بكشرة كريهة للغاية. وهو دائب الحركة، كثير الضحك. لا يلفظ كلمة بدون ضحكة، تشبه المواء أحياناً. يعيش في هذه القرية منذ أربعة أعوام، وقالوا أنه نقل منها عدة مرات، وأعيد إليها بعد أقل من شهرين. هو العريف حميدان –ابو عبد الصمد- ومعه في المخفر عدد من الشرطة، لكنه هو المسؤول الأعلى بينهم. كان نقله من مساعي بعض وجوه القرية. ولابد أن أحداً كان يسنده ويسعى لإعادته. فعاد بعد أقل من شهرين.
ولذا أصبح الآمر الناهي. كان لا يحضر جلسات –المضيف- في العصر الأخير، أو قبل وبعد العشاء، إلا إذا طلب، ولا يمتنع، وفي هذا سر، يتساءل عنه الجميع، فلم يجدوا له تفسيراً.
وطرح –ابو عبد الصمد- ما جلب معه من خضار، ومواد غذائية أخرى. كان كلما طرح مادة ذكرها باسمها، بصوت مسموع:- إقطين عراقي، بانية، وعلق –عمي هاي تحصل بكثرة- لـﭽن المثل يقول «شمعرف المعيدي لأكل النعناع؟!» اي عمي. المعدان هوش، غنم، والبيذنجان والفاكهة همّ أدبرهَ. مدير الناحية طيب، يشتري على حسابه، يودي الكاتب والفراش بالماطور يشترونهه من القضاء، وتنباع على الموظفين بسعر التكليف. موبس الفواكه، الخضرة همّه. لـﭽن آني ما أشتري منهم خضره! شوف، يعجبك نوعهه ووزنهه! هذه القطينة أكثر من وقية بعشر فلوس! البانية وقية ونصف بعشر فلوس. الطماطة نصف حقة بعشرين فلس! اللحم وقية بـ (70) فلس؟!
وانهى الحساب بضحكته الكريهة، وعلق: –ها يعجبك؟ اهنا المعيشة رخيصة، وآني عندك، آمر وتدلل.
كان ابو علاء يقابل كلما استلم وسمع بابتسامة وتعجب. قال في نفسه لو دامت المعيشة على هذا الحال فسوف يستطيع الادخار، ويؤمن المستقبل.
وعاد ابو عبد الصمد، وكأنه قرأ ما دار في ذهن أبي علاء. فقال: - ما عليك كل شيء بذمتي. آني المسؤول .... هه..ها ... شمدريك، ما آني أشتريت اوَل، وبعدين بعت عليك؟
وفغر ابو علاء فمه دهشاً وقال: - وربحت طبعاً؟
- ... قاطين مثل هذَ وديت لهلي... انعل ابو المعدان، اهل السرجين، يزرعون وما ياكلون، ياكلون اطويحيل. هسَه زين يزرعون، قبل يسمون اليزرع خضرة –حساوي- ولا يطون الحساوي مره ولا ياخذون منه مره، ولازم يعني جبراً يخلي على بيته –بيرغ- ابيض. مو بس هو، الحايك والحلاق همينه؟ أيه لَهيتّك عمي، مودع الله، باكر عشاكم عندي. قال أبو علاء: -لا، لا. معلمي المدرسة سبقوك، خلّ دورك بعدين. شكراً.
-2-
اليوم جمعة والتقى المعلمون في بناية المدرسة، فقد بدأ مدير المدرسة أولاً بالوليمة، وفي بناية المدرسة. لأن بيته أقرب إليها. البناية قديمة اتخذت مدرسة منذ عهد الاحتلال. زعيم الناحية، والأصح أن أقول زعيم العشيرة، تنازل عن الزعامة لأبن عمه. إذ رفض الانكليز زعامته فقد قاوم الاحتلال، وأعتصم أخيراً بالقلعة، ومقاوماً أشد مقاومة. وفيها تمكن الانكليز الظفر به. يتحدث بعض أهالي اللواء–المحافظة- أن الذي أقتحم القلعة، ومكن الانكليز من احتلالها كان شرطياً يدعى –محيسن[1]- وقلده الانكليز وساماً، أنعم عليه به ملكهم جورج. وما يزال هذا الشرطي حياً في مركز اللواء، يعيش مع زوجته –القوادة- في نهاية شارع سمي –عقد الهوى-، وحين يخرج إلى المدينة، يظن من لا يعرفه أحد زعماء العشائر، من مظهره وأبهته وغطرسته. أما زوجه –أم كاظم- فتجول صباحاً وعصراً، بين محلات الصاغة الصابئة لشراء الحلي والمجوهرات –لبنيّاتها- أي اللآئي تتاجر بأعراضهن. وبعد الغروب، تجد الشباب أسراباً أسراباً يتجهون نحو –كعبة الشهوات- سكارى بأحضان العاهرات.
رئيس العشيرة الأسبق حين القي عليه القبض حكم عليه المحتلون بالإعدام، ونتيجة شفاعة ذوي الحضوة عندهم من بعض رؤساء العشائر، أبدل الحكم بالنفي فنفي إلى الهند، ثم إلى بريطانية ثم أعيد إلى موطنه، وفرضت عليه إقامة جبرية في بغداد.
وبعد استقرار زعامة العشيرة لابن عمه. صار حراً بأن يفد إلى الناحية. ولما تخرج مدير المدرسة الحالي، وفتحت أول مدرسة، أقترح هو أن يعين هذا الشاب –معلماً أول- لها. ليشجع الآخرون في الدخول إلى المدرسة.
كان هذا الزعيم –الأسدي- من الزعماء القلائل، الذين لم يتقبلوا ولم يهادنوا الاستعمار. بينما كانت أصابع المتابعين من الوطنيين الذين عنوا بتسجيل ما أمكن من تسجيل لأحداث ثورة العشرين، ولم يفتهم أن يشيروا بأصابع الاتهام لنفر من زعماء العشائر العراقية من تلعفر إلى نهاية جنوب العراق، قاموا بخدمات جلّى للمحتلين، وكافأهم المحتلون أن يظلوا كرجال ثورة. فهم –نواب الأمة- فتركزت سلطاتهم، واستبدادهم بحياة الفلاح العراقي. وليكونوا أول من يصوت للمشاريع الاستعمارية، والقوانين الجائرة.
هذه المقدمة الطويلة، تفضل بها المعلم –عبد كايد- مستغلاً عدم وجود الآخرين من المعلمين. أما صاحب -الدعوة- فهو في حركة مستمرة بين البيت والمدرسة، ليحضر بعض ما يلزم، الماء المنقى، كؤوس الماء، وغيرها. مدير المدرسة شاب صموت، قليل الحديث، حتى النكتة التي تعجبه لا يضحك لها إلا ضحكة هادئة ومختصرة. كل المعلمين يودونه ويتعاطفون معه في إدارة المدرسة وشؤونها. لم يعرف عنه أن شاكس معلماً أو تعالى عليه. والحظ واتاه، فجميع المعلمين عينوا هنا، ونقلوا، كانوا يصرحون لو أنهم بحاجة إلى أن يكونوا قريبين من أهليهم والمدينة التي هم منها لآثروا أن يظلوا معه حتى التقاعد.
وعبد كايد بهجة المدرسة. انه شاب ممتلئ حيوية ونشاطاً، عيناه كالفيروزج، ينمان عن ذكاء، وبُعد نظر، هو من الشباب الواعي حقاً، قروي اللهجة، يصوغ النكتة بلهجته الريفية، ويطلقها دافئة أو ساخنة لاذعة. بعض الظرفاء من زملائه المعلمين يلمحون إليه عن طريق النكتة بأنه ذو حب شديد للثلج! أيام الحر، ولابد أنه عقد صداقة مع مدير المعمل، أيام كان معلماً في مركز اللواء. وانه لهذا السبب بارد المزاج. فرد زميل على هذه اللمزة: -على العكس يا صديقي انه لا يهوى الثلج إلا من يحسّ بحرارة في صدره! ولعل بعض الناس لا يحس بلذعة الجمر فهو يشبه المتجمد، حتى قلبه –نعوذ بالله-.
ويواصل زميله التعليق بينما بدى على وجه المعلم –سوادي- امتعاض.
- أي اني احسدك انك لا تكترث لأية لحظة أو ساعة تتأزم فيها أمورك المادية، بل حتى حين المرض، أنك أنت، أنت دائماً، على ابتسامتك وهدوئك.
حاول –عبد- ان يغير مجرى الحديث إلى غيره وعن غيره. فقال: -انا معجب بالأخ -عبد الحميد- انه طيب كل الطيبة. لا غرابة في الأمر، انه بصري والبصريون أهل كرم وطيبة.
عقب النجفي –ابو غالب- الصيد شائع عند البصريين، لكني وجدته موسيقياً لا صياداً.
ورد عبد وبابتسامة ذات معنى: انه لا يعرف الصيد مطلقاً، لا الطير ولا الغزال!
 أجاب ابو علاء: اي غزال تعني؟
ودارت في وجه –عبد الحميد- سورة لشدة حيائه.  انه فهم كنه النكتة. المعلم سوادي لا يشترك بالنكات إلا إذا وجد مجالاً فيرميها تجاه –عبد-، فقال: -عبد رجالٍ زين، يحب الصيد بأنواعه، يحب السهر ولكن لا كل السهر، ويقرأ كتب وجرائد لكن لا كل كتاب ولا كل جريدة، وأشهد بالله ذوقه جيد، خصوصاً بالأربطة وخاصة الحمر وضحك...
الزملاء جميعاً لم يضحكوا. عبد وحده ضحك وعلق: - خويه! مع علمي ان الجاموس يثور من يشوف اللون الأحمر، داعيك ظليت ألبس رباط أحمر، من حيث معتاد، والشطره أيضاً يكثر بيها الجاموس، واهلي يملكون جاموس، ولكن آنه عودت الجاموس على هذا اللون، بس دخيلك ما قدرت أعوّد بعض بني آدم! ايه. تدرون المسألة، مسألة عقل. وإلا ما يوجد داعي لهذا الكره لهذا اللون. اللون الأحمر جميل، بالزهور، دمنه اليجري بَبْدانَّه، بالخدود؟ هاي تمام او لا؟
أبو علاء الوحيد أستشف حقيقة –عبد- من النكات التي يطلقها، مسمارية لبعض، ورشقة قطرات منعشة لبعض، تبهج الخاطر، وتروّح عن النفس، وأغلبهم يتلقاها دون غيظ، أو امتعاض. وتمكن ابو علاء أن يدرك جيداً، ان معلوماته ليست إلا قطرة بالنسبة إلى ما وعاه هو وفهمه.  الفارق الوحيد بينه وبين عبد، هو الجبن الفظيع الذي يكمن في صدره، وهو الذي دفعه إلى زمرة المقامرين! فالتهم السياسية لا يوصم بها هؤلاء مطلقاً. ومع هذا فأبو علاء مطالع نهم، وان لم تجد في بيته كتاباً واحداً. معلوماته تجمعت من أحاديث بعض المثقفين والجرائد، وما يستعيره من صديقه –أكرم- أمين المكتبة العامة. وإذا أردت الموازنة الصحيحة بين أبي علاء وأكرم، فأن أكرم أشد جبناً من أبي علاء، وأكرم هو الذي يختار له الكتب ويشجعه على مطالعتها بعد محاضرة، طويلة أحياناً، والمضحك في الأمر أن أكرم أشد جبناً من أبي علاء، إلا أنه حذر كل الحذر، ولكنه قد ينسى نفسه أحياناً، حين يلتقي بأدباء محترمين، وهو دونهم. ولكونه أمين مكتبة فقد تعرف الى عدد كبير من الأدباء والصحفيين، بل ساقه عشقه إلى الصحافة، فذهب إلى أمريكا وحصل بعد دراسة على شهادة عالية في الصحافة! وانه واسع الصلات بالأساتذة من المصريين واللبنانيين والفلسطينيين، واستفاد منهم معلومات جمة، من كل حسب اتجاهه ومعتقده الديني والسياسي. وربما حاول بعضهم أن يتعرف على اتجاهه من خلال النقاش أو الحديث الهادئ، غير أنه يفلت بلباقة، وقد يصرح انه «كريشة طائرة في مهب الريح!».
أحياناً يتأوه أمام بعض أولئك، ويضجر كأنه يعاتبهم، ليت شعري لِمَ أنقسم أبناء آدم هذه الانقسامات؟ التي لا تعد ولا تحصى من حيث الأديان، والسياسة، ولماذا هذا الصراع العنيف بينهم. أنه حتى بين أبناء الطائفة الواحدة. ويعلق، أني لهذا أكره أن أكون واحداً من أية جهة!
أحد المثقفين الذين تعرف عليهم، أجابه: -أنت واهم، الاختلافات في الاتجاهات، دينية أو علمية، هي التي توصل إلى الحقيقة، والحقيقة تبقى نسبية. أما الحقيقة المطلقة فتظل إلى الأبد مدعاة للبحث، ولتستمر الحياة.
وقطع صوت المعلمين ونكاتهم صوت أجراس تجلجل. قال أحدهم. لاشك انه سيد عويد ان له حاسة شم عالية! ودخل –عويد- انه علوي بائس ومخبول. يلف رأسه بقطعة قماش أخضر فوق –اليشماغ-. هزّ علمه وأخذ يدبك «ماكو غير الله وغيرك يا هاتي» وقد أبدل الدال إلى تاء ويسقط دائماً نقطة-الغين-!. انه لا يعرف غير هذه الأهزوجة –يكرم بها كل زعيم- لا تبديل غير الاسم! وسارع عبد الحميد وقدم له ماعوناً من الطبيخ عليه من لحم الإوز، فانتحى بعيداً. وصاح وهو يمضغ الطعام: -آنه خلصتوا مني، اَلا شفت –مومَن- من بعيد، هسه يشم ريحة الأكل ويجيكم على الريحه!
قال المعلم –ساكت- هذَ المومن أعرفه ما تفوته فوته هو من البارحه اهنا!
وتحول الحديث إلى نكات حول أمثال هذا المعمم. قال أحدهم: -الموامنه ما ينغلبون بمسألة الأكل. اثنين ضافوا بيت، صاحبته –حُرمه- سمعوا صوت ديك، قبض عليه للذبح، فتباشروا. ولكن أحدهم قال لصاحبه، ما العمل إن قدم ثالث فشاركنا؟ أجاب الثاني، أترك الأمر لي. ولكن عليك أن تمتثل ما أقترح. حين وضع الطعام على المائدة، تقدم قروي، وسلم وأخذ مكانه من المائدة. فقال الشيخ الذي تعهد أمر الخلاص، وقال، أسمعوا لا يمد أحد إلى الزاد يده حتى يأتي بآية من القرآن عن أي شيء أراد من الزاد. وأنا أبدأ. ومد يده إلى لحم الديك، وقد وضع فوق الطبيخ،  وقال: بسم الله الرحمن الرحيم. وحُصِّل ما في الصدور[2]. ومدّ صاحبه يده وتناول الباقي وقال، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ,إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ[3]. بهت القروي، أول الأمر، ولكنه وبخفة حمل صحن الطبيخ على رأسه وأنتصب واقفاً يتلو «ورفعناه مكاناً عاليّا[4]». فسلم الشيخان مضطرين للتراضي، فقد حدث ما ليس في حسابهم.
علا ضحك المعلمين، وصاح أحدهم أخوتي، دبروا وسيلة الخلاص. عبد الحميد أجاب: -المسألة بسيطة، الزاد بحمد الله يكفي وبيه البركه. وأقبل خادمه –ربيع- يحمل صينية الطعام، وأخذ عبد الحميد يساعده –عبد- ينظمان المائدة، وعاد ربيع يحمل ثانية بقية ما أعد. وقبل أن يأخذ المعلمون أماكنهم من المائدة، تقدم الشيخ وهو يعلن، يا الله، توكلنا عليك، بسم الله، وصلى الله عليك يا رسول الله!
كان ذا عمة كبيرة غير منتظمة، ووجهه تركت شمس القرى آثارها عليه. ذا ملابس بالية غير منسجمة الألوان. وقد زاده الله بسطة في الجسم لا العلم، سلم وأتخذ مكانه. فحياه الجميع، وهمس أحدهم بأذن زميله «لو عقلت ما سمنت». وقال عبد اتركوا لي أمر مناقشته. فقال: -أهلا بالشيخ، جيتك بمحَلهه. عدنه مشكلة بأعراب جملة! ردَّ الشيخ أرجوكم. الزاد يخرس السباع، وداعيكم جوعان تمام. استاد أجّل مشكلتك الساعة.
لكنه حسر أردانه ومد كفه العريضة، وقبض على أوزة محشوة باللوز والكشمش وعصرها بين أصابعه الغليظة بكل فضاضة وبنهم لاثها مع الرز وراح يلوك، فتسمع لأسنانه صريراً. كان لا يضع في فمه لقمة إلا ويده تجهز الثانية قبل أن يبتلع الأولى. وكأنه في ركن بعيد عما يرشقه به المعلمون من نكات لاذعة.
الطعام وافر ومتنوع، الأمراق بلحم الضأن الهرفي، ولحم الخضيري المدجن، والأرز، والقوزي المشوي بالتنور، والحلوى والفاكهة. الشيخ خلال الأكل لم يتكلم غير كلمة وجهها الى المعلم سوادي: -يا رجل لا تنهش العظم، العظام طعام الجن!
وعند الانتهاء قبل الآخرين، صاح: -ربيع ناوشني اللبن مع التمر. والتفت إلى الآخرين، وقال الحديث يقول «بطن المؤمن زاوية لا يسدها إلا التمر!»
فردّ أحد المعلمين معلقاً: -نعم شيخنا و «ويستحب بعد الشبع اَكل أربعين لقمة». وغرقوا بالضحك. حتى لم يفطنوا أن الشيخ قد غسل يديه، وتوجه نحو الباب. وصاح: -أعذروني عندي مجلس فات وقته، انشوفكم بخير!
وانتهت دورة ولائم زملائه المعلمين، بعضهم للغداء، وبعضهم للعشاء. جاء الآن دور ابو عبد الصمد. قبيل الغروب توجه ابو علاء وزوجه –حسب الوعد-، فأما ابو علاء وأبو عبد الصمد، اتخذا المخفر لاستراحتهما وفي أحدى غرفه. واستقبلت أم عبد الصمد ضيفتها أم علاء في البيت، استقبالاً رائعاً. وعلى الرغم من تفاهة تعبيرها وبساطته، فإنها كانت تلفظه بتصنع.
إنها قروية، وعاشت بعد أن تزوجت هذا الشرطي منذ سنوات في القرى، لذا لم يتغير طراز حياتها، إلا شيئاً يسيراً، هو هذا الذي يبدو عليها، من ملابس فاخر قماشها، لكنها زرية الفصال! وحليّ ذهبية لم تترك اليوم منها –بمناسبة دعوة زوجة المعلم- شيئاً إلا لبسته. فقد كانت تعتقد أنها ستلتقي بمن تفوقها في حمل الحلي. ولكن وجدت عكس ذلك. ومع هذا فقد أحست بالغيرة تدب بين جنبيها فتضغط على قلبها ضغطاً لما رأت من إناقة وانسجام في زي أم علاء، وفي فصال ثيابها، على بساطة قماشها ورخص ثمنه.
وراحت أم علاء تستعرض البيت. فلم ترَ شيئاً يدل على الثراء، غير هذا الذهب تحمل مضيفتها ثقله، وغير فراش كثير للنوم، وسجاد من نسج الريف، لكنها سرعان ما أدركت أن هذا الشرطي ككثير من الناس يعيشون بعيونهم وبطونهم أكثر مما يعيشون بعقولهم وأرواحهم.
وتكلفت المضيفة الحديث، وراحت تركز حديثها عن مكانة زوجها في هذه القرية، ومكانتها هي! ووجدت متنفساً لغيرتها، فوجهت لأم علاء هذا السؤال: -والله وسفه خيّه عفتو بيتكم هناك، وجيتو لهنا، وين تقدرين أنتِ تتحملين هاي العيشة؟ وأبو علاء زلمه يفتهم، شنهو القمار يبلي بيه نفسه، ويجيب البلاوي لنفسه بسببه؟!
وانتفضت ام علاء لهذا الاتهام وقالت: شنو قمار؟!
- بس عليمن نقلوه لهنا؟ ما تدرين؟ يقولون يسهر ليله على القمار؟ وبايع غراض يابو غراض، ومعاقبته الدايره مالته، وما فايد وياه، تاليه أنطرّوا –اضطروا- لنقله!
ولكي تغلق أم علاء باب هذا الحديث، سألتها عن أطفالها وكبيرهم عبد الصمد. فأجابت وهي تضحك: ليس لها غير أبنتين وابن أسمه جابر!
- لكن أبوهم يسموه –ابو عبد الصمد-؟!
- ايه هذي سموّ بيهه قبل ما يتزوج وبقت.
وحان وقت العشاء فجاء ابو عبد الصمد وابو علاء، وأستقرا في –الربعة- ودار الحديث بينهما عن سبب نقل أبي علاء؟ وتظاهر ابو عبد الصمد بجهله الأسباب الحقيقية، وقال: -أستاد ابو علاء، اشوف وظيفة المعلم منتازة –ممتازة-، بس ما أعرف ليش أكثر المعلمين يتدخلون بالسياسة؟! ويجرّون على أرواحهم الطلايب؟! بعضهم مسوين أرواحهم أنبياء، ويتهمون غيرهم من دوائر الدولة بالرشوة واللعب بأموال الدولة! تريد الصدق، حق لو عاقبتهم الدولة!
ونفى أبو علاء وتنصل من هذا المسلك. وذكر انه نقل بمحض رغبته، هرباً من غلاء المعيشة، وقلاقل حياة المدينة التي اشتدت بسبب الحرب، وانه أغتنم الفرصة مادام أطفاله صغار، بعيداً عن ضوضاء المدينة وصخبها وغلاء العيش فيها، حتى يحين موعد دخول أطفاله المتوسطة، وانفراج الأمور بانتهاء الحرب، التي تبدو انها لن تستمر أكثر من هذا العام أو شهور قليلة. عند هذا سيجد عذراً في طلب العودة إلى المدينة!
وأدار ابو علاء الحديث بذكاء، وتساءل: -أشو محروسك عبد الصمد ما شفناه؟
ضحك ابو عبد الصمد وقال: -الحقيقة ماعندي –عبد الصمد- عندي خويدمك زغير اسمه –جابر-
- بس شنو عبد الصمد؟
 - والله هذي «لقّوفه» أيام كنت بقضاء –الـ...- وكان بيهه مأمور تموين أسمه –ابو عبد الصمد- كان نهّاب عجيب! وداعيك...! وقبل أن يضحك، كان أبو علاء قد غرق بالضحك، ولما سكن، قال له: -عاد قل لي مستفيد شي؟ وشقد الك بالوظيفة؟
أجاب ابو عبد الصمد:- الي خمستعش سنه، وخميت عكه ومكه، وهسه ... ايه ...خُبَرك ... نعمة من الله! عندي حويش بالرفاعي، وحويش بالناصرية، وبستين زغير!
- اقول ... وراتبك؟ زين؟
- هه ... راتبي، راتب شرطي!
وتحول الحديث عن القرية، وان اهلها يعيشون على تربية الجاموس ونتاجه، ونسج الحصر من القصب والبردي، وتصديرها إلى المدن. ثم عقَّبَ، شغله ما تعيِّش. تجوّل جنابك، شوف البنات اليسِفن بعد مايرصَّن القصب بالعمود، لكن أجرة البارية ما تزيد على عشرة فلوس، وحتى صاحب الشغل فايدته تمام، إله الحصة الأكثر، الّا هي للتاجر –وهذَ جنابك تدري بيه- بربع دينار لو ثلثمية حسب كبرهه!
وتساءل ابو علاء لكن مع الأسف ما يوجد بالمستوصف طبيب، وحوادث عضة الحيات عندكم كثيرة! رد ابو عبد الصمد، هّذَّني امرهن بسيط متعودين عليهن. وأخذته ضحكة، وأكمل ضحكته وعاود حديثه: قبل ما تجينه صادف واحد نايم وفاك حلقه، ودخلت الحيه بحلقه، الأخ بحلاة النوم طبق حلقه عليه، ومات هو والحية! اليتمرض –سوق الشيوخ- جريب عليه، واهنا المضمد –خليف- كافي، آخ، وشلون خليف ياخذ من الحافي نعل! يخفي الأبر ويداويهم بماي مقطر! يستاهلون ... واحدهم مايسوه الحيوان اليركبه.
وأبدل صوته ولهجته وقال: -ابو علاء أنصحك لله لا تحـﭼـي بهل المسائل، هل الحـﭼـي يجبلك بلاوي! هذا الحـﭼـي يهيج الناس!
- يا ناس! واحدهم ما يسوه الحيوان اليركبه! موتمام؟
فهم ابو عبد الصمد ما يرمي إليه أبو علاء من إعادة كلمته...
- استاد ابو علاء، من باب أقول، احنه زين نسوي ويّ هالبشر، أنت جنابك لا تسوي نفسك غافل؟ ليش مثلا نركب المطايه وما نركب السبع؟ ليش أحترمك ألك؟ هذوله لا عقل ولا قلب!
وتراجع وقال: -اتريد الصدق، كلنه ما نصير أوادم، ما ينفع ويانه غير سوط الحجاج! الأكبر مني يعاملني بلا رحمة، خدمة وإهانة، وسب وشتم. ولابد ما هم شافوا من الأكبر منهم مثل ما شفته منهم، ومنهم تعلمنا تمام؟
وأستمرّ: -آني أحبك ابو علاء. واسولفلك ماشفت وسويت، وأستغفر الله، أسأل الله التوبة... عشت أكثر من ستة أشهر بالنجف. شوف هالبلد التلوذ بيه الدنيا، هم بيه هالسوالف. في يوم من الأيام وأيام زيارة، الولاية ممتلية بالزوار من كل بلد، وأجانب. جابو للمركز شاب، متهوم بخطف بقجة ملابس، من زايرة عجمية، ايه، وياهه خادم وزلمتهه، ومن خدام الإمام، لكن الولد –يقولون والله العالم- قدر يخطف من أيده –البقجه- اهو عيَّنهه لأنه شاف كل الغراض يحملهه حمال، قال لنفسه، ليش هالبقجه هيّ تحملهه، لابد بيه شي مهم. صاحوا الزموه. إلا هوَّ خفيف، طر الناس طر، والصايح وراه، وقبض عليه شرطي وجابه للمركز، وحسب الأصول سلموا البقجة للمأمور الخفر، من حيث كانت المسئلة ويّ الغروب. المأمور قال تجون بكره، لأن الولد أدعى ان البقجة مالته وكان بالحمام! وبالساعة وحدة –انكريزي- صاح الولد من الحجرة الموقوف بيه للشرطي، وقال روح قول للمامور أريد اواجهه. ووافق المأمور... المأمور صاح تعال ابو عبد الصمد، اخذ الموقوف، لايشوفكم احد، هو يعرف من وين يفوت وانت وراه. وصل الولد لبيتهم ورجع، والبقجه وياه. وسلمهه للمأمور، بيهه فلوس خوش فلوس، تقاسمهن هو والمامور، وطبعاً صارلي بيهن نصيب، وفهموني أن أحفظ السر. وصار الدوام، أجو من خدم الإمام اللي هي بضيافتهم، وطالبو بالبقجة، المأمور قال لازم حضور الزايرة التي تدعي بيهه. أجابوه هي مرة محترمة وتعبانه، وتألمت أمس من الحادث اللي حصل، احنه نيابة عنها، وجنابك تعرفنه. المأمور رفض وقال لازم تحضر، لأنَّ عرف ان السبب ما تملك جواز سفر! وبعد الأخذ والرد، أحضروهَه. سألهه المامور عن مابيهه، فذكرت، ملابس، ومقدار ميتين دينار عراقية ومقدار من الفلوس العجمية. وبعدين جابو الولد المتهوم وسألوه. فادَعَه ان البقجه له. وقال كنت طالع من الحمام، وصرت أمشي بعجل لأتخلص من المزاحَم. وما أحس إلا شرطي لزمني، وتجمعوا علي الناس يصيحون انهيبي... ما تخاف من الله هاي زايره، انه رفضت ودافعت عن نفسي. وقلت سلموني للمركز. انتو مشتبهين، أكو شرطة، واثبتوا هناك آنه لوغيري؟
وتناول المأمور البقجة وسأل الولد عن اللي بيهه. أجاب مناشف وملابسي الوسخة اللي نزعتهن بالحمام؟ وفتحوا البقجة وانصابت الزايرة بصدمة. وصاحوا خدم الحضرة، مو معقولة يا حضرة المامور، احنه متأكدين هو الخطف البقجة. وطلع ابو اصحَبَه يتلمض. لا خدم الأمام المحترمين، ولا الشهود، قدروا يثبتون حق الزايره. حيث لن المامور والولد دبروهه. وآنه شهدت، صحت الله وأكبر، عمي الولد ابن جواد، وظل امس موقوف، وينخي لو واحد يخبر هَلَه لا يتشوشون، تره انتو ماندري شلون تحجون وبعيونكم شفتوا غراض الحمام بالبقجة؟
كان ابو علاء يصغي لهذا الحديث، وأساليب النهب العجيبة، وبين الدهشة والأسف، قال: -يعني انتو طبق المثل «حاميه حراميهه»؟!
في هذه الأثناء سُمع صياح، ونداءات أستنجاد، لقد شبت حريق هائل في بيت فأسرع الرجال للمشاركة بأطفاء الحريق.
-3-
مرّ على أبي علاء ما يقارب من ستة شهور لم يبارح القرية، وقلّ ان تصله رسالة مختصرة من صديقه كاتب ذاتية مديرية المعارف. يحييه ويحثه على الصبر على ما أصابه من غربة، وأبعده عن أصدقائه ومحبيه.
أم علاء كانت دائماً تحذره، ان لا يعمق علاقاته مع هذا الشرطي، فقد كانت تحس انه لا يتحرج من أذى يسببه لأحد. قالت لزوجها أنت سمعت جيداً ما ينقله من غش واستهانة ودناءة، وتصرفات لئيمة مع من يقع تحت طائلة يده، ومشاركته للصوص والعابثين. وكم لامت نفسها أيضاً على تبسطها بالحديث مع زوجته، فهي وان كانت قروية، لم تعش في المدينة، فان لها قدراً من الذكاء ما أدركت به بعض تلميحات أم علاء عن أساليب الشرطة مع القرويين، وعن الذهب الذي تتحلى به، والأثاث الموجود، والدور والبستان، ثم عن الحلال والحرام ...
لقد كلف ابو عبد الصمد ابا علاء عدة مرات بصياغة بعض تقارير يرفعها –ابو عبد الصمد- عن سلوك بعض –السراكيل- وبعض ما يصل إلى سمعه من بسطاء القرية حين يلتقون به. ولم يتحرج ابو علاء من توجيه النصح له، واللوم أحياناً، والامتناع عن الاستجابة لطلبه، في بعض ما يراه مشاركة له في أفك ملفق لا صحة له. وفعلاً قد غير ابو عبد الصمد كثيراً من أساليبه ولهجته مع أبي علاء. كان أيضاً يتحرش بخبث إذ ينقل إليه بين آونة وأخرى، أخبار سياسية معينة، وإشعار ابي علاء من طرف خفي، أن رئيس العشيرة يعرف الكثير عن حياة الموظفين الذين نقلوا إلى الناحية.
في ابي علاء بساطة، فطن إليها –عبد كايد- فحذره، ولكنه لم يسعه التملص منه بسبب اعتماده عليه للتسويق. وعلم عبد الصمد ان ابا علاء أرسل رسالة مع فراش المدرسة الى مركز اللواء، فراح يستدرج الفراش عن المرسلة إليه، وبلهجة من يخشى افتضاح سرّ، في نفسه وعملِ سوء ضد ابي علاء. ابو علاء علم هذا من الفراش، فتحدث أمام عبد الصمد أرجو ان لا ينسى –خريبط الفراش- ان يأتي بالقماش لنعدها للأطفال قبل موسم الربيع. وعلق ابو عبد الصمد شي طيب، والله فطنتني آني هم رايح أحضر للجهال وامهم قميشات، وعلى خير ان كان انتو واحنه بسلام تخيطهن ام علاء الهم وياكم؟
حين عاد الفراش قدم الكتب الرسمية للمدير، ورسالة خاصة من كاتب الذاتية إلى ابي علاء، وتلفت إلى جهة المخفر، وهمس بأذنه دير بالك لا يفهم بي ابو عبد الصمد!
الفراش –خريبط- انسان بسيط، تعلم ماجريات حياة المعلمين الذين خدموا في هذه المدرسة، عرف أشياء كثيرة، الطيب منهم والخبيث، المخلص لواجبه والقشري. تعلم أشياء كثيرة خلقت فيه إحساساً وشعوراً مرهفاً، ومقاييس صائبة، يميز بها الجيد من الردئ. مثلما تعلم ان يلجم فاه، فهو لا يتكلم إلا باختصار، وصوت هادئ ومنخفض.
وفض ابو علاء الرسالة، وراح يستعرض كلماتها بصمت، حتى علت سحنته غيمة، وتقوست حاجباه، مستغرباً مندهشاً. تلجلجت دمعة في عيني –خريبط- وراح يضرب على فخذه، ويردد عِمَلهَ النذل!
قال:- من هو يا خريبط؟
- زين تعرف يعمّي، مع الأسف مثلكم ينغشون بأمثاله...
- ايه ... ماذا يحصد المعلم غير الشوك. انه الجسر الذي يعبر عليه الألوف، ويصل الغالب منهم إلى المناصب العالية، فاذا وهن، وتآكلت الأخشاب، رمي بها جانباً... أليس مؤسفاً ان تقاس متاعبنا بدريهمات، لا تعيش في جيوبنا غير أيام، بينما نفقد حيويتنا يوماً بعد يوم!
وكمن أصابته من داخله رعشة، واهتز رأسه هزة غريبة، وقال وكأنه نسي أن –خريبط- مازال أمامه، لا لا يا ابو علاء، أنك جندي نذرت نفسك لمحاربة عدو عريق في مثل هذه البقاع. ألم تقل «المعلم جندي يحارب الجهل »
وقدم المدير كتاب النقل، فبهت المعلمون، واعلن مدير المدرسة أسفه، وعلق انا واثق يا ابا علاء انك انسان مدرك، كما تدرك اني وزملاءك المعلمين يكنون لك كلّ الحب والاحترام.
قال –عبد كايد- ابو علاء يعرف زملاءه جيداً، عاشرهم ووعى عن كل منهم درجة التجاوب شأن أي جماعة تجمعهم مهنة أو أي ارتباط آخر. ونحن بشر، فلا غرابة ان يحمل البعض طبيعة العقرب حين تدب على جسم لين فتلدغه، حتى وان لم يكن من الأحياء! هذا طبيعي عند كل انسان غير طبيعي بإنسانيته. ثم ربما كان هذا محض اختيار، وهذا من حق مسؤولي مديرية المعارف .
تمتم سوادي... صح، صح، فلو كانت المسألة «كتاب وحساب والستر من الله» لصاحب النقل أمر آخر.
وجاء –خريبط- واعلن، عمي نقلنا كل الغراض، والأهل ركبوا وينتظروك!
وتقدم ابو علاء فصافح زملائه، وخاطبهم « اخوان انا لا أتضجر مما حصل بالنسبة للمكان، فأيّما مكان أحلُ فيه، إنما هو جزء من بلدي، سُكانه أخوتي، وأبناؤهم أبنائي، وسأبذل جهدي لخدمتهم وتنشئتهم، وآمل أن يوفقني الله لخدمتهم.»
وتحركت السفينة الصغيرة، فكرر زملاءه تحيتهم ثانية يلوحون بأيديهم.
رفع ابو عبد الصمد يده وصاح: وداعة الله ابو علاء
وأختفى القارب بين انحناءات مجرى النهر والقصب والبردي ...
 
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
الناصرية: 04/06/1952
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- معظم أبطال القصة هم شخصيات حقيقية كان الوالد  - عند اول تعيينه في ناحية (سوق شعلان) الصورة مرفقة-  قد تطرق إليهم من خلال ذكرياته (ذكريات التنوير والمكابدة) / الناشر محمد علي الشبيبي
1- الشرطي محيسن: أتذكر جيدا هذا الاسم المتداول والمعروف بين أهالي الناصرية، وهو شخصية حقيقية./ الناشر محمد علي الشبيبي
2- القرآن الكريم. سورة العاديات، الآية الكريمة 10./ الناشر محمد علي الشبيبي
3- القرآن الكريم، سورة القيامة، الاية الكريمة 29 و 30 / الناشر محمد علي الشبيبي
3- القرآن الكريم. سورة مريم، الآية الكريمة 57. / الناشر محمد علي الشبيبي

29
المنبر الحر / قلم*
« في: 19:31 07/12/2018  »

قلم*
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997



 
أخذ أفراد هيأة المحكمة مكانهم، وتزاحم المستمعون في القاعة، يزحزح بعضهم بعضاً، بسكون أو همساً. وقف شهود الإثبات يسار المستمعين قريباً من ناحية –المدعي العام- وفي الجهة المقابلة جلس المحامي وهو بادي الارتباك، واضح الانفعال.
وفي قفص الاتهام انتصب شبح كأنه خيال باهت. كان رجلاً أسمر البشرة، ذا عينين براقتين، طويل الأنف، معتدل القامة رغم الهزال والنحافة.
بدأ روتين سماع إفادة المتهم وما يستلزمه من معلومات عن اسمه، وعمره، ومهنته، إلى غير هذا مما تم في جلسة سابقة. فاستدعي في هذه الجلسة مباشرة –نائب المدعي العام- لإلقاء كلمته. وهكذا وقف يتكلم بصوت مرتجف. كان ينظر إلى المتهم بين فترة وفترة، وأحيانا يشير إليه بأصبعه:
- سعادة الرئيس. كان هذا الشخص الماثل أمامكم رجلاً عادياً. كل ما نعرفه عنه إنه من عامة الناس. نشأ من أسرة فقيرة. فأبوه يعيش منبرياً، يقوم بالوعظ والإرشاد، وذكر الحسين. أما هو فقد عمل كاتب حسابات لدى بعض التجار. وقد درس النحو والفقه، ونظم الشعر. كان شعره سابقاً تقليد، بألا يتعدى كونه شعر رجل دين. وقد إنغمر ذكره مدة طويلة. فلم نسمع له لا في محفل ديني، ولم نقرأ له في جريدة أو مجلة. ولا نعرف له عملاً في محل ما. ومع هذا فهو كامل الهندام، حسن المظهر، لا تفارق شفتيه الابتسامة، مشرق القسمات.
ولفت نظر الشعبة الخاصة، انه لا عمل له، فمن أين يعيش؟ وأنه يماشي أناساً مشبوهين، وما كادوا يتابعونه، حتى فتح مكتبة! كان يتجمع فيها عصر كل يوم نُخبة من اولئك المشبوهين.
وهنا قاطعه الرئيس: - تقول «مشبوهين»، ولم تذكر نوع الشبهة؟
- عفواً «المشبوهين» أقصد اولئك الذين يعتنقون المبادئ الهدامة!
- ولكن لمجرد الشبهة لا يجوز ان يلاحق شخص آخر لأنه ماشاهم؟ الشبهة لا تكون جرماً، قبل التلبس بممارسة حقيقية!
وعاد نائب المدعي، كأنه لم يسمع شيئاً، فأستمر: - وبعد حين أخذت تنهال علينا الإخباريات عن مكتبته، وعن اولئك الذين يتجمعون حولها.
- وهل سبق أن استدعيتموه وحققتم معه بهذا الشأن؟
- أجل. وأفاد «أنه في شارع عام، وليس في زاوية، ولا يجد مبرر لمنع أحد، بل ليس من مصلحته أن يمنع أحداً، أو أن يلاقي أحد بغير التحية والترحيب. لأن مهنته تستدعي ذلك!» ثم أغلق المكتبة بعد حين. وأرتحل إلى مدينة أخرى. ومكث قرابة عام. وعاد شأنه بطالاً، يتجول في مقاهي معينة.
وفجأة ظهرت «جريدة الشفق» العدد 150 تحمل مقالاً بعنوان «القلم». كان مقاله هذا عبارة عن هجوم عنيف، ضد السلطة والمسؤولين، ورجال البلد، وضد الدين، الذي كان يقدسه فيما سلف، وكان التوقيع صريحاً.
وناوله الجريدة ثم استعادها، وراح يقرأ المقال بصوت عالٍ: «كان لي قلم وقد فقدته، وربما أفقده إلى الأبد. ولقد تعلمت بداعي الحب والشوق أن أمسك ذلك القلم، وأحدثه، ولكن حديثي كان –أول الأمر- حديثأً مسئماً مزعجاً. ذلك لأنه ليس صدى أفكاري، ولا نجوى نفسي. إنما هو هدف أبي، المادي المحدود.
أراد أبي أن يكون لي قلم. ولكن من نوع الأقلام التي تجيد فقط جمع الأرقام وطرحها، أو ضربها. وتخطيط الدفاتر والسجلات، واستنساخ المسودات، وإعداد القوائم. ولكني أناجي هذا القلم خلسة حين أستريح إلى نفسي، وحين يمكنني أن أتملص من العمل.
وأسرّ إليّ القلم...!؟ أنك لو فتحت عينيك، وأرهفت أذنيك، فقرأت وسمعت لاستطعت أن تحلق في الأجواء الواسعة التي حلق فيها أنبياء ومصلحون من قبل. ثم  همس القلم في أذني، أفتح لي قلبك، ورأسك، ودعني أتصل بهما مباشرة، فانك إن قصرت صلتي على يديك لن أكون أكثر من قصبة مرضوضة.
كان مرتبي إذ ذاك ضئيلاً، لا يجدي نفعاً، وكانت يد والدي تتلقفه كلما حان موعد استلامه. فلم أكن –بهذا المعنى- إلا واسطة بين صاحب المتجر وأبي. بينما كنت أشبه الآلة، عليها العمل ولا شيء من الإنتاج يعود عليها.
وتنقلت من متجر إلى متجر، ومن محل إلى آخر، بفضل القلم. أتقن به تنظيم الدفاتر، وأستخلص ما يولده رأس المال من أرباح. فزاد مرتبي، ونبِه ذكري بين أصحاب الأعمال، ومكاتب التجار.
وعمد أبي فأعلن رغبته أن يزوجني من ابنة زوجته. كنت إذ ذاك أسمي ذلك من أبي فضلاً وحباً. وأعتبر الزواج سمة الرجولة، وعنوان السعادة. أليس النخل أول ما يكون فسيلاً، فإذا كبر وبلغ نموه زها بثمر يانع، وفاكهة حلوة؟ أما الآن فقد ألتفتُ جيداً إلى ما كنت عليه من غباء!
تلك الرغبة لم أكن أنا مصدرها، فهي إذن خدعة، كانت الغاية منها أن أبقى في الفخ؟ وما كان الزواج، وأنا بتلك السن، وعلى تلك الإمكانيات الضعيفة، إلا قيود أو سلاسل، تثقل قدمي وتقعدني عن التجوال لاكتشاف ما في هذا العالم الزاخر بكل مجهول رائع، أو مخيف! أهو سعادة؟ ربما... أليس الذهب حلية تلبسها الغواني، ولكنه في اعناق الكلاب مجرد طوق يرمز للتملك!
أصغيت لما يثنيه القلم. وسرعان ما امتثلت أوامره، وطبقت نصائحه. وكان ما رأيت وسمعت أول الأمر غامضاً ومبهماً. ومع ذلك فقد كنت أجد فيما أسمع وأرى حلاوة ولذة. وإن بان خلالها وميض برق مخيف، كان يصعقني في كثير من الأحيان، ويحدث بجسمي هزة عنيفة.
وبمرور زمن لا أتذكر، أو على الأصح لا أعرف كم هو! إذ كيف تقاس المعرفة بالزمن؟ تمكنت أن أعي جيداً ما رأيت، وحاولت أن أتفوه، فأعلن للناس ما عرفت، وأذكرهم أن هذه الحياة كثيرة الشعاب. وانه إذا كان فيها الإنسان يسعى إلى سعادة، فلابد أن طريقاً واحدة فقط تنتهي به إلى السعادة! وأننا لكي نعرف تلك الطريق، علينا أن نتبع خطى اولئك الذين يسمونهم -مجانين-. كما سمي السابقون من أمثالهم في أيامهم –مجانين[1]-.»
وكمن أفاق من إغفاءة أرتعش رئيس المحكمة، رعشة تنبه إليها جميع الحاضرين. والتفت إلى نائب المدعي العام. وقال:- تريث قليلاً.
ثم إلى المتهم:- لا شك أن مقالتك هذه مثيرة، لأنها عبارة على تهجم على الأولين والآخرين!
أما المتهم فقد لزم الصمت، إلا ما نمت عنه تجاعيد وجهه من ابتسامة ارتسمت وتلاشت بسرعة، كما تتلاشى الدوائر التي تحدث على سطح الماء من حجر يرمي به!
وعاد الرئيس، وخاطب المحامي الذي كان قد أعتمد على ساعديه، يصغي إلى المقالة، وبين يديه ملف، وقلم يسجل به بين فينة وأخرى بعض الملاحظات، عما سمعه من المقال.
- ألا ترى أن ننهي قراءة هذه المقالة.
- كلا يا سعادة الرئيس. أني أطلب الاستمرار، لأنها أداة التجريم الوحيد التي سيق موكلي بسببها.
وبعد فترة استراحة، عاد إلى المحكمة ثانية، وعاد المدعي يتلو:
«أجل حاولت أن أتفوه، ولكني ألتفت خلفي، فلاحت لي أشباح تتلوى، وتتثاوب، وتدنو مني، وتتعلق بي، وتضع أكفها على فمي، وأحسست كأني أنوء تحت ثقل عظيم. كانت تلك الأشباح هي أبي العاجز، وزوجه، وأطفالي الثلاثة وأمهم. فعرفت أن كلمة واحدة تنطلق من فمي لن تكون أقل من لغم، إذا انفجر يؤدي بحياتهم جميعاً!
ومرة ثانية همس القلم في أذني، ما عليك، ليكن كل شيء إذا أردت أن تكون مصلحاً فأحمل معولك، وإن شئت أن تكون نبياً فأعر –ربك الحق- جمجمتك. وإن شئت أن تكون شاعراً فأرفع بالنشيد صوتك! هؤلاء كلهم مجانين في عرف -الطبقة المتنفذة- في أيامهم. ولكن الأجيال بعدهم، وبعد أن فارقوا هم الحياة، يسمونهم عباقرة وأبطالاً! فيقدسونهم وينصبون لهم التماثيل.
حاولت أن أتفوه، فوجدت أن ريقي قد جفّ في حلقي، وحركت لساني، واستطعت لأول مرة أن أقول. وأمسكت القلم ليثبت ما قلت، ولكنه جرى متكلفاً، ومع ذلك فقد لحظت أن تقززاً بدا على وجوه بعض السادة الذين كنت مسؤول حساباتهم التجارية، وعند هذا أسرع القلم، ورسم هذه الصورة ببيتين من الشعر:
أنا بلبل أفنان[2]       فانى من اغنيه
أرى القول لدى الصم       مضاعا كل ما فيه
وفي اليوم التالي أعلن صاحب المتجر استغناءه عني. فوجدتني لا يستقر بي مكان، فما أمارس العمل في متجر عدة أيام، حتى تصل إلى صاحبه التهم الملفقة عني، فيستغني عني، وانتبذت من كل واحد أرجو منه الاستعانة به! هكذا علموني أن الناس بدل أن يجعلوا كل إنسان عضواً عاملاً ونافعاً، فأنهم يلاحقونه بالتهم والشبهات، فإذا ما تأوه وصرخ، قالوا صح ما قيل!
وعدت فسألت القلم، وهل أصبحت في عداد المجانين؟ وأجاب القلم. لا يعد مجنوناً إلا من واصل الصراخ حتى الموت! فعقدت العزم، على أن أصرخ، أوقظ النيام، اَدل التائهين، أسير على النهج الذي سار عليه سائر المجانين.
وانحنيت على القلم أسأله، وإذا اختطفت مني ماذا أصنع؟ ردّ القلم. لن تعدم حيلة مادمت تملك دماغاً يفكر، ولساناً يقول، ويداً تعمل!»
هنا صاح الرئيس: كفى، كفى.
وانفضت الجلسة. وأعيدت بعد فترة. فأعلن الاتهام بعد سوق المقدمات الروتينية من تاريخ وسبب إلقاء القبض، والإحالة، وسماع الشهادة. وكانت صيغة الاتهام:
«أتهمك يا –ع.م.ع- أنك تهجمت بمقالتك المنشورة في جريدة الشفق –بالعدد 150- ضد السلطة، والمسؤولين، ووجوه البلد، والعقائد المقدسة، وتجرأت جرأة لم يسبقك إليها أحد من قبل. فسميت الأنبياء والمصلحين –مجانين- ولك أن تدافع عن نفسك، أو تعترف بما نسب إليك».
ونهض المتهم فأنشد: 
أنا بلبل أفنان       فانى من اغنيه
ووقف المحامي، وتوجه –أولاً- إلى المتهم، وقال بعد أن طأطأ رأسه احتراماً: «أيها الرجل العظيم. نحن البشر قد تعودنا أن نكون دائماً مع المنتصر، وضد المهزوم. فنخلق له تأريخاً حافلاً بالفضائل والمكرمات. وللمهزوم تأريخاً كله فوضى وعثرات.
نسمي جبن المنتصر حكمة وأناة، وتهوره شجاعة وبأساً، وعميّه تأملاً وعقلاً، وبخله تدبيراً. أما المهزوم، فيا ويله!. جهاده جنون، وإصراره هوس، وصبره غباء، وتفانيه وإخلاصه عمالة، وإقدامه طيش، وأناته جبن!
أيها الرجل العظيم. لا يحزنك أنك فقدت القلم إلى الأبد، أو حتى يبزغ الفجر، ولن يبقى لك غير حنجرتك التي إن قضي عليها، فان صداها سيظل يتردد إلى الأبد».
ثم التفت إلى هيأة المحكمة، وقال: «سيدي الرئيس ، أعضاء الهيأة المحترمين. لقد تُليت مقالة موكلي على أسماعكم. وإنها والحق وثيقة تكفي للاتهام والبراءة. للاتهام، إذا شاءت المحكمة تظرب عرض الحائط ما نص عليه الدستور، من حقوق للفرد، تليق بالإنسان، الذي سما عن سائر الحيوان. بما ذهب من تفكير وإدراك.
وللبراءة. إذا أرادت ان تنزه القضاء عن التمرغ على اعتاب المستبدين، واعتبرت المتهم أحد اولئك الذين عُدّوا في زمانهم من –المجانين-»
وبسرعة دوى صوت الرئيس: «أيها المحامي، أتهمك بالتعدي على كرامة المحكمة، وقداسة القانون، والاشتراك مع المتهم بجريمته، وآمر بتوقيفك حالاً!»
وأدار المتهم وجهه، ورفع يده إلى رأسه مبتسماً، يُحيي المحامي!
 
المربي الراحل علي محمد الشبيبي
الناصرية في 15/04/1952
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في مجلة –المعارف- النجفية، لصاحبها الأستاذ الكبير، السيد محمد حسن الطالقاني. في العدد (2) السنة الأولى (أي عام 1958/ الناشر محمد علي الشبيبي).
1- إشارة إلى الآية الكريمة رقم 22  من سورة التكوير/ (الناشر محمد علي الشبيبي)
2- أفنان: جمع فنن، وفنن: الغصن المستقيم من الشجرة. وبلبل أفنان أي بلبل حر يتنقل من غص لآخر وهو الذي يهب ويغني./ (الناشر محمد علي الشبيبي)
 
 


30
المنبر الحر / هذا من فضل ربي!
« في: 23:38 02/12/2018  »
هذا من فضل ربي!
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997



مقدمة لابد منها
سبق ونشرت عام 2017 لوالدي علي الشبيبي طيب الله ثراه مجموعته القصصية (السر الرهيب). ومن اليوم سأسعى لنشر مجموعة الوالد القصصية الثانية بعنوان (هذا من فضل ربي) وهي خمس قصص قصيرة. إن أفضل ما أقدمه لذكرى والدي هو العمل على نشر تراثه، هذه الأمنية التي كانت تراوده طيلة حياته لكن الظروف السياسية القاسية وانعكاسها على وضعه العام -من فصل، وملاحقات واعتقال، وسجون، وتبعات أخرى- كانت حائلا جديا لطباعة ونشر مخطوطاته، مع العلم أنه نشر الكثير منها في بعض الصحف العراقية والعربية.
وعن مجموعته هذه -هذا من فضل ربي- كتب والدي التعليق أدناه عنها وعن بقية قصصه القصيرة، فوجدت من الضروري نشرها لأنها تعطي صورة متكاملة عن محاولات الوالد في كتاباته وتطور اسلوبه وتفكيره، وهو يكتب عن كل ذلك بتواضع وصدق. فكتب الوالد بتاريخ 17/10/1966 في دفتر مخطوطاته الملاحظة التالية عن قصصه:
(هذه مواضيع كتبتها في أول شبوبي، وفي ظروف ما كنت فيها ذا نهج معين. فأنا أتلقف ثقافتي من مصادر مختلفة. أبي وأصحابه من جهة، وأساتذتي الذين أدرس بحضرتهم، الفقه وأصوله، العربية وآدابها[1]. ومن جهة ثانية أندية النجف ومجالسها وما تتضارب فيها من اتجاهات مختلفة وأراء متباينة. هذا الى جانب ما فيّ من نوازع الشباب ونفوره، ومطامحه وغروره، وجهلي الناجم عن ضغطه عليّ وتقييده لحريتي، وحجزه لأفكاري ورغباتي.
كل هذه الفوضى، وانعدام التوجيه المنظم، خلقت بي عقدا، وسببت لي إنطوائية، طغت على كل مشاعري، وأحالتني الى كشكول درويش. فأنا جبراني الاسلوب -تقريبا- في كتاباتي، والكآبة التي تغمرني والغموض الذي يكتنفني. وأنا فكه أحب النكتة اللاذعة للفراغ الذي يملأ حياتي من جهة، والكتب التي ترهق نفسي من جهة ثانية وأنا مثالي صارم مع نفسي وأصدقائي في كثير من الامور بسبب المحيط الذي يحصرني بين ابي والمجالس النجفية التي لا تخرج الى ابعد من اجترار الادب الموروث، والجدل -البيزنطي- السقيم. وأنا متمرد! ولكن تمرد مكتوف اليدين، موثوق الساقين، مكموم الفم.
عن مثل هذه الحياة التي حييتها، انعكست هذه المواضيع فلا تستغرب قارئي الكريم، إذا ما وجدت فيها تناقضات أو أخيلة، أو ترهات!
وحسبي ان استقامت أفكاري بعد حقبة من السنين[2] ... إلا أني حباً بذكريات شبابي، واعترافا بأخطائي، أحتفظ بهذه المواضيع، ليس اعجابا بها ولا إيمانا بصحتها، إنما هي بالنسبة لي كالأبناء للوالد، يكون فيهم الأبله، والذكي، والقبيح والجميل، والجاهل والفهيم، ولكنه يحبهم جميعا، حبا تختلف درجته وحنواً تتفاوت نوعيته.
فليكن لي العذر من أي جيل كان وأي زمن! كربلاء/ علي محمد الشبيبي)
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد/العباسية الشرقية
29/11/2018
 
هذا من فضل ربي؟
قالت الأم وهي تدلك أقدام زوجها -الحاج حسين-:
- حجي. أشوف لو نزوج مصطفى، والله حجي هذَ وقتها، خلِّ نفرح بعرسه ونتهنه؟
فردّ عليها بعبوس وفضاضة:
- أزوج مصطفى؟ أنتِ وين وآنه وين؟ هٰذا يستاهل زواج؟ هذا مال طرد! هتك سمعتي، ولطخ شرفي بفضايحه. وأنتِ السبب! أنتِ تسترين عليه وتغطين عيوبه!
أجابت الأم، وهي تتكلف الاستياء والامتعاض:
- اوي! ﭽنك هم صَدِك كلام الناس. الناس دافعهَ الحسد بسبب الخير اللي انطاكياه الله. وقول لي، يا شاب ما عنده سوالف؟
قال الحاج: وجنابيج نسيتِ قضيته ويَّ الخادمة صبيحه؟ لو ما نزوجها لفلاحنا حمدان صارت فضيحة ومصيبة؟
قالت الأم: وهاي عجيبة؟ ويا زور خله من واويه؟
وأنفرجت شفتاها عن ابتسامة ماكرة، وقالت:
- مثل اَبيّه مشيته!
فامتعض الحاج وفي شيء من الانكسار، وبحسرة مكبوتة، قال:
- والله العظيم، صار ما صارلي، ما صار إلا عن حب خالص! لكن ما بيدي، الي حبيتها فقيرة بنت فقره! والله ما قسم!
فضحكت الأم وقالت بتهكم:
- وبعد سنه من زواجنا؟ شسويت ويَّ مَرةِ الفلاح سرحان؟! هَمْ أنكُرْ؟ اني العثرت عليك بنفسي... ها؟
فارتد الحاج مفلوجاً حين ذكرته بتلك الحادثة. ولاحت عليه علائم الاندحار. وجلس معتدلاً يحاول أن يطرد ذكريات كثيرة أحاطت ذاكرته. فقال بشيء من اللطف وقال بلهجة المتخاذل المغلوب:
- الله يلعن الشباب وسوالف الشباب!
وكأنها شعرت بانتصارها عليه فقررت أن تدحره إلى النقطة الأخيرة التي تعرفها!
- هسه. الله يلعن الشباب! وبعدَ الشباب؟ شنو كان اختصارك بسَعَد ابن صديقك حاج أحمد؟ الله سلطني عليك، معانقه وتبوسه!
فربت الحاج على كتفها ضاحكاً، وقال:
- كافي. كافي. زمان... وكفّرنا عنه بالحج، والتوبه على أيد الله وأيدك!
- أي حجي. سامع هذي الهوسه: « حج بيت الله وجانه يهودي؟!»
وبشيء من التغاضي المتكلف، قال:
- بس بالله من هذا الكلام الفارغ، توكلي على الله، وخطبي من عائلة شريفة! وشوفيهه بنية، حبابة، مكملة وحلوة تمام.
قالت، وهي تدفعه مداعبة، وفي لهجة تغمرها لهجة انتصار ودلال:
- هيّه لو بالجمال والكمال، كان حظي عندك ما يوجد أكبر منّه!
وكشفت عن بطنها، وراحت تتحسس خصرها والسَرة، وهي تتوسط بطنها، كلجة من نور. فتحركت بهذا عواطف الحاج فجذبها إلى المخدع...!
ومضت أشهر قليلة تم الاستعداد خلالها لزواج مصطفى، بعد أن لقيت أمه عناءً شديداً. فقد ردّتها كثير من الأسر التي توفرت لها شروط الحاج. أما الرد فقد كان جميلاً مع التقدير والاحترام. وأما أسبابه، فقد كانت عدم اعتبار وطعناً بماضي –مصطفى-!
ولقد كانت بعض الأسر تود أن تقنع نفسها بعدم صحة ما يقال وما قيل عن ماضيه، فهو ابن الحاج حسين، ذي المال الوفير، والتجارة الواسعة، ولكن بناتهم رفضن رفضاً باتاً. وقد بلغ سمع الأم بعض من ذلك عن طريق الوشاية والنميمة. فقابلت الطعن بالمثل، وطعنت بعفتهن!
ولقد ساء الأم ما تحدث به بعض الناس، عن اعراضها عن خطوبة احدى قريباتها الجميلات. فتمثلت قائلة بترنيمة نسائية ومثل مشهور عندهن:
بنت الفقر لا تاخذوهَ       تجيب الفَقُر من بيت أبوهَ
بعد عام واحد فقط زار مكدّر اللذات بيت الحاج فاختاره! وكرَّ فاختار الأم! وأصبح كل شيء بيد مصطفى وله، وتحت تصرفه! لكنه لم يزل هائماً في حب اللذات، والشهوات، وقد ولع بالسهر على موائد القمار ولعاً شديداً. وهو لم يعتمد على غير ما ورث من نقد وأملاك.
وما مرت شهور، حتى ذهب كل ما يملك إلا الدار، وبستان واحدة. فتداركه أحد أصدقاء والده المرحوم. وشدّ في النصيحة والتأنيب، ودلّه على الطريق الواضح، يكسبه احترام الناس، وثقتهم، ويعيد له جاهه، وثروته!
أخذ مصطفى يقيم كل ليلة جمعة، ذكرى مصاب «الحسين» ولا تفوته ذكرى وفاة، إلا وأقام العزاء في صباح اليوم المذكور! ويولم وليمة بالمناسبة للعامة والخاصة! ولا يُرى دائماً إلا مشمراً عن ساعده، مستعداً لوضوء، أو منتهياً منه، ولا يؤدي الفريضة إلا في حرم الأمام. 
وقد أتقن جميع الفروض، الواجب والمندوب، وفتح له مكسباً، والكاسب حبيب الله! وعلق على واجهة محله من الداخل رقعة كتبت بخط جميل «هذا من فضل ربي» [2]
كان يطلق على مكسبه –قضاء حوائج الناس- انه أشبه ما يكون بمصرف. فهو يسلف –الإقطاعيين- سلفاً. يدعوها (على الأخضر) لقاء وثيقة رسمية –كمبيالة- تجعل له حق الاستيلاء على جميع العائد، إن تأخر المدين عن الدفع في الوقت المحدد، أو يضاعف الدين في صك آخر، مع أخذ الفوائد سلفاً.
وكم قضى حاجة موظف صغير. أو محتاج فقير! لقاء رهينة ذهبية. وعلاوة شهرية عن كل دينار، مستنداً على فتوى أستحصلها، تجيز له ذلك، باعتبار أن العملة الورقية يمكن أن يتراضى طرفان على بيعها بثمن من العملة النقدية، فهي قرطاس له معنى، ممكن أن يكون له ثمن عال منخفض! أو اعتبار الرهينة مباعة -بيع الشرط – وبصورة غاية في التحفظ من الوقوع بمخالفة الشرع! هو يفترض أنه يبيع طناً من الشعير مثلاً بثلاثين دينار نسيئة، بينما هو يشتريه بخمسة عشر ديناراً، ويسجل على العميل صكاً بثلاثين ديناراً! ثمناً لطن الشعير. ولا يفوته دائماً أن يكون سعر الطن موافقاً عادة لما يفرضه ربحاً عن كل دينار خلال كل شهر، فربما زاد سعر الطن أضعافاً، إذا كان تسديد الدين يتجاوز مدة مضاعفة أيضاً، ويتم كل هذا على قاعدة –الرضا والقبول- بين الطرفين! وهكذا تجري المعاملة غاية في الدقة، كيلا يسمى كل هذا رِبى! وقد أحل الله البيع وحرم الربى.
*            *               *               
وفجأة شاع نبأ عزمه على حج بيت الله الحرام، وقد وزع ما بذمته من حقوق شرعية وصدقات على بعض الفقراء من طلبة العلوم الدينية. وخص بعض المعممين الذين كانوا يزورونه، ويقضون فترات من الصباح في محله، وبعض الفقراء من الجيران، والذين كانوا لا تفوتهم مثل هذه الأمور!
كل هذا دون أن يرجع لمرجع ديني، فعلق بعضهم على هذا: أنه ذكي بحق، فمن ذا الذي لا يعرف كيف نمت أمواله؟
وفي أمسية أحد الأيام، وهو في غمرة الاستعداد للسفر إلى الحج. عاد وعلى وجهه سحابة كآبة دكناء. لم تفت زوجه دون استغراب ذلك منه، وبهدوء ينم عن ذهولها لما يبدو على سحنة وجهه، لكنه لم يكتم الأمر، فصرح بكل شيء.
جارهم –الشيخ عبد المنعم- بذمته عشرون ديناراً، أقترضها منه، لتجهيز جنازة والده ومراسيم الفاتحة وملزماتها، وقد تراكمت عليه الأرباح، خلال خمس سنوات، وقد أستغل مناسبة الحج فجاء يرجوه، ويشرح له حاله، ويستعطفه، أملاً أن يتنازل –على الأقل- عن الفوائد المترتبة! وقد تجاوز المبلغ المقترض! ولما رفض «مصطفى» صرخ الشيخ بوجهه، مندداً بما ينتظره يوم الحساب ومردداً ببعض الآيات الكريمة.
لم يزعج مصطفى أو يخيفه –ما ينتظره يوم الحساب- بقدر ما أزعجه تجمع الناس وتهامسهم، وهم حول الشيخ عبد المنعم، يؤيدونه ويهونون عليه الأمر!
وهانت المسألة أخيراً حين تدخل معمم من رجال ندوة مصطفى، إذ أتفق على حل مع الشيخ بدون أخذ رأيه! إلا أن أمر الدلال –سيد حميدي- كان أكثر إزعاجا وإحراجا. فقد هدد أن يفضح مصطفى على أوسع مدى إن أستمر هو باستنزاف دمه، واستثمار كدحه! وانفضت جموع الناس، ولكن مصطفى ظل بعدها في دوامة، وكأنه يتوقع  أخطاراً غاية في الفضاعة، تنتظره في قابل الأيام!
وبعد أن استوعبت –أم حسين- جلية الأمر، هدأت روعه، رغم ما داخلها من هم بسبب ذلك. وذكرته ان ثلاث ليالي –قبل السفر- تولم فيها الولائم لوجهاء البلد، وإطعام الفقراء، وتوزيع الصدقات من محله وبيته كافية لمحو سَيئة هذين الجاحدين!
ومرت المدة التي اقتضاها السفر إلى الحج، وعاد مبرور الحج، مبرور المسعى، وأقيمت الولائم لتهنئته، وتوسعت علاقاته مع شتى الجهات، بسبب من علاقاته مع نفر من المعممين ذوي اللباقة، والقابلية الفذة في خلق الإشاعات النافعة والضارة، حسب ما تقتضيه الحاجة. وقد عرفوا بين الناس –بالعشرة المبشرة- لكثرة ما يدعون للولائم، ليس غير! 
وإزاء هذا تطورت أساليب القروض عنده، وارتفع فائض الدينار الشهري من خمسة وعشرين فلساً إلى خمسين فلساً. ولا أهمية للنكات التي صارت تدور على ألسن الناس! فحين شاع أمر ارتفاع فائض القروض، علق أحدهم: لا تستغربوا فالله سبحانه وتعالى قال »والله يضاعف لمن يشاء بغير حساب» وقال آخرون:  الله عز وجل قال «كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة». وقيل «إن الحاج لا يدخل ضمن الذين تكوى جباههم» فهو ليس من «الذين يكنزون الذهب والفضة» ان أمواله موزعة، لا يقر لها قرار في كف أو جيب! وإذا كان بعضها يرقد في -قاصته- أو صندوق فانه من العملة الورقية. فلا يحمى عليها في نار جهنم، فيكوى به جنبه وظهره! ان النار تحرقها! هؤلاء الناس يرسلون نكاتهم ارسالاً فيما بينهم، ونادراً ما يسمعه واحد منهم نكتة من هذا القبيل. ولكن بصورة لا يستطيع هو أن يحاسب عليها القائل، فذاك يصوغها على نحو عام كأنه لا يعني أحد بعينه!   
ولكن حيرة الحاج بالمخبول -سيد ببا- حيرة لا تطاق. فهو حين يقف بباب محل الحاج يثرثر كثيراً مما يسبب تجمع الناس، ويثير ضحكهم، وتصفيقهم أحياناً! دون أن يكون لنكاته أي معنى، لولا أن يشير ببعض الكلمات البذيئة إلى الحاج! وإلى لحيته ومسبحته، والحاج يعلم جيداً أن ضحك الناس نكاية به لا لنكات -سيد ببا-.
أما المجنون –ابو عقرب[4]- هذا المجنون الغريب الأطوار، والذي عرفه الناس دون سائر المجانين في البلد، ربَ بيت وعائلة، يهتم بأمور عيشها أكثر بكثير من العقلاء، فهو في كل صباح يقصد الأسواق إلى حوانيت ومتاجر المحسنين، لا يمد يداً، ولا يطلب من أحد، ولا يفوه بكلمة استجداء واحدة، إلا أنه يتلو آية أو حديثاً عن الدنيا الزائلة الفانية، وعمن جمع المال وأحبه حباً جما، ثم غادرها وما عليه إلا كفن كأكفان غيره، وشبراً من الأرض يتوسد ثراه!
ولا يشتري -ابو عقرب- شيئاً إلا بعد أن يجمع ما يكفي معيشة اليوم ومقدار قسطه اليومي لبدل ايجار البيت وكسوة العائلة الموسمية، فإذا انتهى من كل هذه خرج إلى صحن الروضة العلوية يتمشى أو يتجول في السوق. فوقف قريباً من محلات من يعرف فيهم الشحّ والبخل، أو الكسب الحرام، ورفع رأسه إلى السماء، وكأنه يخاطب أشباحاً تسبح في الهواء:
- ملعون الوالدين... إلمَنْ، للورّاثة؟! ولك آنه، وأنت بكفن! خو مو كفنك حرير؟! أجمع يا أغبر! أجمع ولك، تاليه مو أكثر من خامه وزبيل تراب! يغشوك ذوله العظّامه، لكن غشهم ما يعبر على الله! ولا يقدرون يخلصونك من عذابه... مسكين!
يجر الكلمة الأخيرة جراً، ويلفضها بعنف، ويشفعها بصفعة هوائية جهة المقصود. ثم ينصرف. وهو لا يترك محل الحاج يوماً إلا بمثل هذه! ولقد حاول الحاج مرات كثيرة أن يمنحه شيئاً لا بأس به، إلا أنه كان يرفض ذلك، وبعبوس ونظرة غضب واحتقار!
ولكم تندر المسؤولون في الحكم حين يلتقون بالحاج في مجالس الوجهاء، والأدباء. فيرددون ما سمعوه من نكات الناس، وخاصة المخبولين -سيد ببا و ابو عقرب- وكأنهم لا يعلمون من هو المقصود! أما الحاج فأنه يلزم الصمت، عملاً بالحكمة المأثورة «كرموا أنفسكم بالتغافل!»
رفاقه من -المعممين- الذين يسبغ عليهم أفضاله، يجدون حرجاً بالغاً في عدم الدفاع، ضد هذا التعريض! ورغم كل هذا فان الحاج يبدو واسع الحلم، لم يكترث، ولم يتأفف، وكأن الأمر لا يعنيه. غير أن أمر السيد –حميدي- يقلق باله، ويقض مضجعه. لأن سيد –حميدي- لم يعد يهتم بتسديد أي مبلغ، لا من الأرباح ولا رأس المال! بل أكثر من هذا، ان يشتمه شتماً فضيعاً، كلما طرأ ذكره في محفل ومجلس! أنه يذكر رأس المال الذي زوده به والأرباح التي استوفاها منه، وما استفاده هو كأجير. ويمعن في التوضيح والشرح، بكل ما أوتي من لباقة وحماس! فلا يكف حتى يدع من يسمعه يصب لعناته عليه.
وفي هذه الأيام بدا الحاج كثير الاهتمام بقضية –سيد حميدي- وكثيراً ما يذكره بمرارة وألم. إذا آوى إلى فراشه عند النوم! فتهدئه زوجه، وتخفف من غلوائه. وأشارت إليه مرة –أن يغسل يديه- من حسابه. ويحتسبها على جده رسول الله (ص) فيصرخ بلا وعي:
- هو آنه قابض منه شيء، شايف وجهه ها الملعون الوالدين، فاك مني ياخه؟! بس يجيني اللوم والحكي، والله، والله، لو أقطعه بسنوني ما أشفي قلبي منه!
وبمرور الأيام أخذ قلقه يزيد، فارتأت زوجه أن يعهد بأمر المحل إلى ولده الأكبر، ويسافر هو أياماً يروّح عن باله. وأخذت تعد له ما يلزم، وخرج ليغادر المدينة ضحىً، وبعدما رتب الأمور إلى ولده، وكل ما يهم، خصوصاً الديون المستحقة، بكمبيالات. وما يجب عمله، وان كانت له أساليبه الخاصة في حسم القضايا. مما لا يتوفر في ولده الذي يبدو دائماً انه لا يرتضي سلوك أبيه، فنظرته تختلف مع أبيه  اختلافاً كبيراً. لكنه لا يتدخل تدخلاً واضحاً.
وتنفست زوجه الصعداء، وارتاحت كثيراً لأنه وافق –حسب رأيها- السفر. وانصرفت إلى شؤون البيت مع مزيج من القلق والارتياح! وشبحت نظرها إلى السماء، اللهم إرحمنا برحمتك يا رب! في هذه الأثناء فوجئت بولدها الثاني، والذعر باد على ملامح وجهه، وتوجه إليها بلهفة:
- ماما هيئي الآن فراشاً وسجادة، وأعدي طعاماً لغداء أبي!
قال هذا وهو يناول الحمال الفراش، وألقى آخر كلمة، سأعود قبيل الظهر لأخذ الغداء. دون أن يذكر شيئاً آخر. وأهاج الأمر من في البيت، وأستبد بهم القلق. فلزمت هي باب البيت من الداخل. وهالها أن المارّة كان لا حديث لهم إلا ذكره! وأثناء اقترابهم من البيت يقتصرون كلامهم على إعلان الشماتة والشتيمة! سمعت بعضهم يقول –هذي نهاية الكسب الحرام! وآخر يقول، طغه وتجبر خصوصاً بعد ما حج! فيرد عليه آخر، أي. حج بيت الله وجانه يهودي!
وزاد هلعها حين سمعت أحد المارّة يقول: «يا ويلك من جدّه رسول الله؟ فلطمت وجهها». وعادت إلى الداخل تردد: «يمكن صار شي ويّ سيد حميدي؟ أسترك يا رب!». وأخذت عباءتها وراحت إلى بيت جارتها –أم علي- لتكلف أبنها بالذهاب إلى المحل، واستجلاء حقيقة الوضع. في مدخل البيت سمعته يقص على أمه الحادث. مختلف الروايات. التي ما اسرع ما تعددت. وتجمدت بمكانها ترهف السمع لتستوعب النبأ، وقد ختم حديثه: «خلاصة الأمر المسكين سيد حميدي إلى رحمة الله، بطلقة مسدس. وجدوه على صدره؟ والحاج الآن مستريح في الموقف بمركز الشرطة؟! ولا يعلم أحد هل الحاج الذي قتله، أم أنه انتحر؟».
ارتدت إلى الوراء، وقد أربكها الذهول. فإذا بالمخبول –سيد ببا- يهذي، والمارة يسائلون عن الموضوع. وبلهجة تنم عن انفعال بليغ، وأسى عميق. راح يصيح: «بلي. بلي. هذا من فضل ربي!».
 
علي محمد الشبيبي
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- في النحو واللغة درست عند متعددين، أولهم الشيخ خلف البهادلي ثم الشيخ حسن لحامي، وفي المنطق الشيخ محمد رضا المظفر، وفي الفقه وأصوله عند الشيخ طاهر الشيخ راضي وقريبه الشيخ هادي، والسيد أمين الصافي والسيد مير صهر السيد ابي الحسن الاصفهاني.
2- تعود الى أعوام الاربعينات حيث أقبلت على الصحف والمجلات التقدمية والفلسفة المادية. حيث أقبلت بشغف على مطالعة الفلسفة الحديثة للدكتور عبد المنعم خلاف وغيره.
3- هذا المرابي من سكان النجف، ومحله قريب من صحن الأمام علي (ع) وله من المعممين جماعة. لا يخلو محله يوما من واحد منهم أو أكثر.
4- سيد ببا. من مجانين النجف كان شاباً كادحاً ولكن شحيح الرزق فجُنَّ، وكانت نكاته وسخريته مقصورة على المتمولين والمعممين.
أما أبو عقرب. فهو من سوق الشيوخ، كان ميسور الحال فأفلس وقصد النجف وأقام فيه مع عائلته. أشتغل حمالاً لا يكف يندد بذي المال الشحيح والمعمم الفاسق دون أن يذكر أسم أحد من هؤلاء. وهو يشتغل بدأب لكنه إذا أتم لديه ما يكفيه لمعيشة اليوم وإيجار البيت وما يدخره لكسوة العائلة أو لغرض كف عن العمل. هذان المجنونان كانا لا يؤذيان أحد أبداً بغير كلمات تعريض بالسيئات وفاعليها.

31
المنبر الحر / حسون أفندي*
« في: 20:38 29/11/2018  »


حسون أفندي*
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
1913-1997


مقدمة لابد منها
سبق ونشرت عام 2017 لوالدي علي الشبيبي طيب الله ثراه مجموعته القصصية (السر الرهيب). ومن اليوم سأسعى لنشر مجموعة الوالد القصصية الثانية بعنوان (هذا من فضل ربي) وهي خمس قصص قصيرة. إن أفضل ما أقدمه لذكرى والدي هو العمل على نشر تراثه، هذه الأمنية التي كانت تراوده طيلة حياته لكن الظروف السياسية القاسية وانعكاسها على وضعه العام -من فصل، وملاحقات واعتقال، وسجون، وتبعات أخرى- كانت حائلا جديا لطباعة ونشر مخطوطاته، مع العلم أنه نشر الكثير منها في بعض الصحف العراقية والعربية.
وعن مجموعته هذه -هذا من فضل ربي- كتب والدي التعليق أدناه عنها وعن بقية قصصه القصيرة، فوجدت من الضروري نشرها لأنها تعطي صورة متكاملة عن محاولات الوالد في كتاباته وتطور اسلوبه وتفكيره، وهو يكتب عن كل ذلك بتواضع وصدق. فكتب الوالد بتاريخ 17/10/1966 في دفتر مخطوطاته الملاحظة التالية عن قصصه:
(هذه مواضيع كتبتها في أول شبوبي، وفي ظروف ما كنت فيها ذا نهج معين. فأنا أتلقف ثقافتي من مصادر مختلفة. أبي وأصحابه من جهة، وأساتذتي الذين أدرس بحضرتهم، الفقه وأصوله، العربية وآدابها[1]. ومن جهة ثانية أندية النجف ومجالسها وما تتضارب فيها من اتجاهات مختلفة وأراء متباينة. هذا الى جانب ما فيّ من نوازع الشباب ونفوره، ومطامحه وغروره، وجهلي الناجم عن ضغطه عليّ وتقييده لحريتي، وحجزه لأفكاري ورغباتي.
كل هذه الفوضى، وانعدام التوجيه المنظم، خلقت بي عقدا، وسببت لي إنطوائية، طغت على كل مشاعري، وأحالتني الى كشكول درويش. فأنا جبراني الاسلوب -تقريبا- في كتاباتي، والكآبة التي تغمرني والغموض الذي يكتنفني. وأنا فكه أحب النكتة اللاذعة للفراغ الذي يملأ حياتي من جهة، والكتب التي ترهق نفسي من جهة ثانية وأنا مثالي صارم مع نفسي وأصدقائي في كثير من الامور بسبب المحيط الذي يحصرني بين ابي والمجالس النجفية التي لا تخرج الى ابعد من اجترار الادب الموروث، والجدل -البيزنطي- السقيم. وأنا متمرد! ولكن تمرد مكتوف اليدين، موثوق الساقين، مكموم الفم.
عن مثل هذه الحياة التي حييتها، انعكست هذه المواضيع فلا تستغرب قارئي الكريم، إذا ما وجدت فيها تناقضات أو أخيلة، أو ترهات!
وحسبي ان استقامت أفكاري بعد حقبة من السنين[2] ... إلا أني حباً بذكريات شبابي، واعترافا بأخطائي، أحتفظ بهذه المواضيع، ليس اعجابا بها ولا إيمانا بصحتها، إنما هي بالنسبة لي كالأبناء للوالد، يكون فيهم الأبله، والذكي، والقبيح والجميل، والجاهل والفهيم، ولكنه يحبهم جميعا، حبا تختلف درجته وحنواً تتفاوت نوعيته.
فليكن لي العذر من أي جيل كان وأي زمن! كربلاء/ علي محمد الشبيبي)
الناشر محمد علي الشبيبي
السويد/العباسية الشرقية
29/11/2018
 
حسون أفندي
 
وقفت ماجدة أمام المرآة تتحسس جسمها الرشيق، تلمست نهديها البارزين كفنجانين مقلوبين. ونظرت بطرف عينيها ردفها فوجدته كما تتمنى النساء. وأمرّت يدها على بطنها، فارتاحت كثيراً لما أحست بانبساطه ولينه. كل شيء فيها جميل، شفتاها الريانتان، خدّاها الورديان، شعرها الجعد. ثم هي محبوبة زوجها، بل هي قبلته التي يصلي إليها. وقد غمرها بعطفه وحبه، لا بل بطاعته وإذعانه أيضاً. فما لها إذن تملأ جو الغرفة زفيراً وحسرات؟!
طالما حلمت بحياة رافهة، وسعادة بيتية، وكلّ هذا الآن بين يديها. بيتها مليء بكل ما يلزم، الحبوب، السمن، الدجاج، الفواكه! ولطفلها أنواع اللعب. فما هذا الذي يختلج في صدرها؟ حتى ليثير فيها الرغبة الشديدة إلى البكاء؟!
كان زوجها أبو جميل يحس شيئاً ما يختلج بصدر زوجته، لكنه لا يريد ولا يحاول أن يستفسر منها سرّ هذه الكآبة التي كثيراً ما تلوح على قسمات وجهها. ويبدو أنه يعرف سرّ ذلك. ويحاول أكثر ما يمكن أن يقنع نفسه عكس ما يعتقد.
في هذه الآونة التي كانت فيها ماجدة أمام المرآة تغمرها أمواج التفكير، تذهب بها تارة إلى الماضي البعيد وإلى ما كانت تنتظر وتحلم به من مستقبل تارة أخرى، وإلى الحاضر الذي هي فيه وتتمناه كثيرات من أمثالها، لكن لا مع –حسون أفندي- طبعاً؟!
في هذه الآونة كان حسون أفندي أبو جميل، منطرحاً على فراشه بجانب ابنه، وقد غمر هو نفسه أيضاً بالتفكير. يستعيد ذكريات ماضيه، ينشر أحلامه، ويستعرض أدوار حياته! حقاً لقد عانى من شقاء الحياة ما يمضّ الجسم ويضنيه، ويشعل الرأس شيباً. فأبوه كان معدماً، يعيش من نتاج أرض زراعية صغيرة لا تكفي معيشة شهرين، لولا أنه يتقاضى بعض الحقوق الشرعية بإسم العمامة على رأسه، والزي الذي يرتديه. وتباً للزمن إذ أبقى وطابه خالياً من العلم إلا ما يحتاجه كل إنسان من فروض الدين اليومية وملحقاتها.
أما هو فقد سار على نهج والده –ومن يشابه اَبَه فما ظلم- من عدم التزود، ولو بحظ يسير من العلم. على الرغم من أنه حضر كثيراً من حلقات التدريس، وحمل بعض الكتب، ولازم مجالس العلماء، وأندية الأدباء، ومع ذلك فان حظه لازم العثار، والفشل.
لقد حاول مرة أن يكون شاعراً، وانه ليسمع أن الشعراء يتغزلون، بأحباب يتعذبون بهجرهم، ويحترقون بنار بعادهم، وهذا سر شاعريتهم. والضمير عند هؤلاء الشعراء مذكر، فهام بالغلمان ...؟! إلا انه أطفأ نار الوجد، قبل أن تسيل عواطفه شعراً ...؟!
وانقلب عن هذا الغرام إلى غرام بالعذارى. وكم تصدى لهن فغازلهن بعينيه الصغيرتين المشنوطتين! غاص في التفكير، وتذكر كم فشل في صيد واحدة منهن ولو بالوعد والهجران. وتذكر كيف نجح أخيراً حين أحب –ناعمة- عشيقة الفتى القروي، بعد أن فشل الفتى في حبه، بسبب تعنت والده الإقطاعي؟ وقد سبق وأرسله إلى هذه المدينة للدراسة.
فكان حبه لـ -ناعمة- بلسماً لجراح قلبها المكلوم، بسبب ما لقيت من فشل في حبها الأول. والتجاؤها إليه ظفر عظيم أصابه، لكنه مع ذلك لم يصبح شاعراً، لأن حبيبته منحته كل ما يصبو إليه! وقد جرى بينهما تماس كثير. فناما متلاصقين جلداً إلى جلد، وتمتعا بشتى صنوف اللقاء، ومع كل هذا لم يستطع أن يرغم أهله على الزواج منها. فهي إبنة الفقيرة الشبه مجنونة. بينما أمه تتغنى دائماً بمجد القبيلة التي ينتمون إليها!
أضطر أخيراً أن يرحل عن مدينته، يفتش عن عمل يمكنه من التزوج بها، فوّفق إلى وظيفة رئيس كناسين في إحدى محلات العاصمة. وبعد شهرين تم زواجهما، وما لبثا أن تهاجرا، بعد أن ذاقت مرارة الجوع، فعادت إلى أمها، وفي رحمها منه جنين.
وهنا جف ريق صاحبنا حسون أفندي بفمه. وكاد يختنق ندامة، حين تذكر اليوم الذي بلغته ام –ناعمة- أنها على وشك الولادة! ثم رسالتها الثانية التي تبلغه فيها أمها، أنها ولدت بنتاً، واشتهت أن تذوق الفاكهة، ولكنها توفيت بعد ثلاثة أيام قبل أن تذوق ما اشتهت!
تذكر –حسون أفندي- كل هذا، وغرق في التفكير عن كل شيء، عن ابنه الذي كان مطروحاً إلى جانبه على فراش وثير، يلاعب الهواء برجليه ويديه، وعن زوجته التي فارقت المرآة، بعد أن أصلحت من شأنها لإعداد شاي العصر.
وكأنه قد أفاق من نوم، وصحا من حلم، فأرخى يديه إلى جانبيه، ومدّ رجليه. والتفت عن يمينه وشماله. وأبتسم ابتسامة سخر وازدراء، وتمتم في سره، آه للأقدار كم تضحك! كم حاولت أن أظفر بحب، وبحياة تسعد من أحب فلم اسعد. لم أستطع ان أكون –مذ أحببت المسكينة نعيمة-  أكثر من رئيس كناسين، وها أنذا الآن –حسون أفندي- لم أنقص ولم أزد. أصبحت الآن مدير نفوس!
كيف صرت؟ كيف جاءت ظروف الحرب؟ فجعلت وظيفتي مغناطيساً للمال؟ صرت مقدراً بعيون الكثيرين الذين يهمهم أن يحوزوا على دفاتر المواد المعيشية والكساء، وبفضل أمثالي تصاعد عدد نفوس العراق من ستة ملايين إلى عشرين مليون؟!
تمكنت أخيراً أن أحظى بهذه الوردة –ماجدة- ولكن آه ... ان ماجدة لفي ذهول في كثير من الأحيان. عثرت عليها مرات تناجي نفسها عن زمان مضى! ليتني أعرف ماذا عن ذلك الزمان! ووجدتها تطري كثيراً ذكر ذلك الشاب –جارنا إحسان- فهي تثني على أدبه وشاعريته، وكلما وجدت مناسبة لذلك. وتتساءل: لِمَ هوّ على علمه بائس فقير؟ دائماً في السجون أو في محنة من المضايقات.
أوه كم أصبحت أحقد عليه، لا لشيء سوى أني أعتقد أن ماجدة تتمنى في قرارة نفسها، لو كان لإحسان هذه الوظيفة، مادام ليس لي علمه وأدبه؟
وتنفس تنفساً عميقاً حاداً وقال: آه. لو علمت ماجدة ان هذا المال الذي أغمرها به ليس من مرتب هذه الوظيفة. إنما هو من فضل –الحرب- وأرباب المصالح المضطرين! أما ما يلاقيه إحسان من مضايقات وسجون، فلأنه يفضح اللصوص والمرتشين والخونة والمأجورين!
للمربي الراحل
علي محمد الشبيبي
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- نشرت في مجلة –واسط- وأغلقت هذه المجلة بعد صدور العدد الثاني. وأعتقد ان ذلك كان في احدى السنوات 1941/1945 . كتبت هذه القصة، وهي حقيقية لصاحب لي من جيراني أيضاً أيام كنت أعيش في بيت والدي.
1- في النحو واللغة درست عند متعددين، أولهم الشيخ خلف البهادلي ثم الشيخ حسن لحامي، وفي المنطق الشيخ محمد رضا المظفر، وفي الفقه وأصوله عند الشيخ طاهر الشيخ راضي وقريبه الشيخ هادي، والسيد أمين الصافي والسيد مير صهر السيد ابي الحسن الاصفهاني.
2- تعود الى أعوام الاربعينات حيث أقبلت على الصحف والمجلات التقدمية والفلسفة المادية. حيث أقبلت بشغف على مطالعة الفلسفة الحديثة للدكتور عبد المنعم خلاف وغيره.
 
 


32
القضية الوطنية أولاً!؟
كتب الدكتور نائل الزامل مقالة بعنوان (نحن البصريين ... العزل) قال فيها الحقيقة بألم موجع يمزق القلب ... نشرتها اليوم الجمعة الاستاذة سناء عبد الرحمن على صفحتها في الفيس بوك، في الأسفل يجد القارئ الكريم رابط المقالة. لقد تأثرت فعلا بصرخته هذه المحبَطه النابعة من الحرص والاعتزاز بمدينته البصرة وأهلها. تشعر في كلماته الاحباط الذي يعانيه المحتجون ليس في البصرة فقط وإنما في كل المحافظات. فحفزني مقاله لكتابة تعليقي على صفحة السيدة سناء عبد الرحمن، وأعيد نشره الان مع الاضافات والتعديلات الضرورية ... كنت أقرأ مقالة الاستاذ نائل الزامل (رابط المقال في الأسفل) وأنا استذكر وقفة امهات شهداء سبايكر وهن يتظاهرن بمفردهن ولم تحاول اي جهة سياسية ان تحشد لهن تجمعا يتناسب وعظم الجريمة وبشاعتها! ولم اشهد يوما تظاهرة جماهيرية من أجل المطالبة بالإفراج عن المتظاهرين المخطوفين وتقديم المسؤولين للمساءلة! فما ان يتم إخفاء المتظاهر حتى يتم نسيانه (جلال الشحماني، الشهيد محمد الحلو وغيرهم من مغيبين). وحتى مع احتجاجات البصرة طرحت على صفحتي بالفيس بوك بوستات تنبه البصريين الى ضرورة ان يطالبوا بإطلاق سراح المعتقلين والمطالبة بمحاسبة المسؤولين الذين امروا بإطلاق الرصاص والقتل العمد، وعدم التساهل وتأجيل هذه المطالب. لكل هذا وجدت من واجبي وهذا اقل ما يمكنني تقديمه وأنا في العقد الثامن من عمري ان ادون ملاحظاتي عن الاحتجاجات في البصرة او في اي محافظة عراقية املا ان تسهم في تطوير الحراك الاحتجاجي وتنقله نقلة نوعية فاعلة تتناسب والتضحيات.
وأحب ان اضيف ملاحظة مهمة حول اسلوب الاحتجاجات (سلمية او عنفية)، ففي دولنا حيث التخلف وانعدام القانون والتدني المتباين في القيم والأخلاق -بسبب ثقافتنا الموروثة- والنظرة لحقوق الانسان وإشاعة الفكر الاستبدادي وملازمته للفرد منذ طفولته وحتى موته، حيث الاستبداد في كل مكان وزمان، في البيت من افراد العائلة، في الشارع، في المدرسة، وفي العمل، حتى اصبح الاستبداد جزء من تربيتنا بنسب متفاوتة، اضافة الى فعل الفساد المالي وسلطة المال وما تمتلكه من سلطة سلاح ومليشيات منفلتة وعصابات ... فأن هذا التخلف في وقعنا يجعل اي تحرك شعبي سلمي لن يهز ضمائر المستبدين الفاسدين ولن يرهبهم التظاهر ولم يقلقهم ما داموا في حماية السلطة، هذه السلطة عملت كل جهدها للتأثير على القضاء والضغط عليه لحرفه عن مهمته الاخلاقية والإنسانية في نشر العدل وحماية حقوق المواطن، فأصبح القضاء حاميا للفساد وللفاسدين، ومن يتصدى من القضاة لملفات الفساد الكبيرة يتعرض لمختلف أساليب الترهيب حتى من قبل المؤسسة القضائية أحيانا كما في حالة القاضي رحيم العكيلي والقاضي عبد الأمير الشمري! ما يقلق المستبدين والفاسدين فقط عندما يدق المحتجون ابوابهم عن قرب ويصرخوا في اذانهم حينها سيهربوا كالجرذان ويبحثوا عن جحور تخفيهم، ولدينا امثلة كثيرة (مثلا يوم أجتمع جميع أعضاء مجلس النواب وأقروا إصلاحات العبادي بدون نقاش وبالإجماع، أو هروب محافظ الناصرية ....) . اما حرق الدوائر ومؤسسات الدولة ونهبها فهذا عمل تخريبي مرفوض كما انه يقدم خدمة مجانية لسلطة الفساد والاستبداد ويشوه وطنية وأحقية الاحتجاج.
منذ بداية الاحتجاجات قبل سنوات وفي كل تعليقاتي وكتاباتي كنت ادعو ان لا تتحدد مطالب الاحتجاجات بمطالب فئوية او مناطقية او اجتماعية ضيقة وإنما ان يكون الشعار الرئيسي والهدف وطنيا عاما، يشخص الداء الذي يعاني منه الشعب وهو إنهاء المحاصصة الطائفية والسياسية المقيتة وان يبنى الحكم فعليا على اسس المواطنة والعدالة الاجتماعية ليكون قادرا على الاصلاح، وتوفير الخدمات، ومحاكمة الفاسدين، والتمتع بالحرية، وسيادة القانون والقضاء العادل ... مثل هذه المطالب تجمع كل العراقيين من الشمال لجنوبه ، وترفع من وعي الشعب، مثل هذه المطالب (إنهاء المحاصصة وتوفير العدالة الاجتماعية) لو عولجت ستحل مشكلة البطالة، الصحة، الماء، الكهرباء، الفساد ....الخ بينما ان تكون المظاهرات تتعلق فقط بقضية الماء، والكهرباء، او البطالة، أو بضحايا سبايكر والأمهات يتظاهرن لوحدهن، او من اجل صرف رواتب معلمين في محافظة محددةأ أو المطالبة بتبليط شارع وهكذا... فهذه المطالب سيتفاعل معها فقط المتضرر (في تلك المحافظة او حتى فئة اجتماعية ضيقة ولا تتحول الى قضية وطنية شاملة) ليس هذا وحسب وإنما هذا التوجه يحمل نعش هذه المطالب لأنها لا تعالج اساس المشكلة وإنما نتائج المشكلة وهي مشكلة وطنية عامة اسس لها الاحتلال بعملية سياسية فاسدة وفاشلة كان يراد منها تدمير ما تبقى من العراق ... كان المفروض ان تتم المطالبة في جميع الاحتجاجات بمعالجة الاسباب والتركيز على انهاء المحاصصة الطائفية المقيته وتشكيل حكومة وطنية ومن كفاءات نزيهة وشجاعة تعتمد العدالة الاجتماعية لتكون قادرة على الاصلاح وتوفير الخدمات وحل مشكلة البطالة وغيرها من مشاكل ... لقد كتبت كثيرا وطالبت ان ترتفع قيادات الاحتجاجات الى مستوى المهمة وتطوير نضالها والتنسيق الجيد والواعي بين المدن لتوحيد المطالب وترك المطالب الفرعية الضيقة والتي هي نتائج للمشكلة التي اسس لها الاحتلال (المحاصصة الطائفية) ولكن للأسف لم اجد اي صدى لطرحي، ولا ألوم قيادات الاحتجاجات الشابة فهي تفتقد للتجربة كما ان بعضها ربما يتمتع بنرجسية العمل الوطني وبالتحدي ... وللأسف ان دور السياسيين (احزابا وتيارات وشخصيات) من ذوي الخبرة المكتنزة منذ الاربعينات من القرن الماضي ايام وثبة الشعب وانتفاضاته كان دورهم ضعيف ومحدود جدا في التأثير على قيادات هذه الاحتجاجات لأسباب لا مجال في هذا التعليق تناولها ... لذا ادعو قيادات الاحتجاجات في كل انحاء العراق التنسيق الجدي ذا الطابع الوطني العام ودراسة درس البصرة المكلف ونتائجه الباهضة، والاستفادة من تجربة الحركة الوطنية العراقية والعربية في نضالها من اجل قضاياها الوطنية بعيدا عن الانانية والنرجسية وضيق الافق والغرور.
محمد علي الشبيبي
السويد/ العباسية الشرقية
الجمعة 05-10-2018

* رابط مقال الدكتور نائل الزامل:
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=480752145668201&id=100012002596044

33
نداء من أجل إنقاذ الوطن!
سمع ورأى الجميع ما صاحب الانتخابات من لغط واتهامات ومهاترات ومن أجواء ساخنة من تفجيرات وحرائق إضافة الى تهديدات (قادة سياسيين) بالحرب الاهلية .... حتى وصل بمجلس النواب الى الغاء مئات لا بل ألاف الصناديق والتشكيك بالأجهزة والتكنولوجيا التي اعتمدتها المفوضية وتقبلها مجلس النواب قبل الانتخابات، ووصلت الوقاحة بمجلس النواب بالتشكيك بالمفوضية التي عينها المجلس ذاته. وأنا لا أبرئ المفوضية في عدم نزاهتها او على الأقل عدم كفاءة أعضائها كما أنا واثق من عمليات التلاعب بأصوات النازحين والخارج وغيرها .... كل هذه أكدت لي صحة موقفي وعزوفي عن المشاركة في التصويت.  ثم جاءت تقلبات الكتل الفائزة في طروحاتهم المتناقضة والمتقلبة والغير منسجما مع أفعالهم من أجل تحالفات ظاهرية وهشة، كلها دفعتني لكتابة السطور أدناه لعلها تساهم في إنقاذ العراق من التخبط والفساد والتخلف الذي يعيشه.
كنت قد تناولت باختصار شديد، في منشورات وتعليقات على الفيس بوك، وحتى في مقالة أعلنت فيها عزوفي عن الانتخابات، ووضحت أن سبب عزوفي لعدم ثقتي بعملية سياسية بإشراف المحتل أسست على الفساد والمحاصصة الطائفية، وإن معظم مؤسساتها (التشريعية، التنفيذية، وحتى القضائية لحد ما) يسودها الفساد وانعدام الحس الوطني والشعور بالمسؤولية. إذن فما هو الطريق الأصوب من أجل الإصلاح؟. باختصار أننا بحاجة الى قيادة سياسية مجربة وحكيمة ولها كاريزما يمكنها:
أولاً أن تجمع دون تفريط كل قوى التيار المدني (من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، من ضمنها التيارات القومية والمستقلة وحتى الدينية ذات القناعات العلمانية) حول برنامج وطني كحد أدنى لقيادة التحركات الجماهيرية في كفاحها من أجل الاصلاح ...
حسب قناعاتي ومن تجارب التاريخ وتجارب التحالفات العراقية، أرى أننا لا يمكن أن نتقدم باتجاه الاصلاح والنظام المدني بخطوات ثابتة من دون وحدة التيار المدني بمختلف اتجاهاته المؤمنة بالنظام الديمقراطي. ويبقى الحديث عن الإصلاح بدون العمل الجاد من أجل وحدة التيار المدني، حديثا عبثيا لا يمكنه أن يحقق هذا الاصلاح. فالمعركة والصراع من أجل نظام مدني لا يمكن تحقيقه دون قوى مدنية متوحدة مقابل تكالب قوى طائفية متخلفة، وفاسدة وذات نزعات عشائرية تمكنت خلال هذه السنوات من أن تمتلك السلطة والسلاح وأن تسيطر على القضاء -لحد كبير- والإعلام لتسخره متى شاءت من أجل مصالحها أو لإرهاب القوى المدنية والديمقراطية.
ثانياً كي تنجح هذه القيادة في التحرك، بموازاة الاحتجاجات، أن تتحرك دوليا (مع الدول الاوربية، والأمم المتحدة، والعربية) لفضح ما يسمى بـ (العملية السياسية) التي أشرف عليها الاحتلال الأمريكي وأختصرها بمؤسسات دولة (تشريعية، تنفيذية، قضائية) كسيحة وفاشلة منذ الولادة! وهي عملية فاسدة كلفت الشعب العراقي آلاف الضحايا، ومليارات الدولارات، ودمرت جميع مؤسساته المهمة، إضافة الى أنها دمرت ما تبقى من قيم أخلاقية ونظم إدارية .... نعم الاحتلال يتحمل كامل المسؤولية فهو من سيطر، وفي أيامه نهبت المتاحف والقصور والدوائر .... وقتل جنود الاحتلال وشركاته الأمنية أي مواطن أو سيارة تقترب منهم مسافة 40 م بينما لم يقتلوا لصا تجرأ وسرق أمام أعينهم المتاحف والمؤسسات ....! عثر الاحتلال على عشرات الصناديق المخبأة بملايين الدولارات، وصرفت ملايين الدولارات من أمول النفط المجمدة، كما صرفت ملايين الدولارات كامتيازات ونفقات لموظفين عراقيين وأجانب، ولم يسمع ويرى الشعب العراقي -لا في أيام مجلس الحكم ولا بعده- أية حسابات وتدقيقات عن هذه الملايين وربما المليارات! وكان بريمر يصرف هذه الاموال دون حسابات موثقة وقانونية! إن الصمت عن دور الاحتلال وما سببه من خراب في العراق هي خيانة بحد ذاتها .... لهذا أنا أدعو إن كنا جادين من أجل الإصلاح أن نشكل الهيئات المدنية، من كفاءات علمية في كل المجالات - قانون دولي، اقتصاديين، تخطيط، زراعيين، عسكريين ....- ويمكن للعراقيين في الخارج أن يلعبوا دورا رائدا في هذه الهيئات (لسهولة تحركهم ومقابلة الهيئات الدولية) للتحرك لفضح تبعات الاحتلال الامريكي وما سببه للعراق من كوارث، والمطالبة بالتدخل الأممي من أجل إعادة بناء العراق والحفاظ على استقلاله وحدوده وذلك من خلال مجموعة مطالب أهمها :
1-أن يتم تشكيل حكومة مؤقته وبإشراف أممي لا يشترك فيها أي حزب أو كتلة أو شخصية كانت متنفذة في سنوات ما بعد السقوط.
2- أن تساهم وتشرف الأمم المتحدة بالتنسيق مع الحكومة الموقتة في إعادة صياغة الدستور بما يتفق مع المبادئ العامة لحقوق الانسان والمواثيق الدولية. وأن يسن قانون لتنظيم الاحزاب والمنظمات المدنية، قانون يمنع انتشار الفكر الارهابي أو الطائفي أو الشوفيني أو الدكتاتوري.
3- تعمل الحكومة الموقتة بالتنسيق مع الامم المتحدة من أجل تحديد موعد لأجراء انتخابات نزيهة.
4- أن يتم تحقيق شفاف من أجل معرفة مصير المبالغ التي عثر عليها من قبل سلطات الاحتلال، والمبالغ التي تم سحبها من أمول العرق المجمدة، وتقديم الحسابات القانونية والموثقة.
5- أن يتم تكليف شركة -مؤسسة- عالمية (مقابل نسبة، أو أي طريقة للدفع) من أجل متابعة جميع الأموال التي صرفت من ميزانية الدولة خلال (2003-2018) لبناء مشاريع أو عقود رافقها الفساد المالي والإداري. والعمل بالتنسيق مع الهيئات الدولية لإعادة الأموال المهربة والتي نهبها الفاسدون بمشاريعهم وصفقات فسادهم، وملاحقة الفاسدين لمحاكمتهم علنا.
5- حتى تتعاون معنا الدول على تسليم الفاسدين والخونة والارهابيين وغيرهم من مجرمين، أرى ضرورة إلغاء حكم الاعدام في الدستور الجديد مع التشديد في العقوبات لتصل العقوبة الى السجن الفعلي مدى الحياة.
6- أن يتم تقديم شكوى والمطالبة بتعويضات عن كل الجرائم والأخطاء والدمار الذي سببه الاحتلال.
7- إلغاء قانون (المساءلة والعدالة) وتعديلاته، والعمل من أجل صيغة للعدالة تجرم المتهم (البعثي، النصير او المتعاطف) لأعماله التي أدت الى الضرر المادي والمعنوي وذلك من خلال تقديم شكاوى شخصية أو جماعية على كل من ساهم (بعثيا كان أو نصيرا او متطوعا) بطريقة ما في ضرر (مادي أو معنوي) لمواطن او لمجموعة مواطنين، وأن تكون العقوبة متناسبة مع الضرر. وعلى أعضاء وأنصار حزب البعث (وخاصة قياداته، ومن تولى مراكز بالدولة) تقديم اعتذارهم للشعب العراقي عن جرائم حزبهم وأخطائه المدمرة، وأن يتعاونوا مع عوائل الضحايا من أجل كشف الحقيقة، ومن يرفض تسقط حقوقه المدنية. 
هذه مجموعة تصلح ان تكون خطة عمل يمكن الإضافة إليها وتطويرها وإعادة صياغتها بما يتلاءم مع القوانين الدولية والخبرة العالمية المشابهة لمشاكل العراق.
محمد علي الشبيبي
السويد/ العباسية الشرقية
13/06/2018

34
مقاطعة الانتخابات!؟
المقاطع والمصوت كلاهما لهما رأي يستند لأسبابه وأهدافه ... وتبقى الأسباب والأهداف قد تتفق او تختلف وحتى تتناقض من شخص لآخر وربما قد يكون الموقف متشابها لنقيضين سياسيين أو أكثر! كنت من مؤيدي المشاركة بالانتخابات، وكتبت كثيرا عن ذلك. ولكن احداث كثيرة وقعت، إضافة لبعض المواقف من المشاركين في الانتخابات، اضافة الى مواقف متراكمة تتعلق بالموقف من العملية السياسية منذ السقوط، وكيفية التعامل معها ... كل هذه جعلتني افكر بالمقاطعة. البعض يرى في المقاطعة خدمة للفاسدين! ولهؤلاء اقول ان الفاسدين (وحسب قناعتي من الواقع) انهم لابد ان يسيطروا مجددا على مجلس النواب وقراراته حتى وان انعدمت المقاطعة!؟ لماذا هذا الاعتقاد؟ لان الدولة بجميع مؤسساتها (التنفيذية، التشريعية، والقضائية) ينخرها الفساد ويتلبسها الخوف -من المليشيات وقوة مال الفاسدين وانعدام الأمن و القانون، وسيادة العرف العشائري بأسوأ وأحط حالاته، والتردي في الوعي- ! وهذه المؤسسات قدمت لنا مفوضية انتخابات على مواصفاتها (اي طائفية وفاسدة وضعيفة)، هذه المفوضية ستنفذ أوامر، مافيات الفساد والطائفيين والعملاء، التي لها الفضل بوجودها للإشراف على العملية الانتخابية ... وهذه الاوامر ستكون في خدمة مافيات ومليشيات الفساد من خلال شراء أجهزة وبرامج تكنولوجية - بالإمكان التحكم بها- ايضا فاسدة! ومن هنا انا لا اثق بمجريات العملية الانتخابية وبالمشرفين عليها ... ويوما بعد يوم تتأكد لي هذه الحقيقة من خلال التسقيط بطرق بذيئة، المال المسروق للبذخ في الدعاية الانتخابية، انفلات المليشيات والتهديد والاعتداء والاغتيال، اختيار المراقبين (وقد اشتكى الكثيرون وخاصة في الخارج)، عدم الوضوح من تحديث البطاقة الانتخابية وعدم منحها بالرغم من التحديث وإجبار المواطن على ضرورة التحديث ....الخ. وكل هذه التجاوزات والتهديدات، والقانون والقضاء والأمن مغيب!؟ لماذا؟ لان السلطة الفعلية بأيدي الفاسدين والطائفيين وعملاء دول الجوار، وهذا ما يسعون إليه! اما رئيس الوزراء فهو عاجز عن اتخاذ اي موقف جاد ضد الفاسدين واللصوص والخونه، ما عدا خطاباته التحذيرية التي لا تقدم ولا تؤخر ولا توفر الأمان .... وقد يتساءل البعض معترضا (كما كنت سابقا اتساءل) هل المقاطعة ستغير من الوضع وتحد من قوة الفاسدين؟ لا ابدا لن تحد من قوتهم، سيمتلكون نفس القوة ان كان لهم 60% أو 90% ففي كلا الحالتين سيمرروا القوانين التي تخدمهم! ولكن للمقاطعة من وجهة نظري لها تأثير ودرس قوي للتيارات المدنية وقوى اليسار!؟ ستحث قوى التيار المدني (اليسار بكل تلاوينه، الديمقراطيون، المستقلون ...) على العمل الجاد ومنذ بداية الدورة التشريعية على توحيد الجهود ووضع برنامج عمل وطني مشترك لمواجهة مخططات الفاسدين والطائفيين والعملاء بكل تلاوينهم .... بدون القدرة للتيار المدني على التوحد فان كتل الفساد وعملاء دول الجوار والطائفيون هم من سيتحكم بمصير الشعب والوطن وستسير الاوضاع للأسوأ ... على قوى التيار المدني ان تعمل بتواضع ونكران ذات وان لا يكون همها المناصب وان يكون في مقدمة اهتماماتها هموم الشعب لا الفوز بمقعد أو منصب .... لقد خاب ضني بمعظم قوى التيار المدني عندما اقرأ مقالا او تغريدة او بوستا يتهجم على حزب عريق بسبب خطأ في الموقف والاجتهاد او ربما لموقف ضعف او مهادن -وهذه مواقف تدان ولكن لها وقتها-، او ان يشن هجوم على احد مرشحي التيار لخطأ -او طرح متدني المستوى- في طريقة مخاطبته لأنصاره، او الصمت عن الاعتداءات ومحاولات التسقيط التي مست اخرين .... اني ارى في المقاطعة هي وسيلة ضغط على التيار المدني بكل تلاوينه في ان يتدارس كيفية مواجهة الفاسدين وقراراتهم في الحكومة القادمة ... عدم المشاركة والمقاطعة وعدم الفوز بمقاعد مجلس النواب او رفض استلام المناصب لا تعني ابدا الانعزال كما يحاول البعض تصوير ذلك ... لان هذه القوى لن تستكين وتنعزل بل هي مطالبة بالتوحد اولا وثانيا ان تضع برنامج عمل وطني ... ويجب ان تتحرك منذ اليوم الاول من خلال احتجاجات وتظاهرات تصاعدية بالمطالب والأسلوب .... لا ان تبقى التظاهرات حبيسة ساحة التحرير، وقد اثبتت انها ذات تأثير جدا محدود ... فبعد ايام من الاحتجاجات عرفت الكتل الفاسدة ان هذه الاحتجاجات كفقاعة في الهواء وكأنهم يخاطبوا المحتجين بالمقولة المشهورة: (قافلة الفساد تسير والكلاب تنبح -مع الاعتذار للتعبير-) ... كلنا نتذكر في الايام الاولى من التظاهر كيف حضر جميع النواب يتراجفون لاجتماع المجلس واقروا بالإجماع مقترحات رئيس الوزراء بالإصلاح! لكنهم ورئيس الوزراء تراجعوا عن موقفهم بعد ان نجحوا في اقناع المحتجين في التجمع فقط في ساحة التحرير وعدم التصعيد في التحرك واستمرت الاحتجاجات محصورة في ساحة التحرير والمضايقات واختطاف الناشطين أستمر، وردات الفعل كانت متواضعة ولغاية اليوم نجهل مصير بعض المخطوفين الناشطين، مما اثر سلبا على معنويات الكثيرين ووجدوا في التظاهرات تحرك عبثي فاعتمد هذا التحرك على النخب ... وهذا واضح من التظاهرات في المدن فأعداد المتظاهرين لا يتناسب مع الطموح ... لهذا اجد ان على قوى التيار ان تعمل بجهود مشتركة من اجل تصعيد النضال وان يتحول هذا التحرك الى تحرك على مجال اممي لفضح حكومة الفساد والمحاصصة الطائفية التي اسس لها الاحتلال الامريكي ومطالبة الدول والمنظمات الدولية ان تقف الى جانب شعبنا وتصحيح المسيرة وتسليم اللصوص الذين نهبوا اموال العراق لتقديمهم الى محاكمات عادلة واستعادت جميع الاموال التي تم تهريبها .... نعم أن هذا التحرك الأممي بحاجة الى تنظيم وقيادة موحدة واعية يمكنها الأتصال بدول العالم الأوربي والأمم المتحدة وتقديم الشكاوى باعتبار شعبنا ضحية لحرب شنتها أمريكا وهي من أسس لنظام الحكم الجديد وهي مسؤولة قانونا وأخلاقيا عما يجري في العراق .... هذا التحرك لا يمكن أن يقوم به فرد وإنما هو من مهمة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في داخل العراق أو خارجه في المنافي. هذا التحرك افضل بكثير من دور عدد محدود من نواب مدنيين!

محمد علي الشبيبي
السويد/العباسية الشرقية
09/05/2018



35

الانتخابات وشروط مقاطعتها!
تهنئة: بمناسبة الثامن من آذار يوم المرأة العالمي أتقدم لكل أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا أجمل التهاني وأقف بجانبهن في نضالهن من أجل حقوقهن في المساواة والحياة الحرة الكريمة بدون أي عنف واستغلال أسري أو غيره تحت أي مسمى.
منذ السقوط وكان توزيع المسؤوليات بين الكتل السياسية يحصل مرة بتنسيق ومباركة أمريكية/إيرانية، وأخرى بانتخابات تشوبها شبهات الفساد والتزوير ... وهذا كله إضافة لضعف وتشتت القوى المدنية الديمقراطية، سبب إحباطا متراكا للشعب. كان الاحتلال الأمريكي من اليوم الأول وحتى منذ بدأ التخطيط لإسقاط نظام صدام هدفه أن يصبح العراق دولة معاقة متخلفة ريعية عبر عنها بمصطلح (الفوضى الخلاقة)، ومثل هذا المخطط لا يمكن أن تنفذه إلا قوى وشخصيات سياسية ضعيفة لا تتمتع بالنزاهة والحس الوطني والمسؤولية ... وقد كشف بول بريمر من خلال مذكراته انطباعاته عن الشخصيات السياسية التي اعتمدها وخاصة في مجلس الحكم، البذرة الأولى لخلق فئة طفيلية سياسية فاسدة وفاشلة. هذه الفئة بمختلف تلاوينها (شيعية، سنية وكردية) أصبحت الأقوى في المجتمع بحكم السلطة والأموال والعقارات التي سيطرت عليها، والمليشيات التي رعتها وأسستها.
استغلت الكتل الفاسدة اغلبيتها في مجلس النواب للتلاعب بقانون الانتخابات وبشروط واختيار مفوضية الانتخابات بطريقة يعزز  من مكانتها في كل دورة انتخابية. فهي الكتل الفاسدة تعلم الدور المهم للإعلام وقوة المال ودور المليشيات في التأثير السلبي على الاجواء الانتخابية بما يخدم اهدافها خاصة في بلد تم تسييس القضاء فيه وحرفه عن استقلاليته اضافة لضعف وتلاشي تطبيق القانون وحل محله العرف العشائري المشوه والمتخلف ... وكل هذا يخدم مصالح الكتل الفاسدة!
بينما القوى المدنية الديمقراطية تعاني من الضعف والتشتت والتنافس ولم تفلح في تجاوز ذاتيتها والتضحية بمصالحها من اجل الصالح العام. ان الضعف الذي تعاني منه هذه القوى كان مدروسا ومقصودا من قوى الاحتلال، فالاحتلال يرى في هذه القوى انها هي المنقذة للشعب العراقي من تبعات الاحتلال و الفساد والفشل والجهل وهذا ما لا يرغب به الاحتلال فمصالحه ومصالح اسرائيل تقتضي ان يبقى العراق يعيش الفوضى الخلاقة -العملية السياسية- (كما يحلو للبعض تسميتها للدلع ودفع الشبهات!؟) لان هذه الفوضى تخدم مصالحهم في المنطقة، كما أنها تخدم مصالح دول الجوار أيضا.
الحديث اليوم عبر وسائل التواصل الاجتماعي عن المقاطعة متأخرا ولا يخدم الرغبة بالتغيير. المقاطعة تكون ناجحة وذات مفعول إيجابي عندما تتبناها قوى مدنية منظمة (لا افراد عبر وسائل التواصل الاجتماعي). ويجب ان لا تتوقف فقط بالدعوة للمقاطعة وإنما ان تشكل لجان وطنية (داخل الوطن وخارجه) متخصصة في كشف سلبيات قانون الانتخابات، طريقة اختيار اعضاء المفوضية وارتباطهم بالكتل، الدعاية والإعلام وسيطرت مافيا الفساد على الساحة الاعلامية بالأموال التي تم سرقتها، دور المليشيات في التأثير، عدم توفر إحصاء سكاني والبطاقة التمونية يشوبها فساد كبير، وحتى البرنامج التكنلوجي لتنظيم الانتخابات ونتائجها الذي تم اعداده مؤخرا مشكوك في صلاحيته، لان الفاسدين كما عودونا لا يشتروا برنامجا صالحا لا يشوبه فساد ...الخ طبعا هذه بعض النقاط وهناك اسباب ومبررات كثيرة تدعو للمقاطعة لان الانتخابات تجري بطريقة غير شفافة.
هذه اللجان الوطنية بعد دراسة هذه السلبيات عليها ان تتوجه لمقابلة، اولا: الجهات الرسمية العراقية (مجلس النواب، رئيس الوزراء، رئيس الجمهورية، المفوضية، والصحافة والفضائيات) وتوضيح اسباب المقاطعة وما هي مطالبها. ثانيا: مقابلة السفارات الغربية وفي مقدمتها سفارة الاحتلال لان امريكا هي المسؤولة عما وصل اليه العراق من تدهور وهم المسؤولين عن وضع الاساس لهذا الوضع المتردي، وتوضيح اسباب المقاطعة ومطالبتهم بمطالب محددة تخدم القضية العراقية ( طبعا المطالب يجب ان تكون مدروسة ومتفق عليها). ثالثا: ان تقوم هذه اللجان بنفس الدور لمقابلة منظمات دولية وعربية لتوضيح الموقف وأسباب المقاطعة.
بدون هذا النشاط تكون المقاطعة في صالح الفاسدين وكتلهم ...
لذا ادعو كل مواطن الى التوجه للانتخابات واختيار اشخاص بعينهم ممن لم ينتموا لكتل فاسدة ولم يرشحوا أنفسهم تحت عباءة كتل فاسدة، ولهم تاريخ ناصع ونظيف ومشهود له بنكران الذات والتضحية ولم يستغلوا رداء الدين لخداع الشعب، ومن الذين نشطوا في الحراك المدني ووقفوا بثبات ضد التهديدات والترهيب ... لا اعتقد ان العراق خلى من الناس النزيهين والشجعان في تبني قضايا الشعب. اما الاصوات التي تدعو للمقاطعة ومحاولة الطعن بكل المرشحين دون استثناء فإنهم يقدموا بذلك خدمة مجانية للفاسدين كما ان موقفهم هذا عبثي وتهرب من تحمل المسؤولية.
محمد علي الشبيبي
السويد/ العباسية الشرقية 08 آذار 2018

36
وداعاً أبا ظافر (جبار خضير الحيدر)!




اليوم بعد الظهر رحل عنا المناضل الصبور جبار خضير الحيدر حاملاً معه "طبول العذاب في الثمانين العجاف*"! أبو ظافر (جبار خضير الحيدر) مناضل شيوعي عرفته السجون العراقية مناضلا دمث الاخلاق يحب الجميع متواضع و متسامح لكنه لا يتسامح بمواقفه المبدئية والوطنية. عرف بين إخوانه الضباط منذ تخرجه من الكلية العسكرية عام 1952 برتبة ملازم ثاني إنسانا وطنيا هادئا ومتزنا ينظر للأمور بتروي وحكمة ... كان شاهدا يوم 14 تموز 1958 على الثورة وهو في مهمة عسكرية خاصة (ليست لها علاقة بالثورة) من أجل أجهزة لاسلكية لوحدته في الديوانية، وعند سماعه بنبأ الثورة (وكان يعرف أن هناك حدث ما كبير سيقع!؟) فبادر وخرج للشارع متوجها الى وزارة الدفاع ببزته العسكرية ليساهم بدوره بأية مهمة تكلفه بها قيادة الثورة... وفي الوزارة التقى بالعقيد عبد السلام عارف وعرض عليه خدمته كضابط، وقد طلب منه عبد السلام للذهاب الى قصر الرحاب لمساعدة المجموعة التي كلفت بالسيطرة على القصر واعتقال الملك وحاشيته ... وعندما وصل لقصر الرحاب (كما أخبرني الراحل) وجد ان كل شيء قد انتهى وتمت تصفية العائلة المالكة، ولم ير سوى بضعة جنود يحرسون ما تبقى من القصر. هكذا كانت حياة هذا الضابط الوطني الذي لم تستمر مسيرته العسكرية طويلا، فتعرض للسجون والتعذيب والفصل. 
رحل الإنسان الطيب والمسامح المسالم بعد رحلة عذاب عانى منها في العقد الأخير من عمره، تنقل فيها بكثرة من البيت الى المستشفى، فزاد تدهور صحته من معاناته السابقة بسبب الاوضاع السياسية. فقد تميزت حياته بالمعاناة بسبب مواقفه الوطنية الصلبة وتعرض بعد الانقلاب الدموي في 8 شباط 1963 الى الاعتقال والتعذيب في سجن رقم واحد بمعسكر الرشيد وصدر عليه حكما لعدة سنوات وسفر الى سجن نقرة السلمان ليقضي فيه سنتين ثم نقل الى سجن الحلة، وفي سجن الحلة أختاره السجناء ليكون ممثلهم لدى إدارة السجن. ولم يغادر السجن الا عام 1968. وبعد اطلاق سراحه بدأت رحلته من أجل العودة لوظيفته (كضابط) ولكن حكومة البعث قررت إعادته كموظف مدني في مديرية السكك الحديدية. لكن فترة استقراره وتمتعه بالحرية في زمن البعث لم تستمر طويلا، فسرعان ما وقف، خلال تولي المقبور صدام لدفة الحكم، أمام المجرم عواد البندر ليصدر عليه حكما بعشر سنوات بتهم كيدية لا أساس لها من الصحة سوى حقدهم عليه لإصراره على الالتزام بفكره الوطني التقدمي وعدم استعداده لطأطأة رأسه أمام مخابرات صدام وأجهزته القمعية.... وأخيرا نجحت عائلته في ان يشمله عفوا قبل ان ينهي سنوات محكوميته.
عانى الراحل في سنوات عمره الأخيرة من الامراض والمتاعب بعد أن نجح من مغادرة الوطن في أواسط التسعينات .... أشتد عليه المرض في سنواته الاخيرة وأصبح زائر دائم للمستشفى، وخاصة في الشهر الأخير من حياته. كانت آخر زيارة لي (وكانت زوجتي معي) -في الخامس من هذا الشهر- له في مستشفى مالمو وكنت  مترددا بين شوقي لرؤيته وخوفي من أن أثقل عليه وأتعبه، وعندما دخلت غرفته وأخبره أبنه بأني قدمت لزيارته قابلني -وهو راقد في سريره- بتك المودة والترحيب ماسكا بيدي طالبا ان أجلس بجانبه على السرير وهو يقول : (تعال بجانبي لم أرك منذ فترة) . كان متعبا وبالكاد يتحدث معنا ... حينها أحسست أن أبا ظافر سوف لن ينجُ من هذه السقطة المرضية ... وبعد أيام كررت زيارتي وكانت حالته أسوء مما كانت عليه قبل أيام .... ولولا مرضي لواصلت زياراتي له ولكن هذا لم يمنعنا من التواصل مع زوجته (ام ظافر) فهي الاخرى قد تحملت الكثير وهي تتنقل بين السجون لمعرفة مصير زوجها، فكانت الزوجة الوفية الصبورة.
نم قرير العين ابا ظافر فجميع اصدقاؤك الذين كنت تلتقيهم يوميا (مادمت قادرا على المشي) تلتقي بهم وتستمع لأحاديثهم ونكاتهم وآخر الأخبار، يعتصر الحزن والاسى قلوبهم على رحيلك ....
أخيرا أحر التعازي للعزيزة لشريكتك ورفيقة عمرك أم ظافر (صبيحة الحيدر) ولأبنائك الاعزاء ولجميع عائلة الحيدر بمصابهم هذا. لروحك السلام والذكر الطيب والصبر والسلوان لجميع العائلة والاصدقاء.
محمد علي الشبيبي
السويد 02/12/2017
______________
*- طبول العذاب في الثمانين العجاف: كتاب ألفه الراحل عن سيرته الحياتية، استعرض فيه باختصار بعض اهم محطات حياته وحياة أشقائه وخاصة الشهيد ستار خضير.



37
المنبر الحر / جني العروس
« في: 21:42 14/11/2017  »
جني العروس
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي*
(1913-1997)




 
حين أنتهى الذاكر الحسيني، ونزل عن المنبر، أنفض أكثر الناس، ولم يبق إلا خاصة صاحب المجلس "الشيخ أحمد". وهو رجل وقور ومتزهد متعبد، ومن فقهاء البلد، ومتخصص بالتأليف في تراجم العلماء والأدباء.
ديوانه عبارة عن غرفة واحدة، متوسطة، ينفسح عنها ساحة، يتوسطها مربع يحتوي شجرة كرم، وزهور موسمية. ديوانه هذا يكتظ بالوافدين، عصر كل جمعة، وعصر كل يوم يتجمع فيه الخاصة من أصحابه، والطلبة الذين يدرسون عنده.
وبدون مناسبة، قال أحد الحاضرين: يا جماعة، مرَّ زمن طويل لم نرَ فيه الشيخ جاسم، خلافاً لما أعتاد عليه. فهو كثير الأسفار، سريع العودة من أسفاره!
- مسكين، على فضله، حظه في الرزق شحيح. أينما وجّهَ وجهه لا يحظى بخير!
قال هذا رجل محترم. فعلق آخر: لكل أمرٍ سبب يا مولانا. فالشيخ –غفر الله له- سريع الغضب! ولا أقول فيه حمق!
- لا. الواقع فيه حمقٌ، ويغلب عليه، والله لا يجعلها غيبة! أنا أقول هذا إشفاقاً عليه!
قال هذا آخر، عُرِفَ بصلته الوثيقة بالشيخ جاسم. وأنفجر ضحك من آخرين. وعلق أحدهم. وقال:
 كفعل جزّار اليهود بالبقر       بَرَأها من العيوب وعَقَرْ[1]
عرف الأول ما يرمي إليه صاحبه هذا، فقال: أعتقد أنكم تعلمون الكثير من المحرجات التي يورط نفسه فيها. أذكر لكم واحدة منها. حلَّ مرة ضيفاً على الزعيم "عطية" كانت ليلة جمعة، فالتمس الآخرون منه، أن يتفضل فيرقى المنبر، وذكر الحسين فيه أجر عظيم! لكنه أجاب: انا لست من صنف -الروزخونية[2]- أنا رجل فقه وشرعيات! ردّ عليه أحد البارزين من حاشية الزعيم:
- شيخنا ذكر الحسين، يشرف كل واحد، ما يعلو عليه واحد، وإذا ما إلك إطلاع، نكتفي لو تسمعنه  حديث الكساء[3]؟
أنتفض الشيخ، وبدون تروي قال:
- يو ...ه، حديث الكساء، حديث الكساء، هوَّ كله لحاف عتيق، تمزق وانتهى!
أضطرب الديوان من هياج الحاضرين، كاد بعضهم يعتدي عليه، لولا تدخل الزعيم بإشارة من يده، فسكتوا. وعاد أكثرهم من الديوان غضبان أسفاً.
وضج الحاضرون في الضحك. وانهالت النكات بالمناسبة حول الشيخ جاسم، ومواقفه المحرجة. في هذه الأثناء دخل الشيخ عبد الحسين. انه من أقارب الشيخ جاسم، حين أستقر، سأله أحدهم، إن كان له علم بالشيخ؟ هَزَّ الرجل رأسه، وبدت منه ابتسامة عريضة، وقال: هذه المرّة يبدو أنه وُفقَ. نسأل الله له ذلك!
عجّ السامعون بلهفة يستفهمون؟
- ايه ... يا الله، يا الله ... انشاء الله موّفق. وَضّح.
- على غير نيه أتجه إلى قرية من قرى السماوة، وفي مضيف لشيخ القرية، أستقبل بحفاوة، فتحدث وأجاد الحديث ...!
- يبدو أن حظه أستيقظ! هذه فاتحة خير.
هكذا قطع حديث قريبه أحد الجالسين، فضجوا بالضحك وتتالت الطُرَف. وعاد المتحدث يكمل حديثه .
- وفي المضيف جرى بين الحاضرين الحديث عن شابٍ جُنَّ على أثر مروره بعد الغروب على -ايشان[4]- في نهاية بستان. قالوا انه صُرع من الجِن المقيمين فيه[5]. وسألوا الشيخ جاسم، إن كان له علم بهذا الأمر، ولا أدري كيف استجاب الشيخ، وانتقل إلى ذوي المصروع، حيث أتخذ من مضيفهم الصغير مقاماً له. ولا أطيل عليكم، يبدو أن الله تلطف عليه فنجح بمهمته! وعاد للشاب عقله! وبناءً على هذا النجاح التمسوا منه الإقامة بينهم. وأفهمهم هو: أنه رجل فقه وشرعيات. فزاد احترامهم له. وأسرعوا فعملوا كوخين محترمين. أحاطوها بسياج من سعف النخيل. وعما قريب سينتقل بعياله للإقامة هناك!
قال أحد الشيوخ من المعممين أمثاله: نسأل الله التوفيق وسعة الرزق.
فعلق آخر: وأن يهديه للتروي، وتدبر الأمور بعقل وأناة!
قال ثالث، موجهاً كلامه إلى فقيه، عُرِفَ في مجال الفلسفة بإطلاع واسع، ومعرفة عميقة:
- ما ترى مسألة الجن؟ الأمر يلتبس علينا. اَهُمْ شياطين من صنف إبليس، أم هم خلقٌ أدنى من الملائكة؟ إن القرآن الكريم أشار إليهم في أكثر من موضع. إن منهم من يؤمن بالله ومنهم كفرة! ما يهمني أن وجودهم في الواقع أشبه ما يكون بـ -العنقاء- و –الغيلان-؟ انا لا تهمني التعاريف. يتشكلون بكل شكل[6] حتى الكلب والخنزير. والناس يخلطون في الحديث عنهم. بين ما يشير إليه القرآن، وبين ما تذكره الأساطير في كتب شتى، معتمدة وعادية. أتساءل، إذا كانت لمخلوق ما هذه القدرة الخارقة، فلماذا الاختفاء؟! لماذا لا يحتل هذه الأرض كلها، ويخضع الناس لسلطانه؟! يزعم الناس أنهم يظهرون في الأماكن المهجورة دون العامرة؟ ثم أخيراً، لم تعد هذه الأسطورة تذكر إلا قليلاً في المدن. حين انتشرت المدارس الحديثة؟ وعمَّ المصباح الكهربائي، لكنها ما تزال في القرى والأرياف، حيث يعم الجهل والفقر؟!
وتنحنح الشيخ أحمد. فوجّه الجميع انتباههم إليه. لكنه أكتفى: نحن نؤمن بالله الواحد الأحد، وبرسله وكتبه، وبمحمد خاتم النبيين، وانه على كل شيء قدير، فلا يسعنا مع هذا أن نشكك أو نناقش؟!
وحان وقت الصلاة، وهبَ الجميع يستعدون لأداء الفريضة.
*                                                  *                                                  *
الوقت ليل والريح شمال، والبرد قارس، تمس الجسم وكأنها مشرط الحجّام. فالفصل شتاء في أواسط كانون الثاني. الشيخ جاسم في بيته، أمامه الموقد، فيه عدة القهوة، وقد حجب الدخان كل شيء حتى عمامته البيضاء! كان وحده، لا يستطيع أحد أن يبقى خارج بيته لشدة البرد والظلام. انه يتشاغل بنفخ جمرات النار، لتشب وتخف وطأة الدخان. ويسعل أثناء ذلك سعالاً مزعجاً، كلما أمعن نفخاً في الموقد أزداد سعالاً! أحس بحركة قادم، فأعتدل وتنحنح، وحولق، وأستغفر بصوته الأجش. كانت امرأة نصف، رحب بها، وبدا عليه أنه أستغرب أن تجرأ امرأة على الخروج في مثل هذا الوقت، وفي الظلام الحالك والبرد الشديد؟!
- شيخنا آنه نشيده آل حطيحط. جيتك بأمر واحـﭼـي وياك دِشر -بصراحة-!
- براحتـﭻ ينشيده!
- شيخنه! لا بالايشان شياطين ولا جن؟! ابن آدم أشطن من الجن؟ خَلنَه من هاي كِلهَه ...
- لا تطوليهه، ولا تعرضيهه ينشيده، بيني مگصدج ومرادج.
- شيخنه. آنه اَعَرف سالفة –العوذة والتمايم، وعزيمة الجن[7]-! أگوله وياك عَدْلَه، بلا ميلَه، ولا توسَلْ، عِمْلَه ...؟ أگول. وگول؟ زين ...؟!
- أمرج، ينشيده!
- حسنه بتي، اوْحَيّدتي. حَبَّت وزَلَتْ، وهَسَه أريدك تدبرهَه!. "شليبه" ابن عمهَه تجَدَمْ لخطبتهَ، خَلِصهَه من الموت والفضيحة؟!
أطرق الشيخ فترةً، عزف في تفكيره لحظات. وأدركت نشيده سر وجومه. وترجمت هي في سرها، ما راح يفكر به؟ قالت في سرها: ابو عمَيْمَه، أحسب حسابك، هسَّه شكبرهه الفرحة بسَدرك -بصدرك-؟ گول، لزمتج ينشيده من بلعومـﭻ؟! أطلب ما تريد، آنه حاسبه حسابي ومستعده!
قال الشيخ بصوت متهدج: شلون ما تصير القضية، التدبير يستاهل كل ما اطلب.
- لـﭼن سايم الله عليك، أنصف وياي، وآنه ما قصر. وهَمْ الك عند الله ثواب، تخلص روح، وتستر فضيحه؟
- نشيده؟ عشرة صفر ... واعتبري حسنه امعلگه بها اللحية –وامسك لحيته بقبضته- أظن مطلبي موش زَحِم؟ حياة حسنه أغلى ينشيده؟
- موافجه!
- وبعد...؟
- وشِبَعَد يشيخنه؟!
- أتفق ويّ ابن عمهَه. وافرض واهُوَ -مثل ما تريدين- مايدري بحـﭼيتج! هاي شتگولين بيه؟
- أمرك!
- أسمعي ينشيده! اعلمـﭻ وعَلمي حسنه بلي تسمعي مني. أضبطي الكلام، كلمة كلمة. المسألة متوقفه على ضبط حسنه بالتمام، مودعه الله. وآنه أنتظر يوم يومين ثلاث، المهم، البدوة بعد الغروب! والأحسن ستشيري الحبايب، والجارات ، ها ....ولا تنسين! لازم ما تجين وَحَّدﭺ، شليبه لازم وياﭺ!
*                                *                                                  *
الليلة كانت الأربعاء بعد الغروب، هرع نساء القرية من بيوتهن، وقد ذهلن من صياح واستنجاد. نشيده تستغيث ...! حسنه، منفوشة الشعر، ممزقة الملابس. ملامح وجهها مفزعة، أمها تخشى الدنو منها. إنها ترمي من يدنو منها بأي شيء في متناول يدها، حجر، أم حديدة، أو أية آلة جارحة. تعض من يمسك بها، تتعلق بعنقه، أو بشعر رأسه. لقد جُنَّت الفتاة!
قالت إحدى الجارات، الليلة أربعاء، يَعَلهَه -لعلها- مارة بالايشان؟ لو دايسه بزون -قط- أسود، لو ﭽابَّه -كَبّت- فوح -ماء الرز المغلي- بالموگد؟!.
- من دون الأيام مرّت بالهوايش من صوب الايشان! قالت إحداهن.
- وَهي غافلة عن روحهَه؟ وشفت البت مخلوسه، وعيونهَ مزوغله، وتصيح من راسه! ... وينك يبو فاضل أريد بنيتي منك؟ هكذا ردَّت نشيده على جارتها.
النسوة ذاهلات، عيون حسنه الجميلة، بدت لهن كعيون ثور هائج! لا تكاد تقترب منها امرأة حتى تبادرها بلطمة على خدها، أو تقذفها ببصقة، وشتيمة!
- شيرن عَليَّ يَخواتي؟ شنهو الأسوي؟
قالت هذا نشيده، بصوت محزونة منهدة القوى من هول الصدمة. 
أجابت إحدى الجارات: هٰذَ، الخضر، ابو محمد بعد عيني جِريب. اليدخل عليه ما يخيب!
قالت أخرى: أم حسنه، لا تصفنين، بعَجَل دَبري أمرﭺ. أبعجَل! لا تتركين البت لمن تصير حسبته صعبه. اليِمّه -الأئمة- كلهم ما يقصرون، الخضر، الحمزة، ابو فاضل[8]، هُم المندوبين بالشِدّات؟ بس لا تتوانين!
وحضر شليبه مذهولاً. وقال، مستفهماً بلهجة مرتبك: 
- صِدك، ﭽذب؟ شها الطرگاعة، منين أجت؟ وشگلتو هِسَّه وشنهو العمل؟
قالت نشيده بلهجة المحزون الحائر: حِرتْ، وحيرني زماني. هاي جبرتي من الله. حرمهه الله من الأبو، وما إطاها أخو، ويرميهَه بها البليه؟
- اَفَه، عليـﭻ عمَّه! آنه عندج، بس گولي.
- شوف نروح للشيخ، لو اُهو ما فادنه بشي، ذاك الوكت، ما اِلهَه غير أبو فاضل! خو كلكم تدرون شلون خَلَص الشيخ خزعل ابن سنيدح!. وَيْ حِسهَه وبيومهَه؟!
- توكلوا على الله، الشيخ ما هو بعيد، والله بعونكم؟! ردَّ شليبه
ودنا شليبه من حسنه، يتكلف الابتسامة، وقد أتخذت من خصاص[9] البيت مسنداً. كانت بيد حسنه عصا من جريد النخل، كانت تهدد بها من يحاول الدنو منها....
- حسنه. آنه ابن عمـﭻ. ذِبي الجريده يَبَعد روحي، اطيني أيدﭺ يحبابة البنات.
فلوحت بعصاها في وجهه، لكنه بادرها بخفة، واحتضنها، وصاح: يا الله عمّه وياي!
وهَبت نشيده، وشدّت قوام أبنتها إلى صدرها، واتجها حيث يقيم الشيخ.
أخذت حسنه تصرخ وتشتم، وتتوعد. تَحجِل بمشيتها مرة وتحرن مرة. تحاول أن تفلت فما تقوى. بصقت على شليبه، حاولت أن تعضه. فعلت كل ما استطاعت من صياح وعويل. وأخيراً وصلوا بها.
الشيخ في ديوانه وحده، أمام الموقد، وقد ملأ الدخان فضاء الديوان. بينما الريح تصارع النخيل والأشجار، فتحس كأن البستان بحرٌ هائج. وخيل لهم، أن الجن فعلت كل هذا، وإنها تتراقص أمامهم. أما الشيخ فأنه ساكن لم يتحرك.
- شيخنه، أدركنه!
صاحت نشيده.
وتنحنح شليبه، فنهض الشيخ مرحباً.
- أهلاً، خير انشاء الله. شنهو الأمر؟
أخذ شليبه يحدث الشيخ عما حدث بلهجة المحزون، والشيخ مصغ يعلن الأسف، ويهوّن الأمر!
- كَتِّفها يا شليبه بشرباكك. قال الشيخ.
ونادى على مصباح ثان من بيته، بينما أخذ يخط دائرة وهمية وسط الكوخ. وأمرَ أن يجلسوها وسط الدائرة! توضأ وتوجه إلى القبلة، رافعاً يديه إلى السماء، مبتهلاً متوسلاً، إلى الله العلي القدير أن يعينه على رد العافية إلى الصريعة. بعد هذا أمسك بعصا خيزران، ودنا من نشيده، وهمس في إذنها: "وَصَيتيهَه تتحمل؟". فأجابت بحركة من حاجبيها! عند هذا رفع عصاه، وقال بصوت متهدج: إن كنت من عباد الله الصالحين، فانا أقسم عليك بالأنبياء والأولياء أن تغادر جسدها حالاً؟!
وكأن هذه الكلمات أنصبت حمماً على حسنه. فهاجت واضطربت، وصرخت تهدد الشيخ وتتوعده، بلسان الجني المارد؟ فحولق الشيخ وأنذره.
- كافر، نجس، أحرقك باسم الله الأعظم! أحرقك. أسمع. أنذرك. وستندم أخيراً!
فزاد هياجها، واضطرابها. فأهوى بخزرانته يضربها ضرباً مبرحاً. وصار يلهث كأنه يشعر بالرهبة، والمجازفة، مع جني من الكفرة! كان الشيخ يصرخ، ويلفظ كلمات مبهمة ... "بحق ..هـ ع، و حوحو، أتركها، أتسمع؟ نصيحتي لك.
ردت حسنه: أبدا ما اتزحزح، إنتَ مالك حتى تأمرني، آنه مو مِنكم!
- هـ ...ا! انتَ مو مِنّا! صار معلوم!
- نشيده، يا الله بعجل، حضري دجاجة سوده، ما بيه ريشة وحدة بيضه! وزعفران، ولوز وكشمش، وتمن عنبر! ها اليلة أعمل وليمة لريس الجان، ومنّه أعرف ها العنيد، واعَلمَه بعدين عاقبة عناده!
حين خرجت نشيده، أنتحى الشيخ بشليبه ناحية، وقال: شليبه، إتحبهَه؟ وتريد حياتهَه؟
- يشيخنه، اهي بت عمي ورادتي. ومستعد اشتري حياتهَه بماي عيوني!
- وآنه أطيك عهد بالله ورسوله، أرجع حسنه مثل ما تعرفهَه إلا بشرط!
- ﮔول شيخنه، أطلب، آنه حاضر.
- عشر ليرات صفر ... عثمانيه! توافق؟
- أبشر شيخنه، بسْ ترد العافية لحسنه!
وعادت الأم ومعها ما أمر به الشيخ، فقال:
- وهساعه، خلّو البِت الليله إهنا، وروحوا الله وياكم! آمنوا بالله ورسوله، الليلة أعزم والصباح رباح!
خرجوا، ففك الشيخ وثاقها، وراح يلقنها تعليماته الأخيرة. ذبح الدجاجة وأحتفظ بدمها، في الحوصلة -بعد تنظيفها-.
- اخذي الآن راحتك يحسنه، صرفت أمك وشليبه، وأجَلت القضية للصبح. ديري بالـﭻ، لا تغلطين بـﭼلمه، وحده من اللي فهمتـﭻ بيه. أريدﭺ تصيرين مسودنه تمام. إشتميني، هينيني، إحملي وجع الخيزرانة، حياتج، وسلامتـﭻ معلگه باللي علمتـﭻ. مفهوم؟
*                                                  *                                                  *
بعد شروق صباح الجمعة، توجه دَحام بالأبقار والأغنام، توقف عند ساقية يجري فيها الماء. دفع حيواناته ترد منها. لمح قريباً منها تحت شجرة سدر ضخمة "هيله" غريمة حسنه في حب دحام.
أبتسمت هيله وأدرك دحام ما تريد. قالت: ها! يدحام عِمَلتْه؟ هسه عرفتك غدار، والله نجاني منك!
- أنتِ شامته يهيله؟
- لا. أبد .... أحمد الله واشكره على سلامتي من الجني! والحمد لله. وانت تعرف ما عندي أم مثل نشيده! وانت تدري وآنه أدري نشيده تحبك مثل حسنه وأزود.
وبقفزة مرحة عبرت الساقية، تهش على حيواناتها. والتفتت وقالت: عيش وشوف، الوكت ما يظل صافي للدوم، لابد ما يصير خابط وعلگم؟!
في هذه الأثناء توجه شليبه ونشيده إلى الشيخ. قالا بعد السلام: ها شيخنه، خير انشاء الله؟
- ماكو غير الخير. استريحوا، آنه وحسنه، ما غمضت إلنه عين طول الليل. لكن عرفت سر الملعون! ريس الجان يـﮕول: هذا الجني كافر، ما يفيد وياه غير اسم الله الأعظم! استريحوا هالساعه، ينتهي كل شي!
حسنه، كأنها لم تبرح الدائرة، ولم يفك وثاقها، وكما رآها شليبه أمس.عيناها كأنها تقدحان الشرر. تديرهما وراءه أينما اتجه، وتنظر إليه نظرات الغضب الحاقد. عاد الشيخ يقول:
- كل حركة تصدر من حسنه من لسانها، من عيونهه، في الواقع هيَّ من حركات هذا الجني الملعون! الذي سكن جسدها الطاهر! وبعون الله اليوم اطرده. وإلى جهنم وبئس المصير!
قال الشيخ وأعتمَّ بعمامته، وطوق عنقه بـ-الحنَك- وهزّ الخيزرانة بيده هزاً عنيفاً، وصاح:
- أسمعْ، إفهمْ. أطلع واسلم على نفسك، وإلا احرقتك باسم الله الأعظم؟
صرخت حسنه، ولْوَلَتْ، واضطربتْ، وأنهال الشيخ عليها بالخيزرانة. أسمَعَتْ الشيخ كلمات الهزء بلحيته، وعمامته، وأعلنت باسم الجني، الإصرار على البقاء!
أرتد الشيخ إلى الوراء، وعاد يحمل صحيفةً، كتبت بالزعفران، مؤطرة بماء الذهب، وقال:
- هذا آخر إنذار. أنظر هذه الصحيفة، فيها أسم الله الأعظم. وخاتم سليمان الذي سجنكم في القماقم! أتَسمعْ، ها، ها؟ أجبْ؟
فصاحت حسنه، تعال يا شيخ، أسمع ما أشترِط. نَفِّذ وآنه اَنْفِذْ!
دنا الشيخ، وضع أذنه قريباً من فمها. وأرتد مزبداً مرعداً يصيح: ملعون، كافر، نجس، خسيس!
والتفت إلى شليبه ونشيده:
- تعالوا أسمعوا. تعالوا! وأخذ بيده شليبه وقال بصوت واطئ، وهو يلهث فزعاً:
- تدري بشرط هالكافر؟ ابتعدي أنتِ ينشيده -موجها كلامه لنشيده-، خليني أتفاهم ويّ شليبه... أبني هذا الجني كافر وملعون ونجس. خيرني، واحد من أربعة؟ ما يطلع إلا من واحد منهن! يبني اعرفت اشگلتْ؟ يبني، اعيونهه، آذانهه، بلعومهه والرابع ....!؟عَرفتْ؟!
وتحمس الشيخ منفعلاً: لأن هو نجس، يرغب بدرب نجس! وهذا أول وتالي هَمْ ينفَض على أيدك؟ من عيونه، تعمه!. من آذانه، تصير طرشه!. من بلعومه، تختنق وتموت! رِد عليّ؟
شليبه أحس كأن الأرض تدور به دورة سريعة، سريعة جداً. لم يسيطر على نفسه، فقد توازنه. أصفر لونه، تصبب جسمه عرقاً. وكأن سحابة قاتمة غطت عينيه. أرتبك فلم يحر جواباً! أمسك به الشيخ وأجلسه، سقاه ماء، بعد أن أذاب فيه شيئاً. وأعاد عليه الخيار؟
- يبني، أسم الله الأعظم، يزلزل الأرض والسماوات، مو أمر هيّن!
شليبه غرق بتفكير عميق، كأنه في غيبوبة، وكأنه يتكلم دون وعي، ردد:
- آه، يحسنه، حِسنـﭻ ميَسرني، ما تطيني نفسي أعوفـﭻ. والشرط هذا ... مَدري، شگول عنَه ...؟
صاح الشيخ: شليبه اطيني رايك، گول، گبل ما تروح الفرصة من أيدينه؟
وبدون وعي، أنفلتت من شفتيه "موافج!" باهتة حزينة!
وعاد الشيخ يصرخ مهدداً، متوعداً. ويأتيه الجواب .... أبداً ... نَفِذْ، اَنَفِذْ ...!؟
قال الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها النجس، أخرج من درب النجاسة ....
وأهتزت حسنه، واضطربت، ولْوَلَتْ. ارتفعت وهي جالسة، كأن إنسان حملها ليبطش بها، فغشى شليبه عينيه بيديه. وانهارت حسنه، واضطربت ثم تراخت، وتمددت كأنها في سباتٍ أو أنها ماتت! صاح الشيخ: نشيده، شوفي شغلـﭻ!
وامسك بيد شليبه، وخرج إلى ظاهر البيت. وبعد لحظات نادته نشيده، واَرَته الأثر؟! الذي كان يحلم أن يكون على يده!
شاع الخبر، مكرمة للشيخ، دون أن يعلم أحد بالحقيقة. لكن شليبه راح يطرح على نفسه هذا السؤال الذي لم يجرأ أن يوجهه للشيخ نفسه.
- آه، لَوَن أعرف منين دخل الجني؟ ما ﭼـان لازم يطلع من الدرب الدخَل مِنه؟!
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
 الناصرية في 13/02/1948
 
الناشر محمد علي الشبيبي
السويد 14/11/2017
 
الهامش
*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة،  آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية. وهذه القصة من ضمن مجموعته القصصية التي خصها بعنوان (السر الرهيب) لأن معظمها يشترك بسر ما./ الناشر محمد علي الشبيبي
1- من شعر أحمد شوقي في مسرحية -مجنون ليلى-
2- روزخون: المعلوم، أن هذه الكلمة فارسية. ومعناها –روز- وتعني اليوم، و-خون- أي قارئ. وتغلبت عليها اليوم كلمة منبري أو قارئ.
3- كنت طفلاً وقد سمعت كثيراً من الناس يتحدثون عنه. وأنهم اليوم كانوا في بيت فلان، فتلاه عليهم فلان. وكانت لنا جارة عجوز متعبدة وتزورنا كثيراً وقد تقيم في بيتنا ليال. وطالما قرأته في كتاب للأدعية تحمله معها دائماً.خلاصته ان النبي محمد (ص) دخل بيته وطلب أن يغطى بكساء. وجاء علي(ع) وسأل عن النبي ثم نام تحت الكساء، وهكذا الزهراء والحسن والحسين. وأن جبريل هبط يبلغ النبي عن أن الله جل جلاله قوله: ما خلقت سماءً مبنية ولا أرض مدحية إلا من أجل هؤلاء الذين تحت الكساء. ولكن هذا لم يعد يذكر منذ تبدلت الأرض والناس والحياة والإنارة ؟!
4- الايشان: كلمة أصلها الشأن، يبدو أن هذا المصطلح جاء من أرتفاعه. وعلى أكثر الأحتمالات، أنه مكان مطمور من الآثار القديمة. ويعتقد القرويون أن الأمكنة الموحشة، هي من مساكن الجن!
5- يعتقد القرويون أن الجن قد تتعشق فتاة أو فتى فتتقمص جسده. أو أنه داس مكاناً محترماً لهم، فينتقمون منه!
6- مازلت أذكر ما كانت تحدثنا به جدتنا، وأن بعضهم يظهر على شكل جمرة. وقد يظهر لامرأة على شكل –جزة صوف- فتهم المرأة لحملها فتهرب منها وتظل المرأة تلاحقها فتختفي، وقد تصاب المرأة عند هذا بالجنون؟! وسمعت من بعض المعممين المحترمين أيضاً أن بيتاً غير مسكون من أهله ولا مستأجر، وأثناء ما كان هؤلاء يتحدثون، إذ بالحجارة تنهال عليهم، فنظروا الشارع فما رأوا شيئاً، ثم رُموا بفحم المراكب، ثم برؤوس البصل، ثم لاح لهم نعاج وخراف عندما سمعوا ثغاءها فأطلوا على البيت ورأوها بعيونهم. وأن أحدهم كان قد صعد إلى السطح ليأتي بقدر فيه رز مطبوخ فلما أمسك بالبرادة، وإذا به يدور بسرعة فائقة وهو ممسك بالبرادة وصار يستغيث، فهرع إليه جملة من أصحابه وأنقذوه؟!
7- العوذة: من تعويذة بالله من الشياطين والجن. والتمايم: شبيه بها. أما عزيمة الجن، فهي لعبة من الذي يدعي ان يتصل بالجن ويدعو كبارهم ورؤساءهم لوليمة خاصة، يأخذ موادها من صاحب الحاجة المعتقد بهذا من لوز وجوز وكشمش وزعفران ودجاج ...ألخ.
8- الخضر- معروف لدى كل الناس وفي كثير من قرى الجنوب، له قبة وحضرة، فيزار ويعيش على سدانة قبته وحضرته قرويون بالوراثة.
أما الحمزة، فمتعدد لا نعلم من هو؟ أما الذي هو في الطريق إلى الديوانية فالمعروف أنه علوي من البحرين جاء لزيارة جده الأمام علي فقتله اللصوص ونهبوا متاع عياله، ومات ودفن. ولا نعلم لماذا أطلقوا عليه أسم الحمزة بينما أسمه الحقيقي "سيد أحمد الغريفي" .
ابو فاضل: العباس ابن الأمام علي قتل في كربلاء. اليَمّة: جمع إمام.
9- جدار البيت وسياجه الذي يحوطه وهو من قصب أو الجريد.








38
دموع اللقاء
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي*
(1913-1997)





كانت الشمس ترسل ذوائبها الذهبية بينما اختفت هي وراء الأفق الذي اكتسى هو الآخر بلون أرجواني رائع. وأخذت العصافير وهي تتطاير زرافات زرافات، تزقزق بحماس متواصل، كأنها تودع النهار بأناشيد الحمد والثناء لإله الكون، ومبدع الحياة. انها تطير من شجرة صفصاف إلى أخرى، وكأنها في ترتيلة قدسية.
وعلى ضفة النهر تجمع نسوة الحي من عذارى وأمهات يملأن الجرار. والأولاد والصبايا العائدون بالأبقار والأغنام من المراعي، كانوا أيضاً يزدحمون على ضفتي النهر، ليوردوا أبقارهم وأغنامهم.
كانت زقزقة العصافير تمتزج بحفيف الأغصان الهادئ، وثغاء الغنم ورغاء البقر، وهرج الأطفال، وضحك الفتيات وعجيج النساء. فيتألف من كل هذا نغم موسيقي رائع، يبعث نوعاً من اللذة والارتياح في مثل هذا الوقت الذي يبدأ فيه الظلام والسكون ينشران أجنحتهما الرهيبة على القرية.
كان كل واحد على النهر في مرح وحركة، إلا فتاة انتحت ناحية من ضفة النهر، متكئة على جذع شجرة صفصاف، شابكة يديها على "مسخنتها" كان يبدو عليها سأم بليغ. بينما أخذت عجوز تتحدث إليها بعناية وحنان، تنم عنهما ملامح وجهها، وحركات يديها، ونبرات صوتها الخفيض.
تلك الفتاة كانت –شِمّامة آل دبعون- وحيدة أمها وأبيها وخامسة أخوتها الذكور. وقد توفيت الأم مذ بلغت هي العاشرة من سنتها. وحين بلغت الثامنة عشرة من عمرها، توفى الوالد، الذي كان يبسط ظله على العائلة مع سيطرة صارمة. وتحول حكم البيت لأخوتها الأربعة الذين ملأوا البيت بالأطفال من بنين وبنات.
في عهد والدها كانت هي المسؤولة عن كل شيء، هي الآمرة والناهية. ولقد تغير بعد رحيل والدها كل شيء بهدوء. إلا أن الظواهر بقيت كما هي، فهي معززة مكرمة!
بعد وفاة والدها بعام، تقدم لخطوبتها ابن عمها "داوي" لكنه رُدّ. أخوتها لا يهون عليهم ذلك، إذ لابد أنه سيطالب بما تستحق من إرث. وعاد ابن العم فأبلغ أخوتها. وحذرهم: إن هم زوجوها من غيره!
لم تعد شمامة تعرف النوم، إلا إغفاءة حالم، أو سكون تَعِبٍ. إنها تجيل النظر، وتسرح بأودية الخيال، تستعرض الماضي البعيد، وتتطلع إلى المستقبل المحجوب. فلقد وعت عهد أمها مع أبيها. واستمعت إلى تاريخ الأسرة، قصصاً وأحاديث. فلم تجد ما يبشرها بمستقبل يختلف عن تلك الحياة التي مارستها أمهاتها وجداتها، بل جميع فتيات العشيرة!
وتقطع أفكار شمّامة زفرات حادة. وتفتح عينيها وتغمضهما بسرعة، كمن يفيق من نومه على أثر حلم مزعج ومخيف. وتتمتم بسرّها "إلاهي ... أيدي گصيرة، وآنه يسيره، إخذ أمانتك وخلصني يا رب العالمين!"
وفي هذا اليوم بدت شمّامة في أشد ساعاتها حرجاً. فقد تدهورت مكانتها في البيت. صارت تمارس الخدمة، وتتلقى التوبيخ لشيء أو لا شيء. ولا تملك حتى الشعور بملكية أبسط شيء مما خلفت أمها وأبوها. وأشتد قلقها مذ أشتبك أخوتها مع آل "رَهيّف" بمعركة أردوا فيها واحداً منهم.
إنها بين نيران هذا الحادث. تخاف على أخوتها من الثأر، وتخاف أن تُحَل المشكلة على حسابها، فتكون الفدية و الفصل! لقد أحست أمس تهامساً بين زوجات أخوتها. وترجمت نظراتهن إليها، إنها نظرات عطف وشماتة!
وحملت "المسخنة" وتوجهت إلى النهر. هناك التقت بالعجوز "روعة" الطاعنة بالسن، حتى أنها شاهدت أجيالاً من هذه العشيرة. وهي لنساء القرية كالعراف، برأيها الصواب، وبإرشادها النجاة. دَرّسها طول العمر تأريخ حياة أهل القرية جميعاً. وعلمتها التجارب سداد الرأي. عندها تجد العوانس السلوى، والثكالى العظة والصبر، والأرامل العزم والثبات على تحمل عناء الحياة، والولهى حكمة الكتمان ولذة الغرام، وأساليب الوصال. فإنها مارست جميع ضروب الحياة، ورأت ألواناً من المصائب، صبت عليها وعلى غيرها.
كانت تُكنى "اُم صخرة" هي تداوي كل شاكية باكية. وعندها لكل داء دواء! فللأرملة تقص عبر الحياة ونكبات الزمان، وصلابة أمهاتٍ بالصبر غالبن المصاعب. ولعديمات الحظ عند الأزواج، الخير الذي يعقب السكوت والخضوع، لأوامر الحماة؟ أو الالتجاء لأضرحة الأولياء والصالحين، "الخضر" و "أبو عجلة" و "الشريف"[1] أو "الفوال والمطوع"، وأنها أيضا تحسن عمل الشِعلة[2] تحرق بها قلب الهاجر، فيتأجج شوقاً إلى المهجور؟
مرّت لحظات قبل أن تبدأ أم صخرة حديثها مع شمامة وافتتحت حديثا بتوسل:
- بنيتي شمامة، كل المصائب تهون، وياما تلگت الحراير من ضيم، والصبر مفتاح الفرج!
- إي جدة؟ وشبيدي غير الصبر؟ لا تعذليني ولا تطلبين غير الصبر! آنه صابرة غَرمن[3] عليَّ!
- الصبر يبنيتي زاد النِباية (الأنبياء)
- گتلج آنه صابره. اتجرعه وهُو حنضل. لن ما أ گدر على شي غيره. اَلا انتِ؟ ماعندج چاره غير الصبر؟ باصريني ودليني!
وأنفجرت بعبرة وتداركت نفسها كيلا يسمعها الواردون! وأبدت أم صخرة تأثراً بليغاً من أجل شمامة. وكأنها شعرت بالعطف والواجب نحو شمامة. فقالت:
- شمامة؟ آنه جدّتج، آنه اُمّج، واكثر، گولي، أحـﭽـي، لَجْلِج أخبط ماي الشط؟!
- جده، روعه ... هضيمه، والله هضيمه أصيرن فصليّه؟ غيري يكتل وآنه الفدوة؟!
وراحت تنشج وكادت تنفجر بنحيب، لكنها كمت فمها بخمارها لتحدّ من صوتها. وأردفت:
- آخ ... آخ من الشماته! باصريني جده، ودَليني، شنهو الأسويه؟
لم تكن أم صخرة سريعة البديهة لحل مثل هذه المشكلة. وبعد صمت طويل، ووجوم عميق، تفتحت عبقريتها عن رأي هو خلاصة علمها، ولب تفكيرها، ولم تجد غيره في تلافيف دماغها، وصفحات ذاكرتها. وأدنتْ فمها إلى إذن شمامة ووشوشت! وبدا على شمامة تجهم، وبحلقت عينيها كمن تهيبت من خطر وحش مقبل عليها. ثم هزت رأسها بنفور. وقالت:
- لا، لا. أبد. هذَ ماهو راي. ما اَنَكِس[4] روس أخوتي والعشيرة أصير فدوه، أصير وصيفه، وأذل من الوصيفه، واخلِّ اخوتي يشمون الهوه بعز، ويمشون على طولهم!
ونهضت تتعثر بمشيتها لِما تحمل من هَمّ وقلق!
*   *   *
-2-
كانت أيام حزيران الأولى لطيفة رائعة. فمازال الجو يحمل نفحات من آيار وبهائه الشيء الكثير. فهو مبهج وقليل الحر، ولكن مدينة النجف مكتظة بالزائرين. فقد اقترنت بهذا الشهر زيارة الأمام علي (ع) في السابع من ربيع الأول، بشهر حزيران ...
وضاقت المدينة بالزائرين، بيوتها وفنادقها، وهي قليلة حينئذٍ. كذلك الميادين والصحن العلوي، والشوارع المجاورة له.
وقبل غروب الشمس عادت الحاجة -أم كامل- القابلة المعروفة تصحب ثلاثة رجال، من ريف الجنوب، عليهم مهابة ووقار، كانوا يمشون خلفها، وهي تردد عبارات الترحيب.
وهمس أحدهم: شدِعَوه؟ ماهي ضيفة[5]؟
- حُرمه طيبه! موش اَخيَر من أهل العمايم الخضر[6]!؟
قال هذا. فعقب الثالث: وشمدريكم ما تطلع عِرِف؟!
وصلت الحاجة بهم إلى بيتها، والتفتت إليهم وقالت:
- تفضلوا يُمّه، خلوا غراضكم، وا گضوا حاجتكم، واتجددوا -توضأوا-، وروحوا للزيارة، ولا تضيعون المجان! وَﭽدّوا زين؟
- شكراً حجية، أنعم الله عليج!
بعد الصلاة والزيارة عادوا، وطرقوا الباب -وهو مفتوح- فاستقبلتهم إلى أحد سطوح المنزل من بابه الداخلي الخاص إلى غرفة هناك، ودهش الضيوف، فما في الغرفة من أثاث يدل أنها ليست معدة للإيجار. إنها على حال ما هو معروف في بيوت النجف التي اعتادت الضيافة. إنها مفروشة بطنافس عربية[7] وبُسط كردية، وفي أحد أركانها فُرش نوم وأغطية. وفي منتصفها حيث يجلس المضَيّفُ عادة –عُدَّة القهوة-. 
ورمى الضيوف عباءاتهم، وقضوا حاجاتهم، وتوضأوا، لكنهم عاودوا الحديث مرة أخرى. قال أحدهم: المسألة ماهي خالية، أشو بگليبي خفگه! الحرمه ﭽنه عِرِف؟!
- انـﭽان عِرِف، لو اهيّ باجور -بإجور-، هيّ طيبة، ولسان طيب، وشنريد أكثر!
وغادروا البيت، بعضهم يوصي بعضاً، أن يركزوا على علامات في الشوارع التي سلكوها كيلا يضلوا الطريق.
عند العودة، بعد إداء الصلاة، والزيارة عادوا، لم يتمكنوا من البقاء أكثر، فالزحام شديد للغاية. وطرقوا الباب، واستقبلهم رجل في سن الثلاثين. رحب بهم وأكثر الترحيب. وزادت دهشتهم، حين دخلوا الغرفة واستقبلهم أربعة رجال، بين كهل وشيخ. رحبوا بهم ترحيباً حاراً وأكثروا الترحيب.
وحلَّ موعد العشاء ومدت المائدة، فكانت دليلاً آخر على أن المسألة ليست على رسلها. لكنها ليست باعثاً على الخوف أبداً. إن لم تكن بشير خير! وتلا العشاء عدة الشاي إلى جوار عدة القهوة. ومال أحد الضيوف إلى صحبه، وأشار بحركة من عينيه إلى ثلاثة صبية. أحتل أحدهم حضن أبيه، وأنتحى الآخران جانباً من المجلس، بأدب وسكون. وهمَسَ: الصبيان مكملّين وحبابين، و گلبي رف عليهم زايد. شنهو القضية؟! أهلهم أطياب وهم حبابين وميدِبين -مؤدبين-.
ودارت أحاديث بين الجلوس. تعارفوا أولاً. وقال أحد الرجال الذين رحبوا بالضيوف، بعد تكرار الترحيب:
- الحجية اخبرتنه، اَنه عدهه ضيوف، وطلبت حضورنه لمساعدة ابو جابر .. –وأشار إلى الشخص الذي احتضن الطفل الصغير- ابن الحجية. الحجية اُم المحلة، رَبّت الجبير والزغير، ونحب نتعرف بيكم ونتشرف!
- داعيكم؟ حاج سعد الطريفي، والأخ هاتف السالم، وعبد العلوان، ودرع الشمري ...
وأعلن كبير الضيوف اعتزازهم بهم جميعاً وقدم نفسه ورفيقه ...
- داعيكم حَمَد آل دبعون، وأخوتي –وأشار إليهم- سعدون ومرعب!
ثم أستمر يتحدث، بينما بدا على جابر إنفعال غير بغيض ولكنه ردّ إنفعاله.
وذكر حمد أنهم كانوا قبل هذا ينزلون عند أحد المومنين -المعممين- ولكنه ذهب إلى رحمة الله، وليس له عقب. وأنهم حاولوا أن يجدوا مأوىً بالأجرة، فما وجدوا لكثرة الزوار، والله أتحفهم بالحاجة، عرضت عليهم المساعدة!
قال أحدهم: الله يعلم بالگلوب، شو آنه حسيت بگلبي يدِﮒ  وتراوالي ماهي غريبة!
ورفع الضيوف أيديهم بالدعاء، ليوفقهم ويردوا حقّ هذا الكرم.
قال الثاني: ما كو عجب، ذوله اولاد علي. والنعم!
في هذه الأثناء تنحنحت الحاجة، وهي تصعد إليهم.
دخلت الغرفة وهي تردد كلمات الترحيب. وكررت الترحيب ثانية، وقالت:
- زيارتكم مقبولة، وانتو ضيوف ابو الحسنين. وما دعيتكم تياه إلي عِرف، انشاء الله يبين. أطلب منكم طلبه، ولا تردون طلبي!
- رواحنه جدّامج حجية، احنه بخدمتج!. قال هذا حَمَد.
فقالت الحاجة: طِلبتي سهلة ويسيرة، ما هي صعبة! أريد سالفه، يسولفه واحد منكم، وشهوده بيهه!
قال حَمَد: سالفه؟ يا مَكثر السوالف. تدَلللي ...
قالت الحاجة: أريد سالفة حك، جارية لواحد منكم، لو تعرفونه، وباجيه (باقية) سرّ ما منذجر!
وراح حمد يقص عليهم، وقد بدا عليه حرج شديد، وأضطرب صوته:
- سنه من السنين يا ولاد علي، جَره بين واحد من اخوتنه وواحد من عشيره ثانيه. أخونه توازه. وگولة اليگول، الشيطان ما مات، يوازي ابن آدم ويورطه ... هاي صايره جثير. والمسألة توسعت لو مايداركوه أهل العگل وانحلت بفصل حرمه[8] ومال ... ورضينه. الله سبحانه يگول –الصلح خير-! عِدنه أخيتنه وِحيده، نعزهَ جثير، جانت اهي اللازمه البيت، ومدَبرَه الضيف! ايه، قسمَتهَ، صارت هي الفصل! ووياهَه حلال. وسواني[9] العرب اشكال، لمن ولدت وِلد، وصار عمره أربع سنين، عادت إلنه مطلگه[10] والولد ظل عد اَهلَه. هاي عادتهم. ايه قسمته من رَبهَ، بعد العز صارت ذليله، توِن على وليدهَ. وبعد سنه، تغامزن النسوان، تِهْمَنْهَه حامل!. وانتشرت الحجاية. يجوز الحجاية صحيحه، ويجوز تهيمه من نسوان؟ الله العالم. لـﭽن ما يمكن نسكت. وانتشرت وما يمكن نسكت. صار الراي نخلص عليهَه. جينه للنجف. وبده الحفار يحفر  گبر (قبر) لـَﭽنه حَسّ بالأمر، و گال وين الجنازة؟ گتله انتَ عليك الحفر وبس! گال، لا. تمام أنتو ولاد عشيره، لاﭽن أنتو مسلمين لا تخلون برگابكم خطيه، أترووا يا خوان! اقسم عليكم بحق مظلوم كربلا.
وهنا أضطرب صوت حمد، واختنق بعبرته. وواصل حديثه، اي يخوان. بذيج الساعة، شبحت عيني بذيج الظلمه، وتراوت لي جهنم. شلون أخش بخطيه وآنه مالازم الذنِب؟. گلت للحفار –النار ولا العار- اختنه هاي متهومه حامل، بذيج الساعه نحِبَتْ و گالت للحفار، آنه ببختك، آنه بريه وعرضي أبيض ... الحفار گال، عليكم هذا ابو الحسنين أنتظروني لا تستعجلون ورجع وياه حرمه. خَمتَّه (فحصته) زين، وتوجدت تمام، جدام عيونه و گالت: اقسم بالله انَ البت بريئة ونظيفة، وآنَه أقدّر اَنهه جانت حامل گبل خمس سنين؟ وسألت: هي جانت متزوجه؟ گلنه: إي وعدهَه ولد. لاجن أحـﭽاية طلعت وما يمكن نحمل عار.
القابلة ردت عليهم: أنتو تسرعتوا لو منتظرين عند أهلكم ﭽان بين كل شي. ﭽان خليتوه لعيون الناس. منهو يحط ببخته واهو يشوف بعيونه، هاي قضية ما تنظم وما تگدر الناس تظلم بخته.
وهَسَّه، انطونياهه وخلصوا رگابكم من جهنم!
گال حمد: احنه رجعنه وشيعنه خبر دَفِنْهَه.
وبُهت الجميع حين أعلنت أم كامل وهي باكية، وقالت:
- لا ياناس، هذي سالفه صحيحه، شهوده عندي، أطوني حظ وبخت ومِدّوا لي أيدكم وخلصوا رواحكم من عذاب الله.
وصاحت، يبني كامل، ها الزلم خوال ولدَك!
وتصافح الضيوف مع كامل ... وبدا العجب على وجوه الحاضرين، لكنهم بابتهاج وسرور باركوا كامل وأخوال أبنائه. وتم عناق وقبل ولقاء أيدٍ ترتعش، وعيون دامعة. وأحتضن الأخوال صغار أختهم. وأجهشت شمامة بالبكاء.
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
كربلاء 01/12/1966 
الناشر: محمد علي الشبيبي
الهوامش
*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة،  آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية. وهذه القصة من ضمن إحدى مجموعته القصصية التي خصها بعنوان "السر الرهيب" لأن معظمها يشترك بسر ما./ الناشر محمد علي الشبيبي
1- في نواحي وقرى محافظة الناصرية تكثر قباب وأضرحة لا يعلم أحد عن أصل وجودها وحقيقتها لكنها عندهم –رجالاً ونساءً- مقدسة محترمة، يعيش على ما يردها عوائل، يسمونهم "الگوام" أي القائمون بسدانتها وخدمتها. الخضر، وهو أسطورة معروفة بانه مايزال حياً. وأبو عجلة، عنه أساطير -لا أعرفها-، أما الشريف فيقولون، أنه عمر ابن علي ابن ابي طالب، صاحب أباه لحرب فتنة البصرة ومات بين الناصرية وسوق الشيوخ.
2- الشعلة، مجموعة نباتات برية تتلى عليها تعويذات من قبل المشعوذين أو المشعوذات، من أجل أن تجد المهجورة المَحَبَة عند الزوج.
3- غَرمن: رغماً بلهجة بعض الريفيين!
4- أي يطرق رأسه إلى الأرض فهو لا يقوى على النظر إلى الناس للخزي الذي لحقه.
5- أنهم يعتقدون انها ستؤجر لهم غرفة في منزلها؟
6- تقصد خدم الروضة الحيدرية. فهم أيضاً لديهم بيوت يؤجرون فيها غرفاً، أو كلّ البيت للزوار.
7- هي من صنع حيكة في النجف وغير النجف، لكنها عادية جداً لا تشبه السجاد الأيراني.
8- لكل قبيلة أو عشيرة في مثل هذه الحال فرض مشهور لا ينكره عليهم، ويسمونه –فصل- مقابل لكلمة  -دِية- الشرعية
9- سواني: أي عادات وقواعد هي كالشريعة عندهم، ويقرها الآخرون.
10- عندما تلد المرأة الفصل، ويبلغ طفلها سناً معينة يعيدونها إلى أهلها مطلقة. بعضهم وهذا نادر تبقى مقبولة.





39
الأكراد بين الطموح القومي وشهوة الفساد المالي والإداري والعشائري!
منذ قررت حكومة الاقليم إجراء الاستفتاء والرغبة في الانفصال انقسم الشعب العراقي بكل مكوناته وتوجهاته الى مؤيد ومعارض وما بينهما. ولاحظت كم ارتفعت شحنات التعصب القومي عند الجميع. وكثيرون -من كل الاطراف- ابتعدوا عما كانوا يتغنون به في الماضي (هربجي كرد وعرب ...) وأصبح التعصب القومي المتشنج هو من يدير توجهاتهم وأفكارهم بحج مختلفة ومتباينة، حجج ومبررات تمسك بها كثيرون من كل الاطراف ولكن تمسك بعض المتشنجين بها ليس عن قناعة ورغبة في معالجة المشكلة وإنما هي كما يقال  (كلمة حق يراد بها باطل).
بعض الاصدقاء وبناء على تعليقات نشرتها في الفيس بوك أو من خلال المراسلات على الخاص او الهوتميل، طلب مني أن أبين وجهة نظري بالاستفتاء والانفصال -وانا أسميه حق تقرير المصير-! مع العلم أني وضحت ذلك من خلال تعليقاتي ولكن البعض ربما يطلب إيضاحا أكثر أو أن بعض تغريداتي أو ما أرسله من مقالات تتناول المشكلة لا تعجبه أو تزعجه. كما أني وجدت أن التعصب القومي -عند الجميع- سبب لبعض الاصدقاء -الذين أعزهم وأحترمهم- غشاوة ولم يعودوا قادرين أن يستوعبوا أن اختلاف وجهات النظر بيننا -بالرغم من تشدقهم بالديمقراطية وبالحياة الاوربية- مسألة طبيعية!
هذه المشاعر المتأججة عند الجميع وما أثاره الاستفتاء والتصعيد من قبل الكثيرين ومن كلا الجبهتين (المؤيدة للانفصال والمعارضة له)، دفعتني لكتابة هذه السطور. وأقول هذا لمن يحاول المزايدة من كل الاطراف أنني تربيت على واقتنعت بمبدأ حق تقرير المصير للشعوب وطبعا من ضمنها الشعب الكردي. وعانيت مثلما عانى الكثيرون بسبب هذا الموقف، واعتقلت، وعذبت، وسجنت وفصلت من الدراسة وأنا في عمر الشباب (دون السابعة عشر!).
مازلت أتذكر ذلك اليوم من أيام شباط الاولى من عام 1962، حيث خرجت وأنا أحمل معي كتاب الأحياء للخامس العلمي من أجل المذاكرة، وقد أخفيت بين صفحاته عريضة تطالب رئيس الوزراء الشهيد عبد الكريم قاسم بالحل السلمي للمشكلة الكردية، إضافة لبيان للحزب الشيوعي أيضا يتناول هذا الموضوع. كنت أحلم في أن أجمع أكثر عددا من التواقيع من المؤيدين للحل السلمي، وفعلا لقد تجاوز عدد الموقعين في عريضتي أكثر من مئة أسم .... ويظهر أن نشاطي هذا -الغير حذر- قد وصل الى الجهات الأمنية. وعند خروجي من البيت وابتعادي لمسافة دقائق وإذا بأحد شرطة الامن السري المدعو ناصر يستوقفني ويصطحبني الى غرفة الرقيب العسكري في بريد كربلاء المركزي. وبعد التفتيش عثروا على العريضة والبيان وأخذت الى مركز أمن كربلاء، وفي المركز ولثلاثة أيام متتالية وفي كل ليلة منها تبدأ معي ولساعات حملات التهديد والوعيد والأساليب القذرة التي تعكس تدني أخلاق الأجهزة الأمنية، مع التعذيب الجسدي لمعرفة من نظم هذه الحملة ومن هم الموقعين! ثم توجوا اعتقالهم بتقديمي للمجلس العرفي العسكري الثاني وصدر حكما بحقي لستة اشهر قضيتها في سجن الكوت. ومن المفارقات (وهذا ما ذكرته في كتابي -ذكريات الزمن القاسي-) انني -وقبل يوم من محاكمتي- وكنت في مركز شرطة السراي في بغداد، سألني أحد الموقوفين الأكراد -وكنت أصغر الموقوفين- ما هي قضيتي، فشرحت له ... وإذا به يغضب مني ويتهمني بمعادات الاكراد وأني لا أختلف عن دور الجيش في إبادة الأكراد وغيرها من اتهامات باطلة ... وبادر بعض الموقفين الى إسكاته وأبعاده عني ... ثم عرفت أنه قومي كردي من أنصار الزعيم البرزاني وناشط طلابي .... هذا القومي المتشنج لم يقدر موقفي وتضحيتي في الدفاع عن قضيته بالطريقة التي أؤمن بها ووضعني في مصاف أعدائه ... لقد سردت هذه الحادثة كي أقول للمتعصبين من القوميين الاكراد انني مثل الالاف وقفنا الى جانب نضالكم العادل وقدمنا التضحيات ولم تعوقنا بعض المواقف المتشنجة بسبب ضيق الأفق القومي التي وصلت الى تصفية رفاقنا. لا بل بقينا نؤمن بحقوق الاكراد وكل القوميات بالرغم مما أقدمت عليه أحزابكم وقياداتكم في تصفيات رفاقا مناضلين تركوا عوائلهم وحملوا السلاح لمحاربة الدكتاتورية ولكنهم تعرضوا للأسف لمذابح دموية من الشوفينيين الأكراد (كما حدث لعودة كوادر الحزب، أو في مجزرة بشت ىشان وغيرها من معارك). لم يكن بودي إثارة هذه المواجع لولا تجني البعض في مراسلاته وسوء فهمه لمواقفي.
بعد هذا الاستعراض لابد من التأكيد على أنني مع حق تقرير مصير الشعوب ومن ضمنها الشعب الكردي. ولكن وهذا ما أعتقده، وقد يوافقني كثيرون. فبعد السقوط تشكل مجلس الحكم، وكتب الدستور بمشاركة فعالة من القوميين الاكراد (الاتحاد الوطني الكردستاني، والديمقراطي الكردستاني)، وأجريت الانتخابات وتشكل مجلس النواب والحكومة .... كل هذا التوافق حصل بمساهمة فعالة وناشطة وقبول من قبل الاكراد متمثلين بالحزبين الكبيرين وأحزاب أخرى، وهذا لا يعني عدم حدوث خلافات واعتراضات من هذا الطرف أو ذاك. المهم شارك الاكراد عن طريق ممثليهم في السلطة التشريعية وفي السلطة التنفيذية وفي معظم الهيئات بمراكز قيادية ومتنفذة. ولكن ما الذي حدث خلال 14 عاما، أن الشعب عربه وأكراده عانى من حكومات فاسدة، فشلت في: خلق روح المواطنة وسيادة القانون، وبناء مؤسسات الدولة، وجعلت ثروات الشعب (النفط، العقارات، الاستثمارات، وحتى الوظائف ...) ملك صرف لأحزاب وكتل فاسدة -عربية وكردية-، وهيمنت على مقدرات الشعب برضى أمريكي! وهذه الكتل والأحزاب -عربية ام كردية- تصرفت بالعراق وكأنه ملك صرف لها ... فعم الخراب الاجتماعي والاخلاقي والجهل والمرض وأصبح العراق من جنوبه لشماله تتحكم به عوائل ومليشيات وعقلية عشائرية متخلفة، ولم يعد للقانون والقضاء اية حرمة ... إن المسؤول عن إيصال العراق الى هذه الهاوية من الخراب والتردي هم الامريكان بالدرجة الاولى -ولنترك نظام صدام ودوره في تهيئة الاجواء للحرب وتبعاتها فهذا لا يقبل النقاش-. وثانيا من أستلم الحكم "مجلس الحكم" ومن تلاه من قيادات وأحزاب حاكمة ولغاية اليوم. ولكننا كلنا نعرف وكما ذكرت قبل سطور الدور المهم والفاعل للأكراد في قيادة الدولة وهم لا تقل مسؤوليتهم وخيانتهم عن هذا التردي، نعم إنها خيانة وطنية ...! أنا من وجهة نظري أرى أن ما حدث للعراق خيانة وطنية -مباشرة أو غير مباشرة بوعي أو بدون وعي- وحنث باليمين من قبل الجميع من الذين تسلموا قيادات الدولة وخاصة (رؤساء الوزارات ونوابهم، رؤساء الجمهوريات ونوابهم، ومجلس النواب بجميع دوراته) مع الأخذ بالاعتبار الدور الدستوري لكل طرف وما هي مسؤوليته. بعد كل هذا التردي والخراب في الوطن والمجتمع وهم (الأكراد) جزء رئيسي في إدارة دفة الحكم لا يجوز لهم اليوم -التخلي عن هذا العقد الاجتماعي الذي أشرف عليه الامريكان واستمر لليوم- أن يفكروا بترك العراق في هذه المحن للانفصال والتفكير فقط بمطامحهم القومية! ثم أية مطامح قومية؟ للأسف -وكما هو حاصل في العراق وتأثر البسطاء بالطرح المذهبي- فأن الطرح القومي وجد قبولا واسعا في صفوف أبناء الشعب الكردي. ولكن لنسأل أي كردي ما الذي قدمته له حكومته وقياداته خلال الاعوام منذ إقرار الفدرالية. كل ما حصل عليه الشعب الكردي عبارة عن صراعات دموية بين عوائل كردية تتنافس على إدارة الدولة ومؤسساتها حتى وصلت حد التحارب، عوائل تسيطر على واردات الاقليم، إغتناء هذه العوائل على حساب الشعب، فقر منتشر مقابل مليارات نهبت، رواتب متوقفة بالرغم من تصدير النفط بطريقة مخالفة، رئيس للإقليم مخالف للدستور، ومجلس نواب تم تجميده لحين الضرورات، وقمع للمعارضين -الخطرين-! فهل يعقل بعد كل هذا أن يعتقد الشعب الكردي وكادحيه بأن هؤلاء الساسة سيحققون مطامحه القومية!؟ ألا يشاهدوا ويعيشوا انعدام الخدمات لشعبهم وهذا الافقار ... ربما بعض القيادات الكردية ترى في اسرائيل مثلا جيدا لهم، وتحاول إقناع السذج من شعبهم أنهم يقتدون بالنموذج الصهيوني -إسرائيل- في بناء الدولة الكردية القادمة ... ولكن نسوا الساسة الاكراد أن الصهاينة الذين تسلموا دولة اسرائيل لم يقوموا بنهب الشعب الاسرائلي، ولم يتصارعوا كعوائل لتقاسم ثروات البلد، ولم يشتروا الفنادق والقصور في أوربا، ولم يهربوا الاموال المسروقة للبنوك في اوربا بحساباتهم! بل عمل هؤلاء الصهاينة بتكاتف وإخلاص لقيمهم الصهيونية وتنافسوا بشرف فيما بينهم من أجل قيادة الدولة الفتية وبناء إسرائيل  ... أما أنتم فقد فعلتم العكس كما أشرت ... فبعقليتكم هذه وبنفوسكم الضعيفة لا ولن تبنوا دولة قوية!
نعم أنا مع حق تقرير المصير -بما فيه الانفصال- ولكن بعد اكمال المسيرة كما بدأتموها بعد السقوط لقيادة دفة العراق، على الأقل لإعادة مؤسساته وعافيته والتحقيق بقضايا الفساد وتبذير الاموال، والتخلص من فلول داعش وغيرها من منظمات ارهابية، والتحقيق الجدي في سقوط الموصل ومحاسبة الخونة والمتخاذلين والمتعاونين مع الدواعش ... والاتفاق على تحديد الحدود الادارية للمناطق المتنازع عليها بالاعتماد على لجان ذات خبرة علمية محايدة، وإعادة المناطق المتنازع عليها لتكون تحت سيطرت الدولة المركزية، والالتزام بالدستور وحل الخلافات الغامضة فيه عن طريق المحكمة الاتحادية. لذلك كثيرون من قال -وانا منهم- أن الاستفتاء لم يحن وقته وتقرر في وقت وظرف حرج وغير مناسب كان الاكراد مسؤولين عن هذا الظرف مثل شركائهم!
للأسف أن المسؤولين الأكراد وهم يتحدثون عن حسن نواياهم لكنهم مارسوا سياسة لا تنم عن حسن النوايا .... فمنذ سقوط الموصل تصرفوا وكأنهم دولة مستقلة فاحتلوا بعض المناطق التي لا تخضع لهم وأعلنوا انهم لن يسلموها للسلطة الاتحادية، وعززوا تواجد البيشمركة فيها ... ولا أريد التحدث عما يشاع من محاولات تهجير وتغيير في التركيبة السكانية فهذا أتركه الى لجان خاصة للتحقق من صحته ... بالمقابل فأن بعض السياسيين العراقيين (القومين او اسلاميين وحتى تركمان) من جانبهم قابلوا هذا التصعيد بتصعيد من خلال الاعتماد على دول الجور أو التهديد بإقحام الحشد لفض الخلافات والتجاوزات ... وللأسف أن البعض أستغل مناسبة عاشوراء لتهييج الجماهير وشحنها بالكراهية والبغضاء دون أن يقدر ما يجره هذا الشحن من مآسي وكوارث لا تصيب إلا الفقراء.
لذلك أدعو شعبنا للوقوف بوجه التشنجات القومية من كل الاطراف والتي راح بعضها يدق طبول الحرب وكأن ما قدمه شعبنا من ملايين الضحايا والشهداء خلال عقود في حروب عبثية -مع الجيران او مع الاكراد- وإرهاب غير كاف لإشباع رغبات تجار المشاعر القومية المتعصبة او المذهبية المتخلفة ... لا تنجروا وراء الشعارات التي تحرك عواطفكم بعيدا عن العقل والمصلحة العامة. إن وقود أي حرب هم الفقراء والبسطاء أما الساسة الكبار وحواشيهم فمهمتم تنحصر في تحقيق المكاسب!

محمد علي الشبيبي
السويد/ كربلاء 05/10/2017         

40
المنبر الحر / السر الرهيب
« في: 21:36 03/10/2017  »
السر الرهيب
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي*
(1913-1997)



-1-
كان الجو صحواً إلا من غيوم متناثرة. وتبدو في الحي حركة غير عادية، وفي مرح صاخب، يتنقل بعض القرويين بين قصر شيخ العشيرة والأكواخ المنتشرة هنا وهناك.
وتحت ظلال بعض الأشجار على ضفاف النهر الذي يشق القرية إلى نصفين، جلس بعض الضيوف من مختلف مدن اللواء (المحافظة)، يرافقهم بعض القرويين، يتحدثون معهم بسذاجة عن جمال قريتهم، وعن تعلقهم بزعيم قريتهم "الشيخ موزان" ولا يذكرون شيئاً عن متاعبهم، ومدى ما يعانون من استغلال.
لا يذكرون إلا مكانة الشيخ في الدولة. فهو نائب في مجلس النواب تارة، وفي مجلس الأعيان أخرى. وعن كلمته النافذة عِند الباشا "نوري السعيد" وعند الأمير المعظم "عبد الإله"، أو عن امتداد رقعة الأراضي التي يمتلكها. لكن السامع يُحِس في ذات الوقت ببرودة اللهجة في الحديث، وكأن الفاظهم تخرج من أفواه أشباح باهتة. هم يتحدثون عما تدره أراضي الشيخ من حاصل وفير. وانك لتلمح في عيونهم أثر الحسرة التي تتردد بين الصدر والبلعوم.
كان الوقت منتصف كانون الأول، وقد تعرَّت بعض الأشجار من أوراقها، فبدت كأشباح بائسة، تترقب محناً وعذاباً. وكانت الغربان تحط عليها، فيرميها الصغار بالحجارة، فتطير، ولأجنحتها حفيف جميل، ويرتسم من سربها ظلّ جميل كأنه غيمة طائرة. وفي النهر الصغير يسبح الأوز، والبط، وهو يرسل أصواتاً كأنها أنغام موسيقى. تثير في النفس نشوة وانشراحاً.
كان يبدو عن بعد نفر من القرويين قد حسروا عن رؤوسهم فتدلت شعورهم السوداء جدائل مبرومة، وراحوا يهزجون، بأغانيهم الريفية، بدأوها بالأبوذية[1] ووشحوها بـ (البستة) فصاح بهم واحد من بعيد:
- أي، اخوتي، ايه النشامة، يستاهل "أبو مجيد" هذا يومكم! افرحوا بفرحته! اُهو شرفكم، اُهو ذخركم!
ومال أحد القرويين على أحد الضيوف، وهمس في أذنه:
- ﭼلب ابن ﭼلب (كلب) هذا التسمعه. تراه من عدوان الشيخ، إلا الخوف يخليه يتملـﮓ (يتملق)! يخوي ابساعات يـﮕـعد ويَّ الفلح يحـﭼـي حـﭼـي شَـﮕلك عنه؟ ... يسمي الشيوخ أﮔطاعيين، ويگول: يجي اليوم اللي يَغَدون اخس من حال الـﭼلب الأجرب!
وقطع هنا كلامه، وانتصب واقفاً. فقد جاء جماعة من الضيوف، أستقبلهم بعض أبناء الشيوخ. وقرب كوخ يدل مظهره على خَبَل ساكنه، هَرّ كلبان عليهم بضراوة، فصاح أحد المستَقْبلين:
- ولـﭻ "عوبه" أشتعل جدّج ماتطلعين تردين ﭼـلابـﭻ، ياﭼلبه يابِت الـﭼلب!
ومال آخر، وهمس في سمع أحد الضيوف:
- ذاك "راهي" اخو عروس الشيخ. وعقَّبَ كلامه بزفرة وأرسل –بعد كلمته هذه- زفرة حادة. وحوّل نظره إلى جهة النهر المقابلة. وقد جلس عليها زمرة من الشباب، على كراسي من جريد النخل، ثم قال لذلك الضيف:
- شوف ... ذاك المعلم "هادي" وصديجه المعلم "عبد" وياهم من جماعتهم المعزومين مثلك ... إنتَ ماتعرِفهُم؟
ردَّ عليه الضيف: منو هادي؟ لا والله آنه مامسبوق بي.
صاح أحدهم بهذا المتطفل: مالك يخوي اتهذي؟ اشعليك بالناس!
فابتسم صاحبه أبتسامة خجل من هذا الزجر، ولكنه أردف: يخوي يمنعثر. تدري اليوم تَرخِصو من هادي وطلبوا كوخه. يخَلّون بيه التمن والمواعين!
فردَّ عليه منعثر: يخايب ما تبطل من هالحـﭼـي المابي فود.
فغاضه كلام منعثر، ومضى في ثرثرته، وهو ينظر حيث يقف راهي والضيوف. وخرجت "عوبه" تنهر كلابها. فعاود الثرثار كلامه. وقال: لَوَن هادي وَياهم مانبحت عليهم ﭼـلاب "عوبه"!
فحدجه منعثر بنظرة حادة، ثم نهض ليفارقهم، وقد أحمرّت عيناه من الغيظ. لكن الضيف ألح عليه ملتمساً بقاءه، وهو يلوم المتحدث. فرد عليه منعثر:
- لا يخوي. هِدني التمسك. إنت ما تعَرِف "حدّاوي" لسانه مذر. ويجيب النَه الطلايب، بَلا حظ.
قال الضيف: و "عوبه" هذي شنهي؟
ردّ عليه منعثر: عجوز فقيرة مخبولة. بس المفرَخَه[1] كل يوم يگضون وياهه التوبه. يحاربون كلابها بالحجار، ويرمون دجاجهه ويكسرون رجليهه! وتظل تلبح وتشتم اهلهم وموتاهم لَمَن تغدي وينيده. وكل يوم على هالرنه. 
أجاب حداوي: ماهي مخبوله؟ وعلي. أعگل (أعقل) مني ومنك!
وتأزم الموقف من جديد بين منعثر وحداوي لولا أن مرّ "سيد عوده[3]" وخلفه من صبية الحي عدد كبير يمشون خلفه مشية المؤدب، والخوف مرسوم على وجوههم! انه كما يعلمون من آبائهم –من أبناء الرسول- وربما كان ولياً من أولياء الله! وان بدا مظهره كمخبول، بملابسه الرثة القذرة، وعلى كتفه مخلاة، لا يدري أحد ما فيها. وبيده اليمنى علم أخضر، في أعلاه أجراس!
ناداه أحدهم، ليغير الجو المتوتر:
- سيد عوده، بجدك وَجِف، آنه الليله بخدمتك! مواعين الحلاوة، والدجاج، والتمن المزعفر جِدامك! بَسْ كون اتسَمعنه من هوساتك!
هَزَ سيد عوده علمه، وأخذ يدبك فيثير غباراً هائلاً "موزان. ماكو غير الله وغيرك!"
وضج الحاضرون والصبية بالضحك. ذلك لأنه يلفظ حرف –الغين- مهملاً!
وأقبل من بعيد شاب أسمر رشيق القوام، حلو العينين وبأدب أشار إلى أخيه المضيّف "جياد" الذي كان خلال ذلك الوقت ملازماً الصمت، إلا من ابتسامات متزنة. وتلك سمة لشباب القرية المرموقين، الذين تعقد عليهم الآمال، في تحمل أعباء العشيرة، والمسؤوليات تجاه رئيس العشيرة.
نهض جياد وقال بهدوء:
- يا الله يا جماعة. اتفضلوا عاد -للربعة- حَلْ وكت الغِدَه.
نهض الجميع يتقدمهم جياد والضيف. ولوحظ أن جميع الضيوف الذين حضروا قبل موعد الوليمة الخاصة قد تأهبوا مع مضيفهم لتناول الغداء، والاستجمام خلال فترة الظهيرة.
وفي أثناء سيرهم صاح حداوي على عادته في الثرثرة: هاه، شوفو ابو الويو، شوفو المومن شيخ كاظم ﭼنه خضيري يتگلّب "يتقلب" متوجه لمضيف الشيوخ. هسه يضرب الگوانص والحواسات. شمدريكم ما يلفلف دجاجه عَدله؟
ولكي لا يفسح الآخرون له بثرثرته، لم يرد عليه أحد. أنه مع ما يتصف به من ثرثرة وجهالة لذو قلب طيب، وشعور رقيق تجاه عواطف الناس ومشاكلهم، وهذا ما يجعله كثير التعرض لذكر المعلم –هادي- لذلك ألتفت يميناً حيث كان –هادي- وصاحبه –عبد- وضيفهم المعلم –حسن- وراح يثرثر.
- خطيه هادي، اشوفن وجهه اليوم مِكسف، ويمشي تايه!
لكن الجماعة وصلوا "الربعة" فقطع حداوي ثرثرته.
*                                                  *                                                  *                                                  *
-2-
حقاً إن هادي حزين هذا اليوم، ويكاد لسانه ينفلت بما يجّن قلبه، رغم ما يعلم من خطر على حياته، إن بدرت منه كلمة تكشف الستار عن مكنون سرّه. بعض الخيوط لدى محبيه، وإنهم يقدرون مدى الخطر الذي يتهدد حياته لو نَمَّ عنه نمام، أو سعى ضده واشي.
"عبد" صديقه الصدوق، لم يفارقه هذا اليوم لحظةً. فهو نهب تيارين يعصفان به عصفاً، رغم ما يبديه من جلد بين الإعياء الذي كساه مظهراً مدهشاً من الصفرة والهزال، وبين الهياج الذي لاح كالشرر في عينيه ونبرات صوته.
منذ ثلاثة أيام اتصلت به "رويحه" وصيفة فخرية ومربيتها التي تتهالك من أجلها. ولقد أخبرته بجميع ما ألَّم بها، خلال إقامتها في بغداد، حين سافرت مع ابن خالها الشيخ "موزان" حيث كان مقرراً أن يتم الزواج وشهر العسل. ذكرت له إمتناع "فخرية" على ابن خالها وتوسله لإغرائها بما قدم لها من مال ومجوهرات، وأثاث فاخر، في قصر شامخ يضاهي قصور الملوك، تحيط به حديقة غاية في الجمال، وقد فشلت كل محاولاته، فعمد إلى الوعد والوعيد والتهديد.
كالَ لها التهم الشنيعة، أستفزّها بها عَلّها تفصح عن مكنون سرها. قال لها أخيراً: انه يعلم إنها تحب ولابد أن يُريها عاقبة خروجها على سُنة العائلة، وتلويث شرفها! إنه سيدفنها حية بعد أن يحرق من تحب أمام عينيها.
هادي يعرف جيداً ما تتمتع به فخرية من كياسة ورباطة جأش، واهتمام بليغ بسرها. كذلك حافظ هو على قصة حبه، إلى حد بعيد. غير أن لحديث الحب عطراً ينم، فلا تحول دونه أختام القوارير مهما اُحكمت. ولقد نمَّ حب هادي-وفخرية، فتنشق عبيره عبد بحكم صداقته ورويحه وصيفة فخرية، و عوبه التي إتُخذَ كوخها الحقير خير مأمن للقاء الحبيبين.
هذا الكوخ المشيد من الطين والأخشاب المستهلكة، والحصر البالية، والصفائح الصدئة، والمسور بسور هائل من الأحطاب والأشواك. تحيط به أشجار صفصاف عالية تشابكت فروعها تشابكاً غير مبهج لعدم العناية بها.
ولا يعيش مع عوبه في هذا الكوخ غير كلبين، عودتهما أن يعترضا سبيل المارة بنباح، وهرير مخيف. ولها دجاجات وإوزات. وطالما غزاها صبية الحي فتقعد لهم على الطريق شاتمة آبائهم، وأمهاتهم، بكل لفظ غريب، وشتيمة فاحشة، دون أن تتهم أحداً بعينه، أو تشخص الخاطف.
وطالما تجمع الصبية حول كوخها يرددون أنشودة صبيانية يثيرونها بها، فتقذف بالألفاظ البذيئة أعراضهم فيقذفونها بالحجارة. ولا تنتهي هذه الملاحاة، حتى يمر أحد رجال القرية. لكن أكثر الذين يهبون لنجدتها هو حَدّاوي. ولهذا أنعقدت صلة وثيقة بينه وبينها. تدفعه إلى زيارتها عند العصر أحياناً، وفي ليالي الشتاء أحياناً.
ولاكت الألسن حداوي في الغيب. لأن عوبه يُعتقَد أن لديها مال وفير. ويقال: أنها تدفنه بأرض الكوخ، وإن حداوي لا يزورها قربة إلى الله، إنما ليهتدي إلى مخبأ المال. لكن هذا غير ممكن، لأن عوبه لا تفارق كوخها.
هي لا تريد أحداً ولا تسافر لأي مكان، إنها كالذئب في حراسة كوخها. حتى بيض دجاجها لا تقصد مكاناً لبيعه. الناس يقصدون بيتها لشرائه، لأنها تبيع بسعر أقل من غيرها!
وفي ليلة من ليالي الشتاء الباردة، قصد حداوي كوخ عوبه لزيارتها، وفوجئ بما أدهشه وأذهله. فغر فاه، وبُهِت، حتى كأن قدميه قد ثُبّتا بمسامير إلى الأرض. لقد سمع من يتحدث بحذر وتحفظ وكأن الأحاديث تجري همساً.
أبتلع ريقه، وذكر أسم الله، وناداها، فخرجت إليه، وتلطَّفت أن لا يزورها الليلة. أثار هذا فضوله. إنّ هذا أمر عجب. حاول أن يقنعها لتسمح له بالدخول، فهمست إليه: تعال باكر وآنه أ گلك ليش!
وعاد حداوي وفي خياله شكوك، تقلق باله.
وفي اليوم الثاني أسَرّت إليه بكل ما لديها من أمر هادي وفخرية. كانت عوبه تتحدث إليه، وهي تكاد تختنق بعبرتها ودموعها وكأن هذه العجوز التي هي إلى الوحش أقرب منها إلى الأنسان تحمل بين جنبيها قلباً يفيض بالحنان، وشعوراً أسمى من شعور ذوي العقل والرشد. وأوصت –حداوي- أن يكتم ما علم منها. لكن حداوي هو الآخر، شعر كأنه قد حمل حملاً كبيراً وخطيراً أيضاً على حياته إن هو فرط بكلمة واحدة. أدار ظهره ليعود، لكن عينيه أنهمرتا بدموع خرساء، فحجبت عنه الطريق!
هو لم يجرب الحب، لم يعرف معناه، على أنه قد سمع كثيراً من الحكايات، عن محبين ماتوا حزناً وكمداً. لكنه كان يسميها –سوالف-.
وأسر بما علم إلى منعثر، وأخيه جياد بالسر الرهيب! لكنهما حذراه بان مصير الجميع الموت إن فرط بحرف واحد.
وتكررت زيارات حداوي إلى عوبه وهي تُسِر إليه بكل ماجريات اللقاء ...
*                                                  *                                                  *                                                  *
-3-
حَلّ العصر الأخير، فتتابعت أصوات أبواق السيارات، واشتعلت في القصر أضواء مصابيح الكهرباء، المعلقة على أعمدة خشبية. لقد نصبت لأول مرة ولهذه المناسبة، وعلى شارع يمتد من أول الطريق، ماراً بموقع الطباخين، وإلى طول طريق الوافدين. وارتفعت أهازيج الشباب، يدبكون ويغنون. وانتظمت داخل القصر الأرائك الفخمة.
قدم المتصرف (المحافظ)[4]، لقد لبّى الدعوة، مع ما بينه وبين موزان. لأن موزان من جماعة الباشا (نوري السعيد)، وهذا من أضداده، وقد ناصر العشيرة التي يؤيدها –صالح جبر- وهذه ضد عشيرة موزان. هذا المتصرف يكره موزان كرهاً شديداً، بسبب ما يثيره من مشاكل، وحوادث قتل، ودعاوى يثيرها ضد العشائر الأخرى في هذا اللواء، مما يعرقل المشاريع التي ينوي تنفيذها لصالح الجميع. وسبق لهذا المتصرف أن أشغل وظيفة قائم مقام في القضاء قبل سنين، ونقل مغضوباً عليه بسبب شغب –موزان- ضده! أنه رجل كيس، وأيضاً جريء، ينحاز إلى جانب الحق، صريحاً لا يداهن ولا يجامل، ولا يخاف.
بعض الشيوخ الصغار، ومن يؤيدهم من السراكيل، إتخذوا مجلسهم في جهة ضمّت –المعارضة- من ينظر إلى تجمعهم يحسب أن هذا تجاور مقصود. والواقع عكس ذلك، إنه طبيعي، مادام المرء يعمل بموجب المثل –شبيه الشيء منجذب إليه- ولعل المثل الشعبي  أيضاً له مكان في جوانح هؤلاء. المثل يقول "طاح الحديد على الحديد وصاح رِن!"
عجت القرية بالوافدين المدعوين، وهم في نشوة وانشراح. جو القرية هذه رائع. وتسمع عن بعد أصوات بأغاني الريف الشجية. وأنسام عطرة تمسح وجوه المدعوين.  لقد جلسوا حلقات حول موائد تظلها شجيرات وهم يتجاذبون الأحاديث والطُرف.
أما أركان حديقة القصر فقد أحتلها أكابر المدعوين. وقرب مجلس المتصرف جلس الشيخ كاظم، برز مكانه بعمته البيضاء الكبيرة، وجبته العريضة الأردان والأكمام، ولحيته السوداء. أول ما أثار جدل الذين لم يكن لديهم حديث، فتجادلوا: أهي صبغة، أم ما يزال الشيخ كهلاً؟
قال أحدهم، منكتاً – دعوا هذا الجدل الفارغ. أنظروا انَ عمته اليوم أكثر انتظاماً. قال الآخر: يبدو إن محراب الصلاة لا يستحق عند الشيخ المظهر الجميل الوقور!. قال آخر: دعونا من هذا، لاحظوا الخواتم التي في يده إنها ثلاثة، من ياقوت وعقيق وفيروزج!. قال ثالث: لكن ما باله يبدو كئيباً، مع أنه الآن يمسك بزمام الحديث! ويرسل النكات والطُرف!. فتهامس إثنان منهم، أحدهم أعلن، فاستاء زميله الذي أسَرّ إليه ما في رأسه من تأويل لسر كآبة الشيخ؟ قال: لا يبدو إن الشيخ هو الذي سيجري عقد القران؟
وغادر صاحبه مكانه والتحق بتجمع آخر، خشية أن يتسع الخرق على الراقع؟ ولاح شبح شاب قوي، يستعرض حلقات الضيوف المدعوين فناداه حداوي: محينه، محينه، منهو تريد؟
أجابه محينه: أبغي هادي، شو ماله ذِجر؟ من العصر جان إهنا، بعدهه مَحَد يدري بي وين! لا اُهو ولا عبد! وجماعته معَلمِيه ينشدون عَنَه!
ردّ عليه حداوي: سمعت إجا خُبَر بِعَجَل، اُمه مريضه ومخطوره! ويلي عليه!
وحانت الساعة الثامنة مساء، فاعلن أحد رجال الشيخ، إلى وجهاء المدعوين، وقادهم حيث أمتدت طاولة كبيرة في حديقة القصر وعليها أنواع الطعام. وكلما أنتهت جماعة تحولوا إلى طاولة ثانية حيث الفواكه والحلويات. وتقدمت جماعة أخرى إلى طاولة الطعام. والمكلفون بتنظيم مائدة الطعام، وما يتبعها، كلهم من المتخصصين بهذا، وقد جلبوا من بغداد لهذا القصد.
وبدأ دور عاديي المدعوين. بينما قدم الوجهاء تهانيهم وعادوا من حيث جاؤا. فانطلق الباقون من قيد الصمت والأدب، إلى الضحك وتبادل النكات والطُرف. وتعدت المسألة إلى أبعد من هذا، فقد شكل بعضهم حلقات علت منها أغاني الأبوذية تنساب إلى الآذان انسياب الماء في الساقية، يتهادى فيها فيثير المشاعر الحساسة، وبين عجيج أصوات السيارات، وأغاني المطربين، وحركة الخدم والمشرفين المسؤولين عن المائدة، وتوجيه سائر المدعوين كلٌ حسب مكانته إلى احدى الموائد.
هذه ساعة تشغل بال المدعوين الذين لم يأت دورهم، خصوصاً وإنهم من سائر جهات اللواء. ومسؤولية تصنيف الناس المدعوين حسب رتبهم الطبقية لابد منه عند مثل هؤلاء. ترافق الحركة المتواصلة، اهتمام آخرين بتوديع الذين يغادرون المكان إلى قراهم أو إلى المدن التي جاؤا منها. لم يبق إلا عاديوا الناس، بعضهم بل كثير منهم، يحضر بدون دعوة، فهو من أهل البلد، ومن أبناء العشيرة نفسها. لذلك أختلف الوضع فقد انطلقت أصوات بعضهم بالتعليقات، بل بالهمز واللمز، ونقد خفيف لأفراد يُعَدّون من الوجهاء، بينما هم ينطبق عليه المثل (ان سكت جدار وان نطق حمار) ومهما يكن من أمر، فانه ما يزال هنا من تقدم إلى المائدة وآخرون يغادرونها. وأبواق السيارات القادمة والمغادرة تعلو فوق كل الأصوات.
لكن أصواتاً انطلقت تختلف عن كل الأصوات، الكل ترك كل ما كان يشغله، طعام، أو حديث، أو مرح، أو غناء. ان الأصوات التي طغت أصوات نواح وعويل. وتدافع الناس نحو جهة لاحت لهم نارٌ تتأجج. صاح بعضهم: إنه حريق ...
آخر: أجل. وانتبهوا ... صوت سمعته، إن إنساناً أحترق بهذه النار. من هو؟
أجاب آخر: الجهة التي فيها النار هي ضمن بيوت الشيخ!
حثت الجموع أنفاسها تجاه المكان وقد بدا اللهب يخف بفعل جهود القريبه منه. ولكن ماذا حدث وكيف؟ وهل حدث لأحد أذىً؟ لكن العبد "ذهيب" وكان أول من ترك مسؤوليته وأندفع نحو اللهب كان يضرب بكلتا يديه على رأسه، وهو يصيح ...
- يا ناس أشتم ريحة ابن آدم بالنار.
فضاعف الناس جهدهم يزيلون النار من مكانها، ويرشونها بالماء لإطفائها. ذهيب أكثرهم حماساً، واهتماماً، وكان وهو يعمل يصيح ... يا رب.. أنت تدري. ﮔلبي نظيف ويشتم المصايب قبل ما تنزل. أمسك به أحدهم وهزه، وقال:
- ذهيب. الزم نفسك، ما انت وحدك، كلنه يذهيب، خَلهَ يَم الله. وأندفع ذهيب فوق الجمر الذي ما تزال ألسنته تتحرك وتعلو وتتلاشى. وفجأة صار ذهيب يصرخ:
- أويلا عليج فخريه!
وأنحنى على الجسد المحترق يمرغ خديه عليه، ويجأر إلى السماء: - ليش يا ربي؟ ليش؟!
لقد انقلب العرس مأتماً. والهلاهل نواحاً. وساد الحي وجوم، ولكن النظرات كانت معبرة تشير إلى مدبري الجريمة.
وصاح فلاح فقير: - انشلّت أيده السواهه ودَبَرهَ يفخريه، الله ياخذ بحگج يفخريه.
وبعبرة مَخنوقة صاح: الك يوم يا ظالم!
 
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
كربلاء – 25/06/1963
 
الناشر محمد علي الشبيبي
السويد/كربلاء 03/10/2017
 
 
الهامش:
*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة،  آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية. وهذه القصة من ضمن إحدى مجموعته القصصية التي خصها بعنوان "السر الرهيب" لأن معظمها يشترك بسر ما./ الناشر محمد علي الشبيبي
1- الأبوذية من الشعر الغنائي العراقي الرائع. في كثير منه معاني شعرية عميقة، وقد كتب عنها كثير من المعنيين بالشعر العامي الشعبي وأنواعه. والبستة هي غناء معروف، يغنى منفرداً أو بعد أغنية "الأبوذية" وسابقاً لم نعرف منه إلا ابياتاً لا ربط بين بيت وآخر شرحت عنه في (ذكريات معلم)/(ذكريات معلم تم طبعها ونشرها بعنوان – ذكريات التنوير والمكابدة الرائد علي محمد الشبيبي-الناشر)
   المفرخه: الأطفال؛ يگضون وياهه التوبه: أي يزعجونها!؛.  تلبح: تهذر؛. ونيده: منهارة
3- سيد: يطلق على علوي النسب.
4- المتصرف: سعد صالح جريو (من ذكر أسم المتصرف يظهر أن الوالد يروي أحداث قصة حقيقية عايشها ويعرف أبطالها، وربما غير الأسماء والمكان والظرف/ الناشر)





41
مطلوبة نِذِر!
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي*
(1913-1997)



اكتظت الروضة الحيدرية عند الغروب –حسب العادة- بالزوار، والمتعبدين. واكتظ أكثر الجناح المعروف بـ "الجامع" والذي أصبح خاصاً بالنساء، فلا يذكر إلا مضافاً إلى "النسوان". ويشتد زحام النساء في هذا الجامع بصورة خاصة. عند الباب المسمى "باب المراد"[1] وبين جموع النساء وحلقاتهن، جلست امرأة على عتبة الشيخوخة، ولكنها ما تزال ذات حيوية ونشاط. كانت تجيل نظراتها على باب الجامع، المغطاة بمرايا ذات الوان، وبأشكال هندسية رائعة، ربما كانت أحجار كريمة، وليس هذا بغريب. فهذه المعلقات الذهبية، والقناديل البلورية والفضية، وأواني الشموع، كلها أشياء غالية ونفيسة.
وفيما هي تجيل النظر وتتأمل، صاح المؤذن: الله أكبر. فسكنت الحركات، وانقطعت الأحاديث، وردد كثير من السامعين بعده –الله أكبر-، وتعالت أصوات المؤذنين، تتجاوب من كل جهة، في الصحن وفي أروقة الحرم. أما العجوز القروية، فقد أطلقتها حسرة، وآهة لفتة أنظار النسوة القريبات منها، وتوجهت إليها الأنظار.
في اُولاء النسوة كثير من الفضوليات. وهن لم يجئن إلى هنا بقصد زيارة أو عبادة، بل لقتل الوقت، والترفيه، واللقاء بأمثالهن، لذا هن يتنقلن من حلقة إلى أخرى. ومن جماعة إلى أخرى ولو على غير سابق معرفة. ويشتركن بكل حديث، ويعلقن على كل حكاية أو خبر، ويبحثن في كل موضوع، ويطلقن لألسنتهن العنان. لا يتحرجن في التعليق، ولا يتروين فيما يبدين من رأي أو تعليق. هن يناقشن بملء الحرية والصراحة، ولو أدى ذلك إلى نزاع أو صِدام وسباب وشتائم!
لاح التساؤل في عيون المتطفلات والفضوليات. وتساءلن: من تكون هذه القروية العجوز؟ ما هذه الحسرة؟ أهي حسرة مظلوم، أم محروم، أم هي حسرة المذنب الأثيم؟
أحدى المتطفلات أرسلت شهقة استغراب، وضحكة استهزاء وعجب: الله يا خاله غفار ذنوب، وستار العيوب، والدنيه غروب. شيلي ايدج للدَعَه، واستغفري الله، وانتِ باب المراد، دگيها وأطلبي، لو جنتِ محرومة، لو مظلومه، وما نگول عشك –عشق-! أنتِ انشاء الله من أهل الخير!
دمعت عينا الشيخة، وبدا وجهها شاحباً، وشبحت عيناها إلى العلاء. ثم أدارتها بسرعة نحو المتجمعات حولها. وابتسمت ابتسامة معبرة عن طيب قلبها، وسذاجة عواطفها. لكن أخريات من المتطفلات، تضاحكن وقالت إحداهن: اي خاله، شيلي ايدج للدَعَه، وَيَ هاليدعون، كلهم شابحين عيونهم للعينه ماتنام! أطلبي مِنَه التريديه، هَسه من لسانج لباب السِمه!.
وقالت أخرى: شمدرينه؟ ولن ذنب الخاله ماينغفر؟!
عجوز نجفية ردّت هؤلاء المتطفلات عن هذرهن، وقالت: آه منجن بنات هالوكِت ... ويا صلافتچن؟ وين بيا وكت. و ويّامن؟ وَيّ زايره، وغريبه، وما هي گدچن؟. ومع شهقة رفعت رأسها إلى العلاء: ربي ارحمنه، ولا تعاقبنه بذنوبنه!
أما الزائرة، فقد نظرت إلى المتجمعات وهي تبتسم ابتسامة الساخر من نفسه وقالت: الله يرحم الجميع يا بناتي، غرﮔانه بذنوبي، ولا لي مفر ولا مخلاص!.
وانسابت من عينيها الدموع، وهي تنشج نشيج الهائم المفجوع ... قالت العجوز النجفية: لا يختي. رحمة الله واسعة، الله غفور رحيم.
- وشديد العقاب؟
قالت هذا أحدى الفتيات، وهي تزوي حاجبيها!
رفعت القروية طرف خمارها تجفف به دموعها، وقالت بلهجة متحرق: أي والله، شديد العقاب، وذنبي ما ينلبس عليه ثوب، ماله غفران. وحگه لَشْهَرْ -أفضح- نفسي بكل مـﭼان. واتحمل عذاب الخزي بالدنيه گبل الآخرة، وتظل يَمَّه. ايعَذِب لو يغفر!
- لا، لا خيه. گومي، اذكري الله. صلي هسه الواجب، وتوبي بينج وبين الله. ومن تاب، تاب الله عيه!
توجهت للطواف بعد الصلاة. وفيما هي تطوف، شبحت عيناها بذهول، إذ رأت جموعاً غفيرة تعلقوا بأستار الضريح، رافعين أيديهم، شابحين أنظارهم إلى العلاء إلى الله. يبتهلون والدموع تنهمر من عيونهم غزيرة، يجأرون بالدعاء. يمسكون بحلقات الشباك، تَمسُّك الخائف الذليل، يُحَرك بعضهم رأسه حركة رتيبة ذات اليمين وذات الشمال، ولصوته نبرة المحزون المكروب، وهو يدمدم بكلمات لا يُفهم منها غير استجارة مذنب واستغاثة من عاقبة إثم عظيم.
قالت في نفسها: وها الناس كِلهَه تلوذ ببو حسين مثلي؟ ويحميه حمّاي الحِمَه؟
وغرقت في ذهولها حتى لم تعد تدري بشيء. ومدّت بصرها كمن ينظر إلى مدى بعيد. لا حت لها القرية بأكواخها المنتشرة، وألواح الشلب الخضراء الممتدة، وشجيرات الصفصاف المتسلسلة على ضفاف النهر، فتنعكس خضرتها الرائعة على مائه الرقراق، وهو يجري متمهلاً، مشية المُتعَب، يخترق القرية مستقيماً ثم يتقوس تدريجياً عند نهايتها.
فذعرت وأجفلت. وشعرت عند هذا انها ما تزال ممسكةً بمشبك الضريح الفضي، وأطلقتها زفرة حادة -آحِـ ....- ثم عادت إلى ذهولها. ولاحت في خيالها القرية من جديد، لاح لها شبح "بَدِع" وهو يختال بقده الأهيف، بعقاله المرعز، ويشماغه المجوت، وقد رمى طرفه الأيمن على رأسه –فوق العقال- وتَدَّلى -الشرباك- الذي يشد الخنجر فوق خاصرته. وزان وجهه شاربه الأسود فوق شفتيه اللمياوين، وحاجباه كقوسين على عينيه العسليتين الواسعتين ... راحت تستعرض وتتذكر كيف كان يذهلها حين تسمعه –يتنحنح- وكيف كانت تتبعه بنظراتها إذا مرّ، تظل عيناها تتابع مشيته حتى يختفي عن عينيها.
انبسطت أمام عينيها صفحة الماضي البعيد، يوم كانت شابةً، تتجسد فيها كل معالم الجمال، لكن يصاحبه كل نزوات الشباب وطيشه، وجرأته بكل مظاهرها. وتذكرت كيف اندفعت ظهيرة يوم، وهي تستريح تحت ظلال صفصافات كثيفة، على ضفاف النهر، وراء "بدع" وأمسكت بكتفيه، وأنفاسها تتسارع، حارة كأنفاس المحموم، لقد أوسعته بالقبل، ومرغت خديها على صدره، وشدّت نفسها إليه بعنف لكنه كان يتملص، وقد بدا وجهه صارماً. وطال التشبث حتى أنهار بين الأغراء بالقبل والعناق، والميل الذي كان يكمن منذ زمن بين جوانحه إليها. وكان ما كان.....!؟ ولعنة الله على الشيطان! فعادت تسحب أذيال الخزي والعار!
تصبب جبينها عرقاً من خزي ما تذكرت. لكنها ظلت مستمرة في ذهولها. وتذكرت ما همست لنفسها حين عادت إلى البيت "أدَبرّهَ. الشيطان ما مات". وظهرت بين نساء البيت أكثر مرحاً. كمن يحس بنشوةٍ من سرور بالغ.
ودار بين نساء البيت حديث، عن الأزواج والزواج، وتعرضت أحداهن لذكر ابن عمها "شمخي" الشاب الساذج، بل الأبله، فأوسعته ذماً وتجريحاً بلهجة سخر غاية في السخرية. فتصدت لتلك وردّتها بحماس. مما لفت نظر أمها إلى غرابة الأمر، وكيف هزّها الفرح فقالت:
- دِرداغة؟ عقلتِ! من ها الساعة آمري وتدللي!
وردّت على أمها: عجيبة؟ ابن عمي، والنعِم!
وكمن يفيق من حلم مخيف، ارتعشت، وسالت الدموع على خديها، ثم أجهشت ،وهي لا تملك أعصابها، بالبكاء، وانهارت قواها. فاستقرت على الأرض بجانب الضريح، وأسندت كتفها الأيسر عليه. وعادت إلى ذهولها، تسائل نفسها: يا ذنب يبو حسين اَلوذَن بيك منه؟ العار، لو الغدر؟! أحّ. لعنة الله على الشيطان. گلت أدَبرهَ. الشيطان ما مات!؟ إلا شلون دَبَرتهه؟ مسكين شمخي ... شلون راح نتلاگه يوم المحشر؟ عفيه عليّه مِن بِت -بنت-! خنگت زلمه!  ويا براعتي ووكاحتي، شلون بعد ماخنگته نمت وياه طول بطول، وخذت عيني نوم، ولاﭽَن سويت شي؟!.
وانتصب أمام عينيها شبح أبنها "نايف" يحمل خنجره الملطخ بدم "بدع" وقد سقط صريعاً بنفس المكان الذي راودته فيه. ونايف منه، فبدع أبوه! وكأنما حملته ليشب فيكمل جريمة أمه. فبعد احدى عشرة سنة من زواجها من ابن عمها شمخي، شب هذا الصبي ونضج فبدا وكأنه ابن عشرين...
وعادت تسرد بقية حكايتها، يبدو أن في صدرها أمر مبيت، وإلا فلماذا صحبت ابنها معها اليوم وفي هذا الوقت بالذات -في هذا الوقت تقل المارة- جلست على ضفة النهر. ومرّ بدع ففزعت، وكأنما أحست لدغة حشرة سامة ... والتفتت إلى ابنها نايف: نايف يَبني. آنه أمك!
أنتفض نايف: آنه ابنج يمه، احجي، آنه بامرك حتى على الموت!
- تشوف يبني هالزِلمه. تراهُ تحرش بيه من أيام!
واندفع الصبي، وبسرعة خاطفة، خرّ بدع صريعاً يتخبط بدمه.
وثارت عشائر هذا ، وذاك، ودوت أصوات البنادق، وسالت دماء، وسقط عدد من رجال الطرفين ضحايا.
استعرضت أم نايف سيرتها. اعترفت أمام العجائز والشابات. كما يعترف المذنبون النصارى أمام القديس. وأذهل حديثها جميع المستمعات، فشرّق بهن الخيال وغرّب. أصابهن ذهول لا يوصف. أهكذا يكون المكر؟! ونظرن، فإذا بها تضطرب اضطراب الذبيح. قالت بعض النسوة اللواتي قدمن بعدما أنتهى كل شيء، متسائلات: ماذا حدث؟
أجاب أحد السادة من خدم الحضرة العلوية:
- مطلوبة نِذِر! 
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي
كربلاء في 30/06/1963

الناشر محمد علي الشبيبي
السويد 27/09/2017

الهامش
*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة،  آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية. وهذه القصة   -والقصص التي سبق ونشرتها-من ضمن مجموعته القصصية -ثمانية قصص- التي خصها بعنوان (السر الرهيب) لأن معظمها يشترك بسر ما./ الناشر محمد علي الشبيبي
   1- هذه الباب، أرسلها السلطان "مراد" العثماني -سلطان الأتراك-، كانت رائعة بنقوشها الهندية الرائعة. لكن النساء أعتبرن معنى –مراد- أي أنه باب تستجاب عنده الدعوات!





42
حصيد الترف
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي*
(1913-1997)

جلس أبو حامد على فراشه. مسنداً ظهره إلى حَشِيةٍ من الريش، وأمامه موقد نار، تومض فيه جمرات غطاها الرماد. كان يسعل كثيراً، فهو مصاب بالربو، وله من العمر خمسة وستون عاماً.
أبو حامد بكر أبيه، الذي كان قد تزوج خمس عشرة زوجة، لم يبق منهن في البيت إلا أم أصغر الأخوة "صفاء". فقد طلق بعضهن، ومات بعض قبل وفاته، وأخريات بعد ذلك. لم يبق من الأخوة الذكور، غير أبي حامد، وصفاء الذي هو من أصغر نساء أبيه، ولم تلد غير صفاء، أصغر الأخوة جميعاً. إنه يساكن أخاه أبا حامد، ويقوم بإدارة شؤون التجارة تحت إشراف أخيه.
أبو حامد رجل كَيِّس. فهو له مكان أبيه، قام بكل ما تتطلبه حياة العائلة. أخوه صفاء يعيش معه كأنه ابن أمه. تعلم منه كيف يدير أمور التجارة. فأبو حامد كان يرفض التعلم في المدارس الحديثة، ويزدري الوظيفة، لأنه لا يريد أن يدخل جهنم! وكثيراً ما يشير في حديثه إلى أن الله جعل البركة في التجارة. وحاولت كثيراً أم صفاء أن تدخل إبنها المدرسة الحديثة، وفعلاً تم لها ذلك. وحين تخرج من المدرسة الابتدائية، أصرّ ابو حامد أن يكتفي صفاء بهذا، ويكون ساعد أخيه في إدارة أمورهم التجارية. قال: أن الخير عندهم كثير، ولكم ما يكفيكم.
صفاء تزوج أبنة رجل متقاعد، وعند هذا انتقل ببيت خاص. كان صهره موظفاً في العهد العثماني. وقد نشأت أبنته على ذوق تركي، وحياة عصرية أنيقة ... ورزق –صفاء- ثلاثة من الأولاد والذكور، وابنة واحدة، كانت كبرى أولاده. فعني بهم على نحو ما يعني الموظفون الميسورون بأولادهم، وقلدهم بأساليب حياتهم وترفهم، خصوصاً بعد ما أصيب أخوه –أبو حامد- بالربو وترك له التصرف التام، وفعلاً كان عند حسن ظن أخيه. وقد ضاعف اهتمامه، بوعي التاجر القدير.
وجلس أبو حامد اليوم والألم يبدو صارخاً في قسمات وجهه. وهو مضافاً إلى ما يعاني من مرض الربو، فأنه عصبي سريع الغضب، يتحرى أمر الهفوات الصغيرة والكبيرة، عن الصغار والكبار. ويعقب بشكل خاص أسلوب حياة زوجة أخيه صفاء. لكن بدون تعقيب في نقد أو أمر أو نهي، وهو لا يرى منها إلا نادراً، فصفاء مستقل في بيته. وأن يكن هو لا يفارق أخاه إلا عندما تستدعي الضرورة. فقد أصبح بيده مقاليد التجارة، ولكنه لا يغفل عن أن يُطلِع أبا حامد ويستشيره في الصغيرة والكبيرة.
اخوة زوج أبي حامد، أيضاً يكثرون التردد على ديوان أبي حامد، ويعرضون استعدادهم لمساعدة صفاء، فيرد أبو حامد: إن صفاء أخ ونعم الأخ، وعند الضرورة لا يترفع أن يستعين بكم.
أحدهم كان كثير الحث لأخوته، أن لا يهملوا متابعة حياة أبي حامد. فهو لا يعاني –الربو وحده- فقد أصيب بتيبس الأعصاب، لملازمته في المدة الأخيرة البيت، وما يدرينا لعل أمراضاً متعددة أصيب بها أيضاً. والعصبية اصل البلاء.
قال آخر: وما ندري بالعنده؟ مَحَد يعلم إلا هو وحامد. وما ندري شيصير بعده، وشنو مصير أختنه المسكينة، الما حصلت منّه لا ولد ولا بنت. وصفاء دَخّل أولاده وبنته بالمدارس!. صفاء لم يُخفِ عليه ما يفكر به أصهار أبي حامد، وهو على إطلاع تام أن أبا حامد يولي زوجته العناية التامة، ويلبي ما تطلب. وكثيراً ما يكلف أخاه صفاء أن يقوم بشراء ما تريد، وعلى هواها. ويبدي صفاء معها كل الاهتمام واللطف.
مرة أحد أخوتها حاول أن يكاشفها فيما يرتئي، من أجل مصلحتها ومستقبل حياتها بعده. فكانت تثني على صفاء، ثناءً عاطراً. وقص هذا على أخوته، موقف أختهم من صفاء. فردّ عليه أحدهم: تَرَه هذا الكلام مو وكته. أختنه بخير، ورحمة، وابو حامد رجل عاقل ومجرب، ولَتنسون صفاء تربية أبو حامد. وختم كلامه: واحنه ليش نخبط المي گُبَل گباله؟!
على أية حال أن بعض هؤلاء يؤثرُ ان يَجدَ ما يبرر تدخله بين الأخ وأخيه. هو يفسر محاولاته هذه من أجل أختهم، فربما تنتهي حياة أبي حامد دون أن يكون قد كتب وصية تنص على ما لصفاء، بل ربما يترك أبو حامد الأمر دون وصية تشير إلى حق صفاء وحق زوجة أبي حامد. فربما الموتَ –وهذا محتملٌ، احتمالاً كبيراً- يأتيه بغتة، فهو عليل بالربو –شَرقة- خفيفة تؤدي بحياة الإنسان بلحظة.
لكن أمراً أشغل بال الجميع وجعلهم في حيرة. أبو حامد وهو على فراشه، يتضجر كثيراً ويتململ، ويغمض عينيه عن صفاء وغيره، حتى لو أراد شيئاً لا ينادي أحداً باسمه –لا صفاء ولا غيره-! يرسل كلمات تذمر من الحياة. ويشير لو أن الله يأخذ أمانته، فالدنيا تبدلت. تبدل كل شيء فيها. آه سيتحقق ما يقوله بعضهم: ان زمناً سيأتي تتحرر فيه النساء من سلطة الآباء، والآباء راضون!
وأشتد أمر مرضه، فصار أحياناً يغيب وعيه، وتتلاحق أنفاسه. فقلق صفاء، فيكلمه همساً: أدعو لك الطبيب؟ لكن جوابه الذي يجهر به: الله يلعن هذي الحياة وراحَتهه، ما يتعلق بيهه إلا من تكثر ذنوبه، وهو غافل ما يدري، يعتقد انَه نقي تقي وهو غرقان لشحمة أذنه بالذنوب!
ثم أستعاد وعيه، لكنه يضطرب ويربد وجهه ويتغضن، ويروح يضرب بيديه على فخذه، أو يصفق راحاً براح.
ومرت فترة ساد الغرفة سكون. واسترد أبو حامد أنفاسه. وخلت الغرفة إلا من صفاء، وإذا بأبي حامد، يبدو ثائراً، فقد أخذ يضرب على فخذه، ضربات آسف. وأضطرب صفاء، وتلجلج لسانه في فمه، ثم قال:
- عزيزنا أبو حامد. عندك شي غاثك، مني، من غيري. لا تخفيه عني لو عن غيري، آنه وجميع أهلي فداء لك. بس ليضيق خلگك؟
بلهجة المنهار الذي أوشك أن يلفظ أنفاسه، صاح: شرفنه ... يا صفاء، شرفنه؟
وقعت هذه الكلمات القصيرة على صفاء كصاعقة ...!؟
تاه عن نفسه وعن أخيه. دارت الغرفة به كأنما صارت تدور بعنف، ثم ثاب إلى نفسه، وتساءل ... لابد أن أمراً خطيراً مس كرامتنا. لكن، أيصل علمه إلى أخي وهو طريح الفراش، ولا يصل إلى سمعي وعلمي أنا ... ودنا من أخيه، والحيرة قد حجبت عنه كل ما أمامه، وضاعت الكلمات من لسانه. وقال في نفسه: لاشك أنه يعنيني؟. كيف يصل حدث إلى اُذني أخي الذي يقترب من الموت، بينما أنا لم أفهم شيئاً، لم يصل إليّ أي حديث أو كلام، عن بيتنا؟ ودنا من أخيه وقال باضطراب:
- أخي، أفديك بنفسي، بأبنائي، بعائلتي كلها، أخي افصح لا تخفي عليّ شيئاً. ماذا ومن أوصل إليك ما يريبك ويثيرك؟
فضرب –ابو حامد- ثانية على فخذه، وقال، بلهجة أسى:
- شرفنه، يا صفاء، داسته بنتك هيفاء، بعيني شفت وبأذني سمعت؟!
ثم عاودته النوبة من جديد وأبيضت عيناه وتراخت يداه. وبدا له أن أبو حامد سيلفظ أنفاسه. كان المساء قد بسط أجنحته، وخيم على البيت صمت رهيب. وأحست العائلة أن الكارثة ستقع لا محالة. ستلف هذا البيت الذي كان أسعد بيت. وما أن عسس ظلام الليل حتى لفظ ابو حامد نَفَسه الأخير. وعج النسوة بالصياح والعويل. وازدحم البيت بنساء الجيران، والأقارب. وأنشغل الرجال لتهيئة التشييع المناسب لجنازة الرجل الذي غادر الحياة، ولم يترك إلا العمل الطيب للأقربين والجار والمعارف، والعوائل الفقيرة.
*   *   *
-2-
في مقهى –عجمي- يلتقي أشتات من الناس وأضداد. فالشيبة وذوو اللحى الطويلة البيضاء، و –الكشايد[1]-، يتحدثون وبين أيديهم –الغراش- الزجاجية الجميلة المزينة بصور ملوك –آل عثمان- أو ملوك الفرس. والكهول ذوو –الجراويات-، ونمط ما يزال محافظاً على زيه العثماني، وعلى رأسه الطربوش الأحمر، مع عباءة مناسبة لإمكانيته، وهو يجذب الدخان من –الغرشة[2]- بنفس الوقت يلعب بيده الثانية بخرز مسبحته –الكهرب-، ذات الحبات الكبيرة!
وإلى جانب هؤلاء، الشباب الحديث من أدباء وشعراء، وأساتذة وطلبة. بعضهم يحدث بعضاً، أو غارق في مطالعة الجرائد المكدسة على جانبه. ورغم تجمع هذه الأضداد، فأن أجمل ما تتصف به هذه المقهى الهدوء والسكون، لا يخرقه إلا صوت –شفتالو- وهو يصيح - ماء ..... – وقد يبتر صوته، ويتحول عن مكانه سريعاً، حين تتوجه إليه العيون، تفصح عن عدم الرضا عنه ...
في زاوية مجاورة لموقد المقهى، الذي ينفصل عنها بجدار واطئ، جلس شابان، أحدهما فتى في الثالثة والعشرين من عمره. أما الثاني فقد تجاوز الثلاثين، بينما يقدر سنه من يراه أكثر من أربعين. تجاعيد وجهه، ونبرات صوته، تشير إلى هذا. أما الواقع فلأنه من طبقة فقيرة، تَعِبٌ من أجل كسب عيشه، لكنه أيضاً –كما يبدو من حديثه- قد مارس أمور أكسبته تجارب الشيوخ، ومفاهيم المجربين.
كان هذا يحدث صاحبه، أما صاحبه فيتظاهر بالإصغاء. انه في واد آخر، لا صلة له بموضوع محدثه، بينما كان الحديث عنه ومعه، ومهماً جداً بالنسبة له! وهو نفسه الذي فتحه مع محدثه "علاء". فقد جاء مستشيراً، يطلب منه الرأي السديد والصالح.
علاء كان ملماً كل الإلمام بتصرفات "كمال" ونزواته منذ تعرف عليه، وتمت بينهما مودة في هذا المقهى. وسرعان ما صار كمال يكشف ما في سره وبكل أحلامه وآماله، بل وترهاته. هو لا يكتم أمراً، ولا يخفي سراً. فافشى له بسر حبه، ولقائه بحبيبته. أما علاء فقد كان صريحاً حين يبدي رأيه. مع أنه أستطاع بسهولة، وبسرعة أن يستشف من خلال أحاديث كمال كنه ذلك الحب. إنه حب المراهق البطال، وهو مازال يعيش برعاية والده، الذي لا يعرف أكثر من أن يرفه عن عائلته بكل وسائل العيش، من كساء وغذاء، ولهو وبذخ، على قاعدة –أصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب-! وما عدا هذا لا يعرف واجبه في التربية، لا التوجيه ولا الرقابة. فابنه الوحيد كمال لا شغل له غير التنقل من مقهى إلى مقهى، وسهر الليالي في الملاهي! وبناته وأمهن لا شاغل لهن غير برمجة مواعيد الزيارة، والقبول.
أما علاء وهو صديق لكمال، مثقف تطارده الأقدار. إذ أنه مولع بالعمل السياسي. والجهاد من أجل القضية الوطنية. وقد سُدت بوجهه جميع أبواب الرزق والعيش. لكنه لم ينصع ولم يتراجع عن رأيه خطوة. وقد أحبه عارفو فضله، وقابليته ونشاطه، وشخصيته الفذة، فلم يهملوا شأنه. ولم يتركوه للجوع والعوز، بما استطاعوا.
أما علاقته بكمال، فليست إلا من أجل توجيهه الوجهة الصحيحة، لاستنفاذ طاقته ونشاطه من أجل تقويم شخصيته في مجال خدمة مصلحته أولاً، وقبل أي شيء آخر. لكن علاء أدرك خلال ما مرّ انه طائش لا يستقيم.
كمال لم يكتم أمر حبه، وهو لا يفهم من الحب غير لقاء فتاته، حين يلتصق صدره بصدرها، وشفتاه بشفتيها، تشبعه ويشبعها قُبلاً وعناقاً. وطالما كادا أن ينزلقا، لكنها تتدارك نفسها، فتنفلت من بين ذراعيه، وأنفاسها تتلاحق بحرارة كأنها لهب!
اليوم جاء يستشير علاء في مكاشفة والديه، وقد علم أنهما يفكران في أمر زواجه. علاء أفاض في الحديث عن هذا الموضوع. تحدث عن أهمية الحياة الزوجية، وما يجب أن يكون عليه الشاب من أهلية ليتحمل مسؤولية ليست عادية أبداً، وليست أمراً سهلاً مطلقاً. لا يكفي أن بين الاثنين حب، على الاثنين أن يفهما كيف، يحافظان على حبهما معتمدين على جهودهما في تدبير العيش والحياة، لهما ولمن يستقبلانه من الأبناء.
ختم حديثه: بعد شهر العسل تنتظر منك زوجك استقلالاً في حياتكما، بينما أنت تعتمد على والديك فقط. أليس كذلك؟
هيفاء ضحت من أجله بحب أبيها منذ أن أطلع عمها المرحوم ابو حامد حين التقيا ببيته، فانفضح أمرهما. وصار هذا سبباً في التعجيل بوفاته. ولم يبد كمال أي اهتمام بعد هذا، إنّ هذا ليس حباً، انه دور المراهقة!
ولقد علم أبو كمال بما بين إبنه وهيفاء. وهو يحترم هذه الأسرة، ومصاهرتهم مشرِّفة أولاً، وعسى أن تكون حداً لنزق أبنه كمال بنفس الوقت هي مصاهرة مال لمال وتجارة لتجارة!
انفض الحديث هنا بينهما وقال علاء كلمته الأخيرة:
- كن عند واجبك، عن حياتك الزوجية، وقدر ما يجب أن تكون عليه علاقاتك باصهارك، والديك، أعمل للحاضر والمستقبل!
وصافح كمال وغادر المقهى ..
*   *   *
-3-
في الشارع المزدحم بالماشين، شيوخاً وكهولاً، وفتية وفتيات، يوالي السير بعضهم وهو يتحدث، وآخرون فرادى، كلٌ يقصد مأربه. آخرون يستعرضون الحوانيت والمخازن، لغرض الشراء أو للعلم. وبين هؤلاء نمط غريب. تائه يقضي الوقت في المقاهي مثرثراً، ومتابعة المارّات، يحدجهن بالنظر الشزر. فإذا ما وجد تجاوباً تابع الفريسة، وربما أخفق. ولكن على أي حال إنهم قد يكتفون من كل ذلك بقتل السأم، والفراغ. هم على هذا كل يوم.
علاء كعادته في مقهى –حسن- يتخذ مقعداً مواجهاً للشارع. وقد تعب من حديثه مع كمال. ولقد أشعره خلال حديثه بمدى تفاهة حياته، وبقسوته في جميع ما أقدم عليه، منذ خطوبته حتى زواجه.
أما كمال، بعد أن ثرثر كثيراً فيما قصه على علاء، عن تطور الخلاف في حياته الزوجية، بينها وبين أمه من جهة، ومشاركة أخواته أيضاً. هيفاء تطالب باستقلال حياتها، وترفض أن تكون للمطبخ وتحت أمرة أمه وأخواته، وأسلوبهن المهين لها. إن أهله ينظرون إليها بمقاييسهم. إنها كنة، عليها أن تقوم بخدمة البيت حسبما تأمر –العمة والحماة- أيضاً؟
أما هو بطال، يستمد كل مقومات حياته وما يبذره من مال من والديه! فكيف يمكن ان يناصر زوجته؟ المرأة على حد قوله: متعة! قد يملّها. فلا يصح إذن أن يناصرها فيخسر أهله!
علاء، عنفه بانفعال. وأشعره بتلميحات انه لم يعد يستريح إلى حديثه بأموره العائلية. لكن كمال قابله بضحكة باهتة، وقال: الأصل سلامتي! طلقت واسترحت وأبگه نَحله أمتص رحيق الزهور!
كان قريباً منهما، ثلاثة نفر يتكلمون همساً. إنهم مثله، إنما يزيدون عليه بذلك الزي، الذي أطلق عليه البعض –أمريكي- في اللباس وحلاقة الرأس. ولا أدري أي صنف من الأمريكيين قلدوا، الزعانف أم شباب اللوردات؟
كانت ضحكات أولئك المخنثين تتخلل أحاديثهم. وفجأة هز أحدهم كتفه كمذعور، وقال: هِيَّ، هِيَّ! وغادر صحبه على عجل. بينما ظل الآخران يتابعانه بأنظارهم. قال أحدهما: تِعرفْه؟
- الكلب ابن الكلب ما ادري شلون يتعَرَف عليهن؟ هذي يا فَحَل! نازله للشغل تازه! ايگول هُوَّ، أعرف أهلهه وزوجهه، وكل شي عنهه!
قال الآخر: وشِسمهَ؟
- لك ذني ماينطن أسم صحيح. لكن هو شلون عرف أسمهَ وقصتهَ وأهلههَ؟ يگول: هددها ايوصل أخبارها لأهلهه، ولها السبب انطته إسمهَ –هيفاء-.
وانتفض كمال كمن فوجئ برشة ماء بارد على حين غفلة، وأصفر وجهه! والتفت إليه علاء وقال:
- سبب كل هذا أنت يا كمال! حرام عليك ويا ويلك!
لاح الانفعال بليغاً بعيني علاء، وقبل أن يستمر بينهما حوار، وقبل أن يرد كمال بكلمة، علا صياح، وتراكض الناس إلى جهة الصياح. سُد الشارع بجموع الناس. كان من بين الناس ذانك الشابان اللذان تحدثا قبل حين عن صاحبهما وعن هيفاء.
ثم ارتدا على أعقابهما، وقد بدا عليهما أرتباك. بينما غادر كمال المقهى وعلى وجهه علائم انخذال واضطراب. ومدّ علاء يده إلى كتف أحدهما، وسأله يستطلع الخبر. لكن ذاك أعتذر، وقال: عَركَه. غير أن أعداداً من الناس ممن كان في المقهى عادوا إليها: يشتمون ويلعنون أبناء هالوكت أشلون رَبوهم آباءهم، على نهش أعراض الناس!
أجاب أحدهم: عيني المايدني زبيله محد يعبيله.
ردّ عليه صاحبه: اسكت أخويه، أنت مو تجيب المثل تلزقه لزق. صحيح الذنب مو على الذيب وحده، أكبر حصه من الذنب على الراعي المايحرس بعين واعي!
عقب آخر مؤيداً: ... لا عاب لسانك هذا الصحيح. ثم سأله، وذوله الأربعة اللي أعتدوا عَلِيهْ أقاربهه؟ أجاب الآخر: لا عيني، ذوله هُمّ المتفقين وِياهه! وهَسّه، أكَلوهه كلهم، كرفتهم الشرطة، هذوله عيني شبابنه!
*   *   *
-4-
كان الوقت غروباً حين فزع الجيران، على أثر سماعهم صوت طلق ناري في بيت صفاء. الجيران كلهم يعلمون ما جنت يدا هيفاء على أسرتها وكرامة أبيها.
كانت هذه الأسرة ترفل بالخير والنعيم، والسمعة الطيبة. فتحول نعيمهم بؤس وشقاء. مذ انهارت صحة أبي حامد ثم ألتحق إلى جوار ربه. لكن أخاه صفاء ليس مثله. سقط ولا يدري، أهمل حتى أمر وظيفته، فأحيل على التقاعد ولازم بيته. إنه لا يقوى على النظر بوجوه الناس. عيونهم تصوب إليه نظرات إزدراء واحتقار، أصابعهم تشير إليه.
وغصت الدار بالناس من الجيران والمارة من الناس، يعلو وجوه الجميع وجوم. كانوا يتزاحمون بالأكتاف. يتساءلون. ماذا حدث؟ مَن المعتدي؟ هل أصيب أحد؟ أفراد الأسرة كلهم يُعوِلون. والناس يصفقون يداً بيد، يأسفون لأيام خلتْ. أيام أبي حامد، وجه المحلة البارز، وأبو الشيمة والنخوة، والديوان العامر.
وينفث بعضهم زفرات حادة: آه شتلعب الأيام بالطيبين؟
وفوجئ الناس بخبر ضحية ثانية، فصارت الدهشة أشد وأعظم ...
تقدم أحد أفراد العائلة يحمل كفاً مازال الدم يقطر منها. وقبل أن يفوه بكلمة. فاجأ البيت عدد ضخم من الشرطة، وتقدم القاتل برباطة جأش وسلم نفسه!
في اليوم التالي نشرت الجرائد الخبر موجزاً. دون أن تذكر أسماً لأهل البيت:
فتاة أهلكت عائلة بأكملها، بسوء سلوكها، وكانت أول الهالكين.
الكاتب: علي محمد الشبيبي
 معتقل مركز شرطة كربلاء في 23/03/1963
الهوامش
*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة،  آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية./ الناشر محمد علي الشبيبي
1- الكشيدة: لباس الرأس عند العراقيين وعند السوريين واللبنانيين، وأكبر ظني أننا أخذناها من الأتراك، لا الفرس وأن كان الفرس الذين يسكنون العراق يلبسونها أيضاً. وهي عبارة عن طربوش –فينه- ويلف عليها قماش مطرز بالحرير الأصفر.
2- وتسمى –النارجيلة- أيضا وكلا الكلمتين من أصل واحد، هو أنهم كانوا يأخذون قشر جوز الهند مفرغاً من اللب ويصنعون منه القاعدة التي تحوي الماء وفوقها جهاز يوضع فيه التبغ والجمر، وآلة التدخين متعددة الأنواع من ناحية الصنعة. فالفقراء كما ذكرت يستعملون قشرة جوز الهند، أما المتمكنون فأنواع أهمها الزجاجية وبعضها من البرونز واليوم قلّ أستعمالها.



43

الثالــوث
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي*
(1913-1997)




كانت الليلة حالكة الظلام، شديدة البرد. وقد مضى الثلث الأول من الليل. وساد القرية سكون شامل. وغط أكثرهم في سبات عميق. كانت الريح الباردة، تعصف بالأشجار، فَيُسمع لها صوت مخيف، وتصطدم بأسوار الأكواخ -وهي من السعف- فتسمعُ لها خشخشة موحشة. وكأنها تصارع أبواب الأكواخ لتقتلعها. إنها من خشب عادي، وصغيرة واطئة غير عالية لذا تبدو صامدةً أمام الريح العاتية! أكواخ الفلاحين تلك من القصب، مكسوة "بالبواري" وهي طبعاً من القصب أيضاً.
بيوت الفلاحين تختلف عن بيوت السادة –الشيوخ والسراكيل- وأكواخ الذين هم أكثر فقراً يحيطونها بالأشواك، كسياج يكون له، يعتبرونه منبها لهم من محاولات اللصوص. لكن طالما تسبب عن هذه الأشواك حريق قد يسري إلى الأكواخ المجاورة، خصوصاً في ليالي الشتاء، فيتنادى الرجال، وتزغرد النساء تشجيعاً لهم. وفي مثل هذه الأكواخ تبتلع النيران بأسرع وقت كل ما لديهم.
في هذه الليلة، كانت "دانا" تعاني أرقاً مسئماً. لقد عادت قبيل الغروب، فأعدت العشاء، طبخت رزاً ودست فيه بيضات كآدام لها ولصاحبتها "عَمشه" التي أقامت معها منذ أن توفى زوجها، الفلاح الطيب "عاجل سرحان".
عمشه تقوم بحلب البقرات الثلاث، وتقديم العلف لها، وتقوم بعد هذا لتغلي الحليب، وتضيف إليه بعد أن يبرد الخميرة ليصبح رائباً. هذه العملية تقوم بها عمشه، فبعد ذلك عملية فحصه واستخراج الزبدة، أو تحويله سمناً، فهي غذاء. ولا تنسى عمشه أن تتفقد الدجاجات بأقنانها فتجمع بيضها. 
وحين غابت الشمس وأشتدت الريح، أسرعتا لتناول العشاء. وتضع عمشه "الكتلي" فوق "الدَوّة" الطينية، وضوء الفانوس يومض كلما نفذت داخل الكوخ ريح، وهذه من خصائص الكوخ. وإذ ينتهي كل شيء، الصلاة، والعشاء والشاي، تمر عمشه بالكوخ الكبير، تتفقد البقرات، وتلقي على بابه جذوع شجر كبيرة، وبعض الصفائح العتيقة لتكون حركتها نذيراً لهما عند محاولة اللصوص.
وارتقت عمشه سريرها أيضاً، وهي تشعر بالحاجة الشديدة إلى النوم. لكنها أحست ان "دانا" غير مرتاحة. يبدو عليها قلق. لم يسبق أن رأتها على مثله! فتوجهت إليها، وقالت:
- بَرِد وهُوَه، وظلمه؟ ضَيجَة خِلِك، وطلعان روح؟
ردّت عليها دانا: إهي، هاي الدنيه، لو سَفره لو عجاجه! و الله أعرف بالصالح!
قالت عمشه: خيه وآنه أشوفـﭻ الليلة مو على حالـﭻ؟
- لا خيه، لـَﭼَن خطر ببالي خاطر، واشورج بيه. شتـﮕولين؟.
وراحت تتحدث إلى عمشه عن رغبتها في جمع ديونها، والاكتفاء بما لديها. وإنها تنوي أن تحج بيت الله. إنّ ما عندها من مال يكفي، إذا استطاعت جمعه. وما لديها من بقرات ودجاج وأوز وما تدره أرضها الصغيرة من قمح يكفي للعيش وخيرٌ من الله!
كانت تتحدث بفخر واعتزاز بنشاطها في العمل من أجل العيش. وهي تعزو أن ما لديها من خير، يعود لطيبة سريرتها، وحسن نيتها. ولأنه أصلاً من كدح إنسان كان مثال للطيبة، وحسن السيرة، ونبل الأخلاق. كان إنساناً شريفاً. ما أهتم إلا بأرضه وبيته. ما أشترك في سوء ضد آخرين، عينه على نفسه، يؤدي طاعة الله وحقه، ويشارك بعمل الخير، ويساعد المحتاج من الفلاحين وأولاد العم.
لكن الله، وهو أعلم، لم يمنحه بولد. ومات بعد عشر سنوات من زواجه. والله أعلم إن كان العقم منه أو منها. ولكنه كان يؤثر محبتها على الأولاد. إنه يقول لمن يسأله عن هذا الأمر "لله أعرف بالصالح!"
وعادت عمشه تقول: إن ﭼان الله بارك بالربيع وبيّن خير، تحجين بيت الله بخير وسلام وتزورين قبر النبي (ص).
- عمشه يختي، أشوف أيامي مظلمه، مثل هاي، واحس گلبي ينعصر عصر! خيه ما أدري دنياي شضامتلي؟ آنه يخيه ما اعملت مكروه وًيّ كل بني آدم. صحيح اَطي على اَخضر، إلا ما جِرِتْ على أحد. وما اطيت على اخضر إلا لمن خذت راي الشيخ "أمين" وهم أطيه زكاة، وخمس السادة؟! وسويت ثواب، وما گطعت الصوم والصلاة. وبنفسي بعد أحِجَّن بيت الله وازور –ابو محمد-.
عقبت عمشه: انشاء الله ماشوفين غير الخير، انشاء الله تروحين وترجعين بسلامه، ويمِنْ علـﭻ الله بالعافية وطول العمر.
واستفسرت: واشوكت –على خير- تخبرين التطلبيهم؟. اشوفن خير لو تخبريهم گبل وكت، وتبينيلهم السبب!
قالت دانا: الوادم ما تاكل باطل، اَلا آنه استحي وبالاخص من حجي "مجهد" واكثر ماعندي اهو عنده! اهو مثل الوالي واَخير!
- لا يختي، ما بيه مستحه. اَمخصوص لو گلتِ ناويه اَحج بيت الله.
مرّ الليل. وعلت أصوات الديكة معلنة بزوغ الفجر. وبدا على الجوء هدوء نسبي. إلا أن الظلام ما يزال لشدة تراكم الغيوم. فهبت تؤدي صلاة الصبح، لتعود إلى الفراش علّ عينيها تنعم بغفو مريح ...
*                                                  *                                                  *                                                  *
-2-
في مركز اللواء يمر النهر وسط المدينة، فيشطرها شطرين. وعلى ضفته المقاهي العامرة. تزين الشارع أشجار الكالبتوز والصفصاف الوارفة الظلال. وتبعد البيوت عن النهر مسافة لابأس بها.
الجانب الكبير –هكذا يسمونه- بيوته مجاورة للأسواق الواقعة مباشرة على شارع النهر. وهنا أيضاً بناية المتصرفية الضخمة، ومديرية البرق والبريد، ومديرية المعارف وسائر الدوائر الأخرى.
أما الجانب –هكذا يسمونه- فأغلبه فنادق، ومخازن وحوانيت. ويرتبط الجانبان بجسرين كلاهما عاديان، لكنهما يتناسبان مع أهمية النهر الذي يبدو هادئاً في أغلب الأحيان، ومنخفضاً إلا في موسم الفيضان.
وتحت شجيرات الجانب الكبير قرب الدوائر الحكومية، ينتشر كتاب اللوائح والعرائض. ويحلو لبعض رواد المقاهي أن يجلس قريباً من الضفة. يتمتع بجمال منظر النهر الهادئ، وهو ينساب إنسياباً رائعاً كعذراء ذات خفر وحياء.
أحد هؤلاء، كاتب العرائض الأعرج "سلمان غثيث" ذو البشرة السمراء، وتقاطيع وجهه الصارمة، واللسان الحاد. ولهذا السبب كان إقبال الناس عليه كبيراً. انه يتمتع بجرأة خارقة، وإطلاع واسع على المواد القانونية، وذاكرة فذة. فهو كتابٌ ضخم للوقائع والأحداث! وإذا حصلت عرقلة لمضمون عريضة حررها، شفعها بثانية على -حسابه الخاص- باسم المستدعي طبعاً. في هذه العريضة، مقارنة بمثيلات لها، فيذكر الموضوع والتأريخ! ولا يبالي أن يشير إلى أسماء أشخاص الدعوى التي يقارن بها، والمراجع التي بَتَتْ بها مع التأريخ والأرقام. فكان القرويون يطلقون عليه أسم –شراي الطلايب[1]-، أما الموظفون فيسمونه –الغثيث[2]-.
كان له صوت جهوري، وحين يتحدث يجسد مقاطع كلامه بحركات من حاجبيه، ومنخريه. أما فمه فينفتح أحياناً عن تكشيرة مخيفة. ولكنه يجعل هذا مقبولاً، ربما لا تلتفت إليه، بسبب ما يحشره في كلامه، من حكم وأمثال، ونكات تثير الضحك الصاخب، وتشيع البهجة والمرح في المجتمعين حوله، من زبائن أو رواد مقهى. وانه لكثير العلاقات مع مستخدمي الدوائر. من مباشرين ورزامين وفراشين مقربين من رؤساء الدوائر. لما يتمتع به من جاذبية وشخصية موزونة وكرم نفس ويد أيضاً، ولأن أغلبهم ينتسب إلى نفس العشيرة التي ينتسب هو إليها. وفي أيام العطل الرسمية لا يبرح مكانه هذا، صباحاً بعد زيارة ديوان أحد الوجهاء، أو رجل الدين الذي يمثل مرجعاً دينياً في النجف، وعصراً حيث يحلو الجو، ويبدو شارع النهر أكثر روعة وجمالاً. يستند إلى نفس الشجرة التي يستند إليها حين يزاول عمله، ويقابله –قواس[3]- المتصرف. وهو كهل له من الخدمة خمسة عشر عاماً، أكسبته خبرة واسعة في فهم نفسيات هؤلاء الكبار، ومعرفة مطامحهم أو أطماعهم. لكنه كتوم من أجل مصلحته المعيشية. إنما له في كثير من الأحيان اسلوباً خاصاً في مساعدة أمثال صاحبه –سلمان غثيث- بدافع القربى أو لاستفادة ماديةٍ، يساوم عليها سلفاً.
كان يتحدث إلى "سلمان" بصوت أشبه بالهمس، بينما يبدو على سلمان إهتمام بالغ، وهو متكئ على جذع الشجرة الكبيرة، وبين أصابعه سيجارة بتخم غليظ من الكهرب الثمين، مرصع بالفضة والفيروزج، وبيده اليسرى عصاه الغليظة، ذات الرأس المعقوف، يلاعبها بانتظام. وفيما هما يتحدثان، أقبلت من بعيد إمرأة نصف، ولاحت لعينيه، فقال لصاحبه:
- ابن الحلال بذجره. جَت، خلْ نسمع مِنهه!
سلمت عليهما. وجلست قبالهما على الأرض. وقال سلمان: ها دانا؟ وين وِصلتْ، وشسويتِ؟ إحنه هَسه ﭼنه بسالفتـﭻ!
وراح يقص عليها ما حدثه به صاحبه "شَهَد" فراش المتصرف، عما سمعه البارحة في ديوان المتصرف. فقد زاره الحاج مجهد، وخطيب القرية "سيد جواد" وشرح له الحاج ما جرى بينه وبين –دانا-. إدعى أنه تزوجك سراً. وان سيد جواد، هو الذي أجرى العقد. ولكنها –أنتِ- استغلت كون العقد سراً، فادعت أن لها بذمته قرضاً يقرب من مئة ليرة ذهب! ورغم استقدامها إلى مديرية الناحية، وإداء الشهادة من قبل سيد جواد، ومطالبة الحاج لها بالعودة إلى حضيرة الزوجية فأنها أنكرت، ورفضت، ويبدو أنها قدمت إلى مركز اللواء، لتقيم دعوى. و حاج مجهد رغم وثوقه بفشل دعواها إلا أنه خجلٌ!. فلا يناسب شيء مثل هذا سُمعَته! ومن امرأة، كانت تحت جناح زوجيته! 
واستمر يعيد ما سمعه من شَهَد، فذكر: أن المتصرف كان يصغي باهتمام. فالحاج مجهد كان نائباً، وهو الأن مرشح للأنتخابات الجديدة! وزعيم محترم مثله لا يعقل أن يكون مفتعلاً لكل هذا. ولابد ان هذه المرأة بنت هوى!
وبينما هم كذلك، دخل الحاكم "طه"  وبعد فترة الترحيب دارت القهوة. واستمروا بحديثهم، مشركين الحاكم باعتباره الجهة التي ستقدم إليها الدعوى، من قبل دانا.
هنا قالت دانا: آنه رحت له ببيته، اشلون زلمه طيب، ابن جواد، حـﭼيث له كل شي!
وقبل أن تبدأ حديثها، قاطعها سلمان منادياً:
- أستاذ قحطان، من فضلك لحظة!
كان قحطان هذا كهلاً. على عينيه نظارات. كان ذا جسم مترهل. وكتفين مرتفعتين ككومة رمل. له بطن منتفخ انتفاخاً بشعاً.
وقف سلمان يحييه، وفتح الحديث معه مباشرة. لكن المحامي رغم معرفته السابقة بسلمان، بدا غير مكترث. وقد أشاح بوجهه إلى النهر. ويهز رأسه هزات من يستعجل محدثه لإنهاء الحديث، ثم ألتفت إلى سلمان وقال:
- زين زين آنه أعرف كل هذَ، أطلعت على القضية، وأصارحك ما أگدر التزمه!
- أول محامي باللواء، صديق الحـكّام، ورؤساء الدوائر، وتعتذر من قضية بسيطة!؟ شيئ غريب يا أستاذ قحطان؟! قال هذا سلمان وهو يضحك بهدوء ضحكة سخر وعجب.
ورد المحامي، وهو يتهيأ لمفارقته: لَتستَغرب ولِّتسَميه بسيطة! تعاونوا عليهه ثلاثة ما يقدر عليهم قحطان ولا غير قحطان، شيخ عشيرته، ومدير الناحية، ورجل دين. وبعبارة أوضح، الأقطاع، والقانون والدين! وانتَ ﮔولْ، اسمح لي. في امان الله!
وراح يسرع الخطى، فقال سلمان: يِصْدِك –صادق-. ثالوث أگشر، لكن بريء منهم الدين والقانون!
ورفعت دانا بصرها إلى السماء، أطلقت زفرة حادة. ثم أخذت تسرد حديث زيارتها للحاكم "طه" وهو رجل عُرِفَ، بالشدة والجفاف، لا يزور أحداً، ولا يسمح لأحد أن يزوره بداره، أو في غرفة الاستراحة في المحكمة، ولا يقبل شفاعة لوجيه مهما كان. طالما خرج يتمشى منفرداً، وبيده عصاه. فينفرج الناس إلى جانبي الشارع، إجلالاً له واحتراماً. نادراً ما يزور مجلس المتصرف. وربما كانت زيارته هذه الليلة لأمرٍ ما؟ ربما من أجل وجود الحاج مجهد، الذي أنبأته دانا بكامل قصته معها. وقناعته الخاصة بأنها على حق!
كان يبدو على دانا انفعال بالغ، وتعب شديد، تعرب عنه بنبرات صوتها، من نشيج يكاد يكون نحيباً. كانت كلماتها تتقطع وبين لحظة وثانية تمسح عينيها من دمعات تترقرق في مآقيها ...
قصت على الحاكم حكايتها ببساطة .... عن اعتقادها وثقتها بالحاج مجهد، هو رئيس العشيرة –مثل الأبو للكل- هو أقترض منها المبلغ وهي تعتبره وديعة، حين طالبته، طالبته بكل أدب وحياء. وطلب منها أن تسلمه الوريقة المتضمنة مبلغ القرض، والمذيلة بختمه، لينظر في الحساب. وقال:
- تراني ماني بحاجة الهن، أنتِ مثل بِتي، حفظتهن إلـﭻ، وخليت عنهن الـﭻ حصة من العايد بكل ربع!
لقد شكرته على ما قال، وأمّنت على ذلك، والخجل باد على لهجتها.  في اليوم التالي، حضرت لتجده كما وعد. لكنه بدا ذئباً غادراً، ولصاً حقيراً. صرخ بوجهها، كال لها الشتائم والتهم الشنيعة، ما يتقزز منها الجلد.
واستجارت بالشيخ "الحاج شملان" الرئيس الأول للعشيرة، فبُهت مما سمع. كيف يستدين الحاج مجهد من امرأة مثل دانا، ثم لا يسدد لها ما بذمته!. دانا ليست امرأة مجنونة ولا مستهترة، نساء القرية كلهن يحترمنها. تساعد المحتاج، تكرم الزائر، تحفظ الغيب، لا تتعرض لذكر أحد بسوء، وتسعى للخير. كل هذا يعرفه عنها الحاج شملان جيداً ... فكيف يفسر ما شرحته عن حالها اليوم مع حاج مجهد؟
وعدها الحاج خيراً. لكنها في طريق عودتها إلى البيت، فوجئت باستدعاء مدير الناحية لها، وعلى عجل ...
هناك في الدائرة فوجئت ما أذهل عقلها. كادت تُجن. المدير أستجوبها عن أمر نشوزها من بيت الزوجية....!؟ صرخت صرخة مذهولة: آنه متزوجه؟! إلمن؟! وِشوَكت؟! أبرز مدير الناحية، كتاب عقد القران، أيده سيد جواد، الذي ادعى انه هو الذي أجراه! انهارت قواها، أجهشت بالبكاء. صاحت بوجهه:
- إنتَ برئ منك رسول الله، خايب ما تخجل من عمامتك، هذَ تاج رسول الله على راسك وتجذب على حرمه، ما إلهّه والي. الناس كلهه تعرفني، كلهه تعرف دانا.
وعمشه ماذا تقول؟ وهي الرفيقة التي لم تفارقها ساعة واحدة؟ قالت عمشه: الناس كلهه تعرف، لاﭽن -لكن- تحرف!
وبعد أن أنهت حديثها عن مراجعتها للحاكم "طه" أعلنت وهي تحدث سلمان، إنها ستتوجه لزيارة "أبو الفضل"[4]. صاح سلمان بضجر: أنتِ لهالحد مسكينه، منو أبو الفضل، يوگف گبال هالخنازير، قضيتج يدانا لا ابو الفضل ولا غيره يحله! إغسلي إيدج منه وإسلمي على حياتج، وخليهه يم الله.
وحين همّت بالنهوض، نعبَ غراب كان على شجرة، وطار وهو مستمر بالنعيب. فرفعت رأسها، ورمقته لتقول كلمة ما، فرأته يشتبك مع غراب آخر بعراك، ثم يولّي هارباً. فرفعت رأسها ووجهها نحو السماء، وبحسرة عاتية قالت: يا رب أنت أرحم الراحمين!
وأخذت سبيلها حيث تريد. وشيعها سلمان وشهد بنظراتهما. وقال سلمان:
- هَم حق. مَرَه حرمه. عايشه بظل عشيره يحكمهه شيخ! صحيح بيهم مثل شيخ شملان لكن الأكثرية وَيه أبو صباح، واليصير ويَّه ابو صباح -نوري السعيد- يگدر يلعب على حسب ما يشتهي! واشوف مجهد جيته ماهي عن قضيته ويَّ دانا وبس. جاي يدبر أمره عن الانتخابات. هذَ روحه امعلگه بكرسي المجلس النيابي، وصار ينثر بالدنانير نثر. ورجال الحكومه هنا كملوا كل شي بها الخصوص، وبعد ثلثة ايام وتبدي، ولا بد كبل ماتبدي تشتغل –الجرخله- وينام بعضهم ومنهم –داعيك- بالتوقيف لغاية ما تنتهي الانتخابات، ويطلعوهه وياي، وحده باثنين، امساعدتي لدانا من باب، ومساندتي لجماعة حزب ابو التمن من باب.
وردّ عليه شهد: انشاء الله ما كو غير الخير!
وافترقا كل إلى بيته   
*                                                  *                                                  *                                                  *
-3-
وقف سلمان في ركن زنزانة التوقيف التي ازدحمت ببعض الرجال، شباب وكهول. سلمان كان يرسل ضحكاته عالياً، وبشكل مثير، ويبادل زملاءه النكات. صاح كهل، يبدو انه ذو علاقة وثيقة به: يا أعرج! اشوف تاليه تنكسر رجلك الثانية، ولك والله لو يسمعونك يگضون عليك فَدْ مرّه!
ردَّ عليه سلمان: تَرَ هُمَّ عِدْهُم فِهم ويحسبون حسابهم مثل ما يگلون، منهو ابو باجر؟ وِلها السبب ما يگضون عليّ !؟ إلا يبين انت ماتفهم مثلهم!
وقال ثالث: لكن ليصيرون منهم نواب يفتهمون أكثر؟!
ضحك سلمان وقال: يگولون عن واحد منهم، مرّه مَد جگارته بالمجلس يريد يوَرِثه من الگلوب -المصباح الكهربائي- ...!
عجَّ الموقوفون لهذه النكتة بالضحك. صاح آخر: بالمناسبه، الثاني تعرفونه، يگلون لزم الجريدة بالمگلوب، وبَهَت، وبُگه فاك حَلگه -فمه-. گالَه صاحبه: شبيك صافن؟!. جاوبه: يخوي ما تشوف هالعجيبه. شوف هالمنعول الوالدين يمشي على راسه، وجالب -قالب- الصينيه ومواعينها! گول، ما تبَدَ -ما فاضَ- منها شي ولا و گعت المواعين؟!. وأخذت رفيجه الصَفنَه. وظل فاك حلگه ويباوع متعجب؟
عَقَب آخر: صفنة ثور!
قال ثالث: لخاطر الله هذوله، شراح يفيدون؟ شيعرفون من الدينيه غير يتزوج كل سنه بزوجة جديدة؟ عجمية، لبنانية؟
ردّ عليه سلمان: واحد منهم يفتهم شويه، ودَبرّه مَرَه، من نعس بمجلس النواب، أثناء نقاش شديد، گال لصاحبه اللي بجانبه: خويه، لو صار تصويت شيل ايدي وياك تراني موافج -موافق-!
وعلا الضحك واستمرت التعليقات. لكن سلمان توقف فجأة، وخطى نحو باب الزنزانة، وهو يسعل. لقد جاءه شهد وعلى وجهه كآبة شديدة. سأل سلمان باختصار عما إذا كان يحتاج إلى شيء ... وأجابه سلمان: توقيفنه إجراء موقت، ينتهي من تطلع نتائج الانتخابات! لا تتألم، احنه مستعدين نموت لَجل الوطن! لاﭽن، هلَّة الهلَّه بدانا واتفگد أخبارهَ، تراهي من ابو الفضل تمشي لَهَلْهَه، وما تجي إلا لمن بوكت المحاكمة؟!
وهَمس شهد في إذنه بضع كلمات، تغير لونه وأنكمش وجهه، وانكفأ شهد وهو ينفث زفرة حادة، وقد بدا عليه انفعاله. أما سلمان فقد ظل بمكانه. وكأنه يتكلم مع نفسه، بهزات رأسه وانكماش وجهه. ثم عاد إلى مكانه، وقد بدا واضحاً عليه أن حدثاً هزّه، وضغط على مشاعره. فقال أحد رفاقه:
- خير انشاء الله، أشو مبين عليك تغيرت بلحظة!
- الحاكم "طه" صِدَر أمر نقله ببرقية! واضحة المسألة، لَنَ -لإن- ما يمشي عَوَج!
- وها الخبر خطف لونك؟
وقبل أن يرد سلمان عليه، سمع ضجيج وتدافع، عدد من الشرطة يدفعون رجالاً مكبلين بسلاسل، وتدافع المراجعون، يفسحون الطريق. وفتحت زنزانة، اُدخل فيها ثمانية، بينما اُدخل إثنان في الزنزانة التي فيها سلمان والموقوفون بسبب الانتخابات.
عرف سلمان بعضهم. فبادر أحد الموقوفين يسأل هذين إن كان السبب أيضاً مسألة الانتخابات؟ فردّ ذلك بجواب غامض:
- لا عمي. شجابنه على أهل السعادة، المنطيهم الله ... إحنه مثل ابو المثل –تجيك التهايم وانت نايم-؟
ضحك أحد الموقوفين من جماعة سلمان، وردّ عليه:
- إي إحنه من المطيهم الله؟ منطينه توقيف ... ايعجبك؟
قال الموقوف الجديد: ليش عمي، لو أنتَ مرشح نفسك للنيابة، لو تشتغل لَجل واحد، ومن ينجح ...حِملك بالصدر؟ 
ودوى ضحك الموقوفين مرة ثانية. أما سلمان، فكأنه في واد آخر. وهو يفكر بما بدى على شهد من كآبة وحزن.
الموقوف الجديد بدأ يتحدث عن سبب توقيفه. لبعض أفراد من القرية وبعض زوار –ابو الفضل-. ذكر انه وأخاه من گُوّام ابو الفضل، وأنهما فوجئا بحادث هَزَّ القرية هزاً. إذ لم يسبق أن تجرأ أحد فيسرق بيتاً مجاوراً لـ -ابو الفضل- فكيف بمثل هذا الحادث، الفضيع جداً؟.
وسيطر على الجميع صمت، إنهم يصغون بإنتباه لحديث الـﮕيّم [5]-. فقال واحد بدهشة: هوَ شنو هالحادث؟
قال القيم، عجيبة العجايب، يحير العقل. آنه بيدي غلقت الحضرة، وما ظل يَمهَه احد وبتوالي الوكت، صحيح أكو ناس نايمه بالفسحه! وأردف: شنگدر نگول، مَرَه، حرمه لاذت ببو الفضل من امس. باب الحضرة غلگتهه -أغلقتها- بيدي، ورحنه لبيوتنه. الحارس يطوف، من حيث بعض ناس يوصلون بالليل، والحرمه اللي إسمه "دانا" ربطت نفسه للضريح بشيلتهه. الحارس لگيناه مجتوف ومطروح بالأرض. سألناه: منهو سوه هالعمله السوده؟ گال، ازلام ملثمين. كسروا القفل وعملوها العمله السوده! وفرّوا وخلوني عَلَ هالحال ... شفتوني بعيونكم مجتوفه إيديَّ لَوَره، وحلگي همينه؟!
عَقَب القيم، الله يعلم وهو الشاهد، آنه نايم ببيتي والكم الله يا غافلين! الشرطة اخذتني وخوتي الثلاثة من الجرية، وبعض الزوار. هذا حك. والله ينجي الناجي ويعثر ابن الزنه؟!
بدت الدهشة بوجه سلمان أكثر، واربدَ وجهه، وجحظت عيناه، وسأل باضطراب: وانت تعرف اسم الحرمة المذبوحة؟
- اي عمي، عرفنه النسوان، جانن إهنا گالن أسمه دانا؟!
 
علي محمد الشبيبي
النجف – 10/03/1932
 
الهوامش
*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة،  آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية./ الناشر محمد علي الشبيبي
1- مثل يطلق على من يتدخل في أعقد الأمور، من ذوي القدرة والإدعاء وهذا مثل قروي. يقولون –معيط شراي طلايب- ومعيط ربما أسم شخص.
2- الغثيث، هو المزعج. ويكثر عند القرويين هذا الأسم.
3- في بداية تشكيل الدوائر الحكومية كانوا يسمون فراش اعلا موظف في الدائرة –قواس-.
4- هكذا يقال، وهو ليس له علاقة بـ (ابو الفضل العباس)، والقرويون طالما نصبوا مزارات ونسبوها لأمام!
5- الـﮕيّم: القيم ويلفظها القرويون – گيّم- بالكاف الأعجمية، والجمع گوّام ومعناه السادن، وهي تعني من يقوم بخدمة الضريح وشؤونه.
 


44
بنت الشيخ
للمربي الراحل علي محمد الشبيبي*
(1913-1997)




 
كانت ألسنة اللهب تمتد من فم التنور، وتتمايل ذات اليمين وذات الشمال، كأنها تلعق حوافيه. أما "شمسه" فقد وقفت متكئة على المحراث[1]، غارقة بتفكير عميق، وقد صوبت نظرها إلى بعيد، كأنها تفكر بالغد المجهول؟
كل ما حولها هادئ ساكن. والنهر يجري متمهلاً كأنه العاشق الناحل. وشجرات الصفصاف تتمايل أغصانها تمايلاً غير محسوس. أما كلب البيت فقد ربض قريباً منها باسطاً يديه ينتظر –على العادة- أن تلقي إليه رغيفاً في الوقت المعين. لكن العجوز "عفته" أم زوجها، كانت وهي داخل الكوخ، تردد بصوت مسموع ترنيمة طالما رددتها:
"شرجي رُكبْ فوگ الغيوم .....  ريتك بحالي يا التلوم"
- ايه!؟ .... شرجي ركب فوك الغيوم؟. قالت شمسه –معقبة- وتأوهت دون وعي آهةً حادة. لفتت سمع العجوز، وهي تتهيأ لنقل اجانة العجين إلى التنور، وصاحت العجوز من مكانها:
- شمسه، شمسه؟ شصابج يُمه، يَعَلچ (لَعَلَكِ) بخير؟
- ما كو غير الخير عمه!
ومدّت المحراث في التنور، فهاجت ناره من جديد، ورمت بجوفه قبضة من الحطب، وعادت فاتكأت عليه، مرسلة بنظرها إلى الأفق البعيد بذهول. وراحت تستعرض صورة حياتها منذ أن وطأت هذا البيت، منذ تسعة شهور، حتى هذه الساعة التي فاجأها الغم على غير سبب!
أطلقتها زفرة، وأرسلت ببصرها إلى الأفق البعيد. ذاك هو بيت أبيها "الشيخ موسى" ذو الجدران العالية حتى كأنه برج حربي. وكأنها ترى عمّتهُ البيضاء الكبيرة، ومسبحته السوداء، وشفتاه تتحركان دون أن يسمع له صوت، إنه دائم الحمد والتسبيح.
وأولآءهم إخوتها، وأمها المهابة الوقور. وكأنها تسمع أصوات المتجادلين في مجلس أبيها من رجال العلم والدين، فتأخذها الحسرة والندم مما أقدمت عليه. ثم تذكرت ما كانت تعانيه من قيود لا يحتملها الحيوان الأعجم. ان الحياة في بيت أبيها جحيم لا يطاق.
- آه .... الله يلعنج من فوّاله[2]؟! لفظت هذه الجملة دون وعي، بعد فترة من سكونها الذي استعرضت فيه ما أقدمت عليه، دون أن تشعر إن العمة "عفته" قد جاءت تحمل إجانة العجين، وقد سمعت ما فاهت به، وبلهجة ندم حزينة.
وفغرت العجوز فاها بعد أن حدقت بوجه "شمسه"، وقالت متسائلة:
- فوّاله؟ وِين الفوّاله؟ يا وكت يَتْ[3]؟
وانتفضت خجلة، استعادت وعيها، وأجابت:
- ها ..... ماني وياﭺ. حجايه عتيجه ذِكرته الساعه!
وعادت العمة إلى الكوخ. فعادت هي ثانية تستعرض، وكأن كل شيئ يعرض أمامها حقيقةً لا خيالاً ....
تذكرت الفوالة –خديجة- يوم جازفت، وزارتها في غفلة من أهلها. طلبت منها أن تخبرها عن نيّة في صدرها، فحذرتها: إن العاقبة ليست على خير. وإن مصيرها إن نفذت ما تفكر به، ليس خيراً مما انتهت إليه حياة أختها؟ فتذكرتها وانتابتها موجة عاتية من الهم والحزن.
كانت أختها –فاطمة- تختلف عنها اختلافاً كبيراً. فاطمة كانت كبرى أخواتها، اجتاحتها  وهي في الخامسة عشرة من سنها ثورة عنيفة، دفعتها إلى التمرد على سُنة العائلة، فخرجت على طاعة أمّها وزارت الجيران، خلافاً لما رسمه والدها الشيخ. وتعلمت القرآن سراً، على يد الملاية أم سلمان.
الشيخ –والدها- يرى تعلم القراءة خطر على دين الفتاة وعفّتها، ويردد دائماً: ان أحد الصلحاء مرّ على رجل يعلم فتاته. فقال له: لا تزد الشر شراً. إنك تسقي سهماً سُماً يُرمى به يوماً ما!
كذلك ارتدت من الملابس الزي المبتكر إذ ذاك، مما دعا أخاها الكبير أن يسر إلى أبيه عن أمرها، فشددا عليها، وضرباها ضرباً مبرحاً. وانتهى أمرها ان أصيبت بالجنون، ولم يعلم أحد كيف ماتت!
لم تبال "شمسه" بكل ما يمكن أن يجري عليها. وصممت أن تنفذ رأيها.
وانبسطت أمام خيالها الصحراء الجرداء، والرمال الصفراء بين النجف وكربلاء، وقافلة الزوار، ورنين أجراس الحمير والبغال، وضحك الرجال وأحاديثهم، وهم يرعون عائلاتهم، وكيف كانت تلك القوافل، مع "مِزعل" وقد أحكم لثامه، وغيّرَ لباسه إمعاناً في التنكر.
وثارت عاصفة هوجاء. أثارت الرمال، وكأنها تزأر، أو تولول، وتنثر الرمال والحصى بوجوه الزوار، دون أن تجدي أهازيجهم في مدح ورثاء الحسين، وهم زواره وموالوه، وولولت النساء، وأطفالهن، وعلت أصوات العجائز، هاتفات مستنجدات بالأئمة والصالحين، و –الخضر- المندوب لكل شِدة. ثم لم يعد أحد من أفراد القافلة يدري بمن معه من عائلته، ورفقته، أين وكيف ذهبت به دابته في تلك الصحراء المترامية الأطراف! اَما "مزعل" فانه ملك زمام دابته وزمام الدابة التي حمل عليها "شمسه". كان رابط الجأش. رصين الخطو، مُركزاً نظره على الطريق رغم شدة العاصفة، ورغم هذا الانقلاب الهائل، والظلام الشامل إذ حجب الشمس ما ثار من رمال، وهي تنحدر نحو المغرب للمغيب.
مرت فترة حسبها الجميع دهراً، أنكشف بعدها الجو، وكانت تسمع صرخات من بعيد. المكاري الشاب "حمزة" كان يبحث عن أفراد القافلة. وأنضم إليه رجال ممن لم يستطع أن يحافظ على كل الأفراد الذين هم من أهله، ساعدهم للاهتداء إلى من حرفتهم العاصفة عن الطريق، صرخاتهم. تلك أم تعول، إبنتها الشابة، من التائهين. وذاك شاب ينادي بحرقة أباه الشيخ.
والتفت إليها "مزعل" وقال: هَمْ هذي نعمه من الله، تدرين عمِّكِ –شيخ عيسه- بهاي القافلة، ولو ما ها العجاجه إنفضحت قضيتنه!
وأرسلت "شمسه" أهة، وقالت في سرها: ليتني كنت ساعتها من الضائعين، وإلى العدم؟! 
وانسابت من عينيها دمعتان، فإذا بالعمة "عفته" وكأنها لم تر شيئاً تنشد:
"ڴلبي مثل آذار يِصَحى ويغيم ..... وبحجة الدخان أبـﭼـي من ﭼَيّم[4]". شمسه، يبنيتي إنتِ اليوم مو على حالـﭻ! إخذي راحتِـﭻ ومَيلي عن التنور، آنه أخَبِز!
- لا عمه، ماكو شي.
وانحنت على الإجانة، تأخذ قطعة عجين، تصفقها بين يديها فتكورها وتضعها في الطبق. بعد ذلك استوت واقفة، تتناول قطع العجين واحدة بعد أخرى، تضربها بكفيها حتى تصير رقاقةً مدورة، فتدحوها بجوف التنور!
وانتهى الشوط الأول من الخبز، فحملته العجوز، بينما أخذت هي تلقي بعض الحطب في التنور، وتؤجج النار بالمحراث، وهي تردد: شرجي ركب فوك الغيوم ..... ريتك بحالي يا التلوم؟
وحدقت بالأفق والشمس قد غاص قرصها، في المدى اللانهائي، وملأ الفضاء بعدها بلون إرجواني رائع. لكنها ما تزال تحدث نفسها وتلومها.
- على يا سبب هجرت بيت أبوي، من يصدقني ويطيني الحـك "الحق". كلهم يقولون: - إنتِ مَرَه، وحق على المَرَه ترضَ بكل مايجره، وكل التشوفه العين مقَدّر ومقسوم.
آه ..... يا ويل المَرَه! يصير حزن وشوم يوم التنولد، ولَمَن تكبر ضحكته عيب، ومشيته عار، وزواجه ورطه! يزلِف الولد، ويغوص بالعار، وينمسح عنه كلشي من يكبر!. لاﭽن المَرَه؟ ما يمسح غلطتهه حتى دمهه! 
وكادت تجهش بالبكاء والنحيب، لكنها ضغطت على أعصابها، فإذا بوجهها كوجه طيار في معركة ليلية مع طائرات الأعداء وأضوائهم الكشافة.
راحت تصارع نفسها، وتؤجج نار التنور بحركة عصبية حادة.
- لازم أرجع لبيت أبوي ..... أرجع أعود لذيج العيشة. أهه ... هيّه ذيج عيشه؟ حرام عليّ أضحك، حرام أطلع للجيران، حرام، حرام، كل شي حرام، اللـــــــــــــه أكبر ... أبد ما أنسه يوم جوني خطابه، ناس من غير محلتنه، ولن أبوي، يمنع، ويحَلِّف أمي. شلون ها الناس عرفوا عندي بِتْ؟! وهُمَه من غير محله؟
لآ. لآ. آنه طلعت، راضيه بكل ما الاقي وَيه "مزعل" خير وشر! هيه موته وحده. وهَسه الموت يحلَه! شفت الدنيه. شفت وجه الله. يوم واحد عشته بها الثنيه نساني كل عمري العشته بيت أبوي. لا ﭽن آه يا ويلي من عمي -شيخ عيسه- وبَسْ.
أشوفه الساعة ضاقت الدنيا الوسعه بعينَه! اشوفه ما يخلي مكان يعتب عليه، ولابد من ساعه يلـﮕاني!
وعلا ضجيج الرعاة العائدين بقطعان الأغنام. وتردد صوت شجي بأغنية: سَلَّمِتْ روحي وياك يا شمس الغروب!
فنفرت وكأن هذه الأغنية قد مسَتها بأشد من لهيب التنور.
وصاح صائح من بعيد ...
عيسَه ولك، شوف ذاك درويش[5] علي؟
فنفرت كمن مسه ذعر مفاجئ.
-   آخ. عيسه! ومنو غير عيسه؟. ﮔبالي، كل وكت، وعلى بالي، ما تغيب ... عيونك عيون الصـﮕر، ووجهك وجه الذيب. الضحكة ما تفارق اشفافك. إلا أنت أغدر من الذيب!
ودَوى صوت الدرويش، وأقترب، وأخذ لهب التنور يخف، وراحت العصافير تتطاير زرافات من شجرة إلى أخرى، ومن غصن إلى آخر، تزقزق وكأنها في زحام معركة، وفي شجار عنيف.
وبدت العجوز "عفته" بقامتها المديدة، وعُمتها السوداء لترى الدرويش، وتسمع مديحه للأئمة الأطهار، وتمنحه شيئاً من الرزق. لكن الدرويش اختفى ولم يسمع له صوت.
وتلفتت العجوز في ساحة البيت فلم تجد غير إجانة العجين... والمحراث. ولم تسمع غير زقزقة العصافير، تودع النهار مستقبلة الغروب.
الكاتب: علي محمد الشبيبي/ كربلاء في 16/06/1957

الناشر: محمد علي الشبيبي
السويد/ كربلاء 18/09/2017

الهامش
*- ترك والدي طيب الله ثراه من بين مخطوطاته مجموعة من القصص القصيرة،  آملا أن تسعفني الظروف لمراجعتها ونشرها تباعا، على أمل أن أتمكن من طبعها في مجموعة قصصية./ الناشر محمد علي الشبيبي
1- المحراث: عودٌ تحرك به الخابزة نار التنور، ليستوي كل الحطب فيه.
2- الفَوّاله، والفوال صنف من الدجالين يدعون أنهم يكشفون عن الغيب لمن يريد أن يعرف عن مستقبل حياته، وما ينتظره من خير أو شر.
3- يَتْ: جاءت. بعض لهجات القرويين تنقلب عندهم الجيم الى ياء.
4- ﭼَيّم: عملية تحضير النار من الحطب أو المطال  (روث البقر) بهدف الطبخ أو شواء الخبز.
5- القرويون في أساطيرهم ينسبون الدروشة للأمام علي (ع)

45
تحية وفاء ومحبة الى الدكتور الجراح اسامة نهاد رفعت
في المجموعة الشعرية لوالدي طيب الله ثراه التي طبعتها سنة 2013 مجموعة قصائد إخوانية، بعضها يمتد بها القدم لسنوات الخمسينات وما قبلها. اصبح الاتصال بشخصيات أشعار الوالد الاخوانية مستحيل لأن جميعهم قد فارقوا الحياة رحمهم الله جميعا. ولكن بين هذه القصائد قصيدة بعنوان (نسج المروءة -12/6/1984-) مهداة الى الدكتور الجراح اسامة نهاد رفعت. والوالد في قصيدته يبجل إنسانية الدكتور اسامة نهاد رفعت وقدراته وخبرته العلمية ... ولم يكن إطراء الوالد مجاملة أو ردا لجميل أو موقف إنساني للدكتور وإنما كان واقعا وحقيقة تعكس علمية الدكتور الانسان (للأسف الان في العراق كثرة من الأطباء يفتقدون الحس الانساني -انها الموضة-) الذي أثبت بعد أشهر من عملية الوالد أنه ذو خبرة وقدرة علمية تميز بها بين أقرانه، فقد أجرى عام 1985 عملية زرع كلى ناجحة، وهي الأولى في وزارة الصحة!
 القصيدة منذ اطلاعي عليها أثارت في نفسي فضولا للتعرف على الدكتور اسامة لما يحمله من خلق ونبل ومشاعر إنسانية ... وخلال بحثي نجحت في الحصول على عنوان الدكتور الالكتروني ... فكتبت له رسالة وأرفقت قصيدة الوالد له ... وإذا بالتلفون يرن بعد دقائق من إرسال رسالتي، وكان على الخط الدكتور الإنسان النبيل اسامة نهاد رفعت ... تلفونه يؤكد لي أن الوالد لم يخطأ في تقييمه لنبل وأخلاق الدكتور كما أن الزمن الأغبر الذي نعاني منه (في الغربة أو في العراق) لم يؤثر سلبا على أخلاق الأصلاء من العراقيين والدكتور اسامة واحدا من الأصلاء ....
من مآسي شعبنا التدهور الأمني وانحطاط القيم! هذا التدهور والانحطاط نتيجة حتمية للحروب العبثية، ومن ثم حرب الاحتلال وتبعاتها من حرب طائفية وانعدام للأمن، فغيرت أخلاق الكثيرين وأصبح العيش في العراق صعبا بسبب التدهور الأمني وضعف الدولة وانعدام الخدمات في كل نواحي الحياة .... مما دفع الكثير من الكفاءات وممن يحملون خبرات علمية الى الهجرة .... واضطر الكثيرون للهجرة لأسباب مختلفة والدكتور أسامة أحدهم .... وبالرغم من وجود الدكتور اسامة خارج الوطن فهو مازال يتواصل مع زملائه ، أطباء وأساتذة، ويتبادل معهم الخبرات، وقد منح لقب أستاذ متمرس عام 1913 ويساهم في بعض المؤتمرات. ومن يقرأ ما كتبه الدكتور أسامة نهاد رفعت بعنوان (كلمات طبيب عراقي)* يحس بما يعانيه الدكتور من ألم وحنين والتصاق بالوطن لم تزعزعه منغصات الحياة.
كان الدكتور يتحدث معي وهو يتذكر الوالد والعبرات تتعثر على لسانه وأحس بدموعه وهو يتحدث بحرقة وألم على ما وصل إليه العراق من تدهور في كل مناحي الحياة المادية والمعنوية والإدارية. ظلم وجهل وفقر وتردي صحي بفضل سياسة الاحتلال ومن نصبهم لتسيير شؤون الوطن من حثالات وجهلة يتحكمون بمقدرات العراق، أثبتوا على مدى 14 عاما أنهم فاشلون وفاسدون بددوا مئات المليارات دون أن يقدموا لشعبهم ما يحتاجه من سكن ومدارس وتعليم لائق ومشافي ...الخ.
كنت أرى والدي من خلال حديثي مع الدكتور وعبراته وصدق مشاعره. والدي الذي اضطر للاعتكاف في البيت بسبب مضايقات الأجهزة الأمنية وتصرفات ضعاف النفوس التي جعلت من نفسها أداة طيعة للمخابرات الصدامية، فاستغلت إمكانية التواصل مع الوالد للإساءة له والابتزاز والنيل من كرامته وكبريائه بأساليب لا تنم إلا عن حقد وجبن وانتهازية (هذا الموضوع المؤلم لا يمكنني الحديث عنه بالتفاصيل ولكن ما توفر لدي من رسائل تركها الوالد، واحتفظت بها الوالدة خصيصا لي، تبين لي كم عانى والدي. وللأسف من أساء لم يعتذر لغاية اليوم!).
الف تحية للدكتور اسامة وتمنياتي له بالصحة والعافية وطول العمر. وأدناه يجد القارئ الكريم قصيدة الوالد (نسج المروءة).
أدناه قصيدة الوالد مع تعليقه على دوافع قصيدته:
نسج المروءةِ
مهداة إلى الدكتور أسامة نهاد رفعت الطبيب الأخصائي بالإمراض البولية. وقد أجرى لي عملية – استخراج حصى- من المثانة في 28/05/1984 بعد أن عانيت مدة عام وثمانية شهور من النزف الدموي وأنا معتقد أن هذا كان نتيجة خطأ في عملية استئصال البروستات التي أجراها لي الدكتور سعيد إسماعيل حقي في 28/12/1980. وراجعت الدكتور أسامة ، وبالأشعة ثبت أن ذلك كان بسبب حصى في المثانة والكلى. وأحس أني محسوب على زمرة الادباء فاحبني وعني بي عناية خاصة. ووجدت الدكتور أسامة مثالا للطف والطيبة والاهتمام بمرضاه جميعا عكس كثير من زملائه الذين شاهدتهم حين يزورونهم صباحا، أشبه باستعراض لهم بأسرتهم، وحين يشكو المريض يردونه بسماجة.
لم يكن بمقدوري ان أقدم له هدية بعد إجراء عملية استخراج الحصى قدمت هذه القصيدة مع العذر، فأجاب: هذه تبقى والهدايا يصيبها التلف والضياع فاشكرك.

بسمة الفجر قد أطَلتْ  عليا
      ونسيم الصبا تهادى إليّا

وحفيف الغصونِ ينسابُ رهواً
      مثل لحنٍ لعازفٍ يتهيّا

والسواقي تَرَنمت  بابتهالٍ
      رائع اللحن صنعه  عبقريا

جاوَبتها بلابلُ الروضِ شدواً
      ساحراً يطربُ الحزين شجيّا

كلّ هذا الجمال في خدمة الإنسان
      يروي ضماهُ منه هنيّا

وحدة الكون في العوالم طراً
      تتحدى من يَحسبُ الأمر غيّا

*   *   *
ولقد مرَّ لي من العمر  حين
      والهوى والشباب بين يديا

أترعُ الكأسَ باللذاذات صفواً
      ماجناً تارة وطورا تقيّا

 وكأني استوعبت كل الأماني
      فغزا الشيبُ مسرعا عارِضَيّا

*   *   *
لستَ يا شيبُ قطُّ عني غريباً
      لستَ والله طارئاً عَرضِيّا

أنتَ شطرٌ متمم لحياتي
      حملَ الصبرَ صولجانا قويّا

 أنتَ زادٌ إذا تناءى طريـقٌ
      كان للمدلجين شبعا  وريّا

*   *   *
يا صديقي قد أتعبتني  الليالي
      وهمومٌ تعش في جنبيّا

ليس هذا ما يقلق البالَ مني
      فهمومي تضاعف العزم فيّا

غيرَ انَّ الهموم أولدن داءً
      صار مما أُحسُ داءً دَوِيّا

وتوجهتُ نحو بغدادَ أرجو
      كشفَ دائي وقد بدا لي عَصيّا

وإذِ اخترتُ جهبذا لستُ أخشى
      بعدَ هذا من أمر دائي شيّا

هو نسجٌ من المروءَةِ واللطفِ
      عاهدَ العلمَ أن يكون وفيّا

بِشرهُ يبهج المريض فيبدو
      قوةً تجعل المريض سَويّا

خُلُقٌ شفَّ عن صفاءِ  ضميرٍ
      هو كالنبعِ وافراً ونقيّا

هَمّهُ أن يرى المريض معافى
      مشرقَ الوجه مطمئنا رضيا

 يا أبا مصطفى وأنت عليمٌ
      بالذي يجعل الأديب شقيا

فتقبلْ ما صنعتهُ لك شعراً
      مُتقنَ السبكِ خالصا عَربيّا

                                                                       كربلاء في 12/06/1984 


محمد علي الشبيبي
السويد / كربلاء- العباسية الشرقية
17/8/2017


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*- أدناه رابط مقالة الدكتور اسامة:
http://wwwallafblogspotcom.blogspot.se/2014/11/blog-post_620.html

46
ملاحظات بشأن ضحايا انقلاب 8 شباط 1963
رسالة مفتوحة لرئيس مؤسسة السجناء السياسيين المحترم
في 21/10/2013 نشرت الوقائع العراقية القانون رقم (35) لسنة 2013 قانون التعديل الأول لقانون مؤسسة السجناء السياسيين رقم (4) لسنة 2006 وما يتعلق به. وبهذا التعديل تكون مؤسسة السجناء وبالتعاون مع بعض النواب قد نجحوا في منح الحقوق لضحايا انقلاب 8 شباط 1963. وللأسف أن القانون ترك بعض النقاط المبهمة كما أنه لم يوضح أو يعرف من هم ضحايا الفترة (8/2/1963-18/11/1963) التي حددها التعديل، كما فعل مع تعريفه لمحتجزي رفحا حيث خصهم بفقرتين (د) و (ز) من المادة (5). التهرب من عدم التعريف بالحقيقة الدموية لانقلاب 8 شباط 1963 وتجنب تعريف ضحايا الانقلاب جعل معظم الحقوقيين مسؤولي اللجان الخاصة الى اتخاذ قرارات مجحفة وغير عادلة بحق ضحايا انقلاب 8 شباط الدموي. وهناك مشاكل وعقبات كثيرة معظمها مفتعل من قبل لجان التحقيق الهدف منها عرقلة المعاملات والتشكيك بصحة الطلبات بالرغم من أن كثيرين يمتلكون وثائق ومستمسكات رسمية (مقتبس حكم، دفتر الخدمة العسكرية، قرار الفصل الوظيفي، صور داخل السجن، الشهود، وحتى المذكرات التي نشرت قبل صدور القانون بسنوات وذكرت فيها أسماء السجناء...الخ). ومن خلال تجربتي الشخصية وصفحة الفيس بوك الخاصة (شهداء ومعتقلو انقلاب 8 شباط 1963 الدموي) والبريد الالكتروني وصلتني كثير من التساؤلات والشكاوى ترى اجحافا وعدم عدالة اللجان الخاصة في قراراتها. وبناءً على كل ذلك صغت الملاحظات والمقترحات أدناه. لذلك أعتبر نشر هذه الملاحظات والمقترحات بمثابة رسالة مفتوحة للسيد رئيس مؤسسة السجناء السياسيين لدراستها وإجراء ما هو ضروري من توضيح وتعديل لتلافي أي اجحاف بحق ضحايا 8 شباط 1963. كما أحث الجهات السياسية التي تتعاطف مع ضحايا تلك الفترة ومن خلال ممثليها إن وجدوا في المؤسسة، أو من خلال علاقاتهم السياسية بتبني هذه المشاكل ومتابعتها مع المؤسسة ، والتوصل الى إجابات وحلول لها لما ينسجم مع أهداف التعديل لقانون مؤسسة السجناء السياسيين رقم (4) لسنة 2006.


السيد رئيس مؤسسة السجناء السياسيين المحترم
ملاحظات بشأن ضحايا انقلاب 8 شباط 1963
في الوقت الذي نشكر الجهود الكبيرة في منح الحقوق للسجناء والمعتقلين، نجد من الضروري تناول بعض السلبيات والعقبات التي تواجه معتقلي وسجناء انقلاب 8 شباط 1963 آملين منكم دراستها واتخاذ الاجراءات اللازمة لتجاوزها ووضع الحلول والقرارات الواضحة. وهذه الملاحظات هي خلاصة معاناة الكثيرين ممن كانوا ضحايا للانقلاب الفاشي. ولهذا أجمل مقدما أهم المشاكل التي يعاني منها ضحايا انقلاب 8 شباط.
أهم المشاكل التي يعانون منها:
آ- ان قانون التعديل الاول لقانون مؤسسة السجناء السياسيين الصادر سنة 2013 حدد المشمولين بالاعتقال والسجين من ضحايا الانقلاب، وجاء في نص المادة ما يلي:
المادة -5- أولا: تسري احكام المادة هذا القانون على السجين والمعتقل السياسي ومحتجزي رفحاء من العراقيين وأزواجهم وأولادهم من الأجانب ممن سجن واعتقل واحتجز في ظل نظام البعث البائد وفقا لما يأتي:
1- للمدة من (8/2/1963) ولغاية (18/11/1963) وحتى اطلاق سراحة على ان لا يكون لديه قيد جنائي.
من الفقرة اعلاه يتمسك بعض مسئولي اللجان الخاصة بنص القانون وليس كما يقال بروح القانون والهدف من إصداره. فالقانون تم إصداره لأنصاف ضحايا انقلاب 8 شباط، فالمطلعون يعرفون أن تبعات انقلاب 8 شباط لم تتوقف بسقوط حكم انقلابيي 8 شباط بل تواصلت، وخاصة المحاكم (المجالس العرفية والعسكرية الأخرى) وتواصلت الأحكام الجائرة (بما فيها الاعدامات) بناء على تقارير وإحالات حكم البعث منذ انقلاب 8 شباط، فهم بذلك ضحايا للانقلاب الدموي. لذلك أن بعض اللجان الخاصة لا تعترف بالأحكام الصادرة بعد انقلاب 18 تشرين الثاني 1964 حتى وأن كانت إحالة القضايا من أيام حكم البعث وبموجب اتهامات تتعلق بمقاومة الانقلاب الدموي في 8 شباط! كما أن اللجان الخاصة لم تستوعب قانونيا معنى اطلاق السراح بكفالة! فكثيرون من معتقلي 8 شباط اطلق سراحهم بكفالات (ايام الحرس القومي) وقدموا الى محاكم المجالس العرفية بعد 18/11/1964 وصدرت بحقهم أحكاما قاسية، بناءً على الاحالات التي تمت أيام حكم البعث الاول وصدرت أحكاما عليهم لمقاومتهم انقلاب 8 شباط 1963. ولكن اللجان الخاصة تحددت بنص الفترة التي أشار اليها تعديل القانون بينما اطلاق السراح بكفالة لا يعني أبدا نهاية الاعتقال بل هي تحديد ومراقبة لحرية المواطن لحين تقديمه للقضاء، ويمكن ان تتم محاكمته بعد ايام او حتى بعد سنوات وهو مرتبط بالكفالة والكفيل مسؤول قانونيا بإحضار المتهم للجهات المسؤولة عندما تطلبه.
كما لاحظنا أن بعض الذين اعتقلوا أيام الزعيم عبد الكريم قاسم، وواصل الانقلابيون البعثيون بعد 8 شباط اعتقالهم ومن ثم تقديمهم للمحاكم وإصدار عقوبات بحقهم، لم تعترف معظم اللجان الخاصة بحقوقهم كضحايا لانقلاب 8 شباط حتى وإن تمت تصفيتهم بالتعذيب او الإعدام من قبل بعثيي 8 شباط!
نرى على مسئولي اللجان الخاصة أن يستوعبوا روح القانون والاسباب التي دعت الى اصداره ... وتركت هذه النقطة (تحديد الفترة) في القانون سائبة لم تتطرق ابدا الى تعريف من هم ضحايا فترة (8/2/1963) ولغاية (18/11/1963) ولماذا اعتقلوا وكيف يعالج تبعات اعتقالهم بعد هذه الفترة ...الخ بينما في تناول حالة محتجزي رفحاء يتناول القانون بتوضيح وتفصيل حالة المحتجزين بالفقرة (ر) من نفس المادة -5- اولا. واعتقد ان هذا النقص في التوضيح كان يراد منه التسويف وترك مسئولي اللجان الخاصة بالقرار حسب أمزجتهم وميولهم الفكرية ومدى تعاطفهم مع ضحايا انقلاب 8 شباط، وللأسف لم يكن هناك من طرفنا من هو مسؤول وقادر على متابعة مقترح القانون وعرضه على مختصين لاستيعاب نواقصه وتجنبها. 
ب- بالرغم من ان هناك تعليمات في الاسراع بمعاملات كبار السن أولا فأن التعثر والإبطاء في معاملات ضحايا شباط مستمرة. والضحايا يلاقون صعوبة في ايجاد الشهود خاصة الجنود لأنهم اعتقلوا في وحداتهم ويصعب عليهم ايجاد شهود، وكذلك الاشخاص الذين انتقلوا من أماكن سكناهم عام 1963 الى مدن أخرى هم ايضا من الصعب عليهم ايجاد شهود، وهناك مرضى وكبار سن مقيمين في الخارج لا يمكنهم المراجعات المستمرة والعشوائية (اي بدون تحديد مواعيد دقيقة لهم) للجان الخاصة وحتى إذا تم تحديد لهم موعد فكيف يمكن لشيخ اقعده المرض وكبر السن ان يراجع وهو عاجز حتى عن تناول كأس ماء!؟
ج- لأن القانون حدد فقط الفترة ولم يتناول اسبابه لتخصيص هذه الفترة ولم يعرفها جيدا فأن قرارات مسئؤلي التحقيق في اللجان الخاصة كانت مختلفة ومتناقضة وأحيانا لنفس اللجنة يوجد فيها تناقض وعدم توافق وانسجام لروح القانون.
د- عندما يتقدم الضحية بطلب تظلم واعتراض على قرار اللجنة فأن الموظف المسؤول يملأ استمارة فقط فيها جملة واحدة ما معناها (اني اعترض على القرار!؟) وكأنما جفيان شر فقط، وهذا يعتمد على وعي المعترض القانوني فلا يكتب سبب الاعتراض ولا يرفق الاوليات ... وهكذا فالقاضي عندما تصله مثل هذه المعاملة الناقصة بالتأكيد يكون موقفه سلبا. مع العلم ان الاعتراض يبقى بين درج الموظف وهيئة الطعن لأشهر -بسبب كثرة الطعون-.
هـ- البعض مازال يحتفظ بقرار السجن أو بكتب رسمية (من دائرته ...) تثبت اعتقاله، وهذه الكتب مصدقة من دار الوثائق والكتب ومع هذا يطلب منه احظار شهود، بينما الكتب وهي مصدقة رسميا هي أكثر دقة ومصداقية حتى من الشهود ... ولكن مطالبة ضحايا الانقلاب بالشهود وهم قلة جدا بعد هذه العقود الستة تقريبا على تلك الاحداث يراد منها التهرب من اي قرار ايجابي لصالح الضحية. وأحيانا يرفض المسؤول في التحقيق بعض الشهود لأنهم شهدوا أكثر من مرة (4- فأكثر) ويسألهم هل استلموا مبلغا من أجل شهادتهم؟ وينسى المحقق أن المعتقلين في سجن واحد او من مدينة واحدة كانوا اصحاب او رفاق واحدهم يعرف الاخر ولا يوجد غيرهم اليوم بسبب وفاة البعض او انتقال البعض ... أنها مجرد حجج للتسويف والعرقلة.
وبناءً على الملاحظات أعلاه أتوجه بصيغة النداء التالي آملا دراسته بجدية لمعالجة المشاكل المطروحة ولكم جزيل الشكر مقدما.

نداء الى رئيس مؤسسة السجناء السياسيين!
في الوقت الذي نشيد بجهودكم الوطنية المخلصة من أجل منح الحقوق لكل السجناء الذين عانوا من اضطهاد وسجون وتعذيب أيام الحكم البعثي الأول والثاني ... لكننا نجد ان هذه الجهود تبقى ناقصة لأن هناك أعداد كثيرة من ضحايا انقلاب 8 شباط 1963 من تجاوزت اعمارهم السبعين والثمانين والتسعين عاما وهم في وضع صحي متردي جدا، وبعضهم يعيش في المنافي ولا تساعده صحته حتى للعودة للوطن ... فهؤلاء من كبار السن البعض منهم لا يغادر حتى بيته وإن غادره فيغادره للمشفى او للعلاج .... ان هذه الظروف الصعبة التي يعاني منها كبار السن من ضحايا الانقلاب الدموي هم أكثر حاجة للالتفات إليهم وتسهيل معاملاتهم لنيل حقوقهم التي نص عليها قانون السجناء السياسيين المعدل. لذلك نقدم لمؤسستنا الموقرة المقترحات التالية:
1- يسمح لكبار السن والمرضى منهم أن يقدموا طلباتهم في مدن إقامتهم الحالية، أو ان يختاروا المدينة الأسهل لهم، وخاصة أن بعضهم اضطرته الظروف الى الانتقال من المدن التي أعتقلوا فيها في ذلك الزمن.
2-  بالنسبة لكبار السن والمرضى من ضحايا الانقلاب الفاشي المقيمين خارج الوطن أن يسمح لهم بتقديم طلباتهم وأخذ إفاداتهم وشهودهم إن توفروا في القنصليات وتصديقها لتأخذ مجراها القانوني في حسم قضاياهم دون سفرهم لمراجعة اللجان الخاصة بالمؤسسة.
3- لا يخفى عليكم ان القانون عندما شمل ضحايا انقلاب 8 شباط 1963 كان يراد منه رفع الحيف عن ضحايا الانقلاب وتعويضهم عن الضرر الذي أصابهم بسبب الاعتقال والتعذيب والسجون والفصل وغيرها من انتهاكات ... ولكن وللأسف الشديد أن بعض مسؤولي اللجان الخاصة عن التحقيق في الافادات ولأسباب نجهلها يتخذون قرارات غير عادلة وتناقضة. فمثلا في مقتبس حكم واحد في قضية واحدة وبمادة واحدة صدر فيها حكم بعدة سنوات على مجموعة، ولكن قرار اللجنة الخاصة اصدرت قرارها على بعضهم باعتبارهم سجناء وعلى البعض الاخر اعتبرتهم معتقلين مع العلم ان الجميع قضوا فترات متفاوتة في السجن بين سنتين الى اربع سنوات! أليس هذا غبنا وتناقضا في القرارات.
4-  يرجى توجيه دوائركم في التسريع بمعاملات التظلم ونأمل من القاضي الذي يدرس هذه التظلمات ان لا يتخذ قراره قبل ان يستمع لوجهات نظر صاحب التظلم.
5- كما تعلمون ان احداث انقلاب 8 شباط 1963 قد مر عليها اكثر من نصف قرن، والكثير من هؤلاء الضحايا فارقوا الحياة والاخرون تشتتوا في المدن والمنافي في انحاء العالم ... ومن الصعب على البعض البحث عن أحياء من زملائه في السجن، لذا نرجو الاكتفاء بمقتبس الحكم الموثق من دار الوثائق والكتب، أو اية وثيقة أخرى مثل دفتر الخدمة العسكرية، أو كتب سحب اليد والفصل السياسي وغيرها من كتب رسمية.
6- كما نرجو عدم الاعتراض على الشهود إذا تكررت شهاداتهم على زملائهم في السجن لأنه من الصعب بعد أكثر من خمسة عقود العثور على شهود كانوا من الزملاء في السجن. فقد لاحظنا أن بعض المسؤولين في التحقيق يتهم بعض الشهود بأخذ اجور على شهادتهم المتكررة لأكثر من سجين او انه يرفض شهادتهم وينسى هذا الحقوقي ان الشاهد تحت القسم.
7- لا يخفى عليكم ان تبعات انقلاب 8 شباط 1963 استمرت حتى بعد انقلاب عبد السلام عارف في 18 تشرين الثاني 1963. وقد تمت اعتقالات للكثيرين في فترة حكم الاخوين عارف بناء على اعترافات وأوامر القاء قبض صدرت في فترة حكم البعث ايام انقلاب 8 شباط 1963 وهذا يعني أن هؤلاء هم أيضا من ضحايا الانقلاب الدموي، لذا نأمل ان يتم توضيح ذلك ليشمل هؤلاء الضحايا باعتبارهم من ضحايا 8 شباط 1963.
8- للأسف لم تعترف بعض اللجان الخاصة بقرارات الحكم الصادرة بعد انقلاب 18 تشرين الثاني 1963 بالرغم من أن قرارات الحكم قد ثبت فيها أن اسباب الحكم هي المشاركة في التظاهرات المعارضة لانقلاب 8 شباط 1963 أو في مقاومة الانقلاب. لذا نرجو أن يتم توضيح وإقرار أن كل من تم سجنه بسبب التظاهر ومعارضة انقلاب 8 شباط أو قاوم الانقلاب، أو سجن بسبب اعترافات أو القاء قبض صدر ضده في زمن حكم البعث الأول (أي الفترة التي حددها التعديل) يعتبر من الضحايا وبغض النظر عن زمن صدور الحكم عليه.
9- بعض السجناء او المعتقلين كانوا قد اعتقلوا قبل انقلاب 8 شباط 1963 اي في ظل حكم عبد الكريم قاسم، ولكنهم بقوا في الاعتقال خلال فترة انقلاب شباط وتعرضوا للتعذيب والتحقيق وصدرت عليهم أحكاما بعد انقلاب 8 شباط، لم تعترف بهم اللجان الخاصة كونهم من ضحايا 8 شباط. كل سياسي واعي يعرف أن إبقاء هؤلا في المعتقلات والسجون بعد الانقلاب بينما أطلق الانقلابيون سراح المعتقلين (من رفاقهم ومن قوميين) الذين كانوا قبل 8 شباط في المعتقلات وتمسكوا بالاخرين وهذا وحده يؤكد أن الذين تم احتجازهم هم ايضا من ضحايا 8 شباط وإن اعتقلوا في فترة سابقة. لذا نأمل ان يتم توضيح ذلك للجان الخاصة بحيث يشمل القانون هذه الفئة من المعتقلين.
10- منذ عدة أشهر اصبحت المواقع الالكترونية للمؤسسة أو لفروعها (مواقع اللجان الخاصة في المحافظات) غير ممكن الدخول إليها أو حتى فتحها!!؟ بينما كانت هذه المواقع وسيلة تسهل للمواطن (المعتقل أو السجين) متابعة القرارات الصادرة من اللجان الخاصة المتعلقة بقضيته، أو أنه بإمكانه الكتابة والاستفسار والتوضيح. حتى أن موقع المؤسسة الرئيسي بالفيس بوك لا يمكنا الاتصال عبره فالشباك المخصص للاتصال (اتصل بنا) هو مجرد تمويه لا يمكن فتحه مطلقا لغرض الاتصال!؟. نأمل أن تعيدوا تفعيل هذه المواقع كي يتسنى للمواطن متابعة ما يخصه من قرارات اللجان الخاصة.
لذا نرجو منكم آملين كما عودتمونا في منح الحقوق للمعتقلين والسجناء من ضحايا انقلاب 8 شباط 196، وذلك من خلال معالجة النواقص والسلبيات التي أشرنا إليها أعلاه.

