عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - زهـدي الـداوودي

صفحات: [1]
1
من أجل وحدة حقيقية، ليست ترقيعية

زهـدي الـداوودي

الكل يعرف‘ حق المعرفة بأن العراق بلد لا تترعرع فيه الأفكار الشوفينية. وإن نمت لأسباب معينة، فإن ذلك لا يعني أن أرضه خصبة لتلك الأفكار. ولا داعي لذكر الأمثلة التي لم تصمد أمام الواقع العراقي العنيد. يكفي أن نقول أن التجارب الفاشلة قد تلاشت مثل فقاعات الصابون، بعد أن عرقلت تقدم البلد.

اعتقد البعض أن المحاصصة والاستبداد ونهج حكم الحزب الواحد أو الايديولوجية بأشكالها المختلفة، هي العلاج الناجع لحل مشكلة الحكم المعقدة في العراق والتي تتصف بخصوصية تعدد الأطياف الملونة التي تكاد لا تنسجم مع بعضها بعضاً. إن في هذه الخصوصية يكمن جمال العراق. والذي لا يرى هذه الباقة الملونة من الأطياف، فيؤسفني أن أقول بأنه مصاب بعمى الألوان.

اعتقد البعض أيضاً بأن حكم الحزب الواحد أو سلطة الفرد هو الطريق الأفضل لقيادة البلد، بيد أن الواقع قد أثبت خطأ ذلك التهج الذي اتخذ مسارا آخر، أدى هو الآخر إلى عرقلة تطور البلد.

إن تلك النهوج قد أدت إلى خراب البلد والتأخر والركود والتفرقة وفتح الطريق أمام الدول المجاورة والقبائل البدائية للاستيلاء على البلد ووضعه تحت سيطرته. ولا زالت هذه النهوج تنخر في جسد البلد منذ العصور القديمة إلى يومنا هذا. وبدأت الشقوق والخراب بالظهور بشكل أوضح، ينذر بالانهيار التام. وأصبح الفساد نهجا في التعامل بين المواطن والدولة.

ونتيجة لسوء الفهم، أخذ المواطن يساهم في تخريب الدولة، دون أن يدري بأن هذا الجهاز هو ملكه.
وبدأت الأطياف الملونة تفقد ألوانها التي تحولت لى السواد. وراحت الهوية الوطنية تداس بالاقدام. وهكذا تحولت الأطياف إلى مسمياتها البدائية، تذبح بعضها بعضاً. حلت هويات جديدة محل الهوية العراقية التي حلت محل الهوية العثمانية التي اكتسبها العراق في العام 1921 .

على مدى تاريخه القديم الذي يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد حتى الآن لم يكن العراق موحداً. كانت دويلات المدن هي الظاهرة السائدة بهذا الشكل أو ذاك. ولعبت الزراعة دوراً حاسما في دفع حمورابي لخلق الدولة المركزية المعروفة بقوانينها وقنواتها المائية وريها. وأثبتت هذه الثيمة أن الوحدة الحقيقية لا تتحقق عن طريق القوة، بل عن طريق الظروف الموضوعية والذاتية الناضجة.

بعد خمسة آلاف سنة من الحضارة يأتي نصاب أرعن ومعه عصابة من المجرمين المحترفين لخلق حكومة استبدادية فاشية تريد تحقيق الحرية والاشتركية والوحدة. وكان أن حقق الخراب والموت الجماعي وتشويه المجتمع وعرقلة التطور ودفعه إلى الوراء. إن أخطر ما يكمن في هذه العملية هو تخريب باقة الأطياف الملونة وشق المجتمع العراقي إلى حافة الحرب الأهلية.

ما العمل من أجل ايقاف عملية التخريب المستمرة والتقهقر إلى الوراء؟
هل يمكن إعادة بناء البلد وتوحيده على أسس جديدة غير قابلة للتخريب؟

الجواب يمكن أن يكون بنعم. وتكون كلمة "نعم" مصحوبة باجراءات علمية وواقعية بعيدة عن الخيال والحزبية الضيقة والمحاصصة والمذهبية والانصياع إلى لغة الميليشيات التي تكبو عند أول مواجهة مع المخربين. المشكلة هي أن هذه الاجراءات تفرض عن طريق البرلمان. وبالتالي تؤدي عملية الاتكاء على البرلمان إلى الاستغناء عن هذا الجهاز الضخم الذي لا عمل له سوى استهلاك كميات هائلة من المبالغ التي ينبغي أن تصرف بصورة عقلانية في أوجهها الصحيحة.

إن ما ينبغي أن يؤخذ بنظر الاعتبار في العراق هو حزمة الأطياف الجميلة التي تكونت بصورة طبيعية منذ آلاف السنين، ومراعاة حقوقها القومية والثقافية والمذهبية والادارية. إن سياسة التعريب التي طبقها الدكتاتور الارعن بالحديد والنار والمقابر الجماعية لم تؤد، إلا إلى التمسك بالقبيلة والمذهب. إذاً ليس من حق أحد أن يلغي هذه الباقة الأزلية.

إن السياسة التي ينبغي تطبيقها في دولة متعددة الأطياف مثل العراق، هي العلمانية الواعية التي تنظر إلى كل الآطياف بعين واحدة ويضع الانسان الكفوء في المكان المناسب، دون الالتفات إلى مكونه وانحداره الاجتماعي أو الديني.
ينبغي أخذ موقع وحجم الطيف، الذي يسمى خطئاً بالاقلية، بنظر الاعتبار:
هل شروط الفدرالية أو الحكم الذاتي متوفرة في الطيف المعني؟
مدى سعة الطيف وتعلقه بالعراق الموحد.
هل يخطط الطيف الحاصل على النظام الفيدرالي لأجل الانفصال؟
هل ثمة فكرة انفصالية عند بعض أفراد البيشمه ركه؟
هل يتحمل التركمان الحكم الذاتي؟
ماذا يقول أصحاب الاطياف الصغيرة حول مصيرهم؟
ما هو موقف القبائل والعشائر العربية من حركة "دعش" ؟
أسئلة، وغيرها كثيرة، تطرح نفسها بجد ووعي، باحثة عن الجواب الصحيح والواقعي.

حين نضع الاسئلة وأجوبتها الكثيفة في زاوية ما، نجد أمامنا بيادر من الاقتراحات الناضجة والعملية. وهناك من ضمن الاجوبة من يقول: "إن تطبيق الاشتراكية هو الحل الأمثل". إن هذا المثل يفتح أمامنا الباب، ولكن حذارى من السرعة في الدخول إلى المحراب، فالناس لهم مشاكلهم التي تحتاج الى التأني والهدوء.

ما هي المشاكل التي تجابه العراق وأين تكمن الحلول؟

هناك مشكلة يجب أن تتعايش معها، سواء شئت أم أبيت ولا يمكنك أن تمسحها من الوجود مهما أستعملت من وسائل. إنها بالعكس، تتماسك أكثر فأكثر ولذلك يجب الاعتراف بها ومنحها كافة حقوقها. هناك مشكلتان يجب الأعتراف بهما دون اللجوء إلى الوسائل الملتوية، الفدرالية الكردية والحكم الذاتي للتركمان. انك إذاً من أجل أن تحل مشاكل هؤلاء، يجب أن تلجأ إلى تطبيق الديمقراطية الصحيحة. وبنفس الروحية اديمقراطية ينبغي عليك حل مشكلة التركمان الذين يمتد وجودهم من تلعفر، آلتون كوبري، كركوك، داقوق، طوز وقره تبة.

أربعة عقود من الزمن والنظام الدكتاتوري يفتح أبواب الجحيم أمام الأطياف الجميلة. والمشكلة التي ينبغي مراعاتها هي أن معظم الأماكن مختلطة من العنصرين الكردي والتركماني. هنا ينبغي إجراء انتخابات محلية واختيار الممثلين إلى إدارات المحافظات والاقضية والنواحي.

بالديمقراطية الحقيقية فقط يمكنك حل مشكلة تعدد القوميات.

ولنا عودة إلى الموضوع.
 


2
أدب / العاهرة الرجيمة
« في: 01:21 17/02/2014  »
العاهرة الرجيمة

زهـدي الـداوودي

أنتم
هيه أنتم
يا من هناك
يا من تتشدقون بالحرية
وأنتم
يا من تحملون الأفكار النبيلة
يا من تدافعون عن حقوق المرأة
أناديكم
من تحت كومة الأحجار
الجاثمة على صدري
الأحجار التي كسرت وهشمت
ضلوعي
وصدري
وجمجمتي
وكل عظامي
أنا لم أمت بعد
ولن أموت
سأبقى عاراً في جبينكم
وحتى إذا دفنتموني حية
لن تتخلصوا من لساني

ظننتم أنكم تخلصتم مني
برجمي حتى الموت
ولكن هيهات
أن تموت
العاهرة الرجيمة

كنت طفلة صغيرة
حين أطلقتم علي
أسم العاهرة
هل تعرفون
لماذا أطلقتم علي
هذا الأسم؟
لأنني صرخت
في وجه المفاخذة
وبصقت في وجه
راعيها
الذي أراد
أن يغتصبني
كنت ملاكاً ولكنكم
جعلتم مني
عاهرة رجيمة

هيه أنتم
يا من هناك
لا تدفنوا رؤوسكم
في الرمل
إني أرى
وجوهكم الكالحة
إن أثر السجدة
على جباهكم
سيؤدي بكم
إلى حارس الجحيم
الذي تسمونه
بالشيطان الرجيم

3
أدب / إلى أين؟
« في: 00:47 08/01/2014  »
إلى أين؟

زهـدي الـداوودي

بعد عقود
من التسكع والتشرد
في بلاد الغربة

عقود مليئة
بالوعود المطرزة
بالأحلام

حزمت أمري
وشددت الرحال
إلى الفردوس المفقود
مملكتي الجميلة

تحدث الرواة
عن الجنات التي
تجري من تحتها
الأنهار

وتحدث الجياع
عن نافورات
تقذف
الحليب والعسل

قيل
أن شمسها
من أجمل الشموس

سماؤها
من أجمل السماوات

نجومها
من أجمل النجوم

نساؤها
من أجمل النساء

شوارعها
من أجمل الشوارع

هواؤها
أنظف هواء

أناسها
لا يتنقلون
سوى
على البساط السحري

حيث
أجمل راقصات
العالم
يُمَتّعن الرجال

الرجال المسافرين
إلى
بخارى
وسمرقند
وشيراز
وأرمينيا...

ثم يعودون
مرتاحي البال
بجيوب
مليئة
بالذهب الخالص
والمجوهرات

يعودون إلى
مكة
لأداء
فريضة الحج
حيث يضمنون
منازلهم
في الفردوس

كم حسدت
بني جلدتي
لتمتعهم
بليالي
ألف ليلة وليلة

حيث يتوسدون
أباريق الخمر
ويفترشون
أجمل النساء

ويأكلون الطيبات
في مواعين من ذهب


وأردت أن أعيش
مثلهم
ولسان حالي
يقول
من منكم لا يريد الرخاء

بعت كل ما أملك
كي أبتاع بطاقة
تمنحني مكاناً
على البساط السحري

ترجلت في بغداد
بلد الرشيد ودار السلام
استلمني
حرامي بغداد
ظنّاً منه
أنه عثر على تاجر ثري
ولكنه سرعان ما
أدرك أني
صعلوك مفلس
وتركني ليواصل
عمله
مع شخص آخر
وكنت أنا الشخص الآخر
الذي تم بيعي إياه
وسرعان ما
ظهر الحرامي الجديد
أمامي مثل الشبح
كان يحمل في وسطه
خنجراً
دباناً
لا تغادره يده

قال لي
وهو يحاول أن يتجنب
عيون المارة
"غداً أنتظرك في مقهى السلام
ويل لك إن لم تأت
سأجعل من رأسك
كرة
يتقاذفها
الأولاد"
وانصرف الرجل المرعب
مثل الشبح
وبقيت أنا
حائراً في مكاني
معقود اللسان
إلى أن
أيقظني من شرودي
صبي لم يتجاوز العاشرة
من عمره
"عمي نحن ننتظرك منذ الصباح الباكر
قال صاحبنا
إنه سيعطينا رأسك
كي نلعب به
في زقاقنا"

أردت أن أقول شيئاً
بيد أن الصبي
اختفى عن الأنظار
مثل شبح

يا إلهي
ماذا فعلت
بنفسي
وإلى أين؟











4

شيركو بيكه س
بوشكين كوردستان


زهدي الداوودي

هكذا كنت أسميه، سواء في لقائي معه أو في غيابه. ولا أعتقد أنه كان يحس بالزهو لذلك، إذ أنه كان يريد أن يبقى شيركو بيكه س لا غيره.
وهذا هو السبب الذي جعله أن يترك كرسي الوزارة، فبقي شيركو بيكه س الشاعر.
كان جميلاً، يحب الحياة والجمال. ويتساءل:
"لماذا أموت أنا والنجوم لا تموت؟"
ويأتيه نداء يقول:
"وما الفائدة من بقائي بلا نجوم؟"
ثم يقول وهو يذوب أمام العشق:
"كنت تطرزين صدرك بقلادة تحمل كماناً صغيراً،
تتهادين أمامي رواحاً ومجيئاً،
كنت أسمع اللحن حين يبدأ الكمان بالعزف،
والنهدان النافران يرقصان رويداً رويداً"
ايه شيركو،
يتامى جئنا إلى هذا العالم، عراة نتركه، لا نملك ما نقدمه للحبيبة، سوى نرجسة قطفناها من أعالي قمة "بيره مكرون"
وما أصعب أن تقطف وردة من هناك.
قصيدتك اللانهائية "كرسي" حزين يعلوه الغبار.
ديوانك "قلادة" لا تعرف أنك رحلت.
مجاميعك الشعرية:
مضيق الفراشات، ظمأي يطفئه اللهيب، صليب وحية وتقويم الشاعر، الآن وطني فتاة، فرس من شقائق النعمان وأسرع، الموت يلاحقك وغيرها
كلها يبكي بصمت
ويشيعك،
بنشيد جنائزي ترافقه الفراشات والطيور الملونة
إلى مثواك الأخير
أيها الشاعر الكبير



5

الرحيل المبكر للصديق فلك الدين الكاكه يي

زهدي الداوودي

كنت لا أتوقع أبداً أن تتركنا بهذا الشكل الفجائي يا أبا برشنك وأنت لم تكمل بعد إنجاز مشاريعك الكتابية التي شغلتك عنها السياسة التي كانت تفترس وقتك. ومع ذلك كنت تسرق من وقتك للتعامل مع الثقافة والأدب وأنتجت أكثر من أي متفرغ للكتابة، فأضفت أشياء جديدة ليس للمكتبة الكردية فحسب، بل للمكتبة العربية أيضاً. وكان لك نهجك وفلسفتك في النظر إلى الأشياء بجرأة غريبة، ولكن متواضعة. كنت قد أندمجت مع النور وأصبحت جزءً منه.
 كم من الساعات الطويلة، خلطنا فيها النهار بالليل والنور بالظلام ونحن نناقش مسألة الحياة والموت. ولم أكمل بعد قراءة كتبك التي أهديتنياها. وأنا ما زلت أنتظر نتاجك الجديد الذي لن يظهر.
دعني أردد معك ما جاء في كتابك "موطن النور":
"سنعود إليه ، حيث أتينا،
وهو موطن النور.
يقول القرآن الكريم: "الله نور السموات والأرض".
ونردد دائماً: "إنا لله وانا إليه راجعون".
فقد خلقنا مع النور، وبه، ونعيش في ضوئه وحرارته، ونرحل أمام حضوره الدائم.
فالنور حضور دائم ..."
ها انك نعيت نفسك بنفسك واعلنت عن رحلتك إلى عالم النور الأزلي، كما لو أنك أردت الخلاص من هذا العالم الملئ بالكذب والنفاق والفساد.
عش مطمئناً في عالم النور الأزلي
عالم الطيبين والقديسين
أيها القديس.
إننا لن ننساك.


