عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - برهان الخطيب

صفحات: [1]
1

فرانكلين تصنف (الجنائن المغلقة) وثيقة حكومية
صنفت مكتبة فرانكلين الأمريكية المرموقة رواية برهان الخطيب الشهيرة (الجنائن المغلقة) وثيقة حكومية في فهرسها العام الذي يضم أهم نتاجات العالم الفكرية عادة، الأرجح ذلك لاحتواء الرواية المذكورة على صفحات حيوية عديدة تصور بل توثق لقاءات قادة مع ساسة كبار معارضين أو موالين لهم، لقاءات تنتهي مع نتائج خطيرة لها تأثير كبير على سير أحداث منعطف القرنين الماضي والحاضر، ثمة في المتن الروائي نرى العراقي صدام حسين، السوري حافظ الأسد، العديد من رؤوس المعارضة العراقية آنذاك  الرافلين في الحكم اليوم في بغداد، غيرهم من الشخصيات والموظفين الرسميين.. قنصل عراقي، رجال إعلام، مخابرات، غالا الروسية الجميلة، رباب الشرقية المودلية، أناس يكشف الخوض في حيواتهم عن وجه العالم المعاصر..
الملاحظ أن مكتبة فرانكلين لا تتبنى على رفوفها الطبعة الأولى للرواية الصادرة عن دار بوديوم السويدية عام 2000 بل طبعة بغداد الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العراقية عام 2006 الجزء الأول يليه الثاني بعد عام.  ورغم أن مكتبة فرانكلين  تذكر ان النوع الأدبي للكتاب هو من جنس الرواية لكنها في خانة أخرى تثبتها وثيقة حكومية. 
الباحثة السويدية مارينا ستاغ كانت كتبت عن (الجنائن المغلقة) قبل عقدين مستخلصة أنها رواية تستحق القراءة جدا ذات أعماق وجودية عديدة وهي من صنف الروايات البوليسية السياسية المشوق. أيضا زميلتها في جامعة ستوكهولم برفسور شاشتين أكسل امتدحت (الجنائن المغلقة) أسوة برواية الخطيب السابقة (الجسور الزجاجية) ثم قامت وترجمت منها فصولا إلى اللغة الدنماركية ظهرت على موقع أكاديمي دنماركي. يذكر ان دائرة الشؤون الثقافية العراقية دفعت منذ أشهر إلى الطبع (عابر قارات) رواية الخطيب الأخيرة مع الغلاف.. وشك انطلاق أي يوم.. 

3
دار الشؤون الثقافية تحتضن روايات الخطيب

في عائلة حين يتجسس ابن على أبيه أو العكس، أخ على أخيه، إلى دولة حفظا لأمان، في كلية أو دائرة ترسل فتاة اعترافات حب إلى زميل، قصد بناء عائلة.. غيره من نشاطات ظاهرة أو خفية حولنا.. كل ذلك من شؤون خاصة، قد لا تهم الشأن العام، بعد أعوام يتبين التجسس إلى حزب أو جهة تقف وراء إدامة صراعات، ضعضعة دولة، واعترافات الحب قصد سيطرة على رجل، تثبيت هيمنة شريحة أو نخبة معينة على مجتمع، صياغته حسب مشيئتها، آنئذ نعرف ذلك أيضا من شؤون عامة، لا خاصة فقط، لها صلة بتقدم أمة في حال تحركها قوتها الذاتية، أو دمارها اندثارها لو تحركها قوة خارجية همها مصلحتها.. وانتقالا من عائلة إلى دولة يشبه الأمر إيحاء لرئيس: افعل كذا لمصلحة بلدك، بعد حين حرب بيع سلاح خراب البلد.. المذكور في التو مثال على صلة الخاص بالعام وصولا إلى العالمي عند كتابة رواية لا يغفل كاتبها عن صلة أي شيء بأي شيء مع تقصي أطراف مشكلة يصورها يعالجها صعودا عليها إلى تحقيق هدفه الإبداعي الاجتماعي من الكتابة أي التنوير الفكري.. العاطفي.. على أي حال ذلك ما يتبدى واضحا من منهج الروائي برهان الخطيب منذ صدور أول رواية له (ضباب في الظهيرة) أواخر ستينات القرن الماضي حتى تقديمه آخر رواية له (ليالي الأنس في شارع القيامة) إلى دار الشؤون الثقافية لتُلحق في ركب رواياته هناك البالغة خمسة عشر رواية تُصدِر منها خلال عقدين (الجنائن المغلقة 2006)  و (نجوم الظهر 2016) على أن تصدر قريبا (ملف عابر قارات) التي طال الجدل والسجال حولها بين المؤلف ودار الشؤون الثقافية، منه ما وصل صحيفة (العالم) ونشر في صفحتها الثقافية منيرا بعض مواقع الانترنت.. فماذا وراء ذلك وماذا تغيّر أخيرا..
تغيرات كثيرة حدثت في هرم السلطة منذ صعود الكاظمي إلى رئاسة وزراء العراق، ضمنا وزارة الثقافة ودائرة الشؤون الثقافية، حيث تم استبدال الوزير ثم مدراء عامين هنا هناك وصولا إلى المنصب الحيوي الرسمي المؤثر في نشر وتوزيع الثقافة العراقية، روح المجتمع، ضميره المحرك حياته الحضارية.. موازاة ذلك ومنذ أكثر من عامين لم يهدأ وطيس أخذ رد بين الروائي الكبير برهان الخطيب ودائرة الشؤون تحديدا حول نشر آخر رواية له (ملف عابر قارات) حتى تكللت مرحلة الغموض أو المخاض تلك على الساحة الثقافية بوضع رواية جديدة أخرى له بعد اعتكاف (ليالي الأنس في شارع القيامة) هي الأخيرة التي لن تعقبها رواية منه حسب إعلانه أمام بعض معارفه وأصدقائه.. خلص.. مراهق الأدب المزمن يبلغ من العمر عتيا.. يريد يرتاح أخيرا.. يطلع تقاعد..
 إذاً بعد الذي والذين وانقطاع الخطيب أياما حاسمة عن دائرة الشؤون، تتصل الدائرة مؤخرا بالمؤلف الخطيب، وتسأله عن رأيه في ضم ليس (ملف عابر قارات) وحدها ـ الرواية موضع الجدل طويلا ـ إلى الخطة الثقافية للدار، ونشرها دون تحمل المؤلف أي جزء من كلفة النشر، بل وأيضا ضم مجمل روايات كبير الرواية العراقية والعربية المعاصرة التي أبدعها خلال أكثر من نصف قرن، متوغلا في حاضر وماضي العراق والمنطقة، مستشرفا المستقبل الروحي لهما، صانعا سفرا أدبيا للمجتمع العراقي، يعين في رؤية حركته ومنعطفات تطوره صعود نزول في خفاياه، توخي عدم تكرار أخطاء تصيبه جراء غياب مرآة أدبية افتراضية يبتدعها عادة مثقفون كتاب، متفانون في أداء دورهم التنويري الحساس الحاسم في مقدمتهم، كما هو معروف عميد الرواية العربية الأول نجيب محفوظ الحاصل على نوبل..
معلوم أن الخطيب يرفض تصنيفه روائيا فوق غيره من الرواد رغم أن بعض المثقفين العراقيين أعلن صراحة أحقيته في الصدارة، آخرهم زميله رائد الستينات عبد الرحمن مجيد الربيعي، حين رفعه في شارع المتنبي، أمام حرمه وشقيق الكاتب، إلى مكانة قائد الجيل ورمزه بما يحققه من إبداع روائي له مكانته وضرورته للثقافة عموما.
 احتضان دار الشؤون الثقافية مجمل رواياته يكمل الصورة.. يوافق الخطيب، تُدفع  (ملف عابر قارات) إلى الطبع..
فماذا فيها لماذا تأجل النشر طويلا أكثر من مرة.. لماذا تعود الدار تسأل المؤلف رأيه في نشر كل أعماله الإبداعية، وتوزيعها سنويا ضمن الخطة الثقافية لها..
 لحداثة موضوعها وحيويته.. (ملف عابر قارات) رواية غير تقليدية شكلا مضمونا. تفكك أركان الرواية الكلاسيكية، الزمان المكان الشخصيات النمطية.. تحولها إلى سجل حافل بالتغيرات محاولة فض الغامض، مستلهمة الكثير في النص من علاقات وسير أفراد معروفين من نخبة لها دور في تأريخ ثقافة العراق، محوّرة أحيانا في الأسماء قليلا، لتجنب إشكالات لا تنتهي عند عرض حقائق من تحولات الأمس، احتمالات اليوم.
إنها تجربة مختبر أدبي إبداعية، لا بد منها مذ يتجدد بلدنا مع العالم على تخوم الألفين. رواية تعيد تركيب الوقائع على نمو الأفكار: تحليل الصدف. مخترقة كواليس مسرح الواقع. منتزعة حقائق ضائعة أو مضيعة. تعيد الحدث الكبير إلى  قصصه الأولى. تجلي أسباب ونتائج ترابطها في أزمان أماكن مختلفة. يجمعها خيط السرد مشهدا عريضا عن معذبين مع وطن في صراع طويل مفروض من محيط..  إلى صراع أبعد مع آخرين ليكونوا  أو لا يكونوا.
في روايته هذه لا يستبعد الروائي برهان الخطيب شخصية المؤلف، انما يقدمها إلى قارئه في مواجهة الذات، الآخر، خيارات الإبداع، الموضوع، من جهة أخرى العالم، على نهج كتابة صادقة واضحة، من غير غموض مفروض، موح عن عالم تربكه حروب، ألغاز.
ورغم المنحى الفكري شبه الوثائقي كما هو واضح من بعض فصولها المنشورة سابقا في (العالم) تبقى روايتنا هذه عاطفية خلابة، حب مع نساء من الدور الأول، مع شخصية نسنس غريبة الأطوار، رواية فيها حقائق غريبة عن أناس لهم  حضور في صناعة الأحداث، ذات أسلوب فني حيوي، حوارات لها حرارة، نبض، صور باذخة ألق إيحاء من موضوع جاد حاد عن قوى ظاهرة وخفية تسيّر الأحداث عامة خاصة يقلبها المؤلف حينا على البطانة، يرى القارئ الكثير من خفايا عصرنا المتفجر من الجديد إلى الآتي. يتوغل ناقد أعمق فيها يجدها تدور على ضفة زمنية مكانية مقابلة لروايته البكر (ضباب في الظهيرة 1968) كتب عنها غسان كنفاني، سعد البزاز، خالد مصطفى، غيرهم.. إلى صالح الرزوق قبل عامين.. البارز في مقارنة بينهما أن السارد هناك يتحدث للمؤلف عن حكايته مع صديقين غامضين حتى نهاية سوداوية، في (ملف عابر قارات) يأخذ المؤلف دور السارد بعد نصف قرن يتحدث عن ثلاثتهم وما يحضر منهم إلى اليوم من غرائب خلال زمن عصيب حتى نهاية مفتوحة.. أيضا في روايته (ليالي الأنس في شارع القيامة) الحديثة يعالج مخرجات حدث روايته (شقة في شارع أبي نؤاس 1972) كذلك (ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس 2009) ويقدمها في مكان آخر زمان اليوم متشربة عصير التأريخ، يبقيها حية متفاعلة فاعلة، كما نرى ونسمع من الأخبار. ذلك وغيره يجمع روايات ب الخطيب، ملحمة واحدة فريدة عن قلب عالم اليوم.. العراق منذ تأسيسه..
بعض النقاد له حق يرى تجربة ب الخطيب الروائية لا تضاهيها تجربة في الأدب العربي والعالمي.
نسنس أو بسبس الحاضرة في (ملف عابر قارات) للمؤلف: غيرك يركب الأدب يحصل على حظوة أنت تضحي حياتك للأدب.. ذلك همس لا من الرواية.. بل من قناة خاصة..
تقدم (العالم) هنا مقتطفا من الرواية على أمل نشر دراسة عنها قريبا.. وأخرى عن (ليالي الأنس في شارع القيامة) التي ضمتها دار الشؤون، مؤخرا، إلى بقية رواياته ضمن خطتها الثقافية السنوية..
ليلة النرد ـ فصل من (ملف عابر قارات)
يرفض مدلول تناول المصعد إلى الشقة، ذريعته خلاف سابق يمنعه: أي خوي في السيارة يمكنه الصعود جلب النرد.
 يصر الرسام في مرح، أخوية، على صعود مدلول لا غيره إلى شقة جلول، هو الأقرب إليه جلبه النرد لا ينقص هيبته، الشلة عارمة عازمة على مواصلة السهرة. لا فائدة، الأديب يصر على صعود غيره إلى الشقة. يرجوه الرسام، منحه فرصة كلام خاص مع الزميل رفقتهما.. يغادر الأديب السيارة، الهاجس ينذره.. في الخفاء تدبير كبير.
 يأخذ المصعد إلى الطابق العشرين في كبرياء، إلى أين تذهب هذا المساء، على بغداد حرب عاوية النداء، حوله شارع دائري انشوطة تهدد أبرياء، أسفل العمارة العالية تنتظر سيارة الزملاء، توقيت دقة، غربة تتبدد لاحقا مع مزحة في رِقة، ينقر الجرس.. فتح الباب يتبعه شهقة.. ميمي وحيدة في الشقة.. لا صديقة.. صغيرها مع الأهل في رفقة:
_  المباراة حاسمة.. الرهان؟ رأس واحد منا.. نحتاج النرد!
 ميمي ذلك المساء مختلفة عنها في كل الأمسيات، أنثى تنوي ارتكاب فعل حاسم، يخال تصوراته فطنة: دع لماذا، لمن، اسأل مَن.. مَن وراء التبرج غير المعتاد وقت البعل في غياب؟ المشهد عادي في الظاهر حتى عند مرتاب، تحت النص مدبر في دهاء.. عن حساب، يتبدى بعد حين عجب العجاب، يخرجه وراء كواليس مخرج ماكر المنهج: حركة الجميع حرة، السيناريو تلقائي، الأبطال اثنان، الموضوع غواية ليل، الأهم.. لا  الثمرة المحرمة.. بل  البذرة القادمة.
 مفعما من أمل، حالما في حياة سوية بلا بطولة، يستنتج لا حياة سوية من غير بطولة، أمام ميمي في هرج مسموح، على مسرح مفتوح، السيناريو مدروس وسط ممثلين هواة محترفين ساخرين من بطولة، من حدود أو بيان، في عالم مبتكر متنكر تحت مسوح رهبان، مَن يتفرج يتلهى يلوك اللبان!..
توسّع شبيهة الأميرة ديانا فتحة باب الشقة، تفاحة وراءها في طبق، تجره من الرسغ بلا كلفة إلى شَفَق، يغرق في نور ناعس يماثل الغسق:
_  صديقك ليس هنا ادخل أريد الكلام معك.
يضطرب عن جد، يتحقق الظن، تنتظر قدومه، يواصل المزاح في الروسية:
_  العصابة تحت، التأخر يُفسَّر ما لا يحمد.
تدخله، تغلق باب الشقة وراءه:
_  يملون الانتظار يغادرون لا عليك منهم.. قل ماذا تشرب.
_  سعار اللعب يركبهم يأتون ورائي بعد قليل لو أتأخر.
_  طيب خذه إليهم مع وعد.. ترجع حالا بعد تسليمه.
يتأكد: حكاية النرد فيلم، قيادته إليها عن غاية، خيانة مع ميمي خارج نطاق منطق نظامه، جلول مع مدلول أكثر من صديقين.
أسفلت الشارع الدائري حول العمارة العالية  يُزرع أزهار شر سوداء.
لا يدرك كل شيء.. يتمنى عدم الفهم.
أضواء المدينة تحت النافذة العريضة من الشقة في وسن، بعد قدحي هافانا في شبه ظلام يتداخل الدلال مع المرام، تطلب أخبار رجلها صديقه، لكن ما شأن مدلول من لقاءات جلول أو ماذا يقول في أي مكان ناتئ أو مصقول:
_  حتى لو أعلم يخونك أي عقل أنتِ الذكية يصوّر لكِ أشي فيه؟!
_  لا تريد نقل أخباره افهم .. عاما محرومة من الفراش ماذا أفعل!
_  يحدث أسوأ خلال حياة زوجية.
على شفتيها ابتسامتها الخفيفة مع الحياء القليل المستوحى من الأميرة:
_  وفّر نصائحكَ.. لستُ ملكة جمال..  أنت هل تراني جذابة؟
_  النساء يتصورن أنهن أقل جمالا أو قيمة مما هن في الواقع.
_  يعني أنا جميلة في نظرك؟
_  طبعا أنت جميلة هو لا يخفي عنك حتما.
_  لماذا لا تقبلني!
يُصعق.. يرى ستالين بلا شوارب!
_  أنتِ لا من نوع النساء ذاك.. لماذا تمثيل الحب عليَّ!
_  لا أمثل.
_  زوجة اقرب صديق كيف أقترب إليك.. في بيته.. نسهر!
_  خليكَ من الأخلاق أجبني.. راغب تقبيلي؟ لا تكذب.
_  ؟؟؟؟؟؟؟
_  لا رغبة لا تريد؟ أفهمتَني أنا جميلة إذاً كاذب.. راغب هيا.. لا ترد.. جبان.
_  القبلة برهان شجاعة أو صدق!
_  لا تختلف عنه خواف.. تخاف حتى طلعة الشرفة.. نظرة منها إلى أسفل!
_  كم سؤالا عندكِ في امتحان اليوم بربك!
_  أكمل قدحك هيا إلى الشرفة.
يتبعها، مع تأثير المشروب السابق اللاحق لا يستوعب كل شيء، هو الذي يكتب: أشرب أصحو.. أفهم أحسن.. فِهم الجد جلجامش.
الليل عميق، البعد سحيق، هواء الشرفة الليلي نقي بارد.. من المدى نقيق.
تتوقف عند باب الشرفة تملأ صدرها أنفاسا إرادية غير إرادية.
المدينة يلونها نور قاتم انطباعي، الطابق معلق بين ضباب غيم، رائحة رطوبة نفاذة.
تشير ميمي إلى سور الشرفة الواطئ:
_  أرني كيف تنظر من هناك إلى أسفل.
ظلام الشرفة يلهب الخيال ما قصدها من اللعب مع الخطر، يقترب إلى السور الذائب في العتمة، الوادي الأسود فسيح بلا قاع.. غاوٍ إلى طيران ليلي بطيء.
 ذراعا ميمي على صدرها تتحداه.. نظرتها غامضة:
_  على الشرفة أنت آمن.. تخاف أكيد الاحتكاك مع السور.
التحدي جزء من طبيعة الحياة، يقترب إلى السور، تلامس ساقه حديده البارد.
تتسارع أنفاسها تضيق ابتسامتها، تتباطأ كلماتها تفقد نبرتها لحنها الأنثوي:
_  تخاف ركوب السور حتما.
يقبض على الحديد، الريح تهز العمارة، ساقه على جواد وشك عربدة.. مَن يروض مَن.. يركز عليه.. الريح تولول.. تعول.. بقايا أضواء الأعماق المظلمة السحيقة الساهرة تُطفأ.. تلمع عيناها مغريتين في هياج غير متوقع تختفي ابتسامتها:
_  لكنك أكيد تخاف عبور السور.. الانتقال إلى الفراغ الحقيقي هناك.
يميل بدنه يحشر قدمه اليمنى بين حديد سور الشرفة خارج العمارة، ينقل ساقه اليسرى فوق حافة السور، يستوي ممسكا الحديد البارد في الريح، الظلام، سابرا عينيها ماذا تريد حقا، هي لا تنوي قتله، تقترب إليه.. ثمة لحظة إلى مناورة.
_  أنظر وراءك.
ينظر وراءه..
_  ارفع عن السور إحدى يديك.
يرفع اليمنى يبسط الأصابع أمامها، العناد يُكسر في عناد يدرك ماذا تريد.
_  لا يمكنكَ رفع إحدى قدميك.
الظلام متصل إلى الأبدية، الريح تدور حول الأرض تعود، قدمه اليمنى ترتفع عن سور الشرفة، يختبرها هو.. قد تريد قتله ادعاء يسقط سكران أثناء تحديق إلى أسفل أو يرمي نفسه ببساطة من الشرفة تخلصا من توتر.. يسألها.. يمكر:
_  أرمي نفسي؟
مبتسمة في عصبية:
_  تقدر؟
_  ردي أنتِ أولا.
_  رد أنتَ.
_  أنا أول مَن يسأل.
_  تعال أقبلكَ.. على الشرفة لا جوار السور.
يعود حذرا، قبل التقاط أنفاسه تغرز شفتها السفلى بين شفتيه.. تمتصه.
لا تؤثر قبلتها فيه، بائخة من أخت، ممسكة وجهه بين كفيها تغمغم مرتعشة: 
_  أريدك.. خذني بربك.
_  ليس اليوم.. أريد أن أفهم.
_  إلى جهنم مع الفهم.. أمامك أنا..
_  .....
_ غدا باقية وحدي.. تأتي صباحا مبكرا تجدني لك إذا لا أموت من الانتظار.. لا طلعة لكَ من بيتي دون وعد.. العاشرة تأتي مع قنينة قوية  تشعل بقيتي!
 العاشرة صباحا يقرع الجرس، تفتح الباب، يرفع قنينة شمبانيا. تقرّعه:
_  تخيب ظني.. قلتُ قنينة قوية.
_  لا نثقل العيار أفضل.
 يتقارعان الكأسين الطويلين في المطبخ:
_  انقلاب كبير في شخصيتكِ.
_  لا انقلاب، أنت ضعيف نظر السنوات الماضية.
_  إفلات الزمام فوضى.. زوجة، زوج، صديق، مثلث برمودا قلبه بلوى.
_  لا نقلب لا نخرق القانون.. قروي.. استمتع في حياتك.
_  الحدود ضرورية.
_  كذب.. كلام كتب عتيقة.. الخوف العجز عائق. _  ميمي.. الرغبة حد سكين!
_  رفيق مدلول قل لي بربك.. لا تضجر من العقل كل الوقت؟!
_  شوطه طويل.
_  تنقل إلى جلول حكايتنا أمس اليوم؟
_  ما رأيكِ أنتِ؟
_  لا تخبره. تغيّر رأيكَ عن صواب أو خطأ تخابرني إلى الشغل.
_  لا أخبره طبعا.. نبقى أصدقاء.
_  المفروض أنا في عار خجل أمامك حتى إشعار آخر.
_  أبدا عزيزتي ميمي.. لستُ حاكما على غير نفسي.
يبقى جلول مع مدلول يلتقيان في زيارة، شغل، مقهى، كأن مشكلة لم تكن..
 التفاصيل يذكرها رافد إلى الأديب في غوتنبرغ متسائلا عن مطابقتها واقع ملتبس. يرد مدلول: ترويها حسنا..  لكن لها إضافة جوهرية.. ما هي؟.. تراها في الرواية.
لا ينقاد إلى اعتراف، لا يسأل كيف من أين تصل صديقه الأسرار.. واثقا أن جلول ليس مصدرها.

4

روايات وراء قضبان الشجون الثقافية

برهان الخطيب
الحلبوسي يصرح قبل أيام: خلص صبر الشعب العراقي. برهان الخطيب ينادي على صحيفة (الصباح الجديد) قبل 14 سنة تحديدا في (21 أكتوبر 2005) بعد تسويف وزارة الثقافة في نشر بعض أعماله: صج النوم يا وزارة الثقافة!..  إلى اليوم يكرر النداء.. لا فائدة. ما العمل؟ استبدال خطاب الأدب بغيره أيضا لا يفيد، يعني نستجيب إلى المطلوب، من عملاء لهم مختلف الأقنعة في جهاز الدولة خارجها تخريب حرق منجزات وطنية، اقتصادية ثقافية، رفع التوتر بين المواطن ودولته، إضعافها، رفدها المزيد من أنانيين لاهين أو مناضلين خارج سياق تأريخ نظيف لبلدهم، على طريق استكمال هيمنة خارجية على البلد، على اقتصاد العالم، ذلك يحدث لا في العراق فقط، لا في منطقتنا فقط، بل كل العالم، في أزمان مختلفة..
 نهاية سبعينات القرن الماضي أرسل إلى وزارة الثقافة العراقية مجموعة قصص (عشرون قصة)  للنشر بذلك العنوان ضمن منشوراتها، بعد أقل من عام يأتي الرد: قصتان من المجموعة موضوعهما لا نريد إثارته. الرقيب يحصل اليوم على جائزة إبداع. أتخلي عن عنترياتي أكتب إليهم:  نستبعد القصتين ننشر البقية تحت عنوان (الشارع الجديد)؟ أول الثمانينات تظهر مجموعة القصص. يكتب عنها وقتها رئيس اتحاد الأدباء الحالي مقالا حسنا، يرسله مؤخرا إليّ مشكورا. يظهر أيضا من يكتب على هوى حسنة ملص عنها عن غيرها يقول قصص برهان كذا كيت، تمنع كتبي من دخول البلد، من كتابة أطروحات أكاديمية عنها، يذكر ذلك باحث عراقي محترم. رفع كبس يستمر. أعترض برسالة شديدة إلى الوزارة على منع إحدى رواياتي، صديقي نقيب الصحافيين يخبرني بعد حين: كيف تجرؤ على الاعتراض، اهرب قبل النيل منك. أعود إلى بلد الكافيار والاشتراكية والنساء الجميلات، المقال موجود في ألف باء. الحرب العراقية الإيرانية مع صعابها المعنوية والمادية محتدمة يفاجئني بنك موسكو يخبرني وصلت إليك مكافأة نشر، حوالي ألفي دولار، المبلغ ذلك الوقت يسحر، يدحر ما يدحر، لم أطلبه ولا أنتظره، أحوله إلى شقيقتي رغم مشاكل حولي تكمل دراستها في الخارج، تحصل على الدكتوراة، تخبرني بعدها لولا تحويل ذلك المبلغ إليها يومها تنقطع عن دراستها لا تحصل على الشهادة.. في ما مضى دعاية طبعا للوزارة وقت دكتاتورية، حرب، إنما موضوعي هنا حرب خفية تحت معلنة..
نضطر إلى النشر في الخارج، العزيز الطيب فؤاد التكرلي يكتب إليّ في رسالة شخصية أحتفظ بها: ما يهم في النشر هو التوزيع، وآمل أن تفهم دار (بوديوم) أهميتك داخل الوطن العربي وان تبذل جهدها لإيصال عملك هذا إلى القراء العرب..
حكمة تضيع بل تضيَّع عمدا مع جل حكمة الإنسانية.. السلام عليكم، منها حكمة أمتنا العربية، العراقية، البابلية.. من أجل حفنة دولارات!..
هنا تفصيل داخل تفصيل، كما في رواية مختصرة محتصرة لاستكمال صورة أكبر أهم.. 
تحديدا بعد أربعة عقود، نشر درزن كتب، انتظار مكاتبات سنوات، استلم رسالة أمس من دائرة الشؤون الثقافية.. تخبرني عليك دفع نصف كلفة النشر لطبع كتابك الجديد.. قبلها قالوا (ثلث الكلفة)..  قبلها توافق وزارة الثقافة على دعم النشر بكتاب رسمي، يوقعه المستشار الأقدم، الموافقة تضرب  عرض الحائط رغم نظام (ديمقراطي) عندنا، رغم فلوس نفط تصل جيوب كل الحرامية.. إلاّ ثقافة الوطن الأبية، رفدها، رفعها، دعمها، كما فعل السيد الجابري حال اطلاعه قبل عام على رسالتي عن مشروع نشر الروايات في دار الشؤون الثقافية، أيضا رغم رواج بيع الكتاب الأول والثاني والثالث لي هناك خلال الأربعين سنة الفائتة، رغم نقل احد موظفي الوزارة هناك لي أنه يفكر في مفاتحة الوزارة لإعادة نشر تلك الكتب ردا على كساد كتب أخرى تطبعها الشؤون.. موظفة أخرى تتغنى تقول لي .. لم نبع من روايتك نسخة واحدة!  كرامر ضد كرامر.. الضحية البلد، ثقافته، اقتصاده، استقراره، وجوده..
 خلال وقت طويل أناور مع الشجون، في دور حَكم، أحاور  الشؤون، الوزارة، هذه ترفع تلك تكبس، للوصول إلى نتيجة ترضي سعي الأدب العراقي عموما إلى رفعة، قبل ثلاثة أعوام ننجح في نشر (نجوم الظهر) مكافأة النشر منها (النشر المكافأة قصدهما جرّي، تعلن  سيدة طروب، إليهم.. إلى معمعة.. أفهم) استبدلها عددا من النسخ، استبشر على أي حال خيرا في تمكن أدبنا اجتياز محنة العراق بعيدا عن مماحكات السياسة، إنما يبقى هذا من تلك..
 ما أن ينجح عادل مهدي في ترسيخ أساس جديد للسياسة العراقية في سفرته إلى الصين، يبعد العراق عن دوامة الأطماع الخارجية، الحزبية، لا أقول الطائفية، لأني أساسا لا أصدق بوجود صراع مذهبي أو طائفي أو ديني في العراق، كل تلك الضوضاء مفتعلة من الخارج، الشعب العراقي واحد، فطن، منتبه، إلاّ دمى تحسب نفسها من مثقفين، سياسيين، تتراقص تتصايح عن خطأ الجميع إلاّ حضرتها.. تسير على صراط مستقيم.. المهم الهميم، اليوم يجد العراق دربه السليم بعد بحث عقود، تغير أنظمة، يتجه إلى تطوير قويم، حتى نسمع الأصوات تتعالى مجددا عن خطل هذا رجاحة ذاك، محاولة لإعادة أو استمرار البلد في دوامة الصراع، ذلك متوقع طبعا.. تقارب أي بلد مع الصين لا يستمر من غير إثارة مشاكل في الظل في النور. تلك جورجيا القفقاس تبني الصين في عاصمتها تبليس مدينة تجارية فخمة لا مثيل لروعتها، إنما لأسباب لا تفهم أو تدليس باقية سنوات فارغة.. تنادي المستثمرين.. جلهم من ذلك في حيص بيص.. هكذا حال الثقافة.. يستعدل وضعها يقلب في خفاء.. تدري لا تدري ممن..
التهذيب الأدب سلاح خلّب. النتيجة؟ فرط صريح يقلّد المسيح؟ تبنّيه تصديقه  كسيح.. في هذر فسيح.. أو.. حمل المكوار في هجوم صريح.. على دائرة السجون يحرر الشجون؟ سوف يتصايحون على مواقع الفسائس: انظروا ماذا يفعل المثقفون.. بأي آلاء وزارة يكذبون!..
لا أحد يرى.. يعمل الخطيب في مشروعه نصف قرن يهدي عصارته إلى شعبه عن طريق الشؤون ثم الوزارة.. جائزته، حسنا لا جنازته، من أشباه رجال تملص..  يلائمه أسوأ نص..

6

موسكو تستذكر (سقوط سبرطة)


لـ برهان الخطيب - بغداد - العالم
تستضيف وكالة سبوتنيك الدولية هذه الأيام على موقعها الالكتروني ومحطتها الإذاعية، في حوار متشعب واسع، ضمن برنامج ضيف الأسبوع، مؤلف رواية (سقوط سبرطة) أو (حب في موسكو) الأديب العراقي برهان الخطيب، ذلك بعد مرور أكثر من ربع قرن على صدورها في العاصمة الروسية باللغة العربية.. رواية ما تزال تثير الكثير من ردود الفعل في صالحها. الكاتب  يوسف الصفار من بغداد يعتبرها أفضل روايات الخطيب، يكتب دراسة عنها يذكر: هي رواية نحتت السياسة شعرا.. ان روايته سقوط سبرطة لهي شهادة على سقوط الإيديولوجيات.. الصحافي الفلسطيني فهيم السوراني معجب فيها يقول عنها: لا أدخل بيتا في روسيا فيه من يقرأ العربية إلا  وأجد الرواية أمامي هناك. مدير المركز الثقافي السوفيتي السابق في بغداد عادل العبيدي يذكر للمؤلف: لم أقرأ في حياتي عملا يضاهيها تشويقا وجودة. من لبنان أيضا يصدر نداء متحمس لها..
الناقد جمعة عبدالله يكتب عن (سقوط سبرطة) على مواقع عديدة يقول عن بطلها أنه يجد نفسه في غربته  بلا آفاق، بلا نوافذ، أمام جدران مسدودة تفاقم إحباطه خيبته في التواصل الحياتي، يعاني التمزق، الانكسار,  التخبط في شرنقة إحباطات, على وتيرة من إرهاب فكري نفسي روحي, يفقد التوازن الحياتي, يفشل في الحب والزواج. يرى بقاءه لا غير تجرع معاناة متزايدة, لكنه يشغل النفس يواسيها بعدم الانصياع، تجنب الوقوع في براثن الإذلال, تسنده روح التحدي التي يملكها أمام عواصف ثلجية مرئية غير مرئية..
 ويكتب الشاعر الروائي برهان شاوي على مواقع الفيسبوك الاسبوع الماضي عن مؤلف (سقوط سبرطة): الروائي والمترجم الأستاذ برهان الخطيب قامة إبداعية كبيرة ومهمة دونما مجاملة كونه صديقا عزيزا عرفته حينما كنت في موسكو والتقينا مرارا في شقته بجنوب غرب موسكو، وأعماله الروائية لها مذاق خاص في مسيرة الرواية العراقية من ناحية عوالمها السردية وبنائها الروائي، وهي أعمال يليق بها الاحتفاء النقدي والأكاديمي.
الناقد د. صالح الرزوق يقول عن حوار سبوتنيك مع الخطيب: استمعت للحوار و انتبهت لتفاهم المختلف و ليس المتماثل. اللقاء ممتاز و رشيق. و خاتمته رواية تحتاج سنة قبل اطلاقها..
  آخرون غيرهم.. يعودون إلى الرواية مؤخرا.. معدة ومقدمة البرنامج، خبيرة العمل التلفزيوني والإذاعي طيلة 13 عاما، السيدة لينا المتني تقدم مؤلفها على قناة سبوتنيك الإذاعية قائلة:
الروائي العراقي برهان الخطيب، من مدينة بابل العراقية، أنهى دراسة الهندسة في العراق وأتى إلى موسكو في دورة تدريبية لعدة أشهر (حزيران 1969) لكنه بذل جهده ليبقى فيها ويكمل مشواره الدراسي وبالفعل بقي في موسكو ودرس الأدب العالمي، عمل بعد تخرجه في "دار التقدم" للنشر. بعد 18 عاما من إقامته هاجر من موسكو إلى السويد بعد رحلة اغتراب ومعاناة وفشل (إحباط) في تكوين أسرة..
يبدأ الروائي حياته من جديد متابعا الكتابة فيكتب مجموعة كبيرة من الروايات منها ما يعكس حياته في موسكو ويسمى الرواية "سقوط سبرطة أو حب في موسكو" صور فيها من خلال شخصيات الرواية الآلة السوفيتية البيروقراطية وتوقع سقوط المعسكر الاشتراكي وتشكل القطب الواحد، كما له رواية "غراميات بائع متجول" عن قصة حب فتى عربي وفتاة روسية ، تتطور الأحداث ديناميكيا على خلفية مليئة بتفاصيل الحياة اليومية الاجتماعية والسياسية ليصور الكاتب من خلالها الحياة السياسية والاجتماعية على الصعيد الإقليمي والدولي وتنتهي الرواية بخاتمة غير متوقعة .
من خلال الحياة والتفاصيل الحياتية لبطل الرواية يكشف الروائي أدق تفاصيل سيرته وتعايشه في الاغتراب خلال تواجده في الغربة في روسيا ( الاتحاد السوفيتي سابقاً ) ومن  خلال تطور العلاقات المتشابكة لأبطاله يصور المنعطف الذي يتحول إليه العالم من حروب وعنصرية وازدواجية وتمزق الحياة العائلية  ويظهر من خلال مراجعة التاريخ  أنه يجب أن نكتشف مصادر التوتر والبحث عن خلق توازنات جديدة من أجل التعايش السلمي..
من أعمال الروائي العراقي برهان الخطيب "على تخوم الألفين"، "أخبار آخر الهجرات"، "الجنائن المغلقة " وغيرها..

7

برهان الخطيب.. تتويج إبداع نصف قرن
بغداد ـ العالم
 يتوافق هاجس الكاتب مع نبض الشارع يصعد كلاهما إلى ذرى إدراك. مافيات سياسة، أدب، اقتصاد، تضحك من ذلك، تقول أي إدراك أي شارع؟! رعاع يحركهم إعلام موجه من مموِّل يدعي التحرر يجرهم إلى نداءات خادمة أهدافه المستقبلية، لديه الكاتب عرضحالجي يدبج لا طموحات جماهير بل رغبات شركات، جوائزها ترقّص أكبر كاتب، من متفتح  هز  يا وز، إلى متزمت  يس يم. الاقتصاد أيضا.. صعلوك يرفعه وزيرا، عبقري لا يساير ينزله وضيعا. كله ليس جديدا، الجديد يراه مراهق واقع حال، يتمنى في عالم حرية بلا حدود الانضمام إلى أباطرة تخريب أخلاقي، منفذين أغبياء، لعله يحقق نجاحا معهم. التبرير: بناء جديد يوجب هدم قديم، مَن لا يمشي على الدرب لا يصل الأخضر.. لا الهشيم. برهان الخطيب في مقال يختصر: الدرب واحد.. العالم أمم! آخر مشاكس يؤكد: شيوعيو العالم أرادوه واحدا.. في حلم.. في فيلم.. النتيجة فشل مقيم.. أوسكار سقيم.. لماذا نعيد الفيلم!..
خلال حديث عن الإدراك في حديقة بيت الخطيب العتيق يعاتب السجين السياسي العريق عديله الكاتب الأنيق: روايات الخيال لم تعد مرغوبة عند عراقي، الواقع يعذبه، يريد رواية وقائع، أسماء صريحة. السياسي لا يدري، الكاتب تعذبه الفكرة، يحصل بينهما حينه توافق حد تطابق. يتعب ب الخطيب سنوات ينجز (الحكاية من الداخل) مزيج وقائع مع خيال، فيفتي فيفتي، الوثائق يظهر صورتها الحقيقية خيال، يكمل حقائق منهوبة، من أولي أمر يخالون هم أعجوبة. الوثائق غالبا نيغاتيف، صورتها ساطعة يظهرها عقل، حصافة. يقرأ دكتور فلسفة المخطوطة تبهره يكتب عليها: برهان الخطيب كاتب عربي، عالمي، ليس عراقيا فقط. يقدمها الأديب مع بقية رواياته هدية إلى وزارة الثقافة للنشر، يسأل متى الرد، هل من تلفون استخدمه لاستفسار؟ سكرتير مبجل ميلاده عام صدور كتاب للأديب يخبره: فقط على الفيسبوك، تطلب صداقتي أنت لا أنا، أنا لا يحق لي. تنكشف مؤخرة النشر أمام الأديب جلية، والمقدمة تظهر بهية: الوزارة موافقة على النشر في الحال، يخرج الأديب فرحا من حسن المآل، صريح المقال، خارج الوزارة يقال: تمهل لا تفرح.. الأقوال تصير غير الأفعال!..
فعلا، ينتظر نصف عام لا رد.. لا حامض حلو لا شربت.. يكتب في عتب.. لا غير العجب.. الأديب ينزل إلى أقبية الفيس.. ينفّس.. يستفسر.. يهتف.. النشر من أجل رفعة وطن يا ناس.. صم بكم ينعدم الإحساس.. الرد بعد حين.. فيه تفنين.. حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه.. دائرة شؤون ترفع.. وزارة تكبس.. حَكَم مُوجِّه لا ينبس.. الكاتب كرة.. لا يُداس.. لا ينكس الراس.
الرد يتلقاه قبل الخطيب مثقفون آخرون منهم إعلامية معروفة حاولوا النشر عبثا لدى الشؤون الثقافية.. خدمة الوطن! يعود المثابر يخابر، وزارة ترمي إلى الشؤون، شؤون على وزارة، لعبة طيارة!
لوم الكاتب عن حسن نية محدد، لا إلى الشؤون الثقافية، لا الوزير، بل إلى مكتب سكرتارية يناور لا يحاور. مناورات ساحاتها لا الورق، تنقض ثقافة الحق، على أيادي تكمل نقل مجمل سلطة الدولة إلى بق.. إلى الخارج الولهان.. إلى عازفين على أعصاب رافضي هوان ثقافات الأوطان..
المشكلة تتجاوز الوطن في الجغرافيا.. التأريخ.. الطوائف الأديان براء منها.. حديثها طويل.. ينوي الأديب الكتابة عنها قريبا.
حديث حديقة البيت العتيق عن رواية أسماء وأماكن صريحة، أحداث تحدث فعلا، يتجاوز (الحكاية من الداخل) إلى آخر عمل يكتبه ب الخطيب ينهيه اليوم، عنوانه (ليالي الأنس في شارع الجبل) يتوج مشروعه الثقافي المستمر حافلا بالإبداع أكثر من نصف قرن، يبدو من العنوان امتداد روايته الشهيرة (ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس) التي تحقق مبيعات عالية على الانترنت. متابع أعمال الخطيب يتبين في مجملها جذورا متغلغلة في التاريخ عامة، واقع العراق خاصة، تجارب شخصية. رواية (بابل الفيحاء) مثلا ترصد على خلفية حياة الناس اليومية بدايات قيام حلف دولي، تأثيرها عليهم، على العراق. في الرواية التالية (الجسور الزجاجية) رد الفعل، مغادرة الحلف، انعكاساته على البلد، ثم في روايته اللاحقة (ليلة بغدادية) يبدأ العامل المحلي يصعد قويا، يؤثر في العامل الدولي.. استخدامه لتثبيت الاستقلال لا كما يجب بسبب الفرقة الداخلية.. هكذا بقية رواياته..
لا مصادفة تسأله إحدى مقدمات البرامج الثقافية التلفزيونية في الشام لو أنه يقوم ببحث ميداني، وثائقي، قبل كتابة رواية. الرد: نعم، يطلع على وثائق لا تصل أيدي آخرين قبله تخبره مسئولة مكتبة في بيتربورغ، موسكو، مع بدئه مرحلة ثانية من مشروعه الروائي. فكيف حال روايته الحالية التي يريدها نصف وثائقية نصف إبداعية؟ هاجس التدقيق ينتقل من حديقة، من بحث، من أطروحة دكتوراه له عن الرواية العراقية، إلى بطل روايته الجديدة رمزي، يصل شمال العراق من الخارج يتابع قضية اختطاف مهندس أجنبي. رمزي أيضا يطالب صديقه المؤلف استعمال أسماء صريحة في روايته الجديدة، عن نشاط شركات أجنبية، وسط تمرد، مؤامرات، تؤدي إلى جريمة.. لكنه عند خاتمة الرواية يتوسل المؤلف أن لا يذكر اسمه الصريح في الرواية.. لا كل ما يكشفه له من تفاصيل..
في الرواية أيضا كاميران القريب إلى به كا كا، فتاة من ضحايا داعش في الموصل تعمل في ملهى، وصيفة لها تفقد زوجها أطفالها،أخرى من سوريا، جنرال مثير للجدل ينقلب على جيشه مرتين يبقى أعلى هرم السلطة، آخرون مجموعهم يشكل جزء كبيرا من نسيج العراق الاجتماعي العام. معظم الرواية حوار مشوق عال حوالي عشرين فصلا، 220 صفحة، يؤهلها لإخراج تلفزيوني، سينمائي. دراسات عديدة تتوالى مؤخرا على موقع (الناقد العراقي) الالكتروني، أكثر من عشرة ملفات جادة تستعرض محتوى روايات الخطيب. ناقد يسأله هل تبقى ضرورة لقراءة رواية بعد الاطلاع على مختصرها؟ رد الخطيب حاسم: المهم في رواية لا الحكاية لا الحبكة بل عقلانية السرد، أهمية التفاصيل، هما يشكلان مستوى إنسانيتنا، منهما التشويق الراقي، ديمومة موضوع.
مزج الوثائقية مع تفاصيل الواقع ينعكس على تصميم الغلاف.. زاويته صورة قديمة في ركنها المؤلف مع ممثلي طلبة العراق مطلع الشباب موفدين إلى ملتقى كشفي شمال البلاد يتداول قضية انفصال الكرد.. في مجرى الرواية انعكاساتها.
برهان الخطيب لمن لا يعرفه جيدا يكرس حياته الطويلة إلى الرواية، إيمانه النوع لا الكم يضع عشرين كتابا مؤلّفا، مع ثلاثة عشر مترجما إلى العربية.. كلمته بعد كل رواية: هي الأخيرة. على غلاف إحداها: كل مرة أكتب رواية يلازمني خوف من الموت قبل إنهاء العمل..
حياته نتاج كتاباته لا العكس، قرينته الأولى زميلته في المعهد الأدبي كاتبة اليوم، الثانية خريجة معهد الأرشيف الموسكوفي يراها أثناء ترجمته دراسة عن الفارابي في مكتبة، يلتقي معها خارجها. الثالثة يمزح يقول لا أزال قادرا على الحلم..  لا بدّ آتية مع جديد. إحدى الموسوعات الأجنبية تذكر: أولاده حسن، آمال، ليث. الأول اسم والده، الثاني حب الصبا المتألق في روايته البكر (ضباب في الظهيرة 1968) الأصغر ليث، ليف بالروسية، ليف تولستوي كاتبه المفضل، ليون.. كلها الأسد.. ملك الغاب الذي يكتب فيه عنه. في عدد قادم من (العالم) استعراض بعض موسوعات  أجنبية يستضيف القصة العراقية، العربية عموما.
المزيد عن الرواية الحالية.. يتذكر الخطيب:
كل رواية أكتبها يمكن القول لها رواية. العالم يتغير مؤخرا انقلابيا، أحيانا معه نحن. فرز ما يتجاوز الخاص إلى العام يستحق الكتابة، تجربة صغيرة موحية أو كبيرة. نترك الخاص جانبا، نتناول العام نجد الأخلاقي، غير الأخلاقي، المتزمت، المنفلت. الوسط الذهبي يذهب مع ريح لا تستريح. عموما نكتب من أجل تثبيت مفاهيم مشتركة مقبولة، نماء الفرد معه المجتمع. على هامش رواياتي السابقة أتناول في صفحة بعض ظروف خلقها، له قيمة قراءة عن ممهدات ولادة طفل. كلاهما، الرواية، الطفل، حياة جديدة، من ثمرة قديمة، لهما عِبَر. أنا مراهق عام 1959 أمامي فرصة قضاء شهر على الجبل موازاة امتحان المرحلة المتوسطة، أضحي عاما رغم اعتراض والدي أترك الامتحان أصعد الجبل. نقاش انفصال الشمال عن البلاد هناك أعارضه. بعد يوم يومين، أثناء تمشي مجموعتنا قرب نهر فوار، إليه يدفع احدهم ظهري خلسة، لا أعرف السباحة، تنقذني أعجوبة. جسر خشبي بدائي اصدم قائمته صدفة خلال غرقي انجرافي في العمق، أتشبثها، أطلع فقمة مرعوبة آخر نفس. لا يُكشف مَن وراء الحادث. يومها أقرر كتابة رواية عن مكان ولادتي الجديدة ذاك، صورة لي هناك، كنت نشرت أول قصصي في مجلة الأحداث اللبنانية، الموضوع معي استجيب إلى ندائه أكتبه رواية عام 1994 أتركها أعيد كتابتها مرات خلال سنوات متباعدة. تلتم على الرواية (المسكينة) أزمنة أمكنة تجارب عديدة، أنبذ المخطوطة، تأخذ تلابيبي ليلا ترغمني أعود إليها.. باختصار هذه الرواية تكتب نفسها رغم أنفي.. بقوة الجغرافيا، التاريخ، مصائب ناس. انتهي منها على عتبة الخامسة والسبعين. ستون عاما عمر تحولاتها. تتخذ خلقتها النهائية تبقى مثل طفل.. تتراجع ملامح الأصل.. تبرز ملامح جديدة.
أدناه مقتطف حوار من الرواية، الصحافي في الطائرة إلى صديقه المؤلف:
- يقولون الأدب يموت. أي أسلوب يبقيه حيا مأثرة. المجتمع أدبه. حاصل تفكك مجتمع نراه تحتنا.. إليك مختصر فلسفة صحافي شاعر فنان.
- وإليك مختصر مؤلف تعبان. أديان يتحارب رجالها تنقرض..  أدباء في سوق هرج لا يقوّمون الأعوجاج.. التاريخ لولب يقال.. يتكرر ذات الانعطاف عند مستوى أعلى في وقت آخر، خازوق مرموق. من غير تشاؤم، لا تثبيط، شمس مجتمعات تغرب تشرق، أخلاقها تتغير. درس تجارب أولي، قراءات، تُحفر وشما على جلود أبناء بنات الخائبات.
- نعود إلى العود؟ الصحافي همه اليومي. المؤلف ديدنه الأبدي. عندي لا يختلف إدراك عن إدراك.. بل كاذب عن صادق.. الأول يملك الدنيا لا يعرف ذاته لا يعيش حياته. عكسه الصادق يكسب ذاته عالمه حتى في فقر مدقع.
- كفى.. لسنا ملائكة.. لا مبشرين.. لا حكماء آخر الزمان..
- معك حق.. مجرد انطباعات نرميها نوى بعد هرس الأصل..
- خلينا نبقى على اتصال.. لا تنقطع..
- أخابرك. نلتقي.. أكبر المتع ضحكة مع صديق.. خاصة عند ضيق..
- على اكتشاف عواء في غناء؟..
- تهبط الطائرة نتكلم ما نشاء.. ضمانة.. لا يسقطها نحن فيها..
- معي لا تخف.. بزون أبو سبع أرواح..
- أية روح تودع مع كارثة الطائرة التي أقرأ عنها في داغينزنيهتر؟!
- السابعة!
- يا ستار.. رصيدك خلصان..  أكلتها؟!..
- الوليمة مستمرة.. تأتيك التتمة..
كلمة ليست أخيرة:
الخطيب يهدي روايته عادة إلى فرد من عائلته الكبيرة، بعض أصدقائه..
 هذه المرة الإهداء.. إلى الغالية ابتسام.. لا تبتسم لي غير مرة واحدة..
صحيفة (العالم) تتمنى.. لا تدري.. تبتسم كل النساء له.. أو لا تبتسم.. يتحفنا تتويجا آخر!..
تهنئة منا له على انجازه.. مفخرة إلى أهل العراق الأقحاح.. مع بلوغه أفضل العمر.

8

"حديث البورصة".. فصل من رواية جديدة لـ برهان الخطيب

العالم/ خاص
فوهة مسدس كاميران عند صدغ المهندس الروسي ساشا:
- لماذا الليلة الفائتة تهرب لا غيرها.. قل لي.. القيد الحراسة لا عائق!
رمزي الصحافي يلفه رعب.. يخاطر يخاطب المهندس بالروسية:
-  قلت له.. امرأتك تلهو مع صديقك نيتك الوصول إليها بأي ثمن.. تمام؟
المهندس يرفع يده جزعا:
- رمزي لا تلعب دور بطل لا تحاول إنقاذي.. ذروة سخافات عالمنا.. طز..
يدفع كاميران فوهة المسدس في أذن المهندس:
- تكلم معي عربي لا برتكيشي معه. أنت مستر صحفي تسكت أو أسكتك إلى الأبد!
- رمزي يبالغ. لا امرأة  لي. الذي أريد رؤيته الفنانة بروين امرأتك اسمع أغانيها!
يعيد كاميران مسدسه إلى قرابه يجر المهندس من ياقته:
- أغانيها.. قل أي شغل لك معها.. صديقتها لا تكفيك.. ما طلبك من بروين؟!
 يد رمزي على فمه يتراجع إلى عمق الكوخ.. يتلفت رفاق كاميران.. حقي يتحفز.. ساشا المهندس يرد في استياء قرف:
- اسألها أنتَ.. توضح لنا لغز أكثر من طير على يد واحدة..
يتطلع كاميران إلى رفاقه.. حقي يحوم قربه ينفث غيضا يتمتم:
- لا تصدقوني حين أخبركم.. هي خطرة.. من النفاثات في العقد.. تستأهل القتل!

 دون إنذار يطلق كاميران رصاصة  بين قدمي رمزي، يقفز الصحافي مذعورا، فوهة الماسورة في بطنه.. كاميران يحقق معه:
- مَن أنت في الواقع ماذا تريد ماذا تنقل له عن بروين كيف تتقربان إليها؟!
- مسعاي إليكم أخبركم.. تطلقوا سراح المخطوف تقبضوا الفدية. لا شيء آخر. بروين يعرفها زوار بار الركن الحالم. ترسلها إلى هناك تستعملها تستعملك لا أدري!
- ماذا تعرف أكثر عنها؟!
- لا أكثر طبعا مما تعرفه أنت.. غيرك عنها..
- ماذا غير عملها في الفن على مسرح محترم؟!
- لها مع ساشا علاقة.. فنية على الأرجح!
- فنية.. أخلي الرصاص يمزح مثلك؟..
- تواً يذيع الرجل بين يديك موجز النشرة.. مقدمتها تفصيل بسيط.. المؤكد منيع..
- اترك المؤكد.. ماذا تهرطقان بالروسية.. ما جوهر علاقتهما.. هيا كل التفاصيل!
 رصاصة أخرى بين قدميه يقفز الصحافي يصيح:
- لا تجن!.. من أين أعلم أكثر.. قلت في البار يتكلمون.. يضحكون..
يلتفت كاميران إلى مساعده.. حقي يكشر ذئبا:
- الفرنجة على صواب.. الزوج آخر من يعلم.. يبدلها عراقيون لا عن حق.. الشعب آخر من يعلم!..
كاميران يجر المهندس من شعره:
- مَن يلعب على مَن أيها الروسي الحالم مجددا إمبراطورية تحكم العالم؟!
- لا تكرر ادعاء غربيين. هم يتدخلون في شؤون كل المناطق لا نحن الروس.
- كلاهما. روس مع شيعة.. غرب مع سنة.. تقاتلوا يا طوائف يا حساوية إلى القيامة..
- تلك اجندة لا  منّا. الروس أوراسيون من قبل دستويفسكي.. مركز توازن العالم..
- توازن! سابقا تعايش سلمي اليوم تعايش تجاري يضيعكم مع حلفائكم. دور ايران..
- عدة مراكز قوة.. عدة أقطاب.. توازن.. عدة ثقافات.. لك يا فاهم يا كاميران اختيار أوبرا.. دبكة.. حبكة.. تنخدع تبقى مرتابا مزدوجا.. تنتقد طوائف هناك.. هنا أنت تحتجزني.. تضرب يسارا بيسار.. تخدم الأجنبي تدري لا تدري!
- إخرس! لا يهمني اليسار لا اليمين.. تهمني قضيتنا الكردية فقط. تتحرش امرأتي تسرق صديقتها.. مع النفط إلى منافسينا.. تنتظر أقول لك عفارم!
- لا أدري بروين زوجة أو صديقة أحد. صدقني. تخبرني داعش تبيد أهلها.. وحيدة!
- عاهرة.. تدعي أنت عشيق صديقتها.. احترم خصوصيتك.. لا أفتح الموضوع..
- واضح كاميران.. لا أنت لا أنا يلعب مع الثاني..
- هي تلعب مع كلينا.. مع الدنيا كلها.. حضرتها على المودة مروضة زلم قردة لها!
- تلعب.. تتعب.. شقائي اختطافي.. همّي يتسع يكبر.. من خواء إلى هراء..
حقي يهز قبضته في الهواء:
- عقاب خونة معروف. أم الهررة هواها أوبرا لا دبكاتنا.. تدعي تنصر قضيتنا.. تتبرع لنا!
بين عصفين يضرب كاميران رأسه أخيرا يلوم حظه:
- لا تفلت من يدي. قريبا أعرف منها تفاصيل الحرب الثالثة.. سر هجمة الكل علينا!
رمزي ينصت، يستعصي على كاميران تفصيل.. يلتفت إلى المهندس:
-  إنما لماذا تهرب بعد وصول رمزي لا قبله.. معه خيط مؤامرة.. جديد يصلك.. تحسب الفنانة توقعك في يدنا.. بينكما خداع لا حب.. تنوي الانتقام؟ آي ياي ياي.. باي باي باي.. إتفرج يا سلام.. خيبة أمل دوبل.. لا تحزن.. أحاسبها.. أَمسكها!..
حقي يهز قبضته مجددا:
- تحاسبها؟!.. عقاب خائنة جدع أنف.. كسر ظهر!
كاميران يلتفت منزعجا إلى مساعده:
- نأخذ الحكم تنظّم لنا عبور الجسر.. يساره للذاهبين.. يمينه للقادمين؟!
 سخرية كاميران لا تطفئ حماسة حقي:
- اتركني  أحاسبها بدلك .. حلاقتها نمرة صفر قبل بدء تحقيق..
المهندس ضجرا:
- لو تلحق عليها..
كاميران من قلق إلى ترقب:
-  ظنك نيتها تشمّع الخيط.. تهرب.. من بلدنا إلى بلد واق واق؟!
 يتجاهل المهندس بطاقة السحب من المصرف.. يتناسى مشروع أخذها إلى الخارج:
- لاعب الخطر يفكر في أكثر من نتيجة.. لا يستثني خيارا..
- الحساب قريب.. قريب.. قبله يوم قيامة..

 أمام رمزي قرار.. تنبيه كاميران.. إلى كمين ينتظره في بيت بروين.. اشتباه السلطة في وكر يقيمه في غاب.. لكن التعاطف مع مسلح قد يدفع إلى غرق في بحر دماء..
السكوت؟! يترك كاميران إلى أيدي العسكر، الشرطة، رغم حذر، يَرجَح احتمال إرباك تحرير مهندس المليون، إفشال مهمته من الأساس.. عن مساهمة متعمدة منه!
 يحسن ابتداع كذبة تبعد كاميران عن البلدة، عن بيت بروين، أية حجة لا تفاقم الحال:
- عسكر يمرون على بيت بروين يسألون..
- تعرف الكثير سيد رمزي.. لماذا لا تنصحنا كيف نعيد خلق العالم!
- تزداد معرفتك تعيد خلق نفسك أولا.
-  حكيم لئيم.. بروين اتركها قنبلة موقوتة على أرضي؟!..
- شرطة تبحث عنها عنك. ربما تختفي عند إحدى صديقاتها تتقي ضربة مجهول.
 كاميران يتضور نمرا في قفص:
- صفقة جاهزة أمامك سيد رمزي.. تنشر مقالة عهر عن بروين تسوّد وجهها.. تطرح من مليون الفدية مكافأة لك.. تدفع الباقي يأتيك المهندس يتمشى الهوينا!
رمزي منتهى الجد:
- لكن الشركة تفوضني تسليمكم في آخر محطة لا أكثر من ربع مليون دولار!
- ما هذا الرخص مولانا.. الإنسان أثمن رأسمال عندنا.. تشتري مهندسا منا دراسته فقط تكلفه الآلاف مقابل مبلغ تافه.. السويديون كرماء.. لماذا بخل الأغنياء معنا؟!
- عملتهم تدري تفقد خمس قيمتها أخيرا.. يرتفع الأخضر.. لا حلف مع الروس..
- تلفط الباقي نعلم. عندنا أيضا أصدقاء عبر البحار يزودونا معلومات إستراتيجية!
- أدري.. لا أسرار في الحقيقة سوى على الصغار.. أنت من الكبار..
- تنزيل.. تخفيض.. ماذا تسميه لغة اقتصاد السوق.. نقدّم.. لا من مليون إلى الربع!
- هذا هو الموجود يا عبد الموجود.. أخابر الشركة أحاججها تلغي الصفقة..
- طيب.. نأخذ الربع.. أمرنا إلى السوق.. تهدر حقوق الإنسان.. تنزل تماما..
- قيمة الروس في البورصة تنزل مع استمرار قناة تي ان تي غيرها عرض صياحهم.. اجراء فحوصات نسب..
يحتج أحد الرفاق يسراه تدلك يمناه:
- كاميران.. لا يحق لك العبث في ميزانيتنا لا ربط نضالنا مع صعود نزول الدولار. بوتين يدعو إلى فك الارتباط مع الدولار. قبله حاكم ليبيا القذافي.. غيره. الدور عليك.
- النتيجة عراك هناك عشرة أعوام. القضية تحتاج تنازلات أحيانا.. تنقيتها دائما.. لا تشك.. بروين تأخذ حسابها منّي لا من مصرف!
-  حاليا أنت تكره بروين.. تتمنى قتلها.. رد فعل لا تزال تحبها.. لكن بعد حقد ندم.
- هي تعرف الكثير.. يجب ضبطها قبل وقوعها في يد العسكر.. حضن روميو جديد!
- خلط أمور شخصية مع القضية يضيّع الرأس.. انتبه!
- القضية أمر شخصي.. أكثر من الطهور.. عرس.. قلع ضرس..
- تبدو لا تخاف القبض عليك في البلدة!..
- أرافق الصحافي إلى الفندق.. في حال يسلمني إليهم تقتلوا المهندس حالا.. يسير الترتيب على ما يرام يُخلى سبيله.. هكذا الأمر.. يصدر.. الباقي تنفيذه.
- كيف لا تخاف نزولك إلى العسكر لا أفهم.. تأخذ مساعدك معك حماية؟!
- آخذه. المهندس معكم حاليا. خطة دقيقة، الصحافي جواري هناك تضليل محترم. وجهي غير معروف. ألعب دور معاون له في مهمته التفاوضية التاريخية معنا. يستأجرني سائقا أياما.. سينما الواقع. فعلا اشتاق سينما. إجازة. المهم الشغلة أصفّيها.
ينسحبون جانبا  يناقشون تفاصيل اللحظات الأخيرة طويلا..
يهبط المساء.. كاميران يأمر الصحافي الغارق في تأملاته قرب المهندس الذهاب إلى النوم.. البخبخة فيه عميقا.. رحلة العودة إلى البلدة وشيكة..
خلال النوم رمزي يجابه عقدة خبيصة..  يكشفها آخر لحظة من مهمته العويصة.

9

المبدع الكبير برهان الخطيب .. سيرة حافلة بالعطاء


إشارة :
برغم أن الروائي المبدع برهان الخطيب يُحسب على جيل الستينات إلا أنّ ما يميز منجزه الابداعي هو هذا التجدّد والتجديد في الأسلوبية وتناول الموضوعات مع ثبات بصمته السردية الجوهرية على خارطة الأدب الروائي العراقي والعربي. وقد أغنى عمله الصحفي وحياته الحافلة بالمتغيرات مخزونه التجاربي فأثرى المكتبة السردية العربية بأكثر من اثنتى عشرة رواية كل واحدة لها عالمها المستقل المتفرّد. يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ ملفها عنه متمنية على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراءه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للمبدع الكبير برهان الخطيب.