هذا ولكم جزيل الشكر
محمد علي الشبيبي
لوند/ كربلاء/ العباسية الشرقية

47
لا إصلاح في العراق دون إصلاح النظام الإداري العراقي!؟
هذه وجهة نظر آمل أن يتناولها المختصون بالدراسة الجادة! كان سابقا اي ما قبل السقوط وفي كل الانظمة السابقة (النظام الملكي والأنظمة الجمهورية التي تلته) ان العمل الاداري في كل مؤسسات الدولة يسير وفق نسق دقيق متعارف عليه وواضح ومتشابه لا يقبل الاجتهاد أو التجاوز. ففي كل الدوائر توجد شعبة الذاتية. هذه الشعبة من تخصصاتها ان تستقبل الكتب الرسمية وطلبات المواطنين وتثبيتها في سجلها الخاص (سجل الواردة). هذا السجل بمثابة الدليل والمستمسك لصاحب المعاملة على أنه قد سلم معاملته للدائرة المعنية. لذلك يكون المواطن وشعبة الذاتية حريصين على ان يستلم المواطن رقم وتاريخ الواردة (كوصل استلام) كي يتسنى له المراجعة والمتابعة وهو مطمئن أن معاملته ستأخذ مجراها الاداري من أجل الانجاز. كذلك يوجد في شعبة الذاتية سجل للصادرة. وفي هذا السجل (سجل الصادرة) يتم تسجيل جميع المعاملات والكتب المنجزة أو التي يراد إرسالها لدوائر أخرى. وتسجيل اي معاملة تنجزها الدائرة في هذا السجل، اي منحها  رقم وتاريخ الإصدار، هو دليل على انجاز المعاملة في تلك الدائرة. وبوسع المواطن أن يتابع معاملته بدءاً من الواردة هذا إذا كان هو قد سلم معاملته للواردة وحينها يعتمد على رقم وتاريخ الواردة الذي استلمه. أما إذا كانت المعاملة مرسلة بريديا لدائرة ما، فإن الدائرة المرسِلة تعطيك رقم وتاريخ الصادرة للمعاملة وما عليك إلا مراجعة الدائرة المرسَلة لها معاملتك. وتبدأ متابعتك من الواردة اعتمادا على رقم الصادرة من الدائرة المرسِلة. وهكذا وبكل سهولة يمكنك ان تعرف مصير معاملتك.
هذا النظام الإداري الدقيق والشفاف كان سائدا في جميع دوائر الدولة ولا يستثنى منها إلا بعض الحالات الخاصة. أما اليوم وبفضل الجهل الإداري والفساد الإداري والمالي المنتشر في معظم دوائر الدولة فلا وجود لمثل هذا النظام الإداري الذي تم تثبيته خلال عمر الدولة العراقية ولغاية سقوط الصنم، ولا أريد التعميم لأن بعض الدوائر -وهي قلة- تمارسه ولكن بتعثر. واليوم تم التجاوز عليه وعدم اعتماده كمبدأ إداري مهم في انجاز معاملات المواطنين، كل ذلك بفضل الاحتلال الامريكي وورثته الذين تسلطوا على الشعب منذ السقوط ولغاية اليوم.
عدم انسيابية إنجاز المعاملات وعدم اعتماد النظام الإداري الذي ذكرته (الواردة والصادرة) آنفا في سير المعاملات، يؤدي بالتأكيد الى الفساد الإداري والمالي في الدولة ويجعل المواطن في دوامة مدمرة بين الدوائر! فيضطر المواطن وبسبب ظروفه القاهرة وما يعانيه من مراجعات عبثية في الدائرة لمعرفة أين معاملته ومن المسؤول عنها وأين تأخرت وهل ردود ومبررات الموظف صادقة، يضطر الى البحث عن وسيلة وطريقة سهلة لمعرفة مصير معاملته ومتابعتها من خلال البحث عمن يقوم بذلك مقابل ثمن (رشوة) ليس بالقليل أو من خلال معقبين معظمهم متفاهمين مع الموظفين! وللأسف لم يتم التصدي لتدهور النظام الإداري لا من قبل مجلس النواب، ولا من قبل الحكومة التنفيذية، ولا حتى من قبل مؤسسات المجتمع المدني بما يتناسب وهول الانحطاط الإداري في مؤسسات الدولة ما عدا بعض الكتابات النقدية. لا بل أن هناك مؤسسات خاضعة لمجلس الوزراء تبت في قضايا مصيرية تخص المواطن لا يمكنك الوصول إليها مطلقا (مثل لجنة التحقق التي شكلها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي للبت في قضايا الفصل السياسي، وربما غيرها من لجان ومؤسسات مشابهة لها). فتبقى معاملتك -الفصل السياسي- تحت رحمة لجنة التحقق والتي أثبتت من خلال قراراتها أنها لجنة بعيدة عن مفهوم العدالة وتفتقد للخبرة القانونية والمهنية في معالجة الملفات التي تحسم مصير حقوقك!. فلجنة التحقق تصدر قرارا مصيريا يخصك مثل (لا يوجد ما يثبت أنك غادرت العراق لأسباب سياسية) هذه نسخة لجملة تختصر فيها لجنة المالكي (لجنة التحقق) كثير من قراراتها. ورغم أنك قدمت وحسب قناعاتك أنها مستمسكات تثبت أن مغادرتك كانت لأسباب سياسية، مثل: (اضطرارك لترك وظيفة التعليم بسبب اجراءات البعث لتبعيث التعليم وما رافقها من ممارسات وتهديد لحياتك، أو أنك اضطررت للمغادرة بسبب تاريخك النضالي المعادي للبعث او بسبب مضايقات الأمن وأنت ذو تاريخ لا يمكن لأحد الطعن به، أو أن السفارة العراقية في بلاد المهجر كانت تضايقك وتهددك وتضغط على عائلتك في داخل الوطن .... الخ). أقول الإثباتات كونك سياسي ومعارض كثيرة ولكن لجنة التحقق لا ترد على أي إثبات أو مستمسك أو ترفضه وإنما ترد بجملتها المختصرة (لا يوجد ما يثبت أنك غادرت العراق لأسباب سياسية)!؟؟ وأنت لا تعرف هل أطلعت اللجنة على مستمسكاتك التي قدمتها، وهل فعلا لا ترى اللجنة أن تبعيث التعليم ايام البعث والملاحقات التي تعرض لها المعلمين والأساتذة بسبب رفضهم التبعيث والتي كانت سببا لهروب البعض او سببا لتصفيتهم أو اعتقالهم ونقلهم الى وظائف ليست لها علاقة بالتعليم وفي مناطق نائية لا ترى فيها أسبابا سياسية أجبرت هذه الفئة الواسعة لمغادرة الوطن!؟ وهل أن القاضي المسؤول في تلك اللجنة كان فعلا مهنيا وعادلا وشجاعا في قراراته .... لقد علمت أن أحد القاضاة السابقين في لجنة التحقق وحسب ما صرح به بين أصدقاء أن القرار لم يكن بيده وإنما سكرتيرته تنظم له القرارات وهو يوقع فقط!؟ أليس هذا نموذجا للفساد الإداري!؟ وأنا أميل لتصديق إدعائه من خلال مجريات ودراسة معاملتي شخصيا وكثير من معاملات الاصدقاء الذين أعرفهم عن قرب ورفضت طلباتهم وبعضهم كتب عن ذلك بمرارة ويأس.
الانحطاط في العمل الاداري هو أس الفساد المالي والإداري، وهو منتشر في كثير من مؤسسات الدولة مثل (التقاعد، السجناء والشهداء، الجنسية، الهجرة، الشؤون الاجتماعية ....الخ) فهل حاول المفتشون العامون أن يقوموا بدورهم في مكافحة هذا الانحطاط والتدهور في العمل الاداري!؟ هل توجهوا لهذه الدوائر ليروا بأم اعينهم ويستمعوا للمراجعين الذين يراجعون منذ أشهر من أجل معاملة كان بالإمكان إنجازها بساعات؟ هل شاهدوا مئات العجائز والشيوخ والأرامل كيف يتزاحمون أمام دوائر التقاعد دون جدوى، ودون مواعيد وإجراءات جدية؟ هل زاروا الدوائر وراقبوا الموظفين (الكثير منهم) وهم مشغولون بتلفوناتهم او بزيارات أصدقائهم، أو أنهم خرجوا لقضاء حاجاتهم الخاصة، وقد تركوا المعاملات مهملة!؟ هل حاول المفتشون أن يتقمصوا شخصية مراجع ليروا و "يستمتعوا" بأسلوب التهرب والتسويف من قبل بعض الموظفين في التهرب من انجاز المعاملات؟ هل يعلم المفتشون أن بعض الموظفين قد لا يتطلب منه الامر سوى إحالة المعاملة لزميله في الغرفة المقابلة مستعد ان يقول لك راجع بعد أسبوع!؟ لا أريد أن أعدد هذه المشاكل أو اساليب كثير من الموظفين في معظم المؤسسات والدوائر وتصرفاتهم اتجاه معاملات المواطنين وتسويف المواعيد لإنجازها أو اهمال المعاملات وتركها مركونة في أدراجهم ... انها تشيب الرأس كما يقال .... وللأسف المواطن مستسلم لهذا السلوك الغير أخلاقي والغير مهني، لأنه يعرف لا جدوى من الشكوى والثورة بوجه الموظف الفاسد!؟ فأي شكوى أو ثورة ضد الموظف الفاسد قد تتحول ضده لأن الجيفة أصلا في رأس السمكة!؟
الأمثلة عما ذكرته من سوء إدارة مقصودة وغير مهنية كثيرة أحتفظ بها حاليا وأدعو من جميع الأخوان أن يرسلوا لي (على البريد الالكتروني أو موقعي بالفيس بوك) أمثلة صارخة من هذه الممارسات في تسويف وتعجيز المواطنين في متابعة معاملاتهم .... يجب أن نعمل جميعا على فضح هؤلاء الإداريين الفاشلين الذين يعملون في مؤسسات الدولة!
محمد علي الشبيبي
السويد/ العباسية الشرقية/ كربلاء     الجمعة الحزينة 14/04/2017

48
البناء في العراق بدون رقابة وفضيحة هندسية في كربلاء!؟
خلال جميع سفراتي أينما توجهت وفي أي بلد أجد في نفسي الرغبة في التمتع بالهندسة المعمارية، وتخطيط المدن، وطرق البناء الحديثة وطبيعة مواد البناء المستعملة وما يستجد فيها من تطورات تخدم عملية البناء وتديمه، وأنظر الى كل ذلك نظرة نقدية. أما في زياراتي للوطن أجد انني في حيرة من كل ذلك!؟ فلا هندسة معمارية تستحق الإعجاب، وتخطيط للمدن فاشل أو حتى مفقود نهائيا، وأساليب متخلفة في التنفيذ، ومواد بناء ربما لا تصلح أو أن صلاحيتها قد انتهت أو ان الطقس ورطوبته ومياه الأمطار قد افسدها ولم تعد تتفق مع الشروط الهندسية، او ان المقاول لا يلتزم بأبسط الشروط الهندسية ....الخ، حتى ما يطلق عليه (السبيس) لفرش الطرق لتبليطها فهو ردئ ولا يصلح بسبب عدم انطباق المواصفات الهندسية في نسبة تدرج احجام الحجر او الحصى أو نوعية المواد المكونة مما يؤدي الى طرق غير مستوية ومزعجة وتتهرأ بسرعة! ولا أدري أين نقابة المهندسين، وإدارة البلديات والوزارات المختصة والوزارات والمؤسسات صاحبة المشروع من رقابة كل هذا الاستهتار في البناء وتعريض أموال الدولة والمواطنين للهدر وللخطر!؟
هذه المقدمة كتبتها بعد ما شهدت ما حدث في كربلاء خلال زيارتي الأخيرة ... حيث أخبرتني ابنة شقيقتي (ميسم) وهي ساخرة: (خالو تذكرتك، فأنت كلما خرجنا سوية كنت تراقب بعض الأبنية وتعلق أن هذا التنفيذ خاطئ وأن هذه المواد غير صالحة ووو...، وهذا البناء قد يهوى يوما ...الخ وأمس قطعوا شارع طوريج -واحد من أهم شوارع المدينة- بسبب الخوف من أن عمارة بعدة طوابق حديثة لم تسكن بعد ربما ستهوى!؟).
خرجت يدفعني الفضول للإطلاع على ما أخبرتني به ابنة شقيقتي. فعلا وجدت ان الطريق قد قطع وتعطلت حركة السير، وهو شارع تجاري فيه محلات تجارية وفنادق ومطاعم، تم قطعه لمسافة تزيد عن مائة متر ولأن البناء يقع في تقاطع شارع طوريج مع الشارع المؤدي لمدرسة المنار وسوق الخضار الشهير، فقد منع العبور من هذين الشارعين أيضا.
هذه البناية تم إنشائها بجانب بناء قديم (مطعم ومخازن يعود لعائلة الصديق سيد زكي الشامي) يحتل زاوية تقاطع شارع طوريج مع الشارع المؤدي لمدرسة المنار. وكما يلاحظ من الصور المرفقة ان البناية تتكون من سبع طوابق وأنها شبه منجزة. مالك البناء القديم قرر هدم البناء وتأسيس بناء جديد. وبعد الهدم تكشفت جريمة الخطأ الهندسي وسوء التنفيذ وعدم الالتزام بالشروط الهندسية وطرق الحسابات. فقد مالت هذه البناية عن المستوى العمودي نحو البناء القديم الذي أزيل بزاوية واضحة سببت رعبا للمنطقة!؟
ماذا يعني هذا؟ أن التأسيس أقيم على أسس غير مدروسة ولا تتحمل وزن البناء فلا الارض تتحمل ولا الأسس تم تصميمها بالطريقة الهندسية العلمية، وربما حتى مواد الأساس غير مطابقة للمواصفات الهندسية! أترك دراسة ذلك للمختصين والمسؤولين في كربلاء لعل ضمائرهم تستيقظ وينقذوا المدينة من عشوائية البناء وعدم الالتزام بالشروط الهندسية في التصميم والبناء التي تعم معظم الأبنية ليس في كربلاء وإنما في جميع المدن العراقية. فالفساد المستشري في الدولة موجود في كل مجالات الحياة العراقية بما فيها الهندسة!
المسؤولون قرروا تلافي السقوط بهدم البناء، والصور المرفقة مع الفديو تبين الشوارع التي تم قطعها مع قطع أرزاق اصحاب المحلات، وعملية الهدم البدائية والتي قد تسبب اي خطأ فيها الى ضحايا.
أخيرا أوجه كلامي لصاحب العمارة وللمنفذ، وللمشرف على البناء وللمسؤولين في إدارة البلدية وإدارة المحافظة أقول لهم أين أنتم من الإسلام ومن مبادئ الحسين في الاخلاص بالعمل ... الحسين أبا عبد الله (ع) بحاجة الى أنصار وشيعة يعملون بإخلاص، وتفاني وصدق ولا يفكرون بجني المال على حساب أرواح الآخرين. أتقوا الله فأنتم في مدينة سيد الشهداء اللهم إلا إذا كنتم غير مؤمنين بقضية الحسين وما علو صوتكم ومكبراتكم وكثرة مواكبكم الحسينية إلا نفاقا!
محمد علي الشبيبي
السويد/ العباسية الشرقية في 18 اذار 2017
 أدناه فديو مع صور للعمارة أثناء هدمها (الفديو من صفحتي بالفيسبوك):
https://www.facebook.com/mohamad.alshibiby/videos/1366190416773980/ 
 
 

49
النضال من أجل المبادئ والقيم ليس تهورا ولا مشروع قتل!
تعقيب على آراء طرحها الاستاذ والصديق الأنترنيتي الطيب مصطفى العمري في مقالته، وأرى أن مناقشتها ضرورة لنشر الوعي لأن ما طرحه الأستاذ الفاضل مصطفى العمري يعكس موقفا سلبيا من النضال الوطني ويستحق ذلك. وللأسف أن مثل هذه الاراء تجد لها صدى عند البعض على صفحات التواصل الاجتماعي. وكنا نجابهها عندما يطرحها علينا مسئولو الاجهزة الأمنية أثناء الاعتقالات والتحقيق لغرض تثبيط عزائمنا بحجة أن الشباب يجب ان يهتم بالدراسة بينما هم (المتنفذون في السلطة) يسرقون وينتهكون الكثير من حقوقنا كشباب وطلبة.
أثار الصديق الاستاذ مصطفى العمرى مجموعة ملاحظات وتساؤلات وأفكار من خلال قراءته لكتابي (ذكريات الزمن القاسي) بمقالته التي نشرها بتاريخ 27/12على مجموعة مواقع الكترونية وعلى صفحته بالفيس بوك أيضا وأرسل لي نسخة منها نشرتها على صفحتي بالفيس بوك(1). ومبادرته هذه تستحق التثمين والشكر بغض النظر عن رأيي بما أثاره من ملاحظات وآراء، وأني أقدر عاليا تعاطفه الصادق مع معاناتي ومعاناة عائلتي فهذا تعبير عن إنسانيته الراقية. ولكن الاختلاف في أحكامنا وآرائنا لا يفسد للود قضية كما يقال، فأرجو أن يتحمل ويتفهم مقالي هذا فهو موجه للشباب قبل أن يكون موجها له! وقد سرتني أريحية الاستاذ مصطفى العمري عندما أخبرني برغبته في الكتابة عن الكتاب وطلب ان أمنحه الحرية في طريقة وأسلوب تناوله، وهكذا وعدته دون تدخل في طريقة تفكيره ورأيه بالكتاب، ولكن هذا لا يمنع من التعقيب وتوضيح موقفي ببعض طروحاته (وطروحات بعض المعلقين على مقاله) التي جاءت من خلال توقفه عند بعض الجوانب من الذكريات. فبعض أحكامه وآرائه تستحق المناقشة لأنها تدعو الى الاستكانة وعدم مقاومة الظلم! فملاحظات من يقف بعيدا أو محايدا عن الصراعات والمواقف السياسية لها أهميتها على الأقل بالنسبة لي فهي تمنحني فرصة أن أكتشف طريقة تفكير الاخرين وأسلوبهم في المساهمة في عملية النضال من أجل عراق أفضل.
نعم فعلا كتبت عن اعدام عمي الشهيد حسين الشبيبي (صارم) بطريقة لا تميل الى التوثيق -كما يذكر-لأني سبق وتناولت حياة الشهيد في مقالات نشرت على المواقع الالكترونية والصحافة (طريق الشعب والمدى) وتركت الحديث عن هذا لضمه لكتاب أخطط لنشره يتناول نضال أسرة الشيخ محمد الشبيبي وأبنائه. ومن يرغب أن يطلع على جانب من حياة الشهيد حسين الشيخ محمد الشبيبي (صارم) يمكنه فتح الرابط التالي:
http://www.al-nnas.com/THEKRIAT/15shb.htm
ذكر الاستاذ مصطفى العمري: (أشعر ان ردة فعل الكربلائيين و النجفيين مع عائلة الشبيبي كان فيها غلظة مفرطة .....). أجد ان الاستاذ مصطفى اصدر حكما سلبيا وعممه على الكربلائيين والنجفيين، ففي كتابي لم أوجه هذا الاتهام بل تطرقت وانتقدت بشدة مواقف البعض السلبي مثلما تطرقت وقيمت عاليا المواقف الايجابية في كلا المجتمعين، وهذه ظاهرة نجدها في كل المجتمعات، ولا أدري لماذا لفت انتباهه فقط الموقف السلبي ليعممه، لأن التعميم هو ما أوقعه ببعض الاحكام الاخرى الخاطئة.
كما أحب أن اضيف توضيحا ان الموقف العدائي من جدي الشيخ محمد لم يكن فقط بسبب إعدام أبنه، حتى لا يتصور القارئ الكريم أن موقف الشيخ محمد الشبيبي من النظام الملكي موقف شخصي ليس له علاقة بالموقف الوطني ... فللشيخ مواقف صريحة معادية للاستعمار الانكليزي منذ بداية الاحتلال البريطاني للعراق اي منذ يوم ولادة أبنه الشهيد حسين. حيث تصدى في سوق الشيوخ (عام 1917) للمحتلين من على منبره الحسيني محرضا رواد منبره لمقاومة الاحتلال وفاضحا بعض النفوس الضعيفة من (شيوخ) المدينة الذين ارتضوا أن يبيعوا انفسهم للمحتل. وقد سبق وان نشرت مقالا عن موقف الشيخ من الاحتلال البريطاني عام 1917 في سوق الشيوخ (المقال نشر في مجلة الثقافة الجديدة العدد 4 سنة 1969)، وبسبب هذه المواقف الوطنية من الاحتلال البريطاني ومؤامرة المحتل عليه بالتعاون مع بعض العملاء أضطر أن يغادر سوق الشيوخ ويعود الى النجف. وقد جاء إعدام ابنه وما يعانيه المجتمع من ظلم وفقر ليعطيه قناعة أكبر وأقوى بضرورة الوقوف بصلابة ضد النظام الملكي ومعاهدات الاستعمار والتبعية وجور الاقطاع. وقد سخر منبره الحسيني بذكاء وجرأة مستفيدا من ثورة الحسين (ع) ونهجه في مقارعة الظلم لتوعية رواد المنبر ومحبيه من متابعين. كان أكثر ما يغيض السلطات أيام الحكم الملكي منبره الحسيني، ولهذا بذلت السلطات الأمنية جل جهدها لمنعه من نشاطه المنبري، فمنع من زيارة الاهواز في ايران، ومن إقامة منبره في السماوة وبعض المدن، وحتى في النجف ... وعندما عجزوا عن ثنيه عن أسلوبه في التحريض ونشر الوعي الوطني دبروا له تهمة الإساءة للملك وتقديمه للمحاكمة في مدينة الرمادي بعيدا عن مدينة إقامته في النجف وهو في نهاية عقده الثامن! كل ذلك للضغط عليه ولكن الشيخ الجليل بقي صامدا يمارس من على منبره نشر الوعي الوطني ولم يهتز لممارسات التحقيقات الجنائية -الاجهزة الامنية-.
يقول الاستاذ مصطفى العمري في مقالته: (أكاد أجزم ان تأثير الهجمة على بيت الشبيبي هي من جعلت الشاب محمد (صاحب الكتاب) يندك إندكاكاً غير مدروساً في الحزب الشيوعي. أعتقل صاحب المذكرات وهو في عمر السابعة عشر , زمن الحكم الملكي , ثم تتالت عليه الاعتقالات في زمن قاسم و عبدالسلام حيث نقرة السلمان , الى الحقبة البعثية....) أولا للتصحيح أني اعتقلت لأول مرة في زمن الشهيد عبد الكريم قاسم عام 1962، وليس أيام الحكم الملكي كما يذكر في مقاله. ولكن عمي الأصغر الراحل محمد علي -أسم مركب- هو من سجن 12 عام أيام النظام الملكي، وهذا ما أوقع الاستاذ العزيز بالخلط بين اسمي واسم عمي!.
لا أخفي أن الجو العائلي وتاريخ العائلة الوطني منذ ثورة العشرين كان له التأثير الأول على انحيازي وانتمائي، وهذا ليس غريبا علينا فجميعنا نتأثر بالجو العائلي وهذا واضح حتى في الانتماءات الدينية والمذهبية ماعدا بعض الاستثناءات. أضيف الى ذلك هناك أسباب أخرى وهي البيئة الاجتماعية المحيطة بنا بدءا بالمحلة الى المدرسة والمدينة ... وهكذا نجد في العراق مناطق محسوبة على اليسار وأخرى على القوميين وثالثة على الاسلاميين والقوميين. فالإنسان بفكره وعواطفه هو نتاج بيئته ... كما أن هناك شخصيات شيوعية لها كاريزما متميزة (مواقفها الوطنية الشجاعة، مصداقيتها ونزاهتها، تواضعها، ثقافتها، حكمتها، قدرتها على القيادة ...الخ) تصبح قدوة للآخرين وهذه الشخصيات لها تأثيرها القوي في تحديد ميول الشباب وانجذابه للحزب. أضف الى ذلك الاطلاع على برامج وسياسات الاحزاب ومقارنتها بالواقع ومدى واقعيتها وانسجامها مع الشعب، و مصداقيتها في النضال من أجل تحقيق برامجها. وخلال الانتماء تأتي الجهود من أجل تنمية ثقافتنا الحزبية والسياسية في جميع المجالات.
يصف الأستاذ مصطفى العمري نشاطي السياسي بالتصرف الصبياني والمتهور!؟ لذلك سأستعرض باختصار الاسباب وراء دخولي المتكرر للسجن -في حقب الجمهوريات الثلاثة الاولى(2)- لأن القارئ الكريم لا يعرف على اي اساس بنى الاستاذ مصطفى استنتاجاته الظالمة التي أوصلته لخلاصة القول بأن مواقفي صبيانية ومتهورة!؟ فلم يكف ما أصابني من ظلم وحيف من الانظمة الاستبدادية فزادني صديقي ظلما آخر بوصف نضالي بالصبياني والتهور.
الغريب أن الاستاذ العمري وصف مواقفي بالصبيانية مرة وبالمتهورة مرة أخرى، دون أن يتناول بالنقد سياسة الحكومات الدكتاتورية (الجمهوريات الثلاثة الأولى)، وتناسى أن نظام الحكم وأسلوبه الدكتاتوري هو المسؤول الأول والأخير عن كل الويلات التي لحقت بالشعب. والأستاذ مصطفى يرى حيث يقيم -في امريكا- وكذلك الحال في أوربا كيف تكون التأثيرات الإيجابية لتحركات المعارضة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ونشاطاتها الاحتجاجية وتظاهراتها من أجل حياة أفضل. وكل هذه الاحتجاجات والتظاهرات تحدث دون مطاردات وسجون وتعذيب وفصل وظيفي ولن يصفها أحد بالتصرفات الصبيانية او المتهورة. والمجتمع الأوربي لم يصل الى هذه الحالة من التطور المدني وتقبل الرأي الاخر لولا فضل الثورات والانتفاضات التي حدثت في أوربا وفي مقدمتها الثورة الفرنسية العظمى في عام 1789.
لا أدري كيف يرى اعتقالي وتعذيبي ومن ثم سجني وانا بعمر دون 17 سنة تهور أو تصرف صبياني وليس تصرفا وطنيا ينم عن وعي متقدم ونضج سياسي؟ مع العلم أن اعتقالي وصدور حكم 6 اشهر بحقي عام 1962 كان بسبب عثور أجهزة الأمن على عريضة كنت أجمع فيها تواقيع للمطالبة بإيقاف الحرب في كردستان العراق والحل السلمي للقضية الكردية، مع بيان للحزب الشيوعي يحذر الحكومة من النشاطات التآمرية لقوى الردة!؟ وأتساءل هل المطالبة بالحل السلمي وحوزتي على بيان حزبي تصرف صبياني ومتهور!؟ هل المفروض ترك شبابنا الجنود يموتون في حرب مدمرة لا ترحم ولا تفضي الى نهاية تنال قبول كل الأطراف!؟ ألم يثبت التاريخ الحديث صحة مواقف الحزب من القضية الكردية الذي سجنت بسببه!؟ لو لم تكن هذه الضغوطات الجماهيرية (الصبيانية المتهورة حسب قياس الاستاذ مصطفى) لاستمرت الحرب مع الاكراد لعدة عقود ولحصدت عشرات أضعاف الضحايا من كلا الجانبيين إضافة للخسائر الاقتصادية المدمرة! إن الوقوف جانبا وترك الدكتاتورية تفعل فعلها بالشعب موقف ينقصه الشعور بالمسؤولية الوطنية، وهذا الموقف العدمي هو من جرّ على شعبنا الويلات! 
وفي المرة الثانية سجنت لخمس سنوات بسبب التظاهر ضد انقلاب حزب البعث الدموي في 8 شباط 1963. وكان انقلابا دمويا جاء بقطار أمريكي (باعتراف رموز قياداته -علي صالح السعدي-)، وكان من أخطر بياناته الدموية بيان رقم 13 الذي يدعو فيه بوضوح لإبادة الشيوعيين!؟ وفي هذه المرة ايضا أجده ينتقد موقفي ولم ينتقد الانقلاب وما جره على شعبنا من ويلات ومآسي، فهو ينتقد الضحية ويصف موقفه الوطني بالصبيانية مرة وبالتهور مرة أخرى، ويلتزم الصمت عن أي إدانة للانقلابيين الدمويين وزجهم بالالاف في السجون أو قتلهم تحت التعذيب البربري!؟ فالتعاطف مع المعاناة دون إدانة النظام الدموي موقف ناقص ربما تنقصه الجرأة أو الجهل بالتاريخ الدموي لتلك الحقبة.
وفي الانتخابات الطلابية ربيع 1967 كنت أحد أعضاء اللجنة الاتحادية في كلية الزراعة. وكان علينا المنافسة في الانتخابات الطلابية التي أجرتها الحكومة العارفية، ومن الطبيعي أنشط بين الطلبة للدعاية. ولكن تفاجأت باعتداءات الطلبة البلطجية من البعثيين ولعدة أيام لثنيي عن الترشيح في الانتخابات والانسحاب منها. وقد تمادى البعثيون في اعتداءاتهم ولم تتخذ ادارة الكلية وعميدها د. حسين العاني أي إجراء رغم ما قدمناه من مذكرات ومطالبات بوضع حد لممارسات البلطجة ومحاسبة الطلبة المسببين لهذا الشغب والاعتداء، بل أن العميد كان متواطئا معهم واستمرت الاستفزازات والاعتداءات قبل الانتخابات وبعدها، وكنت غير قادر على النوم في القسم الداخلي او السير في الكلية بمفردي أو مواصلة دراستي بسبب استفزازاتهم واعتداءاتهم المتواصلة! فاضطررت أن أطلب من رفاقي الحماية وهذا ما حدث، حينها تحرك عميد الكلية وطلب من أجهزة الأمن اعتقالي.
الاستاذ مصطفى لم يوضح لي وللقراء كيف يمكن التأثير من أجل التغيير في العراق نحو الأفضل. فهو حسب قناعاته يعتبر تقديم عرائض الاحتجاج والبيانات السياسية والمساهمة الناشطة في منظمات مدنية ومهنية أو المساهمة في الحق الانتخابي، والتظاهر والاحتجاج على الانقلابات الدموية، والانتماء للاحزاب .... كلها تصرفات صبيانية ومتهورة!
هناك صورا من التاريخ البشري تبرهن للأستاذ مصطفى كم من الثورات والانتفاضات سجلت تاريخ شعوبها بحروف من دم من أجل الحقيقة والحقوق المدنية والتطور الاجتماعي ومن أجل حياة أفضل! فهذه جنوب افريقيا لم تحقق انتصارها على نظام الأبارتيد (نظام التمييز العنصري) لولا كفاح شعبها المرير وما قدمته من ضحايا على مر العقود. وصمود نيلسون ماندلا لمدة تقارب ثلاثة عقود في السجن ولم يتهمه أحد أن تصرفه صبياني ومتهور بل العكس أعتبر رمزا عالميا في مكافحة العنصرية!. وعيد العمال العالمي -الأول من آيار- اعتبر عيدا عالميا للطبقة العاملة بعد سنوات من جريمة النظام الرأسمالي (في امريكا) بحق العمال، وهذا لم يتم لولا الضحايا والكفاح المتواصل للطبقة العاملة الأمريكية، ولم يتهم العمال بالصبيانية والتهور بالرغم مما قدموه من شهداء في تظاهراتهم وإضراباتهم. والثورة الفرنسية (عام 1789) وما رافقها من ضحايا وسفك دماء لكنها كانت ضرورة تاريخية غيرت مسار التاريخ في أوربا وتم الاعتراف بها واعتبرت منارا للتغيير في أوربا تجنبا للمزيد من سفك الدماء فاستفادت شعوب وحكومات اوربية من التجربة من أجل التغيير الديمقراطي. باختصار كل التغييرات في العالم تمت بتأثير مباشر وغير مباشر بسبب الحركات النضالية الجماهيرية السلمية منها والعنفية. فوصف أساليب النضال ضد الأنظمة الاستبدادية والمتخلفة بالتصرفات الصبيانية والمتهورة هي دعوة الى الاستكانة للذل والتخلف والتبعية والاستسلام للفساد والعبودية وهذا بالضبط ما كانت تطرحه الأجهزة الأمنية للأنظمة الاستبدادية لكي تحافظ على مصالحها وتبعد عنها خطر التغيير. وهذا موقف سلبي يؤثر سلبا على الحس والمسؤولية الوطنية. ولنأخذ عراق اليوم مثلا: حكومات متتالية يسودها الفساد المالي والإداري ، انعدام الخدمات، انعدام الأمن، بطالة، فقر، أمراض، تدهور في الزراعة والصناعة، خيانات وطنية ومليشيات وعشائر منفلتة .... مقابل هذا احتجاجات وتظاهرات وإضرابات وبيانات إدانة جماهيرية (رغم ضيقها) .... يرد عليها باعتقالات، وخطف وترهيب ومحاولات تسقيط واغتيال للناشطين ... وبالرغم من ضعف الاحتجاجات فبعضها أجبر الحكومة على الاستجابة أو هكذا تظاهرت للالتفاف على مطالب الجماهير ... فهل يجوز لنا أن نصف الناشطين من المتظاهرين الذين تعرضوا للاغتيال بالكواتم او الخطف من (مجهولين!) أو التسقيط والترهيب بأن تصرفاتهم صبيانية ومتهورة!؟ وإذا وصفناهم بالتهور والصبيانية فكيف سيتم التغيير نحو عراق أفضل، هل سيتم ذلك بالاستكانة والخنوع؟   
ويذكر الاستاذ مصطفى العمري: (... لم يستطع ان يتأثر بوالده بشكل جدي واقعي إنما كان تأثيراً شكليا ...). لا أدري إذا اطلع الاستاذ مصطفى على مذكرات والدي (ذكريات التنوير والمكابدة) فالعنوان يعطي صورة عما كابده والدي وكم عانى رغم اعتزاله العمل الحزبي منذ عام 1947. ولكن اعتزاله لا يعني أبدا اعتزال الفكر الوطني والقبول بحياة الخنوع وعدم المساهمة في الحياة الاجتماعية بما يحمله من فكر تحرري ... ومع كل هذا لم يعش والدي حياته الواقعية البسيطة كما كان يرجو، فلاحقته الاعتقالات، والتعذيب، والفصل الوظيفي، والسجون والإبعاد في كل العهود -الملكية والجمهورية- وحتى بعد وفاته عام 1996 ...!؟ وكل ذلك حدث باختلاق أكاذيب مفتعلة (من قبل الأجهزة الأمنية) لمحاربة والدي طيب الله ثراه .... فالأنظمة الاستبدادية لا يمكن الركون إليها والاطمئنان لها، فهي تخيرك بين أن تكون مستكينا ذليلا تابعا مسلوب الوعي، أو مطبلا للنظام ومنافقا، أو معارضا فتلاحقك بسجونها وأساليب قهرها! فأيهما تريدني أن أكون كي لا أصبح صبيانيا أو متهوراً؟ فالتاريخ يخبرنا أنه لا يمكن ان تتحرر وتتطور شعوبنا بدون تضحيات ومعاناة وألم وقد قال أحد الحكماء (إذا لم تحترق أنت وان لم احترق أنا  فمن سيضيء الطريق؟).
يذكر الأستاذ مصطفى العمري في مقالته: (...المأساة الكبيرة التي جرها المؤلف على نفسه و على أهله , ابعدته عن وطنه , و اعتقد انه ينتمي للغربة أكثر مما ينتمي للوطن  الذي سجن و عذب من أجله ). عندما عذبت وسجنت أول مرة عام 1962، ثم عذبت وسجنت عام 1963، ثم عام 67 كنت طول هذه الفترة في العراق وسبب معاناتي هي حبي وإخلاصي لوطني وشعبي فتحملت السجون والتعذيب والفصل كل ذلك من أجل عراق حر ديمقراطي تسود فيه العدالة الاجتماعية ولم أنادي بغير هذا الشعار أو أتبنى مطالب شخصية ضيقة، فهل هذه غربة عن الوطن؟ الغربة عن الوطن هو ما يعتقده الاستاذ مصطفى حيث يرى بكل هذا النضال والعذابات التي لاقيتها -وهو يتعاطف معها كثيرا- بأنها تصرفات صبيانية ومتهورة.  إذن ماذا نسمي موقف الذين تنتهك كرامتهم وتسلب حقوقهم وتمتهن إنسانيتهم ويقابلون كل ذلك بخنوع وصمت أو ومتفرجين؟ وأستغرب مجددا أن العزيز الاستاذ مصطفى يعيد ويحمل الضحية المآسي ولا يدين الأنظمة الاستبدادية!.
وجه الأستاذ مصطفى العمري عدة اسئلة بفقرته التالية: (... بودي ان اسأله عن كيفية إنضمامه للحزب الشيوعي ؟ هل كانت شعارات الشيوعيين و مثاليتهم العالية حقيقية أم مجرد إستهلاك لغرض كسب العدد الاكبر من الناس ؟ لأنه ذكر اكثر من مرة كيف انه وجد ان أقوال و شعارات الشيوعين تحطمت مع اول موقف حقيقي, كيف تخلى الطلاب عنه في الانتخابات , المحسوبية في البعثات الدراسية , خروجه من المعتقل خالي اليدين , محاولة تشويه سمعته من قبل احد الشيوعين المعتقلين معه).
حول انضمامي للحزب تطرقت إليه في بداية مقالي هذا. لا يمكنني أن أتحدث عن مثالية أحد مهما كان، فجميعنا بشر نتعرض للأخطاء، ومواقفنا وتحاليلنا واستنتاجاتنا هي اجتهادات تختبرها الحياة قد نفشل وقد ننجح وعلينا تحمل أخطاؤنا وهفواتنا وتصحيح مواقفنا بناء على تجاربنا. انا في كتابي لم أذكر مطلقا (ان أقوال و شعارات الشيوعين تحطمت مع اول موقف حقيقي) وإنما هذا استنتاج الاستاذ مصطفى العمري، وكيف لي أن أقول ذلك وأنا شاهد عيان على انتصار الشيوعيين مع القوى الوطنية الأخرى في ثورة 14 تموز 1958 المجيدة وتحقيق الكثير من شعاراتهم، وفوزهم في الانتخابات الطلابية عام 1967 بنسبة تجاوزت 75% بالرغم من مضايقتهم وزج قياداتهم في السجون. لقد انتقدت سلوك بعض الشيوعيين من زملائي في السجن وفي نفس الوقت تطرقت للجوانب الجيدة من مواقف الشيوعيين وحياتهم الاجتماعية الرائعة والمنظمة في السجون ومواقف الكثيرين منهم. وللأسف أن الاستاذ مصطفى ركز فقط على ما ذكرته من سلبيات البعض (وكأنه يهمه فقط أن يرى الجزء الفارغ من الكأس، وهو الجزء القليل جدا!) وأهمل الجوانب الايجابية وهي كثيرة لذلك أنصحه بإعادة قراءة الكتاب بتجرد من أي مواقف مسبقة. وعلى العموم الشيوعيون بشر وهم أناس عاديون وينحدرون من فئات وقوميات ومناطق مختلفة وثقافة وتربية متباينة يحملون الايجابيات والسلبيات ولا يجوز مطلقا النظر إليهم كأناس مثاليين.
أما تخلي الطلبة عني في الانتخابات، فهذا ليس دقيقا!؟ ففوزي بفارق الاصوات الذي يصل الى أضعاف أصوات منافسي دليل على التفافهم حولي وقناعتهم بالمشروع الطلابي الذي طرحناه كاتحاد طلابي. ولكي نفهم موقف المناصرين وهم أصدقاء ليس لديهم أي التزام تنظيمي سوى قناعاتهم بمنظمتنا الاتحادية وتعاطفهم معنا، علينا أن نحيط ونستوعب طبيعة النظام العارفي -ايام حكم عبد الرحمن عارف-. لقد كان نظاما معاديا للفكر الديمقراطي والتقدمي وزج بالشيوعيين في السجون ونفذ بهم أحكام إعدام، وواصل سياسة محاربة الشيوعيين برزقهم ووظائفهم، وكم الأفواه .... كل هذه كانت سببا في ابتعاد وحذر بعض الطلبة خوفا من التهم التي توجهها السلطات الامنية لأي ناشط ديمقراطي.
يتطرق الصديق العزيز مصطفى العمري في نهاية مقاله الى القول (يعتمد الدعاة دائماً، إسلاميون وعلمانيون , على الشباب ... واستلاب عقولهم ... وجعلهم مشاريع موت وقتل ...الخ). وهذا الطرح لاقى استحسانا وقبولا من بعض المعلقين على مقالته في الفيس بوك وهو رأي عدمي يطرحه كثيرون وشائع للهروب من تحمل اي مسؤولية وطنية. وأصحاب هذا الرأي لم يطرحوا ما هو البديل للشباب من أجل حياة أفضل؟ أنا لست مسؤولا عن الاسلاميين وعن دوافع شبابهم وأعمالهم الانتحارية، ما يهمني هو دور الحزب الشيوعي وموقفه من الشباب. وهو موقف مازلت مقتنعا به وأراه صائبا. فالشباب كما يذكر الاستاذ مصطفى هم (العمد الحقيقي لبناء الأوطان) لذلك تتوجه نحوهم الحركة الشيوعية. لأن الشباب هم اكثر قدرة على التفاعل بالقضايا الوطنية وان الحاضر والمستقبل سيمس مصيرهم بالدرجة الرئيسية كما انهم اكثر انفتاحا وتقبلا للتغيير وللأفكار الجديدة، وأنهم قادرون على التحرك والنشاط الذي تقتضيه قضيتهم. ومن هذه المنطلقات يأتي توجه الحزب نحو الشباب. كما أن قائمة شهداء الحزب منذ بداية الاربعينات من القرن الماضي ولغاية اليوم تثبت أن الحزب قدم من قياداته أكثر مما قدم من الشباب. ففي 14/15 شباط عام 1949 صعد قادة الحزب الأوائل (يوسف سلمان -فهد-، وزكي محمد بسيم -حازم- وحسين محمد الشبيبي -صارم-) منصة الاعدام رافضين المهادنة والتراجع عن مبادئهم محافظين على أسرار الحزب. وفي احداث انقلاب 8 شباط 1963 استشهد تحت التعذيب البربري في مقرات التعذيب البعثية (قصر النهاية، محكمة الشعب، الملعب الأولمبي، المكتبات وغيرها من مقرات) العشرات من قيادات الحزب في مقدمتهم سكرتير الحزب الشهيد الخالد سلام عادل، ومحمد حسين ابو العيس، وجورج تلو، وحمزة سلمان، وحسن عوينه، وطالب عبد الجبار، وصبيح سباهي، وجمال الحيدري، وعبد الجبار وهبي، ومحمد صالح العبلي، وغيرهم لا تحضرني أسماؤهم وجميعهم من الصف الأول في قيادة الحزب. وكان استشهادهم بطوليا كما وصفه كثيرون من قيادات حزب البعث بعد صحوة ضمير واحترام لبطولات الشيوعيين وصمودهم (راجع ما كتبه علي كريم، طالب شبيب وحازم جواد والفكيكي وغيرهم). لقد كان استشهاد قيادات الحزب تحت التعذيب هي من أعطت للشباب الشيوعي القناعة أكثر بمبادئ الحزب ومنحتهم القوة والعزم على مواصلة النضال. وما حدث من انهيار البعض وتخاذله وهم قلة لن يشوه الدور البطولي لقياداته الخالدة.
لذلك أرى أن قول الصديق العزيز مصطفى العمري باستلاب عقول الشباب وجعلهم مشاريع موت وقتل لا تنطبق على الحزب الشيوعي ويفندها الواقع، آملا ان يقرأ جيدا تاريخ الشيوعيين. ويجب التمييز بين الانتحاريين الذين يصرون على ان يكونوا مشروع موت ليقتلوا الأبرياء وبين الشيوعيين الذين يحبون الحياة ويتحملون متاعبها في نضالهم من أجل حياة أفضل ولم يختاروا الموت وإنما كان القتل يتصيدهم بهدف ترهيب الجماهير وعزلهم!
حول الأخطاء! فقد تطرقت لبعض الاخطاء ومنها أخطائي الشخصية وأخطاء الاخرين من خلال سردي لذكرياتي وقد يكون من المفيد إعادة دراسة التجربة بطريقة أكثر نقدية ومجردة من العواطف خاصة انني الان خارج صفوف الحزب الشيوعي.
أخيرا أرجو أن أكون قد نجحت في توضيح كثير من التساؤلات التي طرحها الصديق العزيز مصطفى العمري في مقالته وهي اراء وتساؤلات ومفاهيم ليست غريبة يطرحها كثيرون ووجدت من الضروري الكتابة عنها بهذه الاستفاضة.
محمد علي الشبيبي
لوند 29/12/2016
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- نص مقالة الاستاذ مصطفى العمري على صفحة الحوار المتمدن:
 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=542716
2- المقصود الحكم الجمهوري الأول أيام الشهيد عبد الكريم قاسم (14/7/1958-7/2/1963)، والحكم الجمهوري الثاني الذي جاء بانقلاب 8 شباط 1963 (8/2/1963-17/11/1963)، والحكم الجمهوري الثالث الذي جاء بانقلاب 18 تشرين الثاني 1963 الذي قاده عبد السلام عارف ضد حكم حزب البعث (18/11/1963-17/7/1968).

 



50
أجمل التهاني للجميع بمناسبة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية متمنيا للجميع عاما سعيدا تتحرر فيه مدننا من الدواعش ويسود الامن والاستقرار ويتم القضاء على المحاصصة الطائفية وتعود الحياة الطبيعية لشعبنا ويعم الخير والبناء!؟؟
ابعث مقالتي هذه للنشر رجاء وتقبلوا فائق ودي واعتزازي
محمد علي الشبيبي

51
المنبر الحر / أي إصلاح نريد!؟
« في: 21:01 24/04/2016  »
أي إصلاح نريد!؟
ليكن شعارنا (انتخاب وطني نزيه وكفوء خير من انتخاب طائفي او قومي فاسد وجاهل)
منذ سنوات والتظاهرات بمبادرة التيار المدني الديمقراطي بجميع أطيافه في تظاهرات متواصلة مطالبة بالإصلاح. ومن الغريب أن تتحرك بالفترة الأخيرة كتل وقوى سياسية كانت ومازالت هي من المساهمين في تخريب مؤسسات الدولة، وسرقة أموال الشعب من خلال صفقات عقود نفطية واسلحة واستثمارات فاسدة، أو من خلال بيع المدن والسجناء الارهابيين للدواعش. باختصار هذه الكتل التي تحاول ركوب موجة الاصلاح هي من أنتفض الشعب ضدها من أجل كشفها وفضحها وتقديمها للمحاكمات العادلة. وهذه الكتل الفاسدة اليوم تحرك أتباعها لتبني شعار الإصلاح لغرض ركوب الموجة والتسويف! فإذا الكل يرفع شعار الإصلاح بدءا من الحكومة بكل وزرائها ومسؤوليها، ومجلس النواب بجميع كتله، والشعب بجميع طوائفة وقومياته، والكتل السياسية والأحزاب، جميع هؤلاء رفعوا شعار الاصلاح! فالسؤال المطروح: إذا جميعكم تطالبون بالإصلاح فأخبروا الشعب عن أي أصلاح تبحثون، وما هي أدوات هذا الإصلاح! بالتأكيد لا يتم الإصلاح بنفس الأدوات الفاسدة التي سيطرت على السلطة خلال 13 سنة وعبثت بالدولة ومؤسساتها ونشرت الخراب والفساد!
هذه تساؤلات جعلت عامة الناس الغير متبحرين بمطبات السياسة وتلاعب السياسيين الغير نظيف في ضياع وتيه. لذلك اجد نفسي وبتواضع ان اكتب عن هذا الاصلاح المنشود. بداية أن (العملية السياسية) التي أجمعت عليها القوى السياسية تم اختطافها وتشويهها وتحولت الى عملية تخريب وتدمير ونهب لأموال الدولة وشحن طائفي ومحاصصة طائفية، وتأسيس وتوسيع المليشيات، وإشاعة الفساد في مؤسسة الجيش والأمن، وتخريب وإفساد مؤسسة القضاء، وحرف جميع الهيئات المستقلة وتحويلها الى مستَغَلة، حتى مجلس النواب تحول الى مؤسسة لتشريع القوانين من أجل مصالحه وعرقلة القوانين التي تمس حياة الشعب ... هذه العملية فقدت أهدافها وتحولت الى محاصصة طائفية-إثنية مقيته  لمحاربة الدستور (بالرغم من نواقصه) بالدستور نفسه، ومحاربة الديمقراطية بالديمقراطية المشوهة، ومحاربة القضاء بالقضاء الفاسد .... والجميع للأسف يتحدث عن العملية السياسية، بينما هي ولدت أصلا مشوهة تحمل في داخلها أمراض إعاقتها القاتلة، وزاد من تشوهها وإعاقتها هو جهل من أشرف على ولادتها (الاحتلال الامريكي وممثله بريمر) ومن ثم من أستلم رعايتها من كتل إسلامية طائفية متخلفة وقوى قومية شوفينية تفتقد للشعور الوطني والانتماء العراقي.
يجب أن نعترف أن العملية السياسية مشوهة وأصبحت معاقة حتى لا يمكنها معالجة أمراضها وإعاقاتها إلا بعملية جراحية كبرى. والإصلاح الذي نطالب به هو هذه العملية الضرورية لعلاج أمراض الاعاقة والتشوه الذي رافق العملية السياسية. وهذا يتطلب في اعتقادي أن نبدأ من:
أولا: تشريع قانون جديد للانتخابات يعتمد على القائمة المفتوحة الواحدة للعراق كدائرة واحدة. وعدم تقسيم العراق الى محافظات. والذين يطالبون بقوائم للمحافظات بحجة ان ممثلي المحافظة هم أدرى بمشاكل محافظتهم ومواطني المحافظة هم أعرف بأبنائهم المرشحين! أقول لهم لقد جربتم انتخاب (أبناؤكم) من نفس المحافظة فما الذي قدموه لكم خلال هذه السنوات غير النهب وسوء الخدمات وتدهور متزايد ومتواصل في التعليم وخدمات الصحة والبلدية وغيرها، وتعيين أقاربهم ومعارفهم!؟ بينما القائمة المفتوحة لكل العراق يمكنكم من خلالها اختيار الوطنيين والنزيهين والأكفاء ممن شهد لهم تاريخهم على مدى عقود. انتخاب وطني نزيه وكفوء خير من انتخاب طائفي او قومي فاسد وجاهل. ليكن هذا شعاركم وهو مفتاح وخطوة أولى نحو الإصلاح الفعلي!
ثانيا: إعادة تشكيل مفوضية الانتخابات بإشراف أممي، وبمنافسات علنية وطرح تاريخ المرشحين علنا وفي الصحافة ووسائل الاعلام قبل أن يبت بهم مجلس النواب، وإبعاد جميع الشخصيات التي تشوب حولها شبهات الفساد من اي تشكيل جديد. والتحقيق الجاد والشفاف في جميع شبهات الفساد التي رافقت المفوضيات خلال عملها.
ثالثا: إعادة تشكيل مجلس القضاء الأعلى والمحكمة ألاتحادية، واختيار قضاة نزيهين مشهود لهم بالمواقف القضائية العادلة والجريئة البعيدة عن المساومات السياسية ... وإبعادهم عن المشاركة بأي نشاط سياسي أو صراع سياسي إلا بما يقتضيه عملهم المهني. وإعادة النظر بقوانين مجلس القضاء والمحكمة الاتحادية بما يخدم عملية الاصلاح الفعلي ومكافحة الفساد في المؤسسة. كما يجب إعادة النظر بالقضاة الذين طرؤوا على سلك القضاة من خلال معاهد غير مختصة بتخريج قضاة منحازين وطائفيين تنقصهم الخبرة والنزاهة كما هو الحال بالدورات (الخاصة بالقضاة) التي أنشأها عرابي الفساد المالكي ومدحت المحمود، وبذلك خرجوا العشرات ممن يسمون قضاة ليكونوا ادوات قذرة في محاكمة الخصوم السياسيين.
رابعا: إذا تمت الاصلاحات أعلاه بعدها يمكننا الحديث عن إجراء انتخابات جديدة لمجلس النواب وباشرف أممي فعال لا روتيني. وهذا يتطلب سن قانون لتنظيم عملية الانتخابات والدعاية واحترام حقوق الشعب في أن يرى مدنه خالية من عشوائية الدعايات والتشويه الذي تعود عليه في الملصقات. وعدم استعمال الرموز الدينية والطائفية في الدعاية، وليكن الهدف وطنيا مجردا من كل التسميات الغوغائية التي مورست لخداع البسطاء. فمهمة الدولة هي حماية البسطاء من اساليب الاحتيال والخداع والضرب على العواطف المذهبية والدينية.
هذه النقاط هي أهم الخطوات في الإصلاح الحقيقي، لا الاصلاح الذي يدعو له رئيس مجلس الوزراء ووزراءه الموقرون، ورئيس مجلس النواب ونوابه (المعتصمون والصامدون) وكذلك يدعو له رئيس الجمهورية، اصلاحهم الذي ينشدونه هو فقط لتقوية مراكزهم والصمود على كراسيهم وحماية الفاسدين في كتلهم. لتكن الخطوة الاولى هي التغيير الوزاري وهي الامتحان الاخير لجدية العبادي في الاصلاح، ولكن هذا التغيير لا يعفي رئيس الوزراء ووزراءه ومجلس النواب ورئيس الجمهورية من إجراء الخطوات الضرورية الأربعة التي أشرت اليها أعلاه، إضافة لإجراءات اخرى مهمة كمكافحة الفساد والفاسدين في المؤسسات (بعد اصلاح القضاء)، لأن اي محاكمات للفاسدين في ظل مؤسسة قضائية فاسدة ويشوبها الفساد وعدم النزاهة، سيحصل الفاسدون منها على براءة ذمة وشهادة شرف مزيفة، وتضيع اموالنا المنهوبة!
وأيضا يتطلب إعادة النظر بهيكلة -الجيش والمؤسسة الأمنية والمخابراتية- وبالرتب التي منحها القائد الضرورة (المالكي) بصورة طائفية مقززة، مما جعل هذه المؤسسات مرتع للفضائيين والفاسدين والفاشلين، وأصبحت حكرا على (الشيعة والسنة والاكراد) وخلت لأول مرة في العراق هذه المؤسسات الوطنية من الصابئة والمسيحيين والأزيدية والقوى العلمانية ذات التوجه المدني الديمقراطي! أما الرتب التي تم منحها فكان يراد منها شراء الذمم وتشكيل مؤسسات فاشلة يتحكم بها فاسدون لتنفيذ مشاريعهم القذرة. وقد حصدنا نتائج هذا الفشل بسقوط مدننا وبالعقود الفاسدة والمتواصلة ...! وهذا يتطلب من بناء مؤسسات عسكرية وأمنية ومخابراتية مهنية ووطنية بكل ما تعنيه المهنية والوطنية من مفاهيم بعيدا عن الفكر الطائفي والقومي المتشنج. الجميع يلاحظ فشل المؤسسة الأمنية وفسادها بحيث تخلت هذه المؤسسة عن أهم مهامها في حماية القانون والمواطن ومؤسسات الدولة وتركت ذلك تحت رحمة العرف العشائري المتخلف والى مافيات الفساد والمليشيات المارقة. فأصبح الطبيب والقاضي والمهندس والاعلامي والمواطن عرضة للتهديد والخطف والتصفيات من قبل مليشيات أو جهات بحجة العرف العشائري، وضاع الحابل بالنابل!
الاستفادة من خبرات الدول المتقدمة (وخاصة الاوربية) في مكافحة الفساد، وقوانين الضرائب ومتابعة تهريب الاموال، وضبط عمل البنوك والشركات ومتابعة تنقل الاموال وطريقة صرفها، وسن القوانين التي تنظم الحياة الاقتصادية والتجارية للحد من الفساد بكل أشكاله.
القيام بإصلاح اداري يجنب المواطن الروتين القاتل الذي هو أحد آفات الفساد المقصودة والممنهجة، وذلك من أجل سير معاملات المواطنين بانسيابية وحرص، ومحاسبة المسؤولين عن مؤسسات الدولة عن التسيب والإهمال والتسويف في المعاملات. وهذا يتطلب بث الروح الوطنية والشعور بالمسؤولية والتضحية ونكران الذات، بعيدا عن المزايدات بالمشاعر الطائفية والقومية التي جلبت للعراق كل هذا الخراب.
بالتأكيد هناك قضايا كثيرة يمكن إثارتها وكلها تستحق الاهتمام ولكن أرى أن ما أثرته هو بداية الاصلاح الحقيقي والجاد!
محمد علي الشبيبي
لوند/ 24 نيسان 2016



52
المنبر الحر / عبد الواحد كرم
« في: 23:49 22/04/2016  »
عبد الواحد كرم
أمس 21 نيسان مساءً كنت وزوجتي -أم نورس- في زيارة للعم والصديق عبد الواحد كرم (ابو حسام) بمناسبة مغادرته المستشفى بعد وعكة صحية. بعد الاطمئنان على صحته تبادلنا اطراف الحديث عن طفولته وبداية ارتباطه بالعمل الوطني. أحاول ان ادون باختصار اهم ما ذكره.
عبد الواحد كرم (ابو حسام) مزارع ومناضل شيوعي عنيد ومخضرم من مواليد نواحي مدينة العمارة. في أوراقه ثبتت مواليده 1929 بينما هو يؤكد انها غير دقيقة والأصح 1926 أو 1927! انه معذور في عدم دقة التاريخ فهذا من مخلفات تلك السنوات حيث الأمية والتخلف في تسجيل المواليد في حينها مما يسبب مثل هذه الأخطاء. عاش أبو حسام طفولته وترعرع متنقلا بين نواحي وقرى العمارة، هذا ما كانت تتطلبه حياة والده المزارع حيث كان سركالا يمتهن تأجير الاراضي وزراعتها. يتذكر ابو حسام دور عمه في تأثيره عليه منذ الطفولة. كان عمه متحررا أكثر من والده، وكان مرتبطا أو متأثرا بالحزب الوطني الديمقراطي، وكان محب للقراءة فاستفاد من مكتبته ومن هنا جاء حب أبو حسام وولعه الشديد بالقراءة. فالمعروف عن ابي حسام ما أن تتصل به أو تعلمه برغبتك بزيارته (وهو الآن في بداية عقده العاشر) حتى يبادرك طالبا منك أن تجلب له معك ما يتوفر لديك من روايات وقصص وكتب سياسية او تاريخية! ولما أحضرت له كتابا واحدا فقط عاتبني لماذا لم أجلب له أكثر من كتاب! ربما ابو حسام نسي اني أعرته معظم كتبي، ومع هذا وعدته بإعارته من كتبي الاخرى (المتواضعة العدد) بعد إعادة كتابي هذا ...! وهكذا بتأثره بعمه حفظ وتأثر بالكثير من الشعر الوطني للجواهري وصالح بحر العلوم والرصافي وغيرهم، ومازال معجبا بقصيدة صالح بحر العلوم (أين حقي) فقد كان لهذه القصيدة دورا تحريضيا وطنيا وفكريا في تلك السنوات وكانت ممنوعة من التداول!. انهى ابو حسام الابتدائية ولم يتمكن من مواصلة دراسته بسبب ما حدثت من نزاعات (عام 1941) وصراعات عشائرية بسبب خلافات على الاراضي والمياه راح ضحيتها العشرات من القتلى من عشيرته، مما اضطر عائلته لمغادرة قريتهم وترك أراضيهم الزراعية مرغمين.
يواصل ابو حسام حديثه:  في عام 1945-1946 كنت بعمر 20 سنة اتصل بي احد معارفي وحدثني عن حزب التحرر الوطني (بقيادة الشهيد الخالد حسين الشيخ محمد الشبيبي) ومنهاجه الوطني. أعجبني منهاجه الوطني ولكنني توقفت عند موقفه التحرري من المرأة ودورها! فقلت هذا جيد ولكن موقفه من المرأة لا استوعبه ولا ينسجم مع ما تربيت عليه من تقاليد متخلفة تحط من شأن المرأة، كيف لي أن اقتنع بموقف الحزب من المرأة وأنا أحتفظ بخيزرانة خاصة لزوجتي! هكذا أوصتني عمتى حين تزوجت وهي أيضا عمة زوجتي، حيث طلبت مني أن لا اتساهل وأتسامح مع زوجتي وابنة عمي، فكنت أفتعل الأعذار لضربها أو تخويفها. ثم اعتبرت موقف حزب التحرر الوطني من المرأة ثانويا ... فبالنسبة لي الأهم مواقفه الوطنية وخاصة القضايا الاجتماعية والقضية الزراعية بالتحديد فهي تشكل همي الأكبر بعد انتزاع أراضينا من قبل الاقطاع ... واكتشفت حينها أن هناك اجتماعات ولقاءات في الارياف وان هناك حزب شيوعي يناضل من أجل ان تكون الأرض لمن يحرثها ويزرعها ويناضل ضد الاقطاع الذي سلب أراضينا وهجّرنا ... وفي تلك السنوات بدأنا نسمع في المنطقة وبين الفلاحين بتداولون أسم شوعي (أي شيوعي) ... ثم تطورت علاقتي بجماعة حزب التحرر. وبعد رفض إجازة حزب التحرر عام 1946 شاركت في التحرك بين الفلاحين لجمع التواقيع من أجل الضغط على وزير الداخلية (سعد صالح) لإعادة النظر بقرار عدم الموافقة بإجازة الحزب. ولكن استقالة سعد صالح وتشكيل الحكومة برئاسة ارشد العمري أدى الى شن حملة اعتقالات ضد انصار حزب التحرر الوطني وخاصة على الناشطين في حملة التواقيع من أجل اجازة الحزب. وهكذا اعتقلت لأول مرة ولأسباب سياسية، ونقلت مع بعض زملائي الى مركز شرطة العمارة. كان التضامن معنا كبيرا، فكانت تصلنا يوميا موائد الطعام وأنواع الفواكه والسكائر حتى كان الطعام كافيا لجميع المعتقلين الجنائيين الذين كنا نشركهم بطعامنا. ووصلت من بغداد الى العمارة مجموعة من المحامين الوطنيين للدفاع عنا حتى تكلل جهدهم بإطلاق سراحنا بعد شهر من اعتقالنا.
وتختلط التواريخ والأحداث على ابي حسام، وأحيانا تخونه الذاكرة فيسحب دفتر صغير سجل فيه بعض الأسماء والتواريخ عله يجد بين صفحاته ما ضاع في ثنايا ذاكرته ... وتدث عن انتفاضة آل أزيرج عام 1952 وكيف تحرك هو ورفاقه بتوجيه من الحزب في تقديم المذكرات ومقابلة المسؤولين كرئيس الوزراء أرشد العمري من أجل مطالبهم المشروعة، والتحرك لمقابلة الشخصيات الوطنية مثل كامل الجادرجي ومحمد مهدي الجواهري اللذان نشرا مذكراتهم، ولما ارادوا العودة لقراهم وهم فخورون بنشر مذكرتهم التي نشرها الجواهري لم ينجحوا في الحصول على الصحيفة لنفاذها فطلب لهم الجواهري من احد شغيلته فجلب لهم 15 عددا.
ويقفز ابو حسام في ذكرياته ليتحدث عن اعتقاله أثر انقلاب 8 شباط 1963 الدموي وكيف تنقل بين سجن نقرة السلمان والحلة، وفي الحلة لم يسعفه الحظ في الهرب من النفق الذي حفره رفاقه حيث تم اكتشاف النفق عندما جاءه الدور للهرب ... وبقى في السجون العارفية يتنقل من سجن الحلة الى الرمادي ثم بعقوبة حتى اطلاق سراحه عام 1968 حيث انهى فترة حكمه.
وحدثني ابو حسام عن عائلته وزوجته وأبنائه وكيف أضطر الى مغادرة الوطن عام 1979 بعد الهجمة الشرسة على الحزب وجماهيره وعاش منذ ذلك العام متنقلا في المنافي بعيدا عن عائلته الى أن أستقر به الحال في السويد. وكيف غامر بالذهاب الى كردستان أيام الطاغية للقاء عائلته ونجح في ذلك ... ويتحدث بمرارة عن التخلف والردة والإحباط الذي أصاب البعض في داخل العراق بسبب الحروب وسياسة الحصار والدكتاتورية المقيتة التي سيطرت على المجتمع العراقي وانتشار الأفكار الغيبية المتخلفة. ولم يخلُ حديثه للتطرق عن بعض خصوصياته العائلية ..... يقول بفخر واعتزاز أن أبناؤئه وأحفاده يصل عددهم الى السبعين فردا وهو في تواصل مستمر معهم. ورغم شيخوخته ووحدته فهو ما أن يلقاك حتى يلح عليك باستضافتك للغداء فالجميع هنا يعرفون كرمه هذا. في السنوات الأخيرة أثرت عليه أمراض التقدم بالسن أكثر وأصبح خروجه من البيت نادرا ولكن رفاقه وأصدقائه لم يتخلوا عنه بزيارته والسؤال عنه وتقديم المساعدة له. وهو مازال كثير التدخين وفي احدى المرات (واثناء رقوده في المستشفى) عثرت عليه الممرضة وهو يدخن في الحمام خلسة! فهو يعرف ان التدخين ممنوع في الردهات وفي المستشفى عامة، فجرب التدخين في الحمام معتقدا ان غلق الباب سوف يساعده في عدم كشف سره! لكن جهاز التنبيه الموجود في الحمام نبه العاملين واكتشفوا تلبسه (بجريمة) التدخين خفية، فحذروه من ذلك وهو الان ملتزم بعدم التدخين في المستشفى والله اعلم!
الف تحية للعزيز ابا حسام واتمنى له العمر المديد والصحة والعافية.
محمد علي الشبيبي
لوند 22/4/2016
هذه بعض الصور التقطتها في زيارتي لأبي حسام

53
في طريق الإصلاح والبناء!

سألني أحد الأصدقاء ردا على انتقاداتي لاجتماع الرئاسات الثلاث وتقبل البعض ليكون واسطة (خير) بين المعتصمين والمتظاهرين ورئاسة الدولة! وكأن الرئاسات الثلاث لا تعرف ما هي مطالب الشعب المتظاهر والصامت منه، أو ان هذه الرئاسات لا تعرف أن الفساد موجود في عقر دارها وربما (وأنا لا أزكيها لأنها لم تعالجه) هي مساهمة فيه! سألني الصديق:
ماذا يمكنك أن تفعل في الاجتماع وأنت محاط بشلة معظمهم يحوم حولهم الفساد!؟
فأجبته بكل بساطة مستفيدا من تجربتي السياسية المتواضعة: لو سنحت لي فرصة الحضور، لذهبت للاجتماع لمكاشفة الرئاسات بمسؤليتها في تردي الاوضاع ... وأضع أمامهم خطة طريق واضحة مختصرة تضع أي حكومة قادمة على السكة الصحيحة لبدء عملية الاصلاح ...!
سألني: وضح ماذا تقصد بمكاشفة الرئاسات وخطة الطريق؟
أجبته موضحا: المكاشفة تقتضي أن أكون مستوعبا جيدا لما يجري في العراق من تحرك شعبي وأسبابه وحقائقه، وأن أكون على إطلاع دقيق بكل الممارسات والتجاوزات (حكومية، كتل، مليشيات، أحزاب) في إدارة الدولة ومؤسساتها وما رافقها من أخطاء وفساد مالي وإداري ... أن أكون صريحا وشجاعا في طرح كل هذه على الطاولة، وأحدد مسؤوليات الجميع وخاصة السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية ... أن أذهب وأنا أحمل معي ملفات الفساد التي تم نشرها وتداولها، بدءا من صفقات الأسلحة، بيع املاك الدولة والقصور الرئاسية، المحاولات المبرمجة لتدمير ما تبقى من صناعة، عقود النفط التي يشوبها شبهات الفساد، الرتب العسكرية التي تباع بالملايين أو مقابل شراء الذمم وخلو الجيش من الطوائف الأخرى، ضياع المليارات دون جدوى ودون محاسبة أو تحقيق جدي، سقوط بعض المدن العراقية بأيدي داعش دون أن نسمع بمحاكمة للقيادات العسكرية والمدنية المسؤولة عن ذلك، ثم دور المؤسسة القضائية وفشلها في متابعة ملفات الفساد وتسويفها والتستر عليها أو استعمالها لإسكات المعارضين ... وووو .....الخ ثم أوجه سؤال لرئيس السلطة التنفيذية، ليعطيني معلومة واحدة عما أنجزه في ملاحقة كبار الفاسدين بدءا من نوري المالكي (لأنه المسؤول الأول في الدولة) الى وزرائه خلال فترتيه ... هل نجح العبادي في سحب عقارات الدولة التي يسيطر عليها حزبه والاحزاب الاخرى؟ هل تمكن من إعادة الاموال المنهوبة؟ ما الذي فعله من أجل تحسين الخدمات؟ ما الذي يمنعه في إجراء بعض اصلاحاته (مثل تعيين مسؤولين ثابتين جدد للهيئات المستقلة)!؟ تساؤلات كثيرة يمكن طرحها باعتبارها رأي الجماهير المتظاهرة ...
أما ما الذي أقصده بخطة الطريق، إنها الخطة التي ترسم طريقا واضحا لنقل العراق من حكومات محاصصة طائفية/أثنية الى حكومة وطنية للإصلاح والبناء ... وهذا يتطلب وحسب رأيي المتواضع:
1- ان يعلن رئيس الوزراء وكل كابينته استقلاليتهم وعدم انتمائهم لأي حزب أو تكتل طائفي أو مليشياوي. وهذا لا يعني أبدا ابقاء الكابينة الوزارية حتى وأن أعلنوا استقلاليتهم.
2- أن يفعّل ملفات الفساد (المالية، العقارية، الرواتب والمخصصات، عقود النفط والاسلحة وغيرها) ويتقدمها ملف سقوط الموصل، في محاكمات عادلة وجريئة وعلنية متلفزة ... والعلنية هذه لغرض الشفافية وإثبات عدالة واستقلالية القضاء (الذي فقد بعضه سمعته في الاستقلالية والنزاهة) والجدية في المحاسبة. لأن كل هذه (ملفات الفساد وسقوط الموصل) يمكن أن تدخل في قضية خيانة الوطن وهذه جريمة كبرى.
3- انجاز قانون خاص يأخذ بنظر الاعتبار أساليب مافيات الفساد في السرقة والنهب من أجل العمل على الحد من الفساد ومحاصرته وسهولة كشفه.
4- تكليف لجان دولية وبمشاركة عراقية وبعيدا عن كل الكتل والاحزاب التي شاركت في السلطة من اجل التحقق من قانونية وشفافية وحرص البنك المركزي في رسم السياسة النقدية والمحافظة على النقد وأحتياطه، والتحقيق في مسؤولية البنك في تبيض العملة وبيع ملايين الدولارات دون جدوى وطنية واقتصادية لا بل العكس هو ما يحدث. وتشكيل لجان مشابهة لمتابعة ملفات الفساد والأموال المنهوبة والمهربة.
5- أن تتم استعادت كل العقارات التي تشغلها الاحزاب والكتل السياسية والمليشيات.
6- أن يتم تعيين وزراء تكنوقراط مستقلين ونزيهين. ولا يكفي تعيين وزراء تكنوقراط، وإنما يتطلب ذلك ان يكون الوزير تكنوقراط له تجربته الواضحة عراقيا وعالميا (لا مشفوعا بشهادات من سوق مريدي أو دراسات عبثية لا تنفع الى للروزخونية) وان يتم التحقق عالميا من صحة المعلومات التي يقدمها، وأن يقدم مع سيرته الذاتية كشف ذمة لممتلكاته العقارية والبنكية قبل ان يتم تعيينه. وأن يكون معروفا بالنزاهة وبالتاريخ النظيف. وبالقدرة الادارية.
7- على مجلس النواب أو رئيس الوزراء أن يقوم بعرض المشاريع والقوانين المهمة التي تمس حياة الشعب (القوانين السياسية، الاقتصادية، الحقوقية، العسكرية ....الخ) ان يتم عرضها على الصحافة والأحزاب السياسية لتأخذ مدى كافيا للمناقشة من أجل تطويرها وإخراجها بصورة أفضل لما فيها خدمة للقضية الوطنية.
8- تعديل قانون الانتخابات ليكون أكثر عدلا في تحديد الفائزين.
هذه نقاط متواضعة وربما وحدها لا تكفي ولكنها ضرورية ليثبت من خلال الالتزام بها والعمل بموجبها جدية رئيس الوزراء (في نقل العراق نقلة نوعية في طريق الاصلاح والبناء)، وهذا ينطبق على السلطة التشريعية التي تسند عمله من خلال تشريع القوانين والسلطة القضائية التي تؤكد على الجدية في مكافحة الفساد وإعادة حقوق الشعب.
في اعتقادي بدون هذه الخطوات يبقى الحديث والإجراءات التي تدعي الاصلاح هي عبثية وتسويفية، وعلى المتظاهرين والمعتصمين أن يستوعبوا هذه الحقائق وأن يبلوروا خطة طريق موحدة لتكن مرشدا لهم في النضال من أجل الاصلاح والبناء.
محمد علي الشبيبي
السويد 22 آذار 2016
alshibiby45@hotmail:com
   

54

نداء للمتخصصين، حول سلم الرواتب!؟؟
تحياتي
أنا لست متخصصا، ولكن ما أطلعت عليه من نسبة مخصصات ستكون للمسؤولين الكبار حصة الأسد فيها فهي إجحاف بحق الطبقات الفقير والموظفين ... أن قانون سلم الرواتب ظاهره تقليل الفرق بين الرواتب وباطنه شرعنة للفساد وهدر المال العام!؟ آمل أن يتناول الموضوع المتخصصون وكشف أساليب الفساد في مضامينه
كتبت التعليق التالي على الفيس بوك
 
سلم الرواتب الجديد ... هل هو تشريع آخر للفساد ولإستغلال أموال الشعب وهدرها!؟
من يستلم أعلى راتب (8 مليون) وكما محدد في القانون ليس بحاجة الى ان تكون نسبة مخصصاته 150% أي ان المخصصات وحدها ستصل الى (12 مليون!!!) وحينها يكون الراتب الكلي مع المخصصات (20 مليون!)، لا أعتقد من يستلم راتب مقداره (8 مليون) بحاجة الى مخصصات تصل الى (12 مليون). كان الأحرى التلاعب بالرواتب أي رفع الراتب الأدنى وتخفيض الراتب الأعلى، وأما المخصصات يجب أن تحدد نسبتها (150%) ولكن بشرط أن لا تزيد عن (2 مليون)، وبهذا التحديد نكون قد ساهمنا بقسط بسيط من أجل العدالة الاجتماعية وتقليل الفرق بالرواتب، وبذلك يصبح أعلى راتب مع المخصصات (10 مليون)، بينما حسب القانون الجديد فأعلى راتب مع المخصصات يصل الى (20 مليون)!! لقد افتقدت الحكومات السابقة والحالية للشفافية وهي بهذه السياسة تحاول أستغفال الشعب وقواه السياسية التي تحرك الشارع اليوم مطالبة بالاصلاح.... هذه وجهة نظر وسبق أن وجهت أكثر من نداء طالبت المتخصصين (في النفط، الاقتصاد، الادارة، الزراعة ....) بتقديم مشاريع قوانين للاصلاح وعرضها على القوى السياسية الجادة لتكون بديلا عن قوانين برلمان وحكومة ينخر فيها الفساد .... الفاسدون لن يصلحوا الوضع بل يحاولوا إضفاء الشرعية على فسادهم!؟
 
محمد علي الشبيبي
رجاء افتح الرابط وفيه
تحديد للراتب والمخصصات
http://www.qoraish.com/qoraish/2015/10/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%B9%D9%86-%D8%A3%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9/


55
انقلاب 8 شباط 1963 الدامي/ في سجون سلطة الأخوين عارف/11
لابد من الإشارة وتوضيح لبعض الاصدقاء من القراء، أن هذه الحلقات هي جزء من كتابي (ذكريات الزمن القاسي) الذي تم طبعه عام 2009 مع بعض التنقيح للأخطاء والإضافات الفنية الضرورية.
سجن نقرة السلمان/2
قطار الموت احدى صفحات البعث السوداء!

كتب الكثير عن قطار الموت، ولابد هنا من الإشارة ولو باختصار شديد إلى هذه الجريمة التي اقترفها البعثيون وشركاؤهم من القوميين فجر 4 تموز 1963، وقد عشت عن قرب مع ركاب القطار أثناء وجودي في سجن نقرة السلمان، ولكن للأسف لم يتم تدوين تفاصيل هذه الملحمة البطولية في حينها للتوثيق التاريخي. عندما حدثت انتفاضة الشهيد حسن سريع فجر 3 تموز 1963 في معسكر الرشيد، كان من أحد أول خططها المهمة أطلاق سراح الضباط المعتقلين في سجن رقم واحد في معسكر الرشيد. وفعلا كانت هناك محاولة من الجنود المنتفضين لإطلاق سراح الضباط ولكنهم فشلوا. مع العلم ان التخطيط للانتفاضة لم يكن فيه للضباط المعتقلين أي دور أو مساهمة أو علم بالانتفاضة او بمخطط الشهيد حسن سريع ورفاقه للقيام بانتفاضتهم الباسلة.
بعد فشل الانتفاضة انتبه قادة الانقلاب الى خطورة وجود مثل هذه القيادات والرتب العسكرية في معتقل سجن رقم واحد. وبعد سويعات من فشل الانتفاضة عقد ما يسمى (المجلس الوطني لقيادة الثورة)(1) اجتماعا في مقر وزارة الدفاع. تدارس أعضاء المجلس الوطني لقيادة الثورة، وكانوا هم قادة السلطة الفعلية، كيفية التخلص من الضباط الديمقراطيين و الشيوعيين وأصدقائهم. كان جو الاجتماع مشحونا بالحقد ورح الانتقام البربري، فاختلفوا على عدد الضباط الذين يجب التخلص منهم وإعدامهم -كما روى بعض القادة البعثيون في مذكراتهم- . وفي الاجتماع كان عبد السلام عارف رئيس الجمهورية "قومي وإسلامي التوجه" أول المبادرين بضرورة الانتقام العشوائي، ويسانده كل من أحمد حسن البكر وصالح مهدي عماش "من القيادات البعثية" وعبد الغني الراوي "اسلامي قومي"، وآخرين عسكريين ومدنيين من القيادة القطرية لحزب البعث، حسب إدعاء هاني الفكيكي في مذكراته "أوكار الهزيمة" ومعظم مذكرات القيادات البعثية. وفي هذا الاجتماع اقترحوا اعدام جميع الضباط والمدنيين المعتقلين الموجودين في سجن رقم واحد، ويقدر عددهم أكثر من 1200 معتقل. وبعد ساعات من الاجتماع الأول انعقد اجتماع ثاني في مقر وزارة الدفاع أيضا، وكانت الخلافات متواصلة بين المجتمعين حول عدد وكيفية التخلص من المعتقلين!.
كان الاختلاف في المجلس الوطني لقيادة الثورة حول عدد الضباط الذين يجب اعدامهم لا لموقف إنساني، فالاعدام العشوائي بطبيعته لا علاقة له بأي مشاعر إنسانية أو حقوق إنسان، وإنما لقناعة بعضهم وخوفهم من ردة فعل عراقية وعربية وعالمية على هذه المجزرة البربرية. أما ان يكتب الفكيكي في مذكراته "أوكار الهزيمة" محاولا إعطاء هذا الخلاف حول عدد الضباط الذين يجب اعدامهم أو رحلة قطار الموت جانب إنساني، فهذا تدحضه جرائم البعث على مدى تاريخ تسلطه في الحكم. ونسي الفكيكي إن التصفيات الجسدية تحت التعذيب الوحشي التي مارسوها على قيادات وكوادر الحزب الشيوعي كانت دائما بإشراف قيادات وكوادر بعثية أمثال علي صالح السعدي، سعدون شاكر، حازم جواد، منذر الونداوي، محسن الشيخ راضي، نجاد الصافي، بهاء حسين شبيب، هاشم قدوري، عمار علوش ... والقائمة تطول!. هذه أسماء بعثية شاركت في التعذيب والقتل البربري في قصر النهاية. فرغبة القتل والانتقام كانت صفة انقلابيي 8 شباط بكل توجهاتهم (بعثية أو قومية أو إسلامية).
في صحوة ضمير مشوهة وتبريرية تنقصها الشجاعة لبعض القيادات البعثية (طالب شبيب، الفكيكي) حاولوا تبرئة أنفسهم من جريمة الرغبة في تصفية الضباط، وحاولوا توجيه الأتهام بذلك لتعطش عبد السلام عارف وعبد الغني الراوي والبكر للقتل والإنتقام. وتناسوا أن المجلس الوطني لقيادة الثورة -الذي أصبح أعلى سلطة في الدولة- تم تشكيله من 18 عضوا منهم 15 عضوا من حزب البعث. أما مجلس الوزراء(2) فتكون من 20 وزيرا بينهم 13 وزيرا بعثيا، فكيف والحال هذه يحاولون تبرئة أنفسهم والتنصل من جرائم حكومة انقلاب 8 شباط 1963!؟. ويتحدثون في مذكراتهم "هاني الفكيكي ورفاقه" كيف أن عبد الغني الراوي وانطلاقا من إيمانه الديني (كمسلم مؤمن) أستحصل على فتاوى من علماء شيعة وسنة، تبيح له قتل الشيوعيين ومصادرة أملاكهم. وفي حوار أجراه غسان شربل في جريدة الحياة مع عبد الغني الراوي في تموز 2003 باربع حلقات، يسأله: يقال كنت عدوا للشيوعيين وانك قتلت العديد منهم فهل أنت نادم؟. يجيب عبد الغني الراوي: نعم انا عدو الشيوعيين ولم أكن بعثيا في أي يوم. أنا عربي مسلم. حصلت على فتاوى من رجال الدين الشيعة والسنة تجيز قتل الشيوعيين. الفتوى التي حصلت عليها من العلماء الشيعة تعتبرهم مرتدين وجزاء المرتد القتل. لست نادما على ما فعلته بهم(3). وحول هذا الموضوع يذكر هاني الفكيكي في كتابه (أوكار الهزيمة) صفحة 279: ... وفجأة اندفع الى داخل قاعة الاجتماع -يقصد اجتماع المجلس الوطني ...- العميد عبد الغني الراوي وقدم الى عارف وريقات ما ان اطلع عليها حتى هتف: ماذا تريدون اكثر من ذلك؟ .... وواصل عارف: هاهم الشيخ قاسم القيسي والمفتي نجم الدين الواعظ والسيد محسن الحكيم قد افتوا بجواز قتل الشيوعيين. فماذا تنتظرون بعد؟ ويواصل الفكيكي في كتابه في الصفحة 280: أن عبد الغني الراوي رفض طلب عبد السلام عارف باعدام 150 ضابطا شيوعيا بسبب قلة العدد وتواضعه.
توجهات عبد الغني الراوي لأستحصال الفتاوى بقتل الشيوعيين، وتقبل وارتياح عبد السلام عارف وغيره لهذه الفتاوى، أضف الى ذلك الحقد الدفين بسبب الخلافات السياسية ومحاولة التعكز على الشريعة في جرائمهم، كان ذلك بادرة خطيرة في زج الدين لحسم الخلافات السياسية وإعطائها صبغة دينة أو مذهبية، وإظهارها وكأنها موقفا شرعيا يستند على السنة والقرآن. إنها وصمة عار في تاريخ القادة السياسيين الانقلابيين ومن وقف متعاطفا أو متحمسا معهم أو أفتى في تلك التصفيات البربرية. ومما يعطي مصداقية لإدعاء عبد الغني الراوي هو الصمت المطبق من قبل المؤسسات الدينية والمراجع وعدم استنكارها لجرائم الانقلابين من تعذيب وقتل وانتهاك الاعراض، لا بل أن بعضهم بعث ببرقيات التهنئة!. وليت تلك القوى ان تستذكر تلك الأحداث المريرة وما تركته في تاريخ العراق من صفحات دامية سوداء وتتجنب زج الشرع في عمليات ذبح وقتل وسبي مدمرة كما يحدث اليوم في عراقنا الحبيب. 
ويذكر الباحث رشيد خيون في مقالة منشورة(4) الى سعييه لمعرفة حقيقة وصحة تلك الفتاوى، مع العلم ان هذه الفتاوى لم يتم نفيها من أية جهة، فيكتب: ( ... سعيت إلى التَّثبت مما حدث كي أضعها تجربةً قاسيةَ أمام الأجيال، وأمام السياسيين العِراقيين في الوقت الحاضر، وهم يبحرون بسفينتنا بعيداً عن الشَّواطئ الآمنة، وسط الأمواج العاتية، يمرون بها على طُرق القراصنة، ومِن بينهم مَن هو قرصان للأسف.... ويتابع الباحث رشيد خيون في نفس المقالة، فيكتب: اتصلت بمكتب الشَّيخ العلواني (طه جابر العلواني)، وكان بأميركا، فأكد ما حصل عندما أتاه الراوي -عبد الغني- قُبيل تنفيذ الحُكم بخمسة ساعات ونهاه عن تنفيذه، لأن الفتاوى سياسية لا دينية، وأرسل لي مشكوراً كتابه الذي ذكر فيه الحادثة بتفاصيلها "لا إكراه في الدِّين إشكالية الرَّدة والمرتدين مِن صدر الإسلام إلى اليوم" (الشروق، الطبعة الأولى 2003). كان ذلك الحدث دافعه إلى تأليف هذا الكتاب).
بعد كل هذا الأخذ والرد والمداولات في المجلس الوطني لقيادة الثورة اتفقوا على نقل المعتقلين الى نقرة السلمان، لتلاحقهم بعد ذلك الى النقرة محكمة عسكرية يترأسها العروبي ذو التوجه الإسلامي عبد الغني الراوي، لإصدار أحكام إعدام بحق عدد من الضباط والمدنيين يتم انتقاءهم من بين المعتقلين، ووصل العدد الى أكثر من 500 معتقلا من معتقلي سجن رقم واحد، وبذلك يكونوا قد أشفوا غليلهم في رغبة القتل والانتقام. وشمل العدد ضباطا من مختلف المراتب والأصناف والاختصاصات (قادة عسكريين، مهندسين وأطباء وصيادلة) وحتى شخصيات وطنية وكوادر علمية مدنية! وتم اختيار هؤلاء المعتقلين من قبل ما يسمى المجلس الوطني لقيادة الثورة -ذو الأكثرية البعثة المطبقة-. واقترحوا نقلهم الى السماوة بقطار حمولة البضائع وفي العربات الحديدية، ليتخلصوا من بعضهم خنقا وعطشا من شدة ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأوكسجين وفقدان أملاح وسوائل الجسم، خلال سفرة القطار التي خطط لها لتكون أطول ما يكون (بحدود 10 ساعات). أما من يصمد من المعتقلين خلال رحلة الموت هذه فسوف لن ينجُ من حكم الاعدام الذي سيصدره المتعطش للقتل عبد الغني الراوي، حيث سيلاحقهم بمحكمته الى سجن نقرة السلمان. ولكن هذه المحاكمة كما خططوا لها لم تحدث لرفض عبد الغني الراوي لقلة العدد (150 ضابطا، كما ذكر الفكيكي وغيره) الذي تقرر اعدامهم! لذلك اكتفوا موقتا بنقلهم الى سجن نقرة السلمان بقطار حمولة البضائع.
أطلق على القطار تسمية (قطار الموت) لان سلطة 8 شباط الفاشية كما هو واضح كانت تهدف من عملية النقل هذه القضاء على حياة هؤلاء المناضلين. بعد أن جربوا أساليب مختلفة وبشعة من القتل تحت التعذيب الوحشي، أو الإعدام. هذه المرة أرادوا أن يجربوا القتل الجماعي بقطار الموت، ليحولوا عربات "15 عربة حديدية" القطار الى تابوت أو فرن متنقل يغلي بالمعتقلين لساعات تحت أشعة شمس تموز الحارقة، وإظهار جريمة هذا الموت الجماعي وكأنها بريئة وغير مقصودة!.
خطط قادة انقلاب 8 شباط بطريقة سادية لم يفكر بها حتى هتلر، لتنفيذ جريمتهم لتصفية أكثر من 500 عسكري من مختلف المراتب وشخصيات مدنية سياسية لها مكانتها الاجتماعية والوطنية والعلمية. فأسعفهم فكرهم السادي ورغبتهم الغير محدودة للقتل بنقل المعتقلين سرا تحت جنح الظلام لإخفاء جريمتهم البشعة، بقطار الحمولة الحديدي البطيء وتحت أشعة شمس تموز الحارقة، والتي تتجاوز 50 درجة مئوية في الظل وفي الفضاء المفتوح. وليتصور القارئ الكريم كيف سيكون حال هذه العربات الحديدية التي لا تتوفر فيها مطلقا نوافذ التهوية، وهي تسير ببطء تحت أشعة الشمس الحارقة ولمدة تتجاوز 10 ساعات! هكذا خططوا لرحلة الموت الجماعي!
 اشرف على تنفيذ هذه الجريمة النكراء كل من رئيس الجمهورية عبد السلام عارف، ورئيس أركان الجيش طاهر يحيى، والحاكم العسكري العام رشيد مصلح، وبمشاركة قيادات بعثية مدنية وعسكرية أخرى كانت حاضرة في محطة بغداد العالمية. حُشِر هؤلاء المناضلون في 15 عربة قطار حديدية خاصة لنقل البضائع، وربما لا تصلح حتى لنقل المواشي لمسافات طويلة! وكانت هذه العربات الحديدية تخلو من العازل الحراري والكراسي والنوافذ، وجدرانها من الداخل مطلية بالقار. ولا يوجد فيها أي منفذ للهواء أو النور ماعدا بعض الثقوب الصغيرة جدا والنادرة بين بعض مفاصل العربة. وتم إغلاق أبواب العربات وقفلها على المناضلين البواسل، وبقوا داخل العربات عدة ساعات قبل أن ينطلق القطار في صباح 4 تموز حوالي السابعة صباحا. وطلب المسؤولون القتلة من سائق القطار (عبد عباس المفرجي) أن يسير ببطء للحفاظ على البضاعة!؟ خافين عن سائق القطار حقيقة حمولته بعد أن جاؤوا به من البيت فجرا! الفاشيون خططوا لجريمتهم بأن القطار سيقطع المسافة -290 كلم- بين بغداد والسماوة بعشر ساعات حسب توجيهاتهم للسائق، وهي كافية للقضاء على من في العربات لشدة الحر والعطش، لأن هذه العربات (15 عربة) وتحت تأثير أشعة الشمس التموزية ستتحول الى فرن حراري يشوي أجساد المعتقلين!
كانت العملية مخططة من قبل مجرمين متعطشين للدماء واسترخصوا حياة المواطنين، مستغلين ما ستسببه أشعة شمس تموز الحارقة لتحويل العربات إلى فرن يغلي بأجساد المعتقلين ليتحول الى قبر جماعي. لكن بعض الشرفاء والطيبين من عمال السكك، والذين عرفوا بتعاطفهم مع الحزب الشيوعي وبغضهم الذي تضاعف لحزب البعث بسبب ممارساته الدموية، ساهموا في كشف سر حمولة القطار، حيث نجح احدهم، وبعد ان قطع القطار 140 كلم وأثناء توقفه في احدى المحطات، أن يخبر سائق القطار بحقيقة حمولته. وقد روى سائق القطار عبد عباس المفرجي لنجليه (الصحفيين مظهر، وعلاء) كيف تم استدعائه فجر 4 تموز وكيف وصله خبر حقيقة الحمولة، حيث ذكر لهم: (ان شابا في الثلاثين من عمره صعد اليّ أثناء توقفي في المحطة وأخبرني أن حمولتي ليست حديد بل بشر هم من أفضل أبناء شعبنا ومن محبي عبد الكريم قاسم).
 لقد فجع المفرجي لهذا الخبر، ولبشاعة الجريمة التي خطط لها برابرة انقلاب 8 شباط. وتخيل نفسه، وهو دون علم، انه يساهم مع القتلة في إزهاق أرواح مناضلين شرفاء. تخيل هؤلاء المناضلين وهم داخل هذه العربات الحديدية المغلقة بالكامل وبدون منافذ هوائية، وأن أشعة الشمس التموزية التي تتجاوز 70 درجة مئوية في الشمس المباشرة ستقضي عليهم داخل العربات بسبب شدة التعرق وانخفاض نسبة الماء والأملاح في اجسامهم وستؤدي هذه الحالة الى الاختناق والغثيان وهبوط ضغط الدم والإغماء والتقيوء، وضعف التركيز والشعور بالألم الشديد في العضلات عند أي حركة، وعدم القدرة على الوقوف أو المشي. كل هذه العوامل القاسية ستؤدي لا محال الى إنهاء حياة هؤلاء المناضلين، وخاصة أن المسافة المتبقية للوصل لمدينة السماوة 160 كلم أي ستستغرق بحدود 5-6 ساعات إذا ما التزم بالتوجيهات التي اُمر بها! أما المعتقلون فقد بدأوا رحلتهم الغامضة من بغداد بأناشيدهم الثورية، وتعليقاتهم ونكاتهم على بعض الاحداث، وتبادلوا قصص ونوادر اطفالهم وعوائلهم، وتذكروا رفاقهم وخاصة الشهداء منهم وبطولاتهم. ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلا، فقد انهكتهم حرارة الجو واستنزفت قواهم، فأسلموا وضعهم الى القدر بعد أن فقدوا ما اكتنزته أجسادهم من سوائل وأملاح، ولم يعودوا قادرين على التركيز والتفكير وأصبح الموت قاب قوسين منهم. وأصدر الاطباء والصيادلة المتواجدين بينهم توجيهاتهم الى ضرورة عدم خلع ملابسهم للمحافظة على الطاقة وحرارة أجسادهم، كما نصحوهم بلعق العرق المتصبب من أجسادهم ليحافظوا على جزء بسيط من السوائل والأملاح علهم ينقذون حياتهم من رحلة موت خطط لها بجبن وخبث. كان البعض يحاول أن يوهم نفسه بأخذ أنفاسا من الثقوب الصغيرة، ولكن هذه الحال لم تستمر طويلا فقد فقدوا قواهم وقدرتهم على التحرك والتركيز، والبعض راح في شبه غيبوبة ...!
وهم في هذه الحال وأثناء توقف القطار سمعوا صوتا خافتا يطمئنهم من خارج المحطة: (اخواني أصبروا، سيأتي الفرج قريبا... سائق القطار لا يعرف حقيقة حمولته، وقد عرف الان وسيصل بكم الى السماوة بسرعة) ... كان هذا صوت أحد شغيلة المحطة المتعاطفين مع المعتقلين!، انتقل من عربة الى اخرى لينقل الى المعتقلين نفس الرسالة ويطمئنهم!. بعد هذه الساعات الشاقة عرف المعتقلون أنهم متوجهون الى السماوة.
بعد أن تأكد الراحل سائق القطار عبد عباس المفرجي بطبيعة حمولته وأكتشف كذب المسؤولين، وإن هذه الرحلة يراد منها قتل هؤلاء المناضلين بطريقة الموت البطئ.  قرر هذا السائق الشجاع أن يتحدى قرار المسؤولين ومضاعفة سرعة القطار لإنقاذ حياة الضباط المعتقلين، وليكن ما يكن ولن يشارك في جريمة بشعة ولن يتحمل مسؤولية موت وطنيين، فلا إيمانه بالله ولا وطنيته ولا تربيته وأخلاقه تسمح له بالمشاركة برحلة الموت البربرية هذه!. فاعتبر أن حياة هؤلاء السياسيين أمانة في رقبته، متحديا وغير مبال بالعقوبات التي ستصدر بحقه. وهكذا سار بالقطار بسرعة مضاعفة، وشعر المعتقلون بهذا التغيير، حتى أنه تجاوز بعض المحطات الصغيرة بدون توقف!. كما أن خبر قطار الموت وصل الى المحطات التالية، حتى أن بعض المواطنين خرجوا سرا وهم يحملون أسطل -أواني كبيرة-  الماء لرشه على القطار الذي يغلي من شدة وقوة أشعة الشمس لتبريد جدرانه، وهذا ما فعله أهالي الديوانية والمدن التالية! ويروي المفرجي لأبنائه، كان الاهالي يقتربون من العربات ويرشوا جدرانها بالماء المثلج لتبريدها وتخفيف وطأة حرارتها الكاوية، ويحاولون تشجيع المعتقلين على الصمود والتحمل، فطلبت منهم الكف فربما يكتشف الحرس تسرب معلومة حقيقة الحمولة وبذلك ستكون النتيجة كارثية ومعكوسة.  ويروي الراحل عبد عباس المفرجي لنجليه: (في احدى المحطات اقتربت مني امرأة وقبلت يدي في غفلة مني متوسلة قائلة أرجوك أوصلهم بسرعة!).
تساءل البعض، كيف تسرب خبر حقيقة حمولة قطار الموت بالرغم من أن الاجراءات كانت تحت جنح الظلام وفي وقت متأخر ليلا وبسرية تامة، حيث بدأ تجميع المعتقلين لنقلهم للمحطة العالمية في الثانية ليلا. أعتقد فاشيو 8 شباط أن نقل المعتقلين بعد منتصف ليل 3 تموز سيخفي جريمتهم البشعة. فجيء بالمناضلين من ضباط ومراتب وسياسيين من سجن رقم واحد في معسكر الرشيد الى محطة القطار العالمية في بغداد بعد منتصف ليلة 3 تموز، حيث تغط بغداد وشوارعها في سكون وظلمة حالكة والناس يلازمون بيوتهم مبكراً تجنبا لاستفزازات واستهتار عصابات الحرس القومي البعثية السائبة والمنتشرة في الطرقات. إن عمال محطة القطار، والجنود الذين أشرفوا على تقييد أيدي المعتقلين، كان بينهم من يتعاطف مع المعتقلين بحيث كان بعض الجنود يهمس في اذان المعتقلين بكلمات التعاطف والصمود ويعِدوهم انهم سوف لن يوثقوا ايدهم بقوة! فلابد في مثل هذه الأجواء من التعاطف أن يكون بين هؤلاء من يسرب الخبر. كما أن من بين أحد المعتقلين ضابط صيدلاني والده (السيد طالب) من وجهاء السماوة وميسور الحال، وعندما سمع بخبر القطار بادر وأتصل بمعارفه والمتعاطفين من أهالي السماوة لنجدة المعتقلين وإسعافهم بالماء والمواد الغذائية الضرورية لإنقاذ حياتهم.
   وما أن وصل الخبر إلى أهالي السماوة الطيبين حتى خرجوا نساءً ورجالا وشبابا متحدين بشجاعتهم عصابات الحرس القومي السائبة، يحملون معهم المياه والمواد الغذائية لتقديمها للمعتقلين، وتقديم الاسعافات اللازمة لإنقاذهم من موت محقق، وشاركهم في هذه النخوة الإنسانية والوطنية المسافرون والمواطنون المتواجدين حينها في محطة القطار. ولولا توجيهات الدكتور رافد صبحي أديب (أحد ركاب قطار الموت) ورفاقه من أطباء للمسعفين لكانت نتائج إسعافاتهم عكسية، حيث طلب من المسعفين الامتناع عن سقي المعتقلين بالماء البارد وإنما بالماء العادي المركز بالملح لتعويض الجسم عما فقده من أملاح. وهكذا أنقذ سائق القطار وأهالي السماوة المعتقلين من موت محقق ماعدا الرائد يحيى نادر حيث توفى في المستشفى بعد نقله وفي نفس اليوم.
كان الموقف في محطة قطار السماوة يثير التعاطف مع المئات من المعتقلين الذين أنهكهم غليان العربات وهي تسير لساعات تحت أشعة الشمس وهم في داخلها وقد فقدوا الكثير من السوائل والأملاح إضافة لقلة الأوكسجين، فكانوا منهكين وفي حالة يرثى لها، كما أن المواطنون الذين هبوا لمساعدة المعتقلين أو الذين تواجدوا في المحطة من مسافرين استنكروا هذه الطريقة الغير إنسانية والتي تنم عن حقد وكراهية لا يمكن تصورهما. حتى أن بعض أفراد الشرطة والحرس القومي نسوا دورهم الرسمي في الحراسة، حيث فرضت حالة المعتقلين السيئة، واندفاع جماهير السماوة وتعاطفهم الإنساني الغير محدود مع المعتقلين واستنكارهم المعلن لهذا الأسلوب في التعامل مع المعتقلين، جواً إنسانيا فرض نسقه حتى على أفراد الحرس للمساهمة مع بقية المواطنين في المساعدة، ولكن كان هذا الى حين!. فما أن استفاق قائد مفرزة الحرس القومي المتغطرس من فشل خطة قيادته للقضاء على هؤلاء المعتقلين وانتبه الى وجود 500 معتقل سياسي (من ضباط وجنود وسياسيين) ممددين على رصيف المحطة، مع جو التعاطف الجماهيري الغير محدود معهم، واستنكارهم لهذا العمل الوحشي الذي لا يدل إلا على الجبن والحقد الدفين، شعر حينها قائد المفرزة بخطورة الموقف، فطغت عليه أخلاقه والسلوك البعثي المتعطش للقتل والانتقام، ولم يهتم ويراع الحالات الانسانية وحاجة المعتقلين للإسعاف الفوري، فأصدر أوامره المتعسفة بالكف عن مساعدة وإسعاف المعتقلين وكأنه يريد بذلك اتمام الجريمة الجبانة التي خطط لها قادته في بغداد من البعثيين وعروبيين إسلاميين. فتصدى له أحد المعتقلين من الضباط "الملازم الجسور قيس محمد صالح -استشهد في عملية فدائية في فلسطين-"(5) فصفعه بقوة على خده "راشدي" ومؤنبا إياه وأمام الجميع! وساد هرج ومرج في المحطة، واستحسن المواطنون تصرف هذا الضابط الشجاع. فأمر قائد المفرزة الذي أهين من قبل الملازم الشجاع قيس محمد صالح، باستنفار جميع افراد مفرزته من الحرس القومي والشرطة، وأخذوا استعداداتهم للرمي!. وتدخل المواطنون وبعض افراد الحرس لتهدئة الموقف خوفا من انفلات الأمور وعدم سيطرتهم على أكثر من 500 عسكري بينهم ضباط كبار من مختلف الأصناف ومن السهل هروبهم لأن جميعهم نجحوا في حل قيد أياديهم وهم داخل العربات. وأصر قائد المفرزة المهان على تسليم الملازم قيس محمد صالح، فرفض طلبه بقوة من قبل المعتقلين جميعا وقالوا: (سنموت جميعا قبل تسليمه)، وانصاع أخيرا قائد مفرزة الحرس القومي لموقف المعتقلين وضغط الحاضرين من جماهير السماوة البطلة.
وتلافيا للمفاجئات سارعت الجهات الأمنية على ترحيل المعتقلين بأسرع ما يمكن الى سجن نقرة السلمان. وكانت هي الأخرى سفرة متعبة زادتهم إنهاكا، وكأن السلطات كانت تريد الانتقام منهم بعد أن انتصروا على الموت الجماعي الذي خططوا له. واستقبل المعتقلون من قبل زملائهم في سجن النقرة، وقدموا لهم المساعدات المطلوبة وتم توزيعهم على الردهات، وهكذا انتهت رحلة الموت بوصولهم سالمين ولكن منهكين بالرغم من رغبة قادة الانقلاب في القضاء على حياتهم.   
وقد يتساءل البعض عن السبب وراء مبادرة عمال السكك وسائق القطار لإنقاذ حياة الركاب المعتقلين، ويرون أن العملية مجرد صدفة وليس فيها أي دافع سياسي  أو أي حب وتعاطف مع المعتقلين. فأقول لهؤلاء إن تعاطف الشعب مع الحزب الشيوعي والقوى الديمقراطية وعزلة حكام 8 شباط جماهيريا، ومكانة الحزب الشيوعي التاريخية بين عمال السكك هي التي كانت وراء تصرف هؤلاء الشجعان المجهولين من عمال السكك لإفشاء سر حمولة قطار الموت، وسيبقى اسم سائق القطار عبد عباس المفرجي خالدا في قلوب ركاب قطار الموت وفي قلوب كل أبناء الشعب العراقي لتصرفه الشجاع وستذكره الأجيال بفخر واعتزاز، كنموذج للوطني الغيور.
إن سيرة حياة سائق القطار "عبد عباس المفرجي" تؤكد على عدم عفوية تصرفه، بل أن تحديه للتعليمات ووضع حياته ومستقبله في خطر وفي ظل حكم دموي له دليل على وعيه الوطني وتعاطفه مع جماهير الحزب الشيوعي. ويرويا نجليه علاء المفرجي ومظهر المفرجي في أحاديث ومقالات تم نشرها في المواقع والصحافة عن والدهما، انه كان اول سائق قطار عراقي. وأنه من مؤسسي نقابة السكك في العام 1936. وقام بافتتاح الجسر الحديدي القديم في منطقة الكرنتينة بقيادته القطار بدلا من سائق هندي تخاذل قبل المهمة. وفي العام 1945 وبعد انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي بادر بتهريب عدد من ملاكات الحزب الشيوعي بقطار طوروس الى تركيا وكان من ضمنهم عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي عبد تمر الذي انعقد المؤتمر في بيته. ويذكر نجلاه أن والدهما ولظروف عائلية قاهرة ترك نشاطه الحزبي في صفوف الحزب عام 1949. وروى نجله الصحفي المعروف مظهر المفرجي رحمه الله، أن بعد عودة والده الى بغداد بيوم واحد من رحلة قطار الموت استدعي الى مديرية السكك وتسلم امر فصله من العمل لمدة ستة اشهر وإلغاء أمر ترقيته، ويؤكد ابنه كيف أن والده عاد للبيت مسرورا مرتاح الضمير. وظل طوال حياته يعيد سرد تلك الرحلة الرهيبة ويفخر بما أقدم عليه، من اجل إنقاذ حياة المعتقلين الوطنيين وحبا بالزعيم عبد الكريم قاسم الذي كان يحبه كثيرا ... لكنه كان يوصي اولاده بكتمان قصة الحادث خشية بطش النظام السابق. وللأسف لم يكرم هذا الرجل الشجاع الذي تحدى بوعي إرهاب وقسوة نظام البعث!
ويذكر نجله علاء كيف أن والده بعد احالته على التقاعد ، ظل يبكي لمدة يومين بسبب ابتعاده عن عالم القطارات والسكك والرحلات، وفي العام 1987 استدعي من قبل مديرية الأمن العامة لغرض سؤاله على مصير نجله (مظهر) المطلوب القاء القبض عليه من قبل النظام السابق، وبعد اطلاق سراحه عصرا اصيب بجلطة قلبية توفي على اثرها  رحمه الله.

يتبــــــــــــــــــــــــــــــع
محمد علي الشبيبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- تشكل (المجلس الوطني لقيادة الثورة) وبموجب البيان رقم 15 لأنقلابيي 8 شباط. وتألف من: 1ـ عبد السلام عارف ـ رئيس الجمهورية قومي. 2 ـ  أحمد حسن البكر ـ عضو القيادة القطرية لحزب البعث. 3 ـ علي صالح السعدي  ـ  أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث. 4 ـ حازم جواد ـ عضو القيادة القطرية للحزب. 5 ـ طالب شبيب ـ كذلك بعثي. 6 ـ حمدي عبد المجيد ـ كذلك. 7 ـ كريم شنتاف ـ كذلك. 8 ـ محسن الشيخ راضي ـ كذلك. 9 ـ صالح مهدي عماش ـ كذلك. 10 ـ هاني الفكيكي ـ كذلك. 11 ـ حميد خلخال ـ كذلك. 12 ـ عبد الستار عبد اللطيف ـ عضو المكتب العسكري للحزب. 13 ـ خالد مكي الهاشمي  ـ كذلك. 14 ـ حردان التكريتي ـ كذلك. 15 ـ عبد الكريم نصرت ـ كذلك. 16 ـ أنور عبد القادر الحديثي ـ كادر بعثي، عين سكرتيراً للمجلس. 17 ـ العقيد طاهر يحيى ـ بعثي اسمياً، رقي إلى رتبة لواء. 18ـ الزعيم الركن عبد الغني الراوي، إسلامي النزعة وعروبي، وصديق لحزب البعث.
2- تشكل مجلس الوزراء من ( 20 ) عضواً، كانت حصة حزب البعث منها ( 13 ) عضواً، أي ثلثي أعضاء المجلس، واحتفظ البعثيون بأغلب الوزارات المهمة، وجاء تشكيله على النحو التالي :
1 ـ أحمد حسن البكر ـ رئيساً للوزراء. 2 ـ علي صالح السعدي ـ نائباً لرئيس الوزراء، و وزير الداخلية. 3 ـ صالح مهدي عماش ـ وزيراً للدفاع.  4 ـ حازم جواد ـ  وزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية. 5 ـ طالب شبيب ـ  وزيراً للخارجية.
6 ـ عزت مصطفى ـ  وزيراً للصحة. 7 ـ سعدون حمادي ـ  وزيراً للإصلاح الزراعي. 8 ـ مهدي الدولعي ـ  وزيراً للعدل. 9 ـ مسارع الراوي ـ  وزيراً للإرشاد. 10 ـ صالح كبه ـ  وزيراً للمالية. 11ـ أحمد عبد الستار الجواري ـ وزيراً للتربية. 12 ـ عبد الكريم العلي ـ  وزيراً للتخطيط. 13 ـ حميد خلخال ـ وزيراً للعمل. 14 ـ عبد الستار عبد اللطيف ـ وزيراً للمواصلات. 15 ـ ناجي طالب ـ وزيراً للصناعة. 16 ـ شكري صالح زكي  ـ وزيراً للتجارة.  17 ـ عبد العزيز الوتاري ـ وزيراً للنفط.  18 ـ محمود شيت خطاب ـ وزيراً للبلديات. 19 ـ بابا علي الشيخ محمود ـ وزيراً للزراعة.
20 ـ فؤاد عارف  ـ وزيراً للدولة.
 وهكذا ضمت الوزارة ثلاثة من القوميين هم كل من:  الزعيم الركن ناجي طالب، الذي شغل منصب وزير الصناعة واللواء المتقاعد شكري صالح زكي ، الذي شغل منصب وزير التجارة، والدكتور عبد العزيز الوتاري، الذي شغل منصب وزير النفط، وضمت الوزارة واحداً من الإخوان المسلمين هو السيد محمود شيت خطاب، الذي شغل منصب وزير البلديات،  فيما ضمت وزيرين  من الأكراد، هما بابا علي الشيخ محمود الذي شغل منصب وزير الزراعة، وفؤاد عارف الذي عين وزيرا للدولة.
3- نص حوار غسان شربل مع عبد الغني الراوي على الموقع التالي:
https://drive.google.com/file/d/0B-M8HffWjGTrdmROWnIza2RrZG8/edit?pli=1
4- مقالة للباحث رشيد خيون بعنوان (شهادة عبد الغني الراوي عن فتوى قتل الشيوعيين ...) منشورة بتاريخ 4/1/2012 على الرابط التالي: http://www.ashairiraq.com/readNews.php?id=4980
5- - العراق البرية المسلحة حركة حسن سريع وقطار الموت 1963.  الطبعة الاولى 2002.  صفحة 295. ويذكر الكاتب د. علي كريم سعيد: (ان الملازم الشاب قيس محمد صالح كان قد التحق، بعد اطلاق سراحه في عام 1968 بقوات المقاومة الفلسطينية واستشهد في عملية فدائية بغور الأردن ضد قوات العدو الاسرائيلي، وشيع جثمانه بصورة مهيبة في بغداد (الأعظمية)، ومازال المقاومون الفلسطينيون الاوائل يذكرون عمق إيمانه وشجاعته.) ويذكر الأستاذ الملازم السابق لطفي شفيق سعيد في مقالة (منشورة في موقع النور) عن كيفية استشهاد الملازم الشجاع قيس محمد صالح، فيكتب: اعود لذكر ما نقله لي الملازم عدنان عن كيفية استشهاد الملازم قيس حيث قال (لقد تدرج الشهيد قيس في المسؤلية خلال انتمائه للجبهة الشعبية الديمقراطية بسرعة فاصبح مسؤولاعن تدريب فصائلها والاشراف على تنظيمها وتجهيزاتها العسكرية وكان يلح على قيادتها من اجل الاشتراك بالعمليات العسكرية في الارض المحتلة وتم له ما اراد فنفذ العديد من العمليات الناجحة وكان آخرها هي قيادته لاحد المجموعات والتي صادف ان وقعت في كمين للعدو حيث تمكن بعمليته البطولية ان ينقذ مجموعته خلال مشاغلته لهم بالسلاح الابيض مما سهل تراجع جماعته الى مكان آمن بعد ان سقط صريعا ليسجل اروع صفحة من صفحات البطولة والاستشهاد بعد اوقع بعض الخسائر في صفوف العدو الصهيوني.)

        

 

56
الفاسدون يشكلون حكومة ظل في العراق!؟

هذه وجهة نظر اطرحها ربما يتفق معي البعض أو لا يتفق. وأحذر القوى المجتمعية المدنية التي تطمح للإصلاح ونقل العراق نقلة مدنية نوعية من الانتباه لذلك. مراقبتي لما يجري على الساحة العراقية منذ اليوم الأول من التحرك الجماهيري وتصاعده ولغاية يومنا هذا أوصلني الى هذه القناعة، أي أن حيتان الفساد (وأخص منها الشيعية المسنودة من ايران) شكلت حكومة ظل برعاية من ولاية الفقيه وإشراف من سليماني! وربما عناصر من حكومة الظل تعمل وتنسق مع حيتان الفساد الأخرى من أجل عرقلة أي إصلاح مهما كان بسيطا. وهنا أجمل أهم الأحداث التي أوصلتني لهذه القناعة:
ما يجري في العراق حاليا:
1-  تسويف وعرقلة وتشويه وتمرد لتنفيذ خطوات الإصلاح التي أعلنها رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، بالرغم من بساطتها وعدم جذريتها، وهذا ما أكده أكثر من مرة رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي!
2- الفاسدون والفاشلون في الدفاع عن الوطن، والمتهمون بهدر أموال الدولة وتصفير خزائنها على مدى 12 عام، هم أعضاء فاعلون في حكومة الظل! لذلك هم تقبلوا على مضض بعض الاصلاحات التي مست مواقعهم، لكنهم متمسكون بشدة بإبقاء الفساد في المؤسسة القضائية متمثلا بمدحت المحمود، لأنهم يعرفون نهايتهم بإصلاح القضاء!
3- محاولات اغتيال رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي التي تم كشفها وقبرها موقتا كما أعلن ذلك هو ذاته، مع محاولات لتصفية المراجع الدينية التي طالبت بالإصلاح! كل هذه ممارسات إرهابية يراد منها تراجع المصلحين عن رغباتهم في الاصلاح!
4- إقدام بعض القوى الأمنية والعسكرية لتفريق المتظاهرين بالقوة واستعمال الرصاص الحي، خلافا لتوجيهات رئيس مجلس الوزراء المعلنة، يدل على وجود قوة ضاربة (خلايا نائمة) لحكومة الظل!
5- اختطاف بعض الناشطين والاعتداء عليهم من قبل أجهزة أمنية رسمية وسرية (خلايا نائمة لحكومة الظل) وتعريض حياتهم للخطر، لترهيب الشعب وتحجيم مشاركة الجماهير في التظاهر!
6- تصريحات بعض القيادات المشبوهة والمنفلتة للحشد الشعبي بالضد من مواقف المرجعية والتحرك الجماهيري من أجل الإصلاح، إشارة لاستعداد هذه القوى المليشياوية لتصبح القوة الضاربة لحكومة الظل!
7- ما ينشر من تحركات وتدخلات لقاسم سليماني (بضوء أخضر من ولاية الفقيه) فاجأت حتى رئيس مجلس الوزراء، ويؤكد حقيقة ووقاحة التدخل الإيراني  بالشأن العراقي وانزعاجه من توجهات رئيس مجلس الوزراء في الإصلاح!
كل هذه الأحداث تؤكد أن الكتل الفاسدة وقياداتها المستحوذة على حصة الأسد من مغانم الشعب العراقي قد توحدت (بعض الشيعية منها) في حكومة ظل يشرف عليها سليماني من أجل إفشال عملية الإصلاح، والعودة بالعراق الى حكومة المحاصصة الطائفية والنهب والهدر والتشتت دون رقيب وحسيب!
والقوة الضاربة لحكومة الظل، هي القيادات المليشياوية المرتبطة بإيران والمؤمنة بولاية الفقيه، وهي قيادات عسكرية وأمنية أخذت مواقعها ومراتبها بحكم ارتباطاتها وولائها الطائفي المتشدد، وهي تدين بالامتنان ومخلصة لمن منحها المركز والرتب العسكرية العالية، لأن مصيرها والحفاظ على مراكزها مرتبط باستمرار الفساد والنمط السابق من حكم المالكي! وهناك قوى أخرى مدنية وأفراد مليشيات من حمايات وغيرها، وقطاعات اجتماعية غير قليلة أغتنت بطريقة مهولة ومستفيدة من حكومات الفساد ومرتبطة بالفساد ارتباطا قويا.
محمد علي الشبيبي
27 أيلول 2015

57
مقترح أجده مهم جدا لأنقاذ الشعب والوطن!؟
حول الأزمة العراقية

على ضوء مقترح أستاذ القانون الدولي العام جعفر عبد المهدي صاحب والمعنون (مقترح مشروع إنقاذ العراق). أقدم هذا المقترح للقوى السياسية أو لمنظمات المجتمع المدني فهي الأقدر على تفعيله إن أقتنعت به أو فكرت بتطويره.
بودي أن تبادر أية قوة (حزب، تكتل، منظمات) الى الدعوة لعقد مؤتمر وطني تتقدم فيه بمسودة أو أن تتحرك باتجاه أنجاز مسودة  (خارطة طريق) لإنقاذ العراق من الوضع الحالي. الشباب المتظاهر بالرغم من التزامهم الواعي بكثير من الشعارات فالتظاهرات تخترقها شعارات لا تخدم وليست قابلة للحل في الوقت الحاضر! ثم أنهم خلطوا بين القضايا الوطنية والمطالب المحلية وأحيانا يركزون في بعض المحافضات على المطالب المحلية أكثر من المطالب الوطنية، ونسوا أن سبب معاناتهم المحلية هي سوء إدارة الدولة التي أعتمدت على المحاصصة الطائفية والسياسية وبأسوء مظاهرها .... أنا لا ألومهم في طروحاتهم ولكن تشتت المطالب وكثرتها يؤدي الى تشتت في القوى!؟ من يتصور أن حالة الطوارئ ستحل الأزمة وتعالج المشاكل فهو خاطئ ولا يقدر المخاطر!؟ من سيفرض حالة الطوارئ؟ أي جيش أو قوة ستفرضه وتحمي القانون؟ هل الجيش الذي أسس على اسس طائفية؟ أم المليشيات الطائفية (سنية، شيعية وشخصية وغيرها خفية)؟ وهل قوى الفساد بكل انواعها وتوجهاتها المذهبية والقومية والسياسية هل ستسمح بحالة الطوارئ؟ قوى الفساد مستعدة لذبح الشعب والوطن بأبشع ما أقدم عليه صدام وبقية الطغاة!؟  ثم كيف يتم تشكيل مجلس طوارئ من أقدم عشرة ضباط أي انه ضباط من البعثيين (كما يطالب صاحب المقال)، أو أنهم من ضباط المالكي الذي منحهم رتب عالية!؟
لذلك ارى الحل لا بالمقالات ولا بالافتتاحيات ولا بالتصريحات والبيانات كما تقوم به أحزاب وكتل سياسية على الساحة العراقية، بعضها لها باع في الحركة الوطنية، وإنما بأن يبادر حزب (وليته يحمل ورقة مسودة لخطة طريق للنقاش) ويتصل ببقية الاحزاب بما فيها أحزاب الكتل (الفاسدة أو دعوتهم بعد فترة) وطرح الورقة والدعوة لمؤتمر وطني لتدارس الاوضاع والاتفاق على خطة الطريق ويكون هذا مع استمرار التظاهرات وإشراك قيادات التظاهرات من الشباب الثائر والذي بادر في تحرك هذه التظاهرات، وشخصيات اجتماعية نزيهة ووطنية ولم تحوم حولها شبهات فساد.  المؤتمر يحتاج لقوة سياسية ذات خبرة فعلية تقود الشعب وتظاهراته لعمل بناء لا انفعالي وعدم ترك الجماهير لتصطدم بإحباط مدمر هل توجد قوة مؤمنة ببعض أفكار هذا المقترح وتطوره لإنقاذ العراق وشعبه!؟ ربما يلاقي الحزب او القوة السياسية صعوبة لعقد مثل هذا المؤتمر أو إقناع القوى الأخرى! فأنا أدعو الحزب المبادر لطرح كل ذلك على صفحات الجرائد والمواقع والفضائيات ويكشف للشعب أن القوى السياسية غير مستعدة (إذا ما تهربت هذه القوى من المشاركة في المؤتمر) لدراسة الازمة ووضع الحلول بجد! أما خلاف هذا فهو تهرب من المسؤولية!
أما أن يرد أحدهم معلقا أن هذا غير قابل للتحقيق، وأن القوى السياسية المعارضة ستختلف وتتحارب قبل عقد المؤتمر! أقول له أي حزب حريص على العراق أن يقدم خارطة طريق كمسود ويطرحها على الصحافة ويدعو الاخرين لأغنائها وتطويرها وأن يبادر للقاء القوى التي ترفض الفساد والمحاصصة الطائفية ويطرح عليهم ورقته، وأن ينشر لقاءاته هذه ليعرف الشعب ما هو موقف هذه القوى والكتل .... ليحاول أولا ولنسمع مثل هذه المحاولات قبل أن نرفضها!؟
 محمد علي الشبيبي
24 أيلول 2015


59
الى متى يبقى د. البروفيسور عبد الاله الصائغ معلقا بين الحياة والموت!؟




محمد علي الشبيبي
         
مقالتي هذه موجهة الى كل المثقفين العراقيين فهم الاجدر بحماية الصائغ مما حاق به وهي موجهة لكل المسؤولين (الرئاسات الثلاث، وزارة التعليم العالي، وزارة الثقافة، وزارة الخارجية) ليروا الى أين وصل حال علمائنا ومدى احترامهم واهتمامهم بالمثقف في العهد الجديد!
والى إتحاد الادباء العراقيين والصحفيين لمؤازرة د. البروفيسور عبد الاله الصائغ والضغط على الحكومة لتبني مواصلة علاجه وبالسرعة، فمرضه وصحته لا تحتمل الانتظار. 
لا اريد أن أطيل في مقالتي هذه لأني أعرف أن المسؤولين في الدولة ليس لديهم الوقت الكافي لقراءة ومتابعة ما يكتب عن شؤون المواطنين وخاصة العلماء والأدباء والفنانين فهذا ليس من اهتماماتهم!؟ هكذا استنتج من مسيرة سنوات ما بعد السقوط ومن رعاية الدولة ومسؤوليها لهذه النخب المثقفة والتي قدمت لشعبها ما لم يقدمه أمي جاهل حصل على تقاعد وجواز دبلوماسي وتقاعد بالملايين مقابل عمل يقال انه أربع سنوات من الاعمال الشاقة في مجلس النواب!؟ فقد سبق وكتبت مقالا (صرخة في البرية) بتأريخ 20/9/2012 ونشرته على المواقع الالكترونية. كنت صادقا في العنوان لأنني أعرف مهما صرخت وصرخ الاخرون فلا سميع ولا مجيب من المسؤولين، لأن ما يعانوه من فضائح الفساد ونشر الغسيل الوسخ، والتسقيط السياسي والإرباك وتبادل الاتهامات على الفضائيات سيغطي على كل الصرخات المخلصة التي تصدر من أعماقنا! وها نحن نرى ونسمع شعبنا يستصرخ ضمائرهم منذ السقوط ولغاية اليوم من أجل كرامته وتوفير الحد الادنى لحياته، ولكن مروءآت المسؤولين في وطننا في سبات، لأنهم يكافحون من أجل أن لا يعود البعث (انها أكذوبة مقززة)، ولكن البعث وأفكار البعث وأساليبه عادت لتنتقم مجددا ولكن باسم الطائفية والمظلومية التي أصبحت شماعة السياسيين المنافقين!. للأسف كثير من المسؤولين يخططون كيف يسرقون الشعب والوطن، وإذا انفضح امرهم فإنهم يخططون للهرب بالملايين المسروقة أو بالبحث عن ضحية –اي كبش فداء- يتهمونها بكل القذارات التي ارتكبوها أو اقترفت برعايتهم، أو في أسوء الاحوال يرفعون ملفات يهددون بها لإسكات الاخرين!
لقد ادخل البروفيسور عبد الاله الصائغ الى المستشفى في النصف الاول من شهر اكتوبر2012 لتدهور وضعه الصحي .... وأجريت له عملية  استبدال الفقرات التي استغرقت أكثر من عشر ساعات ... وكانت العملية ناجحة ولكن لا يمكن تحقيق نتيجة مرضية دون العلاج الفيزيائي المكلف! فهو عاجز عن الحركة وبحاجة الى تمارين خاصة تأهيلية لاستعادة القدرة الضرورية لكفاءة اعصاب ساقيه وجسمه. وكما سبق ان كتبت وكتب غيري انه غير قادر على دفع التكاليف لعدم شموله بالضمان الصحي الذي يشمل أصغر موظف مستقدم من العراق للعمل في سفارتنا حتى وان كان شبه أمي، بينما لا يشمل الضمان البروفيسور الصائغ  لأنه متعاقد  تعاقدا محليا مع الملحقية الثقافية!؟
لقد تدخل وحاول بعض الطيبين في مفاتحة الجهات الرسمية، رئاسة الجمهورية ووزارة الثقافة باعتباره يعمل في الملحقية الثقافية، ووزارة التعليم العالي كونه استاذا خدم التعليم والجامعات العراقية لثلاثة عقود .... ولكن دون نتيجة فعلية! في الوقت الذي تبذر وتهدر المليارات بسبب الفساد المالي والإداري! وللأسف ان الحكومة بجميع مؤسساتها المسؤولة عن رعاية علمائها عاجزة، وتتهرب عن تحمل تكاليف علاجه (مع العلم ان الدستور ينص في احدى مواده على حق المواطن بالعلاج المجاني في العراق او خارجه). اقول بعد تدخل الطيبين حصلوا على وعود من بعض المسؤولين ووثقوا بعهودهم ولكن للأسف لم تنفذ هذه الوعود وكأن المستشفى الذي يرقد فيها الصائغ مستعدة على الانتظار! بينما لو كانوا فعلا جادين  لكان يكفي كتاب رسمي عن طريق السفارة يتعهد بدفع مصاريف العلاج من قبل الحكومة لحل المشكلة. 
مفارقة غريبة، لا ليست غريبة ! عن الأخلاق السائدة في الكواليس التي تفضحها بعض الافلام المصورة! انها ظاهرة للنفاق الديني وتدهور القيم التي يتمتع بها بعض المسؤولين المتنفذين!؟ احب ان اذكرها بصيغة تساؤلات. الجميع يتذكر الاستقبال الكبير والاهتمام المبالغ بالمطربة اللبنانية مادلين مطر، وما نشر من صور وافلام لمسؤولين وهم يحيطونها في حفلاتها وفي الفندق، وغيرها قد تدخل ضمن الإشاعات والمبالغات .... والسؤال ما الذي قدمته هذه المطربة للشعب العراقي، بحيث صرفت عليها مبالغ طائلة خيالية!؟ ما الذي قدمته للاجيال العراقية حتى تستقبل بعشرات السيارات وكأنها في موكب رئاسي؟ أليس هذا نفاقا أيها السادة المتبرقعون بالدين والاعراف؟ تمنعون فرق مسرحية جادة من عرض نشاطها المسرحي والفني بحجة التقاليد الدينية بينما تستقبلون مطربة استقبال الرؤساء، وتحضرون حفلتها وهي سافرة وتلتقطون بابتسامات بليدة الصور التذكارية معها؟ أليس هذا نفاقا!؟ بينما تعجزون عن دفع تكاليف علاج استاذ (وهو في وضع صحي خطر) خدم الجامعات وتخرج على علمه طلبة دكتوراه هم أساتذة الان في الجامعات العراقية، واخلص في رسالته وكتب عشرات الكتب والبحوث كمصادر جامعية؟ هكذا تقدرون ايها السادة الاساتذة والعلماء!؟ انني أحس بالخجل ان اكون مضطرا لعرض المقارنة بين هاتين الصورتين. استقبال مطربة وتحمل تكاليف سفرها وإقامتها وحمايتها ورعايتها وووو ...  بينما تلزمون الصمت لعلاج أستاذ خدم العمل الاكاديمي وجامعات العراق بما قدمه من بحوث ودراسات!؟.
نظم البعض دعوة المطربة تملقا واستجابة لرغبات بعض المرضى ... –كما كان يفعل البعض أيام صدام-! أراقبك، أنت، نعم أنت .... يا من كنت تتنقل في حفل المطربة متفاخرا ونافشا ريشك وكأنك دعوت عالما جليلا فذا قدم جل خدماته للصحافة العراقية وللشعب العراقي وضحى من اجل هذا الشعب (مع احترامي للمطربة فهي تبدع في خدمة عملها)، لم أراك تهتم يوما أو تتساءل عن مصير مئات المبدعين من أدباء وفنانين وعلماء أجلاء يشهد العالم المتحضر بنتاجاتهم!
أكتب هذه السطور بألم وأنا أرى علماءنا يذوون في الخارج  ويعجزون عن تسديد تكاليف علاجهم -وحتى في داخل الوطن- بينما يتمتع جهلة ومزورون وفاسدون ولصوص بأموال الشعب وعلى مرآى من السلطة التنفيذية!؟ أتألم لأنني أضطررت خجلا الى المقارنة بين صورتين لحالتين تعبران عن مدى اهتمام بعض رموز دولتنا ومسؤوليها بعلمائها مقابل نزوات مريضة بالنفاق والجهل والنقص والكبت!
وأحب أن أتقدم بالشكر والتقدير لكل من وقف الى جانب الصائغ في محنته الاخيرة ولن انسى الاساتذة  دكتور جابر حبيب وعمر الحديثي والبروف عبد الهادي الخليلي  وسمير الصميدعي وفائق العقابي وجواد الحطاب  ورافت رافع والدكتورة ربيعة مقبل والدكتور محمد الصائغ ومحمد حسين سيد هلال سيد سلمان  والبروف جعفر عبد المهدي ونذير الحديثي وهيثم المياحي وزينب السويج ورسل الخفاجي  والقائمة ستطول لكن الصائغ  محتاج الى الدعم المادي فضلا عن الدعم المعنوي !.

محمد علي الشبيبي
alshibiby45@hotmail.com
السويد ‏24‏/11‏/2012




60
الشابندر معروف و مشهور بصراحة لسانه
عزت الشابندر : أنا من أوصلت المالكي الى رئاسة الوزراء و أنا سبب إنشقاق بدر عن المجلس الأعلى

قاسم الجبوري


ذكر مصدر موثوق قد حضر في حفل خاص جمعه بالنائب المقرب من رئيس الوزراء عزت الشابندر في العاصمة اللبنانية بيروت لوكالة أنباء شط العرب بأن الأخير قد كشف عن أسرار و كواليس سياسية كثيرة ، ذكرها للمقربين منه أبرزها كيفية وصول المالكي الى سدة الحكم و كيفية إنشقاق منظمة بدر عن المجلس الأعلى بزعامة عمار الحكيم .
وقال المصدر بأن الشابندر ذكر في حديثه ما يلي : "إن اعضاء حزب الدعوة طراطير ولايفقهون شيئ في السياسة وسبعة منهم يمتلكون شهادات مزورة بعلم المالكي وهم ( علي الشلاه وكمال الساعدي وسامي العسكري وياسين مجيد وحنان الفتلاوي وحيدر العبادي وصادق الركابي )" و "انا من ثبت المالكي على كرسيه وليس طراطير حزب الدعوة ، هو مدين لي وذكر ذلك ب لسانه".
وأضاف الشابندر في حديثه : "بعد ان خسر المالكي الانتخابات لصالح علاوي جن جنونه ورمى مستشاره الأول حينها سامي العسكري بالحذاء ! وطلب مني مساعدته , وكانت الترشيحات تشير الى تسمية الدكتور عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء وكان قاب قوسين أو أدنى .. بعد ان رشحته كتلة الائتلاف الوطني ( التي حطمتها انا ) والعراقية رسمياً فضلاً عن الأكراد وجيش الوردي ( جيش المهدي )! طلبت منه يذهب الى ايران لتسانده مقابل ماتطلبه ؟ ونجحت خطتي وقلت له سأشق بدر عن المجلس قال بابا أنت مخبل قلت سأخلخل المجلس وأفلشه من الداخل وتتراجع الكتل عن دعم عبد المهدي , ذهبت لهادي العامري وهو فطير ضحكت عليه وقلت له انت بطل ويجب ان تكون وزير للداخليه والأمن لايستتب إلا بجهودك وتصبح زعيم سياسي لك وزنك وليس تابع لعمار الحكيم , سال لعابه بعد ان قشمرته وأعلن إنفصال بدر عن المجلس الأعلى ومع مجموعة من النواب بعد ان وعدناهم بحقائب وزارية ثلاث غير الداخلية ( الصناعة والتربية والبلديات ) وبعد ضغوط ايران على جيش الوردي إنقلبوا على مرشحهم السابق وارتفعت اسهم المالكي من جديد وتكلمت مع جو بايدن وأقنعته ان المالكي سيكون اقرب من علاوي لكم ويخدمكم ووافق على ذلك مقابل تعهدات".
وأضاف الشابندر في حديث الخاص : "لكن المالكي و بنصيحتي إنقلب على العامري ولم يفي له بتعهداته وقال له انت حر اما النقل او تعود للمجلس الأعلى ووضع العامري في موقف محرج وقبل مذعناً بوزارة النقل."
وعن باقي التعهدات كشف الشابندر "ذهب المالكي وتنازل لمسعود برزاني واياد علاوي وصالح المطلك ووقع لهم على تنازلات وتعهدات مكتوبة لكنه نكث بها، بعد أن مرروا له حقيبة رئاسة الوزراء ."
وعن الإنتخابات المقبلة كشف الشابندر "المالكي متمسك بي وقال لي أنت وحدك تجعلني رئيس حكومة لدورة ثالثة والحرب مع البيشمركة الأن هي جزء من سيناريو رسمته للإنتخابات المقبلة ، لكسب تعاطف الناس حيث يحتاج المالكي الى صولة فرسان ثانية و لكن ليس ضد جيش الوردي بل ضد البشمركة ."
وأضاف الشابندر بأن "خطة إخلق أزمة و إخلط الأوراق هي من خططي المقترحة للمالكي و قد حصدت له شعبية كبيرة و قوة و نفوذ و هيبة بين السياسيين و الكل اليوم يخشى المالكي ."
يذكر بأن الشابندر معروف و مشهور بصراحة لسانه و قد كشف تصوير خاص له سرب للإعلام عن رأيه بعدد من السياسيين .
وكالة شط العرب تنشر هذه المقاطع للتذكير :


http://www.ankawa.org/vshare/view/3451/shah-bander/

61
هل حقا مؤسساتنا الحكومية والمدنية قادرة على رقابة تنفيذ مشروع البنى التحتية!؟

ما سأكتبه باختصار في هذه السطور هو ملاحظات وتساؤلات على مقالة الاستاذ العزيز حمزة الجواهري والمعنونة (هل حقا قانون البنى التحتية يرهن النفط؟). أنا أكتب للاستفادة والاستيضاح فانا لست اقتصاديا ولست ممن له مصلحة بالصراع السياسي البعيد عن مصالح الوطن والشعب. لقد جاء في الفقرة التالية من مقال الصديق : (أما الجهات التي تنخرط ضمن هذه المجموعات فهي عديدة، مثل وزير النفط والمفتش العام في الوزارة ومدير عام سومو والرقابة المالية ووزارة المالية وحتى النزاهة، ويراقب عملها البرلمان، ومنظمة الشفافية للصناعة الاستخراجية في العراق، والمنظمة العالمية للشفافية في الصناعة الاستخراجية أيضا، ومنظمات أخرى يزيد عددها على مئة منظمة مجتمع مدني ينخرط بعملها خبراء نفط واقتصاديون وسياسيون وأعضاء في البرلمان العراقي واكاديميون في تخصصات ذات علاقة متعددة، ... الخ).
تفترض انخراط كل هذه الجهات في المراقبة والشراكة، ولكن أحس وكأنك تعيش بعيدا عن العراق وما يجري فيه من فساد وانتهاكات وتجاوزات من قبل القوى المتنفذة وحتى القوى المعارضة!؟ فقرتك وفرضيتك تكون واقعية في بلد فيه مجلس نواب فاعل، وحكومة تحترم مجلس نوابها وتتجاوب معه، حكومة تتفهم منظمات المجتمع المدني وتتجاوب معها، في دولة تعتمد الشفافية في كل نشاطاتها، في دولة فيها قضاء مستقل وشجاع محمي من الاعتداء والابتزاز لا يتعرض لكواتم الصوت! دولة يتمكن فيها الصحفي من متابعة أية قضية بما فيها قضايا الفساد دون ان يتعرض للتهديد او التصفية وتسجل ضد مجهول!! في دولة تكشف فيها ملفات الفساد وغيرها من ملفات لا أن تبقى بيد رئيس الوزراء يشهرها للتهديد والمساومات!
انت فرضت فرضية وكأننا نعيش في دولة مؤسسات متحضرة بينما نحن نعيش في بلد تسوده المحاصصة الطائفية والمافيات السياسية والاقتصادية والارهابية. وقضايا الفساد وان طرحت بعضها (من قبل نواب أو مسؤول حكومي) فهي تطرح بانتقائية لذر الرماد في العيون أو للتسقيط والابتزاز! أليس دولت رئيس الوزراء هو من أنقذ وزير التجارة السابق فلاح السوداني؟ وكان سببا في هروبه وعدم خضوعه للمساءلة واستعادة الاموال المنهوبة أو المهدورة! ألا يعني نقل قضيته من مدينة لأخرى أن القضاء غير مستقل وواقع تحت التأثير؟ ثم ما هو دور مجلس النواب في الرقابة ... قل لي مثلا واحدا نجح مجلس النواب لمحاسبة المفسدين والمسؤولين بما فيهم الوزراء ورئيسهم، مثلا واحدا في المحاسبة بعيدا عن المساومات والابتزاز والانتقائية!؟ قل لي مثلا واحدا تمكنت فيه منظمات المجتمع المدني في الراقابة ونجحت في مهمتها دون عرقلة أو ابتزاز أو تهديد وتصفية من المتنفذين وتوصلت الى نتائج نهائية!؟ المشكلة ليست في رهن النفط ولكن في الرهان على مصداقية وشفافية عمل حكومة غارقة في الفساد، وبعض اطرافها تمارس الارهاب!
فالفرضية التي أعتمدتها في مقالتك لتصل إلى القول أن لا خوف من مشروع البنى التحتية، فرضية ليس لها أساس من الواقعية مطلقا، أنها حلم!؟ لذلك أرى أن دولة يسود فيها الفساد ويقنن ويمارس حتى من أعلى السلطات لا يمكنني أن أثق بواقعية ومصداقية مشاريعها!؟ ومن هنا لا أرى في هذا المشروع سوى أنه اسلوب جديد للفساد وإذا أردت أن أحسن النوايا فأقول أن الفساد سيدمره.
قد تسأل ما العمل؟ أقول لو أن الحكومة ودولت رئيس الوزراء جادة في البناء، عليها أن تبدأ بمكافحة جدية للفساد. وعلى دولت رئيس الوزراء ان يبدأ بأقرب دائرة إليه في مكافحة الفساد لا بل أن يبدأ من حزبه أولا. هكذا يثبت للقوى الاخرى جديته في مكافحة الفساد والاصلاح، وسوف يكون الشعب ساندا قويا له وسيكتب أسمه في التأريخ العراقي بفخر وسيتم عزل القوى المعرقلة للمشاريع الجادة وفضحها. أنها فرصة ثمينة (يمارسها في الوقت الضائع) لا تعوض لدولت رئيس الوزراء ليثبت حرصه ووطنيته وتواضعه لا طائفيته. لا أن يحتفظ بملفات فساد وارهاب يرفعها بوجه من يعارضه للابتزاز والمساومات خلف الكواليس! أن يكشف جميع الملفات بما فيها ملفات المقربين أولا! أن يبدأ بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بدءاً من حزبه ...
أما مجلس النواب فهو ناجح فقط في الاتفاق على مصالح أعضائه للحصول على الامتيازات، واثبتت الحياة وعمل البرلمان انه عاجز عن الرقابة الجادة البعيدة عن المساومات السياسية ... انه برلمان فاشل بامتياز، فاي دور نتوقع له ...! أما الحكومة فهي لا تعير أهتمام لا للرأي العام، ولا لمنظمات المجتمع المدني، ولا للصحافة وما يجري في الساحة من انتهاكات يومية تؤكد ذلك. في دولة يتم فيها إسكات صوت الصحفي الشجاع بكاتم صوت إذا ما عجزت عن شرائه بالابتزاز والمال والتهديد، كما حدث للشهيد هادي المهدي، ويسجل الحادث ضد مجهول!
 لو أخبرتني كم صحفي نجح في متابعة قضية فساد من الفها الى بائها، وسهلت له الدوائر والمؤسسات والمسؤولين عمله، دون ان يتعرض للتهديد والابتزاز او التسويف والعرقلة وعدم التجاوب!؟ لذلك لا أرى في هذا المشروع مشروع البنى التحتية سوى تهرب للامام من المشاكل والأسباب الفعلية في انعدام الخدمات وإعادة الاعمار، وانه محاولة من رئيس الوزراء لخداع الشعب بأن القوى الاخرى (واهداف القوى مختلفة ومتناقضة في عرقلة المشروع) تعارض عملية البناء. باختصار حكومة ودولة يسودها الفساد لا يمكنها أن تبني وطنا وتخدم شعبا، وليست جديرة بالثقة!؟

محمد علي الشبيبي
السويد  ‏15‏/10‏/2012


62
حسن السنيد ... وذكاء عنيّز !!؟

تصريح رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية وهو أحد المتحدثين بكثرة، والمتصدرين الاعلاميين النشطاء من التحالف الوطني، حول صفقة الأسلحة التي عقدها الوفد الحكومي برئاسة دولت رئيس الوزراء في زيارته الاخيرة الى روسيا وجمهورية الجيك. هذه التصريحات الذكية واللبقة ذكرتني بحكاية رجل بليد كان أبنه (عنيّز) أكثر منه بلادة أما شيخ عشيرتهم يفوقهم جميعا بالبلادة والغباء! ربما يسأل القارئ الكريم ما علاقة تصريحات حسن السنيد بحكاية الابن البليد عنيّز والاب وشيخ العشيرة؟ سأروي هذه الحكاية قبل أن اناقش التصريح واترك القارئ لأستنتاجه.
يروى أن أب ساذج أرسل ابنه المدلل الكسول (عنيّز) الى المدرسة خارج القرية. وعندما عاد هذا المدلل الى البيت خلال العطلة أصطحبه والده الى المضيف متفاخرا به، فهو واثق انه لابد وقد تعلم شيئا ما من المدرسة. بعد أن أخذ الاب وابنه عنيّز -تصغير عنز-  مكانهم في المضيف بين الحضور، سارع الاب البليد ليتفاخر في المضيف بذكاء ابنه وسعة معلوماته. فطلب من الشيخ أن يسأل ابنه ما هو مصدر الدبس؟ شيخ العشيرة وهو لا يقل غباء عن الاب وابنه بادر ووجه السؤال للابن ليروي فضوله ويستزيد من علم عنيّز، فسأل: عنيّز من اين يستحضر الدبس؟ فرد عنيّز بثقة عالية: من البصل!!؟ سارع الاب معلقا بتباهي: والله وجتافاتي للعباس لم أعلمه ... هو يفهم وتعلمهه من المدرسة ...!! مسكينة المدرسة. تقبل الشيخ بقناعة جواب عنيّز!؟ لكن بقية الضيوف كتموا أنفاسهم لأنهم يعرفون حماقة وتهور وغباء الشيخ.
والان أعود الى لبة تصريح حسن السنيد (في هذا الرابط يمكن للقارئ الاستماع للتصريح http://www.youtube.com/watch?v=bIRf5fJkE0Q ). مما قاله حسن السنيد في هذا التصريح:-  (... الصفقة عبارة عن أسلحة دفاعية فقط وتعد من أضعف المنظومات الدفاعية في المنطقة... هي أضعف من المنظومات الدفاعية لدول الجوار والدول الاقليمية – يخرب بيتك على هذه القنبلة! هكذا علق صديق كان يستمع له-.... نريد ان نعيش كدولة تحمي استقلالها وحدودها ....)
لم أفهم هدف تصريحات السنيد، خاصة عندما يكشف أن هذه الاسلحة أضعف المنظومات الدفاعية في المنطقة ... إذن لماذا تمت الصفقة إذا فعلا كانت هذه الاسلحة أضعف ما تملكه دول المنطقة، وما فائدتها، فربما هي فقط لأستعمالها ضد الشعب فهو الوحيد غير مسلح! ثم هل رأيتم كم بلغ ذكاء وحنكة ودبلوماسية رئيس لجنة الامن والدفاع النيابية، بحيث كشف أمام الجميع أن اسلحتنا لا تنفع حتى للدفاع عن أي شبر من وطننا، لأنها لا يمكنها الصمود أمام دول المنطقة لضعفها! فلماذا اشتريناها إذن؟ هل توجد وراء عقد هذه الصفقة فساد كما حدث في معظم الصفقات الكبيرة التي ابرمت سابقا!؟ الغريب أن وفدا بهذه الضخامة يترأسه دولت رئيس الوزراء يعقد صفقة أسلحة دفاعية فاشوشية لا قيمة لها لأنها أضعف من كل الانظمة الدفاعية في المنطقة ... والسيد رئيس لجنة الامن والدفاع يقول أنها دفاعية! كيف تصبح دفاعية وهو يقول أضعف ما في المنطقة!؟ أنه تصريح يؤكد حقيقة خيال وعبقرية المحروس عنيّز: (أن الدبس يستحضر من البصل!؟) 
عندما سمعت تصريح النائب المحنك حسن السنيد شعرت بالغثيان وتذكر حكاية عنيّز، وترحمت لأجدادنا لحكمة في رواياتهم. والان لا تسألونني من هو عنيّز ومن هو والده ومن هو شيخ العشيرة!؟ ففي عراقنا الآن يوجد في كل مكان عنيّز ينثر علمه بتباهي، وإلا لما رأينا هذا الخراب والتدهور والفساد في كل المجالات والتخبط في التصريحات!

محمد علي الشبيبي
السويد   ‏14‏/10‏/2012



63
الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)*
1920 – 1963


لا أخفي على القارئ الكريم تخوفي وتهيبي من قدرة الكتابة عن الشهيد عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) وقد أفشل في تقديمه للقارئ بما يتناسب مع نشاطه الوطني والصحفي وتكللهما بصموده الاسطوري في التعذيب ومن ثم شهادته اسوة برفاقه الشهداء من قادة الحزب الشيوعي العراقي الذين سبقوه أو ساروا على خطاه في الشهادة. لذلك ارجو من القارئ الكريم ان يستميحني عذرا إذا ما قصرت في تغطية بعض من جوانب حياة الشهيد ونشاطه، فهذه المهمة الجليلة أجدر أن يتبناها رفاقه ومن عاش بينهم وعرفوا الشهيد عن قرب.
ولد الشهيد في البصرة- محلة المشراق- عام 1920، نشأ وترعرع فيها ودرس في مدارسها. أنهى دراسته الثانوية بتفوق ورشحته وزارة المعارف في بعثة للدراسة الى إنكلترا، ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون ذلك. فقرر السفر إلى بيروت ليكمل دراسته الجامعية في الجامعة الامريكية. تخرج من الجامعة الامريكية متخصصا في الفيزياء ومارس تدريسها في المدارس الثانوية. ولشدة ولعه ببعض الجوانب الفلسفية فبادر لدراستها فاهتم بدراسة فلسفة سقراط. وكان لابد لدراسته للفيزياء والفلسفة أن تعمقا طريقته في التفكير والتحليل للواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان شعبنا يعاني منه فترة النظام الملكي. فعلم الفيزياء هو العلم الذي يجيب على لماذا وكيف ومتى لدراسة الظواهر الكونية، فتكون الاجابة دائما عليها علمية ومنطقية، وهذا ما ساعده على البحث عن أسباب ومعاناة شعبنا وما هي الحلول الضرورية لمعالجة تلك المشاكل. إن تعشيق الفيزياء ومنطقها وتحليلاتها العلمية مع الاسلوب الفلسفي في التفكير(1) لتفسير الظواهر الاجتماعية في مختلف المجالات، إضافة لما عايشه الشهيد من مآسي شعبنا في ظل النظام الملكي الذي كبل شعبنا بمعاهدات غير متكافئة استرقاقية، ومن هجوم بشع على المناضلين المطالبين بالحرية والتحرر والاستقلال من قبل النظام الملكي الذي كللها بجريمة إعدام قادة الحزب الشيوعي العراقي وما أعقب ذلك من هجوم على القوى الوطنية .... كل هذا أحدث انعطافا جذريا في تفكير الشهيد الخالد فالتحق بصفوف الحزب الشيوعي العراقي، وحدد موقفه بوضوح وجرأة وشجاعة، أثبتت الأيام صلابته وقوة قناعته من خلال صموده في التعذيب الذي مارسه البعثيون خلال حكمهم الدموي بعد انقلابهم في 8 شباط 1963 فوهب حياته دون تردد من أجل قضيته المقدسة.
بعد تخرجه من الجامعة الامريكية عام 1943 عاد الى الوطن ، فمارس تدريس الفيزياء في اعدادية بعقوبة ثم استاذا في كلية الملك فيصل حتى اغلاقها عام 1948 بسبب انتماء الكثير من طلبتها للحزب الشيوعي وللقوى المناهضة للنظام الملكي إضافة الى مساهمات طلبتها النشيطة في وثبة 1948.
وبدأ نشاطه السياسي غير هيابا حال عودته للعراق.  فعمل في اواسط الاربعينات -1946- في صفوف "حزب الشعب" الذي كان يرأسه عزيز شريف، وكانت إلى جانبه ابنة عمه -زوجته ورفيقته- في النضال المحامية الراحلة نظيمة وهبي. ثم انتمى للحزب الشيوعي العراقي عام 1948 وكان حينها مدرسا في ثانوية الأعظمية.
ساهم بنشاط في الحياة السياسية والاجتماعية، فنشط في حركة السلم العراقية. وقد ذكر الدكتور فاروق برتو في مقالة له عن بدايات حركة السلم العراقية وتشكيل أول لجنة تحضيرية لأنصار السلام في تموز 1950 برئاسة محمد مهدي الجواهري وكان باكورة نشاط اللجنة إصدار بيان إلى الشعب العراقي نشر في الصحف بتوقيع عدد من رجال الفكر والشخصيات الاجتماعية المعرفة، يدعو البيان إلى تأييد نداء ستوكهولم وإلى مساندة الدعوة لنشر السلام العالمي ومقاومة أخطار الحرب. وكان من بين الموقعين على هذا البيان محمد مهدي الجواهري وعبد الوهاب محمود (نقيب المحامين في العراق) والمحامي توفيق منير والشاعر بدر شاكر السياب والفنان يوسف العاني والشاعر محمد صالح بحر العلوم والمحامي عامر عبدالله والدكتورة خالدة القيسي والدكتور عبدالله إسماعيل البستاني،  وكان أيضا من ضمن الموقعين الشهيد عبد الجبار وهبي.
كما ساهم في عمل ونشاط المنظمات المهنية والديمقراطية، حتى انه انتدب لحضور مهرجان الشباب والطلاب العالمي في وارشو (تموز 1955) وكان برفقته كريمته نادية (الفنانة أنوار عبد الوهاب) مع شقيقها سعد.  
ولم يسلم الشهيد من الاجهزة القمعية فأصدر المجلس العرفي -1952- حكما غيابيا عليه بالسجن مدة 15 عاما، وذلك لنشاطه في حركة السلم والتضامن ولإصداره كتابا بعنوان (السلام العالمي)، إضافة الى دوره في انتفاضة عام 1952. ولم يثنيه هذا الحكم الجائر عن مواصلة النضال، فواصل الشهيد نشاطه السياسي والحزبي متخفيا عن أعين التحقيقات الجنائية التي كانت الرقيب والسيف المسلط على القوى الوطنية أيام العهد الملكي.  ومع اشتداد الحملة المسلطة على الحزب وجماهيره قرر حينها - عام 1953- مغادرته الوطن سرا إلى سورية بجواز سفر يحمل اسم (الحاج محسن عبد) مصطحبا معه ابنته نادية وابنه سعد، تاركا زوجته المناضلة نظيمة وهبي تقضي ما تبقى من محكوميتها في سجن النساء في بغداد، بسبب إصدار كراس "أغاني السلم والحرية"(2)!. غادر وهو يحمل في داخله هموم الشعب العراقي، ومعاناة مناضليه ورفاقه الشيوعيين واليساريين وهم يقبعون في زنزانات النظام الملكي، ويتعرضون للمجازر والتصفيات والتنكيل والإهانات. غادر وأصوات رفاقه في السجن من خلال مكبراتهم البسيطة والمصنوعة من الكارتون وهم يهتفون بحياة الشعب والحزب ويناشدون القوى الخيرة في العالم لإنقاذهم من مجازر وحشية يعد لها النظام الملكي وقد نفذها فعلا، وواجهوا هذه المجازر غير آبهين للرصاص الموجه لصدورهم في سجن بغداد وسجن الكوت أو في تظاهرات الشعب ضد المعاهدات الاسترقاقية التي خطط لها الانكليز مع عميلهم (الباشا نوري السعيد). نعم أصوات رفاقه تناديه لينشر قصة نضالهم وجرائم النظام الدموية بحقهم وإيصالها للرأي العام العراقي والعربي والعالمي. فانكب الشهيد في سورية ليصور باسلوبه المتميز مأساة السجناء الشيوعيين في سجون النظام الملكي ويفضح من خلال ما يكتبه أساليب النظام البربرية في مكافحة الفكر الوطني، فكتب كتابه (من أعماق السجون في العراق)، وهو يصور بدقة الأحداث المأساوية التي حدثت في سجون النظام الملكي وبإشراف وأوامر (الباشا نوري السعيد).
واصل الشهيد نشاطه الفكري والإعلامي في الصحافة السورية واللبنانية، وكان أهم ما كتب في تلك السنوات كتابه (من أعماق السجون في العراق) الذي طبعه باسم مستعار (محمد راشد) في حزيران عام 1955، وللأسف كان نشر الكتاب خلال تلك السنوات محدودا بسبب الظروف التي تعاني منها دول المنطقة فجميعها تقريبا كانت تعاني من قهر الانظمة الاستبدادية والتابعة وكانت حرية النشر والتوزيع محدودة. فقرر توزيع كتابه خلال مشاركته في مهرجان الشباب والطلبة المنعقد في وارشو عام 1955/ تموز، وبذل جهودا لترجمته باللغة الانكليزية لإطلاع الوفود الاجنبية المشاركة في المهرجان على انتهاكات النظام الملكي لحقوق الانسان والواقع المر الذي يعيشه شعبنا.
سمع الشهيد أخبار ثورة 14 تموز 1958، وكان من ضمن الوفد المقرر مشاركته –كان ضمن الوفد ايضا الشهيد صفاء الحافظ- في مؤتمر نزع السلاح والتعاون الدولي في العاصمة السويدية –ستوكهولم-. بعد مشاركته في أعمال المؤتمر بتأريخ 16 تموز 1958 عاد الى أحضان وطنه ليساهم بحيوية ونشاط في الحياة السياسية الجديدة. بعد عودته واجازة صحيفة الحزب الشيوعي (اتحاد الشعب) أصبح عضوا نشطا وفعالا في هيأة تحريرها، ومارس الشهيد كتاباته الصحفية على صفحاتها، واشتهر بعموده اليومي (كلمة اليوم) في الصفحة الأخيرة. كان هذا العمود بأسلوبه المتميز بقوة المعنى وعمق الفكرة وبساطة الجملة ذا وقع عظيم في نفوس ومشاعر ابناء الشعب، وكان له تأثير قوي عاصف في عقول الناس حتى يقال أن الزعيم عبد الكريم قاسم قال عنه: (رصاص رأس القرية ولا كتابات عبد الجبار وهبي). كان ذو مقدرة عالية في تشخيص السلبيات واختيار مواضيعها وربطها بحكايات شعبية ليشد القارئ إلى الهدف الذي يكتب عنه. كان اسلوب الشهيد في تناوله للظواهر والممارسات السياسية السلبية (خاصة تلك التي تمس هموم الشعب) وقع كبير وجرئ بحيث أن الزعيم عبد الكريم قاسم فضل رصاصات رأس القرية يوم محاولة اغتياله على العمود اليومي للشهيد –ابو سعيد-!. وما زالت مواضيعه تحتفظ بقيمتها لغاية اليوم، إنها مواضيع حيوية تتناول بأسلوب نقدي لاذع وساخر الواقع المأساوي الذي يعيشه شعبنا، ولو نشر عموده المعنون (سارق الأكفان) في يومنا هذا لتصور البعض أن كاتب العمود يعيش معنا اليوم، وهو حقا يعيش معنا خالدا بكتاباته وأفكاره العاكسة بصدق ودقة لهموم الناس. ومن كتاباته الصحفية: (أبو شوارب) ، (كان أمس)، (اقطاب وأذناب)، (شائعات وأشياء أخرى) ومقاله الشهير (اسأل الشرطة ماذا تريد وطن حر ونوري السعيد!؟) وغيرها من كتابات ناقدة للاوضاع السياسية والاقتصادية ولحالة التردي في الوضع السياسي.
لم تتحمل أجهزة الزعيم عبد الكريم قاسم القمعية عمود الشهيد (كلمة اليوم) فضايقته وزجت به في المعتقل (حجز)، بأمر الحاكم العسكري أحمد صالح العبدي دون أن توجه له أية تهمة قانونية سوى "انه يشكل خطر على أمن الجمهورية"!؟. وتنقل في الحجز بين مديرية الأمن العامة وسجن رقم واحد في معسكر الرشيد. لكن الشهيد لم يستسلم لهذه الضغوطات وخرج من المعتقل في أواخر 1961 بتأثير الضغط الجماهيري، ليعيش في أحضان شعبه وملهمه الأول في كتاباته، وهو أكثر تصميما على مقارعة الدكتاتورية والحفاظ على مكاسب ثورة 14 تموز وفضح قوى الردة التي أحكمت سيطرتها على جميع مؤسسات الدولة الأمنية.
ولكن يوم الجمعة 8 شباط 1963 سيطر الانقلابيون البعثيون على الحكم، وبدأت مرحلة جديدة دموية في حياة الشعب العراقي. وتعرض الحزب الشيوعي إلى هجمة بربرية للقضاء عليه، وأقدمت سلطة البعث على اعتقال الالاف من الشيوعيين وأصدقائهم وتعريضهم لشتى صنوف التعذيب البربري وتصفية المئات منهم تحت التعذيب وفي مقدمتهم قادة الحزب (سلام عادل ورفاقه)، كل ذلك في محاولة يائسة في تصفية الحزب الشيوعي. لقد أفشل الشعب العراقي وشجاعة وتصميم القيادات الحزبية الناجية من الاعتقال، محاولات الانقلابيين اليائسة، فاحتضن الشعب كوادر وقيادات الحزب ووفرت لهم الملجأ الآمن لإعادة تنظيم صفوف الحزب وتضميد جراحه وقيادة الجماهير مجددا. وكان عبد الجبار وهبي ورفاقه جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي قد شكلوا مركزا جديدا للحزب لقيادته وإعادة نشاط منظماته وتجميع أعضائه الذين نجوا من الاعتقال. فنشطوا وعملوا بجد وحذر في الخفاء لإعادة بناء الحزب وجمع كوادره ومنظماته وقيادة النضال من أجل اسقاط الانقلابيين. لكن شدة وشراسة الهجمة وهستيريا الانقلابيين وخيانة بعض الضعفاء بعد فشل حركة الشهيد حسن سريع ساهمت في اعتقال قيادة الحزب الجديدة ممثلة بجمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وعبد الجبار وهبي. واعتقل القادة الشجعان يوم 7 تموز 1963 في دار والد الدكتور عطا الخطيب وأعلن عن إعدامهم يوم 19 تموز 1963(3).
يروي المؤرخ الراحل د. علي كريم سعيد نقلا عن محمد علي سباهي شراسة وبربرية التعذيب الذي لاقاه الشهيد عبد الجبار وهبي ورفيقيه، فيكتب: {يقول الضابط محمد علي سباهي الذي كان عضوا وأحد مؤسسي المكتب العسكري لحزب البعث العربي الاشتراكي قبل 8 شباط: "في عام 1963 زرت في قصر النهاية عمار علوش وكان مشرفا على التحقيقات، فرأيت عنده عبد الكريم الشيخلي -وزير خارجية فيما بعد- وأيوب وهبي وخالد طبرة، وفوجئت بالصحفي عبد الجبار وهبي ممدوداً على الأرض وكان على وشك الموت ويطلب الماء، ويجيبه خالد طبرة -مدير عام فيما بعد-: "ها كواد تريد مي –ماء-!!"، ولم يعطه}. ويضيف الراحل د. علي كريم سعيد فيكتب في نفس الصفحة: {وكان الدكتور فؤاد بابان قد أخبرني بمدينة السليمانية عام 2001 قائلا: "كنت معتقلا في قصر النهاية، فرأيت عبد الجبار وهبي -أبو سعيد- منشور الرجل من تحت الركبة بآلة نشر خاصة، وكان إلى جانبه شخص آخر لديه يد واحدة معلق منها}(4).
وبعد أن روى الكاتب علي كريم سعيد ما ذكره له بعض المسؤولين البعثيين عن تعذيب الشهيد عبد الجبار وهبي، يواصل كتابته ليروي بعض ما سمعه من هؤلاء البعثيين وشهادتهم على أحداث وجرائم الانقلابيين في 8 شباط في حق القيادة الجديدة للحزب (جمال الحيدري محمد صالح العبلي وعبد الجبار وهبي) وما لاقوه من تعذيب بربري وعن مواقفهم البطولية الشجاعة، فيكتب: {وقد روى لي الدكتور حامد أيوب العاني عن شركاء سجن محمد صالح العبلي بأنه، أي العبلي، كان مازال على قيد الحياة عندما اُذيع نبأ إعدامه، وكان الهدف من إبقائه حيا يوماً آخر هو مساومته، فقد جاء وزير الدفاع صالح مهدي عماش وأسمعه نبأ إعدامه مذاعا من إذاعة بغداد، وساومه قائلاً: "لقد اذيع خبر إعدامك، وأصبح في علم الناس جميعاً انك في عداد الموتى." وأخرج من جيبه شيكا موقعاً على بياض وقال: "ضع المبلغ الذي تشاء وبلا حدود، واختر البلد الذي ترغب أن تعيش فيه، وأنا شخصيا أضمن لك ذلك، مقابل ترك العمل". وحتما كان يقصد بترك العمل والاعتراف أيضا. وبالنسبة لمحمد صالح العبلي كان ذلك أسوأ من الموت، رفض فقتل. وقد روى خالد طبرة –عضو هيئة التحقيق ومدير عام بعد 1968- لصفاء الفلكي –سفير في أكثر من بلد، وعضو في حزب البعث وشارك في كل المراحل السابقة- قائلا: "حفرنا أنا وسعدون شاكر –وزير داخلية ومدير أمن عام بعد ناظم كزار- قبراً لمحمد صالح العبلي، وأنزلناه الى القبر –الحفرة-  وبعد مَدِّه بداخله، طالبه سعدون شاكر بالاعتراف أو الموت!؟ فرد العبلي بشجاعة واتهمنا بخيانة الوطن. فأطلق عليه سعدون شاكر فوراً دون أن يعترف أو يتنازل، وحصل الأمر نفسه مع الضابط مهدي حميد وحمزة سلمان الجبوري}(5) .
كان بودي أن أوثق كتاب الشهيد (من أعماق السجون في العراق) بالصور المتنوعة عن حياة ونشاط الشهيد، بما فيها صوره مع عائلته وأبنائه، إضافة لبعض مخطوطاته اليدوية من كتابات ورسائل تبادلها مع عائلته أثناء ابتعاده عنهم أو خلال مرافقته لهم. فاتصلت بكريمته السيدة الفاضلة نادية (الفنانة أنوار عبد الوهاب) أسألها أن تزودني بما تمتلكه العائلة من تلك الصور والكتابات. فأخبرتني بألم وحزن يتقطع له القلب، وهذا ما لم أتفاجأ به، بأن الأنقلابيين البعثيين في 8 شباط 1963 دخلوا بيت الوالد وأتلفوا ونهبوا كل موجوداته بما فيها الصور والرسائل العائلية ولم نتمكن استعادتها من بعد!؟ وكل ما تملكه صورة وحيدة (الصورة المنشورة بزي التخرج الجامعي)، والصورة كانت مهداة للراحل الوطني فريد الأحمر، وقد أعادها للعائلة بعد أن عرف ان الفاشيين لم يتركوا أي أثر لذكريات العائلة عن الشهيد!. ربما سيقرأ مقالتي هذه زملاء أو رفاق للشهيد جمعتهم صورا لهم معه فأرجو شاكرا ارسالها على عنواني لأضمها في كتابه.
بهذه الشراسة والهمجية الفاشية تعامل البعثيون، قادة انقلاب 8 شباط 1963 الدموي، مع القيادات الشيوعية وأصدقائهم بهدف القضاء عبثاً على الحزب الشيوعي وتنظيماته. وقد أثبتت لهم القيادات الناجية من بطش البعث وحرسه القومي انها قادرة على إعادة تنظيم الحزب وقيادة نضال الشعب، وبذلك أكدت صحة مقولة الخالد فهد (الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق). لا الارهاب وممارسة ابشع أنواع التعذيب الجسدي والنفسي، ولا التصفيات الجسدية التي مورست مع قيادات وكوادر وأصدقاء الحزب، جميع هذه الممارسات لم تكن قادرة لإشاعة الرعب والخوف والحط من معنويات الناجين من الشيوعيين لمواصلة المسير. ولم تثن هذه الممارسات عبد الجبار وهبي ورفيقيه البطلين جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي من تشكيل مركزا حزبيا لقيادة الحزب، متحدين بذلك همجية الانقلابيين، لمواصلة جمع الصفوف وتنظيمها والعمل من أجل مصالح الشعب. هكذا كان الشهيد عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) ورفاقه العبلي والحيدري. فلتعش ذكراهم منارا ينير الدرب لكل من يناضل من أجل عراق ديمقراطي حر مستقل، والمجد والخلود لكل شهداء الحركة الوطنية.

محمد علي الشبيبي
alshibiby45@hotmail.com
السويد ‏10‏/09‏/2012

*- مصادر المعلومات عن الشهيد –ابو سعيد- مستقاة من مجموعة كتابات وحوارات نشرت في الصحافة والمواقع الالكترونية عن حياة الشهيد.
(1)- الفلسفة كلمة مشتقة من اللفظ اليوناني وتعني محبة الحكمة أو طلب المعرفة.  وتوصف الفلسفة أحيانا بأنها "التفكير في التفكير"، أي التفكير في طبيعة التفكير والتأمل والتدبر والميل للبحث والتساؤل والتدقيق  في كل شيء والبحث عن ماهيته ومختلف مظاهره وأهم قوانينه./ من (وكيبيديا الموسوعة الحرة)  
(2)- هذا ما ذكرته المناضلة نظيمة وهبي في مقالة نشرت في مجلة "الفكر الجديد" عام 1978.
(3)- د. علي كريم سعيد/ العراق البرية المسلحة حركة حسن سريع وقطار الموت 1963 صفحة 59.  
(4) و (5) – نفس المصدر السابق صفحة 62.


64
من أعماق السجون في العراق*  /13

الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963

ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

المذبحة الكبرى/ 2
ولنعد الى سياق القصة، قلنا ان المعاون (عبد الوهاب عبد القادر) بعد ان تلقى موافقة "الباشا" على أخذ السجناء الخمسة عشر بالقوة، اصدر أمره بالهجوم، وكانت الساعة قد جاوزت الرابعة صباحاً من يوم 3 أيلول 1953. فبدأ الهجوم على مواقع السجناء السياسيين المجتمعين، والمطوقين في نصف دائرة، امام الردهتين 3 و 4 ، بدأ –كما قلنا- على جبهتين، على الارض بالهراوات وقضبان الحديد والخناجر والحراب، ومن على السطوح والأبراج برصاص البنادق والرشاشات والمسدسات.
اما السجناء العزل فلم يجدوا في متناول ايديهم غير قشور الرقي (البطيخ) ، يدافعون بها عن انفسهم امام الهراوات وقضبان الحديد والرصاص. وبعد الاشتباك بفترة وجيزة هرول عدد من رجال الشرطة والسجانة نحو الباب فخرجوا وتبعهم آخرون. ثم عادوا بالبنادق وجاء بعضهم بالرشاشات فنصبوها في ساحة السجن على بعد 20 متراً من موقع السجناء وصاروا يطلقون منها النار ......
صدرت الاوامر بجلب الاسلحة النارية الى داخل السجن من قبل مدير السجون العام (طاهر الزبيدي) ومعاون الشرطة (عبد الوهاب عبد القادر). وقد كان طاهر الزبيدي بادي النشاط،  فكان يتجول بين "أولاده" ويشجعهم وينخاهم ويحمسهم: "اي ولدي ... يا الله اولادي ! ..."
وتعطل نظام الإضاءة، فدارت المعركة في الظلام الدامس، لولا انبثاقات خاطفة من نيران البنادق والرشاشات، تضيء مواضع متفرقة من ساحة المعركة.
ما هذا ... لم كل هذا؟ لم كل هذه النار؟ اي جحيم من الحقد يضمره لنا المستعمرون والخونة!
كان الغضب المتأجج في دماء المناضلين، والشعور بالخطر الداهم والعزم على الصمود امام الخطر، قد قلب في لحظة واحدة، ضعف السجناء ومرضهم واغماءهم، ..... الى قوة عارمة، قوة تريد ان تفتك وتحطم وتنتصر! ... ولكن ماذا تستطيع قشور الرقي وقليل من الاحجار وبعض الهراوات التي انتزعها المناضلون من أيدي العدو، ماذا تستطيع ان تصنع امام النار، امام عدو متحصن ومتفوق بالعدة والعدد.
اسرع السجناء الى الغرف القريبة منهم للاحتماء بها من النار وخلت الساحة، إلا من مشرعي الهراوات والرصاص، ومن القتلى والجرحى الذين عجزوا على الزحف بأعضائهم المهشمة الى الغرف ..... فكان اولئك السجناء هدفاً رخيصاً لانتقام وحشي دنيء. هراوات غليظة وقضبان حديدية واخامص بنادق تنهال على جماجم فاقدة الوعي، تتلوى وتتدحرج يميناً وشمالاً على أرض ناقعة بالدم، وأجساد محطمة عاجزة تسحقها البساطيل، وتتعثر بها الارجل!
تحت ضوء الفجر الساكن، بدت الساحة، كمشهد غابة تعج بأشباح ذئاب بشرية، تتواثب حول فرائسها في نهم، وتعوي من لذة! مشهد ينبو حتى عن ساحات الحروب .....
تركزت النار على ابواب الغرف والشبابيك، ..... وهجم السجانون ....، على الابواب والشبابيك فمدوا بنادقهم فيها وأطلقوا النار في أحشاء الظلام، وأحشاء المناضلين.
ولما توقف اطلاق الرصاص، داخل السجن، بعد نصف ساعة من انطلاقه، كان في الساحة عشرات الجرحى وخمسة من الشهداء: 1- هذا، جبار الزهيري، وبالأحرى جثة جبار الزهيري. فقد اصيب هذا المناضل بطلقة في رأسه، امام الردهة رقم 5 قريباً من الفرن. وفارق الحياة حالاً. وهو في الثلاثين من عمره.
 (جبار الزهيري) ابن عائلة كادحة من ريف العمارة، اراد الالتحاق بدار المعلمين الابتدائية بعد تخرجه من المدرسة المتوسطة في العمارة، ليصبح معلماً. فلم يقبلوه، فتطوع في الجيش العراقي وحصل عام 1945 على رتبة نائب عريف في صنف البيطرة. لكنه طرد من الجيش واعتقل وعذب ..... وخرج من الاعتقال والتعذيب، صامداً مرفوع الرأس. واعتقل في كركوك بعد مجزرة كاورباغي(1) .... واعتقل للمرة الثالثة يوم 17/9/1948 اثر مظاهرة الكاظمية المعروفة ..... وكان "جبار" في ذلك الحين يعمل نجاراً .... وفي التوقيف عذب ونقل مراراً من معتقل إلى آخر، دون ان يفقد شيئاً من معنوياته وإيمانه. ثم حكم عليه المجلس العرفي العسكري بالسجن ثلاث سنوات، اضيف إليها وهو في السجن احكام أخرى حتى بلغ حكمه سبع سنوات. قضى ثلاثا منها في نقرة السلمان ثم نقل إلى الكوت عام 1951 بعد الاضراب البطولي عن الطعام الذي قام به السجناء السياسيين حينذاك .........
2- وهنا، فيما بين الفرن ومطبخ السجناء العاديين جثة أخرى، جثة سابحة في الدم مطموسة المعالم، تعرف عليها الرفاق فيما بعد، بعد ان سحبتها الشرطة الى باب السجن ثم إلى الأسوار، انه (هاني هلال)، الشاب المتواضع الهادئ. اصابته صلية رشاش فتركت في جسده ست رصاصات. "هاني هلال" اسم مستعار، تسمى به حينما القي القبض عليه في مظاهرة 20 حزيران 1953 التي اقيمت احتجاجاً على مذبحة سجن بغداد. فحكم عليه المجلس العرفي العسكري بكفالة حسن سلوك لقاء 200 دينار من شخص ضامن. فلما عجز عن تقديم الكفيل، اودع السجن سنة واحدة. كان اسمه الحقيقي (هادي جواد) وهو من أهل الكاظمية، وابن عائلة فقيرة كادحة. كان عامل خياطة محبوباً .... انتخب عضواً في هيئة المراقبين لنقابة عمال الخياطة ببغداد، .... وكان الى جانب ذلك عضواً نشيطاً في لجنة انصار السلم لعمال الخياطة في بغداد، وعضواً فعالاً في اتحاد الشبيبة الديمقراطية العراقي. زهرة يانعة تزخر بالآمال وتبشر بثمرة طيبة .....
3- ومن صرعى الرصاص في ساحة السجن الشهيد (محسن هداد) عامل الكهرباء الذي اصيب برصاصة في جنبه، وضربوه بالهراوات وسحقوه بالبساطيل حتى فارق الحياة ...... كان عنصراً ثورياً من أهل مدينة الشطرة، .... اعتقل في مدينة الناصرية قبل ثلاثة أشهر فقط من وفاته، فحكم بالسجن سنة ونصف. توفي وهو في السادسة والعشرين من عمره.
4- (حسن مهدي)، عامل نسيج، صريع آخر من صرعى الرصاص في ساحة السجن، تلقى رصاصة في بطنه فسقط على الأرض وظل يهتف بنفس متقطع: تعيش الطبقة العاملة، يعيش نضالنا الثوري. فضربوه بالهراوات وسحبوه الى الباب وهو في النزع الأخير، وطرحوه مابين غرفة الادارة وغرفة "المسلخ".
كيف يستطيع الانسان ان يهتف للطبقة العاملة والنضال الثوري وهو بين مخالب الموت، وتحت الهراوات ... كيف يستطيع؟ ثم، كيف يجرأ؟
كان أحد السجانين واقفاً إلى جوار حسن مهدي، يتفحص جسده الذي تصطرع فيه الحياة والموت، ويفكر ... كيف يجرأ هذا الشيوعي على الهتاف! فركله بحذائه ركلة قاسية، وهو يقول، في روح من الدعابة الشامتة وفي شيء من التهديد:
- "... والان، اتقول: يعيش نضالنا الثوري ... الموت او مطاليبنا؟ اتقول؟ ..."
- نعم أقول! ... أقول! ... الموت او مطاليبنا، ويعيش نضالنا الثوري ........
كان حسن مهدي وعمره 19 سنة يفرغ في تلك الكلمات كل روح التحدي والحقد، وكل قواه أيضاً. وتوفي بعد نقله الى المستشفى، ..... كان حسن مهدي بطلاً  شاباً من أعماق الجماهير. فأبوه حمال وأهله كادحون مدقعون، اشتغل منذ طفولته بمعامل النسيج اليدوي في الكاظمية وارتاد دار نقابة عمال النسيج في الكاظمية، وهو صغير ليتعلم القراءة والكتابة ثم صار عاملاً نقابياً نشطاً محبوباً محترماً. برزت بطولته لأول مرة في مظاهرات وثبة تشرين الثاني 1952. ففي إحدى تلك المظاهرات طوقت الشرطة جمهوراً من المتظاهرين وأصلتهم وابلاً من الرصاص. فوقف حسن في مقدمة المتظاهرين، قائلاً: "أما الحياة أو الموت ... لا تتفرقوا!" لقد استهان حسن ابن الطبقة العاملة بالموت من أجل حياة أفضل، حياة جديرة بان يحياها الناس العاملون المنتجون .........
5- واصاب الرصاص المناضل الشيوعي (رؤوف الدجيلي)، عند عتبة الردهة رقم 3، فتمزق صدره. ثم ضربوه وسحبوه الى الاسوار حيث فارق الحياة. وكان رؤوف الدجيلي طالباً في كلية الهندسة حينما القي القبض عليه عام 1949. فعذبوه، ثم حكم عليه المجلس العرفي العسكر بالسجن سبع سنوات. كان محبوباً من رفاقه الطلاب ومن أهل مدينته (الكوفة) ومن رفاقه السجناء، ظل مخلصاً لشعبه، ...........
وحينما كان رؤوف الدجيلي طريحاً على الارض (في الاسوار) فاقد الوعي، اجتمع عليه السجانون: ابراهيم، وقاسم، ولطيف، يضربونه ويرفسونه. والسجان لطيف يصرخ: تريد ماي؟ خذ! تريد ماي ... خذ! ويضربونه بوحشية بالغة، حتى فارق الحياة عن خمسة وعشرين سنة من العمر.
6- وهناك، بالاضافة الى من تقدم ذكرهم من الشهداء الخمسة الذين اصيبوا بالرصاص في ساحة السجن، عدد آخر من جرحى الرصاص وعشرات من الذين سقطوا بضربات مباشرة من الهراوات على رؤوسهم، ثم ضربتهم الشرطة وسحقتهم وسحبتهم الى الأسوار، ومات من هؤلاء بعد نقلهم الى المستشفى شهيدان، أولهما (عبد النبي حمزة)، مات بنتيجة الضرب والسحق وجاء عنه في خلاصة التقارير الطبية التي نشرتها جريدة "الدفاع" انه توفى في المستشفى، بعد المجزرة ببضع ساعات، ووجد الحجاب الحاجز في جوفه ممزقاً. كان عبد النبي حمزة ابن عائلة فقيرة كادحة من الاكراد (الفيلية). ....  وعند تسريحه من الجيش في أواخر 1948، عانى البطالة والحرمان والتشرد، حتى اشتغل عاملاً في مكابس التمور. فنشط بين عمال المكابس، واشترك في مظاهرات النجف والقي القبض عليه مرات عديدة، كان آخرها بتهمة كتابة الشعارات الوطنية على الجدران، ..... واستشهد عن عمر لا يتجاوز الثلاثين سنة.
7- والشهيد السابع يحيى عباس البارح من اهل بغداد، مناضل ديمقراطي واكب الحركة الثورية منذ 1946 وساهم في مظاهرات جماهير بغداد. واعتقل في احدها في 5 أيلول 1948 فحكم عليه المجلس العرفي العسكري بالحبس لمدة سنتين. أمضى مدة سجنه في نقرة السلمان. وعند اطلاق سراحه، سافر الى ايران واتصل بالمناضلين الايرانيين وبعد رجوعه الى العراق كتب سلسلة مقالات قيمة في الصحافة العراقية بعنوان (انا عائد من ايران) والقي القبض عليه مرة أخرى بعد وثبة تشرين الثاني 1952 فحكم عليه المجلس العرفي مرة أخرى بالسجن سنتين. كان قصاباً في مهنته، تابع دراسته المتوسطة في المدارس المسائية. واستشهد بالضرب باخامص البنادق والهراوات والبساطيل، وفارق الحياة في المستشفى بعد بضع ساعات من المجزرة عن عمر جاوز الثلاثين تاركاً وراءه زوجة وأطفالا.
كان الكثير من السجناء قد احتمى بداخل الردهات –كما قلنا- وهناك تعقبهم الرصاص من الابواب والشبابيك حتى تطاير الاسمنت شظايا، وتلوت القضبان الحديدية. وتقدم بعض السجانين فمدوا بنادقهم من الشبابيك واقتحم بعضهم الآخر الأبواب وأطلقوا رصاصهم في أحشاء الظلام، وأحشاء المناضلين.
8- وفي داخل الردهة الثانية، اصيب المناضل القديم أحمد علوان التميمي بطلقتين في بطنه، اطلقهما عليه السجان (يونس) وطعنوه بعد ذلك بحربة في رأسه. وحينما حملوه الى "المسلخ" ضربه السجان (لطيف) على صدره ورجليه. كم كان هذا المناضل الكهل محبوباً محترماً لدى رفاقه، مرهوباً محقوداً عليه لدى سلطات السجن!
نشأ أحمد فلاحاً من فلاحية في قضاء ابي الخصيب من لواء البصرة. ثم تعلم القراءة والكتابة، وامتهن الضرب على الالة الطابعة.
اشترك في اضرابات عمال النفط بايران في آواخر العشرينات (1920 وما بعدها) وسجن هناك ثلاث سنوات لنشاطه الثوري ، ثم عاد الى العراق وساهم في اضرابات عمال البصرة في الثلاثينات، ثم اصبح شيوعياً وانضم للحزب الشيوعي العراقي. .... اعتقل في أواخر 1948 أبان نكبة الحزب الشيوعي المعروفة. فحكم عليه المجلس العرفي بالسجن سبع سنوات، أمضى ثلاثاً منها في سجن نقرة السلمان ثم نقل الى الكوت مع من نقل إليها.
كان محبوباً جداً بين رفاقه ومحترماً، معروفاً بروحه الأبوية ومعنويته العالية، مات مخلصاً متواضعاً لشعبه وحزبه، أميناً لأفكاره ..... وفي ساعات احتضاره هتف بحياة قادة الحزب الشيوعي العراقي. استشهد عن عمر جاوز الخمسين سنة وترك وراءه زوجة وأطفالاً.


محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب مع الاختصار بدءا من الحلقة 6/ الناشر: محمد علي الشبيبي
 (1)- في عام 1946، اضرب عمال نفط كركوك، اضراباً شاملاً من أجل مطالب اقتصادية، وخلال ايام الاضراب كان يجتمع عدة آلاف منهم في مكان خارج المدينة يقال له "كاورباغي" يتكلمون ويتناقشون. فلما عجزت شركة النفط العراقية (IPC) والسلطات المحلية عن كسر إضرابهم، احضرت قوة كبيرة من الشرطة فطوقت المكان وأطلقت النار على العمال المجتمعين، بحجة تفريق اجتماعهم. فجرح عدد كبير واستشهد بعض العمال، وقد كشف التقرير الرسمي الذي كتبته لجنة قضائية ارسلت الى كركوك تحت ضغط الرأي العام، ان الشرطة اطلقت النار على العمال بعد تفرقهم. وانها لاحقتهم حتى ازقة المدينة وصوبت عليهم في داخل البيوت، وعلى الاشجار التي تسلقوها للنجاة. كانت مذبحة مروعة وفضيحة كبرى!



يتبــــــــــــــــع


65
من أعماق السجون في العراق*  /12

الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963
ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

المذبحة الكبرى/ 1
في الأيام الأخيرة من الحصار، كان الموقف الرسمي كما يلي:
الحكومة تريد "تفتيش" السجن، وتمنع الطعام والماء ... ولكنها عملياً ترفض تنفيذ ما تريد، والسجناء لا اعتراض عندهم على التفتيش بعد ما تبين موقفهم عملياً خلال ثلاث تفتيشات سابقة أستحوذت الإدرة حتى على البراميل والزيرات الفارغة ...الخ
وفي تلك الايام الأخيرة، ..... لم يطرأ على الموقف أي تغير، عدى ان الحكومة قد استوثقت من نفاذ طعام السجناء وخوار قواهم الجسدية وسقوط أكثرهم مرضى.
في صباح الثاني من أيلول (سبتمبر) سنة 1953 طلب السجناء استدعاء طبيب السجن لمعالجة المرضى، وكان قد مضى على الحصار اثنان وثلاثون يوماً، فانتهز مدير السجون العام تلك الفرصة لاستدعاء ممثل السجناء. واتضح للمثل حالاً ان الحكومة "راغبة" في استئناف المفاوضات حول التفتيش، بحثاً عن الاسلحة. فلم يجد بداً من القبول والموافقة على التفتيش المزعوم، بحثاً عن أسلحة مزعومة، لكن السجناء أشترطوا شروطاً:
1- لا يسمح إلا لعدد صغير من الشرطة والسجانين بدخول السجن.
2- ان تمتنع الشرطة والسجانون من كل اعتداء او استفزاز.
3- ان يجري التفتيش في جانب معين من السجن، بينما يجتمع السجناء في الجانب الآخر، فإذا انتهى التفتيش في ذلك الجانب انتقل السجناء كلهم إليه وتحولت الشرطة الى الجانب الاول لإتمام عملها. وذلك منعاً للاحتكاك بين الطرفين.
4- ان يدخل الطعام والماء حالما يبدأ التفتيش وان ينتهي الحصار.
وفي الساعة الواحدة بعد الظهر، دخل السجن للقيام بالتفتيش، مدير السجن ومأموره ومعاونوه وعدد من مفوضي الشرطة العلنية والسرية وعدد آخر من السجانين، وعند دخولهم، طلب السجناء احترام بنود الاتفاق. فكان جواب مدير السجن: التهديد بادخال 350 شرطياً للهجوم على السجناء "وتأديبهم". وبدأوا التفتيش "بحثاً عن أسلحة" بمصادرة الحقائب والصناديق العائدة للسجناء ومواقد النفط (البابورات) .... وجمعوا الحصى والحجارة من الساحة، وقلعوا المسامير من الجدران .... فاحتج السجناء على مصادرة الحقائب والصناديق ومواقد النفط ... فكان جواب مأمور السجن "جبار" يكشف عن خطة مبيتة، إذ قال: ان تلك الاشياء ستؤخذ حتماً على كل حال.
استمر العمل ساعات متوالية، وهبط الليل، فسلطوا على الساحة انوار ساطعة، وعلى تلك الأنوار كان المفوضون والجواسيس والشرطة وبعض السجناء العاديين الأشرار، يتفحصون عن بعد وجوه السجناء ويتعرفون بإشارات يبديها بعضهم الى بعض، على "الزعماء" حسب ظنهم.
اما عن الطعام والماء فلم يحصل السجناء منهما، .... ثم جيء لهم، بعد عدة ساعات من الانتظار، بوجبة طعام من الخبز والرقي والكباب. وكان السجناء قد سلموا للمأمور نقوداً ليشتروا بها لهم التبغ والشاي والسكر! فوعدهم خيراً، إلا انه فضل الاحتفاظ بنقود السجناء .....
وحينما انتهى التفتيش في الجانب الاول من السجن، انتقل السجناء إليه فأحاطت بهم الشرطة وطوقتهم. وكان عدد الشرطة  يتزايد ساعة بعد ساعة، .... حاملين هراوات والعصي الغليظة وقضبان الحديد ومتمنطقين بالخناجر والحراب. ولم يكن معهم من الاسلحة النارية غير المسدسات التي يحملها المفوضون وأصحاب الرتب العالية من ضباط الشرطة وموظفي السجن. وظهر السجناء العاديون الاشرار عند الباب يحملون القضبان والسكاكين .... فكان يبدو أكثر فأكثر، ان الحكومة سائرة في تنفيذ خطة مرسومة مبيتة، وان الاستعداد لها  يكتمل شيئاً فشيئاً.
وفي الجانب الاخر من السجن سلبوا اثناء التفتيش "بحثاً عن "الأسلحة" سلبوا المكتبة التاريخية التي أنشأها سجناء الكوت السياسيون كما سلبوا الادوات الطبية وجميع ما في صيدلية السجناء الخاصة من عقاقير كما سلبوا الاواني والملاعق ... وغيرها. وكانوا يهددون السجناء ويتوعدونهم قائلين: انتظروا قليلاً لتروا ما سيكون ... انتظروا ان بقيتم أحياء!
واختتموا التفتيش بان صبوا بالبئر (الاسيد فينيك) وهدموا السقيفة وحولوا اعمدتها الى هراوات. ووقفوا (وكان عددهم نحو 140 شرطياً وسجاناً) على أهبة الاستعداد وكأنهم يتحفزون لتنفيذ أمر معلوم. كانت الساعة حينئذ قد جاوزت الثالثة بعد منتصف الليل، فقد استغرق التفتيش 14 ساعة متوالية!.
كانت مدينة الكوت تستمتع بنوم عميق .... وقد طغى هدير المياه المتدفقة من بوابات سدة الكوت، على كل صوت آخر .... فقد أمرت السلطات المحلية في تلك الليلة بفتح جميع بوابات السدة، خلافاً لما هو مألوف .....
ان أهالي الكوت لم يفطنوا الى الهدير الطاغي ولم يسألوا أنفسهم عنه إلا بعد ان استيقظوا في الصباح، واخذوا علماً بما جرى في السجن، ولم يفطنوا كذلك الى خداع الحكومة .... حيث اشاعت خبر انتهاء الحصار، وان تؤيد الاشاعة بمظاهر عملية لفتت إليها الانظار كان أبرزها شراء عشرات الكيلوغرامات من الخبز والكباب وأضعاف ذلك من الرقي، من سوق المدينة الصغير ........
وتوزعت الشرطة في الليل على المراكز الهامة في الشوارع والأزقة واحتشد منها في السجن وبجواره بضعة مئات. فلما انتهى "التفتيش" بعد الساعة الثالثة صباحاً، كانت القوات في أماكنها المرسومة وكان كل شيء مهيئاً .... لم تعد ثمة حاجة الى التستر والكتمان، فظهرت فوهات البنادق والرشاشات على السطوح والأبراج ووقف 140 شرطياً وسجاناً وعدد من المفوضين والمعاونين في ساحة السجن، مقابل الردهتين المرقمتين (3) و (4)، حيث تجمع السجناء، فأحاطوا بهم في نصف دائرة. وصار السجانون يشخصون "الزعماء" حسب ظنهم، ويشيرون إليهم بإشارات وقحة ليعرفوا عليهم الشرطة القادمين من خارج السجن.
ثم بلغ الموقف اقصى حدود التأزم والخطر حينما كشفت الحكومة، بعد ان كان التفتيش قد انتهى ولم يعد ثمة مبرر لاحتشاد الشرطة والسجانين داخل السجن. حينما كشفت عن خطتها للقيام باستفزازات أخرى. وذلك عندما طلبت إدارة السجن ، في نحو الساعة الرابعة، إخراج ثلاثة من السجناء الطيبين (غير السياسيين). فخرج السجناء الثلاثة بلا اعتراض فقادهم السجانون الى الخارج. ثم نودي على ممثل السجناء وقيل له: ان الباشا (مدير السجون العام) ارسل في طلبه، فخرج الممثل الثاني فذهب أيضاً، بدون ابطاء.
وفي إدارة السجن، حيث كان "الباشا" مدير السجون العراقية العام ساهراً على واجبه حتى الساعة الرابعة صباحاً التقى الممثل الأول بالباشا، فطلب الممثل من المدير ان تنسحب الشرطة والسجانة من السجن، بعد ان انهت مهمتها، ولاجتناب ما قد يقع نتيجة لاستفزازاتها وتحرشاتها. فأجاب المدير بالموافقة. ولكن الممثل حال خروجه من عنده، اقتيد مع الممثل الثاني بقوة الى مركز شرطة الخيالة وهناك قيدوا ارجلهما وأيديهما بالسلاسل الحديدية.
وفي تمام الساعة الرابعة صباحاً (3/9/1953)، عاد مدير السجن (جهاد حسين الجاف) الى السجن، حاملا بيده قائمة صار يقراها بصوت جهوري، وبلهجة آمرة رسمية جافة. قرأ أسماء 15 سجيناً سياسياً "يهودياً"، ثم طلب ان يخرج هؤلاء السجناء فوراً.
لماذا؟ ما المقصود بهذا التفريق؟ بين يهود وغير يهود. اية مؤامرة بيتت الحكومة لهؤلاء الرفاق والإخوان؟ وهل ستتوقف الحكومة عند هذا الحد ام ان هناك طلبات أخرى؟ ماذا ينبغي الآن؟ ما العمل؟
كان السجناء يفكرون ويتشاورون فيما بينهم. فقد أزعجهم وأقلقهم هذا التفريق المصطنع بين يهودي ومسيحي ومسلم، وهم الذين قاوموا سياسة التفريق الاستعمارية واستهجنوا التمييز العنصري والطائفي.
ألم يستشهد منذ اسبوعين، وحيد منصور الى جانب صبيح مئير؟ ألم تمتزج دماء العرب والكرد والاثوريين والأرمن والترك، دماء المسلمين والمسيحيين واليهود في مذابح الشوارع والسجون؟
صعب على السجناء السياسيين ان يسمحوا للمناورات الاستعمارية والرجعية ان تفرق بينهم وتصدع وحدتهم ووحدة جماهير الشعب المناضلة. فانبرى بعض السجناء للمدير، يقولون له:
"نحن لا نستطيع ان نقرر هذا الأمر، بغياب ممثلنا. ارجعوا ممثلينا أو تفاهموا معهما. اطلبوا موافقتهما. بدونهما لا نستطيع ان نقرر شيئاً او نتفاوض على شيء.
فارتبك المدير بعض الشيء، ووقف في مكانه هنيهة وانصرف دون ان ينطق بكلمة، وكان السجناء يجهلون مصير ممثليهما ......
لم يطل غياب المدير جهاد حسين. فقد عاد مسرعاً بعد مشاورة المدير العام، طاهر الزبيدي. عاد ليخاطب معاون الشرطة (عبد الوهاب عبد القادر) قائلاً بصوت مسموع: وافق الباشا ... خذهم بالقوة!
فأستعد المعاون، ونفخ صدره وأصدر الأمر بالهجوم.
بدأ الهجوم على جبهتين على الأرض، بالهراوات وقضبان الحديد والخناجر. ومن السطوح والأبراج برصاص البنادق والرشاشات التي صوبت نحو السجناء مباشرة، وكانوا مجتمعين، داخل نطاق أمام الردهتين (3) و (4).
يجدر بالقارئ ان يتذكر بان هذا الهجوم، كان لغرض واحد، لا أكثر ولا أقل، هو ان تغربل الشرطة (120) من السجناء السياسيين لتنتزع (15) سجيناً يهودياً من بينهم وتشاء الصدف ان يحطم الرصاص بعض المصابيح الكهربائية فتعطل نظام الاضاءة وعم الظلام!
ما أروع ما تتفتق عنه عقول (الباشوات) من خطط عبقرية ومنطقية جداً، لانتزاع 15 سجيناً يهودياً في الساعة الرابعة من منتصف الليل، وبرصاص الرشاشات والبنادق وتحت جنح الظلام الدامس من بين 150 من السجناء المسلمين والمسيحيين! وما أسفه اولئك الرجال الذين أفلسوا مثل هذا الافلاس الذريع ......
ان تلك الحجج، ان صح أصلاً اطلاق هذا الوصف على اكاذيب مدبري مذابح بغداد والكوت، لم تقنع افراد الفئة الحاكمة وموظفي وزارة الداخلية. وإليك هذه الفقرة المقتبسة من تقرير رسمي (سري) نشرته في حينه جريدة (الدفاع) لصاحبها صادق البصام، الوزير السابق وعضو المجلس النيابي حالياً. يقول التقرير(1):
{اننا نرى في اصرار سلطات السجن على طلبات أخرى من المساجين بعد ان ارهقوا في هذه المدة الطويلة من التفتيش وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل كان غير صحيح. كما ان اصرارها على تنفيذ طلبها فيما يخص 15 مسجوناً وتقديرها اخذهم عنوة كان غير صحيح، وكان من الاوفق تأجيل ذلك الى النهار على الأقل. وانه كان من الأحسن اعطاءهم فترة أطول مع تأمين عدم اجراء هذه العملية إلا في النهار تلافياً للمحاذير المتوقع حدوثها ليلاً. وعليه كان بالمكان تفادي وقوع الحادث بتأجيل اخراج 15 سجيناً}
نعم كان بالإمكان تفادي وقوع الحادث، لو ان كبار المسؤولين أرادوا تفاديه، لو انهم لم يعمدوا سلفاً لتهيئة اسبابه وخلق الجو المناسب لوقوعه، فقد ظن اولئك المسؤولون ان مذبحة اخرى أكثر فضاعة من مذبحتي 18 حزيران و 14 آب، كانت جد ضرورية لحفظ هيبتهم امام شعب متحفز للثورة عليهم وعلى اسيادهم المستعمرين .......
وهذا، لعمر الحق، نوع جديد مبتكر من الرسوم الامريكية يتقاضاها المستعمرون العالميون الجدد، لقاء منح صداقتهم وإهداء حبهم ومساعداتهم للشعوب التي يريدونها ان تكون "حرة". نوع جديد ابتكره العسكريون الامريكان في جزيرة كوجي(2) فجربه نوري السعيد وزملاؤه في سجون العراق، كما جربوا مبتكرات امريكية اخرى كإسقاط الجنسية عن الشيوعيين ....

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب مع الاختصار بدءا من الحلقة 6/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1)- سنقتبس نتفاً اخرى من هذا التقرير الخطير في التعليق على نتائج مذبحة 3 أيلول.
(2)- كوجي: جزيرة في كوريا خصصها الامريكان لأسرى الشعب الكوري المناضل ضد تدخلهم العسكري. وقد اقام الامريكان في معسكرات الاسرى في تلك الجزيرة مذابح دموية كان الغرض منها "اقتناع" الاسرى الكوريين بفوائد الصداقة الامريكية وتفوق الاسلوب الامريكي في الحياة على سواء.



يتبــــــــــــــــع


66


من أعماق السجون في العراق*  /11

الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963
ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

ما بعد 14 آب 1953
هزت جرائم 14/8/1953 الرأي العام العراقي هزاً عنيفاً، .... وبعد تمهيد من الحصار على السجن وقطع الماء والطعام عن السجناء، دام أحد عشر يوماً بغير انقطاع .... وان الحكومة بيتت نوايا أشد اجراماً من كل ما سبق في سجون بغداد ونقرة السلمان وبعقوبة. ولم تستطع الحكومة ان تضعف من وقع الحادث او تتملص من مسؤوليته. فعمدت إلى الصمت واللامبالاة. وكانت الاحكام العرفية المعلنة وقتئذ سلاحاً فعالاً بيدها لقمع كل احتجاج وخنق كل معارضة. نكتفي بان نذكر القارئ بقصة الوفد الذي ذهب لمقابلة الملك في البلاط يوم 17/3/1953، فقوبل بالرصاص واقتيد اعضاؤه الى زنزانات التعذيب ثم الى السجن ليقضوا فيه بين ثلاث وخمس سنوات.
لكن الحكومة مع ذلك حاولت ان تجد لنفسها سبيلاً إلى تبرير جرائم 14 آب. فحضر إلى الكوت في 17 آب وزير الشؤون الاجتماعية (ماجد مصطفى) فأذاع بيانين على السجناء من بوق الإدارة، حدد فيهما، موقف الحكومة. فاعتبر مجزرة 14 آب "نتيجة للأوضاع السائدة في داخل السجن" تلك الاوضاع التي القى مسئوليتها على عاتق السجناء، ووصف الحصار المفروض على السجن "عصياناً" وسمى قطع الماء والطعام والكهرباء "امتناعاً عن استلام الماء والطعام". ومع ذلك، اعلن الوزير انه أمر إدارة السجن بتزويد السجناء بالطعام والماء! .....
وحاولت إدارة السجن والسلطات المحلية في الكوت ان تقدم للرأي العام رواية أخرى عن المجزرة، .... فطلبت من طبيب السجن (نوري روفائيل) ان يضمن تقريره حول القتلى والجرحى استنتاجات معينة، يفهم منها ان القتل كان بسبب شجار بين السجناء .... فرفض الطبيب وأحيلت مهمة كتابة التقرير إلى السلطات الصحية في الكوت فخشيت تلك السلطات على نفسها من ان تتورط تلك الورطة فاستنجدت بمديرية الطب العدلي ببغداد. وجاء إلى الكوت طبيب عدلي معروف، فوجد ان "رواية الشرطة" لها فعلاً، ما يؤيدها، في جمجمة الشهيد صبيح مئير. إذ وجد شظايا زجاجية مبعثرة في المخ! وتبين بعد الدرس والتمحيص ان القنينة الفارغة التي حطمت (كما يدعون) جمجمة الشهيد، ونفذت إلى داخلها، هي من ذلك النوع الصغير الذي تحفظ فيه قطرة العين وصبغة اليود. كم هي نزيهة وذكية تلك السلطات الحكومية التي تزور الوقائع مثل هذا التزوير!
فكتب الطبيب العدلي تقريراً فند فيه أكاذيب السلطات المحلية وأثبت أن سبب القتل كان الرصاص في الحالتين. وعند هذا الحد أغلقت القضية، ونامت الأضابير السوداء في انتظار من ينبشها وينبش عن المجرمين. وليس بذلك اليوم ببعيد.
عادت سلطات السجن منذ صباح 15 آب حتى مجيء الوزير ماجد مصطفى إلى الكوت، إلى تشديد الحصار .... ونشطت حرب الحجارة واشتد التهديد بإطلاق النار ليلاً ونهاراً. وحينما وصل الوزير رأى السجناء في وصوله بارقة أمل .... غير ان الوزير لم يشأ ان يبدأ المفاوضات حال وصوله، آملا ان تنجح مناوراته وتهديداته التي وجهها الى السجناء بواسطة البوق. وظل يماطل حتى الساعة الخامسة من مساء اليوم. ثم بدأت المفاوضات بين وفد السجناء من جهة ووزير الشؤون الاجتماعية من جهة أخرى، وبحضور مدير السجون العام ومتصرف لواء الكوت ومدير شرطة الكوت .... كان الوزير يقف على رجليه ليصرخ في وجوه ممثلي السجناء "أنتم مجانين ... نحن لا ندخل لكم قطرة ماء أو حبة شعير قبل الرضوخ لطلبات الحكومة". كان الوزير يفقد اتزانه وأعصابه أكثر فأكثر أمام هدوء السجناء وصلابتهم واتزانهم.
وفي مجرى المفاوضة، قال الوزير للسجناء: (انا أدري انكم تعتبروني خائناً وعميلاً للاستعمار. ولو كنت بيدكم لمزقتموني)
وبعد أخذ ورد قال ممثل السجناء: (نحن نشعر بان الحكومة عازمة على قتلنا اجماعيا بقطع الماء والطعام وإطلاق الرصاص. وقد قتلت اثنين منا.)
فأجاب الوزير: (بإمكاننا قتلكم، اصدر أمري بإطلاق النار فتقتلون في الوقت الذي نريد!)
وكان يقصد بالطبع مجزرة جديدة، يدبرونها بعد ان تفشل جميع محاولاتهم لإخضاع السجناء وإذلالهم.
ولجأ الوزير الى الخداع والمراوغة، أيضاً. .....  وادعى بأنه لا يعلم شيئاً عن محاكمة السجناء امام المجلس العرفي العسكري، بتهمة توقيعهم العريضة الاحتجاجية وقال: انه لو علم، لما جرت المحاكمة.
في هذا الجو المبطن بالكذب والخداع .... استمرت المفاوضات حتى اضطر الى الكشف نهائيا عن نوايا حكومته (وزارة المدفعي –السعيد) الحقيقية فحدد الموقف كما يلي:
1- كانت الحكومة مخطئة في السابق عندما تنازلت للسجناء عن امتيازاتهم التي يتمتعون بها بصفتهم سجناء سياسيين.
2- ان الحكومة (الحاضرة) تريد "إصلاحهم" وذلك بإلغاء جمع تلك الامتيازات.
3- على السجناء ان يخضعوا لأوامر الحكومة دون قيد أو شرط.
وفي الساعة السابعة والنصف مساء، بعد ساعتين ونصف من "المفاوضة"، وجه الوزير انذاراً إلى السجناء، وحدد الساعة الثانية عشر ليلاً، موعداً يعلن فيه السجناء رأيهم الأخير.
.... ففي تلك الليلة، وكان انذار الوزير ما يزال معلقاً، وافق السجناء بعد مفاوضات مع مدير السجون العام على ان يجري تفتيش جديد وان تستلم الإدارة "الاثاث الزائد" بشرط ان تتعهد الحكومة من جانبها على اجراء تحقيق نزيه في جرائم القتل، تقوم به لجنة من ممثلي السجناء والحكومة وبعض المحامين. وان تتعهد كذلك بالا تسوق السجناء الى المجلس العرفي العسكري بتهمة ما يسمى "العصيان والتمرد" او قراءة الاناشيد وان لا تنقل واحداً من السجناء إلى نقرة السلمان، وان ترفع الحصار.
عرضت نقاط الاتفاق على الوزير فوافق عليها. ونقل مدير السجون العام خبر تلك الموافقة الى ممثلي السجناء.
اكانت خدعة تلك الاتفاقية التي وافق عليها الوزير؟ ربما كانت كذلك. لكن السجناء بموافقتهم عليها أعطوا الدليل القاطع على رغبتهم في تخفيف حدة التوتر وكانت موافقتهم شاهداً لهم على الحكومة فيما إذا تمادت إدارة السجن في موقفها المتعنت الظالم.
وضع الاتفاق موضع التنفيذ حالاً. فدخل إلى السجن مدير السجون العام ومدير سجن الكوت وموظفوه وعدد من السجانة. وبدأوا "التفتيش" وعزل الاثاث الزائد. كان التيار الكهربائي المقطوع، خلال أيام الحصار، قد اعيد وصله. وحصل السجناء على أول وجبة طعام حكومية، تألفت من 150 رغيفاً من الخبز و 30 رقية (بطيخة حمراء) وبضع صفائح من الماء العذب.
وفي الساعة الثالثة صباحاً حضر الوزير وخاطب المدير العام على مسمع من ممثلي السجناء قائلاً: "إذا عادوا الى العصيان ثانية فلا تخبرني، بل سلمهم الى رجال الأمن". ثم توقف التفتيش بحجة ان الموظفين لا يستطيعون اتمام مهمتهم ليلاً ..... فوافق السجناء على تفتيش آخر في الصباح.
وفي الصباح التالي، دخلوا السجن ثانية وصاروا يستولون على معظم الاثاث .... حتى انهم أخذوا بعض ادوات الطبخ وأدوات الرياضة البدنية. وانتهى التفتيش، اخيراً وتنفس السجناء الصعداء.
غير ان إدارة السجن عادت عصر ذلك اليوم إلى طلب تفتيش ثالث قائلة: "ان التفتيش السابق لم يكن قانونياً، ولا كاملاً، وإلا فأين هي الاسلحة التي عندكم؟" .... وبعد أخذ ورد دعا السجناء الإدارة إلى إجراء التفتيش الثالث، واستلم السجناء وقتئذ، وجبة طعام ثانية مؤلفة من 150 رغيفاً و 30 رقية وفي اليوم التالي امتنعت الادارة عن تسليم الماء والطعام، وعلقت الأمر على انتهاء عملية التفتيش.
.... وأخيراً، جرى التفتيش الثالث، بعد يومين من المماطلة والتسويف. فدخل إلى السجن صباجاً عدد كبير من السجانة والشرطة والموظفين والمعاونين (العلنيين والسريين) وبدأوا "التفتيش" والاستفزاز، معاً. فاخذوا يصادرون معظم ما يقع في ايديهم من متاع السجناء .... وكانوا يتوعدون السجناء بين آونة وأخرى، بالهجوم عليهم وضربهم. وفي ساعة متأخرة من بعد الظهر، اعلنت الإدارة انتهاء "التفتيش" المزعوم، وظن السجناء انه انتهى حقاً هذه المرة. ولكن هل انتهى حقاً؟
خشي مدير السجن ان يتسرب الى اذهان السجناء مثل هذا الظن الخاطئ، فترتاح نفوسهم وتطمئن قلوبهم، فدعا إليه ممثلي السجناء وافهمهم باختصار ان التفتيش لم يزل غير قانوني!! وان الإدارة ستمتنع عن تزويدهم بالطعام والماء، حتى ينتهي التفتيش. وطلب المدير كذلك، ردم البئر وتسليم البراميل والزيرات الفارغة، فوافق ممثلوا السجناء واشترطوا ان تجهزهم الادارة بالماء وان تصلح الانابيب والخزان، قبل ان يقوم السجناء بردم البئر، وطالبوا ان تكاشفهم الحكومة بالحقيقة ..... فأجاب مدير السجون العام بان القضية معلقة على التفتيش، .... وهكذا توصلت الحكومة الى وضع خططها ونواياها في قالب "قانوني".... ولأجل تتمسك الادارة "برفض" السجناء للتفتيش، ماطلت مرتين او ثلاث في إرسال موظفيها للقيام به، منتحلة اعذاراً واهية، ثم امرت بمنع ممثلي السجناء من الخروج لمقابلة المدير. وبذلك قطعت المفاوضات، بينما استمر الطعام والماء مقطوعين كذلك.
جرى التفتيش، خلال فترة وجود الوزير في الكوت، ثلاث مرات متتالية، كما اطلع القارئ. فلأي غرض كان ذلك؟ اتضح الغرض فيما بعد، عندما قال مدير السجن لممثلي السجناء في آخر لقاءه لهم: (ان طعامكم لا يكفي إلا ليومين أو ثلاثة فقط، فماذا تفعلون بعد هذا؟) 
اذن كان التفتيش لاستطلاع وضع الطعام ومعرفة الاحتياطي من النخالة والقشور.
لم يعد خافيا على السجناء، بعد مجزرة 14 آب، وإيضاحات الوزير واخيراً بعد قطع المفاوضات، ان الحكومة تستعد لتدبير مجزرة أخرى فيما أصروا على رفضهم الخضوع المطلق لها، ذلك الخضوع الذي يعني التخلي عن وطنهم وشعبهم ومبادئهم، فكان قرار السجناء ان يصمدوا حتى النهاية قراراً خطيراً حقاً، قراراً بالموت.
نسوق للقارئ الحادثة التالية التي تكشف عن حقيقة موقف الحكومة: انهى احد السجناء مدة حكمه خلال أيام الحصار. لكن مدير السجن العام والمجلس العرفي العسكري طلب منه ان يوقع عريضة "التوبة" ويمجد رجال الدولة ويشتم ستالين، وان يبرهن عملياً على "توبته" بان يساهم مع الشرطة في رمي الحجارة على السجناء. فرفض بالطبع، فعذبوه وحجروه في زنزانة الرياضة ثم حكم عليه المجلس العرفي بالسجن مجدداً سنة ونصف!
عاد الحصار الى سابق عهده، .... فقد نفذ الطعام فلا نخالة ولا قشور ولا شاي ولا سكر ولا تبغ ..... سوى الماء المالح. وخارت قوى المناضلين الجسدية من الجوع والتعب والسهر ومرض الأمعاء، التي مزقها ماء البئر. ونام بعضهم نوماً طويلاً، وسقط الكثيرون مغمي عليهم. وترنح الذين كانوا قادرين على المشي، وصار الواحد منهم يجلس على الارض أو يتكئ على الحائط ليسترد قوته إذا مشى بضع خطوات.
هذا حالهم! لكن رمي الحجر لم يفتر، بل ازداد شدة. ... لكن المناضلين لم يهنوا ولم ينهزموا بل اشتدت يقظتهم وسمت ارواحهم فكانوا على اهبة الاستعداد للدفاع عن انفسهم ليل نهار، عيونهم تترصد حركات العدو وآذانهم تلتقط بوادر كل مفاجأة، يقوم بها الشرطة الزاحفون على بطونهم فوق السطوح. وأمسى المناضلون الذين تمرسوا في معارك الحصار خلال الاسابيع الماضية، يدركون ويفسرون كل حركة وصوت، ويشمون الخطر قبل وقوعه.
كان نشاط الادارة وموظفيها وسجانيها يهدف للتمهيد إلى المجزرة واختيار الفرصة المناسبة للهجوم، .... وقد رابط (عريبي) ذلك السجان الذي تعتمد الإدارة على ذكائه وإخلاصه، رابط في برج المراقبة واخذ يحصي على المناضلين حركاتهم، ويقيس مدى ما تبقى من حيويتهم ونشاطهم وفيما إذا كان لديهم فضلة من قشور يأكلونها.
وفي 26 آب وجه السجناء نداء مؤثراً الى المنظمات الوطنية والعالمية ومنظمة الامم المتحدة ....
وجاء في ختام ذلك النداء ما يلي:
(ان انقاذ حياتنا من الموت الاكيد معقود على نضال شعبنا من جهة وعلى مساندتكم من جهة أخرى. لذا فنحن نوجه نداءنا إليكم ونحن لا نعلم كم سيموت منا إلى حين وصوله إليكم، مستصرخين إياكم باسم المبادئ الانسانية التي اسست هيئاتكم ومنظماتكم العالمية والوطنية للدفاع عنها ان تحتجوا على جريمة قتلنا الاجماعي جوعاً وعطشاً وبالرصاص وان تطالبوا الحكومة العراقية لتضع حداً لهذه الجريمة النكراء وما قد يقع منها في المستقبل. هذه الجريمة التي لم يسبق ان اقترفتها الدول المفرطة بالفاشية.
ان عملكم لإنقاذ حياتنا هو تطبيق للمبادئ التي اسست هيئاتكم ومنظماتكم الوطنية والعالمية من اجلها. كما أننا على ثقة مطلقة بانكم سوف لن تقفوا مكتوفي الأيدي تجاه هذه الجريمة الذي تقع في الظرف الذي تسوده الدعوة للسلام وحل المشاكل الدولية عن طريق المفاوضات.
ان نضالكم لإنقاذ حياتنا جزء لا يتجزأ من نضالكم لأجل السلام ولإحباط المشاريع الحربية العدوانية).
وفي الايام الأخيرة من الحصار، طلب السجناء حضور طبيب السجن لمعالجة المرضى. وأراد الطبيب ان يؤدي واجبه، لولا ان منعته الإدارة من الدخول إلى السجن فحمل السجناء إليه أحد المرضى، وكان على وشك الموت، ففحصه الطبيب من وراء قضبان الباب، وبحضور المدير "جهاد" الذي صرح بالمناسبة، مفاخراً بعلمه وفهمه، قائلاً: "الطعام هو الدواء"
نعم ! الطعام هو الدواء، ولكن اي ثمن باهظ تريد الحكومة لطعامها ومائها!

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي




67
المنبر الحر / صرخة في البرية
« في: 18:57 20/09/2012  »
صرخة في البرية*

قبل أيام اتصلت تلفونيا بالبروف. عبد الاله الصائغ، وهالتني نبرة صوته وأحسست بما يعانيه من ألم وقهر وعجز ويأس بسبب المرض والتقدم في السن! لم يسبق لي في أحاديثي معه أن اسمعه بهذه الدرجة من الحزن واليأس والألم، لم أسمع من قبل الصائغ بهذه النبرة الحزينة اليائسة المتشائمة. نعم لقد شكا لي عدة مرات ما يعانيه من آلام الفقرات. وقد سبق أن أجرى لها العملية الاولى وقد تكفل باجورها رئيس الوزراء السابق دكتور ابراهيم الجعفري وترك الصائغ دون العملية الثانية يكابد العوق والألم فهو بحاجة للعملية الأخرى، أو ان يستسلم للمرض والجلوس على الكرسي المتحرك والأوجاع . أحسست بالألم للحال الذي وصل إليه العراق وأبناؤه البررة! أن يعاني أساتذتنا ومن قدموا للعراق ما يجود به علمهم وفكرهم وخبرتهم بعيدا عن الانانية والتحزب الأعمى، بينما يهملون اليوم ليكابدوا بسبب المرض أو الوضع المادي والعجز للاستجابة لمتطلبات الحياة الضرورية!.
كتابات ونتاجات الصائغ غنية عن التعريف، ولكن هل سأل المسؤولون في الحكومة العراقية أو في وزارة الثقافة أو في التعليم العالي أين أستقر الزمن بهؤلاء العلماء الذين قدموا للعراق جل خدماتهم من خلال التعليم الجامعي، أو الإشراف على دراسات الماجستير والدكتوراه، أو من خلال البحوث والدراسات الاكاديمية؟ والبروف عبد الاله الصائغ واحد من هؤلاء الأعلام، فقبل أن يكون كاتبا وأديبا، فهو عالم متبحر في مجاله، قدم دراسات علمية جليلة واسهم في مؤتمرات عالمية . إضافة الى مواقفه الوطنية المشرفة التي لا تقبل المهادنة والنفاق. والسؤال الذي أطرحه أين مسؤولونا من هذه القامة العلمية؟
لا يعقل أن الرجل بكل امكانياته العلمية يعمل (كمستخدم محلي بتعاقد) في الدائرة الثقافية العراقية في أمريكا، ولا يشمله الضمان الصحي كونه مستخدما متعاقدا من بلاد اللجوء ... بينما نرى أصحاب الشهادات المزورة وخريجي المدارس الابتدائية والثانوية وغيرهم من الطارئين والطفيليين على الوضع السياسي يتمتعون بالحصانة، وبالجوازات الدبلوماسية، وبالحماية وبالحقوق التقاعدية المليونية حتى وان كانت خدمتهم لا تتجاوز السنتين (مثال ذلك المشهداني)!؟ لا بل أن المستخدم المتعاقد القادم من داخل العراق (الحارس أو المنظف أو الفراش) يشمله الضمان الصحي!؟
بعد تلفوني المذكور مع الاستاذ الصائغ واستماعي لنبرته الحزينة اليائسة، فكرت في الكتابة لا بل حاولت ولكن لم أكن موفقا في الكتابة لأن الغضب كان واضحا فيما أكتب ولم أشأ أن ينعكس غضبي على كتابتي ودعوتي السلطات الحكومية للوقوف الى جانب هذه القامة العراقية. فجاءت مقالة أ. د. جعفر عبد المهدي صاحب عن البروف . د. الصائغ، وهي مقالة بعيدة عن الانفعال وموضوعية ونابعة من حب وحرص على شخصياتنا العلمية، وتدلل على الاعتزاز بها.
وشجعني على الكتابة ما قرأته من خبر قبل أيام وصلني عبر البريد الالكتروني، والخبر نشر على صفحات المواقع الالكترونية وقد جاء فيه: (أن مكتب وكيل الوزارة فوزي الاتروشي رفع إلى وزير الثقافة توصية بمنح الأدباء الذين يمرون بظرف صحي حرج مكافأة مالية كإجراء أولي، ومفاتحة الأمانة العامة لمجلس الوزراء للتكفل بتطبيبهم بشكل عاجل داخل البلاد، أو إيفادهم إلى خارج العراق للعلاج.
وأضاف المصدر أن التوصية تضمنت أيضا مقترحا بإحياء مشروع صندوق التنمية الثقافية، والسعي للتوصل إلى صيغة قانونية نهائية لإقراره.
يذكر أن جريدة "طريق الشعب" نشرت في عددها الصادر يوم 7 آب 2012 تقريرا موسعا تحت عنوان "أدباؤنا في ذمة العراق" ألقت فيه أضواء على الحالة الصحية الصعبة لـ 14 من أدبائنا المعروفين، ودعت الجهات المعنية في الحكومة إلى القيام بواجبها تجاههم وإعانتهم على مواجهة المشكلات الصحية وغير الصحية، التي يرزحون تحت وطأتها.
والأدباء المذكورون هم كل من: مظفر النواب، زهير أحمد القيسي، فهد الاسدي، جاسم المطير، حميد المطبعي، منير عبد الأمير، جميل الجبوري، محمد علي الخفاجي، جبار سهم السوداني، سلمان الجبوري، آمال الزهاوي، صبري الزبيدي، حسين عبد اللطيف، غني العمار)

ان هذا المقترح قدم على أثر تقرير موسع عن حالة الادباء لصحيفة طريق الشعب بتأريخ 7 آب بعنوان (ادباؤنا في ذمة العراق) تحدث التقرير عن حالة بعض الادباء الصحية وحاجتهم للرعاية الصحية الجادة، وقد شخصت بعض الاسماء من الأدباء! وكان الأجدر بتقرير الصحيفة ان لا يذكر الاسماء كما وردت وكأن في العراق فقط هؤلاء (14) الادباء المرضى الذين بحاجة للرعاية الصحية، فيكون التقرير قد أساء لآخرين لم يذكروا كالبروف. د. عبد الاله الصائغ وربما هناك غيره.
وقد يتصور البعض أن كل المقيمين في الغرب يتمتعون بالضمان الصحي، فهم ليسوا بحاجة لرعاية صحية من وطنهم الام!؟ ربما هذا الاعتقاد صحيح في الدول الاوربية ولا أريد الجزم بذلك، ولكن أجزم في حالة البروف. عبد الاله الصائغ فإن الرياح تعاكس سفينته فهو كما ذكرت لا يتمتع بالضمان الصحي بسبب تعاقده كمستخدم محلي في وزارة التعليم العالي ، بينما الحارس والمنظف الذي تعاقد مع وزارة الخارجية أو غيرها من مؤسسات الدولة وقدم من العراق تغطي الحكومة العراقية مصاريف ضمانه الصحي!؟ أليس هذه مفارقة تدلل كم تقدر حكومتنا العلماء وأصحاب الشهادات الجادة وكم تهتم بعلمائها!؟ وربما يتساءل البعض ألا يشمله الضمان الصحي كونه مقيما؟ الجواب باختصار لا وبشكل مؤكد لأسباب وظروف لا مجال لشرحها!
أوجه ندائي هذا الى السيد وكيل وزارة الثقافة فوزي الاتروشي لما له من مواقف مشهودة بالاهتمام بالثقافة والادباء، وتوصيته الاخيرة بخصوص علاج الادباء دليل آخر على ذلك، وأرى وهذا ضروري أن تكون القائمة التي قدمها مفتوحة لتشمل جميع كبار الادباء الذين يعانون من عجز في العلاج الصحي، والبروف. د. عبد الاله الصائغ أحد هؤلاء الادباء والأساتذة الذين خرجوا مئات الدكاترة من اصحاب الشهادات الحقيقية.
كما أوجه نفس النداء للسيد وزير التعليم العالي وهو على علم بحالة استاذنا الصائغ ووعد خيرا وربما انشغالات السيد الوزير حالت دون الاهتمام بموضوع الصائغ. أقول للسيد الوزير ألا يستحق أستاذ جامعي كرس خدمته العلمية للجامعات العراقية والعربية ايضا ويعمل -أقولها بخجل وألم- كمستخدم في السفارة العراقية دائرة الملحقية الثقافية ولا يشمله الضمان الصحي الذي يغطي أبسط المستخدمين في السفارة لأن عقودهم من داخل العراق!؟ لا أعتقد أن السيد الوزير يرضى بذلك! والحل سيكون بيده! لا أريد أن اكتب أكثر من ذلك ونحن ننتظر المبادرة قبل ان يقع المحظور ونخسر احد رواد الثقافة من الذين افنوا العمر بين العلم والوطن .

محمد علي الشبيبي
السويد ‏20‏/09‏/2012
Alshibiby45@hotmail.com


*- العنوان أستعرته من رسالة وجهها البروف. د. عبد الاله الصائغ لي ولبعض أصدقائه تعليقا على نداء أ.د.  جعفر عبد المهدي صاحب.


68

من أعماق السجون في العراق*  /10


 
الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 –
1963
ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

14 آب، يوم تحدوا الموت
لولا الانهاك والجوع وتعب النهار، لما كان في مقدور السجناء ان يسقطوا أشلاء في جو الردهة الخانق اللاهب كأنه حمام ليناموا بضع ساعات، .... فما ان انتشرت انوار الفجر في الصباح الباكر من 14 آب حتى نهض السجناء –كعادتهم في أيام الحصار- فوضع بعضهم طاسات الطعام المعدنية (الفارغة) على رأسهم تجنباً للطابوق والحجارة، ومضوا إلى البئر، يملأون من مائها المالح برميلاً يعودون به إلى الرفاق.
ثم تناولوا "الفطور"! والفطور كلمة في غير معناها، .... وغاب عن ذاكرة المحاصرين حتى طعم عذوبة الماء، ماء دجلة الهادر كأنه الشلال من بوابات سدة الكوت.
.... الفطور، كما يعرفه الناس الاحرار الطيبون المثمرون، اشراقة حلوة من الحياة، بعد سبات وراحة، اشراقة ترتسم معها خطوط منهج النهار من عمل ونشاط ومسرة. وتغذي حياة البيت الهانئة وضحكة الاطفال وابتسامات الزوجة ودعاباتها، وحدب الأم، ورقة الأخت، تغذي ذلك المنهج بالقوة والعزيمة. فيخرج الانسان الطيب المثمر من بيته إلى العمل، العمل النافع الخلاق، شاعراً بقيمته شاعراً بإنسانيته.
"الفطور" كلمة في غير مكانها، لأولئك المناضلين السجناء المحاصرين، لتلك الصفوة من خيرة أبناء الشعب العراقي (عرباً، واكراداً، واتراك وآثوريين، مسلمين ومسيحيين ويهود وصابئة)، ....
يفتح السجناء عيونهم المتعبة ليروا إلى برميل الماء المالح يحمله رفاق، وعلى رؤوسهم الطوس او القدور المقلوبة والى الوجوه الشاحبة الغاضبة المتجهمة والملابس الممزقة الوسخة يعلوها غبار معارك الطابوق والحجارة. فأية سحابة سوداء تخيم على القلب. وأي أفق مظلم يمتد أمام البصر، مع هذا الشيء الذي ما زال السجناء بحكم العادة وسموّ الروح المعنوية، يسمونه "فطوراً"!
أزدرد المناضلون كسراً صغيرة من "خبز" بلون الأرض، استعانوا عليه بجرعة من الشاي، ذلك الشاي الذي احتفظ باسمه دون مسماه ... وينتهي الفطور، وتبدأ معارك النهار.
 كل شيء يبدو اعتيادياً، صباح 14 آب 1953 فانصرف السجناء، وعلى رؤوسهم الطوس، إلى قضاء حاجاتهم وتصريف شؤونهم والسهر على سلامتهم، في النهار كما في الليل، من هجوم مفاجئ غادر لا يدرون من أين سيأتي. مضت ساعة، ساعتان، ثلاثة ..... ولا جديد في الميدان. ثم جاء جهاد حسين مدير السجن، على عادته، إلى الباب شاهراً مسدسه بيده، واضعاً الخوذة الفولاذية على رأسه من خلفة شلة من السجانة المسلحين. وصار ينادي ببعض الاسماء من السجناء طالباً خروجهم. فتقدم إليه ممثل السجناء وكرر على مسمعه، خلف قضبان الباب: ان السجناء السياسيين متمسكون بحقوقهم ومصرون على مواقفهم الوطنية الشريفة ....
ثار المدير ثورة جامحة، .... وبعد قليل طلع المدير والسجانون الى السطح والبرج وبدؤا حالاً بإطلاق النار. ابتدأ هو بإطلاق النار من الرشاش باسم متصرف لواء الكوت. وتبعه السجانة بنار بنادقهم. وظهر على الأثر، وراء قضبان الباب، المأمور (جبار علوان) وكان شاهراً مسدسه والى جانبه جماعة من السجانة المسلحين بينهم رئيس العرفاء قاسم، زكريا، سيضح، راشد، برغش، قمندان ... فصار الرصاص ينصب من كل جانب، من البرج والسطوح والباب. وقد استمر من الساعة العاشرة صباحاً حتى العاشرة وعشرين دقيقة.
كان اطلاق الرصاص مفاجأ، تلقاها السجناء بالهتافات:
نعيش كرماء أو نموت شهداء
لا نهاب الرصاص، لا نهاب الرصاص
الموت او حقوقنا العادلة
الموت للجلادين
الموت للخونة الجبناء
وسقط وحيد منصور. كان وحيد هدفاً سهلاً لمسدس جبار علوان، فقد كان واقفاً أمام الباب قرب النخلة حينما انهمر سيل الرصاص. فأصابته طلقتان، اخترقت الاولى رئته اليمنى والثانية جنبه الأيسر.
وسقط مناضل آخر جريحاً فانتزع رفاقه قميصه الملطخ بالدم ورفعوه على عمود قائم وسط الساحة ... للاحتجاج! ألا فاليرتفع القميص الملطخ بالدم، وليرتفع صوت البوق! لتسمع الكوت، ليسمع الناس، ليسمع العالم!
يا جماهير الكوت، يا جماهير شعبنا المجاهد، ان الخونة الجبناء اطلقوا علينا الرصاص ... سقط وحيد منصور جريحاً وسقط جريح آخر.
وبعد ثوان، أعلن البوق:
الشهيد صبيح مئير، اصابه المجرمون برصاصة نثرت مخه.
واستمر البوق يذيع انباء المجزرة.
كان السجان جعفر يصيح مبتهجاً، ويلوح بالبندقية: قتلته، قتلته!. فهو الذي قتل (صبيح مئير) بطلقة سددها إليه من مكانه على السطح. وكان صبيح واقفاً عند باب الردهة، فسقط جثة هامدة وتناثر دماغه. تناثرت تلك المادة الوردية الحية، تلك المادة الثمينة المفكرة –دماغ إنسان- على أرض القاووش، وعلق بعضها في الجدار وعلى ملابس الرفاق المعلقة على الحائط.
ثم جرح رفيق آخر بشظية في صدره وهو داخل القاووش، وتلقى غيره جروحاً من الرصاص والطابوق، وكسوراً في العظام. وانكسر أنف أحد المناضلين بضربة حجر في الوجه.
كان المناضلون شجعاناً شجاعة لا توصف في وجه الرصاص الغادر. فتحدوا الرصاص والموت ببسالة، وأحبطوا هجوم الشرطة والسجانين على الباب بدفاع بطولي مجيد، ومنعوهم من ان يقتحموا عليهم السجن، لارتكاب جرائم اكثر فضاعة وبشاعة.
وبعد فشل الهجوم على الباب، توقف اطلاق النار(1) فتوجه السجناء نحو الرفيق (وحيد منصور) الذي كان يصارع الموت بثبات ورباطة جأش. وكان الرفاق قبل ذلك قد حملوه، تحت الرصاص، من جوار النخلة الى داخل (القاووش) .... كان ينزف بغزارة، وملابسه وفراشه مضرجة بالدم، والجرح الذي في صدره ينفث هواء ساخناً كلما تنفس. كان وحيد منصور يتحسس الهواء الساخن على فوهة الجرح، ويبتسم لرفاقه. كان مثلاً للبطولة المجيدة، ساعة الاحتضار. كان الرفاق الذين أحاطوا به يسألونه عن حاله، فيجيب: أشكركم. حالتي جيدة، لا تحزنوا أيها الرفاق. هذا الطريق ... سبقني إليه فهد وحازم وصارم، وما انا إلا ضحية قضيتنا الكبرى.....
- لا يمكن ان ننسى قول رفيقنا فهد حينما صعد المشنقة "الشيوعية أقوى من الموت وأعلى من المشانق"
وفي حالة من التأثر العميق، والانفعال، واللباث، طلب وحيد منصور (وهو عامل) من رفاقه، ان يحضروا له مطرقة. فاخذ المطرقة بيده وأسندها الى صدره، وصار يهتف بقدر ما تسمح قواه الواهنة: تعيش الطبقة العاملة في العالم، تعيش الطبقة العاملة العراقية، تعيش الاحزاب الشيوعية، يعيش الحزب الشيوعي العراقي"
ورفع رأسه ناظراً إلى جرحيه وقال: "هذان وسامان. واحد من الحزب الشيوعي العظيم في الاتحاد السوفياتي، والثاني من حزبي الشيوعي العراقي"
ثم خارت قواه واضطرب تنفسه وصمت. ظن الرفاق ان وحيداً مات. فأعلن البوق: "الشهيد الثاني ... وحيد منصور". ولكن وحيد لم يمت. فقد استفاق ثانية وأصغى الى صوت البوق يعلن وفاته، فقال: "انا لا أموت، الشهداء لا يموتون. ذكراي ستبقى خالدة"
وطلب ان تكتب على قبره العبارة التالية: "وحيد منصور شهيد النضال، مات برصاص الاستعمار وخدامه الخونة المحليين الجبناء" وانهمرت الدموع من عينيه، فاعتذر بعد ان لاحظ وقع الدموع المحزن على رفاقه قائلاً: "انا لا أبكي ... ولكن الدموع تخرج من عيني"
وعاد الى المطرقة يهزها بيده ويقول: "ايها الرفاق فلنصمد حتى النهاية ... فالنصر لنا حتماً"
ثم طلب تصاوير أهله، فأحضرت له. وأخذ يتأملها من خلال دموعه: "بلغوا سلامي اليهم واحداً واحداً، بلغوا سلامي إلى أمي"
كان وحيد شاباً وديعاً طيباً، مليئاً بالعزم والإصرار. وسأله الرفاق: اتذهب إلى المستشفى؟ فقال: "إذا وافقتم ذهبت" فأخبروه انهم موافقون، وأخذوا يودعونه ويقبلونه واحداً واحداً، وهو يبتسم ويردد "أشكركم مع السلامة". كان وحيد منصور عاملاً من عمال الطباعة وفي التاسعة عشر من عمره.
ولما فرغ السجناء من وحيد منصور، توجهوا الى الشهيد صبيح مئير. فجمعوا نثار المخ ووضعوه بدل الزهور، فوق جثمانه، ثم رفعوا الجثمان .... في موكب مهيب، تحت أنظار المدير والسجانين الذين وقفوا على السطوح والأبراج، مشدوهين حائرين.
أية كلمات يمكنها ان تعبر عما يختلج ويتصارع في قلوب اولئك المناضلين وعقولهم، وهم يشيعون جثمان رفيقهم وعليه نشار المخ!؟ أية كلمات يمكنها ان تعبر عن الحب والحقد والعقيدة والثورة، غير تلك الكلمات التي دوت في زنزانات السجون منذ عشرات السنين ....... كلمات النشيد الاممي الخالدة "هبوا ضحايا الاضطهاد ..." وبعد انتهاء النشيد الاممي ساروا بالجثة إلى الممر فوضعوها ما بين الباب الداخلية والوسطى. وعادوا إلى وحيد منصور فحملوه على "بطانية" وساروا به وهو في النزع الأخير، فوضعوه إلى جانب جثة صبيح. ولما ابتعد السجناء رفع وحيد احدى يديه ......
"وداعاً. أيها الرفاق ..."
كان ذلك آخر ما تلفظ به العامل وحيد منصور. فقد نقله الجلادون (مع الجثة) الى المستشفى. ومات هناك.
استمر بوق السجناء ينادي جماهير الكوت ويحثها على المطالبة بالجثتين وتشييعهما، والمطالبة بإنزال العقاب الصارم بالقتلة المجرمين.
عاد السجانون إلى الاستفزاز والاعتداء، فهددوا في الساعة الخامسة من ذلك النهار بإطلاق الرصاص ثانية. وخاطب الشرطي (لطيف) ممثل السجناء، قائلاً: "سيأتي يوم نخرجك فيه من السجن، كما أخرجنا صبيح ووحيد". وفي نحو الساعة السابعة مساء، لخص البوق وقائع ذلك اليوم الرابع عشر من آب 1953(2) .........

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1)- في التقرير الرسمي الذي قدمته إدارة السجن عن الحادث، اعترفت أنها اطلقت 120 طلقة وهذا أدنى بكثير من الحقيقة.
(2)- بعد ثلاثة أيام في 17 آب 1953 وزع المتظاهرون في مظاهرة سارت في شارع الرشيد في بغداد منشوراً تضمن تلك الوقائع وطالبوا بمعاقبة المجرمين.

يتبــــــــــــــــع

69

من أعماق السجون في العراق*  /9

الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963

ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

الماء في شهر الحصار

يندر ان يموت الانسان جوعاً، إذا استطاع ان يواصل اشغال معدته خلال شهر او اكثر بلقمة او لقمتين من القشور او النخالة ومحلول السكر وحامض التارتاريك! ويندر جدا ان يموت السجين السياسي في العراق، إذا جاع شهراً أو أكثر. .... إنما الخطر ينبعث من العطش.
العطش في أيام آب العراق(1) طاعون أسود ... أما الماء أو الموت! هكذا توضع القضية أمام العطشان. وتتقرر النتيجة خلال بضعة ساعات من ظهور علامات التسمم، الموت أو الماء! هكذا فكر 140 سجيناً، بعد ان كسرت سلطات السجن انبوب الماء وهدمت الخزان الخارجي في ضحى يوم آب 1953.
لكن الحكام الرجعيين أخطأوا الحساب ..... آملين ان يركع السجناء مستسلمين خاضعين! حقاً، فكر السجناء بالماء والموت، إلا انهم لم يفكروا بالماء، يأخذونه من يد العدو ثمناً للاستسلام، والحياة ثمناً للهزيمة .... ان ثقتهم المطلقة بشعبهم الذي لن يتركهم يموتون، لا تسمحان لهم بان يفكروا بغير الصمود ... الصمود حتى النهاية.
.... وكان في نفس اليوم (الرابع من آب) قد بلغ الغضب والهياج لدى جماهير الكوت التي استمعت الى نداءات البوق المتواصلة يومياً، فأدركت مسؤوليتها، رغم الاحكام العرفية، ورغم "انتقال" المجلس العرفي العسكري الى مدينتهم واتخاذها مركزاً "لنشاطه"، ورغم مئات الشرطة المبثوثة في كل مكان بلغ الغضب والهياج حداً كبيراً فخرجت مظاهرة جماهيرية كبرى اشتركت فيها حتى النساء، طافت في شوارع المدينة وطالبوا بإيقاف جريمة قتل السجناء جوعاً وعطشاً.
وعلى الأثر، شنت السلطات الحكومية هجوماً على الوطنيين في الكوت فقبضت على 22 شخصاً، حكم عليهم المجلس العرفي في صباح اليوم التالي بأحكام سجن مختلفة. .... واشاعة الحكومة جواً ارهابياً هستيرياً فألقت القبض على 14 مواطناً آخر، ... وهاجمت عدداً كبيراً من المنازل، وحشدت اكثر من 500 شرطي في المراكز الهامة من المدينة. .... وعذبت السلطات الحكومية المعتقلين، تعذيباً وحشياً، حتى بعد صدور احكام السجن بحقهم، تلك الاحكام التي اصدرها المجلس العرفي من مقره الجديد، في مركز شرطة الكوت! وتولى التعذيب، بدل صغار الشرطة كما هو مألوف، كبار موظفي الدولة في الكوت: طاهر الزبيدي (مدير السجون العام)، والجلاد المتخصص ومدير سجن بغداد جبار أيوب، ومدير شركة الكوت، ومتصرف الكوت (طاهر القيسي). كان موضوع التعذيب: هو ان يرضخ المعتقلون للإهانات والشتائم وان يوافقوا، بدورهم، على شتم السجناء السياسيين المحاصرين، وشتم ستالين ومالنكوف وفهد، وحينما رفض المعتقلون ذلك، اتهموهم بالشيوعية ووصفوهم بعملاء موسكو، وشتموهم وضربوهم، وهددوهم بالاعتداء الجنسي(2).
واحتاطت الحكومة للأمر من ناحية أخرى، من ناحية التضليل وخدع الجماهير. فكانت سيارة رش الماء العائدة للبلدية تتجه الى السجن وتقف عند الباب للتظاهر بان السلطات الحكومية راغبة بتزويد السجناء بالماء، لكن السجناء انفسهم يرفضون. ولم يفت اولئك المتخصصين بالتعذيب ان يستغلوا وفرة المياه لديهم فصاروا يبددونها بغزارة امام انظار السجناء العطاشى.
كان الماء في اليوم الثالث على وشك النفاذ، فاختمرت بدافع الضرورة –كما أسلفنا- فكرة حفر البئر. فتقدم أحمد علوان ليبدأ الحفر بأدوات بسيطة. ووقف (جبار أيوب) وعدد من السجانة ينذرون ويهددون. والقانون الى جانبهم، في هذه المرة! لأن الحفر في ارض السجن وجدرانه، يعتبر محاولة للهرب. والهارب جزاؤه النار. فاستعد السجانة في السطوح، وشرعوا بنادقهم وقرقعوها، لكن أحمد علوان انكب على عجلة غير آبه بالبنادق والتهديدات، وتبعه رفاق آخرون، وآخرون، واستراح البعض وواصل العمل البعض الآخر، والتراب يعلو حول حافة البئر وتحت أفواه البنادق وخلال مناوشات الطابوق والحجارة ، حتى بلغوا الماء على عمق 4 امتار ....
وارتفع الانذار والتهديد مرة أخرى: بان النار ستطلق على كل من يتقدم للاستقاء من البئر. لكن بعض المناضلين تقدموا بثبات وهدوء، وبأيدهم الدلو والحبل. فأدلو، غير ملتفتين الى العداء المحموم المنبعث من السطوح والأبراج، واستخرجوا اول دفقة من الماء .... مائهم، ماء تلك الارض الصغيرة الغبراء، ارض المعارك والدماء، المحاطة بالأسوار والأبراج.
كان الدلو الاول رمزاً لنصر عظيم ساحق حققه 140 سجيناً. ومع ان الماء كان مالحاً غنياً بأملاح المغنيسيوم، وانه سبب للسجناء اسهالاً دائماً ومزعجات وآلام أخرى .... ولكن، بفضله نجا السجناء من موت محتوم.
*            *            *
جوع، وعطش، وحرب مستمرة بالطابوق (الآجر) والحصى، ما معنى ذلك؟ .... ان ما يجري هنا كان بأمر من بغداد، من المدفعي والسعيد وحسام الدين جمعة؟
اثبتت الحوادث فيما بعد ان جريمة الحصار خطة وضعتها المراجع العليا في بغداد. وتتحمل مسؤولية تلك الجريمة، مباشرة، وزارة المدفعي-السعيد بمجموعها. ففي الشهادة التي أدلى بها الوزير السابق صادق البصام امام محكمة الجزاء في الدعوة التي اقامتها الحكومة على جريدة (الدفاع) لنشرها تقريراً رسمياً "سرياً" حول مذبحة الكوت. قال: "حين واجهت وزير الداخلية قال لي -الوزير- بأننا سوف نكتفي بقطع الماء والطعام".
ويستدل من تصريح وزير الداخلية (حسام الدين جمعه)، هذا، الى صادق البصام ان الحكومة قد عمدت الى قطع الماء والطعام عن سجناء الكوت "لتكتفي" بذلك عن القيام بإجراءات أكثر إجراما، وطبيعي في مثل هذا الوضع الفكري والنفسي للحكام العراقيين الذين يرتكبون جريمة قطع الماء والطعام(3) عن 140 سجيناً، مدة شهر كامل، طبيعي ان يلجأوا –حينما تفشل اساليبهم الإجرامية- الى جرائم اكثر بشاعة، الى اطلاق النار وإقامة المجازر. وهذا يثبت ان مجلس الوزراء كان يشرف على حوادث السجون وانه يتحمل مسؤولية كل الجرائم التي رافقت الحوادث.
... فقد ظهر على مرور ايام الحصار واشتداد مقاومة السجناء ورفضهم الاستسلام، ان الحكومة مستعدة لإقامة مجزرة جديدة ....
اخذت ادارة السجن، تستعمل البوق هي أيضاً لإذاعة "البلاغات" من الابراج. تلك البلاغات المؤلفة من سباب وشتائم واتهامات وتهديدات، تنتهي بعبارة"لقد اعذر من أنذر".
كانت تلك "الاعصاب" التي وجدت في نفسها القوة على تنفيذ جرائم القتل البطيء، على غرار الجرائم الهتلرية في معسكرات الأسرى، كانت تلك الاعصاب تفقد اتزانها يوماً بعد آخر أمام صلابة السجناء وهدوئهم وثباتهم ... فوصفوا السجناء انهم عصاة، متمردون، خونة. وهددوهم صراحة بالذبح.
وأذاع السجان ابراهيم الذي اشترك في مذبحة بغداد واقترف في مذبحة الكوت –فيما بعد- جرائم وحشية تنم عن نزعة اصيلة الى الإجرام في نفسه ... اذاع قائلاً: "ان جبار أيوب سوّاها ببغداد وراح يسويها هنا(4)".
وكان السجان جعفر، وهو مجرم مطبوع، يتغنى من البرج بأمثال هذه الكلمات "لو كان الامر بيدي، قطعت الهوا عنك يا سجين، اشرب دمك يا سجين، اتكمع(5) بدمك يا سجين". وفي حالات هيستيرية كان طاهر الزبيدي مدير السجون العام يصيح "انا طاهر الزبيدي ... انا اذبحكم، اذبحكم بيدي واحداً واحداً".
.... ولم ينقطع ازاء ذلك، بوق السجناء عن مخاطبة جماهير الكوت وشرح الحوادث والوقائع. وكان السجناء أيضا يقذفون الرسائل المشدودة الى قطع من الحجارة الى خارج السجن، بواسطة "المعكال".
وبلغت الحماقة بالسجانين ان صاروا يردون على هتاف السجناء بسياسة القتل الجماعي، بهتاف مضاد "تعيش سياسة القتل الجماعي". وفي 8 آب، ذلك اليوم المشهود من أيام المخازي الرجعية، نظم متصرف اللواء ومدير الشرطة ومدير السجون العام وجبار أيوب، نظموا "مظاهرة"(6) رجعية على مقربة من السجن، اشترك فيها 50 شخصاً من الجواسيس والمرتزقة وأولاد الشرطة. داهمت المظاهرة السجن، يتقدمها الجاسوس المعروف (الشيخ هادي) وهو من المتاجرين بالدين، يلبس الجبة ويضع العمامة على رأسه. وفتحت أبواب السجن وانظم للمظاهرة نفر من السجناء العاديين الاشرار الذين اغرتهم الحكومة على خدمتها، وقد وضع اولئك السجناء، على عادتهم، الخوذ الفولاذية على رؤوسهم وتسلحوا بالسكاكين والحراب والخناجر. كان متصرف اللواء حاضراً اثناء تلك المهزلة التي افتتحها جبار أيوب بخطاب مطلعه "ها هي جماهير الكوت جاءت تنتقم منكم، ايها الشيوعيون"، وقد شتم في خطابه كل مقدسات الشعب وكل ما هو عزيز عليه وعلى المناضلين ... وتباكى بأسلوب مضحك على ما سماه "العروبة والإسلام" وهتف "المتظاهرون": يعيش المدفعي، يعيش مدير السجون، يعيش جبار أيوب، تسقط الشيوعية". وخاطب أحد الجواسيس، متحدياً السجناء السياسيين، بقوله "وين الشعب اللي تصيحونه، خلي يجي يخلصكم من أيدينا".
وفي الايام التالية للمظاهرة، صار جبار أيوب يهدد بتهديم السقوف والهبوط على السجناء، من فوق.
ولفضح تلك الجرائم والمخازي، كان المناضلون السجناء يخاطبون جماهير الكوت يومياً ويسردون تفاصيل الحوادث والصعوبات المتزايدة امامهم من جراء نقص الطعام وفساد الماء والسهر المتواصل وحرب الطابوق، وينبهون الشعب الى قرب وقوع جرائم أكثر فضاعة.
ومن طريف ما يروى عن تلك الايام السوداء العصيبة: ان السجانة قد تلقوا الامر بترقب بوق السجناء حتى اذا ارتفع صوته منادياً جماهير الكوت، ترتب عليهم ان يصرخوا صراخاً عالياً، لمنع جماهير الكوت من سماع النداء، فكانوا ينهقون ويزعقون وينبحون بأصوات حيوانية منكرة، فيضحك المناضلون ملء أشداقهم، ويواصل البوق النداء بصوت أعلى فاعلى.
كانت حالة السجناء الصحية تتردى، والخطر يقترب، ولم يخفِ على الحكومة ما يعانيه السجناء من جوع وأنهاك ومرض. وفي انتظار تلك اللحظة التي تنهار فيها مقاومة السجناء، داست الحكومة كل اعتبارات الشرف والإنسانية وصمت اذنها عن كل احتجاج، وقمعت كل اعتراض، سواء في الكوت أم في بغداد.
ففي بغداد ذهب وفد مؤلف من سماحة الشيخ العلامة عبد الكريم الماشطة (عضو مجلس السلم العالمي) والحاج عبد اللطيف محمد (والد احد السجناء السياسيين)(7)، لمقابلة الملك في البلاط، والطلب إليه ان يتدخل لمنع جريمة ابادة السجناء المحاصرين. فقابلهم مدير التشريفات ولكن دون جدوى ..... وبعد أيام، في 17 آب، قصد وفد جماهيري الى البلاط لعين الغرض فطلب إليهم مدير التشريفات ان يحضروا إلى البلاط في اليوم التالي لمقابلة الملك. فلما حضروا في الموعد المقرر، قابلهم الحرس الملكي وجواسيس التحقيقات الجنائية بالرصاص واعتقلوهم وعذبوهم تعذيباً وحشياً فضيعاً، ثم حكم المجلس العرفي العسكري عليهم بالسجن مدداً تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات!
وفي الايام الاخيرة قبيل 14/8/1953، كان يحضر، مدير السجن الى باب السجن الداخلي، يومياً، فيصيح بأعلى صوته والمسدس مشهور بيده وخوذة الفولاذ على رأسه، يصيح بأسماء، بعض السجناء طالباً مجيئهم إلى الإدارة، وتلك حيلة يعرفها السجناء لاستدراجهم إلى الخروج، لإلقاء القبض عليهم وتعذيبهم وإجبارهم على توقيع عرائض "التوبة". فكان السجناء يقابلون تلك المحاولات الفاشلة بالإعراض والازدراء. فيشتاط المدير غضباً، ويهدد قبل ان ينصرف مع حراسه المسلحين قائلاً: "عندي أوامر برميكم"...!


محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1)- تبلغ درجة الحرارة في الصيف 48 درجة مئوي! ومناخ العراق كما هو معلوم جاف جداً.
(2)- يجري التهديد بالاعتداء على الشرف، بالفاظ بذيئة، ضد الرجال والنساء على السواء. ويأخذ شكل دعوة الشرطة يتقدموا ويفعلوا به او بها ما يشاؤون. وقد ثبت حتى الان حوادث "لوط" بالإكراه قامت بها التحقيقات الجنائية. وفي ملفات محكمة الجزاء ببغداد قضية بطلها موظف في التحقيقات اسمه خزعل.
(3)- بالاضافة الى الطابع اللاانساني الوحشي للتجويع المتعمد وقطع الماء، فان القوانين العراقية تعتبر منع الماء والطعام عن اية جماعة من الناس، جريمة يعاقب فاعلها.
(4)- ويقصد ان جبار ايوب اقام المجزرة في بغداد وسوف يقيمها في الكوت!
(5)- اتكمع: شرب الماء، جرعة جرعة،. ويستعمل للدلالة على التلذذ باللهجة العراقية.
(6)- نشرت جريدة "الجريدة" لصاحبها فائق السامرائي من قادة حزب الاستقلال، بعض المعلومات عن مظاهرة 8 آب فذكرت ان وزارة الداخلية قد اذنت بصرف مبلغ 100 دينار لتنظيمها ولم تجد الحكومة سنداً لها إلا في جواسيسها ومرتزقتها.
(7)- وهو الاستاذ محمد عبد اللطيف مطلب من خريجي الجامعة الامريكية في بيروت. وكان أستاذاً في كلية الهندسة حين القاء القبض عليه سنة 1948.



يتبــــــــــــــــع
الحلقة التالية: 14 آب، يوم تحدوا الموت!؟

70
من أعماق السجون في العراق*  /8


 
الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963

ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي
المجلس العرفي العسكري يساهم
في يوم 27 تموز 1953 زار سجن الكوت، على حين غرة، مدير السجون العام المدعو (طاهر الزبيدي) يصحبه الجلاد الذائع الصيت (عبد الجبار ايوب)، مدير سجن نقرة السلمان سابقاً وبطل مجزرة بغداد .... وتحت اشرافهما جرى تفتيش دقيق على السجن وأثناء التفتيش، حاولا، بمختلف الطرق، استفزاز السجناء وتصديع وحدتهم .... وحضر في الوقت نفسه من بغداد، وخلافاً للقانون، المجلس العرفي العسكري بكامل أعضائه، وتحولت غرفة مدير السجن الى قاعة "محكمة" مغلقة وسرية لا يسمح بدخولها لغير العملاء والجلادين. ومنعت الحكومة عدداً من المحامين الديمقراطيين الذين تطوعوا للدفاع عن السجناء ....
كانت "المحكمة" مهزلة بالمعنى الكامل. رئيس المجلس (جميل عبد الحميد) يصرخ ويهدد كأي شرطي أو سجان، ومدير السجون العام ومدير سجن الكوت وعبد الجبار أيوب (وهم ليسوا اعضاء في هيئة المحكمة) يواظبون على حضور الجلسات ويساهمون في إدارة المناورات والمناقشات السياسية والعقائدية والمحكمة لم تحصر اهتمامها بتهمة معينة .... فتارة تشغل المحكمة نفسها بالشتائم، وأخرى بفلسفة عرقية شوفينية أو طائفية، أو بإغراءات وملاطفات ووعود معسولة يعقبها تهديد باستعمال العنف! وقد هدد رئيس المجلس ممثل السجناء بالشنق!
شيء واحد ظل واضحاً طول المناقشة، ذلك هو رغبة الحكومة في ان يسحب السجناء تواقيعهم من العريضة الاجتماعية السالفة الذكر، وان يقدم السجناء عريضة الى الملك يعلنون فيها "الندامة" والتوبة عن النضال.
.... لقد فشلت المحكمة العسكرية فشلاً ذريعاً في تحقيق أي هدف من اهدافها .... القى أحمد علوان (الذي استشهد فيما بعد) دفاع السجناء القانوني ففند المزاعم القانونية والمبررات لمحاكتهم مجدداً على تهمة سجنوا بسببها. واثبت عدم شرعية المحكمة والمحاكمة.
وأعلن رؤوف الدجيلي (الذي استشهد هو الاخر فيما بعد) في دفاعه: ان الاتحاد السوفياتي هو صديق شعبنا الاكبر وصديق العرب وكل الشعوب.
وسرد يحيى عباس البارح (الذي استشهد أيضاً فيما بعد)، في مجرى دفاعه: .... وفضح التضليلات الاستعمارية وأكاذيب دعاة الحرب ومرتزقتهم في العراق والبلدان العربية، وشرح موقف الاتحاد السوفياتي الصائب من القضية الفلسطينية، وهاجم الاستعماريين الامريكان والانكليز والصهيونيين والرجعيين العرب، الذين تآمروا في الحرب الاستعمارية القذرة في فلسطين وأحبطوا قرار الامم المتحدة الذي ضمن استقلال فلسطين وقيام دولة عربية مستقلة في جزء منها .....
وفضح السجناء أيضاً الاعمال الانتقامية المخالفة للقانون العراقي وحقوق الانسان التي تقوم بها ادارة السجن ضدهم، والتعذيب البربري الذي تقوم به دائرة التحقيقات الجنائية ضد المناضلين الشيوعيين والوطنيين وأنصار السلم.
لقد فشلت المحكمة ايما فشل! فشلت في ارهاب 118 متهما من السجناء السياسيين وفي حملهم على التنكر لشعبهم "والتوبة" عن نضالهم. اما الاحكام التي اصدرها المجلس العرفي فقد ظلت سراً مجهولاً. ذلك لكي تبقى عرضة  "للزيادة والنقصان" والمساومة، كما قال كاتب السجن فيما بعد ....
هكذا انتهت المحاكمة التي استمرت عدة أيام، كانت تصل خلالها، الى سجن الكوت، امدادات جديدة من قوة الشرطة السيارة قادمة من الناصرية والعمارة.
وما ان انتهت تلك المهزلة الى غير نتيجة مرضية للحكومة، حتى اعلن رئيس المجلس العرفي العسكري ان المحكمة ستوالي محاكمة السجناء بتهمة أخرى هي: قراءة الاناشيد الوطنية داخل السجن.
فاندهش السجناء لهذا التحدي والاستهتار بحق معترف لهم به منذ سنوات(1). عندما اعلن رئيس المجلس: ان هناك (دعاوى) أخرى، وتهم أخرى وان المجلس العرفي سيواصل النظر فيها جميعاً.
لم يعد ثمة ادنى شك لدى السجناء (سواء اجرت تلك المحاكمات ام لا) بان الحكومة عازمة (ومهما كلف الامر) على مواصلة التحفظ عليهم، حتى يرضخوا نهائياً .... لذلك اعلن السجناء موقفهم بصراحة وافهموا المجلس العرفي بان تلك المحاكمات غير شرعية وان التهم مفتعلة وان جو المحكمة استفزازي إرهابي، كما لم يسمح للمتهمين بان يقدموا اي دفاع عن انفسهم.
كان فشل الحكومة في حمل السجناء على التخلي عن أهدافهم الوطنية بطريق التي أشرنا إليها .... فبادرت إدارة السجن حالاً الى طريقة تسليم الارزاق الى السجناء. كان الدقيق، فيما مضى، يسلم الى السجناء أسبوعياً، فصار التسليم يومياً. كما دأبت الادارة منذ بدأت أعمالها الاستفزازية العدوانية، على منع ادخال كميات كبيرة من الشاي والسكر وغيرها من المؤن الذي يجلبه اهالي السجناء. وكانت، طول تلك الفترة، ترهب عوائل السجناء وتضغط عليها لحملها على الامتناع عن زيارة السجن.
قال مدير السجن لممثل السجناء، وكان الحديث يدور بينهما حول مذبحة سجن بغداد واستنكار الشعب العراقي لها، قال له: "نحن لا نسوّي مجزرة ولكن نرغمكم على كل ما نريد بقطع الماء والطعام عنكم ستة أيام"
وبمناسبة أخرى كرر مدير السجون العام هذا التهديد مع زيادة مدة الحصار، إذ قال: "سنقطع الماء والطعام عنكم ستة أشهر"
شهر الحصار
وفي 1/8/1953، قبل بدء الحصار بيوم واحد، أخرجت إدارة السجن، بالعنف والإكراه السجناء العاديين، فلم يبق في السجن إلا السجناء السياسيون وحدهم، وفي الساعة الحادية عشر من صباح اليوم التالي، 2 آب 1953 هدموا خزان المياه الخارجي وكسروا الانابيب وقطعوا التيار الكهربائي وأعلنوا حالة الحصار التام على السجن.
وحالما أذاع السجناء نبأ قطع الماء، ومنع الطعام، بواسطة البوق –كما ذكرنا- ووجهوا ندائهم الى جماهير الكوت، لمد يد المعونة لهم، بادرت السلطات المحلية الى خلق جو من الارهاب الاسود ....
ووصلت امدادات جديدة من الشرطة من اطراف الكوت ومن مدن بعيدة .... وانتشرت الشرطة في شوارع المدينة وسدت منافذها الخارجية وطوق أكثر من 500 شرطي ساحات الكوت وشوارعها.
كانت السيارات التي تأتي الى الكوت، حاملة عوائل السجناء القادمة لمعرفة حال أبنائهم .... كانت تلك السيارات تجبر على العودة ثانية من حيث أتت، ونشرت الشرطة والجواسيس أخباراً مفزعة وإشاعات غريبة .... وان رجال الاقطاعي محمد الامير ستهجم على السجن وتحتله عنوة لتطرد منه السجناء الذين اعتصموا فيه ورفضوا استلام "الارزاق" ...الخ.
.... شرع "رجال الامن وحماة القانون" بأول أعمالهم العدوانية الايجابية في مساء اليوم الثاني من الحصار. كان السجناء جالسين في ساحة السجن، حول عشائهم الضئيل المتواضع، فإذا بهم يفاجأون بالأحجار وقطع الطابوق تنهال عليهم من برج المراقبة المشرف على الساحة. كان عبد الجبار أيوب يقود ذلك الهجوم، وهو الذي بدأ بنفسه برمي الحجارة فتبعه مدير السجن (جهاد حسين)، ثم عدد كبير من السجانة، كانوا منتشرين على سطوح السجن. جرح في هذا الهجوم الغادر عدد من السجناء، وأصاب التلف طعام العشاء. فخسر السجناء وجبة، هم في أمس الحاجة إليها. وبقي وابل الحجارة ينهمر ثلاث ساعات متوالية، بينما التجأ السجناء إلى داخل الغرف، ومنذ ذلك اليوم، اصبح رمي الحجارة تقليدا تتبعه سلطات السجن، بمعدل ثلاث ساعات يومياً، مدى شهر كامل. وسخّرت سلطات السجن كل السجانة وعدداً كبيراً من الشرطة، وبعض الحثالات من السجناء العاديين الاشرار وسخرت حتى بعض نساء الشرطة وأطفالهم.
أدت حرب الحجارة هذه الى حرمان السجناء من النوم في الساحة، كما هو مألوف، في شهور الصيف. فاضطروا الى المبيت داخل الغرف والردهات حيث يستعصي النوم عليهم من شدة الحر، وضوضاء السجانة وارتطام الحجارة على السقوف والأبواب، ونفوذ بعض الحجارة من الشبابيك. كانت حرب الحجارة هذه، خلال شهر الحصار، حرباً قاسية، منهكة للأجساد والأعصاب معاً. وقد اشتدت وتطورت اساليبها يوماً بعد آخر. فحصنت الحكومة أبراج المراقبة بأكياس الرمل، وملأتها بالذخيرة من الطابوق والحصى، وأصبحت "المفاجآت" لا تقتصر على وقت معين، من النهار أو الليل، واكتسبت تلك المفاجآت، صوراً من "البطولة" والحماس! فكان بعض رجال الحكومة "الابطال" يزحفون على بطونهم، فوق السطوح في الهزيع الاخير من الليل، كاللصوص أو الأفاعي، ليفاجئوا سجيناً أرهقه الحر فخرج الى الساحة فتمدد عند الجدار ليستريح فغفا، ليفاجئوه مفاجأة بطولية، بحجر كبير يرمون به من فوق على خط عمودي، فتأتي الاصابة على وجهه أو يافوخه، محكمة موجعة، وبتلك الطريقة جرح عدد من السجناء جروحاً خطيرة في رؤوسهم، وكسرت أنوف عدد آخر. 

الطعام في شهر الحصار
كان الطعام المخزون لدى السجناء عند بدء الحصار لا يكاد يكفي المئة والأربعين سجيناً، أكثر من ثلاثة أيام ....  لذلك فقد تأثرت تغذيتهم منذ اليوم الاول للحصار. فوضع السجناء نظاماً صارماً للتقنين، ثم صار هذا النظام يزداد صرامة أسبوعاً بعد آخر. .... كان طعامهم مؤلفا من المواد النشوية، كالرز والحمص والعدس، وبعض الخبز.
ما هو الخبز؟ .... استعاض السجناء عن الخبز العادي، بنوع آخر، ألجأتهم إليه الضرورة. ويتألف من الطحين (وقد نفذ بعد الاسبوع الاول) ومن النخالة وطحين العدس والحمص، وقشور الباقلاء (الفول). كانت حصة السجين من ذلك الخبز 200 غرام في اليوم، وتدنت الحصة الى 100 غرام في اليوم في الاسبوع الثاني، ثم الى 50 غرام في الاسبوع الثالث، اما في الاسبوع الرابع فاصبحت حصة السجين 25 غراماً في اليوم! ومعنى ذلك ان السجين لم يصبه من الطعام خلال الايام السبعة الاخيرة من شهر الحصار، مجتمعة، أكثر من 175 غرام (أي ما يعادل وزن رغيف اعتيادي واحد) من الخبز، أعني: من قشور الباقلاء والنخالة وبعض الحمص والعدس، ويضاف الى لقمة الخبز التي وزنها 25 غرام ليوم كامل، شيء من الشربت مؤلف من محلول السكر بنسبة ضئيلة وحامض التارتاريك.
كانت المواد الدهنية قد نفذت بعد الاسبوع الاول. فاستعاضوا عنها بجرعات صغيرة من زيت السمك، تعطى للسجناء بين حين وآخر. وشرب السجناء من الشاي فنجاناً صغيراً في اليوم. وكانوا يغلون الحثالة مرات ومرات حتى يفقد الشاي نكهته ثم لونه، ويغدو ماءاً كدراً ساخناً وحسب. ونفذ التبغ في الاسبوع الاول. فدخن المدخنون تراب التبغ، ثم دخنوا حثالة الشاي. ودخنوا أخيراً، أوراق شجرة اليوكالبتوس!
محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1)- ناضل السجناء السياسيون في الكوت خلال سنوات عديدة لتثبيت حق قراءة الاناشيد الوطنية والشعبية. وقد اضيف لهم سنة 1949 (400 سنة) سجن لتمسكهم بهذا الحق، حتى اضطرت الحكومة الى الاعتراف به ولم تعد تجرأ على معارضة السجناء عليه.




يتبــــــــــــــــع
الحلقة التالية: الماء في شهر الحصار!


71
من أعماق السجون في العراق*  /7


 
الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963

ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

الكوت
أنظر خارطة العراق.
الكوت مدينة على دجلة، على مسافة 150 كلم جنوبي بغداد تشتهر بمركزها الزراعي العظيم، وعندها يقع سد الكوت حيث يتفرع نهر العراق.   
لماذا الكوت، وليست الحلة أو سامراء أو النجف أو البصرة؟ في العراق مدن كثيرة، وفي كل مدينة سجن، فلماذا اختارت الحكومة سجن الكوت لتجمع فيه السجناء السياسيين (أو الشيوعيين كما يحلو لرجالات الحكم بالعراق تسميتهم)؟
ذلك ان الكوت احدى القلعتين الكبرايين للإقطاع في العراق وهما لواء العمارة ولواء الكوت(1). ... يتصرف بتلك الاراضي الشاسعة في كلا اللواءين، بضعة اشخاص من كبار الإقطاعيين، أشهرهم في الكوت (أمير ربيعة) ... الذي له من الحاشية والحرس ومظاهر السطوة والأبهة والبذخ ما للملوك سواء بسواء. ... ان قصر هذا الاقطاعي الكبير، هو احدى الملاجئ المعروفة لرجالات الحكم بالعراق. وفي مدينة الكوت يشارك الاقطاع الحكومة النفوذ، في الاحوال الاعتيادية، ويزيد عليها، في الازمات حتى لا يعود للحكومة وللمتصرف الذي يمثلها، غير سلطة اسمية وحسب.
... اختارت الحكومة، منذ عشر سنوات سجن الكوت فخصصته للسجناء السياسيين. فصار ذلك السجن يلعب دوراً خاصاً في حياة المدينة كلها. ... التفتت جماهير المدينة الى احداث السجن وعرفت اسم (فهد) وأيقنت ان وراء الاسوار مناضلين بواسل لا تخيفهم"حوشية"(2) الامير ولا شرطة الحكومة. وفهمت مع الايام ان اولئك المناضلين لا يبخلون بحياتهم ثمناً لإخلاصهم لشعبهم ووطنهم.... فحينما اختطفت الحكومة (فهد وحازم وصارم) من السجن، فكأنما هي اختطفتهم من مدينة الكوت، وحينما اعدمتهم في شوارع بغداد، اهتزت تلك المدينة الصغيرة ..... وسمعوا بالشيوعية لأول مرة. ثم صارت المدينة والأرياف القريبة منها تتعرف بعد ذلك على الشيوعيين وأخبارهم وتعجب ببطولاتهم وتضحياتهم. وحينما هرب حميد عثمان(3) من سجن الكوت في 1952 مع عشرة من رفاقه خضعت المدينة برمتها للحصار والتفتيش وتعرفت عن كثب الى قسوة الشرطة ووقاحتهم واستهتارهم. وتحدثت المدينة بدهشة عن النفق العجيب الذي حفره الشيوعيون من تحت الاسوار. وأسفت وحزنت لان اولئك الشجعان الذين جازفوا بحياتهم، قد وقعوا في قبضة العدو، مرة أخرى.
عرفت مدينة الكوت مئات العوائل التي تفد كل شهر، وكل اسبوع لزيارة السجن. رأت الامهات والآباء والزوجات والأطفال وتحسست بعمق روابط السجناء السياسيين بالشعب، ومكانهم منه. ... وحتى يوم 2 آب 1953، كانت الكوت قد تعلمت اموراً كثيرة أخرى واعتادت ان تصغي بانتباه شديد الى صوت السجن وهتافاته وأناشيده.
2  آب 1953 والتمهيد للحصار
2 آب 1953 ضجيج ينبعث من السجن، وصوت ضخم مستطيل واضح النبرات ينادي: {يا جماهير شعبنا! يا جماهير الكوت الباسلةّ يا جماهير الكوت! لقد قطع الماء والطعام عنا، وأصبحت حياتنا مهددة بالخطر. ان الخونة يريدون قتلنا جميعاً. هبوا للدفاع عن حياتنا. اضغطوا على الحكومة. ارسلوا الوفود قدموا العرائض. طالبوا بإيقاف جريمة قتلنا الاجماعي ... يا جماهير الكوت، نحن امانة شعبنا عندكم  فحري بأبناء دجلة والفرات، الدفاع عن امانتهم ... يعيش السلم العالمي ... يعيش الشعب العراقي المناضل من أجل استقلاله وحريته .. يسقط الاستعمار ... تسقط المشاريع الحربية ... تسقط سياسة القتل الاجماعي ... تسقط حكومة المدفعي-السعيد. يا جماهير الكوت لقد قطع الطعام والماء عنا.}
كان هذا أول نداء وجهه السجناء السياسيون، بواسطة بوق صنعوه لهذا الغرض، الى جماهير الكوت، لتنوير الرأي العام بحقيقة ما جرى في ذلك اليوم، الثاني من آب 1953. في ذلك اليوم، في الساعة الحادية عشر صباحاً، كسرت ادارة السجن انبوب المياه، وهدمت الخزان الخارجي، وامتنعت عن تقديم الطعام الحكومي، ومنعت ادخال اي شيء إلى السجن. وفرضت الحصار التام الذي استمر اثنين وثلاثين يوماً.
*               *               *
لم يكن ذلك الحصار سوى نتيجة لمقدمات سابقة، وحلقة أخيرة في سلسلة أعمال وتحضيرات، ابتدأت منذ أشهر، ابتدأت في الواقع، منذ مجيء (جهاد حسين الجاف) مدير السجن الجديد في أوائل 1952. فقد عرف هذا المدير ميله للإجرام وشراسته. فهو الذي اطلق الرصاص، من قبل، على السجناء في سجن البصرة، ونكل بالسجناء في السليمانية، تنكيلاً وحشياً.....
وضع المدير الجديد (جهاد حسين) قيودا اضافية على المواجهات وأمر بتمزيق الرسائل الشخصية الواردة الى السجن، وبإحداث الخلل عمداً بجهاز الراديو الذي يستمع السجناء بواسطة سماعته المنصوبة على الساحة، الى محطة بغداد اللاسلكية (دون سواها). قام المدير الجديد بتحرشات واستفزازات ... فأدرك السجناء في الحال، ان الحكومة تسعى مرة اخرى الى تهيئة الجو المناسب للهجوم على مكاسبهم ... واخطر تلك المكاسب، في نظر الحكومة، هو حق مواجهة العوائل للسجناء وحق ادخال الكتب والصحف إليهم، وحق انتخاب من يمثلهم امام الادارة وينطق باسمهم ويتفاوض نيابة عنهم.
قام المدير الجديد ببعض الاصلاحات "لتحصين السجن" فبنى أبراجاً عالية ...! وشيد أسواراً ضخمة، واستبدل الابواب القديمة بأبواب حديدية مصفحة، وأنشأ زنزانة خاصة للتعذيب.
وأسعفت وزارة الشؤون الاجتماعية موظفها "الحازم" هذا، بإمداد جديد من "خيرة" السجانين الذين عرفوا ببربريتهم وأعمالهم الوحشية، منهم: جعفر، عبد الله، سفيح، ابراهيم، زكريا، عربي، يونس .... فليتذكر القارئ هذه الأسماء!
وقد نشط المدير (جهاد) في "تثقيف" ملاكاته من الموظفين والسجانين والجواسيس. فكان يلقي عليهم المحاضرات السياسية، ويربيهم على الحقد وروح الانتقام من المناضلين ضد الاستعمار....
وشحذ المدير (جهاد) سلاح التجسس والتفرقة والعداوة بين السجناء العاديين، وجند عددا من السجناء المعروفين بشراستهم وتوحشهم، وأمرهم بتدبير الاستفزازات والمصادمات وباضطهاد السجناء العاديين الذين يظهرون عطفهم على "الشيوعيين"، والتحرش ببعض السجناء السياسيين. ودبر مرة، هجوماً بالسكاكين على السجناء العاديين من أصدقاء "الشيوعيين" .....
وفي نفس الوقت، كان المدير (جهاد) ينشط، على المستوى السياسي أيضاً، بقصد إظهار السجناء بمظهر العصاة الحمقى الذين لا ينفع معهم غير منطق العنف والقوة. وأخيراً، وبالاتفاق مع متصرف اللواء، قامت الشرطة المحلية بحملة ارهابية على المواطنين القاطنين في الحي القريب من السجن. ونجحت الحملة في ارغام معظم الناس على اخلاء دورهم والانتقال الى بيوت أخرى بعيدة عن السجن. فاستأجرت الحكومة الدور الخالية وأسكنت فيها عوائل السجانين والشرطة.
.... اشتدت المضايقات والاستفزازات اليومية فتخصص للمواجهة يوم واحد فقط من كل شهر... وصارت الادارة تهمل شكاوي السجناء وتمنع ايصال عرائضهم الى المراجع الحكومية او الصحافة.
لكن التحرشات والاستفزازات وتوتر العلاقة بين السجناء والإدارة، لم تدخل طورها الحازم الشديد التأزم، إلا بعد مجزرة سجن بغداد في 18/6/1953 فقد هزت أنباء تلك المجزرة المروعة مشاعر مشاعر كل الناس في العراق والرأي العام العربي والعالمي. واستشعر السجناء، فوق ذلك، بالخطر الداهم الذي أصبح يهددهم، هم أيضاً.... وللاحتجاج على الجريمة وإظهار روح التضامن مع ضحاياها، قدم السجناء عرائض رسمية واضربوا عن الطعام اضراباً رمزياً، وأرسلوا وفداً لمقابلة متصرف اللواء وإبلاغه احتجاجهم واستنكارهم، وتقديم مطاليبهم في هذا الصدد. وإليك خلاصتها:
1- معاقبة مدبري ومنفذي مجزرة بغداد، وفي مقدمتهم كبار المسؤولين: جميل المدفعي، نوري السعيد، ماجد مصطفى، حسام الدين جمعه، عبد المطلب الأمين، عبد الجبار أيوب.
2- التعهد بعدم تكرار مثل هذه الجريمة.
3- وضع حد لسياسة الاستفزاز الموجهة ضدهم وضد سجناء نقرة السلمان.
4- نقل سجناء نقرة السلمان الى السجون القريبة.
اعترف المتصرف، المدعو (طاهر القيسي) امام وفد السجناء، ببشاعة الجريمة الدموية في سجن بغداد، ووعد بعدم تكرارها وأعلن مؤكداً انه "يفضل الاستقالة" من منصبه على تنفيذ اية أوامر لتدبير اية مجزرة في سجن الكوت. ... أما إدارة السجن فقد ازدادت تعنتاً. ثم اخذت المشاكل اليومية البسيطة، تتراكم وتتعقد، حتى جاء يوم 5 تموز 1953، حينما طلب السجناء مواجهة المتصرف لإنهاء حالة التوتر، ووضع حد لسياسة الاستفزاز ...
فذهب لمواجهة المتصرف ممثل السجناء(4)، يرافقه سجينان آخران وحمل الثلاثة عريضة تضمنت مطالب السجناء.
 فما ان خرج الوفد من السجن حتى اقتيد الى مركز الشرطة بالقوة، واقتيد في الوقت نفسه سجناء آخرون كانوا يراجعون ادارة السجن بطلب منها، وأربعة غيرهم كانوا في طريقهم الى المستشفى، وأحد هؤلاء الاربعة مريض ارتفعت درجة حرارته حتى الاربعين درجة. فكان المجموع عشرة سجناء.
كبلت الشرطة اولئك السجناء العشرة بالسلاسل وأركبتهم عنوة في السيارة، وسفرتهم الى نقرة السلمان، هكذا ... دون امتعة او ملابس أو احتياطات كافية، لسفرة طويلة كتلك السفرة تمتد من الكوت الى بغداد (150 كلم بالسيارة) ثم الى السماوة (200 كلم بالقطار) ثم الى النقرة بالسيارة 150 كلم عبر الصحراء في شهر تموز!
وخلال خمسة الايام التي تلت هذا الحادث الاستفزازي، فرضت السلطات الحصار على السجن... فحاولت ان تفاجئ السجناء ليلاً، بهجوم مسلح، وان تقتحم الباب الداخلي عليهم عنوة. وأرسلت عشرات الشرطة داخل المدينة للاختلاط بالناس وترويج الاشاعات، حول تمرد السجناء وعصيانهم ... الخ .... ففي يوم 10/7/1953 حضر الى الكوت كثير من عوائل السجناء للمواجهة، فاصطدمت بإجراءات ادارة السجن ومضايقاتها واعتداءاتها فتجمهرت العوائل مع مئات من اهالي الكوت واتجهوا الى دار المتصرف، في مظاهرة سلمية ورابطوا حولها، وطالبوا المتصرف بان يذهب بنفسه الى السجن ليسمع شكوى السجناء  ويلبي مطاليبهم وانتظروا في مكانهم حتى المساء فأذعن المتصرف، وعاد المتظاهرون بصحبته الى السجن، واحتشدوا عند الباب، بينما دخل المتصرف ومدير الشرطة للاستماع الى أقوال السجناء. كان مدير الشرطة يتوعد السجناء وينذرهم، ويهددهم بإطلاق النار، ومتصرف اللواء يتعهد المطاليب ويؤكد انه لن تجري "اختطافات" جديدة، انه سوف تتوقف كل الاستفزازات والمضايقات حالاً!. ولكنه اعلن قبل ان ينصرف: بان المجلس العرفي العسكري ببغداد يطلب حضور 118 سجيناً لمحاكمتهم بتهمة التوقيع على عريضة رسمية مرفوعة الى الجهات المختصة. وكان السجناء قد قدموا فعلاً عريضة احتجاج على تعذيب اربعة مناضلين اعتقلتهم الشرطة في نيسان 1953.
ادرك السجناء ان غرض تلك المحاكمة المزعومة هو استدراجهم الى الخروج من السجن لاختطافهم وتعذيبهم ونقلهم الى نقرة السلمان أو سجن بعقوبة ....
وصلت حملة الاستفزازات حداً لا يطاق. ... وطلبت من كل السجناء العاديين ان يهجروا القواويش (الردهات) ويلتجئوا الى الاسوار. ... وهجر البعض أماكنهم، لكن البعض الآخر تضامن مع السجناء السياسيين وربط مصيره بمصيرهم....
وعادت ادارة السجن الى التهديد بقطع الماء ومنع الطعام .... واعلن مدير السجن امام ممثل السجناء قائلاً: "عندي أوامر برميكم جميعاً"
كانت الاخطار تزداد وتتعاظم، فهل بإمكان السجناء ان يرضخوا لطلبات الحكومة؟ وان للحكومة دائما طلباتها التي لا تقف عند حد. فقد تعلم السجناء، بتجاربهم، ان الطلبات تجر وراءها طلبات. وان الحكومة لا تطلب في الواقع إلا ان يتخلى السجناء عن شعبهم ووطنهم ومعتقداتهم، وان يتعهدوا بخدمة الاستعمار والرجعية، وان يبلوا حياة الذل والعبودية التي يفر منها الجهاز الحكومي الرجعي الفاسد على كل من يضع نفسه في خدمته.

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
 (1)- يقسم العراق الى 14 لواء، ادارياً. ولكل لواء مركز يقيم فيه المتصرف –المحافظ-. ولواء الكوت، مركزه مدينة الكوت. (هذا التقسيم كان ما قبل ستينات القرن الماضي/ الناشر محمد علي الشبيبي)
(2)- الحوشية: كلمة دارجة في المجتمع الاقطاعي تعني شرطة الاقطاعيين. ولعلها تحريف لكلمة (حاشية) الفصحى.
(3)- كان هذا الحادث اول حادث من نوعه في السجون العراقية، وفي المحكمة اعلن "حميد عثمان" بعد القاء القبض عليه وسوقه إلى القضاء بتهمة الهروب اعلن بان السجناء السياسيين لا يعترفون بمشروعية سجنهم وانهم سينتهزون اية فرصة لاستعادة حريتهم ومواصلة نضالهم الى جانب الشعب.
(4)- ممثل السجناء هو (أكرم حسين)./ هذا ما ذكره حسقيل قوجمان في (ذكرياتي في سجون العراق السياسية / في موضوعة –مجازر السجون-)./ الناشر محمد علي الشبيبي



يتبــــــــــــــــع
الحلقة التالية: المجلس العرفي العسكري يساهم!؟
شهر الحصار!؟ الطعام في شهر الحصار!؟

72
من أعماق السجون في العراق*  /6



الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963

ملاحظة لم أسجل كل التفاصيل التي ذكرها الشهيد عبد الجبار وهبي في كتابه، وإنما نقلت نصوصا من موضوعاته مع حذف بعض الفقرات التي لا تؤثر لا على المعنى ولا على نسق الرواية ... وأترك نشر كل هذه التفاصيل لطباعة الكتاب مستقبلا ليطلع عليه القارئ الكريم./ الناشر: محمد علي الشبيبي

صيف 1953 في نقرة السلمان
اواسط تموز 1953. ... كان عدد السجناء السياسيين 26 سجيناً من المناضلين، بينهم حميد عثمان وعشرة من رفاقه الذين هربوا سنة 1952 من سجن الكوت فالقي القبض عليهم قرب بغداد فنقلوا إلى نقرة السلمان. وأربعة من المناضلين الذين جيء بهم حديثاً ... ومناضلين آخرين، بينهم بعض "اليهود". وقد كان في السجن إلى جانب الـ (26) سجيناً سياسياً سجناء عاديون، وسجناء صهاينة....
بدأ الحصار منذ اواسط تموز 1953، حيث منعت ادارة السجن الزيارات وإدخال الهدايا من الطعام وغيره، وقطعت صلة السجن بالعالم الخارجي قطعاً باتاً فلا شيء يخرج منه، ولا شيء يدخل إليه سوى "الأرزاق" الحكومية وقدر مقنن من الماء، هو بمثابة شريان الحياة، إنه الحصار ...
منذ اواسط تموز، بدأت المفاوضات لنقل السجناء إلى سجن بعقوبة ... لا شك ان سجناء نقرة السلمان يرحبون اشد ترحيب بنقلهم الى بعقوبة. إلا ان الأمر الذي يشغلهم أكثر من سواه، هو ان ينقل كل السجناء من نقرة السلمان، بما فيهم السجناء العاديون، وان تعلن الحكومة رسمياً إلغاء ذلك السجن اللاإنساني الرهيب.... وقد شعر السجناء بعد الثلاثين من الحصار المتقابل ان الوضع يزداد حراجة، وان الخطر يقترب مسرعاً، فأعلنوا عن شروط جديدة، هي:
ان يتم النقل على دفعات ثلاث يعينها ويختارها السجناء أنفسهم، على ان يشمل كل السجناء السياسيين، ومن دون تكبيل بالسلاسل، ومع احتفاظ السجناء بملابسهم المدنية، واحترام حقوقهم كسجناء سياسيين. فوافقت الادارة على هذه الشروط، وفك الحصار، وفتحت الباب وخرجت الدفعة الأولى من السجناء وكان بينهم حميد عثمان والمناضلون الاربعة وغيرهم. فأركبوهم سيارات الحمل المكشوفة ونقلوهم إلى ثكنة الشرطة القريبة من قلعة السجن....
وإليك، أيها القارئ، موجز ما حدث في الايام الستة التي تم خلالها، نقل الدفعات الثلاثة من سجناء نقرة السلمان.
كانت الدفعة الاولى مؤلفة من 22 سجيناً (بضمنهم سجناء عاديون)، تحركت بهم سيارتان مكشوفتان تحيط بها سيارات مسلحة. وخلافاً لما هو متوقع، توقفت القافلة عند ثكنة الشرطة ووضعت سيارتا السجناء بعيداً عن السيارات الأخرى وقريباً جداً من جدار الثكنة. فما ان هبط منها سائقاها، حتى انهمر من فوق الجدار، سيل من الحجارة الثقيلة، أصاب السيارتين المكشوفتين، وأصاب السجناء بجراح ورضوض على رؤوسهم وأكتافهم وظهورهم، والسجناء لا يملكون دفاعاً لهذا الغدر المفاجئ ولا سبيل للفرار منه، فسقطوا على أرض السيارتين عاجزين عن الحركة والمقاومة. فتقدمت إليهم الشرطة فسحبتهم إلى الأرض، وأخذتهم إلى الثكنة، حيث بدأت سلسلة أعمال أخرى....
كان في الثكنة 250 شرطياً من شرطة البادية، اجتمع بعضهم على السجناء وأخذوا ينزعون عنهم الملابس المدنية، بينما راح الآخرون يطلقون الرصاص في الهواء، وألبسوهم بدلا عنها، ملابس السجن الرسمية. ثم ضربوا في أرجلهم أطواق الحديد المسلسلة وكبلوا أيديهم بسلاسل أخرى...
اجتمعت الشرطة كلها، إلا نفراً ظل يطلق الرصاص في الهواء، وتوزعت جماعات حول السجناء الجرحى، المكبلين في أيدهم وأرجلهم، فانقضت كل جماعة على فريستها، حتى اغمي على معظم السجناء من أثر الضرب والركل والسحق. لكن حماس الشرطة المتوحشين، ظل يتصاعد ويشتد، واخذ يتركز على أشخاص معينين، دون سواهم....
.... كان المناضلون يصرون باسنانهم وهم ينشدون الأناشيد الثورية، ويدافعون بهذا الشكل عن كرامتهم وكرامة شعبهم وحزبهم، في تلك البقعة النائية المنعزلة حيث لا أحد يسمعهم، لا أحد يراقبهم ولا أحد يستطيع ان يقدر –في تلك الساعة- فيما إذا كانت الحياة ستبعث من جديد في أوصالهم المتورمة المثخة بالجراح، لا أحد هناك غير 250 من الذئاب البشرية الجائعة التي ثقفهم المستعمرون الامريكان والانكليز والتي نسيت معنى (الانسانية) منذ زمن طويل....
.... وأعيدت هذه الدفعة (الدفعة –الوجبة- الأولى) من السجناء  الى سيارات السجن المكشوفة التي نقلتهم إلى بعقوبة في سفرة استغرقت 24 ساعة من ساعات شهر آب في العراق، وهم أشباه أموات. وعند وصولهم سجن بعقوبة ضربوهم مجدداً وجلدوا المناضل حميد عثمان (200) جلدة على قدميه، وأدخلوهم زنزانات الاعدام حيث أمضوا سبعة أيام، حتى جاءت الوجبتان الأخريان، فادخلوا سوية إلى السجن، بعد نضال عنيد قام به كل سجناء بعقوبة.
وبعد يومين تحركت الوجبة الثانية من سجن نقرة السلمان، دون حادث يذكر، حتى جيء بهم إلى بعقوبة حيث تلقوا قبل ادخالهم الزنزانات "التأديب الضروري". فعذبوهم بوحشية حتى اغمي عليهم جميعاً وحتى تكسرت اطواق الحديد في أيدي وأرجل البعض منهم.... وأخيراً جيء بالوجبة الثالثة والأخيرة (بهاء الدين نوري ورفاقه) وكان عددهم 5 فقط من بينهم الدكتور السجين "حسين الوردي"، تلقوا "التأديب" في ساحة ثكنة الشرطة الخيالة في مدينة السماوة. كان في الثكنة أكثر من 100 شرطي اشتركوا جميعاً في ضرب السجناء السياسيين الخمسة. وقد لعبوا بهم كما يلعب بالكرة في ساحة واسعة. ولدى وصولهم بغداد، احتجزوهم في غرف السجن الانفرادي، فأضرب السجناء الخمسة عن الطعام مطالبين بنقلهم إلى بعقوبة. فاعتدوا عليهم بالضرب مجدداً فكسروا أضلاع بعض السجناء ولم يكسروا الاضراب! وحلقوا رؤوسهم وشواربهم، وأخيراً، نقلوهم إلى سجن بعقوبة. وبذلك تكون الحكومة قد نقلت سجناء بغداد ونقرة السلمان ولم يبق امامها إلا ان تلتفت إلى سجناء الكوت فلننتظر ما سيكون من أمرهم!
يجدر بنا ان نذكر للقارئ آخر ما حدث في سجن نقرة السلمان للمناضلين الاربعة (بهاء الدين نوري ورفاقه) وبعض السجناء "اليهود" الذين احتجزتهم الشرطة هناك، خلافا لما اتفقوا عليه. فلقد دبرت إدارة السجن هجوماً غادراً عليهم مستعينة بعصابة من السجناء العاديين المجرمين والصهيونيين وعلى رأسهم الجاسوس الصهيوني البريطاني الجنسية (رودني). ان تدبير أمثال تلك الهجمات التي قام بها السجناء المجرمون على السجناء السياسيين لأمر مألوف جداً في سجن نقرة السلمان والسجون الأخرى، خصوصاً حينما لا يكون السجناء السياسيون من الكثرة بحيث يفرضون سلطتهم على السجن.

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي

يتبــــــــــــــــع الحلقة التالية:
الكوت!؟
 2 آب 1953 والتمهيد للحصار!؟



73
من أعماق السجون في العراق*  /5

الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963


نقرة السلمان
غربي نهر الفرات، من نقطة تبدأ في مدينة السماوة، تمتد طريق صحراوية نحو الحدود العراقية السعودية. أرض وعرة ورمال عميقة تجتازها السيارات بجهد وعناء شديدين.
وقد يضل الدليل البدوي الطريق في تلك الارض القاحلة التي لا ماء فيها ولا نبت ولا أثر لحيوان أو عابر سبيل. فتظل السيارة تضرب في عرض الصحراء حتى تعثر على الطريق أو تعثر عليها سيارة أخرى أو طائرة. وقد تغرز العجلات في شعب الرمال العميقة التي يتهيب عبورها أمهر السائقين، فتتعطل في مكانها ما شاء لها ان تتعطل. وبعد مسيرة خمس ساعات –ان لم يقع مكروه مما ذكرنا- تبدأ الطريق بالانحدار نحو منخفض من الأرض، بعيد الغور، حتى إذا وصلت السيارة قرارته بدت الصحراء المحيطة به تلالا وهضابا عالية. وشعر المرء انه في مكان عجيب حقاً، مكان موحش تلم به الأخطار. تلك هي نقرة السلمان. وأول شيء تمر به السيارة، ثكنة شرطة. وبعدها نمر بمجموعة من البيوت والأكواخ والخيام التي تسكنها عوائل شرطة البادية. ولا أحد غيرهم في ذلك المكان، فالقرية قرية شرطة! إلا انه قد يشاهد المرء واحداً أو أكثر من المحكومين السياسيين المنفيين الى نقرة السلمان، يتجول بين الاكواخ للترويح عن النفس، بعد ان يمل الحياة في ثكنة الشرطة حيث يقيم المنفيون، عادة.
في الشتاء تفيض نقرة السلمان بالماء. وتنقطع المواصلات ما بين السجين والعالم الخارجي. ولعل الماء هو الذي أنبت في مخيلة ذلك الجندي البريطاني (ابو حنيك) فكرة بناء قلعته الحصينة في ذلك المكان، على مرتفع صغير وسط بحيرة الماء.
وتطالعك القلعة وأنت تقترب منها بواجهة متواضعة من بناء حديث، اضيف إليها في السنوات الأخيرة، بعد ان حولت الحكومة العراقية تلك القلعة الصحراوية الى سجن. ويتألف هذا الجزء من القلعة من بضعة غرف للمأمور والمحاسب والكاتب، وغرفة للحبس الانفرادي، حيث يؤدي الممر الذي يسلكه المرء، إلى باب أخرى توصل إلى ساحة مكشوفة، تتقابل على جانبيها من الشمال والجنوب قلعتان عاليتان من الحجر يتألف كل منهما من طابقين. ويقوم في وسط الساحة بناء منخفض يلجأ إليه السجناء حين تزدحم القلاع، فيتعذر على السجناء النوم فيها، وإلى جانبه، البئر المالحة التي يشرب منها السجناء حينما تقطع الحكومة عنهم الماء.
إذا أردت دخول القلعة فعليك أيها القارئ أن تتسلق أثنتي عشرة درجة على سلم خشبي يرتفع بك إلى مربع صغير في الجدار عند الطابق الثاني يسمّونه باب (القاصة). والقاصة اصطلاح معروف يطلق على صندوق من الحديد تودع فيه الاشياء الثمينة. عندئذ عليك ان تجمع ركبتيك إلى صدرك لتزحف إلى داخل (القاصة) إلى ذلك التجويف المظلم الذي تتبين لك، فيما بعد، معالمه البسيطة فإذا هو صندوق مستطيل الشكل من الحجارة، وصفائح الحديد التي انشئ منها السقف وبعض أجزاء الجدران، حيث أراد الجنرال (غلوب) ان ينصب رشاشته لتحضير عرب البادية. طول هذا الصندوق الصخري الحديدي نحو 15 متر وعرضه نحو 7 أمتار. هذا هو الطابق الأعلى. ومنه تهبط في سلم داخلي إلى الطابق الأدنى. بإمكانك ان تشاهد، بدل المنافذ، مزاغل للبنادق بمساحة راحة أليد، تتسرب منها خيوط الشمس. وتلك علامة النهار! ويدخل منها شيء من الهواء الذي يحفظ شعلة الحياة في الأجساد من ان تنطفئ بسرعة!
في ظلام القلعة وهوائها الفاسد يغط السجناء –في ساعات النهار- في نوم طويل عميق كالموت، يستفيقون بعده متخدرين صفر الوجوه منتفخي العيون. اما في الليل فتغلق أبواب القاصة من الخارج، حتى ساعة متأخرة من اليوم التالي، وأحيانا حتى الظهيرة، حينما تريد إدارة السجن ان تمعن، لسبب ما، في إيذاء السجناء واستفزاز أعصابهم المتوترة ليلا ونهاراً. فتبقى مئات الأجساد مكدسة متخدرة مشلولة عن الحركة، لضيق المكان، تنتظر ان تفتح أبواب القاصة لتقضي حاجاتها الطبيعية، ولكي تجد بعد ذلك متسعاً من المكان للحركة ولكي تستنشق الهواء وترى إلى ضوء النهار.
هنا، في الساحة يستطيع السجين ان يتمطّي ويسعل بملء رئتيه بلا حذر أو وجل وان يبصق أينما يشاء، وان يستجمع قواه ويشد عزيمته لقضاء ليلة أخرى من ليالي القلعة. هكذا تمضي الأيام، موحشة رتيبة: رتيبة حتى فيما يقع فيها كل يوم من مضايقات واعتداءات واستفزازات، حول الطعام والماء والرسائل والكتب والجرائد والدواء ومجيء الطبيب ... الخ، حيث تدور الحياة دورتها الضيقة بين الاسوار والقلاع وغرفة المأمور، في بطن تلك الصحراء الموحشة الخاوية.
حينما تأتي إلى السجن سيارة الطعام أو الماء قادمة من السماوة، يستمع السجناء إلى بوقها وهدير محركها بشغف ومتعة. فتلك علامة من علامات العالم الفسيح المتحرك النائي. وحينما يمرق في السماء طير –وهذا نادر- فتلك علامة أخرى للحياة، يستبشر بها السجناء أيما استبشار. وفي يوم من أيام الربيع، أخطأ سنونو طريقه، فدخل القلعة من أحد المزاغل. فهب السجناء يهشونه ويطاردونه في الظلام حتى سقط متعباً بين يدي أحد "الرفاق" كان السجناء يمرحون ويتضاحكون كالأطفال لتلك المفاجأة السارة لكنهم ما لبثوا ان اطلقوا سراح السنونو، ودعوه بأنظارهم من باب (القاصة) حتى أختفى ...
وفي ضحى يوم مشهود آخر من أيام نقرة السلمان، شاهد السجناء وجهاً صغيراً بريئاً يطل عليهم من سطوح غرفة الادارة. وجه طفل برئ، من أطفال الشرطة!
كان السجناء يبتسمون ويلغطون ويلوحون بأيديهم لهذا المنظر الممتع. فللطفولة، الطفولة التي أحبها اولئك المناضلون ودافعوا عن مستقبلها وحقها في الحياة، صدى عميق الغور في نفوس اولئك الرجال البواسل الذين عرفوا الحب في أروع صورة واغنى مضامينه.
وثمة شيء آخر رتيب في نقرة السلمان، غير ظلام القلاع وصفارات الليل وصرير أبواب القاصة، غير البرد القارص والحر القاتل وعواصف الرمال الخانقة، غير جيوش الذباب الجائع، والصراصير الزاحفة المتواثبة في كل مكان. ذلك هو الخطر فالخطر هو أيضاً، رتيب هناك!
شرطة البادية تتظاهر خلف الاسوار وتهتف وتهزج –تسقط الشيوعية، يعيش الوصي والملك!- ويسمع السجناء الشتائم والتهديد بالذبح، وأغاني نكراء تتغنى بالثأر والانتقام والدماء. ويسمعون طلقات الرصاص في معظم الليالي. ان شرطة البادية، بطبيعة الحال، هم أوحش رجال الشرطة العراقية. لكن المستعمرين والرجعيين لم يكتفوا بتلك الوحشية البدائية، بل هذبوها على طريقتهم الخاصة، ودفعوها بطريق الحقد الأعمى على السجناء السياسيين. وقد يعجب القارئ إذا علم ان دائرة الاستعلامات الأمريكية تبعث، مرتين في الأسبوع، رجالها في سيارة السينما الامريكية المتجولة إلى ذلك المكان النائي لتثقف شرطة البادية بالمحاضرات والأفلام السينمائية وتعلمهم كيف ينبغي أن يمجدوا "الحرية" الامريكية ويكافحوا الشيوعية ويبيدوا الشيوعيين. ومن ثمار تك الثقافة ان أقتنع اولئك البدو السذج ان كل سجين سياسي ينبغي ان يكون شيوعياً. وما الشيوعي إلا "مسقوفي"(1)، يهودي، صهيوني، ضد الملك والوصي وعلم الدولة، عديم الشرف، يتزوج أمه واخته، وأخيراً، فهو يستحق ان يحرق بالنار وان تشرب شرطة البادية من دمه مثلما تشرب الماء.
هؤلاء البدو "الشرطة" ينتهزون كل فرصة للتعبير عن أفكارهم ومعتقداتهم تلك، وإظهار مشاعرهم العدائية نحو السجناء بنظراتهم الحاقدة وتهديداتهم وشتائمهم وأحيانا بالاعتداء المباشر والضرب.
والسجين في ذلك الوسط العدائي، لا يشعر بالخطر من المظاهر والتهديدات اللسانية وإطلاق الرصاص في الهواء. وإنما يتلمسه عملياً، في سلوك موظفي السجن ومناوراتهم ومؤامراتهم. ففي كل يوم، وكل ساعة، محاولة لاستفزازه واستدراجه الى شباك مؤامرة حقيرة وربما خطيرة!
اشتهر رجل كان مديراً لهذا السجن، اسمه جبار أيوب (وهو نفسه الذي نفذ مذبحة سجن بغداد وساهم في تنفيذ جرائم سجن الكوت) وجبار أيوب من ذلك الطراز الذي قدر الهتلريون مزاياه العظيمة لإدارة المعتقلات السياسية ومعسكرات الأسرى.
لقد صرح هذا الرجل أمام السجناء، خلال نوبة غضب حادة ألمت به: ان شيئا واحداً يشغل باله طيلة 24 ساعة من اليقظة والنوم، هو ان يبتكر أساليب جديدة، على الدوام، لايذاء السجناء وتعذيبهم. وقد اقترف فعلاً جرائم منكرة اشهرها حصار 1949، وإطلاق النار على السجناء.
كانت سلطات السجن تعزل السجن عن العالم الخارجي بين حين وآخر، فترات طويلة. ولا تسمح لأهل السجناء بزيارتهم إلا بترخيص من التحقيقات الجنائية في بغداد. وأحيانا، تمنع ادخال الهدايا من الطعام وغيره الى السجناء، وهو أمر خطير، إذ يصعب على السجناء الاكتفاء بالغذاء الحكومي الشحيح كماً وكيفاً. وإذا سمحت بإدخال الطعام امرت الشرطة بتفتيشه. والتفتيش معناه خلط السكر بالملح، والشاي بالتبغ، وتكسير البيض وتفريغ الدبس والسمن ...الخ. بحثاً عن المواد "الممنوعة". وأثناء التفتيش، تسرق الشرطة، او تصادر ما تريد، دون وازع أو رادع.
تأتي عوائل السجناء للزيارة من اقصي العراق إلى أدناه بعد ان تمر ببغداد لأخذ الموافقة. فتبيت في نقرة السلمان ليلة أو أكثر لتحظى بزيارة قد لا تستغرق في ظروف الشدة أكثر من 10 دقائق، بحضور جمهرة من الشرطة.
كان أحد السجناء يريد أن يسأل ذويه عن الحرب في كوريا، أثناء زيارتهم له، بحضور جمهرة من الشرطة. فسألهم عن "القوري"(2) وظل يلح بالسؤال ويكرر: شلون القوري ...؟ حتى فطن اهله إلى قصده، فاستحمدوا الله على ان القوري لم ينكسر ولن ينكسر ...! كانت الادارة في ذلك الحين قد منعت ادخال الجرائد اليومية طيلة سنة كاملة ولم تسمح بها آخر الأمر إلا بعد اضراب عن الطعام دام ستة أيام.
وخلال المواجهات، تختلق إدارة السجن وأفراد الشرطة المبررات للاعتداء على الرجال والنساء والأطفال، وعلى السجناء أنفسهم أمام ذويهم. وإليك حادثاً من هذا النوع: أم وزوجة وبضعة أطفال كانوا في زيارة أحد السجناء السياسيين، وقد استغرقوا في أحاديثهم وعواطفهم وأفكارهم التي تتزاحم وتتسابق مخافة ان ينتهي الوقت وتنتهي الزيارة. وكان الأطفال، يتعلقون بأكتاف أبيهم السجين وهو جالس القرفصاء قبالة امه وزوجته. ساعة سعيدة قلما يهنأ بمثلها السجين وأهلوه. وغير بعيد من المكان الذي تجري فيه المواجهة، يقع الباب الداخلي المؤدي إلى الساحة، حيث يتجمهر السجناء أحياناً، ليشاركوا في فرح المواجهات والزيارات. ومن تلك الباب أشار "أحدهم" إلى ذلك السجين الجالس بين عياله وطلب إليه ان يقترب، فلما دنا منه أبلغه رغبة "الرفاق" في دعوة العائلة الى الغداء. فرجع السجين إلى امه وزوجته وأطفاله بهذا الخبر الجليل المفرح: ستتأخر العائلة إذن، وسوف يأتيها الطعام من مطبخ السجناء، وسوف يستمع هو الى مزيد من كلمات امه وزوجته وضحكات أطفاله وهم يتناولون طعام السجن!
لكن مفوض الشرطة شاء ان يفسر اقتراب السجين من الباب وعودته إلى أهله، تفسيراً آخر. وبضربة مسرحية واحدة، انقلب الموقف إلى مأساة إذ أعلن المفوض انتهاء الزيارة وأمر الشرطة ان تفتش السجين وتفتش النساء والأطفال. فهجمت جمهرة من الشرطة "لتفتيش" السجين، على مرأى من أمه وزوجته وأطفاله، فأشبعوه ضرباً ولكماً وتمزيقاً. ثم تحولوا إلى النساء "ليفتشوهن" فاشبعوا الزوجة والأم لطماً وسباباً، وتجاوزوا حدود الحرمات في السب والضرب والتفتيش. أما السجين الآخر الذي نادى رفيقه من وراء قضبان الباب، فقد جيئ به إلى المفوض، بالأسلوب ذاته! كان هذا السجين قوي البنية طويل الجسم، صاحب نخوة وحمية. فأمسك بالمفوض من وسطه ورفعه إلى أعلى وضربه بالأرض وصار يسحق عليه بالحذاء، والمفوض يصرخ ويستنجد، حتى أجتمع عدد كبير من الشرطة الذين داروا على السجين دورة ضاربة وانتقموا منه انتقاماً فظاً. وأرادت إدارة السجن ان تحتجز السجينين في زنزانة الحبس المنفرد لكن موقف "الرفاق" الحازم حمل المدير على التراجع والإفراج عن السجينين، بعد ان تكهربت الأعصاب، وفارت الدماء في العرق في تلك المقبرة المنسية في بطون الصحراء. وانتهى الحادث، ومر على السجناء يوم من أيام الحياة في نقرة السلمان. انتهى الحادث، وانتهت حياة زوجة السجين التي ماتت يوم وصولها إلى مدينتها البصرة متأثرة من آثار الضرب والصدمة ومشقات الطريق.
في أواخر 1949، انتقل المجلس العرفي العسكري، بكامل هيئته إلى سجن نقرة السلمان، حيث أجرى محاكمة أربع وأربعين سجيناً بتهمة ترويج الشيوعية، لأنهم قدموا إلى السلطات الحكومية، عريضة يحتجون فيها على اختطاف قادة الحزب الشيوعي من سجن الكوت وإعدامهم. فحكم المجلس "المتنقل"، عليهم بسنوات سجن اضافية.
ان قلعة نقرة السلمان، بموقعها في بطن البادية الجنوبية، بصيفها المحرق وشتائها القارص، وشرطتها البدو المتعطشين للدماء ومدرائها المرضى في نفوسهم وما يتلقونه من أوامر "عليا"(3) وما يحاولون تحقيقه يومياً من المؤامرات والاستفزازات، ان نقرة السلمان كانت كفيلة بالقضاء على السجناء وتحطيمهم تحطيماً تاماً، لولا ان يكون لهم، ذلك الايمان العظيم بشعبهم ومبادئهم وبالإنسانية ومستقبلها المضيء الظافر، ولولا عزيمتهم الفولاذية المستمدة من عزيمة شعبهم المناضل وكل الشعوب المناضلة ضد الاستعمار والرجعية والحرب، ولولا انهم تعلموا كيف يقاومون عوامل الضجر والحزن والمرض. فنظم السجناء اعمالهم وأوقاتهم. اعمال المطبخ والفرن والغسيل والكنس ونحوها، يقوم بها السجناء بالمناوبة، لا فرق بين واحد وآخر. المكتبة، المخزن الصيدلية، استلام الأرزاق، توزيع الماء، الحفلات، الرياضة البدنية، الموسيقى والغناء ...الخ، يتولاها رفاق مسؤولون أو لجان مسؤولة. ولكل عمل أو نشاط أوقات خاصة به، وأصول يحترمها السجناء ويراعونها. ويتعرض السجناء الى النقد الأخوي الصريح إذا أخطأوا أو قصروا. ويتلقون في الوقت ذاته المعونة والنصح والإرشاد، من رفاقهم السجناء الذين يراقبون كل بادرة في السلوك أو المزاج، تشذ عن الحياة الجماعية الرفاقية أو عن الروح النضالية، وفضائل الخلق الثوري، فيعالجونها في الحال.
وأصبح للسجناء السياسيين في السجون، بعد خبر سنوات عديدة، مدارس راقية للتثقيف والتهذيب، يتعلم فيها السجناء القراءة والكتابة واللغات والاقتصاد السياسي والتاريخ والفلسفة، ويتلقون فيها تدريباً عملياً مفيداً. وفي السجون، يلتقي المناضلون من مختلف الطبقات والاتجاهات السياسية فيتبادلون الاراء والتجارب ويصقلون نفوسهم ويهذبونها ويتزودون بروح التعاون والثقة. وطبيعي ان يلعب الشيوعيون دوراً قيادياً في مختلف نواحي النشاط بين السجناء السياسيين، دوراً لا تنازعهم عليه العناصر الوطنية والديمقراطية الأخرى، بل على العكس، تعترف لهم به وتستفيد منه أعظم الفوائد.
في 1949، والحملة الارهابية في ذروتها، كانت معتقلات بغداد تغص بمئات المعتقلين. وفي واحد منها، استطاع بعض المعتقلين الشبان الذين كانوا ينتظرون دورهم في المثول امام المجلس العرفي العسكري ان يحصلوا على نسخة من جريدة رجعية فيها النص الكامل لبيان مكتب الانباء للأحزاب الشيوعية حول قضية تيتو. هناك، وفي تلك الظروف القاسية، شعر اولئك الشبان الذين سيذهبون الى السجون لأول مرة في حياتهم، بان رفاقهم السجناء القدامى بحاجة الى الاطلاع على تلك الوثيقة الخطيرة. فما كان منهم إلا أن جزؤوا البيان اجزاءً استظهروها بنظام خاص ليعيدوا كتابتها إذا التقوا في السجون بعد حين. بتلك الروح العالية، وبذلك الحرص اللامتناهي على العلم، والحب للحقيقة، انشأ السجناء السياسيون مدارسهم ومكتباتهم التي صار لكل منها تقاليدها وأساليبها وأساتذتها.
لكن الحياة في نقرة السلمان ليست دروساً كلها، وكنساً وطبخاً وغسيلاً. فهناك الجوانب الممتعة أيضاً، الرياضة البدنية في الصباح، والشطرنج وحلقات السمر والغناء في أوقات الشاي بعد الظهر أو في المساء.
من المشاهد المألوفة ان ترى السجناء السياسيين يتسابقون وفي أرجلهم سلاسل الحديد، وترى الاوسمة يعلقها الفائزون على صدورهم وسط التصفيق. وقد تشاهد رفيقاً من لجنة الغناء، يعلم الجوقة أغنية كردية أو نشيداً عربياً من تلحين أحد السجناء. وقد تشاهد، في الضوء الشاحب في الطابق الادنى من القلعة، جمهرة من الرفاق العرب والكرد، يعلو رؤوسهم الغبار وتصبب وجوههم عرقا، يتدربون على الدبكة ويغنون ويتضاحكون كأنهم في (نوروز)، وكأن ظلام القلعة وغبارها نهاراً مشرقاً معطراً بأنفاس الربيع.
أما الحفلات فهي الينبوع الاعظم لمسرات السجناء وأفراحهم حيث المحاضرات والخطب وقصائد الشعر والرقص والغناء والتمثيل. تقام الحفلات في المناسبات الوطنية والأممية، وما اكثرها وما أعظمها وما أروعها!! حزيران، كانون، تشرين، اكتوبر، أيار، الجلاء عن سوريا ولبنان، الهدنة في كوريا، وميلاد ماركس، ولادة الجمهورية الشعبية في الصين ... وغيرها وغيرها!
لقد خلقت تلك الحفلات أدباً وفناً ثوريين، تسربا إلى الخارج فتلقفتهما الجماهير بشغف واعتزاز. ولأدباء السجون اليوم وشعرائها ورساميها وملحنيها مكانة خاصة عند الجماهير.
هكذا استطاع السجناء السياسيون في نقرة السلمان ان يقاوموا عوامل الخمول والحزن واليأس والمرض وان ينتصروا عليها. ان ما ابقاهم أحياء في نقرة السلمان هو فكرهم النير وإرادتهم الفولاذية الواعية واعتقادهم المطلق بأنهم جزء من جبهة الكفاح، جزء يجب ان يصمد ويحتفظ بقواه وثوريته وان يقاوم، مع كل المناضلين، محاولات الاستعمار وأعوانه لإذلال الشعب وإخضاعه واستعباده  وتقديمه وقوداً للحرب.
وكان السجناء السياسيون على يقين تام بان شعبهم لن يتخلى عنهم ان هم لم يتخلوا عنه. فكان لهم من عطف الجماهير والرأي العام سنداً عظيماً بوجه السلطات الحكومية، سنداً يمدهم بالقوة والثبات والعزيمة. لقد احتضنت الجماهير وكل الرأي العام الوطني، قضية السجناء السياسيين حتى أصبح الغاء سجن نقرة السلمان(4) والعفو العام عن السجناء السياسيين (أو على الأقل إعادة محاكمتهم أمام محاكم مدنية نزيهة)، مطلبين وطنيين تتبناهما كل الاوساط الوطنية وتوافق عليها حتى الاوساط المعادية للشيوعية وبعض الفئات الحاكمة.
ان صمود السجناء السياسيين في نقرة السلمان والسجون الآخرى وبطولاتهم العظيمة وتضحياتهم، لم تكن موضع عطف الجماهير الشعبية والأوساط الوطنية وإعجابها فحسب. بل كانت أيضاً نبراساً مقدساً للمناضلين ضد الاستعمار في الصمود والبطولة والتضحية. لقد خلق السجناء السياسيون تقاليد رائعة للسلوك الثوري في المواقف والمعتقلات والسجون، تقاليد يعتز بها المناضلون الثوريون ويمجدونها. وهي، إلى جانب تقاليد الشعب العراقي الثورية المجيدة، تقاليد ثورة العشرين وانتفاضة الازيرج ووثبتي كانون وتشرين وإضرابات السكك والنفط ومسيرة العمال المضربين الكبرى من (حديثة) إلى بغداد، وتمردات فلاحي العمارة والبصرة و (دزه ى) وإضرابات الطلاب ومظاهراتهم واعتصاماتهم. تلك التقاليد الثورية هي، الى جانب تقاليد الشعب العراقي الثورية المجيدة، من أبرز خصائص الحركة الثورية في العراق، التي ولدت وترعرعت في ظروف التصادم الحاد مع المصالح الاستعمارية الاجنبية وأجهزة القمع الاستعماري الرجعية السوداء.
لعل القارئ يستطيع الان ان يتعرف على مزاعم الحكومة الفارغة وأكاذيبها في البيان الذي اصدرته مديرية الدعاية العامة في 19 حزيران 1953 حول مذبحة سجن بغداد. وان يفهم حقيقة ما قصدت إليه الحكومة في عبارات (العطف على ذوي السجناء)، و (الوسائل الممكنة للترفيه) عن السجناء. وان يقدر الاسباب الحقيقية التي أجبرت الحكومة على نقل سجناء نقرة السلمان، في سنة 1951 إلى السجون الأخرى في بغداد والكوت فهي قد نقلتهم، بعد ان عجزت، أمام نضال السجناء وضغط الرأي العام، عن الاحتفاظ بهم في ذلك السجن الرهيب النائي. لكنها ما لبثت بعد نقلهم إلى بغداد والكوت، ان صارت تتحين الفرص وتخلق المبررات لتعيدهم من جديد إلى هناك. وأخذت تنقل إلى سجن النقرة، افراداً وجماعات صغيرة تتهمهم بالشغب والعصيان والتمرد، وأخيراً، استغلت ظروف الاحكام العرفية والإرهاب البوليسي والعسكري وتعطيل الصحف والأحزاب، بعد وثبة تشرين الثاني 1952 لتشن أفضع هجوم تعرض له السجناء السياسيون في كل السجون العراقية وفي كل تاريخ الحكم الاستعماري الرجعي في العراق. بدأ ذلك الهجوم –كما اطلع القارئ- بمذبحة سجن بغداد في 18/6/1953، وانتقل بعد ذلك إلى سجن نقرة السلمان، ثم الى سجن الكوت حيث وقعت المذبحة الكبرى بعد شهر من الحصار كما سيأتي بيانه.

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1)- المسقوف اسم اطلقه الاتراك على الروس خلال حروب الامبراطورية العثمانية مع القيصرية الروسية. ولا زالت التسمية معروفة في العراق وترمز الى العدو القاسي الذي لا يستحق رحمة أو شفقة.
(2)- القوري باللغة العراقية الدارجة ابريق الشاي.
(3)- صرح أحد المدراء المدعو كاكه أمين: أنه يتلقى أوامره من نوري السعيد مباشرة.
(4)- اوفدت الحكومة تحت ضغط الرأي العام لجنة خاصة لدراسة أوضاع ذلك السجن فأوصى تقرير اللجنة بإلغائه نظراً لمخالفته للشروط التي يجب توفرها في السجون الحكومية حسبما يقرره قانون السجون. وقد صرح وكيل مدير السجون العام السيد (صديق خوجه) عند زيارته للسجن قائلاً "ان نقرة السلمان لطخة عار في جبين الحكومة العراقية" اما عن العفو العام ، فقد رفعت خلال السنوات الماضية إلى الجهات المختصة مئات الالوف من التواقيع وقدمت مذكرات عديدة من نقابة المحامين، وأثيرت القضية مراراً في مجلس النواب وقدم الاستاذ حسين جميل وزير العدلية وقتئذ، تقريراً الى مجلس الوزراء تضمن الطعن بمشروعية الأحكام التي أصدرتها المجالس العرفية واقترح اتخاذ الاجراءات التشريعية التي تسمح بإعادة محاكمة السجناء السياسيين امام المحاكم العادية.



يتبــــــــــــــــــــــــع

74
من أعماق السجون في العراق*  /4
 
الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) 
1920 – 1963


من هم السجناء السياسيون
ما هي السجون العراقية

مشكلة فلسطين، مشروع معاهدة جديدة مع الاستعمار البريطاني، مشاريع معاهدات واتفاقيات مع تركيا، مع الأردن، مع بريطانيا حول الارصدة الاسترلينية ...الخ. كان ذلك كله يتطلب من الرجعية العراقية سنة 1947، سبلا للتنفيذ في وجه صعوبات متزايدة تقيمها الحركة الوطنية التي نمت وتعاظمت وانبث فيها الوعي السياسي الى درجة كبيرة، خلال الحرب العالمية الماضية وبعدها. ومن مستلزمات تنفيذ اي مشروع استعماري، ان يشن الحكام الرجعيون وخدم الاستعمار، حملات ارهابية ضد الوطنيين والحريات الديمقراطية.  فكانت اعتقالات واسعة قامت بها حكومة نوري السعيد (حينذاك) وأحكام قاسية أصدرتها محاكم صالح جبر على مئات المعتقلين وفي مقدمتهم قادة الحزب الشيوعي العراقي: يوسف سلمان يوسف (فهد)، وزكي محمد بسيم (حازم) وحسين محمد الشبيبي (صارم)، حتى امتلأت السجون بالفوج الاول من السجناء السياسيين.
وفي سنة 1949، اجتمع الفوج الثاني من السجناء السياسيين، على أثر اعتقالات أوسع نطاقاً، قامت بها حكومة (محمد الصدر) ثم حكومة (مزاحم الباجه جي) وأخيرا (وعلى الأخص) حكومة نوري السعيد، انتقاماً من الشعب الذي أحبط بدمائه مؤامرة "بورتسموث" ومن الاحزاب والمنظمات المجاهدة التي قادت الجماهير في وثبة كانون 1948 وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي، ولسلب المكاسب الديمقراطية التي انتزعها الشعب العراقي في أيام وثبته الخالدة.
كان التنكيل بالمواطنين وحشياً وقاسياً خلال هجوم 1949 الرجعي، شمل الوطنيين والديمقراطيين والنقابيين والشيوعيين من عمال ومستخدمين وطلاب ومحامين وتجار ومعلمين وفلاحين، رجالا ونساءً.  وانتشر في طول البلاد وعرضها جو هستيري محموم، لم يسبق للعراق ان عرف مثله من قبل. وفي ذلك الجو الخانق المتسمم بالشوفينية والطائفية، اختطفت الحكومة الرجعية قادة الحزب (يوسف سلمان، زكي بسيم، حسين الشبيبي) الشيوعي العراقي من سجن الكوت (وكانوا إذ ذاك محكومين بالسجن المؤبد) وأعدمتهم على عجل، بعد محاكمة صورية قصيرة، أمام المجلس العرفي العسكري.
في تلك الايام السوداء من تاريخ الحكام الرجعيين، اشتهر معسكر للاعتقال يقع شمال غربي بغداد، اسمه "ابو غريب"، ورجل كان يشغل رئيس المجلس العرفي العسكري، اسمه (عبد الله النعساني).
يؤتى بمئات المعتقلين الى ذلك المعتقل بعد ان يكون بعضهم قد تلقى تعميد دائرة "التحقيقات الجنائية"(1) فيوضع كل واحد في غرفة صغيرة واطئة مظلمة، سقفها من الصفيح وأرضها من السمنت مغمورة بالماء الى عمق بضعة عقد. يؤتى بالإنسان ليقذف به الى داخلها، ليبقى بضعة أيام وليال، في برد الشتاء القارص، دونما فراش أو غطاء، واقفاً على رجليه معتمداً على الجدار عند النوم، وقطرات الندى البارد المتساقطة من صفيح السقف تسح على وجهه وتتوغل في طيات ثيابه المقرورة وبعد أيام من حرب الاعصاب في الظلام الدامس الذي يستوي فيه الليل والنهار، يسمح للمعتقل ان يسترد جزءاً من حقوق الانسان الاولية لتغصب منه حقوق أخرى حيث يظل في المعتقل اسابيع في انتظار المحاكمة امام (النعساني)، وهو مقطوع الصلة بالعالم الخارجي، لا يجوز لأهله زيارته، ولا يجوز له ان يقابل أحداً حتى محامي الدفاع.
خمسون او ستون رجلاً يواجهون دفعة واحدة منصة القضاء، المتربع عليها (النعساني). بضعة شهود من الشرطة وجواسيس دائرة التحقيقات الجنائية. التهمة: ترويج الشيوعية وفق المادة (89آ). المحكمة تسمح او لا تسمح للمتهم بالدفاع عن نفسه او بتوكيل محام عنه، فذلك من اختصاصها، حسب مرسوم الاحكام العرفية المعمول به منذ سنوات عديدة. تستمر المحاكمة ثلاث او أربع ساعات تصدر بعدها على خمسين او ستين متهما احكام قاطعة بالسجن، لا تقبل النقض او الاعتراض.
عبر الناس رأيهم في أحكام (النعساني) هذا، بالأقصوصة التالية التي انتشرت انتشاراً واسعاً، مع شيء من الاختلاف في التفاصيل: قيل ان صفاً طويلاً من المتهمين السياسيين، وقف امام النعساني للمحاكمة. وكان يتوسطهم رجل أسود اللون. وبعد السؤال والجواب، أصدر النعساني حكمه: "من الأسود الى اليمين، عشر سنوات، من الأسود لليسار، سبع سنوات". وخرج المحكومون من المحكمة وبقي "الأسود" في مكانه، لا يدري الى أي فريق ينتمي. وقد احتار الجنود الحرس في أمره ايضاً. فانتبه النعساني الى وجود "الأسود" وتأخره عن اللحاق بأصحابه، فطرده بشتائم تليق بمقام عبد! وخرج الرجل مهرولا وهو لا يصدق ان قد وفر لنفسه ولأهله سبع او عشر سنوات من السجن بتهمة الشيوعية(2).
هكذا امتلأت السجون بالفوج الثاني من السجناء السياسيين. نعم، هكذا امتلأت، بمئات ومئات من الوطنيين والديمقراطيين ومن بسطاء الناس، "الأبرياء" حتى من "تهمة" النشاط الوطني او الديمقراطي.
وفي سنتي 52 – 1953 اجتمع الفوج الثالث من السجناء الذين غصت بهم السجون بفضل الاحكام العرفية التي اعلنت بعد وثبة تشرين الثاني 1952. وقد شهدت محاكم هاتين السنتين مهازل كمهازل (النعساني)، حتى ان المجلس العرفي العسكري قد حكم بالسجن غيابياً على بعض الموتى من المناضلين او "المشبوهين" وعلى اشخاص خياليين لا وجود لهم في غير تقارير الشرطة والتحقيقات الجنائية. وحدث، مرة، ان اعتقلت الشرطة (في 14 آذار 1955) عدداً من الطلاب اثر مظاهرة خرجت في الصباح فحكم عليهم المجلس العرفي العسكري في نفس الليلة، بالسجن مدداً طويلة. لكن راديو بغداد الحكومي كان أكثر "نباهة" وحماساً من المجلس العرفي، إذ أذاع تلك الاحكام في نشرته المسائية للأخبار، قبل ثلاث ساعات على الاقل من اجتماع المجلس العرفي ومثول المتهمين بين يديه!
استهدفت اعتقالات ومحاكمات 52- 1953، كما هو معلوم تصفية الحركة الوطنية وحركة السلم، لتمهيد السبيل امام المشاريع الحربية العدوانية ولكن المستعمرين الرجعيين أخطأوا الحساب. فبعد اعتقال آلاف المواطنين وسجن مئات منهم وتدبير مذابح السجون في بغداد والكوت لم يجد الحكام الرجعيون بعد ستة أشهر فقط من رفع آخر الاحكام العرفية التي كانت معلنة في البصرة لتأديب عمال النفط اثر اضرابهم المشهور، لم يجدوا مفراً من العودة الى اعتقالات جديدة قام بها نوري السعيد في صيف 1954، وإصدار مراسيم ارهابية رجعية شاذة(3)، والاستمرار في حملة الاعتقالات وتوسيعها توطئة لفرض المشاريع الحربية وفي مقدمتها الحلف التركي العراقي.
وبالإضافة للأفواج الثلاثة الرئيسية والفوج الرابع الذي ما زال يتضخم يوماً بعد يوم منذ تشكيل وزارة نوري السعيد، وزارة الاحلاف والمراسيم، فان المحاكم العراقية المدنية والعسكرية لم تتوقف يوماً ما، منذ عشر سنوات، عن ارسال الشيوعيين والوطنيين والديمقراطيين وأنصار السلام من شتى الاتجاهات السياسية، من العمال النقابيين والفلاحين الناهضين بوجه المظالم الاقطاعية(4) والطلبة والشبان الديمقراطيين، والنساء، الى السجون.
ويلاحظ بشكل محسوس ان ميزانية الحكومة للسجون وتوسيعها وبناء سجون جديدة تتضخم سنة بعد أخرى، كما تتضخم مصروفات الشرطة وأجهزة القمع وميزانية التسلح والمنشآت العسكرية والحربية.
كانت سياسة الحكومة منذ البداية انها انكرت على السجناء المحكومين "بجريمة الشيوعية" و "جرائم" التظاهر والإضراب والهتاف والخطابة والنشر، انكرت عليهم حقوق السجن السياسي المنصوص عليها في قانون السجون. إلا ان السجناء استطاعوا بفضل نضالهم البطولي وإضراباتهم عن الطعام وتنامي القوى الوطنية والمد الثوري خلال وثبة كانون ان يفرضوا على السلطات الرجعية الاعتراف لهم بتلك الحقوق.
وما ان بدأ الهجوم الرجعي على القوى الوطنية في أوائل 1949 وتم اختطاف قادة الحزب الشيوعي من سجن الكوت وإعدامهم في بغداد، حتى تعرض السجناء السياسيون الى هجوم ضاري جردهم من حقوقهم المشروعة. ونقل كثير منهم، على الأثر، الى سجن بعيد، في موضع من البادية الجنوبية، يسمى (نقرة السلمان). ويبعد مسافة 150 كلم عن أقرب مدينة عراقية (السماوة)(5). كان ذلك السجن قلعة عسكرية بناها (ابو حنيك) لتأديب البدو وفرض النفوذ البريطاني عليهم. و (ابو حنيك) هو غلوب باشا، القائد الانكليزي للجيش العربي الاردني الهاشمي. ثم صار السجناء الجدد ينقلون، بعد ذلك، الى سجن (نقرة السلمان) الذي اشتهر كسجن للانتقام والموت البطيء.
ومنذ ذلك الوقت، والمحاولات تجري في سجن نقرة السلمان كما في السجون الأخرى لإخضاع السجناء لحياة الذل والمهانة وتسخيرهم في الاعمال المدنية كما يسخر السجناء العاديون. إلا ان تلك المحاولات اصطدمت وما زالت تصطدم بمقاومة جبارة من جانب السجناء الذين خاضوا اضرابات طويلة عن الطعام استمر بعضها اربعاً وعشرين يوماً بدون انقطاع، وقدموا تضحيات غالية من صحتهم وحيويتهم واستشهد منهم بسبب هذه الاضرابات عدة مناضلين، منهم: دنحو يلده (عامل) في سجن نقرة السلمان، نعمان محمد صالح (طالب) في سجن بغداد، حسين مهدي (فلاح) كبير السن وأب لمناضلين ومناضلات، في سجن بعقوبة. وراح من السجناء ضحايا آخرون، منهم: هاشم أحمد مات مسلولا، مهدي حسي اغتاله في المستشفى طبيب فاشستي، كريم صوفي و حييم، توفيا في التعذيب. وغير أولئك، كثيرون أصيبوا بالشلل والعاهات الدائمة ومرض السل وغيرها.
ان محور السياسة الحكومية ازاء السجناء السياسيين، هو الاضطهاد المتواصل بشتى الأساليب، والمحاولات المستمرة لتشديد التوتر بينهم وبين ادارة السجون، وخلق الاستفزازات اليومية لتبرير الانتقام وسلب الحقوق. فكان السجناء يدافعون عن حقوقهم ويناضلون نضالا دائباً بالعرائض الرسمية، والاحتجاجات التي يرسلونها الى الصحف (في الاوقات التي تكون فيها الصحف الحرة غير معطلة او خاضعة للرقابة)، وبالإضرابات عن الطعام، وكانت عوائل السجناء ومجموع الحركة الوطنية والرأي العام يلعبون دوراً هاماً في مساندتهم بالعرائض الجماهيرية، والاحتجاجات ووفود الآباء والأمهات وحتى بالمظاهرات.
كان كل سجين سياسي يتوصل من تجاربه الخاصة، خلال اقامته في السجون، سواء طالت ام قصرت ان سياسة الحكومة ازاء السجناء انما هي سياسة ماكرة تسيرها خطة موضوعة بعناية من قبل الاوساط الرجعية والاستعمارية. وتهدف الى تحويل السجون الى مقابر للأحياء ومباءات لنشر الرعب واليأس والتخاذل والانحلال في صفوف المناضلين ضد الاستعمار والرجعية، وتخويف الشعب وإذلاله وكسر معنوياته.
في سجن بغداد تعرض المناضلون الى حملات اعتداء وانتقام فضيعة. ففي سنة 1949 مثلا، دبرت الحكومة هجوماً قامت به عصابة من مجرمين سجناء يساندهم حراس السجن. فهدموا عليهم السقوف وقذفوهم بالطابوق وجلدوا احد السجناء السياسيين أكثر من ألف جلدة على قدميه، ظل بعدها عاجزاً عن المشي طيلة ستة أشهر وما تزال آثار الضرب بادية على قدميه. وكسروا اسنان عدد من السجناء بالمطرقة، لأنهم رفضوا شتم قادة الشعب العراقي المناضل في سبيل خبزه وحريته.
وفي سجن الكوت لم تنقطع الاستفزازات منذ سنة 1949. ومنعت الادارة ادخال الشاي والسكاير والصحف لعدة أشهر. ومنعت قراءة الاناشيد الوطنية وتنظيم الاحتفالات بمناسبة اول أيار والثورة العراقية ووثبة كانون والمناسبات الوطنية والأممية الاخرى وفرضت الحكومة عقوبات على السجناء بسبب الاناشيد والحفلات بلغت (400 سنة سجن) اضافية وزعت على السجناء. وفي سجن النساء تعرضت المناضلات الى التهديد والاعتداء والاستهتار بحقوقهن والى التعذيب والضغط المتواصل، لحملهن على التنكر  لأهداف الحركة الوطنية وقبول حياة الذل والعبودية، ففي عام 1949 اعتدي بالضرب فكسرت يد سجينة سياسية وام لعدة مناضلين، وهي عجوز عمرها 80 سنة.
وفي سجن بعقوبة الذي نقل اليه جرحى مذبحة سجن بغداد ثم جرحى مذبحة سجن الكوت الكبرى وعدداً من سجناء نقرة السلمان. في هذا السجن، دشنت الحكومة اساليب جديدة للانتقام فقد تركوا السجناء الجرحى، وهم مكبلون بالحديد، ينامون على الارض لمدة اسبوعين بلا أفرشة وبدون معالجة طبية.
واعتدوا بالضرب على القادرين منهم على المشي، عند دخولهم السجن، على طريقة الصفين المتوازيين من الشرطة والضرب المتلاحق خلال المرور. ومنعوا عنهم المواجهة واستلام الطعام من ذويهم، واجبروهم على الاكتفاء بالخبز والتمر ونوع من الشوربة اختصت بطبخه مديرية السجون العامة، وكانوا جرحى ومرضى كما هو معلوم. وعند مجيء الوجبة الاولى من سجناء نقرة السلمان كرروا معهم اسلوب الضرب بطريقة الصفين المتوازيين من الشرطة وجلدوا بعضهم بـ (الفلقة)  وجلدوا المناضل الشيوعي البارز حميد عثمان(6) 200 جلدة. ولم يفرج عنهم من السجن الانفرادي إلا بعد ان هب كل السجناء للنضال لإنقاذهم من هذا الخطر.
ولم يستطع السجناء ايقاف حملة الاعتداء والانتقام والاستفزاز إلا بلجوئهم في أواسط ايلول 1953 الى الاضراب عن الطعام مدة 12 يوم، واستشهاد أحدهم، الفلاح المسن الشيخ حسين مهدي واشتداد حملة الاحتجاج التي قامت بها مختلف الاوساط الوطنية. مما حمل الحكومة على ان تلبي بعض مطاليبهم وكان أهمها: 1- استرجاع الافرشة والملابس. 2- السماح لذوي السجناء بمواجهتهم. 3- وقف الاعتداء والإهانة. 4- المعالجة الطبية وإرسال المرضى والجرحى للمستشفى. 5- استلام المطبخ والسماح بإدخال الطعام من ذوي السجناء. 6- الاعتراف لهم بحق التنظيم داخل السجن والاعتراف بالممثل الذي ينتخبه السجناء لتمثيلهم والتفاوض باسمهم.

محمد راشد (الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم المؤلف مجهولا إلى أن نشرت طريق الشعب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1)- التعذيب في سراديب التحقيقات الجنائية ركن من اركان الحكم الرجعي في العراق، وله أساليب في الاضطهاد والتعذيب معروفة جيدا لدى الشعب العراقي. منها: التعليق من الايدي او الأرجل، حرق مواضع حساسة من الجسم، اقتطاع اللحم من الجسم، قلع الأظافر، ونتف الشعر، الاعتداء الجنسي، صب الماء البارد او الساخن، الجلد بالعصي والسياط والكرابيج المحشوة بالرمل، دق الخوازيق في الشرج. هذا بالإضافة الى التجويع وحرب الاعصاب والإهانات والكلمات البذيئة والتهديد بالقتل.
(2)- هذه الاقصوصة في محتواها قريبة جداً من الوقائع المتواترة التي يرويها الناس عن محاكمات (النعساني)، وغيره من رؤساء المجالس العرفية العسكرية.
(3)- أهم تلك المراسيم المرسوم رقم (16) الذي وسع مفهوم الشيوعية حتى شمل (انصار السلام، والشبيبة الديمقراطية وما شاكل ذلك). والمرسوم رقم (17) لإسقاط الجنسية العراقية عن المحكومين بتهمة الشيوعية. ومرسومان آخران رجعيان للصحافة والجمعيات.  
(4)- تعرض بصورة خاصة فلاحو العمارة من العرب وفلاحو (دزه ي) من الاكراد الى الاضطهاد والتشريد والنزوح عن اراضيهم. واعتقل وسجن منهم خلق كثير.
(5)- انظر خارطة العراق في آخر الكتاب.
(6)- وبعد أحد عشر شهراً من هذا الحادث تمكن حميد عثمان من الهرب مع اثنين من رفاقه وهو الان على رأس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي.