6

كردستان ومبدأ حق تقرير المصير

زهـدي الـداوودي

حق تقرير المصير (بالإنجليزية self-determination) (بالألمانية Selbstbestimmungsrecht) هو مصطلح في القانون الدولي يعني منح الشعب أو السكان المحليين إمكانية أن يقرروا شكل السلطة التي يريدونها وطريقة تحقيقها بشكل حر وبدون تدخل خارجي.
يُنسب ويكيبيديا، الموسوعة الحرة هذا المصطلح إلى رئيس الولايات المتحدة الأميركية وودرو ويلسون مع أنه جرى قبله استخدام مصطلحات مشابهة. كان مبدأ حق تقرير المصير في جوهر اتفاقية فرساي التي وُقعت بعد الحرب العالمية الأولى، وأمر بإقامة دول قومية جديدة في أوروبا بدلاً من الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية والإمبراطورية الألمانية. وفيما بعد كان هذا المبدأ أساس المطالب المناهضة للاستعمار، بمعنى الدعوة إلى إلغاء السيطرة الأوروبية الاستعمارية على إفريقيا وآسيا.
وعندما بسطت ثورة أكتوبر إنتصارها النسبي  على الأوضاع في روسيا القيصرية، بشّر لينين أتباعه بأن نظامه الإشتراكي قد حلّ المشكلة القومية بضربة واحدة وإلى الأبد. بيد أن الإشتراكي-الديمقراطي النمساوي أوتو باور تصدى له قائلا:"إن النظام الإشتراكي لا يحل مشكلة القوميات، بل يؤدي إلى خلق الوعي الطبقي الآيل إلى الإستقلال" 
تطرق مصطلح "تقرير المصير" منذ البداية إلى السكان الذين تربط بينهم لغة مشتركة وثقافة مشتركة ("قومية") والمقيمين في منطقة محددة أي أرض مشتركة وتاريخ مشترك. جرى تطبيق حق تقرير المصير من خلال الإعلان عن المنطقة وعن الجمهور المقيم عليها كدولة قومية، أو كجزء يتمتع بحكم ذاتي داخل اتحاد فدرالي. وقد اتضحت الإشكالية الكامنة في تطبيق مبدأ حق تقرير المصير في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين، وتمثلت تلك الإشكالية في أن قبول جميع المطالب بحق تقرير المصير قد هدد بتقسيم أوروبا إلى دويلات صغيرة وخلق المزيد من الحدود السياسية التي تحول دون العبور الحر للناس والبضائع. حاولوا حل هذه الإشكالية من خلال إقامة فدراليات مثل يوغسلافيا، وتشيكوسلوفاكيا، وغيرهما، غير أن هذا الحل باء بالفشل لأن الشعوب التي كانت تقيم في تلك الدول لم تتمكن من تطبيق سلطة مشتركة لزمن طويل. ليس هذا فحسب، فلم يقطن كل شعب في منطقة محددة. فيهود أوروبا مثلا أقاموا في مجتمعات صغيرة نسبيا منتشرة في جميع أنحاء القارات. وكان الهنغاريون موزعين بين هنغاريا نفسها وإقليم ترانسيلفانيا الواقع في عمق الأراضي الرومانية.
جابه تطبيق حق تقرير المصير مشاكل أصعب في فترة إلغاء الحكم الاستعماري، في أواخر سنوات الأربعين من القرن العشرين، وفي سنوات الستين من القرن ذاته. لقد جرى تعريف الحدود السياسية في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط بموجب مصالح الدول الأوروبية العظمى، وكثيرا ما تجاهلوا المزايا الخاصة للسكان المحليين، كالدين ، العادات، اللغة، والتاريخ وما شابهها. رأت الأمم المتحدة، التي قبلت بحق تقرير المصير كجزء من ميثاق الأمم المتحدة (في تعديل عام 1951)، كما رأت الدول الأعضاء فيها، أن تطبيق حق تقرير المصير هو داخل الحدود القائمة، مما أدى إلى إقامة دول متعددة القوميات تواجه صعوبة في تطبيق حكم مشترك.
جرى في أوروبا، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، موازنة حق تقرير المصير من خلال إقامة منظمات للتعاون الدولي. أهم تلك المنظمات هي الاتحاد الأوروبي الذي يتيح الانتقال الحر للأشخاص والبضائع بين الدول الأعضاء فيه، كما يضمن إطارا دستوريا مشتركا بين الدول الأعضاء. وجرى ذلك كله مع المحافظة على استقلالية كل دولة عضوة في الاتحاد. صمد هذا المبنى سنوات طويلة غير أنه بات في الآونة الأخيرة يواجه تحديات معقدة: الهجرة المكثفة من الدول الإفريقية والآسيوية مما يغير من تركيبة السكان في بعض الدول، بالإضافة إلى ظاهرة العولمة، أي تطوير وسائل المواصلات والاتصال السريعة مما يخلق مجتمعات عالمية واتحادات تجارية دولية تختزل قوة الدول القومية والمنظمات الدولية التي أقامتها. أنظر: ويبيكيديا / الموسوعة الحرة.
وإنطلاقاً من تلك الآراء والمفاهيم التي ظهرت كإستجابة منطقية لحركة التاريخ التي أفرزت مشكلة حق الشعوب في تقرير مصيرها، جرى ترسيم حدود عدد كبير من بلدان الشرق الأوسط، بشكل مغاير لمبدأ حق تقرير المصير. من هذه المشاكل معاهدة سايكس – بيكو السرية التي رسمت في العام 1916 خريطة الشرق الأوسط بالقلم والمسطرة وقسمت كوردستان إلى أربعة أقسام وزعت على تركيا، إيران، العراق وسورية. ومنذ ذلك التاريخ، بل وقبل ذلك بفترة طويلة، يعاني هذا الشعب الأعزل مختلف أنواع الإضطهاد والظلم على أيدي الحكومات الدكتاتورية بحجة الحفاظ عن الأمن والإستقرار ووحدة الوطن. ولم تتمكن الحكومات الجائرة من إبادة هذا الشعب أو قمع كفاحه العادل في سبيل حريته وحقوقه العادلة، بل بالعكس، تحولت الحركة الوطنية الكردية إلى حقيقة ملموسة، تنظر إليها الشعوب وهيئة الأمم المتحدة بعين العطف والرعاية، إذ يكفي أنها ألزمت الصمت لفترة طويلة، تجاه الممارسات البربرية ضد هذا الشعب. وتمكنت الحركة الكردية إسباغ طابع الديمقراطية على طبيعة نضالها وذلك برفعها الشعار التاريخي: (الديمقراطية للعراق والحكم الذاتي لكردستان) وما لبث أن تحولت عبارة الحكم الذاتي إلى (الحكم الفيدرالي). وهكذا تعانق الشعبان العربي والكردي وواجها معاً الإستبداد المسلط على العراق.
مع دخول قوات الإحتلال الاميركية إلى الأراضي العراقية، تغيرت الأوضاع وأقحمت مفردة الديمقراطية في شؤون الحكم وظهرت في سماء السياسة العراقية لأول مرة مفردة المحاصصة، التي جاءت كنتيجة حتمية لتحويل الدين والمذهب إلى أداة، بل لعبة بيد السياسة المقيتة التي لا تعرف مفاهيم الصداقة والأخلاق والفضيلة. وإذا كان ثمة سلاح بتار يؤدي إلى تمزيق البلد وهيمنة الجهل وفرض الحرب الأهلية والتبشير بالتخلف ونكران الهوية الوطنية ووحدة البلد، فهو سلاح المحاصصة التي دفعت العراق قرناً كاملا إلى الوراء.
وأدت سياسة المحاصصة جدلياً إلى بروز الفساد والإنتهازية وسرقة أموال الدولة والإجرام وإنتعاش الإرهاب وتدني مستوى التعليم بكل أقسامه. لقد هيمن التخلف بأسم الدين ولا سيما المذهب على الساحة السياسية. وبالعكس من هذا التخلف الذي أصبح سمة أساسية للقسم العربي من العراق، تحول أقليم كردستان إلى واحة آمنة لا يطالها الإرهابيون، أزدهرت فيها حركة العمران والبناء بشكل سريع ومنظم. وكان أن أصبح التطور يأخذ طابعاً لا متساوياً في عموم العراق، تخترقه فجوة هائلة تتسع يوماً بعد يوم. وتجري المحاولات في القسم العربي، ولا سيما الشيعي لإتيان حكومة تسخر الدين الحنيف وتضعه في خدمة السياسة المقيتة. ويتحول الصراع إلى صراع بين التخلف والعلمانية. أي العودة إلى فترة ما قبل العصور الوسطى الإسلامية. هذا من جانب ومن جانب آخر يجري الصراع بين التخلف والعلمانية على مستوى أعلى، مستوى الأقليم والحكومة الاتحادية. وهكذا يتبلور نظامان مختلفان، متخلف ومتطور، يتخذ كل واحد منهما طريقاً مغايراَ للآخر.
وفي خضم هذه التحولات الغريبة عن المناخ السياسي العراقي التقليدي منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 ترتفع أصوات مختلفة تقوم بتفسير الديمقراطية والفيدرالية والمحاصصة حسب هواها ومصلحتها. إنها ترى في الديمقراطية سلماً يؤدي إلى قمة السلطة وإمتلاكها إلى الأبد. وترى في الفدرالية إنفصالاً لا مفر منه وأما المحاصصة فعبارة عن توزيع أموال الدولة بالتساوي بين كوادر وأعضاء الأحزاب الحاكمة.
والآن، يعيد السؤال نفسه من جديد:
العراق... إلى أين؟
الجواب: هل يمكن ردم الفجوة؟ وتفسير مفردات الديمقراطية والفدرالية والمحاصصة بشكل صحيح؟
الفجوة أعمق من أن تردم. والمؤمن لدغ أكثر من مرة من نفس الجحر. والإرهاب أقوى من أمن الدولة.
حفظك الله يا عراق.

7
المنبر الحر / العراق...إلى أين؟
« في: 23:37 02/03/2013  »
العراق...إلى أين؟

زهـدي الـداوودي
إذا أمعنا النظر في مجمل خارطة تطور المجتمع العراقي بشكل عام، نجده يتسم بالتخلف الذي رافقه منذ تأسيسه في العام 1921 . وهذا لا يعني أن التخلف صفة عراقية صرفة لا يمكن التغلب عليها، بل بالعكس. كان العراق يخطو خطوات حثيثة على طريق التقدم، ولكن سرعان ما يأتي عامل معرقل للتطور ويسحب ظله على المجتمع والدولة إلى أن يعيد الوضع الطبيعي القائم إلى المربع الأول، حيث التخلف والكبوة. وهكذا عاش العراق في صراع دائم بين التخلف والتقدم، وضعه هذا الصراع في حالة المراوحة فالركود. وتبدأ عملية التطور من الصفر من جديد، حيث لعبة جر الحبل التي تجري داخل الحلقة المفرغة. وخلال هذا الصراع الدائم تجري بلورة درنات متضادة، حلوة ومغذية وسامة قاتلة، تتصارعان من أجل خارطة طريق تحدد مصير البلد والمجتمع. وهنا لابد لنا من الإشارة إلى عنف الإنسان العراقي الذي أفرزه مناخه القاري وتاريخه الدموي الطويل، حيث أنه حين ينتفض يخرب الأول والتالي ويعود المجتمع من جديد إلى المربع الأول.
مع بدء تأسيس الدولة العراقية التي لعبت الكولونيالية الانكليزية دوراً حاسماً في تحقيقها، إنتقل المجتمع العراقي من العلاقات الأبوية إلى العلاقات الاستغلالية – شبه الإقطاعية. كان ذلك في تلك الفترة ذروة التقدم، بيد أنها لم تتمكن من الإستمرار لعدم وجود قوة محركة محلية. وكان أن جنى الإقطاعيون الدرنات الحلوة، تاركين المرة للفلاحين. وفتح الانكليز أبواب العراق لإستيراد السيارات الفاخرة والويسكي لحليفتهم الطبقة الجديدة. وبذلك دخل العراق إلى العصر الحديث من خلال بابين.
كان من المفروض أن تدخل من خلال أحد البابين طبقة جديدة ناشئة، هي الطبقة الصناعية - التجارية المتوسطة كي تسد حاجات الطبقة الإقطاعية التي دخلت من الباب الآخر، بيد أن الانكليز سدوا ذلك الباب الذي لم ينفتح إلا بعد ثورة 14 تموز 1958 الذي دشنها الرجل الواعي لطبقته محمد حديد الذي كان بعض القوى السياسية يسمونه بمحمد تنكه.
كانت ثورة 14 تموز آنذاك تمثل ذروة التقدم في الإتيان بمجتمع متمدن خال من بقايا العلاقات الإقطاعية، تسوده الديمقراطية، لا تورط الدين لخدمة السياسة. كان البناء الفوقي أكثر تطوراً من البناء التحتي الذي تسوده العلاقات الاقطاعية التي لم تستسغ قانون الإصلاح الزراعي وحقوق المرأة والعلمانية والديمقراطية. وكان أن تحالف كل القوى الشريرة في إتيان إنقلاب 8 شباط 1963 . وهكذا رجع العراق إلى المربع الأول. وعاد الإقطاعيون إلى سدة الحكم.
التطور اللامتكافيء:
بدأ التطور اللامتكافئ في العراق منذ اللحظة الأولى من تأسيس الدولة العراقية، حيث بدأ الإقطاعيون يشربون الويسكي، يلعبون القمار، يبنون القصور ويرسلون نواباً إلى ما يسمى بمجلس النواب. ولتسديد مصاريف الحياة المرفهة راحوا يستغلون الفلاحين بصورة أبشع.
أحدثت ثورة 14 تموز شقاً جديداً في هذا التغير الذي شمل العراق كله. ومع بدء الحركة الكردية المسلحة بقيادة الملا مصطفى البارزاني، حدث شق جديد عميق في التطور اللامتساوي أستمر حتى يومنا هذا، حيث أنتصرت الحركة، رغم بعض السلبيات، على العلاقات الإقطاعية ورسخت أركان المجتمع المدني وبناء المدينة على أسس حضارية عالمية. يمكننا أن نقول بكل صراحة بأن الفرق بين تطور المجتمع الكردي والمجتمع العربي هائل جداً وأن هذا الفرق يستمر يوماً بعد يوم وبشدة ويشمل الجوانب الإقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية والحضارية. وبالمقابل من التطور الطبيعي في المجتمع الكردستاني، يجري في القسم العربي من العراق، ليس مجرد ركود شامل، بل تخلف هائل يدفع المجتمع إلى العصور الوسطى وما قبلها، الأمر الذي يؤدي جدلياً إلى التباعد بين المجتمعين العربي والكردي وتوسيع الهوة بينهما. وهكذا أتخذ الصراع بين المجتمعين أبعاداً أخرى لا تجري إلا على طريق المربع الأول الذي يبدأ من الصفر.
زحف الريف إلى المدينة و زحف المدينة إلى الريف
نشأت المدن منذ الألف الثالث قبل الميلاد، كانت لها وظيفة دينية وعسكرية. هكذا علمتنا كتب التاريخ وأضافت أنها كانت محاطة بأسوار هائلة وظيفتها الدفاع عن هذه المدن ضد إحتلال الأمبراطوريات القوية. ونادراً ما كان يجري الحديث عن الوظائف الأخرى التي أصبحت حاسمة بمرور الزمن. خلال إطلاعي على عالم المدن الكلاسيكية، وجدت أن لأسوار المدينة واجباً حضارياً لاتقل أهمية عن الوظيفتين، الدينية والعسكرية وهو الحفاظ على معالم الحضارة التي لا يمكن أن تنشأ سوى في المدينة المحصنة ضد القبائل الهمجية التي إذا أحتلت المدينة، أكلت الأخضر واليابس وقضت على جميع معالم المدينة الحضارية. كانت مدينة بابل مثلاً تسد أبوابها مع مغيب الشمس وكان الغرباء ممن لا يسكنون المدينة يتركونها إلى خارج الأسوار، حيث نصبت خيامهم.
هناك معادلة ترينا الوجه الحضاري المتقدم للمدينة أو الدويلة. إذا تمكنت القبائل الهمجية من إحتلال المدينة والسيطرة على نصب الأله المركزي، يكون قد حل الخراب وسقطت الحضارة وأما إذا تمكنت المدينة من تأسيس مدينة أخرى تتوفر فيها شروط المدينة الحضارية، تكون قد انتصرت الحضارة.
 وتنتقل الحضارة أحياناً بصورة سلمية تستغرق زمناً طويلا، يؤدي إلى نشوء حضارة جديدة بنوعية متقدمةً، كما حدث بالنسبة للتوغل الأكدي البطئ في الحضارة السومرية أو بالنسبة للتسلل الجرماني إلى داخل الامبراطورية الرومانية والتي أدت إلى إنحلال مجتمع الرق وظهور الإقطاع في أوروبا.
نفس العملية التاريخية، الصراع بين الحضارة والتخلف، جرت بشكل سافر وبوعي في العراق، الغاية منها إستغلال الدين بتحويله إلى أداة رخيصة بيد الحزبية الضيقة. ومن حيث شئنا أم أبينا أدت وتؤدي هذه الطريقة في التعامل السياسي إلى توظيف الجهل الذي تلغي الهوية الوطنية على حساب الهوية الطائفية والمذهبية اللتين تؤديان إلى تمزيق وحدة الوطن. وخير مثال على زحف الريف إلى المدينة هو الزحف الشامل لقرية العوجة إلى بغداد، والذي أستمر أكثر من ثلاثة عقود من الزمن.
على السياسيين الجدد الذين ركبوا موجة المذهبية والطائفية، أن يدركوا مدى خطورة لعبتهم التي إن حرقت، فتبدأ بهم.
عملية التطور اللامتكافئ في الجتمع العراقي، عملية لا يمكن إنكارها.
أدت جدلياً إلى شق المجتمع العراقي إلى مجتمعين، متخلف يزداد تمعناً في التخلف و متطور يزداد تمعناً في التطور.
الصراع بين التخلف والتقدم.
إن محاولة تطبيق هذه المقولة في الواقع تؤدي بنا إلى طريقين، أولهما، إلغاء الديمقراطية. وثانيهما، العودة إلى المربع الأول. أي تحويل الصراع ألى الصراع بين العلمانية والدين، حيث يجري إستغلال الدين بشكل بشع، ناهيك عن تحويله إلى هراوة.
فإلى أين؟... يا عراق؟