برهان الخطيب.. سيرة حافلة بالعطاء

برهان الخطيب روائي عراقي ولد عام 1944 في بابل حيث أنهى الثانوية . نشر أول قصصه بمجلة الأحداث اللبنانية عام 1959 كما نشر منذ بداية الستينات في الصحافة العراقية واللبنانية قصصا قصيرة وتراجم عن الإنكليزية، ثم انتقل إلى بغداد وتخرج في كلية الهندسة العراقية بعد دورة تدريبية في مصر. صدر أول كتاب له عام 1967 وأوفد مهندسا إلى موسكو عام 1969 واستقال هناك من وظيفته، والتحق بالمعهد الأدبي للكتاب من الصف الأول ونال الماجستير امتياز إبداع 1975 ثم عمل فترة للحصول على
إقامة في غربته مترجما للأدب حتى عام 1986 حصيلتها ثلاثة عشر كتابا مترجما، إضافة إلى اهتمامه الرئيس بالرواية والقصة والمقالة تأليفا وبحثا واضعا أكثر من دراسة وكتاب في القصة العربية العراقية. راسل مجلة الأقلام الأدبية وألف باء العراقية والآداب اللبنانية وغيرها. وترجمت بعض أعماله إلى الانكليزية والألمانية والروسية والسويدية وغيرها. وأعدت من قصصه أعمالا سينمائية.
مطلع شباط 1986 استقال من عمله في دار نشر (التقدم) بروسيا وغادرها عبر الشام إلى السويد للإقامة وأسس هناك دار أوراسيا للنشر. حلها لاحقا. تزوج وطَلق مرتين. يواصل الكتابة في الصحف الصادرة في لندن وبغداد في الأدب العربي والشأن العراقي والتأليف الروائي.
احتفاء رابطة الأنصار في ستوكهولم بالمبدع الكبير برهان الخطيب بعد صدور روايته (غراميات بائع متجول) – الجمعة ١٨ تشرين الثاني ٢٠١٦

توجد نبذة عن برهان الخطيب وحياته الشخصية ومؤلفاته في موسوعة Who is Who
وفي (موسوعة أعلام العراق) إصدار وزارة الثقافة العراقية 1994 وكذلك في انطولوجيا (Modern Arabic Fiction) لجامعة كولومبيا نيويورك 2006 وعلى الانترنت مواضيع وافرة عنه ومنه.
تتميز مواضيعه بالتواصل والتشويق الفني وعرض التجربة الحياتية للإنسان العربي على خلفية غنية بالتفاصيل يصور من خلالها حالات إنسانية عامة، كتب عنه نقاد عديدون منهم فاطمة المحسن قائلة أنه من دون مجايليه المهاجرين كان واحدا من القلة التي لم تقع في الفخ الآيديولوجي، فهو خارج الكتلة التي تنظر الى الرواية باعتبارها معبرة عن هدف اجتماعي أو سياسي. وكتبت مارينا ستاغ عن روايته الأخيرة (الجنائن المغلقة) إنها رواية عربية من طراز أصيل رفيع. كما أشادت شاشتين أكسل بروايتيه (الجسور الزجاجية) و(بابل الفيحاء) وترجمت من (الجنائن المغلقة) إلى السويدية .
مؤلفاته:
مجموعة قصص (خطوات إلى الأفق البعيد) دار آل البيت 1967

رواية (ضباب في الظهيرة) مطبعة الغري 1968
رواية (شقة في شارع أبي نؤاس) دار العودة بيروت 1972

رواية (الجسور الزجاجية) دار عويدات بيروت 1975
مجموعة قصصية (الشارع الجديد) وزارة الثقافة العراقية . 1980
ثم رواياته (نجوم الظهر) حلقات بمجلة أسبوعية في أبي ظبي 1986 ثم طبعة أولى 1991
(الجسور الزجاجية) دار عويدات بيروت طبعة ثانية 1991
سقوط سبرطة 1992
ليلة بغدادية 1993
بابل الفيحاء 1994
ذلك الصيف في اسكندرية 1995
الجنائن المغلقة) طبعة تجريبية (مائة نسخة) عن بوديوم السويدية) ثم الطبعة الأولى لها عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد 2006 في جزئين.
ليالي الأنس في شارع أبو نؤاس رواية 2009 مؤسسة نوافذ ـ القاهرة.
قبل عودته صيف 2003 إلى بغداد أنهى روايته (غراميات بائع متجول) ومجموعته (الحياة قصص)
وبعد غياب أكثر من ربع قرن بدأ في الوطن كتابة روايته (على تخوم الألفين) أنهاها في ستوكهولم العام التالي . أتم عام 2006 رواية (ليالي الأنس) وكتابا آخر مقالات ومقابلات (الرواية والروائي)
مرشح لجوائز عربية (عويس) وعالمية.
نقاد كتبوا عن برهان الخطيب:

غسان كنفاني كتب عن رواية الخطيب(ضباب في الظهيرة) بجريدة الأنوار اللبنانية 68 بمقال نشرته دار الآداب في كتاب فارس فارس : روايته جيدة، وتضيف (دبشة) إلى الجدار الروائي الذي تولى البناؤون العراقيون رفعه مؤخرا على أنقاض الركام الذي عم المطابع العربية.. يضيف كنفاني: للرواية ثلاثة أبطال فقط هم (رافد) الشاب الحزبي الملتزم أعباء قضية طويلة عريضة، و(أنيس) يعيش دوامة من الضياع والشعور بالعبث بعنق مثير للشفقة، ثم (الراوي) ، بطل الرواية، الموزع بين الاثنين، ميالا في الغالب إلى جهة أنيس ولكنه غير قادر في الوقت نفسه على التحاق به إلى النهاية التي اختارها.. تقدم الرواية هذه النماذج الثلاثة، الشائعة جدا، تقديما ممتازا. إنها رصد لتلك العلاقة الغريبة بين هذه الأقطاب المتنابذة، ولكن المشدودة إلى بعضها برباط خفي. ومن الممكن رؤية الصواب في كل منها والاقتناع بكميته، وهذه هي جوهر التراجيديا في الرواية.
فاطمة المحسن كتبت في (نزوى) الأدبية:
http://www.nizwa.com/volume15/p48_57.html
.. لعل برهان الخطيب الذي غادر العراق نهاية الستينات، أكثر الكتاب في الخارج الذين اولوا تصوير الحدث التاريخي اهتماما واضحا، هذا الحدث في اغلب روايات الخطيب، مركز تدور حوله حبكة الرواية، ويرسم الكاتب ملامح شخصياته ووقائعه من خلاله، ثلاث روايات صدرت للخطيب بين عشر روايات، تتابع الشخصيات ذاتها في مكان محدد وفي زمان معلوم، بين الحلة مدينة الكاتب وبغداد يؤرخ الخطيب لثلاث حقب متتالية في عهد العراق السياسي الحديث: الملكي والجمهوري في طورين منه. وجزءاها (الجسور الزجاجية) و(ليلة بغدادية) يصفان احداث 14 تموز وانقلاب 63 الدامي على التوالي. كل تمثلات العمل تنصب حول ابطال يشاركون في صنع يوميات تلك الاحداث متجاوبين مع ايقاع الشارع في فورات الغضب والافراح. يتابع الكاتب توترات الشد والجذب في انقسامات السلطة والاحزاب، ولكنه لا يضع قوالب جاهزة تمثل الفئات السياسية والاجتماعية، بل هو يستخدم الذاكرة في تحديد ملامح شخصياته التي يجهد ان يظهر الجوانب الحية المتحركة او المركبة فيها. فكل شخصية تتجاذب او تتنافر مع الشخصيات الاخري وفق مزاجها النفسي وظروفها وقناعاتها ومصالحها، ونستطيع ان نجد بين الفئة الواحدة او الحزب الواحد شخصيتين تتصادفان اخلاقيا مع ما يجمعهما من مشتركات المبادىء والقناعات. استطاع برهان الخطيب البحث في ملفات مراحل سياسية تردد القص العراقي في الداخل الخوض في تفصيلاتها بصراحته ووضوحه ولعل الفرصة التي وفرها العيش خارج العراق جعلت روايته خارج اطر المساءلة الرسمية، وهذا الامر في جانب منه قد يؤدي بالكاتب الى الاستخدام السهل لوجهة النظر المضادة، ولكن الخطيب استطاع ان ينجو على مستوى فحص النموذج الانساني في الاقل، ان لم يستطع تماما تجنب الانحياز في الموقف السياسي والفكري. تنوع مستويات الطرح واختلاف وجهات النظر في روايته منعها من ان تكون مجرد تسجيل امين للاحداث، فهناك تعدد في المنظورات النفسية التي يرى من خلالها المؤلف الشخصيات والاحداث، مع ان الاطار الذهني العام يتحرك على سلم قيم واحد . في رواية برهان الخطيب عفوية واضحة، فهو يكتب دون اشتراطات النماذج الحديثة للرواية ولا تقف امامه عقبة الاسلوب الادبي، ويهما ان يشرك القارىء في متابعة احداثه ونمو شخصياته، وكل جزء في روايته ينتهي بخاتمة تشويقية تضع قارئها في منتصف ذروة لم تكتمل. فتبدو الاثارة من مقومات اعماله التي تقترب في احيان كثيرة من ملمح القص البوليسي. ولكن المجتمع في هذه الاعمال يبقى مرصودا ليشكل البؤرة التي تتجمع حولها كل مقاصده الروائية. يبدو برهان الخطيب في انشغاله بالمكان والبيئة وتفصيلات تلك العوالم الضيقة لبلدات مثل كربلاء والحلة، كمن يحث الذاكرة في رحلة تمتزج فيها السيرة الذاتية بالتخيل، ولكنه من جهة أخرى يحاول ان يجعل التفسير والتمعن سيسيولوجيا يتقدم على الوظيفة الادبية للنص دون ان يفقد القاريء مناخ المتعة والاثارة الذي يحرص على توافره.
الناقد قيس قاسم كتب عن(الجنائن المغلقة) بالقدس العربي عدد 3999 : لقد مضى الروائي في عمله دون التفات لأحد وسجل فصلا مهما من الزمن العراقي سيعترف قراؤه بمختلف مشاربهم على أنه رصد بعين عالية الحساسية وكتب بمهارة ابداعية محايدة. وهنا تكمن قوة عمل الخطيب المستحق الثناء.

الناقد د. فاضل الجاف كتب في صحيفة الزمان عدد 927
أشخاص (الجنائن المغلقة) يسعون نحو مستقبل أفضل ومجهول في نفس الوقت وهم في اعتراف دائم، ولكن من يعترف أمام من؟ يبدو لي أن أبطال الخطيب منذ البداية يسعون إلى اعتراف أمام جهة لم يجر الاعتراف أمامها من قبل لو حصرنا كرسي الاعتراف بتلك الجهات الأربع التي حددها كونديرا، ألا وهي جهة خامسة، أخيرة ربما، استهدفها الخطيب لاستخلاص مجدٍ وواقعي لأعمق ما في النفس الإنسانية المرهفة من هموم وطموحات وذنوب وتحديات تمور فيها ولم تعد تجد من تعترف له في ظرف انهيار مؤسسات الاعتراف، التي عرفناها بهذه الصورة أو تلك، غير هذه (المؤسسة) الأخيرة لو شئتم، التي نمتلكها جميعا، وهي الأقرب إلينا بالتالي من بين جميع المؤسسات، لكنا نكاد نفقد الإحساس بها في غمرة اعتيادنا على تعليق همومنا وطموحاتنا وذنوبنا وتحدياتنا على مشاجب تلك المؤسسات. وما هذه المؤسسة، التي ينبع منها الإحساس بالمسئولية والواجب غير.. (الضمير) التي يعيد الخطيب لها بالفن شأنها ومكانها الفسيح أمام عين القارئ، وهي الجهة الأكثر معقولية وأمانا ربما في عصرنا هذا لاعترافات مثقلة بخطايا تصل حد ارتكاب إثم القتل والحمل سفاحا والوشاية والكذب والخيانة إلى غير هذا من مطبات أخلاقية سائدة على طريق الديكتاتوريات والمنافي مما عرضت (الجنائن المغلقة) ، اعترافات تتوالى لأبطال الخطيب على الصفحات الخمسمائة تقريبا للرواية متداخلة ممتدة ملونة قاتمة أو زاهية كأنها خيوط سجادة متقنة الصنع كما سنرى، أو هي في تنوعها وغزارتها مثل تيارات مائية متفرقة في محيط يلم بها
إعصار كلي ويجمعها إلى دوامة سينجلي ما فيها من قوة في بؤرة في النهاية هي في الرواية خاتمة متفجرة بالأسرار.

د. عبد الحسين شعبان في كتاب(نشطاء على حدود الوطن ) (حقوق الإنسان بين المنفى والعودة) ذكر:
http://www.aphra.org/Html/abooks.htm
برهان الخطيب الذي عاش في المنفى أكثر من ثلاث عقود في موسكو ودمشق وأستكهولم خصص أعماله الروائية عن الغربة والنفي والبحث عن الهوية وقد بلورها في روايته الأخيرة “الجنائن المغلقة” وهي تصور الشتات العراقي في الأعوام الأربعين الأخيرة. وروايته الأخيرة استمرار لرواياته ” بابل الفيحاء” و”الجسور الزجاجية” و”ليلة بغدادية” و”حب في موسكو. في سؤال لصحيفة “الوطن العربي” /11/ “. 24 يقول الخطيب: للمهجر أو للمغترب وجهان ظاهر وخفي، الأول مبهرج والثاني كالح، حياة المهجر تكشف لي عن وجه شنيع أحيانا وهناك صعوبات وضغوط حاولت كسري. ويضيف: أمامك التأقلم والذوبان أو الصمود أمام الصعوبات والضغوط ومجابهة احتمال التحطم.. خياري هو المجابهة وتجديد النفس بدلاً من تذويبها أو تحجرها. وهنا لابد من استخدام سلاح الثقافة لتشكل درعا واقيا أمام سهام الغربة وتياراتها، فالهرب من فجيعة الوطنية لا ينبغي أن يجعلنا نسقط في فجيعة الغربة حسب الخطيب. الثقافة إذن فرصة لتطوير ومعرفة الذات لمواجهة المنفى وتجاوز الكسل بالإبداع.
الناقد عدنان حسين أحمد كتب بجريدة(الزمان) العدد 641
قد لا نشتط في القول إذا قلنا أن (الجنائن المغلقة) لبرهان الخطيب رواية كونية، ليس لأن أشخاصها يتحركون بين بغداد وموسكو تارة، وبين دمشق وستوكهولم وكوبنهاغن تارة أخرى، بل لأن الرواية تتحرش بالوجود برمته، وتسعى لأن تسلط الضوء على الأصابع الخفية التي تتلاعب بمصائر الشعوب والدول في نهاية الألف الثاني، وبداية الألفية الثالثة التي يؤرقها التجسس الصناعي والثورة المعلوماتية والتقدم العلمي الفاحش الذي لا تحتمله قدرات العقل البشري المعاصر، فإذا كان كتاب آخرون قد أثاروا زوبعة عالمية من خلال تصديهم لمواضيع تمس مشاعر البشر أو تمس قضايا ايمانهم ومعتقداتهم فإن برهان الخطيب قد غاص عميقا في مسألة الوجود الإنساني ورصد قضايا كبيرة كالحرب الباردة والتجسس الصناعي كما تنبأ بأفول المعسكر الاشتراكي وولادة القطب الواحد الذي يتحكم بمصير البشرية. إن رواية (الجنائن المغلقة) هي عمل أسطوري بحبكته، بتشابك أحداثه، وغموض ثيمته وفحواه، فالبناء المعماري يذكرنا بالنسيج المتين للروايات البوليسية، متقنة الصنع.

كذلك كتب، غير النقاد أعلاه، أفاضل آخرون عن الخطيب.

10

المبدع الكبير برهان الخطيب : المثقفون تنقصهم شجاعة مجابهة الأكاذيب
حاوره: السيد حسين (ملف/4)

إشارة :
برغم أن الروائي المبدع برهان الخطيب يُحسب على جيل الستينات إلا أنّ ما يميز منجزه الابداعي هو هذا التجدّد والتجديد في الأسلوبية وتناول الموضوعات مع ثبات بصمته السردية الجوهرية على خارطة الأدب الروائي العراقي والعربي. وقد أغنى عمله الصحفي وحياته الحافلة بالمتغيرات مخزونه التجاربي فأثرى المكتبة السردية العربية بأكثر من اثنتى عشرة رواية كل واحدة لها عالمها المستقل المتفرّد. يسر أسرة موقع الناقد العراقي أن تبدأ ملفها عنه متمنية على الأحبة الكتّاب والقرّاء إثراءه بالمقالات والصور والوثائق. تحية للمبدع الكبير برهان الخطيب.

المبدع الكبير برهان الخطيب : المثقفون تنقصهم شجاعة مجابهة الأكاذيب
حاوره: السيد حسين

القاهرة السيد حسين: يرى الروائي والأديب العراقي المقيم في السويد برهان الخطيب أن الوضع الثقافي في العراق مهلهل، مستباح، كما السياسي، الاقتصادي، في يد نخب تفكر بعيدا عشوائيا، لا تحرص على المصلحة الخاصة الوطنية ضمنا العامة. احداث تغيير جوهري ممكن مع ساسة اثبتوا جدارة، رؤية سليمة.وحول مجمل أرائه كان اللقاء التالي:

– قيل “ما نكتبه هو ابن ما نقراه ” وقيل ” بان الكتابة هي في الحقيقة إعادة كتابة أو إعادة تشكيل لمفردات اللغة، وبأن ما نكتبه قد كتبه أشخاص آخرون قبلنا “حدثنا عن الكتابة الأولى؟
* في مرحلة الكتابة الأولى لكاتب يصح كلامك عنها، أنا شخصيا في أول قصة انشرها عام 1958 في مجلة الأحداث اللبنانية انطلق من قراءاتي أعيد صياغتها ترتيبها اتبناها اعتبرها محصلة لي. مع بدء بلوغ الكاتب مرحلة نضج، استقلالية، يهمه تمييز صوته عن غيره من الكتاب، المساهمة في تشكيل الوعي الاجتماعي. روايتي الأولى (ضباب في الظهيرة) 1968 يجدها نقاد لا تشبه غيرها، يُكتب عنها في مصر في مجلة حواء المصرية، في لبنان ينقدها غسان كنفاني يمتدحها، في العراق سعد البزاز، غيرهم. أبقى اعتبرها من أدب الصبا رغم انطلاقها من ضرورة تجاوز تجارب الكتاب الآخرين عن أسباب فنية فكرية عامة تحرك موجة الستينات، لا شخصية. في أسطر قليلة على الغلاف يكتب مؤلفها: عملية كتابتها كانت استشهادا حقيقيا لي، رأيت آنذاك ان كل العوالم المنظمة التي يخلقها المؤلفون الآخرون في كتاباتهم ما هي إلاّ محض كذب وافتراء، المباشرة في روايتي تعبير عن افلاس الفن في مخاطبة الانسان في عصر القنبلة والحروب الدموية.. كلمات حال ينهي قراءتها آنذاك مبعوث العراق اليوم إلى الأمم المتحدة يقتني نسختين منها هاتفا: فقط من أجل تلك الكلمات تستحق الرواية الاحتضان. بعد عقود يجدها ناقد تستحق القراءة غدا أيضا، يدعو إلى إعادة طبعها.. المعنى هنا ان الاستفادة من تجارب الكتاب السابقين لا في إعادة كتابة المكتوب انتاجه حلة جديدة، بل في كشف نواقصه تجاوزها في نص مستقبلي رغم تصويره معالجته حقائق تفاصيلها سالفة، لكن دالة على الآتي.
بعد استكمال نضج الكاتب، عند النهايات، ادراك العالم كما هو، لا كما يُقدم إلينا، لا كما يحلو لنا رؤيته – لا كل كاتب يبلغه عند استغراق في اغراءات، ذات – تلح عليه ضرورة تصويب صورة عامة قدمها في أعماله، تدارك أخطاء، صياغة أدب أصيل صادق، رد فعل على وجودنا في مجتمع، كون، يسمحان إلقاء كل الأسئلة وقت لا تجد الرد على ابسطها.. إلى أين نمضي، لماذا لا نسعد رغم توفر مقومات السعادة حولنا؟ مع اكتشاف معان جديدة من التجارب السابقة تنشأ ضرورة تحرير المكتوب وفق رؤية جديدة، واقعية، لا منفعلة، لا مبتذلة، سامية لو الخُلق صامد، ضمن نشاط بشري عقلي عام يرنو إلى رقي في حصافة لا في خديعة أو مجون. الكاتب حينه لا يختلف عن غيره يبلغ سن رشد حقيقي.. إدراك مسؤولية تجاه البشر جميعا.
– كيف تري العراق اليوم وحال العراقيين، ماذا تقول لهم، أو ربما ماذا يقولون لكِ؟ والوضع الثقافي العراقي حاليا؟
* لا العراق وحده يعيش كارثة، العالم كله مهدد أي لحظة يخترقه خازوق حرب لو نصدق وسائل الإعلام، حتى في امريكا على مستوى اعلى من شعبي لا يعلمون ما قد يحدث غدا، ذلك لا يعني ان الاحداث عشوائية، هي هكذا لمن ينفعل، يغفل، يجهل. بارد راس مطلع يراها مرتبة منذ عقود إلى اهداف تعقبها اهداف، عن استراتيجيات، مؤامرات، حسابات، ارادة إلهية غيرها.. البعض يقول العلم عند العلام. من جهة ثانية ثالثة يرى اخرون الخلاف الروسي الامريكي ضمنا الكوري لعبة هدفها عالم جديد، حصتنا شرق اوسط جديد، لو يتكاتف الداخل كما نرى البوادر في التكاتف التركي الايراني الروسي العربي إلى حد يحمي نفسه، لعبة لا تخلو من خطر، غش، سادتها غرب خدمها شرق ضمنا روس. البعض الآخر يرى روسيا مهددة في العمق من الغرب أبعد من نية ربطها اليه، القصد اخراجها من المنافسة، اعادتها منآى ثلوج مقسماً مائة أمارة، بعدها افريقيا، الصين، ذلك عموما، نقترب إلى الخصوصيات لا أجد العراق يعيش سياسيا أسوأ جدا من غيره من الدول، رغم رفاهيتها مقابل كثرة مشاكله، فيه لا زال بعض القرار في أيدي غالبية وطنية، تُنعت من إعلام عولمي طائفية، انتقاصا، ضمن حرب خفية غير الظاهرة. الطائفية أمام سعة الخطر لا وجود لها، سوى عند مُخطِّط أو مُنفّذ يستفيد من توسيعه أو مهووس.
العراق كغيره يعيش مصيره المختار منه، المفروض في آن من ذوي القرار في الخارج، ازدواجية حكم مدمرة، النتيجة عدم استقرار. أقول للعراقيين نحسن وضعنا مع ترشيد الحياة السياسية عندنا أولا، وفق الدروس المتراكمة من ماضينا، اقليميا يجب تكاتف دول المنطقة، الدفاع عنها، ضمنا الكرد على أساس رفض استخدامهم مصدر فتنة في جري وراء حلم لا معنى له في عالم ينحو إلى تنوع، البرزنة إلى انغلاق، من مصلحتهم توزعهم في اكثر من دولة. محليا قيام الاحزاب اعتباطيا ينبغي عقلنته، قادت المنطقة إلى تفكك، يجب ايقافه أو نخسر أكثر. ذلك يقتضي هيئة وطنية شاملة، قوة مدافعة عنها، كلاهما متوفر في العراق يتطلب بلورة، عندنا شخصيات وطنية قوية كثيرة، قربها طفيلية، يجب الفرز، الحشد الشعبي ضمانة استقرار العراق يراقب يضبط، كما يجب ضبطه. صحوة ثقافية تغلّب التوجه الوطني ظاهرة.
إنما الوضع الثقافي مهلهل، مستباح، كما السياسي، الاقتصادي، في يد نخب تفكر بعيدا عشوائيا، لا تحرص على المصلحة الخاصة الوطنية ضمنا العامة. احداث تغيير جوهري ممكن مع ساسة اثبتوا جدارة، رؤية سليمة، منهم نوري المالكي، العبادي، مهدي الحافظ، جلال طالباني، عالية نصيف، غيرهم. ايضا يجب التقاء الحكم مع معارضة مستنيرة، تنقية كليهما في آن من أجل اعلاء الالتزام الوطني، فرض السلم الأهلي، التمهيد لانتخابات جديدة ذات جدوى. حين يتحقق الاستقرار، تلتئم جروح الذات الجمعية، تعود القيم ترتكز، بعدها يتحسن الوضع الثقافي معه الاجتماعي. العراقيون أذكياء سياسيا شجعان وطنيون، غالبيتهم اهل نخوة، عدوهم ماكر له تجربة، رغم القلاقل المؤامرات لا خوف عليه، العراق الجديد في مرحلة مخاض. المهم صد التدخلات الخارجية، تغليب العامل الداخلي على الخارجي، التلاحم الوطني موجود، تشوهه الدعايات. الثقافة تسير في اتجاهين كلاهما مغلق، فالت على اليسار، متعنت على اليمين، نحتاج ثقافة عقلانية متوازنة، لها وجود رغم الغث الكثير.
– يري البعض أن الانقلابات العسكرية والسياسات المتخبطة عطلت استكمال المشروع الثقافي للمبدع العراقي كيف؟
* جِلد المبدع ورقة لتموس، يتأثر طبعا من المحيط. الانقلابات حين تكون استجابة لقرار الخارج مُحبِطة نعم، تجهض التطور الاقتصادي الاجتماعي الثقافي السلس، النتيجة انتاج الغث، تصفية أو ابتلاع المنتوج الوطني، ثقافي أو مادي. لكن المدرع حب الوطن يتلقى الشظايا يعيدها إلى مصدرها، يبقى محصنا في مركز قيادة ابداعه، ينتج أعاجيب، كما الجنود البواسل في بطولات يقدمون أرواحهم ذودا عن مواطنيهم، أرضهم، هؤلاء بَدنياً، أولئك معنويا ثقافيا. الأسئلة الكبرى يتصدى لها شرفاء المبدعين، الساسة، يواجهون عواصف إلغاء، تستمر المسيرة. أغادر العراق أواخر الستينات لا هربا من المشاكل قدر البحث عن زاوية رصد هادئة، مواجهة المشاكل ابداعيا، أنقذ أنفّذ مشروعي الأدبي المستمر نصف قرن مكتملا اليوم مستوعبا تجربة بلدي، انسانه، عبر مراحل وانظمة سياسية عديدة، قد يمكّن القارئ رؤية تأريخ العراق واهله وسط العالم مختصرا في سيرة عائلة، تلمس موضع الداء معرفة الدواء من غير تكرار معاناة شخصية عامة في آن متجنبا فيروس كراهية أو تحزب مدمر الى غير السامي المجدي.

– حدثنا عن روايتك الصادرة حديثا ” أخبار آخر العُشَّاق”؟ لماذا هذا العنوان؟
* بطل الرواية هارب من حرب بلده، يعاني من وحدته في منفاه الغربي، من طغيان العلاقات المادية على الروحية، من تكريس الفردية حوله حد ضياع بين ضباع، يشكو إلى كاتبها قربه: عند البحر الهادئ ذاك.. على مسطبة المتعبين المتنزهين هذه يرتاح أهل البلد من التمشي.. يتعبني التذكر أطرح بدني قربهم لا أحد يسأل الآخر ماذا في قلبك، ماذا تنوي عمله اليوم غدا، البشر مع حواسيبهم قلاع منعزلة، متحركة، العشاق يختفون، صفحة اخرهم أمامك تطوى منذ وصولي البلد الأمين.. ساحات العشق تصير شاشات الجات.. المحادثات..
واضح من كلامه ان حياة الناس تتغير لا في الوطن فقط، بل في المنفى أو الملجأ أيضا، من تجربته يرى منكود الحظ ان العشق يصير رقما في رصيد وجود بشري محدود رغم سعة ظاهرة، لا كل المعادلة، وانه مع ذكرياته آخر العشاق على الأرض، يسرد حكايته يسلي ذاته، جاره من بلده الأصلي.
– قارئ الرواية يجدك تعتمد على مزاوجة فن القصة القصيرة مع فن الرواية لماذا هذا التداخل؟
* التداخل له تاريخ طويل يمتد إلى سلامة موسى، قبل نصف قرن يذكر في احدى مقالاته عن امكانية مزاوجة فن القصة القصيرة مع الرواية، أتوقف عند فكرته طويلا اقلبها أجدها تستحق الاهتمام.
– هل رواية ” أخبار آخر العُشَّاق” تروي الواقع العراقي بعين المثقف والكاتب؟
* التغيير تصنعه نخبة، ينفذه فقراء، يسرقه أغنياء، يراقبه يعبر عنه ضمير الناس أي الكاتب المثقف لا مسطول باحث عن ربح أو شهرة أو حظوة عند مفترسين. حدث الرواية عموما مطعّم غالبا من تجربة الكاتب، من تماس مباشر مع الحقيقة، من تجارب الناس، من معايشة انعطافة تاريخية، يستلهمها الكتاب في تقديم تقريره المختصر عن الوجود إلى الأبدية، محاورا معاصريه، الآتين، داعما ذاكرة الوطن، سابرا العالم.
– الرواية التاريخية أو التوثيق التاريخي كيف يمكن للأدب أن يخدم التاريخ من التزوير وخاصة في تلك الظروف السياسية المتغيرة؟
* تذكر كلمة متغيرة بدل رهيبة، سؤالك كبير مع مرونته، يستدعي ردا من اكثر من اتجاه منه تحدٍ إلى كاتب شريف، سياسي. أولا هل من السهل معرفة الحقيقة؟ معلوم لكل منا تصوره عن الحقيقة. الكتابة عنه لا عنها، فعلَ معظم الكتاب في رأيي، لهو، عبث، عاصفة في فنجان. الأدب الحقيقي عاصفة حول الأرض.. نعم تروضها الأنواء، التضاريس، كما يروَّض الأدب المتعملق حين ينافس ذوي الإرادات العليا، من نقاد مرتزقة وإعلام يخدم مصالح عليا. ثانيا، نفترض في أعجوبة تتعرف على الحقيقة الخافية تحت طيات الأحداث أو وراء كواليس هل يسهل عليك التعبير عنها فنيا؟ تنجح هل يتيسر تسويقها إلى القارئ؟ تصل القارئ هل تضمن تبلغ عقله المؤمم من وكالات أنباء، نت، فضائيات، تروج أشنع سخف للسيطرة على انتباهه كسبه إلى اخبارها المخوزقة؟ يتيسر كل ذلك هل تمتلك شجاعة التنفيذ أو تُترك مع مشروعك البريء خدمة التاريخ أو المجتمع دون عوائق؟ لماذا اغتيال كندي إذاً والعديد من رؤساء نيتهم خدمة بلدانهم؟ الأدب يُواجَه في أدب يقال، حسنا لا نسمع حتى اليوم ان الرصاصة الموجهة إليه إليهم تقصد أشرارا قربهم، محض صدفة تصيب الضحية.
– ما هي الإشكاليات التي من الممكن أن تقابل مَن يتصدي لكتابة رواية تاريخية من وجهة نظرك؟
* يتجاوز الكاتب العوائق الصعوبات السابقة تبقى أمامه صعوبة معرفة التفاصيل الضرورية امتداداتها لبناء الحدث الروائي. تصوراته غير مجدية كثيرا هنا، قد تقود إلى وهم، كما ليس سهلا تنكب الروائي مهمة يكون جاسوسا لقارئه يصطاد حقائق، نعم قد تنفعه مكاشفة سياسي له نهاية عمر في بناء حدث تاريخي لو المكاشفة مدركة. في عالم غير مستقر لا تستقر الحقائق. الحياة السلمية عامل مساعد في تطور العملية الأدبية، السياسية، الاقتصادية. والاستقرار غير ممكن من غير تفاهم واتفاق المعارضة مع السلطة على استراتيجيا للبلد، قوامها مصلحته، قيمه، تعايش المختلفين فيه.
– روايتك فيها الكثير من الوجع رغم أنه من المعروف عنك بث الأمل هل المقصود نقل ما يحدث والبحث عن حل؟ وهل وصل الأدب إلى حل اجتماعي في ظل الحلول السياسية العقيمة؟
* أمة غنية شاسعة حاضرها دمار، تفكك، كيف لا تسبب الوجع لمن له ذمة.. منعكسا منها على ابداعه؟! رد الفعل؟ الأمل لمن لا ييأس، ينشد لها رفعة. تداخل الوجع والأمل حتم من ثنائية الوجود، فردي، اجتماعي، مطلق. نعمل نُحبَط، نعلم لا نعلم، نيات حسنة نتائج سيئة. افرازات “التقدم”.. الحرب، الفقر، الجهل، يمكن تداركها في مصارحة، لكن التفاهم يُغيَّب يسوَّف لمصلحة البعض ضد اكثرية. الأدب تفاهم، يصل هدفه في جمع العقول المختلفة على مشترك. لا يتحرر الأدباء، الأدب، من اوهام لها عدة ألوان، اطماع، اغراءات عدة مصادر، نبقى نراوح مع الساسة مع الناس على ذات الساحة، مع تجديد المناحة. يجب ترجيح الشفافية. الحلول السياسية لو من الداخل غير عقيمة. مضاداتها من الخارج تجهضها، من عهد إلى عهد. أواخر العهد الملكي عندنا نرقى مع سياسة الإعمار نُقاد إلى ثورة قاسم. أواخر ثورة قاسم يتطور العراق عاليا مع البناء نقاد إلى ثورة البعث. أواخر البعث يزدهر العراق عاليا مع استكمال تأميم النفط نقاد إلى حرب ظالمة مع الجارة ايران والكويت.. بعدها القهقرى. اليوم نتفاهم مع الجار الايراني والتركي نضع اساس استقرار جديد يراد لنا الحرب مع الأخوة الكرد. يجب كشف اسباب الوجع، عدم الاتفاق على مشترك، ليصير الأمل له جدوى لا مجرد هبل، والأدب سعيا محمودا لا ستربتيزا موجها مرصودا.
– العمل الأدبي هو الذي يصنع تاريخه.. هل يجب امتلاك ثقافة تاريخية ليتمكن الروائي من التحكم في فصول روايته وأحداثها؟

* العمل الأدبي يصنع تأريخه الخاص بمقدار استيعابه التأريخ العام. لكن، غير ضروري بروز الثقافة التاريخية أو تفاصيل التاريخ في مرحلة معينة على سطح الرواية أو خلفيتها، إنما رسم حدثها، شخصياتها، دقيقا صادقا لا من غير إلمام بتفاصيل الفترة التاريخية لها في الأقل، هي تؤثر مباشرة على شخصيات الرواية، كلامها، تصرفاتها، مصائرها، من غير أن نرى. من غير إلمام بما يجري على احداثيات الزمان والمكان تولد رواية ناقصة.
– هناك إشكالية واقعية بين الروائيين والكتاب، فأكثر المبدعين حينما يعانون من الاغتراب داخل أوطانهم وتسنح لهم الفرصة أن يغادروا الوطن وخطورته وقيوده التي تعيق الإبداع والإنتاج تكون البيئة الأخرى حاضنة لموهبتهم ومكانا خصبا لغزارة إنتاجهم هل هذا ينطبق عليك أم للهجرة والغربة عن الوطن رقم قيوده أمور اخرى؟
* راحتنا في المكان الذي لا نوجد فيه. لكلٍ من الوطن والغربة مزاياه ومنغصاته. نغترب لنكسب ماديا أو لنعرف أكثر؟ ذلك ينعكس على الابداع سلبا أو إيجابا. الأشياء تُعرف بالمقارنة تدري، الاغتراب رغم معاناته إيجابي على الإبداع، والوطن رغم ألفته ورحابته قد يضيّق الرؤية، معها أفق الإبداع. لا توجد وصفة محددة للإبداع، الإبداع يكبر بمقدار ما تعطي له من روحك، من كيانك.
– هل تنحاز إلى الرأي القائل أن مهمة الرواية رصد ما استعصى على النسيان من الأحداث والأماكن والأسماء؟
* رأي ذو قيمة. لكنه مرتبط بالماضي أكثر من المستقبل. الرواية عندي متعددة المهام، نضال، تديّن، تبشير، لهو، بناء، ارتقاء..
– شخصياتك الروائية، هل تتمتع بحالة من الانعتاق من سلطة الكاتب اللغوية والفكرية؟
* أكيد، وإلاّ لا أتغير معها، المؤلف يتفاعل مع شخصياته، كما مع مجتمعه، العالم، كما هي تتفاعل معه، تتغير.
– ألم يحدث وأن تورطت في تحميل إحدى الشخصيات قناعاتك الخاصة، حملت البطل مهمة الذود عن أفكارك المخبأة؟
* الحقيقة أحاول دائما التعبير عبر شخصيات رواياتي عما هو أبعد من أفكارها، أفكاري، أفكار المحيطين، وصولا إلى أفكار خفيّة، إلى تفاعل.. حتى عبر نزاع. أميل في الواقع إلى تلك الشخصية، بعد خاتمة الرواية أجدني أميل إلى غيرها. عند كتابة رواية أنا مراقب محايد، أبحث عن تفاهم ناس في خصام، تصير الرواية لنا استشفاء.

– ما رأيك بما يُشاع حاليا عن الرواية، باعتبارها الأكثر رواجا بين الأجناس الأدبية؟
* ذلك صحيح، كما لا أبخس قيمة المسرحية، كلاهما يجمع الناس حول طاولة واحدة، يختبرون يطورون انسانيتهم.
– برأيك هل ستنعكس الأحداث في العراق على الروايات المقبلة، وهل سينشأ ما يسمى “جيل بعد الحرب” في الرواية؟
* لحجم الأحداث الدامية الكبير وطول المعاناة في البلد لا يمكن تجنب انعكاساتها في الرواية، وإلاّ هي رواية من الواق واق. بوادر رواية الحرب ما بعد الحرب في الرواية العراقية بارزة منذ أمس، “الجنائن المغلقة” مدونة قبل تغيير نظام صدام، “على تخوم الألفين” مدونة مباشرة بعده، مثال واضح. آخرون يتناولون الموضوع اليوم أو غدا.
– هناك لكل مبدع محطات انتقال من مرحلة إلى أخرى، فأين يجد برهان الخطيب مراحل تطوره بعد صدور أعمالك قصصياً وروائياً؟ وأي الأعمال التي تعتبرها تمثل انتقالة حقيقية لديك على المستوى الفني والفكري؟!
* هذا السؤال أوجهه إلى نفسي غالبا لا يمكنني الرد عليه، صاعد الجبل لا يمكنه تحديد اية خطوة له أهم من الأخرى، إلاّ عند اجتياز خطر، عقبة. الخطر، العقبة، أقابلهما خارج سياق الإبداع، الصعود. فأسأل غالبا قراء رواياتي عن المفضلة منها عندهم، لأعرف، أفاجأ هم أيضا لا يمكنهم تحديد رواية معينة منها. ألح أحيانا عليهم، شاعر يذكر “ذلك الصيف في اسكندرية” أو “الجسور الزجاجية”.. بروفسورة اللغة العربية من لجنة نوبل اشادت بها جدا، بالمناسبة لم تكن إلى جانب فوز نجيب محفوظ بالجائزة، سألتني عن رأيي في فوزه أجبت: يستحقها. الكلام في جامعة ستوكهولم. أيضا أشاد بالرواية وزير دفاع بلد عربي.. (لا تفكر رجاء: لذلك يخسر العرب) فبعض المغاربة قال لي: منذ قرأنا الجسور الزجاجية لم نعد نميل إلى الحكم الجمهوري، ذلك ربما قد يشارك في تفسير استقرار المغرب وشعبية جلالة الملك. بروفسورة أخرى من لجنة نوبل كتبت تقديما جيدا عن “الجنائن المغلقة”.. ابقى، كما لا انحاز إلى أي من أولادي على حساب الثاني والثالث، لا أنحاز إلى أي من رواياتي، جميعها أجدها نتاج أقوى حب، أكبر جهد، أبعد نظر.
– أنت كاتب جيد للقصة القصيرة فما رأيك بالقصة القصيرة جدا والتي بدأت تشهد رواجا عربيا ؟
* كل الأنواع الأدبية مطلوبة، مرغوبة إذا كانت مكتوبة جيدا. أحيانا يساء إلى القصة القصيرة جدا حين تُستسهل كتابتها، يُهمل عنصر المفارقة، الكشف، في تركيبها.
– هل أصبحت الومضة القصصية نوعًا أدبيًّا جديدًا؟ وهل تحدد بعدد معين من الكلمات؟ ومتى نطلق الومضة على نص أدبي؟
* القصيرة جدا، الومضة، اللقطة المقربة، متقاربة من ناحية عدد الأسطر، الكلمات القليل، كذلك الاعتماد في المضمون على إضاءة منعطف عاطفي، خفي، تحرك غير مرئي تماما في الواقع غالبا، في أقل كلمات، مع مفاجأة أحيانا، الشكل مقبول في الصحافة، يستقطب القارئ يتحمس له من ضيق الوقت أو النفس. لكن المغالاة في تصنيفه، تنويعه، لا موجب لها، بل وقد تختفي اهداف ايديولوجية وراء ترويجه منها ابتسار فحص الوقائع، المشاكل، الاكتفاء بما على السطح، عدم دفع ذهن القارئ إلى البعيد وتحريضه في الخفاء على السائد.
– هل تتعبك الكتابة، هل هي فعلاً كما يصفها البعض كجلد الذات؟
* الكتابة غير متعبة في لحظاتها لكنها متعبة جدا من تراكماتها العاطفية على الكاتب، تعيق النوم. بعد انتهائي من كتابة روايتي “نجوم الظهر” أسقط صريع صداع قاتل تنقذني سيارة اسعاف. غالبا تستهلك حياة الكاتب كلها، تقلبه إلى مخلوق مهموم من التفاصيل الصغيرة والعامة. نعم المزاح داخل الرواية خارجها وسيلة دفاع عن النفس، عن القارئ. الكتابة قدر مختار، كبح هياج، موسقة ثورة، بديل انتحار، تصير متعة عند الانقطاع إليها، شفاء، لا جلد ذات.
– كيف تقيّم أداء السياسيّين في العراق؟ هل تثق في خطاباتهم؟
* كما في كل مكان لا في العراق وحده هناك سياسيون اشراف، غيرهم فاسدون، سواء في السلطة أو المعارضة. المصيبة من التدخلات الخارجية، مرئية وغير مرئية، تدخلات تمتد حتى إلى الملابس الداخلية والأهل. لكن الشعب العراقي عموما رغم كل النوازل لا خوف عليه لأنه يعرف دربه، ادراكه عال، لا ذنب السفينة حين تعصف عليها الرياح. نتائج القيادة، الانتخابات، تؤكد نضوج العملية السياسية رغم مهاترات البعض، نصل الاستقرار رغم كل المكائد، التشرذم مؤقت.
– هل ترى أن الحريات العربية مازالت تعاني من القيود؟
* البلدان العربية تعاني من مشاكل مصدرة إليها أكثر من مشاكل يُدعى تخلقها السلطة إلى مواطنيها. لو نترك في حالنا ترتفع الأمة العربية مجددا إلى الذروة، السلم الأهلي بداية الارتقاء، تفاهم المعارضة مع السلطة، ابعاد الفاسدين، شرعنة تجريم الخيانة، تشجيع الثقافة الوطنية، كلها ضرورية للاستقرار، لتوسيع الحريات العربية تدريجيا مع الحفاظ على القيم، طرد أسطورة السوء فينا مقابل فخامة الأجنبي.
– في رأيك هل أثرت ثورات الربيع العربي على النتاج الإبداعي.. وهل نجح المبدعون في التعبير عنها أدبيا؟
* ثورات الربيع العربي أربكت كل شيء لا الإبداع فقط، المذنب في ذلك المبدع قبل السلطة، لا نجح المبدع في التعبير عنها أدبيا ولا استغلها لقول كلمته. تراجع الإعلام الوطني في الفوضى السياسية المستمرة حتى اليوم مذنب أيضا. معظم ما ينشر في الصفحات الأدبية هافت القيمة.
– هناك من يرى أن هذه الثورات العربية كشفت فشل النخبة المثقفة وتراجعها عن أداء دورها. ما رأيك؟
* ردي السابق أكرره أضيف: خلاصنا مؤجل من غير صحوة ثقافية على غرار صحوة المثقفين العرب بعد تأميم القناة وحرب السويس، أيضا خلال الستينات، مع الانتباه إلى خطأ الخصام العربي العربي وخطأ التنكر إلى قدسية الأدب واهمال قيمه العالية.
– أين دور المثقفين والمفكرين في مواجهة الفكر المتطرف والإرهاب؟ وخاصة تنظيم داعش والنصرة وغيرها؟
* دورهم غائب، مُغيَّب، من أهل النوايا السيئة عن مكر كما من أهل النوايا الحسنة عن خوف أو طمع في اغراءات وأوهام. المثقفون غالبا تنقصهم شجاعة مجابهة الأكاذيب، كشفها لهم، من دورانهم على أفلاك مغلقة لا حول مصلحة المواطنين البشر اجمعين المشتركة، القصد إبقاء الثروات الحريات في ايدي حفنة نخب مُسيطر عليها، الباقون دع الهواء لهم يأكلوه، دع الغرب الضاري يسيطر والشرق مصدر الحضارات يتدهور، دع الحريات هز مؤخرات، من هنا يظهر التطرف والإرهاب لا من الإسلام الدين الطيب السمح، سؤالك يزوغ قيلا عن مصدر المشكلة.
– برأيك ما أبرز التحولات التي طالت الرواية العراقية؟
* الرواية العراقية كما في كل العالم تتجاوز أطر الرواية الكلاسيكية القديمة، قيمها المحافظة، تخرج منذ الستينات إلى تيه التجريب، تدخل تبتكر مع فن البناء أو الهندسة المعمارية اليوم أشكالا أكثر عصرية لها مضامين أرحب. البعض الرصين يقيم ابداعه ينجح ضمن شكل كلاسيكي حديث، قيم مستنيرة غير الفالتة غير المتحجرة.
– ثمة من قال إن: “القصة القصيرة والرواية في العراق لم تصل إلى مرحلة إنتاج المعرفة” ما رأيك?
* القائل لم يقرأ أفضل انتاج القصة القصيرة والرواية في العراق.
– هاجس البحث عن هوية للرواية العربية أو التي يكتبها كُتاب عرب كيف تراه؟
* اليوم تتشابه البدلات التي نلبسها، سيارات نركبها، ثقافة عامة نستهلكها، تبقى الهوية خاصة، تعبر عن المنتِج، عن نقابته أيضا.

– “ادب المنافي” مصطلح حديث على الثقافة العراقية، افرزته الظروف السياسية التي مرّ بها العراق، وقد قدّم هذا الأدب نماذج ابداعية رائعة وأسماء جديدة لمسيرة الابداع، فهل ترى أن النقد قد أنصف هذا الأدب وواكب عطاءه ؟
* أبدا، ولا القليل من استحقاقه، لا من النقد لا من الجهات الرسمية، لم يُنصف كل الشعب العراقي كيف تريد انصاف أدبه؟ المهم هنا أن الأدب الناضج علامة نضوج اجتماعي، ترويجه دعم للبلد عموما. الروس وغيرهم يقيمون الأنصاب لكتّابهم معها يعطون انطباعا عن عظمة أممهم. أمتنا تتبهذل من لصوص أو دمى نتبهذل معها.. نبقى نحبها.
– البحث في الامور النقدية يبدو ضعيفا على مستوى الوطن العربي، برأيكم ما هي الأسباب ؟
* سؤال حلو! النقد، الاقتصاد، السياسة، الكياسة، كلها مربوطة إلى عربة أمن واحدة. نمتلك عربتنا تسير بقية الأمور على ما يرام. نجهد على رواية سنوات، نكافح بين ناشرين لنشرها، جزارون أرق منهم، يأتيهم ايعاز من اصحاب المعارض هزئوا فلان لا يسمع الكلام، ارفعوا علّان يهز حسنا، تجدهم طائعين صاغرينا، بعده يا ناقدنا افندينا قل عن فلان كذا كيت، النتيجة لا رحت لا جيت. بقية النقاد صم بكم يساهمون في ضرب حصار.. أين النقاد.. لست أدري!
– النقد العراقي عاني كثيرا من عقدة الخواجة وتأثر بالنقد العربي كثيرا كيف؟
* لا أوافقك على هذا الرأي. عندنا نقاد كبار منهم علي جواد الطاهر، عبد الجبار عباس، ياسين النصير، غيرهم، لكن السوق الأدبية مثل بقية الأسواق تتأثر بقوانين منها، كما من عليها. مع الأسف يخفت صوت النقد يلتزم مستوى غناء جوقة بقية منشدين خافت، كما عندكم في مصر يخفت، في الستينات، السبعينات، يكتب عن اعمالي النقاد المصريون منهم حسن النجمي في الكواكب، علاء الديب في صباح الخير، مجلة حواء ذكرت، اليوم رغم صدور خمس روايات لي من مصر لا أقرأ نقدا واحدا منهم عنها، يبدو هم يفضلون الكتابة عن أخبار القوة الناعمة سمعنا مؤخرا، أخبار احتفالات المثليين تملأ الصفحات، تستهويهم، قوتنا الخشنة تجرحهم يبدو لي، لا بد من التأني.. عند التمني..
– ما رأيك بالجوائز الأدبية؟ هل تشكل دليلا على إبداعية المنتج الأدبي؟
* أقوى شخصية من أقوى دولة في العالم زارتني في شقتي أكثر من ساعة عرضت عليّ “أكبر جائزة أدبية” مقابل قبول صداقته وأداء مهام كبرى.. رفضتُ. لك أن تقيس بعد ذلك الرأي في الجوائز الأدبية الأخرى.
– ما أهمية أن يكون لدى الكاتب مشروع يعمل على تحقيقه؟
* كل دولة يجب أن يكون فيها مؤلف واحد على الأقل يتناول ابداعيا تاريخها، انعطافاتها التاريخية، يطرحها في كتبه مرآة لأهل البلد والخارج، يرون نواقصهم و جمالهم عليها. الحياة المدنية تبدأ من ذلك، من صياغة المؤلفات مسرحيا، سينمائيا، تلفزيونيا، مساهمة في خلق مجتمع متطور راسخ. هكذا مشروع كبير يتطلب من مؤلفه تكريس كل حياته له، خدمة بلده غير ملتفت إلى ترف، نعومة حياته الشخصية إذا لا تسير متوافقة مع مشروعه، هي غالبا هكذا، تكريس حياته إلى المشروع يستلبه من عائلته، يعي المؤلف دوره يضحي نعم راضيا، هكذا تختاره الطبيعة اختيار أنهار تشق مجاريها تروي البلد، غيره. حياة تصير قربان رفعة.
– لننتقل من الرواية الى الترجمة، لديك العديد من الترجمات هل ما زلت تمارس عملية الترجمة وما هو آخر ما ترجمته؟
* بعد الترجمة من الانكليزية مطلع شبابي إلى صحف ومجلات عراقية ترجمت من الروسية أكثر من دزينة كتب آخرها “ارهابيو الموساد”.. كل مترجمي دار التقدم خافوا ترجمته نقل لي مديرنا الطيب ضاحكا، وهو يهودي متنور، فقلت له هات الكتاب اترجمه أنا، المبلل لا يخاف المطر، تتحقق مخاوفه، قبيل صدور الكتاب مترجما أُسفّر مخفورا من قلعة السلم والاشتراكية، تنهار بعد ثلاث سنوات، أعود خلالها مع جواز مزور لأرى ماذا بقى هناك من شقتي، سيارتي، شهادة الدكتوراه، حسابي الواهي في البنك الرسمي.. كلها ضاعت، اين ضاعت، هنا لا اقول.. لست أدري! بعده ترجمت من السويدية مسرحية لكاتب فائز نوبل، ثم توقفت عن الترجمة. قبل عامين دعتني الامارات إلى تحرير وتدقيق ترجمة الموسوعة الثقافية العالمية من 3 أجزاء، صدرت أو تصدر قريبا.
– بخصوص النشر، هل ثمة مكابدات حقيقية في سبيل وصول عملك الروائي إلى القرّاء؟ وهل تجاوزت روايتك الحدود العربية؟
* الناشر شمس لا أجد كلمة تصف ألاعيبه معي مع كتاب آخرين النتيجة يمرغ في الخارج سمعة مصر في الوحل، اذهب الى سفارة مصر في ستوكهولم اشتكيه، معي عقد النشر، السفارة كأنها تمثل دولة المريخ. نغلق هذا الجرح كي لا أنفعل أدعو السماء تنزل غضبها على الناشرين، لا كلهم طبعا. عويدات، العودة، الرشيد، الشؤون الثقافية العراقية.. دور نشر محترمة أكن لها محبة. عن تجاوز رواياتي الحدود العربية اكتفي أقول حاضرة في مجاميع أو موسوعات أجنبية، الأمريكية، الروسية، الألمانية، السويدية، غيرها.
ـ هل هناك مشروع أدبي في الطريق؟
* المحارب يتقاعد.. الموظف يستقيل.. لا الروائي.
الاستاذ السيد الصحافي .. تحياتي.. امنياتي أراك في افضل حال دائما
حسنا تتأخر في نشر الحوار. أرسل إليك إضافة لو تجدها ملائمة يمكنك ادخالها إلى ردي حول الجوائز، بعد سطر:
لك أن تقيس بعد ذلك الرأي في الجوائز الأدبية الأخرى..
الإضافة:

على مستوى أوطأ ينقل إليّ رسل سلام دعوة لكتابة كلمة في مديح “شيخة الموز” مقابل منحي جائزة الأدب، هكذا بصراحة، أرفض طبعا، قبلها بعدها يُنقل تنبيه إليّ عن قدرة غير محدودة على تدمير شخص غير منصاع، انعمها من الناعمة اذهب الى المخزن العام coop القريب من شقتي، آخر بعيد عنها، يسرق المحاسب مني متعمدا منذ سنوات قيمة دولار دولارين أكثر احيانا من قيمة الدفع كل مرة، وكل مرة امنحه طوعا الفرق المُعاد منه إليّ كي يخجل لا يكرر اللعبة، لا يرتدع ، آخر مرة أمس، يحاول اثارة خصام بأي طريقة ، لا استجيب. احدهم يخبرني: واضح يسرقك عن قصد!..
هكذا ترى، الجوائز أنواع، يديرها سادة خدم، يُستغل خواء مثقفين لترويج ثقافة مشوهة تسهّل سيطرة على قدرات أمتنا.
بالمناسبة، حتى كلمة (أمة) يمنع الرسل الناعمون مثقفين من استعمالها مؤخرا على اعتبار، انتهت الأمة، تم تفكيكها.
طبعا في هذا الكلام السيء عن قوة أو جوائز سيئة دعاية غير مباشرة على قدرتها في بلوغ أهدافها، دعاية تساعد على تحقيق تلك الأهداف، أنوه إليها كي لا يظهر متشاطر يصبغ الصورة بأن يدعي برهان يمررها،.
اصرار الكاتب على خدمة اهداف الأدب النبيلة يواجه مثبطات لا حدود لها، معها تتسع قدرة الكاتب الحقيقي، يتسع أدبه، على مواجهة رذائل، على تنفيذ واجبه الجمالي السامي، الذي يستدعي الاحترام التكريم من شعبه أولا.

11

صرخة في الأعالي 2..
 فصل من رواية برهان الخطيب الجديدة



 عن غير وعي.. أو يتعمد الجنرال.. يجس مواضع مواضيع خاصة.. لا يخوضها صديقان اليوم، نلعب، يناولني أناوله، قبل قليل ينكر، اللقاء الفريد الغريب قرب جبل جيمغان، 75 كيلومترا عن طشقند، الظرف استثنائي، غير وارد احتمال لا يتذكر، لا لياقة لا لباقة أذكّره التفاصيل، شأنه نسيان أو تناسي الماضي، الأغرب بل غير الغريب آخر الزمن إهمال مواقع انترنت معادية له، أو ربما لا تعرف أصلا، أو محظور عليها، تفاصيل عمله خلال خمسة أعوام قبل و بعد تأريخ ذلك اللقاء اللُقطة، في الأعالي عند تلك النقطة، المعلومة مغيبة من سيرته، سقطة. سهوا، عَرَضا، عرضها إلى النور يعارض هدف مدبج السيرة، الناشر يعلم أو لا يعلم أسرار كل الديرة، الأوأوات كثيرة في شغل صحافي على هذه المحطة، السكوت عن بعض المعلومات فيه أمن، واجب، يقي الرأس غسلا تحت مغسلة، أسوأ.. الأنف حشرا تحت مقصلة، أو.. أو.. الجنرال لا يتذكر حقا، يخرف، تماما لا يعرف.. خلاف منطق شخص مرهف، إنما لماذا يحاول جري إلى أحاديث خاصة تسبر الغور.. تعيد فترة منسية حرجة إلى خاطر.. إلى نصاب الحاضر.. تبع المخاطر.. أو هو يتذكر جيدا لا تهمه مصارحة، يدري لا تنشر صحيفة غير ما يجب نشره، لا يتوقع يجرؤ صحافي نقضان من توحد غربة على عصيان.. حلمه تنصّل من خصيان.. عبث مع أقدار بعد تفاقم مرارة.. حتى من أقارب عقارب كانوا خلان..
 
 أستل من جيبي منشورا محليا فيه صور شبان، مطلوب القبض عليهم في أسرع أوان، لهم لحى، غيرهم من غيرها، أعرضه على الجنرال الحيران:
- لا تشك بينهم زعيم المختطفين كاميران.. أي وكيل يعوض أوجلان!..
- أوجلان تعبده جماعته.. لم يكن كفؤا له أحد.. كاميران ينشق عنهم أرجح!
- لا حزب البرزاني حزبكم يفعلها.. لا حزب طالباني.. لا حامض حلو.. يبقى العمالي الكردستاني.. كاميران حين يخابر الصحيفة يذكر اسمه لا غير.
- اسم كاميران يشتهر ثوريا.. أحزاب تجمعات جديدة تظهر.. طمعها السلطة.
- رأس الخيط معنا.. الباقي البحث عن بقيته.. دليل..
- لا يجدوا صورة له حتى الساعة.. كم رجلا معه.. اين تواجدهم.. لا ندري!
تعتريني حميمية نحو عمر رغم نفور عن اختلاف رأي بعد انحراف مشارب:
- قائد عام لا يدري اين مرابع مشاغبين؟!
- يتكاثر المشاغبون المتمردون كل مكان. يمين يسار يتململ. خاصة يمين.
- هدف واحد.. لا لقاء على مشترك؟!
-  لقاء! يثيرون صراعا قوميا، طبقيا مفتعلا، غيرهم صراعا مذهبيا، دينيا، عشائريا، الجبال لا تخلو يوما من متمردين..
- غير معقول لا صلة لا بوصلة له في المدينة..
- زوجته أو صديقته هناك تدعي هو ليس منهم.. مسافر إلى تركيا.. يشتغل.
-  إذاً غيره يتبنى اسمه يخابر صحيفتنا؟!
- يخابركم لا يطرح كيف يتم اللقاء؟!..
- يختصر.. يصل ممثل صحيفتكم المدينة نلامسه نتكلم.. يقفل الخط.
- أي احتمال واردة.. إلاّ ترك زوجة جميلة وراءه.. لا يأخذها معه.. لا أفهم!
-  كيف تفسر الخاتون الفراق؟!
- قلت لك بروين تدعي يتركها مؤقتا.. يعود.. أو يستدعيها قريبا..
- محتمل صادقة.
- تصدّق أنت امرأة جميلة.. تكلم معها.. تجدها عند المصور أبرام صديقك.
- تعرف اسمه الحقيقي.. أيضا صديقي.. مخابراتكم قوية.. لا تذكرّك لقاءنا الأول!
- لم يكن. انتهينا. التزامنا أمام العالم العثور على المختطف.. حمايتك.. نصيحتي لك الحذر.. خاصة من الجميلات.
- لكنها على ذمته.. إنما يختفي الفرق.. زوجة.. صديقة..
- المهم جميلة.. زوج لا يبقى معها.. هي لا تبقى معه.. الجهل راحة.
- تظلم الجميلات.. أو حُكم خُبَرة.. تعلّم في الخارج!
- الثلج له فضل عليهم.. عليك.. مستر رمزي..
- نربط السلوك إلى الطبيعة ما دور العقل عند هجوم النمل أو القمل؟!
- مكمل.. عقل رعاة القرية تحت الطائرة يقول لهم مياه السد أو جشع إدارة يجرفهم من أراضيهم قريبا إلى جهنم.. أشجارهم حيواناتهم مهددة.. عقل حكومة كردستان يقول السد له فوائد إلى أراضينا.. أنا الموظف عند الحكومة استمع إلى عقلها.. التمرد بقايا عقل رعاة عاطلين.. لا أحد يتراجع..  النتيجة اصطدام.. مهندسون في يد عصاة.. تريد استرجاعهم طبعا تريد.. علينا مداهمة بعض البيوت في البلدة.. منها بيوت معارف.. ترافقنا؟..
- طبعا.. معكم.. سوية..
- عندك حل آخر.. قل لي..
-  تذكر حلا لا تنتبه إليه!
- التراجع؟!
- خطوة إلى الوراء من كل طرف لا يحصل اصطدام.
- ثرثرة مثقفين لا تنتهي.. ضمنا تكرار ضرورة دفع حكومة المركز إعانات مالية إلى متضررين.. رواتب بيشمركة.. يقبل المتضررون.. نبقى تابعين؟!
-  دول متحضرة تتصرف في حصافة تحل مشاكلها سلميا.
- عندكم. عندنا تبقى المشكلة عالقة.. قادر لا يريد تقديم معونات كبيرة.. متضرر لا يرضيه الجزء القليل.
- لا أحد يمكنه الحصول على كل شيء في النهاية..
 
 نعم أستاذ برهان لا بد من المخمخة.. أو دفع ثمن حماقة.. أجساد أشجار مقطعة قرب حقل نفط، موقع سد على مبعدة، نهر وشك تكبيل، دروب سمراء تخدد الأرض الخضراء.. تبدو آثار ضربَ سياط شنعاء.. حكومة إقليم تنزله على ظهور بسطاء.. رعاة.. مَن يرتكب حماقة ضد مَن؟.. ماذا لو تدعو الحاجة أو الجشع أقامة بدل الحقل أو السد الواحد عشرة؟.. تخريب الطبيعة المحدود يعقبه آخر غير محدود بعد سنوات.. الكتابة الى الصحيفة في مدح المشروع رغم رغبتها تدليس.. خيره العميم منتظر لا شمالا لا جنوبا لا في تفليس.. عِلمنا من خدمة احتياط في الجيش سابقا من عهد حمورابي وصديقه رمسيس: سد يربك مياه ري منطقتنا نهدمه.. ننسفه.. إقامته اليوم توفر أرباحا إلى شركات أجنبية معها روسية مكلفة تنفيذه لها مهندسون اسكندنافيون ضمنا المهندس المخطوف.. لماذا العمل يتقاسمه روس واسكندنافيون وغيرهم؟!.. نعم، الرأسمال عابر قارات، لا جنسية له، روسيا لها قوة الحماية، الغرب حسن البناء، يتكامل المشروع.. غير مضبوط استاذ برهان؟ قصدك المنتفع الأكبر مصدر واحد أو عوائل معدودة وراء كواليس؟ المآل معارك حروب تجارية بين العمالقة؟ أقدامهم تدوس الصغار، عفارم عليك، الاعتراض نور، تنوّرني أكثر من نوستراداموس، صدام يعرض عليهم الفيفتي فيفتي لا يقبلون المناصفة، المطلوب أوسع، العالم كله، أين التنوع، ماذا لو الحاجة تتطلب إقامة لا عشرة حقول أو سدود بل مائة؟.. ألف؟.. مليون؟ هل من حد يوقف الآدمي عن نهش أمه الأرض، تمزيق شعرها ملابسها جسدها؟!.. مَن يضع الحد، متى؟ لجنة حكماء، قوة خفية.. بعد زيادة الفلوس.. ضبط زيادة النفوس.. متى.. لا ترد عليّ.. نادم على صراحتك معي.. حقك.. السؤال لا يقلق غافلين..
 
 أكمل الجنجلوتية، الطائرة تحلق الى الأمام ساعة، البحث متواصل عن قواعد الثوار، العصاة، الدواعش، المواعش، المتحركة، الثابتة، متمردين فرادى، مجتمعين، إرهابيين، سمهم ما تشاء، أناس لا ينتفعون من تغيرات عولمة لا يواكبونها يعترضون في أسلوب لا يجدون غيره.. في أيديهم المهندس المختطف، منهم وعد أطلاق سراحه قريبا، مَن يؤكد مَن يوطد الضالة في هذا الاتجاه لا غيره.. لا عكس الطيران؟ كذا قضية حقل النفط، السد، دولة يراد خلقها مِن طيف ليلة صيف، يا حيف.. لا أنت لا غيرك يوقظ قبل كابوس نازل نزول سيف، يبيّن الحل لا  في إقامة حقل أو حفل، سد، دولة.. واحدة أو عشرة.. بل في تكيّف الناس مع الموجود لا في تكييف الموجود إلى رغبات لا تنتهي!..
 