يتبــــــــــــــــــــــــع

75

من أعماق السجون في العراق*  /2


الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 – 1963
قلب بغداد
قف!
فهذا هو الجدار الطويل ... الطويل، الذي يحجز خلفه مسرح الجريمة الشنعاء، مذبحة 18 حزيران 1953. هذا هو جدار السجن السياسي من سجن بغداد المركزي.
لستَ في صحراء أو غابة أيها القارئ. أنت في قلب بغداد. أنت في باب المعظم.
تلك هي المكتبة العامة الوحيدة في عاصمة الرشيد والمأمون، تقابلها عبر ساحة "باب المعظم" قاعة الملك فيصل، القاعة الارستقراطية الفخمة للتمثيل والمحاضرات، الوحيدة في عاصمة بلاد الحضارات القديمة والنفط والكبريت.
هنا، على الساحة أيضاً، مديرية مصلحة نقل الركاب في العاصمة، ذلك المشروع الانكليزي الذي تديره الحكومة العراقية لقاء عمولة معينة. وهناك، أبعد قليلا، وأنت تدخل شارع الرشيد تقع وزارة الدفاع ومن خلفها مجلس الأمة "البرلمان". وعلى دجلة ما بين وزارة الدفاع حتى شارع المتنبي، تحتشد معظم الوزارات والدوائر الحكومية والمحاكم في بنايات السراي العثماني، ومعظم دور الصحف والمطابع. يقابل هذا المحتشد، عبر شارع الرشيد، جامع الحيدرخانه المشهور الذي انطلقت منه أول مظاهرة في بغداد في ثورة "1920" ضد الاحتلال البريطاني، حيث سقط برصاص الانكليز عامل أخرس فشيعته وبكته بغداد برمتها.
هنا مقاهي بغداد –مقهى خليل، مقهى البرلمان، مقهى حسن عجمي، مقهى عارف آغا، مقهى الزهاوي. هنا انتظمت حلقات الفكر والأدب والسياسة في سنوات ما بعد ثورة 1920-.
وهنا أيضا سوق اعراض بغداد، المبغى العام "الكلجية" كما يسمونه، غير بعيد عن الوزارات والدوائر الحكومة ومديرية الشرطة العامة.
لنعد من حيث أتينا. ها هي ساحة باب المعظم حيث تتقاطع أربعة شوارع. ولنسر في شارع الامام الأعظم "أبي حنيفة". هذا هو الجدار الطويل، مرة أخرى، تتصل به مديرية السجون العامة. تقابلها المكتبة العامة –كما ذكرنا- تليها دكاكين، مقهى صغير، معمل نجارة، فمتحف التاريخ الطبيغي، فعيادة حماية الأطفال، فمستشفى حماية الأطفال، فوزارة الخارجية العراقية، فحدائق المعرض. وأبعد قليلاً تقع الثكنة التركية القديمة ومقر حامية بغداد. إلى الشرق كلية الهندسة. إلى الشمال كلية الحقوق فالوزيرية، حيث تحتشد كل السفارات والمفوضيات الأجنبية عدا السفارة البريطانية "في الكرخ" والسفارة الامريكية في الطرف الأقصى من الكرادة الشرقية، بعيدا عن الناس، بعيدا عن الحركة ....
ومن جانب آخر من جوانب ساحة المعظم يتفرع شارع مزدحم بالسيارات والكراجات، حيث تقع كلية العلوم والآداب وثكنة شرطة الخيالة، تقابلها كلية الملكة عالية للبنات، وأبعد قليلاً إلى الشرق يبدأ شارع غازي وتبدأ معه منافذ بغداد الكادحة –الفضل، بني سعيد، قنبر علي، أبو سيفين، أبو شبل، باب الشيخ ... -.
وخلف السجن من جهة الغرب حتى دجلة يقع مستشفى "المجيدية"، إحدى مآثر السلطان عبد المجيد، بحدائقها الفسيحة ومبانيها القديمة والحديثة. وفي الجهة الملاصقة للسجن من المجيدية، تمتد مباني الكلية الطبية الملكية وكليتي الصيدلية والكيمياء.
هذا مكان السجن المركزي من قلب بغداد.
هنا نقف نحن، وسط شارع الإمام الأعظم وعلى بعد خطوات تمتد ساحة باب المعظم. على يميننا الجدار الطويل ... وإلى يسارنا وزارة الخارجية العراقية.
على يميننا مسرح جريمة شنعاء مخجلة، وإلى يسارنا مكان يتحدث فيه أصحابه إلى ضيوفهم بلغة ناعمة مؤدبة ويحفظ فيه موظفون أمناء وثيقة حقوق الإنسان وشريعة الأمم المتحدة، إلى جانب النسخة الاصلية من معاهدة 1930 العراقية البريطانية الملغاة ومعاهدة التحالف التركي – العراقي- البريطاني (الامريكي بالطبع)، التي حلت محلها.
وبإمكاننا حيث نقف أيها القارئ، أن نشارك السجناء السياسيين مرتين في اليوم سماع صافرات الشرطة وهي تنذر الناس والباصات وسيارات التاكسي بان تتوقف عن السير ريثما يمر الموكب الملكي ذاهبا إلى البلاط من هذا الطريق بالذات وعائد منه. وان نشارك الضيوف الأجانب انطباعاتهم عن بناية وزارة الخارجية ذات الجمال المتزن الهادئ، بأقواسها وفسيفسائها الملون التي تذكر بثلاثة عشر قرنا من الحضارة العربية الإسلامية التي أمرت بان (لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)، ويزعم الحكام العراقيون الرجعيون انهم ورثتها وحماتها. وان نشارك في دهشتهم من "شجاعة" الحكام العراقيين الذين نصبوا في هذا المكان من قلب بغداد ، ربايا للرشاشات وأطلقوا النار على 150 إنسان أعزل، تحيط بهم أربعة جدران. بإمكاننا أيها المواطن أن نتحسس حيث نقف، نبض الحياة في هذا البلد، وصراع كل المتناقضات فيه. وبإمكاننا، ونحن في هذا الجزء من بغداد حيث تنشط الإنسانية والرحمة في المستشفيات، والفكر والأدب والعلم والسياسة في المدارس والكليات والمكتبات ودور الصحف والمطابع، والعمل والحركة والضجيج في الكراجات والباصات ودوائر الحكومة والمقاهي، بإمكاننا بطلقة واحدة من مسدس نطلقها في الفضاء، أن نهز أعصاب بغداد كلها وان نترك العيون والآذان والشفاه تتطلع وتتسمع وتستفهم:
شكو ، داد؟؟ شكو باب المعظم؟
عفوا أيها القارئ! فاتني أن أخبرك أن الشارع المزدحم بالباصات والكراجات وثكنة الخيالة وكلية العلوم، الموصل ما بين باب المعظم وشارع غازي، هذا الشارع قد أُطلق عليه أسم "نوري السعيد" . وفي التسمية اعتراف بفضل نوري السعيد على أرصفة هذه الأماكن المشهورة من بغداد وعلى أجوائها وخرائبها ومبانيها. ذلك أن باب المعظم عرفت أكثر من مرة، بفضل الحكام الرجعيين وعلى رأسهم نوري السعيد، مذاق الدم ورائحة البارود وغاز الدموع. واحتفظت على الجدران والشرفات بأوسمة الرصاص وآثار الكر والفر. فمن تلك الساحة أنطلقت شرارة وثية كانون الثاني 1948 التي طوحت بمعاهدة "بورتسموث " اتفاقية جبر – بيفن ، ومنها في سنة 1952 تدفقت أولى مظاهرات تشرين الثاني التي أحبطت مقترحات الدول الأربع: امريكا، انكلترا، فرنسا، تركيا، للدفاع المشترك، والقت على المستعمرين وأذنابهم درساً آخر من دروس الوطنية الثائرة.
أما في هذا اليوم الثامن عشر من حزيران 1953، بعد الظهر، فلابد أن يكون لنوري السعيد، وزير الدفاع والرئيس الفعلي لوزارة جميل المدفعي القائمة حينذاك، لابد أن يكون لديه فضل جديد يضيفه إلى أفضاله السابقة. فثمة أمور غريبة تجري في باب المعظم!
الأحكام العرفية مازالت معلنة منذ وثبة تشرين الثاني 1952 وبغداد هادئة ساكنة إلا من الهمس، والغضب المطل من العيون. وعرائض الاحتجاج الشعبي، تنتقل من يد إلى يد بسرعة وحذر. والنظام والأمن سائدان مستقران! فما معنى تلك الفصائل من الشرطة، بخوذها الفولاذية وسياراتها (الجيب) المسلحة ورشاشاتها وحقائب قنابل غاز الدموع! ما معنى أن تتجمهر الشرطة في ظل الحائط الطويل ثم تذهب فصائل هنا وهناك وكأنها تحتاط وتستعد لأمر ما!؟
ما معنى تلك الحركة الغامضة المريبة؟
شهدت باب المعظم في السنوات العشر الماضية كثيراً من مثل هذه الحركات. كانت الشرطة تصطف وتتنكب السلاح وتتفرق جماعات إلى رؤوس الطرق والمنعطفات وتختبئ في المقاهي وتتحصن على السطوح وخلف الحيطان. ولا تلبث طويلا، حتى كنت تسمع من جهة ما، همهمة بعيدة. ويتوتر الجو وتتراكض الشرطة وتطقطق ترابيس البنادق وتجنح السيارات إلى الأرصفة. وتبرز فجأة لافتات وأعلام فوق موجة حالكة مضطربة عارمة، من الرؤوس والسواعد والصدور، تتقدم باندفاع نحو باب المعظم. ويدوي الرصاص، وتدوي الحناجر. وتتمزق اللافتات وتتلطخ بالدم وترتفع على الأعواد مزق حمراء طرية من قميص أو جاكيت. ويعلو الهتاف: يسقط الاستعمار، يسقط الجلادون، تسقط المشاريع الحربية، تسقط معاهدة 1930، يعش السلم، تعيش الجبهة الوطنية. وتقع الضحايا ويفشل الرصاص. وتتقدم الجماهير، وتطير كأسراب الجراد الجائع، قطع الحجارة والطابوق"الآجر" من كل صوب. وتقترب الوجوه المعفرة الثائرة تعلوها صفرة الغضب. ثم تشهد باب المعظم عجائز حافيات الأقدام وعمال بناء وطلاب وطالبات وماسحي أحذية صغار ومحرري صحف وحمالين عرب وأكراد وكتاب وشعراء شباب. وتخلو باب المعظم من أيما أثر للشرطة سوى خوذة مهشمة وسيارة جيب تأكلها النار، وروائح خانقة. وتحتل الجماهير شوارع بغداد فتسقط الوزارات ويطير الوزراء إلى حيث لا يعلم إلا السفير البريطاني.
شهدت باب المعظم الكر والفر والتطويق ومناوشات شرطة الخيالة المتحصنة فوق سطوح الاصطبلات. وألفت صفير سيارات الاسعاف ورأت أقداماً ميتة، حافية أو في الجوارب والحذاء اللامع، تتدلى فوق الأعناق أو من نقالات الاسعاف، رأت رؤوسا معصوبة، وبقع دم، وهراوات وخناجر. وتعلمت فلم يعد يفزعها شيء، لا دماغ بشري تنثره رصاصة ولا ضابط شرطة يموت تحت الأقدام. رأت مشنقة وشهيد يصيح من فوقها فجر 15 شباط 1949:
(لي الشرف أن أشتق في هذا المكان الذي نطلق منه مظاهرات أبناء الشعب)(1)
ورأت إمرأة فوق كلية العلوم والآداب، تلف العباءة السوداء على خصرها، في 17 كانون الثاني 1952، وتهلهل وسط الرصاص وقنابل الغاز المتطايرة في الفضاء (2).
ورأت أيام تشرين المجيدة من سنة 1952 وخاتمتها على يد الجيش الذي استعانوا به بعد هزيمة الشرطة، ورأت سيارات الجيش وأكياس الرمل ونظرات حادة تصوبها الجماهير من عيون حاقدة قلقة: انهم يعفرون شرف الجيش بالتراب!
عرفت باب المعظم عدوها جيداً في كل صوره وحركاته وبكل قسوته وبربريته. لكنها تقف حائرة هذا اليوم، الثامن عشر من حزيران 1953، بعد الظهر، لا تدري من أمرها شيئاً. فالعدو يفاجئها بأسلوب جديد وبحركات غريبة لا تفسير لها. كانت الشرطة تطوق السجن وتسد المنافذ إليه من كل الجهات. وقد حولت طريق الباصات والسيارات الذاهبة إلى الاعظمية والعائدة منها، إلى شارع آخر وأمرت الناس فيما حول السجن بالنزول من على السطوح والشرفات. وكانت الامدادات من الشرطة تتوالى وكلها بملابس الميدان. ثم ظهرت أعداد كبيرة من الشرطة فوق سطوح السجن وأبراج المراقبة. ومن بعيد صار الناس يراقبون تلك الحركة النشيطة، والشرطة تطاردهم وتلاحقهم إلى شارع نوري السعيد والرشيد وباتجاه الاعظمية وكلية الهندسة وشوارع العيواضية. ومن بعيد، حمل الهواء صياحا وتهديداً وشتائم، وارتفعت دمدمات قنابل الغاز، وحظرت سيارات الإطفاء التي صبت مياه خراطيمها من فوق السطوح، في بطن السجن، مع سيل الشتائم والأحجار والرصاص الذي أخذ يثور ويلعلع ويشتد.
هناك شيء من الأعماق، من الضمائر، شيء غير الحق والغضب، يولد في قلوب الناس الذين شاهدوا من بعيد تلك الحركات الغريبة وسمعوا الرصاص وفهموا ما أقدمت عليه الحكومة وراء الجدار الطويل. انه الاشمئزاز!
كانت باب المعظم، حتى الحيدرخانة في شارع الرشيد وحتى مقاهي الفضل في شارع غازي، تتساءل بذهول عن الرصاص الذي انطلق في مساء ذلك اليوم.
صعب على قلب بغداد الأبي الشجاع ان يفهم وان يسلم بصدق الخبر الذي انتشر في المقاهي والبيوت والحوانيت والشوارع، خبر المذبحة في السجن السياسي. مستحيل!  هذا مستحيل! وباتت بغداد، تلك الليلة، في قلق شديد فهي تخشى أن يكون المستحيل قد وقع فعلا.
في صباح اليوم التالي أصدرت مديرية الدعاية العامة نيابة عن الحكومة، هذا البيان ننقله إلى القارئ نصاً:-
{كانت الحكومة قد نظرت بعين العطف إلى طلبات ذوي السجناء الموجودين في سجن نقرة السلمان فنقلت أكثرهم إلى سجن بغداد المركزي وكان بضمنهم اثنان وعشرون يهودياً شيوعياً. وقامت بكل الوسائل الممكنة للترفيه عنهم وعن المحكومين الاخرين بنفس التهم. وعلى الرغم من ذلك فانهم دأبوا على الاتصال بأعوانهم في خارج السجن عن طريق المراسلات وغيرها وإحداث الشغب والتمرد في داخل السجن مخالفين بذلك نظام السجون بصورة مستمرة مما حمل الحكومة على تقرير نقلهم إلى سجن بعقوبة للحد من نشاطهم. وقد بُلغوا بأمر النقل قبل موعده بيوم واحد. وفي يوم 18-6-1953 تمردوا ضد القائمين بتنفيذ أمر النقل وقاموا بمظاهرة داخل السجن استعملوا فيها عبارات القذف ضد المقامات العليا وضد الحكومة. وحضر كل من متصرف لواء بغداد ومدير السجون العام إلى مركز السجن وابلغوهم بلزوم الانصياع للأمر ونصحوهم بتجنب احداث الشغب والتوقف عن التمرد إلا انهم قابلوا هذه النصائح بالعنف وباشروا برمي رجال الأمن بالحجارة والقناني والقضبان الحديدية واستعملوا مختلف الالات الجارحة في تمردهم هذا مما أدى الى جرح ثلاث وسبعون شرطياً بضمنهم 16 معاون ومفوض. فاضطرت الشرطة الى مقابلتهم بالمثل لردعهم. فأطلقت بعض العيارات النارية حدثت بسببها إصابات أدت إلى موت سبعة من المساجين وجرح 22 منهم نقلوا الى المستشفى. وقد نقل السجناء الباقون وعددهم 120 سجينا الى سجن بعقوبة.
والحكومة جادة في التحقيق حول حادث اطلاق النار والمسببين للتمرد والشغب}
اعتاد الحكام الرجعيون ان يصدروا البيانات الرسمية بمناسبة وغير مناسبة واعتاد الناس كذلك ان يقرؤها في الصحف، ان يقرأوا سطورها وما بين سطورها.
في كانون الثاني 1948 كانت الجماهير تهتف بسقوط صالح جبر وتطالب بإعدامه وإعدام نائبه جمال بابان وإعدام نوري السعيد عضو وفد المفاوضة في بورتسموث، حين كان جمال بابان وأعضاء الوزارة قابعين في قصورهم المحروسة جيداً، يتخابرون فيما بينهم بالتلفونات. في ذلك الحين أصدرت الحكومة بلاغات تقول: كل شيء هادئ في شارع الرشيد! وتقول أحياناً: اليهود في بغداد يتظاهرون لعرقلة جهود صالح جبر ونوري السعيد لإنقاذ فلسطين.
ففي صباح 19 حزيران، اطلع الناس على بيان حادث السجن، وفي رؤوسهم ذكريات مخجلة عن بيانات الحكومة العراقية، وقرأوا ما فيه وما ليس فيه. كانت الوجوه تتجهم وتعبس، والشفاه تكشر عن اشمئزاز واحتقار.
مذبحة، مجزرة، لطخة عار، جريمة لم يشهد التاريخ لها مثيلا ....
هذا ما فهمه الناس من بيان الحكومة العراقية.
الاحكام العرفية ما تزال معلنة منذ تشرين الثاني 1952 –كما قلنا- وقد بلغت كامل مداها من الانتقام والتنكيل بالشيوعيين والديمقراطيين والمواطنين وأنصار السلم من عمال وطلاب وكتبة وفلاحين ومثقفين وشباب ونساء. والسجون غاصة حتى ابوابها. والمجلس العرفي العسكري مأخوذ بحمى هستيرية شديدة، تلك الحمى التي طغت على أعماله بعد مظاهرة الطلاب في 14 آذار، وعلى الاخص بعد القاء القبض في نيسان على أربعة من المناضلين الذين أراد نوري السعيد إعدامهم ولكن احبط مسعاه تحت ضغط الرأي العام العراقي والعربي والعالمي، فحكم المجلس على ثلاثة منهم بالسجن المؤبد وعلى الرابع بالسجن 15 سنة.
كانت الوجوه تتجهم وتعبس والأحكام العرفية تمنع كل تعبير عن الاحتجاج والرأي. وآباء ضحايا المذبحة وأمهاتهم وإخوانهم عبثا يحاولون عمن يدلهم على جثث قتلاهم. فالحكومة تعلم جيداً ان بغداد ستخرج عن بكرة أبيها لتشييع الضحايا، كما شيعت نعمان محمد صالح في كانون الاول 1951 الذي استشهد في سجن بغداد السياسي، بعد إضراب طويل عن الطعام. وانتهى بهجوم الشرطة على المشيعين في المقبرة، وبالدماء والاعتقالات، وبأوامر رسمية نشرتها الصحف، في اليوم التالي، تلزم الموتى باستحصال رخصة من شرطة المرور للذهاب الى المقبرة!. وكان مئات الآباء والأمهات والأخوان والأخوات والأصدقاء يتساءلون عبثا عن مصير الجرحى عمن مات أو سيموت؟ فاتجهت الانظار الى مستشفى الكرخ(3). حيث خصصت الحكومة غرفة منه للسجناء السياسيين لمعالجة المرضى منهم الذين يؤتى بهم الى بغداد من السجون البعيدة كنقرة السلمان والكوت وبعقوبة.
في صباح ذلك اليوم، 19 حزيران 1953 كانت سرية مسلحة من الشرطة بخوذها الفولاذية ورشاشاتها وبنادقها تطوق المستشفى وتحرس الغرفة المغلقة بقفل كبير على من فيها من جرحى وأسرار غامضة.
كان القلق يمزق أفكار الناس وعواطفهم. ماذا يكون المصير؟ كيف سيأمن الناس على حياتهم بعد اليوم؟ وهل سيقف المجرمون عند حد؟
وقبيل الظهيرة استطاعت ورقة صغيرة ان تشق طريقها الى الخارج، تنبئ ان واحدا من الجرحى قد مات وان الجرحى لم يتلقوا اي علاج او اسعاف حتى ضمن ذلك النهار وانهم سيموتون جميعا لا محالة.
فاندفع كثير من شرفاء الناس يعالجون الامر مع المراجع الرسمية، وخرجت مظاهرة خاطفة، وتكهربت شوارع بغداد. وفي نحو الساعة الثالثة بعد الظهر، دخل أول طبيب الى غرفة الجرحى في مستشفى الكرخ، ليأمر بإخراج الجثة، وليرى أجساداً محطمة غارقة، على الأسرة، ببرك من الوحل والدم. هكذا بدأ وجه الجريمة التي روعت بغداد يسفر شيئا فشيئا وخيوط المؤامرة الدنيئة تبين في وضح النهار.

محمد راشد
(الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955

----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
*- لقد بينت في الحلقة الأولى (التمهيد) قصة كتاب (من أعماق السجون في العراق). وكما ذكرت أن الكتاب هو من تأليف الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) ونشره عام 1955 باسم مستعار (محمد راشد) وبقي أسم الناشر مجهولا إلى أن نشرت طريق الشغب أواخر عام 1978 الحلقة الأولى منه وكشفت لأول مرة أن الكتاب من تأليف الشهيد. ولأن الكتاب مفقود من الأسواق لذلك قررت نشر الكتاب كاملا دون تغيير أو إضافة أو حذف/ الناشر: محمد علي الشبيبي
(1)- الشهيد حسين محمد الشبيبي "صارم" الذي أعدمه الاستعمار مع رفيقيه يوسف سلمان "فهد" وزكي بسيم "حازم".
 (2)- كان ذلك في الذكرى الرابعة لوثبة كانون حينما أضربت الكليات وخرج الطلاب والجماهير في مظاهرة من باب المعظم. وبعد مهاجمة الشرطة لها، اعتصم بعض المتظاهرين في بناية كلية العلوم وجرت معركة حصار دامت بضع ساعات.
 (3)- يقع هذا المستشفى على مقربة من السجن في جانب الرصافة وليس كما تدل عليه التسمية.




يتبــــــــــــــــــــــــع

76
من أعماق السجون في العراق/1
 
الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)
1920 - 1963

تمهيد
منذ نعومة أظافري عندما كنت في سن الثانية عشر أو أكبر بقليل وقبل ثورة 14 تموز 1958 وقع نظري على كتاب بعنوان (من أعماق السجون في العراق). كان العنوان غريبا ومثيرا للفضول. حدث هذا عندما دخلت على أبي، فوجدته منهمكا ينظم بعض الكتب في مكتبته الصغيرة ذات الأبواب الخشبية المزججة والمتواضعة جداً. فانتبهت إلى كتاب يحمل هذا العنوان، وقد عزله والدي عن بقية الكتب. بعد أن أفرغ والدي المكتبة من الكتب في الرف الأسفل رفع قاعدة خشبية من خشب المعاكس كانت عبارة عن قاعدة وهمية –ظاهرية-! كانت هذه القاعدة تمويهية تخفي تحتها فراغا على طول وعرض الرف وبعمق 2 سم! لفت نظري مجموعة من الأوراق والدفاتر كانت مخبأة في هذا الفراغ الخفي، فدس والدي الكتاب المعزول (من أعماق السجون في العراق) بين تلك الاوراق والدفاتر، ثم أعاد القاعدة الخشبية وثبت مساميرها، ولاحظت أن المسامير دخلت كاملة دون مقاومة وأخذت مواقعها. بعد ذلك طلب مني ترتيب الكتب على الرفين في المكتبة وحذرني من التحدث لأي كان عما شاهدته!؟.
وبعد ثورة تموز وجدت الكتاب بين كتب المكتبة ولم يعد والدي يخفيه في مخبئه السري داخل المكتبة. لكن هذا الكتاب أختفى من المكتبة ولم يعد له أثر، ربما طلبه أحدهم ولم يعيده ولفه النسيان، أو أن أحدهم استعاره خلسة وقرر الاحتفاظ به.
مؤلف الكتاب (محمد راشد) كان مجهولا ولم يعرف والدي كاتبا بهذا الاسم، فهو أسم مستعار. والغريب ان بعد ثورة 14 تموز 1958 بقي أسم المؤلف الحقيقي مجهولا ولم يفكر أحداً بإعادة طبع الكتاب بما في ذلك المؤلف الحقيقي الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) الذي اكتشفته فيما بعد!
ومرت السنون وكبرتُ ونضجتُ سياسيا وسجنت وتنقلت بين عدة سجون وصورة الكتاب ماثلة أمامي بالرغم من أنني لم أقرأ منه سوى العنوان ولا أعرف مؤلفه، هذا العنوان الغريب والباعث على الفضول وهو يختصر ما جرى في سجون العهد الملكي من أحداث مأساوية ومجازر رهيبة! وكم مرة سألت عنه زملاء في السجن ورفاقا كبارا، كان بعضهم لم يسبق له أن سمع بالكتاب وآخرون (صادق الفلاحي) سمع به لكنه هو الاخر لم يطلع عليه! وعندما كنت أدرس في بولونية تواجدت في غرفة أحد الأصدقاء العراقيين –كان ذلك عام 1976- وبالصدفة عثرت على هذا الكتاب بين مجموعة غير قليلة في مكتبة هذا الصديق! سألته إذ لا يمانع باحتفاظي بهذا الكتاب، فوافق دون تردد. أخذت الكتاب وغادرت هذا الصديق مسرعا ومتلهفا لقراءته قبل أن يغير صديقي رأيه ويتراجع عن قراره.
ولفت انتباهي اسم المؤلف (محمد راشد) فلأول مرة أسمع بهذا الاسم! واكتشفت أن الكاتب قد أهدى هذا الكتاب لبروفيسور بولوني (لم أعد اتذكر أسم هذه البروفيسور). ففي الزاوية العليا من الصفحة الأولى كتب المؤلف بالحبر الأخضر إهداء لهذه الشخصية ووقع تحتها بكلمة –المؤلف-. قرأت الكتاب وخمنت أن كاتبه لابد أن يكون شيوعيا وعاش أحداث مجازر سجن بغداد والكوت أيام الحكم الملكي. وعند عودتي للعراق بعد اكمال دراستي في أكتوبر عام 1977 قررت فصل الزاوية التي كتب فيها المؤلف إهداءه والاحتفاظ بها في مكان آخر تحفظا من ردة رقابة البعث في المطار، لأن الاوضاع بدأت تتدهور.
وفي أواخر عام 1978 نشرت صحيفة الحزب الشيوعي العراقي نداءً ترجو فيه من قرائها من تتوفر لديه نسخة من الكتاب تزويدها به لاستنساخه. أخذت الكتاب وتوجهت إلى إدارة الصحيفة وسلمته إلى الرفيق عبد الرزاق الصافي ووعدني بإعادته بعد استنساخه. وبعد أيام نشرت الصحيفة الحلقة الأولى من الكتاب، مع تعليق بسيط تشير فيه أن المؤلف الحقيقي هو الشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد)، ألفه وطبعه خارج العراق  باسم مستعار (محمد راشد) ووزعه أثناء مشاركته في مهرجان الشباب العالمي في وارشو –بولونية- عام 1955. حينها وجدت تفسيراً لصيغة الإهداء الذي خطه المؤلف على الكتاب وكيف تعرف المؤلف على هذه الشخصية البولونية، فلابد أن هذه الشخصية البولونية كانت من الناشطين البولون في الحزب وفي المجال الشبابي.
بعد نشر الحلقة الأولى من الكتاب واسم مؤلفه الصريح، بحثت بين كتبي عن تلك القصاصة التي سجل فيها الشهيد إهدائه فوجدتها، ووجدت أن الحزب أحق مني بهذا الكتاب الذي خط الشهيد عليه بقلمه الإهداء. فذهبت إلى إدارة الصحيفة وسلمت هذه القصاصة للأستاذ عبد الرزاق الصافي وقلت له ليبقى الكتاب في حوزة الحزب فالحزب أولى بالحفاظ على آثار رفاقه، وانا لا أطلب سوى نسخة مستنسخة من الكتاب. وبعد هذه الحلقة أزداد الوضع السياسي تعقدا وتصاعد الهجوم على الحزب وقواعده وأصدقائه ... وحاولت أكثر من مرة وبحذر شديد من الاتصال بالرفيق عبد الرزاق الصافي في إدارة طريق الشعب ولم أفلح ومع تصاعد الحملة ضد الحزب اصبح  وصولي إلى إدارة صحيفة الحزب محفوف بالمخاطر خاصة بعد التحقيق معي من قبل مسؤول مكتب المدرسين في معهد التكنولوجية، وتفتيش خزانتي في المعهد، وانقطاع صلتي بمرجعي الحزبي ... فتركت موضوع حصولي على نسخة من الكتاب وغادرت الوطن.
بتأريخ 25/8/2008 نشرت مقالا بعنوان (صور وذكريات ... ووفاء!؟) على عدة مواقع الكترونية تطرقت فيه باختصار لكتاب الشهيد أبو سعيد  (من أعماق السجون في العراق) ووجهت فيه نداء لمن يحتفظ بنسخة من الكتاب لتزويدي بها، وكررت مثل هذا النداء أكثر من مرة، ودعوت الحزب والجهات المعنية بتراث الشيوعيين بالبحث الجاد عن نسخة من هذا الكتاب الثمين المفقود، وذلك من خلال الاتصال بالأشقاء العرب ممن ساهم في مهرجان الشباب العالمي في وارشو عام 1955 ...
وأعادت صحيفة المدى نشر مقالتي بتأريخ 25/2/2010 ولكن بعنوان آخر (أبو سعيد ومذكرات السجون). وجاءت المفاجأة عندما أستلمت رسالة الكترونية من رجل نبيل (علي ابو الطحين) بتأريخ في 26 شباط 2010 يبشرني بامتلاكه لنسخة من الكتاب! فكتب لي ما يلي:
(تحية طيبة،
قرأت في عدد يوم (غد) الخميس لجريدة المدى، ملحق عراقيون عن (أبو سعيد ومذكرات السجون) بقلمك وقد ورد فيه بحثك عن نسخة من كتاب "من أعماق السجون". في الحقيقة أنا حصلت على كتاب أثناء وجودي في معرض الكتاب في القاهرة عن كتاب لمؤلف قد يكون أسم مستعار (محمد راشد) وأسم الكتاب : (في أعماق السجون في العراق) مطبوع في القاهرة بدار القلم عام 1955. فأذا كان الكتاب هو ما تبحث عنه فمن الممكن تصويره على شكل PDF وتوزيعه للصالح العام.
تحياتي،
أخوك\ علي أبوالطحين
بريطانيا)

أخيراً أفلحت جهودي الفردية في البحث عن كتاب يروي بطولات السجناء الشيوعيين في سجون العهد الملكي، وها هو الأستاذ النبيل علي أبو الطحين يبشرني ويوعدني بإرسال نسخة سكانار، وفعلا وخلال أيام وصلني تصوير جميع صفحات الكتاب (176 صفحة). كنت متحمسا لنشر الكتاب بأسرع ما يمكن لكن انشغالي بكتابات والدي وكتاباتي الخاصة حال دون ذلك. عملية نشر الكتاب بحاجة إلى نقله من السكانار إلى الوورد ليكون صالحا للنشر والتداول السهل. عرضت الفكرة على بعض الأصدقاء وتحمسوا للمهمة لكنهم وبعد أشهر أعتذروا!؟ سلمت نسخة منه إلى رفاق الشهيد على أمل أن يحيوا تراث الشهيد وخاصة أن الكتاب فيه من الوثائق التي تدين جرائم النظام الملكي، كما يروي أحداث المجازر في سجن بغداد وسجن الكوت بتفاصيلها، ويذكر أسماء الشهداء والجرحى من السجناء مثلما يذكر أسماء المسؤولين الذين أعطوا الأوامر والذين نفذوها صغارا كانوا أم كبارا!
أخيرا وبعد أن يئست من مساهمة الآخرين ممن يهمهم نشر تاريخ الشيوعيين في سجون الحكم الملكي، قررت أن أتولى بنفسي نقل هذه الصفحات البطولية من سفر الشيوعيين والتي صورها الشهيد عبد الجبار وهبي بكل دقة لتطلع عليها الاجيال الحاضرة. والشهيد عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) بنشره لكتابه هذا يفضح جرائم النظام الملكي الذي تمت بإشراف (الباشا نوري السعيد). وأرجو من القاريء الكريم وهو يقرأ بشغف وفضول ما كتبه الشهيد عبد الجبار وهبي عن مجازر السجون أيام الحكم الملكي أن يأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الفترة المتناولة والأفكار السائدة حينها. وسوف يرى القاريء كيف يصف الشهيد بسالة وشجاعة الشيوعيين وهم يقاومون بعناد وصلابة هجوم جلاوزة النظام الملكي في مذابحهم البربرية، مثلما يصف الرومانسية الثورية لهؤلاء الابطال أثناء احتضارهم، وهم غير آبهين بالموت ولا بالرصاص ولا بما أصابهم من رصاصات قاتلة خطيرة، وهم يهتفون بحياة الشعب وحزبهم!
مرة أخرى جزيل الشكر للسيد علي ابو الطحين الذي تجاوب معي ولم يبخل بإرسال نسخة مصورة من الكتاب.
سأنشر محتويات الكتاب تباعا وعلى حلقات ابتداءً من (المقدمة) التي كتبها الشهيد عبد الجبار وهبي باسم مستعار تحت عنوان (إلى القارئ العربي).
 المجد والخلود لكل شهداء الحركة الوطنية والشيوعية السباقين في الشهادة ومقارعة الظلم والاستبداد.
محمد علي الشبيبي
السويد/ ‏24‏/08‏/2012
alshibiby45@hotmail.com 
     
إلى القارئ العربي
ان الارهاب البوليسي والحكم العسكري العربي والمعتقلات والسجون والمجازر والقوانين الرجعية والاستهتار بالدستور وبالقوانين الرجعية ذاتها، وكل ما جرى وما هو جاري في العراق، لم يبق سراً خافياً على الرأي العام العربي والعالمي. فان "نقرة السلمان" مثلاً، لم تعد اسماً يعرفه عرب العراق وأكراده وحدهم وليس في العالم العربي يجهل أيضا ان حلف مندرس- السعيد- ايدن الاستعماري العدواني ما كان له ان يظهر إلى عالم الوجود لولا سياسة البطش والدكتاتورية الرجعية السافرة التي مارستها الطغمة الحاكمة في العراق وعلى رأسها عصابة نوري السعيد وان الشعب العراقي الذي ناضل بكل قواه ضد الحلف المجرم كما ناضل ضد الاحلاف المشابهة له من قبل وكما تناضل الان ضد هذا الحلف الشعوب العربية الشقيقة، لا يلتزم ولا يعبأ بقصاصة من الورق تحمل توقيع نوري السعيد وموافقة برلمانه المزيف.
ومع ذلك فان القارئ العربي وكل الاوساط الوطنية العربية والرأي العام بحاجة إلى التعرف، على نحو أكثر دقة وواقعية، على طبيعة تلك السياسة المجرمة -سياسة الخيانة الوطنية السافرة والإرهاب الرجعي الدموي الأسود- التي اعتمدتها عصابة نوري السعيد في تحقيق إرادة أسيادها، سعاة الحرب المستعمرين الامريكان والانكليز. ولمثل هذه المعرفة أهمية خاصة في هذا الظرف الذي يجهد فيه الاستعمار وأعوانه للإيقاع بالشعوب العربية الواحد تلو الآخر، في فخ حلف تركيا-العراق. فليس نوري السعيد إلا واحداً من تلك الذئاب المسعورة والأفاعي السامة التي ربّاها الاستعمار وتعهدها ومنحها الألقاب والأوسمة ونفخ فيها من روح زعامته وأمرها بان تحكم بأمره. وفي كل بلد عربي أكثر من ربيب واحد، لو تعرّوا مثلما تعرّى نوري السعيد وأفلسوا مثلما أفلس وفقدوا مثله كل رجاء في اللف والدوران والتستر، لآتوا بمثل ما أتى به نوري السعيد وعصابته في العراق.
فمنذ وقت قريب ظهرت في الصحافة الامريكية تصريحات أدلى بها نوري السعيد حول الاحلاف الاستعمارية قال فيها: ان العرب لا يرفضون التحالف مع الغرب لو ان حكوماتهم عرفت كيف تكلمهم بصراحة وجرأة.
أية "صراحة" وأية "جرأة" يريد نوري السعيد وتريد الصحافة الامريكية ان تعلمها للحكومات العربية؟ ان نوري السعيد إذ يتهم الحكومات العربية (وبعضا منها على الاخص) بالعجز والجبن وعدم الصراحة وإذ يفخر هو بصراحته وجرأته، فانما يعبر في الواقع عن خلاصة تجارب السياسة الاستعمارية العدوانية التي اتجهت منذ عشر سنوات بقيادة الدوائر الحاكمة في الولايات المتحدة الامريكية، نحو تشديد السيطرة على بلدان الشرق الاوسط وتحويلها إلى قاعدة حربية للاعتداء على الاتحاد السوفياتي، حصن السلام ونصير الشعوب وصديق العرب الأكبر، تلك السياسة التي أصطدمت وما تزال تصطدم بمقاومة الشعوب العربية. فقوله هذا إنما يعني: ان الشعوب العربية لا يمكن اقناعها بقبول الاحلاف والتكتلات الحربية إلا بسياسته "الصريحة" "الجريئة"، سياسة الارهاب والمذابح والمشانق والسجون.
وقد اعطت الدبلوماسية الامريكية كثيراً من الادلة على إيمانها بهذا الرأي وخصوصا بعد ابرام حلف تركيا-العراق. وما الضغط والتهديد والاستفزاز من جانب الاتراك والصهيونيين، وما مصرع العقيد الوطني عدنان المالكي على يد عملاء الاستعمار وبتوجيه منهم، وما تدخل ممثلي الحكومة الامريكية في الشؤون الداخلية لبعض الاقطار العربية، إلا تطبيق عملي للافكار التي عبر عنها نوري السعيد، ومحاولة لإقناع الحكومات العربية وخصوصاً حكومتي مصر وسوريا، بان تقتفي خطى حكومة السعيد. ومن هذا القبيل أيضاً ولكن على الطريقة الانكليزية، ما أظهرته ملكة بريطانيا العظمى من عواطف نبيلة نحو نوري السعيد وتقدير سام لخدماته القيمة بمنحها اياه (في أوائل حزيران 1955) وساماً من أرفع الاوسمة الانكليزية.
فجدير بكل عربي ان يتدبر ما يبيته المستعمرون وعملائهم وان يرى إلى سياسة الارهاب والهجوم على الحريات الديمقراطية باعتبارها الوجه الكافي لسياسة الاحلاف الحربية.
ان الوقائع المفجعة التي سيطلع عليها القارئ العربي في هذا الكتاب من خلال ما سنعرضه من صور الحياة في السجون العراقية ومجازرها، ستكشف القناع نهائياً عن وجوه اولئك "الساسة" الذين يدافعون عن الاحلاف العدوانية ويرون في نوري السعيد "الصريح" "الجريء"، نوري السعيد التي تحاول الدعاية الاستعمارية ان تخلق منه بطلاً من أبطال العالم الحر، معلماً لهم ومرشداً. وعندئذ يستطيع كل عربي ان يقول لهم: هذا أنتم وتلك نواياكم!
وسيجد القارئ في صفحات هذا الكتاب، كما نرجو، نواحي أخرى تستحق الاهتمام وإمعان النظر. فالعراق بلد تحكمه شركات البترول وكبار الاقطاعيين وحفنة من كبار الملاكين والمحتكرين، الذين جمعتهم بشركات البترول والشركات الاحتكارية الاخرى رابطة مصلحة واحدة في ان يظل الشعب بقرة حلوباً ويد رخيصاً للعمل، يستغلونه أبشع استغلال ويربحون أقصى الارباح على حساب كدحه المتواصل وجوعه الدائم وتأخره وجهله. تعاونهم في ذلك فئات من محترفي السياسة ورجال الجيش والشرطة والإدارة المدنية الذين أكتسبوا خلال فترة قصيرة من "الحكم الوطني" الذي أعقب ثورة 1920، ثروات طائلة فارتبطت مصالحهم المادية ومراكزهم الاجتماعية بالأوضاع الجديدة التي ترتب عليهم ان يحرسوها ويحافظوا عليها. وخلال الثلاثين سنة الماضية تركزت الثروة أكثر فأكثر بيد قلة من كبار الاقطاعيين وأبناء العائلات الذين تناوبوا وتبادلوا في مواقيت "عادلة" كراسي النيابة والوزارة، لينفذوا سياسة معلومة مقررة، ترسمها لهم المراجع العليا في السفارتين الانكليزية والأمريكية ومن تعتمدهم من كبار اصدقائهما الذين كان نوري السعيد أبرزهم وأقواهم في السنوات الأخيرة.
كان الجهاز الحاكم وعلى رأسه عصابة نوري السعيد أداة طيعة للسياسة الاستعمارية التي استنزفت ثروة البلاد وأفقرت الشعب وحالت دون تطور الاقتصاد الوطني  وتقدم الصناعة الوطنية. فكان من أثر ذلك ان اشتد التناقض بين الاستعمار ومجموع الشعب وتعممت عوامل السخط والحقد على الاستعمار وحلفائه وعملائه في حين ان البرجوازية الوطنية ظلت هزيلة ضعيفة، اقتصادياً وسياسياً. وقد أدركت الجماهير بتجاربها الخاصة، خصوصاً في سنوات ما بعد الحرب حينما سمحت الحكومة سنة 1946 لعدد من الاحزاب الوطنية بان تزاول نشاطها السياسي، ادركت ان البرجوازية أضعف وأعجز من ان تطلع بقيادة نضال جماهيري محتدم متزايد في الشدة والعنف ضد الاستعمار والإقطاع ومن أجل الاستقلال الوطني والحريات الديمقراطية ومطالب الشعب الملحة. فصارت الجماهير الواعية تلتف حول الطبقة العاملة التي برهنت انها الطبقة الاكثر ثباتاً واستقامة وقدرة على قيادة النضال الوطني ضد الاستعمار والرجعية وأساليب الحكم التعسفية الارهابية الظالمة.
ولم يكن الاستعمار ليجهل من جانبه ما كان يجري من تطورات خطيرة في ترتيب القوى الطبقية وارتفاع مكانة الطبقة العاملة وحزبها السياسي في الحركة الوطنية التحريرية. فركز هجومه ضد الحركة العمالية ولجأ إلى أقسى تدابير القمع ضد نضالات العمال الاقتصادية والسياسية. وفي سنتي 48-1949، بعد وثبة الشعب الكبرى ضد معاهدة الدفاع المشترك مع بريطانيا "معاهدت بورتسموث"، شهد العراق أفضع هجوم انتقامي تعرض فيه آلاف وآلاف من المواطنين الى السجن والتشريد والاضطهاد واعدم فيه أصلب قادة الحركة العمالية الوطنية ولكن الارهاب ضد الطبقة العاملة وحزبها السياسي، وإعدام قادتها، زاد من ثقة الجماهير وإيمانها بالطبقة العاملة وزاد من التفافها حولها، وقد ثبت للاستعمار ان المشانق والسجون والقوانين الرجعية وقانون مكافحة الشيوعية "المادة الاولى من ذيل قانون العقوبات" لم تكن كافية لصد تيار الحركة الوطنية المتصاعد ولا كافية لمنع تحول قيادتها إلى الطبقة العاملة وحزبها السياسي. ثبت ذلك بشكل ملموس في وثبة 1952 التي لعبت الطبقة العاملة وحزبها الدور القيادي فيها، كما هو معلوم –تلك الوثبة التي اطاحت بحكومة (العمري) ووضعت حد للتفكير بمقترحات الدول الاربع للدفاع المشترك عن الشرق الأوسط لذلك لجأ الاستعمار والطغمة الحاكمة إلى ارهاب أشد قسوة وفتكاً، تناول جميع الحركات الديمقراطية الجماهيرية وخاصة الحركة النقابية والطلابية وركز حقده بوجه خاص على السجناء السياسيين فنظمت السلطات الرجعية في صيف 1953 مذابح السجون المشهورة وشددت أساليبها الوحشية في معاملة السجناء في سجون نقرة السلمان وبعقوبة بقصد ابادتهم أو تحطيم معنوياتهم وحملهم على الخيانة.
ان مذابح صيف 1953 والحوادث الاخرى التي رافقتها في سجن "نقرة السلمان" يمكن وصفها بانها شكل اعلى من اشكال الارهاب الذي ابتدأ بميثاق 1949 واستمر عدى فترات مقيدة، حتى هذا اليوم واتسع في صيف 1954 بعد تأليف نوري السعيد القائمة، حتى شمل كل مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، وحتى أصبح كل نشاط سياسي أو اجتماعي أو فكري تشم منه رائحة المعارضة للاستعمار والأحلاف، نشاطاً محرماً "وشيوعياً" يمكن ان يؤدي بصاحبه إلى المشنقة أو نزع الجنسية حسب القوانين التي سنها نوري السعيد ووافق عليها برلمانه المزيف. برلمان حلف تركيا-العراق واتفاقية نيسان العراقية-البريطانية.
لقد اعتمدنا في جميع الوقائع والمعلومات على وثائق رسمية وعلى شهادات ومذكرات وتقارير اناس عاشوا حياة السجن وكان لهم شرف الصمود بوجه الاضطهاد والجرائم والمجازر. وقد توخينا ان يأتي هذا الكتاب على صورة "ريبورتاج" ممتع –ان صح التعبير-، لكل ما هو جوهري ونموذجي في حوادث صيف 1953 وما بعدها. وإذا كان لأحد ان يتشكك في صدق الوقائع فليس بوسعنا إلا ان نقول له ان تلك الوقائع شهدها واطلع عليها آلاف الناس من السجناء وأهلهم وأصدقائهم وانه سيأتي اليوم الذي يتكلم فيه اولئك الناس امام "محاكم الشعب" ليقدموا لنا صورة كاملة عما شهدوه وعرفوه في أعماق السجون العراقية وذلك اليوم آت لا ريب فيه.
لا نريد ان نستبق القارئ إلى الانطباعات والاستنتاجات التي من حقه وحده ان يكونها لنفسه، بعد قراءة هذا الكتاب، إلا ان من حقنا أيضاً ان نقول له: ان قصة الحياة في السجون العراقية ليست قصة ظالم ومظلوم، بل قصة صراع دام بين قوتين عنيدتين تجمعهما عداوة قاتلة، كعداوة الحق للباطل، والحياة والموت. ثم، من واجبنا أيضاً ان نقول للقارئ وللرأي العام العربي والعالمي: ان الروح النضالية العالية التي تكشف عنها حوادث هذا الكتاب إنما هي روح شعب عظيم مجاهد لن تثنيه عن عزمه سجون ومشانق ومجازر ولن تقف في طريقه طغم حاكمة وعصابات ومؤامرات. وإذا كان نوري السعيد قد "نجح" بعد تمهيد من الإرهاب، والمجازر والمراسيم، في وضع توقيعه، بيد مرتعشة، على ذيل أوراق مكتوبة بالعربية والتركية والانكليزية فان الشعب العراقي الذي أنزل بالمؤامرات الاستعمارية ضربات قاصمة وهزم ابطالها أكثر من مرة خارج حدوده، ليملك الان كل القوى والإمكانيات لقبر حلف مندرس-السعيد-ايدن، والسير الى الامام بالتضامن مع كل الشعوب العربية الشقيقة والمجاورة في نضاله من أجل السلم والاستقلال والحرية والتقدم، في قافلة الانسانية السائرة نحو غدها السعيد.

محمد راشد
(الشهيد عبد الجبار وهبي –أبو سعيد-)
بغداد –حزيران 1955

يتبــــــــــــــــــــــــع

77
تصحيح معلومات وردت في مقالة د. عبد الحسين شعبان (مقهى وروّاد ومدينة: ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!)
العزيز د. عبد الحسين شعبان المحترم
موضوعك جميل وأنت تتحدث فيه عن النجف وعن فترة من تأريخها المجيد وبعض شخصياتها التي تركت أثرها في النجف. وأعتب عليك لوقوعك ببعض الأخطاء والخلط. فقد خلطت بين أسم والدي (علي الشبيبي) وبين أسم شقيقه الأصغر (محمد علي). ربما سبب هذا الخلط هو ابتعادك الوجداني عن أصدقاء الأمس وشخوص الماضي الذي تتذكره في مقالتك بالزهو والتفاخر!؟. فأين أنت الآن من ذلك الماضي! وكم أحسست بالضيق وأنا أراك تتقدم مجموعة من المنافقين في لقاء مع القذافي، وأنت تعرفهم جيدا إنهم منافقون وإنهم ساهموا وناصروا وساندوا وأيدوا جرائم البعث بعد انقلابهم الدموي عام 1963 وأنت تدين الانقلاب وممارسات الانقلابيين!؟ ومنذ متى تعلمنا أن نقف أذلاء نمتدح  جبابرة تميزوا بالحمق والغباء وانتهاك حقوق الإنسان -التي تدافع عنها؟- مثل القذافي أو ملك السعودية!؟
أرسلت لك رسالة على الميل ألفت نظرك إلى وقوعك ببعض الأخطاء ولكن لم يصلني الرد، لهذا قررت نشر ملاحظاتي لتصحيح الأخطاء، خاصة أنك أشرت إلى أن هذا الموضوع قابل للتعديل. وإليك الملاحظات مع ذكر العبارات وذكر الصحيح :
وردت العبارة التالية (... فضلاً عن العلاقة التي تربطنا به وبأولاده لاسيما كفاح وهمام ...)  والأصح بأحفاده لاسيما كفاح وهمام ...
وردت العبارة التالية: (... والأكثر أن ولده حسين أحد كبار شهداء الحزب، والنجف تعتز به وأنه ولده محمد علي أحد مؤسسي الحركة الشيوعية في النجف مع مرتضى فرج الله ...). الصحيح أن الشهيد حسين وولده علي هما المؤسسان الفعليان للحركة في النجف عام 1940/1941 وليس -محمد علي- الذي كان صغيرا. أما المؤسس الفعلي للحركة في النجف فهو الشهيد حسين (راجع مقالتي –الشهيد حسين محمد الشبيبي أديب وثائر نشرت في الحوار المتمدن العدد 1551 بتأريخ 15/5/2006). وقد أسر الشهيد أخيه الأكبر علي خبر اهتدائه للحزب وتعرفه على فهد. ويكتب والدي –علي- في مذكراته (ذكريات معلم المنشورة أيضا في المواقع) أنه أستلم مسؤولية محلية النجف من المعلم  إسماعيل الجواهري الذي قاد المحلية بعد انتقال الشهيد إلى العمارة عام 1941/1942. ولكن إسماعيل الجواهري ولسبب ما تخلى عن العمل الحزبي وسلم مسؤولية المحلية إلى والدي (علي الشبيبي) وكان هذا عام 1943/1944. وبقى والدي مسؤولا عن محلية النجف لغاية 12/10/1947 حيث تخلى عن العمل الحزبي. وساهم خلال عمله الحزبي في الكونفرنس الأول ومؤتمر الحزب الأول.  بعد تخليه عن العمل الحزبي سلم مسؤولية المحلية لصديقه مرتضى فرج الله ولم تدم قيادة مرتضى للمحلية طويلا فقد اعتقل في 1/1/1948 حيث تخاذل وكشف تنظيمات المنظمة! ووالدي يذكره بالاسم وقد أشرت إليه بـ "م" في نشري لمذكرات الوالد.  ويمكنك العودة لمذكرات الوالد في موضوعتي الويل واالصدف اللعينة من ذكريات معلم. ومما يؤكد صحة المعلومات التي ذكرها الوالد بخصوص تخاذل مرتضى الرسالة التي وصلتني من الأستاذ خالد جواد شبيل حيث يؤكد صحة معلومات والدي عن تخاذل مرتضى فهذا ما سمعه من والده الراحل الذي كان حينها أحد أعضاء المحلية أو دونها وقد مسه ضرر تخاذل مرتضى.
وجاء في مقالتك: (ولا تزال ذاكرة الفتى خضراء حول " تحريم " شراء بيت الشبيبي بعد وفاته والإشاعات التي رافقت ذلك، سواءً تلك التي كانت تقال همساً وتلميحاً أو حتى تصريحاً.  وتلك إحدى مفارقات المشهد الديني والسياسي، لاسيما عندما يتم التلاعب بعواطف بعض العامة، ويُرهب من يخالف ذلك، ويتم توظيف الدين سياسياً، لاسيما إزاء رجل دين مرموق مثل الشبيبي.). كان الأجدر ذكر هذه الإشاعة عن تحريم شراء البيت خاصة أن أحد الكتاب -محمد باقر الحسيني- ذكرها في مقالة نُشرت على المواقع. أنا لا أعتقد أنها إشاعة لأنني أتذكر جيدا كيف لاقينا صعوبة في بيع البيت وأنخفض سعره كثيرا، وأخيرا اشتراه نفس المرجع لأبنه بسعر لا يتناسب وقيمة البيت الحقيقية!؟ وأحب أن أذكر الدكتور وهو صديق عزيز أنني محمد الشبيبي حفيد الشيخ محمد الشبيبي ونجل علي الشبيبي وليس نجل -محمد علي- كما يذكر. والعتب في هذا الخلط هو ابتعاد الدكتور عن رفاقه وأصدقائه ونسيانه لهم وهذا مؤسف.
أحب أن أوضح لرفع بعض الالتباس أن الشيخ محمد الشبيبي له ثلاث أبناء نشطوا في صفوف الحزب الشيوعي هم: "علي" الابن الأكبر تولد 1913 وتوفى عام 1997. الشهيد حسين (صارم) تولد 1917 واعدم في 15 شباط 1949. محمد علي (الاسم مركب) تولد 1924 وتوفى عام 1970.

محمد علي الشبيبي
السويد ‏05‏/02‏/2012

78
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 25
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)




هذه الحلقة الأخيرة من (ذكريات معلم). لابد أن أقدم جزيل شكري لجميع الأصدقاء الذين كتبوا لي وأبدوا ملاحظاتهم والذين تذكروا معلمهم ودوره في وضع اللبنات الأولى في طريقهم طريق العلم والأدب وكتبوا رسائلهم وهي تعكس الوفاء الأصيل لمعلمهم. شكري الجزيل للجميع
الناشر
 


1-11-1970 المربي المربي علي الشبيبي في طريق عودته إلى عائلته من مدرسة "أبو سفن"، طريق ترابي لا يمكن السير فيه ً خلال موسم الأمطار ولا صيفا تحت أشعة الشمس الحارقة، هكذا تعاملت السلطات الاستبدادية في مختلف العهود مع المربي الراحل لكسر إرادته ومعنوياته دون أن تأخذ بنظر الاعتبار تقدمه في العمر!  لكنه ظل صامدا لفكره ولمهنته التي أحبها ويتمنى لو أطال الله في عمره ليواصل مهمته التعليمية.

شرق وغرب/2         
في عراقنا الحبيب تم إعدام خونة جواسيس مخربين. وعلى أثر إعدامهم أعلنت سوريا تأثرها لمقتل العقيد عبد الكريم نصرت. وقالوا انه قتل على يد صبي له به علاقة غير بريئة! في عراقنا في هذا العصر لا يستطيع احد أن يصل إلى سر وحقيقة الذين يصلون إلى الحكم. ولكن حين يفشلون أو يحتل الحكم من هو أقوى منهم، تظهر حكايات لا يستطيع احد أن يجزم بصحتها! ثم حدث في 27/1 انشقاق في صفوف الفدائيين. وفي 20/2 إعدام وجبة أخرى من الجواسيس عندنا، أكثرهم مسلمين.
وعرض الشخصية اللامعة عزيز الحاج في تأريخ نضال شيوعيي العراق والذي انشق عن حزبه في السنوات الأخيرة، وسمى منظمته القيادة المركزية. ظهر وكأنه في ندوة، ولكنها عبارة عن اعتراف بسوء تصرفه في قيادته، وأدانها بشكل مهين، وطعن الأحزاب الشيوعية وحركة البرزاني.
وأذيع بيان الهيأة القومية احتجاجاً على ما أذاعه الملك حسين من موافقة على مقترحات الدول الأربع من الحل السلمي لمشكلة الشرق الأوسط، وإسرائيل إنها أيضا تبدي الرفض.
نحن نعرف رأي حزب البعث حول تلك المقترحات، والتي يرفضها أيضاً الفلسطينيون.. وأحد أركان الحزب –فؤاد الركابي-، سبق له أن ذكر حسين بما يجعل العراق وحزب البعث بالذات لا يؤيد حسين بل ويتهمه. وقد جاء في الكراس المعروف بـ "الحل الأوحد" (تتالت المعلومات تؤكد لنا إن هناك فئة مرتبطة بالملك حسين، وتمول من قبله قد بدأت تعد لعملية اغتيال قاسم. هذه العملية من شأنها أن تطفئ ثورة 14 تموز، وتعيد العراق بشكل أكيد إلى القبضة الاستعمارية الرجعية من جديد) وجاء أيضا قوله (سيما وأننا علمنا بان الملك حسين كان في ذلك الوقت  ينشط نشاطا محموما في العراق لأحداث تغيير فيه لصالحه) (الحل الأوحد لفؤاد الركابي ص65 وص72). ولم تكن الإذاعة إذ ذاك حين تذكره -حسين- إلا باسم ابن زين!
ومؤتمر الأدباء هل جاء بجديد؟ من يستمع لكلمات ممثلي الوفود يعرف أن ما قالوه عن مشاكل البلاد العربية، إنما هو ترديد لما قيل في المؤتمرات السابقة. ومن الطريف ما سمعته من المعلق في الراديو بقوله: نتمنى للمؤتمرين أن يعملوا بنصائح السيد رئيس الجمهورية!
يبدو في أفق السياسة الداخلية ما يهدد امن الوطن حيث صدر قرار من رئيس الجمهورية بموجب المادة 20 من قانون السلامة الوطنية رقم 4 في 24/4، احتجاجا على تحرشات إيران.
وفي الوقت الذي يفكر فيه الناس عما يتمخض عنه العالم من مواقف لصالح السلم أو تهديد له، يقوم في كربلاء مجموعة من المحسوبين على الدين بفتح جامع السنة، وعلقوا عليه عنوان -جامع السجاد- وصلوا فيه وكان أبرز هؤلاء المتحمسين الشيخ عبد الزهرة الكعبي وسعيد زيني، وآخرون يدعون حفاظ القرآن. ولكن وزارة الأوقاف ردتهم عن فعلتهم فغادروا الجامع بالسيارة المسلحة، ثم عين للجامع إمام ملائم! الحمد لله إننا نتنافس على الجوامع وهي كثيرة وكثير منها بلا إمام. ولكنا لا نتنافس على التوحد والوئام.
دُعيّ الشيخ عبد الزهرة الكعبي مرة للانضمام إلى حركة السلام، فرفض الدعوة، انه يعتبرها حركة شيوعية، وهو يعرف في الحقيقة معنى السلام وانه من أجل الجميع كما انه ليس حركة سياسية. لكنه أجاز لنفسه إثارة حركة طائفية. ولماذا لا تكون الجوامع للمصلين من أية طائفة؟ وكيف تتم وحدة أناس يتفرقون حتى في أداء عبادة ربهم  الذين يعترف به الجميع انه رب الجميع، ونبيهم أيضا نبي الجميع! وقد اعتقل في 26/2/1969 بطلا هذا العمل وأخذا إلى بغداد، وحين عادا بعد أيام كانا يتبجحان بأنهما كانا بطلين وقد دافعا عن أنفسهما بشجاعة. ولكن ما الاتهام الذي صداه؟
وبسبب موقف إيران من قضية شط العرب فقد اتخذت الحكومة في 5/5/69 العراقية إجراء ترحيل -الإيرانيين- فانتصر لهم السيد محسن الحكيم. كان في كربلاء، فغادرها إلى النجف حين علم ببدء الترحيل، وزاره نائب رئيس الوزراء حردان التكريتي فصدرت برقية (أوقفنا الترحيل ريثما يصل ابن الشاه للتوسط في المسألة) بينما اخذ معظم الإيرانيين يبيعون أثاثهم وبيوتهم ويتهيأون للسفر. يحاول الحكيم أن يثيرها شعواء بتنقله بين الكاظمية وكربلاء والنجف. وتحمس بعض أتباعه لزيارته كوفود. كما إن آخرين -غير عرب- تراشقوا مع الشرطة، فهب سواق السيارات في النجف وطاردوهم بالقوة. ثم أصدرت الحكومة إشعار بعدم ترحيل الإيرانيين، وتجديد إقامة من انتهت إقامته، وقبول عودة من سافروا. والله اعلم ماذا في الأفق مستقبلاً. وليتذكر الحكيم موقفه يوم لعلع الرصاص في الصحن العلوي أيام نوري السعيد وصمته!
الحكومة القائمة في نشاط دائب. فقد سنت تشريعات جديدة. منها: 1- تعديل قانون الإصلاح الزراعي، خاصة ما يخص الناصرية والعمارة. 2- سن قانون جديد باسم -قانون الواجب-. 3- قانون الخدمة العسكرية. ولكن لماذا فوجئنا بارتفاع أسعار الشاي والسكر واختفيا من الوجود؟
وفي 20/5 عقد مؤتمر اتحاد الجمعيات الفلاحية ببغداد، وحضر المؤتمر وفود من جميع الأقطار والدول الاشتراكية. وحين خطب الرئيس أشار إلى حجز أموال بعض الكبار مثل، مدحت الحاج سري، رشيد مصلح، حسن ثامر، صديق شنشل، هؤلاء نعرف عنهم أنهم من السياسيين الذين حاربوا قاسم من أجل الفكر القومي. فما حدا مما بدا؟ حتى عرض يوم 7/5/69 العميد المتقاعد -مدحت- على شاشة التلفزيون، فأفاد عن اتصاله بالمخابرات الأمريكية منذ عام 1960، وذكر أمثاله  -مهدي الحكيم-. وانه يرأس جماعة وأنهم حضروا عدة جلسات لتنظيم حركتهم. وذُكر أن البزاز سيعرض عن قريب، كرد على خبر نشرته جريدة الرأي العام الكويتية، بأنه مات في أحد سجون بغداد بشكل غامض.
ومن الصدف النادرة عندي أن أقوم بجولة، وحب التجول عندي من أحب الأمور. فالمرء في رأيي يجب أن يكون على علم بسائر شؤون بلاده، وما فيها من آثار الأجداد، وما ضمت من روائع، وما يجب أن يعرف ساكنوها عن تأريخ البلد. ولكني مُعرض للبلاء من جهة ومن جهة أخرى إني احرص أن أوفي العائلة ما يلزم لها عليّ. فراتبي المحدود، والديون تراكمت عليّ بسبب ما تعرضت له من مواقف وسجون، سبب تأخر ترفيعي، بل حرماني، حتى أن بعض المعلمين ممن درسته في الابتدائية قد بلغ مرتبه التقاعدي ضعف راتبي أو يزيد.
جولتي هذه حين سافرت إلى محافظة الكوت. زرت الحي، وزرت فيه قبر الصحابي سعيد بن جبير وقد سعى لتشييد قبره السيد محسن الحكيم. وقد قتله الحجاج بن يوسف الثقفي، وقد عرف بالشدة والفتك بالعلويين من أهل البيت ومن والاهم. كادت الدموع تنهمر من عيني، فانا أمام مرقد مضطهد وقيل استشهد بسبب معتقده، وقد ترك الحجاج سمعة عن بطشه ضرب بها المثل.
وعن العامة عندنا في النجف حين يضيع لهم -مال- أو حاجة ثمينة خارج البيت، يخرج منادٍ يعلن ويسائل السامعين بقوله: يا سامعين الصوت، أولكم محمد وثانيكم علي على الشاف وسمع أو لقي ... يسلمها إلى ....! وقرأت ذات مرة تحقيقاً لأحد أدباء النجف في الأمثال والعادات. فكان يصحح هذا الإعلان بقوله: يقولون يا سامعين -الصوت- وهو في الأصل يا سامعين -السوط- ذلك لأن الأسلوب في الإعلان عرف أيام الحجاج الذي كما عرف بقسوته ضد من لا يوالي بني أمية عرف أيضاً بالحكم الصارم تجاه اللصوص والمجرمين. فكان الناس إذا فقدوا حاجة يعلن عنها معلن يذكرهم بسوط الحجاج! لكن الناس المتأخرين بدلوا جهلا منهم السوط بالصوت ينبهون من وجدها فيعيد الحاجة. مع ذلك فالتأريخ يذكرنا أيضاً انه كان يقدر الظَرف والأدب والشجاعة في الرأي.
ومما يروى أن الحرس الليلي  ألقى القبض على ثلاثة من الشباب. رغم علمهم أن الحجاج قد منع الخروج ليلا في وقت متأخر. ولما سألهم الحرس من أنتم؟
أجاب الأول:
أنا ابن الذي دانت الرقاب له       ما بين مخزومها وهاشمها
تأتي إليه الرقــاب صاغــرة        يأخذ من مالهـا ومن دمهـا
وأجاب الثاني:
أنا ابن الذي لا تنزل الدهـــر قدره       وان نزلت يوما فسوف تعود
ترى الناس أفواجا إلى ضوء ناره       فمنهم قيــام حـولهــا وقعــود
وأجاب الثالث:
أنا ابن الذي خاض الصفوف بعزمه       وقوّمها بالسيف حتى اسـتقامت
ركابــاه لا تنفــك رجـلاه عنهمــــــا       إذا الخيل في يوم الكريهة ولت
وقد أمسك الحارس عن قتلهم ضناً منه، أن الأول ابن كبير ذي سلطة، والثاني ابن كريم من أجواد العرب، والثالث ابن فارس شجاع! وترك أمرهم إلى الصباح ليسلمهم للحجاج ليبت بأمرهم. وحين مثلوا أمام الحجاج صباحا، سألهم من أنتم؟ ولما استمع لإجاباتهم، عرف أن الأول ابن حجام، والثاني ابن صاحب مطعم والثالث ابن حائك. فعفى عنهم لظرفهم وحسن أدبهم وفصاحتهم، وقال لجلسائه: علموا أولادكم الأدب ، فلولا فصاحتهم لضربت أعناقهم . ثم أطلقهم وانشد
كن ابن من شئت واكتسب أدبا       يغنيك محمــوده عن النســب
إن الفتى من يقـــــول ها أنا ذا       ليس الفتى من يقول كان أبي
وكذا يذكر أن شابا أو قارب سن الشباب دخل مجلسه ولم يسلم، وقف كأنه جاء ليهزأ من سلطة غاشمة، ويسخر من جبار وهو في مقر حكمه. وحوله وجهاء البلد. وجرى بينه وبين الحجاج حوار كان في غاية الجرأة والتحدي. ولما سأل الحجاج جلاسه: ماذا ترون من أمره؟ حرضوه على البطش به! فردّ الشاب بجرأة، وقال: جلساء أخيك خير من جلسائك، يا حجاج!" قال الحجاج: تعني أخي محمد بن يوسف؟ قال الشاب: على الفاسق الفاجر لعنة الله، إنما أعني فرعون مصر، حين قال لجلسائه، ما ترون أن أفعل بموسى؟ قالوا: أرجه وأخاه. أما جلساؤك فحرضوك على قتلي. وخرج الشاب بسلام. الحوار بين الشاب والحجاج طويل مروي في كتاب -العقد المفصل- للسيد حيدر الحلي.
في كل العصور والأزمان يحتل رجال كالحجاج سُدة الحكم. يبدون ذوي مروءة مع من يتملقهم ويخشاهم، ويصيب بولائه وخدمته عيشاً ورفاهاً. وأولئك الحكام سواءاً كانوا ولاة بدرجة الحجاج أو باسم خليفة أو ملك أو رئيس. يكون كريما ومثال السماحة، ولكن مع من يواليه ويذود عنه. أما من له في أمره رأي يستمده من دينه أو من عهد قطعه ذلك الوالي أو الخليفة أو الملك، لكنه بعد ما ثبت أقدامه، وكوّن حاشيته، ورجالا اشترى ذممهم بالمال والعطاء. فانه لا يعود يستعمل إلا الشدة، والعنف، فلا يرى ذو الدين، وذو الشعور بالكرامة، والعارفون بأصول الحكم ، والذائدون عن مصلحة الرعية، وما للإنسانية  هؤلاء نصيبهم الموت أو السجون، أو أن ينكمشوا على أنفسهم متمسكين برأي الحق، ولكن مع السر والخوف. والتأريخ مليء  بمختلف الأمثال ونماذج للحاكم والمحكوم. وسيبقى كذلك مادام المجتمع طبقات. مستغَل ومستغِل، وكادح متعب ومالك في النعيم، سيد وعبد. ولكن سيرة البشرية، وتبدل أساليب المعيشة، والنظم، من أيام الرق ثم إلى النهضة الصناعية، كل هذه التبدلات علمتنا، أن حكم الرأسمال، وملوك الكرم والبترول والحديد، ومناجم الفحم، وحماتهم الذين يحتلون مراكز الحكم بتأييدهم ويسيطرون على الشعوب في الشرق والغرب، بتسلط المغرمين بالحكم عن طريق عشاق الحكم والزعامة، فيسندهم المستعمر -حسب قواعد الاستعمار الحديث- ثورة من أجل الشعب!
نحن نعرف إن للثورة معنى واحداً. الثورة الفرنسية قضت على الإقطاع، والثورة البلشفية قضت على القيصرية والرأسمالية في بلاد الروس وما يتبعها. وفي الشعوب الأوربية التي ما تزال، تحكمها حكومات رجعية، حكمها لصالح الطبقة الرأسمالية. نسمع عن نضال الطبقة العاملة فيها ووثباتها، وحققت الطبقة العاملة في -تشيلي- حكما ديمقراطيا وجبهة وطنية، وبمساندة الاستعمار العالمي برئاسة أمريكة حدث فيها انقلاب رجعي، وقاومت الطبقة العاملة مقاومة صارمة شجاعة، لكنها لم تنجح إذ كانت في بداية أمرها وسُفكت دماء، وأزهقت أرواح. وأخذت الطبقة العاملة والشعب التشيلي يتحرك من جديد ولابد أن ينتصر. الثورة إذن: هي التي تهدف إلى التحول من حكم الأقلية المستغِلة إلى الفئة المستغَلة بقيادة البروليتاريا، وبنور الفكر الاشتراكي حسب. وهذه القيادة لا تنافي أبداً والمصلحة القومية، شرط أن لا تكون مبنية على التعصب البرجوازي.
لقد جربت كثير من الحكومات وما ادعته من تقدمية ومن اجل الطبقة العاملة، وضد الاستغلال. إلى كثير من هذه الادعاءات. لكنها تشتري الذمم لتأييدها، فمن لا يرقص تأييدا وثقة، وان لم يكن يعلن عداءً يصبح هدفاً للتهم والشكوك. ولا حاجة أن اضرب المثل بما لقيت، وأنا ابعد من يكون عن ساحات النضال، وهذا ما يؤسفني ، لأني لم أعد أثق بالكثير الكثير .... وقد وجدت الأكثرين يقفزون من فئة إلى فئة.
أمس 9/4/1969 بُلغت بواسطة تربية الحلة بلزوم الحضور إلى محكمة أمن الدولة. مع أن قرار مجلس قيادة الثورة قد أعلن غلق كافة الدعاوى السياسية. فهلا سمعت بهذا مديرية تربية بابل؟ ومع هذا فقد راجعت المحكمة العسكرية. أجابوا: اُغلقت، وتنفست الصعداء. الحكومة الحالية ما تزال تشرع قوانين وتصدر قرارات، تبشر بخير، وعسى أن تستمر، فالبلد الطيب يخرج نباته وما خبث لا يخرج إلا نكداً.
ويبدو إني قد أدرج اسمي عام 1971 ضمن من بلغ من العمر ستين عاماً ومدة سنيّ الوظيفة ثلاثين عاماً، ذلك بسبب خطأ في سن ميلادي، سجل ميلادي 1908 والصواب 1913. ذلك لأني إنما عدت إلى الوظيفة لأستوفي حقي الذي ضاع بين فصلي وحرماني منه حتى وأنا في الوظيفة. ولكن بعض ذوي المحضر الطيب، طلب تأجيلي فانا لم أستوف حقي في الخدمة من الدرجات التي فاتتني، إذ فصلت في العهد الملكي، وحين عدت حرمت من الترقية. ثم سحبت يدي بعد انقلاب شباط 1963 ومن ثم فصلت عام 1964 ولم اعد كسواي إلا في بداية العام الدراسي 1968/1969. وطالبت باعتبار مدة الفصل خدمة لأغراض التقاعد والترقية والعلاوة فلم اُجبْ! بينما أعيد الذين حكموا معي وأدينوا باعترافهم، واعتبرت لهم مدة الفصل خدمة. وقدمت كثير من العرائض فلم الق استجابة ولا رداً وكأن الجهات المعنية متأكدة من صحة الاتهام. ولا يحزنني الأمر لو أن للاتهام صحة.
أنا فرح أيضا بمناسبة حصول ولدي محمد على زمالة إلى بولونيا وتهيأ لعمل ما يلزم من جواز سفر وغيره. اثنان من إخوته وصلا إلى مبتغاهما. الكبير تخرج من كلية التربية، وتخرج الأخر منها أيضاً، ولكن شتان بينهما. الأول على جهودي ومتاعبي، أما الثاني فبنشاطه وهمته ومساندتي له للنجاح بمراجعة الدائرة الخاصة لأمور التعيين -معلما مسائيا- ليكون في النهار طالبا جامعيا. أخوهم هذا الأصغر، صار عاملا في معمل التعليب، وعمل بسكينة وصبر لـ 16 ساعة في اليوم من أجل أن يجمع ما يمكنه للسفر الذي كان ينتظره بعد عدة محاولات فاشلة.
أنا في هذه الساعة كنت في المستشفى. كاتب الطابعة يضحك. قلت مالك؟ قال: أنظر. تأملت على الطابعة أمر إداري مفاده إن المستخدم يضاف إلى راتبه 150 فلساً. وأثناء الطبع أوعز إلي الآن مفاجأة انه عين بوظيفة براتب قدره مئة وخمسين دينارا. قلت لابأس. احذف فلسا واكتب بدلا منها -دينار-. بينما لو جرد راتبي من الزوائد والإضافات التي تفضلت بها الحكومة -حسب نسب معينة- لما كان أكثر من سبعة وثلاثين دينارا.  عن خدمة قدرها ثلاثون عاما إلا أربعة شهور. حكمتك يا رب!


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏21‏/10‏/2011


79
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 24
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


الموظف براتبه وحلم الأعزب         
في عام 1934 عينت معلما في المدارس الابتدائية القروية، وفي إحدى قرى قضاء أبي صخير. كنت أقيم في كوخ مجاور للمدرسة. كتبت إلى أستاذي "عبد الرزاق محي الدين" بما تم لي من تعيين. فأجاب يهنئني ويوصي أن أقتصد لأدبر الأمر لمستقبل أفضل. ووصف راتب الموظف (انه راتب الموظف كحلم الأعزب، لا يصبح منه إلا على قذارة الثوب ونجاسة البدن!) ثم وصف لي حفلاً ساهراً لأم كلثوم وكمان سامي الشوا وعود محمد القصبجي، وتأوهات الشباب والشيوخ وعجيجهم، طرباً وحنيناً.
وأجبته: قرأت رسالتك. فتمتع وارتح. هذا نعيم ما كنت تحلم به. ما كنت تسمع وترى شيئا مثل هذا، حتى في أعماق سراديب السن، ومع ذلك فقد كانت السُن السوء تُشَهر بليلة -الهرير-!  ليلة من لياليه مع فئة من المعممين، ومن بيوت رفيعة جرت فيها من بعضهم حركات طائشة ...... فهاجوا هياج الثيران الوحشية، وشاع وضعها، ولمح إليها الأستاذ صالح الجعفري وكان لا ينزل إلى هذا المستوى. فنشر كلمة في جريدة "الراعي" بعنوان "مسواك امي" منها هذه العبارة (تفقأ به عيني كل معمم يشرب الخمر في ليلة جمعة في آخر ليلة من شعبان).
ولكن ما أصف أنا لك؟ إذا جن الليل وآويت إلى مخدعي، غنت الضفادع، وعزفت موسيقى البق، ورقص البرغوث متخذا من جسدي مسرحاً له!
مع عبد الرزاق رشح للدراسة في مصر باقر الحبوبي، وحسن الجواهري، فشل الحبوبي وعاد. أما الجواهري فقد ادخل في مصح بلبنان بدل البعثة، وطال فيه مكوثه. ثم عاد إلى النجف وعين لإدارة المكتبة العامة.
وشمر اثنان من أصدقائنا الشباب الروحاني عن سواعدهم، وقصدا مصر إلى كلياتها. السيد محمد الهاشمي، وعبد الكريم الدجيلي. ولكن على نفقتهما الخاصة. ونال الهاشمي أيضا شهادة الدكتوراه في التأريخ الإسلامي.
كنت أتحرق، وماذا أصنع؟ إن عميدنا يعارض كيلا يتهم بعمل لـ -المحسوبية والمنسوبية-! إن هذا مغالاة منه، وإعراض عن مساعدة أرحامه، مثلما إن هذا حق، فمائدة الدولة للجميع. مرتضى فرج الله لم يسع إلى شيء من هذا، لأنه متزوج وله طفل أو اثنان. لكن صاحبنا -الوائلي- جازف فباع دار له -لا يملك سواها- لابد انه كان واثقا من نفسه، وتوجه نحو مصر، وتم قبوله.
ودهشت حين علمت أن فتى من أسرة علمية دينية قد سبقني إلى عميدنا ونجحت محاولته، إذا كان يحمل إليه رسالة من -مجتهد- من رجالهم. وعين الاستاذ الشيخ صالح الجعفري مدرساً في ثانوية النجف.
عبد الكريم الدجيلي صلتي به قليلة، إلا مجاملة مؤدبة. كان من شباب المنبر الحسيني لكنه ليس عادياً فهو أديب وشاعر. هو أيضاً كان يراسلني. أولى رسائله كانت وكأنها كتاب مختصر عن كل نواحي الحياة المصرية، بدا ملماً بذلك، جوها، مناخها، طراز مدينتها، آثارها، رجال الأدب والعلم فيها.
واستمر عبد الرزاق في علاقته بي -وهو طالب- لم يتبدل في عواطفه وحنينه إليّ. وفي عام 1938 أقدمنا كلانا على الزواج، وفي أسبوع واحد، ودعوته ودعاني. حتى إذا خطا الخطوة الثانية، لنيل شهادة الماجستير انخفضت درجة الود والصداقة، وبان ذلك حتى في نبرات صوته، عند التحية في اللقاء. ولم استغرب ولم ابحث عن السبب. ونشرت في جريدة -الهاتف- العدد 108 صفحة 9 سنة 1938، كلمة بعنوان -أصدقاء- وأشرت إلى اسمه بحرف -ع- فكتب هو كلمة بعنوان "الصداقة" أرسلها إلى –الهاتف- فاعتذر الخليلي عن نشرها، فنُشِرت في مجلة -الحضارة-. رفض الخليلي نشرها إذ لم يعجبه أن تشبه الصداقة بالطعام والشراب، وبأن المرء قد يمل إلى هذا اللون من الطعام والشراب، ويميل في يوم آخر إلى لون آخر! كلا يا أستاذي، السبب هو التعالي بسبب -الشهادة- التي نلتها. وما أنا بآسف. ونال شهادة الدكتوراه فابتعد أكثر.
كانت الحرب العالمية الثانية قد قلبت موازينه. كان يعتقد انه يفهم الاشتراكية، منذ كان طالب علوم دينية. وليكون رجل دين، يحمل الرسالة كما حملها أبوه وأجداده. ولكنه -في الحقيقة لم يفهم من وعن الاشتراكية شيئا على الإطلاق. ولا -أنا تلميذه- ولا غيرنا ممن لم يعرف غير النجف، وكتب الفقه. ومع هذا فقد تعرض متباهياً لمفهوم الاشتراكية في قصيدته "ربة الدل". ففي حفل زواج الشاب "جواد قسام" أعلن منشد القصائد التي قدمها زملاء الشاب، أن قصيدة جاء بها طفل سلمها له -معمم- ودله على المجلس ولم يذكر عليها اسمه! جاء فيها:
ادخلي الحقل إن نهضت صباحا      واسـمعي الطيـر كيف يعبد ربه
لا صلاة سوى الغناء ولا صـوم      ســوى أن يطهـــر العبــــد قلبه
وحيـــــاة لــــو تهتــدين إلـيهـــا      لتـركتِ القصـر الجميــل وربّه
لخصتهـا العقــول للروس دينــاً      فدعــوها بالمذهب الاشــتراكي
-الروس- هنا تورية تشير إلى العقل وإلى -روسيا-، والاشتراكية كما فهمنا مذهب في الاقتصاد. كان قد جاء به علماء اقتصاديون كثر لكن أهم مبدع له على أسس اجتماعية واقتصادية هو كارل ماركس وصاحبه انجلز ثم لينين الذي قام بثورة في روسيا وحطم القيصرية وأشاد النظام الاشتراكي. وهو نظام اقتصادي لا علاقة له بالدين. غير أن الاستعمار من أجل أن يقاوم النظام الجديد وهو يستهدف الاستعمار والاستغلال، شوه حقيقة الاشتراكية بما أشاع عنها: أنها ضد الدين وضد الأخلاق وإنها إباحية. وهكذا معظم الذين عادوا الاشتراكية يعتمدون فقط على المصادر من الغرب الاستعماري الرأسمالي.
كان الحلفاء وهم يرقبون سير الحرب في ميادين القتال، قد أدركوا خطأ حسابهم السابق. وفي مؤتمر -طهران- التقى زعيما بريطانيا وأمريكة -روزفلت وتشرشل- بستالين قائد الاشتراكية. وكان الفرنسيون قد فتحوا باريس لجيوش هتلر فاحتلها. وصافحهم -لافاك- من اجل أن لا يخربوا مجد الفن الفرنسي وجمال باريس! فاقترح ستالين فتح الجبهة الثانية، وعين مكان المنطلق!
وفي داخل فرنسا شكل الشيوعيون ومن تبعهم من الفرنسيين -المقاومة الشعبية السرية- وقد أيد الحلفاء رأي ستالين. وقام القائد الفرنسي -ديغول- بفتح الجبهة، هو من الخارج والمقاومة من الداخل، وهكذا تحررت فرنسا وبدأت جيوش هتلر تندحر في كل مكان.
كان أستاذي ممن يشايع ويراهن على انتصار النازية، واندحار السوفيت! إن الاشتراكية العلمية التي نشرها لينين، وثبت نظامها في روسيا كلها، خلقت شعبا جديداً، يختلف كل الاختلاف عن أيام القياصرة. كل هذا لم يبدل من فكر أستاذي، فقال وهو يحاورني: إن السوفيت ينطحون صخرة!. ثم أصبح من أنصار ومؤيدي صالح جبر، والله يعلم لو تبدل الحكم في العراق وانهزم صالح وشركاؤه في أي صف سيكون.
فيوم انهزم صالح جبر أمام هياج  الشعب العراقي، إلى مصر هناك تم -كما يبدو- لقاء بينه وبين الأستاذ محي الدين. ونشرت لهما صورة في صحافة مصر. وحين التقيت به، تعرضت لذكرها. فأجاب (أنا يا علي دائما مع المهزوم!). قلت كلا يا سيدي، صحيح إن الشعب هزمه وحطم المعاهدة التي حققها أسياده، لكنها هزيمة مؤقته، ولو ظفر به الشعب لأنهى حياته. يا أستاذي، نحن المهزومون، مادام للانكليز والمستعمر أعوان من أبناء شعبنا نفسه، مادام فينا نوري السعيد وصالح جبر وغيرهم. وإن تظاهرت برأي مستقل عنه ومعارضته له. الواقع إنها مفتعلة ووفق مخطط. وعبس الأستاذ بوجهي!
أعود لذكر صاحبي -الوائلي- فقد عاد وبنجاح. وكنت أثناء الحرب وبعدها، قد ركبت ديلاب الهوى. هذا تعبير شعبي يقوله الفرد عندما يبتلي بتهم تسبب له متاعب لا تقاس بالنسبة لنشاطه وفعاليته، ثم تتلاحق بحيث لا يجد فرصة للراحة والتأمل. فأوقفت عدة مرات، كان أشد واهم توقيف لي قبيل انتفاضة الشعب ضد معاهدة بورتسموث.
هذا العام فقط صادفته في شارع الرشيد، وقد بدا على وجهه انه غادر الكهولة، وقفنا قليلاً، وتحدثنا قليلاً. وفارقته أحمل نسخة من صورة له ضممتها إلى جانب صور أصدقائي الكثيرين، من استمر منهم بالصداقة ومن تعالى وتنكر، ومن غادر هذه الدنيا. ولكن ممن اذكره بخير وهو كذلك.

شرق وغرب/1
الولايات المتحدة بعد أن عينت واختارت أسماء الرواد الذين سيصعدون إلى القمر. حلقت مركبتهم الفضائية -ابولو- وطافت فوق الجزء المسمى بحر الهدوء فقد هبط ارمسترونك والدرِن على سطح القمر يوم 21/7/ 1969. ونطق أول إنسان على سطح القمر يخاطب الأرض: هذا هو القمر هبطنا هنا! أما السوفيت فحين حلقت مركبةٌ لحقت بها أخرى لتلتحم بها ويتبادل روادها المركبتين.
ونحن ماذا؟ نحن ندير انقلابات. كل فئة تنشق على نفسها فتصبح كتلا متعددة تتنافس فيما بينها، تنافساً ليس علنيا. هذا ليس شيمتنا. التنافس العلني له أصول محترمة عند جميع من يفهم السياسة فهماً صحيحاً، فهو كغيره له الحق أن يعمل، على الوصول إلى كراسي الحكم ليحقق برامجه ويثبت لشعبه انه كفؤ لخدمته عن طريق الحكم. أما الذين يأتون عن طريق تدبير مؤامرة سرية، تتفجر كبركان ثائر، وتستعمل القسوة لترهب الخصوم والشعب، فتقدم وتسجن الآلاف، يَمدُها دائما أعداد من الغوغاء الذين لا يجذبهم إلا الجشع وحب البطش، وهكذا تفشل الحركات التي تأتي عن هذا الطريق، بعد أن يدير الناس لها ظهورهم. وقد يظل هؤلاء مدة تطول كدهر، لكنها تنهار أخيراً. ولا اعتقد إن أحداً من الناس لا يدرك أن هذا الأسلوب الأهوج نابع من مصدر يوحى به، هذا المصدر هو الاستعمار. أما الذين يهدفون إلى خير الوطن والأمة، فهم الذين يدعون إلى عمل موحد مادامت هناك بينهم أهداف مشتركة، ومادامت في اتجاهاتهم السياسية، ومفاهيمهم الاقتصادية. وأيهم لم يفعل هذا، فإنما هو دجال.
أنا اُشبه العاملين لخدمة شعوبهم بنية خالصة، كرواد لهم هدف يبغون الوصول إليه، ولكنهم لا يعلمون بالضبط أي السبل تؤدي إليه. عند هذا اتفقوا أن يتجه كل حزب مهم إلى جهة، حتى إذا أصاب واحد واهتدى إلى الهدف، دعا الآخرين وما عليهم إلا أن يستجيبوا. وهذا طبعا لا يتم إلا بين الفئات التي تتبنى فلسفة واحدة  ولخدمة طبقة واحدة هي أساس الخدمة والإنتاج وهي اليد العاملة والمنتجة. إن الفئات التي ترفض التعاون حتى مع الفئة التي تدعو  وتتبنى نفس الأهداف فإنها في الواقع تكشف عن نفسها بأن القائد والمتنفذ فيها يستمد العون من أيدي استعماريين وما ادعاؤه إلا تضليل، وإما أن يكون -وهذا احتمال ضعيف- من الجاهلين والمغفلين.
نحن من العهد الملكي عرفنا شخصيات شاركت في الحكم  إذ ذاك، وبعد ثورة تموز بعضها شارك -تحت الستار- ضد تموز بعدما بدا عبد الكريم مستبدا لا يرد أن يسير إلا برأيه وحده، وأضاع الوقت على نفسه، فيما شغف به من دفع الكتل السياسية بعضها ضد بعض. حتى إذا جاءته يد فراسة وفم لم يسلم الذين ادّعوا إنهم يؤيدون الفئة التي ناوأت عبد الكريم، والله يعلم، لِمَ قضي عليهم بالموت والتهم الشنيعة، وبعض بالتشهير، فانزوى كأجرب حقير.
هناك من كان علما  ومثل فئة تقدمية في وزارة التعليم، ثم نبذ النواة واغتالته يد قذرة. ولا يعلم احد كيف تخلصت تلك اليد ومن هي وأين ولت؟ ذلك ما حدث لفؤاد ألركابي صاحب كتاب -الحل الأوحد- والذي ينسب لنفسه فيه انه المخطط لأغتال قاسم وفشل الاغتيال وتم القضاء على قاسم نهائيا صبيحة 8 شباط 1963، وبعد انقلاب 17 تموز 1968 قتله مجرم كان سجينا معه بنفس الزنزانة ولا نعلم ما تم بشأن ذلك القاتل.
الغرب والشرق المتحرر في تنافس في المخترعات والمكتشفات. فأمريكة مهتمة بالأقمار الصناعية ولابد أنها ستكتشف ما هو أهم، لتدمر وتزيح المنافس الهام -الشرق المتحرر- اعني السوفيت ومن يدور في فلكه من شعوب أوربا الشرقية. وشعوب أوربا وشعوب أمريكة واعية، وفيها أحزاب ثورية، ستقتفي طريق النضال كشعب كوبا. وأنا واثق إنا نحن شعوب آسيا لن نفعل خيرا مثل أولئك  وان جاءنا خير في المستقبل فإنه بعيد وبعيد جداً، وكما انهارت الإمبراطورية العثمانية، وسميت -الرجل المريض- انهارت أيضا بريطانيا، التي قيل عنها، إنها صاحبة المستعمرات التي لا تغيب عنها الشمس. وكانت أمريكة قبل الحرب العالمية الثانية لا يظهر أن في فمها -سن طمع- هكذا الظن بها لأنها بلاد أبراهام لنكولن ثم ولسن صاحب الـ 14 نقطة لتحرير الشعوب. لكن أمريكة قد دخلت الحرب العالمية الثانية لتخلص العالم من شر النازية. وفي النهاية ظهر إنها المرابي الكبير، الذي سيطر على جميع ممتلكات ومستعمرات بريطانيا وفرنسا وألمانيا وايطاليا، بلون جديد من الاستعمار. فإذا بكثير من رجال الشرق في آسيا وأفريقيا يَصلون إلى الحكم، بقدرة قادر. ظاهرهم تسبيح لله والشعب وشتم للظلم والاستعمار، وباطنهم عمل منظم وتخطيط منظم، لصالح الاستعمار، وبحجة وسط بين معسكرين كبيرين فهم من أهل الحياد.
والله إن من يدعي الحياد لا يكون إلا واحد من أثنين. دجال  يريد أن يغطي على حقيقته أو غبي يغرق في الغباء. وحين أبتكر المرحوم -تيتو- الحياد الايجابي، وعدم الانحياز، قال بعض السياسيين، الحياد الايجابي إن أمكن فهو ابتعاد عن محاربة الاستعمار والاستغلال. وإلا فهو درب للانشقاقات طمعاً في شهرة خاصة ومستقلة عن ركب المبدع لهذه الفكرة، بعد أن كان واحداً مهماً من ركب الاشتراكية مع لينين وستالين.
وتم انقلاب في سوريا على يد صلاح جديد، وقالوا إن حافظ أسد والاتاسي في بيوتهما. وان أهداف الانقلاب التقارب مع البلاد العربية وبالأخص العراق ووحدة حزب البعث. كذلك حدث انقلاب يوم 25/5/1969 في السودان. واعترفت سوريا بألمانيا الديمقراطية. أما رومانيا فقد رفعت تمثيلها مع إسرائيل إلى درجة سفارة. لا غرابة، فرئيسها وهو شيوعي خفف من تماسكه مع السوفيت، ولكنه لم يعلن الحياد الايجابي! وهذا الترفيع قد يكون نابعا من حنينه إلى أصله اليهودي. وخلال شهري شباط وآذار عام 1969 هلك رئيس حكومة إسرائيل، حيث هدمت داره بصاروخ من الفدائيين وهلك ليفي اشكول بضربة من الفدائيين. لكن هذا لا يحل مشكلة أبداً.
إسرائيل يدافع عنها الغرب كله. ونحن في الوقت الذي نعلن اهتمامنا بقضية فلسطين، فإننا بذات الوقت نهتم بزعماء أمريكا وبريطانيا ونطلب مساعدتهم لحل القضية، وندير ظهورنا عن هيأة الأمم ومجلس الأمن، وننافق في علاقاتنا مع الدول الاشتراكية، ونوثق علاقاتنا مع كل الدول الرأسمالية والاستعمارية، وكأننا لم نعرف من ركزَّ إسرائيل ومن منحها القوة ومن يساندها في مواقفها!   

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏07‏/10‏/2011

80
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 23
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)





أصداء من أعماق الزمن/2  
وطلقت جامع الهندي بحكم انتقالي في دراستي إلى شيوخ يلتقون بطلبتهم في بيوتهم. فقد درست على الشيخ محمد طاهر الشيخ راضي، والشيخ حميد الشيخ راضي، والسيد أمين الصافي، والسيد مير صهر المرجع الديني أبو الحسن، والشيخ محسن شرارة، والشيخ محمد شراره وهو أيضا دخل سلك التعليم. وانتمى للحزب الوطني الديمقراطي ثم أتهم بأنه انتمى للحزب الشيوعي العراقي ولا اجزم بصحة هذا ، إذ كنت قد ابتعدت عن كل حزب.
وفي بداية الثلاثينات أول شبوبي حضرت في بيت الشيخ عبد المنعم الكاظمي بمناسبة زواجه، كأي واحد من الناس. والكاظمي من أتباع الشيخ احمد كاشف الغطاء ومندفعا بحماس ضد أبو الحسن وحدث أن قام بعمل مهين ضده. وقالوا إن ذلك جرى بعلم من مرجعه، وبسبب تلك الإهانة اضرب ابو الحسن عن صلاة الجماعة وعن زيارة الحرم. وتأتي أن يمرض كاشف الغطاء. ولم يمهله الموت فمات. وعند هذا جاء الكاظمي معتذرا يعلن التوبة ويطلب الصفح وتحول إلى جانبه. ثم ترك النجف وقطن في جامع إحدى المحلات إماما له، ثم دخل سلك التعليم وانتقل إلى الزراعة ثم عاد إلى العمامة بعد التقاعد وألف كتاباً بعنوان -من كنت مولاه ...-. وقُرأتْ في بيت الشيخ -على العادة- قصيدة كانت للشيخ عبد الرزاق محي الدين، كانت بعنوان "أحلام اليقظة". الشعراء التقليديون ما كانوا يضعون لقصائدهم عناوين، كانت تقرأ القصيدة فيصيح بعض الحاضرين: لمن؟ ويجيب المنشد: لفلان! واغلبها غزل، تشبيب، وحسب المناسبة، مديح، تهنئة، رثاء. هذه القصيدة أيقظت انتباهي على غير سابق معرفة بالشاعر، بل لم اسمع باسمه قبل هذا. عنوانها والمقطع الأول ملفتان للأسماع. إنها طراز لم اسمع مثله. في محافل النجف الشعرية. أعيد هذا المقطع مرات. في المقطع الثاني لاح على وجوه البعض ما ينم أن الوتر مثير، وان المتهامسين خصوم. ثم سرى تهامس، حتى إذا ما وصل المنشد المقطع الرابع، صرخ بعض المعممين -كانوا في سن الشاعر- محتجين. وسرعان ما تطور الأمر إلى صدام. وطارت أحذية وعمائم! واختلط الحابل بالنابل وغادر المجلس من لا يهمه الأمر، فهو مهنئ أو لقضاء الوقت.
وعيت وحفظت كل ما القي منها، ولكني لم أفكر بمَ وكيف سينتهي الأمر، ولماذا؟ غدا الموضوع حديث الألسن. ليس هذا، فقد روته الألسن روايات مختلفة. وتطور الأمر. وقصد خصوم الشاعر المتحمسون أولا المرجع الديني الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. فاستجاب وكتب. على إخواننا المؤمنين أن يتجنبوا مجالسة الشاعر حتى يعود إلى نهج الحق والصواب. أما أبو الحسن وهو أشهر منه ومرجع للغالبية، فقد أجاب: إني لا دراية لي بالشعر والشعراء، وليس ما قال الشاعر عقيدة. إذن ماذا نقول عن غزل الشريف الرضي وخمريات الحبوبي؟ ولكني أؤلف لجنة من أدباء وفقهاء يدققون ويحققون مع الشاعر، ويرفعون إليّ ما يتوصلون إليه من رأي. فأصدر حكمي بموجبه.
وعقدت اللجنة في بيت والدي. مؤلفة من شيوخ عرفوا وبرزوا منهم فقهاء وأدباء حقاً. وحضر -المتهم- وطولب بالقصيدة، فاعتذر إن الذين أثاروا الزبعة مزقوها. فأعلنت متبجحاً: إني حفظت المقاطع التي ألقيت، وقد شهدت المعركة وكيف تلقفت القصيدة الأيدي الغاضبة. فأكد أبي إني لهذه القابلية. ورحت ألقي ما سمعت مقطعاً مقطعاً، فكانوا يقاطعونني بقولهم: قف، نسيت بيتاً، تذكر جيداً. فأصرُ، كلا لم أنسَ، هذا ما سمعت. فيسمعوني بيتاً:
يقولون إن الله يبعثنا غداً      وذاك لعمر الله كفر وبهتان!
فأنفي، وأنا صادق لم أسمع هذا أبداً. كانت الأبيات التي لم تتجاوز الثلاثة أو الأربعة. لم اعد أتذكر غير هذا البيت، ونصف بيت آخر نسيت الشطر الأول منه. وقد كان كافياً لإثبات أن ما نسب إليه ملفق، فهذا الشطر (أدين بما قد دان شبلي وجبران) والجمع بين شبلي الرجل العالم الصريح بإلحاده كيف يدين به من يدين أيضاً بجبران وهو يدين بالله وليس بملحد مثل شبلي شميل! وفي السنوات المتأخرة قرأت كتاب لشبلي شميل "هكذا عرفت" فلم أجد فيما قرأته ما يدل على إلحاده.  نوقش المتهم حولها. فنقدها وكشف الخطأ الفاضح فيها. وانتهى التحقيق ببراءته. وأعلن أبو الحسن دعوتهم إلى مائدة  عنده تنزيهاً للشاعر وتكريماً له وللجنة.
ومن هنا بدأت علاقتي بالشاعر. وطلبت من أبي أن يكلمه عن رغبتي بالدراسة عنده. وهكذا تم وتعمقت الصلة بيننا وكأننا أخوان. فلم تجده إلا عندنا أو تجدني عنده في غرفته الخاصة بمدرسة -الخليلي- في شارع السلام. وبدأ يوجهني. أشار عليّ أن أبدأ بكتاب كليلة ودمنة وتأريخ الأدب لأحمد حسن الزيات، وكتب طه حسين، وكتب جبران.
وصرت واحداً من أصدقائه -الشيخ صالح الجعفري، حسين شبر، إبراهيم الكاظمي- وآخرون كانوا على الهامش. وكنا كأتباع لابن عمته الشيخ قاسم محي الدين الرجل الظريف، والأديب أيضاً، والسليم الطوية مع كرم النفس.
كان أهم مجلس يجمعنا جميعاً، وكأنه لنا بعمومياته، وخصوصياته، هو مجلس الشيخ حبيب العادلي. الرجل الوقور والشهم الكريم. مجلسه صباح الجمعة. يحضره من رجال الفقه والأدب عدد، وهؤلاء طبعاً لا يتابعون الحضور كل أسبوع، فلهم كما يبدو برامج. أما العصاري فهي لنا ولأمثالنا ولجواره المخلصين.
لقد أطلت، والذكريات التي ما تزال في ذهني، والليالي الزاهرة بتلك الوجوه، يرن صداها في نفسي، وإذا ما زرت النجف عجّ فؤادي بالحنين. ولا أكتم أمري إني كثيرا ما أتعمد المرور على تلك البيوت وأمر عجلاً، فلن تعد مساكنهم، ولكني أحس أني أسمع الصدى، وارى الوجوه الحبيبة. وان رقد بعضها في الرموس.
ونزهاتنا أحيانا مع شيوخنا، الشيخ جواد الجزائري، والعادلي وأخوه جليل، السيد مير، ونحن الشباب، وقد حملنا معنا القدور والباقلاء الخضراء، واللحم الطازج واللبن، وقمنا بالطبخ والنكات تنطلق من الأفواه كالسلسبيل، والشيوخ ليس لهم شاغل غير النكتة والتعليق. بينما نحن نغالي بالمرح مع بعضنا إلى حد الأذى والإزعاج.
ولن نكتفي بهذا، لدينا سفرات ونزه مقتصرة علينا، بطريقة -اشتراكية-. فنحن دائما لا نملك شروى نفير. يترأس الأمر، صاحبنا الماهر في تدبير كل شيء ولو عن طريق -مؤامرة- وكل يجلب من أهله ما يمكن من رز، ماش، سمن، بصل، حمص أما اللحم فهو الحمام. ومما يرويه الناس أن وجود هذا الحمام، إن أحد الهنود جاء بعدد منها وسلمها لخدم ضريح الإمام علي وان يستفيدوا عندما تتكاثر من لحمها. فلما أصبحت النجف مدينة كبيرة وتطور بناء الضريح والصحن العلوي وكثر ساكنو النجف ، تغيرت نظرتهم وصاروا يحترمون هذا الحمام!.
رفيقاي مرتضى وإبراهيم لم اهجرهما. لقاءاتنا لها وقتها المعين المعتاد. واغلبنا انتظم عضوا في جمعية الرابطة الأدبية. كان عبد الرزاق أحد أعضاء الهيئة المؤسسة، وعبد الوهاب الصافي رئيس الهيأة الإدارية. وفي إحدى الدورات الانتخابية صرت مديرا لإدارتها. وكانت لي ملاحظات حول بعض المواد في نظامها الأساسي والداخلي، ومعي عدد من الأعضاء يشاركونني الرأي، فقدمت الملاحظات وأيدني الآخرون. حاولوا إقناعي بالعدول عنها فأصررت وفُصل بعض من أيد، استغل ضعفه لكونه في الواقع خال الوطاب!
وصادف أن دعيت في الكوفة من قبل صديق هو المرحوم الشيخ علي البازي الأديب الفكه. كان قد دعا الشيخ أحمد عارف الزين، ومعه اثنان من أدباء بيروت. وطرح أمر إصراري، وقد أخذوا يبرهنون لي: إنا لا نوافق لسبب واحد، هو إن الجمعية نتيجة لتصلب  أعضاء الهيأة من جانب وإصرارك من جانب فتبدي وزارة الداخلية حلاً وسطاً فتغلقها، لأمر في نفسها! اقتنعت ولكن قدمت استقالة. والواقع إن الجمعية لم تتقدم فهي ليست أكثر من أسم، والبارزون من أعضائها استغلوا كيانهم الأدبي فيها، فحصل عبد الرزاق على عضوية البعثة، ورئيسها عين قاضياً، وآخر أيضا كذلك.
كانت رسائل عبد الرزاق من مصر تردني، يصف فيها أساتذتها ومكانته لديهم، وصالونات الأدباء. كان مما يبدو من بعض تعبيره، لا يعتبر العقاد وطه حسين من وزن واحد. وحين أنهى السنة الأولى وعاد ناجحاً، كرمته بحفل دعوت إليه نخبة الأدباء كهولا وشباباً. وألقيت كلمات وقصائد من أصدقائه وطلبته بعدهم جميعاً كلمتي، وقد أدخلت، وكان هذا بتحريضه لي، فيها ما دعا الجامدين أن يثوروا أثناء إلقائي. فقد تعرضت لنمط الدراسة والنهج الذي لم يتبدل بمرور الحقب والعصور. وصفت نفسي طالباً ضجر من كتب لا تردد ولا تعرف غير دم الحيض والاستحاضة  مما لا يتصل بالنفس ولا يقع على الروح ولا ينمي العاطفة! وصفت العجيج والضجيج في جامع الهندي، من عشرات السنين، وأجيال تعاقبت، وهم حتى اليوم كما كان الذين من قبلهم، ومن بين شباب بزي الكهول، وكهول بزي العجزة الغابرين! ويتخرج المستفيد لا لينهض بإصلاح وتجديد، بل ليجبي الزكاة، وسائر الحقوق الشرعية مورداً حلالاً له، أو يستمر يعاني الجوع والحرمان. فثار بعض الكهول ممن كان يبدو كشيخ جاوز السبعين، وغادر الحفل آخرون، بينما صفق الشباب تأييدا واستحساناً. وسارع شيخ، محسوب في عداد الأدباء، أيضا إلى العلامة كاشف الغطاء ليحصل منه على فتيا تجريم بحقي.
ولكن رسولا من الشيخ هادي  كاشف الغطاء سارع إلى العلامة: أن لا يتعجل الفتيا! والشيخ هادي هو والد الشيخ محمد رضا وجد الشيخ علي، وكان من المجتهدين ولكنه زهد فلم يرشح نفسه لزعامة ولكنه كان إمام جماعة، فهو فقيه وأديب أيضا، ومن اخص آل كاشف الغطاء بجدنا الشيخ جواد الشبيبي، ومن نمطه في النكتة الأدبية. وبمناسبة كلمتي بعد أن اطلع عليها سارع فنبه الشيخ محمد حسين عنها. أما أستاذي محي الدين فقد توسع  فيما أشرت إليه ليثير حولي ضجة يرفع بها اسمي!

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏27‏/09‏/2011


81
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 21
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)






ثورة/ 2
في 10/11/68 بلغت من قبل مديرية التربية بكتاب مديرية أمن كربلاء في 20/10/68 للحضور أمام محكمة أمن الدولة الأولى، عن قضية المتهم ساجد حمادة (بداية التحقيق عن هذه التهمة مرت في موضوعة "ماذا بعد"). حين علم المعلمون فغر بعضهم أفواههم، وتأوه أحدهم واسمه طاهر، وقال: اسمح لي أبا كفاح أن أقول ولو انك مثل أبوي، وأنت لازم تنصحنه، أقول عيب وميناسب مثلك أن يحمل مثل هذه الأفكار؟ قلت له: اسمح لي أنت أيضا أولا أن أقول، إن المثقف الذي لا يحمل فكرة ليس إنسانا، وأنا لن أرضى لنفسي أن لا اكونا إنساناً! ثم أقول لك، ولا يدفعني لهذا خوف أو حياء، أقول لا انتماء لي إلى أي حزب أو منظمة سياسية. فما حيلتي وشرطتنا في كربلاء لا تريد أن تعترف إنها تعرف من هو المتهم الحقيقي؟
هذا المعلم طاهر يكثر علي طرح أسئلة كثيرة، عن الفوارق بين السنة والشيعة. يصوغها بصيغة نقد وكأنه غريب لا يعرف أن الشيعة من سكان العراق. ومن سكناهم أهم مدينة تجاور لواء الرمادي، هي كربلاء. أحيانا يعبر عنا بقوله أهالي الجنوب، وقد وجه إليّ مرة أسخف وأقبح سؤال. قال: هل صحيح إن أهل الجنوب يقولون (إذا طال عليك السفر جاز لك نكح الذكر). قلت، أني استنكر أن يكون مثلك وأنت تربي جيلا أن تتقبل مثل هذا عن أناس يشاركونك كمسلم في أن محمد نبيهم والقرآن كتابهم!. وأسئلة كثيرة عن -التربة- التي يسجد عليها الشيعة عند السجود في الصلاة. وعن المآتم الحسينية وما يقوم به الشيعة -الجماهير طبعاً- أيام شهر محرم، من كدم الصدور، وضرب الرؤوس بالسيوف. قلت تماما، ولكني شهدت ما يشبه هذا هنا مما يسمى -الدرابشه- وتجولهم في الشوارع بما يشبه رقص المجانين، والمُدى في أسفل بطونهم من جهة أعلى الفخذين؟ يا أخي أن العوام الجهال يعملون كثيراً مما يتنافى مع الدين الحنيف، ومرد هذا إن رجال الدين يغضون الطرف عن هذه البدع. وهذه البدع انتقلت إليهم من تركيا عن الفئة المسماة -النقشبندية- وطورها رواد المنافع والمطامح والمظاهر. وأستطيع أن أقدم لك رسائل لبعض علماء الشيعة وشجبهم لها. رسالة التنزيه للسيد محسن الأمين العاملي، والسيد مهدي البصري، وفتاوى من العلماء أولهم السيد أبو الحسن الموسوي. ولكن فاعليها لا يخشون إلا القوة.
ليس هذا الطاهر وحده يفتح معي مثل هذه الأحاديث الخرقاء، وعن بعض المفاهيم في قضية الصلاة والوضوء وإلى مفاهيم مغلوطة لا أساس لها. مثلاً: إن الشيعة يجيزون إتيان الزوجة من -الدبر- لاعتبار وتوجيه مضمون الآية (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم) كنت أرد هذه الاتهامات والمفاهيم المغلوطة، مع إنا نعيش في عصر الذرة، وسفن الفضاء الخارجي. وانفعلت مرة، فقلت: يا أخوان أمري بينكم غريب. فانا مفصول من الوظيفة بتهمة شيوعي، وحين أعادوني إلى الوظيفة أصروا على تعييني هنا كأبعاد لي عن البلد الذي ولدت ونشأت فيه. بينما انتم اعتبرتموني، وكأني مرسل إليكم من لدن الزعيم الديني السيد محسن الحكيم!؟
أليس من اكبر العيوب أن أبناء وطن واحد -هو العراق- لا يفهم بعضهم بعضاً وفي هذا العصر بالذات، والذي تحدى أبناؤه خصوصاً -الشباب- كثير من الأمور الأساسية في الدين الإسلامي، وقد حرمها وبالغ في أمر استنكارها، الخمر، القمار، مطاردة النساء!؟ أنا يا صاحبي لست متديناً من ناحية التعبديات، ولكني أشجب ما شجبه الدين، واستنكر الفحشاء، والشحناء باسم الخلافات المذهبية، التي اعتبرها سببا هاماً في تأخر المسلمين والعرب خاصة.
والأغرب من صاحبي طاهر فتى يدعى "إسماعيل الشيخ سعيد القيسي"  يحتل مركزاً حزبياً مرموقاً، وبوظيفة رئيس ملاحظي المحافظة. أما أبوه فرجل دين وإمام جامع. ورغم انه عاش كما قال -مع والده في الحلة- بين مجتمع شيعي. ولابد انه شهد ما يقيمون من مآتم أيام محرم وصفر. فقد ناقشني عن مجيء الحسين إلى العراق مع عدد يسير من أصحابه وأخوته وأبنائه، متحديا سلطان خليفة المسلمين في زمانه يزيد بن معاوية، ثم عقب -ألا ترى ذلك- زعططة!؟ أصابتني -بهتة- واستمر، انه لجهل أن يقاوم الجيوش الضخمة بمؤيديه المعدودين؟
قلت، وأنا منفعل: أرجو أن تصغي إليّ وبدون انزعاج. أنت فعلا مناضل تحت راية حزب البعث العربي الاشتراكي. أرجو أن تتصور جديا انك في عهد عبد الكريم قاسم. رجاء أغمض عينيك وتصور نفسك بين يدي جلاديه، وبأيديهم عصي الخيزران، ووسائل التعذيب متنوعة، وخيروك بين البراءة من حزبك، وكشف هويتك وهويات من تعمل معهم، أو يجلدونك جلداً، رجاءً تصور هذا بجدية وأنت مغمض العينين، ثم قل رأيك.
فعل هذا. بعد دقيقتين، قال: لا، لا. ضحكت ضحكة طويلة، وقلت: والله ما تصورت الواقع. ومع ذلك أقول لك. إذا كنت تدعي هذه الصلابة وهذا الصمود، فما بالك لا تتصور موقف الحسين، الذي وعى أيام جده وقد قاوم قريشاً وسائر العرب وفي مقدمتهم أبو سفيان و أبو جهل وقد حاولوا أن يغروه بالمال فما قدروا وحاربوه بشتى الأساليب، وبكل قسوة فما هادن وما لان، ولا خامره خوف. ثم أدرك أباه علي بن أبي طالب على رأس المسلمين وهم عدد محدود يرمي نفسه في المهالك من اجل دعوة ابن عمه النبي محمد بينما يقف أبو سفيان في مقدمة زعماء الجاهلية على رأس عدد تجمع من عدة قبائل ليقتلوه في فراشه لكنهم وجدوا علياً، قد نام بفراشه لينجو هو مهاجراً مع صاحبه أبي بكر. علي على مثل هذه التضحية وهو يخرج بكل شجاعة لم يختش كل أولئك، فيصل المدينة يواصل الدعوة لكل العرب. أضف إلى هذا الذي وعى الحسين كثيراً منه، أن الحسين نشأ كأي عربي، على مثل عربية أصيلة وإسلامية تلقاها من جده وأبيه، كيف تكون أنت إذن أكثر صلابة منه واثبت منه على العقيدة؟
إن المثل الذي ضربه الحسين بثباته وتضحيته مازال خالداً، وصيحته بجيوش يزيد (هيهات لا أعطي بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد) كم هي عظيمة هذه الكلمة، إنها مثل رائع في الثبات والصمود. ومات يزيد واندثر، وظل الحسين حياً، وسيبقى حيا مدى التأريخ.
صمت صاحبي، ثم عرض علي انه يود أن يأتي إلى كربلاء ليشاهد -موكب عزاء العباسية-. فهمت ما يهدف إليه. إن هذا الموكب تجمع شبابي، سياسي أكثر منه ديني. وأبديت ترحيبا به وبمن سيصحبه، وتوجهت إلى كربلاء. فجاؤا بعد يوم ليلة العاشر من محرم، قمت بضيافتهم وجاء معهم موظف من الرمادي يقيم في كربلاء.
قال احد جماعته ويدعى أبو سفيان: رجاء لا تناديني أبا سفيان، فيقتلني الكربلائيون. قالها بجد. فأجبته: سأريك أن في كربلاء -الشيعة- من اسمه عثمان وعمر ومروان وفي غير كربلاء، الناصرية، البصرة وسوق الشيوخ مثل هذا أيضاً
المعلمون في هذه المدرسة طيبون متعاونون تعاطف اغلبهم معي، وساعدوني. أتذكر منهم نعمان ثابت وشهامته، ووسمي وأريحيته، وحسين علي المطلق، وعطا الله، شهاب كلهم مرح وأريحية. أما المدير الجديد مهدي حماد وقد جاملني أول الأمر مجاملة تشف عن حقيقته، حدثني حديثاً لا أساس له. فهمت منه انه يعتقد إنّا أعاجم. فأفهمته الصواب بهدوء كما تحدث بهدوء ليفهمني انه مترسل. سبق أن تبادل المعلمون شرح حياته وما وصموه به من سمعة -غلامية- شهر بها فعوقب. ثم صار يتشدد ضدي إن رمت مراجعة الطبيب. ويوم حال المطر المدرار، فصار الشارع الموصل إلى المدرسة كأنه نهر يزخر بالماء فتأخرت ساعة، وسارع يكتب عن تأخري، فناصرني الزملاء. دعاني سلوكه هذا أن لا اترك مناسبة تمر، صلاة الظهر مثلا إذ ينصرف الجميع للصلاة حتى حين الدرس، فيكون إماماً لهم، فأعلق تعليقات -مداعبا- لو أممتم وراء وسمي لوجدتم متعة بقده الأهيف، وعجيزته المكورة؟ ويشارك الزملاء بالشرح والتفصيل بالنكتة!
أهالي الرمادي على العموم طيبون مع الغريب. لقيت منهم احتراما وانسجاما ومساعدة حتى من غير المعلمين. شيء واحد وجدت فيهم. إنهم يجهلون الشيعة جهلا فظيعاً، ويعتقدون أن خدم العتبات المقدسة إيرانيين للعمائم الخضر التي يلبسونها. فقال لي واحد من المعلمين لماذا لا تعيدونهم إلى قطرهم. قلت: وما قطرهم؟ أجاب: أليسوا إيرانيين. قلت: إنهم عرب وحكيت له عن نسبهم وان اللون الأخضر عرف منذ أيام العباسيين. أما سلوكهم وتقاليدهم ومثلهم فهي اقرب إلى البداوة والعشائرية، حتى الذين في وظائف عالية. فحين اشتد فيضان الفرات مهددا مركز المحافظة بالغرق بالفيضان. وقررت لجنة لاتخاذ إجراء لإنقاذها هو فتح -كسرة- هدد احد أعضاء اللجنة وانسحب وحرض عشيرته أن تقف شاهرة السلاح. كان هذا عسكريا، وفعلا كان رجال عشيرته قد تأهبوا بسلاحهم. وأطلقوا الرصاص فكادت واحدة أن تصيب مدير الشرطة -احد الأعضاء- مع العلم إن الحكومة ستعوضهم عن تلف الحاصل. إن الغالبية فقراء واعتمادهم في الغذاء على البقول، وسعر اللحم هم مثلما هو في سائر العراق لكن القصاب يرفض أن يبيع اقل من نصف كيلو؟ أما النظافة في الشوارع والأسواق فمعدومة.
تعرفت على عدد كثير من شبابهم، ومن موظفي الدوائر، لكني لم أجرأ على زيارة المدن، وأنا أهوى التجوال والتعرف على مدن بلادي، ولكن من يثبت حسن نيتي لدى شرطة الأمن، وأنا في قاموسها من المشبوهين!؟ على أن من كسبت ودهم مدير شرطة الآليات، ومفوض الأمن عبد الجليل -شطري-. في بداية الأمر أقمت في فندق، وتعرفت على شابين، اسم احدهما ناهض السامرائي، والثاني من الأعظمية. وحين انتقلا إلى شقة من ممتلكات الإدارة المحلية دعوني للإقامة معهم، طبعا هذا يخفف من بدل إيجارها عليهم وعليّ. انسجمنا فترة من الزمن متعاونين في كل الشؤون، إعداد الطعام والنظافة. وقد ارتاحوا كثيرا حين تذوقوا أنواع الادام على الطريقة النجفية، وتعددها كالسبزي والقيمة و المسمى، وكانوا لا يحسنون غير تشريب على دجاج، أو الرز مطبقاً؟ لكن زميلهم -ولتر- وهو مسيحي من البصرة وموظف حسابات في مصلحة نقل الركاب وللسمعة التي تلاحقني، أدركه جبن، فراح يحرضهم على ضرورة مصارحتي بعدم رغبته بإقامتي معهم  ذلك لأن عقد الإيجار باسمه! وقد رفضوا رأيه. لكني حين علمت سارعت باستيجار شقة مستقلة، وسرعان ما شاركني فيها طبيب بيطري مسيحي، وموظف في قلم الشرطة، وموظف صحي. وانتظمنا في حياة ناعمة، ندبر أمر الغذاء والنظافة بتعاون خال من الجبن والأنانية، والتفاهة.
وأخيرا سئمت مدرسة الرشيد الابتدائية. بسبب من عجرفة ولؤم مديرها مهدي حماد، وحصلت صدفة لم تكن على بال. معلم من أهالي الرمادي يدعى عبد المجيد حميد مكي في مدرسة المحقق في الحلة، وتم بيننا تبادل. وغادرت الرمادي. كانت علاقتي مع بعض المعلمين طيبة للغاية. كانوا مثلاً رائعا في رقة عواطفهم، وطيبتهم.
حين راجعت مديرية تربية بابل، اصطدمت بعجرفة مدير التربية جابر الدوري، الذي هيأ تعييني في قرية، قبل وصولي!؟ كان جافاً متعجرفاً. حين واجهته، بان العادة جرت إذا تبادل اثنان بما اصطلح عليه المعلمون -بجايش- أن يحل كل واحد محل الأخر. ولقد باشرت مضطرا إزاء عجرفته. صاح ذات مرة بوجهي: أنا أعين مثلك في المدينة واترك في القرية من ساند الثورة مجازفا بحياته!؟. لم أجد الوقت مناسبا لمناقشته. لكنني نبهته: إني معلم خدم التعليم ستة وعشرين عاماً، وخدمت في القرى أربع سنين! هكذا ذهبت أقاسي أمر المباشرة في مدرسة قروية بين كربلاء والهندية، تدعى -الدجينية- في مسافة ليست هينة بين النخيل. وقيل لي: إن حل موسم المطر، تعذر وصول السيارات إليها. كانت صفوف الدراسة، والإدارة من -الصرائف- جذوع النخيل والبواري. كان معلموها شبابا طيبين للغاية. وأبناء القرية هم دائما أكثر أدبا وطاعة وإقبال على التعليم، غير أن المعتقدات الباطلة تعشعش في رؤوسهم. حين حاولت التعرف على أسمائهم، وسألت أحدهم عن اسمه واسم أبيه، تنافس عدد منهم ليوضحوا لي: هو ابن السيد واوي جده حين عاش ابن آوى في مزرعة الخضار العائدة له صار الواوي -يخْرَه جير!-. فعلقت وأنا أضحكك فليتاجر السيد ببيع الجير، وتشتريه الدولة لتبليط الشوارع؟ ومهما يكن من أمر فان الدراسة بشكل عام ليست على ما يرام، خصوصاً في موسم المطر الذي يعاني فيه المعلم الويل، ويتعرض للأمراض -روماتزم، نزلات صدرية- وغير ذلك.
كان المعلمون يشربون الماء من -الحباب- التي يملؤها الفراش من النهر! هذا النهر ينقطع عنه الماء عادة أسبوعا، أسبوع يأتي الماء للنهر وأسبوع ينقطع ويسمون هذه الحالة –رشن-. فيكون ملء الحباب من حفر في النهر، أي إننا نشارك أو تشاركنا على الأصح الأبقار، والكلاب، مضافاً إلى أن القرويات أيضاً يغسلن بتلك الحفر الملابس بما فيها من أقذار صغارهن. فرفضت حتى شرب الشاي الذي اعتاد إعداده الفراش للمعلمين، واتفقنا أخيراً أن يجلب المعلمون الذين هم من سكان قضاء الهندية ترمساً فيه ماء نقي للشرب.
زار الطبيب عبد المطلب الهاشمي المدرسة. دخل الصف الذي أنا فيه، وطلب أن الفت نظر الطلبة لمحاضرة صحية يلقيها عليهم، كانت فيما يخص الماء. وان النساء يغسلن فيه الملابس بقذارتهن. عارضت الطبيب، وشرحت له ماذا يجب. قلت: هذا النهر ينتهي قريباً من حدود أراضي كربلاء. هناك أصحاب الجاموس، والجاموس بما عليه من جراثيم يسبح في هذا النهر، الكلاب أيضاً تشرب وتتبول. إشارتكم أنكم ترمون مادة لقتل الجراثيم غير مجدية، إذا علمتم ما ذكر، مضافاً إلى أن النهر يمتلئ  ويجف مناوبةً. والحل الصحيح يا سيدي أن يتم تعاون من عدة دوائر هي الصحة، والري، والزراعة، والجمعيات الفلاحية، لإرشاد الفلاحين عن الصحة العامة ووجوب ربط الكلاب نهاراً، ومنع الحيوانات من النهر، وتأسيس خزان ماء كبير يتوسط عدة قرى متقاربة ومدها بأنابيب الماء للشرب ... أما ما ترمونه من معقمات وسموم ضد الجراثيم فهو عمل بلا جدوى. عدل الطبيب من محاضرته، وأجاب: هذا عين الصواب. وخرج شاكراً!؟
في المدرسة فتيات مع الطلاب، هن أكثر من إخوانهن اجتهاداً، والتزاماً. وهم بالنسبة لأبناء المدن أكثر التزاماً بالأدب والطاعة، واشد اهتماماً بالواجب. بينهم سذج من أغرب ما رأيت في حياتي، قد لا يصدق أحداً، أني سألت فتى يبدو عليه السكون والإصغاء في درس الدين: ما معنى الرحمن؟ أجاب على الفور: سمكة ..!؟ نقلت جوابه هذا وأنا اضحك، أيمكن أن يكون من في مثل سنه وهو في الصف الخامس ولا يفهم هذا؟ استدعاه أحد زملائي، وقال له: ولك ليش قتلت الحسين؟ والشرطة ألان يسألون عنك! أخذ المسكين يبكي ويتوسل: لا والله استاد موش آني، ثم فرّ هارباً من المدرسة! وجاؤا به، فوضع احد المعلمين بجيبه ديناراً. فصار يرتعد ويبكي ويتوسل بالمعلم أن يسحبه من جيبه! ومعظم التلاميذ إذا اقسم، فقسمه بـ -الله، وعلي، والسيد؟- لا اعتقد أن قرية تخلو من -سيد- أي نسبة إلى الإمام علي وأبنائه. وربما تجد قرى متجاورة فيها أبناء لأب علوي توزعوا على تلك القرى فهم يقسمون بحياته وجده، ويعيش بينهم مكرماً.
والمرأة هنا؟ في الثلاثينات عشت معلماً في قرى كثيرة، منها ما أقمت فيها سنتين، ومنها شهور معدودة. وأنا اندمج مع الكثيرين منهم. ولم يفتني أن ألاحظ وضع المرأة الريفية، ومكانتها في مجتمعها، فنساء رئيس القرية وأسرتهم مكرمة، لكن الفلاحين والفقراء يقولون عنهن حين تذكر -تكرم-. فمكانتها تختلف باختلاف مكانة رجالها والطبقة التي ينتمون إليها، الشيوخ، السراكيل، الفلاحين وهؤلاء أيضا تختلف مكانتهم إن كانوا فلاحين لهم أرضهم باعتبارهم من نفس العشيرة التي يساكنوها، أما إذا كانوا ممن يتنقل مؤجرا قواه، فهو مسحوق مستغل مُهان أحيانا.
هنا لا ادري إذا كانت المرأة كالأمس ترزح تحت قيود ظالمة، أم أن ثورة  تموز14 و 17 قد حطمت بعض قيودها؟ على إنها منذ القدم غير ملتزمة بحجاب الوجه، ذلك لأنها عضد الرجل في كل الأعمال في البيت والأرض وسائر أمور الفلاحة، وكثيرا ما تقصد أسواق المدينة لبيع بعض المنتجات وشراء ما يلزم للعائلة، وبعد أن وصلت وسائل النقل الحديثة -السيارة- بدلت كثيرا من أخلاق القرويات، وعندما لا توجد في القرية غير مدرسة للذكور فان بعض القرويين ادخل ابنته فيها جنباً إلى جنب مع الطلبة. وقد وجدتهن احرص على الدرس والتحصيل من زميلهن الطالب.
وزار المعلمون السيد بمناسبة إقامة مجلس مأتم الحسين. واعتلى المنبر شيخ فكان حديثه كله عن السيد والكرامات التي ظهرت له. منها إن احد القرويين، نذر ابنة له منذ الطفولة فلما شبت أنكر ذلك ورفضه. فابتليت البنت بالخرس والجنون. فلم ير أبوها بدا من الاعتراف بخطأه. فقدم عذره وتزوجها ابنه الواوي!؟ ويحرص هؤلاء أن يدفن في القرية التي يعيش فيها. فيبني أولاده -قبة- ويتوارث هذا الالتزام الأحفاد ، فيقصده القرويون، ويطلبون منه -المراد- ويقدمون الشموع، ويطلون القبر بالحناء، ويشيعون عنه كرامات ومعاجز أكثر مما كان يشاع عنه وهو حي. ومن إيمانهم التي نسمعها -وحك السيد ....- ويتهيبون حين ينشب بينهم خلاف ونزاع على حق أن يقصد القبر، فيؤدي اليمين كاذباً.
هذه الوثنية ستنقرض، وان غضت الجهات المسؤولة النظر عنها. والأجدر بها أن تمنع على الأقل تشييد القباب على قبور من يموت منهم في أيامنا هذه.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏06‏/09‏/2011

82
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 20
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)




الأرجوحة
الدول الاستعمارية ذات الشأن -أمريكة، بريطانيا، فرنسا- يقوم الحكم فيها على أسس ديمقراطية. نقول ديمقراطية هنا، ونقصد الديمقراطية المحددة عندهم بحدود معينة من أجل مصالح الطبقة العليا -الرأسمالية- بينما تسمح بالتنافس الحر في الانتخابات البرلمانية، وحرية النقد.
وعندنا -في العهد الملكي- كان الزمام بيد وكيل الاستعمار الأوحد -نوري السعيد- وقد رتب الأمور فيما يخص تأليف الوزارات، أو انتخابات مجلس النواب -فتسقط أو تحل- وزارة وتتألف وزارة، وكأنها فعلا تألفت. واسند إليها الأمر لكفاءة في الرئيس الذي يختاره المقام العالي -الملك- وهو بدوره يختار زملاء له، عرف إنهم من ركبه الخاص، أو أن وزارته -كما يصطلح إذ ذاك أيضاً- حيادية، مع إن الناس يعلمون ويشيرون في كثير من الأحيان إلى شخصية -فلان، أو فلان- انه من ركب السعيد. ورغم أن شخصيات لها وزنها مثل المدفعي و صالح جبر فإنهم في الحقيقة يعلمون أن العراقيين يعلمون جيداً، إنهم غير بعيدين، عن السلسلة التي تربطهم جميعاً باتجاه واحد، ومفاهيم واحدة. صالح جبر كان من أعضاء حزب الدستور الذي يرأسه نوري السعيد، ثم استقل بحزب سماه "حزب الأمة الاشتراكي" والرجل ربما قصد اشتراكية إقطاع فمعظم أعضائه من هذه الطبقة وقد ورطه نوري بمعاهدة بورتسموث التي أفشلها الشعب.
ومهما يكن من أمر فان كل ذلك مرتب ومعلوم لدى الخاص والعام. بحيث يستطيع كثير من الناس إذا حُلت وزارة أن يتكهن بمن سيخلفها. أما العميد الأكبر نوري، فهو يتخلى عن الحكم في ظرف معين حين تكون الحاجة ماسة لطبخة مشروع وإعداده. والناس يعلمون كيف يختار -هو لا غيره- من يعهد إليه تأليف الوزارة الجديدة. فربما أختار طموحا للبروز والمنافسة الشخصية، لا لأنه كفوء، بل ليوقعه في مأزق، كما حدث لصالح جبر لعقد معاهدة بورتسموث، وكان ما كان من أمره.
وحسب شعبنا إن أمرنا نحن العراقيين، قد تبدل بعد إشراقة ثورة 14 تموز عام 1958. وان التبدل سيستمر من الحسن إلى الأحسن.لكن انفراط عقد جبهة الاتحاد الوطني، وطموحات بعض الفئات، برغبة الاستئثار أو تكون لها حصة الأسد، وانعدام الأسس الديمقراطية، وعدم إفساح المجال لتأليف الأحزاب التي شاركت بجبهة الاتحاد الوطني، وغرام قاسم بالحكم ومن أجل الحكم فقط، بحيث أصبح شغله الشاغل كيف يضرب فئة بفئة، وكيف يُصَعِد انفعالات بعضها ضد بعض، غافلاً إن اللهب الذي يبدأ بعود ثقاب قد يؤدي إلى حريق هائل ومدمر. وهذا ما حصل في النهاية في ردة 8 شباط 1963 الدموية.
إن عشاق الحكم بدءاً من عبد السلام إلى كل الآخرين، ممن تسلم كرسي رئاسة الوزارة، وهم معدودون، طاهر يحيى، عبد الرزاق عارف، ألبزاز، ناجي طالب، ولا ننس إن طاهر يحيى والبزاز هما أكثر الآخرين في إحراز ثقة الرئيسين الأخوين -عبد السلام وعبد الرحمن- بينما يبدو وهذا مؤكد، إن عبد الرزاق عارف، كان طموحاً لرئاسة الجمهورية، وفعلا قام بحركة فاشلة.
خلال جمهوريتي -بني عارف- كانت الوزارات أرجوحة، يمتطيها بعضهم، ولكنها تهتز بهم اتوماتيكياً هزة عنيفة، فيأخذه دوار وينزل عنها لأخر، بإشارة خفيفة! طاهر يحيى لم تخف فجاجته على أحد. ولكنه كما بدا رجل لم يفكر بثورة أو العصيان، فبدا مخلصا للبيت العارفي، وهو الذي أخمد حركة عبد الرزاق عارف، أو نبه إليها.
أما الأستاذ الحقوقي والقانوني الكبير عبد الرحمن البزاز صاحب ومبدع -الاشتراكية الرشيدة- فرغم انه استوزر مرتين فانه لم يوفق لشرح اشتراكيته تلك، واسمها واحد من أسماء كثيرة للاشتراكية ابتدعت لتنافس اشتراكية الاتحاد السوفيتي، رغم انه ولع بترديد الكلمة الموضة -القومية العربية- كذلك لم يدر أحد عن فلسفته القومية (في كراس بقلم الدكتور مكرم سعيد حنوش إن الرئيس الأمريكي أيزنهاور قال في مشروعه الذي تقدم به إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13/8/1958 قوله: إننا نؤيد القومية العربية بشرط أن تكون أهدافها عربية! ومجلة نيوستيتسمال في عددها الصادر 3/1/1959 علقت: إلا أن قيام الرئيس جمال باتخاذ مقاومة الشيوعية شعارا له قد أعاده إلى ما كان يتمتع به من عطف أمريكة وتأييدها وعاد إلى الوضع الذي سار عليه حتى شهر تموز 1956 قبل تأميم قناة السويس). ونحن نعرف وهذا أيضا ما كتبه الدكتور مكرم سعيد حنوش في كراسه (إن هذه الدعوة بالرغم من الإطار الخلاب الذي تتستر به ليست في صالح الشعوب العربية وإنما تمثل مصالح طبقة واحدة هي طبقة البرجوازية الكبيرة، التي وان كانت تتعارض مصالحها مع الاستعمار في مرحلة معينة، غير أنها تنساق في النهاية -كما هو شأنها في جميع أقطار العالم- إلى التعاون ضد المصالح الحقيقية للشعب!. وقد أثبتت الحوادث الأخيرة في الجمهورية العربية المتحدة حتمية هذا الانسياق والتلاقي بين البرجوازية والاستعمار العالمي، والسبب في ذلك هو أن المصالح الاقتصادية والسياسية لهذه الطبقة تزداد تباينا بمرور الزمن عن مصالح الطبقات الشعبية)
مهما يكن من أمر إن الأرجوحة تقطعت حبالها بعد أن ارتمى آخر من امتطاها ، ولم ينج غير الرئيس عارف إذ اكتفي بخروجه إلى لندن أيضاً، بينما صودرت أموالهم المنقولة وغير المنقولة، حين حدث انقلاب 17 تموز 1968.
لا غرابة إن أرجوحة السياسة أشد وأصعب من ركوب الحصان الجموح للذين ما كانوا حقيقة من الفرسان. ولكن أليس من الحق أن لا اختم الحديث عن الحكم العارفي وهو في أواخر أيامه. ففي الفترة الوجيزة من منتصف كانون الثاني لعام 68 حتى اليوم الـ 13 من حزيران لهذا العام، حدثت أمور قد يحسب البعض إنها اعتيادية، لكنها تدل على التدهور وضياع المسؤولية، أو عدم الاكتراث. ولا أخطئ إن قلت، عدم القدرة على مسك الزمام؟
فقد كان طلاب الكليات مضربين عن الدراسة، ونقل أن اعتداء حصل على كلية التربية، فقتل ثلاثة من الطلبة، و20 كانوا جرحى. لذا استقال ستة وزراء، ولم يذكر سبب استقالتهم. وساندت بقية الكليات كلية التربية في إضرابها. وقد أصدر رئيس الوزراء بيانا أعلن استياءه من الاعتداء، على حرمة الجامعة، والتحقيق جار!؟
وأعلن راديو بغداد في 13/6 أن وزارة التربية ستغلق دور المعلمين والمعاهد، وستعين خريجي الكليات في المدارس الابتدائية عند اللزوم، هذا طبعا أيضا من أشياء رئيس الوزراء، وهو طبقا لمقولة اليهودي (أرقع من هون وينفتق من هون).
وحدثت موجة برد شديدة، زاد معها طبعا برود مزاج الحكم. في 19/3/68 هطلت أمطار غزيرة. فأعلن راديو بغداد نداء إلى موظفي ومستخدمي أمانة العاصمة بالحضور إلى مقر مديرية الإطفاء بسبب غزارة الأمطار التي عطلت الطرق، وأوقفت الاتصالات الهاتفية والكهرباء.
وانحلت العقدة وجاء الفرج للحكم العارفي حين أذيع "بيان" عن قيام -ثورة- وطرد عبد الرحمن عارف. وصدر عن مجلس قيادة الثورة انتخاب احمد حسن البكر رئيساً للجمهورية .... ولننتظر الغد (وان غدا لناظره قريب).

ثورة/1
(أنا في الحياة كموجة في زاخر      أنا فيه إنْ يـزبــد وإن لم يـزبـد)
الناس يتساءلون عن "الثورة" ، مَن رجالها؟ ليتعرفوا على هويتها! أو يمكن في زماننا هذا الذي كثرت فيه الثورات والانقلابات، أن يستطيع احد ويعرف هويتها من رجالها؟ اعتقد إن هذا ممكن، ولكن ليس في بلادنا.
وأذيع قرار مصادرة الأملاك المنقولة وغير المنقولة، لعدة أشخاص، منهم فؤاد الركابي. أليس هذا الركابي من أوائل مؤسسي حزب البعث في العراق، وصار وزيرا في أول وزارة في ثورة 14 تموز عام 1958 عن حزب البعث العربي الاشتراكي!؟ وهو أيضا واضع خطة اغتيال عبد الكريم قاسم، فأصيب قاسم بيده، ومات عبد الوهاب الغريري؟ إنها مسألة تدعو للاستغراب!
وفي وقت متأخر من ليلة الجمعة 19/7 أذيع تشكيل الوزارة من عبد الرزاق النايف. وفي 23/7 أذيع قرار إلغاء سجن نقرة السلمان. ودهش الناس لنبأ أذيع مساء 30/7، إن رئيس الجمهورية أعلن إقصاء رئيس الوزراء عبد الرزاق النايف، ووزير الدفاع إبراهيم عبد الرحمن الداود، وفصلهما من مجلس قيادة الثورة، وإحالتهما على التقاعد، ووصفهما بالمرتشين وطلاب وجاهة!؟
قال احد المستمعين للنبأ: هذوله صح ينطبق عليهم المثل -عرس الجليلو- ليس بين تعيينهما وبين إقصائهما أكثر من اثني عشر يوماً، ترى أكانا منهومين إلى حد أن يسارعا خلال هذه الفترة الوجيزة إلى الرشوة؟
وجاءت الإنباء تشير إلى أن الدبابات تحرس مبنى الإذاعة والقصر الجمهوري. وأصدرت الحكومة بيانا عن إطلاق سراح المحتجزين السياسيين، والمحتجزات. تلاه بيان آخر رقم -35- مشيرا إلى أن الحكومة ستلتزم ببيان -29- حزيران كأساس لحل مشكلة الأكراد.
وتستمر الإذاعة في إذاعة بيانات متقاربة بالتأريخ. بيان بتأسيس جامعة السليمانية، وإرسال عدد مناسب إلى البعثات والكليات. وألغيت ضريبة مراجعة المؤسسات الصحية.  وقبيل الساعة -12- من ليلة البارحة صدر بيان بإطلاق سراح -300- سياسيا موقوفا. وصباح اليوم -5/8- بيان آخر بالعفو العام عن الموقوفين والمبعدين، وسجناء قضايا الشمال، وإعادتهما إلى وظائفهم.
وفي -7/8- نشرت جريدة الجمهورية، نداء من نقابة المعلمين المركزية: على جميع المعلمين المفصولين مراجعتها لإملاء الاستمارة الخاصة لتوحيدها وانجاز أمر إعادتهم. وأكدت الإذاعة هذا أيضا في 1/9. أما أنا ومن نشرت نشرة النقابة "أخبار المعلمين" أسماءهم في عددها الثاني الصادر في 3 مارس 1968 فأمر مبتوت فيه.
وفي نشرة الأخبار ليلا، أذيع بيان عن إعادة جميع المفصولين. وأشار إلى وجود لجنة من -الوزارات- مقرها الإدارة المحلية في الكرخ وعلى المفصولين تقديم طلباتهم. ويوم الخميس 12/9 حضر إلى القصر الجمهوري ما يقرب من -3000- مفصول كما قال المذيع. وخطب فيهم الرئيس البكر، وقال: إنهم سيلتحقون بوظائفهم في 1/10 وفي الختام حذر الذين يكدرون صفو العمل الوطني؟ وأشار إلى هذه الفرصة لن تتكرر ثانية إذا أسيئ استغلالها.
وأود أن أقول: إن كثير ممن سجنوا أو فصلوا تركوا العمل الحزبي. كما إن هناك الكثير ممن لم يكن أصلا من الحزبيين. بعضهم من يصدق عليه المثل -ينعقون مع كل ناعق- وبعضهم له تأييد للفكر التقدمي ويحب العمل السياسي. فمن هم الذين يمكن أن ينعتوا بتكدير صفو العمل الوطني!؟
أذيعت أيضا لائحة قانون استرداد حقوق المحكومين بسبب حوادث 18 تشرين الثاني 1963 التي تنص إن للموقوف المسحوب اليد -إذا أعيد إلى الوظيفة-  تحسب المدة التي تأخر فيها ترفيعه من مدة سحب يده، بينما إذا أعيد إلى الوظيفة بعد الإفراج عنه، أو براءته وغلق قضيته ، تحتسب لغرض الترفيع والعلاوة. لست افهم ما تهدف إليه -أو- هذه؟ فانا لم تجد قضيتي أي حلٍ، وكأن أي مادة قانونية كانت سابقا أو استحدثتها حكومة الثورة الجديدة لا تنطبق على قضيتي مطلقاً؟ إذ لم تحتسب لي مدة الفصل خدمة، ولم ينظر في أمر ترفيعي أيضاً!؟.
سفينة حياتي وقضية عودتي أخذت تتحرك لكن طبقا للمثل المشهور (تجري الرياح بما لا تشتهي السفن) فقد تسلمت من وزارة الداخلية أمر إعادتي للوظيفة في الرمادي!؟ وسلمته إلى متصرفية الرمادي، كذلك وعد مدير الشرطة عبد الرضا عوض بالمساعدة بان لا أكون بعيدا عن المركز. وتسلمت في 19/9 أمر التعيين من مديرية التربية، إلى مدرسة الورار. وكان مدير الشرطة عند وعده، فقد لقيني المرشح لمعاونية مدير التربية وعضو الهيأة الإدارية لنقابة المعلمين -عبد الرزاق جبير- واخبرني: انه سيصدر أمر نقلي إلى مدرسة الرشيد الابتدائية داخل مركز اللواء. وفي 16/10 تم هذا فعلا.
العالم المتقدم ماض في مسيرته العلمية، وفي سباق لغزو الفضاء الخارجي. فقد عادت سفينة الفضاء السوفيتية إلى الأرض. هي أول سفينة تدور حول القمر ثم تعاد إلى الأرض. الناس يعلقون: إن السوفيت سيصلون إلى القمر قبل الأمريكيين. وجاءت الأخبار، إن المركبة الفضائية الأمريكية، بعد أن دارت حول القمر عادت إلى الفضاء الخارجي متوجهة إلى الأرض. وقيل انه يخشى على ملاحيها من تمزق طبلة الإذن! لماذا؟
*               *               *               *
أعود إلى ما يدور على الأفواه والجرائد حول شؤون الوطن. الناس يتحدثون: إن مؤامرة يقودها عبد الرزاق عارف وان مقاومة حصلت من بعض أعوانه في 28/9. وحصلت أحداث بعضها غريب في حصوله. فقد اغتيل الدكتور عبد الرزاق مطلق، أستاذ جامعة الموصل. وقالوا والله اعلم: إن جرس البيت رن، فهب ليرى من الطارق، فأصيب بطلق ناري في جبهته. وتعددت الأقاويل والاتهامات على السن الناس. ثم اغتيل الدكتور ناصر الحاني وقد أذيع النبأ مساء الساعة السادسة بأنه وجد ملقى على ضفة القناة، قريبا من بيته. الدكتور المطلق اغتيل في 13/10 وهو محسوب على ملاك الشيوعيين. والدكتور الحاني في 12/11 وهو بعثي له مكانة. ويقال إن خلافا حدث بينه وبين رجال الحزب في الآونة الأخيرة. وقد كلف احد أعضاء الحزب من بابل بالاتصال به واصطحابه إلى الجهة الحزبية العليا للتفاهم وقام هذا بعد تعهد أخذه أن لا يحصل له أي مكروه. كان هذا قبيل الحادث جدا. وفي الصحف هذا التعليق الغريب (إن أباه وكان شرطي خيال وجد قتيلا قبل عشرين عاما بظروف غامضة، كذلك أخوه!؟). وتهامس الكثيرون في روايات متعددة متنوعة لها مساس بالسياسة. واغتيل معلم في بغداد، هو اخو داود الجنابي العسكري وهو من مؤيدي قاسم في ثورة 14 تموز 1958.
وأذيعت أنباء شتى منها: إن إسرائيل اشتبكت مع قواتنا. وعلى الأثر خرجت مظاهرات. وأذيع استجواب جواسيس ، اسم احدهم جعفر صادق الحاوي من البصرة، و عبد الهادي البيجاري محامي ونائب من جماعة نوري السعيد، وصاحب جريدة النبأ البصرية، والبزاز، والعقيلي.
ونوتة جديدة. أذيعت على شكل تمثيلية تشير إلى رأي مؤلفها: إن الخير في عدم توظيف المرأة، خاصة المتزوجات!؟ ترى على أي أساس تعرض هذه التمثيلية بإذاعة الدولة؟ لماذا لم تنشر كرأي في الصحافة؟ فالصحافة للآراء، أما الإذاعة فإنها تمثل الدولة وتشريعاتها!
وفي ختام هذا الفصل، أعود لأصور -الموجة- في بحر حياتنا التي استجدت اعتبارا من يوم 17 تموز 1968، فلقد باشرت في مدرسة الرشيد الابتدائية، مديرها رشيد خلف رجل محترم ومحنك، يكره القلاقل يمجها ويهرب منها. في هذه المدرسة 12 شعبة. وعهد إلي بتدريس العربية في الصفين الخامس والسادس. ولكن إشاعة ترددت، إن المدير سيقدم استقالته من الإدارة إذا فرض عليه معلم يدعى مهدي علي حماد ليكون المعاون الأهم له، بينما هو يمج هذا المعلم، بل انه يرفض أن يكون هذا معلما في مدرسته. وقد حدثني بعض المعلمين عن الأسباب. ولكن مدير المدرسة رشيد خلف ذا سياسة هادئة، لا هو العنيف ولا هو الخانع، لذا اختار الاستقالة من إدارة المدرسة. وأصر وألح أن تقبل استقالته ونقله أيضا من المدرسة أو أن يحال على التقاعد. وتم نقله موظفا في مديرية التربية ذاتها. كان شخصية محترمة، أحببته، ومال إليّ ولاحظت أن بعض زملائنا ممن كان يثني عليه، قد غمزه بعد أن انتقل عنا!؟

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏29‏/08‏/2011



83
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 19
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


في مهب الريح    
لدينا من أمثال العرب قولهم (الناس على دين ملوكهم) وحديث عن النبي العربي (ص) (كيفما تكونوا يولَ عليكم). لا أريد أن أناقش المثل والحديث ففي رأيي أنهما غير متناقضين. نحن العرب بدءاً من ساستنا، نناقض ما تستوجبه مصلحتنا الحقيقية، في مجالي الإصلاح الاجتماعي في الداخل وفي المجال السياسي عموماً.
ما من قائد من قادتنا، إلا وتجده بعد أن يحوز حماس الجماهير فيما يعلنه بخطبه الرنانة، التي يحمل بها على الاستعمار ومن ساعده من الحكام السابقين، ملوكا ورؤساء جمهوريات. هو يعتقد إن تصفيق الجماهير وهتافاتهم وحدها كافية، في حين يعرض عن الساسة الآخرين في أحزابهم الخاصة أو التابعين له في حزبه.
الحكومات السابقة كانت لا تسمح للعسكريين الانخراط في الأحزاب السياسية، لأن معظمها كانت ملكية. وتأويل ذلك في حسابها وتعليلها إن دخول الجيش في السياسة، يفتت القوة ويضعفها، فالجيش سياج الوطن. ونسوا إن كثير من حكوماتنا معروفة بولائها للدول الاستعمارية الكبرى. ولكن الجيوش في البلدان العربية، لم تعدم من الشعور الوطني فقد برزت انتفاضات من الجيوش بقيادة أفراد منها عرفوا بوطنيتهم، أو أفكارهم القومية -لا الشعبية- فهذا أندر من الكبريت الأحمر -كما يقول المثل- الجيش في الغالب يميل للفكر القومي، لأن هذه النعرة لا تقاومها الحكومات، بل ولا الاستعمار. إذ أن بعض الرجال في كل الحكومات العربية ينادي بهذا، ولكنه لا يتظاهر بأنه يستند إلى عسكريين. فالرئيس المهيمن، خصوصاً إذا كان من نوع نوري السعيد لا يتغاضى عن وجود من يعمل ضد حكمه في الجيش، ولن ننسى أحداث عام 1941.
هذه المقدمة الطويلة سقتها بمناسبة اجتماع القادة العرب. مصر بزعامة جمال عبد الناصر، وسورية، والأردن. ثم سرعان ما انتهى إليه أمر الدفاع المشترك، الذي عرفت بـ "نكسة حزيران" ولم تخف أسباب هذه النكسة. فأهم دول الاستعمار - أمريكة وبريطانية وفرنسا- متمسكة بالتزامها لإسرائيل، وقد ساندنها فعلاً. والحر تكفيه الإشارة، إذا قلنا أن كل واحد منا يعلم، كيف يعرض في كل قضاياهم عن هيأة الأمم ومجلس الأمن، ويتجهون إلى تلك بصفتها الشخصية. ذلك لأنهم لو توجهوا إلى الأمم المتحدة بصدق لوجدوا من يساندهم من رجال الشعوب المتحررة الشرقية. ولكنهم يحذرون ذلك، كما عبر شاعرنا الجواهري:
فخـوفـــــوهــا بدب ســـوف يأكلهــا      في حين سبعون عاما تألف السباعا
حين حدثت نكسة حزيران، ضاق صدري وخرجت للتمشي  صباحا، وجدت البلد وكأن ظلاماً هندسا يلفها، فالشوارع خالية  إلا من أفراد قلائل يمشون وكأنهم ينتظرون حدثاً مخيفاً. لقيني معمم يدعى الشيخ عبد علي الساعدي يعرفني ولم اعرف اسمه. لكني أعرف عنه تبع الحزب الشيوعي فترة من حياته ثم انظم إلى حزب قومي أيام ثورة 14 تموز. بادرني بلهجة جافة بقوله: أرأيت موقف جماعتك؟ وخيانتهم لمن اعتمد عليهم؟. بدهشة، قلت: من تعني جماعتك؟
- الحمر!
- أمرك عجيب يا أخي. أنا مالي في سياسة بلدي رأي. فكيف عن الآخرين!؟. وبضجر أفلت لساني فذكرت له حكاية شابين عرفا بالفجاجة، أو ما يعبر عنها العامة بقولهم -فطر-. احدهم تزوج بمساعدة الثاني وهو يبدو أنضج من العريس. لم يتمكن العريس من الزوجة، إنها ترفض، كلما دنا منها ركلته برجلها، استغاث بأخيه. الذي كان ينتظره بضجر على باب غرفته. فلم يجد بداً من إخراجه وتقدم هو إليها، وبعنجهية لفها لفاً، ولما انتهى كل شيء، هتف زوجها من خارج الباب، عبالج آني؟ هذا أخويَ حسن!؟ وأنهيت كلمتي، يا أخي إذا لم تكونوا ذوي قدرة فلا تنتظروا "حسن" ذلك خزي وعار.
ومع ذلك فقد بادر الاتحاد السوفيتي وبعض الدول الاشتراكية وبواسطة مجلس الأمن، فوجه إنذارا للدول التي شاركت إسرائيل بوقف القتال والعودة إلى خط الهدنة. وقطع الاتحاد السوفيتي علاقته بإسرائيل؟
واستقال جمال عبد الناصر. وخرجت مصر كلها متظاهرة، رافضة استقالته. الحق إن جمال مع كونه قضى فترة حكمه بالتجارب في تسمية واتجاه مسيرته السياسية، فانه بين حكام وزعماء العرب خيرهم، وان هو أيضا احتكر الحكم. وكانت النكسة له صدمة. فهو وزن متفوق على بقية زعماء الحكومات العربية المتحررة، إذا صح إنها كذلك. فمع العلاقة بالدول الاستعمارية العملاقة وفي مقدمتها أمريكة، لا يمكن أن يتمكن أي زعيم على تحرير بلاده كما يجب. من توخى التحرر التام، فليبعد هؤلاء حتى لو أضطر شعبه أن يعيش عيش الزاهدين.

رجال أحببتهم

ويلذ لي أن لا أنسى وأنا أدون ذكرياتي هذه أن أسجل شذرات عمن الفتهم والفوني في السجن وخارجه.
هاشم الطعان هذا زميلي وصديقي -هنا- هاشم الطعان المثقف، المطالع الدؤوب، والشاعر المبدع، ذو المعشر الرائع، آية في ذكائه، وهو راوية شعر حاضر البديهة، لولا حدة في مزاجه، بحيث يلتزم الجفاء لأي زميل لزلة خفيفة. فلا يعود لممازجته، بل مجالسته. أذكر أنه قد أعد قصيدة بمناسبة ليلقيها باحتفال أقمناه لكنه فاجأنا بعدوله عن ذلك، لأن المسؤول عن إدارة الحفل، وهو فنان كردي، عصبي المزاج وفيه شوفينية حتى أنه أحتج ذات مرة، كيف خصص لتمثيلية عربية يومان، ولتمثيلية كردية يوم واحد!؟ وعبثا حاولوا إقناعه، بأن السجناء العرب هنا أكثر عدداً، مضافاً إليهم من حضر من رؤساء الدوائر ومديرية السجن وشرطتهم.
يحيى ق. (يقول الكلمة وميخاف!) حقاً انه لا يخاف، وانه ليقول بجرأةٍ وشجاعة، بلهجة كأنها جمار متقدة. أعرفه منذ كان مديراً لمدرسة الغري الأهلية في النجف. وكان أخي -حسين- إذ ذاك تلميذا في هذه المدرسة. لم التق به إذ ذاك مطلقاً. لكني كنت اسمع من يتحدث عن سيرته واهتماماته الوطنية. وكانت هذه المدرسة أصلاً نبتة طيبةً، سعى لتأسيسها نخبة من الذين عرفوا بوطنيتهم، أمثال سعد جريو، والسيد حسين كمال الدين، وآخرين لا تحضرني أسماؤهم. كانوا ينتخبون لها معلمين مخلصين ووطنيين وان لم يكونوا من أعلى درجة في المعرفة. مع إني عرفت كثرين منهم، كانوا غير قاصرين في المادة العلمية التي يُسند إليهم تدريسها. أحيانا يجلبون أساتذة مصريين لإدارتها والتدريس. أتذكر منهم أن أحد مدرائها، حين باشرت أنا في القسم الليلي تلميذا، يدعى محمد علي ناصر ويدرس الانكليزية.
يحيى ق كان احد المحجوزين في سجن الحلة عام 1963 التقى به الصديق الأستاذ هاشم الطعان. دنا منه متهيباً، وكأنه يدنو من قديس. عرفه بنفسه. فهش الرجل وبش، وبحسرة وألم، وهو يمسك بيد هاشم، وقال: إننا نأسف يا ولدي إننا لم نحقق لكم كل ما طمحنا إليه من استقلال وحرية في هذا الوطن، ولكنا مع الأسف تركنا لكم وطناً متعباً!؟
كلمة رائعة، وصراحة شجاعة. غيره لم يستح أن يقول كلمات التبجح، فيدعي ما لم يكن. بعضهم يذكر متاعبه وجهاده -وهو مجاهد- لكنه يعزو الفشل إلى ناس هذا الوطن فقط وكأنه يجهل إن سماسرة الاستعمار الذين امسكوا بالزمام هم وراء كل فشل لخدمات المخلصين.
أحب أن أسجل موقفاً له في سجن الحلة ردهة 2. معاون شرطة موصلي كان يأتي إلى هذه الردهة ويصيح: كل موصلي منكم فليقف ويكون حاضراً وسأعود!؟ لكنه لا يعود ويبقى الموصليون واقفين إلا يحيى، فانه يستمر يلعب الشطرنج. تكررت لعبة هذا المعاون أياما. فنهض يحيى وصاح بصوت عالٍ: تعال منعول الوالدين، ما تريد من الموصليين، العن أبوك لا أبو الذي أرسلك، كلب حقير!؟ وجمد المعاون بمكانه وذهب من حيث أتى بصمت ولم يعد مرة أخرى.
هبة الدين الشهرستاني رجل أحببته وكنت أحترمه. وحين أجلس إليه، أو أجده في ديوان أتردد عليه، الزم الصمت متوجها لسماع حديثه بكل جوارحي. دعاه أبي مرة إلى بيته بعد أن زاره. وسألته: هل لما قيل أن السيد جمال الدين الأفغاني أقام في النجف مدة للدراسة، عند احد العلماء الذين عرف عنهم، إنهم متخصصون بعلم المصطلح عنه "العرفاني" أي عن الحقيقة المطلقة، أو -واجب الوجود-؟
فأجاب: هذا سمعناه بعد أن اشتهر اسم الأفغاني لا في حينه. قلت: وما رأيك فيه؟ أجاب: أولاء نفر وضعوا هذه -وأشار إلى عنقه- على هذه –وأشار إلى راحة يده-.
ثم لما انخرطت في سلك التعليم عام 1935 والتحقت بدورة للدراسة حيث عُهد تدريس منهاج خاص لعدد كبير من المعلمين -خريجين وغير خريجين- نخبة من الأساتذة المشهورين أمثال الدكتور فريد زين الدين. عيّن هبة الدين أيضا لتدريس وإلقاء محاضرات عن الدين الإسلامي، وقد استشهد في بعض محاضراته بقصيدة له عن واجب الوجود، ورصد جائزة لمن يحفظها عن ظهر غيب، وحفظتها (ذكرت هذا في "معلم في القرية" تحت موضوعة "الدرس الأول").
لن أتحدث عنه أكثر فالرجل أكبر من أن أكون أنا المتحدث عنه، وهو من عرف بجهاده من ناحية التأليف، والصحافة، وفضله مشهود له.
الشاعر صالح الجعفري  إنا من محبيه والمعجبين به، رغم إني لم أتتلمذ عليه، ولكني أحد أفراد الشلة التي لم ينفصل أعضاءها بعضهم عن بعض إلا نادراً. لن انسَ تلك المجالس التي كانت تضمنا والاجتماعات الخاصة في بيتنا أو بيت أحدنا. وكأنّا لم نكن ندري إذ ذاك إنا نمهد الطريق للأجيال الجديدة. صالح الجعفري شاعر -العصفورة- والقصائد الغرر ومن أبيات "العصفورة":
عصفورتي لا تعجبي واحتسي      من خمــرة الآلام صهبــاءهـا
حُــرِمت الــدنيــا على كل من      لم يحتمل بالصبــر ارزاءهــا
 حين أعلن المرحوم الأستاذ جعفر الخليلي انه يهيئ كراساً باسم "حبوب الاستقلال" للدكتور "روس" ويدعو الأدباء للمساهمة. أرسل إليه الجعفري هذين البيتين:
أكذا يقـــــــــال وربمــــــــا      كان الثقــــاة مخبـــرينــــــا
شــــلت يـمينـــــــــــــك إن      رفعت على المعاهدة اليمينا
وكان حينذاك يتوقع العراقيون تصديق المعاهدة التي جاء بها الملك فيصل عام 1930. ومن شعره الوطني "تحية لغاندي" ومنها هذه الأبيات:
قف في منى واهتـــــف      بمجتمع القبائل والوفــود
حجوا فلســتم بالغيــــن         بحجكم شــــرف الهنــود
حجــوا إلى اسـتقـلالهم         وحججتموا خوف الوعيد
وإطاعة الأحـــــــــرار    أفضل من طاعات العبيد
واغرب خاطرة ، كنت على وشك غفوة والساعة ميعاد نوم. وبدا لي وكأني في حفل تأبين أستاذي العزيز -الجعفري- وفعلا نظمت هذه الأبيات:
رزئتُ به وكم أتت الليــــــــالي      برزءٍ لا يقـــاوم بالنضـــــــــال
بذي الـرأي المثقف -جعفــريٍ-      عَــلا فأنــــار قمة كل عـــــــال
له النظـــر البعيــــد بكل أمــــرٍ      يُمحصــه فيمنحــــك اللئــــــالي
مجـــالســـــه رياض مولقــــات      أزهـارهـا أحـــاديث غــــــوالي
أبا النطق الفصيح عراك صمت      ولا عجب فذا شــــأن الليـــــالي
فقد غنى الذليـــل بصـــوت نُكرٍ      يمجـــد في غنــاه أبا رغـــــــالِ
الحديث عنه يطول. كان يرفض الأباطيل التي ساند بعضها رجال دين لهم شهرة ، منها موقفه من مواكب -التطبير والسلاسل- وقد أفتى أبرز شخصيات آل كاشف الغطاء الشيخ محمد حسين فتواه بحليتها. فتقدم الجعفري، وبكل جرأة ترجم فتوى لقريبه -الحُجة- فتوى سبقت هذه بسنين مطبوعة باللغة الفارسية ونشرها في كراسٍ لأحد المعارضين لتلك البدع، الكراس أصدره الشيخ محمد كنجي باسم "التنزيه". كذلك حين أفتى المرجع المعروف بـ "النائي" بحليتها. عمد الجعفري لترجمة كتاب لهذا المرجع باسم "هداية الأمم" كان يدعو فيه للتحرر الفكري وضد الحاكم الدكتاتوري. وكان هذا المرجع قد حرص أن لا يعلم أحد بهذا المؤلف، فقد غير رأيه، بعد أن أصبح مرجعا شهيراً. ولما نشر قسم منه في مجلة العرفان. طالب النائي الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء أن يتوسط الأمر لدى الجعفري فلا يستمر بالنشر ... مع هدية نقدية لا بأس بها. أما الجعفري فقد أخذ الهدية، ونشر قسماً آخر، اعتذر عن هذا حين وصل عدد العرفان، إن هذا كان لدى المجلة مع القسم الذي نشر قبل ذلك.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏22‏/08‏/2011


84
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 18
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


حتى متى وإلى متى   
   (لو كان سهما واحداً لاتقيته   ولكنه ســــهم وثـانٍ وثالث)
أجل والله، بالنسبة لي، هي أكثر من ثلاث، إنها سهام متواصلة، حياتي غير مريحة، ولكني أوبخ نفسي. إني أحبها، فأخاطبها: إن الصبر طيب، تحقيق المطالب الحياتية بالسعي مع الصبر مفخرة، ويجعل الحياة لذيذة.
توجهت في صباح 5/2/1967 إلى بعقوبة. هذا الصباح كثيف الضباب، ولكن لم يكن أشد كثافة من الضباب الذي أثاره ويثيره مدير أمن ديالى هاشم سليمان. وكأن له عليّ ترةً وثأراً قديماً. في طريقي إلى بغداد كان إلى جانبي رجل شيخ مكشد. كنت ملازما الصمت. لكن الشيخ كان يثرثر بقصة جميلة، أعجبتني، ورغم هذا بقيت ملازما الصمت.
السائق ذو الوجه الأرقش والجسد الضخم، والبطين كان يسوق السيارة بسرعة، وكأن عينيه تخترقان الضباب. لم ينبهه أحد، إلى أن في هذا خطر. وافقت على صدمة عنيفة، وقد تطاير زجاج السيارة الأمامي، فأدمى جباه بعض الركاب. وسكنت السيارة على سكة القطار. مازلت في دوامة أفكاري، وحسابي مع نفسي عما ينتظرني من متاعب. أخذ الركاب كلهم يصيحون: حرك ليش طَفيت، ملعون الوالدين ...!؟ وانتبهت إلى الخطر العظيم. جاء القطار يهدر. كم كان أمري مضحكاً حين رددت عليهم: يا ناس تردون صدمة ثانية، انتظروا العامل ليرفع العارضة. فقال أحدهم: أنت متشوف بيننا وبين القطار ما بقه شي؟! انتبهت للخطر .. وعبر السائق بالسيارة ومرّ القطار يهدر.
صرت أضحك من نفسي. لو أنه صدمنا لاسترحت من كل هذه المتاعب. ورحت أتصور، ماذا سيبقى من أجساد الركاب جميعاً. من المؤكد انه سيعصرنا عصراً بين حديد السيارة وعجلاته، فلا يبقى غير عظام مهشمة ودماء فقط ...
بعد أن مرّ القطار، عبرت السكة بقية السيارات، وسائقنا كان منشغلاً بجمع كسر الزجاج التي تناثرت عليه. نزل جماعة من سيارة خاصة، وانهالوا عليه لوما وتقريعا. كيف تمشي بتلك السرعة، مع صعوبة الرؤية من كثافة الضباب. وهنأونا بالسلامة، وركبوا سياراتهم. حين تحركت سيارتنا وقطعت مسافة  وجيزة وجدنا سيارة أولئك الطيبين أنفسهم قد ارتطمت بسيارة كبيرة، وقد تهدلت رؤوس بعضهم كأموات والدماء تغطي وجوههم. الكل يبدو كأنهم أموات. سارعنا إلى الشرطة. ولم يمهلنا سائقا البليد لنتعرف هل هم على قيد الحياة!
لقد أجريت كل الفحوص، وأنجزت عدم المحكومية. وراجعت مجلس الخدمة. وقد اُجبت (ينتظر الرد النهائي من دائرته) وراجعت الإدارة المحلية بالكتاب المرقم عندهم 1506 في 5/2/1967، وقصدت ديالى بعد أن زودت برقم وتأريخ كتاب أمن كربلاء. مدير أمن كربلاء كان شهما ومتفهم لمسؤوليته. كان معاون محافظ ديالى السيد سليم اطرقجي قد أرسل إليّ مع أحد معارفي أن أراجع أمن كربلاء. وكان مدير أمنها "عبد الرضا عوض" كان وقوراً. وعلمت أنه يحمل شهادة حقوق قانون مضافا إلى شهادة كلية الشرطة، شخصية وقورة، يصغي ويستوعب ثم يناقش. وأوصى أن أزود بجواب مدريته برقم كتابها 177 في 16/2/67. هو أيضا علق ولماذا يسميكم الوالد بأسماء متشابهة، هو محمد، وأنت علي، أخوك محمد علي!؟ قلت: حبه لمحمد (ص) وعلي دعاه إلى هذا، فما ذنبنا نحن!؟ لم يبق لهاشم سليمان عذر بعد، ففي 25/2/1967 زودت بكتاب رقم 923 وانتهى الشهر دون جدوى، لكنه أخيرا وافق اللجنة ودفع القرار إلى المتصرف منير فهمي الجراح، فكان الجراح أشد معارضٍ، يقول لهم: أنتم تعرفون من هم آل الشبيبي!؟ هؤلاء كلهم معارضة!
هنا قمت بحركة ومناورة. كتبت بيت الشعر التالي:
وعَدْتَ ووعد الحر دينٌ على الفتى      فأنجــز رعـاك الله خيــراً وأنصفِ
أقسم بالله لو قاله فيّ أحد لاعتبرت نفسي أضحوكة. كتبته في وريقة من كراس دعاية للساعاتي ناجي أبو رقيبة، وعلى صفحة منه صورة لنوع من الساعات عنده. قدمته للفراش ورجوته أن يوصله إليه. كان الفراش كلما رآني يبدي أسفه. أما مدير التربية جاسم عبد الحسين -والحق يقال- فقد ناصرني في هذه المرة أمام مدير الأمن، ثم مع المتصرف منير الجراح، حين أصر الأخير على دراسة الملف للمرة الرابعة. قال المدير يخاطبه: سمعتم بحادث السيارة وصاحبها معلم، والكارثة المؤلمة والمخجلة؟ هذا المعلم يستأجره بعضهم في سفرات لنزهة لُبها الفجور، وهو يستوفي منهم أجرة ويشاركهم العهر والفسوق. في عودتهم من الحبانية اصطدمت السيارة وهم في حال سكر شديد، فماتت العاهرة وابنتها الصغيرة وكانت ممرضة، وجميع الآخرين إلا هو. ومن المؤسف أن نعرقل أمر هذا المعلم -يعنيني- وقد استعرضنا ملفته ورقة ورقة فلم نجد غير الشكر من المفتشين. أما أمثال أولئك الذين ماتوا تلك الميتة القبيحة فلا يهمنا أن يعيشوا كموظفين مع ما هم عليه من تبذل وفجور؟
أعود إلى موقف المتصرف. حين قرأ ما كتبت له. استدعاني، قال:
- أنت تعرف تنظم (شُعُر).
- نعم
- طيب منين جبت هذا الكارت؟
- مني أنا
يسألني هكذا وهو يرى أنها ورقة عادية، وأسمي في ذيل ما كتبت، وملفتي كانت موضوعة أمامه وعليها أسمي بالخط العريض. وتفضل فأجاب: ثلاثة أيام وتعال! قلت: لا تنسوا إني مفصول لا أملك دخلا، ما أبذله وبذلته للمراجعات والتنقل بين كربلاء وبعقوبة تحتاجه عائلتي للعيش! وخرجت. وإذا بالفراش يخرج وبلهجة ابتهاج وفرح، قال: عمي وقع، ألحگ؟ يا رب. كشفت الضباب، رحماك أكشف الغيوم أيضاً. وجدت مدير التربية ومعاون المتصرف قد ابتهجوا من أجلي. فقالوا. تعال، لقد وقَّع! حكيتُ قصة بيت الشعر، فزاد ضحكهم، وعلق مدير التربية: ما يدرينا لعل يوما يأتينا فَيُعَين مفوض شرطة متصرفا للواء ورئيسا مسؤولا! وأرسل كاتب الطابعة إلى بغداد، ومعه الموافقة على عودتي. وحين ذهبت أنا إلى الإدارة المحلية في وزارة الداخلية التقيت -من باب الصدف- بمدير الإدارة المحلية سلطان أمين رحب بي لكنه أبدى أسفه: إن التعيينات أوقفت إلى حين إنهاء أمر الميزانية العامة للدولة، وسوف يصدر أمر تعيينك في بداية السنة الدراسية للعام الدراسي القادم!؟ وعدت أدراجي أجر ذيل الخيبة جرّ متعب مثقل بأنواع الهموم، فماذا ينتظرني بعد كل هذا؟
كل ما مر في مراجعاتي غير غريب فالمثل الشعبي يقول -الشبعان ما يدري بالجوعان-، المسؤولون -طبعا- هم أكثر الآخرين لا يدرون. لأنهم في شغل من أمرهم، ليس من أجل سد الجوع، هم والحمد لله بتمام الشبع، بل إلى حد التخمة. شغلهم الشاغل أن لا تفلت السلطة من أيديهم أولا وأخيرا، أن يطمئن كل واحد منهم ومن الأقربين إليهم، ومن كلابهم، وكلاب كلابهم. لا للأيام والشهور والأعوام، بل هم يطمحون إلى الخلود، شباعاً وغير ضماء، وقد ضمنوا الثراء الحلال الذي ترعاه مصارف لندن، خشية أن تهب عاصفة رعناء، فينسف حكمهم آخر، ربما  يحدث هذا، وعند ذاك يكون أشد نهماً من سابقه، ولن يكتفي بمصادرة أملاك السابق، فيبدأ غير متعظ، ولا متعقل بمن أندثر عهده، وضاع جهده، ليجمع ويكنز. ومرد كل هذا، هو شعبنا الواعي والشجاع أحياناً والذي ينام أحيانا نوماً عميقاً، ويجبن جبناً لا حد له. تماماً كحكامنا، وقد وصف حالنا هذه شاعران من شعرائنا أصدق وصف، فقال الشاعر علي الشرقي:
هذا الفـــــرات وهذه عــــاداته         متفلت من عهــد حمـــــورابي
قد يستحيل على الحديد عبوره         جســرا وقد يكفيه نفخُ جُــراب
وقال الشاعر الكبير ألجواهري ما هو أبدع:
هو الفــرات وكم في أمره عجب         في حـــالتيه وكـم في آيـه عـبــــر
بينما هو البحر لا تسطاع غضبته      إذا اســتشـــــاط فلا يبقي ولا يـذر
إذا به واهـن المجــرى يعــارضه      عــودٌ ويمنعه عن ســيرهِ حجــــرُ
حكامنا من شعبنا فطباعهم كطباعنا، ولذا تراهم يستحثونا للهياج ضد الظالم حتى إذا أطاحوا به قلبوا لنا ظهر المجن. فإذا سلموا من الموت وفروا إلى لندن هناك تظاهروا ثانية بالنُسك. فحالي إذن معهم غير عجيبة. هم ليسو عليا بن أبي طالب، ولا عمر بن الخطاب.
وأعود إلى حكايتي. ما أن عدت من بغداد بعد ملاقاة مدير الإدارة المحلية ووعده، حتى استقبلتني دواهي جديدة وبلايا كلفتني متاعب ولهفة كادت أنفاسي تختنق منها.
ابني محمد، مخبر مجهول أتصل بي تلفونياً ينبئني أنه أوقف في مركز شرطة أبي غريب في 4/4/1967، وتم فصله من الجامعة. عرفت السر، كنت قد نهيته وحذرته أن لا يشترك في انتخابات اتحاد الطلبة، فقد خسر من سنوات دراسته الكثير بسبب السجن. صارحته أن هذه محاولة لاكتشاف القوى المعارضة اليسارية. سارعت وكفلته بعد أيام من اعتقاله. وقص علي معاون الشرطة الحكاية وسرها، وكان رجلا طيباً. قال: جاء به عميد الكلية بنفسه متهما إياه بأنه كان يحمل رشاشة قاوم بها الطلبة المتنافسين، ولكنني استغربت انه هو المضروب على عظم ساقه تحت الركبة بعصي غليظة فهي متورمة، بينما لم نجد لديه سلاحاً فعجبنا كيف سلموا من رصاصه كما زعموا!؟ وكيف استطاعوا ضربه!؟ أما هو فأفاد. تصدّوا لي واعتدوا عليّ أكثر من مرة، وشكوتهم للعميد بمذكرتين، ولم يفعل شيئا، كان متواطئا معهم. وبعد الانتخابات وفوزي استمروا بالاعتداء عليّ، حتى اضطررت أن أترك الكلية. وحضر بعض المعارف لحمايتي في اليوم الثاني، وأيضا لم أسلم من محاولة الاعتداء لولا معارفي، وقد طلبوا مني أن اتركهم وابتعد، وأثناء ابتعادي عنهم مسكني حرس الكلية وأخذوني للعمادة وسلمني العميد إلى الشرطة. ومع كفالتي ذهبت مع الشرطة ليطلقوا سراحه من مديرية الأمن العامة. وعبثاً انتظرت فقد لبث عندهم فترة ثم أرسلوه إلى معتقل الفضيلية. ولم يطلق سراحه إلا في 22/6/1967.
وأرسلت إلى عميد الكلية د. حسين العاني رسالة شرحت له فيها ظروفي، وموقفه من محمد  وهو مرب كبير يجب عليه أن يجعل نظرته واحدة لجميع الطلبة. وما حدث منهم غير مستغرب ... وأجابني الرجل مرتاحاً لرسالتي، وأعلمني أنه سيبذل جهدا من أجل إعادته للجامعة.
وأعلن في بغداد عن تشكيل وزارة جديدة برئاسة طاهر يحيى، وبدء بالعمل من اجل وحدة عسكرية!؟ بعد تشكيل الوزارة شاع في الأوساط أن ضرائب جديدة شرعت، مثل زيادة سعر النفط من 130 إلى 160 فلس، وعلى مراجع المستشفى أن يدفع طابع ثمنه 25 فلس، وسعر الكوكا من 20 فلس إلى 25. ضريبة قانون الدفاع الوطني بالنسبة للراتب لمدة عام؟
أذيع اليوم 20/7 أن الرئيس اجتمع بمجلس الوزراء وبحث معهم الأمور التي تمت في اجتماعات الرؤساء في القاهرة. وقرر مجلس الوزراء تأليف لجنة لدراسة أمر إطلاق سراح السجناء والمعتقلين. وذكرت الصحافة موافقة الحكومة على عودة الدكتور فيصل السامر والدكتورة نزيهة الدليمي. وسبق أن وافقت على عودة الجواهري، جزى الله طاهر خيراً، إن تم هذا!؟
وفي 2/9 صدرت الجرائد تحمل مقررات المؤتمر الذي انعقد في السودان. أهمها ضخ النفط، وتقديم العون ومساعدة مالية من ثلاث دول هي السعودية وليبيا والكويت للأردن ومصر. وصدرت الجرائد بحملة على هذه المقررات. وتساءلت: من اجل من اعدم المضربون تنفيذا لقرار الدول المشاركة بحرب فلسطين!؟. اعدم بعض في السعودية، وسجن آخرون بليبيا والكويت، لأنهم رفضوا شحن بواخر الأعداء.
في الشهر التاسع -أيلول- عاودت مراجعة سلطان أمين كرماشة مدير الإدارة المحلية. كان الجواب سخرية بالحكم لا بيّ أنا، وان يكن أيضاً يدل على عدم الاهتمام بي من ناحيته، وكأن قضيتي لا تدخل ضمن شؤون الحاكمين كواحد من الرعية. قال: الدولة لحد الآن لم تدبر أمر تعيين خريجي دار المعلمين والمعاهد، فكيف بالمفصولين؟
أكرر قولي إننا شعبا وحكومات لم تتبدل أساليبنا لحد الآن. الحكام حين يتسلطون لا يفكرون، أو أن أهم ما يشغل بالهم، كيف سيملكون الزمام ويحققون مآربهم. ليس رأيي هذا عن عراقي، وإنما العرب كلهم في كل مواطنهم، جمعيات وأحزاب وحكومات.
الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية عزل وحل محله يحيى حمودة. وقد سبق للشقيري، أن طعن الملك حسين، ثم ذهب إليه وصالحه بمناسبة الاشتباك الذي حدث بحزيران -الميمون-. وسبق للشقيري أن ألقى ببغداد عندنا بمناسبة ليلة القدر، فكان يشبه واعظا دينيا لا زعيما سياسيا.
نحن نهتم كيف نختلف ونبرز خلافاتنا، حتى فيما لا يستوجب الشدة والحماس. فقد أصدر قاضي بغداد أن غداً يعتبر اليوم الأول من شوال فهو عيد، لكن النجف وتوابعها لم تلتزم، فرجال الشرع عندهم لم يثبت. أما كربلاء فقد سمعنا أطلاقات نارية تنبه أن غدا عيد، لكن الأكثرية تبعوا النجف. أليس غريبا أن لا يجد المسؤولون المسلمون طريقة لتوحيد الرأي في إثبات ظهور الهلال؟ لجنة موحدة مثلا، من قبل رجال الدين لليومين المحتمل فيهما ظهور الهلال. هذا خلاف في ابسط أمورنا، كيف يمكن إذن فيما هو معقد وعسير!؟


ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏15‏/08‏/2011

85
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 17
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)



ماذا بعد؟
   
قدمت عريضة رد اعتبار إلى المدعي العام لغرض الخطوة الثانية، تقديم طلب إعادتي إلى الوظيفة. فالذين أطلق سراحهم معي، بعد تخفيض المحكومية، أعيدوا بسهولة بعد ثلاثة أيام من مغادرتهم السجن إلى أهاليهم. هم يتحدثون عن المتصرف جابر حسن الحداد بأنه اكتفى منهم أن يثبتوا إنهم مسلمون!؟ فأعلنوها (اشهد أن لا اله إلا الله ...) وقد سبق وان اعترفوا أمام الحرس القومي بانتمائهم للحزب الشيوعي، فكيف يجب أن يكون أمري أمام أي مسؤول، وأنا ليس لي أي انتماء، ولم يعترف عليّ أحد؟.
أحالني المدعي العام بكتاب إلى التحريات الفنية. وإذا بهم ينبشون حكاية حُكمي بغرامة قدرها نصف دينار وفق المادة 123 عام 1932 ولم يدرجوا المقصودة برد الاعتبار، أي محكوميتي عام 1964. وتكررت مراجعاتي إلى النجف دون جدوى. وتلطف حاكم النجف، بأن المحكومية المشار إليها انتهى أمدها بمرور التحديد القانوني. بعد ذلك زودت بالكتاب المرقم 1929/65 بتأريخ 4/09/65  يفيد (إن علي الشبيبي قد حكم عليه وفق المادة 132 و 43 جمعيات و 15/14/8 مرسوم من ق.ع.ب. ولما كانت هذه العقوبة لا تستلزم حرمانه من الحقوق المدنية التي كان يتمتع بها قبل الحكم عليه، لأنها من الجنح الغير مخلة بالشرف. لذا يرجى تزويده بعدم المحكومية إن لم تكن عليه محكومية أخرى)
وقدمت إلى مديرية تربية ديالى، وأخرى إلى مديرية الإدارة المحلية العامة. يبدو أني سأكون وسط رياح عاصفة من جديد. في شباط 1966 -نهاية العطلة الشتوية- اقتحمت الشرطة الشقة التي يقيم فيها ولدي همام المدرس، وأخوه محمد الطالب في الثانوية الجعفرية. فلاذا بالفرار، رغم عدم وجود أي مبرز يدينهم. لم يجدوا غير كتب المدرسة. وجاءت الصدمة الانكأ وفاة عميد الأسرة الشيخ محمد رضا الشبيبي يوم -26/11/65- بعد عارض لم يمهله يوم عاد من حج العمرة. حاولت الجهات الرسمية تجاهل أمر تشييعه فأعلنوا قبل التشييع، انه تم تشيعه إلى مثواه الأخير!؟ بينما الحقيقة انه لم يدفن إلا في اليوم الثاني. وأقيمت له الفواتح في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء. ومما يجدر له إني لاحظت عدم اهتمام الجهات الدينية في كربلاء وتجارها، فالزعامة الدينية هنا زمامها بيد الفرس، كذلك التجارة، وعلى العكس كانت النجف.
وهرعت أم بيتي على عادة النساء الأميات إلى عجوز تعرف بـ -أم بدرية- وتدعي الكشف للمجهول والمستقبل. قالت: إن من تقصدين فِهم الغيب عنه، شبه سجين لكنه سيعود إلى حياته الطبيعية بعد مضي أربعة أيام أو أربعة أسابيع أو أربعة شهور!. إذ ذاك تحدث كارثة لشخصية عراقية كبيرة. وجاءت ثالثة الأثافي. فقد أبلغني شرطي الأمن ناصر الأسود أن مأمور المركز لطيف الجبوري يطلب حضوري.
لدي إحصاءات لأسماء جميلة هي على العكس من حقيقة المسمى، أسرة تسمى الصخل، لقب منحه إياهم الناس. بينما هم أهل جمال وصباحة. وآخرون "الحلو" وهم ذو أنوف أعاذنا الله منها. فماذا أقول عن "لطيف" هذا. في هذه المقابلة، قال لي مباشرة: لا دليل أضمن لك على نزاهتك من الاتهام غير البراءة من الحزب الشيوعي!؟ وسلمني إلى المعاون "هاتف". وراح هذا يشد عليّ بأن الذي أعترف عليك يؤكد، وشخصك في صورتك لدينا!؟ ولف ودار -اللطيف- ابن اللطيف عن علاقتي -هكذا يرى- بالمتهم "ساجد حمادة" متى التقيته؟ وهل استدعيته برسالة بريدية، أم يدوية!؟. لو كان لهذا اللطيف دين، لاستحلفته بدينه!؟ أحقا يقدم رجل لا اعرفه ولم يسبق أن سمعت باسمه قبل هذا أن يتهمني!؟
وذات يوم من أيام أيار، استدعيت، فإذا بهم قد تهيأوا للسفر. إلى أين؟ لست أدري. كان الجو عاصفا، قد غطى وجه الشمس غباره. ركب المعاون هاتف بصدر السيارة مع مفوض، وتركوني للعاصفة بصحبة شرطي يدعى "هادي" وهو ضالّ ابن ضُلال، وقد حمى عينه بنظارة ولف وجهه بكوفية، وأنا تحت رحمة السماء الغاضبة والريح الجبارة.
من يصدق إننا وصلنا مركز لواء الديوانية خلال ساعة!؟ وفي زاوية من غرفة صغيرة -منام شرطة- أُمرت أن أستقر بها، وكأني مخلوق غريب، ففي كل لحظة يمر بي شرطي، يوجه إليّ استفسارا (سبق لي رأيتك مرة، أين، أين ...؟ ها ... أنت من كربلاء، تمام). الآخر (أنا رأيتك لا أتذكر أين؟). يا رب هل يسأل هؤلاء أنفسهم وهم يتساءلون، بباطل، إنهم يؤمنون حقا بأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؟
وأخيرا بعد انتهاء الدوام، استدعيت لأقف مع أكثر من عشرين شخصاً بهيئات مختلفة، من ابسط مظهر ومظهر محترم، وكناس شارع، إلى أمثالهم. ولا أنسى إني أيضا خلعت سترتي، وأخذت بينهم مكاني. وسمعت المعاون هاتف في غرفة مجاورة ومغلقة، يكلم شخصاً، يسأله عن عمر المتهم -الحقيقي- فيجيبه ذاك 28 سنة أو 30، اسود شعر الرأس كث، عيناه سوداوان كبيرة، مورد الخدين! شكراً لك يا رب. أنا أشيب في الـ 58 من عمري مجعد الوجه، أما عيناي فتغطيهما نظارة!
وخرج المدعو "ساجد" ثلاث مرات. وفي كل مرة تبدل وقفتنا ومكان كل منا. والشاب يقول بعد أن يتصفح وجوهنا (غير موجود)، إنها مسرحية فشلت أجهزة أمن كربلاء في حبكها. صاح المعاون وهو يصافحني (الآن أصبحت بريئاً براءة الذئب من دم ابن يعقوب؟). حقاً لقد كان ذاك الذئب بريئاً من دم يوسف بن يعقوب. الذئاب البشرية هي التي أدعت ذلك. وما تزال تدعي وتدعي تبعا لمرضاة الضواري الأكبر منها منزلة وبأساً. الذئب يفترس لنفسه النعاج الضعيفة، لكن الذئاب البشرية، تفتك بخيرة الناس لإرضاء الضواري الأكثر وحشية من كل وحوش الغاب. وعدت فهل سأكون آمناً مطمئناً!؟
الكاهنة صدقت! الخميس 14/04/1966 كان الرئيس عبد السلام قد قام قبل يومين بجولة. مرّ بالحلة والشوملي، فكانت له كلمة على رؤوس المستقبلين: يا أهل الشوملي! الشوملي الشوملي، نارك ولا جنة هلي. ثم زار البصرة فخطب: يا أهل البصرة إذا قال فيكم أحد يا أشباه الرجال ولا رجال! فاني أقول فيكم  إنكم أنتم الرجال!. هذا من كلمة خاطب بها الإمام علي أهل البصرة بعدما انتصر على أصحاب الجمل. وليس أهل البصرة اليوم، فأغلبية أهل اليوم موالون للإمام علي. وفي العودة من البصرة، احترقت الطائرة وسقطت إلى الأرض. وقد غدا الرئيس فيها كتلة فحم سوداء!
وصدقت الكاهنة -أم بدرية-  مذ قالت بنبوءتها في 14/3 حتى يوم 14/4 فإنها أربعة أسابيع. وبمواجهة للمراجع المعنية -الأمن العامة- والتحقيق مع همام الذي سلم إليها -بعد وساطة- أطلق سراحه بدون شروط، وعاد إلى حياته الطبيعية.
وانتخب عبد الرحمن عارف رئيساً، بإجماع الوزراء والمجلس الوطني. وشكل الوزارة عبد الرحمن البزاز رئيسا ومعه رفاقه. وعقد مؤتمراً عن سياسته للصحفيين، واحتفظ بوزارة الداخلية إضافة إلى الرئاسة.
ونشرت جريدة المنار بالأحرف الكبيرة عن عفو سياسي عام يصدر بمرسوم جمهوري. حنانيك أيها الشعب الصابر. لا تصدق أنك تستفيد من أي اجراء سياسي، إذ لم يكن أساس حياتك هو حقك في الحرية وفي اختيار الطريق الذي ينهي الاستبداد. ويقضي على الاستغلال. أنت أيها الشعب وحدك الذي له الحق أن ينصب ويعزل. فمتى يكون هذا؟

ضباب وغيوم  
سماء بلادي -اجتماعيا وسياسياً- محجوبة بغيوم سوداء شديدة الدكنة، وضباب كثيف لا يكاد من يمشي يهتدي في سبيله، فكثير من وضع الدولة لا يدري أحد بحقيقته. ألبزاز رئيسها، يذيع في 21/4/1967 نافيا بياناً للسفارة العراقية بلندن فحواه (إن حكومة البزاز تنوي منح الأكراد الحكم الذاتي وبعض الحقوق القومية الأخرى). فأوضح بيان البزاز أن لا صحة لهذا  وان الحكومة لن تفرط بشبر من أرض الوطن، وان هؤلاء ليسو بأكثر من عصاة! وتأيد بعد هذا صحة ما أذيع عن السفارة في لندن. وأكثر من هذا فقد أذاع البزاز أمس -16/6/1967- ليلا تكذيبا للإشاعات القائلة بتعديل وزاري، وعن الضرائب والغرض منها، ثم قضية الشمال. وكان يبدو عليه الانفعال وهو يقول، كفانا دموع  كفانا قنابل وموت!؟ ووعد أن يعلن عن قريب أنباء سارة حول الأمن والاستقرار في الشمال، والحياة الديمقراطية، والوضع الاقتصادي، وإخلاء السجون وحفظ كرامة المواطن ومن أجل حرية الفكر!؟ وفي التاسعة مساء 29/6 أذاع بيانا قدم له مقدمة لإيضاح الالتباسات. كان البيان مؤلفاً من 12 مادة عن القضية الكردية والسلام.
هذا ما يتمناه كل عراقي. ولكنا قد تعودنا نسمع تصريحات قد يتحقق بعضها فقط. فنحن لا يمكن أن تتحقق جميع آمالنا! عقب البيان توقع الكثيرون محاولة انقلاب ممن لا يروق لهم حل القضية الكردية. وأنا أعلق أيضاً: لا يروق لهم أن يسود امن وسلام في كل الأنحاء من ربوعنا. وفي الساعة الخامسة -30/6-  عصراً توقفت الإذاعة فجأة، ثم أخذت تذيع بما يشبه صوت اللاسلكي 3 بيانات. أحدهما مع مقدمة عن الحركات وبجمل تعودنا سماعها -استجابة لمطالب الشعب من جور حكامه-!؟، والثاني عن غلق الحدود والمطار. والثالث نداء إلى رئيس الجمهورية (أن يلجأ إلى بيته، ويصدر أمرا إلى الحرس الجمهوري بتسليم أنفسهم، وإلقاء السلاح حقنا للدماء)
كانت الحركة بزعامة "عارف عبد الرزاق" تساندهم قطعات صغيرة من أبي غريب، وقبيل المساء تم القضاء عليهم!؟ وكانت إذاعة صوت العرب المصرية، قد دافعت عن المتمردين!؟ وتحدث الناس أن أولاء الحركيين، قاموا بحركة على مخفر اليرموك، وضربوا بالسلاح حتى باب دار الرئيس.
وفي 5/5 أشيع إن مجلس الوزراء قد أقر مشروع فرض أجور يدفعها طلبة الكليات عند قبولهم، وان لهذا مبرراً هو أن يدفعهم لرفع مستواهم لأن الآباء سيراقبون أبناءهم ويحثونهم، كما أن المواطنين سيساهمون بهذا بمساعدة ميزانية الدولة!؟ هذه حكمة وفلسفة عميقة، لكنها إشاعة. لكن أمراً آخر تحقق في 31/5 هو أن سعر رغيف الخبز قد زيد فلساً واحداً. وجواز السفر 25 دينار لمن هو في سن 15 عاماً أو أقل. طبعاً هذا يهم من يهوى التجوال في أوربا وله إمكانات مادية.
وأذيع في 6/8 نبأ إقالة البزاز، وتعيين اللواء ناجي طالب ومعه "علي بابا"، ومحمود الجوهر  والجواري.
وقد ضمني مجلس لشخصية سياسية بارزة. وتحدث احد الشخصيات البارزة أيضا. فقال: قال البزاز متفاخراً أن الشيعة يسمونني "عبد الزهرة البزاز" فأجابه أحدهم ..... الشيعة سموا من هو منهم عبد الرزاق الأعظمي وذكر أن المقصود عبد الرزاق محي الدين . وكان البزاز أثناء حكمه قد ابتكر اسماً جديداً للاشتراكية -الاشتراكية الرشيدة؟-. ورحم الله الدكتور جورج حنا فقد ذكر في كتابه الحارثيات أسماء كثيرة ابتدعت لتغطي اشتراكية ماركس. ولم يخطر على باله ما ابتدعه البزاز.
وفي هذه الظروف حدث في سوريا انقلاب، قيل انه بعثي. بدليل ما أذيع: انه سيقدم رجال الحكم السابق إلى محكمة حزبية. وأذاعت دمشق في 16/4/67 إن وفدا برئاسة يوسف زعين رئيس الوزراء مع وزير خارجيته، وبعض كبار رجال الدولة، سيتوجه إلى الاتحاد السوفيتي (القوم سرهم معاوية    وقميص عثمان لهم علن). الغرب الاستعماري اسبق منك يا موطن الاشتراكية، فكن واثقا بما أشار إليه كتاب "محمد" (كلما دخلت أمة لعنت أختها).
ومسيرتي بين الضباب وتحت الغيوم؟ لو كنت أملك قليلا من المال يساعدني على عمل مكسب لتدبير أمر العيش لعائلتي ولي، لضربت صفحا عن مراجعة هذه الدوائر والمتحكمين بأمورنا دون أن يعوا ويفيقوا ولو لحظات معدودة. إن لا حكم دائم، ولا سلطة باقية إلى الأبد، كل شيء في تبدل.
إني دائب المراجعة لهذه الدوائر المنحوسة. فاصطدم بعنجهية مدير أمن لواء ديالى "هاشم سليمان". لم انس أول مراجعة، كنا خمسة وعشرين معلما مفصولاً. أنا العربي الوحيد بينهم، والآخرون بين كردي وتركماني. وافق على إعادتهم بما لم يتجاوز دقائق، لم تتعد أكثر من عشر دقائق! أما أنا؟ فأعصابه تثور بمجرد رؤيتي أمامه!؟ أعضاء اللجنة معه، معاون المتصرف "سليم الاطرقجي"، ومدير المعارف "جاسم عبد الحسين". ولكن مدير الأمن وحده الذي يناقشني ليبدو وهو -نايل عيسى- ويتصورني -فهد-!؟
كل مناقشاته عندي هينة، لو ملك وقار ووزن المسؤول الذي يحترم القوانين! فبموجب القانون العراقي المادة 132 و43 جمعيات و 15/14/8 مرسوم ق.ع.ب تعتبر من الجنح الغير مخلة بالشرف فلا تستلزم حرماني من الحقوق المدنية، وبموافقة الحكومة على إعادة المفصولين لا يصح منه هذا التعنت ضدي خاصة.
مرة وهو يستجوبني، قطع استجوابه وراح يردد (ماكو مؤامرة تصير وعين الشعب مفتوحة) رددها بحماس مبحلقا عينيه بوجهي، وكأنه يتهمني بها!؟ قلت على الفور. أمر حسن المؤامرة ليس في صالحك. ولتبق عين الشعب مفتوحة، هذا خير وأحسن رادع للمتآمرين. فهاج وماج وأرعد وأزبد، وبانفعال جنوني، أخذ يصيح بي: خطوة إلى الوراء، شوفو لاصق نفسه بالمنضدة!
وتنفس الصعداء، وكمن تعب من صراع. فقال: أنت اسمك شنو، ومحمد علي منو؟ قلت اسمي علي وأبي محمد، ومحمد علي أخي. ثم سأل: وحسين؟ قلت: أخي أيضاً. فهز كفه هازئاً. علي، محمد علي، عبد علي، حسين، محمد حسين، عبد الحسين، ماكو أسماء بس هذي!؟ قلت: ما بيدك وأبوك هو الذي سماك. وأنا وغيري كذلك. سمونا ونحن أطفال رضع فما لنا خيار!
قال: في ملفتك صورة حكم عليك بالسجن عشر سنوات قضيتها في نقرة السلمان منذ عام 1949!؟ إذهب وآت برد اعتبار عن هذه المحكومية!
قلت: ملفتي بين يديكم تشهد أني كنت في الوظيفة في لواء الناصرية منذ عام 1947 وانتقلت إلى كربلاء عام 1955، وكأي موظف أحصل على ترفيعاتي بموجب القوانين، أي أنني لم أكن سجيناً في الفترة التي ذكرتها. هناك مثل انكليزي يقول، لا يمكن الركوب على حصانين في وقت واحد!
فعاودته ثورة أعصابه من جديد وراح يصيح: اطلع منا، امش، يريدني أرجعه، يتكلم بمثل انكليزي!؟ قلت، قبل أن أخرج: إذا كانت خبزتي تأتي عن طريق إذلالي فأنا لا أريدها.
الأعضاء الآخرون، لم يشاركوه بهذا التهريج. يبدو أنهم هدأوه. فقال: خذ ورقة. أكتب جملة أشتم فيها الشيوعية والاتحاد السوفيتي. قلت: أنا لست شيوعياً، ولا يصح أن أشتم الاتحاد السوفيتي في وقت، جمال عبد الناصر يقول صديقنا، والجزائر وسورية والعراق أيضاً!؟ فمن أنا -والحال هذه- فاشتم الاتحاد السوفيتي، لن يفعل هذا إلا المجنون ...! فطردني وخرجت والأمر لله.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏10‏/08‏/2011
Alshibiby45@hotmail.com


86
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف / 16
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)




 

عام جديد  
هو ذا عام 1965. أطل عليّ وعلى ابني محمد وهو يقبع في سجن نقرة السلمان المشؤومة، وأنا في سجن الحلة، بالقلعة المسماة "الجديدة". أما هو فقد خسر من عمره الدراسي خمس سنين يقضيها في سجنه، إذا لم يمنن عليه ربه فينقذه ليعود إلى الدرس والتحصيل.
وأما أنا -إن كنت لا أعلم عن صحة الاتهام لأبني- فإني أنا نفسي بريء حقاً، ولا علاقة لي مطلقاً بأية منظمة سياسية، وأنا أكرر، أن تنصلي لم يكن بدافع الجبن والخوف، أبداً. فالنضال من أجل القضية الوطنية ، وضد الاستعمار والاستغلال، إن لم يكن له أمثالي فمن يكن إذن؟ وقد ذكرت مراراً أسباب تجنبي ومشاركتي أبناء وطني في الانخراط في أية منظمة أختارها للمفاهيم التي أستوعبها، وانكمشت عن نفسي بعيدا عن كل ممارسة لأي نهج سياسي وفي أي خط. ولذا أشجب هذه التهمة التي أصر الحكام أني واحد من رجالها أو المنتمين إليها، لا خوفاً، إنما لأنه إدعاء باطل.
وفي مطلع هذا العام أذيع : أن رئيس الجمهورية أمر الحاكم العسكري بإطلاق سراح جميع من أنهوا محكومياتهم بدون قيد أو شرط*. وضحى اليوم 13/01/1965 بدأت معاملة إطلاق سراح 104 سجناء من القلعة الجديدة، منهم من كان قد أعطى البراءة، والأكثرون من رفض البراءة. ومن القلعة الوسطى 282 سجينا. وبعد يومين جاء بعض رجال الأمن من بغداد يحملون استمارات -براءة- مطبوعة، ونودي بأسماء عدد من السجناء فتقدم لهم بعض ورفض الأكثر. وكرر رجال الأمن عرضهم فلم يتقدم إلا عدد قليل كان قد قدم البراءة من قبل هذا. وأعلن أيضا أن 133 سجينا قد خفضت أحكامهم وأطلق سراحهم من النقرة، وكان من ضمنهم عبد الحميد سعود. وكنا قد أبرقنا بتأريخ 19/01/1965 إلى اتحاد الأدباء في المؤتمر الذي أعلن عن انعقاده هذه البرقية:
مؤتمر إتحاد الأدباء العرب المحترمين-بغداد!
تحية. وبعد فأن شرف الكلمة ومجد الحرف يضعانكم أمام مسؤولياتكم الفكرية، فارفعوا أصواتكم من أجل الحرية للأدباء العراقيين زملائكم في حمل رسالة القلم. أنتم تدركون أن الأدب والحرية صنوان. ولقد زج بنا في السجون أبان انقلاب 8 شباط وبعد ردة تشرين وإثر محاكمات صورية، قامت بها المجالس العرفية. فنأمل أن لا تألوا جهداً في أداء واجبكم تجاه الأدب، وان تعملوا من أجل أطلاق سراحنا لتتاح لنا فرصة العمل من أجل أن نعود إلى رحاب الفكر، لنسهم في خدمة شعبنا وشكراً.
عن سجن الحلة المركزي
علي الشبيبي، هاشم الطعان، عبد الجبار الأعظمي
وأبرقنا برقية أخرى في 6/2/1965 إلى مؤتمر نقابة المعلمين:
بغداد – قاعة الخلد- المؤتمر الخامس لنقابة المعلمين
نحن أعضاء النقابة من مدرسين ومعلمين والبالغ عددنا -72- عضوا سجينا سياسياً في سجن الحلة المركزي. نحيي المؤتمر ونطالبكم بتنفيذ واجباتكم النقابية تجاهنا للتوسط لدى الجهات المسؤولة، وتبني قضيتنا والعمل لإطلاق سراحنا، وإعادتنا إلى مدارسنا لنساهم مع شعبنا في بناء الاشتراكية، وتحقيق الوحدة العربية.
عن سجن الحلة المركزي
اعتذر لفقداني أسماء الموقعين، وكنت أحدهم.
فاقدوا الحرية من السجناء، مختلفون في مدى تحملهم حرمانهم من حريتهم، ومن العيش مع عوائلهم وذويهم. لذا انكسرت نفسيات بعضهم، فأدوا المطلوب الكريه -البراءة- الذي يتنافى مع كرامة المواطن، وأكثر فهو أيضا عار وسبة في تأريخ أي حكم يطالب به المواطن السياسي.
وأصبنا بالفجيعة لإصابة أثنين من زملائنا السجناء، وهم من أسرة التعليم. إذ أصيب الشاب هادي الدباغ باضطراب عقلي بتأريخ 13/2، وبعده في 15/2 أصيب عبد الصمد العاني. وأحيلوا بعد مقابلات متعددة مع مدير السجن إلى بغداد، فأعيدوا بتقرير مضحك، خلاصته "انهيار عصبي!؟"
بينما يشغل آخرون أنفسهم بترهات إن دلت فإنما تدل على الخطل، وانعدام التفكير في حيّز الإنسانية، ومطامحها. جدل بين شاب "شيوعي" قد أعطى البراءة وآخر من الحزب الفاطمي! الفاطمي شتم وطعن الشيوعية. تأثر المتبرئ، وتطور الأمر، انحاز للفاطمي اثنان كربلائيان متبرءان وثالث غير متبرئ ناصرهما. هذا الثالث يعد نفسه شيوعياً وأنا أعرف انه لا يناصر الشيوعية إلا لأن له أخاً عسكرياً، أعدم في انقلاب 8 شباط، قيل أنه شيوعي.
 


سجن الحلة/ القلعة الجديدة في 30/11/1964. وقد توزع السجناء في الساحة ليتمتعوا بأشعة الشمس
ويفسحوا المجال لتنظيف قاعتهم. المربي الراحل علي الشبيبي يمارس هوايته في المطالعة وعلى
 يساره إسماعيل عرب، وعلى يمينه عبد الخالق وحمزة عبود.

*               *               *               *
واشتدت أزمات السياسة بين العربية المتحدة وألمانية الغربية. الواقع إن المسألة ليست ألمانية ولا إسرائيلية أيضاً. إن تآمر واسع تتزعمه أمريكة ضد البلاد العربية جمعاء. وألمانية الغربية أداتها وإسرائيل قاعدتها. والرجعية في البلاد العربية سندها، وضرب القوى الوطنية سبيلها في تصدع الداخل ليسهل تسديد ضربة من الخارج. وعرف عن الاستعمار أنه شجع ضرب الشيوعيين وعن هذا الطريق بضرب كل وطني لا يمشي في ركب الاستعمار.
الأنباء تشير إلى بشائر إطلاق سراح السجناء متواصلة. يبدو أن وزير الداخلية رجل له شخصيته المتميزة. وعليه أن نتذكر انه الوحيد الذي لم ير أخذ البراءة صفة طيبة للحكام. الحكام كغيرهم من الناس يأتون ويذهبون، ولكن أغلبهم لا يهمه أن يكون حديثاً حسنا -لمن روى-.
فقد أصدر وزير الداخلية صبحي عبد الحميد بياناً في 23/03/1965 أعلن فيه: أن على كافة المعلمين والمعلمات الذين انتهت مدة فصلهم أو لم تنتهي، المبادرة إلى تقديم طلباتهم إلى مديريات التربية في الألوية فوراً بشأن إعادتهم إلى الخدمة. وذلك للإسراع في النظر في أمر أعادتهم للوظيفة في ضوء الخطة التي وضحتها الوزارة في منشورها الصادر في 30/1/1965 -عن جريدة الثورة العربية 211-.
وأذيع مرسوم جمهوري بإطلاق سراح بعض السجناء، وتخفيض محكومية بعض، عددهم خمسون سجيناً. لكن المضحك أن عدد من أطلق سراحه من النابذين لم يزد على أكثر من ستة.
وحين زارنا الأهل كانوا يحملون إليّ رسالة من الدكتور مصطفى جواد، جواباً على استفسارات مني، ضمنها أجوبة مشكوراً. ولست أعرف كيف عرف عنوان بيتي، ولماذا أرسلها إلى بيتي؟ وهو يعتذر عن معنى كلمات وردت في -نشيد الإنشاد- المذكور في التوراة عن النبي سليمان. فيقول: انه لا يفسرها إلا المختصون بالتفاسير الإسرائيلية، وعن بيتين من الشعر اعتذر بعدم العلم عنهما. الكلمات كانت مثل -عُفر الأبائل- القواميس اللغوية التي بين أيدينا، العُفر الغزلان أو الأيائل ذات اللون المشابه لرمال الصحراء، والعفراء الشقراء شقرة تشبه شقرة الرمل. لقد ذكرت بضع كلمات من نشيد الإنشاد فاعتذر كما ذكرت. وعن الأبيات الشعرية منها هذا البيت:
فكنت كمن خــــاف الندى أن يبلّه      فعاذ لدى الميزاب والقطر بالبحر
فكان جوابه لا أتذكر قائله، ولكن هذا المعنى جاء في شعر كثير لشعراء كثيرين.
ونشرت جريدة الثورة في عددها الصادر الجمعة 14/5 على صفحة 5 كلمة بعنوان "أدباء السجون" منها هذه العبارة (وليمة شهية بأطباق قذرة) إنها شتيمة قذرة، لا تليق أن تصدر عن ناقد أديب. أما المؤلف فهو عبد العزيز الحلفي. كتابه أدباء السجون، ضم تراجم عدد من أدباء السجون، باختصار شديد. أنه ينفع كفهرست لأسماء أولئك الشعراء، والكتب التي ذكروا فيها. هو مجهول على أية حال لا يستحق تلك الشتيمة، كما لم يكن واضحا من يقصد وماذا يعني، شهية، بأطباق!؟ المؤلف أم المترجمون؟ إذ جاء في هذه الكلمة قوله (بدأ بطرفة بن العبد، وانتهى بـ علي الشبيبي في العصر الحديث) والكتاب في جزئين. لابأس، الكاتب والناقد، لكل منهما شكرنا نحن القراء!؟
خير ما استفدته في حياتي السجنية المطالعة. طالعت عن حياة عمر الخيام، الشاعر الفارسي الشهير برباعياته، مؤلفه الكاتب الأمريكي هارولد لام، وترجمة محمد توفيق مصطفى. الخيام كأمثاله من العباقرة، يقدمون إلى البشرية ما ينير حياتهم أو يرفه عن نفوسهم، ويدلهم على الطريق اللاحب فيجزون المر والآلام، إنهم يزرعون الخير، فلا يحصدون إلا الشقاء؟ فإذا ما غادروا هذه الحياة أستغل إنتاجهم، وعبقريتهم. فيمجدون، ويفاخر بهم، ويُتخذ ما خلفوه من أثر، وسيلة يستدر تجار الحياة ضروع المنافع والجاه، وبنفس الوقت، يُرهق عباقرة زمانهم، الذين يواصلون المسيرة في الكشف بواسطة ما يبدعون، كلَّ غامض ليمهدوا السبيل لكل من هو بحاجة إلى من يهديه.
وطالعت قصة -عمال البحر- للكاتب الفرنسي الكبير، فيكتور هيجو. سئمت منها أول الأمر، حتى إذا وصلت منتصف الكتاب لم أستطيع تركها ساعة للاستراحة. يعجبني من هذا الكاتب دقة تصويره للأمكنة التاريخية، والأحداث، لكنه مولع كعادة أمثاله الكلاسيكيين، بتصوير أحداث مذهلة إلى حد المبالغة، والمحرجات التي لا يجد منها المرء مخرجاً إلا بمعجزة، ثم ينهي حياة بطله بكارثة. ولكنه يثبت تحدي بطل قصته للقدر ويصور كفاح الإنسانية العنيف من أجل الحياة.
اُعلن من الإذاعات أن انقلابا حدث في الجزائر، قاده بومدين و بوتفليقه. ونحوا بن بله الذي ينتظر مصيره. واعترفت بالحكومة الجديدة أمريكة وفرنسا. وسحبت بريطانيا اعترافها، وسارعت الصين واندنوسيا بالاعتراف، لأن بن بله كان يريد أن يحضر المؤتمر الأسيوي في الاتحاد السوفيتي خلافا لرغبتها.

البشرى
ليس أغلى عند كل مخلوق من حريته. من أدنى حيوان إلى أرقاه. والسجن حبس للحريات، ودكٍ للنفس البشرية، لا يقاومه إلا من أوتي خطاً وإيمانا بعدالة وشرف نضاله، واستناد عقله، فهو يدرك أن الموت نهاية كل حي، فليمت إذن ميتة شريفة، ميتة الشجاع الشهم. شاعرنا المتنبي يقول:
وإذا لم يكن من الموت بدٌ      فمن العار أن تكون جبانا
ويقول:
فحب الجبـــان النفس أورده البقـــا      وحب الشجاع النفس أورده الحربا
ويختلف الفعــلان والذنب واحــــد      إلى أن يُرى إحســان هذا لذا ذبنــا
وتلاحقت البشائر. لقد نشرت جريدة الثورة في عددها 305 في 21/7/1965 مراسيم جمهورية، بتخفيض أحكام وإلغاء أحكام. وكان من بين من أعفي عما تبقى له من مدة سجنه ، أسمي واسم ولدي محمد. أي أني قضيت مدة محكوميتي، توقيفا وسجنا وما شملني من هذه المكرمة السخية غير 12 يوم فقط!. ولكن ولدي محمد ناله خير كثير، إذ ربح ثلاث سنين.  وجاء من الناصرية شاب جالبا معه صور المراسيم إلى مركز مديرية شرطة الحلة، من أجل أخيه المشمول بها. وسفرنا إلى بغداد، إلى الأمن العامة. كانوا يدخلون كل واحد منا لوحده لأخذ صحيفة أعمالنا وكأننا جدد. فقد أخذوا يستوضحون عن التهمة المسندة لكل منا. اثنان كانا قد أعطيا براءة، فطالبهما بإعطاء البراءة مجددا، فامتنعا لهذا السبب، لم التكرار؟! فكان نصيبهما الضرب، وتوقيفهما.
انتظرت في الفندق ثلاثة أيام على أمل وصول محمد بلا جدوى، وتوجهت إلى أهلي عندها. كانت لهم فرحة. لكنها صماء بكماء. إنها فرحة ناقصة، إن لم أعد إلى وظيفتي. فلقد لقي أهلي الشقاء وأصيبوا بأمراض، خصوصا أمهم التي تحملت أعباءهم، كانت توفر ما تستلزمه الدراسة وكل بناتي طالبات، بينما لم تنس أن لها في السجن زوج وأبن.
وبعد أيام، جاء البشير أن محمد وصل في سيارة أمن!؟ ما معنى هذا؟ واجهت المتصرف سلطان أمين فلم يجدني نفعاً، رغم ما بيننا من معرفة. هذا طبيعي فهو صهر بهجت عطية، وعلى تلك المصاهرة تحول من الجيش إلى الأمن! سلطان أمين كرماشة نجفي من محلة العمارة. زميل شقيقي حسين في الدراسة الثانوية. أختار كل طريقه. سلطان إلى الكلية العسكرية والاسكافي إلى الطب وهديب إلى الحقوق، وكانت أيضا مطمح حسين. وتدور الدنيا وبسبب الطريق الذي سلكها حسين، وإذا بسلطان أحد أركان بهجت العطية ويُحكم حسين بالإعدام.
أني حريص على حياة ولدي. من أجله سافرت إلى بغداد. وزرت الشيخ الشبيبي، فاتصل بـمحمد الحديثي، وهذا اتصل بمدير الأمن العام، الذي أجاب: من جهتنا لم نأمر بتعطيله، فلينتظر أبوه، ثم ليقدم لنا عريضة عن ذلك!؟
طبعاً هم لا يعارضون إجراءات موظفيهم، مادامت مع أمثالنا وإن لم تكن قانونية. واجهت مدير أمن كربلاء، بواسطة مدير منطقة تجنيد كربلاء صفاء القيسي. كان مفوض الأمن لطيف الجبوري يحاول إرغامه على تقديم البراءة، وأخيرا بعد إضراب ولدي عن الطعام أطلق سراحه نقي الضمير.

*- كانت السلطات في كل العهود تحتجز السياسيين أحيانا بعد إنتهاء محكوميتهم ولأشعار غير محدد، وتجاوزت فترة الحجز للبعض أضعاف مدة الحكم!؟/ الناشر

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏‏04‏/08‏/2011


87
4- ثورة 14 تموز والسنوات العجاف/ 15
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

قلت والسجن كريهٌ... ربي السجنُ أحبُّ
الوزيرية!      
البرد شديد، والريح حادة تمر كالمشرط. السائق والشرطي الذي رافقنا إلى سجن الحلة، طبعا لا يحسان بهذا البرد فهما تحميهما وتصد الريح عنهما زجاجة الباب في صدر السيارة وجانبيها، وكانت تسير بأقصى سرعة، بينما نحن نجلس في القسم الخلفي من السيارة وهو مكشوف للريح من ثلاثة جوانب ...
بعد أن سجل كاتب دائرة السجن أسماءنا تقدمنا شرطي ورافقه عدد منهم، إلى قلعة -الوزيرية-. مساحتها صغيرة، تشبه النعش، تماما تبدأ بعرض لا يتجاوز المترين حتى تنتهي تدريجيا إلى متر. فيها أربع غرف صغيرة، لا تكفي لإنسان واحد بفراشه ومعداته، وزعنا عليها. عند النوم لا يتمكن الواحد أن يتمدد براحة، أو أن يتقلب على جنبيه عند الضرورة.
في هذه تمر مجاري -المرافق- وتشرف عليها مداخن المطبخ. استيقظنا ذات يوم صباحا، فوجدنا أن المجاري قد فاضت، والساحة امتلأت بالأقذار. والملابس المغسولة قد أسقطتها الريح على الأرض المغمورة بالأقذار، ومضافا إليها ما تناثر فوقها من السخام. فصار سجننا مضاعفا، إذ لم يعد بإمكاننا إلا أن نظل بالغرف. ويتعذر علينا حتى الإفطار. أما الملابس، فلم نعد نفكر باستعمالها فقد طبعتها الأقذار بصبغة لا مثيل لها.
والمكان الضيق محك للنفسيات القلقة والفهم العادي، ومن عاش بدعةٍ ورفاه وجرفه شَرك الاتهام إلى هذا المكان. هنا تعاوده ذكريات الملذات والنعيم الذي كان يعيشه فيما سلف. بينما تجد الذين حسبوا للنضال حسابه، قد تسلحوا بالصبر، ووطدوا العزم، على لقاء الأقدار، وتقبل المصير بأي لونٍ.
بعد شهر نقلنا إلى قلعة أخرى "القلعة الوسطى"، واسعة بساحتها وغرفها ومرافقها، ولكنها سجن على أية حال. ولعل أشد ما يرهق السجين أن يكون في سجنه مرغما أن يرى من لا يحب أن يسمع منه، أو ما يقوم به من غث وإزعاج بشقاق وشغب، إن دل على شيء فإنما يدل على هوج الصبيان، وطباع المستهترين، الذين يكمن الندم في صدورهم. فالسجن كالخمرة، تنكشف فيها حقيقة شاربها، إن كان ذا شعور مرهف، فينساب من قريحته كل ما يلذ للسمع، ويطيب الخاطر، ويروح على النفس من همومها ويستخف بكل ذي نظرة سطحية، لا يفهم من الحياة إلا اللهو والمرح والغرور. وما أكثر الذين انكشفت حقائق طباعهم، وتبدلت حتى سحنات وجوههم. فهم في حركة دائبة دون أي هدف غير تأجيج الفتن، والضحك من زملائهم في الحال. وكان من مطامحهم الرخيصة أن يعتدوا على بعضهم من أجل مكان سبقه إليهم غيرهم. فلم يمتنع أن يجادل بل أن يعتدي بوحشية لم نعرفها فيه من قبل، وللنميمة والشغب عنده مهارة لا توصف!
كان بعضهم يتستر فلا يكشف ما لديه من متاع خشية أن يراه من لا زاد لديه. بل وصل الأمر في بعضهم أن يعلن انه لا يمكن أن يؤيد من أراد أن تكون حياتنا شركة. وتباهى أن لديه مئة وخمسون بيضة، وما لدى البقية كلهم ثلث ما عنده!
كان المسؤول عن سكان القلعة الوسطى، فتى (هو أزهر أحمد هو شقيق الملازم الشهيد صلاح أحمد/ الناشر محمد علي الشبيبي) من الموصل، نشط ، يبدي اهتماما كثيرا، لكنه لم يجد تجاوبا من الآخرين. يبدو لي انه من عشاق المظاهر والزعامة. حين انتقلنا من القلعة الوسطى إلى القلعة الجديدة، انتظمت أمورنا انتظاما رائعا، بعد أن أجمعوا على اختيار مسؤول يتمتع بثقافة عالية، وشخصية محترمة، يدعى "عبد الحميد سعود" من أهالي بعقوبة، وكان نقيبا للمعلمين فيها. بمساعيه ووعيه ، تم لمصلحة السجناء فتح حانوت فيه ما يحتاج السجين إليه، أدوات حلاقة، صابون، ليفة حمام، والخرز المعروف -بالنمنم- للحياكة التي شاع أمرها بين السجناء، وبلغوا فيها مبلغا هاما من الإتقان وروعة الفن.
وطور مقهى بيع الشاي. ومارس كل ذي مهنة مهنته، هذا سمكري يحول صفائح الدهن الفارغة إلى صناديق يستعملها السجناء لحفظ حاجاتهم، وهذا خياط، جهز بماكنة خياطة. فهو يخيط القمصان وثياب الراحة والبيجامات، وهذا يكوي الثياب وآخر يصلح الراديو، ونظم مكان خاص لعدد من الحلاقين. وفرض تقسيم الأرباح التي تحققت، نصفها للقائم بالعمل والنصف الآخر لمصلحة السجناء بالدرجة الأولى المعوزين. خصص لهم يوميات، ولم ينسوا عوائل هؤلاء أيضاً، قدر الإمكان، وبالأخص بعض الذين هم مفخرة بثقافتهم، وتأريخ حياتهم، وحسن سلوكهم في مواقفهم النضالية المشرفة. وتم تنظيم عيادات الأطباء، في إحدى غرف السجن -القلعة الجديدة- لكل اثنين من الأطباء نوبة في يوم من الأسبوع، ويوم واحد للطبيب الأخصائي، بإحالة من الطبيب اليومي.
كذلك لم يعتمد على قاعدة النظافة من قبل إدارة السجن، حيث يستخدمون السجين العادي لهذا الغرض. فوضع مسؤول السجناء السياسيين جدولا خاصا، كل يوم يقوم عدد معين من ردهة معينة لتنظيف الساحة، بالماء ومواد التعقيم، وحرق براميل الفضلات والأوساخ، ولكل ردهتين أو ثلاث يوم لغسلها وتنظيفها وعرض فرشهم وأغطيتهم للشمس.
بسبب رداءة ما يقدم لنا من طعام، فاتح قادة السجناء الدائرة واتفقوا مع المقاول بأنهم لا يستوفون أية حاجة ،مثل اللحم، والخضرة وأمثالها، إلا بعد فحصها من قبل أطبائنا وتم لنا ذلك. ويعطى المقاول فرق أثمان الحاجات إذا كلفته أكثر مما تم بينه وبين الدائرة. ولم يعد للطباخ المأجور مكان. ومرتبه مستمر من الدائرة والله أعلم . وتم تعيين عدد من السجناء للعمل في المطبخ والأشراف عليه، وكذلك في أفران الصمون –الخبز-. بعد هذا تقرر أن لا يحتفظ السجين ما يجيء به إليه ذووه أيام المواجهة من فاكهة ومأكل مطبوخ. إنما عليه أن يسلمه للجنة مسؤولة خاصة بيوم المواجهة، وتكون المائدة موحدة ليوم أو يومين حسب كميتها. فرض هذا لأن بين السجناء من لا يستطيع أهله زيارته لبعدهم أو لفقره، تستثنى من هذه القاعدة الأكلة النادرة، فلا يشملها التأميم وتعطى لصاحبها.
ودبر أمر الحمام، الذي كان يومين في الأسبوع. وهو عبارة عن غرفة فيها عدة حنفيات، ولا ساتر بين واحد وآخر. فقام المهندسون السجناء، ووضعوا خارطة تصميم لحمام فيه عدة قمارات. وخصص مبلغ من دخل المنشآت السجنية الخاصة لشراء كمية من النفط اللازمة نظيف إليها الكمية المخصصة من قبل إدارة السجن. ويبدأ الاستحمام صباحا من الساعة الثامنة صباحا حتى الثامنة ليلا بإشراف اثنين مناوبة مع آخرين لأيام الأسبوع، يبدأ بالردهات واحدة بعد الأخرى، بحيث تشمل الجميع مع تحديد المدة لكل داخل، يضبط ذلك الرقيب الخاص.
ثم دبر أمر شراء تلفزيون، ونَعمَ السجناء بمتع السهرات والموسيقى. ولكنهم أيضا لم يكتفوا بهذا. كل منهم يحتاج إلى راديو. فكيف يتم هذا؟ التلفزيون سمحت به الإدارة فهو محصور بمحطة الدولة. أما الراديو، فهو جواب يأتيك بكل محطات إذاعات العالم. ولكن إدارة السجن وتحفظات الدولة، ومديرية السجون تمنع دخوله إلى السجن. ولكن السجناء تمكنوا من إدخال أعداد كبيرة. وإذا ما قررت إدارة السجن والأمن تفتيش السجن والسجناء، اختفت أجهزة الراديو، مع دقة التفتيش. إذ أن لرجال الشرطة ومسؤولي السجن من الإدارة والأمن يخرجون السجناء إلى الساحة ويبقون هم للتفتيش. ولكنهم لم يعثروا على شيء!؟
وقد أولى المسؤول ومساعدوه الأهمية البالغة لتأسيس مكتبة وتزويدها بالكتب، وللسجين أن يرتادها في الوقت المخصص للمطالعة. وله أن يستعير الكتاب لمدة لا تتجاوز ثلاثة أيام، وإذا ما تجاوزت يدفع عن كل يوم خمسة فلوس، وقد نظمت الاستعارة من خلال التسجيل في دفتر خاص بالمكتبة.
كما نظم وقت خاص بالألعاب الرياضية المختلفة حسب الهوايات. يشرف على ذلك السجناء الرياضيون. وتم إعداد مسرحيات، وتمثيلها من قبل هواة التمثيل، يشرف عليها مخرجون أمثال قاسم الشبلي، وسركيس ... قاسم ألشبلي سجين عسكري وهو ابن أخ الممثل الأقدم حقي الشبلي. أما كوركيس فلا أعرف تماما اسمه الكامل، فقد أبدع بدوره في مسرحية قنديل ديوجين. وختم حياته السجنية بعد هذا بالبراءة، حين هددته زوجته بالطلاق الذي أقر شرعيته وحقها فيه القس!؟.
دورات مكافحة الأمية، ودورات لدراسة اللغات المختلفة، الانكليزية، والفرنسية، والكردية والفارسية. ومحاضرات في الأدب والتأريخ والاجتماع والاقتصاد. وحفلات للشعراء، الشعر الفصيح والشعبي. وقد حضر بعض هذه الحفلات بعض المسؤولين. فأعجبوا بهذه المهارات والقابليات. خصوصا المعارض -لوحات رسم رائعة-، بعضها بالريشة وبعضها بالنمنم. بعضها عنون بيوم المواجهة، وأخرى السجناء نيام، أو يستقون الماء المبرد، طبعا بتدبير مسؤوليهم. هم صنعوا صناديق خاصة للتبريد، بواسطة قوالب الثلج على أنابيب في داخلها من نوع خاص وتنظيم خاص. ومن الفنانين الفنان البصري هادي الصكر والطيار السيد نوري صالح. وقد حاول أحد المسؤولين شراء أحدى اللوحات فرفض صاحبها فهي ذكرى سجنه.

مآسي ومشاكل
السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا. هم من الجماهير التي تنشد الاستقرار فترحب بالجديد عله يحقق لها الأماني. ومنهم لا يهمه أمر سوى أن ينعق مع كل ناعق. وهو على استعداد أن ينبذ ما كان يتظاهر به، ليلبس لبوسا جديداً، وبنفس الضراوة ينقض على من تملقهم بالأمس بل حتى أن يتحول جلاداً. هؤلاء فعلا لم ينلهم شر.
النماذج الأخرى أصيب بعضهم بالجنون. نوع من الجنون. يبدو لك كأنه يحمل الحكمة برأسه، وينثرها دررا من كلام. وفيهم من لا يعرف غير أن يأكل كثيراً وينام كثيراً، نوما لا يستيقظ منه حتى بالهز والدفع العنيف. شرس يشتمك بعد لحظة وكان يبدي لك الاحترام. وآخر دأبه خلق الفتن والوشايات، حتى إذا وصلت المسألة إلى حد العراك، وقف كمحترم حكيم، وبمنطق سليم ليصلح ما أفسد، ويبني ما خرب!
وهنا عبقري. كان مدرساً، من عائلة شهيرة. أخوه الأكبر من رجال الجيش وذي رتبة عالية. زاره يوما وطالبه أن يعطي البراءة فترك أخاه وعاد دون جواب وبوجه صارم، هو من آل الشاوي. أشهد أنه مدهش في علمه الجم، وأدبه الغزير، وإطلاعه الواسع، ومنطقه الجذاب. لكنه قد يشطح ويتفلسف بما يحسبه الجهلاء كفراً، وخروجا عن المألوف. فتثور العجاجة من حوله حتى تطيح بصبره فيهرب كطفل تائه علاه خوف شديد.
اثنان -كلاهما كانا مدرسين- كانا مثالا للهدوء وطيب السلوك، لكنهما جُنا!. جنا حقيقة، أرسلوا إلى بغداد، وأعيدوا بتقرير -انهيار عصبي- وكأن إعادتهما علاج للانهيار العصبي؟ ليس هذا بمستغرب. نحن في عصر تدلل فيه الكلاب والقطط!؟ والإنسان ... إلى الانهيار العصبي والسجون والموت؟
فوجئنا بترحيل خمسة عشر سجيناً، منهم ولدي محمد. كان يحمل همومي، ويدبر ما أحتاج. وأنا وهو تأتينا أمه وقد حمّلتها ثقل عائلةٍ من سبع بنات كلهن مازلن في مدارس. كلهن مع أمهن آثرننا على أنفسهن. فلحد الآن لم تنته مسألة استحقاقي لراتب التقاعد. الابن الأكبر غادر القطر إلى الحجاز، ولم يعلموا عنه لحد الآن خبراً. ابني همام في بغداد يخشى الوصول إلى أمه وأخواته، فيقع في فخ المولعين بالكيد والصيد، والافك والانتقام. انه الآن مهتم بأمر التقاعد. بينما أمه وأخواته، يعشن على الخبز الخالي، ولا آدام سوى باقة فجل؟ من يصدق هذا؟ وأنا لم اعرض نفسي لطلب مساعدة ولا مسؤول يعتقد فيّ، إلا بأني من ذوي اليسر والرفاه.
ولدي محمد ولا عجب فيه، حين خبرته فوجدته على صغر سنه من أهل الصبر والجلد، والتأسي بالكرام من الراحلين الذين استشهدوا على مذبح الحرية. وقبعت في زاويتي، لم أفكر إلا بان لكل دور وطور في هذه الحياة نهاية. والصبر زادي، والموت حتم في رقاب العباد، كما قال زيد بن علي بن الحسين:
قـد كان في المــوت له راحـةٌ      والموت حتم في رقاب العباد
ولقد أذيع ليلا في 5 تموز -1964- عن تشكيل لجنة من كبار الحكام والقضائيين لإعادة النظر في قضايا المحكومين السياسيين، وتخفيف أحكامهم أو أطلاق سراهم!؟ وفي 21 تموز وصلت إلينا لجنة قضائية، صارت تستدعي السجناء. وتوجه إليهم أسئلة: كم عدد أفراد عائلتك؟ من يعيلهم بعدك؟ هل أنت مستعد لتقديم البراءة؟
هذا عسكري سجين من الشمال، أجاب عن السؤال الثاني: لست أعلم إن بقي لي أهل أم ...!؟ أجاب كبير اللجنة: أم ماذا؟
- سل الأرعن صاحب الصورة التي على رأسك؟ سل عن القنابل التي تهطل على سكان الشمال بأمره، فما يدريني، هل هم أحياء أم دفنوا تحت الأنقاض، بفعل القصف!؟
تنبه العسكري والتفت إلى صورة عبد السلام عارف المعلقة. وعجل العسكري الآمر بصرفه دون أن يستكملوا استجوابه.
لقد استقال طاهر يحيى، وشكلت وزارة أكثرها من المستقيلة. طاهر يحيى يبدو لي أنه خالٍ من كل ما يؤهله للحكم. فقد عرض على شاشة التلفزيون مع بعض شيوخ الأكراد. وسمعناه يخاطبهم: أحنه كرمناكم وأطيناكم، مو لما ترجعون تسوون جقلم بقلم!؟ واذكر للشيخ العقوبي قوله:
وقالوا سيحيى العدل فينا بطاهر      فقلت لهم ما في الوزارة طاهر
وعين صبحي عبد الحميد للداخلية، ورشيد مصلح. وماذا سيفعلون عن البراءة؟ الجرائد تعرضت لها وقيل أن الجرائد تجيب (أنها تعتذر عن نشرها في الوقت الحاضر).  ففي 28/8 نشرت جريدة الثورة العربية رداً قصيراً على شاب أسمه "فيصل الدليمي" يسأل عن نشر البراءات (لا مجال لنشر البراءات في جريدتنا. وكذا لم نجد هذا في الجرائد العربية خارج العراق). وفي 23/11 نودي على بعض السجناء الذين انتهت محكومياتهم، وقد طولبوا بالبراءة!؟. وسمح مدير السجن بإرسال أسمائهم إلى وزارة الداخلية بدون أخذ -براءة- لأخذ رأي الجهات العليا.
وفي 29/11 وصل سجناء حكموا هذه الأيام من قبل المجلس العرفي، وقد طولبوا بالبراءة!؟. من أعطاها حكم خمس سنين ومن رفض حكم عشرين عاماً!؟ وفي جريدة العرب العدد 169 في 12/1/1964 نشر اعتزال اللواء أحمد حسن البكر للسياسة بخطه بالزنكوغراف إلى الرأي العام العربي، جاء فيها (أني أحمد حسن البكر، لقد اعتزلت السياسة، رغبة مني لأنصرف إلى أموري العائلية) أما المقدمة التي قدمتها الجريدة فهي (يؤسفنا حقاً أن يعتزل السيد أحمد حسن البكر السياسة ويطلقها نهائياً!؟ بعد تجربة قاسية مريرة ولم يمض على دخوله المعترك السياسي غير أمد قصير. ويسرنا من الناحية الثانية أن يكون هذا الاعتزال صادرا عن رغبته الذاتية؟ وبمحض إرادته! والعرب من جانبها تتمنى للسيد اللواء البكر السعادة والراحة في حياته الجديدة إنشاء الله). إنها والله براءة محترمة تناسب مقامه، فالحزب الذي يرأسه البكر هو الذي جاهد أيام قاسم من أجل الرئيس عبد السلام.
وبالمناسبة أن مسؤول السجناء حميد سعود، حصلت له مفاجأة، فأثناء ما كان يطالع إحدى الجرائد العراقية، قرأ ما أثاره. وخرج إلى صحن القلعة، وقرع الجرس بشدة، جمد الذين هم في الساحة، وخرج الجميع مدهوشين من جميع الردهات، ليستطلعوا جلية الأمر، وانتصب على دكة ردهة المستوصف وقد بدا عليه الانفعال. وخاطبنا بصوته الرائع النبرات. أيها الأخوان في هذه الجريدة، لا أدري إن كنتم أطلعتم عليها أو لا -نشر فيها براءة- والغريب أنها موقعة باسمي الكامل، وأنا بريء من هذه البراءة. وبرهاني لديكم على صحة ما أقول. أني أقرأ عليكم استنكاري لها بالبرقيات التالية التي سأبرقها بواسطة مدير السجن إلى كل من وزارة الداخلية، مدير السجون العامة، الجريدة التي نشرت فيها البراءة، وفيها أيضا أعلنت استنكاري وشجبي لأسلوب البراءات.
وصفق جمهور السجناء تحية له وإكبارا. في اليوم الثاني صدر أمر من السجون العامة، تسفيره إلى سجن نقرة السلمان، بينما نشرت الجريدة نفسها إن صاحب البراءة التي نشرت أمس جندي متهم وخارج السجن!؟ إنه لموقف شجاع أن يقف الإنسان -أي إنسان- مدافعا عن كرامته. واتهامه بأي عمل لا يختلف أبداً عن أي عمل آخر يتنافى مع الوطنية وخيانة الضمير.
وقرأنا في الصحف انه قد أعفي كل من الدكتور إبراهيم كبه والعسكري أحمد محمد يحيى من بقية محكوميتهما بمرسوم جمهوري. الدكتور كبه غني عن التعريف وقد نشر قصة محاكمته في كراس، وأسباب حكمه لأنه أستوزر أيام تموز عهد عبد الكريم قاسم. كذلك أحمد محمد يحيى، قد عين وزيراً للتربية والتعليم أيام تموز الأولى.
وحدث انقلاب ضد الثورة اليمانية، ولكنه فشل. وهبت مظاهرات قصدت سفارتي أمريكة وبريطانية واحرقوا علميها. ثم جرد الرئيس السابق إبراهيم عبود من صلاحياته، ومن رئاسة جمهورية السودان! وأيد الحكم الجديد بإضراب الشعب كله. أحداث عالمية هامة حدثت هذا العام. فالشعوب الواعية ورجالها الأيقاظ لا يثنون عن أي عمل يوطد أركانها، ويدفع عنها كيد الدول الاستعمارية الرأسمالية. ونُحيّ خروشوف وحل محله بريجنيف. ربما كان هذا لأثر موقفه في تأزم حصل في كوبا.

السفلة والتكفير!
سكان القلعة الوسطى يقيم فيها الذين قدموا البراءات. بينما بينهم سجناء عاديون، وبالطبع يطلق عليهم جميعا "سياسيين". وحدث أن شب تهاتر بين أثنين عادي وسياسي عدة مرات بسبب موقوف -صغير السن، ومن أهالي الديوانية- عندما يخرج لقضاء الحاجة فجرى تصادم عنيف بين هؤلاء -السفلة- وبين السياسيين، بقناني -الكوكا- لكن المأمور -معاون السجن- قرر نقل الموقوف لا المعتدين!؟ وكانوا يهتفون أمامه (أنتو لازم للرمادي وبعقوبة!؟) وكان نتيجة التصادم أكثر من ثلاثة جرحى بجروح بليغة وسبعة بجروح طفيفة. وحضر ممثل الشرطة وحاكم تحقيق ومسؤول من الجيش مع مدير السجن وأجري التحقيق.
وفي سجن صغير يدعى -المعمل- عدد من السجناء العاديين أيضا، بينهم سافل يدعى رياض شير علي، أعرف أنه جُن في طفولته، ومراهقته، بحيث جرّ على والده وهو رجل طيب متاعب وآلام، حين وجدت الشرطة له ملابس على أحد جسور بغداد، وكتب على ورقة بخطه وتوقيعه -أنه ينتحر غرقا!-. وأبلغ والده فضل هو وبعض أهله في مركب مائي يتابعون مجرى دجلة علهم يعثرون على جثته طافية. بعد اليأس أقاموا الفاتحة، في اليوم الثالث منها فاجأ أباه ضاحكاً (كم كانت خسارتك على الفاتحة، هذا جزاء امتناعك عن طلبي منك عشرين دينار!؟). وفي أيام حكم قاسم تقدم مع من قدم من طلبة العلوم الدينية للدخول إلى الدورة التي فتحت لهم ليعينوا بعدها معلمين للغة العربية والدين، وبموجب امتحان يؤهلهم لدخول الدورة. لكنهم واجهوا الزعيم الأهوج فألغى الامتحان. أعرف أن الأغلبية حفاة من أية معلومات في اللغة العربية. بين هؤلاء عدد لم يعرف في حياته غير الفجور والخمور والقمار، وبينهم فقراء بالمعلومات. وعدد قليل منهم أشهد بحق إنهم أكفاء لتدريس إعدادية في العربية. في بداية الدوام في هذه الدورة راجعني اثنان أعرفهم جيداً، يطلبون مساعدتي بالتوسط لدى من أعرف من المدرسين. ونقل لي أحدهم أن أحد المدرسين اختبرنا بأسئلة في الأدب العربي وفيها عن عنترة العبسي، فأجبته:  عنترة هو شلايتي بن شلايتي، وعاشت الديمقراطية وعاش الزعيم عبد الكريم. وفي نهاية الدورة عينوا جميعا بعد توسلهم بزعيمهم!؟ وبين هذا المجموع قبل رياض. والحقيقة انه يتمتع بذكاء شيطاني، ولسبب ما نقل من كربلاء إلى كركوك، وهناك اقترف جريمة لواط مع أحد تلاميذه، وقبض عليه في غرفته بالفندق مع الطفل. كاد أبوه وبعض الأكراد أن يقتلوه لولا أن تحول الشرطة بينهم وبين محاولتهم، حتى انه حوكم ببلدة أخرى خشية أن يغتالوه، وحكمته المحكمة بخمس سنين.
هذا السافل حرض بعض سجناء "المعمل"، أن هؤلاء شيوعيون كفرة تجب إبادتهم! وعدم موافقة إدارة السجن بتكليفكم بأية خدمة في قلعة سجنهم، أنتم مسلمون وهم كفرة. إدارة السجن لا تكلف إلا الذين عوقبوا بالسجن لجرائم، ثم هم لا يقومون بنقل ما في البراميل من فضلات طعام وزبل والسياسيون هم ينظفون على طريقتهم الخاصة. ثم حرضهم أن يسرقوا معلبات وضعناها في رف عال مجاور للمعمل، والحاجز شباك من حديد. فامتثلوا واقتسموها بينهم. أخبرنا مدير السجن فثبت بالتحري صحة الخبر حيث عثروا على العلب بعد فراغها مرمية من شباك سجنهم. وبعد التحقيق اعترفوا جميعاً بالمحرض  والموافق. بعد الضرب المبرح الموجع على المسلم رياض "مرزه شير علي" تم نقله وأعوانه إلى سجون بعيدة. كان أسمه في الأصل مرزه شير علي، ثم أبدله بـ رياض شير، وشير تعني أسد. وهم من أصل هندي والهنود كالإيرانيين والأفغان يضعون ألقابا من هذا النوع -شير علي أي أسد علي- على أية حال إنهم أسرة طيبة معروفة في النجف إلا هذا المجنون.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏‏01‏/08‏/2011


88
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 14
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


انقلاب 18 تشرين الثاني 1963

حلمٌ، وواقع وحدث ...
معي ولي سابق مع الأحلام. ومع هذا لا أستطيع أن أتشدق برأي من عندي حسبما صادفت من رؤى تحققت، وبأسرع ما أتصور. بعضها ليس لي علم عنه بسابقة، أو في نفسي حول من كان حلمي عنه. أيّ خاطرة، من توجس محذور، ولكن الحلم وكان رمزياً استطعت حله، وعراني كدر. وبعضها كان صريحا في دلالته، وهو يشير إلى ما نعانيه ويعانيه غيري. ولكن كيف جاء ما يشير إليه كما يهوى المتمنون؟
في الحلم ليلة 12/11/1963، أبي يملي عليّ -بعد أن أمرني بإحضار قرطاس وقلم-. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وان محمدا رسول الله، واني احتكم إلى الله من حكومة "نوري" فهو الحكم الحق. ثم يطلب مني تقديمها بريديا إلى الحكومة. صباحا حين خرجت التقيت برجل من الأخيار، كان يحبني، وسبق أن ساعدني بقرض. صرت أقص عليه الحلم، وهو يصغي بانتباه. قال الرجل وهو عامي. أسم والدك الشيخ "محمد" وهو اسم النبي كما انه واعظ جليل، وهو الآن بجوار ربه الكريم، فظهوره لك في الحلم، يعني أن حلمك -سيتحقق-!.
اقتربنا من صيدلية -كربلاء- سكنت أصوات الراديو فجأة، ثم دوى صوت المذيع. بيان الحاكم العسكري! يمنع التجوال لأشعار آخر! بعد هذا أذيع إن الحكومة تمكنت من سحق المتآمرين. وإفشال ما كانوا يخططون له، وإلقاء القبض على قادتهم. لم نفهم من كل هذا شيئاً، إلى من يشير؟ صاحبي أستعجل وعلق: انه ليس حلما. أنه وحي -رحمك الله شيخ محمد-.
بعد ستة أيام في 18/11 أذيعت جملة بيانات. منها حل تشكيلات الحرس القومي، مع توجيه كثير من التهم لهم. ووجوب تسليم أسلحتهم للجيش أو الشرطة. وعلى الأثر سمعنا دوي الرصاص في كربلاء. حاول كثير من الحرس المقاومة والامتناع عن تسليم أسلحتهم.
وصدر أمر منع التجول في عموم العراق. وكذا أعلن: إن من يؤوي حرسا ومن يخفي سلاحا، يعاقب. وأغلقت المطارات والحدود، وأوقف القطار. وعاد الناس هم الناس الذين عرفناهم، صفقوا لهذا  النبأ، وأعلنوا الفرح كما صفقوا لنبأ انقلاب 8 شباط 1963 وتظاهروا اليوم، كما تظاهروا بالأمس وتسابقوا في إرسال البرقيات فأذيعت متتالية تأييدا للسلطة الجديدة، ورجل الحكم الجديد عبد السلام عارف. كل هذا غير عجيب. والأسباب الحقيقية هو أن شعبنا لم يُعوَد على الحرية عن طريق الديمقراطية، وكانوا يرهبون كل حكم وحاكم فهم يتملقونه تستراً على حالهم ومن أجل سلامتهم. يعني أنهم علموه بتنافسهم هذا  أن يكون منافقاً.
عبد السلام؟! باسمك -هؤلاء الذين قلبت لهم ظهر المجن- يهتفون في شوارع العاصمة (باسمك يا سجين نحقق الوحدة). لقد خنت الإخاء، وتنكرت للذين ولّوك قيادهم وأولوك اهتمامهم ولكنك ضربت ألغازا وأحاجي تشير إلى حقيقة نواياك، بينما الناس اعتبروها توافه من تافه (طاسه ابسط طاسه والبحر ركاسه!؟). ولقد منح نفسه صلاحيات واسعة لمدة عام. وقال الناس: إن كل ذلك تم بجهود حردان التكريتي!
والجدير بالذكر إن القاهرة لازمت الصمت! ثم أصدرت بيانا حددت موقفها. بينما أعلنت دمشق سخطها! وأصدر الحاكم العسكري بيانا يمنع تدخل المواطنين بالبحث عن المشبوهين من الحرس القومي!؟. ثم رفع منع التجول في 19/11. ولكن ماذا عن أمثالي وعني؟
أول الخير نالني من الحكم الجديد، هو أن معاون أمن كربلاء منعني من السفر إلى بعقوبة لأتسلم نصف الراتب، وحين أرسلت ابني نيابة عني انزله شرطي الأمن  من السيارة وسلمه إلى مفوض الأمن عبد الجبار السيد علي هذا الذي قدمني إلى المعاون، وهو يمسك يدي بقبضته بقوة ويلهث: سيدي، إذا سقطت حجارة في بيت قول مِنْ هذا، إذا اجتمعوا شيوعيين قول في بيت هذا، إذا طلعت مظاهرة قول مِنْ هذا، ذوله كعبة الشيوعية، كل الشيوعيين أعترفوا إلا هذا!؟
هذا المعاون عليه سكينة وبين حاجبيه أثر السجود، ولكنه -كما يبدو لي- غبياً إلى أبعد الحدود. فهدد وشدد إن أنا حاولت السفر. فلم أجد بداً من محاولة مواجهة المتصرف -المحافظ- حسن حاج وادي واستطعت ذلك. انبسط الرجل، وأنا أقص عليه حكايتي التي ختمتها. إن عائلتي الآن تتألف من سبع بنات وولد، وأنا وأمهم، فأن أصر المعاون لا مانع لدي أن أتوجه بتظاهرة، أحمل لافتة، أكتب فيها: أحجرونا في موقف الشرطة أو أبنوا علينا بنيانا مادمتم تمنعون عنا أن يأتي أبونا بمورده الوحيد!؟ قال الرجل غداً في مثل هذا الوقت أعطيك نتيجة، سأكلمه. وتأوه وقال: المؤسف إن كل عهد نجد فيه السلطة تعتمد على هؤلاء، وهؤلاء صار بيدهم القدح والتنزيه، كل فئة تنتصر تنعم عليهم، فيزيدون تنكيلا بالخصوم، حتى يملأوا السجون والمواقف، ويشغلوا الحاكم، ويزيدوا العوائل تعاسة، والأطفال يتما، وذلة، وهم في مأمن في كل العهود! وحسن حاج وادي من أهالي الديوانية وكان شابا وقوراً متبسطاً.
وجئت ثانية بناء على ما أبلغني به مدير التحرير عن المتصرف. لكن المعاون -كما قيل- كان مشغولا بالتحقيق مع جعفر السوداني بتهمة مساعدته للمتهم ألحرسي الهارب كاظم الفرطوسي. وفي هذه الأثناء أنزل من سيارة الشرطة حسين الصافي الذي كان متصرفا في لواء الديوانية، دخل يقوده مفوض شرطة، كان ذليلا وقد سيطر الرعب عليه. حسين الصافي كان متصرفا في لواء الديوانية، ويروي بعضهم انه يشرف بنفسه على التعذيب والتحقيق وهو ابن أخ الشاعر أحمد الصافي النجفي الذي عاش في لبنان ومات نتيجة رصاصة طائشة من اشتباكات بين اللبنانيين.
كان الشرطي "هادي الكعبي" يأكل برتقالا، فرمى الصافي بالقشور وشتمه: شكول البين، أنت قحِف، أنت مال متصرف؟ وهادي الكعبي –قومي الميول- كان شرطيا بوظيفة كاتب، أوقف أيام كان جابر حسن الحداد متصرفا بدعوى محاولة اعتداء فحش على طالب في الثانوية. يبدو انه كان أثناءها كاتب طابعة في المدرسة.
وكم كان فرحي كبيراً حين قرأت تصريحاً لوزير الداخلية، والحاكم العسكري، إن الذين أطلق سراحهم بكفالة أوقفت التعقيبات القانونية بحقهم تلقائيا. لكني فوجئت بتبليغ من المجلس العرفي العسكري الأول، بموعد المحاكمة!؟

بين أمسي القريب ويومي!   
زرت بعض المتهمين الذين أحيلوا قبلي إلى المجلس العرفي الأول بعد عودتهم بيوم. اثنان منهم خريجو كلية القانون، يشتغل أحدهم محامياً، أما الآخر فموظف. الأول "محسن النقيب" ترأس حركة أنصار السلام في كربلاء وكان شيوعياً. والثاني مسؤول في منظمة الشبيبة الديمقراطية "أحمد العلي" وكان شيوعيا أيضاً. أما الثالث فابن لثري يداوم في كلية القانون، وله متجر.
- ايه، حدثوني كيف لقيتم الجو؟ حار؟ أم هو بين بين؟
أجاب أحدهم: تريد الخلاصة، قرينه دعاء "الجلجلوتية"!. فآمن الثري على الجواب!.و"الجلجلوتية" تعبير عامي من ناحية اللفظ لا أصل لها، ويقصدون بهذا أن المخاطب تجاوب ولكن بلهجة مغرية وجذابة حتى وان دلّت على الضعف والاستعطاف. مسؤول حركة السلام قال في المحكمة: دخلت حركة السلام، فلما عرفت إنها وجه من وجوه الحزب الشيوعي، تخليت عنها!؟
يقول بعض الفقهاء يجوز الكذب لمن وليه كافر ظالم من أجل نجاته وسلامته، إن كان في ذلك خلاصه!؟ وكان ممكنا للسيد المحترم الذي استنكر من السيد عزيز شريف حين ظهر انه يجهل إن صاحبنا ممثل حركة السلام في كربلاء كان شيوعيا لكنهم اسندوا إليه حركة السلام، ومن الحق أن يقول: إن الحركة لم تكن مجال عمل شيوعي، إنها مجال نشاط من اجل السلام، ويعتبر الشيوعيون تزعم رفيقهم لها مفخرة ودعاية. وان لم يكن لي علم قبل نقده للأستاذ عزيز شريف في اعتقاده أني أنا لا هو من يمثلهم. أقول كان ممكنا أن يدعي انه نصير سلم حسب ولا داعي للكذب وهو لم يتخل عنها أبدا إلا بعد انقلاب 8 شباط . ولكن المسألة هنا تختلف.
حدث ذات مرة خلاف بين قادة حركة السلام هنا. فالطبيب من الحزب الوطني الديمقراطي "هادي الطويل" عضو الحركة يتهم الشيوعيين هم المسيطرون عليها! واشتد الخلاف. مما أضطر المسؤول عن الحركة الأستاذ عزيز شريف وزميل له الأستاذ  مظهر العزاوي الحضور ودعوة عدد محدد هم كل من الطبيب والمسؤول الكربلائي عن الحركة المحامي "محسن النقيب" وأنا ومحام من جماعة محمد حديد، وتاجر معروف في الوسط الأدبي والسياسي هو السيد حسن عبد الأمير. وفتح الحديث الأستاذ عزيز شريف. تخلله جدل واتهامات، فنهض الأستاذ شريف، وأشار إليّ وإلى المسؤول "محسن النقيب" بعد أن انتحى بنا ناحية، قال موجها كلامه إليّ: أنت طبعا تمثل الشيوعيين، والمحامي يمثل المحامين!؟ قلت: لا سيدي أنا أمثل نفسي، وهو يعرف من يمثل!
وبعد أن تم بحث الخلاف، قال الأستاذ عزيز، أمام الجميع: إن حركة السلام لا تمثل حزبا معينا، وهي ليست حزبا، إنها حركة. لا تعتمد على نظام داخلي، ولا منهاج، ومن حق كل مواطن يدرك خطر الحرب والأسلحة النووية في الفناء التام للبشرية في الانتماء للحركة. من حق كل مواطن حتى الإقطاعي، والبدوي، أن يساهم بالاستنكار والاحتجاج ضد تطور السلاح النووي.
حين ودعناهم وعدنا، في الطريق قال المحامي "محسن النقيب" مسؤول الحركة: أبا كفاح أنت تمثل الشيوعيين وأنا –محسن النقيب- أمثل المحامين!؟ أعاد كلمة الأستاذ عزيز بنبرة امتعاض ومزيجة بسخرية!؟ مرحا لك اليوم يا أخي في الإجابة عن التهمة، أنا الأقرع الوحيد بينكم. المثل في الأصل من أمثال العامة، ويراد به إنهم كانوا يسخرون من الأقرع فيتهمونه بكل ما يفعلون ليضحكوا. لقد شهد جميع صحبي من مؤيدي حركة السلام، باني أكثر نشاطا من أكثرهم. حين طلب من المؤيدين عمل اقتراع من أجل منح أنشط المؤيدين -مدالية- خصصها المجلس الأعلى لحركة السلام، وقد حزت أكثر الأصوات، وتكرر الاقتراع مرتين!؟. وحين حضرنا اجتماعا دعينا إليه في مقر الحركة الخاص، أسرّ إليّ مسؤول الحركة "محسن النقيب"، وزميل آخر مستغربين رفض الممثل الأعلى الأستاذ عزيز شريف منحها لي!؟ وبعد جدل معه، ردهم بعذر لا صحة له: إن زملاءه شيوعيو النجف يقولون انه أعطى براءة!؟ أليس هذا مضحكاً ويتنافى مع ما أشار إليه يوم التحكيم!؟ أليست هذه ازدواجية في الموقف!؟ حيث قلت أمثل نفسي، بينما المسؤول الكربلائي أنفعل لأن الأستاذ عزيز شريف لا يعرف أن المسؤول شيوعي ويمثلهم. لكنه في المحكمة تنصل واتهم الحركة بأنها وجه من وجوه الحزب! ومسؤول حركة السلام في كربلاء السيد محسن النقيب، هو الذي جادل الأستاذ عزيز شريف باني الذي يستحق الميدالية. وهنا كان رده -عزيز- مناقضا لقوله: إن حركة السلام لا يهمها من المنتمي إليها أن يكون من أي حزب لأنها ليست حزبية!
ابلغنا بموعد المحاكمة. وفي 20/01/1964 توجهت إلى بغداد. هناك التقيت بالمتهمين الآخرين الذين أعرفهم من معلمين وبعض الكسبة كجيران. واقترح البعض أن نقضي فترة من الليلة في دار سينما عرفنا إنها تعرض فلما باسم "ثلاث فتيات مستهترات"، حين عارضت ساخراً أهي سلوى أن أشهد فلما عن مستهترات؟ ردّ عليّ آخر، يوغسلافيا بلد اشتراكي لا تعرض أفلاما سيئة كما تتصور. قلت في نفسي، صدق والله. وحان الوقت فذهبنا. كان الإقبال عظيما والزحام شديداً، وبدأ العرض. فشغلت عن كل أمر عدا الشاشة وما تمثل عليها.
فتيات: نعم ومستهترات، وبسبب الخراب الذي حلّ بالبلاد، واشتداد المجاعة، بسبب احتلال النازيين الغزاة البلاد. والأنصار يقاومون في الغابات، حيث يترصدونهم. أولئك الفتيات كنّ يهبن أنفسهن للغزاة من أجل لقمة العيش. لكنهن -وهذا أمر غريب- رفضن أن يهملن أمر الوطن. حين مرّ جيش غاز على الغابة، سارعن قبل وصولهم إلى تنبيه الأنصار، فتأهبوا وأبادوا وشتتوا شمل العدو بكمائنهم. كانت سهرة رائعة، حين انتهت كان حديثنا عن حب الوطن والذين لا يهمهم غير أن يعيشوا وكأن الخلود شراب وطعام، وضحك ومنام؟ وما سرَّ "خالد بن الوليد" أن يموت على فراشه، فصاح (لا نامت أعين الجبناء). وعلي بن أبي طالب، يدعو بعد كل فريضة (متى يخضب أشقاها هذه -ويشير إلى لحيته- من هذه ويشير إلى هامته؟) حيث خاض غمرات الحروب.
في صباح اليوم -21/01/1964- توجهنا نحو المجلس العرفي العسكري الأول. ننتظر حكم القدر. يتلفت المتهمون يمينا ويسارا. يتساءلون: أين المحامي؟ لقد وكله عدد لا بأس به منهم. أنا وأبناي منهم -بعد إلحاح من أحد الذين قرأوا الجلجلوتية- وانه اقنع المحامي أن يستوفي عني وعن ابنيَّ خمسين دينارا مقدمة، وخمسين بعد الخلاص، وكان الشرط أن لا يحرجنا بطلب -الجلجلوتية- أي البراءة. إنها اعتراف ضمني بالتهمة، وفاقد الشيء لا يعطيه، كما أنها إذلال لإنسانيتنا. ولاح المحامي المحترم. لم أكن قد رأيته قبل هذا، الوكالة تمت بواسطة زميل له، هو محام أيضا. وكان المتهمون -بعضهم- يعتقدون إن المحامي على أتفاق مع رئيس المحكمة لينتفع وينفع! فنجاحه أكيد، وعلينا أن نحترس من الزلة، وخيانة التعبير وزلة اللسان؟ كيف يزل لسان البريء؟ لا أدري!
وخرج إلينا المحامي "راسم بابان" مرتديا الروب الأسود، وألقى بهدوء كلمة مختصرة: إخوان، أرجوكم كونوا لبقين، راوغوا، وهادنوا، وكلمة بسيطة تتطلبها المحكمة منكم ستبقى في جو المحكمة لا أكثر، وتتلاشى!؟ يقصد بالكلمة -البراءة من الحزب الشيوعي-. وتناوشته الألسن. لكنه عاد إلى المجلس. ودنا منا معاون شرطة، كان كهلا، على شعر رأسه نثر أبيض. حسبته رجلا كيساً. ودنا مني يسألني: انتو من كربلاء؟ أجبت نعم.
- تعرفون حميد أسود، ذقتوا ايره!؟ ويشير بذراعه! يا للعار. من يره يحسب أن مظهره يجسد الطيبة والبراءة. ولست أدري وأنا لم يسبق لي أن سمعت بهذا الاسم الذي ذكره. فقلت له: أنت شايفه؟ فقد حضرته رزانته وانهال علينا سباً وإهانة ...  سألت زملائي الكربلائيين عن حميد أسود، وكانوا قد غرقوا بالضحك من المعاون وبذاءته بشكل جنوني، قالوا: سافل من قوم لوط وقد هلك.
ثم جاء دور المنادي، ليدخل القاعة كل من ينادى باسمه ... هنا لون آخر من المهازل. كان يقرأ الأسماء محرفة تحريفا مهينا ومضحكا. لطيف العلمجي أي -لطيف المعملجي-، علاء الخشمي اي -علاء الهاشمي-، حسين شنع أي -حسين شبع-، علي الشبنتي أي -علي الشبيبي- ولم يسلم اسم من التحريف. لا بأس ليكن أي شيء، هذا هو قدرنا، ليس نحن فقط، بل -العدالة- أيضا. جبران خليل جبران يقول:
العدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا   به       
ويســـتضحك الأمــوات لــو نظــــــــــروا
نحن في ذمة الضمير الحي! فهل يتذكر أن لنا أطفال وأمهات وزوجات؟! وهل يتصور في الخيال أن يؤول أمره يوما إلى مثل موقفنا هذا؟
كان رئيس المجلس غائبا. قالوا انه يدعى "نافع بطة". تصدر المجلس نائبه "هاشم السامرائي". عن يساره هيأة المحكمة. قبالهم وقف نائب المدعي العام "صفاء"، وألقى كلمة عن المتهمين. كان عددنا خمسين متهما، واحدة منهم امرأة.
إلى هنا أجلت المرافعة إلى غد. وحين خرجنا استقبلنا رجل أمن. وأشار بالوقوف. قال: كل من اذكر اسمه عليه أن يركب في تلك السيارة. وأشار إليها. وتوجهت بنا السيارة إلى موقف السراي. وقد وجدناه يعج بالشباب وعدداً من الشيوخ بحيث لم يعد يتسع لمجموعنا. هكذا صرنا ضيوفهم، فوسعوا لنا. وقضينا النهار نسمع من كل من يدنو منا حكايته ... هذا أصيب بـ "الـتي بي"، وهذا شلت يده، وهذا أعجب، أيرَهُ صار خيطاً بالياً، فالتعذيب أكثر ما لقيه هو دون سائر أعضائه! وهلم جرا. فمتى يأتي صباح الغد لتقرير المصير؟ وان غدا لناظره قريب؟

الحاكم والعدل!      
نحن صفوف منتظمة، بنفس القاعة، قفص الاتهام لم يسعنا. النوبة للشهود من الشرطة؟ كنت التقيت بالشرطي "راضي الياسري" في شارع العباس، وجادلته. بذمتك أنت شاهدتني أنا مع المتظاهرين!؟ فحول وجهه إلى حرم العباس، وصلب على صدره بذراعيه وقال: هذه كتافي للعباس إن كان لي عليك شهادة! لكنه قال في المحكمة: شاهدته واقفا على الرصيف!. والواقع إني لم أشاهد أية مظاهرة ولم أخرج من البيت.
الشرطي الآخر"عباس" قال: خطب في المظاهرة وقال (لِنَفقأ عيون أعداء الشيوعية). الحاكم هاشم السامرائي يعلق: ولك أبو شيبه خره بشيبتك؟ ولك كنت ترغم التلاميذ الصغار تريد تعلمهم الماركسية! ولك آني إجاني اسمك لفلسطين عام 1948!؟ الشرطي الأول عرف لدى كل الأوساط بأنه -يأخذ من الحافي نعل- ابتلى بمرض السكر بعد شهر من إفادته في المحكمة العرفية، بعد أن وجه كلامه للحاكم: سيدي أنا أعيش من الدولة وأريد احلل خبزتي بإفادتي!؟ والثاني "عباس" بعد عودته صدمته عربية النجاسة فمات في الحال. ربما كان سبب ما أصاب الأول تأنيب الضمير لأنه أقسم وأفاد إفادة كاذبة.
المتهم المعلم نعمة أمين الأطرقجي أنا أعرفه ومتأكد أيضا انه عضو في الحزب الوطني الديمقراطي، ولا علاقة له قط من قريب أو بعيد بالحزب الشيوعي. بل انه ضد الأفكار الشيوعية. أرسل حزبه المحامي عبد الله عباس للدفاع عنه. ادعى الشرطي عباس انه جاء مع المتظاهرين ليهاجم سراي الشرطة وهو شيوعي. رد المتهم: سيدي الحاكم أنا من مؤيدي الحزب الوطني الديمقراطي. صاح الحاكم السامرائي: بعد أنجسين!؟ وعقب الشرطي. سيدي صحيح هو منتمي للوطني الديمقراطي، الا الشيوعيين همّه دفعو حتى يصير جاسوس عليهم!. وحمل المحامي ملفته وخرج مقاطعا المجلس، دون أن يفوه بكلمة احتجاج على الحاكم من أجل كرامة حزبه، أو دفاعا عمن أوكله الحزب للدفاع عنه!
ثم أصدر الحاكم الأحكام (يجد القارئ أدناه صورة قرار المحكمة/ الناشر). بدون أية مناقشة، إنما مجرد سباب وشتائم. كانت حصتي السجن سنتين، ابني محمد خمس سنوات، وكفاح ستة أشهر مع وقف التنفيذ. وأطلق سراح عدد في مقدمتهم المرأة التي اتهمت مفوض الأمن لطيف الجبوري، انه كان يطالبني أن يأخذ مني البيض مجانا، ويوم المظاهرات كنت حيث أجلس كل يوم في السوق، لم تصل المظاهرة حيث أبيع البيض. ومن المضحك أن أخوين اثنين، الأصغر كان يوم انقلاب 8 شباط في مدينة أخرى كما أفاد وأعلن (انه يمكنكم استدعاء صاحب مقهى في مدينة البطحة ليدلي بشهادته، فقد بتُ في مقهاه ليلة 7-8 شباط بسبب عطب في السيارة حين خرجت من الناصرية). أجاب الحاكم -نصاً-: خلِّ أبطحك وروح أنت أثبت!؟ بينما أعفي أخوه الذي كان في كربلاء وشارك بالمظاهرة! لأن الشرطي عباس نزهه، وضَمنَ له وصول الخضرة والفاكهة فهو كاتب خان المخضرات!؟

 


قرار الحكم الصادر من المجلس العرفي العسكري الأول بحق مجموعة من المتظاهرين
-في كربلاء- ضد الانقلاب الدموي يوم 8 شباط 1963
خرجنا نجر الأقدام، والشتائم تنهال على المحامي "راسم بابان" الذي لم يحضر جلسة المحاكمة نهائيا. فهرب وتبعه بعض أولياء المحكومين ليستعيدوا الخمسين ديناراً التي أستلمها من المحكومين الذين أوكلوه بشرط. إلا أنا فليس لي من يطالبه. وحضرت السيارات، فركبناها إلى سجن الحلة. أنا لا أستغرب أسلوب المحامي راسم بابان في مثل هذه الأيام وكثير ممن تخرجوا من كلية القانون هم مثله أما أن تخرج بالقدرة كما تعبر العجائز، أو هو من نمط اللصوص وإلا كيف يتركنا ويهرب. أن معظم أولياء الذين حكموا استرجعوا ما أخذه المحامي منهم، أما أنا فليس لي من يطالبه.
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏25‏/07‏/2011


89
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 13
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)

 

الريح ما تزال ضدي
   حاولت وأنا مخطئ أن أطالب بالعودة إلى الوظيفة. وشيخنا الشبيبي لم يعتذر. لكنه لم ينجز خطوة واحدة، لأفَكَ يدي -على تعبير قوانين الوظائف- مسحوب يد، ثم -فَك اليد-   ومسحوب اليد يبقى خارج الوظيفة حتى يلغى -سحب اليد- بقناعة الدائرة، أو بعد إحالته إلى لجنة انضباط أو حكم المحكمة -أي محكمة يحال أمره لها- ببراءته! وسافرت إلى بغداد لتعزية الشيخ بوفاة أخيه جعفر الذي توفي صبيحة انقلاب 8 شباط. ولم أحرك ساكنا عن قضيتي تاركا إياها إلى أولي الأمر رغم إني جلبت من بعقوبة ومن مديرية التعليم رقم كتابها إلى الاستخبارات العسكرية والأمن العامة ولجنة التحقيق في مقر الحرس القومي.
الدائرة المسؤولة العليا طبعا في شغل عن قضية أمثالي. فالأكراد أعلنوا تمردهم ثانية. كما أن راديو بغداد أعلن بيان المجلس الوطني عن القضاء على مؤامرة شيوعية فجر اليوم -3 تموز 1963-. وتأخر فك يدي، وعدم أي تصريح بتطميني من قبل شيخنا يدل إني سأحال إلى محكمة، وطبعا عرفية.
لِمَ التشدد ضدي، والتحقيق لم يثبت ما يدينني!؟ حمداً لله، ربما يرونني ذا شأن في مسائل النضال! آه ما أجل أن يكون الإنسان ذا عقيدة يخلص لها حتى الموت. الموت هو الحد الفاصل بين الصادق والمدعي، الذي يعلن التوبة حين يلوح له حبل المشنقة. ولكن أيضا لا الذي ينكر ما أسند له، وشاجبا. إن ذا العقيدة، من يدافع عن عقيدته، ويشجب التخريب والاعتداءات.
جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده كانا صريحين في مواقفهما. وسعد زغلول عرف عنه انه قال لزوجته: يا صفية أنا قررت أن أضع هذه -وأشار على عنقه- على هذه وبسط كفه!. فأجابت، وأنا إلى جانبك أضع هذه على هذه!.
ولكن لماذا أكذب على نفسي، فأعترف بما لم أقم به قط. فقد طلقت السير على طريق الكفاح. جبنا كان ذلك مني، أم لأمر آخر. لقد تنحيت دون تأثير من أحد، ولا تحت يد مسؤول في حكم. وقد مرت سنون طويلة على ذلك، بحيث لو أن طفلا ولدَ يوم ذاك هو اليوم أب. ولكني والمثل نسائي (لاحظت برجلها ولا خذت سيد علي!).
أهم ما يشجيني ويبعدني عن الانتماء للتنظيمات والحركات السياسية هو أنها تقرب المتملقين ويرفعون من شأنهم. كما أني وجدت التناحر بينها حاد في الوقت الذي يتحتم عليها أن تتوحد، لعمل وتخطيط لإنجاح الهدف الذي تسعى إليه، لا أن تفرط في تحالفها حالما تحقق خطوة واحدة، كالذي حدث حين تحققت ثورة 14 تموز.
الاستعمار الحديث أهم سلاح لديه اليوم هو أن يوقع بين الفئات الوطنية. ويشيع عن كل واحدة إشاعة، فتصدقه وتطيح بها وتنكل بأعضائها ومؤازريها. وفي البلدان الرأسمالية الاستعمارية، أحزاب شتى، عمالية، ومحافظين وكثير من تلك المسميات، ومنها أحزاب شيوعية. مثلاً، فرنسا، بريطانية، أمريكة وإيطالية، فيها أحزاب شيوعية وهي أكثر عداء للشيوعية من أي بلد مثل بلداننا!
إننا كنا ونحن في المدارس طلبة، وبعد أن صرنا معلمين، نضرب مثلا شائعا، إنه حكمة من حِكَم الأجداد ما تزال حيه. ذلك الرجل الذي أمر أولاده وهو على فراش المرض، أن يأتي كل واحد منهم بعصا، ضم مجموعة العصي إلى بعضها فكانت حزمة، وطلب من كل منهم أن يجرب كسر تلك الحزمة. فلما لم يتمكنوا أعطى كل واحد أن يكسر واحدةً. فتمكن الجميع من ذلك. وقال هكذا يحطمكم عدوكم إن وجدكم متفرقين، ولن ينجح مسعاه إن صرتم يداً واحدةً.
حتى متى سنظل مطمعا، نخشى الغرب الذي ثبت -اللقيطة إسرائيل- بينما نبدي البطولات فيما بيننا. ماذا لو قاطعناه ونتوجه إلى الدول التي نبذت النظام الرأسمالي. لكننا أيضا نخشاها لأن الدول الاستعمارية صورتها لنا بأبشع الصور، واتهمتها بأبشع التهم. شاعر من شعرائنا أشار إلى هذا بقوله:
وخـــوّفوهـــا بدُبٍ ســوف يأكلهـــا      في حين تسعون عاما تألف السباعا
أي وربي لقد خوّفونا وصدقناهم، وكذبنا من تعمق منا بالعلوم الاجتماعية والاقتصادية وخوفونا منه!؟ في حين يدَّرس الغرب الاستعماري كتب ماركس في جامعاته. اللعنة على الجبناء ويا ويلهم ....
*               *               *               *
يا دهر لو ضاعفت في شقوتي         والـداء لــو حملتني أعضــــله  
أجل. شقيُ ولا أعلم هل لليل شقائي آخِر؟ ومتى؟ أي جرح أداوي، وأيَّ ألمٍ أحتمل. ولدي -همام- الذي سَلِمَ مما وقعت فيه أنا وأخواه، وقع الآن بأيد كان بينه وبينها حساب! وأكبر الظن إني أنا السبب!
صديقي القديم عبد الرزاق محي الدين، الذي أصبح دكتوراً في الأدب العربي، وكان أستاذي أيام العمامة، ولم أكن تلميذه حسب بل كنت صديقه الأشد التصاقا به من كل صديق وقريب! حثني أحد أصدقائه "السيد علي شبر" وهو صديقي أيضاً أن أذهب إليه معه نزوره ونطرح الأمر عليه. فقد أصبح شخصية بارزة. دع المسألة على عاتقي، أنا أشرح الموضوع أما أنت فالزم الصمت. فأنت تعلم اتجاه -هواه- المعاكس لهواك، فالرجاء أن تضغط على أعصابك، وجامل قدر الإمكان.
هناك سمعت من أحاديثه -بعد العتاب التوبيخي!- نمطاً من الأفكار والمفاهيم، ما أدهشني لغرابتها وبعدها عن ثقافته وما تعلمته منه من فكر يهدف إلى أسمى درجات التحرر! أأسمع الساعة صاحب "العصفورة وأحلام اليقظة ورَبة الدَل" يتحدث عن الاتحاد السوفيتي، بأن مواطنيه يتغوطون في الشارع، بلا حياءٍ منه كعيب؟ّ! وعن الجوع المنتشر هناك، والجهل الفظيع؟ المعدان عندنا أثقف منهم!؟. سبقني صاحبي -كيلا أرده- وقال، أمر طبيعي هذا لدى ذي الجهل الفظيع، والجائع أمثالهم، أن يتغوط كأي حيوان وهو يمشي!؟.
أخيرا فاتحناه بما جئنا من أجله. هز رأسه وقال، أنا أعرف أن ابنك يستحق، وأنت المسؤول؟! وبادر صاحبي بعد غمزة عين -لأمسك لساني-.  ورده، هذا ما لا يصح طرحه، جئنا لتتوسط أمره، وحتى الكلية يجب أن لا يحرم منها.
تراجع وقال، انتظروا فبين الساسة الآن خلاف، وقد تنكشف دنياهم عن حل لصالح -الرئيس- عند ذاك يتم إنقاذه مؤكداً. وغادرنا بيته شاكرين. يبدو أنه كان على علم بالخلاف بين الرئيس عبد السلام وحزب البعث.
وفي 30/7 توجهت ثانية إلى بغداد قاصدا بعقوبة لاستلام -نصف راتبي-. لكن صوتا يصيح بأذني، أن إذهب إلى ولدك؟ لا غرابة. أنا والد، وهو فلذة كبدي. وتوجهت إلى بيته، وقبل أن أستقر، جاء وعلى وجهه مسحة أسى، وبادرني. جئت في الوقت المناسب. إنهم ينتظرونني، لقد جاؤا مفاجأة إلى المدرسة وطالبوا المدير بانزعاج! أحضره حالاً، وبلهجة تهديد. أنت تتستر عليه، أما تعرف من هو؟ كنا نبحث عنه، ولا نعلم أن إنسانا محترما مثلك يحميه. لولا أن يبلغنا عنه شخصية محترمة كبيرة!. ثم عقب ولدي، من هي الشخصية؟ ألا يمكن أن يكون هو صاحبك؟
كانت هذه المفاجئة صدمة عنيفة لي. وشمرت عن ساعدي للعمل. أبلغت الشيخ "محمد رضا الشبيبي". فوعدني خيراً، وحفزت همة مدير مدرسته، والعون من الله ... للشيخ محمد رضا الشبيبي على الدكتور عبد الرزاق محي الدين فضل كبير فهو الذي دبر له أمر البعثة. ولكنه سياسيا انحاز إلى صالح جبر بأمل أن يصبح وزيراً. ولما جاء حزب البعث دنا من عبد السلام ليحقق أمنيته تلك. وأنا أعرف لو بقي شاعرا لكفاه ذلك الشهرة التي يبغيها، لكنه طمس قابليته الشعرية.
حاولت الوصول إليه في المعتقل فطردت. وفي اليوم التالي زرته بواسطة مدير المدرسة. ومن كربلاء زَوّدت خالته بتذكرة أحثه على الصبر. وضمنت كلمتي آية (إن مع العسر يسرا) وزرته بعد أسبوع ثانية مع المدير أيضا. فلمحت على عنقه لونا أزرق. فهمس في أذني: هذا بسبب تذكرتك، إن الآية التي ضمنتها فيها لتهدئتي اعتبروها تهديداً منك ووعيداً؟ لقد لقيت الويل، وذا أثر الحبل في عنقي مع الضرب الموجع. وحضر شاب جميل منهم، يتمايل بغطرسة وقد فتح أزرار قميصه، والتفت إليّ يقول: لولا أنك في سن شيخوخة لأعطيتك درساً لن تنساه! ماذا تقصد بالآية (إن مع العسر يسرا) أعتبر هذا الحرسي مع أنه طالب في كلية التربية أني أقصد بهذه الآية بأن الحكم سينهار. مع أن القصد الحقيقي واضح فاستشهادي يعني انه الآن في عسر وقد يبدل الله حاله إلى يسر فيفرج عنه.
قلت، على مهلك يا ولدي ... وقبل أن أكمل كلامي، صاح بي إخرس ... يا ولدي!؟ أنا أشرف من أن أكون ابناً لمثلك. خونة! هنا تكلم مدير المدرسة، وهو من أصدقائهم وصهر لرجل دين مؤازر. لا تنسى يا توفيق أن عميدهم الشيخ الشبيبي، وأخوته من رجال ثورة العشرين، ووزير معارف العراق. طيلة العهد الملكي عرف في خدماته في هذه الوزارة وتوسيع مؤسساتها التعليمية، فلا يصح أن نتنكر لهذا البيت!؟
ومرّ شهر ونحن في ألم وحزن ممض، وتردنا برقية منه في الثاني من أيلول (أطلق سراحي) يا فرحتي. وعدت إلى رئيس الجامعة لييسر لي أمر عودته إلى الجامعة، رغم ما ضننا آنفا وما بدا منه من إعراض وعدم اهتمام، إنها الحاجة!؟
ولكن مآسي أخرى كانت تنتظر عودتي ... دعيت إلى دائرة الأمن، المفوض الشرس عبد الجبار السيد علي، أنذرني بإسقاط كفالتي التي تمت من قبل الحرس القومي، وعقب متباهيا: راحت ويّ الحرس القومي، اعمل كفالة غيرها جديدة، كفيلك لازم منتسب لغرفة التجارة، وصدقها بالمحكمة، وإلا أنيمك بالتوقيف!؟ هذا المفوض ككثير من أمثاله في العهد الملكي، كان لا يتحرج من شتمي وبعد أن تقاعد صار يسلم علي ويجاملني بالسؤال عن صحتي!؟.
مالك البيت هو الآخر جاء يطالب بالإيجار في وقت منعني -الأمن- من السفر لاستلام نصف الراتب. وابنتي قبلت في دار المعلمات بحاجة لتزويدها وبقية أخواتها بما يلزم ؟ أنا لا أملك فلسا واحدا. لا مفر من بيع بعض ما لدينا. أمهن باعت خمارها وخاتم ذهبي. وابني البكر منحنا سبعة دنانير. نصيب العائلة من هذه كلها ربع دينار لأكلةٍ من خبز وجبن وشاي. والباقي لمالك البيت الذي وقف يصيح بملء فمه: أدفعوا أجور هذا الشهر وفرغوا البيت، تريدون تعصون بي. بيتكم السجن!؟ لم أجبه بأكثر من: سل أبنك عنا، فنجاته من الويل الذي ذقناه كان بفضل شرف نفوسنا!؟ ابنه كان شيوعيا ومسؤول ابني الأكبر فلم يذكره عند التحقيق معه. وهذا شرف ومنّة لو كان هذا الرجل يعلم حقيقة ابنه.
أعود للحديث عن الكفالة. التاجر الذي كفلني، أستغل طلب الأمن هذا فاعتذر انه لا يستطيع أن يظل كفيلا. الصديق "....." قصدته، وعلى بعد أمتار صاح: منذ ثلاثة أيام أنا مشتاق لصديق أسمه علي الشبيبي. وقفت عند حد هذه المسافة، وقلت: جاءك الصديق ولكن لأمر! فهل تنقذه بكفالتك؟ أنا وأبناي مهددون بالتوقيف إن لم نجدد الكفالة!
وجم صاحبي. وكأن قدميه قد ثبتا إلى الأرض بمسامير، وكأن فمه قد الجم بلجام. نهض الدكتور جليل أبو الحب وكان جالساً معه وبانزعاج صاح: أمر غريب، اشتقت إليه، ولا تضحي لإنقاذه بكفالة!؟ يبدو أنه غريب حقا. ومساعدة الغريب أمر يتنافى مع كرم النفس؟ يبدو هكذا؟ وغادرتهم ......؟
ليس في أرض الله بلد لا تحتوي طيبين. اتصلت تلفونيا برئيس غرفة تجارة كربلاء السيد هاشم نصر الله. وقد دفعه نبله، فقال: عجل توجه إليّ. وتم بواسطته عمل الكفالة لنا نحن الثلاثة. آل نصر الله علويون، نسبهم معروف ومن أجدادهم من عرف بالشهيد الثاني هو نصر الله. والليالي من الزمان حبالى والليالي يلدن كل عجيب.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏19‏/07‏/2011


90
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 12
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


ماذا يا ترى؟
في اليوم الأول، وصلتنا أصوات أمهات تجمعن بباب المكتبة. علوية لها ولد، وصل إلى علمها أنه أخذ إلى المستشفى. فجاءت فاقدة الرشد. وقفت بالباب تشتمهم بلا وعي عما يمكن أن يتخذوا معها من إجراء. ولكن المسألة انتهت بعودة ابنها من مراجعة الطبيب. وخطر لي أن أستعين بسائق سيارتهم، عله يدبر لي أمر الحمام. أني أشعر بشدة الوسخ. ووعدني خيرا. قال لا تبح بهذا لأحد. قبل الفجر كن مستعد. هكذا تم كل شيء ومعي كفاح ومحمد.
ونظر إليّ -في الحمام- أحد أركان مبدعي حفلة ميلاد الإمام التي ابتدعت أيام تموز لمقاومتها من عمدها السيد محسن الحكيم. قلت لأبني: ستأتيني بلوى جديدة. قال ماذا حصل. قلت هذا المعمم سيقوم بعمل ضدي أنتظر. وحكيت له السبب. هذا المعمم، له مكتبة لبيع الكتب ومن حاشية السيد محسن الحكيم. أحتفظ بمقال كتبته وقدمه للحرس بعد أن رآني في الحمام. لماذا لم يقدمه في بداية مجيئهم؟ أعتقد أنه أعتقد أيضا إنهم سيقتلونني فلا حاجة أن يشارك بدمي. فلما رآني ونظر إلي نظرة حقد، أرسل إليهم مقالتي. وبالمناسبة حين عاد حزب البعث إلى الحكم عام 1968 اعتقلوا هذا المعمم مع آخر منبري. فهل أتعظ السيد!؟.
بعد يومين أعادوني إلى مركز الشرطة. لماذا؟ لا أدري. وما مرت أيام حتى جاء حرسي يطلبني. وأعادوني إلى المكتبة. وفي الساعة الثامنة ليلا. قادوني إلى غرفة وجدت فيها حاكم التحقيق السيد "أمين كمونه" ومعاون الشعبة، وعسكري ومفوض شرطة، والفرطوسي.
وجه الحاكم إليّ هذا السؤال: وصل إلى مسؤولي الحرس عدد من جريدة الحضارة لك فيها مقال، بعنوان "الأذناب في المؤامرات" فمن تعني؟ قلت: (الأذناب طبعا! ولكني نشرت أكثر من مقال، إن أمكن أطلع عليه). قدم لي المقال، مكتوبا بقرطاس لا بجريدة. سألني هل تعترف أنه لك؟ قلت نعم. قال، يعنينا منه فقط مَسّكَ وتعريضك بالبعثيين والقوميين إذ قلت (المزيفين من القوميين والبعثيين ...). قلت، إن حضرتك فقيه، ولا بد انك درست العربية. إن -مِنْ- يا سيدي حرف جرٍ يفيد التبعيض والتجزأة. فإذا قلت -أكلت من الخبز- معنى هذا إني لم آكله كله، أكلت بعضه. ولو قلت -شربت من الماء- معنى هذا إني شربت بعضه أيضا. هذا يطابق تماما قولي -المزيفين من القوميين والبعثيين- أي إني أقصد -المزيفين- فقط. وهؤلاء موجودون في كل حزب وكل فئة.
وأعجب الفرطوسي أن يسأل عن أمر تم قبل دخوله المدرسة، فطلب من المحقق أن يوجه إليّ هذا السؤال (مَنْ وكم عدد أعضاء الحزب الشيوعي في النجف أيام كان المتهم مسؤولا فيها؟).  قلت: إني انسحبت من الحزب عام 1947. البعض تجنب العمل في الحزب والتحق بحزب الأمة الاشتراكي، الذي يرأسه صالح جبر. ثم وجهت أنا هذا السؤال قلت: أنا اعرف وانتم تعرفون إن التوبة شرعا لا تقبل من المريض أو ساعة الموت. إنما تقبل ممن هو في تمام العقل والصحة! لذا أستغرب الإلحاح عليّ أنا الذي تجنبت كل عمل سياسي. بينما أحد الشيوعيين -ويعرفه الفرطوسي- قدم لهم تقريرا مفصلا عن خط المثقفين الذي هو بمسؤليته. لقد خان المشاركين له الذين يقودهم وضحى بهم من أجل سلامته. مثل هذا غير مؤتمن. إنه مستعد للخيانة كلما أستدعى ظرف من أجل أن يبقى هو! وأنا الذي لا صلة لي بأي حزب وتحتجز حريتي وتحرم مني عائلتي وفي بيتي الآن اثنا عشر نسمة بين امرأة وطفل!؟. ردّ الحاكم، اطمئن. قريبا سيطلق سراحك.

قلوب تحترق بصمت!
ذات يوم وقد خرجنا من الزنزانة لقضاء الحاجة. الأمهات والآباء خلف السياج في الشارع. بعض الآباء أيضا يمتعون أنظارهم برؤية فلذات أكبادهم. يسألونهم عن حالهم وما يحتاجون. أسمع صوتا شجيا، وكلمات تعبر عن أسىً عميق. إنها أم، صوتها الهادئ يصل سمعي كلحن كمان حزين. كان رأسها يميل يمينا وشمالا مع لحن كلماتها. شُغِلتُ عن كل ما حولي. ذلك الصوت وحده كان يحز في قلبي. الله ما أقسى الإنسان مع أخيه الإنسان!؟
حين عدنا إلى الزنزانة، عاد الشباب إلى شؤونهم. بعضهم يلزم السكون دائما، آخرون يتحدثون، بعضهم يحب الهزل والضحك، آخرون يطالعون. أنا، ما يزال صوت تلك الأم يرن في رأسي. كدت أبكي. لكن بعد هذا بقليل بكيت شعراً. كان خلفي اثنان من فرس كربلاء، قال أحدها لرفيقه، أتذكر الشاب الأشقر "همام" قالوا عنه إنه قتل! أجابه صاحبه بالفارسية "حَرفْ نَزَنْ، إنْ بُبُاشْ!" ومعناها أسكت هذا أبوه. أدرت وجهي إليهما، وقلت ما يملك أبوه لنفسه أمرا، ولا أنتما، مصيرنا بيد القدر. وثارت أشجاني، فناديت اليراع، ليحول دموعي شعرا، فكتبت في حينها -27/04/1963-:
بُـنَـيَّ
بُني لقــد أمسـى فــــؤادي مقســمـــا       فعندكمـو شطر وعندي هنا شــطــرُ
وفي كل شــطر يـوغـل الــداء إنمــا      يصارع هذا الداء في محنتي الصبرُ
أقـول لدهــري: كفَّ يا ويك وارتدع      وحســبك إني ليــس يثنيني الــذعــرُ
ويـكفيــك إنـا قــد تشــتت شـــمـلنـــا      وان دجـــانـا غــاب عن افقه بـــــدرُ
ولا تـنتظـــر منــا أنـينـا وادمعـــــــاً      وانْ نـزلتْ فـالحـــر أدمعه جمــــــرُ
بني تـحمـّـل ما تـلاقيــه بـاســـمـــــاً      فـأنت فتى فيمـــا تـوارثـته حــــــــرُّ
ودعني بـأشـواقي أذوب وحســـرتي      تزيـد و يذكيهــــا من اللـوعة الفكــرُ
وحين خرجنا عصرا إلى المرافق، أدخلت الورقة التي كتبت الأبيات فيها بحاشية -المنشفة- ورميتها إلى أمه وأخواته. فهن أيضا كبقية الأمهات والأخوات، يقفن خلف السياج، بنظراتهن يطمئن نفوسهن على حياتنا. كُنّ يعرفن مني وسائل إيصال ما أنظم في مثل هذا المكان. كما يعرفن كيف يحتفظن به!
وهمام، إن شبحه لا يفارقني. لو قبضوا عليه لن يرحموه أبدا. إن صدورهم تغلي حقدا ضده. سألوني عنه كثيراً. وأجيب أنتم تعلمون عنه إنه طالب كلية في بغداد، فما يدريني ماذا حدث له. قال لي أحدهم، أنت نعرف أن لا صلة لك بأية حركة عمليا، لكنك تميل إليهم. قلت، بصفة شخصية مع أفراد. معرفتي بهم كزملاء في التعليم وآخرين كانوا من تلاميذي. صلتي!؟ الأصح أن يقال صلتهم. ولم تتعد إلى أمور أخرى. وأنا كما حدثتكم أني كنت  في فترة من حياتي مناضلا سياسيا وشيوعيا أيضا. ولا غرابة. ثم قلت: هل لي أن أسألك، كم هو سنك الآن!؟ أجاب، وما معنى هذا؟ قلت، أجبني وسأذكر لك الغرض. أجاب اثنان وعشرون عاما. أجبته: حسبما سجلته عن نفسي باني انسحبت من الحزب عام 1947 أي أن سنك يوم انسحبت سبع سنين أو أقل. ويؤسفني إنكم -وبغض النظر عن موقفكم هذا- توجهون التهم بمقتضى السماع، وهذا أسلوب يخالف أصول العمل السياسي.
استشاط غضباً فوجه لي كلمات شتائم نابية. لكن واحدا نهره، وأمره أن يغادر مكانه. بعد يوم عاد إليّ ليكمل نقاشه! وافتتح كلامه، لماذا تركت حزبكم، كما تدعي؟ قلت، إني أومن إن الخدمة للوطن عن طريق العمل السياسي يجب أن لا تحتكر، ويجب أن تمثل الأحزاب مختلف الطبقات، وتتعامل فيما بينها باحترام لتكسب الجماهير. وللجماهير الحق الأكبر، بان تختار حسب فهمها لمناهج وسياسة تلك الأحزاب. لأن بعض الأحزاب الوطنية المتحررة، تضع برامجها لصالح الطبقة المتنفذة في قيادتها. أضرب لك مثلا، إن الحزب المؤلفة قيادته من تجار وأبناء تجار لا يمكن أبدا أن يدافع عن العمال أو الطبقة المتوسطة حتى وان تعرض لذكرهم في منهاجه كفئة لها الحق بان تدافع عن نفسها وتطالب بحقوقها. سئم صاحبي من حديثي هذا . وصاح بي، كافي عاد. يحاضر براسي. وينكر ويقول آنه مو حزبي!
حقا لقد أخطأت الحديث. الحديث مع مثله خطـأ، ولزمت الصمت. وعدت أفكر بـ "همام". جاءت أمه سألتها عنه. قالت: عادت خالته بعد أن يئست من الاهتداء إليه. وا أسفي عليك يا حبيبي ثم كمن همس أحد بإذنيه، قلت لنفسي، إنه سالم بلا شك، فلو كانوا قد قبضوا عليه لوصل الخبر إلى كل منظماتهم هنا. وسكن قلبي واطمأن.
وجودنا في بناية المكتبة كيفما يكن، مريح بعض الراحة!؟ فهنا عدد قليل من الموقوفين جيئ بهم من أجل التحقيق. بعضهم لذويه مكانة فهم من الطبقة البرجوازية، ولهم فضل على آباء بعض قادة الحرس القومي، إذ هم من طلبة العلوم الدينية، الذين شجعهم العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، أن يقطنوا كربلاء، وأنا أعرف كثير منهم منذ كانوا في النجف. فمدينة النجف لا يمكن أن يزاحم فيها أبناء النجف القادمون من مدن الجنوب أو الفرس، وفعلا تقبلوا رأيه. وان يكن ما يزال في النجف منهم من استطاع أن يثبت في العلم والدراسة، وعلى الأكثر، هؤلاء من هم ليسوا من الفقراء المهاجرين من العمارة، لذلك حلوا في النجف واحتلوا مكانة مرموقة. كان النجفيون يحتقرون أهالي الناصرية وسوق الشيوخ والعمارة، ويسمونهم -شروكية-، الواحد شروكي أي شرقي. وأنا أعرف كثير منهم منذ كانوا في النجف.
أعود فأقول، إن بعض أفراد من الأسر الكربلائية -وخاصة العلوية- المرموقة لم يمسسهم سوء. وكان التحقيق معهم من قبل الحرس لصالحهم. أنا متأكد من ذلك والمستقبل كشاف. يبدو إن ما نسمع كل يوم ليلاً من تعذيب لبعض الذين يحقق معهم صار أمرا اعتيادياً، وصرت أنام الليل دون أن أشعر بما يقلق. همست بإذن صديق بجانبي، أنت هل تسمع -على العادة- عويل المعذبين. أجاب، لا إنهم يكمون الأفواه بأكمام تشد من الفم إلى الإذنين حتى الخلف، فلا يستطع المعذب كلاما أو صياحا!؟
 
وجاء الفرج!      
أسلمت نفسي لنوم عميق، وشعرت بهزة. ولدي محمد يوقظني. يقول: جاءت برقية -في 8/6/1963- بإطلاق سراحنا ، شملت عددا كبيرا، نحن منهم، وبكفالة عادية. وسرعان ما امتلأت الغرفة بآباء الموقوفين المشمولين جاؤا ليوقعوا الكفالة. قلت لولدي اذهب إلى بيت "الصديق...."، وعاد ابني مكسوفا. وقال: انه أعتذر بأنه لا يقدر أن يخرج في مثل هذه الساعة من الليل! الحق معه .... (هنا وفي مكان آخر يتحدث المربي الراحل بتفاصيل أكثر عن علاقته بهذا "الصديق" ويذكره بأسمه الصريح، لكنني فضلت عدم تدوين ذلك/ الناشر محمد علي الشبيبي)
الغرفة الكبيرة تعج بآباء وأخوان الموقوفين. لا بأس هذه قسمتنا، كما تقول الأمهات. والتفت إليّ والد أحد المعتقلين، وسألني: شنو؟ ما شملكم إطلاق السراح؟. قلت: شملنا ولكن ...!؟ فهم الرجل ما أعني. ونادى آخر يعرفه ... تعال يا حاج محسن أنت أكفل الأستاذ، وأنا أكفل ولديه مع كفالة أبني. واخذ يطيب خاطري، لا تأسف، في الناس أطياب. ثم عقب، تعني جنابك ما أرسلت خبر لأحد!؟ أجاب ابني: خرجت وبلغت "صديقنا ...." لكنه اعتذر بحجة انه لا يخرج في مثل هذه الساعة. أسف الرجل ....! وأنشدت البيت المشهور ولا أعرف قائله :
جــزى النــوائب كل خيـرٍ      تعرفني العدو من الصديقِ
صحيح أن الرجل ليس لي بصديق ولكنه ليس بعدو. وبارحنا دار العلم التي صارت سجنا يعذب فيه المثقفون والمناضلون والكادحون. الشوارع تعج بالناس، أولياء الموقوفين وجارهم وأصدقاؤهم والأقارب، هجروا مراقدهم. جاؤا يستقبلونهم. عانقونا وقبلونا، الشاي وعدته تضيء، وصوت الضاحكين فرحا واستبشارا يرن ويملأ الفضاء. والحديث ذو شجون، ما نزال عطاشى إلى وجوه الأحبة والجيران يتوافدون وأقداح الشاي تدور عليهم، والوجوه ضاحكة مستبشرة. والشوكولاته والحلوى توزع، والنكات تثير السامعين فتتماوج أكتاف السمار بهزة رتيبة من ضحك متواصل.
وبعد ماذا؟ ماذا تحمل الأيام القابلة، كيف سنعيش؟ ألا يكفي ما جرى يا دنيانا ولن أقول يا حكامنا. ماذا تخبئ لي الأيام. عفوا، ما شأن الأيام؟ جبران يقول:
الخير في الناس مصنـوع إذا جُبروا      والشر في الناس موجودا وان قبروا
وفوزي المعلوف يقول:
ما دعـوه الإنســان من انســه      لكن دعوه الإنسان من نسيانه
نسي الخير ثم أوغل في الشرِ      فداس الضمير في عصيـــانه   
الشاعر أبو تمام قال:
لا تنسين تلك العهود فإنما      سُميت إنســانا لأنك ناسي
انفض المهنؤن، وانطرحت على الفراش، وأسلمت نفسي إلى نوم يختلف عن نوم كثير نمته على فُرش الآلام والزفرات، لا أظن شيئا من هذا سنتمتع به ونحن بين الأهل والأحباب. فمن يقول انتهى؟ أبدا. حتى لو تبدل هؤلاء بآخرين، فلا غرابة أيضا أن تأتي بشرٍ أعم وأشد (كلما دخلت أمة لعنت أختها).


الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏14‏/07‏/2011



91
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 11
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)



دور المتهم البريء
طالب يدعى "رزاق ...". كان قد دعي قبل يومين للتحقيق. اُعيد اليوم، قالوا أنه من طلاب دار المعلمين وانه مسؤول تنظيم الطلبة. كان يبدو حزينا، كاسف الوجه. لم يكلم أحد ولم يرد على أحد، أهوى على فراشه متهالكا، ومنكبا على وجهه. حاول بعضهم أن يفهم شيئا من أمره. لم يجب. لكنه أشار إلى ظهره. إنه قد جلد جلدا وحشياً. فاجري له من قبل بعض الموقوفين تدليك بمادة مهدئة.
ثم جاء المنادي، دعا بأسماء عدد من الطلبة الموقوفين. هو إذن من أباح بأسمائهم. وتظاهر بالتهالك كيلا يستجوب من الآخرين.
ليلا في الساعة 11 نقلت مع عدد من الموقوفين إلى بناية المكتبة العامة. في الغرفة التي دفعت إليها وجدت ثلاثة موقوفين، أحدهم أعرف انه يدعى "جاسم أبو الثلج" الثاني عرفني بنفسه إنه مدرس وزميل لأبني كفاح، الثالث مصلح دراجات يدعى غازي البايسكلجي. المدرس مختص بعلم النفس. الذين يدرسون علم النفس قلقون. ربما حتى فلاسفتهم كذلك. كان يدخن كثيرا، ويغطي وجهه ببطانية وينفث الدخان فيختنق ويظل يسعل. ويسائلني بقلق: أنا مالي علاقة بأحد، ماذا سيسألوني. أنا لم أشترك بتنظيم. لا أعرف أحدا إلا المدرسين زملائي، ابنك كفاح صديقي، صداقة فقط ...
البايسكلجي غير مكترث، يبدو أنه مطمئن لأمر. وقد نودي وعاد مبتسما، وهمس في إذني: لي بالخيالة فارس، بشرني بالخير.أبو الثلج نودي، ومرت ساعة عادوا به. كانت بجامته حمراء من جانب ظهره، إحدى قدميه سحبها سحبا. وطرح على فراشه. كان يتكلم بجرأة، معاتباً مسؤول الحرس القومي عبد الواحد شمس الدين: نسيت عبد الواحد أيام عشنا سوية أنا وأنت يوم كنا موقوفين في عهد قاسم. قاسم لم يعذبنا وقمت لك بخدمات ومساعدة. أنا ابن كربلاء وأنت من العمارة. هذا ليس مهما. المهم إن كلانا نحمل أفكارا فكيف اُعذب. كسرتم عظم الحوض مني، ورسغ يدي اليسرى!؟ عبد الواحد يرد عليه: أفكاركم وباء، ونحن لا نمسك بسوء لو انك كشفت لنا تنظيم الشيوعيين!؟ عبد الواحد شمس الدين كان مسؤول منظمة حزب البعث ومسؤول الحرس القومي في كربلاء.
بعد أيام جاء دوري. جاء محيي يحمل بيده سوطا مظفورا من أسلاك الكهرباء البلاستك أحد طرفيه عقدة كالكرة. كان يمشي خلفي ويلوح بالسوط فوق رأسي، فيئز السوط وكأنه يدوي. وقال: اتجه باتجاه مرمى السوط. ورماه إلى غرفة. كان فيها طاولة خلفها ثلاث كراسي ومن جانب كرسي واحد. عرفت إذن أين أجلس! حضر أعضاء اللجنة هم كل من حميد القرعاوي، ومدير المعارف جعفر السوداني، والمعلم كاظم الفرطوسي، وشاب من العمال يدعى محيي من أهالي المحمودية وأصبح رئيس إتحاد عمال كربلاء. جعفر السوداني، مدرس عينه الإنقلابيون مديرا لتربية كربلاء. وكاظم الفرطوسي معلم ولقي منه بعضهم قسوة وحشية. وقال بعض صحبه أنه هو الذي أنهى حياة الشاب "عبد الإله الرماحي" حيث توفي بعد أن عذب أشد العذاب، وأخذ ميتا إلى النجف ولا يعلم أحد أين دفن. ويقول بعض الحرس القومي أنه رمي في الآبار القديمة في طريق الكوفة. ومحيي عامل من أهالي المحمودية أصبح رئيس لإتحاد عمال كربلاء.
صاح بي العامل: خُذْ وأجب على الأسئلة تحريريا. قلت: لا، إنما إسألوا أولا فإن رضيتم بجوابي، أدونه. وافقوا. قال العامل: 1- جاوب عن علاقتك بالحزب الشيوعي؟ 2- مدى علاقة الحزب بالنقابة باعتبارك رئيسا للنقابة؟ 3- وماذا تعرف عن أنصار السلام؟
أجبت: يا سادة لديكم موقوفون من النجف ومن الكوفة ومن كربلاء، وأنا معلم في كربلاء منذ عام 1955، فإذا أعترف واحد من هذه المدن باني عضو في الحزب الشيوعي، نفذوا ما شئتم! عن النقابة، أنا انتخبت أيام جمعية المعلمين، وتنازلت عن الرئاسة للمدرس عبد الله الخطيب، وألغيت الجمعية وتألفت نقابة بدلها. ولم أرشح نفسي، لذا لا أعرف عن صلة الحزب بالجمعية أو النقابة. وإذا كان جائزا أن ينتمي البعثي مثل صالح الرشدي والقومي مثل عبد الإله النصراوي، والسيد يحيى نصر الله والدكتور هادي الطويل من الحزب الوطني الديمقراطي لحركة أنصار السلام، فما المانع أن أؤيد الحركة أنا الذي لا أنتسب لأية فئة سياسية إنما هي علاقة شخصية صرف ومع كثير ينتمون إلى اتجاهات سياسية مختلفة!؟
الفرطوسي عقب: وسابقا!؟. قلتُ: ذاك زمن كنتَ أنت ما تزال طفلا دون المدرسة. وقد انسحبت من تلقاء نفسي!؟ ردّ عليّ وما السبب؟ أجبتُ: الجواب هذه الحال التي فيها الآن هذا العدد العديد. الغربيون حتى الدول الاستعمارية فيها مختلف الأحزاب بما فيها -الشيوعي-!؟ قال القرعاوي: أنا أعرف انك لست منظما إلى حزب.
وعدت إلى مكاني دون أن يستكتبوني شيئا. استوى المدرس جالسا وأخذ يستوضح عن تحقيقهم. وسألوك ولم يضربوك؟ آنه ما عندي شيء، صحيح مشيت معهم! وجيء بموقوفين من الذين سبق وأودعوهم في سجن الحلة وبدأوا استجوابهم. فتى من العمال يدعى جواد شخاطة كان ظهره مدمي من الضرب. أمر أن يبقى واقفا ليأخذوه -للمسلخ ثانية-!. ونودي على آخر يدعى نعمة شدهان كان ذا وجه صارم متجهم. وعادوا فاخذوا جواد شخاطة، تكرر عليه الضرب. وأعيد وقد انهارت قواه فما يستطيع وقوفا. يبدو أنه رضخ للاعتراف. الفرطوسي يحقق معه لكنه يئن ويقول: شكتب؟ ما أدري شكتب؟ خل أستريح! رد عليه، أعيدك حتى تعرف شتكتب!؟ وبعد تهديد أخذ يكتب.
وفي هذه الأثناء جيء بنعمة شدهان. يسنده اثنان منهم. حين اجلس، قال الفرطوسي، ها نعمة؟ عندك استعداد تكتب!؟ لكن نعمة لم يرد عليه. قال الفرطوسي، إني أعرف إن حزبك يعتمد عليك، ولشخصيتك تأثير قوي، بحيث لو حصل خراب بين عامل وزوجته وتوسع تكون أنت الوحيد  اللي يقدر على مصالحتهم ...! نعمة لا يجيب، ويصدر عنه أنين خافت. بعد فترة اخذ من جديد. وعادوا بعد نصف ساعة يحملونه ببطانية. غطوه. مرت ثلاثة أيام لم تبد منه حركة! قلت ربما مات الفتى. وعند كل وقت يرسل أهله إليه الطعام فيوضع جنبه ويقول من قدمه، أﮔـعد نعمة هذا طعامك!. إن جاؤا بالغداء أخذوا الفطور كما هو وأعادوه إلى من يجلب له الطعام. بعد ثلاثة أيام وهو مسجى لا تبد منه حركة ولا توجع، أخذوه!؟ أين ذهبوا به؟ لا أعلم.
الذين أجري معهم التحقيق، فرض عليهم أن لا يخرجوا من هذه الغرفة. وأخيرا سمح لنا. خرجت إلى المرافق، لعلي أجد سبيلا للاستحمام. هناك وجدت ما اقشعر له جسدي. وجدت نعمة شدهان مازال مسجى وحوله وتحته المياه القذرة. مازال بدون حراك. وأعادوني إلى الغرفة العامة التي كانت للكتب أيام كانت البناية "مكتبة عامة".
وجيء بفتى فلاح، يسنده اثنان من الحرس القومي، الدماء جافة على رأسه وظهره، الوجه أصفر. خلفهم الحرس القومي عبد الأمير منغص، الذي يرفع صوته محذرا أن يدنو منه أحد لمساعدته!؟. الفتى المعذب أشار أن يريد التبول، فنهض أحد الموقوفين لمساعدته. وجاء منغص مسرعا بصق بوجه من ساعده، ثم ركض إلى المعذب ركله عدة ركلات بقدمه مع شتائم قذرة. الفلاح الفتى يدعى كاظم ناصر، عرفته بعد أمد في عام 1968، شاب جيد جدا ذا معلومات غير عادية مؤدب شهم ذكي، وتصرفه معقول. أما عبد الأمير منغص فخالي الوطاب، أرعن. وبعد أمد انتقم لنفسه منه شاب في إحدى ساحات كربلاء فأدمى فمه وهو يستغيث، وتداركه شرطي المرور وأنقذه منه بالتوسل.
حين كنت بغرفة التحقيق ذات يوم كان منغص هذا ينظف البندقية، حركها ولا يعلم أن فيها رصاص، فانطلقت واحدة. كنت أراقبه وكدت أكون الضحية. وليغط خطأه صاح، طاحت بشيوعي جلب، خلي يولي، ذبوا بالشارع!. لكن آخر أنبه.
بعد أيام من الأنقلاب الدموي، سيطرت منظمة حزب البعث على المكتبة العامة، لتحولها من دار للعلم إلى مركز للتحقيق والتعذيب وتحولت إلى مسلخ بشري. وقد كتبت في المكتبة عدة أبيات من الشعر بعنوان "قولي لأمك" اصف فيها حال دار العلم "المكتبة العامة"، التي أصبحت مسلخاً بشريا في ظل حكم خليط من بعثيين وقوميين يسندهم معنويا بعض المراجع الدينية الحاقدة على ثورة 14 تموز. للأسف لم أعثر على القصيدة كاملة. (للأسف أن والدي لم يسجل سوى بيتين من القصيدة!؟. ويظهر أن الوالدة -وهي أمية- لم تحتفظ بالقصيدة خوفا من حملات التفتيش للأجهزة الأمنية، أو أنها أضاعتها. ولكني مازلت أتذكر بعض الأبيات فهي تصف بدقة همجية الحرس القومي من بعثيين وقوميين. والقصيدة بعنوان "قولي لأمك" أنشر الأبيات التي ما أزال أتذكرها/ ألناشر)
قـــــولـي لأمـــــــك أنـني          أقضي الليالي في  عـذاب
ويحوطني حـرس غــلاظ          في بنـــادقـهـم حــــــراب
وإذا سـجى  الليـل الثقيـل          كأنــه يــــــوم الحســـاب
هوت العصي  على جلود          الأبــرياء من الشـــبــاب
فيعـــلقــون ويعــــــذبون         مجــــرديـن من الثيـــاب
                        .   .   .   .
أســــفاً لـــدار العلم بعــد         العـــلم تغــــدو للعــــذاب
غرفاتها تحوي السلاسل         لا الـمطــــالع والــكتــاب
والسوط قد خلف اليراع         وعـنه في الـتعبيــــر ناب
                        .   .   .   .
نيرون عــاد بك الــزمان         لكي تشــيع بنـا الخــراب
   والحــق أكبــر أن يـداس         وأن يـمـــرغ بالتـــــراب
 
وللشرطة حق!  
بعد يومين أعادوني إلى زنزانة الشرطة –في مركز الشرطة-. أليس التحقيق مع -المجرمين- في الأصل لهم؟ وبعد أيام استدعيت من قبل المفوض لطيف الجبوري، أنا والمعلم يوسف أبو طحين والمضمد صالح جاسم الـﮕرعاوي. لم يفاتحنا هذا المفوض بغير كلمة لحظة سأعود. جاءنا شرطي الشعبة المدعو هادي كان بيده سوط من أسلاك الكهرباء. بدأ بالمعلم يوسف أبو طحين، ثم صالح جاسم وهو يصرخ: كلب حرامي تأكل حق الأيتام!. واستدار نحوي. يبدو انه يستحسن صلعتي، فأدماها. مددت لأدفع الضرب المؤلم، فانخلعت الساعة بضربة، أما أصابعي فاكتسبت لونا أزرق. شرطي كاتب أنفعل من قسوة زميله، فصاح به: بس، أخجل شلك عليهم. فكف ... من المؤكد أن لطيف الجبوري هو الذي أوعز إليه بهذا.
سألت صالح جاسم، ما معنى اتهامك بقوله "تأكل حق الأيتام" أجاب: في الأعياد يوزع المستشفى ثيابا على أبناء الفقراء في حالة ختان أبنائهم. هذا الشرطي من مراتب الأمن أراد ثلاثة ثياب لأبنائه. فقلت له أن هذه لمن يختن فقط وبأمر مدير الصحة!
عدنا وعادت حالنا في المكان المزدحم. أعلنت الإضراب عن الجلوس والنوم، وهو في الواقع تحصيل حاصل. الشباب مازالوا على لهوهم. الحق معهم، إذ انعدمت الراحة، وينتظرهم العذاب. ولكن لهوهم ومزاحهم يؤدي أحيانا إلى شجار غير مناسب. ونقلت إلى غرفة النظارة، وهي لا تتسع لأكثر من عشرة متزاحمين. بعد ليلة واحدة استدعينا في الساعة 12 ليلا إلى المكتبة العامة (المكتبات العامة والملاعب الرياضية في معظم مدن العراق تم تحويلها من اليوم الأول للانقلاب إلى مقر للحرس القومي ومركزا للتحقيق والتعذيب / الناشر).


الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏09‏/07‏/2011


92
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 10
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)

 


انقلاب 8 شباط 1963
   

الحرس القومي
حين بدأت عطلة نصف السنة، عدنا -نحن الثلاثة الذين تم نقلهم- إلى عوائلنا وبيوتنا في كربلاء بعد رفع الإقامة الجبرية. العطلة ليست مدة كافية نرتوي بها من معاشرة أبنائنا وأهلينا، ونقضي أهم ما تحتاج عوائلنا إليه.
يوم الخميس 7 شباط التقيت بزميلي جليل السهروردي. اتفقنا على موعد للعودة سوية إلى مقري وظيفتنا بعد ظهر الجمعة. إنها آخر يوم من العطلة. ولدي همام هو الآخر قضى أيام العطلة بيننا. إنه يقيم في بغداد معلما مسائيا، وطالبا جامعيا أيضا في كلية التربية. يوم الخميس بدا مكتئبا أشد ما تكون الكآبة. ظهر ذلك واضحا للجميع. وتساءلنا، عما إذا كان يشعر بألم، أو مكدرا وحاجة!؟ أجاب: لا أعرف سر سأمي، إنه مفاجئ، وكمن يتوقع حدثا مخيفا أو محنةً تعصف به ولابد من سفري اليوم إلى بغداد!
لا غرابة إن ربان السفينة مازال معتد برأيه. يلعب لعبة الأطفال. بل السذج الأغبياء. أما قادة الأحزاب الوطنية، هم أيضا يلعبون لعبة خطف اللحاف، كل يريد الأمر له، باسم الشعب. ونهجهم لا يأتي إلا بدمار الشعب، وتشتيت وحدته.
صباح الجمعة الثامن من شباط، حزمت أمتعتي، وانتظرت أن تنتهي ابنتي من كي قمصاني. كان الراديو يصدح بالأغاني. سكن فجأة. صاحت واحدة من أغلقه؟ أجابت الأخرى: يجوز إن الكهرباء تعطل! ردت عليها: المكوي بيدي مازال متقدا!
وفوجئنا بالمذيع يعلن نبأ الإطاحة بحكم عبد الكريم قاسم، وان الثورة انتصرت! وهي تتعقب أنصار قاسم.
وعجت كربلاء بالمظاهرات، شيوعية وأخرى بعثية وقومية. وأنا ماذا أفعل؟ كان أهلي قد هيأوا ما أريد من أجل السفر، ولكن الآن ما الذي أفعل؟
وأرسلت ابني محمد إلى -الكراج- ليستوضح عما إذا كانت حركة السيارات قد توقفت أم لا. ولم يعد إلا بعد فترة تجاوزت الساعة يعلن عن تفصيلات لا نعلم عن مدى صحتها، وممن استقاها؟ لكنه علم أن السفر ممنوع!
ووقفت على عتبة باب الدار أسائل من يمر، علهم من أهل العلم عما حدث. المارة كلهم يمشون مشية المرتبك بعضهم يضحك ساخرا ساخطا. حين أسائل أمثاله، يردني بهز يده ورأسه وضحكة ألم!؟ وأسمع دوي الهتافات من بعيد، ولا أفهم شيئا. اصعد إلى سطح الدار، وأعود إلى الباب. مرّ احد المحسوبين على صف الشيوعيين. سألته ما الخبر.  أجاب لا يهمك، الصراع دائر في وزارة الدفاع! وستبدو عن قريب النتيجة الحاسمة؟
وبعد الظهر انتهى كل شيء بانتصار القوى المتحالفة البعث العربي الاشتراكي، والقوميون العرب تساندهم كل القوى الرجعية والمشبوهة. لم يدر في خلدي أي احتمال بان إجراءات صارمة سيتخذها أولوا الأمر الجدد. لكن الجو أكفهر، وساد الناس وجوم، وعلى الوجوه المنكمشة تساؤل، ماذا يا عصام؟
في العهد الملكي حدثت انقلابات كثيرة. فيسقط حكم ويتربع على كراسي الحكم حكام جدد، غالبا ما يكونون ممن مارسوا الحكم، لكن من يؤيدهم لا يصاب بسوء، الجدد يهمهم الرؤوس لا الأتباع ولا الأذناب. وحين تفجرت ثورة 14 تموز، سمينا العهد الملكي ورجاله بالعهد المباد.
فماذا سنرى من الحكام الاشتراكيين!؟ هل سيحترق الأخضر باليابس! صباح السبت 9 شباط قبيل دوام الدوائر، سيارات الشرطة تجوب الشوارع. تحمل بعض رجال شرطة الأمن. وطُرقت الباب، إنهم من شرطة الأمن.
- نادِ محمد!
- ولماذا؟
- إنه شيوعي!
أيقظته من النوم، وذهبوا به. في ذمة الله يا ولدي! إذن ليس المقصود عبد الكريم قاسم وحده. وعلا نحيب أمه وأخواته. مازال في الصف الخامس الإعدادي. ومادام الأمر أن الفئات السياسية سلكت نهجا جديدا، فماذا سنرى في قابل الأيام. والثوار اليوم هم قادة الذين خاضوا انتخابات نقابة المعلمين بأسلوب يتنافى والديمقراطية وحقوق الإنسان معاً. بل يتنافى مع مصلحة الأمة العربية  إذ هي بحاجة إلى التجمع والتكتل، من أجل صد العدوان الامبريالي وإسرائيل التي استولت على فلسطين. هذه القوى كلها لماذا لا تتوحد من أجل الهدف الذي تنادي به كل القوى السياسية في كل البلاد العربية، ومنها العراق!؟ إذا اُحتكِر العمل السياسي لرأي واحد وفئة واحدة، فقل على -السلام- السلام!؟
كنا في قلق شديد على مصير ولدي همام في بغداد. كما كان عليّ الالتحاق بوظيفتي في الخالص. ودعت أهلي وغادرت المنزل. معي خالة الأولاد لتبحث عن ولدي همام في بغداد. انقباض ابني همام إذن وتحسس قلبه كان نابعا من وعيه، وقد وقع!. عند أول نقطة سيطرة اُوقفت السيارة، يستفسر من ركابها لَمَ يسافر وإلى أين؟. معاون الشرطة صاحب علوان، سألني. هات هويتك، عندما أجبته معلم في قضاء الخالص. حين أبرزتها، قال: هوية جديدة من مسؤولي الحكم الجديد!؟ قلت: أجددها حين أصل، ألم أقل إني معلم في قضاء الخالص! وقبل أن أركب السيارة ناداني ثانية، بلهجة عكس الأولى، تعال، أنت المعلم! تعال. عدت أجاب: إن الأخ الحرس القومي (الحرس القومي مليشيات الانقلابيين) أمر أن أسلمك إلى الشرطة. بعد فترة أكثر من شهر علمت أن اسم هذا الحرس القومي هو "مهدي الغانم" وهو معلم عين هذا العام، أخوه الأكبر يختلف عنه.
وحضرت سيارة لهذا الغرض. إن تصرفات الشرطة مضحكة، تدل على عقلية فجة، وحقد لا مبرر له. الشرطي الذي جاء بسيارة ليستلمني، أخذ طريقا عجيبا، وكأنه قام بعرضٍ اُمر أن يقوم به. فبدلا من سلوك الطريق الذي وجدني بنظارة -الأخوين- الشرطي صاحب علوان والمعلم مهدي الغانم، إنه قام بجولة، دار فيها عدة شوارع. من شارع العباس، إلى شارع "أبو الفهد" ثم شارع باب قبلة الحسين، ومنه إلى شارع الذي يوصل إلى حي الحسين، ومن حي الحسين إلى شارع المستشفى (القديم/الناشر)، وإلى بناية المحافظة والشرطة! بينما كان شارع العباس يؤدي مباشرة إلى بناية المحافظة ومركز الشرطة، ولا داعي لهذه الدورة الاستعراضية. ربما كان القصد من هذا الترهيب لا أكثر!
يبدو أن هذا الشرطي السائق قد سمع من قراء المنابر الحسينية، إن جنود بني أمية قد طافوا بعوائل الحسين ومن أستشهد معه في شوارع الكوفة، وشوارع الشام أيضا بعد وصولهم إليها، يشهرون بهم كسبايا، خارجين على حكم السلطان!؟
لا بأس. لقد شاهدني بعض الذين أعرفهم ويعرفونني. فوقفوا باكتئاب وهزوا رؤوسهم أسفا. وزجني بموقف السراي. كان الموقف قد ضاق بمن فيه، بينما تدفع الشرطة بالمزيد. إن الموقف -لو أنصف المسؤولون- إذا لم يقصد إيذاء الموقوفين لا يسع أكثر من عشرة.
جن الليل، وتقدم بعض الموقوفين ليضعوا حلا لمسألة النوم. عدد المعتقلين تجاوز 110، فما هو الحل؟ قال واحد منا: ينام عشرة عشرين دقيقة فقط ممن أدركهم النعاس. رد الآخر: الأحسن بالاقتراع. وتساءل آخر: حسنا وإذا وجد بعضهم نفسه غير محتاج للنوم في هذه اللحظة، ماذا يفعل؟ وأشتد اللغط. صاح أحد المحترمين، لا قرعة ولا هم يحزنون مع هذا العدد؟ الموقف هذا لم يسعكم إيقاظا كيف يسعكم نياماً؟ أفضل الحلول، من أدركه النعاس يدبر أمره، وعلى الله التكلان!؟     
وبعد يوم من اعتقالنا  اُخذ ولدي كفاح. جاء يشتري حاجات الغذاء، فأشار عبد الله أسد إلى الأمن فاقتنصوه بملابس الراحة، وزاد النواح من الأم والأخوات. لا بأس المصيبة إذا عمت هانت! هكذا يقال. ولكن الأمهات؟ الأمهات قلوبهن رقيقة... وعبد الله أسد بقال، حانوته يعود إلى البيت الذي أسكنه، والشائع عند جميع سكان الحارة إنه وكيل أمن. فلا غرابة فهو فارسي قبل المهمة ليتقي شر الشرطة على أمثاله من الأجانب. ومع ذلك فالمستقبل يجد فيه جزاء نذالته.
في ظهيرة اليوم الثالث أو الرابع من اعتقالنا، فوجئنا بشرطي وواحد من الحرس القومي يضربون باب الزنزانة الحديدي بأيديهم وكأنهم ينبهون نياما غطوا في سباتٍ عميق، وساد صمت وسكون. هما -شرطي وحرس قومي- يصرخان بصوت عالٍ: انتبهوا جميعا. احزموا حاجاتكم، سترحلون إلى مدينة أخرى!؟ حاول بعضهم الاستفسار، لكنهما ذهبا بعد هذا التبليغ الموجز.
بعض الموقوفين من الشباب لم يبدُ عليهم اكتراث، أو تذمر من وضعنا الذي نحن فيه. كانوا لا يكفون عن الهزل والدعابة، وإرسال النكات كأنهم في عيد، أو على مسرح.
وهب الجميع يجمعون حاجياتهم، وحدث ضجيج، وجدل، بسبب جمع الفراش والحاجات. بعض البسطاء كانوا منذ حلوا تعروهم كآبة، أهلوهم لا يعلمون عنهم شيئا، هم غرباء، وهم هنا بحكم الوظيفة وفقراء أيضا.
ونهض المدرس موسى الكرباسي يخاطب الحرس القومي: أخي رجاءً أمهلوني أبحث عن حذائي، أم أخرج حافيا!؟ ورد عليه الحرسي وكان أحد تلامذته: نعم أخرج حافيا!؟ هذه هي إذن أخلاقهم وهذا هو وفاء التلميذ لأستاذه! ضج الجميع بالضحك. وأخذ الهازلون بالتعليقات. وقلدوا المدرس بندائه، وحرفوا وبدلوا ما شاء لهم أسلوبهم بالنكتة والهزل.
وفي الخارج وصل خبر ترحيلنا لعوائلنا المتجمعة خارج مركز الشرطة والتي جاءت وهي تحمل طعام الغداء وما نحتاجه من مواد أخرى ضرورية ولتقصي أخبارنا. قابلت عوائلنا قرار الترحيل بالاستنكار والغضب الشديد. وتعالى صراخ الأطفال من الأبناء والأشقاء. وأمام غضب العوائل تراجع الحرس القومي عن قرار الترحيل، لتهدئة العوائل!؟.
وعندما جن الليل مع تكاثر أعدادنا في الموقف واشتداد أزمة النوم والجميع قد أدركهم النعاس والتعب بسبب الازدحام وعدم القدرة على النوم. فوجئنا بعد منتصف الليل مجددا بضرب هيستيري على باب الزنزانة الحديدية. وابلغنا الحرسي والشرطي بالتهيؤ وجمع حاجياتنا للترحيل! ونهض الجميع وبعضهم أنهكه النعاس وأتعبه الضيق بسبب ما يعانيه من مشاكل صحية كالربو وغيرها. الكل يبحث عن حاجياته، ويتساءل هل جميعنا سنرحل أم بعضنا فقط، ومن هم المرحلون؟. 
هكذا جمع الموقوفون حاجاتهم. ووقف كل منهم إلا العاجزين والمرضى. ومر أكثر من ساعة، جاء حرسي وشرطي، عادوا أيضا يضربون باب الزنزانة الحديدي، استعدوا وسنعود! طال الانتظار، والموقوفون بانتظار، وفي انزعاج. وحانت اللحظة الحاسمة. وقف ألحرسي وأخذ ينادي بأسماء، لم يتجاوز العدد خمسة عشر موقوفا، كان منهم إبنايَ كفاح ومحمد، ولا نعلم إلى أين سيتم نقلهم!؟. 
فتحت باب الزنزانة ورحنا نودعهم بلهفة واكتئاب، لا غرابة. نحن لا نعلم ما تخبئ الأقدار، إن هؤلاء الحرس يعاملوننا وكأننا قتلة! ونام بعض وسهر آخرون يتحرقون. إنها مأساة الشعب العراقي ومحنة العوائل. وعند الصباح جيئ بفوج من المعتقلين عددهم أربعون، بين معلم ومدرس من النجف وغير النجف، أربعون حلوا مكان خمسة عشر، يا للإنسانية! الإنسان يمتاز عن الحيوان بفكر. ولكننا هنا نزدري بذوي الفكر، أو أن الحكام يريدون أن نقلد أفكارهم، هي وحدها الصائبة!؟

الناشر     
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏06‏/07‏/2011



93
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 9
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)

 


عبود الشوك
عبود الشوك هذا كان معاونا أو نائبا أيام كان فؤاد عارف متصرفا للواء كربلاء. عرفنا فيه السذاجة والبساطة، وكان بعض الانتهازيين قد استفادوا من سذاجته. وقد مرّ ذكره في موضوعة (كيد الآفك وغباء المسؤول )، حيث حاول أن يوقع بي من ضرر حين كنت مديرا لمدرسة الحسين.
حين نقل فؤاد عارف حل محله عبود الشوك. كنت إذا حضرت مع بعض زملائي أنصار السلام في كربلاء، ينهض من مقعده مهللا مرحبا باسمي، وكأني أنا الأول بين الشخصيات المحترمة الذين أنا واحد منهم، أحدهم محسن النقيب، المسؤول الأول عن حركة السلام في كربلاء وهو محام معروف  من بيت وعائلة عريقة ، ولكن حضرة المتصرف لم يرحب إلا باسمي، لست أدري، ربما كان يعتبرني الأول في هذه الحركة، وربما هو نفاق خالص.
بدأ حديثه مرة بما لا علاقة له في زيارتنا له. قال: والله والله، لو لم تكن أم عصام امرأة محافظة لجعلتها في مقدمة أعضاء رابطة الدفاع عن حقوق المرأة!؟. وعن نفسه، قال: لولا أني مؤمن بالله، لانتميت إلى الحزب الشيوعي، وجعلت قبولي يأتي مباشرة من موسكو!؟. كدنا نضحك من هذا الهراء الفج. فأجابه مسؤول حركة السلام: أبا عصام نحن نمثل حركة السلام ولأمور تخصها جئنا لزيارتكم فما معنى حديثكم هذا؟
عجبت كثيرا من منطقه هذا، وكأن مسألة المنظمات تحت سلطته!  امرأته محجبة! هذا عجب آخر، فما كانت المعلمات في كربلاء إلا محجبات، ومعظمهن انتمين إلى رابطة الدفاع عن حقوق المرأة. وصحيح إن هذه المنظمة هي من المنظمات التي عمل على تأسيسها الحزب الشيوعي، لكن هذا لا يعني أن كل رابطية هي شيوعية! ثم ما معنى أن انتماءه يأتي من موسكو!؟ هذا غباء أم سذاجة أم هو الخبث بعينه.
لقد نقل إلى لواء ديالى، وزار مدرستي في 3/9/ 1962 في الخالص. وحين رآني هش وبش وحياني، وعلى فمه ابتسامة ماكرة.