8
أدب / من أنت؟
« في: 19:40 14/08/2012  »
من أنت؟

زهدي الداوودي
1
قالت لي
وهي تزيح وجهها
عني
هجين أنت
لا أصل ولا فصل
لم أتكور
مثل قنفذ جريح
بل عدت إلى ذاتي
ثمة شخصان في داخلي
لم أقل
"هذا جناه أبي"
ولا قلت
هذا جنته أمي
زحفت إلى أعماقي
تحولت
إلى شخصين في ذاتي
وجدت نافذتين
تطلان على أفق التاريخ
في داخلي سمعت وقع
 إرتطام
حوافر خيول تيمورلنك
بالأرض الصلدة
وسمعت
رفرفة بيادق صلاح الدين
سمعت قصائد الفضولي
على أنغام رقصات المولوية
سمعت مناجاة مولوي
وهي تهب
من جبال هورامان
في عتمة سحابة هابطة
اخترق سهم كرمياني
درعاً قزلباشياً
من عوائد الشاه إسماعيل
لم يقتل السهم أحداً
وتلطخت السحابة
بقطرات دم
وحين ارتفعت هذه
هائمة إلى الأعالي
خلفت وراءها
طفلاً هجيناً
يحبو على العشب الطري
الذي خلفته السحابة
اسمه "أنا"

2
تحت ظلال شجرة حبك
استفقت على الحياة
لم اعد أرى
الكثبان الرملية
والشمس الحارقة
شعرك الأسود الطويل المسترسل
هبط مثل الليل
في زيارة النجوم
واتخذنا
طريق التبانة
وأنا مشدود
إلى متاهة
عينيك
تحولت ذرات الرمل إلى
عشب ونرجس وشقائق النعمان
والصخور إلى
أشجار السنديان
3
مسكت الجنية الشقراء "فريشته"
ملاك منزلنا
ألف مرة
قتلتها ألف مرة
ولكنها في كل مرة
تعود أكثر حيوية
وفتنة
لتأسر
ألف
امرئ



9
أدب / قطرات الماء
« في: 10:16 29/07/2012  »


قطرات الماء

زهـدي الـداوودي

في الخارج تتسابق قطرات الماء على زجاج النافذة وتلاحق بعضها بعضاً بسرعة، مائلة باتجاه معاكس للريح، آتية من مكان مجهول ومتلاشية في فضاء لا نهاية له. القطرات تبدو وحيدة غريبة في جوف ليل بلا قرار. الأضواء الباهتة المنبعثة من نهايات الأعمدة تبدو من خلال الضباب الخفيف مثل نجوم بعيدة. وهي رغم ضآلتها أمام عمق الظلام، تعطي لقطرات الماء المتسابقة لمعاناً بلورياً يبعث ضوءً شفافاً، يسدل على النافذة ستاراً حليبياً يحجب الظلام ويعطي الكرات البلورية شفافية وحيوية أكثر.
كان بعض القطرات سريعاً جداً بشكل ملعون، أسرع من لمح البصر. وأما البعض الآخر فكان بطيئاً، يتدحرج بخفة وبطء ثم ما يلبث أن يقف في زاوية النافذة لجزء من اللحظة كما لو أنه يريد أن يرتاح في المحطة الأخيرة من وجوده. وهناك يتلاشى إلى حيث اللانهاية، لتحل محله بلورات أخرى. بلورات تأتي من ينبوع لا ينضب. مد سبابته محاولا اللحاق بالقطرات وتفحص معالمها أكثر فأكثر، دون أن يتمكن من مس الماء الواقع على الجانب الثاني من الزجاج.
كل بلورة من هذه البلورات له عالمه الخاص وتكوينه وعمره، بدايته ونهايته. إنه يتكون مرة واحدة. وحين يتلاشى فإلى الأبد. ولن ترجع نفس البلورة أبداً. تنهد بعمق فشكل الزفير المنفوخ باتجاه زجاج النافذة طبقة كثيفة من بخار الماء.
المقصورة ما زالت فارغة ومعتمة. رسم بسبابته خطوطاً متوازية على طبقة بخار الماء. نظر إلى ساعته. القطار سيتحرك بعد أربعين دقيقة. وكان قد مرت عشرون دقيقة على بدء يوم جديد. من خلال الخطوط المتوازية كانت تتراءى البلورات بشكل أوضح من قبل وهي تتسابق لتطرد بعضها بعضاً في حلقة لا نهاية لها. ها هي الأيام تتسابق هي الأخرى أيضا. وإلى أين يسافر هو؟ هل هو أيضاً في حلبة سباق مثل هذه القطرات؟ أو مثل هذا اليوم الجديد الذي راح يتسلل بهدوء تحت جنح الليل ليطرد اليوم القديم إلى الأبد؟
بعد ساعات قليلة سيجتاز الحدود. قد يبقى أياماً في تلك المحطة. ومن هناك سينتقل إلى محطة أخرى. وستظل الريح تقذف به من أرض إلى أخرى. وستظل القطرات في حركة أبدية، ولكن يا ترى في أي موطن تستقر؟ وفي أي موطن يستقر هو؟
مع المطر والليل والريح يتكاثف الشعور بالغربة وتضطرب الروح. ويعود خوف الأجداد الجاثم في الأعماق يشيع الرعب من المجهول. ويمر تيار الرعشة عبر الأعصاب المتوترة المنتشرة تحت الجلد. ويبحث القلب عن الدفء. الليل، كل شيء يحدث في غموض الليل، في سره اللانهائي. وحين تشق الحركة السكون، يتغير لون الليل، ويعود خوف الأجداد إلى مكمنه. ها هو لون الليل يكاد يتغير.
كانت القطرات لا زالت تتسابق. سمع وقع خطوات منتظمة، هادئة، مريحة، ناعسة. خطوات متأنية تكاد لا تمس الأرض. هدأت روحه المضطربة وراحت تحلق في الأعالي مثل قبرة هائمة ضلت طريقها في ظلام الليل. مر عبر أعصابه المتوترة، تيار آخر أشاع فيها الإطمئنان. إنها رائحة إنسان. إنه ليس وحده إذاً.
انزلق باب المقصورة جانباً ليتخذ كل شيء وضعه البشري. رغم ذلك لم يلتفت إلى مصدر الحركة. كانت قطرات الماء التي تشده أقوى من أي شيء آخر، بيد أنه بعد هنيهة أحس بالحاجة لإستطلاع القادم الجديد: فتاة نحيفة، متناسقة الجسم، تقف في منتصف المقصورة، منهمكة بتعليق معطفها ووضع حقائبها على الرف، مديرة ظهرها له. وبعد أن نظرت  في بطاقة صغيرة بيدها، اتخذت مكانها في الركن المقابل له. كانت العتمة والظل المتساقط من ستارة النافذة على القسم الأكبر من وجهها، يحولان دون رؤية ملامحها بوضوح. لقد تم كل شيء بهدوء وصمت وسرعة. كانت الفتاة تبدو في ركنها مثل شبح مكمل للغز الليل الغامض. بمرور الدقائق البطيئة توضحت ملامح الفتاة. كانت هي الأخرى تنظر في النافذة وتتابع بفضول حركة القطرات المتساقطة على الزجاج. كانت عيناها العميقتين النفاذتين، محاطتين بغلالتي حزن عميق. وبدا له لون وجهها شاحباً بتقاطيع عميقة تثير الحزن والندم على شيء مجهول. أدار هو الآخر وجهه إلى النافذة.
كانت القطرات تتسابق بقوة أكبر، ولكن هذه المرة إلى اتجاهها هي.

10
أدب / أميرتي
« في: 13:20 21/07/2012  »
أميرتي

زهدي للداوودي

كنت فيما مضى
قطرات ندى..
ورذاذاً متطايراً
من شلالات كردستان
الهادرة.
كنت زنبقة صغيرة
من زنابق نيسان
النامية تحت الثلوج
في مرتفعات سكسونيا
كنت بذرة حب
ذرتها الرياح، فتطايرت
من قارة إلى أخرى.
وها أن الحدود القارية
تفصلنا.
غداً.. حين نلتقي يا أميرتي
سأضعك في أعماق قلبي

إذ ذاك
يهدأ القلب المشرد..

10 نيسان 1973


11
أدب / أخي الكردي
« في: 14:16 23/05/2012  »

أخي الكردي

زهـدي الـداوودي

كم مرة، أعدت بناء كوخك المهدم؟
كم مرة عوضت أبناءك القتلى
بولادات جديدة
تحمل نفس الأسماء التي أختفت،
في ثنايا القبور الجماعية،
 ولم تختف.
كم مرة قطعوا أشجار اللوز والتين والكروم
التي زرعتها يداك؟
كم مرة وعدوك
بالسلام،
والحقوق المزيفة
والعودة إلى بيتك
 وحقلك
فبنيت مآو لخلايا النحل،
زرعت جنبها الرمان والازهار،
ولكنهم
سرعان ما هدموا قريتك
ونقلوك
إلى مجمّع سكني
لا يقل شأناً عن
حظيرة خنازير،
انتزعوا فيها هويتك
في زمن، لا يمكن فيه التحرك،
بلا هوية.
أو نقلوك إلى قبر جماعي،
اختفى فيه ظلك
إلى الأبد.

نصف قرن
وهم يضحكون عليك،
سعداء كالأطفال
أمام قردة في حديقة الحيوان.
ماذا يريدون منك؟
ألا يكفي أنك صبغت لهم أحذيتهم؟
وغسلت لهم صحون موائدهم؟
أخي الكردي
كفى غباءاً
وتردداً
واستكانة.
لقد لُدغت من جحر
أكثر من مرآت،
فكم مرة تريد أن تلدغ؟

كم مرة وقفت أمام أبواب اللئام
لاوياً رقبتك،
تستجدي الصدقات،
وأنت حائر من أمرك
وأمر (أخوة)،
لم يكتبها القدر.

هل نسيت سورة (الأنفال)
وما أدراك ما الأنفال؟
هل نسيت
صرخات الشهداء الذين صعدوا إلى أعماق السماء،
وهي لا زالت تصعد من القبور الجماعية
تطالب بالعدالة دون الثأر
وأنت حائر بين المفردتين
ألهاك الكدح.

ألا من مستجيب؟

12

الأب يوسف سعيد
وداعاً...

زهـدي الـداوودي
لا أعرف كيف دفعه القدر إلى أن يحط رحاله في كركوك، مدينة النار والنور.؟
ومن ثم يهاجر إلى بلاد الصقيع والبرد؟
هل كان يركض وراء الحرية؟
لم يدر بخلدي مثل هذا السؤال آنذاك، ولا في وقت لاحق. وإلا كنت سأطرحه عليه بلا شك.

كان ذلك في منتصف الخمسينات. كنت في الخامسة عشرة، حين قررنا، نور الدين الصالحي وجبران وأنا أن نزور الأب الشاعر يوسف سعيد في صومعته أو بالأحرى كنيسته الواقعة في منطقة كاورباغي. وجاء الاقتراح إما من يوسف الحيدري أو قحطان الهرمزي. وكان محتوى الاقتراح:"إنه معنا، يجب أن نزوره بين حين وآخر".
ما معنى معنا؟
كان ذلك أول مرة في حياتي أرى فيها سواء أكاهنا بملابسه الكهنوتية السوداء أم كنيسة بجوها السحري المقدس.
لقد انبهرت بالرجل وكنيسته.
وأدى هذا الانبهار إلى أن أتطرق إلى هذا الجو الكنسي وراعيه في روايتي "زمن الهروب" بعد أربعة عقود من الزمن.

علمت من كلماته الجميلة، التي نسيتها، ومن أسارير وجهه المشرقة وانطلاقه معنا بلا تردد، أنه معنا فعلا وإننا بدورنا معه أيضا. و لاحظت أنه كان في البداية متحفظا ومترددا، بيد أن جبراناً، أزال تحفظاته عندما بدأ يعرفنا به باللغة الكلدانية أو الأثورية لا أعرف بالضبط.
ولكنني ظللت أنظر إليه نظرة التلميذ إلى معلمه. وأحس هو بهذا. وحاول أن يزيل هذا الحاجز، ولكن عبثاً.
إذاً، كان هو المعلم، شئت أم أبيت.
كان الأب يوسف سعيد أحد أبرز عناصر جماعة كركوك.
أكبرهم عمراً وتجربة ودراية
وتمرداً، إذ أنه، من أجل الحرية، كان يخترق حتى الجبة السوداء التي كان يرتديها من أجل السماء، دون أن يدري أنه يقترب من الأرض، من الخطيئة، ولكن:
من منكم بلا خطيئة؟
كان طائرا يحلق على أبعد نجمة  ، تاركا سربه ومغردا خارجه ومحاولاً أن يجعل من السماء والأرض منزلاً من الفردوس.
وظل يعيش مع هذا الحلم إلى أن غادرنا إلى الأبد،
طائراً فريداً من نوعه، يعشق الحرية ويبحث عنها في كل مكان.
 سواء في أعماق السماء أم مجاهل الأرض.
 وداعاً
الأب يوسف سعيد
لن ننساك
ولن تنساك
كركوك.

13
أدب / من الذي قتل حليم دونر؟
« في: 15:10 23/02/2012  »
من الذي قتل حليم دونر؟

زهـدي الـداوودي

في بداية تموز1994 قتل شرطي ألماني طالب اللجوء، المواطن الكردي حليم دونر الذي لم يتجاوز السادسة عشرة في مدينة هانوفر خلال الصاقه منشورا على أحد الجدرآن.
حين أزهقت الرصاصة روحك
يا بني،
وطردتها من جسدك،
المطروح على أسفلت الشارع،
مثل نجمة خماسية،
هامت روحك في الأعالي
شاردة تائهة
ثم عادت إلى حيث ظلال الدم
باحثة عن القاتل:
هل القاتل هو من أطلق الرصاص؟
أم أنه رجل بارد الدم ببدلة داكنة
لا يحمل السلاح؟
لم يقتلك هذه المرة رصاص الملالي
ولا رصاص حراس البوابة الشرقية
لم يقتلك رصاص الجندرمة التركية
ولا رصاص الحليفين العدوين.
من قتلك إذا يا بني؟
من؟
الشرطي فرتسه أوتو؟
أم السيد مانفريد كانتر؟ (*)
حامي "حماية الدستور" الألماني؟
لا بأس، إن كان هذا أو ذاك
المهم أن الهر كانتر قدم الاعتذار
للحادث المؤسف
الذي وقع سهواً...
(*) كان وزيرا للداخلية الاتحادية آنذاك.



14
أدب / قصة قصيرة رهان
« في: 11:11 03/01/2012  »