يجب استنباط أجوبة جديدة عن أسئلة عنيدة قبل الكتابة إلى صحيفتنا العتيدة.
 مهما أبتكر لا يمكنني مقاومة حلف التوتر، النفط، السد السقيم، حلم التقسيم، تقسيم المقسَّم، هجاء الشركة المنتفعة من بنائه، مالكة الأسهم الغالبة في الصحيفة.. لا.. لا يمكن.. مصارحة الذات أول التحرر.. أنا أيضا رهينة في شكل ما، رهينة النفس الخائفة، رئيس التحرير المتجبر، لا أختلف عن المهندس الذي في أيدي خاطفيه..
أحضر أساعد في تخليص رهينة.. مع المشاكل الجديدة أكتشف ذاتي رهينة..
لا تزال الحكاية بسيطة، غير متداخلة كثيرا، فكرة العدو النابعة من عداء الطبيعة إلى الإنسان في مرحلته الأولى تبدو تافهة، العداء نتاج واقع جديد اليوم.. الجنرال يتناسى اللقاء الأول، يتبسط وصولا إلى ماذا؟.. حكاية المخطوف الأممية العامة أكتب عنها تحرك حكايات وطنية جد خاصة، ردهة داخل ردهة، تخفي الخطير من المعاني، اللقاء الأول الأغرب من غريب امتداد الثاني العجيب.. عن صدفة.. عن تدبير.. صدفة لا تتكرر مرتين.. في وضعين استثنائيين.. تدبير من غير جئير.. يصوغ معاني النخب المطلوبة.. يتجاوز أماني الناس المرعوبة.. إلى الأعالي المرغوبة.. نعيش.. نشوف..
 يتطلع عمر إلى بحر الخضرة أسفل الطائرة على الشاشة.. تطمئنني صيحته المونشية منتشية:
-  تغيب تحضر صورة المارق يقع في أيدينا عاجلا آجلا.
 
تجنح الطائرة فوق بحر الخضرة والزرقة الزاهي متلاطم الأمواج، تعود موازة النهر إلى مطارها عند نقطة الحراسة خارج المدينة، تحط على المدرج الناعم في الموقع الذي يعينه الجنرال، تهدأ رفاصاتها سريعا من غير ضجيج..
يد الجنرال ترفع الطائرة في رفق، يفحصها عن إعجاب، لا حشرة لاصقة عليها:
- اختراع عظيم.. مع كاميراها تعوض حملة تفتيش مسلحة كاملة.. 
 
سوف يوثق الجنرال العملية.. نسخة من التقرير يضمها إلى أرشيفه الخاص.
 آن أوان قنينة بيرة.. منذ ساعة يتخيلها مثلجة.. لا مُبرمَجة.. لا مؤدلَجة..
 
 
يتبع..

12
صرخة في الأعالي..
 فصل من رواية برهان الخطيب الجديدة

نفور متبادل يباعد بيننا منذ البداية.. مماحكات لا تنتهي..
تحلق الطائرة على ارتفاع منخفض فوق أشجار منفردة شفافة الخضرة، متناثرة إلى حدود السماء، نعمة، تسلم من قصف جيش صدام خلال حربه مع الجارة ايران، المرتفعات الوعرة تحت النظر أقل اخضرارا منها أيام الطفولة والصبا، سلام قلق منذ عودة قوات الغرب إلينا على تخوم الألفين، أشجار مسكينة عجفاء، ذاتها يوم يبيع الوالد بيتنا هناك في البلدة يأخذني صغيرا مع الأهل إلى غرفة مستأجرة في المدينة قبل شراء بيت جديد، طرف النهر متعرج، ضفافه حصى، أحجار صغيرة، كبيرة، مياه داكنة، لها لون وجوه أناس نحاف يطلعون من أكواخهم القليلة المتجاورة إلى الأعشاب حولهم،  يتطلعون الى الطائرة المنزلقة فوقهم في الهواء الراعش من غير ضجيج..
العسكري يعيد شاطئ النهر إلى المشهد.. ملابس البيشمركة الخاكي فضفاضة عليه، السروال العريض، القمصلة، لا يتغير الرجل كثيرا رغم مرور الأعوام..
في نباهة الصحافي المهتم في كل تفصيل.. أستشيره.. لا أستثيره:
- جنرال عمر.. لا احتمال  يصوب أحدهم رشاشة إلى الطائرة؟
يمط العسكري فمه الرهيف يلتوي وجهه النحيف، يصير صرخة الرسام مونش في متحف الاسكندناف، صرخة لها تعبير مخيف، يتابع الهضاب معي متعبا:
- لا.. هم بقايا الرعاة الأصليين.. نعرفهم.. تبع السليمانية.. يكرهون جماعة أربيل نعم.. لكن لا علاقة لهم مع متطرفي مسلحي حزب العمال الكردستاني.. زد بنادقهم دفاعية قديمة.. لا تصل الشارع العام.. لا تخف سيد رمزي..
 
 يتعثر انسياب الطائرة الخفيف عند عبورها تيار هواء غير منظور مختلف الحرارة، الكثافة، تميل مع انعطافة النهر، أسفلها مسالك ترابية متوازية متعامدة مع المجرى، غير مطروقة جيدا، ترابها احمر، تؤدي إلى مواقع مختلفة من حقل نفط بعيد، السد الصغير الجديد قيد الإنشاء يتعثر، الجنرال يتفاخر:
- أنفاقه وشك الحفر.. الامتداد..
 لا بدن السد لا جوانبه لا المرافق أو المنشآت التابعة واضحة، أراها مشوشة في مخيلة الجنرال المريشة، إحدى صحف المركز تذمه: حضرته ينقلب على جيشه مرتين.. لا تحاسبه حكومات البلاد دقيقتين..
الحق صحافي عاقل لا يثير المثير.. لكن توضيح نقطة حيوية واجب صغير:
- سد شمال الرافدين يربك الجنوب.. كيف توافق الحكومة المركزية لا أفهم!
- سيد رمزي.. مهمتك البحث عن فقيد أو اثارة مشكل جديد؟!!..
- المشاكل مترابطة عمو جنرال.. مثلها مثل مياه آسنة.. أسئلة عديدة وسِنة..
- رمزي افندي.. كل واحد يلزم حدوده تُحل كل المشاكل.
- فعلا جنرال.. واحد غير قهار يتصور حدوده أبعد  تتسع المشاكل.
- لغو صحافيين أيضا لا ينتهي يعيد إنتاج المشاكل.. يتركها مزمنة.
- النبيه يميز اللغو عن غيره تتفق معي.. كلب نبيه ذاك.. لا ينبح استعلاءً!
- لا تميَّز.. أو لا أميز.. قصدك ؟!
- فعلا.. اختلاف معنى المفردات يربك.. أعيد سؤالك إليك يعني نختلف.
- خلينا لا نتفلسف أستاذ رمزي.. نعود إلى موضوعنا.. انظر إلى هناك..
 
سيارات مبعثرة قرب موقع بئر النفط ، أفراد قلائل، جنرال عمر يكمل:
- العمل متوقف منذ تنشط عصابات دولة الإسلام في العراق والشام.
ألامس ذراع جنرال عمر اهمس قربه:
- اختطاف المهندس القريب يوقف العمل.. أو نشاط داعش البعيد؟!
لا يبدي اهتماما كبيرا، الطائرة ترتفع أعلى، تحوم فوق المنطقة، يتابع عمر مع بقية العسكر عن مبعدة ما قد يستجد، لا أتوقع عملا عنيفا مع ثرثرة الراديو قبل قليل عن احتمال إطلاق سراح المهندس على بقعة من المنطقة أمامنا، عمر يتغاضى عن سؤالي يلاحق أفكاره:
- متابعتك الحالية معنا الرابعة أو الثالثة ؟!
- الثالثة.
- كاكه تلاحظ.. حكومة الإقليم مهتمة في مشكلة مهندسيكم المخطوفين.. لا تهملها كما تكتب جريدتك.
 لا أقول له.. تكذب، تؤدون الطلعات، الأعمال العسكرية، لأغراضكم. الاختطاف مهمل، لا همكم استقرار الأوضاع قدر طمأنة المستثمرين المحليين، الأجانب، بعد هبوط العملة مع استفتاء استقلال ممتنع.. حتى دول متقدمة لا تحصل عليه كاملا.. أتساءل متغابيا:
- تحليق هليكوبتر تجسس فوق مناطق المسلحين لا يهدد مشروع تسوية سلمية معهم؟..
-  تسوية على التلفزيون فقط.. على الواقع شكلية.. والمسلحون أنواع.
- معونات اجتماعية اقتصادية منتظرة.. تعمير مناطق مخربة شكلي أيضا؟
-  ترى عيناك.. إطلاق سراح المهندسين أولوية حاليا عندنا.
- احترام اتفاقات واجب، عدم تهويل خبر، إنما خطف مهندس أو مهندسين هو؟
- كاكه رمزي أنت معنا.. مع بغداد.. مع المسلحين.. أو مع جريدتك الأجنبية.. لا أفهم!
- مع مَن تريدني أتموضع أرفع قلمي سلاحا عمو عمر.. الأكراد هنا مثل العرب هناك.. واحدهم يكره الآخر.. خصامات متزايدة.. الباقي أنا مع مهنتي.
يغيّر جنرال عمر نبرته.. يذوي صوته الضعيف أصلا.. صرخته غير المسموعة تذوب:
- أي كردي يقف مع أمته!..
- اتجاه العالم إزالة الفرق بين الأمم.. لا خلق أمم جديدة..
- ازالة.. خلق.. نحن أمة فتية.. كل الاحتمالات حاضرة في مجرتنا.
- استفتاء انفصال يزلزلها.. اختطاف مهندس أو مهندسين.. لا تتفاهم كوريا الشمالية مع جنوبها، الروس، الصين، مع الأمريكان، قل على الدنيا السلام.
- لا تدلّك حرفتك على زلزال الكاريبي.. قبل نصف قرن أقوى يهدأ.. المهم.. خلينا بعيدين عن السياسة في الكياسة.. رغبتك نواصل إلى المسلحين؟
أستاء من مناورات الجنرال الذي ينقلب مرتين على جيشه:
- معكم أنا تراني.. لا أنتم معي..
- كاكه.. الهدف واحد نعم.. الطريق إليه يختلف.
- حضرة الجنرال لا يخشى احتمال يؤدي الفشل الى حرب جديدة!
- الفشل شخصي عادة.. الهدف يبقى عاما..
 
  عمر لا همه إيضاح موقف حكومته قدر التعبير عن موقفه، أكثر.. تقصي موقف الصحيفة، حتما لا ينتظر مبلغا تشجيعيا مني.. منها.. الذي يوصله إلى رتبة جنرال لا يتركه فقيرا.. لكن الحلم يمتد عادة إلى ما وراء الكمال.. جزء من فدية كبيرة منتظرة مُفتَرضة تفصيل واقع حال..
مع تفكير حرفي قذر أفسر تصرف المقابل.. عن مصلحة.. لا عن مبادئ تهرم.. تُهزم.. أزيح الثانوي عن الأساسي.. أعود إلى موضوعنا المُؤرِق.. السياسي المُحرِق:
- في بحر الخضرة أمامنا لا نرى سمكة لابطة هابطة.. بدل الرمل صخر!
لا يفهم عمر سريعا.. يتدارك السرحان يوضح:
- عصاة لا يمكثون في مخبأ واحد طويلا.
و.. يلتفت إليّ متذكرا:
- أنت لا تشبه الأكراد.. نعم بيننا مسيحيون.. قلة!
- سمعتها منك.. يوم لقائنا الأول.
- لم نلتق سابقا.. أنت واهم!
- عند سفح جبل طشقند.. عند جيمغان.. تنسى..
- لم أكن هناك..
- الخطأ وارد العتب بارد.. و.. أنتم كاكه عمر غير متشابهين.. تتزوجون العرب هنا.. الإيرانيين أو الأتراك هناك..
- يبقى الغالب علينا الأصل الآري..  البعض قفقاسي..  نعم كثيرون مزيج.
- الآري يُستبدَل أشقر.. سلافياً.. بوتين ترامب يصححان كفاحي.. عدو الأمس صديق اليوم.. نقط التاريخ السوداء تُمسح.. متى تهدأ روحي يا روحي!
 
يخرج الجنرال محفظة سجاير فضية.. يعيدها الى جيبه.. يستدرك في غم:
- مروري على الشبه لأعرفك أكثر.. نفرق هذا عن ذاك النتيجة سيئة..
 
يشير إلى منتدح الغاب في الأسفل يصرف انتباهي، أتطلع إليه أراه ليس غريبا، صلة بصلة تجمعه معي أنا السرياني الآشوري العريق ابن الرافدين، جنرال لا يتكلم كثيرا عادة، يتساهل مع صحافي له سوابق معه، يجرني إلى عمق حديث متشعب يسبر الغور، لكنه ينكر أو يتناسى لقاءنا قرب جبل طشقند، منذ تلك اللحظة أراهن لم يكن ذلك اللقاء صدفة، أتأكد.. لا الحالي أيضا، مع الوقت تتغير تفاصيل صور، معان، أمامي نهاية.. عند بداية مهمتي الصحفية المحروسة.. خلاف ما في روايات عادة مدروسة..
ذقن المحروس تشير الى مرتفعات هضاب قاتمة الحجر قليلة الشجر أسفل مشهد الطائرة الكدر:
- لا يبقى من النبت الكثير ترى.. حرب بغداد معنا، مع إيران، أجدبتنا.. مَن تصوّرَ الجدب ينفع يوما.. في رصد.. مراقبة المنطقة.. لو احدهم يهاجمنا..
- على موقع الكتروني سيرة لك تذكر.. تخدم في جيش المركز عهد صدام!
- ثم أفر إلى أهالينا هنا. مهمتك نبش تواريخ ميتة أو متابعة مشكلة حية؟!
- تدري.. من غير معرفة الماضي لا نكتب عن الحاضر حسنا.
- التاريخ كلاوات خناس أدري.. أكاذيب حولنا لا تنتهي.. تتكرر عن غفلة.
- معلوم.. تصدر من مصدر معتبر كاذب يحصل اختلاط..
- لا أقارب هنا فيهم نفع لك؟ في إجراء تحقيقك المنشود عن مفقود مفقودين.
- شذر مذر يصيرون.. أخوة أعداء.. مهندس النفط مختطف.. لا مفقود.
- صحيفتك مع بُعدها تعرف أكثر منا رغم قربنا نحن إلى مسرح الحادث!
- لا تعرف كل المطلوب.. مكالمة تصلهم تعلن عن العملية.
- مخابراتكم تتبعت مصدر المكالمة حتما.. ما الجديد؟..
- الذي تعلمه.. صادرة من المرتفعات أمامنا.
 
عسكري يحمل رشاشا يقترب في حنق مكتوم:
- فوق استفتاء الانفصال.. مخاطر الاستقلال.. اختطاف يسرق الأنظار!
جنرال عمر يخزره، سكون، نتابع المشهد تحت الطائرة، أشير إلى كوخ:
- المهندس المخطوف محتمل داخله هناك لا نراه اللحظة!
- اختطاف في ظرف حاسم هدفه سياسي.. أكبر من فدية.. العملية تنفذها جهة مقتدرة.. لا عصابة صغيرة.. لا رعاة..
 رائحة مادة صحافية دسمة تنتشر من صراحته.. أشجعه على مزيد من بوح:
- الخاطفون ينتظرون فدية.. يضمرون بيانا سياسيا يغير الموازين.. الميادين.. يسكت البزازين.. واو.. فيلم هوليوودي!
 عمر يتطلع إلى مرتفعات يعرفها.. يزيح رشاشة مرافقه بعيدا:
- دائما هناك هدف آخر.. غير المعلَن.
- يعني.. واو لا تكفي.. ننتظر ويو.. واوي!..
- يكسروا وعد إطلاق سراح المخطوف دون مشاكل تسوء عاقبة الخاطفين أكثر.. يتعقد الحال..
- يبقى الخبر المثير زاد الصحيفة.. لا يؤنسني في الواقع.
- ضميرك سيد رمزي صاخب.. أكثر من اللازم..
 

يتبع....


عن صحيفة العالم - العدد 27 اب 2018


13


مرة أخرى وأخرى.. رواية الخطيب  عن شارع  أبي نؤاس

يوسف الصفار*

نعم مرة أخرى وأخرى..رواية  برهان الخطيب عن شارع أبي نؤاس تعود إلى الاهتمام، نقرأ عنها مؤخرا في صحيفة (العالم) دراسة  معمقة بقلم السيدة مروج حسين، وعلى موقع (الناقد العراقي) يكتب الناقد السوري د. صالح الرزوق عنها ما معناه أن الخطيب كاتب يعبر عن روح شخصيات داخلة في حوار وصراع بعضها مع البعض الآخر أكثر مما عن روح أمكنة لها تأثيرات على الناس.. إلخ.. باحثة الماجستير رحمة الراوي تراسل المؤلف  متنكبة دراسة جديدة.. أنا أكتب عنها قبل سنوات..  أسماء كبيرة قبلنا قالت عن الرواية الكثير..
الرواية الحسنة مفهوم، مثل التحرير والإرهاب والنبل وغيرها، يحتاج تعريفا وافيا، من جانبين متقابلين، بل متضادين، ليكون كلام عنه مجديا ومبررا، وإلاّ كنا نكلم أنفسنا، أمام مرآة في أفضل حال.
في الموضوع هذا، أو عن رواية استحقت الحديث عنها نجد الجانبين المتقابلين هما ناقد مع، وناقد ضد، كذلك قارئ وآخر، صحفي ورئيس تحرير، وصولا إلى محصلة إيجابية، إلى تقديم حصيف عنها لجمهور عريض، مشاركة في نشر معرفة، ذلك مع توفر نية طيبة لاستمرار حوار، نحو ذائقة راقية، خلافه كلٌ يروج لكلام يصير بضاعة مضاعة، حال نجد أنفسنا فيه عائدين القهقرى إلى بلبلة بابل، قبل اندثارها، أي ما لا يرضاه حريص على ديمومة الثقافة الحرة وسعادة الناس.
تلك مقدمة، مضادة، لطغيان نصوص ونقود على مواقع وصفحات قيل عنها أدبية، وهي عند فحص متأن ثرثرة، تزيد العالم المنكوب منها ضجيجا، أنكى يُقدم أصحابها كأنهم جهابذة فكر وفن وأدب، بعضهم حاز جوائز ثم سحبت، أو كسفت، سلسلوه تلفزيونيا ثم خاب، ما يدل على إن الأمور مازالت غير فالتة تماما.
أعود وأقول إن أول ملمح لنص ناجح، دون تفاصيل شائكة، هو قراءته طوعا لمنطقيته، من غير إغراءات مارلينية ومحسنات لفظية وفنطازية. ذلك ما دعاني لتقديم رواية “ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس” لبرهان الخطيب، وقد وجدتها اجتازت مرحلة فحص واختبار وتثمين بعد تناولها من أكثر من ناقد، في أمسية أدبية وأخرى، تحدثوا عنها بإيجابية، ومرت إلى إذاعة ستوكهولم العالمية حيث قدم برنامج خاص عنها، تخلله حوار مع كاتبها، إلى الإعلان عنها من مصر باعتبارها من أكثر سبع روايات عربية إثارة للجدل.
كان الروائي الجزائري الطاهر وطار أول وصوله روسيا عام 1986 طلب من الخطيب روايته الأصل عن شقة أبي نؤاس ليقرأها، وانتهى منها خلال ليلة، والمخرج العراقي قاسم حول التهمها خلال ساعات، في طائرة أثناء سفرة من بيروت إلى موسكو، وقال للخطيب عنها: هذا سيناريو عال جاهز للمسرحة والسينما! الطاهر وطار يذهب أبعد، يقول للخطيب بالحرف مبتسما: البعثي الذي منع هذه الرواية غبي، فهي رواية بعثية بامتياز، قومية، لو كنت مكانه ما منعتها! سعدي يوسف كان جوارهما، برهان قال لا أدري سمع سعدي ذلك أو لم يسمعه.


برهان الخطيب مع نشوى الرويني في حديث تلفزيوني عن روايته

الطريف أكثر إن الشاعر، الوزير السابق، شاذل طاقة، سفير العراق حينه إلى موسكو، يدعو برهان الخطيب إلى حفلة في السفارة، يبلّغه إعجابه بالرواية، لكن يأخذ عليه تناوله القضية الكردية فيها إهماله القضية الفلسطينية. رد برهان: خليني أحكي عن مشكلتي الوطنية أولا، بعد ذلك المشكلة القومية على رأسي، حتى لو كانتا عملة واحدة
وعندما كنتُ في موسكو أوائل السبعينات، بإيفاد رسمي كمهندس، يخبرني برهان عن اقتراح الشاعر طاقة لاحقا أيضا، عن احتمالية تبديل حميد الكردي في الرواية جعله فلسطينيا، مع تعديل خلفية الرواية قليلا فتظهر الساحة الفلسطينية بدل حرب الشمال. وجدتُ الاقتراح معقولا لتصميم رواية جديدة.
قلتُ له: لماذا لا تفعل ذلك، لا بأس بولادة جديدة للرواية! يرد برهان في جد: أفعل ذلك، لو قلتَ لحرمك المصون، حين تلد لك طفلا عراقيا، أرجعيه، هاتِ لي رجاء بدله طفلا أزرق العينين أشقر. لم تكن تلك أول ولا آخر مرة يرفض الخطيب مساومة، فيها كسب لو يمتثل، طلبوا منه أيضا تبديل انتماء بطل روايته “بابل الفيحاء” لتنشر حلقات في مجلة أسبوعية، ويُصور منها فيلم، فقال:  الروائي قد يفسر التأريخ لو يحالفه حظ، لكن لا يعيد كتابته.
لا ينتهي الكلام عن رواية أبي نؤاس بعد سنين، خاصة وقد جرى استلهامها لأكثر من رواية عربية، شقة الحرية للقصيبي، ذاكرة الجسد، التي لم تكتف مدبجتها بنقل هيكل رواية الخطيب إليها، مع تنفيذ فكرة الشاعر، المحلقة عادة فوق الأمكنة والأزمنة، حميد يصير فلسطينيا، له اسم آخر طبعا، شلل اليد من التعذيب العراقي ينتقل إلى يد جزائري، عن إصابة من فرنساوي، والرسام العراقي يغدو رساما جزائريا، نفس البنيان والهموم، الفتاة العراقية المنكوبة تنقلب جزائرية، الخلفية تتحول من حرب الشمال إلى حرب الجزائر، تلك طريقة شائعة، هات واحدة أو روايتين أصنع ثالثة، وليصير العمل أبهة، السرقة عند كبار جَد، أو لا سرقة، تقوم الكاتبة بنقل مكيدة سيرانو دي برجراك المعروفة، كتابة رسائل الحب نيابة عن آخر، بقضها وقضيضها، إلى “روايتها”، و.. عيني عينك، الجسد بعشرين طبعة، ورواية الخطيب هذه تباع خفية، الكاتب الشجاع إسماعيل فهد إسماعيل يهرّب نسخها في سيارته، من بيروت إلى بغداد وأبعد، لتكون في متناول القارئ، ذلك ما يذكره صاحب مكتبة النهضة ببغداد، السيد حياوي الأب. هكذا هو الأدب.. عملية تواصلية، مرة بشجاعة.. بالنقض، ومرة، تعرفون كيف.. بفهلوة.
غير ذلك، ماذا في هذه الرواية، لماذا هي باقية، تثير الاهتمام المتواصل، خاصة بعد اكتمال نظمها ونشرها بعد بيروت من دمشق والقاهرة في آن واحد؟!.. لنعد أولا إلى بعض البدايات.

أنشودة النهر.
تلكم الأزمان البعيدة التي منها يرسم برهان الخطيب “شقة في شارع أبي نؤاس”  فاتحة روايته اليوم “ليالي الأنس في شارع أبي نؤاس” كنا طلبة بكلية الهندسة، عند باب المعظم، نأخذ شارع الرشيد مشيا، إلى نهايته البعيدة، ساحة التحرير، ننعطف إلى شارع أبي نؤاس ونغور محاذاة دجلة الخالد مع تعرجاته، ونحن في لجّة نقاش عسير، على عادة المشّائين عهد سقراط، نحو الماضي وألمه، نحو المستقبل وأمله، معبدين أحلامنا برؤى فلسفية متنوعة، مما كنا ندرس وننقض، وتصورات لا تنتهي في الأدب والفن، وأحاديث في الرواية والروائيين، والغروب على الجهة الثانية من النهر ينبهنا بألوانه الأرجوانية على سطح النهر بأن للوقت أيضا أحكامه وحدوده.
مرة أخرى نتعاهد على تغليب واجباتنا الهندسية على الثقافية، ومرة أخرى تتغلب علينا أصوات الوجود، البعيد والقريب، نعود في اليوم التالي إلى تشريح الحياة والمجتمع والذات. وتعاقبت سنوات ويطرح برهان أمام الناقد الكبير د. علي جواد الطاهر الصيغة الأولى من رواية شارع أبي نؤاس، يقرأها الناقد، تعجبه، يميزه بمجلة “ألف باء” حينه عن كتاب الستينات، باعتباره نسيج نفسه، لا ينتمي لأي من التيارين التجريبي والواقعي السائدين آنذاك، بل ويشجعه على إكمالها بجزء آخر، وهو ما يفعله الخطيب بعد أربعة عقود.
هكذا تتسع قصة الشارع العريق في “ليالي الأنس..” برفعة للواقع على يده، أو بقلمه، إلى رحبة جديدة للأدب والفكر، وقت يظل العراق وأهله يحترق وما زلنا بسياسات بؤس، في هجير احتراب واحتلال وفرقة، ولا سقف يحمي الرؤوس والنفوس غير الحظ والأدب السامي الذي وصلنا منه ومن البعض القليل بسخاء منقطع النظير.
لقد اهتممنا بالسياسة منذ ذلك الحين، بل قبله، لكن استبعدنا مبكرا منها أي أيدلوجيا، مصلحة الناس وحرية الفرد نبراسنا، ذلك وجدته ما زال أساس عمل الخطيب هذا، يقيم عليه بناءه الفني، بل وغيره مما قرأت وقدمت على “العرب الأسبوعي”. نعم، شغفنا بالفلسفة وأبحرنا معها، لكن تجنبنا مرسى معدا سلفا لاحتكار الرؤية، لتجميد حركة مجتمع، إذ بتقلب الأحوال قد ينشد الكائن حسن مآل.
بذلك التنوع والإرهاص أيضا أفتح رواية برهان الخطيب ”ليالي الإنس..” نافذة على المثقف المهزوم المنتصر في آن، على ما ورائه، من لحظة تاريخية إلى أخرى، كيف لا والرواية الحسنة هي صوت الزمان “بتعبير ديورانت”، فيما يرى ناقد وآخر رواية أخرى للخطيب صوتا.. للمكان
الزمان هنا هو المختبر والوسط الذي نميز به الخبيث عن الطيب… عبره يأخذنا الكاتب مرة أخرى، كما في رواياته السابقة، بآلة الزمن، خاصته التي يجيد توجيهها، نحو هذا الجزء من الماضي، نحو ذاك، مرة أخرى إلى الحاضر، ليضعنا في مفترقات ومقتربات، يسحبنا معها من واقعنا، لنناقش أنفسنا والآخرين، بحوارات فكرية فلسفية، قد نسهو عنها حينا، لكن حين نعاود القراءة نكتشف.. إن لكل كلمة ضرورتها في الرواية! فماذا يريد منا هذا الكاتب المخضرم، اللعوب، حين يتركنا في مخاض، ينومنا مغناطيسيا، ثم يوقظنا بضربه الرنان، يهز أعماقنا، يستفزنا..
في النهاية.. يفجر ينابيع لحنه، فنغتسل بتدفقاته… هذا الماكر، غير الشرير، برهان، مهندس الكلمات الصعبة، والجمل الوعرة، إذ يحوِّل حتى المتداوَل سردا إبداعيا، ذا إيقاع صاف، وقد تعجز عن اللحاق به، والتقاط ما في القرار.

إرادة من غير طحين ما تصنع عجين.

الرواية الجديدة تبدأ مع غزو العراق، تسقط أحداث الماضي على الحاضر، حميد ”كردي شيوعي” يغادر بلده عام 1963 الدامي ويعود إليه، إلى ذاته، تعود أيضا أيام قصف قوات التحالف لبغداد، بداية التسعينات، أحداث يشهدها صديقه الرسام “سامي” مرهف الإحساس، من شقته مقابل القصر الجمهوري، مرغما.
هو فنان، مولع برسوم البحر، شقته متواضعة في شارع أبي نؤاس تصبح محطة تغييرات كبيرة، على صعيد فردي وعام، قطار الحرب ينتزع منه ابنه نبيل، أقارب، أصدقاء، معارف، اختفوا، عادوا، يحلم بتفريغ ذاكرته من كل شيء، لعله يستريح من كابوس التأريخ، من لعنة الجغرافيا، لكن هيهات، احتلال يشعل كل البلاد، النار تقترب إلى بيته حثيثا مرة أخرى، ورغم بؤس ذلك وخطورته يقرر سامي مواجهة حياته المحطمة بروح تتجدد وتتوثب، بحديث متواصل لصديقه المؤلف عن الكارثة “هذا في ذاته تكنيك مبتكر، كرّسه الخطيب قالبا فنيا مرنا لسرد روائي” كل ذلك مُبَرر ومقبول، مشوّق، إطلالة على حياة شخص آخر تُغْني على أي حال، خاصة شخص يعرف الكثير، نوى عدم الصمت، كنهر دجلة الزاحف أمامه وفيه الجثث طافية فرادى وجماعات.
إذن، العام الثالث من الألفية الجديدة، يعود صديقه وشريكه في الشقة “حميد” بعد غيبة مديدة، بين الفيافي والمنافي، فرحا مستبشرا بزوال كوابيس الغربة والوطن، فرحة لا تطول، تجندله طلقة غادرة، لا يُعرف مصدرها، عند مدخل الشقة، ويجد سامي نفسه مسئولا عنه، البحث عن راحة البال يتبدد هباء، من حكم إلى حكم، سيزيف يرفع صخرة قدره إلى القمة، تدحرجها الآلهة، وها هو يرفعها مرة أخرى، في إشارة لمّاحة لتداخل مصيري العرب والأكراد، بل مصائر البشر عموما على هذه الأرض.
أول “ليالي الأنس..” مكالمات خارجية، يتمنى حميد بالتلفون عودة الأيام الخوالي الحسان، لكن صديقه الرسام ينبهه، إلى إن الوضع بعد الاحتلال في العراق غير محتمل. يعيب حميد عليه هذا التصور، منذ هذه اللحظة تنشق بوصلة المؤلف باتجاه الشخصيتين، ترصد ردودا مختلفة، لفعل واحد، تلتقي ثم تتطابق أخيرا، في وطن الإصابة الواحد، شخصان مختلفان في الظاهر عن مبعدة، يتبديان متوائمين متلائمين تماما عن مقربة.
رغم تباين تكوينيهما في الماضي نراهما متقاربين بالانتماء الوطني، في الرؤى والآراء دون افتعال. كلاهما يسعى بشرف نحو حياة أفضل، ذلك يعزز الثقة والصراحة بينهما، وللقارئ مع وسطه اليوم، استمرارا لما بناه مثقفو جيل الستينات، المختلفون فكريا، المنسجمون قلبا وقالبا. حميد الكردي الشمالي يجد بالإرادة كل شيء يتغير، وسامي ابن الجنوب ينقضه، بأن الإرادة تتطلب مستلزمات، غير متوفرة الآن، وينتظر كلاهما اجتياز مرحلة النقاهة من الجرح، ومواصلة الحياة وتحدياتها.

 يسعى بظلفه إلى حتفه.
حين يعود حميد إلى بغداد ويلتقي زميله يتمادى بايجابياته، كون الوضع سيكون أفضل مع تسليم الأمريكان السلطة إلى الوطنيين من أصدقائهم. سامي يعتبر ذلك أضغاث أحلام، يتمتم بلغة شكسبيرية عامدا، ملائمة لموقف مسرحي حوله، بل كمخمور يلعب بالكلمات بحثا عن بقية معنى: “قلت في نفسي احلم، لا بأس، لكن في بعض الحلم ضرر، إذا لا يكشف عن الخطر.
هذا الرجل قد يُقتل رغم الذكاء والحذر. لا سيطرة عليه من حب بطر. على لسانه.. ما شاء سطّر الهوى، والكراهية.. أصابت الناس بالنوى.. ص24″ يُدهش لعدم تغير صديقه كل الأعوام الطوال، وذاك يجيبه “الفضل للفن، ثلاجة مضمونة ضد العثة… ص25” وهو يحنو عليه، بعد إصابته ونقله من المستشفى إلى الشقة، ولإذكاء ذاكرته وصحته، إضافة إلى تحضير الأطعمة المفضلة له يمارس معه لعبة إيقاظ روحه، بمواضيع قديمة، بإيحاءات ربما صادرة عن تلك الفتاة التي عرفاها، مرسومة الآن بورتريت معلقا على الحائط، “نعيمة” ذات العيون الخضر، طبعا يتذكرها جيدا، يلتقي معها في بيروت، تجرفها حياة الحرب إلى هناك.
ثم نعلم أن سامي يمد يده إليها، لإنقاذها، بعد عودتها إلى بغداد. إنما تمهّلْ هنا، ها قد لاح رأس خيط الأحداث، المتشابك في عمق الرواية، منه تتفرع فصولها المثيرة لاحقا.

لوريل وهاردي وخليج اكوبولكو

الليلة الثانية عنوانها “الشقة” ننتقل إلى محور الرواية الجديدة، محور الأمكنة التالية، لها عدد الصفحات الأكثر، عبر سطورها الغنية بالحوارات ينقلنا المؤلف إلى أيام الانقلاب على الثورة عام 1963 ، يداهم الشقة أفراد من الحرس القومي، جلهم من الشباب المتحمس، المزود بالرشاشات، باحثين عن “حميد حويزاوي” الشيوعي الهارب..
تحت إلحاح رنين جرس الباب يخرج “سامي” إليهم عاريا من الحمام، وقت كان “عداي” ابنة خالته والشريك الثالث في الشقة يغط في نوم عميق، لا  حظ  بخلوة مع صوت فيروز، ولا انكفاء عن السياسة، يجد نفسه في مشهد مرعب مضحك، “حردان” شبيه لوريل بالِقصر والنحافة، وأخوه “شرهان” شبيه “هاردي” بالطول والبدانة، رمزا غضب وشراهة. الثالث رومانسي، يحققون مع سامي، والرفيق يتأمل صورة البحر الممتد إلى أفق بعيد، لوحة لخليج اكوبولكو على حائط المدخل. إنما هكذا هو الواقع أيضا، متعدد الأوصاف، والأصناف، لكننا بالخوف الذي يحرك العالم، أو بغيره مما لا يتبين، نلتفت إلى واحد  فقط. مع إيغال الأخوين في إيذاء سامي يعزم على رسم لوحة في الغد، اللون الأسود طاغ فيها، بينما يستمر دجلة في الجريان غير عابئ بأحد، كأن المؤلف يؤكد على رعونة البشر “العاقلة” وحصافة الطبيعة “غير العاقلة”.
بالمناسبة، للطبيعة مكانة كبيرة في إبداع برهان الخطيب، وانحسار هذا الملمح في الرواية العربية عموما، اعتقد لو يكرس دارس لذلك بحثا يجد أن الخطيب لا يلجأ إليها كديكور، لحشو في سياق متكامل عنده عادة، بل كشخصية مستقلة في ذاتها، تدخل في حوار خفي، من خلفية الأحداث، مع بقية الأشخاص في الواجهة، كما في الواقع أيضا، لكنا لا نلتفت لذلك. وقصصه: السحب الخريفية، أم الوز، عراك، البكاء والبحر، الطفل والشيطان، و.. هوى النسر، جزيرة الملعونين، إلى آخرها.. أومالوس، تؤكد علاقة حميمة للمؤلف مع الطبيعة. الباحثة مروج حسين تناولت جانبا من ذلك في بحثها الاكاديمي عن الخطيب.
تلك العلاقة لم تنشأ بعد رحيله عن البلاد وتفاعله مع طبيعة جديدة تنبهه إلى طبيعته الأم العربية، بل قبل ذلك، تؤكد قصصه الأولى. من أين جاء هذا الاهتمام؟ يسأله أحد أصدقائه عن ذلك، الرد  لو عدنا إلى أدبنا العربي القديم وجدناه مليئا بصور الطبيعة الموحية الملهمة، أيضا طبيعة العراق المتنوعة، السهل والجبل والبادية والأنهر والوديان، غنية بالألوان والمعاني، الكتّاب العرب مقصرون عموما، نتيجة عدم الاستقرار، في قلة استلهام طبيعتنا الرائعة، رغم الجفاف والحر والإهمال، في إبداعهم وحياتهم اليومية.
حفيدة شقيقته لما عادت من الغرب إلى العراق أجهشت في البكاء، تسألها أمها ما بك؟ الصبية تجيب: النخلة تبكيني، صار زمان ما غمزت لي. هكذا تفاعل صميمي مع الطبيعة ضروري لنا جميعا، لصحتنا النفسية وتربيتنا الوطنية.

* كاتب وناقد عراقي
ملاحظة : الآراء الواردة في النصوص والمقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

14

الشخصيَّة بالزمن فـي الرواية
مروج حسين
 إنَّ علاقة الشخصيَّة بالزمن لا تقل أهمية عن علاقتها بالمكان، كل منهما يمكن استخدامه في صورة وسيلة فنيّة للتعبير المباشر أو غير المباشر عن تفاصيل فكريَّة ويومية تقوم الروايَّة عادة في تجميعها وصولاً إلى غرضها الرئيس، أي إعادة
صياغة الواقع في صورة متحركة أكثر عقلانية وعدلاً من التي لنا في الواقع المرئي المعاش، فالشخصيَّة تتأثر بالزمن وتؤثر به، وتتخذ موقفاً منه أحياناً، وتقع فريسة له أحياناً أُخرى، وقد تصل الشخصيَّة إلى رحلة تستطيع فيها إلغاء الزمن وإيقافه لغرض استخدامه وفق مصلحتها المدركة المتأملة له، الزمن، وذلك بالعودة إليه فنياً، بأسلوب الفلاش باك أي الاسترجاع والتقاط لحظات خاصة منه، لتفكيكها وإعادة فهمها تحت ضوء معطيات جديدة من الواقع، من الزمن ذاته، كان الزمن هو الآخر يكبر مع الإنسان، يستدعي مراجعته وفحصه. وقد تحاول بعض الشخصيات الهروب من ماضيها لما يشكله من أثر سلبي على حياتها، أو لعدم قدرتها على المواجهة لخضوعها إلى تربية قمعية أو قد تبحث عن نقطة مضيئة في ماضيها، علها تستطيع الابتعاد قليلاً عن حاضرها. أو العكس الاقتراب إليه مع رؤية جديدة تتيح للشخصيَّة أن تكونَ مؤثرة في الزمن بمعنى إدخال العقلانية إلى مساره، نحو هدف تصيغه الشخصيَّة مثلما هي متأثرة به إذ تخضع لأفكار سائدة في مرحلة منه أو حين يقودها إلى الهرم والموت .
 ويعد الليل من المفردات الزمنيَّة الملازمة للشخصيات، إذ يرمز إلى الحالة الاغترابيَّة السوداويَّة التي تعيشها الشخصيات. ويشكل الحلم كذلك أداة في متناول الشخصيات تستخدمها لتسهل على نفسها التنقل بين الأزمنة كما يحلو لها متخلصة بذلك من معاناتها التي لا تستطيع التخلص منها إلا بهذه الأداة .
من أمثلة ذلك ما جاء في (الجسور الزجاجيَّة) لبرهان الخطيب على لسان الراوي (مزعل):"طويلات هذي الليالي، عذبتني أرمضتني، جربت متاهاتهن مفازة مفازة تسولت اليقين، تسقطت الاحتمالات، ولكن ما مسكت أصابعي غير هارب الريح، الليل ورائحة البرتقال وسماء الصيف العامرة بالنجوم والنسيم الهاب من جهة البساتين، أتذكرينها؟ وكلمات الفرح التي فرت منا كالعصافير وباب المطبخ الموارب والصمت الذي كان يحل فجأة ...أيمضي كل هذا ولا يخلف وراءه غير الفراغ؟" . بين الماضي والحاضر والمستقبل تمتد معاناة (مزعل)، حين يعود بذاكرته إلى الوراء، فيتذكر لياليه مع تلك المخلوقة التي قبلها واحتضنها والتي لم تعطه شيئا سوى لذة بهيمية، حين وهب الحياة للفراغ في أحشائها البليدة. ثم ذلك اليوم الأسود المشؤوم، ليلته كانت آخر ليلة لملم فيها أحاسيسه التي تمزقت وضاعت في متاهات شتى، حتى لم يعرف، بضيق هو، أم بنشوة فرحة أو غثيان، وقلبه يتمزق فيه فيض من حنان وحب، يصحب في عنف وهياج، يود الانطلاق ليغمر فرداً يخيط تلك الجراح، ويمسح الدم المتخثر فوق الشفاه، يغمره حد الطوفان، لكنّه هنا وبعد تلك الليلة يعانق وحدته، وقلبه يهصر حبيسا خلف الضلوع، قلبه يغص بفيض الحنان والحب، ويختنق فينزف هذا السأم الذي يمتزج بماضيه، ويغور في أعماقه فينفذ حتى العظام. ما من أحد يسلخ هذا السأم عنه؛ واحدة فقط. واحدة تغفو فوق صدره، فتهبه موجاً شامخاً من السعادة حتى الغرق.
وهذا قطار الليل يمضي سريعاً، فيسحق الهدير تحت عجلاته، والغبار يتوسل الدخول عبر زجاج نوافذه، فيحجب عنه الحقول الواسعة المنداحة في الخلاء، حتى أعمدة الكهرباء تشرئب لتندفع مسرعة إلى الخلف، مثل أفكاره التي باتت تركض للوراء عبر خياله، لتلتقط خواطر صدئه من قاع سنين ماضيه.وفي روايَّة (ليلة بغداديَّة) لبرهان الخطيب أيضا عبَّرت الشخصيَّة عن حركة الزمن التي  يخلقها إحساسها بالوقت، فقد كانت تمر ببطء وبثقل شديدين، يقول الراوي:"أحد الموجودين في البيت سيفقد عقله بالتأكيد.الوالد لا يريد إيقاف ساعته الحائطية ورنينها المصم الداوي في أرجاء المنطقة كلها . إنها شاخصة هناك على الحائط في صدر الهول مثل عين للزمن، مثل مقصلة ومثرمة ومطحنة تمزق في الأوردة والأعصاب بل وفي العظام".    لقد كان الإحساس بوطأة الزمن طاغياً في تلك الليلة عامة، تلك الليلة التي كانت زمناً للحكاية، فالوقت البطيء الذي كان يزحف خلاف أي وقت فوق الكرة الأرضيَّة أخذ يدور بهم، فما يوشك أن يلامسَ موضوعاً حتى يهب عليهم في دوران من جديد. وهذه الساعة اللعينة التي تحاول أن تجعلَ من بيتهم المختبيء تحت الشجيرات، قماطاً يعصرهم بشدة، فلا شيء سوى الضياع في دوامة من هواجس وأحاسيس قاتلة، تظل في رأسهم تصطخب فيما يشبه البركان، لتنفلت فتهز كيانهم، وتتقاذفهم كورقة عجفاء اغتالها الشتاء فأنكرتها الأغصان.
وكذلك يبدو الإحساس بالزمن من خلال الحلم الذي تمنى (صلاح) أن يكون حقيقة عبر به إلى زمن بعيد، حيث يعود به إلى أيام الكلية وزميلته سلوى:"هام صلاح على وجهه في أحلامه وفي يقظته في شوارع المدينة يبحث عما يشعره أنه لا يحلم ولا يهيم وتمنى أن يعطف عليه في ليل طيف يأخذه في رحلة وهم قصيرة أو طويلة إلى مكان بعيد عن هذا الذي هو فيه لكن أحلامه أعادته مجددا إلى مدينته الحلة التي يخافها الآن ..". في غمرة الحلم ولا يدري هل هو حلم المنام أم الواقع المرير الذي هو أشبه ما يكون بكابوس مرعب نام (صلاح) واستيقظ على حلم تمناه واقعاً يعيشه، بأن يجد يداً تمتد إليه وتنتشله من غمرة حزنه القاتل.
لقد استخدم المؤلف الرغبة في الحلم في المقتطف الثالث، الساعة في المقتطف الثاني، الذاكرة والعودة إلى الوراء في المقتطف الأول، رمزا للزمن ككل، والزمن في ذاته كرمز لإخفاقات لها أسباب عديدة تحاول الشخصيات الروائيَّة بالعودة إليها، البحث فيها وتجاوزها إلى مستقبل أفضل، هكذا يصير الماضي عند استخدامه فنياً سماد لمستقبل أفضل، يستجمع المؤلف ملامحه باعتبارها نابعة من الشخصيات الروائيَّة ذاتها وإدراكها المتغير المتطور لا باعتباره أي المستقبل نتيجة تلقائية لمسيرة الزمن دون تأثير من الإنسان.
كما ويتخذ الكاتب من تقنية (المونولوج) وسيلة لعكس الحالة النفسيَّة للشخصيَّة الروائيَّة في تفاعلها مع الزمن، بغية الكشف عن أفكار الشخصيةَّ وإحساسها ومشاعرها، وسنحاول فيما يلي من السطور الكشف عن استخدام الخطيب لهذه الآلية للدخول إلى العوالم الداخليَّة لشخصيَّة أبطال رواياته .في روايَّة (سقوط سبرطة) للروائي الخطيب نفسه تذكرنا الشخصيَّة الرئيسيَّة بأبطال روائيي الحركات الأدبيَّة لما بعد الحرب العالميَّة الثانيَّة والفرنسيَّة تحديداً (جان بول سارتر) و(ألبير كامو) وهم أبطال مغتربون يعانون من الإحساس باللاجدوى وعبثية الوجود الحياتي وعدم القدرة على أداء فعل حياتي يسهم في تحول الذات والمجتمع. إذ يعاني (خالد) من انفصال عن المجتمع يتبدى ذلك من خلال مونولوج له مع ذاته:"كتب عليك أيها الغريب المغترب التمزق شدا وجذبا بين ماضي فيه لك فياف وعذابات وحاضر له فيافيه وعذاباته وإذا كنت هربت من عذابات ماضيك إلى فيافي حاضرك وقعت في عذاباته فإذا أردت هربا من عذابات حاضرك إلى فيافي ماضيك فلسوف تقع في عذابات ما رأيت حتى الآن فلم يعد لك مكان تلجأ إليه سوى فسحة النفس الصغيرة هذه فإذا قصدتها وجدتها مزدحمة بأخيلة ماضيك الباهتة وآمال حاضرك العصية".
النَّص آنف الذكر يكشف منذ البداية بأننا إزاء شخصيَّة تجد في هذا العالم مبعثا للسأم وعدم إمكانية التفاعل معه بكونه عالماً متهرئ يشكل فراغاً كابوسياً بالنسبة له.

15
الموسوعة الفنية.. صدرت!
بغداد ـ العالم
 (الثقافة الفنية العالمية في القرن العشرين) هو عنوان الموسوعة المعرفية الكبيرة الصادرة مؤخرا من الإمارات عن مشروع كلمة في ثلاثة أجزاء: سينما، مسرح، موسيقى، موسوعة باذخة الإخراج، فاخرة الطبع، مصورة، موثقة، بمجموعها تبدو عند الفحص هي مرجع مهم، لا مناص عنه في المستقبل لجميع المثقفين العرب، خاصة شغيلة المجالات الثقافية المذكورة، سينما، مسرح، موسيقى، أيضا غيرها خارج أو داخل كواليس الفن والثقافة والسياسة، الإعلام تحديدا. إنه مرجع فسيح مزود بقاعدة هائلة من المعلومات عن أهم الأحداث الفنية في العالم خلال حقب حافلة بالتغيير سواء في السينما أو المسرح أو الموسيقى، هنا أهم الأفكار، أهم الأسماء، أهم التيارات الفنية، ما يضع أو يرفع الكتاب في أجزائه الثلاثة، ترجمة محمود طحينة، إلى مصاف الكتب الأكاديمية والشعبية الأساسية الضرورية لمواصلة مسيرة ثقافية قويمة في أي بلد، الثلاثية هذه باختصار عبارة عن خارطة ثقافية كاملة لأمريكا، أوربا، وروسيا. مدقق الكتاب ومحرره برهان الخطيب لا يخفي حماسه وإعجابه بقيمة ودور المعلومات والتفاصيل الواردة فيه، في لملمة وتأسيس صورة شاملة لحياة روحية موزعة مشتتة سابقا، صورة ثقافية واسعة عميقة غير السائدة قبل ظهور الكتاب المذكور.
ويضيف: الكتب العميقة لها نص تحت النص المنظور، هنا تمسك الآخر في يسر، عن إدراك تبدأ تفهم الفن والعالم كما هما، لا كما يفهمهما سارح مع همه الخاص وشك غفوة في صالة سينما أو برلمان. الفن الحقيقي سلاح ناعم  أقوى من النووي.
 الثقافة الفنية الجادة تمتلك الإنسان بالحسنى، لذلك تحرص الأمم لمواصلة حياتها وتأثيرها الحيوي على إدامة ثقافتها وتوثيقها وتجديدها، ذلك جزء من تعزيز أمنها الروحي والمادي.
هذا الكتاب سوف يغير طريقة تفكير المثقفين في الوطن العربي، ويعي مشاكلهم ومشاكل وطنهم في اتجاه جديد صائب نحو تضميد الجراح، لا مواصلة فوضى وضرب فعل أحزاب منطقتنا في تأريخنا الماضي، أحزاب مبنية على أفكار طبقية أو قومية أو دينية أو طائفية محدودة ديدنها في النهاية تمزيق الوطن، البيت المشترك للجميع، أساس الارتفاع والازدهار.


16

وظـائـف المكــان في الرواية العراقية: برهان الخطيب نموذجا

مروج حسين محمد عبدالله*


إنَّ تنوع المكان في العمل الروائي يؤدي بالنتيجة إلى تعدد وظائفه وإلى توسيع رقعة السرد وبالتالي فإنَّ امتداد الحدث الروائي في أبعاد جديدة يتيح تقليب الأفكار والاحتمالات وإظهار جوانبها الخفية، في تنوع وتعاقب ظهور الشخصيات، ما يسمح تدفق تفاصيل إضافية ضرورية لتكامل الصورة العامة التي تقدمها الروايَّة، وشحن الروايَّة عموماً بطاقة جديدة، فالبقاء في مكان واحد يؤدي إلى تلف الأشياء، كالماء حين يركد، كالبدن حين لا يتحرك، فتغير المكان له وظائف عديدة تكتشف غالباً أثناء السرد، فالمكان جزء عضوي أساس من البناء الروائي لا يُقحم عليه من خارج سياقه العام وأولى هذه الوظائف هي:

ــ الوظيفة الإيهاميَّة: من أهم الوظائف وأخطرها، حيث تقاس درجة الإبداع والخلق من خلال مدى نجاح الروائي في إقناع المتلقي بواقعيَّة ما يوصف له فيشعر القارىء أنَّه يعيش في عالم الواقع لا عالم الخيال ويخلق انطباعاً بالحقيقة أو تأثيراً بالواقع .  من مثل ما يُطالعنا في روايَّة برهان الخطيب (ليالي الأنس في أبي نؤاس) فهو  يأخذ القارئ إلى عالم وهمي تماماً عبر خيال الفنان (سامي)، إلى أعماق  نهر دجلة حيث نجد غرقى من كل العصور، طيف ابنه المفقود يلوح بينهم يسيرون ويستعرضون رزاياهم  في محاولة من الفنان لفهم واقعه عبر الحلم،  "غرقى من كل العصور، أصيح دون صوت هل نبيل بينكم؟ أطفال يلعبون بالماء وسط الماء، موكب حافل، مخلوقات لا تخطر في بال، معمرة، لحاها لم تحلق آلاف السنين، لا نوافذ، لا أبواب هنا ..."،   ذلك  يحدث لكثيرين منا حين نستعيد بعض ما يحدث لنا في الواقع في حلم بـل ونجـد حلاً وإلاّ لا يظهر عـلم تفسير الأحلام، ويقنع القـارئ بذلك، تلك اللعبة الفنية التي يستخدمها الروائي في مهارة نجدها تنتقل أو تُنقل إلى  عالم الواقع مؤخرا في تأسيس متحف تحت سطح الماء للضحايا الغرقى من المهاجرين.

ــ الوظيفة التعبيريَّة: إنَّ اهتمام هذه الوظيفة يُصب فيما تتركه من أثر في متلقيها، لأنَّها "تعتمد أساساً على وقع الأشياء والإحساس بها وما تثيره من إحساس لدى المتلقي وذلك من خلال الإيحاء والرمز والدلالة التي يتم في ضوئها بناء المكان وتحديد خصائصه وميزاته وإيجاد الحلول الجماليَّة في ضوء ذلك". فالمؤلف في الروايَّة السابقة لا ينتقي نوعاً معيناً من المكان العراقي بل يطعمه غالباً بأنواع مختلفة وصولاً إلى صورة عراقيَّة إلى بانوراما أو مشهد عراقي كامل، فهو ينتقل من الجنوب إلى الشمال في متابعة مصائر أبطاله لنرى مصير العراق كله "في قريتها، لا يحل تشرين كما في بغداد، وجلا، عجلا، هناك يفرش ألوانه قبل مجيئه وبعده بوقت طويل، متمهلا، كسولا، حديثها عن قرية الجبل مليء بحنين، ذكرت ما معناه .. يتفتق من الأرض والأشجار ربيع ثان، لذلك سميت أم الربيعين، أسوة بالمدينة الكبيرة قربها، تخرج بواكير البراعم من بين اللحاء كما تخرج صغار قطة

رؤوسها من أحضان الأم، في صباح شتوي مشمس، يُمد على الأرض أسفل السفح بساط أخضر مطرز بأزهار صغيرة ذات لون أصفر بهيج كالزعفران ...".

يقدم لنا الروائي البيئة الجبليَّة بكل ما تثيره من أحاسيس جديدة لدى ساكن الجنوب عازفاً بذلك على كل أوتار روح القارئ المتابع له.

 

- الوظيفة التفسيريَّة: تقوم هذه الوظيفة بدور التمهيد للشخصيَّة التي ستخترق المكان من خلال الكشف عن الطبيعة النفسيَّة للشخصيَّة الروائيَّة، فهي من الوظائف المهمة لأنَّ الروائي ينفذ من خلالها إلى حياة البشر الذين يصنعون الأحداث، فيُظهر من

خلال ذلك مدى التفاعل بين الشريحة الاجتماعيَّة وطبيعة المكان .ففي مشهد ظهور القابلة التي سوف تقوم بعمليَّة إجهاض لشخصيَّة (نعيمة)، معها انعطاف كبير في مجرى حدث الروايَّة كذلك الأحداث العامة في الشارع، الانقلاب الحاصل في نهاية عام 1963،  البناء النفسي لشخصيَّة القابلة غير المرخصة يتضح منذ أول كلمة لها في حوار سريع قصير على السلم، امرأة متسلطة، قوية، ذلك من اعتيادها على مشهد الدم، على ولادة أو قمع حياة. بل حتى ظهورها في المكان شبه المظلم يحمل دلالة، رأس السلم يتبعها مستأجرها ذليلا، كأن المؤلف يفسر طبيعة القمع التعسفية في تلك الصورة الموحية.

ويضاف إلى ذلك الوظيفة الرمزيَّة للمكان، والتي تتشكل بصورة مباشرة أحياناً، أو قد تحتاج إلى جهد تأويلي وقراءة متماسكة لها قدرتها على متابعة حركة التنظيم المشهدي للأحداث. ثمة تقابل بين أفعال ومصائر شخصيات الروايَّة المذكورة قيد الدرس والحركة خارج الشقة في الشارع، هنا يتحول الشارع إلى مرآة لما يحدث في الشقة، أو العكس.. ما يحدث في الشقة انعكاس لأحداث الشارع الدمويَّة، يصير كل منهما رمزاً للآخر، على هدى الرمز يعيدنا المؤلف إلى نفوسنا لنتبيّن موقفنا من كل ما يجري، نرتقي بإنسانيتنا درجة حين نتعاطف مع الخير، نتراجع إلى حيونة حين نقرر البقاء غير مبالين لما يحدث للناس، للبلد برمته .

وقد يعرض الروائي أمكنة ليس لها وظيفة روائيَّة محدَّدة، ولكنها تعمل على خلق الامتداد المكاني للنَّص في ذهن المتلقي. مثل مكان الشجرة المتوحدة مقابل شقة شارع أبي نؤاس. "سقطت أوراق شجرة المشمش المتوحدة في الساحة الخلفية الموحشة للكنيسة القريبة من الشقة خلال يومين أو ثلاثة، الأغصان عارية  عجفاء"، فهذه الشجرة المتوحدة  تمثل في النهاية توحد الشخصيَّة الروائيَّة بعد ارتكابها الإثم.

* كاتبة من بغداد

17
ردة ثقافية.. الرواية العربية رهينة السياسة

برهان الخطيب
لاحظ كثيرون ثمة اهتمام بالرواية العربية في الإعلام، لا لاستيعابها متغيرات النفس العربية وهي في شقين، صحوة على واقع عربي مرير ورغبة لتجاوزه إلى واقع أرقى، يتناغم والتغير الكبير في الوضع الإقليمي والعالمي.

والثاني غفوة بترانيم إعلام يعزفه الخارج، كلاهما متواشج بعالم السياسات العربية المشقوقة أيضا في هذين الاتجاهين، حالمة وتستطيع أو لا تستطيع بث الحيوية في نفسها، لأنها جريئة هنا، مغلولة يد هناك، بينما لا يجد كائن الوسط ما يفكر فيه ويكتب عنه، فعلى صعيد فردي يومي، وآخر عام تاريخي، يمر كل العرب والمنطقة حولهم، في أخطر مرحلة من كل تأريخهم، مرحلة يكونون أو لا يكونون، وهم قادرون على الكينونة برؤية عامة وجرأة، وكلاهما متوفر لطليعة مثقفيهم، إلاّ تلاحم المعارضة والسلطة.

كما في العراق المشقوق اليوم افتعالا من غافلين وطامعين في حرب أخوة بين رافضي المصالحة ومضطرين للدفاع عن النفس والبلد، ليأتي بعد التلاحم تنظيم الديناميكية في الاتجاه الخلاق للطرفين، للمنطقة عامة. إنه شق إذا لم يرتق مزق الأمة كليا، فمن شكوى الانتخابات البرلمانية إلى شكوى انتخابات الأدباء، إلى شكوى الثقافة من التيبس والضياع.


 
لقد رأينا الرواية اتجهت من الإبداع والإحاطة بالهم الاجتماعي إلى الاكتفاء بالإمتاع، والدوران حول الذات، لغلبة الديناميكية الخارجية المتناقصة بالأخطاء على الداخلية المتزايدة بالإدراك. كما إن ذلك الاهتمام بالرواية ليس إشارة كما هو واضح لحالة نضج واستقرار ما نعمت فيها الرواية والمنطقة، فهذه ما زالت مضطربة اقتصاديا وفكريا وسياسيا بسبب صراعات داخلية وعدم تشغيل الثروات لصالح الجميع، ما ينعكس سلبا على الوضع الثقافي ومنه حال الرواية.

مع اعتبار إن الاستقرار يرافقه عادة نزوع إلى ثقة، إلى حكي واستماع واستمتاع، أي ما تقوم عليه الرواية في أفضل نماذجها، بمؤلف نيابة عن آخرين. ولا انعطف ذلك الاهتمام نحوها لمستويات فنية عالية ما وصلت إليها إلاّ فرادى نُدرى، فالمحايدون الدارسون لها حصلوا على القليل منها استحق البحث والإعجاب، رغم فورة الجوائز، رغم تطور السرد العربي عموما إلى الأفضل أشرت سابقا.

فالسرد جزء من آليات الرواية، لا كلها، وذلك دلالة من مرحلة متقدمة لها على سابقة، لارتقاء التفكير فالتعبير، لكن دون تكامل لاحظت مع باقي متطلبات الرواية الناجحة فنيا، مع تعدد الأشكال، إذ تعوزها رؤية شاملة لرواية وطنية بنيتها الجمالية قائمة على هدف استقرار المنطقة وازدهارها.

السرد تكنيك، الشكل استراتيجيا، وهما مترابطان طبعا، ولذلك التقصير علاقة بالحالة السياسية الراهنة العامة للمنطقة، أم الصياغات، حالة تقترب إلى واقعية الهدف عند الخاصة دون تحديد صيغة سياسية تصب فيها طموحات العامة أشرت، إلاّ القدر اليسير، كما في تعاون بعض أطراف منطقتنا مع بيئتها، جيرانها، في نجاح عبر عنه فنيا وأدبيا وسياسيا نجاح المسلسلات التركية والسورية والتعاون الاستراتيجي بينهما. لبس قصدي هنا تسييس الأدب والفن، لأنهما مسيّسان، خفية أو علنا، شئتُ أم أبيت، بالضرورة والقسر، حتى الصمت مُسيّس، حتى القمل، وإلاّ لماذا تجده في بلدان تركبها السياسة، ولا تجده في بلدان تركب السياسة للوصول إلى أهدافها!

 
إذن سبب الاهتمام ذاك آخر، قد نجده في عدد الجوائز المرتفع منذ وقت قريب، مخصصة لهذا الأدب الصعب، الخطير أيضا، على ساحة صراع أو تفاعل ثقافي عالمي، لحرص على تقديم الكل بحُلة قشيبة، في مسيرة مطلوبة مُصيبة، لا معيبة، ضد تفتيته حكايات غريبة، كأنما في مكيدة مريبة، جوائز يبدو بعضها ذا مصادر ومصائر مثار سؤال، ينال منها ناشر كسلان، وكذا مؤلف جوعان، قد يفسر ذلك أيضا بعض الاهتمام الجديد بكتابتها ونشرها بين آن وآن، مع ردود فعل لا كالمنتظر على صعيد الإبداع والنشر والإعلان، آخرها حملة على "البوكر" من نقاد وأدباء ضعاف وسمان.

بل هجمة على مصداقية تلك الجائزة جعلتها في خبر كان، عويس نجت من حملات التشهير حتى الآن، هي باعتراف كثيرين محترمة، منصفة، قياسا بأسمائها الكبيرة ذات الوقع الرنان، اتهمت نعم بكونها شيوعية، بكلام نقضان، وربما نالت حملات التشهير غيرهما في منافسة تقرب الهذيان، وعلى وقع استقطاب الأسماء الأدبية لهذا الشان، أو غيره مما في حياة ثقافية مرتبطة وثيقا بحياة سياسية، ارتباط ملائكة قيل ببعض الجان، والعياذ بالرئيس من السجان، في معركة ظاهرة حينا، خافية بعض أحيان، قد يمسكها مَن بيده المنطقة ومَن يقيم البنيان.