مع إتحاد الأدباء
كنت قد قدمت طلب انتماء لإتحاد الأدباء، وحيث انه لا يقبل إلا من كان أديبا وان عليه أن يقدم شيئا من إنتاجه المنشور ، أو الجريدة التي نشرت إنتاجه. وقدمت مجموعة نشرت في جرائد شتى من جرائد العراق -البلاد، الثورة العربية، صوت الأحرار، الرأي العام، 14 تموز، الحوزة- كل هذا الإنتاج ليس هو باكورة إنتاجي -بالرغم من أن لي إنتاج ليس بالقليل لكني قليل النشر-، لقد سبق أن زاولت الكتابة والنشر في بداية الثلاثينات، في مجلة "العرفان" ومجلة "الأقلام" لحليم دموس، ومجلة "ابولو" المصرية الشعرية، وفي جرائد عراقية، في جريدة "الهاتف" ومجلة "الاعتدال" وجريدة "الطريق".
كانت مجموعتي التي قدمتها تحتوي العناوين التالية: "أمس واليوم" و "حق وباطل" و "صولون" و "المؤذن" و "دور الأذناب في المؤامرات" و "تجفيف البحيرة" و "عصافير النبقة" و "الليل والظلام".
ثم كررت الزيارة والتقيت بالأدباء الشباب، الشاعر سلمان الجبوري، والشاعر محمد الريفي، والشاعر عبد الستار الدليمي وقد أهدى لي الشاعران الجبوري والدليمي ديوانهما. وشاركت في الانتخاب الذي جرى في 22/11/1962 وكنت قد أصبحت عضوا وتسلمت الهوية.
وقد خسرت المجموعة التي قدمتها لإتحاد الأدباء وقبلت على أساسها. حيث إني طلبت من الاتحاد أن يطبعها لي. وتمت الموافقة، شرط أن أكون أنا أو اهيئ من يقوم مقامي للنظر في الخطأ عند كل ما ينجز طبعه. واعتذرت إني مرتبط بالدوام. وضاعت هذه المجموعة بسبب المصير الذي انتهى إليه أمر اتحاد الأدباء في 8 شباط 1963.
لم أكن مهملا فيما يخص إنتاجي. فقد احتفظت بنسخة لما نشر في عهد تموز وبمناسبة عطلة نصف السنة الدراسية أودعت بعض حاجاتي منها كراس باسم "ليالي" وكراس باسم "تلميذ في العاصمة" كان قصة عن حياة أخي الشهيد حسين. أودعتها عند شاب مساح من أهل الكوفة، هو الذي سبقني للتعرف عليّ، إذ كان من تلاميذي أيام كنت معلما في مدرسة الكوفة الابتدائية من عام 1938 حتى عام 1941. المساح هذا ادعى  أن المجموعتين قد أودعها عند ابن عمه ليوصلها إليّ فأضاعها هذا؟ ولم يتيسر لي حتى الآن مراجعة المكتبات لاستنساخها من تلك الجرائد.

بسم الله الرحمن الرحيم      
عفوا يا قارئي الكريم. لا تشتبه بهذا العنوان، ولا تتسرع فتقول: انه لم يبدأ أي موضوع بالبسملة، فما معنى أن يبدأها هنا؟ جداتنا يا سيدي القديمات، كن يسمين "الجن" بهذا، فيقلن إذا افتقدن شيئا أو وجدن عبثا بحاجة لهن، قابل أجه بسم الرحمن الرحيم، أخذهه وطار، أو تعالوا وشوفوا شصاير من لعب بغراضي، وياهو الأسئله يقول مو آنه، استغفر الله يا ربي، لازم -بسم الله الرحمن الرحيم- أشتهى يلعب بيهن.
 أما الجن الذي أقصده أنا هنا فانه "الاستعمار" والأمريكي بوجه خاص، هذا المرابي الكبير، الذي أستطاع باشتراكه مع دول أوربا "اللواتي" وقفن ضد مساعي المانية بزعامة هتلر لغزو العالم كله، فهو وريث فلسفة "نيتشه" الذي كاد يؤكد أن المانية هي الأمة الوحيدة التي تحمل الدم النقي الأزرق. وعليها وحدها أن تسود العالم. مع ذلك أصاب معظم سكانها خلط من دماء غير نقية، فيجب، حجز هؤلاء خاصة "العمال" ولعله يقصد الفقراء فلا يحق لهم أن ينسلوا، أنقياء الدم خاصة الفلاسفة هم الذين يحق لهم الزواج من -نقيات الدم- والانسال. وكان يكره "بريطانيا" مدعية الديمقراطية فيقول: ألا من يخلص بريطانيا من الديمقراطية، ويا من يخلص الديمقراطية من بريطانيا.
لكن تلميذه هتلر لم ير رأيه في روسيا، مثل قوله: أن روسيا هي وحش أوربا الضاري فلو اتفقتا سادتا العالم "أي ألمانيا وروسيا". وحين فجر هتلر الحرب العالمية الثانية، وضع نصب عينيه روسيا، وقد هاجم بولونيا ليعبر إليها. فانه حسب الحساب لها سلفا في كتابه الشهير "كفاحي" فقال: أن روسيا لقمة عسيرة الابتلاع، لكن لابد من ذلك. لأن العبور إلى الشرق يتم عن طريقها. وغزوه لروسيا حطمه لأن روسيا أصبحت -الاتحاد السوفيتي الاشتراكي- وليس روسيا القيصرية. وانتهى هتلر إلى مصير لا يحسد عليه، مثلما انتهى فيلسوفه نيتشه، إذ جن وأُدع "المارستان" وحين جاءت أخته تتعهد مداراته وتمريضه، لتخرجه من المارستان إلى بيتها رفض قائلا: لقد كنت أؤيد حجز المجانين والضعاف!. وفقا لنظريته "القوة" التي ضمنها كتاب "هكذا قال زرادشت".
كان يكره المرأة. إنها رمز الضعف. ويكره كلمة الرحمة، إنها من إبداع الضعاف أيضا، أي الفقراء. والحقيقة إنها من بدع الأغنياء ليظهروا بمظهر المحسن وهم أيضا مبتدعو الحديث والمنسوب إلى الرسول الكريم (الأغنياء وكلائي والفقراء عيالي، وأبر الوكلاء أبرهم بعيالي). بينما ذم القرآن الكريم الذين يكنزون الذهب والفضة، والذي جمع مالا وعدده، إلى كثير من هذه المعاني في كثير من هذه السور.
أمريكة عام 1939 ليست هي أمريكة أبراهام لنكولن ولا أمريكة ولسن إنها أمريكا التي هي تحت سلطان -بريطانيا- فشاركت ودخلت الحرب، لتخليص العالم من أطماع هتلر. وساعدت كل الدول بالمال والسلاح لتستمر هذه الدول بالمقاومة. وانتهت الحرب، بعد خسارة ألمانيا وانتصار الحلفاء.
كانت أمريكة وحلفاؤها في بداية غزو هتلر لبلاد السوفيت لا يفكرون بمساعدة الاتحاد السوفيتي، كانوا ينتظرون أن يقضي هتلر عليه وطبعا ستنهكه الحرب عندئذ يجهزون عليه. مواطنو الاتحاد السوفيتي أدهشوا العالم في مقاومتهم، مما أضطر الحلفاء أن يقتربوا ويمدوه بالمساعدة. وفي اجتماع طهران أصر ستالين على فتح الجبهة الثانية، وتم ذلك وقضت معارك ستالينغراد على جيوش هتلر، واستسلم قائدها "باولس" وزحفت جيوش الاتحاد السوفيتي وعبرت نهر الاودر واحتلت برلين، وقد كتب على واجهات دباباته -من موسكو إلى برلين-. وانتهت الحرب وكل من الدول الكبرى، بريطانيا، فرنسا فقدتا أكثر مستعمراتها، وهن يرزحن تحت ثقل ديون أمريكة عليهما، أصبحت أوربة كلها مدينة لأمريكة، لا تقدر أية واحدة منهن على معارضتها، وتحولت دول صغيرة من الغرب والشرق -العربي خاصة- من أحباب أمريكة.
وفكر "شيطان الانس" أن يحتل هو ويرث مستعمرات بريطانيا وفرنسا وايطاليا وغيرها. كيف؟ وبأي أسلوب؟ وقد نشرت مجلة "المختار" مقالا بقلم أحد كتاب الغرب: عن نظرة أمريكة وخطتها وبرامجها لوضع اليد على كل ما فقدته الدول الكبرى "بريطانيا، فرنسا، ايطاليا"
وجدت أن الحزب الشيوعي الفرنسي الذي قام بجهد عظيم في المقاومة السرية وتنظيمها داخل فرنسا المحتلة من قبل جيوش النازية، قد حصل على شعبية واسعة وسمعة طيبة بين صفوف شعبه والعالم. حيث سلم حكام فرنسا الكبار باريس لقمة سائغة للجيوش النازية، بحجة واهية، هي جمالها وآثارها، فلو قاوم جيش فرنسا لهدمتها جيوش هتلر. هكذا ارتأى "لافال". ولما قرر مؤتمر طهران فتح الجبهة الثانية حسب إصرار ستالين، أوكل الأمر إلى العسكري الفرنسي المعروف "ديغول" أن يقوم هو بفتح الجبهة الثانية، وتم الاتصال أيضا بين قادة المقاومة السرية بقيادة الشيوعيين وديغول من خارج فرنسا، وهذا مما خفف ضغط الجيوش النازية على الاتحاد السوفيتي. وفي ايطاليا عمال ميلانوا هم الذين القوا القبض على موسليني، وهبوا لاكتساح الجيوش النازية المحتلة.
وكانت خطة أمريكة إذن العمل على إضعاف مكانة الحزب الشيوعي الفرنسي بمساعدة حكام فرنسا البرجوازيين والرأسمالية الفرنسية. النقطة الثانية أضعاف حركة الشيوعيين الايطاليين. كل هذا سهل يسير، مادامت الطبقة الرأسمالية والبرجوازية ما تزال حية في هذه الأقطار.
بقي أمر ثالث، اعتبرته أمريكة صمام الأمان هو "إيران". إيران جار الاتحاد السوفيتي الذي كان خطرا يهدد كل الدول الرأسمالية. كانوا يعتقدون أن هتلر سيقضي عليه، لكن الاتحاد السوفيتي أنتصر وأصبح عملاقا مخيفا. انه جار إيران فلو زحفت الاشتراكية منه إلى إيران ولديها حزب شيوعي، ولديها الأكراد، الذين يسعون للحصول على تأسيس وإقامة دولة، وإيران جار العراق الذي شعبه يبغض الاستعمار، وأية حركة تنجح للتحرر فيه تسري نارها إلى كل البلدان العربية، بالأخص سورية ولبنان الذي ركزت فيه فرنسا الحكم الطائفي فجعلت -طبعا بعد أن فرض عليها التخلي عن سورية ولبنان- رئاسة الجمهورية للمسيحيين المارونيين، ورئاسة الوزراء للمسلمين السنة، ورئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة. إن هذا التقسيم ضمان لموت فكرة وحدة الوطن العربي الموحد.
وتعاقب الرؤساء الأمريكيون من روزفلت إلى أيزنهاور ثم ترومان وجونسون وكندي ...،  وفيهم من كان أكثر حماسا وحرصا على صداقة واحتضان إسرائيل، في قلب البلاد العربية. وحدثت في البلاد العربية تبدلات من حكم ملكي إلى جمهوري، وتأسست حكومات عربية "مستقلة" في المغرب العربي. فما هو المحصل!؟ المثل العامي الشعبي يقول -ذاك الطاس وذاك الحمام-.
وراحت الأحزاب داخل الوطن العربي، لا شاغل لها إلا أن تتنافس فيما بينها، وأشدها من التزم أفكارا هي نازية في حقيقتها وظاهرها قومي، أتضح هذا فيما قامت به عند استلامها الحكم من سفك دماء، وتعذيب وحشي.
ليتهم جميعا يصيرون يدا واحدة ولو مؤقتا، أي إلى حين تمكنهم إجماعا على طرد اللقيطة "إسرائيل" وإعادة أشقائهم الفلسطينيين إلى موطنهم. إن حكامنا العرب لا يكترثون بهيأة الأمم ومجلس الأمن، لقد أداروا عنها ظهورهم وتوجهوا إلى أمريكة، ولو إنهم قاطعوها لانتصروا، ولو أجمعوا على الوحدة في الرأي والعمل ضد إسرائيل لنجحوا. ولكن ..... هيأة الأمم صارت -لعبة الأمم- ومجلس الأمن كل ما ضويق أهم أعضائه، أمريكة، بريطانيا، فرنسا صاح: فيتو.
ويل لواضع الـ "فيتو" ويا بؤس الشعوب من الـ "فيتو".
محكمتان!؟         
حضرت اجتماعا لحركة السلام في مقرها الخاص.  وكان عدد الحاضرين قليلا بالنسبة لاجتماعات سبقت. أحد الخطباء كان "فاضل عباس المهداوي" رئيس محكمة الشعب. لم أكن أعرف الرجل ولا سمعت عنه قبل ثورة تموز، ولم ألتق به أيام وسِني الثورة إلا مرتين فقط.
سمعته وهو يدير محاكمة رجال العهد الملكي فكان أحيانا يخرج عن الاعتدال وبلهجة وتعابير لا تتناسب مع وزنه خصوصا حين يطري "عبد الكريم". ولكني في لقائي الأول -مصادفة- والثاني قد تغير تماما في نظرته إلى عبد الكريم قاسم وسياسته الهوجاء! في لقائي الأول كنت قاصدا "ماجد محمد أمين". فلِماجد معرفة بي تعود إلى أعوام الثلاثين، حين كان طالبا في ثانوية النجف، عن طريق أخي حسين، الذي كلفه بذلك مدير ثانوية النجف "عبد الرسول نجم" وهو من أصدقائنا وتعود علاقته بنا عن طريق أبينا الذي تربطه بوالده صداقة لتردد أبي على البصرة في موسمي عاشوراء وصفر.
وكان ماجد حين التقيت به في محكمة الشعب، ألتمس منه أن يتوسط أمر ولدي "محمد" تحدث لي بذكرياته في تعرفه على أخي، وقال: كان يحبك كثيرا، عرفت هذا حين تركنا مستعجلا على خلاف عادته، واعتذر: أخي "علي" اليوم جاء من مقر وظيفته وأنا مشتاق إليه، لو تعلم كم أحبه. وفي اليوم الثاني أخذ يحدثنا عن أحاديثك ونكاتك، ثم قال انك أنت الذي عنى بتوجيهه.
وجاء المهداوي، كان يبدو عليه الضجر والسأم بسبب مؤامرة الشرطة التي فشلت. وسأله ماجد عما قرره الزعيم عن إحالة المتآمرين. فأجاب المهداوي، من المؤكد إنها ستحال إلى محكمة شمس الدين عبد الله، لتجنب صدور حكم على القائمين نهائيا أو على صغارهم بأحكام خفيفة.
قلت هكذا!؟
- نعم هكذا. محكمتان، واحدة ضد أعداء تموز حسب سياسة الزعيم الحاضرة والثانية ضد من يحسب على الشيوعيين أو مجرد بعده عن -القوميين-. ثم تأوه آهة عميقة وقال أشوف النهاية كارثة عظمى لانحراف سياسته الخرقاء، وسنكون أول من يحترق بنارها.
أما في هذا الاجتماع حين ألقى كلمته، فقد ندد في خطابه هذا بعبارة صريحة في الذم والنقد المر. قال: إن الذي ينحرف عن طريق مصلحة الشعب، يفقد كل المقاييس الصحيحة ولن يعود قادرا حتى على الكلام المتزن. وساد الحاضرين وجوم.
لقد صدق الرجل. فلقد أصدر عفوا عن الذين اعتدوا على حياته. بعضهم كان محكوما بالإعدام فخفف الأحكام إلى 15 عاما، ثم مراحم بنسبة 50% وإخراج الموقوفين والمبعدين -في 3/12/1962- وبمناسبة عيد رأس السنة أطلق سراح الجنود الانكليز الذين قبض عليهم بين الكويت والعراق.
وخطب متبجحا فقال: إن الإنكليز والأمريكيين أرسلوا إلى حكومة الثورة مذكرتين حول انقطاع المفاوضات مع شركة النفط. وعقب ، إن التهديدات لا ترعبنا لأننا لن نقف لوحدنا.
لكنه ندد بمن يصدرون نشرات سرية. وتلا هذا أن نادى الأحزاب السرية والعلنية لمساندة الحكومة!؟ وان تتصافى فيما بينها! واغتنم فرصة الانقلاب في سورية ضد الإتحاد مع مصر بزعامة جمال عبد الناصر وتم بينه وبين الرئيس السوري الجديد اجتماع، قيل أنه شبه محاولة للاتحاد واشترط أن يكون الدخول فيه اختياريا وللدول المتحررة فقط وفي 16/3/1962 صدر البيان المشترك.
يا قادة العرب ويا زعماءها، ليست المشكلة اختياري أو غير اختياري، ومتحرر وغير متحرر. المشكلة عندنا إن الذين يتزعمون انقلابا أو ثورة لا يطلقون الحريات للأحزاب التقدمية ولا للصحافة، ويغضون النظر عن سن دستور دائم، ويشغلون أنفسهم بإزاحة الشخصيات الذين يخشون منافستهم، بل حتى الذين هم شاركوهم في الانقلاب أو الثورة، وحتى الذين يؤيدون أولئك، وان كان السبب، إنهم عرفوهم عن طريق التنظيم الحزبي.
ما أحوجنا إلى الاستقرار السياسي بدلا من هذا التخبط، والعالم كله في غليان. ففي إيران مظاهرات بقيادة الجبهة الوطنية، ورئيس الوزراء علي أميني يهدد بسجن أعضائها.
وأعلن في 20/10/62 عن نجاح الطيار الأمريكي الكوني الذي دار حول الأرض 3 مرات في 4 ساعات و 50 دقيقة. وقد تحدث حال نزوله أن الكبسولة حارة جدا تكاد تحترق! وهنأه الطياران السوفيتيان. وكذا أعلن في 22/2/62 نبأ موافقة مجلس الوزراء الفرنسي على الاتفاق الجزائري بشأن وقف إطلاق النار، وتقرير المصير. مرحى لهذا الانتصار للجزائر التي حققت التحرر بمليون شهيد. وحدث اصطدام بين قوات الهند والقوات الصينية على الحدود. وتقهقر الصينيون أول الأمر. وصرح الرئيس الهندي انه لن يتراجع. بينما هب العالم الاستعماري يشجع الهند واستغلت أمريكة هذه الأزمة فطوقت كوبا بأسطولها. وحذرت أية باخرة إن قدمت حاملة معدات، ولكن الاتحاد السوفيتي ردّ الإنذار بإنذار. وهذا ما يدعو لانفراج الأزمة وفعلا انفرجت. ولكن مشكلة الصين ما تزال.
وفي 2/11/62 أعلن الاتحاد السوفيتي أنه أجل تفكيك قاعدة الصواريخ في كوبا إلى شهر. وأعلن كاسترو أنه سيقيم مناورات عسكرية في البحر.
بمناسبة عودة شيخنا "محمد رضا الشبيبي" من القاهرة، قصدت زيارته. كان مجلسه مكتظا  بأناس شتى. منهم أهل علم ومنهم سياسيون. ولأول مرة رأيت صالح بحر العلوم الكربلائي النائب السعيدي. كان يتحدث عن إيران والحركة الوطنية. وصفها بأنها أعمال صبيان مستهترين. هذا الرجل من سكان كربلاء وهو من نفس عائلة بحر العلوم في النجف. وهم في الأصل من سكان إيران، وعلويون وبالرغم من أن العلويين يعتبرون عرباً إلا أن إقامتهم هناك واندماجهم بالفرس طبعهم بطباع الفرس. وعلى الرغم من إنهم يقيمون في النجف منذ تزعم الشيعة في العراق جدهم الأكبر -السيد مهدي- الذي عرف بهذا الاسم –بحر العلوم-، ما يزال بعض رجال هذه الأسرة في ألسنتهم لكنة أعجمية. لاحظت هذا في لسان السيد محمد علي الذي كان –عينا- أيام العهد الملكي، والسيد هاشم وأبيه جعفر. أما طراز حياتهم ففارسي بحت. ويعجبني منهم السيد صادق الذي عين قاضياً في العمارة. أما صاحبنا صالح بحر العلوم الشاعر الذي كان بداية أمره من الروحانيين في بزته ودراسته، فقد ثار عليها ودرس إلى المتوسطة ثم -تأفند- وقضى ردحاً من الزمن من ذوي الطرب والهوى ثم أتجه سياسياً، لكنه يجبن في كثير من المواقف، ويتجرأ في بعض الهزات الجماهيرية.
كان بعض الحاضرين يستوضح من الشيخ عن حقيقة الأوضاع في مصر، ومدى تجاوب الشعب مع الحكم القائم اليوم؟ أعتذر الشيخ بأنه كان في دوامة المؤتمر. ولكنه لخص جوابه: أن الذين استفادوا من ثورة مصر، هم الفلاحون. وان الوضع حقيقة لم يتبدل في كثير من مظاهره.
وزار قاسم في 16/7/1962 معمل تعليب كربلاء ومعمل الأحذية في الكوفة، دون أن يدخل البلد. وبهذه المناسبة اعتقلت السلطات الأمنية بعض الشباب التقدمي!؟.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏03‏/07‏/2011


94
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 8
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)




 

هذا العام
   أنا في هذا العام -1962- أحوالي في مهاب رياح. أحداث على بساطتها، بلبلت أفكاري، لأنها تتطلب مني جهودا أو مالاً. في الوقت الذي أنا جديد عهد، بسبب ما خلفه الإبعاد، والإقامة بعيدا عن أهلي، وراتبي كما يقولون بعض الأدباء (كحلم الأعزب لا يصبح منه إلا على قذارة الثوب ونجاسة البدن!).
فقد أوقف ولدي محمد بتهمة حيازة منشور سري! مما أستوجب أن أزوره لأستطلع حقيقة الأمر. بدا لي منهكا، على وجهه صفرة شديدة وآثار كدمات. استوضحت منه ما إذا لقي من شرطة الأمن مداعبة!؟ وجادلته أريد أن يعترف بالواقع. فأصر: إن الشرطي السري المدعو "ناصر الأسود" قد قبض علي بباب البريد، وقد جئت لأرمي رسالة إليك. وأثناء تفتيشي عثروا على نداء يطالب رئيس الجمهورية بوقف الحرب ضد الأكراد مع بيان للحزب الشيوعي في طيات منديلي. وقد أدعيت أني عثرت على البيان في الطريق، ودفعني حب الإطلاع للاحتفاظ به. أما عن النداء فأكدت أني أؤمن بالحل السلمي وأكره الحروب لأنها تجلب البلاء للشعوب. ثم أخذني هو وزميله بالدفع والضرب. وبعد عرضي على معاون الأمن "محمد جواد" الذي أهانني، وسب وشتم أهلي كلهم بأقذر الشتائم، ثم أمر بتوقيفي. سألته عما إذا كانوا قد استعملوا معك الضرب. فأجاب: اعتداء وضرب لليلتين متتاليتين، وتهديد لا أخلاقي يتناسب مع أخلاقهم المنحطة، وكنت حينها معزولا عن بقية الزملاء؟
وأحيل إلى المجلس العرفي الثاني. وكنت قد كلمت الشيخ الشبيبي فأرسل إلى شمس الدين عبد الله الحاكم في هذا المجلس: بأن هذا طفل، ربما خدعه أحد وهو لا يعلم معنى ما كلف به. فوعده أنه سيسامحه. وحضرت يوم السبت 26/5/1962 إلى المجلس العرفي الثاني ونودي على محمد. وتراجعت عن الباب لأقضي حاجة، لم يستغرق وقتها أكثر من دقيقتين، خرج محمد مع شرطي، وأخبرني: إنه حكم بالسجن ستة شهور يقضيها في سجن الكوت.
شمس الدين هذا مجلسه خاص ضد المتهمين بالشيوعية. وهناك مجلس آخر برئاسة "المهداوي"  لمحاكمة المتآمرين. طبعا هذا من عبقرية الزعيم وهو ذو هدف -إن صح- ليشدد في الحزازات والعداء بين أبناء الشعب الذين رحبوا بتموز. ووجدوا أن هذا العهد يبشر بالحرية بظل المنظمات الوطنية. لكن الصراع في هذا العهد الذي هللنا له وكبرنا تغير، واعتقدنا إن ما اندثر لن يعود والأغرب من كل هذا إن الفئات السياسية التي تنتظر  منها أن تقود الجماهير إلى أوضح السبل لتحقيق وحدتها في نظام امن ورفاه، كانت تلك الفئات تثير النعرات، وتدفع الغوغاء في التوغل بمسلك إثارة الحزازات.
قصدت ذات يوم الشهيد ماجد محمد أمين لأكلفه في أمر ولدي محمد، ولم أكن أعرف أن شمس الدين عبد الله ليس كحاكم فقط وإنما هو ذو انتماء يعتبر ماجد نقيضا له. في هذه الأثناء حضر "المهداوي" فحكى له ماجد عما جئت من أجله. فأجاب بانفعال: إن سيادة الزعيم تعمد وجود محكمتين عسكريتين، فيحال من هو محسوب على الشيوعيين إلى شمس الدين عبد الله، ومن هو على الفئة الأخرى إلى المهداوي. الله يعلم ماذا سنجني من هذه السياسة!؟ الرجل قال هذا وزفر بعدها زفرة حادة.
وأعود إلى مدرستي، وبلا تبجح إني مثابر وملتزم بالمحافظة على الوقت للدوام وما يلزم. أنا لا أكابر ولا أدعي إن قلت، إني أعشق مهنتي، وطلابي يحبونني وأنا الغريب الجديد عليهم. حتى أن أحد طلبتي، حدثني بأسف عن حقد أبيه وأخيه عليّ. وذكر لي انه يحدثهم عني فيزجرونه زجرا شديدا. إنهم يخيفونه، ويحذرونه أن ينزلق وينجر وينخدع، فهذا المعلم عدو للدين والوطن!؟
مدير المدرسة رجل يريد أن لا يتهم بأنه متساهل وغير واع. طبعا مأتى خوفه هذا ليس من أولي الأمر مباشرة، وإنما خوفه من المسيطرين في هذا القضاء البائس بالدعاية وبث التهم والإشاعات ضد كل من لا يشايعهم. بينما فاتهم إن أهم هدف للسياسي أن يعمل من أجل الجميع، وأن لا يعتمد على سمعه وحده، بل وأن لا يتلقى من الذيول، وما أشد فقر تلك الذيول في المفاهيم الوطنية والسياسية القويمة.
الشاب "عدنان عناد" حدثني بعضهم عن ماضيه؟ هذا يسمعني كلمات نابية، ويعدني بيوم يريني فيه ما أستحقه. وأنا لو تهيأ لي مجال لقلت لـِ "قادته ومنظميه" إن كان حقا جُنِّد ليكون عضوا نافعا، أجل لقلت لهم ليكن همكم قبل كل شيء أن يتعلم كيف يتخلص من جهله، وهذبوا أخلاقه ليكون عضوا نافعا ومدركا، لا أن يكون لا يعرف غير أن يهدد بالتدمير والهلاك.
أحد زملائي يدعى "خليل الدباغ" من الأعظمية لا يقيم في الخالص، فهو بغدادي من الأعظمية، لذا هو يكثر من التغيب، وترك المدرسة بعد الدرس -قبل الأخير-. أحيانا يخبر المدير ويطلب أن يسمح له بمغادرة المدرسة وليعفيه من الدرسين الأخيرين فإذا أمتنع المدير، خرج بدون علمه!
لكن هذا المدير حاسبني ذات يوم بلهجة مَن أكتشف مخالفة مني ذات أهمية. تلك هي إني بعد تعب الدرس، استرحت على كرسي لأشرف على حركات الطلبة أثناء الفرصة، وباعتباري مراقبا عليّ أن أتجول بينهم لا أن أستريح.
لا بأس أنا واثق أن الرجل طيب لكنه جبان وهو يعرف جيدا ما وراء الكواليس، والفئة التي ينتمي إليها  ذاك المعلم الذي لم يحاسبه على تغيبه ومغادرته المدرسة مع وجود دروس بعهدته!
ولقد أصابني ذات صباح حمى شديدة مع صداع أليم، فكلفت من يوصل إلى الإدارة عني ما أنا فيه، فلم أجد منهم جميعا لفتة تعاطف. كلهم يعتقدون أن الجو يزداد اكفهرارا بسبب سوء تصرف ربان السفينة الذي لا يفكر بغير التشدد على مسك الزمام، انه واهم. حين صرخ في أحدى خطبه "القطار يسير"! فعلقت أنا هامسا بأذن صديق إلى جانبي: انه خرف يتغافل إن القطار قد ينقلب فجأة  وفي المستقبل القريب على السائق والركاب، ليس المهم أنه يسير ولكن كيف وبأي إتجاه!
وذات يوم عند انتهاء الدوام، قال لي المعلم خليل: أود اليوم أن أكون ضيفك عند الغداء. أجبته لهذا مع الشكر. كنت دائما أحضر الادام عصرا فأتعشى منه مع الخبز، وابقي منه لغداء اليوم الثاني، وحين أعود من المدرسة أطبخ الرز. وكان ما لدي يكفي لضيافة صاحبي. سألته: لماذا لا تقيم هنا وتتخلص من متاعب الرواح والمجيء من بغداد إلى هنا؟ أجاب: إني جديد عهد بالزواج ، وزوجتي معلمة ترفض الانتقال إلى هذا البلد. ثم علق: بربك، هل هذا القضاء بلد صالح للسكن!؟ قلت على الفور وبدون حرج: أعتقد أنك تعلم جيدا أن واجبك كسياسي قومي، أن تقيم هنا وتحمل المؤازرين والمنتمين ليطالبوا الجهات المختصة بالإجراءات اللازمة من عمرانية وصحية، واقتصادية لهذا البلد الذي يكثر فيه مؤيدوا الحزب الذي تنتمي إليه. أجاب مستغربا، ومن أين أدركت إني حزبي، وأي حزب هذا الذي تعنيه؟
قلت يا عزيزي، ثق أني غير منتمي لأي حزب، في حين وجدتك، وبعض زملائي المعلمين يعتقدون وبإصرار إني شخصية ذات كيان في حزب يساري، مع العلم إني أحتك بهم جيدا، وإنهم يتجنبون الجلوس معي في المقهى، حتى الذي يحبني منهم، والذين أشير إليهم أيضا لا يبغضونني.
قال: وهل تعرفني تماما؟
- أبدا، إنما نظراتك إليّ وتعليقك على بعض أحاديثي، واستغرابك إني أعطيت أبياتا من الشعر في تمجيد العرب والفخر بهم. وكأنك متأكد -وهذا جهل- إني لا أعتز بقومي وعروبتي لاعتبارك إني أنتمي إلى فئة سياسية تدين بوحدة البشرية، وتدعو إلى عدم تسلط بعضها على بعض. هذا يا صديقي ليس معناه إني -كما تجزمون- عضوا في حزب. أو ليس القرآن وهو رسالة النبي العربي يقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم؟
ابتسم صاحبي وفاجأني: كيف حال شقيقتك "وسيلة"، منذ اعدم ابن خالتي لم نعد نراها! قلت وتعرف أختي؟ وكيف؟. قال أن زكي محمد بسيم "حازم" الذي أعدم مع أخيك حسين هو ابن خالتي وقد كنت أجدها أحيانا في بيت خالتي؟
- ولكنك لم تجدني؟
- أجل ولم أسمع من شقيقتك عنك.
تناولنا الغداء ونحن مستمرون بالحديث. وختمت حديث الخوض بهذا الحديث بقولي: ثق إني أكره الحقد، وأحب مهنتي واخلص لها لا على إني أدين بمعتقد سياسي، بل لحبي لأمتي وشعبي ولنفسي أيضا، ولست أنكر لو وجدت سلوك الأحزاب الوطنية خالصا من التحديات على أساس المبالغة في معاداة الأفكار الأخرى، لما امتنعت من الانتماء. ولكنهم ينشغلون عن حرب الاستعمار وأفكاره وعملائه في الداخل إلى محاربة إخوانهم ومتهمين حزبهم خارج على الوطن ويرمونه بشتى التهم؟ وفي هذا ما فيه من فائدة لصالح الاستعمار! أنا أرى أن على الأحزاب الوطنية بمختلف مناهجها يجب أن تهدف حاليا وضمن جبهة وطنية بكل جهدها أن تحاول تقويم -عبد الكريم- وإرغامه على الأخذ برأي الجبهة وسن الدستور الدائم، وتطبيقه تطبيقا صارما من أجل أن يصبح العراق يدا واحدة ضد الاستعمار، ومحاولاته الآثمة ضد تقدم الشعوب واستقلالها. وإن لم ينصع فالعمل لإسقاطه بعمل موحد ضده. بعد تناول الشاي ودعني وانصرف.
معلم آخر في المدرسة هذه، عهد إليه تدريس العربي في الصف الرابع، كان ذا هندام أنيق وهو في ريعان الشباب، أبوه ملاك صغير، عمه الحاج محمد له وكالة أحذية باتا، إنه من جماعة فاضل الجمالي وسبق أن أنتخب عضوا في مجلس النواب، وكانت نيابته هذه الأولى والأخيرة. كان هذا الشاب أيضا ينظرني بعين حانق بلا سبب سابق.
في 15/10/1961 جاء المفتش الأستاذ صالح السامرائي فوجدني في الصف الثاني. وصالح السامرائي كان مديرا لمديرية تربية بابل، حُوّل إلى مفتش، طبعا تبعا لصهره الدكتور فيصل السامر لتحول ميل قاسم عنه. كان الدرس -قراءة- أخذ يلاحظ، إني أكتب كلمات ذات حروف كبيرة مثل فردوس، وسلسبيل، وديمقراطية في أعلى السبورة. أرسم خطا عموديا على السبورة، وارسم حروف إحدى هذه الكلمات منفردة. وأطلب من التلاميذ تأليف كلمات من هذه الحروف. طبعا غرضي من هذا أن يتصرف الطالب ويعمل فكره ليؤلف كلمة واسأله عن معناها. أعجب المفتش بهذا لأن هذا يحفز الطلبة على استعمال تفكيرهم وبهذا أيضا يتعرفون على معاني كلمات عربية جديدة.
ثم مرّ على الصف السادس بدرس آخر. فوجد إني استمع منهم قطعة شعر لأديب تقي الدين، بعنوان "سائل التأريخ" فأعجب بها، ومنها هذه الأبيات:
سائل التــأريخ عاما ثم عامـا      أي يوم خفر العــرب الذماما
المــروءات هدى أعمـــالهـم      والوفاء الدين الذي فيهم أقاما
عبدوا الأصنـــام لكن عبـدوا      قبلها العرض فصانوه كراما
أنا لــو كنت إمرءَ القيس بهم      لأجدت القــول فيهم والكلاما
وقفـــا نبك حبيبــــــا لم أقــل      بل قفــا نبــك إتحــادا ووئاما
 ولم يدخل إلى الصف. حين انتهى من زيارة الصفوف جمعنا لإبداء ملاحظاته. سأل أحد المعلمين عن عمره. أجاب 27 عاما. قال المفتش: المعلم علي الشبيبي عمره خمسون عاما. لذلك أرجو منك وأنت زميله أن تلاحظ أناقته وتنظيم هندامه من الرباط إلى السترة السبورت، بينما وهذا يسوءني أن أنبهك إلى أكتاف سترتك ووسخها وإلى رباطك البالي جدا.    
ثم توجه إلى"صباح محمود" معلم الصف الرابع  وقال: باعتبارك عربي، ألا يجدر بك أن تنتخب قصيدة قصيرة عن العرب كالتي سمعتها من طلاب الصف السادس باختيار معلمهم الشبيبي!؟ وبدا على المعلم انفعال. ومنذ ذاك أخذ يكثر من الهمز واللمز ليسمعني، وأشار عن المفتش بأنه شيوعي. فهو من أقارب الشيوعي فيصل السامر. الواقع إني لا علم لي إن كان الدكتور شيوعيا أم لا، وقد ذكرتها على اعتبارات تسمية القوميين له.
وبادرت في اليوم الثاني فأعطيته بويتات لأبي فراس الحمداني عنونتها "نحن العرب" وقلت: هذه الأبيات تناسب طلبة الصف الرابع. أخذها مع شكر خافت.
بعد أيام كنت أنوي زيارة أهلي في ليلة جمعة. فدنا مني راجيا أن أجلب له عطر يناسب مولودا جديدا سيرزق به، وان عاداتنا أن نطيب بعطر، ألرازقي أو العنبر. وفعلا جلبت له ذلك ورفضت أن آخذ ثمنه. وجاء في اليوم الثاني يبلغني شكر زوجته وهي تبالغ بنوعية العطر. لقد أصبح صديقا وأحبني كثيرا.
وألح علي المعلم عبد الحميد كاظم، أن أكتب عريضة إلى -قاسم- بواسطة سكرتيره جاسم العزاوي شقيق عبد الحميد.  وقد كتبتها رغم إني لم أثق أبدا انه سينجز المرجو في تلك العريضة خصوصا إني لم استعمل أسلوب أو لهجة استجداء. بعد أيام أخبرني عبد الحميد أن أخاه السكرتير قال: لو بقي في مكانه أحسن إذ ربما نقله إلى أبعد!؟

الغرفة
لأني أعرف تتابعني عيون الشرطة الخاصة، فأنا أحدد تحركاتي كيلا أسبب لنفسي بعض الأذى. وأسمع أهل القضاء يتساءلون "الغرفة جمشت"، يريدون هل نالها مطر غزير بحيث أصبح بالإمكان نثر بذور الحنطة فيها. فقلت لبعض من أعرف: إذا قصدتم الغرفة فانا معكم أريد أن أراها.
إنها واسعة جدا. وإذا روتها السيول زارها البط الوحشي فقصدها الصيادون. سكان الخالص من هواة الصيد، يقتنون الكلاب الخاصة والصقور. وأحيانا يأتون بصقورهم إلى المقهى متباهين بها، أو لغرض بيعها.
هناك مررت على النهر المعروف "النهروان" الذي حدثت قربه معركة الإمام علي مع الخوارج وانتهت بفرارهم. وهناك في الخالص محلة تدعى "عليبات" لم أفهم معناها وحين استفهمت قالوا: إن أصل الكلمة علي بات، أي إن الإمام أيام معركته مع الخوارج بات هنا. القرويون يحرفون كثير من الأسماء على لهجتهم الخاصة. فمثلا هم يقسمون -وحـگ سيد تركان- وهو قبر يزورونه ويقدمون له النذور. واستفسرت من الدكتور مصطفى جواد، فأجاب: انه تتري ولاه التتار الذين احتلوا العراق هذه المنطقة وكان عادلا وطيبا فأحبوه واسمه "طورخان" فحرفوها إلى تركان. وهذا الاسم مشهور عند القرويين.
كانت الغرفة قاحلة ما فيها إلا بناء قديم قريب من البلد. قالوا انه قصر المعتصم العباسي كمصطاف. كما أن عبد الإله كان يأتي هنا في بعض المواسم لصيد ابن آوى.
تفرق صحبي يجمعون عشب "الخباز" أما أنا فقد أبصرت ربوة عالية، وكومة تراب عليها سعفة يابسة يداعبها الريح فاسمع لها خشخشة. وسألت عن هذا فقيل هو قبر بدوي مات فدفنوه ومضوا واسم المكان "تل السويس". وأعطاني صحبي شيئا من عشب الخباز، فطبخته كما نطبخ نحن النجفيين الادام المعروف بالسبزي "السبانغ". ولما أطعمتهم منه أعجبوا به، وقالوا من حسن الحظ أن لم نطعمك من طبختنا له فشتان بين لذة هذا ومطبوخنا، وعلمتهم كيف يفعلون.
تبدي النقابة بمختلف فئاتها المتنافسة في أمر الدعاية لخوضها. وقد انسحبت القائمة الجمهورية. والأسباب واضحة، أما المهنية الموحدة فان لم تنسحب من الآن فسوف تنسحب حتما. ولقد توجهنا إلى أهالينا على أمل أن نعود يوم تجري الانتخابات. بودي أن لا أشارك، فما معنى هذا التشريع، إذا كانت إحدى القوائم، جادة، وبكل إصرار على أن تسيطر بالقوة، ومن لم يرضخ سيتلقى جزاءه.
اتفقت وزميلي المعلم "جليل السهروردي" أن نتوجه سوية، لكني لم أجده في الوقت المحدد. بعد وصولي بغداد، توجهت إلى موقف السيارات لأتوجه إلى قضاء الخالص. حين قاربت السيارة المفرق ويسمى القاطون ألتفت السائق إلى الركاب وقال: يا جماعة إذا سألوكم، وين تريدون قولوا للخالص تره الحديده حارة!؟
وما أن اقتربنا تماما حتى لاحت الهراوات الغليظة مشرعة كالرماح. وشاهدت جماعة قد انهالوا على واحد لم نتبين من أمره، غير أن عصيا وهراوات ترتفع وتهوى عليه، وآخرين يحاولون تخليصه!؟
مرحى، مرحى. إنها لديمقراطية قومية عربية، تجسد معنى الحرية، والكرامة المصونة لمعلمي الناشئة؟ ولكن هذا ما يريده قاسم. أن يفسح المجال لمثل هذا السلوك، معتقدا أن الذين تنتمي القائمة التي تعتمد هذا السلوك ستصافي معه. أو أنه يبغي من وراء هذا أن يكشف الفئات الوطنية بما يلطخ سمعتها بما يشين فيدينها. ولكن لا، إنها ستكشف موقفه هو. بتخليه عن حفظ الأمن، خصوصا أمن أهم فئة التزمت مناصرته -خاطئة- وكانت كالنعامة إذ تخبئ رأسها في الرمال كيلا يراها الصياد.
هناك في الخالص، لامني بعض المعلمين على مجيئي، واعتذرت: إني لم أصدق أبدا إن فئة مهمتها إعداد الناشئة على المحبة والوحدة، تمارس هذا اللون من التحدي الذي لا يليق إلا بالمتوحشين.
قبيل الساعة الثانية عشر، جاء أحد زملائي من معلمي مدرستي، وهمس في أذني وصية من الشرطي "صاحب" كلفه أن يحذرني من الوصول إلى بعقوبة فإن ابن العلوَجي الأعور قد حضر خصيصا ليرشد -المحاربين الأشداء- على شخصك، وقد أقسموا أنهم سيمزقوك بالمدى والخناجر!؟
لكن رسولا آخر جاء من قبل رأس القائمة المهنية، يعلن: أنْ قاطعنا الانتخاب الذي يراد له أن يتم بدماء تجري، وأرواح تزهق. إذن ماذا عليه ستكون انتخابات المجلس النيابي؟ قلت وداعا يا تموز، ليتك لا جئت ولا عرفناك!
دعوت على عمرو فلما فقدته      بليت بأقوام بكيت على عمرو
وبعد الساعة الثانية والنصف عدت إلى كربلاء والتقيت بالسهروردي، الذي حدثني انه كان قاب قوسين أو أدنى من الموت. لو لم يقفل أبواب السيارة عليه، لكنهم أشبعوه من وراء الزجاجة بالبصاق والشتائم، وان وجها من وجوههم البارزة تطوع "مشكورا" بدفع المهاجمين، وأخذ هوية السهروردي وزميل آخر معه، ليكونا صوتين من أصوات معلمي مدرستهما، ورافقهم إلى الكراج حيث عادا بسلام.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏28‏/06‏/2011


95
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 7
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)



وانتهت الإقامة الجبرية      
أتصل بي أهلي تلفونيا وأنبأوني بأن الجهات المسؤولة أنهت الإقامة الجبرية عنك وعن زميليك، ولكن مع نقلكم إلى مديرية تربية ديالى. فتوجهت بعد إعلام معاون شرطة القضاء إلى بعقوبة لمواجهة مدير المعارف ".....". فأشار عليّ معاون الشرطة، لو حاول المتصرف عرقلة إصدار أمر تعيينك، بحجة وجوب الاستفسار عن سيرتك خلال مدة الإقامة، قل له أستفسر من شرطة القضاء، وأنا عند هذا أزكيك.
حينما دخلت على مدير المعارف قابلني الرجل بكل طيبة، ثم أتصل بالمتصرف، بعد أن أعلمني، أنه حتم عليَّ أن لا أصدر كتاب تعيينكم دون أخذ رأيه!؟. فقلت: أنا أختار المدرسة الابتدائية في الخالص. وأرفض سواها حتى لو توقف تعييني. جرت المكالمة وأنا واقف قرب التلفون. فسمعته يقول: إنفيه إلى جلولاء!؟. قال المدير: إنه اختار الخالص وأنا أشهد أنه رجل مهذب، وأتعهد حسن سلوكه. فأجاب: إذن أرسله إليّ.
هذا المتصرف يدعى "حميد الحصونة" من أهالي الشطرة ولي به معرفة تامة. فهو ممن يراجع بأموره آل الشبيبي شأن الكثيرين من وجهاء تلك الجهات للروابط الدينية والمذهبية ولتبني الشيخ الشبيبي أمورهم لدى المراجع الحكومية.
دخلت عليه سلمت فرد علي السلام، وصبحني بالخير وأشار إليّ بالجلوس. وعاود الحديث مع زائرين عنده. اثنان منهما كانا على أعتاب الشيخوخة، وشابان يبدو أنهما ابناهما. وفجأة قطع حديثه، وتوجه إليّ بغضب. وصاح: قم. من قال لك أجلس!؟ وانهال علي بالسب والشتم، والتهم!؟. وقفت قرب الباب، وقررت أن لا أغض النظر، وأن أرده مهما كلف الأمر. إنه مستمر بسبابه واتهامه. شيوعي، أنا رأيت ملفتك. أكسر رأسك. قلت: أسمعني أولا وأفعل بعد هذا ما شئت. لكنه مستمر بصياحه، وشتائمه. قال أحد الرجلين: سيادة المتصرف، اسمح له يتكلم، وأسمع منه أولا.
حين سكت قلت: الملفة ليست دليلا أبدا. وحتى لو تكلم الإنسان وادعى في وقت وظرف معين، فليس ذلك بكاف. ألم تعلن أيام تموز الأولى في الديوانية: أني نشأت أنا وفهد على رحلة واحدة في المدرسة؟. ألم تقل أثناء كلمة ألقيتها على تظاهرة شيوعيين في الديوانية لتأييد ثورة تموز (حتى قدور بيتنا شيوعية!؟). أنا مؤمن إنك لست شيوعيا، رغم ما صرحت به، وأنا أيضا ليس لي انتساب فعلا لأي حزب سياسي سري أو علني.
هذه الكلمات فاه بها فعلاً عند مهرجان أنصار السلام وسمعتها بأذني إذ كنت حاضرا في المهرجان، وألقى هو كلمة موجزة. وتناقل في الديوانية هذه الكلمات  الناس الذين احتكوا به أيام شغل منصب آمر الفرقة الأولى في أوائل الثورة. كما نقل عن بعضهم إنه كان يتحدث عن فهد كثيرا باعتباره من أهالي الناصرية. ربما كان يعتقد إن الشيوعيين سيحتلون المكان الأول في مناصب ومؤسسات الدولة!
واستحسن الرجلان كلمتي. وتدخلا لتهدئته. وغادرت غرفته عائدا إلى المدير. وجدته يضحك وعلق "عسكري" كلهم مثله. ورن جرس التلفون. وكان هو. قال للمدير: ضبيته خوش ضبة!؟ أجاب المدير: حكى لي كل شيء!
أما زميلنا عبد الله مهدي الخطيب المدرس الذي كان قد أبعد قبلنا فقد بُتّ برفعها عنه بعد أمد قصير، وأعيد إلى حيث كان. هو مدرس أمر نقله يعود إلى الوزارة. أما نحن فامرنا يعود إلى مديرية معارف اللواء، معنى هذا أن ذوي النيات الحسنة في المديرية، بل المدير "كاظم القزويني" نفسه أيضا يرفض إعادتنا إلى حيث كنا لنعيش مع أهالينا. فنحن ما يخشاه على سلطانه وحاشيته.
وبعد طول انتظار، ومراجعات تسلمت كتاب شرطة بعقوبة بموجب كتاب الحاكم العسكري، بإنهاء الإقامة الجبرية. بقي أن تصدر مديرية المعارف، إذ كان أمرها موقوفا على صدور الكتاب المذكور. وصدر أمر تعييني بتاريخ 14/9/1961 كما اخترت في مدرسة الفتوة الابتدائية في الخالص. واعتقد أن الأمر متفق عليه من الأعلى، لأن زميلي صدر أمر تعينهم كل حيث كانت إقامته دون أن يواجهاه.
ولا غرابة في منطق هذا العسكري، لا لأنه عسكري. فالكلية العسكرية اليوم قطعت شأوا بعيدا، وخريجوها متفتحو الذهنية، السياسة والقضية القومية والوطنية تلقى اهتماما كبيرا. خصوصا بعد حركة نيسان، والهفوات الشعبية بعدها، في انتفاضات الفلاحين، وانتفاضة الشعب في وثبة كانون، وانتفاضة تشرين. والذي أعرفه مذ كنت في الناصرية، في لقاءاتي في بعض دواوين وجهائها، وفي مكتب المحامي "غالب فليح"، فقد علمت من أحاديث الكثيرين من الشباب حين يطرأ ذكره، يوم رشح نفسه للنيابة، وكان حينذاك مدير منطقة تجنيد لواء الناصرية. بأنه دخل الكلية العسكرية أيام كانت تقبل أبناء العشائر من الصف السادس الابتدائي. ثم إني أعرف أن إبعادنا تم بسعيه هو، يوم صار أيام ثورة تموز آمر للفرقة الأولى في الديوانية. كان عدد من الحاقدين من كربلاء يستقبلونه حين يأتي، ويحيطون به وكأنه مفجر الثورة. وقد ملأوا سمعه باتهامنا، أنا وزملائي، بكل نقيصة وكل باطل وكل شغب، وصار عند حسن تقديرهم فنفذ رغبتهم.
كل منطقه يدل على سطحية تفكيره. فقد زار الخالص، يتفقد دوائرها ومؤسساتها. وفي المدرسة الثانوية، قال لمديرها متبجحا، وهو شاب محترم : أي مدرس من ذوله أدبسز، قل لي باسمه حتى أكسر رأسه!؟ فرد المدير: العفو لا يوجد بين المدرسين غير الشباب النير المثقف المحترم!
ويشاع أن أسباب نقله من آمرية الفرقة الأولى إلى متصرف في لواء ديالى، إن "قاسم" عهد إليه بتنفيذ قراراته، بعد إعلانه عن تبعية الكويت للعراق، مما أحدث ضجة في الأوساط العربية والعالمية. وعدم موافقة الأحزاب الوطنية عن هذا أيضا. وقد أبدت كل الأحزاب رأيها في هذه المسألة. أشيع أن قاسم عهد إليه غزو الكويت بمفاجأة حدد هو موعدها. وإن "الحصونة" أستطاع أن يفشي السر إلى حكام الكويت. وإنه لقي المكافأة المناسبة!؟ ليس كل ما يشاع ثابتا وصحيحا، ولكن هذا ما أشيع بالمناسبة. وينفي بعضهم الإشاعة، أنه لو كانت حقيقة لأنزل به قاسم شر عقوبة.

العودة
كيفما يكن من أمر، وكيفما كان أثر الإبعاد الظالم، وكيفما يكن هذا كله سببا لحرماني من عائلتي وأطفالي، وحرمانهم من الراعي الوحيد، والموجه الأفضل. أجل كيفما يكن كل هذا فإني أجد للصبر حلاوة لا مرارة، وللصمود أمام المحن فخرا. أمام حكم ارتقبناه بفارغ الصبر، وتحملنا من أجل شروقه علينا ما سبب لنا الأمراض وحتى الجوع، وكل لون من ألوان الحرمان والأذى.
قبل إنهاء إقامتي تعرف علي فتى يدعى هاتف محمد علي الحمال، قدم لي نفسه وقال: مبعد سياسي لأني من جماعة "الخالصي". وقد رفعت عنه الإقامة الجبرية. والخالصي لم ينسه، فقد وفر له ما يلزم لمعيشته علاوة على مخصصات الدولة، إنها مثلما خصص لي تماما، ربع دينار لليوم الواحد. وقص علي بلا حرج ما كان يقوم به من اعتداء حسب الأوامر!؟ قلت: وضد من؟ أجاب -وهو لبق: منو غير الشيوعيين. قلت: حسنا. هل ترى الآن أنك قمت بعمل مشرف؟ ولو أنك عشت بكسب قوتك من تكسب -حتى بالحمالة- كما هو أسمك. أليس خيرا من تحمل وزر التعدي والاعتداء، على أي مواطن. أجاب: هذا صحيح ما عرفته إلا عندما صرت مبعد، وسمعت أحاديث الناس.
والشيخ الخالصي ابن الشيخ مهدي. الشيخ مهدي رجل دين معروف، شارك في الجهاد بثورة العشرين. ونفي أو هرب إلى إيران وعاد وفي لسانه لكنة أعجمية. أما أبنه هذا فمتهم بخدمة الاستعمار ولذا أثار -مسألة الشهادة في الآذان- هذا في وقت نحن بأمس الحاجة إلى الإتحاد. وهذه الشهادة ليست في الواقع من جملة الآذان في الأصل أما إثارتها في مثل هذا الوقت لا تؤدي إلا إلى تفتيت وحدة الصف. والمستعمر بحاجة إلى هذا التفتيت.
في مراجعاتي لمديرية معارف ديالى كنت أستعين بمدير ذاتية التعليم الابتدائي ناجي شوكت. قال: إن محاسب التعليم الثانوي سيد عباس يرغب بالتعرف عليك فهل توافق، أن أبلغه بوجودك الآن؟ حين حضر، وتم التعارف، جابهني بسؤال فج: (أصحيح أنك ملحد، وتتحدث دائما بهذا وبدون وازع؟ إن أحد الكربلائيين، وأسمه حسين فهمي ألخزرجي  نشر في جريدة الحرية وباسمه الصريح هذا عنك). والمقال عن مدير المعارف السابق محمد السماوي وهو ليس مقالا واحدا وإنما سلسلة مقالات. وحسين ألخزرجي، شاب ذكي مطالع لكنه انتهازي. كان في ثانوية النجف طالبا وملتحق بمنظمات "التحرر" وعلم أبوه بأمره -كما أدعى هو أمام منظمه- فأخذه بيده إلى الشرطة واستتابه. وأصبح بعد هذا معاديا فألف كتابه "نحن والشيوعية" وبدأه مستشهدا بالآية الكريمة 27 من سورة الواقعة (فأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين).
قلت: حدث العاقل بما لا يليق فإن صدق قل لا عقل له. وأنت طبعا لم تعرف اسمي قبل أن تقرأ مقال ألخزرجي هذا. مع إني قد نشرت سلسلة مواضيع في بعض الجرائد. معنى هذا أن جاذبية معينة تربط بينك وبين ألخزرجي. ومن يقرأ لأجل الحقيقة يجب أن لا يقصر في المتابعة، عليه أن يقرأ عن كل اتجاه، ويتعرف على كل فكر. هذا ما أفهمه أنا، مثلما أفهم أن من يدعو للإلحاد أنه مشعوذ يريد أن يصرف أذهان الناس عن البلاء الكبير، الاستعمار وأذنابه الذين صاروا يتامى، ولكنهم كما يبدو غير يائسين فهم يعملون بجد ونشاط وبمثل هذا التهويش وهذه التهم.
وبعد أن باشرت واستوفيت رواتبي، أخذت إجازة لمدة ثلاثة أيام، توجهت فيها إلى أهلي في كربلاء، لأسدد الديون التي تراكمت عليّ خلال مدة الإبعاد. لا بأس هذا من بركات الجمهورية التي انتظرناها بفارغ الصبر، والزفرات والدموع وسيول الدماء من الشباب في انتفاضاتهم ضد العهد الملكي.
أثناء ما كنت أمشي -في كربلاء- لإنجاز بعض الأمور التي يجب أن أسارع في إنجازها قبل أن تنتهي إجازتي. في هذه الأثناء تبعني شرطيان. قالا: إن مفوض الأمن ثابت أمر بإحضارك. لكني أصررت على متابعة إنجاز مهماتي، كان آخرها فك رهينة لدى مصرف الرهون.
حين وصلت دائرة الأمن. قال ثابت: هل لديك كتاب بإنهاء الإقامة الجبرية؟. قلت: لا ولكني باشرت في مدرسة الخالص بناء على كتاب وجه إليها يشير إلى إنهاء الإقامة الجبرية. أجاب: لكني في هذه الحال ملزم بتوقيفك، إلى حين وصول إعلام بإنهاء الإقامة!؟
قلت: لماذا أنت ناقم إن عدت إلى حريتي؟ كيف تفكر إني أجتاز ذلك الطريق وأنت تعرف جيدا إن عيون أمثالك ترصدني. ولكي تتأكد أتصل تلفونيا بالجهة المعنية، إني مستعد لدفع أجور المكالمة. ولكنه لم يقتنع إلا بعد تدخل أحد المعاونين.
لست أدري أية أمة كأمتي لا يعنيها الاستقرار. فكأن الواحد منا عليه أن يكون حجرا صلدا، لا تهمه ماجريات حياته، ولا لعب الحكام بمقدراته، فللحاكم وحده أن يخطط ويطبق ما شاء له الخيال؟ وعلينا أن نكون أراجوزا، يحركنا فنرقص ونغني. ونسبح بحمده وأفضاله. ونعدد له الأسماء. فهو المنقذ، وابن الشعب البار. وتتعدد الأسماء والألقاب حتى تتجاوز عدد أسماء الله الحسنى!؟
حتى إذا قضى عليه غروره وغفلته، وحل محله آخر، انحدر وهو لا يعلم إلى نفس المنحدر. وشياطين الأمة الذين رقصوا له هم أنفسهم الذين رقصوا للسابقين منهم. يعبر بعض الظرفاء عن هذا الأسلوب بـ "الدقلة" والدقلة مصطلح عامي. هي أن يضع المرء رأسه على الأرض ويقلب نفسه من وضع إلى وضع آخر. وضرب مثلا لأستاذ انحدر من الوسط الروحاني إلى الطراز الحديث بعد أن تخرج من كليات مصر وحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب. فتحول من نصير للملكية، وكم تباهى فألقى قصيدة بمناسبة ميلاد الملك أو تنصيبه على العرش، وإذا به اشتراكيا متحمسا وقد أنضم في تموز إلى أحد الأحزاب مبدعة الاشتراكية العربية. لا باس فقد سبق أن أنضم إلى حزب اشتراكي وموال للملك بنفس الوقت. لا عجب إن المسألة "دقلة"!
أنا لم أعتنق هذا المبدأ "الدقلة" تجنبت كل السبل والمبادئ السياسية، ورضيت لنفسي أن أكتفي بالانفرادية، حتى يأذن الله لهذا الشعب أن لا يعطي قياده إلا لمن يؤمن به وإنه صاحب الحق ويكون الأمر شورى وليس زعامة!
باشرت في المدرسة وكانت حصتي دروس العربية في صفي السادس والخامس والثاني. ولست بمدعي إن قلت أحب العربية. إنها لغة الآباء والأجداد، وفي الأمثال الشعبية مثلا يقول -الينكر أصله نغل-. لغة أمتي لغة أمة العرب، على مر العصور والدهور لم تقو عاديات الزمن أن تضعفها، أو تدهور مكانتها. إنها وفي هذا العصر تبدو بين لغات أمم العالم شامخة. وما تزال آدابها وعلومها وتاريخها منهلا ينهل منه أهل العلم والأدب والمعرفة، مع ما أصاب أبناءها من تشتت وفرقة وردة. فسادتهم فترة عرفت بـ "الفترة المظلمة" أي والحق إنها مظلمة، ولشدة ظلامها، صار الفارق بيننا وبين الأجداد، كالبعد بين الأرض والسماء. وما كان سبب كل هذا، إلا لتنافس رجال منها على ناصية الحكم. فانهارت وحدتها، وتعددت دولها، شتت شمل أبنائها النزاع والخصام. بينما انتبهت أمم الغرب، إلى ما لدى أمتنا من كنوز المعرفة، فملكت ناصية العلم، وطورت كل ذلك، فأصبحت وبيدها مفاتيح كل شيء. ولكن طبقاتها العليا غزتنا لا كما غزوناهم، غزوناهم فنشرنا العلم في أوساطهم، وأعلنا لهم طريق السلام بالإسلام (ومن قال لا إله إلا الله. فقد حقن دمه وعرضه وماله، وحقه في الحياة كحق الآخرين) و (الناس سواسية كأسنان المشط) و  (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على اسود إلا بالتقوى) و (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وكانت آلتهم إلى التسلط علينا، ظلم حكامنا، واهتمامهم بإطماعهم وشهواتهم، فكانت لهم التيجان، وللأجنبي سياسة الأمور يسنها ويشرعها، وحكامنا المنفذون. هم يستغلون كنوز أراضينا وخيراتها، ولحكامنا منها ما يمكنهم من فرض سلطانهم علينا، فإذا ما استيقظت بقعة، ونبهت الآخرين إلى سر البلاء والمحنة، أثاروا الفتن وأشعلوا نيرانها بين أبنائها، فتؤدي تلك الفتن بأرواح المئات بل الألوف من أجل أن تبقى التيجان والعروش المعارة لهم. فمتى يا ترى تشرق الأرض، بنورها، وتعم أرجاءنا شمس الحرية، وتنهار دول العملاء. إنه ليوم آتي لا محالة، فالمستعمرون لم يستعمرونا إلا حين تسلط أرباب المال على رقاب الأغلبية من شعوبهم، وقد أدرك المستَغَلون حقيقة ومصدر البلاء، والشعوب إن أدركت الطريق اللاحب إلى الفردوس المفقود، وثارت، يغدُ الأسياد عندئذ جرذانا يغوصون في الوحل وفي جحور الأرض، فلا يجدون النجاة. البشرية كلها تنتظر يوما لابد آت. وإن غدا لنظاره قريب.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏23‏/06‏/2011
Alshibiby45@hotmail.com

96
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 6
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)




 

هذا الاهتمام بالفوز، ومكسب المعلمين زيادة الحصص؟   
لقد أنظم للجبهة التعليمية بعض الذين كانوا ذيولا لرجال العهد الملكي أمثال حسين الخزرجي، صالح المانع، صاحب الوكيل، وبعض المعلمين الذين هم من أصل فارسي مثل جواد باقر، مهدي باقر أبو غراش، وأمثالهم. أما المدرس فاضل زيني فقد كان نبيلا وأشبه ما يكون بين أعضاء وممثلي تلك الجبهة بزهرة لكنها منكمشة. حسين الخزرجي موظف في ذاتية المعارف، حين كان طالبا كان شيوعيا. أعطى التوبة بواسطة والده. كان ذكيا فخدم بقلمه ذلك العهد. وهو أحد الأقطاب الذين استغلوا جمعية المعلمين. وخلال خوضهم الانتخابات كان يتجول في مدارس البنات، يهدد المعلمات ويأخذ تواقيعهن على الولاء للجبهة التعليمية. ومسؤول القوميين العرب يقول بزهو (المعلمون ورق كارتون، وسنفوز حتما لأن السلطة معنا). ولكن المفاوضات كانت مستمرة بين الجهات المتنافسة لتوحيد العمل في قائمة مهنية، فسلطة "قاسم" لا أمان لها. وهم يعلمون ذلك. الوزير منع الدعاية، ولكن الجبهة التعليمية مستمرة باجتماعاتها. مدير مدرستي "مهدي علي" رجل بسيط شعاره الذي يعظني به -الياخذ أمنه يصير عمنه!-. أخذ يبدي لي النصح، حذار من ترشيح نفسك لهذه الانتخابات. قلت: ولماذا ترشح نفسك وأنت تلعنهم؟ قال: أرادوا هذا مني واستجيب دفعا للضرر!
واشتدت الاستفزازات يوم الانتخابات -10/2/1961-، إلى حد التعدي بالضرب، ورمي الرصاص بالهواء، وجر أحد مؤيدينا على الأرض. رأيت عراك "الشمرتي" متقلدا وشاحا، ودافعا صدره، فاشمأزت نفسي، إذ تذكرت أسباب فصله من التعليم حين وشى الفراش به وبمدير المدرسة وابن رئيس القرية، ولما رأى مدير المعارف الحال بعينه أصدر فصله (ذكرت الحادث في –الدرب الطويل/ وما نصيبي أنا-). لكنه أعيد بعد عام. القضايا الخلقية لا تهتم بها دوائر العهد المباد، إذا كانت من فرد ينتمي للطبقة الموالية.
وبعد تآلف أربع فئات فاز القوميون العرب، مثلهم "عبد الأمير الوكيل". والبعث مثله "شاكر أمين"، والعربي الاشتراكي مثلهم "فاضل زيني". أعضاء النقابة في القطر واحد وثلاثون ألف. صوت منهم واحد وعشرون ألف وتغيب عشرة آلاف، فنسبة الغائبين 33% بينما هم في انتخابات العام الماضي 7%. وبدا لنا مكتسب عاجل بفضل الأعضاء الجدد، فقد بُلغت المدارس اليوم -12/3/1961- عن حصص الدروس 32 حصة لمعلمي الابتدائية، و24 حصة للمدرس في المتوسطة والإعدادية، فكانت فاتحة عهد الجبهة ومن مكتسبات جهودها. بعد أن كنا نتمتع بحصص مريحة فقد تكون حصة الواحد 23 أو 24. بجهود النقابة صارت استراحتنا ساعتين أسبوعيا. وحضرنا المؤتمر في 19/2/1961، وألقى الزعيم كلمته. بدأ كلمته بالآية (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) وبدت حركة التفاتات وابتسامات من المؤتمرين. ترى من هم الذين كفروا يا حضرة الزعيم؟ تلاه وزير المعارف ثم النقيب السابق. وقد أستعرض ما لقي المعلمون من أجل التنظيم النقابي، وما حققته النقابة. وضحكنا من الزعيم حين مد يده إلى كأس الماء، وسأل المؤتمرين، من منكم صائم؟ فرفع الأكثرون أيديهم. لم يشرب لكنه بلّ فمه. وحضر مساء وألقى كلمة استمرت أكثر من ساعة، وطال مكوثه، وجرى بينه وبين المؤتمرين نقاش، طالب بعضهم بـ "الوحدة العربية". وحين ألقى السكرتير السابق تقريره، كانت وجوه بعض المؤتمرين تضحك هازئة. وعندما أعترض أحدهم عبر عن الهيأة السابقة بـ "المندثرة" إنه تعبير غير مهذب.


23/2/1960 مؤتمر نقابة المعلمين. من يمين الناظر المربي الراحل علي الشبيبي،
حسين زيني، عبد الأمير خراسان، محمد الحلو وبينه وبين الخراسان في الخلف
كاظم الحسين من الرفاعي، ومحمد حسون الخياط
 
مؤتمر نقابة المعلمين 23/2/1960 المربي الراحل علي الشبيبي أمام لوحة
لوحة وفد كربلاء وعلى يمينه مصطفى شعيب


إلى ديالى      
صباح يوم الخميس 15/6/1961 حضر إلى باب داري ثلة من شرطة الأمن وبسيارة مسلحة أخذت إلى الموقف. هناك وجدت الزميلين جليل السهروردي وعلي عبد الحسين عجام، ونحن الثلاثة لم تكن لنا أبدا عضوية أو انتماء للحزب الشيوعي أو غيره. وقد اعتقل قبل أيام المدرس عبد الله الخطيب، وبعد يومين علمنا -نحن الثلاثة- انه أُمر بأبعادنا!
يوم السبت الذي وصلنا به إلى مركز شرطة السراي وجه إلينا كاتب الشرطة سؤال: أنتم من أي فئة؟ أجبنا معلمين. تململ ضاحكا وقال: من الجبهة التعليمية، أو المهنية؟ قلنا المهنية. فصاح: خلص يعني شيوعيين، قولوها من أول، حتى نعرف ويامن نخليكم.
ومكثنا حتى العصر، استقبلنا   عدد كبير من الموقوفين، بعضهم لأنه شيوعي، حدثني عما لقي وكشف لي ما لقي من عذاب حتى إنهم كانوا يشدون آلته بخيط قوي أكثر من ساعتين، فإذا أصابه حصر البول زادت آلامه، وبالنتيجة صار "...." كخيط بال. وأصيب بالالتهاب المجاري البولية! أما أكثر الموقوفين فإنهم من المحسوبين على القائمة المهنية.
صحبنا شرطي واحد ومعاون الشرطة "صالح أحمد السامرائي". قبل أن تتحرك السيارة قال: أحب أن أتعرف على أسمائكم. فأجبناه، مشفوعة بنكات. وحين تجاوزت السيارة حدود بغداد، أوقف السيارة. أمر الشرطي الذي كان قد ركب معنا وقابضا على بندقيته بيده أن يتحول إلى مكان بصدر السيارة، وتحول هو إلى جانبنا. قال: أنتم ظرفاء. يا أخوان الشيوعية لا يمكن أن تنمو في بلادنا. فالتقاليد السائدة تحاربها، والاستعمار أيضا، ومفاهيمها عسيرة على مجتمعنا.
قلت: ولكن الغريب أنكم تعتبرون كل من لا ينضم إلى الفئات المناوئة للشيوعية -شيوعي- نحن الثلاثة الآن حين نقول لك لسنا شيوعيين، فإننا لا نقولها خوفا، أبداً. ونحن نقولها بصراحة إننا نؤمن بحرية الفكر. وعليك أن تستغرب -بدلا من استنكارك لوجود شيوعيين- كيف تكونت جبهة الاتحاد الوطني من أحزاب لا تؤمن بالشيوعية في هذه الجبهة مع "الحزب الشيوعي". وإن انفراط عقد الجبهة أفسح المجال أكثر لاستبداد عبد الكريم قاسم.
وتطرق إلى توقيف الشاعر "محمد مهدي ألجواهري" وهو يضحك من مجريات الأمور: إن توقيفه لأنه قال عنه الرجل في قصيدته يوم تصدوا له:
لك الحيــاة رفاهـا أيهـا الرجـــل   وللأكف استساغت لحمك الشلل
قال الشاعر هذه يوم تصدى نفر من الأحزاب القومية، في مقدمتهم حزب البعث، لاغتيال "قاسم" فأصيب بيده، بينما قتل أحد المتآمرين "عبد الوهاب الغريري" وفرّ الباقون. وقد حدثت هذه المحاولة في 7/10/1959. وعقب، انكى من التوقيف أن يأمر بإطلاق سراحه بكفالة قدرها خمسون فلسا. وتنشر هذا الجرائد تنكيلا وهزءاً بالشاعر.
وصلنا مركز شرطة بعقوبة غروبا، لم نجد غير شرطيين. طلب المعاون أن يبلغوا المعاون الخفر والمفوض. حين حضر قال صاحبنا: قبل كل شيء ناد لي شرطيا يجلب العشاء "كباب ولبن" على حسابي. فأصر المفوض: كلا على حسابي أنا. وطلب أن يهيأ لنا فراش النوم، وفي ساحة المركز! وهو يثني علينا: إنهم أدباء فضلاء. أنا مطمئن إلى حد لو قلنا لهم كل يذهب إلى البلد الذي تقرر أن يقضي فيه مدة الإبعاد لذهب بدون صحبة شرطي!
قلت له: بصراحة، أنا لم أصادف في حياتي مثلك في سلك الشرطة. من هواة الشعر وحفاظه، وربما تنظم. قال: أنا كذلك. قلت: متابعتك للأوضاع السياسية، ورأيك فيها رائع أيضا. ولكني أقول: حرية الفكر لا يصح لأي إنسان أن يستنكرها. إنها شرط إنساني في تطور الأمة والوصول إلى الحياة الأفضل. وفي الصباح افترقنا كل إلى حيث سيقيم ويقضي المدة التي لا نعلم ما مداها. بينما عاد هو إلى بغداد في نفس الليلة. وكم تمنيت أن ألتقي به ثانية!
البلد الطيب      
في الخالص، بعد الإجراءات الخاصة بالشرطة، توجه بي شرطي بأمر المعاون إلى فندق "جواد الحداد" يديره رجل حداد أيضا يدعى "حسن الحداد"، وأختار لي الرجل غرفة، وأبدل شراشف الفراش والمخدة. يدعى هذا الشرطي "صاحب" بمرور الأيام تأكدت من تصرفاته معي، وتنبيهي إلى أراذل من ناس البلد، إنه طيب للغاية معي.
أجرة الغرفة زهيدة جدا إنها لم تزد على 600 فلس، سقفها من الخشب وحصر القصب "بواري". كلما قفز قط من الشرفة إلى أرض السطح، نزل الغبار الناعم على وجهي منها، فغلفت السقف على حسابي بالورق.
اليوم الأول قضيت النهار كله في الغرفة. وعند الغداء كلفت "محمد بن حسن الحداد" أن يجلب لي تكة وطماطة مشوية مع الخبز. بعد الغروب نزلت إلى المقهى، تحت الفندق من جانب الشارع العام، حين دخلت سلمت على جلاس المقهى، ردّوا عليّ التحية بوجوه متهللة باسمين. وبدأوا على العادة الجارية عند أمثالهم -مساكم الله بالخير-. في اليوم الثاني طرق عليّ الباب مأمور البريد، وقد أعتدت أن أتركها شبه مغلقة. دخل وصافحني وكأنه مسبوق بمعرفتي. كان ظريفا لطيفا، قدم لي نفسه "حاج عبد الرحمن مجيد" من الأعظمية، أدعى هنا "حاج بريد"ومنذ عينت أنا هنا. ثم دعاني إلى الغداء عنده لليوم التالي.
يدعي بعض أهل الخالص من الشباب إنه جاسوس، لذا هم يبتعدون عن أي حديث سياسي أمامه. ويبالغ بعضهم أنه جاسوس للانكليز. تأكدت من عدم صحة هذه التهمة، ولكنه بسببها مرهوب الجانب ومحترم، وقد وجدته سمحا كريما لا يتأخر عن مساعدة من يرجوه المساعدة.
أنا لا أتخوف من الناس مهما كانت سمتهم، وقد جربت نفسي كثيرا. إني أستطيع أن أبدل ما في أذهان بعضهم عني، وأكسب محبتهم. بعد الغداء حدثني الرجل كثيرا عن البلد وسكانه، تماما كما فهمتهم من أحاديثهم ومظاهرهم، وتحياتهم لي، ونظراتهم التي كانت بريئة تماما.
صحيح أنه لا يوجد بلد يخلو من خبثاء وأنذال يفوقون العقارب. وبمقدار ما أهلها بسطاء وطيبون، فأن البلدة وهي قضاء، وفيها ذوو ثروة أيضا، إلا أنها عموما عادية في المباني، وقذرة جدا، خاصة ما نصطلح عليه بـ "الدرابين". ونبهني الحاج بريد إلى بعض العقارب، بل هم أفاعي. العلوَجي الأعور مقابل الفندق، كان ينظر إلي بعين حاقد. بجانبه علوَجي آخر، لكنه طيب للغاية، فلقد عرض علي الجلوس في علوته حين سلمت عليه وأجبته، ولم يتحرج أن يبدي عن جاره نفس الملاحظة. وعلل السبب، أن له ولدا برتبة ضابط من العسكريين، وابنه الذي يساعده شديد العداء لأمثالك. فأوضحت لهذا الرجل، إن أشد الناس غباء، من يعادي من لا يعرف. أنا يا حاج مالي أية علاقة بما يظنون بي. ولا ينبغي للمسلم أن يبني أفكاره عن الآخرين دون إطلاع، فبين الحق والباطل كما يقول الإمام علي أربع أصابع، أي أن عليه يرى ويسمع ويفهم ما سمع ثم يحكم ما لا ينافي الواقع الذي سمعه أو رآه.
وعن يسار الصاعد إلى الفندق بزاز يدعى "إبراهيم" من منتسبي الحزب الوطني الديمقراطي. استقبلني هاشا باشا، وطلب أن أجلس قليلا عنده. لم تمل نفسي إليه، لكني جاملته، لم أرتح له، لأنه حياني شافعا تحيته بنكتة تنم عن ذوق ألغلماني، كما سماني "النجفي" ذلك منه جهل وسوء ذوق.
بعد أيام دنا مني كثير من الشباب، هم طيبون لم يكشفوا عن أنفسهم، وكان حديثهم عن العلم والتعليم، وما يعانيه المعلم من متاعب. وحذرني أحدهم من شاب يدعى "عدنان عناد" كان ينظر إليّ شزرا. وعلق آخر وقال: سل عنه أبا شاكر -يقصد جار باب الفندق-! كان هذا السافل إذا لقيني وحدي يسمعني كلمات نابية ويتوعدني!؟
واقترب ذات يوم مني معلم في سني. وعلمت من حديثه إنه أيضا من الحزب الوطني الديمقراطي. كان رجلا طيبا، وقد عرض عليّ أن يساعدني، فيأخذ ملابسي التي هي بحاجة للغسل. وجاء إلى الفندق فعذلته، وفي اليوم الثاني استدعاه الحاكم علي المتولي. هذا المتولي شديد الحنق ضد كل من يقال عنه انه سياسي وليس بقومي! حتى أنه جيء إليه بمعلم لمحاسبته من أهل المدينة، يدعى عبد العظيم ومتهم بالشيوعية، أو أنه حقيقة كذلك، ولا غرابة فإن انكشاف ميول كثير من الشباب أسبابه انخداعهم بثورة تموز، التي أخذ زمامها عبد الكريم قاسم لينتقم من ذوي الأفكار الديمقراطية والتقدمية، بزعامته الزائفة.
مرة لاح لي شيء أسود معلق على واجهة مطعم كباب، ولما اقتربت منه وجدته معلاك -مصطلح شعبي، أي الكبد والرئتين والقلب من الذبائح- وقد غطاه جيش عرمرم من الذباب. تألمت كثيرا لأني كنت أعيش على الكباب والتكة، لاعتقادي أن هؤلاء لا يحسنون الطبخات الأخرى "الامراق". وحين رجعت أدراجي لحظت أن أحد باعة الخبز من صبيان وصبايا، يركض خلف بقرة قد خطفت من سلته رغيف خبز. وإثناء ركضه خلف البقرة، نهش حمار من رغيف آخر لقمة، إذ زبره زميل لصاحب تلك السلة. كثير من الأبقار والحمير تجوب الشوارع والأسواق، أما الكلاب فحدث ولا حرج.
فهم مضحك      
كنت في الأيام الأولى لإقامتي أحصل على وجبات الغذاء بواسطة صاحب الفندق "حسن الحداد". كان إنسانا بسيطا وطيبا. وحين رأيت "المعلاق" والذباب، وباعة الخبز، أضربت عن شراء أي شيء من تلك المطاعم، وأبرقت إلى أبني أن يجلب أواني الطبخ وعدتها بأسمائها. وقصدت إحدى الخبازات، واشتريت منها بعض الأرغفة -من بيتها مباشرة-، وعشت خلال يومين على الخبز والجبن والشاي. ومنذ ذلك الحين صرت أهيئ طعامي في أحسن حال.
في اليوم الثاني استدعاني صديقي الحاج بريد، هناك قص عليّ، أن أمن بعقوبة أتصل بشرطة الخالص، طالبا التحقيق معي، ومعرفة المعنى المقصود في كلمة "راديوك الترانزيستور وترمسك"!؟ ولما كانت دائرة البريد على علم -مأمور البريد- وشرطة الخالص معا، فقد ردهم صاحبي بسخريته المعروفة.
الواقع إن تعبيري كان مغلوطا، وان لم يستعصِ هذا الغلط، على أي إنسان يدقق فيه. كان يجب أن أكتب الراديو الصغير، لكن أذهان الأمن حفظهم الله لأمن الشعب، حَسِبتها شفرة خطرة، وربما تأهبوا لإنزال الضربة القاضية بي. فسلمت والحمد الله.
لم أترك قضية أبعادي مستسلما للأهواء. فكنت أكثر من إرسال العرائض مباشرة، وبواسطة البريد المسجل، إلى الزعيم. لا بصيغة الاسترحام، بل بالتساؤل عما أوجب هذا الإجراء تارة، وبالتلميح إلى أنه شغب من جهة دأبها النفاق والشقاق، وابتكار التهم لمن يعرف حقيقة أصحابها، وليعيدونا تحت رحمة الرجعية التي أطاحت ثورة تموز بكيانها. وأكاتب كبير أسرتنا العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي عن هذا أيضا.
مفوض الشرطة أيضا فكر أن يبرز، على حساب هذا المبعد "أنا"، فيشكر المسؤولون له يقظته وحزمه. استدعاني، وبلهجة فجة حذرني أن لا أمشي مع أحد، وأن أخرج منفردا!؟. وسألني بغضب: أين تريد في خروجك إلى نهاية البلد؟
حقا، كنت أتنفس الصعداء، واشعر بالراحة من كابوس الغربة، حيث الفضاء الواسع من جهة الغرب، ومنظر الشمس وهي تغيب وتختفي وراء الأفق، ويرتسم شعاعها الأصفر الرائع على النخيل والأشجار، في جهة الشرق، ولكن متوحدا منفردا وأهل البلد على طيبتهم التي تتجلى لي في ابتساماتهم حين أمر عليهم مُسلما أو حين أشتري من بعضهم حاجة. يتجنبون الحديث معي ولكنهم يرحبون بي حين أدنو منهم لشراء حاجة.
قلت: أعتقد أن هذا من حقي وغير محرم عليّ.
أجاب: إن لم تكف أتخذ إجراء بحقك، إجراءاً صارما!
قلت: جرب!؟ فصاح: المعلم شر، لو أن الله يخلصنا من المعلم، نخلص من كل شر!؟
قلت: وهل وصلت إلى هذه الوظيفة عن غير طريق المعلم؟ وحين التقيت بالمعاون، شكوت إليه سوء معاملة ذلك المفوض.
كان المعاون "حسين علي العمر" موظفا مدركا لمسؤوليته، وقد أعفاني من التوقيع اليومي ثلاث مرات، واكتفى بمرة واحدة. وكنت تعرفت عليه خلال وقت أقضيه في مخزن بيع، بواسطة حاج بريد، وعلمت أن صاحبه "محمد غني" من جماعة حركة أنصار السلام، وقد صارحني، إنه مسبوق بمعرفتي حين كان يحضر بعض الاجتماعات.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏18‏/06‏/2011
Alshibiby45@hotmail.com


97
تصحيح معلومة حول تأريخ إعدام قادة الحزب!

اليوم وخلال تصفحي (الكوكل) لغرض التأكد أو البحث عن بعض التواريخ للأحداث التي تطرق لها والدي في ذكرياته (ذكريات معلم). فمذكرات الوالد تفتقد في كثير من الأحيان للتواريخ والوالد –طيب الله ثراه- ترك فراغا لتثبيت التأريخ على أمل أن تسنح له الظروف لتثبيت التأريخ الدقيق. كما أنه ترك ملاحظة لمن يأخذ على عاتقه نشر مذكراته أن يراجع ويتأكد من التواريخ المثبته وتثبيت الغير مثبت. وهي مهمة ليست سهلة، وهذا يضطرني للبحث والتأكد عن بعض التواريخ. وقد وجدت بعض المقالات التي تتصدى للحديث عن الأحداث التاريخية تقع أحيانا في أخطاء تؤثر سلبا على جدية المقال وربما على كاتب المقال. لأن هذه الأخطاء سيتلقاها القارئ وقد يعتبرها مصدرا موثوقا.
هذه المقدمة أثرتها لأني لاحظت للأسف أن البعض وقع بمثل هذا الخطأ. اليوم وكنت أبحث عن تأريخ تشكيل وزارة أرشد العمري واستقالتها وتأريخ الوزارة التي تلتها، فظهر أمامي من بين المواضيع ذات الصلة مقالة للأستاذ فائز الحيدر بعنوان (في ذكرى وثبة كانون الثاني 1948، الوثبة التي قبرت معاهدة بورتسموث) منشور على موقع عينكاوة في كانون الثاني 2006 على الرابط التالي:
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=22953.0;wap2
لفت نظري الفقرة (الرابعة)  من بداية المقال وجاء فيها: (قوبلت حكومة صالح جبر بمعارضة شاملة من جميع أطراف الحركة الوطنية ، وبدأت الحكومة بشكل مخطط أضعاف مقاومة الحركة الوطنية التي تشكل قوة معارضة لتنفيذ مشاريعها . فأغلقت الصحف الوطنية ، ونفذ حكم الإعدام في 19 / حزيران / 1947 بحق الضباط الأربعة الذين التحقوا بحركة البرزاني ، وحكم على قادة الحزب الشيوعي العراقي بالإعدام في الشهر ذاته وأعتقل العديد من القادة السياسين .)
والكاتب -فائز الحيدر- وقع في خطأ حيث خلط في التواريخ، ربما دفعه الاسترسال واختلاط الأحداث. حيث يذكر في نفس الفقرة (...، وحكم على قادة الحزب الشيوعي العراقي بالإعدام في الشهر ذاته واعتقل العديد من القادة السياسيين)  وهذا خطأ كبير خاصة أننا نحاول تسجيل التأريخ لأجيالنا الشابة. فإعدام قادة الحزب لم يكن في ذات الشهر والسنة وإنما بعد ما يقارب السنتين من إعدام الضباط الأكراد الأربعة! وكان إعدام قادة الحزب في فجري 14 و 15 شباط 1949. آمل من الأستاذ حيدر أن يطلع على ملاحظتي هذه لتصحيح معلومته في المقالة المذكورة كي لا يقع الآخرون بمعلومات خاطئة.

محمد علي الشبيبي
السويد  ‏15‏/06‏/2011 
Alshibiby45@hotmail.com
 

98
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 5
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)




كيد الآفك وغباء المسؤول      
(... إني أعتقد إن المكان بالمكين، وإني أيضا أعتقد إني أنا الذي يمكن أن أجعل الكرسي والمنضدة كبيرين، وليسا هما الذين يجعلان مني كبيرا/ علي الشبيبي) رحمك الله يا والدي ليتك ترى اليوم كيف يفكر ساسة العراق المتسلطين على الحكم!؟
حين انتهت مؤامرة الشواف، والتي حملت الشعب خسائر في الأرواح والأموال، في الموصل من ساكنيها ومن الذين قصدوها من أجل مهرجان حركة السلام الذي تقرر إقامته في الموصل.
يقول الكثيرون: إن الشواف إنسان طيب، ولكنه تسرع، وقام بحركته قبل الوقت المناسب، وعلى الأكثر كان مدفوعا بالسخط والغضب على -قاسم- فهو "الشواف" ولا شك عسكري معدود ومعروف ببطولته، وقدمه في الحركة الوطنية بين العسكريين. لكن الغضب دفعه إلى العجلة -والغضب ريح تهب فتطفئ سراج العقل- وقد وجد رجعيو الموصل والموتورون والحاقدون من موالي العهد الملكي الفرصة مواتية فكانت نتيجة تصرفاته سيئة وضاعت الحقيقة، فكل فئة صارت تتهم الفئة الأخرى مسندة إليهم ما حدث وما هو إشاعة من صنع الخيال.
وجه لي صديق دعوة أن أشارك في هذا المهرجان باعتباري من أنصار السلام، لكني رفضت. فانا أعرف أن في الموصل بعض أقطاب من رجال العهد الملكي، وأن بعض الذين يؤيدون تموز وانهيار العهد الملكي، ولكنهم يبغضون عبد الكريم قاسم واستبداده بالحكم. لم يفكروا أن انغماس الرجعيين المذكورين في صفوفهم لأنهم ضد "قاسم" والشيوعيين. أجل إن انغماس أولئك يسبب كارثة لأن أولئك يهدفون إلى إفشال ثورة تموز. لذا كنت أخشى سوء العاقبة.
وفي أعقابها ذات ليلة صادفني أحد معارفي، وقال لي وهو يبتسم: اهنيك. والله آنه أشوف هذا حق، وأنت أكبر منه، أنت تستحق أكثر من هذا! قلت متسائلا لم أفهم ما تعني؟ أجاب : صدر كتاب تعيينك مديرا لمدرسة الحسين!
- يا صاحبي هذا أمر لم أسبق بعلم عنه، ولو كنت أعلم لرفضت.
ولقد وجدت أكثر معلمي المدرسة -مدرسة الحسين- مرتاحين. ودخلت على مدير المدرسة "محمد حسين الأديب"، واعتذرت له: أني لم يسبق لي علم بهذا أبدا، ومستعد لرفض الأمر. أجاب: الأمر يخص مدير المعارف لا أنا ولا أنت. قلت: هذا مصداق الحكمة التي علقتها خلفك (لو دامت لغيرك ما وصلت إليك).
على أية حال إني أؤكد لك يا صاحبي إني أعتقد أن المكان بالمكين، وإني أيضا أعتقد إني أنا الذي يمكن أن أجعل الكرسي والمنضدة كبيرين، وليسا هما الذين يجعلان مني كبيرا.
وجرى الدور والتسليم بيننا. كان "الأديب" يتصرف تصرفات لا أهمية لها وتكلف مالاً لو صرف في وجوه أنفع من هذه لجاء بالثناء عليه. بينما كانت منزلته التي أحتلها ليست من نوع خدمة وظيفته، وإنما خدمة الناس في أبنائهم -التلاميذ-. فمثلا عمل وبدون رأي المعلمين، فقام بطبع كراس عن تأريخ فتح هذه المدرسة "مدرسة الحسين"، وإنها أول مدرسة تأسست منذ ثورة العشرين وصدرها بصور الملك، وعبد الإله، ومدير المعارف، ثم رجال الدولة الذين زاروا المدرسة، والطلاب الذين تخرجوا وواصلوا فأصبحوا محامين أو موظفين كبار أو نوابا في المجلس. ثم صور المعلمين، وصور الطلاب وهم يؤدون الصلاة في حال الركوع. وطبع الكراس بمطابع النجف، وفرض بيعها على الطلاب حتى الصف الأول، وثمن النسخة مئة فلس. كان كثير من الطلبة الفقراء يرفضون شراءها  لعدم تمكنهم. وفعلا وجدت عجوز معها طفلان. استوقفتني أثناء دخولي المدرسة، وقالت: يمه أنت المدير؟
- لا يا خالة ماذا تريدين؟
قالت وأشارت إلى طفلين صغيرين معها: هذوله يتامه، آنه عاجزه، زين أدبر عيشهم. منين أجيب لكل واحد قيمة كتاب، مدير المدرسة يبعها عليهم بمية فلس، ميتين فلس أشتري بيهه إلهم خبز!؟
ولما صرت بديلا عنه، عرض عليّ أمر تسديد ما بقي عليه للمطبعة 25 دينار. قلت: من أين وكيف؟ ليس لدينا غير الحانوت، ورأسماله من الطلبة، وأرباحه نهاية السنة توزع بنسبة معينة للمدرسة والتلاميذ حسبما دفع من أسهم. قيمة السهم مئة فلس؟ فكيف إذن أتصرف؟
وأمر آخر، إنه عمل لوحة عنوان دائرة. إحداها لغرفته -المدير- والثانية للمعاون. وعملت بالزنكوغراف في إيران، كلفتا ثمانية عشر دينار!؟ قلت ألم تبع من الكراس شيئا. أجاب إن الطبع كلفني 30 دينار ويمكنك أن تبيع وتسدد. صارحته أني أكره أن أجبر الطلبة على هذا. وربما اضطررت لبيعها بالوزن على البقالين أو توزيعها مجاناً.
وبتوسط مدير المعارف، وشهادة المعلمين، دبرت ما بذمته علاوة  على النقص الذي وجدته في القرطاسية التي تزود بها المدرسة التلاميذ. انتهى التسليم وودعناه معاونا لإدارة مدرسة العباس. والتف المعلمون حولي، حتى أن أكثرهم هجر الغرفة الخاصة بهم إلا عندما ينشغل بالتحضير ولتصليح وظائف التلاميذ أو الامتحانات. وقام المعلمون يساندوني، ولأني لا أحب التحيز، كتبت كلمة انطوت على اقتراح أراه ذا أهمية في ترصين وحدة المعلمين، وتوجههم لبذر الجهود في رفع مستوى المدرسة.
كان أهم ما فيها منع التحدث والنقاش في أمور السياسة، وسيرة الأحزاب. وعرض الآراء في تلك الاتجاهات داخل المدرسة، وأنتم أحرار حينما تخرجون من المدرسة. وأخذت تواقيعهم جميعا على هذا. وما مرت أيام حتى جاء أحد المعلمين الذين يوالون الشيوعيين ثائرا غاضبا، وطلب مني أن أسارع لأستمع حديث المعلم جواد باقر -وهو إيراني الأصل- لثلة من المعلمين هم في الواقع لا ينتمون إلى فئة سياسية ولكنهم لا يميلون مطلقا إلى اليسار.
وسارعت، فوجدته يتحدث بحماس، ناقدا شاتما وطاعنا بأخلاق مؤيدي اليسار! قلت ولم يكن قد أحس إني خلفه: ألم توقع على ما عرضته عليكم من وجوب تجنب الخوض بمثل هذا؟ ولا أخفي إني همزته بكلمة عن أيام طفولته!
هذا المعلم نفسه ارتكب حماقة أخرى، وكنت مجاز لأمر يخصني وفي بغداد. لقد كاد بعض الطلبة أن يسببوا له شرا مستطيرا، وبلاء عظيما. ففي الوقت الذي كان عبد الكريم قاسم ما يزال يتمتع بشعبية واسعة، والناس يرددون -يا حبيب الملايين- و -ديمقراطية وسلام وعيني كريم للأمام- يعثر هذا المعلم أثناء ما كان في الصف على تلميذ -أصغر أبناء السيد كاظم النقيب ويدعى علي- يحمل بيده صورة قاسم فأخذها منه وبصق عليها وشتمه (أنعل أبوك لا أبو الزنيم) ورماها في سلة المهملات، ثم انهال على ثلاثة طلاب، كانوا شركاء في حمل الصورة واللهو بها،  ضربا ولكما وسيلا من الشتائم ...
حين انتهى الدرس، عمد هؤلاء التلاميذ الصغار إلى جمع الصور الممزقة وخرجوا يهتفون بأصوات عالية، محفزين بقية طلاب المدرسة بأخذ الثأر وانتصارا لكرامة صورة "الزعيم". إنهم يصيحون أحضروا حبلا لنسحل هذا العجمي المـﮕـطم! ولم يهدئهم المعلمون إلا بشق الأنفس. حين حضرت، استدعيت التلاميذ لاستجوابهم، نجحت مع أثنين. واقسم بأقدس مقدس عندي إني حرفت إفاداتهم لصالح المعلم. أما الثالث وكان أبن شخصية من شخصيات كربلاء. فأصر إنه هو الذي يكتب الجواب، وما عليّ إلا السؤال.
على إي حال، دبرت الأمر لصالح هذا المعلم، واستدعيته أيضا. أنبته على موقفه، وقلت له: أنا لا أرضى أن تكون ضحية لمثل ما حدث، ما الصورة؟ إن ورقة من القرآن قد تسقط على الأرض، فلا يلتفت إليها الكثيرون، فكيف نضحي بك من أجل صورة إنسان؟ ولكن عتبي عليك أن تثير سخط هؤلاء الصغار الجهلة.
أجاب بالحرف الواحد: يا أخي آني أتخبل يوم بالسنة، شمدريني تجي المناسبة ويَّ ها الكلب أبن الكلب!؟
أنا قمت بالتحقيق حماية لنفسي وللمعلم فأنا مسؤوله. وما أكثر عديمي الذمة، أن يشيعوا الحادث ويضيفون إليه من تلفيقهم. وجاء دور التربية التي أرسلت المفتشين "حسين الداقوق" و "كاظم الزعيري". الأول معروف بالحياد والانعزالية، والثاني محمول على القوميين ولكنه رجل متزن ومستقيم. وأكدت عليهم أن لا يأخذوا بأقوال الصغار، فأكدوا لي إنهم مرتاحون لتحقيقاتي. وانتهى الأمر بتوجيه التربية إلى هذا المعلم تنبيها لضربه أولئك التلاميذ ضربا مبرحا، وركلا بقدميه -حسب إدعائهم- وشهادة بعض زملائهم.
حين أتضح انحراف "قاسم" وأدرك ذلك منه، صار بعض الأفراد ممن يُحسن دروب التحول السريع، لا يتحرجون من التحرش بمن هم محسوبون على هذه الفئة أو تلك، ولا رادٍ لهم. واشتد التخبط، ودار بعض المعلمين ممن كان يساندني وجهه عني، والمعاون "حمزة عمران" أيضا لأنه كان يطمح أن يكون هو المدير، مع العلم رجحت لمدير المعارف أن نشطر المدرسة شطرين صباحي والثاني عصرا وبأشراف المعاون هذا. مدير التربية "محمد السماوي" أكد لي بأن هذا رأيه، وإن بناية توشك على الانتهاء ستخصص له.
لكنهم بدون رادع من ضمير، قاموا بعمل إجرامي، وبواسطة من يؤثر على "عبود الشوك" متصرف اللواء بعد انتقال "فؤاد عارف" وقبل تلك النميمة رغم إنها غير معقولة تماما. وهو بدوره طالب أن توعز الجهات المختصة إلى مدققي المالية ورفعهم التقرير اللازم. وجرى هذا وأنا على رسلي، لم يصلني أي تلميح لا من مدير المعارف الذي كان يثق بي ولا من أحد آخر.
فراش المدرسة جاءني إلى البيت إثر عودتي من مديرية المعارف، والمدرسة كانت قد انتهت كل أعمالها، لكنا ملتزمون بالدوام. حتى تبدأ العطلة الصيفية بدايتها المقررة رسميا. أخبرني الفراش عن وصول أثنين من المدققين صحبة محاسب المديرية، لم يصرحوا بالغرض مباشرة. تدرجوا من إلقاء نظرة على ملفة الأثاث ثم الأثاث الذي يحتاج إلى ترميم، ثم ما لم يعد غير أخشاب محطمة! ثم وهنا المضحك. توجهوا إلى حِباب الماء. كان اثنان منها جديدة، أما حنفياتها فغير موجودة. استجوبوا الفراش الذي جلبها من بغداد.
- لماذا من بغداد؟
- لأنه لا يوجد مثلها هنا.
- من أعطاك الثمن وأجور السفر وكم كان ذلك؟
- مدير المدرسة، وثمن الواحد 800 فلس ومعي وصل كتبه المدير وترك فراغا لأسم البائع والثمن.
وكان هذا البائع قد وقع بحبر يختلف عن حبر قلمي، أما الخط فواضح الاختلاف. سألوا عن الحنفيات، فجلب لهم كبير الفراشين، زنبيلا، قال: إن فيه حنفيات قبل 18 عاما. فضحكوا ثم سلمهم اثنين منها، قال: إنها حنفيات الحِباب الجديدة، إن الطلبة بحكم عبثهم يضعون أرجلهم ليستخرجوا الماء من داخل الحب فتحطم موضعها وسقطت.
وعاد المدققان والمحاسب إلى المديرية يسخرون بامتعاض، كيف يُستدعون لأمور تافهة ومجيئهم طبعا يقتضي مخصصات. وعلق السيد المدير "محمد السماوي" ساخرا: أضف إلى هذا، إن في هذه المدرسة طابعتان عربي وإنكليزي وثالثة رونيو وراديو، وطباخات كولمن وقدور وأواني. ولم يسرق من هذه ويسرق حنفية ماء حباب!؟ أجاب أحدهم: إنها عثرة المخبرين لأنهم مبطلون؟
عبود الشوك أتصل قبل مجيء المدققين، بمدير المعارف يخبره أن فلان -يعنيني- الذي ألتزمته، سأثبت لك إنه -حرامي- وسأكسر ظهره! رد المدير: مازلت على وثوقي واستغرب إنك تصدق المخبر الآفك!
وقصدت مدير المعارف بطلب إعفائي من الإدارة، وكان هذا للمرة الثانية. فهدأني مستغربا، ألم يكن خصومك ذاقوا مرارة فشلهم المزري!؟ قلت: إني أوثر أن أعيش مع زملائي على المحبة والاحترام المتبادل. قال: إذن أرجئ هذا لبداية السنة الدراسية القادمة. فوافقت. وجاء دور آخَر.
مدير المعارف محمد السماوي نقل، وعاد إلى المديرية السيد كاظم القزويني. لي معه صلة قديمة، قبل أن أكون معلما، بواسطة الصحفي المعروف أستاذي جعفر الخليلي، إذ تعارفت وإياه بالتزامي الكثير في صحيفة "الراعي" ثم "الهاتف". وزرته وحدي حين عين مدير لمعارف المنتفك "الناصرية"، وفي المناسبات التي احتجت فيها مناصرته قدمت له بضعة أبيات شعر لمحت إلى علاقته بآل الشبيبي بأجداده القزوينيين، وخاطبته بالبيت الأخير منها:
ما ضـاع حق خلفه طـالب   فاطلبه لي يا حسن السيرة
وعلق: يا علي، أنت مبتلى بثلاث شينات -شبيبي، شيعي وشيوعي!؟- ومساعدتك لهذا صعبة ومع ذلك سأبذل جهدي. وقبل تموز كانت علاقتي به وثيقة، حتى إذا تقدمت على رأس القائمة المهنية، قلب لي ظهر المجن.
وحين عاد ثانية بعد السماوي، قصد النقابة يحوطه ثلة من الرجعيين مكشدين ومعقلين. في نادي النقابة سأل عني مباشرة، فقيل له لا يأتي دائما. أجاب: يبدو أنه علم بمقدمي فولى الأدبار! وقصدته في اليوم التالي. قلت: إني دائما أعتز بنفسي يا أستاذ. أنا أكره الاعتداء، والضغينة والغيبة. وقد نقل لي ما تجل عنه ومع مثلي، وعلاقتي القديمة بك وأنا أزهد من يكون بمنصب إدارة أو نقابة، إني أفضل عليها ود زملائي. ولأبرهن لك على هذا راجع ملفتي ستجد قدمت استقالتين، أيام وجود سلفك "السماوي". الأولى خلال عطلة نصف السنة، والثانية بعد انتهاء السنة، وكان تعييني للإدارة بعد حركة الشواف مفاجئا، وقد صادفت عطلة نصف السنة.
ونقلت في السنة الجديدة -4/10/1960- إلى مدرستي السابقة "العزة". وأرسَل إلى إدارة المدرسة بِعَدَم تكليفي بتدريس اللغة العربية، لأن المومى إليه لا يوالي الفكر القومي العربي!؟ ضحكت ساخرا: كيف أتنكر لعروبتي وقوميتي وأنا عربي. ومن لا يعرف آل الشبيبي وجهودهم من أجل الحرية والاستقلال وجهادهم المدون والمشهود لهم في تأريخ العراق وثورة العشرين. وعهد المدير إليّ بتدريس الصف الثالث ودرس "المدنية" في صفي الخامس والسادس.
شكرا وألف شكر. في هذه الكراريس الجديدة، كل ما يكرهه الرجعيون والمعادون للتجديد. عن الدستور، عن حقوق الطبقة العاملة، الحريات في كافة المجالات. حقا إن الحاقدين جهلة، يعميهم جهلهم، وطبعهم اللئيم لا يدركون الحقائق، ولا دروب الخير، وكثيرا ما يخطئون في نصب الشراك، فقد أعماهم الحقد. هم لا يفهموا إن المجال للحديث والتوجيه السياسي في تدريس "المدنية" وليس في كتاب القواعد والقراءة!؟ والغريب إن مدير المعارف ساندهم على هذا!

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏13‏/06‏/2011


99
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 4
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)

 

من هو؟      
مرّ أكثر من يومين ونحن في النجف لا نعرف من هو قائد الثورة، وكيف حدثت، لكن الناس في فرح غامر. كل فرحهم كان انبثاق الثورة. وصادف حدوثها أيام محرم. في المدن الشيعية يعلن الناس الحزن والحداد خلال شهري محرم وصفر، ولا يجرأ منهم أحد أن يخرق تلك الالتزامات بفرح مهما كان.
لذا أقول، كم هو عظيم فرح الشعب بثورة 14 تموز، ونحن نرى الناس، يهزجون ويغنون ويرقصون في الشوارع. هم في كل يوم في تظاهرة. كان أصحاب المحلات في الشارع القريب أو المقهى القريب  من الصحن الحيدري وصحني الحسين والعباس لا يجرأون على استعمال الراديو، لكن هذا الالتزام تجاوزه الناس. وكأن محرم لم يحن بعد، أو أن ثورة تموز هي المطلب الكبير والثأر للحسين وآل البيت.
لم أسمع ولن أقرأ في جريدةٍ صوتا لجبهة الاتحاد الوطني، يبدو أن عقدها قد انحل وانفرط. إذا كان فلنقرأ على الثورة الفاتحة. لم نكن نعرف وبتأكد من قائد الثورة. وما مدى تلاحم رجالها العسكريين، وما مكانة الأحزاب الوطنية فيها، بعد أن صفي الحساب مع العهد الملكي.
كنا نسمع من بعضهم، أن نوري بعد بحث الأمر مع السفير الأمريكي عن قضية انتفاضة الشعب اللبناني وجه الجيش أو ألوية معينة للسفر إلى الأردن. واستغل القادة في الجيش الذين هم على رأس تلك الألوية فتوجهوا بدلا من تنفيذ أمر نوري، إلى معاقل الحكم فدكوها دكا.
لو كان لرجال الأحزاب أي فطنة وبعد نظر لانتبهوا إلى وجوب التلاحم بعد تحقيق الثورة. ولو إن قائد الثورة كان حكيما، لكان السابق إلى طلب هذا من الأحزاب الوطنية  (وقرأنا بعد سنين طويلة وعهود أخرى بعد تموز. إن رجال جبهة الاتحاد الوطني قد نص ميثاقهم إن فترة مجلس قيادة الثورة يجب أن تكون انتقالية لتشكل بعدها حكومة مدنية). لم أكذب ولم أتبجح إن قلت، أن رأيي هذا قد لاح واضحا بعد أيام من معرفة رجال الحكم الجديد. وأتضح لي أكثر وضوحا، حين نحى قائد الثورة زميله ورفيقه "عبد السلام عارف" في دك معاقل الحكم بشكل يتنافى تماما ومقامه. وعرفنا فيما بعد التزام عبد الكريم قاسم بصاحبه عبد السلام، وفي الضباط الأحرار من هو أكثر منه كفاءة وثقافة. وبعد مدة طويلة أي بعد هلاك عبد الكريم قاسم علمنا أن صاحبه لم يكن في الأصل داخل تنظيم حركة الضباط الأحرار إنما فرضه عبد الكريم فرضا. وإذا صح هذا فلا غرابة في وقوع الخلاف بينه وبين صاحبه. هو يعلم أن صاحبه كثير السقطات التي تجعل منه مثلا في نسج الجماهير للنكات، ينسجوا منها ثم ينسبونها له بأنه قالها في إحدى خطبه!؟ إنه يستغلها اليوم يريد أن يبعده، وقد فعل. واستغلت بعض الفئات ما حدث للرجل المنبوذ، فاتخذت مما حدث ذريعة للتهريج ضد الزعيم، ورفعت أسمه عاليا. واتخذته رمزا لنضالها من أجل توجيه الثورة في طريق اللاحب والمستقيم.
بعض الأحزاب انسحبت من تأييد الثورة، وهي بيد عبد الكريم الذي لم يفصح عن نهجه. واتضح انه يدير لعبته يحطم بها الأحزاب التقدمية. حزب البعث أبتعد. الحزب الوطني الديمقراطي انسحب دون أن يحاول التنبيه للخطر، وانشق عنه أقوى أعضائه، وتبعه عدد كبير من الأعضاء حين ألف حزبا جديدا، وصار رئيسه العضد الأقوى لرئيس الدولة، في سن القوانين للمشاريع الاقتصادية. وبدأ أيضا يعزل بعض الوزراء. بعضهم لأنه يمثل فئة ظلت تعمل في السر، وبعضهم لأنه شخصية جيدة جدا.   
يا سيدي الحركات السياسية، حتى لو كانت من وسط عسكري يجب أن يكون نهجها سياسيا لا علاقة له بالرتبة أو الوظيفة، لأن الحركة يجب أن تكون للشعب كله.
الشيوعيون كان رفاقهم الذين نسمع أحاديثهم، وطبعا هي مستقاة عن كبارهم. بأن الحزب علم بالثورة، وان لهم صديق "رشيد مطلق" صديق عبد الكريم قاسم هو من يوصل رأيه برجال الحركة. ولكن هذا الزعيم تغاضى عن الحزب وكأنه لم يكن. فحين قدم الحزب طلب الإجازة، حيكت دونه عراقيل كثيرة باسم القائد طبعا ليس هذا حسب، إنما اغتيل بعض رفاق الحزب، سقط واحد قتيلا في الشارع، وآخر وجد قتيلا في فراشه، وضاعت الدماء الكثيرة هدرا.
أنا أعتقد إن مقياس الديمقراطية الحقيقي هو إباحة الرأي والمعتقد ضمن الدستور المؤقت والدائم فيما بعد وداخل أحزاب لها قوانينها وأنظمتها وتعتمد الديمقراطية فعلا في وسطها، وإن الحكم يجب أن يكون بيد الحزب الذي يتم له الفوز بأغلبية في الانتخابات الحرة بدون تدخل السلطة المؤقته.  وإن لم يتم هذا فإن انهيار الثورة محقق.
وأكثر من هذا إن صحيفة الحزب حين نددت بالفعل الإجرامي -اغتيال بعض رفاق الحزب الشيوعي- فأن المجلس العرفي العسكري الثاني أصدر قرارا بمنع الصحيفة من الصدور لمدة تسعة شهور!؟. وكأنه يتعمد التنكيل بشخصية الحزب. فمنح الأجازة لشيوعي هو داود الصائغ، لم يعتبر العهد المقبور شخصيته بشيء. فقد قبض عليه إذ ذاك قبل أن يهتدى إلى قائد الحزب الشيوعي "فهد" وحين وصل به الشرطة  للتحقيقات الجنائية، قال لهم كبيرهم: هذا نعرفه نريد "فهد"!؟
ولنتساءل إذن لماذا ظل الشيوعيون يؤيدون الحكم إلى آخر لحظة، حتى أن مقالا لهم نشر في جريدة الطريق بعنوان "حياة الزعيم مكسب وطني". كانت سياسته -الزعيم- تهويشا لا ترتكز على قاعدة سياسية وأساسية، وخطبه رعونة. فمرة هو يعارض مقترحات الأحزاب، ويشتم بعضها بإشارات غامضة، كما فعل في كنيسة "مار يوسف" وتارة يدعو الأحزاب "العلنية والسرية" أن يتحدوا ويساعدوه. أين مواقفه وخطبه الأولى، التي بعثت قرائح الجماهير فراحت تغني "عيني كريم للأمام، ديمقراطية وسلام". كانت مختلف الأغاني تبتكر ساعة التجمع والتظاهر رائعة مبهجة.
لقد دحرتها عنجهيته وغروره، وهو يهذر بإحدى خطبه "كلكم وراء الزعيم ...". وقد تشبث برتبة "زعيم" لأنها تعبر عن الزعامات أيضا. الزعامة إذا لم يؤيدها الشعب "زفت" كما يعبر المصريون. صحيح إنه بعيد عن الترف ولم يلوث يده بنهب ولا نعيم. ولكن استبداده سيفسح المجال لمن لا يرحم إذا ولي.
خلال أيام الفواتح التي أقيمت في وفاة والدي، جاءني جندي شيوعي، سألته عن عبد الكريم، فراح يهزأ به ويسميه "أبو حَمره"! قلت وما تعني هذه الكلمة؟ أجاب: إنه أحمق، أرعن. قلت أيرضى الحزب أن تقول عنه هذا؟ أجاب: أنا اُسَخِف من لا يريد أن يعرف أن الرجل ليس بسياسي مطلقا ولا يصح أن نرخي له الزمام!.
وزرت صديقا في إحدى الدوائر الحكومية، هناك وجدت حس أفضل. الطبيب الذي صار عضو في المجلس النيابي الأخير للعهد المباد. كان يقص على صاحبي ما عرفه عن قائد ثورة تموز. وكان هو إذ ذاك في لندن. قال: كنت عند الوزير ضياء جعفر، وضياء هذا من المقربين جدا إلى نوري السعيد، فسألته هل تعرف العسكري الذي قاد الثورة؟ أجاب: أنا مندهش ومستغرب الأمر كل الاستغراب. هذا كان من أعز الضباط عند نوري! كنت عنده ذات يوم ، فجاءه أحد رجاله، وقال، سيدي الضابط عبد الكريم يريد الدخول. فطار نوري فرحا، ونهض وهو يردد أدخله حالا. والتفت إليّ وقال، هذا من أعز الضباط عندي، إنه ذكي ومخلص، أرسلته إلى لندن للتداوي.
ودخل عبد الكريم قاسم، وضع حاجات كان يحملها على الطاولة، وعانق نوري عناق مخلص مشتاق. وقال: والآن توجهت من المطار إليكم مباشرة. لم أسمح لنفسي أن أذهب إلى بيتي قبل زيارتكم.
كان نوري متجها إليه بكليته وبكل اهتمام يستمع إليه ويستفسر منه عن صحته. ثم ودعه وانصرف. وعاد نوري يحدثني عن إعجابه به وبمدى وعيه بمسؤولياته، وتعلقه به.
ثم عقب ضياء جعفر، إلا ترى معي كم هو غريب أن يقوم هذا الضابط بالذات بالثورة وضد نوري؟
أقول ستكشف الأيام كل سر خطير في يوم من الأيام. إن تصدت لتأريخ الثورة ورجالها يد أمينة!

العواصف      
الظاهر أن قاسم كان مقصده أخذ مسألة الثورة على عاتقه، وبآرائه التي هي بعيدة عن الصواب. فهي ارتجالية. وكما يبدو أنه يعمل على التخلص من جميع القوى السياسية. فبعد عام من إجازة الأحزاب بدأ يطاردها، ويعتقل بعض أعضائها، ويغلق صحفها لأنها تنتقده، ولم يعد حزب سياسي يمارس نشاطه كما يجب وبمقتضى الحرية اللازمة. وبدت في الأفق حركات التمرد. فحركة الشواف في الموصل، وإثارة تبعية الكويت، والتي هي في حقيقتها دسيسة بريطانية أضاعتها عن إدراكه لها رعونته وهوسه، إذ لم تقبل هذا منه جميع الأحزاب حتى التي تعمل من أجل الوحدة العربية، إذ هي لا تؤمن بالقوة سبيلا إلى تحقيقها -هكذا بررت موقفها-. وقد سمعت من بعض رجال التأريخ والسياسة تعليقا ظريفا حين سأله أحد جلاسه، عن حقيقة تبعية الكويت في تأريخها. أجاب: نعم هي عراقية. ولكن ماذا تجني الكويت إن هي التحقت بنا غير أن تصبح مثلنا تعاني الإفلاس بظل هؤلاء الحكام!
وإثارة الأكراد، بإغلاق حزبهم وصحيفته، جعلهم يعتصمون في منطقتهم تأهبا لما يحدث من قاسم ضدهم. وفعلا قد حشد عليهم حشودا عسكرية، ولم ترض الأحزاب بسياسته هذه، فأصدرت جميع الأحزاب آراءها بهذا الصدد. أصدر الشيوعيون، وحزب البعث –موقفه كان نفاقا- في جرائدهم ونشراتهم شجبهم للإجراءات العسكرية والقاسية ضد الشعب الكردي، وأشاروا أن الاستعمار وعملاؤه من أقطاعي الأكراد ارتاحوا لهذه الحملة فهي خير ما يعين على إفشال ثورة 14 تموز، ويدمرها بالنتيجة خصوصا وإن محكمة الشعب من جهة تحاكم المتآمرين، ومحكمة شمس الدين عبد الله يُساق لها العشرات من الديمقراطيين فيحاكمون ويحكمون. واستغل إقطاعيو الأكراد هذا، مما أستغله هو أيضا باتهام زعيم الأكراد -الملا مصطفى- بأنه عميل أمريكي.
توسع الخلاف، وساء ظن الشعب به وبكل الفئات السياسية. عدم معرفته بالحقائق بعث به اليأس. وأدار ظهره متذمرا، بعد الفرحة العظمى في 14 تموز.
وتصدى له حزب البعث بضربة لم تقض عليه. حدث هذا في 7/10/1959 وفي مقدمة المتطوعين لاغتياله عبد الوهاب الغريري، وقد قتل برصاصة من قاسم. وأصيب قاسم وصار كلما شكى له أحد اعتداءاً أبرز يده وأنا أيضا أعتدي عليّ!؟. وظل سادرا في هواه، وأفكاره الحمقى. فقد غض الناس عيونهم عن بعض المكتسبات الرائعة التي تمت بثورة تموز. قانون الإصلاح الزراعي، انسحاب العراق من المنطقة الإسترلينية، إنشاء الإدارة الوطنية لمصلحة مصافي النفط، الانسحاب من حلف بغداد، قانون الأحوال الشخصية وغيرها من المنجزات.
هذه كلها لم يعد الشعب يعيرها اهتمامه وهو يرى حرياته تهدر يوما بعد آخر، ويرى الأفق تغطيه سحابة داكنه لا يدرى ما وراءها. ويرى الضراوة التي تبديها بعض الأحزاب ضد فئة كانت بالأمس ترتبط معها بجبهة الاتحاد الوطني.
كل ما حدث مسؤول عنه أمام الشعب رجال جبهة الاتحاد الوطني، لأنهم لم يثبتوا أمام حركة الضباط الأحرار خطة وافية تضمن العمل الجبهوي من أجل الثورة ونهجها. كل شيء مضطرب، الجو مشحون بالمخاوف. بين آونة وأخرى يحدث اغتيال، فتوجه فئة حزبية إلى فئة حزبية أخرى الاتهام بأنها مصدر القلق والاغتيال.
انتخابات النقابات فقدت كل التزام، وكأنها استعداد لحرب غشوم.
أنا الذي لا صلة لي بالأحزاب، وعلى أني لم أرشح نفسي لنقابة المعلمين في دورتها لا الأولى ولا الثانية، لقيت الإهانة والتهديد العلني من نفر يساند المنافسين في الانتخاب -وهم ليسو من الموظفين أصلا- حين دخلت لأصوت وحين خرجت، هددوني بقبضات أيديهم.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏07‏/06‏/2011


100
أطلقوا سراح الشباب الشجعان، واعتقلوا بدلهم المسؤولين الذين بددوا أموال الشعب، ويهددون بتخريب العملية السياسية!؟

يوم تظاهرة الجمعة 27/5/2011 اختطفت الأجهزة الأمنية الصدامسافاكية أربعة من الشباب النشطين هم كل من مؤيد فيصل الطيب، علي عبد الخالق الجاف، أحمد علاء البغدادي وجهاد جليل. إن عملية الاختطاف تمت بطريقة خبيثة من خلال نقلهم بسيارة إسعاف كان بداخلها (فدائيوا صدام من التوابين) وهم ملثمون ومسلحون، واقتادتهم هذه الإسعاف إلى مراكز الإرهاب الرسمي، المتخصصة بمكافحة الوطنيين والشرفاء ولكنها تدافع عن المفسدين وحرامية الدولة من مسؤولين كبار وتوفير الحماية لهم، وتهدد من يتناولهم!
هذه الحادثة أغضبتني ونقلتني إلى سنوات شبابي عندما بدأت نشاطي السياسي متحمسا من أجل تغيير الأوضاع نحو الأفضل، وكيف تعرضت للتعذيب والتهديد والسجن لسنوات وأنا لم أبلغ 17 عاما، وأمثالي بالآلاف. لذلك وجدت من الضروري شن حملة منظمة ضد ممارسات الأجهزة الصدامسافاكية والتي تدعي أنها أجهزة أمنية بينما هي تساعد الإرهابيين بالهرب وتعتقل الشرفاء والمخلصين وتترك من سرق قوت الشعب وبدد أمواله تحت الحماية!؟.
هذه الأجهزة أثبتت فشلها وغباءها وبلادتها!؟ قد يتساءل البعض كيف ذلك!؟ سأروي لكم قصصا الجميع سمع بها ومن مصادر رسمية (برلمان، ولجان تحقيق برلمانية وفضائيات وصحافة الدولة، ومسؤولين) في أحد التفجيرات الإرهابية الضخمة (أعتقد التفجير الذي حدث بجانب وزارة العدل) سارعت الأجهزة الأمنية بعد ساعات لتظهر لنا معتقلا تدعي أنه بعثي (وأنا هنا لا أزكي البعثيين من الإرهاب فهم عيون الإرهاب ومموليه) ظهر هذا المعتقل ليعترف كيف ساهم بالتخطيط وكيف مرر الإرهابيين عبر السيطرات .....الخ وتساءلت حينها أية قدرة هذه للأجهزة الأمنية من حصولها على هذا الإرهابي وبسرعة فائقة (تعجز عنها المخابرات العالمية) ومن ثم اعترافاته بدون تعذيب وكان يتحدث ببرود أعصاب!؟ ولكن الأيام تفضح كذب أجهزتنا الأمنية وأعلامها ومدى بلادتها وفشلها .... وتمر الأسابيع والأشهر حتى يعلنوا أنهم اكتشفوا من قام بهذه التفجيرات ونسوا أن يتحدثوا عن الفاعل الوهمي الأول وما هو حقيقة دوره!؟ يعتقدون بذلك خداع الشعب وإنهم بذلك يتركوه في بحر من النسيان!؟ لا لن ننسى كل كلمة تنطقون بها أيها البلهاء ....!؟ وأحداث كثيرة إرهابية لا أصدق فيها صحة إدعاءات الأجهزة الأمنية لأنها غير محبوكة جيدا وفيها تساؤلات تحير، ومن ثم الأحداث تكشف الكذب والبلادة في رواياتكم الملفقة، محاولين بذلك خداع الشعب بأنكم تكافحون الإرهاب ...!؟
خذوا مثلا قريبا، ما حدث في سجن الكرادة!؟ خرج علينا المسؤولون (أبو رغيف وبجانبه مسؤول آخر وكان المتحدث الأمني) ليروي لنا أن كل العملية مجرد سيطرة إرهابي معتقل على سلاح ضابط (ضابط خرنـﮔـعي)، وتطور الشجار وحاولوا السيطرة على السجن والهروب، وأن الأجهزة الأمنية قتلت الإرهابيين جميعهم ... الخ من رواية تنم عن غباء وبلادة المسؤولين الذي حاولوا رواية الحادث. وسريعا تنكشف الفضيحة وملخصها أن الأجهزة الأمنية كانت مخترقة، وأن بعض الأمنيين هم من ساهموا بإدخال متفجرات، وأن عملية قتل وتصفية الإرهابيين كذبة، وقد نجح الإرهابيون بالفرار بسيارة كانت تنتظرهم في باب السجن الذي استغرقت السيطرة عليه ساعات!!!؟ وان العملية استغرقت عشر ساعات وليس 4 ساعات كما حبكوها الأغبياء وعباقرة الإعلام الأمني الفاشل والغبي!؟
وفضيحة أخرى هروب سجناء البصرة وما أثارته لجنة التحقيق البرلمانية من معلومات عن الهروب!؟ وغيرها الكثير كهرب سجناء صلاح الدين، ويوميا نسمع عن هرب إرهابيين!. أقول أنهم يكذبون كما كذب بوش لتبرير الاعتقالات وخلط الحابل بالنابل وتصفية الشرفاء وتهريب الإرهابيين. والآن أتساءل: يتحدث رئيس الوزراء عن الاندساس بين المتظاهرين، ويبرر منعهم باخس الوسائل الصدامية (هذا ما تعلموه من النظام الفاشي البعثي والإسلامي الإيراني في محاربة الشرفاء والوطنيين) أقول لدولة رئيس الوزراء إن الاندساس بين المتظاهرين (إن كان هناك مندسين) لاتصل خطورته على المجتمع والدولة أكثر من الاندساس في مكتبكم والأجهزة الأمنية!؟ هل تفهم سيادتك هذه الحقيقة؟.
كما أن انتشار الفاسدين من وزراء ومدراء عامين ووكلاء وزارات وسماسرة ومستشارين (أثبتت تجربة الأربع سنوات من رئاستك هذا الحال، إضافة للفضائح) في حكومتك هي أكبر ضررا وتدميرا للعراق من وجود مندسين بين المتظاهرين (كما قلت إن وجدوا) فالاحرى بك أن تنظف أجهزتك الأمنية ولا تتحجج بالمحاصصة لأنك أنت من أرادها واستقتل من أجل البقاء في قمة السلطة ولولا المحاصصة لما أصبحت رئيسا للوزراء، وأنت مثل الآخرين تتحدث عن التقاسم بين المكونات ولكنك تعتمده في كل سياساتك عندما تسنح لك الفرص وما أكثرها!؟
 وأنت من أستقتل من أجل إصدار عفوا عن المزورين وللعلم يا سيادة دولة القانون أن المزورين يتحولون معظمهم إلى إرهابيين وهذا ما صرحوا به من خلال شعاراتهم في تظاهرتهم بعد إصدار مجلس النواب (استجابة لمطالب الشعب وتظاهراته) قرارا مخالف لقرارك بعدم العفو عنهم!؟ والآن من الذي يساعد المندسين في تخريب الوطن!؟ هل سألت وزيرك الغير متربي أين صرف ميزانية المدارس ولم يبني مدرسة واحدة؟؟؟ وهذا الوزير أقرب لك فهو من طينتك مؤمن بالإسلام وشيعي حتى النخاع وضمن قائمتك، لماذا لم تتابعه خلال أربع سنوات؟ والآن بعد هبة الجماهير تطلب مئة يوم لتحاسب وزراء وحكومة بدون أي برنامج معلن أمام مجلس النواب، بينما لم تحاسب أحدا خلال أربع سنوات، أي كذب هذا!؟.
ثم يخرج علينا الوزير المتربي بعد رفض مجلس النواب التصويت على ترشيحه نائب لرئيس الجمهورية، يخرج ومن الفضائيات يهدد بتخريب العملية السياسية بالضبط مثلما صرح المطلق وغيره من مخلفات وأيتام البعث. فما كان موقفك، الإقرار مجددا بالمحاصصة المقيتة من أجل أن لا تخرب العملية السياسية من قبل إرهابي غير متربي. وللأسف أتفق الجميع في مجلس النواب من بعثيين وائتلاف وطني وأكراد على المحاصصة التي يرفضونها أمام الإعلام كذبا ونفاقا!؟
قد يتساءل البعض لماذا أتهمُ الخزاعي بكل هذه الاتهامات. أقول يكفي أنه تجرأ على عمل لم تتجرأ عليه جلاوزة المجرم صدام وحتى السافاك، وهو أطلاق النار في أحد المدارس لترهيب الطلبة وإسكاتهم، انه كاوبوي جبان لأنه لايجرؤ السير بالشارع دون حماية انه الجبن والخبث مجتمعان. من يهدد بتخريب العملية السياسية ولديه مثل هذه القدرة عليه أن يسير وسط الشوارع ويتحدث مع الشعب لكي يسند الشعب عملية تغييره (تخريبه).
وقبل أيام أظهرت الأجهزة الأمنية كما تدعي أحدهم تدعي أنه إرهابيا وقتل العشرات (من ضمنهم أطفال وعرسان) وهو يعترف، ويعمل في أحد المنظمات المدنية (حقوق الإنسان أو ماشابه) والشخص كما رأيته لم يمس بأذى مطلقا. وسؤالي هل هذا الشخص تطوع بالاعتراف بجرائمه؟ هل ضميره أستيقظ بهذه البساطة؟ أني أشك أن تركيب هذه الرواية، فقد عودتنا ألأجهزة الأمنية على روايات أثبتت هي لا غيرها على عدم صحتها!؟
والآن سؤال آخر لسيادة دولة القانون. أرجو أن توضح سيادتك أو من ينوب عنك من فطاحلة ومستشارين وفي مقدمتهم العلاق. أيهما أفضل أن يعود لوظيفته وإعادة حقوقه مزوري الشهادات (الذين تحاول إعفائهم) أم أصحاب الشهادات العلمية الذين أغتربوا بسبب إرهاب النظام الدكتاتوري، وتحملوا وعوائلهم في الداخل والخارج قساوة الغربة والتشتت والحرمان وملاحقات الأجهزة الأمنية لعوائلهم بالداخل. قل لي أيهما أحق بالعودة والعمل والدفاع عن حقوقه، يا من تدافع وتريد أن تعفي عن المزورين!؟ هل يعقل أن تلغى إعادة معلمين ومدرسين (تمت إعادتهم بعد سقوط الدكتاتور) اضطروا لترك أعمالهم ووطنهم بسبب سيف تبعيث التعليم الذي مارسه النظام البعثى ضد القوى الديمقراطية وتطالبهم لجنتك (لجنة التحقق، ويقال أن معظم العاملين فيها كانوا بعثيين أو حاقدين أو أغبياء) بإعادة الرواتب التي استلموها منذ إعادتهم بعد السقوط أو تقديمهم للمحاكمات والسجن!؟ وأن لجنتك (لجنة التحقق التي تلبس طاقية الإخفاء، لأنها مجهولة الأسماء، ولا يمكن الوصول إليها حتى تلفونيا!؟) ترد هذه اللجنة على طلبات المدرسين والأساتذة الذين تغربوا بسبب الإرهاب الصدامي بجملة تتكرر للجميع مع اختلاف بسيط (لا يوجد ما يثبت أنك غادرت لأسباب سياسية!؟) أي أثبات تريد هذه اللجنة!؟ وهل صدام ونظامه كان يسلمك إثبات!؟ إن من يكتب هذا الرد أما أنه صدامي حتى النخاع وإنه خريج المدرسة الأمنية الصدامية أو خريج مدرسة السافاك أو في أحسن الأحوال يجهل طبيعة نظام البعث، فهنيئا لك يا دولة القانون لجان التحقق التي اخترتها لمحاربة المعارضين والمناضلين وتركت سيفها البتار يحصد بلا وازع ضمير!؟
أحكي لكم طرفة حدثت لقريب معارض لنظام صدام يعيش منذ عقود في المانية، أعرفه جيدا وأثق بكلامه الموثق. قدم هو وشقيقته طلب إعادة المفصولين السياسيين، وشقيقته تركت وظيفتها أيام صدام بسبب مضايقتها لتوجه العائلة السياسي لكنها لم تغادر العراق. أما هو سياسي يقيم في الخارج منذ السبعينات  وتعرض في ظل أنظمة قاسم والبعث والحكم العارفي للتعذيب والفصل والسجن لأكثر من مرة. طلبت اللجنة من شقيقته (وهي التي لم تغادر العراق مطلقا) إثبات كونها أو أحدا من عائلتها سياسي، لم يكن لديها دليل (لأن الكل يعرف أن أجهزة صدام لا تترك دليلا) سوى أن شقيها غادر لأسباب سياسية، قدمت جوازه وجنسيته الألمانية كدليل!؟ فجاء قرار لجنة التحقق بإعادتها واحتساب مدة الفصل للتقاعد والترفيع واستلمت حقوقها.
أما شقيقها (السياسي والسجين لأكثر من مرة) الذي اعتمدت شقيقته على وثيقته الأجنبية، رفضته لجنة التحقق!!!؟ بكتابها مبررة ذلك بجملتها العبقرية (لا يوجد إثبات كونك غادرت الوطن لأسباب سياسية) أنها مهزلة من مهازل دولة القانون. فخافوا الله إذا كنتم فعلا تؤمنون به وبعدالته. أما الصلاة، وكي الجبين، والحج، وإطلاق اللحى، والتردد على المزارات الشريفة والبسملة والورع المسرحي كلها أدوات نصب واحتيال لخداع البسطاء. وإذا كنتم واثقين بأنكم تقودون الجموع إلى الجهل والخرافة للبقاء على الكرسي، فأن هذا لن يدوم وأنتم ترون كيف نهضت شعوبا وسحقت من خدعها وأستغلها بالأحذية، أتعضوا من مصير صدام والشاه، ومبارك وبن علي وشاوشسكو وغيرهم !؟
 والآن أتساءل، هكذا تكافح الفساد!؟ تركض على هؤلاء المناضلين (المدرسين والمعلمين وأساتذة الجامعة وغيرهم من موظفين) لتسترجع حقوقهم وتضطهدهم كما أضطهدهم صدام من قبل، بينما تترك أيهم السامرائي، والشعلان، وفلاح السوداني، ووحيد كريم وغيرهم ينعمون بمليارات الدولارات التي سرقوها أو في أحسن الأحوال بددوها!؟ هذه هي عدالتكم وفهمكم لمشاكل المجتمع!؟   أبقوا في غيكم فالشعب (العراقي خاصة) لن يرحم إذا ما أنتفض!؟
وأخيرا أضم صوتي مع كل الشرفاء وأطالب بإطلاق سراح هؤلاء الشبان الشجعان، ومحاسبة ومعاقبة من قام بجريمة خطفهم، والتحقيق مع هذه الأجهزة المستهترة بحقوق الإنسان، والاعتذار لهؤلاء الشباب وتعويضهم. كما أدعو جميع من يهمه عراق ديمقراطي خال من تلامذة صدام والسافاك برفع صوتهم للاحتجاج والتظاهر وتوقيع المذكرات وحشد الرأي العام في الداخل والخارج لفضح هذه الممارسات الاستبدادية والمستهترة.
وكلمة أخيرة أوجهها إلى رئيس الجمهورية وحزبه، والرئيس البرزاني وحزبه، والقائمة العراقية التي كانت تصول وتجول وتدعي، والى جميع الكتل التي تدعي الإسلام وتسيست، أقول للجميع إن فزتم بجولة انتخابية أو أكثر فهذا لن يدوم مادمتم صامتين عن التخريب المؤسساتي والنهب، وتزاولون الصراخ والمهاترات الفضائية عن الإرهاب، والفضائح المالية، كل هذا الصراخ ليس له قيمة إذا لم يعاقب الإرهابي (لا بتهريبه) والمفسد باستعادة أموال الشعب التي سرقها أو بددها وسجنه ليصبح عبرة للآخرين مهما كان مركزه الحكومي وتوجهه السياسي. كفى نفاقا فقد أنكشف المستور!؟
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏29‏/05‏/2011


101
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 3
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


أليتيم
 
 
الشيخ المجاهد محمد الشبيبي خطيب المنبر الحسيني
وعضو مجلس السلم العراقي (1870-1958)*

ذات يوم كنت في عسر شديد. وقد علت وجهي كآبة، لم تخفَ على أي امرئ يراني. ليس مبعث كآبتي إني لا أجد ما يعينني على المعيشة اليومية، إذ الحرب الكونية الثانية قد سببت لأكثر الناس عسرا وإرهاقا، عدا التجار المستغلين، وفئات معينة من الموظفين لارتباطهم بالتجار، فهم وسطاء لهم في أمور التسابق على حيازة أهم الحاجات التي تخصصها وزارة التموين وغيرها. ثم تلاعب موظفي دائرة النفوس في بيع دفاتر نفوس لمن يدفع السعر المناسب في دفتر نفوس يستوفي به المشتري حصصا من السكر والشاي والقماش. حيث يبيعونها بعد انتهاء مدة التوزيع وخلو المحلات من تلك المواد بأسعار مضاعفة.
إن مبعث كآبتي إني تحملت من الدين ما أعجز عن تسديده، بينما تكاليف حياتنا تزيد يوما بعد يوم، والاستدانة ذلة، ونفسي ترفض هذه الذلة وتأباها، بنفس الوقت أنا حريص على التسديد في الوقت الذي أحدده لذلك. وكثيرا ما يصادف أن أدفع ما بذمتي فلا يبقى لدي شيء، فأجد حرجا كبيرا أن أعود إلى البيت خالي الوفاض وصغاري بانتظاري لأقدم لهم بعض ما يسرهم.
لمح أبي ذلك على وجهي. فقال ما لك. أي هم يجثم على كاهلك، لا تكن هكذا يا ابني. وراح يقص علي كيف أباد الطاعون والديه وجميع إخوانه وأخواته، وقد سقطت إحدى أخواته أثناء ما كانت تحمله وهي تبكي من تلك المأساة، التي نزلت بغالبية الناس. ولكنها لم تبقِ من أهلها غيرها، وغير أخت كانت مريضة قبل الطاعون، وغيري أنا وكنت طفلا في الشهر الرابع من العمر. وأخذني الجيران من بين يدي أختي وقد ماتت. وكفلني أحد رجال الدين من معارف أبي. وانتعشت المريضة، ونجت من الطاعون، فتعهدتني بظل ذلك الرجل الكريم. ولما عاد أعمامي من بغداد بعد انتهاء الطاعون سلمني لأحدهم.
وقد رأيت يا بني بنفسك كيف إني عشت مرفها بجهودي وبفضل المنبر الحسيني، دون مساعدة من أحد. ولم يكن بين أفراد أسرتنا من سلك هذا المسلك قبلي، وقد امتلكت بيتا، وتزوجت ثلاث من النساء، وعشت ميسور الحال مرفها. ولم أقصر في حق عمي الذي تعهدني، وبقية أعمامي. ثم تردت أموري كما تعلم، والسبب هو أنتم، ولكني راض عنكم. ما دام موقفكم هو الجهاد من أجل المحرومين، وضد الطبقات المستغلة والعميلة والاستعمار، اتكل على الله فهو أرحم الراحمين.
لقد شن رجال السلطة في العهد الملكي الحرب على والدنا، واستعانوا بكثير من المعممين بينهم رجال كان يوثق بهم ولكنهم كانوا أشد من غيرهم بل أن لبعضهم صلة مصاهرة ورحم، والسبب غير خفي فهم كأناس يعيشون على الحقوق الشرعية وهي من جيوب الأثرياء لا الفقراء. لا يمكنهم والحال هذه أن يكونوا ضدهم ويرفضوا تحريضهم ضده!
لم نكتم أمر التحاقنا بالحزب، ذلك لأن معلمنا "فهد" كان يوصي: أن يكون الرفيق حريصا على سمعة الحزب، فكرموا آباءكم، والتزموا السلوك الحسن ليثقوا بكم، فتجدوا بهم الظهير الشفوق المناصر لكم. ويستشهد بالآية الكريمة -وانذر عشيرتك الأقربين ....- وفعلا دعا النبي الكريم أعمامه وذوي قرابته لوليمة أولمها لهم، ثم أعلن دعوته بجرأة المؤمن الصادق -قولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله تفلحوا-.
كل ذي عقيدة ومبدأ من أجل خلاص البشرية من مستغليها ومستعبديها، عليه أن يسند ظهره بالأقربين. ومن أساء إلى معتقداتهم ومسها بسوء، فهو عدو عقيدته علم هذا أو جهل. الأنبياء كلهم، أنبياء السماء وأنبياء الأرض، جاهدوا من اجل خلاص البشرية من الجبابرة والفراعنة والطغاة.
قال: انتم تعترفون بالله والشرائع؟ ألستم كما يقال عنكم ملحدين؟
قلت: تعتقد أنت أن الإلحاد بين الناس حديث النشأة؟ ألم تكن الأمم التي ظهر فيها أنبياء باسم الله أو باسم آلهة، أو اله -ليس هو الإله الذي يعرفه أتباع موسى وعيسى ومحمد-.
أجاب: حقا إن الإلحاد كان موجود إلى جانب الدعوة إلى الله الواحد الأحد.
قلت: الواقع إن مسلكنا لا علاقة له بالدين مطلقا. إنه دعوة ونضال ضد الاستغلال والاستعباد، وليس من مهامنا صلى المرء أو لم يصل. وفي نفس الوقت نحن نعلم إن مسألة الجدل حول (وجود الله والدعوة له) مسألة بين الإنسان وقناعاته، وقدمها قدم الإنسان. ثم هم "الأنبياء" أيضا يرفضون استعباد الإنسان واستغلاله لأخيه الإنسان. وأنت يا سيدي أكثر إحاطة مني بالقرآن ودعوته ضد الذين يكنزون الذهب والفضة. ألست من روى لي، أن إبليس حين ظهر النقد والعملة قبلها ووضعها على جبهته وقال (الآن القي كل حبائلي، فبكما -الدرهم والدينار- أنال بغيتي من ابن آدم!؟)
ومن المضحك والمخجل من أساليب رجال التحقيقات الجنائية، أن أحد كبار هذه الدائرة المدعو "نايل عيسى" ومعه اثنان آخران وهو جلاد مرعب، يعرفه كل متهم بـ "المبادئ الهدامة" كما يعبرون، قصد النجف خصيصا للتحقيق مع الشيخ في بيته!؟
بعد الاستراحة اعتذروا عن أنفسهم بأنهم إنما يؤدون أمورا من اختصاصهم أوكل إليهم أمرها، دون أن يكون لهم غرض شخصي. إنها واجباتهم من الدولة وليست من ذات طابع عدواني إنما هي لمصلحة حماية المجموع.
قال والدي: هاتوا ما عندكم.
قال كبيرهم ملخصا: لدينا استفساران نرجو أن توضحهما لنا دون انزعاج. أولا، وردتنا نسخة من بيان موقع من سماحتكم، فيه تعزي العراقيين والعالم أجمع بوفاة الزعيم السوفيتي "ستالين" وناولاه صورة للبيان المزعوم!؟
فضحك ضحكة ساخرة. وقال: أنتم والناس أجمع تعلمون إن بيننا وبين بلد هذا الزعيم حواجز كثيرة. ولهذا الزعيم دولته العظمى ووطنه الكبير وشعبه الذي يقال أنه يتجاوز مئتي مليون، فما هي العلاقة التي تربطني به، والصلة بيننا وبينهم مقطوعة، وأنا وإن كنت أناقش بعض أمور السياسة  فمن جانب ما يشير إليه ديننا الإسلامي ليس إلا. الاحتكار، تقصير من يلي أمور الأمة في عيشها ومهام حياتها. حريتها التي ثبتت في تشريعات الدولة أيضا، ولكن في الورق فقط، وهذا الذي أطلعتموني عليه لم أره ولم أسمع به إلا منكم.
ثانيا، عرضوا عليه صورة، قالوا إن الذين هم إلى جانبك وحولك، هم شيوعيون!؟ فمن هم؟ وأين؟ ومتى تم اجتماعكم بهم ولماذا؟ وناوله الصورة.
تأملها جدا. وأجاب: أمر مضحك حقا. فأنا في حياتي لم آخذ تصويرا غير أن ولدي "علي" أخذني إلى المصور، ومرة أخرى أخذ لي -بكامرة بيده- بملابس البيت وأنا أعمل القهوة لي. وبالرغم من أني لست خبيرا. فقد دققت في هذه الصورة، فوجدت أن الصورة ضمت إليها وليست من جملتها في الأصل! بدليل إن صورتي واضحة جدا وبقية الصور ليست كذلك لكثرتها. ويبدو أيضا  إن صورتي قد غطت من جاورها، ولو أنها من ضمنها لكانت بنفس حجم الباقين القريبين من صورتي أولاً. واني لابد أن أغطي بعض الذين هم جنبي وآخرون يغطون جهة مني لأني أرى العدد متزاحما. وأخيرا أنا اعلم أنكم ممارسون أشداء لا تفوتكم معرفة هؤلاء.
ضحكوا واعتذروا، إنهم سببوا له إزعاجا. فعلق: هذا حصل لي كثيرا من صغاركم!
قال نايل: اسمح لي بكلمة عتاب. أنت تذكرنا على المنبر كثيرا. وتسمينا "زبانية جهنم" ما ذنبنا ونحن موظفين نعمل وفق قوانين وأوامر الدولة.
أجاب: أنا أعترف إني اشتمكم كثيرا. ولو تمكنت لانتقمت منكم. ألستم سبب إعدام "فلذة كبدي" وحكم أصغر أبنائي بالسجن عشر سنين في نقرة السلمان وحرمت من رؤيته لغاية اليوم، وأحلتم أكبرهم إلى المحاكم عدة مرات، ثم فصله من وظيفته دون ثبوت تهمة أو دليل ضده، ونقل إلى مكان بعيد وأنا بحاجة إليه. أتنكرون هذا؟
الواقع إني أنا وأخي الشهيد، قد عملنا على تصحيح مفاهيم أبينا في القضايا الاجتماعية والاقتصادية دون أن يكون ذلك مناقضا لأصول الدين. وناقشناه -ولا هو ولا أحد ينكر هذا- إن أحاديث كثيرة نسبت إلى النبي والأئمة، كانت دسا من أعداء الدين، أو المتملقين للحكام، ليبرروا تسلطهم على الناس، وينزهوهم من العسف والظلم.
كان أبي يعلن رأيه في المرابين الذين تجلببوا بلباس التقوى، إذ يقيمون ذكرى الحسين والأئمة، والولائم في المناسبات الدينية، ويجالسون بعض المعدودين -كرجال الدين- ويمدونهم بما لديهم من حقوق شرعية وهؤلاء يعلمون كل العلم عنهم أنهم مرابون!؟
كان لا يكف عن فضح أولئك، وسالكي دروب الرذيلة، واللاهين عن سلوك الطريق القويم لمصلحتهم ومصلحة الآخرين، والمقامرين، ومن هم على سنة قوم لوط! كانت مجالسه لا يتسع لها بيت فهي مكتظة بالقاصدين لها، وما يعقد في الميادين في بداية المدينة يزوّد بما يزيد على عشر مكبرات صوت.
لقد انتهى عهد الملكية، ورجال الحكم فيه، مشيعا باللعنات. أما هو يوم انتهت حياته، فقد شيعه الألوف، ورثاه الشعراء والأدباء بحسرة وأسى. وأسجل ملاحظتي إلى الفئة الواعية التي تبنت شؤون الفواتح واستلمت ما القي من شعر وكلمات الأدباء والشعراء في أول فاتحة حتى يوم الأربعين. لقد طالبتهم أن يتركوها عندي إلى حين ينتهي "الأربعون" تعاد لهم إن قرروا طبعها. لكن أحدهم واسمه "محمد حسن مبارك" رفض رأيي، ورفضه ذاك مبني على اعتبار أن كل ما تم هم الذين سعوا إليه!؟ لا بأس هذا أيضا لا ينافي رأيي. وأنا أفهم سر الأمر إن أساس هذا الرأي هو إني لست عضوا وربما كان تصرفه ذاك شخصي بحت وأنانية. فقد ضاعت ذكرى غالية بسبب "مبارك".
*            *            *            *
لم يكن منذ ارتقى المنبر، ممن يلتزم مجالس العزاء في الشهور التي تعتبر مواسم لمجالس العزاء، في النجف أو في المدن القريبة منها، إذ له هواة في البصرة والعمارة والسماوة. وفي المناسبات يرقى في مجالس النجف في مناسبات ذكرى وفيات الأئمة. بدعوى من زملائه القراء، أو صاحب المجلس لعلاقة ود بينهما. فلما أدركته الشيخوخة عجز عن الأسفار، وعرف النجفيون مقامه فاقبلوا عليه، خصوصا أصحاب -المهن- سواق السيارات ومعامل إصلاحها، وأضرابهم، وأتقياء بيوتات النجف.
وحين أخذ حكام العهد الملكي يطاردون أبناءه، أو يوقفونهم تارة ويسوقونهم إلى المحاكم ويحكمونهم بالسجن، تعدوا -بدون مبرر قانوني- الأمر إلى تحري بيته بادعاءات لا أساس لها. وهذه التجاوزات دعته أن يفضح أساليبهم، وادعاءاتهم، من على منبره. وحين تأزمت أمور المعيشة، أخذت الجماهير تقدم له شكواهم من سوء أوضاعهم ليكون لسان حالهم. فكان يعلنها على المستمعين وهم ألوف، ورجال الحكم المحلي حضور "القائممقام، ومعاون الشرطة". ويشفع العرائض بتعليقات، وحكايات شعبية، تثير الضحك والحماس واللعنات معا. كان أقساها "حكاية موظف في العهد العثماني"  فصل وأفلس، وقصد الباب العالي في استانبول. فلم يجد من يوصله إليه، فتوسط أمره توتنجي عند رقاع أحذية. وكان أن وصل إليه باحترام، وألغى أمر فصله، وتسلم رواتبه، ومخصصات إقامته منذ ستة شهور. ثم كان العجب، حين أصر على وسيطه مستفسرا عن أساس مكانتهما  من الباب العالي ورجاله. فأعلماه إن "مرض الأبنه يجمع بينهما" وعلق: كونوا من عندهم!؟ أي من مؤيدي الحاكمين.
هذه الحكاية من أساطير العراقيين ضد حكام وسلطان العثمانيين. وأنا الذي كنت أقص على أبي أمثالها والخص له أيضا ما تنشره الجرائد والإذاعات من أنباء عراقية وعالمية هامة. وقد نشرت هذه الحكاية بصورة مهذبة بعنوان "المؤذن" في جريدة البلاد عام 1969.
لم تكن هذه الحكاية حقيقية طبعا، لكنها تعبر عن مدى استياء الناس إذ ذاك من حكم العثمانيين. وتطور الأمر فشملت ملاحقات الشيخ، حين رشح نفسه للمجلس النيابي -عام 1954-، بإلحاح الجماهير ودفع المرجع الديني الجريء الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. كان كل فرد يتقدم إليه بهويته ليثبت أنه بموجب القانون له الحق أن ينتخب ويتبرع بمقدار من المال ليقدم الشيخ التأمينات، فكان ما قدموه يزيد على ثلاثة أضعاف مبلغ التأمينات!
وما أن أدرك أولو الأمر حماس العمال وكثير من الناس للتصويت له حتى اعتقلوه وأرسلوه إلى موقف شرطة كربلاء حتى بعد الانتخابات وعمدوا إلى صناديق الانتخابات فتلاعبوا بها. وبعد فترة وبعد إطلاق سراحه أحالوه إلى محاكمة في الرمادي وليس في النجف خوفا من هياج الجماهير.
حين قدم إلى المحكمة في لواء الرمادي "الأنبار" بعد إطلاق سراحه، وجه إليه الحاكم تهمة الطعن في صلاحيات وحقوق صاحب الجلالة "الملك" من على منبره وعلى رواد منبره!؟
ردّ على الحاكم: أرجو من المحكمة أن تذكر لي، نص العبارة المنسوبة، على حد قولكم؟
أجاب الحاكم: انتقدت القانون حين جعل حق المواطن الذي يشارك في انتخابات مجلس النواب أن يكون عمره إحدى وعشرين عاما، بينما صاحب الجلالة أعتلى العرش عند بلوغه سن الثامنة عشرة!؟
أجاب الشيخ: أليس الأمر كذلك؟ إن حق المواطن في الانتخاب يستعمله كل أربع سنوات، وليس أكثر من تسمية من يثق بهم. أما صلاحية صاحب الجلالة حين يرتقي العرش في سن الثامنة عشرة، أن يعلن الحرب، أو يصدر إرادة ملكية في تصديق حكم الإعدام، أو تصديق معاهدة يرفضها الشعب كمعاهدة بورتسموث. الانتخاب لا يحتاج من العقل لأمر يمر كل أربع سنوات، وبلوغ سن الرشد حدده الشرع هو في الثامنة عشرة. فكيف ترى انه يحتاج لعقل أكبر، وما ذكرنا لصاحب الجلالة يكفيه سن ثماني عشرة فقط.
وبعد هذه المرافعة، أصدر الحاكم حكمه بالإفراج عنه وأطلق سراحه.
وتوسع الأمر مجاريا توسع الحكم الجائر، في إجراءاته وسن القوانين الجائرة ضد الشعب، لكم الأفواه، وزج الشباب في المعتقلات والسجون، ورمي المتظاهرين بالرصاص.
ثم دعي لحركة أنصار السلام، فكان من أكبر أنصارها نشاطا، حين يقوم الشباب بجمع تواقيع الجماهير، كانوا يقصدون مجالسه المكتظة بألوف المستمعين. فيتحدث عن الحرب وويلاتها ويتعرض لأمريكة التي أفنت بـ "القنبلة الذرية" سكان هيروشيما وناكازاكي، ويذكر الناس إن أدوات الحرب القابلة ستكون أشد وأقوى، ثم يدعو حاملي العرائض، أجمعوا تواقيع لاستنكار أدوات الحرب المدمرة، والدعوة للحرب. أدعو للسلم (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان).
راح خصومه، يتهمونه بالتحريف. إنهم يقولون بالسلم، هو الإسلام!؟ فرد عليهم، والإسلام اشتق من هذه الكلمة. فالله ورسوله لا يرضى من الناس أن يتكالبوا ويثيروا الحروب المدمرة. ويلفت نظرهم إلى الآية الكريمة (وان جنحوا للسلم فاجنح لهم). وبالطبع كانت هذه الآية موجهة للرسول الكريم، إن الله يأمره بذلك حين يطلب الخصوم ذلك، وهؤلاء يطلبه إلا حين رجحت كفة المحاربين المسلمين.
عجز رجال الحكم عن أن يردوه، أو يخيفوه. فلجأوا إلى الذين يختارونه لمجالس التعزية في رمضان ومحرم وصفر. واستطاعت التأثير عليهم حتى لم يبق غير اثنين أو ثلاثة، تشدد أصحابها في التزامه. إضافة إلى حرمانه من مورد رزقه من "منبره" أخذوا يفتعلون الاتهامات، ويوقفونه للتحقيق معه. وكانوا يخافون هياج النجف، فإذا أرادوا ذلك قصدوه قبيل الفجر أو بعد العشاء. كان شوكة في حلوقهم، وكانوا يدهشون من اهتمام الناس، والشباب خاصة به. فهؤلاء كانوا مصرين على حمايته، حين يتوجه إلى مجلس في الكوفة، أو ناحية "المشخاب" تتقدم الحماية ثلاثة من الشباب المسلحين بالمسدسات يمتطون الدراجات البخارية أمام السيارة التي تقله واثنان خلفه. وإذا ما وصل إلى مجلسه كانوا العين اليقظة في حراسة المجلس.      
*            *            *            *
تلك الحملات وذلك الإرهاب هدّ قواه، وتوالت الأمراض عليه، فلازم الفراش. وجاء دور الأطباء ذوو الشعور الوطني والإنساني والوعي الثوري. فكانوا يفدون إليه يتفقدونه ويجرون الفحوص الطبية. ويطلبون منه أن يكون قريبا منهم في المستشفى. فيرفض ويقول: لا أريد إتعابكم، إن يومي قريب، ولكني أدعو من الله أن يريني يوم نهاية الظالمين. وتحققت دعواه وشهد نهاية الحكم الملكي.
وبعد مرور عشرة أيام من عمر الثورة، دعاه محبوه إلى مجالسهم في محرم. وأقبلت الجماهير عليه متزاحمة يضيق بها أوسع ميادين النجف. وحين ارتقى المنبر افتتح المجلس: أيها الناس الطيبون، أيتها الجماهير كما وعدتكم، لن أفارقكم حتى أقع صريعا جوار المنبر، أنا معكم مع المظلومين. وها قد عدت إليكم. ودام يصعد المنبر في عدة مجالس، يقيمها الناس في محرم وصفر، يستعرض أيام الحكم الغاشم ونهايته، ثم يوجه الكلام لرجل الثورة ورفاقه، أن يتذكروا لماذا أبادوا ذلك الحكم الذي أطلقت الجماهير عليه اسم "العهد المباد"؟ أن يتجنبوا أسلوبه في الحكم وتسلط طبقة معينة وأذنابها على هذا الشعب، الذي قدم الضحايا من أبنائه منذ العهد العثماني، وعهد الاحتلال البريطاني، وأخيرا العهد الذي سمي ظلما وعدوانا وادعاءا "الوطني" وتجاذب الحكم عليه من الخونة "المحسوبين عليه أبناء" وهم في الواقع وكلاء، غالوا في الخدمة، واخلصوا في الحفاظ على مصالح المستعمر.
أكثر من شهر مرّ على الثورة، وكثير من الموظفين ذوو المسؤولية الكبيرة الذين كانوا مخلصين للعهد المباد، في مراكزهم لم ينظر في أمرهم. نحن نعرف أنهم كانوا ينفذون كل أمر للحكم، مهما كان فيه عسف وظلم. أتراهم -وقد بقوا بمراكزهم- يقفون موقف المناسب من الحكم الجديد؟
هذا غير محتمل أبداً. ولمح الشيخ وهو على المنبر القائممقام، ومعاون الشرطة، حماة العهد المباد بالأمس، وأصدقاء رجعيي البلد، ولم يحرك الحكم الجديد ساكناً! فصاح، ليسمع قائد الثورة، إنا نقولها له صريحةً، كيلا تعود الدنيا إلى نفس المآسي، إن على الذي يريد أن ينشئ حياة جديدة، أن يبني البناء كما تقتضيه الحياة الجديدة. حذار أن يستعمل مهندس الثورة الحجارة القذرة في البناء الجديد. أبعدوا الأقذار، لتثمر جهودكم خيراً ورفاهاً، وتزهر شجرة الحرية.
وحين انتهى من مجلسه، ونزل من المنبر تقدم القائممقام وسلم عليه. وقال: أيها العم الجليل أنا أحترمك، وأعتقد أنكم تعلمون أني موظف، بقائي وانتقالي منوط بالجهات العليا. وليس كل موظف في العهد المباد حجارة قذرة.
وبعد فترة قصيرة نقل، ولكن؟ ليكون محافظاً للعاصمة في عهد ثورة تموز!؟
وفي الثالث من أيلول حان وقت ارتقائه منبر أحد مجالسه، وما أن نهض، حتى صاح متأوها. وجلس فارتبك القريبون، وحاول أن ينهض ثانية، فحال الألم الذي سيطر عليه، فحمل بسيارة إلى البيت. واقبل الأطباء الطيبون، فلم يمكنهم إيقاف آلامه.
وافاني النداء أن أتوجه إليه، فأسرعت، اخدمه ليلا ونهارا، وفي اليوم السادس من أيلول، وردت مخابرة السيد وزير الصحة إلى صحة النجف (خصصنا للشيخ غرفة خاصة بأمر الزعيم في المستشفى الكبير). لكنه رفض قائلا: دعوني ، سينفذ الله أمره، أنا أعرف هذا ومتأكد، فلا تزعجوني رجاء. لكن الأطباء أصروا على نقله إلى بغداد.
وتوجهت -أنا- والشاعر محمد صالح بحر العلوم والشهيد الدكتور خليل جميل. وكنا أمام باب المستشفى الساعة الرابعة من ذلك اليوم، مشى برجليه متكئا عليّ إلى الغرفة المخصصة.
وسرعان ما أقبل عدد من وجوه العهد الجديد، الأستاذ عزيز شريف المسؤول الأعلى لحركة أنصار السلام، والدكتور أحمد الجلبي. وضاق سطح الديلاب بما جلبوه من فواكه وهدايا. فقال الدكتور الجلبي، لا تعطه من هذه الفواكه ما يسبب له "غازات". وحددها. فرد هو بنكتة يخاطبني: أي علي -يفرح القط بعمى أهله-.
وجن الليل. فزاره من غرفة مجاورة، رجل دين علوي هو "عبد الحميد العميدي الحلي" وراحا يتجاذبان مختلف أطراف الأحاديث، عن النقمة التي حلت بالعهد الغاشم ورجاله، عن بطش الله بالجبابرة الذين ينسون أن الله وحده هو الجبار الذي لا يظلم عباده وينتقم ممن يظلمهم. والتفت إليّ وقال: علي أنت يا ابني لم تهنأ بالراحة ثلاثة أيام، خذ راحتك، السيد الآن معي، ليكن سميري هذه الليلة. وأكد الرجل استعداده، وسرعان ما غفوت! بعد عشر دقائق من غفوتي، أحسست بصوت رجل يصيح بي بفزع. قلت. ماذا حدث؟ أجاب: اختلف وعي الوالد فجأة، لا تجزع، لعل هذا طارئ يزول.
ورحت أراقب حاله، لقد غاب عن وعيه، لكنه يتكلم. قال وكأنه يخاطبني بوعي تام: ألديكم نفط؟ لِمَ شح النفط؟ أليس المفروض أن يتوفر أكثر؟ وبسعر أقل بالنسبة للمواطنين؟ إذن ماذا حصل؟. وفتح عينيه، وقال بادراك تام: لم تركت نومتك، أنت بحاجة للنوم، ألم أقل لك، وجود السيد كاف!؟. وأدركته إغماءة ثانية، وهو يتساءل: لماذا جعلوا المحاكمة في الرمادي!؟ كانت محاكمة فاشلة! لا. لا. الحاكم كان رجلا طيبا، لمحت أسارير وجهه وجدته غير مرتاح، وأصدر قراره ببراءتي. وعاوده الوعي لكنه فتح عينيه بوجهي كمن يحاول يشبعها بنظر وداع، وأغمضهما ووضع يده اليسرى على صدره، ورفع اليمنى واخذ يشير بسبابته إلى فمه، إنه لا يقوى على الكلام! ووضع اليد اليمنى على اليسرى. هي سلام الوداع الأخير. أسرعت وناديت مستخدمي المستشفى، فحولوا سريره بحيث يكون متجها إلى القبلة، وطلبت من السيد أن يقرأ على سمعه ما اعتاد الناس أن يلقنوه لمن أدركته الساعة. أصول الدين المعروفة لدينا. كان هذا تقليد ضروريا لمن يعرف ذلك ومن يجهل. وما أن انتهى السيد من ذلك حتى أسبل يديه، وأغلق فمه، ثم مال رأسه جانبا بسرعة، مع أنة قصيرة جدا. وانتهى كل شيء.
ونهض السيد معزيا بكلمة طيبة، الموت حق هو نهاية كل حي.
قبيل طلوع الشمس غادرت المستشفى إلى الكرادة الشرقية، لأنبئ ابن عمه العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي، وقد جاء معي إلى المستشفى بعد أن أتصل تلفونيا ببقية أخوته، وبالنجف بآل المظفر. وفي الطريق سمعت الإذاعة، تعلن النبأ. فتقاطر عدد من المحبين وطلبوا أن نؤخر نقله. فقد ابلغ بالنبأ لعارفي فضله وللنقابات، لكني والشيخ، ارتأينا التوجه به إلى كربلاء. وبعد الغسل توافد النجفيون وأهالي الهندية، ووجوه الحلة، في مقدمتهم العلامة الشيخ عبد الكريم الماشطة، ولم نصل النجف إلا في الساعة الثانية عشرة ليلا. وتم الدفن بعد الثانية ليلا.
واستمرت المآتم إلى الأربعين (1)، القي فيها كثير من القصائد والكلمات التي أبانت وفصلت مواقفه رغم ما لقي من عسف واضطهاد وحرمان، وهو ثابت كالطود. وكان الأربعين كتابا ضخما وقف فيه خيرة السياسيين ورجال الفكر يعيدون على الأذهان صور البطولة من مناضلي العراق شيوخا وشبابا غير هيابين ولا وجلين مرخصين الأرواح والدماء، من أجل كرامة الوطن وكيانه، حتى أطاحوا برموز الاستعمار من عليائهم. وحيث خابت آمال المستعمرين بعودة وكيلهم الأول والأكبر، الذي هرب بزي امرأة فلم ينج من أيدي المواطنين، فمزقوه وسحلوا أشلاءه في الشوارع.
ترى ما سوف يكون طريقنا الجديد في المسيرة. هل ستبقى الفئات متلاحمة أم يدب بينهم سوس الفرقة، واختلاف الآراء والتنافس على الزمام؟ هذا كله موقوف على قادة الثورة. ورجال السياسة في الأحزاب. خصوصا رجال "جبهة الاتحاد الوطني" ولئن فرطوا بالاتحاد، واختلفت بهم السبل قبل أن يضعوا -مجمعين- ما يجب من اليوم إلى الغد، ويضعوا للشعب حق المشاركة في منظماته الحزبية والنقابية بكل حرية، لا كما عهدنا العهد المقبور، بالمهاترات والطعون، والعودة إلى تجاوز الأصول، وحب الانفراد. وإن غدا لناظره قريب!
      

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
   *- أعتمدت على تأريخ ميلاد جدي الشيخ من المثبت في جواز سفره الذي أحتفظ به والدي ومازلت أحتفظ به. 
1- في مقالة بعنوان (ذاكرة السنين النجفية .....الشيخ محمد الشبيبي) نشرها الأستاذ ذياب مهدي في بعض المواقع الالكترونية بتأريخ 17/6/2006 أقتبس ما يلي:
(....أعود للشيخ –يقصد الشيخ محمد الشبيبي/ الكاتب- الذي استمر مجلسه يعقد يوميا إلى انتهاء أربعينية الإمام الحسين ع بعد هذه الصحوة رجعت حالة الشيخ بالتدهور إلى حين فارق الحياة في شهر آب 1958 ربيع الأول (الصحيح في مساء 6 أيلول 1958/ الناشر) وأهل النجف يطلقون على هذه الأيام ....بفرحة الزهرة.....حيث توافد الناس من كل العراق لتشييعه بكل زهو وكان تشييعا مهيبا من قبل الشعب والحزب الشيوعي لم يشهد له مثيلا في وقته واستمر مجلس فاتحته 40 يوما وفي أربعينية الشيخ الشبيبي كان حفل كبير شارك فيه أطياف الشعب وممثل عن مجلس قيادة الثورة التموزية وأدباء وخطباء وشعراء ومثقفون وأهل النجف الذين يحبون الشيخ وكانوا يلقبونه ....بخادم الحسين .....ومن العلماء الكبار الذين شاركوا في تشييعه والصلاة على جثمانه آية الله الشيخ العلامة القاييني وكذلك آية الله العظمى السيد حسين ألحمامي وآية الله الشيخ موسى دعيبل والشيخ الفرطوسي وعلى الشرقي واخرين وفي هذا الحفل التأبيني ألقى الرفيق الشهيد حسن عوينه قصيدة رائعة وهذه بعض من أبياتها.
 هذا أبو المستبسلين وشبله
سل عنه ميدان الكفاح العارما
سل عود مشنقة الطغاة وحبلها
كيف ارتقى بالموت يسخر باسما
يشدو بقوله البليغ مخاطبا
ركب الحياة إلى الأمام تزاحما
يا موكب التاريخ للنصر أندفع
فلنا الخلود ولن نبقي ظالما


102
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/ 2
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


جمعية المعلمين   
ودعيت من قبل المعلمين في كربلاء. لقد قررنا أن نتولى أمر تنحية الهيأة المهيمنة على جمعية المعلمين، وتجري الانتخابات من جديد. لتتولى إدارتها نخبة من المعلمين الذين يحرصون على مصلحة المعلم، وصيانة حقوقه وكرامته.
وكان الأمر في البداية، لم يتجاوز غير لقاءات، ومشاورات، مع وجوه من المعلمين معروفة الانتماء إلى اتجاهات وطنية، الشيوعيون، الديمقراطي الوطني، البعثيون.
وقد رحبت بي هذه الوجوه في اللقاءات الأولى، باعتباري معلما غير متحيز، ولكن الشائعة عني كانت إني في ركب الشيوعيين، لذا تغير اتجاه الفئتين، وبرز الخلاف، بأسلوب انتهى إلى انشقاق وحدة الهيئة التعليمية.
الواقع إني لم أكن قط متحيزا في نظرتي إلى كيفية خدمة المعلم عن طريق الجمعية أو النقابة في المستقبل. أنا أكره التمييز بين المعلمين من ناحية انتمائهم، كما إني كنت أرى إن هؤلاء الثلاثة، كانوا يعملون متحدين في "جبهة الاتحاد الوطني" وهي جبهة سياسية، فما المانع أن نعمل في جبهة مهنية!؟
في البدء اجتمعت مع ممثلين للوطني الديمقراطي، والبعثيين والقوميين الذين كانوا كمنظمة واحدة، فكان شرط كل فئة منهم أن تكون له نصف عدد أعضاء الهيأة. حسنا. كيف تتم القسمة، وبدأت الخلافات تكبر دائرتها وتتسع. الثلاثة لكل منهم ممثل يشير، أو يقترح بلهجة فرض الرأي، طبعا يتهم من وراء الكواليس! حاولت أن أنسحب، ولكن وجدت أن الأكثرية تثق بي، وتضع فيّ الآمال، فخجلت من نفسي أن أفعل ذلك.
أخيرا انسحب ممثل الوطني الديمقراطي. ولم نصل إلى وفاق. وفاتحت زميلا، كان هذا الزميل بعثيا، وأخوه الأكبر من أوائل السابقين للانتماء إلى حزب البعث في كربلاء. حيث آمن بالفكرة عن طريق سعدون حمادي الذي جلبها حينما كان يدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت. وشكل خلية من بعض شباب كربلاء، دون أن يعلموا إن مثلها قد شكل في بغداد. كان هذا الزميل يتجاوب معي ولا يرى مبررا للتناحر من أجل ذلك ويرى أن المعلمين يستطيعون أن يسحبوا ثقتهم من أية جماعة، تشغل الجمعية إذا لم تكن بمستوى المسؤولية، مضافا إلى هذا، إن تشكيل جمعية هو أمر مؤقت، لأن الأهم أن يشرع تأسيس النقابات.
وجاءني ذلك الزميل وعلى وجهه ترتسم علامة الأسف والدهشة! وقال لي وهو يتحرق أسفا. إن أخويّ الأكبر والآخر ... قد هدداني بالطرد من البيت إن أنا تعاونت معكم!؟ وأنا الآن معك فقل لي رأيك وأنا مستعد لتحمل كل التبعات عند رأيي! لكني قلت: لا تفرط في علاقتك مع أخوتك. هذا أمر ليس من الأهمية بحيث يضحي المرء فيه بصلاته بأخوته. نحن كلنا أخوان، وسترى -إن فزنا- إنا لا نفرق بين معلم وآخر في نطاق النظام ومصلحة الجميع!
ولكن الغريب في الأمر إنهم تعاونوا مع الذين كانوا بالأمس مسيطرين على الجمعية -وفي خدمة العهد المباد- كما جرى التعبير. أولئك كانوا نقمة على المعلمين، ما كانوا حجر عثرة حسب، إنما كانوا أشبه بالشرطة ضدهم. كانوا قد احتكروا الجمعية لهم ولمن ينضوي تحت رايتهم، ويتصرفون بها تصرف الملاك في أملاكهم. السلفة لا تمنح إلا لمن هو من ركبهم وزمرتهم. وحتى التدريس في المسائي هو عندهم بمثابة هبه، لا يستحقها أي معلم خارج عن صف الحكم القائم آنذاك. والسلف بالنسبة لهم أنفسهم، لا تجري وفق تحديدات نظام الجمعية، فهناك أساليب وحيل -شرعية- كما يسمونها، حسب أهمية المستلف ومكانته في مؤسسة التربية أو درجة ولائه للحكم. وهناك التصرفات الغريبة والمدهشة أيضا فيما تقتضيه أمور الجمعية من صرف أو أي عمل لمصلحتها، إيجار المكان، ما يصرف من أجل حفلة أو اشتراك في جمعية لمنفعة الجمعية. هذا سأوضحه في المواضيع القادمة وبعد الحديث عن استلامنا لأمر الجمعية وما قدمته لجان التدقيق في أمورها وخاصة وجوه الصرف المخالفة لقانونها.
هؤلاء شدوا الحيازم للعمل ضدنا بنشاط. آزرهم مدير المعارف ومدير الشرطة، وجروا إلى مساعدتهم شخصية رجل دين كانت له زعامة "السيد محسن الحكيم". وقد أنفرد بالزعامة الدينية بعد وفاة أستاذه ميرزا حسين النائيني، والسيد أبو الحسن. إن حماس "السيد محسن الحكيم" ضد ثورة 14 تموز كان غريبا، ولقد شهدنا زعماء عشائر من الفرات كانوا يأتون لزيارته، طبعا لا ندري ما يدور بينهم، لكن الأمر مفهوم إذ يخرجون كمتظاهرين حتى إذا وصلوا مقر أحدى نقابات العمال هتفوا بسقوطها ورموها بالحجارة، وكثيرا ما يؤدي هذا إلى الاشتباك. وكان "السيد" قد تهيأ لمعارضة الحكم الجديد أيضا. فكانت النتيجة أن بلغنا بتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى. فشمرنا عن سواعدنا حينئذ بكل جد ونشاط أن نثبت أمام كل تآمر وحلف مهما كان. وهكذا سافرنا إلى بغداد.
أتصلنا برجال من الثورة، وشخصيات من جبهة الاتحاد الوطني، وعلمنا أن الشخصية الدينية قد اتصلت برئيس مجلس الرئاسة "نجيب الربيعي" متهما إيانا إنا شيوعيون، وأنهم إن وصلوا إلى مبتغاهم، فستصل الدماء إلى الركب!؟
هذا أمر عجيب! على أي أساس، أبدى مخاوفه هذه!؟ وعلى أي منطق أستخلص هذه النتيجة؟
وابلغ رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بالأمر، فاستنكر من الحاكم العسكري "العبدي" ومنه علم أن الشخصية الدينية طلبت من رئيس مجلس الرئاسة التدخل. فأمر بتأجيل الانتخابات... على أي حال. عدنا وقد اجتزنا هذه العقبة. إذ تأكدنا بأن رئيس الوزراء قد أمر المتصرف أن تأخذ الانتخابات مجراها.
فسلكوا مرة أخرى لعرقلتها.هذه المرة قالوا دفعا لما يمكن أن يقع، أن تشكل لجنة مرضية من كل الأطراف، ويصوت كل معلم بورقة يضعها في ظرف مختوم. بينما تكون اللجنة ممثلة لكلا الطرفين.
لوثوقنا بالفوز وافقنا، رغم إنا كنا نستطيع أن نرفض هذا الأسلوب الغريب، ونفشله كما أفشلنا محاولتهم الأولى. خلال هذا سلكوا سبلا أخرى. يجل المعلم العارف بأهميته كمعلم -حقيقي- أن يسلك السبل المنافية لكرامة زملائه وكرامته. فقد حرضوا مدير المعارف كاظم القزويني وهو رجل طيب، وإن لم أتحرج أن أقول أنه يحمل مفاهيم الارستقراطية. فحاول أن يثنيني عن حمل الراية، أو إشراك أولئك الذين كانوا نقمة على رؤوس المعلمين أيام الحكم البائد. ثم استعان بالشرطة فأوقفوا بعض المرشحين -أوقف المدرس موسى إبراهيم الكرباسي-. ولكنا اجتزنا تلك العراقيل أيضا بنجاح. وهكذا فازت القائمة "المهنية الموحدة" وكنت قد حصلت على أكبر نسبة من الأصوات -555 صوتا-. تم هذا في الشهر العاشر من عام 1958.
وحضرنا المؤتمر، وقد تقرر أن تتحول الجمعية إلى نقابة، وتجري الانتخابات. حين عدنا أجرينا فيما بيننا انتخاب الهيأة الإدارية من مجموع الأعضاء الفائزين والذين حضروا المؤتمر. قبل أن نبدأ بالترشيح، دعاني أحد الأعضاء بانفراد، وأسر إليّ أمرا، كان باسم الفئة السياسية التي ينتمي إليها. حقا لقد أدهشني. دهشت بقدر ما أنا في الحقيقة أزهد بأي منصب، فقد عينت مرتين في حياتي مديرا -في القرى التي عينت فيها- ولكني أرفض الأمر بنفس الوقت الذي أتسلم به كتاب التعيين الرسمي. هذا الرأي من زميلي أدهشني. فأنا وإن لم أكن عضوا في حزبه أو الأحزاب الأخرى، فإني أعتبر نفسي معلما غير متحيز. ولي من السمعة الطيبة ما يجعلني مرضيا عند الحزب الذي نقل رغبته هذا الزميل كما يدعي. ولكني أرفض من أجل كرامتي ومن أجل الذين رشحوني لترؤس القائمة، وتأبى كرامتي أن يكون هذا الاختيار من وراء الكواليس.
وحين أعلمت بقية أعضاء المؤتمر باني أتنازل لـ "عبد الله الخطيب" أنفعل أكثرهم ورفضوا الزميل المرشح من "الحزب الشيوعي". لا بل تطور الأمر إلى جدل وسباب واتهام. وما كان بين مجموع الأعضاء من ينتسب إلى الحزب الشيوعي غير اثنين كلاهما مدرسان في الثانوية. واستطعت أن أهدئ من فورتهم، واخفف من غلوائهم، بإني في الواقع لا أقوى على العمل من الناحية الصحية. ونحن مقبلون على تصفية تركة ثقيلة، تركها لنا العهد المقبور، وليس المهم الفوز بـ "الجمعية" المهم أن نجاهد من أجل مكاسب هامة تقتضيها حياة المعلم، لكي نبدل اتجاه المعلم من السلبيات إلى الايجابيات، من الخوف والهرب من العمل إلى الثبات والنشاط في كل المجالات المهنية والسياسية.
وبعد مرور فترة لم تتجاوز أكثر من شهر، اكتشف الذين وضعوا ثقتهم فيه لأنه مناضل معدود، إنه كان يتهرب من منظمته السياسية ومن المهنية، فقد تكرر اعتذاره عن الحضور في الاجتماع الأسبوعي، بحجة أن لديه اجتماعا أهم. وإني كنائب له أترأس الاجتماع. إذ كان عذره لدى جماعته إن اجتماعنا ضروري ومهم، لإنجاز الأعمال المستعجلة، لعرضها في المستقبل القريب، لدى الجهة العليا في الجمعية، لماذا كان يعتذر وأين يذهب؟ بل لماذا رشح نفسه؟ ثم لم يعتبر نفسه حزبيا ملتزما؟ أهو يحسب الالتزام مجرد كلمة مؤلفة من أحرف؟ يستطيع أن يشطبها متى شاء، أو يعيد كتابتها مرة ثانية حين يشاء!؟
اواه يا صديقي يا -أحمد- مازلت أذكر كلمتك عنه إنه "شلولو"، ولكنك أنت الذي رشحته. ألأنه ذكي ونشط؟ هذا لا يكفي. فكثيرا ما رافق الذكاء غرور. وصاحبنا "عبد الله" كان ذكيا حقا وقد دخل في الحزب منذ كان في المتوسطة وقد طورد وأوذي وفصل من الوظيفة. وهو يحسن الإنكليزية، وفن الرسم والعزف على الكمان ومتخصص بالتأريخ.
ولا يفوتني أن أذكر ما وجدته لجنة تدقيق الحسابات من تجاوزات في الوارد والصادر والقروض والسلف والمساعدات للمعلمين. أما السلف فإنها محدودة لا فرق بين معلم وآخر، بدرجة مدير مدرسة أو أكبر منه، لكنا وجدنا بذمة بعض أعضاء الهيأة الإدارية، وبعض موظفي المديرية سلفا تجاوزت الستين دينار، وسلفة لمدير المعارف أيضا. ولكن ما أدهشنا أكثر هو إنا وجدنا أن الهيأة قد نحرت خروفين بمناسبة انتقال الجمعية إلى البناية الجديدة التي قد شيدت ملكا للجمعية، وإن ثمن كل خروف 30 دينارا، في الوقت الذي نعرف وكنا متأكدين أن ثمن الخروف في أسوء الأحوال في هذا الظرف لا يتجاوز العشرة دنانير.
ورئيس الجمعية محمد علي هادي وهو في الأصل معلم ابتدائية، وقد حصل على شهادة تخرج من كلية الحقوق، ولهذا رفع إلى ملاك التعليم الثانوي وإشغال وظيفة "مفتش" ومع ذلك كان يرى ككثير من أمثاله من موظفي العهد المباد أن تجاوز القوانين مباح للمسؤولين!؟
حسنا، هذا شائع. ولكن هل في عرف أحد أولئك أن يكون غبيا حين يبيع أو يشتري ملكا للجمعية أو لها أن يعطي الوصل أو الصك باسمه الخالص لا بصفته رئيسا أو مسؤولا، وبدون اتخاذ أي قرار من قبل الهيأة الإدارية بشأن المشترى، أو المباع!؟
دخل التاجر السيد عباس الداماد وسلمني وريقة عادية تفيد (إني رئيس جمعية المعلمين محمد علي هادي قد بعت أرباح اشتراك جمعيتنا في جمعية بناء المساكن، وإذا لم تدفع له الجمعية المذكورة ذلك في الوقت المعين فأنا أعيد له المبلغ). فقلت لصاحبها: أمهلني حتى أراجع سجلات الحسابات والقرارات المتخذة عن بيع الأرض وأرباح الاشتراك؟ وحين راجعتها لم أجد ما يشير إلى بيع الأرباح مطلقا، كما لم أجد لها في سجل وارد الجمعية، مع ثمن بيع الأرض. فرفضت أن أدفع واعدت "الوريقة" لصاحبها الذي سارع بدوره لمطالبة الرئيس السابق -محمد علي هادي-. فاتصل بي تلفونيا يقول: باعتباري رئيس الجمعية بعت حسب الصورة المدونة في الوصل وهذا عادي جدا. وباعتبارك الرئيس الجديد عليك أن تدفع. قلت: هذا صحيح، لو أن البيع والقبض والاقباض قد تم بقرار من اجتماع أعضاء الهيأة الإدارية حسب المادة وأشرت إليها، ومشار في الوريقة إلى القرار وتأريخ اتخاذه، ولكن لم أجد لمثل هذا أثر!؟
لقد انفعل حضرته انفعالا شديدا، وخاطبني بما لا يناسب مكانته لحقوقي أو رئيس جمعية. ثم أرسل لي في اليوم الثاني صورة قرار. قال: إنا اتخذناه في غير موعد الاجتماع وما كان معنا سجل.
حسن، ولكن كانت الورقة التي تضمنت القرار، جديدة جدا مع أن البيع قد مضى عليه أكثر من عشرة شهور، كما أن التواقيع كانت خليطا من أعضاء دورتين، أي أن منها تواقيع أعضاء كانوا من دورة أسبق، ولم يكونوا من أعضاء الهيأة التي تم البيع في عهدها ولم توجد فيها تواقيع بعض من هم أعضاء في الهيأة التي تم البيع في عهدها. ولكنه وجد أن العشرة دنانير التي يطالب بها السيد المشار إليه، وكأنها مئة دينار. فطلب من الحاكم تقسيطها لثلاثة شهور. وحين علم بالمخالفات التي سجلتها لجنة التدقيق فقد عجل بالسفر إلى بغداد، وعمل على انتقاله إليها. راجيا من مدير المعارف توسط الأمر أن نكف عن ملاحقته. والواقع أن موظفي الدولة إذ ذاك وفي بداية العهد الجديد مازالوا كالأمس يخفون البعير إذا كان الشفيع ذو مكانة. وهكذا سلم من الحساب.
وحين شرع قانون تأسيس النقابات والاتحادات، تأهبت القائمة المهنية والقوائم الأخرى لممارسة الحملة الانتخابية. وكان الفوز أيضا للقائمة المهنية الموحدة. ولم أرشح نفسي.
والجدير بالذكر أن بعض الجهلة من مؤيدي الجبهة التعليمية المتحدة حاولوا التحرش بأحد المعلمين، وإثارة اضطرابات خلال عملية الانتخاب، لكنا عملنا على إبعاده دون ضجة وعنف. وظهرت النتائج بفوز المهنية أيضا. وعسى أن لا يتأزم الصفاء، ويعمل الجميع على وحدة المعلمين ووحدة الشعب كله. فما في التفرق كله إلا ما يسبب الضعف وفشل الأماني المعقودة على ثورة 14 تموز.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏20‏/05‏/2011


103
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


مقدمة
 القسم الرابع والأخير من (ذكريات معلم) عنوانه (ثورة 14 تموز والسنوات العجاف). يتناول فيه المربي الراحل كيف كان تأثير تلقي نبأ ثورة 14 تموز على والده. وتأثير منجزاتها على الحياة العامة. ومن ثم تذبذب نهج الزعيم سياسيا، وتأليب القوى السياسية على بعضها، وتردده في الوقوف بحزم ضد المؤامرات والمتآمرين بينما كان متشدداً مع القوى الوطنية ذات المصلحة الحقيقية في الحفاظ على مكاسب الثورة.
في تموز 1958 تدهورت صحة الشيخ الجليل -والد الشهيد-، ويأس الأطباء من إمكانية شفائه أو تحسن صحته، حتى أنهم لم ينصحوا بنقله إلى المستشفى. وكان الشيخ في جميع صلواته يدعو من الله  أن يشهد نهاية الطغاة. وفي صباح 14 تموز هتف أخي الأكبر "كفاح" بعد أن أستمع لإذاعة بغداد "إنها الثورة!". وبشر جده المستلقي في الفراش وهو في نصف غيبوبة بهذا الخبر السعيد. تفاجأ الجميع بردة فعل الشيخ، ومحاولته الجلوس هاتفا بفرح "الحمد لله ، شكراً لك يا رب فقد استجبت لدعائي!". فكان نبأ الثورة الدواء الشافي للشيخ.
عانى الشيخ الجليل رغم تقدمه بالعمر في ظل الحكم الملكي من الاضطهاد والمضايقات حتى في معيشته، وللأسف تحالفت القوى الدينية الرجعية مع سلطات الحكم الملكي في محاربته في كسب رزقه، وذلك للضغط عليه وحرفه عن توجهه المنبري التنويري في كشف الفساد والظلم الاجتماعي وتوعية مستمعيه. وتمادت سلطات النظام الملكي في اضطهادها للشيخ الجليل باعتقاله وإرساله إلى كربلاء، ومن ثم تقديمه إلى محكمة في الرمادي -وقد قارب الثمانين عاما- بعيدا عن محل إقامته خوفا من غضبة أنصاره. وبالرغم من هذه المضايقات وما أصابه من نكبات بدءا بإعدام ابنه "حسين" وسجن ابنه الأصغر  "محمد علي" وفصل واعتقال ابنه الأكبر"علي"، فان الشيخ بقى صامدا صلبا في مقارعة الظلم وفضح عملاء النظام ومرتزقته.
أن الثورة بمنجزاتها السياسية والاقتصادية وما حققته في المجال الاجتماعي قد غيرت حياة الشعب العراقي كثيراً وكادت أن تنقل العراق نقلة نوعية متقدمة،  لولا تلكؤ قاسم وشراسة المؤامرات التي اشتركت فيها جميع القوى المستفيدة من العهد الملكي والتي تضررت بمنجزات الثورة أو أنها اختلفت مع مسيرة الثورة بسبب مواقفها الأنانية الضيقة.
ويتحدث الوالد عن نجاح ثورة تموز وبداية عهد جديد. ودوره في إحياء جمعية المعلمين والعمل من أجل توحيد المعلمين في قائمة وطنية موحدة، بعيدا عن التحزب والحزبية الضيقة. ويوضح موقفه في العمل المهني، فيكتب "الواقع إني لم أكن قط متحيزا في نظرتي إلى كيفية خدمة المعلم عن طريق الجمعية أو النقابة في المستقبل. أنا أكره التمييز بين المعلمين من ناحية انتمائهم". ويصف أسلوب بعض القوى السياسية في تفاهمها من أجل وحدة قيادة جمعية المعلمين والسيطرة عليها، وكأنه يكتب ليومنا هذا بعد سقوط الصنم، فيكتب "... ولكن الغريب في الأمر إنهم تعاونوا مع الذين كانوا بالأمس مسيطرين على الجمعية -وفي خدمة العهد المباد- كما جرى التعبير".
وبعد مسيرة قصيرة للثورة برزت التناقضات بين قياداتها العسكرية، وبين قوى الجبهة الوطنية التي انفرطت عمليا حال إنجاز الثورة، وتخبط الزعيم في سياسته. يستخلص الوالد ملاحظاته وتوقعاته لمصير العهد الجمهوري الجديد، فيكتب تحت عنوان -من هو- "أنا أعتقد إن مقياس الديمقراطية الحقيقي هو إباحة الرأي والمعتقد ضمن الدستور المؤقت والدائم فيما بعد وداخل أحزاب لها قوانينها وأنظمتها، وإن الحكم يجب أن يكون بيد الحزب الذي يتم له الفوز بأغلبية في الانتخابات الحرة بدون تدخل السلطة المؤقته.  وأن لم يتم هذا فإن انهيار الثورة محقق". لذلك هو يؤكد على أهمية الحياة الديمقراطية من خلال انتخابات حرة، وضرورة سن قانون للأحزاب ينظم نشاطاتها، فإن هذا هو صمام الأمان لمواصلة الثورة وإلا فإن انهيار الثورة محقق!؟
وانعكست آثار انتكاسة ثورة 14 تموز مجددا على الوالد مثلما على معظم فئات الشعب. فتعرض بسبب نشاطه في حركة السلم، واشتراكه مع بعض زملائه الذين بادروا لقيادة عمل "جمعية المعلمين" بعد سقوط النظام الملكي إلى الاعتقال والإقامة الجبرية في لواء ديالى بعيدا عن عائلاتهم. وبعد رفع الإقامة الجبرية تم نقل الوالد وزملائه إلى الأقضية التي أبعدوا إليها بقرار من مدير معارف كربلاء كاظم القزويني، وبضغوط من القوى الرجعية من المدينة وخارجها.
ويروي الوالد محاولة المتصرف (المحافظ) حميد الحصونة الخبيثة والحقودة لعرقلة إعادته للتعليم -بعد إنهاء الإبعاد- في نفس الخالص. وقد عُرف الحصونة بمواقفه الرجعية والانتهازية وحقده على القوى التقدمية وأشتهر بشعاره الذي رفعه بعد انتكاسة ثورة 14 تموز "أمي مخلص خير من مثقف هدام" وهذا يدل على مدى جهله وعدائه للثقافة والمثقف! وأثناء مقابلة الوالد له بوجود بعض الضيوف هاج وماج بدون مقدمات على الوالد بأسلوب بعيدا عن الأدب والذوق، مكيلا له السباب وإتهامه (شيوعي ..... أكسر راسك ...) وغيره من كلام لا يليق بمكانته كمتصرف! وهنا يكون موقف الوالد واضحا وجريئا في رده فيكتب الوالد: (... وقررت أن لا أغض النظر، وأن أرده مهما كلف الأمر ..... حين سكت قلت: الملفة ليست دليلا أبدا. وحتى لو تكلم الإنسان وادعى في وقت وظرف معين، فليس ذلك بكاف. ألم تعلن أيام تموز الأولى في الديوانية "أني نشأت أنا وفهد على رحلة واحدة في المدرسة؟". ألم تقل أثناء كلمة ألقيتها على تظاهرة شيوعيين في الديوانية لتأييد ثورة تموز "حتى قدور بيتنا شيوعية!؟". أنا مؤمن إنك لست شيوعيا، رغم ما صرحت به، وأنا أيضا ليس لي انتساب فعلا لأي حزب سياسي سري أو علني.). إن رد الوالد ومجابهته الصريحة بمواقفه الانتهازية الغبية أيام تموز الأولى كانت كالصاعقة عليه أمام ضيوفه، مما أضطره أن يتراجع عما أضمره للوالد من حقد، ولم يكن الوالد يبالي بما ستكون ردة فعل هذا الجاهل.
ربما لاحظ القارئ والمتتبع لجميع أقسام (ذكريات معلم) أن الوالد طيب الله ثراه كان يهتم ويتأثر كثيرا بطبيعة علاقات المجتمع الذي يعيش في وسطه. فهو ينتقد بمرارة وأسى بعض الطباع السيئة -في محيطه الاجتماعي القريب-   كالنفاق والجبن والخبث وفقدان روح التضامن وعدم الوفاء  والتردد، وكلها صفات يمقتها الجميع ظاهرياً، لكن البعض يرى أنها أو بعضها ضرورية في حياته اليومية!؟. بينما يشيد بكل ما هو إيجابي في أي مجتمع عاش في وسطه خلال رحلته التعليمية وتنقله. فيكتب عن مجتمع مدينة الخالص ( ... وأهل البلد على طيبتهم التي تتجلى لي في ابتساماتهم حين أمر عليهم مُسلِّما أو حين أشتري من بعضهم حاجة. يتجنبون الحديث معي ولكنهم يرحبون بي حين أدنو منهم لشراء حاجة). ويتحدث تحت عنوان "البلد الطيب" عن أسلوبه في علاقاته مع الآخرين، وهو أسلوب يعتمد على الثقة العالية بالنفس والقدرة في الإقناع فيكتب ( أنا لا أتخوف من الناس مهما كانت سمتهم، وقد جربت نفسي كثيرا. إني أستطيع أن أبدل ما في أذهان بعضهم عني، وأكسب محبتهم). ومن يقرأ ذكريات الوالد سيطلع كم من الأشخاص الذين كانوا يتخذون موقفا سلبيا منه ونجح في تغيير قناعاتهم عنه.
لم تمضي سوى أشهر على إلغاء الأبعاد ورفع الإقامة الجبرية على الوالد في الخالص حتى نجحت القوى السوداء في إسقاط ثورة تموز بانقلاب دموي في 8 شباط 1963 بتحالف القوى القومية والإقطاع والرجعية وبمباركة من الدول الاستعمارية في الخارج والقوى الدينة الرجعية الممثلة ببعض مراجعها. حيث بدأت مرحلة من السنين العجاف تخيم على حياة العائلة والشعب العراقي أجمع. وخيم على العراق جو مكفهر يعيث فيه الذئاب من أفراد الحرس القومي -وهي مليشيات من البعثيين والقوميين- دمارا. أنتهك فيه الحرس القومي الأعراض، وزج بخيرة الوطنيين في السجون، وتعرض ألاف -نساء، وأطفال، ورجال-  إلى التعذيب والتصفية الجسدية. وتحولت الملاعب الرياضية والمكتبات العامة إلى مقرات للتعذيب والتحقيق.
ويتحدث الراحل عن هذه الفترة المظلمة من حياة الشعب، وعن التعذيب الهمجي الذي تعرض له شباب كربلاء في مركز التعذيب "المكتبة العامة" التي تحولت إلى "مسلخ بشري". فكان يعاني ويحس بآلام المعذبين خلال فترات وجوده للتحقيق في "المكتبة"، فكتب قصيدته -قولي لأمك-، ومن أبياتها:
أســــفاً لـــدار العلم بعــد                                                   العـــلم تغــــدو للعــــذاب
غرفاتها تحوي السلاسل                                                    لا الـمطــــالع والــكتــاب
والسوط قد خلف اليراع                                                    وعـنه في الـتعبيــــر ناب
ولم تنتهي معاناة الوالد والعائلة مع سقوط نظام البعث في 18 تشرين الثاني 1963، وإنما استمرت بإحالتنا جميعا –الوالد، وأخي كفاح، وأنا- إلى المجلس العرفي الأول. وأصدر المجلس قراره بسجن الوالد لسنتين وأنا –كاتب هذه السطور- خمس سنوات وشقيقي الأكبر بستة أشهر مع وقف التنفيذ.
وفي سجن الحلة يقضي والدي فترة سجنه بالمطالعة وتسجيل ملاحظاته ومتابعة ما يجري في العالم. فيجمع ملاحظاته في مخطوطة سماها -كشكول سجين- متنوعة المواضيع والمصادر. وفي السجن يعيش ويراقب المحيطين به وقد جاءوا من منحدرات اجتماعية مختلفة ويحملون أفكاراً وعادات متنوعة وحتى متناقضة. ويشبه السجن بالخمرة التي تكشف حقيقة شاربها وتفضح مدى مصداقيته بما كان يؤمن. فيسجل انطباعاته عن السجن ومجتمعه في موضعة -مآسي ومشاكل- فيكتب: (... السجن محك، كالخمرة، تكشف حقيقة شاربها، إن كان غليظ الطبع، خالي الوطاب من أدب أو علم، أو إذا كان ذا نفسية معقدة أو مشاكل لا يعرف عن أسبابها شيئا. ولا يدرك للتخلص منها سبيلا. والاتهامات والمحاكم العرفية دفعت بأناس لا يعرفون من السياسة حرفا...)
 وبعد تحررنا من السجن، تستمر رحلة الوالد والعائلة في بحر تتلاطمه الأمواج، إنها السنين العجاف التي سادت العراق وغيبته عن العالم. حيث يستمر الفصل السياسي وتبوء كل محاولات الوالد للعودة للوظيفة. وتصطدم محاولاته بحقد ولؤم مدير الأمن والمتصرف في ديالى، وتوضع أمامه مختلف العقبات والأعذار التافهة  لعرقلة عودته. وتبقى العائلة تعاني من ضعف المورد المالي الوحيد وشظف العيش، بينما الوالد في سفر دائم متنقلاً بين كربلاء وبعقوبة لمقابلة المسؤولين لعله ينجح في العودة للوظيفة أسوة بالآخرين من أمثاله. فيكتب عن معاناته هذه:
(لو كان سهما واحداً لاتقيته                              ولكنه ســــهم وثـانٍ وثالث
أجل والله، بالنسبة لي، هي أكثر من ثلاثة، إنها سهام متواصلة، حياتي غير مريحة، ولكني أوبخ نفسي. إني أحبها، فأخاطبها: إن الصبر طيب، تحقيق المطالب الحياتية بالسعي مع الصبر مفخرة، ويجعل الحياة لذيذة). نعم كانت هذه هي مبادئ الوالد في الحياة -الصبر والمفخرة-، فكان دائما يقول لنا: فكروا بمصائب غيركم تهون عليكم مصيبتكم، فهناك في هذا العالم من مصيبته أعظم من مصيبتكم!.
وبعد انقلاب 17 تموز 1968 صدر قرار عودة المفصولين السياسيين إلى وظائفهم، وشمل القرار عودة الوالد. وأيضا لم تخلُ عودته من خبث المسؤولين القدماء الجدد، فكانت عودته في مدينة الرمادي بعيداً عن عائلته، متجاهلين طول خدمته في التعليم وكبر سنه، وما يسببه هذا البعد من متاعب له.  وحتى بعد نجاحه للتبادل -بجايش- مع أحد المعلمين في الحلة، فأن مدير تربية الحلة "جابر الدوري" أصر خلافا للعادة الجارية والتي تقضي مباشرته في نفس مدرسة المعلم البديل، على إبعاد الوالد عن مركز المدينة للعمل في أحدى قرى الحلة البعيدة!
ويختم الوالد حياته التعليمية التي أخلص لها وعمل خلالها بتفان، بتقاعده أواسط عام 1971 حيث كان معلما في مدرسة -أبو سِفن- التابعة لقضاء طوريج التابع للواء الحلة في وقتها. ومع إحالته على التقاعد ينهي والدي (ذكريات معلم). لكنه يبقى كما كان معلما ومرشدا حريصا على سمعة المعلم، فهو لا يبخل بتقديم النصح والملاحظات لطلبته القدامى وأصدقائه.  وبحسرة وأسى متجاوزا كل ما أصابه من حيف واضطهاد بسبب ما يحمله من مبادئ سامية، فيكتب: " فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا  أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان"  
لقد نشرت (ذكريات معلم) للوالد وقبلها مجموعة قصائده (أنا والعذاب) وبعض كتاباته المتفرقة. إن ما قمت به من عمل متواضع بنشر بعض مخطوطات الوالد جزء من واجبي كابن، وتلميذ وفيٌ كنت ومازلت استعين به، وكزميل زاملته في المعتقلات والسجون، وكمربي أصابه الغبن والحيف في حياته من قبل أنظمة استبدادية. أرجو أن أكون قد وفقت بنشر وطبع كتاباته، وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه وفاءاً لذكراه الطاهرة.
 
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏‏12‏/05‏/2011
 
 
4- ثورة 14 تموز 1958 والسنوات العجاف/1

تفاءلوا بالخير تجدوه                  
انتهت الامتحانات العامة، قبل أن ينتهي حزيران. وتوجهت إلى النجف حيث علمت أن الوالد الشيخ ملازم للفراش. إنه منذ أن أجرى عملية في مستشفى الفرات بالكوفة حتى الآن لم ينهض من وعكة، حتى تداهمه وعكة. وكانت هذه الحال طبقا لملامتي له حين علمت بإجراء العملية تلك في صيف عام 1957. لقد علل إقدامه عليها، إن الطبيب فحصه فوجد أن قلبه يتمتع بعافية. فقلت: هذا صحيح، ولكن العملية ستسبب انهيار تلك العافية. فأنت في سن الثمانين ولن يستطع قلبك استعادة ما يفقده بسبب العملية. وها هو ذا يعجز عن الجلوس بدون مساعدة.
النجف كما هو معروف صيفها لافح سموم. يحتمي أهلها منه بالسراديب. السراديب تنسيهم لضاه. برد ماء سرداب السن رائع ولذيذ والرقي المبرد فيه أكثر لذة. نحن فيه في غنى عن المروحة الكهربائية.
حين يقترب الصيف أنا أتعطش إليها، إنها كما قال أحد الظرفاء (يسوه جبل لبنان سرداب أهلنه). ولكني الآن أعاني تعبا وإرهاقا. فيما تقتضيه حال أبي المرضية، أنزله إلى السرداب قبل الظهر، وأخرجه منه قبيل غروب الشمس. أسهر ليلا إلى جانبه، كلما أحتاج إليّ طول الليل. أسقيه الماء بعد أن أجلسه على هيئة تمكنه من شربه براحته، أو للتبول، إلى كثير ما تقتضيه حال شيخ عليل.
ثم استقبال زائريه ليطمئنوا على راحته. والأطباء الطيبون الذين لم ينسوه يوما. أحد محبيه من أصحاب المحلات التجارية، أهدى له جهاز "راديو" شكره على هديته، ثم أردف شرط أن تكون هذه الهدية مؤقته. إن على "علي" أن يعيدها إليك بعد وفاتي!؟ والتفت إليّ وقال: وأنت عليك أن لا تسمح لأحد من أبنائك حين أنام أن يستغلوا الفرصة لسماع الأغاني. ولا تحوله عن محطة "صوت العرب".
وهكذا كان كل شيء حسب ما أمر. إنه يستمع ويعلق عما تذيعه "صوت العرب" عن العراق تحت كابوس حكم "نوري السعيد". ثم يرفع بصره إلى السماء: يا رب أنت أعلم بالصالح. وإنك أيضا -تمهل ولا تهمل- إن نوري يا رب يتبجح ويقول -قاتلي لم يكن حتى الآن في رحم أمه- ويردد الهوسة -دار السيد مامونه-. أنت يا رب أحكم الحاكمين!؟. وتنحدر من عينيه دمعتان.
كان بيته بين بيوت المحلة قد عرف بالرفاه وترف العيش. ويزهو بالعائلة السعيدة التي تطرب لرنين أحاديث السمر والضحك والطرف من صحابه رجال العلم والأدب، أمثال الشيخ "عبد الكريم الجزائري" و "الشيخ عبد المحمد" وعدد أمثالهم. لقد أنحلت عرى تلك الصداقة، وكنت أعهدها أشد متانة وأقوى من الأيام! لماذا؟
لأن البرجوازية في بلدي، شنت حربها عليه بسبب نضال ابنه الشهيد "حسين" الوطني. فتحول عنه كثير من صحبه من ذوي المكانة في الساحة الدينية. وصدقت مقولة (إن رجال الدين في الغالب هم أيضا يسيرون الأمور لصالح البرجوازية). لأن دخولهم إنما تتواصل من مكاسب وخزائن رجال المال من تجار، وشيوخ إقطاع. ومن الطبيعي أيضا أن ترتبط برجوازيتنا بالامبريالية العالمية، معتمدة على نظام الحكم الملكي، وأركانه من إقطاع ورجال مال وأعمال.
وحين انتهت إذاعة صوت العرب من نشرة الأخبار الأخيرة ليلة الرابع عشر من تموز، والتعليق على الأوضاع السياسية العالمية، وكفاح الشعوب، وبالأخص البلدان العربية، وتزاحم الاستعماريين فيها، أمر الشيخ بغلق الراديو، أغلق أبني وهو يتأوه مع قوله: يا ربي ولا نصبح ونسمع بالثورة عالـﮕـة!؟.
وعند الصباح فتحت الراديو. كانت أناشيد ثورية حماسية. قال ابني "كفاح" متعجبا: أتسمعون؟
- أجل. إذاعة صوت العرب تسخر من حكام بغداد، في برامجها تصور لهم النهاية. وفرحة الشعب يوم تدق أجراس الثورة.
- أبي أسمع. إنها إذاعة بغداد، لا صوت العرب. هل أنت حولت المؤشر إليها.
قلت كلا. هي كما تركتها ليلا. فتحت الراديو فقط. قلت لك لابد أنهم يسخرون من حكام بغداد! لكن ابني أصر أن ما يسمعه هو ثورة وإنها إذاعة بغداد وليست صوت العرب، ولابد أن احدهم حول المؤشر. وتوجه إلى جده ليبشره بالثورة. وفي هذه الأثناء دخلت امرأة، هي أم مهدي من فقراء آل "أبو كلل" الأسرة المعروفة وزعيمها المجاهد "حاج عطية" وقد لفت ذيل عباءتها على يدها وهي تهزج.
صاحت شقيقتي ماذا حدث يا أم مهدي؟ لكن أم مهدي مستمرة بالهوسة وتجول في ساحة الدار. وتكرر السؤال، والعجب قد أدهش الجميع، من حماس أم مهدي يرافقها صوت المذياع، وتوجهت تصرخ بنا، معقول انتم ما تدرون!؟ وتوجهت نحو أبي: أبو علي هذا يومك، اخذ ثارك منهم، عبد الإله يفداك. الملك وأهله كلهم انتهوا. لكن الثعلب "نوري" فر. أبو علي ثورة، ثورة!. وقطع الراديو حديثها، وهو يعلن مكافأة لمن يدل على مخبأ نوري أو يأتي به حيا أو ميتا.
ولمحت دموع الشيخ تنحدر على لحيته، وهو شاخص ببصره إلى السماء، ورافع كفيه يردد: الحمد الله قبل أن أموت أشهد نهايتهم، شكراً لك يا رب فقد استجبت لدعائي!. وطلب منا أن نساعده على الجلوس، وكأن المرض والآلام التي أنهكت قواه لأسابيع لم تكن، وجلس يراقب الجميع ووجهه يشع بشرا ودموع الفرح ترطب خديه وتختفي بين ثنايا لحيته، وقد غص البيت بالجموع ونسى الشيخ مرضه ووصايا الأطباء!
وأقبلت جموع الشباب، وغصت بهم ساحة الدار. كانوا يجولون ويهزجون بالهوسات. أبي يصيح بي قل لهم يكفوا ويقصوا علينا ماذا حدث. لكنهم مستمرون وبحماس. دنا أحدهم وأنفاسه تتلاحق إنها لا شك ثورة خيرة. إنها بنت الجبهة الوطنية. أنا أعلم عنها شيئا وجيزا فقط. كل أمرها وميقاتها سر بين الأحزاب الوطنية وضباط الجيش الأحرار. والآن سينكشف كلي شيء.
وطلبت من أبي أن يسمح لي بالخروج علي أستجلي أنباء جديدة عن الواردين من بغداد. سلكت طريق السور المجاور للوادي كي أصل بأسرع ما يمكن، حيث تتجمع عناصر المناضلين من الشباب في مقهى الميدان، وبالأخص مقهى "الحاج عبد" ويعرف بين أهالي النجف بـ "حاج عبد ننه" و "ننه" كلمة فارسية يخاطب الصبي بها أمه أي "أمي"-. والذي أعرفه أن أمه الفارسية تعيش خادمة في بيت وجيه من النجف، فتزوجها وكان منه لها هذا. فلما مات الوجيه أنكره أخوته من أبيه فطردوه. ولم تستطع الأم إثبات ما ادعت، ولم تجديها شهادة بعض من ادعى العلم بصحة ما أدعت. ولكن الرجل بكدحه ونشاطه بنى كيانه وأصبح ذا رفاه ونعمة. وكان وقورا ومحترما.
حين وصلت إلى المقهى لاح لي عُمة بيضاء وسط جموع الجماهير التي غصت بها ساحة المقهى، فاحتلوا جزء من الميدان المتصل بها. أخذتني الدهشة. أنه أبي، أبي طريح الفراش من التهاب المرارة، كيف غادر الفراش، وهو لا يجلس من فراشه إلا بمساعدة. الجماهير حوله يعلنون تهانيهم له، ويتنفسون الصعداء كمن يحس أن كابوسا أزيح من على صدره. اقتربت منه وصحت: كيف ومن سمح لك بهذا؟. رد عليّ ووجهه يطفح بالبشر والبهجة: ولك، الثورة منحتني كامل الصحة والعافية. ثم ليكن ما يكن. إنها لبشرى عظيمة، أشهدها قبل الرحلة الأخيرة!؟ وعدنا إلى البيت بعد ساعات، دون أن نسمع جديدا عن الثورة وعناصرها. وكيف، وماذا؟ لقد تفاءل ولدي بالخير، وتحقق ما تمناه، وعسى أن يتم كل شيء كما يرام!
وانطرحت في القيلولة على فراشي في السرداب، وقد أطبقت غيوم السأم على نفسي، هذه حال الدنيا. رجاء والدي قد تحقق، ولكن ما يدريني، ربما كان التبدل إلى الأسوأ!؟ ربما صرنا كذلك الجائع، كان يرتقب حمامة على باب العش مؤملا صيدها ليسد بلحمها جوعه، أعرض عنها لحظة، لم يجدها فظن أنها دخلت العش، فتسلق إليه، ومد يده فيه فاستقبلته أفعى فيه بعظة!؟
أجل هذه حال الدنيا ومنذ الخليقة، تضيق ارض بساكنيها من جور الأقوياء والمستغلين ثم يصيح بالضعفاء والمرهقين صائح يقودهم إلى حريتهم، إلى خلاصهم من الذل والعبودية. ثم تدور الدائرة من جديد، مظلومون بالأمس حلوا محل ظالميهم، وداسوا مبادئ ثورتهم وكأن لم يكن شيئا مذكورا.
 موسى الكليم كيف انتهى أمره مع قومه؟ لقد خرج من أجلهم على فرعون الذي أحتضنه ونشأه، لكن قومه قالوا له: أذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
و "عيسى" هو الآخر لقي حتفه، جزاء سعيه لخلاص المستضعفين، بوشاية من أقرب تلاميذه إليه "يهوذا الاسخريوطي" قبله ليدل كلاب القيصرية عليه، فكانت قبلة الموت.
و "محمد" إذ تقهقر أمامه جيش الجاهلية، بقيادة أرباب التجارة وحماة الوثنية. وصاحب العقاب "أبو سفيان" يوجه الجيوش، ولقد فكر هذا وقدّر، فقتل كيف قدَر، وطلب أن يسلم، فقبل إسلامه، ونال أكثر من القبول -من دخل دار أبي سفيان فهو آمن!؟-. من يدري ماذا دار في صدر أبي سفيان، أغنى وأثرى رجل في قريش، صاحب الراية "العقاب"، واحد من عشرة بأيديهم الحل والعقد في أمور التجارة، وحماية الأصنام، لعله بذكائه أدرك السبيل لاسترداد المجد والمكانة عن طريق الاستسلام بدل الحرب، وقد أثبتت الأيام إن كل القوى التي دفعت لمجابهة الدعوة باءت بالفشل.
ربما كان هذا. فيوم انتهى أمر الخلافة -بعد مقتل الخليفة عمر- إلى عثمان، غمر هذا الداهية "أبو سفيان" فرح عظيم. كان حينئذ شيخا كبيرا قد فقد البصر. ولكن البصيرة في أمور الشر ما تزال حية ونافذة. فقال لصبي يقوده، خذني إلى قبر حمزة!. حمزة عم النبي الأكثر غيرة عليه من أعمامه، وأنقم ناصر له. وقد لاكت هند زوجة أبي سفيان هذا كبده لتطفئ غليلها من حمزة مناصر محمد والمتفاني في الدفاع عنه. ركل القبر برجله صائحا: قم أبا عمارة، لقد آلت إلى أيدي صبياننا!؟. إنها كلمة ذات معنى عميق، يرمز إلى يوم تحول من محاربة محمد متظاهرا إذ ذاك أنه يعتز بما منحه النبي من امتياز (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن). من يجرأ حينذاك أن يقول لنبيه إن هذا الامتياز الذي منحه لأبي سفيان كان سياسة ذات مفعول مؤقت!؟ وبشيرا بعودة حماة الوثنية، تحت شعار الإيمان بالله الواحد، ليحموا الوثن الأعلى الذي هو أقدس من كل ما في الحياة عنده. إنه رأس المال التجاري. أبو سفيان هو الوحيد الذي حلم بهذا، وآمن من أجله.
وأبنه "معاوية" أكثر دهاء منه، ولا يشك بعض الذين درسوا حياة معاوية وحذقه، إن العاصفة التي انتهت بانتهاء خلافة "عثمان" ومقتله، كانت في الواقع من دهاء معاوية. ولقد اطمأن، وكبر الأمل في صدره، في أنه أصبح قادرا على جر السفينة إليه وسيكون ربانها. ولقد قال أحد الشعراء:
القــوم ســرُّهُمُ معـــاوية                                  وقميص عثمان لهم علن
 عثمان الجسر الذي عبر معاوية عليه إلى أغلى أمانيه، تقاعس عن نصرته، ثم لما قتل طالب بالثأر من قاتليه. وكل ما مر ودار كان من تدبيره.
هكذا انتهت الأمور بعد محمد، بدءا من خلفاء بني أمية، إلى خلافة بني العباس. حيث برزت المباهج الدنيوية، إلى جوار الدين، فكانت القصور المنيفة جوار الجوامع، وكان الناي والعود، والغناء والشراب، في جانب، والآذان والصلاة في جانب، والخليفة يمتلك مئات الجواري والقيان، والعبيد، والقصور والجنائن، ويلهو بين الصيد والسماع والشراب.
اتسعت رقعة الإسلام بالفتوح المتعددة، فامتلأت الخزائن بالمال، من الخراج والزكاة، والصدقات، وما يستباح من أموال بلاد الكفرة المغزوين؟ وللشعراء دورهم لتمجيد الخليفة المنصور بإذن الله! ولا عجب أن يقول الشاعر محمد بن هانيء الأندلسي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار                              فاحكم فأنت الـواحد القهــار
وللذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، حجر تلقم به أفواههم. أو يقتل فيمثل بجثته، أو يصلب على شجرة، أو تقطع أيديهم وأرجلهم بعد أن يدفن نصفه في حفرة، أو تسمل عيناه.
وانتهى أمر آخر خليفة على أيدي المغول والتتر الغزاة الذين دمروا الأخضر واليابس. ثم انتهى الأمر إلى أيدي سلاطين آل عثمان. الذين حلا لهم أن يلبسوا العمائم على طريقتهم. ويلقبوا أنفسهم بالخلافة، ذلك كان سمة لم تعد صالحة لأحد، فقد أبلاها مر العصور والدهور. وقد أصبح العصر للآلة التي أخذت تتطور يوما بعد آخر، وتنوعت وتعددت، في الغرب ولدت، ومن الغرب جاءت البلاوى  الجديدة.
ليس الصنم الحديث كصنم الجاهلية القديم. عصر الآلة جعل "الصنم" إلاهاً من أعظم الآلهة في العصر الحديث. إنه يتربع بضخامته على كواهل العمال، استغلت سواعدهم لإدارتها، والتي لولا تلك السواعد ما تم للسدنة كيان. تلك السواعد التي تدير الآلة، جعلت الرأسمال ذا وجهين غير أوجه الحياة في كل أرجاء الدنيا، الصناعة، التجارة. أما نحن فلم نحسن غير التغني بأمجاد الأجداد، والشعر والغناء. ولو أنصفنا لتذكرنا أن الحاكمين من الأجداد أساؤا لذوي الفكر من علماء وفلاسفة، بينما أضاءت أنوارهم عقول الغرب، فتفتحت عقول عن إبداعات شتى في العلوم والعملية الفكرية. ولكن هذه حال الدنيا، فقد سيطر أرباب المال على كل ما توصلت إليه عقول العباقرة. فبحثوا عن أسواق لما ابتدعوا، وعن مواد الخام، يوسعون بها مبتدعاتهم، وهكذا حدث سباق وتنافس من أجل أن يستعبدوا الشعوب ويسلبوا ما في أراضيها من ثروات وكنوز. رأسمالهم ولد شر مولود، له رؤوس وأيد، وأرجل وأفواه وكان أسمه الاستعمار.
غزانا فهب رجال الدين يستنهضون الهمم للدفاع عن "بيضة الإسلام"!؟ والله يا سادة إن حكامنا على مر العصور، قد مسخوا الدين، ولو أطل محمد لدهش مما يرى. ولكن لا، لا. فقد أشار في الكتاب إلى ذلك. وفي الحديث الذي يروى على ألسن الرواة، وبطون الكتب (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ....) من سورة عمران آية 144. وبدء الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما كان!؟ جابهناهم، ولكن أين السيوف من المدفع، والفرس من الطائرة، وطلقة الرصاص البدائية. وإن كنا ما نزال ننشد بفخر (الطوب أصلب لو مـﮕـواري!؟).
يا دنيانا. جودي بوصل، قبل أن ينقطع النفس، فلا ينفع الوصل!
هل يمكن أن تحل ساعة الخلاص من حكم نعت بـ "الوطني" ظلما وعدوانا؟ وهو حكم يختفي بين حنايا ضلوع ممثليه "جون بول" كما يعبرون. ربما فهذي حال الدنيا. وهل نتعظ ويكفينا ما مر يا دنيا. أبو العلاء المعري يقول:
كم وعظ الواعظون منا                                   وطاف في الأرض أنبياء
وارتحلــوا والبـلاء باق                                   ولم يزُل داؤك العيــــــاء
أصحيح إنه قد ولد قاتل الوكيل العام "نوري السعيد" وسينقذنا من شروره!؟ وهل تعلم قادة الحركة الوطنية أن يتحدوا من أجل أن يخلقوا مجتمعا أفضل وسيدا!؟ ولا يضمر كل منهم، أن ينفرد بالأمر بعد القضاء على الخصم. فيقال عنا -ذاك الطاس وذاك الحمام-.
 
يتبــــع

 
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏12‏/05‏/2011

104
3- عودة ومصائب وعواصف / 13
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)



مدرسة الحسين/2
كل عام بعد منتصف السنة الدراسية، تكون المدارس الابتدائية قد تهيأت وأعدت نفسها لأمرين. المعارض الفنية من أشغال يدوية، ورسم، واستعراض عام للألعاب الرياضية. ومباراة بين المدارس في الخطابة. وبكتاب من المديرية يعين معلم العربية واحدا من طلاب الصف السادس ويؤلف له كلمة مناسبة. ثم يدربه على الإلقاء بما يناسب موضوع الكلمة. وباعتباري معلما للغة العربية، فقد هيأت كلمة بهذا العنوان "بيتنا والشارع والمدرسة" ودربت لإلقائها أحد طلبة الصف السادس "غني الطيار" كان تلميذا مهذباً ومجتهداً.
كنت أهدف في هذه الكلمة، إلى أن هذه الثلاثة، هي التي تصوغ الطفل، وتتعامل مع تكوينه النفسي. خصوصا إذا كان ذووه فقراء، من ناحية الدخل، وفهم الواجب لتربية أبنائهم. فغالبا ما تجد عوائلنا بعيدة كل البعد عن توجيه الطفل التوجيه الذي يكون أساسا طيبا لمستقبله.
هم يقذفون به إلى الشارع ليتخلصوا من عبثه ولعبه. وهو قد يتلقى كل فكرة مغلوطة من جدته العجوز أو جده أو حتى والده، في حشر الخرافات، والمخيف من الأساطير من قصص وحكايات الجن والسعالي، والغول و الطنطل. ثم يتناوله الشارع وأقرانه الذين تختلف حياة بيوتهم، بين ابن تاجر متمول، وآخر فقره مدقع، وثالث مغرق بالسفالة والضعة. وحين يؤتى به إلى المدرسة، يقولون: إنه عجينة بيد المعلم!؟
أية عجينة؟ إنه عجينة ملوثة، مزيجة بشتى المواد القذرة، وقد أخلّت بالبراءة التي يوصف بها الطفل الذي يحرص ذووه المدركون أن يظل متمتعا بها، لتجده المدرسة صفحة نقيه. ولا ننس إن المعلم نفسه، قد نشأ أيضا بهذا المجتمع، ونال من العجائز والشيوخ السذج والشارع نصيبه.
كانت الكلمة وافية في استعراض حياة الطفل بين هذه الثلاثة، ومدى وتنوع تأثيرها في نفسه، صعوبة وإمكانية تهذيبها مما علق بها من شوائب وعقد. لا أحد ينكر ما لأثر الفوارق الطبقية، ومستوى العيش، على نفسيات الأطفال، وما ينمو لهذا السبب أو ذاك في نفوسهم من حقد أو حسد لزملائهم.
 وكان للتلميذ أثره في حسن الإلقاء، وتجسيد القصد، فنال ونالت المدرسة الدرجة الأولى والجائزة. وتأفف نفر من معلمي العربية في المدارس المشاركة، ودار لغط مضحك. لقد اتهموا اللجنة بالتحيز، وليس بين أعضاء اللجنة غير مدرس نجفي واحد!؟ ثم أن المدرسة كربلائية، والطالب كربلائي. فأي تحيز هذا؟ ولم ينل المعلم شيء، كل شيء للمدرسة والطالب. أما أنا فلم أحضر الحفل مطلقاً. وقد اخترت هذا الطالب، مع أن أبني "محمد" زميله على رحلة واحدة!؟ لكن الغريب الذي ما أزال الاحظه هو جفوة هذا التلميذ منذ انتهى من الابتدائية حتى تخرج مهندسا، وكذلك أبوه، يعرضون عني ويتجاهلونني حتى كأني أسأت إليهم!؟
نماذج متنوعة مرت عليّ في حياتي التعليمية. وجدت أطفالا متعالين كآبائهم على زملائهم يحلو لهم أن يضطهدوهم، أو يماشوهم ليضحكوهم، أو لتنفيذ شرورهم ضد إخوانهم، وهم يغرونهم بما يشركونهم فيه من مأكل أو لعب. وبعضهم لا يتحرج عن أن يستميله بل يوقعه في مزالق التفسخ، خصوصا من تلاميذ سنهم أكثر من أربعة عشر عاما، وفي بداية تأسيس المدارس ما كانوا يعبأون ولا يهمهم سن التلميذ سواء في بداية دخوله، أو خلال سني الدراسة بسبب ما يحصل من رسوب. وجدت مثل هذا في مستويات الأطفال العائلية المختلفة في المدن. ونادرا جدا في مدارس الأرياف. ذلك بحكم أن التلاميذ ينحدرون من الطبقة ألفلاحيه، وأبناء الشيوخ أقلية في المدرسة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فالغالب أن الفريقين ينتمون إلى عشيرة واحدة. وتقاليد حكم العشيرة سارية في الأبناء كالآباء. والملفت للنظر إنهم أكثر احتراما للمعلم، وأكثر إقبالا على الدرس، واشد صبرا على الفقر. أما آباؤهم فغالبا ما ينسجمون مع المعلمين يحترمونهم ويكرمونهم، وفي كل فئة من الناس شاذون، وهذا ليس بالأمر الغريب.
*            *            *            *
وبمناسبة قرب الامتحان النهائي لهذا العام -1957/1958- أخذ مدير المدرسة يستدعي المعلمين لغرض النظر في درجات طلبة الصف السادس، وتسجيلها، ومن ثم إرسال أسمائهم مع معدلاتهم النهائية إلى المديرية.
عادتي دائما أن أبذل الجهد في بداية السنة الدراسية مع الطلاب الضعفاء. وعند وضع الدرجات الشهرية لا أضع الدرجة الحقيقية التي استحقها الطالب الضعيف. إني أضع له في الدفتر الخاص "فقط" درجة نجاح حتى إذا اقترب امتحان نصف السنة، دون أن يبدو منه تحسن ملحوظ، عند هذا لا اثبت غير الدرجة الحقيقة. هذا الأسلوب ألتزمته بعد تجربة، وكانت حصيلته أن كثير من الضعفاء يتمكن اللحاق بزملائه، إلا القليل منهم. حيث كان الضعف ملازما له منذ البداية.
جاء دوري فاستدعاني المدير. بدأت أملي عليه حسب التسلسل. توقف، وبلهجة التماس مؤدب عند درجات طالب أبوه من وجهاء البلد. قال: لو ساعدته؟ أبوه رجل محترم، وهو كما أعلم مؤدب. قلت: هذا صحيح، ولكن الدرجة المثبتة كانت فوق ما يستحق. لاحظ جيدا أن درجاته الشهرية قبل امتحان نصف السنة، وهاك دفتر الامتحانات الشهرية وانظر إلى درجته الحقيقية، إني أبقيها في دفتره كما هي، بينما أضع له درجة نجاح، حتى إذا استقام زدت المساعدة. فلما أستمر على ضعفه، صرت أثبتها كما هي.
كرر الطلب. فقلت: كان يجب عليك أن تنبهني منذ بداية السنة كيلا أتعب نفسي بالامتحانات الشهرية، واضع درجات نجاح بدون امتحان!؟
أجاب: دعه الآن وتابع ما بعده.  
وبعد نقل درجات عدد من الطلبة جاء أسم طالب أخوه زميل لنا في المدرسة نفسها. كان أشد ضعفا من أمثاله. توقف أيضا، وقال: إنه أخو زميلنا، ومن حقه علينا أن نساعده!
- يا أخي لست بقالا فأزيد الكيل، كما أفكر بمصلحة الطالب أفكر أيضا بسمعتي، لقد ساعدت إلى حد، ولن أساوي بين الكسول والمجتهد أبدا.
صار مجموع الراسبين الذين سوف لن يشتركوا في الامتحان العام خمسة، ولم ينقل درجاتهم. عرفت إنه سيحاول إقناعي بواسطة زملائي الآخرين. لكني امتنعت عليهم أيضا. خصوصا إن ثلاثة منهم كانوا قد عاهدوني إننا لن ندفع من لا يستحق. لكنهم تنازلوا لرجائه وتوسلاته.
أتصل بمدير المعارف: بأن مجلس المعلمين وافق على رفع درجة بعض التلاميذ أما "علي الشبيبي" فرفض. مدير المعارف أجاب: إذا كان هو صاحب الدرس فلا حق لهم قبل أن يوافق هو!؟
وأغميَ على الرجل، واستدعي الطبيب له فمنحه إجازة لثلاثة أيام! لماذا؟ لأنه تورط بأخذ تواقيعهم، ورفع درجات من رفضت تعديلها لهم في السجل الخاص بالدرجات. فماذا يفعل؟ إنه على جديته في كل أعماله، يتجاوزها أحيانا من أجل وجيه يعرفه، أو يتصرف أحيانا تصرفات لو كانت على حسابه لهان أمرها ولكنها على حساب الآخرين.
بعد أيام جاء لي معاون المدرسة طالبا أن أوقع على خلاصة حساب الوارد والصادر لحانوت المدرسة، الذي هو أسهم من الطلبة. وقد علمت أنه يقتطع من الأرباح يوميا لما يصرفه في الإدارة، من شاي زعفران وسجاير أجنبية، وشكولاته ممتازة لزواره في الإدارة.
رفضت ولم أوقع. معتذرا: إني لا علم لي مطلقا لا بالمشتريات ولا بالمبيعات، فلا علم لي إذن بالوارد والصادر. هذا يجب أن يكون مقتصرا على لجنة إدارة الحانوت، من معلمين وطلبة؟ باءت كل محاولاته لإقناعي بالفشل. بل جازفت وهذا -ما ندمت عليه فيما بعد- فكتبت تعليقة -اللهم إنا لا نعلم عنه إلا خيرا وأنت به منا!-. وكانت النتيجة أن انهار وأصابه إعياء. فستدعي الطبيب وعولج، وأجيز للاستراحة ثلاثة أيام أيضا. ولم أعلم كيف انتهى أمر السجل الرسمي المعرض للتدقيق.
وكان قد ابتكر عملا لا مبرر له. فقد أشرك فيه المعلمين، واستجابوا حياءً. لقد ألف كراسا عن تأريخ المدرسة والمعلمين الأُول الذين عينوا فيها، والطلبة الذين نجحوا في حياتهم، فكان منهم المحامي والطبيب والمهندس والإداري. وطبعا لم يدرج عدد الفاشلين. كما ثبت أسماء الذين زاروا المدرسة، وما كتبوا في سجل الزيارات، من متصرفين، ومدراء معارف، ورجال تربية. وشفعها بصورهم، وصور المعلمين، ولم تفته صور الطلبة وهم يؤدون الصلاة. ووزع منها هدايا إلى الذوات "وزير المعارف، مدير المعارف، والمتصرف". وزين مقدمتها بصورة الملك، وخاله عبد الإله والمتصرف ومدير المعارف.
في خلال أيام إنجاز الكراس وتوزيع بعضه، حدثت ثورة 14 تموز، فسارع واقتلع منه صورة الملك وخاله ومتصرف اللواء ومدير المعارف!؟ ووضع صور رجال الثورة، ومتصرف كربلاء الجديد "فؤاد عارف" وفي مقدمة الكراس "عبد الكريم قاسم". والزم التلاميذ جميعا بشراء نسخها، حتى الصفوف الأولى. فكان بعض أولياء الطلبة يتوسلون به لإعفائهم، لكنه يصر مع شرح ما يعود على الطالب من فائدة منها. جاءت عجوز يصحبها طفلان من الصف الأول والثاني، كلمتني -وكنت واقفا قريبا من باب المدرسة- بلهجة الحزين إن والد الطفلين متوفى وهي المعيل الوحيد لهما، وإنها فقيرة. فقُدتُها إليه. وشرحت ما أوضحت لي. فشدد وأخذ يشرح لها القصد: غدا يكبر ابنك وهو محتفظ بنسخته التي تضم صورته فيفخر بماضيه، ومستقبله الذي رسمته هذه المدرسة .....!؟ ردت العجوز: ثق إني عاجزة عن إعالتهم ....!؟ وتدخلت في الأمر وصرفت العجوز دون أن تدفع الثمن، ولا أنا أيضا!؟
هو لم يكتف بإلزام التلاميذ بالصلاة عصرا بين الدرسين الأخيرين. بل نشر على أعمدة المدرسة لوحات تتضمن آيات من القرآن الكريم. أما الطلبة فكان معظمهم يُعِد للعبث خلال الصلاة عدته. بعضهم يشتري سكريات يتناولها أثناء السجود، وبعضهم يغني أغاني يختلقها هازلا بصلاته، ولم تخل من فحش وشتائم، وبعضهم يؤذي من أمامه فيخزه بدبوس أو يقرصه. ويتناهى بعضهم بالعبث فيمد أصابعه بين فخذي من أمامه!؟
أما الآيات والأحاديث النبوية، فتهان من قبل التلاميذ عن غير عمد. فكثيرا ما ينالها رشاش الماء الذي يتبادلونه بلعبهم، أو ضربات من نعالهم حين يرمي بعضهم بعضا بها.
كل هذا كنت اطلعت عليه قاصدا، فقصة الصلاة، كنت أعرف موقف الصغار منها حين كنت طفلا، وكانت إذ ذاك إلزامية. ووجدت تلاميذ اليوم كغيرهم بالأمس تماما. ففاتحتهُ، إن أمر تعويد الأطفال على الصلاة، يجب أن يكون من قبل الآباء، وبطبيعة الحال إن الطفل الذي لا يشاهد ذويه يقيمون الصلاة لا يتعودها. ثم هم هنا يؤدون صلاة الظهر والعصر فقط، فما هي أهمية أن أهمل الباقي؟ وثم أمر آخر، هذه مدرسة وليست جامعا. ولاحظ أن الآيات والأحاديث الشريف على الجدران مهانة من لعب الطلبة وذرق الطيور. ولا تنس يا صاحبي إن المسألة تربية وقناعة، أما الإجبار فلا يولد إلا التمرد والنفور! ثم أن المدارس الأخرى لم تفعل مثل هذا. لكنه أجاب: إذا تعودها واحد من كل عشرين –فتحٌ-.
على الرغم من بعض أعماله هذه، فإنه رجل جدي ونشط، ومطالع، ولكني أيضا واثق أنه يتحصن بتدينه، فهو ليس من بيت معدود، صحيح إن أغلب مدراء مدارس كربلاء هم من عوائل فارسية الأصل إلا أنهم عوائل ذات كيان ومركز وقدم. وما تزال صلاتهم بذويهم -الأصل- الإيرانيين قائمة. وهنا لهم صلات قوية مع رجال الحكم، وبعضهم في وظائف محترمة. من العوائل ذات المركز الاجتماعي في كربلاء، آل الشهرستاني، آل الستربادي، والطباطبائي. ويمكن التمييز بين العوائل العربية والفارسية الأصل عن طريق الألقاب، فالعوائل الفارسية تسمي باسم البلد الإيراني الذي وفدت منه، بينما العرب يسمون بالعشيرة أو الجد الأعلى. وبعض العرب غلبت عليهم عادة الفرس فنحا نحوهم فاتخذ لقبه من المهنة "خطيب" أو "حداد" أو غيرها.
مهما يكن من أمر فإنه أهل للإدارة، لو أنه أخلص النية وابتعد عن النعرة.
الدين غير غريب على الناس، هم يقدسونه ويحترمونه ويفخرون أنهم يدينون به حتى مع إهمالهم مثلا للصلاة اليومية. ولكني أستطيع أن أقول، إن أهم جانبين من الدين، الناس بعيدون عنها كل البعد، الأخلاق والمعاملات.
الدين أدب وخلق ومعاملة، أهم من جانب العبادة. العبادة ليست إلا ترويض للنفس. هناك حكاية مشهورة عن النبي، وان آية (وإنك لعلى خلق عظيم) نزلت بمناسبتها. تلك هي حكاية بدوي جاهل، لحق النبي وهو يمشي مع بعض جماعته، أخذ يناديه: يا محمد! ثم جذبه من عباءته بحيث أثرت في رقبته. لكنه هش للبدوي وابتسم مرحبا، حين أعلن البدوي مطالبا بما عوده عليه من مساعدة! وهو الذي يقول: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وسئل الإمام علي. ما الدين يا أبا الحسن؟ أجاب: الدين معاملة؟ والقرآن يزخر بالآيات التي تندد بمن يسئ التعامل بعيدا عن الخلق أو سوء التعامل، في الغش والاستغلال والاحتكار.
ولئن تظاهر بعضهم بمظهر التدين وأهمل الجوانب المهمة الأخرى، فإنه لن يخفى ولن يخفي غشه وتدليسه على الآخرين.
وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة. وسيلتي إلى ذلك ما أختاره من مواضيع كتاب "القراءة" المخصص لهم، وما أضفي عليه عند الشرح من استشهادات من الحكايات والقصص. ونماذج من حياة الرجال الأفذاذ والعلماء والنوابغ. وحتى الكسالى والمنحرفين في سلوكهم، مطعما كل ذلك بالنكتة المضحكة ذات المغزى وليضحكوا بملء أفواههم. وكما إني أختار مواضيع معينة من درس "القراءة" ولن أكترث لما تقتضيه التعليمات التي بموجبها ندرج جميع مواضيع القراءة في الخطة، وبذا يكون الوقت كافيا جدا لاستيعاب مادة الموضوع مع ما أضفيه إليها مما ذكرت، ومضافا إلى هذا معاني الكلمات ومرادفاتها وأضدادها. على إني لم أنس أن أصنف طلبتي، إلى ثلاث فئات، المتفوقين النابهين، والوسط، والقاصرين. فابذل الجهد في بداية السنة مع الفئتين الثانية والثالثة، وخلالها أكتشف من يجدي جهدي معه، ومن هو كحجر ثقيل.
في كتاب "القراءة" المخصص إذ ذاك للسادس مواضيع كنت أعتبرها رائعة وهامة فيما تهدف إليه وهي مطولة أيضا، منها بعنوان "بذلة العاهل الجديدة" ومنها "بلبل" و "الحرية" و "علي بن أبي طالب" وأخرى لا أتذكرها. وطالبت بكتاب رسمي حذف موضوع من قراءة الصف الرابع "الحلاق الثرثار" لما رأيت فيه من سخرية التلاميذ بزملائهم الذين آباؤهم حلاقين. وتحدثت إليهم كثيرا عن أهمية الحلاق لنا جميعا، وأفهمتهم سبب كثرة كلامه بأنه إلهاء للزبون عن الضجر خلال الانتظار والحلاقة.
ودرس "الإنشاء" هو وسيلتي الثانية. واعتمادي على حكايات قصيرة من كليلة ودمنة والحكايات الشعبية ذات المغزى العميق، عن مختلف جوانب حياتنا حتى السياسية. ومنهاجي هذا قد يتوسع، وقد يقصر تبعا لظروفي أنا في المدرسة، أو المحيط، أو التقلبات السياسية والاجتماعية. وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لِمَ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد ....! ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه "عبد الرحمن مجيد الربيعي" كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا. (أشرت إلى ما ذكره تلامذته في مقدمة "عودة ومصائب وعواصف"/ الناشر)
أمثال هذا كثيرون، لست بحاجة إلى ذكر أسمائهم. وإني لفخور بهم وباعتزاز. وحتى بعض الذين كانوا مستهترين وفشلوا أخيرا في الدراسة، وبعضهم اعتدى عليّ، التقيت بهم رجالا قد أدركوا خطأهم. وكفروا عن تقصيرهم فانخرطوا في صفوف العمال المناضلين.  فليت لي حولا وقوة لأواصل رسالتي في أداء خدمة بلدي. ولست آسفا  أبدا إنا نحن المعلمين كالجسر يعبر عليه الألوف ثم تبلى أخشابه، فلا تعود تذكر على لسان. إن بعضهم يقول: إنهم شموع تحترق لتنير الطريق للآخرين. هذا لطف من صاحب الكلمة، ولعله معلم أيضا.   
*            *            *            *
وأخيرا وليس آخرا، وقد طال حديثي عن مدرسة الحسين. أنا ممن يحمل العصا معه إلى الصفوف. وقل أن لا تراها معي. ولكن صدق إني لن أعاقب بها كثيرا. ذلك نادر مني. وإذا عاقبت فإني أضرب كف التلميذ من الباطن بحذر، وبدرجة تختلف من واحد إلى آخر. ولا تستقر العصا بيدي، ففي فترة وأخرى يأتي طالب من صف آخر بأمر معلم صفه: استاذ المعلم "...." يريد العصا وهسَه يرجعهه!؟
ودخل ذات مرة المفتش محمد علي هادي المدرسة. كنت أتجول بين الطلبة في الساحة أثناء الفرصة، والعصا بيدي. بعد أن أستقر في الإدارة طلبني، وسأل باستغراب: وتحمل العصا جهرا!؟
- أجل. ولكن حين يأتيك من يشكو مني، أتخذ أي إجراء تشاء. أنا يا أستاذ لا أماري، كغيري ممن يستعملها ويقسو. ثم لم العجب؟ آباؤهم يضربونهم بالعصا، ويضربون أمهاتهم بالعصا والنعال أيضا. وكلنا يعلم أن الشرطة تهين من يوقف وتضرب الموقوف، خصوصا إذا كان مغضوب عليه سياسيا!
وفي التاريخ إذا كان المغضوب عليه، منافسا لذوي السلطان، أو محتجا على بذخ الملوك، أو ممن يسمون "خلفاء" فيشنق من يد ورجل، أو تسمل عيناه، ويدس له في النهاية سم، أو يحرق. وهي أساليب لم ترد في الشريعة الإسلامية، ولا أي دين آخر.
لذا لابد من العصا فهي الرمز المهاب، وأتذكر أن المربي الوحيد، الذي نشر رأيه حول العصا بجرأة، هو الأستاذ رشيد سلبي بعنوان "العودة إلى العصا" العصا مذلة ومهينة، ولكن بدونها -وقد وضحنا الأمثال- لا يمكن ضبط الصبية العابثين.
وقفت ذات مرة أمام سبورة الإعلان، وقد سبقني "معلم الرياضة" يقرأ إعلانا عن عقوبة طالب بحسم ثلاث درجات من سلوكه، مع طرده يوما واحدا! وهز معلم الرياضة يده هازئا بهذا الإجراء. قلت: وما العمل إذن؟ أجاب: أضع أصبعي في "....." وأسوي نصفين!!؟
وأثناء مروري إلى صف يخصني، وجدت معلم الصف الرابع -بعض الأسماء لم أسجلها مع إني أتذكرها، إذ بعضهم تافه وخامل-، وهو يقف قريبا من الباب من الداخل وكأنه يحاضر. لكن بالشتائم الكريهة والفحش! وكان قد تجاوز الأربعين. وصديقا ودود لمدير المدرسة، والمعروف أنه ورث أملاكا واسعة وأموال طائلة، بددها على الخمر والميسر. ومازال كذلك يعيش أعزب في بيت مستأجر ويبدو كشيخ بلغ من الكبر عتيا، لكنه لا يتردد في كلامه البذيء.
بعد هذا أليست العصا أزكى وسائل التأديب، شرط أن يكون بنية طاهرة؟
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏04‏/05‏/2011

105
3- عودة ومصائب وعواصف / 12
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)

 

حصن الاخيضر      
في 1/4/1957 الساعة الثامنة صباحا تحركت بنا السيارة. وصلنا عين التمر قبل الظهر. ذات العيون والينابيع، ومنها تسقى بساتين النخيل وشجر الرمان والزيتون. وفيها مباني قديمة يطلقون عليها اسم القصور.
أما العيون والينابيع غير معتنى بها من الأهالي، ففيها أقذار، وبعض السكراب يستقر في قاعها. والأطفال يسبحون فيها كثيرا. ولم نتجول فيها لضيق الوقت. فتوجهنا إلى الأخيضر.
إنه بناء ضخم، وربما كان قلعة حربية -وهذا مذكور أيضا في كتابات المتأخرين-، ربما كانت عباسية، أو هي من العصر الجاهلي. بعضهم يقول إنها مسيحية. وقد لاحظت في واجهة البناية وفي أعلاها رسم "غصن زيتون" والمعروف أن هذا شعار فرسان الروم. أكثر جهاته ذات جدارين سميكين فيها كُوى يحتمل أن تكون للرماة حين تدعو الحاجة للدفاع عن القلعة ضد المهاجمين. وهو الآن طابق واحد، بينما تدل بقايا جدران قائمة قد تهدمت أن هناك كانت حُجر لشؤون هامة.
قاعاته كثيرة. أول قاعة عن يمين الداخل، واسعة فيها دكات مستديرة كثيرة من جانبيها من الباب حتى نهايتها، أشبه ما تكون لوقوف مصلين مسيحيين، بينما فيها محراب أيضا. ولعل المسيحيين أيضا يستعملون محاريب. هذا ما لا علم لي به. وجوه الجدران قد تعرت، ربما كانت نقوشا، وسرقت حجارتها. أكثر حجارتها من الصخر الذي يكثر في التلال المنتشرة هناك. الطابوق فيها قليل ، السور المحيط ببعض المسالك توجد فيه أقبية ضيقة لا يزيد ارتفاعها على أكثر من ثلثي المتر، لكنها تمتد طويلا. وتوجد في بعض جهاتها سراديب عميقة. ترددت في النزول إليها لأنها ظلماء. قال أحد البدو والذين وجدتهم هناك عن الأقبية، إنه كان يزج فيها من يحكم عليهم ليموتوا فيها، فهي سجن للموت. من أين للبدو هذا التعليل!؟ كما وجدت في قاعة كأنها إصطبل وفيها معالف وفي أسفل جدار كل معلف مربط إلا أنها عالية جدا، علو لا يتمكن حتى البعير أن ينال منها شيئا فبم يفسر هذا! وهنا وجدت عمال شركت الاسمنت العراقية.
على أي حال. يبدو أن المؤرخين وعلماء الآثار لم يتوصلوا لحد الآن عن عهد وتأريخ هذا البناء فاختلفوا في الرأي. أهو جاهلي أم إسلامي، أموي أو عباسي؟ ثم أهو الأخيضر أم الأكيدر؟ وربما كانت "اكيدر" محرفة عن "اخيضر" كما يقول "شكري الألوسي" مسندا رأيه هذا عن "ياقوت الحموي" وإنه أمير من أمراء كنده. وما دام المختصون لم يأتوا برأي قاطع فما يحق لي أن أنحاز لرأي ولست بالخبير.
وبعد أيام من العودة قمت بزيارة قبر "الحر ألرياحي" وهو الفارس الذي عرف عنه إن ابن زياد أمره أن يستقبل ركب الحسين، فيرغمه على أن يتوجه به إليه، وفعلا ضايق الحسين الذي اضطر أن ينزل في أرض كربلاء الذي استشهد فيها هو وأخوته وأبناء عمه وأنصاره. ثم انحاز الحر إلى جانب الحسين بعد طلب العفو والغفران. وضريحه محترم يزار، وسور صحنه كبير أيضا.
عند عودتي طبقت الأفق غيمة سوداء، ثم هبت زوبعة عظيمة، وأعقبتها أمطار غزيرة، بنفس الوقت. اقتلعت الزوبعة أشجارا ونخلا. وفي الطريق اقتلعت الزوبعة شجرة كالبتوس كبيرة، فتقطعت أسلاك الكهرباء، أثناء مرور رجل عجوز فوق حمار، فمسته الكهرباء، مات الحمار بصعقة منها وفر الرجل بسلام. وبعد أحد عشر يوما -21/4/1957- حدثت أيضا، بروق ورعود وأمطار غزيرة، وتقطعت أسلاك الكهرباء.
وحين أنهى ابني كفاح السنة الأولى نجح بتفوق إلى الصف الثاني وكان الناجح الأول. حين ظهرت نتائج امتحان البكالوريا في المدارس الإعدادية، كان جميع مدرسيه يتوقعون -بل قطعوا بهذا- أنه سيكون الأول. ولكن النتيجة ظهرت عكس ذلك. فاستغرب أساتذته ذلك، وبعضهم قال: كنت أتابع أجوبته أثناء المراقبة إضافة إلى ما أعلمه عنه خلال سنة الدراسة! أما هو فقد انتابه حزن عظيم، واعتبر المسألة نتيجة تلاعب. دافعت ضد رأيه هذا، غير إني أعرف أنه قد حدث مثل هذا، من أجل نجاح شاب، تعرفت عليه في الناصرية وكان شابا شهما للغاية، فاشل في الدراسة لكنه بطل في الألعاب الرياضية. وكان أن انتخب للدخول في كلية الملك فيصل لأنه الناجح الأول!؟. واستقبله عميد الكلية الانكليزي استقبالا حارا بالانكليزية طبعا، فوجم لا يحير جوابا. وصارح العميد بحكايته، وانتهى الأمر أن عاد بخفي حنين. وتلطف بعض وجهاء بلده وتوسط في أمر تعيينه في وظيفة استهلاك. فهو يقف في طريق القرويات والقرويين لاستحصال رسم الاستهلاك على ما يأتون به للبيع أو لغرض -الهبش والطحن- ولجهله حتى بالكسور العشرية والاعتيادية كان يسقطها ويعفيهم، بينما هو يثبت في الوصل مثلا أن المرسم كان كيلو وربع وأمثال هذا. وحين جاء مدققوا المالية، اتهموه بعد التدقيق انه مختلس وأي مختلس. إن المبالغ زادت على الألف!؟ وأوقف المسكين ضحية معلمي الرياضة، ولم ينج إلا بعد تدخلات الوجهاء وذوي الحظوة عند المراتب العليا! لا يستغرب القارئ هذا فإن الوجاهة في ظل الحكم السائد عندنا تستطيع أكثر من هذا.
ليس إذن من الغريب تكون حكاية أبني في محلها خصوصا وإن الناجح الثاني كان ليس ممن يرجى نجاحه!؟ كيفما يكن من أمر، فقد برهن الآن أنه ظلم، وقبل في القسم الداخلي أخيرا. وفي بداية السنة في 1/10/1957 نقلت إلى مدرسة الحسين.      
مدرسة الحسين/1
هذه أول مدرسة أسست في كربلاء. حين نقلت إلى كربلاء كان مديرها السيد هاشم الخطيب، تلاه مهدي هاشم الشماسي. ثم أنتقل من وظيفة التعليم إلى الإدارة المحلية. وكان شابا طموحا وشاعر أو أديبا له إلمام باللغة الفارسية، وإطلاع على شعر أكثر شعراء الفرس. وله قصص منشورة، وقصة مطبوعة باسم "العمة لؤلؤة" وكراس صغير "مع الشعب الإيراني" هو نتاج تجواله في مدن إيران الشهيرة وبين آثارها القديمة. كما ترجم بعض رباعيات "حسين قدس نخعي" سفير إيران بطلب منه. بعد مراجعتها تعشق رباعية منها - نسيت أية رباعية هي حين قرأها عليّ-. وقال لصاحبها: أترجمها من أجل سواد عيون الرباعية وبدون مقابل!. وقد سبق لقدس نخعي أن طلب ترجمة رباعياته من قبل الدكتور مصطفى جواد والأستاذ المرحوم صالح الجعفري.
ولي بالشاعر الشماسي صلة أسبق من مجيئي إلى كربلاء، تعود إلى علاقتنا بقريبه الحاج "حسن الشماسي" المقيم في ناصرية "الأهواز" والذي أعلم أنهم من أصل بحراني ثم -بصريين-.
مدير المدرسة حاليا شاب يدعى "محمد حسين الأديب" وهو إيراني الأصل. خريج دورة بعد الإعدادية. ذكي جم النشاط، جيد في كل فروع الدراسة، مضافا إليه دراسته الفقهية. واسع الصلات خصوصا مع أكابر موظفي الدولة في مركز اللواء، ومع كثير من رجالاتها في بغداد والمدن الأخرى، ومع بيوت وجهاء كربلاء وتجارها، وبالأخص رجال الدين. وله بصفة خاصة صلة وثيقة برجل الدين الشهير"هبة الدين الشهرستاني محمد علي" والأستاذ "أحمد أمين" مدرس الرياضيات الذي أنصرف لدراسة الفقه وأصوله والفلسفة الدينية.
كما له صلة هامة بأحد رجال الهند، وقد سافر إلى الهند، وفي بيته مكتبة عظيمة قيل أنها تعود إلى هذا "الراجا" كما أنه يجيد اللغة الانكليزية والفارسية والهندية وقليلا من الكردية. وهو لكل هذا معتد بشخصيته أيما اعتداد. ومع هذا فهو يعتمد على المجاملة، يحاكي بها أساليب رجال الدين، بينما يقلد الارستقراطيين في أسلوب سيرته في الإدارة، في توحده -الغالب- فلا يدخل عليه من المعلمين إلا المقربين إليه. وحين يدخل بعض الآخرين فإنه بعد التحية، وتقديم ما أعتاد تقديمه من الشكليت وشاي الزعفران والسجاير، ينصرف إلى عمله المدرسي، أو التأليف الذي هو غالبا في الأمور الدينية -كيف تصلي اليومية- أو -حلق اللحية- أو -الصوم- إلى أمثال هذه. حاولت التعرف عليه قبل أن أنتقل إلى هذه المدرسة، حيث زرته عدة مرات. لكن لم أتفهمه جيدا إلا حين باشرت التدريس فيها.
المدرسة تضم أغلب أبناء وجهاء المدينة، خصوصا الذين هم في موقع محلة "العباسية" وأبناء الموظفين، بينما الغالبية أيضا هم أبناء الطبقة الفقيرة الذين هم بطبيعة الحال أكثرية في كل مكان. عهد إليّ درس العربي في صفي الخامس والسادس. ويبدو أنه لبروز شخصيته يختار المعلمين، إلا من ينقل إليها برغبة مع شفاعة محترم، أي أنه يختار ولا يعارض، تأدبا منه ومجاملة. وتضم المدرسة نخبة من المعلمين المتميزين باختصاصات معينة. صادق العاني في الإنكليزية، باقر القباني في العلوم الطبيعية، جليل السهروردي في الرياضيات، رفيق اطيمش في الرسم. كذلك معلمون لصف الأول.
لاحظت انه لا يعير اهتماما لو أن المعلم عاقب تلميذا من الطبقة الفقيرة! ولكنه يبدي اهتماما أكثر مما يلزم لو أن العقوبة وقعت على أبن وجيه!. انه يؤثر أن يرسل المعلم الطالب إليه لاتخاذ إجراء مناسب. وقد يكتفي بحجزه جالسا عند باب الإدارة، وينتهي الأمر بحلول الفرصة. وفي المعلمين من لا يكترث برغبته في رعاية أولئك، فهم ينظرون إلى طلبتهم بمنظار واحد. 
صادف أن ندبت احد التلاميذ في الصف السادس لحل جملة على السبورة، كان مدللا حركا. أما في الدروس فمهمل للغاية. وبدل أن يستجيب، نهض يمثل مشية الثمل، نبهته إلى ما أريد، فمد يده إليّ بشكولاته من النوع الراقي: تفضل خوش شكليته!؟ أخذتها منه ، فاخذ يتمايل كأنه يتساقط؟ صحت به أن يجيب على المطلوب، فأجاب: آنه داي...خ! ناديت الفراش، وقلت: خذ هذا الطالب إلى المدير، وسلمه هذه الشكليته!؟ أما المدير فأجلسه في الإدارة لا خارجها! أنه ابن مدير منطقة تجنيد كربلاء "عبد الحميد سوادي". ولم أحاول تعقيب أمره. اكتفيت بهذا. مدير منطقة تجنيد كربلاء هو من لواء العمارة. كان أخوه كاظم سوادي معاون شرطة للأمور والمبادئ المحرمة، وقد مر ذكره في حديثي أيام الناصرية وإرسالي مخفورا إلى بغداد. (مرّ ذكره في قسم -الدرب الطويل- تحت موضوعة -الويل-/ ألناشر)
وصادفني صديق في الطريق ليلا فراح يعاتبني، كيف يصدر مني ما لم يعهده في سلوكي. وقص علي أن والد التلميذ، جلس إليه وإلى المفتش حسين قاسم العزيز، والغضب يغلب عليه، فهو يهدد ويتوعد (هذا المعلم الشيوعي .... وأنا لا يمنعني أن أرميه بطلقة مسدس، وأدوس عليه بحذائي .... انه يهين ابني يسميه بزر شكليت نايلون ... تأملوا سخفه أنه معلم تمام!؟ لقد قص على التلاميذ حكاية البعير المدلل، وأفهمهم أنها طبقا لوضع ابني ليث!؟). وعبثا حاولوا تهدئته، والدفاع عني باني لست كما يضن.
أفهمت صاحبي الحقيقة. قلت: ليتفضل حضرة السيد فيفعل ما يشاء!
في اليوم التالي كان لدي فراغ. فدخلت الإدارة لأقضي الوقت مع المدير. وجدت الرجل عنده، ولم أكن أعرفه. ولكن المدير بعد أن حياني، قال: هذا هو المعلم الذي تحدثت عنه. المدير لخص له الحكاية وقدم له الشكليته التي استلمتها من ابنه وأرسلتها إلى المدير. هذه الشكليته الحلوة تحولت أو حولها الطالب إلى شتيمة. المعلم يسميني بزر "شكليت نايلون" (مصطلح عامي يقصد به أنه ابن مترفين، ولم أقل هذا أصلا). والتفت الرجل يعتذر عما بدا منه. قال: أعترف أني تهورت كثيرا، شتمتك، هددت بالانتقام، إني أشكر الأخوة الذين دافعوا عنك. واشكر مدير المدرسة الذي أوضح لي الحقيقة. كذلك والدته وهي معلمة في مدرسة ابتدائية فيها بناتك، لقد انحازت إلى جانبك. وقالت: أن بناته مؤدبات فلا يعقل أن يكون كما يدعي ولدنا ونصدقه، إن أبننا مدلل حقا ومهمل. ونادى على ابنه، أمره أن ينحني فيقبل قدمي.
أمسكت بالتلميذ وقلت: لا يا سيد أنا لا أربي تلاميذي على العبودية، إني أربي للحرية. صاح: قبل يده. قلت ولا هذا أيضا. أرشده كيف يجب أن يستفيد ويتعلم ويخط مستقبل حياته. أما أنا فلست كما قلت -يريد ينتقم من أبني لأن أخي معاون شعبة شرطة الناصرية أوقفه كشيوعي؟- بالعكس أخوك جاملني كثيرا، وتوقيفي كان بأمر حاكم تحقيق الرصافة.
بعد هذا الحادث صار الرجل ممن يطلب ودي، وقد يفاجئني بوقوف سيارته يعرض علي أن يوصلني حيث أريد. أما زوجته النبيلة فقد كتبت إليّ مع إحدى بناتي تطلب مني أن أجلسه إلى جانب ولدي محمد وأن لا أعفيه من أي واجب. وتكرر شكرها لي.
أنا فخور أني أفعل ما يتلاءم وفهمي لقواعد التربية، وما تمليه علي ثقافتي وأخلاقي.
*            *            *            *
واهتم كما يهتم ذوو العلم والسياسة بما يجد في العالم، وإن لم تكن اهتماماتنا ذات جدوى، ولكن أليس ما يجد من خير وشر بنا أو ينال مجتمعنا منه ما ينال الآخرين؟ ففي 4/10/1957حدثت في العالم ضجة، حيث أطلق السوفيت القمر الصناعي الأول. قالوا عنه، إنه يدور حول الأرض كل 95 دقيقة مرة. والتقطت إشارات وصلت منه. وعلى الأثر أعلن الأمريكيون إنهم سيطلقون كوكبهم في الربيع القادم. إنه سباق حقا ليس من أجل خدمة البشرية، إنما من أجل أن يصون كل منهم حكمه القائم أو سلطته على العالم.
وبعد فترة وجيزة في 3/11/1957 أطلق السوفيت كوكبهم الثاني. ويحتوي على أجهزة علمية للالتقاط والإرسال وتحليل الطيف الشمسي، والأشعة غير البنفسجية، ويحمل كلبا مدربا معه طعام يكفيه مدة معينة، وجرس ينبئه بموعد الأكل. ويرتفع هذا القمر عن الأرض مسافة كبيرة. أما الصاروخ الذي أطلق في 6/12/1957 ويحمل القمر الصناعي الأمريكي فقد أذيع عنه أنه تفجر في الفضاء وسقط القمر في البحر.
الناس في بلادي يهتمون بكل ما يسمعون، هاما أو غير هام. فقد تجمع عدد كبير من الناس أمام عيادة طبيب مصري جراح يدعى "إبراهيم" قالوا إنه مع مومس، أما هو فأغلق باب العيادة وأطفأ الأنوار. ثم تأكدت صحة التهمة. الذين يقترفون الآثام هذه الأيام ليسوا بالقلة ولا هم يتسترون أيضا، من عاديي الناس مثلما أيضا من ذوي ثقافة ووجاهة. فلماذا إذن رأوه أمرا عجبا؟ ألأنه مصري؟ أعتقد لأنه طبيب. والطبيب يجب أن يكون أمينا على أعراض الناس. هذا صحيح. وأطباء عراقيون أيضا يفعلون هذا، ومستقبل الأيام سيكون هذا أمر غير ذي أهمية. حدثني صديق أن ما يجري في المستشفيات أشد وأعجب. فالأطباء حتى الجراحين منهم، هؤلاء كنت أعتقد أنهم لكونهم يشرحون جسد الإنسان سوف تضعف فيهم شهوة الجنس بما يطلعون عليه وبتكرار، ولكني شاهدت بعيني إن كثير منهم يلاحق الممرضات، كحيوانات. وقد يعرض نفسه لإهانة، ولكن هذا نادر. فنحن ننادي بحرية المرأة، ولكن حرية المرأة مثل حرية الرجال تحت سلطة حكومات "رأس المال" إنها هي التي تجعل تلك الحرية "إباحية" ثم يهرج كتابهم وفلاسفتهم: إن الشيوعية، إذا حلت تفشت الإباحية!؟
ولقد حزنت اليوم 24/11/1957 لنبأ وفاة الشاعر المهجري الكبير "إيليا أبي ماضي". وقف أمامي زميل من المعلمين وقال: أيمكن أن يبقى امرؤ مخلد في الحياة إلى الأبد؟ فحول أحد الزملاء الموضوع إلى مجال آخر. كان هازلا. ولكن الآخرين أخذوه إلى مجال الجد. قال هذا ولماذا لا. الخضر ما زال حيا، وآخرون يقال لهم "رجال الغيب" و "عيسى بن مريم" و "المهدي المنتظر"!؟
لم أشارك في هذا الحديث. المتدينون من المعلمين هنا كثير، في طليعتهم مدير المدرسة، ولديهم دليل فوق كل دليل. هو دليل واحد. بعضهم يقذفه في وجه من يجادل حين لا يجد ما يرد مقابله. وبعضهم يجبهك مباشرة به (أتؤمن بوجود الله وإنه على كل شيء قدير؟ هذه الحياة المديدة من قدرة الله). طبعا لا يعرض أحد نفسه للمناقشة في وسط لا يكتفي بالجدل. بل لا يقصد من الجدل الوصول إلى حقيقة ما يجادل عنه، بل للتشهير، والإيقاع بالمخالف، والظهور مظهر المخلص للعقيدة على حساب خصمه. وحكاية أهل الكهف. واحدة مما يتخذوه الآخرون حجة دامغة.
أبو ماضي سيبقى حيا وإلى الأبد. ليس في "طلاسمه"  حسب، كل شعره أوتار ترن على مسامع من يتعرف أسلوب أبي ماضي الرائع في قصائده التي جسد فيها مشاعره الوطنية والقومية والإنسانية، في "الطين" و "الشاعر والسلطان الجائر" و "الدمعة الخرساء". والتاريخ لا يخلد الطيبين حسب، إنه يخلد حتى أعداء الإنسانية أيضا. فالعراقيين لا ينسون صالح جبر بطل معاهدة بورتسموث المقبورة، ولا نوري السعيد مثلا، إنما سيبقى ذكرهم لعنة على الشفاه كلما ذكر شهيد أستشهد برصاصة في مظاهرة احتجاج، أو حكم عليه بالموت شنقا بأمر عات ظلوم.
ومهما كان للأحداث الخاصة بي من آثار تقض مضجعي، وتحز في نفسي، فإني أتصبر متأسيا بذوي الجهاد والتضحية من أجل عقيدة، أو غضبة ضد جزاري شعوبهم أمثال "نوري السعيد".
لم أقو اليوم على كبح جماح دمعة تلجلجت في موقي عينيّ، حين تسلمت تذكرة من أبي الشيخ، يطلب فيها أن أبعث إليهم اُم بيتي، لتقوم بخدمته وخدمة أمنا التي فقدت بصرها بحادث إعدام أخي "حسين". لدي ستة من الأبناء والبنات في المدارس الابتدائية والإعدادية. ولي دوامي أيضا فمن سيدبر أمر هؤلاء؟ ولكني آثرت أبويَّ علينا جميعا. ورحت أشرك بني جميعا، كلاً على قدر ما يستطيع لإنجاز ما نحتاج من أمر الطعام.
ولكن أمرا آخر، جعل حزني مضاعفا. أبي أحتاج المساعد فأسعفته، بعد أن سافرت أختي لاستقبال أخي "محمد علي" الذي تقرر إرساله إلى بدرة فقد أنهى محكوميته. كان قد حكم عليه بالسجن عشر سنوات عام 1949 في نفس الشهر الذي اعدم فيه شقيقنا "حسين" وبعد أن أنهاها أرسل إلى بدرة في 17/12/1957. ولابد أن يرسل إليها ليكمل الحكم الصادر عليه مع السجن عشر سنوات وخمس سنوات إقامة جبرية في بدرة. كم أنا مشتاق إليه. لم يعد لي شقيق غيره. وإنه جراء ما لقي من تعذيب وظروف سيئة أصيب بالتدرن الرئوي. أنا بحاجة إلى ما يمكنني من السفر للقائه. بضعة دنانير. وكم فكرت، من الذي أمد له يدي؟ إنها محنتي، ماء الوجه غال! وغبت عن وجودي في الصف السادس. وكأني في عالم بعيد ما فيه إنسان قط!
أحسست بطالب ينهض من كرسيه ويتوجه نحوي، ويضع يده على يدي: أستاذ؟
- نعم. لماذا تترك مكانك؟
- العفو أستاذ أشوفك محزون أنا بخدمتك إذا كنت محتاج؟ مباشرة صارحته بما أعاني. لقد شعرت إنه ذكي وطيب وإلا كيف أدرك ما أعاني. وخرج مسرعا من المدرسة وعاد بعد قليل يحمل أكثر مما توقعت!

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏23‏/04‏/2011

106
3- عودة ومصائب وعواصف / 11
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)



 

الآمال والمطامح
      
الشعوب العربية كلها ترتوي من منهل مصر الثقافي والسياسي، منذ برز فيها شخصيات عظيمة، مصطفى كامل، وسعد زغلول، ومحمد عبده، ومنذ اتخذ منها جمال الدين الأفغاني فترة من حياته، مسكنا ومنطلقا لجهاده. فتوقدت في نفوس كثيرين من علمائها وأدبائها الروح الوطنية. لكن قبضة الاستعمار البريطاني ظلت تضغط عليها بقوة. وأيضا كنا نعلم أن تحت الرماد وميض نار.
فوجئ العالم في 25/7/1952 بإقصاء فاروق عن العرش، وأخذ الزمام ضباط أحرار على رأسهم جمال عبد الناصر، وكأن رعدة سرت في أوصال العراقيين، فهبوا يحيوا الثورة المباركة، متحدين سياط نوري السعيد -وكيل الاستعمار الأوحد- ولكن الشباب أنتفض بمظاهرات صاخبة. ذكرت نوري بانتفاضتنا في 1948 و1952 والصحف الوطنية والتقدمية لم تحجم عن إعلان استبشارها، ومساندتها، وتحذيرها أيضا خشية أن تحبطها تدخلات ووعود. لكنهم لاحظوا  أيضا أن قائد الثورة كان يبدي في تصريحاته ما ينم عن غزل مع أمريكة ليضمن مساندتها في مشاريعه الوطنية الاقتصادية. وعنوان هذا الغزل كان آراؤه في الشيوعية عدو الاستعمار الأول. كقوله إن أي اعتداء موجه إلى الشرق الأوسط سيكون مصدره الجانب الشيوعي!؟. هو بحاجة إلى السلاح وما هو أهم  أيضا "مشروع السد العالي" فتوجه إليها مغازلا. لا أيها القائد، أمريكة اليوم ليست أمريكة "أبراهام نيلكون" ولا أيضا أمريكة "ولسن" إنها أمريكة رأس المال وملوك الصناعات من اليهود الصهاينة!؟ فراح يلمح لها "إنه ليس ثمة ما يقف في علاقاتنا الطيبة مع الغرب -بعد مشكلة قناة السويس-. وإن الإسراع في عقد المحالفات قد يؤدي إلى نتائج غير حسنة خصوصا من جانب الشيوعيين، الذين يعلمون جيدا كيفية استغلال شكوك العرب اتجاه الغرب"
ثم يرسل رسوله وزير الإرشاد في لقاءات تمت بينه وبين "الوكيل الأوحد نوري السعيد" وتحيط تلك الاجتماعات السرية التامة والغموض. وتروي وكالات الأنباء قولا لقائد الثورة في "أن مصر والعراق عزمتا على تعويض ميثاق الدفاع كحلف دفاعي يكون أوسع نطاقا عندما تنظم إليه تركيا والباكستان فيما بعد!".
وتوقفت بعد زيارة رسول "القائد" إذاعة صوت العرب عن مهاجمة المساعدات الأمريكية، والحكومة العراقية التي قبلت تلك المساعدات. لا ندري، ربما في سره غير ما يشير إليه هذا الذي سمعناه وقرأناه. ولكنا نعلم أن أية ثورة في هذا الزمان إن لم تكن جذرية، وبعيدة عن مصالح -البرجوازية- فإن الاستعمار لا يفسح لها المجال إن لم تنضوِ تحت جناحيه، وتوقع صك التبعية والولاء.
وكان ما كان من أمر فشل الغزل ورفض أمريكة لمدّه بالمساعدة في السلاح وإقامة السد العالي. فولى وجهه شطر الاتحاد السوفيتي بعد أن أعلن تأميم القناة في 26/7/1956.
وجاء رد الاستعمار على تأميم القناة سريعا أيضا فشن على مصر عدوانه الثلاثي في 29/10/1956. وأبلى الشعب المصري بلاء فاق التصور، ولم ترتد قوى الشر ولم تعبأ ببيان مجلس الأمن وهيأة الأمم، والشروط الأربعة رفضها جمال، واشتدت المعارك في بور سعيد، بينما أنذرت إذاعة الشرق الأدنى في 30/10/1956 المصريين بالابتعاد عن محطتي مصر والإسكندرية لقصفها.
وأنذرت  موسكو في 6/11/1956 حكومتي بريطانيا وفرنسا بالتدخل والتطوع في صفوف الجيش المصري. فأوقف القتال. أي موقف نبيل هذا؟ في وقت كانت تسمع من قائد الثورة المصرية آراءه في الشيوعية ودولة الشيوعية.
وسرعان ما وزع الاستعمار الأدوار على وكلائه من حكام الدول العربية. لتطويق مصر لكي لا تسري العدوى إلى بقية البلدان العربية. تشيع أمريكة أن سورية أصبحت مبعث ذعر لجيرانها، وتحشد تركيا جيوشها على حدود سورية. وملك الأردن يذيع من راديو بغداد رسالة إلى رئيس الوزراء "النابلسي" إنهما يختلفان في الاتجاه! ويشير إلى أن الشيوعية تساوي بين الشيوعي العربي والشيوعي الصهيوني!؟ ذلك لأن الأردن برئاسة النابلسي فاتح الصين والاتحاد السوفيتي في 31/11/1956 برغبة الأردن في إيجاد علاقات دبلوماسية معهما. ثم أقال النابلسي. وصارت الوزارة كرة يرميها صاحب الجلالة "القزم" على رجال رفضوها لأنهم في واقع الأمر يعرفون جيدا من هو المفضل عنده لها -المفتي، ألخالدي والحيالي-؟ ولماذا؟ وهم يعلمون أيضا أن تلك الأحداث كانت مؤامرة القصر!.
صحافة العراق الوطنية، وقفت تساند مصر، وتحذر عبد الناصر من الانزلاق في مهاوي الاستعمار الانتقامية. والشباب يواصل التظاهرات الصاخبة العارمة في مدن العراق، ويتلقى رصاص شرطة نوري السعيد، الذي يعلن بغباء محذرا البلدان العربية "أن لا تنخدع بما تظهره موسكو من عطف على قضيتها فإن لها -موسكو- مقاصد خطرة على سيادتها واستقلالها!؟". هؤلاء العملاء يفقدون صوابهم حين يهب الشعب فينسون ماذا قالوا أمس حين حدث العدوان الثلاثي. قالت إذاعة بغداد: إن موسكو تقف موقف المهرج فلم تتجاوز نصرتها الأقوال. أما وقد أصدرت موسكو إنذارها إلى حكومات "العدوان الثلاثي" فقد علقت إذاعة بغداد هذه المرة "إن إنذار السوفيت تعكير لصفو السلام ، بدلا من أن تشجع موسكو التعاون والحلول السلمية تشجع الحرب" ربما هي تفهم السلم بمنطق الهجوم الثلاثي لاحتلال مصر!؟
ثم صفى نوري الصحافة الوطنية، وحكم على بعض قادة الأحزاب بعد ما أغلقها. وراحت شرطته تحصد الشباب، وتزج الكثير منهم في المعتقلات والسجون، وأغلقت الكليات، وعطلت المدارس في كل مدينة شبت فيها المظاهرات.
وشمر عن ساعديه لتحويل الحلف التركي الباكستاني بعد أن حقق بديلا لمعاهدة 1930 فأصبح الحلف يحمل اسم ميثاق أو حلف بغداد وانضمت إليه بريطانيا.
وخلا الميدان من الصحافة الوطنية العلنية. فشدد الحزب الشيوعي من فضح ألاعيب الاستعمار التي ينفذها العميل الأول، وكذا منظمة حزب البعث العربي الاشتراكي -السرية أيضا-. من يطالع كتاب السفير الأمريكي -ولد مارغلمن- بعنوان "عراق نوري السعيد" يعرف أن نوري عميل متفان في خدمة الاستعمار. وقد عاش هذا السفير بين الأعوام 1954-1958 أي أنه شهد نهاية نوري السعيد. ولكنه قال: سيأتي يوم ينصب فيه العراقيون له تمثالا وسط العاصمة بغداد!
وفي كربلاء اعتقل عدد من الشباب بتهمة اشتراكهم في المظاهرات، وأغلقت إعدادية كربلاء. ثم ابتكر أسلوب جديد عندما أوفد مدير معارف أربيل عبد الوهاب الركابي ليشغل مهام مدير معارف كربلاء بدلا من رشاد شمسه، إن على كل ولي أمر طالب أن يأتي بابنه فيتعهد حسن سلوكه لغرض تسجيله، ويعتبر تسجيل الطالب وقبوله اعتبارا من كفالة والده.
قبل عودة الطلبة بهذا الأسلوب مرّ معاون الشرطة ".... السلومي" ومعه الطلبة المعتقلون، هاج الطلبة وتعرضوا لمدرسهم محمد حسين حلمي لاتهامهم إياه بالتجسس. وكان معاون الشرطة قد مرّ بالطلبة ليثيرهم. وقيل: أنه ممن لا يؤيد إجراءات الحكم، وقد علمنا إن الطلبة أرسلوا إلى معسكر -سكرين-. ومحمد حسين حلمي من أصل إيراني، أقاموا في كربلاء واتخذوها سكنا لهم وتحولوا إلى الجنسية العراقية، ولهم مصاهرات مع كربلائيين عرب ومع نجفيين أيضا.
أما في النجف فترد الأنباء أن الوضع مقلق للغاية.
الأحزاب السرية لا تكف حملتها ضد حكم نوري، وتعلن رفض الشعب العراقي لمشروع أيزنهاور، وميثاق بغداد، وتطالب بتشكيل وزارة من جميع الأحزاب. ويقول العارفون ببواطن الأمور أنه قد توصلت الأحزاب الوطنية إلى تشكيل جبهة الاتحاد الوطني.
هذا أمنية كل وطني مخلص. ولكن أمن الممكن أن يتم هذا ويتحقق حكم وطني خالص بعد القضاء على النظام الملكي صنيعة الاستعمار البريطاني؟. وبدون أن تنهار الجبهة من جديد، فقد علمنا أن بعض أركان الجبهة من كان يرفض بالأمس أن يكون الحزب الشيوعي ركنا من أركانها. ثم وهذا في رأيي أهم، هل تم تأليف الجبهة وفق مخطط وبرنامج يتم تطبيقه  قبل الإطاحة بالعهد الملكي وبعده إلى أمد طويل أم اكتفى في المسألة بالإطاحة!؟ لقد دعا حزب التحرر الوطني لعقد الجبهة. وقد رفض رئيس الحزب الوطني الديمقراطي باعتباره حزبا غير مجاز. أما حزب الاستقلال فكانت المادة "7" من ميثاقه تنص بصراحة بمقاومة الشيوعية.
هذا سيخلق مشاكل كبيرة للحركة الوطنية. والشعب الذي ضحى كثيرا، وسيجد الاستعمار منفذا جديدا للعودة حتى ولو ببقاء الحكم جمهوريا. فليس العبرة بالأسماء. إن تهدمت وحدة الشعب، وأكلت الأحزاب الوطنية بعضها، عند هذا ستكون حريات الشعب في خبر كان كما يقولون.

وفاضل الجمالي         
الرجل من القدامى الذين حصلوا على شهادة الدكتوراه. فشغل وظيفة مدير عام المعارف. واشتهر بعدئذ انه حريص كل الحرص أن لا يكون له ثان في مثل هذه الشهادة! فهو يُسهل أمر طالب البعثة في أي تخصص آخر عدا فلسفة التربية. بحجة الاهتمام في تخريج أعداد في مجالات علمية! وتقدم شاب يدعى "عبد المجيد الحكاك" بطلب، فلم يحصل على نتيجة. كان الشاب ذا قوة جسدية، ومتهورا نوعا ما. فقرر أن يواجهه ويستفسر منه عن أسباب حرمانه. وهناك، بعد أن أغلق الباب من الداخل أنتقم منه شر انتقام بالضرب المبرح واللكمات الشديدة. فلم يستطع أحد إنقاذه. والحكاك هو الذي قص عليّ حكايته مع الجمالي. وحين ألف الأستاذ ذو النون أيوب قصة "الدكتور إبراهيم" شاع أمرها أن المقصود بها الجمالي. وانضم الجمالي إلى جمعية "الرابطة الأدبية" في النجف ، طبعا من باب إسنادها كشيعي. والطائفية إذ يعتنقها شيعي أو سني، إنما هي رمز الرجعية المقيتة، ومعتنقوا الأفكار الطائفية -في رأيي- هم أقرب من يكون إلى جانب الاستعمار.
وكان تعرفي عليه بحكم ترددي على عميد الأسرة "الشيخ محمد رضا الشبيبي" فأجده بعض الأحيان في مجلسه. وحين تقدمت إلى لجنة المقابلة لتعييني معلما عام 1934 كان هو أحد أعضاء اللجنة. وربما ساعدني في طلب النقل من بلد إلى آخر.
زار الجمعية الأدبية مرة هو والدكتور متي عقراوي بصحبة الشيخ باقر الشبيبي. وكنت في جدل مع رئيس الجمعية "عبد الوهاب الصافي" الذي عارض قصة لي بعنوان "وادي الأحلام" فرفض أن تُلقى أو تنشر. بحجة أنها فوق القيود. فانتهزت فرصة وجودهم وطرحت الموضوع عليهم. فعلق الجمالي بعد الإطلاع عليها -ردا على رئيس الجمعية- من أراد أن يقود المحيط إلى الأمام عليه أن يتقدم صفوفه لا أن يسير خلفه.
فأكبرته. واعتبرته رجل تجديد، ربما سيقود الشباب يوما ما. حتى إذا شاركت الشباب في نضالهم من أجل قضية الشعب والحكام الموالين للمستعمر، وجدته قد أنضم إلى صف ممثل الإنكليز "نوري السعيد" وكما أشار العلامة الشبيبي في كلمة له عن إستيزار الشباب في جلسة لمجلس النواب: (وأن كثير من هؤلاء إذا نجحوا موظفين فقد فشلوا وزراء). فقد تم هذا فعلا، واستوزر من الشباب ومنذ أول وصاية عبد الإله حين تولى الملك فيصل الثاني 51 وزيرا جديدا في 25 وزارة.
رأي الشيخ يبدو أنه أخذ جانبا من الموضوع فقط. هو كونهم شبابا وموظفين. ولكن المسألة في الواقع غير هذا. فالشباب يمكن أن يكون أكفاء للمنصب الوزاري أكثر بكثير من بعض النماذج الذين شغلوا مناصب وزارية، وهم ليسوا أكثر من شيوخ قبائل. والشباب الواعي الذي تثقف ثقافة عالية في مجالات السياسة، والأفكار الاجتماعية العلمية الحديثة، ثم مارسها عمليا في انتمائه إلى حزب سياسي وطني، وساهم في الدفاع عن المسألة الوطنية بقلمه، لا شك أنه خير من هؤلاء الشيوخ. لقد أبدى الشيخ رأيه هذا في جلسة لمجلس النواب. وربما يقصد بها الجمالي، خصوصا ونحن نتذكر نقدا له في مباحثات للجمالي مع وزير حزب العمال البريطاني المستر بيفن "إنما هو بيفن يفاوض بيفن!؟" وقد رأس الجمالي الوزارة لأول مرة عام 1954. ثم أشغل منصب وزير خارجية في آخر وزارة لنوري السعيد، فكان أهم ما يشغل باله، الشيوعية! لا يهمه الاستعمار. فهو قديم وفي طريقه للزوال!؟ ولا الصهيونية لأنها الفصل الأخير من كتاب الاستعمار القديم!؟ إنه يخشى الشيوعية فقط.
ومن آرائه المضحكة في مسألة التحالف مع دول الغرب الاستعمارية "إنهم أهل دين ونحن أهل دين. أما الدول الشيوعية فملحدة". وإنه لهذا يحسب كل متذمر إنما أصابته الشيوعية، واعتبر من يدافع عن السلام شيوعيا! حقا لقد أصيب بالهستيريا. وفي أوج معركة الثورة المصرية مع الاستعمار، غض الجمالي النظر عن رفع صوته في هيأة الأمم عن العدوان الثلاثي، وإنما رفع صوته محتجا عما سماه "أعمال العنف في هنغاريا؟"
وان أنس لا أنسَ موقفا له مع والده الشيخ (مرّ ذكر هذه الحكاية في القسم الأول "معلم في القرية" في موضوعة " الانتقال من المشخاب إلى الكوفة").

المعلمون والطلبة وصور من الحياة في كربلاء   

مازلت معلما في مدرسة الفيصلية. مدير المدرسة له سلوك خاص، ما فيه على المعلمين ضير. ولهذا هم ماضون في واجبهم على الخطة المرسومة. غير أن بعضهم قليل الاهتمام بسبب سنه وإدمانه على الخمرة وهو أعزب. حدثني عنه أحد المعلمين، إنه ورث من أبيه ملكا كثيرا. بذره على موائد الشرب والميسر، فقد كان يهوى صحبة الموظفين ذوي الرتب، حتى أفلس ولم يبق إلا اليسر، اليسر جدا. وقد عقد هنا صداقة وثيقة مع المدير، فالمدير يتمتع بمائدته أيضا رغم أنه ميسور الحال أكثر منه حاليا.
معلم آخر كبير السن أيضا أختص بالصف الثاني، ومع هذا لم يسلم من تحرشات التلاميذ الكبار، وقد منحوه لقب "محقان"، اللعنة عليهم. ما يدريني، لعلهم يوزعون الألقاب على كل المعلمين.
في بداية مباشرتي في هذه المدرسة شخصت عددا من طلاب الصف السادس. كانوا يجلسون في الكراسي الأخيرة، طبعا لأنهم أطول أجساما مثلما هم أكبر أعمارا، ولكنهم أقصر باعا في تفهم الدروس. إنما هم مجيدون في لعب "الكرة" وحسب العادة المتبعة عند معلمي الرياضة، معلمهم هنا يداريهم في الحصول على درجات نجاح. وقد اشتركوا قبل مجيئي إلى مدرستهم في الامتحان العام فرسبوا. معلمهم فرح بهذه النتيجة، فهم ركائز للسباقات الرياضية. معلم الرياضة "حماده ختلان" من أهالي الديوانية، وكان مفوض شرطة سابقا، وبنفس الوقت يحمل شهادة تخرج من مدرسة الصناعة. لذا استطاع أن يحصل على تعيين في هذه المدرسة. الطلبة كلهم يحبونه، فهو ظريف جدا، مثلما هو مدمن جدا. ولاحظت أن أولئك الطلبة -الرياضيين- لا يهوون المعلم الجدي، فيُحدثون  حركات مضحكة ليصرفوا الآخرين عن الاستفادة. حاولت كسبهم بالنصح واستعدادي لمساعدتهم إن هم بذلوا جهدا في الإصغاء ومحاولة الاستعانة بدراسة خارجية. ومن جانبي أنا على أتم استعداد لمساعدتهم فيما يحتاجون. وأخيرا وجدتني مضطرا، لإنذار المدير بلزوم نقلهم إلى مدرسة مسائية أو أية مدرسة يختارونها، أو أرفع الأمر إلى مديرية المعارف. وتكرر الطلب بسبب تعهد المدير لتحسين سلوكهم ثم انتهى الأمر أن نقل بعضهم. وتأدب اثنان احدهما أبن زميلنا "..." أما الثاني "..." فقد تكلفته أمه، وهي امرأة على كبر سنها مازالت في مظهر جمال، وكانت لها منزلة عند شخصيات من البلد، وكانوا يتنافسون في كسب ودها ... بنوها وبناتها أكثر شبها بها من أبيهم.
وسارت الدراسة بخير، والذين تم نقلهم هجروا الدراسة مطلقا، فدخل بعضهم في سلك الجيش وآخرون توجهوا للعمل الحر، ومن الغريب أنهم بعد هذا وثقوا علاقتهم بي. واستطاع الاثنان أن يجتازا الامتحان العام، ويدخل ابن زميلنا المتوسطة ويستمر، أما ابن المحترمة فبعد أن باشر عاما واحدا فقط في الأول متوسط، حصل على وظيفة لا بأس بها. إن أمه تستطيع أكثر من هذا!
*         *         *         *
حين اضطربت الأمور والأحوال السياسية في العراق على أثر أحداث الشقيقة مصر. وما كابدته من محن في عدوان بريطانيا وفرنسا وإسرائيل. أشركوا إسرائيل ليثبتوا وجودها في ارض مصر، فيعزز بهذا احتلالها لفلسطين فيستولي عليها جميعا.
وعمت المظاهرات معظم المدن العراقية. وتوقفت الكليات في بغداد وتراوح أمرها بين غلق وفتح مرات عديدة، مدارس كربلاء الإعدادية والابتدائيات أيضا شاركت في إعلان الاحتجاج والتمرد. ولما لم يستطع مدير المعارف السابق على كبح جماح الطلبة، انتدب في 26/1/1957 لأشغال المديرية مؤقتا السيد عبد الوهاب ألركابي مدير معارف أربيل. وبعد أن دبر أمر عودة طلبة الإعدادية للدراسة، قام بزيارة المدارس الابتدائية. وزار الصف الذي كنت فيه ساعة زيارته. رحبت به ورددت من أغنية فريد الأطرش "معاك معاك دوما وراك وراك دوما...!" فتبسم وقال: سل مدير المدرسة ماذا قلت له عنك. واستفسر مني عن أولادي، فحدثته أن الكبير قبل في كلية دار المعلمين العالية باعتباره -ابن معلم- ولم يقبل بالقسم الداخلي بسبب ضعف معدل الدرجات التي حصل عليها في الامتحان العام للإعدادية. فأبدى استعداده لمواجهة المسؤولين عن هذا وعسى أن ينجح في مسعاه. حين ودعناه، قال المدير: إنه أثنى عليك كثيرا وقال "معلم جيد احتفظ به وساعده".
هذا كلام. في كربلاء العلاقات بين أبناء البلد والغريب لا تتم إلا على أساس المصلحة. كأن تكون موظفا في وظيفة ذات مساس بأمورهم التجارية وغيرها. الكربلائيون يحملون حساسية شديدة من ألنجفي. أما أن تكون معلماً، وبالأخص إن كنت "نجفي"!؟ وهم يهمزون -النجفي- بما هو فيهم بشكل تجاوز الغرابة. وما كان وجهاء النجف من يحمل تلك التهمة الذميمة، بل السفلة والمغمورين، لكني هنا وجدتها في أعيان ووجهاء.
الواقع أن الناس في كل أنحاء العالم يعتزون بمواطنهم -حيث ولدوا ونشأوا- ويتباهون بأمجادها وأمجاد رجالها. والنجف وكربلاء كلاهما من المدن المقدسة عند العالم الإسلامي. ولكن الحساسية إنما تنشأ حين تتفوق بلد على آخر في مجال العلم والأدب. وعلى أن كربلاء لم تعدم من هذين فإن النجف  تبزها لأنها سبقت كربلاء في نفض غبار الفترة المظلمة فبرز فيها أدباء عظام لهم وزنهم في ميدان الأدب والعلم والسياسة، مضافا إلى ما يتمتعون من جرأة وإقدام. ودرجة الكربلائيين في هذا لا تضارع النجفيين مطلقا. وبعض شعراء كربلاء وخز النجف ربما من باب المداعبة كما في الأبيات التالية للحاج بدكت:
تجــــاوز الحد في غوايته      كأنه بعض ساكني النجف
وللسيد عبد الوهاب آل الوهاب:
أرى محنة المصطفى والوصي      بعد الممــات حكت ما ســــــلف
فهذا يجـــاوره صــاحبــــــــــاه      وهـذا يجـــاور أهـــــــل النجف
العتبات المقدسة وارداتها المالية تفوق ما يرد إلى الروضة الحيدرية، وبالأخص مرقد العباس. فالعامة وبالأخص القرويين يخشون بأسه. وعند هذا تلجأ المحاكم لتهديد المتهم بإحالته إلى مرقد العباس لأداء اليمين فيعترف تجنبا لما يمكن أن يصيبه من بلاء بالجنون -مثلا- وقد يقدم على هذا، فيصيبه فعلا شيء من هذا، ومع هذا فيجد كثير من اللصوص في أيام الزيارات مجالا هاما للنشل من جيوب زوار العباس!؟
أمي كف بصرها على أثر إعدام أخي. طلبت من ابني الصغير "محمد" أن يصحبها لزيارة العباس فتتشفع به عند الله ليرد إليها بصرها. وعندما عادت تفقدت في الطريق جيب ثوبها فوجدت أن جميع ما لديها من نقود قد سرق!؟ الصغير ردّ عليها مداعبا: "يا جدتي عجيب أمر طبيبك هذا. لم يفتح عينيك وإنما سلط عليك من ينهب نقودك. لقد أخذ الأجور ولم يعالجك!؟"
إن سلواي الوحيدة في البيت -المطالعة- ولكن مكتبتي فقيرة. ومما يؤنبني عليه أهلي أني أحب أيضا أن أشجع من أتعرف عليه على المطالعة فأعيره بعض ما لدي. وأحيانا أخسر ما أعيره، إذ يعتذر بفقده. وتعرفت على شاب موظف في دار العجزة فاستعار مني ديوان "ألجواهري" وانتقل من كربلاء إلى المدرسة الإصلاحية في سجن بغداد، دون أن يعيد إليّ الديوان. فكتبت إليه رسالة عتب. ضمنتها كل ما استطاع قلمي تحبيره من عتب، ومن نكد حظي في أموري وحبي للكتب وحرماني منها، ولا أدري كيف تطرقت أيضا فقارنت بحظ أبينا آدم إذ خرج من الجنة بسبب تفاحة، وبين حظي إذ خسرت أي ظل حتى البسيط وكأني وريث الوالد الطريد الوحيد!؟ وانتظرت الجواب مع الكتاب. واستلم بعد فترة غير قليلة رسالة جوابية. المدهش المضحك، إنها من قرية في -لواء الديوانية- لا بغداد من معلم في مدرسة في قرية "الصلاحية". الصلاحية أنست إدارة بريدنا المحترم "الإصلاحية" لا غرابة "الإصلاح" كله مفقود عندنا. ولكن كيف تغلب أسم "الديوانية" وحل محل "بغداد" عاصمة الرشيد، ومن الغريب أن يكون أسم هذا المعلم "عبد الجبار عبد الكريم" هو أيضا اسم الذي استعار الكتاب. يختلفان فقط باللقب فهذا ليس "الأصفر"واستلمت منه رسالة إعجاب ويعتبر إن هذا الخطأ من بريد كربلاء رحمة: (إذ دلني على إنسان كنت أسمع به وأود التعرف عليه، أنا أعتذر إليك من قراءتي للرسالة التي ملكني فيها أسلوبك وحسن دعابتك الأدبية ووفرة إطلاعك. وأرجو أن تتقبلني صديقا، واسمح لي أن أزورك في الأيام القابلة). وزارني فعلا، ولما تبدل الوضع السياسي بعد عبد الكريم قاسم قاطعني مقاطعة نهائية، جزاه الله خيرا.
إني أشعر بالإرهاق،  ولا يجديني أن أتذمر، حاجة العيال فوق طاقة الراتب، والاستدانة ليست بالنسبة لي أمرا سهلا، خصوصا وإن ابني يعيش في الكلية على حسابي. والآخرون الذين هم مستمرون في الدراسة الابتدائية والثانوية، هم أيضا يكلفونني حقا. ولكن علمتهم الصبر مثلي، وقد وصلت أموري إلى حد لم نتمكن على أكثر من تقديم الشاي اداما للخبز لا غير. قالت إحدى الصغيرات مازحة وهي تمضغ الخبز مع جرعة الشاي: (الدجاج المشوي لذيذ يا بابا!؟ سآكل منه اليوم أكثر من كل لون آخر!). شكرت ربي أن يكون أطفالي مبتشرين إلى هذا الحد.
ومع كل هذا لم أتردد عن مشاركة المدرسة في سفرة إلى الأخيضر. الأماكن الأثرية والتعرف على كل بلد من موطني "العراق" إحدى هواياتي، ولكن ما باليد حيلة، إني أحرم نفسي من كثير من هواياتها وملذاتها من أجل تيسير العيش والدراسة لأبنائي وبناتي. وإني أحس بلوعة إذ أسمع أحد برامج الإذاعة، مذيع البرامج يردد: معامل، جسور، مدارس الخ فيعلق معلم الرياضة حمادة ختلان: مواقف، سجون، غلاء. لا بأس لكل شيء نهاية وحدود.

الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏16‏/04‏/2011

107
3- عودة ومصائب وعواصف / 10
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1997)


أينما تول وجهك سبقتك سمعتك إليه!؟   
وأخيرا تسلمت أمر النقل إلى كربلاء في 28/9/1955، وراجعت مديرية المعارف في 1/10. المدينة التي أستشهد فيها الإمام الحسين بن علي. وصادف أن هذا الشهر تحل فيه ذكرى يوم الأربعين لاستشهاده. وهو يوم زيارة يحضره الألوف من شيعة الإمام علي وأبنائه البررة. وتضيق المدينة بالزوار. فينتشر الزوار بالشوارع والصحن الحسيني والعباسي، والحسينيات والفنادق، وحتى الحدائق العامة. وتشغل أرصفة الشوارع من قبل مواكب العزاء، التي تعددت في كل بلد وتجاوزت المعقول. فلكل صنف من الكسبة موكبه، ولكل فئة أيضا، مما لا مجال لتعداده، وتشخيص هويته. وفي هذا الوقت أيضا تنعدم النظافة بالمرة، فأينما تسير، وأينما تتجه، تجد المياه القذرة والفضلات ومختلف الأزبال والأوساخ، تضايق المارة، أما الضجيج والعجيج، فلا يدرك وصفه. بحيث لا تجد استقرارا ولا راحة، ولا يمكن أن تسمع وتستفيد، كل موكب له عدة مكبرات صوت مطلة على الشارع، وفي الشارع -الفرع- أكثر من ستة بيوت يقيم فيها مواكب. بحيث لا يمكن أن تفهم ما يذاع من تلك المكبرات، إلا دويا يصم الآذان ويسبب الصداع.
أنا أحمل رجال الدين ورجال المنابر الحسينية تبعة هذه الفوضى، والتي هي أبعد ما تكون عن إفادة شيعة الحسين، وتفهمهم القضية التي أستشهد من أجلها. كما أنها تقعد بالشيعة أن يكون لهم صوت هام في مسألة التوجه الديني والسياسي في العصر الحديث، مما يجعلهم في مؤخرة القافلة، ويجعل جماهيرهم ينعقون مع كل ناعق حتى لو كان يقصد إهانة مذهبهم. وفي النهاية لابد من يوم يتوجه لهذه الأساليب وهذه الفوضى من يقضي عليها، لا لحساب خدمة المذهب بل لمحقه. ولو أن اليد التي تقضي عليه ليست من صنف البرجوازية العالمية المرتبطة بالاستعمار، لقلنا إنها في صالح مجموع الشعب. ولكن المحتمل عكس هذا. لقد حاولت حكومة ياسين الهاشمي في الثلاثينات الحد من هذه الأساليب التي شعر الاستعمار الانكليزي بإمكانية استغلالها لحسابه. فباءت محاولة ياسين بالفشل. ثم نهض العالم المخلص النزيه السيد محسن الأمين، ونادى بالإصلاح فقاومته الغوغاء ومن وجد فيها ما يستدر به ضروع المنفعة المادية، وساعدهم عدد كبير من المعممين بل ومن بعض زعماء الدين من المجتهدين، وناقضوا السيد الأمين فيما أصدروا من فتاوى، وكراريس تندد به وبرأيه الإصلاحي، دون أن تسندهم أدلة كأدلته التي أستمدها من السيرة النبوية وأصول الشرع الإسلامي.
الكسبة على اختلاف أصنافهم من باعة المواد المعيشية اليومية، إلى أصحاب الفنادق يرفعون الأسعار، برغم أن المواكب تبذل الزاد بشكل مدهش.
صادف مجيئي قبل مجيء الزوار. فنزلت في فندق باسم فندق الجواد وما توارد الزوار خصوصا -البحرانيون- حتى قفزت الأسعار. وفوجئت بصاحب الفندق وهو من خدم الروضة الحسينية يقول لمدير مكتب الفندق اسمع: الغرفة الواحدة لا تؤجر لأفراد، السعر عشرة دنانير يوميا، من لا يوافق فليخرج!؟ وجرت بيني وبينه مناقشة حادة (ذكرت هذا بمجموعتي "يزيد قاتل الحسين") عن هذا الاستغلال الذي يتنافى وقدسية هذه الزيارة، وهذه الذكرى، التي تجسد نتائج الظلم والاستعباد في موقف أبي الضيم الذي صاح "هيهات لا أعطي بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد". ورجح لي مدير الفندق أن أبيت في سطح الفندق وتعهد أن يوفر لي الغطاء، فبرد أيلول لا يطاق ليلا!؟ وقبلت ريثما أتدبر إيجاد مقر آخر. تفضل الأديب مظهر اطيمش أن ينقلني إلى داره وبضيافته. وأمتلأ بيته بالزوار من أهالي الشطرة! ومظهر اطيمش هو الأديب "مظهر عبد النبي اطيمش" والفنان الموهوب في فن الرسم، وآل اطيمش يعتبرون أخوالا لجدنا الشيخ جواد الشبيبي فجده لأمه هو الشيخ صادق اطيمش.
حين زرت بغداد نهاية العطلة، وبعد تأكدي من موافقة الوزارة على نقلي، استحصلت من الشيخ "محمد رضا الشبيبي" بطاقة شخصية إلى متصرف اللواء حسين السعد توصية منه بمساعدتي بتعييني في مدينة كربلاء لا خارجها. ولما عرفت أن رشاد شمسه مدير المعارف فيها، فقد عدت عن مواجهة المتصرف لتقديم التوصية، ذلك أن بيني وبين المدير معرفة تامة. ولكن حسابي هذا كان مغلوطا. فلبساطة الرجل أستطاع بعضهم  أن يحشو رأسه بالمخاوف من وجودي في أي مدرسة داخل المدينة. فأعلن أن لا وجود لشاغر هنا، فاختر واحدة من ثلاث، الكوفة، عين التمر، قرية الحسينية؟ وعبثا حاولت إقناعه: أن لي عائلة وعدد من الأولاد والبنات في المدارس الثانوية والابتدائية، ومرتبي لا يحتمل لتدبير أمرهم وعيشهم وإيجار المسكن؟ وانتهت مدة الالتحاق ولم يصدر أمر تعييني. فقد رفضت ذلك الخيار وبشدة، وقلت يمكنكم رفض أمر نقلي من الأساس!
وعلمت بعد أمد من استقراري في مدرسة الفيصلية الابتدائية أن الذي حشى رأس مدير المعارف وأخافه من مغبة الأمر هو محمد علي هادي، وقد مرّ ذكره في موضوعة "إشراف المفتشين". وهو هنا بوظيفة مفتش أيضا. وتهمة الشيوعية هي البعبع الذي كان أهم ما يخيف ويحذره رؤساء الدوائر. وسانده اثنان من ذاتية المعارف وهما نجفيان -والحمى تأتي من الرجلين- كما يقول المثل الشعبي.
عند هذا لم أجد من بد من البحث عن واسطة وشفيع. وهذا كان من أبرز ما يتسم به الحكم عندنا -الشفاعة- فمن لا شفيع له -خفّت موازينه- ولماذا لا! ففي أمورنا الدينية والمذهب تعتبر -الشفاعة- ركنا هاما في حياتنا. المئات من العوائل في المراقد المقدسة، تعيش على النذور والهدايا التي يقدمها طالبوا شفاعة الأئمة والأولياء بعد أن ينالوا المراد، وقد كثرت القبور التي يعتاش بفضلها البطالون ممن ينتسب إلى الرسول في القرى والأرياف، ففي كل قرية -أسرة علوية- تدفن أشهر واحد منها وتشيع له كرامات ويصبح قبره بعد هذا مزارا، ويرى بسطاؤهم انه الملجأ والشفيع لتحقيق أمانيهم، أو خلاصهم من مشاكل أمورهم. المضحك في الأمر أن كرامة سمعتها تتردد في قرانا القريبة مثلما سمعتها في قرى الجنوب هي أن من جملة كراماته أن يبتلي من لا يفي بالنذر أو يهزأ به، يسلح من بطنه جيرا!؟.
وقصدت وجيه آل كمونه "عبد الحسين كمونه" لا باعتباره من بني أسد الذين ينتسب إليهم آل الشبيبي، وإنما لأنه عرف بالأريحية، وكرم النفس، واستجابة النخوة. وأفهمته إني أحمل بطاقة شخصية من الشيخ الشبيبي إلى المتصرف، وسبب عدولي عن تقديمها، اعتقادي أن هذا يمس شخصية مدير المعارف وعلاقتي به، فعدولي تكريما له. وأسرع الرجل وأنا بصحبته، واجه أولا المدير، فوجده ما زال متعنتا، فأفهمه حكاية البطاقة الشخصية، ووجد الكموني العذر فقصد بي المتصرف، وشرح له كل ما أحاط مسألتي من ملابسات. وقدم له البطاقة.
في اليوم الثاني قام المتصرف بجولة في المدارس. متوخيا حل أزمة ملاك المعلمات في المدارس، وخاصة مدرسة خديجة، واقترح توزيع صفوفها من الثالث وحتى السادس على المدارس القريبة، وتعين معلمين بدل معلمات لها للصفين الأول والثاني حسب كفاية شعبها. حين أبدى المدير اقتناعه بالحل، قال المتصرف، أصبح ممكنا إذن أن تُصدر كتاب تعيين "علي" في إحدى المدرستين الحسين أو الفيصلية. بُهت المدير. وأصدر أمر تعييني إلى مدرسة الفيصلية في 12/10/1955، هناك فهمت مَن مصدر العراقيل، والهمس المفتعل الذي أحدثه جناب المفتش.
أكد لي بعض المعلمين أن زمرة من اثنين من موظفي ذاتية مديرية المعلمين، وبعض من آزرهم من مدراء المدارس الذين كانوا يعتبرون أنفسهم من مناضلي الحركة القومية. ولكن المعروف عنهم من ذيول رجال العهد الملكي. كما أبدى المفتش محمد علي اهتماما كبيرا للحيلولة دون تعييني في مدارس كربلاء. وبقيت فترة طويلة إذا ذكرت هذا المفتش أسند ذكره بـ -جناب المفتش-. سألني أحد زملائي، لم تذكره بكلمة "جناب" وألح. فأجبته: إنها اسم لقصة من قصص غوغول، ساخرة تفضح أمثال صاحبي المفتش "محمد علي هادي".
وسارعت واستأجرت دارا، واستحصلت إجازة للسفر وجلب العائلة من الناصرية.
*            *            *            *
حين حضرت وصغيري "محمد" أمام المحكمة والحاكم "راجي الهداوي" وسرد المحامي حقيقة القضية وظروفها من كون الآلة "ديلاب الهوى" التي أستخدمها -المتهم- وإنها خشب واه محطم، كثرة مساميره الكبيرة، بسبب محاولة ترميمها، وكأنه لا يعرف إنها بهذا الشكل غير صالحة، وقد تسبب خطرا على حياة الأطفال وفي هذه الأيام المباركة التي يجد فيها الصغار المجال التام للفرح. وفعلا أمامكم تقرير الصحة الوافي بما حصل لأبن موكلي وما كلفه من خسائر مادية، وضياع الوقت وخسارته المشاركة بالامتحان النهائي ...الخ.
جاء قرار المحكمة جافيا، وذلك أيضا جاء متأثر بشفاعة لما جاء فيه "من أنه فقير وبائس" أي "الجاني" أغتنم هذه الأيام فرصة لعيشه، وهو طبعا يجهل كيف حصل لما حصل. وكانت غرامة عشرين دينار. لذا أعلنت تنازلي عن قبول هذا التعويض بسبب هذا التحيز.
ولا غرابة فأنا أعرف أوضاعنا الخاصة، هي نتاج الوضع العام للحكم المتهرئ. فللشفاعة عنده مكانة إن كانت من ذي مقام أو قربى، وبالأخص إن كان الخصم من أمثالي أمام مثل ذاك الحكم.
كل الأمور تمر وتجري على غير هدى. مهما كان تأثيرها على المجتمع أفرادا أو وجماعات. فمثلا، شرطة المرور تهمل صاحب سيارة أبو -اللـﮕـو- وعلى صاحبها اثنتا عشرة مخالفة. ركبنا فيها لا نعلم عنها شيئا، وكدنا نلاقي الموت فجأة، وتحت الظلام، وارتفعت في الهواء واستقرت بلا عجلات على وجه الأرض!؟ قلت لـِ "أبو اللـﮕـو" أنت بائع معلاگ -يعني بائع كبد- وبعين واحدة ويد واحدة، فكيف حصلت على إجازة سوق؟ أجاب: عليمن تعيش الشرطة!؟
أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف. الكربلائيون  لا ينسجم معهم الغريب ولا يتعاونون معه إلا إذا كان في وظيفة ينتفعون بواسطته فيما يخص مصالحهم، أو يخشون سلطته. ربما يعزو بعضهم إنها طباع تغلبت على العرب منهم من -الإيرانيين- وهم أكثرية بالنسبة للمدينة، وبأيديهم أهم المصالح من تجارية وغيرها. السبب في هذه الصفة هو أن طبقة التجار أكثرهم إيرانيو الأصل، وهذه الصفة فيهم لتبقى سيطرتهم على الوضع. وقد وجدت أن الكربلائيين العرب أيضا يستعملون اللغة الفارسية، بينما أعرف أنا الفرس القاطنين في النجف يستعملون اللغة العربية، وهكذا لا يمنع التاجر ألنجفي من تمكنه أيضا للغة الفارسية. فهل الإيرانيون في إيران ليسوا بذوي نخوة، ويعادون الغريب؟ هذا ما لا أعرف عنه، ولكن بالطبع ليس كذلك، وإنما يحصل هنا فلأنه من نوع تنازع البقاء. أغلب الإيرانيين هم من النوع المسيطر على المكاسب هنا، وردوا إلى البلد فقراء، وبمهارة وجد تمكنوا من رفع مستواهم ماليا. وخاصة الذين كانوا يجيدون أعمالا صناعية الناس بحاجة إليها. فمصلحوا المكائن على اختلاف أنواعها إلى "رقاع الأحذية" و "خياط الفرفوري" ولكل ما يهم مثل "الريافة" للملابس والسجاد.
وللعرب صفة وراثية منذ القدم، هي ترفعهم عن مزاولة الكثير من المهن عدا التجارة. مما يروى أن أعرابيا تخاصم مع أحد الموالي بين يدي ابن عامر -صاحب العراق- فقال له المولى لأكثر فينا أمثالك، فأجابه بل كثر الله أمثالك فينا، فقيل له يدعو عليك وتدعو له؟ قال: نعم ، يكسحون طرقنا ويحوكون ثيابنا ويخرزون نعالنا!
في كربلاء وجدت العربي يجيد اللغة الفارسية. مخطئ من يعتبر هذا عيبا وأنه يتنافى والشعور القومي. ونحن نعرف أن الغربيين يتعلمون ويجيدون كثير من اللغات الشرقية وسموا "المستشرقين" فدرسوا تأريخ الشرق وألفوا فيه. وقد استفاد الأستاذ أحمد حامد الصراف فتعلم اللغة الفارسية من مربيته الفارسية منذ كان صغيرا حيث أقام والده هناك، فترجم رباعيات الخيام نثرا. والفئة الأرستقراطية من العرب يتبادلون المصاهرة، ومربو أبنائهم وخدمهم فرس أيضا. أما في النجف فالفرس يتكلمون العربية، وانصهرت كثير من الأسر الفارسية فيها بالعربية. ولا تجد الاندماج بين القوميتين إلا نادرا.
تأمل إني حين نزلت في كربلاء، وكان كل متاعنا في شاحنة قطار لم يصل بعد من الناصرية. حاولنا أن نعتمد على جارنا فاعتذروا حتى بتزويدنا بالماء!؟ قالوا قدورنا عند "المبيض" -هو الذي يطلي القدور النحاسية لتبييضها-، وماء الحنفيات منقطع!
ومرضت، فلازمت الفراش، فلم يزرني زملائي المعلمين. وأرسلت إلى المدير أن يدبر لي الدواء بوصفة أرسلتها إليه فأعتذر، وطالبني بوجوب الدوام. الفراش الشيخ محمد المسلماني، كان معلم صبيان وحين كثرت المدارس الحديثة تحول إلى فراش فيها، كان إنسانا جيدا له شخصية جذابة ومحترمة. كان أكثر أريحية، راجع أحد المرابين من أجل أن يرهن عنده "مصوغاتنا الذهبية" هذا المرابي على رأسه عمامة خضراء، وفي جبهته ثفنة تبدو كدملة من أثر السجود، ولكنه شرّ مرابي!. فعلاوة على ما يحمل القرض من أرباح حسب المدة، يفرض الموعد وإن تأخر ثلاث ساعات يصبح الرهن ملكا له على قاعدة "بيع الشرط". وأخيرا جاء الفراش بثمانية دنانير. ويوم استلمت سلفة "مصرف الرهون" أخبرني الفراش لا تفكر بدفع المبلغ، إنه هدية من بعض زملائك.
عاتبته لأنه لم يذكر هذا في حينه، وتوجهت إلى الإدارة لأسلم المبلغ إلى المدير. عند الباب سمعت زميلي "عبد المجيد ..." يخاطب المدير: (الشبيبي أستلم سلفة رجع إلنه المبلغ منه ...!) ودخلت فقدمت المبلغ وقلت وأنا أنظر ذاك الزميل: أرجو أن تعيد إلى كل زميل حقه وأعتذر عن عدم ردها في حينه لأني لم أكن أعلم!
وآخر ما حدث فعلمني أن ألزم الحذر. معاون المدير، اخترته، وعن طريقه تعرفت على آخرين صرت ألتقي بهم معهم في مقهى محترمة. وحدثت مظاهرة طلابية، كانت بعيدة عن طريقنا، لكنه أخذ يحثني أن نسارع إلى بيتنا دفعا للشبهة. امتثلت ضاحكا، ولكن بنية التأكد من أن ولديّ في البيت أو خارجه. وعدت مسرعا إلى نفس المقهى. فوجدت صاحبي وقد انكمش خجلا حين سلمت عليهم. قلت أخاطب الجماعة: جئت لأعلمكم إني لن أكون "ضغثا على إبالة" أسألوا الزميل، من موقفه مني. أترون لو حصل -فرضا- أن اتهمتني الشرطة، وكنت أثناء التظاهرة في بيتي، كيف أثبت لهم صحة ذلك!؟. وبالطبع لو كنت بينكم لصرتم الشاهد الأمين. أليس كذلك؟ فصاحبي إذن كان من يدفعني حيث التهمة!؟
إنه صديق لهم قبل أن أتعرف بهم، فطيبوا خاطري باعتذار. ومع هذا فقد كنت أعوده أكثر من أي واحد منهم أثناء مرض لم يُشف منه إلا في أوربا. لا بأس هذا قدري، وهو سمة طيبة لمن يحترم نفسه وثقافته ... 
*            *            *            *
وتتحمل كربلاء تركة سيئة، وغير مشرِّفة، من عهد الحكم العثماني والاحتلال البريطاني. فقد تنافس زعماء الأسر الكربلائية القديمة فيما بينهم على امتلاك زمام الأمور تنافسا كبيرا. بعض أولئك الزعماء أعتمد على الطبقة الفقيرة، فأحاط نفسه بعدد كبير منهم، وبكل جرأة كانوا يؤدبون منافسيه، بالتعديات وإشاعة الفوضى في البلد لإحراج موقف الآخرين. وهو الكفيل بسلامة -جنوده هؤلاء- وأغلبهم كانوا من الإيرانيين.
ولما انهارت سلطتهم -نوعا ما- في عهد الحكم الوطني ظل كثير من أولئك -الجنود- يعانون الحرمان، بنفس الوقت هم على ما كانوا عليه من مزاولة التعدي، والنهب، والتفسخ الخلقي، حتى وهو يمارس مهنة وعملا، فإنه تمويه وإيهام، بينما يستطيع بهذا اكتشاف أثمن غزوة، هذا في مواسم الزيارات الهامة، زيارة الأربعين وزيارة النصف شعبان-.
في هذا الوقت كان مدير شرطة اللواء رجل عرف عنه النشاط الجم في تعقب أمثال هؤلاء. يدعى "جواد أحمد" وهم بدورهم يخشونه، فهو يقسو على من يضبطه متلبسا بجريمة، واشتهر بالتنكر لملاحقتهم، وله جولات ليلية متنكرا، يراقب الحراس الذين هم طالما شاركوا اللصوص فيما يغنمون. وكم سرني لو أن جميع مسؤولي الأمن مثله، في النشاط لخدمة المجتمع، مع مثل نقاء ضميره وسريرته الطيبة، وإن شئت سمّه سياسيا مثلا، إلا إنه يسير وفق الأصول القانونية، وفن المتابعة، بعيدا عما أعتاد عليه الأكثرون في معالجة القضايا المنوط إليه أمرها. سواء ضد اللصوص والسفلة أو ما يخص المتهمين.
حين عدت من بغداد بعد أن قضيت نصف شهر -من 20/1 إلى 3/2- في مستشفى صحة الطلاب، وباشرت بعد أسبوع في الدوام. عاد مدير المدرسة "مهدي علي" ذات يوم، وقص عليّ ما لو كان على يد غير هذا المدير، لكنت في مشكلة وأي مشكلة. قال: استدعاني مدير الشرطة، واستفسر مني إن كنت أعلم عنك وعن تحركاتك شيئا. أجبته: إنه جديد على هذه المدرسة، وملازم لزميله المعلم "حميد شريف" بعد دوام بعد الظهر، ويعودان سوية إلى البيت. وهو لحد الآن لا صلة له بأحد غير هذا. كما أنه عاد منذ أيام قليلة من مستشفى صحة الطلاب، الذي أرسل إليه بكتاب رسمي من صحة كربلاء للعلاج.
وأستفسر عن تأريخ ذهابك وعودتك. فأخبرته. فأخرج -إخبارية- بتوقيع مواطن مخلص، مفادها: أن فلان وفلان إلى عدد آخر اجتمعوا في أحد بساتين كربلاء، كخلية شيوعية يديرها شخص ورد كربلاء حديثاً يدعى "أبو كفاح". فطمأنته أؤكد لك إلى أنه لا صلة له بأحد مطلقا ولم يتخط حدود كربلاء لغير النجف. فأجاب الرجل: لأني لا أعرفه طلبتك. وأراني تأريخ الإخبارية فكان خلال وجودك في المستشفى. على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير.
وحدث أن ولدي همام خرج بعد الغروب لحاجة لنا، فعاد بعد مدة ومعه قريب لأمه. كان قد تعرض له اثنان من السفلة لو لم ينطلق هاربا إليه لحصل له شر منهم. وأخذه هذا إلى مقهى أصحاب الطيور فشخصه له وليس معه الآخر، وعرف أسمه، فسارعنا لتقديم الشكوى. وظلت الشرطة تبحث عنه حتى عثرت عليه، كان يدعى "محمد برّام".
كان مدير الشرطة "جواد أحمد" يتولى التحقيق مع السفلة من مرتكبي المخالفات والجرائم بنفسه. وقد حاول أبو هذا السافل إطلاق سراحه بكفالة، لكن الحاكم "إدريس أبو طبيخ" لم يوافق إذ هو يساند المدير في وجوب التشدد ضد هؤلاء. فهو يترك أمر التصرف فيما يقترح عنهم إذ هو عارف بهم تماما. وفوجئا بدخول امرأة فارسية مسنة، جاءت تتوسل بنا كي نوافق على إطلاق سراحه، انه المعيل الوحيد لنا وأبوه العاجز. ويوم المرافعة أعلن أبني أمام الحاكم التنازل بقوله: إن دموع والدته العجوز دعتني أن أستجيب لطلبها ...!. فأنب الحاكم المجرم، وقال: استجابة لطلب هذا الولد الكريم نطلق سراحك. فتعلم أن من البر بالوالدين أن تكون حميد السيرة لا سافلا.      
*            *            *            *
عدد المعلمين في هذه المدرسة "الفيصلية" كاف لصفوفها الستة بشعبها. أما مديرها فملق أمر المعلمين لهم. ورغم انه يطلع تماما على كل أوضاعهم -بأساليب خاصة- فأنه لا يحاسب أيا منهم. بعضهم تمكن من مادة درسه، ولكنه على أي حال لا يسير إلا على النهج المطلوب، أي أنه يدرس سواد على بياض -كما يقول المثل- تجنبا للتهم السائدة في عصرنا هذا. وبعضهم أختص بالصف الأول والثاني تخلصا، فهو محسوب على الاتجاه الديني، أو لأنه قد تجاوز الكهولة وخطا الخطوة الأولى نحو الشيخوخة. آخرون يعتقدون أن كل ما في الحياة مهزلة، فهو لا يهتم بشيء قدر اهتمامه بالضحك، ومعاقرة الكأس ليلا. ولكن الجميع منسجم مع الإدارة ظاهرا والتعليق بالنكتة لا بأس به.
شاركني المدير في المراقبة مع المعلم "موسى توفيق" هذا المعلم على أنه من أكبر المعلمين سنا، فإنه يدين بالمثل الشعبي "لياخذ أمي يصير عمي".  مرة أحد المعلمين حرض أبنه الصغير مصطفى أن يردد أمام أبيه أهزوجة شعبية محرفة عن أغنية تنسب للمغنية سليمة مراد صديقة الباشا حيث كانت الأغنية تشير إلى علاقة بين نوري باشا وصالح جبر "نوري السعيد شدة ورد صالح جبر ريحانه" فكان التحريف "نوري السعيد القندرة وصالح جبر قيطانه" كرر الطفل الأغنية محرفة ثلاث مرات، ويسكته الأب بعشرة فلوس وينصحه، أبني نوري السعيد ابن الله دير بالك صير حباب.
وذات يوم أخرج المعلم موسى على العادة أثناء الاصطفاف تلميذا ليلقي قطعة شعرية من محفوظاته المدرسية. بالنسبة لي كانت حصتي تنظيم الاصطفاف، والإيعاز بالتوجه إلى الصفوف، بعد انتهاء الفترة المحددة للنشيد وإلقاء ما يحفظ من كلمات وقطع شعرية من مختلف الصفوف. كان الطالب "عادل جياد" من الصف السادس (هو اليوم شاعر شعبي وموظف في ... زراعة كربلاء)، فما أن ألقى الطالب بيتين حتى سمعت المعلم يولول ولولة من أصيب برجة عصبية: أرجع كلب ابن الكلب، ألعن أبوك لا بو العلمك ها الحجي!؟ وأسرع إلى مدير المدرسة يصرخ "فلان" يريد يـﮕطع خبزتي يطي التلاميذ شعر سياسي!؟
القصيدة كانت من شعر أحمد شوقي. وأحيل الطالب للتحقيق، فأفاد إنها من اختياره الخاص من إحدى المجلات، وارتأى المدير فصله. فوافق أكثر المعلمين عدا أربعة منهم وأنا أحدهم. ووافق مدير المعارف. فعارض المفتش "محمد علي هادي"!؟ واقترح المتصرف "حسين السعد" طرد التلميذ خمسة عشر يوما.
وربما كان دفاع المفتش عنه بتأثير أخيه شاكر هادي الموظف في بلدية كربلاء ووالد هذا التلميذ أيضا من موظفيها. ربما أيضا كانت زيارته لي ذات علاقة بما بدا من المعلم موسى توفيق -خطأ- بأني الذي أعطاه القصيدة للحفظ.  كما إني لم أعط الطلبة من شعر شوقي. بينما أعطيت الصف أهم من هذه قصيدة "نامي جياع الشعب نامي" لشاعر العراق محمد مهدي ألجواهري، لنغمها الموسيقي في وزنها حفظها حتى طلاب الصف الثاني من ترديد من قرأها من طلاب السادس.
وبعد هذا مباشرة قام المفتش بزيارة المدرسة. بالنسبة لي، وقف بباب الصف السادس وكان الدرس حل تمارين درس التمييز، دعوته للدخول، فرفض وقال: تفضل استمروا. فسألته -جادا- ما المقصود بـ "قصبة" فيما يخص مثقال الذهب  أنه يساوي كذا قصبة وبعض قصبة؟ أعتذر وودعني!.
وزارني في الصف الثاني. في نفسي قلت: إنه دائما يهتم بهذا الصف. لقد بدا هنا نشطا في توجيه الأسئلة للطلبة لتفسير آيات "سورة الإخلاص" فكانت الحال مضحكة من الأجوبة ومن إيضاحات المفتش لتبسيط سؤاله: ما معنى "كفوا أحد"؟ قال أسمعوا: أنا معلم، أكو مثلي معلمين؟ أجاب بعضهم. لا سيدي أنت كبير المعلمين. كان حضرته يريد أن يفهمهم أن له شبيه وكفؤ  ولكن الله "لم يكن له كفوا ..."  وعبثا حاولت أن أفهمه أن هذه السور للحفظ فقط، وإن هذه السورة بالذات، في الكتاب المقرر للدروس الدينية في الصف السادس.
وبعد مدة وصلتنا تقارير -جناب المفتش- فيما يخصني: "في الصف السادس لا يهتم بالواجب ألبيتي. في التدريس يطوي الدرس طيا. في درس الدين لا يهتم بتفسير الآيات الخاصة بالوحدانية." ولم يشير إلى الصف الذي خصه بالملاحظة الأخيرة.
كان الرد عليه واجبا للدفاع عن كرامتي وحقيقتي في العمل التعليمي الذي اخترته في وقت كان لدي ممكنا ولوج باب أرحب وأوقع في نفوس الناس، لكني آثرته حبا بالتربية والتوجيه. حين طلبت من الشيخ الشبيبي مساعدتي في أمر تعييني معلما عام 1934 ، رفض ورجح لي التريث لمدة عينها، فأعين في منصب "قاضي شرع" لكني آثرت التعليم، لمزالق أخشاها في تلك الوظيفة.
إن ما سجله -جناب المفتش- كذب محض وافتراء لئيم. وعنونت ردي إلى مديرية التفتيش العامة، في مناقشة ما جاء في التقرير عني بـ -جناب المفتش-. كان لدي عادة، إني ألزم التلاميذ بتخصيص دفتر للواجبات البيتية، وأشترط وضع تأريخ اليوم للتمارين المطلوب حلها. وبعد إجراء التصحيح أضع التأريخ مع التوقيع.
دفتر آخر لحل التمارين الصفية، ودفتر ثالث للامتحانات الشهرية، وهذا أحتفظ به عندي، بعد أن يطلع التلاميذ على الصواب. وعند حلول امتحان آخر الصق على صفحات الدفتر للامتحان السابق شريطا، كيلا يحاول الطالب أن يشغل نفسه بالاستفادة من أسئلة الامتحان السابق.
كان ردي مسهبا أوضحت فيه كل الجوانب التي تعرض لها تقريره عني، وبالطبع كانت الدفاتر موجودة لدى التلاميذ، مضافا إلى هذا هم أيضا وثائق تفشل إدعاءه.
وكانت مناجزة -وتدخلات من الذين دفعهم- لصلات لهم بي، وقد اطلعوا على وثائقي، فلاموه، ثم انتصرت عليه. بعد تدخل مدير المعارف وإعدام تقريره من الملفة الخاصة بي لكي أسحب ردي!؟
لي الحق أن أقول: إن في نفسه حقدا علي يوم أشرت للخطأ في خطابه الذي اتسم بالفصاحة والعمق في المعلومات باللغة العربية، وقد تطرقت إلى هذا في موضوعتي "إشراف المفتشين". ولست أعلم ماذا يبيت لي في المستقبل. الظروف طبعا إلى جانبه، مادمت أحمل علامة خاصة كما يتوهمون.