رهان

قصة قصيرة


زهـدي الـداوودي

كنت آنذاك في زيارة للوطن بعد إنقطاع دام عدة سنوات، تصاعدت خلالها درجة الحنين من كلا الجانبين، جانب الأهل وجانبي، إلى درجة لا تحتمل. كنت قد قررت أن أبقى في الوطن لمدة لا تتجاوز ثلاثة أسابيع، قابلة للزيادة والنقصان على أن أبلغ شركة الطيران عند حصول أي تغيير في موعد العودة. كنت أتصور أنني أتمكن من زيارة كافة ألآقارب والأصدقاء والاطلاع على معالم العديد من القصبات والمدن في فترة الأسابيع الثلاثة التي تكفي لتنفيذ برنامجي الاستطلاعي.
بدا لي إن حساباتي خاطئة، بل وخاطئه جدا، إذ إنني لم أحسب حساب إرتباطي بأهل كبير وعشيرة واسعة، تتلهف لزيارة أبنها البار ورؤيته وتبادل الحديث معه والجلوس بمعيته لساعات غير قصيرة، والاستفسار عن حياته ومعيشته ومعيشة السكان في بلاد الغربة التي يسمونها ألمانيا. كانت الزيارات تبدأ في التاسعة صباحا وتنتهي حوالي الحادية عشرة مساء، لتتكرر على نفس المنوال في اليوم الثاني. كنت ملتصقا بمكاني لا يمكنني مغادرته إلا لقضاء حاجة ضرورية. ذات يوم حلت الفرصة السانحة لمغادرة البيت والتمشي بعض الشئ باتجاه المقبرة لقراءة الفاتحة على قبر الوالد واستعادة الذكريات. كان ذلك في الساعة العاشرة والنصف قبل الظهر، حين خلى البيت بقدرة قادر من الضيوف. عندما أحست والدتي بنيتي، راحت تعاتبني لقلة ذوقي بعدم استقبال الضيوف الذين يمكن أن يظهروا في أية لحظة:
"عيب يا بني. كيف تدير ظهرك للضيوف. إنهم يأتون لزيارتك إحتراما للعائلة ولك شخصياً. لا تخذلهم يا بني. يمكنك أن تتمشى في باحة البيت"
" أنا لا أدير ظهري للضيوف يا أمي. أنا بحاجة إلى حركة. ألا يحق لي أن أزور قبر المرحوم والدي وأقرأ عليه الفاتحة؟"
قالت وهي مشغولة بالطبخ في الهواء الطلق للضيوف:
" هيا تحرك إذاً بسرعة، سأبلغ الضيوف بأنك في زيارة قصيرة للمقبرة. وعليهم أن ينتظروك"
في فترة غيابي التي لم تستغرق نصف الساعة، حضر بعض الضيوف الذين لم يعجبهم خلو البيت من المضيف أو الضيف القادم من بلاد الغربة. وراحوا يتندرون بسلوك الولد الذي لم يسر على نهج أبيه وفقدانه لتقاليد العشيرة في بلاد الغربة. ولولا تدخل الأم وإعلامهم بموضوع زيارة القبر وقراءة الفاتحة لما أتخذوا أماكنهم في غرفة الضيوف، بل رجعوا إلى حيث أتوا بخفي حنين. هكذا تظاهروا بالأمر، بيد أن الصبي أبن أختي المكلف بخدمة الضيوف مثل تقديم السيكاير والقهوة لهم، قال شيئاً آخر. قال أنهم جاؤا كي يلقوا الأنكر ولن يتركوا المكان حتى لو طردتهم وأشبعتهم بالركلات على مؤخراتهم.
قلت له وأنا أهدئه للتخلص من الغضب الذي ساوره بسبب تعليقاتهم علي:
" كن هادئاً يا بني. إنهم ضيوف وأقارب"
كانت الأسئلة تلقى جزافاً، ولكنني أحسست أن أجوبتي غير مقنعة وأنهم لا يصدقون ما أقول:
" هل هناك مهنة الفلاحة؟"
" نعم"
" هل عندهم أبقار وأغنام؟"
" طبعاً"
" ما كمية الحليب التي تدرها البقرة الواحدة؟"
" كمية الحليب تختلف من بقرة إلى أخرى. البقرة الخاصة لانتاج الحليب مثلا تدر أربعين لترا في اليوم الواحد.."
نزل عليهم جوابي كصاعقة خيالية. رفع أحدهم كلتا يديه إلى أعلى ولطم بهما رأسه وهو يقول:
" هذه ليست بقرة يا قوم، بل نهر الزاب"
وقبل أن يكمل الرجل كلامه، بادر أحدهم قائلا:
" يا عزيزي يا ملا صالح، هل يمكنك أن تخبرنا عن حجم هذه البقرة التي لابد أنها أكبر من الفيل؟"
استنتجت من طرح السؤالين أنهم لا يصدقون كلامي وأنهم بدأوا يتندرون به. قررت في داخلي أن اقنعهم بحقيقة مظاهر الحياة المتطورة في بلاد الغربة قلت:
" أن البقرة ليست بحجم الفيل، ولكن هناك أشياء، إذا ذكرتها لكم، لن تصدقوني ولذلك أحتفظ بها لنفسي"
ارتفعت أصوات المطالبة بالكلام. قلت في نفسي أنهم في كل الأحوال سوف لا يصدقون كلامي، ولذلك قررت أن أذكر لهم حقائق من الوزن الثقيل الذي لا يتحمله خيالهم المرتبط بواقعهم المتخلف فليعلقوا كما يشاؤون:
" هناك سفينة تحمل ثمانين سيارة وقطار مع مئات المسافرين"
أطبق عليهم الصمت وهم يشدون عيونهم إلى السقف بسخرية ملحوظة. وتعني هذه الحركة عندهم، كذبة كبرى قد تؤدي إلى انهيار السقف. عندها انتبهت في زحام الضيوف إلى أبن عمي وهو يناقش جاره بصوت خافت وحالة عصبية وتصورت أن سؤالا أو تعليقاً ما يهزهما، ولكنهما يخجلان من طرحهما. وحين حركتهما لطرح السؤال أو التعليق، أنبرى حميد قائلا:
" الحقيقة يا ملا صالح، أنا وهذا الشخص الجالس إلى جنبي قد تراهنا منذ صبيحة اليوم على موضوع، إذا وافقت سنطرحه عليك كي تحسمه لنا. ظننت أن الموضوع عبارة عن مقلب، بيد أن اسلوب النقاش الخافت والجاد بين الأثنين قد أوحى إلي أنهما صادقان، قلت:
" تفضلا. أنا أسمعكما"
قال حميد:
" أحدنا يصر على أن أهل بلاد الغربة التي تعيش فيها أنت كلهم عرب والآخر يصر على أنهم عرب وأكراد، فماهي الحقيقة؟"
اعتقدت في باديء الأمر أن هذا مقلب آخر من مقالب حميد، ولذلك قررت أن أشترك في اللعبة، قلت:
" إنهم بالطبع عرب وأكراد"
وحين قفز حميد فرحا ومعلنا عن فوزه وموجهاً كلامه إلى صاحبه:
" يا أبن ال... ألم أقل لك أينما وجدت العرب، وجد الأكراد؟"
تبين لي أن المسألة أبعد بكثير من مقلب برئ.



15
أدب / قصة قصيرة اليسار واليمين
« في: 01:06 14/11/2011  »
 
قصة قصيرة


اليسار واليمين

زهـدي الـداوودي

اعتقد في بادئ الأمر بأن الكلمتين: اليسار واليمين تدخلان في باب الأسرار الحزبية التي يجب أن تبقى شيئاً داخليا صرفا لا يجوز إخراجه إلى العلن. ولكنه بعد عدة لقاءات قصيرة وطويلة أحيانا مع أصحابه، وجد أنهم لا يتقيدون بالسرية عند التطرق إلى الكلمتين اللتين يبدو أنهما ليستا خطرتين بالشكل الذي تصورهما هو. وتبين له من خلال النقاشات البيزنطية، والبيزنطية اللعينة هذه هي في الحقيقة مشكلة أخرى ينبغي فهمها أيضاً، أن الكلمتين لا تطلقان على الناس فحسب، بل على الأحزاب والمنظمات أيضاً. والمشكلة العويصة التي زادت في الطين بلة هي أن الكلمتين أحيانا تحملان أوصافاً تزيد في تعقيدهما أكثر.
 ما معنى:
يسار متطرف
يسار معتدل
يمين في بسار اليمين
يمين وسط.
الخ...

إنه ينبغي عليه أولا أن يفهم معنى اليسار واليمين فقط دون الملحقات الإضافية المعقدة.
هل من المعقول أنه الوحيد بين أقرانه الذي لا يعرف معنى الكلمتين؟
كيف سيكون موقف أقرانه منه إذا طرح السؤال عليهم؟ ألا يسخرون منه بسبب النقص في معلوماته؟ لقد بادر ذات يوم إلى الاستفسار عن صديق حميم عن معنى الكلمتين اللعينتين. وتبين له أن الصديق لا يعرف المعنى، حيث اكتفى بالقول: إحدى الكلمتين سيئة والأخرى جيدة. ولكن أي الكلمتين جيدة؟ العلم عند الله. ثم أضاف صديقه: من المستحسن أن توجه السؤال إلى المنظم، لأنه غالبا ما يستعمل الكلمتين.
المسألة أصبحت جدية، إذ أن مجرد طرح السؤال على المنظم يعني الجهل بالموضوع. ولا شك أنه سيحاسبه لعدم طرح السؤال عليه في الوقت المناسب. أي عند سماعه الكلمتين في المرة الأولى. قال له صديقه:
"لماذا تتعلق بالموضوع بهذه الجدية؟ حالك حالنا ولا تكن فضوليا"
أجل استفساره إلى إشعار آخر وأراد أن يكون لا اباليا مثل أقرانه. وأصبح الأمر في طي النسيان.
وجاء موعد الاجتماع التالي للمنظمة الفلاحية التي يعمل فيها، إلى جانب الكوادر الفلاحية، معلمان. وبدأ المنظم، الذي ينحدر من عائلة إقطاعية افتقرت، بالإكثار من ترديد كلمتي اليسار واليمين. وبدا أنه هو الآخر حديث عهد بالكلمتين، أو هكذا تصور المعلمان الأمر. عندها تذكر صاحبنا سؤاله:
"رفيق، هل تسمح لي بسؤال؟"
أجاب المنظم باستعلاء مفتعل:
"تفضل رفيق"
"رفيق الله يخليك. ما معنى اليسار واليمين؟"
سكت المنظم بانتباه وراح يلم خيوط أفكاره، قائلا:
"سؤال وجيه يحتاج إلى جواب معقول يا رفيق"
وبعد صمت قصير قال:
"تصور نفسك واقفا أمام مرحاضين، يعزلهما جدار خفيف، أحدهما مشغول برجل مصاب بالقبض الشديد، يعالج أمره بشق النفس. وفجأة يركض رجل مصاب بالإسهال ويحتل المرحاض الثاني ويطلق صلية محترمة، بحيث يقول الرجل الأول، حاسداً بصورة عفوية: هيجي ط... على رأسي. والآن نأتي إلى جواب سؤالك:
 الرجل المصاب بالقبض هو اليمين.
 وأما صاحب الصلية فهو اليسار،
 هل فهمت؟" 


16


نشوء الوعي القومي وتطوره عند الكورد

د. زهـدي الداوودي                    
 

  ما هو الوعي القومي؟

           
هو وعي أو شعور شخص معين، أو جماعة معينة بالانتماء إلى قومية أو أمة معينة، ضمن إطار شروط موضوعية مثل؛ الأصل المشترك، اللغة، الدين، التقاليد، الحضارة، التأريخ و الأرض. أو ضمن الاهتداء بشروط تفكير ذاتية مثل؛ النظرة والتصور المشتركين تجاه العالم والقوانين والدولة ومفاهيم المجتمع.
  ويجسد هذا الوعي أو الشعور الإحساس بالانتماء إلى أمة أو قومية معينة تصونه، الأمر الذي يشكل عند الإنسان التصور، بأنه ليس وحيدا، وأن هناك من يحميه، إذ ذاك يملؤه الاعتزاز والتباهي والفخر تجاه أمته. ويعتبر البعض هذا الانتماء شيئا خاصا وفريدا، لا يمكن لكل فرد أن يمتاز ويتمتع به، ولاسيما إذا وجد نفسه أمام جماعات قومية صغيرة لا تنتمي إلى أمته، ولكنها خاضعة لها سياسيا. ويخلق هذا عند البعض الشعور بالتعالي والغرور وتقديس مؤسسة الدولة التي تقودها أمته، ولعل أوضح صورة لهذه المسالة، هو ما قاله الفيلسوف الألماني هيجل: إن الدولة، هي الله على الأرض. ويحس أبناء القومية أو الجماعة الخاضعة للأمة الحاكمة بالاضطهاد المعنوي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي يؤدي جدليا إلى خلق الوعي القومي عندهم أيضا، فالتخلص من سطوة الأمة المسيطرة، بالتفكير في تأسيس دولتها هي أيضا.
  وأخطر ما في الوعي القومي هو المبالغة في الشعور والمكابرة وعدم الاعتراف بالقومية المقابلة، ويؤدى هذا حتما إلى التعصب القومي الشوفيني.

  نشوء مفهوم الأمة تاريخيا

  لا يمكن إعطاء وصفة معينة لمفهوم نشوء الأمم في التأريخ، ولا يمكن ربطها بتشكيلة اجتماعية- اقتصادية معينة، إذ لكل منطقة وبقعة في العالم خاصيتها ومميزاتها الذاتية والموضوعية التي تتخذ مسارا خاصا بها. ولم يكن التطور مساويا في كل العالم أبدا. فالآشوريون والبابليون والفرس، كانوا ينظرون إلى الآخرين بنظرة التعالي والاحتقار، لذلك كانوا يسمحون لأنفسهم بمحاربتهم وإخضاعهم لسيطرتهم السياسية والاقتصادية والدينية. وأما الاغريق والرومان، فكانوا يعتبرون الأجانب برابرة، يجب إخضاعهم بالقوة وتحويلهم إلى عبيد أيضا. وإذا كانت الامبراطوريات والدول خاضعة لقانون النشوء والتطور فالانحطاط والسقوط، فأن الأمم هي الأخرى كانت ولم تزل خاضعة لنفس القانون. لا يوجد ما هو مطلق في التاريخ.
   ولاشك أن نشوء الأمة هو حتمية تاريخية لاتحاد مجموعة من القبائل والشعوب التي تنتمي إلى أصل أثني واحد ولغة واحدة بلهجات مختلفة. وعلى هذا الأساس نشأت الأمم ودولها. ويكون أحيانا أحد شروط تكون الأمة، هو الحاسم. وإذا كان الدين الإسلامي هو العامل الذي أدى إلى توحيد القبائل العربية المتنازعة، فإن الدفاع عن المصير المشترك عن الأرض إزاء الحملات الرومانية هو العامل الذي أدى إلى توحيد القبائل الجرمانية. وكان العامل الاقتصادي، البحث عن مصادر الكلأ، هو الذي أدى إلى توحيد القبائل التركية تحت قيادة العثمانيين في الأناضول.
    ولعبت ترجمة الإنجيل إلى اللغة الألمانية دورا كبيرا في نثر بذور نشوء الأمة الألمانية.
      وفي أوروبا بدأ الوعي القومي يتبلور في عصر النهضة في الفترة الواقعة بين القرنين 14و 16، حيث بدأ المفكرون يتناولون تاريخهم وماضيهم في ضوء مفاهيم التفكير القومي والوطني. وفي مجال العلوم، حلت اللغات القومية محل اللغة اللاتينية. وفي مجال المسيحية ظهرت الإصلاحات الجريئة التي حدت من احتكار الكاثوليكية للكنيسة. وبدأت الأمم الانكليزية والفرنسية والهولندية بالظهور. وأما بالنسبة إلى الأمة الألمانية، فأنها بدأت بالتكون في منتصف القرن التاسع عشر ضمن عملية النضال ضد حملات نابليون، حيث ظهرت فكرة الجمهورية الحرة، التي صاحبت الأفكار القومية لآرندت وفون كلايست وفيشته وغيرهم.
  وظهرت في أوروبا في القرن التاسع عشر بوادر الاستقلال الوطني ومحاربة النفوذ الأجنبي. وراحت القوانين تحتوي على المفاهيم القومية والوطنية والاستقلالية. واعتبرت الشعوب الأوربية التوسع النابليوني تدخلا فضا في شئونها الداخلية.

    وربط كل من ماركس وإنجلز مسالة الشعور أو الوعي القومي بنظرية التعاقب الحتمي للتشكيلات الاجتماعية-الاقتصادية السياسية وبتطور القوى المنتجة ومن ثم الصراع الطبقي كمحرك حاسم في عملية الانتقال. وأن مسالة تكون العشيرة والشعب فالأمة، لها علاقة عضوية بتلك التشكيلات، وأنها عملية طويلة، معقدة، متشعبة ومتعددة الجوانب، تتحكم فيها جملة شروط ذاتية وموضوعية.
   وترى الماركسية أن الأمة تتكون وتنظم نفسها عبر دولتها التي لها سوقها المشتركة. وقد تضم هذه الدولة أمة واحدة أو عدة أمم وقوميات، بيد أن الأمر الحاسم يكون بيد الأمة الكبيرة التي تقودها الطبقة الرأسمالية، ذلك أن الأمة الرأسمالية، في مفهوم ماركس، نشأت على أساس تطور العلاقات (الأثنية) لجماعات بشرية في إطار التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية الاقطاعية. وتعود بداية هذا النشوء إلى الثورة البورجوازية المبكرة في فترة 1517 - 1525/26 والتي اختتمت في ثورة 1848/ 49 في ألمانيا.
  أما الماركسية- اللينينية، فرأت أن الصراع التناحري الذي كان قائما بين المعسكرين، قبل انهيار المعسكر الاشتراكي، سيقود إلى الانتقال الحتمي إلى الاشتراكية فظهور الأمة الاشتراكية. أي أنها اختصرت شروط تكون الأمة إلى شرط واحد فقط هو: التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الاشتراكية ودولتها الموحدة. كما ورأت أن مسالة الوعي الاشتراكي إنما تنشأ ضمن هذه العملية. 
 ولاشك أن هذه النظرية تستند بالأساس على مقولة لينين، التي صرح بها بعد انتصار ثورة أكتوبر، حيث قال: أن الاشتراكية حلت والى الأبد مشكلة القوميات في الاتحاد السوفييتي.
  وفي حينه رد الاشتراكي- الديمقراطي النمساوي أوتو باور مؤكدا، بأن النظام الاشتراكي لا يحل هذه المشكلة، بل يمهد الطريق لخلق الوعي القومي. وأثبت التأريخ، أن السبيل الوحيد لحل المشكلة القومية، هو الإقرار بحق تقرير المصير.
  إننا إذا سمحنا لأنفسنا بتوجيه ملاحظة انتقادية إلى المفهوم الماركسي تجاه قضية نشوء الأمة، نرى أن موقف ماركس تجاه هذه القضية، أويرو سنترزم (المركزية الأوروبية)، رغم أنه كان أمميا خالصا، إذ أنه في نظريته هذه وكذلك في نظريته حول الانتقال الحتمي للتشكيلات الاجتماعية الاقتصادية، أعتمد بالدرجة الأولى على تأريخ أوروبا الغربية، وجعله، عن غير قصد، مقياسا لتاريخ العالم كله. علما أنه في مجمل نظريته، كان ينطلق من مفهوم وحدة التأريخ العالمي. وسواء هو أم إنجلز، لم يعتبرا نظريتهما شيئا مطلقا ومنتهيا، بل أكدا على ضرورة إكمالها وتطويرها من قبل الأجيال القادمة. ولابد من الإشارة إلى أن الدراسات التاريخية والتنقيبات المتعلقة بالشرق، كانت محدودة في عصرهما. ولذلك، ومن حيث شاءا أم أبى، تقولبا ضمن إطار تأريخ أوروبا الغربية، بيد أن المشكلة الرئيسة، تكمن في أن المنظرين الماركسيين الجامدين، حولوا هذه النظرية إلى وصفة جاهزة وفريدة، يجب أن تطبق في كل بقعة من هذا العالم. بالإضافة إلى أن مناقشتها كانت من المحرمات.