والقارئ لا يعلم ما دور النقد في ذلك وهو حيران، يتفرج على أفلام تحاك وراء كواليس وأفنان، يأمل إن النقد مازال يحمل مشعل إنارة يبدد ظلمات المكان، في حلم كالقارئ لفهم المحيط والأكوان. ولكي لا يكون المقال ثرثرة أو طرح أشجان، أعترف في هذا السياق بأن اختياري لكتاب أقدمه لقارئ يعتمد في بعضه على المصادفة، على ما يصل من ناشر ومعارف، لكن المهم يبقى قيمة الكتاب الفنية وعقد صلة بين طرحه والمواضيع العامة خارجه، حسب قدرة غير متفرغ للنقد، بغية تفعيل الحياة العامة بالثقافة وبالعكس.

رواية "غرفة العناية المركزة" لكاتبها عز الدين شكري رشحت لجائزة، وضعها الناشر في يدي متأكدا سوف يكون لها شأن، لم يكن، الخيبة لا تصيب الناقد وحده. أحمد كمال الراوية الأول لها كشف خطة قتل لمتزمتين تستهدف الصحافي أشرف فهمي، الراوية الثاني للرواية، يتكلمان عنه وحوله داخل أطار، حتى ليغدو ذلك حشوا عميقا أحيانا مغترفا من قاع نفس متعبة من ذاتها.

الرواية نُشرت مع روايات عديدة أخرى منذ عامين ونيف لجهات مانحة جوائز أكثر مما لقراء. غرفة الإنعاش هي الرواية نفسها بين يدينا، حيث يستحضر مؤلفها شخصياته المختلفة في الظاهر على المسرح الروائي وفي عمقه تكمل الواحدة منها الأخرى، بمعنى هي وجوه شخص واحد قد يكون المؤلف نفسه، لتشابه سيرة المؤلف وبطله، معبرة عن حواره الداخلي، ولتشابه سيرة المؤلف وبطليه الأساسيين، أحمد "أو المحمود من رؤسائه يدل الاسم" العامل في المخابرات حين يرلقب أشرف فهمي "الشريف كما يدل الأسم" وهو نبيل بتطلعاته، نقيض أو الوجه الآخر للمرتبط بالشريرة "سارة" أحمد، بل وجهان ربما أرادهما المؤلف للإنسان المصري المعاصر وربما الإنسان عموما.

حلاوة الرواية المصرية هنا تتذوقها بكشفها عن تفاصيل الواقع والعلاقات بأسلوب رشيق وهي بهذا تتفوق على بعض زميلاتها الروايات العربية الأخرى.

تبدأ الرواية بحدث ديناميكي، إنفجار بوجه القنصل يضعه تحت الأنقاض، يتبع ذلك تداعي خواطره وذكرياته لمعرفة ماذا حدث بالضبط، ذلك يشكل هيكلا روائيا شائعا تقريبا يمزج فيه المؤلف الحاضر والماضي بتوليفة تعرض مشهدا واسعا لشخصياته وخلفياتها المتنوعة، المفهرسة فنيا وفكريا بوضوح يخدم عرضها، الواحدة مقابل الأخرى سارة تجسد الممنوع والمستحيل والمجنون لدرجة مخجلة ولكنها لم تكن بذيئة، وأشرف مناهض للجماعات الإسلامية والبعض يرشحه لوزارة الإعلام. لاحظ قوة جمع الخاص بالعام بالكلمات القليلة الأخيرة تقديما لصورة داخلية للشخصية وخارجية للنظام حوله وعلاقة الإثنين بعضهما ببعض.

التناظر والتنافر يخدم الرواية
من سيرة المؤلف نرى إنه مؤهل لكتابة رواية وما تحتاجه من سعة اطلاع، هو مصري من مواليد الكويت 1966 حصلا على البكالوريوس .. إلخ من الناحية الفنية وفق المؤلف في اختيار بطله الأول، سارد الحدث، من وسط مخابراتي حيث تصبح الرواية أحيانا أشبه بكتابة تقرير عن آخرين، يمثلون حالة اجتماعية مثلما يمثلون أنفسهم. الروائي شغيل مباحث إبداعية، يهمه عرض الحقيقة لا التورط عاطفيا مع أشخاصه، مع واقعه. وطبيعة السرد هنا تنم عن التواصل مع الموضوع بعقلية غير نمطية، بمعنى متفتحة، أي ما يطلبه السرد الروائي كمفتاح قادر على فتح وسبر الواقع بإنصاف.

الفتاتان في الرواية أيضا نقيضتين بعضهما لبعض، هكذا يقيم المؤلف حالة تقابل، لموازنة عمله، سارة متحررة تماما، الشناوي محجبة، نزيهة، مستقيمة، قلبا وقالبا، بالمهنة وخارجها، محامية تدافع عن الآخرين، وتلك صحافية تعتاش على الفضائح.
"بطل" القصة أحمد، السارد لها، "ضابط مخابرات حقيقي، وليس ضابط من ورق، لكن لم تواته الشجاعة أو القسوة اللازمة للإنقضاض" ص 43 إذن هو إنسان من لحم ودم، ليس مجرد جيمس بوند ومن هنا واقعية وحيوية هذه القصة.

وبعد القلق الأول من الرواية يبدأ السرد لا يتقدم إلى أمام، نحو الكشف عن غرضه المتصارع في داخله، بل يدور حول نفسه مماطلا في السعي نحو نهاية، لتطويل العمل؟ ربما. ثم أن التفاصيل إذا لم تكن لها صلة بالسياق العام، التفجير هنا، يصبح استطرادا فائضا يمكن حذفه. في ذلك خاصية مهمة، لنوع الروايات المتوترة المشوقة. هل يخل حذف تفصيل بالسياق دون أن ينتبه القارئ؟ إذا كان ممكنا حذفه يجب حذفه، غالبا ما تسير الرواية هنا على خط متصاعد ليس بالضرورة مستقيما لكن يجب البقاء على ما سبق ليكون المعمار متوازنا ممكنا.

هناك نوعان رئيسان في فن الرواية في نظري. طبعا في البناء المعماري الهندسي لا حدود لأنواعه، مع بقائه مشترطا بالموقع والمناخ والغاية منه إلخ.. أي توجد شروط تفرض نفسها على البناء في أي مجال، كما في الرواية، إنما حين ألخصها باثنين أقصد: المتماسك والمفتوح، مع تداخلهما، أي التماسك يحتاج التلقائية والشاعرية، والمفتوح يحتاج الرابط الداخلي. توجد سمة تفهرس البناء المعماري، كما لبناء مفتوح أو مغلق، في منطقة حارة أو باردة، وهكذا.

للبناء المفتوح والمتماسك علاقة بكيفية نظرتك إلى المجتمع والعالم والفرد. المفتوح أراه قائما على فكرة لا جدوى من التدخل القسري في صيرورة هذا العالم. عكس الآخر. المفتوح يعوّل على التدخل الجمالي، المرتبط بالفكري. الآخر على مستوى أعلى، على الفكري محتضنا الجمالي. هل الموضوع على هذا التعقيد؟ نعم.

تفكير المؤلف بتحويل روايته إلى فيلم سينمائي طاغ، ينعكس ذلك في أن أغلب شخوصه يرون أنفسهم كممثلين في فيلم خاص لهم، ذلك يضعف واقعيته، قد يقال العكس، للسينما في مصر نفس القدر من الأهمية كما في أمريكا، وهذا ينعكس في حياة أبنائهم أيضا، لا فقط في سياسات عامة. داليا الشناوي ص 134 من الرواية "لماذا أنظر لحياتي كأنها لقطات من فيلم؟"

أحمد كمال منذ الصفحة الثانية ص8 "ظلام وصمت وهذا الصداع، إنه فيلم لجيمس بوند، لماذا أتذكر ذلك الآن؟ " وفي ص 14 "الناس تعتقد إننا بلا أخطاء، وأن كل شئ معمول حسابه، ويبدو إن هذا تأثير الأفلام والمسلسلات" وأيضا يقول أشرف فهمي عن نفسه: ونشأت غالب "أتذكر أني وقتها انتابني هذا الشعور أني أمثل دورا في فيلم ص 178، جالس وسط الخرائب كأنه يشاهد فيلما ص 167 صرت رجلا وصرت أفعل ما يفعله الرجال في الأفلام.. إلخ ص 69 ، كذلك ص 150 ليس أمامنا إلاّ أن نمثل أدوارنا في فيلم الحب المستحيل.

الرواية متابعة تفاصيل حتى الكشف عن حدث كامل أو ناقص لأسباب لا يمكن الخوض لاحقا فيها، والتفاصيل هذه يمكن أن تكون أي شئ إذا كانت ضمن السياق العام، إذا كانت أجزاء حقا من صورة عامة، لا أجزاء مستقلة في ذاتها. حتى القصص القصيرة نعلم في مجموعة واحدة يربطها خيط، وإلاّ تفتت السرد إلى لحظات ملصقة في إفتعال، أي بلا فن، وهذا نلمسه على العديد من صفحات هذه الرواية.

خذ مثلا كلام رسالة داليا ص 137 إنها خطاب محشور في السياق لإكثار عدد الصفحات تكوينا لرواية لا للرواية، خذ ما تقوله هنا من فلسفة: الغرب اللاديني "هكذا الحكم بجرة قلم من المؤلف" مقررا إن هذا أساس رؤية الإنسان لنفسه وللحياة، كأن النفس منفصلة عن الحياة.. إلخ ص 138 أرى غير منصف أن تحدد رواية ما الصواب وما الخطأ، إنما هي تنطلق من ذوق عال حتما.

السرد غير عشوائي
السياق ينبع من موضوع الرواية، عماذا نسرد ولماذا، يجب أن يكون هذا منطقيا وإلاّ أصبح السرد ثرثرة، وحين نسرد ينبغي التأثير في القارئ كأنه السامع، السرد خطاب للآخر قبل كل شيء لا نجوى مع النفس، بما دار وكيف تطور، لا نقله فقط، هكذا ينتقل ويرتقي الفن الروائي على الصحافي.

على لسان الشناوي يذكر المؤلف ص 143 "الوضع الآن قد أصبح كذا، وإن الموقف قد تطور إلى كذا، وإن الأغلبية قد خلصت إلى كذا، وهكذا، وهكذا، حتى دارت بي الغرفة وسقطت على مقعدي " يجب أن يرى القارئ الموقف بالكلمات، لا يسمع عنه فقط، بالرؤية تحدث المشاركة والمتعة الجمالية، إذا كان السرد منطقيا.

كتاب الروايات الجديدة متعجلون. لا طاقة ولا وقت عندهم ليس فقط لإعادة تركيب الموقف فنيا، بل ولنقل الموقف مكتفين بسرد ذلك ما حدث. كأن المؤلف يقول للقارئ لك أن تصدق أو لا تصدق لا يهمني. نعرف إن الفن هو الإقناع، نقرأ هنا صفحات وصفحات كيف إنه أو إنها فتحت عينيها شيئا فشيئا شعرت بوهن واجف عليها، لم تعد تشعر بذراعها اليمنى محشورة تحت كتلة الإسمنت.. إلخ ص 143 صح إن التصوير الروائي يصبح أحيانا كمن يمسك الكاميرا ويحركها على الحدث بتفاصيله وتعقيده الخفي.

لكن تحت تأثيرات مسلسلات تلفزيونية غثة أصبح كتاب جدد يكتفون بتحريكها على الوجه لرؤية كيف يتحرك الحاجب أو الجفن، كأن ذلك كل الفن. لقد وضع المؤلف هنا إطار التفجير لحشر مقالات في شتى المواضيع، ولو حذف الكثير منه أصبحت هذه الرواية الطويلة قصة قصيرة من ثلاث أو أربع صفحات.

يفرض السرد نفسه بمنطقيته، بتسلسله، على تتبع القارئ، وإلاّ هو غير ملزم على إرغام نفسه لمواصلة القراءة، ذلك في رأيي مختصر فن السرد، أكان روائيا بالصورة أو غيره بنقل خبر. جاهل مَن يقرأ لخاطر عيني مؤلف.

لو أن تداعيات السرد نبعت من حادثة التفجير لكانت منطقية ومشت الرواية حسنا لكنها تداعيات شرقت وغربت، كأن الذي تحت الأنقاض جالس على شرفة أمام بحر، يشرب القهوة ويتذكر ما عن وطن له.

الفن خدعة جميلة نعم، لا تكتشف، حين تكتشفها يسقط الفن، وفيه يكون الشكل الروائي للنثر لا للحشر.

بعض المسائل يبدو صغيرا إذا مررت بسطحه، الزواج المختلط مثلا، لكنه بحجم صدام أو تفاعل حضاري بين ثقافتين، يمكن إعطاء صورة عنها بسيطة بقصة قصيرة، لكن معالجتها، إحاطتها، تحتاج الشكل الروائي، ذلك ما يجعل من نص رواية وآخر قصة قصيرة. حين تضغط المواضيع أو ترميها جزافا على عربة الرواية تتكسر عجلاتها، فنها، تتناثر في الطريق قبل الوصول إلى الغاية، كذلك هو حب نشأت المسيحي وداليا المحجبة هنا.

كان الأفضل لو أن الرواية بدأت منهما وانتهت عندهما أو قريبا، لعرض الحكاية من كل جوانبها، لا المرور بها "لإغناء الرواية" والنتيجة إفقارها، تسطيحها. أكلنا شاورمة لا تهم أحدا، ذلك أسلوب انتهى، استعملته ألف ليلة والسينما المصرية للإمساك بالمتلقي، المهم أكثر ماذا جابهت في تمشيك وكيف تجاوزته. ذلك يفتح أفقا، لذلك نريده.

الكاتب يمزج السياسة بكل شئ ولا يوجد عنده شخص محوري واحد في الرواية، فاستبشرت خيرا وما زلت واثقا إن عز الدين شكري يستطيع أن يقدم عملا ناجحا، لديه رؤية من عدة زوايا نحو الواقع ص 215 جيدة، يعرض حال نشأت من جانبين، وتصوره كيف يكون "هنا" كتجربة لكتابة من خارج الرواية كما من داخلها، ذلك يفسر أيضا ترفع آخر الشخصيات نشأت عن الوضع كله، لا صلة له به ، تنتهي الرواية كما بدأت، هم تحت الأنقاض ولا من ينقذهم، معنى الرمز هنا واضح، الوضع خطير، كما يؤكد السطر الأخير حياة الحلمية القديمة التي انقضت دون رجعة. لكن عدم إعطاء أمل يفند كتابة رواية، أي لماذا نكتب مع انعدام الأمل، ربما يقال عرض اليأس المطلق بداية أمل جديد مهمة كشفه على القارئ.

الرواية توتر
ذكرت إن السرد العربي وأساليبه تطور عاليا في الأعوام أخيرة، تأسيسا على ما سبقه في العملية الأدبية وعلى ما استجد في الحياة، دخل مرحلة النضج الفني ومنافسة السرد الأوربي، خذ قصة "عرق الآلهة" لكاتب من اليمن، وقصة "إذا أردت أن تكون سياسيا" من العراق، ورواية "سوبر ماريو" من مصر، وغيرها، إنها تؤشر لتطور التفكير العربي.

لكن كما ذكرت: بالأسلوب وحده لا يعيش النص، وإن عناصر اكتمال ونجاح العمل فنيا ، وهو أهم العناصر، بفقره يتمزق جلد الكائن الفني، تتعداه إلى التكوين الكلي للموضوع، كالانخراط في السياسة.. لا يعني كمال الرؤية السياسية. النجاح في السياسة والفن يحتاج رؤية شاملة، لحال ومستقبل مجتمع وموقعه في الحضارة، كذا لموضوع الرواية الخاص وعلاقته بالموضوع الكبير، الكيان الإقليمي والدولي، إلى الأداء الراقي لبقية المستلزمات، الحيوية، المبرر العالي للفعل، ضرورته، حصافته، وغير ذلك.

الكاتب يبعث برسائله عبر الرواية مع أشخاصه، خلقها أو أعاد تشكيلها، يؤطر بها حياة، وغالبا يحّمل الكاتب هذه الشخصيات همومه، لكنه أبدا لا يمكن أن يكون مجرد مصور لما يراه. والرواية الحقيقية تكتب عن توتر، نتيجة اصطدام حقائق، به تختصر الدنيا وتكون جديرة بعَرض وقراءة من عقل متفتح. كُتبت بقصد ربح أو وجاهة تأتي محملة بنفاق صعاليك.

أرض الليمبوس لإلياس فركوح، والليمبوس، الكلمة تعني موطن إهمال أو نسيان، أخذت عنوانا ومفهوما أكثر من مرة بأعمال سينمائية خاصة، بهذا العنوان صنع إيطالي فيلما، ثم المخرج السوداني حسن السوداني منتصف السبعينات الماضية، فالإتيان بجديد منه إلى رواية مشكوك فيه، الراوي هنا أيضا صحافي، والرواية حازت ربما جائزة، وأيضا فيها أصداء عن حرب، العراق خاصة، كأن الروايات الفائزة بالبوكر استقت موضوعة تداعيات حرب من مصدر واحد، وزعه على عدة صحافيين وقال لهم أكتبوا هكذا فولدت تلك الروايات كأنما من رحم واحد.

في ليمبوس فركوح ذكريات وانطباعات ذاتية، رابطها ضعيف في سياق روائي طامح لرؤية واسعة إلى حروب المنطقة، الذاتية تكاد تغلق مدار الرواية، وتمنع وصول خطاب كاتبها إلى قارئه، بلغة مسهبة لو حذف منها الزائد فيها ما بقي تقريبا شئ منها، هنا إختيار عشوائي منها، الأقواس مني: أبدأ بماذا؟ "لا موجب لها، أدخل موضوعك مباشرة" رأيتني أدخل أرض الرخاوة "أرض لا ضرورة لها يتبين" منطقة الما بين "تكرار" كما يحلو له وصفها "تكرار" أو هي الأرض الحرام "تكرار" ورأيتني أخرج من بقعة التشكك إلى فراغ "تكرار" هكذا تستمر على نبرة الأغنية المعروفة " آكل.. أعيش، آكل.. أعيش، آ، آ، آ، إلخ".

يعني لو تابعت تفكيك السرد لا أحصل منه حتى على كشمشة من كل تلك الكيكة الباذخة، وهذا من رواية فائزة ببوكر فكيف مع غيرها!
على النقيض من الأسلوب المستأدب، يصف توفيق الناشئ في كتابه "الأرضوملي.. حارة في بغداد" بأسلوب جد واقعي مستلهم من منشورات الحزب الشيوعي، مشاهد من بغداد الخمسينات بطريقة صحافية تجعل قارئ الرواية "لا قارئ المذكرات" غير مبال نحوها، هو لم يضع على غلاف كتابه كلمة رواية، لكنه في مقدمته يقول: تناولت في هذه الرواية مرحلة معينة من تأريخ العراق المعاصر.

كأن التأريخ ما صار إلاّ ليكتب رواية، وليس هو في ذاته رواية تكتب في خفاء. وهكذا دوّن عدد ممن حصلوا على دعم نشر اجتهاداتهم باعتبارها روايات وبحوثا، وربما كتبوا للحصول على الدعم، وفق نظرية: أغمض عينيك واستعد ما حدث تلك الأيام وأضف بهارات، أطلق العنان والصبوات، تجد أمامك رواية، ولا عليك من الكبوات، قارئنا يهضم حتى الحديد، لكن تجربة الأستاذ الناشئ ينبغي احترامها فما سطره عنها بأسلوبه التقريري قصد منه حفظ تلك الأيام من الضياع، لكن المراوحة بين الرواية والمذكرات جعلت العمل لا يندرج في نوع معين، ذلك ضيع عليه فرصة اكتساب هوية ومرجعية، وغير ذك مما يميز كائنا إبداعيا عن غيره، أسوة بالبشر.

المشهد المعتاد بالمبدع يصبح خارقا ومعبرا عن المألوف في آن، والحوادث العادية تبدو بإضافة صغيرة أو بحذف صغير آسرة، ذلك بالفن، أو تفتقد المذاق الخاص حين تُسرد كما عرفناها. الصحافة غير الإبداع، كتابه عمل صحافي لا يخلو من وجاهة لكنه فاقد للمسة العظمة، التي يضفيها المبدع الحقيقي على ما يمر عليه، ببصمته الخاصة.
كتابه وصف يعتمد على الرتيب والمتوقع والخالي من جدة وطرافة. هنا ذكريات متقاعد، مقبولة نعم، يسردها متفحصا منتقدا بعض الأخطاء، صالح لأقارباء لكن الغرباء يبحثون في أي كتاب عن صورتهم لا صورة غيرهم، في عالم أوسع من كل الأحزاب والمؤسسات.

نشر لغير دوافع الثقافة
قيل أن "زهرة الرازقي" أفضل كتابات مؤلفها، منذ الصفحة الأولى تجد إذا كنتَ مررت على زواغير الأدب المعروفة أن شخصها الرئيسي "علوكي" هو إستنساخ غير محسن، من شخصية "بنجي" في رواية وليم فولكنر "الصخب والعنف" والآخر الصغير المتظارف من روايات أخرى، وكما في الصناعة هناك منتجات ذات شأن لمن متطباته عالية، كاليابانية مثلا، لكن حتى هذه أصناف، هناك منها البسيط والمتقدم.

هكذا في الأدب والسينما، ثمة إبداع لذوي عقل متطلب، وهناك المستنسخ أو "الشلالي" يقال عندنا لغيرهم. الرازقي وأخواتها لا تستحق عناء نشرها، يجب أن يقال هذا، لعل فيه مغزى، ولا يزج كل من هب ودب نفسه في مكان غير مؤهل له فتكون النتيجة وخيمة.
محمود سعيد نجح بروايته "بنات يعقوب" في تقديم موضوعة تأريخية قديمة بأسلوب مرن إلى مستوى مقبول.

لكن العيب هنا استعمال التعابير الجاهزة، مثل ليس باليد حيلة وغيره مما ينبغي على الروائي تجنبه، ويتعجل أحيانا ويجانب الدقة، حين يستخدم مثلا قياسات الميل والمتر في زمن يعقوب، وكان الأفضل إستخدام الذراع والشبر والخطوة، ويستخدم القناني بينما كانت الجرار مستعملة، ذلك لا يكسف معرفة الكاتب الحسنة بأجواء وتفاصيل فترة الرواية، عامة اقول الرواية حسنة رغم بعض تشتت فيها، ص 63 مثلا يحدثنا عن حمورابي وسفراته وفجأة ينتقل إلى سبب زيارة "الليمونو" في سياق فضفاض لا يجمع كل الخيوط في بؤرة القص

لكن الرواية تحقق كسبا فنيا بخلق جوها الخاص من تلك الفترة، وتدفق أحداثها قدما إلى أمام، وحصافة رؤيتها السديدة إلى المنطقة من خلال التأكيد على وحدتها جغرافياً وثقافياً بذكر تفاصيل يومية صغيرة، طحينية حلب، دبس بابل، ص 123 لكن فاته ذكر الأحجار المراكمة علامات طريق تسمى الآرام، يتركها قاطعوا المسافات، لرسم معالم طريق، وثمة أخطاء إملائية عديدة تأتي بهوان للغتنا، وحين يتحدث عن الحيوانات المحيطة ببابل ينسى الأسد المنتشر آنذاك حولها وبعيدا حتى أصبح شعارا لها، لكنه يكشف في أماكن أخرى من السرد عن معرفة جيدة بالحياة اليومية والجغرافية للمنطقة.

الفرق بين الأسلوب الصحافي الذي يضع المعلومة على سطحه والروائي المتنكر ليقول أكثر لا يبدو كبيرا على صفحات هذه الرواية، لكنه موجود، يقيم العمل ويقعده، وقد يكون ضئيلا جدا لكنه يرفع أو يخفض إحساس الناقد والقارئ معه، ذلك ليس من تذوق شخصي بل من ميزان يقيس جودة نص بمتطلباته الفنية، يتعثر اللحن تشعر بالفرق. مأخذ آخر على الرواية حجمها الكبير، إختصار نصفها لصالحها. لقد كتبوا عن الرواية في أكثر من موقع ومحمود سعيد يستحق المديح على مثابرته، رغم أني شعرت وأنا أقرأ أنه كان يريد كتابة رواية غير التي انتهى إليها أخرى.

"خلف السدة" لعبدالله صخي مثال لغلبة الصحافة على الرواية، هنا عرض صحفي غير روائي، لقيام وزوال منطقة خلف السدة ببغداد، موضوع يهم شريحة ضيقة من الناس، دع عنك إن تك الطريقة المباشرة للعرض لا تغوي للقراءة كثيرا. المطلوب سرد مركز من غير إضافات بلاغية، تشتت طعمه الجمالي الحريف. وأجد نقيضا لذلك الأسلوب المفتوح من كل الجهات ما قدمه محمود البياتي بأسلوبه المغلق، المتفتح تدريجيا عن محتواه، بكتابه الجديد "كلام" مجموعة نصوص بين النثر والشعر يتراوح حجم القطعة منها بين السطر وعدة أسطر، انطباعات ذاتية في الحب والوجود والثورة كما عنون لها وكما ظلت في إطارها الصغير.

فهي مكتوبة كما هو واضح في صالة صغيرة لقارئ صالة صغيرة، قابلة لدحض بتحليل بسيط، من خارجها، لا من داخلها كما في موسيقى الصالة، التي تدحض الآلة فيها الأخرى، في مجموعة من أربع آلات موسيقية غالبا تتحاور بينها، تتنافر وتتفق، ويتشكل من ذلك اللحن الحيوي، بالنغم، أشبه بحوار مجموعة صغيرة من المثقفين الرصينين، بعيدا عن التأريخ وسيمفونياته الكبيرة الصاخبة وصالاته الواسعة.

هذه نماذج من حصيلة مطابخ، عفوا مطابع، النثر في الأشهر الأخيرة، تبدو غير ذات شأن كبير، وهي هكذا، المقصر في هذه الردة الثقافية للبعض ليس الكاتب المثابر طبعا، بل دور نشر تتحرك بغير دوافع وأهداف الثقافة، إلاّ إذا كانت أرداف هيفاء وهبي منها، وهي منها على صعيد الأدب الأهيف، الرفيع سمن، لم يعد له وجود.

18
مفهوم الفضاء في الخطاب النقدي
04/10/2018
آراء وأفكار
مروج حسين عبدالله*
* كاتبة من العراق.

للفضاء دور مهم في تشكيل العمل الروائي ، فهو بنية اساسية من بنياته الفنية، لكن على الرغم من أهميته إلا أنه لم يظهر كمصطلح واضح في حقول الدراسات الأدبية إلا حديثا، ولعل ذلك يعود الى انصراف النقاد والباحثين الى الاهتمام والتركيز على المكونات السردية الأخرى مثل الزمن، والشخصيات، والأحداث،...الخ.  وقد تنبه د. حسن نجمي في كتابه "شعرية الفضاء" إلى هامشية هذا المكون في الخطابات النقدية المعاصرة، على الرغم من بعض الإشارات الخفيفة والعابرة إليه حيث يقول "لقد ظل الفضاء مكونا هامشيا في الخطابات النقدية المعاصرة وذلك للطبيعة غير المضمرة للفضاء". وكما أن للزمان والمكان والأحداث حظوة في العمل الروائي، فكذلك للفضاء حظوة فيه، إذ يعد مكونا أساسيا من مكونات الرواية الجديدة إلى جانب المكونات الأخرى. وهذ استنادا لقول د. حسن بحراوي معتبرا الفضاء "مكونا أساسيا في الآلة الحكائية" فالفضاء يمثل ذلك العالم الفسيح الذي تنتظم فيه الكائنات والأشياء والأفعال، وبقدر مايتفاعل الإنسان مع الزمن يتفاعل مع الفضاء، بل يمكن القول: إن تاريخ الإنسان هو تاريخ تفاعله مع الفضاء أساسا. لذا فهو البنية التي تعبر عن الوجود الإنساني واهتمام الإنسان به نابع من حاجته إلى إدراك العلاقات الحيوية في بيئته، كما يشكل الفضاء الروائي الحيز الزماني الذي تظهر فيه الشخصيات والأشياء متلبسة بالأحداث تبعا لعوامل عدة تتصل بالرؤيا الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبي وبحساسية الكاتب أو الروائي.
الفضاء ضروري للسرد الذي يحتاج لكي ينمو كعالم مغلق ومكثف بذاته إلى عناصر زمانية ومكانية، فكل قصة تقتضي نقطة انطلاق في الزمن ونقطة اندماج في المكان. وكما يرتبط الفضاء الروائي بزمن القصة، فإنه يقيم صلات وثيقة مع باقي المكونات في النص، وتأتي في مقدمتها علاقته بالحدث الروائي والشخصيات التخييلية. وعليه فإن بناء الفضاء الروائي يبدو مرتبطا بخطية الأحداث السردية ، بل يمكن القول إن الفضاء الروائي هو مجموع الأمكنة والأزمنة في الرواية، هو الزمكان بكلمة أخرى، هو المدى الذي تتحرك نحوه الرواية عبر حركة الشخصيات والأحداث.
يتم تقديم الفضاء الروائي مع الحدث دفعة واحدة، كأنهما ينقذفان انقذافا في وجه المشاهد، من دون أن تكون به حاجة إلى خطاب خاص مواز لتوالي الأحداث، يقدم له معلومات عن المكان الذي تجري فيه متوالية اللقطات، أو عن الأشياء التي تحيط بالبطل، أو عن الخلفية التي تنحل فوقها العقدة.
ويمكن أن نشير هنا إلى الاشكالات التي يطرحها مفهوم الفضاء، ومدى تعالقه الشديد مع مصطلح المكان الذي ظل على الدوام لصيقا به .
يشيع مصطلح الفضاء عند النقاد الغربيين كثيرا، إذ يعنونون به كتبهم ومقالاتهم، أما العرب فلا يصطنعون مصطلح الفضاء في كتاباتهم النقدية بخاصة، وإنما يحتل مصطلح المكان عندهم مقاما أكبر. إن أهمية المكان لا تخفى على أحد، لما يقوم به من دور رئيس في حياة الإنسان، فمنه ينطلق وإليه يعود، أو ليست حياتنا ككل رحلة مكانية تبدأ برحم الأم وتنتهي بالقبر. نقرأ ذلك عند نجيب محفوظ في صيغة "جئنا من ظلام نعود إلى الظلام". وعلى سبيل المثال فالكاتب العراقي برهان الخطيب ينقل تلك الرحلة الوجودية شبه المحدودة للإنسان عبر الحياة في روايته "الجسور الزجاجية" إلى صعيد الرمز الواقعي، من ظلام إلى ظلام نعم، لكن من سجن حيث تبدأ الرواية إلى سجن آخر، حيث ينتهي أيضا بطل تلك الرواية. نرى في بدايتها "ولادة روحية" له ثم بعد رحلة ألم قصيرة بين المدن والتحديات والذوات يعود إلى ظلام مرغما محبطا، مع حصيلة تجربة حياتية تلخص مسيرة وجود، يكسبها المرء عادة بعد ممارسات عديدة خلال عمر طويل. كما يعيد الخطيب تلك الدورة الحياتية من ظلام إلى ظلام، لكن في صيغة أخرى من عراك إلى عراك. وتبدأ روايته "ليلة بغدادية" وتنتهي بمطاردة سياسية تبدو أنها لا تنتهي، ملخصا بذلك نمط العيش في منطقتنا نتيجة تغليب الانفعالات على العقل، السهو على اليقظة، المحدودية على الانفتاح.
إن الاهتمام الكبير بالمكان يعود لحضوره الكثيف في كل مناحي حياتنا "ولعله ما من قرين للترجمة البشرية مثله، فهو عمادها ومصطلحها وهو مغذيها وهو منطلقها ومصبها وترجمتها أيضا". إن المكان يؤثر حتى على تركيب الأشخاص، ابن البادية غير ابن المدينة، بل أبناء المدن يختلفون بعضهم عن بعض اختلاف المدن بعضها عن بعض، تغير المكان يؤثر مباشرة بعد حين حتى على أفكار الشخصيات  ذاتها ومصائرها، لنأخذ مثلا شخصية إحسان في رواية برهان الخطيب "أخبار آخر العشاق" كيف يتغير بعد انتقاله من العراق إلى المهجر، بل ويمسح المهجر الفروق بين أبناء البلد الواحد، وحسب تعبير إحسان تتساوى القرعة وأم شَعْر: "لكن بصراحة.. وبعيد عنك حياتي شباب.. تبهدلنا في الغربة، القَرعة وأم شعر منا فيها سواء، لا يتركوننا نعمر بلدنا يحركون غرور زعماء، أطماع أتباع، يثيرون الحروب نتشرد، نقع في شباك".  ص 222 .
كذلك نرى تحولا كبيرا يصيب عائلة يوسف بعد انتقالها إلى المهجر من العراق في روايته "أخبار آخر الهجرات".
تنبغي الاشارة في هذا الصدد إلى الجهد الذي بذله الناقد المغربي حميد الحمداني في التمييز والتدقيق بخصوص الفواصل القائمة بين كل من مفهوم "الفضاء" ومفهوم "المكان" . إذ يذكر في كتابه"  بنية الشكل الروائي بأن " ضوابط المكان في الروايات متصلة عادة بلحظات الوصف، وهي لحظات متقطعة تتناوب في الظهور مع السرد أو مقاطع الحوار، ثم إن تغيير الأحداث وتطورها يفترض تعددية الأمكنة واتساعها أو تقلصها ، حسب طبيعة موضوع الرواية، فالرواية مهما قلّص الكاتب مكانها تفتح الطريق دائما لخلق أمكنة أخرى، وإن مجموع هذه الأمكنة هو مايبدو منطقيا أن نطلق عليه اسم : فضاء الرواية، لأن الفضاء أشمل وأوسع من معنى المكان. والمكان بهذا المعنى هو مكون الفضاء.
وما دامت الأمكنة في الروايات غالبا ماتكون متعددة، ومتفاوتة، فإن فضاء الرواية هو الذي يلفها جميعا . إنه العالم الواسع الذي يشمل مجموع الأحداث الروائية، فالمقهى أو المنزل، أو الشارع، أو الساحة كل واحد منها يعتبر مكانا محددا: إن الفضاء وفق هذا التحديد شمولي. إنه يشير إلى المسرح الروائي بكامله. والمكان يمكن أن يكون فقط متعلقا بمجال جزئي من مجالات الفضاء الروائي.غير أن المكان شديد الأهمية كمكون للفضاء الروائي، لأن " الأمكنة بالإضافة إلى إختلافها من حيث طابعها ونوعية الأشياء التي توجد فيها تخضع في تشكلاتها أيضا إلى مقياس آخر مرتبط بالإتساع والضيق أو الإنفتاح والإنغلاق، فالمنزل ليس هو الميدان، والزنزانة ليست هي الغرفة، لأن الزنزانة ليست مفتوحة دائما على العالم الخارجي بخلاف الغرفة، فهي دائما مفتوحة على المنزل، والمنزل على الشارع، وكل هذه الأشياء تقدم مادة أساسية للروائي لصياغة عالمه الحكائي، حتى أن هندسة المكان تساهم أحيانا في تقريب العلاقات بين الأبطال أو خلق التباعد بينهم".
( الصورة المنشورة للروائي برهان الخطيب).
 

19
المثقفون تنقصهم شجاعة مجابهة الأكاذيب روائي عراقي مقيم في السويد يرى أن راحته في المكان الذي لا يوجد فيه!
القاهرة السيد حسين: يرى الروائي والأديب العراقي المقيم في السويد برهان الخطيب أن الوضع الثقافي في العراق مهلهل، مستباح، كما السياسي، الاقتصادي، في يد نخب تفكر بعيدا عشوائيا، لا تحرص على المصلحة الخاصة الوطنية ضمنا العامة. احداث تغيير جوهري ممكن مع ساسة اثبتوا جدارة، رؤية سليمة.وحول مجمل أرائه كان اللقاء التالي: كيف ترى

قراءة فی الموقع الأصلي


20
حوار مع الروائي والأديب الكبير برهان الخطيب
أعده : السيد حسين

– قيل “ما نكتبه هو ابن ما نقراه ” وقيل ” بان الكتابة هي في الحقيقة إعادة كتابة أو إعادة تشكيل لمفردات اللغة، وبأن ما نكتبه قد كتبه أشخاص آخرون قبلنا “حدثنا عن الكتابة الأولى؟
* في مرحلة الكتابة الأولى لكاتب يصح كلامك عنها، أنا شخصيا في أول قصة انشرها عام 1958 في مجلة الأحداث اللبنانية انطلق من قراءاتي أعيد صياغتها ترتيبها اتبناها اعتبرها محصلة لي. مع بدء بلوغ الكاتب مرحلة نضج، استقلالية، يهمه تمييز صوته عن غيره من الكتاب، المساهمة في تشكيل الوعي الاجتماعي. روايتي الأولى (ضباب في الظهيرة) 1968 يجدها نقاد لا تشبه غيرها، يُكتب عنها في مصر في مجلة حواء المصرية، في لبنان ينقدها غسان كنفاني يمتدحها، في العراق سعد البزاز، غيرهم. أبقى اعتبرها من أدب الصبا رغم انطلاقها من ضرورة تجاوز تجارب الكتاب الآخرين عن أسباب فنية فكرية عامة تحرك موجة الستينات، لا شخصية. في أسطر قليلة على الغلاف يكتب مؤلفها: عملية كتابتها كانت استشهادا حقيقيا لي، رأيت آنذاك ان كل العوالم المنظمة التي يخلقها المؤلفون الآخرون في كتاباتهم ما هي إلاّ محض كذب وافتراء، المباشرة في روايتي تعبير عن افلاس الفن في مخاطبة الانسان في عصر القنبلة والحروب الدموية.. كلمات حال ينهي قراءتها آنذاك مبعوث العراقاليوم إلى الأمم المتحدة يقتني نسختين منها هاتفا: فقط من أجل تلك الكلمات تستحق الرواية الاحتضان. بعد عقود يجدها ناقد تستحق القراءة غدا أيضا، يدعو إلى إعادة طبعها.. المعنى هنا ان الاستفادة من تجارب الكتاب السابقين لا في إعادة كتابة المكتوب انتاجه حلة جديدة، بل في كشف نواقصه تجاوزها في نص مستقبلي رغم تصويره معالجته حقائق تفاصيلها سالفة، لكن دالة على الآتي.
بعد استكمال نضج الكاتب، عند النهايات، ادراك العالم كما هو، لا كما يُقدم إلينا، لا كما يحلو لنا رؤيته – لا كل كاتب يبلغه عند استغراق في اغراءات، ذات – تلح عليه ضرورة تصويب صورة عامة قدمها في أعماله، تدارك أخطاء، صياغة أدب أصيل صادق، رد فعل على وجودنا في مجتمع، كون، يسمحان إلقاء كل الأسئلة وقت لا تجد الرد على ابسطها.. إلى أين نمضي، لماذا لا نسعد رغم توفر مقومات السعادة حولنا؟ مع اكتشاف معان جديدة من التجارب السابقة تنشأ ضرورة تحرير المكتوب وفق رؤية جديدة، واقعية، لا منفعلة، لا مبتذلة، سامية لو الخُلق صامد، ضمن نشاط بشري عقلي عام يرنو إلى رقي في حصافة لا في خديعة أو مجون. الكاتب حينه لا يختلف عن غيره يبلغ سن رشد حقيقي.. إدراك مسؤولية تجاه البشر جميعا.
– كيف تري العراق اليوم وحال العراقيين، ماذا تقول لهم، أو ربما ماذا يقولون لكِ؟ والوضع الثقافي العراقي حاليا؟
* لا العراق وحده يعيش كارثة، العالم كله مهدد أي لحظة يخترقه خازوق حرب لو نصدق وسائل الإعلام، حتى في امريكا على مستوى اعلى من شعبي لا يعلمون ما قد يحدث غدا، ذلك لا يعني ان الاحداث عشوائية، هي هكذا لمن ينفعل، يغفل، يجهل. بارد راس مطلع يراها مرتبة منذ عقود إلى اهداف تعقبها اهداف، عن استراتيجيات، مؤامرات، حسابات، ارادة إلهية غيرها.. البعض يقول العلم عند العلام. من جهة ثانية ثالثة يرى اخرون الخلاف الروسي الامريكي ضمنا الكوري لعبة هدفها عالم جديد، حصتنا شرق اوسط جديد، لو يتكاتف الداخل كما نرى البوادر في التكاتف التركي الايراني الروسي العربي إلى حد يحمي نفسه، لعبة لا تخلو من خطر، غش، سادتها غرب خدمها شرق ضمنا روس. البعض الآخر يرى روسيا مهددة في العمق من الغرب أبعد من نية ربطها اليه، القصد اخراجها من المنافسة، اعادتها منآى ثلوج مقسماً مائة أمارة، بعدها افريقيا، الصين، ذلك عموما، نقترب إلى الخصوصيات لا أجد العراق يعيش سياسيا أسوأ جدا من غيره من الدول، رغم رفاهيتها مقابل كثرة مشاكله، فيه لا زال بعض القرار في أيدي غالبية وطنية، تُنعت من إعلام عولمي طائفية، انتقاصا، ضمن حرب خفية غير الظاهرة. الطائفية أمام سعة الخطر لا وجود لها، سوى عند مُخطِّط أو مُنفّذ يستفيد من توسيعه أو مهووس.
العراق كغيره يعيش مصيره المختار منه، المفروض في آن من ذوي القرار في الخارج، ازدواجية حكم مدمرة، النتيجة عدم استقرار. أقول للعراقيين نحسن وضعنا مع ترشيد الحياة السياسية عندنا أولا، وفق الدروس المتراكمة من ماضينا، اقليميا يجب تكاتف دول المنطقة، الدفاع عنها، ضمنا الكرد على أساس رفض استخدامهم مصدر فتنة في جري وراء حلم لا معنى له في عالم ينحو إلى تنوع، البرزنة إلى انغلاق، من مصلحتهم توزعهم في اكثر من دولة. محليا قيام الاحزاب اعتباطيا ينبغي عقلنته، قادت المنطقة إلى تفكك، يجب ايقافه أو نخسر أكثر. ذلك يقتضي هيئة وطنية شاملة، قوة مدافعة عنها، كلاهما متوفر في العراق يتطلب بلورة، عندنا شخصيات وطنية قوية كثيرة، قربها طفيلية، يجب الفرز، الحشد الشعبي ضمانة استقرار العراق يراقب يضبط، كما يجب ضبطه. صحوة ثقافية تغلّب التوجه الوطني ظاهرة.
إنما الوضع الثقافي مهلهل، مستباح، كما السياسي، الاقتصادي، في يد نخب تفكر بعيدا عشوائيا، لا تحرص على المصلحة الخاصة الوطنية ضمنا العامة. احداث تغيير جوهري ممكن مع ساسة اثبتوا جدارة، رؤية سليمة، منهم نوري المالكي، العبادي، مهدي الحافظ، جلال طالباني، عالية نصيف، غيرهم. ايضا يجب التقاء الحكم مع معارضة مستنيرة، تنقية كليهما في آن من أجل اعلاء الالتزام الوطني، فرض السلم الأهلي، التمهيد لانتخابات جديدة ذات جدوى. حين يتحقق الاستقرار، تلتئم جروح الذات الجمعية، تعود القيم ترتكز، بعدها يتحسن الوضع الثقافي معه الاجتماعي. العراقيون أذكياء سياسيا شجعان وطنيون، غالبيتهم اهل نخوة، عدوهم ماكر له تجربة، رغم القلاقل المؤامرات لا خوف عليه، العراق الجديد في مرحلة مخاض. المهم صد التدخلات الخارجية، تغليب العامل الداخلي على الخارجي، التلاحم الوطني موجود، تشوهه الدعايات. الثقافة تسير في اتجاهين كلاهما مغلق، فالت على اليسار، متعنت على اليمين، نحتاج ثقافة عقلانية متوازنة، لها وجود رغم الغث الكثير.

– يري البعض أن الانقلابات العسكرية والسياسات المتخبطة عطلت استكمال المشروع الثقافي للمبدع العراقي كيف؟
* جِلد المبدع ورقة لتموس، يتأثر طبعا من المحيط. الانقلابات حين تكون استجابة لقرار الخارج مُحبِطة نعم، تجهض التطور الاقتصادي الاجتماعي الثقافي السلس، النتيجة انتاج الغث، تصفية أو ابتلاع المنتوج الوطني، ثقافي أو مادي. لكن المدرع حب الوطن يتلقى الشظايا يعيدها إلى مصدرها، يبقى محصنا في مركز قيادة ابداعه، ينتج أعاجيب، كما الجنود البواسل في بطولات يقدمون أرواحهم ذودا عن مواطنيهم، أرضهم، هؤلاء بَدنياً، أولئك معنويا ثقافيا. الأسئلة الكبرى يتصدى لها شرفاء المبدعين، الساسة، يواجهون عواصف إلغاء، تستمر المسيرة. أغادر العراق أواخر الستينات لا هربا من المشاكل قدر البحث عن زاوية رصد هادئة، مواجهة المشاكل ابداعيا، أنقذ أنفّذ مشروعي الأدبي المستمر نصف قرن مكتملا اليوم مستوعبا تجربة بلدي، انسانه، عبر مراحل وانظمة سياسية عديدة، قد يمكّن القارئ رؤية تأريخ العراق واهله وسط العالم مختصرا في سيرة عائلة، تلمس موضع الداء معرفة الدواء من غير تكرار معاناة شخصية عامة في آن متجنبا فيروس كراهية أو تحزب مدمر الى غير السامي المجدي.

– حدثنا عن روايتك الصادرة حديثا ” أخبار آخر العُشَّاق”؟ لماذا هذا العنوان؟
* بطل الرواية هارب من حرب بلده، يعاني من وحدته في منفاه الغربي، من طغيان العلاقات المادية على الروحية، من تكريس الفردية حوله حد ضياع بين ضباع، يشكو إلى كاتبها قربه: عند البحر الهادئ ذاك.. على مسطبة المتعبين المتنزهين هذه يرتاح أهل البلد من التمشي.. يتعبني التذكر أطرح بدني قربهم لا أحد يسأل الآخر ماذا في قلبك، ماذا تنوي عمله اليوم غدا، البشر مع حواسيبهم قلاع منعزلة، متحركة، العشاق يختفون، صفحة اخرهم أمامك تطوى منذ وصولي البلد الأمين.. ساحات العشق تصير شاشات الجات.. المحادثات..
واضح من كلامه ان حياة الناس تتغير لا في الوطن فقط، بل في المنفى أو الملجأ أيضا، من تجربته يرى منكود الحظ ان العشق يصير رقما في رصيد وجود بشري محدود رغم سعة ظاهرة، لا كل المعادلة، وانه مع ذكرياته آخر العشاق على الأرض، يسرد حكايته يسلي ذاته، جاره من بلده الأصلي.
– قارئ الرواية يجدك تعتمد على مزاوجة فن القصة القصيرة مع فن الرواية لماذا هذا التداخل؟
* التداخل له تاريخ طويل يمتد إلى سلامة موسى، قبل نصف قرن يذكر في احدى مقالاته عن امكانية مزاوجة فن القصة القصيرة مع الرواية، أتوقف عند فكرته طويلا اقلبها أجدها تستحق الاهتمام.
– هل رواية ” أخبار آخر العُشَّاق” تروي الواقع العراقي بعين المثقف والكاتب؟
* التغيير تصنعه نخبة، ينفذه فقراء، يسرقه أغنياء، يراقبه يعبر عنه ضمير الناس أي الكاتب المثقف لا مسطول باحث عن ربح أو شهرة أو حظوة عند مفترسين. حدث الرواية عموما مطعّم غالبا من تجربة الكاتب، من تماس مباشر مع الحقيقة، من تجارب الناس، من معايشة انعطافة تاريخية، يستلهمها الكتاب في تقديم تقريره المختصر عن الوجود إلى الأبدية، محاورا معاصريه، الآتين، داعما ذاكرة الوطن، سابرا العالم.
– الرواية التاريخية أو التوثيق التاريخي كيف يمكن للأدب أن يخدم التاريخ من التزوير وخاصة في تلك الظروف السياسية المتغيرة؟
* تذكر كلمة متغيرة بدل رهيبة، سؤالك كبير مع مرونته، يستدعي ردا من اكثر من اتجاه منه تحدٍ إلى كاتب شريف، سياسي. أولا هل من السهل معرفة الحقيقة؟ معلوم لكل منا تصوره عن الحقيقة. الكتابة عنه لا عنها، فعلَ معظم الكتاب في رأيي، لهو، عبث، عاصفة في فنجان. الأدب الحقيقي عاصفة حول الأرض.. نعم تروضها الأنواء، التضاريس، كما يروَّض الأدب المتعملق حين ينافس ذوي الإرادات العليا، من نقاد مرتزقة وإعلام يخدم مصالح عليا. ثانيا، نفترض في أعجوبة تتعرف على الحقيقة الخافية تحت طيات الأحداث أو وراء كواليس هل يسهل عليك التعبير عنها فنيا؟ تنجح هل يتيسر تسويقها إلى القارئ؟ تصل القارئ هل تضمن تبلغ عقله المؤمم من وكالات أنباء، نت، فضائيات، تروج أشنع سخف للسيطرة على انتباهه كسبه إلى اخبارها المخوزقة؟ يتيسر كل ذلك هل تمتلك شجاعة التنفيذ أو تُترك مع مشروعك البريء خدمة التاريخ أو المجتمع دون عوائق؟ لماذا اغتيال كندي إذاً والعديد من رؤساء نيتهم خدمة بلدانهم؟ الأدب يُواجَه في أدب يقال، حسنا لا نسمع حتى اليوم ان الرصاصة الموجهة إليه إليهم تقصد أشرارا قربهم، محض صدفة تصيب الضحية.
– ما هي الإشكاليات التي من الممكن أن تقابل مَن يتصدي لكتابة رواية تاريخية من وجهة نظرك؟
* يتجاوز الكاتب العوائق الصعوبات السابقة تبقى أمامه صعوبة معرفة التفاصيل الضرورية امتداداتها لبناء الحدث الروائي. تصوراته غير مجدية كثيرا هنا، قد تقود إلى وهم، كما ليس سهلا تنكب الروائي مهمة يكون جاسوسا لقارئه يصطاد حقائق، نعم قد تنفعه مكاشفة سياسي له نهاية عمر في بناء حدث تاريخي لو المكاشفة مدركة. في عالم غير مستقر لا تستقر الحقائق. الحياة السلمية عامل مساعد في تطور العملية الأدبية، السياسية، الاقتصادية. والاستقرار غير ممكن من غير تفاهم واتفاق المعارضة مع السلطة على استراتيجيا للبلد، قوامها مصلحته، قيمه، تعايش المختلفين فيه.
– روايتك فيها الكثير من الوجع رغم أنه من المعروف عنك بث الأمل هل المقصود نقل ما يحدث والبحث عن حل؟ وهل وصل الأدب إلى حل اجتماعي في ظل الحلول السياسية العقيمة؟
* أمة غنية شاسعة حاضرها دمار، تفكك، كيف لا تسبب الوجع لمن له ذمة.. منعكسا منها على ابداعه؟! رد الفعل؟ الأمل لمن لا ييأس، ينشد لها رفعة. تداخل الوجع والأمل حتم من ثنائية الوجود، فردي، اجتماعي، مطلق. نعمل نُحبَط، نعلم لا نعلم، نيات حسنة نتائج سيئة. افرازات “التقدم”.. الحرب، الفقر، الجهل، يمكن تداركها في مصارحة، لكن التفاهم يُغيَّب يسوَّف لمصلحة البعض ضد اكثرية. الأدب تفاهم، يصل هدفه في جمع العقول المختلفة على مشترك. لا يتحرر الأدباء، الأدب، من اوهام لها عدة ألوان، اطماع، اغراءات عدة مصادر، نبقى نراوح مع الساسة مع الناس على ذات الساحة، مع تجديد المناحة. يجب ترجيح الشفافية. الحلول السياسية لو من الداخل غير عقيمة. مضاداتها من الخارج تجهضها، من عهد إلى عهد. أواخر العهد الملكي عندنا نرقى مع سياسة الإعمار نُقاد إلى ثورة قاسم. أواخر ثورة قاسم يتطور العراق عاليا مع البناء نقاد إلى ثورة البعث. أواخر البعث يزدهر العراق عاليا مع استكمال تأميم النفط نقاد إلى حرب ظالمة مع الجارة ايران والكويت.. بعدها القهقرى. اليوم نتفاهم مع الجار الايراني والتركي نضع اساس استقرار جديد يراد لنا الحرب مع الأخوة الكرد. يجب كشف اسباب الوجع، عدم الاتفاق على مشترك، ليصير الأمل له جدوى لا مجرد هبل، والأدب سعيا محمودا لا ستربتيزا موجها مرصودا.
– العمل الأدبي هو الذي يصنع تاريخه.. هل يجب امتلاك ثقافة تاريخية ليتمكن الروائي من التحكم في فصول روايته وأحداثها؟

* العمل الأدبي يصنع تأريخه الخاص بمقدار استيعابه التأريخ العام. لكن، غير ضروري بروز الثقافة التاريخية أو تفاصيل التاريخ في مرحلة معينة على سطح الرواية أو خلفيتها، إنما رسم حدثها، شخصياتها، دقيقا صادقا لا من غير إلمام بتفاصيل الفترة التاريخية لها في الأقل، هي تؤثر مباشرة على شخصيات الرواية، كلامها، تصرفاتها، مصائرها، من غير أن نرى. من غير إلمام بما يجري على احداثيات الزمان والمكان تولد رواية ناقصة.
– هناك إشكالية واقعية بين الروائيين والكتاب، فأكثر المبدعين حينما يعانون من الاغتراب داخل أوطانهم وتسنح لهم الفرصة أن يغادروا الوطن وخطورته وقيوده التي تعيق الإبداع والإنتاج تكون البيئة الأخرى حاضنة لموهبتهم ومكانا خصبا لغزارة إنتاجهم هل هذا ينطبق عليك أم للهجرة والغربة عن الوطن رقم قيوده أمور اخرى؟
* راحتنا في المكان الذي لا نوجد فيه. لكلٍ من الوطن والغربة مزاياه ومنغصاته. نغترب لنكسب ماديا أو لنعرف أكثر؟ ذلك ينعكس على الابداع سلبا أو إيجابا. الأشياء تُعرف بالمقارنة تدري، الاغتراب رغم معاناته إيجابي على الإبداع، والوطن رغم ألفته ورحابته قد يضيّق الرؤية، معها أفق الإبداع. لا توجد وصفة محددة للإبداع، الإبداع يكبر بمقدار ما تعطي له من روحك، من كيانك.
– هل تنحاز إلى الرأي القائل أن مهمة الرواية رصد ما استعصى على النسيان من الأحداث والأماكن والأسماء؟
* رأي ذو قيمة. لكنه مرتبط بالماضي أكثر من المستقبل. الرواية عندي متعددة المهام، نضال، تديّن، تبشير، لهو، بناء، ارتقاء..
– شخصياتك الروائية، هل تتمتع بحالة من الانعتاق من سلطة الكاتب اللغوية والفكرية؟
* أكيد، وإلاّ لا أتغير معها، المؤلف يتفاعل مع شخصياته، كما مع مجتمعه، العالم، كما هي تتفاعل معه، تتغير.
– ألم يحدث وأن تورطت في تحميل إحدى الشخصيات قناعاتك الخاصة، حملت البطل مهمة الذود عن أفكارك المخبأة؟
* الحقيقة أحاول دائما التعبير عبر شخصيات رواياتي عما هو أبعد من أفكارها، أفكاري، أفكار المحيطين، وصولا إلى أفكار خفيّة، إلى تفاعل.. حتى عبر نزاع. أميل في الواقع إلى تلك الشخصية، بعد خاتمة الرواية أجدني أميل إلى غيرها. عند كتابة رواية أنا مراقب محايد، أبحث عن تفاهم ناس في خصام، تصير الرواية لنا استشفاء.

– ما رأيك بما يُشاع حاليا عن الرواية، باعتبارها الأكثر رواجا بين الأجناس الأدبية؟
* ذلك صحيح، كما لا أبخس قيمة المسرحية، كلاهما يجمع الناس حول طاولة واحدة، يختبرون يطورون انسانيتهم.
– برأيك هل ستنعكس الأحداث في العراق على الروايات المقبلة، وهل سينشأ ما يسمى “جيل بعد الحرب” في الرواية؟
* لحجم الأحداث الدامية الكبير وطول المعاناة في البلد لا يمكن تجنب انعكاساتها في الرواية، وإلاّ هي رواية من الواق واق. بوادر رواية الحرب ما بعد الحرب في الرواية العراقية بارزة منذ أمس، “الجنائن المغلقة” مدونة قبل تغيير نظام صدام، “على تخوم الألفين” مدونة مباشرة بعده، مثال واضح. آخرون يتناولون الموضوع اليوم أو غدا.
– هناك لكل مبدع محطات انتقال من مرحلة إلى أخرى، فأين يجد برهان الخطيب مراحل تطوره بعد صدور أعمالك قصصياً وروائياً؟ وأي الأعمال التي تعتبرها تمثل انتقالة حقيقية لديك على المستوى الفني والفكري؟!
* هذا السؤال أوجهه إلى نفسي غالبا لا يمكنني الرد عليه، صاعد الجبل لا يمكنه تحديد اية خطوة له أهم من الأخرى، إلاّ عند اجتياز خطر، عقبة. الخطر، العقبة، أقابلهما خارج سياق الإبداع، الصعود. فأسأل غالبا قراء رواياتي عن المفضلة منها عندهم، لأعرف، أفاجأ هم أيضا لا يمكنهم تحديد رواية معينة منها. ألح أحيانا عليهم، شاعر يذكر “ذلك الصيف في اسكندرية” أو “الجسور الزجاجية”.. بروفسورة اللغة العربية من لجنة نوبل اشادت بها جدا، بالمناسبة لم تكن إلى جانب فوز نجيب محفوظ بالجائزة، سألتني عن رأيي في فوزه أجبت: يستحقها. الكلام في جامعة ستوكهولم. أيضا أشاد بالرواية وزير دفاع بلد عربي.. (لا تفكر رجاء: لذلك يخسر العرب) فبعض المغاربة قال لي: منذ قرأنا الجسور الزجاجية لم نعد نميل إلى الحكم الجمهوري، ذلك ربما قد يشارك في تفسير استقرار المغرب وشعبية جلالة الملك. بروفسورة أخرى من لجنة نوبل كتبت تقديما جيدا عن “الجنائن المغلقة”.. ابقى، كما لا انحاز إلى أي من أولادي على حساب الثاني والثالث، لا أنحاز إلى أي من رواياتي، جميعها أجدها نتاج أقوى حب، أكبر جهد، أبعد نظر.
– أنت كاتب جيد للقصة القصيرة فما رأيك بالقصة القصيرة جدا والتي بدأت تشهد رواجا عربيا ؟
* كل الأنواع الأدبية مطلوبة، مرغوبة إذا كانت مكتوبة جيدا. أحيانا يساء إلى القصة القصيرة جدا حين تُستسهل كتابتها، يُهمل عنصر المفارقة، الكشف، في تركيبها.
– هل أصبحت الومضة القصصية نوعًا أدبيًّا جديدًا؟ وهل تحدد بعدد معين من الكلمات؟ ومتى نطلق الومضة على نص أدبي؟
* القصيرة جدا، الومضة، اللقطة المقربة، متقاربة من ناحية عدد الأسطر، الكلمات القليل، كذلك الاعتماد في المضمون على إضاءة منعطف عاطفي، خفي، تحرك غير مرئي تماما في الواقع غالبا، في أقل كلمات، مع مفاجأة أحيانا، الشكل مقبول في الصحافة، يستقطب القارئ يتحمس له من ضيق الوقت أو النفس. لكن المغالاة في تصنيفه، تنويعه، لا موجب لها، بل وقد تختفي اهداف ايديولوجية وراء ترويجه منها ابتسار فحص الوقائع، المشاكل، الاكتفاء بما على السطح، عدم دفع ذهن القارئ إلى البعيد وتحريضه في الخفاء على السائد.

– هل تتعبك الكتابة، هل هي فعلاً كما يصفها البعض كجلد الذات؟
* الكتابة غير متعبة في لحظاتها لكنها متعبة جدا من تراكماتها العاطفية على الكاتب، تعيق النوم. بعد انتهائي من كتابة روايتي “نجوم الظهر” أسقط صريع صداع قاتل تنقذني سيارة اسعاف. غالبا تستهلك حياة الكاتب كلها، تقلبه إلى مخلوق مهموم من التفاصيل الصغيرة والعامة. نعم المزاح داخل الرواية خارجها وسيلة دفاع عن النفس، عن القارئ. الكتابة قدر مختار، كبح هياج، موسقة ثورة، بديل انتحار، تصير متعة عند الانقطاع إليها، شفاء، لا جلد ذات.
– كيف تقيّم أداء السياسيّين في العراق؟ هل تثق في خطاباتهم؟
* كما في كل مكان لا في العراق وحده هناك سياسيون اشراف، غيرهم فاسدون، سواء في السلطة أو المعارضة. المصيبة من التدخلات الخارجية، مرئية وغير مرئية، تدخلات تمتد حتى إلى الملابس الداخلية والأهل. لكن الشعب العراقي عموما رغم كل النوازل لا خوف عليه لأنه يعرف دربه، ادراكه عال، لا ذنب السفينة حين تعصف عليها الرياح. نتائج القيادة، الانتخابات، تؤكد نضوج العملية السياسية رغم مهاترات البعض، نصل الاستقرار رغم كل المكائد، التشرذم مؤقت.
– هل ترى أن الحريات العربية مازالت تعاني من القيود؟
* البلدان العربية تعاني من مشاكل مصدرة إليها أكثر من مشاكل يُدعى تخلقها السلطة إلى مواطنيها. لو نترك في حالنا ترتفع الأمة العربية مجددا إلى الذروة، السلم الأهلي بداية الارتقاء، تفاهم المعارضة مع السلطة، ابعاد الفاسدين، شرعنة تجريم الخيانة، تشجيع الثقافة الوطنية، كلها ضرورية للاستقرار، لتوسيع الحريات العربية تدريجيا مع الحفاظ على القيم، طرد أسطورة السوء فينا مقابل فخامة الأجنبي.
– في رأيك هل أثرت ثورات الربيع العربي على النتاج الإبداعي.. وهل نجح المبدعون في التعبير عنها أدبيا؟
* ثورات الربيع العربي أربكت كل شيء لا الإبداع فقط، المذنب في ذلك المبدع قبل السلطة، لا نجح المبدع في التعبير عنها أدبيا ولا استغلها لقول كلمته. تراجع الإعلام الوطني في الفوضى السياسية المستمرة حتى اليوم مذنب أيضا. معظم ما ينشر في الصفحات الأدبية هافت القيمة.
– هناك من يرى أن هذه الثورات العربية كشفت فشل النخبة المثقفة وتراجعها عن أداء دورها. ما رأيك؟
* ردي السابق أكرره أضيف: خلاصنا مؤجل من غير صحوة ثقافية على غرار صحوة المثقفين العرب بعد تأميم القناة وحرب السويس، أيضا خلال الستينات، مع الانتباه إلى خطأ الخصام العربي العربي وخطأ التنكر إلى قدسية الأدب واهمال قيمه العالية.
– أين دور المثقفين والمفكرين في مواجهة الفكر المتطرف والإرهاب؟ وخاصة تنظيم داعش والنصرة وغيرها؟
* دورهم غائب، مُغيَّب، من أهل النوايا السيئة عن مكر كما من أهل النوايا الحسنة عن خوف أو طمع في اغراءات وأوهام. المثقفون غالبا تنقصهم شجاعة مجابهة الأكاذيب، كشفها لهم، من دورانهم على أفلاك مغلقة لا حول مصلحة المواطنين البشر اجمعين المشتركة، القصد إبقاء الثروات الحريات في ايدي حفنة نخب مُسيطر عليها، الباقون دع الهواء لهم يأكلوه، دع الغرب الضاري يسيطر والشرق مصدر الحضارات يتدهور، دع الحريات هز مؤخرات، من هنا يظهر التطرف والإرهاب لا من الإسلام الدين الطيب السمح، سؤالك يزوغ قيلا عن مصدر المشكلة.
– برأيك ما أبرز التحولات التي طالت الرواية العراقية؟
* الرواية العراقية كما في كل العالم تتجاوز أطر الرواية الكلاسيكية القديمة، قيمها المحافظة، تخرج منذ الستينات إلى تيه التجريب، تدخل تبتكر مع فن البناء أو الهندسة المعمارية اليوم أشكالا أكثر عصرية لها مضامين أرحب. البعض الرصين يقيم ابداعه ينجح ضمن شكل كلاسيكي حديث، قيم مستنيرة غير الفالتة غير المتحجرة.
– ثمة من قال إن: “القصة القصيرة والرواية في العراق لم تصل إلى مرحلة إنتاج المعرفة” ما رأيك?
* القائل لم يقرأ أفضل انتاج القصة القصيرة والرواية في العراق.
– هاجس البحث عن هوية للرواية العربية أو التي يكتبها كُتاب عرب كيف تراه؟
* اليوم تتشابه البدلات التي نلبسها، سيارات نركبها، ثقافة عامة نستهلكها، تبقى الهوية خاصة، تعبر عن المنتِج، عن نقابته أيضا.

