عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - خالد جواد شبيل

صفحات: [1]
1
مع العلّامة حسن الأمين في حِلِّه وتّرحاله - 1
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
بين يديّ كتاب هام وإن قلت أنه فائق الأهمية ما جافيت الحقيقة بل عانقتها، لأنه يتعدى السيرة الشخصية الى التأريخ والسياسة والى الأدب والى أدب الرحلات تحديداً وكذلك الى الشعر والنثر، معنى هذا أن صاحبه أديب ومؤرخ وضع إصبَعه على محطات جدّ هامّة من تاريخنا العربي الإسلامي، تناولها بمنهجية جديدة ومحّص الأحداث تمحيصاً وفحصها فحصاً دقيقا، وخرج بنتائج هامّة أثارت ردود فعل متفاوتة ودافع عن آرائه وأحسن الدفاع بالحقائق الدامغة وأسكت أصحاب اللغط العالي فصمتوا صمت الأموات! وهو سياسي خاض دروب السياسة بشجاعة ثم هجرها بعد أن نقد السياسة وكتب عن الساسة الشرفاء وعن الساسة العملاء بالاسماء الصريحة، ولم تأخذه في الحق لومة لائم، وهجرها غير مأسوف عليها ولم يؤلف فيها أي كتاب! وزد على ذلك هو رحالة رائد شرّق وغرّب وهو محقق ثبت..وهو شاعر وناثر منذ نعومة أظفاره؛ أفيحق لنا أن نصفه وننصفه بلقب علّامة وهو الموسوعي الفذ! وقد ألّف أربعة وثلاثين كتاباً من غير المقالات والبحوث التي كتبها مذ كان في الخامسة عشرة في أمهات المجلات اعتباراً من "العرفان" اللبنانية و "الرسالة" المصرية و "العربي" الكويتية...
***
الكتاب هو " حلٌ وترحال" وكنت قد انتويت أن أكتب عن هذا الكتاب قبل اليوم بنحو عشرين عاماً، وقد سجلت في أوراق متناثرة ثم نقلتها الى الحسوب حين أمتلكت الأول، وكلما قرأت طرفاً منه رحت أدون بعضه وكلما يحين وقت الكتابه عنه  تأتيني "جائحة" عرضية فتلهيني عنه وأعيد المواصلة وظللت أكتب وأنقطع تلهيني عنه قراءات النتف وكتابات هي الأخرى تُشبه النتف، حتى اجتاحت الحاسوب "جائحة" كبيرة فخمّدت أنفاسه وأتت على كل ماكتبت.. فعقدت العزم من جديد بفضل جائحة خبيثة اسمها كوفيد-19 ألزمتني الدار وغدوت حبيسه، فرجعت الى الكتاب أقرأ وأدوّن ما أراه مهماً خاصة عن العراق في الاربعينات والخمسينات!!
والكتاب يشمل قسمين هما "الحِل" ويشمل نحو ربع الكتاب الأول ويتناول حياته من المولد في دمشق وانتقالة مع الوالد بين سوريا وجبل عامل، فلسوريا رحلة الشتاء ولجبل عامل من لبنان وفي قرية "شقرا" رحلة الصيف وهذه الأخيرة هي موطن الأهل والأجداد، وترى أن "الحِل" هو رديف للمكوث والاستقرار فالبلاد مع فلسطين هي بلاد الشام!
أما الترحال فهو السفر خارج بلاد الشام، وكان الغرض بين السياحة الهادفة أي ليس للترويح عن النفس وحب الأطلاع وحسب وإنما للتعرف على أحوال البلدان ودراسة أحوالها، وهناك هدف أهم خاصة عند زيارته لبلدان الشرق والبحث والتنقيب في أمهات الكتب ومظانها الضرورية لبحوثه في علم الرجال وفي التاريخ وفي الشؤون الإسلامية وهذه الرحلات:
العراق الذي زاره ثلاث زورات: عام 1927، 1938، و1945 والزيارتان الأخيرتان للمكوث والعمل كمدرس، وفيهما أهم ماكتب عن أحوال العراق السياسية والاجتماعية والاقتصادية .. وهي التي تعنيننا من هذا الكتاب.
وزيارات متعددة الى إيران: زيارتان قبل الثورة عام 79 وثلاث زيارات بعدها.
ونصيب كل من الهند والباكستان زيارة.
ورحلاته الأفريقية: مصر (عدة مرات) والسودان وأثيوبيا وتنزانيا وكينيا (بضمنها جبال كليمنجارا) وتونس..
وزار أمريكا اللاتينية..
نشأ حسن الأمين في بيت علم وأدب، فقد نهل من علم أبيه العلامة محسن الأمين (1865-1952)، مؤسس المدرسة المُحسنية في حي الأمين من دمشق التي تعلم فيها الطفل حسن الدروس النظامية الحديثة، ومن أبيه الفقه وعلوم اللغة من نحو وصرف والآداب، وقد أبدى الطفل ميلاً شديداً الى الشعر والآداب واللغه والتاريخ ودرسها بشغف، وأبدى نفوراً من الفقه وأصوله ومن الرياضيات ولم يُحبب دراسة أية لغة أجنبية! وكان والده رجل الدين المتبحر حازماً ومرناً متسامحاً مع أولاده مؤمناً بمقولة الإمام علي مخاطباً الآباء " لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم" فلا غرابة أن يكون للسيد حسن أشقاء التزموا دراسة العلوم والنهج الماركسي!
ومن الضروري بمكان التطرق الى حادثة ذكرها وسمعتها منه في قناة "المنار" قبل وفاته بعام أو عامين (توفي عام 2002) حيث في إحدى زياراته لوالده عندما كان طريح الفراش في أحد مستشفيات لبنان وقد أحس الوالد بقرب أجله،  فمدّ يده من تحت الوسادة وأخرج ورقة وأعطاها لنجله وكانت الدموع تترقرق في عينيه فقرأها الإبن:
بكيتُ وما بكيتُ لِفَقد دنيا – أفارقها ولا خلّ أليفِ
ولكني بكيت على كتاب – تُصنِّفه يداي الى صنوفِ
سيمضي بعد فقداني ضياعاً – كما يمضي شتاء بالخريفِ
فتعهد للوالد أن يتم المهمة، وقد كان الوالد قد أنجز من موسوعته "أعيان الشيعة" حتى حرف السين الذي لم يتمه، فتعهد ابنه أن يكمل الموسوعة وينجز ستة أجزاء وكلفته أن يُنظِّم نثاراً من مسوَّدات الوالد  وكلفته أسفاراً ورحلات لكي يتعنى الى مكتبات عالمية  ويتزود كم شتى المصادر الهامة لترجمة أعيان الشيعة ويطبعها، وهو عمل لو بقي عليه لكفاه أن يوصف بالمحقق الثبت والباحث النزيه..
ولست بصدد استعراض منجزات السيد حسن الأمين إنما لا بدّ أن أذكر موسوعته "دائرة المعارف الإسلامية الشيعية" في ثلاثين جزءاً، فهو عمل عظيم تنؤ بتأليفه لجنة من الباحثين، أنجزه لوحده، وكان السبب الذي دفعه الى هذا العمل هو كثرة الأخطاء البريئة وغير البريئة في "دائرة المعارف الإسلامية" التي اعتمدت على مؤلفات المستشرقين وعلى مؤلفين معروفين في تشويه التاريخ الشيعي لأغراض سياسية ومذهبية ضيقة، فكان في عمله كشف الأخطاء وتصحيحها بمنهجية علمية صارمة وموضوعية..
لا يسعني الحال أن أستعرض أو أنوِّه على الأقل ببعض مؤلفاته الأخرى:
الغزو المغولي، صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين، الإسماعيليون والمغول ونصير الدين الطوسي، جنكيز وهولاكو والغزو المغولي للبلاد الإسلامية، مقالات في التاريخ والأدب، مظاهرات وثورات وحروب عربية.......الخ
أما الكتاب الذي نحن بصدده "حِلٌ وترحال"، فقد صدر عن دار نجيب الريس في طبعته الأولى في بيروت سنة 1999. وسنعرض لرحلاته العراقية الثلاث:
رحلته الأولى عام 1927:
لاتنطوي هذه الرحلة على أهمية كبيرة، فقد كان في عمر التاسعة عشرة قد انهى دراسته النظامية وكان والده يريد له أن يكمل دراسته الدينية ويشِدُّ الرحال الى النجف، التي هي منارة تجذب طلاب العلوم الدينية ويؤمونها من شتى دول العالم الإسلامي، ألم يدرس فيها والده لعشر سنوات حتى رجع مرجِعاً مهماً للشيعة في بلاد الشام؟!
لبّى رغبة والده الشيخ ووصل الشاب حسن الأمين بغداد واستقبله بعض معارف والده وتعجب لمرأى الفتى الأفندي المعتمر الطربوش، فاقترح عليه ألا يذهب للنجف بهذا الحال فاعتمر عقالاً وغترة بيضاء، وفي النجف بدا وحيداً بين طلبة العلم بهذا الزي الغريب فاعتمر العمة السوداء ولم يبق في النجف سوى ثلاثة أسابيع وجدها كافيه فالتقط صورة وحيدة بالعمة والعباءة هي الصورة الوحيدة له بهذا الزي الديني ونفر من النجف ومن علومها الدينية وعاد أدراجه الى لبنا والشام ذات الطبيعة الخلابه والهواء العليل بدلا من مدينة صحراوية بكل ما للكلمة من معنى ولكن فيها معاهد العلم والمكتبات مزدانة نضرة عامرة بأمهات الكتب والموسوعات بكل ما للكلمة من معنى!
-   للموضوع صلة –
في السادس عشر من نيسان/أبريل 2020


 







   
 

2
شاعرٌ شهيدٌ قبل أن ينالَ الشهادة!
خالد جواد شبيل
لم أبلغ الحلم بعد حين وجدتني أقرأ وأتملى البيت أو البيتين من الشعر اينما وجدته، مبتعداً عن القصائد الطويلة، وهكذا اختزنت الذاكرة الغضة الصغيرة فَرطاً من أشعار متنوعة.. والغريب أن كثيراً منها يأتيني ويطنّ في أذني ثم يتلاشى تماما كتلك المعروفة في علم النفس بالأفكار القهرية!..نعم كنت غض الإهاب أقرأ ما يطيب لي من صحف في أواخر الخمسينات، وكان لثورة تموز من عام 58 حضورها المبهج على وجوه الناس، وكانت المهرجانات والاحتفالات السياسية كثيرة للشبيبة وللطلبة وللمرأة..فيها خطب وأشعار وغناء .. وحديثهم لا ينقطع عنها فقائدها ابن مدينتهم..ووجدت أن في المدينة شعراء وحتى شواعر يشار اليهم بالبنان في مدينتنا الصغيرة الحالمة على نهر دجلة الخالد حيث البساتين وشواطيء خصبة يخلفها النهر الثائر فتجود بخيار نبع وباذنجان عبق ولوبياء ناعمة غضّة..
في تلك الأيام حيث تدخل الصحف اليومية البيت، إتحاد الشعب (لابد منها)  تصحبها صوت الأحرار أو البلاد، ومجلة "لمعلم الجديد" الثرّة التي تأتينا كل شهر اعتباراً من عام 1939!!
في هذه المجلة التي يحررها أساتذة وكتاب مرموقون قرأت بيتي شعر وقعا في خطري ونُقشا في الذاكرة نقشاً، قادني البيتان لأقرأ موضوعاً مؤثراً عن شاعر فلسطيني زاول التعليم في العراق وفي مدينة البصرة تحديدأً، وكان شعلة ثورية متوهجة من الحماس ودماثة الخلق والتفاني عكسها في شعره، يتشوق للذهاب الى فلسطين ليحارب المحتلين والعصابات اليهودية العنصرية وينتصر لشعبه، هكذا وصفه زميله المعلم العراقي الذي كتب عنه في مجلة "المعلم الجديد"، والبيتان هما:
سأحمِلُ روحي على راحتي - وأُلقي بها في مهاوي الردى
فإما حياةٌ تسرُّ الصديق     –        وإما مماتٌ يُغيظُ العِدا 
***
يوم أمس زرت موقع أحد الأصدقاء فوجدت البيتين ولم يذكر اسم شاعرهما، فقوَّمت البيتين من هنّات لحقتهما وذكرت اسم الشاعر، وربما كان هذا هو الدافع لأكتب هذه الفرزة التي كنت أترقب مناسبة للكتابة عن الشاعر!
ولد الشاعر عبد الرحيم محمود في عام 1913 في إحدى قرى طولكرم ابناً للشيخ الشاعر الظريف محمود العنبتاوي، أكمل الابتدائية في قريته لينتقل الى طولكرم ويكمل الثانوية في مدرسة النجاح نواة جامعة النجاح الشهيرة الحالية.. وتأثر بالشاعر إبراهيم طوقان الذي كان مدرسّه للعربية ومشجعه على الشعر وزامله بالمدرسة ذاته حين أصبح مدرساً للأدب العربي، ترك الوظيفة وانضم الى الثوار عام 1936 وحمل السلاح في جبل النار، وبعد انتهاء الثورة غادر الى العراق. ودخل الكلية العسكرية و تخرج ضابطاً أيام الملك غازي، ثم درّس في بغداد وعُيّن ديراً لمدرسة ابتدائية في البصرة.. شارك في حركة رشيد عالي الكيلاني، وعلى إثر فشلها عاد الى فلسطين عام 47 مدرساً في ثانوية النجاح ثم ترك الوظيفة ليتفرغ  لمقاومة قوّات الاحتلال وخرّ شهيدا في أحدى معاركه إثر قذيفة من العدو في 13/7/1948 عن عمر يناهز 35عاماً..
لأجل البيتين اعلاه اللذين تنبأ في استشهاده ووصفه الدقيق للشهادة ضمن قصيدته "الشهيد" لُقّب بالشهيد، والقصيدة كتبها وهو ابن أربع وعشرين سنه والتي فاقت شهرتها بقية قصائده.
تتسم قصائده بالجزالة اللفظية والرشاقة وحسن السبك وجمال الانسياب ووضوح الفكرة، والمقابلة البلاغية بين حياة ذل لا تسر تفضلها الشهادة التي تسر الشهيد وأصدقاءه، وتتسم بموسيقى من حزن وحماسة على بحر المتقارب وهو البحر الذي كتب فيه الجواهري رائعته في وثبة كانون عام 48:
أتعلم أم أنت لا تعلمُ – بأن جراح الضحايا فمُ
وقصيدة الشاعر عبد الرحيم محمود في مستهلها ( البيتين) بقافية الدال الممدودة، ثم تتحول الى مقصورة دون أن تلتزم روي الدال، دونكم القصيدة كاملة:
سأحمل روحي على راحتي – وأُلقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق – وإما ممات يُغيظ العدا
ونفس الشريف لها غايتان – ورودُ المنايا ونيل المنى
لعمرُك إنّي ارى مصرعي – ولكن أغذُُّ إليه الخُطى
أرى مقلتي دون حقّي السليب – ودون بلادي هو المبتغى
يلَذُّ لأذني سماع الصليل – يُهيّجُ نفسي مَسيلُ الدما
وجسمٌ تجدل في الصحصحان – تناوشه جارحات الفلا
فمنه نصيب لأسدِ السَّما – ومنه نصيب لأسد الشرى
كسا دمُه الأرضَ بالأُرجُوان – وأثقل بالعطر ريحَ الصبا
وعفّر منه بهيَّ الجبين – ولكن عُفارا يزيد البها
وبان على شفتيه ابتسام – معانيه هزءٌ بهذي الدُّنا
ونام ليحلَمَ حُلمَ الخلود – ويهنأُ فيه بأحلى الرُّوءى
لَعمْرُك هذا مماتُ الرِّجال – ومَن رامَ موتاً شريفاً فذا

الوصف يتسم بالحرارة والدقة والتحليل والتحريض وقناعة بأن الشهاده والمقاومة هي طريق النضال، وفي الحقيقة أن الشاعر عبد الرحيم محمود ليس هو الشاعر الشهيد الأول وحسب بل هو شاعر المقاومة المؤسس لشعر المقاومة وشاعل جذوتها الأولى بامتياز...
ملاحظة: اعتمد الشبكة مصدراً للوصول الى قصيدة الشهيد وتغطية بعض جوانب حياة الشاعر الشهيد..
18/3/2020










   




3
ريثما يختمر العجين – 72
كورونا والعنصرية والعنف ضد المهاجرين..
خالد جواد شبيل

يخبرنا علم الفيروسات، إنها كائنات دقيقة جداً أصغر من البكتريا بعشرات المرات أو أكثر ولا يمكن رؤيتها بالمجهر العادي.. وهي كائنات تعتبر حية جزئيا لأنها تبدو محيطة نفسها بغشاء بروتيني تزيحه حين تتوسم أنها في عائل يلائمها.. فتدب فيها الحياة وتخترق جدران الخلايا الحية! وتعبث بها وقد تسبب المرض، ولهذا لايمكن علاجها بالمضادات الحيوية إلا اللهم بقتل الخلايا!!

هذه الفيروسات تتمييز بعدم استقرارها جينياً، أي تنتابها طفرات وراثية قد تضعفها الى حد التلاشي أو تقويها الى حد أن تكون مَرضية شرسة.. وأشهرها فيروسات الانفلونزا المسببة ل "سارس"،ومنها  كورونا التي ظهرت في السعودية عام 2012 وصارت قديمة، لأننا أمام جيل جديد هو كورونا الجيل الجديد (كوفيد – 19) الذي اندلع وانتشر مثل النار في الهشيم في ك1/ديسمبر 2019 في مدينة ووهان الصينية  وعبر الحدود نحو العالم.... ولست بصدد أن أستغرق بفايروس كورونا الذي سرق الأضواء من سيارات تويوتا كرونا ليصبح معارة تلحق أذى بالآسيويين!!
ومن أخطر أنواع التمييز أن يُميّز الآسيويون خارج بلدانهم بشتى أنواع النبذ والنبز باطلاق كلمة "كورونة" علهم وإسماعهم هذه الكلمة.. فلئن يحصل مثل هذا في أمريكا وبريطانيا وإسرائيل فهو أمر له أرضيته أو حاضنته. أما أن يعتدى على شابة صينية في الضفة الغربية من قبل شابتين فلسطينيتين فهو أمر شائن ومؤسف ولا يتماشى مع تقاليد الضيافة الفلسطينية ولا العربية ناهيك أن الشعب الفلسطيني نفسه يعاني من الاضطهاد العنصري الصهيوني..وهكذا حصل مع اليابانيين في بلدان يعملون لمساعدتها!
وفي الدنمارك البلد المتحضر ترفض شابة دنماركية كوب القهوة من النادل الشاب الصيني وعندما عبّر عن استغرابه فأخبرته بخشونه أنه لم يضع القناع وراحت ترمي الكوب في صندوق القمامة.. والشاب هو طالب في الجامعة يتقوى بالعمل لمواصلة دراسته والعودة لبلده..وعند استياء مرتادي القهوة وتدخلهم اعتذرت منه على مضض..
والحوادث كثيرة قد تبعث على الملل لكنها تبعث حقاً على الأسف في عالم متوحش رغم مظاهر المدنية يقتنص الفرصة ليعبر عن نفس مترعة بالحقد لأسباب شتى! مما يشي أن أمام الإنسان في القرن الواحد والعشرين مسافة طويلة حتى يستوعب قيم المدنية ومبادئها الأهم ألا وهي: احترام الإنسان للإنسان بغض النظر عن عرقه ودينه ولونه..
***
وما يعزز ما قلته في الأسطر الأخيرة عن معاملة المهاجرين (أو المهجَّرين) من العوائل السورية الذين خرجوا أو أخرِجوا من ديارهم من ضحايا الحرب على إدلب احيث سمحت  لهم القوات التركية بعبور    130ألف نسمة ليس رحمة بهم لإيوائهم - وهي التي سفّرت بالقوة ألوف السوريين – بل لكي يهاجروها نحو أوربا عقاباً نكالاً لأوربا التي قطعت مساعدتها المغرية لتركيا؛ فماذا حدث للمهاجرين؟!
أما الذين خاطروا واختاروا عبور بحر إيجا بقوارب مطاطية تتقاذفها الأمواج، فحين اقتربوا من السواحل اليونانية تصدت لهم قوات السواحل اليونانية وراحت تقطع الطريق عليهم عاملة أمواج عالية تهدد حياة الراكبين لإغراقهم، ولم تكتف بهذا بل راحت تضرب المهاجرين بقضيب معدني على رؤوسهم لتضطرهم العودة من حيث أتوا.. ثم بادرت باطلاق النيران على محيط الزورق المطاطي.. هذه المعاملة سبق أن مارستها القوات التركية التي لها سجل حافل فيي الاعتداء على المهاجرين..
أما من "اختار" الطريق البري مسلكاً له عن طريق أدنه فقد رحبت بهم تركيا لمغادرة حداودها وما أن غادروها حتى تصدرت لهم القوات المسلحة اليونانية وأمطرتهم بوابل من ذخيرتها المطاطية فقتلت(*) طفلا وأصابت العشرات وحين حاولوا الرجوع وجدوا أن الحدود التركية قد أغلقت بوابتها بوجوههم، وأصبح المهجرون عالقين بين تركيا وبين اليونان يعانون من البرد والجوع، ولا من معين! والعالم كذاك القرد الذي لايسمع ولايرى ولا يتكلم !!

ولكني أود أن أختتم بحادثة حصلت قبل سنوات قلائل شاهدتها على أكثر من قناة نقلتها وكالت الأنباء الصينية: في إحدى المدن الصينيه وقف رجل عجوز طاعن في السن يروم العبور منتظرا الأخضر ووقف بقربه جمهور المنتظرين، فرمقه شابان غريبان أخذتهم به رأفة فتطوع أحدهم وحمله على ظهره ليمكنه العبور قبل أن يظهر الأحمر ويعرض نفسه للخطر فقرر الشابان الاستئناف وحاولا أن يفهما أين يريد فترجم أحد المارة لهم واستغرقا في حمله بالتناوب وكانت الكامرة تلاحقهم حتى وصلا الى حيث يريد العجوز فاستوقف الشابين شخص وطلب عنوانهم فاستجابا له .. في المساء إذيع الخبر من محطة التلفزيون يشيد بأخلاق الشابين العربيين السوريين.. وشُكرا من قبل محافظ المدينة الذي رحب لهم وسهل لهم أمرهم!
ولله در الحطيئة:
من يفعلِ الخيرَ لم يَعدَمْ جَوازيَهُ – لا يَذهبُ العُرفُ بينَ اللهِ والناسِ
(*) أنكرت اليونان ذلك لاحقا، بينما شاهدت الفلم يوثق الخبر من قناة موثوق بها: أناس في الأرض ينزفون.. وأعداد غفير في شبه تظاهرة يطالبون بالسماح لهم بالعبور لا البقاء في اليونان!
 
6/آذار/2020




4
مات محمد عمارة فأراح واستراح!
خالد جواد شبيل
بدأ حياته صبيا حافظاً خطيباً في مسجد إحدى القرى التابعة لكفر الشيخ حيث ولد في نهاية عام 1931 ثم التحق بالأزهر شيخاً أزهريا حتى تخرجه من الثانوية لينتقل الى دار العلوم ليتخرج "درعمياً" وهي صفة لخريج دار العلوم التي غدت نداً ومنافساً للأزهر حيث كان التنافس على أشده في العشرينات والثلاثينات وحتى الاربعينات  بين المعهدين فدرس الدين والفلسفة الإسلامية. وانتمى لحزب "مصر الفتاة".زاد على ذلك أنه شُغِف في التاريخ الذي فتح له دروب الماركسية التي قاربها ليدخل السجن عام 59 في زمن عبد الناصر، وفي السجن التقى بالمفكرين والشيوعيين اليساريين فأثّروا به، فجرّب الكتابة وأخرج معه عدة كتب في الفكر الإشتراكي والعروبي ثم اكتشف إن الماركسية دربها لا يوفر لقمة عيش ومسلكها يفضي الى السجن فآثر العافية وانتقل الى المعتزلة أو هكذا زعم مشيداً بدورهم العقلي..
ثم أدار ظهره لابن رشد والتقى مع صاحب إحياء علوم الدين الإمام "الغزالي" ليصير أشعرياً وهجر إعمال العقل، ليقترب من غزاليّ آخر هو الشيخ محمد الغزالي أحد قادة الأخوان المسلمين..وشارك معه في ندوات ضد كل ما هو علمانيّ ليصبح سلفيا متعصباً عمليا ومازال يزعم أنه مع العقل والفكر لكي لايُقال عنه أنه هجر أوتنصل من مؤلفاته وناقض نفسه.. وما أظنني جانبت الصواب  إن زعمت أنه زاد على السلفية باقترابه من الوهابية .
وراح يهاجم الأحياء والأموات من العلمانيين من طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمود أمين العالم والمستشار محمد سعيد العشماوي، وفرج فودة وحامد ابو زيد ...وناصب الدكتورة نوال السعداوي العداء والكراهية هو ومن على شاكلته كالشيخ البدري لأنها داعية للمساواة بين المرأة والرجل..لأن الدكتور محمد عمارة يرى أن المرأة لها حقوق كاملة في الإسلام، قافزاً على حقائق عملية من كونها لها نصف حق الذكر في الميراث.. وإن للزوح حقاً في أن يضربها وأن يهجرها في المضاجع وأن يتزوج عليها ويجمعها مع ثلاث زوجات وان يطلقها أنّى شاء وأن لا يتكفل بمصروفها إن منعها مرضها من ممارسة فريضة الفراش بحجة أن الغاية من الزواج من "المرأة الناقصة عقل ودين" هو إمتاع الزوج وإنجاب الأولاد..وكان عمارة حين تنقصه الحجة يكل الأمر لحكمة المعبود التي لا يدركها عقل العبد!!
واشتهر عمارة والغزالي والهضيبي في مناظرة مشهورة ضد فرج فودة ومحمد خلف في معرض الكتاب الدولي في القاهرة عام 92 حيث كانوا الثلاثة السبب في تكفير (وتحريض الدهماء على قتل) المفكر فرج فودة لأنه أعياهم الرد على أرائه وكتبه الجريئة!
وظل عمارة يتملق الاتجاهات المتطرفة والسلفية وحتى الوهابية في قولة: انه اكتشف حل المشكلة الاجتماعية في الإسلام وليس في الصراع الطبقي والماركسية!!
تابعت محمد العمارة بزيه الجديد، اعتمار قلنسوة والتلفع بعباءة فوق جلباب، ومسبحة لليجذب انتباه الناس له..وحتى في ندواته ومناظراته كان عالي النبرة أنانيا في احتكاره الحديث وكثرة مقاطعاته وتهميش الآخرين وتطرفه حين ينصب نفسه حامي حمى الإسلام ومن يخالفه عدو الإسلام .. من يريد الدليل فليراجع مناظرته مع الدكتور نصر حامد أبو زيد في برنامج "الاتجاه المعاكس" وليرَ سلوكه وليسمع لغته..
قرأت العديد من كتبه ومنها كتاب "الوعي بالتاريخ" وقد أعمل عقله الذي جعله يفكر أن سقوط بغداد عام 656 ه/ 1258م يرجع الى خيانة الوزير مؤيد الدين ابن العلقمي، ولا أريد أن أناقشه في هذا الأمر الذي أثبتت الدراسات الحديثة خلاف الزعم الجائر ومنها كتاب وبحث دكتواراه من جامعة محمد بن سعود للدكتور سعد بن حذيفة الغامدي يثبت العكس؛ فلو سمع الخليفة المستعصم الذي كان منشغلا بحفلات المجون نصيحة ابن العلقمي لجنّب بغداد ويلات السقوط ، وأن جُلَّ المؤرخين يُجمعون على نزاهته وحكمته وأدبه وعلمه وأشهر المؤرخين الذين عاصروه وشهدوا السقوط هما ابن الفوطي وابن الطقطقي، وإن ابن ابي الحديد المعتزلي ألف موسوعته عن شرح "نهج البلاغة" قد أهداها للوزير ابن العلقمي..ولم يذكر "خيانته المزعومة" سوى الدياربكري صاحب "تاريخ الخميس" ثم ردد التهمة الطائفيون الحاقدون من قبيل ابن كثير في "البداية والنهاية" والذهبي في "سير أعلام النبلاء".
كتب محمد عمارة الذي توفي قبل أيام ثلاثة عن تسعة وثمانين عاما تجاوزت المئتين تعكس منعرجاته الفكرية والسياسية؛ لست من دعاة ذكر محاسن الموتى حين يكون منهجهم التعصب ومعاداة الديانات الأخرى وإلا ستكون منهجاً أوشعاراً للترويج للكراهية ومسلكاً لكل جبار عنيد أو كاتب تسبب في قتل الآخرين ورميهم بالكفر؛ بل ذكر الحقيقة هو الأهم ليتعظ منها الناس وليكون الحكم موضوعياً لإن إخفاء الحقائق هو التدليس الذي لا يخدم الحقيقة بل سيكون مثلا سيئاً يتبعه الآخرون !
الثالث من آذار 2020

5
الأدب اللاورقي ثانية
خالد جواد شبيل
كتبت أكثر من مرة عن حالة ماينشر في الشبكة الالكترونية من صنوف الكتابة من نثر وشعر وقصة ومقالة سياسية ونقد وغيرها مما لا يخضع لتجنيس محدد.. وفي جميع الحالات يجد القارىء المتمعن وغير المتمعن أن هناك كثير من الغث وقليل من السمين! وكذلك ما بينهما.. فأحياننا تتحمل الغث إذا احتوى على فكرة تستحسنها أو على معلومة أو حتى على ذكريات حين يتوفر الحد الأدنى من اللغة السليمة..ولكن أين يستفحل الغث؟ ليصبح ظاهرة، وشرط الظاهرة هو التكرار..
أرى المصيبة في الأدب السياسي عموماً وفي المقالة السياسية خصوصاً، فهناك مواقع تنشر كل مقالة تصلها، حتى وإن كانت الأخطاء في عناوينها!!  وإذا سلّمنا أن العنوان مبتدأ والمتن (النص) هو الخبر..فالعنوان في كثير من الأحيان مُنفِّر وفق قاعدة: المكتوب يُقرأ من عنوانه، فتشيح بوجهك عن المقال، وإذا أصررت على القراءة بدافع الاكتشاف وتجاوزت العلاقة الديالكتيكية  بين العنوان والمتن فسترى عجباً من أخطاء إملائية ونحوية ولغوية، وصرفية ..الخ، والمحصلة أسلوب ركيك قد تفهم  منه بعضه وقد لا تفهم.
ولو تجاوزت برباطة جأش عن أخطاء اللغة الى الفكرة، فسترى أحياناً عجباً من أفكار طائفية وعنصرية وحقد دفين ودعوة للتقسيم.. من يتهمني بالغلو فليذهب الى موقع "ص ع" وأشير عليه بأن يقرأ ما يشاء ليكتشف أن المقالات تنشر دون فحص وأحيانا تتكرر بالأخطاء عينها..
هناك كاتب ينتسب الى مدينة مندلي الكريمة، اختص بشتم العرب شتماً مقذعا وأقل شتيمة لديه هي "الاحتلال العربي البغيض لكردستان" ويمجد بإسرائيل  .. كاتب آخر يدعو بتقسيم العراق جهراً الى كردي وسني وشيعي ويرى في ذلك ضمان لازدهار الأقسام الثلاثة لاسيما الشيعة المنهوبون بترولياً بما يعود عليهم بالرفاه الاقتصادي والسياسي! وكاتب آخر لم يكتف بلقب لعشيرة واحدة بل زاوج بعشيرتين نسباً له، وراح يشتم كل كاتب لا يعجبه وينبزه ب "المستكتب" خاصة إذا كان من مذهب مغاير..!
ولو كان هناك رقابة أو متابعة لأحيل مثل هؤلاء الى القضاء لأن خروقاتهم للدستور واضحة فاضحة ولا أفضح تهمة من المساس بوحدة الوطن والشعب! ولا يفهمنَّ أحدٌ أنني أدعو لِكمِّ الأفواه وخنق الحريات قط، فشتان بين الدعوة الى الهدم والدعوة الى البناء!
أما الجانب المتعلق بالأدب سواء كان شعراً أو نثراً فقد غلب عليه الركاكة والترهل والغيت الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية..كأن تقرأ خاطرة غامضة بأسطر قصيرة وأخرى طويلة لتُحسب على أنها قصيدة نثر دون معرفة بأن قصيدة النثر لها قواعدها وإن شئت قوانينها بَدءاً بتركيز اللغة واغتنائها بالمفردات والعبارات الشعرية المكتنزة باللفظ والمعنى والتصوير المركز والإيقاعات الداخلية وثراء المخيلة .. والمصيبة إن هناك مواقع تختار بعض ما تعتبره من قصائد وتمنح جوائز لمن تتوسم (أو تخمن) فيهم القابلية الشعرية والإبداع، وهكذا تجعل من الواهمة خيالاً..
أما التعليق على القصائد ففيه كثير من النفخ في الرماد، على أمل أن تخرج منه شرارة!
ولا يختلف الموضوع في مسألة الفرزات السياسية التي تكرر نفسها بإسلوب جاف وتلقى قبولا وفق المشاركة بالرأي أو وفق التحزب..
وترى أحيانا بعض الكتابات الجميلة أسلوباً وفكراً وإنسانية تشكل عصارة جميلة بعيدة عن اللف والدوران فتستمتع وتستفيد، فما هناك أجمل من مقالة أو فرزة تجمع بين الجمال والمتعة والفائدة، لكن هذا نوع قليل ضائع في مزدحم الكثرة الكاثرة مما هو منشور..
هناك أساتذة ملءُ  السمع والبصر تتعنى الى مقالاتهم أو فرزاتهم لا لتستمتع بالنصوص الجادة فقط وإنما بالمداخلات التي تغني الموضوع..وهناك شعراء وقصاصون وكتاب سياسيون يمتلكون مواهب حقيقية هم المُعوَّل عليهم ولولاهم لأغسق عالم الإبداع..
 وعن موضوع المداخلات والتعليقات تجد فيها من يحاول استفزاز الكاتب.. وتجد فيها من الكتاب من يُحبُّك إن كِلتَ له المدح والثناء، ويهجرك هجراناً إن غفلت أو لم تشر بإعجاب فالمجاملات أصبحت قانوناً مثل رد الجميل بالجميل؛ فإن أشرت الى خطأ فستخسر الصديق وسيقول لك لماذا لم تنشر على الخاص، ولا يشفع لك حين ترد أن بعض الأخطأ تنشر على العام لتعميم الفائدة!
الكل ينشد المديح ويطرب له وينتشي أيما طرب وأيما انتشاء!
ويبقى السؤال شاخصاً ينتظر الجواب: ماذا لو أراد أبني أو حفيدي أن يقرأ بالعربية  ويطلع على ماهو متداول، ترى ماذا سيقرأ ليقوّي لغته؟ وماذا سيستفيد علما؟؟
12 شباط/ فبراير 2020     

6
مازال شبح الثامن من شباط الأسود مخيِّما على العراق
خالد جواد شبيل
كلما حلّ شهر شباط تحلّ معه ذكرى أليمة في الثامن منه وكلما حل رمضان تحلّ في الرابع عشر منه ذكرى معتمة تعكر بهجة الشهر المبارك! هي ذكرى واحدة في التأريخين من عام 1963..
يوم اغتيلت ثورة تفجرت في الرابع عشر من شهر تموز عام 1958، حين قاد الضباط الأحرار انقلاباً ثورياً بانت ملامحه الأولى منذ البيان الأول الذي إذيع فجر ذلك اليوم حيث قُضي على النظام الملكي العميل، وأعلن قيام الجمهورية العراقية، لتخرج الجماهير بشكل عفوي الى الشارع، وكانت البهجة بإزالة كابوس حكم عميل واستبشر الشعب بكل طبقاته وفئاته -لا سيما المسحوقة والفقيرة والمستغلة من فلاحين وعمال وكسبة - خيراً من هذا التغيير..
وفعلا فقد أنجزت الثورة بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم - الذي حاز على ثقة الشعب - الكثير من المنجزات لصالح الفئات المسحوقة، من بناء المدارس والمستشفيات وضمان السكن وتمليكه للفقراء، وقانون الإصلاح الزراعي وقانون رقم 80 في تحديد وتخصيص الآبار النفطية للشركات الأجنبية والخروج من حلف بغداد وتحرير العملة العراقية من سطوة الاسترليني، بما يعزز الاستقلال السياسي والأقتصادي ناهيك عن التحولات الاجتماعية العميقة من تشجيع الصناعات الوطنية ومشاريعاً هامة للبناء والتعمير وبناء دور الثقافة ومناصرة المرأة العراقية وتشريع قانون الأحوال المدنية التقدمي الذي يعد مع القانون التونسي في طليعة قوانين دعم العلاقات الأسرية وضمان حق المراة الذي أرعب بعض رجال الدين المشبوهين.. ودعم قضية فلسطين ومساعدة الثورة الجزائرية وكل حركات التحرر في العالم..   
لا شك أن هذه التحولات العميقة الثورية قد وحّدت أعداء الثورة من رجعيين ومُلاً ك الأراضي والبرجوازية الكمبرادورية والقوى القومية عربية وكردية التي تضررت مصالحها ومراكزها السياسية والاقتصادية وتحالفت مع الزعيم جمال عبد الناصر الذي ناصب الثورة العراقية العداء مذ سمع بها وكان في موسكو حيث قال: الشباب العراقيون مندفعون قوي وسرقوا الأضواء مننا !! ومع شركات النفظ المتحالفة مع الشاه للتأمر المكشوف بقيادة عبد السلام عارف ، ومن ثم مؤامرة عبد الوهاب الشواف في الموصل، ومن ثم أحداث كركوك المؤسفة..
لقد ساعد على استمرار التآمر سياسة الزعيم الوطني عبد الكريم قاسم ونزعته الفردية وابتعاده عن أصدقائه الحقيقيين من شيوعيين وديمقراطيين والزج بهم في السجون بينما كانت حركات القوى الرجعية والقومية مكشوفة، وارجع العسكريين المعادين للثورة الى مواقع في الدولة والمؤسسات العسكرية مما مهد الطريق للقيام بالمؤامرة، ولم ينفع تحذير الشيوعينين لقاسم من أن مؤامرة كبيرة ستنفذ ولم يعمل ما يلزم لاجتثاث المتآمرين الذين نجحوا بتنفيذ انقلاب دموي رجعي قومي مدعوم من أمريكا وشركات النفط ومن عبد الناصر تحديدا .. في يوم الجمعة الثامن من شباط الموافق الرابع عشر من شهر رمضان..
لقد استبسل الشيوعيون واليساريون في الدفاع عن الجمهورية ولكن دون جدوى فانعدام السلاح والعتاد لم يسعفهم.. لقد تبوأ البعثيون والقوميون الناصريون على مقاليد الحكم ثم انفرد البعثيون وميليشياتهم المسماة الحرس القومي في القتل وفق قانون رقم 13 السيء الصيت في إبادة الشيوعيين، ناهيك عن اعتقال الألوف من خيرة القوى الحية من الشعب رجالا ونساء وحتى أطفالا لتمتلا السجون وتفيض وتستخدم الملاعب والمدارس والمكتبات العامة لتكون مراكز تعذيب وانتزاع الاعترافات بالقوة بأساليب بربرية بشعة خاصة في قصر النهاية والنادي الأولمبي ومركز شرطة الفضل والأعظمية...الخ، ولم تبق عائلة لم يطال أحد أبنائها وبناتها الاعتقال..
في الثامن من شباط نستذكر البطولات الملحمية للشيوعيين واليساريين من رجال السياسة التقدميين وكبار العسكريين  والعلماء والأطباء والمهندسين والمعلمين والعمال والفلاحين والكسبة ومن كل فئات الشعب الذين صمدوا وبرهنوا على حيوية الشعب العراقي والذين أورثوا الأجيال الصاعدة بطولات وتضحيات ملحمية..
لم تكن ثورة الرابع عشر من تموز خالية من الأخطاء وخاصة إعدام العائلة المركلية والخدم والطباخ! بسبب يرجع الى رعونة عبد السلام عارف وتهوره كما تشير بعض المؤشرات والقرئن حين بارك المجزرة وكان فرحا جذلا بتنفيذها..
منذ القضاء على الجمهورية الأولى لم يعرف العراق الاستقرار سوى فترة سنتين من حكم طيب الذكر الرئيس عبد الرحمن عارف.. ثم جاء البعث  ثانية في السابع عشر من تموز عام 1968 بانقلاب مشبوه ليعيد ممارساته الدموية وليفتح مشاريع المقابر الجماعية،،،، ثم سلموا العراق للأمريكان على طبق من ذهب رغم توفر الجيش الشعبي والتسليح الممتاز للجيش العراقي، لقد تركوا الأسلحة في مخازنها وذهبوا الى بيوتهم إيثاراً للعافية.. في حين ذهب القائد الضرورة ليقبع في حفرة ويخرج منها أغبر منكوث الشعر ولم يستخدم رشاشين ومسدس كانت معه على الأقل دفاعاً عن النفس!!
واليوم ينتفض الشباب العراقي سليل التقاليد الثورية ضد حكومة الإسلام السياسي الفاسدة، العميلة المزدوجة للأمريكان ولإيران والغارقة الى أُذنيها في الفساد والجريمة..
 لقد سطر المنتفضون ومازالوا أروع البطولات وجادوا بأرواحهم ودمائهم في بغداد البطلة والناصرية البطلة والنجف البطلة أمام الذيول الأسفال من ملثمين أولاً، ومن أصحاب القبعات الزرق ومن على شاكلتهم من أرباب الجرائم ولم يعلموا أن يوم النصر آت قريب!!
السابع من شباط /فبراير2020


7
هذا البيت وهذه القصيدة!
خالد جواد شبيل
كنت قد نشرت قبل يومين بيتأ من الشعر من أحدى قصائد المتنبي، استحوذ على اهتمام كثير من الأصدقاء إعجابا وتعليقاً ولا فضل لي طبعاً إلا بما يعرف بالبلاغة بحسن الاستشهاد وهو اختيار شاهد من قول مـأثور أومثل سائر أوبيت من الشعر أوىية من التنزيل بحيث يأتي مطابقاً لمقتضى الحال ولهذا حاز البيت على التعليقات، ناهيك عن عدد كبير من المعجبين والمعجبات، وتكمن أهميته في حكمته ومعناه حتى لكأن أبا المحسَّد قاله اليوم، فهو يشير الى عبقرية الشاعر المتنبي التي وصف نفسه وأجاد حين قال:
وما الدهرُ إلا مِن رُواةِ قصائدي – إذا قلت شعراً أصبح الدهر مُنشِدا
ومن معالم خلود شعره أن شرَحه كبار اللغويين والشعراء مازاد على  أربعة عشر شارحاً من عيار ابن سيدة وابن بسام وابن جني والعكبري ...أما شيخ المعرة فأطلق  على شرحه "شرح ديوان أحمد"؛ ولا شك إن السبب في خلود شعره يرجع الى الحكمة والدروس الإنسانية التي استخلصها من تجربته وثقافته وموهبته، فالحكمة هي تجربة مجردة من الزمكان لذا هي تصلح لكل العصور.. لأجل هذا قال أبو تمام قولة ذات معنى عميق: أنا والمتنبي حكيمان والشاعر هو البحتري!
ولعل السبب نفسه الذي ارتقى بشكسبير ليحتل مكانة عالمية فهو الى جانب ما كتب من مسرحيات وسوننيت شعري بجماليه عالية تضافرت مع الحكمة ليحتل المكانة المرموق على مر الدهور!
***
أما البيت فهو:
وإنما الناسُ بالمُلوكِ وما - تُفلحُ عُرْبٌ مُلوكُها عَجَمُ
والمعنى واضح وسلس ومتين اللغة كجل شعر المتنبي، وهو يرمي الى مُدرك شعري في اللب منه حكمة بليغة: وهو أن أية أمة لا تفلح إذا احتلها أجنبي وحكمها، لسبب هو أن الأجنبي المحتل يبحث عن مصلحته أولا ويجعل الأمة ضعيفة متفرقة حتى يضمن ديمومة بقائه على رأسها..وكم صدقت العرب حين قالت: "إنما تأكلُ الذئابُ من الغَنَم القاصية "، ومن تجارب تاريخنا الكثير الكثير حيث كان المحتلون – ومازالوا- يتحكمون بالبلد تحكما استعمارياً.. هذا هو المُدرَك الشعري العام.
أما المعنى الراهن فهو ينطبق على حالنا، فالعجم هنا بالمعنى العام هم الأعاجم أي غير العرب حتى وإن تكلموا اللغة العربية التي غالباً ما يتكلمونها بلُكنة أعجمية أي هم الأتراك والأمريكان أيضا الذين يحتلون العراق وسوريا، أما المعنى الخاص فهم المنحدرون من بلد العجم وهم إسم إيران أو بلاد الفرس..وحتى في اللهجة العراقية والمصرية والخليجية التسمية مخصصة بسكان إيران الذين لاتكون العربية لغتهم الأصلية كسكان الأهواز.
ولا يفهمن القارىء أنني أسيء للجارة إيران وشعبها فقد كانت التفاعل بيننا وبين العجم أهم حضارة إنسانية مُشرفة.. وإن لغة الفرس تشمل المفردات العربية قرابة 70% من اللغة الفارسية.. بل إن مسح الحامض النووي أثبت أن قرابة الستين بالمائة من شعةب إيران من أصول عربية..! فهم أكثر من نسبة الأصل العربي في مصر!!  لكن الاعتبارات السياسية تتعدى الاعتبارات الجينية في أهميتها..
البيت من قصيدة المتنبي ومطلعها (المنسرح):
أحقً عافٍ بدمعِكَ الهِمَمُ – أحدثُ شيءٍ عهداُ بها الهِمَمُ
والمعنى مختصراً بحق بالمرء أن يتفحص هَمّه الحالي وهِممه ويبكيه لا أن يبكي أطلالاً  ودِمناً درست! ويرى المتمعن أن البيت مكتنز متين السبك صاغ مدركاً عاماً بجد على عادة مستحكمة عند العرب وهو "الوقوف على الأطلال" مذكراً بقصيدة ساخرة متهكمة لأبي نواس تؤدي المعنى ذاته باسوب ساخر سلس (الرمل):
قل لمن ظلَّ على رسمٍ درَسْ – واقفاً ما ضَرّ لو كان جَلَسْ
وجه السخرية: لمَ الوقوف على الأطلال بل إجلس لأن الوقوف سيطول وعندما تجلس خذ راحتك، إبك ما شئت من البكاء، بل شق الجيوب والطم الخدود.. هذا هو التأويل بين الجاد والساخر!
وقصيدة المتنبي  طويلة قوامها خمسة وأربعون بيتا، قالها يمدح علي بن إبراهيم التنوخي، ويذم فيها الأعاجم خاصة في معارك سيف الدولة المكلل بالنصر معهم  وهو لا ينسى نصيبه من الفخر وتعظيم الذات وذم الحُسّاد.. ويكون البيت محور الموضوع ثانيها، ودونكم بعض القصيدة  وأخص النضد الذي يؤكد زعمي:
   لا أدبٌ عندهم ولا حَسَبٌ – ولا عهودٌ ولا ذممُ
بكلِ ارضٍ وطِئتُها أُممٌ – ترعى بعبدِ كأنها غنمُ
يستخشنً الخزَّ حين يلمُسهُ – وكان يُبرى بظفره القلَمُ
إني وإن لُمْتُ حاسديَّ فما – أنكِرُ أني عقوبةٌ لهمُ
وكيف لا يُحسَدُ امرءٌ علَمٌ – له على كلّ هامةٌ قدَمُ
 
ومن الواضح لمن يتمعن في الأبيات يجد فيها أجواء هجاء كافور الأخشيدي في قصيدة المتنبي (البسيط):

عيد بأية حال عُدت يا عيدُ – بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ

وكما هو معروف، فيها أبيات مقذعة أعفّ من ذكرها، من شاء منكم فليراجع موقع واحة المتنبي ففيه القصائد كاملة ومشكّلة مع الشروح الوافيه لأهم الشُرّاح..

في الخامس من شباط فبراير 2020


 

 

 
 

 

 


بِكُلِّ أَرضٍ وَطِئتُها أُمَمٌ         تُرعى لِعَبدٍ كَأَنَّها غَنَمُ     

   [الشروح : 5  ]  5   
   يَستَخشِنُ الخَزَّ حينَ يَلمُسُهُ         وَكانَ يُبرى بِظُفرِهِ القَلَمُ     

   [الشروح : 9  ]  6   
   إِنّي وَإِن لُمتُ حاسِدِيَّ فَما         أُنكِرُ أَنّي عُقوبَةٌ لَهُمُ     

   [الشروح : 9  ]  7   
   وَكَيفَ لا يُحسَدُ اِمرُؤٌ عَلَمٌ         لَهُ عَلى كُلِّ هامَةٍ قَدَمُ     

   [الشروح : 6  ]  8   
   يَهابُهُ أَبسأُ الرِجالِ بِهِ         وَتَتَّقي حَدَّ سَيفِهِ البُهَمُ 


   [الشروح : 9  ]  9   
   كَفانِيَ الذَمَّ أَنَّني رَجُلٌ         أَكرَمُ مالٍ مَلَكتُهُ الكَرَمُ     

   [الشروح : 10  ]  10   
   يَجني الغِنى لِلِّئامِ لَو عَقَلوا         ما لَيسَ يَجني عَلَيهِمِ العَدَمُ     

   [الشروح : 7  ]  11   
   هُمُ لِأَموالِهِم وَلَسنَ لَهُم         وَالعارُ يَبقى وَالجُرحُ يَلتَإِمُ 





8
المنبر الحر / الأدب اللاورقي!
« في: 19:12 27/01/2020  »
الأدب اللاورقي!
خالد جواد شبيل
أذكر وأنا في مرحلة المراهقة أنني كنت أمنّي النفس في أن أجد اسمي مطبوعا على ورقة، لأن الطباعة يومذاك تكون في الكتب والصحف وأنّى لفتىً  مثلي كوته نار المراهقة أن يرى اسمه مطبوعاً؟..لكنني سمعت مرة حديثا لعاصي الرحباني (1925- 2009) في مقابلة يندب فيها حال الموسيقى والغناء في بلادنا العربية! فاعترضت المذيعة بأن هناك فرقاً موسيقية وأصوات جادّة.. فأجاب عاصي: كنا زمان نسمع لستي (جدتي) فقالت قرأت أسم فلان في الجريدة يخزي العين الله نافخ في صورته!! فقلنا لها ما الله نافخ في صورته إنما الجريدة نافخة في صورته.. فردت: معقولة يعني جريدة مطبوعة ومكلفة مصاري معقولة تنفخ في الرماد؟!! فقلنا: هون المصيبة!!
***
واعني بالأدب اللاورقي هو كل ما يُكتب في الحرف الضوئية ويُقرأ على الشاشات كبيرها وصغيرها، منذ بدأ ما يُعرف بالثورة اللاورقية  Paperless Revolutionفي مرحلة الجيل الرابع من عصر الكومبيوتر (الحاسوب) عام 71 وشيوعها من خلال الكومبيوتر المنزلي في الثمانينات..والتي أفضت الى ثورة الاتصالات في اواسط التسعينات حتى يومنا هذا..
ومن نتائج هذه الثورة أن تقلص بيع الصحف والمجلات وحتى تسويق الكتب! فأصبح أي حالم بالكتابة بوسعه أن يكتب ويرى اسمه مطبوعاً مضيئاً بغض النظر عمّا يكتب ومستوى الكتابة! فليس هناك رقيب وزاد الأمر في السوشيال ميديا حيث يحق لكائن من كان أن يمتلك مدونته التي تتيح له اسماً وصورة وشيئاً من سيرته الشخصية..فغدا الأمر مدعاة للجاه أمام اصدقاء يتخيرهم ويتخيرونه وهذا حال الفيسبوك..
وهذا الفيسبوك له وجهان مثل القمر أحدهما مضيء والآخر مظلم.. وفيه ما يلبي حاجة النفس وهمومها وأفكارها والأجمل هو التفاعل مع الآخرين الذين معه..
ويبدو لي الفيسبوك أحياناً كسوق الخضر أو سوق الهرج كل ينادي على بضاعته ويسوّق أفكاره وعواطفه..وفي خضم هذا التنافس ينشأ السِّباب والتراشق بنيران صديقة وأحياناً غير صديقة!! وفي هذه الأخيرة تظهر مهارات اللغة البذيئة ومقابح تجرح الأذن وتؤذي النفس وتود أن تنأى بنفسك عن هذه الأوساط السوقية..

ومن ناحية أخرى يبدو لي الفيس بوك مدينة بُيوتها وشبابيكها مشرعة الأبواب مثل المضايف، بوسعك أن تدخل بلا اسائذان وأن تجلس وتسمع وإن طاب لك الحديث فيحق لك أن تُدلي بدلوك وأن تقول رأياً.. وإن لم يطِب لك المُقام فلك أن تغادر بل استئذان بل إن جاءتك ريحٌ خبيثة فلك أن تسد الباب التي تأتي منها الريح وتستريح وكفى الله المؤمنين القتال! 
لعب التواصل دوراً هاماً في تبادل الآراء السياسية والتجمع والتظاهرات وتحشيد الجماهير وفضح الفساد والزيف السياسي لهذا فهو مكروه من قبل النظُم الشمولية الفاسدة ولطالما تلجأ لغلقه في الساعات الساخنة أو التي قبلها، وتعمد غلى بث جيوشها الالكترونية العميلة لرصد الذين يشكلون خطراً على هذه النظم وترصد الأسماء والعناوين فتعمد الى أساليب القمع من اختطاف واعتقال واغتيال..ولأجل هذا منعت الدول استخدام الكومبيوتر والهواتف المحمولة كما في عراق البعث الذي منع حيازة آلة طباعة إلا في حالات ضيقة ومحصورة على بعض المكاتب المتعاونة أو المراقبة بشدة..
يوفر الفيسبوك فرصة البحث عن أصدقاء فرقت بينهم ظروف بلدانهم وتقطعت بهم السبل..فكم من صديق قديم استعيدت صداقته.. إن متعة اكتشاف صديق أحسبها هي اكتشاف الذات بعد مرور سنوات عراقية مثقلة بالأحداث والحروب، فيتم التعرف على أفكار ومعناة الذين عانوا من الحرب والحصار في ظل نظام دكتاتوري هو الأبشع في العالم..
أما عن مساوىء الفيسبوك فهي كثيرة من المتطفلين ومن العدوانيين ومن الذين يريدون قضاء وقت، فالأسئلة مكررة ورتيبة يسأل عنك وعن عمرك وعن بلدك وبعدها عن عمامك (من ياعمام الأخ؟!) وعن أسئلة فيها لف ودوران ولو قرأ مدونتك لوفر على نفسه وعلى نفسك مشقة السؤال والجواب! والأسوأ أن "يلطش" على البوست العائد لك نصاً لغيرك، ولا يكتفي بل ويلح ظانّاً أنه يقدم خدمة لك ولأصدقائك وهذه مصيبة أخرى..
ومن ناحية أخرى تسعد بحوارات وتبادل أفكار تُسَر بها ولربما تُسِر بها غيرك!
وتبقى حكمة عميقة سمعتها من المرحومة أمي: يمه ألف صديق ولا عدو واحد!
-   للموضوع صلة -
27/1-2020   



9
على باب الله – 10
الفطرة المبدعة!
خالد جواد شبيل
في نهاية الستينات من القرن الماضي، كنت كلما أمر في شارع الرشيد أ-يام مجده -يستوقفني مشهد دون إرادة منّي، وأقف أمام المشهد أتأمله وأغرق في التأمل، فما الموضوع؟
مقابل بناية البريد المركزي في السنك، جلس رجل أربعيني القرفصاء بملابسه العربية أو جلس على شيء كالكرسي، وقد فرش على بلاط الأرض مخلوقات عجيبة غريبة لكائنات تُشبه تلك الشائعة من التراث النرويجي كالجن والساحرات..كانت مخلوقاته من الأحجار في اغلبها ومن الطين الثقيل (الغرين)، ناهيك عن رسوم مبهرة تحاكي منحوتاته، وكل تمثال أو تشكيل لايشبه الآخر..إنها تماثيل من الغرابة والجمال وحسن التكوين، والتكوين هنا يتسم بالتلقائية وإلغاء نسبية الأبعاد وهندستها في الانسان العادي وأحيانا مخلوقات تشبه الحيوانات الخرافية تبدو متحركة أو ناطقة..
وكنت أميل أن أتحدث إليه لكن انقباض وجهه يجعلني أتردد، سألته مرة عن الأسعار التي تتراوح بين دراهم معدودة واقصاها بضعة دنانير قال اكثر المشترين هم من السواح وقليل من العراقيين..ثم استغرقت بالأسئلة القليلة فبدا الرجل لطيفاً..والرجل هو الفنان الفطري منعم فرات، والإسم لا يخلو من جمال في اللفظ والمعنى! وأسمه الحقيقي منعم بربوت الجبوري الذي سبق أن كتبت عنه قبل سنوات..
قال أن أعماله مستوحاة من قصص الطفولة التي سمعها عن الجن والطنطل والغول والسعلاة..وفيها لمسات مما قرأ عن الحضارة العراقية القديمة لاسيما السومرية..
شارك منعم فرات بمسابقات عالمية في إيطاليا عام 66 وتشيكوسلفاكيا لمعرض الفنون الفطرية في براتسلافا في أيلول عام 72 وهي السنة التي عثر عليه ميتاً مدهوساً بسيارة عن عمر 72عاما!
إن أي مبدع سواء كان شاعراً أو فنانا هو مزيج عجيب من موهبة فطرية ومن خبرة مكتسبة من الدراسة والصقل  بما اكتسبه من معايشة حياتية! حتى إذا نضج واستوى عوده راح يردُّ الديْن للمجتمع بل قل الى الحياة بقيم جمالية وانسانية ..الفن الفطري هو أقرب الى فن الطفولة التلقائي، لأنه غير ممنهج مدرسيا، فالطفل تكمن عبقريته في جرأته وأسئلته الجريئة التي سيقمعها الكبار، وهناك وصف لماركس حين يصف مرحلة الحقبة الفلسفية اليونانية بمرحلة فكر الإنسان الطفولي!
قبل عام كنت مع الشاعرة وئام ملا سلمان في مُتحف بيكاسو في مدينة برشلونة، فيه نماذج لرسومه من طفولته وشبابه ومنحى تطوره من خلال المعروض، تتسم بالجراءة والتلقائية فتذكرت قولة له:" بقيت أرسم ثلاثين عاماً لأتعلم كيف يرسم الأطفال"!
وقبل أسابيع قليلة جائني تسجيل مصور لحوار لسيدة ريفية عراقية عجوز مع ابنها، تطرح عليه أسئلة ذات منحى فلسفي فطري محورها الوجود وغائية الوجود، وكانت تجهد في لهجتها الجنوبية الجميلة لتوضيح ما يعتمل في ذهنها..وابنها يحاول أن يهمش أسئلتها أو يصادرها: بأننا وجدنا لكي نعبد الخالق ولكي يختبر عباده؛ فكانت ترد عليه أيصح للخالق أن يختبر عباده إذا كان هو الذي خلقهم، ويعلم ما في الصدور؟ وهل يحتاج عبادتهم؟ كان الأولى به أن يخلق الطبيعة جبالا
 


 

وسهولاً وأنهارا ..وألا يخلق الناس لكي لا يتحاربوا.. وتقول السيدة بأن أسألتها تؤرقها منذ زمن طويل..
ومن الطبيعي إنها تطرح بشكل فطري ما عالجه جان بول سارتر في لب فلسفته  وفي كتابه الوجود والعدم،  وهو مسألة " الوجود يسبق الماهية " فالوجود هو إدراك الانسان لكينونته المفكرة وجوهره.. وإن كل تاريخ هو تاريخ للإنسان كوجود..وهي مسائل ليس من السهل إدراكها ولكن فطرة الإنسان تفضي في كثير من الأحايين الى فلسفة الفطرة المبدعة creative innate، يبدؤها الطفل ويصادرها المجتمع وعقده المفروض كقيود لحرية الانسان في الشك والتفكير والبحث عن منطق الأشياء وعلة الوجود!!
18/ك2 -2020



10

خالد جواد شبيل
تصاعد الصراع بين أمريكا وإيران في مدة أسبوع  ومسرحه العراق، ووصل الى مديات خطيرة ومازل؛ حين أقدمت المليشيات المدعومة من قبل إيران بالهجوم على السفارة الأمريكية في المنطقة الخضراء بقيادة قيس الخزعلي قائد العصائب وأبي مهدي المهندس نائب رئيس الحشد الشعبي، وتم إحراق مكتب الاستقبال مما يعتبر سابقة خطيرة، فالسفارات مناطق مصانة وتتحمل مسؤوليتها الدولة المضيفة..الأمر الذي جعل الإدارة الأمريكية تتوعد بالعقاب وفعلا نفذته بسرعة وبدقة فجر يوم الجمعة وهو اليوم الثالث من السنة الجديدة، حين استهدفت سيارتين في حي سكني قرب المطار بقذائف مصدرها طائرة أمريكية مسيّرة، وأدى  الى مقتل ثلاثة أشخاص على رأسهم قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني وأبو مهدي المهندس  نائب قائد الحشد الشعبي وستة آخرون..
لقد كشف هذا التصعيد العسكري الخطير بين إيران والوجود العسكري في العراق عن معطيات خطيرة، أهمها أن العراق فقد سيادته المطلقة والنسبية وأن حكومته غير قادرة على إثبات وجودها، وغدت هزيلة فاقدة الهيبة عاجزة على حماية وصيانة حدودها براً وماءً وجواً وكذالك أثبتت عجزها على حماية السفارات والهيئات الدبلوماسية لدرجة بدا فيها العراق حديقة خلفية لإيران! وميليشياتها المتمكنة في العراق التي لها اليد الطوالى في الاستحواذ على مقاليد السلطة وأمنها ولها الدور المشين في قتل المتظاهرين لإسكاتهم بشتى وسائل القمع من قتل واغتيال وجرح وخطف شباب الانتفاضة الباسلة..
كان دخول الميليشيات عبر المنطقة الخضراء ومهاجمتها السفارة الأمريكية يطرح أسئلة: كيف تم ذلك دون أن تتصدى قوة الحرس لهم؟! بمثل ما يطرح السؤال: لماذا هذا الاحتجاج الضعيف الذي هو أقرب الى العتب من قبل الحكومة تجاه قصف القوات الأمريكية لمواقع الحشد الشعبي حيث القتلى أكثر من خمسين والجرحى بالعشرات إن لم نقل بالمئات؟! أما كان الأجدى بتوجيه إنذار شديد اللهجة والتهديد بطردها إن أعادت الكّرّة؟!
ومن ناحية أخرى أصبح الوجود العسكري عبءاً ثقيلاً بغيضاً، ضرره أكثر من فائدته، بل بوجوده بدأت فلول الدواعش تسترجع تشكيلاتها متسللة من تركيا وكردستان مسعود وعلى مرأى من أعين القوات الأمريكية ورضاها، لكي تبرر وجودها ومن مصلحتها أن تعبث  وتبعث القوى الإرهابية بأمن العراق!!
لقد أصبح واضحاً أن أمريكا متغلغلة حتى في القوات المسلحة ولها عيون فيها، وإلا كيف تسنى لها أن تعرف مكان وجود سليماني والمهندس اللذين تحركا بجنح الظلام؟ ومن أعطى الاحداثيات الدقيقة.؟. وهذا الأسلوب اتبعته إسرائيل في استهداف قوّاد حماس : صلاح شحادة والشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وأبو شنب...والقائمة تطول، عن طريق الرصد من قبل عملائها الفلسطينيين. أحسب أن السيناريو سيتكرر نفسه لاستهداف قادة الحشد حتى إزالته..فقد وجدت أمريكا ضالتها باسلوب الاستهداف بالطائرات المسيّرة في ظل حكومة مشلولة معزولة عن الشعب..
وأصبحت المنطقة كلها والعراق في القلب منها على كف عفريت ،فقد عُوِّض الفريق قاسم سليماني بقائد عسكري أكثر تشدداً وهو العميد إسماعيل قاآني - قائداً لفيلق القدس- الذي راح يتوعد أمريكا بالانتقام وجعل أشلاء جنودها تملأ الأرض ( أي أرض؟) الأمر الذي يهدد أمن العراق وبيئته.. نتمنى للخصمين اللدودين ألا يجعلا العراق مسرحاً لمعاركهم، فبلدنا ملّ البارود والدخان والقتل ولا يتحمل أي عملية حربية، فشعبه يتطلع للسلام..
ومن الملفت أن هذه الحادثة (مقتل سليماني والمهندس...) قد كشفت أن إيران لا يحمل شعبية أو ودّاً لدى قطاع واسع من الشعب العراقي، بسبب الممارسات السلبية لذيولها في العراق وتصديهم لقتل الشباب العراقيين المنتفضين، في حين رفع الشباب المنتفضين لافتات تندد وتستهجن بشدة العمليات العسكري التي استهدفت الحشد وقادته..وهذا يدل على وعيّ عال وشعور بالمسؤولية وبُعد نظر.. فإيران رغم الحرب العوان بينها وبين العراق تبقى جاراً ولا يمكن الغاء التاريخ والجغرافية، وما على العراق إلا التفاهم وتوطيد دعائم السلام معها، فالحكومات زائلة ورؤساؤها زائلون، وتبقى الأوطان والشعوب! وحيث أن حكومتنا الهزيلة عاجزة عن حفظ سيادة واستقلال العراق فإن مهمة الشعب إزالتها و ومحاسبة المقصرين والفاسدين والقتلة، والأمل قريب مادامت الانتفاضة مستمرة..
أما الولايات المتحدة فالتاريخ يثبت أنها عدوة الشعوب، وهي غريبة عن المنطقة وإن مشاكل العراق تعاظمت بفعل احتلال أمريكا للعراق وما جلبته من حكّام فاسدين عاثوا فساداً طيلة ستة عشر عاماً، وهم في طريقهم الى الزوال..
لابد من التفريق بين جار وإن كان ثقيلا يمكن التفاهم معه، وبين عدو محتل بغيض متحالف وداعم لعدو أبغض وهو إسرائيل..
نعم، لكي لا نفقد البوصلة!
4/1 -2020
 

11
على باب الله – 2


يا سيدي المسيح!
أحييك ياسيدي وأهنئك بمولدك الأغر، وانت تولد للمرة التاسعة عشرة بعد الألفين..
أما أتعبتك الولادات سيدي؟!
وفي كل مرة تعمر الموائد بما طاب من مأكول ومشروب ويتبادل الهدايا المترفون وأشباه المترفين وتنفق الملايين من الدولارات على الزينة والألعاب النارية والمباهج البريئة وغير البريئة..
أما ملايين الفقراء من أتباعك ومحبيك في مشارق الأرض ومغاربها فلا يكون من نصيب لهم سوى الصلاة في الكنائس! وفق ما أحبت الزاهدةُ العابدة البصرية رابعة العدوية اللهَ لا طمعاً في جنة ولا رهبة من نار!  وملايين من الفقراء ممن أحببتهم لايدرون بيوم مولدك فهم منشغلون في كدحهم من أجل لقمة عيش تقيم أوَدهم لتبقيهم أحياء .. و"رب عيش أخف منه الحِمام" كما قال أبو المحسَّد!

أما محبك العبد الفقير فقد أحبك حباً صادقا لا مَلَقا ولا كذباً ولا طمعاً في جنة ولا خوفاً من نار، أحبك مذ سمع كلمتك في البدء، ومذ عرف أنك محب للناس حباً صافياً لا شائبة فيه كلفك حياتك، ومذ أدرك أن الناس سواسية لا سيّد فيهم ولا مسود، ومذ عرف أنك قلت كلمتك وأديت رسالتك ولم تجبر أحداً بقوة سيف ولم تسفك قطرة دم! .. نعم تعلم منك أن الكلمة شرف، وزادها الرسول الأكرم بعدك: أن الكلمة الطيبة صدقة..لقد قاده هذا الحب الى حب بوذا وعلي والحسين وماركس وتروتسكي وجيفارا..وهؤلاء رسل  كل على طريقته وزمانه ومكانه!
محبتك للفقراء وكرهك للظلم ألهمت تلك النخبة من القُسُوس الكاثوليكيين في أمريكا اللاتينية أن يجعلوا ويروا مبادءك السمحاء نواة لتبني الماركسية ومقارعة الاستعمار لا في قارتهم اللاتينية في خمسينات القرن الماضي وحتى نهاية ثمانينياته في حركة ثورية تقدمية هي "لاهوت التحرير"..التي كان من ثمارها تجربة الحركة الساندينية في نيكاراغوا والثورة الكوبية والثورة العالمية التي مارسها جيفارا ورفاقه.. وكل حركات اليسار في أمريكا اللاتينية والتي عبرت الى حركات التحرر في أفريقيا وآسيا..
والهمت كتاباً كباراً ليس بوسعي ذكرهم جميعهم وإنما دفعت بمثل دكتور علي شريعتي من إيران، ودكتور حسن حنفي من مصر ودكتور حسين مروة من لبنان ومالك بن نبي من الجزائر، نعم دفعتهم الى اليسار ولامسوا الماركسية وانحازوا لقضايا الشعب والوطن..
ويا سيدي المسيح؛
تمنيتك ياسيدي أن تعيش زماننا العراقي هذا لترى بأم عينيك أي حكّام لصوص لبسوا ثوب الدين ومارسوا الموبقات والنهب  بلا وازع من ضمير، وقد ضربوا كل قوانين السماء والأرض عرض الحائط وراح يفتكون بالشبيبة المسالمة المطالبة بحقوقها قتلاً وضرباً بالحديد والنار والغاز الخانق.. فهل يمكن لنا سيدي أن نُحب أعداءنا؟!
أحسب سيدنا أن الظلم في زماننا أكثر فتكاً والجور أكثر عتوّا من أي زمان مضى، فكلما تمدن الإنسان زاد عامل الشر فيه إلا من رحم ربي!!
السلام عليك ياسيدي المسيح في يوم مولدك..
 وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة..

12
على باب الله – 1
أبعادُ الثورة ومآلاتُها
خالد جواد شبيل
يحق للتاريخ أن يسجل بفخر مآثر نضالات الشعب العراقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عهد الملك فيصل الأول ولحد اليوم..بيد أننا أمام مأثرة نضالية شديدة التفرد نادرة المزايا، أعادت للعراق اعتباره بين الأمم، ورفعته من قعر الجب الى موكب النور ليشق طريقاً واعداً بالنصرمفعماً بالأمل بعد أن لوثه الغزاة الأمريكيون المحتلون وعملاؤهم، وبعد أن تكالبت عليه الدول وأذنابها لتعيث به فساداً ونهباً وإذلالاً لشعبه ليصبح مثلاً للتخلف والتلوث والانحطاط..
كانت ثورة تشرين منذ انطلاقتها واستمراريتها قد حملت مزايا تاريخية تليق بعراقة العراق! فهي انتفاضة سلمية أشعل شرارتها جموع من الشباب المهمشين والعاطلين المسحوقين، وقد رأوا أن لا خروج من النفق إلا بثورة سلمية أداتها ومادتها شباب لم تخدره الآيديولوجيات، ولا خيار أمامهم سوى سلوك طريق الانتفاضه للتخلص من حكومات الاسلام السياسي المتفعن والموغل بالفساد والانتفاع والسرقة والعمالة والتخلف العصبوي بكل ألوانه ولاسيّما الطائفي..
لقد راهنت طغم الإسلام السياسي المتسلط على أفشالها ومصادرة وتزيف الإراد بالترغيب والترهيب معتقدة بامكانية احتوائها بشتى الأساليب لكن شجاعة وإصرار الثوّار أفشلت كل الرهانات وعبرت عن وعي ونضوج وإصرار على عدم القبول بتغيير الوجوه أو بالحلول الترقيعية، ما أفرز حالة ثورة مستمرة، وها هي الثورة تدخل اليوم السابع والستين وهي أكثر تبلوراً وقد قدمت المئين من الشهداء تجاوز الخمسمائه وآلاف من الجرحى، بفعل جرائم القتل بالذخيرة الحية والغازات الخانقة ذات العبوات المعدنية القاتلة والمجازر في ساحات بغداد لاسيما مجزرة السنك، ومجازر الناصرية والنجف وكربلاء والبصرة..ناهيك عن الأساليب الجبانة من اغتيل وخطف للشبيبة الوطنية الغيورة..
فلم يتوانَ الثوار ولم يتراجعوا عن مطالبهم  المشروعة قيد أنملة في إزاحة النظام المنحط برمته وبكل أركانه لتأسيس لجنة تحضيرية لحكم انتقالي ينبثق من إرادة الثوار وفي ساحة التحرير قوامه العناصر النظيفة المشهود بكفاءتها ونزاهتها من التكنوقراط، والاعداد لدستور جديد يتجاوز كل العثرات والعورات في الدستور المهلهل الحالي، وتأسيس لقضاء كفؤ ونزيه وجريء يحاسب الفاسدين واللصوص والمجرمين القتله لينزل بهم القصاص العادل وليسترد جميع الأموال المنهوبة التي هي أموال الشعب، وبناء وترصين جيش عراقي وقوات أمنية قادرة على حماية المسيرة الظافرة من الأعداء المتربصين في الداخل والخارج.. وتكوين مجالس رقابة شعبية ممن يختارهم الشعب ..
إن مساهمة النقابات العمالية وعموم التنظيمات المهنية والمؤسسات الثقافية  وهيئات المجتمع المدني سيسهم بالضرورة في توسيع دائرة الثورة وإعطائها زخما ونسغا قوياً مؤثرا يزيد من فعاليتها..مما يؤسف له هو المساهمة الهامشية لاتحادات الكتاب والأدباء والفنانيين  والصحفيين التي بدت مثار دهشة وتساؤل لضعفها!! بينما عمل الشبيبة والفنيون المتطوعون الكثير، يشهد على ذلك شارع الرشيد والمطعم التركي وساحة التحرير وأنجزوا الكثير خلال أسابيع.. حيث العمل الخلّاق الذي أظهر الإبداع والجمال بما لم تقم به حكومات الإسلام السياسي طيلة ستة عشر عاما!!
أما الرهان على حكومة طوارىء وجعلها مرحلة تسبق الحكم الانتقالي فهو رهان لا طائل من ورائه، فالطوارىء هو خيار أمني وضروري لكل مسيرة الثورة لحمايتها وصيانتها وما هو بخيار سياسي.
إن ثورة فجرها الشبيبة الواعية انطوت على قيم سلمية وأخلاقية عالية ورؤى ثقافية وحضارية إضافة لأبعادها السياسية، قوامها وحملتها الشبيبة من الجنسين وتحمل مقومات ديمومتها لم ولن تنهزم لأنها لم تكن ذات مديات حزبية ضيقة قصيرة الأمد بل ذات فكر ديناميكي لا أديولوجية جامدة! كما أنها تصدت بوعي عال لكل محاولات الاندساس والمعارك الجانبية ، فطريقها واضح جليّ..
والنصر آت قريب..