   نشوء وتطور الوعي القومي عند الكورد


    يعتبر الشعب الكردي من الشعوب الجبلية القديمة التي جاء ذكرها في أحد الالواح السومرية التي تعود إلى 2150 قبل الميلاد. ويبدو أن بعض أقسام بلاد الكورد كان يتمتع بنوع من الحكم الذاتي، كما جاء في كتاب أناباسس، الذي كتبه المؤرخ والقائد العسكري اليوناني زنفون، الذي قاد حملة العشرة آلاف جندي إلى بلاد الفرس في القرن الرابع قبل الميلاد.
   كانت بلاد الكورد الجبلية تقع على أطراف الامبراطوريات الكبرى مثل بابل وآشور وفارس والحيثيين والرومان وبيزنطة الخ. وكانت هذه الامبراطوريات تتحاشى التوغل في أعماق أراضي هذا الشعب المعروف بالقتال واستعمال أنواع الأسلحة والتفاني في الدفاع عن الأرض المشتركة. ولعب العامل الجغرافي الصعب، دورا حاسما في بقاء هذا الشعب مشتتا وغير موحد. وأدى هذا التشتت إلى التطور غير المتساوي ونشوء عدة لهجات. هذا الفارق نجده عند زنفون، حيث يصف في طريق عودته إلى اليونان المناطق والقرى الكردية التي مر بها، فإلى جانب القرى المتطورة، ذات القلاع والأواني الفاخرة وأنواع الأسلحة وفنون القتال الغريبة عليه، يصف الحياة البدائية للكورد الذين كانوا يعيشون في الكهوف ويقتاتون على البلوط ولحوم الحيوانات البرية مثل الضباع.
 ومما زاد في تشتيت هذا الشعب، تقسيمه في القرن الخامس عشر بين الامبراطوريتين العثمانية والفارسية- الصفوية ومن ثم في القرن العشرين على أساس اتفاقية سايكس- بيكو السرية المعقودة بين بريطانيا وفرنسا في العام 1916، حيث تم تقطيعه إلى خمسة أقسام.

  إن الوعي القومي الكردي كقوة اجتماعية ذات أهمية، تعتبر في الحقيقة ظاهرة فتية. ولكن هذا لا يعني أن هذا الشعب كان يفتقد في ماضيه مثل هذا الوعي الذي يمكن وصفه بالغريزي.
ولاشك أنهم منذ أقدم العصور كانوا يميزون أنفسهم عن الشعوب المجاورة التي لا تتكلم لغتهم ولا تشاركهم حياتهم ومعتقداتهم. فهم عندما شاركوا في القتال إلى جانب الاسكندر المقدوني ضد داريوس في القرن الثالث قبل الميلاد مثلا، كانوا يسمونهم بفرقة الرماة الكورتيين أو الطليعة الكورتية المهاجمة. ونفس التسمية كانت تطلق على الذين وقفوا إلى جانب داريوس ضد الاسكندر المقدوني.
    وبقي هذا الشعور الغريزي يلازمهم إلى أن أسسوا الدولة الميدية التي جاء ذكرها في الكتابات الآشورية منذ القرن التاسع قبل الميلاد على المرتفعات الواقعة على غرب إيران. ويقول المؤرخ اليوناني هيرودوت أن هذه الامبراطورية توسعت وشملت منطقة هاليس في الأناضول. وبعد معركة 585 ق.م. ضد اللويدر،  تم الاعتراف بالحدود الرسمية. وسقطت الامبراطورية الميدية فيما بعد على أيدي الفرس الذين أستخدمهم الميديون. ومن الجدير بالذكر أن الميديين تحالفوا في العام 612 ق.م. مع البابليين ضد الآشوريين، حيث أزالوا سلطة نينوى إلى الأبد.
   ويرتبط الشعور القومي الكردي الذي تنامى بعد الحرب العالمية الثانية بشكل ملحوظ بأمجاد هذه الامبراطورية، حيث جاء في النشيد المعروف:(ئه ى  ره قيب)
ئه ى  ره قيب، هه رماوه  قه ومى كوردزمان
نايشكينى  دانه رى  توبى  زه مان
كه س  نه لي  كورد مردوه
كورد  زندوه
زندوه  قه د  نانه وى  ئالاكه مان
ئيمه  روله ى  ميديا و  كه ي خه سره وين...

أيها الرقيب، إنه لباق قوم الكورد
لا تقولوا أبدا أن الكورد ماتوا
الكورد أحياء
أنهم أحياء، ولسوف لا تلوينا مدافع الزمان.
ولن تنتكس رايتنا
نحن أولاد ميديا وكيخسرو...

  وحتى بعد دخولهم الإسلام وتوزعهم بين العثمانيين والفرس، راحوا يفرقون أنفسهم عن الأتراك والعرب والفرس من حيث اللغة والتقاليد الاجتماعية. هذا إلى جانب تفريقهم لأنفسهم عن بعض الشعوب المجاورة من حيث الدين.
  نجد عند أحمدي خاني الذي كتب ملحمة (مه م  وزين) في القرن السابع عشر مقطعا شعريا ضمن عنوان: "أمراضنا" (ده ردى  مه)، يقول:
كه ر  دى  هه بوفا  مه  ئيتيفاقيك،
فيكرا  بيكيرآ  مه  ئينقياديك،
رووم و عه ره ب و  عه جه م  ته مامى،
هه ميان  زى  مه  را  ديكير  خولامي،
ته كميل  ديكير  مه  دين و  ده فله ت،
ته سهيل  ديكير  مه  عيلم و  حيكمه ت.

لو كان ثمة تآلفا فيما بيننا
لو كان عندنا، من نسمع كلامه فحسب
لتبعنا الاتراك والعرب والعجم أجمعين
إذ ذاك تمكنا أن نكمل ديننا ودولتنا
فننصرف للحكمة والعلم.

  مع ملحمة مه م وزين، بدأ الوعي القومي الكردي بالظهور والتبلور عند الفئة المتعلمة المحدودة، حيث كانت نصوص هذه الملحمة تدرس إلى جانب القرآن الكريم وحافظ وسعدي في الكتاتيب والجوامع. كان أحمدي خاني قد شخص في شعره:"أمراضنا"، المشكلة المزمنة التي كان ولا يزال يعاني منها الكورد، وهي التفرقة والمنازعات المميتة بين القبائل والالتجاء إلى الأجنبي لمحاربة الأخ الخصم. وكان يعتقد أن الحل الوحيد لمشكلة الكورد، يكمن في مجئ ملك قوي، يوحد القبائل والإمارات المتنازعة ويحررها من سطوة الأجنبي ويوجهها في طريق التطور والاستقلال. ولم يتبلور الوعي القومي عند الكورد ويتحول إلى قوة محركة جماهيرية نسبية، إلا في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أو بالأحرى عند ظهور حركة تركيا الفتاة، حيث بدأ التوغل الرأسمالي الاوروبي في أنحاء الامبراطورية العثمانية يسرع في انهيار العلاقات الاقطاعية التي كانت قد دخلت أزمتها الحادة.
  وتميزت المرحلة الاولى من الوعي القومي كونه كان مقتصرا على الطبقة العليا من الاقطاعيين والامراء ورجال الدين، الذين كانوا يريدون التخلص من سطوة الدولة المركزية وعدم الخضوع لأوامرها والايفاء بالتزاماتها تجاهها، والعودة إلى العهد الذهبي الذي كانوا يتمتعون فيه بحريتهم. وأما التزام عامة الشعب بأوامر رؤسائهم عند الانتفاضة على الحكومة المركزية، فلم يكن صادرا عن وعيهم القومي، بل من ولائهم المطلق إما للأمير أو الاقطاعي أو الشيخ الديني.   
  في مرحلة أنحلال العلاقات الاقطاعية التقليدية ونشأة العناصر الاولى للعلاقات الاقتصادية- الاجتماعية- السياسية الرأسمالية، والتي تعبر عن مصالح الرأسمال التجاري المرابي الآخذ بالتكون، حدثت في الحركة الكردية التحررية تغييرات كبيرة. فبالاضافة الى نمو الوعي القومي الكردي، تكونت إمكانات واتجاهات جديدة لحل القضية القومية. كان الاساس الايديولوجي في المرحلة الجديدة للحركة القومية الكردية مشروطا أيضا بمرحلة صعود انتفاضات الشعب في القرن التاسع عشر.
  ويمكن اعتبار القرن التاسع عشر حقا بأنه عهد الحركات الكردية المناهضة للدولة العثمانية المركزية. وجاءت انتفاضات الكورد كنتيجة مباشرة للاضطهاد السياسي ولانتقاص مصالحهم القومية والاجتماعية من قبل الحكام الاتراك. إن اشتداد سياسة الظلم والاضطهاد أثار استياء شعوب الامبراطورية التي اندمجت بدورها في المجرى العام للحركة المناهضة للباب العالي. وكان الظهور الساطع لهذه الحركة هو انتفاضات الكورد في الفترة 1854- 1855 المشهورة بأسم قائدها يزدان شير، التي جمعت في نضالها ضد الاضطهاد التركي ليس الكورد فحسب، بل أقساما من الارمن والاشوريين والعرب واليونان وممثلي القوميات المضطهدة الاخرى.
  وتعتبر انتفاضة القائد الكردي الشيخ عبيد الله النهري عام 1880 أشد باسا وقوة، ذلك أنها أوقعت الذعر في نفوس الحكام العثمانيين وعدد كبير من ممثلي الدبلوماسية الاوروبية على حد سواء. وفي هذه المرحلة بالذات أفصحت الحركة الكردية بوضوح نسبي عن أهدافها السياسية وملامحها الايديولوجية، التي كانت تميز العقد الاخير من القرن التاسع عشر والتي حملت في أحشائها جنين الافكار العامة لكل القوى المناهضة للسلطان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
  اتخذت انتفاضة الكورد بقيادة الشيخ عبيد الله طابعا دينيا. وهنا لابد من الاشارة إلى أنه كان للدين عند القبائل الكردية احتراما ومنزلة، وإن لم تكن ترقى إلى مرتبة التعصب، ولرجاله عندها حرمة. ومن النادر أن تجد قرية كردية تخلو من مسجد مهما كان صغيرا، شيده القرويون لوجه الله. على أن الدين لم يكن قد انغرس في النفوس بدرجة من العمق الذي يجعل الاتحاد السياسي ممكنا تحت لوائه وعلى أسس مفاهيمه. كان ممثلو الدين الملالي في كردستان ذيولا لرؤساء العشائر، يعيشون على عطائهم ويدافعون عن مصالحهم وتصرفاتهم المناقضة لتعاليم الدين الحقيقية ومبادئه الخلقية ولا يكتفون بالوقوف موقف المتفرج إزاء ما يجرى حولهم من تعسف، بل ينحازون عادة إلى جانب الآغا الظالم ويزودونه بالتخريجات والفتاوى الدينية تبريرا لسلوكه. بيد أن الأمر أختلف تماما وأنقلب الميزان عندما انتشرت الطريقة  الصوفية- النقشبندية وتحولت إلى قوة جماهيرية، فمشيخة نهري التي أسسها ورعاها السيد طه النهري ، أستغرق ترسيخها حياته وحياة ولده الشيخ عبيد الله، حيث أفلح الاخير في ضم القبائل وتوحيدها تحت سلطته الروحية التي حولها الى أهداف سياسية وطنية. وتحدى هذا الشيخ الثائر، ليس سلطة الاقطاعيين  حسب، بل الامبراطوريتين اللتين تقتسمان كردستان في ثورة مسلحة لا عهد لهما بها من قبل.
  بعد أن تم القضاء على الامارات الكردية وعادت كردستان ترزح تحت وطأة الادارة العثمانية، عجز الشعب الكردي في الواقع عن القيام بانتفاضة، إلا من خلال التجمع المشيخي. وفي هذا الصدد يقول المؤرخ الكردي السوفييتي جليل جليلي:"إن ثورة 1880 الكردية بقيادة الشيخ عبيد الله النهري من الوجهة الوطنية والسياسية الوحدوية احتلت بحق وجدارة إحدى أبرز القمم في الحركة الكردية المكافحة في التاريخ الكردي الحديث من حيث الاتساع والشمول وقوة الاندفاع والآفاق التي كانت ترمي إلى بلوغها والاهداف والمطامح المحددة والمرسومة التي أختطها لنفسها...لا تدانيها ثورة في هذا المضمار إلا ثورة بدرخان وثورة الشيخ محمود والثورة البارزانية..(أنظر: جليل جليلي، مجلة شمس كردستان، العدد1، حزيران1971، ص13-14)
  والواقع أن ثورة الشيخ عبيد الله النهري كانت قد تجاوزت الحدود المصطنعة التي رسمتها إرادة الحكومتين العثمانية والايرانية. كان التجاوب الشعبي مع الثورة جيدا، فقد استجاب الكورد في راوندوز وبوتان وبتليس وغيرها وأعلنوا تضامنهم معها.  وأشترك الشيخ عبد السلام البارزاني وهو من تلامذة نهري،في هذه الثورة وكان له صلات وثيقة بها. ولبى مع مجموعة من مريديه نداء الواجب. وتمتع الشيخ عبيد الله بسبب عدالته وبساطة نهج حياته المتواضعة باحترام فائق من لدن أتباعه.
أتهم عبيد الله، الذي أنتفض على رأس عدد كبير من دراويش المذهب النقشبندي، الحكام الاتراك والايرانيين، بأنهم كفار. وفي اجتماع واسع للزعماء الكورد، أعلن أن هاتين الحكومتين(التركية والايرانية) تقفان عقبة في طريق تطورنا، ولهذا كان أجدادنا يطلبون من كل المؤمنين أن يضحوا بدمائهم من أجل الدين وحرية الوطن. "أنظر، أفريانوف: الاكراد في حروب روسيا مع الفرس والاتراك خلال القرن التاسع عشر، تفليس1900، ص229
  جاءت التناقضات القومية بين المنتفضين ومستعبديهم لتطغي على التناقضات الدينية التي كانت مجرد ستار في برنامج عبيد الله التحرري. وأخذ برنامج انتفاضة الشعب الكردي بعين الاعتبار العوامل الخارجية والداخلية التي تسمح بالنجاح الاكيد للثورة. وكان ينتظر تكوين دولة كردية مستقلة، على أن يجري بالتدريج تحرير كردستان الايرانية كبداية ثم التركية. يقول عبيد الله:"إنه لمن الحكمة استخدام الظرف المناسب. ففي الوقت الذي يحارب فيه الفرس التركمان، سيرسلون كل قوتهم إلى هناك، وهذا يعني أن الوقت سيكون ملائما جدا لدخولنا فارس.. وبما أن قسما من كردستان يتبع فارس، فاننا نكون قد حررنا إخواننا، ونكون بحربنا ضد الاضعف قد استولينا على بلد غني وخصب كأذربيجان، نملك فيه نبعا لا ينضب ضد أعدائنا العثمانيين". (أنظر: أفريانوف، ص230)
  وفي الحقيقة لعبت الدعوة الدينية للشيخ عبيد الله، التي دعت إلى النضال، دورا شديد الاهمية في مرحلة تحضير الانتفاضة وتوقيت قيامها، بحيث فشلت كل مساعي الاستفزازيين الاتراك لأجل دفع الحركة الكردية ضد جيرانهم المسيحيين الارمن. وقيم بذلك عبيد الله بشكل صحيح مكائد الاتراك الرامية إلى إشعال الحقد القومي بين شعوب الامبراطورية وسياسة فرق تسد، إذ أعلن في مؤتمر الزعماء الكورد:"إذا كان الباب العالي يؤيد حتى الآن الكورد في كل شئ، فانه إنما يهدف الى وضعهم في مواجهة العنصر المسيحي في الاناضول.. لأنه إذا ما قضي على الارمن، فقد الكورد قيمتهم في نظر الحكومة التركية". (نفس المصدر،ص228)
 
   انتهت انتفاضة الكورد عام 1880 بالفشل، فقد أخمدتها السلطات التركية والايرانية بوحشية مستخدمة التنكيل الجماعي وإفناء القرى عن بكرة أبيها ونفي مئات الألوف من سكان كردستان الى الاماكن النائية في الاناضول، بالاضافة الى جملة إجراءات تأديبية أخرى، الأمر الذي شكل ضربة قاسية للحركة التحررية للشعب الكردي. بيد أن هذه الاجراءات البربرية لم تستطع
إيقاف ولادة وتكون حركة التحرر الوطنية الكردية، فقد أنعكست أفكار التحرر الوطني على مؤلفات التقدميين من ممثلي الادب الكردي وعلى نشاط المثقفين الاكراد القلائل.
  ولعل الخطأ الكبير الذي وقع فيه الشيخ عبيد الله، هو أنه حارب أمبراطوريتين مستبدتين في آن واحد، الأمر الذي أدى بهما لنسيان خلافاتهما، وتوجيه ضربتهما القاضية المشتركة إلى حركته.