– “ادب المنافي” مصطلح حديث على الثقافة العراقية، افرزته الظروف السياسية التي مرّ بها العراق، وقد قدّم هذا الأدب نماذج ابداعية رائعة وأسماء جديدة لمسيرة الابداع، فهل ترى أن النقد قد أنصف هذا الأدب وواكب عطاءه ؟
* أبدا، ولا القليل من استحقاقه، لا من النقد لا من الجهات الرسمية، لم يُنصف كل الشعب العراقي كيف تريد انصاف أدبه؟ المهم هنا أن الأدب الناضج علامة نضوج اجتماعي، ترويجه دعم للبلد عموما. الروس وغيرهم يقيمون الأنصاب لكتّابهم معها يعطون انطباعا عن عظمة أممهم. أمتنا تتبهذل من لصوص أو دمى نتبهذل معها.. نبقى نحبها.
– البحث في الامور النقدية يبدو ضعيفا على مستوى الوطن العربي، برأيكم ما هي الأسباب ؟
* سؤال حلو! النقد، الاقتصاد، السياسة، الكياسة، كلها مربوطة إلى عربة أمن واحدة. نمتلك عربتنا تسير بقية الأمور على ما يرام. نجهد على رواية سنوات، نكافح بين ناشرين لنشرها، جزارون أرق منهم، يأتيهم ايعاز من اصحاب المعارض هزئوا فلان لا يسمع الكلام، ارفعوا علّان يهز حسنا، تجدهم طائعين صاغرينا، بعده يا ناقدنا افندينا قل عن فلان كذا كيت، النتيجة لا رحت لا جيت. بقية النقاد صم بكم يساهمون في ضرب حصار.. أين النقاد.. لست أدري!
– النقد العراقي عاني كثيرا من عقدة الخواجة وتأثر بالنقد العربي كثيرا كيف؟
* لا أوافقك على هذا الرأي. عندنا نقاد كبار منهم علي جواد الطاهر، عبد الجبار عباس، ياسين النصير، غيرهم، لكن السوق الأدبية مثل بقية الأسواق تتأثر بقوانين منها، كما من عليها. مع الأسف يخفت صوت النقد يلتزم مستوى غناء جوقة بقية منشدين خافت، كما عندكم في مصر يخفت، في الستينات، السبعينات، يكتب عن اعمالي النقاد المصريون منهم حسن النجمي في الكواكب، علاء الديب في صباح الخير، مجلة حواء ذكرت، اليوم رغم صدور خمس روايات لي من مصر لا أقرأ نقدا واحدا منهم عنها، يبدو هم يفضلون الكتابة عن أخبار القوة الناعمة سمعنا مؤخرا، أخبار احتفالات المثليين تملأ الصفحات، تستهويهم، قوتنا الخشنة تجرحهم يبدو لي، لا بد من التأني.. عند التمني..
– ما رأيك بالجوائز الأدبية؟ هل تشكل دليلا على إبداعية المنتج الأدبي؟
* أقوى شخصية من أقوى دولة في العالم زارتني في شقتي أكثر من ساعة عرضت عليّ “أكبر جائزة أدبية” مقابل قبول صداقته وأداء مهام كبرى.. رفضتُ. لك أن تقيس بعد ذلك الرأي في الجوائز الأدبية الأخرى.
– ما أهمية أن يكون لدى الكاتب مشروع يعمل على تحقيقه؟
* كل دولة يجب أن يكون فيها مؤلف واحد على الأقل يتناول ابداعيا تاريخها، انعطافاتها التاريخية، يطرحها في كتبه مرآة لأهل البلد والخارج، يرون نواقصهم و جمالهم عليها. الحياة المدنية تبدأ من ذلك، من صياغة المؤلفات مسرحيا، سينمائيا، تلفزيونيا، مساهمة في خلق مجتمع متطور راسخ. هكذا مشروع كبير يتطلب من مؤلفه تكريس كل حياته له، خدمة بلده غير ملتفت إلى ترف، نعومة حياته الشخصية إذا لا تسير متوافقة مع مشروعه، هي غالبا هكذا، تكريس حياته إلى المشروع يستلبه من عائلته، يعي المؤلف دوره يضحي نعم راضيا، هكذا تختاره الطبيعة اختيار أنهار تشق مجاريها تروي البلد، غيره. حياة تصير قربان رفعة.
– لننتقل من الرواية الى الترجمة، لديك العديد من الترجمات هل ما زلت تمارس عملية الترجمة وما هو آخر ما ترجمته؟
* بعد الترجمة من الانكليزية مطلع شبابي إلى صحف ومجلات عراقية ترجمت من الروسية أكثر من دزينة كتب آخرها “ارهابيو الموساد”.. كل مترجمي دار التقدم خافوا ترجمته نقل لي مديرنا الطيب ضاحكا، وهو يهودي متنور، فقلت له هات الكتاب اترجمه أنا، المبلل لا يخاف المطر، تتحقق مخاوفه، قبيل صدور الكتاب مترجما أُسفّر مخفورا من قلعة السلم والاشتراكية، تنهار بعد ثلاث سنوات، أعود خلالها مع جواز مزور لأرى ماذا بقى هناك من شقتي، سيارتي، شهادة الدكتوراه، حسابي الواهي في البنك الرسمي.. كلها ضاعت، اين ضاعت، هنا لا اقول.. لست أدري! بعده ترجمت من السويدية مسرحية لكاتب فائز نوبل، ثم توقفت عن الترجمة. قبل عامين دعتني الامارات إلى تحرير وتدقيق ترجمة الموسوعة الثقافية العالمية من 3 أجزاء، صدرت أو تصدر قريبا.
– بخصوص النشر، هل ثمة مكابدات حقيقية في سبيل وصول عملك الروائي إلى القرّاء؟ وهل تجاوزت روايتك الحدود العربية؟
* الناشر شمس لا أجد كلمة تصف ألاعيبه معي مع كتاب آخرين النتيجة يمرغ في الخارج سمعة مصر في الوحل، اذهب الى سفارة مصر في ستوكهولم اشتكيه، معي عقد النشر، السفارة كأنها تمثل دولة المريخ. نغلق هذا الجرح كي لا أنفعل أدعو السماء تنزل غضبها على الناشرين، لا كلهم طبعا. عويدات، العودة، الرشيد، الشؤون الثقافية العراقية.. دور نشر محترمة أكن لها محبة. عن تجاوز رواياتي الحدود العربية اكتفي أقول حاضرة في مجاميع أو موسوعات أجنبية، الأمريكية، الروسية، الألمانية، السويدية، غيرها.

ـ هل هناك مشروع أدبي في الطريق؟
* المحارب يتقاعد.. الموظف يستقيل.. لا الروائي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الاستاذ السيد الصحافي .. تحياتي.. امنياتي أراك في افضل حال دائما
حسنا تتأخر في نشر الحوار. أرسل إليك إضافة لو تجدها ملائمة يمكنك ادخالها إلى ردي حول الجوائز، بعد سطر:
لك أن تقيس بعد ذلك الرأي في الجوائز الأدبية الأخرى..
الإضافة:

على مستوى أوطأ ينقل إليّ رسل سلام دعوة لكتابة كلمة في مديح “شيخة الموز” مقابل منحي جائزة الأدب، هكذا بصراحة، أرفض طبعا، قبلها بعدها يُنقل تنبيه إليّ عن قدرة غير محدودة على تدمير شخص غير منصاع، انعمها من الناعمة اذهب الى المخزن العام coop القريب من شقتي، آخر بعيد عنها، يسرق المحاسب مني متعمدا منذ سنوات قيمة دولار دولارين أكثر احيانا من قيمة الدفع كل مرة، وكل مرة امنحه طوعا الفرق المُعاد منه إليّ كي يخجل لا يكرر اللعبة، لا يرتدع ، آخر مرة أمس، يحاول اثارة خصام بأي طريقة ، لا استجيب. احدهم يخبرني: واضح يسرقك عن قصد!..
هكذا ترى، الجوائز أنواع، يديرها سادة خدم، يُستغل خواء مثقفين لترويج ثقافة مشوهة تسهّل سيطرة على قدرات أمتنا.
بالمناسبة، حتى كلمة (أمة) يمنع الرسل الناعمون مثقفين من استعمالها مؤخرا على اعتبار، انتهت الأمة، تم تفكيكها.
طبعا في هذا الكلام السيء عن قوة أو جوائز سيئة دعاية غير مباشرة على قدرتها في بلوغ أهدافها، دعاية تساعد على تحقيق تلك الأهداف، أنوه إليها كي لا يظهر متشاطر يصبغ الصورة بأن يدعي برهان يمررها،.
اصرار الكاتب على خدمة اهداف الأدب النبيلة يواجه مثبطات لا حدود لها، معها تتسع قدرة الكاتب الحقيقي، يتسع أدبه، على مواجهة رذائل، على تنفيذ واجبه الجمالي السامي، الذي يستدعي الاحترام التكريم من شعبه أولا.

21
عراقيو ستوكهولم يناقشون غراميات الخطيب*

ستوكهولم ـ العالم
   
ندوة العراقيين الأدبية المنعقدة في العاصمة السويدية ستوكهولم أواخر تشرين الثاني هذا العام لمناقشة رواية برهان الخطيب الأخيرة (غراميات بائع متجول) يتحدث فيها عدد من المثقفين هناك، عن مبعدة يشاركهم آخرون بإرسال كلماتهم، من بغداد السيدة مروج حسين، الباحثة الأكاديمية التي لها دراسة ماجستير بعنوان "الفضاء الروائي في أدب برهان الخطيب".. من حلب د. صالح الرزوق، الذي له عدة دراسات منشورة في الصحف ومواقع النت عن الفن الروائي وغيره، ومن الإمارات د. حسام زوين.. 
الشاعر محمد المنصور يفتتح الأمسية يقول في تقديم الروائي برهان الخطيب: كاتبنا غني عن التعريف، هو من جيل كتاب التنوير والتجديد في ستينات القرن الماضي، الذين التزموا كلمة (لا) لرفض الخنوع السياسي وانكسار الذات أمام العوائق، ليسمو الإنسان عندهم على كل الحسابات، يعلو الوطن لديهم فوق كل المسميات، ذلك الهاجس يلازم برهان الخطيب منذ كتابة مجموعته القصصية الأولى (خطوات إلى الأفق البعيد) على إيقاعات نكسة حزيران عام 1967 حتى (غراميات بائع متجول) الصادرة من مصر مؤخرا، أي الرواية مدار حديث اليوم وعنوان أمسيتنا الراهنة، إلى ما بينهما من أعمال قصصية وروائية في خمسة عشرة رواية ومجموعتين قصصيتين، إضافة الى عدد من الروايات والدراسات المترجمة عن اللغة الروسية تبلغ أكثر من اثني عشر كتاباً، مع حزمة من المقالات والكتابات النقدية في العديد من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية. تحت الطبع له رواية (الحكاية من الداخل) وكتاب (الرواية والروائي)، الخطيب مرشح إلى جوائز عالمية وعربية، في إحدى مقابلاته للصحافة يصرح: للمهجَر أو للمغتَرَب وجهان ظاهر وخفي، الأول مبهرج الثاني كالح، حياة المهجَر تكشف لي عن وجه شنيع أحياناً مع صعوبات وضغوط حاولت كسري.. أمامك التأقلم والذوبان أو الصمود أمام الصعوبات والضغوط ومجابهة احتمال التحطم .. خياري هو المجابهة وتجديد النفس بدلاً من تذويبها أو تحجرها.. هنا لابد من استخدام سلاح الثقافة درعاً واقياً أمام سهام الغربة وتياراتها، فالهرب من فجيعة الوطن لا ينبغي أن يجعلنا نسقط في فجيعة الغربة..
 الأستاذ سعد شاهين رئيس رابطة الأنصار العراقيين في السويد يتناول الخطاب من المنصوري يركز انتباهه على رواية الخطيب موضع النقاش والاحتفاء، يوجزها يصف بعض أحداثها، يحللها، يقول: انني هنا اتحدث عن الرواية كقارئ.. لقد استمتعت بقراءة الرواية كأدب راق، هي واحدة من الروايات التي تعرّف القارئ بعالم برهان الخطيب الادبي. الشخصية الرئيسية في الرواية هو أصلان العراقي المغترب الذي يقع في غرام هيلين بائعة الخبز الروسية خلال احدى رحلاته الى البلد الذي عاش و درس و عمل فيه اكثر من عقدين من الزمن. أصلان رجل خبرته الحياة، مغامر، عاطفي الى حدود بعيدة. بعد مغتربه الاول روسيا ينتقل للاقامة و العيش في السويد.. يعمل في دار نشر متنقلا بين السويد و روسيا مع تيسر ظروف النشر فيها بعد سقوط السوفيت. شخصية اصلان مركبة، ذلك مرده في اعتقادي الى كونه يتنقل يعيش يعمل في اكثر من بلد عدة عقود. مجتمعات، بيئات مختلفة، تترك أثرها على شخصيته، على قلقها الخلاق، لا تنال من مبادئه أو افكاره الطامحة الى التغيير. لا شك ان اختلاف البيئة و المجتمعات يجعل من هوية الانسان قلقة بعض الشيء، خاصة حين يمتد الزمن به طويلا.
 رحلة أصلان في الرواية هذه المرة الى روسيا وقت انهيار التجربة الاشتراكية و التحولات الدراماتيكية في المجتمع الروسي. انقلاب في المجتمع والحياة بكل معنى الكلمة من خلال التغييرات التي تطرأ على البلاد والمجتمع، على الدولة و الافراد من نواح اجتماعية، سياسية، اقتصادية، عهد انتقال الى مجتمع رأسمالي و بروز و نمو البرجوازية و ظهور الشخصية البرجوازية و طموحاتها الشخصية، ظهور العنف الشخصي وصعوده إلى السطح مؤديا إلى الفوضى التي ترافق التغييرات وظهور العصابات والمافيات وسطوتها.
 في أحد فصول الرواية يصور برهان الخطيب جانبا من تحولات المجتمع الروسي في أسوء حالاته بعد سقوط التجربة الاشتراكية، فقراء يجمعون القناني الفارغة، معوّق حرب يعزف على الة موسيقية ليكسب المال، نساء كُنّ بطلات العمل، قاهرات الفاشية، يتحولن الى متسولات!!! كل شئ تقريبا يتحول الى بيع شراء.. في ضياع.. لا عودة الى الوراء.. لا قدرة على التقدم الى الامام.. من غير فعل حاسم! وصف برهان الخطيب الحياة و تفاصيلها في روسيا يعكس تجربة و معرفة عميقة في المجتمع الروسي.
في هذا الخضم يقع أصلان في رحلته هذه من السويد الى روسيا في غرام بائعة الخبز هيلين، علاقة لا هي ثابتة لا هي عابرة، تدعمها عاطفة عميقة ملتهبة.. رغم ان هيلين متزوجة من رجل روسي مدمن خمر، كذاب، متحايل مع تقلبات الظرف. علاقة رغم مغامرتها تكشف عن توق الانسان إلى العاطفة و التواصل.. علاقة فيها الكثير من الرومانس و الجنس الملتهب والبحث عن مستقبل جديد.
تتصاعد احداث رواية غراميات بائع متجول كما قمم الجبال التي لا تنتهي فكلما تعتقد انك وصلت القمة تكتشف انك امام قمة او عقدة اخرى. لغة الرواية متدفقة، تفصيلية، تعين القارئ لا على متابعة الحدث فقط بل ومشاهدته كأنه امام فلم سينمائي.
من بغداد تذكر الباحثة مروج حسين في ورقتها الدراسية عن الرواية:
يُقدِّم الروائي المكان بواسطة الوصف غالباً، الوصف وسيلة اللُّغة في جعل المكان مُدرَكاً لدى القارئ، تجسيده مشهداً من العالم الخارجي في لوحة مصنوعة من كلمات، صورة بصرية تجعل إدراكه بواسطة اللُّغة أمراً ممكناً. الروائي يلجأ إلى الوصف يبذل قصارى جهده يثبت قدرته على أن يجعلنا نرى الأشياء أكثر وضوحاً، يستحضر الأحوال، الهيئات، الأشياء في مظهرها الحسي الموجودة عليه في العالم الخارجي. مستثمرا العناصر الفيزيائية للمكان يتوقف الروائي الخطيب عند صور طوبوغرافية تخبرنا عن مظهره الخارجي دقيقا مبرزا مجموعة من الصفات المختلفة المتنوعة لإبراز العلاقة بين المكان والشخصيَّة، أيضاً الكشف عن الفروق الاجتماعيَّة والنفسيَّة والإيديولوجيَّة لشخوص الروايَّة، وكذا رؤية هؤلاء للعالم وموقفهم منه، ذلك ما نراه في رواية (غراميات بائع متجول) خاصة حين يصور المؤلف مشهد هروب (أصلان) بطل روايته المذكورة مع خطيبته بسيارتها من موسكو إلى الباخرة الفلندية على طريق يصفه المؤلف وصفاً طوبوغرافياً حِرفياً، انحناءات الطريق مع التوغل إلى الشمال، أسماء الأنهـر والأماكن التي يمرون بها، طبيعة النباتات، تغيرات السماء... الإشارات الطوبوغرافيَّة في روايات الخطيب عديدة منها في روايته الأخيرة بين يدينا على سبيل المثال لا الحصر: 
" يرتفع شريط الطريق حينا وآخر فوق أحراش الغابات المجاورة والبعيدة قامة تقريبا، تظهر الاشجار المحاذية ملوثة من عادم السيارات، غبار، على الجانبين جذوع مطروحة، مكسورة، منزوعة أغصان، مستنقعات آسنة، بقايا أمطار ومياه جوفية .. بحيرة مترامية وراء الأشجار البعيدة.. هناك نهر بيازنوفكا الممتد كسولا .. "ص169
أيضا خذ هذا المقطع: الغـابات حولهمـا تكـلح، تنخفض أحـيانا عـن الطريق، تصير ذؤابـات الأشجـار العالية تحت النظر، شديدة الوحشة، عميقة إلى ما لا نهاية، تهيمن روح النبات على الأمكنة، تدكن محتقنة الخضرة، تميل إلى اسوداد وشك النطق عما يخفيه الصمت بطريقة ما، طرد أنفاس الحيوان والبشر هنا هناك إلى عدم!.. يتجاوز اصلان معها نهر فيليكايا، يمران قرب زاخالوتسكايا، يخلفان مشارف فير وراءهما، الأرض الغابات ترتفع تنخفض تراقص مستوى النظر من الطريق، تظهر حقول مسيجة على الجانبين، إشارات طريق، لا حضور للشرطة، لا عسكر.. منذ أمد بعيد.. يعترف أصلان بعد تردد، بعد تعب من سكوت طويل:  أحسنتِ في اصطحاب المسدس معكِ" ص172
 ذلك يترك أثراً عميقاً في نفس (أصلان) تطفو إلى سطح إدراكهما مخاوفهما الجديدة، طموحاتهما القديمة، حتى أنَّهما عند مرور السيارة على مقربة من موقع (كلين) موطن الموسيقار جايكوفسكي يتذكران أنَّهما زارا ذات المكان، تحديدا يوم الاحتفال بذكرى الموسيقار قبل سنوات عديدة، يتضح أنَّه اليوم الذي التقيا فيه هناك أول مرة، هي صبية كانت.. هو رجل.. يفترقان طبعا، إلّا إنَّهما بعد سنين يجتمعان لا يعلمان أين التقيا سابقاً حتى المرور قرب ذلك الموقع، عنده يستل المكان من ذاكرتيهما دافع لقائهما الجديد، يجمعهما، يجعلهما يواجهان المستقبل في قوة. أيضا تعين الرواية قارئها في مواجهة عالم جديد يتغير شديد التعقيد.
من الشارقة ـ الإمارات يعنون   د. حسام زوين كلمته عن الرواية:  برهان الخطيب الروائي الجوال الذي لم يحظ بالاسـتقـرار.. يقول:
 في غربة الوطن والشتات نال المثقفون العراقيون قسطهم الاعظم من التهميش والجور والظلم.. من حكم الحزب الواحد القاسي المجحف الخالي من الشفافية والتقييم الموضوعي.. كما خلال الشتات في الاتحاد السوفياتي (الحصن) حيث مجمل التغييرات التي جاءت مع اعادة  البناء ثم السقوط تترك اثارا سلبية على كافة الاصعدة الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية والثقافية.. غربة تمتد من و إلى الوطن حيث تستعر الاحلام رمادية او وردية في نزوع إلى تطور، عدل اجتماعي، تتخذ صور اشراقات سومرية بابلية؛ مأساة ما بعدها مأساة، سلطة حزب واحد، انهيار جبهة، اعتقال اخوة العقل، حروب هروب هجرة عقول حالمة سعادة الوطن  لها تداعيات ونتائج مؤلمة تترك جرحا خضبا يئن منه ذو العقل والضمير.
  برهان الخطيب  روائي جوال منذ بواكيره الأدبية وسط الستينات: خطوات إلى الافق البعيد، ضباب في الظهيرة، إلى السبعينات: شقة في شارع ابي نؤاس، الجسور الزجاجية، الشارع الجديد، نجوم الظهر، حب في موسكو، إلى الثمانينات والتسعينات: ليلة بغدادية، بابل الفيحاء، صيف في اسكندرية، الجنائن المغلقة، ليالي الأنس.. إلى آخرها لا أخيرها: غراميات بائع متجول.. بأجوائها، محتواها، بنائها، متعة منها ثرّة، صورها غنّاء، عبر نوافذ بهية ينقل مؤلفها القارئ  الى مصاف الروايات العالمية والعربية المشهورة التي تجذبنا ايام الشباب والجامعة مما يتاح لنا قراءته؛ ذهب مع الريح، عصفور من الشرق، الـدون الهادئ، لا تزال  طراوتها اخضرارها باقية رغم السنين. رواية برهان الخطيب غراميات بائع متجول، الناشر جمعية نوافذ للترجمة والتنمية والحوار، اصدار 2015 – الطبعة الاولى،  في اربعة فصول أو جولات يرسمها الخطيب على مدى صفحات تتجاوز الثلاثمائة... البناء الروائي مُحكم، على وحدات قياسية مطابقة للواقع والطباع والوقائع، مطابقة للاوصاف والمواقف، وحدات أو لُبنات منحوتة نحت نحات فنان، غنية تفاصيل، ايماءات، حسرات، تنهدات. تفاصيل الحياة الروسية يصوغها في جرأة ودقة، يجمع كل تلك الوحدات في تناغم يغطي اكثر المساحات والمواقع والمراكز الاساسية والجميلة العالقة في ذاكرة الزائر او السائح والدارس، تنشّط الذاكرة سنين، ذلك الحصن المنيع (الاتحاد السوفياتي) ينهض للبحث والفحص والاستقراء. يحق القول ان الرواية جميلة غناء مثيرة لكل الاعمار، جريئة، كأنها العطر الباريسي او العربي الشرقي، يغور في رئة المتابع من على بُعد يجعل المنتظر القارئ الولهان  يقتفي معها اثر حورية بحر، فتاة احلام، على أمل ملاقاتها ليالي.. أياما.. معها تترى أخيلة سكارليت.. مارلين مونرو.. صوفيا لورين... ليف يوهانسون.. كلارك غيبل... تزحزحك من نومك لو تسرح مع الحلم تجرك إلى الواقع... إلى طاق كسرى في الليل.. يهيب بك أن تسبح في عيون شقراء عسلية او زرقاء او سماوية ... حقا.. غراميات المتجول للخطيب اكثر جرأة من أحلامنا.
د. صالح الرزوق يكتب من حلب شهادته عن (غراميات بائع متجول) يذكر:
لبرهان الخطيب مشروع روائي ناجح بعض محطاته نقاط علام في مسيرة الأدب العربي. نقاط العلام تعني نقاط الاضاءة، كل كاتب لديه محطات مضيئة، اخرى عادية او اقل اضاءة، حتى حامل نوبل نجيب محفوظ لديه خط متعرج و اساليب و مستويات، عموما القراء أذواق متنوعة، انا مع هذه الرواية على انها مجددة، متميزة، نقاط العلام تعبير عسكري عن الأهداف غير المقصودة تشير أو تقرِّب إلى هدف مقصود، باعتبار انها تلفت نظر غالبية الناس، مثلا الهدف بيت لكن نقطة العلام شجرة باسقة جواره تدل عليه، يعني توجد محطات لافتة لانتباه معظم الاذواق. الرواية من فترة ما بعد البيروسترويكا و السقوط، تبدل الانظمة، بيننا الغرب كما هو، نظامه مستقر.
الذي يحسم اعجابي بالرواية اول ٥٠ صفحة منها حين تُرسم بدايات العلاقة بين الفتاة الروسية و اصلان، هي صفحات نثرية راقية مونولوجية ممتلئة كالديناميت، رواية (غراميات بائع متجول) تصطدم بجدار المغامرة الروائية في عدة أمور. بعضها له علاقة بمفهومنا المتسامح عن الرواية.. هل هي تسلية ترفيه أم أنها أداة تربية وثقافة. قد تجد الإجابة عن ذلك عند المعلم غراهام غرين الذي يقسم أعماله لا سيما الروايات نوعين: أدب ترفيه منها (رجلنا في هافانا) و(الرجل الثالث). و أدب تحرري يهتم بقضايا إنسانية وفلسفية عامة مثل (قضية منتهية) و(نهاية غرام) وسواها.
(غراميات بائع متجول) تفتح ملف تلك المناظرة الفنية، تدعونا لتقليب النظر في ماضي الرواية العربية وحاضرها. لا ننجرف كثيرا مع العموميات والتهويمات النظرية أقارنها مع (أجملهن) للدكتور المرحوم عبد السلام العجيلي الذي لا نعرف عنه أي تجربة في أدب الترفيه، وإن يقترب في بعض الحالات إلى فن المقامة العربية والقصص الساخرة التي تشبه من قريب أو بعيد نوادر جحا، البخلاء، ما شاكل ذلك. الحق يقال يوجد في (غراميات بائع متجول) سخرية، نكتة السوداء، ولا تجد ولو النزر اليسير منها في (أجملهن). هناك علاقة لا شعورية غير مقصودة بين العملين. يبني برهان الخطيب فكرة روايته على حكاية أصلان العراقي و رحلاته المكوكية بين موسكو للدراسة ثم لبيع الكتب و بين ستوكهولم للإقامة و التجارة. يربط القلق المعرفي بحكاية غرام مع الروسية هيلينا و هي بائعة خبز رقيقة متزوجة من أفاق سكير تسحقه الظروف الجديدة. موازاة الخطيب يتابع العجيلي رحلة استجمام سعيد في النمسا و اللوكسومبورغ، حبه لسوزان النمساوية. تشابه الأفكار يدعمه لاحقا تشابه في البنية أو في الفكرة الفنية لفلسفة العمل كله. كلاهما يراهن على فلسفة وتكتيك صراع الشرق والغرب. حرب الحضارات عند الخطيب بين ثلاثة أطراف: بغداد (أمة العرب الجريحة المتخلفة) موسكو (التي تشهد قيامة سياسية رمزها البيروسترويكا واقتصاد السوق) و ستوكهولم (الوادعة التي تمثل الطرف القوي في الحرب الباردة) لكن العجيلي أقرب إلى الفكرة المعروفة عن التفسير الجنوسي لصدام الشرق الغرب. تتناسى الجانب التنويري في تلك الرحلات يمكنك التوقف عند الترميز الجنوسي للمثاقفة. فالحبكة واضحة ضمن حدود الضرورة، عن شرق مذكر، غرب مؤنث. الشرق يحمل بضاعة الليبيدو أو شحنة الغرائز، الغرب يمارس تسلطه بسيف الأنوثة وإغراءات إستاطيقا الجسد. لا تجد مجالا لمحبة أو لنداء الروح. إنها حرب ضروس في المخادع، ينتقم ابن المشرق لكرامته المهانة الجريحة بركوب النساء.. التعبير الأخير لجورج طرابيشي، تعبير مبالغ به لكنه لا يشكل أي ضرر على أصل الأطروحة. ابن المشرق غريق، ضائع، يتراوح في نظرته إلى الغرب من التبعية المطلقة إلى الرفض الجازم، يستند في موقفه على تاريخه العقلي ومصالح الطبقة التي ينتمي لها.  وباعتبار أن الرواية الحديثة متعددة الأصوات تتوفر فيها أيضا عدة أشكال من التبعية للغرب، التباهي بجوهر الشرق الروحي والنفسي على قول محمد كامل الخطيب في (المغامرة المعقدة) أي ما يؤكد عليه الصيني يان ليانكي في روايته التهكمية (في خدمة الشعب) فركوب عسكري لزوجة آمره عبارة عن تجسيد لمشاعر الانتقام من الضباط الذين يغلون يديه بالقيود و النواهي.
 هناك شبه اتفاق أن أخلاق المقاومة تبدو غامضة، في عصر التوسع والشركات متعددة الجنسيات مجرد بحث عن الذات في حفرة من العدم النفسي حسب لغة وين جين أويان. تلك كل المسألة. كان لزاما على الرجل المتباهي بفحولته الحرص على مكامن الرجولة والذكورة، النظر للمرأة كفرس طيع، لنفسه كفارس لا يشق له غبار. تلك واحدة من الطرق السلبية في الدفاع عن الذات من الانتقاص. لعل ذلك التكنيك من أهم خطوط التوازي في بنية أبطال (أجملهن) و(غراميات بائع متجول).
فالبطل سائح أو تاجر. البطلة معشوقة يمكن اختصار مؤهلاتها بجسدها، كأنها رمز مدينة الميتروبول. لديها الجمال الطاغي. لديها القدرة على اتخاذ القرار في لعبة الصد والجفاء أو القبول والاستسلام. أصلان في نهاية الرواية يجد نفسه وحيدا بلا هيلينا التي تختار ابنها، بلدها، متروكا لمصيره. قل نفس الشيء عن بطل العجيلي، في النهاية يفترق عن سوزان، تتراجع عن الخطيئة الأصلية تغتسل من أدرانها بالتبرع لخدمة الرب.
 منطق النهايات ينير عقل الكاتب. الموقف الوطني المشرف لهيلينا يعارضه الموقف الروحي الميتافيزيقي لسوزان. غير أن كلتا المرأتين لهما مقاربة إيجابية من الإنسان، إما بأسلوب واقعي أو بأسلوب إيماني. تقطع الروايتان شوطا أبعد في التناظر، في محاورة الواقع. تنتقلان من الفكرة إلى الشكل. توظفان تكنيك حكاية داخل حكاية. الخطيب يفتح نافذة على عالم الذكريات القريبة يقف على أطلال بغداد التي ينهبها صراع دموي. يفرض عليها منعطفا دراميا. يقودها من شمولية العسكر إلى ديمقراطية تخلف وفوضى. العجيلي يدمج قصته السياحية الترفيهية مع ذكرياته عن حب قديم للراهبة ندى، تموت بدورها في ظرف مأساوي وهي تعبر الحدود بين دمشق وبيروت. العجيلي يساوي بين منطق البدايات وفلسفة النهايات، يحوّل مصير الإنسان إلى قدر غاشم مقرر سلفا. كلنا نسير بعيون مفتوحة وعقول مطبقة إلى نفس الحفرة. يبرر ذلك  بضرورة الوصول إلى المعرفة بغير العقل محدود الاستطاعة. ص 113.
ذلك يضع العملين بشكل رأس أمام رأس. النظرة السياسية الاجتماعية الصريحة عند برهان الخطيب. والتفسير الحضاري من فوق الواقع الملموس عند العجيلي المعروف بإسقاطاته الخرافية على شرط الوجود. إن التشرد أو التجول في (غراميات بائع متجول) يتناول الإنسان قبل الأرض، يعادل بين الفكرة العملية والقلب الرومانسي. ربما يقف ذلك خلف أسلوبه المونولوجي الذي يصور أصلان بشكل الإنسان مع قرين بمهارات شكسبيرية عالية. فكائن الظل عند شكسبير يماثله التجريد النفسي عند الخطيب. تلك هي نقطة القوة في الرواية كلها.
في حين أن النظرة السياحية عند العجيلي تضع ستارا شفافا بين الشخصية والأحداث. تبدو لك عواصم الشمال كأنها صور أو أفكار. لا يمكن أن تشعر بلهيب الواقع، اتقاد العاطفة، يغلف كل شيء جو من البرود الذي تخلو منه أعمال العجيلي الأخرى . في (أجملهن) نحن أمام مجسمات لشخوص وليس شخصيات تنبض بالحياة. كل شيء يبدو جاهزا مسبق الصنع. أو مجرد رمز لعنصر غائب عن الوجود. لقد ضاعت عاطفة العجيلي في هذه الرواية بين الأخلاق الشرقية والإطار الغربي.  بعكس الترابط العضوي في رواية الخطيب.
مع أنها توليفة من الرومانس والمفاجآت والغرام والخطيئة فقد هضمت خلفياتها. بمعنى أنها وظفت عناصر من رواية التشويق كما يكتبها جون لي كاري مع عناصر من رواية السلوك والأخلاق كما عودنا عليها غراهام غرين بالإضافة لعناصر من الرواية السياسية ذات المضمون التاريخي التي طور الخطيب فيها رؤيته منذ (شقة في شارع أبي نواس) حتى (على تخوم الألفين).
بهذه الطريقة أصبح بمقدورنا أن نقترب من روايته هذه من عدة محاور. سواء اتفقنا معها أو كانت لدينا ملاحظات عليها فهي تجربة تستحق الاهتمام والتنويه. إنها ورقة أخرى تضيف لكاتبها رصيدا ملحوظا. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




22
لقاء مع الرئيس..
فصل من رواية برهان الخطيب (الجنائن المغلقة)

تصدر رواية (الجنائن المغلقة) لبرهان الخطيب في ستوكهولم عام 2000 عن دار بوديوم شبه الرسمية تثير ضجة كبيرة في الصحف العربية الصادرة في أوربا، يعتبرها بعض النقاد (فاتحة عصر نهاية عالم القطب الواحد) آخر يتناول جانبها الشخصي يراها (تكوين هندسي من دوامات الشجن) ثالث يتناول منحاها الروحي يجدها (تفتح بواباتها نحو سماء بلا حدود) الكاتب الكبير عبد الرحمن الربيعي، صديق العمر مع الخطيب، يكتب عنها بداية الألفية الثانية في مجلة الحياة الثقافية التونسية: يعتبر الروائي العراقي الستيني برهان الخطيب أكثر زملائه سواء من ابناء جيله أو الجيل السابق له تركيزا على الرواية كتابة وترجمة حيث نشر لحد الآن تسع روايات أغلبها روايات كبيرة الحجم ليس هناك مقابل لها في المدونة السردية العراقية..  ونجد برهان الخطيب قد أفاد في هذه الرواية من المناخ الأوربي لإثراء مناخ روايته وقد فعل الشيء نفسه في روايات أخرى غيرها مع احتفاظه بالمحور الأساس وهو العراق أو الوطن العربي بشكل عام..  برهان الخطيب ليس وحده من يُغمط حقه.. لم تصل أعماله إلى كل البلدان العربية لتدرس في المدونة السردية العربية كاملة..  إلى غير ذلك.. تحصل الرواية على أعلى نسبة استعارة من مكتبات السويد العامة حتى اليوم، تعود وزارة الثقافة العراقية عام 2006 تعيد نشر الرواية في جزئين تحقق مبيعات نسخها كاملة خلاف السائد من تكدس منشورات الدار عادة في المخزن لا تصلها اليد حسب اعتراف مسئول المخزن ما يدفعه إلى تقديم اقتراح إعادة طبعها إلى الدار والمؤلف، الكاتب الكبير برهان الخطيب ينتهي أخيرا من تحديث وإعداد سباعيته للنشر مغيرا عنوان إحدى الروايات وهي سقوط سبرطة يصير تسلسلها الآتي: 1 بابل الفيحاء - عن العهد الملكي، 2  الجسور الزجاجية - عن جمهورية قاسم،  3 ليلة بغدادية - عن جمهورية البعث، 4 حب في الغربة - عن الهجرة العراقية منذ أوائل السبعينات، 5 الجنائن المغلقة – عن منعطف التغيير العالمي الكبير نهاية التسعينات، 6 على تخوم الألفين – عن عهد ما بعد صدام، 7 الحكاية من الداخل – عن يومنا الراهن والغد. هذا المشروع الأدبي الضخم  يبدأه الخطيب  عملا متواصلا رغم المعوقات منذ نهاية الستينات إلى اليوم، حوالي نصف قرن أو جل عمر المؤلف ينقضي عليه. النتائج مبهرة. العالم تنشر هذا الفصل من روايته (الجنائن المغلقة) يتعرّف القارئ العراقي عليها، إذ أن اغلب مؤلفات الخطيب يتم نشره خارج العراق، اليوم ننتظر إصدار الطبعة العراقية الأم لها. 

 بغداد – العالم.




  الرئيس يسأل الأخوين صلاح، عبد الصمد، عديلهما عدنان، عند جمع أقطاب معارضة عراقية في قصره يتشاور معها عن وضع بلدها على حدوده الشرقية:
 - ما قضية الأخوة الأعداء أمامي.. نجدها كل مكان زمان.. أتصورها ظاهرة عندي فقط. سلفيون يقولون عن وزيرة الثقافة تبعتنا هي شيوعية.. غيرهم يقولون عن أخيها زعيم سلفيين.. شو مين يكتب ها المسرحية.. شكسبير!
 يبتسم الرئيس مرحا مسترخيا كالمعتاد عنه مع ضيوفه، التلفزيون يعرض فيلم مقابلاته مساء، يواصل مزاحه معهم باسطا كفيه:
 - كأنكم في الأحداث شخصيات شكسبير في مسرحياته. نزاع عائلة نزاع أمة. هاملت، أمه، عمه، على عرش الدنمارك. عطيل، زوجته، كاسيو، رودريغو على قبرص..
 يسكت الرئيس محاولا تذكر المزيد. يجرؤ صلاح يضيف:
 - مكبث مكدف في اسكتلندة.
 يشير الرئيس إليه في ثناء يكمل بشر الوجه:
 - رحم الله والديك. إنما قل لي صحيح ما يقوله عراقيون عن شكسبير أنه في الأصل عراقي اسمه.. شيخ زبير؟!
 يضحك صلاح قليلا أيضا يرد في احترام فائق:
 - ليتنا سيادة الرئيس نتفق على يومنا عسى نعرف تماما ما في أمسنا.
 يلتفت الرئيس إلى الرجل المعمم صارم الوجه يمينه:
 - ما تقول أنت يا عبد الصمد؟
 - في هاملت عندهم جانب من مقتل الحسين على أرضنا.. فيه مختصر تاريخ البشر.. الحق يغتصبه أغنياء يضيعه جهل فقراء.
  يلتفت الرئيس إلى عدنان يقول عدنان:
 - لو شكسبير أو شيخ الزبير لا عربي الأصل أو الجنسية هو حتما عربي التبعية مع الروح وإلاّ لا يرى هاملت غيمة السماء بعيرا وقت لا بعران في الدنمارك، ولا يربط الجَمال مع الفضيلة في أعماله متلازمين على سنة العرب بعد الإسلام. بل عصر البعث، النهضة يقولون، كله عربي، أنظر سيادتك إلى ملابسهم موسيقاهم آنذاك..
 يضع الرئيس يده على ذقنه:
 - نقرأ مسرحياته نرى صراع قيم أفراد أمم ذلك الوقت، ينقلون لي ما دار يدور بينكم أرى بينكم لا صراع مصالح أو اقتصادات أمم.. بل صراع قيم.
  نظرته تدور على وجوه الجالسين:
 -  فهل لا تزال منطقتنا العربية تعيش عصر ما قبل شكسبير.. العالم ينتقل من صراع المُثل أو القيم، بعد التفاهم لكلٍ قيمه، إلى صراع مَن يستحوذ أو يدير مَن؟ أدري صلاح يرى كل صراع على مصالح، عبد الصمد يراه على قيم، عدنان على مناطق نفوذ، لكنه عندكم ينحرف عن معنويات إلى مكاسب مادية آنية، صحيح المادي يسهّل الوصول إلى المعنوي، لكن عدم اتفاقكم يبعد الكل عن هدفه.. النتيجة يفقده.. المطلوب لا تخاطب طرشان.
 
في دهاء يتحول  المزاح إلى جد، الرئيس لما يزل مبتسما، وجوه الحاضرين مدركة جوهر خطابه، عليهم الجلوس إلى طاولة مفاوضات بدل مهاترات إعلامية بينهم، على مناشير، صحف صغيرة، صب نشاطهم في جبهة مستوعبة خلافاتهم قادرة على استبدال حكم أهوج، له جيوب حولهم، إلى آخر كلام جميل يغير كل شئ ربما إلاّ أساس الاختلاف.. الموقع الشخصي لكلٍ منهم.. موقع النفط العام.. مَن يضع يده عليه كيف تقاسمه؟ لكن الكلام مخجل في موضوع مادي، يُؤجَّل.

  خاتمة اللقاء يهمس موظف التشريفات في أذن عدنان، يبقى إلى جانب الرئيس بعد مغادرة المجموعة. وحدهما في الصالة الكبيرة ذات الأثاث البسيط المريح الجميل، يميل الرئيس في مقعده إلى عدنان يواصل مزج مزاح مع الجد:
 - تدري.. أجهزة إسرائيل منصوبة على مرتفعاتنا الجولان على بعد كيلومترات، ربما يسمعوا بعض ما في دمشق لا كلامنا.. كن صريحا، عندك مرشح يخلف صدام في العراق؟ كيف.. ما المساعدة المطلوبة منا؟..
 
 انعطاف آخر في حياة عدنان، ولاء مبدئي يكنه إلى الرئيس السوري مبعثه انتماؤهما إلى حزب الوحدة الحرية الاشتراكية، وطن العرب، رغم خلافات بسيطة بين فرعي الحزب من تغليب عاطفة على عقل، ولاء يتعرض إلى شرخ من تدخل آخر في شؤون وطنية محلية، من ثلب كتمان ضمان نجاح مسعاه.
 
يود عدنان أن لا يكشف ما عنده إلى رئيس جار، لكنه لا في موقع قوة. هو ضيف بلده الزاخر أعداء له من أبناء الجلدة، لا خط رجعة، لا حليف أمامه، لا باب طوارئ قربه، طالب السر رئيس البلد المضيف لا موظف مكتب عنده، يقرر اطلاعه لكن لا على السر الأساس، يذكر أسماء عسكريين صغار راغبين التحرك ضد صدام، يخفي اسم قائدهم مكتفيا وصفه من القدامى غير الحزبيين.
 الرئيس متجهما محذرا يذكّره:
 - عندك ثقة هو لا فخ إلى آخرين يصنعه صدام؟
 - متأكد.
 - كيف؟
 - تصلني أخباره سنوات اختبار كافية.
 - لماذا الاعتقاد لا تصل غيرك؟
 - تصل عن طريق خاص جدا.
 - طريق زوجته؟
 - قريب له.
 - لماذا تصل إليك لا إلى غيرك؟
 - الشاب يعمل لي حصرا.
 - أنت متأكد من إخلاص الشاب لك؟
 - تماما.
 - تجربه تعرفه.. لكن قد يغير ولاءه..
 - لا يجرؤ، أسراره في يدي لو أفضحه آذيه أكثر من تصفيته.
 - ما هي خطتك.. أو الخطة الأساس؟
 - أفضّل إبقاءها سرا حاليا سيادة الرئيس.
 - لا تريد اشغالي مع تفاصيل.. عدم الثقة بي لا يخطر لك في بال؟
 - لا أريد تكرار خطأ قديم.. تركيز المسؤوليات في يد واحدة.
   يستنتج الرئيس:
 - معك حق. ما درجة قرابة الرجل الأول إليكم؟
 - في مدينتنا يقال النساء عِرق حشيش.. يمتد إلى أي مكان.
 - زواجه بعد موافقة مخابراتكم العسكرية؟
 - يطرح استقالة من الجيش إذا لا يحصل على الموافقة. يحبها لا شائبة لها.
 - انتماؤه السياسي عندي له أفضلية على انتمائه العائلي العشائري.. أخشى لا يعطي أفضلية لحزبنا بعد نجاح التغيير.
 - الأفضلية الأولى حاليا إنقاذ بلدنا من كارثة الحرب، الانغلاق..
 - استباق التآمر الخارجي تنساه؟
 - أكاد أذكره سيادة الرئيس.
 - ماذا يؤخرك عن ذِكره؟
 - قلّة أهمية العامل الخارجي.
 - أتصور فيك فطنة حسبانه.. قبل سبحانه.
 - أسمع عن مزاحكم الكثير أتصوره غنيا يغيّر المقابل.. أصيب!
 - يأتي التغيير من خارج حزبنا يظن الناس حزبنا سبب الحرب الكارثة.
 - عمليا حزبنا غير موجود هناك. السلطة في يد فرد. إذاً يسهل التغلب عليه.
 - أسمع منك بعض ما يقوله عدونا!
 - مع الأسف يقول العدو أحيانا الحقيقة سيادة الرئيس.
 يتطلع الرئيس إليه طويلا حتى يفصح أو ينصح:
 - لا حركة تغيير ناجحة يؤديها فرد أو اثنان. المبادرة تبقى في يد حزبنا لا تفلت الأمور. أمتنا لا تزال تحتاجنا لا نزال قادرين خدمتها رغم سوء حظ أو تدبير. سؤال آخر عندي لك.. صلاح اتهمك دس سم له في قهوة.
 - واردة حالات تسميم معارضين قليلة. صلاح لا منهم و إلاّ الثاليوم أو غيره من أسلحة بغداد الخفية لا يمهل أكثر من شهر.
 - السؤال الأخير.. بيع مرتفعات الجولان مقابل بقائي في السلطة كيف تراه؟
 - الإشاعة جزء من حرب العدو النفسية ضدنا.. لا أخوّن أي رئيس عربي.. أو لا تراني أمامك.
 - لا تخوِّن..  فلماذا تهرب من رئيسك صدام؟
 - هو يخونني ينوي تصفيتي.
 - مخلص إلى عروبتك أنت.. حتى الروس يعلمون.. مع مَن يخوِّنك!
 - يصدق إشاعات أتكلم عنها.. لا يصدقني!
 -  ربما معه حق.. لا نار من غير دخان.
- زيارة أجنبي أو غيره في بيته.. تقرير مغرض.. لا يؤكدان خيانة.
- الحدية.. قطع شعرة معاوية.. لا تخدم السياسي متى يتعلّم؟
- يتعلم بطيئا.. الدروس تتراكم.. الفجوة تكبر.

ينتهي لقاء الرئيس معه باردا، من جهة الرئيس، في النهاية من جهة عدنان.




23
لعنة بابل.. احتكار القوة!*

برهان الخطيب

 

 كارثة أو محنة منطقتنا الأوسطية وأبعد مستمرة أكثر من نصف قرن، تصل منعطفا يتبعه نصف قرن آخر إذا لا يعمل غيارى الأوطان على تداركها. كيف؟ كشف حقيقة الكارثة بداية الحل، تلك الحقيقة غير خفية، يكتب عنها أشراف، معروفة، لكن تُطمر تحت ركام لغو يبثه إعلام موجه من إلى كل الآفاق فوق أو خلال مختلف الأنفاق، تطل الحقيقة لا تقوى على الوقوف أو الانتشار، بلدوزر الإعلام  مدفوع الثمن من الخارج  يجرفها إلى هامش، هاوية، يعيد طمسها، تنهال عليها خناجر من متحمسين إلى أفكار ضيقة، من عملاء، من تجار فوضى، من أغبياء يُقدَّمون عباقرة، عودة إلى احتراب مزمن يتفاقم مع نزول قوات أجنبية في منطقتنا. أكرر: الكلام في التفاصيل يضيّع صورة أو حقيقة القضية الكبيرة، مفتاح الحل، تصير سلامة منطقة الشرق الأوسط كله، لا سلامة العراق وحده، لا سوريا فقط، لا لبنان، فلسطين، تركيا، إيران، لا مصر، السعودية، اليمن.. المنطقة كلها تحترق تدرون، الأهالي يدفعون الثمن من دمائهم، ذلك مفرح لمن يريد المنطقة في جيبه، له شأنه، للمنطقة شأنها يفتته أهل الانفعال وعشاق المال.

آلية كبيرة تشمل تسويق السلاح، الإعلام، الأحزاب، السلطة، المعارضة، الأفراد،  تحرك التفاصيل نحو ديمومة الاحتراب، النتيجة تصفية القوى الوطنية بعضها بعضا في مختلف ألوانها، دينية، قومية، لا دينية، لا قومية، تنصيب دمى جديدة، استمرار فصل جديد من الكارثة، احتراب يفرغ المنطقة كلها من قواها الذاتية، يحولها إلى تابع أبدي للخارج. الكل يعرف تلكم الحقيقة، العراك مستمر، لماذا؟ آلية العراك، أساسها فهرسة القوى الذاتية للمنطقة خطأ، عن عمد من جهة، عن غفلة من جهة أخرى، يستمر العراك لأننا نصنف أنفسنا، الأصح نتركهم يصنفوننا، في خانات خلقت لتستمر الكارثة.

يجب التوقف، البدء من الوضوح، من التعقل في بناء الدولة، من فكرة ملهمة تجمع المواطنين حولها، من صعود جلجامش إلى أعالي الفرات وعودته إلى أهله جنوب العراق، عابرا مساحة العراق العريق، حاملا سر السعادة: العائلة هي البداية. برزاني وغيره أظهروا أنفسهم وطنيين حتى عطّت يريدون تقسيم العراق حلا، لا يدري لا يدرون لو يقسّم المقسّم أصلا يجد الكل نفسه عبدا لسيد جديد قديم، فأية كرامة تتحقق لسادة فقّادة، للأهل أو القادة! الاتراك بعد التي والذي يدركون اليوم لا جدوى التحول إلى أفعى ذات رأسين، واحد إلى الاتحاد الأوربي، الثاني إلى الشرق، يكتشفون ضرورة التلاحم في المنطقة يقيمون منطقة تعاون  اقتصادي مع ايران، تلك لبنة أولى، حجر زاوية، نحو بداية استقرار المنطقة. يأتي سياسي يخرف يصرح إيران تدافع عن العراق لأجل عيونها لا عيون العراقيين لا ينتبه إلى ان العراق يدافع أيضا عن إيران لا من أجل عيونها بل من أجل عيون العراقيين. لماذا؟ الكل يعلم اليوم هناك مشروعان في العالم يتطاحنان في منطقتنا، أبعد، أهل منطقتنا يدفعون الثمن قلت، غالبا عن غفلة، عن إرغام، غيرهم يكسبون مؤقتا عن عمالة.. يستفيدون، يسمحون تمدد رقعة التطاحن إلينا. داعش لا تدري هي تخدم أهداف أعدائها، لو تتضح الصورة يُلقى السلاح، بل لا يصل إليها. هنا يلعب تشويش الصورة على تحقيق ذلك الهدف غير المعلن. كما تلغم الأشياء تلغم الأخبار تفجر في وعي المتلقي تتركه لا يعرف طريقه يسلّم للموجود.. طالب الهيمنة يملأ الفراغ. 

 

المشروع الأول مشروع (الدولة الأممية) وراءه بعض أوربا، بعض أمريكا، بعض بلدان أخرى، يعتمد في تحقيقه على (ثقافة القوة) متجسدة في حلف يتوسع تدريجيا، أقول بعض لأن قوى هناك لها وزن لا تريد المشروع الأممي، تحبذ الخصوصية، الحرية الحقيقية لا المقنّعة، القيم الخاصة، باختصار تريد مشروع (الدول الوطنية) المعتمد على (قوة الثقافة) في تحقيقه، الذي تتبعه روسيا، سوريا، مصر، العراق، إيران، الإمارات، فنزويلا، الهند، غيرها.. انكلترا تريد الخروج من فلكها الحالي، خرجت أمس، يصل الأمر إلى نحر سكاكين عندهم أيضا، رسالة واضحة مفادها سكاكين يستعملها معسكر "ثقافة القوة" يستطيع معسكر "قوة الثقافة" أيضا استعمالها، لأن الأمر يصل إلى نحر الثقافة أيضا بكل الوسائل، نرى ذلك واضحا في عالمنا العربي، إحلال ثقافة رأسمال متوحش، تجر إليها حتى رجال دين مسيحيين، مسلمين، نحر أو جر حتى الموروث الثقافي الإنساني تحويله إلى صراع طائفي، وإلاّ لماذا مقترح تبديل اسم محافظة بابل أم الدنيا بآخر يواصل فتنة، بابل التي شهدت نشوء أول شركة متعددة الجنسيات، أول القوانين، أول عدالة، أول كتابة، أول فن هندسة، أول الآداب، أول رصد فضاء.. بابل حضارتها التي تقدس الحياة، انظر إلى جنائنها المعلقة، يستنسخها حتى قيصر روسي يوما، خلاف حضارة وادي النيل التي تقدس الموت، تقيم الاهرامات معبدا أبديا، رغم ذلك تعاون بل تكامل الحضارتين جعلهما منارا للإنسانية..

 تبيّن الصورة واضحة يساعد العالم على عدم تفاقم أحواله إلى انفجار دولي كبير محتمل يقضي على الأرض كلها. السلام يتحقق في قبول ثنائية عالمنا، تعدده، تصفية التسابق النووي، ملاحقه قوة ناعمة غير ناعمة. حتى الكرة الأرضية لها قطب شمالي آخر جنوبي، الاستمرار على محاولة فرض أحادية القطب الواحد جنون يؤدي إلى ذروة الكارثة، اعتماد الاغتيالات لسحب فتيل انفجار، مواصلة الدفع من جانب واحد، قد يعجّل الانفجار. يا عسكر الأجانب اخرجوا من منطقة الشرق الأوسط جميعا، خطوة الحل الثانية. هكذا الوضع الدولي، الخارجي في رأي حريص على بلده، على السلم العالمي.

الوضع الداخلي عراقيا آخر، على المعارضين عموما، البعثيين خاصة، مراجعة موقفهم، تغييره لو يمكنهم، نبذ عملاء أو واهمين داخلهم، داخل كل الأحزاب الأخرى، صدام فعل الكثير في هذا الشأن، فشل لتفرده، لتركيز السلطة في شخصه، لخروجه عن الوطنية حين ضرب إيران والكويت رغم نواياه الوطنية. البلد يحتاج عقلا حصيفا مستقلا، قوة مستقلة تحميه، تجربة الحشد الشعبي محترمة، لم يتحرك الحشد عن دافع غير وطني، أو ينتهي البلد في أيدي الأجنبي تماما. أحزاب منها البعث لا تستطيع أن تلعب دورا وطنيا اليوم حين ترتهن إرادتها مع الإرادة الخارجية، رغم فعاليتها، حسمها، في وهم الحصول على دعم منها في صراع مع الخصوم في السلطة أو خارجها. مراجعة الموقف تتم بناء على استراتيجيا جديدة للحزب، تقام على استراتيجيا البلد العامة، استراتيجيا البلد حاليا موزعة حسب انتماءات الساسة، إلى غرب، أحادية القطب، أو شرق، ثنائية القطبين. تحديد أو تثبيت استراتيجيا الوطن لا على أهواء فعل أحزابنا سابقا، لا على عمالة، ظاهرة أو خفية أو مغفلة، بل على تشخيص هوية البلد، هوية لا رجعية جامدة، لا مغتربة فالتة، نحتاج هوية متحركة متطورة للبلد، تجمع الكل، تحقق السلم الأهلي، عليها تقام استراتيجيا البلد، نصادق الدول التي لها ذات المنهج، الاستراتيجيا، نحيد عن غيرها، يعني نقف مع استراتيجيا ثنائية القطب، تعدد الأقطاب، تقيم على ذلك الأحزاب برامجها أو هي خائنة، واهمة، قاصرة، ينبغي مساعدتها على بلوغ سن الرشد السياسي، أي الاعتراف بوجود الآخر، مرة أخرى.. الاعتراف بالثنائية القطبية، تعددية مكونات العالم، ضمن عالم يحكمه الاحترام المتبادل، عدم التدخل في شؤون الأفراد والدول.

تداخل العوامل المؤثرة في مشكلة يعيق حلها، يجب تفكيك تلك العوامل، توضيح صورة المشكلة أولا قلنا.

التغلب على بلد من الخارج يقتضي قيام حكم عملاء فيه، جنرال ثلج يطرد نابليون لا يطرد عملاءه، جنرال حر أيضا يطرد الأجانب لا عملاءه، يعني أول الاهتمام يجب صبه: يا عملاء العالم اتحدوا يكفي.. رجاء ابتعدوا.. نحن الوطنيين نخرج من أحزابنا الشائخة نتحد في حزب شاب جديد نلعب معكم أيضا طوبة، نكتشف نصفهم أو أكثر مدسوسين، مخربين، تبقى العلانية هي الحل. حرب أو حروب فرد، متوحدا في الميدان، ضد جماعة نهايتها هزيمته؟ تشخيص رواية "بابل الفيحاء" قبل أربعة عقود دقيق: "زمن المحنة تمحى مواقع الوسط. يبقى أمام ذوي العقل اختيار يكونوا أبطالا قديسين.. أو جبناء أنذالا".  ص 315 أو.. القهقرى، عودة الفرد إلى طائفته، عشيرته، من خلالها يدافع عن ذاته، عن الوطن، هكذا حتى يلتقي يسارها مع يمينها، التقاء يسار روسيا بوتين مع يمين  الغرب، مع انكلترة جديدة، مع ترامب، يكتمل سور دائري يذود عن الجميع، يؤثر في العامل الخارجي يوصل الوضع الدولي إلى توازن استقرار، ينعكس على الوضع المحلي يستقر معه.

كلا العاملين، الداخلي، الخارجي، له دور في تطور الأحداث محليا، عالميا. لكن الأكثر فعالية هو الأكثر انتباها، تحركا، ثروات.

نتيجة استفتاء الشعب البريطاني الجبار على مغادرة الاتحاد الأوربي تبيّن نحن في بداية التاريخ لا نهايته كما يدعي ضيق نظر. اليوم بانتصار مؤيدي مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوربي يتخلّق مؤثر على كل العالم لاحقا، تنتصر "قوة الثقافة" على "ثقافة القوة" تعود بريطانيا عظمى إلى عالم جديد ساهمت في خلق مدنيته ثقافته، اليوم تواصل المشوار، مستثمرة حسنا درس تجربتها، درس استقلالها عن الاتحاد، عن الغرب الضاري،  مؤكدة لا فائدة من احتكار القوة. بتوازن القوى، نووية ضمنا، حققت أوربا أجمل فترات السلام بعد الحرب الثانية، تلك نظرية المرأة الحديدية تاتشر، اسمعها منها في مؤتمر صحافي في موسكو منتصف الثمانينات ذكرتُ مرة، بعدها يشيع دعاة الحرب المرأة خرفت، أبدا.. امرأة حديدية مرة.. حديدية أبد الدهر! مع الاعتذار للمرحوم همنغواي على تحوير أو تطوير نظريته الصحيحة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عن صحيفة العالم. 28 حزيران 2016

 

 

 

 

 

 



24
كواليس عالمنا كوابيس: نعيش فنطازيا روائية!