13
عندما تُنقض السياسةُ البعدَ الإنساني!
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
السياسة والأخلاق لهما جذر واحد في المفردة الأغريقية، والأخلاق كما السياسة إن فقدت البعد الإنساني سادت شريعة الغاب، وتوحش الإنسان، وما العنف والحروب التي أزهقت أرواح الملايين، الا محصلة حين تكون السياسة ومصالحها الأضيق "الحزبانية" فوق الإنسانية وفوق حب الإنسان لأخيه الإنسان...
ومن تجربتي السياسية والشخصية المتواضعة وجدت أن هناك تعارضاً قد حصل لمرات عديدة، فقد كنت ضد الحروب، واعتبرت الحروب التي نشبت بين العراق وبين دول الجوار جريمة، واستمرارها وعدم تكريس الجهود لإيقافها جريمة أكبر، وعدم بذل الجهود وتكريسها لرفع الحصار عن الشعب العراقي جريمة... وأن المبدأ الإنساني يمثل مفهوماً واحداً للجماعات والأفراد، فلا يمكن أن تكون إنساناً مع عائلتك أو مع شعبك وتقف موقف الضد من الآخر، أياً كان ولأي سبب من الأسباب، فقد تُخطىء السياسة ويُخطىء الساسة لكن لا تُخطىء المواقف الإنسانية قط.. هذا ما أتبته التاريخ القديم والمعاصر... ولا أريد الاستغراق في مواضيع أكثر وأعمق مازال يدفع ثمنها شعبنا وبقية الشعوب ومنها الشعب الفلسطيني، الذي تصادر أراضيه ويطرد منها والعالم يتفرج، بل تطامن وتآلف وطبّع الأقربون...
***
أريد أن أروي حادثة، وما يهمني في الحادثة بعدها الإنساني والأخلاقي، الذي أتمنى أن يسود، وأتمنى أن يصبح مثلاً يضاف للأمثلة الأخرى العديدة علّها تُسهم في غسل القلوب من أدرانها أولا ولعلها أيضاً تحمل في طياتها إدانة للسياسيين الفاسدين وللطائفيين والعنصريين... ولعلها أيضاً تعزز وحدة المفاهيم وتزيح كل ماهو كامن من قبيل الحقد والحسد والأنانية...
يومها كان الفتى الكردي تيمور عبد الله أحمد في سن الثانية عشرة، في شهر شباط المشؤوم عام 1988، يوم أجبرت القوات العراقية أهالي قرية كولاجو البالغ تعدادهم 110 فرداً كلهم من الأقارب، أن يصعدوا تحت تهديد السلاح الى شاحنات، لكونهم من العملاء المعادين للحزب والثورة وفق وشاية أكراد عملاء يطمحون بحظوة من الحكومة لقاء خيانة بني جلدتهم والإضرار بهم!
وهكذا صعد شيوخ وأطفال وأمهاتهم في شاحنات لا شيء يحميهم من برد ومن جوع ولا يعرفون وجهتهم وبعد ساعات توجهت الى الجنوب وبدت الأرض صحراوية ومناطق لم يألفوها، وها قد حل الليل حتى أنزلوا في صحراء السماوة وألقوا في حفر واسعة مُعَدّة سلفاً، ووجهت نحوهم النيران وتساقط الجميع مضرجين بدمائهم؛ أطفال على صدور أمهاتهم وشيوخ ونساء، وامتلأت الحفرة دماً وبدت أجساد الجميع ساكنة لا نأمة حياة تصدر منها.. بعد قليل يتململ وينهض تيمور الناجي الوحيد، ويتسلل تحت  جنح الليل ويمشي لا على هدى والدم يسيل من إصابات في الرجل والظهر قرب الكلية، ويهتدي الى ضوء من خيمة، فيستقبله البدو ويعالجونه بطبهم التقليدي ويشفى .. ويبقى لديهم ثلاث سنوات يحسنون وفادته ويحسبونه ابنا من أبنائهم ويأنس هو الآخر بهم ويحسبهم أهلا ونعم الأهل يحفظونه رغم الخوف والحذر..
وحين يطلب المغادرة ويهتدي الى بعض من يعرف يساعدونه في الوصول الى بر الأمان، ويستطيع عبر الأمم المتحدة أن يصل الى أمريكا، حيث يعيش اليوم تيمور ذو الثلاثة والأربعين عاماً، ويمتلك محلاً لبيع الأدوات الاحتياطية للسيارات، وفي خاطره يحمل ذكرى مؤلمة عن مأساة أهله لاتبرحه ولو لحظات، وذكرى حيّة عن نبل هؤلاء العرب البدو الذين أنقذوا حياته ورأى فيهم ما يخفف من مأساته..
يسمع تيمور باكتشاف مقابر جماعية في بادية السماوة فيسارع بالسفر الى حيث المقابر ويذهب الى أهله ويبقى عندهم عرفاناً بالجميل.. وظل تيمور يطالب المسؤولين أن يُهتم بالمقبرة وتجرى فحوص الحامض النووي للتعرف على الضحايا، علّه يهتدي الى أهله، وأن يكون العمل على لم الأشلاء بشكل متقن مع متعلقات الضحايا احتراماً للإنسان من ضحايا الأنفال بعيداً عن المزايدة والكسب السياسي!!
المواقف الإنسانية كثيرة؛ لقد شاهدت بأم عيني عام 75، كيف وجدت ذات صباح وقد بدت الصفوف في متوسطة الفدائي في ناحية الحرية "الصليجية" فارغة فقد أخرجت الرحلات "المقاعد"، وكانت هناك بقايا مخلفات من خبز يابس وملابس مستهلكة ، لأناس شغلوا الصفوف وباتوا ليلتهم فيها، فهمنا عنئذ أنهم من العوائل الكردية حيث أخرجوا من ديارهم وهجّروا، ثم سارع أهل الناحية الكرام بإطعامهم وبناء صرائف لهم، وقد التحق بعض أولادهم بالمدارس وقسم منهم كانوا من تلامذتي في المتوسطة المختلطة..
كانت وقفة عرب الجنوب مشرّفة يذكرها الأخوة الأكراد بامتنان لكن لا يذكرها الساسة الكرد، ورئيس الجمهورية الأستاذ برهم صالح كان وعائلته في السماوة يذكر طيبة أهل السماوة بحضور العرب، وبغيابهم يصفهم بالعرب الحفاة وفق كانب كردي اسمه محمد المندلاوي!!
نعم يتذكر أهل الجنوب من الشيعة العرب بامتنان السيدة الجبورية من عرب الحويجة التي انقذت العشرات من الشباب من مجزرة سبايكر..
في رواندا توجد أقلية مسلمة نمت بعد الحرب الأهلية نمواً متسارعاً والسبب هو تفاني المسلمين في احتضان وحماية أبناء التوتسو من عصابات الهوتو في منازلهم ومساجدهم بل وقدموا ضحايا بسبب احتضانهم للمستغيثين.. مما دفع بالكثيرين أن يشهروا إسلامهم..
أسوق هذا والأمثلة عديدة ولا تحصر بطائفة أو عرق أو دين..
ألم أقل لكم: قد تُخطىء السياسة وقد تخطىء الأحزاب، لكن المواقف الإنسانية تبقى أبدا ًهي الصحيحة، نعم هي الصحيحة!
فما أحوجنا في أيامنا هذه أن نكون إنسانيين ونسمو على التعصب بكل أشكاله والحقد بكل ألوانه، نعم لنكن إنسانيين لا مجرد بشر!!
28 أيلول/سبتمبر 2019

 


14
خالد الحلي الهامسُ بالشعر في مُدُنهِ الغائمة !
خالد جواد شبيل
أمامي الطبعة الثانية من باكورة منتّج الشاعر خالد الحلي " مدن غائمة"، الصادرة عام 2015 في ملبورن ، فيكتوريا-استراليا، في طبعة أنيقة صمم غلافها الفنان فؤاد الطائي وضمت مجموعة من لوحات الفنان ذاته..
ولا شك أن شيطان الشاعر مُقلٌ في كم ما كتب لكنه جواد من ناحية الشعر ومستواه الفني ومداركه ورؤاه، حيث صقل تجربته الشعرية مذ كان مشرفاً على الصفحة الأدبية لجريدة "المنار" المرموقة في أواسط ستينات القرن المنصرم حتى تعطيلها مباشرة إثر انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968 الذي أرجع البعث ثانية للحكم.. 
ولا بد من وقفة مع "المنار" فقد كانت تأتينا الى الدار كل يوم وكنا ننتظرها انتظار المشوق المستهام، فقد كان يصدرها الصحفي الكبير عبد العزيز بركات، ويكتب بها عمود "دعني أثرثر"، الصحفي المرموق صادق الأزدي، والثرثرة هنا حكمة وبلاغة واختصار وذكريات ونقد للواقع! أما صفحة الأدب فقد أزدهرت بفعل حذاقة شاعرنا الأستاذ خالد الحلي وحسن إدارته لها وأستقطبت بعض المواهب والأقلام الواعدة التي حظيت برعايته وتشجيعه، ولا شك أنها انعكست في شعره وأحسب أن عمره يومذاك كان في نهاية العقد الثاني أو تخطاه بقليل! ودليلي أن هذه التجربة قد عمّقت أحساس الشاعر وأغنت تجربته الشعرية وزادت من مدده الشعري،ففي قصيدة "هوامش على حالة ما" يقول:
مواطنٌ يحترف الكتابهْ
سار يوماً في دمِ النِّساءْ
فاحترفت أوراقه  وغنّتِ الكآبهْ
بين يديه ارتعشت..في الماء صاحت..
فيه صارت حِبرَهُ المفضلَ الأليف
وسار في الرتابهْ
فالقصيدة تحاول أن تبوح وتستحضر ذكرى الشاعر الذي سار في دم من أحب ولا شك إن من    من أحب هي الأخرى سارت في دمه.. وانعكست في كتاباته وتجربته واستنزفت منه حبراً، ووجد في الكتابة متعة وأُلفة لا تلغي متعتها الرتابة اليومية لإيقاع حياة متكرر!
في هذه القصيدة يستمر الشاعر:
كيف كتبت يومها حكاية تجهلها
حين ارتمت بين يديك واختفتْ؟
كيف رأيت في يديها ورق الماضي
وكيف كنت قربها..
كيف اختفى بين يديك الوجه
كيف غادرتْ...
والقصيدة من أولها، يتلمس القارىء المتمعن، حالة حب مرت كحلم، وبقي طيفها يزوره ويستفزه استفزازاً جميلا أليفاً لينزف شعراً هامسا يقول القليل ويُخفي الكثير..
والشعر الهامس هو من حيثيات الناقد المرموق الدكتور محمد مندور، أطلقه متفائلاً على شعر المهجر الذي بدا ليناً رقيق النبرة متفكراً ومتأملا ندي الحرف بالمقارنة بالنزعة الخطابية والنبرة العالية التي سادت في شعر النصف الأول من القرن الماضي رغم محاولة الخروج عنها بجماعة الديوان!.. حتى إذا حصلت ثورة الشعر التي قادها ثلاثي العراق بما عرف يومها بالشعر الحر حينها صاح الدكتور مندور: هذا هو الشعر الهامس الذي انتظرته..
يتمثل الشعر الهامس بالنبرة الهادئة وجمال اللفظ وحسن تصوير خلجات النفس وارهاصات الاغتراب، وجمال السبك، والوقوف على الروي بأناة وتنوع مع صدق تمثل في استحضار الذكرى مع مسحة حزن شفيف..
وأنتقل الى ختام القصيدة لأدلل على حسن الختام وربط الختام بالابتداء:
وها هو المساءْ
يعود قرب مقلتيك غامضاً
وأنت في غموضك المبهور،
صوت بائس الغناءْ
....
....
وعدتَ لا تحترفُ الكتابهْ
وعدتَ لا تسير في الرتابهْ
 
في قصيدة طويلة نسبياً هي "عربات الأشجار" يتأمل الشاعر الطبيعة بأشجارها ومياهها وصخورها، يناجيها ويبثها شكواه، وربما يواسيها، حين يرى الاخضرار شاحباً ذابلاً مغتالاً مقطع الأشلاء، تجره  العربات ليصير وقودا! ما يذكرني بمولانا، جلال الدين الرومي في مطولته " أنين الناي" الذي نسمعه لحنا شجياً باكيا لأنه اقتطع من أرضه.. القصيدة هي سمفونية حزينة من ثلاث حركات تعكس الحالة النفسية والتوتر الذي يمر به شارعرنا المرهف، والتجربة الإنسانية المريرة تستحوذ على مشاعره، سأختار المقطع الأول والثالث، يقول الشاعر خالد الحلي:
(1)
الأشجار كثيفهْ
كيف أواري نفسي بين الأشجارْ
طيف أغطّي... صدري بالأحجارْ
كيف أحاور قلبي... قلبي يخذلني
قلبي يسخر منّي في عربات النارْ
كيف سأغفو..
وضلوعي تكبُرُ تمتد الى الشارع ...للريحْ
ياغربة صوتي .. صيحي.. صيحي
فالأشجار كثيفهْ
والقتلى يحيوْن برأسي كالأشجار
وأنا مُلقىً ... ملقىً.. ملقىً في عربات النارْ
 (3)
أنْ أقتل نفسي خير.. خيرٌ من أقتل غيري
فلأبدأ
وليبدأْ غيري
وهذه القصيدة تحمل لوعة الاغتراب الذي يصل الذروة في الحركة الثانية ولينتهي بالحركة الثالثة في ختام هادىء هامس حزين..ويبدو أن الوقوف على الروي يوفر للشاعر بعض الحرية في الغاء الحالات الإعرابية تخلصاً من الإقواء.. مع تكرار بلاغي لمفردات وعبارات شعرية يهدف الشاعر فيها بتأكيد الحالة الشعرية والشاعرية وخدمة للصوت..
"مدن غائمة " القصيدة التي تحمل عنوان المجموعة، تأتي في التسلسل الثالثة، ويبدو أن الأستاذ الشاعر خالد الحلي راعى التسلسل الزمني في كتابة القصائد أو أنه قارب ذلك، وفي الحقيقة أن تذييل النصوص بتواريخ كتابتها جدُّ ضروري في الشعر وفي القصص القصيرة لأنه يتيح للقارىء متابعة النضج الفني والفكري لتطور المبدع.. ولكن الشاعر خبَّر بمقدمة قصيرة موجزة أن القصائد السابقة في بداية الستينات وتحديداً 1962، أما قصيدة"مدن غائمة" التي يمكن أن تكون نتاج أواسط الستينات، فترى هي قصائدة أكثر همسأً وأنضج فنياً، فقد ابتعد عن حرارة الحدث وأصبح أكثر تأملاً في رجع الذكرى، التي تأتيه أحياناً بسمة كابوس ثقيل؛ ونوّع القافية وجعلها متحركة مع وقوف قليل على الروي، وأرى التمسك بالقافية والبحور الخليلية (كما هنا الكامل) من سمات القصيدة الستينية.. أما اللغة فهي متماسكة وبقيت العبارة الشعرية مكتنزة وبلغة غنية جميلة الوقع لجمال اللفظ والبناء الشعري، وأقول أن العراق يخلو من سماء غائمة إلا في فصل الشتاء ولِمطرات معدودات، لكنه أراد أن يتنقل في هذه المدن يحمل تجارب مريرة سابقة من حب واعتقال سياسيّ مما جعلته يرى هذه المدن غائمة! حتى وإن كانت زرقاء السماء، فكل قصائد المجموعة كتبت في العراق وفقاً لما صرّح به الشاعر، دونكم القسم الأكبر من "مدن غائمة":
مُدنٌ من ورق أعبث فيها
أشطب الأيام في جبهتها
مدن أقرأ في عتمتها
أحرفاً تجهلها كل لغهْ
أرتديها .. ترتديني
مدنٌ مكتظة حيناً.. وحيناً فارغهْ
وعلى جبهة ما يحملهُ القادم .. من رف سنيني
مدن أخرى تجيء
كلما أسأل عن بعض بنيها
أو ضفاف النهر فيها
مدن تمشي... وترسو في جبيني
إن تخيلتُ بأني: واحد من ساكنيها
***
عقارب الساعة.. تحملني
في جثث الليل وتخفيني
تتركني..
أسكرُ من نبضتها
حتى إذا أحذر تَنفيني 
سأنتقل الى قصائد المجموعة المتأخرة، وهو مقطع من قصيدة "تطواف" التي كتبت عام 1975، ونرى فيها تطوراً ملموساً في البناء الشعري حيث العبارة الشعرية طويلة ومكتنزة وتماسك في بناء اللغة ونبرة هادئة متأملة، وصفاء ذهني وهفوت في القلق، وتكرر الاستفهام، مع اغتراب حقيقي لصيق بهموم النفس وإخراحها متدفقة الحزن والشجن وربما الندم فلنسمع:
هل أبكي في هذا الليل الساخن أم تبكين...؟
أيامي ضاعت منذ سنين
أتعرى في ساحة أشواكي..أنهض مذهولاً
أبحث عن أوراقي.. أرتدالى الشباك لكي أنظر ما يجري
أشهد أجساداً تفتقد الأسماءْ
أشهد جُرحاً يطفو بين الأشياء
لا أبصُر شيئاً
لا أبصر شيئاً
لا أبصر شيئا
وأختتم بمقطع من قصيدة" إضافة قصيرة لأوليات طويلة" كتبت عام 1977، تشكل امتداداً لهموم الشاعر، وفيها تطور واضح وإكثار من صيغ الاستفهام واستحضار الماضي بكل جراحه بصدق، مع لغة مكثفة ذات محمول ذاتي من الماضي الحاضر بقوة:
حين يكون الليل وحيداً سوف أغادر وحدي
أرأيت صديقاً...؟
أرأيت الليلَ وأشجان الليلْ
أرأيت الليل يعلّق مشنقة للقلب ويبكي؟
أرأيت بحاراًأعشقها عند الفجر،، وتغرقني حين يجيء الليل..؟
***
حين أكون بعيداً عن عينيك وعن جسدي
تغرَقُ ذاكرتي
أيامٌ لا تمضي
تاريخٌ لم يُكتبْ
أجيالٌ لم تولدْ
ضمت المجموعة أكثر من ثلاثين قصيدة غطت فترة طويلة من عام 1962 حتى عام 1977 وهي مدة طويلة جدّ غنية بالأحداث من سقوط جمهورية 14تموز في الانقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963الذي طال جميع فئات الشعب، وهزيمة حزيران 1967 المريرة وتغيرات وانقلابات ثم حرب 1973، وانقلاب تموز عام 1968 ومجيء البعث للحكم ثانية، كل هذا لم نجد له صدى في المجموعة الشعرية وإنما سلط الشاعر على هموم هذه المرحلة واتعكاسها في ذات الشاعر، التي يلمسها أو يستشفها من خلال تداخل الذاتي والموضوعي لدى الشاعر..
ودونكم قصيدة أعتبرها مثالاً للحالة الشعرية الهامسة للشاعر في خلولة ليلية مع الذات، حيث تحضُر الذكريات ووجه الحبيبة، حيث أسلوب الخطاب الدافى المعاتب، والذي يبقى محافظاً على حميمية ودفء المشاعر رغم افتراق الطريق! في قصيدة " كلمات على مفترق الطريق":
وتخلو الطرقاتْ
وتهبُ بعد أن ينتصفُ الليلُ...
النسماتْ
غضة باردةً تحملُ منكِ
ذلك السرّ الذي يغرق بالوهم..
ويأتي من زوايا الذكرياتْ
ألفَ شيءٍ غامض يرويه عنكِ
وأنا ملقىً على نيران شكّي
ربما أبقى كسيرَ القلبِ أبكي
ربما..
ربما الليل ظلٌّ أسودُ..
يمرحُ عبر الطرقات
***
عندها كنتُ صغيراً أبيضَ القلبِ...
وكنا عاشقيْن
كانت الدنيا حكاياتٍ بريئة
حين كنا
نتروى إن طافتِ الأحرفُ عبر الشفتين
وأرى الشوق بعينيكِ
صُراخاً صامتاً في مقلتينْ
يعكس شعر الأستاذ الشاعر خالد الحلي تجربة الشاعر الحياتية وخلقه وتهذيبه وحديثه الهامس وأدبه الجم، فلا عجب أن يكون شعره تعبيراً حقيقياً وصادقاً صاغه بلغة مكثفة وجميلة وبسبك وبناء متينين، وعواطف نبيلة وحس إنساني بليغ، ولغة عذبة مرهفة..آملاً أن أتوقف مع مجموعته الشعرية الثانية "لا أحد يعرف اسمي"..
تحية للشاعر المبدع حقاً الأستاذ خالد الحلي..
17 أيلول/سبتمبر 2019





15
المنبر الحر / الديمقراطية أبداً!
« في: 20:57 12/09/2019  »
الديمقراطية أبداً!
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
العنوان أعلاه هو لكتاب الشيخ الأزهري خالد محمد خالد (1920 -1996)، وكنت في الثالث المتوسط قد قرأت بعضاً من مؤلفاته التي اشتراها الوالد من مكتبة أو قرطاسية الأستاذ الرائع هادي مواش في شارع الرسول في النجف، كان ذالك قبل شهرين أو أكثر من انقلاب الثامن من شباط عام 1963، وهي: من هنا نبدأ، ولكي لا تحرثوا في البحر، والديمقراطية أبداً..فأكببت على قراءتها بنهم وأنا معجب ومتعجب في آن؛ فكيف يمكن أن يكون هذا الكاتب التقدمي المستنيرم شيخاً من شيوخ الأزهر؟!
فقد كان ذا منحنىً علمانيّ، وهو نفسه مؤلف (رجال حول الرسول)، يحدثك عن الحرية ويقرنها باشاعة الديمقراطية وديمقراطية التعليم ويريد للديمقراطية أن تكون قرينة للحرية لكي لا نطالعها في الصحف أونسمعها من الراديو وحسب، بل أن تكون مشعلاً ينير لنا طريقنا ويشير الى أن مبادىء السياسة في العصر الاشتراكي ينبغي لها أن تكون سلوكاً يومياً ومنهجاً في حياتنا اليومية وقسيمة لشتى فئات الشعب!!
 ومع هذا تتراجع المفاهيم بفعل وواقع مغاير حين تصبح قبضة الحزب الواحد خانقة لرقاب الناس في زمن الرئيس الاشتراكي جمال عبد الناصر، ويمنع الأحزاب ويحلّها لتنضويَ بالإكراه تحت راية تنظيم الحزب الحاكم "الاتحاد الاشتراكي العربي"..ولتحدث ازدواجية مازال يعاني منها الشعب المصري، بين ما يقرأ ويسمع عن الحرية والديمقراطية والوحدة والاشتراكية وبين ما يمارس من حرمان وإرهاب وفقر وظلم وبيروقراطية وامتهان للإنسان وكرامته، والإنسان هو من كبار المثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين الى العمال والفلاحين الذين سيموا سوء العذاب في سجون نظام الحزب الواحد....ثم تنتكس التجربة  بمدى ساعات في هزيمة حزيران ولتصبح ذكرى، ولتتكرر التجربة المنتكسة ونتائجها بمعظم الدول العربية ومنها عراقنا الحبيب!
***
مفهومان عصريان متلازمان فُرّط بهما، وأسيء إليهما، وإذا قلت ذُبحا من الوريد الى الوريد لا أكون مغالياً، هما الديمقراطية والاشتراكية، وإن شاء أحد أن أضيف له ثالثاً فسيكون  الوحدة..وحيث أن الثالث لا يحتاج الى تأمل فسببه أن الوحدة ذبحها الوحدويون دون غيرهم، وكان الذبح بسكينة عمياء صدئة، فقد أسقطوا الجمهورية العراقية الفتية بسببها في الثامن من شباط عام 63، وحين اعتلو سدة الحكم جعلوا الوحدة وزارة لا مقر لها ولا ديوان سوى غرفة ومكتب وزير!!وكانت الوحدة أول الأقانيم تتبعها الحرية وثالثة الأثافي إن شئتم الاشتراكية..
الآن أتوقف مع الديمقراطية، فما من حزب حي أو ميت أو منظمة صغيرة أو تجمع إلا وتجد الديمقراطية لها حضور وقد تكون عنواناً أو تدخل في العنوان..أما "الاشتراكية" فقد نصل لونها لأن موضتها بطلت وأصبحت "دقة قديمة" كما يقول إخواننا المصريون، أما فلسطين فقد حذفت دون رحمة ..ومفردات مثل الاستعمار، والرجعية، والتحريفية... فقد حذفت هي الأخرى لأن الجميع غدوا تحريفيين، أرجو أن لا يزعل  الرفاق الشيوعيون، فقد أعدموا دكتاتورية الطبقة العاملة بضمير مرتاح!! وأبقوا على سياسة التحالفات فهم عشاقها المتيمون الأبديون! ولا أدري مع من سيتحالفون فعلائم مقتدى وأهمها زيارته لإيران تدل أنه قد نوى وربما سعى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى." .. وليتنا نعرف مع من سيتحالفون؟!
قرأت مقالة للدكتور كاظم حبيب يشخص فيها علل التيار الديمقراطي، ويرى أن هناك حالة لا تسر من التراجع في الأداء متمثلاً في التشظي واستقالة أحد مسؤولي التيار في السويد، وأن وضع التيار هو الآخر في هولندا في في حالة أسوأ، ولكنه لم يخبرنا صراحة عن وضع التيار في استراليا أو بغداد أو في لندن...الخ، وحاول الدكتور أن يشخص أسباب  التراجع ووعد بأنه سيواصل بحثه... ولي رأي آخر!
العراق وبقية الدول العربية هو (وهي) من نمط الانتاج الآسيوي، للبلدان المستعمرة والتابعة، يعني المتخلفة، فعراقنا ذو اقتصاد مشوه ومختلط، رعوي/زراعي متراجع، صناعي احادي يعتمد على البترول يستخرج ويضخ للسوق العالمية بدون صناعات تحويلية، وهناك انتكاس كبير في الصناعة بعد الاحتلال أسوة بالزراعة ماجعل البلدان المجاورة طامعة ومنتعشة في بقائه متراجعاً..وترى حتى الكويت تستأسد على العراق إي والله!! إن هذا التخلف الرهيب وشيوع النزعة الاستهلاكية ببناء المولات الحديثة وازدهار المطاعم وبؤس وفاقة متزايد أضرت بالقطاع الساحق من الشعب وتراجع مهول في التعليم والمدارس  ووضع مأساوي في المستشفيات وعدم توفر المياه الصالحة للشرب وتخلف الامداد الكهربائي.. جعلت المواطن يكدح لأجل لقمة العيش ..مما عزز التخلف الثقافي والاقتصادي، وجعل الحكام يزدادون فساداً في ظل انعدام الرقابة وضعف واضح في الأحزاب ونشاطها..
فلا يمكن للديمقراطية أن تنتعش في ظل وضع متخلف، والأحزاب جميعها طالها السلوك المتخلف، من قبيل التحزب والتكتل، والمنافسة غير النزيهة، واساليب التسقيط والتشويه.. حتى المنظمات الديمقراطية في الخارج تعاني من التشرذم والتآمر وسياسة النبذ والإقصاء وسطوة العمل الحزبي على التنظيم الديمقراطي.. ويتكلم الدكتور حبيب عن التيار الديمقراطي كما لوكان كياناً راسخاً وأصابه التصدع! لا يادكتور لنكن واقعيين.. معظم أعضاء التيار هم من الشيوعيين المختلفين مع الحزب لكن المتسلطين هم الحزبيين وقسم آخر من المستقلين ومن القوميين وحتى البعثيين ومن كان في ركاب سلطة البعث!
إن خلطة من هذا النوع لا يمكن لها أن تكون ديمقراطية بل حتى العناصر النظيفة المخلصة تبعد، وفق الاخوانيات والتحزبات..وأن في التيار الديمقراطي من هم أتعس من البعثيين.. إن المناكبة من أجل الوجاهة واحتلال مسؤوليات الصدارة والممارسات الأنانية أفضت الى إبعاد وابتعاد مثقفين  ومثقفات وشعراء وشواعر وضعف النشاطات وفقرها بل وموتها.. فما العمل؟
قبل سنوات أربع جرت مراسلات تتضمن نقاشات وكان رأيي مخالفاً لرأي القائد الشيوعي السابق، وهو أن مبدأ الديمقراطية قد شُوِّه نظرية وممارسة وكفر الناس بالديمقراطية التي أصبحت رديفاً عملياً للمحاصصة   بل وستجد المحاصصة موجودة وحاضرة حتى في أي تنظيم ديمقراطي وكم صدقت النبوءة، فتجد في التيار الديمقراطي، الشيعي والسني، والمسيحي والمندائي، وروعيت الجهوية قد اخذوا مواقعهم محاصصة..الخ، والتي غذت روح التكتل والتشظي..وكان رأيي هو إيجاد تجمع لليساريين بمختلف انتماءاتهم والاتفاق على خطوط عريضة لايجاد برنامج انتقالي ذي نزعة يسارية علمانية يطرح البديل ويكون اداة استقطاب لعموم الجماهير التي ستكون جهاز رقابة شعبية تفرض نفسها لكشف مواطن الفساد.. ووجدت إن هذا هو البديل الذي يقطع دابر الطائفية والجهوية ويعطي مثالأ  ملهما للجماهير التي تعبأ لخوض نضال مستمر.. فقد تعبت الجماهير من الإسلام السياسي، والآن الانحياز للتوجهات العلمانية يتعاظم..بعد الفشل الذريع لكل الاحزاب الدينية.. ولنا في تجربة السودان والجزائر والممارسة الديمقراطية في تونس أمثلة مشجعة ودروس ينبغي الاستفادة منها، والحديث يطول..
12 أيلول/سبتمبر 2019




16
لكي يكون أبو عبد الله "الحسين في ضمائرنا" حقا!
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
ياحسيـن بضمايرنـه- صــــحنه بـــــيك آمــــــنّه
لا صيحة عواطف هايْ - لا دعـوه ومُجــرَّد رايْ
هـذي مـن مبادئنـه - صِحـنـه بيــك آمــــــــــــنّـه
الى أن يبلغ الذروة :
لمسنه بيك أبوالاحرار - اعرفـــنـه المـوت حرّيـه
لمسنه التضحيه بشخصك – عرفنا الشرف تضحيـه
لمسنه بيك أبي ومَ تليـن - عرفــــنـا الـذل عبوديـه
لمسنه اعلى الكرامه اﮔضيت - عرفنا نريدها هيّـه
لمسنه ابذلت دم وحييـت - عرفنـه الدنيـا وقــــتيـه
لمسنـه قسـوة اعدائـك - عرفــــــــنـا احنـه فدائـيـه
عرفنه انظل بيدين يزيد - مـن ايـد لقــــسـاوة ايـد

هذه من أشهر القصائد الحسينة المكتوبة للترنيم (الردّ) الحسيني كتبها الشاعر رسول محيي الدين (1922- 2005) عام 1974 حين أرسل عليه مدير الأمن أن ينشد قصائد للحزب والثورة ويمتدح القادة وعرض عليه مبالغ كتبرع لخدمة الحسين، فرفض الشاعر وقال له: إذا كان الهدف خدمة الحسين فيمكنكم التبرع حيث يعلن من المنبر أثناء الرد، وتسلم التبرع للموكب الحسيني كما جرت العادة.. لان المناسبة حسينية ولا تقبل المدح لغير الحسين وآل بيت النبي.. فهدده المسؤول الأمني. وخرج الشاعر منزعجا، حينها كتب القصيدة ثم أكملها، فألقاها الرادود ياسين الرميثي في خرنابات من أعمال ديالى، في عاشوراء عام 1977، وبعد أسابيع تبنتها مواكب المُشاة (البيادة) من النجف الى كربلاء في أربعينية الحسين وكانت هذه القصيدة من بواعث الأصرار ومواصلة السير وتحدي السلطة، وقد طُوِّقت المواكب بخان النص وانضم اليها الآلاف من أبناء الريف، حيث حوصرت المواكب بالدبابات والمدرعات وحتى طائرات ميج 23 وراح عدد كبير من الضحايا المدنيين،  ونفذ حكم الاعدام بعدد من النشطاء بلغ التسعة وقتل أحد المشاة من السائرين عند خان النص، والحادثة معروفة.. 
تتسم القصيدة بسمة الشعر الملحمي الذي يمجد بطولة الإمام الحسين ومبادئه التي استقاها من قيم القرآن وسنة جدّه، وفكر والده في التصدي للظلم وعوامل الانحراف المتمثلة في السطو على الخلافة وتحويلها الى ملك عضوض من معاوية لابنه يزيد، وهو سابقة خطيرة في تاريخ الإسلام.. وقد ضرب الحسين وأهل بيته ومريدوه مثلاً رائعاً في الصمود والثبات على المبادىء والتضحية..وتتسم القصيدة بلغة منسابة سهلة مؤثِّرة الوقع على السامع حسنة السبك عميقة المعاني لا تكلّف فيها، لكنها لا تخلو من تحريض، ودعوة للوقوف بوجه الظلم أياً كان مصدره.. زادها ذلك الترنم بلحن حزين يتماشى مع هول الواقعة ولا يخلومن حماس رغم هدوء الانسياب من خلال المد والترجيع الهاديء وجمال الانتقالات في المسلك الميلودي..ما أعطاها حيوية متصاعدة رغم طول القصيدة..
باختصار القصيدة هي امتداد لتراث الترنيم الحسيني عبر التاريخ من خلال شعراء كبار من قبيل  الحاج زاير وعبود غفلة الشمرتي و عبد الحسين أبو شبع وعلي التلال ورسول محي الدين وبأصوات جميلة ومؤثرة من قبيل السيد كاظم القابجي وفاضل الدليمي الرادود وعبد الرضا الرادود (حس الذهب) وحمزة الصغير ووطن و حسين الرميثي وياسين الرميثي...الخ ( للمزيد يمكن مراجعة: في التطرف وما يليه، سلسة من ست حلقات،الرابعة: وللحزن مجالسه!؛ الخامسة: وللنساء مجالسهن! والسادسة: ممارسات مسيئة وضارة!؛ لكاتب هذه السطور، نشرت في عدة مواقع قبل عشر سنوات).
***

لظلتِ الترانيم الحسينية أو الرد يتسم بجمال وصدق المشاعر في المناسبات الحزينة، وحتى المبهجة مثل مواليد النبي والإمام علي والحسين، مما يشد السامع ويؤثر به أيما تأثير لتآلف القصائد واخضاعها لما يلائمها من أنغام وأصوات الرواديد (جمع رادود)، مما خلق قاعدة شعبية واسعة من المريدين والمعجبين حيث في كل مناسبة تخضع القصيدة لنقد الناس الذي يتسم بالإعجاب والكشف عن مكامن الجمال وشدة التنافس بين رواديد أطراف (أحياء) النجف العريقة حيث لكل حي رادوده؛ حين تابع الجمهور الذواق ويقارن بين الرواديد من ناحية النص واللحن والصوت! ومن المهم إن القصائد الحسينية تتسم بمناهضتها للحكام الظلمة إذ طالما حاربها الحكّام لسماتها الثورية والتقدمية!
 رافقت المناسبات الحسينية طقوس متطرفة تتعدى المجالس والنوح والردات واللطم الى ممارسات ضارة منها، الضرب بالسلاسل المعدنية على الظهور، وشج الرؤوس بالنصول البيضاء حتى يسيل الدم مدرارا! والتحريض على هذه الممارسات باعتبارها من شعائر الله التي ينبغي لها أن تُعظَّم لإنها من تقوى القلوب!!  مارسها نفر من القراء والخطباء الذين يشيعون الكثير من الخرافات والذين أساؤوا للحسين (ع) من حيث لا يعلمون عندما يصورونه رجلاً يستحق النوح، دون أن يؤكدوا على المثل والقيم والمباديءالعظيمة التي ثار من أجلها الحسين ولا على الشجاعة التي ضرب فيها مثلا في التصدي للحكّام الظلاّم، ناهيك عن فقرهم في اللغة والمعرفة، والأنكى أن عددهم في ازدياد.
 يذكر صاحب البداية والنهاية في تأريخه ( ترجمته ج16في أكثر من موضع وفي أعلام الذهبي ج-10ج481 )، أن عضد الدولة عندما زار بغداد والتقى بالعلماء شكوا اليه الفيضانات، والمشاكل التي تحدث بين اتباع المذاهب، فتعهد لهم ببناء السدود وكري الأنهار وأصلاح نظام الري وبناء أعظم مستشفى وهو المستشفى العضدي وغيرها ، اما المشاحنات المذهبية فأوصى بمنع الخطباء والقراء الجهله الذين يثيرون الفتن، وفعلا حسن الحال وعرفت بغداد الإستقرار لفترة خمس سنوات وهي التي حكم فيها عضد الدولة ! وعندما يتابع المرء أكثر الخطباء الشباب في هذه الأيام يسمع عجبا ،(علما ولغة ) إذ كثيراً مايشيعون الجهل والخرافة ظانين أنهم يخدمون المنبر الحسيني- كما ذكرت سابقا- دون رقيب ولا حسيب، فهم لم يسمعوا بفن الإلقاء وهم لا يخرجون الحروف من مخارجها ولا يعرفون الشمسي من القمري ولا القطع ولاالوصل ولا الإدغام ولا المد ولا الشد ولا الوقف ولا الحد المعقول من النحو والصرف ولا..ويرسلون ما يعنّ لهم كلاما مرسلا رسَلا!
 ولأجل هذا فإن على المراجع أن تضع حدا لهذه الظاهرة، وأن يشكلوا لجنة تختبر المتقدمين بكل العلوم والشروط الواجب توفرها بالخطيب وتجيز من ينجح فقط ، حتى تعود الخطابة الى عصرها الذهبي فليست الخطابة بكاءً وإبكاءً فقط !

 ثار الحسين من أجل إحقاق الحق ومكافحة الظلم والانحراف المستشري كما اليوم من قبل شيعة الإسلام السياسي، فحريٌّ بنا أن نستلهم من ثورة الحسين مكافحة الظلم والفساد واستغلال المناصب للأهل والأقارب، الذين اغتنوا على حساب الأغلبية المسحوقة؛ وأساليب النفاق حين يخرج علينا السرّاق والفاسدون ليجعلوا من مناسبة عاشوراء فرصة لتبييض صفحة أعمالهم ويخدمون المشاة المتوجهين لزيارة الحسين عن طريق تقديم الطعام والماء! وآخر بدعة ظهرت أن يقوم البعض بغسل أقدام المشاة من الزوار وتنشيفها لأنها من شعائر الله ولأنهم من أحباب ومحبي آهل البيت!!
إن مظاهر الإسراف في تقديم الطعام ومظاهر التسرب من الخدم والواجب الوظيفي بحجة الزيارة لأمر يدل على سوء الفهم وعلى التحايل والتهرب من الواجب وهذه أمور لا يرضاها الحسين الذي تربى في حضن والده ولطالما سمعه يردد هذه الآية:
( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) القصص38 
والذي أوصاهما بأن يكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً... والا يسكتا عن الحق!
فأين نحن من مبادىء وقيم الحسين، أين؟!
السادس من أيلول/سبتمبر 2019

17

خالد جواد شبيل
مع سبق إصرار، أزعم أن من يخترق القصيدة العمودية بتاريخها التليد الحافل ومن يتمثلها ويتشربها عبر عصورها، لاخوفَ عندئذ عليه حين يطرق باب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر ويتعدى الى النثر فيكون نثره عميق الغور كما الشعر، مادام النثر هو الأم الرؤوم للشعر أو صنوه المنظوم في عقد خَرَزاتُه الكلمات التي انتظمت على البحور الخليلية..وأعطت أُكُلها لفظاً ومعنى وموسيقى ووسعت مؤتلفة للعاطفة والخيال ..
كنت طالما أتابع وأتحرى ما يكتبه الشاعر حسين المحسن فأجده قليلاً، وأتابع قصائده الصادقة في أعياد الحزب الشيوعي، فأجده صوتاً مميزاً لا يختلط مع الأصوات في عمودياته يلقيها باحساس وبلغة تنم عن باع طويل باللغة والشعر.. كتبتُ مرة عنه عن قصيدة قصيرة عن الأم أبكتني حقاً.. ورغم قصرها فقد قالت الكثير عن أم حنون لم تلبس غير الأسود ظلت تترقبت عودة ابنها الشاعر الأسير الذي أفنى سنوات طويلة من زهرة شبابه في الأسر، لم يجد أنيساً أو سميراً له سوى ما يتوفر من كتب نزرة في اللغة والأدب والدين!
واليوم، أجدني أمام قصيدة قدّمها شاعرها بتقدمة تشي للقارىء أنها من الأخوانيات، فهي مهداة أو قل يخاطب فيها كاتب هذه السطور، ولكن ما أن يتوغل في تناياها وتضاريسها يدرك أنها تتعدى ذلك وتتجاوز الموروث الواسع من رسائل الشعراء مع بعضهم أو مع أصدقائهم التي تمتلىء بالعتاب أو المنادمة والتهاني لزواج الشاعر أو رزقه بمولود، أو تعزيته بفقد عزيز ناهيك عن السجال الشعري أو لوم الزمان أو المداعبات البريئة من مدح وذم ...الخ. فلنستمع معا:
خذ صرة الذكريات معك..
وإلا
علامَ ستسند ظهرك؟
الخناجرِ
الطعناتِ
كأس المرارة..
نتجرعه رشفةً رشفةً مثل موت بطيء
الى خالد جواد شبيل
يجعل الشاعر الذكريات شيئيات ملفوفة بصُرّة وهو كناية بلاغية عميقة حين يجعل القلب هو الذاكرة مكوراً كما الصرة التي هي "أخف ما لمّ من زاد أخو سفرِ" وفق تعبير الجواهري، ويشير الشاعر الى ذكرياتنا لمكان أخضر عزيز تطوقه دجلة بحنو فتسقي البستاين والزرع من ضرع مدرار! فلم يعد المكان (الصويرة) كما كان محملا بالبرتقال والتين والعنب بل كثر الحسك والشوك كأنها خناجر بدل السنابل التي تجذب القبرات والقطا والدرّاج!
المساء يمر
وانت تحط على النافذةِ
لا وقت ظل لديك
أسبع دقائق تكفي للعشاء؟
كسرةِ خبزٍ
وزيتونةٍ
قدحٍ من نبيذ معتق
يعيدك قسراً لحي السراي
أو لزقاق يتلوّى كأفعى في النجف
الخطاب الشعري هامس مفعم، تلتحم فيه الذكريات، موزع المكان، كأنما موكل "بفضاء الله يذرعه " وفق الشاعر ابن زريق، بين النجف مولد صديقه وبين الصويرة التي عاش بها أجمل سنوات الطفولة والصبا وفارقها ليأتيََ الزمن بسنوات عجاف من عام 63 وما تلتها في النجف  ليغيب الماء والاخضرار حيث حدائق الكتب في أزقة النجف وحول مقام الإمام علي ع، حيث باعة الكتب ومجلدوها وسوق الجمعة لمزاد الكتب في الطمّة من سوق الحويش!
هذه الأجواء لا تفارق المسافر في حلّه وتَرحاله، وهو يلف العالم وتسقيه الكأس نبيذاً يهيج تلك الذكريات بين السراي في الصويرة والمشراق في النجف، ولله در الجواهري:
تعالتِ الذكواتُ البيضُ عن نجفٍ – عالِ كما ازدهت الألواحُ بالأُطُرِ
ومستدَقُ الحصى فيها وما جمعت – مَناخةُ النوقِ من بدوٍ ومن حضرِ
ثم العودة الى الصويرة الأجمل طبيعة والأبهج ذكريات:
قدح آخر سيقرع في رأسك الجرس المدرسي
أو يهز أراجيح عمو زكي
قدح ثالث سيقنعك انك لست هناك
ولست هنا
والزمان يسير بفرده دونك
دوننا
هكذا يا رفيقي أراك مثلي تراقب هذا المسلسل من نصف قرن
فجأةً تمدُ يداً من أطلس للخرائط
 للشوارع التي كنت تمشي عليها قبل خمسين عاما
لي
للشوارع التي كنت تمشي عليها قبل خمسين عاما
أتدري؟
قد تهرأت مثل ملابسنا
يصاب أي مهاجر أو غائب عن البلد- كما الشاعر في أسره-  بازدواجية في حياة ماقبل الحروب حيث السلام والدعة، وازدهار البساتين وجمال الطبيعة بوجود دجلة أو الفرات، وفرح الأطفال بالأعياد، وعمو زكي هو الفنان المبدع والمثّال زكي خلف، وهو خال الفنانين، نزار وسهيل الهنداوي، اشتهر بمباهجة في العيد في الصويرة.. وحالة العودة بعد الحروب الكارثية التي دمرت الزرع والضرع ولوثت الماء والهواء،، إن أصعب مايخافه المهاجر أن يعود ليكتشف أن معين ذكرياته الجميلة قد نضب ويكتشف أن حنينه هو لصور لم يعد لها وجود في الواقع وإنما في رأسه، وتلك هي المفاجأة الأكثر إيلاما، والناجمة عن إزدواج الذاكرة قبل وبعد الكوارث!!  ويرى أن كثيرأ من الأصدقاء فارقوا الحياة وأكثرهم قد أحرقهم أتون الحروب العِوان، فلنتابع انثيالات الصور والسرد الوصفي:
أتدري
أننا لم نعد نأمن النوم فوق سطوح البيوت؟
ولم نعد نعرف العشق إلا لماما
واستبدل الناس أواني الزهور
بحشوة دبابة أو مدفعية
كل شيء هنا يا صديقي يشي بالفناء ألأكيد
الهواء الذي يتنفسه الناس
قد لوّثتْه خطبتا العيد والجمعة
والزمان توقّف
نعم يا صديقيَ قد توقف
في ادمغة الناس
وفي الكتب المدرسية
وفي ساعة الحائط المنزلية
......... 
إن الحروب لم تغير المدن والناس ولم تأت بكوارث البيئة وكوارث البشر..فلم يعد الماء ماء قابلً للشرب من الناس ومن الحيوانات، ولم يعد الهواء نقيا.. وما ترتب على ذلك من أمراض سرطانية أهلكت مئات الألوف من الضحايا وخاصة الأطفال بل غيّرت حتى من الطباع والعادات الاجتماعية، فلم يعد بوسع العراقيين النوم على السطوح وهي عادة قديمة منذ السومريين، بسبب الخوف من القائف وعدم نقاوة الهواء! كما يخبرنا الشاعر بأن المقتنيات أصبحت الأسلحة وقد رأيت بأم عيني أن الناس يقتنون الأسلحة ويعرضونها في الفيترينات (الجامخانات) ! بل وإن ذخائر الأسلحة وعبوات القذائف الفارغة أصبحت أصصاً للنباتات والزهور! نعم هناك ازدواج الذاكرة هو الشائع لدى الناس بين واقع لايني يسوء وبين زمن أصبح جميلاً في عيون الناس حتى وإن كان غير جميل وفقاً لقول الشاعر:
رب يومٍ بكيتُ منه ولمّا – صرتُ في غيره بكيت عليه!
روى لي أصدقاء أن الشاعر وليد جمعة ابن بغداد وعاشقها حين سافر من كوبنهاغن التي أوته سنين طوال الى بغداد، انهار أمام أصدقائه حين التقاهم في شارع الرشيد وانخرط في بكاء مرير ويصيح يايمة!!
يتسم الشاعر علي حسين المحسن بتكثيف السرد وتماسك الصورة وانتيالها وفق تسلسل محكم، وبلغة رشيقة سليمة تدل على اطلاع واسع على أساليب الفن الشعري وقدرة على توظيف مخزون الذاكرة واستحضارها بما يخدم القصدية الشعرية ويجعله متميزاً في سلاسة الانتقال وحسن السبك وثراء في المفردات وجمال اللفظ وجزالته..بعيدة عن التعقيد واصطناع الفخامة اللفظيةِ، فلغته منسابة بعفوية وبقيت محافظة على تماسكها وحسن بنائها..فنحن أمام شاعر متمكن من أدواته عميق الغور في أفكاره وجميل في لغته رغم الحزن الذي القى بوشاحه على القصيدة، الصدق في المشاعر أفضّله على التفاؤل المصطنع!
12آب/أغسطس 2019



18
المنبر الحر / بيتان لشاعرين!
« في: 10:25 08/07/2019  »
بيتان لشاعرين!
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
من أجمل ما كتبه أرباب النقد هو كتب "الموازنة" بين الشعراء، وهي دراسات في النقد المقارن، وهذه المفردة الأخيرة أختطفت ليجعل منها في دراسات "الأدب المقارن" بين شعراء من أمم مختلفة..وأحسب أن هذا النوع من الأدب مازال عندنا يحبو ويكاد يقتصر على الأطاريح العلمية النزرة.. والسبب أنه يشترط معرفة جيدة للغة وآداب الشاعرين المعنيان بالمقارنة، وهو أمر لعمري ليس بسهل!
وأخوكم كتب بموضوع الموازنة بين الشعراء نظرية وتطبيقاً، ومنهما على سبيل المثال: الموازنة بين ابن معصوم والحبوبي في عدة حلقات..وفي رثاء الحيوان بين الشعراء في عدة حلقات....وبين تائيتين في عدة حلقات (الشاعر حسن المرواني وعبد الإله الياسري)..الخ. ومازال ينوي مواصلة ما ابتدأ إن سمح الحال والمجال..
وفي الموازنات لا يتم الاختيار والرصد اعتباطاً بل وفق ماهو مؤتلف ومختلف بين الشاعرين من موضوع ومن شخصية الشاعر مايبرر الموازنة تبريراً موضوعياً، ويكشف عن جوانب خافية أو قد غُفل عنها من قبل الدارسين، أو أنها أرض بكر لم تُحرث بعد!
***
والبيتان هما لشاعرين من عصرنا هذا وإن شئت هما من قرننا المنسلخ، وهما هامتان أو قامتان (وفق ماهو سائر) شعريتان كبيرتان أحدهما لُقّب ب "أمير الشعراء" والثاني " شاعر العرب الأكبر" وكلا اللقبين جائر زائف خادع ومن أراد الوقوف على الأسباب فليراجع سلسلة مقالات " في ألقاب الشعراء" لكاتب هذه السطور..
يقول الشاعر أحمد شوقي (1868- 1932) من قصيدته الذائعة "جارة الوادي" والمقصود بها زحلة وفي فندق مطلّ على وادٍ جميلٍ أخضر هو وادي الشعراء، إذ قيل أن عدداً من كبار الشعراء كتب على إطلالة الوادي ومن شرفة الفندق ذاته عدداً من القصائد، وكان شوقي قد زارها لأول مرة عام 1925 ثم اشتد به الحنين ليزورها بعد سنتين بصحبة الشاب المطرب الصاعد الذي- لحّنها وغنّاها- فخاطب زحلة ملهوفاً :
إِن تُكرِمي يا زَحلُ شِعري إِنَّني - أَنكَرتُ كُلَّ قَصيدَةٍ إِلّاكِ
ومطلع القصيدة (المنسي) من أجمل المطالع وأعذبها وأرقها:
شيّعتُ أحلامي بقلب باكِ – ولَمَمتُ من طُرق المِلاح شِباكِ
والبيت المعني هو:
لم تبقَ منّا – يافؤاد – بقيةٌ – لفتوةِ أو فضلةٌ لِعِراكِ
هذا البيت يتساوق مع جو القصيدة، حيث كتبها شوقي وهو على مشارف الستين، يجعل الطبيعة حبيبته فيتغزل بها أعذب الغزل ويعاتبها أجمل العتاب ويشكو إليها أنه فارق الشباب، وبلغة موسيقية تزينها قافية الكاف المكسورة، فتكون النبرة هامسة رقيقة على بحر الكامل، وقد يبدو للسامع أن زحلة فتاة رقيقة ممشوقة القوام خاطبها بلغة العيون معانقاً إياها بعد أن تعطلت لغة الكلام، وهي تتلوى دلالاً بين يديه..
وللجواهري أيضاً عتاب مع الطبيعي وهو يقف أمام جبل صنين في لبنان غير بعيد عن زحلة ليقول منبهراً بروعة الجبال والوهاد والوديان:
أرجعي ما استطعت لي من شبابي  - يا سهولاً تدثرت بالهضابِ
وهذه القصيدة أعتبرها من أروع ما كتب الجواهري، ومن أكثر قصائده شموخاً وهو يبدأ بلغة الأمر.. ولغة الأمر تتكرر لدى الجواهري، مثل قصيدة "جربيني"..
وعودة الى بيت شوقي نجده ينتقل بالخطاب الى القلب بلغة العتاب، بأن القلب قد تعب من هموم الحياة وليس لشوقي المترف من هموم سوى الحب والجمال،  والعِراك هنا بمعناه الواسع فقد صعب عليه أن يكون كهلا أمام حياة قاسية سلبت منه شبابه! ولم تُبقِ له غير الذكريات التي أصبحت صدى السنين الحاكي!
بيت الشاعر محمد مهدي الجواهري (1900- 1997):
يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا – حتى لأدنى طماح غير مضمونِ
وهو من قصيدته الذائعة "يادجلة الخير" قوامها 167 بيتاً كتبها في شتاء براغ عام 1962 التي جاءها عام 1961متعباً إثر خلاف مع الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث كان الجواهري قد ناصبه العداء بسبب أمنية لم تتحقق له، إذ كان يطمح بوزارة..فأخذ يسب قاسماً في المجالس ويسميه "الزنيم"  وكان كل الشتم يصل لقاسم من شخصية نجفية تولت منصباً أمنياً ومقربة من قاسم..لا دليل أو وثيقة لدي ولكنني أحمل مسؤولية أخلاقية    بما خصني به شخص موثوق وصديق حميم للجواهري..
دجلة الخير، مطلعها :
حييتُ سفحك عن بُعدٍ فحييني – يادجلة الخير يا أم البساتينٍ
وهي كباقي شعر الجواهري عالية النبرة الخطابية، وبأسلوب متين، تتسم بالبلاغة وحسن التصوير والجزالة اللفظية، والتكرار البلاغي الخطابي ب"يادجلة الخير.." حيث عمّق الحزن والشكوى والحنين وغاص على الذات وتداعياتها بعيداً وعبّر عن ثقافة واسعة في التراث الشعري على مدى القصيدة الطويل.. فالجواهري متنبيُّ النفس، لكنه يعتبر نفسه أقرب الى لبحتري، نعم هو خليط من المتنبي والرضي وأبو تمام وفخامتهم الشعرية ويقترب من بعيد  للبحتري ورقته وعذوبة موسيقاه!
وما قلته عن لقب شوقي أقوله أيضاً عن لقب أطلقته احدى الصحف على الجواهري " شاعر العرب الأكبر"، وهو لقب مجحف بحق كبار الشعراء الذين تتلمذ عليهم الجواهري وشحذ ذاكرته بروائع أشعارهم..
القصيدة هي من البسيط، البحر الذي يستوعب الحزن والغضب والفرح.. وهي نونية القافية مما جعلها طافحة بالمشاعر الجياشة..
بيت الجواهري فيه يأس وقنوط ليس بمنطلق ذاتي محض وإنما بتوجس من مخاطر لا تني تقترب، وقد يئس من إصلاح الوضع في العراق، حيث لم تمض سوا أشهر معدودة وحصل انقلاب 8 شباط الدموي عام 1963 وقد كان هذا التاريخ بداية الهزائم المتلاحقة حتى يومنا هذا!
السابع من تموز/ يوليو 2019




19
جنّاتٌ مصرية وحورياتُ عِين للبيع!
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
لمصر مكانة في نفوس العرب، وإذا سمح لي الأصدقاء أن أتحدث عن شخصي الصريح، فعندئذ أقول أن  فضل مصر عليّ وعلى أبناء جيلي وما سبقه كبير، فمن كتابها العمالقة غرفنا علما غير يسير، ولست الوحيد الذي يقّر بهذا، بل سأصارحكم  وأقول أنني أحببت مصر الملكية أكثر من الجمهورية، وحُكمي هو أدبي وثقافي ولا يخلو من السياسي، فمع الجمهورية المصرية وبعدها  الجمهورية العراقية الفتية ناصبت مِصرُ الناصريةُ  العراقَ العداء وتحالفت مع القوى الرجعية والاستعمارية ونجحت في إسقاط حكمه الوطني وزعيمه تحت شعار تحقيق الوحدة الفورية وحين وصل دعاة الوحدة للحكم فارقوا الوحدة وانما اكتفوا بوزارة ليس لها ملاك ولا ديوان سوى غرفة للعلامة الجريء الوزير عبد الرزاق محي الدين، الذي توفي مسموماً  بقهوة شربها عندما دعي للقصر الجمهوري بعيد انقلاب البعث الثاني عام 1968..
وهنا أتوقف عن الشأن المعرف بكل مجرياته ومآلاتة ومخرجاته وهذه الأخيرة مفردة جديدة!!
***
عندما زارهيرودوت (484 ق.م – 425 ق.م)  المؤرخ والرحالة اليوناني- والملقب يأبي التاريخ – مصر وصفها يومذا ك البعيد بعبارته الأغريقية العميقة: "إن مصر هي أرض المتناقضات، وهي هِبة النيل!" ومازال هذا الوصف دقيقاً عميقاً، وأحسبه ينطبق على العراق أيضاً وعلى بلدان عديدة إسلامية وعربية ومن مظاهر التناقض:
العبادة والتقوى ويقابلها الرقص وترجيف الصدور وهز البطون والأرداف  تحت شعار: هز ياوز!
الغنى الفاحش والفقر المدقع.
 والظرافة وحب المرح وسرعة البديهة وخلق النكات والمقالب يقابلها وجوه "التقاة" المكفهرة، والجباه المكوية من أثر السجود، واللحى المطلقة على عنانها والجلابيب البيضاء الميني والمايكرو والماكرو والمسبحات الطويلة وشفاه تتحرك وتسبح لله بكرة وأصيلا..
كنت كلما أزور مصر أرى ما لا يُحصى من يافطات وألواح للأطباء والمحامين ومعالجي البواسير بدون جراحة والمأذونين بعقود النكاح، والقابلات ومقرئي القرآن في الفواتح ومقرئي الأدعية للأموات، ومنظمي حفلات الزواج والطرب والفرفشة، ومكاتب الزواج على سنن الله ورسوله! ولكثرة هذه القطع والألواح يعزّ عليك أن ترى قطعة أو يافطة تحمل اسم الشارع لتعرف في أي مكان أنت من القاهرة المحروسة!
ربما لهذه الأسباب ومثلها يحب الإنسان القاهرة فمن السهل جداً أن تكسب صداقات المصريين من كل الأصناف، وأجمل الساعات تلك التي تلف بها القاهرة الاسلامية وفي حاراتها الشعبية تتلقى السلام وتسلم على الناس، وتقف للحديث معهم قليلا .. أو تجلس في حانة ستلا ليبدأ الغناء ليلا وتتعرف على مثقفي مصر، ومرتادي الحانة من الجنسين أو تجلس في مقهى ريش الشهير وتتمتع بكأس نبيذ أو بالمقهى السويسري لتناول الشوكولا أو المثلجات الراقية!
آخر ما وصلني من صديق كريم هو تسجيل فيديو لمكالمة  شخص ظريف يتصل بمكاتب دينية تجارية تعلن عن ترحيبها بقرب حلول شهر رمضان، فتتولى الصيام عنك بسعر، وعن كل أفراد العائلة بسعر مخفض، فتستطيع أن تأكل وتشرب وتمارس الجنس في نهار الشهر الفضيل دون تثريب عليك، ويقدمون أكثر من ذلك صيام للأموات، والحج للأموات، والبكاء على الأموات... وكذلك يقدمون لك الزواج السري والعلني والمسيار... وكل هذا قد يقبله عقل المحتاج وغير المحتاج لكن الأغرب الذي يصل الى حد الإعجاز أن يباع لك ترخيص يخرجك من حساب يوم الدين ويضمن لك الجنة بكل ما فيها من خرائد ورعابيب الحور العين، وإذا كنت من مشتهي الغلمان ستلقاهم مخلدين (يضعون اقراط في آذانهم) وهم يفوقون الحور العين جمالاً - لا أسمي شاعراً هاماً عراقياً وضع القرط في أذنه تشبها بالولدان المخّلدين!  – كل هذا بسعرمن ألف جنيه مصري فما فوق حسب درجة الجنة من نجمة حتى سبع، وحسب المأكول والمشروب وفوق هذا وذاك حسب جمال الحور والولدان (وحياتك يارخص) !
لقد تطور وتتوج هذا الاتجاه بفعل اتجاه الترهيب والترغيب من قبل من جعلوا أنفسهم وكلاء عن الله ليصبحوا منافسين لله في ثوابه وعقابه وفي فردوسه وجحيمة، وتجاوزا على الله الذي وصف جناته التي أعِدت للمتقين بأجمل الآيات!!
قال الله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا/ النساء 69 }
● قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23].

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء:57
● قَالَ الله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ . جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} [الْوَاقِعَة:22-24].
● قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ . فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ . كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍعِينٍ} [الطور:17-20

أكتفي بهذا القدر من الآيات الكريمات التي تؤكد أن الصالحين الأبرار والتقاة (ذكراً وإناثا) هم المؤهلون لدخول جنته الموعودة؛ ولا يستعمل الله لدخولها سياسة الباب المفتوح لكل من يدفع حسب الدرجات من ذوات نجمة الى سبع نجوم، حسب المأكول والمشروب، وقبل هذا وذاك تكون التسعيرة حسب جمال الحور والولدان..
لدي سؤال أو سؤالان: ترى ماذا أبقى تجّار الدين لله وقد نافسوه في مهنته؟
أين الدولة ومؤسسة الأزهر؟
والسؤال الأخير: هل مازال هناك من يسأل لماذا يزداد عدد الملحدين في مصر والعراق والسعودية بدالة المتوالية الهندسية؟!! هل هناك من يُنكر الأرضية الخصبة لتزايد الإلحاد بفضل وبركة الإسلام السياسي؟
الفاتح من أيار/ماي 2019



20
المنبر الحر / الرحيل..(*)
« في: 20:53 09/04/2019  »
الرحيل..(*)
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
هو يوم منقوش في الذاكرة، كان يوم خميس في الفاتح من شباط/فبراير عام 1979..فقد أنهيت واجبي وسلمت ما بذمتي من دفاتر امتحان نصف السنة لجميع الصفوف الدراسية الى مدير الثانوية الرجل الطيب الأستاذ خليل  (أبو إبراهيم)، وخرجت مرتاح الضمير؛؛ فأساليب المطاردة وإجبار الناس على التعهد بعدم الانتماء لأي حزب آخر عدا حزب البعث هو كابوس ثقيل، لا يزيد عليه ثِقلاً  سوى الخيار بالانتماء لحزب البعث أو القبول بأي وظيفة وفي أي مكان خارج سلك التعليم أو خيار الاعتقال!! وهكذا قررت الهجرة، لا هدف معين لي سوى إيثار العافية متأسياً بقول ابن زريق البغدادي (صاحب العينية الذائعة، والذي توفي في غربته عام 420ه بعد أن أودع قصيدته الواحدة تحت وسادته وأسلم الروح) (البسيط):
واللهُ قسّم بين الخلق رزقَهمُ – لم يخلقِ اللهُ مخلوقاً يُضيّعهُ
ولم أكن الوحيد الذي قرر المغادرة، فكان معي عدد من الزملاء ذوي التوجه اليساري.. وكانت هجرة "الدائرة الذكية" وفق تعبير سعدي يوسف، يقدر عددها في عام 1979بمئات الألوف من المثقفين والكوادر الأكاديمية والتعليمية ومن موظفي دوائر الدولة ومن العمال...وجُلُّهم من بني اليسار أو من الحزب الشيوعي ومن مريديه ومن حزب الدعوة الإسلامية؛ وقد وصل العدد في عام 1995 الى أكثر من ثلاثة ملايين تقاسمتهم قارات كوكبنا الذي غدا صغيراً غير ما ابتلعتهم الأمواه ومازالت!!
***
اجتمعنا في الصالحية حيث منطلق الحافلة على الساعة الثامنة وكان الليل بارداً وبدا موحشاً وقد ساد صمت ثقيل ولا تسمع إلا أصواتاً هامسة حذرة، وقد استغرقنا التفكير بماذا ينتظرنا في عالم مجهول؟ وكانت أوراقنا الدراسية قد خُبئت بعناية، بينما كان كتاب مديرية التربية بالموافقة على السفر هو الوثيقة الهامة بعد جواز السفر!
وصلنا زاخو عند الرابعة صباحاً وبقينا ننتظر في السيارة عند أقصى المدينة النائمة ريثما يفتح مركز شرطة الحدود عند جسر إبراهيم الخليل. كان البرد زمهريرا، والانتظار في عتمة الليل يزيد من القلق والوجوم وكان اليوم جمعة، حيث تحركت السيارة مع اقتراب الساعة الثامنة عن نقطة الحدود، وبدأنا بتقديم الجوازات لشرطيين مع وجود عدد من الشرطة المدنية ومن منتسبي مديرية الأمن العامة.. كان التفتيش دقيقاً للحقائب، وقد سهّل كتاب مديرية التربية في مهمة التفتيش والمساءلة، لكن هناك ثلة من حوالي سبعة شبّان بينهم شابتان مثار شكوك لدى رجال الأمن، حيث تم التحقيق معهم لساعات طويلة وحيث كان اليوم جمعة لم يكن هناك من موظفين في قسم الملفات في أمن بغداد.. وبقيننا ننتظر أربع عشرة ساعة ولم يسمح بالسيارة بالتحرك الا في السادسة مساء، حيث صعد جميع الركاب.
 وفي الجانب التركي توقفت السيارة لتأشير الدخول حينها أحاط الناس القرويون بالسيارة يسألون عن الشاي العراقي الذي بيع بسعر مُجزٍ.. وانطلقت السيارة وأنطلقت الأحاديث تعبر عن الأسارير،  وبدأت شرائط التسجيل تصل للسائق التركي حيث أغاني فؤاد سالم الشجية..
بدت الطبيعة جبلية وشاهقة، وكانت وجبة العشاء ممتازة في أورفة (الرها) في مطعم عربي، وقد عضنا الجوع بنابه، فلم نأكل في زاخو إلا لفّة بيض من بائع وحيد عند نقطة الحدود قبل العبور؛ والرها مدينة سورية معظم سكانها من العرب  ويتكلم العربية ونسبة قليلة من الأكراد، أُلحِقت بتركيا وفق معاهدة سفر الجائرة عام 1920 التي عُقِدت بين فرنسا وبريطانيا من ناحية وتركيا من ناحية أخرى التي أُرضِيت بضم الشريط الحدودي السوري العراقي بما في ذلك أضنة وطرسوس ومرسين ودياربكر وماردين وجزيرة ابن عمر ومرعش وغازي عنتاب وكلس إضافة الى مدينة  أنطاكية (ولواء الاسكندرونة سنة 1939 بكامله لتركيا حيث تخلت عنها فرنسا ووهبت ما لا تملك!) بعد أن تقاسمت الدولتان المستعمرتان تركة الرجل المريض في معاهدة سايكس بيكو..
كان الطريق ساحراً ومخيفاً حين كنا نقطع جبال طوروس الشاهقة التي تعتبر الحد الطبيعي الفاصل بين بلاد العرب وتركيا أو بلاد الروم (بيزنطا) قبل أن تدخلها القبائل التركية التي نزحت من أواسط آسيا وغرب الصين..
وصلنا اسطنبول في اليوم الثاني عند الساعة السادسة مساء من يوم السبت السادس من شباط عام 1979...واسطنبول حاضرة تاريخية عريقة ومدينة جميلة ومن أهم معالمها جسرها العملاق على مضيق البسفور الذي يفصل الجزء الآسيوي عن الأوربي، والذي أزاح ذلك الجسر المخيف الذي قال فيه أحمد شوقي قصيدته ومنها (الوافر):
 أمير المؤمنين رأيت جسراً ... أمر على الصراط ولا عليه
له خشب يجوع السوس فيه ... وتمضي الفار لاتأوي إليه
ولا يتكلف المنشار فيه ... سوى مر الفطيم بساعديه
ويبلى فعل من يمشي عليه ... وقبل النعل يدمي أخمصيه
ومن معالمها أيا صوفيا وجامع سلطان أحمد.. وأسواق اسطنبول شهيرةٌ شهرةَ سمكها الذي يقلى في قوارب البسفور ويباع أمامك ثم يوضع في خبزلخلوه من العظام ويُعمل منه شاطر ومشطور...!
ثم واصلنا الرحلة بعد استراحة ثلاثة أيام في (إستانة) ثم غادرناها بالقطار الى صوفيا فبلغراد ثم ألقينا بعصا التَرحال في بلاد المجر وعاصمتها الحسناء بودابست النائمة على الدانوب الأزرق..
والحديث يطول!
(*) لمناسبة مغادرتي بلدي العراق قبل أربعين عاماً بالتم والتمام..
الفاتح من شباط 2019


21
مع ابن الوردي في جوازمه
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
ما ميّز العرب عن سواهم هو تشبثهم بأنسابهم، فالنسب هو مدعاة للاعتزاز والتفاخر، وعلى الرغم من أن الإسلام جاء بقيم جديدة وأهمها: إنّ الناس خُلقوا شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وأعلى مراتب التعارف هو الزواج، وإنّ الناس سواسية كأسنان المُشط، ولا خير لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة..الخ؛ بيد أن قضية الأصل والفصل والحسب والنسب مهم في الجانب الاعتباري تبقى متجددة، ولعب الشعر في ترسيخ هذه القيم دوراً هاماً، ألم يقُل الشاعر؟:
أولئك أجدادي فجِئْني بمثلهم – إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ
وقبله قال الشاعر الجاهلي:
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ – تخِرّ له الجبابرُ ساجدينا
والمتنبي الشاعر العظيم الذي ظلّ يعاني من عقدة أبيه "عيدان السقّاء" جعلت هذا الألمعي يخرج من الكوفة ليجعل من شعره نسباً له ومدعاة فخر، وكان شجاعاً مُعتداً بنفسه أمام ممدوحيه مهما عظم مُقامهم:
لا بقومي شُرّفتُ بل شُرِّفوا بيْ – وبنفسي فَخرتُ لا بجدودي
ورغم بعد المسافة الزمنية التي تأتي بأفكار جديدة وتُذهب بأفكار بالية بقي النسب والفخر به يشكل ظاهرة قوية لدى العراقيين تضعف قليلا لتنبعث بقوة في زمن التدهور والانحلال، بحكم العلاقات العشائرية التي هي الأخرى تنتعش قي زمن التدهور الاجتماعي، فلا أعرف بلداً يضاهي العراق في التشبث بالنسب وجعله عنواناً للإسم بل ظهرت فئة النّسابة تبيع شهادات الإنساب لقاء مبالغ، مثلما تباع الشهادات الدراسية في سوق "مريدي" الشهير!
لا شك أن من حق الإنسان أن يسجل اسمه ونسبه لكن المسألة تجاوزت هذا الإطار فقد غدت ظاهرة الانتساب للأشراف من آل البيت هي الإخرى محل تجارة مربحة.. فالانتساب للإمام موسى الكاظم الذي أمضى سنيناً طوالاً من عمره في السجن، والذي كان متعبداً ورعاً يقوم الليل ويقضي النهار بين العبادة وقراءة القرآن ودروس الوعظ، فمن أين له أن ينجب هذا العدد الهائل من الأبناء والأحفاد؟!
بالأمس عجبت لمرأى شيوخ العشائر وهم يتقاطرون بل يتزاحمون لاستقبال وزير الخارجية الايراني ظريف بالقبل والأحضان، وبالأمس القريب كان أولادهم وقوداً للحرب مع الجارة..هذا الاستقبال جعل الضيف  يتصرف ويصرح كما لوكان العراق من توابع إيران؛ مشكلتنا نحن العراقيين نحب بعاطفة جامحة ونكره بعاطفة جامحة وقلما نصدق بالعاطفتين، فمتى نرشد؟!!
***
لا أظن أن هناك من أبناء جيلنا وربما الذي قبله أو بعده لم يسمع بهذا البيت:
لا تقُل أصلي وفصلي أبدا – إنما أصلُ الفتى ما قد حصَلْ
والبيت هو من مطولة رملية قوامها سبعة وسبعون بيتاً، للشاعر عمر بن مظفر المشهور بابن الوردي (691-749ه/1292-1349م) وهو شاعر بارز، جسّد في عموم شعره الغزير وفي نثره ثقافته الواسعة فهو مؤرخ وقاض، وقصيدته تمثل أفكاره وأفكار شيوخ العصر المملوكي في مصر وحتى الشام، وهذه القصيدة أقرب الى النظم فهي خالية من الُمخيلة والعاطفة والبيان، ويجد القارىء فيها رتابة السرد وجفاف اللغة، بل ويجد التفاوت وحتى التضارب فلنسمع المستهل:
اعتزل ذِكرَ الأغاني والغَزَلْ * * * وقُلِ الفَصْلَ وجانبْ مَـنْ هَزَلْ
ودَعِ الـذِّكـرَ لأيـامِ الصِّبا * * * فـلأيـامِ الصِّبـا نَـجمٌ أفَـلْ
إنْ أهنا عيـشةٍ قـضيتُهـا * * * ذهـبتْ لذَّاتُهـا والإثْـمُ حَـلّ
ويبدو أن الشاعر لا يحب اللهو ولا الغناء وتذكُرَ جميل الأيام .. فهي ضمن الرأي السائد كونه يُلهي عن العبادة وذكر الله، ولا شك أنه نسي أو تناسى أن الله يقول: ولا تنسَ نصيبك من الدنيا.
لكن لشاعرنا الشيخ ابن الوردي حجته وتفسيره، لأنها قد ذهب زمانها وولى، فتناول الخمر هو الجنون بعينه، فمن ذا الذي يحب الجنون؟! ويقيناً لو قُدِّر للشيخ شربها لعدل عن رأيه ولتغزل بها كمن سبقه من جحافل الشعراء!
واهجُرِ الخمرةَ إنْ كنتَ فتىً * * * كيفَ يسعى في جُنونٍ مَنْ عَقَلْ
واتَّـقِ اللهَ فتـقوى الله مـا * * * جاورتْ قلبَ امريءٍ إلا وَصَلْ
ليسَ مـنْ يقطعُ طُرقاً بَطلاً * * * إنـما مـنْ يـتَّقي الله البَطَـلْ

ويذهب الشيخ بعيدا ليخبرنا أن الحياة فانية ولا تدوم لأحد بل دول عظيمة بادت ورجال جبابرة ذهبوا وانقرض ذكرهم أو كاد من نمرود وفرعون وهامان وكنعان...
لكن الشيخ يتلطف في وصاياه ويحث على العلم والعمل فإن طريق العلم هو طريق الصلاح:
إيْ بُنيَّ اسمعْ وصايا جَمعتْ حِكمـاً * * * خُصَّتْ بهـا خيرُ المِللْ
أطلبُ العِلمَ ولا تكسَلْ فمـا * * * أبعـدَ الخيرَ على أهـلِ الكَسَلْ
واحتفـلْ للفقهِ في الدِّين ولا * * * تـشتغلْ عنـهُ بـمالٍ وخَـوَلْ
واهـجرِ النَّومَ وحصِّلهُ فمنْ * * * يعرفِ المطلوبَ يـحقرْ ما بَذَلْ
لا تـقلْ قـد ذهبتْ أربابُهُ * * * كلُّ من سارَ على الدَّربِ وصلْ
ويبدو أن الشيخ الجليل قد أحسّ أن لغة التخاطب بالجوازم ثقيلة، فاستخدم لغة هيّنة حانية "أي بني" وهي لغة موجهة للشباب من الآباء.. أما الجوازم في كل القصيدة فهي بين "لا الناهية"، وفعل الأمر الذي أنكره الكوفيون كفعل بذاته لانعدام دالة الزمن وإنما هو بالأصل فعل مضارع مجزوم ب "ل"، "اهجر" أصلها "لتهجرْ"..
بل يذهب شاعرنا الشيخ ويطلب من الشعراء أو الذين ساروا على درب الشعر أن يقلدوه وينهجوا نهجه، ولا يقولوا غزلاً أو شعراً في الخمر أو اللهو والمُجون؛ فلنقرأ:
انـظُمِ الشِّعرَ ولازمْ مذهبي * * * فـي اطَّراحِ الرَّفد لا تبغِ النَّحَلْ
فهوَ عنوانٌ على الفضلِ وما* * * أحسنَ الشعرَ إذا لـم يُـبتـذلْ
ماتَ أهلُ الفضلِ لم يبقَ سوى* * * مقرف أو من على الأصلِ اتَّكلْ
أنـا لا أخـتارُ تـقبيلَ يدٍ * * * قَـطْعُها أجملُ مـن تلكَ القُبلْ
وهنا الشاعر محق، في ترك تقبيل الأيدي والخنوع لأصحاب المنزلة الرفيعة الى أن يقول:
ليس ما يحوي الفتى من عزمه * * * لا ولا ما فاتَ يومـاً بالكسلْ
اطـرحِ الدنيا فمنْ عاداتها* * * تخفِضُ العاليْ وتُعلي مَنْ سَفَلْ
‍عيشةُ الرَّاغبِ في تحصيلِها * * * عيشـةُ الجاهـلِ فيهـا أو أقلْ
كَـمْ جَهولٍ باتَ فيها مُكثراً * * * وعليـمٍ باتَ منهـا فـي عِلَلْ
صدقت ياشيخنا الشاعر كأنك عائش بين ظهرانينا وترى كيف تولى الحكم من كانت جيوبهم فارغة، عائشين على المساعدات في دول اللجوء، وكيف صاروا يتحكمون الآن بمصائر الناس، وكيف أن عوائل فقيرة وفيها من هم معدمون حكموا ونهبوا وعاثوا في الأرض فسادا ولم يشبعوا بعد وما زالوا في غيّهم سادرين..
لكن أسوأ بيت في القصيدة حين يوصي الشيخ أن ندع السلطان وشأنه لأنه شديد البطش، ولأنه لايتورع من أن ينادي على السيّاف وعدته السيف والنطع ليقطع الرؤس، فإيثار العافية هو أسهل الطرق! ولعل ساستنا سيترحمون لابن الوردي لقوله:
‍جانِبِ السُّلطانَ واحذرْ بطشَهُ * * * لا تُـعـانِدْ مَنْ إذا قـالَ فَعَلْ
 20ك2/يناير 2019


 

22
ريثما يختمر العجين – 21
الكلمة شرف الإنسان وضميره
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
هل بوسع كل إنسان أن يُحصي كلماته المنطوقة في اليوم؟! وهل بوسع الكاتب أن يراجع كلماته بين الفينة والفينة؟! وإذا استطاع ذلك هل بوسعه أن يتأمل ما صدر عنه ويقف عنده وقفة موضوعية ناقدة؟
بوسع الإنسان ان ينقد غيره بسهولة، بوسعه أن ينتقد هذا الكاتب أو ذاك.. بوسعه ان ينتقد هذا السياسي أوذاك.. أو ينتقد أغنية كلمات ولحناً.. ولكن هل يمكنه أن يمارس نوعا من النقد اسمه النقد الذاتي؟! وأن يكون رائده النزاهة والموضوعية في نقد ذاته حتى وإن أفضت الحصيلة إلى جلد الذات!
إليكم قولين لرسولين عظيمين، أتباعهما يشكلان سوية الغالبية الساحقة من سُكّان كوكبنا فلنسمع:
قال السيد المسيح (ع): "في البدء كانت الكلمة".
قال الرسول محمد (ع): "الكلمة الطيبة صدقة".
***
تابعت عن بعد إعلاميين ومحللين سياسيين وصُنّاع رأي، وكتاب في مواقع التواصل الاجتماعي من شتى المشارب والمذاهب وإن شئتم من شتى الأطياف، ولكثرة المتابعة باتت وجوههم وأصواته محفورة في الذاكرة، أكثر من آرائهم، وأكثر من منطلقاتهم وأكثر من حججهم وأكثر من انفعالاتهم وأكثر من أناقاتهم  ومن رشاقة حركات أياديهم  وأكثر حتى من تظاهرهم بالحرص على الوطن أكثر من غيرهم وأكثر من تشاكلهم مع بعضهم...أقول عن هؤلاء في معظمهم أصبحوا وجوهاً معروفة مكررة الى حد الملل..
ورب سائل يسأل: أين العلة؟ أم هو حسد عيش؟
العلة يا أحبتي - وأحسبني أصدقكم القول- تكمن أن هؤلاء السادة (والسيدات بينهم جدّ قليلات) نعرف أشكالهم ونميز أصواتهم بل أصبحنا نعرف أسماءهم..لكن هؤلاء (أكرر في معظمهم) لا نعرف أفكارهم لأنهم لا يمتلكون رؤية فكرية واضحة تشكل منطلقاً متماسكاً ومن ثم رأياً حصيفاً..هم في تغير مستمر ولا يقر لهم قرار، هم كالأميبا ذاك المخلوق المجهري الذي يغير شكله ويسبب مرض الزُحار أو الدزنتري..
بالأمس مدحوا نوري المالكي وألّهوه وجعلوه علي بن ابي طالب في زهده؛ وحين دارت الدوائر أنزلوه الى الحضيض وقالوا فيه مالم يقُل مالك في الخمر...ثم جاء حيدر العبادي فمدحوه ورفعوه الى عليين وذكروا أباه طبيب الأعصاب الشهير الدكتور جواد العبادي النجفي وتكلموا عن انسانيته وشجاعته واخلاصه ودوره في جعل مستشفى الجملة العصبية من خيرة مستشفيات الشرق الأوسط واشادو بيساريته – كل ذلك عن الأب صحيح) وقالوا إن ابنه حيدراً "على سر أبيه" وأن "هذا الشبل من ذاك الأسد" !!
والآن أوشك الدكتور العبادي على الانتهاء من مهمته فأدار لههؤلاء ظهورهم وظهر المجن، والتفتوا الى القادم عادل عبد المهدي فأخذوا يشيدون به ويمتدحونه ويصفونه بصفات كبيرة وكالوا له المديح من نزاهة وتعفف جعلته يستقيل من وزارة النفط وهو الوحيد الذي استقال دون غيره وسجلوها له منقبة كبرى! ناهيك عن حصافة في الرأي وجراءة وإقدام وضبط وكفاءة قلَّ نظيرها ..كل هذا والسيد لم يشكل وزارته بعد..ونسي هؤلاء هم أنفسهم ماذا قالوا عنه بالأمس القريب وماذا كالوا له من تهم لا أود استرجاعها والرجل منهمك في تشكيل وزارته وهي مهمة جد صعبة..
أفرزت حادثة تغييب وتصفية الصحفي السعودي جمال خشوقجي إفرازات معيبة لمن اعتبروا نفسهم اعلاميين وصحفيين من غير السعوديين تطوعوا ليصبحوا ملكيين أكثر من الملك فدافعوا ونافحوا وبرّءوا السعودية ملكاً ووصياً على العرش براءة الذئب من دم ابن يعقوب! بل وخالف أحدهم كل الوقائع وقال أن شريط بعثة الخمسة عشر مبعوثاً استخبارياً هم  سبق لها المشاركة في ندوة ي تركيا في عام 2015 والشريط مزيف وقديم!! وراح غيره (لقبه الخزاعي).. يدافع بحماس وعناد ووقاحة وعندما حاججه المذيع المصري المهذب لم يحر جواباً وغدا كمن "عملها بالمضيف "!
مرتزقة الكلمة ياناس أخطر من مرتزق السلاح، لأن الارتزاق بالكلمة سام خطره خطر اليورانيوم المنضّب الذي أضر بالبيئة في العراق ومازالت أضراره قاتلة للأخضر واليابس للإنسان والحيوان والنبات والغذاء والماء..
الكلمة شرف الإنسان وضميره..
 من لم يقدر على قولها فالصمت أجدى وأستر!
23ت1/أوكتوبر 2018

23
غدرٌ مقصودٌ أماشتباك بالأيدي؟!
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
أن يُغدر الإنسانُ أو يُغدر به أي أن يُأخذ على غفلة منه. وأن يستدرج الإنسانُ الإنسانَ ثم يُدفع به الى الهاوية فيهلك هو الغَدْرُ بعينه، والعرب تَعتبر الغدرَ رزية وزريئة معاً لأنها تدل على النذالة والخِسّة والجبن وانعدام المروءة؛ والنداء عند العرب "يا غُدَر" يُعَدُ من أقذع الشتائم، والقول العراقي السائر يعبرعن الحالة: ياغافلين إلكم الله..
وقال سعيد بن حميد:
جعلتُ لأهلِ الودِّ ألا أريبَهم -      بغدرٍ، وإن مالوا إلى جانبِ الغدرِ
وأن أجزي الودَّ الجميلَ بمثلِه -      وأقبلُ عذرًا جاء من جهةِ العذرِ  (4)

وفي الحق ماأردت أن أطرق هذا الموضوع الذي كتب عنه الكثيرون وشرّقوا وغرّبوا.. لأننا نُصبح ونمسي على  إراقة الدم العراقي الذي غدا رخيصاً، وإزهاق الروح في ديارنا متنوع بأساليب شتى فلسنا ناقصين.. إنما بقيتُ مشدوداً كغيري لحدث فيه غرابة وجريمة مُفزعة بين دولة وبين مواطنها الذي هو  نتاجها رجل إعلامي تسنم مواقع سامية فيها حتى الأمس القريب، ولم ينسلخ منها بل ظل يدافع عنها وعن جريمتها الكبرى في حربها وأخواتها على اليمن، سوى أنه طالب بتوسيع الحريات لا غير! ولا يُعدُّ ولا يَعِدُّ نفسَه معارضاً، والأنكى أن مسرح الجريمة الغادرة في قنصلية أرِيد لها خدمة المواطنين في الغربة وقضاء حوائجهم لا إزهاق أرواحهم.. فهل هناك ما هو أخسّ من هذا؟!
***
قبل نصف ساعة قرأت ماتناقلته وكلات أنباء موثوقة عن بلاغ النيابة العامة السعودية عن واقعة اختفاء الاعلامي جمال خشُقجي، بعد ترقب وانتظار.. وما رأيت قولاً ينطبق على هذا البلاغ سوى قولين عربيين مأثورين: أولهما تمخض الجبل فولد فأراً؛ وثانيهما: العذرُ أقبح من الفعل.
فحوى البلاغ: أن شجاراً ثم اشتباكاً بالأيدي حصل بين المواطن جمال خشقجي وبين مواطنين(؟) في القنصلية السعودية في اسطنبول أفضى الى موت جمال وأودعت القنصلية جثمان الضحية الى أحد مكاتب الدفن في اسطنبول! وتعد الحكومة ممثلة بالملك سلمان بن عبد العزيز وابنه وصي العرش محمد اللذين لا يعلمان عن الواقعة شيئاً بمحاسبة المسؤولين..وأجرت تغييرات بنقل وفصل بعض المسؤولين الكبار عقاباً نكالا على خلفية الواقعة!!
أي استهانة بعقول الناس وأي غباء هذا الذي يتصور أن الناس ليس لديهم عقول تفكر! هناك مثل مأثور: أغبى الأغبياء من يتصور أن الآخرين أغبياء!
لحد قبل يوم من هذا التصريح كانت الحكومة السعودية تنفي أن جمالاً اختفى بها وتُصرّ على أنه خرج بعد عشرين دقيقة من إكمال معاملته وتزويده بما أراد! ويبدو أن ولي العرش الشاب المغرور محمد بن سلمان تصور أن كل شيء يتم بالملايين والمليارات البترودولارية ولم يحسب حساب للصحافة الحرة بما في ذلك الواشنطن بوست التي يكتب المغدور جمال خشقجي عموده فيها! ونسي أن هناك منظمات حقوق إنسان لا تباع وتشترى، وإن في العالم ضمير جمعي عالمي مازال نظيفاً.. فلا زالت دول الخليج الحديثة النعمة محكومة بعقلية الأعراب الأجلاف التي ترى نفسها أنها تشتري العالم بفلوسها بمثل ما تشتري القصور المنيفة واللوحات النفيسة ونوادي الرياضية العالمية واللحوم الشقراء البيضاء!
هناك نكتة بطلها الكوميديان المصري اللاذع أحمد غانم: أنه د خل محفلاً غنائياً واشتهى أن يغني فوزع نقوداً على أصحاب النادي والفرقة الموسيقية والجمهور القليل.. ووقف يغني بصوت أجش وبرباطة جأش فاحتج احدهم، فأجابه الفنان أحمد غانم: أنا أغنّي بفلوسي!!!
20 ت1/ أوكتوبر 2018
 