  الوعي القومي عند الفئة المثقفة الكردية

   في نهاية القرن التاسع عشر بدأت الفئة المثقفة الكردية المتنورة بالظهور وهي تحمل في ذهنها عناصر الوعي القومي والوطني. وكان معظم هؤلاء من أصل أرستقراطي فهم إما أولاد أمراء، نفتهم الحكومة العثمانية الى أستانبول أو أبناء رؤساء قبائل، درسوا في مدارس محلية، أو تخرجوا في الاكاديميات العسكرية للأمبراطورية، والتي فتحت أبوابها للشباب الكورد في العام 1870
 وفي أستانبول وقف فريق من هؤلاء المثقفين على الافكار البورجوازية الوطنية، وبدأوا يصدرون الجرائد ويؤسسون الجمعيات السرية والعلنية. وحتى قيام حركة (تركيا الفتاة) كانت طلائع الحركة الكردية الوطنية مبعثرة في عدة حلقات وتجمعات. وفي الحادي والعشرين من نيسان 1898 صدر في القاهرة أول عدد من الجريدة الكردية بأسم (كردستان)، وبذلك تم وضع حجر الاساس للصحافة القومية. وكان هذا حدثا مهما في تأريخ الحياة الاجتماعية الكردية بصفة عامة وفي الثقافة الكردية بصفة خاصة. وغدت (كردستان) الجريدة المعبرة عن أيديولوجية الحركة الكردية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
  كان يشرف على تحرير هذه الجريدة، مقداد مدحت بدرخان المهاجر من تركيا الى مصر، حيث أسس الجريدة. كان صدورها نتيجة مبادرة شخصية من كردي وطني، أدرك أهمية الصحافة في مجال التوعية ونشوء الوعي القومي، في حياة شعب مضطهد محروم من أدنى ظروف الثقافة القومية.
  أن فئة من المعارضين لنظام السلطان، كانت قد قامت إذ ذاك بنشر بيانات خارج البلاد، تدعو الشعب الكردي إلى توحيد الصفوف والنضال ضد الرجعية، بيد أن الضرورة الملحة كانت تتطلب إصدار جريدة كردية بانتظام، يلتف حولها السياسيون ومن الجدير بالذكر أنه
  ظهر أول تنظيم كردي في الفترة التي تسلمت فيها حركة تركيا الفتاة، مقاليد الحكم، إذ أن الزعماء الكورد ساندوا هذه الحركة، على أمل الحصول على حقوقهم القومية في ظل الوضع الجديد.
  أسس علي بدرخان بك والجنرال شريف باشا والشيخ عبدالقادر نجل الشيخ عبيد الله نهري (كان الاخير رئيسا لمجلس الشيوخ العثماني)، جمعية عرفت بـ (جمعية تعالي وترقي كردستان). وأصدرت جريدة باللغة التركية بأسم (كورد تعاون و ترقي كازيتسي). كان جميل بك رئيسا لتحريرها. تناولت هذه الصحيفة مشاكل الثقافة الكردية واللغة والوحدة الوطنية، فما لبثت أن نالت شعبية طاغية في أوساط جميع المبعدين الكورد الى أستانبول.
ومما زاد في زخم الحركة الثورية في تركيا بشكل عام، ثورة 1905- 1907 الروسية،التي ألهبت حماس شعوب متعددة في الامبراطورية العثمانية للنضال الحاسم ضد نظام السلطان عبدالحميد، المستبد. كان النضال المعادي للحكومة مكثفا، ولاسيما في المناطق غير التركية من الامبراطورية، فأصبحت المدن الكردية دياربكر، بدليس ووآن مسرحا للأحداث السياسية. وحظيت انتفاضة كورد درسيم عام 1905 بدعم واسع، وأدت مقاومة الكورد والارمن الى إمكانية تحرك القوات الحكومية في عموم درسيم. وفي العام 1906 جرت في أستانبول مظاهرات ضخمة، قام بها الكورد أمام الدوائر الرسمية، ردا على التعسف الذي لحق بهم في المدينة. وساهمت النساء في هذه المظاهرة أيضا.
   وفي خريف 1908 تشكلت (الجمعية الكردية لنشر المعارف). ويبدو أن جمعية تعالي وترقي كوردستان، كانت هي الممولة لها. وتم فتح مدرسة كردية في حي جمبرلي بأستانبول. ولابد هنا من الاشارة الى أن هذه الجمعيات لم تكن منظمات سياسية ببرنامج واستراتيج واضحين. بيد أنها رغم ذلك تمكنت من أيجاد الوعي القومي عند المثقفين المهاجرين والوطنيين الكورد على اختلاف آرائهم ومشاربهم، وتمكنت أيضا من خلال نشاطها الاجتماعي والثقافي تنوير عقول عتالي الشوارع الكورد ليكونوا سندا جيدا للحركة السياسية الكردية فيما بعد.
   وفي الوقت الذي كانت أستانبول تشهد نشاطا كرديا ذا أهمية، بدأت كردستان نفسها تستيقظ على الحياة السياسية العصرية، فأقام مناضلون ومثقفون كورد نواد كردية في مراكز مدن مثل بدليس، ديار بكر، موش، أرضروم، الموصل وأخذت تقوم بنشاطات فعالة في إقامة العلاقات مع العشائر المهمة. وعندما أفتتح نادي بدليس في نهاية العام 1908، كان عدد الأعضاء لا يتجاوز السبعمائة، بيد أنه في غضون أشهر قليلة وقبل أن تغلقه السلطة، قفز عدد المنتمين الى عدة الآف.


      تنامي الوعي القومي وتحوله إلى حركة جماهيرية

   بعد سلسلة الانتفاضات والثورات التي قمعت بوحشية لامتناهية، سواء من قبل الاتراك أو الايرانيين، وبالنظر لأن هذا القمع، الذي رافقته سلسلة من الإعدامات والقتل الجماعي وتخريب القرى والتهجير القسري، راح يشمل كل عائلة كردية بغض النظر عن دورها في هذه الانتفاضات، بدأ الشعور القومي يقتحم مشاعر الكورد في كل مكان. ويمكن اعتبار كل من انتفاضة الشيخ محمود (1919) والشيخ سعيد (1924-1925)، مرحلة انتقال تدريجية من الولاء القبلي من قبل الفلاحين للزعامات المشيخية إلى وعي قومي له أهدافه الواضحة في التمتع بالحقوق القومية وحق تقرير المصير. وأقتصر الوعي القومي ليس على المدن والقصبات، بل أمتد الى أعماق بعض مناطق الريف النائية. وفي سبيل المثال نجد المطالب التالية في مذكرة قدمها الشيخ عبدالسلام البارزاني إلى الجهات الرسمية في العام (1907)، علما أنه وجه نسخا منها الى الشيخ عبدالقادر النهري وأمين عال بدرخان والفريق شريف باشا:
1. جعل اللغة الرسمية في الاقضية الكردية الخمسة، اللغة الكردية. وهي دهوك، زاخو، العمادية، عقرة وسنجا.ر   
. . جعل التعليم باللغة الكردية2
3.يعين القائممقامون ومدراء النواحي وبقية الموظفين ممن يحسنون اللغة الكردية.
4 .لما كان الاسلام دين الدولة الرسمي، فمن المقتضى أن تجري الاحكام بموجب الشريعة الاسلامية.
. .يعين لمنصب القضاء والافتاء من أصحاب المذهب الشافعي5
6.تؤخذ الضرائب من المكلفين بمقتضى ما نص عليه الشرع ويلغى ما يزيد عن ذلك أو يخالفه.
7.تبقى ضرائب بدلات العملة المكلفة كما هي على أن تخصص لإصلاح الطرق في الاقضية الخمسة.
  (أنظر:بى ره ش: بارزان وحركة الوعي القومي الكردي 1826- 1914، 1980،ص99)

   وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتصاعد الزخم التقدمي والديمقراطي بعد القضاء على الفاشية، بدأت حركات التحرر الوطنية بالانتعاش، ولا سيما لأنها وجدت الدعم من قبل الاتحاد السوفييتي الذي لعب دورا كبيرا في القضاء على النازية الألمانية. ودخل الوعي القومي الوطني الكردي مرحلة نوعية جديدة، وراح الكورد في جميع أنحاء كردستان المقسمة يحلمون بحق تقرير المصير، وتأسيس دولتهم الموحدة. بيد أن هذا الحلم ظل أمرا بعيد المنال، فإلى جانب الحدود الرسمية التي ترسخت وأصبحت أمرا واقعا لا يمكن أن يتنازل عنه أي دولة من هذه التي اقتسمت كردستان بسهولة، ومن الجدير بالذكر أن هذه الدول تناست خلافاتها وتوحدت ضمن أكثر من حلف واتفاقية لعدم التساهل مع الحركة الكردية، نقول أن القيادات الكردية بقيت متفرقة، وحركتها مقيدة، تطوقها العلاقات العشائرية وتعرقلها المنازعات الداخلية. ورغم كل ذلك فان الوعي الوطني راح يتغلغل في صفوف الجماهير الكردية، فتأسست جملة من التنظيمات والاحزاب الكردية، منها كومه له والحزب الديمقراطي الكردي. وبعد الركود الذي أصاب الحركة الكردية في تركيا بسبب الضربات البربرية، انتعشت في كل من العراق وإيران. وحين وجهت الضربة القاضية ضد الحركة التي قادها البارزاني في كردستان العراق في منتصف الاربعينات، حيث ساهمت الطائرات البريطانية في قمعها، توجه المقاتلون الى كردستان إيران. وساهموا هناك في وضع لبنات أول جمهورية كردية في التاريخ الحديث، سميت بجمهورية مهاباد.
  يقول آرشي روزيفيلت، مساعد الملحق العسكري الاميركي في طهران، والذي عمل هناك في الفترة الواقعة من مارت 1944الى شباط 1947، وهو من ضمن الشخصيات الأمريكية الأربع التي زارت جمهورية مهاباد الكردية:
 "في الفترة الواقعة بين كانون الاول 1945الى كانون الاول 1946، تحقق حلم الأكراد القوميون في تأسيس جمهورية مستقلة صغيرة في إيران. إن جذور هذه الجمهورية الكردية الصغيرة، تاريخها القصير العاصف وسقوطها الفجائي، هذه كلها أجزاء تأريخ، القى ظله على الشرق الأوسط آنذاك. إن أجزاءها المتناقضة بشكل غريب، المنازعات العشائرية، الاستعماريون المتنافسون، الأنظمة الاجتماعية الفاسدة، الشجاعة الأسطورية والروح القومية المثالية، كلها تعطي صورة واضحة لمدى تشعب وتعقيد أوضاع الكورد، الشعب الذي لم يتوحد أبدا، والذي يتوزع الآن بين خمس دول، لا تعترف أي واحدة منها بابسط حقوقه المشروعة". 
 (أنظر: جيرهارد شايلاند، كردستان والكورد، الجزء الاول، كوتنكن وفينا ص 231).باللغة الألمانية).
   الذين نصبوا المشانق هذه المرة لم يكونوا من الاتراك، بل من الحكام الايرانيين، الذين تعاون معهم حتى ستالين الذي كان البترول عنده أهم من التضامن الاممي. وهكذا ذهب الشاه وذهب ستالين، والشعب الكردي، الذي لم يبق أمامه سوى أن يسلي نفسه بمثله القديم: "الشعب يمرض، ولكنه لن يموت.." مازال باقيا، ومازال مجزءا، وما زال مضطهدا في بعض أجزاء كردستان، بيد أنه مسلح بالوعي الوطني، الذي يمنحه الزخم والقوة في النضال المستميت من أجل الديمقراطية والتحرر والسلام.

المصادر:
------
1. جليلي جليل: نهضة الكورد الثقافية والقومية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، نقله عن الروسية: بافى ئازى ود.ولاثو وكدر، بيروت 1986.
 بى ره ش: بارزان وحركة الوعي القومي الكردي، 1826 - 1914. 1980 ؟  .2
.عزيز الحاج: القضية الكردية في العشرينات، بغداد 19853
4.نه وشيروان  مسته فا  ئه مين: حكومه تى  كوردستان. كورد له كه مه ى  سوفييتى دا، 1993؟.
5- Chailand u. a., Kurdistan und die Kurden, Bd. 1, Gottingen1984.
6- Bruinessen, van M.M., Agha, Scheich und Staat, Rieden 1989.
7- Nebez, Jemal: Kurdistan und seine Revolution, Munchen 1972.
8- Al- Dahoodi, Zuhdi: Die Kurden, Frankfurt a.M, 1987.
9- Marx/Engels: Ausgewahlte Werke, Leipzig 1972.
10- Xenophon; Anabasis, Leipzig 1968.


 
 

17
أدب / قصـة قصيرة ما زلنا عجولا
« في: 23:42 08/10/2011  »
قصـة قصيرة


ما زلنا عجولا

زهدي الداوودي

عندما حان موعد الحصاد، تبين للفلاح الغني الحاج رستم أن محصوله جيد جدا وأنه بحاجة إلى عمال زراعيين يشتغلون عنده بأجور يومية، إذ أنه، بخلاف الفلاحين الآخرين، وحسب حساباته الدقيقة، رأى أن استئجار تراكتور سيكلفه أكثر بكثير مما هو عليه البديل الأول الذي يمكنه أن يستغل طيبتهم وجهلهم ولاسيما ما يتعلق بتكاليفهم، رغم أنهم اشترطوا عليه أن تكون وجبتهم الرئيسة يوميا أكلة "خورماو رون" (تمر بالدهن). وإذ وافق على هذا الطلب على مضض، فكر في حيلة تمكنه من الحيلولة دون الإسراف في هذه الأكلة التي لا يتناولها يوميا سوى ارستقراطيو القرية الملاعين الذين علموا هؤلاء الرعاع على مثل هذه المأكولات اللذيذة بعد أن تعفنت وانتفخت بطونهم من وراء أكلة البرغل والترخينة. إنه سيعرف كيف يعاقبهم ويمنع دون أن تمتلئ بطونهم التي لا حدود لها.

وبدأ بتطبيق خطته مع العشاء الأول الذي هو في نفس الوقت الوجبة الرئيسة. ذهب إلى المطبخ، فوجد زوجته مشغولة بإعداد كمية كبيرة، قال بدهشة:
" ماذا تفعلين يا امرأة، إنك ستخربين بيتنا"
قالت زوجته بدهشة:
" ماذا بك يا رجل؟ أنا أطبخ لعشرة بطون فارغة. خمسة من عندنا والخمسة الأخرى عمالك"
ضرب بيده اليمنى على كتف زوجته:
" لا يا حبيبتي، احسبي حساب خمسة بطون فقط. إنني حين يبدءون بالأكل أقوم بلعبة ترغمهم على عدم مواصلة الأكل. ولذلك يكفي أن تطبخي لخمسة بطون فقط"
كانت الزوجة ترعرعت في بيت معروف بالسخاء قالت باعتداد:
" أنا علمتني والدتي أن أطبخ دوما كمية كبيرة، لأن البركة في الكثرة، سأطبخ إن أردت لتسعة بطون فقط وأنت تدبر أمر بطنك بنفسك"
رأى الرجل أن لا فائدة للنقاش مع زوجته المسرفة، ورغم ذلك فإنها لن تتمكن من أن تثنيه عن عزمه على تطبيق خطته التي لاشك ستؤدي إلى توفير نصف كمية الطعام، في رأيه طبعا، الأمر الذي سيسد حاجة يوم غد. ودخلت البهجة في نفسه وهو يترك المطبخ. عندما انتهت الزوجة من إعداد الطعام تذكرت نصيحة والدها: "إذا أردت أن تشجعي عمالك على العمل الجيد، قدمي لهم مع أكلة "خورماو رون" بيض مقلي إضافي كما يفعله الإنسان مع الضيف العزيز. وأضافت خمس بيضات مقلية بالزبد، دون أن تحسب حساب زوجها. وحين وضعت الصحن أمامهم، تمنت لهم شهية طيبة. أحس رستم، صاحب البيت بالإحراج لعدد البيضات التي لم تحسب حسابه، علق بعد أن تركت زوجته المضيف:
" زوجتي تراعي صحتي وتعرف إن لي حساسية تجاه البيض. هيا كلوا باسم الله الذي أنعم علينا هذه السنة محصولا جيدا"
والآن جاء موعد تطبيق الخطة التي تحتاج إلى مهارة خاصة وتوقيت صحيح ومقام معين وأناس معينين. وراح يفكر في خطته التي سبق أن طبقها مرارا ونجح فيها نجاحا باهرا. وتتضمن خطته عدة أشكال منها سحب اليد عن الطعام والتوقف عن الأكل. آنذاك يتوقف الضيف أيضا عن الأكل. إن هذه الخطة غير مضمونة وقد لا يلتزم به الضيف الجائع. وثمة شكل آخر يلجأ فيه المضيف إلى رفع الصحن الفارغ وعدم إعادته مليئا.
لاحظ أن الرجال بدءوا يتسابقون في الالتهام بشهية كبيرة قد لا يفيد معها رفع اليد عن الطعام وفي هذه الحالة يستحيل أن يعود إلى الأكل. وبدأ هو الآخر يتسابق معهم. واختلط عليه التفكير حين وجدهم ينسفون هرم الطعام نسفا. ووجد أن أي تأخير في الأمر يؤدي إلى تنظيف الصحن. قال بصوت عال وهو يرفع يده وينسحب من الحلقة المحاطة بالصينية:
" الله، يجب أن أرخي حزامي. لقد شبعت حتى تحولت إلى ثور"
قالوا بصوت واحد وهم يواصلون حربهم على الطعام اللذيذ:
" وأما نحن فمازلنا عجولا "

حين تم الانتهاء من الأكل وشرب الشاي وانصرف العمال الزراعيون إلى مأواهم، توجه "رستم" إلى المطبخ لعله يجد بقية من الطعام يسد بها رمقه فلم يجد شيئا. قالت زوجته باستخفاف:
" يمكنك لحس الصحون التي لم أغسلها بعد"


18
أدب / فقهاء المسجد والملا
« في: 16:39 26/09/2011  »


قصة قصيرة

فقهاء المسجد والملا

زهـدي الداوودي


•   ف ق ه – (الفقه) الفهم وقد (فقه) الرجل بالكسر (فقها) وفلان لا يفقه ولا ينقه. و(افقهته) الشيء. هذا أصله. ثم خص به علم الشريعة. والعالم به (فقيه). وقد(فقه) من باب ظرف أي صار فقيها. و (فقهه) الله (تفقيها). و(تفقه) إذا تعاطى ذلك. و(فاقهه) باحثه في العلم.