برهان الخطيب
للصورة أكثر من صورة، للمشهد، حسب زاوية النظر. كذلك المشهد السياسي، من زاوية روسيا لا تراه كما تراه من تركيا، بل ومن أي منهما له أكثر من صورة، في كل بلد اليوم أكثر من مركز قوة، أكثر من صورة مرغوبة لأوطان مرعوبة. روسيا تدافع عن وجودها المادي والمعنوي الممتد بعيدا، كذلك تركيا، عند نقاط التماس الاصطدام محتمل، العقل الوطني في أي منهما يرفض أي اصطدام، فيه خسارة الطرفين، العقل الأجنبي يحبذه فيه قوة له. من زاوية مصلحة الطرفين أنظر إلى إسقاط الطائرة الحربية الروسية والتصعيد الإعلامي حوله أرى الموضوع فتنة تركية روسية جديدة، يروج لها الإعلام إضافة إلى فتنة سنية شيعية يطبلون لها لا تنشب، عربية كردية عليها عتب، والآن قوة عربية، تركية، أمريكية، إلى العراق يُراد منها شغب. عليه يجب تدارك الفتنة التركية الروسية، أردوغان يدرك ذلك متأخرا يخاطب بوتين:  خلينا لا نُفرح أحدا بالذي حصل! بوتين له حق ينفعل يكرر بالقطيعة مع تركيا خطأ منع وصول السياح الروس إلى مصر.
مصدر الفتنة الرئيس ليس في أي من البلدين بل خارجهما، لماذا؟ لأن كلا البلدين ينطلق في سلوكه من قيم يريد المحافظة عليها، ايران وروسيا ينجحان في ذلك، لرجاحة الحكم إلى وطنيين أقحاح، على تركيا وروسيا النجاح أيضا هنا وأبعد لمصلحتهما. نبقى نتساءل لماذا مصدر الفتنة من الخارج؟ نعم، النزعة الروحية في كل من تركيا، روسيا، إيران، العراق، غيرها، تدفعهم إلى تسويات وتآلف مع المختلف، لكن النزعة المادية التي يقوم عليها الغرب، يروّج لها في منطقتنا إعلامه أيضا، ضمنا تدخله السافر المتكرر البعيد، هي مصدر المشاكل والحروب دائما.
طبعا يمكن النظر من جهة أخرى إلى ترويج الفكرة الأخيرة، ولو فيها نقد للغرب، نرى إن ذلك الترويج والنقد في ذاته من أسلحة الغرب، يمنح التمسك بالروحانيات فرصة إحساس فوقاني، ليبقى الشرق عليها مع ما فيها من أسباب تأخره عن الغرب. هكذا الحال مع أي فكرة، لها وجهان، نقض النقيض أسلوب إلى الحقيقة، يتم الوصول إليها يتحرك عملاء لإحباطها بمختلف الأساليب، يعني بداية صراط أمة إزاحتهم، بتشريع قانون يكبحهم، يعيدهم إلى رشدهم، والأمة إلى هدف سوي.
الكارثة تكبر
وجهة النظر التركية الأردوغانية لو تصح، جمع المسلمين مجددا في أمة واحدة لا غبار عليها في الظاهر، تآلف الأقوام في المنطقة، جغرافيا، دينيا، أخلاقيا، اقتصاديا، بل وثقافيا أيضا مادام للمشروع سابقة ناجحة في أمة الرشيد الرشيدة حيث تتآخى مختلف الديانات، في أمة الأندلس، بل ويبدو مشروعه تعويضا أو تطويرا  في منطقة حيوية  للمشروع السوفيتي المُحبط من داخله، لأسباب عند التقصي نراها أيضا وراء إحباط المشروع الأردوغاني في المستقبل تؤكد الدلائل، ما هي تلك الدلائل؟ ما يحدث منذ إسقاط الطائرة الروسية وتجيش الغرب جيوشه لدخول المنطقة وملئها نفوذهم لإزاحة الروس، يعني الاستعداد لإقامة نظام جديد في المنطقة لا يحدث بسبب تطور قدراتها الذاتية إلى نموها وحماية ذاتها بل بتنصيب من الخارج نحو استكمال نظام جديد للعالم، أي تكرار خطأ قديم، قوى وطنية لا تُردع بقرار سقيم، ذلك لا يحدث فجأة، بل ان تفاصيل حادث اسقاط الطائرة وما قبله مليء تفاصيل أخرى تكشف افتعاله، تدبيره، للوصول إلى النتائج السياسية المعاشة اليوم، المستَحدثة أو المحبَطة غدا.
محليا، كما يحدث اليوم، أواخر ستينات القرن الماضي قبل وأثناء صعود البعث يعيش العراق فراغا سياسيا رغم ضجة يدفعنا نحن الشباب إلى التفكير في ملئه عوض الأحزاب الشائخة البائخة سبب خراب العراق، نقرأ التجارب الثورية نحاول ابتكار الحلول لبلدنا، بعضنا يتعجل، ينزل إلى الأهوار، أخسر صديق الطفولة زميل كلية الهندسة سامر مهدي صالح (اسمه في البيت صلاح) إلى من يصعد إلى الجبل، إلى من ينضم إلى المقاومة الفلسطينية، إلى خوض نشاطات ديمقراطية، عرائض، احتجاجات، يُعدم الصديق مطشر حواس، آخرون لا أعرفهم، يختفي من يختفي، أستَدعى إلى أمن الوزيرية للتحقيق، أصل إلى استنتاج في بداية فورة أدبية: لا بد من تصوير الوضع بالكلمة، عقلنته، تحويله من فوضى طاحنة تتلف الأخضر واليابس إلى صورة واضحة تجنبنا مزيدا من خسائر. أبدأ مشروعي الأدبي.
لمحة تاريخية
أول ما يجابهني ولا يزال سؤال: ما هو الشر ما هو الخير، ينعكس ذلك مباشرة في روايتي الأولى (شقة في شارع أبي نؤاس)... ذات ليلة رأى سليمان في الحلم كأن الرب يقول له: يا سليمان سل ما أحببت لأعطيك؟ فقال سليمان: يا رب أنعمت على داود نعمة عظيمة وصيرت عبدك سليمان ملكا بعده فاعطني يا رب قلبا حكيما لأحكم بالعدل وافهم الخير والشر. فقال الله: طلبتَ هذا الأمر ولم تطلب مالا ولم تطلب أنفس أعدائك ولم تطلب طول العمر... ص73  (شقة في شارع أبي نؤاس) 1972 طبعة بيروت. الرواية مكتوبة عام 1968 تشير الصفحة الأخيرة من طبعتها المذكورة.
أحمل السؤال الفلسفي مع دراستي الهندسة تطبيقيا منتصف الستينات إلى مصر، التقي هناك الممثل العظيم محمود المليجي المختص في أدوار الشر كل عمره، وهو السيد النبيل المهذب الراقي، أدهش كيف يجيد رجل الخير قربي أداء أدوار الشر، الشر والخير متلازمان يكمل أحدهما الآخر؟ لماذا تختص أستاذ محمود بها وأنت الصالح لأدوار الفتى الأول بما لك من قامة هيفاء وشكل جذاب؟ يقول بأسلوبه الرصين المتأني بعد تردد: الخير والشر ما لهمش علاقة بالمظهر، ويمكن لولا الشر لا يظهر الخير. نتكلم طويلا في الموضوع، اتأكد من كلامه بعد أسبوع فقط حين أقابل الممثل العظيم الآخر إسماعيل ياسين، نقيض محمود المليجي في كل شيء على الشاشة، أراه في الواقع كاسحا يصلح لدور الشر أكثر من محمود المليجي، حتى وهو يهزل معي حين يقول: تعال إلى المسرح  بكرة، العرض أحسن من عرض اليوم. أقول له لا يمكنني غدا مع الأسف الحضور إلى المسرح، بسبب ارتباط مسبق. يرد (سُمعة) يمثل الانزعاج: طيب هات ثمن التذكرة وانشاءالله ما تجيش! أضحك عاليا، ثم أمزح في الحال معه ممثلا الزعل أرد: صحافي مهم زي حلاتي مش بس يستاهل تذكرة مجانية منك يستاهل ترقص له كمان! يفتح سُمعة عينيه وسعهما، يصيح فجأة يكلم مُرافقه وراء الكواليس: يا مصيبتي! الواد العراقي ده هيقلعني هدومي.. خدوه مني قبل ما أضربه يضربني!..
يُختصر مفهوم الخير والشر عندي إلى: لا تؤذ غيرك! ذلك يصح وقت انعدام الشر، إنما وقت حضوره متمثلا في الغير لا بد من إيقافه. نعود نحدد معنى الخير والشر، القانون يحدد ذلك، يتحول القانون إلى شر أحيانا حتى في دول متقدمة أرى هل نبدأ ثورة عليه، ندور في حلقة مفرغة؟ لا بد من فصل الخاص عن العام، ولا بد من جمعهما، على ساحة الأدب في الأقل تجنبَ الوقوع في شر على طريق بناء خير، خلاف ساسة يرتكبون الشر عامدين لتحقيق خير في رأيهم لاحقا، لا ندري عنبهم يتحول إلى خل أو نبيذ بعد حين. في هدي من ذلك اللحن الحزين أوشك على انجاز مشروعي الأدبي درزن روايات، دراسات، ذلك قد يعين اليوم على النظر من زاوية أكاديمية إلى الأحداث تراها العين كما هي في الواقع، تحلل، تشخّص لمصلحة عامة، لا كما يراها غوغائي من زاوية طائفية أو عرقية أو دينية أو طبقية تزيد التشاحن تضيع في النتيجة المصلحة الخاصة والعامة، ولا كما يراها انتهازي من زاوية نخبوية تغلّب الخاص جدا على العام، النتيجة تدمير العام.
ندرس تجارب غيرنا لا ندفع ثمن الخبرة من تجاربنا، مرارة، خسران. تلك فائدة وضرورة النزعة الأكاديمية التي يجري حتى عليها صراع بين النزعة الغوغائية والنزعة النخبوية، لركوبها واستثمارها لفائدتهما، ذلك يمنح بعض الدراسات المعاصرة قيمة الصفر المطلق. شهادات دكتوراه أدري تُمنح لأناس لا يستحقون شهادة متوسطة، وقت يجري عزف نشيد لا على بلد بل من بلد المحبوب وديني قبل استلام تلك الشهادة عن استحقاق فقط لعدم الانضمام إلى جوقة الأرقاء. يعني ميدان المعرفة المعركة يمتد إلى كل الآفاق، بدايتها قلت نقرأ في الستينات: يمكنك الاستفادة من سلاح العدو، يمكنك استعمال قوة العدو لإيقاعه، استعمل زخم العدو لإطاحته، الوصول إلى فرد عبر أقاربه، أخوته، تألبهم الواحد على الآخر منهم تكسبهم، التدمير يمكن بالمحاصرة، بالعزل، بالحسنى.. تلك الوصايا الميكافيلية وغيرها وراء المشاكل والحروب في منطقتنا قبل صراع مصالح يمكن فضه في تفاهم.. يا أردوغان تريد أن تكون خليفة المؤمنين سر نحن وراءك، تزيد اندفاعته، (اجبحه اثناء ركضه) شيخة الناتو امريكا تصفق له: لتركيا حق الدفاع عن حدودها، وهي لا تدري أين سقطت الطيارة، أعطوهم ملايين الدولارات لإيقاف الهجرة، كأنما الهجمة تشن على تركيا فعلا لا على سوريا بشار البطلة الصامدة! حتى بوتين يحاولون استعداءه على الجيران.. تريد أن تكون خليفة بطرس الكبير سر نحن وراءك.. اسرائيل تؤكد له على طرف المعادلة المقابل: لن نسقط أي طائرة روسية حتى لو تدخل حدودنا، وانت يا أردوغي يصيبك جنون العظمة! اكتبوا عن بوتين في مواقعنا صحفنا: أقوى رجل في العالم.. يواصل الاصطدام بوتين وأردوغان.. النتيجة بأي آلاء ربكما تكذبان.. قطيعة روسيا مع جيرانها مطلوبة لا لإسعاف بل لإضعاف روسيا والجيران.. لتقدم الغرب الحيران..
لمحة جغرافية
بالقلم العريض، بعد اسقاط الغرب الاتحاد السوفيتي من الداخل، بعد حرب باردة ممتدة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، ونهوض الروس مجددا بقيادة تيار بوتين، تيار يدعمه غالبية الروس، من شيوعيين إلى قوميين، أكثر من ثمانين بالمائة ينتخبوه، المثليون، السحاقيات، اللصوص، المتهرئون، لا ينتخبوه. النزعة الأخلاقية، أهمية العائلة، برعاية الكنيسة وسلطة الكرملين واضحة عند عموم الروس الأسوياء بوصفهم عامل وحدة أيضا يجمع عموم الشعب ضد تفكيك يهددهم يهدد كل الأقوام من جهة متحللين كوسموبولوتيين، من طامعين.
 يواصل الغرب سعيه على أكثر من محور، بأكثر من أسلوب، عنفي وسلمي، ظاهر خفي، نحو استكمال تفكيك روسيا لإلحاقها بالغرب في الطريق إلى تفكيك الصين لاحقا وإلحاقها به أيضا وتكوين قرية عالمية واحدة عاصمتها الانترنت. من أجل ذلك يجري ضرب حلفاء الروس، القذافي وتفكيك ليبيا، صدام وتقسيم العراق، علي صالح وتهشيم اليمن السعيد، إلى المالكي والعبادي وما يتبقى من العراق، إلى السيسي وتخريب مصر، حتى اسرائيل وتركيا لا تسلما على مدى بعيد من توسع الغرب نحو الشرق، كل الاتجاهات. ذلك لو ينجح الغرب لاحقا في هجمته الحالية المعقدة لا تصير مقعدة له.
تسليم روسيا بخسارتها في ليبيا، تركها الأوضاع تتعقد في العراق وسوريا، اسقاط طائرة الركاب الروسية في شرم الشيخ، اسقاط المقاتلة الروسية من تركيا، غير ذلك قد يبدو انتكاسا لمعسكر الشرق الذي تقوده روسيا اليوم، لكن هل حقا هو انتكاس؟ لا يحتاج المرء أن يكون قائدا عاما لقوات مناهضة للناتو، رأس حربة هجمة الغرب الخفية حتى الآن، ليعرف أن تراجع روسيا في ليبيا، ارتباك موقفها سابقا في العراق، في اليمن، إن هو إلاّ انسحاب مؤقت لامتصاص الهجمة، لتجميع الصف ورسم الخنادق صحيحا كي لا تتداخل، أكثر من تداخلها الكثيف الحالي، لا تؤدي إلى مزيد من خسارة. كوتوزوف تراجع في البداية أمام نابليون حتى إلى مشارف موسكو ثم دحر العدوان الفرنسي، ستالين تراجع أمام العدوان الألماني ثم دُحر العدوان. فالعِبرة ليس فقط في الدفاع عن النفس، عن الكرامة حسب، بل في الخروج من حالة الدفاع منتصرا. ذلك مختصر أذكره قبل سنين عن سكوت التاريخ وتقدم الجغرافيا، يكون لها الكلام الحسم في النهاية. يعني كان لا بد لروسيا التراجع إلى حيث لا تخسر لو.. أو.. حين تكبر المواجهة، لا هي، لا التيار الوطني فيها، لا ذلك التيار عضيدها في الدول الأخرى، المهدَّدة أيضا من  اتساع شهية رأسمالية متوحشة لا تريد أو لا يمكنها ترويض حالها.
فنطازيا.. ليتها روائية!
عند بوابات روسيا السفلى المتصلة بالبحر الأبيض المتوسط، البحر الأسود، أمامها استعداد لأكبر منازلة، تضطر إلى دخول مواجهة، دفاعا عن وجودها، بالتالي عن وجود الدول الوطنية في منطقتنا قبل غيرها، التي تريد مواصلة عيشها في سلام في ظل أخلاقياتها شرائعها عاداتها لا تريد استبدالها بأخرى وافدة، دع كلام الثروات الوطنية جانبا، لا تريد إضاعة حالها حال أوربا في غيرها، من هنا عدم رضا عسكر تركيا على انفلات أردوغان وتوقيف بعضهم، من هنا التلاحم الروسي الإيراني العربي القفقاسي الصيني الكازاخي القرغيزي.. إلخ.. حاليا، غدا يتبعه تلاحم تركي روسي وأبعد لو يتم تأهيل مجنون العظمة، أو تحييده ولو في حلم له نحو خط رجعة، نحو استقالة. لا يرتدع، لا يعقل، لخضوعه إلى أبالسة الإيهام والعدوان لا الإبداع والسلام، تتسع المواجهة!
قبلها تغدو التضحية بأي من أبطال الحقيقة انكسارا لا يشفى. تساؤل الستينات وقبلها عن الخير والشر باقٍ اليوم.. لا يضيع بين تركيا وروسيا.

 

25
أدب / (الراقصة والكانب) الجزء2
« في: 16:33 31/10/2015  »
(الراقصة والكانب) الجزء2


وبعد خصام المطعم، في الليلة الثالثة أو الرابعة كان؟! المهم..
بعد الفراق الحامي، بعد كل تلك الأعوام العاصفة، لماذا تبحث عنها على شبكة العنكبوت..

آه ذلك الحلم المتكرر العذب المعذِّب، أنت ابن الحلم أو ابن الواقع؟ الرضا بمصادرة الواقع يبقي للآدمي أن يكون ابن ناقصة، ها أنت تستجيب للحلم، كرر الخطأ، لا تعترف أن جل الأحلام خدّاع.. إلى فخ قوّاد..

تلك الليلة أو غيرها يترككما بواب المطعم شبه المهجور تدخلان، مكافأة سخية، تتبعها صيحة آمرة من الامبراطورة كاترينا:

- افسح الطريق لسيدتك!

صالة المطعم خالية من الرواد، فرقة العزف تجمع آلاتها، بعض أفرادها يشرب يتناول طعاما على طاولة قريبة، تصيح كاتيا:

- أيها الكسالى كلوا اشربوا ما شئتم  لكن هيا اعزفوا.. أو أقلب المائدة عليكم.. اعزفوا أكأب تانغو لمحترفي معاناة نيابة عن كل البشر.. الكل مخذول من أكابر ومجرمين..

يتبيّن الكل يعرفها، راقصة تانغو ماهرة، عازفة بيانو متقدمة، مثقفة، ذلك اليوم تفترق عن خطيبها، يتحوّل غضبها فرحا مجنونا، رقصة تانغو صارمة عارمة لا تنساها الفرقة ولا أنت، في السيارة يتضح ناوية على الهجرة بأول فرصة سانحة، المستقبل غائم معها، إنما لاغتيال حزن الليلة، ليلتين أخريين تعقبها، أو ثلاثة، تتجلى أفضل قاتلة، ليدي كيلر درجة أولى، مرحها الوثاب وسط حزنها القلاب توأم عاطفتك إلى اليوم. الفرقة تعزف "صدى اكتوبر" بين نعاس وثمل وجوع، وحدكما على المسرح، ثالث استدارة معها تسألك والكلمات تضرب تهرب مع اللحن: من أين لك فتنة الأداء يا فالنتوش؟!

- السينما والحزن يعلمان كل شيء لكن أرجوك صارحيني.. أرسلك أحد إليّ.. السماء عادة غير كريمة معي خلاف الليلة!

- فالنتوش! ابرهة! تعقيداتك الداخلية تفسد حبا يزهر!

- الحب بلا مصارحة مطلقة تمثيل.. التفافات راقصة لها مثيل..

- مصارحة نعم.. لا استحواذ حتى في تانغو معي.. تقودني لا تترك لي مجالا لابتكار حركة جديدة.

- التانغو الكلاسيكي أنظم.. خلينا عليه.. الابتكاري دعيه لمغامرين وطلاب شذوذ على مألوف.

- راضية لكن قدنا في اتجاه الحركة العام لا باتجاهك الخاص.

- العام وهّام إنما لا اتحدى عازفة عارفة بالكياسة فماذا توصي أكثر  معاليها الحساسة!

-  لا الهوس بل الاحتراس ضروري.. حتى في غياب الغير وطيش الاحساس.

يستمر اللحن المتقطع الشديد يضرب ضفاف الذاكرة.. ضرب الموج الوسنان شاطئ هجران بعيد!

 

ذلك البدر الدموي الفتان ليس كبيرا متسلطا قريبا في أي زمان ومكان كما هو اليوم فوق قلعة بودا، تكاد تلمسه، والدرجات الحجرية المتتالية صعدا إليها متعبة على غير العادة رغم انسيابها الفسيح الناعم في النسيم الليلي العليل، أنغام التانغو تتناثر من هناك فواصلها حادة تفاصيلها ناعمة تحت السماء النيلية، تتدحرج نزلا إليك تسرد قصص حب عاشقين مريرة، مدعوون من كل الأجناس قادمون إلى اللحن، ساحة القلعة الشاهقة المطلة على المدينة تتأرجح بدورها في هدوء مع الأنغام والراقصين في شبه ظلام، نساء يرتحن على الحافات الحجرية لأصص الأزهار ينتظرن دعوة رقص، رجال رصينون قرب المحجر المطل على مشهد المدينة البعيد يدخنون يتهامسون يبتسمون مع رفيقات ألقات، كاترينا هناك، وحيدة، في فستان وردي بني مشرشب الأطراف يبرز جانبا من ساقها البض، لما تزل جميلة، ناهضة الصدر، ترتفع الذراع اليسرى معقوفة بمستوى الكتف تقريبا استعدادا لملاقاتها في صمت، تحتضن يدك اليمنى أسفل ظهرها قويا تسحبها إليك، تذكّرها إن الأعوام فانيات مثلما يفنين حياة السادة والعوام، تنظران في عيني الآخر منكما مباشرة في ألفة، من غير ندم، من غير عتاب، الفراق وتعاقب الأعوام ضرورة لا بد منها لإدراك ما لا يمكن إدراكه في الشباب، لجلي ما في الأعماق، تساؤلات هامشية تنهض، عما يفوت ذكره في مكالمة وأخرى بعد وصولها بودابست، تفضل النزول في فندق آخر لأسباب تشرحها عند اللقاء.. ليكن، لا بأس، شأنها، لكن أين كل تلك التعقيدات الهدامة، أين عواصف العواطف المباعدة بينكما بغتة، تعودان لبعضكما كل العواطف أفكار، يتم اطفاء الحريق.. الصغير، الحريق الكبير لما يزل ناشبا.. على مبعدة قريبة.

تنتهيان من أداء بعض حكاية الفراق بحركات حذرة في دماثة على نغم التانغو تميل كاترينا رأسها بطيئا في دلال، تتلقى شفتيك بخدها الأسيل، وتلامس شفتاها خدك المضرج بحمرة الأصيل.. من غيار وجل بلا تردد ولا ارتباك أو حنين.

بداية حسنة، الانفاس مسيطر عليها تماما، لكما حق في دورة وأخرى، كثرة حولكما أكثر شيبا وتصدعا منكما..

التعب ينال بعض الراقصين، يتهاوى جسد احداهن على ذراع شريكها رافعة ساقها منفعلة، تصيب قدمها مؤخرة أحدهم قويا، يرتبك السياق العام، في ألفة وصمت يعود كل شيء يجري مجراه، اللحن ناعم حينا، صارم حينا، حميمي دائما..

أخيرا شرفة القلعة المطلة على المدينة، تنيرها ابتسامات بعض المنسحبين من الرقص للراحة، المدينة تحتكما غارقة في ظلام، مصابيحها البعيدة تطرزها بدلة عرس بهية، كاترينا الساعة امرأة ناضجة تماما، متحسبة يا للعجب، نعم تتكلم كثيرا عن أحوالها لكن ليس جزافا، تترك زوجها وابنها في استراليا تسافر وحيدة للمشاركة بماراثون التانغو منصاعة لرغبتها، لضرورة الاطلاع على الجديد، لاستيفاء متطلبات عملها بمعهد موسيقى ورقص تابع لها، المهم.. لا تنوي تجاوز خطوطها الحمراء، شخصية عجيبة ليست غريبة عليك، مزيج من حرية وانضباط، رقصة التانغو ذاتها هوسها انفلات مسيطر عليه، فلماذا تدعوك إليها، لماذا اللقاء على مرتفع حب وحرية ومتعة.. روز بلانكيت بأغنيتها لراقصي التانغو هناك تقول على أي حال: انتما لا تسرقان أرضا. الباقي كاترينا.. اسمعي.. طرف حكايتنا من جانبي مفهوم.. لا بأس.. كلانا المبادر للّقاء!

بعد قراءة رسالتك القصيرة إلى بريدي الالكتروني اسفلها توقيعك كاترينا، عاشقة التانغو التي أحبتك، أفكر: غير معقول! هل الحب كالأرض والسماء لا يعطن.. نلتقي لم لا.!.. نلتقي فعلا!.. المستحيل يصير ممكنا يعني قصة تكتمل.. عليّ كتابتها.. أو تبدأ قصة جديدة لنا؟.. عليّ عيشها إذاً!..

الآن أسألكِ: ماذا يفكرك بي، ماذا يدفعك للاتصال. أدهش قليلا لمعرفتك أني أبحث عنك على الشبكة، برامج التجسس الالكتروني تصير متاحة لعامة. لماذا أبحث أنا عنك؟ حسنا، أتهرب من رد صريح حينه، ادعي الذكرى تهاجمني أريد ان أعرف جديدا عنك. إنما أصارحك الساعة، العقل البشري يحيرني بأسراره، مثلما لا يكف عن السؤال لماذا وجود الكواكب، المادة، غياب العدل، يسأل عن امرأة التقي معها ثلاث مرات أربع قبل ثلاثين سنة..

ثلاث مرات فقط؟!

المهم، تعودين بين حين وآخر إليَّ في حلم واضح جدا، كازانوفا المحترم أمامك يمارس معك الجنس الصوفي كاملا، ذات الصدر الشامخ أمامي.. ذات الكبرياء العالي..

نعم، نعم لي حق..

أدري ذلك قد يعني أعيش حالة حرمان، الأسباب يطول الكلام عنها، مَن مِن المغتربين على عتبة شيخوخة لا يعاني من حرمان جبري أحيانا، رغم توفر نساء راغبات، عليه، على البحث عن نهاية سر، أبحث عنك لأرى كيف حالك فقط، لو اصيد صورة لك، وإذا بعد يومين ثلاثة تصل رسالتك العجيبة تقترحين هذا اللقاء الرائع في بودابست الرائعة في هذا اليوم الرائع عند كيكة هذا القمر الفتان.. لا عجب أبدا؟!

- ما العجيب ابرهة؟.. أنا أيضا أريد اللقاء معك.. أوشكنا نتزوج.. نسيتَ.. واختفيتَ فجأة!

- أنتِ اختفيتِ. ليلة مجيئك إلى شقتي حسب اتفاقنا لم تحضري. بعدها يتم تسفيري مباشرة.. فماذا أفكر؟

- أدري كيف تفكر بماذا. لم أحضر لا لأن أحدهم يخابر يمنعني من المجيء. السبب عصبيتك إلى آخر تانغو لنا.. هجرتني.. نسيتَ..

- ستوب! ستوب! أنا عصبي؟ أنا هجرتك؟! أبداً، الخصام منكِ آخر الليلة، تتركيني تراقصين احدهم، صدره على صدرك، عيناه على عينيك، ماله على مالك، أسكت؟!  طبعا يطير عقلي، أنبهك تنكرين، في حبه تسدرين، متولهة في لحظة، أنت الهاجرة!

- أقع في حب سكران ينحشر بيننا وأنت معي وأنا مغرمة بك تلك الليلة؟.. ماذا تتصورني عاهرة!

- سمعت ذلك منكِ..

- أنت المذنب في فساد كل شيء. تراقصني التانغو بالك حزين مع امرأة أخرى. تهديد تسفير. توتر. تهملني. خصام. نفترق غصبا عني لا أدري كيف. لكن لا ذلك يبقيك في ذاكرتي. أحببتك. وأنت أحببتني. تجمعنا كيمياء، فارق العمر، أهواء، أجواء، حتى اليوم لا أدري لماذا لا تتصل بعد التسفير مباشرة..

- كلام الماضي طويل. هيا إلى الفندق نقضي بقية الليل عسى نكسب بقية العمر.. أو عندك مكان آخر؟ الماراثون ينتهي.

 - عندك ثقة نلتقي مجددا نبقى معا؟ تنسى عالمنا المتقلب يقلب الاشخاص والأمم!

- لتقلبه يجب أن نكون أقوى منه.. أقوى من أنفسنا.. لنبقى.

- من أين لك الثقة بأني سوف أتبعك؟!

- سألتكِ متزوجة ردكِ قادمة وحدكِ إلى الماراثون.. اكتفيتُ بالرد.

- ولا أنا سألتكَ لماذا وحدكَ.. يا للعجب!

- الهجران قرار نزق. اضطرار. لقاء خريف العمر قرار رصين.

- قادم من السويد من أجل ماذا بالضبط.. ليس للنوم معي فقط أرى؟!

- متقاعد يُدمَّر بلده عائلته أحلامه.. ينتحر يهذر أو يرفع من جديد الحجر.. اختاري معي!

- متقاعد مثلك يبقى يبحث عن حقيقة يظن ثلثها نصفها عندي. لا بأس. أكافئك على مجهودك الحربي الطويل!

- نبرتك الدمثة تصير رسمية. دورة تانغو أخيرة مع غيري تحسن مزاجك.. لا كتلك الليلة.. هذه أريدها ناجحة لكِ تماما.

- وأنتَ تقرر الهرب ثانية؟! لا تفعل. نعود إلى فندقك نتسامر. في الأقل أنت مؤنس. شكوكك لها أجنحة طويلة..

- تلك المرة لم أهرب قلتُ لكِ.. قاموا باقتيادي صباحا من الشقة مخفورا ورموني في بتروفكا الرهيب..

 - أفهمُ لهذا لم يُفتح باب شقتك لي.. رغم طرقي الطويل بعد يوم..

- عليك نور.. يقول المصريون! أمس تتغلب علينا الإرادة الخارجية اليوم نمتلك إرادتنا يمكننا صنع مصير جديد لنا.

- لا زلتَ؟! إرادة مرة أخرى؟! يا مصيبتي! يا لعنادك!

- لا بد من العناد حتى نفهم سبب زلة، سقوط، انهيار، خطئي أو خطأ العالم سيان أحيانا، المهم لا نغادره مأخوذين.

- ما لك أنت و العالم قل ليّ!   

- تحسّب ميلان سفينة مبحرة قد ينجي من أذى في الأقل.

- ابرهة.. فالنتوش.. معك حق.. فلماذا لا تسأل ما مكافأتي على مجهودك الحربي الطويل!

- من نبرتك أخمن ليست.. النوم معي عارية.. لنقل خبرة الأيام الماضية في ليلة واحدة.

- مضبوط.. إلى حد. تقاطع حيوات ناس لا يعني يواصلون حتما بقية الطريق معا.

- تحاببنا عن جَد كاتيوشا!

- لكن التيار يبقى أقوى ابرهة.

- تيار.. طرف ثالث مرة أخرى؟ مافيا.. قوة سماوية.. أرضية.. مَن؟.. غوريه ميوه أنتِ فعلا كاتيا.. مصيبة حقيقية!

- قدر طرف قوة تيار غيره قولكَ يومها.. على أي حال أعدك لا أبقيه بيننا. اعترفُ أخيرا.. نعم موجود.

- من كلامِك من تصرفِك أفهم  توجد أيضا قوة داخلنا مفرّقة.. أقوى من قوة خارجنا تبدو تجمعنا مرة أخرى!

- نعم بودابست لأجل التانغو لا لأنام ولو مع حبيب، وحق هذا الصليب أريد أن أراك أكلمك ألمسك أتمشى معك.. لدينا الكثير من المشترك والتشابه.. إنما.. 

- إنما الخيانة لا تخطر لك في بال.. معك حق.. أمس وحيدة اليوم على ذمة رجل.

- كلما ابتعد عنه يقول اسمع قريبا منك باي باي لزواجنا المستمر ثلاثين عاما، أقول لا تنتظر، أذهب إلى ساحة التانغو أرقص أعود منها إليك.. لو تخونني أنت حر.. لكلٍ أخلاقه.. شرفه.

- يا سلام نحن منجذبان واحدنا إلى الآخر لتشابهنا من الداخل.. منفصلان لاختلاف ظروفنا!

- لا تنكر برهي.. وأنتَ أكثر من الحب تهمّك الحقيقة.. الكاتب يبحث دائما عن حقيقة.

- وحين يصير العالم خدعة ماذا يهمه؟

- لا تتعجل، لا تخلطني ببقية العالم، لا أخدعك، أقصى اهمية عندك للذات النزيهة عندي للذات الإلهية.. الفرق صغير.

- صغير كبير النتيجة حياتنا كاتيوشا تمضي عبثا بسبب منا أو من آخر؟!

- أكملُ المصارحة. بأول لقاء قبل عقود لم أر طرفا ثالثا اليوم يتأكد لي وجوده، لبناء حياة ناس لتخريبها.. حسب سعيهم.

- يعني خراب ليالينا منا؟.. لا من عبث حولنا.. ربما عندك بعث!

- طلب اسمك في الجواز قبل دعوتك للماراثون عبث؟!

- عبث بعث تستشعره ذاتي قبل استشعاره بمجسات على مبعدة خمسمائة عام!

- الذات الإلهية لا اللاهية نقطة القياس فالنتوش..

- مَن يلهو مع مَن؟! أجرك دائما إلى صراط مستقيم تقفزين للرقص حال تلقي دعوة عابر تانغو أو سبيل!

- اللبنانيون والسوريون من أفضل مؤدي التانغو في الارجنتين لولاهم أقول هذا الفن غريب عليك لا تقدره.

- يا ستي يا ختيارة أترك لك الخيارة.. استعمليها كما تشائين.

- الماراثون خيارة؟ برأيك مَن يقيم الماراثون يجمع راقصين من العالم تظاهرة حب ومودة ولا تجده هنا يعطينا خيارة! لماذا؟!

- كاتيا! قرب التظاهرة أوطان وعائلات وحياة خاصة تتمزق، العراق، ليبيا، سوريا، أوكراينا، اليمن، غيرها مَن ماذا غدا؟

- تكلم عن حالنا. كاتب يمشي ضد التيار فما التوقع؟

- تمزق ملابسه بهذلته في الأقل أثناء تدافع.

- وراقصة تانغو منسجمة مع الشريك والنغم؟

- تستمتع تمتع بحركتها. تريدين من الكاتب يتحرك مثلها؟

- طبعا.. ورغم التشابه في الداخل يبقى الفرق بينهما كبيرا.

- أكبر من محبة جامعة؟.. جئتِ إليّ لتقولي ذلك؟

- أو بأمرك نستدير سوية إلى الطرف الثالث أو القدر تقول  نحاربه معا.. نتبهذل معا؟!

 - للمرأة حق. حدثتك عن كلكامش الأسطوري نهاية صعوده إلى أعالي التيار يتعلم من امرأة في حانة عليه الاهتمام بطفله..

-  درس اليوم آخر عزيزي ابرهة!

- الدروس الأساسية لا تتغير كاتيوشا.

- لا تبئسنا! أدوس الليلة خطي الأحمر، لا أتجاوزه، ننام معا، تستدير عني، أحضنك من الخلف أشم رائحتك.. حتى نفترق صباحا..

 



26


الراقصة والكاتب
القسم الأول

برهان الخطيب

 

  نعم، الحب بلوى، يذوي، يتراجع إلى زوايا نسيان بسبب تغريبات المكان، مرارة واحتقار يحكمان، بعد فقدان بيتي في بغداد والطلاق في الغربة يبقى يلازمني احساس قاهر ثائر.. لأعود إلى ذاتي، لأعود أنا، عليّ الوقوع تحت عجلات عاطفة كاسحة ماسحة، ولو ممسرحة، تأخذني بعيدا عما أنا فيه، المطلوب امرأة أخرى، لتكن دمية، لتكن لعنة جديدة، لا أجدها في عربة قطار، في اجتماع معارف في ناد أو مقهى أو دكان عطار، عليّ الذهاب إلى مكان بعيد، إلى تبيليسي، إلى وارشو، إلى موسكو، إلى الريف طبعا، المدن متصابية، نسخ متشابهة لجحيم أزرق مرهَق مزوّق، أذهب إلى هناك أعود إلى مهجعي في منفاي مخدرا، لولا الحلم لا تطاق الحياة، أكرر ذلك، في حالة برد أو جرد أجدها على الانترنت، تقترح نلتقي  في بودابست قريبا، بماراثون أو مباراة لرقصة التانغو، على رحاب قلعة بودا مساء يكتمل القمر بدرا الشهر الحالي. أغرد أؤكد لها: أنتظرك منذ اللحظة هناك واليد ممدودة لبدء النمرة. بعد الاتصال أشرد: رقصة الشقاة والعتاة لدبلوماسيين وارستقراطيين اليوم أجمل مناسبة حتما لإلغاء كل الديون العاطفية مرة واحدة وإلى الأبد من أي طرف في أي وقت، لخلاص تام من تبعية مهلكة لصندوق العاطفة الدولي..

إنما بعد كل المصادفات المترتبة المرتبة في الحياة يمكنني القول ليس مصادفة أبدا اجتماع ذلك القمر الدموي الفتان، في السماء العالية فوق قلعة بودا الشامخة هناك أمامك، مع ماري الدموية* هنا على رصيف مشرب الطريق، بين متخطين رواح مجيء في شوارع مركز المدينة المزدحمة المتألقة ليل نهار. وماراثون التانغو منتظر دبيبه بعد قليل على ساحة تلك الهضبة الزرقاء، همهمة موظف الفندق وهو يدلّك إليها على طريق الخارطة، خارطة الطريق، أو الحريق، هل بقي لقلبك ما يحترق فيه، تؤكد: دبيبا دموي اللحن والعواطف والأداء كالمعتاد.

هل ينتهي أداء أي تانغو يا مستر تويستر من غير إدماء..

إدماء كل العواطف الشائخة في عواصف اللحن الشامخة الفالتة مع الأخيلة في أرجاء الفضاء.

 

إنما هل تجدها حقا تنتظرك في الساحة، تكملان رقصة إغواء وإغراء تتحول رقصة غضب وغيرة مقطوعة بحميا الشباب آنذاك، قبل أعوام الفراق الثلاثين، هي في العشرين، بل دونها بعامين، أنت تكبرها بأكثر من عقد، أي لقاء غريب ذاك، أي لقاء أغرب، أعجب، هذا قد يحدث اليوم، سوف تعاركك على الأرجح تسألك ألا زلتَ تفضل الانسياب على هواك، تصنع رقصتك قدرك كما تشاء غير مهتم للآخرين..

وأنتَ، عن حالكَ ماذا تقول، لا زالت فيك قوة الشمس والقمر لمنازلة القدر الكبير ونوازله، لا تستحي قل مغازلة المهازل، آتٍ إلى بودا تبحث عن هباء، يسقي حزنك من ينابيع مطمورة تحت خراب العمر في آخر سنوات الجمر، إذاً تستسلم له، لقدر الصعلكة، طمعا في قطعة ولو محترقة من كعكة مختَرقة، قدر يصنع منك من مرحك من حياتك كلها دمية تدري لو يشاء، لا ما تشاء. يا كوكب الفخاخ والضياع هل تبقى لمحترف المنافي المتغابي الفخور العجوز أية حياة بين ضباع! إنما هوّن عليك، لا تبخس قدرك، التانغو يبقى رقصة الرجولة بعد الأربعين، فيه شيء من بطولة، ولو في تمثيل، ماذا يقول الدكتور زميلك الصبور هناك، شريك الخيبة في حلب، ذلك الناقد المبتلى أيضا بالحرب، بفقدان ابن وحُرمة في دير، رسالته إليك، آه نعم تقول.. نقودي شحيحة، افكر كما اخبرتك ببيع البيت واستباق الامور واللجوء لمكان آمن، لو يتبدل حال حلب لا صنعة لا ثروة اعيش منهما، فعلا انا في حاجة لمأوى لأكتب وأقرأ وأعيش و أحب و أكره، لأمارس انسانيتي كإنسان له رسالة في حياته.. رسالته طويلة.. بطل هو والله، كذلك أنت بطل.. لم لا، رغم أنف الخراب وتقصيفه ليكون على قد الحال والضباب وتكثيفه بالكلمات لتسفيهه لا يزال مثلك يكتب يعصف، يستقبل نصائحك غير الثمينة دون شكوى.. ماذا كتبت إليه؟.. آه.. رغم صيرورة حياتنا مسخَرة من أحزاب مسخّرة، ليس لنا غير ان نكون أقوى من طنجرة، ترد القرع عليها ضجة معتبرة، الحب وسواه ترف اليوم، لنكتسبه بجدارة يجب أن يكون لنا وطن، محط مؤخرة، وطننا مسروق من أغبياء وجشعين، نسترده لا نسترده المهم نحاول. المنكوب يرد: حافظ على البطولة، مهمة لروح الأدب العالي، مصارعة الثيران عند همنغواي لا تختلف كثيرا عن التانغو. لا يضيف البخيل: لكن طعن الثور قبل بدء المصارعة يرفع كل بطولة عنها، عن المصارع، يستحقها الطعين ذاته الذاهب إلى التانغو هذه المرة! كلماتك خوالد يا أبا الشواهد والشوارد! أشيب حضرتك لا تكف عن المكابرة والمثابرة على طريق المتخيل والمستحيل. لكن اعترفْ انه تانغوك الأخير.. في بودا&بست**، تحاكي به تانغو مارلون براندو الأخير في باريس، وقد تستجلب به مثله القرف وعدم الرضا.. لكن عليك..

 

المصادفة تشارك إذاً في صنعها.. نقشك ظاهر على النت بدل الحجر.. ثم تلقي اللوم على القدر وصنّاعه وقرائه من الغجر، هكذا تبارزه، كما يبارزك، ميكي ماوس يبدد عنه عن غيره الضجر، على قوة خفية تنظم بل تلطم الأشياء بوجهك.. قل النشر، بوجه المثقفين أخوتك عباد الشمس في القهر، تدير حيوات بشر، توجهها نحو نهاية مفتوحة أو مغلقة للنثر، محصلة شد و جذب.. حسب العقل أو العقد و الطلب..  ذلك الملاحظ من أريب يملك قليلا من حظ و.. بقية أدب.

 

تلك الليلة المنطوية الراسخة في الذاكرة، أول مرة تجرب التانغو مع محترفة، مصابيح جادة لينينسكي بروسبكت مطفأة، الطريق العريضة شبه خالية، سيارات قليلة تعوم حولك، من ظلام إلى ظلام، تقود سيارتك هادئا، في غير عجلة للوصول إلى شقة العمل والعيش و.. التعذيب، بين تمديد العقد أو الترحيل إلى المجهول مع قليل من تهذيب، أمرك تبقيه في يدك، الأمر الآخر الخطر المنتظر تنفيذه أية ساعة تُبلغ به بأسلوب متدرج منيع التسريب، يحضر الموظف الكبير إلى دار النشر، يلقاك عند المدخل، مرة أخرى صدفة، قرار تسفيرك إلى خارج البلد صادر ونحن في وزارة الخارجية لا نرضى، لكن الأمر في غير يدنا، لا يمكننا على هذا الجانب من شارع التاريخ استخدام.. الفيتو عليه!

والمسئول الإداري الأمني الأهم لدار نشر الكتب الأجنبية أكثر طيبة وصراحة معك: اسمع، شربنا معا، لا نخون الفودكا والخبز الأسود، عندك في البنك مال انقله إلى بنك آخر خارج البلاد سريعا أو قد تخسره لو تسفيرك دون عودة، لا ندري تماما لماذا الإصرار على تسفيرك، البيريسترويكا تقلب أمور البلاد، رؤوس كبيرة تزور شقتك ماذا تريد منك؟..

ماذا تريد يا فادي! تسألني ماذا تريد والبلد كله في يدكم؟!

عيناه هلعتان، كلماته هاربة.. لو كله في يدنا لا يتحول سوق هرج بين عام وضحاه!

وأفكارك لا تقف عند حد: تمام فادي، وإلاّ تسألني عن كنه اصطفاف الرفاق وقفة جزاء عراة في الحمام يصوَّرون بكاميرا الزميل وأنا أشيح عنهم، لا يصلك الخبر من أصدقائك القريبين كيف يصلك مني أنا البعيد!

تتعدد الأسباب والموت واحد. يواصل فادي شكواه للا أحد، للشمس الساطعة: شمس عاهرة، رجال الكي جي بي يُنحرون ينتحرون لا ندري، لا تقارير، تراني أمامك صرت خراعة خضرة، أنا لم أقل شيئا.. مفهوم.. آخر كلمة ما اتفاقك مع الرأس الكبير؟

يا فادي لا أتفق معك وأنت صديق أو تكاد منذ أعوام، كيف اتفق مع الرأس الغريب ولو كبير.. ولو ذي وعود كبيرة!

الشمس أو سخونة داخلية تعذبه، يتلفت فادي يتوقع ظهور أحدهم عبر الشارع من مبنى المركز الصحافي المقابل، او من مبنى دار النشر وراءه: الرأس يحضر من اسرائيل يومين لأجلك، لك القرار أخيرا، يسوء حالك لا تلم غير نفسك!

الرأس يريدني صديقا خاصا، أقول أنا صديق الكل، يؤكد الرأس: صديق من نوع خاص، لنا. لا أجفل، أقول: لا شكرا، يا ابن عمي في عمى لا أرتمي مع همّي حتى إلى حضن جنة. يقول تسفيرك أي لحظة. أقول العراق في حرب لم أخترها. يقول العالم كله حرب عليك الاصطفاف. أقول مصطف مع الفقراء. ينهض الرأس، الضيف الطارئ، إلى باب الشقة، ينتهي كلامنا.

وفادي ينهي كلامه في بؤس: سوف نضربك مضطرين، حتى الأصدقاء يُضربون أحيانا، آخر ما أكشف لك: نحترمك أكثر من غيرك يقفون معنا، فلان علان، تعرفهما، تركتهما عند نقطة أو لقطة ضربة الجزاء، تصحبك السلامة!

أية أيام عصيبة!.. أي تانغو رهيب ذاك!

ليلا تقبض يسراك على زاوية البطانية، يمناك تجر نسيجها إليك قويا، يستمر تانغو القلق على الفراش إلى الصباح..

 

حتى مِن الزاوية المتاحة بعد حين لرؤية كل ما في الساحة تبقى لا تعلم تماما، مَن المتهم، مَن يفكك عالمك، كل العالم، لا تفهم، كغيرك لا تدري بالضبط ماذا يجري، لا أحد يبوح، مَن يريد تسفيرك وتسفير سدس اليابسة إلى مجهول، الشغل يمنحك قبل شهر جائزة أفضل محرر ومترجم، ممثل الكي جي بي للدار المهدد بالفصل يعقب يعترف لا صلة له بما يحدث، أخيرا ممثل الخارجية.. لا فيتو.. لا يبقى غير استنتاج تدميرك تدمير البلاد عموما ليس وراءه غير ذلك القدر الخفي، المتواطئ مع غزاة، الواقف وراء تصوير العراة، انتقاما أو حشرا في زاوية لتستسلم لعتاة، أو التسفير آت.. آت.. آت.. ثلاثة أيام فقط أمامك لاستلام شهادة الدكتوراة.. بعدها.. لتُسفر إلى جهنم.. لكن أوه فيه.. الصدفة تلك المرة أيضا ذات جودة عالية..

تتبعها صدفة أقوى في نية تصفير كل تأريخك تصفير أحلام بشر في نوم بعد خضة، بعد ضربة حجر، لكن هيهات، الحلم متواصل، التانغو مستمر، لا شريك غير خائر يستسلم لآخر يحاول انتزاع القيادة، آنذاك كما الرأس القلِق والبطانية في آن يخمدان!

 

لا تُفصِح كلمة عن ذلك القهر الحافي، قل العهر الثقافي، لا تبخل، ولا في  ليلة السهر الأخيرة مع رفاق المهنة زملاء الشغل والمجد، يسألونك عن غمك، بعضهم يعرف يحرف، تقول من الغم العام. وحين ترفع ساعدها الأبيض في ظلام الجادة بعد ساعة تشير لسيارتك القادمة تفكر في التوقف لها، يخطر لك:  الوقت من مغادرة سهرة الوداع لو يصح الهاجس كاف لمخابرة إحداهن على جادتك، الواقفة هناك في الليل الكالح، ماضية لشأنها يعني لا، لا شأن لها بموضوعك، القلق يثير الخيال، تلعب معها تستجيب لك يعني تواصل المشوار معك، تكمل المشهد التمثيلي الفسيح في الظلام الكسيح، لهم حق في قول الصحافة مهنة المتاعب، الصحفي الصادق مشاغب على اليسار، الكاذب مشاغب لليمين، عراك مستمر في عراق لا يلين، ذلك يقصف يقصر الأعمار إلى عمر الزهور والرياحين، اكتبها رجاءا بعد حين، من غير علامة تعجب، علامات التعجب تختفي من النثر والتاريخ مذ يرفع عميد الشرف والنزاهة اندروبوف إلى اللجنة المركزية عديمي الشرف يلتسي وغوربي، يصفيان البلاد وحزبهم وشرقك الأوسط، لمن تكتب ولماذا وماذا بعد قولك المأثور: معظم ما يكتب اليوم يُرمى غدا زبالة.. لم يبق للتاريخ معنى إلاّ احتقاره.. فخذيني بين شفتيك سيجارة.. أو بين فخذيك قيثارة..

 هيا، خذ المنتظرة هناك في ظلام الجادة إلى شقتك قد تخبرك بقية السر، مثلث عراة الحمام وخراعة الخضرة والرأس الكبير أنت مركزه سرّته لا تدرك كل أبعاده، كل أخباره، أضلاعه حديد أو غيره.. لا إشارة، خذها تأخذك آخرَ يوم أو قبله في إجازة أو جنازة، هنا أو في كل مكان، قبلة أو سيجارة، بين شفتين يانعتين واعدتين فضح المعنى في فصيح العبارة، تنفثك مع التسفير المنتظر دخانا إلى سديم المجهول.. تؤثث غيمه.. تديم غباره..

أو تتجاوزها لك أفضل؟ تواصل في وحدتك الكتابة، استمرارا  ليوم تبدأ في ضباب نفض الكآبة..

إنما الجمع بين ضدي سالب وموجب يطلق تيارهما دفاقا في رحابة.

تصعد إلى السيارة تسألها: إلى أين تهيم فرّاشة الليل في الظلام البهيم؟

ترد الحلوة ضاحكة: وإلى أين يهيم الحلو في عينيه حزن سقيم؟!

- إلى أين.. إلى شقتي. بيتنا على مقربة. عند يوغوزابدنايا.

- رباه  يا للصدفة الحلوة.. وبيتنا أيضا هناك.. الغربي!

- وبيتنا الشرقي. والغرب غرب والشرق شرق ولن يفترقا! إذاً لا يفترق الحلوان؟

- لكنهم قالوا العكس، الغرب غرب والشرق شرق ولن يلتقيا!

- عدلتها لخاطرك. لخاطر الحزين لا تعدّلي نهج ليلة موعدة لو نستكين؟!

وصامتا تفكر في غم عميم: واردة احتمالية الاتصال تلفونيا بها، شغّال عقل القادة، ما أدراني مَن يمتلك الدفة والقوة فوق العادة، الاعتراض عادة من عادات السادة، لا بد من الاعتراض، أو المصالح لا تنمو لا تتسع لا تستقر.

على مقعد السيارة المجاور تزقزق رفيقة الليل في هرج ومرح مبهرين: لا غم لسيد مكفهر جواره جميلة يشاء عن مفاتنها تسفر..

أمزح أمرح مثلها: فعلا، الغم العام يكسره نغم خاص هيا إلى شقتي نسمع ما لا يُنفر.

تزغرد هي في حماس المراهقة: أنسيك العام والخاص الليلة، خذني إلى مطعم محترم، أرقص التانغو معك ولو من غير كعب عال إلزامي.. لا تجيده أعلمك.. تحبه إلى الأبد.. التانغو تعبد الحزانى المهمومين ذوي الكبرياء ماركة حضرتنا..

المطاعم جميعها توشك على إغلاق، منتصف الليل. لا تتراجع الجذلة:

- أعرف مطعما بعيدا، سوفيتسكايا، رواده قليلون، يبقى إلى الثانية، إليه!

تشخط العجلات، تستدير حالا عند أول عطفة، تصيح مراهقتك بوجه الليل من نافذة السيارة:

- اسمعوا أيها النائمون.. هكذا الرجل وإلاّ فلا.. فالنتينو حقيقي!

تستدير إليك.. إنما ما اسمك الحقيقي؟

- ابرهة.. ملك الحبشة!

- جد بوشكين؟ واو.. واضح من شاعريتك وسمرتك ورقم سيارتك الأجنبي!

- ما يخفى يا حلوة أدهى.. وأنتِ ما اسمكِ؟

- أنا.. كيف لا ترى.. أنا يكترينا.. إمبراطورة  روسيا!

- وأوربية مثلها أيضا.. يا لحظي الليلة!

_ أوربية.. أوربية.. حتى العظم ألا ترى.. يحيا يلتسين وغورباشوف!

 يتم التعارف بقبلة سريعة على خدك، مثلها منك على خدها، تشق سيارتك جوف الليل إلى سوفيتسكايا:

- قبلتي لك من أعماق القلب.. ليت قبلتك غير رسمية ولا احتفالية.

تفتح كاتيوشا عينيها الزرقاوين في دهشة: أنا دائما صادقة. واضح مثلك. لماذا الشك في قبلتي!

- يبدو لي أحدهم خابرك تعترضي أو تقودي طريقي إلى حيث يشاءون.

من بين صدرها الناهض ترفع صليبا فضيا: رباه، أبتاه، أشعر حبا ينمو بيننا من أول نظرة لا تفسده رجاءا بشكوك ولو عصرية.. غير ملائمة لي.. أنا عاشقة تانغو و.. شهامة.. لا أكثر.

 

نعم، واضح، تشارك أنت في صنع الصدفة تدعي عليك ينزلها قدير أو قدر..

 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
* ماري الدموية: اسم مشروب مزيج من الفودكا وعصير الطماطم والليمون.

** بودابست عاصمة هنغاريا (على غرار بغداد المكونة من الرصافة والكرخ ضفتي دجلة) مكونة من بودا و بست على ضفتي الدانوب كما هو معروف.

 
 
 



للاطلاع على الموضوع بصورة بي دي اف
http://uploads.ankawa.com/uploads/1441723620821.pdf


27
أدب / كواليس عالمنا كوابيس
« في: 17:58 27/08/2015  »


 كواليس عالمنا كوابيس

برهان الخطيب

لإيصال حقيقة مركبة أو معقدة عن واقع معقد، ملغوم على أرض داعش وبوكو حرام وأوكراينا وغيرها من بقاع العالم،  يعمد روائي فطن أو متفاطن إلى اسلوب مركّب، إلى شكل معقد يبدو بسيطا في الظاهر، كما هو الواقع نفسه، ناس تروح تجيء لا يعجبهم حال إذاً عليّ على أعدائي أصدقائي يا مموّل، المموّل كرب العالمين يدري مآل الأشياء، والروائي أيضا يحاول معرفة مآل فوضى يعمل جاهدا لتنسيقها في شكل سالوفة، لكن لا لفائدته كما يعمل ممول معلوم مجهول، ولا لسر كمين لا يسبر كما على مستوى أعلى، عند صمد لم يلد ولم يولد، الروائي ندري يلد يولد يهمه أن يكون لأدبه وسلالته معنى ومغنى، يعني مثل الآخرين يريد حياة معقولة مستورة، تلقائيا تُهمه أو تَهمّه الحقيقة ولو مركبة معقدة، يسعى لتبشير بها فنيا كما يقال، لأذكياء، أو.. هو لا روائي بل عرضحالجي بائس يكتب لبائسين، ورائي يجري وراء الأحداث والإغراء والإطراء، لا روائي حقيقي دوره مساهمة في صنع المستقبل، لو يصنع حقا بصناديق اقتراع.. تقرأ أحيانا افتراء.
الروائي والورائي وما بينهما
ظاهريا تعبير "المموّل كرب العالمين" أعلاه يمكن قراءته بمعنيين، الأول فيه تقديس للقدرة الكلية، ولمموّل، الثاني فيه تدنيس، بمعنى أن الممول هو كرب، بلاء، حزن، لعالِمين يضطرون اللجوء إليه عن حاجة أو جهل. نترك كلام "الحسجة" العراقي، مزدوج المعنى، فالقصد تبسيط موضوع معقد أصلا. خلاصة، يضع روائي تحت أسطره معنى جزئيا وصولا إلى معنى كبير واتساق اجتماعي، إلى صورة ثلاثية الأبعاد، كذلك صناع الأبعاد والواقع يضعون في ثنايا الواقع ما يساعدهم في الوصول إلى بُعد، إلى صورة مرغوبة لهم، صانع الواقع لديه إمكانيات أبهة، لا يريد العيش مثل حمّال الواقع طبعا، حمال الأسية، يعني البون الطبقي في نظره طبيعي، متلائم مع سعة إمكاناته، أما الروائي فحاله حال معمم يحلم بجنة، ذاك أرضية، هذا سماوية، ويحلمان بما يسمى عدالة، يوتوبيا، مملكة فاضلة، كذلك معارضة وسلطة، يتقاربان عند ثقة كل منهما في ذاته، في معتقده، فالآخر، يدفعان الواقع نحوها، أو يتبادلان الضرب يخسر كلاهما عند تأكيد أي منهما أنه أفهم من الآخر. مشروع فيلم يُخرج لهما عنهما مموّله يريده مشوقا، أكشن، نهايته انتصار احدهما هزيمة الثاني، ليصار لإخراج الجزء التالي من المسلسل، انتصار الثاني هزيمة الأول، يستمر العرض، تتدفق الأرباح، يعيش الممول حياته المرفهة، الممثلون والمخرجون المنفذون دعهم يعيشون عيشة وسط، بينه وبين الجمهور، وإلاّ الكل يريد يسهم بالتمثيل والإخراج فمن يكون المتفرج وكيف ينجح مشروع الفيلم المسلسل المستمر منذ تأسيس الدولة العراقية. يعترض أحدهم: كلامك فنطازيا من غير دليل! الرد: أولا متنكب مشروع خفي يقترب إلى مرتكب جريمة يجهد أن لا يترك دليلا في الواقع، من أين أجيء به، لو يشهد على ذلك عاجز قد يمثله جيمس ستيوارت كما في فيلم هيتشكوك يتعرض بدوره لجريمة، لمحو الدليل، والعاجز قد يكون الروائي، الرائي، يرى لكن لا يمكنه غير أن يروي، في أشجع حال، لا محكمة تصدقه يذهب إليها. مهلا، لنسمع ما يقوله وزير الأمن الاسرائيلي موشيه يعلون عن الاتفاق النووي مع ايران: الاتفاق بين الدول الكبرى وإيران يمثل انتصار اسلوب الكذب والتضليل. هل ترى؟ لا يصرح كذب مَن، تضليل مَن، واضح حتى وزير أمن دولة مهيمنة يُخدع، يكاد يهتف واو كبيرة من الدهشة، تصير دولته واوية (ليس تغطية لنووية تجنب أن لا أبتلي، نعم نصحتني صحافية سويدية عارفة: إنس نووية نسيتها) المهم، خدعوا المسكين وزير الأمن تركوه في ظلام رغم ضخامة تنوير اجهزة الإعلام في يده فكيف حال غيره ممن لا يملك غير قلم غير مقطوط ومقال من رئيس تحرير مشخوط، تنويرا نحو جهة دون غيرها؟ الواضح يتبدى: القصد تضليل فوق التضليل السائد، كذب فوق الكذب السائد. الحمد، الناقص مضروب في ناقص يساوي زائد، يربح مَن لا يصدق الإعلام، نص تحت نص تحت نص آخر، هللويا، مَن يقول الواقع غير مبرقع بالعديد من السُتر أهبل أو مشارك في برقعته، ستربتيز الواقع أحيانا يثير شهوة أبلد صحفي، فكيف لا نكتب!
القنصل الايراني وحده يدفع
انتهينا إذاً من إثبات ازدواجية أو ثنائية أو ثلاثية الواقع، لا أحد يعلو على السيد يعلون، هل يُعلى من يعلون؟ ذلك التمظهر يُسمى روائيا "عمق"، معنى تحت النص، من ذلك يمكننا النظر حتى إلى وثائق ويكيليكس، والتسمية من جزأين أفترض، ويكي، ويكد، كيد، شرير، ليكس من ليك، لك، تسريب، بمعنى تسريبات شريرة، يا للصراحة من غير عجب، للذين يزيفون قل يصنعون الواقع اخلاق أيضا، عالية، هم يشتغلون لا يكذبون، تسريب ويكيليكس بدوره يصير جزء من الواقع المزدوج، في الوقت الذي تكشف وثيقة منه فضيحة، تُخفى فضيحة أخرى داخلية، كيف؟ يعلنونها شبه صريحة، تسريباتنا شريرة، نحن لا نخدع، حتى لو في الباطن خدعة. والتسريبات لو نكف عن تصديق براءتها في منطق، نعمل على تعريتها، كما هو الواقع غير البريء الذي تعريه، نجد أنها تبرز للعلن حين تبدأ روسيا وأمريكا في تقارب، يلوح أمل تفاهم واستقرار على الأفق، لكن أوه فيه.. يتأوه متأوه، ذلك غير ملائم لشركات انتاج سلاح، الحروب المستمرة المسيطر عليها نافعة ليس فقط لجلب الأرباح، بل وأيضا لتقليم رؤوس بشر خردة يزداد عدد نفوسهم يهددون بتغيير معادلات التاريخ والجغرافيا والبيئة، إذاُ لتبق روسيا وأمريكا، ومعهما العالم، في احتراب ظاهري في الأقل، احتراب نخبة مسيطر عليه، ليس مباشرا بينهما، دعه بين اتباعهما، يبقى الكل يطلب السلاح من الطرفين، يغتنيان، عندنا يعيش الخراب، لمن يعترض.. بعده بناء وازدهار، مَن لا يريده لا يصدق يطق رأسه بحائط، عليه تُنفخ في آذان الكل عبر الفضائيات والسراديب نغمة تأليب واحد على آخر، إلى أن يأتي دور الدواعش في منطقتنا، القومي المتطرف في أوكراينا، لا بأس من تبادل الخبرات والدعم، دواعش ينتقلون إلى أوكراينا، روس وقوميو أوكراينا في منطقتنا، حالهم حال يسار متطرف في الستينات والسبعينات الماضية، هم ليسوا أسوأ منهم، الساحة متاحة، كل العالم، يتوه الحساب عليهم يصير اليساري يمينيا استمري يا حرب ضروس، داحس والغبراء أول أمس نجعلها اليوم داعش وأوكراينا، لم لا وكل الأحزاب لا تريد أن تتعلم من الماضي، خاصة الأحزاب العراقية التقليدية، تُبقى فعالة الشعارات المتعنصرة التي قادت العراق إلى المأزق الحالي. حزب البعث تحديدا لما يزل حتى اليوم يصيح لا يستريح من التنبيه لخطر مجوسي وهو الذي هاجم الكويت، لا ينتبه أو لا يمكنه كغيره الانتباه، لئلا يفقد  دعما خارجيا، إلى أن حكم إيران وطني، يلتقي مع الحكم الوطني في روسيا، في الصين، في العراق، في مصر، بل في أمريكا أيضا بقيادة أوباما، عداء لأمريكا غير نزيه يتصاعد وقت تقاربها مع إيران وروسيا، مع بلدين مهذبين علاقتهما نموذج يحتذى، رغم اختلاف الدين والقومية وغيره جيدة، لغلبة العقل فيهما على تبعية لسواه، ذلك منذ زمن القياصرة، تشيخوف يرينا في قصته "حُلّة النقيب" مجلد1 من مؤلفاته المختارة لدار نشر رادوغا ص94 ان القنصل الإيراني فقط يفي بوعوده، يدفع ما عليه للخياط، بقية السادة المهذبين المثقفين يسومون الخياط ميركولوف العذاب. يمكن النظر إلى علاقة الخياط والقنصل وزبائنه الأبهة الآخرين الفارغين كعلاقة مؤلف فنان وابداعه ومحيطه، يستدين ميركولوف من اهله، كمؤلف من سيرته، يشتري القماش يفصل لهم أرقى الكساء والزبائن تماطل لا تدفع، إلاّ القنصل الإيراني، كذلك المؤلف، لا يُنشر إبداعه، لضحالة محيطه من الناشرين المرتزقة، ويبقى إبداعه في ذاته كسبه. مصيبا، لا ينسى تشيخوف هنا تمجيد الثقافة الروسية حول الغرباء التي تجعل "حتى التتار" في بطرسبورغ يتصرفون في نبل عال. أما عندنا فنحن وغيرنا نشاهد ممثلي ثقافتنا العربية والإسلامية في قيادة أحزاب كيف يحولون تلك الثقافة، ومحورها الجيرة الحسنة والأخوة في الدين والقومية والوطن، إلى حرب ضروس تلتهم الأخضر واليابس. زد الكثير من مثقفي منطقتنا يتغيّرون منذ أمس، من استعدادهم في الخمسينات والستينات للتضحية حتى بالنفس من أجل الفن والوطن.. إلى تفضيلهم اليوم اصطياد السمك في المجاري العامة.

28
أدب / منازلة مع القدر
« في: 20:34 07/06/2015  »


منازلة مع القدر

برهان الخطيب

  رأسي والمخدة والأفكار راع وفلاة وأغنام..  ملف رافد ليس ملف أمن، معلومة م خ ليست في خزانتهم، لو وصلتْهم حينه صرتُ في خبر كان، إلاّ إذا هم مثلنا "تقدمية" من نوع خاص خفي جدا حسب آخر همسة، الخال لا يشي بابن الأخت أو غضوا النظر لخاطره باتفاق، أو لصغر السن، أو لترشيد إنفاق باقتصاد أنفاق.
كلمات رافد ترجِّح حداثة تدبيج الملف، لا قبل الغزو ولا في بغداد، لم يُحرق أثناء الغزو، وأوراقه ممتدة من محيط إلى خليج، في ذاكرة، في درج، في شريحة حاسوب، في قلب حبّوب، مَن وأين لا أدري، رافد ملم بتفاصيل يبسطها أمامي ينتهي فصل الرواية الوليد باستنتاج: الواقع أغنى من خيال وخبال، له أكثر من صورة حال. 
 