الناشر
محمد علي الشبيبي
alshibiby45@hotmail.com
السويد  ‏11‏/04‏/2011

108
3- عودة ومصائب وعواصف / 8
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

أرشد مرة ثانية
إنه يعلن إن الانتخابات ستجرى وإنها تتسم بروح الحياد، ومعاملة الجميع بالمساواة، وأعلنت وزارة الداخلية إن الانتخابات ستجري في 9 حزيران 1954.
أحد أصدقائي كلما وجدني أحاول استكناه الأخبار من الجرائد، يأخذها من يدي، وهو يدمدم "صم إذنيك، وأغمض عينيك، كلما يجري لا يعود عليك بخير، أسلم من الشر على الأقل"
لكن نجفيا وفد إلى الناصرية، ربما جاء ليحتجب عن الأنظار، فحكومة أرشد رغم ما قالت عن روح الحياد، فإن مطاردة المتهمين بالشيوعية، ليس مشمولا بها، ولها أيضا أن تتهم الآخرين بأنهم من هؤلاء، ربما مع حسن الظن تستثني بغداد فقط.
هذا ألنجفي قصدني وأنا منزوٍ في مقهى حبيب، في ركن خال من الجلاس. حدثني عن أبي. إن الجبهة الوطنية الموحدة، ألحت عليه أن يرشح نفسه في هذه الانتخابات. الجبهة مؤلفة من، الديمقراطي الوطني، حزب الاستقلال، الحزب الشيوعي، أنصار السلام، المستقلون التقدميون. وقد مثل الشيوعيون في التوقيع على ميثاق الجبهة ممثلو العمال، الطلاب والشباب والفلاحين.
كان كل مؤيد للشيخ يأتي بدفتر نفوسه ليثبت له أن سنه يبيح له المشاركة بالانتخاب ومعه ما يتمكن من تقديمه من نقد لغرض دفع التأمينات. حين أمتنع الشيخ عن ترشيح نفسه، رفعت الجماهير المسألة إلى الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، فأرسل إليه يطلب لقاءه. وهناك ألح عليه قائلا "إنك مسؤول أن تلبي طلب الجماهير في أمر يخص حياة المواطنين ومستقبل الجميع، الشرع يوجب عليك حمل المسؤولية!؟"
كانت التبرعات مع دفاتر النفوس تختلف، كل حسب مقدرته، بعضهم دفع خمسين دينار، والأكثرون بين الربع والدينار والخمسة والعشرة، والأنباء تصل إلى علم المهيمنين في السلطة في الحال.
حاول أحد المنافسين من أنصار الحكم أن يكدر جو الانتخابات ويفتح ثغرة للاصطدام قبيل اليوم المعين بأيام. فجاء يخترق بسيارته شارع الثانوية في وقت يحتشد فيه الناس تحت منبر الشيخ، وراح يضغط على منبه السيارة باستمرار، والناس لم يفسحوا له الطريق. فصاح الشيخ: أفسحوا له الطريق، معه حق، فالشارع للمرور!
كان هذا المنافس هو علي محمد رضا الصافي. تخرج من مدرسة الصناعة العراقية وأرسل في بعثة إلى ألمانية. وكانت إذ ذاك ترزح تحت حكم طاغية النازية هتلر. وعاد مشبع بتلك الروح البغيضة. وعين وزيرا للمالية مرة -لا أتذكر تأريخها-. وفي هذه الانتخابات رشح بعض النجفيين من مؤيدي الباشا أنفسهم، ومن جماعة صالح جبر ولكن لم ينزلوا إلى هذا المستوى.
كان يجب على هذا المنافس أن يقدر موقف الشيخ فيما قال. لكنه أخترق الشارع وهو يلعن ويشتم ليستفز. فما كان من بعض الجالسين إلا أن أجتذبه من سيارته، وأخذ بتلابيبه، وهب الآخرون ليشاركوا. لكن الشيخ أعلن أنه سينسحب إن لم يتركوه وشأنه. وأخلوا سبيله!
بعد هذا ودعني وانصرف. فوجدت لزاما عليّ أن لا أكتفي بالسماع، من الضرورة أن أقرأ الجرائد. ماذا في بغداد؟ الناس هنا أيضا كلهم يتحدثون عن الانتخابات في بغداد. وهنا أيضا نفس التدخلات، ولكن المتنافسين كلهم -خاصة في الأقضية والنواحي- ليسو من الفئات التقدمية. القوى الوطنية، قررت خوض الانتخابات متآلفة. ما أساس هذا الائتلاف. صاحبي ألنجفي تحدث عن بغداد، ولكن بإيجاز، أخذني العجب، أيتم تحالف، وتتألف جبهة وطنية موحدة!؟ وتذكرت أخي. كم حاولت هذا يا أخي، اليوم حدث ما تمنيت. أعتقد أن هذا دليل كاف على صحة رأيك. وفي هذا الوقت حدث أيضا ما لم نكن نتصوره ممكنا أبدا. لم نكن نثق بأن حزب الاستقلال -ومن نهجه معاداة الشيوعية- يوافق اليوم أن يشترك مع الشيوعيين بجبهة موحدة!؟ مادام هذا ممكنا فإنا إن لم ننجح اليوم، فإن لنا الغد لا محالة.
رئيس حزب الاستقلال "محمد مهدي كبه" يعارض الشيوعية كأي أرستقراطي آخر، وأركان حزبه أشد منه في هذا، ولكنه أكثر دقة في رأيه، فقد قرأت له في مذكراته: "إن الشيوعية نظرية يجب أن تقارع بنظرية، ونهج اقتصادي". وهو يشجب استعمال القوة ضدها ويرى أن القوة تساعد على نشرها. ونحن نعرف إن حزب الاستقلال منحدر بفكره -أصلا- من جماعة نادي المثنى بأفكاره القومية، التي هي في واقعها تقليد للفكر الفاشي.
كانت أهداف الجبهة الوطنية اليوم "الدفاع عن حرية الانتخابات، وإطلاق الحريات الديمقراطية، ورفض المساعدات العسكرية الأمريكية، وأهداف أخرى ..." حدثني بهذا شيوعي من سوق الشيوخ، ولم يكمل إذ لاحظت زميلا له قد أشار إليه بحاجبه!؟. هذا حق، ليس الإفضاء بهذا في هذا الوقت بصحيح. ولكنه حين ودعني قال: سآتيك بنشرة الحزب!
وقرأت في جريدة لواء الاستقلال، ردا عنيفا على الذين عابوا اشتراكه في جبهة مع الشيوعيين. وقرأنا أن الإقطاعي بلاسم الياسين قد أنزل من أعوانه مسلحين ليمنعوا جماهير مدينة الحي أن يوجهوا نداء للجبهة الوطنية، وأن السلطة الحكومية في الكوت قد طردت مرشح الجبهة الوطنية "المحامي توفيق منير" وفي الحلة هاجمت مرشح الجبهة "الشيخ عبد الكريم الماشطة"، واضطرت سلطة أرشد أخيرا أن تمارس التزوير والإرهاب. ومع كل هذا فقد فازت الجبهة بأحد عشر مقعدا؟
ولم يجتمع المجلس غير مرة واحدة، لسماع خطاب العرش فقط. وصدرت بتعطيله إرادة ملكية. ثم حل المجلس، بعد أن عاد الوكيل العام ليشكل وزارته الثانية عشر. كان نوري السعيد خارج العراق لتلقي مخططات أسياده، وهو بدوره يتلقى المعلومات عن العراق آنا بآن. وأقسم أن لا يدع هذا المجلس يتنعم بأي اجتماع. فقد عاد وشكل وزارته في 1/8/1954.
أما أرشد فقد أدى دوره كما هو معلوم عنه، وغادر العراق ليستجم بمصيف يليق به. وللشعب أن ينتظر يوما في جولة قادمة بظل جبهة أقوى. هل سيتم هذا؟

الفخ الفاشل       
كررت تقديم عريضة النقل عدة مرات في الأعوام الثلاثة من بداية الخمسين. ترفض لأن الجهة المسؤولة تشترط البديل.
الركابي يتصرف معي طبق المثل العامي "لاحقني بعربه" فبعد أن حاول دفع لجنة بحث الأضابير ضدي وباءت محاولته بالفشل بفضل إنسانية المتصرف عبد الكافي عارف، حث الركابي رئيس البلدية كامل الحاج وادي أن يبلغني دون أن يذكر لي المصدر باني معرض للفصل فلأسرع لدرء هذا الخطر عني!؟ وكان هذا على أثر توقيع صدور قائمة ترفيع عدد من المعلمين، أنا واحد منهم. ولأن كثيرا من المعلمين يعتقدون أن لي به صلة وتبادل احترام، فقد أعتمد علي بعضهم أن لا أضن بمراجعته عن ذلك بين آونة وأخرى. خصوصا وأني كتبت إليه بضعة أبيات بحثٍّ من صديقي القاضي.
بعد انتقال أو تقاعد القاضي السابق السيد سعيد كمال الدين، والقائممقام ضياء شكارة، صرت أجالس في نادي الموظفين أنماطا مختلفة من الناس دون تعمق في العلاقات درءا لدفع الأقاويل والظنون ولكن أكثر مجالستي لصديقي عبد الكريم الأمين أمين المكتبة العامة، والقاضي الشيخ عمار سميسم. وبعد إلحاح صديقي القاضي رفعت إلى ألركابي الأبيات التالية:
إلى كفــك اليمنى تركـت ملفتي      فلا تبد فيهــا غير ما يجلب اليســــرى
ولي قلـم عن كل قــولة لــجمته      وطلقــت من آياته الـنظـم والنثــــــــرا
وقلت لأفكاري جمــــودا فإنمـا      يصيب الهنا في العيش من جمد الفكرا
فاستحسنها وأخذها شاكرا، وعلق قائلا: ثق إني لا أدخر وسعا في نصرتك! ولكنه في الواقع تابع محاولة إضراري. هذه آخر أساليبه لإيقاعي في حفرة أحابيله. رئيس البلدية "كامل" رجل وجيه محترم. علاقته بالركابي أنه التقى معه في منفى بسبب أفكارهم ونضالهم القومي -أيام زمان- وعلق الرجل على ما كلف به: أنا واثق إنه يريد أن يورطك لتقع في الفخ من ذاتك. لذا أرجح أن تسارع بمراجعة "الشيخ الشبيبي" وأذكره بصراحة، وإن شدد عليّ أنْ لا أنسب هذا إليه؟
هكذا إذن! شيء غير مستغرب من الرجل أبدا هذه سجيته، وانه يعتقد إن انتفاضة معلمي النجف كنت أنا قطبها. انه واهم. المعلمون النجفيون شباب واعون، وبهم شجاعة من أجل قضاياهم العادلة، ومن أجل القضية الوطنية.
وفعلا توجهت شطر بغداد، واجهت الشيخ في دار مجلس النواب. وأحالني بعد اتصال تلفوني بالمدير العام في وزارة المعارف الدكتور أحمد حقي الحلي. ولقيت الرجل فاضلا كريما إذ أحسن استقبالي بلطف، وقال بصراحة: سأحاول أن أفهم من القلم السري إن كان أسمك ضمن قائمة بعدد يراد فصلهم، فإن كان موجودا فلا مجال عند هذا لي بمساعدتك. الأمر منوط بالتحقيقات الجنائية، بكلمة مختصرة -هؤلاء يراد فصلهم- وإن لم يوجد لك ذكر، فأعلم انه يضمر لك كيدا، وسأرد كيده!؟
وبعد نصف ساعة وصله الجواب. لا يوجد أسمي في تلك القائمة. وأثرتها من هناك عاصفة، من المدير العام، ومن الأستاذ محمد حسين الشبيبي والشيخ باقر الشبيبي الذي له على ألركابي فضل الاهتمام به وإرساله إلى لندن. أيام كان الشيخ مفتشا عاما للغة العربية. وعدت فرحا لاكتشافي حقيقته في إصراره لإيقاع الضرر بي. وهكذا انتزعت حقي في الترفيع وصدر أمر ترفيعي. ولكن بقائمة منفردة. إذ كان الذين أنا واحد منهم قد صدرت قائمتهم. ومن المضحك أن بين الأسماء معلم "إسماعيل سهيل" قد توفى قبل صدور القائمة بأربعة أشهر!؟ وأستطاع أحد الموالين للشيخ الشبيبي أن يكتشف أسباب عدم ترقيتي يعود إلى تعليقة لوزير المعارف "خليل كنه" هي: "لا يرفع لأنه فصل بتهمة سياسية!؟" فقال الشيخ: شنشنة أعرفها من أخزم!
حين التقيت بالركابي قال لي: أنا أردت أن تتأكد من خلاصك!؟ أجبت، يا أستاذ أنا أعلم أن إيقاع الضرر ليس أمرا عسيرا إذا تخلى المرء من نقاء الضمير. إن الضرر يصدر من أحقر المخلوقات ولا يحتاج إلى شجاعة. إنما العمل الطيب والنافع هو الذي يحتاج إلى شجاعة وإرادة حرة.
لا يفوتني أن أذكر بالمناسبة أمر اكتشفته، خلال وجودي في غرفة المدير العام "الحلي" كانت هناك امرأة ترتدي معطفا أسود يغطي كل بدنها، من لهجتها يبدو أنها مسيحية. كانت في حديثها منفعلة. وفهمت من الحديث انه عن معلمة في مدرستها. أما المدير فقد كان يرد كل ما ادعته وبلهجة تنم عن استيعابه للدوافع الغير سليمة من حضرتها لتلك المعلمة.
بعد خروجها غير مرتاحة، قص علي الموضوع: إنها مديرة مدرسة، وقد نقلنا إليها إحدى المدرسات -من الثانوية- إنها مدرسة عربي. حفاظا عليها من أن يقع عليها ضرر من رشاش أمواج السياسة. ذلك لأن زوجها الأستاذ عبد الرحيم شريف السجين في نقرة السلمان. بقيت هي أم أطفال وربة بيت. فقد أقنعتها بأن غرضي لأجل سلامتها لأطفالها. لكن حضرة المديرة صديقة زوجة "فاضل الجمالي" وبهذا الدافع تسعى للخلاص منها!؟
حقا أن الرجل طيب وشهم. فقد وقف مع هذه المديرة صريحا بكشف محاولتها اللئيمة. وأنبها وصد كل إدعاءاتها. صدق لو قال لو خليت قلبت.

بين حانة ومانه      
رجال الدين في هذه الأصقاع كلهم مستوردون من النجف. غالبا ما كانوا من مستوطني النجف القدماء. وربما كان منبعهم الأصلي من هذه العشائر، كآل أطيمش مثلا، والشبيبيون، وآل فياض، وآل الشرقي، ولكن في هذه الحقبة الأخيرة التي أخذت فيها السلطة تضعف، حيث ألتحق معظم أبنائهم في المدارس الحديثة وتخرجوا من كليات العراق ومن أوربا فعادوا يحملون شهادات عالية، كما حدث لأشهر أسرتين دينيتين في النجف هما آل الشيخ راضي وآل كاشف الغطاء.
لقد أحتل في الناصرية الصدارة في هذه الحقبة -كما ذكرت- اثنان من أبناء هذه الربوع ينتميان إلى عشيرة لم يعرف أن لها سابق منها. أحدهما كان بمنتهى الطيبة والصلاح، لقد طبق في سلوكه الحديث المعروف "رحم الله إمرءاً عرف حده فوقف عنده" هو السيد راضي السيد عثمان. لم يتجاوز هذا السيد حدوده من معلوماته الشرعية في الفقه والأصول الشرعية، في الحلال والحرام والصلاة والصيام، ومسائل الزواج من عقد وطلاق، وما يلحقهما من حقوق الرجل والمرأة في حالة الزواج والطلاق. وهو يتلقى الحقوق الشرعية ممن يرجع إليه، من زكاة وخمس وكفارات، وما أشبه ذلك. أما الثاني فهو الشيخ عباس الخويبراوي، من عشيرة آل خوبير -توفى في 5/4/1967-، ومع أنهما تلقيا دراستهما على الشيخين الشهيرين في النجف الشيخ عبد الكريم الجزائري و الشيخ عبد المحمد زايردهام وسارا على طريقهما في ولائهم للمرجع الكبير السيد أبو الحسن الموسوي، فإنهما عندما عادا إلى الناصرية انفرط عقد صداقتهما بعد أن كانا صديقين حميمين خلال سني الدراسة. وكان البادئ هو الخويبراوي فقد كان دون السيد راضي في الاستفادة والإطلاع، ولكنه كان عارفا بجذب المنافقين والمهرجين الذين يتذرعون بالدين لحلب ضروع المنافع، ولهم قدرة على خوض المعارك في ميادين مختلفة، السياسة والتجارة، ويجيدون التهريج والتطبيل والتزمير.
لم أحاول أن أتصل غير مرة بالسيد راضي. ثم قررت أن لا أعود فهذا ربما يسبب لي حقد الخويبراوي وكلاهما من معارف والدي. وحدث ذات مرة أن التقيت بأحد الموالين للخويبراوي وبعد أن تبادلنا التحية، لا أدري كيف عاتبته، على وضعه أربع أجهزة من مكبرات الصوت على سطح الجامع، وكانت أيام شهر رمضان. كما أن هذا ويدعى "الشيخ عودة ..." هو المسؤول عن الجامع، وهو الوزير المهم للشيخ الخويبراوي في علاقته بالمجتمع الناصري. قلت للشيخ عودة: بناية الجامع ليست بالعالية، وهو يتوسط البيوت، يكفي مكبرة صوت واحدة، وفي وقتين للصلاة الظهر والغروب، أما أن يبدأ ترتيل القرآن والأدعية من الصباح حتى الظهر، ومن العصر حتى الغروب، ثم السحور. فأرجو معه أن تتذكروا أن في البيوت المجاورة، ربما مرضى، أو نفساء، ومواليد جدد، هؤلاء مضر بهم الصوت العالي والدوي المستمر.
فرد عليّ وهو يتكلف وقار شيخه، القرآن والأدعية شفاء للناس. شفاء للمرضى، وهل أحسن من ذكر الله للمسلم؟ قلت يا شيخ: ليس هذا هو الرد، كن جادا وواقعيا. كدت أقول له هذا جواب مُدلِس. اكتفيت بهذا ولم أدر أن هذا المُتَمَومِن النجار وتاجر الأخشاب، قد فارقني ليشن عليّ حربا لا مبرر لها. والمتمومن مصطلح عامي يطلق على من يسلك في نهج حياته مشابها في حديثه واهتماماته ومظهره سلوك -المؤمن- والمؤمن هنا المقصود به المعمم وهم يلفظون الكلمة بلا همزة "مومن" وهذه الصيغة إذ يطلقونها فإنما يريدون غمزه واتهامه بسلوك طريق هو ليس منه في شيء.  وأغلب الظن أنه نقل إلى أبن الشيخ "باقر" وابن أخته "حسن"، فهبا ليثيرا ضدي الشرطة والمعارف معا. حررا برقية فيها: "أنقذونا وأنقذوا الدين من علي الشبيبي وبطانته، الذي يخطب في الساحات والميادين يحرض ضد الدين والحكومة".
مرحى لرجل دين كذوب. أخذ يجمع التواقيع على عريضته باسم الجماهير. فتصدى أحد أبناء البلد واختطف البرقية والعريضة. وقال له: ماذا يكون جوابك لو تم تحقيق من الحكومة هنا، أين خطب ومتى؟ ومن الذين شاهدوه؟ وأنت تعلم أن الشرطة أعلم بهذا إن كان قد صدر من أي أحد؟.
أبلغني الصديق فقصدت كبيرهم الذي علمهم مع صديقيّ عبد الكريم الأمين والأستاذ حامد العزي بعد أن مهدا للموضوع. ورد هو: إن علي ابننا ولكنه خرج علينا. قلت: يا شيخ إن كنتم أول معممين من آل خويبر فأني معمم وابن معممين أولي علم وشهرة وزعامة. وإن أقمت جامعا للصلاة والآذان في مدينة فيها أكثر من محل لبيع الخمور وعدد من دور السينما تعرض الأفلام المثيرة للمراهقين، فإني نشأت في النجف الملأى بالجوامع والمنائر العالية تناطح السحاب، وهي كما تعلم لا تجاور البيوت، وما في المنارة إلا مكبرة صوت واحدة. وانتقادي لكم أنكم جعلتم على بناية واطئة أربع مكبرات، فهل كان هذا وهو حديث مع -عودة- معناه خطب في الميادين والساحات، أتجيزون الكذب وقول الزور!؟
كان جوابه: أنت أسكت ونحن نسكت!؟ وتغافل عن لب اعتراضي. فأرسلت استفتاء إلى العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء عن رجل يلجأ إلى الشرطة يحرضهم وإلى الحكومة فيكذب ويلفق ليوقع إنسانا بتهمة. كانت عدة أسئلة أجاب عليها الشيخ متفضلا. كان من إجاباته: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار" قررت أن أطبعها مع الأسئلة وأنشرها. فلما وصل إليهم الخبر، توسط بعض المحترمين الأمر، بعد أن قال له أحدهم: يا شيخ إنه أبن النجف ومن عائلة تعرفها أنت، كان الأجدر بك أن ترد ابن أختك وأبنك "باقر".
كان الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء لا يعترف بفضل الشيخ الخويبراوي وسبق له أن صدمهما لأمر، وأرسل إلى أحد الوجهاء في الناصرية: (إن على إخواننا في الناصرية أن يطردوا الشيخين الخيبريين)! نسبة إلى خيبر  وسكانها اليهود الذين حاربهم النبي واقتلع باب قلعتهم الإمام علي.
بعد هذا بفترة قام ابن أخته "حسن" بحملة على دور البغاء، صحب معه عدد من الشياطين أغلبهم ممن يتردد على تلك الدور. وقف من دورهن على مسافة قليلة، وصاح: أهجموا عليهن، أرجموهن بالحجارة. وفعلا هجم أولئك -الأبطال- كسروا دواليبهن، ونهبوا الذهب والثياب. وعلمت الشرطة فأوقفت الشيخ، وأطلق سراحه بعد ساعات وتحقيق. لو لم يكن غبيا لوجد أسلوبا خيرا من هذا يرفع من مكانته ولكن هذا هو مستواه.
وصادف أن أحد الوزراء أثار في بغداد وجود المكان المعروف بـ "قوق نظر" و "الكلجية" فصدر أمر وتقرر غلق هذه الأمكنة. ورحلت الحكومة المحلية في الناصرية  العواهر من محلاتهن في "عـﮕد الهوى". على أية حال إن غلقها ليس حلا للمشكلة. غاية ما في هذا الحل أن تتوزع تلك العواهر في المدن والمحلات، وتجر على البيوت البلاء مما يمكن أن يصيب بناتهم وأبناءهم. العهر والزنا واللواطة كلها من أنتاج النظم التي يعيش فيها ذوو الثراء ناعمين مرفهين وهم حفنة معدودة. ويعاني فيها الألوف الحرمان، وبين أولئك وهؤلاء  تتوالد الجرائم بأنواعها من سرقة، وسلب ونهب، ولواط وزنا وقمار، وتنتشر الأمراض وتتفسخ الأخلاق، وينعم الشيخ عباس وأمثاله باسم الدين.  
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏01‏/04‏/2011


109
3- عودة ومصائب وعواصف / 7
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


لجنة  تطهير
لا بأس يا دنياي! أمطري كيف شئتِ، مصير الجميع واحد، وبعض عذاب نلاقيه عذب، إن لم نشعر ساعته إلا بالمرارة. فإنه حين نودع هذه الحياة وقبل أن تختفي ملامح النظرات، تنبعث صور الماضي فتشير إلى أن العاقبة خير، وإن الذكر سيعبق بعطر النزاهة، والوفاء لكل ما هو حق ومن أجل الوطن والناس.
جاءت برقية ولكن العنوان خطأ. اللقب محرف، الشبيبي حُرفت إلى "السبتي" وكان هذا في 20/10/1952، القصد واضح "صحة أمك في خطر". وأعيدت للتصحيح ثم عادت إليّ. الفيضان خطير جداً، ومنذ أيام شاركنا جميعاً مع الناس في درء الخطر. نحمل التراب لأحكام السد، ومازال النهران في طغيانهما. أنه الغضب، ولكنه أيضاً لا يُبتلى به إلا الأدنون. أما الأعلون فأنهم في حصن حصين.
وعجلت بالرحيل، وكاد يكون الرحيل الأخير. الشرطي الحارس على رأس الجسر الخاص بمرور القطار "جسر البربوتي" منعنا أولا وبعد عشرة دقائق، قال: أعبروا. وقبل أن تصل السيارة منتصف الجسر الخاص لاح القطار يزمجر وضوءه يعشي الأبصار فكاد يهلكنا لولا همة السائق. فما بين وصولنا المنحدر وبين مرور القطار إلا رمشة الجفن بلا مبالغة. وصلت قبل منتصف الليل، وجدتها مسجاة وكأن أنفاسها تتعثر. قبلتها وقلت: أنا علي جئتك، بعد أن تعرضت لموت قاس، أنا وأطفالي -محمد ورابعة وأمل- وأمهم. كان هذا نتيجة غباء الشرطي، وكاد هو الآخر يلقي حتفه على يد السائق إذ عاد إليه بعد مرور القطار، وأنقذناه منه بعد عناء. فقد السائق وعيه وهو يجره ليرميه في النهر، مع خنق ولكمات قوية، وهو يصيح: سبع نسمات يسحقهم القطار فلا يترك لهم أثراً، دعوني ألقنه درساً لا ينساه.
وحين عدنا وجدت تهديداً جديداً. فقد علمت أن لجنة شكلت باسم تطهير الجهاز الحكومي. لو استطعتُ أعلنتُ: أبدؤوا برأس السمكة أولاً! ثم من هم الذين يوكل إليهم أمر التطهير؟ أنا واثق أن بعضهم لا يهون عليه أن يسبب الحرمان لأحد. ولكن ماذا لو كانت المسألة -كما هي العادة- فلان وفلان إلى كثير من أمثالهم  إنهم مشهورون بأن منهم -حِسن وأصدقاء حِسن- وأمثاله؟ والأكابر ينصون على أسمائهم نصاً. لا أتذكر تماما هل أن قرار تطهير الجهاز الحكومي شرع أثناء وزارة العمري أم في عهد نور الدين داود. لكن الذي وجدته في مذكراتي 26/12/1952 بينما المعلوم إن سقوط وزارة العمري كان في 23/11/1952 بانتفاضة سيأتي الحديث عنها.
هذا الأمر صار حديث الجميع. والإشاعات حدث عنها ولا حرج. شعار الذين اعتادوا على الثرثرة دون أن يفكروا بالمصائب إذ تقع على رؤوس من يلوكون أسماءهم بالظن والإشاعة.
وتنفست الصعداء، إذ علمت أن ثلاثة من أعضاء اللجنة كانوا من أنبل من تعرفت عليهم منذ أمد. أحدهم لطفي علي قائممقام القضاء، ومفتش التربية عبد الحميد البكر، ومدير الثانوية حسين قاسم العزيز.
ولكن نجاتي تأكدت من هذا السيف البتار. فقد مرّ المتصرف عبد الكافي عارف على اللجنة، ومن الصدف أن كانت ملفتي بين أيديهم. جاء يوصيهم، الله، الله بالناس، لا تظلموا على الضنة والتهمة. ولاح له أسمي على الملفة. فسأل: ماذا وجدتم بهذه الملفة الضخمة؟
قال البكر: فيها كثير من الشكر والتقدير من مفتشي التربية، ولا توجد عقوبة. أما ما يخص السياسة فليس فيها ما يدينه أبدا، قيل، ويقال. وأيده القائممقام وزاد: أني أعرفه شخصيا. وأيدهما الأخير. وسأل المتصرف: أهو متزوج؟ أجابه أحدهم وله سبع من البنات والبنين، وخدمته ست عشرة سنة! فقال كفى، أنا أعتمد عليكم.
وهكذا جاءني البشير بالنجاة. إنها من تدابير وزارة العمري والشعب لم ينس أن يقول له: ليرجمها منكم من كان بلا خطيئة، وقد أطاح بها الشعب بانتفاضته فحل محله من هو أدهى وأمر. 
بعض الذين لا يفهمون من الحياة إلا أن يتنسموا هذا الهواء المسمم لكنهم تعودوه كما تعود شارب الأفيون. فكثير من ضعفاء الشخصية صار يردد "الحمد الله آني يعرفوني الجميع من أصحاب الأزنيف والكأس". وأذكر إن المتصرف -قبل أكثر من عام- أخذ يؤنب مدير الثانوية لأنه مثقف ومسؤول إعدادية ... ليكف عن لعب الورق باستمرار في النادي! ردّ المدير عليه، أعتقد أنك أيضا تعلم أن المثقف حصل على ثقافته من الكتب ولكن  اليوم المسألة تختلف. فالكتاب يجلب التهم، بينما القمار واللهو هما السبيل الوحيد الذي تثبت للشعبة الخاصة سلامتي  من تلك التهمة الشنيعة، إذ هم يرونني عصرا وليلا حتى الثانية عشرة حول طاولة الورق. فرأسي -بارد- وبيتي في أمان من التحري.

تشرين بعد كانون       
أجل جاء تشرين الثاني، فقلنا إنه بركان عنيف لن يخمد حتى يطيح بالنظام الجائر ويدمر الاصدام. إنه أشد عنفا من كانون الثاني، ووثبته أعظم، واندفاع الجماهير والتحامها بقيادة الأحزاب الوطنية أكثر وأقوى. فهل ستمضي حتى ينهار وكر الاستعمار، وينزاح عن صدورنا هذا الكابوس الثقيل.
حين استقال الوكيل العام وحل محله مصطفى العمري لم يطرأ تغير في السياسة، وقد خلف الوكيل العام خلفه ركاماً من المشاكل، صب كل حقده على الصحافة الوطنية، وأهان زعماء الأحزاب الوطنية في توقيف بعضهم، والتعدي على كرامتهم في التهجم عليهم في صحيفة حزبه والصحف الموالية له ولأسياده حتى ضاقت الصدور، واحتبست الأنفاس وكأن الهواء قد تسمم، والشمس لم تشرق.
هذا الثعلب الماكر، لا يستريح بمغادرة كرسي رئاسة الوزارة إلا ليعود، بأكثر شراسة، وأشد قسوة، ليتعب الشعب وقادته، فينفذ مطالب أسياده.
وقد خلفه هذه المرة "عمري" وإن أختلف عن قريبه نوعا ما "أرشد" فإنه لا يختلف عنه، في إنه أمين على سياسة -الوكيل العام- ريثما يستريح، ويدبر له الأسياد تخطيطا جديدا. خصوصا وإن كثيرا من الشعوب -بعد إنهاء الحرب- هبت لتحرير نفسها من ربقة الاستعمار فنجحت بعضها ومضى قدما، وانتكست أخرى. مصر، والشعب الإيراني، وكوريا الشمالية التي أدهشت العالم في إبداعها الخطط المذهلة لمقاومة العدوان الأمريكي من خلال الاستحواذ على كوريا الجنوبية ودفعها لتطفئ جذوة الثورة فتضمن أمريكا مصالحها ومركزا استراتيجيا لتهديد جيرانها، فباءت بالفشل.
في 25/7/1952 أعلن نبأ تنازل ملك مصر "فاروق" عن العرش وإنه غادر الأراضي المصرية. وفي 16/8 أذيع عن محاولة انقلاب ضد حكم مصدق وقبض على المتآمرين وفر الشاه وزوجه إلى العراق. وأشيع عندنا إنه ربط نفسه بشباك الحسين طالبا النصر على خصومه. وفي 19/8 دبر فضل الله زاهدي -مرة ثانية- انقلابا نجح فيه وقتل وزير الخارجية "حسين فاطمي" وقبض على مصدق (اليوم الاثنين 14/11/1988 وأنا أراجع وأتصفح لأصلح خطأ أجده أو نقصان، أدركتني حسرة إذ عرفت إنا في خسران فيما قمنا وبذلنا. وكل وضع مازال كما هو أو أشد لتغير أسلوب المستعمر الأمريكي، فوا أسفاه على الجهود والتضحيات الضائعة)
وقف قادة الأحزاب الوطنية وصحافتها بيقظة وحذر وطالبوا الوزارة "العمرية" بمطالب الشعب التي لا غنى عنها. الانتخابات بالطريق المباشر، ضمان الحريات لخوضها، إطلاق الحريات، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، سقوط معاهدة 1930. أما الطلاب والعمال والكسبة في المظاهرات التي ثارت منذ حدث الاعتداء على طلبة كلية الصيدلة، فبعد أن كانت المظاهرة تأييد الطلبة، تحولت إلى انتفاضة عارمة. ذلك لأن الطلبة كانوا عندما ألغي التعديل الظالم أنهوا إضرابهم وعادوا، ولكن أمر دُبر ضدهم بليل فثاروا من جديد، وهبّ الشعب لمساندتهم، وليحقق كل أمانيه.
حياها شاعر العراق وحذرها: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه ما ينفجر عنه الغيظ المكبوت اليوم من التأريخ الموحش المتراكم، تأريخ الحكم الوطني المرتجل بما أنفجر عنه أمس. وخاطبها، كوني واعية! نعيدها ألف مرة ومرة!؟
الأحزاب قدمت مذكرة، والصحافة تستنكر الاعتداء، ومكتب العمال الدائم يدعو للإضراب السياسي، فيلبي العمال. حتى بلغت المظاهرات ذروتها، وحدثت مصادمات مع الشرطة، وكانت الضحايا.
عمت المظاهرات مدن القطر الكبيرة، البصرة، الموصل، النجف، كربلاء، الناصرية، الديوانية، الحلة، والسليمانية. وذكر القادمون من النجف، إن المتظاهرين في بغداد أحرقوا مركز الاستعلامات الأمريكي، ورفعوا شعار "سقوط النظام الملكي؟!؟
لابد إن الأمور قد تطورت تطورا مخيفا. وجد العمري -في 23/11/1952- إن لا مناص من أن يغادر مكانه، فاستقال. الشعب المتظاهر بعماله وطلابه وسائر فئاته يريد الحل الجذري، وتشكيل وزارة ائتلافية برئاسة "الجادرجي" وإشراك الحزب الشيوعي، وسقوط النظام الملكي. الواقع إن الحكم الملكي مازال قويا وإن لم تكن قوته كما يتصور بعضهم. غير إن الشعب العراقي بانتفاضته كما صوره الشاعر ألجواهري:
هو الفــرات وكم في أمـره عجب      في حـــالتيه وكم في آيه عبــــــر
بينا هو البحر لا تستطيع غضبته      إذا اســتشــاط فـلا يبقي ولا يـذر
إذا به واهـن المجـرى يعــارضه      عــود ويمنعه في ســيره حجـــر
وفعلا كان هذا إذ سكنت فورته حالما أعلنت الأحكام العرفية. يرى بعض المواطنين الذين يقفون على الأرصفة، ويخشون أن تمس نار الهياج أصابعهم، أن في المسألة تطرف في غير أوانه، أي أن يكتفي بمجيء وزارة وطنية، وتحقيق مطالب الشعب العاجلة. وإن الهتاف بسقوط النظام الملكي، خطر على الانتفاضة، بينما يرى آخرون، أن هذا ترقيع، فقد جربنا كيف تدور الدائرة من جديد من وكلاء الاستعمار ويطفئون الجذوة بالتدريج. ونعرف عن الشعب حين يثور وحين يخمد إلى الاستكانة. وحين تفاقم الخطر، استعان الوصي بالجيش. ثم عهد بالوزارة إلى نوري الدين داود، رئيس أركان الجيش. فأعلن الأحكام العرفية وأغلق الأحزاب الوطنية. وجد حكم نور الدين بالبطش وأمعن بالإرهاب، إعداما وسجنا وغرامات. وانتهى كل شيء. فهل ضاعت الدماء التي سالت، والأرواح التي أزهقت!؟
النجاح في الثورة منوط ومتوقف بقيادة واحدة. ولن يتم والقيادات متعددة ومختلفة النيات والأهداف. في الوقت نفسه، لا ولن توجد لحد الآن قيادة يمكنها أن تجذب الشعب وحدها إلى الهدف. والى جولة ثالثة. لابد أن يطيح هذا النظام. ولكن ما الذي سَيَجد؟ هذا مالا يستطيع أن يتكهن به أحد. أما الانتخابات فقد أخذت طريقها لنتائجها المتوقعة بظل هذه الحكومة، وأحكامها العرفية.

عام جديد         
أجل عام جديد، ولا أؤمل خيرا من جديد. أنا واحد من هذا الشعب، الذي ينتفض، ثم لا يحقق شيئا. دُقت الباب وسمعت أصواتا فرحة، وجدت ثلة من المعلمين، بين ناصري، وشطري، ورفاعي، ومن سوق الشيوخ.
صافحوني، وجوههم تتهلل بالبشر والحبور! احتج أحدهم عليّ. كيف لم أحضر انتخاب الهيأة الإدارية لجمعية المعلمين؟ قال الثاني لقد انتصرنا. انتخبناك، ثلاثة أنتم من الخيرة الذين نعتمد عليهم. فزت أنت، وعلي عبد الطالب، وحسين علي الراضي! كان هذا في 24/3/1953. وفاز بالانتخاب أقوى شخصية في التعليم هو ملاحظ الذاتية سيد حسن سيد مهدي ومعه عبد الوهاب ألبدري، واثنان نسيت اسميهما وعلى أية حال هم جميعا ممن يرى أنه لا يصلح أن نثير حولنا أية شبهة فلا نتخطى أية حدود مرسومة. ليس في الإمكان أبدع مما كان.
كيف تم هذا؟ وأنا لم أرشح نفسي؟ قال ثالث، أنه انتخاب مباشر يا أخي! وعلا الضحك. إنهم مسرورون. ماذا أعلق أنا على رأيهم. إنه فوز ونصر، ولكنه نموذج من فوز الكتل التقدمية الوطنية في الوزارات! أحد أقطاب المعارف، وثلاثة آخرون فازوا. معنى هذا يفسره المثل الشعبي "ذاك الطاس وذاك الحمام" هؤلاء لا يؤمنون بان في الإمكان تغيير المرسوم في لوح سياسة التعليم، لأنها جزء من السياسة العامة للحكم القائم. ألم نرَ بأم أعيننا ماذا انتهت إليه انتفاضة تشرين 1952.
وحضرت انتخاب واقتسام المهام والعضوية لإدارة الجمعية. وكان أن صرت مساعد للسكرتير. ومع ذلك لابد من العمل، وفي أول اجتماع عرضت مقترحاتي. كانت مقترحاتي، إنّا يجب أن نمدَّ الجمعية بالحياة. وتساءلت لماذا لا يهتم المعلمون بها، وما سبب أن الأكثرية لم ينتسبوا إليها؟ أسمحوا لي أن أدلي بمقترحاتي:
أرى أن نعمم على المعلمين بيانا حول ما ستنتهجه الهيأة الإدارية الجديدة.
أولا- عليهم أن يقدموا مقترحاتهم لتدارسها وتقديم ما يلائم.
ثانيا- السعي الجاد لحل مشاكلهم. والدفاع عن المعلم بكل مستلزمات الدفاع ولو لزم الأمر توكيل محام عنه.
ثالثا- إقامة أسبوع ثقافي، لعرض مواهب المعلم ، علمية، أدبية وفنية. وإصدار نشرة لنشاطات الجمعية والمعلمين.
لاحظت أن الثلاثة يتبادلون النظرات مع كبيرهم. هذا الكبير أنا أحترم سلوكه، فهو لا يضمر كيد لأحد، إن لم يحاول مساعدته، ولكنه إنسان  يهاب وبخوف شديد أن يعرض نفسه بما لا يرتضيه أولو الأمر. أما الثلاثة فهم كما يقول الشاعر "ولك الساعة التي أنت فيها" والغريب إن ثالثنا هو الآخر أبدى جبنا، أعلن عنه صمته.
في الأسبوع الثاني، حدث أن أقامة متوسطة "سوق الشيوخ" حفلة. ولاحظ مدرس الرياضة أن الشرطة المكلفين بحراسة الباب لمنع من لا يحمل بطاقة الحفلة من الدخول، أن الشرطي يستوفي منهم -لحساب جيبه- درهما أو أكثر ويسمح لهم بالدخول، فأنبه المدرس. ورفع الشرطي الأمر إلى المفوض -الموجود أيضا- وتم بينه وبين المدرس شجار انتهى إلى الاشتباك بمعركة. وأوقف المدرس بالتهمة الشائعة، والماركة المسجلة "شيوعي"!؟
وبناء على المقترحات السابقة، طلبت من الهيأة الإدارية الاجتماع للنظر في أمر المدرس الذي أوقف، فساد صمت ووجوم. وقال ألبدري قبل الرئيس "سيد حسن" أعتقد أن المسألة خارجة عن مسؤوليتنا فإن المدرس المشار إليه، أوقف بموجب برقية من وزير الداخلية! الرئيس قال، اعملوا أنتم، أنا لا أشارك وإذا أحببتم أستقيل؟!
وجهنا وجوهنا -أنا وزميلاي- نحو مدير المعارف عبد الوهاب الركابي فأشار بما أعرفه عنه من جبن يغلفه بتأويلاته المنطقية. ثم يهمزني، أنت تهتم بهذا المدرس لأنه من "الربع" خل القضية للمسؤولين!؟
في طريقي إلى البيت أخذ كثير من معارفي، وبعض الذين أعرف عنهم أنهم يحبونني، يلومونني فلم أسمع غير: لا تخلي نفسك ضحية، لا أحد يستحق، أنت وحدك تتناولك سكاكينهم! صدقوا والحق. ولكن لا بأس، فلقد أثبت للذين وضعوا ثقتهم بي إني عند حسن ظنهم، ولابد قد وصل إلى علمهم أنباء موقف أعضاء اللجنة التقليديين في كل دورة.
والركابي لا يفتأ يتابع دسه ضدي، ففي خلال بحث الأضابير في لجان تطهير الجهاز الحكومي لم يخجل من حث اللجنة ضدي. قال لهم، دققوا جيدا انه عاود نشاطه. من حسن الحظ أن اللجنة تعرفه جيدا، وان المسؤول الأعلى -المتصرف- وقف مني موقفا نبيلا. والظاهر انه حين علم برأي اللجنة، فكر بطريق آخر، فقد لقيني في الطريق، فراح يحدثني، وكأنه صديق يُسر إلى صديقه نبأ يخشاه، ويدله على طريق الخلاص. قال: أكتم ما أقوله لك، الشرطة أرسلت إلينا كتابا سريا بأنك تتصل بمشبوه يدعى فاضل سيد مهدي بائع سجاير! قلت: إنه شقيق زميلي المعلم صالح مهدي، وأنت تعرف ككثيرين غيري من المعلمين لا نستغني عمن يمكن أن يساعدنا بالقرض خلال الشهر، وأنت أعرف براتب المعلم!
وبعد أيام أطلعني مدير المدرسة سيد باقر على كتاب المديرية السري "بضرورة مراقبتي وإعلامهم بما يبدو مني من تصرف". فقلت لمدير المدرسة "أشد الناس نذالة من زكى نفسه على مذبح غيره"! وهذه عنوان كلمات كنت أنشرها باسم "سوانح".
وتصل أخبار الوالد الشيخ. مجالسه في هذه الظروف الحرجة، زادت اندفاع جماهير النجف. حدثني بعض من زار النجف. قال: مجلسه في الميدان الكبير يمتد إلى قرب مبنى القائممقامية. وإن مكبرات الصوت اثنا عشر مكبرة، فإذا توجه إلى مجالسه في الكوفة، أو المشخاب، تقدمت سيارته ثلاثة دراجات بخارية وخلفه اثنتان، للمحافظة عليه من الغدر. وقص عليّ بعضا من لذعاته وإشاراته إلى الساسة وسياستهم.
وأقامت جمعية المعلمين احتفالا كبيرا في 15/3/1953 بمناسبة زيارة الملك فيصل الثاني وخاله الوصي على العرش عبد الإله، يصحبهم وزير الداخلية عبد الوهاب مرجان الذي أفتتح خطابه بالآية الكريمة "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"
أما مدير التربية "حسين الصياح" فقد ذكر فيما ذكر كلمة فيصل الأول "لو لم أكن ملكا لكنت معلما" ولكنه أخطأ فقال العكس؟ فوضع المحتفلون أكفهم على أفواههم . ودوى ضحكهم أكثر حين رأوا عبد الإله نفسه وابن أخته قد ضحكوا كثيرا وبصوت عالٍ، حين أخطأ المعلم عبد الوهاب البدري وهو يهتف: يعيش صاحب "اللمو" الأمير على عرش "الإله"! أراد، صاحب السمو الوصي على عرش العراق.
وللناس في عبد الإله أحاديث وإدعاءات. لا أدري مدى صحتها. قالوا: أن مدير الشرطة قد أستدعى بعض المغنين والراقصات لسهرة خاصة حضرها عبد الإله، دون الملك؟ وإنه نزل إلى مستواهم في مرحه واستحسانه، فكان يماشيهم بأصابعه، ينقر على علبة السجاير وفقا للحن وهو جالس مثلهم على الأرض لا على الكرسي. وعقبوا: أنه أمر بمنحهم مقدار من الدنانير، لكن مدير الشرطة طردهم!؟
وفي هذا الشهر نفسه -في 6/3 و 15/3/1953- أعلن نبأ موت "ستالين" من إذاعات العالم. وبعد تسعة أيام أعلن نبأ وفاة رئيس جمهورية جيكوسلوفاكية  "غوترولد" على أثر التهاب الرئة أثناء تشييع جنازة ستالين.
ثم فاجأ الناس حر لم يسبق أن مر علينا مثله، واشتدت وطأت الرطوبة، وتسمع لبكاء الأطفال رنينا محزنا، وزاد الطين بلة، أن مشروع الإسالة أصيب بعطب، وشح الثلج وغلا سعره، لأن أصحاب المعامل أخذوا يهربونه إلى سوق الشيوخ والسويج، والكويت، ولم يحرك المسؤولون ساكنا.
ما هو الحظ؟ كيف يتعثر؟ الناس إذ يتحدثون يقولون حظي يتعثر؟ حظي أنا أيضا عاثر. لم اُرفع منذ عام 1946 قبل أن أفصل من الوظيفة بنفس العام. وما أزال بنفس الراتب خمسة عشر دينارا. ففي رسالة إليّ من عبد الرزاق محي الدين في بداية تعييني معلما عام 1935، وكان طالبا في كلية دار العلوم المصرية، قال عن هذا الراتب الهزيل "إنه كحلم الأعزب لا يصبح منه إلا على قذارة الثوب ونجاسة البدن".
إني أحمله فوق الطاقة، إنه لا يطيق إيجار الدار، والماء والكهرباء، والمعيشة اليومية، وما يحتاجه الصغار من كساء وغيره، وما تأتي به الأيام من مرض طارئ. فألجأ كغيري إلى المعارف والأصدقاء. لابأس الميزانية تختل بعد عشرة أيام بتخطيط مسؤولة البيت. لكن الحظ منذ 19/4/1953 عثر عثرة أربكت ميزانيتي شر إرباك. بحيث لا يستطيع تقويمها إي خبير اقتصادي. فقد اُبلغت من قبل محاسب المعارف: "إن إعلامهم لي بانتهاء الأقساط الواجب دفعها عن التوقيفات التقاعدية، التي سحبتها عند فصلي من الوظيفة، ثم لما عدت، طلبت إعادتها أقساطا. إن هذا حدث سهوا وهو لم ينته!؟".
غريب أمر هؤلاء الموظفين، هم يخطئون وعاقبة الخطأ عليّ أنا. وأشد ألما أن يطلب دفع المتبقي مرة واحدة. مرحا لهذا اللطف. وهذا الحرص على المعلم. راتبي 15 دينار والمطلوب دفعه عشرون دينار!؟ وبتوسط مدير المعارف، تنازل حضرته أن جعل القسط 5,250 دينار.
كان بإمكاني أن أتوسل بشتى الوسائل سواء في نطاق الرسميات، إلى الجهات العليا والصحافة. ولكني تدرعت بالصبر، فهذا ليس أول مكروه، ولن يكون الأخير. محاسبنا واحد من موظفي الحكومة التي لا تقيم وزنا للكرامة، ولا تشعر بمعاناة الموظف الصغير وبالخصوص المعلم الذي كاد يكون رسولا. ولكن في شعر شوقي.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏20‏/03‏/2011
Alshibiby45@hotmail.com


110
3- عودة ومصائب وعواصف / 6
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 
فترة هدوء وليست فترة أمان
وكأن شهري العطلة الصيفية أيام، فعدت إلى الناصرية، أداري سأمي في زيارة المكتبة العامة أسمر مع أمينها الأمين حقاً "عبد الكريم الأمين". وأرتاد النادي سويعات قليلة، فالناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير. ولعلني أحيانا أحسب بعض الناس -من مظاهرهم- إنهم بحكم الفقر الذي  يعانونه، والاستغلال الذي يستلب كرامتهم، ويدوس إنسانيتهم، أحسبهم طيبين وهم يظهرون التودد. وأمس رأيت ما أدهشني، وعرفت أن من الحكمة أن لا يحسن المرء الظن بأحد بالسهولة من حديث ومجاملة بل وحتى مساعدة.
أعرف فتى كان خادماً عند أحد جيراننا في النجف. كان لطيفاً في حديثه بلهجته العربية المتعثرة بلغته الأصلية -الفارسية- ونخوته لمن يطلب مساعدته، مهما كلفته من جهد وتعب. كان يحبنا ويحترمنا. وبالصدفة وقف أمامي، وقد تغيرت لهجته كثيراً عن ذي قبل. كان قد ترك النجف بعد وفاة مستخدمه. ولم نعد نعرف عنه شيئاً. لكن ما الذي جاء به إلى هنا. لقد عرفني قبل أن أنتبه إليه، وبادرني مباغتاً، بالقبل وإعلان الفرحة بهذا اللقاء. وصحبته معي إلى البيت ضيفاً. فأدهشني حديثه عن أخويَّ! فعجبت كيف تم له علم كثير بموضوعهما، وأستمر، فتغير كل رأيي فيه، ولزمت الحذر من فلتان اللسان. كشف لي عن نفسه، بدون لف ودوران، عرض عليّ أن يقوم بخدمة لنا فيما يخص أخي السجين "محمد علي". أكتب عريضة عن لسان والدته، إلى سفير بريطانيا العظمى!؟ قل فيها إنها حامية العدالة معينة الضعفاء، دولة الخير والدين والأخلاق ..... وأجلب الوالدة وأنا سأصحبها إلى صاحبي!
- ومن صاحبك يا عباس؟
- صاحبي مسؤول انكليزي كبير يدعى "بيرون". مسؤوليته من البصرة إلى الديوانية، وتحت مسؤوليته عدد كبير من العراقيين. وكل هذا لحفظ العراق من أعدائه.
قلت، يا عباس. الله وأكبر من صاحبك. تركنا الأمر إلى الله ولن نلجأ إلى أحد غيره. لم أجد ضيرا من هذا الجواب مع عباس العجمي الذي أصبح مؤمناً بريطانياً!
كان لقائي ببعض الأصحاب أكثر من البعض الآخر. فكل نموذج له لطف خاص به. علاقتي بالأديب عباس ملا علي وعبد الكريم الأمين تختلف عن علاقتي بكثير من زملائي المعلمين. وفي هذه الأيام وبعد أن مرّ على تبليط الشارع "عـﮕد الهوى" شهر واحد. أخذ الناس يتحدثون، كيف بدأ تبليطه يتفتت، حتى لكأنه من رماد وليس من قير.   
"عـﮕد الهوى" كان أسمه عند عامة الناس. يقول بعضهم إن سبب هذه التسمية كثرة الهواء لسعته، فهو أوسع شارع إذ ذاك في الناصرية. ويزعم آخرون إن هذا بسبب وجود بيوت الدعارة في نهايته. وتم التبليط على العادة مقاولة بالمناقصة؟ وما كان المبلغ زهيداً أبداً. ولكن الرشوة كانت متفشية. حتى أن المتصرف "عبد الحليم السنوي" قد أستوفى حصته قبل الهيأة الفنية من مهندس البلدية وأعضاء المجلس البلدي.
وتحدثنا كالناس عن هذا آسفين للسكوت والخنوع الذي يلازم شباب البلد، وتناول الحديث جوانب متعددة من تلاعب المسؤولين بمقدرات البلد وشؤون الناس في مختلف الأمور ومن أهمها مديرية المعارف التي تسودها سياسة التنافس والتعصب، وفعلاً بسبب هذه الروحية الكريهة قسمت وظائف المديرية -بشكل مقصود وتدريجياً- فلان يمثل خط السوق "سوق الشيوخ"، وفلان يمثل خط "الشطرة"، وفلان يمثل خط "الرفاعي"، وكل واحد من هؤلاء العمد له وكيل يتوسط أمور المتعلقين ويوصلها إلى العمدة. ولا تخلو الحال من اعتراف الوكيل والتعلق بالجميل للعمدة الذي يلتزمها عند الضرورة وفي حالات الخطر والمصادفات السيئة، مثل النقل إلى مكان غير مرغوب، أو رفض نقله إلى المكان الائق، أو شموله في التعيين في المدارس المسائية، أو في لجان التصحيح بالامتحانات العامة. فمخصصات المسائي، والتصليح كلاهما وارد لا بأس به. وللعمدة منهم هدايا مناسبة!
وتعرضنا لبعض أساليب ملاكي دور السينما، في عرضهم لأردأ الأفلام، مثل "السيدة تعارض" وأمثالها مما يزيد التفسخ الخلقي، وأساليب اللصوص، والعصابات، ذلك لأن هذه الأفلام رخيصة الثمن بينما هي تجذب وتستهوي الشباب المائعين، والمراهقين، بينما أصحاب هذه الدور يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول، ويستضيفون رجال الدين الذين يطوفون شتى أرجاء الجنوب يجبون من هؤلاء ومن العشائر، الزكاة والنذور، ولكن لا يدخل في حسابهم، أنهم بما يعرضونه من تلك الأفلام ما يهدم الأخلاق، ويشيع التفسخ والانحلال الخلقي.
وأجمعنا نحن الثلاثة، لو قام أحدنا أو ثلاثتنا، بنقد هذه الأوضاع على صفحات الجرائد، ولم ننس أن المسألة لا تخلو من خطر، لما نعرفه من تحالف بين أهم القوى، الشرطة والإداريون، والمتنفذون من رجال البلد "الوجهاء" وبالأخص أحباب صاحب الفخامة، والموظفون الوسطاء في نفخ الجيوب.
وبدون توقف سارعت فكتبت كلمة بهذا، عنوانها "تعال معي إلى الناصرية" وأرسلتها للنشر في جريدة العالم العربي لصاحبها نجم عبد الله السعدون، وهو صديق لي أيضاً، ورئيس التحرير فيها الصحفي المعروف لطفي بكر صدقي، وما أسرع ما نشرت بتوقيع مستعار طبعاً.
ومن الصدف أن يوم نشرت لم أخرج كالعادة، لقد تأخرت لأمر يخص صحتي، ولزمت مكاني الخاص في غرفة الاستقبال. وجاء شاب من الجيران. أعرف فيه طموحاً لخدمة البلد، والنضال ضد العمالة والاستغلال والسياسة التي تساعد على التأخر والانحطاط. لاحظت أنه يعاني من سوء أصابه. فسألته، فراح يقص علي نبأ نشر كلمة له، بعنوان "تعال معي إلى الناصرية" وأن موجة غضب هاجت بين وجهاء البلد.
مدير الشرطة أتصل بإدارة الجريدة، مدعيا إنه صاحب الكلمة، وإن فيها أخطاء كثيرة، يوهم الإدارة ليتعرف على صاحبها الحقيقي. وآخرون يهددون ويتوعدون، لو عرفنا من هو كسرنا عظام جمجمته بالأحذية! ومدير المعارف السيد كاظم القزويني أستدعى عبد الكريم الأمين وعباس ملا علي معتقداً إنها لأحدهما. كان قد تكرم مدير المعارف على الأديب عباس ملا علي فعينه محاضراً في دروس العربية في بعض صفوف المتوسطة والثانوية، ولهذا أجاز لنفسه أن يحاسبه!. وأنا آسف أن فقدت نسخ الجريدة التي نشرت الكلمتين.
 ثم قال الشاب، أنا صاحب الكلمة. وإني أخطأت إذ أفشيتُ أمرها لأخي، وقد جاء أخي منفعلاً وخائفاً من مغبة العاقبة. وهددني بالطرد! كان على الطاولة التي أجلس خلفها ملف كتب عليه عنوان المقالة وتأريخ إرسالها للجريدة، وجلس هو من جانبه الثاني. فقلبت الملف حالاً، كيلا يلتفت إليه. ورحتُ أهدؤه وأحثه على كسب رضا أخيه ولو بالإنكار، وأنك قلت ذلك أدعاءً.
والتقيت بصاحبيّ، فبادرتهما بالتساؤل عمن كتب ذلك منهما! راحا يقسمان اليمين متنصلين، ويسألان مني أن كنت أنا الكاتب، فأقسمت اليمين أيضاً. قال أحدهما، المضحك في الأمر إنا تعاهدنا على الكتمان، فمن يجرأ على التصريح؟! وحضر أحد شياطين مديرية المعارف، وقال متحمساً، والله العظيم لو تأكدت من معرفة الكاتب لهشمت فكيه بحذائي هذا! فقابلناه بالنكات والتعليق.
بعد أسبوع جاءت جريدة "الجبهة المتحدة" تحمل كلمة أخرى لي بتوقيع صخر بعنوان "يا شباب الناصرية" ذكرتهم بتقصيرهم في خدمة بلدهم، مع علمهم بمن يتلاعب بمقدراتهم. وقلت، إن كثيراً من أولئك المتلاعبين ممن هم ليسوا من بلدكم، وتعرفون عنهم كل شيء ولكنكم ليس فقط تغمضون عيونكم عنهم، إنما تزيدون احترامكم لهم!. فهاجوا أيضاً.
أحد معارفي استدعاني -وأنا مار في الطريق- أن أجلس قليلاً معه. وقدم لي الجريدة. وقال، خذ أقرأ ... في رأيي كاتب هذه المقالة هو نفسه الذي كتب الأولى! ماذا تقول؟
سلمني الجريدة فرحت أقرأ، وهو يمعن النظر في ما يبدو على أسارير وجهي. قلت، لاشك أنه ليس من أهالي الناصرية، أنتبه إلى انه يخاطبهم ويعيبهم، ويحرضهم أن يتيقظوا!
ولكني تبت إلى رشدي فعدلت عن الكتابة. ومن غريب الصدف إن مدير المعارف أرسل بطلبي. وحين حضرت قال، في النية إقامة حفل بمناسبة المولد النبوي. لنا عليك أن تشارك بإلقاء كلمة بهذه المناسبة. لكني اعتذرت وأصررت. وقلت، يا سيدي أنا لست من رجال هذه الحلبة أولاً، وثانياً أنت تعرف إني تحملت المصائب بدون أن أكتب فكيف بي لو كتبت؟. أضف إلى هذا لو إني أحسن ذلك لكتبت ببالغ الأسف عن مصير دين محمد في هذا العصر على أيدي أبناء الدين!.
وما عدت إلى البيت حتى فوجئت بالصديق محمود مرزة لأول مرة يصلني إلى بيتي. بعد أن أستقر قال، جئتك من أجل مطلب أرجو أن تجيبني إليه، ولا تعتذر أبداً. أبني شاكر أمره مُدَرسهُ أن يشترك بإلقاء كلمة في الاحتفال الذي ستقيمه مديرية المعارف في قاعة الثانوية بمناسبة ذكرى المولد النبوي. ومحمود من عائلة نجفية بهذا الاسم "مرزة" أستوطن الناصرية، يتاجر ببيع العباءات الرجالية، صيفية وشتائية. وكأي نجفي ينحدر من أسرة دينية تجد عنده هواية المطالعة والإطلاع والظهور بمظهر المطلع، مضافاً إلى كونهم يظهرون اعتدادا بالغاً بأنفسهم، كما أنهم ذوو لباقة.
قلت، يا سيدي منذ دقائق جئت من عند المدير وقد دعاني لهذا فاعتذرت. وأصارحك أني لا أستطيع أن أكتب بغير أسلوبي المعتاد، فكيف أنزل إلى مستوى من لم يعرف أن يكتب؟ وأزيدك علماً، إني لن أعتبر أية كلمة في هذا الصدد ذات أهمية، ولن تكون خدمة، إذا كانت كما تعودنا أن نسمع، أطفأت نار المجوس، وانهارت الكنائس، وسمع دوي الملائكة يسبحون ويقدسون ويباركون البشرية بالمولود العظيم؟ إن كتبت فسأكتب عن دين النبي العظيم كيف أصبح غريباً، وقد زوي عنه "بدى الأسلام غريبا وسيعود غريباً كما كان" وكأنه يشير إلى الآية الكريمة "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات انقلبتم على أعقابكم ..."
أجل يا أخي، صدع محمد بدعوته وأنتصر فأندفع المسلمون ينشرون كلمة التوحيد ووحدة الكلمة. أما اليوم، فقد سادهم الاستعمار، وفرق كلمتهم، وحرفهم عن الحق، وصدهم عن السبيل ... ثم من يحميني لو أريد عقوبة أبنك بعد التحقيق واعترافه بالكاتب الحقيقي؟
قال وشدد في الالتماس والطلب، أعطيك عهداً انه سيلتزم أن شددوا عليه إنها بقلمي أنا! ولبيت وكتبت له بعنوان "الإسلام الغريب"
وحضرت الاحتفال. وجاء دور الطالب شاكر محمود. بعد قليل من إلقائه، أخذ المتنفذون المتصرف، مدير الشرطة، مدير المعارف، يوشوش بعضهم مع بعض، يتساءلون بدهشة ونرفزة، من سمح لهذا؟ دعوا أحد المسؤولين من المدرسين. أخبروه، أن الشرطة ستقبض على هذا الطالب لتحديه ومروقه. أجاب المدرس، وأيده زميله وشريكه في المسؤولية والأشراف، إنا لا نسمح بهذا ونقول لكم لاحق لأحد على هذا الطالب مادمنا قد سمحنا له ورضينا بها فأن كان ولابد، فنحن الذين يجب أن نحاسب!
وطال بينهم النقاش. كنت في الصف الذي يليهم. في مسافة أستطيع أن أفهم شيئاً مما دار. وشدد المدرسان المشرفان والمسؤولان أيضاً "حامد العزي ورشدي الأشهب".  كان حامد مدرساً مثقفاً وأديباً وشاعراً. وبيني وبينه صداقة تمت بواسطة علاقتي بأمين مكتبة الناصرية عبد الكريم الأمين، ورشدي الأشهب فلسطيني، أديب وشاعر أيضاً، يحمل الحسرات من أجل موطنه فلسطين، وهو ظريف غاية الظرف.
وتدخل عنصر طيب فقال، أقترح عدم اتخاذ أي أجراء عقابي، إن هذا سيرفع من شأن الكلمة، ويجعل الناس يبحثون عنها، وربما بالغوا بأكثر من حقيقتها عنها، بينما لو تركتم المسألة تكون المسألة اعتيادية، إنها كلام يتلاشى في الفضاء. انتهى الأمر بسلام، ومع ذلك فقد أشير على الطالب أن يُخفي نفسه يوماً واحداً!.
*                                                             *                                                                    *                                                                      *
وتجرأت فأقدمت على زيارة قضاء الشطرة. أليس مؤسفاً إن يجد نفسه المواطن محروماً من التعرف على مدن بلاده! صرت ضيفاً على الصديق الأستاذ رسول الوسواسي. وزرت الصديق عبد الحسين جواد الغالب. رسول الوسواسي مدرس تعرفت عليه عام فصلنا من الوظيفة باعتبارنا شيوعيين وقد مارس خلال فترة الفصل العمل في حانوت بسيط. وعبد الحسين الغالب هو من زملائي في الموقف العام عام 1948 أيام وثبة كانون.
تجولت في شوارع الشطرة على جانبي النهر، تمتعت هذا اليوم بقسط وافر من الانطلاق، وشربت ماء دجلة العذب، ففراتنا من السماوة حتى القرنة لم يعد فراتاً، أنه ملح أجاج بسبب -ما يقال- انه يمر على مملحة السماوة!
ولفت نظري، بيت فخم -بالنسبة لمباني هذا القضاء- لكن جدرانه مطلية ومشوهة بالحناء، وقد كتب على بعضها -يا بخت حجي خيون- هو شيخ مشايخ عشيرة العبودة، ولكنه الزعيم البارز في هذه الربوع. فهو الذي تعاون تعاوناً وثيقاً مع الإنكليز لتثبيت احتلالهم وسيطرتهم. وقد رصدت له حكومة الاحتلال مرتباً شهرياً -مئات من الروبيات-.
عدت مرتاحاً وهنأت نفسي أن عدت بسلام، وبعد أسبوع علمت أن الشرطة استدعت مضيفي واستجوبته عن علاقته بي، وأسباب مجيئ، انتهت أيضاً بسلام!                           
ولكن صدري يجيش أحياناً بلهفة وحرارة، أيّ أمر ينتظرنا في الغيب. إن العالم يضطرب، ذلك لأن حلفاء الإتحاد السوفيتي ضد النازية، بدؤوا منذ انتهت الحرب يهيئون أنفسهم. لضرب حصار على السوفيت، علّهم يعيدون الشعوب التي أصبحت حكوماتها اشتراكية -كما يعبرون عن هذا- بإعادة الحصان إلى الإسطبل. وفعلاً قد تفجر صدام مسلح بين شطري كوريا وتدخلت أمريكا باسم هيأة الأمم المتحدة، واشتركت معها الأمم الموالية لها. ولم تفلح في دحر الكوريين الشماليين. وقد نُصح الأمريكان بعدم تخطي خط العرض (38) لكنهم اعتبروه خطاً وهمياً. وهاجموا الشماليين بوحشية وقسوة، مما دعا الصينيين للتدخل لحماية أنفسهم، وبالتالي أنتصر الشماليون، وكانت خسائر الأمريكيين والكوريين الجنوبيين فادحة، وانسحبوا بصورة مخزية.
وعلمت أن أخي محمد علي يرقد في مستشفى العزل -في الديوانية- وبعد أن أكد الطبيب أصابته بالتدرن الرئوي، أرسل إلى بغداد، ولم يلق غير الأكل والنوم، لكن الأهل صاروا يزودونه بالدواء اللازم! ومن المؤكد انه سيظل سجيناً مهما كان هذا الداء، حتى ولو أدى إلى موته!؟
وحين أشتد البلاء من حكم الوكيل الأعلى على الصحافة والفئات الوطنية، استقال ليشكل الوزارة في 10/12/1949 علي جودة الأيوبي، وضمت وزارته عضواً من الوطني الديمقراطي وزيراً للعدلية، وهو حسين جميل بصفته الشخصية لا الحزبية إذ كان الحزب مجمداً. الأيوبي أيضاً حمامة سلام خصوصاً وانه قد فارق رئاسة الوزارة منذ عام 1935. وهذه هي المرة الثانية يتسلم زمام رئاسة الوزارة. فألغيت الأحكام العرفية، وأتيح للصحافة شيء من الحرية لتعالج قضايا البلاد المتردية. فطالبت بإعادة النظر في أحكام المجالس العرفية. ثم لم تدم أكثر من شهرين واستقالت! أن مجيئها مؤقت ومرسوم للتهدئة وإيهام الناس بالأمان، وفترة استجمام للسيد الوكيل، ريثما يزوده أسياده بالتخطيط الجديد. وجاء دور حمامة السلام رقم "3" توفيق السويدي ليوطد الأمور، ويحقن الظروف -بمورفين- ولكن الجميع يعلمون انه رقم "3" يأتي بعد جودة والأول هو ذو اللحية المقدسة. والسلام في عرف هؤلاء، ليس مهدداً من قبل الاستعمار، إنه مهدد في مفهومهم كما قال شاعر العراق الكبير الجواهري:
وخــوفــوهــا بدب ســـوف يأكلهــا                      في حين سبعين عاماً تألف السباعا
وعاد نوري السعيد بشقاء ملايين العراقيين بعد توفيق في أقل من سبعة شهور ليمارس سلطانه في اضطهاد الحريات، ويمعن في إرهاب الشعب. فتسلم رئاسة الوزارة في 16/9/1950 وأستمر حتى عام 1953 أي انه بقي ما يقارب ثلاث سنوات.
*                                                             *                                                                    *                                                                      *
اندمجت مدرستنا السيف الابتدائية طلابها ومعلموها بمدرسة الملك فيصل الأول. لا أدري لماذا أنا غير مرتاح لهذا الاندماج، أنا في كثير من الأحيان أعتمد على حسي. لقد كنت في غاية الارتياح في المدرسة السابقة. المعلمون كلهم يمثلون وحدة، ماضون بواجبهم بكل نشاط، ذلك لأن انسجاما تاماً بينهم وبين مدير المدرسة مجيد وحيد شاهين. لا بأس، أنا أيضاً أعتمد على سلوكي الخاص، والمستقبل كشاف. المعلمون هذه الأيام مهتمون بإقامة حفلات تمثيل مسرحيات لكنها في الهزل والغرام. مديرنا -سيد باقر- يرغب أن نقوم نحن أيضاً. في المدرسة معلمون هذه هوايتهم. المعلم عبد الوهاب البدري يعتبر نفسه مخرجاً فأختار "قصر الهودج" وطلبوا مني أن أشارك. فحولت حكاية "أبو القاسم الطنبوري" إلى مسرحية وعلى البدري الإخراج. واخترت لهم أنشط الطلبة من السادس والخامس. بضمنهم ولدي كفاح من السادس. شارك في "قصر الهودج" ومثل دور "أبو القاسم الطنبوري" وابني همام في الثانية أيضاً، واكتسبت مسرحية الطنبوري أهمية، فكان الإقبال لمشاهدتها رائعاً خلال ثلاثة أيام.
ويبدو إن الإعجاب فيها كان كبيراً، إذ بلغت مديرية المعارف المدرسة برغبة المتصرف بمشاهدتها. فواصلنا التمثيل يوماً رابعاً. مدير المعارف القزويني قدم كارت إلى بطل المسرحية -كفاح- كتب فيه "أهدي حذاءاً جديداً لأبي القاسم" أعجاباً بقيامه خير قيام وأداء وتمثيل الدور.
كان ريع الحفلة كبيراً جداً. على أن المسرح كان نموذجاً عادياً. إذ لم تكن لدينا مادة غير جهود المعلمين، طبعاً في الطليعة البدري. ولقد ضغطت على عواطفي بشدة حين صغت هذه التمثيلية بعيدة عن السياسة والاجتماع. خفت أن يقال عني المثل المشهور "مكروهة وجابت بنت"؟!
والناس في حديث واسع عن كسوف الشمس الذي حدث في 25 شباط -1951- في الساعة 11 والدقيقة الخامسة والثلاثين من جهة الجنوب الغربي، لم نعد نرى الشمس تماماً وعًمّ الظلام ربما لأن هذا جاء مصحوباً بتلبد الغيوم. قالو: إن البعثة التي اتخذت  "أور" مكاناً لمراصدها لم تنجح في مهمتها تماماً.
زوجتي في شهرها التاسع، فتضجرت أختها متشائمة. وبعد أيام جاءت رسالة من أبي يشير، إنها ولدت أنثى ميتة، الحمد لله على سلامتها!
القزويني أنتقل وحل محله حسين صياح. دهشت منه انه لم يبد أية ملاحظة على تدريسي فروع العربية، القواعد، الإنشاء، أسلوب تدريس القراءة. انه قصر ملاحظته على عدد قطع "المحفوظات" الشعرية والنثرية. في رأيي أنا ليس المهم العدد، المهم أن يكون الاختيار هادفاً من الناحية التربوية، وموافقة القطعة الشعرية فيما يخص بنائها في الوزن والقافية، ووضوح القصد فيها، لعقلية وسن الطلبة.
حسين صياح من أهالي الديوانية، قيل انه يعتبر من ركب المدرسين الذين يتعاطون نظم الشعر وقد جاء خلفاً للقزويني الذي نقل. مدير المعارف سيد كاظم القزويني من الحلة. تعرفت عليه منذ زمن بعيد بواسطة علاقتي بأستاذي جعفر الخليلي. حين جاء كمدير معارف "لواء الناصرية" زرته -وحدي- بعد زيارة المعلمين. رحب بي ترحيباً كبيراً. وتساءل عن سبب وجودي في الناصرية فأفهمته أني عينت بها بعد إعادتي للوظيفة. كان قد ترك ما بين يديه من أوراق، وحين علم أني معلم ابتدائية، عاد إلى عمله ملازماً الصمت!؟. إنه إذن يستخف بمهنة المعلم، وأنا أيضاً أستخف بهذه المقاييس وأصحابها.
نشط المعلمون لإقامة حفلة توديعية له. ومن المهازل أن بعض الذين كانوا ينتقدونه ويشتمونه كانوا في مقدمة الذين القوا كلمات غاية في المبالغة بتكريمه والثناء عليه، منهم مفتش المعارف عيسى الساجر. وبالمناسبة هذا المفتش في بداية مجيئه، أختصر بي أثناء زيارته مدرسة السيف. وقال، آني علمت أنك من آل الشبيبي، وأن للأستاذ محمد حسين فضل عليّ أنا، وأنا مرتاح إذ وجدت قريبه لأوفي جميله عليّ، ولكنه بعد هذا غير رأيه، وانقلبت الآية إلى محاولة نقيض الأولى. لماذا؟! أكبر سبب لأني لست ممن يقيم دعوات منضدة الشراب في النادي. وسبب آخر له علاقة باختصاصي واختصاصه، هو معلم رياضة ويبدو انه بعيد عن اللغة العربية تماماً.
أخرجت تلميذ -ابني همام- على السبورة ليعرب جملة "لم يكن التلميذ كسولاً". بطبيعة التلفظ يكسر المتكلم نون "يكن" على قاعدة إذا التقى ساكنان أما أن نحذف أو نحرك، وحيث لا يمكن الحذف فقد حركنا بالكسر. ولكن حضرة المفتش، أخذ يلح على التلميذ، أنطق جيداً ودقق ما علامة الجزم هنا؟ التلميذ يجيب، السكون! لكن المفتش يلح. ويحاول أن يقطع التلميذ الكلمة، حرفاً حرفاً، ليلفت نظره إلى انه يكسر النون، فهي إذن علامة الجزم؟! نبهته، التلميذ مصيب في العلامة. لأني اعتقدته يغالطه. فأجاب، إنها واضحة وهو ينطقها؟ ولما نبهته للقاعدة لم يقتنع، وغادر الصف. أدركت إنه اهتدى إلى الصواب وأقتنع ولكن أخذته العزة بالإثم.
وحين دعا المعلمين ليبدي ملاحظاته. أثنى على الآخرين باختلاف وجيز في عبارات الثناء. والتفت إلى المعلم علي الطالب يحاسبه على عدم استعمال وسائل إيضاح للصف الرابع؟! يا سبحان الله. هذا المعلم من أنشط جميع زملائه، جدران صفه مليئة بالوسائل، علاوة على هذا، انه المعلم الوحيد الذي يساعد فقراء تلاميذ صفه بما يحتاجون، فانيلات، جوارب،  أحذية للرياضة. فلم أجد بداً من الدخول بالرد. سمني متطفلاً، قل ما شئت! فقلت، هذا يعني أنك تنكر وجود منارة في الكفل ؟! فثار، ورحت أختصر، قم معنا جميعاً لننظر في الصف انه غير بعيد ...
وحكاية منارة الكفل مضرب للمثل في نكران الحق الثابت. واصل الحكاية: إن نزاعاً جدّ بين المسلمين واليهود أيام العثمانيين. المسلمون يدعون إن البناية لهم فهي جامع لوجود المنارة واليهود ينكرون وجود المنارة وان ذو الكفل نبيهم. وكلما جاء موفد من الأستانة لمعرفة الحقيقة رشاه اليهود فأيدهم وما تزال المنارة موجودة.
ولكني أدركت بعد هذا سر هذا التحامل. مدير المدرسة يتضايق من "العليين" معتقداً أنهما من دعاة الاشتراكية! هذا فهمته حين تمشى ذات يوم معي، وراح يقدم لي النصائح، إنك من مدينة الأمام علي بطل الإسلام وأسرتك أسرة علم ودين فلماذا تتجه هذا الاتجاه المنافي للدين والأخلاق؟ الاشتراكية أو الشيوعية؟ قلت، يا أبا منذر "سيد باقر" إن صح هذا فهو لا يخرج عن كونه اتجاه فكري في السياسة والاجتماع والاقتصاد. ولكن قل لي، أيصح لك وأنت من أبناء الرسول أن تبذر راتبك على مائدة القمار، وهو رجس من عمل الشيطان؟! وبيتك ما فيه غير حُصُر الخوص؟! أليس القمار محرم في الدين؟ أما العلم فلا! وأنت تعرف عني أيضاً إني بعيد عن الكأس والقمار.
كم أضحكني رده حين أجاب، سأترك حينما أكمل تجربتي لغرض تأليف كتاب "المقامرون"!؟. انه مدهش أيضاً حين يتحدث عن جدته. التي ربطت أسداً قد جاء مع أبقار جده عند المساء! فربطته تلك الجدة متوهمة أنه أحد العجول. ولكن جده أكرم الأسد بعجل وأطلقه معه؟! حين انتهى من حكايته هذه -المعجزة لنا- صاح المعلمون بصوت واحد، اللهم صلي على محمد؟!
إنهما نموذج واحد في التربية والتوجيه. وقيادة التربية والتعليم ما تزال في أيدي أمثالهم من المدللين أو المأمونين على سياسة الدولة.
وحين انتهى دوام المسائي ذات ليلة، بحثت عن كراس "الجبهة الوطنية الموحدة" لشقيقي الشهيد، الذي وضعته مع بقية ما لدي على منضدتي الخاصة، فلم أجده. سألت من بقي من المعلمين، إن كان قد رآه فاعتذروا. سألت الفراش الأسود، وكان شيخاً مسناً وبليداً لكنه طيب للغاية، فأشار بيده إلى المدير. ثم توسل، لا تقل عني؟! وقصدته فسألته. فشدد في عدم علمه مع اليمين وداعة ولدي "منذر" الوحيد؟!
لم تكن لدي نسخة من هذا الكراس وقد وجدتها عند صديق يبدو انه يبغي التخلص منها خوفاً من التهم فأخذتها منه مساء ذاك اليوم، وكانت مغلفة بظرف. الظاهر أنه يتجسس على المعلمين فأخذها بعد أن فض الغلاف وعرف موضوعها خطأ، فهذا كما يعلم الجميع دعوة للجبهة وليس إلى فكرة الشيوعية!.
فأعلنت متذمراً، أي سخيف هذا الذي تمتد يده لحاجة غيره دون علمه؟ أهي مداعبة؟ ليس الوقت وقت مداعبة! إنها سرقة. إنها نذالة. وكرر إنكاره بالاعتذار مع اليمين. وفي صباح اليوم التالي، أنكشف كل شيء. جاء أحد زملائي يطلب أن أذهب معه وأعتذر، وأطلب العفو؟ فالمسألة خطرة. السيد كتب كتاباً رسمياً وجهه إلى الشعبة الخاصة "الأمن" حول موضوع الكتاب، يشير فيه "الكتاب، شيوعي وهو مبرز يؤكد أن المعلم علي الشبيبي يدين بها وهو زميل المعلم الشيوعي الآخر في المدرسة، يرجى العلم" وكان يقصد بالمعلم الآخر الزميل علي عبد طالب الذي أتهمه المفتش بالتقصير في وسائل الإيضاح.
وذهبت مع الزميل. وقلت وأنا في حالة انفعال، أسمع يا سيد .... أنت وحيد أبويك رحمهما الله، ليس لك أخ لذلك لا تعرف معنى أخ! ثق إني لو وجدت قطعة من ثياب أخي  حين إعدامه لوضعتها على يميني وتقدمت إلى المشنقة -إن حكم عليّ بها أيضاً- مسروراً. أما أنت وقد أنكرت علمك أمس بالكراس مع الأيمان فخذ مرآة أنظر بها وجههك، وضع يدك على صدرك، سيكون وجههك أسود، وضميرك ميتاً بسبب فعلتك هذه السوداء والمخزية ... وغادرت الإدارة إلى الصف!
وحين عدنا إلى البيت عند الظهر. دق الجرس فخرجت أستطلع، كان هو نفسه، جرني وقبلني بجبهتي وأعتذر وسلمني كتاباً وغادرني مبهوتاً! ما الأمر؟!
"الكتاب" اعتذار وألم. لقد أثرت فيه كلمتي تأثيراً، كانت سطوره في كتابه، كأنها دموع تنسكب، وأنّة تسمع: أنك من مدينة جدي، وأنت سميه، محال أن تصل بي النذالة إلى هذا الحد! ولكني كنت أهدف إلى ضرورة تجنبك مثل هذا فهو خطر عليك!
وفي الدوام الثاني بعد الظهر، جاء إلى الصف وقدم لي الكراس بظرف جديد. وطلب أن أخفيه، وبهتَ حين مزقت الظرف وأخرجته أمامه. وعَقبتُ: المسؤولية عليّ وأنا راض، وشكراً.
 
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏13‏/03‏/2011


111
 
3- عودة ومصائب وعواصف / 5
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


عذاب ولكنه هين!     
وأشتد ضغط "السيد" على الحريات. فخلال وزارته هذه عطل عدداً من الصحف، تجاوز المئتي صحيفة، ومنع دخول الصحف العربية التقدمية طبعاً. حيث كانت ترد إلى العراق صحف مصرية ولبنانية وفلسطينية، أمثال الفجر الجديد، النداء الوفدية، إتحاد الشعب السورية، وإتحاد الشعب الفلسطينية، وأم درمان.
وما يدري أحد ربما كان سادته هم الذين دبروا قضية خروج القطار عن السكة، فأتهم طلاب مدرسة دار المعلمين الريفية -قرب المحاويل- باعتبارهم شيوعيون انتقموا لإعدام قادة الحزب. وكأن الطلبة لا يدركون أن الذي أعدم قادة الحزب هو نوري السعيد وليس ركاب القطار. لكن هكذا شاءت عقليته العفنة. وبعد التحقيق أصدر قانوناً صفيقاً ضد الأساتذة والمعلمين، إلى حد الحرمان من الحقوق التقاعدية، وعلى الرغم من أن لجنتي الشؤون الحقوقية قد رفضت مرسومه هذا، فإنه أستنفذ أغراضه.
بيتنا شعب عراقي، والشعب العراقي بأسره مبتلى بهؤلاء الحكام. فلا غرابة إذن أن يستمر البلاء أيضاً عليّ وعلى أبي، بعد إعدام أخي.
فقد حكم على أخي محمد علي بالسجن عشر سنين وأرسل في 28/4/1949 إلى سجن نقرة السلمان، واُحلت أنا إلى المجلس العرفي الأول مرتين في 17/4 و 20/5/1949 بناء على توقيفي في 1/3/1947 في النجف خلال مدة فصلي من الوظيفة.
شاهد أخي محمد علي إعدام شقيقنا بعينيه، حيث أقام ليلة إعدامه في بيت رفاق مطلاً على ساحة باب المعظم، وسمعه وهو يتقدم بخطى متزنة نحو المشنقة، ينشد مطلع قصيدة أستاذه ألجواهري:
أتعلــم أم أنت لا تعــلم         بأن جراح الضحايا فم
ولما اعتلى المشنقة قال ما معناه:
من المناسبة الطيبة إن منصة الإعدام نصبت لي في ذات المكان الذي كنت أثير منه المظاهرات الوطنية!
وبعد أكثر قليلاً من أسبوع، ألقي على أخي "محمد علي" القبض في دار مطبعة الحزب. حين أخذ إلى التحقيقات الجنائية، لقي النذل "مالك سيف" هناك، فأشار إلى الجلادين "إن هذا هو أخو حسين، فافعلوا به أعنف العقاب، إن الشيوعي يقف أمام الرشاش بكل جرأة، ولكنه لا يحتمل التعذيب. عذبوه لتنتزعوا منه ما عنده. إن عنده بعض ما ليس عندي!". روى أخي محمد علي حديثه هذا وحين قال عن الشيوعي قال، هذه كلمته بالنص. علقت، حقاً أثبت أنه ليس شيوعياً قبل أن يخون، لأنه سلم أمره بدون أن يقف أمام رشاش، كما أنه لم يلاق أي تعذيب! ربما كان جاسوساً منذ كان، وآن أوان الكشف عن هويته بنفسه!.
كان أخي هذا مصاباً بقرحة المعدة، وقد انهارت صحته أكثر، بعد مشاهدته إعدام شقيقه. يقف مالك فيوصي الجلادين بضربه ما استطاعوا بقوة، وهو يشرف عليهم بلا خجل. لا غرابة، لقد فقد رجولته منذ أمد وداس ضميره بنعله، من أجل أن يبقى حياً، يملأ كرشه كأي حيوان لا يدري إن الموت حتم لابد منه ولا فرار. وأن اللعنة عليه أبداً ما طرأ ذكر أسمه.
سافرت حين اُحلتُ للمجلس العرفي الأول في 17/4/1949 إلى بغداد، بعد أن أعدت أهلي إلى النجف. فقد كنت أخشى أن يصدر عليّ حكم فلا أحب أن أثقل على الطيبين الذين حملوا مسؤوليتهم تجاههم حين أخذت مخفوراً في بداية عام 1948.
في الجلسة الأولى لم تجر مرافعة. اقتصرت على أخذ أسماء الحاضرين والمتهمين. كان عددنا جميعاً ثلاثين، منهم أربعة سجناء في نقرة السلمان، واثنان كانا هاربين.
في المرة الثانية بدأ الشرطي يدخل واحداً بعد آخر حسب طلب الحاكم "عبد الله النعساني". ناداني هذا الشرطي النبيل، أتذكر أسمه "جودي ..." وهو من أهالي الحلة، وقال لي بهدوء "أنت علي أخو حسين؟" قلت نعم. قال أقترب وأستمع "فربما ذكرك أحدهم لتعرف كيف تدفع عن نفسك! وأستمر أنا شهدت الحكم على شقيقيك حسين ومحمد علي، الله يساعدكم. إذا نجوت من حكم النعساني أنت سعيد؟ خلصت من عزرائيل!"
في هذه الجلسة حضر كل المتهمين عدا الهاربين. ولم يوكل محامياً غير واحد فقط، كان هو أيضاً من المحامين. وآخر لم يكن في الواقع من الشيوعيين، ولا أدري سر اتهامه، لكنه أخذ يكرر ذكر صاحب الفخامة "صالح جبر": هكذا آنه بيك ما كنت حاضر بالنجف من بلغتوا المتهمين، أصلا ها المدة كنت في بيت صاحب الفخامة؟! والمحامي "موسى صبار" جاء اسمه أولا كواحد من الغائبين وبعد هذا لم يذكر مطلقا، ولابد ان هذا لعلاقة عمه "مهدي صبار" بوجهاء الشطرة، لأنه دفان أمواتهم، فيكون أحد أولئك قد شفع له عند صاحب الفخامة "صالح جبر" أيضاً. والمحامي موسى فعلا كان من حزب عبد الفتاح إبراهيم، وهو فتى هادئ وحيادي رغم إنتمائه المذكور.  كان موسى ضمن المتهمين ولم يحضر أصلاً، وأستثني أيضاً باسم صاحب الفخامة!؟
الحاكم أمر أحد الشهود أن يستعرض وجوه المتهمين، فيشخص من يعرف؟! أمر هذا غريب. هو ليس من فئة سياسية، ولكنه يُسأل ليشخص الشيوعيين أو من يعرف من هؤلاء الماثلين أمام المحكمة!؟.
سأله: عني!. أجاب أعرف أنه نجفي، وأعرف والده، ولكن لم أره منذ سنين ولا أعرف عنه شيئاً. ثم نودي على الشاهدين من شرطة الشعبة، أحدهما "رزيج" كان هو وزميله "هادي" موكلاً إليهما أمر مراقبتي، أيام فصلي. أشتبه النعساني حين سأل عن أسمه وقال "ارزيج" ضن أنه "غزيل"، وحين أستمع إلى شهادته لخصها "رزيج" بأن هذا المتهم، كان يقصد الحديقة العامة مع عدد من المعلمين، وآنه أمشي وراهم. كل يوم قبل غروب الشمس!؟
سأله الحاكم بحدة شكانوا يتحدثون؟ والحديقة خاصة بالشيوعيين؟
أجاب سيدي، يسولفون ويضحكون!
- بس!؟
- أي سيدي ...
- وأنت تمشي قريب منهم؟
- لا سيدي. بيني وبينهم خمس أمتار؟
تضجر الحاكم، ولك أنت "أحميّر" مو "غزيل" موذنبك. ذنب اليخلي مثلك يمشي ويراقب ناس تعبانين على أنفسهم!.
قلت في نفسي أهذا هو النعساني؟ هذا ليس بعزرائيل! إنه يبدو لي طيباً. على إني كنت أسمع كثيراً بأنه مثل في القسوة!
الشاهد الثاني، كان أحسن منه. قال ما رأيت منه شي موزين، ولا شفته أختلط بأحد، يروح بدربه ويجي بدربه. ومن زمان أدري بيه بالناصرية، هو ما كان بالنجف أيام المظاهرات.
وتقدم مفوض الجنسية والسفر، كان خفر يوم أوقفت، وأجاب إني لا أعلم عنه شيئاً، فقط كنت خفر يوم جيء به، أنا عن شؤون الجنسية والسفر!
أما مأمور المركز "خضر" فقد أدلى بإفادته،  بأنه لم يسبق له أن سمع باسمي أو رآني، ويوم أوقفته لقيني في الطريق وسألني ماذا تريدون مني؟ فسألته من أنت؟
بعده تقدم مفوض الشعبة الخاصة "قاسم ...." فلخص إفادته أنا رافقت مظاهرات النجف سبعة عشر يوماً، ولم أره بين المتظاهرين. إني أعرفه جيداً، كما أعرف أنه كان قد نُقل من الناصرية إلى ناحية بني سعيد.
هنا حاولت أن أخرج كتاب مديرية معارف الناصرية، الذي يتضمن تأريخ يوم مراجعتي لها بعد إطلاق سراحي في 11/3/1948 ثم تأريخ ورقم كتاب نقلي إلى مدرسة أصيبح وإقامتي في ناحية بني سعيد. تهيأت بهذا بعد علمي بتواريخ أيام المظاهرات.
أحد الحكام المدنيين تظاهر كأنه يريض يديه وكتفيه، فمد نصفه إلى الوراء، وأشار إليّ برأسه إشارة فهمت منها -أن لا تخرج ما تريد-. ولكن الحاكم "النعساني" ألتفت أيضاً، وقال لي الكل ما اتهموك فماذا تريد!؟ ولكنه قال أنا لا أعرف، لماذا حشر إذا لا يوجد بين الشهود من يتهمه؟ هنا نهض ممثل التحقيقات الجنائية عبد اللطيف الوتار وأجاب: "سيدي، مديرية التحقيقات الجنائية قسمت المتهمين إلى ثلاث أصناف. صنف ضبط في وكر سري. فثبت أنه من الشيوعيين. وصنف عرف أنه منظم إلى أحد الأحزاب العلنية المتهمة باليسارية، فروقب حتى ضبط أنه شيوعي -مندس- وصنف ثالث لم يكن منتمياً إلى حزب ولكن يشاع أنه متهم بالانتماء! وكان المشار إليه من هذا الصنف"
النعساني، أنفعل كثيراً، وراح يسخر من كيفية الاتهام؟ بصوته الجهوري: "غريب أمركم مديرية التحقيقات الجنائية في بغداد، توعز إلى شرطة النجف، تتهم شخصاً يقيم في ناحية بني سعيد في لواء الناصرية باشتراك في المظاهرات التي تمت في النجف؟! كيف تم هذا؟ بالرادار؟! يعني هم هذي مادبرتوهه!؟ مومهزله!؟"
أنا موقن بأن بين موظفي الدولة أمثال الحاكم الذي أشار برأسه كثير من لا يهون عليهم أن يقبلوا اتهام الناس بدون مبرر ودليل. وأنا من بين المتهمين لم أتعلق بأحد ولا أعرف أحد يمكن أن يهتم بأمري فالجميع يسيطر الخوف عليهم، فلا ينتصرون لأحد تعاديه حكومة "نوري السعيد" اللهم إلا من كان بعيداً عن التهمة بجلاء، كأن يكون من أتباع أحد الأحزاب الوطنية الأخرى، فهو يهتم تأديباً له وتحذيراً.   
لم أكن أول متهم تم استجوابه ومحاكمته، ولكن الأكثرين كانوا بعدي. وصدر القرار، بعد جلسة استراحة، لقد حكم على الهاربين فقط!
ولا أنس أن أذكر إن الحاكم النعساني قبل أن يستجوب الشهود، خاطبني بألم -مؤنباً ومُليماً- متألما لوالدنا الشيخ كيف لم تنصفوا هذا الرجل العاجز، فتسببوا له الغصة والآلام من أجلكم، واحد يعدم، والثاني يسجن، والثالث يحاكم، اتقوا ربكم وأنصفوه!
انه على أية حال موقف نبيل، فأين ما قيل عنه؟

في خدمة المستعمر والرأسمالية      
كان حضوري إلى المجلس العرفي قبل يوم. لي سابق معرفة، بمفوض الشعبة قاسم أو هو الذي تعرف عليّ. ذلك أن سبق وتحرى بيتنا عدة مرات. إحدى المرات بحجة وجود كتب لشقيقي الشهيد حسين والحقيقة أنهم كانوا يبحثون عن شقيقي "محمد علي" الذي كان يعيش متخفياً. وحين جاؤا للتحري، كان أخي مختفياً في بيت والدي. وقادهم أبي إلى سرداب فيه مجاميع من مجلة الثقافة، الرسالة، والرواية المصرية. وكان مخبأ أخي قريباً منهم جداً. كان في الأصل موضع إناء ماء "حِبْ" فحجبناه بجدار وفتحنا له فوهة مجاورة لدرجات السرداب والتي هي من داخل البيت، فالنازل إلى السرداب لابد له من وضع أقدامه على الفوهة، غطاؤها كان خشبياً نهيل عليه تراباً كثيراً من نوع أرضية السرداب المجاور للفوهة. لكننا لم ندخل الشرطة المتحرين من هذه الجهة. ولابد أن أخي قد لقي عناء من كتم أنفاسه. لو لم يرَ "قاسم" أن هذه مجلات عربية معروفة وغادر المكان يسأل عن مكان أخي الخاص، فرد عليه أبي: انه لا يسكن في النجف أصلاً، إنما هذه عندنا منذ كان عام 1940.
في الفندق الذي أعتدت النزول فيه، وجدت قاسم مع بعض التجار من النجف من صنف تجار أدوات السيارات. وقررت أن أختصر به بضع دقائق، وكذلك فعلت.
وقد دهشت إذ وجدته في غاية الانفعال. وقبل أن يبادرني بكلمة. قلت لا بد أنك متزوج ولك أطفال. ضعهم أمام عينيك، وتذكر إن لي زوجة وأطفال، فلا تحرمهم مني وتحرمني منهم، وأنت لا تجد مبرراً أو مبرزاً جرمياً يدينني به.
ردّ عليّ أنا آسف إننا نضع في رقابنا قيود الذلة والاستعباد بملاحقتنا الأبرياء من الناس الفقراء من أجل أن يطمأن أرباب المال ويناموا بأمان. كنت يا أستاذ أعمل وأنا أعتقد أني أحافظ على كيان دولة وأمة. ولم يكن في حسابي إني ككلب يَشلونه(1) على من يعادونه وحسب. ثق أني غداً سأقف إلى جانبك وجانب الآخرين ممن لم أجد مبرراً أو أي سبب لأدانتهم. لقد أفقت من غفلتي. إن المسؤولين لا يتهمون الأغنياء وأرباب المال بأية تهمة، حتى ولا أبنائهم في فترة المراهقة. ولكنهم يصدقون على أمثالكم كل ما يشاع.
أنا أستحق الترفيع منذ شهرين، وعبثاً طال انتظاري. واليوم وبمناسبة مجيئ إلى المجلس العرفي حول قضيتكم، راجعت مديريتنا، فإذا بالمدير يهددني "إنك تستحق الطرد، بل تكسير جمجمتك! إنك تطارد أبناء الأشراف لأنهم أبناء أغنياء لكي تستدر الرشوة منهم! الأغنياء من فضل الله عليهم أبعد من أن يكونوا شيوعيين. فما بالك تطارد أبناءهم؟ إنك تحريت دورهم، فماذا وجدت؟". ثم صرخ بوجهي "أخرج سأعيد إليك عقلك! سأعلمك كيف يجب أن تفهم الأمور، وأسلم على ما بيدك ولا تطالب بالترفيع، إنك لا تستحق ذلك!"
ثم أضاف قاسم أتعرف من يعني بهذا؟ أنه يعني حسن عجينة وعبد الوهاب الرفيعي وأبنيهما أنيس وعبد الأمير.
لزمت الصمت. ولكنه تابع أنا تحريت داريهما حقيقة، وعثرت على منشور. وتدَخَل بعض الوجهاء والمسؤولين وحالوا دون إلقاء القبض عليهما! ولكن حسن هو الذي أتصل بالمدير وأدعى هذا الزور!
الحق أن أبنيهما كانا من طلاب الثانوية. وكانا من أنشط الطلبة في الحركة الطلابية والعمل الحزبي. كانا مثالاً للخلق السامي والأدب. وليسا كأبويهما في كل تصرفاتهما. وقد سافرا للدراسة خارج العراق، وتبعهما شغب "نوري السعيد" فطلب من حكومة لندن أن تطردهما من الجامعة ومن بريطانيا. فأعلن أحد النواب في المجلس: إن من العار أن تمتثل حكومة صاحب الجلالة لأوامر بغداد بطرد طالبين يدرسان في جامعاتها! ولم أعرف بعد أين وماذا انتهى أمرهما.
حسن عجينة كان كأي ذي مال، يؤسس علاقات وثيقة مع رجال الإدارة والشرطة ويقيم لهم المآدب الفخمة، ويقدم الهدايا بالمناسبات، وكذلك عبد الوهاب الرفيعي، وأسمه المشهور بين الناس "بهلول" لتمشية أعمالهم. وإضافة إلى هذا أن محضر حسن دائما غير نزيه. "بهلول" هذا أهون من "حسن" فما كان متملقاً ولا ذا تجارة، ولكنه ذو مال. وهو في الحقيقة بسيط ولذا أكتسب هذا الاسم. وكانت لي معه صحبة، لكني فوجئت يوماً به يقف أمام حانوتي يصيح بي بصوت متألم، ليش علي؟ بيش تطلبني؟ ليش سبب على أبني مطاردة الشعبة؟ هالواحد عندي، ليش تأذيني؟!
بُهتُ. إنه لساذج حقاً فلم تكن لي بابنه صلة مباشرة مطلقاً، ولم يتصل بي أبداً. وقبل أن أرد عليه، ذهب يواصل سيره في الطريق!
هكذا إذن وعى الحقيقة قاسم. إن الدولة بكل أجهزتها إنما هي الحارس للبرجوازية وسلطان رأس المال.

أطفالي
بعد أن نجوت من أحكام المجلس العرفي عام 1949 بقيت حتى عام 1952 في هدوء نسبي، أقول هدوء نسبي، ذلك لأن فكري موزع بين ما يمكن أن يجد. فوضع حكامنا لا يعرف الاستقرار. لأن الاستقرار يتيح للناس أن يتفهموا حقائق الأمور. والوطنيون لا يكفون عن فضح الأوضاع السياسية والنوايا المبيتة. وبين ما يردني من أخبار عن أبي وثورته المنبرية. فبعد حادث إعدام ابنه أعلنها الوالد حرباً شعواء من على منبره على الحكم المتهرء فسانده النجفيون خصوصاً الكسبة والعمال.
أحياناً كنت أشغل نفسي في ملاحظة أوضاع أطفالي. وأحاول أن أدرس أسباب اختلاف طباعهم. أكبرهم، وكان قد نال الحظ الأوفى من العناية بطفولته الأولى، فقد كان كل شيء موفوراً، سواء من ناحية ثمنه أو من ناحية وجوده حتى عام 1943 حين بدأت أمورنا المعيشية تتأزم، كنت أهيئ له اللعب والملبس، وأعني به ساعات الراحة في البيت، وأصحبه معي إلى النادي، أو سائر النزهة التي أتمكن منها. أما الآخرون فقد كانت الظروف قد اختلفت، وسببت لبعضهم شيئاً من الحرمان.
هذا الطفل الأكبر يقسو على أخيه وأخته قسوة لا مبرر لها. ورغم كل ما أبذله من توجيه ونصح وتحذير، انه لا يعرف اللعب ولا الدعابة، ويولي الدراسة والتحضير الاهتمام اللازم.
أما أخوه الأصغر منه "همام"، فأنه يمتاز بالمرح، والدعابة البريئة، وفيه حنو على الآخرين ملفت للنظر، فهو لا يعطى شيئاً إلا وطالب بحصةٍ لغير الحاضر منهم، إنما يدهشني في سرعة انقباضه إن زجرته -ولو بلطف- فإن دموعه تنهمر بسرعة مذهلة، لماذا؟ كذلك هو يعتمد على ما يسمع من المعلم وما يؤديه أمامه على السبورة، وينصرف خارج المدرسة إلى اللعب مع أخته وأخيه الصغير "محمد" في لعبات يبتكرها ويندمج بها، يمثل بائعاً وهم المشترون، أو معلما وهم التلاميذ.
أبنتي "أحلام" التي جاءت في تسلسل الولادات بعده، رقيقة المشاعر نحوهم جميعاً. لا تكاد تحس بأحدهم -خلال تناول الطعام- بحاجة إلى الماء حتى تنهض مسرعة لتقديمه، إنها عصبية، ومرد هذا إلى ما أصيبت به من عارض مفاجئ كانت نتيجته حين كبرت أن ظهرت عندها فأفأة، كانت مدعاة هزل أخويها منها بدعابة مزعجة لها. وطالما أطلقا عليها أسماء مزرية، أو غنوا بأهازيج مثيرة لعصبيتها. وبسبب فأفأتها أخرت دخولها المدرسة سنةً مع عرضها على طبيب فزالت الفأفأة فأدخلتها المدرسة وواصلت دراستها بنجاح.
كانت أمها تغلق عليها باب البيت حين تخرج للسوق، وتترك عندها أختها الصغرى "نوال" وحدث أن أخذت دجاجة بالقوقأة مما أفزع الصغيرة فرمتها بسكين كبيرة كانت قريبة منها فانكسرت رجل الدجاجة! فسارعت وضمدت الدجاجة بخرقة شدتها على الكسر بعد أن أدنت العظم إلى المفصل. كانت تستقبلني لتأخذ ملابسي إلى حيث أعلقها، فأسلمها لها لكني أحمل عنها بشكل تبدو أنها هي التي تحملها.
ابني "محمد" ذو خيال خصب، يجبرني كثيراً أن أصغي إليه وهو يسوق حكاية صعوده إلى القمر وعجائب ما رأى فيه من حيوانات. ومرة حدثني، أنه رأى عمه "حسين" في مقهى على النهر، وأن شرطياً كان يرقبه، فخفت أن أناديه؟! وكان سريع الانسجام في اللعب والمزاح مع أخوته. وتميز بصبره في تحمل مزاحهم القاسي، أو حتى تحمل اعتداءاتهم عليه دون تذمر أو شكوى.
و"نوال" السمراء حين ترعرعت كان نطقها جيداً، كانت مولعة بتقليد ما تسمع وترى، وتسارع لإنجاز ما يكلفها به الآخرون فترضيهم بمرحها وتتملقهم لتسكتهم. ولكنهم يضحكون منها ويطلقون عليها أسم "السخلة" لشدة سمرتها. بدت حين تمت أنوثتها أكثر أدبا والتزاما وحبا لوالديها وخدمة البيت مضافا إلى وظيفتها كمعلمة فنظمت فيها قصيدة مطلعها:
نوال يا سمراء يا غالية       يا بهجة البيت بلا ثانية
وقد نشرت القصيدة في مجلة "...." التي تصدرها جمعية النهضة في كربلاء، مسؤولها الشيخ عبد اللطيف الدارمي.     

على القبر
ظهيرة يوم من أيام آب، حيث الحر الذي يلجئ النجفيين إلى القيلولة في السراديب العميقة، نسيته في لحظة فارقتني فيها الغفوة التي اعتدتها بعد الغداء بفترة قصيرة. غادرت مكاني وأهلي جميعاً مستسلمون للراحة المعتادة تلك، وتوجهت إلى وادي السلام، كنت كالشاعر علي الشرقي في قصيدته "وادي السلام" وقوله:
طلبت ابن عباد فالقيتُ صخـــرةً         وقد رقشت هذا ضريح ابن عباد
لم أزورْ قبر أخي يوم قصدت النجف على أثر سماعي خبر الحكم عليه. أردت ذلك فردتني رعدة غريبة هزتني هزاً وتراءت لي مخاوف كثيرة! لست أعرف لماذا؟ فلزمت نفسي أن تهدأ إلى حين .... يوم 22/7/1950 هيأت بعض الأبيات دون أن أتمكن من مواصلة النظم!؟ وقد اندفعت اليوم 12/8/1950، وكأنه يناديني، يعاتبني، ويؤنبني على ذاك الجفاء! ولكن كيف؟ أنا لا أعرف عن مكان القبر، سوى إشارة من أبني كفاح الطفل إذ ذاك، وقيل لي أنه قرب قبر الشيخ بْنَيَّه، وهي بناية واسعة تعود لزعماء بني لام في لواء العمارة، سميت بأول دفين وأسمه تصغير بنت. واتجهت نحو هذا. فأصبت. إني أمامه، وكأني أمامه هو. فأجهشت بالبكاء، أقول:
وحقك لن أنساك لن أعـرف السـلـــوى      ولكنني شـخص صبـور على البلـــوى
أبـثـك فـاســـمعني أحــاديث لـــــوعتي       فهــا أنني قد جئت أسـمعـك الشـكــوى
ألــــح عـلي الـــدهــــــــر حتى كأننـي       غـــــدوت له من بيــن أوكاره مـــأوى
وقد كنت لي صبرا وقد كنت لي حِجى      فلم أختـش الـدهيــا ولم أرهـب اللأوى
وفارقـتني يا ضـوء عيني ويا هـــــوىً      تنســمه أنـفي فـعشـــت كمـا أهــــــوى
إذا بي غريب في الحيــــاة تـنوشــــني      ثعالـب كم كانت تصــول ولا تـقــــوى               
اُخـي ومــا أحــــلى أخيّ  أقــــولهـــــا      إذا رَدَدَتْـها النفس عـادت بها نشــــوى
فقـــدناك فـقـــد النجـــم من يهتــدي به      وقـد بعــد المسـرى ولم نبلــــغ الشـأوا
حــــرام عـلى قـلبي الســــــلـو  كأننـي      سـكرت بأحزاني ولم أعرف الصحـوا
وقـــد طـــويت من بعــد  فقـدك فتـــرة      ولم أتـرك الـكرى لـعمـد ولا ســـــلوى
خـيـــالك لــــم يـبـرح عيـــوني كأننـي      أطـارحك الأشـــواق والهـمّ والنجــوى
كـأنــك تـلــمحني كـأنــــك عــــاتــــب      كأني على تقــديم عــذري لا أقــــــوى
أخـيّ جـفـــــانا  الأقـربـــون وعـافـنــا      أخـلاؤنا شــأن الذي فــرّ من عــــدوى
أُخـيّ. وقـد صاح الــــزمان  بشـــملنــا      فأنـت هـنـا ثــاو ويـا طـيـبـه مثـــــوى
تـضمن جـثمــانــا يفيض  شــهـــــامـةً       على رغم ما قد بث أعـداه من دعــوى
تكرر من مسـتعبدي النـــاس ضـد مـن      يـكافـح في إيـمانه الـبغي والطـغــــوى
وطه؟ فهــــل تـدري بطه وما جــــرى      عـليه من الأرجــاس إذ لـم يكن رخـوا ...2
ســــجين بقـفــر شــــــطَّ عـنــا مـزاره      على أنه قد أحســن الصبر في البلــوى
يـجــــــر بـرجـلـيه الـــحـديـــــد كـأنـه      أداة بـهـــا يلهـــو وما عــرف اللـهـــوا
ويـحـلف أن لـــــو مُدّ حـبـل حـيــــاتـه      وحـالفـنا نصــر لنمحـــوهمــو مـحــوا   
وأمـا أنـا فـالحـمـــــــــــد لله في عـنـــاً       وقد أبعَدتْ دنيـــاي عن عيشيَ الصفوا
وزيـد بأعـبــــــائي وأثـقــــــل كاهـلـي      ولكـن جـيــدي لـن يـذل ولـن يُـلــــوى
أُخـي تجـول الذكــــريات بخـاطــــري       وها أنا ذا أسـتعـــرض الـمر والحلــوا
مضـت بعض أيـام علينــــا وعيشــــنـا       رخيّ ولــــذات الحـيـــاة كـما نهــــوى
ترف المنى كالـطيــر فوق  رؤوســـنـا       فـتهفـوا القـلــوب النابضــات بها هفـوا
وتهـتــــــز للأنغــــام تســمـع لـحنهـــا       وتـطـرب للأطيـار إن أرسـلت شـــدوا
ودارت  بـنــا الأيــــام: حيث تبـدلـــت       لنــا فِـكَرٌ قـد مجـت اللـعب واللـهـــــوا
أحـبت  مـيـادين الـــرجـــال وأولعــت       بحب النـضــال الحـــر مذ صوته دوّى
وعـفـنـــا لــذاذات الـحيــــــــاة كأنمـــا       عشـقـنا الشـقـا حتى غـدونا به نشــوى
نـصـارع جـورَ الـظـــالمين وعسـفهـم       صراعا ولم نركب غـرورا ولا زهــوا
أُخـي شــــهيــد الحـــــق مُـتَّ مكــرمـا       صحـائفك الغـراء في الدهر لا تطـوى
على ضـوئهـا يمشي الشـبــاب منـافحا       وغـايته تحـقيـق غـايتـــك القصـــــوى
أُخـي لــو أن الـــدمع يـــرجـــع ميتــــا       بكـيت بكا الــراجين من ربهم عفـــــوا
وأذريـت دمـع الـــعين أحمـــر قانيــــا       ولـكـنه واحســـــــرتاه بـلا جـــــــدوى
بنفسي من لم يُغلب الــــدهـرَ صبــــره       مـآثـره حتى لــــدى خصـمه تـــــروى
بنفسي من لـم يَشْـكُ يــــــوما عنـــــاءه       وحتى غـدا من ثـقـل أعبـائه نـضـــــوا
بنفــسي من ضـحى بــــــكل حيـــــاتـه       وخر صريع البغي كالغصن قد ألـــوى
بنفــسي صـــريعــــا مـا ألينت قنـــاته       وحـاول كالإعصـار لم يألف الرهــــوا
بنفسي صليب الـعـــود عـانـق عــــوده       مـع الفجــر والأنسـام داعـبنه نشــــوى
تعـطـر من اردانه  الـفجـــر بالنـــــدى       ويزداد عـطــر الـورد إن هو قد ألــوى
سيبقى مدى الأجيـــال ذكراك مفخـــراً       سـلام عـليه في الحيــاة وفي المثــــوى
   كان صدى نحيبي وإنشادي يرتطم بجدران القبور المكتظة في مدينة الأموات فيعود رنينه إليّ. لست أدري كيف مرت الساعة ونصف، تحت وطأة حر السموم في صحراء النجف. وكيف استطعت أن أواصل في ارتجال بقية القصيدة ولست أعهد فيّ هذا الارتجال! لقد تركت نظم الشعر منذ عام 1938 وحين حلت مصيبتنا به، عدت إليه كأني أجد فيه البلسم لجراحي. أواه وألف آه يا ابن أمي!

----------------------------------------------------------------------------------------------------------
1- يَشلّونه: دعوته أو إغرائه أو تحريكه وقد أستعملها قدماء العرب، مثل قول زياد الأعجم:
أتينا أبا عمرو فأشلى كلابه ...... علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل    /الناشر
2- طه هو "محمد علي" الشقيق الأصغر وكانوا ينادونه بـ "طه" أثناء تخفيه، وقد القي القبض عليه بعد أيام من إعدام شقيقه "حسين" وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات وأرسل إلى سجن نقرة السلمان./ الناشر


الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏07‏/03‏/2011


112
3- عودة ومصائب وعواصف/ 4

من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


صفحات مضيئة

ترى الفتى ينكر حق الفتى                                                 مادام  حيــــاً فإذا ما ذهب

لجّ  به الحرص على نكتة                                                  يكتبهـــا عنه بمـاء الذهب

فماذا أكتب؟! سمعت من فهد الكثير الكثير، وراقبت سلوكه بدقة، إذ طالما أقمت معه، بل سهرت معه، الليل كله، أثناء طباعة الجريدة الأرمينية "هيك". سهراً يصاحبه الحديث بشتى الأمور. وكنت صريحاً في توجيه الأسئلة، سواء عن حياته، أو عما يصعب عليّ تفهمه، أو ما قيل عن الفكرة أصلاً، على ألسن أعدائها. فكان يجيبني متبسطاً في لهجته، وفي رنة صوته، فيدهشني بتسلسل كلامه، وكأنه يقرأ عليّ شيئاً في صحيفة بيده. يدلي بالمقدمة، ببنيتيها الموضوع والمحمول، وينتزع النتيجة المنطقية معقولة مقبولة لا لبس فيها ولا غبار.

حدثته يوماً عن عدد من الشباب. هم ثلة لا يفترق بعضهم عن بعض من سابق أمرهم. بين معلم، وطالب في كلية الحقوق، لي بهم سابق معرفة، ولكني لا أنسجم معهم. فأنا أمج بعض الأحاديث التي تتعلق بالجنس وتجر إلى استعمال كلمات تليق بذوي المستوى العادي.

قلت، أثارني من هؤلاء أنهم في سياق حديثهم المعتاد، وهم في مقهى مكتظ بمختلف روادها، لم يتحرجوا أن يتعرضوا لشخصية تاريخية مقدسة عند الناس أجمع -مدعين إن أحد الأئمة كان شديد الشبق بحيث يسيل لعابه لمجرد رؤية امرأة-، بلهجة الإنسان العادي بفشار يندى له جبين أقل مدعي بالثقافة؟!

ودهشت حين لاحظت الانفعال في قسمات وجهه، وكأنه أحد جلاس تلك المقهى، وكأنه رأى أولئك المتحدثين وسمع حديثهم. أحدهم يقيم معنا في البيت، لكنه لا يعرفه، سأل عنه مراتٍ كثيرة. يقول إن هذا الرجل يدهشني برنة صوته، وحضور ذهنه، وسعة ثقافته. فأجبناه: إنا مثلك. أليس من الواجب أن نتجنب معرفة أسم من لا يربطنا به تنظيم. كل ما نعرفه عنه، انه من أهالي البصرة، ويكنى بـ "أبو شكر".

حين تجمعنا ليلاً، أنا وأبو شكر، وأحد أفراد تلك الثلة، وكان خريج ثانوية مسائية ودخل كلية الحقوق بمساعدة الحزب، ورفيق مشارك في هذا المسكن والإيجار باسمه، سأل أبو شكر:

- هل لديكم استعداد أن تعتبروني الليلة ضيفاً فتعشوني؟

قال الاثنان معاً: سيكون ما تحب.

وعقب أحدهم وأسمه محمد علي (هو محمد علي الزرقة وقد طردته الحكومة إذ ذاك فعاد إلى موطنه في سورية) أنا لي شاغل هام لا يمكن تركه، وصاحبي لا يحسن طبخ الرز، فمن يقوم بهذا؟

كنت أنا، حين آتي لأمر حزبي أقيم معهما، فقلت أنا أجيد طبخ الرز، إلا أني أعتدت على استعمال المصفاة. أبو شكر "فهد" أبتسم، وقال يجب أن تتعلم الاقتصاد الموجه، فأسلوبك هذا في الطبخ أسلوب غير موجه. انه ينتمي إلى العقلية الإقطاعية. إن الماء الذي تتخلص منه بالمصفاة أخذ أهم ما في الرز من فائدة غذائية!

وراح يشرح لي كيف أضع كمية من الماء بتقدير يناسب كمية الرز. ويبقى عليك أن تكمل العملية حين لا يبقى من الماء شيء. كما لو كنت استعملت المصفاة تماماً. وفعلاً أنجزت الطبخ كما أشار فنجحت خير نجاح، وتولى أحد الرفيقين عمل الآدام.

بعد العشاء وخلال شرب الشاي، أخذ أبو شكر بالحديث. بدأه مستشهداً -طبعاً على أثر مناسبة- بحكاية النبي محمد حين نزلت عليه الآية الكريمة "وأنذر عشيرتك الأقربين". قال: إن هذه الآية تشير إلى أمر هام في أسس التنظيم لأية دعوة. فقبل إعلان النبي محمد الدعوة، دعا الأقربين من عشيرته، أعمامه وأبناء عمه، إلى وليمة أعدها، ثم دعاهم إلى كلمة التوحيد "قولوا لا أله إلا الله تفلحوا" ليضمن له من يسانده حين يعلن دعوته إلى كل قريش.

ومضى يتحدث كيف يجب على كل رفيق أن يبدأ بأهل بيته، والديه، أخوته، ليكونوا سنداً في نضاله. ولكن كيف؟ أن يكون أكثر حشمة، وأكثر اهتماما بكل واحد منهم، يحترم كبيرهم، ويحنو على صغارهم وضعفائهم، يحترم عقائدهم، ويتبنى حل مشاكلهم، ولا يهمز معتقداتهم بنقد، أو سخرية. إنهم شبوا عليها. ثم إن علينا أن نحيط بتأريخنا. ونتفهم أسسه لنتمكن من خوض موضوع حساس عند الضرورة، وبشكل بعيد عن الإثارة. أما إن بعض رفاقنا يجيد لذة أن يسخر من صلاة جدته وأمه، وتعبد والده، ومن الشخصيات المقدسة لديهم، إن مثل هؤلاء الرفاق إن فعلوا هذا  هم واحد من أثنين، جاهل مغرور، أو عدو مندس يقصد تشويه سمعتنا. وبصراحة إنه بهذا يريد أن يقول للناس -وفي مقدمتهم أهل بيته- إنا جئنا لهدم معتقداتهم، ومحاربة مقدساتهم. فهو إذن محرض ضدنا؟ لا أبداً، لسنا من هذا أبداً. إنا دعاة تكتل ضد الاستعمار، وضد الجهل والفقر. والأديان السماوية فيها ما يزال سنداً يمكننا أن نذكر به الناس جميعاً ليكونوا صوتاً واحداً ضد هذا الثلاثي المخيف. اقرأوا في القرآن ووقوف الأنبياء أمام فراعنة زمانهم، تجدوا أنفسكم كأنكم تشاهدون جماهير تلك القرون كأن أصواتها تهز قصور الفراعنة وتنذرها بالموت المحتم. كان يستشهد بآيات من القرآن الكريم.

صاحبي الذي كان لا يجيد طبخ الرز، أخذ ينظر إليّ شزراً. حين انتهى الحديث وتحولنا إلى الأحاديث الاعتيادية، أقتنص كلمة عابرة ليشير إلى أني أنا سبب ما تطرق إليه أبو شكر، وبلهجة وكأنها بريئة، قال:

- أبو حسين أصبح بإمكانه أن يتعلم أشياء كثيرة فقد تخلص من مفاهيمه السابقة.

قلت: ما هي مفاهيمي التي تشير إليها!؟

أجاب: مثلا، بناء على إنك لا تحسن الطبخ إلا بمصفاة، معنى هذا انك تبقى بحاجة إلى أن تكلف أحد وربما لا يتاح لك هذا، ومثل هذا يصادفك في النضال أيضاً. فمثلاً، إذا كنت مسؤولاً في تنظيم ريفي -أي بين الفلاحين- تمتنع إذن أن تنتقل إلى بغداد لتنظيم العمال! أليس كذلك؟

قلت: هذا يجيبك عنه أبو شكر. وأؤكد لك سلفاً أنه نعم كما تقول. وأنت مخطئ إن اعتقدت أن الأمر سهل. إن عليّ أن أكون عارفاً بمحيط بغداد، ومن جميع ما يهم عن ناسها وتقاليدهم، وعمالها ونوعياتهم، بل حتى درجة التزاماتهم للقيم والتقاليد، أليس الكثير منهم منحدرين من طبقة الفلاحين؟

وبعد أيام كاد هذا الرفيق أن يوقعنا في النجف بشر ورطة. وأعلنها تهديدات مدمرة، لو لم نتداركها بأعراض حكيم. لقد سيطر على كمية من كراس "العمل بأجرة ورأس المال" ترجمة يحيى قاسم، صاحب جريدة "الشعب". كنت سلمتها له ليوصلها إلى صاحب مكتبة في النجف، يبيعها حسب أتفاق بيننا على أن يحسم من ثمنها ربحاً له. حين أنفعل من حديث فهد "أبو شكر" أعتبره موجهاً ضده. وأمتنع صاحب المكتبة، من تسليمه ثمن الكراس، فهدده أن يخبر الشرطة بحقيقة الكتاب ومن زوده به. ثم أرسلت إليه طلب مواجهته، فرد علي: أصمت وإلا جعلت نهايتك على يد الشرطة! فآمنت عند هذا بأنه مندس وليس بجاهل مغرور، ودفعنا أثمان الكراس من جيوبنا!

ومرة دعيت إلى بغداد على عجل، فخرج معي عضو من المحلية. وقبل أن أركب السيارة قال: إن صديقاً عرض عليّ مشكلة صادفته -وقص عليّ- وقال، أعرضها على الرفيق "فهد" لنر الموقف الصحيح لمثلها.

أجبت صاحبي، أحذر مثل هذا الصديق، انه خطر. ولن أعرض ولن أتفوه عن هذا أبداً! كانت استشارته عن هذا بصريح القول، إن أحد رفاقه -وقد اكتشفت أخيراً انه هو نفسه كما أعتقد فهد ذلك- جاء إلى دار رفيق له، سأل زوجته عنه. فأجابته تفضل انه موجود؟! وحين أستقر، جاءت إليه وراودته عن نفسه، وانه أخذ يقنعها بخطورة المحاولة وقبحها، ولكنها هددته إن لم يفعل فستتهمه عند زوجها إن هو أصر على امتناعه. وراحت تذكر له مبررات خيانتها له. فوعدها أنه سيستجيب مدعياً انه يراوغها بهذا وفي هذه الأثناء طرقت الباب. وكان مجيء الزوج هو المُخلّص! وعقب إني أسأل، ما العمل؟ إن لم أعدْ، ستنفذ ما قررت من تهمة ضدي؟!

ولست أدري، كيف تعرضتُ ونقلتُ حديثه. وإذا بالرفيق "فهد" ينتفض، وبشيء من الحدة، قال، "فلان" هو طلب منك هذا؟ قلت نعم. أجاب هذا هو بالذات. هذا يستحق الأبعاد. إنه خطر. لا يصح أن يسمح له باتصاله مع أية عائلة!. وقال، لدى الإنسان عقل واهتمام بالقيم والعِرض، والشهوة. أيهما يكون ضعيفاً يتغلب الآخر. فبطبيعة الحال إذا كان لا يقوى على كبح جماح شهوته ورغبته الجنسية، فإنه إنسان أقل ما يكون صالحاً لتحمل رسالة مقدسة، أي فرق أيها الرفيق، بين سارقي أقوات الشعوب وبين الذين يعتدون على أعراضهم.

لكن حادثاً آخر أيد وثبت إنها محاولة من قبله، وإن لم أعرف من ذلك الرفيق؟ الحادث أن فتاة استأجرت غرفة من بيته. كانت أرملة فقد توفي زوجها منذ عام. وأغتنم هذا "الشريف" أن جاء البيت حين كانت زوجته غائبة عن البيت فحاول الأرملة. فكادت محاولته أن تجن الفتاة، وهددته بالصياح، وانتقلت بنفس اليوم من أجل عرضها. لقد قصت الفتاة حكايتها على زوجتي! 

وان أنس لا أنس يوم جئته "فهد" أحمل رسالة لنشرها في جريدة "القاعدة". كنت أفكر إني جئت بأمر ذي أهمية كبرى، إذ كانت حول "جمعية دينية" احتلت مركزاً هاماً. ولكن رجالها اهتموا كثيراً بالتشنيع على الحركة التحررية بمجموعها، إنما حصة الحزب الشيوعي تفوق كل حصة. والأنكى من ذلك إنهم اعتبروا أبانا أحد أهدافهم لأنه أبو "علي" وأبو "حسين". فكروا ذات مرة في أمر غاية في الغرابة، فكروا في إيجاد مدرسة على غرار كلية الشريعة، فحرضوا جندهم أن يجمعوا تواقيع لطلب تأسيس تلك -الكلية- ثم أرسلوا أحد شياطينهم إلى والدنا، يطلب منه، أن يعلن أمر هذا الطلب، ويطالب الناس بضم أصواتهم لتأييد الطلب. كانت صيغة الحديث بشكل طائفي صريح، وقذر. فما كان منه "والدنا" إلا أن تطرق إلى الموضوع، لكن بشكل آخر.

أعلن "والدنا" من على منبره، أن هذا الطلب مشروع، وممكن. ولكن لا على أن يكون أساسه شيعة وسنة. سنة يملكون كلية أسمها "كلية الشريعة" وشيعة لا يملكون مثلها. فقد ذهب عهد النعرة الطائفية، وإن لم يقبر تماماً. الواجب يقضي أن يُقضى عليه تماماً.

كلية الشريعة موجودة منذ أمد، وقد تخرج منها عدد من شباب الشيعة، والمعروف إنها ليست حكراً لطائفة دون أخرى، وعلى الذين يريدون أن يعيدوا الطائفية ويبعثوها أن يدركوا أن بعثها لا ينفع غير الاستعمار.

وأشار إلى أن بعض الذين يدعون ويطالبون لهم وجهان. وجه يلتقون به مع القائممقام ومدير شركة الترامواي، وآخر يحرضون به العوام على مثل هذا الطلب، لا باعتباره أداة خدمة وطنية وإسلامية، بل بدافع منافسة طائفية، لأنها مجال ظهور زعامة.

لقد هاجمتُ هذه الجمعية بعنف، وإن مساعيها لصالح الاستعمار، ومصلحة جيوبهم. وإنها مثار فتن عواقبها وخيمة ضد العراقيين وخاصة الشيعة.

قدمتها له وراح ينظر فيها، وأنا أتابع نظراته، وملامح وجهه. كانت أمارات استغرابه ترتسم تحت عينيه، تعبر عن استغرابه حركة حاجبيه، وتقلص تجاعيد وجهه. وبعد الانتهاء التفت إلي، وقال:

- ما كنت أتصور أنك ساذج إلى هذا الحد. إسمع قادة هذه الجمعية ومؤسسوها من رجال دين، وهم -على أية حال- محترمون في الوسط ألنجفي عامة. ويستطيعون بكل إمكانية أن يستعينوا برجال الحكم على إنزال أية ضربة بكم، بينما الآن لم يفعلوا غير وشوشة مخنثة ودعاية. فلماذا تريد إثارتها، الكي تعلن ذلك؟! إن كنت حكيماً فأدعهم -باعتبارهم رجال دين- أن يقوموا بواجبهم ويهبوا للمطالبة بتوفير ما يجب للنجف من توفير الغذاء والكساء، والإصلاحات، وشجب وجود الجيوش البريطانية في بلادنا، إلى أمثال هذا. وذكرهم إنهم بما لهم من وعي ديني وغيرة موروثة من قادة الإسلام في وقفتهم وجهادهم في ثورة العشرين. فان استجابوا نكن قد اكتسبنا صوتاً جديداً له أهميته إلى جانبنا. وان رفضوا وعارضوا، استطعنا عند ذلك أن نفند اعتذاراتهم، ونكشف حقائقهم، وبنفس الهدوء. قم الآن، وأكتب هذا.

وفعلاً أبدلت كلمتي حسب إرشاده. إنها نظرة حكيم، وتوجيه مرشد.

وللشهيد "زكي بسيم" موقف من معذبيه وجلاديه. يدل على مدى صبره وشجاعته، واندماجه في قضية حزبه. جرحوا أخمص قدميه بالمشرط، وكبسوا الجراح بمسحوق، بهدف تعقيم الجراح، وزيادة الألم فهي تسبب حرقة شديدة وان كانت مؤقتة ورغم هذا كان قويا ومتماسكا، وصاح بوجوه جلاديه أجلسوا لأقص عليكم حكاية. تعجب الجلادون من هذا الصلب العنيد، وكانوا قد فعلوا هذا به بعد أن ضربوه أكثر من أربعمائة عصا على أخمص قدميه!

وقص عليهم حكاية حاكم مستبد. أمر رئيس شرطته، أن يجمعوا المصاحف من الجوامع والبيوت والمكتبات ليتخلص من الإسلام! وبعد أن أتم رئيس شرطته الأمر كما أراد. خرج مع رجاله يتجول في البلد. وجد مستجدياً أعمى قد جلس على دكة جامع يقرأ القرآن!؟ فثار الحاكم غضباً. وقال لرئيس شرطته ألم أقل لك، أتلف جميع المصاحف حتى لا يبقى إسلام! فما هذا؟

قال رئيس شرطته يا سيدي، أنا أتلفت المصاحف المخطوطة، ولكن ما فيها والشريعة الإسلامية قد أستوعبها المسلمون في صدورهم، وحفظوا القرآن عن ظهر غيب.

قال الشهيد زكي هذا. وألتفت إلى نايل عيسى وجلاوزته "ليست الشيوعية في قدمي، لقد انتشرت بين كل العراقيين، من يحبها ومن يبغضها. لقد دخلت في أدمغتهم. فما تنفعكم أن تدموا أقدامي، وظهري. هيهات أن تحولوا دون انتشارها فافعلوا ما تريدون!؟".

قص عليّ حكاية موقف الشهيد هذا ضابط من التحقيقات الجنائية. قال: لقد أدهش -نايل عيسى- الذي كان يشرف على تعذيبه بنفسه، ويشارك في التعذيب أيضاً. وراح الجميع ينظرون ويستمعون له وهو يقص عليهم الحكاية كأن لم يكن قد لقي تعذيباً.

ولئن وقف فهد وحازم وقفاتهم من خلال تنظيمهم -السري- ونشراتهم السرية التي توزع على المنتمين والمؤيدين. فأن شقيقي حسين "صارم" قد حدد موقفه ورأيه في النشرات التي أصدرها باسم "حزب التحرر الوطني" وفي الخطب التي ألقاها في شتى المناسبات الوطنية التي قام بها حزبه، وفي كتبه المتعددة، خصوصاً خطابه الذي كان يزمع إلقاءه في مكان أعد له فمنعته الشرطة وكان ذلك في 10/12/1946. فليس إذن لدي ما هو أعمق مما أعلن هو. وقد أعلن ذلك بجرأة وشجاعة فائقة تحدت كل قوانين نوري السعيد التي رسمها له الاستعمار.

وأخي "حسين" لم تكن المدرسة وحدها نشأته. أنا كنت الموجه والمسؤول عن مسك زمامه ومرشده، أكثر من الوالد، وكان يكن لي احتراما كبيرا. ثم الأساتذة الذين صادف أن كان تلميذاً عليهم، أمثال: يحيى قاف في مدرسة الغري الابتدائية، وذنون أيوب والشهيد كامل قزانجي، والشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في ثانوية النجف. وأعرف بعد نزالاته في معترك السياسة كثيراً من مواقفه الجريئة مثلما أتذكر جرأته وتحديه في طفولته وكنا نسميها عصبية أطفال. وقد ذكرت بعض ذلك في كلمة نشرت في مجلة الثقافة الجديدة بعددها 4 سنة 1969.

ولقد شهدت موقفاً لا أكتم القارئ، إن الخوف تملكني منه، ولم أجرؤ على أن أعلن هذا الخوف إذ أن الظروف كانت حرجة للغاية. ففي أعقاب حكومة رشيد عالي، وعودة عبد الإله ونوري إلى العراق ثانية مع هزيمة رشيد وفرار قادة الثورة ضدهم وضد الإنكليز. قرر نوري ورهطه، إن على جميع المواطنين حين يسمعون السلام الملكي، عقوبات صارمة على من يخالف ما يلي: الماشي يقف مسبلاً يديه، ولا يتحرك الواقف،  والجالس يقف؟!

دخلت أنا وأخي الشهيد وصديق مقهى البلدية، القريب من مقهى الزهاوي. وما أن جلسنا حتى عزف السلام الملكي. وقف الجميع، وتهيأت والصديق، ولكن حسين أمسك بأيدينا، توسلنا إليه همساً أن لا يوقعنا بورطة. لكنه أصر. انتهى السلام، عاد الناس إلى أحاديثهم. لكن جندياً من فلاحي العمارة أخذ ينظر إلينا بعينين تهددان بانفجار بركان غضبه. همست بأذنه أترى؟. أجاب لا عليك، أنا المسؤول، والزم الصمت. زميل الجندي أخذ يهدئه، ويطلب أن يدع هذا لغيره، لا تكن أخي سبباً في أذى الناس!. أما صاحبه الثائر، فيصر أن يكسر رؤوسنا بـ "البصطال" ويضع الحديد بأرجلنا!

طال تهديده، وصاحبه يلح ويرجوه أن يهدأ. ولكن حسين باغته بتقديم علبة السكاير له ولصاحبه. أما هو فرفض، وأما صاحبه فتقبل، ورجا منه أن يأخذ، ولعل لدى الأخوان عذراً. هكذا أقنعه، فأخذ. وزاد فأولع لهما السجاير وهو يبتسم.ستغرابه حركة حاجبيهح ثم توجه يسأل:

- من أي بلد؟ وأي قبيلة؟

مازال الجندي في حالة انفعال: وأجاب بلهجته العمارية: من العمارة.

- لا شك إنك فلاح، وأبن فلاح؟

- نعم. وإذا كنت فلاح؟

- نتشرف. ولكن الأرض التي تفلحونها، ملك لكم؟

- لو كانت ملكاً لما صرت جندياً!

- إذن المشكلة واحدة. مشكلتي ومشكلتك. أنا جئت هذه المقهى حين صار مروري عليها بعد تعب أكثر من ثلاث ساعات، كنت أبحث عن حاجتين، الخبز والسكر! أما السكر فلم أحصل على شيء منه مطلقاً، وأما الخبز، فعلى كل محلات البيع زحام كبير وأنا أتنقل من محل إلى آخر، وما أبعد محل عن آخر؟

وأنت طبعاً أبوك فلاح، أنه فلاح في أرض (قال الجندي: أراضي محمد عريبي). أكمل حسين كلامه: أعرف، أعرف. ولكن محمد عريبي مالك الأرض هو النائب في المجلس أيضاً. أليس كذلك؟ ومن أجل الحصول على الخبز والشاي، أضعت من عمري ثلاث ساعات. ومن أجل أن تعيش ويعيش أبوك، تموت من أجل أن تبقى الأرض ملكاً لمحمد عريبي!؟.

وسأل حسين الجندي، هل سمعت قصة "ام البروم"؟ أسمع أذن. إنها مقبرة. فيها كوخ لرجل عجوز يعيش على بيع الماء في أباريق، ومشارب لزوار المقبرة ومن يأتي لدفن -جديد- في مدينة الأموات، وتفقد قبر وقراءة الفاتحة. لكن الناس فوجئوا ذات يوم، بذلك العجوز يصيح ويشتم بأعلى صوته أمام بناية "المتصرفية". فيسمع المتصرف، ويسمع مدير الشرطة، الشتائم على المتصرف، ومدير الشرطة، ووزير الدفاع؟! ويسرع الشرطة ويجرون الرجل العجوز إليهما بالركل والكفخات. وينتصب العجوز بشموخ أمامهما. صاح به مدير الشرطة:

- أنت مخبول، تشتم رجال الدولة بأعلى صوت!.

ردّ العجوز: أعطوني أبني؟!

- أبنك؟ أبنك عندي؟ أبنك منو؟ آنه منو؟

- أبني أخذتوه جندي!

- من أي وقت؟

- من سنه.

- وتطالب بيه قبل أكمال الخدمة، حقيقة أنت مخبول!

- لا أبداً، لكن أسمع. كنت أعيش من بيع الماء بمقبرة "ام البروم" أبني لما أخذتوا جندي إذا مات أقول: مات يدافع عن مكسبي اللي أعيش منه، لكن ام البروم أنكربتْ وراح تحولهه بلدية البصرة إلى كازينوات وحدائق؟ منين راح أعيش؟ وعَن من يموت أبني؟ عن قصوركم؟ وأبوه وأمه وأخواته يموتون جوع!!

هذه هي الحكاية يا أخي أعتقد إنك فهمت. لماذا، لم أقف للسلام الملكي؟ وتذكر إنك تخدم جندياً لتساعد أباك وأمك وبقية إخوانك، في أرض لم ينل منها من يزرعها "أبوك" حتى مالا يكفي لقماش يستر أجسادكم؟

نهض الجندي، ومد يده يصافحنا ويقول: أعذرني، يا أخي أحنه مـ....، أنت وعيتني، اعتبرني من هاليوم صديقك. أنت فتحت قلبي. علمني وآمر ...

أدخلنا حسين في مأزق حرج. ولكنه علمنا معنى الشجاعة والثقة بالنفس والمنطق الرشيد. وأقسم إني لم أنسه أبداً، وما وضعت رأسي على وسادتي للنوم إلا وتراءى لي وجهه، منتصباً بقده وقامته الشامخة فيسيل الدمع من عيني، وقد رثيته في سبع قصائد. وحين توفى ولدي "همام" لم أرثه بغير قصيدتين، ولم أنس أن أذكره أيضاً، فقد كان يحب أبني هذا حباً كبيراً. ومن غريب الصدف أن أبني توفي وله من العمر اثنان وثلاثون عاماً تماماً في عمر عمه وشبابه. أواه ... سوف لن أنساهما حتى أوسد في اللحود!               

         

الناشر

محمد علي الشبيبي

السويد  ‏28‏/02‏/2011

Alshibiby45@hotmail.com


113
نداء إلى رواد التيار الديمقراطي أينما كان

الأخوة الأعزاء
منذ أيام وجماهير شعبنا تتحرك في مختلف المدن العراقية لاستعادة كرامتها وحقوقها التي يتم اغتصابها عبر شرعنة الفساد والسكوت عن هدر المال العام بحجة المشاريع التي نسمع بها ولم تر النور بالرغم من مرور ثماني سنوات.  أما المحاصصة الطائفية والقومية والعهود الكاذبة التي كان يتحدث عنها البعض قبل الانتخابات فنراهم اليوم شركاء مستميتين من أجل فرضها وتثبيتها كواقع على حياة الشعب.
أن هذا التحرك الجماهيري الواسع والمتناغم مع تحركات الشعوب العربية ضد الاستبداد والتخلف ومن أجل الحياة الحرة المؤسسة على مبادئ حقوق الإنسان، أقول هذا التحرك الجماهيري الواسع وفي مختلف المدن العراقية أجبر السلطة العراقية إلى محاولة تهدئة الجماهير من خلال الخطابات التي تعودنا لسماعها وهي تتحدث عن حقوق المواطنة أو من خلال منح بعض العطاءات المالية والعينة والتي لا تساوي شيئا بما ينهب يوميا عن طريق المقاولات والمشاريع الموعودة وما سرق خلال ثماني سنوات باسم تخصيصات البطاقة التموينية أو عن طريق الامتيازات والمنافع.
ويتهيأ شعبنا للتظاهر يوم 25 شباط ويتنادى شبابنا عبر الفيسبوك في التهيئة لهذه التظاهرة الجبارة ليقول لحكام العراق كفى وعودا! كفى فسادا! كفى خرابا! كفى انتهاكا للحريات! كفى نشرا للجهل باسم التقاليد والدين! كفى بطالة! كفى منافع اجتماعية وامتيازات وأراضي للمسؤولين والمتنفذين! نريد إعمارا.. نريد عملا... نريد محاكمات وقضاء عادل لمن نهب ثروات البلاد بدءاً بهرم السلطة... نريد برنامج سريع لمكافحة البطالة... نريد بناء مدارس تليق بحضارتنا وإمكانياتنا النفطية... نريد خدمات بلدية وصحية... نريد أن نكنس الازبال واقاذورات والفاسدين والمرتشين والدجالين والنصابين... نطالب مجلس النواب أن يكون بمستوى المسؤولية في مناقشة الأمور بعيدا عن المساومات والتسويف... نريد الرجل المناسب في المكان المناسب... نريد حكومة لا تتهرب من تقديم موازناتها الختامية فالتهرب دليل على التلاعب والهدر بحقوق وأموال الشعب والخافي أعظم... نريد الالتزام بالدستور فيما يخص حق التظاهر والإضراب والاعتصام... نريد حكومة تدافع عن شعبها لا أن ترسل المرتزقة للاعتداء بحجة المندسين ......
لكل هذا أدعو جميع الوطنيين الشرفاء والغيورين، جميع رواد التيار الديمقراطي وخاصة المتواجدين خارج الوطن أن يتواصلوا مع إخوانهم وشعبهم عبر الفيسبوك، وتبادل الأفكار والشعارات الضرورية معهم، تبادل الخبرات في تنظيم التظاهرات والتزامها بالحفاظ على ممتلكات الشعب وعدم التخريب والالتزام بالشعارات المرفوعة، وكيفية مراقبة المندسين وكشفهم والتعامل معهم .... إنني أحد رواد التيار الديمقراطي في خارج الوطن لا يسعني إلا الوقوف مع أبناء شعبنا في احتجاجاتهم من أجل إصلاح مسيرة الحكم لخدمة شعبنا لا لخدمة حفنة طفيلية فاسدة تنشر الجهل والخراب والدمار عبر فسادها الإداري الذي استشرى وأصبح مشرعا بالقانون والقرارات الوزارية من خلال القوانين والتهادن من قبل السلطة التنفيذية.
أدعو جميع رواد التيار الديمقراطي بالتواصل مع شبابنا عبر جدارية الفيسبوك للمساهمة الفعالة (وهذا أقل الأيمان) في التلاقح مع أفكار الشباب داخل الوطن لنشر الوعي وشحذ الهمم ونشر ثقافة الحفاظ على الممتلكات والتظاهر السلمي لنكون بنائين لا مخربين ولنترك التخريب لمن التزمه منذ السقوط ولغاية اليوم وهو يتربع على هرم السلطة. أدعوكم للمشاركة الفعالة على الفيسبوك فأفكاركم وتجاربكم هي أقل ما يمكن تقديمها لشعبنا في هذه الأيام.
وأخيرا أنبه إلى محاولة البعض في السلطة التنفيذية من خلط الأوراق والتهديد بالمندسين الذين قد يقوموا بإعمال إجرامية ضد المتظاهرين، أقول لهم إن من يتمكن من حماية مسيرات حسينية مليونية ولأيام فهو قادر على حماية تظاهرة لساعات!؟ إنهم يخططون لضرب التظاهرة وهذا واضح من تصريحاتهم ومحاولة عرقلة إجازتها، وهذا حق (منح الإجازة) منحوه لأنفسهم لم يمنحهم إياه الدستور. أن جريمة الاعتداء على المعتصمين وهم نيام في خيمتهم في ساحة التحرير وتحت أنظار الجيش والشرطة وموقفهم المتفرج يعكس الروح الفاشية التي زرعها النظام الصدامي في نفوس البعض لكبت كل عملية احتجاج مهما كانت. انهم خفافيش الظلام فلم يتجرأوا على الاعتداء على المعتصمين نهارا فاستغلوا ظلام الليل لينكلوا ويعتدوا أن ما فعلوه يدل على مدى جبنهم وعلى الشر الصدامي المتلبس في نفوسهم!
أخيرا نشد على أياديكم أيها البواسل للاحتجاج والاصلاح

محمد علي الشبيبي
السويد/  ‏22‏/02‏/2011
   

114
3- عودة ومصائب وعواصف/ 3
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


مرحباً بالعيد
لست مبالغاً إن قلت إني لم أعش في أمن، ألم يقل الإمام الحسين، هيهات، هيهات، لوترك القطا لغفا ونام.
حين عدت إلى النجف لأقضي شهري العطلة الصيفية، استأجرت بيتاً كيلا أَجَر على الأب الشيخ بعض ما أحتمل وقوعه. رغم إني لم أتي بجناية، ولكنهم اعتبروني "حِسَن"؟
أصبحت قرينتي تقص عليّ حلماً، إنها تدين بصحة الأحلام، أما أنا فلا. قالت كنت كأني أعود من بيت عمي. ولدي "محمد" الصغير، يمشي إلى جانبي، في هذه الأثناء أقبل شرطي قصير أسود الوجه، فأختطف صغيري، وتوارى عن نظري، ورحت أصرخ وأستنجد بالمارة أن يمسكوا به فما أفلحوا. وعقبتْ، هذا الشرطي موجود فعلاً، طالما رأيته، في مخفر باب الصحن، أو في السوق، لكن ما معنى هذا؟
قلت دعي عنك الوساوس والأحلام. كنا نقضي النهار في بيت الوالد، من أجل أن نتقي حر تموز في السرداب. بعد تناول الشاي عصراً تهيأت، فاعترضني الوالد.
- أجلس حدثني، أنا غير مرتاح، أحس بضيق الصدر.
اعتذرت بأني أريد أخذ الأطفال للحلاق، فالعيد بيننا وبينه أربعة أيام، كان هذا يوم 31/7/1948. وخرجت أصحبهم. وفي السوق الكبير اعترضني -وهذا أغرب ما رأيت- نفس الشرطي الذي حدثتني عنه قرينتي في حلمها، وقف إزائي وقال:
- عمي. الأفندي يريدك.
- الأفندي منو؟
- مأمور المركز.
- حاضر. أذهب وسآتي بعد أن أصل إلى الحلاق ليحلق هؤلاء الأطفال.
لكنه أصر. وبين الغضب والنكتة قلت له  "أنا أريد أن أوصلهم إلى الحلاق وأنت تريد أن تحلق لحيتي على كيفك!". وبين إصراري وإصراره، وصلت الحلاق، وطلبت منه أن يسلمهم لمن يعرفني ليوصلهم إلى البيت -بعد الحلاقة- وليخبرهم بما حدث.
والتقيت بالأفندي في الطريق. سلمت عليه، وسألته ما يريد. كان لا يعرفني. فرد عليّ، من أنت. سبقت الشرطي، وأجبته. رحَبَ وأعتذر، وقال "سأعود بلا زحمة انتظرني في الإدارة؟"
وصحبني الشرطي إلى هناك، لكنه أدخلني غرفة التوقيف؟! وبت ليلتي دون أن أراه، طبعاً بلا زحمة؟ وجاء من أهلي بعضهم يحمل زاد العشاء، ويستوضح السبب. أنا لا أعرف أي سبب لهذا الأجراء، غير إني في نظرهم "حِسَن".
في اليوم الثاني استدعاني. عرض عليّ جملة أسماء، من تعرف منهم؟ المحامي موسى صبار، المحامي عزيز عجينة، المحامي محمد زيني. قلت طبعاً لأنهم أبناء بلدي، ولكن لا صلة لي بهم غير السلام إذا التقيت بهم في الطريق، أو ضمنا مجلس.
وجاء باسم لا يعرفه جيداً، ألتبس عليه الخط، قال هل تعرف جواد الشبيبي؟. قلت نعم، إنه والد الشيخ محمد رضا الشبيبي؟ ألم تسمع به؟
- لا، لا. هذا معلم وشاب، هاك، لاحظ، لعلك تعرف الخط مشوه؟
حدقت فيه ملياً، وقلت أنا أيضاً لم أستطع أن أتبينها.
وراح يمعن النظر ويسأل تذكر من تعرف؟ جواد؟ شبيبي؟ شيبيني؟
قلت لا يوجد في عائلتنا غير الشبيبي الكبير "شيخ جواد" ولا أعرف أحد غيره.
كان في الإدارة معه مختار طرف المشراق "..... شبيل" أنا في الواقع أدركت أن المقصود صديقي وزميلي أبو غالب "جواد شبيل" أبن عم المختار هذا. وسأل عن المظاهرات التي حدثت في النجف خلال وثبة كانون، ومارس ومايس. قلت كنت موقوفاً في التحقيقات الجنائية من 9/1 حتى 11/3/1948 وأطلق سراحي ببراءة، وعدت إلى مقر وظيفتي في "گرمة بني سعيد" في لواء الناصرية. وحضر والد زوجتي ليتكفلني، فيطلق سراحي. وتم ذلك، إذ وراء الأكمة ما وراءها يا "حِسَن".
على كل حال حل العيد وأنا بين أهلي وأطفالي. وعدت أواخر آب إلى الناصرية. بعد أيام من أيلول 1948 تم نقلي إلى مدرسة "السيف الابتدائية" في الناصرية. كانت بيتاً عادياً لا يصلح لمدرسة أيضاً. لكنها منتظمة، مديرها الشاب مجيد وحيد شاهين، الصموت أغلب الأحيان، هو لا يثرثر رغم معاقرته الخمرة كل ليلة في النادي. وعهد إليّ بتدريس العربي -على العادة- لكني لا أكتم الحقيقة، إني في قلق، بعد التوقيف واستفسارات مأمور مركز شرطة النجف.
يوم 13/12/1948 أطل الفراش "عُقلة" على غرفة الإدارة، وهي تجمعنا بالمدير دائماً. وقال عمي إلك منادي! وجدته شاباً عرفته رغم إني فارقته منذ كان تلميذاً في مدرسة الكوفة الابتدائية. صافحني وسأل: "علمنا أن الوالدة عندك. يرجى إرسالها إلى بغداد حالاً، لأمر هام، والدك قال هذا. لا تقلق. مع السلامة".
ودعوت والدتي التي كانت قد سافرت إلى أخيها في "كوت الخضر" جاءت والذعر مرسوم على وجهها. تسائلني، وتلح، ما الخبر؟ أصدقني. أمس يبني أبصرت حلم. وارتعت أنا! ويلي أهكذا نعيش في الأحلام في اليقظة والمنام؟!. أكملي يا أمي ماذا رأيت؟
وقصت عليّ: "في البيت قفص فيه ثلاثة بلابل. فتحته لأقدم لها الطعام والماء، فطار الثلاثة، فأصابتني الدهشة، والذعر. واحد كان على ستارة للجيران، وآخر أسمع صوته يغرد ولا أراه، أما الثالث، فلا أثر. وذهبت إلى المطبخ فإذا بالنار تشب فوق رأسي؟ وجلست مرعوبة. قل لي بربك ليش تريدون أسافر إلى بغداد؟" (فعلاً أعدم أخي حسين، وحُكم على أخي محمد علي بالسجن لمدة عشرة سنوات مع خمسة سنوات من الإقامة الجبرية في بدرة، ولم يطلق سراحه إلا في ثورة 14 تموز عام 1958. أما أنا فقدمت إلى المجلس العرفي في نيسان ومايس 1949 مرتين، وكانت التهم ملفقة، كما سأذكرها في دورها من هذه الذكريات).
قلت لا أعلم، لكني أرى أن تسافري إلى النجف لمعرفة السبب الداعي من أبي! لك الله من أم، ما أشد ما تعانين، وما أقسى سهام القدر التي تستهدفك. لأكتم عنها ما رأيت من حلم أنا الآخر، صرت كالآخرين أخشى الأحلام، كمن يؤمن بها تماماً.
أقسم بحياة أغلى الناس عندي إني لم أسمع، ولم أقرأ في كتاب عن إنسان بهذا الاسم "النعمان بن بشير" الاسم عربي ولكن أهو حقيقة، شخصية موجودة أو كان لها وجود. ثم ما العلاقة بين هذا المسمى العربي النعمان بن بشير وبين "مدحت باشا" التركي الذي عاش في العراق والياً، من قبل السلطة العثمانية. مدحت باشا خير والٍ عثماني عرفه العراق، في عدله، وحدبه على العراق، وقد بذل جهده في خدمة العراق، هو الذي عمل على تأسيس مدينة الناصرية، كي يقضي على انتفاضات أو عصيان عشائر المنتفك. وأنا الآن في الناصرية، ولقد مات مدحت باشا خنقاً ومظلوماً لأنه لا يريد فقط أن يجعل من هذه المواطن العربية التي يحكمها العثمانيون، باسم خليفة، بقرة حلوباً، تجبى منهم الأموال، وديارهم خراب، وأغلبهم فقراء. أذن ما علاقة هذا الاسم العربي النعمان بن بشير بهذا الشهيد الحر؟
قال لي -في الحلم- أنا أتخفى، جئتك لأكلفك بشراء كؤوس زجاجية عليها صورة أخي مدحت باشا أشتري لي منها، أنا لم أشهده. قتل خنقاً، وحزوا رأسه، وقد صرت أعيش متشرداً متنكراً بعده ....؟ الحلم طويل، بقيته رمز!
بعد أيام جاءت أليّ من أبي رسالة في 3/12/1948 فيها، إن كل ما علمته عن أخيك، أنه سحب هو وأثنين من رفاقه من سجن الكوت ولا يعلم أحد إلى أين ؟!
فينا صفة غريبة، لا أدري بمَ أفسرها، أهي صبر، أم عدم تنازل للحاكمين، أم هو جبن؟ أعرف أن أبانا، لا يخشى ظالماً، ولا يتملق ذا وجاهة. وأنا اثبت لنفسي أني لم أدنس كرامتي، باعتراف مشين رغم ما لقيت (مرّ ذكر ذلك في عنوان -الصدف اللعينة-). ولو حدث مني مثل هذا لقضي على أخي وعلى رفاقه الآخرين. ألا يكفي هذا دليلاً على صحة ما أقول!؟ التحقيقات حاولت هذا مني خلال توقيفي في 9/1/ 1948.
وفي صباح جمعة لقيني أحد تجار الحبوب، كان هذا من هواة صداقة الموظفين وخاصة مراتب الشرطة والشعبة الخاصة. أوقفني وقال: سمعت أمس خبر من معاون الشعبة إن الحكومة قبضت على مندائي شيوعي كبير، وهذا أعترف على جماعته كلهم، وقبضوا عليهم هَمِنه!
- ما عرفت أسمه منهم؟ أجاب: اليوم أحاول.
وانتابني ضجر عميق، هنا فك رمز الحلم، جرذ أسود كأنه ميت، على طاولة حانوت البائع الذي قصدته لشراء ما طلب مني ضيفي المشؤوم "النعمان بن بشير" كمية المشمش الجاف في صندوق مكشوف كانت تتحول إلى ديدان تدخل فم الجرذ الذي لم تبدُ عليه حركة تدل على أنه حي! حتى إذا لم يبق من المشمش شيء أنقض على الجرذ قط أسود أختطفه واختفى. لكن من هذا الذي قام بهذا الفعل الشنيع، انه بمنتهى الخسة والوضاعة والجبن! (وفي عام 1976 كنت أقرأ كتاب "علي صوت العدالة" لمؤلفه جورج جرداق. فإذا به يذكر حواراً جرى بين النعمان بن بشير -بأمر معاوية- وقيس بن سعد بن عبادة صاحب الإمام علي في حرب صفين. إذن النعمان هنا يمثل معاوية. جاء نذيرا لك يا علي فيما سيصيب أخاك "حسين" الذي رمز له العقل الباطن بـ "مدحت باشا" وذلك الجرذ  كان "مالك سيف" أما القط فهو التحقيقات الجنائية)
ولكن أي قانون يجيز محاكمة المواطن بجريرة سبق أن حكم بها ولم يقض المدة التي ما يزال بسببها نزيل السجن؟!
على أية حال ما باليد حيلة!
عيـد بأية حــال عـدت يا عـيد         بما مضى اَمْ لأمر فيك تجديد

نَعـبَ الغراب؟! 

هذه أبيات من قصيدة لديك الجن الحمصي في رثاء أخيه:
هـو القلب لمــا حُــمَّ يـومُ إبنُ أمه      وَهى جانب منه وأســـقِـم جـانب
ترشـــفتُ أيامي وهـــن كـوالـــح      عليك وغالبت الردى وهو غالب
ودافعت في صدر الزمان ونحره      وايُّ يدٍ لي والـزمـــان محــارب
لازمني القلق وأخذ يشتد، من تلك الأحلام، والخبر الذي علمته من أبي. فصرت أقصد نادي الموظفين عصراً إلى ما بعد الغروب بأكثر من ساعة، علّ نبأ يذاع من الراديو، إذ لم أكن أملك راديو إذ ذاك، وعسى أن يكون خيراً.
يوم الثلاثاء 15 شباط 1949 الساعة السادسة غروباً، بدأ صوت المذيع يذيع "أحكام المجلس العرفي" صوته عليه رنة انفعال، لست أدري أهو للنبأ المحزن، أم هو الحماس للظفر، والنصر المؤزر، لحكم الوكيل العام.
سكنت حركة لاعبي النرد، والأزنيف؟ وأقبل الجميع من جلاس النادي، قرب الراديو يصغون بصمت، المقدمة طويلة، على عادتهم في التهريج والتطبيل، وتضخيم التهم. وقفت أنا قبل الآخرين، لست أدري، ماذا كان الآخرون يرونه من تغير ارتسم على ملامح وجهي، كنت أصغي تماماً ناسياً كل شيء آخر. حتى انتهى إلى ذكر الأحكام التي لم أعد بحاجة لأنتظر ما بعدها. تحركت لأنسحب، ولم أرتبك. فسألني الحاج طالب:
- ما هو موقف الشيخ محمد رضا؟ ألم يكن ممكناً أن يخلصه من الإعدام؟!
قلت: لا أدري! وأدرت وجهي لمغادرة النادي.
قال له آخر كان إلى جانبه: يا حاج، هذا أخوه؟!
صفق الحاج بيده، وقال: وواقف يسمع؟!
ردَّ عليه الرجل: هُمّه بگدْهه! لكني أسرعت قبل أن أسمع التعليقات.
اخترقت الشارع بسرعة لم أعتد عليها، وكأني أمشي بالشارع خالياً من الناس، والناس كما هم ملء الشارع، أتراهم عرفوا الخبر، لم أسلم على أحدٍ، لم يعترض أحد أيضاً، بل لم أدر، هل الناس الذين كنت أمر بهم -وأنا لا أنظر إليهم- كانوا على سجيتهم يتحدثون، أم هم في صمت؟ كأي مواطن هنا هزه النبأ؟!
وجدت زوجي مشغولة بصب الطبيخ في المصفاة، فانفجرت مستعبراً، أبكي كالنساء "أتركي كل شيء، أعدي ما يلزم، الآن سنسافر إلى النجف" لم أدعها تتكلم، صحت: حسين حُكم عليه بالإعدام! فصرخت هي الأخرى، ودوى صوت أطفالنا بالبكاء والعويل.
هكذا قدمنا ما لدينا من طعام إلى الجيران، وخرجنا إلى القطار، يصحبنا بعضهم مواسين. أنا في ذهول لا يوصف، فركبت قطار البصرة بدلاً من قطار بغداد، لو لم يتدارك الأمر شخص يعرفني وعلم بالواقعة.
كنت أعتقد إن الحكم لم ينفذ بعد؟ فشفيق عدس، لم يصادق عليه التمييز إلا بعد مرور خمسة وعشرين يوماً. وهو متهم بمد الصهيونية بالمال، فهل يبلغ استهتار الحاكمين إلى حد أنهم يتروون بأمر صهيوني، ويستعجلون بالموت على مواطنين عراقيين عرب؟!
أفكر، أن أحث أبي حين أصل، أن يسارع فيتشبث، ويراجع، عسى أن يبدل حكم الإعدام بالسجن؟!
أقبلت على البيت، فاعترضني شرطي، وصاح به آخر: دعه، أنه من العائلة!
عدد من الشرطة يراقبون البيت، لا يسمحون بالدخول لكل أحد، أو يستجوبون بعضهم؟! لقد انتهى أذن كل شيء. إذن فعلها الأنذال. نفذوا الحكم، ثم أذاعوا قرار المحكمة. كان القرار قد صدر يوم الخميس 10/شباط/1949 وقد صودق تلفونياً -كما ذكر هذا أخيراً-!؟ ونفذ فجر  14 و 15/شباط 1949. وقد أشرت إلى هذا في إحدى قصائدي برثائه:
ظالم من جبنه في حكمه      بعد أن نفذ ما شاء أذاعا
 إنهم جميعاً ينوحون ويعولون، ورحت دون وعي أنوح مع الأم الثاكل والأخت المنكوبة.
أمي لم تهتدي إلى مكان احتجازه إلا ليلة إعدامه!؟ حيث أعلموا أبن عمها الشيخ باقر الشبيبي تلفونياً قبل ظهر يوم الاثنين 14/2 بعبارة مقتضبة " إن كان لـ .... أحد يريد مواجهته، فليتوجه إلى الموقف العسكري في أبي غريب!" وسارعت تصحبها زوجته وأمها.
أخذ يملي على سمعها وصيته. قولي للشيخ (المقصود محمد رضا الشبيبي/الناشر)، ولأبي، ليس لديهم ما يدينونني به غير شهادة سافل واحد؟! صاح الضابط الذي يجلس خلف منضدة، يسجل ما ينطق به هو أو من يقابله: رجاءً لا تتعرض لأي موضوع غير أن تودع أمك!. ردّ عليه: لا بأس أصدروا حكماً آخر بالإعدام! فصاحت الأم يا ويلتاه! لكنه طالبها بالصبر، وأستمر: جاؤني بمعمم من شاكلتهم، لأشهد على يديه "أن لا اله إلا الله وان محمداً رسول الله ..الخ" فطردته، إني من بيت رجاله أهل دين وأدب، لا حاجة لي بمثلك. صاح الضابط ثانية يعترض. وأكمل: أقيموا لي فاتحة؟ لم تعد أمنا تعي من الأمر شيئاً وهي تشهد السلاسل تربط يديه إلى الأرض. وانتهت عشرة الدقائق المخصصة لزيارته، وعادت إلى بيت ابن عمها.
لم تغمض لها عين، حتى إذا أشرقت الشمس، رن جرس التلفون يعلن للشيخ: أن تهيأوا لاستلام جثمانه!؟
هل استلموه؟ كلا! الشرطة وضعوه بسياراتهم، أرغموا العائلة أن تسلك من بغداد إلى كربلاء، وتوجهوا هم به إلى طريق الحلة!.
ودفن عند حلول الظلام، وأرسلوا من يدلهم على القبر!؟
لقد ودع الشعر بآخر قصيدة "تحية أيار" منذراً عبيد الاستعمار بقوله:
سننسف أركان ما شيدوا      فلا العبد يبقى ولا السيدُ
حسبه، وحسبنا، إننا لم ولن نتراجع أو نتخاذل أمام عسفهم واضطهادهم. وإنا نفخر إننا قدمناه قربانا من أجل الوطن والشعب المضطهد المغلوب على أمره. ورحت أرثيه أمام أبي وهو ينشج، ويقول: سميته يا أبا عبد الله باسمك، وها هو  قد لقى الشهادة صابراً محتسباً.
لقد منعنا من إقامة الفاتحة من الرجال ومن النساء. وفي عام 1958 وانبثاق فجر 14 تموز عند وفاة والدي في 7/9/1958 أقيمت الفاتحة للشيخ الذي فضح الطغاة من على المنبر، وتحمل عسف الظالمين، ومضايقاتهم له، واعتقاله عدة مرات. وجد الأدباء متنفساً فتباروا في تقديم المراثي، عن جهاد ولده الشجاع، الصادق، المتفاني ... من أجل الحرية والاستقلال، ومن أجل الجماهير العاملة، وكيف قارع أشد أعوان الاستعمار، وانتهت حياته وهو ثابت الجنان، صلب العود، لم يلن ولم يتراجع، ولم يستسلم لأرادتهم. ثم يعرجون على صبر الشيخ المنكوب، ووقوفه بشموخ يفضح نوايا سماسرة الاستعمار من على منبره المكتظ بالألوف، وتعرض لأقسى أنواع المضايقات إذ يؤخذ ليلاً من فراشه ليرموه في موقف سجن خارج النجف، في كربلاء، أو عين التمر، فلم يخيفوه ولم يهادن.
لا تحضرني الآن غير كلمة الشهيد كامل القزانجي، وهو يصف أبنه الشهيد "حسين"، كيف فارقهم قبيل الفجر، وأعلن مودعاً "أخوان في أمان الله أنا ذاهب لينفذ بي حكم الإعدام -أي جلد هذا-". ويقول قزانجي "هذه الكلمة -في أمان الله- كنت أسمعها من النجفيين أيام كنت مدرساً وكان الشهيد أحد تلامذتي".
وفي كلمة الأديب ومدير التوجيه والإعلام ذو النون أيوب: "ويوم أغتال المجرم الأكبر نوري السعيد  -الشهيد حسين محمد الشبيبي-  ظن كما ظن أمثاله الحمقى، أنه قد أطفأ النار المتأججة بقربة النفط. ولم يخمن قط إن الحبال التي التفت حول أعناق الأبطال الأربعة المناضلين هي نفس الحبال التي سحب بها جثمانه في شوارع بغداد. لقد زاد استشهاد الابن الشاب الأب الشيخ أيماناً فاشتدت عزيمته، وتضاعفت همته وفجر بركان غضبه على ألاثمة المعتدين فقارعهم هو وأفراد أسرته مقارعة لا هوادة فيها ولا لين".
هل ارتوى ظمأ نوري المتعطش لسفك الدماء؟ لقد ورط صالح بمعاهدة بوتسموث فأفشله مثلما أفشل قبله الأرعن أرشد العمري، ليقضي على الحركة الوطنية، فاندحر مهزوماً بعد أن لطخ يده بدماء شهداء كاورباغي ومظاهرات الشباب في بغداد.
ثم دفع الصدر ليهدّء فورة الشعب بعد صالح، ثم بمزاحم، وقد كان بحاجة إلى أن يرد اعتباره، فيما واجه عام 1931 من إضراب العراق من أقصاه إلى أقصاه. فقال شاعر العراق مشيراً إلى جواب مزاحم المستخف بالشعب حين أبلغ إن الإضراب عم العراق من شماله إلى جنوبه قال "أنا الآن مشغول بتلميع حذائي!"
خبروني بأن عيشة قومي      لا تساوي حذائك اللماعـا
فماذا الذي فعل مزاحم في وزارته هذه؟ لاشيء سوى البطش بالصحف الوطنية، ربما أعتبر كبس مطبعة الحزب الشيوعي نصراً عظيماً لم يكسبه قبله أحد؟
ولكن فاته إنه غادر الوزارة مهزوماً مروعاً من الأزمة المالية التي قيل عنها. لقد بدأت أيام صالح واشتدت أيام الصدر. فماذا فعل مزاحم الذي أعلن عاقبة استمرارها؟ وسارع نوري إلى أخذ زمام الوزارة، ليكسب فخر العثور على بيوت الحزب، وإنزال الضربة القاصمة بالحزب بإعدام قادته الميامين. وقد فعل، ولكنها ليست من جهود وعبقرية أجهزته، إنها من خونة ملّوا المسيرة وتعبوا وأدركهم الخوف في ميادين معارك النضال، فدبروا أمر تسليم كل شيء. ورضي "مالك سيف" لنفسه أن يتحول شرطياً برتبة معاون في التحقيقات الجنائية. وقد علمنا أن بعد اعترافاته، وإعدام قادة الحزب، أصدرت التحقيقات "الموسوعة السرية" وهي بقلم مالك سيف -وأن لم يذكر ذلك- وقد أخرجت الموسوعة بطريقة لتنشر الشك والريبة بين أعضاء الحزب وأصدقائه، وانه عين بدرجة معاون شرطة تحقيقات براتب يناسب خيانته ونذالته.
ولكن الحركة لا ولن تموت أبداً، مهما طبل حكم نوري وزمرته، وأعلن الفرح والتشفي بعد فشل مخططه الذي أوكل أمر تنفيذه لصالح جبر، وان يوماً عصيباً لابد انه آت يوسد به نوري ملفعا بالخزي والعار بدل الأكفان، وينثر لحمه بيد الناقمين بدل القبر واللحود. وقلت في إحدى قصائدي في رثاء أخي:
حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي      إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص      يضيق على الطاغي به البر والبحرُ
الصحف الموالية للحكم ظهرت غداة إعدامهم بعناوين بارزة. تهلل وتكبر للنصر العظيم، وصور الشهداء على صفحاتها مشوهة. لكن الناس علقوا بأسىً  "لابد إنهم عانوا المر من التعذيب والوحشية".
ولم نسمع عن موقف الأحزاب الوطنية والتقدمية شيئاً مطلقاً!؟ ولا غرابة. وهنا السر والسبب في إخفاقات وتعثر الحركة الوطنية. قادة الحركة الوطنية في العهد الملكي بغض النظر عن كل اندفاعاتهم وحماسهم، فان صفة غير مناسبة ولا صالحة، تمتلك نفسياتهم، هي حب الظهور على المسرح وحدهم. وكل يريد القيادة له دون غيره! هذا ما شهدناه بالعين والسمع، في الدعوة إلى الجبهة الوطنية الموحدة. لقد فشلت المساعي رغم اللقاءات المتواصلة بين الأحزاب الثلاثة، التي هي في الواقع نموذج واحد. والسبب الهام هي أنهم يعتقدون إن حزب التحرر الوطني، وجه علني للحزب الشيوعي؟! ونسوا أنهم يهدفون في مساعيهم السياسية إلى نفس ما يهدف إليه الشيوعيون.
لازمت الأحزاب الصمت، وكأن الذين أعدموا كانوا زمرة من أجانب ومجهولين! بينما هم لم يغمطوا حق الأحزاب الوطنية والتقدمية، وقادتها، ولم ينكروا مكانتهم في النضال والحركة الوطنية. فحين وجه الإدعاء لفهد تهمة  "بأنهم يثيرون المظاهرات ليقلقوا البلد!؟".
أجاب فهد: "ونسب الإدعاء العام  إلى حزبنا جميع الأعمال والنشاط السياسي والوطني والعمالي، التي حدثت في العراق في السنوات القليلة الماضية. كإضراب عمال السكك، وإضراب الطلاب، والمظاهرات التي حدثت في بغداد والبصرة، وإضرابات عمال النفط في كركوك، وتلقين جماهير الشعب الشعارات الوطنية كالجلاء وإلغاء المعاهدة ..... إننا فخورون أن تنسب إلينا مثل هذه الأعمال الوطنية، لكن الحقيقة يجب أن تقال، وهي إن حزبنا لم يخلق الحركة الوطنية في العراق، وليس هو الوحيد في حقل النضال الوطني. فهناك عناصر وطنية عملت وتعمل."
للأسف ضاع مني كثير من الوثائق التي بذلت جهداً في الاحتفاظ بها، من تلك جريدة القاعدة من أول عدد حتى عام كامل. وفي دفاتر خاصة دونت بعض أخبار وكلمات لقادة الحزب وساسة العهد الملكي وجرائد عراقية وعربية فيما يخص الحركة وقادتها. وكان أهم سبب في ضياعها غارات الشرطة على بيتنا للتفتيش مما اضطر زوجتي أثناء توقيفاتي أن تتخلص منها. ولذا حين بدأت أواصل كتابة ذكرياتي، لجأت إلى بعض المصادر التي نشرت أخيراً واقتبست كلمة دفاع فهد من كتاب "الصحافة العراقية والحركة الوطنية" لمؤلفه الأستاذ قيس عبد الحسين صفحة 129.
لقد انتهى دور أخي ورفاقه. ولكن الحركة الوطنية لن يخمد لهيبها، ولن تقف أبداً. سيتقدم لراية النضال من يحملها، حتى يقبر نظام خانقي الشعب وماصي دمائه. إن الحياة إلى الأمام دائماً. ولا يستطيع أحد أن يوقف حركة دوران الأرض. إنها كما قال برنو "ستبقى تدور وتدور" سيأتي يومك يا نوري، وكل آتٍ قريب!   
 
الناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏20‏/02‏/2011
alshibiby45@hotmail.com


115
3- عودة ومصائب وعواصف/ 2
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


محنة المعلم
قيل ما قيل عن المعلم وتكريمه، ما روي عن النبي، وعن الصحابة والأئمة. أو ما قاله العلماء والشعراء المبرزون. أمير الشعراء شوقي جعل المعلم بسبب من أهمية مسؤوليته في صف الرسل! وشاعر العراق "ألجواهري" كاد يسجد للمعلم -لو جاز له ذلك- فالسجود لا يكون إلا لله. ومع كل هذا فلم تجد معلماً واعياً إلا وهو وكر للبلايا والتهم. أي أن المسألة حوله معكوسة. المطلوب أن يسجد للحاكمين، بدءاً من المفتش الذي يحمل قلماً كالسوط، لا يسطر غير الهفوات والزلات التافهة. أما أولو الأمر الأعلون، فنوابهم "شرطة الشعبة الخاصة" ذوو الفهم العالي والحس الدقيق، فسياطهم عشوائية وأشد قسوة!؟
اليوم حين توجهنا إلى المدرسة صباحاً، كانت الريح شديدة، والنهر يصطخب أمواجه، فكأنه هو الآخر ساخط. فوجئنا بحادثين كلاهما مؤلم لنا ومحزن. قبالة المدرسة في الجانب الأيمن، ينتظرنا على العادة الطلبة من سكان هذا الجانب، هم عدد لا بأس به. يجلس على حافة القارب، نحن لم نمنعهم، هم أهل فن في ركوب السفن والقوارب، ومهرة في السباحة، لا يكترث أحدهم أن ينزل في النهر حتى في أيام الشتاء. قاربنا منتصف النهر، فإذا بأحدهم يسقط فيه، وغاص فيه كأنه حجر ثقيل. صرخ زملاؤه، وتصايحوا، وما أسرع ما غاص عدد منهم يبحث عنه، وتجمع الناس من الضفتين، وتحركت قوارب للبحث فيما غاص آخرون من الكبار أيضاً للبحث. وتبين ذلك التلميذ مصاب بالصرع. لو كنا على علم لمنعناه من الجلوس على حافة القارب. وطفا جسده، بعد الزوال بساعة قرب الناحية.
وتلقتنا صدمة ثانية، وجدنا بعض أثاث الإدارة قد سُرق. كراسي ومنضدة المدير، وسجلات المدرسة. حامت الشبهة على ابن رئيس القرية. هذا اعتاد أن يستدين من مدير المدرسة، لكنه لا يفي بما يقترض. القرويون يحتقرون -الصابئة- وهم أيضا يخافونهم. كان قبل أسبوع قد لوح للمدير بحاجته إلى خمسة دنانير، فاعتذر المدير وهو يضحك "راتب المعلم ما يعيش أكثر من عشرة أيام، أحنه براتبنه مثل عرس الجليلو، ثم ما الذي قبضته من الدين السابق؟". الجليلو بالجيم الفارسية، هكذا يسمي القرويون هذه الحشرة، وهي حشرة لها أرجل دقيقة، تأتي أيام فيضان النهر في الربيع يقولون أنها تتلاقح وتبيض وتموت في مدى قصير جداً.
على أية حال أخبر شرطة الناحية، وأتهم صاحبه هذا، وكبست الشرطة بيته، فعثرت على كل ما سرق!؟ وأخذ للتحقيق وأوقف.
في اليوم الثاني افتقدنا القارب، مع العلم إنا نصل به إلى الناحية إلى صباح اليوم الثاني. فهل اللص من لصوص الگرمة؟ المعروف عن قرية أصيبح والعشيرة فيها تدعى الزوطة ورئيسها يدعى "ريسان ﮔاصد". إنها مأوى الهاربين من الجندية -أفرار- والمدانين بجرم قتل أو نهب أو مسألة شرف، وهم جميعاً يعتبرون اللصوصية بطولة!؟
قال بعض وجوه الشيوخ، إن القائممقام إبراهيم السالم قال لرئيس العشيرة، يا شيخ ريسان يبن گاصد، ليش ما تأدب أفراد عشيرتك وتمنعهم من اللصوصية؟ أجابه ريسان: "يا حضرة القائممقام، رجالنا يسرقون بالليل شبيدهم؟ الجوع يلجأهم. لكن أنتو موظفي الدولة من فوق إلى تحت تسرقون علناً وبالنهار؟". إلا أنه واحداً ممن أجاعهم!
وأهتم شيوخ القرى جميعاً فما ينبغي أن يوقف ابن رئيس القرية "...." أما هو فأدلى بإفادة غريبة. قال، إن لي بذمة مدير المدرسة مبلغاً من الدنانير -قرض- ولم يدفعها، طالبته، فأعتذر وقدم ما عثرتم عليه بحوزتي -رهينة- وقبلتها لأفضحه!؟ ولو كانت كسرقة كيف أحتفظ بها في منزلي!؟ ... مهما يكن فقد أطلق سراحه نتيجة ضغط واحتجاج الشيوخ.
بعد يومين وجدنا تذكرة صغيرة معلقة بباب الإدارة "خلوا خمسة دنانير -بالشقلة- يَم العود المثَبَت على حافتهه، ويرجع المشحوف لمكانه!؟". وأعلمنا الشرطة بهذا فوجدت القارب، مغرقاً بالنهر بالضفة المحاذية للمكان المشار إليه.
وجاء المفتش "عبد الحسين الفلوجي" بزيارة المدارس الموجودة في الخط المحصور بين سوق الشيوخ والناحية. زيارة المفتش كانت بعد حادث السرقة.  بدأ بمدرستنا، لكنه زار الصف الذي أنا فيه فقط، بعد اختصاره بالمدير. بعد أيام من هذه الزيارة، وجدت مدير المدرسة تبدو على وجهه مسحة كآبة، كان يتكلف الابتسامة. ناولني كتاباً رسمياً وشفعه بقوله، مبروك! تعييني مديراً بدل المدير خزعل كان لأمرين، لنقل خزعل والتخلص من محاولتي العودة إلى الناصرية. ولكني لا أعتبر كرسي الإدارة يستحق أن أعيش أنا وأهلي في مثل هذه القرى علما إني خدمت قبل هذا في القرى كثيرا.
حين قرأت الكتاب الرسمي، تناولت ورقة وحررت ما مضمونه "إني أرفض تعييني مديراً لهذه المدرسة، وأرجح إبقاء مديرها الأسبق فهو معلم مدرك وكفؤ للمسؤولية".
كان هذا حتماً أمراً مدبراً لأبقى في هذه القرية؟! قال أحد معارفي في اللواء، إنهم يعتقدون أن هذا لصالحي، لأبعادي عن عيون "الشعبة الخاصة" والله يعلم. ومدير الناحية والمفوض عبد الحسين فارس قالا، إن العيون تتبعني في هذه القرية. فيا لمحنة المعلم؟!
 
نداماي  
عصر كل يوم أهيئ الشاي، ثم أحضر ما يلزم لعشاء الليلة وغداء غدٍ، هذا خير من لهو في إحدى المقهيين على إني لا أميل إلى هذه الوحدة. كل بقعة من بلادي يلذ لي لو اطلعت عليها جيداً، أليست هذه الفترة جزءاً من عمري؟ وسطوراً من دفتر حياتي؟!
كل ليلة بعد العاشرة، أسمع صوتاً جميلاً في أغاني ريفية، يماشي الرحى، هو صوت "طاقة" الخبازة. في أحد الأيام مرت طاقة وفليفل السوداء الرقيقة، سلمتا عليّ واستأذنتا للجلوس. رحبت بهما. وتساءلت طاقة عن الطبخة التي أعدّها، وكيف أستطيع القيام بهذه المهمة؟ إنها من أعمال النساء!
- الرجال أيضاً يستطيعون ذلك. الملاحون في السفن، والمطاعم في المدن يدير مطابخها رجال.
- وأنت مِن مَن تعلمت؟
قلت: من أمي. الغربة استوجبت هذا مني، أن أخدم نفسي بنفسي. والآخرون "عُبَيد وصاحبه" هم جواري في حانوت أيضاً، ألم تريهم يُعدان طعامهم؟
- موبهل الشكل، أُمَيَت لحم، مرقة أقطين، خوية هذا طبخك بس ريحته وحده كافي؟
وبالمناسبة أخذت طاقة تحدثني عن متابعة شرطة الناحية لي. إنها أوامر اللواء! ومن أين عرفتِ هذا يا طاقة؟ بادرت فليفل وهي تضحك من "منعثر"! أنت ما تعرف الشرطي منعثر، هو يعرفك ويحبك كِثير!
ضحكت طاقة، وكفخت فليفل على رأسها. وشعرت برغبة طاقة فقدمت لها من طعامي ما يكفي. ووعدتهما أن أقدم لهما في المرة القادمة، أي طبخة أخرى لا تتعاطونها. وفي اليوم التالي أرسلت إليّ قطعة من السمك الطري المشوي بالتنور، مع عدد من أرغفة الخبز الحار، وإنها وصاحبتها ستأتيان لشرب الشاي عندي!
فيما نحن لا هون بالحديث أثناء تناولنا الشاي، مرّ فتى مذموم، له جمال رائع. فقلت لفليفل:
- ما رأيكِ لو كان مثل هذا الجميل زوجك؟!
- وَي، غَدي، بَرّه، بَرّه. والله يعمي من يمر الأبيض ما أحس بيه، ولو مرّ الأسود يصفج قلبي تصفج!
قلت أنا أمزح يا فليفل، ونوري شاب شهم وحباب، ورأيك هذا دليل عفتك ونزاهتك. ولحظت على وجه طاقة علائم تأثر بين الخجل والألم؟ فقلت وكأني لا أعرف شيئاً عن علاقتها بمنعثر، طبعاً طاقة أيضا مخلصة لزوجها الطيب منعثر!
- أي كلمَن ونصيبه يبو كفاح، هذَ مال طمع، شلون ما يكون هوّ شرطي! جاعِد مستأجر، لكن أنت تدري بالشرطي؟ وآنه وحيدة، أعيش من هالتنور!
مسكينة إنها تدفع التهمة عنها. ما يدريني لعلها صادقة. أنا أعرف ناس هذه القرية، أهل قيل وقال.
ماذا أفعل. الوحدة موحشة، أطردها بالنكتة مع المار إذا سلّم، أو وقف يتفرج على مشاغلي. كناس البلدية الوحيد "هويدي الأطرم" يجلس إليّ أيضا فأنادمه، وأكلفه أيضاً أن يجلب لي الماء من وسط النهر لا من الضفاف، وبواسطة قارب يأتي به حسب الطلب. ضفاف الأنهار يزرعها القرويون بالغائط، الصغار منهم والكبار. ويتطرفون في قعودهم قريباً من الماء، والإصابة بمرض البلهاريزيا هنا منتشرة بفظاعة.
المعممون الذين يفدون إلى القرية لا يهمهم غير موضوع الوضوء والصلاة، وأغلب حديثهم عن الكفارة، الزكاة، النذر، وغرامة طفار البول، والعقيقة والديك الذي يقودها يوم القيامة. هم يقولون للقرويين البسطاء، عندما يقدم ثمن نعجة -عقيقة- يذبحها المعمم بدلاً عنه معها ديك، يدلها يوم القيامة على الطريق إلى صاحبها. وغرامة طفار البول مقدار من السَمن بحيث تكون كميته كافية لتغطية القدمين والرسغ تطهيراً لها من البول الذي يتطاير.أما النظافة، وواجب المسلم، ومعنى إسلام، والمحرمات، والسطو واللصوصية، هذا مالا يهمهم. طبعاً هذا لا يفعله الفضلاء من المعممين.
جلس هويدي يحدثني، وأحدثه، داعبته، إذ رددت وكأني أغني -خياط فرفري-، وسألته، شنو يعني خياط فرفوري يا هويدي؟! أجاب متلعثماً، جا عمي انه أعرف أنكريزي؟!
في هذه الأثناء حضر جهاد ملاح قارب المدرسة. وأنا غارق في الضحك. هو لا يدري إني أنا أيضاً لا أعرف الإنكليزية. وأستفسر جهاد عما يضحكنا. بهت وقال، آنه أعرف الفرفوري، لكن، هو يتخيط؟ جائز أكو قماش أسمه فرفوري!. ثم سأل، عمي العطلة قُربت، تظَل عند هلك، لو تسافر للخارج؟
- الخارج وين يعني؟
- بغداد، غيرهه!
- أسافر إلى "لوكسومبرغ". قلتها هازلاً.
صاح جهاد مستغرباً، لا عمي ماتحجي فِشَر!؟
في هذه الأثناء مرّ نوري تصحبه زوجه فليفل، سلمَ وقال، جيت أهنيك!
- بماذا يا نوري؟
- كنت باللواء، وجبت وياي من المديرية لمدرستنه ومدرستكم مكاتيب رسمية. قال كاتب الذاتية، بَشِر المعلم علي فهذَ كتاب تثبيته.
سبحان الله. لِمَ أنا دون كل من فُصل معي، أعيدوا جميعهم، بينما تغمط حقوقي؟! صحيح إن العادة إن المستخدم، يفصل حالما يوقف، لكني سلمت من هذه القاعدة. ذلك بفضل تحطيم الشعب لمعاهدة بورتسموث ولكن الثعلب -وكيل بريطانيا- سوف لن يترك هذا الفوز، بدون انتقام وردة أكبر. لقد ورط صالح جبر وهو يعلم أنه أعجز من أن ينجح، هذا شرف يريده له فقط. هو وحده الذي يجب أن يحتل المقام الأول عند التاج البريطاني.
صاحبنا الشيعي المقدس السيد محمد الصدر وقد صار رئيس وزراء بعد انتفاضة الشعب لتحطيم معاهدة بورتسموث، أحتل المقعد الرئاسي بعد صالح، لتهدئة الأوضاع. لكنه أيضاً أعلن الأحكام العرفية، بحجة حماية مؤخرة الجيش المقاتل في فلسطين.
أخذت الجماهير تتداول بالسر فيما بينها أغنية قالوا، إن المغني الريفي حضيري غناها فأوقف "عمي يبو لحية نايلون                  ردتك عون طلعت فرعون!" لا أعتقد صحة هذا.
هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءآء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم ....
 
حمامـة الٍسـلام 
كل ما حولي يبعث على السأم، انتهت الامتحانات، لكننا طبعاً نبقى إلى أمد محدود، وجو ناحية -ﮔرمة بني سعيد- مسئم أيضاً، الدوام مريح لي نفسياً. ففي الذهاب إلى المدرسة، والعودة منها، أمتع النفس بمنظر النخيل، والفلاحين والمزارع. أما جو الناحية فراكد. حتى الصحف لا أحصل عليها دائماً.
في جريدة "ألأساس" بتأريخ 5/5/1948 قرأت لأخي "حسين" قصيدة يحيي فيها عيد العمال "الأول من أيار" فيها يعلن استمراره على السير في طريق النضال بفخر واعتزاز، من أبياتها:
أيـــومك أم يــــومنـا الأوحـــد                                             ومن يـــومه بــدم يـــــولــــــد
ومن فجــــره مثلمــا فجـــرت                                             رقـــاب على أفـــق تحصـــــد
وأيهمــا ليس يــرضى الفنـــاء                                            إلا ليـــــولــد منه الــغــــــــــد
فأيـار للـــزهر والصــارحـات                                             وأيار للــــكادح الـمجهـــــــــد
كلانا له من ربيـــع الـحيـــــاة                                             يــــــــــوم فـأيهمــــا خلـــــدوا
وذكــراك أيـــار تهتــــــاجنـــا                                            إذا ما ذكرت جــــوى تـوقــــد
من الـحقــد ما ذره الطامعـون                                             تخســـا أو تســـعف أو تنجـــد
تســاميت أيــــار في واحــــــد                                            نُسِـــبتَ له وهـــو الأوحـــــــد
ألســنا الــرعاع؟ فمن روعـوا                                             ألسـنا الـجيــاع؟ فمن هــــددوا
ألسـنا الطعـام؟ ألسانا الشـراب                                             وما اعتصروا روحنــا واليــد
لنصرخ إذا. ومن المســتجيب                                             وهذي السجـــون لمن أوجدوا
وهذي الكبــول بمن أوصــدوا                                             وهذا الســــلاح لمن ســـــددوا
وهذه القــــوانين ما حكمهـــا؟                                             وهذا الجحيـــم بمن يــوقـــــد؟
لهم ولكي لا تكـــون الـحيــــاة                                             شــــقاء لنــا ولهــم تســــــــعد
دماء الـضحــايا أجَــل الــدماء                                            على مذبــح البغي تســـتنجــــد
ومن غيرنا يســـتجيب النــداء                                             وهل في المغــاوير من يرقـد؟
هو اليوم ذكرى الكفاح المرير                                             تبـدّى وقـــد عذب المـــــــورد
بنـــاة إذا ما هـدمنـــا الشـــقاء                                             وعالـمنــــا العـــالم الأســــــعد
ســــنهـدم أركان ما شـــــيـدوا                                             فلا الـعبــــد يبـقى ولا الســــيد   
عشت في قرى عشائر الفرات القريبة من النجف. الحق إنهم كانوا أهل وعي ويقظة. رؤسائهم والفلاحون كانوا شديدي الاهتمام بالأحداث -العالمية والداخلية- علاقتهم مع الموظفين وبالدرجة الأولى مع المعلمين، يزورونهم، يدعونهم، يخوضون معهم مختلف الشؤون بمودة، حتى مع الذين يحسبونهم ذوي فكر يناوئ القبيلة والإقطاع! أما هنا فحياة راكدة ركود ماء الجفار! (والجفار نهر في ﮔرمة بني سعيد حيث لا ينتفع به). الصحف تثير المخاوف، إنها تعاني المتاعب، كلها تشير أن الخيبة مرّة. حمامة السلام، ليس إلا ظل خادع!  هو كما يعتبر الفلاحون -فزاعة خضرة-.
الوكيل العام، في شغل شاغل، لرسم الخطط، لتسيير السفينة، كما يشتهي السَفَنُ لا الركاب؟! الصحافة الوطنية، مستمرة تفضح النوايا، وتشجب قيام الأحكام العرفية، وتمارس أجهزة القمع شتى الضغوط ضد الفئات الوطنية. حمامة السلام يلقي ظله ليحمي القائمين بكل ذلك من انتفاضة جديدة. لا يجري هذا في بغداد حسب انه حدث في كل بلد، عرف عنه النشاط الوطني. في الألوية التي يسيطر عليها الإقطاع، يتجول مسلحون من قبلهم ليهددوا الناخبين كيلا ينتخبوا غير مرشحي الحكومة، تسندهم الأحكام العرفية. بعض الأحزاب الوطنية والتقدمية حُلت منذ زمن، وبعضها خاض معمعة الانتخابات -جرت الانتخابات في 15/6/1948-، وقدموا ضحايا و أكثر؟ ثم فاز بنذر ويسر من مرشحيه! الشيوعيون قاطعوا الانتخابات تحت شعار "لا انتخابات حرة والأحرار في السجون!". أساليب الانتقام والتشفي من كل فئة وطنية شاركت في الوثبة. كل هذا تمهيد وتنظيف الدرب بانتظار دور الوكيل العام لتحقيق هدف الاستعمار البريطاني.
والمضحك في الأمر النفاق في سياسة حمامة السلام، فإنها في الوقت الذي سيق فيه المليونير اليهودي "شفيق عدس" إلى المحاكم، بتهمة مساعدة الصهيونية، سيق عشرات الشباب وقادة النقابات والشخصيات الوطنية، إلى المحاكم أيضاً.
وفي أعقاب عملية الانتخابات، قدم "صدرنا" استقالته، وجاء مزاحم الباججي وشكل وزارته هذه في أواخر حزيران 1948. لقد حلقت الحمامة مع الغربان، مستعيرة لونها، وعادت غير قادرة على استعادة لونها الأول، الذي كان يستر حقيقتها.
أعود، أتحدث عن المدرسة والامتحانات، أية امتحانات، لقد صفيناها خلال يومين؟! ودعينا إلى وليمة. التاجر حاج حسن أول وآخر من تفقد المعلمين. لبيت الدعوة مع زملائي "معلمي مدرسة الـﮕرمة و أصيبح" وقبيل الغروب توجهنا إليها، هناك حيث النخيل المكتظ، تنتصب قبة عادية على ضريح لدفين يدعى سيد سلمان. القرويون هنا وهم يتحدثون قَسَمهم بضريح سيد سلمان.
مدير المدرسة محمد رشيد، أو كما يلفظه أكثر الزملاء محمد رشيده، ذو لسان ثرثار وعقلية متحجرة، لهجته مقيته، وثقيلة على السمع. مما يروى عنه، إن مفتشاً زاره مرتين متباعدتين، في الصف الثاني أثناء درس القراءة، فوجده ما يزال يدرس "الخروف لا يعبر النهر" أبدى المفتش استغرابه! فجذبه محمد رشيده من يده بقوة وقال: "أتفضل آنه أطلع، وأنت شوف أشلون تعبرهه؟!"
وحين كان بمدرسة تدعى الفهود طالب مرات عديدة بنقله منها فما أستجيب له، فخرج على جلاس المقهى، وقد صعدت برأسه "العقار" حاملا بيده نعله، وصاح: "يا أهل الفهود! أني أرى رؤوساً أينعت وحان قطافها وإني والله صاحبها؟" ثم مر عليهم واحداً واحداً صفعاً بنعله؟! وجاء النقل بعد ثلاثة أيام. ولكنه أيضاً لإدارة مدرسة؟!
قبل أن أغادر الناصرية طالبني كاتب الذاتية أن أبعث إليه بشهادة الجنسية، من أجل تثبيت عمري في دفتر الخدمة! لقد فات الأوان. الشهادة في النجف ودفتر النفوس ثبت عمري فيه خطأ. إنها خسارة لمثل معلم مثلي، لا استقرار له فهو دائماً في مهب الرياح! مواقف، فصل من الخدمة، اعتقال والعودة كمستخدم، لا كسائر المفصولين في إعادتهم. لا بأس فلأدن كما يدين الآباء، كل شيء بقضاء وقدر؟!.
 
يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد/ لوند      ‏16‏/02‏/2011
alshibiby45@hotmail.com

 

116
3- عودة ومصائب وعواصف
من (ذكريات معلم) للراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


اعتذار ذكرت في الحلقة السابقة أن عنوان القسم الثالث (عودة إلى الريف)، ولأني دمجت أكثر من قسم في قسم واحد (القسم الثالث) بسبب قصر الأقسام والفترة التي تتناولها، ولأن الوالد ترك لي حرية التصرف والتنظيم، فإني وجدت من الأفضل أن يكون هذا القسم بالعنوان أعلاه لأنه الأشمل والأكثر وصفا لمجريات أحداث هذا القسم الذي يمتد من عام 1948 لغاية ثورة 14 تموز عام 1958.
مقدمة  
يتناول المربي الراحل طيب الله ثراه في القسم الثالث "عودة ومصائب وعواصف" من ذكرياته "ذكريات معلم" حياته التعليمية بعد فصله وعودته للتعليم مجدداً -عام 1947- في نواحي مدينة الناصرية. وعمله في محافظة -الناصرية- يعتبر بداية مرحلة جديدة في حياته التعليمية.  فقد أستقر في مدينة الناصرية ما يقارب التسع سنوات، قضى منها بضعة أشهر في إحدى القرى - أصيبح-.
فهل ستختلف متاعب الراحل وعائلته في هذه المرحلة -بعد تركه للعمل الحزبي- عن سابقتها ؟ كلا وألف كلا. التحقيقات الجنائية وسلطات العهد الملكي استمرت -كما سنرى في جميع ذكرياته- بملاحقته واضطهاده، ولم ينجُ من الاعتقال والفصل والسجن والتعذيب في جميع العهود الملكية والجمهورية.
كانت إعادته لوظيفته متأخرة وناقصة، واُبعد عن مركز المدينة -الناصرية-. فجميع زملائه الذين فصلوا تمت إعادتهم بعد انتهاء فترة الفصل -ستة أشهر- بينما لم تتم إعادته إلا بعد ما يزيد على السنة، واُعيد كمستخدم. 
رغم ما سببه الاعتقال من الآم وحرمان وعذاب للوالد، فهو لا ينسى أن يتحدث عن طيبة زملائه المعلمين في مدرسته السابقة "الغربية الابتدائية". يعود إلى مدرسته السابقة فيستقبله زملاؤه بلهفة وشوق دون تحفظ أو خوف من التحقيقات الجنائية وتقارير وكلائها السرية، فيكتب: (زميلي المعلم أحمد المغربي استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم شنون عبيد ومحب فن التمثيل عبد الوهاب ألبدري كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة ....). كان الراحل يهتم كثيراً بطبيعة علاقته بالأصدقاء فهو يشخص في كل كتاباته هذه العلاقات ويثمن الإيجابي منها وينتقد بأسى وألم شديدين العلاقات الزائفة بسبب جبن وتردد أصحابها أو حتى نفاقهم. وخلال تنقله الوظيفي بين مدن وقرى الوطن يستعرض الوالد تباين سلوك الآخرين معه، ويحاول أن يفهم ويوضح بجرأة وبعيدا عن ردود الفعل الأسباب التي تحدد سلوكهم تجاهه.
وفي مدرسته الجديدة "سيد سلمان" كما يسميها في قرية "اصيبح" وبعيدا عن عائلته، يتعرف على "أصدقاء" من فئة اجتماعية أخرى هم من بسطاء الناس وفقراء المجتمع فيكتب عنهم: (هؤلاء نداماي، إنهم ندامى برءاء في سمرهم معي، وهم أكثر ثقة بي واحتراما وأنا أحبهم وأعطف عليهم، هنا هم أحب إليّ من كثيرين أعرفهم .... ). هؤلاء هم كناس البلدية هويدي الأطرم ، وطاقة الخبازة وفليفل، وغيرهم من بسطاء القرية. فيجلس ويحدثهم ويمزح معهم ببساطة دون تكبر واستعلاء فيكتب: ( الناس في مختلف ميولهم، ونفسياتهم، ودرجات وعيهم وتجاربهم، منبع أنهل منه الثقة بالحياة، وأتعلم منه الشيء الكثير....). تواضع الوالد كانت أكثر ما تخشاه السلطات الأمنية، لأنها ترى أن هؤلاء الفقراء يتأثرون بصدق الوالد وما يطرحه من أفكار تضيء لهم  حياتهم وتكشف لهم أسباب بؤسهم، والفئات الكادحة أسرع من يتأثر بالأفكار الوطنية وبالظلم الاجتماعي والطبقي. وأستمر والدي في علاقاته الاجتماعية المتواضعة مع الفئات الشعبية والفقيرة إلى آخر أيامه. 
وتستمر النكبات تلاحق العائلة. فيتحدث الراحل كيف سمع في نادي الموظفين خبر قرار الحكم بالإعدام على شقيقه حسين "صارم" ورفاقه "فهد وحازم". ولم يخطر بباله أن إعلان قرار حكم الإعدام تم بعد تنفيذه!؟. لا بل أن السلطات لم تسمح لعوائل الشهداء بمقابلة أبنائها وتوديعهم الوداع الأخير!. ومنعت عوائلهم من إجراء مراسيم الفاتحة، كما لم تسلم جثامينهم الطاهرة لعوائلهم.  ماعدا الشهيد حسين حيث نجحت والدته وزوجته بلقائه لعشرة دقائق فقط!؟ كما منعت عائلته أيضا من إجراء مراسيم الفاتحة. هكذا كانت إنسانية النظام الملكي التي يتشدق بها البعض ممن يحاولون عن قصد تزييف التأريخ أو لا يعيرون أي اعتبار لحياة الآخرين!.
ولوعة الوالد بإعدام شقيقه كانت عظيمة وتركت أثرها في حياته. وأشهد أنا –أبنه- أن والدي لم ينساه لحظة، حتى بعد أن عانى من مرض الشيخوخة القاسي الذي أفقده الذاكرة، والتي أنسته معظم أفراد العائلة القريبين منه، لكن لم ينس شقيقه -حسين- أبداً! وعندما يذكره -في آخر أيامه- يبكي كالطفل بلوعة ومرارة يتفطر لها القلب. ورثى الشهيد  بعدة قصائد هي -أحباءنا، فتى التاريخ، رمز العقيدة، اُمك، يا صليباً، على القبر، شباط-. ورغم قسوة المصيبة على العائلة يبقى الوالد متماسكا مصراً على مواصلة نهج الكفاح من أجل الثأر من الطغاة. ويرى أن المستقبل سيضع نهاية مخزية للطغاة، حينها لا يجدون مأمنا فيه على أنفسهم من غضب الشعب، وهذا ما حدث للطاغية نوري السعيد وأخيرا لصدام وربما لما بعد صدام. ففي إحدى مراثيه الشعرية "شباط" يقول: 
حـلفت يمينـــاً لا أســـيل مدامعـــي         إذا لم تُسـل من قاتليك الدما الحمــرُ
بيـــوم ســيأتي لـيس منه تخلــــص         يضيق على الطاغي به البر والبحرُ
يتحدث الوالد عن علاقته بمؤسس الحزب الشيوعي "فهد" وطريقته الفذة وموضوعيته في معالجة الأمور وأسلوبه السلس وقوة منطقه في الإقناع. وينقل عن فهد كيف غضب من أحد الرفاق لأنه يسخر من بعض المعتقدات الدينية، مؤكدا لهم ضرورة قراءة القرآن والإطلاع على قصص الأنبياء في وقوفهم بوجه فراعنة زمانهم، وكان دائم الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم. ويتحدث الوالد عن شجاعة وصلابة الشهيد زكي بسيم "حازم" أمام جلاديه، ويروي قصة تحكي صموده وصلابته.
ويرى الوالد أن السر في إخفاقات الحركة الوطنية، هي أنانية الأحزاب الوطنية وقيادات الحركة الوطنية، وحبها للظهور على المسرح منفردة، ورغبتها في الانفراد بقيادة الحركة الجماهيرية والوضع السياسي. ولابد أن أؤكد بكل أسف أن هذه الظاهرة السلبية ملازمة لطبيعة القوى السياسية لغاية يومنا هذا. وكأن والدي لم يكتب استنتاجه هذا لأربعينات وخمسينات القرن الماضي وإنما لأيامنا الحالية!
تطليقه للعمل الحزبي لن يمنعه من مزاولة نضاله ولكن بطريقته الخاصة. فكتب أكثر من مقالة باسم مستعار يفضح فيها الفساد الإداري والمالي المستشري في مؤسسات مدينة الناصرية. وينتقد نفاق ملاكي دور السينما، فهم من ناحية يعرضون الأفلام السيئة التي تزيد من التفسخ الأخلاقي، ومن ناحية أخرى يقيمون في دواوينهم ذكر الحسين والرسول!؟. وكان لمقالاته هذه أثرا كبيرا في أوساط المجتمع الناصري وأثار غضب السلطات الإدارية والأمنية، التي تحركت دون جدوى للبحث عن كاتب المقالات.
ويشيد كثيراً بطيبة أهالي الناصرية وتضامنهم معه وموقفهم النبيل واهتمامهم بالعائلة خلال اعتقاله بالرغم من أن فترة إقامته بينهم لا تتجاوز بضعة أشهر. هذا الموقف والانطباع عن أهالي الناصرية كنت أحسه من خلال أحاديث الوالدين طيب الله ثراهما، فكانا كثيراً ما يقارنا تلك المواقف النبيلة والشجاعة بمواقف واجهته في مدن أخرى يذكرها بأسى ومرارة بسبب نفاق وخبث طوية البعض أو جبن وأنانية البعض الآخر!؟
بعد تسع سنوات من العيش في الناصرية نجح الوالد في الانتقال إلى كربلاء، ليكون قريبا من النجف حيث يسكن والديه المسنين. ويتناول بمرارة في موضوعة (أينما تول وجهك سبقتك سمعتك) خبث البعض في مديرية معارف كربلاء وغيرهم للعمل على مضايقته وأبعاده عن العمل في مركز المدينة ونفيه إلى نواحي المدينة!؟. فيكتب بمرارة (أسفت كثيرا إن لم أحاول النقل إلى النجف). لكنه أيضا يكتب بإيجابية في نفس الموضوع، فيثمن موقف مدير مدرسته "مهدي علي" وكذلك موقف مدير الشرطة فيكتب (على أي حال لا تخلو الأرض من الطيبين، مثلما أن المرء معرض للشر بأكثر من الخير).
يرى الوالد أن للمعلم مهمة تربوية وأخلاقية إضافة لمهمته التعليمية، فيكتب في موضوعة "حصن الاخيضر" (وأي معلم كرس جهوده للمادة العلمية التي عهدت إليه، دون أن يعني بالجانب الخلقي فإنما هو آلة أو جاهل لمهمته وشخصيته. إن أحب شيء إلى نفسي أن أجعل من طلبتي أصدقاء. أنفخ فيهم من روحي واهتماماتي بشتى جوانب الحياة ...). والتعليق الذي عثرت عليه بين مخطوطات الوالد على كلمة أحدهم "مهذار" تبين رأي الوالد بالمعلم ومهنة التعليم في بلدنا، فكتب:
(أخي مهذار. قرأت كلمتك المنشورة في عدد التآخي 1294 بعنوان "نريد معلما يضيء ولا يحترق". فاسمح لي أن أثرثر معك قليلاً، وبين الهذر والثرثرة تقارب في المعنى. وعسى أن أكون كالثرثار يجري فيه ما يكون منه كل شيء حي.
أنت تريد معلماً يضيء ولا يحترق، أمر لا يمكن أن يكون أبداً. فكل مضيء لابد أن يحترق، حتى الشمس، هذا الكوكب العظيم، يحترق منه ما يناسب جرمه العظيم. والمصباح الكهربائي، الذي يمنحنا ضوءاً جميلاً، هو أيضاً لابد أن يحترق.
أنك تعيب الشمعة إذ تترك بسبب احتراقها سخاماً. فلا تريد لهذا السبب أن يكون المعلم -شمعة- كي لا يترك -سخاماً-. ما ذنب الشمعة، وقد أنارت لأجيال كثيرة من البشر، متعتهم بالنور، حتى أنها -ولأنها كانت أرقى وسائل الإنارة- عاشت حقبة كبيرة من الزمن في قصور الأغنياء والمنعمين، بعيدة عن أكواخ المعدمين! وظلت حتى يومنا هذا رمزاً للنور والمعرفة. ولهذا السبب أطلق القدماء على المعلم هذا القول -شمعة تضيء وتحترق- ليته كان -شمعة-  فمن الممكن أن نجمع حطام الشمعة الذائب فيعود شمعة من جديد. إن أقرب شبه للمعلم -جسر خشبي- يعبر عليه الملايين أو الألوف، حتى إذا تآكلت الأخشاب أبدلت بغيرها، ورميت إلى اللهب لتتحول إلى رماد.
كم يا أخي من المعلمين أضاؤا واحترقوا، ولم يتركوا سخاماً. تركوا ذكرى عبقة كأريج الزهر، تزيد أرجاً كلما تقدم الزمن. ولكن الأكثرين أيضا احترقوا وتركوا سخاما. لأنهم ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا شموعا في الظلمة تنير حسب ما يرغب المتحكمون/ الجمعة 30/3/1973)
مربي بهذه الروح وبهذا الفكر لا تذهب جهوده سدا مع تلامذته. فقد برهن تلامذته من مدينة الناصرية مدى وفائهم وحبهم وتقديرهم لمعلمهم. فهم لم ينسوا دور الوالد في توجيههم وتشجيعهم نحو الأدب والاهتمام بلغتهم العربية. وعاش الوالد ولمس وفاء بعض طلبته النجباء -من مدينة الناصرية- فيذكر ذلك بفخر في موضوعة -حصن الاخيضر- فيكتب: (وقد لمست ثمر نهجي هذا، حين التقيت بعد حقبة من الزمن وعن طريق الصدفة ببعض طلبتي، وقد أصبحوا من حملة شهادة الدكتوراه، أو من الأدباء البارزين في فن القصة والرواية. أحدهم التقى بي في اتحاد الأدباء وقدمني متباهيا لنخبة من الأدباء، تحلقوا حول طاولة. فرد عليه أحدهم: لَمْ تقدم لنا من لم نعرف أو نجهل، إنه صديقنا وزميلنا وعضو في الإتحاد .... ولكنه راح يسرد لهم حكاية تأثيري فيه، ويذكر بإعجاب: إني ما أزال أعتبر إن بعض حكاياته هي التي دلتني على الطريق اللاحب. أذكر منهم الدكتور صلاح مشفق، واعتقد أنه ليس من أهالي الناصرية ولكن أخاه موظفا فيها، ومنهم القاص النابه عبد الرحمن مجيد الربيعي، كان أبوه شرطيا وكان يهتم بابنه اهتمام عارف، ويتفقد سلوكه في المدرسة، وكان هو مؤدبا ومجدا).
إن أفضل شهادة على دور الوالد كمربي وإخلاصه وحبه لعمله التعليمي في توجيه تلامذته الوجهة الصحيحة هي شهادة بعض الأوفياء ممن تركت توجيهات الوالد أثرا في حياتهم. وسأترك القارئ مع بعض ما كتبه تلامذته الطيبين.
في حديث للأستاذ القاص عبد الرحمن مجيد الربيعي في مجلة -الزمان الجديد- بعددها السابع/ منتصف مايو 2000 في زاوية -الدرس الأول- تحدث عن دور معلمه علي الشبيبي في اكتشاف موهبته الأدبية وتوجيهه الوجهة الصحيحة، فكتب: (... تلك هي الدروس الأولى التي اقترنت كلها بالعقاب البدني والتي كونتني بشكل آخر.
لكن الدرس الذي قادني إلى الأدب كان على يد معلمي العظيم المرحوم علي الشبيبي الذي كان رجل دين نزع العمامة وارتدى الملابس المدنية. وكان رجل أدب وشعر وهو شقيق المرحوم الشبيبي الذي اعدم مع فهد مؤسس الحزب الشيوعي، وقد علمت هذا لاحقاً لأنه لم يرد إثارة هذا الموضوع وقتذاك.
ويمكنني القول دون تردد أن معلمي علي الشبيبي هو "مكتشف" موهبتي الأدبية عندما أنتبه إلى كتاباتي في درس الإنشاء وكنت آنذاك في السنة الرابعة من الدراسة الابتدائية.
وصار يمدني بتوجيهاته واذكر أن هديته لي عندما نجحت -الأول- في الامتحان النهائي كانت مكونة من أربعة كتب مازلت أتذكر أن احدها لمحمود تيمور والآخر لعبد المجيد لطفي الذي كان يحظى باحترام كبير نظرا لشجاعته ومواقفه الوطنية التي قادته للسجن مراراً.
وعندما يأتي من ينتبه إلينا، إلى قدراتنا، ويمنحنا الثقة، ويضعنا في أول الطريق الموصل ولا يتركنا نتخبط فإننا نكون بهذا من المحظوظين. فتحية إجلال لذكرى معلمي الجليل علي الشبيبي أبو كفاح وهمام الذي لولاه لما اختصرت المسافة إلى الكلمة. لما كنت ما أنا عليه بكل ما قدمت وبعناد واعتداد لابد منهما لكل من يدخل عالماً مكتظاً وعجيباً أسمه "الأدب" فيه من الذئاب والأفاعي أكثر مما فيه من الحمائم والغزلان)
أما الأستاذ د. محمد موسى ألأزرقي  كتب في خمس حلقات (عن الطفولة والأمهات والوطن الذبيح) وتطرق في أكثر من حلقة  عن دور معلمه علي الشبيبي في تنمية قدراته في اللغة العربية واهتمامه بتوجيهه الوجهة التربوية الصحيحة. ومما كتبه في الحلقة الأولى (کنا منذ الصغر مولعين بالقراءة والتظاهر بأننا مثقفون. وقد عمل استاذنا علي الشبيبي، معلم اللغة العربية علی ترسيخ السمة الأولی فينا، دون الثانية .... وقد  اکتسب ذلك الولع بالنسبة لي طابعاً آخر بفعل تشجيع استاذي علي الشبيبي، الذي وجد ان "صوتي جميل" وکان يطلب مني ان "اجوَّد" بعض السور القصيرة خلال ساعة درس مادة الدين والقرآن)
ويضيف الدكتور الأزرقي في الحلقة الثانية (.... إني شخصياً اعترف له فضله في توجيهي لحب اللغة والأدب والقرآن، فما زال صوته يتردد في مسامعي وهو يتلو قصيدة الفخر بالأرض العربية ومهبط الوحي بلا شوفينية وبدون تطرف:
لحصاها فضل علی الشهب  وثراها خير من الذهب
تتمنی السماء لو لبست         حلة من ترابها القشب)
ويواصل الدكتور الأزرقي فيكتب في الحلقة الرابعة (کان المرحوم علي الشبيبي، وهو أخو الشهيد "صارم" الذي اُعدم مع الشهيد "فهد"، مرشداً حقاً. فعلی مدی ثلاث سنوات، منه تعلمت قراءة القرآن بشکل صحيح، أين أقف، وأين امدُّ الکلمة، وأين أشدُّ عليها، وأين أغير نغمة صوتي. تعلمت منه حبَّ العربية وآدابها وقراءة الشعر والقاءه، فقد کان هو نفسه شاعراً. ومع انه بدأ حياته کرجل دين، فأنه نزع العمامة، واصبح معلماً متفتح الفکر سليم السيرة، يجعل الطالب يشعر أنه أکثر من معلم له، ويمکن الأعتماد عليه والثقة به، رغم أنه کان جاداً للغاية فيما يتعلق بأداء الواجبات وحسن التصرف والسلوك).
ورغم الظروف الصعبة التي كان يعاني منها الوالد فهو لم يتوان عن متابعته للأوضاع السياسية المحلية والعربية والعالمية. فيتناول ما أستجد من أخبار علمية ومن أحداث سياسية، ويكتب رأيه فيها بصراحة دون تحفظ. وكعادته تبقى صفة حب التعرف على وطنه والإطلاع على مدنه وما تحويه من كنوز وآثار تلازمه بالرغم من ضيق مورده المالي. وخلال جولاته القليلة يتحدث عن مشاهداته بأسلوب شيق محاولا أن يغني مادته بما سمعه وشاهده وقرأه من معلومات.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏10‏/02‏/2011


3- عودة ومصائب وعواصف / 1

عدنا وعادت حالنا القلقة 

مطلع قصيدة "صفير العسس" للشيخ علي الشرقي:
عدنا وعادت حالنا الراكدة      يسألنا التــأريخ ما الفــائدة 
غادرت الموقف، وبغداد، أحمل ذكريات مرة وحلوة، مما لقيت، وممن التقيت بهم من كهول وشباب. ذوي مواهب فذة، وشجاعة رائعة، ومواقف صلبة من أجل معتقدهم، ووطنهم، وشعبهم. ولا غرابة إن وجدت كثيرين انهارت عزائمهم، وافتقدوا معنوياتهم، فأدانوا أنفسهم ورفاقهم، وكشفوا سرّهم، وسرّ منظمتهم، لا عن خيانة كانوا يبيتونها، إنما غلب الخوف عليهم، فأفقدهم عزم الرجولة، وبأس المناضل المندمج بعقيدته.
أتذكر إن رفيقاً -جديداً على التنظيم- قال للرفيق الشهيد فهد، ماذا يكون الإنسان، انه دم ولحم أمام التعذيب الوحشي؟ إن طاقة الإنسان محدودة! أجاب فهد، رفيق تصور لو أن الشرطة ألقت عليك القبض لمجرد إنها رأتك تمشي مع شيوعي. وأنت لا تعرف عنه شيئاً مطلقاً. وإن الصدفة جمعتك به في ديوان أو مقهى. فلو هددتك الشرطة إنها تنزع عنك جلدك بالخيزران، وتريك "عزرائيل" فبماذا تفيد؟! أية معلومات عندك، أو لديك عنه؟
قال الرفيق، لا أدري ما أقول. وأنا لا أعرف شيئاً.
قال فهد، من يحسب نفسه رفيقاً، يدرك عظم مسؤوليته، والمخاطر التي تترقب على ما يكشف من معلومات. فليفرض انه لا يعرف شيئاً مطلقاً. في هذه الحالة كن كذاك الذي هو فعلاً لا يعرف شيئاً. أما من يفقد صوابه لمجرد تصوره انه سيموت تحت العذاب، فانه مات معنوياً وأنحدر إلى أسفل درك؟!
بعض الذين انهاروا أنطبق عليهم المثل العامي "لاحِظَت برجيلهه ولا خذت سيد علي!" فقد حكم عليهم بالسجن لمدد مختلفة، وبعضهم اُخلي سبيلهم فانحدروا، يعلنون الأسف على أيام أضاعها بما لا يجدي نفعاً!؟ ثم يتهمون غيرهم بما هم منه براء.
لا بأس، أصبحت الآن طليقاً. حين عدت إلى الناصرية بدأت بزيارة الرجل الشهم أبو فريد "ضياء شكاره" ولأتعرف منه على انعكاس ما حدث لدى مدير المعارف والآخرين.
أنا دون صحابي أعادوني مستخدماً!؟ حين قابلت مدير المعارف، أعلمني أني نقلت إلى مدرسة تدعى "أصيبح" تقع بين سوق الشيوخ وگرمة بني سعيد. وقد باشرت فيها بالأمر الإداري 17069 وبتأريخ 20/3/1948. مدير المعارف قال ليهون الأمر عليّ "نقلتك أنا لمصلحتك، أريد أن تكون بعيد عن أعين موظفي الشعبة الخاصة، لينسوك. وسأعيدك أول السنة الدراسية الجديدة!" 
قبل أن أتوجه لأباشر في مدرسة "أصبيح" قصدت مدرستي السابقة "الغربية الابتدائية" لأسجل مباشرتي، ثم انفكاكي. زميلي المعلم "أحمد المغربي" استقبلني بلهفة، بقية الزملاء أيضاً، فنان الخط والرسم "شنون عبيد" ومحب فن التمثيل "عبد الوهاب ألبدري" كلهم كانوا طيبين ذوي نخوة وألفة.
وقلت للسيد المغربي، أرسلت كتابك "شجرة الدر" بعد أن أكملت قراءته هناك في الموقف، وأرجو أن لا أكون قد أزعجتك فيما كتبت معه!
- وأنا أعدت كتابك "شجرة البؤس" إلى أهلك، أما كتابي فلم أستلمه، فِدوه لك!
قلت، هذا غريب، فقد أخذته إلى البريد يد أمينة، معه هذه العبارة "صديقي الحميم. أبعث إليك شجرة درك، فأعد إلى أهلي شجرة بؤسي، والله يعلم أي الشجرتين كانت بؤساً على صاحبها!"
ودوى في الغرفة ضحك وتعليقات من المعلمين.
قال أحد الزملاء: نكتة بارعة ولاذعة والله يعلم، ربما سببت حكم الإعدام على شجرة الدر!.
كان زميلي المغربي شديد الانكماش، بعيد عن كل ما يجلب الشبه، وهو منكت، سريع النكتة وحاضر البديهة.
وفي اليوم الثاني قصدت -گرمة بني سعيد- فمعلمو مدرسة -أصيبح- يقيمون هناك. ألقيت رحيلي عند مقهى "عبد العظيم" انه يتحلى بأريحية عالية، وكرم نفس، سارع بنفسه وأخبر مدير المدرسة خزعل، واستأجر لي مكاناً أقيم فيه، هو حانوت مبني من الطين، وجاري معلمان، أحدهما من أهالي الشطرة ومن أسرة كريمة.
توجهنا في اليوم التالي إلى المدرسة، إدارتها وصفوفها من أكواخ كالحة كئيبة. تضم أعداد من الطلبة في ست صفوف. لا يشغلها غير المدير ومعلم من أهالي السماوة "شمخي جبر" وأنا جئت لأكون ثالث الأثافي.
شمخي معلم رياضة، يشغل صفين في ألعاب الكرة، وأنا أشغل أثنين والمدير أيضاً. وهكذا نتبادل الصفوف. المضحك في هذه المهزلة، إننا جميعاً متساوون في جهلنا لدرس الإنكليزية. وبنفس الوقت، هذا المزج بين صفي الخامس والسادس لا يجعل الوقت كافياً لتطبيق مواد المنهج. فاقترحت غلق الصف السادس، وعدد طلابه لا يزيد على العشرة. وحين زار المدرسة المفتش عبد الحسين الفلوجي أيد اقتراح غلقه، وتم لنا ذلك.
راحتي قلقة أول الأمر، مسكني له فتحة لتجديد الهواء تطل على ساحة كبيرة، يحيطها سور من الطين، في أغلب الأحيان تأوي إليه الكلاب، فتقلق راحتنا بنباحها، بينما تدخل القطط إلينا من هذه الفتحة، فتقلب القدور والأواني بحثاً عن الطعام. هذا غير مريح وان كانت تريحني من الفئران والجرذ. عبد العظيم صار أوثق الأصدقاء، وصرت أستعين به، فيشتري ما أحتاج من لحم وخضار وغيره.
قبل أن نلغي السادس، دخلت أشغله مع الخامس، وقبل أن أتحدث إليهم -على العادة- عن أسلوبي مع طلابي، رفع أحدهم سبابته. قلت له تكلم.
- أستاذ أحنه شلون ندخل بكالوريا وأحنه لسه ما طبقنه من الدروس شي؟ أستاد نقدر نطالع الدروس كله وحدنه! لكن شلون بالحساب، الإنكليزي، العلوم؟
كانت نبرة صوته مزيجة بين اللهفة والأسى. وجدت في الإجابة حرجاً شديداً. إني الآن في قرية يحكمها شيوخ العشائر، ولاؤهم للحكم معلوم، لكني نسيت ورحت أتحدث إليهم عن واجب آبائهم ورئيس العشيرة. إن عليهم أن يطالبوا المسؤولين بتعيين ملاك للمدرسة كامل، إنهم يستطيعون مواجهة أولي الأمر! مدير الناحية، القائممقام والمتصرف، لا بل حتى الوزير.
رفع آخر سبابته، وقال "استاد أولاد الشيوخ والسراكيل آبائهم يودوهم لمدارس القضاء لو لللوَ -اللواء أي المحافظة-، نبقه احنه أولاد الفلح، زين ما يغلقون المدرسه، ونبقه نسرح بالهوش! استاد احنه عدهم ما نسوه خساير ومدرسة!".
هذا الجواب كان رد على اقتراحي. يريد بهذا إن المسؤولين لا يهمهم من أمرنا شيئا لأننا أبناء فلح "فلاحين" وأبناء الشيوخ والسراكيل يدرسون في المدن معتمدين على إمكانيات آبائهم!
نهض آخر وبدا منفعلاً. وجه كلامه إلى زميله: "انه موش وياكم بهالمدرسة، أخوتي وأولاد عمي وغيرهم قضوا الابتدائية ونجحوا وراحوا للمتوسطة".
كان الجدل حاداً، كاد يؤدي إلى شجار. أشرت إليهم بلزوم الإصغاء، ورحت أتحدث إليهم، إن من حق كل فرد أن يختار المدرسة التي يريد الدخول فيها، هنا أو هناك، حسب إمكانياته. بإمكان آبائكم أن يطالبوا بملاك معلمين كافٍ.
رد علي! آخر: "منو يطالب، أبوي؟! بيده المسحاة وحاير بضيمه؟!"
أدركت خطر الحديث فغيرت مجراه. تحدثت إليهم عن بؤساء كيف شقوا طريقهم، وحققوا مرادهم. مدام كوري، مكسيم غوركي، أديسون، كانوا فقراء مثلكم، بعضهم مشرد. مدام كوري عاشت أسبوعاً كاملاً على باقة فجل وسقطت بسبب الجوع والجهد. مهما يكن عليكم أن تطالبوا.

القمار والأفكار
مقهى عبد العظيم صغير. هناك مقهى آخر، أكبر منه. في مقهى عبد العظيم يأتي عدد قليل من المعلمين، بينما يأوي إلى المقهى الآخر أغلب المعلمين والشرطة، وكاتب الناحية. يقتلون الوقت بلعب -الورق- المعلمون أكثر عدد حتى من الشرطة، إنهم معلمون في القرى المجاورة.
أصيبح "سيد سلمان" قرية المؤمنين، ومدرسة مركز الناحية، معظمهم آثروا السكن في الناحية مع عوائلهم، لأن الناحية أرحب، ولأنهم فيها يكونون على علم بعالم اللواء وكلّ ما يهمهم. لم أتذكر أسم المدرسة، فأطلقت هذا الاسم عليها، وهو قبر عرف بهذا الاسم "سيد سلمان"، وسدنته أغنياء مما يؤتى به لصاحب القبر. 
كان أحد السادة من آل جمال الدين، بعمته يرتاد المقهى للمقامرة!. وقد قصدتها مرة للإطلاع. تعرف هو عليّ، قرأ من شعر الشبيبي الكبير"الشيخ جواد" وأبنه الشيخ محمد رضا. فسألته مستنكراً ارتياده هذه المقهى مع هؤلاء الشباب المقامرين. أجاب، ومن أجلهم أقصد هذه المقهى لا الثانية، وللسبب الذي ذكرته حضرتك نفسه، لأبدي النصيحة وأرشدهم إلى ما يصلح حياتهم!؟
حسناً أما أنا فقد ناقشت المعلمين منهم. فأجاب بعضهم بصراحة. اللعب بالورق، وقتل الوقت حماية يا أخي من التهم المهلكة! إني أقضي كل الوقت هنا، ولن أعود إلى البيت إلا لتناول طعام العشاء، ثم أعود لفترة معينة.
قلت لسيدنا المحترم، أسمعتم؟ أجاب السيد المحترم، أنا أيضاً لو سألتني، تلك أو القمار؟ لقلت القمار! القمار ضرره عليه وحده، أما تلك فوباء أصفر؟!
كان أحد المعلمين بينهم دائماً متهماً بالشيوعية، كان حاضر النكتة، خاطب السيد: وباء أحمر لا أصفر. فضج الجلاس بالضحك.
أنصرف السيد للحديث معي. سألني إن كنت شاعراً؟ أجبته بالنفي، أي أني كذبت. في مثل هذا الوقت ومع هؤلاء الناس، لا يصح أن أدلهم على الطريق نحو حقيقتي. أما هو فقد قرأ عليّ شعراً كثيراً، بعضه سياسي، وبعضه تقليد ومنبعث عن عقلية طائفية! لم أسمع من قبل ما قرأ عليّ، ربما هو له حقاً. ولكن بيتين مما قرأ نسبها له أيضا، كانا ذا معنى رائع. بغض النظر، إن هذا لا يميل إليه طبعي. والبيتين هما:
أبا حســنٍ إنْ أخـــــروك وقـدّمــــــــــوا      عليـك ثلاثا فـهـــو في نقصهــم يكفــــي
كـذا ألِــفْ الآحـــــــــاد إن هي اُخـــرت      عن الصفر في التعداد عادت إلى الألف
 ولما حدثت أحد أصدقائي الأدباء، كان شاباً عصامياً، تخرج على الدراسة القديمة، عن البيتين المذكورين، فأستغرب إدعاء السيد وقال أنهما للشاعر "....." (الاسم غير واضح/الناشر)
كنا نعتقد إن الأفكار الطائفية سيقضى عليها في عصر العلوم التكنولوجية والفضائية، ولكن الاستعمار عمل على إثارتها لأنها خير وسيلة لهدم وحدة الأمة.
ورأيت من المناسب أن أزور مدير الناحية، وهو من السادة آل ياسر. أما المفوض فهو من قرية الخضر، وتقع بين الناصرية وسوق الشيوخ. بعد أن لقياني أثناء ما كنت أتمشى في العصر الأخير، على ضفاف النهر. بادرني المدير معتذراَ، إني لم اعرف محل إقامتك، يؤسفني أن لا يوجد هنا مكان مناسب، وقد أرسلت من يبلغك أن تتفضل غداً للغداء معاً. شكرته، فراح يحدثني عن علاقة أسرته بالشبيبين. وعلمت أنهم من سكان العزيزية -لواء الكوت-. في ذلك اليوم، وقد علم بالدعوة أحد المعلمين، قال: الحذر واجب. وقد اُبلغ المدير والشرطة بضرورة مراقبتك، لا تترسل بالحديث!. وأضاف: المدير هذا كان هنا قبل هذا -موظفاً صحياً- فهو يعرف ناسها معرفة تامة!
كان المدير والمفوض كلاهما على مائدة الغداء، ثم الشاي، قد جعلا أحاديثهما تدور حول الأحداث التي مرت بالعراق، إنها أشاعت الفوضى والتخريب. واقتصرت التعليق بأمثال شعبية "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع و من التناقضات يعرف الصواب، لم يعرف الصدق إلا من الكذابين، ولا فضل العقل إلا من الحمقى، ولا النزاهة إلا من ذوي الطمع"
وسألاني كيف أقضي وقتي، قلت، أحياناً في واحدة من المقاهي. فحذراني من الاتصال ببعض المعلمين وسمياهم، ورجحا إن لم أجد بداً -مقهى المقامرين- على -مقهى عبد العظيم-!؟. في الأولى شباب يرفه على نفسه فيقضي الوقت بتسلية بريئة؟! هؤلاء يعتبرون واجبهم في حدود الوظيفة، وللرجال القادة المسؤوليات العظمى. ثم قال المدير، وهل تطالع؟
- لدي كتيب صغير، استعرته من مكتبة المدرسة -التلميذة الخالدة- عن مدام كوري لمؤلفه أحمد الصاوي.
قال المفوض، زين الَك خلك وتطالع، آنه بس أباوع الكتاب انعس؟!
ألمفوض حصر توصيته لي بمقاطعة أثنين من المعلمين، أحدهما مدير مدرسة مركز الناحية "محمد إسماعيل" والثاني معلم صابئي. لمست من الأول رجاحة عقل في سلوكه، وفي الثاني ذكاءه ووطنيته.
وبدا لي المفوض له حقد خاص ضد مدير المدرسة، فقد وصمه بأنه لوطي ومن حيث لا يدري ساق اتهاما له بأنه يعادي أبني لأنه أبن شرطة!
وانتهت الزيارة وقررت أن لا أبقى أيام الجمع في الناحية، سأقضي الخميس ونهار الجمعة في سوق الشيوخ والناصرية.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد/ لوند     ‏10‏/02‏/2011



117
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 21
« في: 23:22 06/02/2011  »
2- الدرب الطويل/ 21
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)



أشخاص لفتوا انتباهي
أحمد محمد أحمد

لفت نظري، وهو يتمشى بين "موريس" و "البير"  الموقوفين الشيوعيين. وهما من اليهود. كانوا في رواح ومجيء في ساحة الموقف، أحمد يتحدث وهما في إصغاء. بعد افتراقهم جاء موريس وصاحبه يسألاني، إن كنت قد عرفت من أولاد السهيل عن خادمهم هذا شيئاً؟ قلت، لا يعرفان عنه شيئاً.
موريس شاب يهودي عراقي، أوقف بتهمة شيوعي ولمشاركته بالمظاهرة. ألا يدل هذا على إخلاصه لوطنه العراق، ولكنه عومل باعتباره يهودي وكل يهودي صهيوني في نظرهم! وأكرر رأيي، إن طرد اليهود من العراق متفق عليه مع الاستعمار من قبل نوري والباقين، ليصبح عدد اليهود في فلسطين أكثر من عربها.
انه "الخادم" يهودي صهيوني، هو أحد ثلاثة ألقي عليهم القبض بهذه التهمة، أحدهم فتاة بولونية تدعى "ليفي روفائيل" ويهودي عراقي يدعى "ناحوم" أحمد هذا والفتاة وناحوم مهمتهم العمل بين يهود العراق لدعم الجمعية الصهيونية وتشجيع شبابهم على الانضمام إليها. والعمل بموجب التعليمات الصادرة. هذا ما تحدث به إلينا نفسه "أحمد" كان يناقش مسألة انتمائنا إلى الشيوعية. قال "الشيوعية، سراب، نبوءة موسى تحققت -تعودون على أجنحة النسور-!؟ أتفهمان؟ أجنحة النسور. نحن أبناء اليوم، فهمنا. ذلك الرمز، انه الطائرات؟! ما قال ماركس ولينين هراء؟! يجب أن تتفهما الحقيقة، هؤلاء العرب، كلهم، لن يرحموكم، ولن يصدقوكم، انتبهوا من غفلتكم، توجهوا بنضالكم لتحرير –أورشليم- من براثن هؤلاء الوحوش!". وعقب موريس، منذ أسبوع وهو يتصل بنا، ناقشناه أول الأمر، ثم ارتأينا أن نبدو كمقتنعين.
قلت، في التحقيقات لاح لي شخص يدعى ناحوم، أطلق سراحه بكفالة. وماذا عن "ليفي"؟
- ليفي، موقوفة. بينما يقول عن ناحوم انه يهودي عراقي نشط، واسع العلاقات، يستطيع التفاهم بالدنانير.
وهنا بولوني يبدو أنه أخرس، يدعي انه لا يعرف كلمة لا إنكليزية ولا غيرها، على الرغم مما قيل انه في سورية، وعبر إلى العراق بأجازة ليلتقي مع بعض معارفه في الجيش البريطاني. ألم يحدثكم عنه أحمد، بالطبع مثلما كتم عنكما أسمه الحقيقي!
وسارعنا، فحررنا عريضة إلى المحكمة لأداء شهادة، منا نحن الثلاثة، حول قضية هؤلاء. أنجزنا ذلك بواسطة مأمور الموقف.
وحين حضرنا المحكمة، لمحاكمتنا على العادة، استقبلني المفوض "يس إبراهيم" صافحني وقبلني. استغربت ذلك. فقال "حقاً إنكم الوطنيون الشرفاء. أنتم أنقذتموني، بعد أن كدت أهلك بسبب ناحوم، ومكيدة نايل عيسى –قال هذا همساً- رشاه ناحوم بمقدار كبير من الدنانير! ليس له وحده، لمن يشاركه من الكبار؟! كنت المسؤول عن ناحوم في التحقيق، ورفضت أطلاق سراحه بكفالة، لكن نايل وجه إليّ تهمة تعذيبه، بغية الحصول على رشوة. قل، ماذا تريد أن أساعدك؟".
- خرجت مسألتي عن يدك، ولكن سارع، أنقذ ضميرك، قبل أن يموت تماماً من جيفة هذه البؤرة!.
ألح عليّ أن يقوم بخدمة. قلت، أرجو الحصول على نسخة من التصوير الذي أخذ لي عندكم بعد ضرب ناشف!
- الواقع انه طلب يصعب عليّ، انه ممنوع ولو علموا يكون دعماً لإدعاء نايل ضدي. سأحاول.
وأخيراً جائني به! وأضاعها أحد طلابي من هواة فن الرسم ومجيديه، ليكبرها لي فأسفت إذ كانت تصور مدى الذعر الذي كنت أعانيه وقد كانت مباشرة بعد تعذيب.

محمود عنقرجي!
بي دائماً رغبة ملحة أن أعقد صلة بمن أتعرف عليهم، أو أضطر لمعاشرتهم. الشيوخ الذين درست عندهم، الشباب الذين ماشيتهم في الدراسة، وبعضهم من الوسط العامي، فكانوا يحدثوني عن مغامراتهم وبطولاتهم، صدقوا أم كذبوا، والموقف ملئ بنماذج غريبة، وأسرار عجيبة. حكاياتهم، ومشاكلهم تصلح للدراسة، ولكتاب القصة.
محمود عنقرجي، سائق كثير المخالفات، قرر أخيراً أن يبقى في السجن إلى الأبد. "افرض نفسي واحد من موظفي السجن!" هكذا ببساطة. ما الفرق بينهم وبين السجناء، تصور أن بعضهم يتعرض أحياناً لاعتداءات من سجناء!
- قل لي الآن يا محمود، كيف تستفيد؟!
ضحك، وضحكته تشبه -كركرة طفل- رغم ضخامته، وقال، هذا سرّ مهنة!. ولكن مع داعبة بمستواه، أجاب، أوعدني إنك ستكتم السر! أنا وجدت مسؤولي السجن يخوون السجناء -من خاوة أي يسلبونهم برضاهم-، الذين لديهم أمكانية مالية، فصرت أنا الوسيط. يأتي معاون المدير، فيدخل الردهات، ويختار عشرة موقوفين. يعلن لهم أن يتهيأوا لإرسالهم إلى موقف العبخانة، لإحلال عدد من الموقوفين! نصت الجهة المسؤولة ألا يكونوا هنا! ويأتي دوري، فأحدثهم بحديث خافت عن موقف العبخانة. العيشة به موت أحمر! أي عمي، هناك ميوصلكم أحد، إلا ينطي رشوة للشرطي الحارس. الأكل من السوق، والشرطي ما يروح إلا برشوة! وياكم نشالة مجرمين، الله أكبر شلون وحوش، يسرقون هدب عيونكم، كلمة والثانية لكمة. عمي أشتروا راحتكم! وأسحب من كل واحد خمسة، وطبعاً إلي بكل خمسة نصف أو ربع، وياهه وياهه. وبعدين نخلي بمكانهم للعبخانة من الهتيت –الفقراء-.
قلت، الله أكبر هذا ظلم. أجاب، أسكت عمي والله لو يرجع محمد بن عبد الله ميسوي العراقيين أوادم، أنتو مدوخين روسكم بلا فايدة.
- صدقت يا محمود. كل المجرمين يهون أمرهم على حكومتك إلا السياسي، وخاصة الشيوعي. "ناحوم" يتفاهم مع نايل، لأنه صهيوني، والإنكليز يكرهون الشيوعي لا الصهيوني. الشيوعيون والشعب العراقي كله تظاهر ضد فتح الهجرة لليهود والصهاينة، لكن نوري السعيد أخذ يهجرهم بحجة الخلاص منهم. بالهجرة زادت نسبة سكان فلسطين من اليهود، بل صارت ضعف العرب.
بهرام الفارسي
بهرام درويش من حضرة عبد القادر الكيلاني. قصير القامة، تجاعيد وجهه تدل على سوء حاله الغذائية رغم انه في مرحلة الشباب. ألف ردهتنا، فلم نبخل عليه بالطعام. واعترافا بالجميل صار يقوم بغسل الأواني. طعام السجن لا يرتاح إليه برهام، كأي سجين آخر، صمون متيبس، أو محترق، تمر تعافه النفس وتشمئز منه، والرز المطبوخ وقد حسبته ملحاً غير نقي عندما رأيته لأول مرة عن بعد بضعة أمتار! وماء أصفر، يوضع عليه من قدر آخر، بواسطة علبة مربى قد ربطت على عود جريد النخيل. سعيد من يحصل مع هذا الماء بضع حبات من الحمص حين يغرف الموزع الماء الأصفر من القدر. أما اللحم، مرة في الأسبوع. فقد مررت وشاهدت سجينين عاديين وقد عض كل واحد منهما طرف قطعة اللحم، وهي بين فميهما تتمدد كالمطاط، والمارة ينظرون بين ضاحك وعابس.
قلت لبهرام، ما الذي جاء بك إلى هنا؟ تبسم ابتسامة المتبجح بعمل بِرّ.
- أنا كان يمشي، بشارع النهر، بايدي هاي سبحة. اللهم صل على محمد وآل محمد، صُبي زحك –ضحك-! أنا أزربك –أضربك- صبي، بسكين هنا. وأشار إلى عضده.
- وكيف تفعل هذا؟
- صبي كافر! يزحك على مصلم –مسلم-؟! أگر أنا اكتلك بالجنة، أگر هو يكتلك بالجنة.   
- طيب الصبي كافر. معنا الآن يهود، نصارى، كيف تأكل من طعامنا؟ جبار زهيري صبي، موريس يهودي، أستاذ كامل نصراني!
- أستغفر الله، كُلم مصلم، كُلم مصلم.
حقاً لو آمن هو بأنهم كفار لحرم من زادهم الذي يؤتى به إلينا من البيوت؟! هنا أخضع الدين للمصلحة؟! وقلت، بهرام أحكي لنا قصة مريم (ع).
- مريم -عليه السلام- راح يغسل بِشَت –بالشط-، سمع صوت، ياحزرة المريم، حزرة الله يريد يحَبلك؟ حزرة مريم زَبْ شعره على وجهه، وغال، أنا ماعندك رجال شلون يحبلك؟ ملَك غال، بأمر حزرة الله يصير أنت حبلان بحزرة عيسى (ع) هناك طير أخزر –أخضر- طبت –دخل- بالحلگ مريم!
كنا نكم أفواهنا بأكفنا نخفي ضحكتنا وهي تهزنا هزاً، فانفجرت ضحكاتنا مدوية. وعلق أحد المستمعين لحديث بهرام الشيق. يا برهام أبدل طاء الطير بعين، ورحم الله بن خالتها يوسف النجار!.
في سنين متأخرة بعد ذلك العهد، قرأت كتاباً لأحد البارزين، فيه "كل فارسي شعوبي إلا إمامنا أبو حنيفة، فانه وإن كان فارسي الأصل إلا أنه ليس شعوبياً!؟". ولو سألناه عن عبد القادر الكيلاني، والغزالي وغيرهم من الفرس الذين أسلموا ولكن على المذهب السني لكانوا أيضاً مثل أبو حنيفة. ولكن الفارسي حين ينظم إلى المذهب الشيعي فأنه شعوبي! في حديثي عن بهرام حاولت تقليد لهجته الفارسية في قلب بعض الحروف العربية أثناء نطقه بها.

شهادة بريئة
وهذا شيخ في سن السبعين، لو رأيته قلت، انه في الأربعين! جهوري الصوت، يقذف بالكلمة كما يقذف كرة من يده. يهز رأسه عندما يتكلم، ويدير نظره وهو يتحدث إلى كل مستمعي حديثه. عرف في الموقف بـ -أبو رومل- و -أبو ﭬيلد- وهو من عشائر ديالى. معجب برومل، ثعلب الصحراء، يذكره مفاخراً كأنه أبن عشيرته.
كانت تهمته، انه لص خطر. وأكثر من هذا، فانه إذا ضويق لن يهرب! إنما يستعمل مسدسه أو بندقيته، خلافاً لما أعتاد عليه اللصوص. فهم لا يستعملون هذا كيلا يثيروا عليهم كل من يسمع. الخنجر يكفي، عند الضرورة؟!
حدثناه عن النازية التي هو معجب بها، لمجرد إن –هتلر- زلمة قاوم كل الدول. بريطانيا العظمى، أمريكا، فرنسا.الحديث كان مسهباً، ومتشعباً، وبلغة يفهمها من قبل المعنيين، الشهيد توفيق منير، عبد الرحيم شريف، كامل قزانجي. كان يصغي وأستوعب. وقال أحد زملائنا، يا أبا رومل ...! فبادره برد عاجل وبانفعال. لا لا، والله راح أبدل أسماءهم، لنين، ستالين، فهد؟! قال الزميل: خليني أكمل، أنت الآن عرفت من هم اللصوص الحقيقيون؟ أنت يسموك لص، وأنت تسرق بالليل، السبب الأول لأنك تريد أن تعيش. ذوله يسرقون بالنهار، ويقتلون ويذبحون الأفراد والشعوب، ويسموهم –زعماء- ذوله سالبي أقوات شعوبهم، وخانقي حرياتهم، وعندما تموت يلعنوك، والناس أيضاً. والسرقة طبعاً حرام، لكن أخذ حقك وحق غيرك بضرب أمثال –هتلر- من حكام الشعوب، وتجار الحروب والمحتكرين.
وفي المحكمة، تهكم الحاكم منه، وسأله مستغرباً هازئاً، يابه أنت أبو رومل، ها، يالص؟
ردَّ على الحاكم، العفو، سميتهم لما كنت ما أفهم منو هتلر، منو موسليني، منو رومل. وأنعم الله عليّ ها الناس الطيبين العرفوني بحقيقة هتلر وأمثاله. وإنشاء الله من أطلع راح أفضح الحرامية الحقيقيين اليسرقون بظهر النهار، وأبدل أسماء أولادي وأسميهم، لينين، ستالين، فهد!
وثار الحاكم، وأجلت المحاكمة. قلنا كيف تشهد علينه؟ أجاب، صيروا زلم لا تخافون، موتوا عند رايكم مثل ما علمتوني!
حسن مهَدِية كان شاباً لم يتجاوز الثلاثين من العمر. تعلو وجهه صفرة ممزوجة بخضرة داكنه، هزيل الجسم. قلت لنفسي أذن هو، ودنوت منه، حييته. لم يستغرب، كلانا من نزل الموقف.
- هل أنت تنزف؟ ولماذا؟
ردّ علي بصوت منخفض ومؤدب للغاية: الغريب إني لا أحس في أحشائي بآلام ولست مصاباً بما يسمونه "بواسير" لكني أنزف، منذ أشهر، منذ أوقفت، حاولت مراجعة الطبيب، المأمور يرفض.
- كيف يرفض، وهم ينادون يومياً في باب كل ردهة، من يريد مراجعة طبيب؟
- بالنسبة لي، المسألة تختلف، يخشون أن أهرب.
وراح يسرد حكايته، وكأن بيني وبينه صلة وثيقة وقديمة، قال:
تركت المدرسة لأسباب، موت أبي وأنا تلميذ. أخذت أمي تدبر أمور عيشنا، صارت خبازة. لم يترك أبي لنا من حطام الدنيا شيئاً، كل ما يكسبه كان يصرفه للغداء والكساء بأكثر من الكفاية، إلى حد التبذير، من يرده ومن ينصحه؟ لهجته، ماطولني عايش أدللكم!
لم يكتف بهذا بل زوجني مبكراً أيضاً. حين مات وجدت نفسي أمام عدد من العائلة. كنت في السابعة عشرة. بعد عامين أصيبت أمي بالعمى. وصار لي طفل. صرت عامل طين، الأجرة لا تكفي لإعاشة العائلة.
واقتنصني شاب كان زميلي في المدرسة. كان إذ ذاك فقيراً. كنت أعطف عليه بحكم ما لدي مما يوفره لي أبي. لكن الآن المسألة معكوسة. بدا لي وكأنه ملاك أبن ملاك! ولست أطيل. لقد جرني وأقنعني، فاندفعت حسب ما يشير في الطريق الشائك الخطر .... صرت واحد من عصابة تسطو على البيوت، لكن البيوت الراقية.
أنا الآن بلا خجل أعترف لك، فقد هزني حدث مقاومة الشعب للمعاهدة الجائرة وانتصاره عليها، وأعاهدك، أقسم بالدماء الزكية التي أسيلت على أرض شوارع بغداد إني سوف أبتعد نهائياً، وأنا مطمأن إليك إنك لا تفشي حديثنا هذا. مرة سطونا على السفارة الأمريكية، وكان الحديث أعجوبة.
قلت أختصر، والآن؟
- الآن ألقي القبض على رئيسنا "جواد كاظم" لأول مرة لم يستطع الإفلات منهم، إنهم يخافونه، له أساليب عجيبة في الفرار. كنت موقوفاً، بتهمة إني أحد أفراد عصابته، عذبت كثيراً، ولكني صبرت. أول من أمس عرضوني عليه ليشخصني. أرسل إليّ "أن لا تخف، وألزم الصمت". وصباح اليوم -قبل طلوع الشمس- أوقظت، الحق إني عراني خوف شديد، هناك وقفت بين عدد كلهم شباب مثلي، وأخرج جواد وبعد أن أستعرض الواقفين، نفى أن يكون المقصود بيننا، ثلاث مرات، مما أهاج المسؤول، فجذبني وقربني منه، وصاح "هذا هو أمامك وتنكره؟". فحدجني جواد بنظرة، وقال شسمك أخي؟ قلت، حَسن! قال، لقبك؟ قلت "مهدية".
صاح المسؤول، تمام؟ لكن جواد سألني، أنت بمحلة المهدية؟ قلت، لا. قال، لعد مهدية شنو؟ قلت، أسم أمي. ضحك جواد، وقال، مع الأسف حسن أخوية، أبو فلاح، رجال ميتلقب باسم أمه، أنا قلت مهدية أقصد محلة المهدية! وأنهار أملهم، وغداً أنشاء الله يطلق سراحي. سأطلق هذه الحياة الشائنة.
- وهل كسبت شيئاً؟
- أملك بيتاً وسيارتين تعملان في الشارع. هذا يكفي!
وفعلاً، غادر ولم يعد.

صور من درجات أرفع
عدا كل شغل في الموقف أشغل به نفسي من لهو بحديث، أو مزاح، تتخلله نكات بريئة، أو إصغاء لحديث أحد شخصياتنا المحترمين في تحليل لتأريخ حقبة معينة، أو فلسفة معينة، أو رجل نضال خلده التأريخ، فاني لا أهمل بعض ما يجب أن أثبت له صورة في ذكرياتي هذه.
وكما التقطت صورة، أحمد محمد، بهرام، محمد عنقرجي وأبو رومل، رأيت لزاما عليّ أن أثبت صوراً لنوع آخر مرّوا عليّ في هذه السياحة، وهذه الفترة من حياتي كسجين. بعض الذين أتحدث عنهم، سجناء معي، يحسبون أنفسهم، أو يحسبهم الآخرون من وزن جيد.
السجن كالخمرة، ينكشف شاربها بما يهذي به، أو بما تجود به قريحته من أدب رائع، وهمة عالية، وشموخ مهذب، لا هو بالفخفخة والكبرياء الزائفة، ولا هو من نمط الانطوائية.
الناس الطيبون كثيرون أيضاً، أحاديثهم بلسم للجراح. توماس هاري يقول "أن عظم الحياة لا يقاس بضخامة أحوالها، بل بعمق تجارب المرء الشخصية، فحياة الفلاح الرقيق الحس أرحب وأعمق وأحفل من حياة ملك بليد الحس"
أول يوم حضرنا فيه للمحاكمة، ولأول مرة أيضا، رأيت شخصية كنت أسمع عنها في جو السياسة، واتجاهات الأحزاب الوطنية، هو أحد زعماء حزب الاستقلال "علي محمود الشيخ علي" خال عبد اللطيف السعدي. جاء معه محام مثله هو "عبد الرحمن خضير" وهو يمت إليهم بصلة المصاهرة، ليتوكل عن ابن أخته "عبد اللطيف" كم يكون الإنسان عظيماً ومحترماً، لو نزع من نفسه الحقد، والكبرياء في مثل هذا المكان، وهذه المناسبة، لكن هذا الرجل وصاحبه كان على غير ما كنت أظن.
نادى المفوض "صفاء" وطلب منه أن يفك يد أبن أخته من وثاقها. كنت موثوق اليد معه. فقد أعتاد الشرطة أن يصفدوا كل أثنين من يديهما بوثاق، لكل يد وثاق ويرتبطان بسلسة. فقلت مداعباً، يمكنك يا سيدي التحدث إليه كما تشاء، كلانا في قضية واحدة، ووثاقنا واحد؟!
أعرض وكأني ذبابة آذاه طنينها! لا بأس، هذا خلقهم، طبقاً لما هو من صميم طبقيتهم! حين جاء دور المحامي، بدأ يلقي كلمة الدفاع. وحين ذكر الدليل الهام لديه، قال "فبيت كآل السعدي أرفع من أن يكون فيه شيوعي واحد!؟". وراح يشتم الشيوعية والشيوعيين.
هنا وقف الشاب عبد اللطيف، وبكل جرأة وشجاعة، أعلن "أرفض وكالة المحامي. على المحامي أن يدافع عن المتهم، إذا كان المحامي واثقاً من أن المتهم الموكل عنه ليس شيوعيا فما الموجب للطعن بالآخرين؟!".
بيننا في الموقف محامون كثيرون متهمون، ولا تهمة لدى رجال الحكم أقوى من الشيوعية. وكان بيننا زميل يهودي لا أعرف غير أسمه "ساسون". هو ساسون دلال كان شيوعياً وقد أعدم في العهد الملكي حيث سلك مسلكاً فوضوياً غريباً. كان لساسون زميل محامي نسيت أسمه وهو من آل الجلبي.  أخذ المحامي يحدثني عن ماض له. قال، انه طلقه بلا رجعة! وحين علم أحد كبار الأسرة إني انخرطت بسلك المناضلين، وكل مناضل ضد الحكم بعرفهم شيوعي، جاء إليّ يكاد يتفجر من الغيظ. وقال "كنا نأمل أن تحتل مكانة آبائك وأجدادك، فإذا بك تهبط إلى هذا المنحدر؟!". ضحكت وقلت، أيها العم الجليل أنا أيضاً كنت أؤمل أن تأتي لنصحي أيام انحدرت في مستنقع السفالة، وبذرت ما ورثت من مال وعقار، على العواهر وموائد الخمر والقمار، أم أن ذاك كان مشرفاً حسب منطق الأرستقراطية!؟
علقت أنا، إنهم كبنات وردان، إذ تعيش على أقذار المرافق، لكنها تفر من الماء الزلال!
صاحبه وزميله كان قصير القامة له صلعة لماعة، كثير التنقل بين المتحلقين للسمر، أرسل آهة حادة، وقال، ليت ذاك العهد باق، إذن عشت بأمن وسلام؟ كنا لا نعرف غير سهرات الرقص والغناء، وكؤوس الويسكي ومعانقة الغواني؟ أين ولت تلك الأيام؟ والتفت أليّ، ما تقول يا أبا كفاح؟ أجبت، أنا طلقت كل مرح زائف، ولكل مرحلة من حياتنا حقها!
ردّ عليّ، لسنا زهاداً. أتعلم إن قدوتنا مرّ له دور غرق فيه حتى الأنف؟!
لست أدري كيف باغتّهُ، وبدون لحظة تأمل، بلطمة قوية. كدت أثني لو لم يسارع بعض المحترمين لتفادي ما حدث.
أليس معيباً أن نتمسك بما لا يشرف، ثم نسمح لأنفسنا أن نتحدث عن الآخرين، لنبرر ماضياً انتهى كان بحكم الجهل والنزق.
زميل آخر وفد إلينا قبل بداية المحاكمة. كان قد مكث في غرف التعذيب في التحقيقات الجنائية. لم يكن له تحصيل علمي غير شهادة الابتدائية. رآه الحاكم حين جاء دور استجوابه. أخذ يقذفه بكلمات الهزء والاحتقار "ولك شنو ها الصَلف، هَم تزوّر لك أسم، وهم تختار إضافته إلى أسم الزهراء، بنت الرسول؟! وأنت صابئي؟ شنو ها الجرأة والتعدي. هذا معناه إنك واجدها الصلافة فن!؟ يمسكك الشرطي وأنت تحمل منشور، وأنت سويت نفسك فقير مظلوم، اتهمته عند الناس اللي تجمعوا بصياحك -يا ناس مدري شنو يريد يخلي بجيبي، يا ناس دخيلكم!- خوش دروب هذي. تظنون الناس مغفلين؟"
قال المتهم "سعادة الحاكم، لا تنسَ إن أسمي الصحيح -عبد الجبار الزهيري- والجبار الذي أنا عبده هو الله، فما وجه الغرابة إذن. الله أعظم من الزهراء، وأنا عبده؟ وإذ ضيقتم عليّ العيش أبدلت أسمي لأجد عملاً، وفعلاً عملت فراشاً في دائرة الزراعة. ويمكن أن تبحث كيف تمكنت من الحصول على دفتر نفوس باسم -عبد الزهرة- ستعرف إن هذا شائع مقابل بدل! لكن سعادة الحاكم، لماذا لا تذكر إن الصابئة عراقيون أيضاً. ثم لماذا لم تهتم ، وقد شرحت لحاكم التحقيق، كيف كان الشرطة يعلقوني بعقالي في سنارة بباب الغرفة ويديرون جسدي كلعبة، حتى أكاد ألفظ نفسي من هذا الأسلوب، بينما تنهال عليّ عصيهم بفضاعة. أم أن حياتي كمواطن لا تساوي شيئاً، ربما لا صحة لأية تهمة ضدي مطلقاً. إنك كما يبدو تعتبر الشرطة صدّيقين!".
كنا جميعاً نصغي لصوته المعبر تماماً عن أساه. ما من شك إنه أرفع مستوى من الزميل المحامي الذي يملك شهادة عالية. أنا أعرف أن "الزهيرات" قبيلة عراقية. دينهم السابق "صابئة" وأسلم الكثيرون منهم. وهم موزعون  في الشطرة، الخالص، العمارة وفيهم رجال دين وكسبة في النجف.
الخير فيما يقع!
نحن في ضيق شديد، يشتد بنا الضجر فيوصلنا إلى حافة اليأس، ويجثم على صدورنا كابوس ثقيل. الزملاء فكوا إضرابهم عن الطعام. وواصلوا فقط الإضراب عن الكلام، طبعاً في قاعة المحكمة، بعضهم ردّ على الحاكم حين سأل، من له استعداد أن يدلي بإفادته، برفع يده، أنا مستعد إن كنتم أيضاً على استعداد لسماع شكواي حول ما لقيت من تعذيب في التحقيقات، ثم أحالة الذين قاموا بهذا الاعتداء للمحاكمة؟!
لم يجد الحاكم طريقة لرد الزميل غير أن يفتعل العصبية "تريدون بهذي الادعاءات تغطية جرائمكم، والفوضى التي تشيعونها في البلد، احترموا القوانين، أنتم لستم جهلة؟!. أخرج الجميع سجايرهم، وراحوا يدخنون، فغادر الحاكم قاعة المرافعة احتجاجا. بعد استراحة قصيرة، عاد وسأل، من المستعد للإدلاء بالإفادة؟
رفعت أنا يدي، ومحاميان، أحدهما كان مطلق السراح بكفالة، كذلك فعل صديقي "م" و "جواد". سألني الحاكم بلهجة رفق "أبني أنت لم تدن نفسك أمام الشرطة، فلماذا اعترفت أمام حاكم التحقيق!؟"
لخصت إجابتي "أنا يا سيدي متزوج ولي ستة أطفال، لا أملك لهم من حطام الدنيا غير راتب الوظيفة. حاكم التحقيق سألني،  من الذي رشحني ومن الذين رشحتهم؟ وأجبت بالنفي. فأنا لست حزبياً. كان يسأل ويدون هو الإجابة. سألني عن الجريدة -جريدة الحزب الشيوعي- وأجبت بصراحة، إني كثيراً ما أحصل عليها وأقرؤها، هذا بحكم حبي للإطلاع. ولكن لا أعلم من هو الذي يأتي إلى البيت فيرميها كل مرة بدون إعلام. ومرة يقول لزوجتي أعطوها لفلان، وهي امرأة أمية. تحتفظ بها إلى حين عودتي إلى البيت، الواقع إني مع علمي إنها مجازفة آخذها وأقرأ ما فيها وأتلفها بعدئذ، كان يجب أن أكون حذراً وأمنعها من استلامها، ولكن ما العمل؟ إنه حب الإطلاع. وبعد عدة أسئلة من حاكم التحقيق، سأل، هل أنت عضو في الحزب؟. وحين قلت كلا. هدد وتوعد. وخاطب المعاون -عبد اللطيف الوتار- (كان موجوداً في المحكمة) بقوله، أدبتو زين؟ هذوله ميفيد وياهم التسامح. أخذوا أدبو ثلاثة أيام وجيبو؟!. وأجبته، كنت أفكر أن أشكو عندك ما لقيت على أيديهم، فأجدني الآن "كالمستجير من الرمضاء بالنار!" فأكتب يا سيدي ما شئت، ولا تُعيدني إليهم! لذا أرجو أن تلاحظوا إفادتي أمام حاكم التحقيق وتتأكدوا من تناقضها وهي بقلمه! كيف أكون عضواً وأنا لم اُرشَح ولم اُرَشٍح؟ إني قلت الواقع، ولذا اعترفت بمطالعة الجريدة؟ ألم يُجَن بسبب التعذيب الأديب المعروف محمد صالح بحر العلوم، فذبح نفسه بموس حلاقة! رضيت لو حكم عليّ بالسجن، هذا خير من الموت بسبب التعذيب أو الجنون!"
محمد صالح بحر العلوم هو الشاعر، الواقع انه ليس من الشيوعيين، ولكنه كان في شعره نصير للكادحين وضد الاستعمار ومؤيديه.
وبعد أن أدلى الآخرون بإفاداتهم، أرجئت المرافعة إلى حين. وفي الأسبوع التالي، حضرنا وصدر القرار يوم 11/3/1947 شاملاً بسجن كل أولئك الذين ضمتهم ملفة "صالح الحيدري ورفاقه" إلا أنا والمحاميان و"م" حيث أفرج عنا.
"م" غادر المحكمة، بعد أجراء ما يهم شرطة المحكمة، دون أن يكلمني بشيء. لماذا!؟ مدير شرطة المحكمة، بلهجة طيبة قال لي "يا سيد علي، كم تألمت لأخيك –حسين- أتدري لو أنه أعترف، إن السجل الذي عثر عليه في تانكي الماء –مع فهد وجماعته- بأنه يعود لحزبه -التحرر الوطني- لما حُكم عليه أبداً!".
قلت، يا سيدي إن أخي كان سجيناً قبل حادث العثور على فهد والسجل المذكور، ثم إني أنا لا عِلمَ لدي بكل هذا .... تعلمنا أن لا نحسن الظن بمساجلات الشرطة، فما يستطيع أحد أن يجزم كيف ومن هو الطيب فيهم!
رزمت حاجياتي، وودعت من حكم عليه من زملائي. ووقفت على الرصيف. جاء حوذي فأشرت إليه، أفهمته أين يتجه، ثم قلت، أرجو أيضاً أن تنتظر هناك قليلاً، فلست أملك غير مئة فلس. حين أصل إلى البيت، أقدم ما تطلب.
الرجل الطيب، ردّ علي! بلهجة أسى، أركب عمي تستاهلون ماي العيون. لو توافق أخدمك اليوم في بيتي، أكون ممنون! آني مستعد أوصلك وين تريد مجاناً، وأقدم لك شمحتاج!
شكرته وقلت، هذا بيت أخي.
- وليش ما حضر يتلقاك؟
- انه سجين!
فقال الرجل الطيب بأسف، لا حول ولا قوة إلا بالله!
هناك بعد استراحة قال صهر أخي "يقول صديقك -م- علي طلع فحم، كان هو سبب الكارثة؟!".
- حسناً يا أخي، إذا كان صديقي –م- و –جواد- قد اعتقلا من النجف في 1/1 ، وأنا من الناصرية في 9/1 وسُلمت إلى التحقيقات في مساء 10/1 فمن يعتبر سبب الكارثة؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنت تعرف الذين أعرفهم، منهم أنت وبعض القيادات وبيوتهم، فمن منهم جيئ به بعدي؟! أضف إلى هذا إني قد تنحيت عن العمل نهائياً، وصديقي –م- هو الذي ألتزم المسؤولية بعدي، فأجب أنت وأستخلص الحقيقة؟!
لم استطع أن أقاوم رغبة في نفسي، وكأني أصغي لصوت من ضميري يلح. لا تكن جباناً إلى هذا الحد، في مستشفى المجيدية  "هذا أسم المستشفى الملكي عند عامة الناس" يرقد جرحى مظاهرات الشباب ضد معاهدة "بورتسموث"، هم رفاقك بالأمس، زرهم. وعبرت من الكرخ من الضفة المقابلة للمستشفى ..... لاح لي الطبيب "الدكتور كاظم شبر" يقوم بزيارة الجرحى، لكنه في هياج، يتحداهم ويسخر منهم. حين جلست إلى الجريح "حسن باقر" أخذ الطبيب يلومه لوماً مهيناً. من أنتم؟ ما الذي تريدون؟ إنكم لا تستحقون غير أن تسحق رؤوسكم بالأحذية؟!
صاح به الجريح "الحق معك يا دكتور! سقوط المعاهدة أزعجكم، لأنها تضمن مصالح أخوال أبنك!". ربما يعني بهذا لأن الدكتور متزوج من بريطانية، أو كما يشاع إنه عالج ضابطاً بريطانياً كبيراً كان الأطباء هناك قد قرروا بتر ساقه، لكن الدكتور شبر كان طالباً إذ ذاك للتخصص في جراحة الكسور. تعهد بمعالجة الضابط بدون بتر ساقه. وكان الضابط أبن عم الملكة. نجح الطالب بمعالجة الضابط. وعرض على الطالب أن يزوجه أبنته، وان شبر قال له "أنا علوي ربما يرفض أهلي، رغم أن الزواج من الكتابية جائز". وهكذا تزوج. كيفما يكن من أمر، فهم أخوال ولده وأصهار الأسرة!
كانت قاعة المستشفى تغص بالجرحى من مختلف أنحاء البلاد، فهل سيتم النجاح إلى الأبد؟!
يتبــــــــــع القسم الثالث
عودة إلى الريف

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏06‏/02‏/2011
alshibiby45@hotmail.com



118
حتى لا تضيع دماء الضحايا المصريين

أولا لابد أن أوضح لماذا أكتب عن مصر في انتفاضتها الجبارة (فقد سألني بعضهم). أقول أن الإحباط الذي أصابني كما أصاب الشعب العراقي بما وصل إليه الوضع في العراق هو ما يدفعني. فأي انتصار لأي شعب عربي ضد الدكتاتورية وضد الفساد المالي والإداري هو انتصار لشعبنا وإنذار لمن يريد أن يبقى في السلطة متغطرسا وهو ينشر الفساد ويشرعنه. فقد سرق الأمريكان فرحة الشعب حين سقوط الصنم بنشرهم الفوضى (الخلاقة)، وسرق الجهلة والظلاميون باسم الدين الأمل في التحول الديمقراطي وبناء الدولة المدنية التي تؤسس لمبادئ حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وتحولت الدولة إلى دولة تكايا عزاء وتجار بمشاعر الشعب المذهبية.
الجميع يتابع تطور الأحداث في مصر الشقيقة، ويأمل أن يحقق الشعب مطالبه. لكن الدكتاتور مبارك ومن ورائه قيادات حزبه المستفيدة من الحكم، ومؤسسات الدولة (الأمنية والمخابراتية وحتى قيادات الجيش)  هذه المؤسسات تدين وبالدرجة الأولى للنظام (ومبارك بالخصوص) فهو عرابها. فخلال ثلاثة عقود تمكن الدكتاتور وهو خريج المؤسسة العسكرية من أن يربط هذه المؤسسة (قياداتها) بوجوده وبحزبه. أقول أن هذا الدكتاتور استفاد من التجربة النظام الصدامي في القضاء على أنتفاضة الشعب في بداية التسعينات ومن أسلوب النظام الصدامي في نشر الخراب والفساد بعد سقوطه، كما استفاد من تجربة نضيره الهارب (بن علي)، كل هذه التجارب درستها ولخصتها له مؤسساته البحثية كي يمتص غضب الشارع ويلعب على تشتت المعارضة وتسفيه حركة الشباب الغاضبة.
كان على حركة الشباب المنتفضين أن يقيموا مسرحا ثابتا في ميدان التحرير ليكون هذا المسرح الأعلام الناطق العلني والواضح باسم المنتفضين والمعارضة السياسية. وبذلك ستتبلور أفكار المنتفضين ويبرز بينهم  القادة الواعين والمتمكنين والمحاورين الصلبين وستتبلور أفكارهم وتتلاقح مع أفكار أحزاب المعارضة والتي هي الأخرى كان عليها المبادرة إلى إنشاء هذا المسرح الإعلامي ليساهموا سوية مع المنتفضين وعدم الانعزال والتفاوض منفردين مع الحكم.
أقدم النظام الدكتاتوري على خطوة مهمة لمحاربة الانتفاضة (بقطع الأوكسجين عنها)، بحرمانها من التواصل والتنسيق بين جماهيرها وذلك بقطع الانترنت والموبايل وغيرها من وسائل الاتصال ومن ثم اللعب على الوقت لنشر الفوضى والإحباط والإرباك والتشتت والتشكيك بقدراتهم! وللأسف أن المنتفضين ولعدم وجود قيادة واضحة لهم أكتفوا بالتجمع في ميدان التحرير والاحتجاج والمطالبة. بينما راحت بعض الأحزاب (التقليدية) تتفاوض ولم تسع في تنظيم هذه الاحتجاجات لتكون أكثر فعالية وتكون قوتها في التفاوض.
بعد أن حرم النظام الشعب من وسائل الأعلام (الانترنت، الفيسبوك، الموبايل، وغيرها) كان على المنتفضين السيطرة على إعلام الدولة (التلفزيون والإذاعة)  وعدم ترك الإعلام الحكومي يواصل نشاطه لمحاربة وتشويه الانتفاضة وحقن النظام ومرتزقته بالمعنويات مقابل إحباط معنويات الشعب المنتفض! وأعتقد ورغم أني أراقب الأحداث عن بعد فقد كان بإمكان المنتفضين السيطرة على إعلام الدولة في نفس الوقت عدم السماح للمخربين في إفساد توجههم الثوري هذا بعمليات تخريب فوضوية.
وأخيرا أرى أن الوقت مازال صالحا لتأسيس المسرح لألقاء الخطب والبرامج والمطالب والتلاقح بين جميع المشاركين في الانتفاضة من أجل توحيد البرامج والمطالب في الحد الأدنى والضامن لتقدم الانتفاضة إلى الأمام وعدم الالتفاف عليها بالمناورات، كما أن المسرح هذا سيكون الإعلام للمنتفضين لتتبع آخر الحوارات وآخر المواقف، ثم أنه سيخلق قادة موهوبين وصلبين للتفاوض والتوجيه.
لقد راهن المنتفضون على حياد الجيش، والجيش (بقياداته) تظاهر بالحياد بينما هو نزل للشارع للحفاظ على النظام من السقوط وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والساعات الأخيرة تؤكد ذلك حيث طالبت قيادات الجيش من المحتجين إنهاء احتجاجاتهم والعودة لبيوتهم (حفاظا على الأمن والاستقرار ولإيقاف التدهور الاقتصادي) أنها قولة حق يراد بها باطل!
أيها المصريون انتبهوا لانتفاضتكم
أوجدوا لكم منبرا إعلاميا (مسرحا وسط ساحات التجمع) في كل مدينة
لا تتركوا النظام يبقى مسيطرا على الإعلام المرئي والمسموع
شكلوا لجانا للتفاوض تتحدث بلسان الشباب الذين ألهبوا الشارع
لا تنجروا وراء تشويهات النظام وتهاجموا أحزاب المعارضة ونسقوا فيما بينكم
يا أحزاب المعارضة لا تتفاوضوا مع النظام دون التنسيق مع المنتفضين، ساهموا أنتم بخبرتكم في تنظيم الانتفاضة وإعلامها، ولا تضيعوا الفرصة بالأنانية والغطرسة!
 
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏02‏/02‏/2011
 
   

119
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 20
« في: 19:28 01/02/2011  »
2- الدرب الطويل/ 20
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)

 

اعتذار: في الحلقة 19  يوجد خطأ في موضوعة (الصدف اللعينة) أثناء نقلي لذكريات الوالد في البيت " خذ ما استطعت من الدنيا وأهلها      لكن تعلم قليــلاً كيف تعطيهـــــا" والصحيح و "أهليها" وشكري للأستاذ رياض صالح الجعفري لهذا التنويه، وسأكون شاكراً لمن يقدم أي ملاحظة لتصحيح أي خطأ إن وجد./ الناشر

وانفجرت الفقاعة/حين دقت بغداد الطبول

وتلك عادة لأهالي بغداد، إذا غلت فيهم الدماء لحادث عام. يبدو إنها أعلنت أن تنفض عن رأسها غبار الاستكانة، وسخطها بهياجها العارم. لا يمكن أن نتصور ما حدث، لا يصل إلينا صوت، وانقطعت عنا الجرائد منذ أيام! لماذا؟ لا نعلم!
في يوم ثان سمعنا ضوضاء في الجهة المقابلة، التي تعود للشرطة الخيالة وخيولهم. ماذا حدث؟ أفراد الشرطة لا يجيبون، لابد أن هذه تعليمات المعاون، لماذا؟!
في الصباح تأخر إخراجنا لقضاء الحاجة! وبعد ربع ساعة، عدد هائل من الشرطة طوقوا الساحة. السائق الموقوف العادي "أحمد" صاح "يا يابه، ضربوا ستگي طاخ -يقصد الحسبة ثخينة-!"
ساد الموقف تساؤل، ثم اُخرجنا. هناك في الساحة المطوقة من كل جهاتها لمحنا غرفة الخيالة، رؤوس تطل من النوافذ ذات الزجاج المحطم! دنا منا أحد الشرطة، قال "رجاءً لا تكلموهم!"
لكن واحداً، صاح باسمي، إنه طالب نجفي، في دار المعلمين الريفية. وسألته، ماذا يحدث؟. أجاب، الكليات والمعاهد، والثانوية، كلها أعلنت الإضراب والتظاهر!. تهللت وجوهنا فرحاً. حين مرّ شرطي يجوب الساحة  دمدم، بغداد انجنت، دقت الطبول، أخذت بغداد ترقص على نار!. وسرى الهمس، بل أعلنا الخبر. قال عبد اللطيف، إذا دقت الطبول فلن توقف الجماهير، بغداد قوة مهما كانت.
جاء لأول مرة أسعد الشبيبي ابن الشيخ محمد رضا لزيارتي يحمل ملابس إليّ من أهلي، وهدية فاكهة وجريدة، حدثني بشكل رؤوس نقاط "الكليات أعلنت الإضراب 15/1 في هذا اليوم جبر وبيفن يوقعان المعاهدة. مظاهرات صاخبة، أشترك فيها، العمال، الفلاحون، الكسبة، إلى جانب الطلاب. الحكومة أغلقت كلية الحقوق. عشرات الطلاب غصت بهم المواقف. الجماهير مصممة على تحطيم المعاهدة، وفضح أهدافها. المظاهرات أرعبت الحكومة، فأمرت شرطتها بإطلاق الرصاص، سقط أربعة، أحدهم الطالب الشيوعي شمران علوان من دار المعلمين". قلت، أسعد أجلب لنا ورقاً أبيض، جرائد فيها أخبار المظاهرات.
وخرج طلبة الريفية، وأتصل بي الطالب النجفي، وحدثني مثل أسعد.
في هذه الأثناء صاح واحد من بيننا، أبشروا اليوم يطول مكوثنا خارج الموقف، قد نظل لمدة ساعتين. قاطعه ثان، هذا مفهوم، لا يوجد غير مرحاض واحد. صاح ثالث، في الأخريات فيضان! قال آخر، نعم هذا حكم يضطهد الشعب، ويقتل الشباب، وينشر الخـ...!
ودنوت من جهة المرافق، عليّ أن أحصل على السره. الزميل "يونا لاوي" في شغل آخر، انه في حال طرب، في رواح ومجئ، يردد أغنية "همسة حائرة". زميل آخر أشغل –الكنيف- يضحك ويضـ... مصاحباً صوت "يونا" المذكور في القرآن؟! دنوت من "يونا" وقلت، زميل أستمر، فالموسيقى التي تجاريك رائعة؟! عند هذا أحسّ وقطع أغنيته بلا أسف.
وجاء الليل. زنزانتنا اليوم كثر ضيوفها. هم ليسوا سياسيين، ربما هم من أمثال ضيوفنا كل ليلة، أو ربما هم من الجواسيس، لا يهمنا هذا، بقدر ما أبقانا عددهم بحيرة من أمر النوم. ساحة الزنزانة لا تتسع إلى أكثر من عشرة بمضايقة. نحن الليلة ثلاثون! قال واحد، لا تسمروا قبل حل لمسألة النوم! أقترح بعض، أن نقسم الموقوفين إلى ثلاث وجبات على الوقت المحدد أيضاً. لكن الأكثرية عارضوا، دعونا نسمر، ومن أدركه النعاس ينطرح حيث هو! قال آخر، أقترح أن يباشر "أبو كفاح" ويشغل نجفياته؟!
كنت أغطي رأسي بملف، أخذت وضع جلسة منبري أيراني، مغرم بالوعظ والإرشاد، يبدو انه لا يعلم شيئاً، غير ما يتهم به اليهود والنصارى. الشباب المنبريون العرب يختلقون عنه ويلفقون، ما يناسب أحاديثه. وأنا الآن وجدت تلك خير سلوى وسهرة طيبة. الزملاء يتحلقون حولي، بعض العاديين انطرحوا يستغلون الفرصة للنوم، لكنهم الآن يصغون.
بدأت وكأني ذلك الشيخ "علي الشوشتري". الواقع انه زاهد متقشف، لكنه يبالغ فوجهه محلوق اللحية، وكثير الوعظ في ذم الدنيا ومحبيها. ويصف جهنم فيبكي قبل الآخرين، أما هذه الحكايات فافتعال ضده. صرت مثله، أوجه السؤال للمستمعين، هل فيكم من يلبس لباس يحود "يهود"؟ المستمعون، نعم، نعم شيخنا ... ويلاه، هؤلاء يحشرون مع يحود في جحنم "جهنم"؟
وجاء دور خطبته، وقلدت صوته "ابن آدم، يبن الآدم، يا قواد بن القواد، يا متي -مطي- ابن المتي، تركبون الشبنجعفر -الشمندفر أي القطار- وتتركون حمير الله...!". ويلطمون، مسكين مُتي أشكسر -اشكثر- يمشون. ويتعالى الضجيج والضحك. جاء شرطي وقال، أخوان، البيك مريض، ويقول ليسوون ضجيج. طردناه وواصلنا التمثيل، ابن الآدم .... تسبحون بالماء الفرات، وتتعثرون بالعثورات، تتعطرون بالعطورات، مسكين وردان يفوج بالزر....! ويعلو الضجيج يرددون اللازمة.
جاء المفوض عبد الباقي، أخوان البيك يلتمسكم، يطلب الهدوء، انه مريض. لكنا استمرينا. جاء هو، وقف أمامنا -خارج- وبلهجة نابية، ولكم سرسرية، بُشتيه، وديت الكم أرجوكم، مو أوادم، ليش هجي؟. صاح أحد الموقوفين، خايف تروح لبيتكم، لومسكوك المتظاهرين، يودوك بسلامة لموتاك!
التفت اليّ وقال، ولك تريد تاخذ ثار أخوك مني، تريد سوي هنا ثورة؟!. فشتمه عبد اللطيف، أمشِ منا ثور. قال، ها ولك عبد اللطيف، أبوك هاشم السعدي، خوش آدمي الله يرحمه، ليش تصير سرسري مثل هذا!. فبصقنا بوجهه دفعة واحدة.
أصدر أمره إلى الشرطة "تجمع بالسلاح، أفتحوا الموقف، يالله طلعوا هذا". وأشار إليّ، وهذا وأشار إلى عبد اللطيف. عبد اللطيف هاشم السعدي، طالب حقوق، من أخواله علي محمود الشيخ علي المحامي، ومن أعمامه داود السعدي المحامي، وهو رياضي رباع. لكن الموقوفين هجموا جميعاً يهتفون "كلنا، كلنا"، وهو يصيح بالشرطة، وهو متجه إلى غرفته، بس ها الاثنين.
لم تقو الشرطة على صدنا، ودخلنا عليه في غرفته. أمر أن توضع السلسلة بيدي. وعاد يكرر كلامه مع عبد اللطيف، هل تريد أن تحمل نجماتي؟
عبد اللطيف ردّ عليه، هسه أعلمك يا حمار، وحمله بيده من خلف المنضدة، وانهال عليه الجميع بالضربات الموجعة. المفوضون يصيحون "لا أخوان البيك مريض!". ويشيرون إلينا بالاستمرار. ودفعه عبد اللطيف والدم ينزف من أنفه وفمه. أستعاد جلسته، وخاطب المفوضين "رجعوهم. يصير الصبح وأوديكم للتحقيقات، يهرون جلودكم، هسه راح أخابر عليكم".
ليتنا فعلناها قبل اليوم. عدنا إلى حيث نستقر، ربما يفعلها هذا الأحمق. قال المحامي، لن يفعلها وان فعل، يعاقب ولكن علينا أن نقدم دعوة ضده.
وضعت صورة الشكوى، وزعت الأوراق بعدة نسخ، إلى وزارة الداخلية، العدل، الأحزاب والصحف. قبل أن تكمل أعداد النسخ، جاء المفوض عبد الباقي، نادى، المحامي محمود صالح، علي الشبيبي، عبد اللطيف السعدي، تهيأوا، يالله. إلى التحقيقات.
أيها الخبيث الأرعن، فعلتها إذن! لا بأس، تناولنا الفطور، وتهيأنا، قلنا لمن بقي، أستمروا بكتابة النسخ، سلموها إلى أسعد.
رفض السائق أن يتحرك قبل استلام أجرته. ورفضنا نحن أن نتحمل الأجور أيضاً، حين طلب هذا منا المفوض. قال للسائق، أعطيك وصلاً تستلم بموجبه الأجرة في وقت آخر. فرفض. وسلم المدير الأجرة. وانطلقت السيارة، ولكنها تجاوزت بناية التحقيقات.
- إلى أين عبد الباقي؟
- إلى الموقف العام، وضحكنا للانتصار الذي أحرزناه. هنا "الموقف العام" هذا الذي زرته كثيراً، ولكن لا الداخل، كان أخي وبقية السياسيين، يقيمون في غرفة الساحة الخارجية المواجهة للباب الخارجي. كان هذا في 5/2/1948. وهنا حدثنا من وجدنا من القادة السياسيين بكل الأحداث التي تمت من منتصف كانون وحتى إلغاء المعاهدة وسقوط الوزارة في 27/1/1948.
كان كل شيء قد انتهى. فقد هَزَمَ الشعب صالح جبر، وألغيت المعاهدة "بورتسموث" فقد هب الشعب أجمعه ضد وزارة صالح جبر. لجنة طلاب الكليات والمعاهد، قدمت مذكرة إلى الوصي تضمنت المطالبة بإلغاء المعاهدة، ومعاهدة 1930، محاكمة المسؤولين عن أطلاق النار، واستعمال القوة ضد المتظاهرين، وانتهاك حرمة المعاهد العلمية والمستشفيات، طالبت بضمان الحريات الديمقراطية، وتوفير المواد الغذائية، وإنعاش الحياة الاقتصادية.
كان يوم السابع والعشرين من كانون الثاني يوم انتصار الشعب على الطغمة الحاكمة الفاسدة. ولكن الشعب قدم ضحايا كثيرة. كان هذا اليوم يوم استشهاد فتاة الجسر، وجعفر الجواهري، وقيس الآلوسي.
هنيئاً لك أيها الثعلب الماكر "نوري" ضربت بحجر واحد، فأصبت، هذا الشعب بكوارث ففقد عدداً من أبنائه البررة، وعمت البلاد فوضى، وأفشلت من يمكن أن تضايقك شخصيته "صالح جبر". أراد صالح أن يكون علماً ومحظوظاً عند الإنكليز، فورطته بشرِّ ورطة، ولو لم يفر إلى مصر لمزقه الشعب.
ما تزال الجماهير والطلبة، ينطلقون بالمظاهرات. نحن نسمع أصواتهم، ثم تصلنا أفواج من الشباب، تلقي بهم الشرطة معنا. كان الموقف يضيق بتلك الأعداد يومياً، ثم يفرج عن الأكثرين بكفالات.   
الموقف العام
رغم أن هذا أيضاً سجن، أنا فيه فاقد حريتي، بعيد عن أهلي وأطفالي، لكنه على أي حال رحب. فهنا ألتقينا بالعشرات من المحرومين من الحرية، وأن يكن بعضهم من المجرمين-قتلة ولصوص-. هكذا وجدت نفسي، وكأني نسيت كل ما لقيت في التحقيقات الجنائية، أو في مركز شرطة الكرادة.
المكان هنا مريح، الساحة واسعة، تتيح لنا أن نتمشى فيها ونتريض، هناك فقد جسمي كثير من المرونة، وحمل عبئ الوسخ، كان هذا يزعجني كثيراً. هنا أيضاً عدد كبير من خيرة الشباب المثقف، سياسيين، قادة، وصحفيين، من الأحزاب الوطنية، الشعبية والديمقراطية. في كل يوم يزج بأعداد، يفرج عن بعضهم خلال النهار، والغريب إن المحسوبين على الأحزاب القومية، كثير ما يطلق سراحهم بعد سويعات. وإذا أطلق سراح محسوبين على اليسار، فانه يعود إلينا في اليوم الثاني أو الثالث.
الموقوفون من الأحزاب الشعبية كلهم في ردهة واحدة. كلهم في نظر التحقيقات يساريون شيوعيون، مع هذا تجد كل فئة احتجزت لها مساحة تناسب العدد، ولهم منهاجهم الخاص بكل شؤونهم، يدبر أمرهم واحد منهم، ولكن – هذا أمر حسن- الجميع يلتقون في تحديد موقفهم من إدارة الموقف، ومن المحاولات التي يتشبث بها المسؤولون لشق وحدة الكفاح ضد السلطة.
هنا وجدت تنفساً، سعة المكان، نوعية الموقوفين، وأفاقاً رحبة في التجارب والخبر، في شحذ القوة المعنوية، في أحاديثهم ومعلوماتهم سياسياً واجتماعيا. أمثال توفيق منير، عبد الرحيم شريف، كامل قزانجي الطيب ذو الوزن المرموق في هدوئه ومرونته. عبد الحسين جواد الغالب، الصورة المثالية للمهذب، والظرف والرقة، والمعلومات العرفية لمجتمعنا العراقي. وأمثالهم كثير.
المسؤول الحزبي "صالح الحيدري" أنفرد بي بضع دقائق، أبلغني إن الحزب أوصى أن نعتبرك واحداً منا. ثم أستوضح مني، بعد أن قال "أرجو أن لا تندفع للإجابة، بانفعال نفسي من شخص معين، كل عشرة قد لا تجد بينهم واحداً يملك أعصابه عند التعذيب الوحشي".
وعلى إني قد تخليت عن عضويتي منذ أمد في أواخر عام 1947 فقد وجدت أسمي ضمن الملفة التي شهدتها أمام مأمور الموقف "راشد اللامي" وقد كتب عليها صالح الحيدري ورفاقه. لم تكن لي بصالح الحيدري معرفة من قبل هذا حتى ولم أعرف أسمه.
وهنا لم أشارك إلا ما يخص كوني واحد من السجناء في القضية الوطنية. برقيات الاحتجاج، حفلة تأبين الذين استشهدوا من المتظاهرين.
وضع الموقوفون برامج يشترك فيها الجميع. محاضرات عن الغرض في تحقيق هذه المعاهدة "بورتسموث"، لماذا صالح جبر، العراق الدستوري، ويد الإنكليز. وسوى هذا فقد أشغلت نفسي بكتابة مجموعة من أحاديث سميتها "ليالي".
وكان يلذ لي أن أحتك بالموقوفين العاديين، وأتعرف على سلوكهم، وأسباب توقيفهم، وبماذا يفكرون للخلاص؟ هناك من يلازم الصمت، والكآبة تغمره، بينما آخرون يبدون مرحين.
هنا غرفة احتجزت لثلاثة أخوة. أوقفوا بدعوى من أبيهم "حسن السهيل". كان يقوم بخدمتهم رجل في بداية كهولته، يدعى "أحمد محمد أحمد" قال، انه عراقي الأصل، هاجر أبوه إلى حلب، ومات هناك بعد سنين. ودَعَته الذكريات والحنين إلى وطنه الأول، فجاء يزوره، يزور البيت الذي ولد فيه، فقبض عليه كمجهول الهوية. وأعتذر مستخدموه، لسنا سياسيين فنخشى منه؟
أمس مرت تظاهرة، رمينا بواسطة مصيدة عصافير، التي يستعملها الأولاد، صورة برقية. هكذا نفعل أحياناً عن وضعنا نحن الموقوفين. أحيانا نربط بطيارة ورقية بياناً، مع إيضاح لمن تقع بيده "كن مواطناً شريفاً وأوصل هذه الرسالة إلى الصحف الوطنية".
ذات ليلة اشتركنا بتنظيم أغنية سياسية، غنيناها على لحن أغنية "عمي يبياع الورد" نشرت في جريدة قرندل. طلبت من الأستاذ "كامل القزانجي" أن يجلب لي –إعارة- العهد القديم، الإنجيل، والقرآن المترجم للإنكليزية مشروحاً. لأتعرف وأقارن بين ما ورد في القرآن، وبين ما يذكره العهد القديم، قصة آدم والشجرة، نوح وعمره، قصة مريم، يوسف وزليخا، موسى، كان هو الذي يقرأ لي ويشرح ما يقرأ.
وبعد خمسة أيام جيء ببقية الزملاء من موقف الكرادة، وأطلق سراح بعضهم بكفالة، منهم صديقي –م- الذي أتهمني أمام الزملاء كذباً ليبرئ نفسه، وجواد، ويونا لاوي، يقال أن خاله ثري للغاية، وقد توسط أمره بمئات من الدنانير، بين الحاكم ونايل وصحبه. واُبلغنا بموعد المحاكمة. المحاكمات، روتين، فقد ينجو المتهم الحقيقي، ويدان البريء، حسب مكانة من ينتصر له.
وحكومة الصدر الذي هو أيضاً "حمامة سلام" هل ستطلق الذين أسقطوا جبر وبورتسموث؟
هل ستطلق الحريات؟ أعتقد أن الأمر محدد فقط لتهدئة الأوضاع. فقد أهاج الشعب "شيعي" وهدأه "شيعي" حسب تخطيط أبي صباح "نوري السعيد".
في الجلسة الثانية من المحاكمة، كان الحاكم "برهان الدين الكيلاني" يرفض أن يسمع من المتهمين شكواهم على الشرطة الذين مارسوا تعذيبهم لانتزاع الإفادة حسب هوى التحقيقات. فأجمعوا الأمر على الإضراب، عن الطعام والكلام، ورفعوا عريضة إلى المحكمة تتضمن هذا.
عارضت أحد المطالب التي تضمنتها. إنهم يطالبون بعدم الأخذ بإفادتهم أمام حاكم التحقيق. هذا مطلب غير ممكن قانوناً، لأنه أكتسب القطعية، يمكن الطعن بما أدلينا أمام الشرطة فقط.
صحيح إن حاكم التحقيق "علي فريد غالب" كان أشد صرامة من شرطة التحقيقات، وانه يطلب من الشرطة إعادة من يمتنع -كما فعل هذا معي- لكن من يقدر أن يثبت هذا ضده؟
صاح بي "عبد اللطيف"، تصرف في المحكمة كأي جبان ...؟! هكذا أذن؟ سأتصرف، ولِنرَ النتائج؟!
توالت جلسات المحكمة، المتهمون يلاقون استجواب الحاكم ببرود وإصرار، ويشيرون أحياناً إلى الشاهد بشتيمة. كانت لهجة الحاكم بين الشدة واللين. يشتد فيعلن سخطه بحمق حين يعرض المتهم ملازماً الصمت.
أستمر الحاكم يسأل واحداً واحداً، وهم صامتون. كان الذين أطلق سراحهم بكفالة طبعاً غير مشمولين بالإضراب. أنا وحدي بين زملائي، أجبت "مستعد للإجابة، مضرب عن الطعام فقط". هذا بديهي، إذ ليس لي هنا أهل فيجلبون لي الطعام، ثم من باب المجاملة للمضربين ونحن على قضية واحدة. بل كنت مستعد أن أضرب حتى لو كان لي من يجلب طعامي. واستمرت المحاكمة أياماً متتالية. لم يبق عن موعد القرار أكثر من جلستين أو ثلاث.
توترت أعصاب "عبد اللطيف" فإذا بها وشوشة، وعند الاستراحة، أعلن كفى، سنفك الإضراب. فليوص -من يقدر- ليأت أهله بالحساء!
توترت هذه المرة أعصابي. الجوع لا يطاق، هذا حق! ولكن من الذي تصرف تصرف الجبان؟! سأواصل الإضراب. ألم نكتب في العريضة -حتى الموت- أيها الزملاء، تأكدوا إن الحاكم سيؤجل المحاكمة فترة أطول؟ طبعاً، هذا مكسب؟!
حين أعادونا إلى الموقف، نقلت فراشي خارج الردهة لأواصل إضرابي، احتجاجا على زملائي الذين عالجوا خطأهم بخطأ.
وأقترب مني شابان، يقيمان في غرفة صغيرة. لا عجب فهما من خدم عبد الهادي الجلبي، وتوقيفهما بسببه أيضاً. إكراما له، حجزت لهما هذه الغرفة. هكذا سرقوا له، فهو مدين لهم جريمتهم، أهون على الدولة من سياسي يحارب الأنظمة الفاسدة!؟ إنهم شباب استيقظت ضمائرهم، كشفوا لي أمر السرقة. لن تمس شخصية الجلبي، أنتم المتهمون، ولو أصرت الدولة على عقوبتكم، لأبدى الجلبي امتعاضه متبرءا منكم كمجرمين. ولكن يستطيع خلاصكم وسيفعل!
لهم شريك "مهدي أبو قلل" سائق. كان دائب الضحك والنكات. قلت له، وأنت؟ أجاب، أحنه متعلمين، على التهريب، لا تخاف علينه، يدرون بينه إذا ما عملوا على خلاصنه شنسوي؟!
- شتسوي يا مهدي؟
- عمي نحكي الصدق؟!
زملائي الآخرون توفيق، القزانجي، الغالب، تجاوبت مع إلحاحهم عليّ، فأنهيت إضرابي. وكان إفطاري على الحساء من بيوتهم.
يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏01‏/02‏/2011
alshibiby45@hotmail.com



120
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 19
« في: 21:43 27/01/2011  »
2- الدرب الطويل/ 19
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


الويل
ثلاثة أيام مرت، أنا في شغل عن كل تفكير. كأني في حلم. أحلم بتلك التي يسمونها "الساعة". أجل، كأن الساعة قد قامت! ولكن لماذا لا يوجد غيري. أليس الناس جميعاً يبعثون فيها، ترهقهم ذلة، وجوههم باسرة!
لا، لا، أبداً، أنا أسمع صياحاً، وعويلاً، أسمع أصوات أناس تتلوى عليهم سياط، ربما تكون مقامع من حديد!
الوقت الآن منتصف الليل، هذا الوقت دائماً للعذاب! لقد سبق وأن زرت هذه البناية المشؤومة في 3/3/1947 ذات الباب الضخم، والغرف الكثيرة المتباعدة في جوانب منها.
في هذه الليلة "الأولى" أجلست في غرفة صغيرة. تحوي منضدة خلفها كرسي. ومصطبتين متقابلتين. تقدم إليّ شاب أسمر ذا وجه كالح وعابس.
- أنا شاكر غني، مجاور للبيت الذي يقيم فيه أخوك "حسين"، ولك وحق جواري لأخيك، لابد من الإحسان لك!؟
وربطني بسلسلة إلى أنابيب تتصل من أسفل إلى أعلى، بجانب الجدار!؟
لم أهتدي وأنا أحاول أن أعرف سبب ما حصل لي. الشرطيان الطيبان سلماني إلى هذا قبيل غروب الشمس. أجل، قلت طيبان، ربما هما حقاً طيبان. وربما لأنهما شاهدا اهتمام القائممقام الأستاذ ضياء شكاره، ومعاون الشعبة كاظم سوادي.
صحيح إني كنت في دهشة مما حدث، كان ما حدث مفاجأة غريبة. جمعت بين الأسى والتفاؤل بالخير؟!
يوم حدث التحري في 9/1/1948، كنت في مقهى حبيب، غارقاً بين القلم والدفتر، أكتب الفصل الأول وللمرة الثانية من رواية "تلميذ في العاصمة"، يبدو إنها مشؤومة! العفو، هذا تعبير رديء!
في الناصرية بعد أن جلبت أهلي، ولما يمضي على إقامتهم أكثر من أثنين وعشرين يوماً، إنهم مازالوا غرباء. عاودت الكتابة، لأكمل الرواية التي تتناول سيرة حياة أخي حسين. كنت حريصاً ومصراً على إنجازها. وفي مقهى حبيب كل يوم جمعة ، أنزوي بعيداً عن رواد المقهى، لأكتب. لا أحد من المعلمين يعرف أين أنا، كلهم يرتادون النادي. وحينما أنتهي، أترك دفتري، عند قريبي الخياط شهاب أحمد. هذا زميلي المعلم عباس جلاب، وقف أمامي فجأة، وقال "المختار رشيد يبحث عنك؟!". من هو المختار رشيد، أنا لا أعرفه.
- انه مختار محلة السيف، كان في النجف بمناسبة زيارة الأربعين، ربما هو يحمل وصية من أهلك.
كنت كأبله ناقشته وامتنعت عن مغادرة المقهى. فأنا لا أعرف المختار. ذهب وعاد بعد نصف ساعة، وقال "أهلك أيضاً يبحثون عنك، وعدتهم أن أخبرك!". أسرعت، أودعت دفتري كالعادة، قريبي كان يبدو عليه أرتباك. وبلهجة كئيبة قال "سارع، ولا تنس أن تخبرني ماذا حدث؟"
حين اقتربت من الدربونة "الزقاق" شاهدت عدداً من الشرطة، من بدايتها إلى نهايتها المتصلة بشارع النهر. كل شيء صار واضحاً الآن. واستقبلني معاون الشعبة كاظم سوادي. رحب، وقدم لي صورة برقية، وقال "أقرأ. أنا لا أعلم شيئاً من هذا، إنها مباغتة، أنشاء الله خيراً!".
دخلت وفتحت الباب ليدخلوا. وأجري التحري، حسبما أشارت إليه البرقية "تحروا الدار، وأرسلوه إلى بغداد مخفوراً!؟".
الكتب الموجودة لدي معدودة لا تتجاوز الثلاثين، فتشوها واحداً واحداً، أثاث البيت المعدود، حتى الوسائد. كل شيء في سلام. عاد إليّ هدوئي. فقلت لشرطي، دونك كوز الماء فتشه أيضاً! وأدركت المعاون ضحكة، فقد عرف مغزى كلامي، وصاح بالشرطي مؤنباً. هذه النكتة إشارة إلى ما نقل أثناء القبض على سكرتير الحزب الشيوعي "فهد" قاموا بتفتيش البيت كله، وعثروا في خزان الماء في سطح البيت على بطانية في قعره قد لفّت لفا محكما، استخرجوها فوجد فيها قوائم تحوي أسماء، اعتبروها أسماء أعضاء الحزب!
هناك في مركز الشرطة -عند الغروب- جاء لزيارتي القائممقام، ومدير المدرسة، وعدد من أصدقائي النجفيين. قال أحدهم، أنت رجل لا نخاف عليك، كن مطمأناً سنرعى عائلتك أكثر من عوائلنا.
وطلب القائممقام أن يختار الشرطيين الذين سيصحباني إلى بغداد. تقدم أحدهما وقال، العرب يتفاءلون بالأسماء، أسمي فرج.
وأسم الثاني جواد، حقاً لقد كانا طيبين وكريمين، نفذا كلما أردت بدون خوف. زرت أبن عم أبي وحدثته بالأمر. أخذتهم إلى الفندق، تغديت، ونمت، وأخذت حماماً، ولم يسلماني إلا عند مغيب الشمس. ونفحتهما بعض دنانير مع الاعتذار والشكر. 
أساليب ومعاملة الشرطة مع المتهمين لم تكن مجهولة لدي. لكنهم حين يرون منزلة المتهم وعلاقاته واهتمام أصدقائه به، يكونون طبيعيين في معاملتهم له. أثناء مكوثي في مركز شرطة الناصرية، في غرفة المعاون نفسه، جلس إلي المفوض محمد حسن، وهو من أفراد الشعبة الخاصة هناك، حدثني عن حياته كلها. كان -كما يقول- شيوعياً. كاد يهلك. أبوه شرطي توسل إلى المدير، فادخل مدرسة الشرطة، وتخرج. قرأ عليّ من منظومه، شعر سياسي، يهاجم السلطة بعنف. فقلت، أنت تنظم هذا، وأنا احاسبْ؟!
أجاب ضاحكاً، لا تعجب. أنا مثل البزون، أخـ... وأطُم!
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل –أي فجر 11/1/1948-، جاء رئيس العرفاء "شاكر غني" قادني مسلسلاً إلى غرفة نايل عيسى، هنا توقعت كل شر. الرجل أعرفه جيداً. كنت أرتدي معطفاً، وعلى رأسي صدارة، قابلني بلطف! أيكون الرجل قد استقام سلوكه؟ قال "أنت من بيت علم، وأدب، ودين، أحنه نقدر مكانتكم. وكلما نريد منك، وأنت تعرف الوشيعة مخربطين راسهه، اليهود المتغلغلين بالحزب. هسه راح نقدملك كم سؤال، جاوب عليهن بصدق، وآنه أعاهدك بشرفي، أرجعك لوظيفتك، وتستقر أحسن استقرار!. وخاطب أحد الشرطة الذين يقفون خلفي، جيبله حليب على شاي؟! وفعلاً جائني بهذا!".
ما كدت أضع الكوب على شفتي حتى هوت على رأسي كف ثقيلة، وبقوة، طار الكوب من يدي، وتبعثر الحليب الحار على وجهي ورأسي. لست أدري بأية حال نفسية أنا حينئذ. كانت شفتاي ترتجفان، أما حضرة المعاون، فقد أخذ بالصياح، كممثل مجنون، كلمات بذيئة مخجلة، تهديد، وعيد، يصرخ، يضرب المنضدة بجمع يده. وبنفس الحدة صاح، أخذه إلى الطامورة، ألعن ....
ترى ما الطامورة؟ قادني الشرطي، وفتح باب غرفة صغيرة، الباب نصفه قضبان حديد والنصف الأسفل خشبي، أشار إليّ أن أدخل. رباه، كيف؟ إنها مليئة بالأقذار، رائحتها تزكم الأنوف، خانقة! حتى عيوني لم أقدر على فتحها. ألا يخجل هؤلاء من أنفسهم؟ أتكون هذه بدائرة لها أهمية عندهم؟
بعد عشرين دقيقة، اُخرجت، اقتادني الشرطي إلى سرداب فيه نزيز، إنه مستنقع! لأنظف رجليّ! توقفت قليلاً، ألا يحتمل -بل أكيد- انه معمل جراثيم، ولكن ما العمل؟
ثم إلى المعاون عبد الرزاق عبد الغفور، الذي قدم لي وريقة، تحوي أربعة أسئلة. قال، أجب عليها بدقة وصدق، تخلص، وإلا .....! وكتبت باختصار مجيب على ثلاثة، أجوبة يرتبط بعضها ببعض حسب تسلسل الأسئلة، لما لم أكن عضواً في الحزب كيف يتسنى لي معرفة اللجنة المركزية، وكذلك كيف أعرف اللجنة المحلية في النجف، والمطبعة إذا كان الحزب سرياً، بطبيعة الحال تكون المطبعة في مأمن سري أيضاً. أما الرابع، فأجبت، إن كامل قزانجي معروف انه من الوطني الديمقراطي، وخلافه مع رئيس الحزب مشهور، بينما لا صلة لي به من قريب أو بعيد. نشر الخلاف في الجرائد.
وجاء الرد بأشد من السابق. أمرت بخلع ملابسي، وفي طريقي مع الشرطي إلى سطح البناية، أشار الشرطي إلى غرفة صغيرة، فيها فراش عليه بطانية صوفية، وأمامه منقلة نار متوقدة، قال، أتريد هذه، أعترف، لو تريد، وأشار إلى سطل "إناء" فيه ماء وبجانبه عصا خيزران ... وتأوه يخاطبني، الله يحرمكم من الراحة، مثل ما أنحرمنه منها بسببكم بها الليل؟!
وهناك بعد أن ربطني إلى السياج الحديدي، تلوت الخيزرانة على جسدي، ضرباً منتظماً من أعلى إلى أسفل، ثم من أسفل إلى أعلى. كل هذا بعد نصف سطل ماء. وبتهكم كان يقول "انوي، إذا أنتم تغتسلون من الجنابة ومن الأيـ ... التاكلوها؟!". وأعادني إلى الغرفة، لأعصر فانيلتي وسروالي، وأرتدي بقية الملابس. وتمددت على المصطبة، أحاول أن أغفو، وكيف ينام الخائف المذعور؟! 
*      *      *      *
في الليلة الرابعة، الساعة الواحدة ليلاً، اقتادني شرطي إلى غرفة المعاون "عبد الرزاق عبد الغفور"، لم يكن معه أحد، بعد أن تأفف وتذمر، لمحَ إلى تعقيبات الشيخ وأخويه، وأخذ يطالبني بلطف، أن أرأف بنفسي، فأعترف بما لدي.
يبدو أنه لا يسمى اعتراف، إلا إذا أيدت اتهامهم لي. كان بين يديه ثلاثة ملفات، يقلب صفحاتها ويستعرضها. أدنى واحدة منها، وقد وضع يده على أسم وتوقيع صاحب الإفادة. وقال، أقرأ!.
آه! اللعنة على الساعة التي دعوتك فيها إلى الانخراط في الحركة، صدق أخي في لومي! من أول عبارة عرفت كل شيء من أفادته. لقد أختصر الاعتراف، بعد مقدمة عن الصداقة المتينة التي تربطنا. يقول "انه كان يخجل أن يرفض ما آتيه به! في البداية كنت أستحسن ما تنطوي عليه المناشير، لأني أكره الاستعمار. بعد هذا أدركني خوف. كنت أحرق ما أستلمه للتوزيع وأدعي إني وزعته وأدفع الثمن من كيسي الخاص. علي أبلغني بعد شهرين أنه رشحني؟! ويختتم الإفادة، إني مرضت فلم أعد أتصل أو آخذ شيئاً ولا أدري هل بقي هو "علي" أم لا؟!".
المتعارف عندنا إن الترشيح لا يتم إلا بعد طلب موقع وبأجوبة صريحة من طالبي العضوية. ومن ضمن الأسئلة التي يجب أن يجيب عليها "هل أنت مستعد لتحمل، التوقيف والسجن والتعذيب والإعدام". ولكنه ذكر إن "علي" أبلغني انه رشحني.
والآن عرفت من هو؟ ... كلا، قلتُ. رفع يده عن الاسم والتوقيع، وقال، من هذا؟ أجبته، أنه صديقي "م". قال، رأيك فيما أفاد؟!. قلت، لو كنت تعلم يا سيدي ما أعلم عنه ما قبلت إفادته. الرجل مريض، عرض مرتين على لجان، تقريرها عنه مصاب بانهيار عصبي لا يصلح للوظيفة. أكتبوا إلى مستشفى النجف لتتأكدوا من صحة كلامي. ثم لماذا لم يذكر غيري؟
وقدم لي ملفاً آخر، أقرأ هذا، هل هو مجنون أيضاً؟
كان صاحب الإفادة، ابن مهندس متقاعد، وهو خريج إعدادية التجارة. وقد بدا في اعترافه فناناً، فقد رسم لخلايا التنظيم شجرة، وأفاض في التفصيل عنها. ولكن بما يخصني، قال لا علاقة لي به.
أجبت، أعرف انه حفيد لمعماري نجفي شهير، ولأبي معه صلة، ولا يعتمد على غيره في مسائل البناء إذا أحتاج، كان ذات مرة عندنا، وجاء الغلام إليه في أمر يخصهم. وسألت أبي عنه، هل هو ولد هذا الشيخ المسن؟. قال، انه حفيده. وكبرت وتعرفت على أولاد عمه، فهم جيراننا، بينما لم أتعرف عليه وعلى أبيه، فهو يسكن في الحي الجديد.
وجذب الملف الثالث بصمت. أستعرض إفادة صاحبه. انه من أهالي بغداد، يفيد إنه لا يعرفني. لكنه زميل حفيد المعماري، جمعت بينهما إعدادية التجارة، وقد زار صديقه هذا في النجف، وفي مقهى قريب من بيتهم جلسا فيها، أشار صديقه إلى شخص يجلس منفرداً، وقال انه أخو حسين وهو مسؤول النجف!
هذا الشاب موظف في وزارة المعارف -كاتب طابعة- جازف بنفسه، وأخذ ينسخ منشوراً بالآلة الطابعة، فأنتبه إليه موظف مثله، فأبلغ الجهات المختصة. هذا ما حدثني به هو حين التقينا بعد في الموقف العام بعد شهر من توقيفي. وقد لقي أذىً كثيراً لانتزاع المنشور من فمه، إذ أبتلعه ... وقلت عن أفادته وعنه، إني لم أسمع بهذا الاسم مطلقاً. ثم ما ذنبي أنا إن آفِك هذا وغيره ليدفع أو ينهي عذاباً يلقاه.
وأخيراً قال بضجر، أكتب ما شئت. خلصنا من شيوخنا وعمائمهم! فاسترسلت في الجواب وأطلته، عن كرهي للاستعمار، والاستغلال. ولا عجب فأسرتنا كلهم حاربوا الاستعمار. وأنا لا أعرف غير العربية، وشيئاً يسير من علومها، ويسيراً من الفقه. وأقرأ الجرائد والمجلات، هذا كل ما لدي. فإن اعتبرتم من يحارب الاستعمار والاستغلال "شيوعياً" فأنا لا أنكر. أما إذا أردتم إني منتسب لحزب سري بهذا الاسم، فاني لا يسعني إلا أن أؤكد لكم عدم صحة ذلك.
وقد وقعت أخيراً ما أفدت به، مصدقاً من قبله.

المستجير من الرمضاء بالنار!
صباح كل يوم قبيل انتهاء الدوام، شاكر غني رئيس العرفاء، يحل وثاقي ومع الشرطي الخفر أذهب إلى الغسل والتهيؤ، كأني واحد من الموظفين، أو المراجعين، أو لعل هذا ليتعرف عليّ عملاؤهم؟
بعد الفطور، أنتقل إلى غرفة أحد موظفي الدائرة، طيلة الدوام الرسمي، يبدو كل واحد منهم اعتياديا، هشاً باشاً، ويحدثني كأننا متعارفان منذ زمن بعيد.
أحدهم وأسمه ياسين إبراهيم. يتنقل من حديث إلى آخر، بلا أي رابط. فقال مرة، أين أخوك محمد علي؟!
- لا أعلم ...
رد عليّ، كيف؟ أخ لا يعلم عن أخيه؟ قلت لأنه لا يسكن في النجف معنا.
- صورته على اللوحة خلفك، أنظر ليس هو وحده.
وأشار، خلفك لوحة تحوي صور الشيوعيين، أمامك صور القوميين. أما هذه وأشار إلى ما وراء ظهره فصور النشالين واللصوص. كنت اعتياديا في تبادل حديثه وأسئلته، لم أشعره إني أتضايق من أسئلته.
- أستعرض الصور، سترى صورته.
واستعرضت وأشرت بأصبعي، هذا هو.
ردّ عليّ، كان مريضاً، كيف هو الآن؟! أضحكني سؤاله، قلت أنت ذكي ولكني -لست على الأقل- غبياً. قلت انه لا يعيش في النجف.
- لا أبداً، لا أقصد إلا التحدث، لقتل الوقت. أنا بدرجة مفوض، أدرس في متوسطة التفيض، وأحب الحديث معك، لأنك معلم.
في اليوم الرابع، أدخلت إلى غرفة مفوض آخر. بدا يبتسم، ويسألني أن كنت بخير. وقال، هل لقيت منهم أذى؟ أنهم لا يرحمون. أنا كردي، الشعب الكردي مضطهد. أنا أبغضهم، لأنهم يبغضون شعبي! حتى المهمات التي بعهدتي عادية، لأنهم لا يأتمنونني. لا تخف، لا تبح بشيء مما عندك؟!
قلت بنفسي، أخيراً كشفت حقيقتك، أنك شرطي. وأجبت، المفلس في القافلة أمين، أليس كذلك!؟. في هذه الأثناء دخل واحد منهم. كان بديناً، ذا وجه عريض، يلبس الصدارة، ويرتدي معطف أسود. بادرني بالسؤال، كيف حال الأستاذ؟
- بخير
- طبعاً تدرس العربية. أنا أحبها، أحب مطالعة الكتب القديمة، كتب الجاحظ وأمثاله. لا يوجد اليوم أمثالهم، هل تنظم الشعر؟
- ليس بالمستوى العالي، وضمن حدود عواطفي.
نظر إلى ساعته، وقال حان الوقت، تهيأ، سنذهب إلى حاكم التحقيق، لتصديق إفادتك!
وخرجنا معاً، دون أن يضع في يدي قيداً. وكأن الحاكم على علم فقد وجدته وحده، ورحب بالمعاون، أهلاً أستاذ عبد اللطيف. وأمر البواب، شايين حالاً، وتحدثا مع الشاي أحاديث اعتيادية تخللتها نكات. بعد هذا ألتفت إليّ:
- سأستجوبك، حاول أن تجيب بصدق. النجاة في الصدق.
وسأل المعاون: كيف كانت إفادته عندكم، هل أعترف بالواقع؟
هزّ المعاون رأسه، وقدم له ملفتي. مسك بالقلم، وأعاد عليّ، أجب بصدق لا تراوغ.
بعد الاستفسارات الروتينية، قال:
- من الذي رشحك ومن الذي رشحته، للعضوية في الحزب الشيوعي السري؟
- لست في أي حزب، لم اُرَشَح ولم أرَشِح أحداً.
أسئلة كثيرة، سأل عن الجريدة السرية هل تطالعها، ولم أتحرج فقلت: عندما أعثر عليها طبعاً.
- هل أنت عضو في الحزب الشيوعي العراقي السري؟
- أوضحت لكم إني لست في أي حزب.
رمى القلم على المنضدة بعصبية،  انتو ميفيد وياكم الأحترام، أنتو مال ....! وسأل المعاون، أدبتوه زين؟ يبدي حضرته صلابة، رجعه، ثلاثة أيام أدبو تمام وجيبو.
أكتفى المعاون بأبتسامة هادئة. وقلت، أكتب سعادة الحاكم ما شئت، كنت أفكر أن أشكو لعدالتكم ما لقيت، لكني الآن كالمستجير من الرمضاء ...
المعاون أكمل، بالنار ....
وتتالت الأسئلة، ويضع هو الجواب، كلها كانت هينة حتى اعتباري عضواً. وعدنا إلى مديرية التحقيقات، حيث أمرت أن أحزم ما لدي من بطانيات وحاجات. والى أين؟ لم أسأل...!

الصدف اللعينة
أحقاً هذا؟ أهي لعينة لمصلحة صاحبها، أم حين هي لغير مصلحته؟
سرعان ما توقفت بنا السيارة عند مركز شرطة الكرادة، يا للصدفة اللعينة هذا هو المعاون "محي الدين عبد الرحمن"، لا أتذكر ربما الأسمين يجب أن يكون أحدهما محل الآخر. هذه هي المرة الثانية التقي به. لأول مرة عرفته حين كان في النجف. كنت أمشي في السوق الكبير قاصداً البيت، وإذا بيد قوية تمسك عضدي بقوة، رأيته، ومع تكشيرة وضحكة ثقيلة، كُمشتك ولك وين ضام نفسك؟!
التفت وقلت، من تريد؟ أنا من؟
- أنت مهدي هاشم (مرّ ذكره في موضوعة "الخبز والمنصب")، ليش ما اعرفك؟
- تعال معي!. وتوجهت إلى متجر أعرف صاحبه، قلت لصاحبه، رجاءً قل لحضرة المعاون، من أنا؟!
قال الرجل، هذا علي الشبيبي، معلم.
- عجيب! والله يشبه مهدي هاشم، بالله، موهوَّ؟ روح يابه روح!
يتندر النجفيون عنه بحكاية طريفة. كلف أحد تجار الماشية، أن يشتري له "جاموسة صغيرة". إن التاجر لم يعتقد انه بليد إلى هذا الحد، فناقشه، إن الجاموسة لا يمكن أن تكون في البيوت وخاصة إذا كبرت. ولكنه ظل يلح -ليلعب بها الصغار-، ومن الصدف أن يروا "سخلة" فصاح، هه  مثل هذه! قال له، هذه "سخلة". وظل التاجر يذكرها متندراً.
الآن أنا أمامه، وعرفني حالاً. نهض من خلف منضدته، وصاح، ها، المرة جابوك، أخوك حسين، وين صار؟ ثم إلى الشرطي، فتشه!. يا للغباء، وهل من مكث عند التحقيقات الجنائية أربعة أيام يسلم من التفتيش وهو لم يسلم من التعذيب والتحقيقات؟! أخرج من جيبي قصاصة جريدة فيها قصيدة بعنوان "يا عابد المال" لأيليا أبي ماضي. فراح يسخر، "ولك ليش تكره عابد المال، محسن شلاش أبن بلدك، عابد المال". ليته يقرأ البيتين الأولين:
خذ ما استطعت من الدنيا وأهلها         لكن تعلم قليــلاً كيف تعطيهـــــا
كن وردة طيبهـا حتى لسـارقهـا         لا دمنة خبثهـا حتى لســــاقيهــا
لم يقرأ غير العنوان، لأنه لا يعرف مما يقرأ. وقال للشرطي، ودّي ويّه ربعه.
أقبلت على غرفة، جدارها الأمامي من قضبان الحديد، فيها عدد من الشباب، عجبت كيف يعيش هذا العدد بهذه المساحة الصغيرة كلهم اتجهوا بأنظارهم للوافد الجديد. صاحبي وصديقي "م" بينهم، هو الذي نبههم إليّ وعرفهم بي، بعد هذا علمت أنه قص لهم الحكاية معكوسة. وهتف "هذا هو صديقي الذي حدثتكم عنه!"*.
فقدت اتزاني، وصحت بوجهه، وقذفته بكلمات تحقير وإهانة. وهدأت قليلاً. بعد التعارف مع الآخرين، قلت "أين الصمود الذي كنت تتحدث عنه، أهكذا تنهار، وتعترف اعتراف خزي ونذالة؟!"
الآخرون أخذوا يهدؤنني. على أي حال، بعد ساعة، أختصر بي أحدهم. وقال، أرجو بلا امتعاض وانفعال، تحدث باختصار، كيف ومتى تم جلبك إلى بغداد؟
قلت، جلبت من الناصرية في 9/1 أي إني وصلت غروباً ليلة 10/1 إلى التحقيقات الجنائية.
عقب، لا تهتم هذا أول دليل على اتهامه زوراً. فقد أفاد هو، انه القي عليه القبض في 1/1. وكم بقيت في التحقيقات؟. قلت، هذا أول يوم أغادرها فيه إليكم بعد مواجهة حاكم التحقيق "علي فريد غالب". وفي التحقيقات بعد ثلاثة أيام تعذيب وتحقيق، أطلعت على ما أفاد واتهمني به هو ورفيقاه "جواد مجيد وشاهر ..."!
قال صاحبي، كان "شاهر" السبب ثم "جواد" في جلبه. ومن مسؤول النجف الآن؟
قلت، تخليت عن المسؤولية، وحل محلي هو "م"
أكبر الموقوفين سناً كان المحامي "محمود صالح" عضو الهيأة المؤسسة لحزب التحرر. يبدو انه منحرف الصحة. كان موزوناً ومحترماً. وطالب الحقوق "عبد اللطيف السعدي" الأكثرون لم يسبق أن تعرفت عليهم، بعضهم يهود، والباقون مسلمون من مدن شتى، طبعاً لا صلة لهم بنا سابقاً. الجميع تعاطف معي وأخذوا يهدؤنني.
ونسيت كل انفعالاتي، وكأني بين أهلي. كان ذووهم يأتون إليهم بالطعام قبيل الظهر، للغداء والعشاء. أما الفطور، فنأخذ الجيد من -كرم الدولة- لو حصل. معنا عاديون، بعضهم له مدة غير قصيرة، بعضهم يؤتى به ليلاً ويطلق سراحه نهاراً. ضاق المكان الليلة. كيف ننام؟ انه لا يمكن بحال من الأحوال؟ إذن لنسمر، سمر البلابل في الأقفاص!
بعض الشباب الحقوقيين، كان يمرن قابليته، فهو يجري تحقيقاً مع الموقوفين العاديين، حالما يدفع به الشرطي إلينا.
أغلب هؤلاء من قرى بغداد. فلاحون في المزارع القريبة. أحد الذين جيء بهم في وقت متأخر كان في سن الستين، قصير القامة، حاد النظرات، بدوي اللهجة، قال له هذا، أحكي قصتك... لم يتردد، أخذ يتحدث ومازال في هياج "كنت أتعلل، جيت البيت، لقيت منعولة الساعة، تحت .... نفض نفسو وفرّ، لكني ضربتو باخنجر، ياوسفه، ماصبتو تمام".
صاح الجميع، أنت رجل مضى وقتك، ما فيك قوة، هي تريد شاب يكفيها!
صاح، له له له، انا عمكم والله من أطرحهه وأدوس لازم تضرط!
ودوى ضحك صاخب. في هذه الأثناء جاء شرطي بشاب. فصاح البدوي، هه، جيت يمنعول الوالدين، والله لو ما تكون هاي دار حكومة، وسدتك المنية!
بين الذين جيء بهم الليلة عامل ميكانيكي كهل، من أطراف بغداد. كان كاسف البال، غارقاً في حزن عميق. ينتحب بهدوء بين فترة وأخرى. لم يجرأ صاحبنا أن يستجوبه. دنا منه "محمود صالح" هدأه بكلمات طيبة. طلب منه أن يفضي له حكايته، ليساعدوه قانونياً. أنفجر الرجل بالبكاء. كان يضرب كفاً بكف ويردد "هم شرفي، وهم آنه أنتهم". لكنه بعدئذ هدأ. إن أخته الصغيرة اتهمته انه افتضها!. المحامي سأله، أهي تقيم معك؟. أجاب، أكثر الأيام عند أختي المتزوجة.
- بسيطة. إذن هناك احتمال، أن تكون العلاقة مع زوج أختها، لك أن تذكر هذا للمحقق. سيهتدون حتماً إن كنت بريئاً.
وكأن هذه الملاحظة جرحته، فأنفجر يبكي بمرارة ....
كان كل يوم يدعى، من قبل المحامي الذي توكل عنه، وأحياناً للإجابة عن بعض الاستفسارات. وبعد ثلاثة أيام جاءه البشير بإخلاء سبيله، وقد أعتقل زوج أخته، وأودعت الفتاة عند المختار.