24
المنبر الحر / جائزة نوبل للسلام
« في: 17:22 08/10/2018  »

جائزة نوبل للسلام
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
منحت لجنة نوبل النرويجية لعام 2018 جائزة السلام لشخص العراقية نادية مراد وللطبيب الكونغولي دينيس موكويغي..والفارق بين الشخصين كبير، فنادية مراد ضحية استعبدت وبيعت كجارية وعُذبت واغتصبت مرات، كبقية بنات جنسها من النساء الايزيديات اللاتي يصل عددهن الى خمسة آلاف.. بفعل هجمة بربرية للإسلام السياسي التكفيري المتطرف الذي طال ضحايا من جميع المعتقدات والاثنيات من لم يعتقد اعتقادهم، لأنهم يعتقدون أنهم رسل الله ومختاروه الذين يحملون رسالته الالهية لبني البشر فهم المؤمنون وغيرهم كفار ومشركون يستحقون أن يقتلوا وتسبى نساؤهم وأطفالهم..الخ مما هو معروف ومشهود من ممارسات مارستها داعش في الموصل وتوابعها العراقية والرقة ودير الزور وغيرهما في سوريا..
أما الطبيب الكونغولي دينيس فهو بذاته لم يكن ضحية بل طبيباً دواى وعالج آلاف من النساء ضحايا الحروب الأثنية والسياسية في الكونغو ممن عانين من اغتصابات جماعية وقام بعمليات لإزالة ما خلفته هذه الانتهاكات الجسدية وقد خبر معالجتها وعلّم زملاءه وتفاني في تخفيف آلاف النساء اللواتي عانين من آلام جسدية ونفسية..بلا مقابل.. فشتان بين الحالتين بين ضحية فرد وبين منقذ آلاف الضحايا!
***
حقق المهندس الكيميائي السويدي ألفرد نوبل (21 أكتوبر – 10 ديسمبر 1889) ثروة طائلة من اختراعه الديناميت، وتحضيره مواد كيميائية تاجر بها بمعمله الموجود في منظقة غروندال (الوادي الأخضر) حيث كان لي هناك متجر غير بعيد عنه، تحول معمله في المنطقة الساحرة حيث الغابات الخضر وبحيرة تريكانت الى معرض عن نوبل ومقهى صيفي..ولمن لا يعرف فإن شركة نوبل تنامت ثروتها بعد مماته وأصبحت معملا لإنتاج السلاح بالتداخل مع أختها شركة بوفوش ذات الفضائح!
أوصى أن يخصص جزءاً من ثروته لتوزيع خمس جوائزسنوية في: الطب، والكيمياء والفيزياء والآداب والسلام.. ثم استحدثت جائزة نوبل للاقتصاد عام 1968 من مالية البنك المركزي السويدي.. تمنح الجوائز الأكاديمية السويدية، عاد جائزة السلام تمنحها لجنة نوبل النرويجية ولا ننسى أن السويد والنرويج كانتا دولة موحدة! ويُقام كل عام يوم العاشر من ديسمبر احتفال كبير يتم فيه توزيع الجوائز على مستحقيها من قبل ملك السويد، والتاريخ يقام يوم وفاة الراحل نوبل!!
منذ مطلع علم 1901 شُرع بمنح الجوائز.. ولو نصفح عن الجوائز الأخرى لنتوقف مع جاائزة نوبل للسلام فنقول لقد منحت لشخصيات سعت للسلام وعملت على تخفيف كوارث الحروب أو انقاذ البشرية والسعي لمجهود السلام وابعاد شبح الحرب.. لهذا وزعت للسياسيين والإنسانيية دعاة السلام ورؤساء دول وكانت لعام 1973 وقفاً عل القارة العجوز (أوربا) وعلى العالم الجديد وملكته غير المتوجة أمريكا..
في عام 1973 منحت الجائزة مناصفة بين الوزير الأمريكي هنري كسنجر وبين المناضل الفيتنامي لي دوك ثو الذي رفضها بإباء وشموخ وحسناً فعل فلم يُرد أن يتساوى أمريكا المحتلة المجرمة التي استخدمت سياسة الأرض المحروقة والتي استخدم الأسلحة الفتّاكة كالنابالم وبين بلاده فيتنام التي عانت الويلات والكوارث.. فلا تساوياً بين المعتدي والمعتدى عليه أي بين الجلاد والضحية..
في السبعينيات حدث تحول جغرافي لا سياسي في منح جوائز نوبل وما زلنا مع جائزة السلام، حيث بدأ تمُنح لدول خارج حدودها لتنطلق الى الاتحاد الوفييتي والى الشرق الأوسط/ آسيا والى أمريكا اللاتينية، حيث دشنت دولة إسرائيل علاقة قوية بالأكاديمية السويدية باعتبارها دولة علم وتنشد السلام، وكان انحياز الأكاديمية منح الجوائز الأدبية وجائزة السلام واضحاً، وقد حصل انقسام أكثر من مرة وخرجت الأكاديمية المرموقة والروائية المحترمة ششتين ايكمان من الأكاديمية وانحيازاتها..
وأصبح السلام وفق الأكاديمية السويدية هو التطبيع مع إسرائيل ومن يسعى ويحث للتطبيع مع اسرائيل.. حتى تراكض بعض الأدباء العرب للتطبيع مع إسرائيل بعد منح جائزة نوبل لنجيب محفوظ وأحسب أن الأمر معروف ولا أدل من بيان كوبنهاغن للداعين للتطبيع!!
ومراجعة منح جوائز نوبل للسلام قد يفيد وينفع:
عام 1975 منحت الجائزة للعالم السوفيتي أنريه ساخاروف لنقده السياسة السوفيتية لبلاده وتباكيه على حقةق الإنسان والتضييق على الحريات في الاتحاد السوفييتي.. وساخاروف للعلم يهودي روسي ومؤيد لإسرائيل..
عام 1978 منحت مناصفة بين الرئيس المصري المستسلم وبين مناحيم بيغن اليميني الصهيوني مؤسس حزب الليكود، وقبلها مؤسس المنظمة العسكرية الارهابية إرغون التي نفذت مذبحة دير ياسين، والتي اعتالت بغدر الوسيط السويدي فالك برنادوت عام 1948 لأن قراراته لمشروع السلام لم تعجبها واعتبرته منحازاً للعرب!!
1983 منحت للبولوني ليخ فاونسا رئيس منظمة تضامن تثميناً لدوره في زعزعة النظام الاشتراكي وإسقاطه..
1990 مُنحت للرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف لأنه ساهم بشكل هام في اسقاط الاتحاد السوفييتي، لتعم الفوضى (الخلاقة) ولتنتشر المافيات والمخدرات والبغاء..
1994 منحت لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وللسياسيين الاسرائيليين إسحاق رابين وشمعون بيريز ، والأخيران لهم تاريخ معروف في منظمة الهاكانا الإرهابية، وبيريز آخر ما نفذه مجزرة قانا في جنوب لبنان حين كان رئيساً للوزراء...
وعام 2005 منحت للمصري الدكتور محمد البرادعي..ومعروف ما كُشف عن البرادعي خلال عمله وكيلاً للطاقة الذرية وانحيازه لإيران وتقاريرة التي تبرىء ساحتها رغم وجود أجهزة لمنظومة عملاقة من أجهزة تكريز اليورانيوم في حيازتها، بينما واصل تشكيكه بالعراق وقيادته للجان التفتيش حيث نفى ما يؤكد وجود أسلحة دمار لكنه أكد وجود أسلحة بيولوجية  في العراق..
لا أحد ينكر أن المنظمة منحت الجائزة لمن يستحقها لمنظمات إنسانية مثل العفو الدولية ، ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة أطباء بلا حدود، وكذلك لشخصيات هامة مثل: مارتن لوثر كنغ، والراهبة تيريزا ونلسون مانديلا.. وآخرون.
أن تمنح جائزة جولية لامرأة عراقية أمر يدعو للفخر، وحسنا عمل رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وهما يهنئان المواطنة العراقية نادية مراد، ولكن الأحسن هو في مهمتهما المنتظرة بإرجاع المهحرين ولم شعثهم وأصلاح مناطقهم وتوفير فرص العمل للعاطلين منهم.. وكذلك محاولة النهوض بالعراق الواحد وتحسين أوضاعه السياسية والاقتصادية ومكافحة الفساد بكل أنواعه والارتقاء به في جميع ميادن الحياة..   
8ت1/ اوكتوبر 2018

25
فهد العسكر شاعر الاستلاب والبوح
خالد جواد شبيل
لم اسمع بهذا الشاعر من قبل، إلا عن طريق مجلة العربي الكويتية، يوم كتبت عنه  الأستاذة سعدية مفرح (*) عام 2001 وقبلها ما كتب عنه بالمجلة ذاتها الأستاذان يعقوب السبيعي ومحمد عبد الله (**)  في مقالة مشتركة  عام 1992، فهو شاعر بارز بين عدد جد قليل ممن أنجبتهم الكويت من شعراء..
 هذا شاعر موهوب لكنه سيء الحظ، عاش ورحل في زمان ومكان غريبين عليه وهو غريب ومستلب فيهما..عاش في جدب موحش وفقر ثقافي، وفي مجتمع متخلف محافظ الى حد التزمت، مثقل بعادات وتقاليد بالية لا ترحم..وفي ظل هذه الظروف تفجرت شاعريته التي تنم عن ذكاء ثاقب وإحساس مرهف، وكانت شموعه في هذا الظلام الحالك هو ما يطالع من كتب نزرة ومجلات عربية تصدر في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق  يتنسم فيها طعم الحرية ويتقوى بها في تمرده على المجتمع الذي يعيش فيه كياناً منفصلاً عنه وجداناً وشعورا، فتفجرت قريحته بشعر صادق هو مرآة نفسه الثائرة المتمردة الرافضة لعقد اجتماعي وأعراف لم يخترها وإنما فرضها عليه قدرٌ ضالٌ فرضا..هو لم يشهد من نعيم الكويت البترولي ولا من تجددها وتمدنها شيئاً بل شهد جحيمها في بلاد مصحرة مقفرة يغلب عليها طابع البداوة..
إذن؛ نحن أمام شاعر رائد من الكويت، وما أندر شعراء الكويت وما "أبخس" البضاعة حين تكون من شاعر ثائر متمرد لا يراعي عُرفاً ولا يعبه بتقاليد ثقيلة كأنها قيود رصاصية!
 ولد الشاعر فهد العسكر الظفيري في مدينة الكويت عام 1917 أو قبلها بعامين أوثلاثة لعائلة دينية محافظة،ربها يعمل إماماً لأحد المساجد ومعلّم لقراءة القرآن فيه، وتعلم الصبي فهد قراءة القرآن على يدي والده، ثم التحق بأحد الكتاتيب ليتعلم القراءة والكتابة، ويلتحق بالمدرسة الرسمية ويتخرج منها عام 1930وزاد عليها في المدرسة المباركية سنوات قليلة، وكان طفلاً شديد التدين، يصحبه والده للمسجد غدوّا ورواحا لأداء الصلوات..
ولما شبّ عن الطوق بدأ يجرب كتابة الشعر وبرز به في بلد لم يجد له فيه منافساً إثر ماتحصل عليه من خزين أدبي من مطالعاته النهمة.. وضاق بالكويت ذرعاً وضاقت به هي الأخرى أشد الضيق، فأرسل للملك السعودي عبد العزيز بن سعود عن طريق ممثله في الكويت قصيدة يمتدحه فيها، فدُعي الى الرياض ليُعيَن كاتباً في ديوان ابن الملك، محمد بن عبد العزيز في جنوب المملكة قرب اليمن، فضاقت السعودية على سعتها في عينيه، والتمس من الملك أن يعود من حيث أتى إلى الكويت، فأذن له!
وزار العراق وتحديداً البصرة يوم كانت ترفد الكويت بما يحتاج من مواد غذائية وماء وكذلك ما يصلها من كتب ومجلات شكلت غذاء فكرياً وروحياً وأذكت في خاطره الشعري شعلة  التمرد على كل ما هو سائد من قيم بالية، وثار على الدين ثورة عارمة .. تسببت له بعزلةٍ ونبذ اجتماعيّ من أقرب المقربين من أهله وعشيره و جل أصدقائه..فله في قصيدة "كفي الملام" وفي قسمها الوطني يفرغ فيها كل همّه في وطن اعتبره سجناً لابن البلد وفردوساً للغريب نقتطف منها ما يأتي:
وطني وما أقسى الحياة – به على الحر الأمينِ
وألذ بين ربوعه  -  من عيشة كأس المنون
قد كنتَ فردوس الدخيل – وجنة النذل الخؤون
لهفي على الأحرار فيك – وهم بأعماق السجون
ودموعهم مهج وأكباد – ترقرق في العيونِ
ماراع مثل الليث يؤسر – وابن آوى في العرين
والبلبل الغريد يهوي – والغراب على الغصون

   
   
   
   
   

وتتسم كباقي شعره في صدق التعبيرعن لوعة غربته في وطنه بلغة منسابة مكثفة وتصوير دقيق لأحاسيسه وأفكاره وحلمه بوطن غير هذا الذي يعيش فيه ولا يملك من حطامه غير الألم والمعاناة والعزلة والشكوى المريرة..
وعاقر الخمر وتمادى فيها الى حد الإدمان.. وطرد من بيت والديه، وأحرق والده كل ما وقع بين يديه من شعر ابنه متهماً أياه بالمروق والكفر وأنه خيّب آماله وأصبح مجلبة للعار.. ولم تعطف عليه سوى أمه الرؤوم الحنون.. التي خصها بقصيدة طافحة بالألم وهي عنوان شعره وأكثرها تعبيراً وأغزرها سرداً شعرياً مكثفاً بانسيابية صافية ونسج رقيق الحاشية، ولعل ما يثير الانتباه أنه لا يكتفي بمعاناته النفسية بل يصف مرض السل الذي يفتك به بأسى بالغ:
كَفّي المَلام وَعلّليني   -   فالشّكُ أودَى بِاليَقينِ
وَتَناهَبَتْ كَبِدي الشُّجون - فَمَنْ مُجيري مِنْ شُجوني
وَأمَضَّني الدَّاء العَياء فَمَنْ  مغيثي؟ مَنْ مُعيني؟
الله يا أمّاه فيَّ ترفّقي لا تعذليني
وتصل الشكوى ذروتها مصحوبة باستعطاف، مبرر حالته شارحاً مرضه لأمه التي بقيت معه ولا حول لها ولا قوة:
أَنا شاعر, أَنا بائِسْ - أنا مُسْتَهام, فاعذُرِيني
أَنا مِنْ حَنيني في جَحيم - آه مِنْ حَرِّ الحَنين
أنا تائِه في غَيْهَبِ - شَبَحِ الرَّدى فيه قَريني
ضاقت بِيَ الدُّنيا دَعيني - أَنْدِبُ الماضي دَعيني
وأنا السجين بعقر داري – فاسمعي شكوى السجين
ضاقت بي الدنيا دعيني – أندب الماضي دعيني
بهزال جسمي باصفراري- بالتجعد بالغضون
أي تناص هذا الذي يبدو بينه وبين الشاعرعلي الشرقي (1890- 1964) في البلبل السجين، حين يقول الشرقي:
وما بلد ضمني سجنه
ولكنه قفص البلبلِ
ترفُّ جناحاه لم يستطع
مطاراً فيفحص بالأرجلِ
لقد أقفلوا باب آماله
فحام على بابه المقفلِ
 وتستمر دوّامة المعاناة حتى في ذكره حبيبته ليلي حين يلوذ بها هي الأخرى بعد والدته مستعطفاً إياها ألا تهجره فلم يبق له أحد يبثه شكواه وبلغ التوسل والاستعطاف ذروته في التكرار البلاغي في "ليلى تعالي" أو حبيبته مضافاً لضمير الشاعر المتكلم "ليلاي" للتحبب والترجّي:
ليلى تعالي زوديني – قبل الممات وودعيني
ليلى تعالي واسمعي – وحي الضمير وحدثيني
ليلاي لا تتمنعي – رحماك بي لا تهجريني
ودعي العتاب إذا التقينا أو ففي رفق ولين
ويستغرق الشاعر في تفاصيل محنته مع الذين ناصبوه العداء وقذفوه بشتى التهم وشوهوا سمعته دون حق ودون وازع من ضمير، ويذكر التهم الباطلة من شذوذ  ومُجون وخلاعة ووتصل الى أعلى رتبة وهي التكفير، ويفند هذه التهم الباطلة ويرد كيدها على متهميه ويؤكد أنه أشرف منهم سجيّة وأنقى ضميرا.. ثم يختتمها بتضمين قرآني: لكم دينكم ولي ديني..
وهناك منهم من رماني – بالخلاعة والمُجون
وَتَطاولَ المُتَعصِّبون - وَما كَفَرْت وكَفَّروني
وأنا الأَبِيّ النّفس ذو - الوِجْدانِ والشّرَفِ المَصونِ
اللّه يَشْهدُ لي وما   -    أنا بِالذّليلِ المُسْتَكينِ
لا دُر دِرهَم فَلو -  حُزْتُ النّضار لألّهوني
أو بِعْتُ وُجداني بأَسْواقِ  النِّفاقِ لأكْرَموني
أَوْ رُحتُ أحرِقُ في - الدواوين البُخور لأنْصَفوني
يا قَوْمُ كُفّوا دينَكُم - لَكُمْ وَلي يا قَومُ ديني

ومما يلفت النظر في هذه القصيدة التي أعتبرها أهم ما تبقى من شعر الشاعر، أنها تحكي محنة الشاعر وتشرح استلابه وأسباب الاستلاب، وهي مغرقة في التفاصيل التي تُشبه تفاصيل ابن الرومي، كما نجد في السرد التعليل والاستعطاف من محبيه؛ وفيها الشكوى المريرة من جور الزمان و محنته مع المجتمع الذي لا يرحم..وهي طافحة بمعاني الشكوى من ظلم لحق به وتهم باطلة ألصقت به من أناس فارقهم ضميرهم.. وهو يدفع عن نفسه غائلة التهم ويفندها كأحسن ما يكون التفنيد..بلغة شعرية تتسم ببساطة السرد وسلاسته وحسن تسلسله بعيداً عن التعقيد اللغوي والتكلف.. فشعره ينساب، على مجزوء الكامل، والقافية هي النون المكسورة، وهذه قافية سهلة ثرّة، والنونيات عموماً استخدمها كبار الشعراء مثل الجواهري " دجلة الخير" و"جربيني"، وابن زيدون بنونيته الشهيرة، ولسهولة هذه القافية استخدمت في المطولات الدينيه والزهدية مثل نونية ابن القيم ونونية أبي الفتح البستي...
ولا بدّ أن أقول أن قصيدة "كفّي الملام" للشاعر فهد العسكر تذكرني بقصيدة الشاعر هاشم الكعبي الذي يقول فيها:
لو كان في الربع المحيلِ – برءُ العليل من الغليلِ
كفّي أميمة من ملامك – ما المعزي كالثكولِ
وليس في الأمر غرابه فهاشم الكعبي أهوازي ومن شعراء الطف المشهورين، ولطالما تلقى قصائده في المجالس الحسينية في العراق والكويت! والقصيدتان من البحر ذاته مع اختلاف الروي.. ولا يحسن المقارنة بين القصيدتين، فقصيدة الكعبي الذي عاش في القرن الثالث عشر الهجري(ت 1221ه) أمتن لغة وأحكم سبكاً وأحسن بلاغة وتصويراً وأرق وأجزل لفظاَ، والفرق كبير بين تجربة الشاعرين فالكعبي أطول تجربة وأكثر مراناً..وهذا لا يقلل من شاعرنا فهد العسكر قط.
وهذه ثلاثة أبيات من قصيدة أطول بعنوان "ليلة" لم يبق منها الا ثلاثة:
ليلة ذكرياتها ملء ذهني – وهي في ظلمة الأسى قنديلي
ليلة لا كليلة القدر بل خيرٌ وخيرٌ والله من ألف جيل
أنا ديني الهوى ودمعي نبيي – حين أصبو ووحيه إنجيلي
هذه الليلة القصيرة المتوهجة في داخل الشاعر بددت الظلمة وهي لها قدسية الحب التي تُشبه ليلة القد بل خيرمن ألف جيل وإذا أدركنا إن الجيل في حساب الزمن 30 عاما، فاحسبوا كم تكون؟ ثلاثين ألف سنة!! ثم يعلن الشاعر فهد العسكر أن دينه كدين سابقه ابن عربي الذي اتخذ من الحب ديناً وإيمانا!!
ومن خلال إلقاء نظرة متفحصة نجد أن هناك تفاوتاً في المستوى الفني للقصائد من ناحية السبك ومتانة اللغةوالقدرة التعبيرية وحسن التصوير والتراكيب البلاغية.. ففي قصائده الملتاعة على الرغم من التكرار في الفكرة وفي المفردات وبساطة السرد إلا أنها أكثر صدقاً وانسيابية كما مرّ معنا وسيتأكد ذلك في قصائد أخَر، وتفسير ذلك أن القصائد كتبت بمراحل عمرية مختلفة، وأن الشاعر لم يلتزم بدراسة ممنهجة للأدب عموماً والشعر خصوصاً، وإنما اعتمد على التثقيف الذاتي من خلال ما يقرأ في المجلات على الأعم..
ودونكم هذه القصيدة التي تعبر عن حسه القومي والتي يستنهض بها العرب لكي يستفيقوا من سباتهم ويعيدوا مجدهم التليد، ومن الواضح تأثره بقصيدة إبراهيم اليازجي (1847-1906) الذائعة:
تنبهوا واستفيقوا أيها العربُ – فقد طمى الخطْبُ حتى غاصت الرُّكَبُ
وتبدو قصيدة العسكر لينة الشكل، بسيطة اللغة، خفيفة الوزن، فاترة القافية، ولا تتناسب مع حرارة الموضوع:
يا بني العُرب إنما الضَّعفُ عارٌ – إي وربّي سلوا الشعوب القويّهْ
كم ضعيفٍ بكى ونادى فراحت – لبكاه تقهقه المدفعيه
لغةُ النارِ والحديد هي الفصحى – وحظ الضعيف منها المنيهْ
ها هي الحرب اشعلوها – فرحماك الهي بالأمة العربيه
غيرُنا حقق الأماني وبتنا – لم نحقق لنا ولا أمنيه
فمن الغبن أن نعيش عبيداً – أين ذاك الإباء؟ أين الحميه
وفي قصيدة أخرى وجدانية شاكية مرارة العيش، يتعمق لديه الشعور بالعزلة وهجر الأحبّاء، فيجد بالشمول خير جليس وأنيس، يبثها همومه فتسمع شكواه وتخفف عنه كربته وتشرح مزاجه، وتجعله ينسى همومه ولو الى حين حيث يقول:
لا الروض روضٌ ولا الصهباء صهباءُ – ولا الندامى ميامين أحبّاءُ
شطّ المزار فلا طيفٌ ولا أملٌ  -  أين الأخلاّء لا عاش الأخلاّء
حوّاء أوذاه من داءٍ تأصل في – قلبي الدوا واستفحل الداء
ومن لواعج شوق قطّعت كبدي – حتى رثى ليَ أعداءٌ ألداء
ومن الواضح أيضاً أن هذه القصيدة تقليدية، تتكر فيها المعاني التي امتلأ فيها ديوان العرب حتى أن العبارات مألوفه ومسموعة  من قبيل " لا الدار دار ولا الخلاّن خلاني!"  ولله در البهاء زهير " تذللتُ حتى رقّ لي قلبُ حاسدي"، ولكن هذا النوع كان شائع في ثلاثينات وأربعينات وحتى خمسينات القرن الماضي فيها شيء من عقابيله!! ولم تتعزز مرحلة التجديد والتحديث في الشعر بعد، وإنما إرهاصات بطيئة تعقب التغيرات السياسية والاجتماعية الكبيرة تقدماً وانتكاسا!
استفحل المرض على الشاعر وفتك برأتيه فتكاً ونخرها نخراً وساءت حالته النفسية نتيجة العزلة والنبذ الاجتماعي لكن أحاسيسه بقيت مرهفة وقريحته فيّاضة، ولم يعتنِ هو بشعره أو يشذبه لكي يطبعه.. فبقي موزعاً عند أصدقائه أقله أما اكثره الذي احتفظ به في بيته فأطعمه والده للنار دون رحمة!
توفي الشاعر المتمرد الذي لم يتراجع عن آرائه وحيداً في الخامس عشر من آب عام عن أربعة وثلاثين عاما1951، وصلّى عليه مجموعة من شيعة البهرة وإمام جامع من معارف أبيه..
تولى جمع  ما تبقى من شعرة صديقه الأديب عبد الله زكريا الأنصاري وكتب شيئاً عن سيرة وطبع في كتاب على حسابه عام 1951..
وكعادة العرب ُينكرون مواهبهم في حياتهم ثم يُكرمونهم بعد مماتهم.. صدر طابع بريدي من دولة الكويت يحمل صورة واسم  فهد العسكر ، وسمّت وزارة المعارف  مدرسة ابتدائية باسمه، وأخرج  التلفزيون الكويتي مسلسل بالفصحى يحكي حياته!!
------
(*) سعدية مفرح، فهد العسكر شاعر الكويت في ذكراه الخمسين، مجلة العربي ، نوفمبر 2001.
(**)يعقوب السبيعي، د. محمد حسن عبد الله، الشاعر فهد العسكر، العربي، فبراير 1992.
يمكن مراجعة:
فهد العسكرحياته وشعره، عبد الله زكريا الأنصاري، ط5 الربعان، الكويت 1997،وهو مجموعة قصائد جمعها صديقه عبد الله زكريا الأنصاري، وهو ليس ديوان..
كما يوجد العديد من قصائد الشاعر فهد العسكر على بعض المواقع يكتنفها كثير من الأخطاء.. مثل ديوان العرب، وأدب وفن...
2ت1/اكتوبر 2018





   



   
   
   
   
   







    



 

26
في رحيل المفكر المصري الدكتور جلال أمين
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
يبدو أن طاحونة الموت شغّالة بِهِمَّة لا تتوقف ولو لهُنيهة ولا تستريح، فهي ما فتئت تحصد هامات عزيزة مفكرة مبدعة .. ما أحوجنا الى مثلها في زمننا العصيب هذا!
فقبل أيام فقدت مصر والعرب بل وحتى العالم المفكر العالمي المصري الماركسي سمير أمين، الذي عرف ببحوثه الاقتصادية الهامة لبلدان العالم النامي خاصة في أفريقيا التي عمل فيها وخبرها.. وكذلك بحوثه في أزمة الرأسمالية..و ققدنا أيضاً قبل أيام قلائل الممثل المصري الفرنسي اللامع جميل راتب، ذا الأسلوب المميز في التمثيل والمميز في ملامحه الارستقراطية رغم يساريته !!
ويوم أمس فقدنا الروائي "الكويتي" إسماعيل فهد إسماعيل المعروف بنتاجه الروائي المائز كمّا ونوعاً؛ وهو في الحقيقة عراقي من مواليد البصرة في بداية  أربعينيات القرن الماضي! وليس أخيراً وفي اليوم ذاته رحل مأسوفاً عليه المفكر الاقتصادي جلال أمين..
***
 رحل المُفكر الكبير الدكتور جلال الدين أحمد أمين عن عمر (83 عاما) زاخر بالعطاء وتميزبعمق الثقافة وسعتها العريضة وبأسلوبه السهل المركز، وأنا أصفه بالمصري، لما كتبه من مؤلفات عن مصر أولا ولكونه مات مهموماً بمصر وفياً لها ولشعبها رغم أنه تخرج من بريطانيا وعمل بها وعمل في بلدان الخليج وخاصة الكويت كخبير أقتصادي عالمي في صندوق التنمية والمساعدات للعالم الثالث وزار بلدان شرق آسيا وخص تايلندا بمقالة هامة ووصفها بأنها من أجمل ما رأى في آسيا.. نعم أصفه بالمصري لأنه ظل مصريا في طباعه وأسلوب حيلته وانشغاله بهموم بلده رغم اقترانه بسيدة إنكليزية وأنجب منها، وقفت بوفاء إلى جنبه حتى الرمق الأخير!
وأورد أهم مؤلفاته عن مصر التي تدلل على ما ذكرت آنفا: "وصف مصر في نهاية القرن العشرين" و" ماذا حدث للمصرين؟" و " محنة الدنيا والدين في مصر" و "مصر والمصريون في عهد مبارك"..وفي كتبه وضع أصبعه على المشكلات الاقتصادية في أرض الكنانة وجذور هذه المشكلات وتجلياتها ومآلاتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وفي كتابه الأخير صدر بعد إزاحة مبارك استعرض فيه سياسة مبارك والتبعية الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة وعلاقة مصر بإسرائيل وما أفضت له سياسة مبارك من هبّات شعبية مصرية أزاحت مبارك والطغمة الحاكمة في مصر، كما وقف ضد توريث الحكم ونبّه عن مخاطره...
ولد الراحل في القاهرة عام 1935 في بيت ثقافة وعلم، فوالده هو المفكر الإسلامي أحمد أمين، وأخوه المذيع والدبلوماسي والكاتب التقدمي حسين أمين الذي تصدى للتطرف الإسلامي بأعمال أدبية وفكرية هامة. تخرج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة ثم ابتُعِث الى لندن ليتحصل على الدكتوراه في تاريخ الفكر الاقتصادي..ثم يعود الى مصر أستاذاً في جامعة عين شمس والجامعة الأمريكية في القاهرة..
ولو تجاوزنا مؤلفاته الفكرية والاقتصادية والتأريخية الهامة، الى كتب سيرته نقف أمام كتابين هامين شيقين، هما " ماذا علمتني الحياة؟" و "رحيق العمر"..ولايكتفي بوصف لحياته الشخصية التي عاشها في مصر إبان تفتحه الذهني  في مختلف مراحله الدراسية في مصر وبريطانيا إنما تزخر ذكرياته بسرد جميل لحياته في ظل عائلة مثقفة ولمصادر بناء شخصيته التي استمدها من الحياة المعاشة ومن مطالعاته وتأثراته الثقافية والسياسية في بلده مصر حيث ما يلقيه مفكروها وأدباؤها المصريون من مؤلفات ومترجمات، وما شاهد من مسرحيات وأفلام صقلت شخصيته وساهمت في بناء أبناء جيله الذين بدورهم واصلوا درب من سبقهم..
نشأ متحمساً لوطنه مصر ثم تحول تدريجياً نحو القومية حالماً أن يبني العرب دولتهم القومية الموحَّدة فمال الى حزب البعث وسرعان ما انتمى اليه يحدوه أمل أن يستعيد العرب مجدهم المؤثل.. وشكّل مع ثلة من زملائه خلية بعثية وزارهم مشيل عفلق ليبارك لهم حزبهم الواعد وراح يشدهم ويدفعهم لتوسيع المنظمة وكانت طريقة عفلق في طرحه لآرائه ولهجته الغريبة عن أسماعهم وطريقة التعبير بيديه، قد اثارت استغرابهم وحتى سخريتهم وجعلتهم في موضع تساؤل عن جدية هذا السياسي.. سرعان ما هجر البعث غير مأسوف عليه !
 وحيث انتقل الى لندن ليحصل على الماجستير في الاقتصاد والدكتوراه في مادة تاريخ الفكر الاقتصادي أقترب من الماركسية واقترن بها أو كاد ظلت مرجعاً له في فهم مشكلات العالم وصارت له مناراً في تحليلاته ودراساته لوضع مصر... ودراسة مصر هي ليست مقصورة على ما هو داخل حدود مصر إنما مصر هي العالم العربي في كل تنوعاته!
والفقيد الراحل جلال أمين لم يكن مبرّزا في اختصاصه كاقتصادي مرموق وحسب بل يتجاوز ذلك الى النقد الشامل أو ما أطلق عليه بالنقدانيه التي تتعلق بشتى مناحي النشاط الفكري الإنساني..ولم أقرأ نقداً هاما لمؤلفات الروائي الإنكليزي جورج أورويل في أروع ما كتب من روايات على رأسها رائعتاه "مزرعة الحيوان" و رواية "1984"، أقول لم أقرأ نقداً وافياً وعرضاً جميلاً مفككاً الرموز وموضحا الدلالة الهامة كما قرأت للناقد جلال أمين..
كنت أتابع مقالاته في الأهرام، فكتبت له ذات مره عمّا كتبه والده عن الإسلام في فجره وظهره وعصره بعض الآراء التي هي متجنية على الحقيقة وبالذات عن الشيعة متسائلاً هل يمكن لكاتب كبير  أن يكتب عن فرقة إسلامية هامة مثل الشيعة دون أن يرجع الى مؤلفات أعلامهم المعرِّفة بفكرهم؟ ولماذا يردد ويستقي ما كتبه من كتب أعدائهم؟! ... كان بوسع الرجل أن يرد ومالي ومال الذي كتبه والدي قبل سبعين عاماً؟! لكنني وجدت ماكتبتُ منشوراً كتعقيب على مقاله!!
في آخر لقاء معه في إحدى القنوات قال وبدا عليه الضجر: "لم أشاهد تلفزيون منذ عشر سنوات، وأكتفي بمطالعة الصحف صباح كل يوم، وحين أأتصفح ما أراه في الصحف أسأل نفسي هل تستحق هذه الصحف أن أكتب فيها مقالاتي؟! ستقولين عني مغرور، نعم أنا مغرور.. أي واقع مزرٍ هذا الذي وصلناه!!"
رحل المفكر جلال أمين مأسوفاً عليه يوم 25/8/2018.. واخسارتاه!!
27 أيلول//سبتمبر 2018 
 
 

27
ريثما يختمر العجين - 10
الرمادي يزيح الأخضر!
خالد جواد شبيل
أتمنى ألا يتبادر للذهن أن القضية تتعلق بفريقين لكرة القدم فلا ضير ولا ضرر ولا ضرار، فالعالم مشغول بهذه الكرة الساحرة التي طالما لعبنا بها صغاراً ونتطلع إليها كباراً الى حد الهوس في كل مونديال وفي كلّ لعبة عالمية أو دورية وطنية بل وحتى الى الصغار حين لا يمتلكون كرة فيعملونها بأيديهم الصغيرة من الخرق.. ليقضوا بها وقتاً ممتعاً.. ورحم الله الرصافي الذي وجد نفسه مرة يقف على ساحة وشباب يلعبون ويتقاذفون الكرة بأقدامهم فوقف مشدوداً إليهم:
ليت الورى كاللاعبين طبائعاً - يتنافسون وكلهم بسّامُ
بقي هذا البيت وأخوته منقوشاً بالذاكرة، أتذكره كلما حصلت مظاهر عنف تصحب أو تعقب اللعبة الجميلة والحديث في هذا الجانب لا أظنه يسرّ القارىء..فلنصفح عنه الى موضوعنا الأهم الذي بات يقلق الناس في شتى أنحاء "المعمورة"..
***
أمس مررت على ممر الزهور، منتشياً جذلاً كعادتي أرقب الزوارق الرائحة والغادية، وأمر على القنوات ومتفرعاتها وأتفقد الأشجار المثمرة وهي تحمل من ثمارها: المانغو والبابايا وفاكهة البيشيون، وفاكهة جاك العملاقة ( جاك فروت) والموز بأنواعه ومتسلقات اللبلاب والخيار البري والزهور الحُمر والصُفر والبنفسجيات...الخ حتى اقتربت من الجسر فهالني ما رأيت!! الغُوَيْبة الجميلة التي أقف أمامها متأملاً أشجارها المتشابكة الأغصان وأشم منها عبقاً خفيفاً يستوقفني أكثر، وأسمع شدو طيور تتناغى وتتنادى فيطول وقوفي وتأملي.. وأتطلع الى حركة بين شجيراتها فأرى أرنباً يفِرّ من وزغ عدواني كبير كأنه تمساح..
الغويبة الراقصة هذه قد اغتيلت وطُّوِّح بأشجارها فحزنت أيما حزن ووقفت حسيراً على أطلالها.. ولا شك في أنْ سيقام على مُقامها برج سكني رمادي، تماماً كما حصل مع غيرها.. ولله در أخيْ ذبيان:
وقفتُ فيها أُصيْلاناً أًسائلُها - عَيّتْ جواباً وما بالربعِ مِن أحّدِ
حين أقف كل صباح ومساء على الشرفة أرقب الناس كنت أرى بناية المركز الإسلامي وجامعها وقاعتها التي تحملها قوائم مستوحيات من زهرة البلوميريا الرشيقة.. حتى شُيِّد برج سكني فحجب قبة المركز الإسلامي الزجاجية العملاقة الزرقاء والأعمدة وحديقة المركز الساحرة حجزها عن المشهد برج رمادي سكني!! وفي منطقتي المدينة الجامعية تشيد الآن ست بروج في مساحة لا تتعدى كيلومتراً مربعاً واحدا..
وقبل يومين فكرت أن أنزل لبعض مناظق العاصمة التي لم أنزلها منذ أكثر من عام لضرورة مُلحّة؛ فوجدتها  قد تغيرت كثيراً ووجد مساحات خضراء قد تلاشت وحلت محلها أبراج سكنية.. والقرآن الذي أقسم بال "والسماءِ ذات البروج".. والآن أصبحت الأرض ذات البروج!!
كل هذا ويسألونك عن الانحباس الحراري!!
الركن الشرقي
22 حزيران/جون 2018

28


قصيدة "مالطة" للشاعرة وئام ملا سلمان

خالد جواد شبيل


أكتب لكم شيئاً من قصيدة الشاعرة وئام ملا سلمان، رفيقتي في الحياة وفي أسفاري، وهي قصيدة جاد بها خاطرها الشعري خلال وجودنا في مالطة:

أتُراني ذات يوم عشتُ فيها؟
لم تَزُرني وحشةٌ عند ثراها
وأنا أرنو إلى عُمرانها في عين وامِقْ
***
سُحنةُ الشرق على وجه ال " مدينه" (*)
كُلُّ ما فيها يشي عن أمسها
بهجةُ الأبواب بالألوان
سحرُ الشمس في وهج المطارقْ
زُرقة البحر شذا التاريخ أحلام الزوارقْ
كاشفاً عن رنّة الحرف
فمُ الحكَاء من روحي قريبا
في أغاني ظبيةٍ أو بُلبلٍ هزّ الرطيبا
وَهْوَ يشدو في خَفَرْ
كلّما سامرتِ الأمواجُ مَلاّحاً غريبا
آبَ من بَعدِ سفَرْ
في جمالِ " المشربياتِ" وألوانِ الحجرْ
والشبابيكِ الصغيرات بصدر الريح يمسكن الزّماما
وصبيحاتِ بني الأغلب يُليقين السلاما
بلسان عربيْ
(*) الحي القديم في مالطة يقع جنوب العاصمة فاليتا بنحو 25 كم..
*****
بَدءاً أود القول بأنني تلقيت القصيدة من الهاتف بعد إلحاحي اللجوج على الشاعرة، وألقتها على مسمعي بإلقائها الساحر المعهود بها، فدونت بسرعة ما دونت رغم تقطع الصوت؛ ولقد أخِذتُ بهذه القصيدة أخذاً وفُتِنتُ بها فُتوناً، ولعل القارىء الكريم يراني منحازاً لها أيّما انحياز، وهو محقٌ ولا ريب شرط أن تعود "لها" على القصيدة لا الشاعرة، على أنه لايجوز الفصل المتعسف بين القصيدة وشاعرها..
ألقصيدة طويلة وقد تحيرت أين أقطعها، وأي مقطع أختار! وذلك للوحدة الموضوعية للقصيدة، وتسلسل أفكارها وتماسكها وحسن سبكها، وتتابع صوَرها، وجمال أصواتها وتنوعها وفق الألفاظ وتفاعلاتها، وحسن الانتقالات بين التصوير الواقعي لربوعها الجميلة الخضراء حيث الغابات وقوامها أشجار الزيتون والكروم والبحر ذو الزرقة المتدرجة، وبيوتها التي قُدت من الحجر المنحوت بشكل هندسي يجمع بين التلاؤم مع المناخ وعوامل الجغرافية وبين الجمال الذي تلمسه بالأقواس والأبراج وخاصة في كنائسها القديم وبُيوتها ذات الشبابيك الصغيرة، والشناشيل "المشربيات" الخشبية الصغيرة التي تسمح بالتهوية والإضاءة ولا أظنها تتسع للجلوس!!
قد لا يكون سهلاً لمن لم يزر مالطة مقاربة جو القصيدة، وأجد حي "مْدينَه" هو المثال النموذجي للتعرف على العمارة المالطية التي تعد مثالاً للطراز الباروكي.
وئام منذ أن وطأت قدماها مالطة شعرت وكأنها تعرف هذه الجزيرة، كل شيء بدا مألوفاً، وجوه الناس ومدنهم وقراهم، وحتى لغتهم، وقفت وقفة محب (وامق) تتأمل الأحجار المتعاشقة والأقواس والشبابيك، والأبواب ومطارقها الشهيرة، قسم منها يشبه المطارق البغدادية على الأبواب والمتمثلة بقبضة اليد، وكانت المطارق البغدادية على نوعين إحداها للنساء مميزة الصوت حيث تخرج ربة البيت لتفتح الباب للطارقة...بقية المطارق على أشكال حيوانات..ألوان الأبواب زاهية ومتناسقة.. الأزقة نظيفة في "مدينة" وقد حُفت بمزهريات، ولكون الأزقة ضيقة تجد يافطات تحث الناس على المحافظة على الهدوء وعدم إحداث جلبة في مشيهم..
هذه المدينة كلّ ما فيها يحكي وكأن لها فم ينطق بما هو مرئيّ وغير مرئي، يحكي عن التاريخ وأساطير قديمة بطلها البحر وجنيّاته! وحكايات الصيادين وأخبارِ المُبحرين بعيداً، وأغاني الفلّاحين في مواسم الحصاد وجني الفواكه وعصر الكروم ومالطة متنوعة الطيور تمشي وتسمع تغاريد الطيور على الأفنان..
ولا تنسى شاعرتنا التاريخ الذي حضر بذكر الأغالبة ألذين أسسوا دولتهم (دولة بني الأغلب) التي سادت في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين لتشمل شمال الجزائر وتونس وقسماً من ليبيا ومالطة وصقلية وسردينيا وكورسيكا وجنوب إيطاليا.. كانت الدول غير الاسلامية المطلة على البحر المتوسط تدفع لهم الجزية عن يد وهم صاغرون!! للأغالبة الفضل في تثبيت اللغة والثقافة العربيتين في مالطة وبواسطتهم امتزج الدم العربي بالرومي والذي تلمسه في وجوه الحسناوات المالطيات، فالوجه العربي حاضر، وهم يشبهون في سحنتهم اللبنانيين الى حد بعيد!
أظن أن القارىء الكريم قد أدرك سبب إعجابي بهذه القصيدة التي قرأتها مرات ومرات لجمال اللفظ والمعنى وحسن التصوير وجمال السبك الفني وحسن الانتقال.




10 نيسان/أبريل 2018
 





29


وثانيةً النقد الى أين..؟
خالد جواد شبيل

من بين مؤلفات الناقد الكبير الدكتور علي جواد الطاهر (؟-1996)* كتاب هام يحمل عنوان " تحقيقات وتعليقات" وهذا الكتاب الهام لم تُسلَّط عليه الأضواء ولم تجده في واجهات المكتبات، بالرغم من الحاجة الماسّة إليه!
والكتاب المُجَلد هذا والمطبوع بطبعة بيروتية أنيقة وفاخرة، هو في حقيقته، تقويمات وتصحيحات، وتنبيهات وتعليقات على أغلاط وأخلاط وأخطاء وهنات شائعة وغير شائعة وقع فيها كُتّاب مبتدئون ومتمرسون وأدباء صغار وكبار وصحفيون معروفون وغير معروفين بل وحتى أساتذة أكاديميون!!
فقد درج أستاذنا الطيب الذكر منذ مطلع اهتمامه في النقد الذي يستلزم فيما يستلزم قراءة جلّ ما تلقي به المطابع من كتب ومجلات ودراسات في شتّى فنون المعرفة - وهو القارىء النهم- حيث راح بنظرة ثاقبة يدوّن ملاحظاته وتصحيحاته وتعديلاته على أخطاء من كل نوع ومن كل عيار، نحوية وصرفية وإملائية وبنائية تتعلق في بناء الجملة ومعرفية، أدبية كانت أم علمية بل راح يعيد صياغة العبارات الركيكة ويجعلها أكثر متانة ووضوحا..حتى تكونت لديه ذخيرة كبيرة فجمعها وصنّفها في كتاب يحمل عنوان "تحقيقات وتعليقات" فهو كتاب في النقد اللغوي التطبيقي بل يتعدى ذلك الى موضوع النقد الأسلوبي وهذان الركنان الأساسيان من النقد قلما تجدهما في النقود المطروحة هذه الأيام وما اكثرها وما أحوجها هي ذاتها الى مراجعة وتدقيق!!
جاء في رسائل "أخوان الصفا وخلّان الوفا": " يقوم المنطق للعقل مقام النحو للسان والكلام". وأحسب أن هذه الفرزة القصيرة المكثفة العميقة تغني عن أي شرح في أهمية اللغة، والأسلوب اللغوي لكل كاتب سواء كان شاعراً أوناثراً ولهذا اهتم النقدة العرب القدماء منذ الجاحظ "ت255" في "البيان والتبيين" و "الحيوان" الذي ثبّت قواعد نظرية أهمها اهتمامه باللفظ دون الأفكار التي جعلها توابع للفظ: "إنّ المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج وتخيّر الماء.." (الحيوان تحقيق عبد السلام هارون 3/331-332 الخانجي، القاهرة) ..
ولا يختلف الأمر عند الناقد الشاعر أبي الحسن ابن طباطبا العلوي(250-322): " وللمعاني تشاكلها فتحسن فيها (أي في الألفاظ/خ) وتقبح في غيرها فهي لها كالمعرِض للجارية الحسناءالتي تزداد حُسناً في بعض المعارض دون بعض." (عيارالشعر،تحقيق طه الجاحري ومحمد زغلول  ص8 القاهرة 56). ولا أريد الاستزادة في الاقتباس من مقدمة ابن خلدون حيث يتكرر الرأي في تقديم اللفظ (الأسلوب)، ولا يُفهمن مما سبق الاستهانة في الأفكار بل هي محمول اللغة وتابع لها..
ولو قُدر لهؤلاء الأفذاذ أن يعيشوا زماننا هذا لغرفوا من علوم الغرب في مجال اللغة ولطوروا معارفهم في علوم بدأها العرب واستكملها علماء الغرب من أضراب:علم الفونوتيكا أي علم الصوت وإخراج الأصوات من مخارجها، الذي يقوم عليه فن عظيم وهو فن الإلقاء..والمورفولوجيا أو علم الصرف أو علم صور الكلمات والصرف عند العرب ظل مقرونا بعلم النحو (النحو والصرف)..وعلم الايتمولوجيا وهو يقابل علم الاشتقاق، وقد فرغ علماء أوربا من هذه العلوم في القرن التاسع عشر فما أحوجنا أن نستفيد من منجزات الغرب لتطوير لغتنا ومناهجنا وتيسيرها للدارسين وفق تطورات علوم اللغات والألسن..
 واستمر الاهتمام ذاته لدى كبار المعاصرين من نقّادنا اللغويين أضراب العلّامة مصطفى جواد(1904-1969) والدكتور إبراهيم السامرائي والدكتور علي جواد الطاهر والدكتور مهدي المخزومي..كلّ هؤلاء بذلوا جهوداً خارقة في حماية اللغة وأخص الأوليْن منهم فالأول جهوده معروفة في دراساته ومؤلفاته وبحوثه ولا أقل من سلسلته الذائعة "قل ولا تقل"حيث جعل النقد اللغوي سائراً على ألسنة الناس.. وثمّن كثيراً أبا حاتم السجستاني البصري (ت250) من بين المعجميين لأنه لم يعتمدعلى الموروث اللغوي وحسب وإنما أدخل ماشاع في عصره من ألفاظ وعالجها بروح علمية..(راجع دراسته في اللغة، مجلة المجمع العراقي، عدد1 لسنة 1950).واستدرك على معجم الأدباء لياقوت الحموي بإضافات هامة وصحح ماشاء له أن يصحح ويضيف مستفيداً من المناهج الحديثة في موضوع المعجميات..
والعلامة الدكتور إبراهيم السامرائي (1918-2001) في كتابه القيّم " لغة الشعر بين جيلين"، قد أكد على فقر النقد الحديث في مجال النقد اللغوي، وربط بين اللغة ومحمولها من الأفكار ربطاً جدلياً خلّاقا، وكذلك ربط بين المفردة وأخواتها ضمن سياق النص حيث يقول: " ربما أغفل النقاد عنصر اللغة في النقد الأدبي الحديث، وفاتهم أن اللغة مادة في الأسلوب وإن الأسلوب يستمد الحياة والقوة من طريقة استخدام المفردات المناسبة، ومن السر في ربط الكلمة الحية القوية بأختها بحيث يتهيأ من هذا المركب طريق الى التفكير.." (ص38،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ط2 بيروت).
* هناك تفاوت في ميلاد الدكتور الطاهر بين 1911 و1922 ولكنني أرجح منتصف العقد الثاني مستنتجاً مما كتبه هو عن حياته.
للموضوع صلة
29آذار/مارس 2018
 


30
المنبر الحر / النقد الى أين..؟
« في: 20:03 20/03/2018  »

النقد الى أين..؟
خالد جواد شبيل

قبل نحو عام ونيًّف، كتبت مقالة عن "لغة النقد الحداثي"، تناولت فيها المظاهر السلبية في موضوعات النقد الأدبي، وركّزت على ما هو شائع ويشيع أكثر في عتمة لغة النقد وغموضها، وابتعاد النقد عن مبادئه وأصوله وغائيته، ما جعل الناقد يلجأ الى استخدام عبارات مصنوعة بتكلف ولجوئه الى اصطلاحات لا تعرفها مدارس النقدالقديمة ولا الحديثة، ولا النقود العربية ولا الأجنبية، ووجدت أن الفرية الكبرى هي في لصقها بالحداثة و الاتجاهات الحداثية في النقد، وقد دللت على قولي بمقتبسات من عيّنات لبعض الكتاب من دون ذكر أسمائهم!
ورغم جدل العلاقة والتأثير المزدوج المتبادل بين نصوص الأدب بمختلف ألوانه وبين النقد، وهو ما تؤكده الدراسات المنهجية عند العرب وعند غيرهم، مما دفع النقد الأدبي ليؤكد حقيقة ذات وجهين وهو أن الأدب الرفيع في شتى عصور ازدهاره قد أفرز بالضرورة نقداً رفيعاً، ومن ناحية أخرى فأن النقد بدوره ساهم بفعالية برفع مستوى الابداع الأدبي ودفع بعجلة تقدمه وحماه من عوامل التردي التي أحاقت به  في حقب تاريخية معتمة أو رمادية..
إن ما رَسَتْ عليه الحالةُ الأدبية وخاصة في الشعر يفسر ما رسا عليه النقد، فقصيدة النثر تحديداً تكرر نفسها وتعبر عن نمطية في أغلب الأعمال المطروحة وهذا ما أنعكس على النقد، ولا أغالي إذا ما قلت أن الخطاب النقدي نفسه ساهم في تردي الحالة الشعرية العربية عموماً ..
ومن يُلقي نظرة سريعة على ما هو مطروح من نقود أدبية سيُصدَم بتدني المستوى وتكراره مع تراجع مهول في المفردات النقدية وغياب حكم القيمة النقدية في جل ما هو مطروح في المقالات، والمنتديات والمحافل الأدبية واللقاءات المبثوثة على الهواء وحتى الدراسات الأكاديمية؛ ناهيك عن تراجع لغة النصوص المنقودة والناقدة!!
وقد وجد قسم واسع ممن يمارس هذا النوع من النقّد ملاذاً مُسعفاً في عناوين مثل: قراءة في قصيدة.. أو قراءة في قصة أو رواية...الخ وزاد قسم آخر ليجد في مصطلح التأويل حرية في التشريق والتغريب في النصوص.. ولا أغالي قط إذا ما قلت أن هؤلاء أصحاب القراءات والتأويلات لا أظنهم يفقهون ما يقرأون ولا ما ينقدون..
وزِدْ على الغموض في اصطناع الجمل وتفخيم العبارات وغياب الحكم النقدي، تجد غياباً حقيقيا في الكشف عن مكامن الجمال وغياب الوقوف على خصائص اسلوب النص المنقود لغة وفكرة وفناً وعدم الوقوف على الهِنات أو مواطن الضعف التي من الطبيعي أن لا يسلم منها نص شعري أو نثري.. يحل محلها إطراء ومجملات وتبريرات بعبارات لا تكشف عن أبعاد النص ودلالاته وموحياته..
 ويلعب جنس الكاتب أو الشاعر أهمية، فإذا كان صاحب النص من الجنس اللطيف ستقرأ عجباً من المديح والإطراء الزائف؛ وهكذا يضيع الأخضر بسعر اليابس، وهكذا تُخلَق أوهام لدى صاحبة النص أو صاحبه بأنها مبدعة أو مبدع. وقد ابتُذلت كلمة إبداع و مبدع أيما ابتذال...
وهناك ظواهر أصبحت شائعة، فتجد ناقداً عربياً ينشر كل يوم - نعم كل يوم - عنواناً دعائياً قوامه نصف صفحة وإذا زاد يصبح صفحة عن شاعرة، تجد مقالته منشورة في عشرة مواقع على الأقل، والسؤال: متى يقرأ هذا الناقد النص ومتى ينقده؟ وماذا يجد القارىء غير المدح والإطناب والجمل المفخّمة؟
أعرف سيدة أمطرتنا بالعشرات من المجموعات الشعرية والقصص والروايات، وحين قرأت لها حوارأ قامت به مع أحد الشعراء هالني لغتها المتداعية، ولم أجد لها جملة سليمة واحدة! ناهيك عن سذاجة الأسئلة المطروحة..
والمصيبة أن بعض الصحف والمواقع تبرّز البعض من النتاجات الهزيلة على حساب مقالات ثقافية جادة..والأنكى أن البعض من المواقع خصص جوائز تقديرية معنوية وأناط بمسؤولية أختيار العشرة الفائزين الى لجنة، أتيح لي ان أعرف أسماءها، أحدهم يطلق على نفسه "بروفسور" تخذ على عاتقة تشجيع بعض الشواعر وتصحيح نصوصهن ليقترحهن من الفائزات، و في اللجنة هناك شخصان من عشيرة قدما شويعراً من العشيرة ذاتها لم يكتب في الموقع سوى مقالٍ يتيم ليفوز.. ولجذب الكتاب العرب تكرر منح جوائز لكاتبات عربيات لا يحسنّ كتابة مقال قصير سليم. والأمثلة من هذا القبيل تتكرر كل عام!!
وإذا كانت مهمة النقد هو التربية الجمالية ونشر القيم الإنسانية، وإرهاف الذائقة الجمعية، والعمل على إنمائها واكتشاف المواهب وتشجيعها والأخذ بيدها على طريق الإبداع... فهل يمكن للنقد البناء أن يمارس مهمته؟ وما هو السبيل للنهوض بالنقد كمسؤولية أدبية وأخلاقية؟ السؤال مطروح على الجميع..
-للموضوع صلة-
20آذار/مارس 2018
 

31

حكاية مدينة جسر الموت
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
"أشار عليّ صديقي التايلندي "يوت" ألا أبقى وحدي في صومعتي خلال حلول السنة الجديدة 2018،واقترح أن أذهب مع عائلته الى مدينته ومسقط رأسه " كنجانابوري" المحاددة لمينمار حيث سأتعرف على أخيه وزوجته وأخته وزوجها، ومن ثم نبيت في أحضان الطبيعة في خيم كافية، فوافقت بشروط وضعتها لتخفف من حملي كي لا أكون ضيفاً ثقيلاً فوافق الرجل.. سأبيت الليلة الأولى من السنة الجديدة في فندق في المدينة قريباً من بيتهم، وكان الفندق جديداً أنيقاً وأحسبني أول نزيل يحل به! ثم ننطلق الى الطبيعة الخلاّبة بمساقط مياهها وكهوفها وباركاتها .. حيث سنبيت في إحداها لليلتين! وهكذا تحركنا يوت (*)وزوجته نن وولدهم ناي إضافة لشخصي  بسيارته الواسعة يوم31 أي في ليلة رأس السنة وفق خطة اتفقنا عليها بالساعات والدقائق !! أما المدينة فقد سبق أن زرتها مرتين وأما الطبيعة التايلندية فقد ألفتها لكنني لم أبِت في أحضانها!"

***
ومدينة كنجانابوري التي تبعد عن بانغكوك بمائة وثلاثين كم غرباً، لم تكن معروفة في العالم ولا تختلف عن أي مدينة تايلندية أخرى سوى أنها مدينة الجمال -ويزعم التايلنديون أن نساءها ونساء جيان ماي أجمل نساء تايلندا- والطبيعة لديهم في أجمل صورها، تجود عليهم بأنهر وشلالات وكهوف وأشجار عملاقة متنوعة وزهور خلابة وخُضَر وفواكه وسوائل؛ وأطباق الطعام الخاص بالمدينة مما يشتهون مثل الأرز الأزرق واليومتم واليومسم وطبق المسمن والقورمة (الأخيران اصلهما لمسلمي بورما).. وأنهرها تفيض أسماكاً وفيها الأسواق العائمة، وحيواناتها هي النمور والدببة والفيلة والغزلان وفيها مراصد لهواة الطيور..!!
وهي مدينة المعابد وأشهرها طراً معبد النمور حيث تعيش النمور مع الكهنة وتتجول معهم في القرية المجاورة أنى يذهبون! وزد على ذلك هي مدينة الأحجار الكريمة وفيها أسواق خاصات بها..فما الذي جعل المدينة الوادعة المسالمة تُشتَهَر على حين غِرّة حتى غدت قِبلة للسائحين من دول الغرب والشرق؟!
في عام 1952 صدر باللغة الفرنسية رواية(**): الجسر على النهر كواي (اللفظ التايلندي خواي) لمؤلفه بيير بوول والتي سرعان ما ترجمت الى عدة لغات أولها الانكليزية..وقد أثارت الرواية ضجة لا لحبكتها الفنية وأسلوبها المميز فحسب وإنما لأنها واقعية تقترب  من الحدث وصدقه بشكل أمين، وأتحاشى أن أقول أنها وثائقية لكي لاتتم إزاحة الجوانب الفنية والابداعية لها العمل المدهش والذي ألهم الكثيرين من المبدعين من بعده..
وبعد عدة سنوات وتحديدا عام 1957 ظهر فجأة فلم  يحمل عنوان " الجسر على النهر" وهو الرواية نفسها وقد حولت الى فلم من صناعة أمريكية - بريطانية ومن إخراج دافيد لين..وقد أثار الفلم ضجة وسخطاً على الحروب ومشعليها وازداد رصيد أنصار السلام ودعاته إبان الحرب الباردة، وساهم في انتصار قضايا الشعوب في الجزائر وفيتنام ..وقد عُدّ هذا الفلم الحادي عشر في تسلسله لأحسن أفلام القرن العشرين.ومن الملفت أن مخرج الفلم وكاتب السيناريو كانا ضمن القائمة السوداء في هوليود التي طالتها الحملة المكارثية السيئة الصيت التي استهدفت كثيراًمن الفنانين والكتاب تحت تهمة الشيوعية! وصوّر الفلم وإنجز في سريلانكا سريّاً. وقد حاز الفلم على ثلاثين جائزة من مؤسسات أكاديمية، كما ظل هذا الفلم من أكثر الأفلام مشاهدة ولم تقل أهميته حتى الساعة!
وفي سنة 2013 ظهر كتاب هام تناول الحدث نفسه هو (***): الطريق الضيق نحو الشمال العميق، للكاتب ريجارد فلانغان، الذي حاز على جائزة البوكر، ووالد المؤلف كان أحد الأسرى، ما أكسب الكتاب مصداقية كبيرة وجدد أصداء الحدث في الذهن الجمعي للنخب المثقفة! وأكسب المدينة كنجانا بوري ونهرها خواي وجسره شهرة متجددة! ولا شك أن القارىء الكريم يستعجلني على الحدث..
كانت القوات اليابانية في عامي 1942-43 في مدينة كنجانابوري الصغيرة يومئذ تبغي مد سكك حديد  على جسر المدينة ليوصلها الى بورما، وسيكون للسكك الحديد هذه أهمية كبرى في نقل الجنود والمعدات، فاستخدمت الجنود الأسرى من الحلفاء والمجندين الآسيوين في العمل على الجسر  وكان العدد بالمئات وفق ما شاهدت في المقبرة وسط المدينة القريب من الجسر ووفق شواهد القبور، فيهم البريطانيون والهنود وفيهم نسب عالية من المسلمين بدلالة الأسماء، وحيث كان الأسرى يعملون على الجسر وإذا بطائرات الحلفاء تقنبل الجسر ومن عليه فسقط عدد هائل من الأسرى ومن المجندين بالقوة، مازال يرويها مسنو الحدث التايلنديون.. وتعتبر من أكبر حوادث الحروب المأساوية! والمقبرة تشبه تماما مقبرة الانكليز في الوزيرية!
وبجوار الجسر الذي مازالت سككه تعمل -حيث يسمح للناس العبور بالقطار وقد عبرته في الزيارة الاولى- حيث توجد مطاعم ومقاصف على جهتي الجسر مزدحمة بالزوار، تُطفأ الأضواء تماماً على الساعة الثامنة وتبدأ لدقائق أصوات القصف استذكاراً للحدث ثم يُستأنف الغناء والرقص نشداناً للحب والسلام!
في المدينة مُتحف هام خاص بالحرب ويحتوي على وثائق مصورة وأفلام ولقاءات مع من شهدوا الحدث...
كانت ليلة السنة الجديدة مزدحمة بالسيارات فالمدينة منتجع لأهل بانغكوك تحديداً في العطلناهيك عن السوّاح، وقد ازدحم الناس على رقبة الجسر ومنع الجمهور من عبوره لأسباب أمنية ، بجانب الجسر هناك حفل غنائي مفتوح للجمهور ينقله التلفزيون الوطني ويحيه كبار الفنانين والفنانات والناس في مرح ورقص، وقد ازدحموا وافترشوا البساط الأخضر، دعي الناس لألعاب الحظ والرماية بالمجان ووزعت هدايا.. وفي شارع الجسر ظل السوق الليلي نشطا طيلة الليل وكذلك سوق المجوهرات واشتريت ما قدرت على الشراء، وغادرت الى الفندق على الساعة العاشرة؛ وظل يطن في أذني بيت زهير:
وما الحربُ إلّا ما عَلِمتمْ وذقتمُ - وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
5ك2/يناير 2018 
    (*) Yut, Nen and Nay.
(**) le pont de la rivière kwai, 1952 byPierre Boulle.
(***) Narrow Road to the Deep North, 2013 by Richard Flangan.

32
الشاعر رياض محمد وقصيدة ساخنة!
خالد جواد شبيل
أتابع النثريات الشعرية للفنان/ الشاعر رياض محمد وأجدها في تطورسريع، سماته التركيز في الخواطر الشاعرة والأفكار مع سبك فنيّ ممتاز..كنت أتمنى على الشاعر أن يمنح قصيدته عنواناً، فلئن كان المطلع بمثابة تاج القصيدة فإن العنوان – على حداثة حضوره- لؤلؤة هذا التاج!
ومن سمات التركيز أيضاً ألا فجوات فيه ولا ترهل ولا قطع بل حسن تتابع وانسجام،  وإن كان هناك شيء من مَسحة العقاب الذاتي المستمد من الواقع المثقل بالعنف والدخان وأجواء الحروب.. والعقاب الذاتي غير جلد الذات الذي هو أكثر سوداوية وقتامة، والذي أخذ يشيع في قصائد النثر.
وحضر النزوع الفلسفي بإيماءات تخللت الأفكار وخاصة في المستهل وإن كان مطروقاً بتعابير الصعود الى الحضيض، والتقدم الى الخلف وما يحمله من مفارقات: بطول العمر يقصر الزمن..
تذكرني سرديتك الماتعة هذه بالأدب الأوربي الذي أعقب الحروب وصوّر مآسيها، وركز بشكل رمزي على فلسفة الحياة والموت وتمزق الإنسان وابتعاده عن المثل وتلبسه الروح الآثمة فهو جدير بالعقاب!! وزعيم هذا الاتجاه في الشعر تي. أس. أليوت، وبوريس باسترناك  وفي الرواية هيرمان هيسه ووليم فوكنرو إيليا أهرنبورغ..على سبيل المثال لا غير.
"لمن هذه الجثث الملقاة بإهمال
فوق العتبات .. ؟
الغربان تأكل لحمنا البشري
وتنعق ابتهاجا
تنعق في الليل
وتنعق في النهار"
يقول الشاعر عبد المحسن الكاظمي:
إن كان حرباً فابتنوا لي في بطون الطير لحدا – أو كان سلماً فاجعلوا ذك الثرى عيناً وخدّا
وجمال بيت الكاظمي الذي صاغه بعفو خاطر الشاعر رياض محمد، يكمن جماله في المقابلة البلاغية، وجعلتها صائتة موسيقياً..
يذكرني  هذا التساؤل في المقتطف الجميل عند رياض بصاحب عرس الدم، فريدريكو غارثيا لوركا:
لمن الدم المهراق"
في عرض الشوارع؟"
أو الجواهري:
خلِّ الدم الغالي يسيل – إن المسيل هو القتيلُ
لست مع استخدام " أيها" في الشعر، حتى وإن فرضتها ضرورة الحال، إنها مفردة سياسية استهلكت أو أدت مهمتها  في الخطاب السياسي التحريضي.. ولا يشفع لها كون المخاطب العراق!
 لابن النبيه المصري استخدام جميل:
أماناً أيها القمرُ المُطلُّ – ومن عينيك أسيافٌ تُسَلُّ
يزيد جمالُ وجهِك كلَّ يومٍ – ولي جسدٌ يذوب ويضمحِلُّ
وفي النظرية الجمالية ، جمال الشيء بذاته وجماله مع الأشياء، هذا ما يجعل "أيها" مختلفة كل الاختلاف في كلتا الحالتين!
قصيدة النثر تخل بشاعريتها أدوات الخطاب والنداء والتعليل والشرح، على خلاف الاستفهام وتحديداً الإنكاري منه..
"من يجد الرأس
لهذا الجسد المهروس
بماكينة اللحم ..؟
من يجد قلب ذلك العاشق
ليعيده الى محبوبته
التي ارهقها الشوق والانتظار ؟
من يجد من ؟
جسدي الذي رافقني
مثل ظلي
لم يتبق منه
غير جمجمة فارغة
وبضعة اصابع
مازالت تتمسك بروحي الملتاعة
كي لا تهرب الى جثة أخرى
في وطننا المزروع بالقتلى
وطننا السعيد جدا
جدا
حد الذبح!!!..."
هذان المقتبسان يكفيان ليدللا على هذه القصيدة وعمقها وسخونتها واحتجاجها على واقع ساخن ملوَّث بأدوات الحروب، هو توصيف وتشريح، وأسئلة معلّقة تبحث عن أجوبة.. عندما قرأت القصيدة خلتها كتبت البارحة.. بيد أنها ذيلت بتاريخ يعود الى ثلاث سنوات خلت، وما خلت أجواؤنا من دخان وغربان لما تزل تنعب!
تحية للشاعر المبدع رياض محمد 23ت1 اوكتوبر2017
ملاحظة القصيدة كاملة على مدونة رياض محمد في الفيسبوك.
 
 

33
الشماتة ليس من أخلاق الفرسان!
الاعتذار يحتاج الى شجاعة!
خالد جواد شبيل
" اللهم لا شماتة" حديث ينسب للرسول الأكرم.. ليس هناك من منتصر عسكري، وليس من خاسر عسكري، الأرض هي للعراق بكل أطيافه، وليس لقومية دون غيرها، لأن العراق لجميع أبنائه من كل الاطياف؛ ولكن هل من عِبرة؟
نعم، العبرة هي أن طريق الاستفراد والتهديد والتلويح بالحرب ودق اسفين بين مكونات العراق دون إدراك المخاطر قد فشلت وأودت بأصحابها الى الفشل، ولو كان لهم كرامة لاستقالوا واعتذروا.. وهي تجربة لا يمكن المكابرة بها ولا يمكن أن تأخذ العزة يالإثم مرتكبيه ولا تعود إلا بمزيد من التردي..
 وما الحل؟
يكمن الحل في مراجعة الإخطاء والاعتراف بها وتقويمها والاعتذار للشعب، ولا بد من أن يحاسب الشعب هؤلاء الذين أرادوا أن يشعلوا حرباً وقودها الناس والحجارة تحرق الأخضر واليابس...لا بد من أن يحاسب من أخطأ سواء قادة الأحزاب أو المسؤولون الحكوميون أياً كانت مواقعهم..
أما الحزب الشيوعي الكردستاني فيتحمل وزرأ كبيراً وعليه أن يعتذ، أو ينزع رداء الشيوعية ويتحول الى حزب قومي، فقد كان سلوكه وركضه وحماسه للاستفتاء واللعب على النزوع القومي لا يوصف بالشعبوية واستدرار عطف الجماهير وحسب بل بالوقوف صفاً واحداً مع الشوفينية القومية الحاقدة!
وأما أصحاب الأقلام المأجورة فقد كشفوا عن فهم ضيق لحق  تقرير المصير وجعلوه معادلاً موضوعياً للأنفصال وكل شيء بثمن!
هل من مراجعة عقلانية موضوعية؟ وهل من اعتذار؟ أم هم بعيدون عن ثقافة الاعتذار؟!!
18 ت1/اكتوبر 2017
 

34
خواطر مع سردية شعرية لوئام ملا سلمان
خالد جواد شبيل
أمرٌ مبهج أن تحل الشاعرة وئام ملا سلمان في مدونتي! ويكون الأمر أبهج حين ترمي عليّ من دواخلها مكنونات من زمن بيد مضى، فهي ولاشك عندئذ بصدد استعادة لحظة وكأني بها تمسك قطار الزمن بحبل متين وتجره جرّا بقوة خارقة فهي ساحرة وإن من الشعر لسحر!
هي سردية إذن من الشعر تقارب النثر لجزالتها وبساطتها ولجمالها المفعم بأحاسيس إنسانية، وذا شأن السرد في الشعر على الأعم.. وأذكّر أن الشعر الملحمي الذي قوامه السرد رغم بيانه يقترب من النثر في أحايين كثيرة، تشفع له مخيلة تعتمد الخوارق..وفي أدبنا الحكائي السردي وهو نزر شحيح بالقياس الى الشعر، ومثاله "ألف ليلة وليلة" المشفوع والمرفوع بعمل المخيال الجمعي، نجده يهبط إلى اللغة المحكية في كثير من الأحيان ليحلّق طائره عالياً عالياً في أحايين أُخَرْ.!..
هذه مقدمة لسردية وئام الشعرية المطبوعة بسليقة المكان، ويبدو هذا التعبير غريباً ستزول غرابته بسليقة أخرى هي سليقة الذات البوّاحة والنفس اللوّامة التي يستفزها المكان وشيئيات المكان الجامدة والمتحركة على حد سواء في تفاعل مستمر مع النفس والخاطر الشعري!
في بيت يطل على شارع مُشجّر تعبره ببصرك من الشباك لتحطّ في غُويْبة خضراء صيفاً بيضاء "ثلجاء" شتاء.. وفي ركنه المستدير شرفة محفوفة بالزهور التي تعانقت بمختلف أطيافها وأثنياتها وألوانها وأحياناً روائحها، تحطّ الطيور على أشكالها ولغاتها المختلفة فتسمع وترى وتطرَب.. في الشتاء القاسي تزور هذه الطيور بل تلوذ لأن الشرفة غدت خالية من الزهور وأصبحت أوعيتها ومناقِلَ الشي شبه عامرة بما طاب من طعام قوامه الأرز الأصفر ولوز وجوز وكشمش  يضاف له مرق من "السبزي" أو "القيمة" والطيور في مهرجان، والسطوة والأنانية تأتي من النوارس.. ووئام ترقب سعيدة لا يعكر مزاجها إلا أن تُسيء الطيور بذُرقها وصخبها للجيران..
تنساب الحافلات جيئة وذهابا جميلة نظيفة خرساء.. لاتترك دخاناً سوى رائحة كحول طيبة تنعش وتشوّق!!
في الصيف وفي ليالي السبت تسمع أصواتاً لشبيبة حظهم من الحب والصخب والضحك وفير .. مرة سمعت صوت كهل يغني: هذا الربيع وقد لاحت بشائرُه " ده ئه فورن.." أزحت الستار فكان  رجلاً وأمرأة تمسكه وتقول له: أرجوك أرجوك أخفض الصوت يا أيريك فالناس نيام! وأيريك في نشوة غناء سويدية ما بعدها نشوة!
***
أحسب أنني قدّمت أو كتبت مُدخلا يتيح الدخول أو اكتشاف أجواء السردية الشعرية لشاعرتنا بل "يميط" لثاماً وربما لحافاً عن كثير من عالمها الشعري والنثري  الذي يشكل المكان فيه حيّزاً يكشف ويحتضن دواخل الشاعرة وهمومها الكثيرة ولحظات فرح قليلة من زمان مضى بعيداً وأصبح رماده ذكريات تذروها الرياح:


أمطتُ الستارة خلف ظهري

الشارع أمامي ممتدً

من غرفة نومي أراه

يوم يحمل الجمال على منكبيه

بمحاذاة الرصيف تفتحت براعم توليب ملونة

الحافلة تمر بوقتها المحدد كعادتها

تحت مظلة الإنتظار، مشهد قداسوي

مراهقان ينصهران في بوتقة قبلة

حفزا لدي فضول المتابعة

آه عميقة...