لعبة الخطر يمارسها اثنان من تلاميذ المدرسة أحدهما رافد، الثاني أصغر بعام ابن مدير شرطة اللواء، تبدأ بريئة تتضح نهاية اليوم جريئة، وبعد نصف قرن غير برئ يتضح إنها بطريقة ما بريئة من ناحية مقابلة، تأدية واجب وظيفي، شرعية، حتى لو نهايتها فصل عن قتل في بلدان تدار بأداء غير مستقيم.. إلى أبعد مما لا يدخل في حساب مشاركين.
يدعوني زميلا المدرسة إلى بيت أصغرهما لحفلة عيد ميلاد.. استغرب. أذهب إلى محل خياطة والد رافد، معه نتوجه إلى بيت زميل المدرسة بمحلة التعيس، ساحة ترابية واسعة أمامه، تلاميذ سبقونا إلى سقيفة العنب، وعلى طرف الحديقة اثنان يلعبان الريشة.
نجتاز الباب المفتوح إلى الطابق الثاني مباشرة، رافد يعرف البيت وكيف يتصرف: خليك منهم أنت أشطر..
 زميلنا ابن الشرطي وراء مكتب أبيه، أوراق مهمة هامة بين يديه، انشغال مع شاي وكعك، يفصح متعاليا: لعبتنا خاصة مختصرها إنصات على رعاع السقيفة هناك، نقل كلامهم إليَّ لعبة سهلة لكن مهمة، أنت شريك رافد، الصغار الأذكياء أفهم من الكبار أحيانا.
 أدهش، ماذا يحل بالولد؟! يقلب حاله على بطانة، يمثل؟ سينما؟ شغلته مع رافد غريبة، ثقتي أمام الأصغر تُختبر، شطارته تقتضي الحذر، بمعرفة قد يتغلب غبي على ذكي في سمر. و بكلية الهندسة مع معادلات الرياضيات أرى الذكاء من غير غذاء لا شيء، فوق مثابرة ونظام، إصرار وتركيز خيال. الصغير بجد لا معهود:
_  لعبتنا لا تختلف عن الجد يمكن الكسب منها تصير مليونيرا.. رافد نفحصه مرة أخرى للتأكد..  برهان  يصلح على أي مستوى؟
رافد ممتثلا: اختبرته سابقا سيدي.. يحفظ السر يسمع الكلام.. ذكي يكره الحكي.
 الصغير متظاهرا بالاهتمام بالأوراق بين يديه:
_  نأخذه لكن عليه المشاركة دون اعتراض على الأوامر.
الصبي البريء الذي هو أنا يتلفت غير فاهم في البداية، يسألني رافد:
_  تريد المشاركة معنا طائعا أو لا تريد؟
_  خليني أفهم القضية.. لعب هذا؟ تمثيل؟ الوجوه ليست وجوه لعب!
يخرج الصغير ابن الموظف من الغرفة مهموما. يشرح رافد:
_  لعبتنا ساعة ساعتين يجوز العمر كله، تنفع تكسب قال رئيسنا، المطلوب ذكاء تحمل كتمان.
 
أحتار، أنا المعتاد على أفلام هوليوود مع والدي وبعضه معقد مثل (كازبلانكا) أفهمه، أغوص في ألغاز سلسلة (أسرار الآلهة) في مكتبة البيت، أشكال أنواع قصص أطفال بين يدي، بوليسيات لوبين، مواعظ أنبياء، أسطى بارع حضرتي بكل أنواع اللعب في دروب ولايتنا إلاّ (البدلي) أرفضه مفرد جملة، والمسموع في مكتب الزميل ابن "البوليس" لا يشبه بغرابته كل ذلك، رائحته مشبوهة رغم تشويق وجاذبية. بتأن يشرح رافد:
_  لعبتنا شديدة التعقيد جدية، أنت وأنا وابن المدير وأولاد أذكياء غير مخّاط وسخين تحت السقيفة، عددنا مع الأيام يزداد علينا الاتحاد عصبة كبيرة تهز العراق لا أحد خارجها يعرف داخلها، ولا أحد داخلها يعرف كل ما فيها، أنت وأنا نتفق لا ندع حتى ابن المدير يدري ما بيننا، الإخلاص داخل عصبتنا على مسألة بين واحد وواحد، ثم مع غيرنا من العصبة على مسألة ثانية، فثالثة، يبقى السر في صون وحفظ تنجح العصبة في كل مكان بلا دعاية.
_  أول مرة أسمع عن ها اللعبة!
_  لا تنس مَن نحن وأبناء مَن.. نحن علية القوم في المستقبل!
يعود ابن الموظف إلى الغرفة يهمس في أذن رافد، بخرج رافد هذه  المرة..
 
هذا الصغير يشبه ممثلا غربيا، حمندي أصغر مني، لا يقرأ قصصا يتكلم أفضل مني، يدهشني عقله خططه غموضه، يثير الفضول، يقاطع سبابته وشفتيه يذكّرني:
_  بس أنت وأنا نعرف.. رافد نو.. أعطيك..
 يتلفت، جميل الطلعة، ربما يتذرع لفعل (بدلي) أستعد لسماع الأثقل، لأعرف أكثر، أقول ما عندي ممكن في أي وقت. يضيف:
_  أعطيك اسما سريا كذلك لرافد ونبقي كلامنا خاصا بيننا.
ينفخ إحساس أهمية فيّ فيه، إلوهية، يجعل الموافقة على ما يقول تلقائية، القرف من البدلي يوقف عند حد.. يضيف الرئيس المفترض بحرفية عالية:
_  أعلمك ماذا تقول وكيف تتصرف ينجح لعبك.. انتظر..
يذهب إلى الباب ينصت لما يحدث وراءه، يعود يكمل خفيض الصوت:
_  مثلا أطلب منك تذكر ما يقوله رافد أو أبوك عندما يكون في غرفة خطار بيتكم مع صديق، تتظاهر تبحث عن شيء أضعته في الغرفة وراء أو تحت الديوان، تدخل خفية تختبئ وراء الستارة، تلعب مع أختك ختيلة تسمع ما يقولون، تحفظ في رأسك و تنقله إليّ..
أسأله فاغرا فمي مثل فرس النهر: بعد ذلك تنتهي اللعبة؟!
_  أهووووه لا تنتهي اللعبة طويلة المهم موافقتك للاشتراك لكني أقول لرافد رفضتك وتنقل إليّ بعد شهر شهرين كلامه مع جماعته أو كي؟
 
جاسوسية كلمة جديدة في أذن الصبي من مهرج السينما، من الراديو، من كتب عالمها غريب، كلمة من صنف ميتافيزيك، ديالكتيك، بوليتيك، كلمات عرّقها أهل سوق الدجاج: بلاتيقا لبوليتيك، ينراد لك تدليك لديالكتيك، ميت يفز ينيك لميتافيزيك وهكذا. أما الجاسوسية فهي باقية كما هي سو سي فيها تؤهلها لتعني صليل السيوف لكن العرب حولوا سيوفهم من زمان لخوازيق، لأنفسهم طبعا، لأنهم بلا أعداء، عثروا عليهم عقروا لسانهم هم، يبقوها أيضا ولو حلويات لأنفسهم يقارعون بالحجة الأحسن، فظلت كلمة جاسوسية عند أهل سوق الدجاج من غير تعريف حتى عرّقها والده أخيرا: شيء لا يخصنا. لذلك لا يربطها الصبي بحديث رافد والآخر أخوان ماركس ينعتهما بعد حين على مذهب الفيلم الكوميدي الشهير، لا يمكن نسيانه خلاف مذهب عويص لمرقص الحقيقي وزميله، فيما يشعره تأكيد زميلي الأنس رافد وابن الموظف على ضرورة إخفاء اللعبة حتى عن والده غير المهتم بالسو سي إن فأرا يلعب في عب يراد إنزاله في منزله وعليه أن يقرر: البقاء قرب والده في مرح ودفء ومحبة أو الانضمام إلى اللعبة إلى مجهول إلى ظلام وأصوات غامضة.
 لا يتردد الصبي في قراره أول وصوله البيت يقول لأبيه متظاهرا براءة: تريد أن تكون معنا في لعبتنا؟ لا يصدق أبوه أذنيه حتى بعد فر محزم لباسه الطويل مرات يثبته طبعا متجنبا سقوطه بتقلص البطن غضبا وحنقا. يؤكد ابنه:
_  الكبار أيضا والبنات الكل يشارك فيها.. بشرط..
يسمع والده النظام الداخلي للعصبة وبقية الاعتراف المهيب تتراقص سبابته عصا قصيرة متوعدا لا يدري مَن بخيال رحب لاهب:
_  نظامنا الملكي إذا اعتمد على جهال وفالتين من قانون في ضبط الأمن قل عليه سلام غير عادل. أبو زميلك مدير دائرة مهمة لكن أخليه يندم على استخدام صغيره في لعبته الكبيرة. أولاد السعلوة يتجسسون عليّ بواسطتك! أريه ماذا يعني أن يكون معلم انكليزي معينا بإرادة سامية من جلالة الملك.
 
 يهرع والده بلباسه الداخلي إلى الشارع يتذكر يعود لوضع قيافته، تصيح الأم إلى أين في هذا الليل البهيم وماخور أبو زكي عزّل اترك الموضوع للصبح. يرد والده كاتما غيظه: لو أنا موظف لعوب كذاك الكلب اتفق مع ابني يستمر في اللعب نرى ماذا يريدون، غدا إلى وزير الداخلية إذا لم يعتذر الحنقباز الليلة وابنه لي.
 
 لا يعود والد الصبي إلاّ قبل منتصف الليل ضاحكا قد تناول بعض الكؤوس وقَبلَ من موظف الشرطة مزاحا بعد إلحاح وتفانين:
_ أبو برهان كلانا يخدم الدولة فلماذا تزعل! لا تغضب كنتَ فعلا لعبتَ أنت أيضا مع ولدي وصديقه تعرف عني عنهم ما تريد، هكذا يصير النظام أقوى والأمن أشمل أما ذلك السرسري ابني أعرفُ شغلي معه صباحا للعبه بأسرار المملكة.. الآن أفهم لماذا يميل شعارها هذا على الحائط بعد كل تعديل!
 
 يرفع الأديب الأشيب رأسه عن ورقته يخاطب جمهور الأمسية تعباً:
_  لو الوالد بينكم يمتعض حتما يقول.. هكذا أنتم الكتاب تحوِّلون التراجيدي إلى كوميديا في نصوصكم حتى على حساب جدارة شخص مرة جرى في لباسه وراء ابنه إلى باب البيت بعد وقاحة وتاب وأنت تقعد تقوم تصفني هكذا منذ رحتَ تكذب اقصد تكتب.. ناقص تقول كنتُ أرقص دانص بالفانيلة واللباس كل ليلة مع بائعات سوق الدجاج وتسبق الطليان بواقعيتهم الجديدة الشعبية!
مهلا والدي لكل نقد نقد مضاد، الرد هكذا معتاد: مسافة بين الواقع والفن تبرز جمال كليهما، بلوحة، شعر، رواية، أو غيره.. خلافه الفن عرض حال، وثائقي.
لا يتخندق رحمه الله في شخصه، روحه ترفرف دائما فوق ذاته، أراه في الشوق يطل في كرم مبتسما، منه مرحي مع عدم نسيان الجَد، النقطة نهاية سطر، لبداية واستكمال معنى.
وقد يتغاضى عن الامتعاض يقلب صلة الفن والوثائقية بقوله إن الفن يستوعب الوثائقية، والوثائقية تصيب بعض الفن بالأرشفة.
أذكر عنه أكثر من ملاحظة عن شأن وآخر في مكان يتسع بالمحبة.


29
أدب / ثنائيات ـ الحكاية 7
« في: 00:02 15/05/2015  »


ثنائيات ـ الحكاية 7


برهان الخطيب
[/b]



 
خصوصية حواري مع نسرين يفسدها اقتحام. شرر، شك، تساؤل يتطاير من أمة إلى أمة، أي خير هذا في اقتحام ولو من متطفل نبيل، معلوم، أساس الاختلاف إدراك معنى الخير، كل منا يحقق خيره بطريقته، التفاعلات مستمرة على مختبر الأرض.
مرة أخرى تنبيه، من رافد هذه المرة، بسهو بمحبة بتبجح بتآمر بلا أدري ماذا، صورة أخرى غير ظاهرة تحت مرئية.. كيف أدري!
ومرة أخرى، مَن بطل بل أبطال رواية حديثة؟ أبناء ظل أو أبناء نور؟ أجيب أبناء فجور آن اختلاط النور بالديجور تأخذها الغالبية أبناء كيت كذا، الكلمة جمع فجر. وملامح الشبه بين رواية جيدة وواقع سيء كثيرة، كذلك بين رواية سيئة وواقع جيد، كيف؟ رواية جيدة ينظمها مؤلف حسب رؤيته، واقع سيئ تنظمه جهة سيئة، مستبدة، مقتحمة. والرواية السيئة مخترقة من عدة جهات، من بهرجة امرأة مزوقة فوق المعقول معاصرة، من واقع معاصر ملون، ناس حريتهم مقاس صغير ناس أكس لارج ناس عراة بلا مقاس. الخياط يرى زبائنه أبطالا طالما تحركوا بموديلاته.
في رواية جيدة أو سيئة، في واقع جيد أو سيئ، قد نجد "أبطالا" حقيقيين يتمردون على صانعهم مضيِّفهم على ساحة ورقية، رملية، جليدية، مؤدين رقصة خاصة مدفوعين من ظرف لا من طرف آخر، لحركتهم حدود أبعد حسب قدرتهم وإبداعهم نيابة عن إرادة شبه ميتافيزيقية، مستقلة أو غيره تلبس دور قدرة خارقة، يتمرد عليها متمرد ينسل متمردين عليها ثم عليه نسل عائلات طيبة يخرجون عليها ينسلون بدورهم آخرين، كما في رواية كبيرة منسابة من محافظة إلى تمرد وبالعكس، نهاية الفصول متوترة، كالحروب على منعطفات تاريخ، وبالنهاية احتمالات مفتوحة خارج جنة ونار.
في رواية جيدة أو سيئة ُتكتب عن حدث كبير، عن واقع سيئ أو جيد، ثمة تصور جوار مضاد، كلاهما يتفاعل يفعل في إنتاج حقيقة صعودا لحقيقة أكبر.
 التحولات المستمرة للحقيقة تعيق إحاطتها. يدهش شخص: تجاوزتَ الستين وما زلتَ تتكلم عن "الحقيقة"؟! أية حقيقة تقصد؟ ثمة مختبرات تحلل تحدد بمجهر وتفاعلات حقيقة فيروس وعيّنة، أوسع هنالك مخابرات، أما مَن يسيِّر عالمنا، فذلك بديدن رافد وغيره أيضا متفق عليه، رب العالَمين يمسك الزمام، تغض عن بشر يجرون وجودهم أشق من غزلان. أنتَ غير متدين فهو حكومات لها قوانين للنشاط الاقتصادي والاجتماعي. أنت متمرد متفرد تطلب الزمام إذاً أمامك تفكير في حقيقة ثالثة وأبعد، في روح أو مؤسسة خفية بيدها أِزمّة، تبحث فيها تُنبذ، خفية لا تكشف حجابها، تفرعها، تُنزل على الوجه صفعة بعدها لا حقيقة ولا حقيبة.
مجنون أو في مجون أو فكرة لا يخون مَن يتصدى لقوة أكبر منه، بطل، ومن حق عاقل بل واجبه تقصي المريب، وبعد نصف قرن قد يتبين رآه خطأ، كحمل طابوق في وقت عصيب، يدركه خافيا وراء سجف، يقترب إليه يمسك المصير، يكون سيد نفسه.. لكن عبثا يقترن ابن السبعين بابنة عشرين!
هنا هناك تختلط أوهام بوقائع، عليه أن يكون حذرا في تمييز بينهما، في فصل وهم عن نقيضه، يسقط في وهمه يصير أهبل مضروبا بنفسه عشر مرات، أو يتجاوزها يتعلم جديدا مجددا. البحث وراء حقيقة يميز مخلوقا في توتر عن آخر يميل لارتخاء، مع فرق ضئيل أحيانا بالإحساس تزهر إنسانيتنا أو تدمر.
 
مهلا بطلي المنتظر، لا تهمس وراء سور النص: واصل الفلسفة عادة المفكر السرية أتحرر من إساري أريك وقارئك أسراري وعندها تعرف مناقب الأحرارِ! 
فعلا.. تراودني رواية جديدة أنا الذي قلتُ غير مرة تبت عنها طلقتها بالثلاث!
 
وحدي في القطار العائد إلى ستوكهولم، في الانتقال إليه في النزول منه يتحلل الوقت بمطاردة تفاصيل هلامية واصطياد أفكار هاربة، أتعب منها تلاحقني أذرعَ إخطبوط هائل تتقاذفني بين إبداع وعدم، تُحشر معي في رأسي تجعلني دفتر ملاحظات، ألبوم صور، أمواجا صاعدة من كل صوب، يطلب صوت كبحها حصرها بمحيط، برواية مُحكمة تحتضن الإرادة تدجن العنف، فيها ينهض مطمور باعتياد تحت ركام الأمس مُستَفزا مستفِزا يجر معنى وراءه يطارده أمامه والصوت يهمس لتوفيق مسعييه في نسق متناغم.
وعالم آثار يتبين وجه الماضي أو جانبا منه يحوّله بضوء جديد إلى وجه معاصر، مواقف حوادث قديمة تبعث لا كجسر إلى الماضي ولا لنزهة حاضر ورقص تحت مطر الصور، لا، بعد مسح الأتربة أحجار الماضي المبعثرة جسر إلى مستقبل فوق مندثر.
 
 انتبه إلى صورتين أكثر لماض لحاضر واحدة تحت أخرى، يتحرك شك نحو يقين، يحدث بحث، تحدث معرفة، ثم يقين جديد وخلاص من لِبس. العقل بمفرده آلة صماء يحركها مظهر أو جوهر آخر أكثر تجربة أكبر معرفة، حركة الأول ذاتية في مسار يُحسب صالحا وهي مدفوعة من ثان، في هيأة شخص، في كتاب، في فيلم، في حديث غير عابر كحديث رافد ذي الشجون المشحون بالظنون، يفتح العالم الظاهر بمفتاح إلى عالم سري غير بعيد، بانتباه يحقق العقل الأول طفرة، أو يبقى لاهيا كعقل طفل كسول أو قاتل أو محقق غير مبدع يكتفي بموجود.
 
مستفزا يفر الانتباه سنين عديدة إلى موقع وآخر، إلى ذروة غير التي تحت سماء نعرفها، بيت مدرسة لا تنبّه لذرى غير منتظرة فوق وجود مادي اجتماعي معقد، لتداخل عوامل ونوازع مدروسة غير ملموسة مما يُسمى خير و شر، يُكتشف ذلك بحدث صغير، بكبير، سقوط تفاحة نيوتن لا مناص لتغيير، والأكبر سقوط تلفزيون من طابق عال على رأس يتجنب ذلك المصير.
 الحفر في الذاكرة عند الكتابة محتوم، في كلام الناس، في ثرثرة إعلام، كثير مستفز، غريب، شائع، يصير الغريب معتادا والمعتاد غريبا. والاصطدام بالمستفِز بالغريب منذ الصغر له عدة أسماء، هكذا تجد داخل غريب أغرب.
تقرر اقتحامه، المركب كبير مهجور جانح إلى شاطئ كريطعة جنوب الحلة. أختي الكبيرة، فضيلة جارتنا، وأنا، في الطريق الطويل إلى بيت خالتي لجلب حليب البقرة كريمة نتمهل عند المركب الجانح العالي المخيف.. أمضي إليه.. تتبعني فضيلة..
تخاف النزول معي إلى قعر المركب، تبقى على السطح شبه المقوض جزعة، أنزل في حذر إلى غرفة صغيرة ظلامها كثيف بعد سلّم قصير. فضيلة من السطح تنظر مشمئزة إلى خراء الضفادع، داكن منتشر على الألواح والماء، تنذرني:
_  ارجع أو أعود إلى أختك.. المكان مسكون عيون عفاريت تشع.
دافعي ليس استعراض شجاعة، البنت غير جميلة، يشغلني ما في غرفة المركب، أمشي وحيدا على أعمدة غاطسة في طين وماء متهيبا لسعة أفعى، شيئا خارقا، يسمّرني مشهد غير منتظر.. ساقا البنت على العارضة فوقي متباعدان، ما بين فخذيها غريب، تنادي في ذعر لأعود.. طرف فستانها منحسر.. لا لباس داخلي هناك.. ما لها مفتوح قرب وجهي.. سينما سكوب.
عرض فسيح أمام عيني أول مرة، عفاريت هائمة ضفادع متواثبة تتلاشى..  فضيلة مستغربة سكوني سكوتي تصيح مفزوعة أخيرا: شيء بك؟!
تلبط سمكة قربي، تمساح غير موجود قد يفترسني، أصعد إلى سطح المركب، نلتحق بعد قليل بأختي على الشاطئ. تسألنا: ماذا هناك؟ ترد فضيلة ممتعضة: هذا المالح عين أخوك يقول عفريت ظهر له ينصحه لا تخف نحن مثلكم طبقات بيننا شرير وطيب، تعارف تم ومن اليوم يحرسه كصديق تصدقيه؟!
تجيب فريال: برهان لا يكذب ولا يصادق الجنون ماذا أصدق!
فضيلة قربها: لماذا بقيتِ على الشاطئ هنا؟
_  لأصيح يبو.. إذا حدث شيء لكما هناك.
 
 مساء نعود إلى البيت. ساكت إلى ما قبل النوم. تسأل أمي ماذا رأيت في كريطعة. أحكي أخبارا أخرى أنهي تقرير النهار بسؤال عن أعجوبة فضيلة: لها فم بين ساقيها طولاني لا يتكلم لا يغني. أمي تنهرني: عيب تنظر إلى ما يظهر من الناس عرضا، وجهك يختلف عن وجهها كذلك ما بين أرجلكما.
من الوهم  يبدأ الفن مطعما بأخلاق، أكتب بعد فترة قصة "بكاء البحر".. عما وراء ذلك المركب، عما يتفتق عن مجهول. الواجهة المركب نفسه وما فيه.. كشف يجر إلى كشف من طبيعة الأشياء في غرابة عابرة إلى كشف حقيقي، إخفاء متعمد، سرقة مثلا، هيمنة.
 سرقة العقل أخطر مَرتبة، مُرتبة عقلانيا فنيا  لهدف لا يظهر.
نرى الوالد يكشف مكيدة في لعبة مع ابن موظف دولة، بداية لا شك في باطن حتى ينقض الظاهر، كحزب وطني له قادة همهم صالحهم يصير ضد الوطن.
وبعد عودتي من غوتنبرغ أرى لصورة نسختين متشابهتين مع اختلاف بسيط يغيّر الموضوع، تغير اللون يغير الإيحاء، وجه إنسان ملامحه الأساسية ثابتة مع الزمن يتغير.. لحقيقة أكثر من حقيقة تحت أو فوق قاع.
من الماضي يتشكل للحاضر فصل أول.. لرواية المستقبل.
إنما في صعود على غلاف سابق: حين صدرت (الجسور الزجاجية) أول مرة في بيروت وهي عن بيت عراقي يتصدع لم أتوقع لها أن تكون رصدا لانهيار ايدولوجيا كبرى في هذا العصر مثلما لا أتوقع لها الآن أن تكون رصدا آخر لانهيار أو قيام وهم آخر من مسلسل أوهام حياتنا المتعدد المتداخل حولنا حلقات في حلقات..
 



30

الإقناع بين الإمتاع والامتناع \ الحكاية من الداخل6



برهان الخطيب

 
 
وراء نافذة المطعم إيهان قمر فتان
من لا مكان يهمس إلهام في سلوان
غلبة الكاتب لو يصمد ضد الطغيان
كسر القلم هزيمة يعوضها القدر حسنَ بيان
اختر بين الوحدة والحضور بين الضجيج أو النسيان
الموضوع هو البطل أو اللا بطل اللاهي مع خصيان
القارئ والسامع والكاتب هنا اجتمعوا ينهون حوار طرشان
حلّق بالسرد إلى مبتغاك اقطف رؤاك نسّق تلك الفيوض فك الغموض
بدءا مما كان مع تلك الجميلة على هامش الأمسية من كلام مرنان
هاجس ينبئك أن كلام رافد علّام الغيوب ونمير الساكت على سر لا يؤوب
ينحدران من نبع بعيد.. يتدفق.. من روافد مختارة بحسبان.. تمنح تعزف تذوب
قربه سرد روائينا لا لفتنة سالبة تثير خصاما بل لفتنة موجبة تجلب إعجابا ووئاما
مواقعة.. مرافعة روائية.. دفاعا عن قضية.. غائبة مغيبة لا غيبية!
 
يشق نمير الرغيف عبر الطاولة، يناولني نصفه، بخاره ضباب في ظهيرة:
_  الاستفزاز مبرر، الجمهور يريد تحديد موقف بطل روايتك "ليالي الأنس.." موقفك بالتالي.. مع أمريكا أو مع إيران؟ ديمقراطي أو ديني حضرتك؟
رافد شبه ساخر:  الرجل واضح.. لا تبعية لأحد..
نمير: واو!  أحدهم.. أو الصمد؟
رافد: رب العالمين على الأرجح!
نمير مستمتعا بالخبز: رب العالَمين أو رب العالِمين؟!
 
عمق إنصاتنا ينظّم أنفاسنا، متوافقة مع اقتراب ابتعاد معلومة تحت كلمة، كأن أو كلٌ منا يتجسس لحساب سيد فوقه. أدري أتجسس لنصي، لقارئي، لا أدري تماما مَن سيد أو سيديّ مضيفيَّ. نمير يشاكس:
_ الرواية مثالية، علماني، ديني، كردي لا يجتمعون في بلدنا كما في روايتك. بالخارج هنا تجمعنا تبعية السويد. نحن مثلا مجلس أمن مصغر، شيعي، مستقل، شيوعي، آخر على مائدة  هناك، تمام أبو حسن؟
_  مائدة مسكينة.. كيف تحتمل الكل عليها!
_  هذه المائدة أبو حسن.. لا امرأة مسكينة في خيالك!
_  ليتها مائدة مستكينة لا مسكينة.. وماذا حصلنا من مستديرة الفرسان!
لا يبتسمان، لهما حق، مزاح يحتاج لقاموس، يتناولان طعامهما في صمت. نمير في دهشة وبراءة:
_  لا أفهم كيف يبقى أبو حسن مستقلا والغربلة تنزل الكل للميدان.. لا أخفي أنا ديني صدري.
 يعلّق رافد في تفكير:
_  ينقذه حذره.. صمته.. الأحياء أمثاله قلة اليوم.
زلزال تحت كلماته. و نمير لكشف المزيد:
_  لا استجابة حتى لإغراء الحلوة قرب المنصة.. ماذا غردت معك؟!
_ سألتْ لماذا نساء رواياتي متحررات ومعظم العراقيات محجبات. أجبتُ الحجاب سياسي والتحرر منه معه متاح. قالت في مزاح: تفضل المحجبة أو السافرة؟ قلتُ المهذبة. الغريب تسألني: ما التهذيب برأيك؟ قلتُ معرفة الحدود. فسألتْ عن توسيع الذات وتطويرها قلتُ بالأدب أيضا. و.. تمنت لو نلتقي فقلتُ: الأيام مع السعي موعدة.
يبتسم نمير في مكر: موعدة؟ أو تبادلتما أرقام الهواتف.. كازانوفا اعترف!
يومئ رافد برأسه موافقا: أهملَ الولهانة نهاية الأمسية بالمختصر وإلى غيرها. ظنه مرسلة لتجسس أو لعله شبع جميلات بدراسته وعمل الترجمة في روسيا. كيف التصرف عجبا لو يلتقي مثلنا بجميلات باخرة الأنس تلك.. تذكر نمير؟
نمير مضطربا: يقال التقينا مع جميلات.. لا  بهن.. قولك يعني فعلنا لهن!
رافد بين جد وهزل: نترك التفاصيل الصغيرة..  يفضحنا بروايته الجديدة.
 
و يذهب نمير لجلب الشاي. الكبير رافد لا يبتسم حتى في مزاح صغير:
_  لا تؤاخذنا على تقصير، معونة الدولة السويدية تحرك نادينا، الطعام منها، نحاور متميزين عادة وأنت مغلق.. قرأت لك  الغربة فخ؟!
_  والوطن فخ.. الكون فخ.. حين لا يكون أمرنا بيدنا.
_  والنتيجة.. ننتحر؟!
_  نكتب نرسم يرمم فاهمون الوطن تنحسر المشاكل والفخاخ.. حينه تغرد حتى الأشجار.
_  بعضنا وطني البقية تكفر بالوطنية فمن أين الصدق والتفاهم لتيسير الحال أو أنا غلطان؟
_  غلط فلان غير غلط علان.. يبقى المنجى قيم مشتركة وطنية سيد رافد.
_  منجى منغة؟ اختلاف الناس دائم أبو حسن حتى على الشرف الكرامة العدل.
_  لذلك الحوار ضروري كما تفضلتَ.. لحصر مشكلة داخل إطار.
_  ينكسر.. من ذوق وخصوصية لا تجدي.
_  يُكسر لإبقاء مشكلة دائمة، لكسب من أذى للأضعف.. ببيع سلاح ووهم مثلا له لتقويته.
_  قلتَ بمحاضرتك روايتك الجديدة عن الاحتلال والأهل، وبسفرتك القريبة إلى بغداد تلتقي قرينك مستشار الرئيس وربما الرئيس.. يعني الحوار ممكن مع الأقوى؟
أضع كأس الماء جانبا متجاوزا حدود الكلام المبطن:
_  كذلك تدري أسافر قريبا ولا أحد يعلم عن سفري غير نسرين!
_  لا شطارة بفتح حاسوب عن مبعدة واطلاع على مكالمات وملفات.
_  مبروك للانتصار على الرجعية.. أتدارك خطئي ببرنامج آخر.
_  لا فائدة.. بتعاون يكبر الاسم والرسم.
_  الأفضل يكبر الاسم بأدبه.
_  الأدب يموت من غير تسويق أبو حسوني.
_  الأديب للكتابة.. للتاجر وغيره التسويق والتبويق مستر رافد.
_  حتى الآن لا تدري.. و.. تجارة الكتب تحت سيطرة!
_  الله يرحم التنوع..
_  والتنوع تحت سيطرة.. كما في الطبيعة ملهمتك ضمن شروطها.
_  تاج الطبيعة العقل متحاور مع غيره.. كذلك في ذاته.. لا يسرق يا رافد. 
_  المذنب مَن لا يحتاط لكل الاحتمالات.. هكذا يقول عقل منطقي.. تمام؟ 
_  منطق الطير.. تمام.
_  عقلانيتك تحببك رغم مسافة بيننا. حاسوبك في أمان. كلامي افتراض.. أو أنكر حرصا على شكليات.. تعلَم الكثير إلاّ الأهم.. الحرص على الحوار باقٍ. 
_  الأهم لك أو لي؟
_  لكلينا.
_  خلق العالم صدفة أو بتدبير؟
_  معلوم ذلك إلاّ لأغبياء اليوم.
_  يصعد أو ينزل الدولار؟
_  ممكن معرفة ذلك من رب العالِمين.
_  زلزال هنا أو هناك؟
_  المقاييس تحدد.. المرجح في منطقتنا.
_  إذاً .. مَن يدفع حسابنا للمطعم؟!
_  الحساب مدفوع قلت.
_  امرأة تنتظرني الليلة؟
_  قل شكلها عمرها تطرق عليك الباب.
_  ابنتي تقول عادة خليني أفكر.. خليني أمخمخ.. مَن يحرك عالمنا؟
 _  حزرتَ. لكنك تؤمن بتوازن أقطاب. وواقعنا قطب واحد.. هنا الفرق بيننا.
_  كما بين الله والشيطان؟!..
_  لا ترجعنا إلى حكاية قديمة.
وسطى كفه في حركة بذيئة سحنته تتغير: شاءوا دخلوا حاسوبك ولا يمكنك فمَن يعلم ويؤثر؟
_  علانية أو بالتآمر؟ للمنتصر اعتباره.. استخدم حاسوبين.. اشتغل بلا شبكة.
_  اعتبارك غير مهم بل أن تفعل ما يُطلب منك.
في نظراتنا ما يتجاوز المزاح ومساحة التمويه والمراوغة بيننا، أتدلل تمثيليا في اصطناع:
_  لا.. قد يُطلب  ما لا يُمكن أداؤه!
_ للنفس طاقات كامنة مع حصولها على المرغوب بعد أداء التكليف.. وسْعها أو وسّعها في الآية!
_  التعبير مشبَع. لكن ما المطلوب  من أشعب لا يشبع لا يحصل على ما يريد؟
_  منح الروح.. بعده النبل والخلود عند استحقاق.
_  النبل نصنعه داخلنا لا يأتينا هبة..
_  مؤمنون وغير مؤمنين في خندق واحد اليوم أنت لا تدري ماذا تريد!
_  الهملايا من فوق أجمل.
_  لا زلتَ غير صالح للعمل مع واقعيين. لا أتمنى لك نهاية قرينك خلدون في بغداد.. غربة مطلقة وعدم انتماء.. قريبا تلتقون.
_  البرج يرصد خلدون أيضا؟ كل الثقافة؟  كل شيء؟ من بغداد إلى الصين وأبعد؟
_  فرصته ذهبية كانت، استقال، صار يخاف ظله يتصور الكل يتآمر عليه.
_  أنت اعترفتَ قبل قليل.. البعض يتآمر لينهيك!
_  ولينهيك.. يأسا من كل شيء.. بديلا لانتحار.
_  كيف و مع مَن يتآمر وأنت تقول عنه يخاف ظله وهو في غربة وعدم انتماء!
_  لا تكن ساذجا تنظر إلى تهديد رمزيا.. كأديب مهووس بالأدب.
_  كيف تريد النظر إلى كلامك.. صراع ذات ما قبل وما بعد احتلال؟ شباب وكبر؟ قيم منهارة وصاعدة؟
_  التهديد حقيقي.. وأنا ما قلت شيئا.
ويتلفت رافد..
 

31
أدب / أسرار تحت أسرار الحكاية 5
« في: 19:19 05/02/2015  »

أسرار تحت أسرار الحكاية 5

 
برهان الخطيب

في قلب الروائي تأريخ نائم يوقظه رافد.. سلسلة صور ممتدة إلى قاع نسيان..
أواصل سبره مازحا في الظاهر: أمسيتنا الأدبية لتبادل معلومات استخباري؟!
_  جديدة عليك أبو البراهين؟ التبادل ليس دائما خذ  هات.. يا لبراءتك!
_  وجود لاقطة في ملابسك غير مستبعد؟!
_  ملابسي أعرفها ملابسك فتشتها أثناء نومك.. احذر غيري.. ذاك مثلا.
يعود زميله نمير حاملا الصينية: يا مرحبا أبو حسن كلمات الأمسية في رأسي ضاجة خاصة مزاح أحدهم لا أفهمه تماما.. يستبدل لقب الخطيب بالخطير لماذا!
كأن شيئا لم يكن وبراءة المعترفين في عينيه.. يعقّب رافد مستفسرا:
_  فعلا.. متدينون علمانيون حاولوا استفزازك أزعجتك الأمسية؟
 
أسرار تطل من كلام رافد تحتها أسرار، كيف يتسنى له معرفة المحجوب؟! انغمس تلقائيا في تحليل بعض ما أسمع.. صحيح له تأريخ قديم مع حزبه يمكنه الوصول إلى الكثير لكن معرفة م خ تدل على اطلاعه على ملف، على تقرير أمن قديم جدا لا يُحرق مع بغداد بقنابل الغزو. الإطلاع عليه قبل الغزو مؤشر علاقة بنظام صدام، لا بأس. الإطلاع بعد الغزو؟ لا بأس هذه المرة مؤشر إلى الحكم الحالي. شيء لا يشبه شيئا، نقيضه، أو.. للنظامين امتداد في كليهما، كيف؟ برزخ أمني؟ نظام أعلى عابر أنظمة يجعلهما فريقي كرة.. فرجة ناس من غير تماس.. وهو الحاكم على الراس.. بالقسطاس! قضايا السياسة متعبة حقا، لذلك يلجأ البعض للأدب.
لكن معرفته عن نسنس، نسرين، شأن خطير، هل له صلة مباشرة معها؟ غير مباشرة؟ أو أن حاسوبي مراقب، هذه المرة مؤكدة، ذلك تفصيل غير مهم جدا في حسابي، في ذاته، ليس غريبا التجسس على حواسيب في شائع أقاويل وأخبار، أيضا ليس مهما جدا لماذا يُراقب، السبب واضح، لمعرفة نوايا، لشك في إرهاب، لكشف سر كباب، دعهم يشكون، دعهم يشتغلون، الناس لازم تعيش، الأكثر إثارة: مَن يراقب؟ ما صلته مع رافد، بالتالي مَن هو رافد بالضبط؟ أعرفه سابقا شيوعيا محترما، اليوم حزبه متعاون مع احتلال أوكي ذلك ليس توب سيكريت ولا شأني تكتيك حزبه. لكن فهم الوضع صحيحا واجبي لأكتب رواية صحيحا، بينما يفتح تحليل المعلومة بابا أبعد.. على مؤخرة العالم، على ثقب أسود، بلوغه غير مُيسر، بماذا؟ بسفينتي الأدبية الأبية؟ شغلها آخر، عزف كمان لنسوان، كذلك مستحيل استجواب رافد كما الوصول بسفينة فضائية إلى ثقب معتم، محتمل استكمال صورة بل صيرورة نَص ظاهر خفي بمحاكمة عقلية لو نبقى نتحرك في منطقة العقل، بسؤال مثلا عن دافعه لذكر بل لفضح نسرين، أية مصلحة ولمن في كشفٍ خطير، من أين يضمن سكوتي. بل لعله يراهن على كشف ما أسمعه، يصله بعد حين، بدورة قيل قال باحثة عن يقين، عسى يعرف ما في حب و لب من رنين وما في جعب من أنين!
تلك ليست زلة لسان.. أو أن قديم الألفة وراء رفع الكلفة؟ أو ذلك اختبار قدرة.. لي؟ على حصر سر بين اثنين أو أكثر؟! مَن وراء الاختبار؟! أمن المريخ؟ أمن السويد؟ أمن العراق؟ أمن العرب؟ لا حضور ظاهرا لأمن قربي سوى مجلس أمن مشترك مصغر متناثر هنا هناك.. ممن؟ في ذلك دافع لي نحو تواطؤ معه.. لا أريده مع كائن.. لو كان كائنة أو كاهنة حلوة ربما يختلف الحال.. هيا.. واصل الدوران رقصة حول هذه القصة، عد لانشغال عتيد حول محور جديد حديد، عُقلتك الذهنية المعتادة، دورانك العنيد، حتى ارتماء دوار في جب مديد.. في حب سعيد.. أو يكتمل رأي سديد!
 
وصولك إلى نسرين يكشف جانبا من حكاية خفية، حيث المتهم لا رافد وحده وإلاّ ماذا مَن لا ملائكة تحشر سيرتها بيني بينه، ماذا تريد الخاتون حقا؟ ماذا يمكن أن أقدم لها.. أو لهم.. غير تساؤلات اعترافات لا تسر عبّاد الأسرار؟ بلاها السفر إلى بغداد محفوف بخطر.. معها يتضاعف نحو بطر خال من نظر.
وما زالت الرغبة في لقائها وأكثر تدغدغ المشاعر، أو السفر إليها لتعرف حسب أكثر.. عنها، عن رافد، عن بغداد، عن حكاية على الأفق، تنكص.. لا رؤية أبعد مما أنت فيه، لا معرفة أوسع، لا حياة فخر وجدارة، بل حيرة ماذا تفعل بخيارة!
لا تقل الأفضل لمراهق أبدي فيلم خداعي يصرف انتباهه، غواية المعرفة ليست كأية غواية، ليست قوة هوجاء. لها هدف مضمر منه إنارة البيئة الداخلية، فالخارجية، تمهيدا لعلو عليهما.. أو العلو عليك و.. تركك في أزرى بيئة.
بالمعلومة الجزئية ومواصلة التحليل يعقب الاستنارة اعتلاء، رسم صورة جديدة لحقيقة قديمة، ظاهرها تقليدي جوهرها انقلابي، قبلها الصورة، النَص، تخطيط تجريبي، تجميع أجزاء. قلتُ ذلك في مكان؟ معلوم، لا بد من التدرج، من الانتقال في الزمان والمكان، ليكتمل الكشف ترتسم المعلومة فنا عند الأوان.
واضح.. نوبة الكتابة مرة أخرى، انزلق خلسة إلى رواية، الولوج فيها لا يختلف عن الوقوع في مرض، في حب، في فكرة ملهمة كبيرة. لا وعد ينفع ولا قَسَم بعدم الاقتراب إلى المطب. يغير المصير مساره رغم الأنف والشوارب واللحية. ثمة أسئلة لها أجوبة تطلب التقصي، بسرد، على نفسي أولا، مقاربة زواياها المظلمة، أفلح في الإنارة تصير جاهزة للعرض على غيري. قبل ذلك كل تهويم مجرد بحث، عمل تجريبي، ليكن جامحا، مسهب أفكار، لا تعلو الصور تؤسس رواية فنية منتظمة حتى يستوي عمقها مع قاع القلب والذكرى والنسيان.
 تحولات شخص عند منعطف تتيح إطلاعا على غير الظاهر.. تشكّله يتراكم..
 
أبدا ليس صدفة، بدافع لا أعلم عنه الكثير يكشف القدر عبر رافد عن نصف سر مثير..
خيالي يعذبني، يستحثني لبلوغ النصف الآخر، لتكتمل معرفة، لأمسك بيدي عالمنا الصغير الكبير، تكتمل تطلب سامعا، كالذي كنته لرافد قبل قليل، قد يكون الضمير.. أوسع.. قارئ خلف الظَهر يبحث عن منفذ من حال مكفهر أو مرير.
إنما والحق قد لا يقال حيث يسود جُبن، عقاب، كسل، رشوة، خور، رافد ليس المحرك الأول للتقصي.. ولا الأخير، الوقائع ذاتها جاذبة، محورها كلمات تبدو كاذبة، نصف غامضة، مجاهل حريق أزرق بعيد ينير، نحوه شبه منشَده أسير.
تكتمل الرؤية تصير رواية.. غالبا خلال الكتابة.. هكذا تًهزم من الوجود كآبة.
 
 الرعد المنير في السماء قبل قليل حقيقي، يسبقه تراكم غيوم كمئات كلمات قبل تلميحات رافد المدوية، من أكثر من شخص في أوقات وأماكن متباعدة، تبرز سهوا عمدا عن تبصير عن تدبير لإيصال معنى، تعبر دون تعليق مني تجنب ما ليس شأني ملامسته، تاركة تفاصيل تتحدى الزمن الغابر العابر على ميزان الذاكرة، إضافة رافد تحولها صورا ناطقة، خيوطا، نسيجا، رواية مع التقصي والسبك والحبك.
 نعم، المؤثر في المشهد بطل، الإنارة تبرز ما تشاء منه.. معه.. ضده.
مَن ليس له وجه لا حق له في كلمة، في بطولة، في نبل، في ظهور برواية نزيهة صريحا، جوار مؤثر آفل، نقيضه، سلبي، نيابة عن ذات تنشق مع مجتمع له قوة قانون وأخرى خفية تحلم بسيطرة عليه، يجتمع الضدان في فرد يصير مجتمعه.
في الإعلام البطل لتمرير نمط، لتكرير نفط، لصنع أفلام، لأحلام.
فهل المؤثر هنا رافد المتراجع بعد لمعة وأخرى، زميله نمير المتحرك كنمر في حذر لسبب قد يكون اختلافا في مصلحة أو فكر، هما غالبا عملة واحدة، أو المؤثر نسرين هناك؟ تنوي تطويبي، تأميمي، لا أذكر كيف نطقها رافد. أو البطل غيرهم لا يظهر حاليا على الساحة الممتدة من ستوكهولم إلى موسكو فبغداد؟ ربما هو الروائي حقا هذه المرة في سعيه نحو حقيقة مغيّبة، خلاف الصحافي المخاطر بحياته في سعي وراء معلومة مرتبة، أو الكل أبطال.. في ساحة لم تعد هادئة ولا مهذبة؟!
الرواية الصادقة تجيب تلقائيا مَن البطل.. مَن الحبيب.. كيف هو.. وما بقية الزبيب!
 
رافد وزميله خلف غيمة دخان، من غير تصورات أجيب: كل شيء تمام. في صمت أضيف: والرواية القادمة تمام، في بغداد، حتى مع مستفِز له عدة أسماء، يحفز لكتابة تهزم الرتابة، لو تبلور الحقيقة في غيابه يصير موضوعها مَعابة، كذلك البطولة الغيّابة. الباقي نزاع على صدارة، في خفاء أو علن، في تفاهة أو مهابة.
 كيف أحدد البطل الحقيقي لرواية من زمننا غير كذابة!
أهبل ينثر صورا شخصية متصورا نفسه البطل وهو دمية دميمة مُغتابة؟
قوة خفية بل ظاهرة مؤثرة فيه فينا ولا تدري الغالبية المرتابة؟
أو هو قوة طبيعية قوة فرد تابعة؟ أو قوة فرد.. منه نابعة؟!
شخص يعلم يسكت خوفا وراء سجف؟! آخر يكشف حقيقة تبين لا ولم يخَف؟
لا بد أن يكون البطل حرا ليكون بطلا.
وإلاّ يصبح العيش والرواية إرغاما، بذاءة تائهين تهين.
التفاصيل أولا، تنسيقها على ساحة، يحدد مَن البطل في النهاية. فرد حياته إرادته؟ قدر، مؤسسة، تواجهه؟ أيضا بإرادة تحاول امتصاصه تحريكه إلى هدف قد ينقض هدفه.
يبدع الفرد.. ينحني القدر له.. يكون الفرد هو البطل.
يجبن.. يتراجع.. ينحني للقدر.. يصير العيش عسف وهوان.
لفرد وجه واحد، للقدر عدة وجوه.
ذلك يجعل نزالهما لهوله وامتداده نزال عمالقة.
يستبدل القدر وجهه.. يَظهر قزما. فرد له إرادة.. عملاق. ينكسر تنكسر بطولته.
كل ذلك في خفاء، القدر أو ظله أو نائبه يحدد أين متى يتعرض للعاصي، غالبا ينفرد معه بعيدا عن الأعين، كي لا يهرع لنجدته أخوته البشر يهزموا مؤسسة القدر يقيموا أخوّة التفاهم الفسيحة.
 القدر، سمه ما شئت، يستهدف الجميع فرادى لخدمته، وإلاّ ما كان ولا يكون.
سلاح الفرد الشريف النبيل إرادته، نباهته. إنما تثبيت ذلك عليه مؤجل حتى الإثبات.
سلاح القدر المال، المكر، الجمال، كل شيء.
وللحوار مع الجميلة على هامش الأمسية صفحة تُنقل للرواية، متنازع على كتابتها مع ذلك القدر، حيث الكل شبه سكران، دوران هنا هناك رقصةً شفافة يفوز بها فنان.
 



32

هوى غير طبيعي
 الحكاية من الداخل4


برهان الخطيب

 
الصبي متمدد على بطنه في ساحة بيت الجد العتيد، يتطلع إلى قعر البئر البعيد، وجهه مهتز هناك بطيئا لا يحيد، يبحث عن رأي سديد، يكشف ما تحت الماء والعقارب والقاع الوصيد، أبعد من مسارب ومنابع تمتص صيحة صداها لا تعيد.. في الكبر إذ يلتفت إلى صباه الجميل، تجره الذكرى إلى ما وراء تفاصيل، إلى ما يفسر صورة لا  أسطورة، إلى ذات في صيرورة، ظل يلازم إرادة شمّاء، إلى متداخل في عدة أسماء، المغيِّر المتغير، المسيطر المتحكم، قدر، قوة خفية، لهما وجود لا نراه، لهما ظل من ظلنا أبعد من منتهاه، أو الغياب التيّاه، بقدر ما نمنح من تقدير واعتبار وانتباه. 
 
 في انتظار نهاية دوام الطلاب، عند المقهى المقابل للثانوية، يلوم مالك زميله جوقي على كذبه. يرد القصير المتحفز دائما لعراك: لا بد من الكذب في السياسة أو لا أحد يتبعك. الصبي صامت، يسمعهما، يفكر في نقاشات أبيه وعمه..
_  يعني يس يم في وإلى عالم كذب؟
المسلول يصدَّق أنه في لجنة ثورية، يمسك شاربا لم ينبت، ينفخ صدرا لا يرتفع:
_  والكتمان ضروري بالعمل السري، أنا عضو بلجنة ثورية فعلا.. أخفيت عنكم.
 يلتفت مالك الحزين أو الحائر إليه:
_  يعني قريبا حضرتك من قادة العراق!
يلومه جوقي: كبيرة علينا؟ نحن فعلا من قادة العراق الخفي الجديد!
ينصحهم الصبي ملتحفا حكمة أبيه: التعملق كمصدَّق بالسياسة يكسر الرقبة، يتحرر العراق من الرجعية بمظاهراتنا يركبه جيش، تكتيك غاندي أقوى..
الرفقة تسأل بصوت واحد: وما هو كتكوت غاندي؟!
يحار كيف ينقل إليهم رأي كُبَرة، أخيرا: الحذر يغلب القدر.. يقول فاهم.
 
 آخر ساعة من دوام طلبة الثانوية، نظرات صاحب المقهى مترصدة، تبدد شحنتهم العاطفية وارد، كذلك التي قيل عنها فيهم ثورية. أخيرا تظهر القرود الضخام مشوربة الأنوف خارج القضبان، تلتقي الأعين تطلب التبيان، شررها يشعل المظاهرة في لحظة من الزمان، تشبّ تدبّ حريقا يخلب العيان، تظهر عربة الطابوق الصغيرة في الساحة الدائرية تملأ المكان، يقال لبناء بيت يقام هناك.. و..
 يتضح أخيرا تلك فرية، من لجنة تنسيق سرية، م خ ركن فيها، يؤكد رافد ذلك بعد نصف قرن من العرفان، بعد كلام وسرحان مع فلان وعلان..
تفرغ الحمولة المزدوجة، تناقلها الأيدي في دقائق، الذكريات تعود حاضرا مع كشف سرها، سيارة الشرطة تحضر لتفريق المظاهرة بعد فوات أوان، المطر الحجري ينهمر، سلاحا ماضيا لعطشى حرية، لا يروّي الأرض طبعا ولا يروّيهم يتضح لاحقا.
يجري الصبي إلى ومن المقهى جالبا الماء، يغسلون جروح شرطة، يُنقلون إلى المستشفى بسيارتهم، غيرهم ينجو، يثوب لرشده، يشغّل الهراوة على المتظاهرين، تتفرق معركة الأخ مع أخيه، يكفر الصبي بثوريته، قبل ترقيته من ابو جلمبو إلى ميرابو فيها..
 
  تفتح المتوسطة أبوابها، عيون تراقب الثوار الصغار الأربعة، كذلك غيرهم، في الفرص يتكلمون مع الصبي المشورب عن السويس والنفط وطوابع يحصل عليها بالمراسلة، بشراء من بغداد، ألبومها بعد اكتناز يعطيه لخاله، يتضح لاستمالة نجم وسيم في سماء المسيب المليئة بقهر، مساء آخر ونجوم الليل تظهر.. في فراغ السطح أسئلة أكبر.. لا عجب لو نظروا إليه كبيرهم، تحتدم القراءة والاستماع للراديو، لعمه، لأبيه، لأمه.. لخاله، مزيد من معرفة واحترام لياقة وواجب، في الأقل ضرورة مرافقة لبدلة أو سترة جديدة يخيطها له ابن عم أبيه بين سنة وأخرى، في دكانه المجاور للفرات، أناقة الفكر متصلة بالمظهر حتما..
 كل يوم يلتهم كتابا، خطة ناجعة لتوسيع حدود الذات، يأتي على معظم خزين مكتبة البيت، فالمكتبة العامة، شاربه يكثف، بالعطلات يسافر إلى المسيب لزيارة بيتيْ جديه، يتكلم خاله عن تنظيم مظاهرة سلمية في البلدة تستبق عنفية وشك اندلاع، عسى بالتغيير يُمسك المصير، تتاح مقاربة البنات والمنكر يباح..
_  مصر تسيطر على قناة السويس علينا السيطرة على نفطنا.
ينتهره خاله: برهوم حاكيني.. تريد أن تكون بطلا.. والله ابتلينا بالجهلة!
 
يوم اجتماع البستان قرب نادي الموظفين، ظله قرب خاله، كيانه قرب م خ وقريبيه، بيض الوجوه، لكنتهم محببة. يقول خاله عنهم بعد حين:
_  يختلطون بأقاربهم هنا يخفون كونهم سوريين أرسلتهم جهة لتحريك شارعنا، نمشي مع حلوين لا بأس.. لا نقلبها.. فاحذر. بلغتَ؟ نزل الماء؟ تركب الصغير تكن رجلا.
يؤنب الصبي خاله: نفكر بالجمهورية وأنت تفكر بما لك دائما أنت عكس المطلوب!
يضحك الخال تحت النجوم الوفيرة فوق سطح بيت الجد الغارق في ظلام أغبش :
_ ابن أختي ما العمل والبنات حبيسات بيوتهن واحدتهن تقول لها سلام عليكم تحبل.. مَن نرقع.. الحائط؟.. المطلوب إثباته ما دائما صحيح.
_  العب رياضة مثلي اقرأ كثّر السباحة.
_  تكذب عليَّ. ما ينفع. البطة تسبح. جنس بني آدم سرسري لازم يلوص.. بس يمكن أنت تختلف.. رومانتيزي شايف حضرتك.
ويضحك الخال وحده عاليا في ظلام يخفي الوجوه والأفكار وأوساخ المدينة!
يعود يقول.. لا تصدق كلامي ابن أختي.. أختبر ميولك أنا.
 
في السفرة التالية يكشف قرندل للصبي أثناء دورهما بلعب الطاولي في المقهى:
_  خالك مع الأسف ليس مع الوطنيين، مناصر لنوري السعيد زلمة الإنكليز، لذلك تعرقلت مظاهرتنا، اعتقلوا الأسمر، أخوي الصغير صديقك، م خ هرب، غيره، أنا مبتعد، واسمك أبعدوه، لا زلتَ نونو، لا تهتم، ندري أنت مختلف عن خالك مدافع العرش، يقول الملك من عشيرته، التغيير سلمي أحسن تحت مظلته، بينما لا علاقة للهاشمية قرية جدك بعائلة الملك الهاشمية، والسلمي غير ممكن بعد قتل سجناء..
لا ينقل الصبي كلمة في أي من الاتجاهين، بداية لا يصدق تماما ما يسمعه، و.. تعود نفس الكلمات بعد خمسين عاما، بلقاء في دولة أوربية، تبعد آلاف كيلومترات عن المسيب، على لسان الرجل الثالث، عالم الغيب، يعرفه حسنا، وقت يصيب مرض الشك الجميع، قرندل ذاك، الشهم، يمتدحه أمام الصديق المشترك: ابن الأخت صادق يختلف عن خاله تماما.
ويبقى رافد يحجب الأهم من المهم، يرسم قوسا كبيرا بأنملته في المطعم:
_  في الشيب يمتد خيط غير مرئي من الرأس إلى تحت، من أوربا إلى صبا في الوطن، إلى الشام، إلى انكلترا، إلى موسكو، فالعراق، من خفايا حكاية غريبة.
_  ضمنا ما يحجبه حضرتك.. اسم م خ الحقيقي؟
_  منصبه كبير من زمان.. لا يحسن زجه في أمسيتنا لا يحبذ هو ذلك.
 
 رافد مع اطلاعه الواسع لم تُتح له معرفة اسم م خ كاملا على الأرجح ولا كل تفاصيل الحكاية. رئيس أقوى مخابرات يعلم الكثير لكن ليس كل شيء. إنما لرواية حديثة مستمدة من حكاية غير عابرة، حكاية رافد وغيره من محترفي السياسة منذ الخمسينات، الحاسم لا إثارة الاهتمام بالغريب والتافه والعجيب، بل.. بالسامي والجميل النبيل، الأندر الأجدى الأنفس. يضبط متطلَّب الفن الرواية تزداد قيمتها، خاصة في عالم يعاني نقصا من المعاني والمعالي، من عدم ظهور خاف مطلوب، يربط أجزاء يباعدها تعسف وخطوب، لكيان واحد مرغوب. أو تتفرع رواية وأخرى، بتأثير ما يُصنع بأهواء من موجود ناقص، بخيال وجهد تُفكك خيوط متشابكة عن أوهام وأكاذيب، في واقع شبه مغلق.
كآثاري أمام آنية قديمة محطمة يجمع الصبي الذي يكبر ولا يكبر، في حذر، كسرات واقع يندثر، حكاية قديمة متجددة، عهد يمضي يشكّل لحظة راهنة.. للحظة تالية.. حب المعرفة كما الوهم قد يقتل.. إذا لم ينتبه مهووس لخطورة منحدرات على جانبيه.
 
في ساحة المدرسة المتوسطة فتى وسيم يبادله النظر، يسبي كاتب المدرسة وغيره، في دلال يتباهى بين الأقران بقدرته على صفع الموظف دون خوف عقاب.
_  ويمكنكم صفعه لو تركتموه يحبكم.. انتقاما في الأقل من إدارة تركبكم.
ذلك من أعاجيب يستهجنها يتبيَّن ما وراءها في كبر، على مستوى عال يبطل العجب، جوقي يتحدى المتهتك المنتهك: تكذب أو أرنا مؤخرتك نصدقك.
يتملاه المثلي مكابرا، خداه أحمران، بشرته صافية، عيناه لامعتان متواثبتان:
_  اذهب واصفعه قل له أنا أرسلتك لا يرد عليك.. أو أبو الخمسة هذا لك.
ويستدير. ذلك الكاتب المسكين يتضح واقعا في هوى غير طبيعي لا يرى من العالم غير هواه، أسيره يسقط. يتدلل الغاوي أمام المسلول: وأعطيك أنت بوسة لو تترك القطيع وتطيع..
تشتت يكاد يُفشل المظاهرة الحقيقية، خُلية وخلية، تنقسم واقعين متجاورين. الشخص الرصين المعبأ بأسرار، رافد، المنافس الحقيقي على قيادة التلاميذ، يتأكد بطريقة ما إن الصبي المشورب لولب، محور، يسيطر بصرامة على المثلي، يسحب منه قدرة شد انتباه وجذب، يكسب آخرين.
من هو رافد بالضبط؟ ماذا يريد من مهتم بالثرى والثريا، يقترب يبتعد عنه بندول ساعة، يجذب جوقي وبقية الخلية إليه، أبو الشوارب لا ينجذب، يعرف عن رافد تأخره في دروسه، نيته ترك المدرسة، علاقاته عديدة مغلفة في المدينة، يمتاز بذلك على غيره، والصبي عليه بشطارة الدروس وقوة الحجة في نقاش، رغم ذلك يسحب رافد منه مجموعته يتركه وحيدا..
الصبي يثير الصف بجُمل وطنية.. حتى بدرس الإنكليزية.
لا يحتمل أستاذها رده على سؤال عن الفرق بين rob   والأخرى steal  حين يضعهما الصبي في جملتين تبيَّن فرق نهب عن سرق، اللص يسرق ليأكل، الغرب ينهب نفطنا. النهب أكبر. يجن المدرس، يصفعه، يرد الصبي المشورب مسيطرا على انفعاله:
_  شكرا للوسام أستاذ!
يطرده المدرس من الصف إلى المدير، والمدير:
_  ليس كل ما تفكر فيه يمكن قوله ابني. لا تأتي إلى المدرسة يومين، قل لوالدك أن لا يراجعني بهذا الموضوع، ولا يكتب رسالة إلى بلاط الملك المفدى، الحل هنا.. عند الإدارة.
 
تبدأ مشاكل له مع إدارة المدرسة، مع ظله، أعمق..
غياب الصبي عن مدرسته يطول، يُصاب بحمى، يعود أخيرا إليها، يستقبله التلاميذ بطلا، للفت الأنظار ثمن، يبتعد إلى صفه مسرعا، يتطلع رافد إليه في إعجاب.. في حسد..
 غريب استبدالهم ذلك المدرس خريج لندن بآخر، لقبه الوكيل، و حصة الإنكليزي يبدأها بالسؤال السابق، عن الفرق بين   rob والأخرى steal   يهيمن الصمت على تلاميذ الفصل، المسلول يسعل، جوقي يتململ، يلتفت الوكيل مبتسما للصبي، يكرر السؤال، يوجهه إليه، أبو الشوارب في قمة إحراج، الرد على الصفعة أو استقبال جديدة؟ مرة أخرى أمام مقولة شيخ زبير: أن يكون أو لا يكون، و يكرر الجواب بهدوء وإصرار منتظرا الطرد، لكن الوكيل يبتسم عريضا في حماس:
_  أحسنت أبا البراهين.. تفضل أجلس.
ذلك الأستاذ  يتبدى قمة في الوطنية، يستحوذ على حب معظم التلاميذ.
 
الامتحانات على الأبواب، النتيجة حسنة كالعادة، العطلة تبدأ، ثم في منتصفها..
 على سطح بيت الجد في المسيب توقظه أخته فجرا:
_  لك اقعد.. الثورة بدأت.. الثورة نجحت.. صرنا جمهورية.. تهانينا!
يهب من الفراش، البيغ بانغ يبدأ توا، يجري في الفضاء.. كوكبا لا يؤسر على مدار.
 
 أشهر العطلة الصيفية سريعة، يعود التلاميذ إلى صفوفهم رافلين بمشاعر جديدة.  الوكيل يختفي. مدرس الإنكليزية القديم يعاد للمدرسة، ينفرد مع الصبي المشورب بغرفة الإدارة، يكلمه كصديق كبير لصغير.. معتذرا حزينا:
_  اضطررت لصفعك عزيزي، أنا ماركسي في الحقيقة، لكني كنت خائفا، حمدا يتعدل الوضع بالجمهورية. المهم، قريبا تمثل أنت مدرستنا بمباراة الخطابة فهمت؟
_  نعم أستاذ.
_  أريد منك بختام كلمتك هز حبل عاليا، أعطيك إياه، تخفيه بالمنصة تحت يدك، ثم ترميه على الجمهور.. لتذكيره بضرورة سحل الخونة أعداء الثورة.
 يؤدي الصبي المهمة كارها، غير مدرك مكيدة فيها، تأليب جماعة على أخرى، يُمنح الجائزة الثالثة، الثانية لأخته، الأولى لفتاة أيضا. ذلك المدرس يهدي كتاب (ما هي الماركسية) اليوم التالي له هامسا: أنا شيوعي أيضا. يُنقل إلى الوزارة مديرا عاما، ثم ينقلب قوميا  مع الانقلاب الربيعي الجديد أول 1963 ويُرفّعوه.
 
واحد من جماعة رافد يتمتم للصبي في ساحة المدرسة أثناء الفرصة:
_  أعطني وعد رجل.. أن يبقى ما أقوله بيننا.. لو ما توافق عليه.
_  تبادل الأسرار معرفة، يوسع العقل، يشرح الصدر، لكن.. أوعدك.
_  أنت خوش عنصر، انضم لحزبنا خادم الشعب. عمك وعمتك معنا من زمان.
لا يعلم حينه إن بعض الصور تُستنسخ، تُغيَّر تفاصيل فيها فتبدو خاصة.. بمن يختارهم قَدر لمهام غامضة. لاحقا، تجميع صورة عن حياة غائبة قد يكشف معاني خفية، حاضرة، سعتها لا بما كسبت من مال، عمارة كبيرة، صغيرة، بل بمعناها.
المعنى، عن وجود ملموس أو محسوس، يرتهن الحركة.. ميكانيكية أو إبداعية.
 
 وللحركة دافع، في رواية، في واقع، في إنسان أو أمة. عندك إمكانية الفعل تتحرك إلى بغيتك، تنقصك ترد تلقائيا في الاتجاه المضاد. عقل الشَبِع يحرك لإشباع العقل، لإبداع، يخون يخسر. عقل الجائع يحرك لحفظ الذات، يخون يدوم، بذلك يتحدد..  من أين وإلى أين.
 