يتبــــــــــع
*- ذكر والدي بمخطوطته أسم صديقه هذا الصريح والكامل، لكني ارتأيت عدم تدوينه، فالعبرة ليست بالأسماء وإنما بالأحداث، إضافة إلى أن هذه الأحداث قد مرّ عليها ستة عقود ومعظم الذين عاشوها قد رحلوا طيب الله ثراهم جميعهم. بعضهم ترك العمل الحزبي لكنه بقى قريبا من الحزب ومنهم "م" وآخرون انقلبوا على الحزب وتحولوا لأعداء.
 منذ وعيت كنت أسمع بألم وأسى قصة "م" وموقفه المتخاذل من الوالد، فالخيانة بدأت من أقرب أصدقائه. ولم يكتف "الصديق -م-" بذلك فإنه بعد أطلاق سراحه وعودته إلى النجف استغل بقاء والدي في المعتقل لينشر القصة في النجف بين رفاقه معكوسة!/ الناشر

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد     ‏27‏/01‏/2011
alshibiby45@hotmail.com




121
المنبر الحر / تونس إلى أين!؟
« في: 01:14 24/01/2011  »
تونس إلى أين!؟

تحية إجلال واعتزاز كبيرين بانتفاضة الشعب التونسي الجبارة. هذه الانتفاضة التي أرعبت الأنظمة الاستبدادية العربية ورؤسائها، فتسابقوا في أبداء المشاعر الكاذبة والمنافقة، وآخرون بهذيانهم وخرفهم حاولوا الإساءة لمشاعر الشعب المنتفض لا بل هم أساؤوا لكل الشعوب العربية. فألف تحية لشعب عرف كيف ومتى ينتفض لتنظيف وطنه من بؤر الاستبداد والفساد.
حال الهروب الجبان والمخزي للرئيس بن علي تلقف أيتامه من بقايا السلطة الاستبدادية والحرس القديم قيادة شؤون الدولة، كمحاولة للالتفاف على أهداف الانتفاضة وإفراغها من مضمونها الشعبي وكسب الوقت للانقضاض على ثورة الياسمين. أن قوى الاستبداد أكسبتها الحياة تجارب ذكية في المهادنة والانحناء أمام العواصف، واختيار اللحظات الحاسمة للعودة إلى الوراء، إنه صراع من أجل البقاء والاستمرار. كما أن بقايا الاستبداد المتمثلة بالوزير الأول محمد الغنوشي ورئيس مجلس النواب فؤاد المبزع ورفاقهم من وزراء عهد الاستبداد، والمؤسسات التي كانت تحاول منح بن علي الشرعية في استبداده وتجمل صورته أمام الرأي العام الداخلي والخارجي، هي الأخرى جزء من منظومة الاستبداد ولا يمكن الركون إليها وإلى نواياها! 
لقد بادر الحرس القديم بالاعتماد على المؤسسات القديمة في تسلم مقاليد السلطة، محاولين شق الصف الوطني -ونجحوا لحد ما- في أشراك بعض القوى المعارضة، وإصدار بعض القرارات التي تطالب بها الجماهير، ولكن هذا الحرس القديم بقي متمسكا بمقاليد السلطة و السيطرة على القرار. أما استجابتهم لبعض مطالب الانتفاضة ما هو إلا محاولة للتهدئة والعمل على شق الصف الوطني.
الغنوشي أعلن أنه لن يستمر بعد إنهاء الفترة الانتقالية وسيتقاعد. لا أعتقد أن الغنوشي جاد في كلامه؟ لأن رجل بمستواه الثقافي وتجربته السياسية والإدارية، وقد خدم النظام الاستبدادي وصمت عن التدهور الاقتصادي والنهب المالي إلى آخر لحظة، وان الرئيس الهارب آمن به وسلمه مقاليد السلطة لثقته المطلقة بإمكانياته الثعلبية وإلا لكلف غيره قبل فراره. لهذا أرى وآمل أن تنتبه القوى الديمقراطية للعبة الغنوشي وتفويت الفرصة عليه. لا أعتقد أن حرصه على النظام والأمن ومستقبل تونس يتطلب منه الاستمرار فقط لستة أشهر -كما يدعي-، هذا الوحي نزل عليه فجأة بعد هروب بن علي ولم ينزل عليه أيام بن علي!؟ لو كان هذا الثعلب صادقا لحاور جميع التنظيمات السياسية لإشراكها في الحكومة بعد أن يقدم استقالته واعتذاره للشعب التونسي لمشاركته بن علي في تسويق سياسته الاستبدادية!؟ أما عدم تشاور الغنوشي مع جميع أحزاب المعارضة وتبريره بعدم قانونيتها أو الاعتراف بها، فأنه تبرير تلغيه أنتفاضة الشعب التي أجبرت رئيسا "منتخبا" على ترك رئاسته هاربا، ثم كيف يريد الغنوشي ومن أقتنع بالانضمام إلى وزارته الاعتماد على قوانين استبدادية!؟ أليس الانتفاضة من مهامها إلغاء هذه القوانين الاستبدادية؟  فأيها الشعب التونسي لا تنخدع بهذا الثعلب فهو وأعوانه ينتظر الفرصة للانقضاض والاقتصاص من الانتفاضة.
بعض المعارضين من شارك في الحكومة المؤقته، يبرر اشتراكه في عدم رغبته في حدوث فراغ وليحافظوا على الأمن ....الخ! أقول لهم يا سادة تعلموا من تجارب الشعوب، لو كان فعلا أن الغنوشي صادقا في أنه يريد أن يضع البلاد في طريق جديد، لما تمسك ورفاقه -أيام الاستبداد- باستماتة بالسلطة. وأقول لقوى المعارضة التي رفضت الاشتراك في حكومة تضم عناصرا من الحرس القديم. التظاهرات وحدها لا تكفي وعليكم توحيد قواكم لتشمل أوسع قاعدة جماهيرية حول مطالب واضحة. أعقدوا مؤتمرا يضم جميع القوى الوطنية. اتفقوا على تشكيل حكومة متكاملة -حكومة ظل- تستلم السلطة حال استقالة وزارة الغنوشي. اختاروا وزراؤكم من المناضلين التكنوقراط المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة وبالروح الوطنية المناهضة للاستبداد. شكلوا لجنة للتفاوض وإجبار الحكومة الحالية لاستلام السلطة منها وذلك بالضغط الجماهيري المنظم والسلمي والمتواصل. صارحوا الشعب بمفاوضاتكم وليكن هو الحكم، وبذلك يقوى تمسكه بكم وتتعزز ثقته بكم، وتجنبون أنفسكم الإشاعات المغرضة التي تحاول تشويه مواقفكم. تجنبوا التفاوض معكم بانفراد فإنها سياسة ماكرة لتفريقكم.
وأخيرا أتمنى للشعب التونسي وقواه الوطنية النصر المؤزر ولتكن انتفاضة الشعب التونسي مثالا يقتدى به لشعوب المنطقة، ولتنهض من سباتها لتكنس قوى الاستبداد والجهل والظلام.
 
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏23‏/01‏/2011   
 
     
 

122
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 18
« في: 02:02 22/01/2011  »
2- الدرب الطويل/ 18
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)



ليد القدر
لأقلْ هذا، فلن أملك لنفسي ضراً ولا نفعاً. أترك الأمر ليد القدر، فليس عجيباً أبداً أن تأتيني ضربة، دون أدنى سبب مني، فقد صرت "حِسَن" أو أخاً لِـ "حِسَن". حِسَن، مثل شعبي ريفي صار يضرب به المثل، إذ أبتلى بجريرة وكل من تسمى باسمه، أو كل من أريد اتهامه قالوا له إنك "حِسَن"!.
أنا الآن في الناصرية، صدر تعييني حيث أردت، ولكن بشفاعة أو كما يعبرون  الواسطة "واسطة"! من يستطيع أن يقدم من أجل الحصول على مطلبه "واسطة" لا يمتنع، وان كان الذين لا يضطروا لها، يزدرونها، وبمن يحقق غرضه عن طريقها.
ولكن الأمر عكس ما يعيب العائبون، كل شؤوننا في الحياة، وحتى الممات، متعلقة في الأغلب على الواسطة، فنحن في الصلاة نجعل محمد وآل محمد واسطة للشفاعة والعفو عما أذنبنا. وفي كل الأدعية، نرجو الأولياء أن يكونوا وسطاء شفعاء "يوم لا ينفع مال ولا بنون" ولذا كثرت القبور التي أخذ يعتاش عليها أبناؤهم أو من تقرب إلى الله فأقام عليها قبة وضريحاً.
توجهت قبل انتهاء الدوام، إلى دائرة قائممقام قضاء الناصرية الأستاذ ضياء شكارة "أبو فريد"، والعلاقة بيننا قديمة، وأسرته أيضاً وعلاقتها بالشبيبيين، فكان عند حسن الظن، بل الثقة التامة، ولبى السيد مدير المعارف "السيد إبراهيم حسيب المفتي" طلبه، وعينت في المدرسة الغربية الابتدائية، بكتاب مديرية معارف المنتفك المرقم 4719 في 3/12/1947 حسب كتاب مديرية التعليم الأبتدائي 29727 في 18/11/1947.
أحد زملائي المفصولين ممن سبقني في التعيين، عين في مديرية المعارف في الحسابات، ونجفي آخر من آل الحلو مساح في البلدية، وكلاهما كفؤ كريم.
استقبلني معلمو المدرسة بالترحاب. كانوا شباباً طيبين ذوي لباقة وأريحية، لذلك انبسطت معهم أبادلهم الشعور والثقة بهم وبأخلاقهم. ولا غرابة أن يجد المرء من بين المجموع، من يمكن أن ينسجم معه أكثر. كان مدير المدرسة أكبرهم سناً، لكنه من النمط القديم جداً، في كل شيء عدا لعب البوكر؟!
تعرفت خارج المدرسة على آخرين من محبي الأدب وهواته، فيهم من يشار إليه في هذا البلد بالبنان. وجاملوني بأطيب ما تكون المجاملة، في ولائم في النادي حيث يقضون ساعات من الليل.
لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟
أجل، أنا الذي هديته إلى ميدان الكفاح، وزكيته، بينما لامني أخي "حسين" أشد اللوم. قال لي "لو كنت أعلم قبل ترشيحه لمنعتك، إنه جبان ود...."
مضت أيام قليلة كنت أقيم فيها في فندق، ويمضي الليل –وحسبه تجيبني وحسبه توديني- كما تقول أغنية ريفية. قلق الوساد، لا يغمض جفني إلا في وقت متأخر. وبيدي أعد طعامي، لأضمن صلاحه وفق ذوقي، وأقتصد أيضاً.
حصلت على بيت للإيجار بواسطة معلم صابئي، في محلة يقطنها الأخوة الصابئة. لم يعلن هذا أمام زملائنا. أدركت السبب من طيات كلامه. انه يخشى أن أرفض هذه المنة، فأنا مسلم وسكان المحلة صابئة. شكرته ورحبت بجواره.
كان بيتاً عادياً جداً، سوره وغرفتان منه من الطين. واحدة فقط من الطابوق، وسعتها تغنيني عن الأخريين. صاحب البيت "منهل" الصائغ رجل وقور، ترتسم على وجهه علائم الطيبة، وهو في سن السبعين، ولده "جبار" شاب ذا نخوة وكرم. البيت جزء من مسكنه، ومن هذه الغرفة باب يؤدي إلى مسكنه. ولده الأكبر "جبار" موظف في السكك، يقيم في بيت للسكك في أور وعلمت إنه يساري الاتجاه.
وجلبت أهلي، وحدثتها عن موقع البيت وسكان المحلة. حين سمعت لفظة "صابئة" نفرت! كيف نعيش مع "كفار"!؟ لا غرابة، فلأول مرة في حياتها تنتقل من وسط ديني "النجف" وحدثتها عن الصابئة ... باختصار. إنهم بشر مثلنا، فيهم الطيب والخبيث. لا يختلفون عنا في هذا وعن سوانا! ستتعرفين إلى نسائهم، ستعرفين كم هن طيبات وجميلات. فقط إن لهم ديانة بسيطة أيضاً، ربما حتى هم لا يعرفون عن تأريخها شيئاً، ولا حتى عن نبيهم سوى أقوال، لا يستطيع أحد أن يجزم بصحتها.
ودعانا صاحب البيت "منهل أبو جبار" بعد يوم للعشاء، بكلمات موجزة وجميلة "إنا سنبدو لكم بدون إي فرق في طبائخنا"  وتقبلت دعوته شاكراً. وعقب، إن عشاء العيال سيصل إلى البيت.
وحين ذهبت إليهم، أرسلت قرينتي إليهم مما طبخنا. واعتذرت "إنا كنا أعددناه قبل ليلة، ولا يصح أن ندعه للتلف، انه طبخة غير معروفة لديكم "السبزي" طبخة نجفية". وأكلت من زادهم، فأطمأن الشيخ إليّ، وبدا عليه ذلك في حديثه المرح. أما قرينتي فقد وجدت متنفساً حين تخلصت من طعامهم! إنها التقاليد، فلم ألمها.
في أحد الأيام، حين عدت إلى البيت، بهت، فاعتذرت، إذ نسيت أن أجلب معي من السوق ما يلزم للفطور صباح غد. فقالت قرينتي، لقد جاءت أحدى جاراتنا بآنية فيها حليب، ولبن وزبد. قالت إنه من الزميل الأستاذ بدري ..... في اليوم الثاني، شكرت زميلي بدري، على تفضله بما قدم من حليب وزبد ولبن. فدوى ضحك وتعليق، من زميلي، عبد الوهاب البدري وشنون عبيد. قال أحدهم "أشهدوا ابن عاصمة الشيعة، ومركز العلوم الدينية، يشرب حليباً، ويأكل زبداً من صابئي!؟". وشاركهم المدير مستنكراً.
ورغم إن بدري من المرحين، وضعيف الالتزام بتعاليم الصابئة، فقد بدا عليه انفعال. وبلهجة تضارع لهجة زميلي، قلت "إن البقرة التي أهدى إلي زميلي بدري لبنها لا تدين مطلقاً بدين. ولكن قل لي أيها الزميل عبد الوهاب، هل الخمرة التي تعاقرها كل ليلة استوردت من معاصر جعفرية!؟".
ودوى ضحك، وتعليقات زادتهم ضحكاً ..... وصاح أحدهم، لكمة نجفية! وعلق آخر، ما يدريكم إن الخمور ينطبق عليها القاعدة الشرعية "ما يباع في أسواق المسلمين طاهر وحلال!". قال ثالث، أقسم عبد الحسين حواله إنه سمع  من جورج "لا يفتض قنينته إلا بعد البسملة!". ودق الجرس فتوجهنا إلى الصفوف نوالي الضحك والتعليق. إن هذا يجلب الارتياح النفسي.
ولست بالغريب عن الناصرية، في نواحيها بعض أرحامنا، زرتهم مرات قبل هذا. وفي سني الاحتلال البريطاني، هاجرنا إليهم، ثم أنتقل بنا أبي إلى سوق الشيوخ، ممثلاً لبعض المجتهدين في النجف. ولي في الناصرية معارف وأصدقاء، بعضهم من أبنائها تعرفت عليهم من سنين خلت، وبعضهم جمعتني بهم ظروف خاصة، وتم بيني وبينهم مودة وثيقة. لكني لا أستريح إلى مائها ومناخها، ويدهشني صمت أبنائها، هم ليسو بالجهلة، ولكن لماذا لا يطالبون بما هو من حقهم؟ خصوصاً وإن من أبنائها من أصبح من رجال الحكم، وزعيم سياسي؟
وفوجئت بأمر مديرية المعارف أن تقوم المدارس "ابتدائيات وثانوية" بتظاهرة احتجاجا على قرار تقسيم فلسطين، هذا القرار المجحف بحق الأمة العربية كلها، هل يكفي معه الاحتجاج؟
باب هجرة اليهود مازال مفتوحاً ومستمراً، وزاد الأمر سوءاً، ما قام به حكام العراق، من تهجير يهود العراق بحجة إنهم يوالون الصهيونية. لكن الهدف الحقيقي أن يصبح اليهود في فلسطين أكثرية. هذا ما فعله الأوربيون، بعد أتفاق بين زعماء الصهاينة وبينهم، وما فعله هتلر لم يخل من هذا الغرض وليدس جواسيسه إلى الشرق والغرب كيهود مطرودين!
ذات يوم قبل أن أسمع بقرار التقسيم، أفقت من نومي عن حلم غريب، السيد أبو الحسن المرجع الديني الكبير، على فراش الموت، حوله عدد من طلابه، وعند رأسه عبد الإله -الوصي على العرش- حزيناً، يعزف على الكمان، ويغني باكياً "دول اللي آلو لك عني آلو لي عنك!".
لست أومن بالأحلام، وأبو الحسن قد توفى 4/11/1946، فما معنى هذا؟ عبد الإله معروف بولائه للإنكليز، لكنه ينافس نوري السعيد، ويحاول أبعاده. أما الإنكليز فإنهم يخادعون كل من يتملقهم. ثقتهم بنوري أكبر من كل شيء. لكنهم لا يفرطون بحق من يريد خدمتهم، إنما يشعلون نار الغيرة، ليتنافس أولئك في أداء الخدمة على الوجه الأكمل.
لست أعلم ماذا يخبئ لي القدر في قابل الأيام؟ ففي هذه الأيام أنا كثير الأحلام! وأحمد ذاكرتي إن لم تهتم بها، ولكن أحياناً أستيقظ كخائف، فأسجل ما تراءى لي.
والليالي من الزمان حبالى         والليــالي يلدن كل عجيب!

رسالة إلى الكبائش
صديقي الوفي الحبيب أبا غالب "جواد كاظم شبيل". أعترف أمام نفسي إنك وحدك الصديق الذي اعتبرني موفقاً كل التوفيق للثقة الغالية التي يحملها كل منا لصاحبه. ويمكنني أيضاً أن أقول وبكل صراحة، إن "م" ، لا يعترف أبداً بوجود ما يسمى صداقة.
صحيح إن الصديق بالمعنى المطابق لهذه الكلمة بعمق تام، أندر من كل نادر. كما إن مفهوم الصديق يختلف بين فئة وأخرى من الناس. إلا نفر قد يكون -أو على الأصح- يعتبر شاذاً، إذ تجد أثنين يندمجان في إطار الصداقة، اندماجا يفوق علاقة الأخ بأخيه الشقيق.
التجار مثلاً، معظمهم يدين بهذه الحكمة "من أقرض الصديق، أضاع المال والصديق!" هم إذن يؤثرون المال على الصديق عند الحاجة. وما هذه بحكمة. إنها حكمة السائمات!
هذا الذي لا يسند الصديق عند الحاجة، وهو قادر، ليس بصديق. والذي يزن المال ويقرنه مع الصديق بمقياس الوفاء للدين؟! وهو عاجز، هو أقرب إلى المرابي منه إلى الصديق.
لست سعيداً لأني -كما توهم بعض- استطعت أن أظفر بالتعيين، في مركز اللواء! وكن على ثقة وتقبل ما أنت فيه. إنك بخير على أقل احتمال في هذه الفترة التي تتمخض، ربما بأحداث جسام، والفلسفة السائدة عند -الملائكة الحافظين- تماماً هي ما يعبر عنها المثل "أنتَ حِسَن"، إنهم شرطة الشعبة الخاصة؟ هؤلاء يريدون دائماً أن يثبتوا نشاطاً بأنهم الحرس الواعي، وبيقظة تامة للحكم الذي منحهم ثقته التامة، ليمضي ساسة الحكم في تنفيذ ما يريد الأسياد الحقيقيون. فإذا أشتد الطلق ليلد الحكم وليداً لعموم البلاد العربية أو للعراق وحده، وإذا أقيمت الأفراح استبشارا بالوليد، وثارت نقمة الشعب تشاؤماً من ذلك الوليد، فإنا وكثير من أمثالنا سيكون هدفاً لنشاط "شرطة الشعبة الخاصة" على قاعدة أنت حِسَن؟!
يبدو أن حِسَن شخصية شهيرة، وان لم نعرف حقيقته، كما يعرفها "حسين قسام" الشاعر الشعبي النجفي. فقال عنه قصيدة مطلعها "شهل البلشه يَرَبي حِسَن سموني؟!"
عش عزيزي مطمأناً، حتى على ما وصفت به تلك الحياة التي تحياها في الكبائش. مع تلك المياه التي قد تفصل كوخاً عن كوخ، وفي المدرسة التي أنت فيها كيف يعبر من صف إلى صف قفزاً.
ولقد ضحكت كثيراً فيما رويت عن حادث القروي الذي وجد ميتاً، وهو نائم على فسحة أمام كوخه، حيث دخلت حية من حيات الأهوار بفمه المفتوح، لقد مات من عضتها وفمه مطبق عليها. حقاً لقد أنتقم لنفسه من قاتله. أما الأفاعي البشرية التي تعضنا فإنها تسرح وتمرح بأمان. إنها كثيراً ما تعضنا، عضاً غير مميت ولكنها تشلنا شلاً، وتسبب لنا ولأطفالنا الحرمان والجوع. ولكن عليّ أن أقول الحق أيضاً، لو ظفرنا بها أنتركها على قيد الحياة؟!
أبداً. وحقك، سندوسها بالأقدام وبلا رحمة!
أعدت قراءة رسالتك أكثر من مرة. أضحك تارة، وأتأوه تارة أخرى. أنت لأول مرة تعيش في مثل هذه القرية، التي هي في حساب التقسيمات الإدارية تسمى ناحية. أضحك وأنا أقرأ كيف يساعدكم بعض الشرطة للحصول على بعض المواد المعيشية، بالسعر الزهيد مع جودة في النوعية. وانه مع ذلك يحصل هو على ما يريد من المواد مجاناً؟!
أما أنا ففي بداية تعييني، قضيت ثلاثة سنين في قرى ذقت فيها المر، وأسمع من الشرطة الذين يجاورون المدرسة -في المخفر- يتحدثون عن بطولاتهم ... كيف نقلوا مدير المدرسة "عبد الحميد" ... وكيف حجزوا المعلم "حبيب" ...والى الكثير من أمثال هذه.
ولا عجب. فهم في القرى الحكام ذوو الصلاحيات الواسعة. يخافهم السراكيل، والشيوخ الصغار، أنا أروي لك حكاية سمعتها هنا.
صِدام وقع بين عشيرتين، وتوجه إليهما، المتصرف ومدير الشرطة. جاء واحد من رجال الفريقين يخبر رئيسه. وقال له "يريدوك، أجه المتصرف والمدير". فرفع الشيخ رأسه وقال بضجر "شنهو؟ ولك لو يجي العريف -تبينه- براسه مگوميش!". تأمل كم هو كبير في نظرهم العريف تبينه.
حدثني سيد شمال، العريف في مخفر سوق شعلان، عن رغبته في ترك الوظيفة. إن له ملكاً يمكن أن يعيش منه براحة وسعادة، وينتظر بفارغ الصبر لو تخلص من الوظيفة؟!
دعني أثرثر معك في هذه الرسالة. مدرستي تدعى "الغربية الابتدائية" هي في الواقع دار، ولا تصلح أن تكون مدرسة، غرفها غير لائقة من حيث سعتها، وتهويتها، ومنظر جدرانها الكالح. وساحتها لا تصلح للعدد الوافر من الأطفال باللعب والمرح أثناء الفرص.
مديرها قد تجاوز مرحلة الكهولة. علوي يتبجح كثيراً بالنسب. خالي الوطاب، من أية معلومات اجتماعية. وقد علمت من زملائي المعلمين، انه مقامر مدمن، ولذلك هو لا يملك غير راتب الوظيفة والسبب لأنه مقامر! أما المعلمون فهم نماذج مختلفة، المدير وواحد فقط لا يعاقرون الخمرة، الباقون منهم من لا يفهم شاغلا غيرها، وغير الأنثى موقتاً!.
وبين طلابي في السادس طالب من الشطرة، طويل القامة، صارم الملامح، يدل مظهره على أنه بائس، يتجه بكل اهتمامه إلى المعلم. ورأيته يوم جمعة يدفع عربة، تحوي بضاعة قليلة وعادية. استوقفته أستفسر منه مع عبارات تشجيع، فأطلق آهة حادة. وبعد أن ألمح إليّ أنه يحس إني "يعنيني" ذا شعور إنساني، تفصح عنه كلماته، شرح لي مأساته. أبوه وجيه على درجة عالية من الثراء، استغنى عن أمه وطرده معها، لذا هو يكتسب قدر الإمكان ليدبر أمر دراسته.
حملت هذا الطالب شطراً مهماً من مواضيع النشرة وأبوابها. ولي في الصف الثالث حصة "الدين" ألقيت أول مرة نظرتي على الطلبة، وأسأل من بعضهم عن أسمه وأسم أبيه ومهنته. كان أحدهم يشارك أبني على رحلة واحدة، كم كانت دهشتي عظيمة، حين وجدت انه سمي أبني "كفاح". وكانت دهشتي أكبر، حين عرفت أباه "محسن القصاب"، الذي حدث لي معه قبل سنين خلت تعارف وحديث وفراق! محسن القصاب، عصامي في نشأته، معتد بنفسه، توفى قبل الأوان وترك ولدين أحدهما كفاح. كان محسن أديباً له طموح عال مع غرور أيضاً. وكنت قدرت انه لابد أن يكون له مستقبل وتتحول أفكاره مادام له ارتباط بالصحافة والكتاب، ولكن الموت أختطفه في عز الشباب.
تعرفت عليه "محسن" عن طريق مـرتضى، كان فتى تدل ملامحه على صرامة وطموح للصعود إلى قمم المجد كوطني وقومي في مضمار السياسة. وعلمت من ابنه هذا انه قد توفى منذ سنين خلت عن أثنين من البنين أو ثلاث "كفاح ونضال و ..." هكذا اسماهما تعبيراً عن نهجه في الحياة.
في مقهى البرلمان وفي يوم العيد، الراديو يذيع أغاني بالمناسبة "العيد في بغداد من أجمل الأعياد!"
قطع"محسن"  حديثه معي قائلاً "الله ما أروع ما تقول! أتسمع!؟".
أجبته بجفاف، أتقول هذا أنت؟!
- ألا يعجبك الصوت واللحن؟ إنها عن العيد. أنظر. الناس تغمرهم بهجة. الأغنية تعبر عن هذا. ألا تحب مشاركة الناس أفراحهم!؟
إلى جوارنا ريفي من العمارة، كان كهلاً. سألته، ما تقول يا عم؟. أجاب مع آهة أسى، عيدت كلها الناس وانه بسوادي!
لا ياعم. موكلهه الناس؟! أمثالك كثير. والى هذا الصديق، أسمعت "عيدت كله الناس؟" ولاح كناس بملابسه الرثة -بيوم العيد- يجرف بمكنسته روث خيول العربات كيلا تشوه منظر شارع الرشيد، واليوم عيد؟!
فقلت بين الجد والدعابة، وهذا؟ مشيراً إلى الكناس. أليس من حقه يتمتع ببهجة العيد؟. فكان رده بهياج وانفعال، ماذا تريد؟ كل الناس سادة، كلهم مترفين، من يكنس الشوارع إذن؟! من ينقل الأزبال؟ من ... من؟ وختم أنفعاله، يبدو لي إنك من ذوي الأفكار المستوردة؟ سوف لن ترى إلا ما يشقيك!
كانت آخر جلسة. وأنا ذا اكرع من كؤوس الشقاء. ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم.
لسنا يا أخي باعة فنطالب أن نحصل عن كل خطوة في طريق الجهاد أجراً. نحن معلمون. هذا قدرنا، فلا غرابة أن نُعَذَب ونعيش محرومين، في قرى نائية لا تتوفر لنا فيها أبسط ظروف الراحة والعيش.
ولأختم رسالتي فأضحك إن شئت، فنحن كذلك، السمك عندنا وفير، والخضيري أيضاً حيث يعادل سعره 15 مرة سعر باقة الفجل، أما الزهور فنادرة! 

يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏21‏/01‏/2011
alshibiby45@hotmail.com



123
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 17
« في: 19:05 17/01/2011  »
2- الدرب الطويل/ 17
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


يدُك في الكتاب ورجلك في الركاب
منذ فصلنا ونحن لم نهمل محاولة العودة. أكثرنا لازَم بغداد، يراجع ويتشبث بتوسطات الوجهاء. ولكني أعرف سلفاً إن الجهة المختصة إذا تسامحت مع من فصل من النجفيين، فإنها لم تفعل هذا بالنسبة لي. ليس لديهم أي مبرر، ولا أية مادة تثبت التهمة ضدي وتدينني. التهمة الوحيدة هي إنني أخو حسين. لذا وجدت من الحكمة أن أوجل المراجعة، حتى يعود بعضهم، خصوصاً إن كتاب وزارة المعارف قد حدد مدة الفصل ستة أشهر، وها قد مرّ علينا ما يقارب السنة!.
الصديق أبو عاصم "أحمد رضا السوداني"، بعث إليّ رسالة مستعجلة من بغداد، بعد أن أشرفت قضية عودته على الانتهاء، جعل عنوانها "أيدك في الكتاب ورجلك في الركاب"! ولكني ارتأيت أن أنتظر نتيجة مساعي شريكي وصديقي أبو غالب "جواد كاظم شبيل". بعد أسبوع جاء صديقي على وجهه أمارات الحبور، فقد حصل على كتاب التعيين، وأنجز كل ما يلزم ليغادر النجف بأسرع ما يمكن إلى مديرية معارف المنتفك، علّه يحصل على مكان مريح.
بدأت العمل، بثمن دزينة سجاير لكاتب مركز شرطة النجف. تم أنجاز موافقة الجهة المسؤولة على إعادتي "انه روقب خلال مدة فصله، فقد كان منصرفاً إلى إعاشة عائلته، ودائب الدوام في حانوته دون الاختلاط بأية جهة مشبوهة". أطلعوني عليه وزودت برقمه وتأريخه. وتوجهت إلى كربلاء بعده بأربعة أيام، لتعقبه عند شرطة كربلاء. صديق في معارف كربلاء، دلني على الكاتب عبد الرزاق، وشجعني إن المسألة بسيطة، ثمن الكتاب لا يقل عن مئة فلس ولا يزيد عن ربع دينار، وسلم لي عليه، انه رفيق السهرات على الورق وفي بيته!
هكذا إذن، وضعت نصف دينار في ظرف، قدمته للكاتب بعد السلام، وقلت: إنها تذكرة من صديقك "أبو أياد". لم يفت الرجل أن يلحظ ما في داخل الظرف، ومعه رقم وتأريخ كتاب شرطة النجف. أجاب ممنون، عد إلي بعد ساعة. ولكني عدت إليه بعد نصف ساعة، وأخذت رقم الكتاب وتأريخه بعد قراءته.
وعدت إلى النجف، حررت رسالة مختصرة إلى مدير التحقيقات الجنائية. قلت: إنك رجل يؤمن بيوم الحساب، فلا أعتقد أنك تجيز لنفسك أن تحرم –بجرة قلم- عائلة من رزقها، بفضل معيلها. لذا أرجو الموافقة على إعادتي إلى وظيفتي أسوة بأخوتي المعلمين الذين فصلوا معي وأعيدوا، وشكراً.
لا يستغرب من يقرأ رسالتي هذه ممن عايش ذلك العهد، الذي يجمع بين التناقضات ولو لم يكن كذلك لهلكنا نحن صغار الموظفين، أو أنهار العهد قبل أن يبلغ عقده الحالي؟! كان في ناس ذلك الزمن من يعتبر الوساطة، والسعي لإنجاز معاملة مفصول، أو موقوف، أو تعيين بطال، عملاً خيرياً يثاب عليه، ولا ننكر إن بعضهم قد يأخذ أجراً. إن ثمن دزينة سجاير لا يزيد على 750 فلساً ليس بالأجر الباهض.
كذلك كان أكثر رجال ذلك العهد، تؤثر فيه الكلمة الطيبة، ربما لأنه يرى نفسه أسداً، والمراجع ليس أكثر من فأرة ضعيفة. ولكن يرد على نفسه بذات الجواب الذي روته الحكاية عن الفأرة المسكينة، وهي في قبضة يده "لا تحتقر ضعيفاً".
بعد أسبوع توجهت إلى بغداد، والى التحقيقات الجنائية. آه، المراجعة للدخول على المدير، من قبل نايل عيسى، ما العمل لو تذكر نايل، لقاءه المشؤوم معي يوم 3/3/1947 وقد مرّ على ذلك أكثر من سبعة أشهر، حيث أن كتاب المديرية إلى الوزارة برقم 2522 في 30/9/1947!
على أية حال لابد من الدخول، ولكنه لم يعلق أكثر من قوله: أنتظر برّه!
لا بأس. سلامات، تلك الليلة التي شتمني وأهانني فيها، لم يَدِّني بشيئ وأعتذر لي بعد. أو لعله كما قال لي بعض زملائي دِخو "غبي".
ونوديت من قبل مفوض: أتبعني. فأدخلني على مدير التحقيقات الجنائية "بهجت العطية"، حياني مبتهجاً كأسمه. من يصدق هذا ممن عانى محاولة مواجهة أقل منه رتبة، بعد عهود تلت؟!
قال وهو يصافحني "ها أنا شخص يؤمن بيوم الحساب! أي حساب تقصد؟". وضحك بهدوء، وأشار إلى كرسي بجهته عن يمينه، ونادى بالشاي لي "جئتَ من النجف، طريق بعيد، الشاي أصلح من البارد". وفتح أضبارة كانت أمامه، كتب عليها أسمي. كنت أعتقد إنها ثقيلة كيوم الحساب، ليس فيها إلا ورقة واحدة. هذا محيّر!. [المؤسف والمضحك أن ملفتي انتفخت ولم تعد يكفي لضبطها خيط واحد. تم هذا في عهد تموز وما تلته من عهود استبدادية لا يهمها غير اضطهاد مواطنيها، في حين إني لم ألتحق منذ تخليت عن العمل الحزبي في العهد الملكي بأية كتلة أو حزب!]
قال: بسيط، سأعيدك. ولكن أرجو أن تلتزم الهدوء رفقاً بعائلتك. ملفتك لا يوجد فيها ما يدينك. لكنك أخو "حسين"!
لم أتوقف عن الدفاع عن –حسين-، قلت "أنا أخوه الأكبر، أسكن النجف وهو يقيم في بغداد .... وأنا متزوج ولي أطفال، وأسكن في بيت مستقل. أما ما أعرفه عن أخي، فانه سياسي علني وقد قدم طلباً لأجازة حزب، ولا أعلم عنه غير هذا".
لا أواخذ نفسي بالكذب. الكذب مع الظالم الأقوى منك جائز.
وجاء جورج ملاحظ المدير في النهاية يحمل مسودة الكتاب، أطلعني عليها وأوصاه أن يزودني بالرقم والتأريخ لمراجعة وزارة المعارف. وأسرّ إليّ "إني أضفت عبارات في صالحك بعد أن وقع المدير المسودة". شكراً يا جورج.

شنشة أعرفها من أخزم!!
كنت أعتقد إني اجتزت أصعب عقبة في طريقي للعودة، بعد أن حصلت على تزكية التحقيقات، من النجف، وكربلاء وحتى بغداد، إذ بالوزارة، والوزير "توفيق وهبي" أشدَ وأعتى.
كلما دخلت عليه ، ردّني بكلمة، صرت أسمعها في كل مواجهاتي له. في مرة وجدت عنده "صدر الدين شرف الدين" الذي أنتقل من العمامة إلى التدريس في المدارس الرسمية، ثم إلى الصحافة، وقد أنضم إلى ركب صالح جبر. لا أعلم إن كان يعلم إن صالح جبر كما عبر بعضهم ونوري من ضمنهم –صونه ونفشگت- ولكن يبدو أن الرجل أدرك هذا عندما برز جبر ليكون بطل تحقيق معاهدة بورتسموث فتحول عنه، وأصدر كتابه "سحابة بورتسموث".
كان صالح جبر مع نوري السعيد في حزب واحد. وأنفرد في حزب سماه "حزب الأمة الاشتراكي" وكان معظم أقطابه ومنتسبيه من الإقطاعيين. وكان كما يبدو من عِلم "المغنية سليمة باشا مراد" عضواً هاماً في ركب نوري فقد شاعت أغنية سليمة "نوري السعيد شدة ورد صالح جبر ريحانه!" وحرفتها الجماهير فيما بعد "نوري السعيد قندرة صالح جبر قيطانه".
معرفتي بالرجل منذ كنت معمماً مثله. وأذكر انه أول من ناقش في مجالس النجف الأدبية، مسألة أهمية النثر، وإنها أكبر من الشعر، واقتراحه أيضاً أن يلقي الشاعر قصيدته بنفسه. وكانت العادة أن يتلوها على المنبر قارئ ممن يحسن تلاوة الشعر بلحن وصوت جميل، طبعاً كان هذا من اختصاص قراء التعزية الحسينية. وحول رأيه في أهمية النثر، أستمر نقاش وجدال، شغل المجالس الأدبية. فوقف ضد رأيه هذا عدد من الأدباء منهم صالح بحر العلوم. ولكن رأيه وجد مكانه في نفوس الأكثرين.
لم يتجاهلني الرجل، فرحب بي وصافحني، وكلم الوزير بقوله "إن علي من شبابنا الوطني المرموقين، وإنجاز قضيته ضرورة". فردد الوزير كلمته التي يسمعنيها كلما دخلت عليه "هذي أيدي على الملف، لن أرفعها حتى أنهي المسألة!؟". ولكن مدير المعارف العام السيد "هاشم الآلوسي" كان صريحاً، فقد قال لي "قضيتك اجلت، هكذا ارتأت بعض الجهات؟!"
لم أسكن، بذلت كل جهد، واتصلت بشخصيات لها وزن في وزارة المعارف منهم "محي الدين يوسف"، الرجل الفاضل حقاً، وقد أشار عليّ أن أوسط من يؤثر على رئيس الوزراء، فهو أهم من يقدر على تحقيق مطلبك.
حصلت على كتاب من رجل فقيه يحترمه الرئيس، جعل لي الحق أن أكتب صورته كما أريد، وهو ينسخه بخطه ويوقعه، وذلك منه منة، واهتمام بأمري. أوصلت الكتاب إلى سكرتير الرئاسة. وفي اليوم التالي، راجعت عن النتيجة، كان عنده شاب شديد السمرة، بادرني قبله قائلاً "راجع المعارف، الرئيس وافق على أعادتك". وعلمت أن هذا الشاب من مرتبات الشرطة السرية.
في غرفة الملفات، وبناء على طلب المدير العام، أبلغت موظف الملفات، فأستحضر ملفتي ليلخص المطلوب! اختلست بنظرة في الملفة، فوجدت كتاب الفقيه، وقد كتب الرئيس على هامشه بقلم أحمر –يعاد إلى الوظيفة-.
حسناً لكن توفيق وهبي يبدو أن له رأياً مستقلاً، فقد أستمر يماطل.
لم أشأ منذ بدأت متابعة معاملة العودة أن أكلف الشيخ محمد رضا الشبيبي. بعد هذا الذي بدا من تزمت "وهبي" اضطررت لمراجعته في دار المجلس النيابي، وأتصل بالمدير العام. دهشت إذ سمعته يعاتب بعبارات نقد "ولماذا هو –يعنيني- بالذات ودون سواه ممن فصلوا، يستثنى؟! أم إنها شنشة أعرفها من اخزم؟" واستمرت مكالمته عدة دقائق.
وضع سماعة التلفون، وقال: اذهب إلى السيد هاشم، الوزير وافق.
على باب المدير السيد هاشم قبل أن أدخل، جاء شاعر العراق الأكبر محمد مهدي ألجواهري، تصافحنا وكان له علم بقضيتي، فدخل وهو يمسك بيدي.
الكوليرا الحمراء؟!
هذا المصطلح ليس طبياً، انه من أبداع الوزير "توفيق وهبي". حين دخلت مع ألجواهري غرفة المدير، وجدت عدداً من المصريين الذين وفدوا على العراق بطلب من الحكومة، ليعينوا في المدارس الثانوية. هم هنا على موعد، للقاء السيد الوزير. وفتحت الباب التي توصل غرفة المدير بغرفة الوزير، لكنه أقبل يرحب أولاً وباهتمام بالجواهري "أهلاً بزميلنا في مجلس النواب، أهلاً، أهلاً " وتعانقا. رشح ألجواهري وبمساعدة الحكومة للمجلس، وقد أشيع أنها دفعت التأمينات عنه. وقد أشار بقصيدته التي خاطب بها هاشم الوتري بعد أحداث هياج الشعب ضد معاهدة بورتسموث إلى هذا بقوله:
وبأن أروح ضُحى وزيرا مثلما      أصبحت عن أمــر بليــل نائبــا
وبادره ألجواهري، فقدمني بكلمة طيبة. فإذا به كممثل يخطب بحماس على المسرح: يا علي لو قلت الصراحة، أقول، أنا لا أحب أن أعيدك!. وأجبت بشجاعة لوجود الجواهري "لماذا هل أنا الكوليرا التي انتشرت في مصر هذا العام وفرّ منها هؤلاء الأخوان المصريين؟!" أرتفع صوته أكثر "كوليرا مصر أهون بكثير، أنت كوليرا حمراء!؟ ولو لم يتكفل أمرك الشيخ الشبيبي، ومخافة أن يزعل، وإلا فلن أعيدك". فعلق الجواهري "أنا أيضاً أتكفل رغم علمي بأنه لا ذنب له". فقلت "كفالتي لنفسي أجدر، فانا واثق منها إني لا ذنب لي مطلقاً".
أخيراً تحول إلى المدير، أعده ولكن أنفيه؟! قرى الموصل، قرى الشمال!؟
ثم تحول إلى المدرسين، عفواً، أنا جئت للترحيب بكم، الكوليرا التي عندكم أهون من الكوليرا التي يحملها علي الشبيبي، تفضلوا، أنظروا ألم يشغلني عنكم؟!
الواقع أخذني زهو، وأرتياح نفسي، ورضا عنها. إن كل رفاقي أعيدوا بيسر وسرعة، ولم يلتقوا لا برئيس الوزراء، ولا بالوزير، بالمدير فقط، وتم أمر أعادتهم بسهولة.
أشار إلي المدير، عُدْ بعد ربع ساعة إلي. وكذلك فعلت. قال: سمعت رأي الوزير، ومع ذلك فأني أخيرك، البصرة، الناصرية، الرمادي؟. واخترت الناصرية.

من أجل بورتسموث
بدا صالح جبر ليس أكثر وأحسن حظا من أرشد العمري، هو الحصان الثاني بدا مطهماً، ولكنه سرعان ما اندحر يسحب أذيال العار والفشل.
لدى نوري السعيد خيول كثيرة، هناك من يستعملها للنزهة، حين يريد أن يستجم فقط، وبعض يريد لها المظهر المحترم، والاستقرار، أمثال السويدي، والمدفعي، وأمثالهم ممن يأتي لتهدئة الأوضاع، وأجراء بعض الإصلاحات، ولكن أمثال أرشد، جبر، مزاحم، هؤلاء يدخرهم للصولات والجولات، ليجرب بهم إن كانوا يستطيعون أن يمرروا مخططاً مرسوماً، أو وهذا أيضاً أمر نافع له، يقومون بكنس كل ما قد حصلت عليه القوى الوطنية من وسائل الكفاح، جمعيات، أحزاب، صحافة، وبهذا يكسر شوكة الرجال الذين يخوضون غمار المعارك.
صالح جبر، ابن نجار بسيط، عصامي النشأة. تنكر لطبقته، وصار من أبرز أعوان السعيد. صار متصرف لواء، صار وزيراً ونائباً، واليوم رئيس وزارة. شيء غير مستغرب أبداً، جاء لينظف الساحة أمام الباشا ويجرب إن كان في المستطاع أن يمرر مشروعاً هاماً لدى الأسياد. ريثما يستريح الوكيل العام. وفي خلال أمد قصير، قصير جداً، أغلق الصحف الحزبية، وصحف وطنية أخرى، وأعتقل شخصيات سياسية بارزة، ثم أعلن ما سُميّ معاهدة بورتسموث لتحل محل معاهدة 1930 وهي أقسى وأمر.
وهب الشعب يصرخ في وجهه لا لن تمر! فسالت دماء وأزهقت أرواح شباب خضراء، تتألق بهجة وسناء. وامتلأت المواقف والسجون، وما أستطاع أحد منهم أن يرد الجموع الزاحفة، أو يسكت هديرها، أو يطفئ جذوة الوطنية التي اتسعت فكان توهجها قد أحال الفضاء كيوم صيف مشمس. وفرّ الحصان من الميدان يسحب السرج اللامع، واندحرت فلول الشيطان. وحل محله، ولأول مرة أيضاً، حمامة سلام ماذا يفعل هذا وما دوره؟!
في 29/3/1947 وأعلن الأحكام العرفية بحجة حماية مؤخرة الجيش العراقي الذي يقاتل في فلسطين. ولما أضطر الوصي على العرش إلى إسقاط حكومة صالح جبر جيء بالسيد محمد الصدر لتهدئة الأوضاع.
قلت لبعض السياسيين التقدميين، ألم يكن "جبر" مع "نوري" في حزبه عضداً وساعداً قوياً؟ قال: أجل. وأنفصل لأمر. فـ "صالح" كشيعي يمكن أن يجذب إلى صفه كثيراً من الشيعة الذين لا يثقون بنوري، ليس بكونه سنياً، إنما لكونه الوكيل المفضوح، عند الشعب العراقي أجمع، بأنه الممثل الحقيقي لمصالح الإنكليز. وليقع في مصيدة نوري، الشيعة والسنة. إذ لا فرق حقيقي بين ولاء الآخرين.
لقد عدت للوظيفة في عهد جبر وفي عهده أيضاً أشرفت على الهاوية مرة ثانية، لو لم ينتصر الشعب، ويدحر الظالمين.
ولكنا أيضاً واثقون، بأنا نظل في مهب الرياح طالما ظلت روابط الاستعمار على حالها لم يقض عليها، النظام الملكي قائم، الذين يتداولون تشكيل الوزارات، هم الذين خط لهم الاستعمار البريطاني نهجاً لم ينحرفوا عنه، فهل لهذا الليل آخر؟

يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏17‏/01‏/2011 
alshibiby45@hotmail.com



124
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 16
« في: 23:28 14/01/2011  »
2- الدرب الطويل/ 16
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


الليلة الأولى بعد نهار طيب
حين ودعت الموقف في سراي كربلاء إلى بغداد، بصحبة شرطي حسب الأصول، أخرجني ذلك الشرطي بدون كلبجة "قيد" فصاح به شرطي كان يقف بدور الحارس على المدخل بصوت شرس "ليش ما خليت بيده كلبجه؟ مأمن؟ ها، ذوله، لا ترحمهم!".
هذا الفضولي كغيره من صنفه، لا يملك من السلطة إلا هذا التنمر، الذي لا يدل إلا على الروح الكلبية التي نماها فيهم المؤسس الأول "الإنكليز". في أيام الاحتلال البريطاني لعراقنا الحبيب، أسسوا سلك شرطة يدعونهم –شبانه- وقد تقمص هؤلاء نفس سلوك ووحشية وشراسة الإنكليز في معاملة الناس.
ببغداد توجه بي الشرطي إلى مركز شرطة السراي. بعد أن استلمتني إدارته، جرني شرطي آخر إلى التوقيف، تقدم إليّ شرطي مبهوتاً، والدهشة تصرخ بوجهه، أقبل عليّ يصافحني ويقبلني، قلت "من أنت، أرجو أن تذكرني، أنا ناسٍ!"
ردّ علي أنا ناصر ... أنا من ذاق إحسانك، لا حاجة لأسمي، دعني أقوم بالواجب نحوك. لن أنسى طيبك معي ... ويؤسفني إني لم أتذكر لحد الآن من هذا الناصر الطيب؟ ربما كان من طلابي القرويين، فقد خدمت في قرى كثيرة وكنت أندمج مع ذوي الطلاب بصحبة فأزورهم، وأسمر معهم في بيوتهم الخاصة.
حين دخلت إلى الموقف، سلمت على نزلائه، بعد ربع ساعة عاد ناصر يحمل صينية صغيرة فيها طعام –كباب وخبز-، اعتذرت منه وشكرته، وعاد ثانية مع ثلاث بطانيات فصار لدي أربعة.
حياني بعض الحاضرين، ورددت التحية. وحين توجهت إلى برميل في ركن هذه الزنزانة نهض أحدهم يتمشى، كان في بداية الكهولة، أخذ يتمشى جيئة وذهاباً. وكلما أقترب مني يسأل "اعتقدت إنك أخو حسين ومحمد علي، إنك شبيه بهما تماماً!".
حقاً انه ذكي، لم يسبق لي أن رأيته، ولكني كنت أسمع عنه. قال "انه صادق الفلاحي". أعرف انه يعمل في إحدى النقابات التي تتبع قيادة داود الصايغ. أخي محمد علي يعرفه جيداً.
وأستمر الفلاحي "المجاور للشباك، الضابط العسكري بهاء الدين ، صاحبه عريف في الجيش، كلاهما كرديان من جماعة المللا. وأشار إلى آخرين، عسكريان من بلاد السوفيت، كانا في البصرة من الجيش الذي يسلم السلاح الأمريكي إلى الإتحاد السوفيتي. الباقون أحذرهم إنهم سفلة ومجهولون".
أطلت وقوفي بحجة التبول، لأستوعب هذه الملاحظات، فهي نافعة في مثل هذه الزنزانة. وحين عدت إلى المكان الذي احتجزته، قدم لي الضابط "بهاء الدين" بعض المجلات، منها "كل شيء والدنيا" وبعد الاستفسار عن راحتي، قال "لا تأكل سيأتي غداؤنا ونأكل سوية". وفعلاً وصل طعامه، وطعام الفلاحي، فأكلنا سوية. وقدموا منه إلى العسكريين السوفيتيين، كانا كبيرا السن، أحدهما مريض. أحد الموقوفين كان مساعد سائق، في سن شاب مراهق، أحدى عينيه عوراء. فاجأنا يتذمر "شلون هاي عيشة ويه ها الملاعين الوالدين كلهم قمل!". مشيراً بذلك إلى السوفيتيين.
صرخ به الضابط تأدب، هذا القمل صار فيهم من بلادك، وليس من بلادهم، ولو كنت موقوفاً أو سجيناً عندهم، لما اختلفت حياتك عنها خارج السجن. إنهم غرباء فتأدب معهم. لكن هذا كان صلفاً. فهدده الضابط، أن يخرجه من هنا إلى موقف آخر.
فتحت المجلة، رحت أقلب صفحاتها. صدفة غريبة أن أجد فيها هذا العنوان "تيموشنكو القائد السوفيتي من أصل عربي مسلم". وفي الكلمة تفصيل عن أسرته كيف ومتى أقامت هناك.
من نزلاء الموقف موقوف تركي، أعور أيضاً، على رأسه طربوش أحمر "فينة" كان يتحدث مع السوفيتيين بالفارسية. قدمت المجلة مفتوحة على الصفحة التي فيها صورة تيموشنكو. وأشرت إلى التركي أن يترجم لي ما يقولان. أخذها أحدهما وقدمها لصاحبه المريض، وهو ينبهه بلهجة تنم عن فرح غامر وابتهاج، ويقول له "دَ داش، تيموشنكو!؟" وأبرزها أمامه. قال التركي، انه ينبهه إلى صورة تيموشنكو. ثم تطوع التركي ليقص عليّ حكاية توقيفهم.
- كانا قد أجيزا ليتوجها لزيارة العتبات المقدسة، الكاظمية، كربلاء والنجف. فالقي عليهما القبض، بتهمة إنهما يتجولان ليتصلا بالفلاحين، مع العلم إنهما لا يتكلمان العربية ومن سكنة باكو السوفيتية.
حين كنا نتناول الطعام جاء الطعام المفروض من المركز. انه من التمر الرديئ والصمون الأسود المتيبس. مما دعى الضابط إن ينبه الأعور ثانية، فقال:
- أتقبل أنت أن تعطى في حال مرضك تمر وصمون؟ هذه هي معاملة حكومتك لغريب يقع في أسرها. كم حاولوا أن تبلغ سفارتهم، ولا أحد يتطوع فيعلمهم بأمر هذين؟.
الأعور لم يعد إلى الكلام، لعله أدرك الخطأ.
في الساعة الثانية عشر ليلاً فتح شرطي باب الزنزانة، وناداني "المعاون يريدك". وحين دخلت، وجدت في غرفة المعاون  شخصاً بديناً بالزي الاعتيادي، على رأسه صدارة وطنية. سلمت، فاستقبلني بوجه باش، وأشار المعاون إليه: أن استلم.
قال الرجل، تفضل! وسرت مع الرجل جنباً إلى جنب دون أن يضع في يدي "الكلبجة" في التحقيقات الجنائية، أدخلني في غرفة فيها رجل أقرب إلى الشباب منه الكهولة، أنيق المظهر، فسلمت. وأشار إلى كرسي فجلست، وتوجه إليّ "أهلاً علي، شلونك، أنشاء الله مرتاح! أنا المفوض محمد علي حسون!"
- انشاء الله. وددت لو ضحكت من هذا السؤال وجوابي. يبدو وكأننا متعارفان منذ القدم. وبلطف دخل في الحديث معي. قال "أرجو أن لا تنزعج من بضع أسئلة، ربما تكون في صالحك!".
أجبت "لابد من الإجابة ولا مجال للانزعاج". وراح يسأل، الاسم الثلاثي واللقب، المسكن، العمل، الأب، الأخوة وعمل كل واحد منهم، هل لي ميول واتجاهات سياسية، ارتباط بجمعية أو حزب. وفي الساعة الثانية غادر الغرفة، بعد أن قال، لحظة سأعود. وحين عاد إلى حيث كان جالساً، جاء بعده شخص يحمل صينية شاي. وشربت، وهو يحاور دون أن يسجل من الحديث شيئاً، وكأنه حديث ودي. ونهض ثانية وعاد فأشار أن أتبعه.
دخلنا غرفة واسعة فيها اثنان، أحدهما "عباس الديك" بطل المصارعة المعروف، أما الثاني فكان ضخم الجثة، ذا رقبة غليظة، كان لحمها ذا طيات، على عينيه عوينات من نوع "كعب بطل" كما يعبر العامة. نهض هذا وكأنه حيوان تهيأ لاستقبال فريسته. قال بانفعال:
- ولك وين كنت؟ وقبل أن أجيب، خرج عن هدوئه وراح يلعن ويشتم، ولم يتحرج أن يضمن شتائمه أقذر الكلمات والفشر، ولم يستثني أحداً من رجال الأسرة، ممن هو أبعد أن يكون عن كل تهمة، اللهم إلا إنهم ليسوا من جماعة صاحب الفخامة، وتطورت شتائمه، وكانت شتائم من نوع الكفر والاحتجاج على الله، وقذف بوجهي آخر تهديد بذيئ "الليلة أنـ... ربك؟!" وكرر ولك وين، بيا سرداب بيا بيت، كنت مختفي؟
والتفت إلى المفوض محمد علي، أخذه، ذبّ الليلة بالطامورة، وباكر أراوي ربّه بعيونه.
وعدت للغرفة مع محمد علي. بعد أن استرجعت أنفاسي، جاء الشرطي يطلب أحضاري إليه ثانية، وذهبت بصحبة المفوض محمد علي. هذه المرة لم يكتف بالسباب والشتائم، بل أنهال عليّ بالركلات والكفخات أيضاً. أترى أيصح أن أتهم "الديك" الذي لازم مكانه في كلا المواجهتين بالصمت؟ يبدو انه من صنفهم، وإلا ما معنى وجوده بهذا المكان المشؤوم؟ وفي هذا الوقت؟ وعدت إلى حيث كنت، وكأن رأسي قد تورم، وفاجأني صداع شديد. بعد استراحة وجيزة، قلت بلهجة متعب، تقطعت أنفاسه "أرجو أن تعود إليه أنت، فقد بدا لي من حديثه، أن في الأمر توهم، واشتباه!".
- كيف
قلت "لقد كرر علي قوله، وين كنت!؟ كنت معلماً، وفصلت، وأخذت أراجع الوزارة من أجل أن أحصل على التوقيفات التقاعدية، وستأجرت حانوتاً، بقيت أباشر العمل فيه لإعاشة عائلتي، استغرقت مراجعاتي لهذا ما يقارب الثلاثة شهور، وحتى استدعائي وجلبي إليكم مخفوراً منذ يوم 1/3/1947، فمتى اعتبرت متخفياً؟ أحين كنت معلماً، أمارس التعليم في مدارس رسمية، أم حين فصلت، أم حين راجعت الوزارة، أم عندما فتحت حانوتاً، ويعرف كل الناس هذا عني؟!".
ونهض المفوض، وعاد بعد دقائق يستدعيني لمواجهته، كان أسمه "نايل عيسى" وجدته قد غير لهجته، فقال بصوت اعتيادي "يابه العفو، آذيناك، صحيح مو أنت. أنت شسمك؟"
فأجبته: علي. ردّ عليّ، هذا هو السبب، تشابه الأسمين. والتفت إلى المفوض "رجعوه إلى الموقف، وبكره نطلب أطلاق سراحه!".
هكذا إذن. لقد فهمت الآن من يقصدون، ولكن ألم يتحروا دار أبي بسببه عدة مرات؟ فما معنى هذا إذن؟ وأعادني نفس الشرطي الذي جلبني. كان ثرثاراً، أو أن هذا المطلوب منه أيضاً. كان ينصحني "انك رجل تبدو عاقلاً ومحترماً، لهذا كان الأحسن أن لا تحاول المغالطة، قول، أعترف، وأنطي التوبة، ومن تاب، تاب الله عليه ... تعرف لو أنت تقول الحقيقة شلون أتريح نفسك".
وجدت الموقوفين جميعاً يغطون في نوم عميق، وحين فتح الشرطي باب الزنزانة أحدثت صوتاً فأستيقظ ذوو الشعور منهم، وأقبلوا عليّ يهونون علي الخطب، لا بأس، ونرجو أن تكون اجتزت المحنة دون خذلان. قال أحدهم: خذ راحتك.
انطرحت على فراشي، وسرعان ما نمت كمن عبّ من الخمرة أكثر مما يحتمل. وفي الصباح عند الفطور أنبأتهم بموقف "نايل عيسى" أولا وأخيراً. وبدا دوام الدوائر، فاستدعيت إلى دار التحقيقات. هذه المرة إلى غرفة معاون آخر هو "عبد الرزاق عبد الغفور". هذا كان أسمر بشرة الوجه، رشيق القوام، في عينيه انحراف في حول بسيط يكاد لا يبين. أنيق المظهر مثل صاحبه "الحسون".
حين أدخلت الغرفة لم يكن حاضراً، لذا أغلقها الشرطي علي. وحين جاء هو بدا متجهماً، وتوجه إلي "أسمع علي. أنا أعرف أنك لست أنت المقصود. المقصود هو أخوك محمد علي. ولهذا سوف لن أطلق سراحك حتى تتعهد بالبحث عنه أو تدلنا عليه، فأنت تعرف طبعاً أين هو الآن؟!".
توقفت عن الإجابة قليلاً، خفت أن يكون كزميله نايل، ولا أدري لماذا وكيف أنطلق لساني، وبشكل نقاش، حيث بدأت بقولي "أنت بالطبع مسلم، والآية الكريمة تقول -ولا تزر وازرة وزر أخرى- هب أن لأخي ذنب، فما شأني أنا؟ أنا رجل متزوج، لي عدد من الأطفال، وأنا أدير حانوتاً بسيطاً لأعاشتهم. ولا أعلم عن أخي أين يقيم ولماذا تبحثون عنه؟".
ردّ علي "أنا مستعد لتزويدك بما تحتاج من مال لتبحث عنه، وتخبرنا لنتولى القبض عليه!"
- أنا كأخ لا يمكن بحال من الأحوال أن أقوم بهذا، ولو إني أعلم عن محل إقامته لأخذت والدتنا لرؤيته فهي تكاد تموت جزعاً وإشفاقا عليه. هل تريدني أن أجوب البلاد وأنا لا أعرف عنه شيئاً؟
- أنا خارج. سأغيب مقدار ساعة، عليك أن تنهي هذه الأعذار. وعند عودتي إذا لم تكشف عن محل وجوده  فسوف لن أطلق سراحك، وتعرف ماذا يحصل لك؟!
وعاد بعد ساعة بالضبط. يبدو عليه الأسف، وقال "أنا آسف إن الحاكم قد أفرج عنك، وأشار إلى الشرطي، دعه يخرج". قلت: لا. أرجو أن يذهب معي إلى مركز السراي، لأتسلم حاجاتي. ولكي لا يعيدوني إلى الموقف. أشار الشرطي بالموافقة. أما هو فغادر الغرفة بصمت.
عدت إلى أهلي، ومارست بعد يوم عملي في الحانوت، مرّ أحد معارفي، وهنأني على الخلاص، وقال "أنت تعرف جيران حانوتك، وغطرستهم، فليس غريباً أن تتعرض لوشايتهم. أن جنجون –جيم فارسية- بمثابة –قواد- لأبن السيد المحترم، لهذا ثأر لصاحبه حين سببت له الحجز لأنه رمى بباب حانوتك –الطرقة-، ولو كان أمر توقيفه بيد غير الحاكم ياسين لهان الأمر. ولكن ياسين الذي لم يعرف أن عرف وجهاء البلد حاكماً قبله، لا يعترف بمقامهم. لذا أشعر أبنه –ح- وجنجون عزيز عليه، وقد دبرا أمر ابلاغ مديرية التحقيقات إن محمد علي المتهم الهارب، يعيش في حانوت مجاور لبيتنا؟!". وختم كلامه، لا تتحدث عني بهذا. ومضى لسبيله. هذا الواشي صاحب جنجون بحكم مركزهم في سدانة الروضة الحيدرية ابلغ عني التحقيقات مموها عليهم وهو يعلم إن الاسم الذي قدمه لهم  هو أسم أخي محمد علي، ولكن دلهم على حانوتي. والمختفي هو أخي ولست أنا!؟.
أجل أن هؤلاء لا يتركون سفالة لا يرتكبونها إلى حد الجريمة. آباؤهم يعلمون كل شيء عنهم، ولعلهم مثلهم، ولكنهم يبدون وكأنهم الصلحاء. ثم لا يتورعون، ولا يصدهم دين ولا ضمير، عن إيقاع من يكرهون بين شدقي الموت.

أتق شرَّ من أحسنت إليه

بمَ أفسر ما أشاهد من أحلام مخيفة، وهواجس مقلقة، وكوابيس ثقيلة، دائمة مستمرة. لست أومن بالأحلام، ولست بالمريض، فما مصدر كل ذلك. أنا واثق من نفسي، ومنظم في كل ما أعمله، مقاييسي وخطواتي صحيحة، لست أشك فيما خططت وعملت. ألا يكفي هذا؟
هذه الأيام يتراءى لي إني أرى مخاطر. المح صورها في الأفق. لعل مرد كل هذا، تبدل ربان السفينة، ذاك الذي يحس بالخطأ فيسارع لتلافيه، ويدرك الخطر فيبادر كلمح البصر بالتحذير لتجنبه والخلاص منه.
ولكن مهما يكن من أمر، فإن الانخذال إزاء الهواجس والأحلام، والتوقعات، غير مستغرب لواحد مثلي. كنت قبل اليوم لا أحس بشيء من هذا، لأني كنت أجد من يشحذ عزيمتي بالثقة، ويعزز ثقتي بما أراه فيه من هدوء، وحسن تقدير، وبعد نظر.
لم يسبق أن عرضت أمام نفسي مثل هذا التحذير، الذي تعمق في نفسي، وظل يرن في أذني كصدى صوت يتموج في فضاء. انه يكرر عليّ، أن لزمت الحذر، وسرت باتزان، فلا تنس انه يوجد كثير من يفقد هذه الصفات. معك، وفي المقدمة أفراد، يكرهون الموت، ولا يتحملون الألم، فهم إذن مستعدون، أن يبرءوا أنفسهم، ويتنصلوا من كل مسؤولية! ألم تقل، إنك لا تصدق المتبجح، وتخشى اللئيم، وتحتقر البخيل.
أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟
واليوم أرسل إلي المسؤول الحزبي يطلبني. فزادت هواجسي، ولما أصل إليه وأسمع منه ماذا يريد.
في كازينو روكسي، انتظرته، حسب ما رسم لي. في هذا الكازينو الهادئ، كثير من الشباب، لا أعرف أحداً منهم مطلقاً، حضر المسؤول. دهشت حين التقيت به، هو ذاك الذي كنت في نفسي لا أرتاح إليه مطلقاً، متبجح، ولئيم، وبخيل، إنه مالك سيف. سبق أن شكاني عند "فهد" لأني من أجل أن نضحك قليلاً، وبسبب دعابة بريئة، وخسارة زهيدة "40 فلساً" ثمن أربعة كؤوس شربت. هو الآن بعد أن جلس وتكلف الرزانة، والعظمة، لكني رأيته هراً وليس أسداً. وضع أمامه على الطاولة علبة سجائر أجنبية، وكمية وافرة من الزبيب الممتاز والفستق الأخضر الرائع!؟. أمر مدهش ومحيّر. كيف هذا اليوم، وهو يعيش على حساب حزب ماليته من تبرعات منتسبيه، عمال وكادحين، وصغار الموظفين، وكل ذلك لم يعد يكفي أبداً. فالضربة اللئيمة التي أودت بالمسؤول المرموق "فهد" وبعض الرفاق الذين كانوا المثل في الصمود والثبات، من لهم غير حزبهم، هم وعوائلهم؟ أجل كيف هنا اليوم، بينما أراني ثورة وانفعالا بالأمس يوم شكاني، ليتجلبب رداء العفة، والتقشف، ونبذ الهوى واللذائذ، ثم يتباهى ويتبجح، رفيق "في رأيي إن الشيوعي يجب أن يفهم فيجعل حتى ضحكته جدية، وأبتسامته لأمر عظيم!". ورده فهد "لا تبالغ يا -كـ...- تريد أن تجعل كل رفاقك في زهد أبي ذر، إن لهم أن يمرحوا، ويرفهوا على أنفسهم في ضحكة بريئة، ودعابة ودية، ويتبادلوا مع الآخرين ما ليس من التبذير أو الاستغلال!".
وبدأ حديثه، فهالني أمره. بدأ بالقابعين بعيداً عن ذويهم وأحبابهم في غرف السجون الكالحة، موطدين النفوس على تقبل كل ما تأتي به الأيام. بالغ في تذمره من صعوبة العمل، فكل أعوانه دون ما يجب، أذلاء، ضعفاء، لا يشعرونك ببأس، ولا ترى فيهم إلا اليأس والخذلان! وقال "كبيرنا يريد أن لا نمشي خطوة إلا بعلمه، ولا نبت برأي إلا بتصديقه عليه. وأخوك؟ ابتلانا بزوجته، يجب أن ندفع لها مخصصات لسكنها ومعيشتها وهي عند أهلها. وأخوك الأصغر، نحن في حيرة من أمره، انه غير مهذب مع العوائل التي يساكنها متخفياً، مطاليبه ورغباته محرجة!".
قاطعته بدفاع مختصر عن كل واحد، دفاعاً يعرف هو مدى صدقه، ولا يقوى على رده.
قال "دعنا من هذا أنا دعوتك لأكاشفك -وطبعاً- هذا أعتبره أمر حزبي! أريد أن تنتقل بعائلتك، أخصص لك بيتاً تسكنه لتكون عضدي في إدارة الأمور".
وضحكت .... وقلت "بين ما تبغي وما جئت له بون شاسع، أنت تريد هذا، وأنا أصارحك عما في نفسي، إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار".
وكتبت حين عدت، إلى الذين اعتمدوا  عليه، بواسطة مباشرة، عادت تعتذر، إنها فشلت ولم تنجح في تسليم الرسالة ولكنها أدت الغرض شفاها؟!. وجاءت بالجواب يدل على عدم صحة ما أدعت. فعجلت بالتنحي. فأرسل لي عبارة مختصرة "أنت واضع اللبنة الأولى في بناء الحركة في بلدك، فلا تنس ماضيك هذا. عد إلى صفوف حزبك وأعتبر هذا خطأ طارئاً منك".
وأجبت "أصر على ذلك".  كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة. إن طبعي مسالم لا أحب أن أعتدي على أحد، ولكني مازلت أعتقد والتزم نفس المقاييس لتفهم الأحداث، مضافاً إلى كل هذا لا أنكر إني حقيقة أدركني خوف ورأيت التجنب خيراً من النذالة وافتراس من اعتبرهم بالاعترافات الصحيحة والمبالغ فيها. فتهلك نفوس بريئة وتدمر عوائل.
ماذا يخبئ لنا الغد؟ لست أدري، ولكن أمر يحدث لا محالة. هذا ستكشف عنه الأحداث. وشعرت وكأني سقطت من شاهق إلى واد عميق. فواحسرتاه، ووأسفاه! ليتني أرى أخي فأهمس في أذنه كلمة عتاب. أين ذهبت فراسته ونباهته ولم يكتشف جبن مالك ونذالته، التي انطلت حتى على نباهة وفراسة فهد؟! وكيف أصرت قيادة الحزب، من داخل السجن، على تسليم مالك المسؤولية واقتنعت بقيادته!؟ وهل حقاً إن ملاحظاتي عنه وصلتهم شفاهاً بالدقة التي دونتها وكما أردتها؟ أو لم تقل الحكمة المشهورة "أتق شر من أحسنت إليه"؟!
 

يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏14‏/01‏/2011
alshibiby45@hotmail.com



125
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 15
« في: 00:13 11/01/2011  »

2- الدرب الطويل/ 15
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)



وما نصيبي أنا
نصيبي دون نصيبك. هذا ما لاشك فيه. ولسنا نعلم ما ستأتي به الأيام؟ أجل، نصيبي دون نصيبك، وقد استوفيته قبلك. ذلك بمقدار ما أنت عليه من قدرة ومعرفة، وصبر وجلد، وتفانٍ من أجل مُثلك التي صممت أن تهب لها كل وقتك، وحتى حياتك.
لقد نقلتُ إلى لواء آخر، ثم فصلت من الوظيفة ، حيث نقلت إلى الحيرة في 19/8/1946، وفصلت في 12/10/1946. وأنت تعلم إني لا أملك من حطام الدنيا شيئاً. غير ساعديّ إن استطعت أن أجد عملاً أقيت من ثمره لأحمل عبئهم. وتلك مشيئة المهيمنين على أمورنا. ولعلها، وهذا محتمل تماماً، من نقمة أولئك الذين انتزعنا منهم الفرصة، فأخذنا بعض حقنا، واستمروا يبحثون عن هفوة منا، ينفخون بها حتى تكبر، فيفجرونها ليدمرونا، وقد فعلوا.
فماذا فعلتْ جمعية المعلمين؟ الواقع إنها تستطيع أن تفعل، ولكن فقط ما يوجهها إليها السادة الكبار! إنهم يعتقدون إن طوفاناً يحيق بهم. فتأهبوا لإسكات كل صوت، وإخماد كل حركة تصدر ممن لا يؤمن ولا يثق بسلطانهم.
وأنت في أعماق سجنك، هل تذكر أو تفكر إنك أقدمت ونفذت الخطوات الأولى؟! لكن كم أنت مدرك، وكبير الفهم للأبوة، لذا كان الوالد أيضاً يوليك كل الحب، ومعجب بك كل الإعجاب. قرأ رسالتك وأنت تُعلمه فيها رغبتك في الزواج. وانه ترجو منه أن يجري هو عقد زواجك. فهو يشعر لهذا بروحية كبرى، وسعادة غامرة. لكن الوالد أجاب "إن العيال مجبنة؟! وأنت في طريق الجهاد، تغذ السير مكافحاً، تترصدك عيون الذئاب والوحوش الأخرى الكاسرة".
لكنك أجبت "لأزداد تشبثاً بالحياة". فكاد يطير إعجابا، ولبى الطلب.
ماذا لديك؟ وماذا لديّ. لديك القناعة. غرفة واحدة وأثاث بسيط تسعه الغرفة. لتضم أثنين رَضيا بالكفاف من العيش، لأن سعادتهما منوطة بسعادة الآخرين. ثم ذهبت الريح الصفراء بكل الأماني. فهل تنكشف الأجواء يوماً عن فجر صادق، يمزق هذا الظلام الرهيب؟!
تحملنا سنيّ الحرب وويلاتها، نفضح المستغلين والمحتكرين، من أجل جماهيرنا الكادحة ومن أجل عيش كريم، فنافستنا جيوش الحلفاء التي أقامت في عراقنا الحبيب خلالها. كنا نصدر القمح والرز، واليوم لا نحصل إلا على الخبز الأسود والرز المخمور! والسكر الأصفر المليء بالشوائب، والأقمشة العادية. ولكن أهم ما افتقدنا هو تلك الحرية الباهتة التي كنا نتمتع بها في أوائل الثلاثينات. 
وددت أيها العزيز عليّ، لو إني في وظيفتي ذات المرتب البسيط. إذن لقمت بما يتحتم عليَ، وهو دون حبي لك، ولكن وا أسفاه. إن الضربات كانت شاملة لكل الأحرار. إنما الحال تختلف بين ناس وآخرين. بين من لا يملك غير ذلك المرتب الهزيل، وبين ذوي ذخر وملك؟!
كان عدد من فصل من الخدمة، من النجفيين، تسعة معلمين، اثنان منهم متهمان بالنازية، واثنان من موظفي الصحة متهمان أيضاً بالنازية. وكانت قوائم الفصل قد شملت مختلف الألوية، من مختلف الوظائف. والعبارة التي وردت في كتاب وزارة المعارف عن فصلنا غامضة (لتدخلهم بأمور لا تخص واجب الوظيفة). وأستطاع أكثر المفصولين أن يجدوا العمل، فالبعض له ولذويه إمكانية، وبعضهم في إدارة عمل يدر عليه راتباً محترماً. بينما أنا والشاعر مرتضى فرج الله والمعلم جواد شبيل لم نكن نملك غير التوقيفات التقاعدية، ولم اسلم منها إلا على 140 دينار، ففتحت حانوتاً عجز عن الاستمرار خلال ستة أشهر.
ما أيسر ما طلبت مني يوم حصلت –بعد جهود ومراجعات- على ما أستحق من توقيفات تقاعدية، وغادرت بغداد إلى أهلي، على أن أعود إليك بزوجة المستقبل القريب. فيأتي النبأ المخيب للآمال، إنك قد احتجزت، بعد أن ضحك الثعلب الماكر على القوى الوطنية، وشتت وحدتها، وأكمل مسرحيته "الانتخاب"
*      *      *      *
كان حانوتي بسيطاً في شكله، ومحتوياته مواد معيشية، رز، ماش، حمص ، سمن وأشياء من هذا القبيل، مع سكر وشاي، وسكريات للأطفال، وبعض المواد الطبية، كحبوب الأسبرين، وما ينفع اللوزتين، وعشبيات للنزلة الصدرية. كما إن بعض الصيادلة زودوني بزيت السمك بدون احتساب ربح له على سعرها. لكن الذي فت في عضدي، وأصاب حانوتي بالكساح، السمن، والسكر والشاي. لم أستطع أن أجهز الحانوت بغير نوع واحد من السمن، بينما لدى سائر البقالين عدة أنواع، كما إني اشتري السكر والشاي من الموظفين الذين كانت بحوزتهم بطاقات تموين كثيرة، تجاوزت عند بعضهم الثلاثين! طبعاً كانت تلك الأساليب تتعاطاها مختلف الدوائر الرسمية، ودائرة النفوس هي الأساس. فمن أستطاع أن يأتي بدفتر نفوس وكل دفتر يقابله دفتر كوبونات للتموين من السكر والشاي والرز والقماش. وعلى هذا فقد زادت نفوس العراق زيادة عظيمة فجأة وبقدرة قادر!
حين نقلت من مدرسة غازي إلى مدرسة الحيدرية، تحول مدير المدرسة إلى وظيفة تموين، وعين في قضاء المسيب، بمساعدة الوزير صالح جبر صديق والده. وتمكن بعد سنة من عمله في التموين من امتلاك دار، كما انه صار يتاجر، وأمتلك معمل مكائن طحين!
كثيرون هم الذين سلكوا هذا المسلك، وكانت لهم القدرة التامة على التحسس بالخطر فيتفادونه، باللجوء إلى ذات المصدر الذي ساعدهم على التعيين فيه.
وحين تدهور حانوتي، تفضل صديقي "جواد كاظم شبيل" وعرض علي أن أتحول شريكاً له في حانوته، وتقدم صديق آخر فأقرضني ما يساوي ما قُدرَ من محتوى حانوت صديقي. في هذا الحانوت المشترك، الذي يساعد موقعه على بيع وصرف علب السجاير بنسبة عالية لمجاورته إلى كراجات سيارات الكوفة وأبي صخير والديوانية والناصرية. ولهذا كنا نبيع البانزين وزيت السيارات بكثرة. مما جعل دخلنا سميناً في موسم الزيارات. وتحسنت حالنا نوعاً ما. لكننا قد اتفقنا سلفاً أن لا نخصص للصرف المعيشي أكثر من سبعة دراهم للواحد؟
وسرعان ما دهتنا داهية، هدمت أمانينا، فوكيل شركة النفط قد أعلن انه سيبيع البانزين "فَلّة" كان ربحنا من البانزين لا يزيد على أربعة فلوس ونبيع الصفائح "الفارغة" الواحدة مئة وأربعين فلساً على السمكري، ففي مواسم الزيارات والأعياد يرتفع الدخل اليومي إلى مئة دينار، بفضل سعر تلك الصفائح الفارغة!
تقابلنا نحن باعة البانزين وقررنا مواجهة وكيل الشركة "محمد جواد عجينة" الذي كان الناس يتحدثون عن ربحه من النفط ومشتقاته الذي يصل خالصاً مئة وخمسين دينارا لليوم الواحد. وعبثاً ذهبت محاولاتنا في إقناعه، فأنهار دخلنا.
مضافاً إلى هذا إني ضويقت من مالكة البيت فاضطررت إلى الانتقال منه إلى بيت والدي، فتفجر ضدي غيظ لعدم تقديم مساعدة، وكأنهم لا يعلمون ما أنا فيه من حرج.
الغريب إني يوم قرأت قرار الفصل في الجرائد، لم أبتئس، لسبب قد لا يراه الآخرون ذا أهمية. كنت قد جلبت أبني الذي كان قد نجح إلى الصف الثاني في الابتدائية، ولما وجدت الصف الثاني بعهدة معلم، سبق وان فصل قبل عام لسلوك شائن، فضحه فراش المدرسة. وقد أتصل بمدير المعارف يوم خميس، وفوجئ المعلم المحترم نائماً بين حضني مدير المدرسة وابن رئيس القرية؟! فكانت ثورة السيد مدير المعارف وقد سارع بالتحقيق، الذي وقف فيه ابن رئيس القرية –وكان في حال سكر شديد- بصراحة يعلن عن حقيقة ممارسة الفعل الفاحش مع –حضرة المعلم- وفصل هو ومدير المدرسة. ولكنه أعيد بعد أمد قصير!؟
يوم قرأت في الجريدة أمر الفصل، كدت أطير فرحاً ساعتها، لم أفكر إلا لخلاصي من مدرسة تضم هذا "المخنث" وقد سبق أن فاتحت مدير المدرسة الطيب، أن أسحب شهادة نقل ولدي، فاني آنف أن يكون مؤدبه من أمثال هذا؟
مدير المعارف "الركابي" صادف أن مرّ ذات يوم على حانوتنا، فهنأني. فقلت له "ألم أقل لك أني مستعد لخوض غمار الحياة في غير جو الوظيفة، مادامت غايتي ليست الياقة المنشاة؟!".
وبمناسبة نبأ قرار تقسيم فلسطين، أوعز إلى المسؤولين أن تنظم مظاهرات احتجاج، فخرج طلبة الثانوية بأشراف مدير المدرسة ومدرسيها، وكنا قد سبقناهم في تنظيم جماهيرنا من الكادحين والطلبة أنفسهم، وأعددنا اللافتات المناسبة، وعند بلوغ الطلبة مدخل السوق الكبير رفعت اللافتات. حاول مدير المدرسة أن يحول دونها فلم يقوَ على ذلك، مما أضطر أن يستنجد بالشرطة. الشرطة تريثوا واكتفوا بالمراقبة، ينتظرون وصول المظاهرة إلى صحن الروضة الحيدرية، هناك أعلنت الهتافات المنددة بالاستعمار، وبالدول التي وافقت على التقسيم، وبحكامنا المتخاذلين أمام المستعمرين، وبسالبي حرياتنا، والمتلاعبين بخبز الشعب وناهبي خيراته. حاولت الشرطة أن يتعرفوا على المندسين -على حد قولهم- فلم يتمكنوا. إذ أن كل صوت كان من الطلبة، وقادة المظاهرة كانوا متسترين بلحية تنكرية فاضطروا إلى تشتيتها بالحسنى، إلا مطاردة خفيفة تعرض لها بعضهم ونجوا بفضل التنكر.
أنا وشريكي لم نبرح حانوتنا. لاحظنا أثنين من أفراد الشعبة الخاصة يراقباننا، أحدهم دنا منا وسلم بحجة شراء سجاير. وقال "مظاهرة خرجت قبل نصف ساعة، احتجاجا على تقسيم فلسطين".
قلنا لم نسمع بهذا، ربما لأنها صغيرة. أجاب "لا، لا، إنها ضخمة، إنها من طلاب الثانوية، وبأمر المسؤولين. كانت منظمة وهادئة، لكن أندس بها أعوان الشيوعيين، فتغير كل شيء فيها، الهتافات اللافتات". كان وهو يتكلم يرقب أسارير وجهينا. كان يدعى "أرزيج" مصغر "رزاق".
وسبق له التعرف عليّ لأول مرة، حين أرسل إليّ من قبل معاون شرطة المركز. التقى بصاحبي وسأله عني، أجابه لا أعرفه. فأعاد عليه الاسم كاملاً "علي الشبيبي"، وكرر صاحبي اعتذاره. قلت لصاحبي "أصعد وأختبئ في المخزن كيلا يجدك هنا فتكون كاذباً".
كنت في هذه الأثناء، أكتب الفصل الثاني من رواية "تلميذ في العاصمة" حول حياة أخي حسين، ابتداءا من دخوله كلية الحقوق، ثم حرمانه منها لأسباب مادية، وبقائه في التعليم، ثم نضاله في بغداد (لهذه الرواية حكاية غريبة. فلقد باشرت في كتابتها ثلاث مرات. هذه الأولى وقد مزقها صاحبي مخافة أن تجري الشرطة تحرياً على الحانوت، فيعثرون عليها. والثانية في الناصرية، وعندما أخذت مخفوراً إلى بغداد في 9/1/1948 وأتلفت من قبل من أودعتها عنده. والثالثة في قضاء الخالص أودعتها عند شخص لأستعيدها بعد عطلة نصف السنة فأتلفها عام 1963).  أحد أبطال القصة أستشهد بهذا البيت للشريف الرضي:
تمتع من شميم عرار نجد      فما بعد العشية من عرار
وحقاً كانت يوماً ما بعده من عرار، وأقبل الشرطي "ارزيج" نفسه. وقف أمامي وأبلغني، إن المعاون يطلبك. قلت لا بأس، أذهب، سوف أدعو من يقفل الحانوت أو أذهب أنا وأرسل المفاتيح إلى أهلي.
كان المعاون كردياً، وجدته مشغولاً في مكالمة تلفونية، وحالما دخل الشرطي معي إليه، ختم مكالمته "نعم سيدي، هذَ هو .... نعم ... نوقفه؟ حاضر؟!"
ونادى الشرطي، خذه للتوقيف، وشيعني بالشتائم. ولم تجد محاولات بعض معارف أبي من أصدقاء المسؤولين، إذ كان الأمر من التحقيقات الجنائية، ومن أجل أن أرسل إليها مخفوراً. بتّ ليلتي في مركز شرطة النجف، وصباح اليوم التالي  2/3/1947، توجه بي شرطي إلى الكراج، وأحتجز مقعدين لي وله، كانا في صف يقابل الصف الذي يقع خلف السائق. وقد جلست على هذا المقعد فتاة إلى جانبها طفلة لم تتجاوز السادسة من عمرها، ومقابل الفتاة فتى تخرج حديثاً من دار المعلمين العالية، ومرشح للبعثة لأخذ شهادة الدكتوراه في التأريخ "قسم الآثار" من أسرة دينية تعرف بآل حَرج، لكن المحدثين منهم أبدلوا هذا اللقب بوائلي. والى جانب السائق فتى فارسي الأصل يدعى "حسن بهبهائي" يشتغل أجيراً في حانوت، ومن هواة فن الرسم، إلا انه يمارسه عن غير ثقافة وإلمام بهذا الفن، ومع ذلك فقد كان عليه إقبال ممن يحب أن تكون له صورة مكبرة وبالألوان الطبيعية. كان الشائع عنه انه من مرتبات "الشعبة الخاصة". وما أن تحركت السيارة وصارت خارج حدود المدينة حتى توجه الشابان "الوائلي والبهبهاني" لمغازلة الفتاة، بينما هي في شغل عنهما. إنها هي أيضاً في مصيدة الشرطة؟
خاطبوها مباشرة، وكأن بينهما وبينها سابق معرفة. قال أحدهما "الليلة البارحة كنتِ في الكوفة عند -جليل ...- وشى بك منافس له، لأنه يحبك. لم يمس جليل بأذى، أنتِ صرتِ الضحية. والله يابه أنت حبابه. عندما نصل كربلاء أكلف عمي يخلصك!"
كان الوائلي يعرفني جيداً، لي صلة بعمه وأبيه، وبه عن طريقهما، لكنه تجاهلني، وكرّس كل اهتمامه بالغزل المهذب؟! وسألتْ الطفلة أمها، عن سبب وضع الكلبجة "القيد" بيدي؟ أجابت أمها بانفعال "لأنه مو سرسري، السرسرية متخاف منهم الحكومة!؟"
لم تكن هي مقيدة اليد مثلي، فهي من عداد السرسرية؟! أو لأنها أنثى على أية حال. كان جوابها وخزاً للشابين، لو كانا ذوا غيرة على نفسيهما. الجاسوس الفنان أطلق على الجواب ضحكة طويلة، وأستمر بالتحرش.
في كربلاء
وكربلاء، المدينة المقدسة، عند طائفتنا الشيعة، هي البقعة التي أستشهد فيها الأمام الحسين، بعد مضايقته من يزيد بن معاوية، ودعوة العراقيين أن يتوجه إليهم، فهم أصحاب أبيه وموالوه.
ولكن العراقيين كانوا بالأمس ومازالوا يخضعون للقوة، ويدينون للقوي، وان شتموه في الباطن، بل يحرضون عليه في الوقت الذي يصفقون له، ويسبحون بحمده. فمسألة مكاتبتهم له، بالتوجه، ثم التخلي عنه، بعد أن أستطاع والي بني أمية "عبيد الله بن زياد" أن يفتك برسوله وابن عمه "مسلم بن عقيل" ليست بغريبة، فالقوة والمال يضمنان لمن يملكهما أن يملك زمامهم، ثم يذبح منهم من يذبحه كما يذبح البهيمة.
مازال التأريخ يحدثنا كيف جاء الحجاج وارتقى المنبر وقد أسدل عمامته على نصف وجهه، ولازم الصمت، فتهامس المجتمعون تحت المنبر وحوله. وتجرأ أحدهم فسلقه بنواة، وثنى الآخر، وكأنها طبيعة الماعز إذا قفزت واحدة أو عطست، سرت فعلتها إلى كل الماعز. فلما رأى ذلك منهم أنشد:
أنا بن جلا وطـــلاع الثنــايا      متى أضع العمامة تعرفوني
وكشف عن وجهه، وأمر أن يقوم كل منهم ممسكاً بيد رفيقه، وخطب خطبته المشهورة، مهدداً متوعداً أن يأخذ البريء بالمجرم، إلى آخر الحكاية ...
والحكام في كل زمن وفي كل الدنيا إن لم يبد الحاكم منهم الحزم، يضرب على الذنب الصغير، ويقتل الأكبر –ربما متوهماً- فانه لن يستطيع أن يثبت أركان حكمه، ويمكن الصلحاء منهم بعد أن يستتب لهم أمر الحكم، أن ينشر الخير والسلام، ويشيدوا ويعمروا للجميع، هذا رأي الكاتب المعروف "ميكافيلي" في كتابه الأمير!
حتى الأنبياء المرسلون لا يشذون عن هذه القاعدة، ومن شذ ولزم قاعدة عيسى بن مريم "من ضربك على خدك الأيسر فأدر له الأيمن" فلابد أن ينتهي نهاية عيسى، بدون أن يصعد إلى السماء. فما يروى عن نبينا محمد (ص) انه قال "من اُغضبَ ولم يُغضِب فهو حمار"
قبر الأمام شهيد الحق والبسالة والإباء، لم تقو السنون والحقب منذ عهد بني أمية، وما فعل المتوكل العباسي، ومحاولات الوهابيين، ظل علماً يثير في نفوس الأباة، ورواد الحق، حاملي رايات الجهاد، الحمية والثبات، والقدوة.
أنا لا أذم الذين أعلنوا دعوتهم مسالمين، ينكرون استعمال القوة، ويتمسكون بالأسلوب "وجادلهم بالتي هي أحسن" أمثال غاندي في عصرنا. أبداً إنهم أبطال حق ورأي.
وبقدر ترددي على كربلاء بصحبة أبي، أو حين صرت شاباً مستقل الكيان، فأني لا أعرف عنها إلا النزر القليل. لم يسبق لي إني تجولت فيها، ولا عرفت محلاتها. وحين وصلت بصحبة الشرطي مكبلاً بسلسلة ثقيلة، توجه الشرطي بي إلى غرفة وسلم كتاباً عني، وأستلم وصلاً، واُمِر شرطي آخر، أن يأخذ بيدي إلى الموقف، كان هذا في يوم 2/3/1947.
كان توقيفي هذا لأول مرة في حياتي. حين دفعني الشرطي دفعة طفيفة، شيعني بكلمة احترام من النوع الذي يراه الشرطي مفخرة له، وعنواناً لأهميته "فوت، فوت أفندي، شتريد أتصير، بمكان الملك فيصل؟ وين المقَرضَ الفار ......"، نسيت التكملة.
ودهشت أن استوى اثنان من الموقوفين، واقفين يرحبان بي، وصافحاني، كأنما لهما بي سابق صلة، وإن أحداً نبأهم عني. لا أدري.
كنت أعاني من صداع شديد، كان هو داءا قديماً، كثيراً ما يصيبني خصوصاً عند الانفعالات النفسية. جرني الرجلان حيث يجلسان وعرفاني باسميهما، أذكر الآن أحدهما "حاج عبد" من أتباع أو خدم "شيخ حميد كمونه" وانه موقوف بتهمة قتل.
أعرف آل كمونة، معرفة وجيزة أيضاً. وأتذكر أيام كنت في سلك العلوم الدينية، معمماً متواضعاً، وعضو في جمعية الرابطة الأدبية في النجف، إن رئيس الجمعية عبد الوهاب الصافي أرسلني إلى كربلاء، لأبلغ الشيخ محمد رضا الشبيبي، ومعه عبد المهدي المنتفكي، وهما ضيفان عند الشيخ محمد علي كمونة.
توجهت إلى كربلاء أحمل معنوية عالية لهذا التكليف والاختيار من معتمد الجمعية، إلى الشيخ الجليل وصاحبه. وقد أديت المطلوب، وشاركت بالغداء في ديوان الشيخ محمد علي كمونة، ولعل الشبيبي في ضيافته عنده، كانت للنسب الذي يجمعه بالكموني. فنحن آل الشبيبي أسديون من الكبائش، وكانت الزعامة فيها قبل أسرة "سالم الخيون" لجدنا "شبيب" الذي ترك الزعامة فجأة وأنخرط بسلك الروحانيين، وهو أول من سكن منهم النجف.
الموقوفون حين يلتقون تجمع المصيبة بينهم، فهم هنا ديمقراطيون تماماً ونادراً ما تجد موقوفاً يتعالى على الآخرين من نزلاء الموقف. وغالباً ما يكون ذاك معقداً أو من أبناء الأرستقراطيين ومدللاً ما يزال أقرب إلى الطفولة.
لذا كشف لي الحاج عن التهمة التي أوقف بسببها، وهو بريء. ورغم أنك لا تجد موقوفاً أو سجيناً أو حتى من يصدر عليه الحكم، إلا ويدعي البراءة مما أسند إليه.
الثاني كان ظريفاً منطلقاً كل الانطلاق، كانت قضيته بسيطة جداً، وربما يخرج غداً من التوقيف. وبالطبع بادلتهم الحديث وذكرت حكايتي كما حدثت.إذ لم أكن في الواقع أعلم عن أمري شيئاً.
أحد الموقوفين لزّ كلمته لزاً، كمن يفخر بأنه يعرف مالا يعرفه أقرب الناس إلى آل كمونه، وقال "أويلي، دبرته مرته لفرخه وطاحت بي!". فغر حاج عبد فاه، وصاح به، أنضبط، أنتَ منو، جرد مگدي. وضج الموقوفون بالتعليق -وعددهم لا يزيد على العشرين- "أي محمد، تصلح والله مختار، وغيرها من التعليقات".
لم يعرف القاتل إلى يومي هذا، ولكن أكثر الناس يقولون هذا الرأي "انه كان غلامياً، وكان لديه غلام يؤثره حتى على نفسه، وله زوجة جنابية أغرت أحد أقاربها، أثناء ما كان شيخ حميد وصحبه في ضيعة له في قرية الأبيتر، وأخطأ هذا الهدف فأصابت زوجها بدلاً من الغلام، وقد وجهت التهمة لعدد كبير من يشك فيهم ولم يصلوا إلى المتهم الحقيقي".
كانت لهجة محمد شعبية تمتزج باللكنة الفارسية. أبى أن يصمت على إهانة حاج عبد، فراح محتجاً فاشتدت لهجته بالخلط، فصاح أحد الموقوفين "محمد تره صدك أنت من خزاعل باب الصحن!". يشير بهذا إلى انه من المتسولين، فراح محمد يفاخر "أنت شنو تعرف مني؟! أنا لزم ورث من أبوي ستَّ حوش وخان أثنين، وأربعة بستان. لكن تلفته كل هذا على حَسن حلو".
قال حميد "أشهد بالله صحيح، آنه أعرف حسن، كان حلو زمانه، ومحمد صرف عليه كل أملاكه، وأكل خـ... بيده الاثنين، تاليه هذا حال محمد. وياما، ياما وصل للموت بسبب حسن حلو، يطاردون وراه أهل الشغل؟! ومن يجي محمد يوسدوه المنية. ها محمد. تمام؟".
صاح محمد "أسكتي أنتَ، والله انَه جان يطبك كل أثنين سوه ويضربهم ربعَهه".
لم أتمالك نفسي من الضحك، رغم شدة الصداع. ولحظت إن حميد يهمس إلى من بجانبه، ثم أشار إلى الآخرين "يا جماعة، هسَه محمد سمعتوا  شگال عن قوته، خل يتقدم، لو آنه لو هوّه. آنه أگدر أطبك ثِلَث زلم وأرفعهم بأصبع واحد، وأنقلهم بهالغرفة من الطول للطول"
أيده الجميع إلا محمد، فأنتدب حميد أثنين ذوي سواعد قوية، ناما على ظهريهما مُختلفي اتجاه الرأسين، وقال لمحمد ، قوم أنت نام على ظهرك فوقهم، ثم قال "ها أتذكرت، أتحزم وشد احزامك زين حتى أشيلكم من حزامك؟!"
ونام محمد وهو يضحك بينما شد الاثنان بأيديهم على صدره ويديه ورجليه. ونهض حميد فكشف عن أسفله، وراح ينتف الشعر من ..... بلا رحمة. وعلا صوت محمد مستغيثاً "مفوز –مفوض- ... شرته –شرطة-...!" وجاء شرطي يهرول فبهت أول الأمر، ثم شاركنا بالضحك دون أن يتمالك وأقبل المفوض، هو الآخر أندهش ثم أدركه الضحك فأغرق فيه، ومحمد يستغيث ويشتم. صاح به المفوض، قواد أحسن بَعد ما تخسر عليهه دوَ حمام؟. وأطلقوا سراح محمد من أيديهم، والدم ينزف، بينما قضى حميد على كل الشعر في موضع ...!

يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏10‏/01‏/2011
alshibiby45@hotmail.com



126
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 14
« في: 16:22 07/01/2011  »
2- الدرب الطويل/ 14
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)

الخداع أبرز صفات الثعلب
حين جاء نوري السعيد إلى الحكم في 11/3/1947 أي بعد أكثر من شهرين على استقالة أرشد العمري، ألغى قرار تعطيل جميع الصحف، عدا جريدة العصبة، التي أغلقت أيام وزارة أرشد. وظهر كتقي يطلب الخير للجميع، ويمسح الدموع من عيون الأمهات والآباء والذين فقدوا أبناؤهم خلال العواصف الهوجاء. لقد جاء اختيار "نوري"، ليبدو بمجيئه هذا وكأنه بريء مما جنته يدا أرشد العمري!. فماذا سيفعل؟
دعا رجال السياسة من مختلف الأحزاب، أن يشاركوا بوزارته هذه. ويضمن لهم أن يحقق ما يشترطون!؟ وكانت شروط الأحزاب حينها، دعم الحياة الحزبية، وفتح فروع لها خارج بغداد، وحرية الانتخابات، وعدم التدخل من جانب الحكومة.
حقاً إن الذين قبلوا المشاركة، قد نسوا انه ثعلب ماكر، وان بدا مرتدياً مسوح الزهاد! ثلاثة أحزاب تقدمية، لم تكتف برفض الدعوة، بل جابهت هذا الإدعاء، بأنه لغرض تفتيت الحركة الوطنية، وتوريط شخصيات معروفة بصلابتها ونهجها، ليحدث بينها وبين أمثالها فجوة وشقاق.
حين دعا نوري الأحزاب للمشاركة استجاب له الحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الأحرار. بينما دعت الأحزاب التقدمية الوطنية إلى عدم تصديق نوري لما تعهد. فحزب الإتحاد الوطني أعتبر مقاطعة الانتخابات أنجح وسيلة لفضح الغاية المبطنة. وحزب التحرر، بلسان رئيس الهيأة حسين الشبيبي قال في كتاباته "فنحن أذن ننبه المواطنين إلى خطر الأخذ بزعم انتخابات حرة، والى خطر الاشتراك في هذه الانتخابات التي يراد بها الإتيان بمجلس ووزارة مكلفة بتبرير بقاء النفوذ والامتيازات الأجنبية، ومكلفة بالتصديق على المشاريع، والخطط الاستعمارية التي يراد إعطاؤها الصفة الشرعية". وذكرت "القاعدة" جريدة الحزب الشيوعي في 24/12/1946 "إن الإنكليز هم الذين أوحوا بمجيئها لأحكام سيطرتهم على مقدرات البلاد".
وتحضرني التفاتة رائعة من فهد، أرى لزاماً عليّ أن أذكرها للتأريخ، ولست ممن يتعصب. قبيل سقوط وزارة أرشد العمري، كان الحزب قد عقد اجتماعا في دار أحد رفاقه في راغبة خاتون، وبعد أن أنفض الاجتماع وخرج أكثر الأعضاء، خرج فهد وزكي وحسين وأنا وسامي نادر، بانتظام مقرر في ساعة متأخرة من الليل. بينما كان فهد يمشي على مسافة معينة توقف ينتظرنا، دنونا، فقال "لا أستطيع الانتظار، أريد أن أقول لكم، إن محمد حديد سيكون في الأيام القابلة وزيراً!". تساءلنا، وكيف هذا؟ أجاب عندما نصل إليكم، سأوضح ذلك، إنه استنتاج!
وصلنا البيت، فأخرج جريدة "نيوستسمان" الإنكليزية. كان فيها مقال للأستاذ محمد حديد فيه عبارة تشير إلى "إن الإنكليز مازالوا يفهمون العراق والعراقيون كفهمهم له أوائل أيام احتلالهم، إنهم يجيئون إلى الحكم بوجوه عرفها العراقيون وفهمها جيداً وسئم منهم. وقد ظهرت وجوه محترمة في أفق السياسة والثقافة؟!". أنا لا أفهم اللغة الإنكليزية ولم أكتب نص كلمة محمد حديد من الجريدة، لذا كتبت مؤداها قدر ما أتذكر. وعقب فهد "إن هذه العبارة لفت نظر لهم. وعلى الأكثر سيأتون به يوماً!".
فلما أعلن عن تشكيل وزارة نوري التاسعة، ودعا إلى مشاركة الأحزاب له في الوزارة وفق ما يريدون من شروط، وأعلنت أسماء الوزراء الجدد، فكان من بينهم "محمد حديد" للتموين. وآخر عن حزب الأحرار. وأشار نوري إلى إن وزارته ضمت عضوين من وزارتين فقط، لأنها ائتلافية!
وقاطع حزب الشعب الانتخابات أيضاً وأصدر بيانا بهذا الشأن. أما حزب التحرر فانه لم يكتف بالمقاطعة، بل قاد مظاهرة صاخبة احتجاجا على أساليب الوزارة السعيدية. فقد أستأجر حزب التحرر دار ملهى الفارابي ليلقي فيه رئيسه "حسين الشبيبي" خطاباً كان بعنوان "موقفنا من الوزارة الحاضرة" وقد صودر الخطاب من المطبعة. ولما حضرت جماهير الحزب وجدوا محل الاجتماع مغلقاً ومختوماً بالشمع، والشرطة واقفة على الباب تمنع الوافدين، مع إن الاجتماع مأذون من المتصرفية حسب الأصول. فأثارها المجتمعون مظاهرة رائعة، قاومتها شرطة نوري، فقاومت هي الشرطة بما استطاعت. وأعتبر رئيس الحزب الوطني الديمقراطي هذه المظاهرة بأنها جاءت لإحراج موقف حزبه من الوزارة، وحَمْلِها على الانسحاب منها. وقال على صفحة صحيفته "صوت الأهالي" بتأريخ 16/12/1946 "إنهم مخطئون إذا كانوا يقصدون ذلك لأن حزبنا أستقل بأعماله".
وأعيد "حسين" وبعض رفاقه وكثيرون من قبض عليهم في المظاهرة إلى السجن. وحكم على حسين -بعد حين- بست سنين بسبب المظاهرة والخطاب.
وفعلاً فان نوري الثعلب بعد أن شكل الوزارة، نقض عهوده بأساليبه المعروفة التي ينفذها عملاؤه. فأعتذر عن فتح الفروع للأحزاب، بحجة أن الأمر موكول إلى متصرفي الألوية، وعلى الأحزاب أن يقدم منتسبوها الطلب إليهم. ولم تجد كل المحاولات مع المتصرفين. كذلك قام عملاؤه بواجبهم، كما يريد، في التدخل بشؤون الانتخابات، لذا لم يفز حزب الاستقلال وهو يلتقي مع نوري السعيد في كرهه للشيوعيين والشيوعية مع اختلاف في طريقة التعامل، ولكنه يرى أنها عقيدة يجب أن تقاوم بعقيدة، ونظام اقتصادي يجب أن يقابل بنظام اقتصادي، لا بالقوة والإرهاب فهذا ما يزيدهم قوة.
وانكشفت مزاعم نوري السعيد حول حرية الانتخابات، فاستقال وزيرا الوطني الديمقراطي والأحرار. وقالت جريدة السياسة: "لقد توقعنا كل هذا وحسبنا حسابه". أما زعيم الوطني الديمقراطي فقد أعتذر بقوله "من واجبنا أن لا نمارس الحياة الديمقراطية بصورة سلبية دائماً". 
ثم استطاعت شرطة التحقيقات الجنائية أن تكشف الدار التي تطبع فيها جريدة الحزب. وبعد أسبوع وفي 11/1/1947 ألقت الشرطة القبض على "فهد" سكرتير الحزب الشيوعي، وبعض أعضاء المكتب السياسي، كان بين المعتقلين زكي محمد بسيم، وعزيز عبد الهادي، وصاحب الدار الصيدلي إبراهيم ناجي. للعثور عليهم حكاية سأرويها. وبعد فترة تزيد على الشهر قليلاً استقال محمد حديد بسبب تدخل جماعة الكتلة، المقصود بهما صالح جبر وصادق البصام. جماعة الكتلة استقالوا من الوزارة ليتسنى لهم جو أرحب في خوض غمار الانتخابات.
نحن في النجف شهدنا أعوان نوري، من المتقدمين بترشيح أنفسهم، ومن جلاوزته وجلاوزتهم كيف يتدخلون وكيف يعتدون، بينما كان المشرف القانوني الأستاذ "ياسين الكيلاني"  أنزه من عرفنا من الحكام وقد نقل برقياً إلى بغداد. ذلك إن المؤيدين لسعد صالح كانوا قد شدوا الحيازم وهم من مختلف الاتجاهات الوطنية، فلم يجد السعيد بداً من الاتصال به. طاعنين بنزاهة موقف الحاكم النبيل، ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا التغلب.
لم يسبق أن رأى النجفيون حاكماً نزيهاً وصلباً في الحق والعدل مثل "ياسين الكيلاني". كان لا يزور أحداً، ولا يسمح لأحد أن يزوره خلال دوام المحكمة، ولا يقبل وساطة أو شفاعة. أتصل به نوري نفسه يتهمه بالتسامح في مراقبة الانتخابات وتلاعب بعض المتنافسين، فرده بعنف بأنه يعرف المتلاعبين ولم يسمح لهم وأنهم هم الذين تهتم بهم!
نوري لابد انه يمهد السبيل لطبخة جديدة. ذلك ما فهمناه من تصريحات رجال القوى الوطنية خلال طعنهم بدعوته للأحزاب بالمشاركة. فلننتظر فالمستقبل كشاف كما يقولون!

حكاية إلقاء القبض على فهد والمطبعة

حسب علمي، حين أختلف ذو النون أيوب مع القاعديين، وأصدر نشرته "إلى الأمام".  ثم القي عليه القبض، ويبدو أنه أجاد التفاهم مع رجال التحقيقات الجنائية، فأصدر بيانا يبدو من عباراته، انه لما لم يجد مجالا للنضال العلني سلك هذا المسلك ولما فسح له الآن المجال، فإنه يلقي عصا النضال، ولرفاقه الذين كانوا معه حرية الرأي، في أن يتبعوه أو يلتحقوا بفئة أخرى؟!
وفعلاً التحق أحدهم وهو إبراهيم ناجي  بجماعة القاعدة. بينما ألتحق الآخر ولا أذكر أسمه تماما ".... فعل" بداود الصايغ، وفتح له هذا مكتبة يستعين بها على إدارة شؤون منظمته "رابطة الشيوعيين" فكان الموما إليه مديراً للمكتبة.
كان الصائغ قبل انسحاب ذو النون من الحزب عضواً هاماً في الحزب (عضوا في اللجنة المركزية/ ألناشر). وبجهوده أستطاع أن يستعيد المطبعة التي أحتجزها جماعة ذو النون، وحدث بعد مدة أن أوقف داود وعند خروجه من الموقف أنسحب أيضاً وكوّن كتلة  رابطة الشيوعيين وأصدر جريدة العمل.
ويبدو أيضاً إن ".... فعل" قد فكر بالابتعاد عن العمل السياسي مطلقاً، دون أن يفكر بطريقة الخلاص. وجاء داود -على العادة- للحساب على صادر ووارد وأرباح المكتبة، فانكشف تلاعب هذا الأمين، فكانت مشادة وشجار انتهى بأن هدد هذا -الأمين- سكرتير الرابطة "داود".  لا علم لنا طبعاً كيف اهتدى الشرطة واكتشفوا هذا -الأمين- أو إنه هو الذي وشى بداود. وحين القي القبض على "داود الصائغ" مضوا به إلى مديرية التحقيقات الجنائية، يعلنون أفراح النصر. إلا إن المسؤولين أفشلوهم وأفهموهم، إن المطلوب فهد سكرتير الحزب الشيوعي.
ويذكر أن "..... فعل" ذكر لهم حينما استفسروا عن علمه بالوكر الذي يأوي إليه فهد أرشدهم إلى مراقبة دار إبراهيم ناجي، فهذا قد ألتحق بركب القاعديين بعد أن ألقى ذو النون عصا النضال. وهكذا تم لهم ما أرادوا، إذ أن فهد حين علم بإلقاء القبض على داود أهتم كثيراً، وراح يصفي ما لديه من أدوات وسجلات تخص الحزب. كان يعينه على هذا عضو اللجنة المركزية "زكي بسيم" وهو من أنشط وأبرز الأعضاء و "عزيز عبد الهادي"، ولم تجد الشرطة ما ينفعها غير آنية فيها رماد أوراق أحرقت، وسجل لف في بطانية والقي في قعر خزان الماء في سطح الدار. وأجاب فهد عن هذه الأسماء التي تضمنها السجل، بأنها أسماء لشخصيات وطنية ولمواطنين نتعاون معهم في ما نلتقي معهم به من رأي في حقل السياسة والقضايا الوطنية وأنهم ليسوا شيوعيين مطلقاً.


يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏07‏/01‏/2011
alshibiby45@hotmail.com



127
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 13
« في: 00:02 03/01/2011  »
2- الدرب الطويل/ 13
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


ولماذا أرشد؟!
نعم، لماذا أرشد -تشكلت وزارته في 1/6/1946-؟ للسيد الوكيل العام أعوان كثر، ينتظرون دورهم، كل مع قطب معلوم، يبدو وكأنه شخصيته مستقلة لها كيانها الخاص، وكأنه يتمتع بسمعة وطنية خالصة. ولكن أرشد؟ أرشد -أمين العاصمة- ويعرف الكثيرون عنه ما لا يجعله جديرا حتى بهذا المنصب، يعرفه سواق السيارات، ويعرفه فراشو الأمانة أيضاً. انه شخصية مهزوزة.
كان سواق السيارات يستخفون بشخصيته. فإذا صادف مروره بشارع الرشيد، استعملوا المنبه في سياراتهم على لحن أهزوجة فاحشة، كان قد أوصلها بعض صحبه أثناء سهراتهم التي حدثني بعض خدمهم عنها إنها أقرب إلى سهرات العاديين منها إلى اقل محترم.
وحدثني واحد، إن السيد الرئيس الجديد، أبصر مرة فراشه الخاص، راكباً عربة، ومرتدياً بزة بيضاء وبيده مسبحة من نوع الكهرب فثارت فيه روح الأرستقراطي. وفي اليوم التالي استدعاه فأنبه بكلمات احتقار، ثم قدم له كتاب فصله من الخدمة؟! أعتذر المسكين موضحاً إن ذلك من حقه فهو إنسان وشاب ولم يحصل عليها من "رشوات"، إنها من المحسنين الذين يزورونك، لاحترامي لهم. فلم يجد اعتذاره. وفي اليوم التالي، دخل عليه، فأغلق الباب من الداخل، ورفع بيده مسدساً هدده به انه سينهي به حياته إن هو لم يلغ أمر فصله، وبدا السيد على حقيقته من الجبن، فكان يتوسل توسل الجبان الذليل، وتم للفراش ما أراد.
وفي وقت عصيب حيث طغى دجلة، فكانت كارثة حلت بالمزارعين، جعلت أنينهم يتعالى. فهو أذن قرين سوء لهذا الحدث، هو فيضان هاجم الأحرار والحريات، الحريات الضئيلة الكسيحة.
تقدم كجني أنطلق من قمقم. وكما أراد له سيده، الذي لم يَرَ أهوجاً مثله يتحمل مسؤولية تتحرج جميع الوجوه -ألأراجوزية- أن تقدم على تمثيلها.
فأستهدف في المقدمة عصبة مكافحة الصهيونية، والهيأة المؤسسة لحزب التحرر الوطني. فعطل جريدة عصبة مكافحة الصهيونية بحجة نشرها دعوة الهيأة المؤسسة لحزب التحرر الوطني إلى إعلان الإضراب، وزج بأعضاء الهيأة المؤسسة لحزب التحرر في التوقيف. وهاجم الصحافة الوطنية، فأنذر بعضاً، وسحب امتياز أخرى، وأنذر ثالثة، ولفت نظر إلى ثلاث جرائد، وعطل جريدة حزب، وصادر أعداد مجلة قبيل صدورها. ثم عدا على الصحافة الحزبية، وأحال مديري ورؤساء تحريرها إلى المحاكم!؟
فقد أنذر جريدة الرأي العام في 7/6/1946 لنشرها خبر وصول قوات إنكليزية إلى ميناء البصرة. وعطل جريدة صوت الأحرار في 20/6 ولفت نظر جريدة البلاد والنداء وصوت الأحرار لسان حزب الأحرار. وصادر العدد 11 من مجلة الوادي قبيل صدوره. وامتدت يده إلى الصحافة الحزبية فعطلها، وأحال رؤساء تحريرها إلى المحاكم رغم إن القانون لا يجيز تعطيل صحف الأحزاب السياسية إلا بحكم المحكمة. وعطل جريدة السياسة جريدة حزب الإتحاد الوطني في 21/8 وقدم رئيس الحزب الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم للمحاكمة بسبب نشره أربع مقالات بالعناوين التالية "أيام كأنها الدهر" في 7/8 و"ماذا وراء حادث سنجار؟" في 13/8 و"تحت ستار الحملة على الشيوعية" 19/8 و "معضلة سوء الفهم وفخامة رئيس الوزراء" في 20/8.
وفي 1/9 قدم للمحاكمة الأستاذ ناظم الزهاوي المدير المسؤول لصحيفة حزب الإتحاد الوطني لنشره مقالاً بعنوان "مذبحة كاورباغي" كما قدم عدداً من قادة الإتحاد الوطني ممن كتبوا مقالات في السياسة وهم، شريف الشيخ، عبد الله مسعود، موسى الشيخ راضي. وكانت التهمة، أن المقالات كانت تشجع على كراهية الدولة. وأقام دعوى أخرى على الزهاوي وعبد الله مسعود لنشر الأخير مقالاً. وانعكست هذه السياسة على العاملين في الصحافة، فأعلنت نقابة المطابع إضرابا عاماً في 5/9 أستمر 9 أيام، لم تصدر خلالها غير جريدتين هما "العالم العربي" و "الأخبار" تولت الحكومة طبعهما في مطابعها، وقام بتوزيعها مفوض شرطة فشكرته الحكومة!
لم تقف القوى الوطنية مكتوفة الأيدي تجاه هذا الاندفاع الأرعن، ليثبت لسيده انه كفوء لرئاسة الوزارة، أكثر مما هو -أمين عاصمة- ولعل السيد قد ضرب عصفورين بحجر!
نوري السعيد أراد بإسناد رئاسة الوزارة إلى أرشد -في رأيي- أولاً ليكشف شخصية أرشد المهزوزة للعراقيين، فربما كان يعرف عنه رغبته فيها. وثانياً، انه لم يجد شخصية سياسية تقوم بمثل ما قام به أرشد. فقد كانت أعماله نقمة حاقد على السياسيين والشعب. وبحجة مكافحة الشيوعية، صب حقده على جميع الفئات الوطنية وأخيراً ليمهد لمجيئه بعد هذا مستريحاً بجهود غيره!.
فقد قدم نوري مهووساً لم يعرف أحد قبله بمثل ما عرف به من عدم احترام الشخصيات السياسية -على اختلاف- اتجاهاتهم، حتى الذين هم محسوبون على السيد الوكيل العام. فكانت افتتاحيات الجرائد الوطنية، وكانت المقالات بعناوين تعبر عن جرأة بالغة، وصراحة متناهية، تعبر عن مدى احتقارها له ولإجراءاته التي لم يحدث أن أقدم عليها من قبله أحد، لأن الآخرين كانوا على أية حال يحترمون أنفسهم، ويحسبون حساب المستقبل، كما يبدو إنهم ينظرون إلى بعيد أيضاً.
وحين تفجرت مظاهرة صاخبة احتجاجا على المظالم الجارية في فلسطين، استعملت الشرطة السلاح لتفريقها بعد أن لم تجد هراواتهم نفعاً. وكان حادث المظاهرة التي جرت في 21/6/1946 قد نجم عنه قتل خمسة أشخاص منهم طالب وعاملان وجندي وطفل. وفي 8/6 قامت جمعية العصبة وحزب التحرر بمظاهرة حاولت الشرطة تفريق المتظاهرين عدة مرات فقاوموها فردت عليهم بالسلاح. جرح وأصيب عشرة منهم مات أحدهم. والذي عرفته إذ ذاك إن الأحزاب الأخرى لم تؤيد هذه المظاهرة. وكان الموقوفون من أعضاء حزب التحرر قد أعلنوا إضرابهم عن الطعام فتدهورت صحتهم حين بلغ يومه الـ 27 فنقل بعضهم إلى المستشفى وأشيع إن حسين محمد الشبيبي قد مات نتيجة إضرابه وامتناعه عن نقله إلى المستشفى. فتجمعت جماهير الحزب في ساحة باب المعظم ليقتحموا السجن ويأخذوا جثمانه عنوة. وأتضح لهم عدم صحة الخبر فساروا متظاهرين، يهتفون بسقوط الوزارة.
وفي كركوك نظم عمال شركة النفط -تموز 1946- أعظم إضراب من أجل مصلحة الوطن ونهب المستعمرين لثروته النفطية. كان الإضراب من أجل زيادة الأجور، ومطالب أخرى تخص حياة العمال. والحقيقة أن الإضراب كان بتنظيم الحزب الشيوعي. وكان مضربا للمثل في الاندفاع والبسالة. وفي 12 تموز دبرت الحكومة مجزرة ضد العمال، وقد هز الاعتداء على العمال كل الفئات، وعم الاستنكار كل القطر للسياسة الهوجاء التي سار عليها أرشد. وقتل أكثر من 16 وأصيب العشرات فأعلنت المدينة إضرابا عاما.
وهبّت شرطة أرشد يواجهون العمال العزل بهراواتهم الغليظة ثم بالسلاح. فكانت صيحة الوطنيين من رجال الأحزاب داوية هزة كيان الحاكم الأهوج. كانت اعتداءات الشرطة قاسية ومكشوفة لم تستطع وزارة الداخلية أن تعتذر عنها، وقد أستنكرها حتى مؤيدوا الوكيل.
وفي هذه الظروف أي في  عهد الوزارة الأرشدية، ووزارة نوري التاسعة التي همها التهيؤ لتجديد معاهدة 1930 بأشد منها وأقوى أغلالاً، والتي نشط حزب التحرر الذي تزعمه حسين لفضح الأساليب التي يتوسلون بها إلى الغرض اللئيم. أندفع بها حسين وحزبه إلى خوض غمار السياسة بحرارة واندفاع شديدين، بين نشرات يصدرها باسم "رسائل التحرير" وبين مؤلفات عن المعاهدات البريطانية العراقية، والتي هي سلاسل وأغلال، وسيطرة على الذهب الأسود. وبين خطب يدعى لإلقائها في الحفلات وفي جمعية "عصبة مكافحة الصهيونية" ومظاهرات صاخبة يثيرها ليكشف الأحابيل التي يظهر بها الاستعمار -ثعلباً- ترك الخداع وتزيا بمظهر الزاهد التقي. في هذا الوقت بالذات نشرت جريدة "السجل" بتأريخ 20/10/1946 كلمة تعتبر من أردأ ما يفكر به أعداء الحرية، هذا نصها "آل الشبيبي عائلة عريقة في توارث العلم الديني. وليس من المعقول أن يكون في أفرادها شيوعي واحد. وبناء على ذلك فقد اتصلت بنا شخصية شبيبية كبيرة في دائرة رسمية، والتمست منها أن تنبه الصحفيين بأن ما تنشره عن حسين محمد إنما هو خارج عن هذه العائلة، إذ هو من عائلة أخرى، ولا صلة قرابة له بهذه العائلة"!؟.
وقد أرسل حسين الجريدة إلى الشيخ الشبيبي. وكتب التراجم النجفية وغير النجفية تعرّف من هو والد حسين. انه الشيخ محمد ابن الشيخ علي الابن الأكبر للشيخ محمد والد الشيخ جواد وأخوته الآخرين: حميد، عبد الرضا، وعبود.
نحن ندين بالقول المشهور "إن الفتى من يقول ها أنا ذا           ليس الفتى من يقول كان أبي"
والحديث الشريف يقول: كلكم لآدام وآدام من تراب. ولا يسرنا أبداً أن نحسب على آل الشبيبي، وليس لنا في الجهاد، آو دار العلم والأدب مكان.
وما قاله الشبيبي  الشيخ محمد رضا:
كأن ســر الحيـــاة المستكن بنا                         صفية من صفايا الواحد الأحد
فمن جدودي لآبائي الألي لأبي                        إليّ ذاهـبــــة مني إلى ولــدي
سر الحياة هذا ليس خاصاً ولا وقفاً على آل الشبيبي وحدهم. انه لكل من يفهم الحياة وما يترتب عليها من واجب إزاء نفسه، وإزاء وطنه وأمته. مضافا إلى هذا إننا نعتقد إن الشخصية الكبيرة أجل من أن يصدر عنها الذي تقوله جريدة "السجل" وفي هذه الظروف بالذات الذي هبّ فيه كل ذي شعور وطني ضد تجديد المعاهدات الظالمة، ونحن من ضمن أولئك العراقيين الغيارى، أحزاباً وأفراداً، ثم لا نجهل نحن ولا المسؤولون في جريدة "السجل" إن في آل الشبيبي، كما هو في كل الأسر والعوائل، من هو من رتب البرجوازية، وله تفكيرها فلا غرابة، أن يتنصل ويدعي، ورغم كل هذا، ورغم أنف من يؤمن بصحة هذا ويصدقه، نقول "إنا من الأسرة من صميمها، وأبونا والشيخ الشبيبي أبناء عم كما يعبر الشعبيون "لحّ" -أي لحاء الشجرة-!".
ومن المضحك أن تقوم الحكومة العراقية في هذه الظروف بدعوة أم كلثوم لتحيي حفلة! وربما كانت لإغاثة منكوبي الفيضان. وبمناسبة مقدم أم كلثوم نشرت قصائد كثيرة من الشعراء يحيون بها أم كلثوم، الزهاوي، الرصافي، محمد باقر الشبيبي. لكن الشبيبي الكبير الشيخ جواد، كان حينها طريح المرض ملازماً فراشه، هزه مقدم أم كلثوم فشارك هو الآخر بقصيدة خالف كل من حياها من الشعراء فهو عاتب متألم، وآسف، أستغرب الغناء والطرب في وطن يئن شعبه من ظلم الاستعمار وأعوانه، أقتطف منها هذه البيات:
تغردين وذي الأوطـــان ما برحت                                     تبكي لتــــذكار توزيـــع وتقســــــيم
قد هيــأ الظافـر المنهــوم دعــــوته                                     منهـــا لكل عميق الشــدق مقـــروم
تذوقــوهـــــا ولم تبـــرد لهــا يزع                                      وباغـتــوهــــا بتخصيص وتســهيم
سيان للهاجس المحزون في وطني                                     ترنيمة الــورق أو تنعــــا به البــوم
هــذي البـــلاد فمعـــدوم بلا جــدة                                      إن طفت فيهــــا وموجود كمعــدوم
قمـرية الـدوح قومي واندبي اممـا                                      مخنوقة الصوت في أوطانها قومي
إن فيضان دجلة والفرات مهما دمّر من مزارع وقرى، فإنه أيضاً يخلف عطاء ويلئم جراحاً مما يزيد الأرض قوة وحيوية من غرينه ومائه. أما طغيان أرشد وقد عم العراق فقد ترك آثاراً لن ينساها الناس أبداً. ويبدو أن أرشد شعر برأي الناس في وزارته، فحاول أن يتملق الأحزاب، وينفي ما دار حول وزارته، فصرح "إن وزارته انتقالية، وإنها ستكون أرحب الوزارات؟!".
قادة الأحزاب مازالوا يعالجون تلك الضربات القاصمة والمهينة للشعب بتقديم العرائض للمسؤولين يطالبونهم بإطلاق حرية الصحافة المعطلة والكف عن التضيق على الحريات. ففي أوائل تموز أجتمع قادة الأحزاب وقابلوا الأمير زيد نائب الوصي وأرشد. وحين عاد عبد الإله من زيارة لندن قابله رؤساء الأحزاب الخمسة، وشرحوا له أوضاع البلاد الخطيرة التي أشار إليها القادة. فماذا كان الرد؟
لقد قرر السفر إلى مصيف سرسنك وإصدار إرادة ملكية بمنح نصف راتب للموظفين؟! هكذا إذن. رشوة وضيعة لفئة من أبناء الشعب ليشتري رضا الشعب؟! وقام حزبا الوطني الديمقراطي والإتحاد الوطني بعقد اجتماع في 30/8 وقد حضر هذا الاجتماع خمسة آلاف شخص، طالبوا فيه بتنحي الوزارة الأرشدية عن الحكم والمجيء بوزارة ديمقراطية.
ويوم 16/11/1946 استقالت وزارة أرشد، بعد أن نفذت كل مهماتها الرعناء والشريرة، حينها قالت جريدة الأهالي "ذهبت وزارة أرشد غير مأسوف عليها".
المعلم الجديد
من الدروس التي أعشقها، وأهتم في تدريسها بشغف، وأجذب طلبتي إليها وأشوقهم لتفهمها "الواجبات المدنية" هكذا كانوا يسمونها. حتى هذا العام لم يكن لدينا كتاب مخصص لتدريس مواد المنهج لهذا الدرس. كنا نعد الموضوع ونجمله لطلبتنا في الصف الخامس الابتدائي. يبقى الأمر على مدى إحاطة المعلم ببعض مواد المنهج، وقدرته على تحويلها إلى موضوع سهل ومستساغ لدى الطلاب.
حدث ذات يوم أن دخلت الصف الخامس، ورسمت الموضوع "تبادل المنفعة" كان هذا العنوان أحد مواد المنهج المقرر إذ ذاك. لا أتذكر سبب انعدام وجود كتاب مقرر بهذا الشأن، ربما كان في طريقه للطبع والتعميم، فقد كانت كتب الدراسة كثيراً ما تتبدل تبعاً لمكانة المؤلف من ولي الأمر الذين بأيديهم زمام الوزارة.
من الأساليب التي أتبعها في تدريسي، أن ألقي العنوان وأطلب من الطلبة من يقدر توضيح ما يرمي أو يشير إليه هذا العنوان. ثم أكثر من الاستفسار، عن مختلف المدلولات عليه وما ينطوي تحته. أثير روح التنافس بين تلامذتي، أحاول دفع الجميع في المشاركة للإجابة. وأسجل الجواب الصائب على اللوحة السوداء "السبورة". سألت، فرفع الطلاب "سبابتهم"، بدأت كالعادة بأذكى طالب.
- نعم يا هادي، أجب ما معنى تبادل المنفعة؟.
هادي عبد الرضا الجبري، طالب نحيف الجسد على محياه صفرة، وفي عينيه بريق لكن أجفانه ذابلة، عرفت ذكاءه، وأدركت روعة أحاسيسه من أسئلته التي يقصدني فيها أثناء تجولي بين الطلبة أثناء الفرص في اليوم الخاص بمراقبتي التي هي فرض على كل معلم، يوم في الأسبوع، حسب المعتاد. وفهمت أيضاً انه يطالع ما يقدر عليه من كتب أخيه. وسأذكره في مناسبة أهم في حياته في المواضيع الأخيرة.
بعد الإجابة طرحت السؤال الثاني:
- ما الفرق بين تبادل المنفعة والاستغلال؟
بدا على الطلبة سكون، لكن هادي وحده رفع سبابته.
أحسست أن أحداً قد قدم، وألتفت نحو الباب. كان القادم  هو مدير المعارف  السيد عبد الوهاب الركابي. أشار إليّ أن أستمر. واتكأ على باب الصف، قرب العتبة. حين أستقل لواء كربلاء بمديرية معارف، كان السيد عبد الوهاب الركابي ثاني مدير يدير دفة أمور التعليم فيها. كان من ناحية معلوماته جيداً لكن من ناحية تأثيره في الوسط الذي يعيش فيه والوسط التعليمي ليس بالمستوى المتكافئ مع درجته وكيان مديرية معارف. وتبين لنا بعد هذا ، انه يسير أموره في المجاملات والمداهنة وليس بقوة شخصيته ودرجة مسؤوليته، عرفنا هذا حين اصطدمنا بإدارة قائممقام النجف "توفيق عذار".
-                     أجب يا هادي!
قال هادي "الفرق إذا كان التبادل بين أثنين أو أكثر يختلفان بالقوة فهو استغلال لا تبادل منفعة!"
- وكيف؟!
- كالمعاهدات التي تتم بين شعب ضعيف ودولة قوية؟ مثلاً .
- أوضح؟
- مثلاً ما بيننا وبين بريطانيا ليست المعاهدات القائمة من نوع تبادل المنفعة. فبريطانيا استعمارية. وعرفناها جيداً حين جاءت عقب طردها العثمانيين من العراق. صرحوا إنهم "جاؤا محررين لا فاتحين" وبرهنوا بعد هذا على كذب هذه المقولة؟!
كنت أتجه اتجاها بحيث أشرف على الصف، وأراقب السيد المدير! فأشار إليّ أن أتوجه نحوه. خرجت فابتعدنا عن الصف قليلاً. وجدت حضرته قد بدا عليه أرتباك، واحتقن وجهه من انفعال واضح. كانت الكلمات تتسابق من لسانه. فيتمتمها تمتمة متقطعة على غير ما عرف عنه من قدرة على الحديث والنكتة البارعة.
صاح بوجهي "شتريد تتكلم؟ أنت شنو رأيك؟ أنت تعرف أن فيصل ملك العراق، واضع صورة ملكة بريطانيا على الجدار فوق رأسه؟ هذا كلامك سياسة، تخريب، هجم بيوت!"
- عافاك الله. انه جواب الطالب، ولست أنا. وهو مصيب؟!
كانت أنفاسه تتلاحق، وكأنه كان يمارس هرولة ليخفف من وزنه الثقيل. ثم تراجع، وقد صعد إلينا مدير المدرسة، عند سماع صوت السيد المدير بدرجة ملفتة للنظر، بينما أحتشد طلاب الصفوف الأخرى تاركين رحلات الدرس، ومعلموهم ينظرون إلينا بدهشة.
قال "أنا جئت لأسألك عن تحدٍ غريب منك، ومن بعض الذين تشدهم إلى صفك؟!"
- أمر غريب يا أستاذ! ماذا تقصد بهذا؟
- أنك وبعض أفراد المعلمين ممن هو في صف فئتك ...!!؟
- قل وهذا أشد غرابة. قل يا سيدي قل!
- أنك ترفض أن تدفع بدل اشتراك مجلة المعلم الجديد! لم تكتفِ بنفسك، فحرضت آخرين. لماذا؟
- أنا مخير بالاشتراك. بموجب النص المثبت على غلاف المجلة -الاشتراك اختياري-. ويمكنك الاتصال بالآخرين الذين قاطعوها أيضاً.
وأشتد الجدل، فكان منطقياً تارةً، وتهديداً تارةً. وقال:
- لا تلم غير نفسك إن عوقبت! إن نقلت إلى أبعد قرية!
والتفت إلى مدير المدرسة يسأله "أهو متزوج؟ وله أطفال؟ هل يمتلك دار؟"
- نعم وله أربعة أطفال. وغالبية المعلمين هنا لا يمتلكون دار يا أستاذ!
- حسناً. ستنقل إلى "شفاثة".
أجبته "لا بأس. أين ما أحل فلست إلا في بلدي العراق!"
طال الجدل، وغادر المدرسة غاضباً، بعد أن ناقش آخرين كانوا أيضاً قد قاطعوا المجلة. وعلمت بعد هذا أنه التقى كل الذين قاطعوا المجلة من معلمين ومدرسين، وقد أنفعل أحد المدرسين حين أنبه السيد المدير، قائلاً "أنت مدرس ثانوية فمن المؤسف أن يحرضك معلم -وذكر أسمي- ". فردّ على المدير بكلمة قارصة. فغادر الثانوية منفعلاً.
حدث هذا في 9/12/1946 وقد صغت ما دار بيني وبينه بكلمة بعنوان "لتسمع جمعية المعلمين"، أرسلتها إلى جريدة "الوطن" لسان حال حزب الشعب. فنشرت بتاريخ 21/1/1947 مع حذف بعض فقرات منها.
ومجلة "المعلم الجديد" تصدرها وزارة المعارف، في التربية بمختلف مواضيعها، والاشتراك فيها، كما هو مرسوم عليها إذ ذاك اختياري، وبدل الاشتراك 200 فلساً. لكنها ضحلة ومقصورة على أقلام معينة، ولا تتناول مشكلة المعلم والتعليم إلا نادراً. وغالباً ما يكون ذاك التناول بعيداً عن ملامسة الواقع -واقع المعلم والتعليم- بشكل علمي عميق. أما الوخز واللوم فكثير.
كانت جمعية المعلمين هي الأخرى، ميتة ومحنطة، لا تعرف عن المعلم شيئاً ولا تهتم بأمره. وكانت لا تخطر على بال معلم، وتبدل أمرها في السنين الأخيرة للعهد الملكي نوعاً ما ففتحت لها فروع في الألوية -المحافظات-، وصارت تقوم بتسليف المعلمين وفق شروط خاصة، المرض، الولادة، البناء، وضمن تحديد لمقدار السلفة. غير أن هيآتها الإدارية أيضاً كانت لها حصة الأسد في التصرف لها ومن يوالي المتنفذين منهم. وقد ثار عليها المعلمون عندما أنهار النظام الملكي، وأعيد تشكيلها ممن كرسوا حياتهم لخدمة المعلم، وسأذكر هذا في مكانه.
وعلى أثر نشر الكلمة زار المدرسة يحمل الجريدة، ولكن بوجه باسم، وقف قبالة باب الصف على بعد مترين، حياني فرددت التحية. وقال:
- ما أسرع ما أرسلت ما دار بيننا في جريدتكم؟!
- جريدتكم؟ ماذا تعني أستاذ؟ أنا مازلت غير مشارك في المجلة!
- أقصد جريدتك، وليست مجلة المعلم الجديد.
- تقول جريدتكم! للمعلمين مجلة -المعلم الجديد- لا غيرها!
فدنا من باب الصف وقال بهمس "جريدة الحزب!". وأراني جريدة الوطن. لو كان رجلاً عادياً هان الأمر، ولكنه مسؤول عن التربية والتعليم في لواء كامل؟ فضحكت. ألهذا الحد. أهو ساذج. كلا. انه خبث الطوية!
لا أدري أن كان حقاً لا يعلم إن جريدة "الوطن" ليست لها علاقة بالحزب الشيوعي، إن لم تكن ضده، أو ضد قيادة فهد -إذ ذاك-، وكل من يتصفح الجرائد، منها جريدة الوطن يدرك ذلك من مقالات كتبت بقلم "عباس بلال" و "عامر عبد الله" وكانا إذ ذاك من جماعة الأستاذ عزيز شريف، كانوا يهاجمون بها آراء الحزب الشيوعي وقيادة فهد. والأستاذ عزيز شريف معروف بآرائه التقدمية، وأسس أفكاره، وقد أستهدفه العهد الملكي وحكامه على اعتباره واحداً من زعماء اليساريين، وطورد، وأوقف، وحوكم، بسبب نضاله العنيد ضد حكام العراق الرجعيين والموالين للاستعمار. ومن الجهل الفاضح أن لا يدرك المرء الفرق القائم بين اتجاهات الأحزاب، وإن التقت في مقاومة الاستعمار.
حكاية الاشتراك بالمجلة والنقاش حول موضوع الواجبات، كلاهما مؤشر لما يحاك ويدَبَر ضد عدد من خيرة المعلمين الواعين. كما انه يرتبط وبتأكيد بما قمنا به خلال أزمة المخضرات والمواد الغذائية، وبيع حصتنا من القماش أيام القائممقام "توفيق عذار" ومعاون الشرطة "عبد الرحمن دربندي".
"ومـا عـشتَ أراكَ الدهـر عـجـباً!"
 
يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏02‏/01‏/2011
alshibiby45@hotmail.com

 

128
نداء إلى السيد أسامة عبد العزيز النجيفي رئيس مجلس النواب العراقي
حول الفساد الإداري والمالي ودوركم القادم!


لقد ورث الشعب العراقي من النظام السابق الكثير من المشاكل - اجتماعية، سياسية واقتصادية-، وزاد الطين بلة تخبط وأخطاء -عن قصد أو دون قصد- إدارة المحتل الأمريكي في التصدي لهذه المشاكل بعد الاحتلال. أضف إلى ذلك صراع القوى السياسية -المسيطرة على زمام الدولة- لا من أجل خدمة الوطن وإنما بالدرجة الأولى من أجل المكاسب الضيقة -الطائفية والاثنية- ومن أجل المناصب الحكومية والامتيازات!
لا يخفى عليكم أن قرارات وقوانين مجحفة، انتهكت مصالح وحقوق الشعب، قد تم إصدارها وتشريعها خلال السنوات السابقة من قبل مجلس النواب السابق ومجلس الوزراء. ولم يكن للأسف مجلس النواب بالمستوى الذي تمناه الشعب العراقي. فرئيسه الأول كان فلتة -المشهداني- لا يصلح أن يكون حتى تلميذا عاقا ومستهترا في أوطأ مدرسة للمشاغبين!؟ ولا أدري كيف سمحت الأحزاب السياسية والإسلامية -المحترمة- أن يترأس مجلس نوابها لمدة -قاربت السنتين- شخص لا يحسن إلا قلة الأدب ووضاعة الخلق وسوء الذوق. فبالتأكيد مجلس نواب ونواب يترأسهم شخص -لا يحسن الأدب- سوف لا يكون إلا عاجزاً في انجاز مهامه، ولهذا حتى بعد استقالة المشهداني استمر عجز مجلس النواب -ولكن بصورة أقل- لأن العلة ليس فيه فقط وإنما بعدم الرغبة بالتضحية والتسامي فوق المصالح الضيقة والأنانية لنقل العراق نقلة نوعية جادة.
 فقد وافق مجلس النواب على إصدار قوانين وتشريعات تنتهك أموال وحقوق الشعب، كالامتيازات المتنوعة للوزراء والنواب -من مخصصات الحماية، والرواتب ومنافعها، والأراضي، والسلف التي تحولت إلى منح ورشاوى لشراء صمتهم، وربما هناك الكثير الذي لم نسمع به من الامتيازات- ورغم ما كنا نسمع في الفضائيات من هذا النائب أو ذاك عن رفضهم وانتقادهم لهذه الامتيازات، لم يبادر أحداً منهم للتحرك الفعلي والجاد مع الآخرين ويعلنوا رفضهم لهذه الامتيازات، ونفس الشيء فأن الكتل السياسية المسيطرة هي الأخرى كانت متواطئة بهذا الفساد الذي تشرعنه الحكومة ومجلس نوابها.
وأمّلنا خيراً بإعلان دولة رئيس الوزراء بمكافحة الفساد، وخاصة بعد صولة الفرسان. لكن خاب أملنا هذا بعد أن تم التساوم -كما أعتقد- مع المافيات النفطية بالبصرة التي كانت تنهب النفط والعصابات التي كانت تتحكم بمصائر أهل البصرة، ولم نسمع بما جرى لها قضائيا ومن هي رؤوسها الفاسدة وأية قوة سياسية كانت تلتزمها!؟ وبدل أن تتواصل الحملة ضد الفساد والمفسدين في بقية مؤسسات الدولة ومدن العراق، نرى أن دولة رئيس الوزراء حاول الدفاع عن بعض الوزراء والوزارات التي وصل فيها الفساد وسوء الإدارة لحد لا يمكن السكوت عنه، وأصبحت رائحتها تزكم الأنوف. وكانت الآثار السلبية لهذا الفساد انعكاساته المريرة على حياة الشعب، بالرغم من تخصيص وصرف مليارات الدولارات في تلك الوزارات. واخص بالذكر وزارات  التجارة والكهرباء والنفط وغيرها والله أعلم. هذه الوزارات التي حاول مجلس النواب استدعاء وزرائها، وبمساندة خجلة من رئيس الوزراء، حاولوا التملص من التساؤل وحمايتهم حتى بعد التساؤل؟. وما جرى لوزير التجارة -عبد الفلاح السوداني- وإنزاله من الطائرة لمحاولته الهرب وما أشيع من غضب المالكي ومحاسبته لمدير المطار لأنه أنزل الوزير المحترم من الطائرة! وحكاية وزير الكهرباء -وحيد كريم- جميعها أدلة  على تساهل حكومة المالكي مع المفسدين ومحاولة حمايتهم، لأنه ترك الوزير ليغادر بحرية دون استكمال التحقيق معه.
وتحركْ بعض أعضاء مجلس النواب في الأشهر الأخيرة من عمر المجلس لا يعكس الشفافية والمصداقية وحسن النوايا، فقد جاء التحرك -كما أرى-  للدعاية الانتخابية ولتصفية حسابات، لأن الفساد كان سائدا حتى قبل الدورة السابقة وكان يجب التصدي له من أول يوم من الدورة السابق، وهذا ما نرجوه منكم كي تفوا بتعهداتكم في محاربة الفساد.
لقد أعلنتم قبل وأثناء وبعد الانتخابات عن إصراركم في مكافحة الفساد والمفسدين وتقديمهم للعدالة واستعادة حقوق الشعب التي تم تبذيرها أو سرقتها، وها أنتم الآن تتسلمون رئاسة أهم سلطة في البلد وهي السلطة التشريعية والرقابية، وبإمكانكم وضع أعضاء مجلس النواب على المحك في مكافحة الفساد -ومزايدات بعضهم على الفضائيات- في شن حملة يسودها التحري النزيه -بالتعاون مع هيئة النزاهة- عن الفساد ابتداءاً من هرم السلطة، واعتماد القانون والقضاء العادل والشفافية ونبذ المساومات اللا أخلاقية -الحزبية والعشائرية والطائفية- في التستر على الفساد.
ويقلقني ويستفزني ما أثاره البعض من النواب في أحدى الجلسات بحضور رئيس هيئة النزاهة. حيت تباكي معمم بعمامة ناصعة البياض -بالعكس من نواياه- على دستورية وشرعية هيئة النزاهة وخوف الموظفين من الهيئة، وأيده حريص آخر -وليد الحلي-!؟ وتناسوا أن هيئة النزاهة لا تخيف إلا المفسدين، وهي تعاني من الخوف والتهديد والاغتيال، ولا تعاقب، وإنما تجمع المعلومات -حسب اجتهادها والحقائق التي حصلت عليها- وتقدمها للقضاء للبت فيها. فلماذا الخوف!؟ ربما لأن المثل الشعبي -اللي جوى أبطه عنز يمعمع- ينطبق عليهم وعلى كتلهم وأحزابهم.
السيد رئيس مجلس النواب!
لن أفكر بكتابة هذه السطور لولا ما لاحظته من جديتكم وقدرتكم على إدارة عمل مجلس النواب خلال جلساته المنصرمة، وهذا ما يشهد به الكثيرون. فقد تميزت جلسات مجلس النواب بالاحترام المتبادل الذي أنتهكه المشهداني وارتضاه نواب الدورة السابقة. وتميزتم بتنظيم برامج جلسات المجلس واعتماد ما توفر من تكنولوجية لإدارة اجتماعاته التي أهملها المجلس السابق، كما تميز دوركم في منع الأحاديث الجانبية والحفاظ على حقوق الأعضاء، والحرص على حضور الاجتماعات وعدم مغادرة الجلسات وتحويل المجلس إلى -خان جغان- يتنقل فيه الأعضاء للتحدث فيما بينهم وكأنهم في سوق هرج متخلف!؟ 
وكم كبرتم في أعيننا عندما رفضتم الاستجابة لمغادرة المجلس مع قائمتكم -العراقية- حين طالبكم البعض بالمغادرة فأجبتم "أنك الآن تمثل الشعب العراقي وليس قائمتك!". ولأول مرة أسمع رئيس المجلس كيف ينبه بهدوء واحترام أحد أعضاء اكبر الكتل بالتزام الهدوء وعدم التحدث جانبياً! وبهذا يساهم بجدية ويضع أساساً صالحاً لعمل المجلس واحترام أعضائه لجلساتهم. أنكم تسجلون سابقة تاريخية رائدة في إدارة اجتماعات هذه الدورة وفرصة تاريخية لن تتكرر، ونأمل أن تستمروا بهذا النفس والحرص، وبذلك ستكسبون تأييد الشعب وتكشفون المزايدين من أشخاص وقوى سياسية.
إنكم الآن على المحك لتأكيد مصداقية الشعارات التي كنتم ترفعونها. والحكمة ليس بالبداية الناجحة، وإنما بمواصلة هذا النهج حتى النهاية بعيداً عن المحاباة والمساومات. والإصرار على مواصلة هذا النهج بشجاعة وشفافية، ودون تفريق بسبب الاتجاه والجنس والمذهب والقومية. لذلك أحب أن الفت انتباهكم على ضرورة احترام الدستور والنظام الداخلي لعمل المجلس، لهذا أرى كان من الضروري الالتزام بتقديم السيّر الذاتية للوزراء والتحقق من صحة المعلومات عن شهادات الوزراء واستعراض ذلك أمام الشعب -ليتعرف الشعب على وزرائه- وعدم التصويت على الحكومة متجاوزين أهم فقرات الدستور والنظام الداخلي، فكان هذا مؤشرا سلبيا مهما كانت الدوافع.
لذلك اطرح المقترحات التالية لتتمكنوا وتصدقوا القول في مكافحة الفساد المالي والإداري ومكافحة سوء الإدارة في الوزارات ومؤسساتها:
1- أن يفصح الجميع -بدرجة مدراء عامين وما فوق- عن ذممهم المالية -مثلما بادرتم انتم-،  وتحديد فترة قصوى لتقديم ذلك وأن يترتب على عدم الالتزام موقف قانوني متشدد.
2- لا يسمح للنواب والوزراء والمدراء العامين السابقين بمغادرة الوطن دون براءة ذمة تؤكد عدم تورطهم بفساد مالي وإداري. وما أطرحه هنا نتيجة تجارب مريرة حدثت مع وزراء سابقين -الشعلان، أيهم السامرائي، وحيد كريم، عبد الفلاح السوداني وغيرهم- وكلهم تركوا الوطن لينعموا بأموال الشعب التي نهبوها -كما يشاع-، ونسوا تصريحاتهم الوطنية وتعلقهم بالوطن أثناء استيزارهم!؟
3- أن يوضع سلم للرواتب إنساني وعادل ابتداءاً من أدنى مركز حكومي إلى أعلى مركز وظيفي -الرئاسات الثلاث-. على أن لا يتجاوز الفرق بين أعلى راتب وأقل راتب 15 ضعفاً -طبعا هذا فرق كبير جدا مقارنة مع الرواتب في الدول المتحضرة-!؟ وأن لا تتجاوز المنافع والمخصصات 20% من الراتب. وأرى من أجل ذلك إيجاد -قاعدة دنيا- لتحديد دخل الفرد السنوي الضروري للمعيشة ويكون أساسا للانطلاق في تحديد الرواتب من أدنى سلم. بدون هذا يبقى الحديث عن العدالة الاجتماعية التي يتشدق بها السياسيون من الإسلاميين والعلمانيين هي أكبر أكذوبة وسخرية بعقول المواطنين.
4- المبادرة لإلغاء المنافع والامتيازات -الجوازات الدبلوماسية، الأراضي، الرواتب التقاعدية وغيرها- التي تم تشريعها من الحكومة السابقة بصورة تخالف كل دول العالم المتمدن. وفي مقدمة ذلك إصدار قانون لإلغاء صفقة التقاعد والمنافع مع من أستهتر بمهمة رئيس مجلس النواب السابق -المشهداني-، فلا يجوز مكافأة المستهترين ومن فشلوا حتى في الحصول على أصوات عائلته!؟
5- أن تتبنى وزارة الدفاع والداخلية مسألة حماية المسؤولين، وعدم دفع مخصصات الحماية للمسؤول ليتصرف بها.
6- السكن الذي تخصصه الدولة للمسؤول الحكومي -مهما كان مركز المسؤول- يبقى ملكا للدولة وعليه أن يتخلى عنه للمسؤول الخلف الذي يحل محله في المسؤولية.
7- إعادة أبنية الدولة والأملاك الخاصة للمسؤولين البعثيين التي تم التجاوز عليها واحتلالها من قبل أحزاب وشخصيات "سياسية وإسلامية"  بعد الاحتلال، وللأسف أن دولة القانون غضت الطرف عن ذلك بل وفرت لتلك المباني ولمحتليها الحماية!؟
8- رفض قرار رئيس الوزراء للعفو عن مزوري الشهادات. والعمل بجدية لمتابعة المزورين الذين مازالوا يعشعشون في مفاصل متقدمة في مؤسسات الدولة، ويسببون فسادا وسوءا إداريا بسبب جهلهم.
9- أن تكون عقوبة المزورين والمرتشين تتناسب طردياً مع مراكزهم الحكومية ومدى الضرر الذي تسببه جناياتهم، واعتبار جناياتهم هذه مخلة بالشرف تحول دون احتلالهم وظائف حكومية مستقبلا.
 10- الكتلة أو الحزب الذي يقدم مرشحا لمنصب حكومي يكون مسؤول معنويا وسياسيا وأخلاقيا عن مصداقية سيرة هذا المرشح وصحة المعلومات المقدمة من قبله.
11- إصدار قانون ينظم الحياة الحزبية ومنظمات المجتمع المدني معتمدا على أهم مبدأ إنساني وهو مبدأ حقوق الإنسان في حرية التفكير والاعتقاد.
12- إعادة النظر بكل التعينات ذات الدرجات الخاصة التي يتطلب إقرارها من مجلس النواب وتمت أثناء فترة تصريف الأعمال للحكومة السابقة.
هذه مجموعة نقاط، أطرحها وهي قابلة للنقاش والإغناء. كما يمكن الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في المعايير التي ذكرتها وأن نختار أفضل هذه المعايير لا أسوءها وأن لا نعتمد على تجارب دول أخرى هي ذاتها تعاني من الفساد وسوء التخطيط والإدارة.
 ربما يقول البعض أن هذه تشريعات لقوانين صدرت ولا يمكن التراجع عنها! وانأ أحب أن أذكر هؤلاء البعض -وهم من المستفيدين أو من ينتظر الاستفادة- أن الواقع السياسي والمساومات والمصالح أثبتت أنه تم تجاوز الكثير من بنود الدستور بتشريع القوانين كلما اقتضت مصالح القوى المتنفذة والأمثلة كثيرة، فلماذا لا يمكن الآن تصحيح الأخطاء!؟
أن أي إصلاح سياسي يهمل ويخالف النقاط التي طرحتها سيؤدي للفشل وتفاقم الوضع ويعرض مصداقية المتشدقين والمتاجرين بالشعارات أيام الحملات الانتخابية أو حين وجودهم في المعارضه.
بدايتكم في رئاسة مجلس النواب وأسلوب عملكم وإدارتكم لاجتماعات المجلس هي التي شجعتني للكتابة لكم، آمل أن تكونوا في حسن الظن ومواصلة اندفاعكم والتأكيد على مصداقية خطابكم السياسي.

محمد علي الشبيبي
السويد  ‏30‏/12‏/2010   
 

129
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 12
« في: 01:31 27/12/2010  »

2- الدرب الطويل/ 12
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


ألمخطط والمنفذ
لم يعد أحد يساوره شك، بل أدنى شك، إن السياسة في بلادنا لها مخطط واحد، سواء كان هو المؤلف مباشرة أو إن المؤلف أسياده الإنكليز، وسواء كان هو المخرج أيضاً. كيفما يكن من أمر. فانه حتما بعد كل هذه الممارسة الطويلة العهد صار قديراً تماماً، على التخطيط، وتوزيع الأدوار. انه نوري السعيد معتمد السياسة البريطانية وصديقها الصدوق.
كان نوري صلفاً لا يخجل أن يصرح اليوم بمثل قوله "إنني أعرف إن فيّ نواقص وإن لي أخطاء. وليست العبرة إن المرء لا يخطئ بل العبرة هي أن يصحح أخطاءه؟!" -عن جريدة الأهالي في 1/2/1946- أما عن الشيوعية والشيوعيين فقد أنكر مرة وجودهما في العراق، فقال "لا أعتقد إن في البلد شيوعية  ولكن هناك أناس متذمرين من الحالة ويريدون آن يزينوها بدعاية مختلفة، الشيوعية تكون في البلدان الصناعية أما نحن فلا صناعة عندنا؟". ثم أنزل بطشته الظالمة عام 1949 وأتخذ حجة الشيوعية وسيلة للتنكيل بالعناصر الوطنية الأخرى. وانتهى أمره بالخزي والعار إذ فرّ مرتدياً زيي النساء لا يدري أين يتوجه حتى مزقته الجماهير الغاضبة في ثورة 14 تموز عام 1958.
أما الشعب المضروب على يده فقد فَقَدَ الثقة بمعظم رجال الأمة. فقد رأى أن بعضهم تقلب من جهة إلى جهة. حتى أن بعضهم حين يرشحه حزبه في انتخابات مجلس الأمة، ثم توعز إليه بالانسحاب يؤثر البقاء في كرسي النيابة على طاعة حزبه.
هذا شيء غير مستغرب أبداً. فزعماء الأحزاب رغم علمهم إن مخطط السياسة ثعلب دأبه المراوغة والكذب فإنهم يستجيبون لدعوته أحياناً بحجة إلقاء الحجة وكشف حقيقته وكذبه!
بينما نجد الأحزاب اليسارية لا تلبي أية دعوة أيا كان الوكيل للمخطط. إنهم يدركون انه ليس القول وحده كافياً حتى مع اليمين بالمقدسات. إنهم يرون أن هناك أسسا معروفة، حرية تأليف الأحزاب، حرية الصحافة، في النقد الصريح وكشف كل الأسرار والأحابيل. وفسح المجال أمام جماهير الشعب للانخراط في أي حزب أو كتلة يشاء، وعرض مطاليبه بواسطة ممثليه الحقيقيين للمطالبة بتحقيقها. أما ما عرفناه –وقد تكرر طيلة العهود المارة- فهو التخويف، والتزوير، والتلاعب بأصوات الناخبين، وشراء الأصوات، والمضايقات والتهديدات، بل الاعتقالات التي لا مبرر لها، بحجة أو بأخرى لحجب أشد العناصر جرأة وقدرة على التوجيه والإيضاح للجهات الوطنية.
أقيلت وزارة حمدي الباججي. وشكل الوزارة بعده "توفيق السويدي" وقد ضمت وزارته خمسة وجوه جديدة، أحدها سعد صالح -توفى في 7/2/1949-، فما هذا الاختيار؟ هل كان سعد يجهل شخصية توفيق السويدي؟! تألفت وزارة السويدي في 23/2 بينما كانت وزارة الباججي قد أقيلت منذ 30/1 ولكن ظلت في الحكم مكتوم أمر إقالتها لأمر ما خلال تلك المدة والمعروف انه استقال شبه مرغم!
كان سعد صالح قبل اشتراكه في وزارة توفيق السويدي متصرفاً في لواء العمارة. وكان هناك بريطاني يعرف باسم "ﮔرملي" منذ كانت جيوش الإنكليز تأتي من البصرة مارة بالعمارة. وقد لعب ﮔرملي هذا دورا هاما بقصد إفساد أخلاق الفلاحين في إقامة الحفلات الراقصة من الغجر، وكثيرا ما يرقص هو مرتديا الزي العربي الريفي، بعد أن يشتد به وغالبية الحاضرين السكر. وقد نشرت "جريدة الشرارة" أفعاله تلك، ومباذله. وترديده لأقبح الأغاني الفاحشة.
لقد قدم حمدي الباججي استقالته في 30/1/1946 والمعروف انه دفع لهذه الاستقالة دفعاً من قبل بعض أعضاء وزارته، بتحريض وحث من الوصي عبد الإله. وقد أشغل منصب رئاسة الوزارة منذ عام 1941 ولم تتشكل الوزارة السويدية إلا بعد مرور شهر و23 يوماً أي في 23/2/1946 تغطية ونفاقاً ودفعاً للبواعث الحقيقية على إقالة الرئيس السابق الذي لم تكن تلك الاستقالة من هواه.
ويقول العارفون: إن الحزب الذي شكله السويدي ودخله سعد صالح كأحد أقطابه، كان قد سبق أن وضع نظامه ومنهاجه نوري السعيد ثم أهمله! وكان بنفس الاسم "حزب الأحرار" ويؤيد هذا، الحديث الذي رواه عبد الرزاق الحسني في الجزء السابع من مؤلفه "تأريخ الوزارات العراقية" ، وقد رواه له توفيق السويدي نفسه، إن نوري السعيد أتفق وإياه على ضرورة تبديل قانون الانتخاب بشكل يضمن عدم التدخل الحكومي، ويضمن للمجالس النيابية حرية العمل دون أن تهدد بالحل. وعلى هذا فإن الوزارة المقبلة يجب أن تكون ائتلافية، وتكون مهمتها حل المجلس النيابي القائم وانتخاب مجلس جديد، على أساس قانون انتخابي جديد. /تأريخ الوزارات الجزء 7.
فهل تم هذا؟ كلا. وهذا ما يؤيد إن الغرض كله كان لعبة يراد منها إقصاء سعد دون أن يبدو الغرض اللئيم واضحاً، ثم إفشال مساعي سعد الذي أخذ على عاتقه تحقيق الحياة الديمقراطية. فوزارة السويدي لم تعش أكثر من ثلاثة شهور وسبعة أيام دون أن يحقق سعد ما يصبو إليه!   
لا أحد يشك إن سعدا وطني نزيه، وخالص النية في اشتراكه، في هذه الوزارة. ولكنه كأي وطني ينتمي في نشأته إلى الوسط البرجوازي، يدين إن موقفه يكون سلبياً إذا امتنع، حين تسمح الفرصة، انه يخدم القضية الوطنية من على كرسي الحكم، على الطريقة التي يراها. ناسياً –وهذا طبيعي في ذهنية البرجوازي- إن رأس الشليلة بيد المخطط.
عرفنا سعداً في لواء العمارة. كيف كان يترصد حركات "گرملي" وتجواله بين عشائر العمارة، يحتفي به رجال الإقطاع. فيعقد حفلات الرقص والغناء الشعبية، يقدم فيها الخمور للفلاحين البؤساء، ذوي البطون الخاوية، مع المآكل الشهية.
في وليمة أقامها الإقطاعي المعروف "مجيد الخليفة" وقد دعي إليها المتصرف "سعد صالح" و "گرملي" البريطاني. مجيد هذا يريد تغيير مجرى نهر، كيما يسبب الخراب لأراضي أقطاعي صغير آخر يدعى "قمندان". قال "گرملي" مخاطباً مجيد وليسمِع سعد "مجيد، أنت أفتح نهر، آنه عندك، المتصرف يوافق!".
ورد سعد بغضب "مجيد، أنت أفتح، واني أقسم اليمين أقدمك ضحية للنهر؟!". وتوجه إلى "گرملي" يؤنبه "إن شأنك خاص بجيوشكم المارة من هنا وليس لك حق التدخل بشؤوننا الداخلية!".
يرى العارفون بأسرار السياسة، أن تشكيل الوزارة الجديدة، كان أهم سبب للتخلص من المتصرف "سعد" كإداري جريء في مثل العمارة. وقد عرفت منذ الاحتلال بالتصاق شيوخها بالإنكليز، الذين عملوا على رعاية الإقطاع وأتساع هيمنته، ليكون شيوخه بأيديهم، فهم آلة قمع، وكم أفواه، وهم الأصوات التي ترفع للموافقة عند التصويت على أي مشروع يكون لصالح الاستعمار، في المجلس النيابي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، انه في عهد هذه الوزارة، ووزير الداخلية فيها "سعد صالح" تقرر إعادة الحياة الحزبية، وإلغاء الأحكام العرفية، وغلق المعتقلات، وإلغاء الرقابة على الصحف والمراسلات. إن هذا أمر خطط له الوكيل العام بإيعاز من الأسياد، خاصة وهم مازالوا حلفاء للإتحاد السوفيتي، الذي وافقوا أيضاً أن تكون له –في بغداد- سفارة انه عمل مؤقت؟
تبادل العراق والإتحاد السوفيتي العلاقات الدبلوماسية، فكان أول سفير بدرجة وزير مفوض هو المسيو "زيتزيف كريگوري تيتوفيتش". وسفير العراق "مهدي عباس ..." وقد استقال بسبب الملل الذي عاناه، بسبب القيد الذي فرض عليه وعلى أعضاء سفارته من حكومته. وبالمناسبة إن نكتة دارت على الألسن بين صحفي عراقي وسياسي سوفيتي معروف. قال الصحفي مخاطبا السوفيتي "شيئ رائع إني لم أجد في بلدكم بطالة!". رد عليه السوفيتي "كلا توجد بطالة!". قال الصحفي "أنا جبت مختلف الأنحاء وبدقة فلم أجد!". رد عليه إنها في السفارة العراقية!؟
في سنين خلت كانت تدور بين أعضاء مجلس النواب العراقي مناقشات، أي بين المعارضة والحكوميين، وعلى الرغم من أن المعارضة لم تكن لتمثل حزباً أو جبهة ذات منهاج سياسي، وهدف قائم على أسس معلومة في السياسة فإنها كانت على أي حال تمثل صوت معارضة، وتكشف حقائق الذين يجلسون تحت ظل خيمة "المستر" وان كانت أحياناً شبيهة بالمهاترة.
حضرت مرة إحدى الجلسات، وتصفحت وجوه "ممثلي الشعب". كان بعضهم يبدو وكأنه يسرح في أحلام، وبعضهم يتحدث همساً مع آخر أحاديث لا علاقة لها بأمر من أمور المجلس، بينما يحتدم النقاش بين آخرين.
كان أقطاب المعارضة الذين شهدت مواقفهم. عبد الهادي الظاهر، عبد الرزاق الشيخلي، ذيبان الغبان. وفي الجانب الآخر كان حميد صرصر، سلمان الشيخ داود، توفيق السويدي. فهمت من كل ما وجّه أن المستهدف حميد صرصر. كان في السابق متصرف لواء العمارة. يبدو انه كان من أسرة معدمة –من طيات حديث المهاجمين- بينما أصبح ملاكاً. أحدهم قال له "أبوك الله يرحمه مات ولا تملكون جهاز التكفين والدفن، فمنذ متى وكيف أصبحت من الملاكين؟!"
والتزاماً بواجب المساندة ضد المعارضة كان النائب سلمان المدافع عن زميله ولكن بطريقة مهاجمة نائب آخر محترم من المعارضة. فإذا بنائب من المعارضة يشير إليه وبقسوة "إننا أولاد القرية وكل واحد يعرف أخيه! انك شخص لا تدري حتى بـ -فلانة- أين تقضي لياليها؟!"
ونهض السويدي وقال بتواضع "أما أنا والحمد لله، فقد ورثت عن آبائي ثروة، وزدتها بالكسب الحلال". فتصدى له أحد الثلاثة من المعارضة، وقال "صدقت، ولكن الحديث الشريف يقول -إذا شاب المرء شابت معه خصلتان الحرص وطول الأمل-، وما تزال قضية تهريب الذهب من إيران، أيام كنت سفيراً للعراق هناك، معروفة للناس، فورطت الحكومة بمشكلة وحيث عثرت إيران على الحيلة إذ غلفت به شاصي السيارة. أما مشاركتك في شركة اليهود بالأرباح لغرض تهريب رؤوس أموالهم فذلك أيضاً لا ينكر!"
إنها معارضة على أية حال، تكشف زيف من لا يهمه أمر شعبه، إنما همه أن يبدو كبيراً يغطي أطماعه وأساليبه إليها.
إن الوزارات العراقية، ومجلس النواب إذ ذاك وجوه تمثيلية، يُقَدِم لها المخطِط الأدوار فتقوم بالدور، حسب ما يرتبه المخرج أو حسب قابلية ودرجة الممثل. إن منهم لا يجيد غير الحضور ورفع اليد عند التصويت، بعضهم كواحد من حيوانات السيرك لا يجيد غير الركض، وحركة معينة. والسيد صاحب الفخامة بيده كل شيء كما صرح مراراً متبجحاً، انه يختار من يريد حتى من وجوه المعارضة، ولكن الحركة الوطنية المتصاعدة لابد أن تتغلب يوماً ما وتريه إنها لن تدع له هذا التبجح.
*         *         *         *
      
صباح اليوم الثاني. ذهبت إلى الموقف العام لمواجهة أخي، وجدته على علم بالأمر وسلمني مجموعة أوراق في ظرف، لأقدمها إلى وزير الداخلية.
وسارعت، وتمكنت أن أحصل الأذن بالدخول. كانت هذه أول مرة أدنو فيها من "سعد صالح" وأكلمه. هنأته، وقلت "إنا أرجو أن تتحقق لنا بك الآمال"
أخذ المظروف وهو يبتسم. وعلق "لاشك إن حسين قد شرح ظروف القضية الوطنية كلها براسي؟!. قل له، فيما يخص توقيفه، مكثت في التوقيف ثلاثة شهور، تحمل من أجلي عشرة أيام".
حين ودعته توجهت للفندق لأستريح. دق جرس التلفون، أنه أخي! قلت "من أين تتكلم؟"
- من البيت. إني أنتظرك.
يا للفرحة، إن العشرة أيام اختصرت فكانت ساعات!
واندفع منذ أن أستعاد حريته للعمل باسم حزب التحرر الوطني، يرفع المذكرات إلى الحكومة، حول ما يجب عمله، والى الأحزاب الوطنية التي قدمت طلباً أيضاً، ثلاثة منها "هي الحزب الوطني الديمقراطي، حزب الشعب وحزب الإتحاد الوطني" يطالبهم بعقد الجبهة الوطنية ووضع الميثاق الوطني الخاص بها. ونشر كراسه عنها مركزاً على أهم ما يجب أن يتضمن العمل في الجبهة.
 وأهم ما جاء في الكراس، إن الجبهة تستهدف "1- تحقيق استكمال استقلالنا السياسي وتعزيز سيادتنا الوطنية وأبعاد التدخل الأجنبي في شؤون دولتنا، وإلغاء المركز الممتاز والامتيازات العسكرية وغيرها التي احتوتها بنود المعاهدة العراقية الإنكليزية. 2- التعاون الوثيق مع الحكومات والشعوب العربية التي تسعى للتخلص من المراكز الممتازة، ومساعدة الشعوب العربية المبتلية بالاستعمار أو الوصاية، أو الحماية، أو الانتداب، لنيل حرياتها وتمكينها من استعمال حقها في تقرير المصير في تأليف حكوماتها الوطنية. 3- تعزيز النظام الديمقراطي في العراق، بإلغاء جميع القوانين والأساليب التي تعوق أو تحد من حق المواطن في ممارسته الحريات والديمقراطية الصحيحة، وتشريع قوانين جديدة لضمان هذه الحريات. تشريع قانون الانتخاب المنتظر ليكون قانوناً ديمقراطياً خالياً من كل تحديد طبقي، مالي، ثقافي أو عنصري، وعلى درجة واحدة وتهيئة الشعب لدخول الانتخابات الحرة دون أن تقف أمامه أية قوة معرقلة. 4- تنظيف الجهاز الحكومي من العناصر الفاسدة وجعله جهازاً كفوءاً لخدمة الشعب. 5- تحقيق إصلاح شامل في جميع نواحي حياتنا الاقتصادية والاجتماعية، منها حل المشكلة الزراعية، وتصنيع القطر وتوفير وسائل التثقيف والصحة".
وأكثر الشهيد حسين من المواجهة للمسؤولين في الحكم، يقابلهم ويشرح ظروف القضية، وما يمكن أن يداهمها ويزيد تعقدها، من تحركات الاستعمار وأعوانه، وقد بدا هذا في أجواء السياسة العالمية. فالحلفاء قد اختلفت وجهات نظرهم بعد أن وجدوا أن شعوباً أخرى قد أفلتت من حبائلهم. وأخرى ما تنفك تناضل للخلاص، بينما استطاعت شعوب أخرى أن تحقق في بلادها النظام الاشتراكي، وهذا أشد ما تخشاه الدول الاستعمارية، وسوف لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه التطورات.
وحين صدرت الموافقة على أجازة الأحزاب، كان الحزب الوحيد الذي لم يجز هو حزب التحرر الوطني؟! لماذا يا ترى؟
أنا واثق إن وزير الداخلية "سعد صالح" ووزراء آخرون ممن ضمتهم وزارة السويدي لا يمتنعون –لو وجدوا الأمر ميسوراً- عن الموافقة في مسألة أجازة حزب التحرر. وربما كان هذا مني ظناً حسناً –مجرد ظن- ربما كان ظناً في غير محله. ونتساءل ماذا كان موقف الأحزاب المعارضة، خصوصاً الثلاثة منها، هل اعترضت على عدم أجازة هذا الحزب؟!
استمرار الهيأة المؤسسة لحزب التحرر في المطالبة، واستمرارها في نشر أدبياتها السياسية. واستمرارها في مواجهة الأحزاب الثلاثة ومن أجل عقد الجبهة الوطنية ستعطينا الجواب عن موقف الأحزاب الثلاثة!؟
كان التماهل والعراقيل صفة بارزة في اجتماعات الأحزاب لبحث مسألة تكوين الجبهة الوطنية قبل أجازتها. ولعل حزب الإتحاد الوطني كان يتجاوب أكثر في الاهتمام مع حزب التحرر. أما عندما أجيزت الأحزاب، فقد تبدلت المواقف، إذ كان رئيس الحزب الوطني الديمقراطي يرفض اشتراك حزب التحرر لكونه غير مجاز، ويرفض "عصبة مكافحة الصهيونية" لكونها جمعية وليست حزباً؟
في الوقت نفسه، كل الأحزاب تعلم جيداً إن حزب التحرر، بل والحزب الشيوعي أيضاً، لم تكن تتوخى في مناهجها غير القضية الوطنية، الديمقراطية، خلاص الوطن من المعاهدات الجائرة، تعديل الدستور بما يتفق والحياة الديمقراطية الحرة، بحيث يكفل للمواطنين، الحرية الكاملة في اختيار من يمثلها في المجالس النيابية، والحزب الذي يمثل أمانيها في الحياة.
أول الغيث قطر –كما يقولون- إن صح أستشهد بهذا المثل. حين وصلت اللجنة الأنكلو-أمريكية، كان حزب التحرر في مقدمة الداعين للإضراب العام بوجهها. ولكن الشعب العراقي استقبل اللجنة بمظاهرة صاخبة، احتجاجا على ما عرف من توصياتها التي هي في صالح الصهيونية، وظالمة بكل معاني الظلم للشعب الفلسطيني. كانت هذه اللجنة قد وصلت بناء على الدعوة الموجهة إليها من قبل الحكومة العراقية. ولكن توصياتها جميعها كانت لصالح الصهاينة، وضد أبناء فلسطين. وقد ذكرها الحسيني في كتابه تأريخ الوزارات في الجزء السابع مفصلة، كما ذكرها جميع المؤرخين.
لا أتذكر تماما هل أوقف "حسين" أم أستدعي فقط إلى المحاكمة بتهمة الدعوة إلى التظاهر؟ خلال الظروف التي مرت من الأعوام 1948 حتى 1960 فقدت كثيرا –بل أكثر- ما دونت من نقاط ذكرياتي عن مسيرة حياتي ومشاهداتي وبعض مسموعاتي. واعتمادا على ذاكرتي ومقارنة بما أتذكره ببعض المصادر، أخذت أدون هذه الذكريات.
في المحكمة وجهت إلى حسين، باعتباره رئيس الهيأة لحزب التحرر، تهمة إثارة المظاهرة بوجه اللجنة الانكلو أمريكية. فأجاب "إن الهيأة المؤسسة أصدرت بيانا إلى الشعب تدعوه للإضراب بوجه اللجنة، وأرسلت إلى الأحزاب الخمسة صورة من البيان، وأطلب استدعاء مسؤولي الأحزاب المذكورة لإدلاء الشهادة حول الموضوع". ولم يستجب للطلب غير "حزب الاستقلال" فقد حضر رئيسه الأستاذ محمد مهدي كبه وشهد بذلك، وزاد فدافع عن حق حزب التحرر في الدعوة إلى الإضراب وإن لم يكن مجازا، ومما قال "فقد استدعيت أنا في كثير مما مر، قبل أن يجاز حزبنا!؟". وهكذا أطلق سراحه.
أجل حين اندلعت المظاهرة، أيدها حزب التحرر. ولكن حزباً مرموقاً "الوطني الديمقراطي" شجبها وأتهم بإثارتها حزب التحرر. قال "إن المظاهرة شوهت قدسية الإضراب!؟". حيث صدر آنذاك عدد من جريدة "الأهالي" معبراً عن انفعال رئيسه كامل الجادرجي من المظاهرة . وأشار من طرف متهماً بها حزب التحرر دون أن يذكر الاسم.
نعم يا سادة، فقد جربنا، وقاحة المستعمرين، وكم هم يتأثرون لأصوات الشعوب، لذا هو ظن حسن ومؤدب منكم، لتقابلوهم بالاحتجاج الصامت، الإضراب، أو بالإضراب فقط؟!
كل ما قامت به وزارة السويدي من إلغاء الأحكام العرفية، غلق المعتقلات والإفراج عن المعتقلين وأجازة الأحزاب، وإلغاء الرقابة المفروضة على الصحافة، أمر هين، فتبدل الوزارات أيسر وأهون ما يحدث في العراق. وكل أمر لا يسر الوكيل العام ، يهدمه بأيسر السبل أيضاً. والمستقبل كشاف!
وسنعرض في المواضيع القادمة كيف انهار ما سعى إليه حزب الأحرار وسعد، خاصة خلال الوزارات التي تم تشكيلها بعد عام 1946 بين أرشد العمري والوكيل العام نوري السعيد وصالح جبر، ومزاحم الباججي. وسيشتد الصراع أكثر فأكثر. والنجاح منوط أمره بمقدار ما تتظافر جهود الوطنيين في جبهة وطنية تستمد قوتها من إخلاصهم وعزمهم على السير قدما إلى الأمام. 

يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏26‏/12‏/2010
alshibiby45@hotmail.com



130
أخلاق المسيحيين وأخلاق الطائفيين!؟


في المقدمة أقدم أسمى التهاني لجميع أبناء شعبنا وأخص بالذكر الأخوة المسيحيين بمناسبة عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية، وأقول لهم أن قلوبنا وضمائرنا معكم. وإننا سنناضل سوية من أجل حرية الإنسان العراقي وتحرره من الجهل والظلامية التي تنشرها قوى سوداء ظلامية باسم الدين.
لقد هزت جريمة الإرهابيين في كنيسة النجاة الرأي العام العراقي والعالمي. وكتب عنها الكثيرون. فهي جريمة وحشية بامتياز. وتبارت –نفاقا- بعض القوى العراقية المدعية بالإسلام في استنكار الجريمة. وللأسف إن الدولة هي الأخرى كان موقفها منافقا لحد ما!؟ فقد ذبحوا ويذبحون وسيذبحون هذه الأقليات المسالمة والتي تؤمن بالحب والإخاء مع الشعب العراقي بأكثريته المسلمة، ولكن لم تتخذ الدولة أي موقف جاد لحمايتهم! فالمسؤولين في الدولة اتخذوا كل الإجراءات لحماية أنفسهم. وإلا لماذا لم يفلح الإرهابيون لأغتيال أو تفجير وزيراً ينتمي للأحزاب المتنفذة!؟ أليس مهمة الإرهابيين مقارعة الحكومة ومسؤوليها!؟ حتى في حالة الاختطاف لا نعرف كيف يتم تحرير مسؤولا أو شقيقة وزيرا حزبه متنفذا في السلطة ولا يمكن إنقاذ آخرين؟
وعلى أثر هذه التفجيرات أضطر المسيحيون أن يلغوا احتفالاتهم بأهم عيد من أعيادهم، وربما العيد الوحيد الذي يتهيئون للاحتفال به خلال السنة، محاولين نسيان جراحهم. لقد سمعت القرار الاضطراري للأخوة المسيحيين في إلغاء الاحتفالات، وأحسست بغصة وأسى لهذا القرار –المجامل-. وتساءلت: عجبا ما هو موقف حكومتنا العتيدة؟ وما هو موقف الأحزاب المتنفذة والمراجع الدينية من هذا القرار؟ هل يعقل أن يصل عراقنا إلى تشجيع الإرهابيين في ممارسة إرهابهم ضد الأقليات من خلال السكوت عن إلغاء المسيحيين لاحتفالاتهم لتجنب الذبح!؟ هل يعقل أن حكومة قادرة على حماية مسيرات مليونية تستمر لعشرة أيام وأكثر وتقطع مئات الكيلومترات، لكنها تعجز عن حماية احتفالات المسيحيين ليوم واحد أو يومين!؟ أليست هذه مفارقة وتناغم مع الإرهابيين؟ أليست هذه هي الطائفية المقيتة؟
أنا أرى أن الحكومة وأحزابها المتسلطة تساهم –بقصد أو بدون قصد- مع الإرهابيين في تمرير مخططهم في القضاء على المسيحيين. وأعتقد أن بعض الأحزاب الدينية –الإسلامية- وبعض أطراف الحكومة أثلج قلوبهم قرار المسيحيين. ومن يعتقد أن هدف الإرهابيين هو التهجير فهو خاطئ. هم يفهمون الإسلام الوهابي أن المسيحيين وغيرهم من الأديان عليهم أن يسلِموا، وإلا تتم تصفيتهم.
لابد من التذكير أن حكومة البعث ومذ أيام رئاسة البكر كانت دائما تتحين الفرص لإلغاء احتفالات المسيحيين، وكما أذكر حدث هذا أكثر من مرة. فما أن يتوفى رئيس عربي، أو تحدث نكبة حتى يصدر بيان بإلغاء الاحتفالات بحجة الحزن!؟ هل يعقل أن نحتفل نحن المسلمين بكل شعائرنا وتوفر الدول كل طاقاتها من أجل حماية أبناء طائفتنا في شعائرها، وتقف حكومتنا موقفا لا أباليا من حماية الطوائف الصغيرة في القيام بشعائرها؟ وبعد كل هذا نقول نحن دين المحبة والتسامح!؟ نعم، وأقولها نعم بصوت عال، إن ديننا دين محبة ولكن القيمين على الدين والمتنفذين في السلطة في يومنا هذا يخفون طائفيتهم المقيته  بالعجز عن تجسيد هذه المحبة في الواقع؟ وإلا ماذا يعني السكوت وترك المسيحيين يلفهم الحزن في أعظم عيد بالنسبة لهم!؟
وإذ يبرر البعض أن أعياد رأس السنة تصادف في شهر محرم وهو شهر حزن للشيعة وربما بعض السنة، ولكن احتفالات المسيحيين هي محصورة في كنائسهم وبيوتهم وهذا لا يتعارض مع قيام المسيحيين باحتفالاتهم، فلكل طائفة طقوسها، ويجب احترام جميع الطقوس والشعائر وهذا ما نص عليه الدستور، لا أن تضحي طائفة صغيرة بشعائرها من أجل طائفة أكبرن فهذا هو الاستغلال بعين .
لذا أنا أدعو الرئاسات الثلاثة والمراجع الدينية أن تضغط لتوفير الحماية للمسيحيين العراقيين للاحتفال بأعيادهم؟ وبغير هذا الموقف أقولها بصوت عال أنكم لا تختلفون عن الإرهابيين وإنما سهلتم مهمتهم.

محمد علي الشبيبي
السويد  ‏23‏/12‏/2010

131
المنبر الحر / 2- الدرب الطويل/ 11
« في: 19:23 20/12/2010  »
2- الدرب الطويل/ 11
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)

 
البداية/1
نحن في الشهر الأخير من عام 1945. منذ نهاية عام 1944 صار لنا كادر جيد، شباب مثقف من المدرسين والمعلمين يؤازرنا. بعضهم يترجم عن الإنكليزية بعض ما ينفع رفاقنا، ويفيدهم بمعلومات عن الشعوب التي تناضل من أجل خلاصها. واستطعنا أن نستفيد مما يصل إلينا من مجلات وصحف الطريق اللبنانية، اتحاد الشعب السورية، واتحاد الشعب الفلسطينية ومجلة الغد، والفجر الجديد المصرية، وأم درمان السودانية، ومجلة الرابطة ورسائل البعث، ورسائل حزب التحرر الوطني.
الطريق تصدر عن شيوعيي لبنان كمجلة ثقافية. واتحاد الشعب هي جريدة الحزب الشيوعي السوري. أما اتحاد الشعب الفلسطينية ومجلة الغد فهما يمثلان الحزب الشيوعي الفلسطيني. وكانت الفجر الجديد المصرية تمتاز بعمق البحوث التي تنشرها، وتمتاز أم درمان التي تصدر في مصر بحماسها وحرارة مواضيعها. ومجلة الرابطة التي يصدرها جماعة الأستاذ عبد الفتاح إبراهيم، ورسائل البعث التي يصدرها الأستاذ عزيز شريف وجماعته. وفي رسائل التحرير، أستغل رئيس الحزب "حسين الشبيبي"  سكوت المسؤولين عن أجازة حزب التحرر أو رفضها فراح يصدرها باسم "رسائل حزب التحرر الوطني". ولجريدة "عصبة مكافحة الصهيونية" وللجمعية نفسها دور هام في إلهاب روح الحماس في نفوس الشباب وقد أجيزت مع الأحزاب الخمسة في 12/9/1945. وفي مجال الترجمة قام بعض المعلمين والمدرسين "أحدهم مصري" فترجموا لنا بعض فصول من كتاب "المسألة الوطنية، لستالين" و "تأريخ الحزب الشيوعي السوفيتي" وبعض كراريس صغيرة. كما ساعدنا رجل دين بترجمة بعض المواضيع المهمة من جرائد إيرانية "راهبر" و "إيران ما".  
وكسبنا كثير من العمال، ومساندة كثير من الكسبة. وقد أقبلوا على مطالعة جريدة الحزب وإمدادنا بالمساعدة باسم ثمن الجريدة. وأهم عمل قمنا به صيف هذه السنة مكافحة الأمية، حيث قدمنا طلباً إلى مديرية معارف كربلاء، وسمحت لنا بذلك. وما مر شهر حتى قام "مجنون القومية" بإرسال إخبارية إلى مديرية التربية، يتهم أصحاب الطلب وهذه الخدمة الجليلة، بأنهم يهدفون لنشر الشيوعية، بحجة مكافحة الأمية!؟ ليس الغريب من ذلك المجنون أن يشوه القصد، لكن الغريب أن يتقبل هذا الإدعاء مدير المعارف، فأتصل تلفونياً بمدير الثانوية أن يبلغنا بوجوب غلقها. ثم جاء حضرته ليحقق في الأمر، أليست هذه مهزلة؟ كيف يصدق هذا الإدعاء رجل مسؤول عن أهم مؤسسة في اللواء؟ إن تصديقه ينم عن ضيق تفكيره، أقول هذا دون حرج!
مديرية المعارف أول الأمر كان مركزها لواء الديوانية وتشمل الحلة وكربلاء. ثم صار لكل من هذه الألوية مديرية معارف. ومدير معارف كربلاء هو الأستاذ عبد الوهاب الركابي. وقد صار يحسب لي ولبعض زملائي حساباً دون مبرر. أما الذي أرسل إليه الإخبارية مجنون يدعى رزاق سعيد بغدادي، ولكن هذا دفعه بعض مدعي القومية.
تفتح مدرسة المكافحة أبوابها بعد الغروب بساعة. كانت صفوفها مؤلفة من الصف الأول، أي إنهم أميون تماماً. وكانت كل نفقاتها ومتطلباتها ممن تطوع للقيام بالتدريس، وما كانوا كلهم من الشيوعيين. ولم يفتح إلا صف واحد لعدد ممن كان قد أجتاز الصف الأول إلى الثاني. فأي مجال إذن في هذا العمل المحدد يمكن لنشر أفكار أمرها غير هين؟
نشط رفاقنا أكثر في الاتصال بمختلف مراتب الكسبة "صغار الكسبة، خاصة الأجراء"، وكانوا الطلبة أكثر إقبالا، بينهم من أجتاز مرحلة الإعدادية وقبلوا في الكليات.
المسؤولون يوصوني كثيراً أن نتروى كثيراً في القبول. وفعلاً، كان حقل التجربة "حزب التحرر الوطني". ولكن بعض الطلبة يلح أن يكون انتسابه إلى الحزب الشيوعي. وهذا ما كنا نرفضه مصرين، فالمتحمسون -في رأيي- غالباً ما يكونون خطرين في اندفاعهم.
 وبعد أن ثبت إن التروي يجب أن يكون أكثر وبتحفظ أشد. فبعض الذين اقبلوا بشغف، أخذوا يتلكأون حين قاربوا سنة التخرج من كلية "الحقوق". سألتهم "ما جلبت لنا شيئاً كالمعتاد؟". فأجاب "تريد الصدق، احنه يجب أن نفكر بطائفتنه، ولا ننخدع ويأخذون السنة علينه الكاس؟!". وما مرّ عليه عام بعد فتحه مكتب محاماة حتى التحق بحزب نوري السعيد! وجنى ثمار التحاقه هذا سريعاً أيضاً، فقد حصل على وكالة شركة "اصفر للتمور" ثم صار نائباً في المجلس!
كان أحباب النازية، يتابعون حركاتنا. بعضهم كان، أيام كانوا طلبة، من شلة أخي ورفاقه في العمل السياسي -الساذج-، الواقع إنهم يخلطون بين النازية والفكر القومي. ومعنى هذا إنهم يجهلون أيضاً الأهداف القومية. ودافعهم للإعجاب بشخصية هتلر، والتمسك بالإدعاء بالفكر القومي، كرههم للإنكليز، وإلا كيف يمكن لمثقف أن يعتقد انه يساير الذئب لأنه يخاف الأسد؟
بعضهم لم يتورع في مسلكه. كان -رزاق- يحصر تفكيره في أمر تدميرنا. وكنا نحاول أن نكسبه، وبغباء رفع رسالتين واحدة إلى الشرطة وأخرى إلى مدير المعارف، فكشفنا غلطته هذه، وأعترف دون أن يشعر. كانت لنا ثقة إن بعض الشباب القومي كانوا ذوي عقيدة صادقة، لكنهم يجهلون السلوك. من هؤلاء شابان أصغيت مرة إليهما يتحدثان وهما في مقهى أعتدت ارتيادها عصراً. قال أحدهما يسأل صاحبه "كيف نطرد الاستعمار من البلاد؟". ويرد عليه صاحبه "بنشر الإلحاد!".
كان أحد الشابين طالباً في كلية الهندسة وقد ألتحق بركب الشيوعيين، وكان من خيرة رفاقنا واستمر رغم الهزات والانقسامات التي حدثت. أما الثاني فقد تخرج من دار المعلمين الابتدائية. وأدركته نكسة بسبب حرصه على وظيفته التي هي مصدر رزقه الوحيد. وما من شك إن الأيمان وتغلغل المعتقد لهما أكبر الأثر في التزام المرء في مواصلة المسير، ولحظة ضعف وجبن قد يتردى فيها بطل شجاع.
استفزني السؤال والجواب وأدهشني! فتحولت بجلستي صوبهما. وقلت "أتسمحان أن أناقشكما هذا الرأي؟". لقد رحبا وبدا عليهما إنهما سُرا لتدخلي. قلت "أنتم على علم تام بما حدث خلال سني الحرب. تعلمان جيداً إن كثير من مؤسسي مواكب العزاء كانوا يتسلمون مبالغ من المال، كدليل على حسن نية الإنكليز بأنهم لا يحاربون معتقد الناس الديني؟" أجابوا نعم.
قلت "أتصدقون إدعاءهم هذا؟ طبعاً لا". فأكدوا هذا. قلت "إن الدين الإسلامي ظهر في البلاد العربية، ورغم هذا فانه توجه إلى الناس كافة، ولا تنسوا إن أول من استجاب لدعوة الداعي هم المستضعفون. وفي الدين من الفكر ما يعتبر أمضى سلاح لمجابهة الاستعباد. والمستضعفون هم أكثر الناس تشبثاً بالدين وبالأساطير! الاستعماريون عرفوا أهمية هذا السلاح فهم يحاولون أن يجروا أولئك السذج إلى خدمتهم من حيث لا يشعرون. أما دعوتكم هذه فاني أستغرب فهمها! أبينوا إلي كيف؟"
أجاب أحدهم "إن معظم الناس يعتقدون إن ما نعانيه من تسلط الأجنبي علينا هو قدر من الله، ولا راد لحكمه! وهو الذي بيده خلاصهم، إن شاء فعل. فلو أنقذناهم من هذه الفكرة، لاعتمدوا على أنفسهم وانضموا إلى صفوف المناضلين ضد الاستعمار"
قلت "إن المستعمر أكثر ذكاء منكم، والدين ما يزال حياً، وفيه كثير ما يثير في النفوس الحمية والغيرة للانضمام إلى صفوف المناضلين. أنسيتم ثورة العشرين؟"
إن تحدي معتقدات الآباء -أقصد الجوهري والصميم منها- يأتي بالنتائج العكسية. حقاً إنهم استجابوا للمنطق. فأوكلت أمر الاتصال بهما إلى الرفيق "مرتضى" لسابقة معرفة لهم به. هذا التطور في حركتنا دفعنا إلى نشاطات لفتت إلينا أنظار الجماهير، مثلما نبهت حراس النظام، لقد انتبهوا. ولكنهم لم يشخصوا لحد الآن أحد غير أخي حسين "صارم" رغم انه لا يعيش هنا.
كنت أزور وكيل القائممقام لمعرفة تمت بيننا أيام كنت في الكوفة. فعاتبني رغم انه هو الذي سبب انتقال أخي إلى العمارة، لكنه ظل يعتقد إن ما ينشر في الجريدة عن دوره ومشاركته في اختفاء مواد العيش والضرورات من فعل أخي!
واليوم هنا قائممقام آخر هو "توفيق الحاج عذار". كان ذاك قديراً في إخفاء أطماعه واستفادته. كان ولوعاً بالعمران. وذا وجه منبسط في تقبل طلبات الناس. ونشط في مظهر المتحري في تجوله في الأسواق كأنه يرقب ويطلع. أما هذا، فخامل. حصر نشاطه في زيارة وجهاء البلد، وجمعية الرابطة، في العصاري وبداية الليل، ثم ينصرف ساهراً على مائدة قمار، دليله وشريكه فتى من بيت رفيع. وسرعان ما كشفنا أمره، وكيف كان يعتمد على دليله حين ينضب ما في الجيب مما أستحضره وما كسبه في بعض الجولات، وأحيانا كان يستدين من صندوق الخزينة!. فهاله الأمر حين علم ما ترويه جريدتنا من أخبار لياليه. ولم تجدِه مطارحات الشعر والشعراء لحثه على خدمة النجف، وحاجة الكوفة إلى الماء. كان من أسرة المعارف فعين قائممقاما لأبي صخير ثم إلى النجف. وطالبه الشيخ علي البازي بلسان أهل الكوفة أن يمدهم بالماء ولم يتحقق شيئاً لأهل الكوفة.
وجاء بعده ثالثة الأثافي وقد عرف عنه سابقاً -ربما كان هذا من باب النكتة- انه كتب مرة أعلاناً عممه على الدوائر "الرشوة ممنوعة!" وحين سأله أحد حاشيته، أجاب: حتى يعلسوهه فد مرة!
هذا العام تفضلت مديرية التموين فخصصت للموظفين بضمنهم المعلمين والمدرسين لكل واحد بدلة من قماش السرج الإنكليزي، لكنه حرم المعلمين وهم أكثرية من هذا.
لقد أثرناها زوبعة عارمة، عرائض شكوى إلى المراجع، تعليقات، ونوادر في رسائل إلى الصحف. وقد بذل قصارى جهده لإخماد ثورة المعلمين التي شارك فيها حتى الذين لم يحرموا من مدراء المدارس الابتدائية، ومدرسي الثانوية، بل والمعلمات أيضاً. وأستنجد بمعاون الشرطة ومدير المعارف. فخابت مساعيه، واتسعت الحركة، فتقدمت شكاوى أخرى عرضت للجماهير فأقبلوا على المشاركة والتوقيع، عن اختفاء الخضرة وخاصة الطماطة، التي كان يشرف على تسويقها رئاسة البلدية. ثم شاعت اتهامات ضد رئيس البلدية في محاولة بيع حديقة غازي، وان ذلك بسبب ما نالها من عطش وعدم أمكانية تهيئة ماكنة سقي. وإشاعة أكبر بأنه أستغل العمال من كناسين وفراشين عمالاً في تشييد داره! الواقع إننا تسترنا بخيرة الوجوه من المعلمين القدامى ممن كانت لهم مكانة محترمة. وفي بقية المطالبات التي تخص عموم البلد تجنبنا حتى التوقيع إلا ثلاثة من المعلمين ممن لم تكن له علاقة بأي عمل سياسي لذا تناوشتهم يد الشعبة الخاصة "وكانت بإدارة الشرطة العلنية" وقد حمل لواء مطاردتنا معاون يدعى "عبد الرحمن دربندي".
وكسبنا الجولة، وتغلبنا عليه. وانتدبت وزارة المعارف إلينا مفتشاً، وتم اجتماعه بالمعلمين في النادي وكان معه مدير المعارف، ونتيجة تحقيقه صافح المعلمين وهنأهم إن الحق معهم. وبعد فترة لم تطل تم نقل القائممقام، حل محله آخر هو الأستاذ "عباس البلداوي"، نعرف انه محسوب على الوطني الديمقراطي.
كان يهمنا إنا انتصرنا في تلك الجولات، نقل القائممقام "توفيق الحاج عذار" المتلاعب النهم، وأعيد رئيس البلدية -المستعار من وزارة الشؤون الاجتماعية- وتوفرت الخضر ومواد المعيشة اليومية. أما حصتنا من القماش فقد استدعانا القائممقام الجديد لتسلمها يداً بيد، لكنها كانت من نوع آخر!
دخلت على القائممقام لتسلم حصتي، فلما قدمت نفسي، سألني "أنت أكبر أم حسين؟" قلت "أنا". قال وهو يحدج بعينيه فتى عُرف عنه انه من قدامى القوميين "إذن أنت الذي وجهه؟". ضحكت، وقلت "يا سيدي، المعلوم إنك ديمقراطي النزعة بينما الأستاذ قومي عتيق؟!". فضحك الاثنان. الواقع إن الرجل متزن ونزيه.
حديثي هذا عن حركتنا تلك اختزلته، وابتعدت عن المبالغة كما قصرت عن أعطاء الصورة الحقيقية التي هي أكبر مما ذكرت. فقد أحدثت ضجة لا في الوسط النجفي فقط، بل في الوسط العراقي أجمع. واكتسبت صيغة سياسية أهتم بها المعنيون بالأمر لذلك بادروا بعلاجها. أكبر الظن لا من أجلنا ولكن كيلا يتسع الخرق على الراقع! وأولدت الحركة في نفوس رفاقنا الثقة والشجاعة، كما أقبل على الالتحاق بركبنا عدد غير يسير من الشباب، منهم شابان ليسا عراقيين في الأصل ولكنهما من مواليد النجف وقد اكتسبا الجنسية العراقية. ورغم هذا فقد كانا -أعتقد أحدهما- ملتحقين بحزب سياسي أيراني يدعى "سعادة" وهو حزب قومي متطرف. جاءا إليّ بدون سابق معرفة، وعرضا عليّ أن يناقشاني في الأصل الفلسفي لنضالنا فأن أقنعتهم التحقا بنا. وتم لي ذلك فكانا من خيرة المناضلين، وقدم أحدهما مبلغاً، قال "كنت أعده لتحويله إلى حزب سعادة". وله موقف فذ سأذكره عندما يحين ذكر أحداث وثبة الشعب ضد معاهدة بورتسموث. أما الأستاذ  "عباس البلداوي"  كان مسؤولاً متزناً وكفوء ولين الجانب تجاه الحركة الوطنية في النجف حتى إن أحد الأساتذة قصدني ليَسرَ إليّ إن مسؤولاً طلب أن أنبهكم إن حملة تحريات ستقوم بها الشرطة فاتخذوا الحذر، وكان معاون الشرطة الدربندي لم ينقل بعد. وتمت لنا بعد هذا أحداث انتصرنا فيها أيضاً، سأذكرها في حينها.
كيفما يكون من أمر إن المستقبل يلوح بالنذر. فالعالم اليوم كالبحر إذ يهيج يكون هياجه شاملاً كل جهة منه. فالحلفاء بعد انتهاء الحرب يهمهم أن لا يبرحوا أي مكان احتلوه. والفئات الوطنية الذين حصلوا على حق تأليف الأحزاب، لا يألون جهداً أن يتحركوا فهل تراهم منتصرين.
*      *      *      *
كل شيء من التحلل عند الحلفاء غير غريب، ولا عجب، إن للمستعمرين والدول الرأسمالية أساليبهما في نقض ما تتفق عليه مع شريكها في حربها ضد الخصم المشترك. ولستالين كلمة مشهورة قالها عند انتهاء الحرب هي "انتهت الحرب للتغلب على الحرب، وستبدأ الحرب من أجل السلام!"
الغربيون خلقوا عدة مجالات للخلاف، منها ما أثير في بولونيا حول رئيس الدولة وشكل الحكومة. ثم استطاعوا أن يشطروا ألمانيا شطرين، غربية وشرقية. ولولا أن تكون الشرقية أول ما سقط وانهار من زعامة هتلر بيد السوفيت، لكونوا منها ما يعيد مجدها على نحو يتفق وهوى الأمريكان. كثير مما أتفق عليه نقضوه بأساليبهم المعروفة. ومما يساعدهم هو تغيير المسؤول الذي تم -حينذاك- الاتفاق معه. روزفلت مثلاً وبعد وفاته تحول الأمر ليد ترومان. ومما نعرفه ما قضت به -معاهدة بوتسدام- بتأسيس حكومة ألمانية ديمقراطية، وتعهدت الدول الأربع باتخاذ الخطوات التي تضمن ألا تقوم ألمانيا بتهديد جيرانها، أو السلام العالمي
الدول الأربع هي أمريكا، بريطانيا، فرنسا والإتحاد السوفيتي. والدول الثلاثة الأولى تطلق على نفسها أسم "الحلفاء"، أما الإتحاد السوفيتي فهو حليف مؤقت اضطروا لحلفه حينما تقهقرت فرنسا واحتلت كما احتلت دول أخرى مثل بولونيا، يوغسلافيا، جيكوسلفاكيا، ووصلت الجيوش النازية إلى العلمين، واكتسحت معظم مدن الإتحاد السوفيتي. وكان الحلفاء قبل أن يمدوا أيديهم إلى السوفيت يعتقدون أن الحرب بين السوفيت وألمانيا ستهلك أحدهما أو كليهما. حينها سيمضون في بسط نفوذهم على العالم. فلما رأوا ثبات الإتحاد السوفيتي وعظم مقاومته، وكان أهم اقتراح أقترحه السوفيت هو فتح جبهة ثانية، كان الحلفاء يدركون أهميتها ولكنهم تريثوا للسبب المذكور آنفاً، فاضطروا وتم فتح الجبهة الثانية وراحت جيوش النازية تتقهقر حتى انتهى أمرها إلى النهاية التي تحطمت فيها أحلام هتلر. وتعهدت كذلك الدول الأربع بتطهير الجيش والحكومة من جميع النازيين، ومجرمي الحرب، وكبار الجشعين الاحتكاريين. وقد تقيدت حكومة السوفيت بهذه الالتزامات، وشجعت الشعب الألماني في المنطقة على ذلك. وتأميم الصناعة الكبيرة والبنوك والتجارة، وقضي على القوة الاقتصادية الاحتكارية التي كان يقوم عليها الحكم النازي.
كما إن الحلفاء رفضوا الاعتراف بحكومة النمسا. وقام بينهم وبين يوغسلافيا نزاع من أجل مرفأ "تريستا" على البحر الأدرياتيكي، وهي مركز تجاري عظيم وفيه معامل تكرير النفط. وفوز العمال لم يغير من سياسة بريطانيا شيئاً. حزب العمال البريطاني ذو وجهين في سياسته. وجه حين يكون خارج الحكم، ووجه حين يعتلي كراسي الحكم، تماماً كاشتراكيي فرنسا. إنهم يذكروننا باشتراكيي ألمانيا الذين لولاهم ما تغلب هتلر، ثم لما استولى على الحكم، أفلسوا من كل أمنية. مرد كل هذا إنهم رتبة برجوازية، وكما هو الحال عندنا، هنا أحزاب وطنية تبدو في الظاهر وفي مناهجها وكأنها من الشعب وللشعب. ولكنها تفضل في واقعها أن تتعاون مع نوري السعيد بينما تتميز غيظاً إن حاول بعض المنتمين إليها أن يقترح أو يسأل "ما أسباب عدم تأليف جبهة وطنية مع حزب التحرر مثلاً، أو مع الحزب الشيوعي أو مع العصبة" (المقصود عصبة مكافحة الصهيونية/ الناشر).
ويتحرك أسياد حكامنا، فيثيرون ويحرضون الإقطاعيين الأكراد، فجردت الحكومة حملة عسكرية ضد منطقة بارزان فتسيل دماء أبناء الشعب الكردي، وبالطبع لابد أن يفقد الجيش العراقي بعضاً من الجنود وربما الضباط.
لا بأس هم عندنا يعملون كما يقول المثل الشعبي "عين وعين"؟ فكما أجازوا عصبة مكافحة الصهيونية، أبطلوا طلب عمال السكك لتأسيس نقابتهم. وزجت بأخي حسين في التوقيف، حين عثرت شرطتها في غرفة  أخينا الأصغر "محمد علي" على كمية من النشرات وحقيبة فيها دفتر نفوس وشهادة جنسية أخي حسين! ولكن الباعث الحقيقي لهذا التوقيف كان حجة للتخلص منه كسياسي نشط، خاض وبجد ودون كلل محاولة تكوين "الجبهة الوطنية الموحدة" وفضح أساليب الحكم من أجل تركيز مصالح بريطانيا. ونبش أهم بنود المعاهدة العراقية الموقع عليها في حزيران 1930، وحث على المطالبة بإلغائها سواء فيما نشره في كراسه "الاستقلال والسيادة الوطنية" وقد طبع في حينه، أو في محاضراته التي ألقاها بموجب دعوة وجهتها إليه عصبة مكافحة الصهيونية. وأعتقل كثير من الشباب وأرسلوا إلى معتقل العمارة ونقرة السلمان. كما تحرت شرطة النجف بيتنا بحجة الإطلاع على كتب تعود إلى أخي بينما الحقيقة هي البحث عن أخينا الأصغر "محمد علي".
كان أخي الأصغر إذ ذاك يشتغل في نقابة السكك، وكان يقيم في غرفة من بيت للإيجار. وارتأى لأسباب أن ينتقل إلى بيت آخر فاستأجر غرفة في بيت يسكنه عدد من أناس مختلفين. وحدث أثناء نقل حاجاته أن تبعه شرطي سري ولكنه ألقى القبض على الحمال بعد أن أفرغ حمله في داخل البيت لا في الغرفة المخصصة فدله الحمال على البيت وأجريت التحريات فعثروا على حقيبته دون العثور على ما أدعاه الشرطي، من أن من جملتها كيس فيه نشرات. فوجدوا في الحقيبة دفتر نفوس أخي حسين وشهادة جنسيته بينما اختفى أخي محمد علي فالقوا القبض على حسين. لم يجدوا في بيتنا لأخي كتبا كما أدعوا. ومن أجل أن نتدبر أمر التخلص من تفتيش البيت وقد اختفى فيه أخي محمد علي، وخلاص ثلاثة أنفار أحدهم من المعممين واثنان من الكسبة -سلمتهم أعداد من جريدة الحزب-، نزل أبي وأستقبل مفوض الشعبة "قاسم" والمختار وأفراد الشرطة. وحين فهم منهم إن القصد الإطلاع على نوعية الكتب الموجودة لدينا والعائدة إلى أخي حسين، أنزلهم إلى السرداب وكان فيه أعداد هائلة من مجلة الثقافة المصرية، الرسالة، الرواية. وعكفوا يفحصونها مدة تجاوزت الساعة. قالوا "إن هذه مجلات غير محرمة، فهل له غيرها؟" أجاب أبي "البيت أنتم فيه الآن فابحثوا كما تشاؤون!". كان لدينا أمر خطير، إن أخي المختفي كان بين المكان الذي هو فيه وبينهم ليس أكثر من ثلاثة أمتار. من السهل العثور عليه لو انه تنفس بدون حذر أو أدركته سعلة. وحين خرجوا كان مرورهم تماماً من على سقف المكان الذي أخفيناه فيه، قبل مجيئهم، ذلك إنهم قبل أن يطرقوا بابنا كنا قد رأيناهم في طريقهم إلى بيت المختار. ثم حرروا محضر التحري وخرجوا. كان هذا في 11/11/1945.
أصيب أبي بالتيفوئيد، في هذه الأثناء. شدد عليّ الطبيب أن لا أبرح مكاني لمداراته وأعلام طبيبه حين يبدو طارئ يستلزم حضوره. كان قد غرق في بُحران أثار في نفسي القلق والخوف مما هو فيه. في هذه الأثناء أيضاً وردت إليّ برقية  من أخي حسين في 1/3/1946 تقول "غداً أقدم إلى المجلس العرفي أرجو حضورك؟". وقعت في حيرة بين أن أترك أبي في حاله تلك وألبي نداء أخي أو العكس.
قلوب الآباء والأمهات حتى وهي في ساعة احتضار تنبض بحب أبنائها، فلذات أكبادها. وتدرك ما هي فيه من خطر.
كنت أجيل الفكر. ما الذي افعل؟ لمن أوكل أمر العناية بأبي، ومن يستطيع أن يقدم ما تستدعيه حاله المرضية، إذا اشتدت؟ وأمعن النظر وأحدق، فيبدو لي وكأنه بلا نفس يتردد. فأنسى برقية أخي، بل نسيته هو أيضاً تماماً. وفجأة ينتبه الشيخ من غيبوبته وبحرانه، ويسألني بصوته الضعيف "هل وصلك خبر جديد عن أخيك؟"
يا ألهي. ما هذا الذي أسمعه؟! ودون تروّ أو تردد، أجبته نعم يا أبي. وصلتني منه برقية. سيقدم إلى المجلس العرفي، ويدعوني للحضور. ولكن كيف وأنت على هذه الحال؟
أجاب "لا عليك؟ لي الله والأهل فيهم الكفاية. هو أولى، سارع يا ابني سارع".
حين مرّ على وجود "حسين" في الموقف العام شهران كتب رسالة موجزة إلى والدنا -بتأريخ 21/1/1946-، جاء فيها هذه العبارة الرائعة، إنها تدل على مدى تحمله، واندماجه بعقيدته، هو لا يرى ما يتحمله منة على أحد، جاء فيها "تمر العشرة أيام الأولى من الشهر الثالث في الموقف، أو هي أيام السبعين، لا بأس إنها راحة في محطة سفرنا الطويل؟!".
توجهت إلى بغداد، لأعرض الموضوع على الشيخ محمد رضا الشبيبي عميد الأسرة. وهو أول رجل توجه إلى خدمة البلاد في ميدان السياسة. ولكن لابد من القول إن بينه وبين سلوك أخي السياسي تنافر. انه على أي حال لم يخرج عن كونه رجل دين، جذوره تلك -مع إدراكه العميق إن الاستعمار قد تغلغل لأنه أعتمد رجال المال فلا غرابة إذن أن تنازعه فئة مدركة لمدى علاقة هذا الوليد بأبيه-.
الشيخ على ما كان يتمتع به من بعد النظر، وفهم الأوضاع السائدة في العالم، ومكانة الشباب -في العالم وشبابنا أيضاً- فأنه صرخ بوجهي مرة "ماذا يهدف إليه أخوك؟ ألم تسألوا أنفسكم من أين يعيش؟ ومن يموله في صولاته وجولاته؟ إنهم يستعينون بأيد أجنبية؟!"
نحن نفخر أننا اقتفينا أثر الشيخ محمد رضا وأثر أخوته الطيبين في النضال من أجل القضية الوطنية وأدركنا إن الشعوب لن تسعد إذا لم يقض على الرأسمالية التي أولدت الإخطبوط الخبيث "الاستعمار" والشهيد حسين كان يجل الشيخ وقد كتب عدة مقالات حول ديوانه، وما نشر من قصائده التي كانت سجلا لثورة العشرين. وأبدى الشيخ إعجابه بقابلية أخي الأدبية وأرسل كلمة شفوية حملها الدكتور عبد الرزاق محي الدين إلى أخي.
قلت في نفسي ما وددت قوله ولم أقل ذلك بصوت مرتفع إجلالا للشيخ عميد الأسرة "سامحك الله يا سيدي. وأنا واثق انك أنزه وطني، وأعف سياسي. ولا أستغرب أن يساورك هذا الظن الغريب والمستغرب بكل معانيه. الشباب المتحمس في كل نواحي العراق بمختلف انحدارهم الطبقي أنحاز إلى لواء الحزب الشيوعي، لأنهم يئسوا من الأحزاب العلنية ومواقفها الروتينية والمترددة خاصة منها تلك التي يقودها رجال طالما تأرجحوا بين آراء أحزابهم الخاصة وأحزاب الآخرين، وحتى وقد جزم كثير من الناس إن الأحزاب كلها رئيسها الأول نوري السعيد".
فقد جمدت الحياة الحزبية في عهد ياسين الهاشمي منذ 17/3/1935 واستمرت خلال هذه الأعوام الأحكام العرفية. وأجبت الشيخ وبتلكؤ لأني أحترمه وأضغط على نفسي بالتزام أقصى حد من التأدب أمامه "انه يا عم كأي فئة يتعاون مع عدد هائل من الشباب لا يبخلون على تقديم كل ما يمكن من مال. ولا بد إن هناك ترتيبات أخرى لا تجهلونها!". لكنه أستمر بغضبه متهماً ومشيراً إلى أن حركته وراءها من وراءها ....
وهدأ فقال "الوزارة سقطت وغداً أو بعد غد سيطلق سراحه. لا تخش، سوف لن يقدم إلى المجلس. إن الوزارة أقيلت وستشكل غيرها الليلة أو غداً؟!".




يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏20‏/12‏/2010
Alshibiby45@hotmai.com



132
المنبر الحر / الدرب الطويل/ 10
« في: 19:55 17/12/2010  »
2- الدرب الطويل/ 10
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


   أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي/ 3
بعد فطور الصباح تهيأت وتوجهت إلى المدرسة، كنت أحس بصداع شديد جراء السهر. تُرى أكانت السهرة جميلة؟ أجل، والله كانت جميلة ورائعة، مازلت أعيشها وأحس بنشوة ولذة عجيبة. فكأني حقاً عشت العهود التي مرت بها طفولتي، وتوجهت إلى المدرسة وأنا في دوامتها. كان لدي فراغ –الساعة الأولى- ولكني كنت في ذهول عنها، فلم أفطن إلا حين نظرت في دفتر التحضير.
حين هب المعلمون إلى الصفوف، بقيت وحدي. فراح خيالي يذكرني بهذه البناية، التي هي اليوم باسم مدرسة أخرى. كانت قبلاً أول مدرسة أبان الحكم الوطني. كانت تسمى المدرسة "الأميرية الابتدائية"، كانت في بناية في نهاية سوق محلة الحويش. مديرها المكشد أتذكر أسمه "عبد الهادي الهلالي" ثم نقلت إلى هذه البناية في محلة المشراق، التي هي دار باسم المجاهد "كاظم صبي" الذي أعدمه الإنكليز مع عدد من أبناء النجف، ثم سميت "الابتدائية الأولى". كنت فيها إذ ذاك تلميذاً، لكن أبي سحبني منها بعد أن أديت الامتحان في بداية السنة الدراسية الجديدة، كنت مكملاً وأديت الامتحان ناجحاً إلى السادس، لكنه أصرّ. لاحت لي صور أساتذتنا إذ ذاك، المدير "نصيف أفندي" والمعلمون "جعفر الخليلي" بعقاله وقده الرشيق وابتسامته الحلوة وهو يدخل الصف في دروس الجغرافية والتأريخ، كان يعتمد في تدريسنا القصة أحياناً مشفوعة بالرسم، وكثيراً ما يعرج على توجيهنا توجيهاً وطنياً من خلال الدرس. ونكاته تتخلل الدرس حتى النهاية، كان أحب معلم. ثم الشيخ حسن الكتبي بعمامته. وما أغرب الصدف. انه ألان معي معلماً وبنفس الدرجة، أليس غريباً أن نُرَفع سوية إلى 15 دينار!؟ يقولون ليس من سبب إلا لأنه لم يبدل العمامة بالصدارة!
توسلت بأبي أن يتركني حتى أجتاز الصف السادس بالامتحان العام "الباكالوريا". أصرّ أبي لأنه يريد أن يستمر للأسرة صلة بجذورها الدينية. قال "إني أريد أن أتقرب إلى الله بتوجيهك لخدمة الدين". وكان في صدره أمل آخر. هو أن أكون في المستقبل منبرياً مثله.
وقدمني إلى أحد المعممين حيث درست الأجرومية، ثم قطر الندى لأبن هشام، ثم ألفية بن مالك ومغني اللبيب لابن هشام. هكذا تدرجت، ومع المغني بدأت دراسة علوم البلاغة "المطول والمختصر" وحاشية التفتازاني في المنطق ثم الشمسية ثم اللمعة في أصول الفقه والشرائع والقوانين.
بدأت بزي العقال واليشماغ. وبعد عامين قدمني إلى رجل الزهد والورع "الشيخ موسى تقي"، وعرفت هذه الأسرة في النجف بـ "آل زايردهام" وهم ينتمون إلى عشيرة بني لام في العمارة، منهم الدكتور مهدي المخزومي. أدناني أبي لأقبل يده، وإذا به قد هيأ العمامة ووضعها على رأسي مباركاً، وداعياً لي بالتوفيق!
كنت أخشى أن أظهر أمام رفاقي من أبناء الجيران. فلا أخرج إلا مع أبي مقبعاً بعباءتي. أو أغتنم الفرصة مبكراً. ويا ويلي أن ظفروا بي مما أتلقاه منهم من الهزء والسخرية!؟
ومع الأيام صرت أعتز بمظهري. كنت مع زملائي طلبة العلوم الدينية. أجوب عصرا حين تسنح الفرصة، مجالس ودواوين رجال الدين المشهورة، آل الشيخ راضي، آل ألجواهري، آل بحر العلوم، السيد محمد رضا الصافي، الشيخ عبد الكريم الجزائري. ومجالس آباء بعض زملائي وأقراني، مضافاً إلى هذا الحلقات التي تتألف عادة ممن يتآلفون بالذوق ودرجة الدراسة. قبل الغروب بساعة نتحلق على فرش مصلى أحد أئمة الجماعة، فيطرح أحدنا مشكلة في أعراب جملة، فيحتدم النقاش لحلها، كل يطرح رأيه ووجه الحل. وكنا نقلد الشيوخ والكبار في جدالهم، في رفع الصوت مشفوعاً بالتحدي، وأحياناً نمضي الوقت بالحديث والمباراة بما نحفظ من شعر.
من تلك المجالس تعودنا سلوك الرجال، ونحن في سن المراهقة، فتأدبنا بآدابهم، وبرزنا نقلد مظهرهم، ومنهم تزودنا بالمعارف، أدبية، دينية، سياسية، وعرفية. وكانوا على ما نعرفه من مكانتهم العالية بين الناس والمجتمع العراقي لا يترفعون علينا، كنا إذا اقتربنا منهم يحادثوننا ويجاملوننا كأننا أبناؤهم بل أحياناً كأننا أندادهم؟!
جرت العادة في النجف أن يقيموا حفلات أفراح حين يتم زواج. العامة تكون حفلاتهم رقص وغناء، أما الفئة المثقفة من رجال دين وأدباء فإنهم يعقدون مجلساً لاستقبال المهنئين والمباركين لمدة ثلاثة أيام. وطالما تبتدئ الليلة الأولى، وظهر اليوم الأول بوليمة فاخرة يدعون إليها المعارف والأصدقاء والجيران، وتتخلل الثلاثة أيام –صباحاً وعصراً- قصائد الشعر من أصدقاء العريس الخاصة وأصدقاء الأسرة، وإذا كان العريس من بيت زعامة دينية فان الشعراء يتزاحمون ويتبارون فيما يقدمون من قصائد. يختار الشاعر أحد المنبريين لإلقاء قصيدته ممن عرف بجودة الإلقاء –طوراً منغماً- وما على المستمعين إلا السماع فإذا جذبت أسماعهم بقوتها وجمالها ومعانيها ضج الحفل: أعدْ، أعدْ. ربما أعيد البيت الواحد والمقطع عشر مرات، ذلك علامة الاستحسان. واندثرت تلك الطريقة على أثر دعوة من السيد صدر الدين شرف الدين أثناء كلمة ألقاها في حفل من أمثال تلك فدعى إلى أن الأحسن والأمثل وقعاً أن يلقي الشاعر قصيدته إلقاء فانقسم الأدباء شطر أيد وشطر عارض انتهى باستجابة الأغلبية.
كنت وأقراني أحضر تلك المجالس والاحتفالات التي يقيمها أصدقاء العريس. وحدثت مناسبة زواج الشيخ عبد المنعم الكاظمي، ألقيتْ فيها قصيدة للشيخ عبد الرزاق محي الدين بعنوان "أحلام اليقظة"، بعد المقطع الأول الذي نال الاستحسان البالغ، جاء المقطع الثاني فحدث تهامس، من فريق من الأدباء، ثم تطور الهمس إلى إعلان الاستنكار، واتهام الشاعر بالمروق والتحدي للشريعة، أدى بسرعة إلى صدام جدلي ثم تطور إلى تهاتر وشتائم، وغابت القصيدة من يد المنشد.
أين؟ اختطفت؟ مزقت؟ لا أحد يدري. وسعى المعارضون إلى التشهير بالشاعر. وقصدوا الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، حيث أفتى بوجوب الأعراض وتجنب مجالسة الشاعر حتى يكفر عن سيئته. أما السيد أبو الحسن الموسوي فانه رفض أن يحكم على شاعر ما لم يجهر بإنكار الأصول، وأمام حاكم شرع مسؤول، وعلق "إن الخيال مطية الشعراء، فان تغزل أو وصف الخمرة وفِعلها، فان ذلك من مسالك الشعراء قديماً وحديثاً، وهو مجرد وصف وخيال". وأختار عدداً من فقهاء وأدباء للتحقيق مع الشاعر ورفع قرارهم إليه لإصدار حكمه. وتم حضور اللجنة والشاعر في بيتنا. قال الشاعر "إن القصيدة فقدتْ على المنبر، مزقت أو ربما أخفاها بعضهم لأمر!"
فتقدمت إلى اللجنة وقلت إني حفظت المقاطع الثلاثة التي سمعتها والتي احتدم النقاش حولها. لم تقبل اللجنة أدعائي حتى وثقه أبي. كنت أقرأه وهم يصغون حتى بلغت المقطع الثاني، ثلاثة أبيات، قال أحدهم "نسيت بيتاً. أليس كذلك؟". نفيت. قال "راجع ذاكرتك". قلت "أنا متأكد". فيسمعوني بيتاً:
"يقولون إن الله يبعثنا غداً         وذاك لعمر الله كفر وبهتان!". فأنفي، وأنا صادق لم أسمع هذا أبداً. كانت الأبيات التي لم تتجاوز الثلاثة أو الأربعة. لم اعد أتذكر غير هذا البيت، ونصف بيت آخر نسيت الشطر الأول منه. وقد كان كافياً لإثبات أن ما نسب إليه ملفق، فهذا الشطر: "أدين بما قد دان شبلي وجبران" والجمع بين شبلي الرجل العالم الصريح بإلحاده كيف يدين به من يدين أيضاً بجبران وهو يدين بالله وليس بملحد مثل شبلي شميل! وفي السنوات المتأخرة قرأت كتاب لشبلي شميل -هكذا عرفت- فلم أجد فيما قرأته ما يدل على إلحاده. ونوقش الشاعر. فكان دفاعه عن قصيدته مجيداً. رد كيد المتهمين رداً محكماً، وصدر قرار السيد بموجب التقرير الذي رفعته اللجنة ببراءة الشاعر، ودعوتهم جميعاً إلى وليمة، كتكريم للجنة ورد اعتبار للشاعر.
من هنا بدأت علاقتي به، تتلمذت عليه في بعض دروس الفقه والبلاغة، ومزاولة فن الشعر والآداب. فلقيت التوجيه الجيد، وتوثقت بيني وبينه رابطة المودة والإخاء إلى جانب رابطة التلمذة، فكان الأستاذ القدير ونعم الموجه والصديق الودود. ذكرت علاقتي به في ذكرياتي هذه، وسأذكر كيف تقطعت وانفصمت عرى تلك العلاقة ولماذا في المناسبات التي سأدونها في حينها، إذ أن العلاقة قد خف وزنها تدريجيا منذ أن صار أستاذا في الكلية وتمت له صلات مع بعض الشخصيات السياسية، كصالح جبر، ثم السبيل السياسي الذي وقف هو ضده وأدار ظهره لأبي وحتى لبقية آل الشبيبي.
كان أول من نمّى لدي حب الشعر وتذوق جماله أبي وصديقه الحميم الشيخ عبد ألمحمد. كان الشيخ عبد ألمحمد الصق الأصحاب بأبي لا يفترقان يوماً واحداً إلا أيام أسفار أبي، وقد أختلف مع أبي بسبب نهج أخي حسين لأنه لا يعترف بالآراء السياسية ولا يحاول تفهمها!. أبي يشجعني على حفظ سور من القرآن، وأرجوزة ألفية بن مالك، والشيخ يختار لي أبياتاً. الثلاثة أو الأربعة، طالما رددها أولاً ترديداً منغماً وانتهى بآهة، مما يثير اهتمامي، فأحفظها، وأعيد قراءتها عليه. كان الرجل ذواقة فيما يختار. كم كنت أغرق في الخيال وأنا أصغي إليه يردد وكأنه يعاني أساً عميقاً:
ترى اليوم في بغداد أندية الهوى         لهـــا مبدئ من بعـــدنا ومعيــــد
ثم يطلق آهة حادة كأنه يسمع الشريف الرضي قائل هذا البيت يردده الزمن على سمعه!؟ وكنت وزملائي ساعات الهزل واللعب، نمارس النظم بهجاء بعض من نمجهم، ونسيئ بهم الظن. وعن هذا الهزل تعودنا السليقة الشعرية، وتمكنا أن نأتي بالبيت أو الأكثر موزوناً مستقيماً وكنا نسمي ذلك المنظوم -بحر الخرط- ويندر أن يكون غير موزون.
لازمت أستاذي والشلة التي هو معها. بعضهم كان من ذوي الفضل والإحاطة والأريحية أيضاً أمثال الشيخ قاسم محي الدين، والأديب الكبير الأستاذ صالح الجعفري والسيد محمد الهاشمي، والسيد حسن السيد علي شبر، وهادي العصامي وإبراهيم الكاظمي. وبعضهم ليس له غير اليسير اليسير، ولكن على جانب كبير من الأريحية.
كنا نقوم بالنزهة القريبة من المدينة. وأحياناً –وهذه تكون في فصل الربيع- إلى مسجد الكوفة. نقيم أياماً في بساتين الكوفة نهاراً أو في الجامع ليلاً. في عيش مشترك من كل حسب إمكانياته من النقد، والمواد العينية من الطعام، وأما اللحم فمن بركات الصحن الحيدري الشريف "الحمام"، قد يصل عدد ما نصطاده لنزهتنا تلك السبعين أو الثمانين.
سهر ممتع بين النكات والطرف، والشعر والحكايات، تدور بيننا أقداح الشاي. تتخلل ذلك دندنة من أغنية ريفية أو أبوذية، دون أن نتهتك فنعرض سمعتنا لما لا يليق.
قبل أن أتعرف على أستاذي، كان أقراني الذين أماشيهم قد حصروا اتجاههم نحو الأدب الرخيص –لجهلهم- كتاب أعلام الناس في أحوال بني العباس، ونكات أبي نؤاس وشعره، وشاركتهم أيضاً في مطالعة كتاب "زهر الربيع" و "رجوع الشيخ إلى صباه" والقصيدة الدعدية، ودلني أحدهم على فصول تشبه حكايات "زهر الربيع" لرجل من الفقهاء، فأقبلت عليها أطالعها بنهم، دون غيرها مما ضمه الكتاب " الأنوار النعمانية" بين دفتيه. والكتاب للسيد نعمة الله الجزائري. يعتبرها –على ما فيها- ترويحة للنفس ومتاعب المطالعة، بعضها من الأدب المكشوف، ينقله طبعاً وليس من نسجه.
وأرشدني أستاذي إلى ابن المقفع، وابن الرومي، والمتنبي، ثم جبران خليل جبران، وأبي ماضي وبقية أدباء المهجر، وطه حسين. حتى تهيأ لي أن أنظم قصيدة، وأكتب كلمة. ووقعت مثله بورطة، وهبت زوبعة، ولكنها مرت خفيفة وبسلام. ففي حفلة أقمتها له بمناسبة اجتيازه أول سنة دراسية في دار العلوم المصرية. وشارك في إلقاء قصائد لنفس الغرض، الشاعر مرتضى فرج الله، والشيخ علي الصغير. ألقيت بعدها كلمتي، وقد أكتظ بيتنا بالمدعوين، وكان أحد مقاطع كلمتي قد تعرضت فيه لأسلوب أستاذي في تدريسه، فهاجمتُ عندئذ الكتب التي كنا نقرؤها في -الطهارة، والأستحاضة، وماء الاستنجاء-. فثار خلال الإلقاء بعض المتزمتين دون أن يترووا أو يفهموا ما أريد في النهاية. ثم شكوا أمري إلى الشيخ هادي كاشف الغطاء، ولم يكن متسرعاً وأرسل عليّ وأطلع على ما قلت، فأسكت المتقولين. وأتلف بعض أصحابي الكلمة. أما أستاذي فقد علق "هذا سوف يوصلك إلى المكان المرموق!". 
وتأوهت وصحت كمن يكلم شخصاً إلى جانبه، كفى، كفى، كُفَّ ويحك يا خيالي. لقد أرهقتني بهذه المسيرة الطويلة جداً جداً. مسيرة فيها أثنين وثلاثين عاماً، ذقت حلوها ومرها، نعيمها وجحيمها، حرها وبردها. كل هذا حق ولا غرابة فيه. ولكني الآن –وأنت تعرض كل ما مر- أحس ثقل تلك السنين على كاهلي. أني أنوء تحته وأكاد أغوص في بطن الأرض. فكف ويحك، كُفّ؟!
ها، لقد تذكرت، لديّ ما اواخذك عليه. إن ناساً تعشقتهم أيام صبوتي. أحببتهم أحببت حياتهم. رأيت بعضهم قد عزف عن طريقه ذاك. وألف طريقاً آخر. علم الله أهو كذلك أم لكل مرحلة من عمر المرء ما يلائم؟ وآخرين عشت معهم، وشاركتهم ليالي الشباب ونشوته وهيامه، وعرفت منهم وعنهم كل شيء. لِمَ نسيتهم أيها المارد؟
رأيت السيد محمد جروداء وسيد مهدي الرشدي وسيد كاظم آغايي. جروداء بمظهره البسيط، قده الناحل، انه جلد على عظم، عيناه الذابلتان كبصيص مصباح نضب زيته، ومع هذا تستطيع أن تتأكد من قسمات وجهه انه راهب يرتل في محرابه آيات فن المقام العراقي، وألوان الغناء. والرشدي، ذا الوجه الصبوح الوسيم، وقد زادته العمامة السوداء جمالاً، وكأنه بجماله وأناقته في ذروة الشباب. أتخذ أخوانا من سلك الفقهاء لا ينفك يماشيهم، وكأنه يلازمهم منذ القدم. حدثني بعض من أدرك عهده وشاهده، وهو يروي عن صوته وهيامه العجب. وآغايي، مسلكه المهني يغطي الماضي، ويبل شوقه إليه، بل هو يغنيه.   
وعشت ردحاً ليالي –حميد المحتصر- ذلك الشاب المعمم الجميل. كان محور سهراتنا، ومطرب ليالينا وقائد سربنا، صوته يُغْني عن الشراب. يجيد كل لون. يزين كل هذا أناقته الفذة، لولا جهره وتطرفه، في ثلاثة آثام؟! ولا تنسى عباس الكرماني، وسيد رشيد أبو الريحة، ورشيد بخش، وحميد أبو دراغ، أين هم الآن، وأين أنا، والى أين المصير. كل هؤلاء شاهدتهم، فالفريق الأول تعرفت عليهم في المجالس وقد توجهوا إلى درب الوقار. أما الفريق الثاني فقد أحييت ليالي معه ومع صحبي الذين هم بسني، ما تزال حلاوتها في خاطري لم تزحزحها من ذاكرتي كل الآم الظروف التي صبت عليّ.


يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏‏17‏/12‏/2010
alshibiby45@hotmail.com



133
المنبر الحر / الدرب الطويل/ 9
« في: 19:09 13/12/2010  »
2- الدرب الطويل/ 9
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)



أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي/ 2
النعاس فارق أجفاني. وحلم اليقظة صار كشريط سينمائي طويل جداً. كل شيء من أيام طفولتي صار على شاشة الخيال أمامي. إن للأطفال حكم وأمثال كما للكبار. يقول بعضهم لبعض  "إذا استطعت أن تقبل كوعك عاد من مات من أحبابك إلى الحياة!؟". لم يكن في مفهومنا نحن الأطفال، إن من مات لن يعود أبداً. وأيضاً لن يعود عهد الطفولة ولا الشباب.
إنها رحلة تبدأ بعد الولادة مباشرة، قد تكون قصيرة المدى، وقد تكون طويلة. فنجتاز مرحلة الطفولة إلى الصبا والشباب، والكهولة ثم الشيخوخة والهرم. وقد نرد إلى أرذل العمر، ثم ننتهي كأن لم نكن شيئاً مذكورا.
وعدت أتمثل أقراني من أبناء الجيران، ولعباتنا التي نملأ بها الشارع صخباً وضجيجاً عصر كل يوم وحتى بعد العشاء، بذلك الشارع الذي لا يتجاوز عرضه أكثر من مترين. ولا ينيره ليلاً إلا فانوس بائس، يعلق على الجدار بارتفاع لا تصل إليه أيدينا، فيصعد بعضنا على كتفي زميله، نأخذه إلى البيت نمسح زجاجه، ونضع له كمية من النفط، ثم نمثل دور زفاف (العريس والعروس) ونعيده بعد هذا إلى مكانه.
لعباتنا في الليل تختلف عن لعب النهار، ليلنا تحتله لعبة "دبدة يمّ النمل دِقّي الحجارة واصعدي" أو لعبة "تِريابوك" حيث يتقدم قائد الفريق يردد "تِريابوك" ونجيبه "بوك، بوك" بينما يختفي أفراد الفريق الآخر. نواصل المسير بحذر باحثين عنهم فإن أخطأنا مكانهم ولم نمسك بأحدهم ظهروا وأعلنوا فوزهم.
أما النهار فـ "للآ بُدَي" و "جنجر الجنجرص، أمك تبيع الفرس" و "الحنجيله" و "أم حجيم" و "سمبيلة السمبيله" و "جرف حاش" و "القوق القوق يا مرزوق". هذه ألعاب لم أعد أتذكرها مفصلاً. فالآبُدي، كرة من الخرق، وكذلك القوق القوق، أما الحنجيلة وأم حجيم فهما متشابهتان. وسمبيلة السمبيله هي ما يشبه القفز على الحصان الخشبي مع انقسامنا إلى فريقين مع ترديد كلمات خاصة يبدأ بترديدها أول قافز ويردد فريقه الذي يقفز بعده. وسأشرح قدر ما أتذكر كل لعبة في صفحة خاصة. فإذا انتهت ساعات اللعب، وعدنا لتناول العشاء، تحلقنا بعده حول من يستطيع من أهلنا أن يقص لنا حكايات.
كنت وأخوي وأختي نتحلق حول العجوز العمياء "سكّونه الماجدية" ونصغي بأدب، وأحياناً مع خوف شديد، حين يكون الحديث عن الجن. الجن الذي يخطف الفتاة ليلة عرسها. ويحلق في الفضاء العالي، أو يغوص بها في أعماق البحار. وهو قادر "أن يتشكل بكل شيء حتى الكلب والخنزير"، وهذا ما يعرفه الدينيون في كتبهم!
كانت تلك العجوز القاصة ذات قدرة فائقة، إنها تشدنا إلى الإصغاء شداً. إننا نصغي إليها شاخصي الأبصار. وكانت أحاديث الجن تستهوينا من جهة وتخيفنا من جهة أخرى. أحياناً نتجمد من الخوف. وجراء هذا صرت أعاني الخوف بصورة غريبة، مما جعلني في حرج شديد إذا أمرني أبي –أيام الصيف- ليلاً أن أنزل إلى "سرداب السن"  لأجلب الرقي. والسرداب كلمة فارسية، "سرد" تعني بارد و "آب" تعني ماء. وهو يحفر في أبعد طبقة من صحن الدار أو أروقتها بحيث تكون جدرانه صلبة تنحت نحتاً يسمونه "السن" أي المسنون لصلابته، ويكون شديد البرودة يستعمل لتبريد الماء بالمشارب والأكواز وكذلك لتبريد الرقي والفواكه. وإذا نزلت هناك أحمل "النفطية" بيد والرقية بيد، ثم أقف كمن يتسمر بمكانه في ذلك المكان الذي لا تكفي النفطية لأنارته، ثم أتخيل الجن وقد لاح فأغمض عينيّ. ولكن أختي تتدارك أمري بعد أن عرفت حكايتي، ثم صارت تنزل معي. كانت شجاعة رغم أنها تدين بحكاية الجن.
لقد ظل الخوف ملازماً لي حتى بلغت الحادية عشرة من سني، حيث تيسر لي أن أكتشف زيف حكاية الجن. ذات ليلة قضيت ثلثها مع زميل لي أيام الامتحان. بيتنا في بداية الشارع وبيتهم في نهايته. حين انتهينا من المذاكرة تلك الليلة، ودعني إلى الباب، وصرت في الشارع وقد تخدرت عيناي من شدة النعاس. بدا لي الشارع وكأنه مليئ بالجن، قصار الأجساد لا أتبين وجوههم، وهم في حركة عنيفة، من شدة الزحام.
جمدني الخوف ولزمت الباب. يا إلاهي ماذا أفعل؟ خجلت أن استعين بزميلي وأناديه. لكن ودون تفكير حملت حجارة ورميتها بقوة في امتداد الشارع، سمعت صوت حجارتي تصطدم بأرض الشارع، وتقفز عدة قفزات. أعدت التجربة مرة أخرى. ثم اندفعت راكضاً فوصلت البيت بأمان.
لقد صرت شجاعاً. وفي ليلة أخرى دعوت أخويّ، أن ينزلا من باب السرداب المجاور لغرفة تجمع العائلة وأنا أنزل من باب السرداب الثاني، فنلتقي في السرداب الوسطي. لقد ذهب الخوف عني إلى الأبد. وحكيت القصة متباهياً أمام رفاقي، وتبين لي كم أنا ساذج وبسيط حين أنبرى لي أكبر أبناء الجيران وبلهجة الهازئ قال: هيا معي كلكم لتجربوا شجاعتكم!
وهب الجميع إلى وادي السلام، حيث توجد أكبر مقبرة في العراق وربما في العالم العربي، ويدفن بعضهم أمواته في سراديب تخص العائلة ولا يصح لغيرهم أن يدفن فيها. هناك أوقفنا على باب سرداب –لمقبرة خاصة- مفتوح، وقال: "الآن أرمي يشماغي إلى داخله وأكون أول من ينزل لاستعادته". بهت الجميع، ولما نزل إلى داخله، غاب عن عيوننا وعاد يحمل يشماغه. غمرنا فرح واستبشار، وتزاحمنا كل يريد أن يسبق غيره. ولكنه صار يختار حسب فراسته في وجوهنا –كما بدا لي-. لو كنت حدثت أبي بهذا لأنبني. وربما عاقبني. ولكن في الواقع تخلصت من الخوف. ولم أعد أومن بحكاية الجن رغم ما كنت أسمعه، ممن هو أجلّ من الماجدية، من رجال العلوم الدينية، وهم أيضاً يروون حكايات تذهل السامع، وتخيف المؤمنين بهم. هذا لم يعد يهمني. كنت حين نتجادل أيام الشباب عن هذا أرد عليهم. إذا كان بمقدور هذا المخلوق أن يتشكل بكل شكل، إبرة، قطعة صوف تدحرجها الريح، حمار أو ثور أو ما شاء ، فما باله لا يحتل الأرض؟ ويأتي الرد من بعضهم: " الله وضع لهم حدوداً لا يتجاوزونها، وخصص لهم مساكنهم؟!" يرى بعض اللغويين إن المقصود بلفظ "الجن" كل ما جنَّ تحت الأرض. ولكن القرآن صرح عن هذا وإن منهم إبليس. وانه خلق مارج من نار. والمارج الشعلة ذات اللهب الشديد المختلط بسواد النار. وسورة "الجن/ آية 9" تشير إلى أنهم خلق "وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا"، وتعدد ذكر المعنى في عدة مواضيع.
إن جدلنا أتخذ هدفاً غير نبيل؟! هذا ما يقوله بعض الذين يجادلون بدافع حب الظهور ويعارضون للإحراج ولإسقاط المغاير عن طريق الاتهام بما يخالف القرآن. وفي مثل هذه الحالة أنسحب أمام المنافقين بمزحة تبدل الجو وتحول مجرى الحديث.
الليل مضى منه شطر كبير، انه ينسحب بطيئاً ثقيلاً، وكأن نجومه هي كما قال عنها الشاعر الضليل -شُدّت بيذبل- إني أعاني ليلاً اشد من ذلك الليل، هذا الليل هيّن أمره ، حتى لو مرّ ثقيلاً كالكابوس، أما الليل الذي أعاني ظلمه وظلامه فلا يدري أحد متى ينكشف بفجر، وتشرق شمس تبدده وتدحره إلى الأبد... هذا الليل أكابده وأقاومه. ولكن إلى متى؟
الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً "إن الطريق طويـــل جداً، يا علي إنه أطــول من وادي الأحلام ، ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً!. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق –ما استطعنا- من أجلهم". هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد ..... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟
وأفقت من هذه الأحلام المثيرة لأشجاني، على بكاء أحد صغاري. وقلت: أيها الصغير آه لو أمكن أن تظل صغيراً! أنا المسؤول عنك، أحقاً إني أجرمت بحقك، وبحق الآخرين من أخوتك؟
ألقمته أمه ثديها فساد الصمت ثانية، وعدت أستعرض وبسأم قلت: يا إلاهي لماذا يصر خيالي إلا أن يعيد عليّ كل ما مرّ من صور حياة الطفولة؟ لقد غدوت رجلاً، وعن قريب أكون في ذروة الكهولة.
ولست أدري كيف تذكرت إن الشهر العربي هو "ربيع الأول" الأيام التسع الأولى  منه ما تزال تتراءى لعيني. إنها مثال الفوضى. هي كرنفال أهوج، الفن فيه جنوني، غير مهذب، طفولتي شاركتْ فيه. والأطفال إذ ذاك شاركوا في تلك الفوضى على قدر ما يستطيعون. فئات مجتمعنا النجفي كلها كانت تشارك فيه على حد ما يناسبها.
عوام المدينة، يصبون جام حقدهم على المعممين، فهم هدف ألعابهم، ومضحكاتهم. لذا كان أولئك يحاولون جهدهم أن لا يخرجوا إلا في وقت مبكر، ليسلموا مما يفاجئهم به أولئك الذين يبدون في تلك الأيام أبطالاً على مسرح الفكاهة والهزل. يتجاوزون حدود الأدب واللياقة بينما هم –في سائر الأيام- نكرات شبه منبوذة.
نحن الصغار كنا ننتظر هذه الأيام بفارغ الصبر. ندخر ما نتقاضاه من يوميات من أجل أن نتباهى بشراء –أبو نجوم مكاوي- وأعواد الثقاب ذا الأضواء الملونة، والصعادات، و"ضراط المعيدي" و "الطرقات" ذات الفتيل. كل هذه مستوردة إلا المفرقعات، فهذه نصنعها بأيدينا. إنها ذات خطر وبيل في أكثر الأحيان خصوصاً تلك التي يصنعها الكبار، إنها في الواقع قذائف مدمرة.
الأيام التسع من ربيع الأول، يهب فيه عوام النجف، بل كل المدن الشيعية، بإعلان الأفراح ويطلق العامة لأنفسهم العنان بحيث يتحدون قواعد الأدب واللياقة. وهم يختارون لهزلهم المعممين فيقذفون عمائمهم بألوان من الحبر أو يشكلون بأذيالهم أجراساً، أو يخطفون عمائمهم ويضعونها على رأس حمار، أو يطلبون منهم عملاً لا يناسب كرامتهم. وللمفرقعات دورها أيضاً. هي مختلفة الأحجام وطالما سببت أضرار فادحة. وفي بعض البيوت تقام المجالس. فالروحانيون يبارك بعضهم بعضاً ويقدمون لزائريهم الحلوى، أما ذوو الوجاهة من زعماء البلد، فيقوم بعض الهواة بتمثيليات هزلية بعضها مستساغ وبعضها فج مخجل. على أي حال فإن أسباب هذا كله لاعتقاد الشيعة إن الأمام الثاني عشر "المهدي المنتظر" والذي نصب على أثر وفاة أبيه الحسن في اليوم التاسع من ربيع الأول –ما يزال حياً حتى اليوم- فهم بما يعملون يؤكدون ولاءهم. ولما تجاوز العامة حدود الأدب إلى التعرض بكرامة الناس وما يؤدي إلى هلاك بعضهم فقد أعلن الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء حرمة هذه الألعاب وطالب الحكومة بمطاردة الفاعلين وإنزال العقوبة بهم. فقضي عليها تماماً.
في هذه الأيام آخر فرصة أتمتع بها بحرية متناهية كبقية الأطفال. ولن يحين منتصف ربيع هذا حتى يعود أبي من سفره المعتاد. انه يفارقنا في زيارة النصف من شعبان –كل عام- ولا يعود إلا في هذا الشهر. فموسم رزقه –شهر رمضان- ثم العبور إلى الأحواز ليقضي فترة مابين رمضان ومحرم وصفر.
هناك في عربستان يُقيم فخذ من عشيرة –قبيلة- بني أسد، وهم قسم من المواجد يسمون "حُميد" بعد هذا يعود إلى العراق فيقضي محرم وصفر في البصرة أو العمارة. في بداية الثلاثينات منع الشاه رضا دخوله لوشاية من بعض المعممين النجفيين بأنه يحرض العرب على العمل من أجل الالتحاق بالعراق.
شهور السنة القمرية معظمها، فيها للأطفال مباهج وأفراح. فالزيارات التي تتجمع فيها الألوف في العتبات المقدسة، السابع عشر من ربيع الأول، رجب، شعبان، ثم شهر رمضان الذي يفرحهم بانتشار أنواع الحلوى، الزلابية، شعر البنات، والبقلاوة. وأيام "الماجينة" في بلدي –سابقاً- موسمها شهر رمضان فقط. والحوانيت تعرضها بالزينة والأضوية الملونة، ثم عيد الفطر، والأضحى، حتى شهري محرم وصفر، هذان الشهران اللذان تغشى البلد فيها مظاهر الأحزان، من لباس السواد، وأقامه المآتم في البيوت، رجالية ونسائية، ومختلف مبتكرات العامة في إظهار معالم الحزن، بمناسبة ذكرى استشهاد الحسين في كربلاء، في حرب شنها عليه يزيد بن معاوية فكان فيها مثال البطولة والإباء "لم يعط يده إعطاء الذليل ولم يقر إقرار العبيد"، هذه المقولة رويت عن الحسين وانه قالها حين عرض عليه مبايعة يزيد أو يقتل، وهي تعبر عن رفضه أشد الرفض لأنه يعرف من هو يزيد ومن هو أبوه قبل أن يسلم وبعده!
في هذه الأيام التي يُجري فيها الناس الدموع، ويلطمون الصدور، ويقرعون الظهور بالسلاسل والرؤوس بالسيوف. نحن الأطفال نجد بكل هذه البهجة والسرور، ونشارك فيها الكبار. ونهجر كل ألعابنا فالشارع يخلو منا إلا ضمن مواكب العزاء.
وللنوروز حكاية تلذ للأطفال وترعبهم أيضاً. فالعادة جرت أن يتهيأ له الناس، ويعدون العدة اللازمة للساعة المحددة،الحلوى، والكليجة، والخس والشربت. ولكن الحذر كل الحذر أن نصاد للحجامة كأننا فئران، تجذبها رائحة الطعام الشهي في المصيدة. النوروز كلمة فارسية وكردية وهو يرمز إلى اليوم الذي تتحول فيه الشمس إلى برج الحمل الذي يشير إلى حلول فصل الربيع. والأكراد يعتبرونه رمزاً لخلاصهم من ظلم ملك كان لهم على يد "كاوه". والفرس عندنا يهتمون بهذا اليوم اهتماما كبيراً، فيحضرون الشموع ويزينون البيت ويتحلقون حول المائدة تأهباً للحظة التي عينها المنجمون في التقاويم التي يصدرونها لعام كامل، عما يتم –حسب معتقدهم- لسكان هذه الأرض من خصب أو جفاف وحرب أو طواعين أو سعادة ورفاه.
وأشد ما نعانيه إذا مرضنا، فلا طبيب غير العجائز ووصفاتهن لأمهاتنا. السعال الديكي يعالج عندهن بالماء يصب على قبر المصلوب، يتلقاه إناء آخر فإذا ما شربه المصاب، شفي؟! أو تهيأ دمية كبيرة من جريد النخيل والقماش يحملها واحد من الأطفال، ونتوجه بمسيرة إلى المقابر نهزج خلف حاملها:
يا حْمير الشيجو روح وتعال      أحنه دِفنّه الشيجو وراح السعال؟!
وللوقاية من مخاطر الشتاء، السعوط والجفت؟!
رحم الله جداتنا، ليس الذنب عليهن، انه ذنب الآباء الذين يعتمدون عليهن في كل شيء دون أي تفقد أو أرشاد، وإلزام مؤكد. أنهن في كل ما يعملن بدافع اللهفة والحب، فقد يكون علاجنا وهذا أيسر وأخف من كل ما عرفناه –البخور- عند المساء، وماء سبع آبار. أما إذا عجزن فالمنجم والمطوّع وما يقدمه من عوذة تعلق برقابنا. ومع إن النجف كان فيها عدد غير يسير من أناس يقومون بعلاج المرضى وفقاً للطب اليوناني معتمدين على الأدوية العشبية، وأشتهر في هذا المجال أسرة الخليلي الذين أدّوا الخدمة المشكورة للنجفيين. وكانت كل عائلة تلجأ إلى الأطباء من آل الخليلي كأنهم يلجأون لأقرب إنسان في عطفه وحنوه دون أن يسألهم عن أجر إلا ما يقدمونه من ذات أنفسهم. ولكن العجائز كثيراً ما يلجأن إلى العجائز اللائي يدعين القدرة على ما يذهب المرض؟!.
يعتمد الفقراء في شراء الأقمشة من اليهود الجوالة، يشترون منهم قماش، الزفيري، روح الأفندي، روح الحمال وضلوع المسعدة، وما يناسب الأطفال. وكثير ما يكون هذا نسيئة، من أم سمحة، أو كرجية، أو حسقيل، أو شاهين، حين يمر أحدهم يرفع عقيرته معلناً عن بضاعته. ولكنا نحن الأطفال لنا معهم شأن آخر رغم أن أمهاتنا لا يرضين عنا عما نقوم به ضدهم. كم كنا نكيل لهم الصفعات الخاطفة، أو نخطف حمولتهم ونرميها على الأرض، أو نرميهم بالقشور القذرة، أو نهزج خلفهم "يهودي ماتت أمك، اجه الجلب يطمك، طمك بالعاقولة"
أوه. لقد تعبت. الفجر آذن بالظهور. الديكة أخذت تصيح. ودب النعاس في عيني وساعة الذهاب إلى المدرسة لا تسمح بالغفوة التي راحت تصارع أجفاني.


يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏13‏/12‏/2010‏
alshibiby45@hotmail.com 



134
ليس هكذا يا مجلس الوزراء يتم القضاء على الفساد

اليوم سمعت خبراً من الفضائية العراقية أثار دهشتي يشير إلى أن مجلس الوزراء شكل لجنة للعفو عن مزوري الشهادات والوثائق!؟ وحاولت البحث عن الصيغة الصحيحة للخبر بين المواقع حتى عثرت عليه في موقع الرشيد وفي الرابط التالي:
http://www.alrasheedmedia.com/index/index.php?option=com_content&view=article&id=5879:2010-12-08-17-20-41&catid=11:local-news
وهذا نص الخبر (اصدر مجلس الوزراء قراراً يقضي بتشكيل لجنة لتقديم مقترحات بشأن العفو عن الموظفين الذين قاموا بتزوير شهادات ووثائق وتقدم مقترحاتها خلال أسبوعين. واعلن الناطق باسم الحكومة علي الدباغ ان مجلس الوزراء امر بتشكيل لجنة برئاسة المستشار القانوني وعضوية مدير الدائرة القانونية في الأمانة العامة وممثل عن وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى لتقديم مقترحات بشأن العفو عن الموظفين الذين قاموا بتزوير شهادات ووثائق وتقدم مقترحاتها خلال أسبوعين .....)
لا أدري ما هي الحكمة ، وما هي الضرورة لمثل هذا القرار!؟ فدولة القانون برئيسها أخذت تتراجع عن تنفيذ القانون! فهي بمثل هذا العفو تشجع على انتشار الفساد الإداري وتشجع "مؤسسة مريدي"* على مزاولة نشاطها "العلمي والخدمي". السبب لإصدار هذا القرار بالنسبة لي واضحاً. لأن هناك المئات لا بل الآلاف من حاملي الشهادات والوثائق المزورة ينتمون إلى الأحزاب المتنفذة ومنهم كوادر اضطروا لتزوير الشهادات ليحتلوا مراكز مرموقة في الدولة، وقد كشفتهم لجان النزاهة. وهم الآن يفكرون بإنقاذ هؤلاء من خلال اللجان التي سيشكلها مجلس الوزراء.
لا أدري هل عالج مجلس الوزراء مشاكل المجتمع من خدمية وإدارية وتنظيمية وصحية ووو ... ولم يبق أمامه سوى الرأفة بالمزورين؟ أهكذا تتم محاربة الفساد الإداري الذي أنتشر وشاع في ظل دولة يسيطر عليها مؤمنون بالشريعة؟ أهذا ما تقوله الشريعة والرسول الأكرم؟ ألم يقل رسولنا (ص) (من غشنا ليس منا). أنا أقدر أن المزورين أنواع ودرجات في الخطورة، ولكن أنا واثق (الديك الفصيح من البيضة يصيح) أن العفو سيشمل المقربين ومن له عمد في الدولة والأحزاب المتنفذة وبغض النظر عن نوع ودرجة تزويره. وقد يبقى بالسجن بعض "المساكين" من أضطر لتزوير وثيقة أو شهادة من أجل وظيفة بسيطة. فما شاهدناه خلال الفترة المنصرمة من محاولة حماية وزراء عرفت وزاراتهم بانتشار الفساد وسوء الإدارة ومحاولة تهريبهم، وتهربهم من المساءلة أمام مجلس النواب بسند، كلها تشير إلى أن في البيضة قيق وليس ديك!؟
لذا أدعو هيئات المجتمع المدني والأحزاب ومجلس النواب ووزارة العدل إلى رفض هذا القرار لأنه يشجع على التزوير وعلى الفساد الإداري.   

*- "مؤسسة مريدي" أو سوق مريدي، مصطلح يعرفه الشعب العراقي جيدا. أشتهر هذا السوق في بغداد بتزوير جميع أنواع الوثائق وجوازات السفر، وكان وربما ما يزال يمارس نشاطه الخدمي ولكن بأقل من السابق.
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏08‏/12‏/2010
Alshibiby45@hotmail.com


135
المنبر الحر / الدرب الطويل/ 8
« في: 18:01 07/12/2010  »
2- الدرب الطويل/ 8
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)






أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي/ 1
حين آويت إلى فراشي ليلاً، لم يواتني النوم. كل من في البيت غرقوا بنوم عميق. أطفالي الأربعة وأمهم كانوا بعد العشاء في لهو ولعب، معي طوراً، ومع بعضهم الآخر طوراً. وتجاذبت أنا وأمهم أحاديث متشعبة، دار بعضها عن هذا الزمن الذي نعيشه. لا نحن ولا غيرنا يعلم ماذا سنكون عليه في قابل الأيام.
كل شيء لم يعد متيسراً -كما تصورنا- حين انتهت الحرب. الأسعار لم تهبط، ربما سترتفع أكثر فأكثر. الدول المصدرة، كانت خلال الحرب تنتج للحرب. هل تحولت ألان مصانعها للسلع السلمية والاستهلاكية؟ لست أعلم شيئاً عن هذا. ولكني أعرف إن رواتبنا "نحن الموظفين الصغار" لا تحتمل ارتفاع الأسعار الفاحش.
العالم كله مازال يلعق جراحه. الدول الكبرى لابد إنها هي الأخرى ستتبارى بتحصين نفسها بكل ما يجعلها متفوقة، أو على الأقل قادرة على صد العدوان.
هذه الحرب لا تشبه الحرب العالمية الأولى. في الأولى اقتسمت الدول الكبرى الغنائم. تقاسمت بريطانية وفرنسا ما كان تحت سلطة العثمانيين، من مستعمرات، وامتيازات. وكانت تلك الشعوب قد حسبت إنها ستتخلص من يد الرجل المريض، فإذا بها كالمستجير من الرمضاء بالنار.
صحيح إن بريطانيا التي كانت -العظمى- أصبحت اليوم في الدرجة الثالثة، ولكن برز في العالم مستعمر جديد. نهم أشد النهم، هو أمريكة! هي ليست أمريكة أبراهام لنكولن ولا أمريكة ولسن بل حتى ولا أمريكة روزفلت. أبراهام لنكولن (1909 -1865) صاحب تعريف الديمقراطية المشهور "إنها حكم الشعب، من الشعب وللشعب" عمل من أجل إلغاء الرق فقتله أحد المتعصبين للنخاسة. والرئيس ولسن (1856-1924) صاحب المبادئ الأربعة عشر لحل مشكلة الأمم وقد دعا لإلغاء الاستعمار وإبداله بالانتداب، وكان رئيساً للولايات المتحدة.
سيكون كل شيء، كل دولة صغيرة، أو كبيرة مثل فرنسا وبريطانيا تخشى أذرعها الأخطبوطية، ولكن سوف لن يقع بينهن خلاف، لأن الخوف من الدب الأحمر يضطرهن للتآخي. وهي ذات الوقت الدولة الوحيدة التي لم يصبها جراء الحرب ضرر اقتصادي. ومع هذا فان هذه الحرب لا تشبه تلك.
في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولدت أو دولة اشتراكية. وبذلت الدول المنتصرة كل ما بوسعها لتدفنها قبل أن تشب ويشتد ساعدها. فباءت مساعيها بالفشل. واليوم ومن خلال الانتصار على النازية، ولد على الكرة الأرضية أكثر من عشر دول اشتراكية. وتفكر أمريكة بجد أن تعيد الخيول إلى الإسطبل حسب تعبيرها. وأكثر ما يشغل بالها، أن تحول دون تسرب العدوى إلى بقية شعوب العالم. إنها توجه نشاطها لتحبس الأجنة في قماقم تحكم غلقها، في كل من فرنسا وايطاليا وتمسك بأعنّة إيران ، جارة أهم عفريت!؟ لكن الشعوب تعرفت على مكر الاستعمار وأحابيله، أذن سيطول الصراع. في فرنسا خلال الحرب نظم الحزب الشيوعي الفرنسي المقاومة السرية فأكتسب خبرة عملية وقوة وكثر عدده، وشارك في الحكم بعد تحرير فرنسا. وفي ايطاليا ألقى عمال ميلانو القبض على موسليني وأعدموه فتعاظم الحزب الشيوعي بأعضائه ومؤيديه. واعتبرت أمريكة إيران صمام الأمان إن هي كسبتها. كما خططت لتضعف الحزب الشيوعي في كل من فرنسا وايطاليا، طبعاً بمساعدة حكوماتهما.
أواه ما هذا أود أن أغفو، فأنا هذه الأيام متعب كثيراً.
أغمضت عيني. أجل. لكن تفكيري مازال يقظاً، يشرق ويغرب. بحلقت عيني في سقف الغرفة لأتعب أجفاني، ودون إرادتي عاودتني أفكار شتى. قلت لنفسي، ألا يمكن المرء أن يظل طفلاً، أو أن يعود إلى الطفولة؟
وسرح خيالي من هنا يستعرض ذكريات الطفولة. آه ما أعذب أيام الطفولة. شوقي يقول:
خليّون من تبعات الحياة         على الأم يلقونها والأب
ولكنه أيضاً يقول: مقاعدهم من جناح الزمان      وما علموا خطر المركب
حين عاد بنا أبي من سوق الشيوخ بسفينة شراعية، كان الفرح يغمرني لأني سأعود إلى المدينة التي ولدت فيها، رغم إني لا أعرف عنها شيئا. ولدت في تموز عام 1913 بمصادفة شهر شعبان في منتصفه. وغادر أبي النجف أواسط عام 1917، وها نحن نعود إليها قبل ثورة العشرين. وفي هذا العام 1917 ولد أخي الشهيد حسين في قرية تدعى "كوت آل حواس" تقع بين الناصرية وسوق الشيوخ. وهكذا أقامة والدي في قرية الكوت بين أقاربه.
وجاءت وفود من أهالي سوق الشيوخ تطالب الشيخ بالإقامة عندهم، كرجل دين وخطيب منبر، فلبى دعوتهم، وأنتقل بأهله إلى هناك، حيث يحتل سوق الشيوخ جنود الانكليز من السيخ ويحكمها الكابتن "دكسن" أبو رويشات كما يسمونه، وقد زج برؤساء العشائر في السجون. وألبسهم الثياب الملونة، وأجبرهم على كنس الشوارع إهانة لهم وإذلالاً!.   
وأعتلى الشيخ المنبر يندد بسياسة المحتلين المستعمرين، ودكسن يحضر المجالس، ويسمع كيف يثير شعور المواطنين بالكرامة ويحرضهم على التحرر من نير المستعمر الأجنبي. حاول دكسن أول الأمر أن يغريه بالمال، فدفع له بواسطة زعيم سوق الشيوخ - آنذاك- الحاج علي الدبوس، مبلغا من المال قائلا: "هذا لفقراء البلد فليوزعه الشيخ حسب معرفته وعلمه ......!؟".
فأعلن الشيخ من على المنبر: "يا أهالي سوق الشيوخ، هذا مال أرسله دكسن ليوزع عليكم، وأنتم تعلمون أن دكسن من أمة ليست على دينكم ولا من قومكم، أحتلو بلادكم، وأستذلوا رجالكم وها أنا أرد المال إلى الحاج علي الدبوس الذي يريد أن يكون سمسارا بيني وبين من يريد أن يشتري ديني ومروءتي!".  ورمى بالرزم المالية إلى الحاج علي الذي كان حاضرا المجلس.
تجددت الحرب بين دكسن وأشياعه من الأذناب والعملاء وبين الشيخ الخطيب. وضاق صدر دكسن فأصر على اعتقاله. ولكن الشيخ علي الدبوس كفاه شر القتال، فاحتال للأمر، وناقش الشيخ وهو في ديوانه بكلمات أثارت حميته وكرامته ، حيث قال: "الله يا شيخ محمد شطول لسانك!؟ هذا وأنت غريب!". فما كان من الشيخ محمد إلا أن يرمي الحاج علي -ودون ترو-  بنعله وهو يصيح: "أنا غريب أيها الحقير، هذا بلدي ولكنكم جبناء أذلاء". ونادى تلميذه إذ ذاك -حسين غازي- ليكتري السفينة اللازمة فهو لن يقيم بأرض يعتبر فيها غريبا.
هكذا دُبرت هذه المكيدة لإخراج أبي من السوق. فقد كان منبره عبئاً ثقيلاً على ذلك الحاكم. حيث ذهبت محاولاته هباءً لإغرائه بالمال. وانطلت الحيلة على أبي، وعدنا بسلام.
*      *      *      *
      
السفر في سفينة نهرية مبهج لمشاعر الصغار. الملاحون وهم يجرون السفينة، لم أقدر مدى ما يتحملون من مشقة. لكني كنت اسرُّ لرؤيتهم. وهم يتحلقون عند الاستراحة، أو حين يتوزعون لتهيأة طعامهم. يعجن بعضهم الطحين، ويهيئ آخر التنور ويخبز، ويهيئ ثالث الادام الذي طالما كان سمكاً مشوياً.
أول الأمر كنت أتعجب أيجيد الرجل الخَبزَ كالمرأة؟! كنت أعتقد أن ذلك خاص بالمرأة. أليست أمي هي التي كانت تخبز لنا؟ الرحلة مسرة. ولكني لم أتخلص من الدرس!
حين أصبحت في سن دراسة، أودعوني لدى امرأة "ملّة". أهالي الجنوب يطلقون كلمة "مله" على معلم أو معلمة الأطفال وكذلك على المنبريين.  ثم أدخلت مدرسة ابتدائية اعتقد أنها أول مدرسة في سوق الشيوخ تم فتحها من قبل سلطة الاحتلال. حين نقلت إلى الناصرية نهاية عام 1947 حاولت أن أعرف عنها شيئاً من سجلاتها، فقيل لي: إن انتفاضات العشائر لم تدع أثراً من ذلك!.
كنت أشعر بالدلال، فأنا ابن مرجع ديني ينوب عن مرجع ديني أعلى في النجف، مضافاً إلى هذا كونه منبري من الطراز العالي. كل ذلك يشعرني بالزهو.
مرَ يوم واحد على المسير، كنت قضيت نهاره باللعب والمشاكسة مع أختي وأخي. وفوجئت ضحى اليوم الثاني باقتراح أبي.
- ماذا تقول لو تتابع دراستك؟ سأعطيك عن كل درس "قران" إذا وعيته وأتقنت تلاوته. والقران عملة هندية، هي جزء من "الروبية" التي هي 4 قرانات. والقران 4 آنات، والآنة 4 بيسات. رضيت، وفكرت، إلى أن نصل الكوفة سيكون عندي مبلغ محترم. كانت البداية كما أتذكر سورة العصر. يقرأ أبي السورة، وأردد ما يقرأ. وجد إني أجيد التلقي. فبعد أيام استطعت أن أقرأ لوحدي، فيعطيني المقرر، عما أقرأ من سور أكثر من ثلاثة. ولكنه خفض المكافأة، إلى نصف قران عن كل سورة، مع هذا ظل الأمر يغريني.
حين وصلنا مدينة "السماوة" كان لدي مبلغ لا يستهان به. فقد أكملت قراءة أكثر من ستين سورة. وعندما رست السفينة، سارعت إلى السوق مع أختي وهي تكبرني بست سنوات. فاشتريت حلوى وليمون حلو. وبعد سويعات وجيزة أصابتني قشعريرة ورعدة، فلزمت الفراش بين برد ثم حمّى ثم يتصبب جسمي عرقاً.
وقبيل وصولنا الكوفة عاودتني صحتي. ربما بسبب ما غمرني من فرح طاغ بقرب الوصول إلى المدينة التي كنت أسمع من أهلي عنها وهم يتلهفون للعودة إليها. والى البيت الذي قُرّت به عينا أبي بأول مولد ذكر سماه "علي" وقد سبقه إلى الوجود أربع بنات. وليس الذكر كالأنثى؟!
يوم غادرنا النجف إلى قرية "الكوت" ركبنا الحمير إلى أبي صخير، ومن ثم بالسفينة. كانت النجف إذ ذاك محتلة من الإنكليز. وكان سبب هجرتنا إن الإنكليز كانوا يضيقون على النجفيين خصوصاً في أمر الماء، حيث كان ينقل من مسافة بعيدة بالقِرَبِ. فكانوا لا يسمحون بهذا مما أضطر أكثر الناس أن يشربوا من ماء البئر إن كانت لديهم بئر، عمق البئر في النجف أربعون متراً، وماء الآبار ليس عذباً. لكنه صافٍ جداً وشديد البرودة. هناك في الكوت يقيم عم أبي وابن عمه، الشيخ عبد الرضا أحد أشقاء الشيخ جواد الشبيبي، وأبن عمه كاظم "خالي" ابن الشيخ عبود أخو الشيخ جواد أيضاً.
في الكوفة دهشت لمرآى العربات الخشبية التي تجرها الخيول، وعجلاتها الحديدية التي تنزلق فوق سكة حديدية. ترامواي النجف أسس عام 1907 والامتياز لعبد الرحمن الباججي وشركاؤه أهمهم محس شلاش. كنت أود أن لا نصل بسرعة فمنظر الصحراء الواسعة بين الكوفة والنجف سيطر على مشاعري.
صرت أوجه الأسئلة عن كل ما نصادفه في الطريق. مسجد الكوفة، وقبله مجاورة له عن قرب بناية ذات قبة عادية ومظهر بائس، ثم بنايتان أخريان خلف المسجد. إحداهما يقال لها بيت الإمام علي. والأخرى مدفن ميثم التمام "صاحب الأمام".
لم تطل المدة فبعد أقل من ساعة وصلنا النجف. أحسست لأول وهلة وكأني غريب دخل إلى بلد غريب! لماذا يا إلاهي؟ كنت أتلفت مبهوراً لمنظر السور المحيط بالبلدة، وبابه الكبير العالية. واتجه بنا مرافقنا إلى بيتهم حيث سنبقى عندهم حتى الغد، من أجل أن يتم تنظيم الأثاث في الغرف.
بعد ثلاثة أيام، حين أستقر بنا المقام في بيتنا، أخذني أبي مبكراً، لم أسأله عن هذا، واجتزنا مفترق أربعة طرق إلى منتهى الشارع، فمال قليلاً إلى اليسار، ثم يميناً وقف عند باب مسجد. لقد سمعت أصوات الأطفال وضجيجهم قبل أن أراهم.
هنا كتّاب في ساحة المسجد. ثلاثة صفوف متراصة يشكلون مربعاً مع الجهة التي يجلس فيها المعلم. صبية صغار في سن السادسة، وكبار تتراوح أعمارهم بين العاشرة أو أكثر قليلاً. إذن سأكون معهم منذ اليوم لأكمل قراءة القرآن، وأتعلم الخط.
كان هذا المعلم -رحمه الله- ذا وجه مكسو بالشعر وقد ضايق العينين الحولاوين. كان جهوري الصوت، سليط اللسان، أمامه صندوق خشبي عليه عصا خيزران. وعلى الجدار خلفه ما كان أسمها "الفلقة" وقد أعتاد الناس أن يقولوا له حين يأتون إليه بأولادهم "لك اللحم والنه العظام" يريدون بذلك إن له الحق بتأديبهم حتى لو أدى الأمر إلى أن يصبح أبنهم عظماً خالياً من اللحم بسبب العقوبة من أجل التأديب. إنها مبالغة وكلام، مجرد كلام؟! أبي لم يقل له هذا، لقد أوصاه بي خيراً. وبعد حديث بدا ودياً بينهما تركني هناك، وفي اليوم الثاني جهزني بصندوق خشبي، بداخله المحبرة، ذات الحبر الأسود، وصفيحة للخط، والقرآن الكريم.
 قال شيخي: "أحتفظ بها الآن يجب أن تتعلم القرآن فقط".
أجبت: "أني وصلت فيه إلى سورة حم -الدخان-. فاستدعاني إليه وأمرني بالجلوس لأقرأ، وبدا على وجهه انه سُرَّ مني. ومع ذلك أستدعى أحد الطلبة الكبار، أن يستمع عني كل يوم بعضاً من السورة التي بعدها.
أعلنت بصوت مفتخر: "شيخي أنا أعرف اقرأ من تلقاء نفسي كل السور". لكنه صاح بي "اسكت!". فصمت وقد تملكني الخوف منه.
*      *      *      *
   
رحت أستعرض في الخيال يوم أنهيت تلاوة القرآن في مدة وجيزة، رغم معارضة الشيخ، ويوم باشرت بتعلم الخط، فكان أول سطر خطه لي لأتمرن على الخط، بيت من قصيدة في الإمام علي:
بقبرك لِذنا والقبور كثيرة         ولكن من يحمي الجوار قليل
بعد أن كتبت سطراً واحداً تحت السطر الذي كتبه. نظر فيه ثم هتف هتاف معجب "إذهب إلى أبيك وأجلب الشريني!". و "الشريني" كلمة فارسية، وشيرين تعني "الحلو"، فقد كانوا يهبون للكتّاب هدية من السكر كلما قطع أبنهم مرحلة في التعليم.
وطرت مزهواً من الفرح. قدمت الصفيحة لأبي. كان عنده أحد أصدقائه لم يبد رأيه بكلمة لكنه صار ينظر إلى الخط والى يدي التي شمرت عنها الردن.
ولما عدت حاملاً السكر والشاي للشيخ. كان اسم الشيخ جويدة، وأعتقد إن الناس حرفوا الاسم من جواد إلى جويدة. ويدعي حسب لقبه "أبو نواص" أن نسبه ينتهي إلى أبي نؤاس!؟. أحسست بألم في يدي ثم بعد ساعة بدا فيها مثل نقطة خضراء. في اليوم الثاني تطور أمرها، فكانت خراجاً عاقني عن الدوام شهراً كاملاً. أما أمي فكانت عند كل مساء ترفع يديها للدعاء لي وعلى الشيخ الحاسد أن ينتقم لها منه، هكذا كانت تعتقد.
وعدت أتابع التعلم. كنت أرتجف كلما نادى "فلقة"؟ وكنت أبذل جهدي  أن لا أخطئ واقترف ما يوجب العقوبة. ولم يكن في حسابي أن جفاف المحبرة، يكون ذنباً أستحق عليه العقوبة. حين أحسّ بي أكلم زميلي أن يعيرني محبرته ناداني، وبأسرع ما يكون انهال عليّ بالعصا لا أعرف كم مرة كانت تقرع أخمص قدمي وأطلقني فإذا بي اعجز عن القيام من شدة الألم.
وحين انصرفنا عند الظهر وعلم بالأمر جدي منعني من العودة إليه. جدي هو الشيخ حميد وكان ينادى "حُميّد" بالتصغير، وهو أكبر سناً من أخيه عبد الرضا. كان قد كف بصره عند الكبر، وقد كتبت وفاء لحبه كراس "حكايات عن جدي" بعضها هو الذي رواها لي والباقي منقولة من شيوخ أمثاله.  وفي صباح اليوم الثاني أخذت بيده أقوده إلى المسجد. فإذا به ينهال عليه بالإهانات: "أحول، شمر، وحش، تفو ...." وصاح بي: "أحمل صندوقك". وخرجت يغمرني فرح عظيم.
كان شيخنا ذاك يأمرنا أن يحضر كل خمسة منا مقداراً من الحطب –أيام الشتاء- لنستدفئ، لكنه يعزل أحسنه فيحمله بعض زملائنا إلى بيت الشيخ. ويترك القليل لنا. لقد شاركت في هذه الضريبة. لكني سلمت من الضريبة الشاقة. ملء حوض البيت من البئر كان فرضا ثقيلا. كل أسبوع يقوم ستة طلبة يتراوحون على أداء هذه المهمة!
بعد بضعة أيام ألحقني أبي بالمدرسة الرسمية الوحيدة آنذاك، وعلى إني أجيد القراءة والكتابة وعملية الجمع والطرح، فقد قبلت في الصف الأول. وكان الذهاب إليها شاقاً عليّ.
ثم أغلقت واسترحت. ما السبب؟ لا أعرف. وفي ضحى يوم من الأيام لحظت في شارعنا تتابع الرجال مسارعين، شاكي السلاح، ودون أرادة وجدتني أمشي خلفهم. وفي الصحن الحيدري الذي كان مكتظاً بالناس، سمعت منادياً يهتف. لم أفهم من كلامه غير كلمة "جهاد" واخترقت صفوف الرجال فرأيت شيخاً ذا مهابة بجانبه معمم يحمل راية والمنادي أمامه.
ما الجهاد؟ من ذاك الرجل؟  لست أعلم شيئاً إذ ذاك. علمت بعد هذا انه المرجع الديني المعروف بـ "شيخ الشريعة" الذي خلف الشيخ محمد تقي الشيرازي بعد وفاته في الزعامة الدينية، ودفع الناس للجهاد في ثورة العشرين. ثم لم أشعر إلا وأنا خارج سور المدينة، والرجال المسلحون يهزجون بالهوسات جهة سكة الترامواي. وشعرت بالحيرة، فانا لا أدري كيف أعود؟ وماذا سأعتذر عن هذا التصرف أمام أبي؟

يتبــــــــــع
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏  ‏07‏/12‏/2010
alshibiby45@hotmail.com



136
المنبر الحر / الدرب الطويل/ 7
« في: 19:11 03/12/2010  »

2- الدرب الطويل/ 7
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)

 


موقف الراحل من الفكر القومي (لا أريد بتعبيري -الفكر القومي- أن أشجب القومية. فانا عربي أفخر بعروبتي. إني أقصد أولئك الذين نعتوا أنفسهم بـ -القوميين- وهم لا عمل شاغل لهم إلا معاداة الفكر التقدمي، وخصوصاً من يعتنق الفكر الاشتراكي العلمي، ويعملون على وجود حزب واحد وهذا ما يتنافى وجهود العاملين على نهضة شاملة لجميع طبقات الشعب -البرجوازية والكادحة- فنحن في مرحلة نضال من أجل التحرر الوطني وليس من أجل تحقيق نظام اشتراكي، إذ هو مرحلة تالية)
النجف بلد المنابر والمشانق
قال أحد الرفاق: "ملاحظاتك عن التراث جميلة وصائبة، لفتت نظري إلى أمر آخر أراه مهم أيضاً. أحرى بنا أن نتعرف على تأريخ مدينتنا –النجف- إنا نجهله جهلاً تاماً. وان كنا نعرف اليوم إن لها شأنا كبيراً في تأريخها القريب، لما لرجالها العلماء والزعماء من مكانة في خدمتها وخدمة الإسلام والعرب".
- أيها الرفيق شكراً، أنا أرغب وأحبذ أن تبحثوا أنتم في المكتبات العامة والخاصة أيضاً، ستجدون فيها ما تبتغون. حين تقرأون تأريخ "بني بُويه" وتراجم علماء النجف في كتب التراجم، وما كتب حديثاً عنها أيضاً، خلال ما تحصلون عليه ستجدون أي كتاب تقرؤنه يذكر الكتب التي أستند إليها أيضاً.
لقد عُرفت منذ القدم باسم "النجف" نجف الكوفة، لا نجف الحيرة. وعرفت أيضاً بأسماء أخرى "خد العذراء" و "الغري".
أما حدودها فكلكم على علم بها، حيث تتصل من جهاتها الأربعة بالكوفة، وكربلاء، وأبي صخير والى الحدود السعودية. أهم ما رفع شأنها هو مرقد الأمام علي. وقديماً كان يسكنها النساطرة، والى أن ظهر الإسلام كان فيها بعض الأديرة.
وأهم عناية لقيها المرقد العلوي كان من ملوك الفرس. ومن العباسيين "هارون الرشيد" أعاد شأن القبر بعد أن هُجر، وكان أسبق من أهتم به هم أحفاد الأمام علي.
أهم ما كان يشكوه سكانها الماء، وتبارى كثير من محبي الأمام لحل هذه المشكلة. أعتقد إن بعضكم واعي أيامها، أو ذووه. أنا نفسي وعيت ظروفها الأخيرة في العطش. وكيف انتهت بمساعي الغيارى ومحبي البلد.
وللبويهيين خدمات تذكر نالوا بها ثقة ناسها، وشاركهم في هذا بعد الجلائريون والأيلخانيون في القرنين السابع والثامن للهجرة وأجروا الأنهار. أما الوهابيون فقد عانت النجف الأمرين من هجماتهم عليها، قاومتهم بفضل السور الضخم الذي يحيط بها. هجمات الوهابيين على النجف لم تنجح بسبب سورها المنيع، الذي هدم عام 1931 لتتوسع المدينة. ولكن هجمات الوهابيين نجحت على كربلاء من عام 1220هـ/1806م وحتى عام 1226هـ/1810م وقد نهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم وقد أحرقوا داخل الحرمين الحسيني والعباسي.
وسرت إلى النجف عدوى الوعي السياسي، حين تحركت كل من إيران وتركيا تطالبان حكومتيهما بالحرية والديمقراطية وسن الدستور. فكان رد الفعل عنيفاً في أوساطها سياسياً وثقافياً. فتدارسوا المبادئ الديمقراطية وهم ملتفون حول بعض العلماء الذين تدخلوا بالسياسة إلى جانب الدين وهم يعتقدون بوجوب تحقيق المبادئ الدستورية في حكم الشعب. فأقبل الشباب على قراءة الصحف، يجلبونها من كل مكان فتكونت بهذا فئة سياسية واعية. منهم الشبيبيان "محمد رضا ومحمد باقر"، وعلي الشرقي، بعدهم الجواهري، وأحمد الصافي، والشباب الذي ألتف حولهم.
ولا ننسى إن بعض رجال الدين قاوموا تيار الوعي السياسي والأدبي، في مقدمتهم رجل الدين المعروف "كاظم اليزدي". حيث كان مرجعاً كبيراً، لكنه عارض مقاومة الإنكليز أثناء احتلالهم النجف بحجة عدم قدرتنا على مقاومة سلاحهم، وأطمعوا فيه فكانوا يصلون إليه كوسيط ومعهم بعض الخونة، وقد أعدموا بعض الثوار ولم يمنع عنهم. فقد ذهب إليه بعض وجهاء البلد وطلبوا منه أن يصدر فتوى بعدم جواز قتل أولئك الأبطال، فأجاب "يجب تطهير النجف من المجرمين؟!".
وتيار آخر ظهر مجافياً ومغايراً للتطور الذي حصل، ذلك هو بدعة شج الرؤوس بالسيوف، وضرب الظهور بالسلاسل وفي أيام شهر محرم. وقد وردت من رجل تعرف عليها من النقشبندية في تركيا، ثم إيران فانتشرت بلا مقاومة. أكثر المجتهدين وهم فرس شجبوها وأصدروا الفتاوى بحرمتها. وأيدها ودافع آخرون فرس وعرب. وأتخذها بعض العوام مصدراً للعيش بحجة حب الحسين.
أما المستعمرون الإنكليز خلال وجودهم في العراق أثناء الحرب العالمية الثانية فقد شجعوها سراً، فكانوا يقدمون المال بواسطة عملائهم لرجال تلك المواكب. فيدفعون لبعضهم بعض المال غير يسير. وكان موكب التطبير "أي شج الرؤوس بالسيوف" واحداً فقط يُعرف باسم "عزاء الترك" فلما أدرك الآخرون من العرب هذا النمط من العزاء قلدوهم وأضافوه إلى مواكبهم، ليستدروا المنافع، وفعلاً استفادوا!
وأرتفع صوت رجل الدين الشهير السيد محسن الأمين العاملي، والسيد مهدي القزويني من البصرة لتحريم هذه البدع، فحاربه كثير من المعممين بأقلامهم. وناصر محرميها السيد أبو الحسن. أصدر الأمين العاملي رسالته الشهيرة "التنزيه لأعمال الشبيه" عام 1346هـ/1927م. فعقدت مجالس ينشد فيها الشعر بالشتيمة له والطعن فيه. كان جريئا لا تأخذه في الحق لومة لائم. وحين ورد النجف زائراً أمر أبو الحسن الموسوي نصب الخيام والاستعداد لاستقباله، وكان استقبالا فخماً حقاً.
كانت النجف عام 1917 محتلة، فابتليت بقحط شديد، وندرة وغلاء في المواد الغذائية. تأريخ ثورة النجف قريب إليكم وغير بعيد. وما يزال كثير من الرجال الذين اشتركوا فيها على قيد الحياة. نعرف بعضهم وسمعنا منهم عنها، ولابد إنهم دونوا الأحداث التي جرت.
أما الممهدون لها فهم نخبة من الشباب المتحرر، وأغلبهم من كان في ركب "دعاة الدستور" أي المشروطة، أيام الخراساني، بينما الذين ساندوا الإنكليز من الجانب الآخر.
اعتمدت الثورة أول الأمر على جماعات من المثقفين الواعين الذين اتصلوا بالمتحمسين لها من الرجال الأشداء المعروفين بالبطولة، أمثال الحاج نجم البقال، وكاظم الصبي.
إن الكثير من رجال العشائر الذين شاركوا في ثورة العشرين ضد الإنكليز تحولوا إلى جانب الإنكليز في العهد الملكي، لتركيز الإقطاع، وأصبحوا كتلاً، كل كتلة وراء وكيل من وكلاء الإنكليز في الحكم الملكي، ممن كانوا يتناوبون في إشغال كرسي رئاسة الوزارة. مع العلم إن أولئك الوكلاء جميعاً، كان نوري السعيد الرجل الأول بينهم، بل والمخطط الأوحد، لتوزيع مواعيد الأدوار بينهم، سواء كان ذلك في رئاسة الوزارة، أو كراسيها، أو عضوية المجلسين النيابي والأعيان.
حين أنفصل صالح جبر عن حزب صاحبه نوري السعيد، قص علي شاب كان يرقد في مصح بلبنان. إن طبيبه قال له "هل هو اختلاف في الرأي بينهما؟" فأجابه الشاب "صونه وأنفشگت" والصونة هي بعر الحمار، انه يريد إنهما شيء واحد. والواقع إن ذلك ربما كان أيضا حيلة استعمارية ليحوز الاثنان على السنة والشيعة.
لاشك أيها الأخوة، إن الثورات التي حدثت في سائر أنحاء العالم، ليس السبب فيها شعور الثائرين ضد الأجنبي الذي تسلط عليهم وحده. إنما السبب المهم هو تفتح عيون الشعوب المستعبدة أكثر بما تم من مخترعات ومكتشفات هذا هو السبب، هو الصناعة الحديثة التي تمت واتسعت بسرعة بعد أن بدأت بالمغزل والقطار، وتوصلت بعد ذلك إلى الطائرات وسائر المخترعات السلمية والمدمرة، وما نتج عنها أيضاً من انبثاق نظريات وآراء في العلوم الطبيعية والفلسفية.
ولعل كثير من المتزمتين والمسؤولين الدينين أسفوا كثيراً إن ساعدوا على المشاركة في المطالبة بالحريات والدساتير. فها هي الحريات تعددت جوانبها وأنواعها. حرية الفكر مرق بموجبها الكثيرون فتحدوا الذين لا يحيدون عن آراء السلف حتى بأسلوب التأليف والكتابة. وأصبح أبناء بعض المراجع الدينية خريج جامعة أمريكية أو أوروبية. واختفت كثير من العادات والالتزامات التعبدية، بل تعدى الأمر أن عمل الكثير من أولئك على فتح مدارس للبنات، وتبدلت أيضاً كثير من مظاهر المرأة النجفية. كانت قبلاً مبرقعة الوجه معصوبة الرأس، ترتدي عباءتين، واحدة على الكتف والثانية على الرأس. كان أمهاتنا يسمينها "سرسوحة" ولا أعرف أصل هذه الكلمة، ربما لأنها تنسرح على جسمها أكثر من التي على رأسها. وحين انتشرت مدارس البنات كان أكثر المبادرين لإدخال بناتهم هم من الفئة الروحانية وأعيان البلد. في بداية شبابي، أتذكر إني كنت ذات يوم جالساً بأحد أواوين الصحن الحيدري، ومر السيد سعد جريو السياسي المعروف، ومعه عزيز الأعسم وهو يجمع تواقيع لفتح مدرسة بنات. وعلى الأثر بعده علمت أن الزعيم عطية أبو كلل يعلن انه سيعمل ضد من يسمح بإدخال أبنته المدرسة.
هذا الاندفاع بالتوسع بمظاهر التجديد الفكري والحياتي، حسبت له الرجعية والاستعمار حسابه، خصوصاً ضد تيار الفلسفة المادية، والمجلات التي تعني بحرية الفكر مجلة العصور والدهور والطليعة، وبحوث بعض العلماء والكتاب مثل مجموعة شبلي شميل وإسماعيل أدهم وغيرها. فصارت تحجبها وتحول دون وصولها. بينما سمحت في أيامنا هذه لمثل مجلة "الفن" ومجلة المختار وأمثالهما. لكن الضار أحياناً يكون دواء وعلاجاً في أحيان أخرى. فالاستعمار الذي جلب معه ما يفتح عيون المستعمرين، فيما يقتنيه من وسائل الراحة والتنعم، سرت عدواها إلى المؤسرين من أبناء البلد المحكوم.
هذا الاستعمار حين انفجرت الحرب العالمية الثانية، ويئس بعد انتظار مرير من تغلب النازيين على الإتحاد السوفيتي، سارع فحالفه فتأسست علاقة دبلوماسية بين الإتحاد السوفيتي والعراق، وبناء عليه أيضاً سمح للكثير من الكتب والمجلات التي كانت محرمة أن تغزو الأسواق وتنتشر بين الشباب المتلهف للإطلاع على كل ما كان مجهولاً لديه، بل وصدرت مجلات وصحف أدركتموا عهدها.
أدب الكتاب التقدميين من عرب وأوربيين وأمريكيين، خصوصاً أدب القصصيين الواقعيين ارسكين كالدوين، وهمنغواي، وديستوفيسكي، وبوشكين، تولستوي ومكسيم غوركي. ومجلة الطريق اللبنانية، والفجر الجديد المصرية، وأم درمان السودانية، ومجلة الرابطة البغدادية، وجماعة البعث ورسائلهم  ومجلة المجلة، والمثل العليا النجفية، ومجلة واسط. ناهيك عن الكتب التي تطرقت لبحث الفلسفة المادية بجرأة فذة.
 أجل هذا الضار  أضطر  حين ضويق من خصمه الجبار العنود، فقاومه بحلف لمن يكرهه -ربما أشد وأكثر من خصمه ذاك- وتنازل عن كثير من أساليبه ضدنا. ولكن حين انتهت الحرب بانهزام النازيين –وليس النازية- عاد بكم الأفواه وبحجب الحريات، ويطارد الأحرار، عن طريق المجالس العرفية، بحجة الدفاع عن فلسطين. والصرخات الكاذبة من المتربعين على دست الحكم في بلادنا هنا وفي البلدان العربية الأخرى. وإنا لنتوقع أحداثاً، وتبدلات ليست في البدء لصالحنا. وما يدرينا، ربما أستطاع الاستعمار العالمي بسبب من التحاق كثير من الدول التي تحولت إلى الاشتراكية –أن يحيي النازية- هذه المرة ممسكاً زمامها بيده. ويفسح المجال لنشاط الفكر القومي. فيشل الشعوب العربية ويجعلها تدور حول نفسها ولا تصل إلى الطريق اللاحب.
لا أريد بتعبيري "الفكر القومي" أن أشجب القومية. فانا عربي أفخر بعروبتي. إني أقصد أولئك الذين نعتوا أنفسهم بـ "القوميين" وهم لا عمل شاغل لهم إلا معاداة الفكر التقدمي، وخصوصاً من يعتنق الفكر الاشتراكي العلمي، ويعملون على وجود حزب واحد وهذا ما يتنافى وجهود العاملين على نهضة شاملة لجميع طبقات الشعب –البرجوازية والكادحة- فنحن في مرحلة نضال من أجل التحرر الوطني وليس من أجل تحقيق نظام اشتراكي، إذ هو مرحلة تالية.
أنا عربي نسباً ونشأة وشعوراً، وكل من عاش ونشأ نشأة عربية إسلامية، عربي. الفرس الذين استوطنوا منذ عهد سحيق انصهروا بزيهم ولسانهم وعاداتهم هي عادات النجف العربية، لا ينم مظهرهم ولا لسانهم ولا عاداتهم على أنهم من أصل غير عربي أبداً.
والواقع إن الصراع الذي نشهده اليوم مهما تبرقع أصحابه ببراقع ودعوات، فانه في الحقيقة صراع بين اتجاهين، الاتجاه القديم الذي يعالج أمور حياته بالتسليم لما سماه بعضهم –المكتوب في لوح القدر- ولحل مشاكله يرجع للتسبيح والتكبير والتعاويذ، وانتظار المعجزات، هذه الأساليب التي ينكرها القران نفسه.
واتجاه آخر يعتمد على العلم والعمل والإنتاج بالوسائل العلمية الحديثة، والنضال الدائب للتخلص من النظم البالية، ووجود الطبقات، وتحكم الطبقة الأقوى في الطبقة الأضعف والأدنى. وبهذا وحده ينتهي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
ويجب أن لا ننسى أن لكل صراع سيرافقه انحلال وتسيب في القيم الأخلاقية. وقد يستمر هذا فترة طويلة، فيعتقد الكثيرون –حتى بعض الذين عملوا من أجل التغيير- إن ذلك هو حاصل الاتجاه الجديد فيتملك نفوسهم اليأس، من صلاح الإنسانية. وبالمناسبة وللنكتة أذكر لكم، لماذا أختار كل من أبي نؤاس وأبي العتاهية، طريقاً خاصاً به، بينما كانا صديقين حميمين!؟
الذي استنتجته من دراستي لهما. تزهد "أبو العتاهية" ومجون "أبو نؤاس" سببهما واحد في رأيي. فقد درس الاثنان طبيعة الحاكمين، وموقفهم من ذوي الفكر والمعتقد، وبطشهم ببعضهم بلا رحمة، بينما –الحاكمون- يدنون الأدباء والعلماء وأهل الفن، يستغلون مواهبهم وقابلياتهم، لخدمة عروشهم وكيانهم، وليحرقوا البخور حولهم، ويختلقوا لهم تأريخا نزيهاً، حافلاً بالتقى والورع والمكرمات. لهذا مال الأول للزهد ومال الثاني للمجون، ليعيشا بأمن وسلام.   


يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏‏03‏/12‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 



137
المنبر الحر / الدرب الطويل/ 6
« في: 19:10 29/11/2010  »
2- الدرب الطويل/ 6
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


 
موقف الراحل -كمسؤول شيوعي- من الشعائر الدينية، يلخصه رأيه هذا:
(لا أيها الرفاق. كفّوا عن هذه السخرية. أنا أرضى أن يظل مصلياً لو انه واصل السير في طريق النضال. ما جدوى أن يطلق الصلاة والنضال معاً!؟ وليست دعوتنا ضد الصلاة أبداً. إننا ندعو كل الناس أن يكونوا صفاً واحداً ضد الاستعمار وأعوانه من أقطاعيين ورأسماليين ورجعيين./ شرف النضال والعضوية)
 
هيروشيما
معقول جداً أن يحتفل الناس، ويعلنوا الأفراح بيوم النصر. فالسلام أمل الشعوب، ليس فقط تلك التي تحملت من ويلات الحرب القسط الأوفر، أولئك الذين فقدوا الآباء والأبناء والمسكن وكل شيء. نحن أيضاً وكل الشعوب التي احتلت أراضيها بحجة التعاون ضد العدو المشترك.
عمت الأفراح جميع أنحاء المعمورة، وحتى على نطاق محدود تمت احتفالات صغيرة، من أناس كثيرين كانوا يحسون كأن نذر الموت تزحف على هذه الأرض لا "لتنقصها من أطرافها" إنما لتجعل عاليها سافلها.
رفاقي في اللجنة المحلية، وآخرون من زملائي المعلمين الذين تربطني بهم صداقة متينة، كانوا يلحون عليّ أن أهيئ لهم الوليمة التي أعتدت أن أدعوهم إليها كلما رزقت بوليد. هو رقم 4 في تسلسل مواليد أخوته. وقد أختار أسمه أبي فجعله سميه، وحسب قوله انه أسم جميل، لأنه أسم النبي، ولأنه استمرارية طيبة في سلسلة الآباء فهو إذن: محمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن شبيب، وقد أحبه جده كثيراً.
أنعقد حفلنا الصغير، وبدلاً من كؤوس الراح دارت بيننا كؤوس عصير البرتقال. قال أحدهم "آه. هذه الحرب نغصت عيشنا. كنا لا نعرف غير المرح والقدح. وها هو أبو كفاح يدعونا لفرحتين، يوم النصر، يوم ميلاد السلام للبشرية جمعاء، ويوم مولد محمد وليده الجديد، ولكنه بمناسبة الفرحة الكبرى اكتفى بعصير البرتقال! ها، ماذا تقولون أيها الأخوة!؟".
أجاب الشاعر مرتضى فرج الله صاحبنا "إذن أنهض وأخرج أيها المزكوم لا تسري إلينا عدوى زكامك". رد عليه  "يا لها من نكتة بارعة منك أبا عزيز. أنا لست مزكوماً أبداً. ولكن ليس لي حاسة شم كالتي عندك خاصة برائحة الطعام! الآن فقط عندما نبهتني أدركت إن عشاءاً لذيذاً بانتظارنا".
لكني فرضت شروطاً، وبحماس سارع الجميع لتنفيذها. بدأوا أولاً بأغنية راقصة، حمل أبو عزيز كأساً على رأسه ودار بين الهازجين برقصة خفيفة. ثم استراح قليلاً ليشدو بمقام عراقي، وأشار حين انتهى أن أواصل بالأبوذية على أن توشح بأغنية لمسعود. وأنسجم الجميع يرددون "سوده شلاهاني ما رحت ويه هواي" وأبو عزيز يلاحق بتعليقاته "هم زين آنه وهواي بهل البلد، آه لو كنت غربي من زمن قبرتني قنبلة"
أخرج هادي من جيبه دينارا وصاح "هذا جيبي -الصدق- ملعون الوالدين هذا مشغوف بالأسعار، يكره جيبي ...." قال له حميد "انه يعمل بقول القائل، تنقل فلذات الهوى في التنقل".
انتهت الوصلة الأولى بين الغناء والنكات، فلما انتهينا قال أحدهم "الله يرحمك يا مسعود!". صحت به ماذا تقول؟ أجاب "أجل منذ 12/5 وردت إلى شرطة النجف برقية من العمارة تطلب أن يستخرج جثمانها من قبرها ويؤخذ من أحشائها شيء للتحليل، فقد علم إن خصوماً لها دسوا لها في طعام وليمة خاصة سماً ماتت بتأثيره!".
أحزنني ما سمعت، ولفني أسى عميق، وتبدل جو الاجتماع في نفسي. أواه يا مسعود، يا صوتاً كان سميري في ليالي سهري وأرقي، يا أنيسي في وحشتي وانفرادي.
أهل الفن في عراقنا الحبيب كلهم يعرفون هذه المغنية. وبالنسبة لي فقد تعرفت عليها وسمعت منها مباشرة. حينما اصطحب أخي -حسين- العائلة معه إلى العمارة عام 1943 وكان قد تعرف عليها سابقاً وكان من محبي أغانيها. صارت تزور البيت هناك فتطلب أمي منها "غني لي يا مسعود -گومينه يم علوان ....- وإذا غنت سالت دموع أمي وعلا نشيجها. ولم تكن مسعود تعرف إن حسين أخي".
كانت مسعود ترفض أن تنادى -مسعوده- تعتبر نفسها ذكراً وتتزيا بزي الرجال. اليشماغ والعقال على رأسها والسترة وما يناسب الفصل على أحسن مظهر. سألتها مرة أنا وحسين. لماذا تنفعل خلال الأغنية حتى لتظهر على قسمات وجهها؟ أجابت بلهجتها العمارية العذبة، وكانت أجابتها صريحة "إنها تحس بما يوحي به لونها لذوي الإفهام السقيمة". وأضافت، إن الكثير من هؤلاء الناس يندهش حين يرى مسعود يلبس أجمل ملبس، لماذا؟ لأنه أسود! ولا يرى غرابة إن كان ذلك على أبيض، مهما كانت حقيقته! واستعرضت أمثال كثيرة.
لقد تمردت مسعود على الأنوثة كما تمردت على العبودية، فهجرت بيت سيدها محمد العريبي، وكانت كريمة سمحة مع من يعيش معها، فكانت تساعد وتؤدي بعض المعوزات من قريتها. ولكنها تتألم من ظنون بعضهم بأنها تمثل معهن دور الزوج؟!
إن كثيراً من أغانيها سِجل لحادث أو فترة مرت بها العمارة، من ذلك ما أشارت إليه في أغنية، شيريد مني اسبكتور، وأغنية لا تجعلني فرنساوي احنه عرب سيارة، وأغنية خويه محمد يمحمد عن لسان كاتب محمد العريبي ملا كريم، وأغنية فيصل يفص الماس، وابو طويره أريد وياك. والملا كريم هذا كان الكاتب والمؤتمن على كل شؤون محمد العريبي، ولكنه فوجئ بانقلاب محمد ضده فجرده من جميع ما يملك وأتهمه بالتلاعب، وأقام عليه الدعوى وسجنه فشفع له الشيخ محمد رضا الشبيبي. ولكن العريبي عاد فسجنه ومات في سجنه. ويذكر المطلعون إن ما لقي ملا كريم سببه تحذير الملا لزوجة محمد -فتنة- عن بعض علاقاتها المخلة بسمعة زوجها وكانت متحللة ولكنها ذات تأثير على زوجها فحرضته على الملا. ومسعود تعرف إخلاص الملا ونزاهته.
كان الأستاذ الشاعر محمد مهدي ألجواهري من محبي أغانيها. كان عندنا ذات مرة وقد سبق أن استعرنا منه "الحاكي" وليس لديه غير أسطوانتين لمسعود وثالثة لأم كلثوم ورابعة لمحمد عبد الوهاب. وفي غمرة نشوة عارمة حين أسمعته أغنية مسعود "البيض خويه البيض" بعد أغنية أم كلثوم "أكذب نفسي" وأغنية عبد الوهاب "الهوى والشباب" وسايرناها بأصواتنا. حين انتهت قال ما رأيكم؟ أيدناه، قال هات "المكذبة، ومحطم الكأس" قال: "هما لكم أم لي؟". لا، هما لك. فحطمها بضربة. وهتف: "مسعود ابنة الطبيعة هي القائلة، والملحنة والمغنية!"
كنت معجبا بصوتها وأحفظ كل ألحانها وأغانيها.
لاحظ الصحب وجومي وحزني فقال أحدهم، وماذا تقول لي إذن إن أنا أخبرتك بنبأين. وأستدرك لا، لا واحد مسر؟ ألا تذكر يا صديقي إن الإتحاد السوفيتي أعلن الحرب على اليابان، القطب الثالث لمحن الحرب. اليابان طلبت الصلح، هذا بمثابة استسلام!.
صاح آخر ماذا يجدي الصلح، بعد خراب البصرة!
منذ أيام وأنا بعيد عن سماع الأخبار. في بيتي لا أمتلك راديو، وأبي لا يسمح بدخوله إلى بيته! وقد عرض عليه صديق أن يهدي له واحداً، يخشى أبي أن يستعمل حال غيابه لسماع الأغاني!؟ إنها محرمة في رأيه وفي رأي كل متدين رغم إنهم يروون عن النبي انه  قال: "إذا طابت النفوس غنت" وإنهم يذكرون إن ما ورد في القرآن الكريم "اجتنبوا قول الزور ..." المقصود بالزور هنا الغناء؟! 
صحت بصاحبي أكمل ماذا تعني بخراب البصرة؟ أجاب "أستخدم الجيش الأمريكي القنبلة الذرية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين. قيل إنها فتكت بستين إلف مدني، وأحالت المدينتين إلى رماد، واستسلمت اليابان". حقاً لقد شملنا حزن صامت وكأنما كنا نشاهد  المأساة بأعيننا. ألم يجد الأمريكان وسيلة حربية أخرى يرغمون بها اليابان على الاستسلام؟ ما ذنب سكان هيروشيما وناكازاكي؟ أم تراهم يتخذون ركيزة لمؤامراتهم ضد جيران اليابان غداً؟ ستكشف الأيام كل شيء في المستقبل!
أعلن عن هذا في 6 آب 1945 فكانت مأساة أستنكر فضاعتها كل الذين يدركون  بشاعة هذا السلاح. وستبقى ذكرى هذا العمل الإجرامي من لدن أمريكا رمزاً لحقد وهمجية العسكرية الأمريكية والذي يدل بما لا يقبل الجدل إنها ستحل محل ألمانيا النازية لتحقيق مطامح رأسمالييها. لقد حصدت حرب 1939 من البشرية خمسين مليون نسمة، وتقول الإحصاءات عن الحروب التي سبقتها إن ضحايا الحروب في القرن السابع عشر ثلاثة ملايين نسمة، وفي القرن الثامن عشر خمسة ملايين ونصف. وتفوق القرن التاسع عشر على سابقيه، فحصدت حروبه 16 مليون نسمة، منها عشرة ملايين في الحرب العالمية الأولى . بقي واضحاً إن الحرب العالمية الثانية فاقت كل سابقاتها. مع العلم إن الحروب التي دارت رحاها في القرون المشار إليها لم تكن عالمية ولا في ساحة واحدة ولا في سنين متلاحقة. فماذا سيحل بعد هذه الحروب إذا انتفضت الشعوب المستعبدة تطالب الدول الكبرى لتفك عنها القيود وتنتزع منها حرياتها؟
 
شرف النضال والعضوية
ضج الرفاق الذين سبقوني إلى دار الرفيق "..... موسى". وقد عقدنا اجتماعا في بيته بمناسبة قبوله عضواً في الحزب. ضجوا بضحك صاخب، بينما كان هو متجهاً إلى القبلة يؤدي صلاة العصر.
فهمت. أذن هم يضحكون منه لأنه يصلي.
لا أيها الرفاق. كفّوا عن هذه السخرية. أنا أرضى أن يظل مصلياً لو انه واصل السير في طريق النضال. ما جدوى أن يطلق الصلاة والنضال معاً!؟ وليست دعوتنا ضد الصلاة أبداً. إننا ندعو كل الناس أن يكونوا صفاً واحداً ضد الاستعمار وأعوانه من أقطاعيين ورأسماليين ورجعيين.
وأنتهي صاحبنا من صلاته. وشاعت على وجهه ابتسامة لطيفة هادئة. وبعد أن حياني، مد يده إلى السماور الذي انتصب فوقه "قوري" الشاي وهم أن يتكلم حول ضحك رفاقه. ولكنه عدل فأدنى إليه كؤوس الشاي يغسلها بالماء الحار. وصب الشاي وراح يقدم لكل كأساً.
باركت للرفيق، وسلمته استمارة العضوية ليملي الفراغات، وراح يتأمل فيها. وكأني أقرأ في قسمات وجهه ما يختلج في صدره. ربما وجد في بعض الأسئلة إحراجا كبيراً. "هل أنت مستعد لتحمل ما يصيبك جراء انتسابك إلى الحزب من تشريد وتعذيب وسجن أو إعدام؟". الجواب على هذا السؤال أشد من جميع ما في الاستمارة إحراجا.
كيف يستطيع إنسان أن يقرر ويحدد موقفه من أمر لم يحن بعد؟ سأتحدث بصراحة عما يمكن أن نلاقيه. الإعدام لا يخيف ذوي العقيدة، الموت في ساحة حرب أيضاً أمر غير مخيف. أنا أيضاً تواردت أسئلة كثيرة على خاطري. وانتهيت أن قلت لنفسي، كل شيء يمكن تحمله، ولكن التعذيب؟!
لدي بعض المعلومات عن التعذيب الوحشي الذي لقيه المناضلون من النازيين في ألمانيا الهتلرية، وغير ألمانيا أيضاً. نفخ البطون بواسطة آلات الهواء المضغوط ثم قفز ذوي وزن ثقيل عليها! الكهربة، بأنواع غريبة من الآلات للرؤوس، للصدور. المشي على أرض مبلطة بالمسامير.
أهون الوسائل الجَلد، وإرغام المناضل على السهر المتواصل. كثير من المناضلين سقطوا بعد أن أنهدت قواهم، ولكن كثيرين أيضاً أدهش صمودهم جلاديهم، وأنهار الجلادون!.
قصة أخويين شيوعيين في زنزانتين من أحد سجون النازية. أنهار الأخ الأكبر، فراح يكلم أخاه الأصغر شفرة بالضرب على الجدار الفاصل بينهما. قال "لم أعد أقوى على المقاومة. سأعترف!". رد عليه "أنت متعب الآن وأنا أيضاً، نم الآن، سأدلي برأيي لك عند الصباح".
بعد ساعة أشار هذا إلى ألحرسي "قل للمحقق لدي اعتراف" وقال للمحقق "لا يمكنني أن أعترف وأخي الأكبر حي. فأنا وحدي أعرف أشياء كثيرة. أما هو فبريء، ولكن نجاتي تكون بمثابة اتهام صريح له. أقتلوه أولاً!".
بعد أن تم إعدام أخيه ضحك ضحكة المنتصر الساخر. وقال "كان أخي هو المسؤول عني ولديه معلومات كثيرة، ولقد مات فافعلوا ما شئتم؟!".
وفي تأريخنا نماذج تبهر العقول في الثبات والصمود.
حجر بن عدي، من أصحاب الأمام علي بن أبي طالب حارب معه في وقعة الجمل وصفين عام 657م ثم لما ولي معاوية أمر المسلمين قتله بعد أن عذبه أبشع تعذيب، قطع ساعديه، دفن نصف جسمه في التراب، وحفر علياءه وأخرج منها لسانه ثم علقه ميتاً على جذع شجرة!. وكثير من معارضي حكم العباسيين، ماتوا حرقاً، أو سملت عيونهم، ولكنهم رضوا بالموت تعذيباً على أن يصبحوا أعواناً للظالمين.
تحدثت كثيراً، وضربت أمثلة كثيرة عن أروع المواقف للمجاهدين والمناضلين، كان رفاقي يشفعون حديثي بأمثلة مماثلة. ولكني واثق إن كلاً منا لا يستطيع أن يتأكد من نفسه ماذا سيكون موقفه. وصحيح إنهم الآن ينطقون عن وعي وأيمان.
أيّ إنسان يكره أن يكون إنسانا واعياً؟ وأيّ إنسان لا يريد أن تنعم البشرية بسلام دائم والى الأبد، وبظل نظام خال من التناحر والحقد والحروب؟ ولكنّ هذا شيء وطاقة التحمل شيء آخر! لماذا؟ لماذا يواجه بعضهم الموت، تحت أشد أساليب التعذيب وحشية ويجبن آخرون من ضربة عصا واحدة؟
قلت إن الموت نهاية كل حي، فلماذا نتشبث للبقاء بخنوع تحت أقدام أعداء الإنسانية؟ ثم يأتينا الموت، ويبقى بعدنا تأريخ لا يرحم عن مدى الخزي الذي اكتسبناه بجريرة الاعتراف وعدد الذين لحقهم أذى اعترافاتنا؟
شاهدنا بعضهم وقد عفي عما تبقى له من مدة سجنه حين أعطى البراءة وطلب العفو والغفران، ولكنه مات بعد مغادرة سجنه بشهرين! كنت أرمق وجوه رفاقي هؤلاء فالمح مسحة من الحزن قد خالطت المرح الذي يصاحب الحديث وكؤوس الشاي.
ثم لما مدت مائدة الحلوى والفواكه وانتهى الحديث فعدنا جميعاً نتبادل الطرف والنكات.

عن التراث
مقال لكاتب -أعتقد بقلم الأستاذ عبد المعين الملوحي- في مجلة الطريق اللبنانية يحث الشباب على مطالعة كتب التراث. ويلوم بشدة أولئك الذين يسمونها كتب صفراء.
الواقع إنها من أكبر الأخطاء، فقد قدموا لنا جهدهم واجتهادهم، وعلينا أن نجد ونجتهد فيما قدموا، فنأخذ باللباب. أعترف إني ممن عزفوا عنها زمناً. ردني عنها ما كنت أجد فيها من أساطير بعيدة عن المعقول والممكن، وفيها ما هو خرافة محض، ولكني بعد ذلك تعلمت أن أميز بين الغث والسمين، وبضوء المادية الكشاف عرفت أسباب ذلك الخلط العجيب في كتب التأريخ والأدب.
الكاتب يلح -وهو على حق- بأننا إذا لم نعِ الماضي، لن نستطيع أن نفهم الحاضر وما يجب أن نرسم من خطة لتحديد أهدافنا لمستقبل حياتنا. وما أجمل المثل الشعبي "الما إلَه أول ما إلَه تالي"
والحضارة القائمة اليوم، هي نتاج أمم مختلفة من عصور مختلفة، توارثتها أمة عن أمة وأضافت إليها. ولن تجد أمةً في العالم -منذ أقدم العصور- قد استقلت في حضارة، ولم تكن لحضارة من أمة سبقتها أثر فيها. يقول شاعر مصر أحمد شوقي:
"أبقراط مثل بن سينا الرئيس      و هومير مثل أبي الطيب"
وكلّهم حجر في البناء.
أجل. كلهم حجر في بناء صرح الحضارة الإنسانية، من وادي الرافدين إلى مصر الفراعنه، إلى الهند والصين، ثم إلى العهود الإسلامية الزاهرة. حتى حملت أمم الغرب الحديث راية الحضارة –بعد الحرب الصليبية- بداية، ثم النهضة الصناعية! ورغم التكالب القائم بين الدول الاستعمارية، أنجزت في مدىً قصير ما يعادله عمر البشرية السالف. ولو قيض لعلماء العصر الحديث أمن وسلام لعمت هذه الأرض خيرات كان الناس يحلمون إنها لن توجد إلا في الفردوس الموعود. لكن أنّى للبشرية ذلك؟ ألم يعدم الأمريكان بالكرسي الكهربائي العالم روزنبرغ  وزوجته! حيث أتهم بأنه أفضى بسر اكتشاف القنبلة الذرية للإتحاد السوفيتي، وكان من علماء ألمانية وقد أخذه الأمريكان خلال احتلال ألمانية. وطردوا العالم أينشتاين من لجنة الطاقة الذرية لأنه رفض وعارض حكم الموت بالكرسي الكهربائي، الذي أنزل على روزنبرغ وزوجته!
الذين كانوا حتى الأمس القريب يؤمنون أن الأرض تقف على قرن ثور. وان الكسوف والخسوف لهما تأثيرات سيئة يتقونها بالصلاة والتكبير. وأتذكر نحن الصغار كنا بحَثٍ من أهلنا نضرب بالعصي على آنية النحاس أو الطبول لتهرب الآفة فلا تبتلع القمر!. ونهزج:
يا حــوته البـــلاعة      هدي گمرنه بساعة
وان جان ما تهدينه      ادگلـــج بـصــــينية
انتبهوا اليوم لما أبدعه العلم الحديث من منجزات لخدمة الإنسانية. لكن المتشدقين ظلوا يهزءون ويقولون أن هذا أخذوه عنا!؟ حسناً، ولماذا لم ترثوه أنتم!؟ وتأتوا بأبدع وأعجب وأنفع!؟
لا بأس أبقوا وعاظاً، شرط أن تنبهوا الناس من غفلتهم عن حكامهم المستبدين، وأثريائهم المحتكرين، أن يهبوا بوجه مشعلي الحروب، ومهددي الأمن والسلام بالقوى النووية. أبداً، هذا بعيد عنهم، سيوظفون أنفسهم لخدمة من يدفع لهم ثمناً أكبر.
دعوت رفاقي الذين يعدون أنفسهم ضمن قافلة المناضلين، أن ينموا معلوماتهم ويطهروها. وان يهتموا بالتراث، فلا يهملوا حتى الأساطير. إنها كنوز رائعة وثمينة. أغلبها هادف، وقد صيغ بأسلوب الرمز والخيال. الغرب ترجم ألف ليلة وليلة، هي ليست حكايات للتسلية حسب، ولا للسهرات، وأرسل إلينا عنها أفلاماً سينمائية.
حتى تلك الكراريس الصغيرة مثل "بئر ذات العلم" لا تخلو من غرض في نفس صاحبها، أو الفئة التي ينتمي إليها.
نفائس الكتب الخطية، احتواها علماء الغرب، ومالنا نحن إلا أن نرفع رؤوسنا بغطرسة. قائلين: "إنهم أخذوا عنا فنحن أهل الفخر!". أجل أخذوا عنا وأعطونا ما لم يأخذوه عنا! [عصر العلم هذا محا العفاريت، التي تتشكل بكل شكل حتى الكلب والخنزير، وها هو الإنسان يصعد إلى القمر، ويرسل سفنه الكونية إلى الكواكب، ولم يلتق بالملائكة الذين يتشكلون بكل شكل إلا الكلب والخنزير؟! ولا بالجن الذي يصعد ليسترق السمع؟!/علي الشبيبي. كربلاء 1985]
إننا مقبلون على نهضة فكرية، تزيح الظلام الذي خيم علينا قروناً، ولكن إذا ما أخطأنا فلم نسلك الدرب اللاحب، ولم نُزِل الأصنام فإنا سنعود عبيداً وإن ظهرنا بمظاهر المترفين.

يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏‏29‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com


138
المنبر الحر / الدرب الطويل/ 5
« في: 20:12 25/11/2010  »
2- الدرب الطويل/ 5
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)



بدايات تبشر بالنهايات
إني أتفاءل. كل حدث جديد يبشر إن ميزان الحرب بدأت كفته تشير إن هزيمة الفاشية باتت أكيدة، قريبة جداً أو بعيدة قليلاً. حتى أنا نفسي شملني شيء من هذه التغيرات. فقد صدر أمر ترفيعي. وأعتزل مسؤول اللجنة المحلية "المعلم إسماعيل ألجواهري"  العمل بحجة إن صحته لا تساعده على تحمل المسؤولية. وقد كان شاباً ذا ثقافة عالية، ويتصف بالتعقل والهدوء ومرحاً حاضر النكتة، واختارني خلفاً له.
وتوالت الأنباء في محطات الإذاعات العالمية، والصحف تذيع ما يبشر بالنصر على الفاشية. فجنرالات الألمان حاولوا قذف مقر هتلر بقنابل يدوية، ولم يفلحوا فاعدموا. وتم أنزال القوات الأمريكية والبريطانية والبولونية جنوب فرنسا بقوات مظلية هائلة، ولم يلاقوا مقاومة. وثار فنسيوفيشي على الألمان. وانسحبت رومانيا من الحرب ضد السوفيت، وقبلت شروط الصلح، التي من ضمنها إعلان الحرب على ألمانيا.
والمجر أيضاً انسحبت من الحرب. وبدأت المحادثات بين تشرشل وستالين وسفير أمريكة عن عدة قضايا "بولونيا والبلقان". وانتهت المحادثات في موسكو باتفاق تام. وكانت الرجعية عندنا تتوقع فشل المحادثات وتوسع الخلاف.
في ظروف الحرب هذه يعاني الكادحون والعاطلون وصغار الموظفون مصاعب. فدخول الكادحين، وصغار الموظفين لا تفي بأقل ما يلزم للعيش الضروري، الذين يشتغلون بالوظائف الإدارية كثير منهم وجد له طريقا يسعف به نفسه وان كانت تلك الطرق قد تسبب البلاء. بينما لجأ بعض المعلمين بعد الدوام للبيع والشراء. أما الذين لا قدرة لهم على شيء من ذلك أمثالي –وهم كثيرون- فقد يستبشرون بالترفيع وهو ليس أكثر من دينارين.
وفيما نحن في غمرة العمل، نتدارس مابين أيدينا من النظام الداخلي والمنهاج لحزب الشعب، بمرح ونشاط وكأننا لم نعان مصاعب العيش وأعباء تكاليف العائلة، وتربية أطفالنا، وما تقتضيه الوظيفة من واجبات والتزامات، نسمع إن صاحب جريدة "طريق الشعب" قد أنسحب من حزب الشعب وانفرد بالجريدة، بعد عودته من لندن! طريق الشعب صدرت بتأريخ 3/8/1944، باسم صاحبها المحامي يحيى قاسم. لكنها كانت في الواقع معدة لتكون الجريدة الناطقة باسم "حزب الشعب". ويحيى قاسم أحد الذين وقعوا طلب تأسيس الحزب. وقد دعي مع بعض الصحفيين إلى لندن وحين أجيز الحزب رفض تحويل الجريدة باسم الحزب كما انسحب. قالوا إنها خمرة لندن؟!
مازلت أحلم، وأنا بين الفخر الذي يدفعني باعتزاز إلى المزيد من النشاط. وبين الخوف أحياناً، كيف أخذت بعد حضوري كونفرنس الحزب الأول، الذي انعقد في آذار 1944 أمارس كثير من الأعمال دون تعب ودون تفكير بالخوف. فكثير ما أعود من بغداد حاملاً رزمة كبيرة من نسخ الجريدة والبيانات التي يصدرها الحزب. أجل مازلت أحلم وأشعر بنشوة لذيذة جداً حين حضرت لأول مرة اجتماعا محرماً في نظر الحكم القائم، ولو داهمتنا فيه شرطة التحقيقات لانتهى أمري إلى زاوية في سجن حقير!
أنعقد الكونفرنس في دار سائق القاطرة علي شكر، أحد عمال السكك في محلة الشيخ عمر، وكنا نتناوب الحراسة خلف الباب من الداخل، ويستضئ المجتمعون بضوء خافت. وألقى فهد تقريراً تناول الوضع الداخلي والنفوذ الأجنبي، وموقف الحكومة العدائي من القوى التقدمية. وذكر مطالب الشعب، إنهاء الحرب بالنصر على جيوش العدوان الفاشي، تحقيق الاستقلال، والتخفيف من الضائقة الاقتصادية وجشع المحتكرين. 
عام جديد
نهاية عام 1944 كانت النذير والبشير. نذيراً لقطعان النازية بالهزيمة المنكرة، وبشيراً لانتهاء هذه الحرب التي كانت آفة ابتلعت أعمار الشباب، وزلزال مرعبة انهارت فيها ألوف المساكن، وقبر تحت أنقاضها ساكنوها الأبرياء من شيوخ ونساء وأطفال. وما يدرينا لعلها في الختام تميت في اللحظات الأخيرة أضعاف ما أماتت  في ميادينها، وتهدم من المساكن وتمحو ساكنيها معها، وكأن إله الحرب يشعر بالاختناق، فيقوم بهجمته الأخيرة انتقاما من البشرية التي ترقب يوم النصر والسلام. أحقاً إن يوم النصر قريب؟! وإذا رفرفت راية النصر، هل سيلف الكرة الأرضية سلام وأمن دائم!؟
لا أعتقد! ولا أعتقد إن أحداً من الناس بعد الفجائع والكوارث التي حلت بالعالم، ظل يؤمن أننا سننعم بسلام وأمن دائمين والى الأبد. لن يكن هذا مادامت على الأرض عروش، وحكومات هي في حقيقتها آلات طوع أطماع الرأسماليين. الرأسمالية هذا الغول الوحش الذي ولد الاستعمار. ألم تنفجر الحرب لأن ألمانيا الهتلرية ترى نفسها أولى باستعباد العالم حسب قوانين النازية ونظرية الدم الجرماني الأزرق النقي، وطبقاً لمواصفات فيلسوفها نيتشه، وان كان الواقع إن هذه الادعاءات مبررات ومحض أخلاق، إنها أطماع أرباب الرأسمال. والذين حين هبوا لصد عدوان ألمانيا إنما كانوا يدافعون عن مصالحهم في الأمم التي استعمروها، وسيطروا على كل مواردها وخيراتها.
هؤلاء المدعون إنهم يصدون عدواً شرساً للبشرية جمعاء. متى عرفناهم؟ أليس في حرب أيضاً؟ حين انفجرت عام 1914 ليقتسموا ممتلكات الرجل المريض "الإمبراطورية العثمانية". لقد داهموا بلادنا ليطردوا الرجل المريض، ولكنهم رفضوا الخروج وأبوا إلا أن يحلوا محله، فكانوا في الحقيقة فاتحين لا محررين.  وهم كاستعماريين اعتمدوا على جواسيسهم من ذوي الدراية الذين كانوا أيضاً على قدر كبير من العبقرية والدرجة العلمية، أمثال لورنس وفيليبي.
لورنس وفيليبي جاسوسان بريطانيان، كان لورنس يدعى الملك غير المتوج. وقد لعب دوراً هاماً في البلاد العربية من أجل القضاء على حكم العثمانيين فيها، فكان يبدو كصديق لفيصل الأول، لكنه حقق مطامح بريطانية بالنتيجة، لا من أجل الشريف حسين وأبناؤه، الذين أكتفوا أن ينعم عليهم الإنكليز بعرش العراق، وأمارة الأردن، ووزعوا هم البلاد العربية بينهم وبين فرنسا. ومات أبوهم في منفاه في قبرص.
استطاعا " لورنس وفيليبي" أن يحولا شيوخ القبائل إلى أصدقاء مخلصين، بعد أن عرفوهم في ثورة العشرين مقاومين أشداء. ثم بحكم سيطرتهم على بلادنا خلف واجهة أسمها "الحكم الوطني" قدموا لأولئك الذين كان أسمهم مجاهدين ومدافعين عن الوطن والدين وتحت راية المجتهدين من رجال الدين، قدموا لهم الأرض التي كانت تجمعهم بأفراد القبيلة  أخوة يتقاسمون الخير والشر، وطمأنوهم على ما غنموه فيما شرعوا من قوانين منحتهم امتيازات تحمي مصالحهم وترفع مكانتهم، فتحول إخوانهم بالأمس إلى أقنان، وخدم، وفدائيين، وتبدلت أخلاقهم الإسلامية والعربية النبيلة.
هجروا مضايفهم في الأرياف ، وألفوا العيش في بغداد، للسهر مع المبتذلات، وموائد القمار، وقرع الكؤوس، ومع ذلك فان كل ما يصل لأيديهم من مال من حاصل المزارع، كأنما يتبخر، فيسارعون إلى تجار الحبوب ليستلفوا منهم بما يسمى "على الأخضر". وكان هذا الأسلوب من الربا كالمستنقع لا يرفع الساقط فيه رجلاً حتى تغوص الثانية فيه إلى الأعمق.
كانوا يتملقون رجال الحكم الذين يتداولون رئاسة الوزارات. ولعل انقسامهم كتلاً، كل كتلة وراء رئيس كان من عمل الإنكليز وخططهم. وقد ادخروهم ليوم يحتاجونهم لأشغال الناس بالانتفاضات التي يثيرونها ليسقطوا وزارة ويأتوا بأخرى، وليمت العشرات من الفلاحين الذين يدفعون بهم في تلك المغامرات، أو في النزاع على حدود أراضيهم الزراعية، أو مياه السقي.
حتى المدارس الابتدائية، كانوا لا يطالبون بفتحها في قراهم إلا إذا كان لهم ولإخوانهم وسراكيلهم عدد من الأولاد، أما إذا كان العدد قليلاً فإنهم يرسلونهم إلى المدن القريبة، وإذا أنتفت حاجتهم إلى وجود المدرسة أغلقوها. ونصيب أبناء الفلاحين من التعليم ضئيل لأنه طبقاً لرغبة رئيس القرية، من جهة ولأن آباءهم لا يقدرون على كفاية أبنائهم بما تتطلبه المدرسة من لوازمها من كتب ودفاتر وملبس من جهة ثانية، ولأنهم أيضاً يستخدمونهم كمساعدين في الأعمال الزراعية ورعي الحيوانات.
إلى هذا يشير شاعرنا الكبير محمد مهدي ألجواهري. بقوله:
وكانت طباع في العشائر ترتجى      لقد بدلت حتى طبــاع العشـــــائر
ليس هذا حسب، فان سكان المدن أيضاً، الذين شاركوا في ثورة العشرين أنحاز أغلبهم إلى العهد الملكي وتوزعوا وراء القيادات الرجعية، خلف نوري السعيد وصالح جبر. والأحزاب التي في حقيقتها برجوازية رغم شعورها الوطني، واتجاهها القومي فإنها طالما تنخدع، وتتخاذل، فتساهم في التشكيلات الوزارية مع عميل الاستعمار الأكبر نوري السعيد، أو تجمد نشاطها حين تشتد ضربات الحكم الملكي ضد الفئات التقدمية والجماهير المؤيدة لنداءاتها. وقد تطلق أحياناً تصريحات ضد الحزب الشيوعي ، وكأنها لا تعلم إن ذلك مساندة لمرامي الاستعمار، إن اضطهاد الشيوعيين والدعوة ضد الشيوعية في مقصد الاستعمار طريق للقضاء على كل العناصر الوطنية التي تكره الاستعمار، وتعمل على إسقاط الحكم الملكي باعتباره ركيزة الاستعمار حالياً.
كثير من هذه التصريحات صدر عن بعض الشخصيات السياسية، ولكنها تعاونت معه بعد هذا. من هؤلاء، محمد مهدي كبه. إذ قدم مذكرة إلى نوري السعيد شاجباً تدابير الإرهاب، لأن الشيوعية تنمو في أجواء الاضطهاد والفوضى، إنها عقيدة يجب أن تقاوم بعقيدة، ونظام اقتصادي يجب أن تقاوم بنظام اقتصادي مثله، وتنظيم يجب أن تقاوم بتنظيم، وأقترح ميثاقاً كانت المادة 7 منه مكافحة الشيوعية!   
في مدينتي هنا، تناسى كثير من زعماء البلد جهادهم بالأمس ضد الإنكليز، وأتبعوا خطوات الشيطان "نوري السعيد". فقد كان معظم رؤساء أطراف النجف ووجهائه من التجار والموسرين إلى جانبه، بينما كان بعض رجال الدين ممن كان مشاركاً في ثورة العشرين يساند الهاشمي، وفي الحقيقة مساند للحكم الملكي. وقد كان نوري يجد منهم أخلاصاً حتى انه كان أثناء جولات رجالات حزب جعفر أبي ألتمن والديمقراطي الوطني، لحث مواطني النجف من مؤيديهم وتوعيتهم بالتزام النهج التحرري للقضايا الوطنية، جاء متخفياً يترصد حركاتهم، ويحشد أعوانه وأتباعه لجلب أخبارهم وتخذيل المواطنين عن سماع ما يقولون. وقد أقام في دار الوجيه الثري المعروف محسن شلاش.
وبعض رجال الدين أيضاً شاركوا أولئك ولكن بأسلوب وسطي، ثم بعض الشباب الذي أنحدر من الطبقات المعدمة لم يتخلف عن مماشات ركب العملاء وبذا توصل إلى المناصب العليا في الدولة. فقد قيل، إن عدد الذين استوزروا من الشباب بعد أن كانوا موظفين بلغ عددهم من أول وصاية عبد الإله إلى حين تولي الملك فيصل الثاني السلطة 51 وزيراً جديداً في 25 وزارة. فلا يكون إذن عجب وغرابة إذا أنظم أبناء الأرستقراطيين قبل أولئك، رغم إن آباءهم بدوافع دينية قد قاوموا الاستعماريين الكفرة -كما كانوا يعبرون-. وكيفما يكون من أمر فان ما بعد الحرب لن يكون حلاً لمشاكلنا، بل ربما تعقدت أكثر فأكثر.
لقد تفاءل البعض حين سمع بإلغاء "جمعية أخوان الحرية". ولعل البعض أحسن الظن بالإنكليز لهذا الحدث، ناسياً إن الحركة الوطنية كانت لا تكف إعلان سخطها عليها، وفضح غاياتها  الاستعمارية، وحث الناس على محاربتها. ولن يعجز الإنكليز أن يبتكروا مختلف الوسائل التي تمكنهم من بث سمومهم لهدم قيمنا، وأبعاد جماهير شعبنا عن النهج اللاحب لنيل الاستقلال وتحقيق السيادة الوطنية.
وجمعية أخوان الحرية أسستها عام 1941 الانكليزية فرياستارك وألغيت عام 1945، لتوجه بها الشباب من شاغلي الوظائف ورجال الدوائر على نهج الاستعمار، والقضاء على الشعور الوطني فيهم. وبالمناسبة، كان لنا صديق وطيد الصلة بنا، ذكي ونشيط كان مديراً لثانوية في النجف التي اشتهرت بوطنية طلابها وحماسهم الشديد ضد الاستعمار. دخل هذا الشاب في هذه الجمعية التي يبدو إن المراجع العليا كانت تأمرهم بالدخول بها، فكتب إليه شقيقي "الشهيد حسين" رسالة موجزة بمناسبة زواجه، قال فيها: "أرجو أن يكون لك منها -من زوجته- أبناء للحرية لا أخوان الحرية؟!". وفي الحلة حصل تنافس شديد لحيازة ثقة رئيس الجمعية بين مدير معارف الحلة محمد حسن سلمان وقاضي شرع الحلة ألنجفي؟.
إن ركب الحرية يسير دون أن يبخل بتقديم الضحايا. وكما سيندحر هتلر في القريب العاجل، سيندحر الآخرون لأن دماء الشهداء صواعق محرقة، وزلازل مدمرة، هكذا هي منذ أنقسم الناس إلى أحرار وعبيد، إلى أقوياء ومستضعفين، إلى مستغِلين ومستغَلين.