بعمرِ عمر لم يـُستثمر


انسَ خساراتك أيها العمر

ففي الحياة مشاريع جمال تنتظر

لست يا وئام  مع ما يشيع هذه الأيام من تخريجات لها دلالتها في لغتها الأصلية وليس في لغتنا من قبيل "ماضوي" و "إسلاموي" و " عراقوني" وها أنت تأتين ب " قدسوي" فإذا كان النسب للقدس أو المقدس أو القداس يمكن أن يصبح: قدسي،، مقدسي، قداسي، ولماذ لا يكون " مقدس" .. على اية حال للشاعر مقاصد أحياناً تكمن في قعر الذات..
ما أجمل المقطع أعلاه! وما أجمل المدد الجمالي المنساب بلا انقطاع:
ففي الحياة مشاريع جمال تنتظر
 التوليب في العربية هي أزهار وإن شئت أبصال الخزامى، يُنبتها الناس في الربيع أمام المنازل وفي الشرفات، تاتي الأرانب البرية والغزلان المغرمة بها ليلا لتأكلها ثم تعاود النمو! هولندا أكبر مصّدِر للتوليب في العالم.
البحث عن الجمال في حياتنا يضيع برتابة وقع الحياة .. يمكن أحياناً النظر لمكامن جمال في حياتنا اليومية في تغريدة طائر يبحث عن رفيق موعود.. في زهرات تتمايل سكارى مع النسيم: ما أروع الشاعر الرومانسي صاحب "بغداد ياقلعة الأسود" محمود حسن إسماعيل وهو يرى بنات الريف يعدن من النهر الخالد وقد ملأن جرارا:
يُسبّح الطيرُ أم يغني -  ويشرح الحبَّ للخميلِ
أأغضن تلك أم صبايا – شرِبن من خمرة الأصيل!
ألم أقل لكم أن عين الشاعر غير عين الصقر، فللصقر قوة نظره تعادل مرات قوة نظر الإنسان لكنها لا تبصر إلا الطريدة!!!
 العصافير تبني أعشاشها بتناسق عفوي

سأشرب الشاي والباب على مصراعه مفتوح

الخبز الأسمر ملفت للذائقة

ولقدحي النيلي رونق وهيبة "المارينز"

الباب لا يكفي

في الحياة نوافذ كثيرة للفرح

سأفتحها كلها في آن واحد

المكان يحتاج إلى تهوية


إذن الشاعرة وئام ملا سلمان مُحقّة في أن هناك توارد خواطر، وأنا لم أقرأ سردية وئام حين كتبت بطاقتي الحمراء وعباراتها الثلاث.. هو بالمفهوم الحديث "التناص"، وكلما قطع الشعر مسيرة أكبر قد يسمح بتناص أكبر .. فكلما مرّ قطيع كبير من الغنم على قنطرة زاد احتمال وقوع  حافر على حافر؛ إنها جدلية رياضية التفت إليها الجاحظ حين قال ليست العبرة في الإفكار فهي مبذولة على قارعة الطريق إنما في إنشاء الشعر، ويقصد إدخال الفكرة ضمن سياق النص الشعري. وقد تكرر المعنى على لسان أكثر من شاعر ومنهم المتنبي:
 
خذ مفتاحك
لو أغلقت من الخارج نافذة واحدة بيدك مقبضها

لن أختنق ،

النوافذ يمررن الضوء والهواء

نوافذ يجئن بفراشة عائمة في موج ريح

نوافذ يأخذن سر أمنية ولغز صمت

نافذة عند حافة السقف ، تسرب سموم الرئتين

نافذة كبيرة يخبرك العابرون بقربها عن ديمومتي

ونافذة ينتظرني عصفور جائع من ورائها

أحاكيه بعيداً عن الفزع

لا تخف

سأطعمك يا صديقي

ونتماهى بسقسقات التأمل معاً.
النافذة قرين للحرية.. بل هي الحرية. أقرأ في أدب السجون وآخر ما قرأت للمعماري الكبير رفعت الجادرجي وتجربته في سجن المخابرات.. يقول أنه كان يتمنى أن تكون هناك نافذة يدخل منها النور والهواء.. فالنافذة هي الحرية وإن ضاق المكان وأُوصِد الباب! المقطع الأخير هو الذروة في هذه السردية .. اغلقوا الباب وخذو المفتاح واتركوا لي هواء ونوراً وفراشات تحوم على النافذة وكأني بها قد سئمت النور الوهّاج والهواء البارد  إنها تريد الدفء فهل هناك مفارقة؟!
وئام ملا سلمان شاعرة ثرّة في خاطرها الشعري، واضحة في لغتها الأليفة التي تتجاوز المفردات المعجمية ، هي متألقة ومتمكنة من العمودي، وفي التفعيلة متانة وحسن سبك وقوة نبرة، وفي نثرياتها انسياب في الأفكار وانثيال في الصور مع تنغيم موسيقي عفوي وحس إنساني صادق...
19 آب اغسطس 2017

35
  الأديب سعدي عبد اللطيف وداعاً
خالد جواد شبيل
جاءني خبر رحيله صاعقا، وحسبت ذلك مزحة أخرجها أحد أصدقائه أو أشاعها هو نفسه الفتى الممراح الطيب سعدي..
عرفته كواحد ممن ألقت بهم الهجمة السوداء عام 78 وما بعدها خارج العراق، وجعلتهم أشتاتا في منافي ملونة بألوان مختلفة لكنها داكنة..
 حسبناها سنة أوسنتين وقد تطول ولا تتعدى في أسوأ الاحواال حفنة من سنين، إلا سعدي.. وكم كان صادقاً عفويا وهو يمرح ويدبك الأرض برجليه  ويصفق بيدية ويتمايل ذات اليمين وذات الشمال ويصيح: "سوّاها البعث سفرة سياحية " ثم ينهض الآخرون من مقاعدهم ليشاركوه، فينتشي سعدي بأنه حرّك الجو البارد وجعله ساخناً مفعماً بالضحك، والناس يمرحون بعد وجوم!
في براغ عام 1981 التقيت والديّ وشقيقتي الكبرى، وهناك في الفندق تعارفنا على سيدة وسيد وجوههم ليست غريبة وتم التعارف سريعاً فهم من شارع فلسطين حيث نسكن، وتعرفنا على ابنهم الشاب سعدي الذي طالما كنت ألتقيه في الباصات 47 و46 المفضية لحي 14تموز في بغداد دون أن يكون بيننا كلام أو سلام!
كان خجولاً حين التقيته، وحيث  ذهبت الى المقهى الشهير أبوشنيدوم وجدته يتوسط المنضدة مع ثلة من الأصدقاء وكان له القَدْح المُعلّى في الكلام والضحك وهو ينادي عليّ: تفضل، فشكرته وجلست في ركن آخر ! وأنا في عجب، أيعقل أن هذا الشخص الضاحك هو نفسه الخجول..
ثم جاء سعدي بلعباس من الجزائر وكان له حضور مبهج في أمسياتنا التي تضم سعد هندي، سامية الطيار، فاضل السلطاني، لؤي عبد الإله،عزت اسطيفان، د. عماد هندي و د. باسمة الحكيم والراحل وأخرين..كان اللولب سعدي عبد اللطيف فهو قادر أن يضفي على المكان بهجة وحبورا لغنائه المستمر و سيل نكاته الذي لا ينقطع.. وكان قبل أن يلقي النكتة يضحك لها ضحكة طويلة مما يذهب بصبر الآخرين!! وعندما يتعب يستريح ليمرح مع الأطفال كطفل منهم!
كان في الجد والنقاش يبدي ثقافة جيدة ومرونة ديمقراطية..
التقيته في لندن بعد طول فراق وقد احتفى بي كما لو كانت لندن بغداد، فهو يعرفها ويألفها..وحدثني أن كان جالساً في بار ورأى في التلفاز اعتداء على بغداد من طائرة أمريكية فخرج وحده متظاهراً وعرقل المرور، فأخِذ ليبيت في الحجز؛ يقول بعد ساعات جاءتني شرطية جميلة وبكل لطف ـسألتني ماذا تريد يا مستر سعدي من وجبة؟ نباتية أم عادية ؟وما هو طبقك المفضل؟ يقول: فأسقط من يدي ولم أحر جوابا وكان الجواب ضحكة طويلة!!
كان الراحل سعدي عبد اللطيف قارئاً نهماً ينفق الكثير على الكتب والمجلات ولا يهتم بطعامه ولا ملبسه؛ وكان مترجماً جيداً اتسم ببساطة العبارة ووضوحها، فهو أول من ترجم: داغستان بلدي للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، ونشرها في حلقات في "الفكر الجديد" في أواسط السبعينات واستمر يرفد الصحف والمجلات بترجماته الهادفة..
أشعر بحزن لرحيل الأستاذ المترجم والصديق الحميم المثقف سعدي عبد اللطيف فقد كنت أحسبه أن يكون آخر الراحيلن..
غادرتنا مبكراً ياسعدي.. أما تريثت رويدا؟
وا حزناه!
14 آب 2017

36
لماذا يغنّي الطائر السجين؟!
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
هناك بعض الحوادث تبقى في الذاكرة، وذاكرة الانسان فيها جائب كامن في عضو هام، من الناحية التشريحية دماغ الإنسان فيه غضون أو تغضنات وتموجات أشبه بالوديان، ولعل الحكمة في ذلك لزيادة المساحة السطحية وبذلك تزداد الخلايا العصبية ذات التخصصات المدهشة ومنها خلايا الذاكرة، والأهم في الوظائف هو القدرة على استرجاع الذاكرة أي محمولها بعملية التذكر الإرادي في أكثر الأحيان واللاإرادي الذي يرشح منها في الأحلام على سبيل المثال...
أذكر وأنا طفل صغير أن علّق أحدنا صورة لسيدة أفريقية كانت ذات صدر أتلع ، نهض منه طائران حبيسان.. ورغم أن الصورة ليس فيها ما يَشينُ، وكنا من الابناء الذكور دون سن الحُلُم، أصرّ الوالد على تمزيقها وربط ذلك بالتمييز العنصري ضد النساء السود !!
ولعل المتابع الكريم يتذكر أنني تطرقت مرة لإحدى سفراتي في فيتنام حين رأيت صاحب مقهى علّق قفصين  على أشجار يحتوي كل منهما قُبّرة وعلا تغريدهما الجميل تفهم  منه شوقاً وحماساً وغضبا..فقلت له : لماذا لاتجمعهما في قفص؟! فأجابني جواب عارف:  إذهب واقضِ شغلك في القنصلية اللاووسية وعندما ترجع ستجد الجواب؛ فاستغربت وقلت لعله يريدني أن أجلس في مقهاه وأشرب شيئا.. ثم قضيت شغلي في القنصلية القريبة ورجعت طالباً قهوة ... فبادر هل تسمع غناءهما؟.. فقلت : لا ، لقد توقفا، أخذني من يدي وقال انظر؛ فوجدت الطائرين متعانقين يفلي أحدهما الآخر!!!
كان الشاعر البريطاني شيلي في احدى الجزر اليونانية مع زوجته يتمشىيان على الشاطىء فسمع صوت قبرة فطرِب الشاعر له وقال: أسمع صوتها ولا أراها، وإذ هو يبحث عنها رآها تفِّرُّ من شجيرة، فأوحت له رائعته: إلى قبرّة..
***
في كتاب "هؤلاء علموني" لسلامة موسى يذكر مقولة لم أعد أتذكر قائلها : إقرءوا سيرة رجل عظيم. لكنني وددت الكتابة عن سيرة امرأة أظنها عظيمة،  لأن العظمة تكمن  في أن يحوّل الإنسان نقاط الضَّعف الى نقاط قوّة..
في فبراير/شباط 1969، صدركتاب سيرة ذاتية لشابة أمريكية غير معروفة  وغير متمرسة عن دار راندوم  يحمل عنوان "أنا اعرف لماذا يغنّي الطائر الحبيس" لمؤلفة اسمها  مايا أنجيلو(*)، وهي كاتبة  أمريكية ، وأقول هذا لأنه يعني الكثير أن تستطيع سيدة سوداء مغمورة كالكثرة الكاثرة من بنات جنسها أن تكتب كتاباً وتنشره، ليحكي عن حياتها منذ ولادتها في ايستاس من الولاية الجنوبية الشرقية أركنساس.. حتى بلوغها السابعة عشرة.. ولم تكن أول من يكتب من السود الأمريكيين فالأدب الزنجي الأمريكي سجل حضوراً في عكس معاناتهم سواء كتب من البيض أو السود من قبيل: كوخ العم توم لهارييت ستو، وأبناء العم توم لريتشارد رايت، وجذور لألكس هالي، وأحلام الفتاة السمراء لجاكلين ويدسون...
أثار الكتاب ضجة في الصحافة الأمريكية وعند المثقفين الأمريكيين وسلّط الاضواء على زوايا مظلمة لمعاناة السود المعاشة يومياً والمألوفة حياتياً والمسكوت عنها، حتى غدا الكتاب عام 1970 من أكثر الكتب مبيعاً وفق قائمة نيويورك تايمز لذلك العام، وقد حققت  الكاتبة مايا انجيلو شهرة كبيرة، فلئن كان الكتاب يعكس تجربتها حتى عمر السابعة عشرة فقد شجعها النجاح أن تصدر الجزء الثاني لتجربها من السابعة عشرة حتى التاسعة عشرة وهكذا حتى أتمت سبعة أجزاء لحقب مختلفة من حياتها.. وبذلك حققت حلمها في الأدب وسلطت الأضواء على سلسة من عذابات مستمرة أهمها اغتصابها في عمر الثامنة.. ذلك الحدث الذي دفعها أن تمارس مهمتها في الكشف عن اضطهاد السود في "العالم الحر"!
ولم تكن مايا أنجيلو منشغلة في الكتابة التي جاءت نتيجة لتحديها زملاءها في أنها ستكتب وتتخذ من القلم أسلوب نضال، وقد سخر منها الزملاء لأنها لم تتحصل على تعليم كاف يؤهلها لأداء مهمة الكتابة.. وهكذا بإرادة حديدية وبممارسة القراءة والكتابة اسنطاعت أن تحصد جوائز مرموقة وأن تنال أكثر من ثلاثين دكتوراه فخرية من جامعات عالمية مرموقة!
 وقد ظلت ومازالت هذه الكاتبة متعددة المواهب التي فقدت براءة طفولتها منذ الثلاثينات وعانت من اضطهاد وجور وعسف صقلها وأعطاها زخماً لمواصة النضال وأصبحت  تلهم النساء في ألا تستسلمن للقنوت واليأس  لكي تنلن حقوقهن، ومنهن المناضلة اليسارية أنجيلا ديفز.
لقد تفجرت طاقاتها الابداعية فهي روائية وشاعرة ومغنية ممتازة وممثلة مسرح وهي كاتبة في أدب الرحلات، سافرت لعدة بلدان فأغنت ثقافتها الحياتية وعمدت قبل السفر لأي بلد أن تلم بثقافته وتاريخه وآثاره، وأن تتعلم ما تيسر لها من لغته.. وبذلك تمكنت من القراءة والكتابة والتحدث بست لغات منها اللغة العربية فقد زارت مصر وفتنت بالأهرام.
لقد عملت قبل أن تشتهر وتطبع كتبها بمهن كطباخة ومغنية وراقصة ومربية وشاعرة وحتى في بيوت الدعارة، وفي نهاية الخمسينات انضمت لنقابة كتاب هارلم وتعرفت على الكتاب السود منهم جيمس بالدوين وملهم ومرشد مارتن لوثر كنغ، الذي ساعدته كثيراً ليبرزويتزعم حركة الحقوق المدنية.. 
اتسم كتابها الأول "أعرف لماذا يغني الطائر الحبيس" الذي استوحت عنوانه من قصيدة الطائر الحبيس  للأمريكي الاسود بول لورنس دنبار بالبساطة والصدق وقدرة متميزة في عكس معاناتها وخبرتها وثقافتها بتلقائية وبساطة وقدرة على شد القارىء وإخراجه من الحياد الى التعاطف مع معاناة السود الذين يعانون من قساوة التهميش والعنصرية والعطالة والفقر وكثرة الجرائم والادمان والبغاء.. صدقها يأتي من معاناتها كأمريكية من أصل أفريقي وتجاوزها الخجل والشعور بالدونية.. لقد ساهمت هذه الكاتبة مساهمة فعالة في تغيير حياة الملايين من السود في المجتمع الأمريكي الذي قبل أن يكون رئيسه أسود من أصل أفريقي مسلم في 20 يناير/ك2 2009 لدورتين انتخابيتين حتى 20 ك2/يناير 2017؛ وفي ذلك مثال ماكان لأحد أن يتصور حدوثه في الأجيال المتأخرة حتى مطلع القرن الحادي والعشرين..
رحلت مايا أنجيلو عن عالمنا في 28 ماي 2014 عن عمر 68 عاما..

* I Know Why The Caged Bird Sings; By Maya Angelou:


37
نزعة الاقتناء والثقافة الاستهلاكية!
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
 فكرت أن أريح القارىء هنيهة من الماضي بما كتبت عن ابن الرومي - رغم إنها رؤية جديدة - الى مواضيعِ الحاضر المسكوتِ عنها، فالجميع يلحظ  استفحال النزعة الاستهلاكية وأضرارها، والكل  يدرك حجم الإضرار والأضرار الأقتصادية التي تلحق باقتصادنا الوطني نتيجة سياسة الاستيراد التي حققت دول الجوار منها أرباحاً طائلة من موادَّ كان العراق مُصدِّراً لها، نتيجة فوضى الاقتصاد وتولي مسؤولون لايمتلكون الحُنكة الكافية لإدارة شؤون البلد ناهيك عمّا رافق ذالك من فساد كبير أدّى الى نشؤ طبقة من البيروقراطية الطفيلية التي  أثرت على حساب الشعب.. ناهيك عن تدني مستوى الزراعة والصناعة وقتل روح الابداع التي يتميز بها العقل الجمعي العراقي!
ولا شك أن كل هذا سيترك أثاراً اجتماعية وبيئية خطيرة،  ناهيك عن الظاهرات المستشرية من الهَدْر والنهب التي طالت الاقتصاد العراقي ومازالت، يدفع ثمنها بالدرجة الأولى القطاعات الواسعة من الفقراء ومحدودي الدخل، ومن تجلياتها الإفقار وسؤ الخدمات ومحاربة حرية الرأي وحق التظاهر، ولله در الشاعر أحمد شوقي الذي قال قبل نحو من قرن:
إذا ما جاءه طلابُ حقٍّ – يقولُ: عصابةٌ خرجوا وشقّوا
هذه مقالة مُركزة توخيت منها معالجة ظاهرة خطيرة مستفحلة لوجود من هو مستفيد منها دون الانتباه الكافي لمخاطرها وهي: نزعة الاقتناء والثقافة الاستهلاكية..
***
ليس هناك من لايُحب الاقتناء، سواء للمواد الضرورية من مأكول ومشروب وملبس وأثاث لمسكن لائق...الخ، ويتعدى الأمر الضروريات الى ما هو أقل ضرورة  مما يُطلق عليه بالكماليات مثل وسائل الركوب والنقل والترفيه ..بيد أن الضرورات والكماليات تتبادل المواقع بشكل نسبي، فمثلاً كانت الكهرباء في بدايتها ضرورية للإضاءة ثم للتكييف ثم لوسائل الترفيه، وهكذا ازدادت أهميتها حتى غدت في عصرنا الراهن وسيلة للتواصل الاجتماعي من خلال الفضائيات والانترنت وما وفرته من خدمات معلوماتية اصبحت هي الأخرى من ضرورات الحياة.. ولا يحتاج الأمر لنقاش!
ومن الملاحظ أن نزعة الاقتناء هذه تزاد في البلدان أو المجتمعات التي تنتج ما يحتاجه الإنسان حتى أصبحت جزء من منظومة تقافية للبلدان الصناعية؛ وفي بداية القرن العشرين فضح وحذّر العالم الاقتصادي/الاجتماعي الأمريكي الماركسي ثورستين فيبلين (1857-1929) من تنامي هذه الظاهرة جراء إغراق السوق بالبضائع الاستهلاكية وحذّر مُشدِّداً من مخاطرها الاجتماعية وتنبأ باستفحالها وانتشارها، في كتابه الهام (نظرية الطبقة المرفهة *)، وقد انتبه المفكرون لخطورة هذه الظاهرة وما ألحقته من أضرار فتشكلت جمعيات حماية المستهلك، وترسخ مبدأ ضمان جودة السلع للتخفيف من وطيس حمى السوق، لكن الأضرار مازالت مستحكمة مثل التبذير والضرر الاجتماعي الكبير من غزو الالكترونيات فقد اختفت أو كادت تختفي ظاهرة مطالعة الكتب الورقية في المترو او الحافلة لتحل محلها ظاهرة استخدام أجهزة التواصل وتعززت الفردانية وروح الانكفاء على الذات لدى الشباب حتى غدا الحب هو الآخر الكترونياً مبتذلاً مرادفاً لحب الأجساد بغياب العواطف الإنسانية الحميمة ، مما أشغل الشباب عن انطلاق مواهبهم في شتى الميادين الدراسية والفكرية وشيوع مبدأ قضاء التسلية لقضاء الوقت!
لقد ظل منظرو مجتمع الرأسمالية  يبذلون كل طاقاتهم في الترويج للرأسمالية باعتبارها مجتمع الوفرة، متناسين مشاكل "الوفرة" من بطالة وازدياد معدلات الجريمة والتغيرات السلبية  الناتجة من التفاوت في المداخيل والقفز على مشاكل البيئة كلها من جهة ؛ وشن حملة تشويه للتطبيقات الاشتراكية  "مجتمع الندرة والشُّح!" مستغلين البيروقراطية فيها وخنق الحريات متناسين الجوانب الإيجابية فيها التي عنيت بالإنسان وتطويره..لأجل التشويه مستغلين الإعلام والسينما والمسلسلات التلفزيونية المبطنة بالدعاية للمجتمع الرأسمالي والموجههة بعناية لتشويه التطبيقات الاشتراكية مسلطين الأضواء على السَّلبيات دون الإيجابيات..
  ولكن الأمر يزداد من حيث دوافع الاقتناء لدى الدول التي كانت فقيرة فقراً مدقعاً ثم اغتنت على حين غِرَّة بما جادت عليهم مكنونات الأرض من بترول وغاز ولتحصل على سيولة نقدية كبيرة، وبذلك حصلت نقلة كبيرة في حياتها من البداوة والعيش على مردود الصيد البحري البدائي الى التمدن والغنى، فاصبحت تعيش حالة شديدة الازدواجية في تعايش العقلية البدوية العشائرية مع وسائل عيش متطورة وأسلوب حياة متطور باذخ التطور والثراء حتى غدا سكان هذه البلدان لا يطيقون حرّ بلدانهم فيقضونه في منتجعات باردة من مغاني أوربا وآسيا  حيث تنتظرهم المُتع بشتى أشكالها!
وقد حظي الغرب بكسب كبير من تصديره السلع الاستهلاكية التي فتن بها محدثو النِعم، لاسترجاع البترودولار، وإغراقها بسلع كمالية فسيطرت على هؤلاء نزعة استهلاكية عمقت ثقافة "البرستيج"، والتفاخر باقتناء الساعات الثمينة والأجهزة الالكترونية الغالية والسيارات الحديثة، حتى اصبحوا يستوردون ملابسهم التقليدية من عُقُل وكوفيات وجلابيب من أوربا،  مما قتل روح الابداع لدى هذه الشعوب التي تتفاخر بعلو أبراجها السمنية لا بصناعاتها ومتانة اقتصادها.. وفي الرياضة تصرف ملايين الدولارات لسباق الخيول، والهجن التي يستخدم بها الأطفال رغم الحظر، وصيد الصقور، والغزلان مما ألحق ضرراً كبيرا بالبيئة، ناهيك عن فيض النفايات البلاستيكية  لعبوات المياه التي غالبا ما ترمى في البحر دون الاهتمام بمبدأ التدوير!! وفي زيارته الاخيرة للسعودية لفلف ترامب قرابة خمسمائة مليون دولار لبيع الأسلحة والمعدات العسكرية، وبذلك أنقذ الشركات المصنَّعة للسلاح من أزمات خانقة بسبب الكساد..
أما الثقافة لدى شباب هذه البلدان والتطور الصناعي والعلمي فشبه معدومة فلا تلمس وجود مفكرين او علماء (رغم أنها تنفق في على التعليم مبالغ هائلة) باستثناء تخريج الألوف من رجال الدين يفتون بلا رقيب ويؤلفون ويطبعون ماشاؤا مجترين بلا ملل كتب الاقدمين في الفقة والتفسير والحديث..  كل هذا دون الحساب لنضوب ثروات البترول والغاز بعد عقود من السنين،  وعندها ستتعرض هذه البلدا لكارثة موعودة طال الدهر أم قصر...
(*)The Theory Of  The Leisure Class
خالد جواد شبيل
21تموز/يوليو2017
 

38
رمضان والعيد والشعراء
خالد جواد شبيل

تشهد العشرة الأخيرة من شهر رمضان،مناسبات دينية هامة تقتضي الإحتفاء بها وإبراز أهميتها ، ففيها ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن الكريم التي تُقام فيها الإحتفالات البهيجة والتي تلقى فيها الخطبُ والأشعار . والمناسبة الأخرى هي جرح فمقتل الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، في بداية العشرة الأخيرة. وهي مناسبة حزن عظيمة لدى المسلمين وخاصة أتباعه من محبي آل البيت، حيث تلقى روائع القصائد وتقام مجالس العزاء ،وتؤم الوفود الإسلامية من مختلف أنحاء العالم الإسلامي النجف لزيارة مقامه الشريف .
وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان ، تشهد الاسواق نشاطا كبيرا لشراء ما يلزم إعداده للعيد من مآكل وملابس..ولعل مراقبة هلال العيد هي الأخرى لا تقل أهمية عن مراقبة هلال شهر رمضان. وقد احتفى الشعراء بالهلالين كل على طريقته وهواه! ولعل وصف الشاعر  الأندلسي عبد الجبار بن أبي بكر الصقلي ابن حمديس(447 - 527هـ/1055 - 1133)  الهلال واشرئباب الناس وتشوفهم لرؤيته من أجمل الأشعار خفة ورشاقة :
قلت والناس يرقبون هلالا***يُشبه الصب من نحافة جسمه   
 من يكن صائما فذا رمضان *** خط بالنور للورى أول اسمه
بينما نجد أن شاعراً محبا للدنيا ولذاتها، نائيا بنفسه عن الدين والعبادة منقبضاً أشد مايكون الانقباض لانفطامه عن الشراب طيلة شهر كامل عن كؤوس مترعات الفها في عادي الأيام ولا يستطيع عنها فكاكا ، فاسمعوا ابن رشيق القيرواني  (360-456ه):
         لاح لي حاجب الهلال عشيا *** فتمنيت أنه من سحابِ
   قلت أهلا وليس أهلا لما قلت *** ولكن أسمعتها أحبابي 
    مظهراً حبه وعندي بغض *** يعدو الكؤوس والأكواب
وقد ملّ الشاعر المعاقر للخمر أبو نواس (145- 199ه) من شهر وجده ثقيل ظل وتشوّق لشهور الإفطار ليتمتع بمعشوقته الصهباء وما يرافقها من مجون:
أيا شهرُ كم تبقى مرضنا ومللناكَ
إذا ما ذُكر الحمد  لشوّال ذممناك
ففيا ليتك قد بِنتَ  وما نطمع في ذاك
ولو أمكن ان يقتل شهرٌ لقتلناك
أما الشاعر ابن الرومي (221-283ه) فهو يعلن علاقة سيئة بشهر الصوم بجرأته المعهودة فيه، فهو لا يطيق حرب بغداد إذا صادف شهر الصيام في آب:
شهر الصيامِ مباركٌ *** مالم يكن في شهر آبْ
خفت العذابَ فصمتُه *** فوقعتُ في نفس العذابْ
وعلى نفس الخطى سار الشاعر الطغرائي (455-513ه)، الذي رحب بالهلال المنجل الذي حصد شهر الصيام :
قوموا الى لذاتكم يانيامْ *** وأترعوا الكاس بصفو المدامْ
 ، هذا هلال العيد قد جاءكم *** بمنجل يحصد شهر الصيامْ
وعودة لابن الرومي صاحب المصورات الشعرية الرائعة ، فلا يفوته أن يرسم المفارقة بين الهلالين بخفة دم تميز بها وهو المولع بوصف الأكل والشربِ :
ولما انقضى شهر الصيام بفضله *** تجلى هلال العيد من جانب الغربِ
   محاجبُ شيخٍ شاب من طول عمره *** يشير لنا بالرمز للأكل والشربِ
وابن المعتز (247-296ه) الشاعر المترف وهو الخليفة ليوم وليلة ، فهو لايكترث لما يجلبه العيد من غذاء وكساء،إنما يصف العيد لذاته، منصرفا الى التصوير البلاغي المحض:
أهلا بفطر قد أضاء هلاله ***فالآن فاعدُ على الصحاب وبكِّرِ 
 وانظر اليه كزورق من فضة *** قد أثقلته حمولة من عنبرِ
وقال شاعر مجهول:
قل لشهر الصيام أنحلت جسمي *** إن ميقاتنا طلوع الهلالِ
اجهد الآن كل جهدك فينا *** سترى ما يكون في شوّالِ
أما المتنبي (303 – 354ه) فهو شاعر التهاني بالعيد بلا منازع ومعظم تهانيه الى سيف الدوله الحمداني ، وهذه واحدة من تهانيه له في عيد الفطر:
الصوم والفطر والأعياد والعُصُر ***  منيرة بك حتى الشمس والقمرُ
        ،  وله أيضا:
 لكل امرىء من دهره ما تعودا *** وعادات سيف الدولة الفتك بالعدا
ووللشاعر الأندلسي الزاهد أبي إسحاق الألبيري (ت460ه) أبيات مائزة في الزهادة  ةالعبادة ،فهو لا يهفو الى اللذائذ إنما حسبه رضا الله الذي ليس دونه رضى:
ما عيُدك الفخمُ الا يوم يُغفر لك *** لا أن تجربه مستكبر حِللكْ
   كم من جديد ثياب دينه خلق *** تكاد تلعنه الأقطار حيث سلك
   ومن مرقع الأطمار ذي ورع***بكت عليه السما والأرض حين هلك
أما الشاعر أحمد شوقي (1868- 1932م)، فلا يترددعن فرحته بالعيد، لا للعيد ذاته ، إنما شوقا لمعشوقته التي فارقها مضطراً شهراً، وقد فهمت هذه القصيدة خطأً بفعل الفهم الدارج للفعل "ولّى" الذي هو فعل زاجر في حين معناه ذهب، ولا تخلو القصيدة من مفهوم أخلاقي ديني سام:
          رمضان ولى هاتها ياساقي *** مشتاقةً تسعى الى مشتاق
ماكان أكثره على أُلّافِها *** وأقلًّه في طاعةِ الخلّاقِ
اللهُ غفّارُ الذنوبِ جميعِها *** إن كان ثمّ من الذنوبِ بواقِ
بالأمسِ قد كُنّا سجيني طاعةٍ *** واليوم منَّ العيدُ بالإطلاقِ
وما أظن أحد منا لم ترتبط ذاكرته بالاغاني التي اعتيد سماعها في ليلة العيد وأشهرها أغنية كوكب الشرق :
ياليلة العيد أنستينا   وجددت الوفا لينا ياليلة العيد
أو ذوالصوت الدافيء عوض دوخي وهو يصدح بصوت السهارى...سقيا ورعيا لذلك الزمن الجميل!!
ملاحظة:
ونظرا لكثرة الإستشهاد بمطلع قصيدة أبي محسد وقد كان في حالة نفسية مزرية في ضيافة كافور: "عيد باية حال عدت ياعيد.." آثرت أن أجول مع القاريء الكريم هذه الجوله كبطاقة تهنئة بالعيد! كل عام وأنتم بخير.
 
 
 


39
الأديب عبد الغني الخليلي والحضور المتجدد
خالد جواد شبيل

الكتابة عن الراحلين من الأصدقاء أحسبها مهمةً غيرَ هيّنة، فالحديث عنهم أصبح من الماضي، وكلّما ابتعد الماضي تُصبح المهمة أكثرَ صعوبة، فلئن تقلصت مساحتهم في الذاكرة بفعل جريان الزمن فإن ذكرهم يتجدد في الوجدان..
 كما أجد أن الخوض في التفاصيل قد يجعل الكاتب مُبرزاً ذاته على حساب الراحلين أنفسهم حتى وإن كان الأمرُ عفوَ خاطر لا غير.
وثالثاً أن حدود الكتابة يصعب تأطيرها وقد يؤدي المساق بما لايرضي الراحل حين أودع ما لديه للكاتب بما يدخل دائرة الأسرار وحينئذ يكون الاعتراض ضرباً من المستحيل!
***
 إن أنسَ لا أنسَ أصيل ذلك اليوم الخريفي من عام 1965، حين خرجت من كلية التربية حيث أدرس متجها الى شارع المتنبي، قاطعا المسافة مشياً على القدمين، حيث اعتدت على ذلك كلما فاض في الجيب بعضُ الدراهم لأشتريَ بعض الكتب بما يتيسر لطالب جامعي..

دلفتُ إلى مكتبة البيان المصاقبة لمطعم تاجران الشهير، فاستقبلني رجلٌ بشوشُ الوجه أسمرُه ذو عينين ملونتين أنيق الهندام ... فانتقيت ثلاثة ( أحدها عن ناظم حكمت لأحمد سليمان الأحمد، والثاني عن فابتزاروف شاعر بلغاريا الشهيد للبياتي، والثالث فاتني عنوانه)، فاستلمها الرجل مني وقرأ عنواناتها التقدمية وعبّر عن ابتهاجه: الله الله خليها مولانا على حسابي؛ فشكرته معتذراً؛ ودفعت ثمنها البخس دراهم معدودات!
دخل روعي أن هذا الرجل اللطيف هو صاحب المكتبة الأستاذ علي الخاقاني مؤلف موسوعة شعراء الغري، ومحقق بابليات الشاعر محمد علي اليعقوبي، وكان قد طبع ونشر كتابه عن الشاعرة فدعة علي آل صويح الذي بقي مرجعاً هاماً وفريداً عن خنساء العصر!
وفي عام 1968 نشرت جريدة التآخي قصيدة " أبا الفرسان" للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري مهداة: "إلى أخي الأستاذ عبد الغني الخليلي" وأحسبها المرة الاولى التي سمعت باسمه بعد أن عرفت القاص جعفر الخليلي (ت 1985) بفضل ما توفر لنا من أعداد مجلته " الهاتف" الشهيرة والتي يحمل اسمها شارع هام في النجف حيث كان مقرها قبل أن تنتقل إلى بغداد..
***
في عام 1985 عرفت أن الأستاذ عبد الغني الخليلي في السويد، وذات مرة حيث كنت في مركز المدينة ستوكهولم التقيت به مع بعض من الأصدقاء المشتركين، وكم كانت المفاجأة مبهرة حين التقيت من أخالُه علي الخاقاني وإذا هو الأستاذ عبد الغني الخليلي فامتدت بيننا أواصر الصداقة، وذكر لي علاقته بالوالد وبمعرفته الوطيدة بذلك الرعيل الأول من الشيوعيين النجفيين..
وحين ذكرت له عند لقاءاتنا المتكررة، عن اللقاء الأول به في مكتبة البيان، فرح أشد الفرح وكان يستحثني أن أذكر هذا أمام الأصدقاء الآخرين وأشكل ذمتي في أن أكتب عن هذا اللقاء!
ولد الأستاذ عبد الغني الخليلي في النجف عام 1920 ونشأ في أسرة عريقة امتهن جدها الأكبر حرفة الطب وظلت هذه المهنة تورَث كابراً عن كابر لآل الخليلي.. ناهيك عن الدور العلمي للعائلة التي شيدت مدرسة الخليلي – خلف جامع الطوسي في محلة المشراق- التي خرّجت أجيالاً من الفقهاء والشعراء ! ولا يمكن الكلام عن ثورة النجف (1919) دون ذكر الدور المحوري لعمِّه المناضل الكبير الشاعرعباس الخليلي الناجي الوحيد من المحكومين بالإعدام الذي فرّ الى إيران وقضى هناك غريبا! ( راجع: ثورة النجف لعبد الرزاق الحسني، ومذكرات الشيخ محمد رضا الشبيبي عن ثورة النجف، نشرت فصول منها في الثقافة الجديدة في السبعينات).
في هذه الأجواء نشأ الفتى عبد الغني الخليلي، وشبّ عن الطوق مُحبّا للأدب وولع بالشعر وراح يحفظ عيون الشعر العربي، تشفع له حافظة قوية، نمت وتدربت منذ التحاقه بالمدرسة الابتدائية التي حُرِم منها ليُعين والده البزّاز الذي انتكست تجارته.. واشتغل عامل مطبعة، التي أحب العمل فيها وراح يلتهم ما يخرج منها من كتب! ووجد نفسه محروماً من اللعب مع أترابه الأطفال الذين يلعبون ويمرحون!
ظلّ عبد الغني يروي حادثة أثرت به وهو طفل، حدث أن عثر في سطح الدار على نَسْر صغير مَهيضِ الْجناح، فعمل له كوخاً من الورق المُقوّى وأطعمه قطعةَ لحم وسقاه ماء، وأصبح يخرج كل يوم قبل أن يلتحق بعمله ليجلب له قطعة لحم من سوق القصابين.. وهكذا أبلّ النَّسر من وهنٍ وتعافى، وانعقدت صداقة بينه وبين النسر، حتى أذا جاءه بعد أسابيع قليلة ذات صباح كعادته بقطعة اللحم المعهودة، تناولها النسر وبسط جناحيه ومدّ عنقه وخفق بهما وحلّق بعيداً بعيدا!!
لقد اختلطت المشاعر وهو ينظر بفرح للطائر الذي استعاد حريته جذلاً، وبين حزنٍ لفراق صديق.. ظلّ الخليلي يروي هذه الحادثة وفي كل مرة تترقرق دمعة، فأقول له: إنه الفرح الحزين يا أبا فارس، فيردَ: أحسنتَ احسنت!
***
كان الطفل عبد الغني صغيراً بين الكبار، فتراه ما أن ينتهي من عمله في المطبعة، حتي يذهب إلى مدرسة الخليلي يحضر حلقات الدرس وينصت إلى الكبار في مناقشاتهم وحواراتهم، ثم ينتقل الى حلقات مسجد الهندي، وكان حريصاً أن يحضر مزادات الكتب في الجُمَع، وقد يشتري بما ادّخر بعض الكتب، وهكذا اختزنت ذاكرته الكثير من أسماء الناس ووجوههم؛ خبرهم وخبروه وأحبهم وأحبوه لذكائه وأدبه الجم، وحافظته المدهشة، اختزن فيها الكثير من ديوان العرب، والشعراء وخصائصهم الشعرية، وصادق واستمع إلى بعض من شعراء النجف ممن يقاربونه عمراً أو يكبرونه، وهكذاعرف مصطفى جمال الدين، ومحمد مهدي الجواهري ومحمد صالح بحر العلوم وإبراهيم الوائلي ومحمود الحبوبي وعلي الشرقي وعلي البازي ومحمد علي اليعقوبي وصالح الجعفري و عبد الرزاق محيي الدين وباقر الشبيبي وآخرين،، حيث كان يحرص على حضور منتديات الرابطة الأدبية، وكان ينظر إلى الشعراء أنهم أناس من طراز خاص، للإجلال الذي يحظون به في مدينة الشعر، وكم منّى نفسه أن يُصبح واحداً من جمهرتهم...
وللخليلي ذكريات يرويها مع أدباء النجف ومنهم مهدي المخزومي وإبراهيم الوائلي وكذلك مع الأدباء الوافدين من لبنان من أمثال حسين مروة ومحمد شرارة ومحمد حسن الصوري وكانوا يومذاك شيوخاً يطلبون العلم في مدارس النجف الدينية ومنها مدرسة الخليلي. يروي أنه رأى الشيخ حسين مروة يحمل طفلأً ملفوفا برداء وخلفه مجموعة من المشيعين متجهين الى مقبرة وادي السلام، وكان الشيخ مروة يكبِّر ويصيح: قتله الفقر.. قتله الفقر!
لقد كان لعمه الأستاذ جعفر الخليلي، رائد القصة العراقية تأثير كبير، وكان قريباً منه في تحريره لمجلة الهاتف، واشتغل معه وكان غني يومئذ يعتمر العقال شأنه شأن المخزومي وكان يساعد عمَّه في جمع الاشتراكات أو الإعلانات، وبهذا استطاع أن يجوب العراق من شماله إلى جنوبه لهذه المَهمة وأن يفهم واقع البلد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. وجعله ينحاز الى اليسار متعاطفاً مع الكادحين والفلاحين الفقراء.
وحيث عرف بأنني عشت طفولتي في الصويرة، روى لي كيف زارها في نهاية الثلاثينات (أو بداية الأربعينات)، وأشاد بسائق السيارة المعروف مصطفى ترك، وعندما سأله عن فندق، أوصله إلى بيت الوجيه داوود الجيجان الذي أحسن وفادته، وبقي الخليلي يذكر الصويرة وأهلها الطيبين الذين اشتركوا بالمجلة والذين زادوا على ذلك بدعمها!
***
 انتقل الأستاذ عبد الغني الخليلي الى بغداد وعُيِّن موظفاً في أحد البنوك الخاصة في بداية الخمسينات بفضل الوجيه عباس كاشف الغطاء، الذي ظل الخليلي يذكر له فضله ويذكره دون كلل بالخير والعرفان بالجميل، وفي بغداد بدأ حياته الجديدة ( أفندياً) أي يلبس الملابس الأوربية؛ وبذلك أصبح قريبا من عمه الأديب جعفر الخليلي الذي سبقه إليها حيث تصدر مجلته، ومن خلاله تعرف على المنتديات الأدبية في بغداد وروادها الكبار من أمثال: أحمد حامد الصراف وعباس العزاوي المحامي وعبود الشالجي و عبد الحميد العلوجي والدكتور مصطفى جواد وفؤاد عباس وسالم الآلوسي وعبد الرزاق محيي الدين والدكتور مهدي المخزومي والدكتور علي جواد الطاهروالأخوين الساعاتي ناجي جواد وفخري جواد حيث سيصاهر الأخير بالزواج من إحدى كريماته (أم فارس) عام 1957....
بيد أنه ارتبط بعلاقة قوية بالشاعر محمد مهدي الجواهري الذي أصدر عدة صحف في بغداد وأشهرها طرّاً "الرأي العام".. وقد وقف إلى جانب الجواهري في كل المشاكل التي واجهته وما أكثرها!.. وكان الاستاذ عبد الغني الخليلي حافظاً جُلَّ شعر الجواهري عارفا بقصائده ومناسباتها واين ومتى نُشرت! وكان يُعتبر بحق راوية شعر الجواهري. وظل وفيّا له حافظاً الود ومن ذا الذي يتحمل الجواهري ومزاجه المتقلب الناري غير أبي فارس!!
وحين غادر الجواهري مكرها في بداية الستينات واستقر في براغ التي دعا لها بطول العمر لأنها أطالت الشوط في عُمره، كتب إلى صديقه الخليلي طالباً منه أن يُرسل له مجاميع الشعراء " من امرىء القيس حتى السيّاب .." وقد نفذً له طلبه وأرسل له ما أراد! وقد ردّ الجواهري جميل الصداقة بقصيدته التي أهداها للأستاذ عبد الغني الخليلي ومنها:
أبا الفرسان إنك في ضميري – وذاك أعزّ دارٍ للحبيبِ
وبي شوق إليك يهزّ قلبي -  ويعصُره فيخفق بالوجيبِ
وذكرُك في فمي نغمٌ مصفّى – يُرتَّلُ في الشروقِ وفي الغروب
سلامُ الله يعبق بالطيوبِ – على ربعٍ تحلُّ به خصيبِ
وكانت المناكدات بينهما لا تكاد تنتهي ولا تُفسد للودِّ قضيّة ولطالما كان السبب فيها الجواهري؛ وسأذكر اثنتين من العيار الخفيف تاركاً الثقيل:
كان الأستاذ عبد الغني الخليلي بصحبة الجواهري يتمشيان في شارع الرشيد، واذا بمجموعة من الموظفات زميلات الخليلي في مصرف الرافدين يبادرن بالسلام عليه بحرارة نظراً لشعبيته ودماثة خلقه، وعندما ذهبن والجواهري كان ينتظر، بادر الخليلي بغضب قائلاً: تبقى غني لئيم ماتصيرلك جارة، شيصير لو قدمتهن إليّ وكلتلهن هذا شاعر العرب الأكبر الجواهري؟!
وذات مرة اتصل الجواهري بالخليلي قائلاً: غني آني وحدي، الأهل سافروا للنجف، تعال انتظرك على الغدا، وعندما وصل وجد الجواهري متدثراً قائلاً: الأكل بالمطبخ آني تغديت؛ فذهب الخليلي ووجد قدر سبزي (سبانغ) فثرد به قليلاً من الخبز وقليلا من الأرز وراح يحمي الطعام على الصوبه (المدفأة) ثم أضاف بيضتين فضاعت روائح السبزي النجفي المشهور بعبقه فنهض الجواهري من الفراش وصاح: لقد ايقظتني الروائح من نومي لقد كانت جدتي تعمل هذه الطريقة! وجلس يأكل أكل صائم منافساً الخليلي !!
***
ما عرفت شخصاً وفيا لأصدقائه كما الفقيد الأستاذ عبد الغني الخليلي، ولأجل ذلك كانت سلواه في غربته السويدية هو كتابة الرسائل وكانت لحظة سعادته هو انتظار ساعي البريد في الواحدة بعد الظهر وما يحمل من رسائل الأصدقاء الكثر فيرقص لها الخليلي طرباً..كانت رسائل أبي فارس من أجمل الرسائل صدقاً وعاطفة وأسلوباً أنيقاً راقياً يعكس شخصيته ولطالما يضمنها أبياتاً شعريه من مخزون ذاكرته العامرة..
كان يفرح عندما يُهدَى كتاباً وكان هو الآخر يُهدِي أصدقاءه كتباً وما زلت أحتفظ بكتاب الديارات للشابشتي بتحقيق كوركيس عوّاد وقد خطّ أهداءه الجميل بقلم حبر عريض الذي اعتاد استعماله ولم يبدله قط!
كان أبو فارس حلوَ الحديث جميل العبارة صادق العاطفة يذكر الأصدقاء بخير ولم أسمعه قط مغتاباً أحداً..كان سريع البديهة حاضر النكتة محبا وعاشقاً متيماً ببغداد والنجف، يذكرهما ويذكر طقوسه اليوميه حين يتمشى فجراً على شاطىء دجلة وكان يقول: إن الفجر في بغداد أخضر ولا يشبهه فجرٌ آخر قط!
لقد رحل الأديب الأريب أبو فارس وخلّف ثروة من الأدب والخلق الرفيعين.
ستوكهولم في 31 آب/أغسطس 2016


40
المنبر الحر / (*)عثمان وأبو بكر..
« في: 12:37 26/02/2017  »
(*)عثمان وأبو بكر..
خالد جواد شبيل
يأتي كلٌ منّا الى الحياة ولم يستشر، لا يدري من اين أتى، ولم يختر جنسه ذكراً أو أنثى، ولا لون بشرته ولا مسقط رأسه ولا دينه، ولا عشيرته ولا اسمه.. يأتي الإنسان وفق  نظرية الصفحة البيضاء في علم النفس، صفحة ناصعة ثم تبدأ بالامتلاء... يكتب عليها الوالدان والأخوة والأصدقاء والمعلم .. والناس كل الناس من تعاليم الدين والأخلاق والأفكار والثقافة؛ ويتلقى الإنسان ما بها من أفراح وأتراح وقيم العشيرة وقوانينها غير المكتوبة، وقوانين الدولة المكتوبة...
 وحين يسأل الإنسان كيف أتى ومن أين؟، لا يحار جوابا وحين يسأل عن الله الخالق من خلقه؟ يُقمع، ويقال له أحياناً إنه استوى على العرش في السماء.. وقد صرخ ذات مرة طفل والطائرة تشق عباب الغيوم ، أين الله إذن؟! تماماً كما صرخ ذلك الطفل بطل قصة "ملابس الامبراطور الجديد" للدنماركي أج. سي. أندرسن، وفحواها أن الأمبراطور قرر أن يمتحن سطوته على شعبه، وزعم أنه يلبس ملابس جديدة لا يراها الا الأذكياء.. وهكذا مرّ بعربته الملكيه مزهوّا أمام تجمع شعبه رجالا ونساء والكل يصيح ما أجملَ الملابسَ!، وما أحلى المخملَ الموشى بخيوط الذهب! ... وكان أحد الأطفال ألحّ أن تحمله أمُّه ليرى الملك وملابسه الجميلة، وما أن وقع نظره على الامبراطور صاح بصوت عال: الملك عارٍ عارٍ عارْ!!
هكذا حُقن كل منّا منذ الصغر بمنظومة قيمية غيبية من الدين ومن المفهوم السائد في نظرتنا للآخر وفي فهمنا الشعبي للتاريخ وتلقي كل ما هو مطبوع حقيقة مسلّمة، وما زال التزييف والدجل والخرافة تُذاع من المنابر على أنها الدين ومازالت رحى الفساد باسم الدين تدور، وما زال تشويه الآخر مستمرا.. وكل من يتصدى ستكون التهمة جاهزة وهي المروق عن الدين!!
وهكذا كان الإجراء الخطير الاول الذي شهدناه ونحن صغار، في درس الدين، حين يؤكد المعلم على غير المسلمين أن يغادروا الصف! وهكذا يخرج زملاؤنا الصابئة والمسيحيون واليهود، وكم كان هذا الإجراء مقيتاً لا على الخارجين بل على الباقين، وكنت أرى هذا الدرس ثقيلاً، وكم تمنيت أن أخرج مع الخارجين لألعب وألهو وأتضامن مع زملاء طيبين لم يختاروا دينهم كما لم اختر ديني.. في هذا الدرس كان رأسي الصغير وهو يكبرُ يتعبُ من تفكير بأشياء تقلقني أيما قلق:
"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" الأنبياء:107
وقوله تعالى" لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" البقرة:256
   
 وبين قوله تعالى: " واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل " البقرة:191

 ثم قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) النحل:93
  أو قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ التوبة:29

أو قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ آل عمران: 85
أو قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين) المائدة:68

وبين قوله تعالى:" ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ المائدة: 5
وقوله تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" الحجرات: 13
 
أكتفي بهذا لأعود الى الخلاف داخل البيت الإسلامي..
 وهو يتعدى الخلاف بين المذاهب فالاجتهاد مباح ومن طبيعة البشر ان يختلفوا، وقد قال الرسول الاعظم: " الاختلاف في أمتي رحمة".. وقد الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب"، وهو رأي حصيف لكنني سأجعل باب الخوض بين السنة والشيعة موصداً إيثاراً للعافية، وهو معروف لدى الجميع، والغريب أن كلا الطرفين لا يشددان على نقاط الالتقاء وهي كبيرة جداً فعلى سبيل المثال من يبحث سيرة أبي حنيفة وجهوده وهو صاحب الرأي في الحديث وهو تلميذ الإمام الصادق لمدة سنتين وهو القائل: لولا السنتان لهلك النعمان.. وهو الذي دعم استاذه الثائر زيد بن علي دعما مادياً وسياسياً، وهو الذي ذاق مرارة سجون بن العباس وكان قريباً جدا من الطالبيين بل هو شيعي زيدي بامتياز ولكن المصيبة جاءت من تبني الدولة العثمانية لمذهبه والسبب هو تساهل النعمان في قضية الخمر وكان الجيش الإنكشاري في معظمه من المسيحين فلا بد من الخمر الذي شاع أيما شيوع في ملة العثمانيين!! وارتكبت كثير من المثالب والمظالم ضد المسيحيين وضد العرب الشيعة بشكل مضاعف ما جعل ظلم العثمانيين سمة ارتبطت وألصقت بمذهب ابي حنيفة!!

أسماؤنا في الأغلب تحمل سمة الدين والصراع التأريخي فاصبحنا لا ننظر إلى عمر إلا بمنظور منطق الصراع وما فيه من شوائب وأضاليل وكذلك للسقيفة وأبي بكر ولا يختلف الامر في عثمان؛ وأصبح الآخر ينبز بالأئمة وباسماء عبد الزهرة وعبد الحسين...الخ

ولقد كان التميُّز مقصوداً لدى الطرفين، فعلى الرغم من أن إسبال اليدين مباح كما في التكتف، وكلا الأمرين قام بهما الرسول الأكرم وكذلك في الضوء حيث مارس الغسل والمسح على القدمين، فإن المسألة أصبحت خلافية جوهرية.. فإذا عمل فريق بتسنيم القبور قام الفريق الآخر بتسطيحها وإذا تختم فريق باليمنى تختم الآخر بالشمال، وإذا صلى أحدهم على النبي وسلمَّ على أله، عمد الآخر على الصلاة على النبي وزاد عليها أصحابه..وإذا فريق بتحية السلام عليكم معرفاً السلام قال فريق آخر بتنكير السلام ليصبح: سلامٌ عليكم.. وإذا صلى فريق التراويح أنكر الفريق الآخر التراويح وقال ببدعتها التي ابتدعها الخليفة الثاني وكل بدعة إلى ضلال.. وإنما النوافل!!
وهكذا وجد التميُّز طريقه إلى التمييز وتلك هي الطامة وأصبح التمييز بالأسماء واقعاً فلا ينظر للشخص إلا من خلال اسمه ودلالته التاريخية/الدينية على حساب شخصيته وأخلاقه وثقافته وإخلاصه وإنسانيته ووطنيته..

عندما وقف البطل الشهيد عثمان العبيدي الأعظمي وقفته المشهودة لانقاذ الزوار الغرقى  على جسر الأئمة حظي بتكريم وحب الناس وضرب مثلاً عظيما للمواطنة ولمُثل الشهامة  وأتبت أن السني أخ للشيعي وأن الشعب العراق لا تفرقّه المذاهب.. ثم تتالت الأمثلة من جنود قدموا حيواتهم من أجل إنقاذ الأبرياء لتعطيل الإرهابيين ممن يقومون بتفجيراتهم.. وجاء المثل بالأمس من البطل " أبوبكر الدراجي السامرائي" ليقف بشموخ أما الإرهابيين بشجاعة قل نظيرها تُعد مفخرة لا لأهله ومدينته بل لكل العراقيين...

ما أرمي إليه هو تعزيز مبادىء المواطنة العابرة للطائفية المقيتة والعنصرية البغيضة بنظام مدني علماني لا يتم إلا بحكم انتقالي يلغي الدستور المهلهل، ويلغي مبدأ المحاصصة سيء الصيت ويؤسس لحكم يتولى المسؤليات فيه أصحاب الكفاءات من التكنوقراط لإعادة الهيبة للدولة وجعل معايير المواطنة والكفاءة هي الفيصل ومحاربة الفساد واسترجاع المبالغ المسروقة، وتكوين مجالس رقابه شعبية من النزهاء،  لكي نُرسي أسس مبادىء جديدة تتماشى مع روح العصر ولنفصل الدين عن الدولة وعن المؤسسات التعليمة.. بهذا وبغيره  يتم إعادة البلد الذي وقع بين مخالب الارهاب والطائفية والفساد..
--------
(*) من سلسة فيسبوكيات-8
خالد جواد شبيل في 26شباط فبراير2017
 
 

41
خواطر مع صيحات دُريْد التي ذهَبتْ أدراجَ الرياح!

خالد جواد شبيل

أمَرتُهمُ أمْري بِمُنْعَرَجِ اللِّوى – فَلَمْ يَستَبينوا الرُّشدَ إلا ضُحى الغَدِ
وَهلْ أنا إلا من غُزيّةَ إنْ غَوَت – غَوِيتُ وإنْ تَرشُدْ غُزيّةُ أرشدِ(*)

نسمع أحياناً أغنية فتدخل من الأُذُن اليمنى وتخرج من اليسرى فلا تحرك فينا نأمة ثم تسمعها نفسها بكلماتها ولحنها في وقت آخر فتحرك فينا المشاعر، وتهيّج عواطفَ كنا نحسبها ماتت، وتنشط فينا أحاسيس خامدة ثم تستقر في خاطرنا ونود لو نسمعها أكثر وأكثر.. وما تفسير الأمر بشائك، فنحن لا نسمع بآذاننا بل بنفوسنا وأمزجتنا، وقد قالت العرب صادقة: إذا طابتِ النفوسُ غَنّت..
والبيتان قرأتهما وأنا مراهق في أحد كتب طه حسين، مرَّ عليهما كريماً حتى لم يذكر قائلهما، والدكتور عندما يستشهد فلا أحسن منه، تشفع له أُذُنٌ مرهفة تلتقط كلّ ما هو صائت أو هامس موسيقياً وكلّ ما هو ذو معنىً شأنه شأن المكفوفين الذين يحسنون السمع لا بآذانهم فحسب وإنما بنفوسهم بل قل بأفئدتهم ولا تخف.. وحُسن الاستشهاد باب بلاغي شأنه شأن المحاسن الأخرى البلاغية من حسن التخلص وحسن الانتقال وحسن الاستهلال وحسن الختام...
حفظت البيتين واستعنت في البيت بمُعلّمي، لضبطهما نحواً ووزنا.. وبقيت أرددهما، أقرؤهما بصوت عال حريصا على إخراج الحروف من مخارجها.. ولم أقع يومها على أسرار جمالهما..حتى إذا أخذت نصيبا يسيراً من الشعر اكتشفت إن فيهما تفاعل الأصوات المنخفضة اللينه والحرووف الجوفاء الممدودة واكتشفت أنّ، توالي الميمات الثلاث في الصدر الأول وهو حرف شفوي معتدل الجهر يقترب أحيانا في مخرجه الهوائي من الأنف  Nasal letter ؛ وحرف الغين الرخوي اللهوي ذو اهتزازات خفيفة تخفف من جهره، الذي تكرر فأعطى وقعاً  على الأذن مميزاً في تَعاقب المفردات أي ما يُعرَف بالتَّكرار البلاغي: غزية لمرتين، وغوت وغويت.. ثم حروف المدّ في الألف المقصورة اللوى وضحى ، ثم صيغة الاستفهام الإثباتي: وهل أنا إلا... ويكون جوابه المضمر الإيجاب على خلاف الاستفهام الإنكاري الذي جوابه المضمر النفي..
والبحر هنا هو الطويل حامل ثلث ديوان العرب، وأي ثلث؟ ذالك الذي فيه روائعهم، فهو بحر النفَس الطويل والهيبة غير قابل للتجزيء، وهو بحر تام بالضرورة ومركب من تفعيلتين، فعولن و مفاعيلن.. هو مختبر لكل شاعر يريد أن يثبت تمكنه، وهو يقابل في هيبته مقام الرست الذي هو مختبر لاي قارىء مقام.. أذكرُ ونحن في الجامعة طالبيْن شاعرين قد ركبا بحره وتمكنا منه هما عبد الإله الياسري وسعد الرمّاحي وآخرين منهم سهر العامري.
ومن المفارقات أن الشاعر نِزار قباني قد أقحمه في قصيدة تحمل اسم هذا البحر إقحاماً ولم تكن منه "على البحر الطويل" وتوخياً للدقّة  فإن اسماء الأبحر تكون على الإضافة لأوزانها، فنقول بحر الطويل، وبحر الكامل...الخ، وأنقل القصيدة هنا لأُريَ أن الشعر أحياناً وفق مبدأ" وكل ما يفعل المحبوب محبوب"، وإلا لو ألقاها شاعر مبتدأ لأُنزِلَ من المنصة بدون رفق، فلنسمع ماذا يقول الشاعر الراحل نزار قباني:
"افرشي شعرك فوقي
مثل غابات النخيل
فأنا يُعجبني النظم على البحر الطويل
لستُ رجعيّاً بطبعي.. إنما
 أشتهي رائحة البن.. وطعم الزنجبيل...
يرحلُ المشطُ وقلبي معه..
إن من أغلى هواياتي الرحيل.."
وعودة الى بيتي دريد لأقول، فُتِنت بالبيت الثاني الآسر وحسبت أن الشاعر ابن الصِّمة  يعبر عن عن حبه الذي يُصِّمُ ويُعمي، بحبيبته غُزية وحسبت انه يُصغِّرُ اسمها للتحبيب، ويكرره تَكرار العاشق، ويجعله بلاغياً في "رد العجز على الصدر" من باب تاكيد الحب! كل هذا مع غموض في البيت الأول لا أشغل نفسي به فمن هؤلاء الذين نصحهم فلم ينتصحوا إلا بعد لأيٍ غير قصير أمَدِه ضحى اليوم الثاني؟!
وعندما انقشعت السحب تبين هذا الذي فَتَنَ المراهقَ في حبه هو فارس شيخ نيّف على المائة من عمره، وإن غزية لم تكن معشوقته وإنما عشيرته، وعلى وجه الدقة جَده السابع، وهكذا ارتفع رصيد البيت الأول -عند ذاك الذي لم يعد مراهقاً- الذي أصبح يردًّد على كل لسان حين تُشكل الحياة وما اكثر ما تشكل الحياة!! فغدا البيتان شاهدان في مواضع متكررة على مرّ العصور، حتى لأحسب أن البيتين قد قيلا وخُصّ بهما  عصرُنا هذا، وما غزية إلا شعبنا الذي نعشق وننحاز له من حيث لا ينفع الانحياز أمام من جاءت بهم الصُّدَف الضالة ويالها من حكمة بلهاء!!
قتل دريد بن الصِّمة في معركة حنين سنة 8ه، حين خرج مع قومه مُظاهراًلأعداء المسلمين، فقد أدرك الإسلام ولم يُسلِم، بل وقف معاديأ حتى الرمق الأخير. فقد توسموا فيه الحكمة والشجاعة والفروسية، وحين أبدى رأيه ونصيحته  في عدم النزول في منعرج اللوى منعه مالك بن عوف  عن مشورته كي لا يعلوَ ذكرُه..
وقد قال دريد قصيدته المريرة التي يستهلها:
أرثّ جديد الحبْل من أمِّ معبدِ – بعاقبة قد اخلفت كلّ موعدِ
وبانت ولم احمَد غليك جوارها – ولم تُرجَ منّا ردّة اليوم أو غدِ
أعاذلتي كلُّ امرىءٍ وابن أمّه – مَتاعٌ كزاد الراكبِ المُتزوِّد
أعاذلُ إن الرزء أمثال خالدٍ – ولا رزءَ مما أهلك المرء من يدِ
.....
(*) هذه مقالة من سلسلة مقالات انطباعية مختصرة على مدونتي بعنوان "فيسبوكيات"، أنشرها لعل فيها فائدة تُرتجى/خ.
رام كم هنغ 6شباط/فبراير 2017
   
 


42
أمم فقيرة تنهض ونحن نتقهقر! (2/2)
خالد جواد شبيل

قِف في "مِنىً" واهتف بمزدَحم القبائل والوفودِ
حِجّوا فلستم بالغين بحجكم شرف الهنودِ
حَجّوا إلى استقلالهم وحَججتمُ خوف الوعيدِ
فعبادةُ الأحرار أشرفُ من إطاعاتِ العبيدِ
للشاعر صالح الجعفري النجفي قالها قبل أكثر من سبعين عاماً في النجف!
***
غادرت كامبوديا براً نحو فيتنام الطريق البري كان أحسن ما مشيناه، قطعناه في حوالي ثلاث ساعات الى الحدود، لم تأخر سوى نصف ساعة من تحصل على التأشيرة مسبقاً، وصلنا مدينة هوشي منة (سايغون) بنحو ساعتين ونصف الساعة الطريق معبد والحافلة جيدة..ليس مهمتي أن أصف هذه المدينة الآسرة، تجمع بين الطراز الفيتنامي والفرنسي..
 زرت متحف القائد هوشي منه ذا البناية الأنيقة المطلة على النهر(الميكونغ)؛ كانت حياة هذا الإنسان المنسلخ من عائلته الثرية مدهشة في بساطتها مناضلاً ورئيساً، خرجت مفكراً لماذا لم يتهيأ لنا قادة في نصف زهده وربع إخلاصه لوطنه وعقيدته الثورية التي تفاني من أجلها لتنفيذ أفكاره على نفسه وعلى الواقع؟؟!!
وكما يقول الغربيون " باي وي" سأمر سريعا جداً على أهم ما شاهدت في سايغون! متحف الحرب العدوانية، هكذا كان اسم المتحف، ثم جُعل اسمه  متحف بقايا الحرب war remnants  museum    للتخفيف من وقع التسمية الأولى على السائحين الغربيين! وفي هذا المتحف شاهدت مافعله الاستعماران الفرنسي ثم الأمريكي من شنائع، يعفّ القلم من ذكرها من مقاصل إلى ادوات تعذيب جهنمية، ومن يُرِد أن يطّلع على رأي الشباب الغربيين على ما دونوه في السجل سيشعر بارتياح، كتبت أحدى الشابات" أشعر بالخزي من كوني أمريكية"، وآخر " تمنيت لو لم أولد أمريكياً" وكتب فرنسي أو فرنسية " مذ شاهدت الجرائم رثيت للشرف الفرنسي!"...
ذهبت الى السفارة اللاووسية القريبة من المتحف، وتحصلت على التأشيرة بعشر دقائق، وأمضيت ربع ساعة أستمع للقنصل الذي راح يشرح عن بلاده ومعوقات نهوضها ومشكلة الألغام التي  تصيب الرعاة، وتحرم المزارعين من أخصب الأراضي الزراعية! وختم كلامه نحن نخوض حرباً ثانية هي حرب سلمية من أجل البناء..
زرت أنفاق كوجي الشهيرة وغرفة العمليات السرية  الكامنة وسط غابة تكسوها أوراق الأشجار، حيث تنفتح لك أبواب سرية ومخابىء بلمح البصر! واطلعنا على أفخاخ مُهلكة نُصبت للعدو..وأكلنا من الطعام الذي كان يستخدمه الثوار، قوامه الأرز والبطاطا الحلوة! ثم قطعت ثلاثين متراً في هذه الأنفاق وأظنها كانت خمسين، كانت تجربة خاصة جداً أن تكون ثائراً فيتنامياً لمدة ساعة أو أكثر.
لم يعجبني في مدينة هوشيمنه الموتورسايكلات التي تنفث سمومها والتي يبلغ عددها مليوني موتور سايكل، مما تجعل الهواء في المركز ملوثا! ولكن الطعام الفيتنامي لذيذ، ولهم مشروب البيرة الرخيصة المصنوعة من الأرز ويسمى "فو"، أما المشروب الوطني فهو يُشبه الفودكا مصنوع من الأرز أيضاً، ويكون غالياً عندما تشتري قنينة وقد نقع بها افعوان او أكثر والسعر يعتمد على نوع الأفاعي وبالضرورة على حجم القنينة التي ينتصب فيها الأفعوان، وأغلاها ذات الكوبرا والكنغ كوبرا. فهم يعتقدون بأن الأفاعي في المشروب أو المأكول تمنح متناولها صحة وقوة جنسية كبيرة!! وللفيتناميين قهوتهم اللذيذة التي يحضرها ويفلترها الزبون بنفسه وهو جالس فتزيد الجلسة إمتاعا!
***
غادرت الى مدينة هوّ Hue، عن طريق الساحل المطل على بحر الصين الجنوبي، وبين مدينتي هوي آن و هوَ كان الطريق جبلياً ضيقا وكانت الحافلة تسير على حافة الطريق المطلة على البحر  في ارتفاع شاهق ورغم الخوف من انزلاق الحافلة كان المنظر خلاباً.. أمضيت نهاري في هذه المدينة التأريخية المسيجة أرقب حياة الناس وكأنني واحد من رجال مسلسل ماركوبولو! ثم واصلت طريقي نحو لاو باو (باب لاووس) المركز الحدودي، استغرق الطريق منها الى مدينة سافانا كيث اللاووسية حوالي عشر ساعات في طريق ترابي، وكانت الأراضي من نوع السافانا، مملة، لم نتوقف سوى مرة واحدة، معظم الركاب كانوا من العمال اللاوسيين الذين يشتغلون في فيتنام، كنت الوحيد الأجنبي!
المدينة جميلة جداً استأجرت دراجة هوائية للتمتع بمناظر المدينة وشاطيء نهر الميكونغ حيث المطاعم التي تقدم لحم الكلاب البرية مشوياً، وأخرى تشوي السحالى(*) (أبو بريص)، البيض ذا الأجنة،  وكل شيء يقدم مع البيرة اللاوسية الشهيرة "بيرلاو" أو "تايغر بير" هناك معبر حدودي ينقل الراكبين الى تايلند الضفة الأخرى! وهناك حانوت فري ديوتي(سوق حرة)، كما يوجد مطعم فرنسي صغير كان ضالتي!!أمضيت ليلة تعشيت في بيت جعله صاحبه الفرنسي المتزوج من لاووسية مطعما وبارأ ومركز معلومات! مدينة سافاناكيت مدينة المعابد، فهي مدينة لاووسية صرفة والناس جد لطفاء!
غادرتها بعد يومين نحو فيانتيان العاصمة.. كان الطريق حديث التعبيد، وتتوقف السيارة للاستراحة والباعة يقدمون دجاجاً مشويا وأسماكاً، وسحالى مع نوع من الأرز في أكياس صغيرة يشبه لب الصمون يسمى الأررز المتلاصق Sticky Rice وهو لذيذ ومُشبع يؤكل مع الدجاج والسمك والسحالى باليد ولا يلتصق بها لأنه متماسك وهو عماد غذاء المزارعين حيث يمنح طاقة كبيرة يؤكل في لاووس وفي المناطق المحاددة لها من تايلندا في منطقة إيسان!
هذه مدينة فيان تيان العاصمة العتيدة والمنافسة تاريخياً لمدينة لوانبرابنغ. تقع على الضفة اليسرى من نهر الميكونغ أما اليمنى فهي تايلندا، وهذا النهر العملاق هو الحد الفاصل بين البلدين..
عندما زرتها لأول مرة قبل خمس عشرة سنة، بدت العاصمة قرية كبيرة قليل من شوارعها مبلط، الكورنيش على النهر غير مبلط وهناك مقاهي في الهواء الطلق، فيها ثانوية جيدة البناء ومكتبة ذات طراز فرنسي، والعاصمة هي مدينة المعابد الجميلة وفيها المتحف البوذي الشهير سيساكيت، والمتحف الوطني بسيط للغاية في بناية هرمة ومحتوياته هي ملصقات وصور تحكي النضال الأسطوري لشعب لاوس، بقيادة منظمة باتيت لاو( بلاد لاوس) الثورية الشيوعية التي خاضت نضالاً مسلحاً ضد الفرنسيين، وضد الملكيين من عملاء السي آي أيه الأمريكية من أثنية "همونغ" الرجعية، حتى حققت استقلالها التام عام 1975.. وفيها السوق الشهير (سو) والبارك الذي يتوسطه بناية أو النصب الوطني، وفيها الباغودا، وهو نصب مخروطي له أهمية تاريخية دينية، تأتي قدسية الباغودا من اعتقاد كونها حامية المدينة!
زرت لاوس بعد زيارتي الأول أربع مرات، كما زرت مدينة لوانباربنغ في الشمال، وهي مدينة رومانسية هادئة اشتهرت بسوقها الليلي ومعابدها التأريخية..
آخر زيارة لي قبل اسبوعين، أصبحت لاوس مربوطة بتايلند عن طريق جسر الصداقة بمساعة منظمة آسيان، والطريق الترابي أصبح معبدأ المدينة مذهلة من حيث التصميم الحديث مع المحافظة على الطابع القديم، لم تجد فيها معالم الفقر، السياحة واحدة من الموارد الهامة، فهي تصدر الطاقة الكهربائية لجيرانها الصين، تايلند وفيتنام، وهي مدت السكك الحديد على أربع خطوط تشكل شبكة هامة للنقل،ويسجل البنك الدولي للاوس بانها اسرع دول شرق آسيا نمواً..
النظام السياسي الماركسي اللينيني، عمق الممارسات الديمقراطية، فالرئيس ينتخب من قبل الجمعية الوطنية لخمس سنوات، والدستور عدل عام 2003 لصالح حرية الشعب وضمان ممارساته الديمقراطية مما حسن صورة لاوس في مجال حقوق الإنسان، استطاعت لاوس ان تقطع شوطاً هاماً في مكافحة الفساد، وجعل النظام الإداري شفافاً.. لقد حسنت لاوس من علاقاتها مع دول الجوار لاسيما فيتنام والصين وتايلاندا، ولها علاقات هامة مع استراليا واليابان والسويد وفرنسا والهند، وانضمت إلى آسيان عام 1997 واستفادت من تنفيذ مشاريع هامة، وبدأت اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة منذ 1998... لاوس التي لا تملك ساحلاً بحرياً في طريق النمو المتسارع.
إذهبو إلى لاوس الفقيرة المعدمة التي لا تمتلك قطرة بترول، لتروا أين اصبحت وأين اصبحنا؟!
أين نحن بلد الثروات من لاوس؟!
------------
(*) لابد للسائح من احترام ثقافات الشعوب، السحالى والعقارب والحشرات... تُربى في حقول خاصة تكاثر، وهي تعتبير من اللذائذ واباع بأسعار عالية نسبياً.. الأفاعي والجرذان تصطاد في حقول الأرز وتعتبر هي الأخرى من الأطايب حيث تطبخ بطرق خاصة وتتبل بأعشاب وأفاويه ملائمة.. الكلاب البرية تصطاد من الغابات وأسعارها أغلى من بقية الحيوانات.
خالد جواد شبيل
رام كم هنغ 13 ك2 يناير 2017


 

43
أمم فقيرة تنهض ونحن نتقهقر!
(1/2)
خالد جواد شبيل

أمتي هل لك بين الأممِ   ***     مِنبر للسيف أو للقلمِ
أتلقاك وطرفي مطرقٌ *** خجلاً من أمسك المُنصرمِ
لا أدري كيف تسللت هذه الأبيات إلى مناهجنا المدرسية ورددناها ونحن صغار، في وقت كان الجميع يتغنى بالعروبة ومجدها المؤثل، وكيف "كان العراق في انتقال" جملة نسمعها في الراديو ونقرءوها في الصحف..والأبيات هي لشاعر جمع بين الرقة والحس الوطني الثوري وحسن السبك والسهولة مثلما جمع بين الغزل الرقيق والروح الثورية الوثّابة؛ وعن سلاسة أسلوبه الشعري الدافق وقدرته التعبيرية العالية يجعلني أن أصفه بأنه رائد الأسلوب الشعري المعروف ب "السهل الممتنع" .
 وقد عاش شاعرنا طالب كيمياء في لندن وباريس فتعمق إحساسه بأن بلداننا متخلفة وأدرك بأن المكاشفة بالتخلف هي الخطوة التي تحثنا على النهوض، أما التشدق بالأمجاد والتباهي بحاضر لا يني يسوء فهو الكارثة.. ثم يستمر عمر أبو ريشة (1910-1990) في قصيدته التي قوامها اثنان وعشرون بيتاً حتى يصل قبل الختام الى بيته الآسر:
لا يُلام الذئبُ في عدوانه *** إن يكُ الراعي عدوَ الغنمِ
ولم يكُ هذا الشاعر يقول الشعر الحماسي وحسب، بل كان مناضلاً تصدى للاستعمار الفرنسي في بلده سوريا وطورد واعتقل.. ثم ليصبح سفيراً لبلاده سوريا. وتعمق الإحساس عنده بالفارق بين الغرب وبيننا؛ قال قصيدته هذه في ثلاثينات القرن الماضي، فما عساه أن يقول لو كان بيننا الآن؟!!
***
  حين كتبت سلسلة مقالات عن رحلاتي إلى اليابان ثم كوريا، والتي كتب لي عنها الكثيرون مبدين اهتمامهم بالتجربتين متوسمين أن نأخذ من دروس البلدين اللذين مزقتهما الحروب ليغدوا في طليعة الدول المتقدمة -عدا رفيقاً قديماً- غمز قناتي متسائلاً بإسلوب أعتبره بريئاً وفق قول بوذا في إحدى وصاياه الثماني: أنْ اَحسنوا الظن!، وكان التساؤل عمّا إذا غيرت قناعاتي اليسارية "المتطرفة" واقتربت من "الليبرالية" وأظنه ترفق بي مشكوراً حين لم يقل الرأسمالية فلطّفها بالليبرالية!
وحيث أن عماد التطور أي تطور هو الاقتصاد بمفهوميه كثروة economy والاقتصاد كعلم  economics فمثلما لا توجد ثروة رأسمالية ولا اشتراكية كذلك لا يوجد اقتصاد كعلم رأسمالي ولا اشتراكي تماماً كالفيزياء فلا هناك فيزياء رأسمالية ولا فيزياء اشتراكية! وإنما هناك أجراءات وقوانين للاقتصاد تكون رأسمالية حين يحتكر رأس المال فئة قليلة من أربابه تسخر الثروات لصالحها على حساب منتجي الثروات وهم العمال.. واشتراكية حين تستثمر الثروات لصالح عموم الشعب لا سيما العمال.. كما لا يوجد جدار خرساني سميك بين الاشتراكية والرأسمالية، فهناك بلدان رأسمالية طبقت كثيراً من الإجراءات الاشتراكية كالسويد مثلاً؛ والعكس صحيح حين اضطرت روسيا السوفيتية المتطلعة للاشتراكية أن تطبق السياسة الاقتصادية الجديدة NEP بعد سنوات الحرب التي 1919-1922  حين أرْختِ الدولة قبضتها الحديدية على الاقتصاد وسمحت بمنحىً رأسماليًّ فرضته مرحلة "شيوعية الحرب" .. بل وتم تطبيق ذلك في دول "اشتراكية" مثل الصين التى سمحت بادخال الرساميل الأجنبية وطبقت جزئيا قوانين السوق، والى حد ما فيتنام ولاووس ما سمح بنمو اقتصادي هام ساهم بالتطور الشامل للبلد.. وعلى هذا سيكون تناولي من خلال رحلاتي الى كمبوديا ولاووس اللتين زرتهما بمدد متقاربة ثلاث زيارات تفصلها نحو خمس سنين ما يمكنني من رصد عيانيّ للتطور، وسأرجىء تناول تطور فيتنام وسنغافورة إلى وقت آخر.
***
دخلت كمبوديا عام 2001 لأول مرة قادماً من تايلندا، وكان كل الراكبين من الغربيين في ميني باس  أو مايعرف ب"فان" قطعنا قرابة ثلاث ساعات ونصف حتى نقطة عبور الحدود بويبت، وهي بناية صغيرة، الأرض ترابية تذروها الرياح، ودخلنا بلداً بدا الفارق بينه وبين البلد الذي غادرناه كبيراً جداً، وكانت المرحلة الأولى من الرحلة هو التوقف في مدينة سيام ريب، حيث استقللنا حافلة ثقيلة السير بسبب وعورة الطرق حتى وصلنا هدفنا عند الغروب، حيث كانت تتوقف الحافلة لشراء الطعام والموز والماء، أما المطاعم البدائية الصغيرة فلم يجروء أحد على شراء الطعام منها!! اشتريت موزاً من بنت ملحاحة: "مستل بانانا" وعندما سألتها عن اسمها قالت: إلهام، أما بائعة الماء التي تحفظ سورة الفاتحة فاسمها فاطمة! إنهم من مسلمي الخمير أو الجان(بالجيم المعجمة بالثلاث) استغرقت الرحلة حوالي سبع ساعات لكثرة التوقف غير المبرر حيث تصبح الاستراحة لنصف ساعة أحيانا ساعة كاملة، وحين نحاول الدفع بالدولار يرفض الباعة لانهم لا يعرفون هذه العملة الغريبة!..
ومدينة سيام ريب التي سنبيت فيها ليلتين، مدينة عريقة ذات آثار هامة وهي أنغكوروات وتعني بلغة الخمير مدينة المعابد ، وهي رئة تتنفس منها كامبوديا التي ليس لها حظ في بحر إلا إطلالة بسيطة على خليج تايلندا، والتي تدر عليها مورد سياحي كبير، ومن أجل أهميتها هذه التأريخية والسياحية تنازعت عليها تايلندا تريد ضمها وما زال النزاع لم يحسم! والغريب إن معنى سيام ريب يعني بلغة الخمير هزيمة تايلندا.
كانت ملامح الحياة الفرنسية في سيام ريب واضحة من خلال فندقها غراند اوتيل ذي المعمار الفرنسي وكذلك توفر الخبز الفرنسي والمعجنات الفرنسية من قبيل الكرواسان والمادلين! ولكن الطعام الكمبودي هو الشائع ومنه أكل أجنّة الدجاج في بيوضها مسلوقة حيث رأيتهم يلتهمونها التهاماً مع أصوات تلذذ ويحتسون معها الجعة (تايغر بير) أو خمور الأرز التي تشتهر بها هذه المدينة تأريخياً، وحين تعجبت وسألت صديقي المسلم التايلندي م.ط.  قال نأكلها حلالاً وهي لذيذة ونصحني أن أجربها فأبيت، ولهم أطباقهم النباتية والحيوانية الأخرى الغريبة!
كنت في السيارة الفان قد جاورني شاب بلجيكي استاذ موسيقى وصديقته أستاذة الفرنسية وكان حظها في الركوب جهة الشمس، فترجتني إن أتنازل لها عن مقعدي بسبب صداع تسبب من الشمس فوافقت عن طيب خاطر وهكذا امتدت بيننا أسباب المودة التي تنعقد بين المسافرين، وهكذا اخترنا اوتيلا غرفة لي وغرفة لهما متجاورتين، وحجزنا تكتك لكي يأخذنا في يوم كامل الى مدينة المعابد انغكور وات، وشكا لي بأنهما لما يستطيعا سحب مبلغ من المصرف الآلي ATM وقد حجزا لليوم الثاني لحوالة مستعجلة تصلهما من مصرفهما فأرادا قرضا بمبلغ ليس كبير وتلطفا في أن استلم منهما ضمانة وأذكر أنها ساعة ثمينة فأعطيتهما ما يحتاجان ورفضت أن أستلم أي ضمان، وقد وثقت هذه القضية صداقتنا.. وهكذا زرنا المدينة سوية، نتقاسم ما نصرف..
تبعد مدينة المعابد 5كم من سيام ريب والدخول للمدينة بأجور: أذكر كان 20 دولاراً لليوم الواحد ولليومين ثلاثين ولمدة أسبوع أربعين أو خمسين.. وكان مشروعنا ليوم واحد.. وقد أطلقنا سراح سائق التكتوك على أن يأتينا قبل الغروب.
 كان منظر شروق الشمس على مجمع المعابد وأبراجه ساحراً للغاية ونُبهنا ألا ندخل من المساحة المعشبة من الحديقة لاحتمال وجود الأفاعي الخطيرة الكامنة..كانت هذه المدينة عاصمة لأمبراطورية الخمير، يتألف المعبد من قسمين: الأقدم وهو الهندوسي وتحديدا معبد الإله شيفا وما حوله من تماثيل وهياكل، ولا يعرف على وجه الدقة بدايته التأريخية.. ثم المعابد البوذية التي تختلف عن الطراز الهندوسي من حيث المعمار والتماثيل والمجسمات التي تخص بوذا ثم قاعات وهياكل والتي بدأت منذ دخلت البوذية بلاد الخمير في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن أكثر المناظر دهشة تلك الشجرة المعمرة التي اسبرت جذورها في الجُدُر الصخرية للمعبد وظلت تتحدى الزمن من مئات السنين والتي شغف السائحون بتصويرها..
ومما يلفت النظر أن البوذية لم تجبَّ ما قبلها فحافظت على التماثيل الهندوسية والهياكل كأحسن ما تكون المحافظة وفقاً لمبدأ التعايش لدى البوذية مع مختلف الديانات السابقة واللاحقة!
كانت أكثر المزارات مشقة ومتعة في آن هو صعود الأبراج والحذر الشديد من الانزلاق بسبب الصخور الملساء، وكانت هناك متعة التسلق من خلال الجدران الخارجية اعتماداً على المسافات البينية والحزوز بين الصخور وهي مهمة ليست سهلة، ولكنها ممتعة وتمنح المتسلق ثقة بالنفس وتعزز روح التحدي!
في اليوم الثاني افترقنا حيث ذهب الأصدقاء الى منتجع ساحلي وواصلت الرحلة إلى فنوم بنه العاصمة الكمبودية.. استقللنا الحافلة في الصباح الباكر والركاب لفوا حوائجهم وتلثموا بالقناعات، حيث مثار النقع خلف السيارة مردوده غبار طحيني احمر يدخل السيارة والجو حار وشعور حاد بالغثيان.. قطعنا المسافة بعشر ساعات أو أكثر حيث وصلنا عند الخامسة عصراً!
وفنوبنه العاصمة سميت باسم أقدم معبد فيها يدعى معبد التل شيد في أواسط القرن الرابع عشر وما زال قائماً واصبحت عاصمة مزدهرة ابتداء من الحقبة الكولونيالية الفرنسية بدء من عام الاحتلال الفرنسي 1870، وهي مطبوعة بالمعمار الفرنسي ولازالت الأجبان والخمور والخبز الفرنسي متوفراً في الأسواق والمطاعم! تقع على نهر الميكونغ أشهرأنهر آسيا وهو يقابل الدانوب في أوربا لأنه يمر بعدة دول، ومن عجائب هذا النهر أنه يغير اتجاههه وفقاً لغزارة الأمطار فإذا كان المطر صبيباً في الغرب سار مجراه نحو الشرق والعكس صحيح! بلغت المدينة أوجها من الازدهار في العشرينات حتى سميت لؤلؤة الشرق، لازدهار أسواقها ودخول النقل بالسكك الحديد وبناء مطار، ناهيك عن النقل المائي عبر القنوات والأنهار..
كانت فنوبنة إبان السبعينات وخلال الحرب الأمريكية على فيتنام ملجأ للفارين الفيتناميين من جحيم الحرب، وفي هذه السنوات تحالف مقتلي الفيت كونغ مع الخمير الحمر، حيث وجهت ضربات موجعة لنظام فيتنام الجنوبية العميل حتى سقوط سايغون ودخول القوات الفيتنامية القصر الرئاسي..
أما فصائل الخمير الحمر في كمبوديا فاستولوا على السلطة وأسقطوا نظام الأمير نورودوم سيهانوك (1922-2012)..بقيادة بول بوت (1925-1998) الدموي الرهيب.. ومن لم يزُر متحف الإبادة الجماعية تول سيينغ، وهي مدرسة ثانوية قد تحولت إلى سجن ومركز قتل وتعذيب، ومن له قلب رهيف لا أنصحه بزيارة هذا المتحف الذي يعرض كيف تحولت قاعات الدراسة الى زنازين صغيرة حيث تعرض فيها وسائل التعذيب التي يعجز القلم عن وصف بشاعتها..لقد استهدف الموت الأسود ( أسم مجازي للطاعون) كل معارضي بول بوت من رفاقه الشيوعيين والمثقفين ورجال الدين بوذيين ومسلمين ومسيحيين ومن كل فئات الشعب، لقد وصف بالموت العشوائي! وأقول ثانية من لم يزر هذا المكان الشاهد الحي على حقبة الموت الذي طال ملايين(*) من الأبرياء ما أظنه عرف حقبة من تاريخ البشرية الحديث الأسود..
هناك غابة تبعد عن العاصمة حوالي عشرة كيلومترات، استاجرت دراجة نارية وسلكت طريقا مفضياً إليها، فماذا رأيت؟ رأيت حقل الموت وما هو بتعبير مجازي بل واقعي عملي حفر في شتى أرجاء الغابة المسيّجة تتدلى منها أطراف من عظام بشرية وجماجم، وملابس نسائية ورجالية وعباءات كهنة وبطاقات تعريف لأصحابها وأوراق شخصية وحقائب نسائية وووو.. الحفر صغيرة، الهدف منها فقط عرض نماذج، أما المدفون تحت الأرض فالعدد لا يمكن تقديره! ثم هناك بناية المتحف حيث صور ووثائق والأبشع أنك ترى في صناديق عرض زجاجية آلاف مؤلفة من الجماجم ضاقت بها الصناديق! وتستطيع أن ترى فلماً وثائقيا مفصلاً لما جرى..تدخل وتخرج ومعك سؤال لا يبرحك وتتمنى لو تبرحه: لماذا؟!!
سكنت في مركز المدينة المطل على البحيرة وهناك جامع جميل حيث المطاعم والطريق مازال ترابيا، دخلت الجامع وفوجئت بقطعان غنم ملأت ساحته الخارجية فسألت عن الأغنام قيل إنها ستكون اضحيات العيد الذي سيحل بعد ثلاثة أسابيع، وذكر لي أحدهم أن الجامع أنجز قبل شهور بفضل تبرعات جمعيات إسلامية ماليزية.. جلست في مطعم إسلامي وتعرفت على الإمام ومجموعة من المسلمين، نهضوا للصلاة..في اليوم الثاني وأنا راجع سمعت صوت ينادي من أحد الحوانيت: تفضل أستاذ، وإذا هو صوت أمام المسجد، والتفت وإذا صناديق البيرة علامة النمر قد رصفت رصفاًواحتلت جزء هاماً من الحانوت، فاستبشرت خيراً! ومما قال: لقد نسينا أخواننا العرب المسلمون!
هذه هي كمبوديا، بلد الفواكه والعطور والحرير والأحجار الكريمة.. وبلد الفقر حيث لا يمتلك هذا البلد قطرة بترول ويُعد مع جارته لاووس من أفقر دول آسيا..
ولكنني زرت هذا البلد زورتين بعد أول زيارة، أخرها قبل ثلاث سنوات، فرأيت ما أدهشني حقا، لقد عُبّدت كل الطرق الترابية وأصبح ما يقطع بسبع ساعات تقطعه بثلاث ساعات ونصف الساعة، وبنايات الحدود جميلة ومنظمة، الشعب يتكلم الإنكليزية بشكل رائع ويعد الأحسن في آسيا بعد الفلبين، التعليم تطور وبنايات المدارس حديثة وجيدة جداً، المطاعم نظيفة، هناك نهضة اقتصادية وصناعية حيث تطورت السياحة بشكل كبير، واستفادت من مساعدات منظمة آسيان وبنت مشاريع محترمة ... لم أستطع الاستدال على فندقي لا في سيام ريب ولا في فنوم بنه.. العمران وحسن التنظيم أمرٌ ملفت للغاية، الأسواق تعرض بضائعها بمنتهى الأناقة، كل هذا حدث بظرف اثنتي عشر سنة، فاين نحن من كمبوديا؟!!
--------------
(*) يقدر عدد ضحايا حرب الإبادة بين مليون وثلاثة ملايين في بلد تعداده يومذاك ثمانية ملايين!
رام كم هنغ في الفاتح من عام 2017م
 

44
لمناسبة أعياد ميلاد السيد المسيح وقرب حلول العام الجديد؛
يطيب لي أن أهنّيء جميع الأصدقاء، وأن أهنيء شعبنا العراقي بجميع أطيافه،
متمنيا أن يعمّ السلام والخير والوئام العراق والعالم،

أشكر كل من سبقني بالتهنئة،
معتبراً هذه السطور تهنئة صادقة لجميع الصديقات والأصدقاء/خالد



45
سوانح بين الشاعر ابن الاحنف والدكتورة عاتكة الخزرجي

خالد جواد شبيل

أبكي الذين أذاقوني مودتَهم – وكلما أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني إذا ما قمتُ منتهضاً – بثقل ما حمّلوني في الهوى قعدوا
جاروا عليّ ولم يوفوا بعهدهمو – قد  كنتُ أحسبهم يوفون إن وعدوا
هذا الشعر هو للشاعر العبّاسي العبّاس بن الأحنف، وإذا قيل أن الشعر مرآة صاحبه ويحمل بصمات فكره وعاطفته فإن القول ينطبق على ابن الأحنف، فهو شاعر الرِّقة والعاطفة المشبوبة الصادقة التي سكبها من كل جوانحه وجوارحه سكباً بصدق وعفوية وفنّية عالية ولغة سهلة خالية من الكلمات الغريبة والمبهمة، قارؤها ينساق وراءها (اللغة) انسياقاً ويُؤخذ بها أخذاً فلا يحتاج إلى معجم أو قاموس، هو شاعر بلغة النقد مطبوع لا تكلف عنده ولا زخرف لفظي ولا محسنات بديعية ولا ثقل ولا اعوجاج، لغتة تأخذ طريقها إلى مُهج سامعها فيهتز ويتعاطف مع قائلها!
 في هذه الأبيات وفي غيرها سنجد أن الشاعر جاءته البلاغة في أبسط صورها وهي " المقابلة البلاغية" التي تتعدى الجناس والطباق الى المقابلة بالعبارات الشعرية  لا في الكلمات بل في المعاني أيضا..ثم تراه ينتقل بأزمنة الماضي والماضي البعيد التي تخدم معاناة الحاضر المتمثل ببقاء اللوعة وربما ديمومتها!
 والصوت؟ هامس دافىء على حروف متوائمة وأجراس كلمات معاتبة غير قاسية ترقُّ حانية على المسامع حيث تتعاقب القاف المقلقلة ، مع الهاء الخافته والحاء الحانية والسين المهسهسة  لتليّن الضاد الثقيلة والنتيجة خلطة نغمية ساحرة يتحسسها من يقرأ الأبيات بصوت عال..كل هذا على البحر البسيط الحزين..
قرأت أول مرة عن ابن الأحنف في كتاب الأدب العربي المقرر للسنة المنتهية من الثانوية الذي طالما كنت أقرأ به ضمن مطالعاتي الخارجية، فأُعجِبت به وبشعره كواحد من نماذج العصر العباسي الأول، واستقرت الأبيات أعلاه المنسوبة خطأ على الشبكة العنكبوتية لبشّار، فتمنيت أن أستزيد، وتحقق لي ما أريد بمقالات للشاعرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي، التي تذكره بإعجاب كبير في ما كتبت وما قالت فيه في مقابلاتها ومحاضراتها وهي أستاذة الأدب، ثم نعرف أن الدكتورة الشاعرة قد نالت الدكتوراه من السوربون وقامت بتحقيق ديوان العباس ابن الأحنف، فمن هو العباس بن الأحنف؟
ليس هناك من حسم في تاريخ ميلاده وحتى وفاته اكتنفها بعض الاختلاف ، وإن ذكر المؤرخون بأنه توفي في يوم وفاة النحوي الكوفي الكسائي وبناء على هذا يكون قد توفي وفق ما رجحه الذهبي في سير أعلام نبلائه ج9 سنة 189ه عن عمر قارب الستين..وقيل أنه من عرب خراسان وفد بغداد وبموهبته تقرب من هارون الرشيد ، وجالسه وأصبح من مقربيه يصاحبه حتى في رحلات الصيد وينشده الشعر، وبادله الرشيدُ الإعجابَ ونال عنده حظوة واحتراماً حسده عليه منافسوه من الشعراء.
 يُجمع كل من عرفه وذكره أمثال المبرِّد والجاحظ والبحتري والأصبهاني، بأنه إنسان شريف موسَر أنيق ترف، حلو الحديث، أشعر شعراء الغزل، لم يتكسب بالشعر قط، وبهذا يسقط الحجة عمّن يزعم أن الشعراء كلهم يتكسبون! فهو لم يمدح ذا سلطة أوجاه، ولم يكن مبتذلاً في شعره، بل سامياً في حبه، محترماً من قبل الجميع، وهو القائل في الحب:
وما الناسُ إلا العاشقون ذوو الهوى – ولا خيرَ فيمن لا يُحب ويَعشقُ
فمن هي معشوقته إذاً؟
لم يُنكر عشقه بل يذكره ويؤكده لكنه لم يُفصح عن حبيبته التي أصطلح عليها باسم جميل "فوْز" وفُسِّر بأنها كانت كثيرة الفوز في المسابقات!
فوز إذن لم يكن اسمها الحقيق لذا تراه يقول:
كتمتُ اسمَها كتمانَ من صان عِرضَها – وحاذر أن يفشو قبيح التسمُّعِ
فسمّيتُها فوزاً،ولو بحتُ باسمها – لَسمّيتُ باسمٍ هائلِ الذكرِ أشنعِ
 كان فخوراً بها يذكرها بخليط من الغزل الراقي والإجلال والعتاب فقد كان العاشق العذري في غير زمنه الإسلامي وإنما في العصر العباسي حين كان الغزل تشبيباً مادياً وفاضحاً في أحايين كثيرة!
لكن المحققة الدكتورة الخزرجي قد بحثت عن المعشوقة وتوصلت إلى أنها إحدى نساء البلاط العباسي، وعلى وجه التحديد عُلية بنت المهدي أخت هارون الرشيد ! فكيف لم تفطن له عيون العسس التي لا تفوتها أية نأمة أوحركة؟! ألم يذهب جعفر بن يحيى البرمكي الذي يقال أنه أحب العباسة أخت علية وهارون الرشيد الى الهاوية، ليس العاشق جعفرالبرمكي وحده وإنما كل البرامكة في نكبة اصطلح عليها بنكبة البرامكة! وسيتكرر العشق أيضا بعد قرنين في بلاط سيف الدولة حيث شغف الشاعرالمتنبي (303- 324ه) بأخت ممدوحه خولة، التي سارعت يدُ المنون باختطافها فرثاها عاشقها بقصيدة من أجمل مراثي الشعر العربي وقد كشف المستور في قصيدته:
يا أختَ خيرِ أخٍ يابنتَ خير أبِ – كناية بهما عن أشرف النَّسَبِ
إلى أن يقول بيته الخالد:
طوى الجزيرةَ جاءني خبرٌ – فزعت فيه بآمالي إلى الكذبِ
    ويبدو أن الرسول سعداً حذق المهنة وأدى المَهمّة وأخلص للعاشقيْن، فيمتنُّ منه الشاعر العاشق ابنُ الأحنف ويستزيده الأخبار حين يقول:
وحدثتني يا سًعْدُ عنها فزدتني – جنوناً فزدني من حديثك يا سعدُ
هواها هوىً لم يعرفِ القلبُ غيرَه – فليس له قَبْلٌ وليس له بَعدُ
وهناك بيت يدانيه لمحمود سامي البارودي  قرأته في "فن التقطيع الشعري" للدكتور صفاء خلوصي كشاهد عروضيّ على التصريع بالزيادة في الطويل (مفاعلن إلى مفاعيلن)  قاله البارودي في استقبال سعد زغلول رئيس الوفد المفاوض عند عودته من بريطانيا:
فيا سعدُ حدّثني بأخبار من مضوا – فأنت خبير بالأحاديث يا سعدُ
والبحر والتصريع هونفسه عند بن الأحنف إضافة إلى المعنى!