قرأ الملا النص بصوت عال كما لو أنه يخطب في المسجد. ويستمع الفقهاء الخمسة بانتباه كبير كي يتناغموا معه طريقة القراءة وضبط الحركات. وحين قرأه للمرة الثانية والثالثة، بدأ الصف – كالعادة - بترديد القراءة بصوت جماعي وهز رأس موحدين. وحين يتأكد الملا بأن الجميع قد قرأ النص بصورة صحيحة وتم ضبط الحركات، تصدر منه إشارة تشجيع قد تؤدي إلى الاستمتاع بفترة استراحة تستغرق حوالي نصف الساعة. وحين يمنح فترة الاستراحة هذه، يكون قد اقتنع في قرارة نفسه بأنهم حفظوا النص عن ظهر قلب. والويل لمن لم يتمكن من حفظه في هذه الفترة المحدودة.

هذه هي المادة الرئيسة هذا اليوم. وهذا لا يعني أنهم سينتهون من هضم هذه المادة وينتهون منها في يوم واحد. إنهم قبل كل شيء يجب أن يدركوا المعنى الحقيقي الكامن في هذا النص. عليهم أن يعرفوا اسم الكتاب الذي جاء فيه هذا النص. وبعد أن يحفظوه عن ظهر قلب، ينتقلون إلى أسم المؤلف. وتكون الصورة كما يأتي:

مختار الصحاح. تأليف محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي المتوفى سنة 666 هجرية. وويل لمن يقول مختار الصحيح بدلا من مختار الصحاح. أو يقول محمد بن أبو بكر، بدلا من محمد بن أبي بكر. عندها تلعب عصا الملا دورها في نقل المعرفة إلى رؤوس هؤلاء الطلاب الذين اجتازوا هذا اليوم الامتحان بنجاح ونالوا لقب الفقيه. ويقول الملا، كشأنه دائما، إن كنت فقيها فيجب عليك أن تعرف جيدا ما معنى الفقيه وما المقصود بالفقه. وماذا يعني أن تكون أنت فقيها وليس حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد.
ولكي يثبت لهم الملا أن اللقب لا يغير شيئا في تصرفه تجاههم، أوجد أعذارا وهمية ليلجأ إلى عصاه. يؤشر بعصاه إلى فلان الذي يبدو له مغرورا:
" أنت يا صالح، قم في مكانك"
ويقف هذا في مكانه وهو يرتعد خوفا:
" نعم، ملا "
يسأل الملا باستعلاء:
" لماذا اخترنا هذا اليوم نص (ف ق ه ) لدراستنا؟"
" لأننا أصبحنا هذا اليوم فقهاء"
" إقرأ لنا نص (ف ق ه).
مد الفقيه الجديد يده إلى أوراقه، ينبش فيها.
قال الملا بغضب:
" ماذا تفعل يا هذا؟"
" أبحث عن النص"
" أهكذا بكل صلافة تبحث عن النص أمامي؟ أريده حفظا عن ظهر قلب"
وقبل أن يفتح الطالب فمه، يضيف الملا مبالغا:
" ألا يكفي إننا قرأنا النص ألف مرة؟"
قال الطالب الذي أصبح هذا اليوم فقيها بحدة غير مقصودة:
" لا أستطيع الحفظ بهذه السرعة يا ملاي ثم إنني لست ببغاء والنص لم نقرأه ألف مرة كما تفضلت، بل مرتين فقط"
كادت شرايين الملا تنفجر لهذا الكلام الذي يسمعه لأول مرة في حياته. قال وهو يتنفس بالكاد:
" عقابك اليوم الفلقة لا غيرها يا صالح. هيأ نفسك ولا تفكر في الهرب. إنك في الحقيقة طالح وليس صالحا"
وللفلقة حديثها الخاص بها، إذ أنها عقاب شديد وقد سبق لطلبة الفقه الخمسة أن عوقبوا بها على يدي الملا بهذا القدر أو ذاك، عدا هذا الفقيه صالح الذي وقف هذا اليوم بوجه الملا، حيث جرت عدة محاولات من أجل طرحه على الأرض فشد رجليه، ولكن عبثا. كان هو أسرع منهم وأقوى ويطلق ساقيه للريح ويختفي في أحد بيوت القرية. ولا يعود إلى الدراسة إلا بعد أيام، حيث يهدأ الملا وينسى القضية.
وأما (أحد بيوت القرية) هذا، فتحول إلى فردوس، إذ أن البيت يعود إلى أرملة جميلة تسكن فيه وحدها. وقع صالح في غرامها منذ اللحظة الأولى للقائهما وكان أن تزوجا في مسجد قرية أخرى.
كان الفقهاء الخمسة يسكنون في غرفة ملاصقة للجامع ويعيشون من التبرعات التي يجود بها أهل القرية، بيد أن الشيء الذي كان يعكر عليهم صفو حياتهم، هو خشونة الملا واعتداءاته غير المبررة. قال صالح ذات يوم عن الملا، إن الله قد خلقه كي يكون رئيسا لعصابة قتلة وليس رجل دين لا يحمل ذرة من العاطفة في قلبه.

ذات يوم تمرض الملا واضطر أن يلزم الفراش. كان ذلك قبل أن يتوزع الفقهاء على المساجد الشاغرة بفترة قصيرة جدا. عرف الملا أن نهايته قد اقتربت وأن الموت قاب قوسين أو أدنى منه. طلب من تلاميذه أن يجلسوا على مقربة منه. وراح يعتذر منهم واحدا بعد آخر لتصرفاته الخشنة تجاههم ويلتمس منهم الصفح والغفران. ثم الزمهم، على أن يؤدوا اليمين أمامه بتحقيق وصيته، التي تكفر عن ذنوبه الكثيرة أمام الله وهي:أن يربطوا جثته العارية بحبل ويسحلونها عدة مرات حول المسجد وينهالون عليها ضربا إلى أن تكل أيديهم.
بعد أيام قليلة من هذا اللقاء، فارق الملا الحياة. وجاء موعد تنفيذ الوصية. الوصية هي وصية مهما كانت، يجب أن تنفذ، قال أحدهم. ورغم كل شيء، كان الحزن يخيم عليهم. ولما كان الوقت عصرا، قرروا أن يكون موعد التنفيذ هبوط الظلام الدامس، على أن لا يطلع على السر أي واحد من أبناء القرية. وبعد الانتهاء من السحل والضرب تؤخذ الجنازة إلى المسجد ويجري تكفين الميت. وبعد ذلك يتم تبليغ أهل القرية بخبر الوفاة ويجري الدفن في نفس الليلة.
انتظروا في المسجد وانشغلوا بشرب الشاي والتدخين إلى أن هبط الظلام الدامس على الكون. آنذاك شدوا الجثة بحبل وسحلوها حول الجامع وهم يلعنونها ويضربونها بالعصي بكل ما أوتوا من قوة وكأنهم ينتقمون لسنوات الظلم الذي عانوه على يديه. وما أن وصلوا إلى الدورة الثالثة حول المسجد، إلا وسلط عليهم ضوءا كشافا قويا من سيارة مسلحة تابعة لمفرزة من شرطة مراقبة المخدرات والطرق والأرياف. وقفت السيارة وترجل منها عدد من أفراد الشرطة بقرقعات أسلحتهم الاوتوماتيكية وتم تطويقهم من كل الجهات. وراحت الأوامر تصدر من النقيب العسكري:
" قفوا في أماكنكم.. ارفعوا أيديكم.. ارموا أسلحتكم. أي حركة من جانبكم، تعقبها صلية.."
وسرعان ما القي عليهم القبض ووضعت القيود على معاصمهم واقتيدوا إلى السيارة بغية نقلهم إلى مركز ناحية المنطقة لاستجوابهم. قال صالح بألم وهو يبصق على الجثة:
" لعنة الله عليك يا ملا، لم نتخلص من شرورك حتى بعد موتك"

19


دولتى عليئه ى عثمانيه

                                                                                                                      زهدي الداوودي

نشرت جريدة كونه ش (الشمس) التركية خريطة جديدة لتركيا مع تعليق صغير جاء فيه ما معناه "إن كنت تريد خريطة حقيقية فهذه هي الخريطة". وكانت الخريطة تحتوي على بعض المدن والمحافظات العراقية من ضمنها دهوك والسليمانية وأربيل وكركوك والموصل وزاخو وتسع محافظات سورية وأقسام من اليونان وأرمينيا والقبرص والخ من المقاطعات الأوروبية والآسيوية.
  لم استغرب من رسم الخريطة الجديدة بهذا الشكل وفي مثل هذا الوقت. ورغم أنها في الواقع من وحي أحلام العصافير، إلا أنها لها دلالاتها متعددة الجوانب، ولاسيما في هذا الوقت الذي تحتدم فيه حدة الصراع بين أردوخان والعسكرتارية. أقول إنني لم أستغرب من رسم الخريطة بهذا الشكل، بل الشيء الذي استغربت منه هو أن الخريطة العبقرية الجديدة لم تحتو على آدربايجان وتركستان وتترستان وقرغيزيا واوزبكستان وداغستان وغيرها من الدول الاسيوية، ولكنني عندما فكرت في الأمر قليلا، علمت بأن راسم الخريطة الجديدة يعتبر هذه البلدان في الجيب ولا خلاف على وقوعها تحت الخيمة العثمانية، ذلك أنها في الأصل تعود إلى القبائل التركية القديمة التي نزحت من أواسط آسيا بحثا عن الكلأ. أو لأنها أهملتها عمدا لعدم أهميتها اقتصاديا.
  الخريطة تعكس في مضمونها الروح الطورانية التوسعية التي تحلم بتاسيس امبراطورية تركية تمتد من بلغاريا ورومانيا إلى حدود الصين ومنغوليا وتحت شعارها الشوفيني الفاشي "بوز قورت" (الذئب الأغبر) الذي يرى أن تركيا للأتراك فقط وسعيد من هو تركي. هذا إلى جانب النظرة العدائية والاستعلائية تجاه الشعوب والقوميات الأخرى ولا سيما الكورد والعرب. وهناك مثل تركي يقول: "آغاجده ن  ماشه  كورتدان باشا" أي ( من الخشب ماشه ومن الكورد باشا) ويطبقون نفس المثل على العرب بالاضافة إلى مقولتهم "بيس عرب" أي (العربي القذر). إن الشعب التركي طبعا برئ من مثل هذا العار الذي لا يمكن أن يوصم به غير جماعة (بوز قورت). هذا ومن الجدير بالذكر أن سياسة أتاتورك كانت ضد توجهات الطورانيين التوسعية. وكانت هذه هي أحد الأسباب الذي سمح له بتشكيل جمهورية تركيا الحالية على ضوء مقررات معاهدة لوزان، بعد أن تم ضرب مقررات معاهدة سيفر في عرض الحائط من قبل الدول الكبرى، والتي شكلت اعتداءا سافرا ضد الحقوق القومية للكورد والأرمن واليونانيين.
  إنه ليس محض صدفة مجردة أن تقوم الجريدة المذكورة برسم ونشر مثل هذه الخريطة في مثل هذا الوقت الذي تحتشد فيه القوات التركية على الحدود العراقية – التركية – السورية – الايرانية. ويا لها من مصادفة عجيبة أيضا أن تقوم جماعة بوز قورت بالمظاهرات في مدن أوروبا الغربية، تحت شعاراتها الشوفينية التي هي ليست طبعا للدفاع عن مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها، بل معاداة الكورد في كل مكان.
  ترى، ما هو موقف أردوخان من مثل هذه التحركات التوسعية التي تبدو بدائية جدا، ولكن خطرة قد تجلب الكوارث على المعتدى عليه وعلى المعتدي في نفس الوقت. وما هو موقف العسكرتارية من مجمل العملية؟ إنهم لا شك يبكون على ماضيهم وأمجادهم التي انتزعها منهم أردوخان بحزبه الاسلامي الذي قد يحلم هو الآخر بعودة الخلافة الاسلامية التركية التي أدخلت العالم العربي الاسلامي من الخليج الى المحيط في سبات عميق استمر خمسة قرون من الزمن. يبدو لي أن كل واحد منهما يفكر في الأمر على طريقته الخاصة، بيد أن أردوخان يبدو أكثر عقلانية. على أن السؤال يظل يطرح نفسه على كليهما: كيف كانت تكون استجابتهما لو أن صحيفة يونانية رسمت خارطة اليونان القديمة وجعلت من تركيا الحالية محافظة واحدة تحمل أسم بيزنطة ضمن خريطة واحدة تمتد من الهند إلى اسبانيا؟
  هناك مثل يقول: "الهجوم هو خير دفاع" وذهب ضحية هذا المثل مئات الالوف من البشر في حروب غير عادلة سموها عادلة. نابليون بونابارت أخذ في حملته على موسكو 750000 مقاتلا باسم مبادئ الثورة الفرنسية، ولكنه عاد يجر أذيال الخيبة بعد أن فقد نصف مليون بشر. هتلر أراد احتلال العالم، فكان مصيره الانتحار في مخبئه. ولا نريد أن نحشر اسم صدام بين هؤلاء. ما أعظم جنون، من خلقوا من انفسهم، عظماء. انهم لا يعرفون بأن الدول العظمى لها مشاكلها العظمى أيضا.
  إن ما أريد أن أقوله هنا هو أن بعض الاصابع في تركيا تريد أن تلعب بالنار. أو بالاحرى هناك من يحكه جلده ويريد أن يواجه العالم بمقولة:" علي وعلى أعدائي يا رب". بيت القصيد أن هناك صراعا دائرا بين أردوخان والعسكرتارية. والسبب الحقيقي واضح وضوح الشمس وهو الصراع على السلطة، بيد أنهما يحاولان اسدال الستار على السبب الرئيسي الذي يقف أمامهما مثل البعبع، ألا وهو وجود 20 مليون كردي يطالب بحقوقه المشروعة ضمن مبدأ حق الأمم في تقرير مصيرها. إن الفرق بين العسكرتارية وأردوغان، هو أن الأولى مازالت تعتقد بأن الكورد هم أتراك الجبال وأما الثاني، فأكتشف وجود شعب في تركيا أسمه الكورد، ولذلك التقى بهم ذات يوم واعطاهم كلام شرف جنتلمان بحل مشكلتهم. ولنر أي منهما سينتصر. إن تصريحات أردوخان الأخيرة التي يقول فيها:"إن تحسين الحقوق الديمقراطية للاكراد سيحد من النزعة الانفصالية.." مؤشر جيد على هذا الطريق. كما أنه أصاب كبد الحقيقة حين أشار أمام أعضاء البرلمان عن حزبه إلى مواقف أحزاب المعارضة التي تستفز الشعور القومي العدائي ضد الأكراد داخل تركيا.

كتب هذا المقال عزيزي القارئ بتاريخ 25.11.2007 ولم يرسل للنشر. وها أني أنشره اليوم لمناسبة تحركات أردوغان باسم دولة الخلافة العثمانية. وتخطيطه للهجوم البري على كردستان العراق.

20
قصة قصيرة

الأواني المستطرقة


زهدي الداوودي



موت الحاج سمين صاحب الصنائع السبعة الذي لم يكن في بال أحد، قد أصبح الآن حقيقة واقعة لا يمكن إنكارها.
 لقد مات فعلا.
 ومات بطريقة درامية لم يكن يتصورها أي فرد من أهالي هذه البلدة الصغيرة التي تنتج العباقرة، الذين ما أن يشبوا ويصلوا منتصف الطريق، إلا ويخطفهم الموت بهذا الشكل أو ذاك. وقبل أن ينعوه ويقوموا بإقامة صلاة الميت على روحه الطاهرة التي كرسها لمساعدة الآخرين، راحوا يذكرون أعماله الطاهرة وحسناته ووقوفه إلى جانب المحتاجين والفقراء. وبعد أن أسهبوا في وصف  صفاته هذه عرجوا إلى إبداعاته التي لم يقصر في تطبيقها على    تطوير البلدة الصغيرة ومساعدة مواطنيها في مجالات تصليح الساعات اليدوية والمنبهات والدراجات الهوائية وأدوات الفلاحة وتصليح محركات التراكتورات والبنادق وصناعة الأباريق المستعملة في إعداد الشاي أو الوضوء، ناهيك عن العلاج الطبيعي لمختلف أنواع الأمراض التي يقضى عليها في أقصر وقت ممكن. لقد كان، رحمه الله، لا يترك معضلة إلا ويحلها دون مقابل. ويعيش من وراء التبرعات السخية التي كان يغدقها عليه زبائنه والطيبون من أهالي البلدة الصغيرة.