يوم النصر
العالم كله مندهش للبطولات التي تبديها شعوب الاتحاد السوفيتي في حربها ضد قطعان النازية. شعوب الإتحاد السوفيتي رجالاً ونساءً وأطفالاً يسندون الجيش. كل بلد يحتله الألمان لن يجدوا فيه الراحة والاستقرار، وليست فرق الأنصار وحدها تقوم بإقلاق المحتلين. هناك حتى الشيوخ والعجائز والأطفال قاموا بأعمال رائعة ضدهم. وأبرز المعارك تجلت في لينينغراد، وستالينغراد، سواستبول وروستوف. صمدت لينينغراد بوجه الغزاة عاماً كاملاً، وأحتل الغزاة ثلاثة أرباع مدينة ستاليغراد بعد أن أصبحت بناياتها أنقاضاً. وكان يجري تبادل احتلال البيت الواحد منها عدة مرات بين المهاجمين الغزاة والمدافعين السوفيت. وأحياناً يقاتل أحدهم في طابق والآخر في الطابق الثاني. ذلك لأن ستالين جاء إلى المقاتلين وقال كلمته المختصرة الشهيرة: "أيها المواطنون الوطن في خطر! ليدافع كل منكم حيث هو ولا يتراجع!" بينما قام "تيموشنكو" بحركته الالتفافية بما سميت "الكماشة" حول الجيوش التي كانت بقيادة الجنرال  الألماني "باولس"، ولم تلاق جيوش هتلر قبل هذا، أمام أي جيش آخر من الشعوب التي غزتها تلك الجيوش، كالمقاومة التي عانتها من الجيش الأحمر والشعوب السوفيتية. لقد صورت أحدى الصحف ميدان الحرب في ستالينغراد  آفة فتحت فمها وجحافل الجيوش النازية تغوص في أعماقه بانخذال ووجوم!
أستبسل الجيش الأحمر دفاعاً عن ستالينغراد  حين أستمع إلى كلمة ستالين. ولكن هتلر أجاب بولس حين أرسل إليه هذا "أن لا فائدة من أي هجوم، لقد أفنت حرب ستالينغراد حتى الآن 600 إلف جندي!" أجابه "إن أي جندي يستسلم سوف تعدم عائلته كلها!". فما كان من الجنرال بولس إلا أن أعلن لقائد حرب الدفاع عن ستالينغراد انه يطلب أن "يستسلم كجندي شريف لجندي شريف!". وهذا هو الفرق بين من يدافع عن بلاده والنظام الذي حققه لكل مواطن العيش الكريم، والشعور بإنسانيته، وبين الجندي الذي يساق إلى حرب لا ناقة له فيها ولا جمل، يراد منه أن يموت ليعيش "كروب" وأمثاله من آلهة المال وأصحاب المصانع الكبرى.
هزت أنباء الحرب الدائرة في ستالينغراد وسواستبول العالم كله، فأرسل شاعرنا ألجواهري قصيدتيه الرائعتين في هاتين المدينتين كان مطلع الأولى حول ستالينغراد:
نضت الروح فهزتها لـواءا      وكسته واكتست منه الدماء
ومطلع الثانية: يا سواستبول سلام       لا ينــل مجـدك ذام
ومات روزفلت في 13/4/1945 قبل أن يرى النصر. وأشيع نبأ القبض على فون بان في 18/4 وهاجم زوكوف برلين في 19/4 وطلب هملر التسليم في 28/4 وأعدم الثوار الايطاليون موسليني في 28/4  ومن المعروف إن الذين قبضوا على موسليني هم عمال ميلانو الشيوعيون.
ويبدو إن قادة النازية شعروا أو عرفوا ماذا سيكون المصير، فأرسلو "فون بان" الذي أشيع انه القي عليه القبض، ربما ليتفاوض مع الحلفاء دون الإتحاد السوفيتي، ولكن زوكوف عبر بدباباته نهر الأودر وهاجم برلين بعد أن مهدت له المدافع والطائرات بالقصف الرهيب المدمر، ولم يعد ممكناً للفوهرر أن يخطب هذه المرة فوق المدفع؟!.
وتتوالى الأنباء تعلن "هملر طلب التسليم دون قيد أو شرط ولكن للحلفاء فقط!". هذا أمر غير مستغرب. إنهم إليه أقرب. كلا الأخوين أصحاب مدرسة في الاستعباد والاستغلال!؟.
حسناً، لينتظر الفوهرر، فيشهد إذا أستطاع النهاية، إنها قريبة. فالأنباء أعلنت إن ركن المحور الثاني "موسليني" قد أعدمه الثوار الايطاليون مع سبعة عشر فاشياً بالرصاص!؟
إنها فواجع تتابع، استهدفت الفوهرر، لذا أعلن عن موته، فخلفه الأميرال دونيتز، ليشهد نهاية مجد النازية وهو يتهاوى في برلين. أين هتلر وقد رأى كيف ارتدت الدبابات التي كتب على صدورها "من برلين إلى موسكو" ليرى اليوم كيف انتهت برلين حين اقتحمتها دبابات كتب عليها "من موسكو إلى برلين".
كان موسليني، وايطاليا تحت سطوته عبئاً على كاهل هتلر، ولقد شهد اليوم الأول من أيار موته، فشهد اليوم الثاني منه استسلام القوات الألمانية التي تقاتل في ايطاليا دفاعاً عنها دون قيد أو شرط. وسقطت برلين، ورفع الجيش الأحمر راية النصر على مبنى الرايخشتاغ ...
أعلن عن موت هتلر في 1/5/1945 وقد ظهرت إشاعة بأنه انتحر حين أخذت مدافع الجيش الأحمر تدك معاقل برلين، وقد انتحرت معه عشيقته "أيفا براون" أيضاً ويقال انه أوصى أن يحرق جثمانه، ثم ظهرت إشاعات حول نهايته بلا حصر.
وسقطت برلين في 2/5 ورفع الجيش الأحمر راية النصر على الرايخشتاغ، وفي 7/5 استسلمت ألمانيا كلها وأعلن يوم النصر في 9/5، وكان هذا متوقعاً لكل من تتبع الأنباء. وإني لأتذكر إني وزملائي كنا نستمع إلى الأنباء التي أعلنت في 28/4 إن هملر طلب التسليم للحلفاء فقط دون قيد أو شرط. إني راهنت زملائي إن الحرب ستنتهي بعد عشرة أيام. وما كان أمراً غريباً فكل شيء يشير إلى ذلك.

يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏‏25‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 



139

2- الدرب الطويل/ 4
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)



الحاضر والمستقبل
في الشهر الرابع من هذا العام 1943 في أوله ولد لي أول ابنة ، أن فرحي بها لعظيم، ومع ذلك ليتها كانت الخاتمة. كانت ثالث مولود لي، سميتها "أحلام" إذ كنا إذ ذاك نعيش بأحلام نحلم بها بانتهاء الحرب وعودة، السلام والرخاء والحريات وتبدل الحياة إلى الأحسن والأفضل. فليس بمقدور موظف صغير مثلي أن ينهض بعبئ عائلة أكثر مما لدي. نحن لاشك مقبلون على متاعب يمكن لمن يفكر أن يتصورها. أسعار مواد العيش سترتفع أكثر وأكثر، ليس هذا فقط، ستشح أو على الأصح ستختفي. منذ مدة نظمت تنظيماً بدائياً بطاقات للحصول على الشاي والسكر، والشائع إن الحكومة تعمل لتنظيم أمور التموين، الرز، الحنطة، القماش، الشاي والسكر.
وتبقى مسألة السكن. لعلهم يعتقدون إن هذه مسألة ليست مهمة. هذا البيت الذي أسكنه حالياً، تحولت إليه منذ أكثر من سنه، فقد نشب بيني وبين مالكه نزاع منذ عدة شهور، انه يطلب إخلاء الدار. لاشك انه كأي إنسان يسعى للثراء. لا يعف ولا يتردد إن وجد السبيل إلى ذلك مشروعاً أو غير مشروع. بدل الإيجار كان ثمانمائة فلس، فزدته وصار ديناراً، وهدأ شهرين، ثم عاد يلح بوجوب الإخلاء. ملاكوا الدور كلهم يفكرون برفع بدل الإيجار، ولكن لم يجرأوا لحد الآن على رفعها بشكل قفزة.
إنني أبحث عن بيت، فان بيت المالك مجاور لي، وكان لهذا السبب دائماً مصدر قلق وإزعاج لنا. عائلته، زوجه وأطفاله، يتلصصون من شرفة منزلهم على منزلنا دائماً. زوجه تسأل عن كل من يزورنا. يتحرون أثناء زياراتهم المتكررة، بحكم الجوار، لمظهر الدار في الداخل، هذا المسمار لا يصح أن يدق على هذا الجدار؟! أنكم تبذرون باستعمال الماء؟ أرموا ماء الغسيل في الشارع لا في البالوعة!. إلى كثير من أمثال هذه التحرشات. وعدت وأهلي بعد الغروب مرة، فوجدت مدخل المفتاح قد سُدّ بخشبة! وصرح أمام من طلبتهم من وجوه الجيران "لن يُفتح الباب حتى أرمي بأثاثه من السطح إلى الشارع!".
حينئذ رفعت الأمر إلى الشرطة. استجابت فأوقفته حتى الصباح، وعندما راجعتهم صباحاً، أرسلوا أثنين من الشرطة والمختار ونجاراً على حسابه لفتح الباب. فصار يصرخ أمام المراجعين والشرطة: "تريدون مساعدة الشيوعية –يقصد الشيوعيين- على سلب بيوتنا وأموالنا؟". انه صائغ وترى الجشع في عينيه، وملامح وجهه، ونبرات صوته.
ما الذي ينتظرنا في مستقبل الأيام، لم ندخر من أمسنا شيئاً للحاضر الذي بدأنا نحس بالضائقة فيه، فقد اضطررت لبيع قرطي زوجتي وخاتمها وساعتها، وخمارها! فماذا نصنع غداً؟ إن كل ما حدث ويحدث، الحرب وويلاتها وخراب المدن، سفك الدماء، إزهاق الأرواح، كل ذلك من أجل أن يظل الرأسماليون مسيطرون وممعنين في استغلال الشعوب. وتثور الحروب فيما بينهم ليفرض الأقوى منهم استعماره للشعوب الضعيفة.
خيرات بلادي كانت تفيض عن الحاجة. فكانت تصدر الحنطة والشعير إلى البلدان الأخرى. ولكننا اليوم، والجيوش البريطانية ترابط في أنحاء شتى منها، صرنا نأكل الخبز الأسود والرز المخمور التالف. ونلبس أردأ الأقمشة. وزج بخيرة شبابنا الواعي في المعتقلات والسجون. ماذا يهم المسؤولين من أمرهم لو عانى ذووهم، آباؤهم وأمهاتهم ، وزوجاتهم وأطفالهم مرارة الجوع والحرمان.
نحن نعاني ما نعاني من قلق وحرمان، و" گرملي" يتجول في قرى العمارة، يقيم له رجال الإقطاع الولائم ببذخ وتبذير، وحفلات الرقص. گرملي هذا أحد الجواسيس البريطانيين بزي عسكري مسؤول. كان يتجول في أنحاء العمارة، فتقام له الحفلات والمآدب، فيرتدي أثناءها الزي العربي "كوفية وعقال" وثوب طويل ذي أردان طويلة، ويقدم لأتباع شيوخ الإقطاع من فلاحين وخدم الخمرة، ويقف بين المحتفلين مع الراقصة ويطلب أن يردد المشاركون بهذه اللازمة، وهي في غاية البذاءة وعذراً لتسجيلها هنا، هو ينشد: "هِلستي لو بَعَدَه؟" ويرد عليه الآخرون: "سَويته لك مسطاحه!". يريد بهذا أن تشيع بين صفوف الفلاحين السفالة وينحدروا عن أخلاقهم التقليدية إلى درك الفحش والاستهتار، فتنعدم فيهم الرجولة والنخوة العربية، ويجد عند هذا من يستغله للتجسس.
ويذكر أن في جهة أخرى انكليزي آخر من نمط گرملي يدعى "بركي". الواقع إن أمورنا كلها أصبحت تحت سلطة البريطانيين، المفتشون الإداريون إنكليز، والمشاورون في كل وزارة ودائرة ومقاليد الشؤون العسكرية أيضاً إنكليز. لا بأس، هذا كله من أجل أن يدحر الحلفاء أخطر عدو للبشرية جمعاء، النازية. الغول الأشد شراسة ونهماً. ولكن هل تنتهي أمورنا إلى خير؟.
والتقيت بأخي في بغداد، جرت بيننا أحاديث عن استقرار العائلة برعايته، عن حياته كمعلم، ومتصرف اللواء الوطني المعروف سعد صالح، ومدير معارفه السيد ناجي يوسف، كلاهما من أبناء بلدتنا، وكلاهما من معارفنا.
تبسم وقال: "إفهم الأمور حسب المقاييس التي تعرفت عليها حديثاً، وراء الأكمة من وراءها؟!". قلت: "أعرف. أعرف ..."
وتطرق إلى شؤون الحركة، وقال: "الحكومة لا تنظم ملاكها فقط، فقد نظمت ملاكنا أيضاً. فقد صادف نقلي إلى العمارة بعد نقل مسؤول  تنظيمنا إلى السليمانية". ضحكنا للنكتة الرائعة. نقل أخي إلى العمارة في مركز اللواء، بينما نقل منها الأستاذ نعيم بدوي. وبالطبع أنا لم أستفسر منه عن حقيقة الرجل ومكانه في الحركة فهذا في أصولنا غير صحيح.  ثم أستمر يحدثنا عن نشاط الرفاق هناك بين صفوف الفلاحين "الحركة هنا تتسع، والوعي ينتشر بين الفلاحين".
هذا طبيعي، فوضع الإقطاع في لوائي العمارة والكوت، واستغلالهم البشع للفلاحين، واستبدادهم بحياتهم بأقصى درجات الاستغلال والاستبداد، يستدعي أن يتنبه الفلاحون من سباتهم. ومع ذلك فليس الأمر على حال يجعلنا نتفاءل تماماً. العبء ثقيل، والمسيرة طويلة وشاقة، وبيد الخصوم كل السلاح.
   
الخبز والمنصب/1
فوجئت برسول من أبي يطلب مواجهتي. وأسرعت، أمرني "أن أسرع بالسفر إلى بغداد لمقابلة أخي بعد أن أتعرف في أي معتقل هو!؟".
إن برقية وردت من العمارة، بتأريخ 9/6/1943، باسم أمي "أخذ حسين مخفوراً إلى بغداد". قبل حسين كان داود الصائغ قد أعتقل، لعل جلب أخي مخفوراً له علاقة به. وعلمت من رفيقه حازم انه موجود في موقف شرطة العبخانة. "حازم" الاسم الحركي للشهيد الخالد زكي محمد بسيم عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، وقد أعدم في 14 شباط 1949. في طريقي إليه التقيت بمفوض شرطة "علي الشيخ يوسف" أعرفه، وهو من عائلة نجفية تدعى الوائلي، والده كان من أبرار الروحانيين. أرشدني المفوض إلى كيفية الوصول إليه. نقدت الشرطي الحارس مئة فلس، فسمح لي بالاتصال به من نافذة غرفة الموقف. كانت مظلمة حتى إني لم أتبين فيها أحد غير أخي وشاباً آخر لا أعرفه، وقد دس هذا بيدي ورقة خفيفة جداً، بعد السلام عليه طلب إليّ "أن أسرع بجلب الجواب على ما في الوريقة وبعض الطعام".
عدت ثانية إلى زكي محمد بسيم "حازم" حيث يعمل موظفاً في دائرة مشروع إسالة الماء قرب وزارة الدفاع. كنت حاولت قبل الوصول إليه أن أعرف محتوى الوريقة لأخذ حذري، وربما اضطراري لأتلافها. لم تزد على كلمتين: "إفادة داود!" كتبت حروفها بحروق من نار السيجارة. لذا لم أفهم شيئاً إلا بعد أن وضعتها على ورقة بيضاء.
وكتب حازم الجواب بوريقة جد خفيفة وجد صغيرة، لفّها لفّاً محكماً. واشتريت من مطعم قريب للمخفر، رز ومرق ونصف دجاجة، ودسست الوريقة ملفوفة بشريط خفيف في الرز. مئة فلس أخرى للشرطي الحارس. قدمت الطعام وهمست في أذنه "دير بالك على الرز لتطشره!"
واجهت بعض وجهاء الأقارب ليوصوا بي معاون شرطة التحقيقات الجنائية لأقوم بمعاملة إطلاق سراحه بكفالة. لقيت عناء في مواجهة هذا المعاون رفض أن أكون أنا الكفيل، طلب أن يكون نفس وسيطي إليه. كان وسيطي التاجر الوجيه  جعفر الشبيبي، ابن عم أبي وهو شقيق العلامة الشيخ محمد رضا الشبيبي. تركته وعدت إليه بعد قليل، وقلت: "اتصلت تلفونياً بالبيت واُجبت انه نائم، هل ترى أن أستدعيه باسمكم؟". فصرخ بوجهي: "تريد سولي وياه مشكلة؟". ضحكت في نفسي، هذا تدبير لم أعلم بأهميته لديه.
أحالني إلى حاكم التحقيق، الموجود في إحدى غرف المديرية. وهو شخصية معروفة "توفيق الفكيكي" كان من رجال القضاء المشهورين وله مؤلفات، عمل مدة في النجف، فكانت له علاقات في الأوساط الدينية والأدبية، وتمت له علاقة مع أبي وأخي وكانت بينهم زيارات.
بعد مطالعة الطلب قال لي بلهجة المتألم، وكانت أساريره منقبضة أيضاً "هل واجهته؟". قلت: نعم. وقع على الطلب بالموافقة. وعدت مسرعاً والبهجة تغمرني لأقدم الموافقة على أطلاق سراحه. كان هذا في اليوم التالي لمواجهتي له.
لم أستطع البقاء مدة أكثر، وحاولت معرفة أسباب جلبه مخفوراً وتوقيفه. فردّ عليّ "الأحسن ألا تعرف!"، وقال "سأعود إلى العمارة غداً، أبلغ الوالد تحياتي".
في نهاية آب 1943 علمت انه أبلغ بالنقل إلى ناحية المشرح ولكنه رفض. واجه مدير المعارف "ناجي يوسف" يعلمه الرفض بإصرار وأسمعه كلاماً لم يتوقعه، ورغم انفعال المدير مما سمعه، فانه أجابه كمعتذر ومنذر بنفس الوقت وأجابه "أنا لا أضحي بخبزتي وخبز أطفالي من أجلك!". خاطبه حسين بلهجة مرة "لا أعتقد انك ترى عائلتي أوطأ من منزلة عائلتك، فتفرض علي أن تعيش في مثل المشرح ولعائلتك أن تعيش في مركز اللواء. أنا أرفض وافعل ما شئت ..."
بعد أربعة شهور من صدور أمر النقل، استلمت برقية، يرجو "أن أتوجه  لإعادة العائلة إلى النجف". كان هذا في 16/12/1943 حيث أنقطع هو عن الدوام بدون تقديم استقالته، وترك العائلة خلال هذه المدة برعاية أخينا محمد علي، وكان يشتغل في دائرة ري العمارة. وتوجهت بالقطار إلى البصرة لأواصل السفر إلى العمارة. ولاح صديقي "مهدي هاشم" تعرفت عليه أواخر عام 1942. طلب مني أن أدبر له دفتر نفوس شرط أن يكون سن صاحبه لا يزيد على 40-42 سنة، شراءً، أو أية صورة أخرى. لم أتعهد له تعهد جازم، فليس الأمر سهلاً، وليس لي علم تام بحقيقة هذا الشخص رغم علمي بماضيه السياسي.
"مهدي هاشم" هو المناضل المعروف،  نجفي من أم نجفية وأب هندي الأصل. كان الشائع لدى المعنيين بالشؤون التقدمية في النجف بأنه شيوعي وهو فعلاً كذلك. وقد القي عليه القبض أثناء توجهه إلى "ألشريفيه" ومعه صديقه حميد شيخ باقر من آل كاشف الغطاء ولكنهم يُدعَون "أبو البساتين" والذي شاع عندنا إذ ذاك أن الذي أوشى به هو صديقه هذا. وهذا غير مستبعد ولا مستغرب. فقد عرف حميد بالخسة وسوء السمعة، وفعلاً عمل بعد هذا في سلك الجاسوسية، وقد أشرت إليه دون ذكر أسمه أثناء الحديث عن انقلاب ياسين الهاشمي عام 1935. وقد أسقطت الجنسية عن مهدي هاشم مع من أسقطت عنهم عام 1937 وطرد من العراق. فعاش بين إيران والإتحاد السوفيتي، ثم عاد بتوجيه من حزب تودة وعمل في الأحواز. وطلب الحزب الشيوعي العراقي من حزب تودة إرسال من يعتمد عليه للعمل في شأن معين لأمد محدد. فأرسل حزب تودة مهدي هاشم أواخر عام 1942 على ما أذكر. وبعد مدة من اشتغاله، ظهر انه قد تدخل بشؤون أخرى لا تخص ما أنتدب له. فساءت العلاقة بينه وبين مسؤولي الحزب فكتبوا إلى حزب تودة باستدعائه. وهكذا عاد.
ولم يعد للعراق إلا عند ثورة 14 تموز عام 1958. وقد عمل مترجماً في الإذاعة عن الفارسية، ولكنه لم يلتحق بالحزب الشيوعي العراقي. وحين منح عبد الكريم قاسم داود الصائغ حق تأسيس حزب شيوعي عكس ما كان متوقعاً، فقد شاع أن له اليد الطولى في تشجيع داود  على ذلك. وداود الشيوعي العريق -غير خفي عليه- إن زعامته تلك لا تدل على ثقة عبد الكريم بشيوعيته بقدر ما تدل على انه أتخذه آلة لشق الحركة الشيوعية وإضعاف الحزب الشيوعي، إذ ليس أهلاً للقيادة من يساوم الحاكمين من أجل حياته، وقد سبق لداود أن تنازل في العهد الملكي عن النضال. وكل من أشترك في الحركة النضالية مع الحزب الشيوعي يعرف هذا.
في القرنة حين توقفت السيارة للاستراحة، وجدت أخي وزميلاً له في مقهى، حيث يستريح ركاب السيارات الوافدة من البصرة وإليها. وحدثت أخي عن "الصديق" وما طلب. فأشار إلى زميله  "أرأيت؟".
وعلمت بعد ذلك إن هذا الصديق قد خرج على جماعته، وعاد إلى مأمنه. يبدو إن أخي صمم على التفرغ لشؤون النضال، وخوض غمرات السياسة. ولكن ظل لفترة بين بغداد والعمارة، حتى وصل أمر فصله من وظيفة التعليم في 12/11/1943، فقد أستقر في بغداد، ولا يزورنا إلا لماماً.
بعد نقله قربني المسؤول أكثر من السابق، صار يعتمد عليّ في تبليغ الرفاق بما يلزم أو يجد من التعليمات. وذات مرة قرأت تذكرة صغيرة وردت من مسؤول  خط الفرات "ديوانية، حله، كربلاء" فيه استغراب لوجودي واحداً من أربعة في أدارة الشؤون، جاء هذا تعليقاً على أعلام مسبق عن دعوة للحضور إلى بغداد. كان هذا المسؤول هو المحامي داود الصائغ، طبعاً عرفت من ارتباطي به وبآخر من أهالي الديوانية، ولم يصرح هو بهذا. والظاهر إن مسؤول النجف قد رشحني إلى جانبه للحضور، كنت إذ ذاك أحمل أسم "صخر" وأعقبه بعد فترة استدراك، فجاء منه بالذات على ضرورة حضوري مع المسؤول ورفيق آخر، وعني يقول: "ولا بأس بثالثة الأثافي صخر". وأخيراً اكتفى المسؤول بي وحدي للسفر وأعتذر هو، لماذا؟ إلى الآن لست أدري.
*      *      *      *
الجو مشحون، فالحرب يتسع ميدانها، وتشتد كوارثها، ويتقارب أعداء النازية –الحلفاء والإتحاد السوفيتي- لذا عقد اجتماع مؤلف من الأقطاب الثلاثة "روزفلت، تشرشل وستالين" للتداول في شؤون هذه الحرب الطاحنة.
ألقى روزفلت خطبة، وتشرشل أخرى، وستالين ثالثاً. أشار الأولان إلى دوام الحرب هذا العام لأن العدو مازال قوياً وهو يملك الآن 400 فرقة! وأشار ستالين في خطابه إنها ستنتهي إذا عجلنا بفتح الجبهة الثانية. أعلنت هذه الخطب في 18/11/1943 بمناسبة ثورة أكتوبر.
في كل منتدى يلتقي فيه اثنان أو أكثر يكون الحديث عن هذه التكهنات، ويتساءلون صحيح إن الحرب تنتهي إذا فتحت الجبهة الثانية؟ فالعدو أصبح منهوكاً لا حول له على الحرب في جبهات متعددة، وإذا فتحت هذه الجبهة تكون هذه السنة بداية النهاية، وليس النهاية. جيوش هتلر البربرية ترمي بكل ثقلها في الميدان الأهم –بلاد السوفيت- الحلفاء في حقيقة الأمر، يودون الانتظار حتى يقضى هذان العملاقان أحدهما على الآخر.
وفرنسا ترزح تحت كابوس الاحتلال النازي. والمقاومة السرية فيها تشتد ضراوة، ولن يخفف من وطأة هذا الاحتلال غير فتح الجبهة الثانية.
لقد أعلن ستالين حل الكومنترن، فحدثت في العالم ضجة تساؤل عن هذا الحدث. فيه كثير من الهمز والغمز حول مهمات الكومنترن بعضهم يقول، انه رشوة يقدمها ستالين للحلفاء، ويعقبون إن هذا خيانة لشيوعيي البلدان المرتبطين بهذه المنظمة؟
من الصدف أن يجيء إليّ صديق، كان مغرماً بستالين وهو يتميز من الغيظ، وصاح بوجهي "آه لو صح الحلم الذي رأيت، يا للعار يا للخيانة إذا تحقق هذا؟!"
قلت: "ما الذي حدث؟".
أجاب: رأيت في الحلم إن ستالين يصلي في الصحن الحيدري خلف إمام الجماعة الشيخ جعفر البدري وعن بعد رأيت صالح شمسه ينظر إلي باسماً، ثم ناداني وقال  "أنظر، هذا هو المثل الذي تقتدون به. أنظر خلف من يصلي، ومتى عرف الصلاة؟".
ضحكت لانفعاله، انه حلم. ثم قلت: "الصلاة تعني السلام والطمأنينة على قلوب المؤمنين. أفي هذا شك؟".
- ولماذا خلف هذا بالذات، وكلنا يعرف انه العدو الأكبر لحركة المشروطة؟ والنصير المتحمس لخصوم الشيخ الخراساني، ووسيط الإنكليز ضد ثورة النجف السيد كاظم اليزدي.
- قل ما تشاء ربما معناه انه يرمز للحلفاء وقد تقاربوا لمساعدة السوفيت". كان هذا قبل أن يلتقي القادة الثلاثة!
ماذا يفعل ستالين من أجل السلام إذا كان الحلفاء يخشون هذه المنظمة "الكومنترن"؟ فعل ستالين هذا، من أجل توحيد الجهود لدحر العدو المشترك. فهو الضمانة المطمأنة لهم. وهذا لن يضر وحدة الشيوعيين عالمياً.
وفي يوم 26/11/1943 أصدرت الوزارة عندنا تعليمات بالسيطرة على الأقمشة القطنية والقهوة والسكر والشاي. لابد إن هذه المواد ستصيبها الشحة، وهي حاجة الغالبية، ولم تشمل الأقمشة الحريرية والصوفية، لأنها حصة الذين يستطيعون شرائها بما تستحق.
الناس راحوا يستبشرون خيراً. روزفلت خطب في 25/12/1943 معلناً فتح الجبهة الثانية، وعين أيزنهاور قائداً لها.
ستحرر فرنسا حتماً من الاحتلال النازي. فديغول مع الجبهة الثانية، والمقاومة السرية من داخلها، وقد حشد لها الشيوعيون ما استطاعوا، ولمقاومتهم وشدة بأسهم وأساليبهم في المقاومة صدىً، يتغنى به أحرار العالم. لقد وقف أحد رجال المقاومة، الطاعن في السن، على كرسي المشنقة، وقد جمع البرابرة المحتلون كثيراً من الفرنسيين ليشاهدوا الإعدام، يريدون بهذا إرهابهم وإخافتهم. ولكن هذا الشيخ الشجاع، وقد جاوز من العمر السبعين عاماً ويدعى"فرنان غرينيه"، كان يهتف بالجماهير: لا تخافوا، قاوموا الغزاة! فلو عدت للحياة مرة ثانية لم أفعل إلا ما فعلت!.
أنا واثق إن ميزان الحرب سيتغير، وستبدأ نهاية الغزاة، ستنتهي الحرب، فهل سيحل السلام، وهل يشمل الأرض كلها؟   

المثقفون والمبادئ
نحن المثقفين هل نقوى على السير قدماً والى النهاية، دون انحراف؟ أيمكن أن نعمل دائماً بدون غرور ومع نكران ذات!؟ أعتقد إن هذا أمر صعب للغاية. وخصوصاً في مثل الهدف الذي يعمل من أجله الشيوعيون. فالفكرة الاشتراكية تقرر إن الاشتراكية هي هدف ومصلحة الطبقة العاملة، التي أنصب عليها غضب الطبقة الرأسمالية والاستعمار، ولاشك إن للطبقة الرأسمالية مفكريها ومثقفيها، الذين يخططون لها، ويفلسفون أمر وجودها. ولها أيضاً مؤسساتها وجمعياتها ووسائل أعلامها من صحف ودور سينما وغيرها. وهي إلى ذلك لا تبخل بالمال من أجل نشر ما تصدره من كتب ومجلات وجرائد، وطبع الأفلام التي تستهوي الملايين بينما هي سمّ قاتل، ومدمر للأخلاق والتقاليد، ومثير لغريزة الجنس إلى حد التفسخ، وتحويل لطاقات الإنسان عن الأعمال الخيرة إلى تفنن في أساليب الأجرام في القتل والنهب.
صحيح إن أية فكرة لا تستغني عن المثقفين، ولكن أي مثقف لن يكون مخلصاً في عمله إذا لم يندمج بالفكرة، وبالطبقة التي تكون تلك الفكرة ضوءها الكشاف في طريقها الشائك البعيد، والذي تخيم عليه سحب الريب والشكوك التي يُثيرها فلاسفة الطبقات المستغلة، ويصبها أدباؤها في قصص تبدو وكأنها ترثي للإنسانية التي طبعت على الظلم والأطماع من يوم نفي أبو البشرية آدم من الجنة. كما يقول الشاعر:
"أبوكم آدم سن المعاصي      وعلمكم مفارقة الجنــان"
الطبقات الرأسمالية، والإقطاعية وسائر الرتب التي هي أقرب إليها في مطامح الكسب والاستغلال وان كانت تتأرجح أحياناً، وأحياناً كثيرة تقلد الرأسمالية في أساليب حياتها وأفانين حيّلها في الاستئثار بخيرات الحياة، وتشيع شتى أساليب التخدير للفئات الكادحة المعدمة.
المتنعمون المحتكرون هم من يؤيدهم، هم الذين أشاعوا أو ابتكروا فلسفة الرهبنة، والدروشة، والزهد  وما ينتظر الزهاد، والعازفين بدلاً عن لذائذ هذه الحياة، من نعيم في -جنة الخلد- ويصرفون أنظار هؤلاء عن أولئك الذين ما نعموا إلا بكدح هؤلاء. بأن لهم الجنة، بما صبروا، ولأولئك النار خالدين فيها. من أروع ما قرأت في معنى الزهد كلمة للإمام علي "ليس الزهد أن لا تملك شيئاً بل الزهد أن لا يملكك شيء".
لقد أصيب الحزب بهزات عنيفة. السبب انحرافات بعض أعضائه البارزين، ذنون أيوب، وعبد الله مسعود ألقريني، ثم داود الصائغ ، وكلهم سلّوا سيوفهم وحملوا معاولهم لا على الاستعمار، ولا الطبقات المستغلة، وإنما على الحزب. كل ذلك لأنهم يطمحون أن يستقلوا بقيادة الحزب. ولا غرابة، فهم مثقفون وليسوا بكادحين، والمثقف حين لم يكن من الجياع أو المهدد بالجوع، يكون مترفعاً. أن تكون قيادة الحزب الذي ينضم إلى صفوفه بيد كادح تعلم من حياة الكادحين نظرية وأساليب الكفاح.  إنها أنانية المثقف البرجوازي! 
لداود الصائغ كلمة رائعة هي "إذا رضي عني عدوي، عليّ أن أعيد النظر بسيرتي". وبانشقاقه أصدر جريدة باسم العمل لسان حال حزبه الذي سماه "رابطة الشيوعيين العراقيين" صدر العدد الأول منها في 1/11/1944. وكان هو الذي أكتشف عبد الله مسعود ألقريني بعد انشقاق  ذنون أيوب "قادر" عام 1941. أما ذنون فقد كان انشقاقه أن هيأ أربعة ممن كانوا في التنظيم ، وتظاهر انه وسيط يحمل مقترحاتهم الأربعة وهي: "1- على الحزب أن يدعو لمؤتمر ويسن النظام الداخلي والمنهاج. 2- عليه أن يوضح ويعلن رأيه في الدين؟ 3- أن يوضح رأيه في المرأة! 4- يجب أن يكون سكرتير الحزب مسلماً لا مسيحياً لأن أكثرية العراقيين مسلمين".
لهذا قام فهد وجماعته بإصدار جريدة باسم "القاعدة" في كانون الأول 1943. ولداود أعمال ارتجالية يستبد بها منفرداً وبدون مشاورة، وقد سبب غلق مجلة "المثل العليا" إذ نشرت مقالات لم تعرض على "قلم الدعاية الرسمي" وكانت المجلة لشخص غير حزبي، تنشر الممكن للعلن من الآراء التثقيفية، فأغلقت.
حين أصدر الحزب صحيفة القاعدة، كتب فهد كثيراً من المقالات حول الكتل الانتهازية. وأشار إنها سوف لن تستمر لأن النضال لم يكن هدفها الأساسي. إنهم يحبون الزعامة أكثر من أي هدف آخر. وان بعضهم ليترفع أن ينظم إلى خلية يترأسها عامل.
لم يهدف فهد فيما كتب ضد المنشقين الانتهازيين شخصاً. أبدا، كان يفضح الانتهازية، والأسس التي تبنى عليها، ويكشف عن الجذور التي تدفع إليها، دون التعرض لهم خاصة. هذا بعد نظر رائع لديه. فربما انتبه بعضهم للهوة التي يقع فيها، ويعود إلى صفوف حزبه. قامت الشرطة مرة بحملة تفتيش علم بها الحزب مسبقاً، فأرسل إلى "عبد الله مسعود القريني" ينبهه لأخذ الحذر. وأجاب القريني جواباً بعيد عن اللياقة "ليس في الحقيبة غير فُتات الخبز اليابس؟!". 
عدة مرات ذهبت إلى بغداد. لم أجد أخي حسين. كان اتصالي بعد داود بالرفيق حازم. ولقد اسرّ أخي إليّ انه سيكون بعيداً عنا، سيعبر الحدود، وقد تطول إقامته هناك. كان ما أسرّه إلي على أثر استقالته من التعليم. والغريب أن تذكري المفاجئ له كان بعد انشقاق داود!. 
وأدركني الحنين إليه فجأة، وبدون تفكير سابق، تصاعدت زفراتي وتراءت لي الحدود التي قال عنها، تصورتها صحارى شاسعة، مترامية الأطراف، وتمثل لي شبحه بقدّه الأهيف النحيل، يقطعه بخطواته العريضة، واحسرتاه عليك يا حبيبي. هل سأراك ثانية؟ لماذا تصورت الأمر هكذا، ونقشت الصورة على هذه الكيفية؟ لست أدري. ربما غلبت عزيمته التي اعرف إنها اندماج متناه بعقيدته، فتصورته لهذا يقطع المسافات راجلاً.
لعل الدنيا بخير. نائب الوصي على العرش "الأمير زيد" خطب في 1/12/1943، يعد بعودة الحياة الديمقراطية. فتأهب نخبة من الشباب  بطلب تأسيس حزب باسم "حزب الشعب". هم كل من المحامي توفيق منير، المحامي يحيى قاسم، عبد الرحيم شريف، عبد الأمير أبو تراب. ولكن الطلب لم يجب. وراحت القاعدة تساند الطلب وتحث المواطنين على تأييدهم. لقد أستمر هؤلاء الشباب بمطالبتهم. ووصل إلينا نسخة من النظام الداخلي والمنهاج للحزب المذكور. فرحنا ننسخ عليه صوراً، ونتدارسه ونبشر به.
والليالي من الزمان حبالى، كالحات يلدن كل عجيب، وكل آتٍ كما يقولون قريب.
يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏ ‏18‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 



140

2- الدرب الطويل/ 3
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)


المعلم النطاح/ 2
البرد هاجمنا بقسوة ونحن في نهاية الشهر الحادي عشر من السنة "1941" . حتى لقد مات بعض البؤساء الذين ينامون في الجوامع وأواوين الصحن العلوي.
لم يعد الناس أولئك الناس الذين نعرفهم أيام الرفاه، فالكل -كما يبدو- لا يفكر إلا بنفسه وكيف يقاوم إذا وقعت الواقعة. فالحرب تشتد وبضراوة في الإتحاد السوفيتي ضد الغزو الفاشي وجيوش هتلر. وبقدر ما تنقل الصحافة من أنباء عن ضراوة هذه الجيوش ووحشيتها، فإنها تنقل المدهش عن استبسال الجيش الأحمر، ومشاركة المواطنين في تدمير العدو. إن المدن السوفيتية تواجه الغزاة ببسالة، فلا يحتلها الفاشيون إلا بعد تضحية غالية، ثم لا يجدون الاستقرار. الفتيات، العجائز، وحتى الأطفال يشاركون في الحرائق وتدمير مستقرات جنود العدو. ولا يلبث الجيش الأحمر أن يستعيد المدينة ثانية، كما حصل هذا في مدينة "سواستبول" و "رستوف" وغيرها.
الناس يتحدثون في المجالس والمقاهي عن استبسال الجندي السوفيتي. ترى ما سر هذا التفاني في الدفاع والمقاومة!؟ لاشك إن المواطنين السوفيت قد أدركوا أهمية نظامهم الاشتراكي في جعل حياتهم تختلف تماماً عن حياة آبائهم تحت حكم القياصرة. فبعد أن كانت المذابح تنظم وتثار بين مختلف القوميات والأديان، أصبح الكل يعيشون بتآخ ومودة.
ولكن هنا ما تزال عقليات من يعتاشون من جهود غيرهم، فهم إذ يرون هذا التفاني والثبات أمام أشرس مهاجم، يبدون العجب. كيف يقاوم "ملحدون" لا دين لهم، ورجال لا يعرفون "غير أمهاتهم"!؟
قال هذا معمم في بيت جارنا "شيخ جليل" فرد عليه فلاح كهل وبانفعال "ماتوگف وگفتهم يابن أبوك؟! والله شيخنه اگلك هذوله اثبتوا لنهم همّه أولاد أبو وأم صحيحين النسب!". كان هذا الفلاح واحد من الضيوف عند جارنا. وللشيخ المعمم "جليل" علاقة بعشيرة الفلاح، إنه يستفيد منهم، ويحل بينهم مدة من السنة يرجعون إليه في أمور دينهم، وهو من هذا أجوف!
الحرب أشغلت بال واستبدت باهتمام الناس، الطيبون الذين يعرفون أهمية الجيش الأحمر في ميدان الحرب، وأصحاب الجشع ومصاصي دماء الناس. الطيبون متفائلون في أن مصير الفاشية إلى دمار لا محالة، بينما الآخرون يتمنون انتصار الغزاة.
كنت في مجلس شيخ محترم "الشيخ عبد الكريم الجزائري" كانت له المكانة الرفيعة في قيادة ثورة العشرين. والحق انه يتمتع بسمعة طيبة، واحترام الغالبية، مضافاً إلى درجته العلمية الدينية، ولكني لم أستغرب ما سمعته الليلة في ديوانه (مرّ ذكر هذا في موضوعة –حركة مايس-/ ألناشر) .
كان الحديث عن اكتساح الجيوش الهتلرية الغازية لمدن السوفيت، فأطنبوا في غرائب سلاح الغزاة الألمان، وفنونهم في خطوط الهجوم وإن احتلال بلاد السوفيت أصبح وشيكاً.
قال أحدهم "أذن سيعود النظام القيصري؟"
ردّ عليه أخ  الشيخ "محمد جواد"، نعـــــــم!. هكذا أطال -نَعَمّ- متلذذاً، وواصل كلامه "وإذا عادوا سيأتي القفقاسيون إلينا ، وشوف الحقوق الشرعية اللي توصل!؟".
ويلاه ... إذن لا يدرك كنه النازية، وأعمت بصيرته مطامعه وسال لعابه سلفاً لما يؤمله من الحقوق الشرعية التي سيأتي بها القوقاسيون غداً إذا أحتل الألمان بلاد السوفيت. ولم يفكر بما سينال بلادهم من خراب ودمار؟ ونسي شيء آخر، إن زحف الغزاة لو تمكنوا من احتلال بلاد السوفيت كلها، سوف يواصلونه لاحتلال جميع الدول المجاورة، تركيا، إيران، العراق .... وغيرها من دول.
وصباح اليوم التالي، حضرت إلى المدرسة، وما تزال ضحكة العجب والاستغراب مما دار في ديوان الشيخ الجليل. إنه أبعد نظر كما أعرفه فكيف أطلق تكهناته تلك!؟
وأحسست بألم حاد في أمعائي. فتوجهت إلى مدير المدرسة استأذنه لمراجعة الطبيب. فلدي فراغ في منتصف الدوام. وأبدى حضرته امتناعا وإصرارا. ولكني خرجت بعد أن أشهدت المعلمين على مراجعتي له وامتناعه دون مبرر. مدير المدرسة من آل الحبوبي، أسرة عريقة أشهرهم في العراق السيد محمد سعيد الحبوبي الشاعر المعروف، بعضهم يقيم في مكة. ويقال إنهم في الأصل حجازيون. أما مدير المدرسة هذه فمن أشدهم جهلاً وغروراً مع إن والده من الطبقة الفقيرة إلا إنه من جماعة صالح جبر. حين عدت إلى المدرسة قدم لي سؤالاً في ورقة "لماذا غادرت المدرسة مع عدم موافقتي؟".
طلبت شهادة المعلمين فردّوه، وأجبت، وطال الجدل مما اضطرني أن آخذ أجازة لمدة تسعة أيام، وهو لا يكف عن مكاتبة مدير المعارف، وتلك طبعاً تأخذ بما يكتب هو أولاً، والرد عليه ثانياً.
وسلكت سبيل التمرد فباشرت في مدرستي السابقة. مدير المدرسة ناقشني، إن هذا غير صحيح فأنت على ملاك تلك المدرسة. وحصلت على أجازة ثانية لمدة ستة أيام.
بعد هذا حضر مدير المعارف ومعه صديقي مدير الثانوية. أستمع إليّ ثم إليه، وشهادة المعلمين. لكنه أخذ عليّ، كيف أرسل الرد على ما يوجهه إليّ مدير المدرسة من أسئلة إلى المديرية مباشرة!؟
قلت: "لأنه في البداية لم يرسل لكم جوابي على سؤاله إنما اكتفى بالأخبار عني بأني تركت المدرسة دون عذر!".
وأخيراً أقترح المدير أن نتصالح، وقال "سأعود بعد نصف ساعة فأجدكم قد فعلتم ما أريد". أحضر المعلم علي الجزائري صديق مدير المدرسة "الشربت" فرفضت حتى يعود المدير. حين عاد اشترطت نقلي إلى مدرسة الحيدرية فوافق.
يبدو أن الضائقة ستشتد فقد أعلن العراق الحرب على دول المحور. حصل هذا في 13/1/1943 وكانت اليابان أحدى دول المحور وكانت أمريكا قد أعلنت الحرب عليها في 8/12/1941 وعلى أثر إعلان الحكومة الحرب على اليابان ارتفعت الأسعار ثانية بشكل طفرة واسعة جداً. ومباشرة اختفى السكر والشاي من الأسواق. وسارع مدير المدرسة فحصل على كيس "مئة كيلو" وزعه على معلمي المدرسة بالتساوي، كان هذا يوم استلمت كتاب النقل إلى المدرسة الجديدة.
أستغل البريطانيون المادة الرابعة من معاهدة التحالف العراقية البريطانية لعام 1930، في حالة حرب محدق يبادر المتعاقدان فوراً إلى توحيد المساعي في اتخاذ تدابير الدفاع المقتضية. وعليه فواجب صاحب الجلالة ملك العراق أن يقدم في هذه الحالة المعونة إلى صاحب الجلالة البريطاني، جميع ما في وسعه أن يقدمه من التسهيلات والمساعدات. ولكن حكومة نوري السعيد عند توليه الوزارة بعد حرب 1941 وبعد إعلان الحرب على اليابان استغلت بنود المعاهدة وزادت هجومها على الوطنيين والأحرار من مختلف الفئات وحشرت معهم السفلة والسراق والمتشردين في معتقلات العمارة وبدره ونقرة السلمان لتجد المبرر لوصفهم بالنعوت الشائنة.
وجاءت جريدة الشرارة طافحة بالمقالات عن الحرب وموقفنا الأخير ، ورسالة عن النجف واختفاء البضائع، ومشاركة المسؤول الإداري القائممقام "لطفي علي" لبعض التجار في تجارة ورق السجائر، والسكر والشاي، مما أحنق القائممقام على أخي متهما إياه برسالة النجف إلى الجريدة.
منذ كنت معلماً في ناحية الكوفة، كان لطفي علي مديراً لها، وتمت بيني وبينه صلة لأن ولديه كانا تلميذين في المدرسة التي أنا فيها ولأنه تعرف على أدبي في انتفاضة رشيد عالي. أرسل لطفي علي إليّ أن أزوره، للعلاقة السابقة بيني وبينه حين كان مدير ناحية الكوفة. دار الحديث عن الرسالة فتجاهلت أمرها. وطلب أن أقدم لأخي النصيحة في تجنب هذا السبيل.
كان أخي قد عاد من بغداد، وقد علم هناك إن القائممقام منذ مدة طويلة يطالب المسؤولين بضرورة إبعاد "حسين" عن النجف، وضرورة فصله. وأبدى مدير المعارف العام "عبد الجبار الجلبي" دفاعاً كبيراً عنه. وبعد محاولات كثيرة تم للقائممقام أقناع الجهات العليا، فصدر الأمر بنقله مفاجأة إلى لواء العمارة. ولقد عجل السفر إلى هناك. وبعد أن أستأجر داراً عاد إلى النجف لينقل العائلة "أمي وأختي" وبقي الوالد وحيداً في البيت.
كل مدرسة أعين فيها لم أدرس غير العربية لصفي الخامس والسادس. غير السنة 36/37 في مدرسة الفيصلية الابتدائية في المشخاب، وفي هذه المدرسة "الحيدرية" عين أحد السادة وكان من طلبة العلوم الدينية المبرزين ألجأته ظروفه المعيشية إلى الوظيفة. وبناء عليه فقد أسند إليّ تدريس الصف الأول ودرس الواجبات المدنية للصفين الخامس والسادس.
مازلنا ضعيفي النشاط. بعد افتقادنا حسين الذي كان الموجه والمثقف، بعده اعتمدنا على أنفسنا في مجال التثقيف، وليس لدينا من وسيلة غير بعض المجلات والجريدة، وكتب في الفلسفة المادية يعسر علينا فهمها كما يجب. المسؤول بعده ضعيف النشاط، وقليل الاهتمام، على الرغم من انه على درجة جيدة من أمكانية التثقيف لتمكنه من اللغة الإنكليزية. فكان لقاؤنا عادياً يبعث السأم. وكنت أعتبر نفسي أحد المسؤولين الأربعة. فأندفع بجد ونشاط لمتابعة ما يجد بين الناس، وتعميق الاتصال بهم أنا وصديقي مرتضى فرج الله الذي كانت له معلومات جيدة سابقة عن الفكرة ثم علاقاته واسعة بالشباب، مضافاً إلى مكانته كشاعر مرموق في أوساط الشباب.
وتركزت جهودنا بين الناس إلى كشف ارتفاع الأسعار واختفاء الضرورات من السوق ورداءة الخبز، وكنا نعطي التفسير الصائب لما حدث. لقد امتلأ العراق بالجيوش البريطانية، فيهم كثير من البولونيين الصهاينة الذين شاركوا في تنظيم اليهود العراقيين للعمل بموجب الأهداف الصهيونية وتهجير من يقدرون على إقناعه إلى فلسطين. وقد أثرى بعض الشخصيات العراقية الحاكمة بمساعيهم لتسهيل أمر السفر وإخراج أموال اليهود بحيل تجارية، ومن هؤلاء وزير المعارف توفيق السويدي ووزير آخر من الجنوب. كانوا يستوفون عن كل يهودي مائتي دينار. وعن إخراج أمواله نسبة معينة لكمية المال!؟
كما سمح لمراسيم عاشوراء بالعودة عن طريق تغافل الحكومة. ويشاع، وهذا غير مستبعد، إن مساعدات مالية قدمت لهيئات العزاء. فوزعت الأقمشة البيضاء "الأكفان" لمن يشاركوا في ضرب رؤوسهم بالسيوف صباح العاشر من محرم، وللشموع التي يحملها بعض المواكب مساء كل يوم من العشرة، ولا يستبعد أن لقادة المواكب حصة وافرة من هذا. ومما يلفت النظر إن هذا التغاضي جاء على أثر إعلان الحرب على دول المحور، ومواكب للحملة التي شنت في 13/1/1943 على الفئات الوطنية؟!.
*         *         *         *
أعود فأتحدث عن مدرستي. لحد الآن أنا مرتاح. إن جميع المعلمين هنا طيبون، واستطعت أن أدعهم يطلعون على الجريدة، لكني استثنيت منهم واحداً كان شديد الجبن وكثير النفاق، وآخر يتسم بالطيبة "أحمد الجواهري" لكنه شديد الخوف والجمود، لي به سابق معرفة منذ كنت في مدرسة "السلام" ولطيبته وجموده يعتبر نفسه صريحاً إلى أبعد حد، فلا يداعبه أحد إلا ورماه بكشف واقعه. الآخرون يجدون في تحريكه متنفساً لهم، كلما هاجم واحداً منهم. مما دعا الكثير منهم أن يتجنبوا الاحتكاك به.
أما المنافق "عبد المنعم العكام" وهو رجل كبير السن، فإنه من قدامى المعلمين، له الإمكانية في تدريس كثير من مواد التعليم وخاصة الرياضيات، رغم انه أنخرط في سلك التعليم من سلك الطلبة الدينيين، كان مديراً لمدرسة قبل هذا لعدة أعوام، وفوجئ ذات يوم بأحد المفتشين جاء مبكراً وسأله  "أين المدير!؟". أجاب  "أنا هو يا أستاذ، تشرفنا".
صاح المفتش به  "أنت هو!؟ هذا مظهر مدير مدرسة؟ لحيتك هذه، ورباطك المتدلي وكأنه خيط قذر، وحذاؤك البالي، ومعطفك المجلوب من مخازن لندن!؟ هكذا؟ لو لم أجدك خلف منضدة الإدارة حسبتك الفراش!".
وبعد أيام تسلم أمر النقل إلى هذه المدرسة. ولا يغطي مظهره ذلك غير نكاته، هو ظريف إلى حد مدهش، كما إنه شاعر وإن كانت شاعريته ذات أفكار بالية. لم أسمع من شعره غير قصيدة واحدة كانت سباً وشتماً مقذعاً للشخصية الدينية المرموقة والمعروفة في وجهة نظر الإصلاح الديني هو "السيد محسن الأمين ألعاملي" على أثر إصداره رسالته المشهورة "التنزيه في أعمال الشبية" عام 1346 هجرية وقد جاء على ما أذكر في قصيدته هذا البيت:
 أن تكن قد شرفت أحسابه         نبؤني هل يَحِلُ الفرثَ والدم
وفي هذه الأيام، صار له مجلس في ليلة الخميس من كل أسبوع لذكر الحسين (ع). وتحت هذا الستار يتجمع عنده بعض هواة النازية أمثال السيد محمد المعروف "أبو مدار". المدار، رحى كبيرة، تدار بواسطة الحيوان. وكان هذا السيد يعرف بهذا الاسم، بينما عرف عنه إنه يخدع النساء فيما يلتمسن من غايات، كطرد الضرة، أو جعل الرجل يعادي أهله من أجل زوجه ويكون لها وحدها إلى أمثال ما يدعيه هؤلاء المشعوذون ....
ولقد نشط بتمجيد بسالة -هكذا يسميها- جنود الألمان. ولكن زميلنا الظريف "هادي" ابتدع حكاية وفد نجفي إلى السفير البريطاني "كورنواليس" وإنه خاطب الوفد "هل ما يزال محمد أبو مدار يمسك الجريدة بالمقلوب ويقرأ في مجلس العكام انتصارات جيوش هتلر؟!". فطار لبه، ومن يومذاك ألغى مجلسه؟!.
وأخذ مرة يحدثني، كنت أصغي لحديثه، فان لديه بعض الأحاديث الطريفة وذات فائدة وشيئاً فشيئاً تدرج في حديثه إلى ما يشغل بال الناس من أهوال هذه الحرب. ثم إلى الأفكار الجديدة التي كانت سابقاً محرمة ومخيفة أيضاً، ثم خلص إلى ما يريد قوله "أنا معجب بكما، إن لكما ذكاء متميزاً، فلأول مرة أرى في حياتي من هم في سن الشباب واستطاعا أن يحولا شيخاً جاوز الستين فيبدلا تفكيره ونهجه في الحياة!".
وضحكت، فالرجل كما يبدو، كلف نفسه جهداً في سرد الأحاديث ليصل إلى القصد الأساس الذي جلس إليّ من أجله.
فقلت، وبلهجة الساخر منه "كيفما يكون الأمر. المهم إني لست أذكى منك. فان ما أبديت من أعجاب في الواقع خداع منافق، لتذم رجلاً وقف نفسه لخدمة معتقده الديني منذ ارتقى المنبر في بداية شبابه وما يزال. فهل رأيته دعا إلى عقيدة غير الإسلام؟! أم تراه قاطع الصلاة وزيارة المرقد العلوي؟ إن لك من الذكاء ما تحسد عليه، لكي تذم أبانا، تغرينا بالثناء وتمجدنا، ربما ترمينا بعكسه! أليس كذلك!؟".
منذ وضعنا أول قدم في طريق النضال، ونحن نلتهم من المعلومات التي تنير لنا الطريق ما وسعنا ذلك. وكانت جريدة الشرارة تحض المعلمين على المطالبة بتأسيس نقابة لهم بدل الجمعية. هذا المطلب جعلنا نوثق الصلة بين زملائنا، لنكسب تأييدهم، ونغذي شعورهم بأهميته.
لهذا سلكت في هذه المدرسة سلوكاً يختلف عنه في مدرستي السابقتين. صرت لا أتحدث إلا عما نلتقي فيه من آراء ومشاكل مشتركة، خاصة والأيام حبلى بالكثير من المشاكل، والكثير من المتاعب، والشديد من الأزمات الخانقة التي ستمس هذه الفئة أكثر من بقية الموظفين. لذا دبر بعضهم طريق الكسب في البيع والشراء، مشاركة أو منفردة.
مدير المدرسة في بداية الكهولة، وهو من عائلة معروفة، لها مكانة محترمة بين خدم الحضرة العلوية، هو في مشاعره أرستقراطي بحيث يترفع أثناء الدوام أن ينسجم مع المعلمين في مرحهم ونكاتهم، إلا حين يشعر بالحاجة إلى بعضهم، وبأسلوب لا يحط من كبريائه.
الصدارة دائماً على رأسه، وإذا نادى معلماً ناداه باسمه يتبعه بكلمة "أفندي". عصبي شديد الغضب. لكل هذا بادر في أحد الأيام فمزج إحدى شعب الصف الرابع، وخص المعلمين بالغرفة.
في إحدى الفرص دار الحديث بين المعلمين عنه، عن نزوعه إلى الترفع عن مجالستهم، عن استبداده في شؤون المدرسة، وهي تخصهم، ولا يطلب آراءهم، بل يفرضها فرضاً ودون مناقشة أو برمجة، حتى ما يخصهم لوحدهم، مثل التمتع بالفراغ لقضاء حاجة ملحة، على إن المعلم لا يتصرف إلا بأذن. كثير ما يمتنع عن الموافقة، رغم إنه يغادر المدرسة لبعض شؤونه الخاصة، بعلم المعلمين تارة، وبدونه أخرى. وأمعن المعلمون بالنقد والتجريح، حقاً وباطلاً. فاعترضت "إن هذا عين الخطأ مثلما هو جبن فاضح. وإذا أردنا أن ننصف أنفسنا فاني أرجح أن نثبت بعض ما نراه من حقنا وفي صالح المعلمين والمدرسة، كتابة يوقع عليها الجميع ونقدمها له".
وافقوا على هذا الرأي وأوكلوا مسألة تحريرها إليّ. بعد أن بحثنا مواد الطلب. وحين أنجزتها وقع عليها الجميع عدا المنافق، فقد كان لديه فراغ، وقد تمتع به بعد الأذن.
تركت الورقة لدى المعلم المراقب ليأخذ توقيعه في دوام بعد الظهر. فلدي أنا الآخر فراغ في الحصة الخامسة، أي الدرس الأول من دوام بعد الظهر، وأستحصلت موافقة المدير على التمتع به. الواقع إني واحد من أربعة معلمين كان الاحترام بيننا وبين المدير متبادلاً. المعلم المراقب، كان لبناني الأصل نشأ في النجف مع والده. بدأ حياته مثلي ليتخرج رجل دين من معاهد النجف وتحول إلى وظيفة معلم مثلي. كان أسمه "جعفر همدر" ثم عمل على أن يوظف كاتباً في سفارة العراق في لبنان، ولم يعد ولم نعد نعرف عنه خبراً.
وحدث ما يؤسف له. وهو أن دل على شيء فإنما يدل على ضيق أفق تفكير المعلم الذي تركت الطلب لديه ليوقع عليه المنافق، كذلك هو يدل على جبن هذا المعلم وخبث المنافق.
جاءني هذا المعلم في نهاية الدوام، وهو مرتبك، وأسرّ إلي "إن هذا المنافق رفض التوقيع، مدعياً إن هذا يعرضنا إلى اتهام المدير لنا بأننا نريد الطعن به ومحاربته. وأردف، لأنني حذراً من غضب المدير مزقتها!".
قلت، يا صاحبي "أنت ساعدته، من حيث لا تدري، أن يشعلها فتنة شعواء. فلو أفضى هذا المنافق إلى المدير بغير الواقع، ما هي حجتنا لنثبت خبثه وشغبه؟. كان يجب ألا تمزق الورقة، عنها نستطيع أن نثبت أفك المدعي".
اليوم الثاني كان يوم خميس، وانتهى الدوام. وتهيأنا لمغادرة المدرسة، لكن المدير ناداني: "علي أفندي. أنتظر رجاءً، لي معك شغل".
أدركت ما يريد، فقلت "أرجو أن يتأخر المعلم أحمد أيضاً".  دخلنا معه غرفة الإدارة، وأفتتح حديثه منفعلاً، لا على ما ظنه سوءاً بحقه، إنما تألماً لما كاد يقع منه ضدي.
قال: "أتعلم إني أمس كدت أرتكب بحقك حماقة تعود عليك وعلى صغارك بالشر الوبيل! كيف يا أخي تدبر ضدي مؤامرة دنيئة، وتحرض المعلمين عليّ؟".
توجهت إلى صاحبي المعلم أحمد ، وقلت "أنا واثق أن المعلم أحمد من خيرة المعلمين في صفة الصدق والصراحة، لهذا أترك له مسألة إيضاح الواقع لك". المدير، هو أيضاً يعرف هاتين الصفتين في هذا المعلم. وأصغى إليه، حتى إذا انتهى. قال المدير "أحمد الله إني ترويت، ولعنت الشيطان، وأرجأت الأمر إلى ملاقاتك". قلت: "وما كان في حسابك أن تفعل؟". قال بلهجة النادم المتألم "أردت أبلاغ الشعبة الخاصة (المقصود جهاز الأمن إذ ذاك/ ألناشر) وجلبهم لتحري مجر منضدتك في المدرسة، الذي تخبئ فيه بعض الممنوعات، وتحري بيتك أيضاً!".  كنت أخفي في درج منضدتي في المدرسة، كتاباً محرماً، أكتب عنه نسخة لنمد بها بعض من نعمل على تثقيفه إنه كتاب "من تأريخ الحركات الفكرية في الإسلام" استعرت هذه النسخة من مكتبة الرابطة الأدبية. وكان قد جلب بضع نسخ منها أحد شباب كربلاء اللامعين المرحوم صادق الوكيل، أهدى واحدة منها لمكتبة الرابطة.
قلت: "ولكنك، وهذا عن طيبة فيك، أدركت ما سيعانيه ضميرك هذا، ولا تنس، إنك لو فعلت هذا تسيء إلى أخيك، فهو أحد فصائل النضال الحر". أخوه الأصغر كان محامياً ورغم إني كنت أعرف عنه انه أحد الذين نشر منهاج "جمعية الإصلاح الشعبي" عام 1937، وكان ذلك أشبه ما يكون بالإشاعة. فقد كان "كما عرف" متحفظاً شديد التحفظ، صموتاً لم أره مرة يدخل جدلاً فيعلو صوته، أو يدلي رأيه فيسمعه غير مجاوره في المجلس، كما كنا نسمع ونقرأ لمن كانوا أصحاب دعوة أصلاحية إذ ذاك أمثال، عبد القادر إسماعيل، واحمد جمال الدين. ثم سمعنا انه صار نائباً في انتخابات 1937 أيام وزارة حكمت سليمان.  وكأي مواطن مثقف، استهدفته شرطة الأمن في التحري. وهذا معروف بقلة، لأن كثير من الشباب يعدونه في مصاف الطبقة الأرستقراطية.
أثناء تحقيق مفوض الشعبة معي مرة، قال:  "تحرينا دار صادق كمونه فوجدنا لديه كتب شيوعية، بل تمثالاً للينين ولكنا لم نعتبر ذلك شيئاً إذ لم نجد لديه مطبوعاً ضد الدولة، ولم نجده متلبساً بعمل مخل بالأمن. أما أنت وأمثالك فالإشاعات تدور حولكم بقوة. مع إني لم أجد لديك كتباً ولا تمثالاً للينين أو ستالين".
وفي الطريق كان الحديث عن ذلك المنافق، والتعليم والدور السيئ الذي يقوم به أضرابه في نفوس أطفالنا الناشئين، من الأفكار الخاطئة التي لا تؤدي إلا إلى التيه في أودية الضياع. 
 

يتبـــــع
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏‏14‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com


141
1-   معلم في القرية /  2
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


الخير فيما وقع
مرّ عليّ ما يزيد على العشرين يوماً في هذه القرية "أم البط" ضيفاً على رئيسها الحاج عبد العباس العواد وتجري خدمتي على أحسن وجه. وحين أنهض من النوم صباحا، تكون استراحتي في حديقته الواسعة العامرة بمختلف أشجار الفاكهة، وهذا شيء نادر. فالأراضي هنا لزراعة الرز، ويحتل النخيل جزأ كبيراً منها. وهم –حسب العادة لدى قرى أهل الجنوب- لا يتعاطون زراعة الخضرة، هذا أمر معيب لديهم. وقد تتخلل بين النخيل أشجار الليمون والرمان بشكل محدود جداً. كذلك يزرع –اليقطين- بصورة قليلة جداً، بظل أكواخهم، فيتسلقها، ويكسبها منظراً، ويلطف هواءها. وحيث ينتفعون به للغذاء ويتركون بعضه يأخذ منتهى نموه، ويكبر حجمه، ويجف ويجوفونه فيستعملونه لحفظ الملح، أو الطحين، أو مِخَضّة لللبن. هم يأنفون من زراعة الخضرة، يسمون من يزرعها حساوي [أي من الاحساء لأنه يزرع الخضرة].  
حضر الشيخ المعمم "الشيخ ع.ث" صباح يوم في هذه الحديقة حين جيء إليّ بالفطور. وكان قد علم إني كتبت إلى مديرية المعارف بشأن رأي الحاج عن فتح المدرسة، فعلق وهو يشاركني بالدجاج المشوي، واللبن المزبد، والفاكهة اللذيذة.
- يا أخي هسه أنته ليش مهتم، أگعد واضرب بها الفروج اللذيذ، والعن أبوهم يابو ولدهم، يتعلمون ما يتعلمون يضربهم ألف مرض. الحجي وأولاده ما عدهم ولد كثيرين، ويتمكن يخليهم بالنجف، لها السبب ما يهمه تنفتح المدرسة لو ما تنفتح لأولاد الفلح.
منذ سافرت –الخميس الفائت- اتصلت بمدير مدرسة الفيصلية أسترشد به عن كيفية تحرير الكتب الرسمية، لأني جديد عهد بها. ولقد لفت نظري أيضا إلى أني إلى ذلك الحين لم أكتب ما يسمى "مباشرة" وأرختها اعتبارا من وصولي القرية، وقد وصلني اليوم أمر المديرية، بتذكرة خطية، على قصاصة ورق عادية، من مديرية المعارف، بواسطة مدير مدرسة الفيصلية، أثناء زيارته للناحية ملخصها "التحق بمدرسة سوق شعلان مع ما لديك من قرطاسية وغيرها، وسلمها للمدرسة المذكورة" ولم يتعرض لقضية فتح مدرسة أم البط.
غداً سأرتحل من هذه القرية مسروراً شاكراً "سيد خضر"! فأنا أحب أن أزاول عملاً، وأودي خدمة، والخير فيما وقع كما عبر صاحبنا المعمم.

في مدرسة سوق شعلان
باشرت في مدرستي الجديدة، ويبدو أن المدرسة ومديرها سبق إليهم علم بانتقالي إليهم، فقد أعدوا جدول الدروس، وعهدوا إليّ تدريس الصف الثاني، وعربي الصف الرابع. لم ابدِ أي اعتراض، فما عهد إليّ ليس أمراً ذا بال.
بناية المدرسة من حيث التصميم غير صالحة. فهي عبارة عن ساحة مربعة لا تزيد على مئتي متر مربع. تحيطها غرف الصفوف. وأمام البناية وإلى جانبها من الجهة الشرقية ساحة غير مسورة، لا يمكن استعمالها في الأيام الممطرة. وعدد صفوفها خمسة. وتجمع المدير والمعلمين غرفة واحدة. أما عدد المعلمين فستة.
المدير "صالح زيدان" من أهالي الناصرية، و"عبد الحميد محمود " معلم بصري من أبي الخصيب ، والثالث "فاضل عبد الرزاق" بغدادي، والرابع "صبري شاكر" أيضا بغدادي تركي الأصل، وأنا والسادس –عبد الأمير الجواهري- نجفيان.
يصحب البصري فتى أسود "ملا صالح"، قال: أن آبائه كانوا من مملوكيهم وهو شاب شهم ظريف، يقوم بالطبخ للمجموع لقاء أجرة قدرها ثلاثمائة فلساً من كل واحد منا، ولا يحسن إلا طبخات معدودة وببساطة كالرز والفاصوليا، لحم على رز، تشريب، معكرونيا مع البيض. لكنه نظيف ومنظم. يساكن صاحبه، ويسكن معهما أيضاً ألنجفي، ونزلت معهم موقتاً، أما البغداديان فيسكنان كوخاً صغيراً مجاوراً لكوخ البصري، بينما أتخذ المدير غرفة الإدارة له مناما فقط.
عدد التلاميذ مناسب للمدرسة، ولا تتسع لأكثر منه، بعضهم من قرى مجاورة، يواظبون فيها كل يوم مبكرين مشياً على القدم. وسكان القرية جميعاً يكثرون التردد على المدرسة بذات الطريقة التي يترددون بها على مضايف رئيسهم ووجهائهم. ويمتزجون مع المعلمين في الحديث، ويبادلونهم الطرف، وينتقدونهم علناً أحياناً. بينما لا يتحرز بعض المعلمين في أحاديثهم عن ذكر مالا يناسب مما جعل هؤلاء كثيراً ما يستخفون بهم، وقد يتعمدون إثارة بعضهم في تقليد لهجاتهم وترديد بعض الكلمات من لهجات البصريين والبغداديين.
هذا عالم جديد أعيش وسطه. فكم يا ترى هي المتاعب التي سأواجهها في مستقبل أيامي؟!.
 

مدرسة سوق شعلان/ المشخاب 1934/1935. الواقف صبري
الجالسون من اليمين: الفراش فليح، علي الشبيبي، عبد الحميد،
فاضل الشيخ والخادم ربيع

زيارة
زارني قروي متوسط الحال، هو من سادة القرية. يعيش هو وعمه وأولاد عمه في هذه القرية، يفلحون الأرض، وهي ملك لسادة أيضاً. كان شاباً ظريفاً. نبهني وهو يحدثني إلى أنه متعلم، قرأ "القرآن" و "مفتاح الجنان" و"الصحيفة السجادية" و "نوادر أبو نؤاس" و"حكايات ألف ليلة وليلة" و"مجنون ليلى" و"أبو زيد الهلالي" و"بئر ذات العلم" و"المياسة والمقداد".
خاض معي أحاديث كثيرة. كنت أصغي إليه وأستمع إلى أحاديثه المتسلسلة دون ارتباط في الموضوع. وقص عليّ بعد أن أعلن وثوقه وإعجابه المتناهي بي، إنه مغرم وَلِه. يكاد يحترق بنار غرامه، علما إنه متزوج وله من زوجته -وهي ابنة عمه- ولدان وبنت.
وقد دعاني إلى زيارة مضيفهم، وهو يبعد عن المدرسة مسيرة ربع ساعة. وذهبت بعد يومين من زيارته لي تلبية للطلب. أبصرت في طريقي كوخاً قد تداعت "بواريه" ومالت أضلاعه، وبدأ القدم على لونه واضحاً. فبادرني قبل أن أسأله، وعلائم الفخر مرتسمة على ملامح ووجهه، ونبرات صوته:
- أهنا غسلوا المرحوم جدي!
وأستمر يشرح
- الناس كلهم يتمسكون بيه، ويطلبون شفاعته عند الله، ويقدموا له النذور والضحايا، ويحنون المغتسل [أي يلطخون جداره أو بابه بالحناء]، وهالخيوط اليشدونه بالمغتسل علامة طلب المراد. كان جدي الله يرحمه خير، دين، صايم، مصلي ويحرج "يحرق" اليحلف بيه كذب حرج. حلف بيه واحد مرة كذب، وقبل ما يخطي خطوة طلعت بطنه جير "أي سوداء كالقير"! لو توسط اليتحاربون ونشر حزامه بينهم ما تثور بعد رصاصة! [يبدو أن هذه المعجزة شائعة لجميع سادة القرى!؟].
كنت آنه يا أستادْ أفكر شلون يقدر مولاي صاحب الزمان –عجل الله فرجه- يقابل الإنكليز لو ظهر وعدهم هذا السلاح العجيب. إلا لمن شفت بعيني شلون تسكت البنادق جدام جدي، صرت ما أشوف هاي جدام الحجة (ع) عجيبة.
وحين وصلنا إلى مضيفهم استقبلني عمه السيد من مسافة مرحباً مهللاً. وهب جميع الحاضرين وهم سكوت. وأخذني السيد إلى صدر المجلس، وأستمر بترحابه يكرر ألفاظه بتبسم وانبساط. وانهالت عليّ من الحاضرين –مساكم الله بالخير- من الجميع واحداً بعد آخر. وطاف الساقي بالقهوة السوداء وكان أسوداً أيضاً.
كان بين الحاضرين رجلاً يدعى "علي الحلاوي" انه يسكن في هذه القرية منذ عشرين سنة. هو هنا صانع صرائف، ورباب قدور، وحداد القرية وبناؤها، وطبيبها –جراح فقط- سأل الحلاوي أحد القرويين:
- شزرعت بستانك هذه السنة؟
- ما زرعت. شنهي؟ آنه حساوي؟
- المعيدي  طايح حظه، يكتل الجوع بالراحة، أرضه يأكلها الشوك، وهو هالك من الجوع وما يزرع الخضرة. آه لو كانت هذه الأرض الحلوة بيد فلاح حضري لو عجمي والله يخليه جنة ويحصد منهه ذهب.  
وانفتحت قريحة –الحلاوي- فاندفع يلقي النكتة تلو النكتة، ساخراً بالمعدان [نحن في النجف نطلق هذه اللفظة –معيدي- على جميع القرويين في الفرات الأوسط. ورد في شعر حاج زاير ما يشير أيضا إلى استخفافه بالقرويين وهو يسميهم "معدان" وقواميس اللغة تعرف "المعيدي" بأنهم مربو الجاموس، والجاموس كما يذكر بعض المؤرخين بأنه جلب من جهات الجزائر والمغرب حين كثر فتك السباع بالناس فطلب الحجاج بن يوسف الثقفي من عامل بني أمية هناك أن يبعث بجماعة من المعدان مع حيواناتهم لأنها تستطيع مقاومة السباع.]
- المعيدي شاف الأرض مسينه شال أنعاله بيده يگول "بيه ولا بالحمر" ومن يجي للمرحاض ينزع نعاله!
وانفتل إليه أحد القرويين، وكان معروفاً لديهم بالهزل والظرف، وهب القرويون يشجعونه ضد –الحلاوي-
- اي ابن عفصان! اي ابن عفصان!
- الحضر أهل الطماطة، أهل الحامض، بعيني شفت حضري يبجي ويفرك بعيونه وهو على الزاد ويّه الناس "بعد البذنجان والطماطة لوخ يكلبي!!". وحضري بغدادي نشد أمه عن شيّال السفينه، گالتله أمه:- اسكت يُوم لتنشل -أي لا تصاب بالزكام-!؟. [الشيّال عمود خشبي كبير حسب حجم السفينة يشد به لوح مناسب الحجم للسفينة وعليه الشراع]
ساد المجلس هرج ومرج واختلط هتاف التشجيع بالضحك، فأومأ السيد وسكت الجميع.

بداية شغب
رفاقي المعلمين مازلت لم أندمج معهم، والأصوب أن أقول لم يندمجوا معي. فالبصري يلزم كوخه حالما ينتهي الدوام. وينفرد بنفسه بصورة هي أقرب إلى الكسل منها إلى الأرستقراطية. أما صاحبنا "مدير المدرسة" فأنه قليل اللقاء معنا بعد الدوام. إنه يقصد حي آل حاج "رباط" في الجانب الثاني من النهر، حيث يمضي وقتاً طويلاً من الليل في لعب "البوكر" بينما يلجأ البغداديان معظم ساعات النهار إلى المقهى إن لم يكن لدى "فاضل" تدريب فريق من التلاميذ على لعب الكرة. وبين ألنجفي والبصري علاقة متينة. أعتقد إنها ظواهر فقط، فهو –ألنجفي- كثير الكلام والمزاح، وهو كذلك متين العلاقة مع مدير المدرسة. وأعتقد أنه خبيث ماكر فعلى الرغم من متانة علاقته بمدير المدرسة يغريني أن أبتعد عنه وآخذ حذري لأنه "طائفي النزعة" ولابد أن يقوم بدور مشابه إذا أنفرد به، ربما يوشي ضدي بما هو بعيد عني. لذا عليّ أن أكون حذراً من الاثنين. ويبدو لي أن المدير أخذ يستريب من صلات "ألنجفي" بي فأكثر هو الآخر الصلة بي، وكثيرا ما عرض به ليستكشف نوع الصلة بيننا.
وذات مرة استطعت أن أجعل الحديث عن  الطائفية والعنصرية وأضرارهما بالمصلحة الوطنية. فنحن كشباب مثقف يجب أن نربأ بأفكارنا أن تدنسها هذه النظريات البائدة. إننا في محنة من عيشنا بعيدين عن كل راحة، نعيش عيشة البدو الرحل، منقطعين عن العالم، لا نعرف ماذا يحدث فيه. ثم إن لنا دستوراً يسمى "دستور الشعب العراقي" فما لنا نتعادى بيننا باسم عقائد لم نعتنقها في واقع الأمر. إنهم يقامرون، يزنون، يلوطون، يشربون الخمر لكنهم يتعصبون لشيعية أو سنية!!!
لم يناقشوا حديثي هذا وأعتقد إن الجميع سيعتبرونني صنفاً آخر.
مدير المدرسة دائما يعبر عن "الشيعة" بالعجم، هذا التعبير يؤلمني جداً، فأنا أعتز بقوميتي، ويسوءني أن أنسب إلى قومية أخرى.
وأنفجر اليوم شجار عنيف بين مدير المدرسة والنجفي [هو عبد الأمير بن غني الجواهري، وهو أيضا جاء وظيفة التعليم من صنف المعممين]  من أجل زجاج نافذة الصف الذي تحطم، حين أغلق النافذة بعنف. وأستعمل المدير شتى أساليب الإهانة ضد النجفي فأخذ يستجوبه بحضور بعض التلاميذ كشهود.
- كيف دفع النافذة؟ أكان متعمداً؟ هل كان غاضباً؟
وراح ألنجفي يحاول أن يثبت أن كل هذا جرى لأنه يماشيني! وقد سافر اليوم المدير. ووراء سفره هذا ما وراءه. وفعلاً، عاد مساء يحمل معه أمراً مستعجلاً بنقل ألنجفي إلى قرية "التوبي". فهل سيصفو الجو بيننا من الأكدار؟!
يتبــــــــــــــع
الناشر
محمد علي الشبيبي
Alshibiby1945@gmail.com



142
2- الدرب الطويل
من (ذكريات معلم) للمربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913-1996)

 

مقدمة ألناشر
"الدرب الطويل" هذا عنوان القسم الثاني من "ذكريات معلم". ففي القسم الأول "معلم في القرية" تناول والدي حياته التعليمية في قرى الفرات الأوسط منذ أواسط ثلاثينات القرن الماضي، وكان حينها غير مرتبط بأي حزب أو تنظيم سياسي، وإنما كان يحمل فكراً وطنياً تحررياً متأثراً بما يحمله من تربية دينية متحررة.
كتب والدي في القسم السابق "معلم في القرية/السياسة والأدب" كيف كان يفكر قبل أن يتفتح فكره بانتمائه السياسي. فكتب (هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد إن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه).
وفي "الدرب الطويل" يتناول والدي ذكرياته التعليمية بعد أن أرتبط تنظيمياً بالحزب الشيوعي العراقي، وأحدث هذا الارتباط في حياته وتفكيره تغييراً جذرياً. نعم أنه "الدرب الطويل"، فالطريق الذي سار عليه الوالد بعد ارتباطه التنظيمي طويل وشاق. كله أشواك، وتجوب فيه ضواري بشرية نهمة، لا تعرف حدودا للاكتفاء ولا أي معنى للإنسانية، وكل ما يهمها الدفاع عن مصالحها الطبقية الأنانية وزيادة أرباحها بمزيد من الاستغلال للطبقات الكادحة. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يكون صبورا وشجاعاً، وأن تكون طاقته على التحمل ومقارعة الظلم والإصرار خيالية مع علم بالمصير –كما يقول-. ويشير والدي بكل تواضع إلى إمكانياته وقدرته، ويقارن ذلك بإمكانيات وقدرة شقيقه الشهيد حسين "صارم*" وفي موضوعة "أحلام اليقظة مع ذكريات عن بلدي" يكتب: (الحق إني غير أخي "صارم" ذلك الصلب العنود، الذي وضع رقبته على راحة يده. وهو يؤكد لي دائماً، إن الطريق طويـــل جداً يا علي إنه أطــول من "وادي الأحلام"!؟ ربما لا أستطيع تحديده لك مطلقاً. ربما لا يرى الفجر الذي ننتظره إلا أحفادك، أو بنوهم. أما نحن فمهمتنا أن نعبد الطريق –ما استطعنا- من أجلهم!. هي منه دعابة معي، فـ "وادي الأحلام" إحدى قصصي التي كنت أنحو بها منحى كتابات جبران الرمزية وقد نشرت في مجلة العرفان العدد .... صحيح إني أملك طاقة من الصبر ليست بالعادية، ولكن الذي أختلف فيه عن أخي الشهيد حسين "صارم" هو ليس الصبر وحده، انه الصبر والإصرار مع علم بالمصير!؟)
 جذور الوالد الاجتماعية وتربيته العائلية وتأثره بالمواقف الوطنية لرجال العائلة من آل الشبيبي كالشيخ الكبير جواد الشبيبي وأبنائه العلامة الجليل محمد رضا الشبيبي وشاعر ثورة العشرين محمد باقر الشبيبي. إضافة إلى دور بعض الأساتذة في مدارس النجف من كان لهم دورا في نشر الوعي الوطني، أمثال: ذو النون أيوب، كامل القزانجي، وجعفر الخليلي وآخرون، تركت تأثيرها عليه، فكان يحمل في ذاته خامة أصيلة من الإخلاص والوطنية وخدمة شعبه بعيدا عن المنافع الذاتية والأنانية. ولهذا رفض مقترح عميد الأسرة "محمد رضا الشبيبي" للعمل كقاضي وفضل العمل في التعليم. فكتب: (كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه. /معلم في القرية/ مع المعلم).   
لهذا كله كان المربي الراحل ينظر إلى التعليم باعتباره رسالة إنسانية سامية لمكافحة الأمية ونشر الوعي الوطني، فيكتب: (... معلم يحمل رسالة، يعرف أن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به إلى الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هذين العدوين في حلفهم البغيض. المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها..... هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة./ معلم في القرية/ مع المعلم)
في هذا القسم "الدرب الطويل" يتحدث المربي الراحل عن بداية اكتشافه الطريق الصائب في تحقيق الاستقلال الوطني والتحرر الاقتصادي والقضاء على الاستغلال بكل أنواعه، ولماذا سار في هذا الدرب الوعر. فيكتب: (إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟/الدرب الطويل/ بداية الطريق). ويواصل الكتابة ليؤكد اهتدائه -عبر شقيقه الشهيد حسين "صارم"- للإجابة على تساؤلاته لمعرفة الأسس والمنطلقات العلمية لتحرير البشرية من العبودية والاستغلال. فقد حدث تطور هام وحاسم في حياة شقيقه الشهيد حسين. أنعكس هذا التطور إيجابيا أيضا على فكر ومنهج والدي في الحياة التعليمية والاجتماعية.
 في أيار/حزيران(1) من عام 1941 نشر الشهيد مجموعة من المقالات السياسية والاجتماعية في مجلة "المجلة" لصاحبها ذو النون أيوب. وقد أعجبت هذه المقالات هيأة تحرير مجلة "المجلة" ووجدت في الشهيد حسين وكتاباته وعياً طبقياً فطرياً، وقدرة جيدة على التحليل، إضافة لتمتعه بصلابة واستعداد للتضحية. وبناء على هذا التشخيص استدعته هيأة تحرير مجلة "المجلة" لمقابلتها. واعتقد أن هذا الاستدعاء حدث في تموز/آب(1) 1941. وسافر الشهيد لمقابلة هيأة تحرير "المجلة"، وهناك ولأول مرة قابل الشهيد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي "فهد*".  فيكتب والدي واصفا مشاعر شقيقه حسين بعد عودته من أول لقاء بالشهيد الخالد "فهد": (عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها./ الدرب الطويل/ بداية الطريق)
وهكذا بدأ والدي، في بداية النصف الثاني(1) من عام 1941، عبر شقيقه الشهيد حسين  العمل التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي. وقد صادف بداية انتظامه فترة الحرب العالمية الثانية وتأثيراتها على الطبقات الفقيرة والمسحوقة وما سببته من ارتفاع الأسعار وانتشار الفساد الإداري والمالي وانعكاسه على الشعب. وكان من باكورة نضالهم في مدينة النجف المبادرة لكشف الفساد، والمفسدين من المسؤولين الإداريين. مما سبب نقمة السلطات السياسية عليهم ومحاربتهم من خلال النقل الإداري والفصل والاعتقال.
كان لانتمائه للحزب الشيوعي تأثيره الايجابي في طريقة تفكير الوالد في إداء رسالته التعليمية، فيكتب : (الواقع إني غيرت كثيراً من نظراتي في مواد دروس العربية، في الأمثلة، ومواضيع النحو، في الإنشاء، والمحفوظات. سخرتها جميعاً لبث الوعي، ولكن بحكمة، وأسلوب لا يثير./الدرب الطويل/ مدرستي)
وبحكم جذور الوالد الدينية، حيث كانت دراسته ذات أساس ديني، كما خطط له والده، نجده دائم الاستشهاد والمقارنة بآيات قرآنية أو أحاديث شريفة. فهو ينتقد بشدة المفاهيم الخاطئة لدى بعض المتشددين الروحانيين، ويفضح التناقضات الصارخة في سلوكيات البعض. كما يفضح أساليب التضليل وتخدير المجتمع من قبل المسيطرين على المؤسسة الدينية من رجعيين ومتخلفين، من خلال نشرهم المفاهيم والمقولات المخدرة فيكتب (كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين، كقولهم: "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!"/الدرب الطويل/ بداية الطريق) 
خلال تنقله بين مختلف المدارس المنتشرة في مناطق الفرات الأوسط، واحتكاكه بمعلمين بمختلف المستويات والانحدارات الاجتماعية والقومية والمذهبية، تعرف من خلال ذلك على الأفكار الطائفية والقومية المتطرفة وتأثيرها على الوحدة الوطنية والوعي الوطني، فاكتشف في الفكر الاشتراكي العلمي العلاج الوحيد والأنجع لمرض الطائفية والتطرف القومي. لذلك لم يكن تبنيه للفكر الثوري عبثياً أو مزاجيا وإنما عن قناعة مطلقة بصواب هذا الفكر، فكتب: (وإذا اختَرتُ طريق الاشتراكية العلمية، فذلك لأني أدرك أن رجال المال من أية قومية، عرباً أو فرساً أو أكراداً إلى آخره، هم الذين عملوا ويعملون لإثارة النعرات القومية والطائفية ليلهوا الجماهير عن معرفة أسباب بؤسهم وشقائهم. ليبقوهم عبيداً يشيدون الجنان ويوفرون بكدحهم كل أسباب الرفاه لأولئك الأسياد./ الدرب الطويل/ المعلم النطاح)
ويتحدث الراحل باختصار عن نشاطه الحزبي الذي استمر فقط لست سنوات تقريبا (1941- 1947). ساهم خلالها مع بعض رفاقه وبأشراف شقيقه "حسين" على وضع الأساس المتين في بناء وتطوير تنظيم الحزب في النجف. فبعد أن تخلى بهدوء عن قيادة المحلية المعلم إسماعيل الجواهري، أصبح الراحل مسؤولا عن محلية النجف منذ أواخر عام 1943. كما ساهم بحضور الكونفرنس الحزبي الأول ومؤتمر الحزب الأول. للأسف يتجنب الوالد الحديث عن هذه الأحداث المهمة بالتفصيل، وذلك خوفا من وقوع مخطوطته بيد أجهزة الأمن في العهد الملكي والعهود التي تلته، إضافة إلى ضياع الكثير من مدوناته المهمة بسبب سوء الأوضاع السياسية، كما هو يشير إلى ذلك.
ولا يتهرب الوالد من الحديث عن الصراع الذاتي الذي عاشه قبل أن يتخلى عن العمل الحزبي المنظم. ففي موضوعة "أتق شر من أحسنت إليه" يكتب بشجاعة وصراحة نادرة: (أحس في نفسي صراعاً حاداً، هل أستمر، أم أضع للأمر حداً؟ ....  إني في صراع عنيف مع نفسي، أشعر بضعف ينتابني، بل يسيطر عليّ. ومن الخير أن أتنحى كيلا أخسر شرف الكلمة، وأجني على سواي، بلطمة من شرطي، أو تعذيب في ضربات خيزرانته فينهار بناء، وأكون مثلا ولطخة عار). ويواصل الكتابة ليثبت تأريخ أعتزاله العمل الحزبي، ورفضه طلب مرجعه الحزبي "مالك سيف" للانتقال إلى جانبه للعمل الحزبي في بغداد وإصراره على قرار التنحي من المسؤولية والحزب، فيكتب (وأجبت، أصر على ذلك .  كان ذلك في 12/10/1947، ولم ألتحق بعد هذا بأي جماعة). 
ويؤكد الراحل بألم من خلال كتاباته عما أصابه من إجحاف وتشويه من قبل أحد أصدقائه بعد أن ترك المسؤولية الحزبية لهذا الصديق. لذلك يكتب عن هذا ببعض التفصيل والألم. وهي قصص كنت أسمعها من الوالد والوالدة عن موقف هذا الصديق. فكتب ما يلي: (لم أكن مطلقاً أفكر بأي احتمال، فقد ألقيت عن عاتقي عبئ كل مسؤولية، وطلقت العمل الحزبي، وخرجت من العهدة، دون أن أكون آثماً بحق أحد، وعلى علم من صديقي "م" والذي ألتزم المسؤولية بعدي! أليس هو رفيق الشباب، وأيام جامع الهندي، وأندية النجف الأدبية. ومنه تعرفت على المجلات التي تعني بالفكر التقدمي!؟/ الدرب الطويل/ ليد القدر).
ويؤكد المربي الراحل دائما أن السبب الذي دفعه لاعتزال العمل الحزبي شعوره وتقديره بأنه غير قادر على تحمل تبعات ومسؤوليات العمل الحزبي، والتوفيق بين مسؤولياته الحزبية وواجباته العائلية. لكنه يشير في أكثر من مرة في مذكراته، أن تركه للعمل الحزبي لم يعفيه من هذه التبعات والمسؤوليات ولم يبعده عن النضال بصلابة من أجل القضية الوطنية. واستمرت الأجهزة الأمنية دائما بالتعامل معه وكأنه أحد قادة المنظمات الحزبية، وأحياناً يرون في سلوكه وعلاقاته الاجتماعية أكثر خطورة من أي مسؤول حزبي!؟
وبالرغم من اعتزاله العمل الحزبي منذ أواخر تشرن أول 1947، لكنه يصر على مواصلة النضال والإخلاص لرسالته التعليمية السامية كما آمن بها. فيكتب رسالة لصديقه ورفيقه السابق "جواد كاظم شبيل" جاء فيها: (... ولكني أفهم إني واحد من ملايين في بلادي تكرع كؤوس الشقاء. وعلينا أن نواصل المسير في توعية الذين يبنون الحياة بسواعدهم./ الدرب الطويل/ رسالة إلى الكبائش). وبقي الراحل مخلصا لمفاهيمه التربوية والوطنية إلى آخر أيامه. لذلك فإن الأجهزة الأمنية في كل العهود كانت تضايقه وتضعه في رأس قوائمها وتنشر حوله هالة من المسؤولية الحزبية لتبرر ملاحقاتها ومضايقاتها له!.
في بعض الأحداث تطرق الراحل لبعض الشخصيات فتجنب ذكر أسمائهم الصريحة، وأحيانا كان يشير إليها بالحرف الأول، ومرات أخرى يشير إلى الاسم بنقاط -فراغ- لكنه يذكر الاسم كاملا في هوامشه. فكتب في أحد هوامشه تحت عنوان "مدرستي": (لم أصرح بأسماء بعض الذين أذكر عنهم شيئاً، خصوصاً إذا كان ما فعلوه غير مستساغ، فقد انتهت حياة أكثرهم. المهم ذكر ما فعلوه، ولهم الرحمة). لذلك وجدت أن التزم بما انتهجه الوالد في تجنب ذكر بعض الأسماء.
*         *         *         *
1- لابد من التأكيد من أن ارتباط الشهيد حسين "صارم" بالحزب وبالتحديد بسكرتير الحزب "فهد" كان في أواسط عام 1941. وللأسف لم يشر والدي في ذكرياته مباشرة في أي شهر بدأت هذه العلاقة. ولكن من خلال ربط وتسلسل تأريخ بعض الأحداث التي ذكرها الوالد يمكنني أن أجزم، أن الأشهر المثبتة هي الأقرب إلى الصواب والدقة.   
*- "صارم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي حسين الشيخ محمد الشبيبي. و"فهد" الاسم الحزبي لمؤسس وسكرتير الحزب الشيوعي العراقي الشهيد الخالد يوسف سلمان يوسف. و "حازم" الاسم الحزبي للشهيد الخالد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي زكي محمد بسيم.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@hotmail.com 


2- الدرب الطويل/ 1
بداية الطريق
كان لي في الشهر الثالث من إقامتي مع أهلي ما يسليني عن همومي بسبب حرماني من أية بهجة في حياتي العائلية. فقد جد جديد طالما كنت أحلم به.
إني أكره الاستغلال. أحب أن أتحرر فكرياً. كم تمردت على بعض العادات. كم أطلقت لنفسي العنان في مجال اللهو. وتهربت من كثير من الالتزامات. كم شاركت بالحركات الوطنية، وأحببت أفكاراً خلتها هي السبيل الصائب إلى تحرير نفسي، وتحرير بلدي وأمتي. ولكن ما هي القاعدة الأساسية والعلمية إلى تلك المنطلقات؟
قبل هذا أرسل أخي "حسين" مقالاً إلى مجلة "المجلة" ثم وصلت إليه تذكرة من هيأة التحرير تستدعيه. عاد بعدها وعلى وجهه شعاع مبهج، وبين جوانحه عزم يكاد يطير به. أسرّ إليّ أمراً. علمت أن "المجلة" لسان فئة نذرت نفسها لتحرير الفكر، وتحرير الوطن. إنها تنهج في سلوكها منهجاً علمياً. وفق أحدث نظرية أثبتت علمياً إنها هي ولا غيرها الطريق إلى تحرير الإنسانية من العبودية بكل أشكالها. وبعد مدة جلب عدة نسخ من مجلة المجلة، لصاحبها الأديب المعروف "ذو النون أيوب" الذي كنا نعرفه قبل سنين مديراً لثانوية النجف مع نخبة من المدرسين منهم الشهيد كامل قزانجي. ولعل لهما التأثير الأولي في التوجه السياسي والفكري لأخي الشهيد حسين.
لم نستطع كبح جماح ما ساورنا من فرح طاغ. وما أشاع في نفسنا من عزم بحيث لم نلتزم السرية التي أكد هو على ضرورة التزامها. لذا أكثرنا من خوض بحوث شتى مع الوالد. كان أكثرها عن السياسة والحرب العالمية. عن العملاق الجديد الذي يتحمل العبئ الأكبر في مدار هذه الحرب.
بعد أسبوع من مفاتحته هذه لي سافر ثانية إلى بغداد، ثم عاد يحمل نشرة من عدة وريقات. حين قرأتها ألهبت جوانحي. غيرت هدوئي وسكوني، أطلقت لساني. فقد وجدت جديداً أتحدث به. ولكنه أسرّ إلي "أعطها لمن تثق به، وليعطها هو أيضاً لمن يثق به. خذ منهم مساعدة، ثمن العدد".
أخذتها عصر يوم إلى أحد زملائي "عبد الأمير السكافي" في المدرسة. أوصيته بلزوم السرية في أمرها. وأتصل هو ببعض زملائه في مدرسته أيضاً. وعبد الأمير هو صديقي المأسوف على شبابه، كان أول الأمر معلماً في مدرسة السلام الابتدائية. ثم التحق بكلية الطب وواصل دراسته فتخصص بطب الأمراض البولية، وأستشهد مع أخيه بحادث احتراق سيارتهما في بداية عام 1959.
زميلي خاب سهمه. فقد أسرّ بالأمر إلى شقيقه. لم يكن يعلم أن شقيقه ممن خدع بزعامة الفوهرر. كان شقيقه "المحامي حسن" رساماً بارعاً. وقد عمل صورة للفوهرر على قطعة صغيرة من القماش كتب تحتها "هتلر زعيم الشباب العالمي" وثبتها تحت ياقة سترته على الصدر. وقد عدل "حسن" من رأيه السابق بعد ثورة 14 تموز.
هذا أول الغيث. أتصل شقيقه بخاله، وأشار عليه بضرورة منعي من دخول بيتهم. ولما لم يتدخل خاله بجدية، اضطر لإفهامه بالواقع. يبدو أن البرجوازيين أكثر إدراكا لخطورة الفكرة على مصالحهم. فقد أنذر "حسن" خاله أن لا يسمح لي بزيارتهم، أو أن يطردني هو بصراحة!
ولكني واصلت تزويد زميلي بما يرد من نشرات. كنا نتدارسها أحياناً سوية. أما بيتي الذي انتقلت إليه، فقد صار ملتقى من جمعهم أخي. ولست أدري كيف أستطاع وبسرعة، تكوين أكثر من خلية. جلهم من المعلمين. هؤلاء كانوا مثلي مارسوا النضال على غير أساس. ومع كونهم من المعدمين لا أتوقع استمرارهم. فما نقرأه في النشرة، وما يلقيه أخي علينا من محاضرات مخيف يثير الرعب في نفوس القانعين، وطالبي العيش الهادئ، ولو كان عيش الكفاف. كنت أحس هذا في تعليقات بعضهم. حتى النكات والطرف التي يتبادلونها كانت تشير إلى تأرجحهم. ولكني واثق إنهم كانوا مدركين جيداً إن الفكرة هي خلاصة ما اهتدت إليه البشرية من أجل خلاصها وإلى الأبد من كل الويلات التي عانتها خلال مسيرتها في مختلف العصور والمراحل. ولكنهم وا أسفاه لا يطيقون ولا يتحملون مشقة النضال.
هذه دوامة جديدة أنستني كل هم كنت أواجهه، حين أعود من المدرسة إلى البيت. فأجد الوجوم مطبق على جو البيت كغيمة سوداء، والوجوه متجهمة. من هو المسيئ الحقيقي يا ترى؟ ما نوع الإساءة؟ لست أدري! ولا أحد يدري!
صرت أعود متأخراً إلى البيت. عذري لدى أبي مقبول. كلما سألني عن تأخري. أجيبه "إنها بداية. لابد أن نواصل العمل من أجل تجميع الشباب الناضج". وعكفت على مطالعة ما زُودنا به من كتب ومجلات. ولكن عليّ أن أعترف أن بعض المواضيع كانت عسيرة عليّ.
"صارم"  كثير الأسفار، قد يسافر أكثر من ثلاث مرات في الشهر الواحد. ذات مرة أستلم من راتبه ديناراً ونصف فقط. ذلك لأنه يضطر أحياناً أن يسافر دون أجازة بالتغيب. صارم هو الاسم الحزبي لأخي حسين الذي عرفته به منذ التحق بركب النضال ولكنا كنا ندعوه "أبو علي".
حقاً إننا جازفنا، واندفعنا بنشاط، نتحدث، ونناقش. وأحياناً نتحدى بدون تحفظ! وكأن الهدف الذي نسعى إليه قريب جداً. إنه في الواقع ليس كذلك. إن ما نناضل الآن من أجله، ليس هو الاشتراكية. النضال اليوم وطني بحت، من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، من أجل قضية الأرض للفلاح، من أجل تجميع القوى الوطنية على اختلاف اتجاهاتها على خطة نضال مشترك، ضد العدو المشترك "الاستعمار والاستغلال"، ولكن بسلاح لا يخيب هو النظرية العلمية. الضوء الذي ينير أمامنا الدروب المتشعبة، فنتجنب بفضله التيه والظلال.
كم عانت البشرية في تأريخ حياتها منذ القدم. كم عدواً كانت تقاومه. الأمراض الفتاكة، والكوارث الطبيعية من زلازل وصواعق وطوفان وتفجر براكين، وسلطة الأقوياء والمستغلين. كم من الأنبياء أناروا الدروب بدمائهم. وركب البشرية يواصل المسير، وكلما حقق حلماً كان عتاة البشرية وشياطينها ينقضون على ثمار الجهود، وتضيع الدماء، ويضيق الخناق من جديد. ويبدأ صراع جديد. واليوم، في هذا العصر، وقد نمت في العالم الطبقة الأكثر وعياً –الطبقة العاملة-، الطبقة التي في وحدتها ونضالها لا تخسر سوى قيودها، والتحرر من الاستغلال، بفضل نظريتها العلمية.
كان الوعاظ يعينون الطبقات المتنفذة، بما يبثونه من فكرة بين أوساط الكادحين والمستغَلين "الفقراء عيالي والأغنياء وكلائي. وخير وكلائي أبرّهم بعيالي!". وملّ العيال من أولئك "الوكلاء" الذين كانوا يرشون به الوعاظ بما يقدمونه لهم من منافع، ليزيدوا من مواعظهم المخدِرة. بدأ هؤلاء "العيال" يرفعون رؤوسهم، بدأ هؤلاء "العيال" يدركون الحقيقة الصائبة. هي رفض أولئك الوكلاء.
مرّ شتاء هذا العام  شديداً قاسياً. جمدت فيه الأمواه في الأكواز. ووجد كثير من البؤساء قد ماتوا وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء. ولم ينلهم من أولئك الوكلاء غير بضعة أذرع من القماش هي الكفن. ومنّ الواعظ متكرماً بترديد الصلاة على أرواحهم، راجين لهم من الله المغفرة!؟.
هؤلاء الوكلاء اليوم ، وفي محنة البشرية في هذه الحرب المدمرة في شغل شاغل، يخفون البضائع ليوم قريب يتعسر فيه الاستيراد، حيث سيكتسح الفاشست معظم بلدان أوربا، وسيدنو الخطر من بلدان آسيا. وتسيطر، على كل ما يهم الناس من مواد الغذاء، الحكومات ذات الشأن، من أجل المجهود الحربي، الذي لابد أن يكون للبحار والحرائق منها القسط الأوفى، ويغور قسط آخر في مخازن وكلاء الله الخفية.
ذات صباح في هذه الأيام وجدت أحد الوعاظ على المنبر يصرخ بالمستمعين "يصبح واحدكم يسأل عياله –قبل ذكر أسم الله- ماذا تريدون للغداء؟ ماذا نلبس؟ ... ماذا تقولون غداً لنبيكم؟! شُغلنا بالمأكل والملبس!؟".
كان يتحمس بالقول، ويضرب على فخذه أسفاً. المستمعون كان ثلة من الفقراء، رجالاً لم يجدوا خيراً من الصحن العلوي ذي الظل الظليل، أنه المنتزه المجاني. هم لا يجدون ما يسمح لهم بجلسة في مقهى، ونساءً لا يدور في صدورهن إلا الهموم الثقيلة.
أما السيد الواعظ فان على رأسه عمة سوداء من أغلى القماش، وجبّة واسعة الأكمام من القماش الصوفي الفاخر، أما عباءته فإنها اليوم ذات ثمن عالٍ.
وحين عدت إلى البيت ظهراً صادفته يحمل قنينة "شرابت" من عصير البرتقال؟! وينتظره في البيت غداء رائع "الفسنجون" مع رز العنبر. والفسنجون أكلة أرستقراطية فارسية الأصل قوامها، الجوز المبروش -بنعومة عالية- مع دبس الرمان والماء وطبخه مع الدجاج أو البط!. ويزاملني معلم شيخ "حميد خان"، وهو من أصل فارسي من عائلة شهيرة في النجف وكربلاء، كان في الأصل معمماً أيضاً. يراجعه سمسار معروف في المحلات التجارية. أشترى له كميات كبيرة من القماش الأسمر، وحجر الزناد، والفلفل الأسود. هذه مواد مازالت نسبياً رخيصة الثمن ولكنها في الأيام القابلة لها شأن. وأشترى قبل عام ما يقرب من ألف متر مربع في موقع ممتاز من محلة "غازي" بسعر درهم واحد للمتر. انه معلم، فماذا سيعمل التجار الحقيقيون؟
 

 
يتبــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد    ‏06‏/11‏/2010
alshibiby45@gmail.com


143
1-   معلم في القرية/ 22
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)



عائلتي

ملاحظة هذه الموضوعة أدرجها الوالد من ضمن موضوعة (وشوشة بين الناس) التي نشرت ضمن الحلقة السابقة. وقد فصلتها لطول الموضوع، وأعطيتها العنوان (عائلتي) لأنه يتحدث فيها عن العائلة/ الناشر.
إني فرح الآن بوليدي الجديد الثاني [هو أبني هَمّام الذي ولد في 10/2/1941 وتوفى في 30/8/1973 فترك في نفسي لوعة لا تزول إلا يوم الحق به!]. إنه وديع هادئ للغاية، لا يشبه أخاه الذي كان كثير القلق في يقظته ومنامه. عمه "حسين" يحبه كثيراً. وذات صباح طرق باب البيت قبل شروق الشمس مع أحد أساتذتي [الشيخ وأستاذي. أعني بهاتين الكلمتين المرحوم الشيخ قاسم محي الدين. كانت علاقتنا به وطيدة عن طريق ابن خاله الدكتور عبد الرزاق محي الدين. كان من أهل الفضل والأدب، وتجلت براعته في تدريس علم العروض. وكان ظريفاً ومن ذوي النكتة الأدبية البارعة. ثم لما أشتد أوار الحرب وأنشطر الناس بصراحة عند دخول الإتحاد السوفيتي الحرب ضد ألمانيا النازية، فإن علاقتنا خفت معه ومع الدكتور إذ إنهما يؤيدان الحكم الملكي ورجاله]. قال إنهما جاءا مشياً على القدم من النجف دون أن تكون لهما نية الوصول إلى الكوفة، لكن أستاذي وقد أنهكه التعب، ردّ عليه: "لا والله إنها خدعتك، أشغلتني بالحديث فأنسيتني مشقة المسير". قلت: "لابد إن الحديث ملذ فوق التصور". أجاب إن أخاك مزج السياسة بالأدب. بدأ الحديث من باب الأدب ثم زجه بالسياسة، وما يتمخض عنه الوضع العالمي. ثم قال مازحاً: "لاشك إن الخسارة الآن تقع عليك، فإن المشية استنفذت كل ما في الجوف. فهيا أسرع وقدم ما يعوض".
وعاد أخي يحمل صغيري ذا العيون الخضر كان يقلبه، ويحدث الشيخ: ظننت إنه نائم. لكني وجدته يحدق في الفضاء من داخل "الكلة" ويناغي بمرح هادئ. وأمام الشيخ قال أخي: "أحب أن أعرض عليك أمر انتقالك إلينا، إلى النجف. وفي بيت أبينا تستقل في جناح منه. أبي تقدمت به السن. أنا وأنت ولداه اللذان يستطيعان أن يكفياه أمر العيش، وإدارة شؤون العيلة. ما رأيك؟ إنك لاشك تعرف مدى ارتياحه وسروره وهو يرى ولدين له يقومان على خدمته". قلت: إني أخشى أن أفقد حبه إن تأججت يوما ما نار الفتنة بين العمة والكنة، ونفحت فيها –الوحيدة- فزادتها اشتعالا". أجاب: إنه يتعهد ويضمن أمر السلام وحقوق الجميع.
- وثوقي بك أكبر وأكبر. وثوقي بأربعة في جبهة أغلب من أثنين في جبهة وإن كان لها الحق، ومع هذا فدعني أفكر.
لكنه عاد فأكد: إن هذا ضروري. وأقترح أن تمهد له بدعوة الوالد وبعض الأصدقاء إلى ليلة في مسجد الكوفة. عشاء حسب مقترح الوالد مع القهوة والشاي لسهرة شاعرية، يحدد الوقت المناسب لها. صفق الشيخ لكل ما سمع، وأنهال علي بسيل من المواعظ والنصائح.
بالطبع أنا فاتحت صاحبتي بما فوتحت به من أمر الانتقال. ما من شك إن كل زوجة تؤثر الاستقلال على حياة الشركة. أنا أيضاً أومن أكثر بأن ذلك أفضل، وأحفظ للحب والسلام. الاستقلال رغبة غريزية في بني الإنسان، ولهذا هم يكرهون هذه الحرب القائمة اليوم.
زوجي تثق بي كثيراً. لذا لم تبد أية معارضة. إنها واثقة بأن رصيدها قوي. إنه الثقة بي أولاً في حرصي على سلامة حبنا، ومستقبل أطفالنا على أن لا يشبوا على حياة مشوبة بالكدر. وثانياً، نفوذ شخصية أخي بين والديه وأختنا الوحيدة.
في تلك الأيام أيضاً، أيام نيسان ذي الريح المعطر من أريج الأزهار، وأنفاس الربيع، كنت قد وعدتها أن أمتعها بسفرة مبهجة إلى الهندية، إلى صاحبتها أم عزيز، وعلى طريق النهر.
واقبل الليل فأطبقت عليّ الوحشة قبل أن آوي إلى البيت، بعد الفراغ من التدريس المسائي. آواه ... قلت لنفسي. تذكر أيام العزوبة. عش الليلة وحدك. أما هذا فعز صحيح. إذ ليست هذه المرة الأولى التي أعيش لوحدي كأيام العزوبة. ففي أيام الولادة كنت أعيش منفرداً في البيت رغم قرب الكوفة من النجف. إن الإنفراد أحياناً ملذ. فهو يصقل النفس، ويفتح أبواب الشوق من جديد.
وتذكرت بعد الغروب، لابد أن الراعي قد عاد بالخروف فوجد البيت مغلقاً، فأين ذهب به؟ أسرعت، سألت الجيران. كانوا لا يعلمون شيئاً. وحين دخلت البيت وجدته مربوطاً كالعادة، وهو يقضم الجت أمامه.
لم أندهش للأمر، الراعي يعرف هذين البيتين بينهما باب داخلي. وجارتنا زوج الشرطي استلمته منه وقامت بما يلزم. حسناً وماذا بعد؟
قلت لزوجي يوماً. ما قصة جارتنا هذه؟! حين أدخل بيتي تسرع إلى الهرب كالبرق الخاطف. وأحيانا يكون دخولي على غفلة، أحس إنها كمن يرتجف من خوف.
- هي كذلك تماماً. قالت زوجي وأردفت: إنها خجولة لحد بعيد!
- لا عليك هذا دجل. أترينني ذئباً أو حيواناً مفترساً؟! ثقي يا عزيزتي إن المرأة الواثقة من نفسها لا تجد هذه الأساليب حاجزاً يدفع عنها سوء الظن، أو يرد الطمع بها.
دافعت عنها كثيراً، وأثنت عليها كثيراً أيضاً.
حين عدت في ساعة متأخرة من الليل. في صحن الدار قريباً مني سقطت حجارة. رفعت بصري نحو مصدرها. فدهشت للأمر المفاجئ. وجه مضيئ، أنعكس ضوءه على الشعر الأسود الفاحم فبان له لمعان، وابتسامة نمت عن أسنان شديدة البياض. وتحية بالكف، ودعوة صريحة. آتي أم تأتي؟
أين أنت يا أم بنيّ. لو رأيت ما حدث. الخجولة شجاعة فوق ما تتصورين، وهي لم يسبق لها قبل هذه اللحظة أن كلمتني ولا مرة واحدة. حديثها الآن ودعوتها بتوسل، كلها إيماء وإشارات. أما أنا؟ ستضحكين مني كثيراً، ستغرقين بالضحك من جبان مثلي. صرت أرتجف، أسناني تصطك وتطقطق. وأسرعت إلى غرفة النوم. ولما هدأت قليلاً، بعد ارتداء ملابسي البيتية. خرجت للحاجة وأعداد الماء في الصراحية. فوجدتها لم تبرح مكانها. كانت تلح بالإشارات: أصعد. مالك. تعال. هل أجيئ أنا؟!. وعاودتني الرجفة فعدت إلى الغرفة. وتمددت في الفراش. ترى ما يدعوها إلى هذا. لماذا تخون زوجها المسكين. وهو خفر هذه الليلة!
أبداً لابد لمحاولاتها هذه سبب وأسباب. أنا أعرف سلوك أمه العجوز، ذات اللسان السليط، واللهجة البذيئة، والصوت الوحشي، وهي تقذف بوجه كنتها هذه أبشع التهم، وأقبح الألفاظ. زوجها شاب جميل الصورة، رشيق القوام، طيب في اللقاء، ظريف ومؤدب. يشتغل كاتب في مركز شرطة الناحية –هنا-.
إنه جاري، معاذ الله أن أخونه. بالأحرى أن أقول: إنني لن أخون زوجتي ..... وغرقت في بحر من الأفكار. لن أخونها ... أجل. وهي لن تخونني.
حدثت صديقي "الشبري" كيف عففت، السبب إنها جارتي. وذات بعل. لكن صاحبي كفخني على جبهتي وقال: "الله ينطي الجوز للماعنده سنون"! [مثل شعبي. معناه إن النعمة كثيراً ما تكون لدى من لا يحسن التمتع بها. وكفخني أي لطمني، وهي عربية وقد وجدتها أدق تعبيراً من لطمني حسب الاستعمال الشعبي لـ "كفخ"] 
لست أعرف حدود عفتي. فقد سبق قبل عام أن عَلِمتْ فتاة، تعرفت عليها عندما كنا جيران لهم، إني وحدي في البيت. فدخلت عليّ دون سابق علم. تحرشت بي كثيراً. شاركتني طعامي الذي أعددته على قدر حاجتي. مازحتني كثيراً بحيث كان أسلوبها دعوة صريحة. لكنني تجهمت، وبصراحة هددتها وأمرتها بمغادرة البيت، بعد إزجاء النصيحة لها. إنها فتاة باكر. فلا تفرط بحيائها، وتقذف بنفسها إلى هاوية قذرة.
عففت أذن مرتين، مع هذه، لأنها فتاة، ومع زوجة الجار لأنها ذات بعل وجارة. ويح الإنسان في تُخمته ونهمه، وفي جوعه وحرمانه. في أمانه وانطلاقه، وفي خوفه وانكماشه.   
حركة مايس
فوجئنا بسقوط وزارة الهاشمي، وتأليف الوزارة من قبل رشيد عالي الذي أحتل الحكم احتلالا، وسمى حكومته "حكومة الدفاع الوطني"، وقد فرّ على أثر هذا الوصي عبد الإله.
لم تكن لأكثرية الشعب الثقة المأمولة برشيد. فقد عرفت عنه جماهير الفرات الأوسط طائفية لا خير فيها. ينقلون عنه كلمات لم ينسوها، أثناء انتفاضات الجنوب "الديوانية، وسوق الشيوخ"  حين قال (ما لازم ديوانية ولا سوق الشيوخ) وهو يريد بهذا أن لا مانع من محوهما وإفنائهما؟!َ
إنهم يحنقون عليه، حتى لقد زعم الكثيرون، إنه ليس كيلانياً، كانوا يسمونه "ابن عَلْيه" بدلاً من عالي، ومع ذلك فقد هب الشعب جميعاً لتأييده في موقفه هذا، معبرين بذلك عن عدائهم للإنكليز. هم ينشدون المنقذ المخلص –كان من كان- المهم أن يكتل الشعب ويطرد الإنكليز. وبلغ بهم الكره إلى حد إنهم صدقوا أدعاء ألمانيا النازية بأنها تريد إنقاذ البلاد العربية، وفي مقدمتها فلسطين! لأنها العدو الألد لليهود. كانت الإشاعات تتوالى: إن ألمانيا ستخف عند اللزوم لمساعدة العراق!
حكومة الدفاع الوطني عينت الشريف شرف، وصياً على العرش بدلاً من عبد الإله. ودفع الناس لتوقيع برقيات التهاني باسم الشعب. مسكين هذا الشعب. ترى هل يقوم بهذا لو ترك وأمره. لم يخسر فلساً واحداً من أجل البرقيات. أثمان البرقيات كانت تدفع من المخصصات السرية. هذا ما لاشك فيه. الشريف شرف هو أحد أسرة شرفاء مكة، وجاء العراق مع الملك فيصل الأول.
حين وصلت كتائب جيش الإنكليز إلى البصرة في 20/4/1941 رحب بها رشيد أول الأمر. ولكن الخلاف وقع أخيراً بينه وبين الإنكليز. وأخذ الجيش يبني الاستحكامات. وهب الشعب يتظاهر، ويعلن استعداده للجهاد.
في فجر اليوم الثاني من مايس أعلن وقوع التصادم بين قوات الإنكليز  والجيش العراقي في الحبانية.
في النجف مجنون يدعى "إبراهيم حلوسه" ضاعت له إبرة في سرداب ولكنه أخذ يفتش عنها في سطح الدار. أجاب حين سئل: السرداب مظلم والسطح مضاء بنور الشمس!؟
هكذا بدا حال الإنكليز، حين يندحرون أمام جيوش هتلر، عاودوا هم احتلال بعض الدول الصغيرة المرتبطة بركابهم –إيران، العراق ومصر-. يقال إن هيس، الرجل الثاني بعد هتلر، هبط بمظلة. وصرح للإنكليز: إنه جاء لإنقاذ الإنسانية! ويل للإنسانية لو تم التفاهم بين النازية وديمقراطية بريطانيا. [في 30/4/1941 أعلن عن هبوط هيس بمظلة قرب كلاكسو بأسكتلدا وبعد ثلاثة أيام أعلن تصريحه]
كان نيتشه "نبي النازية" يتحدث عن هذه الديمقراطية وبريطانيا، فيقول: (ألا من يُخَلِص الديمقراطية من بريطانيا ويا من يخلص بريطانية من الديمقراطية؟!). ويتمنى لو أتحدت ألمانيا وروسيا (وحش أوربا الضاري؟.... أذن لسادتا العالم). حلم نيتشه هذا أفسده هتلر. آراء نيتشه هذه منقولة عن كتابه الشهير "هكذا قال زرادشت" والجمل المقوسة هي نص ما قرأته فيه.
هكذا !؟ كلا ... إنه فاسد من أصله. فنظرية نيتشه لا تلائم طبيعة الحياة، وهتلر الذي أخذ بها سيفشل لا محالة. هتلر لا يتفق مع روسيا، لأن روسيا أصبحت اشتراكية. اشتراكيتها حلم المستضعفين. كيف يمكن أن تلائم الذين يدينون بنقاء الدم الألماني –الأزرق- ويكرهون الضعف والضعفاء. وحتى المرأة والحب، هما أيضاً عندهم من رموز الحب!. وينسى هتلر. وتنسى الدولة الرأسمالية إن أولئك الضعفاء في عهد قيصر، أصبحوا أقوياء. ومع ذلك فقد أرسل رسوله "هيس" إلى الإنكليز، ليحرك عواطفهم، إلى حلف ضد هؤلاء الضعفاء. ليقوى على هضم "اللقمة ...العسيرة الابتلاع"، هذه العبارة منقولة عن كتاب كفاحي لهتلر. إذ يقول: (إن روسيا عسيرة الابتلاع، ولكن لابد من ذلك).
الناس مجمعون على قدسية الجهاد. أنا أيضاً. لكني موقن إن المسألة ستبوء بالفشل. فالسلاح الذي يحارب به جيشنا كان من الإنكليز والذين دربوا هذا الجيش كانوا انكليزا أيضا. الإنكليز يعرفون عدد الرصاص الذي يملكه جيشنا. وكل ما لدى جيشنا من معدات. طائرات ومدافع ورشاشات. وحتى الدروب التي يسلكها الجيش للدفاع. وللإنكليز أحبابهم من شيوخ العشائر، والذين ذاقوا حلاوة كراسي الوزارات ومجلس النواب والأعيان. تنص بعض بنود معاهدة 1930،  يجب أن يحتفظ الإنكليز في أيام السلم بالقواعد الجوية الكائنة بالقرب من البصرة والحبانية، وعلى حق مرور القوات العسكرية والتجهيزات المقتضية في جميع الحالات. وأن يبذل العراقيون في أيام الحرب جميع التسهيلات بما فيها استعمال السكك والأنهر والموانئ والمطارات.
طلب مني مدير ناحية الكوفة أن أهيئ بعض الكلمات، واحدة منها القيها أنا، وبعضها لبعض الذين ينسبهم هو لإلقائها في الحفلة التي ستقام في مدرستنا لغرض جمع التبرعات للجيش من الوجوه المدعوة إليها.
كان يحفز الناس، ما قامت به عشائر بني حسن التي غص بها ميدان السكة، وهي تعرض قواها بمظاهرات وهوسات أعلاناً عن استعدادها للجهاد، ومناصرة الجيش. الناس هنا يعرفون شيوخ هذه العشائر، منذ ثورة العشرين، ويعلمون مدى علاقة شيوخها الحاليين مع الوصي عبد الإله؟!
أعلنت بصراحة رأيي لمدير الناحية ومخاوفي من العاقبة. فأنا متأكد من ولائه للحكم السابق والعائلة المالكة. فوافق أن ألقي الكلمة باسمه. وأندفع صديقي الشيخ علي البازي المعروف بوطنيته لإلقاء كلمة وأعد بيتين من الشعر. قال: إنه سيبرقهما إلى الجريدة. ربما كان مدفوعاً بجمال التورية التي تضمنها الشطر الأخير فهو معنى شعري رائع، وهو (فَسِرْ رشيداً على أسم الله يا وطني) والشيخ البازي شاعر عرف بنظم التواريخ الشعرية في مناسبات الأحداث والزواج والمواليد. كان يعيش من مهنته "ذكر الحسين" كذلك صار وكيلاً للصحف العراقية والعربية أيام كانت الصحافة لا تجد إقبالا ومشاركين. وله علاقات طيبة مع مختلف رجالات العلم والأدب داخل العراق وخارجه عن هذا الطريق طريق الصحافة، وتوفى عام 1967م. نصحته أن لا يفعل. ولكنه أصر وبعثهما برقياً.
حين هزم رشيد وعاد الحكام السابقون. أعاد المدير ما تبرع به معلمو مدرستنا، وطورد من قبل الشرطة كل الذين شاركوا بإلقاء الكلمات ومن أولئك الشيخ البازي، إلا مدير الناحية!
والحديث عن الصحافة أمر مضحك. إنها تقف من القضايا الوطنية كأنها مسرحية تقوم بتمثيلها. هذه الصحف هي ذات الصحف التي كانت توالي سياسة نوري السعيد وتباركها. هي اليوم تتحامل على نوري والوصي. وتصفهما بالخيانة. رشيد طلب من ألمانيا إرسال ممثل عنها، وأسس مع السوفيت علاقات دبلوماسية. وجَلبَ صالح جبر من البصرة إلى بغداد فأوقف. كذلك أوقف محسن أبو طبيخ ورايح العطية. أحقاً هذا كل ما يلزم لدفع عجلة الثورة  وضمان النصر؟!. وبعد ؟
إذاعت لندن هروب القائد رشيد عالي إلى إيران. بنفس اليوم الذي أشيع فيه، إن طائرات وصلت من ألمانيا. رحب الشباب الذين انتظموا في كتائب ليتدربوا على حمل السلاح. وشكلت لجنة دعيت بـ "لجنة الأمن الداخلي". تألفت من أمين العاصمة أرشد العمري، ومتصرف بغداد خالد الزهاوي، ومدير الشرطة العام حسام الدين جمعة، والزعيم الركن حميد نصرت ممثلاً عن الجيش ولمفاوضته السفارة البريطانية.
وعاد عبد الإله، ودخل بغداد تظله حراب الإنكليز، وأذاع بيانا على المخلصين، وممثلي الأمة الحقيقيين. ألقى خطابه هذا في 14 تموز عند عودته.
وأستمر دجلة والفرات يواصلان المسير، ولعل الشعراء فيما أنشدوا أشركوهما في أحاسيسهم الوطنية. وهكذا قال لي شاب وهو يرسل الحسرة ألماً ملقياً نظرة على نهر الكوفة، وأمواجه المتدفقة "تأمل كيف يجري حزيناً آسفاً".
*         *         *
القتال بين جيشنا والجيش الإنكليزي لم يدم أكثر من سبعة عشر يوماً. فقد جرى تصادم الجيشين في 2 أيار وأوقف القتال عند هروب رشيد في 19 أيار وتمت الهدنة في 31 أيار. قبله وأثناءه كانت طائراتنا تدور في أجوائنا مدوية فيظن كثير من البسطاء إنها طائرات الإنكليز، فيرتعبون خوفاً وهلعاً. صار الناس يعيشون مع القلق. الاحتكاريون أخفوا كثير من المواد الغذائية وغيرها. ونشروا الإشاعات شحذوا أفكارهم فأبدعوا لحساب الجانبين عدداً من الإشاعات تتناقض تناقضاً لا يخرج السامع منه بطائل.
نجا رشيد عالي، ووقع في الفخ خير الفتيان "العقداء الأربعة". والفتى المرموق "السبعاوي". وليس يدري أحد كم من الضباط الشباب والجنود المجهولين ذهبوا ضحايا وشهداء. والعقداء الأربعة هم كل من، صلاح الدين الصباغ، كامل شبيب، فهمي سعيد محمود سلمان.
إنها لخسارة كبيرة. مرارة تجرعها شعبنا، كان كثير من عقلاء السياسيين مرتابين في أمر نجاحها، ومع ذلك فقد أيدوها بكل جوارحهم. تعلم الشعب منها درساً. وسيعرف طريقه على حال من الأحوال بعد مرة أخرى أو مرتين أو أكثر. لقد فهم من هم هؤلاء الذين يسوسون. كما عرف الإنكليز بعد هذه الحقبة التي مرت على حكمهم من وراء الكواليس منذ ثورة العشرين حتى هذه الانتفاضة التي سماها الناس "ثورة رشيد عالي الكيلاني" الراضون عنه والساخطون عليه. إن شعبنا مازال يمقتهم! ليتها انتهت وعادت الأمور إلى مجاريها. فاستقبال اليهود للإنكليز وعبد الإله –كما قيل-  فجر غضب كتائب الشباب. لقد أعلن اليهود أفراحهم باسم عيد "النبي يشوع" يا للمحنة التي صبت عليهم بسبب "يشوع" و"عبده" لقد أنقلب عيدهم أحزاناً وأفراحهم أتراحاً.
لقد أستغل الجهلة الفوضويون مناسبة أفراحهم هذه واستقبالهم الإنكليز وعبد الإله ، وأعتقد إن هذا قد صدر منهم فعلاً، فهم لخوفهم من المسلمين واعتقادهم إن الإنكليز وأتباعهم يكفلون لهم الأمن، دفعهم إلى هذا فهاجموا بيوتهم في 22/6/1941. [عاد عبد الإله في 22/5/1941 وأذاع بيانا في 24/5]. قتلوا بعض الرجال منهم والنساء وحتى الأطفال، ونهبوا وسلبوا. ولم يرتدوا عن جنونهم إلا بعد لأي إذ بذلت الشرطة الجهود لإيقافهم، واعتقال المعتدين.
الإنكليز أيضاً استفادوا من كل هذه الأحداث. ليتهمونا بالهمجية. ولابد إن حكامنا صاروا أكثر أيماناً بهم، وأشد التصاقا. ولابد إنهم اعتقدوا إن النكسة أفهمت شعبنا بمدى القوة التي يملكونها؟!
*         *         *
وتبدل ميزان الحرب القائمة مع ألمانيا. ألمانيا التي كانت قد عقدت معاهدة، عدم اعتداء مع الإتحاد السوفيتي، بعد أن خابت مساعي هيس لجر الإنكليز إلى جانب ألمانيا، ليسهل عليها ابتلاع روسيا. نقضت ألمانيا معاهدة -عدم الاعتداء- هذه وهاجمت الإتحاد السوفيتي مباغتة .... وضج الناس وتطاير رماد الإشاعات فدخل كل عين، وكل فم. عقدت معاهدة عدم اعتداء بين ألمانيا والإتحاد السوفيتي عام 1939 استفاد منها الإتحاد السوفيتي لشراء معادن، وتبادل بضائع كثيرة، كما كان يرصد تحركات ألمانيا ويبرمج أحتياطاته لهجوم منها لابد واقع.
ماذا سيكون أمر الحرب؟ أسيكتسحون مدن روسيا؟ أسيعبرون إلى تركيا وإيران والعراق؟ يونس بحري يصرخ من إذاعة برلين –حي العرب- بعض الناس يهللون ويتمنون لو تم وصول الألمان!
قال أحد المعلمين، وليس من باب المزاح: "بين مبادئ النازية والإسلام تقارب وتشابه. الإسلام يأمر أن تقر المرأة في بيتها. وهتلر نادى -إلى المطبخ يا بنات ألمانيا!!-، والإسلام يقول -الجنة تحت ظلال السيوف-، وهتلر قدس الحرب وشجع عليها ليجعل الأمم عالماً واحداً؟!. إنها السعادة الكبرى يوم تدخل جيوش هتلر، وتكتسح الإنكليز من بلادي؟!". [تكرر ذكر مقارنة الإسلام بالنازية كلما ذكرت ألمانيا الهتلرية ومكانة دعايتها في صفوف ناسنا وشبابنا، ذلك لأن كثيراً من المعجبين بألمانيا النازية كانوا يرددون هذه المقارنة!]
أجل يا صاح. ووضع هتلر في كتابه "كفاحي" أمتنا العربية في الدرجة الثالثة عشر، بعد الزنوج؟! والإنكليز حين جاؤا العراق في الحرب العالمية الأولى، أيضاً صرحوا "جئنا محررين لا فاتحين؟". نفطنا أسال لعاب هؤلاء جميعاً، وجاؤا ليستعبدونا لا يحررونا، الحرية، كما قيل، تؤخذ ولا تعطى.
*         *         *         
وسارع الإنكليز إلى تأسيس "مكاتب الإرشاد" في طول البلاد وعرضها. وأسست جمعية إخوان الحرية "فيريا ستارك" ليثقفوا شعبنا بالذي يريدونه منا لأنفسهم، أليس كذلك؟ وليكسبوا عملاء جدد؟ وامتلأت المعتقلات بالشباب من ضباط الجيش المشكوك في أمرهم، والمشاركين بأيمان في حركة مايس، إلى جانب الذين قيل إنهم يساريون. كيف ستنتهي الأمور؟ كيف سيقف الإتحاد السوفيتي وهو يقاوم الغزاة في كروفر؟ ما موقف الحلفاء؟ من المؤكد إنهم ينتظرون أن تبيد النازية الألمانية الاشتراكية، وبعد أن تنهد قوى الجيوش الألمانية سيجهزون عليها بسهولة فيربحون عصفورين بحجر؟
والناس أيضاً يتكهنون ويزعمون. الإتحاد السوفيتي سينتهي! لن تستمر مقاومته أكثر من أسبوع.لا. أسبوعين؟! في ديوان أحد رجال الدين دارت أيضاً الأحاديث حول هذا. قال أحد المعممين: (مالنا نحن وهذا؟! أي خير سينالنا! ماذا يختلف الألمان عن الإنكليز).
أجاب معمم آخر، هو الشيخ عبد الكريم الجزائري، وكأنه يلقي خطاباً: (شيخنا أنتظر، ريثما يتحرر القفقاس؟ سترى عند ذاك كم هي الحقوق الشرعية التي ستصل إلينا؟!)
أحسب إن الرجل المخاطب، قد جف ريقه بالأمل المفرح قبل أن يسيل لعابه؟ ورفع رأسه آخر وقال بزهو: (كان القفقاسي يأتي إلى الشيخ العلامة ....... آية الله، يقبل يده ويضع أمامه أكياس النقود "ذهبية وفضية" من الحقوق الشرعية يا مولانا ثم يتراجع إلى الوراء، لا يدير قفاه إلى مولانا تأدباً واحتراما! ورئيس القرية العربية لا يؤدي ما عليه من الحقوق إلا نزراً. ولا يقدمه إلا بعد أن يجلس إلى جانبه يتحدث بزهو وخيلاء!!).
وعقب الأول: (أنتظر، وسترى كل خير!)
الكثيرون من ناسنا لا يعرفون شيئاً عن "السوفيت"، أجل إن الكثير لا يعرف، أهم من نمط القياصرة، أولئك الذين قذفوا بقنابلهم منارة الأمام الرضا في خراسان؟ أم هم نمط آخر؟. هذا ما كنت أسمعه يتردد على ألسنة العوام، وتركز عليه دعاية الرجعية وتعبر عنه بهذه العبارة "المسقوف ضربوا منارة الأمام الرضا" ومسقوف تعني "موسكو" وهم يعلمون إن ذلك جرى أثناء العهد القيصري لا الاشتراكي. وكان هذا على ما أعتقد عام 1911 وما ذكرته في الحوار وجعلت تحته خطوط هو حديث دون تحريف، والقائلان من وجهاء الروحانيين وأتقيائهم رحمهم الله. المتكلم الأول هو "الشيخ محمد جواد الجزائري" وبعده عقب "الشيخ عبد الكريم الجزائري"  وما كنت أعتقد إنه يفكر هكذا!
كانت الصحافة، والذين كان باستطاعتهم السفر إلى أوربا وحصلوا على بعض العلم عنها، تسمي بلادهم حين انتصرت فيها الاشتراكية "الستار الحديدي". وكان أذناب الاستعمار يضربون على أوتار لها وقع مؤثر في نفوس البسطاء. حين يسمعون إن نظام السوفيت لا يعترف بالملكية مطلقاً، وإنه يسلب الأموال ويجعلها للجميع. فيقول بعضهم: (هذا حسن). بينما يرد عليه أولئك: (ليت الأمر عند هذا الحدّ النساء أيضاً! كل شيء مباح للجميع!). وينهار السامع ويقول: (أعوذ بالله، أعوذ بالله، الفقر والجوع ولا هذا!).
فرحة لم تدم
فرحة لم تدم. ليتها ما كانت. كنت قلت لأبي علي "أخي حسين" مسبقاً إني أخشى أن أفقد حب أبي إن تأججت نار الفتنة، وقد تأججت. ولم تدم إقامتي مع أهلي أكثر من خمسة أشهر. الظاهر إن الأسباب تافهة. والواقع أن السبب الهام يكمن في صدر الأخت الوحيدة وكبيرتنا أيضاً.
أحياناً أجد نفسي مرغماً أن أعود إلى التشاؤم. أرى الحياة لغزاً في جميع صورها، ومظاهرها، وخفاياها. وأتذكر شوبنهاور، فأراه قد أصاب الحقيقة، ولكن هل أعطى الحل؟ يروى عن شوبنهاور قوله (نحن تعساء إذا تزوجنا، وتعساء إذا بقينا دون زواج) وقد سبق وذكرت ذلك
كم مرة خطبت أختنا. فوقف أبي حائلاً بآرائه التي لا يقرها دينه. يردهم جميعاً. لماذا؟! المرأة عورة سترها القبر! هذا ما كان يردده عن المرأة.
لماذا ترد الناس يا سيدي؟ أعذاره كثيرة: هذا رجل كثير الضيوف، وهم عائلة كبيرة. ومعنى هذا تصبح ابنتي خادمة لا تجد الراحة!؟ وهذا الثاني موسر، لا أملك شيئاً مثله، فكيف أقف عما تبتغي العادات من تقديم ما يجب مضافاً إلى ما يقدمون، وثالث فقير ستعيش بظله شقية. هكذا ظلت وأصبحت عانساً. كانت العادة أن يضيف أهل الفتاة إلى المهر الذي يقدمه أهل الفتى مالاً وحاجات وذهب وفضة، وهذا بالطبع مرهق ويجعل أهل الفتاة في حرج إذا ما خطبت من ذوي وجاهة.
هم يقولون إن الدين يرفض هذه الأساليب. غلاء المهور، البهرجة والمظاهر! ولكن من هو المسؤول؟ حين يرون زواج الفتاة هماً، وينسون إن ما ينتظرها من عنس هم أكبر. خلال مدة إقامتي في بيت أبي، فقدت كثيراً من حريتي وراحتي. أخواي يسرحان ويمرحان كيف يشاءان. ربما لا يأتيان مطلقاً إلى البيت في بعض الأيام. أما أنا فبخدمة الوالد الشيخ، عند الغداء وعند العشاء. أسامره حتى يحين موعد نومه، وهو يكره النوم مبكراً. أنا أقوم بكل ما يلزم، من استقبال زائريه، وضيوفه، وسائر شؤونه.
لم أجد الفرصة لملاعبة طفليّ. آوي ليلاً إلى فراشي، بعد أن تستسلم أمهما إلى النوم بعد تعب في خدمة البيت، ولها الحصة الكبرى منها. وتطورت الأمور إلى أسوأ ما كان متوقعاً. لم ينجح أخي في حل المشاكل لأنها كانت تافهة. وأبي وقف إلى جانب الأخت. صاح بوجه أخي: "هذا بيتي، لا تحكموني فيه!".
وأخيراً دعاني صباح يوم: أجلس.
- نعم؟
- أتريد رضا الله؟ أن رضا الله برضا الوالدين. زوجتك إذا طلبت منك شيئاً. قل لها، تلك أمي، تلك أختي. وليكن مكانها المطبخ!؟
كان ردي حاسماً. فهذا ظلم مهين. أيجيز لنفسه أن تتعدد زوجاته، ويحرمني من واحدة؟ وماذا وكيف سينشأ أطفالي إن وجدوا أمهم –للمطبخ- وبشكل مذل! أسينشأون نشأة الأحرار؟ إن كان حقاً هذا رضا الله ....، فلكم أيها الآباء الله هذا فأعملوا ما يرضيه، أما أنا......
ونهضت ودبرت أمر إيجار بيت انتقلت إليه بنفس اليوم .... هذا هو الحل. لابد أن تعود المياه إلى مجاريها –كما يقولون- فلن تدوم هذه القطيعة التي حصلت.
يتبـــــــــــــــع
القسم الثاني (الدرب الطـــــويل) من (ذكريات معلم)
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏02‏/11‏/2010‏
Alshibiby45@hotmail.com


144
1-   معلم في القرية/ 21
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)



من آراء المربي الراحل في الانتهازيين وسلوكهم: (... وكأن المبادئ السياسية أشبه ما تكون بالمنازل فهم يتحولون من منزل إلى منزل، حسب ما يتيسر في ذلك المنزل، من طمأنينة وراحة ومطمح!؟. وآخر نزيه ولكنه يكتفي بالمعارضة الوديعة؟!) (ما أشبه اليوم بالبارحة/ الناشر)

مع المعلم

حين انخرطت في سلك التعليم، لم أكن عفوياً فيما قصدت. فقد رفض عميد أسرتنا أن يساعدني في موضوع التعيين، ووعدني أن أتهيأ لفرصة أخرى، ربما أجد مكاناً في القضاء. إن وظيفة التعليم في الابتدائيات تستوجب أن يكون المعلم مهيئاً بشكل خاص يتلاءم ومناهج التعليم وإلمام عام فليس هناك تخصص في مادة معينة. إنها الوظيفة التي تتلاءم وما تعلمته في معاهد النجف، من علوم العربية والأدب والفقه. لكني كنت أرمي إلى هدف آخر. كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه.
قرأت مرة رأياً لأحد رجالات العلم والأدب عن المعلم. أعتقد إنه حديث للأستاذ المصري "أحمد أمين" وقد استشاره رجل في أن يخرّج أبنه معلما. فذكر الأستاذ له رأيه في المعلم والتعليم!. المعلم في رأيه ضربان، ضرب يأتي إلى التعليم لضمان العيش من مرتب مضمون، ومن هذا الضرب من يؤدي الخدمة خليطاً من المناهج المقررة، وأساطير العجائز، وذهنية الطبقة المتحكمة، ومنهم من يجيد اللعب على الحبال، كبهلوان متمرس، متمثلاً بقول القائل "البس لكل حالة لبوسها".
أما الضرب الثاني فمعلم يحمل رسالة، يعرف إن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هاذين العدوين في حلفهم البغيض.
هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة. أحببت ذلك المعلم الذي قال فيه شوقي "كاد المعلم أن يكون رسولاً". ومن قصيدة لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري قالها عام افتتاح ثانوية الحي، مقطع عن المعلم والتعليم تجسيد رائع لرسالة المعلم منها هذا البيت الذي هو خلاصة المطلوب من المعلم:
هيئ لنا نشأ كما انصب الحيا         لطفاً ونشأ كالزلزال راعدا
فلقد رأيت الله يخلـــق رحمةً         مَلَكا ويخلــق للتمرد مارِدا
المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها.
إني أتحرق ألماً وأنا أرى الأكثرية من المعلمين هم من الضرب الأول. أنا لا أنكر إنهم لا يستطيعون أن يكونوا غير هذا. كما لا أنكر إنهم على أي حال يقدمون خدمة  لا تخلو من فائدة.
في بداية السنة الدراسية هذه 1940/1941 نقل بعض المعلمين وجاء مكانهم معلمون جدد. اثنان منهم من مدينة كربلاء، وثالث من الحلة ورابع من العمارة، ومن النجف شاب جديد على التعليم، شديد الحياء، حتى إنه تهيب دخول الصف، وواحد فلسطيني.
أما مدير المدرسة فكاظمي، كان مديراً لإحدى مدارس كربلاء. وهو أنيق في ملبسه، وبيته، يحذق أمور الإدارة، ولكنه يرفض الاختلاط بالمحيط، ولعل مرد هذا إلى ما هو شائع عن الكوفيين.
بعد أيام من مباشرته، أقترح على المعلمين أن يكونوا كتلة موحدة داخل المدرسة وخارجها، وأوضح عبارته هذه. إنه يقترح علينا أن لا نختلط بالناس. فماذا يمنع أن نتآخى، فعند انتهاء الدوام الثاني جميل أن نتمشى في شارع النهر الجميل، أو مشية نخترق بها البساتين عصر الثلاثاء إلى مسجد سهيل، وفي يوم آخر إلى مسجد الكوفة، وسفرات ننظمها في أيام الجمع، أو في العطل القصيرة إلى الأمكنة القريبة، وأقترح أن نتناوب بإقامة ولائم خاصة في الغداء، يوم واحد من كل أسبوع على واحد منا أن يعد الوليمة حسب رغبة الآخرين. ولليالي منهاجها، جلسات تقتصر على الشاي والقهوة والفاكهة. ونفذنا المنهاج المقترح دون أن نلتزم أهم قصد منه –عدم الاختلاط بالمحيط- أما هو كما أراد لنفسه. انكماش تام حتى مع المعلمين، يتعامل دائماً بأسلوب مسؤول، يبدو فيه الترفع والتعالي جلياً، وحتى في مجال المداعبات، وتبادل النكات والطرف، يزجي النكتة بلهجة متكلفة، ولابد أن تكون ماسة لمن يوجهها إليه، كما يقول المثل الشعبي "بالشقة وغل أيدك" [المقصود من هذا إنه ليس الغرض مداعبة بريئة، وإنما بطيها الهزء والسخرية أو الانتقاص أو الإحراج والمضايقة لدوافع خاصة].
وكانت السفرة المقترحة بعد عطلة منتصف السنة، إلى قضاء الهندية، على ظهر سفينة "ماطور"  يعود لتجارة والد أحد المعلمين الكوفيين. كانت حقاً سفرة ممتعة، كلنا في مشاغل، هذا يعد الشاي، وهذا يعد الرز للطبخ وهذا يعد القهوة، وآخر يدير الحاكي، بينما أحدنا يلتقط لنا الصور ونحن نقوم بالأعمال اللازمة، والسفينة وسط النهر تسير بسرعة. وحين جن الليل وبعد غفوة حلوة استيقظت على ضجيج صحبي. فوجدتهم جميعاً قد تخلوا عن معظم ملابسهم، تساءلت: "ماذا حدث لكم؟ أتنوون السباحة بهذا الليل، والجو مازال شديد البرد؟". فحدثوني بالمفاجأة التي كادت تكون كارثة. إن مروحة السفينة علق بها شجر وصفصاف تحت سطح الماء فعطلها عن الحركة، والسفينة في منتصف النهر. فردها التيار مع مجراه إلى الوراء بقوة فهيأنا أنفسنا للسباحة. وضحك أحدهم، وقال: "أشفقنا عليك أن تموت بعد صراع مع الأمواج فتركناك نائماً لتموت بهدوء!".
كان الملاحون قد أبدوا جهداً كبيراً. بعد عناء ورجوع إلى مسافة بعيدة خلال نصف ساعة. وعادت السفينة تواصل المسير. إلى هذا الحد ونحن على خير ما يرام من الإخاء والصفاء. لكن يبدو أن بعض الناس في سرائرهم كالماء في حالتي الصفاء والكدر. إنهم قد يخفون ما في نفوسهم لأمد حتى يجدوا مبرراً لإظهارها، وقد يعملون على خلق المبرر خلقاً وبدون حق.
فمدير المدرسة حين وزع دروس العربية، اختارني للخامس والسادس. هذا لم يكن أمراً جديداً. فحتى صاحبنا المعمم النجفي "الشيخ محمد رضا الذهب" في عهد المديرين السابقين لم يعهد له بتدريس العربية لهذين الصفين. ولم يعهد بها هذا المدير للفلسطيني لعدم تفهم التلاميذ للهجته. كنت أكثر كل زملائي احتراما له حسب شعوري اتجاه فلسطين والفلسطينيين، دعوته وزوجه إلى بيتي في بداية وصوله الكوفة. وحين شكا لي تجمع الصبية وراءهما حين يخرج هو وزوجه لأنها سافرة، منحتها عباءة من زوجتي، وتوسطت لهما لدى أحد البزازين فتزودوا بالقماش وعباءة. وألزمت زوجتي أن تصحبها دائماً فتعرفها ببيوت نساء المعلمين، في أيام القبول المتعارف عندهن.
كل هذا لم يَحلْ دون انفعاله ضدي، لأنه يرى نفسه أجدر بتدريس العربية. ليت أنا المسؤول عن توزيع الدروس. والمدير وأنا لم نطعن بجدارته، رغم إني لا أعرف مدى تلك الجدارة، ومبلغ علمه.
لست أدري أي مصيبة بدت مني عليهم، فجمعتهم والفت بينهم على محاربتي؟! الشيخ على شيبته كان يدّس، أما بقية رفاقه فقد أعلنوا الحرب بأسلوب صبياني. كنت كلما عدت لغرفة المعلمين بعد انتهاء الدرس أجد دفاتري وكتبي ومعطفي مبعثرة على أرض الغرفة! حسبتها للمرة الأولى صدفة. وتكررت فتساءلت أمام الجميع. من يا ترى عمل هذا؟
الابتسامات التي هي أقرب ما تكون إلى تكشيرة جبان كانت تشير إليهم بالتهمة! كان أحدهم يطرق بنظره وبصمت، وعيل صبري لتكرر هذا التحدي، وكشفته عن طريق مراقبة الفراش. ورفعت الأمر إلى المدير فاستدعاهم ونصحهم بعد ما استدرجهم لمعرفة الدافع. فأجيبَ بوقاحة: "إن فلان -المقصود أنا- سيطر على إرادتك وأستغلك ضدنا!".
هذا هو المعلم العادي، هذا شأنه. نوازع محدودة. تتسم بالطيش حتى لكأنه بسن مراهق. وتطور التحدي إلى قارص اللغو وبذيئ الشتائم. ولا أدري كيف فقدوا رشدهم، فأبرقوا إلى مديرية المعارف: "حياتنا في خطر من فلان؟!".
ومفاجأة جاء مدير المعارف. خلا بمدير المدرسة، ثم استدعاهم، ولم يستدعيني. علت أصواتهم، واختلطت. وحين انتهى الدرس وكفوا عن النقاش دخلت مع المعلمين. لم أفاتَح بشيء. لكني بعد أن غادر المدير المدرسة علمت بكل شيء. [مدير المعارف كان الأستاذ حسن الصباغ وهو شخصية لامعة في التربية. أما أولئك المعلمون فهم، جليل الأعرجي، ..... شربه الفلسطيني، الكربلائي حسن صفائي]
وما هي إلا ثلاثة أيام حتى جاءت أوامر نقلهم، عدا العماري فإنه نقل إلى المدرسة الثانية بنفس الناحية. لا بأس، فلأرَ ماذا بعد؟ المدير في الواقع ليس لي بصاحب. إن صاحبه المعتمد -المعلم الكربلائي- وهو من أسرة أرستقراطية. كان يعيش الأيام القليلة التي قضاها هنا باتصال وثيق معه، لم يفترقا إلا عند حلول وقت النوم. ثم أعيد إلى مدينته.  
و وشوش الناس الكوفيون، إشاعات غامضة حول المدير، يلمحون بأسماء ثلاث معلمات، يسكن في شقة مجاورة لبيت المدير. اثنتان منهن فلسطينيات، والثالثة بغدادية. إنهم يمتدحون صلابتها وعدم انزلاقها، وسقوطها في شباك المدير، الذي عرف عنه أن أبعد زوجته منذ مدة إلى ذويها بحجة المرض.
كثر اللغط والحديث، لست أجزم بصحة ما يشاع، ولكن ذلك غير بعيد عن النفس الإنسانية، حين تضيق عليها المسالك، بفعل المخاوف التي تساورها، من مغبة الثقافة الصحيحة، التي ربما تعرضها لغضب الأسياد.
كن ما شئت، ماجناً، خليعاً -طبعاً باتزان- فارغاً كالطبل، قشرياً في حقيقتك، ولكنك تحرق البخور لأصنام المجتمع. هذا يكفي لرضاهم عنك، ويساعدونك عند الحاجة!. ولكن لا تنظر إلى بعيد، والى الأعماق، لتتعرف نوع السوس ووسائل مكافحته وطرق الوقاية!

السياسة والأدب

وهل ترى أنا مصيب أم مخطئ فيما أرى؟ إني ما أزال أميل في كثير من الأحيان إلى أن يبتعد الأدب عن السياسة. أحد أصدقائي حطم رأيي هذا بأسئلة مقتضبة ووجيزة.
قال: ما رأيك في أديب جعل شعره وقصصه وقفاً على جمال القمر، في سكون الليل، والزهور والفراشات تنتقل بينها بأجنحتها الجميلة. والحسناء، تتمايل بقدها الأهيف، وشعرها الفاحم يزيد جمال وجهها سحراً وبهاءً. وشاعر آخر، يتحدث عن الجياع وهم يؤلفون الكثرة الغالبة ومنهم الكادح، والعامل والفلاح ، ومنهم يُجَند المئات لينقذوا الوطن، ويدحروا الغزاة. هؤلاء جميعاً عليهم عماد الأمة والوطن. ولكن إذا كانوا جياعاً، هل تنتظر منهم تفانياً في الدفاع، وإخلاصا في العمل، ووعياً صحيحاً تجاه قضايا الأمة والوطن؟
ثم ماذا تفهم عن السياسة؟ ترى هل السياسة حزب له زعيم، يضع منهاجاً للفوز في الحكم، فيرتقي كراسي الحكم هو ونخبة من مؤيديه ومؤازريه!؟ وإذا كانت الأحزاب متعددة؟ وكل يدعي وصلاً بليلى، فمن يا ترى في رأيك الصائب والمخلص؟
وانتهى النقاش بيني وبينه. كنت أناقش نفسي وهو يتحدث ويلقي أسئلته. عدت إلى أيام سلفت، حين لا ندري ونحن "نهوس" في مواكب العزاء "من مهدي ورستم خَلّوهَ؟! ونذري الدموع أسفاً على فيصل وغازي، لاعنين الإنكليز. ناسين إن رستم ومهدي انتهت آراؤهما دائماً، وكثير غيرهم إلى جانب المعاهدات الجائرة. هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد أن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه. وقد اغتيل رستم حيدر في 18/1/1940 وقيل إن هذا بتدبير من نوري السعيد، هذا الشائع مع إنه صديقه!
أما بعض الساسة الذين عرفنا فيهم النزاهة والإخلاص، فهم بين سلبي في مواقفه حين تتأزم الأمور، فهو يعتزل العمل، ويتجنب خوض المعارك. ربما كان محقاً فيما يفعل، ربما كان قد جرب الكثيرين ممن عمل معهم، ورأى كيف يتحولون، ثم يجيدون اللعب على الحبال. وكأن المبادئ السياسية أشبه ما تكون بالمنازل فهم يتحولون من منزل إلى منزل، حسب ما يتيسر في ذلك المنزل، من طمأنينة وراحة ومطمح. وآخر نزيه ولكنه يكتفي بالمعارضة الوديعة؟!
لقد زاد لهب الحرب في الميادين الأوربية، فقد تهاوت دول كثيرة كبيرة وصغيرة تحت رحمة الاحتلال النازي، بلجيكا، هولندا، ولكسمبورغ إذ غزيت من ألمانيا بدون إنذار. وتعقد الوضع وأمسى خطيراً مما أدى إلى استقالة رئيس وزراء بريطانيا "نيفيل تشامبرلن" فخلفه "تشرشل" الذي شكل حكومة ائتلافية من المحافظين والعمال والأحرار.
هكذا تهاوت أمام قطعان النازية دول كانت تتحكم بمصائر شعوبها. فرنسا الاستعمارية، خافت أن تمس القصور الأثرية، خافت على جمال باريس وليالي باريس فاستسلمت بأسرع ما يتوقع. وستتحمل عبئ الاحتلال ومقاومته الجبهة الشعبية. سلم المارشال "بيتان" رئيس وزراء فرنسا باريس للغزاة بدون مقاومة. وتم تشكيل المقاومة السرية داخل فرنسا، واتصلت بـ "ديغول" الذي جمع فلول جيوش فرنسا في الخارج وألف حكومة فرنسا الحرة.
يبدو إن للنازية دعاة ينفخون بالأبواق. والشعوب الضعيفة التي كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار، صارت –لجهلها بواقع الأمور أو لكرهها الاستعمار- تصدق الدعاية النازية. بل وتنشرها على مدى أوسع، مضيفة إليها كلما ساعدها عليه الخيال. يقولون إن جحافل هتلر تندفع كالسيل وإن لدباباته ألسن لهب تمتد عدة أمتار، فتحرق ما أمامها، وتذيب الجليد والجدران.
حين يكون موعد أخبار إذاعة برلين، يتزاحم المستمعون خاصة الشباب حول المذياع. ينصتون صامتين، ويطفح البشر على وجوههم حين يهتف يونس بحري: "حيّ العرب!". إنهم يحسنون الظن، ويأملون الخير حين تتوعد هذه الإذاعة -الإنكليز- الذين وهبوا فلسطين للصهاينة. يبدو إن الحكمة القائلة "الحرية تؤخذ ولا تعطى" قد أصبحت باطلة. فلسطين أخذها الصهاينة، وسيعيدها لنا هتلر! فلسطين البقعة التي لا تزيد مساحتها على 27 ألف كلم² وهي محاطة من كل جانب بدول وممالك عربية، يغزوها غاز عاش دهراً طويلاً في التيه والذلة. بينما تكتفي حكوماتنا العربية أن تستعرض أمجاد السلف من أيام صلاح الدين، لا بل من عهد نبوخذ نصر. وتُلَقّن الأطفال هذه الأمجاد أناشيد وأغاني! إن بعض الشعراء أشار إلى عجزنا، ربما دون أن يدري. حين أستنجد:
أين صلاح الدين          يا قوم كي يحميني
صلاح الدين وغيره، في حياتهم، أدّوا ما عليهم من واجب، فأين نحن منهم؟ الإنكليز كانوا محتلين لفلسطين ثم وهبوها للصهاينة، ولكن ما نزال أشد حرصاً على صداقتهم؟!
سيشتد أوار هذه الحرب أكثر وأكثر. وستكون بلادنا قواعد لطيرانهم، ومراكز لجيوشهم، وستصادر حرياتنا والتي هي في الواقع فقط مسطورة في الدستور. كل هذا سيتم بذريعة حماية الجيوش الحليفة مما سموه بالرتل الخامس. لسنا نعلم النهاية بالضبط، ولكنا نعلم إن الصراع يدور ويحتدم من أجل استعباد الشعوب لا من أجل حريتها كما يتوهم الذين يُصفقون لانتصار الجيوش النازية.

وشوشة بين الناس

حين تسمع الناس يوشوشون بأحاديث تتعلق برجال السياسة عندنا، فلأن تحول كتلة فلان إلى فلان، وفلان حين أنسحب رئيس حزبه من الوزارة، بقي هو فيها، مؤثراً كرسي الوزارة على المبدأ. وفلان أعتزل العمل السياسي، وفلان يستمد أفكاره من وكلاء النازية، ولو إنه لم يتظاهر بولائه لها. لا تستغرب ما سمعتَ أبداً. فكل هذه ليست أسراراً. وإن لم تكتب عنها الصحافة صراحة. إن وضعنا الحاضر كالبحر الهادئ في ظاهره، ولكن في داخله معارك حامية، الحيتان الكبيرة تهاجم الصغيرة، ومختلف الحيوانات من أجل العيش هناك في "كرّوفر"، بين الدفاع عن حياتها وبين المجازفة من أجل معيشتها. ففي لحظات قصيرة تنتهي حياة المئات من تلك الأحياء في جوف البحر، بينما نجد نحن أمتع اللحظات في منظر البحر، حين هدوئه وحين هياجه. يتأثر الإنسان بما يشاهده بعينه فقط، لذا أيضاً لا نشعر تماماً بما تفعله قنابل الحرب اليوم، من هدم منازل على رؤوس ساكنيها، وكيف تمزق أجسادهم شظاياها.
فمنذ عام 1937 كم وزارة سقطت، وكم وزارة ألفت. ما هي الأسباب  وما هي النتائج؟ ما الذي يختفي وراء تلك الأسباب، مما لا تراه العيون، ولا تفصح عنه الألسن والأقلام. منذ قيام حركة بكر صدقي بانقلابه ومجيئ حكمت سليمان لرئاسة الوزارة في 29/11/1936 حتى تشكيل رشيد عالي الكيلاني لحكومته التي سماها حكومة الدفاع الوطني ثم هزيمته وعودة الوصي عبد الإله ونوري السعيد ثانية فإن عدد الوزارات يدل على عدم استقرار العراق وحكامه. إن عدد الوزارات سبع وزارات أو ثمان تكرر فيها استيزار نوري مرتين!.
زعماء السياسة الموجودون اليوم أجمع، الوطني المخلص حقاً والموالي للاستعمار يرون إن العمل السياسي من حقهم وحدهم! أما الطلبة، العمال، الكسبة والفلاحون فإنهم يتجاوزون حدودهم وأقدارهم. إن هم هبّوا بانتفاضة لإعلان آرائهم ومطالبهم!. ولكن السادة المعارضون –من أي لون- دائماً يستغلون تذمر الطلبة والعمال ليصولوا على خصومهم وليهزموهم من كراسي الحكم. فإذا ما انتصروا على الخصوم، صاحوا بوجوه المطالبين، الزموا الصمت ريثما يتسنى لأولي الأمر، النظر في القضايا والشؤون ؟! لا بل إن بعض أولئك حالما يملك زمام الحكم، يبدأ العمل أولاً بكيفية التخلص من بعض شركائه، بينما يغازل معارضيه، ويلوح لهم بغصن الزيتون فيما يخص مصالحهم الخاصة. حدث مثل هذا حين تم انقلاب بكر صدقي في 29/11/1936 بعد أتفاق تم بينه وبين حكمت سليمان، الذي كان إذ ذاك يعمل مع جماعة "جمعية الإصلاح الشعبي" فأستوزر بعضهم، وأدخل بعضهم البرلمان، فلما أحس بعدم رغبة بكر صدقي، تنكر لزملائه. وراح يغازل المعارضين من أقطاعيين وملاكين من السياسيين. وكانوا يتهمون الجمعية وأعضائها بالشيوعية، فأذعن لهذه الدعايات. وهكذا نزعت الجنسية من بعض وطردوا من العراق واستقال الآخرون. ثم انتهت حياة بكر صدقي بنفس الطريقة التي انتهت بها حياة جعفر العسكري. وعاد الحكم ثانية إلى نوري وزمرته.
نحن بني العصر الحديث. نعرف إن العالم اليوم في حربه وسلمه لا يشبه عالم الأمس. أيام كانت عدة الحرب، سيف ورمح ونبال، على الخيول والبغال. العالم اليوم أختصر مسافاته الشاسعة، وسائط النقل الآلية والبحرية والجوية، ذات السرعة الهائلة، تعززها وسائل الاستكشافات العجيبة، من برق ورادار، وما لا نعرف عنه شيئاً. ولعل ما يشاع على الألسن، من إن هناك لدى الأوربيين والأمريكان من وسائل التدمير والتخريب، ما هو أغرب من الغريب، مما لا تتصوره عقولنا. كحرب الجراثيم، والصواريخ ذات المدى البعيد، والقوة الخارقة.
من نكون إذن لو شبت حرب بيننا وبين المستعمرين؟ ومن نكون لو إن بلادنا صارت ساحة حرب بين الإنكليز والأمريكان؟ بالأمس استعنا بالإنكليز على العثمانيين. فكانت النتيجة إن أحتل الإنكليز بلادنا بعد ما طردوا العثمانيين. واليوم؟ اليوم يرى كثير من السادة الذين يتزعمون قضيتنا الوطنية ضرورة التزامنا بصداقة الإنكليز ليحمونا ممن هم أشد منهم بطشاً ونكالاً. من قصيدة للشيخ محمد علي اليعقوبي قوله في أعقاب هروب الوصي والهاشمي، وهو يشير إلى الإنجليز في إدعائهم هذا الذي آمن به الموالون لهم:
جاؤا ليحمونا على زعمهم         ولنـدن ليس بهــا حــــاميه
حقاً إنهم مصيبون برأيهم هذا. طالما هم لم يدربوا شعبهم طيلة هذه المدة على استعمال حقه في الحرية. ذلك لأنهم يخافون منه على مصالحهم أكثر من خوفهم من المستعمر نفسه!
لست تسمع وأنت تجلس في مقهى أو ناد أو ديوان غير حديث الحرب، وهجوم جنود النازية الكاسح، ولابد إن التجار بدأوا يخفون أهم البضائع أو يكدسون ما يشترون في المخازن، ليوم يصعب فيه الاستيراد، فترتفع الأسعار، الواحد إلى عشرين ضعفاً!
لحد الآن لم يظهر مثل هذا للعيان. ولكن الحرب إذا اتسعت ودنت من مستعمرات الإنكليز، فإن كل شيء محتمل سيكون حقيقة. ليكن ما يكون. أنا واحد من هذا المجموع، فلا أغتم –على الأقل هذه الفترة- التي لا أعلم ستطول أم تقصر.

يتبـــــــــــــــع
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏ ‏28‏/10‏/2010
alshibiby45@hotmail.com

145



1-   معلم في القرية/ 20
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


تأملات في خضم الحياة

بيتي القريب إلى شارع النهر، يحفزني دائماً، عصر كل يوم في أوقات الفراغ، أن آخذ مكاني على إحدى الأرائك المحاذية تماماً لحاجز الرصيف من جهة النهر. الماء يجري في ساقية أو نهر، يملك مشاعري، فلا أبرحه حتى أتملى من منظره ما سمح لي الوقت. وأهيم هياماً يصاحبه زهو الأشجار والنخيل.
صديقي –أبو عزيز- قال في قصيدة عن منظر نهر الفرات والنخيل على جانبيه:
وصف النخيل على جانبيه      عرائس تستقبل الناظرين
وأنا أيضا لم يفتني أن أتغنى بالنهر والنخيل والأشجار والقمر [في مجموعتي الشعرية قصيدة عن هذا بعنوان "على ضوء القمر" من أبياتها:
ويروقني الليل الحنون      وبالسكون قد ائتزر
ويروقني البدر المنيـر      بزوغه بين الشجـر
كصبية بين الجمــوع      بدت لتسترق النظر
فإذا علا هبط الميـــاه      وصار يسبح بالنهر]
ولكني في هذه اللحظات في واد آخر بعد ما تأملت النهر وعرائس النخيل على الجانب المقابل، تلاعب الريح ذوائبها الخضراء، أحياناً تشد معها فيميس قدها، وكأن الرأس المكلل بالسعف الأخضر رأس غانية في رقصة بارعة تحرك رأسها فينتشر شعرها كمظلة جميلة. وتهدأ الريح أحياناً فتبدو النخيلات كمحزونة في صمتها العميق تعبر عن حزنها بهزة الرأس المثقل بالهموم والأفكار.
الماء أمامي يواصل المسير، منذ كم هو كذلك؟ ترى أيحفظ ماجريات العمر الذي قطعه خلال هذا المسير؟ أله صلة بالذي قطع هذا الدرب قبله، أيعلم عن النهاية شيئاً؟
إني أهذي هذياناً صامتاً. هذا الماء، أو هذا النهر –كما نسميه- له شبه من بعض الجوانب بنا نحن بني الإنسان. أن يواصل السير ثم يندمج بما هو أوسع منه وأعمق. وتضيع صفاته التي كان يحملها عند استقلاليته. نحن نَشبَهه نوعا ما. مجبرون على هذا المسير، لا خيار لنا. نواصل المسير حتى نلفظ الأنفاس الأخيرة، فَنُدفع عن ظهر الأرض إلى باطنها، نلتحق بمن سبق، ثم لا تلبث تلك الأجساد التي كانت تزين الحياة وتتمتع بزينتها، لا تلبث أن تستحيل إلى تراب مع سائر التراب، تماماً كما أندمج الماء بالماء. لولا إنا نختلف عن هذا بشيء واحد. هو إنا كانت لنا عقول أبدعت وأنجزت، وتمكنت أن تسيطر على كل ما في هذه الحياة، من حي وجماد، وإنا سطرنا كل إبداعاتنا وإنجازاتنا في طيات الكتب لمن بعدنا يزيد عليها شيئاً من فكره وتدبيره.
وفي أعماق هذه الأنهر والبحار، تتصارع الأحياء صغيرها وكبيرها ضعيفها وقويها، يأكل بعضها بعضاً، وحتى الجنس الواحد بين ذكوره وإناثه صراع خفي يفنيه بالنهاية موتاً، بسبب ما استهلكه من قواه في الجهد والكد والشهوة والإنسال، كما يقول أبو العلاء المعري:
واشرف من ترى في الأرض طرا         يعيش الدهر عبدَ فم وفرج
نحن أشد شراسة من تلك أضعافاً مضاعفة. أكاد أجزم إنه لا تمر دقيقة بل لحظة من الزمن في كل بقاع العالم، لا يهرق فيها دم، وتزهق روح، وتهلك نفس، لا يردنا عن كل ذلك رادّ في وعظ واعظ وإرشاد مرشد، وتحليل خبير، وردع نذير.
بروق الشر تلمع في أجواء الدنيا، وهزيم رعودها يصم المسامع، ولاشك ولا ريب إن وسائل الدمار وقد تطورت، قادرة على أن تدمر في يوم واحد أضعاف ما كانت تدمره أدوات الحروب القديمة. وتفني من الناس أضعاف ما فقدته في كل ما مر من حروبها السابقة.
هنا، في كل بقاع الدنيا صفوة من الناس، يرفضون أن يكون الإنسان قريباً من الوحش في طباعه، من أجل السطوة والتحكم، ويقفون بصلابة من أجل إنسانية الإنسان، ولكنهم ينتهون أيضاً دون أن يصلوا إلى الغاية، أو يحققوا المقصد. فكأن الحياة بُنيَ أساسها على الفناء ["كل من عليها فإن" سورة الرحمن آية 26. غير أن المعروف عند المفسرين إن الفناء عام لكل مخلوق وليس للأفراد كما هي الحال. وإنه يكون على الجميع مرة واحدة وفي لحظة واحدة!] هم يقولون: إن الإنسانية لا تموت، وكما عمل من أجل الإنسانية من سبق، يجب أن نعمل نحن لمن هم بعدنا.
لست أدري بالصواب تماما. فأنا أعرف وشبه متأكد إن البشرية اجتازت عقبات صعبة. كانت الرياح ، وكوارث الطوفانات، والحيوانات الضارية، وعتو الطبيعة في حرها وبردها، كل هذه تهدد حياة الإنسانية. في حين لم تكن تعرف من ملاجئ غير الكهوف والمغاور، ولم تبتكر لدفع غائلة الجوع غير ما هو مهيأ حاضر، من فاكهة وأعشاب. ولكنها اجتازت كل الصعوبات، وتغلبت، واستفادت من تجاربها في عمرها الطويل، فحصنت نفسها، وتمكنت أن تتخلص من كثير من المحن. وتبدل وجه الأرض.
ولكن ما بالها لم تهتد لتوطيد سلام دائم والى الأبد! يقول الطيبون من أولئك الصفوة، لابد أن يتحقق هذا مهما طال الزمن.
قبل أيام قتل طفل في الثانية عشرة رجلاً، كان قد قتل والد هذا الطفل وهو مازال جنيناً في رحم أمه. وحين بلغ هذه السن أرشدته أمه إلى قاتل أبيه. ما فعله هذا الطفل فعله كثير من الكبار. ما فيهم من يقتل عادة القتل!؟
في فرص كثيرة أقوم بالتجوال في أنحاء مدينة الكوفة. في بساتينها التي لا تحوي غير النخيل وبعض أشجار التوت، والسدر، والصفصاف، تتراقص عليها العصافير، والبلابل، إنها تغرد أو تزقزق، وتمرح وتتنقل من غصن إلى غصن ومن شجرة إلى أخرى، إني أغبطها، فهي ليست مثلي تفكر بالنهاية، أو بما يمكن أن يدهمها من خطر باز أو عقعق أو بوم. لا يمكنني أبداً أن أكون مثلها رغم موعظة الشاعر إيليا أبي ماضي، في قصيدته "أيها الشاكي" عن الحمام والطيور:
تتغنى والصقر قد ملك الجو      عليها والصائدون السبيلا
وحين أتجول في الكوفة القديمة. أقف أمام مصلى الأمام علي، وفكري سارح في أغوار الزمن السحيق، وكأني أشهد خطيباً فوق منبره، يعظ الناس أن لا يتكالبوا أو يتباغضوا من أجل دنيا فانية، ثم تبدو أمامي صورة المعتدي الأثيم "عبد الرحمن بن ملجم"، وقد أنتزع سيفه من رأس الرجل العظيم، يقطر منه دم، طالما نزف مثله من جسد الأمام وهو يقاوم الشرك والوثنية والعبودية والاستغلال. وأغادره بعد تأمل مرّ، إلى غرفة تشبه كهفاً، يقال إنها المكان الذي سجن فيه المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وقفت أجيل البصر فيها وفي فجوات مشبكها، وأتساءل: أين كان يقبع الرجل الذي أقام فيها مرغماً ولم يتراجع بل صمم لثورة "التوابين" ثم فجرها وانتقم من قتلة الحسين، ثم عولج القتل بالقتل، وكله باسم الله والإسلام، وتحت راية محمد رسول الله! التوابون هم نفر من أشترك بقتل الحسين في كربلاء، تبعوا المختار بن أبي عبيد الثقفي ضد بني أمية تكفيرا عما اقترفوه من إثم في مشاركتهم في معركة كربلاء وقتل الحسين(ع).
وأنظر إلى قبة زرقاء تقابلها أخرى، هما أيضاً قطرات دم من أجل الحق –كما نقول-. هي قبة ضريح مسلم بن عقيل رسول الحسين إلى أهل الكوفة، وقبة صاحبه هاني بن عروة. وليت أحجار قصر الإمارة وبلاط حجرها وساحاتها وأروقتها تستطيع أن تردد أصوات الذين تعاقبوا عليها واتخذوها مساكن، ليتها تعرض الرؤوس التي أطيح بها من الدست، وكؤوس النصر كيف تحطمت بيد المنتصر الجديد واختلطت بدمائهم، إنهم اليوم ليسو أكثر من أحاديث على منبر، أو سطوراً في بطون كتب التأريخ.
والتأريخ .... آه من التأريخ. إنه الكتاب الأضخم من كل الكتب. لكنه خلد الظالم والمظلوم، والحاكم المستبد، والعبد الذي أنتزع منه حريته. وهو –التأريخ- لحد الآن، ليس غير حكايات، يعيش بفضلها بعض، ويستثار بها آخرون. يؤمن حتى بالملفق منه بعض ويسخر آخرون. وتظل الحياة ميداناً لكر وفر، بين القوي المنتصر والمهزوم الهارب، كل حين وربما إلى الأبد.
شوبنهاور، يرى الحياة تعاسة على إي حال. وإنها ليست أكثر من طريد ومطارد، وآكل ومأكول. ويرى حياة –الزفانا-  مثلاً فهي من دنيا الحشرات، لكنها لا تكف عن صراع بين رأسها وذنبها، حتى يقضي أحدهما على الآخر! [شوبنهاور، فيلسوف ألماني، فلسفته تشاؤمية، ولكنه عمر طويلاً ومات دون أن يمرض على كرسي مائدة الطعام، فلم تشعر الخادم إلا بعد أن رأته على جلسته دون أن يمد يده إلى الطعام لكنه بهيأة الحي اليقظ!. والزفانا، ورد ذكرها في كتاب "قصة الفلسفة الحديثة" في ترجمة وعرض فلسفة شوبنهاور. وهو القائل أيضاً "نحن تعساء إذا تزوجنا ونحن تعساء إذا بقينا بدون زواج ....]
هكذا في حياتنا جميعاً أيضاً، ومع ذلك فلا تجدون من يحب الموت، ويرضى به بدلاً عن الحياة. الحق إنها جميلة ورائعة، لو عشنا بها على الطبيعة. ولكن هذا أيضاً باطل. يبدو إني نسيت ما ضرب شوبنهاور من مثل. والحياة مستمرة، لا يوقف دولابها أحد، إلا يكفي هذا رداً لوساوسي؟!
مع الكوفيين مرة ثانية

منذ أمد وقبل حلول العام الدراسي 1940 الجديد، صرت أتنقل من بيت إلى بيت. البيوت المعروضة للإيجار كثيرة، ولكنها غير مريحة. كان البيت الذي سكنته منذ حللت الكوفة أخيرها جميعاً. وقد غادرته. إني أرتكب أحياناً أخطاء، بسبب إني أكره أن أخالف إنسانيتي. ففي شهرين متتاليين ارتكبت أمرين، يرى بعض أصدقائي إنها مني حمق!
كنت مديناً، لصديق يحترمني ويحبني، مبلغ ستة دنانير، وهو مبلغ جسيم بالنسبة لمرتبي الذي صار منذ مدة وجيزة عشرة دنانير، بعد أن تخلصت من الاستقطاعات عن التوقيفات التقاعدية كذلك من بعض الديون بمناسبة الزواج. شكا لي هذا الصديق ما يعانيه من قلق، من سوء معاملة بن عمه له، وهو أجير عنده، بينما هو عمدة عمله، فهو المسؤول في إدارته في كل شؤونه. فحرضته أن يستقل مادامت الحوانيت ميسورة، وأجورها زهيدة، والتجار لا يمتنعون عن تزويدك بالبضاعة بعدما عرفوك جيداً خلال هذه السنين.
هذه النصيحة عمل بها الصديق. وبالطبع صار بحاجة للمال مهما قلّ. لذا أرسل إليّ يطلب أن –أتفضل- وأسدد له ما بذمتي. وهكذا فعلت فتسبب لي ضائقة شديدة.
ثم حدث أمر البيت. إنها مشكلة يسيرة، ولكنها لمثلي مزعجة. جرى حديث بيني وبين مالك البيت، وهو علوي شريف، مهنته طب العيون القديم –كحال- وقد عرفت أسرته منذ القدم بهذه المهنة أيضاً. جرى الحديث عن الشجار الذي يحصل يومياً بين كنته وزوجه. فنصحته أن يستقل أبنه بمسكن، فأستحسن هذا الحل!
كنت أعلم إنه لا يملك غير هذا البيت الذي أسكنه، وإنه لابد سيبلغني بلزوم البحث عن بيت أتحول إليه. وتحولت إلى بيت آخر، لم أجد فيه الراحة، فهو رطب الجدران، غير مبلط ولأول مرة أسمع لصوص الليل يفزعون سكان هذه البيوت لأنها غير محصنة تماما، إذ تجاورها خرائب، وجدرانها غير عالية وإذا سطوا على بيت تمكنوا من أكثر البيوت المجاورة.
صحبت الدلال ليستعرض لي البيوت المعروضة للإيجار. بدأ بالبحث في شارع النهر، لأني أحب ذلك. المعروض هنا للإيجار شقق عالية، وتحتها مخازن التمور والحبوب، وعرض عليّ أحدها فقبلتها. كان المدخل من الشارع مشتركاً، إذن هما شقتان، إنهما يشرفان على شارع النهر، وكل منهما غرفتان فقط، صعود السقاء إليها شاق. والمرافق الأخرى أيضاً معدومة. كان الدلال يحدثني إنها كانت للمرجع الديني اليزدي، وزاد: إنه يملك في الكوفة أثني عشر بيتاً وسوقاً بأكملها يشغله الآن نجارو النواعير [السيد كاظم اليزدي هو المرجع الديني الذي عرف بمناوئته لحركة المشروطة، فسمي أنصاره بالمستبدة. وكان زعيم حركة المشروطة الشيخ ملا كاظم الخراساني الذي سماه المؤرخون "أبو الأحرار". كما أن اليزدي بعد هذا عرف بمناصرته الصريحة للمحتلين الإنكليز في مسألة ثورة النجف عام 1918 ومما ينسب إلى خطيب النجف السيد صالح الحلي قوله فيه:
فو الله ما أدري وإن كنت دارياً      أيزديها أشقى الورى أم يزيدها
والى هذه الأملاك، من بيوت وأسواق، أشار الشاعر الكبير الجواهري:
أريهم على شط الفرات شواهقاً      ثقالاً تشّكى وطأهن فرات
وقد توفى اليزدي في 30 نيسان 1919]
وفعلاً حين سئمت سكنى هذه الشقة تم انتقالي إلى بيت آخر. كان يشتمل على ساحتين إحداهما واسعة فيها غرفة واحدة كبيرة –للاستقبال- والثانية فيها ثلاث غرف، ومطبخ، وحمام صيفي مع سردابين. إنها مريحة ومخيفة في آن واحد. إن شطرها الأول معرض للصوص، وغرفها واسعة لا أجد الفرش اللازم، إنها واسعة أيضاً.
أخيراً أستقر أمري في بيت يعود لخطيب النجف السيد صالح الحلي. وإنه يسكن القسم الداخلي ويعاني مرضاً لا يحتمل معه الشفاء، ليس له في البيت غير زوجه العجوز وأصغر ولديه. [صالح الحلي خطيب النجف المعروف، كان لسناً محيطاً بالتأريخ الإسلامي والفقه وشاعراً بالفصحى والدارجة. لكنه عرف بعدائه لبعض المراجع الدينية. فقد ذكر انه قال عن الشيخ الشيرازي: "كيف يصبح أن يكون إماماً للمسلمين من فقد السمع وبلغ أقصى العمر!". وسبق أن ذكرت ما قاله في السيد اليزدي. وقد بلغ الذروة في عدائه للسيد أبو الحسن الموسوي، فأصدر الفتوى بتحريم سماع قراءته والجلوس تحت منبره، فكف عنه الناس وجانبوه، وناصره الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ومع ذلك كانت فتوى أبو الحسن شديدة عليه. على إنه كان يتعرض للشيخ محمد حسين أيضاً. فقد كان على المنبر مجاوراً لمصلى الشيخ يصيح متأففاً من عدم جدوى تشجيعه لكشف الغطاء كمجتهد عربي يريده ضد الفرس: "ما تكبر أبو خريزة (نوع من السمك النهري حجمه صغير/الناشر) هذا حدك، بس تكبر خرزتك تقتلك". ويقول عن الجزائري: "شلون شيطان، رِجل وره شيخ على القمي، والثانية عند فيصل!". وقد توفى (عام 1353هـ /1934م) عن ولدين، مهدي وهو يتكسب وهادي وهو خالي الوفاض من أي تحصيل]
زرته مرات وقد أقعده المرض، فكان عاجزاً عن الحديث، وبدا لي في بعض ما يخاصم به زوجه إن ما يذكر عنه من الحرص والشح صحيح، مع إنه موفور المال، ويملك أكثر من دار. أما زوجه فقد كانت على العكس منه. وقد زودتني بمروحة كهربائية، ومكوي، وبادلناها المساعدة في بعض أمور البيت والضرورات.
أنا حريص على علاقتي بالجيران. مع بعضهم أبيح لزوجتي الاختلاط بهم، وأنا مع رجالهم، ومع ذلك ضمن حدود لا تتعدى التزاور، وتبادل الخدمة الممكنة عند الحاجة إلى ذلك. ولكن الغالب أن تكون علاقتي مقصورة على التحية والسلام. ناداني ذات مرة أحدهم، وأسرّ إلي: "إني أنتظرك في مقهى مهدي"! وحضرت بعد لحظات. قدم لحديثه أو على الأصح –نصيحته- مقدمة في أهمية وضرورة معرفة الإنسان لتقاليد المحيط الذي يعيش فيه. ثم انتهى إلى قوله: "لاحظت كثيراً إنك حين تتوجه عصر الخميس من كل أسبوع إلى النجف، إنك تخترق شارع السكة  إلى جانب زوجك وهي سافرة، وأكثر من هذا إنك تلتزم وضعاً خارج الرجولة، وأنت تحمل في أكثر الأحيان طفلك بينما هي تمشي دون ما يكلفها". [العامة يطلقون تسمية شارع السكة على "الترامواي" بين النجف والكوفة التي تأسست عام 1907م وقلعت عام 1949م بسبب كثرة السيارات]
وجدت نفسي أن أجابهه باقتضاب ولكن بتلميحات إلى حقيقة سلوكه المنافي للسلوك الصحيح إزاء مسؤولية الزوج تجاه زوجه وأسرته، وتقاليد البيئة المسلمة.
قلت: أيهما خير وأزكى، أن يترك رجل زوجه تسرح وتمرح وهو لا يعلم عن أمرها شيئاً، حين تغيب خمسة عشر يوماً بين كربلاء والكاظمية وسامراء، أم أن يصحبها ويتمتعا كلاهما بسفرات وتجوال مخطط لها ومفيداً؟ أليس ترى يا صاحبي إن أفضل رجل هو من يحب زوجه ويخلص لها مثلما تخلص له، بدلاً من جفوتها وانصرافه إلى الشذوذ مع الغلمان؟!".
كان وقع كلمتي عليه مؤلماً. فلزم الصمت. وغادر مكانه بعد لحظات. كنت أحبه فهو إنسان كريم الطبع تجاه الجار والأصدقاء، ولكن ما نبهته إليه في كلمتي كان يحز في نفسي. كنت أعتقد أن تنبيهه واجب عليّ كصديق يحبه.
وبالمناسبة والشيء بالشيء يذكر، إن له أخاً أصغر منه يشتغل بالتعليم، لكنه ومع إنه متزوج من قريبة له جميلة، مولع أيضاً بالغلمان! وحدث ذات مرة أن عثرت به زوجه متلبساً بالجريمة فانهالت عليه وعلى الغلام ضرباً بكُربة، وجانبت التستر لشدة وقع الصدمة والجريمة على نفسها، فشاع الأمر عند الجيران.
هذا الأخ كان قد تخرج من دار المعلمين الريفية، ولكنه إلى أسلوب ومعلومات الرجل العادي أقرب من المثقف أو المتعلم الحديث، على الأقل. كان يجالسني أحياناً في المقهى. طلب رأيي في موضوع اجتماعي. لم يعجبه جوابي، فصاح بوجهي بصوته الخشن الأجش: رُح  رُح!.
صرت أضحك للهجته والصوت الذي قذف بهما الكلمة. وقلت مازحاً: كل ليلة أسمع هذه الكلمة تطرق مسمعي تتردد من جهة البساتين؟! [يصور العامة نباح الكلب وهو يلاحق الطراق ليلاً بمعنى، رُحْ.  رُحْ.] فثارت حماقته وراح يتوعدني ويشتم. ولكني لم أفكر أن المسألة حقيقة يمكن أن تتعدى هذا الحد.
كنت قد قدمت طلباً للمراجع المختصة للحصول على شهادة الجنسية، بناء على أمر مديرية المعارف الملزم لكل معلم الحصول عليها. قدمت الطلب دون متابعة له. تاركاً أن يأخذ الموضوع مجراه الرسمي، ولكن فوجئت في أحد الأيام بدعوة إلى مركز الشرطة في الكوفة، وأختصر مأمور المركز الكلام معي، قائلاً: "معاون شرطة قضاء النجف يريد أن تواجهه، اذهب إليه غداً".
صباح اليوم الثاني توجهت إلى النجف لمواجهة معاون شرطة القضاء. وباختصار أجاب: "نعم يا ابني، مدير شرطة اللواء أمر أن أبلغك بوجوب مقابلتك له في كربلاء". قلت: "ما حقيقة الأمر؟". ردّ عليّ ألم تكن قدمت طلب الحصول على شهادة الجنسية منذ أكثر من شهر، أعتقد أن الأمر حول ذلك.
وانصرفت لأتوجه إلى مركز اللواء يوم السبت فقد انتهى الدوام واليوم خميس. واجهت المدير الذي قد باشر مهام المتصرف بالنيابة في أدارة المتصرف [كان أسم المدير "أحمد محفوظ" وقد أستهل تحقيقه "لكل إنسان قادح ومادح. وقد جاءت عنك إخبارية تستوجب التحقيق معك. فأصدقني الجواب. فإني أشفقت عليك ولم أوكل أمرك إلى شرطي عادي كيلا يقع بيد عدو لك فيرمي على النار الحطب!". لقد سرني الرجل بلطفه، هذا ليت الجميع مثله]. أجرى المدير معي تحقيقاً مطولاً، بعد أن أمر الفراش أن لا يسمح لأحد بالدخول، وبعد انصراف أحد زواره المحترمين الحاج عبد الواحد سكر، وقد أبدى هذا المحترم اهتماما بي، فقال لي: "أنتظرك في مقهى الصراف لنتغدى سوية".
بعد السؤال والجواب انتهى الأمر. إن إخبارية وصلت إلى الجهة المختصة في الشرطة تتهمني بمراسلة بعض الطلبة في ألمانيا، وان مراسلاتنا هي حول النازية كمعتنقين لها. وإن أحد الأدلة في رسالة المخبر تسمية أبني البكر –كفاح- تيمناً باسم أنجيل النازية ومؤلف هتلر المعروف –كفاحي-". [في ألمانيا أيام ظهور هتلر، كانت لي صلة بطالبين من النجف ولم تكن لي معهم مراسلة، هما السيد علي الصافي وعباس الشيخ أحمد كاشف الغطاء، وثالث من أهالي بعقوبة هو محمود مصطفى كنونه كنت المساعد في ترشيحه للبعثة. وكان يراسلني بكثرة كصديق واعترافا بالجميل ولم يكن من ذوي الميول النازية، ولكنه كان يتحدث عنها دون أن يبدي رأياً مؤيداً أو مناقضاً وغالباً ما كانت رسائله عن الحنين لأيام كنا نعيشها سوية في القرية نؤدي خدمة التعليم بينما نعاني المتاعب والغربة]
الحق إني وبعض الشباب من لم يتعرف على النازية في بلدها أو في كتب من المنشأ لا يصح أن يتهم بها. ولكن عشق البعض منا لها وترديده لأسم هتلر كان نتيجة كرهنا للاستعمار البريطاني. ثم علمتنا الأيام، والكتب النزيهة إن الخطأ كل الخطأ أن نؤمن بأي نظام في الغرب إذا كان المهيمن عليه رجال المال والأعمال والشركات الكبرى.
عدت وأنا أرد نفسي أن لا أفاتح ذلك الشاب عن حقيقة الإخبارية يكفي إني أثبت نزاهتي من التهمة القذرة. ولعلي أزيد عداءه لو فاتحته ملصقاً تهمة الإخبار عليّ به. وقد أكسب وده ثانية وندمه على ما فعل إن أنا غضضت النظر.
وبالرغم من أن معظم أهل الكوفة من النجف فإنهم إذا أرادوا ذم واحد من أهل الكوفة قالوا عنه "كوفي"، أهل الكوفة قتلوا الحسين [فكر قائممقام النجف السيد حسن الجواد أن يهتم في تحقيق مشروع ماء الكوفة، فأرسل إليه الشيخ محمد علي اليعقوبي مداعباً أبياتاً شعرية منها:
لا تعر أهل كوفة الجند سمعاً      ودَع القوم يهلكون ضماء
أوَ تسقي يا ابن الجواد أناسا      حرموا جدّك الحسين ماء
وصموا الكوفة وأهلها بقتل الحسين. قُتل الحسين بأمر يزيد الشامي الأموي، وبجنود من شتى بلاد العرب، لا العراق وحده].
ولكن أي بلد صغير لا ينتشر فيه التحاسد والنفاق نتيجة الجهل أو التزاحم في صعوبة كسب العيش. الكوفة بلد أبي الطيب المتنبي، وقد قاست شتى المحن خلال تأريخها العريق، وما تزال محرومة وبحاجة إلى كثير من الإصلاح.
يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏25‏/10‏/2010‏
alshibiby45@hotmail.com


146
1-   معلم في القرية/ 19
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


من آراء المربي الراحل: (ويل لأمة لا تعرف غير الفخر بالماضي، بينما حاضرها قد قطع صلته بكل ما يجلب الفخر والمنعة.)
مع الكوفيين
علاقتي مع الكوفيين لحد الآن، ما تزال محدودة جداً، ولا أفكر أبداً أن أوسعها. وعلى الرغم من أن الكثير منهم يعرفني، فأنا محدد اتصالي بهم بحيث لم يتجاوز السلام ولقاء المصافحة.
من الذين تعرفت عليهم حاج "صادق" هو كهل محدث لبق متأدب، يجنح إلى الساسة الوطنيين، لكن الكوفيين يدعونه "معاوية" يريدون بهذا إنه داهية، وله مطامحه ومطامعه. ويقولون: "إن أساس تجارته ما أختلسه من عمه". بعضهم يبرر فعلته تلك، التي وصل عمه بسببها إلى شفا جرف الموت. إلى أن ثروة عمه هي إرث لـ "صادق" من جده، والذي كان يعتمد على ولده أبو صادق، وإن الثروة كانت من جهود والده المرحوم الذي توفى قبل عمه، فعاش صادق يتيماً بعد جده، تحت رحمة عمه. لم يستطع أحد أن ينتزع منه اعترافا بالاختلاس، فطرده عمه.
ماذا لو إني وسعت علاقاتي مع مختلف الناس؟ أعتقد إني أخطئ خطأً كبيراً لو إني فعلت هذا، سلوكي الحالي يساعدني على الاحتفاظ برضا الناس، وأداء الواجب، خصوصاً وأنا أوثر فلسفة خاصة مع الناس بصورة عامة. هي أن أكون معهم حال الزيت والماء. وانحرافي عن هذا الحال يخلق لي متاعب، أنا في غنى عنها.
ولكن مهلاً إن هذا السلوك لم يمنعني من الاتصال بأناس هم في ركب المثقفين والأدباء والسياسيين أحياناً. قد أغشى اجتماعاتهم ولقاءاتهم، وهي على الأكثر واهية لا تستند على أساس، فكل هؤلاء الذين أشير إليهم لا يحملون أفكار خاصة في الأدب ولا في السياسة، وارتباطاتهم في السياسة قابلة لحمل أفكار متناقضة، بل هم أيضا قد يتحولون في علاقاتهم السياسية إلى زعماء آخرين يحتلون الحكم.
هنا نمط آخر من الشباب، لهم عواطف سامية نحو القضية الوطنية. لكنهم لا يملكون فكرة معينة من أجلها، وله اهتمامات أدبية، لكنهم مازالوا يفهمون الأدب على نحو ما شاع وأنتشر خلال الفترة المظلمة، ولبعضهم قدرة على النظم الرائع نؤاسي النزعة.
مدير المدرسة الذي أنا معجب بشخصيته، ومتأسف في ذات الوقت، إذ يهدر وقته ويضيع عمره، بين الكأس الذي لا يفارقه في أوقات فراغه وخلال سهره مع لفيف من أمثاله حول مائدة القمار. لا يملك غير ومضات وعي لا تتعدى ابسط المعلومات يأخذها سماعاً من أفواه بعض الشباب الوطني اللامعين حين يلتقي بهم، أو ما تتلقفه عيناه حين يصادف -وهذا نادر- كتاباً أو مجلة أو جريدة، وقد تكون بأقلام غير نزيهة تماماً، فهي تخلط بين الحقيقة والخيال.
ذات يوم أقترح علي أن نؤلف جمعية سماها"جمعية الحنادم" [الحنادم جمع حندم، يبدو من صيغة هذه الكلمة إنه أبتدعها ابتداعاً فلم أجد لها أثراً فيما بين يدي من قواميس. وقد أطلقها على الحمير!]. وبالطبع تكون هذه الجمعية أسماً بعيداً عن أجواء السياسة، وبعيدة أيضا أن يكون تكوينها حقيقة، فهي للهزل، والدعابة ليس إلا.
قال: كل منتم لهذه الجمعية عليه أن يحمل شعارها تحت ياقة سترته، وهو عبارة عن صورة حمار في حال ركلة لصاحبه الذي سقط أرضاً!. أما تحيتنا إذا التقى بعضنا بعضاً فأنها –النهيق- وأما واجباتنا فهي أن نسارع لإنقاذ أي حمار من عصا واعتداء أي إنسان، وإقامة الدعوى عليه، ومداواة الحمار المصاب بجروح أو قروح نتيجة المعاملة السيئة من مالكه ..... شاع أمر هذه الجمعية، ولكن لم نسمح لكل راغب بالدخول بها.
فاجأنا أحد الأعضاء، برواية شعرية ولم يسبق لعلمي إنه ممن يجيد نظم الشعر، ولكني أعرف إنه يحفظ الكثير من روائع الشعر على شكل مقتطفات لمختلف الشعراء وإن كان متميز بحفظ شعر أبي نؤاس في الخمرة والغلمان [هذا العضو هو الشاب المرحوم غني الشيخ علي، كان بزازاً وكان على جانب عظيم من الظرف، سريع النكتة، ولاذعة عند الحاجة. وقد كتبت إلى الصديق جعفر الشيخ علي علّه قد علم بأمر تلك الرواية بعد وفاته، أو له علم بوجودها؟ فأجابني بالنفي وسطر لي أبياتاً من قصيدة ماجنة منسوبة له، وهو يأسف أن نعطي أهمية لأديب من هذا النوع! ولو أن صديقي جعفر أطلع عليها لأكبر صديقنا المرحوم].
هذه المرة جاء برائعة من نظمه، على غرار رواية مجنون ليلى لأحمد شوقي. لقد أجاد في نظمها وأبدع، جعل بطل روايته تلك حندم عاشق متيم بأتان هي في عداد ممتلكات شخصية كبيرة. لكنه في ذات الوقت وصف رائع لمجتمعنا في قيوده وتقاليده، وتناقضاته الطبقية، وحلل الشذوذ الجنسي على لسان الحمار العاشق، إذ يعنفه حمار آخر يسخر من الحب وإنه بدعة بشرية، وحسبه أن يسري عن همه، ويحول حبه إلى صنف الذكور، فالاُتُن أمرهن عسير تماماً كالمخدرات من النساء في العصور الخوالي. إنهن دائماً بعيدات عنا، بين ممتلَكةٍ لشخصية محترمة أو محجوبة عن العيون، فلا ينالها إلا ذو حظ عظيم من الحنادم ذوي الأجساد القوية السليمة، ومن السلالات المعروفة لدى المتخصصين في شؤونها  وتملكها من أجل الأحمال والأسفار. فثار الحندم العاشق وأعلن استنكاره بشدة، وقال: يكفي أن يكون هذا الذوق السيء من انحراف البشر عن الذوق السليم، وأنتقل إلى الحنادم عدوى من البشر، منذ أقدم الأزمنة لشدة ملازمة الحنادم لخدمتهم في أسفارهم وأعمالهم.
كان تبويب الرواية إلى فصول منتظماً ومتماسكاً. ومناظر الفصول تحوي المفاجآت والنكات المليحة. وكلماتها رائقة وخفيفة. وقد حاولت قدر المستطاع أن أستعيرها منه لأثبت ملاحظاتي حولها، إلا انه رفض بإصرار. وحين علمت بوفاته، اتصلت بأخيه الأصغر، فأفاد: إنه لا يعرف عن أمرها شيئاً.
ما أزال أبدي الأسف كلما تذكرت ذلك الصديق وروايته وانعدام وجودها بعد وفاته. إنها تحفة تدل على قابلية فذة فيه.
صديقي مدير المدرسة أيضاً له ملكة جيدة في كتابة المقالة، فقد أطلعني على بعض ما كتب، لكنه صار يهزأ في مسألة الأدب، ويحاول التدليل على صحة رأيه فيما يلاقيه الأديب في زماننا هذا من أعراض الناس ومسؤولي الدولة عنه، وطالما ردد هذا البيت:
سوّد الله أوجه البيض والصفر      بخــط الذي يكــــون أديبــــــاً
كنت أجادله في مسألة الأدب والأديب رغم إنه يؤيدني في أن الأدب اليوم يجب أن يكون للحياة، وليس كما كان يفكر الأقدمون "الأدب للأدب". قلت له، مع بعد الشقة بين الناس وبين الاهتمام بالأدب، فإن الناس في عصرنا هذا اختلفت نظرتهم إلى الأدب عما كان عليه أسلافهم الذين جعلوا الأدب للمتعة، ولخدمة الفئات الأرستقراطية، فظهر وكأنه صفة أرستقراطية، مكانه قصور الملوك والنبلاء. ولكن الناس اليوم قد أدركوا أن للأديب رسالة لا تقل شأنا عن سائر الرسالات التي تستهدف خدمة الإنسانية، ومكافحة الظلم والاستعباد والاستغلال. بالطبع هذا المفهوم لا يجعل للأديب الذي يقسر أدبه على الغزل والتشبيب، ووصف الأزهار وجمال القمر والشكوى للليل مكانه المرموق سابقاً، لقد بدا نجم هؤلاء الأدباء يسير نحو الأفول.  
ومات غازي

وفي صبيحة اليوم الرابع من نيسان 1939 فوجئ الناس بنعي الملك غازي، فساد جو البلد كآبة، وعلا الوجوه كدر، ووجوم.
أول الأمر عندما تولى الملك بعد والده فيصل الأول، تحدث كثير من الناس إنه غِرّ، يميل إلى اللهو، بعيداً عن متطلبات السياسة، وخدمة القضية الوطنية في ظل اعتى مستعمر شرس معروف بنكث العهود والغدر، وبين شعب يريد الأمن والاستقرار، والحرية والكرامة.
ثم تبدلت أفكار الناس حوله، وبالأخص الشباب، حين صارت تروج إشاعات -لو محّصت- ما الهت الناس عما يجب عليهم!
كان مفاد تلك الإشاعات: إن الملك الشاب مخالف لرغبات وإرادة الإنكليز على طول الخط، إنه يتهيأ ليوم يقف فيه علنا بوجه الإنكليز. وإنه هو مقترح نظام الفتوة، وهو مصدر قلق مشايخ الكويت. وهو صاحب محطة الإذاعة السرية التي سماها الناس محطة قصر الزهور. والناس يروون أيضاً عنه، يوم كان والده في سويسرا للتداوي، حين أنتفض الآثوريون وسيّر لهم الجيش ليسدد لهم الضربة بعنف، إن السفير البريطاني قد زار الملك لينصحه برأيه، فما كان من الملك إلاّ أن يثور بوجهه، ثم يقذف محبرة كانت أمامه بعنف، فلو أصابت رأس السفير لشجته، لكنها أخطأته، أو إنه أستطاع أن يميل وينجو من الضربة. ويزيدون -للتندر- إن وجه السفير نال ما فيه الكفاية من الحبر، لقد صار مرقطاً كحقيقته الأفعوانية. وتناهى للناس خبر إن الحكومة أبرقت إلى والده الملك تستعجله بالعودة، إذ اتسع الخرق على الواقع!.
إشاعات أخرى تدور بين الناس، لاشك إنها من خصومه، تشير لعلاقته بألمانيا النازية. وان تأسيس حركة الفتوة هو أحد وجوه تلك العلاقة. كل شيء ممكن. فالمستعمر من مصلحته أن يثير الغبار، وأن تتكاثف غيوم الشبهات، وأن تنشر الريب، وتنعدم الثقة بين الناس.
الإنكليز من جانب والنازية من جانب آخر. والناس -على براءة- يعتقدون عدو عدوهم يمكن أن يكون صديقاً لهم. خاصة وإن هتلر، صار يضطهد اليهود، ويطردهم من ألمانيا. والجمعيات الصهيونية تُهَجرهُم إلى فلسطين. أمر غير مستبعد إن هتلر يبعث جواسيسه إلى فلسطين ضمن الهجرة اليهودية. النازية لا يمكن أن تكون إنسانية مطلقاً، فما نرتجي منها؟
كثير من الشباب صار يعطفون عليها، ويبشرون بها، وبيوم الخلاص على يدي هتلر. أنا كنت واحداً من هؤلاء الشباب، لو لم يتدارك الأمر أخي حسين! فهو بحكم ولعه بمطالعة الأفكار الغربية من مصادرها، واقتنائه الكتب الإنكليزية التي تبحث وتناقش تلك الأفكار بأصول علمية. كان ملماً بحقيقة النازية، ولكنه أيضاً لم تتبلور لديه فكرة معينة تماماً.
والنازية حقيقتها ما تزال مجهولة لدى الكثير من الشباب وتحمسهم لها، ودوافعهم الحقيقية كرههم للإنكليز لا أكثر!
وينتشر بين الناس اعتقاد راسخ بأن عبد ألآله -وهو شقيق زوجة الملك- يحقد على غازي ويعمل لحساب الإنكليز. فهو الأمين الثاني على مصالح بريطانيا بعد نوري السعيد.
حين علم الناس بكيفية النهاية لحياة غازي، انتشرت إشاعات، وحكايات، واتهامات تستهدف عبد ألآله ونوري ومن ورائهم السفير البريطاني "بترسون".
ورغم تبدل أفكاري نوعا ما وتفهمي لنظام الملكية، فإني تأثرت كثيراً عند سماعي نبأ وفاته. ورحت أشارك الناس في تلقف الإشاعات.
والواقع إن ما ذكر من موجز الحادث، عن سيارة الملك وعمود الكهرباء، بعث كثيراً من التساؤل. ولم يقتنع أحد بصحة التأويلات التي أشار إليها المسؤولون في التحقيق. وغمز الناس ما نشر عن وصيته، عن أمر الوصاية على صغيره -فيصل الثاني- كيف تمت تلك الوصية؟ ومتى؟ ولماذا؟
أقيمت المآتم في كل أنحاء القطر. وأندفع الشعراء والكتاب لتصوير فداحة الحادث وعظم الكارثة. وجردت قلمي مع الأقلام فرثيته بقصيدة وكلمة ألقيتها في حفل التأبين الذي أقيم بمدرستي [نشرت القصيدة في مجلة الاعتدال النجفية بعنوان "ننعاك غازي"].
ذهب غازي، فهل سينعم العراق بالاستقرار. من يعلم ما وراء الحجب. وهتلر يهدد ويتوعد. وبريطانيا؟ هل ستبقى العظمى؟ أم ستكون المريض الثاني إن ثارت حرب عالمية ثانية.
مازلنا بخير

بيتي الصغير مؤلف من ثلاث غرف صغيرة في الطابق الأرضي، وغرفة أكبر من هذه في الطابق العلوي. زينته بزهر الرازقي ، وزهور أخرى جميلة، يتوسط فروع هذه الزهور قفص عندليب رائع في تغريده، ربيته صغيراً ونسجت قفصه بيدي. اقتناء الزهور، وتربية البلابل، ونسج أقفاصها على نحو يستهويني، كل هذا كان من هواياتي عند الفراغ.
لكن زوجتي جاءت باعتقاد أخذته من العجائز. لاشك إنه معتقد لا يؤيده العلم، لكنها كانت تصر عليه معددة أمثالاً له حدثت. إنها تقول: "حين يكون عندك أطفال سوف لن يعيش عندك أزهار ولا عنادل!". ومن الغريب إن ذوى زهر الرازقي، وماتت بقية الزهور، بعد ولادة ولدي البكر. يمكن تعليل هذا إني وليت القسط الأكبر من فراغي لطفلي، بينما كان أجمل لهو عندي مداراة الزهور.
ليس في البيت مصابيح كهرباء. فالكهرباء هنا مشروع أهلي. وعلى الرغم من سهولة الاشتراك، فإن غالبية الأهالي يستضيئون بمصابيح نفطية. أما الماء فيزودنا به رجل عجوز بأجر بسيط، مئة فلس شهرياً. وتكاليف المعيشة اليومية لا يكلفنا معدلها أكثر من ثلاثة دراهم.
رغيف الخبز الممتاز بفلسين، ربع كيلو من لحم الغنم بعشرة فلوس، الوزنة من الرز العنبر الممتاز لا يزيد ثمنها على الدينار، دجاجة توشك على البيض بثلاثين فلساً. ثمن البرتقالة المتوسطة الحجم أربعة فلوس، كل شيء من مواد المعيشة ميسور. ومرتبي الذي هو ثمانية دنانير، موزع بين الاستقطاعات التقاعدية، وما أستلفته للزواج من مديرية أموال القاصرين والتاجر الذي أمدني ببعض الأثاث البيتي، وأجور البيت، وما أقدمه للوالد وأخي محمد علي، ولا يبقى منه ما يكفي لمعيشة شهر لولا أجور التدريس المسائي. الذي لا يزيد على الدينار ونصف الدينار. وكثيراً ما نستعين بالقرض من الأصدقاء. أحياناً تطرأ مفاجئات لا تصمد الميزانية المرسومة أمامها فتربك الوضع، وقد تتعدد هذه الطوارئ -كما حدث- فتعقدت أمور المعيشة، وإذا لم تنفرج قبل حلول العطلة فإن مسألة تدبير المعيشة يصبح عسيراً.
مع كل هذا فأنا أعيش في جو مريح، بين عشي الهادئ، وزملائي المعلمين. فمدير المدرسة "البرمكي" يشيع البهجة والسرور بروحه المرح، ونكاته العذبة، وابتكاراته الدائبة للمتع واللذائذ، من برامجه أن نجتمع في بيت أحدنا أو في بستان لقضاء فترة، وأن تكون على نفقة أحدنا.
كانت الدورة تتم كل ثلاثة أسابيع علينا جميعاً عدا واحد منا، المعلم "سلمان الحمداني" كان يحضر الدورات لكنه يرفض أن يشارك ولو مرة واحدة من جيبه الخاص. مع كل الأسف إنه يصرح بقوله: "ما يركب عليّ قايش" [القايش هو الحزام الذي يركب فوق عجلة لينقل الحركة لأخرى في الماكنة. والمراد هنا إنه "واع" ولن يتحرك إلا بعقله لا من خارج أرادته. وهو في الحقيقة "بخيل" وتفسيره هذا ظن سيئ].
وحين كان آخر يوم من الامتحانات أسرّ المدير إلى كل واحد منا أن نُشغل سلمان، فلا ندعه يذهب إلى بيته. فمعلم الصف الأول عادته ينهي امتحاناته قبل الآخرين. وحين أنهينا أعمالنا جميعاً. أقترح المدير بمناسبة حلول العطلة عن قريب، وربما لم نلتقي ثانية في السنة القادمة، فلنجتمع اليوم. اقترحوا أين يكون هذا، في بيت أحدنا؟ في بستان؟ وتصادمت الآراء، وأخيراً التقت بالاجتماع حين قال سلمان: عندي شرط أن يأتي كل منكم بغدائه.
موافقون، قلنا جميعاً، وحاول أن يفترق عنا إلى بيته، فداعبناه، إنا لا نسمح لك بمغادرتنا كيلا تكلف الأهل بعمل شيء زيادة على ما عندكم، ومنعناه بإصرار. هكذا تشاغلنا حتى وافانا فراش المدرسة "عبد الحسين" فأخبرنا سراً إن أمه قالت إن كل شيء أنتهي على ما يرام!
صاح المدير، يا جماعة: إذا يسمح الأخ سلمان نروح الآن، ومن هناك نكلف عبد الحسين أن يجلب أغذيتنا.
وحين وصلنا البيت أنفتل صاحبنا بسرعة غير اعتيادية. إذ أبصر مالا عهد له به قبلاً. الباب مفتوح، وما يقابله من الشارع مكنوس مرشوش. وأسرعنا نحن أيضاً. وجدنا باب غرفة الاستقبال مفتوحاً أيضاً، وجلسنا متأهبين لملاقاته.
كان في ملاحات حادة مع أمه وخالته، يصيح بهن: أنتن أضحوكه! وتقدم إلينا ضاحكاً وهو يهتف: عوافي، على راسي، أخذتم حقكم بجدارة.
ومدت السفرة وانتظمت المائدة تحوي السبزي "السبانغ" والقيمة والدجاج والكباب وماء اللحم والحلوى وأصنافاً من الفواكه.
كل هذه لم تكن في تلك الأيام تكلف شيئاً. فحين وصل الأمر لي، أقترح الزملاء، وعددهم ستة عشر معلماً وفراشان، أن يكون غداؤهم سمك البني المشوي، وحلوى "أنكوش بيج" [الكلمة فارسية، وهي أسم لحلوى عبارة عن خليط من الطحين والسكر، وتتصف بتماسكها ولزوجتها بحيث إذا غمست أصبعك فيها لا تنفصل الحلوى بسهولة عما في الصحن، فهي كالعلكة]، وخبز الطابك والبرتقال. لم يكلفني كل هذا أكثر من 750 فلساً، ليت هذا الرخاء يدوم، فالحرب وشيكة الوقوع، ومصائبها ستكون أشد بلاءً من سابقتها الحرب العالمية الأولى.    
ومات البرمكي

أنا ولوع ومعجب به كثيراً، رغم ما آخذه عليه من مساوئ لو كان بعيداً عنها لكان له مكان مرموق في صفوف الشباب الذين تصدروا الحركة الوطنية. فكفاءته ليست دونهم مطلقاً. إدمانه على الخمرة، والسهر على موائد القمار أبعداه عن مجاراتهم في ميدان الكفاح والجهاد. ومع ذلك فقد كانوا يحترمونه كل الاحترام.
كنت أعنفه كثيراً، أطالبه أن يخفف من معاقرة الخمرة. كان يعترف بخطئه. لكنه يعتذر: إنه لا يقوى على ردّ الأصدقاء الأعزة عليه حين يدعونه، إلا أن يتجنب صحبتهم تماماً.
قلت له: أبداً. فانا أشربها مع رفاق لي، وأعلم أن بعضهم يتناولها كثيراً ولكني لن أتناولها إلا مرة  أو مرتين في الشهر، وبقدر محدود لا أتجاوزه إلا بدافع قهري -وقد حدث هذا مرتين في حياتي-، وما عرف عني غير أولئك الصحاب إني أشربها، وما رآني أحد قط غير هؤلاء.
وهو مقامر إلى حد تجاوز الإسراف، وقصر في حقوق زوجته الطيبة وأطفاله الأربعة. دعوته مرة للعشاء. فحضر ومعه قنينته. قال ملاطفاً: "عشاء فاخر، لا يليق بي أن أغفل أمرها من الحضور إلى جانبي!". وعلى العادة ذكرته بلطف: "قلل يا أخي، على الأقل، مرة في الأسبوع"
أخرج مفكرة من جيبه، وكتب فيها "بعد هذه المرة أتوب على يد علي، إلا عند الضرورة وما على المعرضات الترك؟! [هذا جواب أسمعه دائماً في اللهجة العامية عند الاعتذار، حين يرتكب ما يمتنع عنه لضرر يخشاه أو محرم] وقع وطلب أن أوقع!. قلت وأخرجت مفكرتي: هاك أكتب في مفكرتي ما كتبت بمفكرتك ثم وقع أيضاً.
في فندق الأعيان ببغداد، كنت مع صديق لي. لم أكن أعرف إنه مقامر ماهر. كان البرمكي حينئذ مع عدد من أصدقائه على طاولة يلعبون "البوكر"، فهمس الصديق بأذني طالباً أن أقدمه إليهم ليلعب معهم. هكذا تم الأمر، وبعد جولتين كسب منهم عشرين ديناراً. وحين عدنا ليلاً -أنا وهو- كان فاقد الوعي من شدة سكره. تهامس أولئك النفر، ودنا منه أحدهم، ودعاه إلى اللعب. فاستجاب لهم. وسرعان ما أعدوا ما يلزم، ولكنهم انتظروا البرمكي.  حين قدم أهتاج كمن فقد صوابه. أنهال عليهم لوماً وتعنيفاً: "هذه دناءة، هذا لؤم. نلعب مع إنسان فاقد للوعي. جبناء إلى هذا الحد؟!". وبتذمر دعاني إلى أن نحمله -أنا وهو- إلى فراشه، بعد أن سلمنا ما لديه من نقود إلى صاحب الفندق. أليس هذا نبلاً وشهامة!؟
وبدعوة من صديق أن أزوره ليلاً، وجدت المائدة عامرة بأصناف من الخمرة ولوازمها من المأكولات والمشهيات، وصاحبي "البرمكي" يتصدرها.
- أين التوبة يا أبا سلمى؟
- اسكت يا أخي أنا تبت من التوبة ....
في نهاية حزيران، تأهبت للسفر، أقضي فترة من العطلة الصيفية تنقلاً بين بغداد وسامراء وكربلاء. يوم موعد استلام الراتب، التقيت به، وجدته قد ضاق ذرعاً، لمحت ذلك دون استفسار. بادرني: "خذ مرتبك من المدرسة، إني مريض. سأتوجه إلى بغداد. لا تخبر عني أحداً بشيء مطلقاً!"
في بغداد سألت عن أستاذي وصديقي "عبد الرزاق محي الدين" لأمر يعنيني، فوجئت بالجواب الذي صك سمعي كضربة حجر: "ذهب مع جنازة البرمكي إلى النجف!" واستمر: "هكذا فقده صغاره ضحية الخمرة التي مزقت كبده"
ويلي عليك يا صديقي. أتذكرك يوم وقفت ترثي الملك غازي مستهلاً كلمتك بهذا البيت بعد أن أبدلت "قيس بن عاصم" بـ "غازي بن فيصل":
عليك سلام الله غازي بن فيصل         ورحمته ما شاء أن يترحما   
وما كان غازي هلكه هلك واحد         ولكنه بنيـــان قــوم تهــدما
أبداً يا صديقي. مكان غازي يشغله غيره. وأهداف غازي -إن كان وطنياً كما نعتقد- لن تتحقق إن لم يكن الشعب هو الساعي إليها. ولكن هلكك أنت ما يؤدي إلى هلاك من تركت من الصغار والكبار [ترك أثنين من البنين، واثنتين من البنات]. وقد خلفتهم دون أن تترك لهم من حطام الدنيا شيئاً. وحتى يصيروا كما يرجى لهم، سيرون ألوانا من الذلة والآلام.
سوف لن أنساك، فخطيئتك التي سببت حرمان صغارك من حنانك خير واعظ لي. وإني لآسف عليك.
ما هذا وما سرّه!؟

أعلنت ألمانيا الحرب على الحلفاء، ولابد أن يعلن الحلفاء الحرب على ألمانيا. ألمانيا بزعامة هتلر تريد أن تكتسح العالم، فمن يقف بوجهها؟ أول من يقف بوجهها الحلفاء. لا رحمة بالبشرية، إنما خوفاً على الممتلكات، هي المستعمرات وما في أراضي تلك المستعمرات من خيرات، على ظهرها، ومعادن في باطنها. [ذكر في الصحف نبأ إعلان ألمانيا الحرب على الحلفاء في 3/9/1939]
ولعل ألمانيا لا تخشى الحلفاء بقدر ما تخشى النظام الجديد الذي ولد في ألمانيا، ونما وترعرع في أراضي روسيا ثم شب مفتول الساعدين عملاق الجسم، ترتعد منه فرائص الدول العظمى التي حاولت أن تخنقه يوم أكتسح قيصرية بلاده، وامتلك زمام الأمور. فما حالفها الحظ في إقباره. فإلى أي سبيل سيلتجئ الحلفاء؟
ألمانيا النازية تعلن عليهم الحرب!. وهم يكرهون الشيوعية أكثر مما يكرهون النازية. هم والنازية أخوة. أليست النازية هي الرأسمالية في ذروة غرورها وجبروتها وجنونها؟. بينما هم جميعاً يخشون سطوة النظام الجديد الذي أثبت وجوده في روسيا. وراح يتعاظم يوماً بعد آخر. كانوا قد حاولوا إقباره، وهو وليد ضعيف فما أمكنهم ذلك، فكيف به اليوم. وقد كسب خبرات، ونظم شؤون بلاده، فأكتسح الفقر والجهل والمرض [قام تشرشل وزير الحربية في بريطانيا حين أعلنت وانتصرت ثورة أكتوبر في روسيا بتشكيل جبهة محاربة من 16 دولة ليدحر النظام الجديد فما افلح وانتصرت الاشتراكية بقيادة لينين].
وقطع العراق في 5/9/1939 علاقاته الدبلوماسية مع ألمانيا، شيء حسن -يقول بعض العارفين- كيلا تتسرب النازية إلى العراق. ولكننا نعلم إن جهل الشباب بحقيقة النازية من جهة، وكرههم للإنكليز -كمستعمرين- من جهة ثانية، هما الدافع لأولئك الشباب في توجه أنظارهم نحو ألمانيا، كمن يعتقد إن ألمانيا ستنتصر على الحلفاء، وستطرد كل المستعمرين من مستعمراتهم لوجه الله والإنسانية. وستقيم نظاماً عالمياً موحداً يجمع الشعوب كلها على المحبة والاحترام المتبادل.
قال لي أحد المتحمسين ضد النازية: "تذكر إن الحرية تؤخذ ولا تعطى". صدق. بينما قال أحد مناصريها، متبجحاً: "هتلر زعيم الشباب العالمي، ومنقذ الإنسانية!"
ألا يحق لنا أن نقول، إن قطع العلاقات مع ألمانيا عمل جيد. ولكنه في الواقع لم يكن يتوخى صالحنا أولاً وبالذات. إنه في الحقيقة لصالح بريطانيا ورغبتها. أي إننا تابع، وإن جدت الحرب بينها ستحشد بريطانيا ما شاءت من جيوشها في قواعدها الجاثمة على أرض العراق!
أمر آخر يزيد الدهشة، وسره خفي على الإفهام. فقد نشرت الصحافة في 10/9/1939، خبر وصول الحاج أمين الحسيني، زعيم حركة المقاومة ضد الغزو الصهيوني لأرض فلسطين، إلى بغداد. وتنوعت الإشاعات والتهم حوله. يقول بعضهم: إن الرجل ثعلب ماكر، يهابه الإنكليز فيدفعونه إلى العراق ليكبحوا جماح نشاطه!. ويقول آخرون: إن سرّه انكليزي!. ولكن أيضاً إن تهافت ثوار فلسطين على بغداد، بأنها الملجأ الوحيد، الذي يستعيدون فيه قواهم، ويعبئون حشودهم للنضال!.
إن هذا أمر محيّر. الإنكليز هم أصل البلاء، في محنة فلسطين والفلسطينيين، فكيف يتم هذا تحت سمعهم وعلمهم؟! لعل هذا درب جديد لزيادة محنة الفلسطينيين وتشريدهم!
كل الناس في هذه الأيام فلاسفة في السياسة العالمية. إنهم يتابعون الأخبار في الجرائد، وعند مواعيد نشرات الأخبار في الإذاعة ينصتون للمذيع، أحياناً يتجمعون قرب الراديو، قليل من يقتني الراديو في المقاهي والبيوت، وبدأت سوقه هذه الأيام بالحركة والنشاط  خاصة إن وكلاء الشركات أفسحوا المجال بالبيع نسيئة.
كان أكثر الناس يتجنبون اقتناءه مثل أخيه -الحاكي- لكن بروق الحرب ستدفعهم إليه، وسيكون حظ الحاكي سعيداً أيضاً. فانتشار الراديو سيخفف وطأة التحامل عليه، وسيشغل أمر الحرب اهتمام الذين يحاربونها باعتبارهما آلتي طرب.
أعود فأتحدث عن فلسطين. من شرّد الفلسطينيين من ديارهم؟ تحت أية قوة غادروا أرضهم؟ أصحيح إنهم كانوا يبيعون بيوتهم وأراضيهم لليهود بالأثمان المغرية؟ إن الثمن الأضخم كان مدفوعاً للملوك والرؤساء -الصنائع-؟ الثمن الحقيقي كان تيجاناً للملوك، ورؤساء. هم وكلاء الدول الاستعمارية الكبرى، وإن تظاهروا: إنهم لن تهدأ لهم نأمة، ولن تغمض لهم عيون حتى يسترجعوا الحق المهضوم، والوطن السليب من يد الغاصب الأثيم!
ومن يكون هذا الغاصب؟ كيف أجتاز الحدود وبحار وعواصم تسلم عروشها ملوك ورؤساء عرب أقحاح، بالعدد والعُدد فيحتل أرضاً سكانها عرب وتحيط به دول وشعوب عربية، مازالوا ينشدون:
نحن أحفاد أمة سطرت      معجزات التأريخ في الكتب
ويل لأمة لا تعرف غير الفخر بالماضي، بينما حاضرها قد قطع صلته بكل ما يجلب الفخر والمنعة.
يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏ ‏17‏/10‏/2010
alshibiby45@hotmail.com



147
1-   معلم في القرية/ 18
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)




 

توجيهات تربوية للمربي الراحل: (قلت لتلاميذي، يجب أن ندرس لنوسع آفاق فكرنا، وهذا يقتضينا أن لا نلتزم التعصب، أو نتخذ تقاليدنا وعقائدنا ذريعة للانتقام والتهريج. علينا أن نفهم منبع وأصل كل فكرة أو عقيدة، ولا نكن كالذين قال عنهم القرآن "... إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون" من سورة "الزخرف" الآية 22 )

منقذو البشرية بين الأسطورة  وحلم الانتظار
منذ عودتي من عربستان وحتى الأول من نيسان 1939، اليوم الذي ولد فيه ولدي البكر "كفاح"، لم أدون شيئا من ذكرياتي. تغيرت أشياء كثيرة. ولكن حياتي الجديدة صرفتني عن الاهتمام بتلك الأشياء الأخرى. طبعاً أنا مخطئ. إن علي أن أوازن بين اهتماماتي.
مدير مدرستي –النجفي- أنتقل إلى النجف. كان دائما يعتبر منصب إدارة المدرسة ذا أهمية، ومركز محترم، لذا يقول كلمته المعروفة "ميز الإدارة بحر؟!". وللأسف إن ما أسند إليه في النجف هو مدرسة أولية من أربعة صفوف، وسرعان ما شاكسه أحد معلميها. فنحي عن الإدارة، وأسندت الإدارة إلى نفس المعلم الذي شاكسه، ومن باب النكتة علق أحد المعلمين بقوله: "يبدو إن الرجل لا يجيد السباحة، لا في البحر ولا في النهر، فوضع على الضفة؟!"
مدير المدرسة الجديد هو صاحبي الذي تحدثت عنه أكثر من مرة، الشاب الوطني المتحرر، عبد المهدي البرمكي. لقد أبدى اهتماما ملحوظاً في ضبط المدرسة، النهارية والمسائية. إنه يلتزم المعلم وفي نفس الوقت لا يغض النظر عن هفواته، حين يرى إنها ذات مردود على شخصيته بحيث تؤثر في انعكاسها على المدرسة ومكانة المعلم في هذا المجتمع الحساس، الذي سمّى بعضهم إحساسه المرهف -نفاقاً وتدخلا بما لا يعنيه- صحيح إن وعي الجهال كثيراً ما ينتهي إلى التطرف، فيكون شغباً وفوضى ويمتزج بالنفاق أيضاً، ولكنه على أية حال اهتمام بكل ما حولهم، وبحث عن الأصلح.
خلال هذه المدة حدث أن كنت أدرس العربية -إنشاء في الصف السادس- في المدرسة المسائية، كان بعض الطلبة في سن يقارب الثلاثين، ويمتهنون تجارة الحبوب. وكانوا على مستوى ضعيف في الدراسة. حاولوا مرات أن يفرضوا عليّ رغبتهم في وضع درجات عالية في الامتحانات الشهرية، مرة بتوسلات وتودد، ومرة باتهامات، بأن المعلم يحابي بعض التلاميذ، ويبغض آخرين. كنت أصرح لهم كلما أجريت امتحانا: "ليس للإنسان إلا ما سعى". وقلت لهم مرة: "ما قيمة الدرجة في دفتر الامتحان إذا لم تكن المعلومات موازية لها!" هم يرددون دائماً: "أطو التلميذ مجال شنص". ولما لم يجدوني متأثراً بمحاولاتهم تلك، لجأوا هذه المرة إلى شغب من نوع جديد. نهض أحدهم وقال:
- أستاذ شنو رأيك في مسألة صاحب الزمان؟!
قلت: الدرس إنشاء ولا علاقة له بهذه الأمور. أنتبه إلى الموضوع وأنجز المطلوب.
وانتهى الدرس وغادرت الصف إلى غرفة المعلمين أحمل دفاتر الإنشاء. لفت انتباهي أن الجرس جلجل عالياً وأستمر طويلاً، ومدير المدرسة في الساحة يصيح بالطلبة بانفعال: اصطفاف!. خرجت إلى الساحة مع سائر المعلمين. الصمت والوجوم يسيطر على الساحة. المدير ينفث دخان سيجارته بعنف. صاح بغضب: "كريم" "عبد الأمير" [وأسم شخص ثالث لا أتذكره. حين خرجوا في الفرصة ذهبوا إلى المدير وشكوني عنده. بأني اسخر من معتقداتهم المذهبية، وأشجب فكرة وجود المهدي المنتظر!] خذوا حاجاتكم مفصولين من المدرسة. قبل أن ينادي بأسمائهم قذف جملة شتيمة لموضوع استفسارهم عن صاحب الزمان. كانت شتيمة غاية في الجرأة، هزتني هزاً، خشيت عليه من أثرها لو أنتشر أمره عنها في الوسط الكوفي المتهم بالشغب والنفاق. لكن المسألة في اليوم الثاني بدت عادية جداً. فكل ما حصل في اليوم الثاني، هو أن جاء أولئك الطلبة مع بعض وجهاء البلد، يعلنون اعتذارهم، وندمهم على ما بدر منهم، ويطلبون العودة للمدرسة.
ما أبداه المدير من مساندة لي يدل عن قوة شخصيته، ووجهة نظره في ذلك الموضوع أيضاً. إن هذه الفكرة، والتي لم ينفرد بها المذهب الشيعي، ولكنه أنغمر بها أكثر من أي مذهب آخر. البوذيون ومن بعدهم المسيحيون، هم أيضاً لديهم أسطورتهم في عودة بوذا، الذي يذكرون عنه في إنه ركب قارباً وانحدر في البحر وغاب عن العيون. ولكن تلك الشعوب والأمم لم يخدرها الأمل وحلم الانتظار. ولم يحل بينها وبين النضال من أجل حريتها وحقها في الحياة، ولم تشغل نفسها طيلة حقب بالجدل والنزاع في ، أين يعيش الآن؟ أو كيف إنه يعيش على عسل وماء في كهف من كهوف جبل رضوي [كما جاء في شعر السيد الحميري أو كثير عزّه
تغيّب لا يرى فيهم زمانا      برضوى عنده عسل وماء
وتروى أحاديث كثيرة بنفس المعنى، وإنه ليس فقط يملأ الأرض قسطاً وعدلا، وإنما ينبش قبور أعدائهم ويقتص منهم جزاء ما فعلوه.  قيل أن غيبته حصلت سنة 873 ويروي السيد نعمة الله الجزائري في كتابه "الأنوار النعمانية" إن الأمام المنتظر يقيم في جزيرة أسمها الجزيرة الخضراء. وفي عصرنا هذا توهم بعض الذين وجدوا هذا الاسم في خارطة العالم إنها هي المقصودة، مع العلم إن هذه الجزيرة لم تسكن إلا من عدد قليل تابع لبريطانيا].
 وكم انتهى أمر الجدل إلى تكفير عالم عبقري، وتحطمت حياته بتهييج العامة ضده. لاشك إن هذه الأسطورة من بدع الحاكمين ليحدوا من انتفاضات الشيعة ضدهم، ودك روحهم الثورية، وتهدهد أحلامهم بالصبر لليوم الموعود.
تألمت أول الأمر كثيراً، وحين وصلت البيت أنستني ابتسامة صغيري كل ما حدث. وحين عاد الطلبة بعد الاعتذار مني، لم أشأ أسدل على الموضوع ستاراً، فأشعلت درس المحفوظات في بحثه. قلت لتلاميذي، يجب أن ندرس لنوسع آفاق فكرنا، وهذا يقتضينا أن لا نلتزم التعصب، أو نتخذ تقاليدنا وعقائدنا ذريعة للانتقام والتهريج. علينا أن نفهم منبع وأصل كل فكرة أو عقيدة، ولا نكن كالذين قال عنهم القرآن "... إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"[ سورة "الزخرف" الآية 22]
حكيت مجملاً مختلف الآراء في هذه المسألة، عند مؤيديها، ومعاديها وما قالوه في أسباب هذا المعتقد، ثم إن الأيمان بها ليس أصلاً من أصول الدين. فمن يرفض هذا المعتقد ليس كافراً.
ابن عباس
العراق مبتلى، وخاصة في المدن الشيعية والقرى، بنوع من المخدرات، ذات أثر بالغ في عقلية الناس، وتوجههم نحو الحياة، إنها ذات أثر في كل شؤونهم الدينية والاجتماعية والاقتصادية حيث ساد النفاق بسبب تخوف المراجع الدينية من مس تلك المخدرات بسوء، هم أيضاً يدينون بالكرامات والقدسيات الغيبية، إذ صرفتهم عن حقيقة دين محمد، وما توخاه لهم من خير ورفاه، وتفهم حقيقي للحياة.
بسبب الإتكالية التي ألفوها واعتمدوها في حل مشاكلهم، وكل أمانيهم قد تحل وتتحقق،  في معتقدهم، بنذر يقدم لإمام أو ولي! ولهذا السبب كثرة القبور ، ونحلت لهم أسماء، ومعاجز وكرامات، وأدرك القرويون قيمة تلك القبور المدّعاة، فصار من الميسور جداً أن يصبح أحدهم، وينشر بأسلوب فيه كثير من الحذق والذكاء، بأن حلماً تكرر عليه مرات ومرات وقد زاره ولي ويأتي باسم لولي، أو إمام كالخضر، أو المهدي المنتظر، والحمزة، وعلي الشرجي، وأبو عجلة، والشريف، وأم العباس، وبنات الحسن، وزادوا جرأة مادام المسؤولين من رجال الدين لا يهمهم أمر هذه البدع. فصار كل مكان جرى فيه تغسيل علوي من القرى مزاراً، تقدم له النذور والقرابين. تقصده العقيم ترتجي الولد، والحامل ترجو أن ترزق بمولود ذكر، ومن فاتها القطار أن يتحقق لها زواج -على الكيف- والرجال أيضاً يؤمنون بهذا. ولعل المثل المعروف في الأوساط الشعبية، حين يثنون ويمتدحون إنسانا بسيطاً وساذجاً في فهمه ومظهره فيقولون "من أهل الله" وكلما بدا قذراً معتوهاً صار أقرب لتصديقهم وثقتهم. ففي مدينتي مدينة العلم والبطولات، إلى جانب قبر بطل الإسلام الإمام علي، بنات الحسن [في محلة البراق وبجوار السور ولا يعرف احد عددهن واسما من أسمائهن!]، ومقام المهدي، وصافي صفا [في وادي السلام في النجف بناية تتوسطها قبة زرقاء يزورها النساء والعامة من الناس يسمونها "مقام المهدي" ومنذ الأربعينات قلّ الإقبال عليها، بعد انتشار وسائل الترفيه، الراديو والتلفزيون السياحة، وتغلب بعض الأفكار الحرة واندحار بعض القيود التي كانت في عنق المرأة]. وحين ماتت العلوية المخبولة "هاشمية" بني لها قبر محترم. صار النساء يطلينه بالحناء، ويقدمن لقبرها الشموع. كان لها شوارب ولحية خفيفة، اعتبرت إحدى سمات القدسية فيها. ومن بركة هذه المراقد عاشت العوائل التي تقوم بخدمتها.
ذات يوم من أيام آذار الجميلة ذاع حدث في الكوفة. لفت أنظار الناس جميعهم. في جهة من جهات الكوفة، حيث يسكن أصحاب "الجاموس" بجوار النهر والبساتين. وفي بيت أحدهم يتزاحم الناس بالمناكب، لزيارة الإمام الجديد "حبيب بن محسن بن العباس بن علي بن أبي طالب"!
أصبح سادن هذا الإمام "عبد الله الدَبّي" صاحب البيت. يقف عبد الله في باب المزار مرحباً بالناس، شارحاً قصة إمامه "حبيب أبو جناغ بن محسن بن العباس" مات حين جيء بعائلة الحسين إلى ابن زياد في الكوفة، لتسفيرهم إلى الشام [الجناغ كلمة عامية وهو مصوغ من ذهب أو فضة مرصع بحجر يربط للزينة بشعر مقدم الرأس للطفل ، ولكن لماذا سماه عبد الله أبو جناغ!؟]. رأى عبد الله حلماً. حبيب ينذره إن لم يظهر معالم قبره فسيوقع به! المسألة عسيرة يا ناس، من يصدق عبد الله الدَبي؟ وهو يدعي هذا الشرف العظيم؟ لزم الصمت، فمات أبوه! وتكرر الحلم، ولزم الصمت، وماتت أخته؟! وأنذره الحلم بشدة، وهاهو يعلن، والله يظهر نوره!
كان صحن الدار يعج بالنساء، عجائز وشابات وشبان، بين وافد للتبرك والدعاء، وبين متنزه -ولكل جديد لذة- وسرعان ما قدمت الهدايا، من رايات، ومرايا، وساعات، ومباخر فيها أغلى أنواع البخور، ومع ذلك فإن رائحة السرجين كانت متغلبة. وهذا الجزء من بيت عبد الله زريبة جاموس، والغرفة الطينية التي هي موضع القبر هي إحدى مكامن جاموسه [السرجين، كلمة فارسية الأصل تعني الزبل والأقذار، ويطلقها القرويون على فضلات البقر والجاموس بينما يسمون فضلات الغنم والإبل بعر والحمير والخيل روث]. والبستان المجاور أنتشر فيه الزوار والمتفرجون، ونصبت فيه أكواخ القصب مقاهي للراحة، وباعة الأغذية والكرزات.
قلت لجماعة من الشباب يجب أن نقوم بعمل، ضد هذه البدعة قبل أن تستفحل.
فتيا تقصم الظهر
زرت مدير الناحية، السيد عبد الكريم الراوي، كان مثال الطيبة والبساطة، شغل منصب مدير ناحية الكوفة، وقائممقامية النجف وكالة أحياناً عند تغيب القائممقام، لم يقم بأي خدمة للناحية لأنه يخشى المشاكل ويتجنب الناس، حدثته عن هذا الحدث، الذي هو استهتار بالدين، وبالإنسان. طلبت منه أن يقوم بعمل، باعتباره أعلى مسؤول إداري في الناحية، جبن الرجل فالمسألة -كما قال- مسألة عقائد وباسم الأئمة في محيط جعفري؟!
حسناً، قلت: سأستحصل فتوى من الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء [هكذا يضع أسمه -محمد الحسين- وربما شفعها بهذه العبارة أيضاً "الأب الروحي" وكان جريئاً في معارضته في آرائه الخاصة في مجال السياسة والاجتماع، ولكنه أيضاً يتأثر بمن يثق به. كان يقيم في الكوفة في أكثر أيام الأسبوع خلال فصل الربيع، في بيت خاص يمتلكه]. التقيت بالشيخ قبيل الغروب، فقلت له حكاية الإمام الجديد والدبي. وجدته قد ألّم بالموضوع مفصلاً، فراح يهدر غضباً واستياء. دوى صوته وأنا أسايره في شارع النهر: "بدع، ظلالات، يبتدعها شياطين الناس، ويتقبلها الجهلة!. بعيني هاتين رأيت سفينة يبتلعها هذا النهر في موسم طغيانه، وهي تقل ما يزيد عن مئتي نسمة، كانوا يقصدون –مرقد زيد-، أي مرقد لزيد؟! زيد حرق وذري في الهواء" [أنا أيضاً شاهدت هذه المأساة، هذه السفينة عام 1929 أو 1930 وكانت محملة بالحنطة وما يزيد عن مئتي نسمة من النساء والرجال والأطفال، والفرات كان في فيضان طاغ، وصدفة سكن محرك السفينة فارتدت مع سرعة الجريان وارتطمت بالجسر فحطمته وغرقت ومات أكثر ركابها غرقاً. وزيد هذا هو الثائر ضد بني أمية، وهو ابن علي ابن الحسين -السجاد- والمعروف إنه بعد أن قتل دفن في ساقية فأستخرجه الأموي عام 740م وصلبه على جذع نخلة، وبعد مدة أحرقه وذري رماده في الهواء، ولكن أهل البدع شيدوا له قبراً ومزاراً، ومن الغريب إنهم اتخذوا هذا المزار متنفساً لهم في اللهو والطرب في موسم معين من كل عام].
وهدأ، فطلبت منه أن يتفضل بالفتيا حول الموضوع ليمكننا اتخاذ إجراء رادع. وبعد صلاة المغرب عدت إليه فتسلمت الفتيا، سلمتها لأحد رجال المنبر الحسيني، طلبت منه أن يعلنها على أسماع الناس في مجالس التعزية. هكذا لمدة ثلاثة أيام. هذه الفتيا كانت خير سند وعون لنا بعد أن سمعها كثير من الناس.
عاودت السيد مدير الناحية، أعلمته بقصة الفتيا، فأرتاح كثيراً لهذا التدبير، ومدني بخمسة من الشرطة بسلاحهم. توجهت وجماعتي، لإنجاز المهمة بعزم لا يمازجنا أي خوف فالشيخ سندنا. أما الشرطة، فقد صحبونا مترددين، كانوا يتوسلون إلينا أن ندعهم ولا نشركهم في الأمر: "سيدنا الأمر زحمة، ما نستطيع نِدّخَلْ ضد الأيمة".
قال أحد رفاقي -يداعب الشرطي- هؤلاء لا يفيدونكم، ياكلون لوحدهم؟!
في صحن الدار قريباً من الباب التقيت برجل يفرك عينيه، ويهتف "اللهم صل على محمد وآل محمد" أمسكته من تلابيبه.
- ما بك؟
- هِدني، لعن الله الشكاك!
- ما بك؟
- هِد .... هدني، لعن الله الشكاك.
صاح بعض النسوة: "هذا الشاب ما يخاف الله؟! مالَه يتعتع بالمسكين؟". ردّت عليها عجوز بهدوء: "الآن وقت التجربة، أتنَحن. إمام المايشور ما ينزار!" [مثل شعبي، يراد به، إن الخَنوع الذي يسكت على التعدي ضده لا يحترم. و -الشارة- يقصد بها في مصطلحهم ظهور أذى فيمن يمس كرامة الولي أو الأمام كأن يقسم كاذباً، أو يعد بنذر أو قربان ولا يفي].
هززت الرجل هزاً عنيفاً، وكأنه أفاق من حلم، كان يحرك أجفانه برعشة مفتعلة، وتمتم بخوف: "ها عمي شديت شماغي وحّله!". كان دَبّيا أيضاً، قدم بهذه الصورة ما عليه من الدعاية للإمام الجديد.
وانشطرنا فريقين، أحدنا صعد إلى شرفة سطح -المرقد- وانهالوا على المرايا والساعات رمياً وتكسيراً، ودخلت وآخرون غرفة المرقد، هناك نساء تجمعن في أحد أركانها وعلى الزاوية بين رَفيها وُضِعت عصا شَدّ النساء عليها خيوط خضراء، وعلى الرفين شموع موقدة [يوزع خدم العتبات المقدسة، ومراقد الأولياء خيوطاً خضراء يشدها طالب الحاجة والشفاء في رسغ يده أو بعقاله، والمرأة بخمارها وحين يتحقق المراد يتخلى عنها بعد أن يفي بنذره]. طردنا النسوة وكن يبكين توجعاً للمظلوم -حبيب- فخرجن يتصايحن يمثلن الذعر والخوف، هن بلا شك من بطانة عبد الله.
علم عبد الله، فأقبل وانتصب بباب الغرفة، وضع سبابتيه بأذنه، وصاح بكل قوته: "تسودن تسودن". وأمرت الشرطة أن يقبضوا عليه، ويذهبوا به إلى التوقيف. بينما وجهت بعض الشرطة إلى أصحاب الجراديغ ليطووها وهدتهم بإحراقها إن عادوا.
في هذه الأثناء كان العمل يجري على قدم وساق. كان هناك نجفي من تجار الألبان، قد تقدم، قربة إلى الله لبناء المرقد! بدأ أول الأمر بالسور، كان أثناء ما قمنا به جالساً  إلى بعض عمال البناء يتحدث عما لقي أهل البيت من ظلم وتشريد! توجه إلي معاتباً مؤنباً:
- أنت ابن شيخ محمد ... أبوك خادم أهل البيت، من الغريب أنت تصير مع ظالميهم.
قلت: "يا حاج، من حقك تهتم بتشييد بنية القبر، لأن عبد الله لجأ إلى أبتداع هذه الوسيلة، فإن نجحت مسألة الأمام الجديد، تخلص من تربية الجاموس ومشقة رعايتها وأصبح سادناً محترماً، وَوَفّاك دينك الذي بذمته [كان أسمه حاج صادق اللبان، وتجار الألبان يتعاقدون مع أصحاب الجاموس، كما يفعل تجار الحبوب مع الفلاحين، بما يسمونه على الأخضر، فهم يقرضونهم مقدار من المال سلفاً على أن يسددوا بدلا منه منتوج حيواناتهم من القيمر، والجبن واللبن والدهن بأسعار يفرضها التاجر سلفاً. وهكذا يظل الدبي تحت يد التاجر كأنها إخطبوط لا يقوى على التخلص منه]. ويا لك من ذكي، دبرت أمرك خشية أن تخسر مالك. بذلت مادة البناء، الظاهر -قربة إلى الله- والواقع أن تتملك البقعة إن فشلت خطة عبد الله، أو تصبح شريكاً إن نجحت، أنت لاعب شطرنج ماهر. ولكن البلاء جاءك من يد ليست يد عبد الله. فاسلم بجلدك أو نلحقك به".
وقف رئيس العمل مندهشاً. فأمرناه أن يقيم على باب غرفة المرقد جداراً، وعلى الحاج أن يسدد لكم الحساب!
أولياء وأئمة كثيرون خلقهم أمثال عبد الله الدبي، ولكن لم يحصل لهم من يئدهم مثلي ومثل رفاقي آنذاك. وسيكثر من يخلق لهم قبوراً، ويعتاش بفضلهم مادام الاستغلال والمستغلون، وفبارك الاستعمار والرجعية بيدها ملكوت كل شيء!
حدثٌ له سر! في هذا العام أيضا فرض علينا من قبل وزارة المعارف ما سمي بـ "الفتوة" أن نلبس البدلة الخاكية، ولبعضنا خيوط فضية تثبت على أكمام السترة حسب درجة الفتى بالراتب والخدمة! وإن نتدرب على حمل السلاح وعلى ما يلزم أيضاً على من يعد للحرب في يوم ما. هذه البدعة جاءت من مدير المعارف العام "سامي شوكت"، الذي أبدى اهتماما فائقاً في تدريب الشباب وإعدادهم إعدادا يتلاءم مع المطامح القومية! يريد أن يخلق جيلاً متمرساً قوياً، على النخوة والخشونة؟ يقال انه كتب لوحة فيها هذا الحديث المروي عن النبي "أخشوشنوا فإن الترف يزيل النعم". ولكنهم يقولون إنه جعل على كل نافذة عمارية  من العاقول، ترش بالماء باستمرار ليكون هواء المروحة الكهربائية بارداً [العمارية، تصنع من جريد النخل أشبه ما تكون بالشباك، وتبطن بالعاقول وترش بالماء، فإذا أشتغلت المروحة الكهربائية جاء الهواء بارداً، كانت تقوم مقام المبردة. وسامي شوكت طبيب أشغل منصب مدير المعارف! وأخوه ناجي شوكت وزير]. ويقال إنه خطب في طلبة دار المعلمين العالية مرة وأفتتح خطابه بقوله "تعلموا صناعة الموت!؟". كان الأستاذ  عبد الله الحاج حاضراً، وهو من أضداده، فصاح بصوت مسموع "لا يحسن صناعة الموت إلا الطبيب الجاهل!"
ويرمى أيضاً بعلاقات مشبوهة، وإن له صلة بسفير ألمانيا النازية "الهر غروبا". إن كثير من شبابنا -القوميين- مالوا إلى أفكار النازية واعتبروا هتلر مثلاً يحتذى. قلده بعضهم في قص شعر الرأس والشوارب، وجاهروا بعداء الشيوعيين. وشاعت مفاهيم عديدة مصدرها النازية، الموسيقى الصاخبة، والتغني بالقوة، ومعاني في الأناشيد المدرسية من مثل: وطني فوق الجميع   أمتي فوق الأمم [أعتقد إنه من نظم عبد الصاحب الخضري ولحن الموسيقار أكرم رؤوف].
وكل غزو يقوم به هتلر للشعوب المجاورة يظل لأيام حديثهم المفضل، وتمجيد الفوهرر يتردد على ألسنتهم بإعجاب وإكبار. قال بعضهم مقارناً بين الإسلام والنازية: "الإسلام يفرض على المرأة ملازمة البيت" وهتلر أيضاً صاح: "إلى المطبخ يا بنات المانيا"، الإسلام يقول: "الجنة تحت ظلال السيوف" وهتلر ينادي: "المدفع بدل الزبدة". إن هذا منطق أخرف، ولكني واثق إن معظم هؤلاء اندفعوا بهذا الاتجاه لكرههم الاستعمار البريطاني، بينما يختفي وراء الكواليس الذين يخونون وطنهم، فيأخذون عن جواسيس هتلر ما ينشرونه لتمهيد الطريق أمام مستعمر جديد هو هتلر، وكأنهم لم يطلعوا على كتابه "كفاحي" وما قاله عن العرب خاصة.
يتبـــــــــــــــع
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏12‏.10‏.2010‏
alshibiby1945@gmail.com


148
1-   معلم في القرية/ 17
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)




عش الزوجية
بعضهم هكذا يسميه، بينما يسميه البعض " القفص الذهبي" يبدو إن الذهب عنده فوق كل اعتبار. أهم ما أتمناه أن أعيش حياة هادئة.
هذه الشهور التي مرت، منذ زواجي في العطلة بعد امتحان نصف السنة، وحتى صرنا على أبواب الامتحانات النهائية، كنت منصرفا فيها عن كل شيء، التدريس وما يتعلق به، فحياتي الجديدة وما يحتاجه "عش الزوجية" من حاجات، وكونه -وهذا أهم شاغل- جديداً عليّ، ملأ كل فراغ لديّ.
بدأ البيت يطرقه زوار من الجيران، ومن المعارف والأصدقاء، منهم بعض المعلمات، اللواتي كنت اُوصل لهن مجلة "فتاة العراق"، صاحبها [هو السيد "قاسم فاضل راجي" تعرفت عليه عن طريق ما قدمته للنشر في مجلته، وقد زارني بعد هذا في النجف. سأتعرض لهذه الزيارة بعد هذا. وقد كان أسم المجلة "المرأة الحديثة" وأبدل هذا ، أو بالعكس لا أتذكر تماماً] أعتمد علي بإيجاد مشاركين –رجال ونساء- أما الرجال فإقبالهم عليها مثلما هم مع سائر المجلات ضعيف جداً. وتقبلتها بعض الشابات من المعلمات، وما أسرع ما قدمن لي نماذج من كتابتهن، رفعتها إلى صاحب المجلة –بعد التعديل- طالباً نشرها تشجيعاً للعنصر النسوي في مزاولة الكتابة والنشر، ومعالجة مشاكل المرأة، خصوصاً وأسم المجلة "فتاة العراق".
هؤلاء المعلمات أقبلن حين عاودت المدارس الدوام. وتوثقت بينهن وبين أم بيتي العلاقات، أعجبن بها حين رأينها تزاول العمل البيتي، باهتمام وهي ما تزال في أسبوع العسل وزاد إعجابهن لما فهمن منها إنها أمية، وإنها بدأت تتعلم على يدي، ولم يفتهن أن يلوحن لها بذكر روايتي "رنة الكأس" إن كانت هي بطلة الرواية؟ أو لا. وكأن كل قصة أو رواية يجب أن تخص أنساناً بعينه.
ومما جد خلال هذه المدة، أن المعارف بعثت نتائج الامتحانات [ألامتحانات التي سبق وأشرت إليها تحت عنوان "امتحان وامتحان"]، وأشارت في ملاحظة لإدارات المدارس: عدم تكليف المعلم الذي لم يحز على درجة النجاح في درسي العربي والإنكليزي من تدريس المادتين، ودرجة النجاح المشار إليها هي 60% فما فوق. صاحبنا الشيخ كانت درجته دون ألـ 60 وقد ابلغ بالكتاب. وأنا واثق إن رسوبه لم يكن في النحو واللغة. لابد إن ذلك بسبب عدم إطلاعه على أصول التدريس، وقواعد التربية الحديثة، وقد تعرض لهما السؤالان الأخيران من أسئلة الامتحان المذكور.
وحادث غريب عرض لي ذات يوم في المدرسة خلال هذه المدة أيضاً. مبكراً حضرت إلى المدرسة، على عادتي يوم مسؤولية المراقبة الأسبوعية على عاتقي. كان الطلبة يفدون إلى المدرسة جماعات، وأنا في وسط الساحة أتفقدهم. في هذه الأثناء دخل رجل أعرف انه ذو مسؤولية في بعض دوائر الناحية، وقف في الساحة، وقبل أن يسلم أخذ يصيح ويسأل "أين هو المدير؟ وأين المعلم ..... أريد أعرف ليش يضرب أبني ..... ثم راح يقذف المعلم بكلمات نابية [سمى المعلم باسمه مشفوعا بكلمة فحش. الواقع إني سمعت الكثير عن سمعة هذا المعلم، وقد طرد من المدرسة إذ عثر على أحد المعلمين –عديمي الضمير- يفعل معه القبيح وفصل من المدرسة. وحسب الأصول الديمقراطية إذ ذاك عاد الفاعل والمفعول به للتدريس والدراسة والله غفور رحيم!]. وبدون تأمل، تقدمت إليه، وأمسكت بيده اللتين يرفعهما مهدداً متوعداً، وصحت فيه بعصبية:
- المدرسة مؤسسة علمية، وحكومية، وأنت رجل وقور فما هذا التحدي؟ عيب يا رجل.
قلت هذا وأنا أهز يديه وقد تملكني غضب شديد. لكن الرجل تريث قليلاً، ثم قال: لو كان أنت الذي ضربته –على راسي- ولكن فلان؟ ... لا، أبداً.
وعدت أهدؤه، وقد تجمهر الطلبة من حولنا.
علمت بعد هذا من مدير المدرسة كل شيء عن ماضي هذا المعلم. ترى ما ذنبه؟ أهي جناية أبويه، أم هو المجتمع، الذي يجمع بين النقائض؟ يرتكب أفراده الآثام، والموبقات، التي تحرمها الشرائع والتقاليد، لكنه يهمل الجناة، ويسحق الفريسة المجني عليها، لا يغفر الزلة، ويظل يذكرها، ويمعن في ترديدها ومهاجمة المجني عليه.
ناولني المدير ملفة يبدو عليها القِدم. هي ملفة تحقيق في قضية خلقية. بين هذا المعلم الذي كان طالباً إذ ذاك، ومعلم وفراش؟! [أعرف عن هذا الجاني هذا الشذوذ، مذ كنت أنا تلميذاً في المدرسة الأميرية الابتدائية، كان يرتدي العمامة السوداء. وقد فصل منها أيضاً لقضية مشابهة. والمعروف إن الوجاهة والشفاعة أيام العهد الملكي كانت سمة بارزة تستطيع أن تقلب الحق باطلاً وبالعكس، وتغطية مثل هذه الزلة أمر عادي. فهناك فضائح وجرائم كبرى ضاعت، وعاش مرتكبوها بخير. وما يدرينا بالمستقبل؟!] وصدر الأمر بفصل الثلاثة، غير إن هذا الطالب أشترك بامتحان خارجي ودخل دار المعلمين الريفية وعين في هذه المدرسة نفسها؟! ما يدريني، ربما سيكون في المستقبل مديراً لها أيضاً!؟
إن المجتمع يأخذ بطرف، ويغض النظر عن طرف آخر، ولا غرابة. هذا شأن كل مجتمع، تكون فيه المصالح متناقضة، ويمثل الحكم فيه الطبقات ذات الملكية الواسعة. على أية حال، أنا لا أعرف الآن عن سلوكه شيئاً، إن كان يستهويه نفس الشذوذ الذي زاوله مع غيره، ولطخ تأريخ حياته. كل ما أراه الآن منه مظهر لائق واهتمام بالواجب.
لم أعنِ بالمظاهر التي أعتادها الناس في قضية الزواج، كل شيء كان في غاية البساطة. حاولت أن أدع الأمر في ظل الخفاء، خشية أن أصطدم بغضب الوالد. حتى أخي الوحيد الذي كان يؤيد رأيي  كتمت الموعد عنه، ذلك لأنه كان صريحاً في آرائه، وكان قد ترك الوظيفة من أجل الدراسة في كلية الحقوق [هو أخي الشهيد حسين، كان يشغل عام 1937 وظيفة "مدير مكتبة دار المعلمين العالية" في بغداد، وتلميذاً في كلية الحقوق، وأصدر الوزير الشيخ محمد رضا الشبيبي أمراً يقضي بعدم الجمع بين الوظيفة والدوام في الكلية، فترك الوظيفة]، ولو أعلن مناصرته لي، فإن ما أتوقعه من ثورة الوالد عليّ ستشمله بلا شك، ويحرم من مساعدته.
وحين ثارت زوبعة العائلة جميعاً ضدي، كان هو "حسين" الوحيد الذي وقف إلى جانبي. كتب إليّ يهنئني ويتمنى لي السعادة والرفاه. وكتب إلى الوالد، ما يلطف خاطره، ويصحح رأيه في هذا المجال. إن اختيار الزوجة حق شرعي للرجل، له خيرها وعليه عواقب فشلها.
ثم حَدَث مزعج آخر، إن موقف والد الزوجة، الرجل البسيط المعقد، إن صح التعبير،  هو يريد أن أظل بعيداً عن أهلي، أن تستمر القطيعة والجفاء، حفاظاً على استقلال أبنته، وما يتوقع من شر وحرمان لها، إن عادت المياه إلى مجاريها مع أهلي، حين علم إن شيئاً من هذا حدث، جاء كعاصفة كادت تمحو كل ما أسست وبنيت، لكن زوجتي رفضت أن تنصاع لأمر والدها. فأعلن مقاطعته لنا، بينما صار موقفها هذا سبباً في رضا أبي. أعتبره دليلاً على رجاحة عقلها، وسلامة فكرها وطبعها، فأرسل إليها رسالة يطيب خاطرها، ويفتح لها قلبه وبيته، ويبارك حياتنا الجديدة.
هذا ما حصل، وانتهى كل شيء إلى خير. بمناسبة العيد، زارنا الجميع، وعم البيتين الفرح والسلام. وانتهت الامتحانات النهائية فتهيأت للسفر إلى عربستان ثانية.

عودة إلى عربستان "الأهواز"؟
ودعت بيتي الجديد، عش الزوجية، الذي لم أستمتع بحلاوته إلا خمسة شهور، عدت أرتدي اليشماغ والعقال والعباءة، ودخلت المحمرة ثانية، لم امكث أكثر من يومين. لفت أحد الشباب العربي نظري، إلى لافتات شركات النفط، وعناوين بعض الدوائر غير موجودة. سألته عن السبب. أجاب: منذ أشهر حدث هذا، لأن أغلبها بلغة عربية، أو إن أكثرها كذلك.
وقصدت إحدى المقاهي لأستمتع بسماع بعض الأغاني العربية والعراقية خاصة، لكني لم أسمع إلا أغاني فارسية وأجنبية أخرى، رجوت صاحب المقهى حين قدم لي الشاي، أن أسمع حضيري أو غيره، فتبسم وردّ عليّ بهدوء: "معَزْبي ، ممنوعة بأمر الحكومة؟!" [يستعمل عرب الأهواز هذه الكلمة –معزبي- مع المخاطب. ربما كانت بدلاً من "سيد" وأمثالها] .
وقص عليّ مضيفي زاير عبود، إن رجل الدين هنا أقام مأتم الحسين –على العادة- وأثناء صعود الذاكر "المنبر" دخل رجل شرطة، وتوجه نحو المنبر، وأنزل منه الذاكر وصفعه بيده صفعة قوية، ثم سلمه لأفراد الشرطة الذين كانوا معه، ويبدو انه تعمد المرور من جهة صاحب المجلس وداس رجله؟!
كان "الزاير" [يطلقون هذه الكلمة على من يزور منهم الأمام علي أو بقية الأئمة الإثنا عشر] يحدثني وهو يكاد يتفجر من الغيظ، ولكنه يعقب: "والله ما يعديها، رسول الله يشوف ويسمع، النوب لذكر أبا عبد الله؟"
وفي الناصرية -ناصرية الأهواز-أثناء ما كنت مع مضيفي "الحاج حسن شماسي" بجولة على النهر، ولدى استراحة قصيرة، مرّ بنا حامل لافتة يعلن فيها عن فلم "گل سفيد، لمحمد عبد الوهاب مصري" أي الوردة البيضاء لمحمد عبد الوهاب، طلبت من مضيفي أن نذهب إلى السينما.
حين دخلنا السينما وبدأ العرض فوجئنا بفلم إنكليزي، سألنا أحد موظفي السينما، فأجاب: "بُلغنا بمنع عرض الوردة البيضاء!".
الحكومة إذن بصدد تفريس عرب الأهواز"الأحواز". وقد بالغ أحدهم فذكر إن المؤذنين في المحمرة منعوا من إعلان الآذان؟ فاتني أن أنتبه إلى هذا.
بعد يومين أيضاً أستطاع الحاج حسن أن يدبر لي أمر السفر إلى "خلف آباد". لكن السيارة التي سافرت بها أصابها عطب، بعد أن قطعت مسافة ساعة. حاول السائق ومساعده أن يصلحا العطب فما تمكنا، فلما مرت بنا سيارة حمل عدت بها إلى الناصرية.
عند حدود المدينة نقاط خفر شرطة، يستوفون مقابل وصل ضريبة عن الحمولة تناسب البضاعة. قالوا إن هذه الضريبة للبلدية. ثلاثة قرانات عن كل منّ من الشاي أو السكر ["القران" ثمانية فلوس عراقية، أما "ألمن" فيساوي ربع وزنه]. كانت حمولة هذه السيارة أكثر من ثلاثة عشر مَن سكر وشاي. أستطاع السائق وصاحب البضاعة أن يقنع الشرطي ويدس بيده عن جميع الحمولة ثلاثة قرانات وقليلاً من السكر والشاي، وشربنا الشاي أيضاً بدعوة من أولئك الشرطة!
دخلنا مدينة الناصرية بعد الثانية عشر ليلاً، كنت أجهل طرقها، كذلك أسماء شوارعها. أما اللغة الفارسية فلا أعرف غير بضع كلمات. أنزلني السائق في شارع واسع جداً، التعب أرهقني، وتملكني صداع شديد، فرحت حين أقبل شرطيان. قلت، إنهما سيساعداني على الوصول إلى بيت الحاج، أخذا يستفسران مني من أكون؟ شرحت لهما الأمر وما أريد بكلمات فارسية شوهاء، وبدلا من المساعدة بعد تفاهم بينهما جذباني بشراسة، فهمت مجملاً ما فكرا به عني، غريب الزي، أمر مريب، يجب أن نأخذه إلى المخفر  حتى الصباح للتحقيق عن هويته؟!
رفضت محاولتهما، هما يرطنان بالفارسية، وأنا بالعربية، لا يفهمان عني ولا أفهم عنهما، واشتد الأمر وراحا يجذباني من يدي، وأنا أتشدد في الامتناع. وأخيراً بعد أن أنهكا قواي مرّ صدفة سائق سيارة "المستوفي" [إنه شخصية محترمة مهمته استيفاء واردات أملاك الشيخ خزعل أمير المحمرة السجين، وأعتقد انه مسؤول من قبل الحكومة]، وكان يعرفني، فدخل معهما بجدل بينما أشار أليّ أن اركب، واندفعت سيارته بقوة. ولما وصلنا البيت وجدنا أحد الشرطيين قد ركب على مؤخرة السيارة. ولما أطل الحاج من سطح الدار أعتذر له الشرطي وعاد.
فاتني أن أتخلص منهما، بل أجعل منهما دليلاً للوصول لو إني قدمت لهما شيئاً كما فعل سائق سيارة الحمولة.
وفي صباح اليوم التالي عاودت السفر إلى خلف آباد بسلام.

أغايي شمشير
حياتي حيث أقيم في قرية "الشِكَريات" رتيبة، إنها بالنسبة لي سجن وقيود، كل شيء أقوم به، غريب على طبعي وتفكيري. ما أحدثهم به من أحاديث دينية أزن كل كلمة قبل أن أتفوه بها، كيف لا، والمتفهمون منهم قلة، وحتى هؤلاء القلة قد يفهمون ما أقول خطأ، وخطأ محرجاً. فإذا تناقلوه، تمسك به المتربصون من المعممين، ليحتلوا مكان أبي في عشيرته هذه.
نقل أحدهم لأبن أحد رجال الدين من النجف بعض ما رآه لدي. قال: "إن ابن الشيخ محمد عنده مرآة، وماكنة حلاقة، وعطر". وإذا بذلك الشاب يصفق يداً بيد، ويحولق ويستغفر، مستغرباً ما سمع، وإن ذلك من عجائب الزمان، وتحول الناس عن جادة الأيمان! عاد نفس الرجل، وقص عليّ عن ذلك الشاب: "إنه يطيل الصلاة، ويكثر من الأدعية!". ولكن هذا لم يفهم ماذا يقول في صلاته، ولا يعرف من تلك الأدعية شيئاً. إلا إنه لم يذكر انه نقل له عني، مشاهداته أيضاً.
كان الشاب من معارفنا وأصدقائنا، ولكنه –كما حدثني هو- اندمج تماماً وتقمص شخصية المعمم المنافق المدلس. حدثني بما علق حين نقل له صاحبي عن بعض ما لدي، وسألته عن صلاته الطويلة، وأدعيته المبهمة. فضحك ضحكة طويلة كصلاته، وقال: "صدقني إني كنت أقرأ مرة من أرجوزة ألفية بن مالك ومرة أشعار غزلية، ومرة أغاني شعبية، ما الحيلة إنهم يقدرون هذه الأمور؟ ويقصد الصلاة والأدعية [جرى بيني وبينه هذا الحديث حين عدنا إلى الوطن. ولكن هذا الشاب بعد وفاة عمه سافر إلى مصر للدراسة على نفقته وتخرج مدرساً، ثم أنخرط في قافلة التقدميين فكان عضواً في حزب "الشعب" وأنتدبه الحزب للسفر إلى كاورباغي للتحقيق في حادث الاعتداء على العمال، وكان مخلصاً في وطنيته إنه "موسى الشيخ صادق الشيخ راضي"].
ذات يوم عصراً كان المجلس منعقداً. وحولي الأعراب على بساطتهم، بعضهم يلف سيجارته، وبعضهم بيده المغزل، وأنا أتحدث لهم بأحاديث من التراث، عن الوفاء، والشجاعة الفذة، وعن الأصنام والعبودية أيضاً. في هذه الأثناء تحولت الأنظار عني مصوبة إلى جهة الطريق، قطعت حديثي ووجهت وجهي أيضاً حيث ينظرون.
نهض ابن صاحب الديوان وتوجه نحو القادمَين، فارسان، أحدهما شرطي والثاني ذا هيأة محترمة نوعا ما. تقدم الشرطي، فلما دنا من الديوان، نزل عن فرسه، وقف بين الديوان وصاحبه الفارس الثاني الذي كان يمشي مشياً وئيداً، والسيف ذو الغمد المرصع بالفضة مشدود بالحمائل إلى جانبه. وصاح بصوت متحشرج مبحوح:
"أغاي شمشير" أي السيد صاحب السيف.
هبَ الجميع لاستقبال صاحب السيف، تقدم بعضهم ساعده على النزول من الفرس. كان عبوساً متجهم الوجه. وسار بخطى ثقيلة فهو يتكلف، بمظهره كل أشكال العجرفة، والتحكم، والغطرسة، والعظمة الفارغة.
دارت القهوة وقدم الشاي، وبين الشرطي وبعض وجوه الحاضرين يدور تفاهم، بأصوات هادئة، ويثور أحياناً، أما صاحب السيف فواجم، ولكن يهز رأسه حين يدنو منه الشرطي ويهمس له نتيجة التفاهم.
حاولت أن أفهم ما يدور، والغرض الذي يدور عنه التفاهم، فلم أفلح، كل شيء يدور همساً، ولم أسمع علناً غير كلمة "أبداً، أبدا و نا، نا" مع هزة رأس الشرطي معها هزة تفصح عن الانزعاج والغضب. وحين علا صوت الحاج رويشد ضربه صاحب السيف بصفحة السيف بقوة، فكظم المسكين ألمه ولاح ذلك على قسمات وجهه.
وفجأة نهض الفارسان في حال غضب وانفعال، وقام الأعراب كلهم، ساد الديوان هرج ومرج، كانوا يتحلقون جماعة جماعة، ينفصل اثنان أو ثلاث من هذه الحلقة وينضمون إلى أخرى، الكل يتشاورون ويتحدثون، بينما وجوههم أحاطوا الفارس، يطيبون خاطره تارة، ويشتدون بالكلام معه تارة، إنهم جميعاً لا يجرأون على مناوءته واحتقاره. وغادر إلى القرية مهدداً متوعداً.
وأخيراً فهمت كل شيء، إنه موظف دائرة النفوس، هو يساومهم لغرض تقديم قائمة بأسماء أبنائهم لخدمة العلم ممن بلغ السن القانوني لذلك. وعليهم دفع ألف قران عن كل واحد.
ولماذا كل هذا التخوف من الخدمة، قلت لهم محتجاً. أجابوا: "إن الخدمة في الجيش عندنا هي الشقاء والجوع كله!" قلت: "هذا يستوجب أكثر أن لا تدفعوا الرشى لأمثال هذا، هذا المبلغ زودوا به أبناءكم خلال مدة الخدمة". قالوا: إن الواحد يتقاضى أجراً قدره تومان واحد (التومان عشر قرانات إيرانية)، منه زيت مصباحه، وصبغ حذائه، وتلميع أزرار بدلته، وكل ما يتعلق بشؤونه كجندي، أما غذاؤه فما يخصص للخيل والبغال أوفر منه.
وبالتالي دفعتهم إلى تحرير عريضة شكوى. وبعد مرور عشرين يوماً ابلغ الموقعون بلزوم الحضور إلى مركز اللواء –ناصرية الأحواز- [يسميها العرب في عربستان "أحواز" من الحوزة والحيازة، بينما يسميها الإيرانيون "أهواز" بالهاء للدلالة على أن الاسم فارسي. ولا غرابة فهم يقلبون الحاء هاء وربما سموها "خوزستان"]، جبن بعضهم وخاف، فشجعته وكان الأمر فعلاً بسيطاً جداً. أجريّ معهم تحقيق حول صحة المدعى، وأحضر صاحب السيف مع عدد آخر ليشخصه المدعون فشخصوه بعينه، حضر بعض الأفراد من القرية المجاورة، وأوضحوا ما فعل معهم وما أخذه منهم، وأخذ نتيجة هذا مخفوراً إلى طهران.
وحين عادوا قال أحدهم بعد ما قصوا حكاية صاحب السيف همساً في مسمعي: "أخشى أن يشعروا إنك المحرض فيفعلوا معك ما فعلوه مع الوالد!".
نظام إيران تحت حكم الشاه رضا بهلوي [هو شاه إيران، أحتل عرش إيران بعد خلعه أحمد شاه القاجاري عام 1925، وأجبره على التنازل عن العرش لأبنه محمد رضا شاه عام 1941 حيث أبعد عن إيران من قبل قيادة الجيش البريطاني الذي أحتل إيران آنذاك كي لا تغزوها جيوش ألمانيا النازية ثم مات في منفاه عام 1944] ديكتاتوري، إصلاحي، إصلاحاته ليست جذرية، وحظ الأحواز منها عديم جداً.
كان موعد عودتي قد أقترب، وغيوم تتلبد في أفق السياسة العالمية، فهتلر يهدد ويتوعد، وربما تنفجر حرب ماحقة. عدت إلى موطني وتلقيت البشارة بوليد منتظر.


يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏08‏/10‏/2010   ‏
Alshibiby1945@gmail.com


149
1-   معلم في القرية/ 16
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)





 

من آراء الوالد حول بعض القبور والمزارات الطارئة: هذه الآثار وهذه القبور –إن صحت- نسبتها أو لم تصح، غدت وسيلة عيش لبعض الناس، وأضاليل ، صيغت عنها أساطير، لم تحرك رجال الدين، ولا هزت عواطفهم نحو الناس ولا نحو الدين. في حين صارت لها في نفوس الناس مكانة الأصنام في أيام الجاهلية، يطاف حولها، ويرتجى منها الشفاء لسائر الأمراض والجنون،  وتنحر لها الذبائح والهدايا والنذور. والويل لمن شك فيها، وتساءل عن حقيقتها

لستُ واقعياً
أجل لست واقعياً. لماذا؟ لأني أولاً لست على قدر كاف من المعرفة والخبرة. كل شيء تعلمته مما يلائم الحياة حالياً كان من سعيي وطموحي الخاص، ولو إني تابعت الخط الذي رسمه لي أبي، لكنت الآن أبعد ما أكون عن الصواب. ولكني حين انحرفت عن ذلك الخط، لم أفكر أبداً، إني إذا لم أتسلح بالسلاح الذي يتلاءم ومقتضيات العصر، فاني سوف لن أستطيع أن أبلغ الشأو الذي أطمح إليه.
كان يجب عليّ أن أتعلم كثيراً. كان يجب أن أثبت أساساً صحيحاً لطموحي في مجال الحياة الأدبية. حاولت أن أحصل على بعثة –مثلاً- لكنني لقيت معارضة قوية من عميد أسرتنا "الشيخ محمد رضا الشبيبي" الذي كان في حينها وزيراً للمعارف. لجأت إلى أخيه، فأبدى استعدادا واستغرابا أيضاً حين أوضحت رفض الوزير لرغبتي على إني أحق من سواي ، لكنه عاد في اليوم الثاني يبرر موقف الوزير [سبق أن رشح اثنان من النجف من أسرتين شهيرتين، فرسب أحدهما وعاد إلى النجف ورسب الثاني وأدعى المرض فسحب إلى لبنان في مصح، وبعد سنة ثانية عين معلماً في مدارس النجف ثم أميناً لمكتبتها!]. إنه يفعل هذا محافظة على سمعته. ذلك إنه أحد أعلام رجال الدين في النجف توسط لشاب  من أرحامه، لدى الوزير في أمر ترشيحه للبعثة، أسوة بمن فعل لهم مثل ذلك [كان أول من رشح للبعثة دون أن تكون لديه شهادة من أبناء النجف هو الشيخ عبد الرزاق محي الدين. وحاولت هذا فرفض الشيخ الشبيبي حين فاتحته. فرد علي بالرفض، إنه كما أعتذر عنه من طلبت منه أن يستوضح منه السبب، أجاب هذا بعد مراجعته، إنه يخشى أن يتهم إنه يعمل بالمنسوبية والمحسوبية! سبحان الله ألست واحداً من أبناء الوطن!؟]. هذا الشاب كان طالباً في الأول متوسط، وفي سن المراهقة، خرج عن الطور بصورة لا تناسب وتليق بسمعته ومكانة أسرته، وكان على جانب مدهش من الجمال، فلما تناهى أمره إلى عمه، سحبه من المدرسة، وألبسه عُمّةً، ليحد من طيشه وانفلاته. ثم ارتأى كبير أسرتهم، وهو رجل دين تربطه بالوزير علاقات قديمة وثقى أن يتوسط أمر ترشيحه لبعثة إلى مصر. مادام طموحه يختلف عن نهج أسرته، وبعد هذا أغلق هذا الباب [نقل قريب له –للشاب- إن حقيقة الرسالة التي قدمها للشبيبي لم تكن من قلم قريبه –رجل الدين- وإنما الشاب قلّد خطه وتوقيعه، أي إنه زوّرَ!]. غير إن بعض الشباب النجفي ذوي الطموح، من الذين سئموا نهج الحياة القديم في العلم والأدب، ورفضوا الحدود التي يفرضها ذلك النهج، رفضوا الجمود الذي يلازم حياة من يدرس للدين، ورفضوا أن يعصبوا عيونهم ويحجبوها عن نور الحياة الجديدة، فباع بعضهم  ما يملك، وشدّ الرحال إلى مصر، ليدرس على حسابه، والتمس بعضهم –بعد عام- مساعدة وزارة المعارف، فحصل على ذلك [منهم محمد الهاشمي الدكتور الآن وأستاذ التأريخ الإسلامي في كلية التربية. وعبد الكريم الدجيلي، الذي أثبت جدارة فائقة في نهجه. وإبراهيم الوائلي وهو مثل رائع في جهوده ومواصلة البحث والتأليف مع الاستقامة والالتزام بالفكر التقدمي]. أما أنا فلا أملك شيئاً فأبيعه، فلزمت الوظيفة. ولكن أما كان الأصح أن أتوسع في المعرفة، وأتجرد عن كل مطمح سوى ما يساعدني على اللحاق بالآخرين؟!
منذ أكملت عقد القران، انصرفت لإيجاد ما يلزم لإكمال أمر الزواج. لم أملك إلا بضعة دنانير، لا تكفي لشراء أبسط حاجة، والسلفة لم تنجز بعد. أستبد بي خيال أهوج، لو كنت واقعياً ما أستبد بي، وسولت لي نفسي أمراً جسد لي فيما بعد، كم أنا ضعيف عاجز. أحاطني ظلام، لم أعد معه أبصر الطريق، عيلَ صبري، وغاب عني الوعي، وفقدت الثقة بنفسي، كدت أخطئ خطأ حسبته الصواب، وصممت العزم على ارتكاب ما هو الجبن بعينه، متوهماً إنه الشجاعة الفذة.
أحضرت قنينة خمر كاملة، واستعرت مسدساً انكليزياً مع رصاصات. قلت لصاحبه: "أريد التخلص من قط ينافسني على طعامي، فيسطو عليه ويحرمني منه!". بدأت أشرب، أكملت ربع القنينة وأمامي وريقات رحت أسجل عليها بواعث ما أنا مقدم عليه، لم أعد أشرب أكثر من هذا المقدار، ولمرة أو مرتين في الشهر. لكني وجدت نفسي الآن بتمام الوعي. أبداً لا نشوة ولا خدر، ومضيت أحتسي بكأسي الأبيض المشرب بلون أحمر وردي، يخف تدريجيا ويتلاشى حين يتجاوز منتصفه. ومضيت بالكتابة أيضاً. اتهمت الحياة، بأنها قاسية معي، أنا الذي أحمل للناس المحبة، وقلبي الذي يضم صورة الحبيبة يفيض أيضاً بالحب للناس كل الناس!
يبدو إني أجهل، لحد هذا الوقت، إني أجهل المعنى الصحيح للحب. لأني لم أقدم للناس أية خدمة. وحسبت الجهد الذي أبذله في وظيفة التعليم –خدمة كبرى-. لا بأس، إنه في الواقع خدمة، وخدمة جليلة أيضاً، ولكنها خدمة مقيدة بقوانين ونظم الفئة الحاكمة، وحكمها –كما أنا أعرفه- لصالح الطبقة السائدة، لا الطبقات العاملة والكادحة. ومن وراء هذه الفئة الحاكمة، المستعمر المسيّر لها وفق مصلحته الاستغلالية.
أخذت ألح في الشرب، وملأت عدة صفحات، فلم يبق لدي شيء أكتبه، وتكاد القنينة أن تفرغ إلا من صبابة، من جرعة واحدة. ولكني كنت أحس بوعي تام بالجريمة التي أريد ارتكابها.
مثلت نفسي في ركب العشاق الخالدين، مجنون ليلى، قيس بن ذريح، جميل بثينة، توبة الحميري. إني لم أكن أقل منهم لوعة وأسى، وهياماً، سأترك الشعر الذي نظمته عن حبي وحبيبتي، عن سهري مع النجوم والقمر، عن الوحدة التي ألفتها في ليالي الشتاء.
ثم ماذا؟ أخيراً، مددت يدي إلى التقويم المثبت على الجدار، تناولت ورقة اليوم، لتسجيل تأريخ وصيتي. آه، إن إحساسي طاغ، يصرخ بي: جبان جبان، تب إلى رشدك! تشاغلت، قرأت حكمة كتبت على ظاهر الورقة، يا للغرابة المدهشة، يا للصدفة العجيبة، الحكمة كلمة للجاحظ  بعنوان الانتحار. إنه يسمي المقدم على الانتحار جباناً، يلومه على ما يريد، إنه بدل إقدامه على الموت، عليه أن يجدّ للتغلب على المصاعب التي تعترض سبيله، وتحول بينه وبين ما يتمنى، عند ذاك يكون من حقه أن يفخر بإنسانيته ورجولته. أما الموت لابد إنه آتياً يوماً، فلمَ يتعجله، ويموت كما تموت حشرة! [كان التقويم جدارينا باسم الهاشمي، وكان مسجل فيه على ظاهر كل ورقة ليوم واحد حكمة. وعلى إني احتفظت بورقة ذلك اليوم، إلا إني لظروف خاصة فقدتها مع كثير مما سجلته من أجل هذه الذكريات] 
وكأني أفقت من حلم، خجلت من نفسي، كدت أبكي أسفاً من ضعفي، مزقت الوريقات، حملت المسدس، وصعدت به إلى سطح الدار، أفرغته من خراطيشه، ورميتها في الظلام دون تعيين اتجاه، وأغلقت باب الغرفة واستسلمت لنوم عميق.

مسجد الكوفة
على قرب النجف إليّ، فاني كما أسلفت صرت أقضي أيام الأسبوع في الكوفة. المقاهي على جانبي سكة "الترامواي" تعج بالرواد عصراً، إنها تكتظ بروادها بشكل مدهش، مع وجود مقاهي في شارع النهر. وإني لأجد لذة ومتعة في الجلوس في مواجهة النهر، ومنظر بساتين النخيل في الضفة المقابلة، والسفن الراسية على ضفته من جهة المدينة، حيث تكثر مخازن الحبوب، ومجارش الرز والمطاحن، وأتخذ مالكوها طابقها العلوي مساكن لهم  عند الفراغ من مشاغلهم، وبعضهم لعائلاتهم أيام الربيع حيث يطيب الهواء، بينما أشغل بعض الموظفين بعضها أستئجاراً. [كان بين النجف والكوفة ما يسمى "ترامواي"، عربات تجرها الخيول. تمشي على سكة من حديد. تقطع بثلاثة أرباع الساعة. وقد تأسست عام 1907 وقلعت عام 1949]   
الكوفة مربع النجفيين، يقصدونها أيام الربيع والخريف، فتنتشر العوائل في بساتينها نهاراً، وعند المساء، يعرجون على مسجدها الشهير الواسع، حتى يضيق بالزائرين. تمتلئ غرفه الصغيرة ذات الأواوين، والساحة الواسعة أيضاً. والمقامات  المنتشرة فيها خير ملجأ للعوائل التي يفوتها أن تحجز غرفة خاصة لها [تنتشر في ساحة مسجد الكوفة مقامات تنسب لبعض الأنبياء وإنهم صلوا هنا، فلهم محاريب]. إن أكثر أيام الازدحام تكون في الزيارات  التي تصادف فصلي الربيع والصيف. وبعد الزيارة والأدعية تبدأ الأسمار، مناظر تبهج الخاطر، وتسلي المحزون، حتى الأطفال يأخذون حريتهم التامة، فساحة المسجد تتسع للعبهم غير المحدود [يقصد الكوفة في مواعيد زيارة الحسين في كربلاء العوائل التي لا تقوى على نفقات السفر إلى كربلاء، وتجد من المتعة مالا تجده في كربلاء].
سور المسجد المرتفع ومن طراز قديم، متماسك وقوي. قال لي بعض سدنته، إن جميع جهاته نالها تصدع، وشملها ترميم وتجديد، إلا هذه، وأشار إلى الجهة التي هي على يمين الداخل إلى المسجد من الباب الخاص به. فإنها –كما يقول- على حالها القديم! هذا كلام، فالظاهر غير هذا. تدل عليه أرضية الجامع، إنها منخفضة بالنسبة لمستوى الأرض الحالي، فالثابت والمعروف، إن العالم المعروف "محمد مهدي بحر العلوم" سعى إلى ردمها بالرمل، وترك بقعة منها [يسميها الناس "سفينة نوح" والتسمية من ادعاءات جهال خدم المسجد، وربما حثوا سذج الناس على التبرك بلمس جدرانها، كما إن على سطح هذه البقعة اسطوانة من رخام، يقال: إن بحر العلوم قد ثبتها كشاخص يتعين به الزوال لموعد صلاة الظهر، لعدم وجود الساعات آنذاك، ولكن جهال خدم المسجد يشيعون إن الإمام علي رماها من البصرة. ويخدعون السذج من الناس وخصوصاً القرويين. وجدتهم يحثون القروي أن يدير ذراعيه حولها فإذا التقت أصابع يديه، قالوا له إنك ابن أبيك بلا شك ومن أهل الجنة، وإلا فـ ....! ومن لم تحمل من النساء تلفها أيضاً بذراعيها وتلصق عليها بطنها؟!]، صارت كالسرداب فيها أواوين وجدرانها محلاة بالكاشاني، لتدل على المستوى الأصلي للمسجد. وحين نقبت دار الآثار عن –قصر الأمارة- المجاور للمسجد من جهة النجف، وجدت إن أرضية القصر مساوية لأرضية تلك البقعة ومنه ممرات تنتهي بأبواب تتصل بالجامع. المعروف إن أمراء المسلمين الذين يقيمون في القصر، كانوا يدخلون المسجد من تلك الأبواب.
في المسجد، بأحد أواوينه بجوار قصر الأمارة، منبر ضخم، ومصلى له باب مصنوع من البرونز بشكل جميل، يقال إنه مصلى الإمام علي ومنبره، وهنا يجتمع كثير من المتعبدين للصلاة والدعاء.
وما يقال عنه بيت الإمام، يشتمل على أواوين صغيرة. وجدرانه مزدانة بالكاشاني. وعلى بعد مسافة من بيت الإمام، بناية، يقال: إنها بيت الصحابي "ميثم التمار" وفي أحد الأواوين المجاورة لقبر "مسلم بن عقيل" مكان شبه سرداب، له باب من حديد صغير مشبك يسميه الناس"طامورة" ويزعمون إنها المكان الذي سجن فيه الثائر المعروف "المختار بن أبي عبيد الثقفي" وتقصده النساء، فيعقدن في رمانات مشبك الباب الخيوط، علامة لما يرتجينه من هذا المكان الذي صار مقدساً بسبب السجين الثائر.
ومسجد سهيل، الذي يبعد مسافة غير قليلة عن مسجد الكوفة، إنه واسع مثل مسجد الكوفة. يقصده الناس مساء كل ثلاثاء، ويبيتون هناك للأدعية والصلاة الخاصة، وفيه مقامات، ومقام عليه قبة، يقولون: إنها مقام الإمام المنتظر. وفي طريق الذاهب إلى جامع سهيل من الكوفة عن يمينه دكة، يقال: إنها "كناسة مسجد الكوفة" المحل الذي صلب فيه "زيد بن علي بن الحسين".
ويقصد مسجد الكوفة في أيام من شهر شعبان بعض العلماء والمتعبدين، فيقيمون أياماً يسمونها "الاعتكاف"، أي إنهم يقصرون أيامهم على العبادة، عبادة خاصة، يسمونها "عمل أم داود؟"
ولرجال الأدب والشعر والظرف في مسجد الكوفة لياليهم العامرة وقد خلدوها بأشعارهم وذكرياتهم.
وقبل المسجد بمسافة قليلة قبة بيضاء يحوطها سور، القبة تعلو مساحة غير واسعة مظلمة، يقال: إنها قبر خديجة بنت الحسين [حين شغل إدارة ناحية الكوفة "لطفي علي"، وكان رجل إدارة وعمل. ومهما كانت نواياه التي رُمي بها، فقد خدم فيها ناحية الكوفة، وقام بجملة إصلاحات، منها إنه أزال سور البناية، وأحاطها بحديقة جميلة، وفتح للقبة نوافذ نورتها فتحولت إلى منظر رائع].
هذه الآثار وهذه القبور –إن صحت- نسبتها أو لم تصح، غدت وسيلة عيش لبعض الناس، وأضاليل ، صيغت عنها أساطير، لم تحرك رجال الدين، ولا هزت عواطفهم نحو الناس ولا نحو الدين. في حين صارت لها في نفوس الناس مكانة الأصنام في أيام الجاهلية، يطاف حولها، ويرتجى منها الشفاء لسائر الأمراض والجنون،  وتنحر لها الذبائح والهدايا والنذور. والويل لمن شك فيها، وتساءل عن حقيقتها.
ومن الغريب أن تجد بناية واسعة أيضاً في شارع النهر. داخلها ضريح له مشبك، يقولون عنه إنه قبر"النبي يونس" أو إنه هنا قذفه الحوت الذي أبتلعه، بعد أن ساح به سبعة أبحر. وإنه لم يقذفه من جوفه إلا بعد أن استغاث باسم الإمام علي؟!
قال لي الفراش حسن أنا يا عم كبير السن، وقد سمعت من جدي -المعمر- إن ضفة النهر كانت مكان هذا السوق [سوق آل شمسه الذي يتصل طرفاه بين شارع النهر، ومدرسة الكوفة الابتدائية "جابر بن حيان" حالياً]، فكيف شخصوا هذا المكان المزعوم؟ علم ذلك عند الله وفي ذمة رجال الدين تنتحل هذه الأضاليل.
دين ومصالح
سوف يحل في بيتي من يعمره قريباً. سيتحقق الأمل الذي عملت لأجله. فقد وافقت مديرية أموال القاصرين على قرضي مبلغاً يساوي ثلاثة رواتب. أستطيع أن أتفق مع أحد أصحاب المخازن فأدفع له مقدمة، وأقسط الباقي، فأدفعه شهرياً. سجلت الحاجات الضرورية المطلوبة ضمن المهر المرسوم، وما أبتغيه أنا من ضرورات البيت. وشغلت بالرواح والمجيء بين الكوفة والنجف. كل حاجة أشتريها أحملها مباشرة إلى بيتي في الكوفة، ثم أرتبها في موضعها الخاص. كان انشغالي هذا لهواً لذيذاً، جعل أحلامي أكثر زهواً وجمالاً. كنت أحياناً وأنا أرتب أثاث الغرف، والحاجات، أدندن وأغني، وكأن لا أثر للوحشة التي كانت تخنقني في هذا البيت نفسه. حتى القطة التي تحضر إلى البيت عندما اجلس للغداء أو العشاء صرت ألاطفها، وأنا أرمي لها شيئا من الطعام. ذات مرة قلت لها كمن يعتقد إنها تفهم ما يقول: "في الأيام القريبة ستقيمين في هذا البيت مدة أطول في كل يوم. ربما ستضعين صغارك في إحدى زواياه، وتكونين أنيساً لربة البيت، ساعات غيابي عنها ودوامي في المدرسة". ثم أضحك من نفسي. ويح الشباب، إنه الخمرة التي تشرح خاطر الإنسان، وتشيع فيه الطرب، والقوة، فيسير مؤمناً بالحياة دون مناقشة لأوضاعها المتناقضة في سائر الأحوال. لولا الشباب وحيويته لن تكون الحياة مستساغة، ولا معنى لها، لولاه ما تركزت حياة الكهول والشيوخ، ولما صار لما لديهم من تجارب وحكم، أي قيمة واثر يعالجون به شؤونهم وشؤون المسؤولين عنهم.
العقل وحده لا يدفع الشاب لعمل أمر ما، ذلك لأن عواطف الشباب أقوى من عقله، ربما كان العكس لو إني مثلاً ألزمت نفسي بما يوحيه لي عقلي، لما أنجزت أبداً أمر زواجي هذا، بدافع الطاعة التي يأمرني بها العقل لأوامر أبي بهذا الشأن. أنا وأياه مختلفان. كل منا ينظر الموضوع من زاوية نظر معاكسة.
إني أقبل أن يكون مستقبلي جحيماً، لأنه من صنع يدي. وأرفض أن يصور لي المستقبل فردوساً، إن لم يكن من صنع يدي أنا.
حين كان اليأس قبل شهر يغمرني، كنت أتصور إن الحياة لا معنى لها أبداً. وكل دهسة أو عثرة تحدث لي، تزيدني سخطاً وغضباً. أما الآن فأنا أضحك بمناسبة ودون مناسبة، حتى مع هذه القطة، من المؤكد إنها لا تفهم من حديثي معها شيئاً، لم تفهم إلا العظم الذي أرميه لها، والآدام الذي أقدمه لها في إناء.
شيء غير مريح حدث لي يوم زيارة المفتش "محمود شكري الآلوسي" لو لم أكن في مرحي هذا الذي يغمرني، لاعتبرته، واحداً من مآسي الحياة، ودليلاً على عدم جدواها. دخل علي الصف الثالث، كنت قد رسمت سطرين عن الخليفة الأموي "عمر بن عبد العزيز"، كان أسمه أحد مواد منهج الدراسة في التأريخ لهذا الصف ، دون أن يقرّر كتاب خاص بموجب المنهاج [إذ ذاك الزمن كان التأريخ من جملة ما يدرس للصف الثالث الابتدائي. وعن شخصية عمر بن عبد العزيز نقلت باختصار إنه لم يحدث بأيامه فتح، شغل بترسيخ العدل بين الناس، ومن حسناته إنه رفع السب عن الإمام علي بن أبي طالب]. فاعتمدت على كراس صغير في مكتبة المدرسة. وبعد انتهاء ساعة الدرس، دعاني المفتش لمناقشتي، أهم ملاحظة كانت لديه، هي ما ذكرته: "إنه رفع السَب عن الإمام علي". قال: "إن هذا يشعر النشء بأن هناك في تاريخنا من كان يجرأ ويشتم الإمام. وهذا مالا يصح أن نذكره....".
- حسن يا سيدي "المفتش" ولكن هذا ما حدث في تأريخ الخلافة الإسلامية أولاً، ولان لا يوجد كتاب مقرر أعتمد عليه ثانياً، وأخيراً إن في منهاج الدراسة الابتدائية للتأريخ، وعما لقيه الإمام ما هو أشد من الشتم. في منهج التاريخ للصف الخامس مثلاً، حرب الجمل، وحرب صفين، وفي الوقت الذي يشجب فيه الشيعة إسلام الذين قاموا بهاتين الحربين، يعبر السنة عن رجالها أولئك بقولهم "رضي الله عنهم" إذا ذكر طلحة والزبير وعائشة ومعاوية، وأنت تعلم يا سيدي إني نفذت مواد منهج لم أضعه أنا؟ [الشيعة لهم رأي ويناقض رأي السنة فيمن حارب الإمام علي حيث يقول بعض مذاهب السنة: "الزبير وقاتله في النار" وفي خصوص عائشة يستثنوها لكونها من أزواج النبي. يقول السيد مهدي بحر العلوم "وعائشة سبابها محرم"]
وحين أنهى المفتش زيارته وجدته قد ثبت رأيه في ملاحظاته بالدفتر الخاص بزيارة المفتشين. وبعد أيام وصلت التقارير فكانت تضم أيضاً رأيه رغم ردّي في حينه، ولكني صممت العزم على كتابة ردي رسمياً إلى الجهات المعنية.
وشجعني على هذا، إن زار المدرسة "السيد طه الراوي" ومن الصدف إني أشغلت الصف الخامس مكان المعلم المختص الغائب، وكانت مادة المنهج موضوع الدرس، حسب خطة المعلم المذكور "حرب الجمل"
كان الأستاذ يصغي إلى أسلوب تدريسي، وقبل أن يغادر الصف صافحني مبدياً إعجابه، فلم يفتني أن أذكر له موقف المفتش، فعلق الراوي: لست مخطئاً فأنت مقيد بمنهج وكان عليه أن يقدّم ملاحظاته على المنهج لا عليك.
لقد تملكني، وأنا أتشدد في رأيي ذاك، شعور طاغ، واعتداد بشخصيتي، وفعلاً نفذت عزمي وقدمت ردي بواسطة المدرسة إلى مديرية المعارف لترفعه إلى الجهة المعنية.
ومدير مدرستي صاحب شعار "الإدارة بحر!"، أو كل من يقعد وراء منضدة الإدارة كفؤ لها. هذا المدير رأى إحراجا كبيراً في تقبل ردي. وإن كان قد فسر رأي المفتش، بأنه نتيجة لطائفيته، وليس لتنزيه التأريخ من تلك الشوائب.
الواقع إننا مبتلون، بهذه العنعنات الطائفية، والتي هي تركة ثقيلة تركها لنا حكام المسلمين، والذين دونوا التأريخ تبعاً لأهوائهم، فكانت تلك إحدى العقبات التي تحول –ومازالت- دون وحدة العرب، وتفت في قواهم، وتسهل للاستعمار سبيل البقاء.
أية سلطة متحيزة سوف لن تستطيع أبداً جعل حياتنا على الخط الصحيح في المسيرة الطويلة نحو الحرية والاستقلال، وبناء مجد الأمة اللائق.
والمضحك المبكي في مسألة عقائدنا، إن الذين يغذون الناس عندنا بالتأريخ المشوه المضطرب، المثير للأحقاد والضغائن الطائفية، هم أنفسهم وفي ذات الوقت أنصار متحمسون في مجال السياسة والقضية الوطنية!؟.
فبم تفسرون هذه الازدواجية؟

يتبـــــــــــــــع
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   2010-10-03 ‏
Alshibiby1945@gmail.com


150
1-معلم في القرية/ 15
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)




 
من آراء الراحل في المناهج التعليمية: (أين وكيف يستطيع صبي في سن الحادية عشرة والثانية عشرة أن يهضم موضوعاً بقلم المنفلوطي، بأسلوبه المسجوع، وألفاظه المزوقة. وأية روح تنمو في الطفل وهو يقرأ الحلاق الثرثار وذمّ السياسة والسياسيين ويلعن الناس أجمعين؟!)
الانتقال من المشخاب إلى الكوفة    
كان الآباء قديما يعتقدون إن تزويج أبنائهم من واجباتهم، هم يتحملون كل نفقاتهم –إن كانوا من الموسرين- والاهتمام بها حتى وإن كانوا غير ذلك. لأن الأبناء بحكم طراز المعيشة إذ ذاك لم يكونوا منفصلين عنهم، فالكدح من أجل العيش واحد، وإعالة الأسرة مسؤولية في عاتق الأبناء كما هي مسؤولية الآباء. الأبناء في حياة آبائهم يشاركونهم في الكدّ والعمل من أجل العيال. يضمهم بيت واحد، حتى لو كان ضيقاً وصغيراً. حتى ذوو اليسار يندر أن يستقل أبناؤهم في بيوت خاصة بهم. وربما -وهذا يحدث- كان بيت ذي اليسر كبيراً يتسع لعدد كبير من أبنائه المتزوجين، أو يكون عدة بيوت من مدخل واحد. بينما تضم بيوت متوسطي الحال، ولو كانت ضيقة، جميع العيال مهما كان عددهم. ويعيش الجميع تحت سلطة الأب، رئيس العائلة، بطاعة والتزام، ولذا كان كثيراً ما يحدث عندهم الطلاق، والأمراض النفسية والعصبية.
حين عدت من عربستان، وسلمت أبي ما حصلت عليه من مالٍ، من العوائد التي يخصه بها رجال عشيرته، والتابعون له في أمور دينهم. دعاني بجلسة خاصة، وبعد مقدمة ذكر فيها، كيف خيبت آماله، في دخولي الوظيفة، وإن هذا كان دليل عدم ثقتي بالله، فالله هو الرازق، خلق العباد وتكفل أرزاقهم، وأرزاقهم على قدر ما يرى من مصلحة العبد. تحدث كثيراً، بموجب فلسفتهم عن الله والعباد والأرزاق. ثم خلص بعد هذا إلى قراره الذي دبر أمره، منذ أن ذهبت أنا وإياه إلى بغداد لإنجاز معاملة جواز السفر. قال، أسمع ابني: "هذا الذي جئت به، وما يحتاجه الأمر من زيادة، أنا مستعد أن أدبر كل شيء، من أجل أمر زواجك!"
كانت مفاجأة، ولست أدري كيف أجبته بسرعة، وبترسل خال من الخجل والخوف. فقلت: "أرجو أن لا تكلف نفسك شيئا. الزواج أمر يخصني. وحين أريد، سأكفي نفسي عند ذاك مالا يصح أن تتكلف متاعبه". ردّ عليّ: "لقد كلمت ابن عمي في خطوبة شقيقته الصغرى. فعارض رغبتي هذه! وحدث بيني وبينه جدل، كاد يسبب الخراب بيني وبينه. لكنه رضخ أخيراً لمطلبي. لم يكن رفضه أول الأمر ترفعاً وكبرياء، وإنما هو يراك الآن ذا دخل لا يقوى على حمل مسؤولية عيلة  وزوجة، ومستقبلها أيضاً؟".
قلت : "إنه محق. ثم إن الزواج يا سيدي مسألة شخصية تهم بالدرجة الأولى طرفي القضية، الرجل ومن يختارها. ولا يصح للطرف الثالث -أنت مثلاً- رأيه. إنها تهمني أكثر ما تهمك. لي وحدي فقط حرية الاختيار!. ما يعقب الزواج من أفراح أو أتراح، يعود عليّ لا على سواي، إن لم أوفق لحياة زوجية سعيدة. وأنت والآخرون، تظلون وسط قضية الخلاف، الذي ربما لا ينتهي إلى خير. دعني أتحمل تبعة اختياري، إن خيرا فخير وإن شراً فشر. الدنيا تغيرت فدع لي حق الاختيار!"
الواقع إن ما كان يهدف إليه ، هو أن يوثق علاقته ببني عمه. سافرت بعد هذا إلى بغداد، ومن الصدف، إني وجدت مدير المعارف العام "فاضل الجمالي" في ديوان الشيخ محمد رضا الشبيبي، فانتهزت الفرصة، وكلفته بأمر نقلي إلى الكوفة، فطمنني. وفعلاً تم لي هذا.
خلال الأيام الأولى بحثت عن بيت، وتم لي هذا بيسر، كان بيتاً مريحاً بالنسبة لي، وأهم منه أن مالكه إنسان طيب. وتم كل شيء، وأقمت فيه وحدي، أهيئ كأيامي السالفة طعامي، مستفيداً من بقية الوقت بالمطالعة، وانجاز مهام التدريس.
كثير من المعلمين هم من لواء الحلة، أو كربلاء عملوا على انتقالهم حيث إن ما أشيع، انه سيتم استقلال الحلة بمديرية معارف تشمل كربلاء. وبالمناسبة زرت الدكتور الجمالي في بيته وشكرته. وجدت عنده زائراً، قدمني له بهذه العبارة "كان راهباً مثلي ومثلك فتمرد على الرهبنة مثلي ومثلك"، وذهب إلى داخل البيت، وعاد بالقهوة. وكان قد دخل علينا قبل أن يعود شيخ ذو جسم ضخم، ربعة في الطول، أحمر الوجه، ذو لحية بيضاء يخالطها سواد قليل. وقد لف كف يده بضمادة. وما أن رآه الدكتور حتى بدا عليه انفعال. وبلهجة صارمة وانفعال، سأله:
- هل راجعت الدكتور؟
- لا.
- لا!؟ لماذا؟ ولماذا جئت؟ ألا تعرف أن هذا مرض معد؟ تكبرون بالسن! ولا تكبرون بالعقل! أتفضل، أخرج. أذهب إلى الطبيب حالاً.
خرج الشيخ دون أن يردّ بحرف. لقد كان الشيخ والد الدكتور!؟ لكنه أنبه كما يؤنب جاهلاً!.
عدت أهيئ طعامي، وإذا ما كان لدي ما أطالعه انصرفت إليه، وكأني مع سمير يلذ لي حديثه، ولكني أيضاً لم أنس أن أزور النجف، لأقضي سويعات في النادي ثم أتوجه إلى البيت، وتكون السهرة مع الأب العطوف. إنه ينبسط مع بنيه انبساطا ملذاً، تعليقاته، نكاته، وإصغاؤه، توحي لمن لا يعرفنا إنه أخ أو إننا ضيوف.
أقرأ له أهم ما في الجريدة –إن كانت لدي- وأنقل له ما سمعته من أنباء عالمية وداخلية، عن الجرائد والإذاعات، وطالما تجري بيننا عنها مناقشات. تغيبت في الأسبوع الذي استأجرت فيه البيت فلما حضرت ليلة الجمعة أنبني قائلاً: "يبدو أن قرب مدرستك إلينا وبعدها سواء؟!". قلت: يعني!
- لماذا أقمت هناك وأنا بحاجة إلى أنيس؟!
وبحسرة قال:
- ثلاثة أولاد، نعم عندي ثلاثة أولاد، ولكني أعيش كدرويش، لا جليس ولا أنيس! [حين انتقلت إلى الكوفة، كان أخي الشهيد حسين معلماً في بغداد]
- لا تتألم يا أبي، سأقسم الأيام بصورة أجمع فيها بين خدمتكم وحق نفسي عليّ. إني لا أحب أن أستهلك عمري بالرواح والمجيء بين الكوفة والنجف، متى أذن أقرأ واستفيد؟ أنت جربت إن الأيام تثقل كاهل الإنسان كلما كثر عددها في عمره، حتى لكأنها تأكل منه وتشرب، فتبدأ كثير من قابلياته تنهد، وذاكرته تضعف. فانا كما تعلم كنت سريع القراءة، قوي الاستيعاب، قوي الحافظ، ذكورا لما شاهدت وسمعت منذ سن الرابعة من عمري، الآن أحس بعض الاختلاف، ترى ماذا سأكون عليه إن خطوت الأربعين؟! إذا كان هذا ما أحسه وأنا في الرابعة والعشرين!.
كان يدور في ذهنه حدس، لم يتسرع في مكاشفتي عنه. ما عرضه علي من استعداده لنفقات الزواج، ورفضي ذلك، هو ما يحز في نفسه. ما حيلتي؟ أعتقدُ إن على الولد أن يكون عند رغبة الوالد في كثير من الأمور، إلا في أمرين، مسألة الزواج، ومسألة الرأي والفكر!. كلاهما مهمان في حياته، يجب أن يكونا تبعاً لرغبته وخبرته وفهمه، وإن فرط بهما وحاد عن النهج الصحيح، فإن متاعبه تزيد، وآماله قد تخيب، وشخصيته قد تظل قميئة وعلى مستواها قبل النضوج.
*               *               *               *
عليّ أن أسرع في تطبيق الخطة المرسومة، بعد ظهيرة كل خميس أكون في بيت أبي. لم تعد –كالعادة- تستطيع مواجهتي من نافذة الغرفة المواجهة لنافذة غرفة الاستقبال من بيتنا. إن نظرات أهلها تلاحقها لا حنقاً عليها، إنما ذلك خوفاً من أبيها، إنه صارم في ضبط عائلته، قاس لا يرحم. ولماذا لا يكون كذلك!؟ هو الآن في الأربعين من عمره، لكنه لا يعرف غير بيته، ومحله الصغير الذي يأخذ فيه مكاناً يجعل التماس بينه وبين زملائه الحدادين غير ميسور، وكلهم يعرف إن الرجل لا يحب مجاملة ولا التعرف على أحد، وكل الذين يشترون منه حاجة أو يصلحون حاجة عنده، يعرفون إنه لا يزيد في محاورتهم عنها بأكثر من جملة –تعال في الساعة الرابعة مثلاً، والأجر كذا- ولكنهم أيضاً يعرفون إنه دقيق في عمله، أمين ومخلص وغير جشع.
منذ أستقل بالعمل وحتى يومه هذا، لم يزر جاراً، ولم يعد مريضاً، ولم يمشي في تشييع جنازة، ولم يدخل مجلس فاتحة، ولا حتى مجالس عزاء الحسين. وهو في بيته لا ينبس ببنت شفه، وعلى هذا فإن أفراد الأسرة جميعاً يلفهم صمت عميق، فإذا ما أنطلق يوماً من صمته، وكآبته، انطلقوا كعصافير فرت من أقفاصها إلى الجو الرحيب، يضاف إلى ذلك إن البيت الذي يسكنه وهو ملكه، لا يزيد على الستين متراً. يتألف من غرفتين، واحدة فوق الأخرى، وسرداب تحتهما، بينما يتكون عددهم من عشر أنسام، وأحياناً تقيم معهم أمه العجوز.
أخبرتها: "إني مصمم على أن انهي كل شيء. فقد هيأت من يفاتح أباك بأمر الخطوبة، لا تخبري أحداً بذلك. دعيها مفاجأة".
قابلت الخبر بوجوم، ما الذي أوحى لها؟ هل تعرف إن النجاح مستحيل. غداً سأعرف كل شيء. سيذهب الذين اخترتهم لمفاتحته. بعد أن يخبره صديقي "مرتضى" بذلك، ويطلب منه تحديد الموعد.

ما حك جلدك غير ظفرك
لابد إنها أباحت بالسر إلى أمها، ولابد إن أمها فاتحت أباها، فقد علم صديقي إن الرجل قد سافر بالعيال جميعا حيث يقطن أهل زوجته. لقد فرَّ، هو إذن يرفض!؟
لهذا صممت أن لا أتماهل أبداً، إن أي تماهل سيزيد من متاعبي. وإذا علم المعارضون من أهلي، فإنهم سيخلقون العراقيل في طريقي. سيثيرون القلاقل. الناس في بلدي مولعون بترديد الإشاعات، الكلمة من فم إلى فم تتضاعف، فتبلغ المئات، بل إلى قصص عجيبة وغريبة، ولا يفكر أحد في عاقبة ما يرددون من إشاعات، ويخترعون من اتهامات. هكذا إذن يمكن أن يقع أي مكروه، قد يخلق فيّ عقداً نفسية تعذبني مدى الحياة.
الوالد، بطبيعة نشأته على تقاليد وتربية، لا تبيح للولد أن يستقل برأيه في أمور كهذه. ورغم ما تؤكده فلسفتهم الموروثة في المرأة، وبقدر ما هم يرون الخير في مخالفة مشورتهن  فإنهم كثيراُ ما يتأثرون بأقاويل زوجاتهم، ولو أدى ذلك إلى خسارتهم لأبنائهم [هم يذكرون حديثاً يقول: "شاوروهن وخالفوهن"]. والأم، ورثت طبيعة من تحكموا فيها بإذلال، زادها أسلوب زوجها في حياته معها ومع زوجته الثانية. إنه يقضي نهاره، أما لقضاء بعض شؤونه، أو قابعاً في غرفته الخاصة بين كتبه. هو لا يرى زوجاته إلا عند تقديم الطعام، أو حين يأوي إلى الفراش.
كان ينصح أبناءه إذا وجد أحدهم منسجماً في جلسته مع أمه وأخواته: "مجالسة النساء تميت القلوب!". هذا لا يمنع أن يرووا لك حديثاً آخر، عن الأم "الجنة تحت أقدام الأمهات" مثلاً. وكثير من الأحاديث وآيات القرآن. لديهم من الأحاديث المنسوبة للنبي أو الأئمة الكثير الكثير، منه لتكريم الأم واحترامها، ومنه ما يحط من كرامة المرأة ومنزلتها. فالمرأة ناقصة عقل ودين، وحظها، بنص القرآن [يشيرون إلى الآيات التي تخص الإرث ونصيب المرأة في قوله "للذكر مثل حظ الأنثيين" وإعفائها من أداء الصلاة أيام العادة الشهرية، وما يخص شهادتها –امرأتان مقابل رجل واحد-].
لا يا سادة، لا يا وعاظ، إنكم تجترون معلوماتكم، دون طبخ. أنصفوا أنفسكم واعترفوا أمامها مرة، إن الذي أسمعكم أول نغم أول ساعة فُتحتْ فيها عيونكم على نور الحياة، هو صوت –الأم- بنبرة العطف والحنان، هدهدتكم في المهد بلحون تغمركم فيها السكينة، والطمأنينة. أحضانها أدفأت أجسادكم الضعيفة الطرية، غذتكم بالحليب الذي يشد عظامكم، ويرسخ بنيان أبدانكم، هي أول مدرسة، تضع حجر الأساس في حياتنا للنجاح والفشل. "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" [سورة البقرة الآية 187]. لا بأس إن كنتم قوامين [الآية 34 سورة النساء "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض"] ولكن ألا يجب أن يكون ذلك بالعدل ولخيركم جميعاً!؟
أصبح الآن دافعي لتحقيق أمر الزواج أقوى من ذي قبل. حرصاً مني على سمعة ذويها وأسرتها. وهكذا اعتمدت على نفسي وتوجهت إلى حيث يقيمون.
زرتهم من حيث لا يتوقعون. دخلت في حوار مع ذلك الرجل العنود. وبدون تزويق أو تنميق، أو لف وبلف، كشفت قلبي، وطوايا نفسي، وآمالي ومطمحي، فاستطعت أن أفوز بتأييد الجميع. وفي صباح اليوم  التالي 12/11/1937 تم عقد القران، وعلت زغاريد الخالات والقريبات، وباركني من حضر من الأصدقاء، ومن تعرف عليّ، أقربوها والجيران. ولكن زفرة عاتية في صدري، ماجت، ودارت كعاصفة. ماذا لو تم هذا برعاية أبي وتبريكاته، وزغرودة أمي، وأفراح أسرتي أيضاً؟!

بين المدرسة والهدف
بيت جميل، قريب من شارع النهر، مؤلف من أربع غرف في الطابق السفلي، تحتها "سردابان"، وفي الطابق الثاني غرفة واحدة. مطبخ يكفي لعائلة صغيرة، هيأت فيه بعض ما يلزم للمستقبل الذي سأعيشه مع زوجتي. وألزمت نفسي في الإقامة فيه، فلم أذهب إلى بيت أبي إلا في الأسبوع مرتين، وعلى الأكثر ليلة الجمعة فقط.
رأيي في الإقامة منذ زاولت الوظيفة، هو هذا، أنا لا أؤيد بعضهم في الرواح والمجيء. وإضاعة الوقت بين الموطن الذي يقيم فيه الأهل، ومحل الوظيفة، إنه استهلاك لقواي، وإضاعة لوقتي. وهكذا اعتذرت لأبي حين أحتج عليّ "أتبقى بعيداً عني في قرب المكان وبعده؟"
مديرية أموال القاصرين تسلف الموظفين، ولكن بقواعد وأسس، إنها تشترط أن تكون خدمة الموظف ست سنين أو أكثر ليستحق سلفة ستة رواتب. ولأن خدمتي أقل من أربع سنين، فإن ما يمنح لي ثلاثة رواتب فقط. راتبي ثمانية دنانير. ما سأحصل عليه بسبب استقطاع أرباح السلفة سلفاً سيكون أقل من أربعة وعشرين ديناراً. وما ادخرته لا يتجاوز العشرين ديناراً، صرفت معظمها في مسألة عقد القِران.
وعدني أستاذي وصديقي "عبد الرزاق محي الدين" أن يتابع المعاملة، فهو في بغداد، ومدير أموال القاصرين معه صلة صداقة. صرفت نفسي لأمور التعليم، وحرصت كثيراً على كتمان قضية الزواج، لقد أبقيتها سراً بين الصديقين مرتضى وعبد الرزاق.
المدرسة ابتدائية، تقع في مدخل سوق كبير، ينتهي إلى شارع النهر. ولكن السوق مهجور، إلا عدداً قليلاً من دكاكينه. وبنايتها واسعة، وعدد صفوفها ستة، وصفوفها الثلاثة الأولى متشعبة كل منها إلى شعبتين.
مديرها نجفي ، ومن أبناء رجال الدين، خريج مدرسة –تشبه دار المعلمين العثمانية- أغلب معلميها هذا العام جدد. واحد آخر من عائلة نجفية أيضاً ولكنهم يسكنون الكوفة، عين هذا العام، وقد تخرج من دار المعلمين الريفية. وثالث من أصل تركماني، ولكنه ينكر هذا. وتوثقت بيننا نحن الثلاثة علاقة وثقى. بينما علاقتي مع مدير المدرسة أوثق، إلا إني حددتها، تجنباً للظنون، أريد أن تكون جهودي هي التي تحدد قيمتي ومكانتي. [المدير كان محمد رضا المانع، ومن المعلمين محمد رضا شربه، والتركماني الأصل ناجي شوكت، والشيخ محمد رضا ذهب، ومعلم من فلسطين محمد أحمد، والحلي عبد الجليل الأعرجي، ومعلم من الأعظمية]
أعتمد عليّ مدير المدرسة في تحرير بعض الكتب والتقارير الشهرية، ونورني عن كثير من الأمور، عن بعض الشخصيات الكوفية التي تعرفت عليها، وعلى بعض التلاميذ المسائيين، والذين هم من أسر نجفية، تقيم في الكوفة للتجارة، وبعضهم كوفيون من أمد بعيد.
ومن المعلمين شيخنا الذي كان سابقا في المشخاب. وقد عهد إليه، قبل انتقالي لهذه المدرسة، بتدريس اللغة العربية للصفين الخامس والسادس. إن تدريس هذين الصفين يكلفه مشقة وعناء، فهو ضعيف البصر، وأسلوبه في التدريس، لم يختلف عن أيام تدريسه الأجرومية، وقطر الندى، وألفية ابن مالك، وإن كان، في الحق، على جانب عظيم من الإحاطة في علمي النحو واللغة. ولكنه بعيد جداً عن أصول التدريس، والتربية الحديثة، لهذا هو يعاني رهقاً في مسألة تعليم الإنشاء!
عند توزيع الدروس في بداية العام، أعفاه المدير من تدريس هذين الصفين، وعهد بهما إليّ. بدا عليه انفعال من هذا الإعفاء، ولم تفت مدير المدرسة أن يوضح وجهة نظره في سبب إعفائه، وانه لمصلحته وإراحته من متاعب التصليح التي لا يطيقها إلا شاب مثل "علي".
تجربتي خلال هذه السنين الأربع، في ممارسة تدريس العربية في صفي الخامس والسادس، أقنعتني أن تدريس العربية ليس سهلاً أبداً. وإن اعتباره بفروعه المتشعبة، إملاء، قراءة، إنشاء، محفوظات وقواعد النحو، درساً واحداً خطأ فاحش. يجب في رأيي أن لا يكلف معلم العربية بدروس أخرى، ليبذل الجهد اللازم في الإحاطة بالمعلومات اللازمة، لتثبيتها في أذهان الصغار الذين يجدون صعوبة تامة في تفهم قواعدها نتيجة انعدامه في بيوتهم، بسبب تفشي الأمية في صفوف ناسنا أولاً، ولتعقد المناهج، وعدم انعدام التبسيط والسهولة في الكتب المقررة من قبل مؤلفي تلك الكتب ثانياً. حتى كتاب القراءة مضحك أمره، في طول الموضوع، وأسلوبه العالي في الفصاحة والبلاغة، وبعده أيضاً عن نوعيّة المواضيع التي تستهوي هؤلاء الصغار أولاً، وتهذب طباعهم ثانياً.
أين وكيف يستطيع صبي في سن الحادية عشرة والثانية عشرة أن يهضم موضوعاً بقلم المنفلوطي، بأسلوبه المسجوع، وألفاظه المزوقة. وأية روح تنمو في الطفل وهو يقرأ الحلاق الثرثار وذمّ السياسة والسياسيين ويلعن الناس أجمعين؟!
مهما يكن من أمر فقد مشيت على عادتي في تدريس العربية، وأنا لم أبق على نهج منذ أن عينت وتعهدت تدريسها. دائما أغير وأبدل أسلوبي تبعاً لتجاربي خلال التدريس، وتبعاً للمعلومات التي أحصل عليها من مطالعاتي. وأعترف: إني كأي متعلم على الطريقة القديمة، لم أستطيع التخلص تماماً من التعقيد، وصعوبة التفهيم في كثير من الأحيان.
كما جربت كثيراً التخلص من بعض المواضيع في علم النحو لهذين الصفين، نائب الفاعل مثلاً والممنوع من الصرف! وحصلت لدي قناعة تامة بإمكان جعل تدريس العربية بفروعها التي أشرت إليها في كتاب واحدٍ، ولا يسند تدريس العربية لأي معلم بحجة عدم التخصص في التعليم الابتدائي. ولا بأس برفع مستوى المعلمين أجمع في دورات في العطل الصيفية [أطلعت على كتاب أسمه "البسيط" لا أتذكر أسم مؤلفه، على ما أتذكر لبناني. وفي عام 1959 وضعت على منواله كراساً لتدريس إحدى بناتي، وقد استفادت فائدة كبرى تجلت في تفوقها في النحو والإنشاء، وبسبب ما نالني في تلك الظروف لم أستمر في إكمال الموضوع].
اختيار المعلم الكفوء لتدريس العربية ضرورة، كما إني أرى من الضرورة أن يلتزم جميع المعلمين، أو يُلزموا بتجنب اللهجة العامية، وليس معنى قولي هذا أن يلتزموا الفصحى في تدريسهم. لا أريد هذا، وإنما يجب تجنب لهجة الشارع والبيت. أما حين يقرأ لهم في كتاب، فمن العيب الفاضح أن لا يجيد القراءة، ويلحن في الأعراب. إذا سمع التلميذ من المعلم خطأ صعب بعد هذا تقويمه.
كنت أتحدث عن المعلمين، وانحدرت إلى الحديث عن مشكلة تعليم العربية، التي مازالت مستعصية الحل. والواقع إن المسألة ليست خاصة بالعربية فقط. مناهج التعليم في الابتدائية، وهذا ما يعنني باعتباري معلم ابتدائية، كلها معقدة في نوعيتها ومستواها وأسلوبها. والأغرب المضحك، أن بعض الكتب تُلغى، ويحل محلها جديد، لا لاعتبار إن هذا الجديد خير من الملغى، إنما لأن مؤلف الجديد وجد من يسنده من المسؤولين؟!
أتذكر إني درست في الدورة عام 1935 الطريقة الجملية لتدريس الصف الأول، في كتاب قراءة لمؤلفه "وداد سكاكيني" وفعلاً عُمّمَ قرار تدريسه، على المدارس وعهد إليّ أمر تدريسه إذ ذاك [كان هذا عام 1935/1936 في مدرسة سوق شعلان]. ولكن بعد مرور شهر واحد، الغي القرار، وعدنا إلى تدريس "الخلدونية"، ولا عجب في الأمر، إن ساطع الحصري ثابت الأساس في معارف العراق!؟ ولا ينكر أحد خدمته للتعليم، كما لا ينكر إن القراءة الخلدونية أصلح من غيرها. والطريقة الصوتية التي بنيت عليها الخلدونية يميل إليها معظم المعلمين. ستكون أجدى وأنفع وأبسط لو أعيد النظر ببعض ألفاظها وجملها بما يتفق واستعداد صغارنا، وبمصطلحات غير بعيدة عن استعمالاتنا في بيوتنا ومحادثاتنا.
لا بأس أن أعترف إني بهذا البيت الصغير، حين أنتهي من أعداد غذائي ليلاً وأتعشى، تنتابني وحشة شديدة، إذ لم يكن لدي شاغل من تصحيح دفاتر، أو مطالعة في كتاب ملذ. فيستبد بي أرق يحرمني من نومة مريحة. ويأخذ التفكير مني مأخذا، إني أشرق وأغرب، خصوصاً وأن معاملة سلفتي من مديرية أموال القاصرين لم تنجز لحد الآن.


يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏28‏.09‏.2010   ‏


151
استفسار واتهام حول القطع الأثرية

منذ أيام اُثير موضوع اختفاء بعض الآثار المسروقة والتي سلمت عن طريق الجيش الأمريكي إلى مكتب رئيس الوزراء. فقد أعلن سفير العراق "سمير الصمدعي" عن تسليم هذه الآثار وقد تجاوز عددها الـ 600 قطعة أثرية منها السومرية والبابلية وحتى عهد فجر الإسلام! لكن الغريب فأن الجهات الرسمية المسؤولة عن تسلم هذه القطع لم يكن لديها علم عن تسلم مكتب رئيس الوزراء لهذه الآثار الثمينة.
 وحسناً فعل دولة رئيس الوزراء بتشكيله لجنة للبحث عن مصير هذه الآثار، لأن ضياع هذه الآثار بعد استلامها من قبل مكتب رئيس الوزراء، يعتبر فضيحة لا يمكن السكوت عنها!
والمضحك المبكي أن هذه القطع الأثرية والتي لا تقدر بثمن والتي جمعتها نقاط الكمارك الأمريكية، وأهتمت الحكومة الأمريكية بإيصالها بطريقة آمنة وذلك عن طريق جيشها في العراق، ولكنها للأسف لم توفق في اختيار الجهة –الحريصة- باستلامها. معتقدة خطأ أن الجهة الحريصة هي مكتب رئيس الوزراء!؟ هذا الاختيار الغير موفق للجهة –الحريصة- كاد يكون سببا في ضياع وعودة هذه القطع الأثرية إلى مافيات السرقة مجددا، لولا ما أثير من ضجة إعلامية كانت أشبه بالفضيحة، مما دفع دولة رئيس الوزراء باتخاذ إجراء ليبرئ ذمته من فقدان هذه الآثار بعد تسلمها من قبل مكتبه الموقر!؟
ونجحت أخيرا اللجنة التي شكلها دولة الرئيس في العثور على هذه القطع الأثرية. حيث وجدت مخزونة بصناديقها دون أن تفتح في أحد المخازن لأدوات المطبخ!؟ وهذا يدعوني لتوجيه الأسئلة التالية، لدولة رئيس الوزراء وللجنته التي كلفها بالبحث، ولدائرة النزاهة ولوزارة السياحة ولكل المؤسسات العراقية الحريصة على آثار العراق.
السؤال من الذي أستلم هذه القطع في مكتب رئيس الوزراء؟ بالتأكيد الذي أستلمها مسؤول مرمووووق وكفء، يعي أهمية محتويات هذه الصناديق! وإذا كان فعلا مرمووووق وكفء، يبرز أمامي سؤال آخر لماذا هذا الكفء خزنها مع أدوات المطبخ!؟ ولماذا لم يخبر الجهات المختصة عن وصولها؟ مع العلم أن التسليم تم قبل أسابيع! ولماذا صمت طيلة أيام اُثيرت فيها القضية؟ وهل اكتشفت اللجنة التي شكلها دولة رئيس الوزراء من الذي أستلمها من الجيش الأمريكي!؟ وما هي الإجراءات التي ستتخذ بحقه كمسؤول مرمووووق وكفء في سوء وإهمال أمانة لا تقدر بثمن ليحشرها في مخازن المطبخ!؟ ومن الذي استلمها في مخازن المطبخ؟ وكيف تم التسليم له وماذا قيل له عن محتوياتها!؟
 كلنا نعرف في كل المخازن وفي أبسط الدوائر يوجد هناك مسؤول أو مدير مخزن. ولا أعتقد أن مخازن مكتب رئيس الوزراء تفتقد لمدير مخزن حرفي، وبالتأكيد انه ذو خبرة وعارف بالقوانين، لذلك لا يعقل أنه أستلمها –وهو يعرف محتوياتها- وحشرها وكأنها أواني مطبخ!؟ ولا أعتقد عملية الاستلام من الجيش الأمريكي والخزن تتم بهذه الطريقة الغير مسؤولة وتفتقد للحرص!.
صديق سويدي كان جالس بجانبي ونحن نستمع لخبر العثور على القطع الأثرية، فعلق ودار بيننا الحوار التالي –بعد أن رويت له القصة- أضعه أمام دولة رئيس الوزراء، والجهات المسؤولة في الدولة العتيدة، لكشف الملابسات والإجابة على التساؤلات المثارة.
قال صاحبي:- إن خزن هذه القطع الأثرية في مخزن لا صلة له بالثقافة يدل على أن الجهة التي استلمتها أما أن تكون جاهلة ولا تعي أهمية الصناديق، أو أنها طريقة ذكية لسرقتها مجددا!؟
- أنا أتفق معك في استنتاجك الأول، ولذلك يجب محاسبتها ووضعها في المكان المناسب، فهي تصلح ربما أن تعمل في تنظيف الشوارع وحتى هذا ربما تفشل به! أما استنتاجك الثاني باعتبارها طريقة ذكية للسرقة ، لم أفهمه!
- إن المستلم خطط لإخفاء الصناديق في مكان بعيد عن الشبهات، وربما بالتفاهم مع مدير مخزن أدوات المطبخ!؟. وقرر أن يصمت ولا يخبر الجهات المسؤولة بوصول هذه المفقودات الثمينة. فإذا مرت الأسابيع والأشهر دون أن يتم التساؤل عنها أو دون أن يثار موضوعها، فإنها تصبح منسية ويضيع أثرها، مثلما ضاعت مليارات الدنانير، وخاصة أن دولة الرئيس ورؤوس السلطة مشغولين في تقاسم المناصب، وربما لا يبقون في مراكزهم، وحينها يتغير مكتب رئيس الوزراء ويضيع الأثر!. بعدها يمكن إخراجها وتهريبها مجدداً!؟ وإذا تم التساؤل واُثيرت ضجة عنها فيمكن كشف مكانها، والله غفور رحيم!
- والله لم أفكر بهذه الطريقة الخبيثة، فأنت محق! فإن تم لفلفت الموضوع وعدم التحقيق في الإهمال، وكيفية الخزن، فأني لن أبرئ مكتب رئيس الوزراء من هذا العبث الغير برئ!؟ فهل نسمع بتحقيق شفاف وإجراءات عادلة تعيد الثقة بدوائرنا العليا؟! فلا يكفي العثور عليها وإنما المصداقية والشفافية تقتضي التحقيق ومحاسبة  المهملين محاسبة شديدة لأنها أساءت إلى دولة رئيس الوزراء في وقت حرج!