***
هناك كثير من المشتركات بين الشاعر ابن الأحنف وبين الشاعرة عاتكة وهبي الخزرجي التي جعلَتْها تختاره مادة لدراستها ونيل الدكتوراه ثم تقوم بتحقيق وتمحيص ديوانه، فالشاعرة الدكتورة كانت بمنتهى الأناقة في كل شيء في حديثها وفي شعرها وفي هندامها فقد كانت تصفف شَعرها بعناية بتسريحة فرنسية (ميز اون بليه)، وكانت ملابسها معظمها فرنسية تحسن اختيارها وحريصة على تناسق ألوانها، وكانت لها طريقة الإلقاء الأنيقة يشفع لها صوت موسيقي جميل النبرة تميزه بين مئين الأصوات يشد السامعين أكثر في إلقاء  الشعر، كانت متأدة في كل شيء في إلقائها كما في مشيتها، كانت حازمة.. كنت اراها كل يوم تمر في طريقها إلى موقف السيارات خلف قسم الكيمياء حيث تركن سيارتها، لم تكن الدكتورة جميلة جداً لكنها تحمل كثيراً من معاني الجمال..
سمعتها مراراً تلقي شعرها الصوفي وتتغزل بالذات الإلهية في كثير من اشعارها، كنت كباقي الشباب نتطلع للشواعر أن يبُحن بغزل أو بشيء من العاطفة، كنا نتمنى أن تتغزل هي وغيرها بشخص ما تحبه لنعرف عالم الحب لدى الشاعرة العاشقة فقد شبعنا من بوح الشعراء العشّاق وحفظنا أشعارهم، وشبعنا من الشعراء المتصوفة وعشقهم لله وها هي شاعرتنا تقول من قصيدة "بين يدي الله":
أحبك لو صحّ أن الهوى – تترجمه أحرفٌ او معانْ
أحبك للحبِّ لو أعربت – عن الحبِّ قافيةٌ أو بيان
أخال الهوى فوق ما في اللُّغى – أو أن اللغى دون ما في الْجَنان
أُحبك رباه فوق الهوى – أيا من به كنت والحبُّ كان
أحسُّ به في فؤادي هوىً – يعمّ الورى بين قاص ودان
عرفت بك الحب أنت الهوى – وفيك القصيد ومنك البيان
وأنت الجميل تُحب الجمال – فأنى تجليت كان افتتان
ومن الواضح أن القصيدة – وهي أطول- أقرب إالى المناجاة الدينية أوالصوفية، تتسم بلغة سهلة للغاية ذات عبارات شعرية خالية من التعقيد اللغوي خالية من الخيال شحيحة التصوير البلاغي ولكن تتسم بأناقة واضحة وهي تقترب أو تحاول ان تقترب من الخصائص الشعرية لشاعرها الاثير العباس ابن الأحنف.
لكنها تضاده تمام التضاد وهو الذي لم يمدح أحداً، حين تمتدح الرئيس الدكتاتور السابق بما لا أود أن اذكر ما قالت فيه.. الذكر الطيب للأستاذة الكبيرة والشاعرة الدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي..
رام كم هنغ في 16ك1/ديسمبر 2016



 


46
المنبر الحر / لغة النقد الحداثي
« في: 20:31 09/12/2016  »
لغة النقد الحداثي
خالد جواد شبيل

كان أول موضوع قرأته في النقد هو مقالة كتبها الدكتور علي جواد الطاهر (1911-1996) في بداية الستينات في مجلة "المُعلّم الجديد" بعنوان "النقد سهل!"، ورغم أنني كنت يومها دون سن الحلم، إلا أن موضوعها الذي يحمل عنواناً "متهكماً" وأسلوب كاتبها الذي يجمع بين الجمال وحسن الإيقاع وجزالة وقوة التعبير ووضوح الأفكار قد أثرّ بي وجذبني لقراءة المزيد في هذا الضرب من الأدب. وبعد أن عرّف بالنقد وأهميته وشروطه، وكان من أهمها أن يكون الناقد ذا اطلاع واسع على الأدب وذا ذائقة سليمة مرهفة صقلتها وثقفتها القراءة الواعية لشتى ألوان الأدب وفنونه، وتتعداها الى شتى مجالات النشاط الإنساني لتعمق من سعة ثقافة الناقد الفاعلة.
 نجده من ناحية أخرى يؤكد على الأهمية التربوية للنقد في إشاعة القيم الجمالية وإزاحة القبح، ثم يؤكد على نزاهة الناقد في حكمه على النص، وألا يتأثر بالعلاقات الاجتماعية حتى ليفضل إلا تكون هناك أية علاقة شخصية بين الناقد والمنقود لكي لا ينعكس على الحكم النقدي، وزاد على أهمية أن يكون الناقد ملماً بلغة حيّة ليوسع مداركه ويُثري ثقافته ويواكب مجريات تطور الأدب والثقافة في العالم..
ولا شك أن ذلك كله يتطلب وضوح الرؤية وسلامة اللغة لكي تضمن للناقد الوقوف على لغة النص وتقويمها، كي لا يشيع اللحن ولكي لا يُفسد الذوق اللغوي أوينحرف القول عن غايته.. وبالرغم من أن هذه المقالة مضى عليها أكثر من نصف قرن إلا أنني أجدها تحتفظ بأهمية كبرى لحاجتنا القصوى إليها وإلى أخواتها بل إلى كل ما كتبه أستاذ النقد الراحل الكبير الدكتور علي جواد الطاهر، وزملاؤه الكبار.
***
وفي الحقيقة أن مسألة وضوح اللغة من الناحية السايكولوجية هو تعبير عن وضوح الأفكار وقوة إشعاعها؛ والاضطراب في اللغة هو الآخر يعبر عن اضطراب قائلها او كاتبها؛ بيد أن الغموض الفني الذي يستوقف القارىء ويجذبه ويشده إلى النص ويدفع به إلى استبطانه والوقوف على مكنوناته الفكرية والجمالية يكون محفزاً لتحريك الفهم وإنعام النظر فيه. وتاريخ الأدب يحدّثنا عن المجدد العبقري أبي تمّام الذي خرج عن تقليدية عمود الشعر إلى الغوص في المعاني، ما لم يحتمله معاصروه حتى أنه سئل ذالك السؤال الشهير ثم أجاب بذلك الجواب الأشهر والأبلغ والمُفحم معاً: لِمَ تقول ما لا يُفهَم؟ فأجاب: ولِمَ لا تَفهم ما يُقال؟!
ما أرمي إليه هو لا بدّ من التفريق بين الغموض الفني وبين الإبهام المستغلّق الذي بدأ يشيع ويطالعك أنى يممت ناظريك! وبالمُقابل هناك العبارات الإنشائية والتفخيم اللغوي التقليدي المكرر، وافتعال الخلاف الذي هو أقرب الى الصدى منه الى الصوت الذي يُستخدم لدى بعض الحابين على طريق النقد،  وهو ليس موضوعنا اليوم مؤمِلاً أن أقف عنده في مرة أخرى..
ويلجأ الفيلسوف المتصوف ابن سبعين (614-669ه/1217-1269م) في الكتابة أحياناً إلى استخدام رموز وألغاز، فيصبح كلامه مفككاً غير مسبوك؛ قال قاضي القضاة ابن دقيق العيد (625-702ه): "جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاماً تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته". (ويكيبيديا).
يروي الدكتور علي الوردي (1913-1995) في " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث" في الفصل المتعلق بالشيخ أحمد الإحسائي (1166-1241ه)، أنه سئل من قبل أحد مريديه: متى يظهر الحجة (عج)؟ فقال: يظهر إذا اتصلت باء البينونة بكاف الكينونه، فمن فهِم جازاه الله....!
وفي الخمسينات أصدر بعض المثقفين في مصر بياناً عن "الأدب والثورة" وهو بيان يلزم الأدب بخدمة الثورة والجماهير الكادحة مبشراً وداعياً الى "الواقعية الأشتراكية"! وقد ردّ على البيان الدكتور طه حسين (1889-1973) في كتابه الهام "مستقبل الثقافة في مصر" رامياً المثقفين بالإبهام والغموض، مقتبساً كثيراً من العبارات التي سلط عليها جام غضبه لأنها ترطن ولا تُفصح، والحق أن الدكتور طه حسين كان محقّا بما ناقش ونقد..
ومع بزوغ عصر الحداثة وما بعد الحداثة وما جادت به من اتجاهات نقدية من البنيوية وما بعدها والتفكيكية التي فتحت أبوابها علينا ترجمات لبنانية، وما بشّر به أدباء يحسنون لغات الغرب ولا يحسنون الترجمة في الأعم؛ وإذا نجد بعض نقّادنا وجدوا بها ملاذاً يسمح لهم أن يصولوا ويجولوا فيزيدوا المبهم إبهاماً ويبتدعوا مصطلحات وتراكيب لا دلالة لها ولا معنى.. تماماً بمثل ما وجد الماشون على طريق الشعر حبواً في قصيدة النثر ملاذاً لتتفتق القرائح عن عبارات شعرية لاشعورية لا يبلغ مرامها إلا من أتوا بسلطان علم عظيم! وهكذا خلق هذا النوع من "الشعر" نقده، وهكذا شجّع هذا النوع من "النقد" شعره، فأصبح إبهاماً فوق إبهام. وفي الحقيقة أن هذا الإبهام لا ينفع الطرفين ولا يستفيد منه القارىء ويعرض عنه ويصدّ أيما صدود، لأنه يخدع باللغة ويعطي فهماً أن الشعر الجيد هو جيد بلغته المبهمة وهنا تكون الخديعة! لأجل هذا شاع هذا النوع من النصوص الهابطة حين لقي من يروّج له ويسوّقه..
أحسب أن الانفتاح على ثقافة الغرب والشرق أمر بالغ الأهمية وهو يعنينا شئنا أم أبينا فالمثاقفة هي من سمات عصر ثورة الاتصال بل هي من محصلاتها، فلابدّ من الوقوف على الأهم النافع الذي يغني ثقافتنا ويوّسع من آفاقنا الابداعية، فلم تعد هناك جدران اسمنتية بين الشعوب وثقافاتها..على ألا نغرق سوقنا الثقافية بالمستورد وأن نكون مبدعين في ما يَفِدنا لا مقلدين تقليداً أعمى!
ولكي لا يكون كلامنا مُرسلاً فلا بد من أمثلة، في كتابه " مقالات في النقد الأدبي"، للناقد الأكاديمي الدكتور محمد مصطفى هدّارة (1930-1997)، تعرض في نقده الى ظاهرة الغموض والإبهام، وأخذ عينة من كتاب زميله الناقد الدكتور مصطفي ناصف (1922-2008) " الصورة الأدبية"، التي لا شك ستخدم جوهر موضوعنا ومن أمثلة ما جاء في كتاب ناصف: " إن مذهب امتزاج الذات والموضوع ينبغي أن يتناول بحذر من أجل أن نكون تمييزات معينة، وفي خلال تكوينها نأذن بالتغاضي نها لبعض الأغراض" ثم يقتبس د. هدّارة من موضع آخر من كتاب د.ناصف: " فالتجربة الاساسية متميزة من التأثيرات التي تحاك في أعصابنا وأنفسنا، وإنما هي بصيرة تتم بفضل الخيال، ومن المهم أن نتذكر أن هذه الحركة الخيالية لا يمكن أن تختصر في تأثيرات متعلقة بالجهاز العصبي" أكتفي بهذا، ولي أن أعقب أن سبب هذا الإبهام هو أن النصوص مترجمة ترجمة حرفية الأمر الذي غمرها بغموض أقرب إلى العجمة.
قبل أيام قليلة كنت أقرأ لناقدين نشرا في موقع رصين، مقالتين متقاربتين زماناً ومكانا، وكنت متابعاً الأستاذين الكريمين منذ وقت غير قصير، فأجدهما ينشران ألغازاً وأحاجيَ بلغة مفتعلة مركّبة تركيباً متعسفاً لنصوص هي الأخرى غامضة فيزيدان الغموض غموضاً والإبهام إبهاماً، وينطبق ما قلناه أعلاه عليهما أكثر من غيرهما، من خداع القارىء باللغة واصطناع المصطلحات وإيهام القارىء بأنه هو النقد الذي يحتاج الى مدارك واسعة وذهن ثاقب لفهم الناقد والمنقود، ما يجعل كثيراً من القرّاء يصابون بالخيبة ويشكّون بقدراتهم الذهنية التي لا تقوى على فك طلاسم هذه النصوص، وتلك هي الطامة!
لا أريد أن أذكر أسماءهما ولا عنواني المقالين كي لا أتهم بالشخصنة كما حصل معي ذات مرة حين تناولت مادة في نقد النقد متوجها لكاتب لا أعرف شخصه ولم أذكر حتى اسمه قط.
سأختار عيّنات عشوائية في نقد قصائد وتأويلها سأنقلها على طولها كي لا أتَهَم بالاجتزاء وبتر النص:
  "أن عملية تشكل وتشآكل الشيفرات الإيحائية والإنزياحية في عوالم شعرية (حذفت العنوان/خ) من شأنها أولا وأخيرا خلق حالة من حالات أمكانية المتغير الأسلوبي والدلالي في التعامل مع إطارية النص انطباعيا وقرائيا . لذا فأن جوهر شكل قراءة نصوصه الشعرية يسمح بصورة خاصة من أن نميز لدال جوهرا وشكلا كما تسمح الحالة القرائية لدى الشاعر من أن نميز للمدلول جوهرا وشكلا وبحسب هذه الكيفية المعيارية يمكننا أن نحدد بأن لمفهوم وفكرة قصيدة الشاعر ثمة معادلات تنوعية خاصة تتآلف مع نسيج المعنى الداخلي والخارجي الذي يحث بدوره على إيصال الوظيفة القصدية في أتون الدوال الى أقصى جهات مجموعة الوحدات المركبة في دائرة موضوعة النص".
ودونكم مقتبس آخر للكاتب ذاته في موضع آخر من المقالة:
"ندرج أستعمالي لمفهوم عنونة مقالنا ب (حذفت العنوان/خ) ضمن محاولة أن يستفهم القارىء من خلالها مفهوم النص الغائب وصولا الى الأهتداء بمفهوم اللامنظور في قصيدة الشاعر وهو مالم يتم من طرف الشاعر نفسه من حيز ممارسة إجرائية واضحة المحاور والدلالة في مواطن مسرح محددات دوال نصه وسلوكه . فالنص لدى الشاعر كان في طور الهجرة والانتقال من قصدية معنى ما الى معنى آخر . لذا وجدنا اللامنظور الموضوعي في القصيدة راح يكشف في الوقت نفسه عن دلالة محتمل المنظور نفسه وذلك من خلال صور ووقائع النص الخفية والغرائبية المنصهرة عبر وحدة متلاحمة على نحو أمتداد القصيدة بكاملها . وتتوالى النقاط والتقاطعات بالتشكيل عبر الفضاء النصي وصولا الى الصورة الفنائية التي أخذت تؤكدها هذه المقطعية التي يحتل مدلولها رقعة خاصية الخاص من سننية التحولات في أفق محور المحتمل المنظوري المجلى في أختيارية النص." . 
سأنتقل إلى ناقد آخر وسأقتطف منه ما يعبر عن لغته :
"ان الصورة التخييلية التي تعكس الكثير مما في ما وراء المكان \ داخله وخارجه \ تضفي بشقيها الواقعي، أو التخييلي فضاء صوريا لا يخلو من مقصدية مسبقة انطلاقا من بنية مكانية تكاد أن تكون هي الاهم في العملية الشعرية وما يترشح منها . ان الامكنة الضيقة والمحددة مكانيا اخذت اهتماما كبيرا من الشعراء لأنها – في بعض الاحيان - تعبر عن قلق وجودي (من الوجود) داخلي يعتري الشاعر لحظة الانقياد وراء تصوراته الشعرية او الفكرية وإزاء ما يحيط به ليصل بمنتجه الشعري الى اقصى طاقة تبليغية بواسطة اللغة المكثفة التي يبتدعها. هذا النوع من النزوع الشعري يحاول ان يؤسس لتحول تنقلي نوعي يذهب بالمتلقي من التركيز على حقل بصري او سمعي الى حقل ما بعدي يعتمد فائض الرؤية لبناء القصيدة. ".
ودونكم مقتطف آخر للناقد من المقالة ذاتها:
"ان احتواء الفارزة للغمام هو احتواء معنوي من اجل التواصل الفكري وكأن الشاعر يريد ان يقول لنا كيف نفسر غموض الاشياء بواسطة التوقف اللحظوي الذي تشترطه فوارز الحياة . ان الفارزة – هنا – دلالة عن الاستغناء عن بعض الكلام وتحويله الى احاسيس لا يمكن ان تترجمها الالفاظ الا عبر ما هو رؤيوي . لقد قدم – فلان/خ - نصا شعريا جميلا حلق بنا في سماوات لم تعرفها العصافير . انه نص مموسق طري يمتلك كل ادوات الابداع بمفهومها الحقيقي.".

أحسب أن الناقد الثاني أقل غموضاً وإبهاماً، وأن لغته أفصحت ما شاء لها أن تفصح، لكن المهم أن الناقد تجاوز الغموض في القصيدة حين استطاع و " فسر غموض الأشياء بواسطة التوقف اللحظوي الذي تشترطه فوارز الحياة.". لذلك استطاع بهذا أن يرى في النص: " نصاً شعرياً جميلاً حلق بنا في سماوات لم تعرفها العاصفير". وليتني أملك جناحين لحلّقت أنا الآخر مع العاصافير...
بقي لدي سؤال: لوكان الناقدان الكبيران طه حسين وعلي جواد الطاهر، ترى ماذا سيقولان على هكذا نقد؟!

خالد جواد شبيل
رام كم هنغ في 9ك1/ديسمبر/2016
   
   
 

47
استطراد في جدلية الحياة والموت!
خالد جواد شبيل
في رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" لعبد الرحمن منيف، يعمد الياس البائع الجوّال المتنقل بين قرى الأرياف، على شحن حماره بالبضائع ثم يترك لحماره حرية الانطلاق نحو القرى أي أن مكان البيع يكون وفق مشيئة الحمار لا صاحبه! وهذا ما أعنيه بالاستطراد، هو أن تترك لقلمك القياد..
 وأحسب أن من أكثر الأدباء المستطردين هو طه حسين في سيرته ورحلاته وأحاديثه " من لغو الصيف"  ولك أيها القارىء أن تزيد عليها" من حديث الشعر والنثر" و "حديث الأربعاء" ونقداته الخلاّقة للشعراء التي لا تخلو من عسف وحيف لحق بعض الشعراء مثل كثيّر ووضاح اليمن وقيس بن الملوّح والسيد الحميري .. فتجد طه حسين ما أن يكاد ينتهي من فكرة حتى تعنّ له سانحة جديدة ثم تقوده إلى أخرى تبتعد أو تقترب من سابقتها تماماً كأمواج البحر، وهكذا يتنقل بقارئه في شتى مناحي الحياة ودروبها..وأعزو سبب ذلك إلى الجانب المثودولوجي وخصوصاً المنهج اللاتيني وبالأخص الفرنسي الذي يميل إلى التفاصيل والاستفاضة بها والتكرار ونفش المادة بذلك الأسلوب الخلّاق الذي يجمع بين السلاسة اللغوية والجانب الموسيقي في بناء العبارات الذي عرف به طه حسين بينما بقي كعب أخيل عنده في كتابيه عن المعري " مع أبي العلاء في سجنه" و " في تجديد ذكرى أبي العلاء" والسبب يكمن في ضعف عميد الأدب في الفلسفة(*) وخاصة في شبابه حتى تتهيأ الظروف لعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطىء) أن تعدّل كفتي الميزان وتنصف شيخ المعرة ذلك الإنصاف العلمي في رسالتها المعجبة للدكتوراه!  لقد أخفق كل من أراد تقليد طه حسين في أسلوبه المتميز أو محاكاته، فهو المثال الأجلى في السهل الممتنع.
 على خلاف اللاتيني(**) يكون المنهج الأنكلوسكسوني وتحديداً الإنكليزي (والألماني) الذي يتبنى الدقة والصرامة المعهودة بممثله العربي عباس محمود العقاد، ومن يطالبُني بمثال فدونه بحثه الرائع " ابن الرومي حياته من خلال شعره" الذي أزال عسفاً وحيفاً لحقا بالشاعر العبقري قرونا..وفي كتابه "يسألونك" وغيره الذي يدلل فيه العقاد على ثقافة موسوعية مدهشة، وسأغض الطرف عن سقطاته في كتابه "مذهب ذوي العاهات" أو رواية "سارة"!
في الأول المتوسط حيث يتوثب الذهن ويصفو، جاءنا مدرس خمسيني مبعداً من الشمال حيث كان يشغل منصب مدير للمعارف، لكونه سياسيا، كان طيب الذكر الأستاذ حسين حسن عقراوي يدرسنا العلوم، وكان يبدي نفحات ذكية للطلاب، فمرة سأل سؤال نسمعه لأول مرة وانشغلت به رؤوسنا الغضة: هل البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة؟ لمن الأسبقية، ثم قال هذا هو الجدل البيزنطي أي الجدل الذي لا يؤدي إلى نتيجة؟! أما لماذا بيزنطة فلأنها ذلك الجزء من بلاد الأغريق حيث الجدل أي المماحكة الكلامية، والتي هي حالياً تركيا التي كان يطلق عليها تجاوزاً بلاد الروم، وهكذا حاز الشاعر المتصوف صاحب ديوان "مثنوي" مولانا جلال الدين البلخي لقب الرومي حين جاء يصحبه والده خوفا من السيل المغولي الجارف ليحل في قونية ويدفن فيها ويصبح مزاره مقصد المريدين والمتبركين..

***
كنت على "غير مايرام" طيلة أيام خمسة مضت، لنازلة أصابت عزيزاً عليّ غيّبته، فأخرجتني من وجومي قصيدة مطوَّلة لشاعر متميز أجبرتني أن أعلّق عليها تعليقاً مقتضباً، وبيت شعر من صديق وكلمات تفيض مشاعر طيبة من أصدقاء..
كنت قبل هذا بمدة أطول أردد ما فطرت عليه من اعتقاد قديم ما زال يرافقني فحواه هو أن أول صرخة لمولود رغم تفسيرات فلسفية عديدة منها أنه أجبِر على حياة لم يخترها.. وما إلى ذلك؛  بيد أنني مازلت متمسكاً بحقيقة: هي أن أول صرخة لأي(***) مولود ذكر أو انثى إنْ هي إلا إعلان عن أن صاحبها أصبح مشروع موت في أي لحظة لعمر قد يطول أو يقصر! وكم صدق طَرَفة بن العبد (ت 569م)  في بيته الخالد:
لَعَمْرُكَ إنَّ الموتَ ما أخطَأَ الفَتى – لَكَالطِوَلِ المُرخى وَثِنياهُ باليَدِ
وإذا كان طرفة في قوله هذا ذكّر بالموت الذي يمكن أين يطول أو يقصر قدومه كحبل الناقة المحكم بيد صاحبها أُرخِيَ أو شُدَّ طال أو قصُر، فإنّ زهيراً (ت609م) شاعرّ الحكمة يقول:
رأيتُ المنايا خَبْطَ عشواء من تُصِبْ - تُمتْهُ ومن تُخطِئْ يُعمَّر فيَهرَمِ
وأما لبيد بن ربيعة (ت 41ه) المُعمِّر، فقد قال بيتاً مواسياً، وكان قد دخل الإسلام وأدرك النبين فغدا بيته هذا مثلاً شروداً طالما يترجمه الناس إلى العامية:
وما المالُ والأهلون إلاّ ودائِعٌ – ولا بُدَّ يوماً أنْ تُرَدَ الودائعُ
ومن المؤكد أن لبيد ترجم المأثور القرآني شعراً في قوله الذي اشتركت فيه ثلاث آيات مع اختلاف السياقات:" فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ" الأعراف34/ النحل 61/يونس 49.

والأبيات التي تصور الموت مترصداً الإنسان فهو حكم المنية كما قال أبو الحسن علي التهامي (ت416ه) في رائيته الرقيقة:
حكمُ المنيةِ في البريةِ جارِ – ما هذه الدنيا بدار قرارِ
إلى أن يقول ذامّاً الزمان:
ليس الزمانُ وإن حرصتَ مُسالِماً – خُلقَ الزمانُ عداوةُ الأحرارِ
يا كوكباً ما كان أقصرً عمره – وكذاك عمرُ كواكبِ الأسحارِ
وترى الجوانب الفلسفية عموماً في الشعر العربي فطرية بسيطة بساطة الصحراء واضحة وضوحها، وكانت فلسفة الموت مع دخول الإسلام أصبحت تعتبر الموت قضاء خاضعاً لإرادة الله ولا يقبل نقاشاً كما رأينا، وبذلك خبت جذوة الرؤية الفلسفية لتصبح رؤية دينية كما تذل على ذلك قصائد الرثاء؛ لكن لأبي ذؤيب نظرة فلسفية تشكل امتداداً لسابقيه من أن المنايا رُصَّد ترمي فتُصيب، يقول أبو ذؤيب الهذلي (ت 27ه) يرثي أولاده الخمسة الذين أتى عليهم الطاعون:
أمِن المَنونِ وريبِها تَتوجعُ – والدهرُ ليس بمُعتبٍ من يجزَعُ
قـالَت أُمَيمَةُ ما لِجِسمِكَ شاحِباً - مُـنذُ اِبـتَذَلتَ وَمِثلُ مالِكَ يَنفَعُ
ولقد حرَصت بأن أدافع عنهم – فإذا المنيةُ أقبلت لا تُدفَعُ
إن أن يقول بيته الشهير:
وإذا المنيةُ أنشبت أظفارها – ألفيتَ كل تميمةٍ لا تنفَعُ

بيد أن أبا العلاء المعري (ت 449ه) فقد كان كارهاً دنياه، متشائماً إلى أعلى درجة من التشاؤم، حتى أن موته كان أقرب إلى الانتحار، حين رفض الدواء والطعام والشراب وهو القائل بصراحة ما بعدها صراحة:
فيا موتُ زُرْ إن الحياةَ ذميمةٌ – ويا نفسُ جِدّي إنَّ دهرَك هازِلُ
ولِمَ الغرابة أليس هو القائل:
إن حزناً في ساعة الموتِ أضعا – فُ سرورٍ في ساعةِ الميلادِ
 فإن شاعراً آخر هو أبو العتاهية (ت 213ه)، يفكر بعالم ما بعد الموت فيتساءل:
الموتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ – فليتَ شِعريَ بعْدَ الموتِ ما الدَّارُ؟
وفي الحقيقة لا يهمّني ما بعد الموت قط، ولا أخاف الموتَ قط، وإنما أخشى البوّابات والمسالك المُفضية إلى الموت، من أمراض أو علل تجعل صاحبها مقعداً أو معذَّباً أو مستطيعاً بغيره وهذا أضعفُ الإيمان!!
-----------------
(*) لم يتناول الدكتور طه حسين الفلسفات المزدهرة في عصره وفي فرنسا تحديداً كالماركسية أو الوجودية إطلاقاً، ويذكرالروائي نجيب محفوظ أنه عندما تقدم للدراسة في قسم الفلسفة في جامعة القاهرة كان في لجنة المقابلة الدكتور طه حسين الذي سأله لماذا تدرس الفلسفة ويقول محفوظ أنه عندما طفقت بالجواب: إن الفلسفة هي محاولة لفهم ما وراء الأفكار والمفاهيم التي تواجهنا في حياتنا من أجل تطوير معرفتنا للحياة.. يقول قاطعني الدكتور قائلاً: إنك تصلح للفلسفة لأنك تتكلم كلاماً غامضاً غير مفهوم!
(**) أرى إن للطبيعة والمناخ تأثير كبير فاللاتينيون هم في حوض البحر المتوسط كالإيطاليين والفرنسيين والإسبان.. بينما الانكلوسكسون في شمال أوربا مثل اسكندنافيا وألمانيا وانكلترا وهولندا .. لذا تجد اللاتينيية منفتحين ثرثارين عكس الشماليين! ويلحظ الإنسان ذلك في المترو الصامت في ستوكهولم والصاخب في باريس!
(***) بكاء المولود يرجع إلى سبب بيولوجي حيث يستشعر الهواء البارد الذي يدخل رأتيه لأول مرة ويملأ الحواصل الرئوية ويحرك الأهداب القصبية فيسبب ألماً لم يعتده في رحم أمه الدافىء! رام كم هنغ
رام كم هنغ
22ت2/نوفمبر 2016


48


الشاعر المغربي أحمد لوغليمي وزهرة الأرطانسيا
خالد جواد شبيل

قبل عام ونيّف كتبت سلسلة مقالات " من الساكورا الى الهايكو .." وكنت قد خصصت الحلقة الثالثة عن تجربة الهايكو لدى الشعراء العرب ابتداءً من جذورها في الستينات، كتجارب خجلى فردية الى ما وصلت إليه الآن من شيوع وانتشار بين تجارب الشعراء الذين مدّونا بفيض من تجاربهم المتفاوتة وفقاً للفروق الفردية والتجارب الشخصية لهم، ولاحظت زحف قصائد الهايكو على قصيدة النثر، وزدت أن عدداً من "شعراء النثر" قد يمم وجهه نحو الهايكو، ووجدت بعضاً آخر قد اقتحم عالم الهايكو الشعري ممارسة و ترجمة ومن الصنف الأخير هو الشاعر المغربي أحمد لوغليمي..
.. 
ويومها حسبت أن الشاعر لوغليمي في عقده السادس أو السابع، وذلك لنضج تجربته الشعرية، ولتعدد نشاطه الكتابي شعراً وترجمة، ونشره في أمهات المجلات الثقافية الأوربية، وكذلك العربية!
ولد الشاعر أحمد لوغليمي عام 1971 في مدينة بني ملال التي تتوسط المغرب على حافة جبال الأطلس، ولا شك أن هذه المدينة الحديثة الجميلة باخضرارها وبساتينها وحدائقها ومساقط مياهها واعتدال مناخها ونقاوة هوائها، وطيبة ناسها قد فعلت فعلها في خاطر شاعرنا لوغليمي وأرهفت أحاسيسه وشحذت ذائقته الجمالية، فأصبح متلقياً لجمال العربية ومجيداً اللغة الفرنسية (هو مزدوج اللغة) حيث ستتسع دائرة أفكاره ونظرته الجماليه من محمول هاتين اللغتين..فيذهب إلى إيطاليا ليمارس نشاطه الثقافي وليتعلم الإيطالية ويشتغل بالترجمة مترجماً من وإلى: الفرنسية والإسبانية والإيطالية ناهيك عن لغته الأم العربية..
ترجم ترجمات لأعمال أدبية هامة منها "حرير" و" عازف البيانو" للروائي الإيطالي الساندرو باريكو المولود عام 1958 في مدينة تورينو (الأولى ترجمها أيضاً فوّاز طرابلسي).. ترجم مجموعة من الهايكو الياباني، وهذه المجموعة الشعرية " رسائل حب إلى زهرة الأرطانسيا" الاولى له، صدرت عن دار "الغاوون" البيروتية عام 2010 ب 144 صفحة، مع تصميم معبر يعكس بحذاقة محتوى هذه المجموعة، للفنانة مايا سالم. باختصار أن لوغليمي له قدم في الشعر الأوربي وقدم ثانية في الشعر الياباني والقدم الثالثة هي الأفعل وهي ممتدة جذورها سابرة أعماق الأدب العرب، وآخر نشاط له هو مساهمة في لقاء المغرب "موكب الهايكو" في تموز الفارط.   
ولا بأس أن أقتطف مما كتبت عنه في " من الساكورا ..إلى الهايكو العراقي|" في الحلقة الثالثة؛ وقد وعدت أن أتوقف معه وقفة خاصة:
 "الشاعر المغربي أحمد لوغليمي هو الأكثر تميزاً وهو من القلائل الذين خصصوا ديوانا لشعر الهايكو، والهايكو عنده لا يكون مجرد اسم بل هو الأكثر مقاربة من بين زملائه للياباني لدرجة أن مفردات الطبيعة اليابانية حاضرة في شعرها لاسيّما زهورها، وما يؤكد زعمنا هو أن ديوانه الصادر من دار غاوون في بيروت موسوم ب " رسائل حب الى زهرة الأرطانسيا" وزهرة الأرطانسيا Hortensia flower(حرف الهاء لا يُلفظ بالفرنسية) هي زهرة مركبة متعددة الألوان بالأزرق والوردي والأبيض منتشرة في اليابان وكوريا والصين جنوباً إلى إندونيسيا . تتسم أشعاره أيضا بالجودة وحسن الصقل والإحكام معنىً ومبنىً وهاكم بعضاً من ديوانه الذي احتوى على مائةِ وثمانٍ وعشرين مقطعِيَّة من الهايكو:
 استحياء:
لشدّة الأزهار
عدلتُ عن
عبور الغابة.

قمر البركة:
القمر في البركة
تبعثره
 ضفدعة.

غفلة:
نطراتي
 تُدهش شقائقَ النعمان
 في طريقها إلى الكرز.

وما يلفت نظر القاريء أن الشاعر أحمد لوغليمي حرص على وضع عنوانات لكل مقطعية هايكو وبذلك سيسهل على القاريء الدخول الى فحوى النص واستبطان المعنى.
ومن خلال اطلاعي على معظم الشعراء الذين اشتغلوا بترجمة الهايكو ومارسوه بلغتهم الأصلية قد ظهر "التناص" واضحاً بشكل أو آخر، وقد شاب هذا المفهوم كثير من النظرة السطحية حيث اقترن بالأذهان بالمقابسة والتضمين.. وأحسب أن التناص وإن قارب المعنيين السابقين إلا أنه يتميز بالموضوعية و التداخل والتفاعل بين شتى الأنظمة الأدبية بدون قصدية أو انتقائية، حتى أنه يمكنني الزعم بأن لا نص بدون تناص!
امتاز الشاعر أحمد لوغليمي، بأنه يطرح الهايكو بانسيابية ولغة شفيفة ولكنها تبدو لي كبحيرة صافية تسبب لقارئها توهماً في عمقها لتقارب القاع مع السطح، وبذلك يبدو الهايكو عنده مُركباً، بسياق ظاهر جميل يثير المتعة في مساقه الموسيقي الكامن في عذوبة الألفاظ وحسن مؤداها، وكذلك من ناحية المعنى غير المرئي الذي يتطلب اختراق المعنى واستبطانه:
طائر الطنّان:
متأملاً طائر الطنّان،
الواقف في الفراغ
 أتعثر!
وهذا الطائر يحرك جناحيه بمئات الذبذبات في الثانية، فينبعث صوت الطنين، وبهذه الحركات يبدو معلقاً قرب الأزهار يمد نحوها منقاره الطويل ليمتص الرحيق.. لاشك أن منظره سيربك الرائي إن لم يُسقطه!!
عدوى:
أمن شدّة الخردل
تشحبين،
آشجرة الميموزا؟!
هي شجرة بقلية أفرو- آسيوية لها زهور صفراء جميلة ولها أشواك، هي الأكاسيا نفسها إن شئت، ما هذه المفارقة بينهما وإن كان اللون واحداً، بينا لون الخردل حرّيف في طعمه وحاد في رائحته!
حلم باذخ:
أوه... ثمرة العلّيق،
تحلمين كثيراً بالحُمرة،
حتى تسودّين!
أهو الطمع المفرط! صوّر لنا الشاعر المرأة التي خدعتها المرآة بثمرة الفراوله التي لا تني تزداد حمرة وبهاء وحلاوة.. بانتظار فتى أحلام  أسطوري لا يأتي حتى يُذهب الزمن نضارتها!!
بلاهة:
قيضٌ
فزّاعة
ترتدي معطفاً
هناك قول من المأثور العربي يضاهيه أو يضاده والنتيجة واحدة: في الصيف ضيعت اللبن!! إنها المفارقات الحياتية ولا شك!
 سأمرّ سريعا على مقطعيات متنوعة حتى نعطي فكرة جلية عن هايكو الشاعر أحمد لوغليمي:
نجمة سينما:
أمزع عنها قبّعتها،
كنجمة سينما
زهرة الأوكالبتوس
------
حيرة:
أيتها الفراشة،
التائهة في موسم محل
كيف أصنع لك زهرة؟
-----
حياة:
أناسٌ يموتون
أناس يولدون
زهرة الربيع يانعة!
-----
استئناس:
عزلة عميقة
أدنو من شجرة البرتقال المُزهرة،
حيث تدندن نحلات.
------
استيقاظ:
جُلّنار.. جلنار
يستيقظ الرّمان
في صباح الشجرة
----
صداقة 1:
عنّي بشوكك،
أيها الورد،
أنا صديق.
----
صداقة 2:
أسرق من أمامها سنبلةً،
لاتقول شيئاً،
الفزاعة.
-----
في حقل يقطين:
في حقل يقطين،
رأس الفزّاعة،
 يقطينة!
----
لو:
لو أني بلّوطة،
لولدت، بقبعة!
أحسب أنني وأنا أقرأ متأملا فن الهايكو لدى الشاعر المغربي المبدع أحمد لوغليمي، وكأنني أقرأ أنطولوجيا شعر الهايكو الياباني وأن أساطين الشعراء اليابانيين حاضرون: باشو، بوسون،  ميستو، كيوشي، سوسيكي جوشو... بل أراني أجد الأخيرين يابانيين قلبا وروحاً.. وذلك للدفق الطبيعي وللمفردات التي عمر بها الهايكو الياباني، ولحسن التلميح والقدرة الكبيرة على شدّ القارىء الفطن وشحذه وإشغاله بالتأويل والتأمل... سؤال لشاعرنا الجميل أما كان لعناصر الطبيعة المغربية الساحرة بمفرداتها وفصولها ومعانيها أن تثري الهايكو لديك لنلمس روحاً مغربيا عبقاً؟.. تحية لك.
رام كم هنغ
16 ت1/اوكتوبر 2016




49
من وحي الأكروبول
(2/2)
خالد جواد شبيل

أينَ يا أطلالُ جُندُ الغالبِ – أين آمونُ وصوتُ الراهبِ؟
   شاعر الكرنك أحمد فتحي   
ها نحن نغذّ الخُطى صُعُداً ولامَحيد ولا مِناص من الهمّة والمغالبة والنشاط! أشجّعها وتشجعني وشمس اليونان قوية وضرورية لإنضاج الكروم والزيتون، وعندما أتأمل هذا البلد العريق أخال كل شيء فيه خُلِق من عنب وزيتون حتى حِسان اليونان الجميلات!.. يداً بيد مع الشاعرة وئام ملا سلمان، وكُلّما انتابنا تعبٌ نستظل أشجارَ الزيتون التي طالما منحت أغصانَها أكاليلَ لأبطال اليونان الفائزين في ميادين الألعاب الأولمبية أو للمحاربين المنتصرين! بدأنا نرتفع على سفح الأكروبول وبدأت الأطلال تلوح هنا سجن سقراط وهنا المسرح، وكلما ارتفعنا بدت أثينا جميلة وادعة وبدا البحر يلوح بزرقته البعيدة الشاحبة شيئاً فشيّا..
والأكروبول أو الأكروبولس تعني المدينة العالية ( وبولس التي دائما ماتكون لاحقة لأسماء المدن القديمة تعني مدينة مثل تريبولي أو طرابلس...) والحقيقة كان الأغريق يعمدون لبناء حصون في المرتفعات مشرفة على المواني القديمة لأسباب دفاعية فلكل مدينة أكروبوليسها لكن إذا ذكرت مُعَرّفة " الأكروبول" فالمقصود بها أكروبوليس أثينا. يعتقد أن التل هذا كان مقطوناً حتى الألفية الثالثة قبل الميلاد، لكن المباني التي مازالت شامخة فيه مثل البارثينون والبوبيلايا والأرخثيون ومعبد أثينا (نايك) ترجع الى القرن الخامس قبل الميلاد.

وكلما وقفت أمام طلل بال تنتابك الخواطر وتذهب بك بعيداً بعيدا وكم تتمنى لو تنطق هذه الأحجار لتُريَنا أين شجرة أكاديموس، وأين الأروقة والرواقيون، وأين ألمشاؤون، وأين حُوكِم سقراط "مفسد الشباب"؟ وهل تجرّع السُّم طواعية من كأس أم لدغه ثعبان قاتل؟ وتتكر الأين حتى تتذكر البيت العميق للشاعر الرومانسي أحمد فتحي أعلاه الذي هو الآخر يبدأ بها...
" الفكر اليوناني هو مرحلة الطفولة في نمو الفكر الإنساني" مأروع وما أصدق وما أعمق قولة كارل ماركس هذه! الطفولة هي سؤال جريء يؤدي إلى سؤال عن الخلق وعن مجيء الإنسان، عن الولادة والحياة والموت، هي تصورات لخيال خصب جميل .. وما الفلسفة وفن الجدل إلا سؤال؟!
كان أول مشهد هام هو مسرح ديونيسوس العظيم ورغم تآكله إلا أنه مازال محتفظاً بملامحه وأقسامه الثلاثة، قسم الإعداد والاكسسوار ثم الحلبة ومدرجات الجهور المتفرج، كان المسرح اليوناني يعتمد على الملابس العريضة التي تكبر حجم الممثل الذي لا يعتمد على حركات الوجه بل يغطيه بأقنعة وإنما على الحركة والصوت التي تشاهد ويسمع من قبل الجمهور، وكذلك اعتمد على فن الإلقاء والقدرة الخطابية وإنشاد الشعر والغناء والموسيقى وهي عناصر هامة للمسرح الملحمي! ويُعد المسرح الإغريقى هو والد المسرح العالمي بحق..

 
مسرح ديونيسوس/ الأكروبول وتبد في الصورة الشاعرة وئام ملا سلمان

كان الازدحام على أشده حيث لم تتسع مدرجات الصعود للمجاميع السياحية التي تتجمع حول الأدلاء، أضطررت أن أخرج عن الممر، كانت الصخور مرمرية (كاربونات الكالسيوم الصقيلة) ملساء واصلت الصعود هنيهة ثم انرلقت قدمي وكدت أنكفأ على وجهي لولا يدٌ قوية أمسكت بيدي ورفعتني رفعاً، ولولا هذا الرجل الكهل القوي الذي أقال عثرتي لاصبحت كسيرا!
هذا هو معبد بارثينون وهو أكبر البنايات وأظهرها في الصور التي تصور الأكربول، من الصعب وصف كل البنايات التي أصابها الكثير من التصدع بسبب الحروب وأكثر حرب أصابتها هي الحرب التي حمي وطيسها بين المهاجمين الفينيسيين والعثمانيين عام 1684 واستمرت لخمسة عشر عاماً فقد استخدِم البارثينون مخزناً للعتاد (البارود) لذا قصف بالمدفعية ذات الكرات الثقيلة .. وما زالت الإصلاحات سائرة لإصلاح ما خرّبته الحروب وما أفسده الدهر! لم يكن بوسعنا الوقوف على كل المباني فشمس الظهيرة قوية والازدحام شديد ومغادرة المكان تصبح ضرورة وهكذا آثرنا العافية ونزلنا بسلام!


بلوغ الأكروبول

أجمل ما يمكن مشاهدته هو استخدام الحافلات السياحية المجهزة بتسجيل يشرح الأماكن باللغات الحية ومنها العربية، وبأسعار معقولة، والأسعار تعتمد على الخطوط السياحية المختار، اخترنا الخط الأحمر والأزرق ليومين، وهكذا زرنا المواقع الهامة وخاصة الميناء والبرلمان في سينداغو، وحديقة البرلمان الجميلة.. أما الميناء فهو جميل للغاية وأحسبه هو ميناء مثالي بمصدات طبيعية تمنع التيارات الموجية العالية.. ولمّا كان التسجيل العربي موكلاً لسيدة مصرية حطّمت أضلع اللغة تحطيما، فضلت سماع الموسيقى اليونانية الجميلة..
كنا قد تجولنا مشياً على الأقدام وخاصة في شارع أثينا من ساحة أومونيا فالأسواق، ثم إلى ساحة مينستراكي الشهيرة، حيث المطاعم والمشارب والمقاهي.. أما شارع فينزيلو المفضي الى سينداغو ففيه المكتبة الوطنية والجامعة والأكاديمية وهي بنايات مستوحاة من العمارة الأغريقية..
اليونانيون اجتماعيون حين التكلم معهم ويبدون أكثر انفتاحاً حين يعرفون أنك سائح وليس لاجيء وبذلك كان سؤالي الذي وجّه للمتعلمين والمتعلمات ( اليونانيات أكثر انفتاحاً من الرجال) هو: لو قدم لكم نصّا باللغة الإغريقية القديمة لأرسطو أو من الألياذة كم ستفهمون منه؟ كلً من سألت أجاب بجواب واحد: لا نكاد نفهم شيئاً وبعض قال لا نفهم شيئاً رغم استطاعتنا تهجي النص!!ثم يقولون يفهمها الذين اختصوا باللغة اليونانية القديمة التي مرّت بعدة مراحل أهمها العصر الهيليني القرن الرابع قبل الميلاد وعصر البلاطمة! ما هو نصيبكم من الفلسفة والميثولوجيا الأغريقية؟ تفاوت الجواب بعضهم يقول نعم لدينا إلمام بهذا بشكل بسيط من خلا الترجمة إلى اليونانية الحديثة التي درسناها في المدارس وبعضهم قال نعم نعرف الشيء الكثير! و عندما سألت ببراءة -لا تخلو من خبث بسيط – محاولا معرفة نصيبهم من المثولوجيا: من هي ميدوزا Medusa؟ كان الجواب في "معظم" الحلات صحيحاً، هي امرأة مجنحة قبيحة الوجه لها نابا افعى شعرها من الأفاعي، عيناها واسعتان إذا التقتا بعيني إنسان تجمد بالحال وتحول إلى حجر! فتمنيتها لذاك الشاعر القديم الذي قال:
ما أطيبَ العيش  لو أن الفتى حجرٌ – تنبو الحوادثُ عنه وهو ملمومُ
أجمل ما في اليونان مقاهي الأرصفة وتناول الفطور فيها ومشاهدة الناس في الصباح  كل أمسك بفطيرة جبن وكوب قهوة وراح يقضم بها في طريقه إلى العمل، وأمسيات اليونان تشبه الى حد بعيد أمسيات بغداد النواسية حيث حليب السباع مع فستق وجبن أبيض وزيتون وأشياء أخرى..وأتعس ما في اليونان هو بائعات الهوى اللاتي في معظمهن غير يونانيات يجبن الشوارع ليل نهار! وعندما سألت عن السبب عرفت أن البغاء في اليونان مرخص على خلاف معظم دول الاتحاد الأوربي!!
ولا أنسى ذلك الصباح حين استيقضنا على أصوات نسائية عراقية وسورية ومن دول اخرى، أطللنا من الشرفة حيث ينتظرون دورهم للدخول الى مكتب كنسي يوزع عليهم أسبوعياً بعض المال والطعام والملابس المستعملة، للتخفيف عنهم!!
رام كم هنغ 10 ت1 /اكتوبر2016 


50
من وحي الأكروبول
(1/2)
خالد جواد شبيل
عندما أكمل طه حسين (1989-1973) دراسته في فرنسا، قفل راجعاً الى مصر مُرّحبَّاً به في الوسط الجامعي والأدبي في القاهرة بعد أن نال الدكتوراه العالمية من أعلى المنابر الأكاديمية الفرنسية، وسرعان ما رُسِّم أستاذاً في كلية الآداب من الجامعة المصرية التي كانت يومئذ أهلية. وهكذا تحمّس الدكتور الشاب الذي عاد مرتدياً الملابس الإفرنجية وخلع زي الأزهر التقليدي دون رجعة، ولا بد أن الأمر يتعدى الجانب الهندامي لرائد التغريب، فقد أراد أن يُفيد من المنهج العلمي الحديث الذي سيكون بديلاً عمّا عاناه من مناهج الأزهر التقليدية الثقيلة المحافظة! بل سيكشف عن ثورة تعتمل في داخله سيفجرها في بحثه الموسوم " في الشعر الجاهلي"!
ويذكر الدكتور في "أيامه" أنه كُلِّف عام 1919 بتدريس التاريخ اليوناني والروماني وابتدأ بالإغريقي تاريخاً وآداباً، ووضع مفردات المنهج، وحيث أن لموقع اليونان وجغرافيته القِدْحُ المُعلَّى في تكوين أساطير هذه البلاد وثقافتها وفلسفتها، فلا بدّ من شرح جغرافية اليونان على خريطة تبين تضاريسها وحدودها وجزرها وموقع جبل الأولمب الأعلى طرّاً فيها ومدن أثينا وتوأمها اللدود سبارطة .....الخ.
 ومن يلقِ نظرة على خريطة اليونان وهي نفسها خريطة الإغريق التي لم تتغير جوهرياً سيدركْ مدى صعوبة المهمة فهي بلاد التعرجات  الساحلية المحفوفة بجزر صغَر منها ما صغر وكبَر منها ما كبر متناثرة في بحر إيجة والتي تشكل حضوراً في الأساطير والمعارك والأدب الملحمي والفلسفي الذي وصل منه إلينا ماوصل وشكّل عنصراً من عناصر فلسفتنا العربية الإسلامية وثقافتنا وطبّنا التقليدي وحتى في قراءة الأبراج والطوالع التي تزدهر في أيامنا هذه وتقدمها وجوه ناعمة في كثير من الفضائيات!!
كان الدكتور طه حسين قلق الوساد من شرح جغرافية هذه  البلاد، حتى بادر "الصوت العذب" سوزان حسين في عمل مجسم من ورق المقوى رسمت عليه الخارطة المعقدة بكل تلافيفها وتضاريسها وجزرها .. وأخذت بيد زوجها الكفيف المرتعشة توجساً وراحت الأيدي تجوس الحدود والتضاريس والجُزر.. هذا هو جبل الأولمب وهذه أثينا وهذه اسبرطة وهذه كريتا وهذه قبرص... فانتقلت اليونان جغرافية وتاريخاً الى ذهنه الوقاد وترسّخت فيه وألقى الدرس على زوجته وأعاد حتى اطمأنت نفسها قبل نفسه أنه أصبح مكيناً في إلقاء الدرس.. والقى الأستاذ على طلبة جغرافية اليونان فأبدع أيما إبداع وأدهش مستمعية وكان راضياً عن نفسه كل الرضا..
لقد أوحت هذه الدروس لطه حسين الى تأليف كتابين هامين عن اليونان ألا وهما " من أدب التمثيل اليوناني" و "نظام الأثينيين"، وبذلك كان الرائد في ما كتب عن أدب اليونان، لاعتقاده: أنْ لا يمكن للمرء أن يكون مثقفاً ما لم يُلمَّ بأدب وفلسفة وحضارة وتاريخ وميثولوجيا بلاد الإغريق! ولأجل هذا شجّع تلميذه النجيب " دُريني خشبة" ( 1903-1965) أن يترجم الميثلوجيا اليونانية متمثلة في ملحمتي الشاعر هوميروس "الإلياذة" و"الأوديسة" كأحسن ما تكون الترجمة وهناك من بالغ واعتبرها قد فاقت النصوص الأصلية! 
***
أول مرة وطأت فيها قدماي أرض بلد أجنبي هي بلاد اليونان وما زلت أذكر التاريخ 3ت1/أوكتوبر1970، يومها كان مطار أثينا صغيراً جداً والمدرجات  مداها بين البحر والجبل ضيّق أيما ضِيق؛ لقد تغيرت هذه البلاد المشكوك في أوربيتها من ناحية التاريخ والثقافة خلاف الجغرافية التي ظلت دهوراً مقسومة بين الأناضول وعاصمته الساحلية طروادة واسبرطة الأوربية! وكم من معاركَ خلّدتها الملاحم اليونانية واقعاً بسبب التنافس بين الدويلات والأقاليم من أجل السيطرة على الممرات المائية والطرق التجارية؛ وأسطورياً كما في الألياذة التي تحكي أحداث حرب طروادة – اسبرطة، حين تم اختطاف الأميرة هيلين الجميلة زوجة منيلاوس ملك اسبرطة من قبل ابن ملك طروادة الأمير باريس؛ وقد قاد أغاممنون أخو منيلاوس حرباً شعواء لاسترجاع الاميرة، واستمرت الحرب عواناً أربعة وخمسين يوماً تتوزع على اربعة وعشرين فصلا...في قسمها الأول الذي احتوته الألياذة و تعني حرفياً "حرب اليوم"..والتي انتهت بمصرع قائد طروادة هيكتور على يد البطل المقاتل الاسبارطي إيخيل..
لتبدأ "الاوديسة"؛ وبطلها المحوري المقاتل البطل عوليس صاحب فكرة حصان طروادة، الذي جهّز جيشا من المقاتلين وعبر البحر وترك زوجته بانتطاره لعشر سنين لاقى فيها من الويلات بسبب غضب إله البحر بوسيدون وتخاذل القوة البحرية فتفرق الشمل ورجع المقاتلون ووجد عوليس زوجته المخلصة بانتظاره وقد رفضت الزواج من عديد من الأبطال الأشداء فيرجعُ زوجها لها وينتقم من كل مضطهديها!...
****
لم يعد مطار أثينا ذلك المطار الضيق، بل هو واسع كبير حديث مرتبط بشبكة مترو متطورة ذات قُطٌر حديثة توصلك الى مركز أثينا بأربعين دقيقة! وربطت المدينةَ وضواحيها شبكةُ مواصلات بالحافلات والترام إضافة لشبكة تحت الأرض، وقد توسعت أثينا وتجد حركة البناء جارية على قدم وساق بما في ذلك حصن الأكروبول.. بيد أن أثينا لم تواكب هذا التوسع بالنسبة للخدمات خصوصاً من ناحية النظافة وتنظيم المرور، وبدت مزدحمة بالناس من أهل البلاد ومن الوافدين اليها لاسيّما اللاجئون الذين تقطّعت بهم السبُل في هذه المدينة التاريخية المهيبة؛ إذ يشكل السوريون والعراقيون نسبة عالية - عرباً وكرداً- وافغانُ وهنودٌ وأفارقة.. وبذلك تجد محلات بيع المواد الغذائية والمطاعم عربية، عراقية وسورية ومصرية، وستجد مطعم النارالازلية باباكَركَر يوفّر وجبات عراقية جيدة ...
وبانضمام اليونان للوحدة الأوربية ذهبت عملتها الوطنية التي بقيت متداولة دهراً وأعني بها "الدراهما" والتي منها جاءت تسمية الدرهم (وكذلك ديناريوس)، لتحل محلها الأورو قسيمة معظم دول الوحدة الأوربية. ولم يحلّ انتماؤها هذا أزماتها الاقتصادية ومديونيتها للغرب، كم بقي مؤشر البطالة مرتفعاً؛ ولوجود الأجانب بشتى الصفات ثقل إضافي يرهق كاهل الاقتصاد، حيث يزاحم اللاجئون اليدَ العاملة اليونانية، حتى أصبح الماشي في الشوارع والأسواق يسمع مختلف اللغات، كما أن ارتفاع الاسعار والتضخم أصبحت سمات ملازمة للاقتصاد اليوناني؛ على أن السياحة مازالت تجذب الأجانب من الغربيين مما يخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية فقد نمت في السنتين الأخيرتين على حساب السياحة التركية والمصرية! حتى أصبح من الصعب الحصول على فندق مالم يكون الحجز مسبّقا!
 
متحف الأكروبول
لقد بدأت الحداثة تزحف على الأصالة وبدأت الوجبات السريعة تنتشر لتنافس الأطباق اليونانية، وأكثر من هذا ظهرفي المعالم المعمارية الحديثة التي لم تستوح المدرسة الاغريقية ذات الأعمدة والمحمولات الهندسية التي عبّرت عنها الأوابد الأغريقة كما في الأكروبول، حتى أن متحف الأكربول الذي صممه المعماري السويسري رائد الاتجاه التفكيكي برنار جومي (1944-) ودُشن عام 2009 لم يكن امتداداً للتقليد المعماري الاغريقي ولم يكن حتى مستوحىً منه بل متعارض معه كل التعارض وقد لاقى اعتراضا كبيراً من قبل المعماريين اليونانيين حتى أن حملة معارضة واسعة قادها عالم الرياضيات اليوناني نيكوس سالينغاروس زاعماً أنها إساءة للتراث اليوناني! وفضلوا عليه ذالك المتحف الصغير القديم القابع في الزاوية الجنوبية الشرقية من الأكروبولس والذي الغي عام 2007..
احتوى هذا المتحف على مجموعة هائلة من التماثيل الحجرية والبرونزية التي عُثر عليها في الأكروبول وخاصة في معبد برثينون، وكذلك من خلال الحفريات على سفوح الجبل.. وما زالت الحكومة اليونانية تطالب بإلحاح باسترجاع مكنوناتها ومجسماتها التي استودعت في المتحف البريطاني وكذلك في اللوفر ..

للموضوع صلة
رام كم هنغ 6/ت1/ 20016

 

     

51
المنبر الحر / كوريا رحلة ودرس (4)
« في: 19:44 02/08/2016  »
كوريا رحلة ودرس
(4)

خالد جواد شبيل

وطولُ مُقام المرءِ في الحيِّ مُخلَقٌ     –     لديباجتيه فاغتربْ تتجددِ
فإني رأيتُ الشمس زِيدت مَحبّةً – إلى الناسِ أنْ ليست عليهم بسرمدِ
 وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي يريد ببيتيه- الطويل- أن يحبذ السفر إلى الناس، فهو لا يريد أن يطرق معنىً متداولاً عن فائدة السفر الذي يغني عن الكتب، بل وهو المبتكر للمعاني يريد أنك باغترابك سيشتاق إليك أصدقاؤك ومحبوك، كما الشمس التي تغيب أو تحجبها الغيوم والسحب فيفرح الناس بشروقها وانبلاجها وقد قالت العرب: زُر غَبّاً تزدد حُبّاً.. ولكن أبا تمام لا يُخبر عن شوق المغترب إلى دياره وأهله في هذين البيتين لعل حجته تكمن في بيتين  آخرين –الكامل- افُتُتِن بهما الناس وما زالا يترددان على الشفاه:
نقّل فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى – ما الحبُّ إلا للحبيب الأولِ
كم منزِلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى    –   وحنينُه أبداً لأول مَنزلِ
وأبو أبو تمام هو أول من خرج على عمود الشعر وشق عصا الطاعة وجعل القصيدة ذات وحدة موضوعية متماسكة مبنىً ومعنى، ولم تأته المعاني عفو خاطر وإنْ جاءته وقبِلها سيزوِّقُها بالبيان والبديع وما إلى ذلك من المُحسنات اللفظية جناساً وطباقاً، ما يعسّر الفهم على سامعيه أحيانا...وهو يبدأ بالمعاني بلا مقدمات بل يدخل في معمعمة المعاني منذ الاستهلالات وتستمر حتى الخواتم ولا أدلّ على ذلك من قصيدته البسيطية  في واقعة عمّورية ذات المطلع الصارخ:
السيفُ أصدقُ إنباءً من الكُتُبِ – في حَدّه الحَدُ بين الْجِدِّ واللَّعِبِ
(وهذا البيت سمعته وأنا صغير لأول مرة من الزعيم عبد الكريم قاسم في إحدى خطبه واستقر في الذاكرة).
أبو تمام بالإضافة إلى كونه شاعراً كبيراً فهو رحّالة أحبّ السفر وطوى الأرض مُشرِّقاً ومُغرِّبا! وذات مرّة وهو في خراسان  عند حاكمها للخليفة المأمون وأعني به القائد العسكري المرموق عبد الله بن الطاهر الخراساني (ت230) الذي مدحه فلم يلق عندة حظوة، فقفل راجعاً وإذ هو في أطراف همذان سقط الثلج ثقيلاً وحوصر بسببه ففتح له مضيّفُه خزائن مكتبته وأكبّ يقرأ ويدون ما يختار فتكونت عنده حصيلة هامة انضافت إلى حافظته الغنية السابقة من أشعار العرب جمعها في ديوان قوامه عشرة أبواب، وحيث شغل ثلث ما تحصل عليه من باب الحماسة سمّى كتابه باسمها (ديوان الحماسة)  إضافة إلى أبواب أخرى من مديح وهجاء وغزل ورثاء،، وحين حذا حذوه آخرون أصبحت تسمى( حماسة أبي تمام) ...فالفضل هنا يعود بولادتها لرحلته وللثلج!
وبعد نحو قرن ونيّف سيتكرر المشهد ذاتُه مع شاعر آخر عظيم الشأن هو الآخر رحّالة، شرقّ وغرّب في أطراف الأرض،  يمدح هذا ويهجو ذاك ثم  ينقلب على ممدوحه هاجياً  كأقذع ما يكون الهجاءّ، وسجل ما شاهد في رحلاته شعراً وأعني به أبا الطيب المتنبي (303-354)...
توسم المتنبي خيراً بالأمير العربي بدر بن عمّار بن إسماعيل الأسدي صاحب طبرية فشدّ الرحال إليه وحيث هو في جبال لبنان هطل الثلج ثقيلاً  في شتاء 327ه فأوحى له بقصيدة كاملية من أجمل قصائد المتنبي بل أحسبها من حور الشعر العربي العين:
أمِنَ ازديارَكِ في الدُّجى الرُّقُّباءُ – إذ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ
إلى أن يقول:
وعِقاب لُبنانٍ وكيف بقَطْعِها - وهُوَ الشتاءُ وصيفهنّ شتاءُ
لبَس الثلوجُ بها عليَّ مَسالكي – فكأنها ببياضِها  سَوْداءُ
وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلدةٍ – سال النُّضارُ بها وقامَ الماءُ
ولولا الرحلة وهطْل الثلج الذي حاصر شاعرنا لما ولِدت هذه الخريدة.!
كل هذه الخواطر داهمتني وأنا أنتظر في ميناء جيجو الجزيرة الكورية لآخذ الباخرة إلى مدينة واندو...
***
دلفت من بويبة خاصة للأجانب وكنت الوحيد غير الآسيوي، تحركت الباخرة الموسومة باللؤلؤة الحمراء انزلقت في موعدها في الثالثة والنصف عصراً على صفحة الماء وانسابت وئيدة؛ واستمتعت بمشاهدة السيارات الكثيرة وبحمولات ثقيلة وكان عدد الركاب قليلاً نسبياً بعد تقليص الرحلات عقب حادثة الغرق التي ذكرناها.. الجو جميل والمناظر خلاّبه حيث تظهر من بحر الماء جزر شاهقة ضيقة تكللت ذؤاباتها بأشجار .. وقوارب الصيادين تدل أن البحر غني بالثروة السمكية توقفنا مرة في إحدى هذه الجزر ثم واصلت رحلتها؛ كان مشهد الغروب آسراً جلست خلال الرحلة أدون ما جال في خاطري عن ابي تمام والمتنبي.. وصلنا على السابعة والنصف.. أعطيت العنوان لسائق التكسي وأخبرني أن الأوتيل خارج المدينة مطل على البحر ويبعد خمسة عشر كيلومتراً حدست أن المناظر جميلة حيث تتلألأ الأضواء على صفحة البحر فتبدو كأشباح متراقصة على الماء... المدينة صغيرة والأوتيل صيفي صغير سجل رواده الغربيون والآسيويون رسومهم وكلماتهم على أحد الجدران بمختلف اللغات والأسماء! لم يكن في الأوتيل سوى نزيلتين شابتين كوريتين لم تتكلما أي لغة أجنبية .. جلسنا في المطبخ نتناول العشاء، عليً أن أسافر في الغد الباكر الى ميناء بوسان! أشارتا بأنهما يستطيعان أن يوصلاني بسيارتهما في الصباح الى مجمع السيارات إن نهضتُ مبكراً هكذا فهمت!
من أجمل المفاجآت حين ينهض المسافر ليكتشف ما يحيط به وهل يتطابق الواق مع مخيلة الأمس! .. رأيت البحر جميلاً والصيادون يلقون شباكهم أويجمعون صيدهم... خرجت أنتظر الباص وقد دلني رجل الى حيث أريد وكان غاية في اللطف أراد أن يدفع عني أجرة الباص فاعتذرت!