وفي معرض الحديث عن آخر إبداعاته تم التطرق إلى اختراعه لجهاز يولد الكهرباء من خلال إحدى عجلتي الدراجة الهوائية التي تعلق وتتحرك بواسطة ضغط الماء. وبهذا تمكن من تشغيل المروحة وإضاءة الغرفة التي يسكنها. وبخصوص تقدير أعماله، أنقسم الناس إلى فريقين، فريق يعتبر أعماله من صنع الشيطان وفريق يعتبرها من مظاهر التطور العلمي التقني، ولكن بقي السؤال الحائر كيف مات هذا العالم بهذا الشكل؟

منذ أيام غير قليلة أحس الحاج سمين بأن بالوعة الأوساخ لا تشتغل على ما يرام وأن الغائط لا يترك مكانه إلى البالوعة التي تمتلئ مرة في كل ثلاث أو أربع سنوات، حيث يجري استدعاء محمود أبو الغائط الذي يحضر فورا إلى المكان المعين. وبعد المسوحات التي يقوم بها، يقدم حسابا مفصلا لسعر كلفة التنظيف. وإذا وافق الزبون على دفع المبلغ المقترح، يبدأ العمل بنشاط ملحوظ. وبالطبع يوافق الزبون على أي سعر يقترحه منظف البالوعات، ذلك أن الروائح الكريهة لا تزعجهم هم فحسب، بل تمتد إلى الجيران وجيران الجيران.
وراح الحاج سمين يفكر بطريقته المعتادة في كيفية حل المشكلة بأسلوب شبه مجاني، إذ أن دفع مبلغ من المال لتنظيف بالوعة القاذورات أمر غير وارد. وتذكر أنه تعلم في صغره في المدرسة الابتدائية قانون (الأواني المستطرقة). وبعد تفكير عميق، قفز في مكانه فرحا وهو يصيح:
" والكعبة وجدتها"
ولكن الشيء الذي وجده، بقي سرا في صدره حتى آخر لحظة من حياته. هكذا كانت عادته، لا يجهر بسره، إلا بعد أن تنجح تجربته. ولا يهمه بعد ذلك ما سيحصل لاكتشافه أو اختراعه. المهم أنه نجح في تجربته. وراح يفرك يديه من شدة الفرح. واجتاحته قوة غريبة منحته زخما هائلا لتحقيق فكرته التي لا يصرح بها حتى لأعز إنسان إليه. وبدأ بعملية الحفر برسم دائرة قطرها أقل من متر واحد على مسافة تبعد حوالي نصف المتر من البالوعة المليئة حتى الحافة. وقدر أنه يتمكن من إنجاز مشروعه خلال ثلاثة أسابيع تقريبا. وإذا اقتضت الحاجة، فيمكن إضافة أسبوع آخر ليس أكثر، ذلك أنه في كل الأحوال لا يمكنه أن يتفرغ للحفر بسبب دكانه الذي يحتاجه في معيشته اليومية.

تنفس الحاج سمين الصعداء لتمكنه من إنجاز البالوعة خلال ثلاثة أسابيع. وراح يفكر في طريقة تمكنه من نقل محتوى البالوعة القديمة إلى الجديدة ووجد نفسه أمام عدة احتمالات:
الاحتمال الأول، شق مجرى بين حافتي البالوعتين يتم بواسطتها نقل المحتوى من البالوعة القديمة إلى الجديدة، الأمر الذي يوقف عملية الفيض.
الاحتمال الثاني، نقل المحتوى من البالوعة القديمة إلى الجديدة بواسطة أنبوب مطاطي هائل (صوندة).
الاحتمال الثالث، حفر نفق في أسفل البالوعة الجديدة، يربط بين البالوعتين، بحيث ينتقل محتوى البالوعة القديمة إلى الجديدة حسب قاعدة الأواني المستطرقة. وراح يفكر في اختيار أحد الاحتمالات العملية. بالنسبة إلى الاحتمال الأول وجد أن التغلب على الرائحة الكريهة غير ممكن، ذلك أن تغطية المجرى عملية صعبة. أما الاحتمال الثاني فغير واقعي وذلك لتعذر الحصول على الأنبوب المطاطي المطلوب. بقي الاحتمال الثالث الذي وجده قابلا للتحقيق وهو حفر نفق يؤدي إلى الربط بين البالوعتين، الأمر الذي يؤدي إلى سيلان المحتوى حسب قانون الأواني المستطرقة من البالوعة المملوءة إلى البالوعة الفارغة.

حمل الأزميل ونزل بخيلاء إلى قاع البالوعة الطرية التي تنبعث منها رائحة الرطوبة والتربة الندية الممزوجة برائحة القاذورات المتخمرة المنبعثة من الجدار المشبع بغاز الميثان. وطرب أنفه للرائحة المخدرة التي بدأت تنتشر في أعصابه. وراح يحفر ببطء في النفق الممتد إلى البالوعة القديمة. ولم يلبث إلا وأحس بنفسه قد تحول إلى طائر ملون خفيف بجناحين واسعين يخفقان باتجاه السماء اللانهائية.
كل شئ جرى بصمت وسرية تامة لم يحس بها أي فرد من أفراد البيت، ذلك أن موقع العمل يقع على ساحة تقع بدورها خلف البيت. كان الحاج سمين يظهر عادة في فترة تناول الغداء. وها أن فترة تناول الغداء قد حل ولم يحضر.
بحثت زوجته عنه في الدكان وفي السوق وأنحاء البيت فلم تجده. وذهبت إلى الحوش الواقع وراء البيت دون جدوى. نفذت إلى أنفها رائحة محتوى البالوعتين المفتوحتين ولشد ما كانت دهشتها شديدة عندما اكتشفتهما وهما مملوءتين إلى منتصفهما بالغائط المتعفن.   
وأطلقت صرخة عالية شقت السكون وهي تلطم رأسها ووجهها وتولول بصوت حزين.

21
أدب / صانع الطرشي والفأرة
« في: 23:09 02/09/2011  »

صانع الطرشي والفأرة


زهـدي الـداوودي

إنه سوء حظ لا يبتلى به سوى إنسان طيب القلب، كريم، صادق مع زبائنه، يقدم لهم أحسن أنواع الطرشي المصنوع من خيار الترعوزي المزروع على جانبي النهر. ومن الباذنجان الطري الطازج ومن خل التمر المصنوع في البيوت العريقة ومن أحسن أنواع الزيتون المستورد من اليونان. طرشي لا يمكن لعابر السبيل أن يمر به مر الكرام، دون أن يتوقف عنده ودون أن يتمكن من قمع لعابه الذي يسيل بمجرد شمه لرائحته. والنتيجة أن الزبون يمد يده إلى جيبه ويخرج محفظته قائلا:
" حجي، من فضلك كيلو من هذا "
ويتناول "الحاج طرشي" المغرفة الكبيرة، قائلا ببشاشة:
" تؤمر أغاتي"
وحين يودعه الزبون، يتمنى له العافية والصحة. وسرعان ما يقف أمام الواجهة زبون آخر.

طرشي "الحاج طرشي". هذا الاسم أو بالأحرى اللقب لم يحصل عليه "الحاج طرشي" عبثا. إنه حصل عليه بجدارة وبسبب إخلاصه لسر مهنته التي تقف على رأسها النظافة وأصالة التوابل الخاصة المستوردة من الهند. والدليل على نظافته شهادة مديرية الصحة العامة المعلقة على الحائط في مكان بارز.
تمتم "الحاج طرشي" مع نفسه وراح يشتم مدير الشرطة المدمن على طرشيه الذي يتناوله يوميا مع كباب الاسطة قادر وأرسل أطنان اللعنات إلى أجداد وآباء فراشه الذي خابره قبل دقائق، مبلغا إياه بوجود فأرة ميتة في طرشيه الذي أرسله إليه هذا اليوم مع صانعه وطلب منه أن يأتي إليه فورا:
" من أين أتت هذه الفأرة يا إلهي، من أين. كيف أتخلص من عقاب مدير الشرطة الذي سيضعني حتما في صفوف المحتالين والمجرمين، بعد أن كان يثني على ويعتبرني صاحب أحسن طرشي في العالم"
ومما أدخل الرعب في نفسه أكثر، تهديدات الفراش له. وعلم منه خلال المكالمة التلفونية أن مدير الشرطة لا يعرف بالموضوع وأنه سيتأخر في تناول وجبة الغداء هذا اليوم بسبب اجتماع طارئ. وأنه يمكنه أن ينقذه من هذه الورطة التي إذا عرف بها المدير، فسيكسر ظهره لا محالة.
ردد "الحاج طرشي" في نفسه كلمات الفراش باستهزاء: " إنه يمكنه أن ينقذه من هذه الورطة.." ولكن منذ متى يساعد هذا الفراش اللعين والجشع الناس؟. إنها لاشك مساعدة لا يعلم إلا الله ثمنها. وراح يشك في أمر الفأرة التي لم يتوصل إلى سرها، ولكنه سرعان ما انتقل من الشك إلى اليقين. إذ ليس من المعقول أن أمسك الفراش فأرة وقتلها ثم دفنها في ثنايا الطرشي. إن الفأرة الطرية بدمها ولحمها تختلف عن الفأرة الميتة المشربة بسائل الطرشي والمتخمرة فيه. والتفت حواليه، يجيل عينيه في زوايا المحل كأنه يبحث عن شيء ما. وراح يحرك المناضد التي وضعت فوقها قوارير الطرشي والمواد الأولية. أنتبه فجأة إلى خيار مقضوم تبدو عليه آثار أسنان صغيرة. قال بصوت عال:
" لعنة الله عليك أيتها الفأرة الحقيرة "
وراح يدقق في الزوايا المختفية وراء قوائم المناضد المصطفة جنب الجدران، فوجد ثلاثة جحور لم تصنعها سوى الفئران الخبيرة بصناعة الأنفاق. قطع أنفاسه وأخفى نفسه وراء ستارة وراح يراقب الجحور. خرجت فأرة صغيرة بكل تحد وهي واثقة من خلو المكان ووقفت أمام باب الجحر، تستطلع يمينا ويسارا كأنها تبحث عن شئ معين. وراحت تطلق أصواتا خافتة تشبه الأنين، خرجت على أثرها فارة أخرى، من جحر آخر، سرعان ما اتجهت إلى الفأرة الأولى. وبعد أن تبادلتا القبل ذهبتا إلى حيث الخيار المقضوم. وراحتا تحاولان سحبه إلى جحرهما.
هز "الحاج طرشي" رأسه واقتنع بأن الفأرة التي اقتحمت الطرشي المعد لجناب مدير الشرطة العام، إنما ترعرعت في محله هو وأنها لابد أخت أو ابنة عم إحدى هاتين الفأرتين اللتين ستنالان عقابهما في وقت آخر، ذلك أنه الآن على عجلة من أمره. وعليه قبل كل شئ أن يحل مشكلة فارة الطرشي المطلوب للمدير. نصح الصانع أن لا يترك المحل ويظل ينتظره. كان محله يقع مقابل مركز الشرطة العام في الجانب الثاني من الشارع العام. بعد دقائق معدودة بلغ غرفة مدير الشرطة الذي كان لا يزال مشغولا بالاجتماع. نظر إليه الفراش بسخرية وهو يقول:
" هذا اليوم جاء أجلك يا حاج. سيجعلك المدير طرشيا حقيقيا. كيف تواجهه بعد انتهائه من الاجتماع، ماذا ستقول له "
وقبل أن يفتح "الحاج طرشي" فمه راح الفراش يواصل ثرثرته على أمل ابتزازه وأخذ اتاوة محترمة منه مقابل سكوته ومسح حكاية الفأرة من الوجود. المشكلة تبقى إذا محصورة بينهما دون أن تصل إلى المدير. قال "الحاج طرشي" مقاطعا صاحبه:
" لا داعي لإطالة الكلام. فهمت كل شئ. أنت تؤمر وأنا أنفذ "
تنفس الفراش الصعداء. مد الحاج يده إلى تحت إبطه كي يحكه. تصور الفراش أنه يريد أن يخرج محفظته فقال:
" ليس الآن يا حاج، خارج الدائرة "
سحب "الحاج طرشي" يده من تحت إبطه وقال:
" ولكنني أريد أن أرى الفأرة "
أخذه الفراش إلى غرفة جانبية صغيرة بمنضدة وعدة كراسي. كان طبق الطرشي موضوعا على منضدة صغيرة. وقف الحاج جنب المنضدة يدقق في الطرشي ويبحث عن الفأرة. وعندما وجدها بين طيات الطرشي مسكها من ذيلها ورفعها إلى أعلى وهو يحدق فيها بعينين غاضبتين وحادتين قائلا بارتياح:
" هذه ليست فأرة يا وليدي، إنها باذنجان لحيمي طازج "
وقبل أن يفتح الفراش فمه، دفع "الحاج طرشي" الفأرة إلى فمه المفتوح وأبتلعها جاعلا منها لقمة سائغة.
انهارت أحلام الفراش التي لم تدم طويلا.
أنصرف "الحاج طرشي" إلى سبيله، قائلا للفراش المذهول بتهكم:
" بلغ تحياتي إلى المدير وقل له شهية طيبة "

22
موضوعات حول التيار الديمقراطي العراقي

زهـدي الـداوودي

(1)

لاشك أن كل واحد منا يعرف بأن الوضع الراهن في العراق غير طبيعي. ولم يسبق لهذا الوطن، في أي عهد من عهود تاريخه أن مر بمثل هذا الفراغ السياسي العميق الذي خلفته سياسة المحاصصة والطائفية والمتاجرة بالدين. وإن دل هذا على شيء، إنما على مدى توغل الجهل في دماء وعظام طبقات وفئات واسعة من الجماهير العراقية الراقدة في السبات العميق، هذا المرض الذي جاء كنتيجة حتمية لهيمنة البعث الفاشي على الحكم والنهج الارهابي الذي مارسه لمدى أربعين عاما من الزمن.

(2)

إن هذا الفراغ السياسي الذي يعانيه الشعب العراقي منذ الاحتلال الامريكي للعراق في نيسان 2003 ، لا يمكن أن يملؤه سوى تيار ديمقراطي لبرالي متفتح جماهيري معاكس، يتميز بفكر وهيكل جديدين، يختلف كل الاختلاف عن اللوحة المهيمنة الحالية ويقف بالضد منها ويعمل من أجل أن يكون بديلا لها. بيد أن الانتخابات الاخيرة التي جاءت باصحاب العمامات والقوى القومانية ورموز الطائفية، أثبتت من جديد بأن هذا التيار الديمقراطي، الذي هو أمل عراق المستقبل، غارق حتى قمة رأسه في أزمة سياسية خانقة، وأنه كبل نفسه بنفسه بمختلف المشاكل والقيود. هذا إلى جانب كونه لا يتمتع بالشعبية سوى في أوساط المثقفين المحدودة.

(3)

أراد هذا التيار البديل أن يثبت وجوده في خضم الانتخابات الاخيرة، بيد أن الجماهير أدارت له ظهرها. من هنا نلاحظ الشرخ الكبير الذي حدث داخل المجتمع العراقي وهو هذا الفارق الكبير بين فئة المثقفين والجماهير بمختلف فئاتها وطبقاتها التي تخلفت عن رؤية مشاكلها الحقيقية الملموسة. وراحت هذه الجماهير تبتعد عن كل ما تشم منها رائحة المثقف الذي انعزل في ميدان السياسة انعزالا تاما. وكانت قوى المحاصصة والطائفية تشجعها في موقفها هذا.
ولعل فكر البعث النازي الذي كان يتشدق بامتلاكه أو بالاحرى احتكاره لسلاح الثقافة العراقية، هو الذي أدى إلى أن تهدم الجماهير الجسور التي كانت تربط المثقف بالكادح، الأمر الذي أدى للمواطن الكادح أن ينظر بريبة إلى المثقف، الذي كان يرى فيه صورة الشرطي الذي يرتدي الملابس المدنية ويحمل المسدس بدل القلم. وأما ضريبة هذه الوضعية، فدفعها ولم يزل يدفعها المثقفون والعناصر المرتبطة بها.

(4)

وهكذا، من حيث شئنا أم أبينا، تحول التيار الديمقراطي إلى تيار المثقفين وحدهم. وبقيت الجماهير الكادحة من حصة أحزاب المحاصصة والطائفية التي تمتد خيوطها إلى إيران والمملكة السعودية وما وراء الخليج...

(5)

من هنا تكون الوظيفة المركزية المقبلة للتيار الديمقراطي، التوغل في أعماق الجماهير، إعادة بناء الجسور وإعادة الثقة بين المثقفين والجماهير وهذا هو الضمان لقطع الخيوط الممتدة إلى إيران وغير إيران والقضاء على الفساد والطائفية وبناء الدولة الاتحادبة الديمقراطية وتطبيق المادة 140 بالاحتكام إلى الدستور واستفتاء الشعب وخلق مستلزمات الحياة المتطورة الكريمة للناس بالتصنيع واصلاح زراعي جذري....

(6)

إن المزاج النفسي للجماهير العراقية بمختلف أطيافها، يلعب أحيانا، دورا حاسما انقلابيا مثل اختلاف الليل والنهار. وعندما تكون هذه الجماهير، لهذا السبب أو ذاك، تحت هيمنة عاطفة الدين، التي ورطها بها السياسي المتاجر بالدين، تفقد وعيها، ولا تعود إليه، إلا بعد أن تحصره الضائقة الحياتية ويشعر أن السياسي الذي لم يتمكن من إيفاء وعده، قد بلغ الاعالي، ولم يرسل له من هناك، حتى ولا قرصة خبز. إن التيار الديمقراطي يجب أن يأخذ هذه المسألة بنظر الاعتبار. ويعرف كيف يحشد الجماهير وينال رضاها.


(7)

إن الجماهير العراقية التي عانت مرارة الضائقة الحياتية من كل نوع، قد بدأت تتململ اليوم وسوف تستيقظ غدا، كي تطلع بعيون مفتوحة وفاحصة إلى النتائج المأساوية التي تركها صوتها الذي لم يذهب مع أدراج الرياح فحسب، بل تحول إلى خنجر موجه إلى قلبها هي.


(8)

ليتوحد التيار الديمقراطي أولا ثم يتوجه إلى الشعب


صفحات: [1]