محمد علي الشبيبي
السويد ‏20‏.09‏.2010
     

152
معلم في القرية/ 14
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)




كيف انتهت العاصفة، وصدفة السفر
انتهى كل شيء، غادرنا الناحية، بعد أن أنجزنا كل ما يتعلق بالامتحانات، وتوزيع النتائج على التلاميذ. كان التلاميذ يتهامسون فيما بينهم، عن المعلمين الذين سيبقون عندهم في العام الدراسي القادم، والذين سينتقلون أو يُنقَلون.
ليس بالأمر الغريب أن يكون بعضهم عارفاً من هو الذي يُنقل ومن هو الذي سيبقى. علاقات آبائهم بمدير المدرسة، والملتصقين به من المعلمين هم الذين ينشرون هذه التوقعات همساً أحياناً، وعلى صورة تندر أحياناً.
بعض التلاميذ كان ينتهز الفرصة حين يمر به أحدنا، فيرسل كلمة إليه: "أستاد! إنشاء الله ما تتركنه بالسنة القادمة على خير وسلامة؟!" ويرد عليه المعلم: الله أعلم.
وقبيل مغادرة الناحية، في إحدى جلساتنا قال لي مدير المدرسة:
- أسمع مني نصيحة. أنا سمعت منك إنك تعمل على الانتقال إلى الكوفة. فهل تعرف عن الكوفة شيئاً؟ إني أحدثك عنها لأني كواحد من سكانها كما تعلم. الكوفة، هذه المدينة الصغيرة، كلّ سكانها، صغيرهم وكبيرهم، فقيرهم وثريهم، المتعلم والجاهل، حتى السقاء والكناس، جميعهم لهم آذان تتسقط أنباء المدينة، وتجد لذة كبرى، في نفش الحكاية الصغيرة العادية، حتى تصبح طويلة وعريضة، ذات فصول، وتحتها أسرار غامضة، وتنشر نشراً واسعاً. فكن حذراً، لا تختلط بهم، ولا تقترب منهم، بهذا ربما تسلم!
قلت: "إني دائماً أعتمد على نفسي في رسم سلوكي مع الناس. ولا أعتقد أن سكان الكوفة يختلفون عن غيرهم من الناس في شيء. كل مدينة صغيرة إذا كان سكانها خليطاً من مدن شتى، فإن مصالحهم المتضاربة تنتج ألواناً مختلفة من الأخلاق. الحسد، النفاق والشغب، نسج الإشاعات. والمعلوم إن الكوفة مركز تجاري، فالسفن تجلب التجارة من البصرة إلى النجف والكوفة ميناؤها. وكونها أيضاً تجاور الأراضي الزراعية، وبساتين النخيل، فهي مقصد التجار الذين يفدون إليها من الحلة وبغداد، على أن مقاليد الأمور التجارية فيها بيد تجار النجف. ولسنا غرباء عن طباعهم أو طباع الآخرين. إنهم بشر على أية حال".
ما من شك إن الكادحين الذين استوطنوا الكوفة –من أي بلد كانوا في الأصل- انصهروا في بوتقة خاصة. هي هواء الكوفة، تربتها، وماؤها، وتكونت طباعهم وتربيتهم طبقاً لأحكام الضرورات، وأسس معايشهم المادية. ومن الكادحين نشأوا فيها منذ الولادة، أو منذ سكن لهم فيها أكثر من جد. قفز نفر بطريقة ما إلى رتبة الطبقة الوسطى. فتحركت في نفوسهم نزعة الحسد والحقد، ضد الذين جاؤا بدافع قابليتهم التجارية ورؤوس الأموال التي لديهم، فاشتروا البيوت، وعمروا الأسواق. وعن هذا الطريق صاروا وجوهاً بارزة في البلد.
لن أفاتح من أستند إلى إمكاناته في مسألة نقلي إلا في الشهر الأخير من العطلة الصيفية. وأنا موقن إن ذلك ممكن وليس بعسير.
وحين جمعت كل أثاث غرفتي في الفندق، بحضور مديره، أدركتني ضحكة مفاجئة. أنتبه مدير الفندق مندهشاً من ضحكتي، وفي عينيه سؤال، عن الباعث لهذه الضحكة!
قلت: "أنظر يا عبد، إن رقم الغرفة 13 مازال على حاله. كنت متشائماً منه، أردتَ اقتلاعه خوفاً عليّ. وقد مرّ العام وخلاله ثُبّتُ بوظيفتي معلماً –تحت التجربة- وبُدئ باستقطاع التوقيفات التقاعدية، وسأنقل حيث أريد، أنا واثق من ذلك. وتذكر إن صاحبنا المعلم "أحمد" [هذا ما تطرقت إليه تحت عنوان "في الناحية"] قد فصل من وظيفته، ولم تكن الغرفة التي يسكنها هي السبب. أنت تعرف السبب الحقيقي!
أبتسم صاحبي وقال: أي صحيح هذه خرافات.
حين وصلت النجف أرسلت كل متاعي مع الحمال، وبقيت في المقاهي، ثم إلى بيت صديقي "مرتضى" أتحسس الأخبار! كيف انتهت العاصفة التي أثارتها هفوتي، وأوقعتني في مأزق محرج. ثم علمت إن العاصفة هدأت بعد أسبوع، بعد أن تأزمت تأزماً مخيفاً. عمُها الخبيث الماكر لبس جلد النمر، وظهر بمظهر رئيس الأسرة، يطالب أباها بالفتك بها، والثأر مني، ويحرض أخاها الذي هو على شاكلته، في بلادة الحس، وخبث الطوية، وحب أكل البارد [مثل شعبي يقال لمن لا يأكل من كدّ يده وعمله] يحرضه على الانتقام مني. لكنهما جبانان أيضاً.
وتم لي لقاء عن بعد، فهمت به خلاصة الأحداث وسكون العاصفة أخيراً. وحرت في أمرين. أين أولي وجهي خلال العطلة. بُعدي مسألة ضرورية، تمهد لي نجاح الخطة في المستقبل القريب حين أتقدم لخطوبتها.
وحين هممت في ساعة متأخرة من الليل أن أتوجه إلى فراشي، أمرني أبي أن أتريث. لقد أخذت دقات قلبي تتسارع بعنف. ربما تغيرت ملامح وجهي. أدركني قلق شديد. ترى، هل وصل إلى أبي علمُ ما حدث؟
وردّ إلي روعي، حين بدأ الحديث، وقال:
- أخوك حسين، ومحمد علي، ذهب كل منهما مرتين نيابة عني إلى عربستان والآن جاء دورك. تهيأ منذ الغد لإنجاز معاملة جواز السفر.
في عربستان


الراحل علي الشبيبي/عربستان 1937

لست بصدد الحديث عن هذه المنطقة العربية المغتصبة من ناحية تاريخية. فإن هذا الجانب أشبعه المختصون بحثاً ودراسة. إني أتحدث عن مشاهداتي وما عرفته من أوضاعهم المزرية، التي شهدت بعضها بأم عيني، فعلى الرغم من أن الأيام التي قضيتها هناك قليلة، والأمكنة التي وصلت إليها أيضاً قليلة، فإن بعض ما أطلعت عليه يعطي صوراً حيه، و فضيعة عن مدى الشقاء والبؤس اللاحق بأولئك القاطنين من القبائل العربية هناك.
عبرت شط العرب من البصرة إلى "التنومة" وفي سيارة توجهت إلى المحمرة، وتسمى عندهم "خرمشهر". وعلى الحدود بين التنومة والمحمرة أوقفت السيارة للتفتيش من قبل أمن الحدود والكمرك. 
تقدم إلي رجل أسود من موظفيهم. عرفته أسمي وأبلغته سلام أبي. فهش إلي. وسألني عنه، متأسفاً لما حدث له. وسلمته هديته. قميص من نسيج كان عندنا يدعى "ريزه"، مع قنينة عطر، فتقبلها شاكراً. وواصلت المسير [ريزه: هو نسيج خفيف جداً يستعمل أيام الصيف، ومثله نوع آخر يسمونه "ميزة" وهو أقل قدراً من الأول]. هناك أقمت عند بعض أصحاب أبي، وجيه من وجهاء المدينة، ديوانه جناح من بيته كبير، لأنه مقصد الوافدين من روحانيي النجف، وغيرها من مدن العراق. وسرعان ما تقدم إلي عدد من الناس الذين أحبوا أبي. كانوا يجدون لذة في التحدث عنه، عن ورعه وتدينه، عن مجلسيّاته، ونكاته، وجرأته في الحق وإبائه. ثم يتألمون لما حدث له، بسبب نفاق المعممين، الذين دسوا عليه أخباراً كاذبة، أوغروا فيها صدر الحكومة الإيرانية، إن لبعضها صحة، لكنهم بالغوا واختلقوا مالا صحة له دون أن يتذكروا إنهم عراقيون، وإنهم يستفيدون من هؤلاء المنكوبين بحرياتهم.
أشار أحدهم وهو يتحدث إلى المكان الذي كان يتخذه مجلساً له، ثم إلى الغرفة التي خصصت له خلال إقامته في هذا البيت، وقال:
- كان نائماً، بعد منتصف الليل طرقت الباب. كانت سيارة الأمن، وحين فتح زاير عبود الباب بنفسه، طالبوه أن يخرج بنفسه الشيخ مع ما لديه من متاع وحاجات. وهكذا كان حيث أوصلته السيارة إلى حدود التنومة، وأشر في جواز سفره إلى المنع البات من دخول "عربستان" ويسمونها "أهواز". نحن نتكهن في تشخيص هذا الجاني، وعلى الأكثر لم نخطأ في هذا التشخيص.
فقد حدث مرة إن كان أبي في عربستان على العادة من كل عام. وفي أمسية يوم طرق باب بيتنا، لم أكن أنا حاضراً في البيت. خرجت أختي الصغرى، الشارع مناراً بالفوانيس النفطية إذ ذاك، وبصيص نورها لا يساعد المرء على التشخيص بوضوح. قال الطارق: "هل ابن الشيخ هنا؟". وحين علم إني غير موجود، قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله، الشيخ إلى رحمة الله؟!". وانكفأ مسرعاً!؟
وحين عدت إلى البيت كعادتي، وجدت البيت غاصاً بنساء الجيران، وأمي وأختاي، وأخوتي يصرخون. أسكتهم لأستجلي الأمر، فأنبئوني به. فقصدت صديقيه الشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ عبد المحمد زايردهام. قابلاني وأنا أغص بعبرتي باستهجان. وعنفاني كثيراً "أبوك يا علي ليس إنساناً مغموراً ولا مجهولاً لو كان لهذا صحة لوردت إلينا البرقيات تترى. رجل ذو شأن، كل تلك الجهات تعرف منزلته وقدره"
في صباح اليوم الثاني. صحبت أختي إلى الصحن العلوي، وقلت لها: تابعيني عن بعد قليل. سأستعرض المعممين الذين يقصدون تلك الجهة، لعل فيهم من عاد من سفره فأسأله. وسرعان ما أبصرت "الشيخ عبد الغني الجواهري" وحين سلمت عليه وسألته. أنتفض كمن صُدم من ذعر مفاجئ. وصاح بوجهي " آني وين أعرف أبوك؟ أنت منو؟" قلت: "أنا ابن الشيخ محمد الشبيبي". أجاب بغضب: "آنه ما أعرف أبوك!". وعدت فقالت أختي: "هو الذي رأيته بالضبط". إلا يكفي هذا؟ حدث هذا في تلك الأعوام التي لم يكن فيها أبي ممنوعاً من دخول عربستان.
تجولت في شوارع "المحمرة" وأنا ألبس الصدارة وفي لباس عصري، فكان مظهري ملفتا للنظر. شارع النهر، المنصّف بين العراق وإيران، مهدم المباني لغرض توسيعه، وأسواقها عامرة بتجار عرب وإيرانيين. والتقيت بالكثير من معارف أبي، وهم يتألمون من الوضع السائد، ويشيرون أثناء الحديث، إلى أماني في صدورهم، إلى رغبة ملحة، أن تلتحم هذه المنطقة بأخواتها من العراق. ثم يوصوني أن أتحرز فلا أفوه بشيء يجلب لي الضرر [الصدارة: غطاء الرأس للموظفين في بداية تشكيل الحكم الملكي في العراق، وتسمى أحياناً بالفيصلية نسبة لاستعمالها من قبل الملك فيصل].
وبعد يومين توجهت إلى "الناصرية" ويدعونها "أهواز" بعد عبور النهر -مما يلي عبادان- ركبت إليها، في الطريق استرحنا في مكان يدعى"كوت عبد الله". الشارع العام يَقسِم خطيّه، أشجار عظيمة، وأمام البيوت حدائق من الأشجار وأنواع من الزهور. وكأن كوت عبد الله هذا قطاع ليس من عربستان. جلست في المقهى، أشرب الشاي وأستمتع بالأغاني العراقية. كان صاحب المقهى يقتني كثيراً منها، حضري، مسعود العماري، داخل حسن، سليمة مراد [ولأن هذا القطاع مركز شركة بريطانية، فإن أكثر الأيدي العاملة فيه هم من العرب سكان المنطقة ولهذا السبب يميلون إلى سماع الأغاني العراقية، وبالأخص المغنين الذين ذكرتهم. كان هذا عام 1937].
رحت أستفسر من إلى جانبي في المقهى، عن هذا القطاع. أجاب إنه مركز شركة النفط. وراح يقارن بين مدنهم الخربة، وبين هذه الجنان التي يؤسسها الأجانب بينهم، وبفضل خيراتهم.
وعاودنا مواصلة المسير، وهناك في الناصرية عبرنا على جسر ضخم، ولكن لم يكن في جماله بمستوى ضخامته، إن لم يكن فاقداً للجمال تماماً. شوارع المدينة واسعة وعريضة، وتقع المدينة على النهر المعروف " گارون" وهو منخفض عن مستوى المدينة، ماؤه صاف، حتى إن المرء لو غاص إلى قعره فإنه يرى بوضوح، وفي قعره الحصى الكبيرة وعلى شطآنه أيضاً.
أقمت عند التاجر العربي "حاج حسن شماسي" وهو شخصية بارزة في هذه المدينة، وبيته مقصد الوافدين من النجف. كان عنده الشيخ عبد الرسول الجواهري وابن أخيه حسن الشيخ محسن [عبد الرسول هو عم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري]. والشيخ عبد الرسول وأسرته من أفاضل الروحانيين ، ويمتاز بالهدوء وطمأنينة النفس مع شدة الحاجة. كذلك هو على جانب عظيم من الإحاطة والتعمق بدراسة الفقه وأصول الأحكام وله دراية وذوق في الأدب والشعر خاصة. وكان مهتماً كما لاحظته بتلقين الذين كانوا يترددون على ديوان الحاج حسن، بعض أحكام المسائل الشرعية، عن الصلاة، والصوم، والطهارة، وما إلى هذا. بينما ينصرف إلينا عند عدم وجود أحد من هؤلاء. فيتحول بالحديث إلى قضايا الأدب والشعر، والنحو واللغة، فيعيد علينا طراز أدب الفترة المظلمة، بعيداً عما أستجد في حياتنا من اتجاهات الأدب الحديث، في الأفكار العلمية، والسياسة الوطنية. وما يشغلنا للحاق بالأمم التي جدت وحققت الاستقلال والحرية.
علمت إن الحاج حسن في الأصل من أهل البحرين. وإنه بموجب سياسة الحكم الإيراني، يحمل الجنسية الإيرانية. بينما تحمل عائلته من النساء الجنسية العراقية، لكي لا تُلزَم بالسفور الذي حتمته الحكومة على عامة الإيرانيات –طبعاً بضمنها نساء عربستان- وبالمناسبة لاحظت النساء العربيات هناك جميعاً قد أعتضن عن العباءة بما تسميه النساء عندنا "شيله" التي هي الخمار فقد ارتدين منها قطعة كبيرة لهذا الغرض.
كنت أتمشى على ساحل النهر. كانت فتاة ممشوقة القوام، بوجه رائع السمرة وعينين –قال الله كونا فكانتا- وإذا بشرطي يعترضها مهدداً متوعداً. كيف لم تسفر. ولكن الفتاة سرعان ما نزعت الخمار ولفت به جسد الشرطي وراحت تهزه هزاً عنيفاً ذات اليمين وذات الشمال. فتدحرج وانتهى إلى ماء النهر. وقف بعض المارة يتفرجون، ويضحكون، وحين خرج أعلن: "هسّه أخلي رَجلِك بالحبس، آنه أعرفك أنت زوجة .... عند هذا أختفي المتفرجون، كي لا يتشبث بهم للشهادة [كان هذا الشرطي يتكلم اللهجة الدارجة هناك. وقد علمت إنه عربي ولكنه جلف ولذا اُستخدِمَ. وقد فاتني أن أسجل أسم زوج الفتاة، فقد كان أسماً عربياً عشائرياً تماماً].
بعد الاستراحة ثلاثة أيام، ساعدني مضيفي الحاج على مواصلة السفر إلى خلف آباد، وهي قرية صغيرة، سكانها عرب، وبيوتهم على هضابها ومرتفعاتها، والواقع إنها عبارة عن هضاب، ومرتفعات من حجارة صلبة. والمسافر من الناصرية إليها، لا يمكنه ذلك إلا بواسطة سيارات الحمل. وهكذا وصلت، حيث نزلت في أول بيت، كنت أحمل أسم صاحبه "حُميَد" الذي له علاقة بقبيلتنا [نزحت هذه القبيلة، من جنوب العراق من "الكبائش" لقصة لهم مع رئيسهم إذ ذاك ويدعى عبد العزيز ابن دليهم وانتهى بها المطاف في هذه السهول. وهم يعرفون بآل حُمَيد المواجد لانتمائهم بالنسب إلى حُمَيد بن ماجد بن أسد بن ماجد بن أسد].
لم أقم أكثر من استراحة قصيرة، تناولت فيها الغداء لحم "الميش" الذي يصطادونه من الغابات المجاورة. ويبدو إنه أسم للأيل، فقد لاحظت قرونه ذات الفروع، كأنها أغصان الشجر العارية من الأوراق. عندها هيأ لي صاحب المنزل فرساً ورافقني رجل من قرية تجاور منازل قبيلتنا، إلى قرية تسمى "الشكريات". انحدرت من هضبة "خلف آباد" إلى سهل واسع، مترامي الأطراف، فوصلت قرية "الشكريات" قبيل الغروب.
في تلك الجهات تنتشر قرى كثيرة، تسكنها مجاميع تتفرع عن قبيلة "حميد" وبعضها من قبائل عربية أخرى. بيوتهم من الطين وحجارة الهضاب. مورد عيشتهم تجارة المواشي من الأغنام والمعزى والبقر، والإبل وهي أكثر ما يقتنون. ولانخفاض مستوى نهر گارون، الذي يبعد عن منازلهم بخمسة كيلومترات، عن مستوى الأرض فإنهم لم يستفيدوا من مائه، ولهذا السبب اقتصرت زراعتهم على الحنطة والشعير، إذا هطلت الأمطار بغزارة. وربما أصيبوا بالمجاعة إذا لم تسعفهم السماء بالمطر. أو أعوزهم المطر في نهاية الموسم، فسبب العطش والتفحم لزروعهم.
هناك استقبلني من رجالهم المحترمين، وشبابهم. أزياؤهم شبيهة بأزياء البدو، ولهجة عربية بين الدارجة والفصحى، اندمجت فيها كلمات فارسية. هم يسمون الحمار "يعفور" ولأنثى الغنم "شاة" وللجمال "العيس" إلى كثير من الكلمات الفصحى في الحاجات والأثاث. ولكنهم يقولون أيضاً في أمثالهم "مولانا هذا ما يصير بالده يك، أو قولهم إن سألتهم عن وجود شيء تريده "هَسِت" أو يسمون السكر "بلوج" والثلج "يخ" [دَه معناها عشرة، و"يك" معناها واحد، وترجمتها واحد بالعشرة، وتقابل كلمة "مستحيل" وأمثال هذه الكلمات تكثر عندهم خلال كلامهم قد ينادون شخصا أسمه "سبتي" فيقولون "شنبه" هي نفس المعنى بالفارسية]. 
طلبت الماء، فلما شربت منه جرعة، اشمأزت نفسي بفزع. كان الماء مجاً، ما فيه طعم الماء، حل بمعدتي بثقل الحديد. وانتبهوا لما ظهر على وجهي. فهمس صاحب الديوان "حاج رويشد" وهو من وجهاء القرية إلى واحد من أولاده، وهو يبتسم نحوي. وحين أنقض المجلس بعد الغروب، وبعد العشاء أنعقد ثانية، يتناولون القهوة ويسمرون على عادتهم، لكنهم هذه المرة ينتظرون "الشيخ الصغير" أن يحدثهم، يعظهم، يرشدهم. يستعرض أمور الدين، الصلاة، الصوم، الحلال والحرام.
وأستمر المجلس والأحاديث المتشعبة إلى منتصف الليل، أنفضوا بعد هذا ثانية. فقال الحاج روشيد:
- أنا وصيت خادمك –يقصد أبنه- أن يطلع ويه الفجر لليبل -الجبل-  ويجلب لك خاصة ماي عذب، ولو صاد "عنز اليبل" لو ميش خيراً على خير [هم يقلبون الجيم إلى ياء كعادة أهل الجنوب عندنا].
قلت: تسمح ، أروح ويّاه؟
- لا مولانا، ماتگدر، المسافة منا لليبل گدر ساعة وصعود اليبل صعب، حيث لنه عالي!
ثم أدنى فمه مني، وقال:
- يصعد خفيه، وَحَدّه. ممنوع علينه حتى بندقية الصيد. وكلمن يروح لليبل ما يخلي احد يعلم بيه! لو تدري يا مولانا من يسطي علينه حرامي، ما نكدر حتى نخوفه باسم البندقيه، لنّه صباح اليوم يجيب شرطة، ويحضر وياهم، بلا خوف يخبرهم "أجيت أسطي، وعرفت عدهم بندقية!" ويا من يخلصنه من الحكومة!
يتحلقون عصراً والوقت صيف على بُسِطٍ تفرش على مسافة مربعة، وغالباً ما تكون إلى جانب الحجرة التي هي ديوانهم في الشتاء، ويستند على جدرانها صاحب الديوان وأكرم ضيوفه، ووجوه القوم. ولا يلبسون "العقال" بل يطوون جانباً من "اليشماغ" على رؤوسهم. ولا يسمح لهم أن يذهبوا إلى المدينة إلا باللباس الرسمي "السترة والبنطلون" وعلى رأسهم قبعة إفرنجية أو القبعة الإيرانية التي يسمونها "بهلوية" نسبة إلى نسب الشاه.
تتفشى بينهم الأمية بدرجة عالية، وأكثرهم فلاحون فقراء لأن أراضيهم تعتمد على الأمطار والسيول، فإذا ضنت السماء بالمطر عمّ القحط، فإن مصيبتهم عظيمة وخسائرهم فادحة. لبعضهم بساتين من نخيل وأعناب ورقي، على جهة مرتفعة تدعى "رامز"، بينما الأكثرية الغالبة تؤجر نفسها لدى هؤلاء، لتكسب قوتها، فتنقل التمور وغيرها.
ويمر خط نفط في أراضيهم، وقد أوكل أمر الحراسة إلى أحد أولاد رئيسهم المتوفي "زاير رمضان" والذي حل محله ابنه الأكبر "محمد". القائم بالحراسة لا يجد مانعاً حين يحتاج أهل عشيرته إلى النفط فإنه يغض النظر حين يعيبون بعض الأنابيب، فينهمر النفط على الرمال ويسارعون إلى التزود منه بمقدار ما يستطيعون. بعد هذا يسارع إلى أخبار الجهات المختصة.
رئيسهم "زاير رمضان" حصل بينه وبين أبي خلاف فتهور بما لا يناسب أبي فتحول إلى "الحاج رويشد" وتأتي الصدفة بالأمر الغريب. حين أراد الرئيس أن ينفض الغبار عن مخدة يتكئ عليها شكته شوكة تسممم جسمه على أثرها، ولم يطل بقاؤه فمات بعد ثلاثة أيام. كان الناس هناك يتحدثون "إنها مغبة الاعتداء على كرامة الشيخ محمد؟!". ولهذا الاعتقاد تقدم لي أحدهم وقدم طفله الصغير وقال: "مولانه خويدمك ما نام أمس من وجع ضرسه!؟".
فتحت فمه وفحصت الضرس المنخور، بواسطة مصباح "باتري" كان معي، ثم وضعت فيه "أسبرين" فهدأ الصبي بعد قليل. هذه أيضاً اعتبرت مكرمة مقدسة. لو كانوا يتفهمون القول لحطمت هذه المعتقدات من رؤوسهم. الجهل مخيم عليهم، وبين المعممين، والسلطة تزيد عمايتهم.
الحكم الإيراني في عهد الشاه رضا، لم يفكر بهم كرعية مطلقاً، حتى لم يفكر بتفريسهم. لا يبصرون الموظف إلا حين يَقدِم لجباية ضريبته أو لتجنيد أبنائهم. ولكنه يقسو عليهم عند جباية الضرائب حتى ولو كانت أرضه لم تنتج في تلك السنة!.
حين غادرتهم عائداً إلى الناصرية،هناك قصدت مصوراً في الشارع ليصورني على الحال التي أنا عليها، بلباس العامة عندنا وبالعقال واليشماغ. كان كهل قد جلس على كرسي المصور، يملأ الدمل رأسه، وأحدى عينيه عليها غشاوة. كم كانت دهشتي عظيمة حين علمت إنه مسوق إلى الجندية. كنت أتحرق أسفاً. لقد تخلصوا من حكم الشيخ "خزعل"  طاغية عربستان آنذاك، فإذا بالحكم البهلوي أشد بلاءً وأشد إهمالا [ الشيخ خزعل هو أمير المحمرة، ورئيس قبيلة "كعب" وقد امتدت سلطته على جميع أرجاء عربستان. وطمح أن ينال عرش العراق، فغازل الإنكليز وفشلت مساعيه. وقد انتهى أمره أن القي عليه القبض بحيلة دبرت على شكل دعوة ومفاوضة معه من قبل الحكومة الإيرانية، فلما ركب اليخت أعتبر أسيراً، ومات في السجن في طهران. وقيل إن موته تمّ بتدبير أيضاً]. 



يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  ‏20‏.09‏.2010   ‏
Alshibiby45@hotmail.com


153
معلم في القرية/ 11
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)



في الناحية

نعم. في الناحية.أليس هذا تقدماً نحو الأفضل. والواقع لو إن وسائل الراحة ولو بشكل بسيط، والعيش متيسراً قدر الإمكان في القرية لآثرت البقاء فيها. القرويون يحبون الاستفادة، ويحترمون المعلم، لو خلّوا وطبعهم. وإذا حدث غير هذا فإن الدوافع على الأكثر من القوى المسيطرة على حياتهم.
هذه الناحية "الفيصلية" والاسم العام لها المشخاب [يبدو إنها سميت باسم الملك فيصل الأول، وكنا نسميها قبل هذا "السوارية"]. تقطنها عشائر كثيرة أهمها، والزعامة لها "عشيرة آل فتلة" وزعيمها المبرز اليوم الحاج عبد الواحد سكر [هو رجل متوسط القامة دقيق الجسد مجدور الوجه، عرف بالدهاء حتى أطلق عليه بعضهم معاوية]. وعشيرة "العبودة" والسادة الياسريون وكبيرهم السيد نور السيد عزيز الياسري أحد الزعماء الذين شاركوا في ثورة العشرين، وقد مرّ ذكره. ومع مجرى نهر الفرات تقع عشائر آل إبراهيم "الأخشاب" و"الصلاحات". الأخشاب، الفخذ الذي يرأسه داخل الشعلان. والصلاحات، الفخذ الذي يرأسه عبد العباس العواد وابنه ساجت.
هذه المنطقة تعتمد في زراعتها على الرز، ومركز الناحية تابع لقضاء أبي صخير، وسائط النقل بينهما بالسيارات، والسفن الشراعية، والطريق غير معبدة مما يجعلها أيام الشتاء وموسم الأمطار خطرة. ويتفرع عن النهر الكبير نهر يسمى السوارية من جهة مركز الناحية، ينتهي إلى السادة الياسريين آل حمود [تدعى قريتهم أم عودة فيها السادة حسين، ومسافر، وعبد الله ولي، ولأخي الشهيد حسين معهم صداقة]، ومعظم المساكن هنا من أكواخ القصب المسورة بالطين وبعضها من الطين المسقف بالخشب والبواري، والدور المبنية من الطابوق قليلة جداً.
فيها سوق واحد لآل فرعون [هم زعماء عشيرة الفتلة، منهم الشيخ مبدر ومزهر والد الشيخ فريق مؤلف كتاب الثورة العراقية]، وفيها عدة خانات لتجار من النجف تخزن فيها الحبوب [يسيطر تجار الحبوب النجفيون على جميع هذه المقاطعة عن طريق تزويد رؤسائها بالمال بما يسمونه "على الأخضر" منهم الحاج رؤوف شلاش، والسيد جلوي وأخوه وابنه الذي أغتاله أحد مستخدمي العمل لديه وسرق المال الموجود في القاصة. وتجار آخرون نجفيون وبغداديون يفدون في المواسم]، وفندق واحد يطل على أربع جهات، أحدها جهة النهر. ومديرية الناحية والشرطة في بناية خاصة لهما، ويشغل البريد بناية صغيرة جداً، ومحل شبه حانوت لدائرة الاستهلاك، ومستوصف صغير أيضاً يديره طبيب منذ أمد قريب وقد كان يشغله موظف صحي من اليهود. ويسكن بعض الموظفين بيوتاً شادتها البلدية.
أما بناية المدرسة الابتدائية، ولا يوجد غيرها، فصغيرة بينما ساحتها واسعة جداً. يقصدها التلاميذ من مسافات، مشياً على الأقدام، وبما تزيد على النصف ساعة. مديرها شاب من سامراء [عبد المجيد إبراهيم السامرائي] ومن معلميها نحن النجفيين أربعة واثنان أحدهما من الفلوجة. وينتظر أن يضاف إلينا معلم جديد.
نحن الأربعة نقيم في الفندق، كل واحد في غرفة خاصة بأجرة شهرية ستمئة فلساً. لم أجد في أول الأمر غرفة فارغة، عدا واحدة رقمها 13 رفض مدير الفندق أن أشغلها تشاؤماً من هذا الرقم؟ لكني بإصرار قبلتها. قلت له: لا تتشائم فإن ميلادي هو عام 1913، وباشرت حياة التعليم 13/10/1934؟ وراح يقص عليّ ما أصاب بعض سكانها: المعلم أحمد .... فصل. وآخر مرض، وثالث كان تاجر حبوب أصيب بخسائر فادحة. لكني أقمت فيها!.
طعام السوق غير مستساغ، وعلى العادة صرت أهيئ طعامي بنفسي. وصديقي المعلم "مرتضى طاهر فرج الله" طلب مشاركتي في الطعام. لكنه كسول لا يجيد أية مساعدة حتى غسل الصحون. ومع هذا وافقت على مشاركته. عند توزيع الدروس لوحظ إني ومرتضى كلانا عين خصيصاً للغة العربية، بينما أصر المعلم صالح ... أن يدرس العربية مع العلم إنه كان قبل هذا يدرس الاجتماعيات؟ وحلت المسألة أن صار الصف الأول حصتي. وعربي الخامس والسادس إلى مرتضى.
هذا المدير جدي في إدارته، يحسبه الناظر بسبب انكماشه على نفسه إنه متكبر متعجرف. وقد شغل إدارة المدرسة منذ نقل مديرها السابق "عبد المهدي البرمكي" بعد سقوط وزارة الأيوبي، بانتفاضة عبد الواحد سكر. إني أتخوف كثيراً من وجود المعلم "صالح مهدي شمسه" [وهو من أسرة نجفية معروفة، من خدم الروضة العلوية، وإنه شاب له حظ غير يسير من الثقافة، ومع كونه معلماً فهو يقلد بسلوكه ذوي المناصب العالية في تصنع لهجتهم. كما إنه مضافاً إلى هذا مبذر متلاف] فما أعرفه عن نزعته الأرستقراطية، واعتداده بنفسه بصورة مبالغة، وبأنه أهل لمنصب أعلا ، لحد إنه لا ينظر إلى زملائه المعلمين إلا كأطفال. وإن معلما نجفياً التصق به بشدة، مستفيداً من تبذيره، وكان المسكين يعامل من قبله كخادم، بينما يصوب همزاته لنا طيّ نكاته. 
لم أكن وصاحبي مرتضى أقل منه في تصويب الهمز بالنكات. مازلنا في بداية السنة، وعسى أن تنتهي بخير...

استشارة

زارني مدير مدرسة سوق شعلان الذي عين فيها خلفاً لصاحبي الحلي "الفلوجي" بعد مقدمة من الثناء عليّ، وإطراء كلمات الإعجاب لما أحسَهُ من حب أهالي القرية لي. راح يحدثني عن رغبته في الزواج. لقد أرتبط بعلاقة حب مع فتاة، هي ابنة شرطي المخفر الكردي. الفتاة متعلمة، وتركت المدرسة من الثاني متوسط.
الواقع إني لا أعرف عنها ما يمكنني من إبداء الرأي، فأبوها أيضاً من المنقولين إلى هذا المخفر حديثاً.
وعرفت من هذا المدير إنه يعيل أبويه وأخوته، ولا معيل لهم سواه. فطلبت منه أن يمهلني إلى الأسبوع القادم، إذ سألتقي ببعض معارفي من أهل القرية من له علم بأحوال الرجل وربما عائلته.
وفعلاً تم لي اتصال ببعضهم، والحديث عن الفتاة يزكم الأنوف، وذائع بشكل غريب. أخذت معلوماتي عن بعض الذين يمارسون الغزل وملاحقة النساء، ومن بعض الذين لا تخفى عليهم خافية، ويبدو إن انكشاف القرية يجعل كل شيء مكشوفاً أيضاً. وحين عاد لي بعد نهاية الأسبوع الثاني، طلب مساعدتي أن أتوسط له عند الوزير [هو الشيخ محمد رضا الشبيبي" وقد دبرت له ما طلب حيث سافرت لهذا الغرض] للحصول على سلفة للزواج. عجبت من أمره، حين قدمت له رأيي في الزواج من الفتاة. كان صوته مترجرجاً وكأنه لم يفهم ما أوضحت، فزدت الحديث إيضاحاً. فدمدم برأي خلاصته الشك بصحة المطاعن. لا بأس، لقد محقته النصيحة، وليجن الثمر وعسى أن لا يكون مراً، لكني آسف أن يتسرع شاب وديع، عليه سيماء الطيبة، فيقع بما لم تسبقه تجربة، ودراية، كلعبة اليانصيب.
معلم والشاعر جرير
المعلم جواد  من المعلمين الذين عينوا هذا العام. شاب رشيق القوام مورّد الخدين، هادئ ساكن، يقيم الصلاة بأوقاتها. جاءه ضيف، رجل معمم قد جاوز الكهولة، رحب به وأستقبله باحترام. سألناه عنه، أجاب: إنه مربيه، وفلاح لديهم. [حين نقلت إلى كربلاء عام 1955 التقيت به "المعلم جواد" وكان أحد أبنائه تلميذ في الصف الثالث ولي فيه بعض الدروس. علمت إنه إيراني الأصل، كما علمت إنه على قطيعة مع أبيه. وعام 1959 أحيل من إدارة مدرسة الأحرار إلى معلم في مدرسة الحسين التي صرت مديرها. وقد وقف مني موقفاً سيئاً وخلق لي مشاكل سأذكرها في حينها. وأسباب هذا إنه لا يشايع حكم قاسم باعتباره من مؤيدي الأفكار القومية؟!]
أبدينا استغرابا، فالرجل على مستوى جيد من النظافة والأناقة، مثلما هو محدث جذاب. رد علينا: هكذا معظم الفلاحين الإيرانيين. وشاءت الصدفة أن نختلي بالضيف، وكم كانت دهشتنا، حين علمنا منه إنه والد المعلم. قال: إنه عراقي الجنسية، ووالد زميلكم. عند سفره، وفي جلسته بيننا، تحدثت عن حكاية تروى: أن جماعة من العرب سألوا الشاعر جرير:
- من أشعر العرب؟
- تعالوا معي.
وأدخلهم إلى ركن من البيت، فرأوا شيخاً قميئا قد انحنى مجهدا نفسه، يمتص الحليب من ضرع نعجة، والحليب يسيل على لحيته. وكان قذراً زري المنظر.
قال جرير: أتعرفون لم هو هكذا؟ إنه يكره أن يحلب فيسمع الجيران الشخب فيطلبون شيئاً من الحليب. إنه أبي، وقد فاخرت ثمانين شاعراً به. من أستطاع بمثل هذا الأب، هو أشعر العرب!!.
وأنت يا حضرة الـ ..... يكفي أباك فخراً أن أوصلك إلى هذه المرحلة من الدراسة، وهو كما رأينا ليس بالزري، ولا الحقير في حديثه وفهم الأمور. لست أرفع منه في شيء فلماذا تترفع وتأنف من الانتساب إليه؟!
وفجأة بعد أيام ورد أمر نقل صاحبنا إلى غماس وعين مكانه معلم هو الآخر جديد أيضاً من أهالي بعقوبة "محمود مصطفى" ربعة في الطول عريض الوجه بشكل لا يناسب طول الوجه، كثيف شعر الرأس، وقد غمر شعر لحيته خديه. فإذا حلق بدا وجهه أزرق. كذلك سائر جسده، صدره ورجلاه جميعها مكسوة بشعر كثيف. خشن الصوت، قليل الحديث، جدي بأعماله وحديثه. وبالمناسبة إن صديقي مرتضى كان يداعب جواد دعابة خشنة. إنه يشعره بإعجابه بجماله. وأغتنم عند وصول أمر النقل انشغاله بالصلاة فوقف كمغرم هائم ينشد بأسى: "بَعّدوا عني الريم!". ويشير إليه ويكمل: "وجابولي خروف!" ويشير إلى صاحبنا المعلم الجديد "محمود". فاستشاط هذا غضباً، وأحتج: "ما معنى هذا، أهذه مجاملة طيبة، أتعرفني، إلي معك علاقة سابقة؟ هذه إهانة". [علمت حين كنت في الناصرية معلماً إذ عين "محمود مصطفى" في دار المعلمين العالية بعد أن نال شهادة الدكتوراه بالفيزياء. وقد سبق أن زارني حين كنت في الكوفة عام 1940 حين سحب من جامعة ألمانيا بسبب قطع العلاقة بين العراق وألمانيا النازية. وكانت له مراسلة أعجاب ووفاء لي ويطلع زملاءه في الكلية على رسائلي زملاءه زائدة تحذف ومازال لدي كارت على ظهره عبارة بقلم صديقته "تحية قلبية من ريتا" وحين دخل أبني كفاح الكلية تعرف إليه فقابله بتجاهل مثلما لم يجبني على تهنئتي له بمناسبة تخرجه!؟]
مهما يكن من أمر، فقد توثقت أخيراً علاقتنا بمحمود، خصوصاً معي أنا وصار شريكنا بالطعام. وفي إحدى زياراته لذويه وعودته، جلب من برتقال بعقوبة، فأكرمنا بشيء منه! وصحبني في زيارتي إلى أهلي ضيفاً عندي. وعلى جديته كان أكثر انطلاقا من صاحبنا جواد. وخلال هذا أيضاً عرفت تمكنه من المادة التي تعهد تدريسها "العلوم" وكثيراً ما يبدي تحسراً ونقداً للأوضاع. وكان يطمح إلى تخصص عن طريق بعثة يحصل عليها، ولكن الأمر يحتاج إلى وساطة محترمة؟! هكذا وعدته أن أصحبه إلى الوزير عله يحقق مطمحه.
لمـاذا؟
عمل ليس من طبعي قط. لماذا شاركت فيه؟ لست أدري. قمنا بسفرة إلى لواء الديوانية، زرنا، نحن النجفيين الأربعة، مدير المعارف الأستاذ "ناجي يوسف" [السيد ناجي يوسف، نجفي من عائلة معروفة تدعى آلبو ريحه، وغلب عليهم نسب "الطالقاني" العائلة الشهيرة في النجف بسبب المصاهرة. عرفت السيد ناجي منذ كان تلميذا في المدرسة الأميرية الابتدائية. كان ذكياً وتقدم في أول زيارة لفيصل فألقى كلمة، وعلم الملك إنه معدم فخصص له راتباً ظل  -كما يقال- يتسلمه إلى أن انتهى العهد الملكي. عين السيد مدير معارف في الديوانية وعين قائم مقام في قضاء المسيب، في الوقت الذي عين فيه السيد حسن الجواد قائم مقام لأبي صخير ثم النجف. والظاهر أن تعينهما جلب نقداً إذ أنهما ليسا حقوقيين فأعيدا إلى وظائفهما في المعارف. لكن السيد ناجي دخل الحقوق وتخرج فترك وظيفته وأشتغل بمهنة المحاماة ونجح فيها.
ولا يفوتني أن أذكر  إنه حين نقل أخي حسين إلى العمارة عام 1943 كان السيد ناجي مديراً لمعارفها وكان السيد سعد صالح متصرفاً للواء العمارة. وكثرت التقارير ضد حسين فأصدر السيد ناجي نقله إلى المشرح. فدخل عليه حسين محتجاً وبشدة قال له: "إلى هذا الحد؟! أترى عائلتي دون مستوى عائلتك، فتعيش أنت بمركز اللواء، وأمي وأخواتي إلى المشرح؟!".  فأجابه:
- أنا لا أضحي بخبز عائلتي من أجلك، وأنت لا تكف عن العمل الممنوع في السياسة. ماذا ترى إني أستطيع؟           
وهكذا ترك حسين الوظيفة دون تقديم استقالته، وأنذر بعد مدة في الجرائد وأعتبر مستقيلاً. ولكن السيد ناجي بعد ثورة تموز 1958 شارك في حركة أنصار السلام ولجنة العدالة وفي الواقع إنه كان مثالاً في النزاهة والنشاط. وقد خلف نقيب المحامين "عبد الوهاب محمود" فرأس نقابة المحامين ولكنه توفى بعد ذلك بفترة]، وبعد عرض للمشاكل القائمة في مدرستنا، طلبنا منه أن يعين صاحبنا صالح مكان السيد عبد المجيد إبراهيم.
في الحقيقة أن عبد المجيد سئم من هذه الإدارة، وغير مرتاح، وربما كان قد سبقنا إلى تحقيق أمر نقله بطريقته –التوسط- لكننا قمنا من جانبنا بهذه المحاولة، ووعدنا المدير بهذا، وتم تعيين صاحبنا مكان عبد المجيد، وتمت الدروس كما هي سابقاً.
ولكن سلوك صاحبنا قد تغير، وبالأخص اتجاهنا نحن الاثنين "أنا ومرتضى"، أما صاحبه "عبد الأمير" فقد توثقت علاقته معه أمتن من السابق. وقد زارتنا مدرسة من النجف، علم إنهم قد أعلموا الجهة المختصة بتوجه المدرسة إلى الناحية، أي أن الأصول تقتضي إن المدرسة مادامت جولتها رسمية فإن ضيافتها على حساب الناحية، ولكننا فوجئنا، فقامت مدرستنا بالضيافة. وأثناء ما كان المعلمون الضيوف يتناولون الطعام، صرح المدير متبجحا ومداعباً الضيوف: هذا اليصير مدير أغاتي، يحط راتبه لأمثال هذي؟!
- في مثل هذه المناسبة يشارك زملاؤك المعلمون.
أجاب مدير المدرسة الضيف [هو "السيد حسن زوين" مدير مدرسة الابتدائية الأولى في النجف، وكان أول أمره من الشباب الوطني اللامع. وحين زارتنا مدرسته كان أخي حسين معلماً للإنكليزية فيها وكانت له معه صداقة، منذ أن كان حسين تلميذا في الثانوية، واشتركا في تمثيل مسرحية "في سبيل التاج" حيث خصص ريعها لجمعية الرابطة الأدبية في النجف]. ولكن صاحبنا ردّ عليه:
- لا، لا عيني هُم بيش مطلوبين؟!
وعند استلام الراتب جاء صاحبه "عبد الأمير" يطالبنا: "إن صالح لا يعلم، ولكني أنا أقول، ليس من المروة أن نحمله نفقات ضيافة المدرسة". وقد ظهر إن حصة كل واحد من المشاركة أن يدفع كذا "....". لكن المعلمين ردوه: "إن هذا حق لو إنه لم يتبجح أمام الضيوف بأنها على حسابه". ولم يشارك احد بفلس، وترقبنا تبدل سلوكه معنا. ترى أكانت هذه هي سبب التبدل، أم إنها أرستقراطيته التي نعرفها؟!.
زيارة مفتش
الدراسة تجري بانتظام، لا بسبب شخصية مدير المدرسة، بل لأن جل معلميها من الشباب، ولا بأس بمعلوماتهم، وبنفس الوقت أنا أعرف إن أبناء الريف وخاصة الفلاحين، يولون الدراسة عناية واهتماما ويتجلى هذا بإصغائهم والتزامهم بتحضير الواجب.
وبدون علم سابق زارنا المفتش رشيد الشلبي. المتعارف والسائد هكذا تكون زيارة المفتشين مفاجآت، لأنهم لا يثقون بالمعلين، بانتظام دوامهم، بتحضير دروسهم. ويبدو المفتش سلطة مخيفة، تبحث عن الزلات والهفوات، ثم تنفخ فيها، وتلبسها اللبوس الذي يقنع "جناب المفتش". إنه حقاً سلطة مهابة من المعلمين! 
من الحق أن أعترف، إن كثير من المدارس في كثير من القرى لا ينتظم فيها دوام المعلمين، والتدريس فيها أيضاً غير منتظم. ولكن لماذا؟ وما السبب؟ في قرى نائية منقطعة، يرسل المعلم ليقوم بنشر المعرفة، يفتح عيون الصغار والكبار أيضاً حين يلتقي بهم في دواوينهم ومجالسهم. ربما تعذر عليه الوصول إلى مدرسته، أو منها إلى أهله في عطلة الأسبوع أو العطل الأخرى، دون أن يقضي يوماً كاملاً في سفينة ثم سيارة، وإقامته في كوخ لا يحميه من حر الصيف ولا برد الشتاء، ولا شرور الحشرات. يتعسر عليه في أغلب الأحيان أعداد الغذاء، وينعدم الدواء كلياً، أضف إلى كل هذا نظرة شيوخ العشائر المتغطرسة، وربما نظروا إليه بحذر وتربصوا به إن ظهر لهم إنسان مدرك لجهالتهم، واستغلالهم.
أما طلابه –وأغلبهم من أبناء الفلاحين- الحفاة، أشباه العراة، تكاد تحصى أضلاعهم البارزة تحت جلودهم الجافة، ومعظمهم يقصد المدرسة من مسافة نصف ساعة أو أكثر مشياً على القدم، وقد يكلفه ذلك أيضاً أن يعبر نهراً يعترض طريقه حتى في أيام الشتاء، وهو مع هذا لم يتزود غير لقمة من الخبز والتمر!
إن بعض المدارس يكون عدد الطلبة فيها في مد وجزر تبعاً لموسم الزراعة. قال لي أحد القرويين وأنا أسأله عن أطفاله، لماذا لا يدخلهم المدرسة؟ رد عليّ: "من يرعى الهوايش "البقر"؟! ويجيب إلهن الحشيش؟ والمدرسة؟ مثل المثل، عيش يا حمار .... لما يجيك الربيع؟" المفتشون لا يضعون كل هذا في الحساب.
لا أدري كيف انتهى الدرس الرابع، المفتش لم يدخل إلى صفي، أنا وحدي مستثنى؟ أم ماذا؟ ولماذا جمعنا؟
بدا غاضباً حين نادى المعلم أحمد [من أهالي الفلوجة]، أنهال عليه بكلمات التقريع، وبدون مقدمة، قال له: "إنك ضعيف الشخصية! إن لم تعمل على تقوية شخصيتك، تفصل!؟". دافع المدير بكلمة باردة. قال المفتش: "أتعلمون إني وجدت التلاميذ في الصف الرابع يتناوبون على حمل حضرة المعلم بأيديهم، واحد يضعه فوق الرحلة وآخر ينزله، وهو يدافع بيديه كالطفل ولا يقوى على ردهم!؟". أبدى ملاحظاته عن كل معلم بلطف بعد هذا ، وتقبل ردودهم.
فاجأني بهذا السؤال: آي ﭘسر نجف جرا همجين؟ (تعني "يا أبن النجف لماذا هكذا ؟"/ الناشر) أدركتني ضحكة. أجبته بالعربية طبعاً وعرفت ما قصد إليه. إنه لم يدخل صفي، إذن هو يتجسس. رآني حين رميت التلميذ في الصف الأول بقطعة طباشير، أصابته بين حاجبيه. ساعتها ارتبكت واضطربت، أسرعت إلى التلميذ، وبخته، توبيخ لائم معتذر. وكررت اعتذاري للمفتش. إنها غلطة يا أستاذ ستكون الأخيرة مثلما هي الأولى.
وطلب المفتش دفاتر التحضير، فقدمناها له، وظل المدير يبحث عن دفتره؟ ضحك المفتش حين رأى تعليقة كتبها المعلم مرتضى، على ملاحظة مدير المدرسة بدفتر التحضير. "ضرورة تحضير الدروس يومياً قبل الدخول!" كتب مرتضى تحتها "يا أيها الرجل المعلم غيره ..."
- أين دفترك يا حضرة المدير؟
مازال المدير يبحث عنه. أخيراً وجده الفراش بين السجلات، كل صفحاته بيض!؟ قال المفتش يخاطبه: "يا أيها الرجل المعلم غيره؟!"
وتحدث إلينا عن ضرورة الاهتمام والعمل بجد، لا من أجل راتب. ضعوا أمام أعينكم إن هؤلاء الذين تعلمونهم سيبرز منهم غداً من ربما سيحتل درجة علمية مرموقة، ومكانة لائقة في الدولة. سيقول كلمته عن كل معلم تلقى عنه. ألا تحبون أن تكونوا مثلاً طيباً له؟
هذا المفتش كان يقال عنه، إنه شديد، متعجرف! كلا أبداً، إن شدته بحق، وليس متعجرفاً، رغم رأيه بالعصا للتأديب في المدرسة [نشر له في احد أعداد مجلة المعلم الجديد مقالة بعنوان "العود إلى العصا" وقد ردّ على رأيه هذا كثير من المربين. ورأيي إن تجنب العصا من أصعب الصعوبات. طالما إننا نعيش مجتمعاً يتسلط فيه القوي على الضعيف، وطالما إن أمكانية التربية والتعليم ليست متوفرة للجميع، بل إن العمل والعيش ليس بمتناول كل فرد. يقال إن التربية تبدأ من المهد. كيف ونساؤنا جاهلات. بل الجهل يسود معظم ناسنا مضافا إليه غلبة الأمية ونظم الاستغلال السائدة. كان كثير من الرجال يضربون زوجاتهم ضرباً قاسياً أمام أبنائهم الصغار].
ولكن لماذا خاطبني بالفارسية؟ أهي نظرة بعضهم الخاطئة، إن الشيعة فرس؟!. على كل إنه أمتدح نشاطي، وطريقتي في التدريس لمادة هي من اختصاص خريجي دور المعلمين.
يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏6‏ أيلول‏ 2010   ‏
Alshibiby45@hotmail.com




154
معلم في القرية/ 10
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)



من خرج على الإسلام!!
صدر في الجرائد عن العائلة المالكة نظام يقتضي بسحب أسم من خرج منها عن الإسلام؟!
ولكن إشاعة  ترددت على ألسن الناس. انتشرت انتشارا فضيعاً على قاعدة -أسمع لا تنقل عني- مفادها أن ابنة الملك فيصل الأول وتدعى "عزة" تملصت من أهلها أثناء اصطيافهم وفرت مع حبيبها المسيحي الذي كان طباخاً في القصر. وإنها ذهبت معه إلى إيطالية وتزوج بها [ظهرت هذه الإشاعة في 4/6/1936، والطباخ يوناني الأصل أسمه "أنستاس خارا آلامبو" وتنصرت هي باسم "انساسيا"]. 
وجد الناس ما يشغلون به ألسنتهم، ويجادلون فيه بآرائهم. خاض القرويون أيضاً هذا الحديث. وعلى عادتهم يطرحون كل قضية على بساط عشائري، ويعطون الحلول عشائرية. وهكذا راحوا يشيعون: إن عبد الإله، يجوب البلدان بحثاً عنها. وإنه لن يهدأ ولا يقر له قرار حتى يعود برأسها، وينتقم من ذلك المسيحي، الذي خان الخبز والملح؟!
وفي المدن آراء شتى، يصدرها اللاهجون بهذه الإشاعة. يبدي بعضهم إعجابه الشديد بابنة التاج التي آثرت الحب على التاج. ويصرخ بعضهم، عاهرة تافهة!
بينما لا يرى بعضهم في الأمر غرابة، قصور الملوك تضم ألوانا من الفضائح والمنكرات، إنهم يتقلبون في مخادع الشهوات والفسوق، وباسمهم تهدر الحقوق، وتزهق أرواح، وتراق دماء، ويصاغ من القوانين قيوداً وأغلال. فأي غرابة أن تمرق من نوافذ القصر واحدة من تلك الفضائح تعلن عما يمارس بنهم في الخفاء. ولعلها فرت استنكارا لما كانت تشهده من مفارقات في حياة ذويها المالكين؟!

امتحان وامتحان

فيما نحن في غمرة الاستعداد للامتحانات النهائية، فوجئنا بأوامر وزارية تحتم علينا أن نتهيأ لامتحان يكون موعده منتصف شهر آب.
أما منهج الامتحان، الدراسة الإعدادية، مضافا إليه التربية، أصول التدريس، علم الاجتماع والزراعة.
من الذي سيؤدي هذا الامتحان؟
المقصود طبعاً، هم المعلمون الذين عينوا بموجب حاجة وزارة المعارف إلى معلمي العربية. وتم تعيينهم بعد مقابلة لجنة من رجال التربية [كان هذا عام 1935/1936 وكنت واحد من هؤلاء. عينت بناء على إعلان وزارة المعارف إلى معلمين اللغة العربية عام 1934].
وفعلاً قام هؤلاء بما عهد إليهم. تدريس العربية في مختلف الصفوف، تعلموا أصول ذلك من زملائهم الأسبق منهم.  بل إن بعضهم كان يملك قدرة على تدريس سائر الدروس، حتى الرياضة، وذلك ما لم يكن له به علم حين كان معمماً.
أما بعض هؤلاء فإنهم حفاة ..... عينوا بالشفاعة، ولذا قابلوا الأمر بعدم اكتراث واهتمام. أوامر الوزارة هذه في اعتقادهم لا تنالهم ماداموا تحت حماية الشفاعة، لهم مكانتهم عند أولي الأمر في الدولة. ويدرك الآخرون إن -الخير يعم- فلا يخافون ولا يحزنون.
أنا أيضاً لم أكترث. ألم أقابل لجنة؟ ألم أدخل دورة تربوية صيف 1935، ألم يكن أمر تعييني يشير بصراحة: معلما لللغة العربية. وتقارير المفتش؟ ألم تؤكد نجاحي في أداء ما عهد إلي؟
سوف لن أشترك مادام هذا الامتحان فرضاً غير أصولي ومنافياً للأساس الذي عينت بموجبه.
عينت ثلاث مناطق، بغداد، البصرة والموصل لإجراء الامتحانات. وحسب الموعد المحدد قصد كثير من المعنيين، كل حسب المنطقة التي هو فيها، المكان لأداء الامتحان.
لست أدري كيف أقدم بعضهم على الاشتراك في الامتحان، وهو خالي الوطاب حتى من العربية التي عين على أنه من ذوي الكفاءة فيها. أتراه أقدم جهلاً وغباءً بما سيلاقي من حرج؟ أم استهتارا بهذه الامتحانات التي تفرض على أساس من التخطيط والبرمجة لرفع مستوى التربية والتعليم؟
كيفما يكن من أمر فقد حضر الكثيرون وتمت المهزلة. هذا هو أحدهم. أجاب على أسئلة الجغرافية. التي كان منها:
أعظم أنهار العالم؟ أجاب: سيحون وجيحون ونهر في الجنة!؟
أعلى جبال العالم؟ أجاب: جبل واق واق وجبل شريشفان في النجف!
مدينة نفوسها أكثر في العالم؟ أجاب: النجف في عيد الدخول! [جبل شريشفان موجود في محلة العمارة في النجف، في الأصل هو أحد الروابي الثلاث البيض وقد دفن بينها الأمام علي ثم انتشرت عليها دور المدينة القديمة احدهما شمال القبر وتدعى جبل النور والثانية جنوبه وتدعى جبل الديك والثالثة تقع في الجنوب الغربي عرفت بجبل شرف شاه وحرفه العامة إلى شريشفان]
المعروف عن هذا الرجل إنه جاهل مفرط بجهالته، إنه كما يقولون- أفرغ من فؤاد أم موسى- كان مشكلة في كل مدرسة يعين فيها. عين بشفاعة قريبه ذا المكانة المرموقة في الزعامة الدينية. كان أول الأمر يمارس الربا، وحتى في هذا فشل لغبائه وجهله!
عاد الكثيرون يتندرون بالمهازل التي مثلت في قاعة الامتحان وسطرت في الدفاتر؟ ويروون الأجوبة المضحكة المؤسفة. فماذا ستكون النتائج؟
أتقوم الوزارة بفصل الراسبين؟ وتثبت ذوي الكفاءة. أم تراها تصدر أمراً بالفصل الجماعي لجيش كبير، عينتهم بالأمس، سواء من كان منهم كفوا للتعيين، ومن كان بفضل الشفاعة.
ننتظر ما يأتي به الغد وإن غداً لناظره قريب.
*         *         *         *
نتائج الامتحان فشل فاضح، فماذا نتج عنه؟ صدر أمر جديد، امتحان جديد. على معلمي العربية، والإنكليزية؟! لماذا معلمي الإنكليزية؟ لا أحد يعلم.
والغريب هذا الامتحان يشمل حملة الشهادات المتخرجين من مدارس رسمية أيضا، ولم يقتصر على أمثالي!
ومدرسي المتوسطات؟ في مأمن من كل هذا، مع العلم إن بينهم من لا يصلح حتى للابتدائية! ولم يوضح منهج لهذا الامتحان. أما الوقت فقريب جداً، سرعان ما حل. وتوجهنا إلى الحلة لنؤديه.
بتنا ليلتين قبل الامتحان، نحضر أنفسنا في مذاكرات في النحو، واللغة والأدب، ونظرات بسيطة، بسيطة جداً عن أصول التدريس والتربية. كان تجمعنا في غرفة واحدة، في أحد فنادق الحلة خلال المذاكرة، صورة معبرة وجميلة. إذ ضمت أفراداً، يختلفون كثير في أوجه حياتهم، ومنطلقات تفكيرهم. هم ألوان شتى، يختلفون بالسن، ودرجة الثقافة، وحتى مدة وجوده في الوظيفة.
شباب مازالوا في أول شبابهم، وآخرون تجاوزوا الخمسين، بعضهم مثلي لم يمض على تعيينه إلا سنوات قليلة، بينما عين بعضهم منذ ما يزيد على عشر سنوات.
وفيهم المتمرد على أساليب التعليم القديمة، بل على العادات والتقاليد أيضاً، بينما فيهم من أحتفظ بعمته ولحيته، ومسبحته.
ودخلنا قاعة الامتحان. وزعت الدفاتر، ثم الأسئلة. أمر مضحك ، مهزلة جديدة، امتحان تافه، أجل تافه. إذا قيس بسابقه، ومنهاجه الواسع العريض.
سؤال واحد في الأدب، سؤالان في الأعراب، أحدهما عن بيت شعر للرصافي، وثانيهما أصلاح خطأ في جمل.
سؤال في أصول التدريس، وآخر في التربية. [كان السؤال الأول: أشرح البيتين التاليين (البيتين للمتنبي/الناشر)، وأذكر قائلهما:
وقفت وما في الموت شك الواقف      كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمـر بك الأبطـال كلمى هـــزيمة      ووجهك وضاح وثغـرك باسـم
وخص الإعراب "وقاطرة ترمي الفضا بدخانها ..... الخ. وتصحيح الخطأ النحوي في جمل. وكيفية تدريس إن وأخواتها لطلاب الصف الرابع". مع العلم إن المنهج والكتاب المقرر آنذاك لم يتضمن –إن وأخواتها- لهذا الصف. ثم السؤال الأخير: كيف نجعل اللغة العربية ملكة في نفس الطالب!]
دخلت القاعة أشعر بحرارة في جسدي، لما أتوقعه من إحراج فيما سيقدم من أسئلة، وامتحان الغرض منه غربلة ذات هدف، لكني أصبت ببرود. إنها توحي بصراحة وكأنها تغطية للتطرف في منهاج الامتحان السابق، وحجة لتبرير تثبيت هذا الجيش الكبير بوظائفهم.
أمامي كان معلم معمم أعرف إنه من ذوي العلم والإطلاع في العربية [هو الشيخ رزوقي الحلي، كان رجلاً طيباً، هادئاً متزناً، يحكي في هيأته وحديثه شيوخ الأدب القدامى]. التقيت به مرتين قبل هذا. إنه في معلوماته أشبه بكشكول فيما يخص المعلومات العربية المتناثرة. إن أدبه لا يزيد على النقل والتعليق بكلمات محدودة، ربما كانت منقولة أيضاً. حمل ورقة الأسئلة ينظر فيها. وهي تهتز من رعشة أصابعه. فهمست في مسامعه مشجعاً: إنها أسئلة بسيطة.
وأمامه كان معمم آخر من النجف كان على درجة عالية في مفردات اللغة والنحو، وقليل جداً من الشعر والأدب، على طريقة، أحسن بيت قالته العرب في الغزل، وأحسن بيت في الرثاء.... في الهجاء، كذلك معلوماته في الفقه والأصول. وكانت له محاولة توظيف بدرجة قاضي شرع، ولما لم تنجح مساعيه يمم وجهه شطر التعليم [هو الشيخ محمد رضا الذهب، وهو رجل وقور، يميل إلى الانكماش وعدم الامتزاج بمعلمي مدرسته، بسبب سنه، وما يفصله عنهم من مظهر واتجاه ومرح الشباب الغالب عليهم. كتبت عنه في جريدة الهاتف بعنوان –ابن الثلاثين- من مجموعتي على الهامش في العدد 204 صفحة 9 عام 1936].
أعلم إنه كان من أبناء الخمسين، فأجرى معاملة تصحيح العمر وصار من أبناء الخمسة والثلاثين.
سلمت دفتر الإجابة، وحين رأى مدير القاعة أسمي صافحني، وطلب أن أنتظر في المديرية لأمر قال عنه "يهمك". ولكني عدت ولم أنتظره.
وانتهى الامتحان. وتوجهنا كل إلى مقر عمله ننتظر النتائج.

الشباب بالسنين مكتوبة
أبن الخمسين صار من أبناء الثلاثين. العمر الذي أكتمل بمر السنين، وكر الليل والنهار، أختزله صاحبنا بطلب تعديل. فعدل في سجلات النفوس، من خمسين إلى ثلاثين، عدل بالقلم، ولكن آثاره ظلت تجاعيد وغضون على الوجه، وهزال في الجسم، ونضوب في نضارته ورونقه. وضعف وانحلال في عامة القوى.
زرته مرة في غرفته الخاصة في الفندق الوحيد، في ناحية الفيصلية –المشخاب اليوم-، المطل على أربع جهات، واجهته على الشارع العام، والثانية على نهر الفرات، جهتي العرض على السوق وبناية السراي.
غرفته أنيقة منتظمة. تحتوي سرير نومه، أما أولاده الثلاثة ينامون على الأرض. بجانبه بضعة كتب في اللغة والنحو والأدب. ومنقلة فيها –دلة- القهوة التي لا تفارقه. تهيأ من شربت البن المعتق، وعلى حد وصف بعضهم "ما تفتر بالفنجان" [يعتبر بهذا هواة القهوة إذا كانت قد أجيد طبخها ومحسنة وكثيفة] وهو يكثر من شربها. إلى جانب استعماله ثلاث أنواع من التدخين. سجائر اللف بالورق من تبغ الشاور والشعري، والسجائر المعلبة، و"السويكة" [هي تبغ منقوع بالماء، يؤخذ بالأصبع فيوضع حول اللثة السفلى من الفك؟ ولعله تبغ خاص لهذا الغرض]. قلت له:
إلا تعتقد إن هذه تسبب لك ضعفاً؟ في القابلية الجنسية؟ هذا السؤال هزه وأطربه، فراح يسرد علي حكاياه مع الجنس وما انتهى إليه. تزوج كثيراً، وأنفق أكثر ما يملك من مال، لأنه حين يمل الزوجة يدفع إليها حقها ويطلقها. وإنه ليجد لذة في التحدث عن حياته في هذا المجال. وأكثرها لذة، تلك التي تزوجها وهي لم تتجاوز السابعة من سنها!! كان يحدثني متلذذاً وببساطة، كيف كانت تخافه، وتثور كمجنونة، ويعلق مزهوا وبثقة "كنت أقول لأمها، لو شمت رائحتي بعناق مرة واحدة، لَشبت وصارت امرأة!؟"
كان إذا حان موعد طعامه، تقدم أحد أولاده به أمامه وانسحب مع أخويه خارج الغرفة، فإذا انتهى صفق بيديه، فأقبل أحدهم لرفع آنية الطعام، وتقدم الثاني بالإبريق لغسل يديه؟! وإذا انتهوا من هذا انصرفوا للغذاء خارج الغرفة، يتندرون بصمت! هكذا هو منفرداً لا يتصل بأحد بزيارة إلا أن يزار. يخلو إلى نفسه للمطالعة بما لديه من كتب قديمة، على إنه ضعيف البصر جداً حتى إن النظارة السوداء لا تفارق عينيه.
وحدثني مرة متأففاً من مضايقات المعلم "أحمد" [هو أيضا نجفي انتقل من العمامة إلى وظيفة التعليم. وقد تطرف في سلوكه حتى فصل عام 1936 بانتفاضة عبد الواحد سكر، وتوسط أمره عبد الواحد فأعاده]. زاره أحمد في ساعة متأخرة من الليل. كان ثملاً شديد السكر. جمع الأحذية، رتبها بشكل هرمي اثنان كبيرة فوقها اثنان أصغر، وفوقها جميعا واحد. سأله: أتعرف من هذان؟ مشيراً إلى القاعدة فيها. صمت الشيخ. وراح أحمد يشرح له التركيبة. هذا أبونا آدم وهذه أمنا حواء، قبالته. هذا "...." النبي، وهذا "...." أما هذا وأشار إلى المنفرد فوقها جميعاً، وبغضب قال: "هذا الذي خلفك وابتلانا بك"!
لا أدري إذا كانت دمامة وجهه طبيعية أم إنها بفعل الشيخوخة والإفراط في ممارسة العمل الجنسي، ولكن صاحبنا –أحمد- كان إذا ذكره قال: "كأنه قرد يقهقه أو عجوز تلطم"
ومع ذلك فهو أكثر طيبة من أحمد. وأكثر التزاماً بالأدب والمجاملة الطيبة، وابعد ما يكون عن الأذى والتعرض بسوء للآخرين.
انتهت العطلة
عدنا وعادت حالنا، التقينا جميعاً في فندق الناحية، التقينا متآلفين وكأن لم يكن بيننا ما كدر صفو علاقاتنا في العام الفائت. نحن متآلفون ألفة المتنبي لمشيبه. بحكم ما اقتضته الوظيفة والمحيط خلال العامين المنصرمين، فكنا نختلف مع المحيط الذي عشنا فيه خلال تلك المدة ببعض جوانب الحياة، كما يختلف بعضنا عن البعض الآخر، في المعتقد والاتجاه، والنشأة في المحيط الذي تربى فيه، وبالنسبة أيضاً للمؤهلات. فبيننا من يبدو وكأنه قد أتم مسيرته الثقافية، فهو اكتفى بما يعينه على أداء عملية التعليم التي هي أيضا بحكم الأوضاع السياسية القائمة جامدة ومحدودة، وإن كانت مضطربة، فهي كالمثل المشهور في الريف "خلالات العبد" [في تلك العهود كانت قضايا التربية والتعليم غير مستقرة أبداً، بحكم ارتباط الحكام بالاستعمار البريطاني الذي يوجه سياسة العراق الخارجية والداخلية، ويشرف على وزارة المعارف منها مستشارون، ربوا كوادر فعالة أمثال الجمالي. فكانت الكتب المقررة تبدل من آونة لأخرى تبعاً لتبدل الموظفين الذين يعينون بحكم انتسابهم للمسؤولين الكبار. كذلك المناهج، وفتح المدارس وغلقها أيضاً تابع، لرغبات المتنفذين حين يصلون إلى كراسي الوظيفة العليا في الوزارة أو مجلس النواب والأعيان. وخلالات العبد، مثل يضرب إلى استعمال نفس الشيء المرفوض قبل حين لأنهم لا يجدون خيراً منه، بل إنهم لا يفكرون بخير منه. وحكاية المثل أن جماعة من العبيد خرجوا للنزهة ومتاعهم "خلال" وصدفة بال أحدهم قريبا منه. فاعتبروه نجسا. وحينما جاعوا تناولوا بعضه قالوا: - هذا غير نجس! وهكذا كلما جاعوا حتى أكلوه جميعا!]، وبيننا من أتخذ الوظيفة –والتعليم خاصة- وسيلة للخروج من دائرة الجمود التي كان محبوساً فيها، وليجدد أفكاره، ويتصل بالعالم الأرحب من عالمه. ومنا من هم وسط بين هذا وذاك. فهو يتناول ما يساعده على مهمته الوظيفية، ويحافظ على مظهره اللائق في ذلك المجال.
وعلمنا من بعض زملائنا إن ملاكات المدارس قد صدرت، وإنهم يحملون أوامر نقلهم. فأسرع مدير مدرستنا [محمد علي الفلوجي الحلي] وسجل نداء تلفونياً إلى مديرية المعارف. سأل المدير عن أمل انتقاله، فعاد إلى حيث كان. فطلبني المدير وكلمني. أخبرني، إنه اختارني لإدارة مدرسة الغزالية في "الطُرمَة" طبعاً ناقشته بعدم رغبتي ورفضي، هذا أبعاد ونفي بالنسبة لي، ألا تكفي سنتان في قرية "سوق شعلان" يبدو أن لهذا الغرض أمرني أن انتظره حين سلمته دفتر الامتحان.
قال لي: لا تأسف أنت موضع ثقتي! أجل أنا موضع ثقة. ولكن كل شيء من أجل إنجاح رسالة التعليم ليس بمقدور –الثقة- إننا ننحت في صخر. تحت وابل مطر، ورياح وسموم، وتيارات ظالمة.
وقصدنا مدرستنا القديمة، ليهيئ المنقولون أنفسهم للسفر إلى حيث نقلوا. بعت كوخي على أحد المعلمين الجدد، أسسه صاحبه قبلي بثلاثة دنانير. وباعه لي بدينار ونصف، وبعته بعد أن أشغلته سنة واحدة بثلاثة أرباع الدينار. أشغل المعلمون الجدد الصفوف، وانشغل المدير بتسليم الإدارة والأثاث إلى المدير الجديد "خليل تايه" [من أهالي الناصرية –الشطرة- وله حكاية زواج سيأتي ذكرها بذكريات قابلة] وقمت بجولة بين الصفوف، حول التلاميذ لأكتشف انتباههم عن معلمهم الجديد، ذا العمامة الخضراء، والجبة ذات الأكمام الواسعة [من سامراء، يبدو إنه كان سابقا من الكتاتيب].
لماذا حولوا انتباههم؟ بماذا أنشغل شعورهم؟ والبالغة سنتين؟ أجل إنها فترة ليست قصيرة، لقي فيها هؤلاء الصغار مني قسوة حيناً وعطفاً وليناً وبشوشا في أكثر الأحيان، مضافاً إلى صلاتي بآبائهم. في الصف الثاني كان هذا المعلم يحمل العصا، يتمشى جيئة وذهابا. ويصيح بصوت عال بين فترة وأخرى –تبعوا- [التباعة أداة يصنعها الصغار من الورق ليتابعوا تلاوة الكلمات حين يقرأ أمامهم المعلم أو أحد التلاميذ، معنى "تبعوا" تابعوا وأشيروا بالتباعة]، وتتماوج على ثغر الصغار ابتسامة، تقارب حد الضحك فيسارعون إلى كم أفواههم، ويطرقون أبصارهم إلى الكتاب.
وتحولت إلى الصف الخامس، يشغله معلم قال عنه بعض المعلمين السابقين البغداديين إنه كان فراشاً في وزارة الزراعة، وقبلها كان شرطياً، ثم تحول إلى مخبر صحفي! حسناً إن هذا ينم عن وجود قابلية ما لديه. ولكن أن يصير معلماً؟ ماذا يقال؟ رسم على السبورة هذا العنوان "ذات الشعر الذهبي" وخاطب التلاميذ: هذه قصة حقيقية مو (ليست/ الناشر) خيال! [ اسمه "زكي السلامي" ومفهوم أن الصف الخامس في أول السنة الدراسية معناه الصف الرابع بمعلوماته التي ضاع معظمها خلال العطلة الصيفية، مضافا إلى أن مثل هذا الموضوع يتنافى مطلقا مع أصول التربية والتعليم]
وبدأ التلاميذ بكل خبثهم ومرحهم:
- شلون استاد؟
- هاي كانت عشيقتي!
- اي استاد الله يوفقك وتزوجهه!!
- بلي تزوجتهه!
- موفق استاذ، الله يرزقك منهه ولد إنشاء الله!
- لا والله طلقتهه؟
- لا مع الأسف، ليش استاد؟
- طلعت .... تنـ....!
ضج الأطفال بضحك عال. أغرقوا بالضحك، ماجوا وهاجوا، وهو معهم يضحك. لِمَ؟ واندفعت بعيداً بين الضحك والأسف. وضرب المعلم المنضدة بعنف ليوقف الضحك.
- كافي، افتحوا الدفاتر. أكتبوا.
- استاد احنه ما نعرفهه ولا شايفيهه، ولا صفگنه بعرسه، شنكتب؟
- أكتبوا، شتريدون أكتبوا. من خيالكم، غرام وزواج، وطلاق شكو غير هذا؟
كان كثير التدخين. فلا تنتهي سيجارة حتى يشعل منها الأخرى. كثير الكلام ينتقل من موضوع إلى آخر قبل أن يتمه، ودون أن تكون له مناسبة. كثير التنقل من أريكة إلى أخرى. يتناول الشاي بكثرة، أحيانا يكلف من لا يعرف من المارة أن يخبر القهواتي "جعوال" أن يجلب له إبريق شاي، وإذا أمتنع هذا المكلف منحه درهماً. وإبريق الشاي لا يكلف درهماً؟! [في ذلك الزمن إلى قبيل الحرب العالمية الثانية كان "استكان" الشاي بفلسين، والدرهم خمسين فلساً]
ودعت الأصدقاء والزملاء، وتوجهت إلى أهلي. كلفت أبي أن يسافر إلى بغداد ليعمل على نقلي من القرية الجديدة "الطرمة" إليهم، أو إلى أي مكان قريب إليهم.

الطُرمة
من ناحية الفيصلية توجهت إلى "الطرمة" إلى مدرستي الجديدة "الغزالية" لأن سكان هذه القرية هم من عشيرة الغزالات.
ومع أن طريقي إليها مع مجرى الماء، فقد أستغرق الوصول إليها من الوقت أكثر من ساعتين. حين وصلت إلى منتهى ما يجب، وجدت زورقاً آخر يحمل شاباً دلني مظهره إنه معلم أيضاً. الفتى أسمر، كث شعر رأسه وأسود، وسيم الوجه مليحه (إنه الفنان قاسم محمد هذا ما أشار إليه والدي في الهامش، وأعتقد أن هذا غير صحيح لأن الفنان أصغر من هذا السن /الناشر). عليه مسحة من كآبة، كان مهتماً بالكمان الذي يحمله، أكثر من كل ما يحمله من أثاث ومتاع. كان علينا نحمل أمتعتنا وفرشنا على دواب أعدت لنا. وصلنا بها إلى مسافة معينة. يفصل بيننا وبين بناية المدرسة نهر لا توجد عليه قنطرة! وأسرع إلينا فراش المدرسة "محمد آل غالي" وبعد الترحيب بنا أخذ ينقل أمتعتنا إلى الضفة المقابلة وهو يخوض الماء. وتهيأنا بعد أن حول جميع ما لدينا، وبدأ نقلها إلى المدرسة. سحب كل منا بنطلونه على ذراعه، وربط أحذيته الواحد بالآخر، ثم نزلت إلى الماء. وأخرج صاحبي قلماً وورقة وراح يرسم لي صورة على تلك الحال. ما كان النهر من الجهة التي عبرنا منها عميقاً. قارَبَ ركبتي فقط.
انتظرت زميلي الذي عبر بعد أن أكمل الصورة، أخذت أتأملها، منظر رائع وأنا في وسط النهر وعلى ذراعي بنطلوني وحذائي، وعن يساري قروية تحمل على رأسها أطباقاً تحتوي كاسات الروبة "اللبن".
وانتهينا إلى بناية المدرسة المشيدة جميعها من الطين. استرحنا على أريكتها. وأخرج زميلي كمانه، وراح يداعب أوتاره بلحن كأنه أنين متوجع، وشكوى غريب. ولزم الفرّاش مكانه أول الأمر ساكناً، يعلو وجهه بشر وارتياح، وبلا طلب أنطلق الفرّاش يجاري اللحن بصوته الساحر بأبيات من الأبوذية زادت شجو زميلي فسالت دموعه مع أنغام الكمان؟
قلت لزميلي بعد أن كف عن العزف، واتكأ على الأريكة باسترخاء:
- ليست المسألة مؤلمة لهذا الحد. إنها لون يجب أن نراه، وأن نتملى حلاوته، ونتجرع مرارته، ونكتسب منه خِبراً تصلب عودنا، وتساعدنا على مصاعب الحياة. لقد اخترنا حياة التعليم، فلنتحسس أهمية ما اخترناه ورضيناه ولنكن بمستوى المسؤولية. ولكن زميلي كان في واد بعيد!
وأحضر الفراش لنا طعام الغداء، تم ذلك على حسابه، فنحن لأول مرة ضيوفه، كرماً منه وطيبة. وحتى الشاي الذي أعده داخل المدرسة.
وفاتحت الفراش عن أمر الطعام. اللحم لا يحصل هنا دائماً، ولكن الدجاج ميسور، والبيض أيضاً. الطحين جلبته معي مع رز منقى، ومواد أخرى كالحمص والماش المجروش، ونومي بصرة مسحوق، وبهارات، وما يلزم من قدور وأواني. قلت لزميلي:
- سأقوم أنا بأعداد طعام العشاء اليوم، ويمكنك المشاركة بما تقدر غداً.
ردّ علي، إنه لا يحسن أي شيء من ذلك! لا بأس سأتكلف أنا بكل ذلك، أنا متأكد أن أبي سيحقق أمر انتقالي إلى مكان أفضل.
لم أفاتحه بشيء من أمور الواجب. وفي صباح اليوم التالي بعد الفطور، بدأت الحديث، لتوزيع الدروس. أعداد الجدول لا يكلفني تعباً. نحن اثنان. والصفوف ستة؟! اُشغل ثلاثة صفوف، ويشغل هو ثلاثة. ولكن أيها له وأيها لي. الرجل خريج دار المعلمين الابتدائية. ولكنه أعتذر ورفض تدريس الإنكليزية لصفي الخامس والسادس. رفض الرياضيات أيضاً، والصف الأول. هنا المشكلة لا سبيل إلا هذا الأسلوب، اقتسام الصفوف وتوحيد دروسها قدر الإمكان. إنه يعتذر، لا يرتاح لعربية الصف الثاني التي تعتمد الترديد من الطلبة بعد المعلم. إنه يكره الضجيج وحتى النشيد أعصابه لا تقوى عليه! ماذا إذن ؟
أنا الآخر "المعلم الأول" ["المعلم الأول"في أوامر المعارف يطلق على المعلم الذي يعين لإدارة المدرسة ذات الأربع صفوف، ولا يقال "مدير" إلا لمن يعين لمدرسة تامة من ست صفوف] تعييني خاص للغة العربية، فكيف بالإنجليزية؟ كيف كان المعلم السابق  يدير أمر هذه المدرسة؟ [كان يدير هذه المدرسة منذ أكثر من سنتين "الشيخ عبد الهادي المولى الطريحي"، الذي لم يغير زيه منذ عين بوظيفة معلم إلى أن أحيل على التقاعد. والغريب في الأمر إنه نقل منها بعد أن صارت ذات ست صفوف. ولكنه كما اطلعت كان يديرها بدرجة "مكافحة الأمية" وكان الرجل محبوباً من قبل أهالي القرية، والمسؤولين لطيبته ونشاطه، وبساطته وسذاجته. وقد تم نقله إلى الكوفة عام 1935/1936 حين نقلت بدلا عنه] لا بأس. الست مؤقتاً، وإني سأنقل؟ لن أجادل زميلي في الأمر. وسأقوم حسب الإمكان، ومعه باللطف والحسنى.
وزارنا بعد يوم أحد السادة من آل الحلو، وهو يقيم في هذه القرية يدير حانوتاً يضم أشتاتاً مما يحتاجه القرويون. وهو كهل ، له مهابة ووقار، وسارعت بالاستفسار منه عما يهمني معرفته للسلوك، ووعد أن يصطحبني للفاتحة التي أقيمت على روح "ﮔاطع" ابن رئيس القرية "علي آل مزعل" [آل الحلو أسرة علوية في النجف أخرجت كثيرا من الفضلاء، ومنهم عالم الدين المتزهد الورع "السيد عبد الصاحب" كان معتمدا من قبل المرجع الأعلى السيد أبو الحسن الأصفهاني، وكان إمام جماعة أيضا].
ذهبت لتعزية رئيس القرية، وقراءة الفاتحة. حيث نصبت الخيام قريباً من المضيف، فالمعزون يردون من سائر العشائر المجاورة، لتخفيف حدة المصاب. فقد قتل ولداه "أحدهم ﮔاطع وهو الأكبر" غيلة. وجدت الرجل يستقبل المعزين بصمت، ويرد تعازيهم بهدوء. ويبدو رزيناً وقوراً، يصارع الأسى والجزع الذي تنم عنه عيناه السوداوان الواسعتان، إنه ربعة في الطول يميل إلى القصر، ذا وجه شديد السمرة ولحية سوداء يتصل بها شاربان جميلان.
قال لي عنه صاحبي "الحلو" إنه محترم بين رجال قبائل الفرات، ولرأيه مكانة. ويوصف بالعقل والدهاء.
لست أدري حقيقة هذه الصفات. ولكني أعرف إن مقاييس صاحبي قبلية أيضاً. وعلى أية حال فأني وجدت الرجل من نظراته ورنة صوته ذا مهابة غير عادية.
القرية قريبة من الناظم المسمى "ابو عشرة" الذي لم يكمل بعد، شأنه شأن أي ناظم في هذه الجهات. أوكل أمره لأمثال المهندس عبد الله. الذين اتخذوا من هذه المشاريع وسيلة للثراء، والأنفاق في سبيل حياتهم البهيمية، فلا يكاد المشروع يصل مرحلته النهائية، حتى ينهار. ويقصد بالناظم السدود الفنية التي أقيمت بتخطيط علمي وفني لتنظيم توزيع المياه التي عرفت باسم النگارة، سميت بهذا لأن مجرى ماءها يجري من جهات عالية فهي تحفر الأرض وتسبب انخفاضا عن مستوى الأرض الزراعية، وأقيمت المشاريع لتنظيمها. ولكن المهندسون لم يخلصوا فكانت للابتزاز والتبذير من جانب الجهات العليا والمهندسين العراقيين وهم على الأغلب غير مخلصين!.
 الفلاحون يعلقون عليه الآمال العريضة في تحسين أمور الزراعة، وعودة أراضيهم السالفة عهدها. ترى تتحقق أحلامهم؟ أعتقد هذا الأمر بعيد مادام سوس الاستعمار ينخر في أدمغة ساسة البلد، ومادامت الرشى تلعب دورها في اختيار المهندسين لمثل هذه المشاريع، من ذوي المؤهلات القاصرة والأخلاق الشائنة، والعلاقات المشبوهة.
كل يوم قبل شروق الشمس، وعند غروبها أقصد النهر، وهو يأخذ مجرى لا يشبه بقية الأنهار. إنه كثير التعاريج، يضيق في جهة ويتسع في أخرى، وكثيراً ما تتوسطه كتل متحجرة تتسع لجلوس ثلاثة أو أربعة. كنت أجد متعة نفسية رائعة، حين أستريح على واحدة منها أتنشق نسيم الصباح، وأمتع النظر بجمال البساطة السائد هنا. النخيل قطع صغيرة تنتشر هنا وهناك، والأبقار وهي ترعى، تكسب المنظر جمالاً أروع. بينما تجد الهدوء شاملا على الدوام.
أنا لا أدين بالأحلام، ومع ذلك فقد حكيت لزميلي "الفنان" حلماً أبصرته. إن السيد عبد المهدي المنتفكي أهدى لي حذاء من صنع الهند [عبد المهدي المنتفكي، عرف بهذا الاسم من سادة الشطرة، وهو وثيق الصلة بآل الشبيبي، ولكنه أخيراً أنظم إلى ركب صالح جبر، فأفترق عنهم. ورغم إنه يتمتع بقسط غير قليل من المعرفة والثقافة، فإنه لم يخرج عن كونه إقطاعي النزعة في ثقافته ومعارفه. وقد شغل منصب وزارة المعارف عدة مرات. وما يشاع عن تعصبه الطائفي يدحره انحيازه إلى ركب صالح جبر ونوري السعيد، وتأييده سياسة الأحلاف الاستعمارية. أو أن تعصبه الطائفي هو أحد مساعي الاستعمار فالطائفية لا تحارب بالطائفية بل بالوطنية ومصالح الجميع]. وبناء على هذا الحلم أرسلت الفرّاش إلى الناحية ليجلب لنا البريد. وقال صاحبي "الفنان" بحسرة:
- داد يجيك نقل. وأبقه آني أعيش لوحدي، آخ يابه شلون راح أعيش؟
وعاد الفرّاش مساء، بدا عابس الوجه، وخاطبني بامتعاض:
- ليش عمي، هيج تفارگنه بعجل، وتونه عرفناك.
البريد عادة يأتي إلى المدرسة مع الذاهبين إلى الناحية في عودتهم إليها. يجدونه عند التجار والكسبة الذين يتعاملون معهم. كان ظرف الكتاب مُسَوداً من تعليقات زملائي معلمي مدرسة الفيصلية. نقشوا عليه تهانيهم، وترحيبهم بي معلماً في المدرسة نفسها.
- هيجي؟
قال الفنان وأستسلم للبكاء، فرحت أهدئه، وأطمئنه أن لابد من يوم قريب تنقل فيه إلى حيث تريد.
تهيأت للرحيل، فقال صاحبي مداعباً: أعطني الحذاء!
قلت: أخذته في الحلم فأنتظر حلما مثله.

يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   2010-09-02 ‏
Alshibiby45@hotmail.com


155



معلم في القرية/ 9
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)



ليلة مع الغناء الريفي
ليلة ليلاء قضيتها البارحة [ليست هذه الليلة ثانية للليلة التي شرحت فيها هواجس "ساعة سأم" ولم أر ضرورة لتأريخ ليالي، عدا الأحداث الهامة]. ليلة من الغناء الريفي يشجي ويطرب، يفرح ويبكي، يشيع البهجة في النفس، ويثير الأسى في القلب. يهز ويدفع إلى الرقص والمرح أو يسيل الدمع بصمت.
دعاني شاب نجفي من التجار، وهو ضيف عند ملاك قروي، لقضاء سهرة طيبة. هناك عند الغروب، وبين النخيل ترى سطوة مهيبة، حيث تبدو أشباح النخيل في هذا الظلام الحالك مخيفة، يهاب السير فيها حتى القروي نفسه، ولا يقطعها إلا لص يبحث عن رزقه بين سواعد الموت! أو فتى شجاع ينشد المتع واللذات، أو لأداء رسالة عاجلة دعت إليها ضرورة وإلا فإن سرى الليل عندهم للصيف في أكثر الأحيان.
بظهر المضيف فرشت الطنافس العربية. وصفت المساند، جلسنا وعن يميننا وشمالنا كبير الأسرة المضيفة. وأبناء الحي متحلقون في جلسة منتظمة متراصون تراصاً مزدحماً، وعلى وجوههم يطفح البشر والسرور، ولا تكف ألسنتهم تتبادل رمي النكات والطرف، فهي مسرة مضحكة طوراء تسري بين ذلك الجمع سريان النشوة البليلة، فتنعش الكدِر، وتهز المرح الطروب. وهي وخز موجع طورا آخر، لما تنطوي عليه من إشارات وتلميحات يفهمها الذي توجه إليه، آو يعرّض به.
وكثيراً ما تتضمن تلك النكات أمثالاً رائعة، تضاهي في بلاغتها الأمثال والحكم في الفصحى. أما بعضها فمأخوذ من الفصحى بلا شك. وبعضها في قالب شعري آخاذ.
تحرش أحدهم برفيق له، يقابله في المجلس.
- عبد الحسن، يا عبد الحسن. الماينوش العنگود يگول ...
أكمل المخاطبْ المثل:– حامض! وأردف خايب آني مثل البعير محمل ذهب وياكل عاگول!
وتنحنح ثالث وهو يغمز بعينه إلى أحدهما.
- الما يعرف تدابيره، حنطته تاكل شعيره
فرد الأول:- آني أبوك يا فليح، أراويك انشا الله
فقال الثالث:- أي والنعم، ليش لا
فسوة عجلنه طيرّت جل البوه      غاد من أهلنه ممشه سبع سوگات [هذه الكلمة "سوگة" يستعملها "المكارون/ الواحد مكاري" لقياس مراحل الطريق في أسفارهم]. فضحك السامعون وتهامسوا.
وأقبل كهل تبدو على وجهه سيماء الظرف والفكاهة. فهتف به بعضهم.
- اهنا ابن عفلوك! اهنا.
- لا خويه. آني زعلان. خليني.
أجابه الذي دعاه بلهجة ساخر.
- زعل العصفور على بيدر الدخن زاد دغار.
فقال آخر:- ابن عفلوك آني مستعد اصالحكم.
اجاب ابن عفلوك: لا خويه، احنه زعلنه وصلحنه ما ندخل بيه احد!
فامتعض المتدخل وقال:
- أنت أعرف بصاحبك، حرامي الهوش يعرف حرامي الدواب.
وتدخل رابع وقال:- ابن عفلوك ..... آنه دواك؟!
فضحك ابن عفلوك ضحكة ساخرة طويلة. وقال:
- العصفور گال للنخلة، الزمي نفسك اريد أطير!؟
على مثل هذه المناوشات بين الجالسين مضى وقت ليس بالقصير. أعلن في نهايته، عن حضور العشاء. ومدت المائدة "السفرة وهي مصنوعة من سعف النخيل" على طول المجلس. كان عشاء فاخراً في جودة طبخه، وتعدد ألوانه. والقرويون يبذرون في ولائمهم تبذيراً لا يوصف. فلأجل ضيف واحد تُعد مائدة تكفي العشرات.
وبعد أن تم إعداد الطعام، نهض المُضيّف. وصاح بلهجة مؤدبة:
- تفضل سيد ماجد .... تفضل استاذ. [السيد ماجد السيد جلوي من تجار الحبوب في النجف، والقرويون لا يقدمون أحد على السيد لأنه من أبناء الرسول]
ثم إلى بعض الوجهاء من الحاضرين، دعاهم بأسمائهم. وسكت عندما أخذ الذين دعاهم مكانهم الذي عينه هو. ولزم الباقين الصمت إلا همساً.
اكتفيت من الأكل قبل غيري، ولم أرفع يدي [في معظم عشائر الفرات تسود هذه العادة. فلو اكتفى أحدهم من الزاد يتظاهر كأنه يأكل حتى يكتفي الآخرون]، كيلا يرفع الآخرون أيديهم. وحين نهضنا من المائدة. نادى المضيف بأسماء الآخرين، هُم دون الوجبة الأولى في المكانة، والوجبة الثالثة خليط من كبار وصغار.
وبعد استراحة وجيزة، قال:
-   يالله يا جماعة للربعة [الربعة دكة مسطحة للجلوس في أيام الصيف عصراً أو ليلاً، وتكون أمام المضيف أو المكان المعد لهذه المناسبة]
نهضنا وتقدمنا هو، وصلنا إلى مكان قد أعد وأضيء بمصابيح "لوكس الكتريك" يلفظوها هم "علنتريك". في جهة من المجلس أنتظم نخبة من شبابهم، وتهيأوا للغناء، ومعهم آلة الطرب الوحيدة، المعروفة عندهم "خِشِبَه". وصاح المضَيِّف بأحدهم مشيراً إليه بيده:
- يا الله...
تنحنح صاحبنا، وابتلع ريقه، ودار نظراته بين رفاقه مبتسماً. بدأ الصوت أول الأمر خفيضاً، وتعالى تدريجاً بهذا البيت من الأبوذية:
انا أذكـركم ودمع العــين ياهل      وبيّه ما دريتوا اشصار ياهل
صرت عصفور جني بيد ياهل      اهو يلعب وحر المــوت بيه
وهذا مأخوذ عن البيت المنسوب لمجنون ليلى:
كعصفورة في كف طفل يهينها      تقاسي اليم الموت والطفل يلعب
وغنى ثان وثالث. كتبتها عنه عند انتهاء الحفل.
كان الجمع المحيط به يتمايلون، كأنهم السنابل يحركها نسيم هادئ، وعيونهم تلمع ببريق ينم عن تأثرهم البليغ بصوته الساحر، وما تجسده من الأبيات من معاني شعر هي صدى أحاسيسهم وعواطفهم.
وضرب أحدهم بأصابعه "أصبعتين" فصدح الجميع بأغنية عذبة، تمازجها هزات الرقاب والأكتاف، وتمايلوا يميناً وشمالاً تمايلاً منسجماً مع لحن الأغنية، تلاحقه العين مرغمة، وتتركز عليه النفس غافلة عن كل شيء سواه.
وهب أحد الحاضرين فوسعوا المجال، وأندفع يرقص. فزاد هياج المغنين يضربون بأصابعهم، ويدبكون برجل ممددة، ويهزون رقابهم وأكتافهم. ويصفقون بأيديهم، تصفيقاً ذا لحن ينسجم مع لحن الأغنية. وراح صوت "الخِشِبَه" يلعلع في أرجاء البستان، صاعداً هابطاً، متتالياً متقطعاً.
وبعد ردح من الوقت عاد صاحبنا ثانية إلى أغنية حزينة [كانت من أغاني خضير حسن الناصري ولازمتها "حيل وياي"] لم يجاره فيها أحد، ولا واكبها رقص، أنغمر بها فهو يميل، ويميل معه الجميع بأجسادهم، كأنهم شدوا إلى وتر واحد. فلا تسمع إلا الزفرات تتصاعد، وآهات ترتفع، كان صوته يتماوج، ويداه تتحركان حركات الناعي الحزين.
الأغاني الريفية جميلة رائعة بأنغامها، سامية بمعانيها، لأنها ليست من محترفين، لكن ألحانها بسيطة. كما إنها لا تؤلف وحدة منسجمة، لا في الوزن الشعري، ولا القافية، ولا المغزى. فترى المغني الريفي، بينما يتغزل في بيت، إذا به يهجو في آخر، وفي ثالث يعتب ويتوجع، وفي رابع يرسل الدمع ويتذلل أو يمدح أو يرثي. يأتي تارة بالضمير مذكراً وأخرى مؤنثاً بنفس الأغنية.
وهم لا يستنكرون الغناء، ولا يرون تحريمه [أجمع فقهاء الشيعة على حرمة الغناء، وهم يفسرون الآية "واجتنبوا قول الزور" إن المقصود بقول الزور هو الغناء. وهذا تكلف!] الريفيون يقولون "راس المابيه كيف گصه وذبه". والكل يرقصون –في المناسبات- رقصات ريفية، عدا فئة بحكم مكانتها الاجتماعية. وعلى الأكثر لا تمتنع عن حضور حفلات الرقص في الأفراح كالأعراس والختان.
بعد فترة من الغناء والرقص، هتف مضيفنا بولده:
- كاظم ولك گوم تونس ونس خطارك؟
نهض كاظم متردداً حياء مني. وصحت به أمنعه فما ينبغي أن أوافق، وهو تلميذي، فأستغرب الآخرون فقال أحدهم:
أستاد انتو هنا خطار، مالك حق، هذا المكان ماهو مدرسة؟!
وفي احد فترات الاستراحة، قام أحدهم بما يضحك الحاضرين، فقد أحضر جملة ضفادع حية، شدها من الأرجل بخيط على هيأة قلادة، وغمز بعينيه إلى أثنين سرعان ما أنقضا على الجزار "بوده" فوضع الأول القلادة في عنقه. وقف المسكين وهو يصرخ مستنجداً بالحاضرين، وقد جحظت عيناه، وتقززت جلدة وجهه، يستغيث –وهم يضحكون- كلما قفز ضفدع ومس وجهه صرخ وتقيأ. ولكن الجميع يشتدون بالضحك والسخرية به، وأخيراً نهض الملاح "أبو طابق" وصاح به:
- خايب اشصار، تلعب روحك من عگروگ، دجيب؟
نزع القلادة من عنق "بودة" والتقم ضفدعاً منها وضم عليه شفتيه، ثم أخرجه وقضم يده، وراح يلوكها كما يلوك الكندر؟! هنا أبدى الجميع اشمئزازا واستنكارا. أبو طابق، ملاح تجاوز سنه المئة –كما قال- أخذ يحدثنا بالمناسبة عن أغرب فعلة له.
كان يشتغل بالسفن بين البصرة والكوفة. أحيانا تكون حمولته جنائز إلى النجف [كانت الجنائز تدفن موقتا في أماكنها ويسمونها وديعة، ثم يخرجونها بعد ستة أشهر متيبسة ويرسلونها إلى النجف لتدفن بأرضها احتماء بالإمام علي. وأغلب علماء الشيعة يرفضون نقل الجنائز. وبعضهم يحتاط، فيقول: لا يجوز إذا حدث التفسخ. ثم صارت كأنها أمر طبيعي لما تدره من الأرباح على الكثير من عوائل النجف]. وتعشى ركاب السفينة، وناموا دون أن يدعوا "نوخذتهم" أبا طابق للعشاء معهم. حمل أبو طابق في صدره عليهم الغيظ. فلما غطوا في نومهم، تناول كيساً كان معلقاً  على –الشيال- وراح يأكل منه. فلما استيقظوا في الصباح عاتبهم أبو طابق:
- خايبين لا گلتو نوخذتنه، أكلتوا وتزقنبتوا وحدكم. تراني گمت وفلت الجيس واكلت على كيفي؟! الا شدعوة مخلينله هاكثر ملح؟
وصاح به أحدهم ولك أبو طابك، أكلت أبوي!
أما أبو طابق فرد عليه:- آنه ادري به أبوك.
كان أبو طابق يقص حكايته، والسامعون يتأففون، ويبدون الاشمئزاز. لكن صاحبنا المغني أنقذنا فغنى ولعلعت –الخشبه- تصاحبه. وعاد الجمع ينسجم بنشوة الطرب والشباب، وحرقة البؤس والفراغ.

الغناء في الريف
أتحدث عن الغناء في الريف. أتحدث ببساطة. لا حديث باحث متتبع. لا أستطيع ذلك. بسبب ما يكتنف حياتنا من أمور تستدعي الحذر. فالسلطة تخاف وتكره اتصال المثقفين بالفلاحين، وهي تعتبر بالطبع جميع المعلمين مثقفين! بينما تلعب الطائفية دوراً قذراً في علاقات المعلمين ببعضهم مضافاً إلى جهل الفلاحين، وسيطرة العقلية القبلية في علاقاتهم، التي كثيراً ما تستخدم ضد مصالحهم، وفي زيادة ثقل قيودهم. لهذا يصعب عليّ أن أتنقل لجمع المعلومات النافعة عن مسألة الغناء الريفي والشعر. مضافاً إلى هذا كله ما يتطلبه من وقت ومال.
للريفيين تقاليد، ولهم مطامح. وكثيراً ما تصطدم تقاليدهم مع مطامحهم. وعلى الرغم من أن تقاليدهم أيضاً تتعارض مع بعض التعاليم الدينية، فإنهم يسبغون على التعاليم الدينية مسحة من التقاليد. تماماً كما صنع العرب الأولون، كانوا يحولون الأشهر الحرم حين يضطرون إلى ذلك، فيقدمون شهر ويؤخرون شهراً.
غناؤهم دائماً لا يعتمد القصيدة الكاملة إلا نادراً، ونادراً جداً. الأغنية تعتمد الأبيات المتفرقة، ذات المضامين المتعددة، وكثيراً ما يكون أصحابها مجهولين. وتردد في أكثر من لحن. البيت الواحد يغنى في عدة ألحان من ألحانهم. وألحانهم كما هو معلوم بسيطة، بساطة الآلات الموسيقية التي يستعملونها. والشائع منها لديهم بكثرة ما يشبه "الناي" وتسمى عندهم "شبابه" والمطبـﮓ والخشبه. وهم يجيدون استعمالها أجادة تامة ولكن بدون أبداع وابتكار. [هذه الآلة "الناي" لا تعرف عندهم بهذا الاسم. منهم من يسميها "شبابه" ومنهم من يسميها "ني" وهي عندهم من قصبة طويلة بالنسبة للمطبـﮓ ومثقوبة عدة ثقوب تشبه تماما الناي المصنوع من الخشب. أما المطبـﮓ فمن قصبتين أدق من الناي ملتصقتان ببعضهما بشيء من القار. أما الخشبه فمصنوعة من الفخار وعلى فوهتها جلد مرقق مثبت بدقة، تشبه الطبلة]
كثير من الأساطير التي نعرفها بالتراث موجودة لديهم. ولكنهم يسبغون عليها شيئا من تقاليدهم وعاداتهم، حتى كأنها حدثت في محيطهم.
أخذ بعضهم يتحدث في الديوان عن مجنون ليلى:- "التقى بحبيبته ليلى، وعدته إنها ستعود إليه، بعد قليل. وظل حيث هو ينتظر عودتها. لم يشعر بالجوع والعطش، لم يشعر بأي شيء. ومرت الأيام، وهو لم يبرح مكانه، ومات حيث هو. متكأ على جدار من طين، من بيت مهجور. وغطاه العشب وهو هيكل متيبس!
مثلك بلغ مجنون من واعِدَنّه      العشب باني عليه ويابس لگنه!
وهم شغوفون بالحديث عن حب عنتر لعبلة وبطولته، يذكرونها وكأنها لأحد أبناء قبيلتهم، ولم تسلم منهم أسطورة "بئر ذات العلم" ومملكة الجن التي حاربهم فيها الأمام علي.
ويصوغون عن"حاتم الطائي" وكرمه، مالا تعرف عنه في التراث. وبعض ما يغنى من شعرهم، منقولة معانيه من القصص الدينية.
مثل آدم اغتريت وعنه اطلعــــوني      گالولي اكل من هاي هم وهدنوني
هم ابني واتعب بيه وهم امشي عنه      صرت ابن شــداد من بنه الـــجنه
وبعضها يبدو لي إنها ترجمة مطابقة لأصل قصيدة من الفصيح. هم يرونها ولا يعرفون ناظمها. أما التي هي باللغة الفصحى فمنسوبة لوضاح اليمن. قرأ علي أحدهم هذه القطعة هي في حبيبته "روضة"
هي
لاني بوعــــد وياك      لا تظن ظنه
وي غادي ابعد ليك      لَي لا تـدنـه
هو:
لاني بوعــد ويـاج      لا من رِدَه بيـج
لاﭼن بشهل العين      نفسي دنت ليـج
هي:
الخبـــز خبز يهــود      محد يضـوگه
معلمــاتك الشِـــنات      لجل المطوگة
درب المشيته النوب      بالك تـــــمره
وَرْوَرْ تِركِ ويثـــور      معتلگ شَــرّه
هو:
گمنه وبنينه السور   بنيـــــــان تمـكيـن
بيه اثنعش طابـور   من صوجر وﭼين
هي:
درب المشيته انوب      عمده ارد امر بيه
شَـعْتِذر عند النـاس      لـو ردت اخـــليه
وهذه الأبيات من قصيدة وضاح اليمن حصلت عليها ولا أدري أهي كاملة؟ لكني سوف لن أهمل البحث عنها ولا عن –العامية- التي هي كترجمة لها إلى اللهجة العامية:
قــالت: ألا لا تَـلجـنَ دارنــا      إن أبـانـا رجــــل غـــائـــر
قـلت: فإني طــالب غــــرةً       منه وســيفي صــــار باتــر
قالت: فإن الـبحــرَ ما بيـننا       قـلت: فإني ســابح ماهـــــر
قالت: فإنّ القصرعالي البنا         قلت: فإني فــوقه طـــائـــر
قالت: فحـولي أخوة سـبعة          قلت: فإني غـالب قـاهـــــر
قالت: فلـيث رابض دونـنا         قلت: فإني أســد خــــــادر
قالت: فأن الله من فـوقـنــا         قلت: فربي راحم غــافـــر
قالت: لقـــد أعـييتنا حـجة         فآتِ إذا ماهجع الســــــامر
واسقط علينا كسقوط الندى        لــــيــلة لا نـاهٍ ولا آمــــــر
بينما هناك معان أكثر الظن إنها جاءت من قبيل توارد الخواطر. مثل قول أحدهم:
"جيبولي النمام خل يگعد وياي      ذم لو مدح مقبول بس طاري اهواي
إنه يطابق قول الشاعر:
أحب العذول لتكراره      حديث الأحبة في مسمعي
وهذا البيت:
نعله على بوه الگال مطرب يغني      بگلبي تسع جروح حيل اوجعني
ألا يطابق ما قاله أحمد شوقي في رواية "مجنون ليلى" وذلك أسبق
يقولون بها غنى      لقد غنيت من كربي
وهذا القائل:
ظلت أنا يهواي للنجم راعي      عينك تبوگ النوم لو مثلي واعي
الم يقل الشيخ محمد رضا الشبيبي مثله:
أتسهر هذا الليل أجفانها الوطفُ      وتجتنب الإغفاء مثلي أم تغفو
[ذكرت هذا للشيخ محمد رضا الشبيبي مستوضحاً عما إذا كان له إطلاع بالأغاني الريفية وأخذ عنه. فأعجب به أشد إعجاب، وراح يقارن بين قوله  "تجتنب" وقول الريفي "تبوگ"  قال إنه تعبير رائع عن حاجة العاشق البالغة لغفوة عزت عليه فتضطر عينيه لأن تسرقها]
وكما قال شاعر قديم:
ما جــرت خطرة على القلب مني      فيك إلا استترت عن أصحابي
من دموع تجري فان كنت وجدي      خاليا أسعدت دموعي انتحابي
قال ريفي:
أضحك گبال الناس وأنحب بالخِلي      لَسْلَه الهُوَه ولَسلاك يَسمَر يَعسِلي
باب تناول شعراء الريف لمعاني الفصيح واسعة جداً لو ترسلت في نقل الأمثال منها لاحتجت إلى وقت كبير، ولم يقصر الباحثون في الشعر الشعبي عن نقله ومقارنته بالأصل، وفاتني أن أضم هذه الأبيات:
فقد جارى أحدهم قول أبي نؤاس:   
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا      تعالي أقاسمك الهموم تعالي
فقال الريفي:
نحل جسمي وبكت روحي تعالي      هبطنه والنــذل بيه تعــــالي
يجـار الدهـر ما أنصف تعــــالي      نخلط اهمومنه ونجسم سويه
وجارى آخر قول شاعر فصيح:
ولو كان سهما واحداً لاتقيته      ولكنه سهم وثان وثالث
بقوله: لو سهم واحد جان يمكن أرده      لاﭼن ثلاث سهام ياهو الأصده
وجارى الحاج زاير الدويج قول الشاعر:
هو الكلب وابن الكلب والكلب جده      ولا خير في كلب تناسل من كلب
فقال:
طفر بيّه بمسايسته ويدّه      وعليّ طالت أنفاسه ويدّه
جلب هوّ أبو مثله ويـدّه      من سـابع جد ينبح علـيَه
إنها أبيات فاقدة للحرارة والجمال بل حتى الألفاظ الريفية ذات الحس الملتهب والرنين الموسيقي.
وفي أغانيهم ما هو مأخوذ صراحة من الفصيح، ولذا يتسم بالركة والفجاجة إذ يدفع في موكب البيت الذي ربما جرى مجرى سائغا عذبا حتى إذا أقحم المعنى المنقول تخاذلت الألفاظ  وارتبكت.
هذا الذي قال:
متى يا كرام الحي عيني تراكموا      واسمع من تلك الديار نداكموا
قال مثله ريفي:
مثل غيم الســــخط هي تراكم         جتلتوني يعذالي تراكم
إكرام الحي متى عيني تراكم         ونداكم بالديار يعم عليه
وقول المجنون:
كعصفورة في كفِ طفل يهينها      تقاسي أليم الموت والطفل يلعب
قال مثله الريفي:
آنه اذكركم ودمع الــعين ياهل      وبيه ما دريتوا صار ياهل
صرت عصفور جني بيد ياهل      اهو يلعب وحر الموت بيه
وللشاعر علي الشرقي هذا البيت:
على الرفق أيتها الماشطات      فما بين طياته قلب صب
وأخذ زاير حسين الحياوي منه هذا المعنى وكان مأخذا فجا
بْرفِجْ يا ماشِطاتْ الشعَر بالراح      وبگيت أسحن بگايه الراح بالراح   
ومن قول احدهم:
احرق بها جسدي وكل جوارحي      وأشفق على قلبي لأنك فيه
أخذ الريفي قوله:
أحرگ جميع عضاي مرخص عليه      بس لا تمر بالروح ﭼيف انته بيه
وإذ قال أحدهم
ولو بات من أهواه وسط حشاشتي      لقلت ادن مني أيها المتباعد
وقال الريفي:
ولفي وأغــار عليه من حضـن أمه      بگلبي واگول بعيد جان وين أضمه
وحين قال الحبوبي:
اسقني كأساً وخذ كأساً إليك      فلذيذ العيش أن نشتركا
رد عليه الريفي:
أتهنه بأول كاس والثاني ليه      يشگر لذيذ العيش نشرب سويه
وهم يبالغون شأنهم شأن شعراء الفصيح
"دمعي سگه البستان       بَطِّلْ يدالي"
و"متعجب بدنياك مايَك سگه لوح      دمعي من اهدّه اليوم للمشهد ايروح"
تماماً دموع هذا الريفي تسيل حتى تصل إلى –النجف- وهي مرتفع عالٍ ودموع شاعر الفصيح تغرق نوحاً إذ لم يغرقه الطوفان، وتحرق نيران قلبه الخليل:
لو صادف نوح دمع عيني غرقاً         أو صادف لوعتي الخليل احترقا
وفي أحيانا كثيرة يجسد الريفي حياته بسائر ألوانها فيما يقول في أغانيه، كوحدة الأسرة في تعاونها على السراء والضراء.
"أنت أمي وأنت بوي       وأنت أخَي ليه"
"أنت الگِلت يهواي طش وانه المّك   انعادي من عاداك وأشرك بهمك"
وإذ يصور مشاعره في أية حالة من حالاته، يستعمل الحياة المادية التي يحياها ويعانيها أو تحيط به
جيت لسِماد الدار      هلته على راسي
تماما كما فعل الشاعر الجاهلي زهير ابن أبي سلمى:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم      بحومانة الدراج فالمتثلم
وإذ يريد أن يتخلص من نفسه بانتقام أسى ولوعة
بسيان اطمها الروح       واسحگ عليهه     
وإذا يتألم من حظه في الحياة وما هو فيه من متاعب. يقول:
طرحي بصخر ذبوا         ومسحاتي جلت
ويعلن تركه الحبيب تركا أبديا، مبتعدا عنه كأنه القاتل حكم عليه بالجلاء بعيدا عن الأهل والعشيرة:
لدگـول بعد هــواي      هذً إصبع وعاب
مثل الجتل واجلـوه      بديار الجنــــاب
وقد يتمرد فيعلن تمرده بأغنيته على العقيدة والأولياء:
" اگرب من أهل البيت    الگمر ننخاه      يصبح نبي وينزار الوِلفه وياه"
و"متولف العباس       بس للنذورة"
و"هذا الله مال طماع موش الله الأول      ويه الفقيـــر يعيــل وعنه تحـــول"
و"اركب سـحير الليل وحـــارب الله      من كون ما يرضاش بالشلفه اغلَه"
و"اصعد لبو نجيمات درجه على درجه      خافَنَهْ ما يدريش انه اَرْدْ اوَرْجَه"
[سحير الليل: اسم للخفاش عندهم، اختاره لأنه يرتفع بطيرانه عاليا في الجو، ولأنه سريع وخفيف]
وقال مهوال من عشيرة گريط
"شت عگل الله    وموّت لوتي" (يقصد: أن الله فقد عقله لأنه أنهى حياة لوتي!/ الناشر)
ويئست ريفية من استجابة الحسين (ع) لتحقيق أمنيتها فتوجهت لأخيه العباس:
"أردْ أنخه أنا العباس      شَيَبني الحسين"
ووقفت إحدى الريفيات على قبر زوجها تعاتب رقيب الأموات وحارسهم عن العودة إلى الحياة:
"يسجان خله يجي" لماذا تحجبه إنه إنسان بسيط ليس له من صفات الرجال الآخرين، إنه ليس من اللصوص ولا من أهل الكرم أيضا:
"لاهو الطافر الطوفه      ولاهو الطلجه جفوفه"
"اريده ينفش الصوفه      ويسوي للبنات اعبي"
وهناك من حاول يطور الأبوذية، فتلاعب بالوزن، والألفاظ معاً:
بِدَ وياحس البساگه معادين      گوايم مابگه عندي معادين
بسيفه سن، عليَ افتن، زغير السن، يزايد فن
على عرب ومعادن
گرا (قرأه) بالطلسم مگلوب ليَه
واضح إن هذا من صنع الذين يمارسون نظم الابوذية كفن، لا ترجمانا عن عواطفهم وأحاسيسهم.
ومثل هؤلاء الذين نظموا ما عرف بالملمع. وأنا اعتقد إن الذين مارسوا نظم الملمع في الأغلب هم من المثقفين الذين يرتادون الريف سعياً وراء العيش، أي إنهم من المعممين الذين يقصدون الأرياف للتوجيه الديني وجباية الحقوق الشرعية لأنفسهم.
قال احدهم:
ولما رأيت الناس للحج أقبلوا      أنا الدارك يحلـو الطــول حييت     
وقبــلت الجــدار وبعـــد هذا      طفت حوله وطويل الليل حييت       
أتيتك طـارقا ضيفـــا محبــا      علامك ماگمت يا تــرف حييت      
وما رحبت بي كرما ولطفـا      قــدوم الـمعتني وگاطـــــع ثنيه
يبدو لي واضحا إن الأصل "أبوذية" أما الفصيح فهو تشطير له، ولذا تجد إن بالإمكان فصل "الأبوذية" عنه، بحيث لا يفقد انسجامه ومعناه.
وعلى بعد مابين الريف المصري والعراقي، فقد وجدت تشابها في بعض المعاني في شعرهم الغنائي، لا يبعد أن تكون عفو الخاطر بسبب تشابه الحياة فكلاهما ريفي.
من أغنية تغنيها المطربة ليلى مراد:
البحر بيضحك ليه      ساعة ما خطرتِ عليه
عبّر العراقي نفس المعنى بأروع من هذا، وزاد عليه، إذ قال:
آضوه الجرف صوبين          مِن غَرب هواي
وامسَ الهُــوه فرحــان         وأتبســم المــاي
المصرية ضحك لها البحر حين مرت عليه، أما حبيبة صاحبنا العراقي، فقد عم النور جهتي النهر، وبدا الهواء فرحا والماء باسماً.
وقال مصري آخر:
جلابيبوا اگلام اگلام         حرمتني النوم انا
غنت مثل هذا المعنى وبأسلوب أروع منه المغنية "مسعود العمارتليه"
ثوب الحمر ذبيه      بي جـــتلتيني
المذهب الوجنات      والحنك ديني
[ومسعود مغنية من العمارة –محافظة ميسان اليوم- من عبيد الإقطاعي محمد العريبي، تزينت بزي الرجال، وامتهنت الغناء. وعاشت في بغداد كثيرا ورفضت أن تنادى بالتأنيث. وكانت في أغانيها حرارة ولوعة. وفي أسارير وجهها عندما تغني تعبير عميق عن انفعالاتها، وقد صرحت لبعض من تعرف إليها بذلك، منهم أخي حسين وأنا. شعورها بسمة العبودية والاسترقاق كان يؤلمها. لها أغاني تزيد على 39 طبعت في أسطوانات]
ولكن لماذا لم نجد الريفي العراقي يستطيع معالجة الشعر مثلما يعالجه الريفي المصري أو اللبناني أو السوري في الشعر الغنائي.
شاعر مصر الريفي في الأغنية يعالج موضوعاً واحداً في قصيدة  في الحب أو مختلف جوانب الحياة. بينما نجد الريفي العراقي لا يعالج شؤون حياته إلا ببيت أو بيتين لا يجمعها قافية ووزن، بصورة ليس أكثر من الإشارة العابرة والتلميح.
يستعرض أحدهم حياته، من شبابه حتى مشيبه، فلم ير غير المتاعب والآلام:
گلت انگضت بلواي باول شبابي      ما أدري تالي الشيب يكثر عذابي
ويتغنى آخر باستغراب، كيف لم يشب، كيف لم يمت؟! وهو لم يجن ثمر غرامه، فاته التمر، وظل حارسا للسعف؟!
لا شــــيب ولا مات      گلبي شگواته
ظل بالسعف ناطور      والتمــر فاته
ما وراء هم الأول، الذي لازمه في شبابه، وزاد في عهد مشيبه، وما هي متاعب الثاني التي صمد أمامها فلم يشب ولم يمت. واضح إنها ليست هموم غرام، ولواعج حب، إنها هموم حياة اجمعها، في العيش، والحب، والكرامة، مما يعانيه من استعباد، وإذلال، وكدح، وحرمان، بظل الإقطاع، والتقاليد الثقيلة الجاثمة فوقه ككابوس.
وليس معنى هذا لا ينظم القصيدة الطويلة. كلا، هذا في الغناء فقط. المغني الريفي، يسبك أغنية لا يجمع أبياتها وزن أو قافية، أو موضوع واحد. فقط يجمعها لحن واحد. كما إنه بالإمكان أن تغنى بالحان متعددة، إنما يضطر –في بعض الأحيان- أن يقدم ويؤخر بين الصدر والعجز. وهو يخلط في أغنيته، ويتنقل، بين هزل وجد، وعتاب، وغزل، وشتيمة، وتضجر من الحياة، والأحباب والدهر، والهموم الثقيلة، التي تضارع دموعه الغزيرة.
 صبح برس غرگان         من دمع العيون     [برس يقصد به هنا موقع أثري بين الحلة وناحية العباسية والمعروف إن معناها برج وهو من آثار نمرود ملك الكلدانيين الذي كان خصماً لإبراهيم]
أستطيع بعد هذا أن أقول إن السبب الأول في هذه الناحية هو القيود الاجتماعية النابعة من التأثير الديني. فعلاقة رئيس العشيرة برجال الدين الذين يستمدون موارد عيشهم من القرى والعشائر، فهم يقصدون القرى في المواسم، يعظون ويرشدون، وعلى أن أكثر ما يهمهم هو دفع الفلاحين لأداء ما يترتب عليهم من حق اتجاه رجال الدين (الذين ارتبطوا بالعشيرة) لكنهم أيضاً يتطرقون إلى مختلف مهام الشريعة من الأحكام الشرعية في الواجبات، والمحرمات، ومن هذه في رأيهم الغناء.
وثانياً أمية الفلاح العراقي، فبينما كان يمارس الشعر الغنائي في مصر أمثال أحمد شوقي، وأحمد رامي وغيرهم، كان الأديب العراقي يخشى ذلك، لأن ذلك في نظره يخفض منزلته العلمية، والواقع تؤثر على مصلحته المعيشية التي هي باسم الدين. [عملا بهذا غالى بعض الدينيين بالالتزام بهذا لحد إنه رفض الإصغاء للشعر إذا تلي بترديد –كما هو معروف- في حفلات الأعراس في النجف. وقد سمعت السيد عبد الصاحب الحلو وهو أحد ثقاة زمانه، عرف بالزهد والورع. تحدث إنه صرخ بأحد قراء التعزية وهو على المنبر يردد قصيدة رثاء الحسين على العادة المتبعة. كما يروى أن سبب ترك السيد محمد سعيد الحبوبي للشعر إن نقاشاً دار بينه وبين أحد المعممين في مسألة فقهية، وبحقد ولؤم، قال له ذلك المعمم: هذا ليس من اختصاصك، إنما اختصاصك نظم الشعر في الغزل؟! ولكني أخيرا وجدت بعض شعراء النجف كالسيد موسى الطالقاني والسيد جعفر الحلي، قد نظموا شعراً شعبياً كثيرا وتفوقوا وهو أيضا صالح للغناء]
ولابد أن يتبدل نظر الريفي يوما ما، ولابد أن تتطور الأغنية عنده فقد تقدم كثيراً من ذوي الأصول ألفلاحيه أو حتى الفلاحين فسجلوا أصواتهم باسطوانات في مختلف الشركات، وأصبح بعضهم من محترفي الغناء.مثل مسعود العمارتلي، داخل حسن، حضيري أبو عزيز، ناصر حكيم وخضير حسن وكثير غيرهم.
وسيحاول الريفي أن يشارك بكل طاقاته، ولكنه سيضطرب ويضيع –المشيتين- بسبب تلاقح اللهجات، والاضطرابات السياسية. فويل للأجيال القابلة من ثقل العبء ووعورة الطريق وبعد المسيرة.

يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏ ‏29‏ آب‏ 2010
Alshibiby45@hotmail.com


156
معلم في القرية/ 8
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)



((أدناه بعض أفكار المربي الراحل –حول تعدد الزوجات- التي دونها في ذكرياته قبل أكثر من سبعة عقود: لا يدخل في مضمون العدل عندهم الحب الذي هو أهم ما تنشده المرأة في زوجها. بينما تجد الرجل المزواج من هؤلاء، لا يفهم من الزواج إلا شهوة يفرغها، أو مصلحة يحققها))

التيارات السياسية والتعليم، المرأة والنظم البالية!

وأبلغتنا مديرية المعارف بكتاب تحذرنا وتشير فيه إلى وجوب الابتعاد عن القرويين وعدم الاختلاط بهم. إن التربية وقواعدها ترجح وتؤكد ضرورة الاختلاط بالمحيط للتأثير على الناس، والتعرف على مشاكلهم التي تؤثر على مستويات أبنائهم. ولكن التعليم عندنا خاضع للتيارات السياسية. وهذا سبب هام من أسباب تردي التعليم. ذلك لأن الساسة مشدودونَ إلى المخَطِط الأول، المختفي وراء كواليس الحكم "الوطني"، ألا هو الاستعمار البريطاني.
قبل يومين غادرت مقر وظيفتي إلى الناحية لأشترك بتشييع جنازة الزعيم المعروف السيد نور الياسري [توفى في 4/5/1937] وقبل أن أنزل إلى الضفة في ناحية الفيصلية  [تسمى اليوم ناحية المشخاب] سمعت أزيز الرصاص، حسبته المألوف عند العشائر والذي يعرف عندهم باسم "العراضة" في مثل هذه المناسبة، وهي عبارة عن هوسات يقومون بها أمام نعش الفقيد –إذا كان من كبارهم- يتخلل ذلك أطلاق الرصاص. وتقدمنا متوجهين إلى الجامع. فإذا بالناس أمواجاً يدفع بعضهم بعضاً فعدنا أدراجنا نتجنب الأذى.
والسيد الياسري، أحد زعماء ثورة العشرين، عُرف بتفانيه من أجلها، فقد ساهم فيها بماله ونفسه. ولكنه كأي زعيم أقطاعي آخر، في مقاييس حياته، فهي بعيدة عن الدين والإنسانية، على الرغم من أنه لا يرى ذلك. فالمشهور عنه تزوج أكثر من ثلاثين امرأة، وعلل ذلك بأن الدين أباح له ذلك فأربع بالعقد الدائم وما شاء بالعقد المنقطع [جاء في الآية 3 من سورة النساء "وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ..." لقد ربطت الآية الخوف من عدم العدل بين اليتامى مع الخوف من عدمه أيضاً بين النساء. والعقد المنقطع فيما زاد عن الأربع مع وجودهن على قيد الحياة. وهو عقد محدد بالسنين، كأن يقول بالعدد والمدة ما شاء. التحديد يكفي]. وله من نسائه أكثر من أربعين ولداً ذكراً، وأكثر من هذا العدد إناث! وهو أبعد أن يكون من معرفة زوجاته، ولكن كل واحدة منهن تعرف نوبتها، فتضع علماً أبيض صغيراً على واجهة بيتها –القصبي- فيهتدي إليها بموجبه، وهو عن العدل بينهن أكثر بعداً، فمفهوم العدل بين الزوجات عند هؤلاء، محدود في بيت شرعي "ثوب يستر الجسد وخبز يشبع البطن"؟
للعدل في مسألة الحياة الزوجية أهمية كبيرة، بدونها تنهار السعادة المتوخاة، وتشيع الفوضى والتحلل والتفكك في أواصر العلاقات العائلية، وتسري جراثيمها إلى أبنائهم بأشد منها بين الآباء والأمهات. لا يدخل في مضمون العدل عندهم الحب الذي هو أهم ما تنشده المرأة في زوجها. بينما تجد الرجل المزواج من هؤلاء، لا يفهم من الزواج إلا شهوة يفرغها، أو مصلحة يحققها. وتسود عند هؤلاء أيضاً اعتقادات أسوء ما تكون عن المرأة، تجدها في قصص ينقلها الخلف عن السلف، فهي الماكرة الخبيثة، وهي لا تعرف الحب والإخلاص، وهي الحقود، وأخيراً إن خير ما فيها –الفراش- تؤثره على كل أمنية، وترجحه على كل حاجة، لا يهمها أن تتعب في الخدمة أو تعرى أو تجوع، مادامت تجد في أحضان زوجها الدفء وإشباع الغريزة! [لا تخلو مجالس القرويين من الحديث عن المرأة بأنها في رأيهم بطبيعتها للشهوة، وهم يوردون كثيراً من القصص لتعزيز رأيهم. بينما يكذب واقع المرأة رأيهم، فالمرأة عماد حياتهم، هي فلاحة في المزرعة، ومديرة البيت، ومربية الأبناء، والمشجع في المعارك]  
قد يكون كل ما اعتقدوه واقعاً فعلاً، ولكنه ليس طبيعة أبداً. فمن يطلع على سلوك المترفين من جانب والكادحين المستغلين من جانب آخر، على حياتهم الزوجية لا يجد في الأمر غرابة مطلقاً.
المُترَف يعدد الزوجات، وهو يتقلب بينهن كالديك بين الدجاجات، من أحبها غمرها بما لذ وطاب هي وأبناءها، ومن نفر منها تركها للخدمة، أو طلقها، وحظ أطفالها لا يختلف عن حظها في شيء أبداً.
والكادح ينفس عن همومه، بإهانة زوجته، ويصب جام غضبه لأدنى سبب، فكأنه يحلم بالجبروت الذي يعامله به مستغِله. فيتغطرس على حياة زوجه المسكينة، ليبدو على الأقل بطلاً أمامها، ويرد اعتباره المهدور، وكرامته المداسة عند المستغلين.
فهي تجاه هذه المعاملة لا تجد سلاحاً أقوى من المكر أحياناً، وحبائل الحب أحياناً. وتغرس هذه المعاملة الشائنة في صدرها الحقد، ويدفعها إلى الكيد والدس أحياناً.
ومن أغرب ما قرأت هذه الأيام في إحدى المجلات. هذا الرأي في المرأة لأحد أساتذة أيلينوبر الأمريكية وأسمه "كنفري" فهو يقول ما يضحك: "إن الخطر العظيم الذي يهدد الحضارة العصرية، لا ينجم عن قيام الآلات مقام الرجال في الصناعة، بل عن قيام النساء مقامهم. فهن ينازعنهم الأعمال ويحرمنهم الرزق، ومن ثم يفتحن باب البطالة في وجوههم على مصراعيه، ويشللن حركتهم. ولهن اليد الطولى في الأزمة الاقتصادية، الآخذة بخناق العالم أجمع"!؟.
أي تفكير أهوج هذا؟ إنه مغالطة تستهدف التستر على نتائج استغلال الرأسمالية. فالآلات والنساء العاملات لا تهدد الحضارة بخطر، ولا تزاحم الرجال. إنما تزيد الحضارة، وتخفف من عبئ الطبقة العاملة. ولكن مطامع أصحاب العمل من الرأسماليين هي التي تلعب بمقدرات العمال، وتستغل جهودهم. وقد تعدت مطامعهم أبناء بلادهم فولد الاستعمار واستعبدوا الشعوب المتأخرة. فهم والحالة هذه لا فرق لديهم فيمن يستغلونه سواء كان من مواطنيهم أم من الشعوب المستعمرة، غير أن وعي العمال هناك في البلدان الصناعية أوجد عندهم مقاومة انتزعوا بواسطتها بعض الحقوق، وشرعت لهم بعض القوانين، التي لا تجد التطبيق إلا بعد الأخذ والرد، وربما ألإضراب عن العمل.
وعلمت أن السيد الياسري حين أحس بالمنية نسى العدل أيضاً بين أبنائه. فكانت وصيته بعيدة، وبعيدة جداً عن الأصول الشرعية. لقد حرم الإناث من الإرث بتاتاً، وبعض الأولاد أيضاً، وخص بعضاً بحظ دون المحظوظين عنده في حياته!
ولهذا السبب فإن المحظوظين خافوا نقمة المحرومين فطلبوا من مدير الناحية "أحمد السالم" أن يوقف بعض إخوانهم، حفظاً للأمن ريثما يتم التشييع ومراسيم الدفن. فأوقفوا، ولكنهم توسلوا إلى مدير الناحية أن يطلق سراحهم، فيودعوا أباهم. فليس من العدل أن يحرموا من إلقاء النظرة الأخيرة على أبيهم. فأجاب المدير طلبهم، وما أن دخلوا الجامع حتى أصطدم الأخوة، ودوى رصاص البنادق، فقتل منهم ومن المشيعين عدد وجرح آخرون. وأصاب جثمان السيد سبع رصاصات؟!
وتفرق الناس آسفين يتحدثون عن حياته وإنها كانت حافلة بالبر والتقوى والجهاد في سبيل الله، سبحان الله كيف انتهت بهذه النهاية المؤسفة. وكيف ستجر وراءها ما تجر من أحداث لا يعلمها إلا الله، ولكنها على أي حال سوف لا تكون خيراً، إلا أن يدرك أبناؤه الأعزاء واجبهم نحو بقية إخوانهم فيعدلون وينصفون.  [وأخيراً حَلتْ الحكومة القائمة مشكلة الخلاف بين الأخوة. فألغت وصية السيد المرحوم. وأجرت جرداً لممتلكاته وعدد الورثة من بنين وبنات، وطبقت توزيع الإرث وفقاً للشرع الإسلامي. وفي ذمة الورثة وأبيهم من فقد حياته برصاص أبنائه من أجل الإرث]

الطائفية بين الوطنية والقومية

عادت حليمة إلى عادتها القديمة. فما أن تسلم صبري  إدارة المدرسة بالوكالة، حتى عاودته طبيعته السقيمة، بوحي من عقليته الفجة. فإذا به يثير الخوف من جديد في نفوس أصحابه مني. ويدخل في أذهانهم –باسم الطائفية- وجوب الابتعاد عني، بل ومحاربتي [صبري معلم من بغداد من أصل تركي عين بنفس العام الذي عينت فيه وفي نفس المدرسة].
لم أكن على علم أول الأمر بشيء من هذا. لكني لاحظت مفاجأة تغيّر موقفهم مني. فقد صاروا يختلطون بي داخل المدرسة، ويعتزلونني بعد الدوام اعتزالا كلياً. وبعد أيام من هذه الحال جاءني الفراش "فليح" فأسر لي: إن الجماعة قد أقنعوا السيد عبود وأثنين آخرين مفلسين مثله، ووقعوهم على ورقة بشكل إفادات، مضمونها –إنك- تحرضهم على سب الخلفاء الثلاثة؟!
لاشيء عندي أسخف من هذا العمل، فلست في عهود القرون المظلمة، ولست ممن له مصلحة في هذا. لو كنت أدين بهذا لبقيت من المعممين. لم أتخل عن العمامة إلا لأني قد رفضت تلك الأفكار الفاسدة.
لا عمر اليوم في الوجود ولا علي، لقد دخلا التأريخ. فهما جزء منه مقدس محترم. أما اليوم، فالأفكار القومية والوطنية، والكفاح ضد الاستعمار في سبيل الاستقلال والسيادة والتحرر، هي شغل الناس الشاغل، ولذا عمل الاستعماريون وأعوانهم على نشر الطائفية بأبشع صورة.
وقد ناقشتهم المسألة مرات ومرات في خطل هذه الأفكار. سألت أحدهم مرة أمام الآخرين: إنك تشرب الخمر، وتقامر، وتلوط، أليس كذلك؟ أجاب معترفاً!. قلت، فقل لي: أيقرك على هذا عمر أم علي؟! لقد عاش عمر وعلي يقيمان الحدود على من يزني أو يلوط ويشرب الخمر، فمن أنتم وهم؟
بقيت عصر ذلك اليوم في حيرة، ماذا أصنع؟ وكيف أصدهم عن عملهم هذا؟ جلست على ضفة النهر وحدي أشرق الفكر وأغربه، أسأل نفسي لم يتهم المرء بما هو مناقض له؟ أنا أكره هذه العقائد البالية، وأحاربها.، فلماذا أتهم بها؟
وفي أثناء انغماري بلجج الفكر، دفعت أمواج النهر إلي علبة سجائر فارغة. وما أشد دهشتي إذ قرأت فيها سؤالاً وجواباً بين صبري وفاضل [فاضل عبد الرزاق الإمام زميل صبري وعين معه]، بشأن الكتاب وإفادة السيد عبود وصاحبيه، وهل اُبرِدَ؟ إن صبري يؤكد إنه سيرسل الكتاب غداً.
هذه مصادفة عجيبة، حلفت بسببها أن لا أهمل مطالعة أية ورقة تعرض لعيني. وتوجهت جهة الغري كما يفعل العوام، خاطبت الأمام علي عن مأزق ما كنت اُبتلى بها لو لم أكن محسوباً من شيعته [الواقع إني شيعي ولكن لست طائفياً ولا أدين بالأساطير والمبالغات].
وغابت الشمس، وزحف الظلام فخيم، واشتدت أجنحته في أرجاء الفضاء، فبدت الأشجار والنخيل كأنها أشباح غيلان. وهنا لاح في النهر زورق يتهادى، وأقترب إلى الضفة، ونهض رجل متوسط القامة، ألقى السلام علي فتصافحنا، وقلت:
- معلم طايف؟ [تعبير من المعلمين إذا كان من يردهم معلما أو شخص آخر غير محتسب]
- مديراً للمدرسة
وضحك:- أقدم لك نفسي محمد علي الفلوجي
كان يعرفني وأعرفه، فكلانا ينشر في جريدة "الهاتف". وجرى الحديث عن المدرسة، فشرحت له كل شيء، فإذا به يؤمن بالمثل "إدفع الشر بالشر".
وحضر بقية المعلين فرحبوا به على اعتباره –معلم- فسايرهم ولم يذكر الواقع. فراحوا يطنبون بحزم صبري في إدارة المدرسة، ويلوحون له: إنه سيجد الراحة والاطمئنان. وسأله صبري:
- شتحب تدَرس؟
- أتفضل.
أجاب الزميل، وناول صبري الأمر الإداري، وتناوله صبري بابتسامة عريضة، فبدا وجهه أشبه بالمتشنج، وفض الكتاب فانقبضت أساريره، وتغيرت نبرة صوته، وأعاد الكتاب إلى صاحبه.
- يابه أهلاً وسهلاً. والله تر آني أرحب، والحقيقة، الإدارة مو مريحه الله جابك!
ومرت دقائق تبادل الصديقان "صبري وفاضل" النظرات، ونهض صبري وناداني.
- أبو حسين، من فضلك شويه نتمشى.
- طيب أتفضل
أخذ صبري يتحدث إلي عن ضرورة قلب صفحة جديدة، فهذا المدير الجديد غريب؟! لازم نتحد حتى لا يتمكن منا؟!
وأدركني انفعال. فقلت: صافيتكم طول هذه المدة، وبقيت تعتبروني غريب، لويش اليوم أصير ضد هذا المسكين، وآني ما شايف منه إساءة.
قال:- أعذرني وهاك الكتاب، وإفادات ال..... راح أمزقهه.
فاختطفت الكتاب، وقلت بصراحة، أسمع صبري. إذا لاح الكعب لأضرب ضربة لا ينبت عليهه شعر [مثل شعبي للتعبير عن درجة حقده]!
وعدنا حيث كنا وقد علت وجهيهما كآبة.

في المعترك
حين زرت النجف في الأسبوع الفائت، زارني الصحفي المعروف الأستاذ جعفر الخليلي. وتعود معرفتي وصلتي به إلى أيام الطفولة حين كنت تلميذاً في المدرسة الأميرية الابتدائية.
كان وثيق الصلة بطلبته من صفنا –الثالث- منهم أنا. لم يكن يعني بمادة الدرس قدر عنايته بربطها بالحياة. كان يتحدث إلينا بدرس الجغرافية عن بلادنا وعن خيراتها المستغلة استغلالا فضيعاً من قبل المستعمر. رسم لنا في درس الرسم إنسانا يلوح بقط ليرميه أرضاً، وكتب تحت الرسم "كيفما ترم بالقط فإنه يقع على رجليه". فتهامسنا نحن الصغار، بعضنا يقول لبعض: الإنكليز، الإنكليز!.
كان يتبنى مشاكلنا، ويتوسط أمرنا إن شكا أحدنا غبناً من معلم، أو حين يسوء ظن معلمه به. كان محبوباً من جميع طلبة المدرسة.
وقد تركت المدرسة بعد نجاحي من الصف الخامس، ونقل هو إلى ملاك التعليم الثانوي، ثم ترك التعليم وزاول العمل الصحفي، وأصدر أول صحيفة له "الفجر الصادق". أقبلت على مطالعتها، كنت محدد الخطى لذا لم أطالع غيرها. وأصدر الجريدة الثانية "الراعي" فتضاعف إقبالي عليها، وبدأت أنشر فيها بعض ما أكتب. وفي هذه الآونة أصدر جريدته الثالثة "الهاتف" فتوثقت علاقتي به أكثر وألفته أكثر. هو الذي دفعني إلى مجال الوظيفة، رغم معارضة كبير أسرتنا العلامة محمد رضا الشبيبي.
ولم أتحرج فأفضيت له بسري، وشرحت له قصة "حبي" فشجعني على ضرورة الأقدام على الزواج.
وعرجنا في الحديث عن الكلمة التي نشرت لي أخيراً بعنوان "في المعترك" [نشرت في جريدة الهاتف السنة الأولى العدد 23 صفحة 3 سنة 1935]  وإن حملة من الردود وردت إلى الجريدة. ذلك إني تحاملت على الإنسان. قلت: إنه مجبول على الشر. ما في ذلك فرق بين مختلف طبقاته، حتى أسمه "بشر" الباء فيه زائدة!.
ربما كنت مخطئا، لا أنا مخطئ حقاً. ما حملني على هذا الاعتقاد ما لاقيته من زملائي المعلمين، وحكيت للأستاذ ما كادوا يسببونه لي من مشكلة، ربما كانت تسبب فصلي من الوظيفة، لولا أن يصلنا المدير الجديد "محمد علي الفلوجي" وأثنيت على هذا ثناءً كبيراً، فتبسم الأستاذ وقال: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً!؟.
أنا لست بالدرجة العلمية التي تمكنني من التفلسف بالإنسان. وهل هو مطبوع على الشر أم الخير؟ وإن حياته وظروفه هي التي توجهه نحو الخير أو الشر. إن بعض الناس يرى إن الخير والشر أمران نسبيان، فما هو شر في حسابي هو خير عند آخر غيري. ولكن هل ستتحقق للبشرية حياة بلا صراع، بلا حرب تهلك الحرث والنسل؟ كيف؟ ومتى؟
بعض الناس يعتقدون إن الصراع بين البشرية، هو الذي طورها وأوصلها إلى هذه الدرجة التي هي عليها من الحضارة. بينما يرى الآخرون إن الحياة تزدهر في ظل السلام لا تحت نيران الحروب. وإذا كانت الحروب التي تشن من أجل أن يتقاسم المنتصرون من المستعمرين، فإن الميزان سيختلف حتماً بعد اليوم فقد وعت الشعوب وأدركت طريق الخلاص. فهي تتململ لتنفض عنها غبار السبات الطويل.
وأبدت الأيام ما كنت جاهلاً. فقد قَلبَ المدير ظهر المجن. ولم يكن تحرشه بي لأمر ذي بال. كان يحب حب الإمرة والتعظيم. لاحظ إني أحتفظ بإناء خاص بي لشرب الماء. فناقشني في الأمر، محتجاً بأن هذا ترفع عن مساورة الآخرين، وخدش لعواطفهم. وشدد في النقاش إلى حد قدم لي ورقة استجواب، وجدت الأمر سخيفاً، وتأكدت إنه لا يبغي أكثر من أثبات شخصيته بإخضاعي، وطلبت أن يكون الاستجواب على ثلاث نسخ وهكذا كان. وحالما وقعت أخذت واحدة. فراح يمانعني إن هذا ليس من شأني. ورددت عليه: إني احتفظ بها، حتى إذا لم ترسل أنت نسخة مما لديك، أرسلت أنا هذه إلى مديرية المعارف، لإطلاعها على مدى سخف هذه التصرفات!
واليوم جاء إلي يعاتبني ويعتذر، ودهشت حين صرح بالسبب. قال: إنك لا توليني ما يجب من احترام أمام الناس؟!
إنه واحد من البشر الذين عنيتهم بكلمتي في المعترك.

ساعة سأم

الوقت الآن نهاية الثلث الأول من الليل. تمددت على فراشي، وسكنت سكون النائم الغارق بنوم عميق. تكتنفني وحشة ظالمة. ودوي البق يسمع حول كِلّتي. ليت هذه الأيام القليلة الباقية، تنقضي سريعاً.
أشعر بسأم شديد. ما سِرّ هذا السأم؟ عصر هذا اليوم كنت أقوم بنزهة في زورق صغير، مع صديقي "سيد حميد" بين مجاري الماء وألواح الشلب التي غمرت بالماء، ويسمى عندهم "تطييب"ويغطي الماء عشب عال، يسمونه "السلهو" فلا يبن منا غير رؤوسنا، إنه لمنظر يشرح الصدور، ويبهج الخواطر، سماء صافية زرقاء، وأرض خضراء مدى البصر، وأصوات الريفيات تتجاوب من بعيد بالأغاني، شجية محزنة تدل على ألم بليغ، ومرحة مطربة تنم عن خلو البال وصفاء الخاطر.
رن في أذني صوت شجي، تماوج في الفضاء، من قلب قريح، قلت إن صاحبته ستشهق وتموت. كان على لحن أغنية "بالنونه حبني" [اللازمة بالنونه حبني وهي من أغاني مسعود العمارية]. أسرع صاحبي بالتجديف، لأسمع مما تقول شيئاً. يبدو إنها كانت أسرع منا، فقد كان "السلهو" يعيق حركة زورقنا.
"طيرك أنصاد وراح يا ناصب العش"
وماذا بعد؟ لم أسمع، لقد دخل زورقها في نهر "طبر سيد نور". قال صاحبي هذا، وفتر تجديفه.
أواه طالعت كثيراً، أنهيت كل ما تبقى من قصة "فاوست" [للشاعر الألماني "جوته"]. بقيت أحلم بكل أجواء هذه القصة، ولكن لم يدخل إلي شيطان فاوست؟ ومازال النوم بعيد عن عيني.
هل سأكون أكثر راحة واستقرار لو تحولت إلى المدينة؟ ربما كان هذا السأم بسبب ما أحمله من هم ..... لماذا أحببت إذا أخشى الزواج؟ وأكره الحياة! شد ما راودتني فكرة الزهد والتقشف، بل والتغرب، بعيداً، بعيدا عن الأهل والأصدقاء، وحتى عن ......؟!
الحياة عبئ ثقيل ، إنها لعبة ساخر، ولهذا يعمل الناس دائماً على تبديل مجالسهم، وأدوات عيشهم، وحتى ملابسهم، لينسوا العبئ الذي يحملونه، والنهاية المحزنة التي ينتهون إليها.
والأنبياء والمصلحون؟ لماذا يُشقونَ أنفسهم، ويلقون بها في كل تهلكة، ليصلوا بالبشرية إلى الحياة الهادئة والسلام. ولكن الناس يقفون منهم كما يقفون من المجرمين [يقول جبران خليل جبران لم يعمل الناس إلا بمقتضى قول القائل: خير الأمور الوسط، لذلك تراهم يقتلون الأنبياء والمجرمين معاً].
إننا نسعى دائماً لأن نذلل الحياة لرغباتنا بما نخترعه من وسائل العيش، ولكن الحياة بسبب هذا تزداد وطأتها ثقلاً، حتى الذين تتوفر لديهم كل المرفهات، تسبب المرفهات نفسها لهم تعاسات لا نعلمها إلا عندما تنتهي حياتهم.
ترى لو إني قدرت على الزواج، كم هي الصعاب التي ستعترضني؟ وهل سأجد السعادة حقاً؟ إن ظهر إني عقيم فسأشقى بسبب هذا العقم. وإن لم أنسل غير الإناث، فسأشقى أيضاً، وأعزو أسباب الشقاء إلى هذا البلاء. وإن كثر النسل ببنات وبنين، فإن شقائي سيكون بسبب كثرة العيال، وقلة المال طبعاً. فأنا أيضاً لا أتوقع في حياتي إلا الشقاء والعناء [اليوم 5/12/1987 بدأت أعيد النظر لإيضاح العبارات والكلمات التي تبدو مبهمة أو إن فيها خطأ لغويا أو نحويا أو شاكل هذا. وعند العبارة الأخيرة ضحكت لما ذكرت من توقعات فأنا الآن فعلا أعاني الشقاء، والمرض، وحيدا في معاناتي كأني لم ألد ولم اُرَبِّ، ولم أخلص في تربيتي وتوجيهي!؟].
آباؤنا يكيلون لنا اللوم والتنديد، إننا ازاؤهم مقصرون، لم نقم بالواجب نحوهم، بخدمتهم والأنفاق عليهم، جزاء تربيتهم، ورعايتهم لنا، على إنهم ما أعدونا إلا على نهجهم، وقد بلي ذلك النهج، ولم يعد صالحاً للحياة.
عاش أبي كأي رجل مثله سلك نهج الدين، يلتمس الزكاة وغيرها من الحقوق الشرعية –كما يسمونها- وأختار لي نفس السبيل، يقول: إنها تجمع بين رضا الله في خدمة دينه الحنيف، والعيش المقبول؟! إن عيشة رجل الدين رغم اتسامها بالقدسية لدى القرويين لكنها عسيرة ومرهقة.
الفلاحون فقراء معوزون، وهو يعتمد على ما تجود به أيديهم من زكاة ونذور، ليحصلوا على مستقر لهم في الجنان. أما شيوخ العشائر فإنهم إن قدموا ما عليهم من حقوق فللمراجع الدينية العليا أو من يخولونه من أمثال أبي.
لم يكن من السهل أن يحصل المعمم على عشيرة توليه ثقتها، وتسلم له ما عليها من حق، ثم عليه أن يضمن مساندة رئيس العشيرة له ليؤمن له جباية تلك الحقوق واستغلال أولئك الفلاحين.
تنازل أحد المعممين مرة عن جميع ما يستفيده منهم، بعد تفاهم تم بينه وبين رئيس العشيرة، شريطة أن يتسلح كل فرد معفو من أداء ما عليه، من حق شرعي. وعظهم وأكثر من الأحاديث النبوية، وما يلزم طاعة أولي الأمر فيما يأمرون وينهون. إنهم - أولي الأمر- في رأي هذا المعمم رؤساء العشائر ["يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" سورة النساء الآية 59. وفي عهد النبي (ص) والخلفاء كان المسؤول عن جباية الحقوق الشرعية ، الزكاة والخمس وغيرها، تودع في بيت يدعى بيت المال، والمسؤول الشرعي "الخليفة" لديه سجل المستحقين كل حسب شأنه وعائلته. أما عندنا اليوم فهو فوضى وغير مطابقة لما سار عليه أولوا الأمر. بينما اليوم ينتشر المعممون في مدن العراق كل حسب صلته برئيس أو فرد وجيه ويقدم هذا وغيره له ما عليهم من حقوق شرعية شرط أن يكون مؤيداً من المرجع الديني الذي يعود أولئك الذين يدفعونها مقلدين له بأمورهم الدينية. بينما كانت تدفع هذه الحقوق لبيت المال تحت سلطة الخليفة. وأسماء المستحقين مسجلة في سجل رسمي. وأعرف الكثير من أولئك مالهم من خدمة الدين غير العُمة ومعلومات عادية جداً. والنهضة التي ستشمل العالم الشرقي المتأخر، فلا يجد الذين عاشوا باسم الدين ما كانوا عليه من أبهة ومكانة. وفعلا نلاحظ  إن عدد الذين مازالوا تقليديين في دراستهم وطراز معيشتهم قد تناقص كثيرا وكثير من رجال الدين أو المحسوبين عليه فقدوا سلطتهم الأولى ومكانتهم، ووجهوا أبناءهم شطر الدراسة الحديثة وليعيش موظفا لدى الدولة].  
حين يتسلح القروي، يعد نفسه لخدمة نزاعات الرئيس، يحارب من أجله ضد حكومة لا يرتضيها، أو ضد عشيرة أخرى. وليس من أجل نفسه فهو لا يملك من حياته إلا قوة يفنيها بالكدح، فإذا شاخ أو مرض فله الله!!؟
طافت بي صنوف الفكر، وشتى الأخيلة. تزوجت، وأنسلت، وسعدت ونعمت، وربيت ونشأت أطفالي كما شئت فإذا بهم شباب ينشرح بهم صدري وتطيب نفسي وأنا أشرف على شيخوخة لابد منها.
ولاحت في الخيال سحابة أبدلت هذه الصور الحبيبة. فإذا بي عقيم، موحش الدار جاف الغصن!!
ويتبدل المنظر الثالث. فإذا بي أسكن بيتاً كله صخب وضجيج من أطفال يدرجون وآخرون يلعبون، ويدرسون. وأمد يدي إلى جيبي ألمسه فإذا به لا يستطيع إسعاد ذلك العدد  العديد، لا حول له ولا قابلية، على إيجاد ما يحب ويرفه.
أوه. إن الخيال كبحر لا يحده النظر، يبدو المرء فيه كراكب زورق صغير. تتقاذفه الأمواج الرهيبة، قد تقذف به إلى جزيرة طيبة الهواء، كلها خير ونعم، أو تهوي به إلى قرار البحر السحيق. وعند ذلك لا تبدو الحياة إلا كقطرة ندى تهبط من نسمات الفجر، وتجف عندما تتسلط عليها أشعة الشمس.
طويت كل هذه المناظر بزفرة حادة، كأني لقيت عناء من سفر طويل، شرق الفكر بي وغرب. تذكرت العمامة التي ألقيتها عن رأسي بلا رجعة، وبدون –ثقة بهذه الوظيفة- ولكن أي طريق سألجه؟! تعبت وأدركني كلل عصبي، وتأوهت وقلت: حشر مع الناس عيد.
ما أشد خشونة هذا المرقد، وما أشد وحشة هذا الليل، وكأن قمره هذا الذي أشرق متأخراً من خلال سعف النخيل، الغريبُ يقف أمام المحزون بوجوم. فأطبقت أجفاني وأسلمت نفسي إلى نوم عميق

يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏‏26‏ آب‏ 2010
Alshibiby45@hotmail.com



157




معلم في القرية /7
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)


((أدناه بعض أفكار المربي الراحل التي دونها في ذكرياته قبل أكثر من سبعة عقود:
ألطائفية مطية الاستعمار. ركبها رجال الحكم والسطوة من سلاطين الأتراك والفرس. وسخروا لها رجال الدين، فألفوا الكتب، ونحتوا الأحاديث بشكل يلائم مصالح الجانب الذي ساندوه. ويغفر الله لهم!.
لزعماء السياسة نفع كبير في وجود الطائفية، ويستفيد من التزامها السني والشيعي. وأقصد وأعني الوجوه، أما جماهير الشعب فالعارفون بالحقيقة قلة. وذوو المنافع يعرفون كيف يثيرون الجماهير ومتى!؟))

جنون الحب
لم أكن ناسياً، لكني تناسيت. فقد غلبتني أنانية الضعفاء، فلم أذكر ما حدث لي عقب تلك السهرة الرائعة. إن ما حدث -في رأي الخلي- أمر مضحك، لا يصدر إلا عن المجانين، إنه مجلبة الهزء والسخرية، لا الرحمة والرثاء.
أنا الآن عقب ما حدث، أتذكر تماماً وضعي الذي أفقت عليه، وانتبهت إليه. فيقشعر بدني، وتشمئز نفسي من نفسي. للحال التي رأيتني عليها. رغم أن أصحابي أولوني عنايتهم، ومداراتهم الفائقة. وقد لاحظت أن بعضهم كان يجفف دموعه، وهي تنحدر بصمت فوق خديه. أما الآخرون فقد انصرفوا لأمور شتى من أجلي. فواحد يعد الشاي، وآخر يدلك جسمي. وثالث يلقي عليّ أسئلة. وهل إني مسبوق بهذه الحال قبل اليوم؟ وأي علاج كنت أستعمله؟
ولم أجب ساعتئذ. لزمت الصمت. لأني سخرت من نفسي! وأسفت. كيف سمحت لنفسي أن تنجرف مع تيار الخيال والوهم؟! أحقاً يحدث للمحبين ما حدث لي؟ وهل حقيقة كان هيامي؟ أم كان تمثيلية أجدت القيام بها بدافع السوداء؟! أنا الآن ممتعض من نفسي. ومنكر عليها ما حدث. وغضضت النظر عن ذكر ذلك. مجلّا نفسي عن سقوطها إلى مثل هذا الدرك من الضعف. ووقعت بعد ذلك في صراع نفسي عنيف. كيف أتبرأ من خور أصاب عقلي؟ وأتنصل من خطل أقع فيه؟
لا شيء ينقذني من هذا الصراع غير الاعتراف بأن ما حدث كان دليل ضعف في الفكر، وقصر نظر في تمحيص الأمور، وعدم إدراك وثقة بالنفس.
لو ذكر ما حدث لي عن أحد العشاق من بني عذرة، لذكرنا حبه بكثير من الرحمة والرثاء، ولأكبرنا حبه! ولذهبنا في تفسير حاله وهيامه كلّ مذهب. وقلنا –مثلاً- أن روح ذلك العاشق تتجرد من هذا الجسد، حيث تنحسر عن نظرها الحواجز، فترى كل شيء. ترى البعيد كما ترى القريب. ولذكرنا شواهد وأمثالاً لذلك. ألم يذكر بعضهم: أن زليخا فصدت ذات يوم فسال دمها مكتوبا فيه (يوسف، يوسف ......).
وإن الأمام علي بن أبي طالب كانوا يخيطون جراحه في الحرب إذا وقف للصلاة. مفسرين ذلك :- إنه يذهل عن نفسه آنذاك، فتتجرد روحه عن جسده، فلا يعود يدري بشيء من حاله، إذ هو مشغول بمناجاة ربه فعل الحبيب الولهان!
ولكن اليوم تغير كل شيء. وبدا المحبون أكثر واقعية في مفهوم الحب. لم نعد نرى المجنون قيس العامري بين المحبين، بينما كثر أمثال ليلى. وسبب هذا التغير على ما اعتقده ما حصلت عليه المرأة في عصرنا هذا من تحرر من كثير من قيودها. وانهزام فلسفة "الحِذر و المحذَّرات" وانهيار القيم والتقاليد البدوية والإقطاعية. ولكن زوال تلك التقاليد –وهي لم تزل جميعاً وتماماً- وانعدام ذلك الحب المصحوب بالجنون والهيام من جهة، وتحرر المرأة من قيودها الثقيلة من جهة ثانية لآبد أن يخلفه حال أتعس ووضع أردأ.
الأرستقراطية ستقيم حواجز من نوع جديد، لتبقى امتيازاتها الطبقية في سلام. من غلاء المهور، إلى التفنن في جهاز العرس، ومظاهر الترف. في الأثاث، والأزياء، وطريقة الأفراح.
وعلى هذا سيشيع التفسخ. وينتشر البغاء، ويتحلل الشباب من فضائل الخلق السامي. وتفقد العفة معناها الأصيل. وحين ينعدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، سيتبدل عند ذلك مفهوم الحب أيضاً.

سفرة مدرسية

قمنا بعد استحصال الإذن من المراجع بسفرة. صحبنا فيها بعض طلاب الصف الخامس إلى مركز اللواء الديوانية -القادسية اليوم- هناك خصصت لاستراحتنا بناية إحدى المدارس الابتدائية. قام المعلم فاضل بصحبة التلاميذ للتجوال في أسواق المدينة وميادينها وحدائقها، وكانت بناياتها من اللبن وكثير منها أكواخ قصب. يتوسط شطريها نهر جميل، تقوم على شارعيه مقاهي واسعة، تعج بالرواد، بعضهم "بياعة شراية المواشي" وبعضهم وهم الأغلب القرويون الذين يفدون من النواحي القريبة للتزود بما يحتاجون. بينما يجد البطالون راحتهم فيها وقتل الوقت بلعب الدومينو.
زرت والمعلم هادي مدير المعارف، وحدثته ببعض ما نعاني بسبب عدم تجانس ألواننا المذهبية. فردّ عليّ رداً استحسنته كثيراً. قال: "يجب أن نكثر من التعيين على هذه الشاكلة التي تسميها –عدم تجانس- لنقضي على روح الطائفية بتفهم البعض للبعض الآخر".
وعاد في وقت متأخر من منتصف الليل المعلمان فاضل وصبري. كان فاضل متجهما بعبوس وكآبة .... لماذا؟ سألنا صبري الحكاية. إنهم قصدوا دار بعض المومسات. فرفضته إحداهن وجهه الأحمر، وشعره الأبيض، كله، أهدابه، حواجبه، شواربه، أوحت لها إنه يهودي! ما أساس هذا؟
وحين رد عليها إنه مسلم سني حنفي، أبدت تأففاً أكثر، وأعرضت قائلة: "بعد أنجسين"! وانفجر فاضل منفعلاً، وقال: "حتى گحابكم متعصبات؟!" وضج الجميع بضحك وتعليق.

الإقطاع في خدمة الحكام
أتحدث عن القرويين –الفلاحين-، هذا العدد الهائل. ولكن حياتهم بمجموعها تبعث على الأسف. الأرض حية قابلة للإنتاج كل حين. لكنها ميتة أو شبه ميتة. إنها معطلة عن الإنتاج. لأن المسيطر عليها لا يجد اليد التي تزرع وتعمل لحسابه دون أن تشاركه نعمة الحصاد، ولحد محدود وضيق جداً، ثم لا يتخلص الفلاح المسكين من فروض مالك الأرض القاسية، الشوباصي، القهواتي، الحارس، المومن "رجل الدين" وغيرها.
الأرض تبقى بحيازته بحكم الوراثة ووضع اليد. ولا يستغل منها إلا القليل الذي يناسب وكمية البذر الذي يملكه والأيدي التي يستغلها باسم الوشائج التي تربطه بها القبيلة –العشيرة-
ولكم شاهدت فلاحين ساخطين على رؤساء عشائرهم سخط لا يدع مجالاً للشك، إنه لا يتردد لحظة عن التطوع في أية انتفاضة تحدث ضد الإقطاع. ولكن ما يكاد يقع شيء من هذا حتى ترى ذلك الفلاح الموهن يحمل السلاح بضراوة، ويردد الهوسات "الأهازيج" الحماسية أمام رئيس عشيرته الذي كان بالأمس يستغله أبشع استغلال، جهده، عرضه وحياته.
وفي هذه الأيام نسمع من القرويين وشوشة تتضح أحياناً فتظهر على شكل أقاويل، إنهم يتحدثون عن خلاف يتوقع أن يتطور إلى استعمال السلاح بين الحكومة القائمة، وبين رئيس عشيرة آل فتلة "عبد الواحد سكر"  أما آل إبراهيم فلا أعرف عن رئيسها لمن يؤيد ويحالف. إنما أنا متأكد إنه لا يؤيد عبد الواحد.
هم يتحدثون عن دوافع انتفاضة  عبد الواحد [وقع هذا في شباط 1935]. إنها ليست أكثر من محاولة لجلب الزعيم السياسي ياسين الهاشمي إلى الحكم، وإسقاط الوزارة القائمة، وزارة علي جودت الأيوبي. حتى تلامذتنا لا يتحدثون عن غير هذا الصراع القائم بين رجال الدولة من أجل الحكم، تحت ستار انتفاضات رجال الإقطاع بغية إسقاط خصومهم، وتمهيد السبيل لمجيئهم إلى كراسي الحكم. هم يقولون: لو أن عبد الواحد نجح في إسقاط الوزارة الحاضرة، وتشكلت من "الهاشمي" ليسقطونه بانتفاضة أشد منها. وهم يطلقون على "عبد الواحد" أسم معاوية لما أتسم به من دهاء، وقابلية لا توجد عند أي زعيم آخر. ثم أنه يمتطي الدين لأغراضه ببراعة.
آه لقد وافتنا الآن أنباء تفيد إن الحكومة القائمة قد بعثت النذر للزعيم المتمرد، وأرسلت الجيش بمدافع وقوات مختلفة. بينما فتح المتمردون من نهر الفرات ثغرة على طريق أبي صخير – الفيصلية من جهة تدعى "الحسانية" ليمنعوا وصول الجيش إليهم، وأحيطت القرية بالمداخن كيلا تتبين الطائرات الأهداف.
وارتدى عبد الواحد كفناً ووضع السيف بحضنه متوجهاً نحو القبلة، فإذا نهض للصلاة، هزّ سيفه وهتف "هز ركن الدين وهزيته" [وتروى هذه الهوسة للحاج عطية الشعلان!؟]. فتثور حمية الجموع من أفراد العشيرة. وتعلو أصواتهم يرددون هذه الهوسة من حوله. وقد نقل إن إحدى النساء قصدته ووضعت يدها على كتفه وأنشدت: "يالدنيه دخيلج بس هذا".
ونحن الشباب، إننا على الإطلاق هتفنا له أيضاً، وأعلنا تأييدنا، لأننا نكره –الانكليز- أولاً، ولأننا نثق بالهاشمي ثانياً، إذا ما قيس بالأيوبي. خصوصاً ونحن نعلم إن –خوام- رئيس عشيرة الظوالم المعروف بولائه للانكليز يناصر الأيوبي  خصوصاً وأن بعض رجال الدين هم أيضاً يؤيدون انتفاضة عبد الواحد. [هذه العشيرة "الظوالم" أبدت من البطولة في ثورة العشرين ما أدهش الانكليز. ولكن طبيعة الإقطاع أقرب ما تكون للتحالف مع الاستعمار لأنه يؤمن له مصالحه الخاصة. وهكذا تحول رئيسها "خوام" إلى جانب الاستعمار. مع العلم إن الهاشمي ما كان في نيته ضرب الإقطاع، بل على العكس من ذلك. وساند عبد الواحد من رجال الدين الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء].
ويتحدث الناس عندنا إن عشائر "العوابد" تساند الحكومة القائمة. وهم يرددون على سبيل السخرية بعض الهوسات، لا أعلم إن كانت قديمة أم جديدة، منها: "يوحيد صح لومجبعينه" وتأتي من آل فتلة إنهم يقولون عن العوابد: "لا، لا عمج يا مرزوﮔـه" [وارتجل بشير مزهر الفرعون هذه "الهوسة" مناصرة لقريبه عبد الواحد سكر ساخرا من شخصية علي جودت الأيوبي:- انهضوا وياي يا شبان انهضوا وياي، أتركوا النوم أﮔطعوا الزاد أﮔطعوا الماي، علي جودت وزير عراﮔنا وي واي، اسنط يا الله شهل العيله!؟ وبشير هذا شاب أعور خليع، يسميه بعضهم امرئ القيس آل فتله. لا يعرف غير السهر والخمر والمرح. وله منتدى خاص. لكنه إذا حلت زيارة الأربعين في صفر هيأ جماعته بسفينة خاصة وذهب للزيارة. ويروي بعضهم إن هذه "الهوسة" للحاج شعلان العطية أيضا]. 
الجو متوتر، مكفهر ملبد بالغيوم، وفي طريقنا إلى أهلينا، بطريق النهر طبعاً، قد نتعرض لأذى هؤلاء لأنه لم ينتفضوا عن وعي، ولا مصلحة لهم غير ما تسوقهم إليه سيطرة رئيسهم.

في غمرة النضال
مع الشباب المتحمس لقضية البلاد، رحت أجاهد. نخطب في جماهير المتظاهرين في الصحن –العلوي-، نواجه رجال الدين نطالبهم بالعمل الجاد. نحرر النشرات، ننسخ منها نسخاً كثيرة، نحملها للمتطوعين منا لنشرها بين صفوف الجيش المرابط في قضاء أبي صخير [حين أشتد هياج الشباب وفي المقدمة الطلبة، وواصلنا التظاهرات والخطب في الصحن العلوي، بعث الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بهذه البرقية في 12/3/1935 إلى الوزارة الأيوبية "كيان العراق المقدس في الحال الحاضر مهدد بالأخطار الهائلة، يلزم توقيف الحركات"].
صرت أحد أعضاء الوفد الذي أنتخب لمواجهة وزير المعارف عبد الحسين الجلبي والشاعر علي الشرقي. وجدنا الوزير حانقاً ساخطاً لأن الطلبة استقبلوه بهوسة "أهزوجة" مست كرامته: "يوحيّد طب ثور الشيعة!"
الوزير والشاعر قدما إلى النجف لتهدئة الخواطر. وليتفاهما نيابة عن رئيس الوزارة مع رجال الدين. الناس عندنا وإن لم ينسوا الطائفية وحسابها، فإنهم لم يؤازروا عبد الواحد بدوافع طائفية. الدوافع هي القضية الوطنية. قضية شعب له أمانيه في رفاه العيش، وحرية الفكر، واستكمال الاستقلال والسيادة الوطنية في جميع مرافق الحياة. اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، ولم نكن خاطرنا بأرواحنا من أجل أن نكتفي بإسقاط وزارة، وتشكيل أخرى.
وسقطت وزارة الأيوبي. وتشكلت من ياسين الهاشمي وسافر عبد الواحد سكر، وزميلاه محسن أبو طبيخ و علوان الياسري إلى بغداد. وسكن الجزائري، وكاشف الغطاء؟! وأغلقوا دوننا أبوابهم!؟.
وأعتقل شاب من الذين شاركوا في المظاهرات، وخطب فيها وفصل من الوظيفة [هو ضياء حسن ...... وهو معمم دخل الوظيفة بعد تخرجه من الإعدادية، وهو شاب ذكي فيه شذوذا في تصرفاته. وقد فصل من الوظيفة أكثر من مرة، ودخل كلية الطب وفصل من الصف الرابع بسبب سوء تصرفه أيضا]. ونقل مدير مدرسة الفيصلية عبد المهدي البرمكي برقياً إلى لواء الكوت [وعبد المهدي البرمكي شاب عصامي، كان وطنياً متحمساً. أفكاره تقدمية مزيجة بطائفية، جريء اللسان. ومما يؤسف له كان مدمناً على القمار والخمر وقد مات بسبب ذلك عام 1939 حين كان مديرا لمدرسة الكوفة الابتدائية. حين سقطت وزارة الهاشمي بعد عدة أيام كنت وإياه في فندق الناحية فإذا بالحاج عبد الواحد سكر متجه إلى القبلة، فالتفت البرمكي أليّ وقال: "هز ط...... الدين وهزيته" حرف كلمة ركن الدين بلفظ مستقبح تهكماً وسخرية بالحاج  عبد الواحد. وعزا الناس إن نقله برقياً إلى لواء الكوت، بسبب تأييده لانتفاضة عبد الواحد النابع من موقف وطني؟!].
وفي مدرستي، نقل مديرها عبد الحميد برقياً أيضاً. وبعد يوم من انتقاله، حدثني عريف المخفر "سيد شمال" أنه هو الذي كان وراء ذلك، بتقرير رفعه إلى الجهات المختصة . أتهم فيه عبد الحميد بالتدخل في القضايا السياسية إلى جانب رؤساء العشائر، أما الواقع فانه فعل ذلك انتقاما للمدير السابق، لأنه على حد قوله ابن بلدي [سيد شمال شرطي من الناصرية، ذكياً ولبقاً. لكنه كان جشعاً. يفرض الإتاوات على السفن القادمة من البصرة حسب ما يكتشف من نوع الحمولة، يهابه القرويون وأحيان يحلفون به؟!].   
وحل محله في الإدارة وكالة المعلم "صبري" وأنا أشد أسفاً لانتقال عبد الحميد. فوكالة صبري معناها سنستقبل أياماً كلها قلق وشغب لجهل صبري ورفاقه، وتأصل الطائفية في نفوسهم.
الطائفية مطية الاستعمار. ركبها رجال الحكم والسطوة من سلاطين الأتراك والفرس. وسخروا لها رجال الدين، فألفوا الكتب، ونحتوا الأحاديث بشكل يلائم مصالح الجانب الذي ساندوه. ويغفر الله لهم!.
الأيام القادمة ستكشف الحقائق وتفضح النوايا التي كانت مبيتة. 

تنافس المتمردين
منذ أن تشكلت وزارة الهاشمي بدأ القرويون عندنا يحملون سلاحهم وقد شاعت أنباء إن الزعيم خوام آل عبد العباس زعيم قبيلة الظوالم هو الآخر قد ثار ضد وزارة الهاشمي الجديدة [تفجرت انتفاضة خوام في 24/4/1936].
وقبيلة الظوالم معروفة بحربها وشدة بأسها ومواقفها بالأمس ضد الاحتلال الإنكليزي. وما تزال العارضيات رمزاً لبطولة عشائر العراق. ولكن شتان بين الأمس واليوم. فقد تغيرت اتجاهات رؤساء القبائل، بفعل تغلغل سياسة الإنجليز في نفوسهم، وترسيخ أسس الإقطاعية. ومن جانب آخر فإنهم "الإنجليز" تبعاً لقاعدة "فرق تسد" استطاعوا أن يوزعوا تبعية أولاء الرؤساء على زعماء السياسة. فجماعة تساند الهاشمي، وأخرى الأيوبي، ودور معتمدهم الأهم "نوري السعيد" أن يجمع رؤوس الخيوط بيده ليحرك أي خيط يريد أسياده المستعمرون البريطانيون تحريكه.
وما يزال وعي الفلاحين ضئيلاً. رغم ما يشعرون به من مهانة واستغلال خاصة في هذه الجهات بسبب إن الفلاح من العشيرة ذاتها وليس غريباً ويشارك في الأرض مالكاً، لكنها ملكية تافهة، لا تكفيه ربع عامه، لما يلحقها من ضرائب هي من تشريعات شيوخ العشائر  [يفرض زعماء العشائر على الفلاحين إتاوات مختلفة تستهلك كل حاصلهم من ذلك، كحصة القهواتي، والحارس، والشوباصي، والحلاق، والمومن، والعلوية وأحياناً المضيف!].
وفوجئنا بمفرزة من الشرطة جديدة إلى مخفر القرية جيء بها من الشمال، أكراد لا يعرفون من العربية إلا اليسير، بل إن بعضهم لا يعرف منها شيئا مطلقاً. وعلى رأس هذه المفرزة رئيس عرفاء أسمه "حمادة"، وهو شاب عرف بشدة بأسه وجرأته. ويحمل حقداً وازدراء بالشيوخ. وليس له فكر غير إنه شرطي بخدمة الدولة، بضمنها تأتي أساليبه لمنفعته الشخصية التي تنبع من ضعف راتبه، وطموحاته لمستوى عيش أفضل.
أقام أفراد المفرزة أكياس من الرمل على سطح المخفر. ووقف حمادة لكل مسلح من أفراد القرية بالمرصاد، يوقفه ويصادر سلاحه. والمضحك في الأمر إن بعض القرويين رغم علاقاتنا بهم ومعرفتهم بنا لم يتحرجوا أن يعلنوا حين يمرون أمامنا عن نياتهم. فيقول أحدهم لزميله "عند عبد الحميد مسدس ممتاز" . ويرد الثاني إن أمنيته سترة عند عبد الله، وحذاء عند فاضل....!
وقد تنبأت سلفاً إن الوزارة الحاضرة لن تتوقف عن ضرب الثائر وتدميره. وبالفعل فقد وافت الأنباء إن الجيش قد توجه بطائراته، ومدافعه ودباباته إلى "المتمردين" فدمر القرى وسكانها، وقبض على زعيمهم "خوام".
وظل أبناء عشيرته وأعوانه يذكرونه بحسرة ولوعة في أغانيهم:
تحت اجلعة خـوام      نـحنه وبـﭼينـه
رِدْنَه الجهاد يصير      ما طـــح بدينه
بالــگلب يا خــوام       أصبحت لوجه
حمّل الريل وشـال      يگصد العوجه
ويأخذ الزهو ببعض الشباب –القومي- فيروح يمجد أسم الهاشمي "إنه بسمارك العرب" . المخطط لسياسة تحقيق "الوحدة العربية"! ليت هؤلاء يفهمون إن الوحدة أبعد الأحلام عن التحقيق في ظل نظم يسوسها الاستعمار، وتركز الإقطاع، وتنافس زعماء السياسة على الحكم عن طريق أرضاء المستعمرين بصياغة القيود والسلاسل في القوانين والأنظمة، ولانعدام الأحزاب التي تمثل الجماهير ومصالحها الحقيقية.
بسمارك العرب هذا أول سياسي عراقي سن قانون إرجاع الفلاح إلى القرية بحجة حماية الزراعة، دون أن يدرك – أو إنه يدرك ولا يريد-  الأسباب الموجبة لهجرة الفلاح.
وينسى هؤلاء الشباب أيضاً فعل –الطائفية- فهي عامل آخر يُبعد تحقيق حلمهم في الوحدة، وعلى ألسنة الناس تدور كلمة تنسب إلى وزير داخلية حكومة "بسمارك العرب" رشيد عالي الكيلاني، حين أخبر إن لواء الديوانية كله يشارك ويساند خوام، أجاب: ما لازم لواء الديوانية!؟ والناس يفسرون كلمته: محو لواء الديوانية بالدمار! ومعناه محو الشيعة [لزعماء السياسة نفع كبير في وجود الطائفية، ويستفيد من التزامها السني والشيعي. وأقصد وأعني الوجوه، أما جماهير الشعب فالعارفون بالحقيقة قلة. وذوو المنافع يعرفون كيف يثيرون الجماهير ومتى؟!].
والغرض من هذا إثارة الرأي العام الشيعي ضد الوزارة الحاضرة. هكذا لكل زعيم سياسي أنصاره الذين يثيرون له الرأي العام حين يضربون على وتر "الطائفية". لكن هؤلاء الأنصار أنفسهم في نفس الوقت الذي يخادعون فيه الرأي العام الشيعي، يتعلقون بزعيم سياسي ليس من الشيعة، أي إن المسألة في حقيقتها مصالح ذات صلة وثيقة بانحدارهم الطبقي. خذ مثلاً على هذا، لماذا لا يساند هؤلاء القادة البارزون من رجال الشيعة الزعيم السياسي الفذ "جعفر أبو التمن" لماذا يساند عبد الواحد سكر ومحسن أبو طبيخ ياسين الهاشمي وخوام وآخرون الأيوبي مثلاً؟! [حين سقطت وزارة الأيوبي، وشكل الوزارة ياسين الهاشمي، سافرا زعيما الانتفاضة ضد الأيوبي "عبد الواحد سكر ومحسن أبو طبيخ"، وكان الشباب ألنجفي يؤمل أن يزور هذان الزعيمان النجف ليتعرفا على مطالب الشباب. ولكنهما قصدا بغداد؟ وبعد فترة عاد أبو طبيخ إلى النجف كأن لم يكن قد حدث شيء. وفي طريقه إلى داره، التي تقع على يسار الشارع المعروف بالطمة والمقابل لمسجد الهندي، وكان في بداية الشارع التي تقع فيه داره قصاب يدعى "يعگوب جريو" ذو الشوارب الغليظة، وحين مرّ أبو طبيخ أخذ السيد يعگوب وهو يعمل سكينه في اللحوم، يردد أهزوجته، يعرض بـ "أبو طبيخ": (درب الجلب علگصاب ياليه!) صار يكررها كلما مر السيد أبو طبيخ. فلما عرف قصد يعگوب هجر داره فترة طويلة جداً]   
في الأفق بوادر حركة جديدة من النضال السياسي للتخلص من أمثال هؤلاء الزعماء، وانتهاج خطة صائبة نحو التحرر من الاستعمار والاستغلال [ذلك ما كانت تشير إليه نشرة "كفاح الشعب" و "جماعة الأهالي"].

المجلس العرفي
ما أكثر الغرائب والعجائب في بلادنا! اعتادت حكوماتنا في مثل هذه الأحوال أن تعلن ما تسميه "الأحكام العرفية" أي تعطيل قانون الأحكام المدني. والغرابة هنا إننا نستغل هذه الظروف لانتقام بعضنا من البعض الآخر.
مدير ناحية الفيصلية سابقاً وهو مدير ناحية الرميثة اليوم "لطفي علي" استغل هذه الظروف وقيام الأحكام العرفية، فأتهم مدير مدرسة سوق شعلان سابقاً السيد "حبيب ظاهر الخزاعي" بمساندة العشائر الثائرة. بينما الواقع إن الأسباب في خصومة مدير الناحية تمت بصلة عميقة إلى بناء مدرسة سوق شعلان، في حرص مديرها بصرف جميع المخصصات بأمانة للبناء.
حكم على الشاب من قبل المجلس العرفي سنتين. وحين تدخل مدير معارف لواء الديوانية، السيد تحسين إبراهيم لإنقاذه في شرح سر الخصومة. أحيل هو الآخر إلى المجلس العرفي، وحكم عليه بالسجن أيضاً، فأنتصر لهما وزير المعارف "محمد رضا الشبيبي" وهدد بالاستقالة إن لم يطلق سراحهما.
كذلك صدر أمر باعتقال التاجر ألنجفي المعروف "صالح النصراوي" وقد لجأ النصراوي إلى دار "الشبيبي" وتدخل الشبيبي في أمره. وحقيقة الأمر، إن لهذا التاجر ديون باهظة بذمة محسن أبو طبيخ. ومعلوم إن لمحسن أبو طبيخ أهمية كبيرة فهو شريك عبد الواحد سكر في إسقاط وزارة الأيوبي ومجيء الهاشمي والكيلاني للحكم.
حاول وزير الداخلية "الكيلاني" إقناع أبو طبيخ بالعدول عن مطلبه فلم يفلح فطلب منه أن يحضر شخصياً أمام المجلس العرفي للشهادة، ورفض أبو طبيخ، ونجا التاجر.
وفي الكوفة، أعتقل شاب لا ناقة له بالسياسة ولا جمل، سوى إن أخت المخبر كانت خليلة لهذا الشاب. وكان المخبر برتبة مفوض في شرطة الشعبة الخاصة. غير أن الفتاة أبدت من الجرأة ما أدهش هيأة المجلس العرفي حيث سارعت وحضرت أمامه وأدلت بشهادتها موضحة الأسباب الحقيقية، فأطلق سراحه [كان المخبر المذكور قد ورث ثروة طائلة ذهبت في دروب السفالة فانتظم في سلك الشرطة السرية، أما خصمه فإنه فارسي الأصل وثري جداً استغل ضياع عائلة هذا السافل وأصبحت تحت يده!].
هذه مهازل مضحكة مبكية. وبالمناسبة أذكر هذه النكتة التي حصلت من تلميذ كان يقرأ "سورة الماعون" لكنه قرأ الآية "فويل للمصلين" فويل للمفوض المسكين؟! فأبتهج بقية التلاميذ للنكتة، فضحكوا وطال ضحكهم. فقاطعتهم أشرح لهم أهمية حفظ الآيات  القرآنية. وقلت  -من باب تشجيعهم- إذا حفظت آية وقرأتها على روح أحد أمواتك، عوضه الله عنها بما يشتهي من فاكهة الجنة! فمد أصبعه تلميذ أبله في سن الرابعة عشرة، ولكنه مازال في الصف الثاني، أذنت له في الكلام. فقال: سيدي، كذب والله أنت تريد تقشمرنه "تقنعنا بالخدعة" حتى نحفظ!
صدق والله ولكننا نجهل الأسلوب الصحيح لكل أعمالنا فنظفي عليها طلاء من الخيال. فمتى ندرك الصواب ونعمل كما يجب؟

يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد  2010-08-23   ‏
Alshibiby45@hotmail.com



158
معلم في القرية /6
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

مجلس النواب
قمنا بزيارة –مجلس النواب- تحت إشراف أستاذ علم الاجتماع. صحب كل منا قلماً ودفتراً صغيراً لتدوين الملاحظات، خلال مناقشات نواب الأمة في شؤون الأمة والحكومة، وخطبهم وآرائهم في أمر سفينة هذه الأمة.
أخذ كل منا مكانه، خلف السياج داخل قاعة الندوة، وسرت الوشوشة بيننا والتهامس. كل منا يستفسر من زميله عما يجهل من تنظيم القاعة وكيفية انتظام جلسات النواب فيها والوزراء، ذلك لأن أستاذنا لم يذكر شيئا عن ذلك.
لاحظت إن جماعة قليلة اتخذت لها جانباً من المجلس قريباً من منصة الرئيس. كانت تلك الجماعة هي الوحيدة التي اتخذت على عاتقها مناقشة الوزراء. هؤلاء هم نواب المعارضة. وهم على قلتهم، وحدة ألسنتهم في توجيه النقد اللاذع، لا ينتسبون إلى حزب، وربما لا يدينون بالتحزب والكفاح السياسي المنظم. وأنا على يقين إنهم يعلمون أن كل معارضة لا تسندها الجماهير خارج هذه القبة لا يتجاوز صدى أصواتها هذه القبة أيضاً!
كان عدد نواب المعارضة الذين كانوا يناقشون، أربعة فقط؟ أما باقي النواب، فكانوا بين لاه بمسبحته، وآخر مصغ مبتسم كالمتفرج. وآخر لا يكف عن التثاؤب كأنه قد سهر ليله. وكان قريب من مكاني نائبان. أحدهما معمم من لواء الناصرية [الشيخ محمد حسن حيدر] والثاني علوي من النجف [السيد حسين النقيب]، ولأول عهده بالنيابة، سأل المعمم الأول صاحبه:
- من أين اشتريت قماش جبتك هذه؟
- من الجلبي جعفر الشبيبي
- أوه. برغم كونه صديق إلا إنه يذبح من –العلبة- [مثل يضرب للشديد في تعامله مع الآخرين بلا رحمة] 
- أي والله. كافر بأسعاره ما يرحم لا غريب ولا قريب!
وكانت أزياء أولئك النواب في اختلاف ألوانها، وخاصة –أغطية الرؤوس- تبدو كأنها حديقة غير منسقة. أو أنها كمتحف يجمع الأزياء قديمها وحديثها. [أتذكر بيت شعر من قصيدة للشيخ هادي الخضري ورد فيها وصف لأزياء النواب:
تنوع الروض في ألوان منظره      وقد حكى مجلس النواب تلوينا]
طالت جلستنا وأنا منشغل بالإصغاء لأولئك النواب، وهم يتراشقون بالكلام، حتى ليظن السامع إن نقاشهم سينتهي إلى الهجوم والتصادم. بينما لم يبدو على وجوه الآخرين اكتراث واهتمام. لعلهم متأكدون أن ذلك تمثيل وخطة مرسومة مألوفة تنتهي دائما إلى نتيجة معينة مألوفة أيضاً.
سجلت النقاط التالية –رؤوس أقلام- أكتب عنها ما أقدمه لأستاذنا المحترم.
1-   ما سبب قلة عدد نواب المعارضة؟ 2- أهي معارضة حقيقية؟ إلى أية فكرة سياسية تستند في معارضتها؟ ومن تمثل هذه المعارضة؟ التجار؟ العمال؟ الفلاحين؟ 3- إن جميع هؤلاء النواب جرى انتخابهم على نحو لا تقره أساليب النظم الديمقراطية، لأنه: 1- على درجتين. 2- تحت أشراف وتدخل السلطة الحاكمة. 3- لا يستندون إلى أحزاب سياسية لها برامج معلومة تساعد على وضع الثقة فيهم، وتمكن من محاسبتهم عند تقصيرهم وفشلهم. 4- أكثر هؤلاء النواب يمثلون الإقطاع من شيوخ عشائر الجنوب والأكراد، وكبار الملاكين، وكثير منهم من لا يملك البسيط من الثقافة. ولعلهم على علم تام عندما أعطوا العهد على أن يكونوا عند التصويت إلى جانب السلطة المهيمنة حقيقة وفعلاً.
ويمكن القول: إن عدداً من أولئك النواب جيء بهم ليعيشوا من راتب النيابة! كنت منهمكا في تدوين هذه النقاط فلم أدرك كيف انتهت الجولة بين المتجادلين، لكني شعرت بالوشوشة سرت من أصحابي فرفعت رأسي وأصغيت، فألفيت رئيس المجلس يهتف ويضرب بقبضة يده على الطاولة أمامه:
- انتهى الوقت المخصص لهذا الموضوع أرجو من الموافقين أن يرفعوا أيديهم!
رفع الأكثرون أيديهم، بينما غادر المعارضون القاعة، ومع عدد غير قليل أيضاً ما كانوا من المناقشين.
معمل النسيج
ضحك أستاذنا –أستاذ علم الاجتماع- حين رأى أجماع الطلبة في تقاريرهم التي رفعوها إليه عن زيارتهم –مجلس النواب- فقد كان وصفهم عن هجاء مقذع، ونقد مرير، وأسف محزن.
وأجاب الأستاذ –باقتضاب- معلقاً على تلك التقارير، تحفظ للتأريخ!
في اليوم الثاني زرنا مصنع الأقمشة الوطني.
هذا العنوان يعتبره البعض ألفاظا جوفاء فارغة، لا تنطوي على المعنى الحقيقي الذي يجب أن ترمز إليه. إنه أول مصنع وطني أسس في بلادنا. فيه من العمال عدد ليس بالقليل. وفيه من الآلات، آلة نفش الصوف، وصبغه، وغزله، ونسجه، أجناساً مختلفة، للملبس والفراش. ولكن أحد العمال الشياطين أسرّ إلينا:
- إن ما ترونه من الصوف المصبوغ هنا والمغزول لا يشكل إلا نسبة ضئيلة مع ما يجلبه المصنع ويعتمد عليه من الأصواف والغزل من أستراليا، وبعبارة أصح، ليس لنا من هذا المعمل غير المكائن المنصوبة في بلدنا يديرها عمال منا. وبنفس الوقت أتخذ هذا الأمر حجة مبررة لتفاهة الأجور التي نستوفيها. وما ندري إذا كان هذا الأمر حقاً عذراً مبرراً لتفاهة أجورنا وضآلتها. فما هو المبرر لحرماننا من الشروط التي منحت لنا في قانون العمال على تفاهتها أيضاً، فنحن لا نتمتع بالعطل، والأجازات المرضية. والطرد كيفي لأوهى الأسباب، وحتى لو كان تأخرنا بسبب مرض أو موت أحد أفراد الأسرة المكلف بإعالتهم شرعاً وقانوناً. وسلطة مدير المصنع واسعة بلا حدود. وكأن الوطنية للمصنع ماركة مسجلة لا علاقة لها برفاه العامل العراقي، والفرد المستهلك.
إنكم تلمسون إن معظم أنواع النسيج خشنه، ذلك لأن نسبة ما يخلط معها من القطن يسيرة جداً. فهذا امتياز لا يسمح به! إنه مضايقة ومزاحمة لمصانع لا نكشير.
ويبرر بعضهم أمر استيراد المصنع غزلا وأصوافا مصبوغة من أستراليا، ذلك لأن أساليب الاستعمار في عرقلة نمو الصناعة الوطنية متنوعة منها: أن يجعل أسعار الأصباغ أعلى بكثير من أسعار الأصواف والغزل التي ترد جاهزة، ليضطروا المصنع على استيرادها.
وأنكمش وجه العامل فجأة وأبدل حديثه. وأخذ يشرح لنا عن الآلة التي يدير العمل بها. لاحظنا ما بدا على سحنة وجهه، والتفتنا إلى حيث التفت، إن مدير المصنع متوجه إلينا. دنا منا مرحباً، وطاف بنا أرجاء المصنع يشرح أهمية المصنع والصناعة في الاقتصاد الوطني. وإنهم عاملون على توسيعه، وهو بحاجة إلى الدعاية التي يجب أن يبثها كل مثقف واع فاهم لمصلحة وطنه. وقال أيضاً: إن الاستقلال الحقيقي يبدأ من هنا أي بالتحرر الاقتصادي من البضائع الأجنبية، وبرواج البضاعة الوطنية.
تصدى له أحد الطلبة وقال:
- هذا طيب جداً، وإننا مستعدون أن نكتفي بلباس الخام الأسمر إذا أنتجه مصنع وطني. ولكن ألا يجدر بكم أن تلائموا وتوفقوا بين مصلحة المصنع وقوة المستهلك الشرائية. إن المستهلك يجد نفسه مرغماً على شراء الأقمشة الأجنبية، إن هو وجدها أمتن جنساً، وارخص سعراً، وألطف منظراً.
- هذه دعاية استعمارية يا حضرة السيد. القماش الوطني يضاهي القماش الأجنبي جودة وسبكا وقوة وجمالا. ولكن تكاليفه باهظة على المصنع حقاً. فنحن نستورد الآلات والأصباغ وكثيراً من الحاجات وبعض الغزل أحياناً!؟
- ونلاحظ إن بعض النسيج يحمل في طيات لحمته أنواعا شتى من العيدان والحسك وأسلاك دقيقة. أهذه أيضا صفات لازمة للصناعة الوطنية؟
- كل جنس له سعره الخاص. هذا نوع. وتوجد أنواع ممتازة ليس فيها ما تشير إليه، وعلى قدر ماله يختار المرء. والأقمشة الأجنبية لا تخلو من هذا.
قال هذا وحول وجهه مسرعا إلى جهة من المصنع وكله غضب ثم سرعان ما صب جام غضبه على عامل كان يمزح مع صاحبه ويضحك. وغمز صاحبنا العامل لنا بعينيه، وقال:
- أنظروا، إنه دائما هكذا، غطرسة وحقد!
وحان موعد العودة إلى المدرسة فالتفت أحد الطلبة إلى الأستاذ وقال وهو يبتسم:
- وهل نضع عن زيارتنا هذه تقريراً يا دكتور؟
وانتهت الدورة
وعلى أية حال انتهت أيام الدورة. وأعلن إن الامتحان قريب، ثم جاءت أيامه مسرعة. فأديناه كما نلعب ألعاباً مسلية، هازئين غير مبالين، دون أن نحسب حساب الفشل لو أن المعارف رتبت على نتائجه أهمية. وطلب إلى كل منا قبل المغادرة، أن يزود إدارة الدورة بطابع للشهادة وعنوان إقامته.
وغادرنا بغداد إلى أهالينا، لنعيش بينهم أقل من شهر، ثم -عدنا وعادت حالنا الراكدة-وحسب الموعد بيني وبين زملائي المعلمين، التقيت بهم في محطة السيارات "الـﮕراج". عدة سيارات كان ركابها جميعاً من المعلمين متجهين إلى مدارسهم في القرى والأرياف. كان الجميع شباباً، أخذوا يغنون ليطردوا السأم بأغانيهم البتراء، وأصواتهم المتقطعة. أما أنا فقد غمرتني كآبة بليغة، واستولى عليّ انقباض شديد.
ها قد وصلنا آخر مرحلة تقطعها السيارة إلى حيث نريد. وبعد سويعات سنركب السفينة إلى القرية التي ودعناها آخر السنة الدراسية المنصرمة، وكلنا أمل أن لا نعود إليها. فلم نرَ فيها الصفاء والدعة. ولم نتعلم من الغربة أهمية التضامن والتعاون والعيش مع بعضنا بسلام. ولجهلنا بعظم الرسالة التي نحملها تلعب بنا الطائفية دوراً قذراً. إنها سلاح يهدم الوحدة، ويفرق الجماعة، ويسهل تحكم المستعمر.
وتغيرت النية، فلم نواصل السير، رجح الأكثرية أن نقضي الليلة في مركز الناحية. ونبيت في الفندق، وهو الوحيد في هذه الناحية، يطل على أربعة شوارع، أحدها شارع النهر.
يبدو هنا المقام جميلاً جداً لمن سيغادره إلى مثل قريتنا. واستيقظت قبل شروق الشمس. وارتقيت سطح الفندق أشهد شروق الشمس الجميل. الأشعة الوردية تمد خيوطها إلى شتى أنحاء الفضاء من خلال سعف النخيل، وخضرة الحقول، وتنعكس على صفحة النهر، وهو ينساب متئداً كمسافر ملّ المسير فبدا يترنح في مشيته.
ثم بعد سويعات تهيأنا للسفر. ورحب بنا ملاحون من القرية كانوا على النهر. وأندفع الزورق الأزرق بالماء، بينما أخذ النوخذة (ربان الزورق) حميد الحسن بإدارة دفته ومازالت ملامح وجهه الأرقش كئيبة كعهدي بها [حميد شاب من عشيرة آل إبراهيم، يعيش أجيرا لصاحب قارب صغير، وصاحب القارب علوي يعيش من أعمال مختلفة، محل أقمشة، قصاب، يقرض الفلاحين وغيرهم -على الأخضر-، وقاربه هذا يمتاز على بقية القوارب بأناقته ونظافته. وكون مدير دفته "حميد الحسن" الفتى الأنيق ذا الصوت الرخيم]. فرحت أهيّج أشجانه بأبيات للشريف الرضي غنيتها على نغم –الصبا-
ولقد مررتُ على ديارهــمُ         وطلــولهــا بيد البلى نهـبُ
فبكيت حتى ضج من لغب         نضوي ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني فمنذ خفيـت         عني الطلـول تلفت القـلب
فأندفع بعد قليل بصوته الشجي ينشد "الأبوذية"
مثل غيم السخط همي تراكم      كتلتوني يَعــذّالي تراكم
كرام الحي متى عيني تراكم      ونداكم بالديار يعم عليّ
وحارت دموعه بين أماقيه فأهمل الدفة، وراح يضرب بيده على فخذه، وصدى أغنيته يتردد بين ضفتي النهر. وبدت الضفتان يسيطر عليهما السكون، رغم تجمع القرويين على ضفتي النهر. وأشتد به الوله، فصار يقوم ويقعد كالهائم يتساءل عن الحبيب المفقود.
وحك اللي تعبده النــاس منشــــاف      إلي دمع يْكِتْ عَلوَجِنْ منشاف
صِحتْ يا سامعين الصوت منشاف      بكــره بحَيّكــم ضـــاعت اليَىّ 
كان أكثر الناس يؤثرون الركوب مع حميد "النوخذة" لصوته العذب.   
وكان أحد رجال الزعيم " عبد السادة الگصاد "  يجيئني بين مدة وأخرى يسألني أن أحرر رسالة شوق عن لسان محبٍ لم يبح باسمه، بعد أن يقرأ عليّ رسالة الحبيبة. وكانت رسالة الحبيبة على بساطتها، تعرب تماماً عن حقيقة حبها، وسمو شعورها ولهفتها عليه،  [عبد السادة الگصاد هو الشاعر الشعبي من عشيرة آل إبراهيم –الصلاحات- كانت لي معه صلة لم تتعمق، ولم التق به إلا أيام ثورة تموز 1958، وكان مرتدياً الزي الحديث وملتحقاً بركب التقدميين]. كنت أستدرج هذا الوسيط، لأعرف من ذاك العاشق. لكنه كان حذراً وأميناً. غير إني استطعت ذات مرة –في العام الفائت- أن أتلصص بحديثي بعد إثارة حميد إلى الغناء، فأعترف باكياً، متألماً فواسيته وهدأته.
ولاحت بعد حين بناية المخفر، ثم بناية المدرسة، ووقف بعض القرويين يرحبون بمقدمنا:
- هله بيهم هله. عبد الحميد أفندي شلونك؟ أجيت تاليهَ؟ آها فاضل أفندي، عفت بغداد وجيت!
وصاح آخر:- هله بصبري أفندي. برّدت گلبك زين هالمدة؟!!
ودنا الزورق من الضفة فأمتد الأيدي إلينا يجذبوننا إليهم. ويعانقوننا على طريقتهم بالقبل، ويرددون ترحيبهم.
- جيف أحوالك. خاطرك طيب، يا هله، ويا مرحبا، وألف هله.
وكان الفراش قد قام بتنظيف المدرسة وصفوفها. أما "جعوال" فقد أقبل مسرعاً يحمل الشاي جاهزاً على حساب "الشيخ حنون". وأعلن أحد السادة:
- يخوتي تر عشاكم عدنه لا تگولون.
فرد المعلم فاضل:- داد حميد، ما كو حاجه، ليش أحنه غربه، هذا محلنه.
- يخوي ماكو فرق. إلا أنتم توكم جايين وما مستعدين!
وصاح صبري:- والله ممنونين. آني خو ما أگول لا.
ونهضنا بعد ذلك إلى أكواخنا نتفقدها.كانت كالحة، متجهمة. وتقدم القروي الأخرس، يعرض نفسه لخدمتنا بتنظيفها ونقل فراشنا المودعة في دائرة المدرسة إليها.
الفراغ
هي ذي أكواخنا ذات اللون الكالح بفعل الشمس والأمطار. هي رابضة تحت ظلال النخيل، بجوار مستنقع  لا تكف ضفادعه ليلاً عن النقيق [وصلتني في العام الماضي المنصرم رسالة من صديقي وأستاذي، حين كنت في سلك المعممين، عبد الرزاق محي الدين من القاهرة حيث كان يدرس بدار العلوم المصرية، وصف لي فيها حفلة ساهرة لأم كلثوم على أنغام "كمان سامي الشوا" و"عود محمد القصبجي" وكيف كانت قلوب السهارى تخفق، مع صوت أم كلثوم. وأجبته "أما أنا فماذا أصف لك، إذا جن الليل غنت الضفادع، وعزفت موسيقى البق، ورقص البرغوث متخذاً من جسدي مسرحاً ومرعى في ذات الوقت ...."]. ومناخ قريتنا هذه الأيام غير مريح، الحر مزيج برطوبة تنبعث من ألواح الشلب، والبق والبعوض يملآن الجو. حتى إننا نتناول عشاءنا داخل الكلل، ولكن صباحها جميل منعش، ويستمر كذلك حتى العصر.
قبيل العصر من كل يوم نتجول بين حقول القمح والشعير المحصودة حيث تبدو الألواح من بعيد خضراء معشبة. وينتهي بنا المطاف إلى أحد المضايف، ونأخذ أمكنتنا بين القرويين، نبادلهم الأحاديث والنكات. ولشد ما أبدوا رغبتهم للألعاب الجمبازية، التي يقوم بها المعلم فاضل، ذو الشعر الأبيض. الذي أطلق عليه القرويين "المعلم الخشافة" اي الخفاش، ذلك لأنه ضعيف النظر، بسبب بياض شعر عينيه وحاجبه ورأسه، حتى أنه يضطر لغلق باب الصف حين يُدَرس.
- معلم فاضل، لا تگول، تراني أگمز أخيَر منك؟!
قال گنون هذا وهو يضحك. وهو في الواقع لا يستطيع القيام بأية حركة. هو يريد أن يستثير المعلم فاضل لأجراء ألعابه الرياضية. وهم جميعا يعرفون أن فاضل يثار بسهولة عن طريق المناورة والإدعاء.
وصاح فاضل:- إوْ لك! عِيبَت هالجهره. ليش هاي وين تدربت!؟
- دگوم أگمز. وهسه اراويك شلون أغلبك!
نهض گنون. رمى بعقاله ويشماغه وعباءته. وصاح الجميع:
- لا، لا. عاد أبو فاهم ما يغلبه واحد. بِليه!
وثارت حمية فاضل، واستوى قائما.
- آني راح أقفز. ورجال گنون لو يگدر يقفز مثلي.
خلع جميع ملابسه، بقي بالفانيلة والسروال القصير. توسط الجميع، وبخفة قفز قفزات سريعة ومتتابعة. فعلا الهتاف والتصفيق والضحك.
وعلى عادته إذا تورط في مثل هذا، يوالي القيام بمختلف الحركات والألعاب إلى أن يدركنا السأم والملل. وانبرى فتى قروي أخرس، وأعلن أنه مستعد للقيام بالقفزة الهوائية تماماً وبلا تكلف. وأكبر الجميع أن يستطيع الأخرس ذلك. ولكنه فعلاً قفز قفزة هوائية منتظمة. وكرر ذلك مرات، غير إن المسكين حبق أثناءها، فضج الحاضرون بالضحك. فبان عليه الامتعاض ولزم مكانه ساكنا.
وبين الحاضرين رجل يدعى "جبار عفصان" هو من رجال رئيس العشيرة. معروف بالرماية، كما أنه في رأيهم على جانب كبير من الظرف وهو المسلي والمؤنس لرئيس العشيرة بنكاته، وهم يضحكون لنكاته مهما كانت تافهة، وما أكثر تفاهاته. صاح أحد الحاضرين:- جبر... جبر آل عفصان! أشو ساجت؟ ولِك ما تحجي!
- جوز عني التمسك. تراني أگمز وحَوِّل ببطن مَعَلمَ السنة!
ودوت أصوات الآخرين بالضحك، وساد الهرج والمرج، الرؤوس تهتز والضحك يختلط بالسعال. وما هدأوا حتى رأينا المعلم فاضل دامع العينين، وهو ينشج نشيجاً خفياً، وصبري يسكن ثائرته.
تهامس الحاضرون:- خويه عليمن يبجي الخشافة؟
- يخوي، والله جبر ما يعرف اللطيفة.
- ومن هاي؟ جا بس هو سني؟! المعلميه كلهم سنّه بس علي أفندي شيعي!
وانتبه السيد جواد صاحب المضيف إلى ما حدث [ويدعى سيد جواد العجم عندهم وهو محترم لأنه من أبناء الرسول وصاحب مضيف].  فجذب جبر كالخروف حتى أجلسه أمام المعلم فاضل وصاح به:- أخذ أيد عمك. جلب أبن الجلب، مكسر يا طايح الحظ على ها اللطايف الماصخة!
ثم التفت إلى المعلم:- أبو عباس هاي ما هي عدله منك. أولا كلنه أخوة. وأنت إتعرفْ جبر، وسوالفه كلها ما الهه معنى. ثم جماعتك كلهم ضحكوا بس أنت تأذيت. على شنهو؟!
أخذ جبر برأس المعلم فاضل يوسعه لثماً وتقبيلاً. وهنا أعلن مدير المدرسة عبد الحميد آن وقت العودة إلى مقرنا قد حان. فنهضنا ونهض الجميع، وعبارات الترحيب والتوديع على شفاه الجميع.
الأسود والمتنبي
في هذه الأيام يسود بيننا وئام ووفاق. يذكرنا بأيام إدارة السيد صالح –مديرنا السابق- وكيف كان شغوفاً بإدارة الشغب، والفتن بين بعضنا والبعض الآخر. كان يتلذذ بإهانة المعلم والسخرية به.
بعد انتهاء الدوام عصراً نقضي فترة نلعب كرة الطائرة، فإذا انتهينا من ذلك، قمنا بجولة في ضواحي القرية. ننتهي منها إلى أحد المضايف. أو إلى مقهى –عبد الشهيد الجنابي- نحتسي الشاي من يد عامله –جعوال- ونعود بعد الغروب إلى أكواخنا لتناول العشاء على مائدة واحدة من طبخ الأسود "ربيع"  وهو أسود وظريف وطيب ويحسن الضرب على العود كسيده عبد الحميد [مرّ ذكر "ربيع"و "فليح" و"المتنبي" تحت عنوان "المتنبي وموسليني" وللمرة الثانية يأتي ذكره فهي ملح مجلسنا الخاص ليلا].  وكثيراً ما دخل الفرّاش فليح معه بنقاش حول المتنبي، ولغرض إثارته. صار فليح يحفظ كثيراً من شعر المتنبي في هجاء –السود-، كما صار ربيع يستفسر عن مثالب المتنبي ومعايب شعره. وأشهر خصومه وما قيل فيه.
المتنبي في رأي هذا الأسود "مجدي وعليجته قديفة" وشجاعته طبق المثل –مجدي كركوك وخنجره بحزامه-. وفلسفته ما هي أكثر من معرفة بفنون الجدية –التسول-. يقشمر الزناگين بالمدح ولوما گدروا يسدون جوعه وطمعه حد لسانه عليهم بالشتايم. ولَمَن وصلت للصدك من تلگو اثنين من بني أسد إطاهه شراده! وعيَّره –ابن عمي- وذكّره بجذباته الكبار الگاله ساعة النِفاهْ "أي الراحة".
الخيل والليل والبيداء تعرفني       والسيف والرمح والقرطاس والقلم
رجع، واطاك عمره. وهو يعتب على –ابن عمي- قتلتني أيها العبد. (ويضخم ربيع صوته ويكسره بهذه العبارة، كأنه يمثل المتنبي)
ومنذ يومين وصلنا شاب عين حديثاً في مدرستنا. هو من أبناء مدينتي. قليل الخبرة. طائش، ساذج، يسمي طيشه مرحاً، وسذاجته طيبة. وقد أبدى استغرابا وتعجب أشد العجب، إذ علم أن ربيع يضرب على العود، فالتمس من صاحبه أن نحيي الليلة حفلاً [ربيع عبد مملوك بالوراثة لمدير المدرسة عبد الحميد محمود الملا صالح من أهالي أبي الخصيب]. بعد تناول العشاء أمسك ربيع بالعود، وأشترك الجميع يرددون أغاني ريفية. وطغى في الكوخ مظهر الفرح والابتهاج. والشاي يتوسط المجلس. تلا ذلك فترة نكات وطُرف، فانبرى الفراش فليح يقول:
- عمي حميد أفندي، الله يخليك دِگ هيوه خلَ ربيع يشيخ [يتصنع ربيع هذه الحركة ويجيدها]!
أما ربيع فقد أخذ يتوسل بسيده أن لا يفعل. عزف عبد الحميد لحنا يسميه –لحن الهيوه للعبيد- بين توسلات ربيع وغيظه المفتعل، وبعد بضع دقائق، بدا ربيع هادئاً ساكناً شاخصاً بعينيه الصفراوين إلى زاوية من الكوخ. كهائم أضناه المسير، فجلس مرتخي الأعضاء. ثم بدت عيونه تتحركان حركة رتيبة، ذات اليمين وذات الشمال، وتبعتها رقبته. ثم أخذ الزبد يخرج من شدقيه. أما الفراش فليح فقد أحكم غلق باب الكوخ، وأسند إليه ظهره. وأستغرق بضحك صامت. فهو على علم بأمر مبيت.
وأضطرب المعلمان –فاضل وصبري- حاولا أن يغادرا الكوخ، لكن ربيع هاج وأضطرب اضطراب الذبيح. فقفز صبري وتعلق بخشبة من خشب سقف الكوخ. فانكسرت به وسقط على الأرض حائر لا يدري أين يختبئ. أما فاضل فانه أنبطح على الأرض محاولاً الاختباء تحت الأرائك، لكن ربيع أدركه بعضةٍ في إليته. فعلا صياح فاضل مستغيثاً.
- داد حميد، الله يخليك، بطل، الله يخليك، أخ يابه.
ألقى حميد العود من يده، وغرقنا في ضحك عميق. وأنتبه ربيع من غيبوبته وأفاق وهو يتصنع الانحلال والنحول.

يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏20‏ آب‏ 2010   ‏
Alshibiby45@hotmail.com



159


معلم في القرية /5
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)*



ألامتحان
باشرنا الامتحان، وقد فرغت منه في اليوم الثاني. وذلك لأن دروسي منحصرة في صفين فقط. الديانة في الصف الأول والعربية في الصف الرابع. وتمكنت من التجول بين المعلمين أثناء ساعات الفراغ. فإذا بهم جميعا يتشبثون بأوهى الأسباب لمساعدة الضعفاء من التلاميذ. ولكي لا أظن بهم سوءاً أخذ أحدهم يوضح لي خطته في وضع الدرجة، فقال:
- هذا التلميذ ذو خط ممتاز. وإملاؤه ممتاز أيضاً. وهو في الحساب متوسط. ألا ترى من الأنصاف مساعدته في درس "الأشياء" وهو درس يتكرر عليه في الصفوف القابلة؟ وهذا تلميذ ذكي إلا أنه مهمل، وهو يحسن القراءة، وإملاؤه رديئ ولكن خطه جميل جداً، وهو في "الحساب" جيد أيضاً، فلا داعي لعرقلته بسبب درس "التأريخ" إذ يبدو فيه بمنتهى الجهل! وهذا ثالث حصل في أهم الدروس "أربعا" لكل درس! أليس من الظلم أن أضيع سنة من حياته؟! وهذا رابع ظهر لي أنه مكمل في المجموع، وهو بحاجة إلى "عشر" درجات، أترى من الصواب أن أعود إلى المدرسة في وقت مبكر من أجل مكمل؟ وربما كنت منقولاً إلى مكان آخر!
ولفت نظري أن معظم تلاميذه بين مستحق للمساعدة –كما أوضح- وبين من شفعت له الصداقة مع ذويه خلال السنة الدراسية. وبين خوفه من وليه الذي عرضّ –قبيل الامتحانات- بتلك الاتهامات الزائفة وهم أهل شراسة وصلف.
وما أسرع ما أنهينا الامتحانات. وبررنا ذلك، بأننا خلال عام نكاد نعرف كل خفايا التلاميذ، فكيف بقابليتهم؟! وبعد أن أدخلنا الدرجات بالسجلات الخاصة. ووزعنا الشهادات على الطلبة، ونظمنا جداول بالدرجات لترسل إلى المديرية، كان المدير قد أتم وضع التقارير عن سير الدراسة والمدرسة والمعلمين. كان يحبني ويحترمني لذا أطلعني على تلك التقارير. ولئن كانت المديرية تأخذ بها يكن من الغبن أن نلوم المعلم حين يبالغ بمجاراة المدير وطلب مرضاه، والعمل برأيه. لقد كتب عن أحدهم (إنه ضعيف الشخصية أمام الطلبة. لا يحضر الدرس، ولا يهتم بالواجبات البيتية، يتعرض إلى العقائد أمام التلاميذ فيثير النعرات الطائفية. لا يتحرج عن التلفظ بكلمات نابية يمجها المحيط، ويُسخَر منه بسببها. وخلاصة القول، لا أرى من الصالح بقاءه هنا في السنة القادمة).
وكتب عن آخر (قوي المعلومات، متمكن من الدرس، مسيطر في صفه ولكن بالعصا!؟ التي يستعملها بإفراط وقسوة! يكثر من الواجبات البيتية. مستوى صفه عال. ولكن سيرته خارج المدرسة شائنة إذ أنه لا يتحرج أن يصرح بحبه للجنس، ويحاول أن يتحرش بالنسوة حين يقبلن غروباً للاستقاء من النهر!).
أما عني ، أنا المستخدم  الجاهل بأصول التربية والتعليم الحديث –لعدم دراستي لها من قبل- فقد كتب عني ما جعلني خجلاً، لا منه ومن هذا الجميل الذي يطوقني به، بل من تلك المبالغة فيّ. وصف شخصيتي بكل صفة سامية، وسمعتي بكل تجلة، وقابليتي العلمية بكل تمكن. إنها مبالغة على أية حال. وأعتقد أنه ما كتب ذلك عن اعتقاد وثقة، إنما هي المجاملة التي تستند على الصداقة، وتتكئ على المصافاة.
كنت أتوقع أن يردني أمر بالفصل من الوظيفة –كما هي العادة مع كل مستخدم-  وحدث العكس. فقد ورد تعميم على جميع المستخدمين يخيرون بين أحد أمرين. البقاء في مدارسهم لتقوية المكملين، أو الدخول في الدورة الصيفية التي تقرر فتحها في بغداد اعتبارا من اليوم الأول لشهر تموز حتى نهاية العطلة.
كنت أفكر، ما العمل لو أني فصلت؟ لم أدخر من رواتبي فلساً واحداً خلال العام الدراسي. وقد أكدت العزم أن لا أعود إلى حياة العمامة، لقد هجرتها، وحلقت لحيتي وبترت شاربي، وقصصت شعري على نمط يذمه المعممون!
لقد اخترت الدورة. وسأعمل –بالطبع- هناك لأصبح موظفاً ، أو ألتحق ببعثة كما ألتحق أمثالي من المعممين [بتقديم الشفعاء حسبما كان سائداً وما يزال الأمر كذلك. فالمرء لا يشفع له علمه وقابليته بقدر ما يشفع له ذوو الوجاهة في الدولة. وقد ذهبت محاولتي للبعثة إلى الفشل، فحين راجعت الأستاذ مفتش اللغة العربية آنذاك "الشيخ محمد باقر الشبيبي" ليساعدني في أمر القبول في بعثة إلى مصر –كما فعل للشيخ عبد الرزاق محي الدين- رفض ذلك الشيخ محمد رضا الشبيبي، وكان وزيراً للمعارف. بقيت أراجع الشيخ محمد باقر، الذي وعدني بانجاز الأمر، لكنه تراجع أخيراً. وذكر لي السبب، أنه يكره أن يتهم بالمحسوبية والمنسوبية، ورشح لها آخر. كان ذاك الآخر هو اليوم –المدرس تقي الشيخ راضي- ولن أعلق عما يكون بالنسبة في سنه ومعلوماته]. فورقة الشهادة اليوم، آية التزكية، وجواز العبور!



في بغداد
كل شيء الآن على ما يرام. بغداد جميلة في هوائها ومائها، وناسها وسائر ألوان حياتها، أو إنني أراها كذلك. فلم أمكث فيها قبل اليوم كثيراً، وعلى هذه الصورة من الانطلاق!   
كنت قد زرتها مرتين، وعلى رأسي "العمامة" تلك التي يحرم على صاحبها أن يرتاد المقاهي، ودور السينما، ويطوف الشوارع والحدائق والمخازن، والمتنزهات. فذلك لا يناسب كرامة العمامة –كما يقولون- أو يخالف الشرع. لقد مستني الحاجة كثيراً فلم أجد من يتفقدني غير هذا الوالد الذي بدأ يتثاقل من عطلاتي، لو لم أزج بنفسي في ميدان الوظيفة.
ها أنا الآن لا أهدأ عن الحركة. طفت في نهاري في كثير من أسواقها، ومخازنها، وتجولت عصراً بشوارعها ومتنزهاتها. وذهبت إلى السينما التي كنت أتشوق إليها، وكنت إذا حُدثت عنها أصغي مستغرباً. وكم قلت: لماذا لم يدع مخترعها "النبوة"؟
وقصدت بعض دور اللهو، فأبصرت الراقصات شبه عاريات. وسمعت الغناء المحترف. إنه لا يطربني. وهذا الجمال لا يهزني، على الرغم من أني طربت واهتززت! لم أطرب من ذلك الرقص ولم تجذبني الراقصات ذوات الأجسام المحمومة التي تتلظى الشهوات من جميع مفاتن أجسادهن.
فيما أعتقد أن مبعث طربي الحقيقي، هو ما أنا فيه من الانطلاق والتخلص من تلك القيود. كلما شعرت أن وجهي قد استراح من عبئ تلك اللحية. ورأسي تخلص من ثقل العمامة، وأني طليق من ذلك الزي الذي يجب أن يكون في رفوف المتاحف الأثرية. ولا أكتم الناس أني رميت الوقار قليلاً، وأن يكن كثيراً بالنسبة إلى ما كنت عليه سابقاً من هدوء ورزانة.
شربت وطربت ولم أعربد. وغازلت أحدى حسان المرقص، وأطلقت لصوتي العنان مع رفقة يطيب لهم غنائي، ويطربهم صوتي فساد الملهى هدوء وإعجاب، وعلا المسرح هرج. وبدا الغيظ على وجوه الراقصات، فغادرن المسرح، إلا تلك الراقصة ذات الثوب الأسود والجسم الأسطواني، والتي كانت تتظاهر بالعظمة والفخفخة التي لم يفسرها المتفرجون بغير كبر السن الذي لا يتلائم مع الغنج والدلال. أو سوء الطبع والشراسة الذين هما صفة هذا السن من العمر، وذلك الجسم المكدود والمثقل باللحم والشحم. والمكور تكويراً، لا تكاد تميز معه بين العنق والأكتاف، ولا بين البطن والأرداف. لقد وقفت في وسط المسرح بعد أن كففت عن الغناء. أخذوا يصيحون ويلحون مطالبين أن أعود. لكني أدركت أني جاوزت الحدود.
ورفعت كأسي وارتشفت ما فيه حتى الثمالة. وأعترف إن تلك الراقصة ذات الجسم الأسطواني –كيفما تكون- قد ملكت عليّ مشاعري، بسبب ذلك الجبروت المصطنع. وحبذا لو أني أستطيع أن أقاوم كل جبروت. وليفهم أمثالي إن كل جبروت يتعلق به الإنسان زائف زائل لا محالة.
وفاجأ هذا الهرج، وأنهى تلك الفوضى –غزال- أهيف القد ساحر العينين، بديع الحركات، حلو أللفتات. أنفلت على المسرح بأغنية تركية لا أفهمها. فتحول ذلك الهرج إلى ما يشبه هتاف المصلين بعد الدعاء، بالابتهالات والرجاء. وكنت من جملة الهاتفين.
في الحق إن هؤلاء الذين اتخذوا إدارة الملاهي عملاً وتجارة من أبرع العلماء في فهم أصول علم النفس. أترى كيف أستطاع مدير المسرح أن يقضي على تلك الفوضى ويحولها إلى ضجيج من أجل الاستحسان.
ولم نبرح الملهى إلا عند آخر لحظة من منهاج الحفل.

ليلة مجـون

غدا في الصباح سنجلس على مقاعد الدرس، ونتلقى الدروس كما كنا نلقيها. ومهما جلس المرء على هذه المقاعد، فانه لن يتلقى دروساً كالتي يتلقاها من الحياة، وتعلمه إياها الأيام.
لقد صمم الرفقة، فقضينا الأيام الثلاثة المنصرمة، بكل جذل واستهتار. طاوعتهم في تنفيذ برنامجهم جميعه، إلا ارتياد المبغى. فلا أبغض عندي من التصاق شفتي على الشفاه الباردة، التي انطفأت فيها جذوة الحب، وخمدت في قرارة قلوبها جمراته، واستحال كل ما فيها إلى حقد واستخفاف بتلك الأجساد التي تهوى عليها متمرغة بوحل الجريمة، حتى إذا نالت ما تريد كأنها تقضي حاجة، عادت تحس بالفراغ ثانية.
في الليلة الأخيرة تجولنا بالشوارع، حيث وصلنا إلى حضرة أحد الأولياء الصالحين. كنا في حال سكر عظيم. عند الباب لاح لنا بعض الرجال الكهول. لا يرتدون غير ثوب من الخام الأسمر، وعلى رؤوسهم عمائم وسخة قد لفت على غير انتظام. وفي رقابهم –سُبَح- طويلة من خرز سوداء، بينها بضع خرز حمراء من المرجان.
كان أحدهم شاب رغم تجاعيد وجهه. إنه يهذي بكلام غير مفهوم، ولعابه يسيل على صدره ولحيته، أما إحدى يديه فقد كانت جذاء. انعطفت إلى أحد أصحابه وسألته:
- ما به يهذي؟ [لم أفهم من كلامه غير كلمة "الله" يرددها في ختام كل جملة من هذيانه، كان هذا في حضرة الشيخ عبد القادر الكيلاني]
فزجرني هذا بغضب:- أخرس يا كافر! هذا ولي من أولياء الله!!
وبانبساط وبرود، قلت:- أهو أخرس؟
فرجع عن غضبه قليلاً إلى شيء من الانبساط، وقال:
- على لسانه سرّ "أسم الله الأعظم" فلو أنطلق لسانه باح به وهذا ما لا يجب.
ضحك أحد أصحابي ضحكة ماجن مستهتر، واتكأ على جدار مدخل الصحن من شدة الضحك وهو يشير بيده:- أصحاب الله كلهم من هذا النوع، وسكان الجنة على هذا النمط، والمسكينات من الحور العين، يفتك بها هؤلاء المتوحشون!؟. وغرق بالضحك وهو يضرب على ركبتيه!
ومما يزيد الموضوع طرافة، إنّا برغم اجتماعنا على هذا النوع من اللهو، كان فينا المتدين والملحد، ومن هو بين ذلك. وقد أنفعل أحدنا وكان متديناً ويردد كثيراً "من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" وقال:
- إنهم كأهل الكهف. أولئك فروا بعقيدتهم إلى الكهف. وأولاء إلى هذا الخرس.
وقال الملحد، ولم يكن إلحاده عن علم ودراسة واسعة. وقد قطب حاجبيه، وزوى بعينيه، وهو منكمش ساخط وبحذر:
- الدروشة من بدع المستغلين، يخدعون بها الناقمين، ويحولون سخطهم من ثورة إلى استسلام، ومن تشخيص المستبد إلى تعبد وتزهد، بحجة ترويض النفس، التي هي "أمارة بالسوء" [سورة يوسف آية 53] فيتركون دنياهم لأولئك. ويقنعون من العيش بالجشب (الغليظ الخشن من الطعام/الناشر)، ومن الملبس بالخشن، لينالوا نعيم الله ويكسبوا غفرانه!
وسحبت يد أحدهم كيلا يتسع الخرق على الراقع. واتجهنا إلى ناحية أخرى.
وفي ميدان ليس بالفسيح، رأينا جمعاً من الناس جالسين على الأرض، وفي طرف المجلس من الوسط وقف شخص كان يرتدي نفس الزي –قميصاً أبيض طويلاً ويشماغ أحمر [لعله من الصابئة وكنت إذ ذاك لا أعرف عنهم شيئا] لم أفهم من كلامه غير كلمة "شمعون" وأسماء من هذا النوع. أما المستمعون فقد كان يبدو عليهم الخشوع. وكانت دموع بعضهم تسح على خديه.
إن عواطف البشر من منبع واحد، هو ما يسيطر عليهم من بؤس وأحزان أو يسر وأفراح. وإذا ما جهلوا مصدر بؤسهم، وعجزوا عن رده والخلاص منه، لجأوا إلى القوة الخفية يستدعونها على الظالم، ويستعطفونها لحل مشاكلهم، وتحقيق رجائهم. وهذه الدموع وسيلة التعبير عن تلك العواطف عند الناس مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم. فأي فرق بين عواطف الأثيني القديم إذ هو قدم قربانه إلى "جوبيتر" أو المصري الفرعوني إلى "ايزيس" أو المسيحي إلى "اقانيمه" أو المسلم إلى النبي والأولياء.
بعد هذه الجولة الكبيرة، عدنا إلى مأوانا في القسم الداخلي لطلبة دار المعلمين الابتدائية.
وفي الطريق لفت نظر أحدنا رجل ذو عمامة سوداء كان يعتمد عكازة ويسرع المشي فيبدو عرجه متعباً [وتعرفت عليه أخيراً انه خطيب منبر الحسين في الهندية. وعرفت من بعض أهل القضاء، مثلما قال صاحبنا ولكني لا أصدق أنه يرتاد الأمكنة العامة للشرب واللهو، فله صلاته الخاصة لهذه المقاصد وأسمه "عليوي"!]. وصاح صاحبنا:
- ألم تروا، لقد كان هذا هنا –وأشار إلى محل الشرب-
وأسرع آخر استبدت الخمر برأسه، فسابق الرجل مقلداً مشيته. بينما أخذ الأول يقسم أنه يعرفه من أهل –الذوق- في الكأس وأن كان من –الوعاظ- ورجال المنبر الحسيني!
هكذا مرت آخر ليلة. وغدا في الصباح سنرى وجهاً جديداً ولون آخر من ألوان الحياة.


الدرس الأول
صباح هذا اليوم جلسنا مبكرين. وإن لم نكن على ما يرام من النشاط. وبعد تناول الفطور، والاستراحة في مقهى القسم، دوى الجرس برنين يفهمه الذين سبق لهم أن جلسوا على مقاعد الدراسة. أما الآخرون فقد بدا على وجوههم له تهيب.
وصعدنا جميعاً إلى قاعة المحاضرات، وكان ذلك صيف عام 1935. استمعنا إلى تلاوة ما تيسر من آي ذكر الحكيم. ثم ألقى مدير الدورة "الدكتور متي عقراوي" كلمة أوضح فيها الغرض من فتح هذه الدورة. وإنها لتدريب المربين على أساليب التربية الحديثة، وإطلاعهم على النظريات التربوية الجديدة. وهنا أبتسم وقال:
- أستميح معلمي اللغة العربية العذر في صيغة بعض الألفاظ، مثل "تربيوية"!
فأجاب أحدهم: الصحيح، تربوية!
ثم أشار المدير إلى أن تلاوة القرآن ودرس التربية والاجتماع يحضرها الجميع في هذه القاعة على التوالي كل يوم، ثم بعد ذلك يرجع كل فريق إلى الفرع الذي التحق به ليقضي درسين فيكون مجموع الدروس أربعة لكل يوم.
انتهى الدرس الأول في التربية. ودق جرس الاستراحة، فهب المعلمون –والأصح الطلبة- مرة واحدة. يتدافعون، كل يريد أن يلج باب السلم قبل غيره، ولهم دويّ يفسر فرحهم بهذا الجرس لا يختلف أبداً عن فرح الصغار. فتذكرت الشاعر أحمد شوقي وقصيدته "أطفال المكتب" ومنها البيت التالي:
لهم جرس مطرب في السراح    وليس إذا جدّ بالمطرب
وحل درس الاجتماع فارتقى المسرح أستاذ بدرجة دكتوراه [هو الدكتور فريد زين العابدين]. قيل أنه يحمل شهادة دكتوراه لثلاثة علوم، الاجتماع، الأدب والفلسفة.
وبدأ محاضرته بتعريف علم الاجتماع، مع نظرة إلى الوراء فيما يخص تأريخ هذا العلم، بدايته وتطوره. كان خطيباً لبقاً، لا يتلكأ ولا يتعكز [ولم يستمح معلمي اللغة العربية عذراً] وبدا صريحا إنه من رجال فكرة –الوحدة العربية- فقد تعرض بسرعة إلى تأريخ الدول الأوربية وكيف توحدت وتكتلت أخيراً، وأصبحت دولاً ذات كيان وسطوة. وبصورة خاصة عوامل –الحركة الايطالية-. وكان وهو يلقي محاضرته يكاد ينفجر باكياً. وانتهى الدرس. فنهضنا ونحن كمن كان بمأتم بتأثير محاضرته، نمشي بأقدام واهية، وخطوات حزينة، وعلى وجوهنا سورة من الكآبة، وعلى عيوننا غشاوة من الحزن العميق.
أما الدرس الثالث فقد كان في الدين. وأستاذنا فيه [السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني] أحد أقطاب رجال الدين، الذين تأثروا بالسيد جمال الدين الأفغاني. ويرى أن حركة الإصلاح يجب أن تتخلل كل شيء حتى الدين، وقد أنشأ مجلة العلم [قرأ علينا أيام محاضراته في الدورة قصيدة عن "واجب الوجود" وقال: جائزة لمن يحفظها! ورغم إنها شعر غير رائق فقد حفظتها حال انتهائه من إلقائها، فتعجب وسأل: من أنت؟ فلما عرفني، قال: لعلك حصلت عليها من شيخ "هادي" –كاتبه-؟ قلت: أبداً. فأعطاني مجموعته منها. ومع الأسف الشديد أنها فقدت]. ومزج بين الأدب والسياسة والدين لخدمة الإنسانية والوطن. وولج الوظائف الحكومية، فصار وزيراً للمعارف، وعيناً ونائباً على خلاف ما عليه رجال الدين الآخرون من تزمت، وإهمال لشؤون الناس والذين يعتبرون الوظائف الحكومية إثماً وخروجاً على الدين [أما اليوم ونحن في أعوام ألـ "70" (المقصود سبعينات القرن الماضي/ الناشر) فقد أقبل المعممون على الوظائف، واعتاضوا عن "المداس" بالحذاء بل قاد بعضهم السيارة الفارهة!].
ويبدو لي أن الرجل قد تغير الآن عما هو عليه سابقاً، ولعل مرد ذلك عدم اعتماده على سبب للعيش غير الوظيفة، وبالرغم من كونه أهلاً وبجدارة للمنصب الديني والمرجعية، فأنه لن يجد طريقاً إلى هذا بسبب ولوجه باب الوظيفة. كما أني لاحظت أنه حذر حين إبداء رأيه في أمور تدنو من السياسة.
كانت محاضرته الأولى عن –واجب الوجود- والأدلة العلمية والعقلية على ذلك. وهي أدلة، لم تعد أكثر من شرح لما درسناه في الصفوف الأولى من المدارس الابتدائية مثل "لكل مصنوع صانع" و "لكل عمل مدبر" وقال من جملة ما قال (إن الكون معمل عظيم، عماله هذه المخلوقات -كل قد علم تسبيحه- ومديره هو الخلاق العظيم الذي جل عن النجوى وبعد فلا يرى"
وأستغل أحد الشياطين –وهو معلم من النجف ومعمم سابق- كفاف بصر الأستاذ. وطلب الأذن بالكلام فأجيب إلى ذلك. فقال: إن قساً أراد أن يهدي الكاتب الفرنسي المعروف "فولتير" إلى الدين، وكانت أدلته لم تخرج عما ذكرتم. فأجابه فولتير (لو أنك دخلت إلى معمل صغير فوجدت الأعمال فيه في غاية الفوضى، وعماله بمنتهى الإهمال والتقصير. ألا تلوم المدير، وتنعته بالإهمال والتقصير. فما بالك تمجد مدير "المعمل العظيم" وأنت ترى الظلم والاستبداد بين عمال ذلك المعمل، وأنهاراً من الدموع والدماء، يفترس القوي الضعيف ببشاعة دونها ذوات الظفر وسباع الوحوش، وسجون يقبع في ظلماتها وقذارتها نوابغ ومساكين، دونها مغاور الحيوانات)!؟
تأثر أستاذنا وحولق وأستغفر، ثم قال:
- لا عليك. أنا أدليت إليك بأدلة عقلية وعلمية فتدبرها!؟
أما الدرس الرابع فقد كان أستاذنا فيه خريج كلية دار العلوم المصرية ، ثم قد حصل على شهادة الدكتوراه. ومحاضراته ليست أكثر من تكرار واجترار [هو "الدكتور بديع شريف العاني" ومن الغريب إني عدت إلى النجف في إحدى ليالي الجمع،  وزارني صديقي -إذ ذاك- عبد الرزاق محي الدين، وكان قد عاد بمناسبة العطلة من مصر التي كان فيها طالباً بكلية العلوم المصرية. وأخذت أقرأ عليه من محاضرات الدكتور، فكان عبد الرزاق يسبقني كأنه يقفي أبياتا شعرية، وعجبت فقال: "لا تعجب. إنها بلا زيادة ولا نقصان محاضرات أستاذنا إبراهيم عطية الإبراشي!].
هذا أول يوم، والحكم للمستقبل الكشاف. 


الوحدة العربية والصهيونية، والقومية والدين الإسلامي
وفقاً لقاعدة –الشيء بالشيء يذكر- تطرق أستاذ علم الاجتماع في كل محاضراته إلى مسألة فكرة –الوحدة العربية- وعوامل تهاون الدول العربية في أمر تحقيقها.
نهض شاب –يهودي- فوجه إلى الأستاذ هذا السؤال:
- متى، وأين، ولماذا وجدت فكرة الوحدة العربية؟
وفار دم شاب –عربي مسلم- من الموصل، فأهوى بكتاب كان يمسكه بكلتا يديه على رأس اليهودي، وصاح:
- وُجدتْ، يوم وجدت الصهيونية يا ابن الكلب!
ووجد الطلبة منفذاً يفرون بسببه من الدرس. فثاروا وهجموا على اليهودي، الذي أسرع بقفزة خفيفة إلى منصة الخطابة. حيث يقف الأستاذ المحاضر، وبهياج شديد تبعه كثير من الطلبة ليفتكوا به. فاستنجد الأستاذ بمدير الدورة، وبقية الأساتذة. ولم ينج اليهودي إلا بشق الأنفس، ونعب الأساتذة، وتهدئةٍ من وعظ أستاذ درس الدين!
حقاً إن أهم باعث لهذه الفورة، كان تحمس الأستاذ المحاضر، وأستاذ درس الدين، الذي ألقى علينا أمس محاضرة عن عالمية الدين الإسلامي. والذي بعد أن ذكر إنسانية الدين الإسلامي في مساواته بين المسلمين في الحقوق، إلا أنه استدرك فذكر: أن الدين الإسلامي لم ينس قوميته. فأحاطها بشيء من المنعة، وخصها بالكرامة. فأوجب الصلاة باللسان العربي الفصيح، ومنع أن يأتم الناس وراء إمام في لسانه لكنة أعجمية، أو يتلى القرآن بلغة غير عربية.
وخص الرسول العربي العرب بأحاديث يفضلهم على غيرهم. مثل قوله (ص) "إذا ذل العرب ذل الإسلام".، وقوله "الإنسان أشرف المخلوقات، والعرب أشرف الناس، وقريش أشرف العرب، وبنو هاشم أشرف قريش، وأنا أشرف بني هاشم"
وتقدم أحد الطلبة، فوجه سؤالاً إلى أستاذ الدين، على سبيل الفكاهة ظاهراً، وشجب النعرات الدينية في واقع الأمر، وكان خبيثاً ولبقاً، فقد صاغ سؤاله بأسلوب البسيط المستفهم:
- ألا تفيدنا يا أستاذ. ما سبب تعدد الديانات؟ ثم إذا كانت الديانات جميعا سماوية، ومن الله، فما سر التناقض فيما بينها؟ وإذا كان للإنسان حق التأمل، واختيار ما يرجحه عقله، فلم إذن تطاحن رجال الأديان، والتبشير والوعيد والتهديد؟
تنحنح الأستاذ، وقال:
- أسمع بني. أن حياة الإنسانية في مراحل تطورها، تشبه كثيراً مراحل حياة الفرد، وليد، رضيع، فطيم، صبي، ...الخ. يوكل أمره أولاً إلى مرضعته، تغذيه باللبن، وتعني بملبسه، ونومه ونظافته، لا يعي من أمره شيئا ولا يدرك ما حوله. وتناغيه الأم ولا يفهم ما تقول. ولا يقوى على ترديد ما تقول. ولا تحاسبه هي على ما يبدر منه، ويقع من أذى وأقذار. حتى إذا اشتد عظمه، ونمى لحمه، دُفع إلى المؤدب يلقنه مبادئ القراءة والكتابة، ويطبعه على الأخلاق، ويرشده إلى السلوك الحسن. وهكذا فهو يتنقل من مدرسة أولية إلى ابتدائية إلى متوسطة، إلى إعدادية، إلى جامعة. إن اجتازها جاز له الاجتهاد، وحق له على نفسه الاعتماد بما وصل إليه من علم. لهذا ولمثله تعددت الديانات. فكل ديانة هي وليدة مرحلة مر بها الإنسان، ينتهي أمرها حين أنتقل الإنسان إلى مرحلة جديدة، حصل فيها على تجارب وأفكار تختلف عن تجارب وأفكار أسلافه. كل ديانة مدرسة، لها منهاجها الذي درسته البشرية. وآخر هذه المدارس، هي الجامعة التي وضع منهاجها خاتم الأنبياء –النبي العربي- محمد. والتي سمح لمن وعاها حق الاجتهاد. ولا مدرسة بعد الجامعة. ولذا قال (ع) "لا نبي بعدي" [هذه كانت كلمة الأستاذ حرفيا كما ذكرت].
ضحك الطالب الخبيث، وقال:
- إني مؤمن بما تقول يا أستاذ. ولذا قررت أدخل مختبر الحياة فلن آخذ إلا بما يصمد لدى التحليل، ويثبت أمام البرهان، ورحم الله الإنسانية قبلنا، وقد اجتازت مراحل تلك الدراسة، فآمنت بآلهة متعددة، ثم انتهت فاختزلت، حسب ما أوحت إليها مداركها وأثبتت لها تجاربها، تلك الآلهة. فإذا به واحد، لا شريك له، يحي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. ولعل البشرية، كما أنها كانت لا تعلم عن خالقها شيئا، ستغزو يوماً بالعلم ملكوت السماء باحثة عن إلهها الواحد القدير القهار الذي يعلم خافية الأنفس.
بدا على الأستاذ وهو ضرير، سورة من الألم والانفعال، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة غيظ، وأراد أن يقول شيئا، فدق الجرس، وأنقذنا من شر ذلك الجدل العقيم.

*- أستميح القارئ عذرا، فقد غيرت في العنوان كلمة (كتابات) إلى (مذكرات) واصبح العنوان كما يلي: مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)، وهذا هو الأدق/ ألناشر
يتبـــــــــــــــع
ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد   ‏17‏ آب‏ 2010
Alshibiby45@hotmail.com












160
معلم في القرية /4
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)

 

ليلة في قرية التوبي
بدا مدير المدرسة في الدرس الثاني، شديد الاهتمام، وأستدعى تلميذاً من الصف الثالث، في سن الثانية عشرة، وأجرى معه تحقيقاً سرياً، ثم ركب إلى الناحية، وعاد بعد يوم، يكاد يفصح عما في نفسه، ولكن أحداً لم يحرك ساكنه. وربما بعضهم كان على علم بما عنده.
وأخيراً تجلى الأمر. فقد علمت من صديقي "مرتضى فرج الله" حين زرته في مدرسة "التوبي" أن أمراً برقياً ورد مدرسته يقضي بفصل أحد المعلمين من وظيفته! (ذكر والدي أسم المعلم المعني، ولكنني فضلت عدم ذكره/ ألناشر). وحين عدت إلى مدرستي، تحرشت بمدير المدرسة "صبري" فأفاد متبجحاً: أنه قبض على تذكرة منه لأحد تلاميذ مدرستنا وفيها مغازلة، وعبارة تنم عن العلاقة السيئة بينه وبين التلميذ، ليس وحده فحسب إنما يشاركه ابن رئيس قرية "التوبي". وحدث أن شكا بعض الفلاحين أمرهم إلى أبيه، وارتحلوا عنه. لقد أوضحوا لوالده أنه يتعدى على أعراضهم، وأشاروا إلى أن المعلم المعني، يشاركه في تلك التعديات الشائنة. فأتصل والده بمدير المعارف، وقال:- أبني "ح..." وأبنكم " المعلم ....." تعديا حدود الأدب، وأساءوا إلى سمعته في تعديهما على أعراض الفلاحين. أطردوا أبنكم أو أنقلوه وأنا أطرد أبني.
فكانت شكوى رئيس القرية دليلاً أقوى على صحة ما جاء في التذكرة التي قبض عليها مدير المدرسة، وهكذا تم فصل المعلم.
كنت مجازاً لثلاثة أيام حين زرت صديقي مرتضى فرج الله، فقد بت في بيته وهو جزء ملحق لبناية المدرسة خصص للمعلم العائل. هذه القرية لا تعتمد على النخيل قدر اعتمادها على زراعة الحبوب. يمتلك معظمها رئيس القرية السيد علوان الياسري وهو من رجال ثورة العشرين. ومن مكتسباتها له انه نال النيابة، وأستوزر مرة للزراعة. وله أخ يدعى "سيد جواد" لم ينل إلا حصة قليلة من الأرض، لذا ينشب بين فلاحيه وفلاحي أخيه "السيد جواد" كثير من المناوشات، وطالما سقط ضحايا على أن فلاحي الأخوين لا يمتون إليهم بصلة نسب، إنهم أجراء. ويميل الفلاحون إلى أخيه، بينما يحقدون عليه، وطالما تركوا الأرض قبل انتهاء التعاقد بسبب تعديات ولده "ح..." على أعراضهم.
لهذا الابن سماسرة، من الفلاحين، يدبرون له أمر مطامحه الشهوانية وينشرون الشباك لإيقاع البائسات من زوجات أو بنات الفلاحين. فإذا تعذر الأمر بالرضا والقبول، دبر ذلك بأن أرسل الفلاح في مهمة، وسطا ليلاً للاغتصاب بلا حياء.
إن حياته مهددة دائماً. ولكن حظه أقوى منهم. وقد ذهب بعض الناس ضحايا الاشتباه به. من ذلك أن شرطياً جاء بمهمة رسمية –كان علوياً- بات ليلة عندهم. وصادف أن طلب أبريقاً للخلاء، فصاح أحد رجال السيد (أبريج للسيد). وما أن خرج الشرطي المسكين حتى سقط قتيلاً، برصاصة أحد المتربصين، وفر الجاني تحت ستر الظلام [من قتله رماه اشتباها بابن رئيس القرية انتقاما لعرضه منه] .
بقيت ليلة الجمعة عند صديقي أي لليوم الرابع مضافاً إلى الأجازة، وقبل الظهر وصل مدير المعارف، الدكتور "متي عقراوي" والمفتش السيد "ناجي يوسف". استغربنا زيارتهم أول الأمر، لكننا عللنا ذلك، إنهم لابد أن كانوا مدعوين، وانتهزوا فرصة وجودهم قريبين من هذه المدارس القروية. تساءل المدير عن وضع المدرسة، وعدد التلاميذ، وسير التدريس. وأبدى صديقي مرتضى فرج الله، وهو يقوم بدور المدير والمعلم معاً ملاحظاته. إن عدد التلاميذ في مد وجز، لعدم استقرار فلاحي هذه القرية في إقامتهم أولاً. وللفقر المدقع، والبؤس الشديد، الذي يعانيه الفلاحون ثانياً، إنهم يؤثرون استغلال صغارهم في رعي المواشي، ومساعدتهم في أمور الزرع، على أن يقدموا أبسط نفقة من أجل تكاليف الدراسة. والواقع إنهم جياع، صفر الوجوه، لا يستر أجسادهم، حتى أيام البرد القارس غير ثوب واحد رث ممزق.
وأضاف، إننا نشاركهم بؤسهم، فليس في القرية باعة للخضار واللحم، وأنا من أسبوع لأسبوع أقصد الناحية، أو أكلف من يذهب إليها وأشتري بعض الخضار، مما لا يكفي غير حاجة يومين فقط، بسبب عدم إمكان الحفاظ عليها من التلف.
كان الرئيس "السيد" غير موجود في القرية، وأبنه مبعد مطرود منه، فصارت ضيافة المدير والمفتش على حساب صديقي.
وأخذ المفتش الحديث. وراح يصف الحياة في القرية وصفاً شاعرياً. أضاف عليها كل صفات الزهو والطمأنينة، في بُعدها عن صخب المدن، وقلاقل الحضر وحسدهم. وأبدى إرشاداته:
- يمكنكم أن تعنوا بما يجلب لكم اللهو والسلوى. ربوا الدجاج والطيور، وانتفعوا ببيضها وفراخها. اقتنوا بقرة ونعاجاً، تدر عليكم أرباحاً. لا بأس باستعمال دراجة لأطفالكم، أو حصاناً أو حماراً [طبعا هما يعرفان راتب الواحد منا لا يزيد على ست دنانير ويحسم منها ثاني سنة من تثبيتنا حصة التقاعد، و 5% من المرتب لسد عجز الميزانية].
كنا منبسطين في حديثنا مع المفتش لعلاقتنا القديمة به، فهو أبن مدينتنا. فحين انتهى بحديثه إلى هذه الإرشادات، انطلقت منا ضحكة دون أن نقوى على ضبط أنفسنا، وقال صديقي مرتضى:
- حسناً تفعل يا أستاذ لو ضربت مثلاً وقمت بما قام به البروفيسور "..." [آسف أني نسيت اسمه إنما الحكاية إنه فاجأ الناس بحدث غريب بالنسبة لمكانته العلمية فقد تنحى عن منصبه وقرر أن يكافح الأمية!؟]. عش يا أستاذ في القرية وأعمل وطبق اقتراحاتك هذه.
وحان موعد النوم، وأعد لهم الفراش المناسب، بدون كِلل (الكِلّة عبارة عن خيمة من قماش التور تحيط بالنائم لتحميه من البعوض والحشرات/ ألناشر). والمستنقعات المنتشرة هناك، تدفع دائما جحافل البق وأنواع البعوض فلا يجد المرء هجوعه مريحاً بدون "كِلّة" وقد تعمد صديقي فلم يجدْ لضيوفه "كلل" فما توفر لديه من "كلل" كانت له ولأطفاله، ليشعر المدير والمفتش بما يعانيه ساكن القرية من مشاكل، وهذه واحدة منها.
آويا إلى مخدعيهما، ولكننا كنا نسمع مقاومتهما للبق بلطمات و "آخ" و"شلون راح أنام" وبعد فترة قصيرة، دوى صوت الرصاص، وأزيزه كأنه يمر على مقرنا.
ذهل الأستاذان، وانتفضا أول الأمر من مخدعيهما لاعنين:
- شنو هذا؟ هذولي كل ليلة ها لشكل؟
أجاب صديقي: بين مدة ومدة يحصل هذا.
- والسيد ليش ما يأدبهم ، ليش ما يطردهم؟!
أجاب صديقي ليهدئ من روعهما:
- يا أساتذة، الفلاحين مالهم بهذه القرية ناقة ولا جمل، أجراء يتعاقدون على العمل، والسادة "الأخوان" يستغلونهم لحمايتهم من بعضهم البعض. فيتصادمون بدلاً من السيدين، بأمر منهم. وأشتد أزيز الرصاص، وأشتد خوف الأساتذة، تركا أسرة النوم، وحارا كيف والى أين يلجئان.
أطل صباح السبت، وحان الدوام، وتقاطر التلاميذ إلى المدرسة، وكان العدد قليلاً جداً. فوجه المفتش سؤاله إلى الطلبة:
- عددكم قليل، ليش؟ كل يوم هالشكل؟
- لا استاد، أحترگت الحلفه مالت السيد تالي الليل، بوكت ما تضاربو ويّ جماعة "سيد جواد" وأنشغلنه وي أهلنه نطفي الحريجه (الحريق).
وراح التلميذ يشرح للمفتش الأمر ببساطته. فأوضح أن أعداء "السيد" استغلوا تصادم رجاله مع رجال أخيه، فأحرقوا القش. ذلك القش الذي دفع له المهندس المشرف على بناء نواظم في "أبو عشره" مائتي دينار، فلم يقبل السيد. [أبو عشرة، ناظم أسس لتنظيم الري في تلك الأراضي التابعة لمحافظة القادسية، حيث سبب البوار لتلك الأراضي انخفاض مستوى النهر، بما يعرف عندهم بالنگارة. وفساد الأجهزة الحكومية إذ ذاك دفع المهندسين الموكل أمر هذا الناظم إليهم بالرشى والنهب. كلف ذلك خزينة الدولة أموالا طائلة. لأن المهندسين لم يخلصوا بالعمل وأتذكر أن رئيسهم المهندس "عبد الله" وكان من "قوم لوط" وصاحبه الجميل يدعى "وناس". ويذكر أن المهندس الأعلى الهندي ويدعى "ما شاء الله" قدم بعد زيارة المشروع تقريرا مختصرا "نگاره ما ينسد إذا ما ينسه نگارة وناس!" فعزل عبد الله شهر ثم عاد!؟]
وبعد تفقد وملاحظة السجلات، ودَّعا القرية. ربما مسحت تلك الليلة كل أعجاب السيد المفتش بجمال القرية، وطمأنينتها.

تَصرف شائن
السنة الدراسية تشرف على الانتهاء. ومنذ أن جرى الشغب ضدي من مدير المدرسة أخذت أتجنب المعلمين والناس معاً. إلا بعض أصدقاء سلوني في كثير من ساعات الضجر.
إن أكثر المعلمين قد آمنوا بسلامة طويتي. لكن مدير المدرسة مازال كما هو. إنه يثير المعلمين بعضهم ضد بعض. هذا الأسلوب منه وحدنا. ولئن وجدنا ثغرة ننفذ منها لإنزال الضربة القاضية به، فلن نتوقف عن ذلك. إننا نسجل كل مخالفة تبدو منه –أخلاقية أو إدارية-وقد شعر بتكتلنا فحاول أن يخدع المعلمين، حسب العادة المألوفة لديه، بتحريك أوتار العقيدة الطائفية. ولكن هذه المرة لم يفلح، مما أضطره أن يسلك مسلكاً آخر.
أخذ يغري بعض الطلبة، ويهدد آخرين، ويأخذ من بعضهم تواقيع على ورقة بيضاء. لم نسكت عن تصرفاته هذه. حررنا عريضة شكوى، سجلنا فيها كل مخالفاته، وأسم كل شاهد أبدى استعداده للشهادة حين يطلب منه ذلك. وبعثناها إلى المديرية بريدياً. وحين شعر بذلك، أبرق إلى مديرية المعارف، يعلمها بالفوضى السائدة في المدرسة، وإنها من عمل المعلمين.
هكذا حضر مدير المعارف، بينما قام الطلاب بحركة إضراب واسعة، إزاء إرغامهم من قبله على توقيع إفادات، زورها على لسانهم. وحين أخبروا أولياء أمورهم، جاء الحاج "حنون" أخو الحاج "داخل شعلان" كلمه أولا بأدب ومجاملة، نبهه إلى أنهم يعتبروننا جميعاً أخوة لهم، وساءهم أن يحدث بيننا ما يكدر صفونا. وهو لا يرى من الصحيح أن يزج بأطفالهم في قضايا المعلمين. المؤمل منهم أن يعلموهم الأخلاق والفضيلة، لا الشغب والنفاق.
وأشتد النقاش بين الطرفين، فأعلن "حنون" إلى جميع التلاميذ:
- أولاد آل إبراهيم، آنه أسحب ولِدنه، وانتو لكم رأيكم!
والتفت إلى مدير المدرسة وقال:
- أعلمك شلون أطلعك من المدرسة. أنتظر!
أنتشر الطلاب على ضفة النهر، متأبطين كتبهم ودفاترهم. وفي هذه الأثناء دنا من الضفة زورق، نزل منه مدير المعارف ["تحسين إبراهيم" وكان إداريا قديرا وذا كفاءة علمية]. وحين عرفه التلاميذ قاموا بهوسة: "سباب المذهب ما نريده"
أنظم إليهم مدير المعارف، دار معهم ساحة المدرسة، ثم أتجه صوب الساحة الداخلية. وفجأة وقف ودق الجرس، فاصطفوا وألقى عليهم كلمة، حيا فيها شعورهم. ثم أدخلهم إلى الصفوف، وطلب منهم أن يحافظوا على الهدوء والنظام.
قابلنا مدير المعارف بغلظة، وبعصبية وحِدة. صاح بوجهنا:
- أطلعوا برّه!
أما صاحبنا المدير، فقال:
- عمي أني هم أطلع؟!
فنهره ساخراً:
- عمك؟! أحمق!
بعد نصف ساعة، دعانا وقدم لكل واحد منا أوراقاً بيضاء مع كاربون. وراح يملي أسئلة يجيب عليها المعلمون. لم يعطني ورقة. فسألته، فرد عليّ بالتهديد والوعيد!
- لتگول الوزير عمي.
- أستاذ ماكو داعي تزج الرجل بالوسط. لو كان يدين بالمحسوبية والمنسوبية لعينني في مدينتي. لكن هو أجلّ من هذا.
فتراجع مدير المعارف، وقال:
- أنت وهو أطراف بالدعوة! [الواقع ليس هذا السبب. إنما قصد أن لا يقع عليّ ضرر فقد كنت آنذاك مستخدما يتم فصلي بسهولة إن ثبت الأمر ضدي. ولو كنت طرفاً في الخصام يكون اُدعى لإشراكي في التحقيق.]
وانتهى التحقيق. فأمر مدير المعارف –مدير المدرسة- أن يرزم متاعه. قال له: يعني لوين؟
- إلى حيث تلقى جزاءك!

غَـربـــلة

دعانا اليوم مدير المدرسة إلى اجتماع ننظر فيه مسألة الامتحان الذي أصبح قريباً [عندما أنتقل مدير المدرسة السابق "صالح زيدان" خلّفه في الإدارة عبد الحميد محمود الملا صالح "الخصيبي"]. وهو أحد المعلمين الذين اشتركوا فيما انتهى إليه المدير السابق. فتذاكرنا حول نسبة عدد التلاميذ الذين نؤمل نجاحهم.
يبدو إن المعلمين لا يحسبون حساب النسبة إلا عند قرب الامتحان. إنهم لا يعنون أكثر من إلقاء الدرس، فيفهم من يفهم، وللكسول عصا بلا إرشاد ولا توجيه، أو كشف لأسباب ذلك التقصير، أما في مثل هذا الاجتماع فالأمر مضحك ومزعج.
تحدث المدير عن الطلاب في كل صف. سأل كل معلم عن عدد التلاميذ الذين يمكن نجاحهم. فإذا أجاب معلم إنهم أقل من النصف. بحلق المدير عينيه ورسم علامة استغراب بحاجبيه.
- كيف؟ ... صف عدد تلاميذه خمسة وأربعون تلميذاً، الناجحون ثمانية عشر! ألا يدل يا أخي أنك مهمل! أمن المعقول إن هؤلاء لا يعقلون الدرس، وما هذه الدروس؟ وما صعوبتها، كلمات معدودة بسيطة يفهمها ابن الشارع! أنا لا أسيء الظن بالتلاميذ تماماً. صحيح يوجد مقصرون. لكن لا بهذه النسبة!
يبدو أن المعلمين يخشون الإدارة ولا يخشون الواجب، لا يهمهم في قليل ولا كثير أمر رسالتهم التعليمية، أطرقوا وكأن على رؤوسهم الطير! وتحشرجت أصوات بعضهم عندما أخذ يتكلم، وكأنه مصاب بالتهاب الحنجرة. وبدا آخر بمنتهى اللاأبالية، قابل استهانة المدير، وجفاف لهجته بضحكات هستيرية. وقال آخر وهو يبتلع لعابه:
- أتنسى يا أخي كم تغيب أكثرهم أثناء شدة البرد في الشتاء والمطر؟ وبالطبع أنا لا يمكنني التوقف عن التدريس، ولا يسع الوقت لإعادة ما فاتهم أثناء تغيبهم. ولا تنسى كم قدمت لك بعضهم لتهاونهم بالواجب البيتي والحفظ فعاقبتهم "أنت" وما أجدى العقاب!
وكرّ المدير، فتحدث: المعلم المجّد يعرف ويستطيع أن يوجه التلاميذ توجيهاً صحيحاً حتى ولو كان الصف بلا سبورة وتباشير! وسرد أمثلة على ذلك من حياته في التعليم.
ولزم المعلمون الصمت فما ردوا على كلامه، خوفا –كما قالوا- من التقرير السنوي، الذي هو السوط المخيف بيد المدير في نهاية السنة الدراسية!. أما أنا فكانت النسبة لدي جيدة –والحكم للمستقبل الكشاف-
وأنفض الاجتماع، وعاد كل منا إلى صفه، وعادت إلى بعضهم شجاعته، وترك الصف وعبر إلى صاحبه، وراح يعلق ويحشو تعليقاته بالغمز واللمز، وربما علا صوته لفرط الغيظ فيخفيه فجأة خشية أن يسمع المدير.
وحين تمشينا عصراً أخذ أحدهم يتحدث كما لو كان المدير يعنيه وحده، فراح ينقده عندي نقداً لاذعاً:- حضرة المدير يحدثنه عن نجاحه في حياته التعليمية. يكفي أن له في التعليم سبع سنين ما فارق الاختصاص في الصف الأول، يدخل ألهم بالنعال والقميص وماكو غير العزف على العود!
وقال آخر:- الرجل يحب هذه القرية، ما غادرها خلال هذه المدة غير ثلاث مرات لأجل الحلاقة. وما شاف الحمام غير مرة، الأخ طبعاً ناجح بحياته التعليمية، لأنه يعلم الصف الأول نظرية النسبية لأينشتاين!
هكذا واصلو الثرثرة حتى عدنا وجمعتنا مائدة الطعام جميعاً كالعادة. وبهذه المناسبة أيضاً زارنا الليلة كثير من أولياء الطلبة، كل يسأل عن ولده، ويرجو مساعدة المعلم. أما المدير فقد كان يطمئنهم، وأما بعض المعلمين فقد ناقشوا بعض هؤلاء. كيف أنهم لم يسألوا عن مستوى أبنائهم خلال السنة، وحين انقطعوا في كثير من الأيام عن المدرسة. لكن الآباء أجابوا ببرود:
- لا بأس، أنتم ابهاتهم، احنه ما نعرف، سلمناهم بيدكم أمانه، تتصرفون بكيفكم، ونريدهم منكم مستفيدين!
أما بعضهم فلم يتحرج أن يلمح في كلامه ما يشير إلى تخوفه من أن ينتقم المعلم "..." –لأنه أساء إليه مرة- فيرسب أبنه. وأشار أيضاً: أن أبنه نقل له مرة أن المعلم "..." كان إذا وجه إليه سؤالاً، خصه بالمحرج الغامض، بينما يتساهل مع رفاقه الآخرين!
فأنزعج أحد المعلمين، وصاح:
- هذا أتعس، هذا منتهى السخف. يصدقون طفل صغير، ويتهمون المعلم. يا أخي المعلم يفرح بنسبة النجاح لا بنسبة الرسوب؟ ودائرته هي اللي تحاسبه، والمعلم ما يحقد على تلميذه. وابنك إذا نجح اليوم بلا تعب ولا كفاءة، ما يستطيع النجاح بالبكالوريا.
كان هذا المعلم يتكلم بسرعة وحدة، مما أعتبره ذلك القروي –على حد تعبيره- رطانة. ولأجل فض النزاع، حمل المدير العود وضرب على أوتاره، فأنّ ودندن. وبدت سورة الطرب على الحاضرين. وتحول المجلس إلى غناء وطرب، صهر الجميع في بودقته، ووحدهم فانتظموا يغنون ويصفقون.


يتبـــــــــــــــع

ألناشر
محمد علي الشبيبي

السويد ‏13‏ آب‏ 2010



161
معلم في القرية /3
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي (1913 – 1996)



تَبّت يدا أبي لهب
كنت في الصف الأول أدرب تلاميذي في درس الدين على تلاوة سورة "تبّت"، هم يتلقونها بالطبع شفاهاً، لأنهم مازالوا غير قادرين على القراءة مباشرة، ولم يكملوا الحروف في درس العربية. وفجأة جاءني الفراش معلناً أن المدير يطلبك.
تركت الصف، ودون استغراب لهذا الطلب، فقد جرت عادة معلمي القرى إنهم لا يلتزمون بالضبط التام، لقلة عدد طلابهم، أو لأنهم يوفون الواجب حقه فما تهم دقائق معدودة من أجل أمر عارض، أو استراحة من جهد الصياح خصوصاً مع الصغار من صف الأول والثاني. وأخيراً ربما لشعورهم بالاستقلال ولبعدهم عن رقابة المسؤولين، واطمئنان بعضهم إلى بعض، وهو اطمئنان لا محل له.
دخلت عليه باسماً وسألته: هَه ماذا يا أخي؟
لكنه ردّ عليّ بنبرة صوت الآمر.
- سمعتك تدرس خطأ. أصلح خطأك!
- كيف؟
- أنت تدرس "تَبت يدا أبي لهبٍ وتبْ"  بالتسكين. والصحيح "وتبَّ".
ابتسمت ثانية لملاحظته. وقلت:
- أنت مصيب. إنها كذلك لمن أراد أن يتهجى الكلمة أو يمزج هذه الآية بما بعدها. أما أنا فأسكنها لأنها نهاية آية، حفظاً للطلاقة والسبك الذي يعتمد عليها أسلوب قراءة القرآن. ألا ترى أني لو ألتزمت تحريك نهاية كل كلمة لأختل السبك. فالكلمة الأخيرة من هذه الآية مفتوحة مشددة، بينما الثانية مفتوحة مخففة، أما الثالثة فمكسورة مخففة وهكذا جاءت نهاية كل آية تختلف عن سابقتها بالوزن والحركة.
- ولكني أوكد عليك الالتزام بما أقول لك. تسمع!
قلت: أنا لا أعمل إلا بمقتضى فهمي لا فهمك. تسمع!
وعدت إلى الصف، فأقبل الفراش يستدعيني ثانية، فرفضت. وجاء أحد المعلمين يلتمس أن أحضر. فحضرت، فوجدت جميع المعلمين قد تركوا صفوفهم بطلب منه، أردت أن أجلس حيث جلسوا، فصاح.
- لا تجلس تعال هنا.
فقلت: أنت تمزح أم جاد، هل أنا تلميذك أو أبنك أم أنت محقق وأنا مجرم؟
صاح، يا جماعة أحكموا،  شوفو بالجزو، هذه الكلمة "تبَّ" بحركة أم ساكنة؟
أجاب الجميع وأنا منهم محركة.
- بس ليش تسكنّه؟ 
أوضحت رأيي مرة ثانية أمام المعلمين. وسألتهم بعد الإيضاح.
- هل هذه مشكلة تستوجب هذا الموقف الجاف مع زميل له كرامته، إني أمضي برأيي وأكتب أنت إلى الجهة المعنية، وخرجت إلى صفي.
وإذا به يدخل عليّ في الصف، وبعد مقدمة للتلاميذ حول ما قرأوا قال:- والآن، أقرو مثلما اقره آني "تبتْ يدا أبي لهب وتبَّ".
صاح التلاميذ بصوت واحد "تبتْ يدا أبي لهب وتبْ". نهرهم بغضب:
- اقرو مثلي.
أجابوا بصوت واحد:
- لا، نقره مثل ما يقره المعلم "علي"
فأنقض علي بوحشية وجذبني من تلابيبي ودفعني إلى الجدار! قائلاً:
- عجمي! ابن عجمي!
فبادرته بلطمه حادة على خده. وهب التلاميذ من مقاعدهم. ولو لم يسارع المعلمون للحيلولة بيني وبينه لهاجمه الطلاب.
تألمت كثيراً لهذا الأسلوب المزري، فأسرعت لمغادرة المدرسة واستأجرت زورقاً لأصل الناحية، وأتصلُ بمدير المعارف فأشرح له الوضع.
لكن ابن رئيس القرية "الحاج داخل" أسرع إلى والده. فهب الرجل مسرعاً وأمر بعض رجاله أن يمنعوا صاحب الزورق من التحرك.
أعادني إلى المدرسة، وأنا آسف أن يحدث ما حدث من هذا المدير الأهوج فيتدخل بيننا من يجب أن يستفيد منا كشباب مثقف. وقام الرجل "الحاج داخل" بالصلح بيننا، وكان ذكياً ولبقاً. وأعلن رجل آخر يدعى "سيد إدريس" وهو علوي في سن شيخوخة جليل القدر، بأن الغداء عنده لترسيخ الصلح.
هناك فتحت الموضوع ثانية. أوضحت إن أسلوب التحدي والاستهتار بكرامة المعلم من قبل زميله المدير يوصل إلى أسوء العواقب. وإذا كان حضرة المدير يتفوق عليّ بشهادة التخرج فلن يتفوق عليّ بأشياء كثيرة. واقترحت أن ندون رأيه ورأيي على ورقة نستفتي بالموضوع، العالم الديني السيد رضا الهندي إمام ناحية الفيصلية، ومدير ناحيتها "أحمد السالم" [هو من أهل البصرة. تعرفت إليه حيث كان على درجة عالية من الإطلاع. إنه يجيد العربية نحوا ولغة، وفن الرسم والعزف على الكمان، ويجيد اللغة التركية والفارسية، وكان يحفظ الكثير من الشعر، وخصوصاً للمتنبي. كنا نجتمع بديوانه فنقضي ساعات لذيذة نتجاذب الأحاديث وقراءة الأشعار، وما يتعلق بها من نقد، أو المناسبة التي قيل فيها. أو نتسلى بتقديم تهمة لأحدنا، فيقيم عليه الدعوى، يكون هو الحاكم، يستدعي الشهود، وتبدأ المرافعة، ويصدر الحكم على من تثبت الدعوى ضده وتكون الغرامة أكلة فاكهة أو حلوى.
أحيل على التقاعد بسبب ما حدث أثناء تشييع جنازة السيد نور الياسري في 4/5/ 1936 ونقل من الفيصلية، ثم فصل من الوظيفة. وقتل في البصرة .....، قيل أنه ألتحق بأبناء الشيخ خزعل أمير المحمرة وخلال مصادمة جرت بينهم وبين خصومهم أصيب ومات.]
هكذا تم الاتفاق وأرسلنا الاستفسار مع توضيح لوجهة نظري. وجاء الجواب مؤيداً وجهة نظري. فهل يا ترى يلتزم صاحبنا ما تقتضيه حقوق الزمالة والأدب والنظام؟

المتنبي وموسليني
سهرة رائعة تمت هذه الليلة. دعوة خاصة من أجلي بسبب ما حدث أمس أقامها مدير المدرسة في كوخ زميلنا البصري.
عزف طباخنا "ربيع" على الكمان، وصاحبه البصري على العود. واشتركنا جميعاً بأغنية، والشراب يتوسط المائدة. يتخلل كل ذلك ما يلقى من نكات لإثارة المعلم فاضل، هذا المغرم الولهان، وليس له حبيب معلوم، وسره في غرامه مفضوح مكشوف. يعلن عنه لكل أحد، وفي أية مناسبة، متشوق لكل أنثى، حتى أنه يفقد إتزانه، ويضيع طريقه، ويرتبك في مشيته، لمجرد ذكر امرأة، وسماع صوت امرأة.
وأجمل فصل تم في هذه السهرة ما تبادله الطباخ "ربيع" والفراش "فليح"، أنشد فليح أبياتاً للمتنبي في هجاء كافور الإخشيدي. فثار ثائر الطباخ، ومثل دور الغاضب بجدارة:
- منو المتنبي؟ أنت، تعرف أبوه تعرف عشيرته؟ ولك المتنبي مجدّي وعليجته قديفة [العليجة: عامية قروية تعني المخلاة والقديفة قماش حريري مخملي، والمثل يساق عن الشخص الفقير الحال ويحاول الظهور بمظهر الغني من خلال مظهره فقط]، خم عكة ومكة يمدح هذا ويشتم ذاك. ما عنده غير لسانه القذر، ونظم بالكرم والجود، لكن ماكو بالدنية أكثر منه بخل. وتغنه وفاخر بشجاعته، ولمن طلعوله جماعة فاتك ألأسدي شمع الخيط. وعبده صاح بوجهه، وين؟!:
 "الخيل والليل والبيداء تعرفني          والسيف والرمح والقرطاس والقلم"
رجع المجدّي لكن وسدّو المنيه قبل ما يسل سيفه!
قال فليح: وهسه شتگول؟ وين صارت دولتكم وملككم "النجاشي" خلاكم "موسليني" غنم بلا راعي.
قال ربيع: وانت شنو ربحك بالقضية؟ وعليش فرحان؟ موسليني لو يحصل إلَه أقوه منه جان شفت شيصير بحاله. ولك شوف فليح، لابد ما يجي يوم وتسمع بنهاية موسليني.
وصال على فليح وحمله بين يديه وهو يصيح:
- خلص نفسك هسه، أگضيه وياك فد مرّه.
كان هذا الفصل من السهرة حافزاً لجميع المعلمين، حيث تحول الحديث بجد إلى أنباء هجوم ايطاليا على الحبشة [احتل الايطاليون الحبشة عام 1936، وعاد إليها الإمبراطور هيلاسيلاسي عام 1941]. ورغم أن آراء الأكثرين كانت بعيدة عن فهم الدوافع الحقيقية لهذا الغزو البربري، فأن مدير المدرسة كان الوحيد الذي أشار إلى أن هذا الغزو والحرب الأهلية القائمة الآن في أسبانية، هما بمثابة نذر لحرب عالمية، ستكون كارثة على البشرية! ولست أعلم إن كان رأيه قد سمع به من آخرين لهم علم بالسياسة، أو أنه أدراك وفهم من تتبع الأحداث في السياسة العالمية. ولكني أعلم أن رأيه هذا عين الصواب. فالأوضاع العالمية تهدد بانفجار، بسبب تنافس الدول الكبرى على استعباد الشعوب الضعيفة. والأزمات الاقتصادية آخذة بالاشتداد يوماً بعد آخر، تضيق الخناق على الدول الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا وحلفائها. بينما يدفع هتلر ألمانيا بغروره إلى حرب الدول الكبرى لا لتخليص الشعوب الضعيفة من ربقة الاستعمار، بل لتسلبها منها كغنائم، وهتلر لا يدافع عن حرية الشعوب، بل يطمح إلى أن يحل محل الدول الاستعمارية الكبرى في السيطرة على العالم، وأنه لأشد من أولئك أضعافا مضاعفة، لأنه يدين بأن الألمان هم العنصر الذي يستحق وحده أن يحكم العالم. والليالي من الزمان حبالى والليالي يلدن كل عجيب.

الزواج والفاتحة – النازية والإسلام
كنت أتمشى أمس بين ألواح الزرع المحصود مع أثنين من السادة، كانا يحدثاني عن زرعهم وديونهم، وإن الحاصل هذا العام لا يكفي لسد نصف ديون "هاشم آل عبّو" عليهم. وتأوه محدثي وقال:
- لو مرت سنه يصير علينه الطلب العشرة عشرين.
بفهم الحضري اعترضت، وقلت!
- أنتو يظهر ما توازنون بين واردكم ومصروفكم.
فراح الثاني يشرح لي. إن صرفهم خارج عن أرادتهم. إنهم زوجوا واحداً من أبنائهم. ومن الصدف أن ماتت جدتهم بعد زواجه بشهرين. وتكاليف الزواج عندهم ليست شيئا مبهضاً بالنسبة لتكاليف الفاتحة.
يتزوج الشاب فلا تتعدى مراسيم الزواج أكثر من وليمة لليلة واحدة عند متوسطي الحال. ولا تتعدى الأفراح حدود قريته. أما قضية الفاتحة فإنها تختلف. إنها تستمر أكثر من عشرة أيام فكل من له علاقة أو معرفة من عشائر وأفراد، يأتون وفوداً. ولا بد أن تذبح لأجلهم الذبائح لغداء أو عشاء، ويحضر هذه الولائم كل أبناء القرية في الغالب. صحيح إن أكثر المعزين يقدمون المساعدات في مثل هذه الحالة "أغنام، رز، سمن" ومع ذلك فأن خسارة ذوي المتوفى أكثر بكثير مما يردهم من مساعدة، خصوصاً إذا كان المتوفى رجلاً محترماً.
وقطع صاحبي حديثه فجأة، وكأنه بُهت، والتفت شطر رجل كان يحمل بعض الدجاج بيده. ثم التفت إلى ابن عمه، وبصوت منخفض قليلاً وقال:
- يا ستار! خايب ذاك "جبر" واوي الحجي، ولك والله ما بگه عدنه دجاج، نوگع بفشل لو ضافنه خطار!
لم أفهم معنى ما ذكر فرحت أسأله، عن "جبر"  هذا، والدجاج والحجي. فأفاد، إن ضيافة من يفد إلى الحجي تكون على حساب بيوت القرية. وجبر هذا أحد رجال الحجي، يطوف على البيوت عند اللزوم يجمع منها "الرز، السمن، الدجاج والحليب" على أن ضيوف الحجي قليلون، لأنه قليل الإقامة في قريته. وهو وجه بارز في هذه الجهة، وذو روح وأفكار وطنية. ولعل السبب في كل هذا، أنه لا يشبه غيره من زعماء العشائر، من حيث الملكية، فأكثر الملاكين في هذه القرية لا يقاس بما يعود له بالنسبة إليهم، إلا بنسبة العُشر. كما أنه على درجة جيدة من الوعي السياسي، وهو إلى جانب المعارضة في المجلس النيابي.
وبهذه المناسبة عزم المعلمون، أن يقضوا سهرة الليلة في مضيف الحجي حين علموا أن الضيوف هم مدير مال، ومفوض شرطة واثنان من أفراد الشرطة. ولا أدري لأية مناسبة كانت زيارتهم.
كان مدير المال كهلاً، لكنه مترهل الجسم، ذا كرش منتفخ. أما المفوض، فيكبره قليلاً، لوحت وجهه الأحمر حرارة الشمس، فصبغته بصبغة نحاسية.
وصلنا المضيف بعد انتهاء العشاء. ودارت أكواب الشاي على الحاضرين. كان مدير المال كثير الكلام. كان يقص الحكاية تلو الحكاية، وكل حكاياته عن العثمانيين، ويبدو أنه "جندرمة" قديم، فهو يتحدث عن حروب العثمانيين، وقادتهم الكبار، ولم يكترث لعدم إصغاء الحاضرين لأحاديثه، بينما كان المفوض يعلق ساخراً من بعض أحاديثه بلهجة القرويين. ومع ذلك فقد ساد المجلس فتور، وأدرك أكثرهم ملل. وكان ابن عم الحجي يتصدر المجلس، وهو أكبر منه سناً. رجل محترم، ذو كياسة، له ولع بمطالعة الكتب ولابد إنها من توجيهات من يتصل به من المعممين. فهي لا تعدو كتاب "أعلام الناس" و "زهور الربيع" و"ألف ليلة وليلة". وهو أيضاً حاج، أنبعث صوته بوقار شيخ محترم، وهدوء الواثق بنفسه. وألقى بيتاً من الشعر، تساءل عن قائله وطلب ما يكمل المعنى فيه. كان هذا البيت شائعاً على ألسن أكثر الناس.
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه      وانصب فان لذيذ العيش في النصب
ساد المجلس وجوم، وخيم عليهم صمت. وما أسرع ما بدد ذلك الصمت صوت مدير المال. فقال:
- هذا حق جماعة المعلمين، داعيكم مو مال شُعُر. آني كنت أسقط بدرس المحفوظات [أكثر موظفي الدولة الصغار عن العهد العثماني سيء السليقة والذوق في تلفظ الكلمة العربية، فقد يقول عن كلمة "فكري" "فكريتي" ويضم الشين والعين في كلمة "شعر"].
قال أحد المعلمين:-  والله آني تبخر من راسي كل ما حفظت بالمدرسة من شعر. وما كنت أحفظ إلا المقرر بالمنهج والكتب من نصوص.
وقال الثاني، آني كنت أحفظ القطعة بالامتحان وأنساها من أطلع من الصف. والله آني ما أفهم إلا بالرياضيات.                                     
وجاء دوري فوفيت السؤال حقه. أوضحت أن البيت ينسب للإمام الشافعي وذكرت بعض الأبيات من نفس المقطوعة. وارتحت كثيراً أن وفقت من بينهم للإجابة. فالقرويون لا يعتبرون الحاج محسن أقل مستوى من المعلمين. لأنه خالط كثيراً من المعممين. وقرأ كتباً كثيرة. ولكني لا أكتم الخوف الذي عراني، حين قدرت الموقف، لو أنهم طرحوا مسألة في الجغرافية، أو الهندسة أو غيرها مما لا يدخل في نطاق معلوماتي. إن موقفي عند هذا سيكون أكثر حرجاً وأشد حيرة.
وعاد الحاج محسن فراح يطرح بعض الأبيات الشعرية في الأحاجي والألغاز. مثل:
وذي نحول راكع ساجدُ       أعمى بصير دمعه جاري
ملازم الخمس لأوقاتها          مجتهد في طاعة البـاري
[هذا اللغز يقصد به القلم، والخمس "الأصابع"، والباري الذي يبريه ويهيئه للكتابة!] وتحدث عن حرب البسوس، فإذا به يصور العجائب من الشجاعة. وكأن كليب والمهلهل من أفراد عشيرته، وكأنه شاهد تلك المعارك. فأمثلته، وما يذكره من تقاليد كلها مستوحاة من محيطه هو، ومن المفاهيم العشائرية السائدة بينهم.
وعرج فعرض الشعر الغزلي، فتحدث عن مجنون ليلى. فأنشد أبياتاً باللهجة العامية:
گبلك ربح مجنون من واعِدّنه
العشب باني عليه ويابس لگنَه
ثم عاد فحوّل الحديث عن الحرب الأهلية الدائرة في أسبانيا، ودعم ألمانيا النازية وايطاليا لقائد الحركة الانقلابية "فرانكو" فدب الحماس في أحد المعلمين، وأخذ يتكلم بحماس:
- نظام ألمانيا بزعامة هتلر، يشبه تماماً نظامنا الإسلامي. وتقاليد ألمانيا تشبه تماماً تقاليدنا العربية!
فأندفع إليه معلم آخر كان يميل إلى جانب الحلفاء وقال!
- أي نظام هذا؟ وشنو هالتشابه، وهالتقاليد؟ هتلر دكتاتور، كل همه منافسة بريطانيا العظمى، ونزع منهم مستعمراتهم!
فوجم المعجب بهتلر ثم تمتم كلمات متقطعة غير مترابطة ولا مفهومة. كان يعرف ما يريد، ولكن الألفاظ خانته -لعن الله الألفاظ-. فتدخل الحاج محسن وقال:
- صحيح مثل ما ﮔال المعلم "ف" في حديث عن النبي (ص) "الجنة تحت ظلال السيوف" يعني النبي (ص) أن القوة أساس لازم للأمة. كذلك فرض الإسلام على الحريم أن يلازمن بيوتهن. وهتلر نادى مثل ما سمعت "إلى المطبخ يا بنات ألمانيا"
فرد المعلم الحليف:
- لكن بنات ألمانيا يمارسن أعمال مثل الرجال. وكتاب "كفاحي" لهتلر جعل العرب في المرتبة الثالثة عشرة، قبل الزنوج بدرجة. واحتدم النقاش بين أنصار هتلر، وهم كثر، ومبغضيه وهم قلة، ولم ينته النزاع لولا أن أشار مدير المدرسة بالنهوض والعودة إلى أكواخنا.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏11‏ آب‏ 2010

162
الحل ليس بإعادة الانتخابات في العراق!؟

مقدما أزف أسمى التهاني بمناسبة شهر رمضان المبارك، وأدعو من الله أن يكون هذا الشهر على المسلمين وجميع شعوب العالم شهر خير وبركة، وخاصة على شعبنا العراقي المتعطش للأمن، وللكهرباء وللخدمات. فهل يسمع هذه الدعوة المسؤولون المتنعمون في المنطقة الخضراء بما تجود عليهم من امتيازات ووسائل راحة حُرم منها الشعب أو بالأحرى سرقوها بصلافة من أموال الشعب؟ وهل يقبل الله صيامهم وصلاتهم وتعبدهم، والشعب يعاني من الانفلات الأمني وشدة الحر وانقطاع الكهرباء والملايين تعاني من الجوع والمرض والفقر!؟ 
تناول الأستاذ محمد علي محي الدين قبل أيام مشكلة تشكيل الحكومة فكتب مقالا بعنوان  (هل الحل في إعادة الانتخابات). ليس الصديق محمد علي  أول من يطرح فكرة إعادة الانتخابات في حالة استحالة تشكيل الحكومة في ظل الصراع المقزز والباعث على الغثيان من أجل المناصب الحكومية، فقد طرحها قبله سكرتير الحزب الشيوعي الأستاذ حميد مجيد موسى، وهناك آخرون يطرحون ذلك. ولا أرى في إعادة الانتخابات ما يؤدي إلى إنجاب أطراف جديدة تؤثر على المعادلة السياسية أو أنها ستكون الأفضل!؟ لأني لا أرى في الساحة العراقية تأثير قوي لقوى التيار اليساري والديمقراطي (علمانيا أو غير علماني). فهذا التيار مشتت ومنكمش وبعيد عن الجماهير والتأثير عليها بحكم ظروف ذاتية وموضوعية لم ينجح لغاية اليوم وبالرغم من مرور سبع سنوات على السقوط من تجاوزها!؟.
الانتخابات وسيلة ولهذه الوسيلة أداتها هي تبني مصالح الجماهير وقيادتها بشجاعة من أجل مطالبها العادلة، كي تمنحك هذه الجماهير عند قناعتها ببرامجك وقدرتك صوتها. والسؤال كم نجحت القوى اليسارية والديمقراطية في حشد الجماهير وزجها في نضال يومي تصاعدي للمطالبة بتحقيق مصالحها وحل مشاكلها؟. العراق يعاني فيه الشعب اليوم من شدة الحر وانقطاع الكهرباء وشحة الماء وسوء جميع الخدمات أو بالأحرى انعدام الخدمات، وانتشار الفساد في رأس السلطة وفي معظم مؤسسات الدولة، والفقر والمرض يفتك بالشعب. ولو أصاب أي شعب ربع ما أصاب الشعب العراقي لأنتفض ولأسقط الحكومات الفاسدة، ولكن نجد في ظل هذه الأوضاع أن القوى اليسارية والديمقراطية عاجزة عن تحريك وقيادة الجماهير لتصحيح الأوضاع بينما القوى الطائفية بمؤسساتها الدينية تنجح المرة تلو الأخرى في حث الجماهير على الزيارات المليونية. وأنا لست ضد الزيارات ، ولكن السؤال يطرح نفسه: بماذا تنفع الجماهير الجائعة المريضة والمعدمة هذه الزيارات المليونية؟ سوى أنها تعطل العمل في الدوائر وتزيد من تدهور الخدمات الإدارية وتعطل الدراسة وغيرها، وتسبب خسائر مادية بسبب اضطرار الدولة إلى توفير الحماية، مثلما تسبب انتشار الأمراض، إضافة إلى أنها تجاوز على حق المواطن في الهدوء (وخاصة المرضى والمتعبين بسبب ضغوط الحياة)، وهناك الكثير من الأضرار الناتجة عن هذه الزيارات. والسؤال الآخر ماذا يمكن أن تقدمه هذه الزيارات للائمة؟ فالأئمة هم بحاجة إلى الاهتمام بمدنهم وإظهارها بمظهر لائق بمقامهم، وتقديم الخدمات بأنواعها المختلفة لأبناء الشعب. الأئمة ثاروا وقاوموا وتعذبوا واستشهدوا من أجل الحق ومن أجل أن يعيش الإنسان بكرامة (ورفضوا العيش في المنطقة الخضراء في زمانهم)، ومقولة سيد الشهداء أبا عبد الله الحسين (ع) (هيهات منا الذلة) تشهد على أسس تفكير الأئمة الأبرار وتضحيتهم من أجل هذه المبادئ السامية. ولكن اليوم نرى الكثير من الدجالين الذين يتباكون على المنابر ليساهموا في إذلال هذا الشعب وتظليله ونشر الخرافات والأوهام وتشجيعهم على هذه الزيارات العبثية، لأنهم بهذه الأسلوب ينشروا التخلف والخرافات ليبقى الشعب دون أي وعي سياسي ويعتمد كليا في حل مشاكله على شفاعة الأئمة وليضمنوا بذلك أصوات هذه الملايين لدورات انتخابية قادمة.
لكل هذا أرى ضرورة أن تتحرك القوى اليسارية والديمقراطية (علمانية أو غير علمانية) في الوقوف بشجاعة ضد هذا التجهيل والغلو والضلالية، وكشف دجل الدجالين، وتحريك الجماهير وتوعيتهم من أجل إنسانيتهم وكرامتهم وحقوقهم، ولتصبح هذه الجماهير أداة ضغط واعية لمكافحة الفساد والشعوذة والتغيير الجذري في حكومات هدرت أموال الشعب ونهبت حقوقه وبخلت في كل شيء على الشعب إلا في توزيع الامتيازات والمنح والأراضي على المسؤولين في السلطة والمقربين من الكتل المتنفذة في الحكم. التحرك هذا يتطلب من القوى اليسارية والديمقراطية أن تكتشف الطريق إلى عقل المواطن العراقي وتكسب ثقته وهذا لا يتم إلا من خلال زجه تدريجيا في المطالبة بحقوقه بعيدا عن الكسب الحزبي الضيق. ولكن للأسف أن القوى اليسارية والديمقراطية ومنذ السقوط لم تعر للمطالب الجماهيرية أي اهتمام واكتفت بما كسبته من فتات. وقد حاول الحزب الشيوعي مؤخرا، وبعد سبع سنوات من سقوط الصنم التحرك الجماهيري، ولو أن هذا التحرك بدأ متأخرا جدا ولكنه أفضل من السكون، لكن هذا التحرك يتطلب الاستمرارية وعدم السبات والموسمية، وبغير ذلك لا يمكننا تصور نتائج أخرى أفضل في أي انتخابات. الوضع الحالي يتطلب أن تبحث القوى اليسارية والديمقراطية عن كيفية البحث عن الجماهير لتحريكها من أجل حقوقها الدستورية لا أن تنتظر الجماهير لتبحث عنها.
أنا أقدر ما تعانيه القوى اليسارية والديمقراطية (علمانية أو غيرها) من تشتت وضعف بالقدرات المالية والدعائية وغيرها، وحتى من الخوف أو التهديد من القوى الظلامية ولكن كل هذا لا يبرر مواصلة الانبطاح أمام هذه القوى الظلامية بحجة العقلانية ومراعاة المشاعر والتقاليد، فأن هذه السياسة الحالية ستؤدي إلى تدمير وإنهاء هذه القوى إذا ما سيطرت القوى الظلامية بأسم الدين سيطرة كاملة كما حدث في إيران وطالبان حيث نجحت بالسجون والتعذيب في تدمير اليسار بينما لم ينجح الحكم الشاهنشاهي عبر عقود من إنهاء اليسار. إن أبشع ديكتاتورية هي دكتاتورية الدين لأنها ديكتاتورية بأسم الرب (سماوية) لا تقبل النقاش والحكم على معارضيها هو حكم سماوي (كما يعتقدون) بالموت والتصفية، وهذا ما حدث ويحدث في إيران، وحدث أيام حكم طالبان، وإلى حد ما في السعودية وغيرها من دول يسيطر عليها الفكر الإسلامي المتخلف، بينما هم يسفهون ويحاربون ويكفرون كل فكر إسلامي حضاري متفتح! ويجب أن لا يغيب عن حسابات القوى اليسارية والديمقراطية القوانين والتشريعات التي تم إقرارها بفعل سيطرة القوى المتلبسة بلباس الدين (سنية كانت أم شيعية) في المجلس النيابي أو في مجالس المحافظات، وهي قوانين تكرس لهم البقاء المسيطر في السلطة وفي مقدمتها قانون الانتخابات وغيرها من قوانين لا تعير اهتمام لأبسط مبادئ حقوق الإنسان وكل ذلك يتم بأسم الشريعة، فكيف سيكون حال التشريعات إذا ما سيطرت هذه القوى سيطرة تامة على عملية التشريع!؟
لذلك أرى على القوى اليسارية والديمقراطية أن تعمل على لم شتاتها، وأن تنجح في عقد مؤتمر وطني لها. يرسم هذا المؤتمر الخطوط الأساسية لأسلوب تحركها نحو الجماهير وطريقة تعاملها مع الحكومة المركزية والحكومات المحلية، وأن تنجح في تشكيل جبهة موحدة، لها قيادة تدير دفة نشاطاتها على كل الأصعدة، وذات برنامج واضح (يعرض في الصحافة والمواقع الالكترونية لنقاشه وإغنائه ومن ثم إقراره ويشارك بوضعه متخصصين في كل مناحي الحياة) وان تضع حلولا لمشاكل الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي يفهمها المواطن البسيط، وأن تقف بجرأة وشجاعة ضد نشر التخلف والجهل والخرافات ومطالبة الدولة إلى إحالة الدجالين، الذين يستغلون عواطف الجماهير البسيطة في نشر خرافاتهم، إلى المحاكم لأن في ذلك أضرار صحية ونفسية واجتماعية، وعقبة في تطور عراق متحضر يساير الدول المتقدمة.
خلاصة القول لا بالانتخابات وحدها ننجح في تغيير الخارطة السياسية العراقية وإنما في قدرة القوى اليسارية والديمقراطية (العلمانية وغيرها) في جذب الجماهير وقيادتها من أجل تصحيح الأوضاع السياسية. ولتتذكر هذه القوى إنها نجحت في عقود الأربعينات وبعدها (بينما القوى الدينية كانت صامتة أو مبررة للاستبداد إلا بعض الشخصيات التي عرفت بوطنيتها) في قيادة الجماهير لأنها عرفت كيف تتبنى وتدافع عن مصالح الجماهير وتسير في مقدمة التظاهرات والاحتجاجات ولا تأبه بالتضحيات وتقديم قرابين الشهداء، وكانت على رأس الانتفاضات الشعبية وهي لا تملك الصحافة العلنية ولا المقرات ولا الإمكانيات الحالية من الاتصال والتنسيق.
أما الحل الآني للمشكلة العراقية وقد تناولها الكثيرون. ولاحظنا أن كل محلل وكاتب يدافع عن كتلة أو رئيس كتلة ليتهم الباقين بالتمسك بمواقفهم وعرقلة تشكيل الحكومة، لا بل أن جميع رؤساء الكتل يتهمون بعضهم البعض بعرقلة تشكيل الحكومة، ويعرّون بعضهم الآخر حتى ظهروا أمام الشعب عراة، وقد نشروا كل غسيلهم وقذارته في الإعلام، وخاصة التصريحات المتبادلة بين كتلتي التحالف الوطني الرئيسيتين، إنها تصريحات تدل على عدم الحرص والشعور بالمسؤولية والاستخفاف بالشعب، والقدرة الخارقة في اختلاق الأكاذيب والمبالغات بحق الطرف الآخر. إن تحالفهما كان مسخرة وولد معاقا من يومه الأول، الائتلاف الوطني يعلن في بيان عن انتهاء تحالفه مع دولة القانون، بينما دولة القانون يبقى متمسكا ويرفض إنهاء التحالف!؟ إنها فعلا مسخرة واستخفاف بالشعب.
أما أنا ففي رأيي المتواضع أقول كلهم كذابون وكلهم مسؤولون عن تأخير تشكيل الحكومة وتدهور الأمن. وجميعهم خائفون حتى من نوابهم (أعضاء نفس الكتلة)، وغير واثقين من قناعات نوابهم حين تدق ساعة التصويت، لذلك هم يتجنبون اجتماع مجلس النواب ويلغون إرادة النائب (يظهر نوابنا لا بالعير ولا بالنفير لا تحترمهم حتى قيادات كتلهم، فهنيئا للشعب الذي أنتخبهم)، وإذا ما اجتمعوا سوف يرفضون التصويت السري (نعم سيكون التصويت علني) لخوفهم من نتائج تخالف إرادة الرؤساء المخططين. على أعضاء مجلس النواب التمرد على قيادات كتلهم (هذه طبعا معجزة) وأن يجتمعوا ولا يخرجوا من مجلس النواب إلا بعد التصويت على تعيين رئيس المجلس ورئيس الجمهورية وتكليف رئيس الوزراء. وأن يتم كل ذلك أمام الإعلام وفي تصويت سري ليعرف كل واحد حجمه بين رفاقه (أعضاء كتلته) على الأقل، ولعل هذا يعطيهم درسا للمستقبل. وليعم هؤلاء النواب أنهم أصبحوا ممثلين عن الشعب وليسوا بيادقا بأيدي رؤساء كتلهم وعليهم الاستماع لرغبات الشعب والعمل من أجلها، وأن التأريخ والشعوب لا تنسى من يخون الأمانة ويستخف بمقدراتها.

محمد علي الشبيبي
السويد ‏9‏ آب‏ 2010   
Alshibiby45@hotmail.com     


163
من تراث الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1997)

مقدمة الناشر
 
لم أخطط أن أنشر هذه القصة القصيرة لوالدي طيب الله ثراه قبل أن أجمع وأنظم كل نتاجه ، لولا ما شاهدته بالصدفة على اليوتوب لجزء من برنامج مقدم من فضائية (LBC) اللبنانية. حيث يتحدث دجال عن كيف تمكنه من شفاء فتاة بعمر (13 – 14) سنة من جني كان قد تلبسها؟! وقد أحضر معه خرقاً وأشياء أخرى عجيبة الشكل تعبر عن هواه وشذوذه، أدعى أنها خرجت من رحم الطفلة دون أن تفض بكارتها!؟ ويدعي أن الجني قد تلبسها. ويتحدث هذا الدجال عن أشكال الجن وتمثلهم بالكلاب والخنازير .... ولا أطيل على القارئ ما قاله هذا الدجال، يمكن مشاهدته من خلال هذا الرابط أو من خلال الفايل المرفق مع هذه الموضوعة.


وهذا رابط آخر يتحدث عن كيف يقوم الجن يعشق المرأة ويمارس معها العشق!؟ وأستمعوا للحوار عن الجن؟ والمشعوذين؟ لا أدري ربما الجن موجود فقد في بلاد المسلمين ولم نسمع هنا بالغرب عن تلبس الجن للأنسان ....؟!!

تناول والدي في قصصه القصيرة –لم أنشرها بعد- ضمن مجموعته القصصية (السر الرهيب)، المعاناة التي يعانيها الناس البسطاء والفقراء من أستغلال أقتصادي وأجتماعي في ظل العهد الملكي. وخلال عمله لسنوات في قرى وأرياف الديوانية ، تعرف وأطلع على على مدى التخلف والجهل الذي يعيشه أبناء الريف والقرى. ودور الأقطاع وباسناد من المشايخ الدينية التي تصل إلى هذه القرى في ترسيخ الجهل والخرافات في عقول الريفيين بدل من بث الوعي.
ويتحدث الوالد في قصته (جني العروس)، التي كتبها قبل أكثر من ستة عقود، كيف يعالج (الشيخ جاسم)  مشكلة الأم (نشيده وابنتها) مقابل حفنة من النقود، وكيف يخطط مع نشيده وأبنتها حتى يمرر لعبته وخداع ابن عمها وأهالي القرية. وهو بذلك ينسى مهمة دينه الأنسانية، بل يستخدم ماقرأه عن الجن في القرآن الكريم لخداع بسطاء الناس.
ثم يطرح والدي، كيف سأل أحد المعممين (فقيهاً) وهم مجتمعين في مجلس أحدهم، يسأله بحيرة عن الجن ومدى حقيقة  أصل الجن. يطرح هذا المعمم أسألته وهي منطقية، ولا يجد أي حرج لمعرفة حقيقة الجن. وكان يعتقد أن هذا الفقيه سيجيبه جواباً منطقياً ويحل هذه الألغاز. لكن جواب الفقيه وهو لا يختلف عن أجوبة الكثيرين من المتحجرين في فهم الدين فيجيبه: (نحن نؤمن بالله الواحد الأحد، وانه على كل شيئ قدير، وبرسله وكتبه، وبمحمد خاتم النبيين، فلا يسعنا مع هذا أن نشكك أو نناقش؟!)
للأسف أن بعض الفضائيات لا تتناول هذه الشعوذات بطريقة علمية ومسؤولة لتوعية مجتمعاتنا، بل أجد أن بعضها يشجع على أظهار أمثال هؤلاء المشعوذين -وبعضهم له حجج ممكن أن تمرر على البسطاء- واعطائهم فرصة الحديث على الفضائيات. وهذا ما شاهدته قبل يومين في برنامج نواعم! آمل أن ينتبه الأعلاميون لما يبثوه وكيف يتناولوه.

محمد علي الشبيبي
السويد 2009-07-12
Alshibiby45@hotmail.com


جني العروس


 
الراحل علي محمد الشبيبي


حين أنتهى الذاكر الحسيني، ونزل عن المنبر، أنفض أكثر الناس، ولم يبق إلا خاصة صاحب المجلس "الشيخ أحمد". وهو رجل وقور ومتزهد متعبد، ومن فقهاء البلد، ومتخصص بالتأليف في تراجم العلماء والأدباء.
ديوانه عبارة عن غرفة واحدة، متوسطة، ينفسح عنها ساحة، يتوسطها مربع يحتوي شجرة كرم، وزهور موسمية. ديوانه هذا يكتض بالوافدين، عصر كل جمعة، وعصر كل يوم يتجمع فيه الخاصة من أصحابه، والطلبة الذين يدرسون عنده.
وبدون مناسبة، قال أحد الحاضرين: يا جماعة، مرَّ زمن طويل لم نرَ فيه الشيخ جاسم، خلافاً لما أعتاد عليه. فهو كثير الأسفار، سريع العودة من أسفاره!
- مسكين، على فضله، حظه في الرزق شحيح. أينما وجّهَ وجهه لا يحضى بخير!
قال هذا رجل محترم، فعلق آخر: لكل أمرٍ سبب يا مولانا. فالشيخ –غفر الله له- سريع الغضب! ولا أقول فيه حمق؟!
- لا. الواقع، فيه حمقٌ، ويغلب عليه، والله لا يجعلها غيبة! أنا أقول هذا إشفاقاً عليه!
قال هذا آخر، عُرِفَ بصلته الوثيقة بالشيخ جاسم؟ وأنفجر ضحك من آخرين. وعلق أحدهم. وقال:
كفعل جزّار اليهود بالبقر بَرَأها من العيوب وعَقَرْ(1)
عرف الأول ما يرمي إليه صاحبه هذا، فقال: أعتقد أنكم تعلمون الكثير من المحرجات التي يورط نفسه فيها. أذكر لكم واحدة منها. حلَّ مرة ضيفاً على الزعيم "عطية" كانت ليلة جمعة، فالتمس الآخرون منه، أن يتفضل فيرقى المنبر، وذكر الحسين فيه أجر عظيم! لكنه أجاب: انا لست من صنف –الروزخونية(2)- أنا رجل فقه وشرعيات؟! ردّ عليه أحد البارزين من حاشية الزعيم:
-شيخنا ذكر الحسين، يشرف كل واحد، ما يعلو عليه واحد، وإذا ما إلك إطلاع، نكتفي لو تسمعنه –حديث الكساء(3)؟
أنتفض الشيخ، وبدون تروي قال:
- يو ...ه، حديث الكساء، حديث الكساء، هوَّ كله لحاف عتيق، تمزق وانتهى!
أضطرب الديوان من هياج الحاضرين، كاد بعضهم يعتدي عليه، لولا تدخل الزعيم بإشارة من يده، فسكتوا. وعاد أكثرهم من الديوان غضبان أسفاً.
وضج الحاضرون في الضحك. وأنهالت النكات بالمناسبة حول الشيخ جاسم، ومواقفه المحرجة.
في هذه الأثناء دخل الشيخ عبد الحسين. انه من أقارب الشيخ جاسم، حين أستقر، سأله أحدهم، إن كان له علم بالشيخ؟
هَزَّ الرجل رأسه، وبدت منه أبتسامة عريضة، وقال: هذه المرّة يبدو أنه وُفقَ. نسأل الله له ذلك!!
عجّ السامعون بلهفة يستفهمون؟
- ايه ... ياالله، يا الله ... انشاء الله موّفق. وَضّح.
- على غير نيه أتجه إلى قرية من قرى السماوة، وفي مضيف لشيخ القرية، أستقبل بحفاوة، فتحدث وأجاد الحديث ...؟!
- يبدو أن حظه أستيقظ! هذه فاتحة خير.
هكذا قطع حديث قريبه أحد الجالسين، فضجوا بالضحك وتتالت الطُرَف.
وعاد المتحدث يكمل حديثه ..
- وفي المضيف جرى بين الحاضرين الحديث عن شابٍ جُنَّ على أثر مروره بعد الغروب على -ايشان(4)- في نهاية بستان. قالوا انه صُرع من الجِن المقيمين فيه(5). وسألوا الشيخ جاسم، إن كان له علم بهذا الأمر، ولا أدري كيف أستجاب الشيخ، وانتقل إلى ذوي المصروع، حيث أتخذ من مضيفهم الصغير مقاماً له. ولا أطيل عليكم، يبدو أن الله تلطف عليه فنجح بمهمته!! وعاد للشاب عقله! وبناءً على هذا النجاح إلتمسوا منه الأقامة بينهم. وأفهمهم هو: أنه رجل فقه وشرعيات. فزاد أحترامهم له. وأسرعوا فعملوا كوخين محترمين. أحاطوها بسياج من سعف النخيل. وعما قريب سينتقل بعياله للأقامة هناك!
قال أحد الشيوخ من المعممين أمثاله: نسأل الله التوفيق وسعة الرزق.
فعلق آخر: وأن يهديه للتروي، وتدبر الأمور بعقل وأناة!
قال ثالث، موجهاً كلامه إلى فقيه، عُرِفَ في مجال الفلسفة بإطلاع واسع، ومعرفة عميقة:
- ما ترى مسألة الجن؟ الأمر يلتبس علينا. اَهُمْ شياطين من صنف إبليس، أم هم خلقٌ أدنى من الملائكة؟ إن القرآن الكريم أشار إليهم في أكثر من موضع. إن منهم من يؤمن بالله ومنهم كفرة! مايهمني أن وجودهم في الواقع أشبه ما يكون بـ -العنقاء- و –الغيلان-؟ انا لا تهمني التعاريف. يتشكلون بكل شكل(6) حتى الكلب والخنزير. والناس يخلطون في الحديث عنهم. بين مايشير إليه القرآن، وبين ماتذكره الأساطير، في كتب شتى، معتمدة وعادية. أتساءل، إذا كانت لمخلوق ما هذه القدرة الخارقة، فلماذا الأختفاء؟! لماذا لا يحتل هذه الأرض كلها، ويخضع الناس لسلطانه؟!! يزعم الناس أنهم يظهرون في الأماكن المهجورة دون العامرة؟ ثم أخيراً، لم تعد هذه الأسطورة تذكر إلا قليلاً في المدن. حين أنتشرت المدارس الحديثة؟ وعمَّ المصباح الكهربائي، لكنها ماتزال في القرى والأرياف، حيث يعم الجهل والفقر؟!
وتنحنح الشيخ أحمد. فوجّه الجميع أنتباههم إليه. لكنه أكتفى: نحن نؤمن بالله الواحد الأحد، وانه على كل شيئ قدير، وبرسله وكتبه، وبمحمد خاتم النبيين، فلا يسعنا مع هذا أن نشكك أو نناقش؟!
وحان وقت الصلاة، وهبَ الجميع يستعدون لأداء الفريضة.

*         *         *         *         *
ألوقت ليل والريح شمال، والبرد قارس، تمس الجسم وكأنها مشرط الحجّام. فالفصل شتاء في أواسط كانون الثاني. الشيخ جاسم في بيته، أمامه الموقد، فيه عدة القهوة، وقد حجب الدخان كل شيئ حتى عمامته البيضائ! كان وحده، لا يستطيع أحد أن يبقى خارج بيته لشدة البرد والظلام. أنه يتشاغل بنفخ جمرات النار، لتشب وتخف وطأة الدخان. ويسعل أثناء ذلك سعالاً مزعجاً، كلما أمعن نفخاً في الموقد أزداد سعالاً! أحس بحركة قادم، فأعتدل وتنحنح، وحولق، وأستغفر بصوته الأجش. كانت أمرأة نَصَف، رحب بها، وبدا عليه أنه أستغرب أن تجرأ أمرأة على الخروج في مثل هذا الوقت، وفي الظلام الحالك والبرد الشديد؟؟
- شيخنا آنه نشيده آل حطيحط. جيتك بأمر واحـﭼـي وياك دِشر (بصراحة)!
- براحتـﭻ ينشيده؟!
- شيخنه! لا بالايشان شياطين ولا جن؟! ابن آدم أشطن من الجن؟ خَلنَه من هاي كِلهَه ...
- لا تطوليهه، ولا تعرضيهه ينشيده، بيني مگصدج ومرادج؟
- شيخنه. آنه اَعَرف سالفة –العوذة والتمايم- وعزيمة الجن(7)! أگول وياك عَدْلَه، بلا ميلَه، ولا توسَلْ؟! عِمله؟ أگول. وگول؟؟ زين ...
- أمرج، ينشيده!
- حسنه بتي، اوْحَيّدتي. حَبَّت وزَلَتْ، وهَسَه أريدك تدبرهَه!؟. "شليبه" ابن عمهَه تجَدَمْ لخطبتهَ، خَلِصهَه من الموت والفضيحة؟!
أطرق الشيخ فترةً، عزف في تفكيره لحظات. وأدركت نشيده سر وجومه. وترجمت هي في سرها، ما راح يفكر به؟ قالت في سرها: ابو عمَيْمَه، أحسب حسابك، هسَّه شكبرهه الفرحة بسَدرك (بصدرك)؟ گول، لزمتج ينشيده من بلعومـﭻ؟! أطلب ما تريد، آنه حاسبه حسابي ومستعده!!
قال الشيخ بصوت متهدج: شلون ما تصير القضية، التدبير يستاهل كل ما اطلب.
- لـﭼن سايم الله عليك، أنصف وياي، وآنه ما قصر. وهَمْ الك عند الله ثواب، تخلص روح، وتستر فضيحه؟!!
- نشيده؟ عشرة صفر ... واعتبري حسنه امعلگه بها اللحية –وامسك لحيته بقبضته- أظن مطلبي موش زَحِم؟ حياة حسنه أغلى ينشيده؟
- موافجه!!
- وبعد..؟
- وشِبَعَد يشيخنه؟!!
- أتفق ويّ ابن عمهَه. وافرض واهُوَ -مثل ماتريدين- مايدري بحـﭼيتج! هاي شتگولين بيه؟
- أمرك!
- أسمعي ينشيده! اعلمـﭻ وعَلمي حسنه بلي تسمعي مني. أضبطي الكلام، كلمة كلمة. المسألة متوقفه على ضبط حسنه بالتمام، مودعه الله. وآنه أنتظر يوم يومين ثلاث، المهم، البدوة بعد الغروب؟! والأحسن ستشيري الحبايب، والجارات ، ها ....ولا تنسين! لازم ماتجين وَحَّدﭺ، شليبه لازم وياﭺ!

*         *         *         *         *

ليلة الأربعاء بعد الغروب، هرع نساء القرية من بيوتهن، وقد ذهلن من صياح وأستنجاد.
نشيده تستغيث ...!؟ حسنه، منفوشة الشعر، ممزقة الملابس. ملامح وجهها مفزعة، أمها تخشى الدنو منها. إنها ترمي من يدنو منها بأي شيئ في متناول يدها، حجر، أم حديدة، أو أية آلة جارحة. تعض من يمسك بها، تتعلق بعنقه، أو بشعر رأسه. لقد جُنَّت الفتاة !!
قالت إحدى الجارات، الليلة أربعاء، يَعَلهَه (لعلها) مارة بالايشان؟ لو دايسه بزون (قط) أسود، لو ﭽابَّه (كَبّت) فوح (ماء الرز المغلي) بالموگد؟!.
- من دون الأيام مرّت بالهوايش من صوب الايشان! قالت أحداهن.
- وَهي غافلة عن روحهَه؟ وشفت البت مخلوسه، وعيونهَ مزوغله، وتصيح من راسه! ... وينك يبو فاضل أريد بنيتي منك؟ هكذا ردَّت نشيده على جارتها.
النسوة ذاهلات، عيون حسنه الجميلة، بدت لهن كعيون ثور هائج! لا تكاد تقترب منها أمرأة حتى تبادرها بلطمة على خدها، أو تقذفها ببصقة، وشتيمة!
- شيرن عَليَّ يَخواتي؟ شنهو الأسوي؟
قالت هذا نشيده، بصوت محزونة منهدة القوى من هول الصدمة. 
أجابت إحدى الجارات: هٰذَ، الخضر، ابو محمد بعد عيني جِريب. اليدخل عليه مايخيب!
قالت أخرى: أم حسنه، لا تصفنين، بعَجَل دَبري أمرﭺ. أبعجَل! لا تتركين البت لمن تصير حسبته صعبه. اليِمّه (الأئمة) كلهم ما يقصرون، الخضر، الحمزة، ابو فاضل(8)، هُم المندوبين بالشِدّات؟ بس لا تتوانين!
وحضر شليبه مذهولاً. وقال، مستفهماً بلهجة مرتبك: 
- صِدك، ﭽذب؟ شها الطرگاعة، منين أجت؟ وشگلتو هِسَّه وشنهو العمل؟
قالت نشيده بلهجة المحزون الحائر: حِرتْ، وحيرني زماني. هاي جبرتي من الله. حرمهه الله من الأبو، وما إطاها أخو، ويرميهَه بها البليه؟
- اَفَه، عليـﭻ عمَّه! آنه عندج، بس گولي.
- شوف نروح للشيخ، لو اُهو ما فادنه بشي، ذاك الوكت، ما اِلهَه غير أبو فاضل! خو كلكم تدرون شلون خَلَص الشيخ، خزعل ابن سنيدح!. وَيْ حِسهَه وبيومهَه؟!
- توكلوا على الله، الشيخ ما هو بعيد، والله بعونكم؟! ردَّ شليبه
ودنا شليبه من حسنه، يتكلف الأبتسامة، وقد أتخذت من خصاص(9) البيت مسنداً. كانت بيد حسنه عصا من جريد النخل، كانت تهدد بها من يحاول الدنو منها....
- حسنه. آنه ابن عمـﭻ. ذِبي الجريده يَبَعد روحي، اطيني أيدﭺ يحبابة البنات.
فلوحت بعصاها في وجهه، لكنه بادرها بخفة، واحتضنها، وصاح: يا الله عمّه وياي!
وهَبت نشيده، وشدّت قوام أبنتها إلى صدرها، وأتجها حيث يقيم الشيخ.
أخذت حسنه تصرخ وتشتم، وتتوعد. تَحجِل بمشيتها مرة وتحرن مرة. تحاول أن تفلت فما تقوى. بصقت على شليبه، حاولت أن تعضه. فعلت كل ما استطاعت من صياح وعويل. وأخيراً وصلوا بها.
الشيخ في ديوانه وحده، أمام الموقد، وقد ملأ الدخان فضاء الديوان. بينما الريح تصارع النخيل والأشجار، فتحس كأن البستان بحرٌ هائج. وخيل لهم، أن الجن فعلت كل هذا، وإنها تتراقص أمامهم. أما الشيخ فأنه ساكن لم يتحرك.
- شيخنه، أدركنه!
صاحت نشيده.
وتنحنح شليبه، فنهض الشيخ مرحباً.
- أهلاً، خير انشاء الله. شنهو الأمر؟
أخذ شليبه يحدث الشيخ عما حدث بلهجة المحزون، والشيخ مصغ يعلن الأسف، ويهوّن الأمر!
- كَتِّفها يا شليبه بشرباكك. قال الشيخ.
ونادى على مصباح ثان من بيته، بينما أخذ يخط دائرة وهمية وسط الكوخ. وأمرَ أن يجلسوها وسط الدائرة! توضأ وتوجه إلى القبلة، رافعاً يديه إلى السماء، مبتهلاً متوسلاً، إلى الله العلي القدير أن يعينه على رد العافية إلى الصريعة. بعد هذا أمسك بعصا خيزران، ودنا من نشيده، وهمس في إذنها "وَصَيتيهَه تتحمل؟" فأجابت بحركة من حاجبيها! عند هذا رفع عصاه، وقال بصوت متهدج: إن كنت من عباد الله الصالحين، فانا أقسم عليك بالأنبياء والأولياء أن تغادر جسدها حالاً؟!"
وكأن هذه الكلمات أنصبت حمماً على حسنه. فهاجت واضطربت، وصرخت تهدد الشيخ وتتوعده، بلسان الجني المارد؟ فحولق الشيخ وأنذره.
- كافر، نجس، أحرقك باسم الله الأعظم! أحرقك. أسمع. أنذرك. وستندم أخيراً!
فزاد هياجها، وأضطرابها. فأهوى بخزرانته يضربها ضرباً مبرحاً. وصار يلهث كأنه يشعر بالرهبة، والمجازفة، مع جني من الكفرة؟ كان الشيخ يصرخ، ويلفظ كلمات مبهمة ... "يحق ..هـ ع، و حوحو، أتركها، أتسمع؟ نصيحتي لك.
ردت حسنه – أبدا ما اتزحزح، إنتَ مالك حتى تأمرني، آنه مو مِنكم!
- هـ ...ا! انتَ مو مِنّا! صار معلوم!
- نشيده، يا الله بعجل، حضري دجاجة سوده، مابيه ريشة وحدة بيضه؟! وزعفران، ولوز وكشمش، وتمن عنبر!
ها اليلة أعمل وليمة لريس الجان، ومنّه أعرف ها العنيد،واعَلمَه بعدين عاقبة عناده؟!
حين خرجت نشيده، أنتحى الشيخ بشليبه ناحية، وقال:
شليبه، إتحبهَه؟ وتريد حياتهَه؟
- يشيخنه، اهي بت عمي ورادتي. ومستعد اشتري حياتهَه بماي عيوني!
- وآنه أطيك عهد بالله ورسوله، أرجع حسنه مثل ماتعرفهَه إلا بشرط!
- ﮔول شيخنه، أطلب، آنه حاضر.
- عشر ليرات صفر ... عثمانيه! توافق؟
- أبشر شيخنه، بسْ ترد العافية لحسنه!
وعادت الأم ومعها ما أمر به الشيخ، فقال:
- وهساعه، خلّو البِت الليله إهنا، وروحوا الله وياكم؟! آمنوا بالله ورسوله، الليلة أعزم والصباح رباح!
خرجوا، ففك الشيخ وثاقها، وراح يلقنها تعليماته الأخيرة.
ذبح الدجاجة وأحتفظ بدمها في الحوصلة بعد تنظيفها.
- اخذي الآن راحتك يحسنه، صرفت أمك وشليبه، وأجَلت القضية للصبح. ديري بالـﭻ، لا تغلطين بـﭼلمه، وحده من اللي فهمتـﭻ بيه. أريدﭺ تصيرين مسودنه تمام. إشتميني، هينيني، إحملي وجع الخيزرانة، حياتج، وسلامتـﭻ معلگه باللي علمتـﭻ. مفهوم؟

*         *         *         *         *

بعد شروق صباح الخميس، توجه دَحام بالأبقار، والأغنام، توقف عند ساقية يجري فيها الماء. دفع حيواناته ترد منها. لمح قريباً منها تحت شجرة سدر ضخمة "هيله" غريمة حسنه في حب دحام.
أبتسمت هيله وأدرك دحام ما تريد، قالت: ها! يدحام عِمَلتْه؟ هسه عرفتك غدار، والله نجاني منك!
- أنتِ شامته يهيله؟
- لا. أبد .... أحمد الله واشكره على سلامتي من الجني! والحمد للله. وانت تعرف ما عندي أم مثل نشيده! وانت تدري وآنه أدري نشيده تحبك مثل حسنه وأزود.
وبقفزة مرحة عبرت الساقية، تهش على حيواناتها. والتفتت وقالت: عيش وشوف، الوكت ما يظل صافي للدوم، لابد ما يصير خابط وعلگم؟!
في هذه الأثناء توجه شليبه ونشيده إلى الشيخ. قالا بعد السلام: ها شيخنه، خير انشاء الله؟
- ماكو غير الخير. استريحوا، آنه وحسنه، ما غمضت إلنه عين طول الليل. لكن عرفت سر الملعون! ريس الجان يـﮕول: هذا الجني كافر، مايفيد وياه غير اسم الله الأعظم! أستريحوا هالساعه، ينتهي كل شي؟!
حسنه، كأنها لم تبرح الدائرة، ولم يفك وثاقها، وكما رآها شليبه أمس.عيناها كأنها تقدحان الشرر. تديرهما وراءه أينما أتجه، وتنظر إليه نظرات الغضب الحاقد. عاد الشيخ يقول:
- كل حركة تصدر من حسنه من لسانها، من عيونهه، في الواقع هيَّ من حركات هذا الجني الملعون! الذي سكن جسدها الطاهر؟! وبعون الله اليوم اطرده. وإلى جهنم وبئس المصير! قال الشيخ وأعتمَّ بعمامته، وطوق عنقه بـ-الحنك- وهزّ الخيزرانة بيده هزاً عنيفاً، وصاح:
- أسمعْ، إفهمْ. أطلع واسلم على نفسك، وإلا احرقتك باسم الله الأعظم؟
- صرخت حسنه، ولْوَلَتْ، واضطربتْ، وأنهال الشيخ عليها بالخيزرانة. أسمَعَتْ الشيخ كلمات الهزء بلحيته، وعمامته، وأعلنت باسم الجني، الأصرار على البقاء!
أرتد الشيخ إلى الوراء، وعاد يحمل صحيفةً، كتبت بالزعفران، مؤطرة بماء الذهب، وقال:
- هذا آخر إنذار. أنظر هذه الصحيفة، فيها أسم الله الأعظم. وخاتم سليمان الذي سجنكم في القماقم! أتَسمعْ، ها، ها؟ أجبْ؟
فصاحت حسنه، تعال يا شيخ، أسمع ما أشترِط. نَفِّذ وآنه اَنْفِذْ!!
دنا الشيخ، وضع أذنه قريباً من فمها. وأرتد مزبداً مرعداً يصيح: ملعون، كافر، نجس، خسيس!
والتفت إلى شليبه ونشيده:
- تعالوا أسمعوا. تعالوا! وأخذ بيده شليبه وقال بصوت واطئ، وهو يلهث فزعاً:
- تدري بشرط هالكافر؟ ابتعدي أنتِ ينشيده -موجها كلامه لنشيده-، خليني أتفاهم ويّ شليبه... أبني هذا الجني كافر وملعون ونجس. خيرني، واحد من أربعة؟ ما يطلع إلا من واحد منهن! يبني اعرفت اشگلتْ؟ يبني، اعيونه، آذانهه، بلعومه والرابع ....؟عَرفتْ؟!
وتحمس الشيخ منفعلاً: لأن هو نجس، يرغب بدرب نجس؟ وهذا أول وتالي هَمْ ينفَض على أيدك؟ من عيونه، تعمه. من آذانه، تصير طرشه. من بلعومه، تختنق وتموت! رِد عليّ؟
شليبه أحس كأن الأرض تدور به دورة سريعة، سريعة جداً. لم يسيطر على نفسه، فقد توازنه. أصفر لونه، تصبب جسمه عرقاً. وكأن سحابة قاتمة غطت عينيه. أرتبك فلم يحر جواباً! أمسك به الشيخ وأجلسه، سقاه ماء، بعد أن أذاب فيه شيئاً. وأعاد عليه الخيار؟
- يبني، أسم الله الأعظم، يزلزل الأرض والسماوات، مو أمر هيّن!
شليبه غرق بتفكير عميق، كأنه في غيبوبة، وكأنه يتكلم دون وعي، ردد:
- آه، يحسنه، حِسنـﭻ ميَسرني، ما تطيني نفسي أعوفـﭻ. والشرط هذا ... مَدري، شگول عنَه ...؟
صاح الشيخ: شليبه اطيني رايك، گول، گبل ماتروح الفرصة من أيدينه؟
وبدون وعي، أنفلتت من شفتيه "موافج!" باهتة حزينة!
وعاد الشيخ يصرخ مهدداً، متوعداً. ويأتيه الجواب .... أبداً ... نَفِذ؟! اَنَفِذْ ...!؟
قال الشيخ: لاحول ولا قوة إلا بالله.
أيها النجس، أخرج من درب النجاسة ....
وأهتزت حسنه، واضطربت، ولْوَلَتْ. ارتفعت وهي جالسة، كأن أنسان حملها ليبطش بها، فغشى شليبه عينيه بيديه. وأنهارت حسنه، واضطربت ثم تراخت، وتمددت كأنها في سباتٍ أو أنها ماتت! صاح الشيخ: نشيده، شوفي شغلـﭻ!
وامسك بيد شليبه، وخرج إلى ظاهر البيت. وبعد لحظات نادته نشيده، واَرَته الأثر؟! الذي كان يحلم أن يكون على يده!
شاع الخبر، مكرمة للشيخ، دون أن يعلم أحد بالحقيقة. لكن شليبه راح يطرح على نفسه هذا السؤال الذي لم يجرأ أن يوجهه للشيخ نفسه.
- آه، لَوَن أعرف منين دخل الجني؟ ما ﭼـان لازم يطلع من الدرب الدخَل مِنه؟!


علي محمد الشبيبي
الناصرية 13/02/1948
 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- من شعر أحمد شوقي في مسرحية -مجنون ليلى-
2- المعلوم، أن هذه الكلمة فارسية. ومعناها –روز- وتعني اليوم، و-خون- أي قارئ. وتغلبت عليها اليوم كلمة منبري أو قارئ.
3- كنت طفلاً وقد سمعت كثيراً من الناس يتحدثون عنه. وأنهم اليوم كانوا في بيت فلان، فتلاه عليهم فلان. وكانت لنا جارة عجوز متعبدة وتزورنا كثيراً وقد تقيم في بيتنا ليال. وطالما قرأته في كتاب للأدعية تحمله معها دائماً.خلاصته ان النبي محمد (ص) دخل بيته وطلب أن يغطى بكساء. وجاء علي(ع) وسأل عن النبي ثم نام تحت الكساء، وهكذا الزهراء والحسن والحسين. وأن جبريل هبط يبلغ النبي عن أن الله جل جلاله قوله: ما خلقت سماءً مبنية ولا أرض مدحية إلا من أجل هؤلاء الذين تحت الكساء. ولكن هذا لم يعد يذكر منذ تبدلت الأرض والناس والحياة والأنارة ؟!
4- الايشان: كلمة أصلها الشأن، يبدو أن هذا المصطلح جاء من أرتفاعه. وعلى أكثر الأحتمالات، أنه مكان مطمور من الآثار القديمة. ويعتقد القرويون أن الأمكنة الموحشة، هي من مساكن الجن!
5- يعتقد القرويون أن الجن قد تتعشق فتاة أو فتى فتتقمص جسده. أو أنه داس مكاناً محترماً لهم، فينتقمون منه!
6- مازلت أذكر ما كانت تحدثنا به جدتنا، وأن بعضهم يظهر على شكل جمرة. وقد يظهر لأمرأة على شكل –جزة صوف- فتهم المرأة لحملها فتهرب منها وتظل المرأة تلاحقها فتختفي، وقد تصاب المرأة عند هذا بالجنون؟! وسمعت من بعض المعممين المحترمين أيضاً أن بيتاً غير مسكون من أهله ولا مستأجر، وأثناء ما كان هؤلاء يتحدثون، إذ بالحجارة تنهال عليهم، فنظروا الشارع فما رأوا شيئاً، ثم رُموا بفحم المراكب، ثم برؤوس البصل، ثم لاح لهم نعاج وخراف عندما سمعوا ثغاءها فأطلوا على البيت ورأوها بعيونهم. وأن أحدهم كان قد صعد إلى السطح ليأتي بقدر فيه رز مطبوخ فلما أمسك بالبرادة، وإذا به يدور بسرعة فائقة وهو ممسك بالبرادة وصار يستغيث، فهرع إليه جملة من أصحابه وأنقذوه؟!
7- العوذة: من تعويذة بالله من الشياطين والجن. والتمايم: شبيه بها. أما عزيمة الجن، فهي لعبة من الذي يدعي ان يتصل بالجن ويدعو كبارهم ورؤساءهم لوليمة خاصة، يأخذ موادها من صاحب الحاجة المعتقد بهذا من لوز وجوز وكشمش وزعفران ودجاج ...ألخ.
8- الخضر- معروف لدى كل الناس وفي كثير من قرى الجنوب، له قبة وحضرة، فيزار ويعيش على سدانة قبته وحضرته قرويون بالوراثة.
أما الحمزة، فمتعدد لا نعلم من هو؟ أما الذي هو في الطريق إلى الديوانية فالمعروف أنه علوي من البحرين جاء لزيارة جده الأمام علي فقتله اللصوص ونهبوا متاع عياله، ومات ودفن. ولا نعلم لماذا أطلقوا عليه أسم الحمزة بينما أسمه الحقيقي "سيد أحمد الغريفي" .
ابو فاضل: العباس ابن الأمام علي قتل في كربلاء. اليَمّة: جمع إمام.
9- جدار البيت وسياجه الذي يحوطه وهو من قصب أو الجريد.

صفحات: [1]