وصلت بوسان بطريق برّي بحوالي خمس ساعات على مرحلتين.. وبوسان هي ثاني أهمّ المدن الكورية وهي ميناؤها الأكبر هي عروس البحر ومفخرة الكوريين لمن يودع عند المغادرة إلى اليابان أو للقادم من اليابان عبر الأرخبيل.. قررت وفق خطتي أن أعبر من خلالها الأرخبيل بعد ثلاث ليال فإن طابت لي مُقاماً ستكون مستقري لليال أخَر.. فندقي يقع قبالة المحطة المركزية في أهم موقع حيث المدينة الصينية والمطاعم والأسواق التي تعج بالفواكه والأسماك وثمار البحر، وعلى خلاف أي مكان آخر في كوريا كان طعامها الالذ وناسها الأكثر طيبة، فيها أناس من كل القارات والمدينة الصينية حافظت على طابعها المعماري الصيني لكنها أصبحت روسية تزدحم باللحم الابيض الروسي حيث يُنادى على المارّة بمختلف اللغات حسب سحنة المار وللتخمين والخبرة دور كبير!!
لم أعاودِ المرور بالمدينة الصينية رغم أن هناك مطاعم ومحلات تجارية محترمة، فضلت أن آكل السمك وأشرب السوجو المشروب الوطني الكوري اللذيذ والرخيص وفيه انواع شتى، وهو فاتح شهية أيضا!
وإذا وُصِفت مدينةٌ حالمة فستكون بلا شك بوسان، هي مدينة الجولات المائية وهي مدينة الباركات وأهمها بارك يونغدوسان الذي يحتوي على أشجار نادرة ويتوسط البارك الذي يتبوء تلال وسط المدينة برج مسمى باسم البارك وفي الحديقة تماثيل لأبطال كوريا الذين صدّوا الغزوات البحرية، كما تجد فيه سياج العشاق الذي يحتوي على أقفال العشاق الذين تعاهدين على الإخلاص وديمومة الحب الخالد؛ وعدد الأقفال هو الأعلى في العالم ولكنني لا أعلم كم من هذه الأقفال التي لا تحصى عدداً بقي أصحابها أوفياء مخلصين للحب الخالد! من البرج ترى بانوراما المدينة والجسور المتحركة والجسور التي تنفتح بأوقات محددة لعبور البواخر.. أما المتاحف المتخصصة فهي عديدة بوسان ذات معابد تاريخية قليلة فالكنائس لها هي الأخرى نصيب.. وعندما تسأل الناس عن الدين ستجدهم في الأعم الأغلب ملحدين أو لا دينيين!! ولكوني مزمع السفر ذهبت إلى الميناء مشياً عبر المحطة، ودهشت لهذا الميناء لسعته وحسن تنظيمه وما توفر عليه من مطاعم ومشارب قطعت إلى فوكوكا اليابانية على الجانب المقابل للأرخبيل حيث كان في نيّتي أن أزور ناغازاكي وأرجع الى هيروشيما التي اشتقت إلى سحرها..وحسناً فعلت حين لم أحجز في أوتيل ذلك أن الرحلات أرجئت بسبب المد لمرتين! وإذ ذهبتُ الى الشركة لأُلغي الرحلة وأسترجع المبلغ المدفوع، وإذا بعاصفة هبت مع أمطار خلعت المظلة فاضطررت لإطلاقها فحلّقت كأنها ريشة في مهب الريح! وقد فعل غيري مثلَ ما فعلت؛ رجعت الى الأوتيل متعباً انتابتني حمى خفيفة وسعال!! ذهبت لأجدد الحجز فلم أجد مكاناً.. قررت السفر الى مدينة قريبة من سيؤل وهي أوساني وحصلت على حجز في أوتيل ممتاز وبسعر معقول لثلاثة ليال، وهكذا قضيت نحو أربع ساعات في حافلة أوصلتني الى مدينة قريبة وأكملت ما تبقى بالتكسي... وصلت متعباً فقد اعترتني رعداتٌ ورجفات وشيء بين الحمى والبرودة فاعتمدت سوائل ساخنة وعصائر باردة وبقيت لا أخرج من الأوتيل إلا لَماما.. المدينة صغيرة وجميلة تشبه المدن التي يصفها أج. سي. أندرسن في عالمه القصصي، هي صغيرة وذات طابع كوري تقليدي قديم في كل شيء  وحسبتُ أنني وحدي الأجنبي وإذا أفاجأ بالأوربيين متوسطي العمر من الجنسين ينشدون الهدوء ويرومون تمضية عدة أيام على طريقة الحياة الكورية فقد ملّ الغربيون أماكنهم الغربية وانجذبوا لسحر الشرق!
بدأت أستعيد عافيتي بعضَها لا كلَّها، فقد كنت أحسب نفسي متوهماً أنني مازلت ذلك الشاب الرياضي فقد كانت ملابسي خفيفة لا تتلائم مع المناخ الربيعي الكوري المتقلب، فرجعت بقناعتي الى كهولتي واشتريت ما يدفئني من الملابس مردداً قول أخي خزاعة (الطويل):
لقد عجبت سلمى وذاك عجيبُ – رأت بي شيبا عجّلته خطوبُ
وما شيبتني كبرة غير أنني – بدهر به رأس الفطيم يشيبُ
لله درّك يا دعبل وهي يخاطب سلماه نفسها (الكامل):
لا تعجبي ياسلم من رجلٍ – ضحِك المشيبُ برأسه فبكى!
وللموضوع صلة
ملاحظة: لم أنشر الصور لكي أوفر للنص الكتابي مجالاً أوسع ومن يروم فسأنشر في موقعي على الفيس بوك صوراً تعزز النص..
خالد جواد شبيل
 رام كم هنغ 31 تموز/يوليو 2016

52
أدب / كوريا رحلة ودرس (4)
« في: 13:47 31/07/2016  »
كوريا رحلة ودرس
(4)


خالد جواد شبيل

وطولُ مُقام المرءِ في الحيِّ مُخلَقٌ     –     لديباجتيه فاغتربْ تتجددِ
فإني رأيتُ الشمس زِيدت مَحبّةً – إلى الناسِ أنْ ليست عليهم بسرمدِ
 وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي يريد ببيتيه- الطويل- أن يحبذ السفر إلى الناس، فهو لا يريد أن يطرق معنىً متداولاً عن فائدة السفر الذي يغني عن الكتب، بل وهو المبتكر للمعاني يريد أنك باغترابك سيشتاق إليك أصدقاؤك ومحبوك، كما الشمس التي تغيب أو تحجبها الغيوم والسحب فيفرح الناس بشروقها وانبلاجها وقد قالت العرب: زُر غَبّاً تزدد حُبّاً.. ولكن أبا تمام لا يُخبر عن شوق المغترب إلى دياره وأهله في هذين البيتين لعل حجته تكمن في بيتين  آخرين –الكامل- افُتُتِن بهما الناس وما زالا يترددان على الشفاه:
نقّل فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى – ما الحبُّ إلا للحبيب الأولِ
كم منزِلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى    –   وحنينُه أبداً لأول مَنزلِ
وأبو أبو تمام هو أول من خرج على عمود الشعر وشق عصا الطاعة وجعل القصيدة ذات وحدة موضوعية متماسكة مبنىً ومعنى، ولم تأته المعاني عفو خاطر وإنْ جاءته وقبِلها سيزوِّقُها بالبيان والبديع وما إلى ذلك من المُحسنات اللفظية جناساً وطباقاً، ما يعسّر الفهم على سامعيه أحيانا...وهو يبدأ بالمعاني بلا مقدمات بل يدخل في معمعمة المعاني منذ الاستهلالات وتستمر حتى الخواتم ولا أدلّ على ذلك من قصيدته البسيطية  في واقعة عمّورية ذات المطلع الصارخ:
السيفُ أصدقُ إنباءً من الكُتُبِ – في حَدّه الحَدُ بين الْجِدِّ واللَّعِبِ
(وهذا البيت سمعته وأنا صغير لأول مرة من الزعيم عبد الكريم قاسم في إحدى خطبه واستقر في الذاكرة).
أبو تمام بالإضافة إلى كونه شاعراً كبيراً فهو رحّالة أحبّ السفر وطوى الأرض مُشرِّقاً ومُغرِّبا! وذات مرّة وهو في خراسان  عند حاكمها للخليفة المأمون وأعني به القائد العسكري المرموق عبد الله بن الطاهر الخراساني (ت230) الذي مدحه فلم يلق عندة حظوة، فقفل راجعاً وإذ هو في أطراف همذان سقط الثلج ثقيلاً وحوصر بسببه ففتح له مضيّفُه خزائن مكتبته وأكبّ يقرأ ويدون ما يختار فتكونت عنده حصيلة هامة انضافت إلى حافظته الغنية السابقة من أشعار العرب جمعها في ديوان قوامه عشرة أبواب، وحيث شغل ثلث ما تحصل عليه من باب الحماسة سمّى كتابه باسمها (ديوان الحماسة)  إضافة إلى أبواب أخرى من مديح وهجاء وغزل ورثاء،، وحين حذا حذوه آخرون أصبحت تسمى( حماسة أبي تمام) ...فالفضل هنا يعود بولادتها لرحلته وللثلج!
وبعد نحو قرن ونيّف سيتكرر المشهد ذاتُه مع شاعر آخر عظيم الشأن هو الآخر رحّالة، شرقّ وغرّب في أطراف الأرض،  يمدح هذا ويهجو ذاك ثم  ينقلب على ممدوحه هاجياً  كأقذع ما يكون الهجاءّ، وسجل ما شاهد في رحلاته شعراً وأعني به أبا الطيب المتنبي (303-354)...
توسم المتنبي خيراً بالأمير العربي بدر بن عمّار بن إسماعيل الأسدي صاحب طبرية فشدّ الرحال إليه وحيث هو في جبال لبنان هطل الثلج ثقيلاً  في شتاء 327ه فأوحى له بقصيدة كاملية من أجمل قصائد المتنبي بل أحسبها من حور الشعر العربي العين:
أمِنَ ازديارَكِ في الدُّجى الرُّقُّباءُ – إذ حيثُ كنتِ من الظلامِ ضياءُ
إلى أن يقول:
وعِقاب لُبنانٍ وكيف بقَطْعِها - وهُوَ الشتاءُ وصيفهنّ شتاءُ
لبَس الثلوجُ بها عليَّ مَسالكي – فكأنها ببياضِها  سَوْداءُ
وكذا الكريمُ إذا أقام ببَلدةٍ – سال النُّضارُ بها وقامَ الماءُ
ولولا الرحلة وهطْل الثلج الذي حاصر شاعرنا لما ولِدت هذه الخريدة.!
كل هذه الخواطر داهمتني وأنا أنتظر في ميناء جيجو الجزيرة الكورية لآخذ الباخرة إلى مدينة واندو...
***
دلفت من بويبة خاصة للأجانب وكنت الوحيد غير الآسيوي، تحركت الباخرة الموسومة باللؤلؤة الحمراء انزلقت في موعدها في الثالثة والنصف عصراً على صفحة الماء وانسابت وئيدة؛ واستمتعت بمشاهدة السيارات الكثيرة وبحمولات ثقيلة وكان عدد الركاب قليلاً نسبياً بعد تقليص الرحلات عقب حادثة الغرق التي ذكرناها.. الجو جميل والمناظر خلاّبه حيث تظهر من بحر الماء جزر شاهقة ضيقة تكللت ذؤاباتها بأشجار .. وقوارب الصيادين تدل أن البحر غني بالثروة السمكية توقفنا مرة في إحدى هذه الجزر ثم واصلت رحلتها؛ كان مشهد الغروب آسراً جلست خلال الرحلة أدون ما جال في خاطري عن ابي تمام والمتنبي.. وصلنا على السابعة والنصف.. أعطيت العنوان لسائق التكسي وأخبرني أن الأوتيل خارج المدينة مطل على البحر ويبعد خمسة عشر كيلومتراً حدست أن المناظر جميلة حيث تتلألأ الأضواء على صفحة البحر فتبدو كأشباح متراقصة على الماء... المدينة صغيرة والأوتيل صيفي صغير سجل رواده الغربيون والآسيويون رسومهم وكلماتهم على أحد الجدران بمختلف اللغات والأسماء! لم يكن في الأوتيل سوى نزيلتين شابتين كوريتين لم تتكلما أي لغة أجنبية .. جلسنا في المطبخ نتناول العشاء، عليً أن أسافر في الغد الباكر الى ميناء بوسان! أشارتا بأنهما يستطيعان أن يوصلاني بسيارتهما في الصباح الى مجمع السيارات إن نهضتُ مبكراً هكذا فهمت!
من أجمل المفاجآت حين ينهض المسافر ليكتشف ما يحيط به وهل يتطابق الواق مع مخيلة الأمس! .. رأيت البحر جميلاً والصيادون يلقون شباكهم أويجمعون صيدهم... خرجت أنتظر الباص وقد دلني رجل الى حيث أريد وكان غاية في اللطف أراد أن يدفع عني أجرة الباص فاعتذرت!

وصلت بوسان بطريق برّي بحوالي خمس ساعات على مرحلتين.. وبوسان هي ثاني أهمّ المدن الكورية وهي ميناؤها الأكبر هي عروس البحر ومفخرة الكوريين لمن يودع عند المغادرة إلى اليابان أو للقادم من اليابان عبر الأرخبيل.. قررت وفق خطتي أن أعبر من خلالها الأرخبيل بعد ثلاث ليال فإن طابت لي مُقاماً ستكون مستقري لليال أخَر.. فندقي يقع قبالة المحطة المركزية في أهم موقع حيث المدينة الصينية والمطاعم والأسواق التي تعج بالفواكه والأسماك وثمار البحر، وعلى خلاف أي مكان آخر في كوريا كان طعامها الالذ وناسها الأكثر طيبة، فيها أناس من كل القارات والمدينة الصينية حافظت على طابعها المعماري الصيني لكنها أصبحت روسية تزدحم باللحم الابيض الروسي حيث يُنادى على المارّة بمختلف اللغات حسب سحنة المار وللتخمين والخبرة دور كبير!!
لم أعاودِ المرور بالمدينة الصينية رغم أن هناك مطاعم ومحلات تجارية محترمة، فضلت أن آكل السمك وأشرب السوجو المشروب الوطني الكوري اللذيذ والرخيص وفيه انواع شتى، وهو فاتح شهية أيضا!
وإذا وُصِفت مدينةٌ حالمة فستكون بلا شك بوسان، هي مدينة الجولات المائية وهي مدينة الباركات وأهمها بارك يونغدوسان الذي يحتوي على أشجار نادرة ويتوسط البارك الذي يتبوء تلال وسط المدينة برج مسمى باسم البارك وفي الحديقة تماثيل لأبطال كوريا الذين صدّوا الغزوات البحرية، كما تجد فيه سياج العشاق الذي يحتوي على أقفال العشاق الذين تعاهدين على الإخلاص وديمومة الحب الخالد؛ وعدد الأقفال هو الأعلى في العالم ولكنني لا أعلم كم من هذه الأقفال التي لا تحصى عدداً بقي أصحابها أوفياء مخلصين للحب الخالد! من البرج ترى بانوراما المدينة والجسور المتحركة والجسور التي تنفتح بأوقات محددة لعبور البواخر.. أما المتاحف المتخصصة فهي عديدة بوسان ذات معابد تاريخية قليلة فالكنائس لها هي الأخرى نصيب.. وعندما تسأل الناس عن الدين ستجدهم في الأعم الأغلب ملحدين أو لا دينيين!! ولكوني مزمع السفر ذهبت إلى الميناء مشياً عبر المحطة، ودهشت لهذا الميناء لسعته وحسن تنظيمه وما توفر عليه من مطاعم ومشارب قطعت إلى فوكوكا اليابانية على الجانب المقابل للأرخبيل حيث كان في نيّتي أن أزور ناغازاكي وأرجع الى هيروشيما التي اشتقت إلى سحرها..وحسناً فعلت حين لم أحجز في أوتيل ذلك أن الرحلات أرجئت بسبب المد لمرتين! وإذ ذهبتُ الى الشركة لأُلغي الرحلة وأسترجع المبلغ المدفوع، وإذا بعاصفة هبت مع أمطار خلعت المظلة فاضطررت لإطلاقها فحلّقت كأنها ريشة في مهب الريح! وقد فعل غيري مثلَ ما فعلت؛ رجعت الى الأوتيل متعباً انتابتني حمى خفيفة وسعال!! ذهبت لأجدد الحجز فلم أجد مكاناً.. قررت السفر الى مدينة قريبة من سيؤل وهي أوساني وحصلت على حجز في أوتيل ممتاز وبسعر معقول لثلاثة ليال، وهكذا قضيت نحو أربع ساعات في حافلة أوصلتني الى مدينة قريبة وأكملت ما تبقى بالتكسي... وصلت متعباً فقد اعترتني رعداتٌ ورجفات وشيء بين الحمى والبرودة فاعتمدت سوائل ساخنة وعصائر باردة وبقيت لا أخرج من الأوتيل إلا لَماما.. المدينة صغيرة وجميلة تشبه المدن التي يصفها أج. سي. أندرسن في عالمه القصصي، هي صغيرة وذات طابع كوري تقليدي قديم في كل شيء  وحسبتُ أنني وحدي الأجنبي وإذا أفاجأ بالأوربيين متوسطي العمر من الجنسين ينشدون الهدوء ويرومون تمضية عدة أيام على طريقة الحياة الكورية فقد ملّ الغربيون أماكنهم الغربية وانجذبوا لسحر الشرق!
بدأت أستعيد عافيتي بعضَها لا كلَّها، فقد كنت أحسب نفسي متوهماً أنني مازلت ذلك الشاب الرياضي فقد كانت ملابسي خفيفة لا تتلائم مع المناخ الربيعي الكوري المتقلب، فرجعت بقناعتي الى كهولتي واشتريت ما يدفئني من الملابس مردداً قول أخي خزاعة (الطويل):
لقد عجبت سلمى وذاك عجيبُ – رأت بي شيبا عجّلته خطوبُ
وما شيبتني كبرة غير أنني – بدهر به رأس الفطيم يشيبُ
لله درّك يا دعبل وهي يخاطب سلماه نفسها (الكامل):
لا تعجبي ياسلم من رجلٍ – ضحِك المشيبُ برأسه فبكى!
وللموضوع صلة
ملاحظة: لم أنشر الصور لكي أوفر للنص الكتابي مجالاً أوسع ومن يروم فسأنشر في موقعي على الفيس بوك صوراً تعزز النص..

خالد جواد شبيل
رام كم هنغ 31 تموز/يوليو 2016

53
  هذا الشاعر..هذه القصيدة..هذه الاغنية
خالد جواد شبيل

إلى الشاعرة وئام ملا سلمان، إن هي إلا استراحة مرتحِل ألقى بعصاه هنيهة، وسيواصل رحلته بعد العيد! الذي استقبله البهاء زهير م.الرمل:
قد أتى العيدُ وما عِن – دي له ما يقتضيهِ
غاب عن عينيّ فيهِ – كلّ شيءٍ أشتهيهِ
ليت شعري كيف أنتم – أيها الاحباب فيهِ

***
أما القصيدة فشاعرها زهير بن محمد المهلبي العتكي الملقب بهاء الدين والمكنى بأبي الفضل والمشهور ب البهاء زهير(581ه-656ه/1186م-1258م)، ولد بمكة ونشأ بقوص من صعيد مصر؛ من العصر الأيوبي، ترجمته وافية في وفيات ابن خلكان، شاعر الرقة والعذوبة واللغة السهلة المنسابة الى القلب قبل الأذن، هو شاعر القصائد المُرقصة بموسيقيتها، وسلاسة سكبها في البحور الخفيفة القصيرة، لا تجد في كلماتها غوامضّ ولاشواردّ، فطارت سمعتها وحفظها عشاق شعر الغزل وغنّاها المغنون.
 هو محب للدنيا بغير إسراف، وهو محبوب عند كل من عرفة، سجّل عنه ياقوت الحموي البغدادي (547-626ه)- في معجم الأدباء - الذي التقاه عند مكثه في القاهرة وقال فيه كلِماً طيباً في بساطته وتواضعه، وكان يقضي حاجات الناس غير منتفع منهم عند الملك الصالح بن أيوب، الذي اتخذ من شاعرنا نديماً وصديقاً وفيًاً وجليساً لطيفاً اصطحبه معه في رحلاته وغزواته في الشام وأرمينيا.. لكون زهير شاعراً رقيقا حُلوَ الحديث واسع الثقافة!
من يقرأ قصائد زهير ويُنعم النظر فيها سيدخل في روح الشاعر الخفيف وسيكتشف أن شعره أقرب إلى هموم الناس في عواطفهم ويبدو في لغته سهلاً ممتنعاً واضحاً مفهوماً، فالبهاء شاعر مصري بكل معنى الكلمة فيه من مصر خِفة ظلَّها وسرعة بديهتها ومرحها والفة ناسها وحبهم للنكتة والمرح ولا أدلَّ على ذلك من مداعبته جارته الأرمنية بقصيدة من الطويل:
تكلّمني بالأرمنية جارتي – أيا جارتي ما الأرمنيةُ من طبعي
وفي أصعب ظروفه وحزنه على ولده لم يعدم خفة الشعر ورشاقة الأسلوب وهو يخاطب نفسه راثياً إياه، لذلك جائت على شكل مونولوج داخلي حتى لو اتخذ صيغة المخاطب،  على الوافر مستهلها:
نهاك عن الغواية ما نهاكا – وذقتَ من الصبابة ما نهاكا
وطال سراك في ليل التصابي – وقد أصبحت لم تحمد سراكا
بروحي من تذوب عليه روحي – وذق يا قلب ما صنعت يداكا
وعندما أقول هو شاعر غنائي، لا بالمصطلح الشعري فحسب بل كان وما يزال المغنون يجدون في شعره كنوزاً مثالية للتلحين والغناء للخصائص التي ذكرنا بعضها، ففيها من غناه أرباب المقام العراقي واخص منهم المطرب الكبير يوسف عمر من البنجكاه/رست قصيدة م.الرمل:
كلّ شيء منك مقبولُ – وعلى العينين محمولُ
والذي يرضيك من تلفي – هينٌ عندي ومبذول
أما صباح فخري فغنّى إحدى روائع زهير من الطويل قصيدة:
حبيبي على الدنيا إذا غبتَ وحشةَ – فيا قمري قل لي متى أنت طالعً
وغنّت الفنانة الكبيرة عفيفة اسكندر العديد من الأغاني للبهاء وكثيراً ما اختارها لها العلَامة الدكتور مصطفى جواد والأديب فؤاد عباس ومنها هذه م الرجز:
باللهِ قل لي خبرَكْ – فلي ثلاثٌ لم اركْ
يا أسبقَ الناسَ إلى – مودتي ما أخّرَكْ
وغنًت ايضاً م. الخفيف:
غبت عنّي فما الخبرْ؟ - ما كذا بيننا اشتهرْ
أنا مالي على الجفا – لا ولا البعد مصطبرْ
أما ناظم الغزالي فغنّى له من الوافر:
يامن لعِبت به شَمولُ – ما ألطف هذه الشمائلْ
نشوانُ يهزهُ دلالُ – كالغصن مع النسيمِ مائلْ
***
وعودة الى قصيدتنا:
 يعاهدني لا خانني ثمّ ينكث

يعاهدني لا خانني ثم ينكثُ – وأحلف لا كلّمتُه ثم أحنثُ
وذلك دأبي لا يزالُ ودأبُه – فيا معشرَ الناسِ اسمعوا وتحدّثوا
أقول له صِلني يقولُ نعم غداً – ويكسر جَفناً هازئاً ثم يعبثُ
وما ضَرّ بعضَ الناسِ لو كان زارنا – وكنّا خلوْنا ساعةً نتحذّثُ
أمولايَ إني في هواك معذَّبٌ – وحتى مَ أبقى في العذابِ وأمكُثُ
فخذ مرّةً روحي تُرِحْني ولم أكُن - أموتُ مراراً في النهار وأُبعَثُ
وإنّي لهذا الضيم منك لحاملٌ – ومنتظرٌ لطفاً من الله يحدثُ
أعيذك من هذا الجفاء الذي بدا- خلائقُك الحسنى أرقُّ وأدمثُ
تردد ظنُّ الناس فينا وأكثروا – أقاويلَ منها ما يطيبُ ويخبُثُ
وقد كرمت في الحبِ منّي شمائلي – ويسألُ عنّي من أراد ويبحثُ

عندما سمعت هذه القصيدة مُغنّاة لم أكن أتصورها من بحر ثقيل كالطويل، وذلك لخفة الشعر وانطلاقته وسهولته، حتى تصورت أن بعض الأبحر يثقل وبعضَها الآخر يخفُّ وفقاً لشاعرية الشاعر وحسن تحليقه في القصيدة وقدرته على موائمة القصيدة للبحر وكذلك على حسن استخدام البحر نفسه أي أن لغة القصيدة وجمالها يمنح البحر مزاياً إضافية تتعدى تفعيلاته!
والشيء الآخر هو أن هذه القصيدة ذات قافية بروي الثاء! والثاء هو حرف اللثغة فمن كان أدردً يحول السين الى ثاء فيقال عنه ألثغ.. وقد ذهب الثاء بكثير من سين الاسبانية فحولّها إلى لثغاء على خلاف الفرنسية اللاثغة بالراء فتزداد غَنجاً على لسان بنات السين!!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تجد أن القوافي الثائية وهي نادرة حيث لابن الرومي عاشق القوافي النادرة عدة قوافي ثائية وكذلك الحال مع أبي العلاء المعري؛  جاءت ثائية البهاء زهير بصيغة أفعال عدا مرة واحدة اسم تفضيل "أخبثُ" ولا تجد بينها اسماً غيره قط! زد على ذلك فواعل الأفعال مضارعة عدا مرةً واحدة أمر " تحدّثوا" تكون بضمائر مستترة: الأنا والهو والأنت والنحن، ومع ذلك استطاع أن يروضها ضمن سياق القصيدة المنساب بتلقائية كأنه خرير يصحب انسياب الجدول!!
لحن الأغنية من الجهاركاه وهو من أكثر الأنغام بهجةً وروحانية  يشمل مقامات مثل خلوتي وماهوري والطاهر.. وطالما نسمعه في صلاة العيد في التكبيرات ضمن تلاوة العيد، الأغنية من تلحين الملحن العراقي اليهودي صالح الكويتي (1908-1986)، وعندما أذكر دينه لسبب ن روائع ألحانه والحان أخيه داوود (1910-1976) كانت تذاع من الإذاعة والتلفزيون من دون أن يذكر اسمهما رغم انهما أثريا الغناء العراقي بروائع الالحان العراقية الأصيلة المطوَّرة فلا بد من رد الاعتبار لهما وتكريمهما فالعراق أولى بهما من إسرائيل!
 أدت هذه الأغنية سليمة مراد (1905-1974) ذات الصوت القوي الجميل والذي يظهر جماله في الجوابات بشكل خاص وهو من طبقة الميزو سبرانو.لقد اشتهرت هذه المطربة المتميزة بأصالة الأغاني البغدادية من مقامات وبستات وحتى الأغاني الريفية مثل - الأبوذية- التي قدمتها بفضل كلمات الشاعر عبد الكريم العلأف والحان صالح الكويتي. وفي عم 1935 حين زارت أم كلثوم العراق حيث قدمت حفلاتها على مسرح فندق الهلال، ذهلت عند سماعها لسليمة مراد وهي تغني "كلبك صخر جلمود ما حن عليّ" فطلبت منها ان تدربها على الأغنية وغنّتها أم كلثوم وسجلتها على اسطوانة بصوتها!
ويلاحظ أن أغنية " يعاهدني" ذات تمبوعال وإيقاع سريع وهو الجورجينا؛ وهي تمثل إنموذجاً جلياً على قدرة الفنان صالح الكويتي على تطوير الغناء العراقي مع المحافظة على أصالته.. وقد سجّلت على فيديو في الكويت لها ولزوجها ناظم الغزالي (1923-1963) الذي أحيى عدة حفلات.. حيث لم يتحصل التلفزيزن العراقي يوم ذاك عام 1962 على جهاز فيديو وبذلك حرِم كثيرٌ من الفنانين العراقيين من توثيق أغانيهم بالصوت والصورة للأسف!
https://www.youtube.com/watch?v=BwSkMyCSac0
خالد جواد شبيل
رام كم هنغ 3 تموز/يوليو 2016
 

 








54
المنبر الحر / كوريا رحلة ودرس -3
« في: 18:14 23/06/2016  »
كوريا رحلة ودرس -3

خالد جواد شبيل


هذا هو مطارجمبو في سيؤل وهو مطار كوريا قبل أن يُبنى مطارها العظيم أنتشون عام 2001، لم يستغنَ عنه بل هو الآخر مطار كبير فيه بنايتان متجاورتان العالمية والداخلية..نحن إذن في قسم الرحلات الداخلية والطائرة متجهة الى الجنوب الغربي نحو جزيرة جيجو..تبدو الأراضي الكورية خضراء في مرتفاعاتها التي تشكل ثلاثة أرباع الأراضي ووهادها وسهولها حيث تقع المدن ، بعد خمسين دقيقة من الطيران، بدأت الطائرة في الهبوط، اشرأبت أعناق الركّاب نحو النوافذ والبعض تهيأ لألتقاط الصور ، المنظر آسر والأكثر غرابة فيه قمة هالا البركانية الشهيرة التي تتوسط الجزيرة المدهشة، معظم الركاب من اليابانيين والصينيين وكذلك من الكوريين لا سيّما المتزوجين الجدد يقصدون هذه الجزيرة لقضاء شهر العسل ليكونوا ذكريات حلوة هي الأخرى من عسل!
هي جزيرة الطبيعة في أغرب وأبهى صورها، وهي جزيرة الجن والآلهة والأساطير والحكايات الواقعية السحرية التي تشكل بنية ثقافية غنية مستمدة من الواقع الجغرافي الذي كونته البراكين التي انجزت مهمتها وكونت تشكيلاتها الصخرية وكهوفها وغاباتها وحاصلاتها الزراعية ثم خمدت!
هي قلعة وموئل النضال التي حاربت المحتلين من يابانيين وصينيين، وهي حصن الشيوعيين الذي ذادوا عن وحدة كوريا ووقفوا ضد الحكومات الدكتاتوريات التي استحوذت على السلطة بالتزوير وتزييف إرادة الشعب والتنكيل به وارتكاب أبشع المجازر بالتواطؤ مع الأمريكانيين.. وهي موطن الجمال الطبيعي الذي لا يشبهه أيُّ جمال لتفرده؛ لأجل هذه المزايا بدأت تتعاظم أهميتها السياحية حيث تجاوز عدد الزوّار عام 2013 العشرة ملايين!!كما بدأت تجذب المستثمرين لا سيما الصينيين ما أقلق أهلها خوفاً على ثقافتهم واقتصادهم!
هي بيضية الشكل تبلغ مساحتها1848كم2 ، وتعداد سكانها ستمائة الف نسمة، تبعد عن سيؤل ب434 كم، وتبعد عن الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة بخمس وستين كيلومتراً. طولها الأفقي 73كم وعرضها العمودي 31كم، فهي صغيرة سهل التنقل بها بمختلف الوسائط -عدا السكك الحديد المنعدمة - والنقل ميسور ومعتدل السعر..ومناخها معتدل فلا تدنو درجة الحرارة الصفر شتاء حين يكون الجو في شبه الجزيرة مثلجاً وتنخفض الحرارة كثيراً عن الصفر! وماذا بعد؟ نعم هي جزيرة اللاءات الثلاث: لا تسوّل، لا لصوص، لا أبواب موصدة.. وبثلاث قولات توصف بأنها جزيرة: الرياح، الصخور، النساء (لا تستعجلوا الثالثة!).
لا أود الاستغراق في التاريخ النضالي المشرّف لسكان هذه الجزيرة الذين قاوموا الاحتلال الياباني وضمَّ كوريا لليابان فشنّوا نضالاً اسطوريا من عام 1910 حتى عام 1945، وكان الشيوعيون يشكلون طليعة المقاومة وكذلك الدور النضالي ل"نساء البحر" وتدعى بالكورية "هاينيو"  ولا بد من وقفة موجزة: من الناحية الاجتماعية تبرز ظاهرة السيادة الأمومية الماترياركية  Materiarchal التي ترجع إلى أسّها الأقتصادي حين تتسيد الزوجة العائلة والسبب هو أن النساء في هذه الجزيرة معروفات بنشاطهن الذي يفوق الرجال وبنية أجسامهن المتينه فهن مدهشات في الغوص في المياه الباردة واستخراج قشريات البحر وأعشابه ومكنوناته، وهن أيضا صيادات ماهرات لا يجاريهن أزواجهن وهن بالإضافة لكل هذا مزارعات وربات بيوت ما عزّز مكانتهن الأسرية والأجتماعية ودورهن في العمل السياسي والنقابي المشهود!
من هنا يمكن فهم الدور النضالي لهن في حزب العمل الكوري وفي نقابات عمال البحر وخاصة في عامي 48 و49 وأيام الحرب فقد قتل من مناضلي الجزيرة الذين يقدرون 90% من شيوعيين ووطنيين للتصدي لزيف الانتخابات، لقد ارتكبت المذابح والقتل الجماعي بلا تمييز وأحرقت القرى بسكانها لإجهاض الانتفاضة التي سيطر فيها السكان على الإدارة وأحرقوا مراكز الشرطة، لقد كان النضال بين السكان العُزّل والقوات الحكومية مدعومة من قبل الجنود الامريكانيين.. ولقد فرً 40000 من السكان الى اليابان بأعمارهم ..في عام 2006 اصدرت الحكومة بيان اعتذار ووعدت عام 2010 أن تعوّض السكان جميعا عن الأضرار بالأرواح والممتلكات التي أحرقت ولم تنفذ وعدها لحد الساعة!!
***
وأنا أجول في هذه الجزيرة وأقطع سهولها ووهادها وجبالها لم تغادرني قصيدتان، أولاهما لأبي المحسَّد قالها في شعب بوان/ البسيط:
مغاني الشِّعب طيبٌ في المغاني – بمنزلة الربيع من الزمانِ
ولكن الفتى العربيَ فيها – غريبُ الطبع واليد واللسان
أما الثانية فهي تلازمني على كل شاهق، حين قال في جبل صنين اللبناني/ الخفيف:
أرجِعي مااستطعتِ لي من شبابي – يا سهولاً تدثّرت بالهضابِ

 أردنا أن نقف على أهم أربع مواضع هامة من بين أكثر من عشرين موضعا فأبدأ:
قمة هالا Mt. Halla: هي الأروع والأجمل لمحبي المغامرات وتسلق الجبل الذي هو الأعلى في كل كوريا الجنوبية ويصل ارتفاعه الى 1950م، ومن يُؤثر العافية فيستطيع بلوغ الجبل بالحافلة السياحية! وكان خيار محدثكم هو التسلق والصعود على ألاقدام، وقد بلغت أكثر من الف متر بطريق وعر من صخور بازلتية غاية في الصلابة وخاصة عندما تكون حادة.
وهالسا جبل بركاني ذو فوهة دائرية ناتئة تكون شكل اسطوانة يقبع في وسط الجزيرة وهو أقرب لساحلها الشمالي، ولغرابته وهيبته اعتقد السكان بأنه واحد من ثلاثة آلهة في الجزيرة وهو مشابه من هذه الناحية لجبل فوجي! وفوهته تشكل بحيرة ما يجعل منظره آخاذاً من الجو،..

 
 
 

بلوغ ارتفاع ألف متر نحو قمة هالا


حديقة الصخور
هي أجمل ما رأت عيناي في زياراتي، صخور نحتتها الطبيعة، تارة وتعلم الإنسان منها فراح ينحت منها ما يحتاج من أسلحة وأواني وصخور لرحي الحبوب، وراح يشكل من هذه الصخور جدران المنازل والمعابد ما يعجز عنه الوصف، كما نحت وكوّن  أشكالاً لمعتقد ديني يبعد عنه الشر بما يشبه الطوطم عند العرب على شكل أبراج عالية تدعى  تجده في القرى والحقول، يزار وهو ايضا اعتبر إلهاً   Bangsatap

 

 

بانغساتاب

  Manjanggul    الأنفاق البركانية
عام 2007 قررت اليونسكو اعتبار جزيرة جيجو ضمن محفوظات التراث العالمي، لما أحتوته من كنوز تاريخية وجغرافية وثقافية (*)، ثم أعقبت ذلك وتحت رئاسة الكوري بان كي مون جعلت الأنفاق الأنبوبية البركانية البازلتية منجنغول ضمن عجائب الطبيعة السبع! وهي فعلاً تستحق ذلك لغرابتها وجمالها وقيمتها العلمية. هذه الأنفاق شكلتها الححمم البركانية التي تلقي بمقذوفاتها ومنصهراتها من باطن الأرض الى سطحها، مكونة بمرور الزمن وبعد خمودها حفائر وأنفاق وكهوفاً تضم تشكيلات وألواناً مدهشة مغلفة بطبقة بازلتية ناهيك عن نتؤات صاعدة ونازلة بطول 70سم ما تكسب هذه الكهوف غرابة فوق غرابة! وأحد هذه الكهوف المسموح بزيارتها بطول 1كم وعرض يقرب من 14م، فيها حيوانات متكيفة للحياة الكهفية وأهمها الخفافيش التي تشكل مصدرا هاما للبحوث العلمية؛ يمكن الزيارة ضمن مجاميع سياحية أو بشكل فردي حيث تتوفر وسائط النقل، والملاحظ في جيجو أن رسوم الزيارات في كل المواقع السياحية رخيصة لا تتعدى الدولارين أو الثلاثة! ويتساوى فيها الأجانب وأبناء البلد.
مساقط مياه جيونغجيون:
ويعني اسمها لقاء السماء بالأرض! تقع هذه المساقط في غابة منظمة كأحسن ما يكون التنظيم وهي مرقمة وفقا لما احتوته من اشجارنادرة من الإبريات الصنوبرية ذات التنوع الهائل الى الورقيات، تتيح الأرقام متابعة جميع التنوعات النباتية مع وجود عيّنات شيئية لمقاطعها..
والمسقطان بارتفاعين مختلفين أحدهما 22م والثاني 12 م، يكونان بحيرة بعمق 20م رفعت مياهها الى مستوى ثابت بفعل سد، واقيم مجسر فوق البحيرة يسمح بالتصوير، حفًّت البحيرة زهور من مختلف بقاع العالم، البارك المحيط بالمساقط تختلط فيه تغاريد الطيور مع خرير المياه الذي يعطي أصوات وقع المياه بشكل متفاوت تفاوت عمق المسقط. في البارك دور استراحة مصممة وفق المعمار التقليدي الشائع في الجزيرة وهذا البارك يتيح لمن فاتته زيارة بارك الصخور أن يتعرف ويستمتع بتشكيلات الصخور البازلتية هنا المنتشرة في الممرات ...ولم ينغّص علينا شيء سوى نثيث المطر الذي لم ينقطع ليومين كاملين صباح مساء!
 
ليس هذا كل شيء في الجزيرة المدهشة ففيها أكثر من عشرين موقعاً جذّابا مثل ممرات أولى الجبلية الدائرية المطلة على البحر والمنظمة تنظيماً ومرقمة ترقيماً مع محطات استراحة، وهناك غابة ساريوني التي لا ينقطع عنها السائحون لجمالها الخلّاب، وحدائق هليم ومتحف الشاي...ومن يُحسن ركوب الدراجة النارية أو الهوائية يستطع أن يجول في مغاني الجزيرة ذات الطول والعرض، على أن تأجير السيارات يشترط إجازة سياقة دولية!
شهدت جيجو كارثة اهتزت لها كل كوريا؛ ففي يوم 16نيسان/أبريل 2014 غرقت العبارة "سول" المنطلقة من أسان الى جيجو، وعلى متنها 476 راكباً، بضمنهم 300 طالب ثانوي في رحلة مدرسية لأربعة أيام في الجزيرة  لم ينجُ منهم سوى 75طالباً، وقد قضى من الجميع 304 مسافراً؛ وقد ألقيت تبعة الحادث على القبطان الذي نجا من حكم الموت ليحكم بستة وثلاثين عاماً. ما جعل كثيراً من الشركات تلغي رحلاتها لحد اليوم نظراً للقيود الاحترازية التي فرضتها الحكومة على الشركات الناقلة. فقد كان الدرس قاسيا..
-----------
(*) أتمنى أن يهتم المعنيون العراقيون بالأهوار لتظهر بمظهر منظم ويقام بها مواقع سياحية مع شواخص ومطبوعات ثقافية تعرّف بسكانها وحياتهم، ليتاح تسجيل الأهوار ضمن لائحة التراث العالمي من قبل اليونسكو.
خالد جواد شبيل
رام كم هنغ في 23/06/2016

55
رحلة ودرس من كوريا – 2
خالد جواد شبيل

وردني من قارئة وقارىء سؤالان أحسبهما مترابطين: لما كانت منطقة الهدنة منزوعة السلاح فكيف تحدث المناوشات المسلحة؟ والثاني: هل هناك مناوشات خارج هذه المنطقة؟
والسؤالان ورداني على مدونتي في البريد الخاص. ويبدو أن السائلين أرادا مشكورين أن يدفعا عني الحرج فيما إذا لم أحر جواباً..
المنطقة المنزوعة فيها حراس مسلحون بأسلحة خفيفة من الجانبين متفق على عددهم وفيها عدد من المراقبين الدوليين المسلحين أيضاً، وخلف الشريط الحدودي هذا تكمن الأسلحة الثقيلة، والخطر كل الخطر أن تحدث حركة غامضة أو نأمة عفوية يمكن أن تؤدي إلى اشتباك كما ذكرت في السابق.
وأجيب على السؤالين باختصار شديد على أمل أن أتطرق للعلاقة بين الكوريتين بشيء من الاستفاضة في مدها وجزرها..
لعل أجرأ عملية تلك التي نفذها واحد وثلاثون من رجال الكومندوز الشماليين، استطاعوا اختراق الشريط المنزوع من السلاح وعبور نهرامجين في فجر يوم17/1/ 1968 والوصول الى القصر الرئاسي في سيؤل المعروف بالقصر الأزرق لاغتيال الرئيس يوم 21 وقد فشلت العملية وتركت آثاراً خطيرة في مسار العلاقة بين البلدين، وتُعد هذه واحدة من أكثر العمليات إثارة ودقة..  وإسقاط الطائرة الجنوبية في عام 1987 هي الأخرى من أكثر العمليات الكارثية في العلاقة المتوترة بين الكوريتين.. أما قصف البارجة الجنوبية تشيونان في 26 مارس 2010 فهو يشكل نقلة نوعية خطيرة حين تعرضت في البحر الأصفر الى قصف بطوربيد أصاب مؤخرتها وأغرقها وعلى متنها 104 بحار من طاقمها تم إنقاذ 58 منهم، وقد "أثبتت" لجنة تحقيق عالمية بمسؤولية كوريا الشمالية، التي أنكرت أن يكون لها علاقة بالحدث! لقد نسف هذا الحدث كل الجهود السلمية والعلاقات  التجارية، والدبلوماسية بل والأهم نسف اتفاقية عدم الاعتداء.هذه مجرد عيّنات مختصرة.. أما نشاط السي آي اي في تأجيج الصراع وجعل العلاقة متوترة أو القيام بعمليات سريّة متقنة لرمي التهمة على كوريا الشمالية، فهو موضوع واسع بحد ذاته..

هذا م ا تبقى من القطار!
ولا يسعني الحال لأتكلم عن حروب من نمط آخر بين الكوريتين، فضيلتها أنها غير دموية من قبيل حرب الرياضة وحرب الأعلام (بفتح الهمزة) فهي حروب لا تعدم طرافة، شأنها شأن حرب الاستعراض بين شطري إقليم البنجاب على الحدود الهندية الباكستانية ففيها من المضحكات والغرائب من الجانبين ما يُضحك الثكلى حين تفتح البوابات للنظارة وتبدأ الهتافات والرقص والغناء بحماسة تقترب من الهستيريا وحين تكون مندهشاً مما ترى ستتلقى ممن جاورك سؤالاً محرجاً: سيدي إلى أي الجانبين تميل؟!!

***
 هذا هو مطار أنتشون، بدا من الجو مذهلا ، يتربع على جزيرة اصطنعت من جزيرتين، فهو محاط بالمياه تربطه بالبر الكوري جسور أحدها اطول جسر في آسيا، أنشأ المطار ودُشِّن عام 2001، ليصبح منذ عام 2005 من أكبر المطارات في العالم ويحوز على المرتبة الأولى من حيث الازدحام وحسن التسيير والنظافة وما احتواه من حدائق داخلية وملعب غولف وكازينو ومستشفى ومتحف كوريا الثقافي وغرف مخصصة للنوم ناهيك عن المطاعم والمقاهي الباذخة والسوق الحر الذي هو الأكبر طُرّاً في العالم..والأهم أن المطار مربوط بشبكة مواصلات سريعة مع كل بقعة في البلد بمختلف وسائل المواصلات من حافلات وتاكسيات ومترو وقطار سريع  وقطار عاديّ، حيث زمن الوصول بالقطار السريع الى مركز سيؤل 45 دقيقة والعادي 55 دقيقة..
أما أن يكون الأسرع في الإجراءات ( 12 دقيقة للوصول و19 دقيقة للمغادرة) وفق بيانات المطار، فهو أمر مشكوك فيه، فمنذ أن حطت طائرتنا القادمة من هانوي حتى عبور مكاتب الهجرة استغرق 70 دقيقة! وهو زمن يفوق مطار بانغكوك (45دقيقة ومطار طوكيو ناريتا 40 دقيقة) أما المغادرة فكانت 30 دقيقة!! ولئن قيل أن أي مطار هو بوابة البلد، وصورتها المصغرة عنه، حتى وإن مرّ المسافر عابراً ( ترانزيت) من خلاله، فهذا ينطبق على مطار أنتشون الذي يعكس صورة صادقة عن تطور كوريا الجنوبية السريع المدهش!
***
منذ غادرنا المطار عبر جزيرة أنتشون بدا كل شيء حديثا جميلاً منظماً، جسور وطرقات وملاعب وعمارات وشوارع أنيقة ونسبة الاخضرار عالية بفضل الحدائق، والفصل ربيع الجو معتدل، المرور ينساب بدون عقد مرورية كنت وحدي في الحافلة حتى نهاية الخط حيث أكملت المسافة الى فندقي بتكسي الى حيث أقيم.
من الملاحظات الهامة في اختيار الفندق في العواصم الآسيوية - خصوصاً- أن يكون في مركز المدينة، لأنه سيوفر النقل ويتحاشى العقد المرورية إن لم يتوفر المترو، ثم سيوفر رياضة المشي  الى معالم المدينة وأسواقها ومطاعمها وخاصة الشعبية ما يتيح التعرف الى وضع البلد الثقافي والاقتصادي والاجتماعي..ناهيك أنه يوفر مبالغ غير قليلة تصرف للمواصلات..
وسيؤل ( وتلفظ بالكورية سُول) هي مدينة الأسوار وأهمها طرّاً سور سيؤل الكبير، وهي مدينة القصور الملكية والحدائق والأسواق التقليدية والأسواق الحديثة وأهمها وأكبرها مول لوته، وهي مدينة مركز التسوق، أما الحدائق فنصيب هذه المدينة التي غزتها الأبراج العالية نصيبها من الاخضرار واسع بفعل باركاتها الكبيرة المحافظة على النمط التقليدي الكوري المستمد من حدائق القصور الملكية، وهي المدينة التي غزتها الحضارة ومعطياتها على حين غرّة فتوسعت وجلبت من أبناء الريف الى المدن، فعلى الرغم من الثورة التكنولوجية التي عمّت البلد فإنك تلمس لدى الكوريين التواضع والطيبة الريفية والكرم رغم حاجز اللغة فقليل من يتكلم لغة أجنبية حية بل حتى قطاع السياحة ذا الخدمات الممتازة قلّ من يتكلم فيه الانكليزية!
 

جانب من حي ميونغ دونغ
تُعد مدينة سيؤل مدينة نموذجية لمن يتخذ من قدميه مركباً! لتنظيم مسالك المُشاة ومناطق عبور آمنة من أنفاق، والأنفاق هي وحدها مدينة مزدهرة تحت الأرض، لا تتعب الماشي قط لتوفر المصاعد والسلالم المتحركة، التمشي متعة كبيرة وأهم المناطق هو بارك نامسان وحديقته النباتية، وبرج مدينة سيؤول العملاق، معظم الأشجار والأزهار تحمل الأسم المرجعي العلمي (واضعه العالم السويدي كارل فون ليننيه) إضافة إلى الإسم الشائع..ويمكن النزول من البارك الذي يتبوأ تله نامسان (300م ارتفاعها) واسعة الى حي ميونغ دونغ الجميل بشوارعه وأسواقه وأشهرها سوق سامدمونغ هذه المنطقة لا تهجع ليلاً ولا تستكين نهاراً، بمطاعمها ومشاربها وما إلى ذلك من وسائل اللهو والمتعة البريء منها وغير البريء، هذا الحي لا تدخلة المركبات فهو مخصص للمشاة ...
من يتوق الى الطعام الشرقي ( الحلال) فعليه بحي إيته ون ، الذي يحتوي على الجامع الوحيد الذي أُنشىء في بداية الستينات، وهو بناء كبير على مرتفع اشتهر ببوابته المقوسة الواسعة ..وكان مسؤول الاستعلامات رجل كوري قال جواباً على سؤالي عن عدد المسلمين الكوريين: عددهم أكثر من خمسة آلاف مسلم وجلهم من الكوريين المتحولين! الذي أعجبني أن المسجد يستقبل طلاب وطالبات من كوريا وخارجها ولا يلزمهن بالحجاب! وقد شهدت نقاشاً بين الطلبة وبين شاب مسلم يجيبهن على اسئلتهن وقد اعطاهن ما يلزم من الكراريس باللغة الكورية! ثم راح الطلبة يجولون في أنحاء المسجد ويلقون التحية الإسلامية على كل من يقابلون... ولقد لاحظت وغيري أن المطاعم الإسلامية عموما غالية وأحسنها وأكثرها اعتدالاً هو "مطعم زعفران" الذي يقدم الأطباق العربية من المنسف حتى الكبسة!! وفي شارع المسجد تجد أيضاً مشارب ومراقص وما إلى ذلك، ويبدو أن أبناء العُرب لا ينسون نصيبهم من الدنيا!
وأنت نازل من إته ون نحو محطة سامغاكجي ستمر على نصب الحرب الكورية بمقابل وزارة الدفاع حيث هناك المُتحف الحربي، وقد اصابتني الدهشة حين عرفت أن كوريا كانت تصنع المُعَدات العسكرية المتطورة بما فيها الطائرات منذ الخمسينات!
ما يلفت النظر هو العدد الملحوظ للكنائس وأهمها كاتدرائية سيؤول، أما المعابد -البوذية والشامانية - فهي تقع فوق الجبال وحول مدينة سيؤول باستثناء معابد القصور الملكية معبد يوغييسا في وسط Jogyesa Temple  البوذية، والمعبد التاريخي الكبير والوحيد مدينة سيؤول وفي الحي الشهير جونغنوغو المزدحم بالجامعات والأسواق. وهو من أقدم المعابد التي تعكس ثقافة الزن البوذيين، المعبد مبهج حقاً وخاصة في بالوناته الملونة وتماثيل بوذا الذهبية في جلساته التأملية المتعددة، ويستقبل الزائر بكأس من الشاي الكوري ذي النكهة والعبق المميزين..
القصور الملكية الستة، هي كنوز مدينة سيؤول التي تتباهى بها بين كل العواصم الآسيوية ، ففي سيؤول وحدها هناك خمسة قصور ملكية تعكس مراحل العوائل الملكية لاسيّما مملكة جوسون حين قسِّمت العائلة لى عدة عوائل متخاصمة فبنت كل عائلة لنفسها قصرا مميزاً، والسبب الرئيس للإنقسام والتنافس هو أن الملوك كانوا يتزوجون أكثر من زوجة ويتخذون أكثر من مَحظيّة!! تماماً مثل خلفائنا العباسيين الذين زادوا على الزوجات بما ملكت أيمانهم من الجواري الفارسيات والتركيات والخلاسيات ووو..
لخصوصية معمارها وتنوعه بشكل هارموني وقيمه التي تعكس معتقدات المرحلة التي بني فيها، زد على ذلك حدائقها المحفوظة بأشجارها المعمرة وزهورها وبركها، والديكورات الأبواب واللوحات الثمينة على الجدران والسقوف والأشعار التي سجلت عليها وبعضها بخطوط الملوك الشعراء أنفسهم، ما أكسب هذه القصور أهمية ثقافية وتدوينية إضافة للفنون المعمارية والتشكيلية وكذلك الأثاث الذي سلم وحفظ وكان خير شاهد على ثقافة تلك المراحل..سأتوقف مع أهم قصرين، وهما : قصر غيونغبوك Geongbok Palace وهو أكبر القصور وأهمها، بني في بداية حكم عائلة جوسن حين أصبحت سيؤول هي العاصمة، حيث بني في وسطها عام 1394، يتميز ببوابته العملاقة الجمية ويضم هذا القصر 200 بناية تحتلف كل احدة عن الأخرى ما يشكل لوحة هارمونية متنوعة، فالبناية الكبري هي مقر الملك، وبناية التشريفات ، وبناية مخصصة للديوان الملكي وبناية للحرس، وبناية لكل زوجة فيه حدائق واسعة وبركة، شيد في وسطها قصر ترفيهي للضيوف وبناية خاصة لعلماء الفلك.. والملفت أن في كل بوابة

بوابة قصر  جيونغ بوك
هناك بوابة خاصة للأشباح والجن لا يجتازها الأنس لكي لا يصطدموا بالجن! أما بلاط القصر فشيد من أحجار لاتعكس اشعة الشمس كي لا تزعج ساكنيه.  جناح من القصر استغل كمتحف للثقافة الكورية..
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا القصر قد دُمّر من قبل الغزاة اليابانيين عام1592..وقد أعيد بناؤه عام 1865 وفق أسس البناء الأصلية، ثم دمرت بناياته المائتان عندما ألحِقت كوريا باليابان! ثم رمم من جديد بعد الحرب العالمية الثانية، فهو ذو سبعة أرواح!!
    قصر تشانغ ديوك Changdeok Palace  وهذا القصر المحفوظ من قبل اليونسكو للتراث العالمي، هو خير ممثل لحقبة سلالة جوسيون الملكية (1392-1897)، يقع شرق قصر جيونغبوك ببضعة مئات من الأمتار، وهو وإن كان أصغر من الأول إلا أنه أكثر عكسا لثقافة عصره من ناحية المعمار والحديقة المشهورة "الحديقة السرية" ذات المداخل والممرات المدهشة والتي تحتوي أشجاراً ونباتات نادرة يبلغ عمرها عدة قرون!، وأهم ما فيه مقتنيات الملوك وكتبهم وأشعارهم لا سيما الملك الشاعرإيشان Iysan  حيث لا زالت بعض قصائده معلقة بخط يده بالخط المتداول الى اليوم وأعني به خط الهنغول..الحديث عن هذا القصر التاريخي يطول فهو يحظى بأهمية متفردة.. وقد عانى ها القصر الخراب نفسه لعدة مرات خلال مراحل الغزو الياباني ولم يسلم منه إلا 30% قبل أن يعاد بناؤه..
وأخيرأ لا بد من التنويه بقلعة هواسيونغ العملاقة والتي بمثابة مدينة سيؤل الجنوبية وقد سوًرت بأسوار، نظراً لما عانته هذه المدينة من الغزاة، شُيّدت عام 1796 واستخدم في تشييدها تقنيات حديثة من رافعات وعتلات؛ ونظراً لكونها واسعة فيمكن المرور على أهم أسوارها وأبراجها بمقطورة سياحية مكشوفة، وللأسف لم يتوفر دليل يتكلم الإنكليزية، وإنما سيجود عليك من يجاورك الذي يلم بالإنكليزية بعض الإلمام بشيء من معلومات الدليل!
لقد ركّزت على أهم العيّنات التأريخية والثقافية في سيؤل ونأيت عن الجوانب الترفيهية وما أكثرها! 


56
رحلة.. ودرس من كوريا-1
خالد جواد شبيل

 لا أريد لهذا الموضوع أن يكون مجرد عرض سياحي ولا أريده أن ينضوي تحت أدب الرحلات وحسب، إنما أن أكتب عن بلد تعرض الى احتلالات من قبل دول الجوار التي استضعفته، وما كان لَيسلم من حرب (أو ينتهي احتلال) حتى يبدأ بأخرى، فتاريخه سلسلة من الحروب التي مزقته وكان آخرها تلك الحرب التي شنها التوأم الشمالي، والتي استمرت ثلاث سنوات(1950-1953) أُزهِقت فيها أرواح كثيرة وسُفِكت دماء غزيرة وخُرِّبت ديار معمورة فاصبحت أنقاضا.. ومن ذا يتصور أن المتحاربين هم من شعب واحد وعرق واحد وقومية واحدة بل ومن موطن واحد يتكلم ابناؤه لغة واحدة ينطقونها ويكتبونها كأي شعب متجانس ثقافياً واجتماعياً وقوميا؟!!
 أريد أن أتابع الشطر الجنوبي واسمه الرسمي "جمهورية كوريا" والمتداول الشائع هو كوريا الجنوبية؛ زُرته ومكثت به بضعة أسابيع من شماله الى جنوبه ومن بحر شرقه الى بحر غربه وأنا منذهل وما زلت منذهلاً لما حققه من معجزات وكأني به الفينيق ذلك الطائر الأسطوري الذي ماانفك ينبعث من الرماد؛ فلعلنا نحن أبناء العراق المصطلى بالحروب نلتمس فيا ذلك درساً يُعتبَر وتجربة تُستلهَم...
****
تاريخ شبه الجزيرة الكورية تاريخ معقد ومتشابك بفعل الاحتلالات، التي يكون لليابانيين فيها حصة الأسد، إضافة إلى احتلال الصين للقسم الشمالي وكذلك منشوريا.. حتى أن  اسمها مرّ بعدة تقلبات من أقدمها مملكة غوغيوريو في القرن الأول الميلادي ثم في  القرن السابع الميلادي حيث كان التوحيد بين الدويلات المتشاحنة، وتمتعت كوريا بقوة وهدؤ نسبي لبضعة قرون، وفي هذه الحقبة تم ابتداع أبجدية الهنغول التي مازالت متداولة في عهد سيجونغ نسبة الى الملك العظيم في 1446م  الى أن رسا اسمها على كوريا في نهاية القرن السابع عشر إضافة الى اسم جوسيون الذي ظل شائعا عند الكوريين حتى يومنا هذا..
كوريا قبل الانقسام:
 لابد من مراجعة سريعة لتاريخ كوريا قبل الانقسام، ففي سلالة جوسيون اتسمت كوريا بقوة ومنعة أستطاعت خلالها المحافظة على استقلالها رغم المعارك الطاحنة مع اليابانيين الغزاة الذين أجبروا على التراجع بين الأعوام 1592 و1598 حيث التحم المدنيون والعسكريون للدفاع عن كوريا وقد نالوا دعماً من الصين عدوة اليابان اللدود. وفي الأعوام 1620 إلى 1630 تعرضت لغزو كبير وهذه المرة من منشوريا وبعد كر وفر في حرب عوان شهدت جوسيون نحو 200 سنة من السلم برز فيها الملك يونغ جو الذي يُعد باني نهضة كوريا الحديثة، التي شهدت قوة وانعزالاً عن العالم حيث لقبت ب " مملكة الناسك" ، وفي القرن التاسع عشر حاولت مملكة جوسيون ان تنأى بنفسها عن الغرب المستعمر واقتصرت العلاقة معه على العلاقات التجارية إلى أن تعرضت للغزو الياباني الأخير من 1910 إلى 1945 حيث أحتُلت وضمت إلى اليابان..
الحرب والانقسام:
 مع مؤشرات رجحان كفة الحرب لصالح الحلفاء وبودار انهزام دول المحور وبداية احتدام الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة التي اصيبت بقلق شديد نتيجة تعاظم قوة الاتحاد السوفيتي ودعمه لشعوب العالم المتطلعة للاستقلال وبروز الكفاح المسلح في كوريا بقيادة الشيوعي كيم إيل سونغ المناضل العتيد ضد اليابان من أجل الأستقلال والمدعوم من قبل الصين والاتحاد السوفييتي واشتداد الصراع بينه وبين عدو الشيوعية سونغ مان ري عميل أمريكا ورجلها المفضل، عقد لقاء القاهرة بين الأطراف المتنازعة عام 1943 الذي يبحث الشأن الكوري بعد الاحتلال الياباني، ولم تفلح جهود التوحيد بل أصبح الانقسام الى شطرين واقعاً عام 1948.
وهكذا أصبح كيم أيل سونغ رئيسا للوزراء في كوريا الشمالية في ايلول/ سبتمبر، والتي اصبح اسمها الرسمي كوريا الشعبية الديمقراطية، وبعد أقل من شهر اعترف بها الاتحاد السوفييتي واعترف بكيم أيل سونغ رئيساً لكل كوريا (بشطريها).
أما عين أمريكا ويدها سونغ مان ري المعروف بتسلطه فأصبح رئيساً للحكومة المؤقتة في كوريا الجنوبية  ثم فاز في أول انتخابات للجمهورية المعلنة حديثاً في شهر ماي ، اي هو الذي اخذ زمام المبادرة قبل كيم إيل سونغ! ومن المعروف أن أنصار الشيوعية يومذاك في الشطر الجنوبي يشكلون قوة حقيقية على خلاف الشطر الشمالي حيث كان المقاتلون من جميع أنحاء كوريا! ما جعل نتائج الانتخابات مشكوك بها، حيث قاومها الشيوعيون في الجنوب لاسيما في جزيرة جيجو.. وهكذا أصبح كل حاكم في كل شطر يلاحق ويضطهد أنصار الشطر الآخر!
الحرب:
 إزاء هذه التطورات وقمع الشعب في كوريا الجنوبية المناهض والمقاوم لحكومة سونغ مان ري، والمطالب بالوحدة قامت كوريا الشمالية ذات الإعداد العسكري المتفوق بشن حرب تهدف الى إسقاط سونغ ري وتوحيد الشطرين في 25 حزيران/ جونيه 1950 وهكذا اندلعت شرارة الحرب التي دفع نحوها قطبا الحرب الباردة، وقد قاطع الاتحاد السوفييتي الأمم المتحدة ليفوّت حق النقض على امريكا وحلفائها، وهكذا تدخلت الأمم المتحدة لصالح الجنوب ، وكذلك الولايات المتحدة ، بينما دعم الاتحاد السوفييتي والصين الشمال، لقد استمر الحرب لمدة ثلاث سنوات وراح ضحيتها 3ملايين شخص من الطرفين وأكثر الضحايا من المدنيين..ناهيك عن المعطوبين والدمار الشامل الذي لحق بالشطرين...وهكذا تم توقيع اتفاقية الهدنة في 27 تموز يوليو 1953 بإشراف الأمم المتحدة .. وإقرار بشريط الهدنه DMZ.
زيارة DMZ:
وهذه الأحرف الثلاثة تشير الى   Demilitarized Zoneوتعني المنطقة المنزوعة السلاح أو اللاعسكرية. وهي عبارة عن شريط رسم حيث توقفت الحرب أو حيث هدنت، بين الشطرين بعرض 4كم يتوسطها خط عسكري مرسوم يمثل الحدود الفعلية حيث لكل جانب منه كيلومتران، أما طول الشريط فهو 250كم.
 

تنظم السفر مؤسسات سياحية ويجب الحجز مسبقاً.. يبعد هذا الشريط حوالي ساعة وربع الساعة عن سيؤل بالحافلة السياحية مع دليل. ويتم تسجيل أسماء الزائرين وجنسياتهم، وهكذا عرفت أن معظم المسافرين من النساء ومن جنسيات آسيوية مثل اليابان والصين وتايوان والفلبين وكذلك استراليا .. والقليل جدا من الأوربيين مثل اسبانيا وفرنسا وأنا كنت العربي الوحيد! ولا شك إن مثل هذه السفرات لا تنطوي على جانب مبهج أو ترفيهي رغم جمال المنطقة، فأكثر ما تجذب المهتمين بالسياسة أو ما يتعلق التاريخ السياسي المعاصر، كانت نسبة الصحفيين والمدرسين والطلبة هي الغالبة..يبلغ عدد الزائرين سنوياً بحدود خمسة ملايين أكثرهم الكوريين والآسيويين. أفاضت الدليل بمعلومات جيدة عن الفرق بين الشطر الشمالي والجنوبي وقالت أنها من أصول شمالية، ونوهت بالشماليين واجتهادهم حتى أنهم ساهموا بفعالية في بناء الجنوب مثل شركة هونداي العملاقة حيث صاحبها شمالي وقالت لا فرق بين الناس قط بالمظهر إنما في اللهجة حيث لهجة الشماليين ذات نبرة عالية وتكلمت عن العوائل التي نصفها في الشمال والآخر في الجنوب، وكانت لا تترك فرصة لشرح المعالم التأريخية التي تواجهنا بما لاتجده متوفراً في المدونات!
بعد نحو أربعين دقيقة بانت الحدود بين الكوريتين، من ناحية الشمال الغربي حيث نهر إمجين الحد الفاصل وسياج عال من الأسلاك الشائكة، صعب الاختراق، لاتجد في النهر أي حركة لقارب أو لصياد! من الضفة الأخرى تبدو قرى كورية شمالية يطلق عليها بالقرى الزائفة أو قرى الدعاية حيث هي مجرد بيوت تظهر للرائي واجهاتها ولكنها حسب الدليل غير مسكونة فلا سيارة ولا دراجة ولا إنسان يمشي بل حتى المداخن لا دخان يخرج منها!
المنظر خلاب لذا أقامت حكومة الجنوب ببناء متنزه وفندق لأجل محو صورة الحرب وإضفاء شيء من الحياة المدنية ولكن جنة من غير ناس لا تكون جنة! ومع ذلك فهو يُشغل من قبل ضيوف رسميين على الأغلب.عبرنا جسراً اطلق علية جسر الوحدة. ثم قرية حديثة مكان القرية التي محتها الحرب سميت قرية الوحدة.
توقفنا حيث قطار بقي في مكانه وقد أبيد ركابه وكلهم من المدنيين لا سيما النساء والاطفال. هناك منصة لمشاهدة الجانب الآخر حيث السكون المطبق.. هناك نصب للسلام ولوحات رسمها رسامون من مختلف العالم تنشد الحب والسلام،  ثم انطلقنا نحو النفق الثالث فما هي حكاية الانفاق؟!
الأنفاق وزيارة النفق الثالث:
 كان العام 1974 هو عام المفاجأة لكوريا الجنوبية، ففي اليوم الخامس عشر من ت2/نوفمبر اكتشف مراقبون عن طريق الصدفة بخاراً ودخاناً يخرج من الأرض، وبعد خمسة أيام كانت المفاجأة وعندما أعلنت الخكومة الجنوبية عنه رد الشماليون أنه منجم للفحم، ولم يوجد فحم إنما بقايا ذخيرة محترقة!! لذا سارع الشماليون بصبغ الأنفاق غير المكتشفة باللون الاسود لإعطاء منظر هباب الفحم (الانثراسيت).. وكان هذا النفق هو الأول يسع لمرور 200 جندي في الساعة، كان ارتفاع النفق1.2م يمتد لكيلومتر واحد موجه من الشمال الى الجنوب نحو سيؤل!
وهكذا بدأت الاكتشافات تترى وفق السنوات التالية:
الثاني في 19 آذار/مارس 1975عمقه يتراوح بين خمسين الى مائة وستين مترا طوله بنفس طول الأول بأبعاد 2في2م.
الثالث في 17ت1/ اكتوبر 1978 ولا يشبه النفقي السالفين طوله 1600م وبعمق 73م .
الرابع في 3آذار/مارس عام 1990 أبعاده 2في2م وبعمق 145م. وهو مماثل للثالث.
والثالث هو الوحيد الذي يسمح بزيارته، لذلك ذهبنا الي بناية تابعة له تحتوي مقهى ومطعم وصالة عرض أفلام وصالة عرض صور ووثائق.. لم يكن الفلم طويلاً بل لعشر دقائق رحمة بالمشاهدين ولكن هذه الدقائق العشر مرت طويلة مرعبة بكل ما تحمل من معنى لما تضمنته من أهوال لا أريد وصفها؛ يكفى أن الناس بعد انتهاء العرض كلهم في بكاء صامت والدموع منهمرة على الخدود!
ثم انتقلنا إلى صالة تفضي إلى النفق تركنا كل حاجاتنا في صندوف يقفل وإعطي الراغبون بالنزول خوذة لحماية الرأس، ورقماً يعلق بمثابة هوية، ولكون التصوير ممنوعاً استطعت ان أختلس صورة مرتبكة.. ربع مجموعتنا امتنع عن النزول، وهكذا نزلت، كان النزول بعمق 73م والمشي لمسافة 650م ، لولا الخوذة لما سلم الرأس من الصدمات بالسقف، كنا نمشي أكثر المسافة منحنين! هو مضاء وأرضه مبلطة على الأغلب ولا يشبه أنفاق كوجي في فيتنام حيث قطعت 50م أزحف على أربع وكدت اختنق، وما زال منظرها يأتيني في المنام ككابوس خانق! انتهينا الى باب حديد مغلق حيث الجانب الشمالي، رجعنا والرجوع أصعب من النزول والجو رطب وبارد في النفق! استغرق النزول 20 دقيقة والصعود 30 دقيقة.
انتقلنا الى زاوية أخرى وعلى منصة لمشاهدة كوريا الشمالية، شاهدنا معملاً للملابس شيدته حكومة الجنوب كهدية للشمال في زمن كيم جونغ أيل الذي كان من دعاة التقارب، وكذلك معملاً للمواد الغذائية تبرعت به هوينداي، ومشاريع إنمائية من لدن الجنوب لمساعدة الشمال لكنها جميعاً قد اغلقت مع مجيء الشاب كيم جون أون المتشبه بجده كيم أيل سونغ!


وقبل أن افرغ من الموضوع، يدور سؤال: هل هي هدنة محترمة من الجانبين؟
لا ، بل (كلا)، فالاختراقات قد تكون عفوية كا حصل عام1976 حيث كان أحد المراقبين يقلم شجرة بالفاس فاشتبه به الطرف المقابل وبودل اطلاق النار وهي حادثة 1976  التي راح ضحيتها مراقبان ساميان مو القوات الدولية! والحادثة الثانية عندما فرّ لأحد ضيوفي كوريا الشماليه السوفييت واخترق خط الهدنه فحدث صدام كبير في 23 ت2 نوفمبر عام1984وراح ضحيته جندي جنوبي وثلاثة شماليين.. وهذا غيض من فيض...
خالد جواد شبيل
الفاتح من حزيران 2016 رام كم هنغ



 

57
المنبر الحر / من بلاد الهايكو-5
« في: 12:22 12/11/2015  »
من بلاد الهايكو-5
خالد جواد شبيل
في الطريق الى هيروشيما انتابني إحساس بأنني خلّفت الوجه الجميل لليابان ورائي وأنني مقبل الى مدينة كئيبة ذات وجه يغشاه العبوس أو الحزن، وزدت أكثر بأن الناس فيها أبعد ما يكونون عن المرح، وأن المدينة ماتزال تعاني من عقابيل التلوث الإشعاعي وغير ذلك من ألوان التلوث..كلُّ تلك الهواجس تكوّنت واعتملت على خلفية التاريخ المأساوي القريب لهذه المدينة، لهذا فكّرنا أن ثلاثة أيام ستكون كافية؛ فهل صدق الإحساس؟ وهل صحّ التخمين؟
نخرج من المحطة لنواجه مدينة هيروشيما الواسعة  وما أكثر المدن التي تنتهي  بلاحقة شيما أو جيما وتعني جزيرة، الساحة فضاء واسع نظمت فيه سيارات التكسي ومواقف الحافلات وعربات الترام.  بدت المدينة منبسطة حديثة، والترام يسير بنا نحو مركز المدينة نقطع نهرين متوازيين ومتفرعين ليكونا جزيرتين جميلتين. هي مدينة الاخصرار والازدهار، الناس يبتسمون بل ويمرحون بضحك عال عندما لا يحصل التفاهم! الهواء عليل، البنايات متناسقة الناطحات قليلة إلا في المركز، لا تواجهك في هذه المدينة معابد ولا بنايات أثرية عديدة فقد أتت القنبلة الذرية على كل شيء وما تبقى لابدّ من إزالته للتخلص من الإشعاعات ومخاطرها المدينة نهضت من الرماد!هي مدينة المتاحف، والمطاعم والمشارب كثيرة جداً ولا غرو فالمدينة اشتهرت بمآكولاتها اللذيذة ومشروباتها السائغة، وهي مدينة أرخص من غيرها..كلما تتوغل فيها تحسبها بغداد وقد لبست حلّة قشيبة!
جميع المدن الكبرى التي زرناها منبسطة في بلد يكون ثلثاه من المرتفعات والجبال، وهنا في الجنوب الغربي يكون الشريط الساحلي ضيقاً جداً ويُسمى الجانب من سلسلة الجبال المواجه للبحر سانيو (الجانب المشمس) بينما الثاني يسمى سانين (ظل الجبل) والذي تقع علية مدن مقاطعة هونشو ومنها هيروشيما. لذا يكون تأجير الدرّاجات وركوبها متعة وفضول.
يقع بارك السلام وهو أهم مَعلم فيها على بعد خمسمائة متر من فندقنا..فهو محصور بين فرعي النهر الغربي هون كاوا، حيث جزيرة نكاجيما ضمت البارك والمتحف والنُصُب التذكارية وبناية القبة، والمُلفت أنك لا تجد كلمة حرب بل حذفت لتحل محلها كلمة السلام !!  الجزيرة قبل المأساة كانت قلب المدينة النابض بالحياة حيث المعابد والمعاهد والعمارات السكنية والملاعب الرياضية..
أهم مَعلم هو متحف هيروشيما التذكاري للسلام، على الزائر أن يكون متماسكاً لهول مايرى، سيرى عرضاً سينمائياً للمدينة قبل القصف الذري، عمال يذهبون الى المعامل وموظفون الى دوائرهم وطلبة الى معاهدهم وأطفال تدفعهم أمهاتهم بالعربات أو تأخذهم بالدراجات الى رياضهم..حركة دائبة لوسائط النقل المختلفة في شوارع لمدينة تعد كنزاً لمبانيها التراثية ومعابدها ومعاهدها...ثم تتغير الصورة رأسا على عقب، خراب ودمار وقتلى مشوهين وملابس متهرئه وحيوانات نافقة ومصانع ومشافي ومعاهد مهدمة.. ووسائط نقل استحالت هياكل حديد..ثم ترى شيئيات السينما مجسمة بعينات من مخلفات الحرب دراجة ثلاثية لطفل ملابس خوذات العمال ومخزن لبيع الكهربائيات انصهرت محتوياته ومعمل للمصابيح تلاصقت مصابيحه وفقدت أشكالها، ولسان بشري قد اندلق من فم صاحبه.. وجدران لروضة أطفال..ثم وصف علمي للقنبلة  ومكان سقوطها على مرمى حجر من المتحف، وتحول مكانها الى حديقة مزدانة بالزهور! المتحف يوثق لكل ما حصل توثيقاً مدهشاً لدقته وواقعيته..لم أر سجلاَ لكتابة الزائرين ولكنني تذكرت متحف جرائم الحرب العدوانية في مدينة هوشي منه (سايغون) الذي وثق كل جرائم الفرنسيين الذين هزموا في معركة ديان بيان فو من مقاصل قطع الرؤوس وغرف التعذيب ثم حل محلهم الأمريكانيون وجرائم القصف بالنابالم ووسائل تعذيبهم للثوار..لقد قرأت في سجل الزوار كتابات الشباب الأمريكيين وأتذكر منها: ليتني لم أكن أمريكياً (ية)؛ أشعر بالخجل أن أكون أمريكياً(ية) وليتني ما خلقت في الولايات المتحدة!
يبدو نصب السلام ذا شبه بنصب الجندي المجهول في بغداد الذي أزيل منها، شُيِّد عام 1952، ويطلق علية القبر الخاوي cenotaph حيث سجلت أسماء الضحايا، الذين يقدر عددهم  140000من غير المشوهين والمعاقين وفي كل صباح يُبدل إكليل الزهور، خلف النصب هناك الشعلة المتوهجة للسلام، احتوى البارك على نصب الضحايا من الأطفال؛ وهناك برج لضحايا الطلبة على شكل سلّم يرتفع الى الأعلى؛ ونصب للأمومة، ونصب الضحايا الكوريين للقنبلة الذرية، وقاعة للمحاضرات ودار استراحة ..وساحة للمهرجانات السنوية للسلام في كل يوم من السادس من آب أغسطس حيث تقرع الأجراس..
عندما تعبر النهر من الجهة الشرقية هناك بناية القبة للسلام وهي في الحقيقة قبة القنبلة الذرية؛ وهي أكثر معلم باق يشير الى حجم المأساة التي طالت المدينة بتدشين أول قنبلة ذرية سقطت بالقرب منها. صمم هذه البناية المعمار التشيكي  في عام 1915 لتكون مقر الترقية الصناعية، والبناية تحفة معمارية، صمد الهيكل الصخري وكل ما عداه دمِّر، وبقي هيكل لقبة البناية مسيّجة ويمنع الدخول إليها لمخاطر الاشعاع! لقد قتل كل الذين كانوا بها من الكادر الصناعي وعموم المشتغلين ولم يسلم أحد. لقد بقيت البناية تروي حكاية المأساة ما حدا باليونسكو أن تضمها لمحفوظات التراث العالمي منذ عام 1969.


نصب السلام ويظهر من داخله موقد الشعلة ثم هيكل القبة الشهيرة للبناية الوحيدة التي بقيت !
   
ما أود أن أقوله بأن بارك السلام هذا لم يكن الهدف منه هو كشف ويلات الحرب الذرية التي راح ضحيتها المدنيون فحسب إنما تكمن أهميته في الدعوة الجادة للتخلص من الحروب نضالاً ونشداناً للسلام العالمي في أن يعمَّ كوكبنا هذا، حيث لا تني الحروب تدمر الإنسان والحيوان وتهلك الزرع والضرع! ونحن في العراق الذين اكتوينا ومازلنا بالحروب أجد من الضروري إقامة النصب شواهدَ لجرائم الحروب ومن أجل أن نجعل السلام مادة يتطلع لها الأطفال لتكبر معهم حيث تكبر الأحلام لبناء عراق السلام.
لا أريد الاستغراق في المتاحف المعتبرة في هذه المدينة، مثل متحف مقاطعة هيروشيما للفنون، ومتحف مازدا والمكتبة العامة..ولكن لا بد من الترفيه والمتعة في رحلة الى جزيرة مياجيما.
هي جزيرة حالمة بكل معنى الكلمة مكن الوصول اليها بالترام لسبعين دقيقة، أو برحلة مائية في قارب، لعل فيها معالم عديدة أولها الغزلان التي تستقبلك بميانة فتسحب الخرائط أو المحافظ أو الملابس وفي كل الحالات هي وديعة تستطيع أن تلمسها وتداعبها؛ فأول إعلان يواجهك وأنت تطأ أرض الجزيرة هو يحذرك منها ومن فضولها! المعبد العائم هو معبد خشبي واسع جداً يجذبك بلونه الأحمر فهو عائم عند المد  ثابت عند الجزر وتجد بوابته في وسط الخليج يمر تحتها الصيادون تيمنا بصيد وفير!
في المرتفعات معابد قديمة وأبراج تنزل منها لتدخل السوق الجميل المكتظ بالسائحين، وفي دروبها معامل للمصنوعات اليدوية وصناعة البسكويت الخاص بالمدينة يصنع أمامك لتاكله طرياً. وهناك باركات في غابات المرتفعات تسكنها الحيوانات البرية ومنها القرود. تعد هذه الجزيرة أهم ثالث معلم يزار في اليابان! يمكن المبيت فيها لمشاهدة منظر الغروب. 

المعبد العائم في جزيرة مياجيما شُيد من الخشب عام1680 وترجع جذوره الى القرن السادس!
قررنا أن نقضي نهاراً في مدينة أوساكا فهي تبعد ساعتين بالقطار الطلقة من هيروشيما، وفي الذهاب ركب مجموعة من الطلبة في العربة وكانت الصدفة أن جلس بجنبي أحد معلميهم وأعجبني انضباط الطلبة هم من ثانوية نيوزيلندية تبادلنا أطراف الحديث مع معلمهم، اللطيف وعرًفني باليابان التي تردد عليها عدة مرات بسفرات مدرسية، وكان محبا لليابان يلم بلغتها بعض الإلمام كان الحديث معه ممتعاً فهو مدرس ملء الفم، ولم ندر كيف انقضت الساعتان، ودَّعنا بعضنا متمنين سفرة طيبة!
هذه أوُوسَكا هكذا تلفظ باليابانية هي ثالث أكبر مدينة بعد طوكيو ويوكوهاما، وهي مركز اقتصادي كبير، فهي مدينة القنوات والجسور، وهي مدينة المسارح لا سيّما مسرح الدمى، وهي مدينة المعاهد وإذا ذُكرت فتذكر جامعة كانساي تأسست 1886، وجامعة أوساكا العريقة التي تأسست عام 1931. وزد على ذلك فهي مدينة المتاحف مثل متحف أوساكا التاريخي والمعارض الفنية وبناية أوميدا ناطحة السماء، وفيها أقدم المعابد المحفوظة في اليابان وهو معبد شيتنوجي البوذي الذي تأسس عام 593م، وفيها الكثير الكثير.
 ولكن لابأس أن نسأل في المركز السياحي لعلنا نتحصَّل على خرائط ومعلومات تُغني عن الكتاب الثقيل، وهذا ما حصل فعلا وكم ضحكت الموظفة حين قلت لها نريد أن نقضي عدة ساعات فما هو أهم مايُرى؟! قالت عدة ساعات في أوساكا؟!! فأشارت لنا ببارك أوساكا ومنه الى قلعتها ثم الأكواريوم ثم .. ثم.. فهي محقة عندما ضحكت متعجبة فما مثل أوساكا ما يُرى في ساعات!
ركبنا القطار المحلي ولم نجد صعوبة في الاستدلال على البارك والقلعة، حيث نصبت خارطة كبيرة توضح معالم الطرق للمعالم؛ فهو من الحدائق الهامة فيه نُصب فنية وقاعة مسرح وقاعة نشاط رياضي ثم تمشينا بمحاذاة البحيرة فلاحت لنا القلعة العالية وبرجها الشهير. الصعود يتم بمصعد وهناك من يصعدها على قدمية، هي مثال للقلعة المحصنة بخندق مائي وجدار صخري عال الدخول إليها عبر جسر تاريخيّ تتألف من خمسة طوابق كل طابق يروي عن شيئياته وتصميمة بالتصوير الناطق وما يمكن أن يرى من كل جانب والأفلام التاريخية التي صورت فيه والمعارك التي دارت في القلعة ..أجمل ما في القلعة هي الإطلالات الأربعة على المدينة العملاقة وعماراتها الشاهقة.. فيها أسواق لبيع التذكارات، وبعض المطاعم، ثم رجعنا لنتجول في مركز المدينة وشوارعها وأسواقها وقد أوشك النهار أن ينقضي حين عُدنا الى هيروشيما!
في الفندق الذي كنا نتناول فيه الفَطور، جلست شابتان فسألتني إحداهما أين ستذهبون بعد هيروشيما فقلت لها مداعباً الى " إيدو" فضحكن عندما قلت أتعرفانها فقلن بالتأكيد هي طوكيو. وذات مرة سألت غيرهن من المناوبات هل يقص عليكم كبار السن ما حدث، فقلن نعم نحن نحفظ الحدث وتسلسله الزمني ونحن من المدينة لقد ذهب الكثير من أجدادنا وعوائلهم ضحايا للقنبلة الذرية وما زلنا ندفع الثمن!
فارقنا مدينة هيروشيما مفارقة المحب، فقد طابت لنا مُقاماً بل هي الأطيب في كل ما رأينا في بلاد اليابان ذات المرابع الجميلة..ونفارق اليابان وقد أودعنا فيها زمناً فيه جمال وطيب وفيه عبرة لمن اعتبر.
هذه آخر حلقة، بيد أنني أفكر أن أكتب مادة أخرى بمقالة واحدة عن اليابان خارج هذه الحلقات الخمس، ألتمس فيها عنواناً لعل فيه فائدة تُرتَجى: دروس من بلاد اليابان.   



 

58
المنبر الحر / من بلاد الهايكو- 4
« في: 15:47 05/11/2015  »
من بلاد الهايكو- 4
خالد جواد شبيل
رأى البرق شرقياً فحنَّ الى الشرق- ولو لاح غربيّاً لحنَّ الى الغربِ
فإنّ غرامي بالبُريقِ ولمحه – وليس غرامي بالأماكن والتُربِ
روته الصَّبا عنّي حديثاً معنعناً – عن البتّ عن وجدي عن الحزن عن كربي
فقلتُ لها: بلّغ إليه فإنه – هو المُوقدُ النارَ التي داخل القلب
لله درُّك سيدي محيي الدين فما ألمعَ برقَكَ وما أوسع عبارتَك! وأنت تفيض بإشراقات حبّك أنّى توجهت ركائبك وحلّ رحالك في مسجد أو دير رهبان أو معبد بوذيّ تحمل في إهابك دِين الحب..حنانيك سيدي حنانيك؛ أراك تطوي الفيافي والوهاد على ظهر راحلتك من ألأندلس/الغرب الى الشرق/دمشق وأختها الموصل، وأنا أطويها على متن مُجنَّح طائر أوفي جوف أُفعوان من حديد يطوي الفلا طيّا اسمه قطارالطلقة!
 بعد أيام ستحل ذكرى وفاة دفين دمشق الخامسة والسبعين بعد المائة السابعة محي الدين بن عربي الطائي الأندلسي 558ه/1164م-638/1240.
وقد جارى ابنَ عربي تلميذُه العارفُ المتصوفُ الرحّالةُ المفكرُ المضطهَدُ عبد الغنى النابلسي دفين دمشق 1050ه/1641م-1143ه/1731 حيث قال:
فقلتُ لأهل الغرب لا تعتبونني- بكم إنني في الجمع من غير ما فرقِ
ألا فاعذروا طرف المحب فإنّهُ – رأى البرق شرقيّا فحنّ الى الشرقِ
كأني بذينيْك الجهبذيْن الإنسانييْن يعرفان أن شاعرأ سيأتي أهلوه من الغرب ليحل في الهند ويولد في بومبي حاضرة الهند "جوهرة التاج البريطاني" ليصبح شاعر الأمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس وهو الشاعر القاص المتعالي رديارد كبلنغ Rudyard Kipling 1865-1936 الذ ي قال من قصيدة يمجد بها الرجال الاقوياء العساكر الذين يأتون من نهاية العالم ليجتاحوه في قصيدة يبدؤها:
الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا
Oh, East is East and West is West and the twain shall not meet.
لقد حمل الزمن إجاباته ونهض الشرق ووقف نداً قويا للغرب وتهاوت مقولة شاعر الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس متناسية أن الشمس تأتي من الشرق!
***
نحن الآن في مدينة ميشيما، وفي محطتها الهامة، علينا أن نستحصل بطاقة السكك الحديد بتقديم وصل الشراء من الخارج، حصلنا على البطاقة وعلينا أن نأخذ القطار الطلقة سيوصلنا الى كيوتو بساعتين وربع الساعة، والقطار هو هيكاري، جاء يتهادى، بدا كأنه تمساح عملاق، تحرك هادئا ثم جرى مسرعاً ولا يصدق راكبه أن السرعة تتراوح بين 280كم/سع الى 300 ، فكان متوازناً، بيدك الكاس مترعة فلا يتحرك سائلها!! وأسرع منه وأروع هو قطار نوزومي الذي لا تتيح لنا بطاقتنا استقلاله..
ها هي كيوتو، حططنا الرحال في محطتها العملاقة وسنركب قطار النفق بنحو تسع وقفات الى حيث نريد في الضاحية الشمالية. حيث الجامعات والمعاهد..وإلى أن نصل هناك، فلا بد من وقفة سريعة على كيوتو ليست كوقفة أبي المُحسّد على الأطلال:
بَليتُ بِلى الأطلال إن لم أقفْ بها – وقوفَ شحيح ضاع في التُرْب خاتمُهْ
وأنا وقفت معه على الهاء! فالشُح لا يستوي مع السياحة في هذا البلد.
هي مدينة التاريخ التليد ومنبع التقاليد وكنز الثقافة اليابانية الأصيلة و حافظتها، ولأنها مهد البوذية، فيها الف وستمائة معبد بوذي وأربعمائة معبد شنتو، من غير المقامات الدينية كل ذلك من المعمار الياباني الأصيل المتعدد الألوان، ما جعلها من ضمن التراث العالمي المصون المسجل والموثق في اليونسكو؛ وهي مدينة بنات الجيشو* برقصهن وهن حاملات المراوح الأنيقة وموسيقاهن الراقية الضاربين في عمق التقاليد التأريخية، وهي مدينة مسرح الكابوكي**، وهي مدينة الكاروك*** والأزياء الشعبية بما في ذلك الكيمونو وهي مدينة المحاربين الساموراي والسومو؛ وهي المشهورة بمطبخها ومطاعمها وفنادقها الباذخة والمنافسة لباريس ولندن وروما، وهي مدينة الشعر والفن المشرِعة أبوابها للفكر والثقافة المعاصرتين، وسيفهم القارىء أنها مدينة الأرستقراطية ولكن مهلاً مهلا..
هي أيضاً مدينة الفكر التقدمي وقلعة من قلاع الشيوعيين واليسار الجديد بشتى تلاوينه، ولا بدّ من وقفة مختصرة (سأتوسع بها في الحلقة الأخيرة عن السياسة والدين في المجتمع الياباني).. فمنذ أن نزعت اليابان ثوب العسكرتاريا أو انزِع عنها شمّر الشيوعيون سواعدهم مع عموم الشعب في بناء البلد وساهم مفكروهم وأدباؤهم وتكنوقراطهم في حملات البناء وحازوا على ثقة الشعب، ولولا حالة الانشقاقت والتجمعات اليسارية الجديدة  والتروتسكية، وهي لو تجمعت لغدا الشيوعيون قوة كبيرة ومع ذلك فهم القوة الثانية في كيوتو والثالثة في طوكيو ولا يختلف الحال في الحواضر الأخرى وهامن  نتائج الانتخابات للمجالس البلدية Kyoto City Assambly في عام 2013 في كيوتووعدد أعضائه الكلي 69:
الحزب الليبرالي الديمقراطي 22 مقعداً، الحزب الشيوعي الياباني 14 مقعداً، الحزب الديمقراطي في اليابان 13 مقعداً.
أما المجلس البلدي في طوكيو Tokyo Metropolitan Assamblyالذي قوامه 23 بلدية للعام 2013 لمجموع 127 مقعداً فهو:
الحزب الليبرالي الديمقراطي 59 مقعداً؛ كوميتو 23 مقعداً؛ الحزب الشيوعي 17 مقعداً.
وصلنا الى محطة ماتسوساكي واستدللنا الى الفندق لذي بدا قسماً داخلياً للطلبة، صاحبته ذات طبع عسكري، المنطقة جميلة فيها كليات ومعاهد عالية، كان في النزل شاب رائع إيطالي، جاء من شركته الأيطالية موفداً خبيراً في المتاحف، وهناك معلمة أمريكية قضت في النزل تسع سنوات، ونزلاء من جنسيات أوربية، خرجنا نتجول نبحث عن محلات سفن الفن فهي الوحيدة التي تقبل بطاقات الاعتماد وكذلك مراكز البريد أما التصريف في البنوك فسيكون خاضعا لضريبة البنك العالية!التقينا بشابة متحجبة بدت ملامحها عربية و كم فرحت المصرية بلقيانا، كانت تحضر للدكتوراه في جامعة كيوتو في الكيمياء الكهربائية تكلمنا في هذا الميدان فلي خبرة في هذا الأختصاص وهو الطلاء الكهربائي Electroplating وكان القاء معها حميماً خاصة عندما أخبرتنا أن العرب في هذه المدينة قليلون وقلما تلتقي بزوار من ديار العرب!
إذا ذكرت كيوتو فستذكر غابات الخيزُران في أراشيياما، وهي عبارة عن مجمع لمعابد قديمة وقصور في وسط غابة وممرات الخيزران ومطاعم وأسواق تقليدية وأبراج، المنظر جميل جداً، حيث يجد الزائر بيوتاً تقليدية وسط الغابة للأمراء والأغنياء وللشعراء والمفكرين فالجو هنا هادىء ويشجع على التأمل، دخلنا في واحد من هذه البيوت لقاء رسم غال وخلنا أننا سنأكل وجبة دسمة وإذا هي لا تعدو عن كونها قطعة من حلوى الأرز وشاي ياباني لا غير!!  وقريب من هذه القرية هناك منتجع لنهر وجسر على نهر هوزوغاوا وجبال مطلّة عليه غير بعيد منه مدينة القردة، والمنظر غاية في الجمال ولمن يتعب هناك عربات أنيقة يجرها شباب لطفاء لقاء مبلغ معقول وكل واحد منهم يصلح أن يكون دليلأ سياحيا لمعرفته بالمنطقة وتاريخها، حيث يريك ويشرح لك أهم معالم المنطقة.. لقد صرفنا يوماً كاملاً ممتعاً في هذه القرية الساحرة.


غابات الخيزران في كيوتو

في الشمال الغربي من الكيوتو هناك معبد وقصر ملكي شهير وأعني به كنكاكو-جي، للوصول الى هذا المكان سنأخذ المترو من محطة ماتسوكاساكي حيث نسكن في الشمال الشرقي الى المعبد في الشمال الشرقي ثم نأخذ الباص، وقد صحبنا سيد وسيدة من منطقتنا كانو غاية في الرقة والعذوبة رغم أنهم لا يعرفون الإتكليزية واطمأنوا لتوصيلنا حيث نزلوا قبلنا بموقف واحد، ومن الملاحظ أن إحدى مواقف الباص كان يشير الى اسم المنطفة " ملا سُكينة" باللفظ الذي لا يخطىْ اللفظ العربي!! يتميز هذا الصرح ببرج وقبته الذهبية الفريدة اللا معة، وأكثر من هذا فهناك بحيرة ومرتفعات تتيح للرائي مشاهدة البرج، وكذلك حدائق غاية في حسن التنسيق.. شُيِّد هذا المعبد كقصر عام 1397م، ثم كمنتجع للأمبراطور يوشيمتسو، لكن ابنه حوله الى معبد حتى عام 1950 حين قام كاهن شاب قد انتابه مس من الجنون فأشعل فيه النار حتى آخره! ثم أعيد بناؤه ليصبح أحد أجمل معالم كيوتو وما أكثرها..
رجعنا مشياً على الأقدام وجلسنا على شاطىء نهر يشبه أبا نؤاس في الستينات حيث جلس الناس يشربون ويأكلون، وبقينا حوالي ساعة ونصف الساعة لنواصل رحلتنا الى حيث نسكن..

معبد كينكاكو الذهبي في كيوتو
لا أود الإطالة فما يستحق أن يُرى كثير، من القصور والحمامات المعدنية الطبيعية الساخنة أونسن المنتشرة لا في كيوتو فحسب وإنما هي في عموم اليابان ولها تقاليدها؛ ولكن بودي أن اشير إلى أهم يزعج سكان هذه المدينة من تصرفات الأجانب، ولطالما اشتكوا منها ومن يسمع شكاتهم؟!!
مضايقة بنات الجيشا من قبل الزائرين وأخذ لهن الصور دون استئذانهن، أو دعوتهن متوهمين أنهن بنات هوى!
إعطاء البقشيش الذي هو مرفوض وفق التقاليد اليابانية رفضاً تاماً!
التكلم بصوت عال أو المزاح في الشوارع والساحات العامة.
تناول المسكرات بالساحات والشوارع ورايت بنفسي شخصين أوربيين يدخلان المترو وبأيديهم علب البيرة ويتكلمون وينكتون وقالوا أنهم هنا من عشرين سنة يشتغلون وكلاء تجاريين، وذموا بلدهم وامتدحوا اليابان وكانوا يتكلمون اليابانية بطلاقة!
محاولات فتح باب التكسي عنوة، والتكسي يفتح ويغلق آلياً من قبل السائق!
عدم أرجاع الصحون الفارغة الى مكانها في المطاعم اليابانية ذاتية الخدمة سيلفسيرفس.
عدم الامتثال لاحترام المعابد حين تدخل النساء الأوربيات بملابس فاضحة وعدم خلع الأحذية.
(*)الجيشاGeisha بنات أعددن إعداداً خاصأ في ممارسة الرقص والموسيقى على المسرح مع دراية كبيرة بالتراث الفني الياباني، معظم رقصهن يكون للضيوف والحفلات الرسمية والمهرجانات، ولا يتعاطين بيع الهوى.
(**)  وهو مسرح يجسد الاساطير الشعبية اليابانية يؤديه الذكور Kabuki .
(***)الكاروك نوع من المحلات يقدم موسيقى اليابان وقد يدعو الى أكثر من ذلك. الكيمونو ملابس خارجية تمثل ملابس تراثية



 

59
المنبر الحر / من بلاد الهايكو-3
« في: 16:45 31/10/2015  »
من بلاد الهايكو-3
خالد جواد شبيل

أود قبل أن أصل إلى جبل فوجي أن أتوقف مع الناس ومشاكلهم الاجتماعية؛ وقبل أن ألج موضوعاً عويصاً كهذا، لي أن أقول قولة لا بد منها وهو أن زيارة لمدة محدودة لأيام أو أسابيع قلائل لا تشفي غليل الصادي، فلا بد من الاستعانة بالبيانات الحكومية والكتب المتعلقة بهذا البلد للوقوف على مشاكله هنيهة في وَلْجَة ما وسعني الاختصار فيها.
تُعد نهضة اليابان من اسرع النهضات في التاريخ رغم النكبات والكبوات التي تعرض لها والتي عرضنا لها في ما سبق، هذا النمو الصناعي ذو الإيقاع المتسارع قد أثّر على الوضع الاجتماعي لبلد يُنشد التوازن بين المعاصرة والأصالة، بين الحضارة الوافدة والإرث التاريخي الثقيل وما يحملة من معتقدات وعادات وقيم ألقت بظلال قاتمات وثقوب سود في تضاريس هذا المجتمع، قد لا يراها الرائي أول وهلة حين يكون مأخوذاً بالمعطيات التكنولوجية والشواخص الحضارية التي تواجهه أنّى توجه لاسيّما في المدن..
اليابان مجتمع ذكوري بامتياز، يتجلى ذلك في الفصل بين الجنسين وهو أمر ملحوظ في الشارع وفي مجالات العمل، حيث المواقع الهامة للرجال، أما النساء فلطالما يشتغلن بالوقت الجزئي، وهناك تمييز بين رواتب الجنسين يكون الرجحان فيه للرجل، ولا يحبذ تعيين المتزوجة أو المرأة الحامل، أو الأم. وأزيد أكثر أن المرأة لا حق لها في الميراث وفق العادات اليابانية إلا بوصية ندر أن تكون، فحصة الأسد للإبن الأكبر ( العادات الصنية نفسها ولكن تغيرت بعد الثورة)..ستكون هذه العوامل من الأسباب الهامة في انخفاض معدل الزواج، وزيادة هائلة في معدل الإجهاض الى 340000 حالة سنوياً وبذلك سيُسهم في ظاهرة مؤرقة لعلماء الاجتماع في اليابان وهي انخفاض معدل النمو الديموغرافي الى عجز سنوي مقداره مليون نسمة!
وآية ذلك هو عزوف الشباب من الجنسين عن الزواج. سأعطي مثلين من الإحصاءات الرسمية عام 2014؛ للفئات العمرية الأكثر إخصابا والتي تمتنع عن الزواج بالنسب المئوية المصاقبة لها وهي :
عمر 25-29 سنة، للذكور 69.3% وللإناث 54.0%.
عمر30-34 سنة، للذكور42.91% وللإناث 26.6%.
ولا أود الاستغراق بالأرقام بل سأقول أن ثلث الشباب العزاب (بما فيهم الشابات) لم يمارسوا الجنس قط، في بلد تعد عاصمته من أكبر مدن صناعة الجنس في العالم وهي الرائدة في صناعة السينما الإباحية والدمى الناطقة! وعزوف الشباب هذا مقلق للدولة بحيث فتحت مؤسسات مجانية لإعطاء الشباب من الجنسين فنوناً في الحب ولكن من دون طائل!!
ولو توقف الأمر هنا لهان؛ فهناك ظاهرة الانتحار، وهذه الظاهرة متآلفة مع المجتمع الياباني فهي تأريخية ترجع الى طقوس الساموراي والتي تعرف بالانتحار المشرِّف         الذي يجلب الشرف خلاف الاستسلام الذي يبقى وصمة عار honorable suicide
للمستسلم وعائلته! ولكن الانتحار في اليابان ليس من النوع "المشرِّف" حين يسجل مديات تصل تسعين حالة في اليوم وكم استبشر الاجتماعيون حين ثبتت بالسنوات الأخيرة الثلاث على سبعين حالة يوميا، ومن أهم الاسباب الاكتئاب، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية وخاصة فقدان العمل وهذايفسر كون الانتحار بين الذكور ضعفه بين الإناث، فقد سجلت سنوات الركود الاقتصادي في التسعينات خاصة 1998 زيادة  وصلت الى 34.7% عن العام الذي سبقه..
ورغم أن المعارضة السياسية تضخم من خطورة المشكلات الاجتماعية مثل وجود الفقر الذي يقال أن هناك المليون على الخط أو دونه لكن مفهوم خط الفقر يختلف في اليابان عنه في مصر، ففي مصر يكون 1.25 دولار امريكي لليوم فإن في اليابان الفقر رحيم وحصة الفرد الياباني من البروتين الحيواني عالية إنما ينقص الفقيرالياباني وسائل الترفيه الكمالية الغالية فقط وامتلاك السكن، هناك هامش صغير جداً لا يكاد يُرى في الشوارع والمحطات من المشردين homeless ولا يمكن قياسه بمشردي أوربا!
والعطالة التي تعتبر سبباً هاماً لاكتآب الشباب فهي وفق الإحصائية الرسمية لعام 2014 تبلغ 4% ، ولو قارناها ببعض البلدان للعام ذاته: 7.5% في المملكة المتحدة و7.4% في الولايات المتحدة و4.6% في الصين و 16% في العراق و12.7% في مصر و26.6% في اسبانيا ..وتبذل اليابان مبالغ هائلة للتغلب على المشكلات الاجتماعية ومشكلات التلوث الإشعاعي وهو من عقابيل الحرب العالمية الثانية أو من علل تقنية في المفاعلات الذرية.. ولا أود الاستفاضة في مشكلات الهجرة من الريف الى المدينة ولكنني أود التذكير بأن اليابان تقدم معونات سخية في مساعدة الدول الفقيرة والدول التي مزقتها الحروب ومنها بلدنا..
***
نحن في الحافلة التي تنساب على الطريق السريع نحو جبل فوجي، الطريق خالِ من العقد المرورية،  المناظر ساحرة جبال ووهاد خضر وسهول عامرة بمزارع الأرز، وغابات كثيفة،  وتلوح قلاع بين المدن الصغيرة، والركاب صامتون ومُنشّدون الى جهاز التلفاز ولا يقطعه إلا صوت السائق بين الحين والآخر لينبّه الى مناطق الوقوف..
هو جبل لا يشبه الجبال الأخرى هو منعزل عن السلسلة الجبلية، مترفع عليها مزهو بشموخه فهو الأعلى طرّاً 3776م؛ يبدو كنسر يفرش جناحيه على الأفق ويبسطهما على الأديم بسطا رفيقاً، وفي الشتاء يبدو رأسُه مكللاً بتاج أبيضَ ناصع، أينما درت حوله يبقى محافظاً على شكله المخروطي الباذخ المهيب، من يرَه سيُحببه ويبقى مرسوماً في ذاكرته، ولا غرابة فهو إيقونة البلد كله؛ مُذّ وقعت عيناي وأنا طفل صغير على صورة له من تلك الصور التي تاتي مع الأقمشة اليابانية استقر مَرآه في الذاكرة، ولم يَبرَحْها أبدا.


جبل فوجي إيقونة اليابان كما بدا من غرفة الفندق

استغرقت الرحلة من طوكيو الى قصبة كواغوشي كو ساعة وخمسين دقيقة،وهي قرية البحيرات الخمس والمتصلة ببعضها لتقابل  الجبل وتكون معه منظراً آسرا. بقينا نتجول في المدينة منتظرين صاحب الفندق ليأخذنا الى  بسيارته محاذيا البحيرة غرباً والجبل شرقاً حتى وصلنا الى الريف وانتهيا الى البيت الجميل الياباني فهو  انموذج لمنازل الريف، صالة الطعام والمرافق الصحية، وغرف النوم كل شيئ فرش بالقش الياباني tatami، والفراش على الأرض نموذج للفوتون futon، ومن لا يريد ذلك فهناك أسرّة خشبية رتبت فوق بعضها، لاتوجد كراسي وإنما مقاعد أرضية بمساند ومناضد مناسبة الارتفاع، تنزع الأحذية لتستبدل بأخفاف لكي لا تؤذي بساط القش ولكي لا تـعمل جلبة، لدورات المياه أخفافها الخاصة؛ الشاي (الأخضر) والقهوة يقدمان بسخاء مجاناً.. لم نكن منشغلين بشيئ إلا بمنظر الجبل حين أخبرنا أن الغيوم قد تحجب الجبل في أية  لحظة وتمنى لنا مُضيفنا أن نرى منظر الغروب!

صالة الطعام في البيت الياباني مفروشة بالتاتامي
كانت ليلة نادرة في الريف الجميل ومع الغروب المنتظر استضاف الجبل السحاب ولم تظهر منه سوى ذروته البركانية التي تمتلىء بالثلج شتاء ويفيض الثلج منها ليغطيها ويجعلها تاجاً أبيض؛ وهو المنظر الذي أينما حللت في اليابان سترى صورته معطوفاً على اسم فوجي لشركات وعلامات تجارية وسلسة مطاعم معروفة عالمية تحمل اسمه ! بدأ الجو بارداً وبلغ التعب مبلغه بعد ان تمشينا في الريف قرابة 8 كم بين البيوت الأنيقة واشجار الكاكي المترعة بثمارها الذهبية!
في الصباح الباكر خرجنا نتمشى الى البحيرات عبر الحقول ومناظر الجبال التي فارقها فوجي ، كان الناس يتمشون ويتريضون على شواطئها  والبعض نزَل يصطاد السمك، انحدرنا الى الشاطىء، فنادق ومتحف ومعابد صغيرة ومنتجعات وقاعات رياضة، رجعنا وكان الناس يبتسمون ونبتسم، وتكلمت معنا سيدة ستينية في حديقة منزلها لترينا الزهور والثمار التي زرعتها من خيار ويقطين وفُلفُل..، لم نستطع التفاهم معها سوى تبادل الابتسامات!
أوصلَنا صاحب النُزُل مشكوراً الى محطة الحافلات بعد أن ارانا البحيرات والمناظر الجميلة وصوّرنا بنفسه، ولم يأخذ مقابل خدماته أي مقابل. الياباني لا يستلم أي مبلغ إضافي أو ما يسمى البقشيش، إذا أردت أن تكرم من قدم لك خدمة عن طيب خاطر سيكون مسروراً لو قدمت هدية بسيطة له من بلدك أو تشتري له أي شيء بسيط وحبذا لوكان مغلفاً مع كلمة شكر مكتوبة – لا بأس أن لم يكن مغلفا- إنما المهم أن تقدمه بيديك الإثنين مع انحناءة بسيطة فستجده يطير فرحاً!!
هناك حافلات سياحية تنطلق نحو جبل فوجي تدور حوله مرتفعة إلى أعلى موقف  هوالمحطة الخامسة والأخيرة، فيها معبد وسوق لبيع الهدايا ومطاعم وفندق كبير ومنها ينطلق المتسلقون نحو القمة حيث تتوفر لهما كابينات نوم حين يُعييهم الصعود، أفسد الرذاذ علينا التجوال مع قرصة برد، هناك لمن يريد ان يرتقي علواً فيمكن استخدام cable car القمائر المحمولة ..
انتقلنا في الليلة الثانية الى الجهة الأخرى من الجبل  في مدينة شيمويوشيدا، للتمتع بمنظر آخر للجبل، فلم يحالفنا الحظ كانت السماء مثقلة بالغيوم وأرسلت غيثاً عميماً لم ينقطع فاكتفينا بالتجول في هذه المدينة الحالمة والتسوق في اسواقها القليلة..
في الصباح سنركب القطار المحلي لثلاث محطات الى حيث حللنا في كواغوشي كو لنواصل رحلتنا بالحافلة الى مدينة ميشيما ومنها بالقطار الطلقة الى كيوتو. لم نرَ الكثير مما يلزم أن يُرى في فوجي سيتي، وأحسبنا استمتعنا كثيراً بالمأكول والمشروب اليابانيين..
kalidjawadkalid@hotmail.com
 

 

60
المنبر الحر / من بلاد الهايكو-2
« في: 15:45 23/10/2015  »
من بلاد الهايكو-2
خالد جواد شبيل
طوكيو في الصباح غير طوكيو في الليل، بدت المدينة على سجيتها بدون بهرجة الأضواء، مدينة هادئة نظيفة الهواء، في ضواحيها لا توجد عمارات شاهقة إلا ما ندر وإنما بيوت أنيقة منظمة تشبه في بعض الأحيان حي المنصور في بغداد وأحياناً كثيرة البتاويين أو الصالحية أيام عزها! الشوارع العامة تتوازى وتتقاطع فيها مسارب السيارات والانفاق وجسور القُطر المحمولة التي طالما تتوسط الشوارع العريضة..
ولكون طوكيو مدينة المتاحف والمعابد والحدائق والأسواق والمقاصف والملاهي بنوعيها البريء وغير البريء...لذا اخترنا حدائق اوينو هدفاً عبر الحي الثقافي ياناكا؛ المشي علاوة على كونه رياضة فهو يتيح التعرف على الشواخص والمتاحف وحركة الناس والتصرف بالوقت بحرية لا تتيحها الحافلات السياحية، ولا تحتاج سوى ساقين وخريطة يُستَدل بها وكتاب سياحي يعرّف بالأماكن وتاريخها، وهكذا يكون الزاد خفيفا وفقاً لقالة الجواهري:
عُريان يحمل منقاراً وأجنحة – أخف ما لمّ من زاد أخو سّفرِ
دلفنا من جانب محطة نيبوري الى تل جميل يفضي الى المدينة الثقافية تايتو ستي ثم الى شارع يشق مقبرة تحفها المعابد الصغيرة هذا للشنتو ذاك للبوذية...المقبرة أنيقة مزدحمة بالقبورالمشيدة من الصخور الصلبة كالغرانيت والبازلت تعلوها شواهد وبين الصخور منابت ورود جميلة ومزهريات عامرة بالورود، وقد يتعجب الإنسان أول وهلة من تجاور هذه الشواهد وقد يتذكر قول المعري:
ودفينٍ على بقايا دفين – في طويل الأزمان والآبادِ
وحقيقة الأمر هو أن القبور لا تحتوي إلاّ على جرار خزفية مملؤة برماد الموتى لا غير! تخرج من المقبرة لترى دار القطط الضالّة وتجد تمثالا كبيراً لقطة علامة للدار التي يؤمُّها المتبرعون والزائرون.
اجتزنا المقابر الى شارع المتاحف وأول مُتحف زرناه هو متحف النحات الياباني أساكورا شوسو(1883-1964) وهو رائد النحت الحديث، وأستاذ الفن، الدخول لهذا المتحف يعني الدخول لعالم هذا الفنان العظيم، فقد اشترى بيتاً صغيراً ليجعله ورشة ثم اشترى تدريجيا ما حولها وصمم بيته هذا بنفسه، ورتبه بمخلوقاته الجميلة التي هي زملاؤه واصدقاؤه وصديقاته وحتى كلبه، إنه عالم جميل تدور في بيته ومكتبته وورشته ولا يعجبك أن تغادره، أما حديقته فهي من أجمل مارأيت من الحدائق المنزلية حيث تجري الجداول المزدحمة بالاسماك تحت الاشجار التي شكلّها تشكيلاً مكونة مع التماثيل انسجاماً جمالياً قل نظيره، دخلنا برسوم وأمتثلنا للشروط وهي عدم التصوير ولبس الجوارب تحاشيا للانزلاق!
غير بعيد عن الدار هناك مدرسة الفنون التي درّس فيها أساكورا، وبموازاة الشارع الضيق هناك شارع الفنون كتبت لوحته بالفرنسية روي دز آرRue des arts، وللأمر دلالته فكثير من فناني الرعيل الأول درسوا في فرنسا؛ وغير بعيد هناك جامعة طوكيو، والمتحف الوطني للفنون الغربية، والمتحف الوطني للفنون الجميلة..وقبل ان نصل الى متنزه اوينو انعطفنا الى اليمين حيث هناك معبد أنجو جي وهو معبد الإله ذي السيقان القوية فمعتقد الشنتو فيه تعدد اختصاص الآلهه ، فهناك ما هو للبحر و للمطر..ويحظى هذا المعبد بشعبية لدى هواة الركض!

هذا هو المتنزه هو الأوسع والأشهر ويضم الكثير من المعالم الهامة لطوكيو، كان مزدحماً بالأطفال والشيوخ جلسنا نرتاح فسألت رجلا مع عائلته كان يبتسم ويمنعه حاجز اللغة من التكلم، فهمت منه أن اليوم عطلة رجعت الى الكتاب ففهمت أنه عطلة المسنين الذي يكون في الأثنين الثالث من شهر أيلول /سبتمبر من كل سنة.

متحف طوكيو الوطني
يتميز هذا البارك بتنوع أشجاره العملاقة المعمرة ومنها أشجار البلوط وكثير من أشجار الساكورا وبساحته الواسعة وطرقه المشجرة، وبالمعارض الفنية التي تقام في الهواء الطلق؛ عبر الشارع يظهر متحف طوكيو الوطني، الذي يُعد من أهم معالم المدينة الثقافية، ذهبنا لشراء تذاكر الدخول، فأُعلِمنا أن الدخول اليوم مجانيّ، القاعة عند المدخل تقدم عرضا نظرياً شاملاً لتاريخ اليابان منذ سنة 13000 قبل الميلاد وعلى مختلف المراحل، هناك اثنتاعشرة قاعة  تضم مختلف المعطيات الحضارية من أسلحة وفنون وأوانٍ معدنية وفخارية الى تطور الكتابة والخط . كان أكثرها إمتاعا مرحلة إيدو حيث ملابس ودروع وأسلحة الساموراي ثم ملابس الكيمونو وفق تطورها الزمني وحتى معدات المطبخ ! لم نستطع التروي في هذا المتحف ومررنا عليه لاحقاً مروراً سريعا، بجانب هذا المتحف متحف الآثار ومتحف الفنون الجميلة ووو..
في بارك اوينو تقام أكبر المهرجانات لاسيّما مهرجانات الساكورا في الربيع، وفيه حديقة الحيوانات، ومسرح في الهواء الطلق، وقاعة الاحتفالات وبحيرة اللوتس..ومحطة المترو ومحطة كبيرة للسكك اليابانية JR، الشوارع المحيطة به شوارع ذات أهمية كبيرة، حيث الأسواق، والمطاعم والمشارب وهناك أرصفة عريضة للمشاة، ومقاعد في كل مكان لمن أعياه المسير.
 إن السير والتفرج على واجهات المخازن والدخول فيها والتكلم مع الباعة والبائعات وأكثرهم في الملابس الوطنية هو بحد ذاته متعة، أما المعروضات فهي الملابس والاحذية والحقائب والمصنوعات اليدوية والكهربائيات والإلكترونيات اليابانية، ناهيك عن المأكولات والحلويات.. في الشوارع الخلفية الضيقة وغالباً ما تكون مخصصة للسابلة، تجد الأسواق والمطاعم الشعبية وباعة انتظموا في البيع بما يشبه البسطات الخشبية حيث تباع الفواكه، وقد قشرت وثبتت في عيدان ما يسهل أكلها للمشاة.
 لم أر قط في هذا البلد بائعاً في مطعم أوفي الشارع يبيع المأكولات ويستلم بيديه النقود، فالمطاعم الشعبية تعرض مجسمات بلاستيكية كنماذج مع أرقام ويكون الشراء آلياً، يختار الزبون وفق الأرقام ويضع النقود اللازمة في الماكنة لتخرج بطاقة يقدمها ثم ينادى على رقمه ليستلم طعامه، أما في الشارع فيقف اثنان أحدهما يستلم النقود والآخر يسلّم الطعام..ولكن في المطاعم الحلال وهي مطاعم جل أصحابها من الأتراك المختصون ببيع شطائر الشاورمة رغم نظافتها فالبائع يستلم الفلوس ويسلّم الطعام متحاشيا مس الطعام باليد ما أمكنه ذلك باستثناء الخبز، وإقبال اليابانيون كبير على هذه المطاعم!
الطعام الشعبي الياباني معتدل السعر ونظيف ومغذ، قوامه الحساء مع أنواع من الشعرية من أدقها الى أغلظها يقدم مع الحشائش البحرية او مع التفو ( جبن الصويا) أو مع مختلف الخضروات، إضافة الى السوشي والساشي، وهي عبارة عن أرز مطبوخ بالبخار متخمر مع خل الأرز ويلف برقائق الأعشاب البحرية ثم يقطع الى قطع غالباً ما تغطى بسمك التونة أو السلمون وتزين ببعض الخضروات وأما الساشي فيكون مغطى بثمار البحر، وتتشكل فسيفساء جذابة! والأرز الياباني تكون حبته مدورة وعندما يطبخ ينتفخ ويتكتل،..الأكل سواء كان حساء أو أرزّاً يُتناول بواسطة العيدان، ومن السهولة تناول الأرز بالعيدان لأنه متماسك، وفي المطاعم الشعبية ستسمع صوت الآكلين وهم يزدردون النودل (الشعرية) ولكن حين تزور المطاعم الشعبية الصينية فإن أصوات الازدراد تسجل رقماً قياسياً!
***
طائر الفينيق:
هي نكبة مركبة، زلزال وحريق وتسونامي؛ كان اليوم هو السبت والتاريخ هو الأول من ايلول/سبتمبر من عام 1923 والوقت هو قرابة منتصف النهار وعلى وجه التحديد الساعة 11:58 هذا التاريخ لن ينسى وبقي تتناقله الأجيال والكتب والوثائق المخطوطة والمصورة ولكونه عصياً على النسيان بادرت الحكومة في أيلول عام 1960 لجعله اليوم الأول منه " يوم الوقاية من الزلازل". وأصدرت آخر إحصائية رسمية عام 2004 أن عدد الضحايا بلغ 105385 وأن البيوت التي دمرت 31000، وإن تقدير الخسائر هو 14 مليار دولار أمريكي بسعر اليوم.
استغرق الزلزال من أربع دقائق الى عشرة وبقوة 8,2 على مقياس ريختر، ويكفي أن تمثال بوذا الذي يزن 90 طناً قد انزاح من مكانه قدمين! وحيث الناس كانوا يعدون وجبة الغداء على المواقد فاندلعت النيران لتقضي على الأخضر واليابس ولتصور شدة النيران فإن عمال المطار قد انغمست أرجلهم في منصهر المدرجات فلم يستطيعوا منه فكاكا، واحترقوا واقفين! وثالثة الأثافي أن الزلزال والحريق ترافق مع تسونامي بلغ ارتفاعه 12متراً وأغرق قرى بضربة واحدة كان الضحية 800 شخصاً والأغرب أن قطاراً ساحليا على متنه 100 راكب جرفه التسونامي الى البحر وابتلعه وغدا أثراً بعد عين! لم يمكن تدارك الحريق بسرعة ذلك أن شبكة أنابيب المياه قد تحطمت وكذلك الكهربا مما صعب عملية الانقاذ واستغرقت يومين الى الصباح المتأخر من يوم 3 أيلول!
وهل هذا يكفي؟ في مثل هذه الظروف المأساوية تبرز الحزازات والإحن بين الاثنيات ليتم تصفية الحسابات؛ فقد سرت إشاعات بأن مياه الآبار التي تسبب ببعض الالتهابات لبعض الناس الذين لم يعتادوا عليها، أقول سرت اشاعات متهمة الكوريين بأنهم سمموا الآبار، وأنهم يقومون بنهب الممتلكات .. ما حدا بكثير من الغوغاء ووفي مثل هذه الظروف تسجل الغوغاء حضورا وتبرز في كل زمان ومكان فشنوا حملة قتل ظالمة على الكوررين راح ضحيتا المئات، بل واصبحوا يشتبهون بكل شخص ويكلمونه فإذا نطق بلكنة كورية او ما يشبهها أوسعوه ضربا حتى الموت وبهذا دفع 700 صيني من مدينة وين شو القريبة من كوريا..ورغم ان الشرطة بذلت مجهودا كبيرا في دحض هذه الإشاعات ومنافحة شرفاء اليابان عن أخوانهم الكوريين إلا أن الثمن كان باهضاً..أروي هذأ الفصل لعل في ذلك عبرة تنفع المعتبرين!
لقد بنت اليابان وسارت بخطى حثيثة وامتصت ضربة القدر، لتتلقى ضربة الإنسان لاخيه الإنسان في الحرب العالمية الثانية حين غدت طوكيو رماداً بكل معنى الكلمة ولتنهض من جديد واقفة على ساقين صلبتين استوحتهما من "رب السيقان القوية" الذي مررنا على معبده! كنت وأنا يافع قد قرأت قولة للزعيم الوطني مصطفى كامل: "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس" لقد طبق اليابنيون هذه المقولة عملاً ورددها العرب لفظاً وشتان!  سأتكلم عن الحرب عندما نزور هيروشيما وهو حديث لا يقل وجعا!
***
هذه منطقة جنزا، قررنا أن نتمشى في شارع هارومي، شارع حديث اشتهر بعماراته الحديثة المستمدة من المعمار الغربي ومن التراث الياباني في البروج، الشارع عريض وأرصفته واسعة تتيح التمتع بالشارع وساحاته، لقد بنيت هذه المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، في هذه الضاحية تجد هناك معلمين هامين محطة طوكيو المركزية والمتحف الوطني للفن الحديث الذي يضم 9000 عمل لفنانين يابانيين من مرحلة ميجي الى العصر الحديث من مختلف الأعمال بما في ذلك التصوير الفوتوغرافي والأعمال الهامة للنحاتين اليابانيين بما فيهم اساكورا.
سنواصل الطريق الى سوق تشوكيجي وهو أكبر سوق في العالم للأسماك مقسم وفق نوع مبيعاته، ولسعته الهائلة سيمنح الداخل خريطة للتعرف على أقسامه: قسم التونة بأنواعها وأحسنها الحمراء، قسم الأسماك: وأرقاها السلمون وقسم ثمار البحر وأهمها الاخطبوط والحبار والقشريات...الخ؛ والأهم هو قسم التونة.
وأسماك التونة الحمراء هي المفضلة لدى اليابانيين فقد كانت غذاء المناسبات لعلية القوم أما اليوم فقد اصبحت في متناول الجميع، ذلك لتقدم معدات الصيد، وقد اتهمت اليابان مراراً بأنها المسؤول الأول في الصيد الجائر حتى تناقص أعداد التونة الحمراء الى 20% مما كان عليه قبل ثلاثة عقود، ومع صيد التونة تكون الضحية أيضا نوعاً من الدلافين طالما يرافق التونة في رحلاتها حيث يصطاد بشكل عرضي. وظلت اليابان تماطل في تعهداتها بتقليل الصيد بل راحت تشتري التونة الحمراء من المغرب وموريتانيا واسبانيا! وأخيراً بدأت بتجربة الأحواض البحرية لتكاثر التونة الحمراء لكنها مكلفة!
تحتوي التونة الحمراء على مواد غذائية هامة منها أوميغا ثري وهي غنية بالدهون غير المشبعة وقليلة الكولستيرول ولكنها تحتوي على الهستامين الذي قد يسبب الحساسية لذا يُنصح من يتناولها لأول مرة أن يأخذ بالقليل للتأكد من عدم وجود حساسية، وهكذا يدعى الزبائن لتذوقها نيئة بما في ذلك الزائرين من طلاب المدارس.
تاتي قوارب الصيد صباحأً باسماك التونة، ترقم في السوق وتوزن وتصنف ثم يبدأ المزاد، وأكثر المشترين هم من أصحاب شركات التجميد والتعليب وأصحاب المطاعم ..تقطع ويقدر السعر بحسب نوع القطعة!


في سوق تشوكيجي سمكة التونة الحمراء وقد قطع راسها وذيلها

يتراوح وزن التونة الواحدة بين 20 و50 كغم.
قريب من السوق تنتظم مطاعم شعبية صغيرة لبيع الأسماك وثمار البحر بأسعار رخيصة لذا تجد الازداحم كبيراً على هذه المطاعم! دائما ما يتناول اليابانيون مع الأسماك المشروب الوطني أعني به الساكي المصنوع من الأرز المخمر، وهو على انواع حسب مدة تخمره ونوع الارز، سعر القنينة متوسطة الجودة حوالي 20 دولاراً! لقد كانت ألذ الأطباق هي الأسماك المقلية في اليابان مع مخللات الباذنجان! وباختصار من لم يزُر سوق السمك لايزعم أنه زار طوكيو.




فصل العمود الفقري من التونة يتطلب حذاقة

زرنا منطقة اساكوسا الجميلة حقاً والمشهورة بمعبدها الشهير سنشوجي وهو معبد الشنتو الأكثر زيارة من قبل المواطنين والسائحين يتميز ببرجه العالي ذي الطبقات الأربع والذي هو الجزء الذي سلم من الحريق، المعبد واسع وجميل ومنظم من حيث الدخول والخروج للجموع المكتظة من الزائرين تحيط به اسواق تبيع الهدايا التي طالما يشتريها البوذيون الصينيون والكوريون والتايلنديون ... المنطقة يسكنها السائحون لجمالها واعتدال سكنها. ذهبنا الى مطع تركي "سراي كباب" ويحمل يافطة كبيرة حلال وعندما أردنا "كص لحم" قال: أفضل لكم أن تشتروا شاورمة الدجاج، لماذا؟ قال لأن باقي اللحم ليس حلالا!! ثم خبرنا عن وجود جامع، لم نستدل عليه. والموقع الآخر الهام في هذه المنطقة هو البرج المسمى شجرة سماء طوكيو وكذلك متحف أيدو-طوكيو...
ومن المواقع الأخرى المهمة هي ميجي جنغو، وهو بارك عظيم السعة فيه بحيرات وملاعب وبساط أخضر وأهم مافيه معبد الشنتو الذي يحمل اسمه: يدخل الزائرون عند الهيكل يرمون ببعض النقود يقرأون أدعيتهم أو يطلبون مراداتهم وهم منحنون ثم يقفون مستقيمين ويصفقون صفققتين، الاغتسال واجب قبل الولوج للمعبد سواء في المعابد البوذية أو الشنتوية..
انحدرنا مشيا الى منطقة هراجوكو وشوارعها الفسيحة، وهناك شارع للمشاة اسمه شارع القطط يُشبه الى حد كبير شارع دروتننغ غاتان في ستوكهولم، ويبدو أنه كان ملاذا وسوقاً للقطط التي تحظى بشعبية كبيرة في اليابان ولا تقل الكلاب شعبية عنها، ونظراً لضيق سكن اليابانيين فتجد الحيوانات في أبواب البيوت من أقفاص الطيور وأحواض سمك الزينة التي تتفرج عليه القطط بشهية!
من الصعوبات التي تواجه الزائر هو تشابه الاسماء اليابانية من مثل أساكوسا و آكاساكا واساكي!!
لقد اختزلت المسافة وتركت مواقع هامة خشية ألا اثقل على القارىء.
والموضوع القادم عن زيارة جبل فوجي.



61
المنبر الحر / من بلاد الهايكو- 1
« في: 13:09 17/10/2015  »
من بلاد الهايكو- 1
خالد جواد شبيل

في عام 1862م زارت بعثة يابانية مصر للتعرف والوقوف على أسباب النهضة المصرية التي دشنها باني مصر الحديثة محمد علي باشا الكبير، بعد أن قضى على نفوذ المماليك قضاء مبرما في آخر فصل من صراعه معهم بما عُرف بمجزرة القلعة.. حلّ الوفد الذي كان أعضاؤه من الساموراي في ميناء السويس وكانت القناة التي تحمل اسمها لم يكتمل إنجازها بعد! وقد استقل الوفد القطار متجهاً الى القاهرة ..حيث ذُهل أعضاء الوفد لمرأى القطار وتجهيزاته وسرعته الفائقة، ولهم الحق في أن يذهلوا فاليابان لم تعرف بعد السكك الحديد ولا القطار الذي ينزلق عليها(*)!! لقد التقطوا الصور لهذا الكائن الغريب، وستبدأ رحلة اليابانيين مع عادة لم تزل ملازمة لهم ساهمت أي مساهمة في تطورهم وهي التصوير الفوتوغرافي الذي سيفتح آفاقاً رحبة لليابان!
تجول أعضاء البعثة في القاهرة ودخلوا حماماتها النظيفة، ووقفوا مذهولين أمام الأهرامات في الجيزة ولكنهم أُخِذوا بشيئ آخر وهو التلغراف...ثم تتالت بعثات اليابان الى مصر من مثقفين متعطشين لنقل المعارف في النظام الإداري والنظام المالي والقضائي والصحي وفي مناحي العلوم المختلفة.. ولم يمض وقت طويل حتى أصدر المؤلف الياباني هاراكاي سفره " المحاكم المصرية المختلطة" عام 1889م..وواصلت البعثة رحلتها الى الإسكندرية ومنها الى فرنسا وستعود ثانية الى مصر سالكة الطريق ذاته.
***
 تعمدت أن أبدأ بهذه المقدمة لدلالاتها الهادفة ملتمساً صبر القارىء. ولعل سؤالاً يلمع في الذهن، ترى كيف كانت اليابان في تلك الحقبة؟
عاملان تضافرا في جعل هذا البلد ممزقاً معزولاً لم يعرف الإستقرار، هما: عامل الطبيعة، والإنسان ابن هذه الطبيعة! الطبيعة الجغرافية لهذه الجزرالمتصلة أوالمنفصلة ، وما يحيق بها من عوامل الهلاك، من زلازل وفياضانات وعواصف بحرية تضرب قرى السواحل وتغرقها وبراكين قد تثور بعد طول خمود! وقاطنو هذه الجزر الذين يعتمدون الزراعة في أرض بركانية معطاء تزيدها غزارة الأمطار خصوبة، والذين طالما كانوا يتحاربون ويجيدون فن الحرب(**) من أجل الأرض التي ضاقت بكثرتهم! أرض ثلثاها من الجبال التي تكسوها الغابات المصدر الثر للأخشاب المتينة التي اعتمدوها في بناء القلاع والسفن.
ومع أن الحروب في تاريخ اليابان لاتكاد تنقطع إلا في مراحل زمنية محدودة جعلت من اليابانيين يحسنون ويتفننون في شؤون القتال وبوسائل مختلفة من اسلحة الرمي كالسهام والنبال الى الأسلحة البيضاء الخاصة، وكان المحاربون من الساموراي يحتلون مكانة عالية في المجتمع تميزهم عن غيرهم بالدروع الثقيلة التي يرتدونها وسيوفهم وعُددهم التي مازالت معروضة في متاحف اليابان ومنها المتحف الوطني.
 أعود لأقول أن هناك محطات ازدهر فيها الشعر والفن بمختلف ألوانه بما في ذلك فن الخط والرسم في مرحلة سلالة الهاين التي ازدهرت عاصمتها هيان-كيو في منطقة كيوتو الحالية. سقطت هذه السلالة عام 1160م على يد الأغنياء الجدد الذين اعتمدوا على الساموراي وأصبحوا اداة لحكم مُلّاك الإقطاعات؛ تعاظم دور الساموراي ليصبحوا مشاركين في الحكم كعسكريين لدى الدولة عام 1615 واستبدلو الدروع بالملابس الخفيفة (الكيمونو).
الحاضرة التي بناها شاعر:
هي في الأصل قرية نائية ينطلق منها الصيادون في زوارقهم على الساحل الشرقي ، كان اسمها إيدو وتعني "بوابة النهر" لموقعها على نهرسومادي غاوا الذي يصب في خليج ينفتح على المحيط الهادىء؛ حتى قُيِّض لها محارب وشاعر وكاهن بوذي اسمه أوتا دوكان(***) وقد يلحق باسمه سوكيناغا (1432-1486م) ليبني فيها قلعة في القرن الخامس عشر ثم لم تلبث وأصبحت أيدو مقرا للحاكم العسكري، ومنذ ذلك الحين والمدينة تتسع بسرعة حتى أصبحت حاضرة الشعر، يتغنى بها الشعراء لاسيما شعراء الهايكو. وبحلول القرن الثامن عشر أضحت إيدو أكثر مدن العالم ازدحاماً بالسكّان!! فهي قريبة من الجبل المقدس فوجي ويمكن في أيام الصحو أن تُرى قمته من برج طوكيو، أو من بروج القلاع في المدينة وما حولها.
بعد أن اكتمل بناء القلعة، التي هي مقر قادة الساموراي، قال الشاعر المحارب دوكان:
دارة الكنز
عند غابة الصنوبر
تتربع على البحر الأزرق
ومن البهو المنخفض
يتطلع القادة الى فوجي الشامخ
(هذه القلعة هي اليوم قصر الإمبراطور). لقد أوحت هذه الأشعار الى السياسي  المرشح لمنصب محافظ طوكيو عام 1971 ليرفع شعار: أعيدوا لطوكيو زرقة سمائها!
 وهكذا فاز بوساطة الشعر!
أما الشاعر العظيم ماتسيو باشو (1644-1694) فهو يذكر إيدو بهذا الهايكو الذائع (****):
رياح جبل فوجي
سأضخها في مروحتي
هديةً من إيدو
أصبحت حقبة إيدو (1868-1603) تؤرخ لتاريخ المدينة ولشعر الهايكو الذي ازدهر ونُسب إليها، حتى إذا حل عام 1868م حيث خمدت نيران الحروب وتوحدت اليابان وأصبحت امبراطورية بفضل الإصلاحات وإعادة البناء التي عرفت باصلاحات ميجي Meiji restoration أو حقبة ميجي الذي نقل العاصمة من كيوتو الى إيدو التي أصبحت تسمى طوكيو وتعني العاصمة الشرقية. وبذلك انتهت عزلة دامت 250 عاماً لتنتهي القيم الإقطاعية ولتنفتح اليابان على العالم وتستقبل منجزات الحضارة العالمية والثقافية والإقتصادية والصناعية وتنفتح على الأفكار والأزياء الغربية والمعمار والتخطيط الجديد للمدن وإنشاء الحدائق والمتاحف بفضل البعثات التي جلبت لليابان الكثير ومنها البعثة الى مصر التي ذكرناها في البداية...
   ***
الطائرة تقترب من مطار ناريتا والوقت يقترب من السابعة مساء، الأضواء على طول الساحل ومع الاقتراب من المطار بدا المنظر ساحراً لطوكيو المتوهجة بالاضواء، الرحلة من بانغكوك استغرقت أكثر من ست ساعات، المطار مكتظ بالسائحين والحركة دائبة والتنظيم في أحسن ما يكون، خمّنتُ أن الوقت اللازم قد يكون ساعة ونصف الساعة،  لكثرة المسافرين الذين انتظموا في صفوف مهيأة، وموظفون يعملون كخلية نحل، استغرقت الإجراءات خمس وثلاثين دقيقة! كنت في الرحلة قلقاً من تعقيد شبكة خطوطالسكك الحديد وتعدد شركاتها من الأنفاق والقطار الأرضي والقطار المحمول .. هذه الخطوط تغطي طوكيو الكبرى وتنقلك لأي مكان تريد في طوكيو أو أي قرية في اليابان بأقصر وقت!
والحديث عن شبكة السكك الحديد اليابانية يجبرك على الكلام عن shinkansen أو القطار الطلقة، الذي هو أسرع قطار في العالم حيث تصل سرعته القصوى 300كم/ساعة. أما دقة مواعيد القطار فهي مدهشه حين يكون الخطأ السنوي في مواعيد هذه القُطُر سبع ثوان لا غير!
اشترينا بطاقة القطار الموصل من مطار ناريتا الذي يبعد 60 كم عن مركز طوكيو من الطائرة وبسعر مناسب ليقربنا من الفندق، استغرقت الرحلة  بالقطار السريع المحمول خمس وثلاثين دقيقة. كان الإعلان عن محطات التوقف باللغة اليابانية والإنكليزية صوتاً وصورة، مع ملاحظة مهمة هو عدم توفر أسماء المحطات باللغة الإنكليزية أحياناً، فلا محيص من السؤال من موظفي المحطات أو من الناس الذي يساعدون حتى في قطع التذاكر آلياً، واليابانيون رغم حاجز اللغة متعاونون ولايردون مستفهِما، وكم من مرة تبادر السيدات اليابانيات –أكثر من الرجال- في عرض المساعدة.
أجور النقل في اليابان مرتفعة، وهي ترهق السائحين لذا تتوفر فرصة شراء بطاقة التخفيضات في السكك الحديد اليابانية J R pass التي توفر الكثير وخاصة للمسافات البعيدة، لمدد محددة لأسبوع أو أسبوعين أو أكثر، تمكن حاملها من السفر بالقطار الطلقة أو بالباصات التابعة للسكك وكذلك للقوارب التابعة لها بما في ذلك القوارب بين اليابان وكوريا الجنوبية. على شرط أن هذه النوع من البطاقات ينبغي أن تشترى من خارج اليابان فقط!
إذا كان التخطيط للسفر ضرورياً فهو ضروري جداً حين يكون الهدف هو اليابان، نظر لخصوصية هذا البلد الثقافية والاقتصادية والحضارية التي يجب أن تحترم وأن يتكيف لها المسافر، ولا بأس لو تعلم المسافر مسبقاً التحية والشكر باليابانية فحينها سيلقى السائح ترحيبا واحتراما.. واحترام التقاليد اليابانية في تناول الطعام والانحناء للكبار وخفض الصوت عند التحدث اليهم سيدخل الفرح في نفوسهم فالعجائز والأطفال يحظون باحترام كبير في المجتمع الياباني ولهم الأولوية في الجلوس في وسائط النقل!
الفنادق غالية وحجزها مقدما أمر ضروري، هناك بعض الفنادق الرخيصة نسبياً التي توفر الكبسولات وهي غرفة فيها مخابىء للنوم تشبه الكبسولة لذلك تسمى capsule    room ومثلها المنامات في غرف مشتركة للذكور أو للإناث..لم تتح لي النوم بها قط لأنني سافرت مع زوجتي فحجز غرفة لا بد منه حتى ولو كان مكلفاً. تعمد معظم الفنادق في اليابان على تأجير البياضات، والمناشف وغسالات الملابس بسعر إضافي! في بعض الحالات تكون الحمامات والمراحيض خارج الغرفة، ولا يستغربن أحد إذا وجد أن الدوش الساخن لا يشتغل إلا آلياً بدفع النقود لزمن معين، أما المراحيض اليابانية فهي تشبه المراحيض الشرقية  في الشرق الأوسط أوآسيا تكون من الخزف أو المعدن ولكن الجلوس عليها معكوساً!! وتتوفر المراحيض الحديثة جنب التقليدية، تدخل المرحاض الحديث وكأنك في كابينة طيار لكثرة الأزرار التي تتحكم بدرجة الحراة واتجاه الماء وقوته، كل شيء آلي، لقد عرفت هكذا مراحيض لكنني لم أر كثرة الأزرار مثل المرحاض الياباني ولا مثل الحمامات اليابانية !
على أن أصحاب الفنادق جلهم لطفاء ويقدمون معلومات هامة للمسافرين وأحياناً خرائط دون مقابل. وقبل أن أختم هذه الحلقة أجد اصطحاب كتاب سياحي موثوق ضرورة ولا بأس من إنزال برامج الاستدلال الجغرافي في الهواتف الذكية.
هوامش:
(*) اللطائف المصورة، al lataif al musawara
The Japanese mission in Egypt,1862
(**) راجع سلسلة الساكورا والهايكو ح1 لكاتب هذه السطور على مختلف المواقع.
(***) Ota Dokan or Ota Sukenaga
(****) راجع الساكورا والهايكو ح2
ملاحظة: من أوثق الكتب السياحية هو من سلسلة لونلي بلانت
Lonely planet, Japan, 14th edition Sep. 2015.904 pages.
-ستكون الحلقة الثانية مخصصة لمشاهدات في طوكيو-

62
من الساكورا فالهايكو ..الى الهايكو العراقي-6
خالد جواد شبيل

كانت ترجمة عزرا باوند (1885-1972) ابن الثامنة والعشرين عاماً للهايكو، من اللغة اليابانية إلى اللغة الإنكليزية، ثم ممارسته لهذا اللون الجديد من الشعر؛ قد فتح باباً جديداً في مملكة الشعر الأوربي؛ كان باوند شعلة من نشاط إذ اهتم بآداب الشعوب وجاب الى حيث مكامن الكنوز.  فقد ارتوى من الساغا الآيسلندية مثلما ارتوى من الهايكو الياباني... والمهم والجدير بأن يُنَوّهَ به هو أن رائد الحداثة كان يستقي روافد ثقافته من منابعها الأصليه ثم ينفخ بها من روحه ليكسيها رداء الحداثة. وحيث أنه كان محاطاً بهالة من شعراء وكتّاب لامعين من عشير جيمس جويس وتي أس أليوت وأرنست همنغواي.. فقد كان لهم الناصح الأمين في جل أعمالهم؛ ألم يتوسط لأليوت لكي تنشر أرضه اليباب؟! إذن كان باوند سببا في انتشار أو نشر الهايكو ليمارسه أعلام الشعر الأوربي على اختلاف مِلَلِهم..(راجع الحلقة الثانية).
أسوق هذا لأنتقل الى مفارقة هامة أردتها مُدخلاً لحلقة اليوم؛ وهو أن شعراءنا المُبرَّزين لم يمارسوا هذا اللون، فتحاشوْه وربما تجاهلُوه، لماذا؟ لا أملك جواباً جاهزاً ولكنني أعتقد أنهم اكتفوا بما حققوا من حضور، فعلامَ الخوض في حقل قد لا يكون آمنا؟! وقد يكون أيضاً ترفعاً عن لون كبروا عليه فلا بأس من أن يترك للشعراء الصاعدين! أترك لغيري أن يدلوَ بدلوه؛ ونعود الى موضوعنا الرئيس.
***
الشاعر القاص حسن البصام يدحض المأثور العراقي: رمانتين بفرد ايد ما تنلزم!، هو أمسك بكف واحدة رمانتي الشعر والقصة بجدارة معاً، فلا بدّ من وقفة مع الأستاذ حسن المولود في الناصرية عام 1960، والناصرية هي منافسة البصرة في الشعر والقصة والفن وأحسب أنهما أختان والبصرة ولا شك هي الأخت الكبرى! حسن إذن ابن الجنوب خَبَره، ومن يخبُر الجنوب سيعرف بالضرورة طينته وما أعطت ثمراً جنياً في حكايات المضايف، ومجالس الغناء في الأعراس والأفراح وطقوس الحزن في عاشوراء وأشياء كثيرة تنطبع في ذاكرة أبنائه وتنعكس في شعرهم وقصصهم وغنائهم ورسومهم وفنونهم الشعبية..
والأستاذ حسن البصام حقوقي فهو خرّيج كلية الحقوق، ولا أبالغ إن قلت أنك تلمس شريعة القانون في نتاجه القصصي، المترع والمتغَلغِل في ثنايا المجتمع وما فيه من ظلم وفي أعماق النفس الإنسانية ما فيها من السُّمو والدناءة والنُبل والضِعة.. ولقد قرأت له قصة "حكم شرعي" فأُعجِبت بها، في جُمَله القصيرة المكتنزة ذات الإيماءات الهادفة والتي ينحو فيها منحىً أخلاقياً عالياً فاضحاً النفاق، وممهداً للنهاية الصادمة كأحسن ما يكون التمهيد وحُسن الحركة داخل النص..وليس موضوعنا هذا..
وأنا أقدِّم الأستاذ حسن البصّام الشاعرَ على القاص، ولا تقليل من شأن قصصه قطّ، وإنما أجد أن حسناً بدأ شاعراً وعُرف شاعراً ونُشر شعرُه في الصحف قبل القصص، وأزيدُ فهو طبع مجموعاته الشعرية قبل مجموعاته القصصية وسجّل حضوراً شعرياً مُلفِتاً قبل أن يشرع بالقصص؛ ودونكم المسلسل الزمني لمنجَزه: أساور الذهب ، شعر 2010 دمشق؛ وشم على جبين نخلة، شعر، 2013 دمشق؛ الختم بالثلج الأحمر،دمشق2014؛ فنجان قهوة مع زليخاي،شعر، 2015 ؛ البحث عن اللون، قصص،بيروت 2014..  ومازل له تحت الطبع قصص وشعر.
وشاعرنا كلِف بشعر الحداثة منذ الصغر حين أدار ظهره للعمودي بسبب المناهج التي تجبر على حفظ القصائد دون الاعتبار الى تنمية الذائقة الجمالية وحسن الإلقاء وافهام التلميذ مكامن الجمال المرتبط بالقيم الإنسانية..أحبَّ رواد القصيدة الحديثة وانشدّ على وجه الخصوص الى أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، ومن يتتبع شعره سيجد آثاراً لقصائد الحداثة البيروتية فيه. لذا سنجد تأثير هؤلاء وخاصة محمد الماغوط حاضراً في شعره:
حين يكتمل نزف الجند/ يظهر الساسة/ ليستثمروا الرحيق.
رأسك يصلح للمقابر/ يأبى الجلوس عليه/ وطني الجريح.
كلما تمخض/ ولد خيبة/ رحم الوطن.
الحس السياسي والإحساس بخيبة كبرى تسود في هذه المقطعيات الثلاث، فكلما جاء سياسي عوّل علية الشعب ولكن دون طائل، والمتاجرة بدماء الجند دائما ما تجيَّر لصالح الساسة وعندما يذبح مئات الجند في سبايكر والحويجة حينئذٍ كلٌّ ينفض يده! هي مفارقة واقعية وليست تأملية!
ولنتوقف مع ما لدى الشاعر من تلميح رومانسي مثالي:
أنكر الفجر مشيبه/ صابغا خصلات نوره/ بسواد عينيك.
يشمُّ خدّي خدّك/ ناكراً أنفه/ عطر باقي النساء.
إعزفي آخر همس/ كي أحلّق فراشةً/ أيتها القيثارة.
إسقي أوتاري الذابلة/ بماء لحنك/ أيتها الابتسامة.
تساقطي على فمي قُبلةً قبلةً/ كلما مدّت الريحُ يدها الى خصرك/ أيتها النخلة البرحيّة.
أود أن اشير أولا أن هذه المجموعة الهايكوية كانت تحت عنوان " دهشة الهايكو خارج حضن الطبيعة" وإنصافاً للحقيقة أجد أن الشاعر البصام قد بصم بصمات لمعطيات الطبيعة وبشكل هارموني مع الغزل ما أكسب هذا النضد سحراً في الوصف  والمعنى، ففي الأول تجد الإيقاع الشعري حاضراً وخدم الصورة، وفي الثاني جسّد معاني الوفاء للجمال، ورغم أن الثالث نأى قليلاً عن الهايكو إلا أن شافعه حسن التصوير، فكثيرا ما يَطرب السامعُ ويحلّق مع الهمس الجميل أياً كان مصدره همس حبيبة أو غناء بلبل أو شدو مطرب أو قيثارة كتلك التي حلّق معها الشاعر، ونصل الى الأخير وهو الكلايمكس فهو أكثر من رائع ولكنني فضلت لو حذفت عمتنا النخلة والاكتفاء بالبرحي وفق القاعدة البلاغية: الجزء يشير الى الكل؛ ليكون التلميح والأختصار من صلب الهايكو.
حيرتُك في توالد الأرقام/ دونتك في قائمة الفقراء/ أيها الغني.
أريد أن أتوقف مع هذا التجسيد الذي سبقه فيه أبو الطيب المتنبي:
ومن يُنفقُ الساعاتِ في عدِّ ماله – مَخافةَ فَقرٍ فالذي فعلَ الفقرُ
نعم كم من فقير تحسبه غنياً من التّعفف، أما الذي يجع المال ليعدّ ماله مزهواً به من دون أن يُنفقه فهو فقير حتى ولو ملك ألوفاً مؤلفة.
وللأستاذ البصام زهدياته التي تسم قصصه كما شعره بالدعوة للأخلاق، ولاننسى أن تولستوي وحتى تشيخوف من كبار الأخلاقيين في الأدب العالمي فلنقرأ:
ملابسك ناصعة البياض/ لن تمد يديك الى جيوبك/ خشية أن تتسخ
وله بالمعنى نفسه:
أيها البياض تجنب السواد/ إن لامسته أو لامسك/ اتسخت.
وهذه أخلاق علي بن ابي طالب إمام المتقين وأبي الفقراء الذي طالما وصف المال بأنه وسَخ الدنيا، ويبقى البياض ناصعاً رمزاً للنقاء والصفاء. هناك مقطعيات لا أجدها تمت للهايكو بصلة، أذكرها فقط للإفادة من مثل:
أكثر ما يحتاجه الغنيُّ/ ذُلَّك/ أيها الفقير.
كن حذِراً/ فإن عدوَّك/ قد جنّد نفسك.
رقيقة مثلك/ وكبيرة مثلُ الحلُم/ أيتها الورود.
 أختم جولتي مع الأستاذ الشاعر البصام بآخر ما جاد به خاطره الشعري، بمتتاليات تعبر تعبيراً صادقاً عن عالمه الداخلي حيث تلمس اللوعة والعاطفة الجامحة وتكثيف الصورة بأقل الكلمات المعبرة والمكتنزة بالمعنى حيث لا تجد فيها حرفاً زائدأ:
يسيح على مسامات اللذة/ حين تسخنه/ صولات أحصنة الرغبة.
ترتق عطشي وتفك أزرار ليلي/ تغسل وحشة آخر الرحلة/ غيمتك النزقة.
سأخلع سقفاً يحميني منك/ لتلبس خصلات القلب جوعاً/ واشتعل الجذر ضياء.
أفارق الاستاذ المبدع الشاعر القاص حسن البصام، وقد أمتعنا بما جادت به قريحته الشعرية آملا أن ألتقيه بوقفة متأنية مع قصصه.
***

نحن أمام كفّ كبيرة سِعتها رمانتان وزيدَ عليهما بتفاحة وحبّات عنب! الفنان القاص الشاعر سالم الياس مَدالو، وقد ولد في القوش، التابعة للموصل والمبتعدة عنها بأربعين كيلومتراً وإنني لراغب في أن أقول شيئاً في هذه القصبة الغافية على هضبة تحت أقدام جبل يطوقها بساط سندسي من مزارع القمح والكروم؛ ولو قُدِّرأن يكون لمددننا كما في الغرب شعاراتٌ لكان لألقوش سنبلة قمح وعُنقودُ عنب متعانقان! هي حافظة التراث المسيحي الآرامي، ولكن مهلاً! فلأهلها نصيب وافر من الثقافة العربية والإسلامية، فلا غرابة أن تجود المدينة بفيض من المثقفين شعراء وفنانين وسياسيين، والمدينة ذات صبغة يسارية ولأجل هذه الصبغة الحمراء عانت المدينة من جور الحُكّام الطغاة المتعاقبين على الحكم فكان لها كوكبة من شهداء الفكر..وإن كان لي أن أذكر مثقفيها والأمر صعب فسأنوّه بالمفكر المناضل نجيب سطيفانا وسفره الكبير " صراعات الكنيسة وسقوط القسطنطينة" عن دار التكوين 2011 دمشق.
وعودة إلى سالم مدالو المولود في 1945، هو خرّيج علوم بغداد قسم الكيمياء عام 1970، من أسرة ثقافية، اهتم بالرسم منذ الصغر وأحب المسرح وجرّب كتابة المسرحيات، وكتب القصة والقصة القصرة والشعر.
 ولي رغبة في الوقوف مع لوحاته، حيث تمعنت بإحدى عشر منها؛ تشكل له أسلوبا يعتمد على تقنية حركة الألوان ودرجة حرارتها بهارمونية عالية ويتحاشى الكونتراست المباشر، تنساب الألوان مع بعضها؛ هادئة خالية من الخطوط بل تتشكل "خطوطها" من تماس الألوان بتقنية ليست سهله مكونة تشكيلات موحية، يكتشفها الرائي بعد طول أنات ثم يمارس ضربات وإن شئت لمسات فنية غير اعتباطية تزيد اللوحة مخملية وخاصة في اللمسات الخاتِمة للوحات، قد تبدو ضربات الفرشاة اعتباطية لأول وهلة  ولكنها مدروسة تومىء ولا تفصح والعنوانات التي اختارها للوحاته تمنيت لو أخفيت أو ألحقت بدليل منفصل، ليدرك الرائي الفطن تشكيل الحمامة والوردة والإنسان المغترب المتأمل المتكرر الذي يذكرني بحنظلة ناجي العلي!
أحسَبُ أنني استطردت قليلاً وهو أمرٌ لا غضاضة فيه ولا مناص منه، لأننا سنرى هذا الأسلوب حاضر في هايكو الأستاذ مدالو، بل وسأزيد كَمالة في قصصه القصيرة جداً جداً         لتداخلها مع الهايكو: micro-short story 
رميت قطعة خبز يابس/ لسنجاب جريح/ هزّ ذيله قبالتي/ أكلها وابتسم.
وفي الحقية من الصعب متابعة الهايكو الذي كتبه شاعرنا الفنان، لأنه بدأ بوابل عميم منذ 29/6-2013 وبشكل يومي تقريباً حتى أصبح سيلاً جارفاً، وأنا لست مع هذه الكثرة في أي لون إبداعي حتى وإن تمكن صاحبه من أداته، ولنا أن نذكر شاعر الحكمة زهير بن أبي سلمى الذي كان يتمهل بعام لكل قصيدة حتى سُميت قصائده بالحوْليات..إن التأني سيسمح بالمراجعة والتركيز والصقل وسيُشوّق المتلقي ويشده لشاعره وسيتيح للشاعر نفسه وللناقد برصد سيرورة التطور الشعري لدى الشاعر ولا أريد أن أذكر ذلك التعبير الذي يستخدمه البعض والمسمى ب " الإسهال الأدبي"..أول ما كتب شاعرنا ثلاث قصائد هايكو:
يمامة/ يمامة حطّت/ على برج قلبي/ ونارٌ أضرمت.
شقيقة نعمان ابتسمت/ قرب نبع قلبي/ وريح هبّت.
غيمة/ غيمة معطاء ركضت في/ قبة السماء/ ونوارس فرّت.
ونرى وضوح المعنى وحسن المفاجأة والنزوع الرومانسي الذي يجعل الشخص يسترجع بعض الوجوه في حياته، ابتسامات وكلمات رقيقة من مخلوق رقيق! فاليمامة الكائن الوديع الاليف رمز السلام التي لاتملك وسيلة للذود عن نفسها سوى الجّناحين قادرة أن تضرم النار! ولا يختلف المشهد كثيراً عن شقيقة النعمان التي لامست قلبه ريحٌ هبّت رخاءً، ولا يختلف الأمر كثيراً مع الغيمة وفرار النوارس!
المطر/..../ الحمامات/ والكراكي/ في الربيع ستشي بالريح/ وبمياه المطر.
في هذا الهايكو يستحضر الشاعر أجواء ألقوش وخاصة إذا عرفنا أن طيور الكراكي هي طيور جبلية، هذه المقطعيّة وصفية جميلة، وسنلاحظ أن للطبيعة حضور قوي زاخر بطيورها وحيوانها وسمائها، وزهورها... ويعمد الشاعر الفنان الى رسم صور بالكلمات:
أزهارٌ أشجارٌ وسنابل/ لهيب نار/ أيتها الساقية.
نجمٌ حزين/ يعانق/ قمراً فقد هالته.
قرص الشمس الذهبي/ يعانق هالة القمر الفضية/ فوق سجادة من عقيق.
هنا يعمد الشاعر ومن خبرته كرسّام الى تشكيل لونيّ آسر يبعث على تأمل الصورة والمعنى، ففي الأول احتاج الشاعر الى ساقية بلون بارد ليخفف من حرارة الألوان، في الثاني رسم لوحة حزينة وجانس بين حزن النجم وفقدان القمر هالته، ويصل في الثالث الى غاية الجمال وهو يشكّل لحظات الغروب الذهبية وطلوع القمر بهالته الفضية فوق سماء أديمها أحمر كأنه الياقوت!
وللشاعر تقارب في الصور:
حديقة مفتوحة/ غزالة نائمة/ ذئب خلف التل يعوي.
صحراء قاحلة/ غزالة نائمة/ وذئب.
وأود أن أختار أكثر من هذا العالم الذي يسحرنا به الأستاذ مدالو والذي تنثال فيه الصور انثيالا، ولا غرابة فهو فنان يزواج بين الكلمات وصورها:
طلقات طلقات/ وسماءٌ مضطربة / وأقمار قتيلة.
يهتفون/ الثلج الثلج/ الثلج يذيب أحزاننا.
العندليب يغرّد/ فوق التلال/ والتل ظلٌ لقبعات النهار
عتبة قصاب/ قطة/  وعينا كلب بلون الدم.
قلوب وقباب ساطعة/ قمرٌ زاهٍ في قبة السماء/ رائحة الأبنوس.
في صغري أحرقت/ عش الدبابير/ وركضت صائحاً/ النجدة
في هذا النضد استخدم شاعرنا التكرار البلاغي الذي يهدف منه إلى تأكيد الصورة والاستفادة من جرس المفردة، وليس محقاً من أخذ عليه ذالك فالروّاد اليابانيون استخدموه بكثرة. وفي البقية نجد الوضوح والمفارقة في المعنى، وانفرد في الرابع بالاستفادة من وقع القافات وهي من الحروف المقلقلة، وقد خفف من وهج الصورة باللون المعتم للأبنوس، وأما الأخير فكان عاديّاً على خلاف الإبداع في سابقيه.
وأريد أن أنهيَ وقفتي مع الأستاذ المبدع سالم الياس مدالو في هذا النضد الذي حاول فيه أن يؤسس لهايكو عراقي، ولكنني أجده اعتمد السرد الحكائي الذي لا ينسجم مع الهايكو الذي يعتمد على الاختصار الى الحد الاقصى فلنرَ:
قباب ومرايا/ مهمشة وبواشق/ وبومات/ مبتسمات...وحقول ومروج/ عارية إلا/ من أشواكها/ وطيورها/ تبكي ذبول ازهار...وينابيع وانهار/ وسواقي حزينة/ تمنح صخب/ أمواجها/ لأزاهير/ أحلامها وطيورها.
أشكر الشاعرالأستاذ سالم الياس مدالو، فقد أتاح لي متعة وفائدة.
 
 
 

63
من الساكورا فالهايكو الى موجة الهايكو العراقي-5

خالد جواد شبيل

نحن أمام هايكو عراقي بدأت تظهر ملامحه وتنكشف هويته، وإن جاءنا من الغير، فقد أضفت لغتنا وواقعنا المعاش وبيئتنا على هذا النوع الشعري رداءً؛ حتى بدأ يلوح سؤال: ما هو مستقبل الهايكو في العراق وغير العراق من بلاد العرب؟ والجواب يكمن في الهايكو نفسه؛ فهو دفقات على شكل مقطعيات ثلاثية أو رباعية على الأعم أو ثنائية أحيانا تشكل متتاليات حتى وإن كانت مستقلة عن بعضها ما مكًن لها أن تشكل بديلاً للمطولات العصماء وتسمح لممارسها الحركة في المضمون وباساليب شتى تفرضها طبيعة اللغة العربية، من تهكم وتأمل وتأويل وما يجلب من دهشة أو صدمة.. ولا نود الإعادة في خصائص الهايكو، فمن الأجدى أن نواصل ما بدأناه في معاينة الهايكو لدى من مارسه من الشعراء العراقيين.
***
الأستاذ زاحم جهاد مطر حالة تبعث على الدهشة والفرادة من نواحٍ عديدة؛ حين تبحث عنه لا تجد عن شخصه شيئاً يُذكر، فهو لا يبوح عن ذاته رغم عطائه ومنجزه الذي باغتنا كسيل جارف وبمدىً زمنيًّ قصير! فمن هو المقالى "المقاماتي" ثم الشاعر زاحم جهاد مطر وما هو إنعكاس تجربته في ما كتب؟
مولود في عام 1949، وهو بغدادي، كرخيٌ، عسكري حائز على بكالوريوس في العلوم العسكرية..ولا داعي للتعجب فالعسكريون رغم حياتهم المنضبطة الخشنة أحيانا وربما بسبب ذلك أبدع رعيل منهم في الأدب والفن منذ البحار العسكري رمسكي كورساكوف ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وووو والنهر مازال جارياً الى اليوم!
هو خبير في أخطر مجال وهو مجال الألغام وهومؤسس ومدير المنظمة العراقية لإزالة الألغام والمقذوفات غير المفلقة، تاسست في أيلول 2003 وشارك في مؤتمرات بهذا الحقل في عمان وبيروت ونيويورك وواشنطن محاضراً ومشاركاً فعّالاً له مؤلفات هامة مثل "التعبئة العسكرية" في ثلاثة أجزاء. عاش ملاحقاً من قبل النظام السابق، ومهمّشاً من قبل النظام اللاحق! مارس الكتابة منذ عام 2010 حين نشر "كلكامش آخر" حالول أن يُعيد كتابة الأسطورة من خلال "كلكامشيات" و "بكاء الرقيم"؛ لكنه نجح في إحياء المقامة الأدبية وبرع في كتابتها، وطُبع له كتابان " مقامات معاصرة" و "مقامات" .
ثم مارس الهايكو، ولا بد أنه دخله مسلحاً بثقافة وخبرة واسعتين شملت ميادين متفاوتة ومتباعدة، من العلوم العسكرية واطلاع واسع على عالم الأساطير التي تُغني ملكة الخيال وعلى مقامات الهمذاني والحريري حيث اللغة المعجمية وروح الفكاهة وأسلوب الحكاية، والتأثر بالأسلوب القرآني لاسيّما التسجيع، ما أعطى شاعرنا مدداً في المفردات وأساليب التهكم والسخرية من مفارقات الحياة ومفاجآتها  ولكنه وظفها لأسلوب مقامي هادف عالج فيه عذاب الإنسان واغترابه، ولن أبالغ إذا ما قلت أنه برع في الحكايات على ألسن الحيوان مستوحياً أسلوب ابن المقفع في "كليلة ودمنة"..
إذن لم يمضِ على الأستاذ مطر وهو يمارس الكتابة الأدبية سوى عشر سنوات وعلى ممارسة فن الهايكو سوى شهر وكان في جميع الأحوال بارزاً موهوباً؛ على أنني أجده أبدع في المقامة التي لا تخلو من شاعرية، ولست باخساً كتاباته الأخرى قطّ..
هكذا مرةً واحدة يطلّ علينا ولأول مرة بنضد من الهايكو اثنتين وخمسين مقطعيّةً. تحت عنوان "كشاكيل الهايكو" فلنأخذ عينات وافية:
طار/ العقال/ قطار الشرق مرً سريعا.
في الهور/ مشحوف/ فوق هلال.
الضيفُ هو صاحب المنزل/ صاحب المنزل هو الضيف/كوخ القصب.
قطعان الجواميس/أرتال النساء/لون واحد.
في المعتقل/ لاوجود للكراسي/ فقط خوازيق.
هذه المقطعيات لصيقة جداً بواقعنا ووسطنا العراقي وسخّرها الشاعر ببراعة لتخدم النص الشعري ودلالته، فالعقال الذي هو رمز الشرف العراقي قد فقد معناه بسرعة مع التغيرات التي عصفت بالعراق، وغدا التكالب على المال والكرسي هو الشغل الشاغل ما أفسد القيم العراقية. في المقطعية الثانية والثالثة والرابعة هي استكناه تشبيهي مستوحى من طبيعة الجنوب العراقي، وقيمه التي مازال ابن الجنوب محافظاً عليها، أما في الأخير فهو سياسي عراقي محض، أعادنا الى قصر النهاية ووسائل التعذيب الوحشية! قد أسيء فهم الرابع بأنه امتهان للمرأة، نعم هو امتهان للمرأة من قبل سطوة التقاليد العشائرية التي أرجعت المرأة الى الوراء وما صفقات النساء الفصليات إلا دليل على ذلك!
يدٌ مقطوعة/ ترسم غصن الزيتون/ بلون أحمر.
النائم على الرصيف/ جرفته/ مجارف الزبالين.
الرؤس/ التي تراها/ ذيول.
الشيطان علّمه السرقة/ نسي وكتب/ هذا من فضل ربي.
حفيد/ يأكل الحلوى/ جَدٌ يتحسر.
ما زلنا في العراق والشاعر زاحم مجاهد مطر ينقلنا نقلات ذكية الى أجواء الحرب التي مازالت شاخصة، فضحية الحرب مقطوع اليد ينشد السلام للجميع وينسى نفسه! والمشرد لاقيمة له، قيمته والأزبال سواء، والرؤوس الفارغة التي أتت بها المقادير الضالّة هي ذيول لمن أكبر منها، والسارقون يتجارون بالدين ويبررون السرقة وينفقون منها على الطقوس الدينية.. والحفيد الذي يأكل الحلوى ويثير شهية جده الذي لا يأكلها لأنه يؤثر بها الحفيد أو لأنها تضر بصحته؛ وهذا على الضدِّ من ذلك القول المأثور: الآباء يأكلون العنب والأبناء يضرسون!!
فلئن كانت هذه المنوعات الكشكولية عراقية تؤسس لهايكو عراقي، فعلينا الانتقال إلى آخر ما كتبه الشاعر، وهو " من وحي ملكة الليل"؛ وقد صوّر أحاسيسَ شاعرية وتداعيات تأملية لا تخلو من لغة رومانسية شفيفة تحكي قصة تلك النبتة المزهرة بزهور تعددت أسماؤها "ساهرة الليل" الشبوي" "ملكة الليل"... والدلالات واضحة واللغة منسابة سأختار عيّنات منها:
مساءٌ معطرٌ ونجوم فضييّةٌ/ يالهفي/ صوت انفجار.
هذه اللية لا عطر يضاهيكِ/ إلا/ عطر سيدتي.
قالت: إذا أردت عدم نسياني/ ازرعني/ قلت: في قلبي.
لاتسأل أحداً / فقط تلمس ناحية العطر/اتجاه منزلي
اللغة هامسة الموحيات حاضرة الصور الحسية تنثال ، وهذه المتتاليات تتميز بوحدة موضوع محورية واحدة على خلاف الكشاكيل، لكن في كلتا الحالتين لا نجد صدمة قوية بل مترفقة بلغة غنية ومنسابة انسيابا يشدُّ القارىء.. لا حظت تكراراً للصور في أكثر من موضع وهو أمر لا شائبة فيه سببه التدفق وكثرته ففي حدود شهر واحد كان غيثا عميما من الهايكو حوالي مائة وثلاثين، إنها طاقة وموهبة كبيرة. دونكم بعض المتشابهات الجميلة:
تعطرين الليل/ وتفرشين الصباح/ سجادة بيضاء.
الليل سعيد بعطرك/ والنهار حزين / لسقوط أنجمك.
وكذلك هذه المقطعيتين المعبرتين عن رغبة داخلية جامحة!:
عطرك/ يجعلني/ أحلُم برغبة لا حدود لها.
عندما تتعطر بعطرك/ تحفزني/ بالارتماء في حضنها.
أفارق الأستاذ زاحم مجاهد مطر متمنيا أن تتاح لي الفرصة في الوقوف معه في ما نَثَر..
***
الأستاذ لطفي شفيق سعيد – وما أجمل الأسم !-  هو الآخر ضابط بل هو من الضباط الأحرار وهو مناضل يساري عتيد وصلب حُكم بعد الانقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963  حيث عكس تجربته في نقرة السلمان تحت عنوان "1000 يوم في سجن نقرة السلمان"، وهي من أهم الكتابات التي كتبت في أدب السجون في العراق، حيث صوّر حياة السجناء اليومية بدقة بالغة وكذلك رسم أهم الشخصيات التي عايشها ونسي نفسه بتفان ونكران ذات، كما صور الحياة الثقافية في داخل السجن وروح التعاون الجماعي بين السجناء..كل هذا بإسلوب شيق وجميل.
 وكتب الاستاذ لطفي ذكرياته عن بغداد وعن حياته في الكلية العسكرية وكان وصفه لفيضان بغداد في الخمسينات وكفاح طلاب الكلية العسكرية من أجل إنقاذ المدينة من النهر الثائر تعد من أروع الذكريات، وخاصة خوضه في المياه حتى بعقوبة فهو من مدينة الخالص..والأستاذ أبو نبيل رسّام مُجيد له لوحاته التي صوّر فيها الحياة البغدادية، وجمع بين مختلف الأساليب من الانطباعية والتجريدية الحديثة، ولا غرابة فالأستاذ على صلة قربى بالعائلة الفنية لآل سليم وأعني بهم جواد ونزار ونزيهة.
مارس شاعرنا الفنان قصيدة النثر، وتعرّف قبل عام على قصيدة الهايكو عند قراءته ماكتبته عن الشاعر جمال مصطفى وقد أعجبه هذا الفن فراح يمارسه بلباقة وحماس الشباب، والعم لطفي قد نيّف على الثمانين  ولكنه شاب في روحه ونشاطه واهتمامه وثقافته التي تجمع بين القديم والحديث وكلتاهما مشفوعة بخبرة عملية وفنية وثقافة واسعة..كما سنرى من هاي-كو عراقي:
رأسُ سهم ظلُّه/ فوق بحيرة راكدة-/ بطٌّ يهاجر توّاً.
صفوفٌ متراصة/ سعفات ترتجف!!/عمال مسطر.
إنها أجواء الإرهاب التي تعكر صفو الإنسان حتى في عزلته مع الطبيعة حين تمر نفاثة وترسم خيطاً من دخان وتهزم أسراب البط! عمال المسطر الكادحون يعرضون قوة عملهم بانتظار من يشتري، يرتجفون خوفاً من مفخخة طالما استهدفتهم..رائع يا أستاذ لطفي، الكلمات مقتصدة لكنها مشحونة بحسن الإيماء وجمال التصوير.. وفي السياق نفسه يتحول لليومي العادي:
أكثر ما يعجبه فيها!/ صدرها وأفخاذها/ يتناولها بشهية.
أراد المزاوجة بين الدجاجة المشوية والإيماءة الخادعة عن جسد المرأة الذهبي!
أسرار مهمة/ يخفيها صاحبها:/ يستلمها الدّفان.
وهنا أتذكر حكاية علي آل صويّح عندما أوصى أن تُخرج يدُه من التابوت عارية ويمر موكب المشيعين القلائل على الشيخ حمد آل حمود فصاح عندها حمد: حتى وأنت ميّت تنصحني! وكذلك بشخصية الدّفان السكير في هاملت حين يصيح بالأغنياء: أطعموا ديدانكم!!
رفقاً بالحيوان / مطلوب أيضا:/ رفقاً بالإنسان.
المفارقة عادية جداً ولغة تخلو من الشاعرية، ليتك تحذفة يا أبا فراس على خلاف ما سبقه. ومن ناحية أخرى، سنجد كيف انعكست تجربة سجن نقرة السلمان في هذه المقتطعات:
سجين سياسي/غادر السجن/ ليعود مجدداً للحياة.
في غياهب الجبِّ/ 6 أمتار تحت الأرض/ قبو السلمان.
لامكان لشخص آخر/ 180 زفير وشخير/ قاووش 3 السلمان.
القمر منيرٌ/ في الداخل-/ فانوس في القاووش.
في هذا النضد لغة واضحة وتصوير دقيق لحياة السجن، وأعتبرها تجربة فريدة في شعر السجن تقترب من الهايكو..لكنني لست مع الأرقام بل أريدها بلغة مكتوبة بالأحرف حيث الأرقام لغة الإحصاء وليس لغة الشعر. أختار منوعات  من الهايكو للأستاذ لطفي:
التي وهبتني قبلة/ أمام زوجها !!/ ابنتي.
بعيد ميلاده17 (السابع عشر-خ)/ يتقن ثلاثة (ثلاث-خ) لغات-/حفيدي.
ولننتقلِ الآن الى هذه المقتطعات الهادفات اللاتي تنم عن ثقافة الأستاذ لطفي شفيق سعيد والتزامه السياسي والإنساني:
عَشاء في الخيام/ رملٌ وهوام!!/ كم هو رخيص.
جسر الأئمة / جسر بزيبز/ جسر التنهدات.
رواية/ لمن تقرع الأجراس/ تقرع اليوم للإرهاب.
مشابهة لآلهة الجمال/ بندقية بيد وراية بيد-/ من أجل الحرية.
يتناول الشاعر محنة المهجرين في الأول والثاني، ويستحصر مشهد جسر الأئمة حيث إزهقت أرواح المئات من زائري الإمام الكاظم بحادثة معروفة ، وتجمع النازحين من الأنبارعند جسر بزيبز إحدى البوابات المؤدية الى بغداد...وبين رواية لمن تقرع الأجراس لأرنست همنغواي  التي عكست أجواء المتطوعين الأممين للدفاع عن الجهورية الإسبانية الفتية وخاصة البطل الأمريكي روبرت جوردَن الذي ظلّ مترددا بين تفجير الجسر لمنع قوات فرانكو من الزحف وبين تعلقه بالشابة المقاتلة التي أحب..ثم  أدخل الفنان لطفي شفيق سعيد في المقتطعة الأخيرة اللوحة الشهيرة للفنان الفرنسي أوجين دو لاكروا "الحرية تقود الشعب" والتي تتوسط اللوحة الحسناء الفرنسية الثائرة في الثورة الفرنسية الثانية عام 1830 والتي أسقطت عرش شارل العاشر ولتنصّب لوي فيليب الذي سيسقط هو الآخر بعد ثمانية عشر عاماً والأيام دول!!
-للموضع بقية-
 
 

64
من الساكورا فالهايكو إلى الهايكو العراقي-3
خالد جواد شبيل

بَدءً لا بد من الإشارة أن هذه المقالة وما سيليها كتبت باسلوب اعتمد البساطة والاسترسال يهدف الى بلورة هايكو عربي بعد أن شاع كثير من الشعر الذي صنَّفه أصحابه وحتى دارسوه شعر هايكو وهو لا يكون منه في كثير من الأحيان والسبب هو غياب الفهم المنشود للهايكو، ولا أزعم أنني سأقوم بفتح جديد في هذا المجال إنما هي مساهمة قد تفيد في الرسو على مفهوم  conceptيكون بمثابة مرجعية لهايكو عربي..
ولابد من التأكيد أن الهايكو وصل العرب صدىً لا صوتاً أي لم يأت من موئله اليابان مباشرة، وإنما عن طريق الغرب، ومن الترجمات الفرنسية تحديداً التي نشطت بها بيروت* ودمشق والرباط، وكان على مرحلتين، مرحلة دراسة المترجَمات واستيعابها وتمثلها، والمرحلة الثانية هي التقليد ومحاولة الانتاج حتى تحول من انشغالات فردانية الى ما يشبه الموجة وانتشر بسرعة حذِرة ليزحف على قصيدة النثر زحف السلحفاة ثم غذّ الخُطى وما زال في تسارع يقارب قفز الأرنب!
وليس صدفة أن تبرز بعض الأسماء في سوريا ولبنان والمغرب والعراق... و بعضها شكل علامات فارقات. ولابد من الإشارة الى أن مسألة الريادة والأولوية لا تنطوي على أهمية كبرى لأكثر من سبب أجده هاماً، وهو أن الهايكو لم يكن محصلة لتطور القصيدة العربية وانسلاخها المتكرر شأن التحول من الشطرين الى التفعيلة الى الحداثة باتساق مع تطور الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية ..إنما هو استجلاب وممارسة نمط جديد دخيل من الشعر حتى وإن وجدنا له خطوط تماس هامشية عَرضية مع ديواننا الشعري المعاصر.
وأجد أن مفهوم الريادة يشوبه كثير من الالتباس، حين يختلط بمفهوم الأولوية، فليس السبق هو المهم بل المهم أن يتحول الى حالة مؤثرة معطاء تشق طريقها لتصبح لوناً إبداعيا يستقطب النخبة والجماعة ويخرج عن فردانيته ويكون له رد فعل مؤثر في الوسط الثقافي، ويجذب له مريدين وقرّاء وبذلك يستوفي مفهوم الريادة..
وإلا لاعتبرنا الدكتور لويس عوض الذي أصدر ديوان "بلوتولاند" في بداية عام 1947 حيث كتِبت قصائدُه بين 1938-1940 والذي قوبل بصمت مطبق من الصحافة والنقاد لاعتبرناه هو الرائد! بينما كتبت نازك قصيدة الكوليرا الرائدة والتي نشرت أول ك1/ ديسمبر1947 وكذلك صدور ديوان "أزهار ذابلة" للسياب  بعدها باسبوعين والذي ضم قصيدة "هل كان حبّاً"، وكلاهما أثار ضجّةً عراقياً وعربياً، وقد تعزز الاتجاه الريادي بصدورعام 1950  "ملائكة وشياطين" للبياتي وبعده وفي العام ذاته "المساء الأخير" لشاذل طاقة...فليس العبرة بالأسبقية لمن كتب الهايكو وإنما لمن سجل حضوراً هايكوياً بحق!
وبإطلالة فاحصة على الذخيرة المطروحة التي لا تني تتكاثر يجد المتتبع أن هناك تفاوتاً لا في مستوى القصائد – وهو أمر طبيعي- بل وفي انتماء هذه القصائد الى الهايكو! فليس كل من أمطرنا بقصائد تحمل عنواناً به مسمى الهايكو هي بالضرورة من الهايكو. فهي إذن محاولات في بعض منها تحصل المقاربة وفي بعضها الآخر تحصل المفارقة وبين الاثنتين هناك تفاوت بالدرجات. فليس مجرد توزيع العبارات الشعرية على ثلاثة أسطر يجعل صاحبها أنه أدرك المرام حتى ولو انطوت هذه العبارات على شاعرية وبناء محكم من دون اعتبار للخصائص الهايكوية شكلاً ومضموناً.
فقد بلغ الأمر أن أحد الذين ترجموا عن الهايكو تعريفاً ونماذجاً راح يعد الكلمات المتوزعة على الاسطر الثلاثة معتبراً كل كلمة معادلاً لمقطع هايكو في محاولة منه لتقعيد الهايكو العربي!! والحقيقة إن وحدة الشعر العربي هي التفعيلة الناجمة من انتظام المتحرك والساكن بأنساق ثابتة في تفعيلات معينة معروفة ينشأ عنها الوزن، ولا توجد وحدات للمقاطع إنما يمكن توليفها بين أجزاء التفعيلات في نسق معين يقابل الهيكو الأصلي وهو أمر صعب قد يكون مُتكَلَّفاً على حساب القيم المعنوية للهايكو!
السؤال المهم: هل بالوسع إيجاد هايكو عربي؟ إن الهايكو العربي ينبثق من لغة العرب نفسها ومن ثقافتهم ومن حياتهم. ويمكن للإيقاعات الناتجة من الألفاظ والتجنيس أن تلعب دورا هاماً وكذلك الاستفادة من البلاغة العربية في التورية أي مفارقة المعنى مما يعززالجانب الصوتي والمعنوي معاً، وأذهب أكثر من ذلك بأنه يمكن الاستفادة من البحور القصيرة كالمتدارك و المنسرح وغيرهما بل حتى يمكن إدخال القوافي بشكلها البسيط (المقصورات مثلاً)، عند ذلك يمكن الحديث عن هايكو عربي، وعند ذلك ستحصل حالة الفرز بين من له شاعرية حقيقية وبين الطارئ الدخيل، وبين الذي يمكث في الأرض وبين الذي يذهب جفاءً؛ وعند ذلك أيضاً سنتخلص من التداخل بين قصيدة النثر والهايكو كما هو شائع الآن!
فالهايكو هو بطبيعته القصيدة المقتصدة التي تبدو كمَركب سائر في لُجّة بحر قد تغرقه أية كمية زائدة من حمولته حتى وإن كانت قليله وتخرجه عن كونه هايكو، هو محمول لأقل كلمات ولأكبر مدرك فلسفي أو تهكمي أو وصفي يحمل مفارقة ومفاجأة تبعث على الصدمة والإندهاش وهو يريك اليومي العادي الذي تمر عليه ولا تأبه به في لوحة غير مؤطَّرَة تستوقفك لتتأملها بانبهار لا يخلو أحيانا من سذاجة ظاهرة وعمق معنوي يكون على دفقات تقول شيئا وتترك الباقي للمتلقي..
 هو يقف بخلاف مع قصيدة النثر التي تنطوي على بوح وسرد فني تكثر فيها التعابير البلاغية والزُخرف اللفظي والاختلاجات الداخلية والرؤى العاطفية المنفلتة من عقالها وتموج بها الأفكار والصور الخيالية التى طالما تتكرر، إن القصيدة النثرية طالما تكون مشروعأ مخططاً له أي أن الصنعة فيها واضحة وأجد أنها اليوم قد ضاقت مساحتها وكررت نفسها وربما أنجزت مهمتها، وأصبحت تُعَد من قراءات قبل النوم!! ومن الطبيعي ألاّ يشمل هذا الحكمُ الشعراءَ المتمكنين الذين يشكلون أعمدة ترفع بهو قصيدة النثر.
***
 قبل الانتقال الى الهايكو في العراق لا بد من جولة سريعة على الهايكو في ديار العرب.
 ليس من الهيّن معرفة زمن ورود الهايكو في العربية، ولكن الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة (المولود في عام 1946 في الخليل)  في ديوانه "يا عنب الخليل" المطبوع عام 1968 قد ذيّل قصيدة (هايكو-تانكا) بتاريخ 1964 :
هايكو:
ياباب ديرتنا السميك
الهاربون خلف صخرك السميك
افتح لنا نافذة الروح
تانكا:
أجاب شيخ يحمل الفانوس في يديه
يوزع الشمعات
على نثار دمنا المسفوك
وحين سلّمنا عليه
بكى...واصفرّ وجهه... ومات
1964
ويلاحظ أن أسلوب المناصرة (ابن الثامنة عشرة) يحمل سمات قصيدة التفعيلة الستينية الفلسطينية معنىً ووزناً (الكامل) وإيقاعا وإن لامس الهايكو ملامسة خفيفة في المفارقة بين الباب السميك والصخر وبين نافذة الروح وقد ووزعها على ثلاثة أسطر أدت المعنى، ولا يختلف الأمر في التانكا*   Tankaحين وزعها على خمسة واستخذم الصدمة في العبارة الشعرية الرابع والخامسة ببراعة. لم يستمر الشاعر في مسعاه هذا للأسف، ويبدو أنه انصرف عن الشعر -ألذي برع في الستينات- لشؤونه الأكاديمية.( قارن هذه الذكريات مع الفلسطيني محمد الأسعد في نهاية هذه المقالة).
وإذا تكلمنا عن روّاد الهايكو العربي فلا بدّ من ذكر أهم العلامات البارزة، وسأختار عيِّنات قبل الولوج الى الهايكو العراقي وشعرائه الأبرزين..
الشاعر المغربي أحمد لوغليمي هو الأكثر تميزاً وهو من القلائل الذين خصصوا ديوانا لشعر الهايكو، والهايكو عنده لا يكون عنده مجرد اسم بل هو الأكثر مقاربة من بين زملائه للياباني لدرجة أن مفردات الطبيعة اليابانية حاضرة في شعرها لاسيّما زهورها، وما يؤكد زعمنا هو أن ديوانه الصادر من دار غاوون في بيروت موسوم ب " رسائل حب الى زهرة الأرطانسيا" وزهرة الأرطانسيا Hortensia flower(حرف الهاء لا يُلفظ بالفرنسية) هي زهرة مركبة متعددة الألوان بالأزرق والوردي والأبيض منتشرة في اليابان وكوريا والصين جنوباً إلى إندونيسيا . تتسم أشعاره أيضا بالجودة وحسن الصقل والإحكام معنىً ومبنىً وهاكم بعضاً من ديوانه الذي احتوى على مائةً وثمانٍ وعشرين مقطعِيَّة** من الهايكو:
استحياء:
 لشدّة الأزهار/عدلتُ عن / عبور الغابة.
قمر البركة:
 القمر في البركة/ تبعثره/ ضفدعة.
غفلة:
نطراتي/ تُدهش شقائقَ النعمان/ في طريقها إلى الكرز.
ويرى القارىء أن أجواء هذه المقطعيات مستوحاة من الطبيعة وأن مفرداتها  وصورها شائعة في الشعر الياباني وأذكّر أن الكرز هو الساكورا.
وأنتقل الى مقطعية أخرى تختلف عن سابقاتها فهي غوص على المعنى مستمد من خارج الطبيعة، من معاناة الشاعر الذي يرى أن قصائده هي نزيف الروح وانعكاس لعوادي الزمن، وقد بدأها بكم العددية:
نزيف:
كم طعنةً تكفيك/ كي تنزف /قصائد.
كما أود أن أشير أن الشاعر استخدم العناوين ما يسّهل على المتلقي استبطان المعنى، وقد وُفِّق أيّما توفيق في ربط العنوان بالمضمون.
يبدو أن للهايكو في سوريا حضوراً منذ أوائل الثمانينات بفعل الترجمات التي نشطت في تللك الحقبة حتى برزت أسماء من الشعراء أمثال محمد الأسعد ولؤي ماجد سليمان ورامز طويلة وكانت صلة البعض منهم بالهايكو الأوربي وقد مارس الترجمة، إن ممارسة الترجمة في مجال الشعر عموماً ستتيح دراسته وتذوقه وتوسع من أفق الرؤية الشعرية وتعمِّق ممارسته شعراً، وفي سوريا وجد الهايكو شعبية كبيرة من خلال مترجميه ودارسيه ونقّاده وزاد الأمر على ذلك بوجود جمعيات له زادت من شعبيته مثل جمعية أصدقاء الهايكو، ومجاميع في مواقع التواصل مثل الفيسبوك كمجموعة "عشاق الهايكو"، ومجموعة "الهايكو سوريا"..
هايكو لرامز طويلة:
على جرف صخري/ تتلاطم الأمواج متلاحقة/ لا تطال ظلّي.
يتناثر الرذاذ منعشاً وجهي/ بألوان الغروب الزاهية.
لقد قارب في مقطعيته الأولى الهايكو؛ ونأى عنه في الثانية، فقد غابت عنه مزايا الهايكو، وغدا أقرب الى المقابلة التصويرية.
ونختار له أيضا:
قوسه يحز/ صدر الكمان/ وتسألًني لِمَ الأنين.
لو قال الشاعر: قوسه يحز أوتار الكمان لجعل العبارة الشعرية عادية، إنما القوس تجاوز الأوتار الى الخشب، وهذا هو الذي يستوقف القارىء، وببراعة استخدم الفعل: تسأُلُني، فيحتمل فاعلين: هي أو أنت إن المفارقة جميلة وعميقة في هذه المقطعية.
ونزيد له اثنتين لتكتمل الصورة عن شاعرية رامز طويلة:
رغم الأشواك/ متعانقتان/ صبّارة وجورية.
هل أراد الشاعر أن يجمع النقيضين في وحدة وفق الديالكتيك؟ أجد المفارقه هنا عادية وستتحول بنفس المعنى ولكن إلى إطار التشبيه البلاغي في هذه المقتطعة:
حبة زبيب/ حلاوة وتجاعيد/ تُطلُّ جدتي.
ومن الشعراء المبرزين شاعر فلسطيني المولد (في حيفا 1944)عراقي المنشأ (قدم البصرة 1948) طفلاً وراشداً وهو الشاعر محمد الأسعد، الذي يجمع بين الشعر والنقد والترجمة والدراسات الأكاديمية في الأدب والآثار ما عمق تجربته التي انعكست في شعره، ولكون هذا الشاعر قد كتب عنه أكثر من غيره سأورد له هذه النماذج من مطولته "أفاريز النويِّر":
أزهار النويِّر...!/ زقزقة عصافير الدوري/ تتباعد في الضباب الخفيف.
يا لهذه الاشجار!/ لاتعرف/ إنها تلقي/ظلّا.
إنها وصف الطبيعة مغلف بحنين الماضي حتى وإن كتبت بصيغة الحاضر، إن الحاضر هو الماضي، وللشاعر عبد الرحمن طهمازي مجموعة شعرية "ذكرى الحاضر"..ولكن أيصحُ أن نستخدم زقزقة بدلاً من سقسقة؟! لكن أجده محقا في القطع المقصود الذي تكلمنا عنه في الحلقة السابقة حين قال: لاتعرف/ إنها تلقي..والنحو يقول لاتعرف أنها..ولنواصل مع الشاعر الاسعد:
منذ صبانا/ نتبادل الأحجار/ والنجوم/ الصمت وحده.
بيوت وتلال/ وجبال بعيدة/ تتذكر دائما.
لا يفتر الشاعر وهو يستحضر ذكريات قلسطين بيوتاً وتلالاً وجبالاً بعيدة لا يتذكرها وحده بل يستنطقها ويجعلها هي الأخرى تتذكر بل ويجعل منها معادلا موضوعيا لقضيته فالحجارة في الطفولة لم تكن له في الحاضر سوى انتفاضة أطفال الحجارة..
في الحلقات القادمات ستكون للهايكو العراقي وشعرائه.
*من أهم كتب الهايكو المترجمة: كتاب الهايكو،ت محمد عضيمة، كوتاكاريا؛ السحر الآسيوي، ت محمد منير؛ تاريخ الهايكو الياباني، ت سعيد بوتراجي.
**أسميتها ب مقطعية وليس مقطعاً حتى لا يحصل الالتباس مع المقطع الصوتي الذي مرّ معنا في الحلقة الثانية.

من الساكورا فالهايكو.. الى الهايكو العراقي-4
خالد جواد شبيل
 سألني سائل: كيف تكون المفارقة المدهشة التي تبعث على التأمل خارج الهايكو؟ وفي الحقيقة إن تراثنا الشعري لايعدم جواباً، وسأعطي أمثلة علّها تكون مُدخَلا، من دون الاستغراق في شرحها.
عرف الشعر الإنكليزي في القرن السابع عشر شاعراً ذا شخصية مدهشة متناقضة انطبعت في شعره، هو John Donne  فهو قس كاثوليكي تحول الى الانجليانية وهو شاعر المتناقضات، ميتافيزيقي وعلماني يكتب أشعارأ دينية ودنيوية إيروتيكية وهو في جميع الأحوال ساخر وجاد وفيلسوف تعنينا منه قولته: أيها الموتُ إنك لمائتٌ قطعاً! Death, thou shalt die!.
ويقول الشاعر ابن الرومي وهو على فراش الموت والسُّم يسري في جسمه ليقربه من أجله:
الناس يلْحون الطبيبَ وإنما – غلطُ الطبيب إصابةُ الأقدارِ
والمتنبي:
فما حاولتُ في أرض مُقاما- ولا أزمعت في أرض زوالا
على قلقٍ كأن الريح تحتي- أوجِهها جنوباً أو شمالا
ويقول شاعر آخر:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمةٍ- إلى أين يسعى من يغص بماءِ
يقول الياباني شيكي: وبلٌ في الصيف/ المطر يهطل/ على رؤوس أسماك الشبوط. وفي تراثنا : البليلُ لا يخشى وابلاً، أو (المبلل ما يخاف من مي المطر).
ولو استغرقت لملً القارىء ولخرجت عن فحوى الموضوع؛ ولكنني راغب في أن أرويَ حكاية من طه حسين ألخصها جداً: كان الطلاب في الجامعة المصرية قد سئِموا من أَستاذ الفرنسية المخلص الشديد، فأضربوا عليه، والأستاذ الفرنسي في كل يوم يحضر الى القاعة الفارغة حتى ينتهي الوقت فيخرج..فسئِم الطلاب وعرَفوا أن لا أستاذ غيره، فدخل القاعة ووجدها تغصّ بالطلاب فقال لهم قوْلةً ثم استأنف درسَه: " أراد رجلٌ أن يغيظَ امرأته فقطع ذكَره!" ولكم أن تتصورا وضع الطلاب الذين أطرقوا خجلين واجمين! فلنجعل هذه القولة هايكو:
رجل يغيظ أمرأته/ فيقطع.../ذَكَره!
ولو استحضرنا أشعار النساء التهكمية "المكشوفة" في العراق وباللغة الدارجة وتأملناها لوجدنا فيها ما يُثير الدهشة ويبعث على التأمل والسخرية والتمرد بعفوية صادقة، وبلغة عليها غشاوة خفيفة أو بلا غشاوة! يذهب الشاعر عبد الإله الياسري والشاعر لطفي شفيق سعيد كلٌ على رسله أن مفارقات الهايكو ومعانيه لها في الدارمي حضور وأنا متفق معهما ويزيد الثاني أن الحسجة(الجيم معجمة بالثلاث) هي تحمل تلميحات هايكويه، ويزيد
الأول: "ان شعر الهايكو يذكرني بشعر النتفة ذي البيتين". وقد كتب لي أستاذ مهتم بالهايكو، المغربي/الفرنسي مصطفى الرياحي أن للهايكو حضور في الشعر الشعبي الاندلسي وفي الغناء المغربي ودعم دعواه بمرسول من الغناء الشعري، وغيرهم من الشعراء كتب وجهات نظر متقاربة ومهمة..
***
لا نعرف متى بدأ الشعراء العراقيون في كتابة الهايكو، ولكنني أرى أن هناك إشارات من الهايكو لدى بعض شعرائنا من دون أن يسموه ضمن قصائدهم التي تأتي دائما في نهاية القصيدة كصدمة مثل: موفق محمد وعواد ناصر وكَزار حنتوش ووئام ملا سلمان، وجمال مصطفى ..وكذلك لدى سعدي يوسف في عدة قصائد..
ووفقاً للشاعر جمال مصطفى فإن هناك كتاباً مترجماً الى العربية عن الهايكو الياباني  صدر عن وزارة الثقافة العراقية ترجمة عدنان بغجاتي، ولعله يقصد به: أزهار الكرز: أشعار يابانية، صدر في بغداد في السبعينات، وأذكر أن المترجم السوري نفسَه قد ترجم: رؤية شرقية: أشعار يابانية، في مجلة المعرفة السورية عدد يوليو/تموز 1973.
ولعل الشاعر محمد الأسعد يكون أول من ساهم و روّج لمثل هذا الشعر، ومارسه بعض الشعراء في الثمانينات مثل الشاعرين الهامين حسين عبد اللطيف وسعد جاسم..وحيث أن المبدع الراحل حسين عبد اللطيف يمثل حالة متفردة، فقد بدأ في الستينات مع شعر التفعيلة صوتا متميزا له ثقافة متنوعة من قديم الشعر وحديثه، واطلاع واسع على الأدب العالمي المترجم مثلما استفاد من ثقافته في الفن التشكيلي وقد تجلى هذا في ديوانه الأول " على الطرقات أرقب المارة" الصادر في بغداد عام 1977 حتى ظهر له  عام 1995 "نار القطرب" وفي هذه المجموعة تتعمق لديه تجربة الحداثة وتتسع رؤيته للأدب العالمي وفي هذا الديوان يبدو اطلاعه على الهايكو من خلال مفرداته وصوره، حتى أن "القطرب" الذي هو الضوء المتوهج في الحشرات كالذبابة المضيئة أو النارية fire fly  باللون الأخضر الناري متداول جداً في الهايكو العالمي ومثاله للياباني اون تسونيوكس :
جوفي/ مترع بذباب ناري/ وأحياناً لاشيء غير النار.
  أما في ديوانه " متوالية هايكو" صدر 2012 والذي جعل له عنواناً آخر "بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة" تدل على معرفة جيدة بالهايكو، لا أود الإطاله فمن يُرد الاستزاد فليذهب الى (موقع بصراياثا) حيث ملف واف شارك فيه لفيف من الشعراء والنقاد،عن الراحل الشاعر حسين عبد اللطيف ولنا أن نتوقف لماماً مع بعض مقطعياته:
كل ليلة على مدى الخريف/ أحضر الحفل الموسيقي/ الذي تقيمه الجعلان/ هلاّ سمحت لي بإطفاء السراج.
هذا الهايكو ينم عن نظرة ثاقبة حين يفضل العزلة والهدوء على صخب الجعلان حتى ليَوَد ألا يراها!يصفه زملاؤه بالشاعر الصامت، وأنا أقول: إن بعضاً من السكوت كلامُ.
كل شيء مفعم بالضياء، شجرة الكرز، الثلج/أغنية طائر الليل و../ وعاء الحليب.
يبدو في هذه المقطعية ياباني المفردات والصور مشرقا متوهجاً عكس الأول حين تتلوث الطبيعة الخريفية بصخب الجعلان يكون الظلام منقذاً!
وله أيضاً هذه المنوعات:
كم هي رقيقة أزهار الكرز هذه/ حتى أنها تسقط متناثرة من/ قرع الأجراس.
أمام الخريف تقف الأشجار موديلاً عاريا.
في المقطعيتين نلمس لغةً رقيقة وتصويراً جميلاً يحمل لغة الهايكو لكنه ينأى عنه، ثم:
في باطن الأرض/ ينقبون عن الياقوت/ وهو يتوهج في عذق النخلة.
وفي هذه المقطعية يلامس الشاعر البصري الهايكو ملامسة خفيفة بمفارقة بين الياقوت الذي يتهافت الناس عليه؛ بينما ياقوت البصرة (حبات التمر) لا يعبأ بها الناس!
أورد هاتين المقطعيتين المتشابهتين، لا حظ التجنيس البلاغي:
مالك الحزين/ يطير فرحاً/ بكتلته الثلجية.
ندبة سوداء/ غرابٌ يحطّ هناك/ في الثلج.
الملاحظة التي أود أن أقولها أن الشاعر لم يجرب القصيدة العمودية قط فهو مشبع بروح الحداثة؛ بعد أيام تمر ذكرى وفاته الأولى أتمنى أن يحظى بتكريم من وزارة الثقافة بما يتناسب وقامته الشعرية السامقة.
***
وجمال مصطفى حالة نادرة يسجل حضوراً في القصيدة العمودية تحديداً ينم منذ بواكير قصائده عن قدرة ملفتة وموهبة واعدة، صقلها اطلاعٌ واسع على ديوان العرب قديمه وحديثه، ومتابعة جيدة للنشاط الأدبي مذ كان في البصرة شاباً مرهفا يتابع نشطاء الأدب والفن ويحضر ملتقياتهم مستفيداً من تجاربهم، والبصرة تَمورُ بالشعراء والقصاصين والفنانين، لهم منتدياتهم ومقاهيهم...
والدنمارك الصغيرة(وصلها 1985) شكّلت للشاب البصري-ذي السابعة والعشرين عاماً- نافذة لا للاطلاع على الأدب الدنماركي بل وعلى الأدب العالمي، حتى تعمقت تجربته الشعرية والإنسانية والثقافية، كل هذا انعكس في عطائه الشعري ( راجع: موحيات ترمي يواقيتها؛ لكاتب هذه السطور). تتسم القصيدة عند شاعرنا بأنها حالة وجدانية مركبة ومنفلتة تقود صاحبها الى مسالك غير مألوفة فيها إيماءات فلسفية وصوفية وتأريخية موغلة في القِدَم السومري ولمحات وجدانية صافية وغنائية عذبه؛ قصائده تسبح على أديم لغة ثرة وعبارة شعرية متينة ومصقولة، في تضاريسها الهايكوية الذي جاءه عفو خاطر فلنبحث ونتلمس في ما كتب فهل سنكتشف ما قلناه في هايكو جمال؟
مركب الهايكو ضيق، على ربانه أن يحمله بما يتناسب وحجمه ومن ثم يبحر الى جزر صغيرة لم تطأها قدم بحار غيره في معظم الأحوال فهاكم من "شقائق الهايكو" العامرة رياضه بمائتي مقطعية كتبت بين 2010-2011:
زُغْبُ الحواصل/ في بساتين الطفولة/ دشاديش ملطخة بالرُّمّان.
هذا هايكو عربي الطعم فيه من الحطيئة الذي استعطف الخليفة الثاني حين ألقاه " في قعر مظلمة" لا لأجله وإنما لأطفاله الذين وصفهم بكناية بلاغية آسرة "زغب الحواصل" وقد عمل جمال مفارقة رائعة فبدلاً من " لا ماء ولا شجر" عند الحطيئة أصبحت الصورة إنسانية، محض عراقية بتعبير "دشاديش" وليس جلابيب التي تعطي معنى "الكِبَر" وزادها بأنها ملطخة بالرمان! ولا ننسى الالتفاتة في التوقيع الزمني فالرمان خريفي..
نباتي/ يكتفي بالماء.../والمارجوانا
في اسكندنافيا يطلق على ثلة المتسكعين المنغمسين في سكرهم ب A-laget أما ثلة الحشاشة فيطلق عليهم B- laget وكلتا الثلتين لايكاد أفرادها يأكلون شيئا لأن مالديهم يرصدونه لما يلبي حاجتهم في الإدمان ما يحمل البعض أن يعطف عليهم أحياناً بما يسد رمقهم..أظن، انجلت الصورة الإنسانية لهذا الإنسان الذي أصبح نباتيا مكرها لا بطلاً! لقد رسم الشاعر ببراعة وبأقل الكلمات هذه الصورة من المشاهد اليومية التي نمر عليها من دون أن نلتفت لها!
أمام القس/ في باحة الكنيسة، فحل حمام/ على أنثاه
والمفارقة جميلة وتبعث على التأمل في مفارقة الدين والحب، ولتعميق المفارقة تمنيت ياصديقي لو أن الانثى اعتلت الذكر!! ولنأخذ نظيراً له:
الديك في أعلى الكنيسة/ تصفعه الرياح على الخد الأيمن/ فيدير لها الخد الأيسر.
هذه مقطعية محض أوربية، ففي أعلى البنايات يوضع الديك من صفيحة معدن، ليحدد سرعة الرياح واتجاهها.. فهو مطيع لها، ممتثل لنصيحة السيد المسيح: من صفعك على خدك الايمن أدر له خدك الأيسر. وهناك نظير لمشهد زوج الحمام العاشق:
أواخر الخريف/ غرابان على الثيّل/ المنقار في المنقار.
الحب هنا يحمل مفارقة وهو أن موسمه الربيع!
أول الشتاء/ تفاحٌ على الغصون/ دودٌ في التفاح.
وهو مشهد أوربي مألوف حين يترك الناسُ في حدائقهم أشجار التفاح يتساقط منها التفاح حتى تتعفن في الارض  وعلى الشجرة، وهناك أطفال "يسرقون" التفاح يسمى هذا الطقس  في اسكندنافيا وهذا ما يغضب أصحاب البيوت اللؤماء! Palla äpple
الصبيرة الضخمة/ هدية الأحياء الى الموتى/ سرقت البارحة من المقبرة.
تمنيت لو زالت "البارحة" لتكون مدركاً يحدث في كل زمان؛ الأحياء يهدون الموتى والأحياء يسرقون حتى الموتى!
شجرة العائلة/الأحفاد فقط/ بالأخضر.
رائع يا جمال، الأحفاد عود أخضر غض الإهاب، الآباء يبس عودُهم يقول الشاعر:
إذا ما المرءُ شاب له قذالٌ – وعالجه المواشط بالخضاب
فقد ذهبت نضارته وأودى – فقم ياصاح نبكي على الشباب
أختار للشاعر جمال متنوعات لكي تتوسع دائرة الضوء على الهايكو لديه:
ذات عطر/ هذه الوردة الاصطناعية/ ولا تذبل.
ي ع ق و ب / أخ(على الحدود بين العراق وإيران1982)ي.
الصخرتان/ أرتال من النمل/ عبور الوادي,
يبدأ المطر/ تحت الأشجار المتشابكة/ حين ينقطع المطر.
البطريق واقف/ الجزيرة تتحرك:/ ذوبان الجليد.
سهمٌ في قلب/ على جذع شجرة / في شاحنة أخشاب.
أظن أن الحب استحال منضدة أو كرسياً، جدُّ رائع!
أختتم بهاتين المقطعيتين ذاتي الطعم الياباني وقد مرّ عليّ ما يشبههما في النصوص الانكليزية:
الهلال الذي/ يتلامع في غابة الخيزران/ مجرد منجل.
رقصة البرغش/ كي تعبرها طأطىء رأسك/ واغلق فمك.
لقد استمتعت حقاً برحلتي مع الشاعرين المبدعين حسين عبد اللطيف و   جمال مصطفى؛ في الحلقة القادمة ستكون مع شاعرين عراقيين أو أكثر.
خالد جواد شبيل
 


65
عن السياسة والأدب والسُّم والعسل!
خالد جواد شبيل

وصلتني قبل أيام مقالة تحمل عنوان "الحرية كلمة أكبر من رئيس جمهورية"، أراد كاتبها  أن يبيّن أهمية الحرية للأديب وأن الأديب لا يمكن له أن يكون مبدعاً بحق ما لم يكن حرّاً، وإن الإنسان المبدع لا ينبغي أن ينحني للسياسي أو الحاكم حتى وإن كان رئيس جمهورية.. ولا خلاف في ذلك؛ بيد أن في ثنايا المقال الجميل جاءت روايات تثير التساؤل والاستغراب حتى ليبدو الأمر للقارئ الفطن أن ظلال المقال هي الرسالة التي أراد الكاتب أن يمررها أكثر من جوهر المقال عن أهمية الحرية للمبدع والإبداع الذي لا يختلف عليه إثنان، فما الذي حصل؟
فلو تجاوزنا الحكمة أو الرواية التي أخذها عن " الأستاذ مصطفى أمين رحمه الله" التي استهل بها مقاله، وهو يعرف من هو مصطفى أمين وإذا لم يعرف فدونه كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل " الصحافة والسياسة" وفيه من الحقائق والوثائق ما يشيب له الولدان تثبت خيانته لبلاده وتعاونه مع المخابرات المركزية الامريكية، ولأجل ذلك أدين بالحبس، فما مبرر الاستشهاد به والترحم عليه؟
نقول لو تجاوزنا هذا الأمر الى هذا المقتبس: "وفي العراق كان أبو "القراءة الخلدونية" ساطع الحصري وزيراً للمعارف. مات الحصري وماتت المعارف، وبقيت "القراءة الخلدونية" التي تعلمنا منها ألف باء اللغة العربية."؛ كيف ماتت المعارف بموت الحصري يا أستاذ؟ ليت الحصري ما كان وزيراً للمعارف ولا مسؤولاً كبيراً فيها، لما عُرف عنه من طائفية مارسها عمليا بإبعاد كل من لا يتفق معه طائفيا عن المسؤولية؛ يشهد على ذلك الكثيرون بمن فيهم الجواهري في مذكراته، وكذلك واقعة النصولي،،، وليست القراءة الخلدونية بمعجزة يعجز عن مثلها الآخرون رغم ما فيها من شطحات!
ثم يقول الكاتب أن طه حسين قد وصف الزهاوي بمعري العصر، وفي الحقيقة وبتواضع أنني قد قرأتُ كل كتب طه حسين ونقده للشعراء المحدثين من البارودي الى خليل مطران الى شوقي الى أحمد زكي أبو شادي الى العقاد الى الرافعي الى إيليا أبو ماضي ؛ بل قرأت مراسلات الزهاوي مع سلامة موسى، لكنني لم أقرأ له ما جاء على لسان الكاتب: "وهناك الشاعر جميل صدقي الزهاوي، شاعر العقل ومعرّي العصر، مثلما وصفه طه حسين. انتخب عضواً في مجلس "المبعوثان العثماني مرتين.."، وحتى لو قالها طه حسين الذي نال العالمية المصرية عن أبي العلاء وهي رسالة ضعيفة من الناحية الفكرية لو قورنت برسالة بنت الشاطيء الدكتورة عائشة عبد الرحمن عن المعري أيضاً، لَجنحَ عن الصواب أيما جنوح، فبماذا نقارن قصيدة الزهاوي: "لماذا تحركتِ الأنجمُ – كأنك مثلي لا تعلم" أو " أسفري فالحجابُ يا ابنةَ فهرٍ- هو داءٌ على الأنام وخيمُ" من شعر شيخ المعرة؟ مع ملاحظة المعنى التقدمي للقصيدة الأخيرة.
ثم جاءت كلمة في المقالة التي وردتني دون مصدرها وهي:"وكان الفقيه العالم والشاعر محمد رضا الشبيبي وزيراً للمعارف في وزارة الشهيد نوري السعيد لا زلنا نتغنّى بقصائده الثورية التي ألهمتنا الحماسة." أقصد بها "الشهيد" التي لم أجدها في المقالة المنشورة على "المشرق"، فإذا كانت من صلب المقالة الأصلية فتلك طامة كبرى، فقد ذكر في المقالة الزعيم عبد الكريم قاسم من دون أن تسبقها كلمة " الشهيد" وهنا تكون المفارقة مرّةً ومَرَّرت كلّ طعم العسل! ولقد لاحظت مثل غيري في السنوات المتأخرة هذا المنحى في الإشادة بنوري السعيد في كثير من المرات تُذكر فيها "مناقبه" وقد يسبق اسمه "الشهيد" ويبدو أنها محصلة لزمننا الذي ماانفك يسؤ أكثر...
شخصياً لست أحمل موجدة في روعي ضد شخص نور السعيد بل أستظرف شخصه لما يتمتع به من سرعة بديهة وحب دعابة وتواضع، كما لست مع مقتله والتمثيل به، كنت أتمنى محاكمته أسوة برجال العهد الملكي، إنما أجد أن السياسي نوري السعيد كان عميلا بريطانيا وأحد أقطاب المعاهدات الاستعمارية والأحلاف بما فيها حلف بغداد، وارتكب جرائم بشعة في كَاورباغي وفي وثبة كانون (كان نده صالح جبر رئيس وزراء) وسجن الكوت وفي  واقعة الجسر..وإعدامة للمناضلين يوسف سلمان وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي ويهودا صديق وساسون دلال..لا لشيء إلا لأنهم يحملون فكراً مضاداَ، والسؤال الذي يطرح نفسه هو أن أسياد نوري السعيد الأنكليز لهم ديمقراطيتهم وفي بريطانيا نفسها حزب شيوعي علني، فلمَ لم يقتدِ السعيد بأسياده في هذه الناحية على الأقل؟!
وأخير أقول لو كانت هذه الهفوات قد جاءت من صحفي مبتدىء لالتمسنا له العذر ولَما كلفنا أنفسنا بهذا الرد؛ إنما أن تكون من صحفيّ متمرس  كالأستاذ رباح آل جعفر فالأمر يبعث على الاستغراب والتساؤل:
أفبعد هذا يسمى نوري السعيد شهيداً؟
عِش ترَ عجباّ!!
خالد جواد شبيل



66
من الساكورا فالهايكو إلى الهايكو العراقي-2
            
خالد جواد شبيل

لا نغالي إذا زعمنا أن شعر الهايكو هو نتاج تراكمي لاحتفالات الربيع وطقوسه وهو ناتج للتقاليد الثقافية العريقة لليابان، وهو في جذوره ضارب في القِدم، فما إن تنتهي طقوس زهرة الساكورا ومراسيمُها الكبرى حتى تعقبها طقوس زهرة الأزاليا (في شهر ماي) الأقل شعبية..

ففي هذه الاحتفالات التي يسهم فيها الغناء والرقص يكون للشعر والشعراء حضورٌ مبهج حين يقوم أحدهم بإلقاء شعر عَفْوي أو ارتجالي ليُجيبه الآخر ثم ليواصل الثالث بالنسق ذاته وهكذا ينتج من هذه العفوية وسرعة البديهة والارتجال نمط شعري  يكون خليطاً من فن الساتير إلى الحِكَم  إلى إضاءات ساذجة أو مرحة لكنها تنطوي على تناغم إيقاعي مع عمق معنوي يشدُّ السامع، وفي جميع الأحوال لا يكون وصف الطبيعة غائباً ولا الزمن. وبدا هذا اللون الموسمي من الشعر مدهشاً وصادماً في دلالاته وسوانحة الخاطفة المختصرة وكذلك في مفرداته وتجنيسه البلاغي وسهولته الممتنعة؛ كل هذا ضمن إيقاع موسيقي وصياغةٍ انصقلت ورست على تركيبٍ من بيت واحدٍ يضُّم سبعة عشر مقطعاً صوتياً متوزعاً على ثلاثة أسطر عمودية أو عبارات شعرية بنسق يكون لكل من الأول والثالث فيه خمسة أما الثاني فله فيه سبعة مقاطع صوتية. ولا وجود للقافية في هذا الفن!

أطلق على هذا الشعر الوليد في القرن السابع عشر هوكوHokku  في أول ظهوره  و "هاكاي نورينجا" عندما ينتظم ضمن قصائد أطول. أول من أطلق عليه التسمية الحالية هايكو  Haikuهو الكاتب الياباني المجدد ما ساوكا شيكي M. Shiki(1876-1902) في نهاية القرن التاسع عشر  وقد اختصرها من (Hakai No Ku) حيث تعني شعر الهكاي؛ وهي الفترة ذاتها التي انفتحت فيها اليابان على العالم ثقافياً بعد طول حصار (راجع الحلقة الأولى) ما يفسر انتقال التسمية الحديثة يومئذ الى أوربا والعالم، ولطالما رافق اللوحات اليابانية التي انبهر بها العالم بعض أشعار الهايكو. وأطلقت هذه التسمية وعُممت على كل هذا النمط من الشعر بما في ذلك الذي سبق هذه التسمية..

والهايكو  هو نتاج اللغة اليابانية ذات المقاطع الصوتية التنغيمية، وهو يحمل هذه الصفة في أهم خاصية لهذا الشعر والتي مررنا عليها وهي السبعة عشر مقطعاً صوتياً (أون on) والتي تتوزع في نسق من ثلاث عبارات شعرية والتي كتبت بلغتها الأصلية على أعمدة  ثلاثة وتحولت وفق اللغات الأوربية الى الأسطر الثلاثة بعدد ثابت هو:5/7/5.
 ويتضمن الهايكو مرجعية الفصل السنوي، الذي طالما يكون تلميحا أو ترميزاً وصفياً لما يتصف فيه من سمات طبيعية مثل الرعد والمطرللخريف أو نقيق الضفادع أو الملابس الخفيفة للصيف، أو الزهور حسب مواسمها ..الخ يطلق على أشارة الفصل أو رمزه بتعبير (كيكَو Kigo) الذي يمثل الفصل أوالشهر .
ومما يجدر ذكره، أن الهايكو الياباني لم يعد شديد الالتزام بقاعدة البناء الفني أي قانون 17 مقطعاً فقد حدث تغيير يلجأ إليه الهايكست كلما حرص على المعنى أو اللمعة التصويرية أو السانحة المختصرة  فيقصر العبارة أو يمدها نقصاناً أو زيادة، كما هو حال الهايكو الحديث (جندايGendai) وقد أطلق على هذا بالهايكو الحر، مع المحافظة على السمات الأخرى للهايكو التقليدي؛ مثل القَطع (كيروKiru) ويتسم هذا النظام بالقطع  بين عبارة شعرية وأخرى التي تليها حيث توجد صورتان او فكرتان تفصلهما كلمة قطع (كيريجي) وهي علامة فاصلة بين عنصرين أو لونين متضادين. إن هذا النظام يمكن مقاربته في اللغات الأوربية  حيث يقارب المقطع الياباني أون المقطع الإنكليزي (syllable) .
أما في لغتنا العربية فيصعب جداً مقاربته لكون العربية لغة غير مقطعية ناهيك عن كون الحروف الجوفاء قليلة فيها. كذلك لم يعد حضور عنصر الطبيعة هاماً أو شرطاً كما كان في الهايكو التقليدي، أي أصبح للسانحة والمفارقة التصويرية وعنصر الصدمة المدهش أكثر أهمية من التشبث بالجانب الهيكلي في الشعر الحديث من الهايكو..
 وفي جميع الأحوال تبقى قصيدة الهايكو لمّاحة لا تبوح وأنما تشد كل الشيئيات المحسوسة فيها لتجعل التكملة والانشغال الوجداني أو العاطفي أو الفكري من نصيب المتلقي الواعي، وبتعبير آخر لاتكون القصيدة مؤطّرة بحدود بل تجد أن الأفكار سائبة تحتمل تأويلات أو تنأى أحيانا عن التأول الى التشكيل والتصوير مع نصيب لعنصر المفارقة أو المفاجأة!
وللتمثيل على ما ورد، تحضرنا هذه النماذج من الشاعر الشهيرماتسو باشو(1644-1694):
الغدير القديم
وقفزات ضفدعة في
خرير المياه
وله أيضاً:
في أول مُزنة باردة
حتى ليطمح القرد في
معطفٍ من  حزمة قش
وفي الحقيقة أن الشاعر باشو هو نفسه قد خرج عن نظام السبعة عشر مقطعاً في مرات قليلة الى ثمانية عشر مقطعاً بنسق 6/7/5 في الهايكو التالي:
الريح الهابة من جبل فوجي
جلبت لي مروحتي!
هديةً من إيدو
أول ظهور للهايكو في الغرب وبغير لغته اليابانية هو بفضل القنصل الهولندي في ناغازاكي الشاعر هندريك دويف (1764-1837) الذي شهد صعود شعر الهايكو خلال السنوات الأولى من القرن التاسع عشر ودونكم هذا من شعره:
إمنحيني ذراعيك
بسرعة برق الصواعق
وسادةً لي في رحلتي
في عام 1906 نشر لأول مرة  في فرنسا من قبل بول لوي كوشو.
ومن الملف أن الذي نقل الهايكو إلى أمريكا هو الشاعر الياباني يون ثوغوشي (1850-1935) حيث نشر أشعاره في مجلة ذَ ريدر.
ثما مارسه  أبو التصويرية عزرا باوند الذي يعتبر الرائد الأول للهايكو في اللغة الإنكليزية عام 1913، وأشهر قصائده الهايكوية طراً " في محطة المترو" ثم تلقفه كبار الشعراء أمثال هيوم، ورولاند فلنت و غراد ايكن وأكتابيو باز و توماس ترانسترومر ...وتم ترجمته إلى اللغات الأخرى فحقق شيوعاً في أوربا الشرقية ثم عمّ القارات حتى وصل الى العالم العربي وظهر في المغرب وفلسطين وسوريا والعراق... وستكون لنا في ذلك وقفة، سريعة مع مختارات لأهم الشعراء الذين مارسوه في العراق، ولي أن أشكر كثيراً الشعراء الذين بعثوا لي نماذجَ من شعرهم مرفوقة بخلاصات عن تجربتهم، ومن يروم أن يمدني بما لديه فله أن يكاتبني على بريدي، وإذا لم يظهر هنا فبوسعهم الوصول عن طريق مقالات أخرى أو بصفحاتي على بعض المواقع..
kalidjawadkalid@hotmail.com
 







   




 
     







67
من الساكورا فالهايكو..الى موجة الهايكو العراقي-1
خالد جواد شبيل
لعقود قليلة خلت، لا تُذكر اليابان إلا ويُذكَر تاريخُها العسكري، من الحروب الداخلية القبلية وأشهرها في منتصف القرن الخامس عشر بين عشيرتي الهوسوكاوا والبامانا التي سالت فيها دماء غزيرة والتي رسّخت فنون القتال التقليدية بالاسلحة البيضاء الى حرب المقاطعات؛ وكان الهدف دائما الصراع على كرسي الحكم الذي له ما له من امتياز بما في ذلك الشأن الاعتباري المقدس!
حتى أذا هدأت حمى الحروب الداخلية، ووقفت اليابان على قدميها؛ بدأت سلسلة الحروب الخارجية متجاوزة الجزرالمعزولة الى دول الجوار! الحرب اليابانية الصينية الأولى 1894-1895؛ والحرب اليابانية الروسية 1904-1905؛ والحرب اليابانية  الصينية الثانية1937-1945؛ وأخيرا الحرب اليابانية الأمريكية كجزء من الحرب العالمية الثانية حين هاجمت اليابان قاعدة بيرل هاربر في ديسمبر/ك1 1941 ودمرت القاعدة رمز الشموخ العسكري الأمريكي، ولعبت زهرة الساكورا دورا مهما في جميع الحروب وكانت سببا في اندفاع فرق الانتحاريين اليابانيين ضمن معتقد راسخ هو أن المضحِّي بحياته في سبيل اليابان سيسكن روحُه زهرةَ الساكورا! ثم انتقمت أمريكا بجبن بقصف مدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية التي استخدمت لأول مرة في 11 سبتمبر/ أيلول 1945 حيث استسلمت اليابان!
وقد حاولت في كل مرة اليابان أن تُحسّن من سلوكها العسكري بإهداء أشجار الساكورا الى الدول المتحاربة معها، وهكذا دخلت هذه الشجرة المسالمة المحبوبة الى حد القداسة لعبة الحرب والسلم عنوة!! إذ في عام 1912أهدتِ الولاياتِ المتحدة الأمريكية 3000 شجرة وعاودت الكَرّة في عام 1956 ب 3800 أخرى؛ ولتطييب خاطر الصين بعد الحرب أهدتها 2000 شجرة وعاودت الكرة بعد عَقد من الزمن لتهديَها  5000 شجرة وهكذا استمرت بعد الحرب العالمية الثانية التي تمحورت فيها اليابان مع المحور لتهدي الدول المتضررة من احتلالها كتايلندا وماليزيا واندونيسيا لتنتشر هذه الشجرة الجميلة حتى الى الدول الأوربية أيضاً فعندما زرت ستوكهولم في نهاية مارس/آذار وأبريل/ نيسان 2015 كانت أشجار الساكورا المزهرة تسطع  بجمالها الآسر في حدائق المدينة الجميلة!
 فما الساكورا ياترى؟ وما علاقتها بالهايكو؟
الساكورا Sakura هي شجرة الكرز (حب الملوك) اليابانية وهي من فصيلة اللوزيات كالمشمش والخوخ واللوز والبرقوق/العنجاص.. وهي أي الساكورا تُزهر دون أن تُثمر والهدف من تنميتها هو أزهارُها، التي تتنوع حسب لونها وعبقها فأجملها ذات اللون الأبيض الذي يضرب الى الى الأرجواني الخفيف في وسط الزهرة، والثاني هو اللون الوردي /الأرجواني. تزهر الساكورا في أوائل الربيع الياباني الذي هو شهر شباط/فبراير في أوكيناوا ويبدأ في طوكيو في آذار/مارس وعندما يحل نيسان/أبريل تكون الطبيعة اليابانية قد اشتعلت بلون الساكورا الجميل وعبقها، وكذلك الحدائق العامة وحدائق المدارس..
ويصادف ازدهارها التام مع بدء العام الدراسي الياباني ومع بدء السنة المالية اليابانية ما يشيع جوا من البهجة والتفاؤل..كل هذا ولا تورق شجرة الساكورا الا بعد أسبوع من سقوط آخر زهرة!!
تطبع هذه الزهرة الحياة اليابانية وتدخل في تفاصيلها، فبالإضافة الى كونها رمز الثقافة والفن الوطنيين فهي موجودة في معظم المنتجات الوطنية من أنسجة وألبسة كالكيمونو وتجدها مطبوعة على القرطاسية  والصحون والمنتجات الخزفية وتدخل في الأطعمة كالحلويات والأشربة مثل شاي الساكورا ومواد التجميل والعطور ومغذيات البشرة...الخ.
وما هو مهم هو تأثير الربيع المتمثل بهذه الزهرة على الأدب والفن وعلى وجه التخصيص الشعر والموسيقى والرسم. حيث تعم المهرجانات الشعرية والموسيقية واللوحات الراقصة والتي يرددها ويشارك فيها قطاعات واسعة من الشعب ونخب الثقافة منظمةً كأحسن ما يكون التنظيم في الحدائق وأحضان الطبيعة حتى تكوَّن لونٌ غنائي موسيقي يحمل اسم الساكورا، التي تشكل طقوساً احتفالية مصحوبة بشرب شاي الساكورا،  وقد اشتهرت منها أغنية ميلودية راقصة ذاعت شهرتها لا في اليابان وحسب بل في أوربا حتى غدت سفيرة اليابان الى العالم تحت اسم "ساكورا ساكورا" التي أصبحت ضمن المناهج التعليمية اليابانية مذ أنْ غنّاها طلاب كوتو في أكاديمية طوكيو للموسيقى* عام 1888 :
ساكورا ساكورا
في الحقول والقرى
على امتداد مرمى البصر
أضباب هو ذا أم سحاب؟
عبق ضائع في شمس الصباح
الأشجار تشتعل زهورا
***
ساكورا ساكورا
عبر سماء الربيع
على امتداد مرمى البصر
أضباب هو ذا أم سحاب؟
عبق ضائع في الهواء
هلمَّ الآن هلمَّ الآن
لنرَ ماذا بعد!
أثرت موسيقى الساكورا وألهمت الموسيقار الإيطالي الكبير غياكومو بوجيني (1858-1924) في أوبرا مدام بترفلاي " السيدة الفراشة" في بعض من مقاطعها.
وتأثر بها أيضاً كات ستيفنس (يوسف إسلام)
وليس أخيرا مطرب الروك بون جوفي..
ولعب الربيع الياباني والمتمثل بالساكورا دورا مهما في الفن التشكيلي الياباني  والذي انتقل الى أوربا بعد مدة طويلة من الحصار الثقافي عن طريق المعارض اليابانية التي أدهشت التشكيليين الأوربيين ومنها معرض الرسوم اليابانية باريس والذي أثرّ تأثيرا كبيراً في الانطباعيين المقيمين في فرنسا وألهمت تقنيته الرسام الكبير فان كوخ الذي تركت فيه أسلوبه المميز اعتباراً من عام 1886، وأطلق على هذه المرحلة مرحلة التأثير الياباني  حتى أنه رسم ثلاث لوحات يابانية.. وذلك موضوع آخر!
*لسماع الأغنية:
www.youtube.com/watch?v=chawADnoFDng

 
 


 

68
قولٌ في إداء المقام العراقي 2/2
خالد جواد شبيل

الشعر كما الموسيقى هما انعكاس للوسط الطبيعي والبشري الذي نشأا فيه، ويشكلان الجزء الأهم من النشاط الإنساني الجميل، وإن كانت الموسيقى هي الأكثر تجريدا من بين الفنون الجميلة. فمثلما اتسم الشعر الجاهلي ببساطة الأفكار ووصف الطبيعة، ورتابة الإيقاع...التي هي انعكاس لبساطة العيش في صحراء الجزيرة العربية وجِمالها، كذلك كانت الموسيقى العربية، فقد اتسمت موسيقى الجزيرة العربية بالبساطة والمد الصوتي وقلة الترجيع، وتكرار رتيب للتيمات الموسيقية، كما اتسمت الموسيقى ببساطة آلاتها كالرباب، والقصبة، والرق،،، وكان العزف مطابقا للغناء تماما وتكرارا له بما ينسجم مع الصحراء المنبسطة وسير سفنها الرتيب! وقد تمثل ذلك بالحداء والركباني –من السيكاه / الخزام- الذي ورثناه بالإسم نفسه من العصر الجاهلي وقد كان الخليفة الثاني ممن يجيد غناء هذا اللون.
مع انتشار الإسلام وامتداده في أسيا وأفريقيا حصل اختلاط للعرب بالأعاجم، بلغ أوجه في العصر العباسي مما سمح بإغناء الموسيقى العربية بموسيقى الشعوب الأخرى وبإدخال آلات موسيقية لا عهد للعرب بها قبل ذلك، وكان أكثر هذا التأثير يتأتى من الفرس والترك اللذين احتلا بغداد في العصرين البويهي والسلجوقي، وبعد سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م (656ه)، وتكون دويلات جديدة في العراق كتعاقب دولتي الخروف الأسود والأبيض(1375-1508م) حيث دخلت مؤثرات جديدة للتركمان والأذريين. مع استمرار تناوب التاثيرين العثماني والصفوي، وهذا ما عبرت عنه الأغنية البغدادية الذائعة: "بين العجم والروم بلوه ابتلينه" والمقصود بالروم هو الترك. وكان من نتائج هذه الحقبِ المتلاحقة بعد السقوط والتي انصهرت بها الأنغام العربية بالأعجمية وأعطت أكلها لونا من الغناء هوالمقام العراقي والبستة البغدادية... وهي حقب شهدت حروبا دامية، سيق بها العراقيون بالإكراه لحروب الدولة العثمانية ضد أعدائها التقليديين من الفرس والروس...ولا أظن أن "السفر بر لك" بغريب على أسماع العراقيين.
 هذه العوامل والظروف هي التي طبعت المقام العراقي باللون الحزين الذي ظل محافظا عليه والذي أثر بمجمل الغناء العراقي وطبعه بطابعه المتميز وهو الحزن الجميل الصادق.. ففي أنغام المقام العراقي يتلمس المرؤ أنات الأسرى وتوقهم للعودة، ويلمس الحنين، والتوجع والتشكي، إضافة الى رشاقة الإداء في القرارات والجوابات، كما يلمس بسهولة ويسر التأثيرات الأجنبية كالترجيعات العالية التي هي نتاج الطبيعة الجبلية كما في مقامات العجم والدشت والنهاوند والأوشار والكرد والحجازكار والاورفة... على خلاف الامتدادات الصوتية التي هي نتاج الطبيعة المنبسطة والممتدة مع الأفق كما في بعض قطع الحجاز والصبا والسيكاه والبيات، كالحويزاوي والقطر، واللامي والحكيمي والجمال اضافة الى الركباني، والعتابة والسويحلي...ومن ينصت الى المقام العراقي سيستمع الى العبارات غير العربية والتي تحمل جملا نغمية معينة كمتكآت تعين مؤدي المقام على استذكار القطع وتعتبر مع التحرير والميانات علامة فارقة للمقام.   
  لم يكن إداء المقام بالأمر السهل، بل يتطلب دراية نظرية واسعة بالأنغام الشرقية والسلالم الموسيقة، وخبرة في تمييز القطع والأوصال، ومن الناحية العملية يتطلب مواهب فردية من صوت متكامل في المنخضات الصوتية والطبقات العالية وليونة أو مرونة في الصوت تستوعب المسارات اللحنية لكل مقام، وجمال الصوت يعني قدرة تأثيره في السامع مع مساحة واسعة تتيح لصاحبه التحكم بالصوت في المديات المنخفضة والعالية من قرارات وجوابات مع نفس طويل يمكن صاحبه من إشباع القفلات الموسيقية ( راجع مقالة: مطرب غنى بصوته في عدة مواقع وصحف عراقية، نشرت في أحد ملاحق المدى: يوسف عمر بين التقليد والتجديد لكاتب هذه السطور).
كثيرون هم الذين أدوا المقامات العراقية، ومن هذا الكثير نجد قليلا من استطاع أن يتميز بأسلوبه كقاريء مبدع غير مقلد، من أمثال:أحمد زيدان واضع الأسس الحديثة للمقام بعد أن تميز عن استاذه الكبير رحمة الله شلتاغ، وكذلك نجم الشيخلي وخبير المقام المقرئ رشيد القندرجي الذي اشتهر بطريقة الزير في الترجيع وبأسلوبه التقليدي المحافظ، والأستاذ المجدد محمد القبانجي الذي جدد وابتدع مقامات مثل القطر وطورالحويزاوي بعد أن كان نغما محدودا يؤدى في منطقة عربستان وما جاورها من العمارة في جنوب العراق، وأدخل آلات حديثة لمصاحبة التخت الشرقي في أداء المقام بعد أن كانت الآلات مقتصرة على الجوزة والسنطور والنقارة والطبلة وهي المعروفة بالجالغي البغدادي. لقدتأثر وتتلمذ على الأستاذ القبانجي جيل من كبار القراء المتميزين  مثل حسن خيوكة وعبد الرحمن خضر ويوسف عمر وشعوبي ابراهيم وناظم الغزالي وحمزة السعداوي...ومن الأصوات المميزة بجمال النبرة وحسن اختيار النصوص حتى سمي بمطرب الوقار هو المطرب الكبير حسن خيوكة الذي رحل مبكرا عام 1962 مخلفا وراءه أجمل المقامات في الرست والدشت الذي أدخل فيه الإنشاد متأثرا بسابقه القارئ الكبير يوسف الكربلائي.
 أما المطرب الكبير ناظم الغزالي فقد كان صوتا جميلا لم يكن من السهل تقبل اسلوبه من قبل المحافظين من المستمعين فقد كان يترنم بالطبقات العالية من صوته فلم يمتلك قرارا يحاكي حلاوة الطبقات العالية، لذا استطاع أن يسحر المستمعين العراقيين والعرب بالجزء الأخاذ من صوته مركزا على المقامات القصيرة كالجمال والأوشار والحكيمي والمدمي والخلوتي والدشت... والتي طالما يتبعها ببستات برع في إدائها أيما براعة! متمكنا من تلافي بعض النواقص الإدائية وعدم طول النفس،  برشاقة وللتدليل على قولي يمكن مقارنة إدائه مقام اللامي (أقول وقد ناحت بقربي حمامة) بإداء المطرب الكبير يوسف عمر وبنفس الكلمات! تميز المطرب الكبير ناظم الغزالي بالإضافة لحلاوة الصوت وحسن توظيف المقام لأبعاده الصوتية، تميز أيضا بحضور متميز أمام الجمهور وحسن التفاعل معه ، ومرونة الحركة على المسرح مستفيدا من دراسته للتمثيل، مع حسن هندام ملفت، حتى أن المطرب الكبير صباح فخري أشاد في أكثر من لقاء معه باسلوب ناظم الغزالي في إدائه ووقفة أمام الجمهور معترفا بأنه قد تأثر به الى حد بعيد.. 
لم يبرزمن الجيل الحالي من المطربين الحاليين الا عدد قليل مثل المطربين الكبار: الأستاذ عامر توفيق، والأستاذ حامد السعدي والأستاذ حسين الأعظمي، بيد أنهم لم يخرجوا عن عقال التقليد إلا لماما بهذه الدرجة أو تلك... كان التميز بينهم بالصوت رئيسا دون الإداء المتقارب..فالتفرد والتميز أصبح ضروريا جدا كما أن الإجتهاد والتطوير وحسن ملاءمة الصوت للحن والكلمات مسألة ضرورية ناهيك من تقجيم المقام وفق ذوق الجمهور، أدلل على ذلك بما يأتي: كنت منشّدا ذات ليلة وأنا أقطع مسافة طويلة من النرويج الى السويد الى البرنامج الثاني لراديو الموسيقى الكلاسيكية -والذي يُعنى أيضا بموسيقى الشعوب- حين قدمت عريفة الحفل المقامَ العراقي لجمهور سويدي متمرس بايجاز مع إشادة بهذا اللون الغنائي العريق، وكنت متلهفا حقا وقلقا، ترى ماهو المقام؟ ومن يؤديه؟ وبدأ العزف وإذا بالمقام هو المخالف، وهو أكثر المقامات العراقية حزنا ويحتاج الى قرار هامس للتحرير وصوت عال رخيم شجيّ للميانة، ولو تجاوزنا العزف وضربات الطبلة العالية الى المطرب، وإذا بصوت غليظ صادح صادع يخلو من الهمس والشجن، أما الكلمات فهي: "نغم المخالف كبل لنغام اشجاني...". لم تمض على هذه الحفلة سوى أسابيع حين بث الراديو نفسه مقام راشدي وبايقاعه المعروف وهو الجورجينا لفرقة سنغالية  من ثلاثة عازفين أبدعت أيما إبداع ونالت إعجاب الجمهور، وتقدم رئيس الفرقم معرفا بالغناء على أنه غناء صوفي يغنى بالمناسبات الدينية ...فشتان! 
قليل جدا من المطربات من أدى المقام وأبدع به سوى أسماء لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وذلك لصعوبة المواءمة والإداء، فقد أبدعت الكبيرة صديقة الملاية ذات الصوت الرخيم بمقامات قليلة كالحكيمي، والبهيرزاوي، والإبراهيمي...أما سليمة مراد فقد أجادت البنجكاه، وكان صوت المطربة الكبيرة زهور حسين الساحر بترجيعاته وبحته المميزة قد أبدع بالدشت والأوشار والحجاز. أما لميعة توفيق ذات الطبقة العالية المرتجفة فلم أسمع لها غير الجمال! وإذا ذكرت الأصوات النسائية التي أدت المقام فتبرز مائدة نزهت ذات الصوت الدافىء المميز والمشحون بالعواطف الصادقة، فقد أبدعت في مقامات شرقي رست والجمال والحكيمي واللامي ومقامات أخرى ..فهي أستاذة قديرة في المقام العراقي، ولم يُدانِها صوت نسائي آخر!         

69
قولٌ في إداء المقام العراق 1-2
خالد جواد شبيل

منذ بداية اندلاع الحرب العالمية الاولى، سارع الإنكليز لاحتلال العراق، لما يتمتع به من خيرات وموقع استراتيجي،،، وقد دُهش العراقيون لما جلبه المحتلون الإنكليزمن عُدد وآلات منها ما يمخر عباب الماء، وما يدب على الأرض وما يحلِّق في الهواء، وكذلك ما أشاعوه من أدوات وآلات ستلعب أدوارا هامة في الحياة الإجتماعية والثقافية العراقية بعد ركود عثماني طويل! ومن بين هذه الآلات جهاز ترفيهي كان قد اقتناه بعضُ أعيان بغداد وموسريها في أواخر الحكم العثماني وكانتِ العامة تسمع -من دون أن ترى- عن جهاز عجيب تنبعث منه أغانٍ وموسيقى بعد أن توضَع فيه اسطواناتٌ مطلية بالشمع، مسجل عليها هذه الأغاني..(راجع أوراق كامل الجادرجي)، لعب "الحاكي" وهي ترجمة غير موفقة لجهاز الأسطوانات هذا ل"غراموفون gramophone  أوphonograph  الذي شاع وانتشر مع الاحتلال، فقد لعب دورا هاما في الحياة الإجتماعية والثقافية لاسيما في المدن الكبرى كبغداد والبصرة والموصل، حيث يصدح منه الغناء المنبعث من المقاهي والبيوت الموسرة، ما عرّف العراقيين بألوان من الغناء العربي وخاصة المصري والشامي بما لا عهدَ لهم بها من قبلُ من مواويلَ وأدوار وطقاطيقَ وقصائدَ ملحنةٍ ومدائحَ وتراتيلَ للصفطي والشيخ أبي العلا  وعبدة الحامولي وسلامة حجازي وسيد درويش،،، وكذلك لمقرئين عراقيين كالملا عثمان الموصلي وأحمد زيدان ونجم الشيخلي والقندرجي ولاحقا القبانجي ولمطربات عراقيات ووافدات للعراق من دول الجوار!
لقد حرّك الغراموفون الحياة الثقافية والإجتماعية ووسّع الذائقة الغنائية العراقية للرجال وللنساء بعد أن اقتُنِيَ من قبل العوائل –حتى المحافظة منها-، فقد اطلع العراقيون على غناء وموسيقى الشعوب الإخرى وعلى مدارس تجويد القرآن المختلفة، كما أنه دفع بالموسيقى البغدادية لا سيما البستات والمقام العراقي  ليُسمَعَ لا في العراق وحسب بل وفي الدول المجاورة، كما أتاح للبغداديين أن يستمعوا لغناء الريف ولغناء البادية، وأن يتعرفوا على أساليبِ غناء المقام العراقي في البصرة والموصل وكركوك..وكذلك التعرف على الأساليب المختلفة في غناء المقام لمختلف القراء الكبار كالأسلوب الزيداني (نسبة الى أحمد زيدان ت1912) والقندرجي (نسبة لرشيد القندرجي ت1945) والقبانجي (نسبة لمحمد القبانجي ت1988) ما سمح بتبادل الخبرات وتعميقها ونقلها من جيل الى جيل آخر وتوسيع دائرة التراث العراقي الغنائي والموسيقي بمختلف أطيافة وتفاعله مع بعضه والمحافظة علية لدى العرب والكُرد والتركمان واليهود والمسيحيين والصابئة...الخ. على أن الإستماع للأسطوانات لايخلو من نواقص أو منغصات أيضا، فهي لا تسمح بتغطية المقامات الطويلة أو التامة لكونها محدودة المساحة، فمن الصعب تغطية الرست أو الحجاز ديوان، أو البيات بشكل كامل مما قد يضطر على الإقتصار على المقامات القصيرة كالاوشار والجمال و الأورفة والراشدي والمحمودي والدشت واللامي والحكيمي...والتي تتوزع على وجهي القرص مما يُضطر للتوقف لقلب الأسطوانة "القرص" لمواصلة الإستماع الى الوجه الثاني من القرص، كما أن مواصلة شحن لولب الجهاز يدويا أمر ممل تلافيا لفتور سرعة دوران القرص! ومع هذا ساهم هذا الجهاز في تخريج مطربين ومطربات لشتى ألوان الغناء العراقي الثر، وحافظ على توثيق الكثير من المقامات العراقية التي لولاه لأصبحت في طي النسيان...
ونحن نعيش أجواء بغداد عاصمة للثقافة لعام 2013 ينبغي استغلال هذه المناسبة لتدوين تراثنا الغنائي والموسيقي وتوثيقه موسيقيا لأجل المحافظة علية وعلى تاريخه وجغرافيته وتطوره ومن أشهر من أداه والا فإن عوامل الإندثار والإختلاط تهدد تراثنا هذا وخاصة أن بعض المقامات قد أصبحت نسيا منسيا مثل: الخلوتي والتفليس والحجاز شيطاني والبختيار والمثنوي والباجلان والحديدي والبشيري والأرواح والمسجين... لقد غُنِّيت كثير من البستات والأغاني العراقية من مطربين عرب ومن دول جوار دون الإشارة الى أصولها بل أن كثيرا من أغانيننا قد شوهت لحنا وكلمات مما يخشى عليها من الضياع، كما أن غياب قانون تسجيل عائدية الإبداع جعل بعض المطربين الجدد يسطو ويشوِّه أغاني من سبقهم من المطربين الكبار! وللتدليل على أهمية ما أقول، أذكر شيئا من التراث الضائع والمنحول للفنان والمقريء  العراقي العظيم ملا عثمان الموصلي (ت1923)، الذي تنقل من بلدته الموصل فبغداد، مابين حاضرة الدولة العثمانية اسطنبول حيث تألق نجمه و بين الشام ومصر خلل أعوام 1895 وعام 1909 حيث تتلمذ على يديه أعلام مصر الكبار من عبدة الحامولي الى سيد درويش وأخذوا منه ألحانا اعتُبِرت مصرية بعد أن غُيِّرت كلماتها أحيانا مثل: دزني واعرف مرامي، وفوق النخل، وزوروني كل سنة مرة، ويا أم العيون السود، ويا أم العباية، وعمي يبياع الورد، وقدك المياس، و، و، و...( موسوعة الدكتور عمر الطالب:أعلام الموصل/ملا عثمان الموصلي، الموسوعة الميسرة 1965: ملا عثمان الموصلي، موسوعة الأعلام  لخير الدين الزركلي 1980: ملا عثمان الموصلي).
إن التدوين والتوثيق للموسيقى والغناء العراقي وخاصة، المقام العراقي  وأشهر من غناه لا يُعد عملا ثانويا مرتجلا بل يتطلب تكوين لجان من خبراء ومن هم على دراية بالأساليب الحديثة العلمية في التوثيق والتصنيف والدراسة النظرية وكذلك الميدانية، كما يتطلب الأمر من وزارة الثقافة وبالتعاون مع جامعات العراق لتكون لجان فنية وأكاديمية كما يمكن الإستفادة من خبرة البلدان الشقيقة والصديقة في هذا المجال، فالمعروف عن مصر أنها دونت ووثقت كل تراثها الفولكلوري منذ ستينات القرن الماضي، وساهم فيه كبار فناني وأساتذة مصر مثل زكريا حجاوي وسعد الدين وهبة ،،، فهل نحن فاعلون؟
 لقد قدم الموسيقار روحي الخماش والخبير الأستاذ شعوبي إبراهيم وغيرهما إسهامات جادة في تدوين المقام العراقي موسيقيا (المقام العراقي/ثامر العامري، دليل الأنغام لطلاب المقام لشعوبي ابراهيم)، وقد صدر كتاب عن المقام للمطرب الكبير الأستاذ حامد السعدي وكذلك سلسلة المؤلفات  التي أصدرها المطرب الدكتورحسين الأعظمي منذ عام 2000  المقام الى أين؟ ثم ثلاثة كتب عن أساليب الغناء المتميزة  للطريقة القبانجية ، والقندرجية والزيدانية وكتاب المقام العراقي بأصوات النساء 2005 والتي يأمل ونأمل معه في أن يجعلها موسوعة في مجلد أو أكثر، وصدر كتاب في العام الفائت هو: موسوعة المقام العراقي  للدكتور عبد الله المشهداني) ...
 ورغم أهمية هذه المؤلفات التي تشكل إضافة في دراسة المقام العراقي، إلا أنها من ناحية أخرى امتداد للدراسات الجادة التي قام بها اساتذة رواد في هذا المجال كالأستاذ المرجع والخبير هاشم محمد الرجب وعبد الكريم العلاف والشيخ جلال الحنفي والأستاذ شعوبي ابراهيم والأستاذ الخبيرحسقيل قوجمان...ومن يتمعن هذه المؤلفات سيجد اختلافا في المناهج وفي النتائج التي توصل إليها المؤلفون خاصة الجدد منهم وطالما تتعلق بنشأة المقام العراقي من ناحية التأريخ ونسبة المقامات وأصولها ومساهمة الشعوب غير العربية المجاورة فيها، إضافة الى التسميات والمصطلحات من ناحية الأصول  والدلالات! وكذلك في ما يتعلق بمدارس المقام وبالأسلوب والخصائص الإدائية لكل مدرسة، ناهيك عن دراسات تطبيقية للمسارات الصوتية والإدائية لممثلي  كل مدرسة الخ ..
وإذ نحن ما نزال نتنسم أجواء بغداد عاصمة للثقافة 2013، نقول: إن وجود هذا الكم من المؤلفات التي تتناول الموسيقى العراقية  والمقام العراقي  لا تُعفي وزارة الثقافة  العراقية من إيجاد موسوعة معتمدة للمقام العراقي يمكن أن تكون مرجعا موثوقا به يقوم بتأليفه لجنة من الخبراء والمختصين، يجمع بين الناحيتين النظرية والتطبيقية مع مراجعة المصطلحات وتعريبها وفق أسس علمية والتخلص من الجمل والمتكآت اللحنية الغريبة التي تتخلل المقاطع والجمل الموسيقية باللغتين التركية والفارسية، كما إن إدخال درس المقام العراقي في المناهج الدراسية ضمن الموسيقى والإنشاد سيعزز هذا الفن ويجعله محترما باعتباره مفخرة من مفاخر التراث الغنائي لبلاد الرافدين وسيعزز اللحمة الوطنية فهو قاسم مشترك لجميع ألوان الطيف العراقي، ناهيك عن كونه ظاهرة حضارية يعتد بها، كما سيفتح آفاقا رحبة للتفاعل مع موسيقى الشعوب الأخرى والإنفتاح عليها مثل الموسيقى الكلاسيكية  والعالمية...
ولا يقل أهمية عن كل ما ذكرنا تأسيس فرقة وطنية للمقام العراقي (على غرار فرقة الإنشاد العراقية)، تتولى وزارة الثقافة العراقية تشكيلها ويتم اختيار العازفين والمنشدين وفق معايير الكفاءة الإدائية، وتتولى عزف المقام بالطرق الحديثة بعيدا عن العزف المرتجل وغياب النوطات!! مع فرقة كورال لقراءة المقام جماعيا بأصوات رجالية ونسائية بعيدا عن النشازات الصوتية  فلطالما نسمع العازفين هم الذين يتولون الإنشاد بأصوات يختلط فيها الغليظ بالناعم الرقيق، وتسمع ألحانا ثقيلة تبعث على الملل والتثاؤب، وكلمات لبستات عفى عليها الزمن!!! فهل نحن فاعلون؟ 
- للموضوع صلة-
 

 
 
 
   

صفحات: [1]