الصبي وخاله يجريان من مقهى إلى مقهى، صباح لا يمحى من ذاكرتهما، منتصف تموز 1958 التلفزيون هنا هناك قد يظهر صورة، صوت المذيع باق وراء نمش رمادي أصم. مساءً تهرع قطع عسكرية من حامية المسيب إلى العاصمة، تدعم الثورة، الصبي شبه تائه في الشوارع الضاجة، م خ ليس في أي مكان. والخال مهموما:
_  كما توقعت، صديقنا م خ وأخوه وابن خالته ليسوا عراقيين، مرسلين من جارتنا سوريا لطبخ ثورة للعراق على غرار مصر، شبّت انتهى دورهم، انسحاب لبلدهم.. في رقبتهم دم عائلة ملكنا كما في رقبة البلاشفة وخادعيهم الأجانب دم القيصر وأهله.. كذلك دم ملك فرنسا في رقبة الأجانب، كل الملوك، هكذا هو الأجنبي يُقيم يُقعد يكسب ليتقاتل غيره إلى جهنم!
_  تدري الكثير خالي فلماذا لا تفرح بالثورة!
_  اشتغل معي ابن أختي في بدالتنا تفهم.. انقلاب الدنيا مستمر بحسبان.. تهدأ بعد أجيال.
 
في الكتب القديمة لمكتبة البيت أيضا كلام عن مؤامرة عالمية، يساهم هو فيها بتأجيج مظاهرة ولا يعلم؟! لا يفهم كل شيء، ما يحدث أكبر من تفاصيل متفاعلة في عقل مراهق منفعل بتغير العالم سريعا بجهد مجموعة متناثرة مُحكمَة من البشر.. سماها م خ  طليعية.. الآن يختفي.. بدر أفل.. أو تخطيط إلى أجل!..
في السنين التالية تتعدد الطلائع، تكبر، تصغر، تتقاتل، تتراكم وقائع، حقائق، مظاهرة ما قبل الثورة في الذاكرة نجمة فجر، تظهر تختفي ناعمة ساطعة، سطوع أول قبلة، كذلك خشنة، فجة، كصفعة مدرس، تمسحها ظهيرة استثنائية، ككل ظلام سابق في نهار لاحق، بلفحة نهد عارم.. على وجهه الصارم..
 هتافات تأييد بعيدة، أهل المحلة يجرون، لفرجة، لمساهمة، لصياح، تنتبه الجارة لغياب أهله، تدخل ساحة بيته شبه المظلمة بغطاء الجنفاص، لبؤة هائجة تنوي افتراسه، تدفعه بخشونة تنزوي في الحمام الصغير، يتبعها في هدوء خائفا، تغرقه وراء الباب بين نهديها وشفتيها، يختلط عليه من أين تبدأ الثورة وإلى أين تمضي ويمضي.
 
  إنما.. مهلا.. مهلا.. ستوب!.. أيها الكاتب الكبير.. ماذا تسرد! عيب عليك..
أصلا.. مَن قال لك حق أن تكون بطل رواية؟! من قال عندك مفتاح العودة إلى ذلك الماضي الخطر حتى اليوم، العطر في ذاكرتك بين صحو ونوم.. أوكي.. تجديد ممكن.. تجديف نو!..
ماضي الأبطال يصنع أرشيف أممهم، هل تضع ماضيك هنا وليد مستقبل لغته الرمز نهايته دخان.. في لفائف سيجار.. حاضنة لعابر الأشواق إلى الآفاق.. لمن؟!
البطل الحقيقي هو المؤثر في الأحداث، هو رافد حتى الآن، سلبي، إيجابي، مزيج منهما، غير مهم. هو الاتساق، المرحلة تحدد المجرى، كصخور نهر دفّاق.
 أو أنت تهدم السدود.. ليكون السرد فسيحا صادقا يتجاوز الحدود.
هنا صراع بين رواية ولا رواية، بين فن وواقع، بين محافظة و تحرر.
 
 



33


مرآة الصبا تتهشم
الحكاية من الداخل3


برهان الخطيب


حصان الجد وبقرته في حجرة الاستقبال، يتطلعان إلى القادمين في فضول، زوجته الثانية رغم ولادتها ثلاثة أعمام على تسميتها القديمة "الجديدة" تعلف الدابتين الجت وأوراقا جالسة على ديوان، لا يسلم عليها كعادته بعد دخول البيت، ولا هي مهتمة بأحد، دقيقة مزاح مع الحصان ويتركون الاستقبال إلى الحجرة الداخلية، أربع درجات فوق ساحة البيت، الجد يقرأ كتابا على حصيره، عمامته جواره، يضعها على رأسه إذ يراهم عند المدخل متوقفين في انتظار ترحيبه..
أخيرا يتقاطر زملاؤه يقبلون يد الشرع، يصليه الجد بنظرة حمراء: وأنت، تتشبه بالزنديق والدك! يد جده أمامه، من الخلف يدفعه صديقه الحلي، الشاعر المعروف بعد سنوات، يقلد الزملاء أول وآخر مرة في حياته مهمهما: لا تتكلم عن أبوي بسوء.. جئنا نشوفك نسلم عليك.. جدّو..
 تلك اللحظة يكبر، غير سهلة وقفة تحد وقرار، حتى من ذي محتد وأصول قيل، كذلك بعيد الشجرة في أول ظهور ببنطلون جنز في المدينة، يتفاخر مدير المدرسة الشرس بخطبة الخميس بأناقة الصبي المشورب، لحظات لا تنسى تستحق السرد وعمه الأريب لا يهتم لها بما يدوّنه في مجلة الأديب بعد فصله من دار المعلمين متهما بالشيوعية.. يضطر الجد ليبتسم، عيناه صفراوان كهرب، كعيني الأخت الوسطى، صلبتان كنبرته:
_  بوشت! تحكي كباريّة مثل أبيك، شلونه؟ صداقته مع المنكر أين وصلت؟
يتجاهل الصبي السؤال، يلتفت إلى مهند مهادنا: تعال سلم على جدي الشرع!
 مهند يهمس من مدخل الحجرة: ما أقدر انزع حذائي، عندي فركاس والدنيا باردة، انتظركم هناك. يتراجع إلى ساحة البيت. يضحك التلاميذ، يُنعت منذ ذلك الحين: فرجاس ما ينجاس.
لا يلومه الصبي على انسحابه السريع، ولا نبزهم له باللقب البديع..
معتاد.. شخص لا يتدخل في غير شأنه، آخرون يبحثون عما يُضحك في بؤس، ذاهب بعيدا لاختزان انطباعات رواية قد تُكتب مستقبلا.. من حساب إلى حساب..
حادث آخر وآخر يستحق السرد لا يلتفت عمه إليه، عراك أثناء نقاش تلاميذ، انشطار مهند عنهم، حلقة السياسة الأولى، الكل طرف في معركة رغم أنفه، باختصار يبدأ الصبي يرى الواقع قصة، مثل كبار، العم لا يستمع له حسنا، يكتب همّه ينشر، ذات الوقت يتوجب الحذر لصد خطر، عنه عن الأهل، يبرز حتى من نقاش بين العم الثوري والخال الملكي، تلقائيا يقف هو مع فقراء العالم، مسافته عن صديقه مهند ابن مدير المعارف، أياد ابن المتصرف، ضياء ابن وكيل الإنكليز بالسوس، أحمد ابن مدير الشرطة، بل وعن ظله، تصغر تكبر بما ينتاب من خلاف معهم في أنَفة، من خوف طرد من مدرسة، داخل حلم كبير.. في ألفة.
الصبي يقفز فوق المراهقة إلى رجولة، كذا تعترف أمه لجارتها، في عزلة بغرفته يقرر وضع مدونة أفضل من التي يدبجها عمه، لا يطلعه عليها حتى تكتب صحف عنها يطلبها منه، كي لا ينسى الوعد يخط رقعة "لا تثق بأحد" يضعها تحت زجاجة منضدته، بين صور مدن مراسليه من مصر ولبنان والسعودية، يراها أبوه يعاتبه على "انفصاله" مبكرا عنه، يرد بوحي مما يقرأ: كل الثمار تبتعد عن أشجارها في النهاية. يحزن أبوه عن جد: كذلك تنطق الحِكم مبكرا مثل أنبياء.. ليتك لا تُرجم يا ابني من جهلة في المستقبل! تتغير معاملته له، يبدأ يحترمه.
ومثلما يتشوق الصبي "المفكر" ليكبر لا "يتهيب صعود الجبال" يغمه الكبر لاحقا في عالم "كثير الحفر".. 
 
إحساس بازدواجية وثنائية الوجود يداهمه تهديدا قبيل البلوغ، قبيل 14 تموز المعروف، بدنه لصبي و.. رجل فيه يشتعل، كما مصر بالعدوان الثلاثي عليها تشتعل تغدو مشعلا، نورها ينصب من الراديو في كل البلاد المنكوبة مثلها، بحرب وفقر وأمراض وجهل، يسكته والده حين يدمدم قربه: ضروري نثور أيضا، سيادة كرامة ينقص الأمة. يكبر الخطر على مثيري عواطف واضطرابات، مَن يصل خبره مركز الشرطة ولا واسطة له يقلعون أظافره، رغم ذلك يلتهب التلاميذ حماسة، أبوه يخاف الفصل من مهنته التعليم، عمه ينتظر إعادته لكليته، خاله يظل لغزا دائما، صديقه م خ هناك حذر في العطلات، هادئ، مبتسم، دمه يركض أزرق في عروقه الشفافة، جلده أبيض ناعم، مجمل كلامه يتطابق مع أحلام الصبي، من هناك بداية..
باجتماع البستان القريب من بيت الجد يتفقون، تأجيج مظاهرات في البلدة ومركز اللواء.. يعود الصبي إلى مدينته، ينبذ المناوشات مع والده وجارته. مع ثلاثة من زملاء مدرسته المتوسطة يدور على بيوت ومحلات ناس يعرفهم ولا يعرفهم، منهم مدرسون، يتطور نقاش إلى خصام، المظاهرة تندلع أخيرا، المدينة تنضم إليها.
 
 قوى ظاهرة خفية تحرك الناس، أشجار في عاصفة، تتغير اتجاهات الريح ومواقع الكائنات، كذلك الصور والأفكار في رأس محتار، معادلات و نتائجها خارجه، بين شك و يقين، هزل و جد، تتشكل خلية أولى، جوقي القصير، محسن المسلول، مالك الحزين، طالب آخر من صفهم أول متوسط، التفافا حوله، أثناء الفرص، خارج المدرسة، يناقشون هدم سقف العراق، حرث أرضه بأظافرهم، العالم كله يتزلزل أمامهم تحتهم، يبقون جعلان تتمختر أو يقولون كلمتهم، يصدر أول قرار.. يسمعه السمك اللابط والبط واللا بط المُجتمع مثلهم عند الشط..
 
الصبي أبو شوارب المخشوشن الصوت يقترح بتعليم سابق من م خ: ننشط خارج مدرستنا، وجوهنا وجوه برت لانكستر وكيرك دوجلاس وكلارك غيبل معروفة فيها، نروح إلى الثانوية، يشكّوا في أعمارنا الصغيرة نفهمهم أرسلنا القادة الكبار، لجنة ثورية.. كلفتنا إخباركم..
_  ما هذا؟! لم تقرءوا عن غافروش الثورة الفرنسية، المظاهرة اليوم بعد نهاية الدوام، الجميع يشارك، المتأخر خائن، تطوق مصر الشقيقة وبغداد كلبجة حلف ونحن نأكل لبلبي هنا.. أين الغيرة.. أين الحَمية؟!
 لا يتوقع الصبي وميسرته المسلول أي دوجلاس، وميمنته جوقي أي غيبل، يحمي ظهرهم الحائر مالك بدل الحزين من مسعور قد يهجم على داعية الثورة، أن يكون لكلامه فيهم، من وراء سياج الثانوية، تأثير الفلفل الملهب في دبر جحا. الحماية المشددة حوله تترك إلهامها حتى في الطلاب الكبار وراء القضبان، قرود سجناء انقلبوا غوريلا، ثوارا، بعضهم يسأله متلمظا: من أنتم؟ كم تدفعون، أكو ركوب؟.. يكذب جوقي: كيف لا تعرفنا، إذاعة صوت العرب تتكلم عنا، نحن من اللجنة الثورية لتنظيم مظاهرات الحلة أم الباقلا!
 اليوم التالي توصد مدرسته، يعود مع جوقي والمسلول والحائر إلى المدرسة الثانوية، قرب سورها ينفخون صدورهم: يا جبناء، صغار المتوسطة والدلقلية أشطر منكم! يلازمون المقهى المقابل في انتظار نهاية الدوام، قبل أول هتاف منه بين الطلاب تنتظم المظاهرة، مَعلما في تاريخ اللواء، عفوية، صاخبة، في سيل عرمرم، متوقعين ظهور الشرطة بين لحظة وأخرى.. و تحدث معجزة..
 
و يسكت الأديب الأشيب أمام جمهور الأمسية الأدبية ملتقطا أنفاسه، يضيف:
_  تظهر عربة محملة بالطابوق أمامنا صدفة..
 
في الطريق إلى المطعم الزجاجي يكشف رافد، بعد نصف  قرن، سر العربة:
_   لم تكن معجزة ولا صدفة ولا عجب.. العجب عن غموض.. عن جهل..
 
مرآة الصبا تتهشم يوما دون خسران، يدهش لصورته الجديدة، الحصيلة لا قيمة لرواية بريئة في عالم غير بريء، ولا قيمة لرواية غير بريئة في عالم يفقد براءته، براءة العالم لا تستعاد برواية، بروايات، ممكن ترميم براءة إنسان بها، لا الإنسان، ذلك يعني وضعه في مجابهة ضد غيره.. ذلك أفضل من غفلة؟!
 
بالكبر تغيّر صور ما لها من أثر إلى غير المتوقع، إلى تغير المندثر، تحريض طلبة دون رد فعل لا يمر، والده ينذر: الشرطة منتبهة لك، الهدوء لازم.  و.. تمرر الخطر منه وعليه، جزءاً من حصة مشاركة قوة خفية تنوي قلب الأشياء؟ النظام وقلبه من مصدر واحد؟!
بعد التغيير لا يدهش والده من رفعها شعار الناقمين والجماهير، تنشد معهم:
اسألوا الشرطة ماذا تريد.. وطن حر وشعب سعيد!.. 
طبعا، شعار خصم ليس ملكه.
 
 



34
أدب / الحكاية من الداخل 2
« في: 00:21 22/12/2014  »


الحكاية من الداخل 2

برهان الخطيب


المؤلف قبل كتابة رواية يجابه ديناصورا يبُعث حيا، يُفترَس منه.. أو يصعد ظهر الوحش. من أجل نتيجة طيبة يستنفر كل قوته الظاهرة، في عجز يلجأ إلى الاحتياطي منها، إلى خفية، قد يستلهمها من تعاويذ وملفات وحكايات وتنازلات، إلهام الروائي يمتزج ببداياته، يتحرك الوحش من الماضي، له سن ناعمة هذه المرة، في فم وليد نهاية الحرب العالمية الثانية، سن تبدو غير طبيعية، تفصيلا بل ظل روائي عنيد، لنص له تعقيد، من زمن عربيد، كشف فحواه يحرر الآه، وقد يستجلب مشاكل ويخاصم فطاحل، يستعاد ما قيل عن مسنون، ريتشارد الثالث، لويس الرابع عشر، غيرهم، يُولدون مع لعنة في فمهم، سن صغيرة، تصدّق الجدة بلقيس والأقارب ذلك، تؤكد رغم الانتظار المتشوق الطويل لميلاد أول حفيد من ابنة أثيرة بأنه قد يجلب شؤما، عليه المرور بالموت بطريقة ما، فيطير الشر المتربص ويعود الخير يسكن بيتها. وعلى ديدنها في مزج الخارق والمألوف يتفتق خيالها المتحاور مع الطيور والأفاعي والملائكة المارة وراء المكشوف، خاصة عند الوسن والشجن والمحن، عن تدبير لا سابق له ولا تصوير، يتلخص في رمي الطفل المسنون من السطح مصحوبا بنذير، وعلى الأب أو غيره أن يكون في ساحة البيت مستعدا بحسن تدبير، لتلقفه وإنقاذه من مصير عسير، بعد ذلك الخير وفير، أو يهوى على الأرض ويخسروه، ومعه خطب خفي غير يسير.
 لا يتمكن والده في ساحة بيت الجد عن الأم رغم صياحه من ثني خالته عن عزمها الخطير، تحمل الطفل بعد الأربعين يوما تمضي إلى السطح في نية التغلب على القدر، بما يميز الآدمي من قوة وحذر، والوالد يهرع من حجرة النفاسة متعجلا استبدال البنطلون بدشداشة، في طقس يتجاوز النجاسة إلى قداسة، الأصح تسهيلا للقف طفله في الحضن، كأن كل ذلك يجري على شاشة.
 
 يُنقذ الطفل طبعا، من حكايته يطلع راوية، بكلمات يصور ديدن غابرين ومعاصرين، قتل معلن وآخر لا يبين، تفاصيل تفاطين يصممها لزمكان عاقلين، بينه بينها مسافة لرؤية ويقين، مبكرا ينجز "خطوات إلى الأفق البعيد" يتبعها "ضباب في الظهيرة" عابرا محنة وأخرى إلى مدى بإرادة لا تلين.
 يصطاده والده بين أطراف الدشداشة، كسمكة لاحقا من الفرات، ترتفع هلاهل، ميلاده الحقيقي يبدأ، أسطورة تصنعها الجدة تنفذها ببصيرة ثاقبة، ثم يفتح الجد شيخ مهدي والد أبيه قرآنه مغمضا عينيه، يضع إصبعه على مهبط للوحي يقرأ: قل جاءكم من الله برهان. يقول هذا اسمه. والطفل يمشي بعد حين.. كرئيس الوزراء برهان الدين باش أعيان.. بطة ممتلئة.. تغري لقنص وترقيص وتلحين..
غالبية ترفع محاسن فوق عيوب في اعتراف، أي اعتراف معرض طعن، أيها السارد لا تظهر نفسك متأنقا عطرا كريم محتد، القارئ الفطن يفهم كم من الصدق في كتاب وخطاب. تموه تفاصيل وأسماء حماية لخصوصية أصحابها والسارد ذلك حق، كذلك ليس كل شيء يُعرف، ولا كل ما يُعرف يقال، تحلّق فوق الأرض لا ترى نصفها الخفي عنك، والبعض في ابتكار عراقي بامتياز ُقتل ويُقتل لموقف، لكلمة، تموزي، الحسين، فهد، الملك فيصل، قاسم، الصدر، صدام، طويلة قائمة الذين اقتيدوا على أرضنا إلى حتفهم لهدف عام، ذلك يجعل لموضوعهم قيمة وقيام، على كفة وعلى الأخرى حياتهم وإلى أمام، وما يزال الباب مفتوحا للأنام.
 
نصير حكاية، عن اختلاف ورغبة في وئام، مطلوبة، مسارها من نطفة إلى عصبة مذمومة أو مرغوبة، و لكل حكاية بداية ونهاية، كثيرا ما تكون بجريمة مصحوبة، بعاطفة مشبوبة، حادث يكبر يستحق السرد، لجمهرة صاحية وأخرى معطوبة، بفن تنجز.. تذيع تشيع، لـ وعن حياة تنقضي من بقاء إلى فناء، غالبا مرعوبة.
 
 تسعيرة الحياة في عراق اليوم مائة دولار، متغيرة حسب السوق، تلك معلومة من شخص يحدثني عن شيء أعرفه، فلا يجوز الكذب والهذر، و ربما السعر أرخص على مكان تحضّر. العالم برأيه يخربه مصلحون. عندهم القتل تفليس حَب. قبل ذلك يصل أو لا يصل تنبيه إلى مَن عليه النور والدور، علنا وربما من أقرب الناس، همسا من عابر سبيل في غير إحساس، كي لا يشاع صاحب الطلب مبتذل أو غدار، لا، كذلك مِن القتل في بغداد ما يُحب، تكريما لـ .. ومِن الحب ما قتل.
بلي، من جريمة أو محاولة جريمة تبدأ رواية، لا من عدم أو ندم، الدافع للسرد متنوع، كالمدفوع، فضول، تقصٍ، شهرة، رغبة محبطة أو مشتتة، تشف، ذلك في واقع وخلفية، في رواية تصير أممية، يُستخدم السرد فوق التشويق لسبر ضفاف، لتزويق أخلاقي وسواه، يرفعه يبرره، حيث البشر أرقام معادلة، مفاهيم فلسفية، رموز قراء.. ومنهم، فيكتسب كتاب جدواه، سلعة تموسق الآه، تقتل الضجر، تشحذ الانتباه.
 
 من أين تبدأ؟ يسأل كاتب نفسه مرات ذلك السؤال وغيره، في محاولة لملمة وعرض تفاصيل وافرة، كل شيء يخضع لمساءلة واتهام، ضرورة هذه الجُملة وتلك الكلمات، النص مفتعل من غير تبرير، كذلك ضروري ترويض حادثة روائية تنزع لغيب وتغريب، تجمح إلى غير الممكن، تصير عصية على التصديق، كل ذلك في صراع متأجج حول الكاتب، فيه، فعلا ناميا بـ  ولتجسيد الصورة العامة، وقت الشد والجذب فيه وخارجه من قوة وأخرى حتى ذروة تجل وغياب. 
مجرم محترف لا يترك أثرا دالا عليه، كذلك الروائي، نقيضه.
ذاك البوكسر يتحرك من حقيقة إلى وهم، في حسم، يبدأ الهدم. والروائي، البودل، من وهم إلى حقيقة، بحدس، يضبط، يدقق وقائع، يدعم الواقع، من تخريب إلى بناء، وخلاف المحترف ينتقل من رذيل إلى فضيل.
 
مع سن مبكرة كل شيء مشكوك فيه، ثم كما في رواية عميقة مبهرة يتضح العكس هو الصحيح، الجدة تتصور مجاعة وفيضان وشك اندلاع، يتبدى العام من أحلى الأعوام، يتذكر الوالد.. الحرب تنتهي، الأرض تزهر، يمر فيضان الفرات ناعما، تمتلئ مناضد الطعام والأسواق بالأرزاق، والقلوب بالأشواق، مخزن الجدة بهدايا الأهالي بعد استقبال طفل وآخر جديد، راتب التعليم إلى ترفيع، يغضون الطرف عن محاضرات خارجية، يرسل العم والعمة إلى العاصمة لدخول كلية، الجد مهدي بعد التثنية يفرح بأول حفيد بين يديه، لا يزور الجدة في كربلاء غير مرة كل شهرين، يتهمه الوالد بإضاعة الذمة والعمامة، بتغليب دنياه على دينه، وتحدث القطيعة..
الجد المعمم غاضب، ابني الكبير عاق، يعاشر شيوعيين، يدخل يهودا بيته، يعاقرها خفية وعلنا، فماذا انتظر منه؟ لا قدم له في بيتي ولا لي في بيته، ربيته خرّجته بأول دورة تعليم في العراق للغة جناب الانكليز فليكف عن ثرثرة المعيز يصرف من راتبه على أمه ونسلها العزيز.
 الوالد يأخذ ابنة الخالة زوجته وطفليهما يبتعد عن الجد عن بلدته المسيب إلى مركز اللواء، الحلة، ربع راتبه لأمه وصغارها في كربلاء حتى يستقل الأخوان الأصغران عن الخالين، يفتحان ورشة حدادة، يقول لهما دوركما حان، يبقى يدفع لأخته وأخيه الثالث نصف مصروف دراستهما بكلية دار المعلمين ببغداد، لا تنتهي المشاكل حتى بوفاة الجد والابن البكر وروح العائلة بعد عقود..
 جذور المشكلة في الماضي نعم، في إخفاقات تصير لغافل ذكريات سعيدة، لروائي تظل تعيسة، سوءَ فهم يتطلب التشريح، السبر، كقرد على جلده وجلد أخيه، علاجا ذاتيا، تلقائيا.. بسرد مضاد للشائع المعتاد.
 
تخيب مساعي التوفيق بين الوالد والجد، وبينهما والعم والعمة، تستمر جلسات العصر والخمر والسياسة والكياسة على اليسار في الحلة، على اليمين في المسيب مجالس العزاء ولوم الأبناء وأولهم الأكبر لخروج عن المألوف، الصبي في الوسط يفكر ويفكر، صراع بلا طائل بين أقرباء، يصيّروه لأضداد وهو لأنداد، في ظله يكبر من طور إلى طور، من كتكوت إلى طير، يبزغ شاربه قوس قزح يعيده إلى الأفق بلا فرح..
مشكلة مزمنة حادة، تترك في نفس مرهفة ندوبا، تزهر أدبا، صبّارا في بور..
 
أخيرا ربيع حقيقي، تلاميذ مدرسة حمورابي الابتدائية عصافير تزقزق، قفص الباص اللامع بالدملوغ، السفرة المدرسية الفصلية إلى البلدة القريبة، مسقط الرأس والأحلام، جارة الفرات وبابل أم الدنيا، مهند ابن مدير المعارف يقتفي المعلم، لا يدري ماذا يفعل، أخيرا يقترب إلى الصبي ابن معلم الإنكليزي، يسأله: تركب خانة الشواذي أو الصدر؟ آخرون ينادون للالتحاق، لا يترك مهندا وحيدا، يجره معه إلى حوض الوسط، غناء، تصفيق، ضحك لا ينتهي، ظهرا يفتحون صرر الطعام، معه حقيبته المدرسية، أكبر كمثرى تراها عين تتدحرج، أجنبية يشتريها والده خصيصا له للسفرة، لا يكره التلاميذ واحدا منهم، على العشب قرب سدة الهندية تحوم عينا مهند فوق الحقيبة وهو يقضم شريحة دجاج، ألذ طعام في حضن الطبيعة الأم، يصعب العلس قرب زملاء بلا طعام، يتلقفون البطاطا وبيضة. يسأله مهند: والأجاصة لمن؟ يرد الصبي: تفضل، خذها..
تمتد يد المهذب الجم تسحب الكوكب الدري، يُضاء وجهه، يسكت التلاميذ، تخشخش الثمرة، تقطر عسلا، يعود التلاميذ إلى اللغط والخبز مبتسمين، غانمين السلامة، من أسنان مقحامة..
يتوقف الباص على تقاطع شارعي المسيب، جولة في سوقها ساعة، يحيطه زملاء لاقتحام الولاية والتوغل إلى النزيزة، يحذره معلم الرياضة: أبوك لا يريد روحتك إلى بيت جدك!..
مهند يلتزم الباص. الصبي يعترض: ما نهاني عن زيارته.. تجيء معنا مهند؟
ينضم ابن مدير المعارف إليهم.. يسكت المعلم.
 



35
أدب / الحكاية من الداخل 1
« في: 21:42 24/11/2014  »
الحكاية من الداخل 1

برهان الخطيب

عن سوء أدب أو غيره يرفع بعض أهل البلد إصبعه الوسطى أحيانا نحو وجه مهاجر، في طريق، بار، أو حديقة. تطوف تلك الإصبع مكبرة لي في حلم، كذلك قرب مبنى النادي، قبيل محاضرة ألقيها بأمسية أدبية، تنتهي وضجر يلاكمني بقفازات غير مرئية، جولة عاشرة أو عشرين.
 بعدها نذهب ثلاثة فرسان للعشاء في مطعم شرقي متواضع، عودتي من غوتنبرغ جنوب غربي السويد إلى شقتي في ستوكهولم وشيكة، أفكر ونحن ندخل المكان الدافئ: يمكن كتابة رواية حول تلك الأصبع، ورواية أخرى حول لماذا نحن ثلاثة، وأخرى حول ضجر في فردوس، وجزء آخر أكبر حول لماذا نحن هنا، تفاصيل وافرة تتراكم، رغم دفنها عميقا كنفايات نووية تطل من صمتنا عاليا ونحن نجلس، منذرة بإشعاع أو صخب لا ينتهي عند مائدتنا.
 يتردد رافد حين يسأله زميله: مَن يذهب لجلب الأطباق؟ في العيون خوف من دس سم في طعام، لما يزل الكثير حولي أجهله، يطلب رافد من زميله لو يخدمنا، ويمضى الرجل شبه مرغم. ونسكت ينظر أحدنا إلى الآخر..
في السماء خارج قفص المطعم الزجاجي يهدر رعد، يتدحرج دمدمة عفريت فوق الرؤوس منزلقا إلى البحر، تبتلعه الأمواج غير مسموعة هنا في صمت.. في هدوء.. يستفسر رافد مروضا نبرته:
_   طالما نحن وحدنا.. تسألني عن شيء؟ 
يتجاوز التحفظ، أبقى في ترقب:
_  لا. تريد أنت أن تسألني؟ تفضل..
_  شبعتُ من الهمس في أذنك منذ وصولك غوتنبرغ.. وأنت صاموت لاموت!
أتناسى معلومة وأخرى تضايقني، تحضرني ذكرى أتصورها طريفة:
_ عام 1963 حدثنا أكرم الحوراني في بيته بالشام أنه سأل عبد السلام عارف بمصر بعد ثورة تموز، وناصر قربهما، لماذا أنت ساكت؟ رد عارف عندي خطاب مهم اليوم. لامه الحوراني: وشو يعني، خايف يخلص الحكي، نجيب غيرو!
يلتفت رافد إلى الزميل هناك قرب منصة الشواء:
_  و خطابك للأمسية انتهى و حكينا ما يخلص.. و حضرتك سكوت.. قلة ثقة؟
_  لا أسرار عندي رافد.. الرواية خزانة أسراري.. تدري.
_  لكلٍ سره.. حتى روائي ملعون خصب سرده.
عيناه في عينيّ، تفصلنا المائدة الصغيرة، عنده الكثير يثير شهية السؤال، كذلك عندي له، نفضّل الصمت، لا نصل بالكلام إلى مكان غير الذي نحن عليه. جامد الوجه يرد تحية بعيدة، يتمتم سابرا خفايا:
_  معارفنا بدءوا يقولون صرنا نتشابه.
_  فعلا.. كلانا دبدوب.. شيبوب.. حبّوب.. من نفس المدينة والمدرسة.
_  يقصدون بالأفكار لا بمظهر.. ولا بمتوسطة وغيره قبل ألف عام.
أكرر ما كنتُ قلته يوما: يفكر الناس بطريقة متشابهة يصلون نفس النتائج.
يتلصص من تحت أجفانه المنتفخة:
_  سمعت ذلك منك قبل التحرير بزيارتك الأولى غوتنبرغ، حينه ذكرتَ كلمة صحيحة بدل متشابهة الحالية.. ثالثة لا يريدون.
لا أسأل مَن لا يريد زيارة ثالثة ولا لماذا.. ذلك واضح.. فيلم جديد إخراج قديم!
يتلفت بطيئا: يريدون كشف مَن أنت حقيقة.. لمعرفة كيف التعامل معك لاحقا.
أعاتبه: عدة كتب آخرها عن الغزو غير كافية للمعرفة.. أنا أيضا لا أعرفك إذاً!
يوقف نظرته عليَّ: الأفعال أهم من الأقوال. معرفة العمق مهمة. أنت في النور.
_  وأنت في الظل دائما؟ على أيهما تعتمد بورصة المخاخخات الدولية!
_  على كل شيء.. لا تختبرني في اختصاصي.
بعد قليل يستفسر: أنت جاد بفكرة استقرارك في بيتكم القديم ببغداد؟
_  حتى الحجر المقذوف إلى السماء يعود إلى أرضه أخيرا.
رغم شعور حصار أرى "أخبار آخر الهجرات" تحت الأنظار، بسببه تلك الإحاطة في هذه المحطة. في حزنه المقيم يواصل مبارزة عقلية: نعرف كل شيء، حضرتك صموت، سوسو بوسو هناك تدعوك؟ الآن حتى البيوت زجاجية لا فقط جسورك، والآتي هناك ربما أسوأ من حرب. إنما أفهمك، الوحدة منهكة غير طبيعية، أنا سافرت إلى ليبيا جلبت ابنة أحد رفاقنا زوجة.
أتناسى دهشتي لعلمه بمشروع سفري إلى "سوسو بوسو".. استغرب:
_  ما عرفتني على حرمتك!
_  كانت حاضرة في الأمسية بالصف الخلفي.. حزينة دائما مثل قلبي.
أتوجس الأعماق مثله لكن في مزاح:
_  غير الطبيعي طبيعي في وضعنا حتى تحوَل رفيق لمثابرات.
يرمي هو أيضا عصفورين بحجر:
_  مخاخخات مثابرات مخابرات.. بالتنازل انسجام.
_  لا شيء بقى لتنازل رفيق رافد. كل العراق خسر.. شيوعيين بعثيين إسلاميين ليبراليين.. وأنا وأنت.. دقي يا موسيقى!
_  قريبا ترى بعينك، بوسو هانم تنوي ركوبك، أبطالك هناك يفكرون في قتلك، تضطر لتنازل آخر، تبقى تراوح هنا بالسويد، تستمتع بغربتك، بجهنمك.. تعبيرك.
_  لمضايقات من قوى عنصرية وخفية.. وإلاّ هي نعيم.
_  العنصري مكتّف والخفي مكثّف يغيّر العالم والمثقف مثلك يشكو دائما.
_  تغيير لمصلحة ابن البلد أو لسرقته؟ بحرب أو بتنمية؟ لتأورب أو تشورب؟
_  تبعث رسالة إعجاب لأوربا؟!
_  تقرأ أفكاري.. أو تلك أفكارك يا نائبا عن حالي وخالي؟!
_  أغنية. معظمنا يميز مطلعها.. يا غربة في خيالي.. من مقديشو لمالي!
_  سيد رافد بعد الهجع أراك تطرب لكل أنواع العزف حتى التانغو!
_  الكشف لا العزف، قلها صريحة لا تخف. الوشايات والأخبار تصلنا أخيرا.
_  أخبارك عجيبة فعلا لا أفهمها أحيانا.
يواصل الحفر بكلماته كمثقب رصين في أعصابي: أحاول إثارتك لعلك تصارحني!
_  غريب أمرك رافد.. أصارحك بماذا وأنت تعلم أكثر من عزرائيل؟!
_  نظراتك تخفي شيئا. لا تتردد. لم يبق للتأريخ غير احتقاره.. ذلك شِعرك، وأمس تكلمتَ بأريحية مع صاحبنا عن مثليته، فلماذا تخفي، أنا أصارحك بالكثير!
_  لا أحد ينجو من كلام سوء.. لكن بربك ماذا تتصور أخفي عنك؟
_  بربك ها؟.. وما لقيت غيري تحلّفه!
_  الرفيق الأعلى لينين استنجد به.. أو تبتَ عن اللينينية تحولتَ إلى الليبية!
_  هو ليس الأعلى. أنت تكتب وتستسلم لإغواء المعرفة فلا تستكثرها عليَّ.
_  لو عندي ما يقال عنك وأخبرتك زدتَ وطلبتَ المستحيل.
_  أدري مَن يتآمر كفاح ينفذ تهديده يقول عني جاسوس لينهيني؟ افضحْنا برواية.
_  يا رافد.. الخير أبو النوايا.. رضيعه يرعاه القارئ على صفحاتي.
يسخر رافد في ضغينة: الخير جمهورية غير مستقلة سيد برهان!
يحيّرني بتملصه، أعذله: والأمسية الأدبية، وجلستنا هذه، كيف نفهمها؟!
_  بقايا ماض قديم نرميه إلى مزبلة التاريخ.. تدري أين مكانها؟
_  لا أدري، حتى في بغداد لو سافرت أجد الخير كأي مكان أقصده مع نية طيبة.
_  لا عند حاقدين  فضحتَ حيثياتهم برواياتك. الرد انتقام.. ولو في شكل غرام.
أركن تحامله على أصدقاء الماضي، أناور منساقا معه: هذا رأيك؟
_  لا تسمع رأيي خليك على طريقك، "ليلة بغدادية" رواية ناجحة، قصدتني بشخصية مزعل فيها.. خاب حلمه الكبير، غيّر خندقه، ظل محبا لصديقه القديم ووطنه.. ذاته غنية.. لكن ثقافته محدودة.. يصبح ضحية التغيير.. هذا توقعك لي؟
_  أنت من أذكى قراء رواياتي رافد.. من اليوم أسميك رافدين!
_  عشناها سوية قبل أن تُكتب.. عرفنا زواغيرها.. تأثيرها حياة أخرى.. عليه تأريخنا غير عقيم.. لو سلمنا بلا جدوى النزعة التوفيقية.
_  الأفضل برأيك البقاء على تأليه الصراع !
_  الصراع أبدي أبو البراهين، المهم توجيهه لصالحك، باستمالة الحلوين مثلا.
_  صالح الناس واحد تفاريش رافد.. ناس منطقتنا قبل غيرهم..
_  يعني راوح مكانك كلام مثقفين أو نهاية مزعل لإصراره على قيم انتهت.
_  تذكر قمر القناة؟
_  تحته اختار كل منا طريقه تباعدنا أنا للعمل الحزبي أنت للكتابة و.. نلتقي!
_  الناس تلتقي في محطة..
_  بمحطة بغداد القادمة يطلبك قريبا باشا م خ  بواسطة سوري.. ينفعك بشغلة.
_  بينغو! دعوتي إلى هنا لتبليغي ذلك.. لكن مَن هو م خ.. و.. باشا؟!
_  نسيتَ التآمر! أعددتَ معه لثورة تموز أيام زمان، ببستان المسيب سيد برهان.
_  غير معقول! معلومتك هذه من ملف غيب.. و.. ماذا يريد فتى صار باشا؟!
_  لم أقل شيئا، تمام؟ باشا ولماذا إمكانياته كبيرة نتركه أيضا.
_  تكشف سرا من غيب ولم تقل شيئا؟ ماذا غيره في ملف أكس وأين مكانه.
_  لكلٍ ملفه.. كَبر.. جنة أو نار.. هذه أيضا جديدة؟ ماذا علمك بونكر ونكير!
 
 قبل النوم أسحب الغطاء أخفي رأسي، أهمس للاقطة النقال: قضيتي وقضية رافد أكبر من جوع معلومات، أدري مَن كان رافد.. مَن صار لا أدري، خطابه القديم يتبدل، تتغير زاوية نظره، يعلم الكثير، من جهة عالمة، الشك يفضح صاحبه أحيانا، الرجل يرى ينطق من جهتين متقابلتين، في ذلك تحذير وخطر. لماذا الاهتمام به؟ تعرف حقيقته تتبيّن وضع البشر، ذلك يعني ثمة ما يُخفى، هكذا توضع كتب عن غفلة أو يقظة. خلاصة: أمامي عمود رواية.. أحتاج أعمدة أخرى.. ذلك للنظري، العملي يتوازى معه، يتعقد، فوق سوسو بوسو وقهر منتظر هناك تبرز ازدواجية رافد، لغز م خ .. من أين جاء به.. مجاهل السفرة  تزداد.. ركوب العقل ينبغي قبل طائرة بغداد..
أغفو..
كلماته ترميني خمسين عاما إلى الوراء، إلى أيام البستان المجيدة، إلى ميلاد قربه، إلى ثورة منتظرة، إلى هذيان ونداء بعيد مديد..
_  .. برهان.. اذهب إلى مدرستك.. حرِّكها.. اصنع معنا يا زلمه ثورة..
يتلاشى همس الضيف السوري في دخان، في نخل ودغل البستان، وسواس ذلك الصيف يصير منتصفه ثورة شجعان، حياة تقلب، غبار، أخبار، أسود، أبيض،  إلى تشكيل لوني فتان، تهويمات، امرأة المحلة عاشقة معشوقة تكبرني سنوات، حكاية مثيرة عابرة قارات، قوة مراهق محسوسة وأخرى أقوى في كلمات، م خ ينطقها مختصرا من بؤساء هيغو صفحات، تتفجر هتافا بتحفيز من الأم نحو سماوات، يشق الصالة ينير ظلمات، فيلم مصطفى كامل يوقف، الجمهور خارج السينما، تظاهرة تملأ الشارع..
 
موج يغيض.. يفيض.. يتدفق.. لا يخرس..
رعود لا تظهر في الأنباء.. تعود وتفصح عنها الأصداء!..
 



36

مادلين..
 فصل من الرواية الجديدة

برهان الخطيب

 جارتنا مادلين شابة متزوجة جميلة، قسماتها واضحة محفورة في رخام، عيناها واسعتان فيهما لهيب دائم، شفتان نافرتان مطلتان على البشرية تدعوان لثورة جنسية عارمة، نظرتها صريحة تخدر إذ ترسو على وجه مراهق غير حائر غير خائر، معذب بشهوة ويأس من حب عاثر، ابن الخامسة عشرة ماذا يمكنه أن يفعل وخيال زوج سمين طويل يحرسها في حضور وغياب، يصد عنها بصوت عارم وطيف صارم أشرس الذئاب، تغيم أفكار المراهق إذ يوشك بلوغ طيفها واجتياز الباب، على عتبتها تنظر إليه وهو إليها في عتاب، يلعب مع ابنها الكرات الزجاجية في عَذاب، من نظرتها بلمعان تلك الكرات والسماء في عينيها العِذاب، يذوبان بالآخر في صمت متبلين بالرضاب، ينتظر تدعوه لمساعدتها في البيت تنزله إلى السرداب، لا تنبس والفراغ بينهما يمتلئ يمتلئ بالرغاب، لا يجرؤ لو تفعل هي يفعل مثلها هو، ولو يعود زوجها من دكانه القريب يلقي عليه مطلبه الغريب، يحبها يريدها زوجة.. حين يبلغ قريبا.. طلّقها رجاءً.. واهتف معي لتسقط كل الحدود والقيود!
 تكلفه مادلين أخيرا شراء حاجة من السوق، بجلب بعض الأشياء من السرداب، في الليل يسمع من السطح زوجها يثرثر بالراء كالفرنسيين، يعب البيرة، ينزل الصبي يجلس على عتبتها يدخل بيتها يجلس معهم أمام التلفزيون المشوش، يلعب مع الابن والابنة في ساحة البيت،  يخرج أبوهما إلى المرافق أو المطبخ:
_   هاه ما تسأل أمك أبوك عنك.. شوقت تنام لعد.. بكغه ما عندك مدغسه!
 لا يرد المراهق. بعد أسبوع من التشورب ابنها يقترح: نغوح لبيتكم نلعب هناك أحسن.
يذهب الصبي إلى بيته مع ابن مادلين التي يحبها، يجلسان على العتبة، الحمار الواقف منذ الضحى في الشمس ينتظر راعيه، ابن الفحّام يرمي منتصبه بحجارة تداويه، يبتعدان عن ذلك السفيه، يفترقان، تسأله مادلين عند العتبة:
_  هذا اسمك هنا بمجلة الموعد بباب التعارف؟!
_  أسمي.
_  تستلم رسائل من بنات؟
_  واحدة اسمها كريمة انقطعت.
_  لازم غازلتها.
_  لا، المصرية أم حسنين زوجة المعلم بشندي بدرب الأكراد هناك قالت هي قريبتي، فضحتنا.
_  كم رسالة استلمتَ حتى الآن؟
_  رسالة رسالتين في اليوم هذا الشهر.. أحيانا بالأسبوع واحدة.
_  مَن يكتب إليك.. من أي مدينة.. كلهم بعمرك؟
_  كلهم أكبر مني.. من مصر.. من السعودية.. ولبنان.
_  ماذا يكتبون ماذا يريدون؟
_  كل شيء.. واحد أرسل صورة عبد الناصر والدي مزقها قبل مجيء الشرطة.
_  من وين درى يأتون للتفتيش؟!
_  تلميذه ابن السري مسلم خبره قبل ساعات.
_  هذا أنت صغير وخابط المجلات والدنيا إذا كبرت ش راح تسوي!
_  صغير؟.. أحبك يا مادلين أكثر من عشرين طرزان والله.
_  لك مسخّم ش قلت! لكم واحدة قلت هذا الكلام وكيف تحبني..
_  بس لواحدة أنت.. وأحب أشوفك كل يوم..
_  يعني مثل أغنية عبد الوهاب بس!
_  أي أغنية.. أي عبد الوهاب.. أنا والعذاب وهواك؟!
_  هاي ش بك انخبصت لك أخاف تحبني صدق.. الرسائل خليني أشوفهه.. أنشر اسمي هواة مراسلة على عنوانك.. ولا تقول لأحد.
 
بعد فترة زوجها يعود إلى بيته مبكرا من دكانه، يستدعيه، مادلين باكية، حاجبها يرتفع تنبهه، يخبصه حضور الطفلين، حرف الغين يرن كجرس البيت بدل الراء:
_  جاغنا... عزيزنا.. ماذا بينك وبين مادلين؟
_  لا شيء عمي.
_  عمت عينك! اليوم جاء شغطي إلى دكاني مع المجلة هذي.. ش أعطتك مادلين مقابل اللعبة؟
_  اسمها صدفة على عنواني.
_  مليون اسم وما اختغت غيغ اسمها صدفة.
_  فكرتُ تزيد الرسائل المرسلة إليَ.. مارلين بت مونرو ما عندنا استخدمت مادلين.
_  يعني مغتي بغيئة من هذي اللعبة؟
_  لا علاقة لها أبدا لعبتي وحدي هذي ما تصورت الشرطة تراقب الموعد.
_  أدغي أنت ولد طيب.. قلت نفس الكلام للشغطي وصغفته مع غبع عغق.
 
ذلك اليوم ينكسر الحب ويغغق المراهق في.. خزي. وجهها في البال. ملامحها محفورة في الذاكرة.
 
أتناسى أوراق نسرين، تطلع أمي إلى الحديقة، تسلم على خلدون جواري تخرق صمتها معي:
_  لا تتصور مَن خابرني!
_  مادلين.. أو خادمتنا قبل انتقالنا لبغداد.. نسيت اسمها..
_  غير معقول.. سمعت كلامي بالتلفون!
_  عشرون مترا بيننا وأنتِ داخل البيت.
_  كيف تذكرتَها.. مادلين فعلا.. دَرَت أنت في بغداد.. سألتْ ما زلتَ تتذكرها؟
 
غرور يدفعني لادعاء التقطتُ تفكيرها على شاشة ظنوني، بلورتي السحرية. لكن معرفتي تهمس: أمك تبعدك عن امرأة تقترب إليها، ليس هناك وسيلة أفضل لإبعاد امرأة غير امرأة أخرى، استذكرتَها بمحبة على ورقة أمس تتحرك من مكانها إليكَ اليوم، مَن يحرك الأشواق ولماذا، أو مَن يوحي إليها بمادلين، ماذا وراءه، لمتاهة ردهات.. يحرسها متتبع أخبار خفية.. باي باي للصدفة!
 
_  الأغرب أن أنساها. الزمن يتوقف أحيانا سنوات لا يدري. كيف حالها؟
_  أرملة تقول.. حلوة كما حين أحبني الصغير برهان.. يريد أزوره؟..
_  كنتِ دعوتِها.. طبعا أحب أشوفها.. وكل يوم.
_  غرامياتك لا تنتهي.. لو حويت ابنة عمك أو ابنة خالك عجت الحديقة بالأطفال اليوم.
_  زواج الأقارب يندثر والقوة الخفية تتدخل في كل شيء.. أو أنا غلطان؟
_  دعوتها.. دعوتها.. قل لها أنت ما تريد إذا أنتَ باق في منزلي.
 
أودعها مع خلدون بنظرة متفهمة عدم رضاها الأزلي.. ونعود لحديثنا المأساوي الهزلي..
 
_  الغرام يا خلدون لا ينتهي حين لا يبدأ..
_  أمك بعمر الملكة إليزابيث أدري لكنها أفصح وأكثر نشاطا وشعبية أرى!
_  ليت إليزابيث كانت أمي.. أقلل تحت تاجها من همّي.
_  مشاكلك مع النساء من كل الأنواع لا تنتهي.. لذلك سر.. استمر قد نقف عليه.
_ لا أحد يمكنه الوقوف عليه.

37

الثقافة العراقية تشرق من الغرب
برهان الخطيب


منذ تأسيسه في ستوكهولم عاصمة السويد قبل حوالي عامين يصدر المركز الثقافي العراقي هنا، بموازاة ما يقوم به المركز الثقافي الآخر في لندن، عددا من الأعمال الأدبية لكتاب ناشئين ولبعض آخر معروف على الساحة الأدبية العراقية ضمن نشاطات ثقافية متنوعة تشمل عرض أفلام وإقامة أمسيات أدبية وموسيقية ومعارض فنية للرسم والنحت، أمسيات باتت تجتذب عددا متزايدا من مثقفي الجالية العراقية هنا وسويديين مهتمين بالثقافة العراقية إلى جنينة روحية وارفة ظلال لثقافة متنوعة تميز بها العراق منذ القدم تعيد المرء إلى أيام وحدة الذات العراقية الكبيرة على دروب التفاعل الصحي الخلاق مع المحيط نحو تعافٍ من متاعب الغربة وأوجاعها.
من تلك النشاطات أقيم مؤخرا معرضا رسم لعماد وفؤاد الطائي، شقيقا الرائد الرسام المعروف سعد الطائي، كذلك تأبين راحلين، مكي البدري، سعدي المالح، غيرهما، إنما تبقى الإصدارات الأدبية جوار تلك النشاطات للمركز الثقافي من أبرز المعالم الثقافية العراقية هنا، لوصولها عبر مؤسسات التوزيع بعيدا  إلى شتى أنحاء العالم، وإيصالها رسالة الإبداع، إصدارات تستدعي أكثر من وقفة، لسبر ما في متنها، قيمتها الفنية، محتواها العام. في قراءة متأنية قد تساعد على تقييمها ومعرفة من أين وإلى أين نمضي، ثقافيا، سياسيا، اقتصاديا، و سعيا لاستجلاء تجليات الروح العراقية وما لها من أنوار تبدد ظلمات طريقنا الوعرة إلى رقي حقيقي كان لنا هذا الحصاد..
معلوم لكتابة رواية أو مسرحية ثمة أصول وقواعد، معرفتها ضروري، يخرج كاتب عنها يضع جديدة، أو يجد نفسه وكتابه في فوضى. حتى الطبيعة الحرة لها منطق، نظام، كذلك الإبداع ينبغي أن يكون، لإدامة تفاعل داخلي خلاق، تفاهم خارجي وتشويق، بغض النظر عن مستوياته، فكري عال أو غرائزي هابط، لبناء شكل متين للعمل، يحفظ الأفكار والمشاعر في صيغ عالية. التدرج مثلا في تقديم الأشخاص والوقائع ضروري، لتتم الإحاطة شيئا فشيئا بالحدث وغيره من أركان العمل الفني، الفعل يعقبه رد فعل، إدراك يعقبه إدراك أعلى. الترتيب المبرر للسرد لازم لتدفقه طبيعيا منطقيا، تنوع الشخصيات يديم الفعل، الحدث، الاختلاف في رواية يثريها، كما في وطن يتميز بديناميكية، ضمن إطار تفاهم، لكنا صرنا نجد عند كتّاب جدد شخصيات وأحداث متراكمة منذ أول صفحة، كما في غزو، في إنزال كلي للجميع دفعة واحدة، لبدء اللعب من غير إبداع، كشف كل الأوراق في سهو، كما بلعبة قمار عصبية، عليه يخسر المؤلف اللاعب رصيده أمام القارئ، خسارة مدبر آثم ومجتمع غافل عن حاله أمام مستقبله، ذلك ما نجده في كتاب "قلب جدتي نحاسة" للولائي جاسم. منذ البداية يقدم كاتبه في صفحاته الثلاث الأولى كل شخصياته دفعة واحدة، بعدها يتساءل قارئ هذا النص لماذا أواصل القراءة، ما الدافع، تساؤل مشروع في هذا الحال، زد تغدو قراءة سرده الخاص ثقيلة. هناك فرق بين سرد فني وسرد غير فني، بهلواني، البهلواني أيضا يمكن جعله فنيا، السرد نجعله فنيا إذا التزمنا بمنطق صارم، يحكمنا يحاكمنا على كل كلمة نضعها، لماذا نضعها هنا؟ ذلك سؤال تلقائي يردده مؤلف حصيف أثناء السرد يبتكر الرد عليه منطقيا مواصلا الكتابة، من غير ذلك يسقط في ثرثرة.
الثرثرة تتكلم عن أمور خاصة بلا إيحاء. تُرفع تُوسع لعرض العام، تُطرح مترابطة، فعل مركيز مثلا، يغدو السرد فنيا. ولائي لا يقترب إليه من قريب أو بعيد في جنجلوتيته عن الجدة فلانة، يعطي هوامش تشرح حواره العامي والأفضل لو كتبه بفصحى وسط تتجنب غث وتكرار العامية مستفيدا من حلاوتها في آن، مرتكزا عليها عند الضرورة القصوى، على ثرائها وعمقها. كذلك خذ هذه اللجاجة.. يضع صورته في طفولته على الغلاف مبررا ذلك بشرح آخر: هكذا كان المؤلف وقت تحدثت الجدة نحاسة (يا للاسم!) عن محتويات الكتاب.. فانظر إلى أي مدى ترتفع النرجسية عوض رفع الشأن العام بموازاة الخاص، كما تقتضي رواية غير وثائقية، يظهر كلاهما بحجمه بمبدأ التضاد والتلاؤم، كما بلوحة رسم فنية، لكن بالكلمات.. ولننظر إلى ما هو آت..
بالفصل الأول ينتحل "المؤلف" حكاية فولكلورية معروفة ينقلها على لسان الجدة، باعتبارها حكايتها الخاصة، يتبعه نقل طبيعي آخر دون انتقاء، فصل آخر، ثرثرة مع ضابط جوازات بين الأم وبناتها، الهوامش تترا لترجمة العراقية إلى العربية في تمزيق للسرد ما بعده تمزيق. أسلوب منذ أول جملة مفتعل، اقرأ معي رجاءا فاتحته: الحكاية القادمة، أعني بها حكاية الفصل الأول، روتها لي الجدة.. إلخ.. بينما الأجدى كتابتها: حكاية الفصل الأول روتها الجدة لي.. وانتهينا.
هذه السمة، تشتت التعبير ومعه انتباه الكاتب والقارئ، لازمة لمعظم الكتاب الجدد بل ولكثرة من "المتمرسين". العنوان ذاته: "قلب جدتي نحاسة" خال من جاذبية، من تبرير لكتابة رواية دع عنك قراءتها. ما هم قارئ من يوميات فلان أو علان يسردها في طبيعية مملة، ولماذا تعريف الجدة مرتين "جدتي" ثم اسمها البائخ "نحاسة"، لعله أرادها جدة الأمة العراقية لكنه لم يفلح في تقديمها جدة لأحد، دع عنك بداية الرواية نفسها، مضخمة مفخمة لحال نعرفه جميعا نحن العراقيين بسيطا. يقول: رجال العائلة كالوزراء والأطفال أولاد وبنات وزراء.. إلخ.. كأنه لا يدري درزن وزراء لصوص، دمى، على قحف أزرق. بعد حين يتضح استلهام جاسم كل كتابه من مقدمة رواية "الجنائن المغلقة" حيث كلام الجدة بلقيس هناك لدخول تاريخ العراق عبر عائلتها وغيرها، وما تلك الصلة بين جدة الجنائن والتأريخ إلاّ لكونها قابلة مرخّصة خرج من بين يديها نصف أهالي البلدة، أما جدة الولائي فهي جدة وزراء (حتة واحدة) من أول صفحة وما رأينا بعد ذلك غير واقع فاقع!
مرة أخرى: ما فرق الأدب عن اللغو؟ مَثَلنا يقول: الكذب المصفط أحسن من الصدق المخربط، يعني الخيال مهم لكن الترتيب أهم، في شكل، الشكل الصادح بمضمون جديد فوق فوضى المخيلة والواقع، بمعنى جديد، إظهار الأساسي فوق الثانوي، الخيال المكمل للواقع - لا الذي يغتاله - مبرزا الخفي بصور غير مباشرة.. حيثما نجد ذلك هناك يكون الأدب والفن.
نتكلم عن صدق دون ترتيب أمام طبيب نفسي ذلك قد يساعد في شفاء فوضى حواس، أفكار، فرد ما، لا فوضى اجتماعية سياسية، بعض علاجها نعم في الأدب المدرك. الأدب الصائب خيال يغني الواقع، والثرثرة خيال أيضا لكن تستهلك الواقع عبثا. نص، رواية، من غير مشكلة تعرضها، تعالجها، تتفاعل معها، تستشرف جمالياتها، لا تسمى رواية. هذر نحاسة خرط حقيقي، وُضع على صفحات تكرّم المركز الثقافي بطبعها صارت كتابا محسوبا على الثقافة العراقية، وقت هناك نصوص أخرى رائعة لا تجد ناشرا يتبناها، هيمنة مافيا الأدب كبيرة على النشر وغيره أدري من تجربتي المستمرة أكثر من نصف قرن، خلّونا من مافيا السياسة والاقتصاد الآن، نعم كل منها امتداد للأخرى، امتداد لهذا العقم الثقافي حولنا حوله العقم السياسي والخراب الذي ينتج داعش وحواضنها من مثقفي صمت علمانيين قيل وشيوخ كفر مدججين بدين زائف وقادة أحزاب يسارية يمينية يدعون لوطن في العلن، في الخفاء عن جهل أو بغاء أو غباء يساهمون في نحره نرى مواصلين دعوى تقدم ووطنية. منشورات المركز الثقافي نَفَسُها الوطني واضح، لعل ذلك وراء دعم نشرها، في محاولة لكسر طوق الهيمنة، ذلك يُحسب عاليا للمركز.
نعود إلى "رواية" "قلب جدتي نحاسة".. يا للعنوان المبهر لكاتبها الولائي، لا نجد لقلبها مكانا في الرواية.
 وإذا كان الكتاب يُقرأ من عنوانه فليس هناك أدل من عنوان كتاب باسم الأنصار "ليس لدي ما أقوله" يبقى للقول عنه. إنه يكتب عنه على الغلاف "شعر" ولو نقول عنه غير ذلك من عين الوزن لا نتجنى، لا روح لنصوصه، لا علاقة لها بشعر من قريب أو بعيد، شكلا، مقالا، مآلا، إلاّ قليلا سوف نرى، من صفحته الأولى إلى الأخيرة هذر. طبعا يمكنك أيضا تفسير كلماته حسب الهوى عاليا ولا تخطأ، هكذا سحر الكلمات، من هنا قد تراود "شعريتها" بعض قرائها، حيث الكلمات تغدو شماعات تعلق عليها معانيك، خذ قوله في أول قصيدة دون اختيار: وعندما وضعت كفي على الجسد هجم المجهول على قلبي بشراسة.. انتهى الاقتباس، وددت لو صحت: حي، يا الله! فالجسد يمكن أن يكون جسد القائل أو غيره، جسد المرحومة مارلين بأحلام، أو سايروس بأفلام، أو غيرهما، والمجهول يمكن أن يكون ما لا ندريه من تداعيات، أو ما نبتدعه من خطايانا وأخطائنا من ويلات، تداعيات يمكن تصورها حتما، المشترك موجود، في قعر الكلمات، عليك الغوص بينها تجده فإطلاق الآهات، هكذا اللعبة مع المجهول إلى آخر سطر من معلقات أبي الهول. خذ هذا أيضا دون اختيار عرض أو طول: تربط الأم طفلها (في) عمود النور باكية وتتوجه صوب قوس قزح ينتظرها، ثم تنطلق به نحو البعيد من دون كلام.. يا سلام! هكذا الشعر أو.. القارئ لا يفهم.. دون المستوى.. هكذا الشاعر يقرر، حسب النيات، كذلك يفعلون في السياسة، غرب يقرر لنا نيابة عنا وعلى المواطن أن يصدق: كل ما يفعلونه من الفنون والممكن، عليه قبوله! أما الويلات.. لا تلتفت إليها فيما هو آت.
 باسم الأنصار يغرّب بكلماته بحثا عن معاني بعيدة، تلك إحدى وسائل الشعر لإيصال رسائل مديدة، لكن تلك الكلمات بدل الاصطفاف في انسجام وتناغم تمهيدا لخلق الإيحاءات تتدفق شذر مذر معها المعنى يتمزق، يقول مثلا: ولن يكون بوسع الزقزقات (أي زقزقات لا نعلم!) إيقاف التجاعيد الزاحفة نحو الأيام (لا مع الأيام).. عليه يتشتت المعنى يتيه الشعر. نعم، اللعب بالكلمات ضروري، كما في سيرك بأشياء، لخلق الدهشة، إنما ينبغي لقفها طائرة وإلاّ يحدث ما لا يُحمد يا أحمد.. أحمد كاتب آخر.. كي لا يزعل باسم.
 نتساهل نقول باسم يوفق أحيانا إلى حد، ففي "الخروج ضد النهارات النائمة" ينجح باسم في إبداع نص له دلالات عديدة، لغة محلقة مرئية، ينجح أكثر في "أرفع راية المنفى عاليا" حيث يؤكد على جدوى التمرد الفردي المدرك بوجه بعض أملاءات الغربة، مشوِّهة الذات كاشفة بعض أسرار التأريخ. كذلك ينجح في إقامة شكل ملفت من كلمات بسيطة، قد يتهاوى كبيت كرتون بنفخة، قل نفحة، لو تأتي بمعنى في غير أوان. "البكاؤون" نموذجا إذ يعطي لكلٍ سببا للبكاء إلاّ هو الشاعر يبكي بصورة فريدة، في ذلك شيء من قلة احترام نحو الآخرين.
ونحن نقرأ ما يسمى اليوم شعرا نتساءل ما الشعر؟ سابقا هو اتساق، تعبير ينظّم فوضى شكلا، مضمونا، دع نبل الغاية منه الآن، نقاش حولها لا ينتهي. شكلا.. بإنجاز هيأة للقصيدة، بإيقاع، بترتيب لفظي معنوي خُلق في اللغة مع نشوئها قبل إعادة اكتشاف الشاعر جزيئاته ولملمتها بطريقة تُحسب له إبداعا، شعرا. ومضمونا.. باجتلاب أو جني المعنى من الغامض والمجهول البعيد عن إدراك عادي. اليوم نرى الشعر نقيض ذلك، ربما لكون الإيقاع مع تطور اللغة والفكر صار يعيق تجلي معاني معقدة ومشاعر متقدة، فنفلت منه إلى شعر بلا حدود، على نول كل شيء اليوم بلا حدود، فنانون بلا حدود، أطباء بلا حدود، ثوار بلا حدود، أوطان بلا حدود، وغدا.. نسوان بلا حدود، وذلك في نزعة خفية معاكسة، لتحويل اتساق مكبِّل لروح إلى فوضى، عسى يعقبها نظام جديد، غير واضح المعالم حاليا، ذلك تمشيا وما يجري في عوالم السياسة، شكلا مضمونا. إذاً تغييب الإيقاع أو قلبه على عقب، كما في الأغاني، هجع ليكن بريك دانس، حسنة ملص مغنية شانصون تجيد الدنص، ذلك متلائم مع الجديد لا مع لائم عن المتعة صائم. تفتيت المعنى يتماشى على أي حال مع استبدال ثقافة وطنية بغربية، عولمية، الأسطر الأخيرة هذه مكروهة عندي قبل عقدين ثلاثة إذ تمنيت تغيير الحال بثورة، أما ونحن نكتشف أن الثورات تصير عورات يقودها مرتزقة يهدمون الأوطان يستبدلون هوية الإنسان ببيضاء اكتب عليها ما تشاء نضطر لاعتراف بضحالتها.
المهم، أجمل ما ورد عند باسم: الرغبة تخلق الخوف لدى القتلة إلاّ أنها تخلق السؤال لدى الحكيم. ص 56 ، كذلك: أصبحت رحالة بعد أن سرق مني الهواء ص 58 ، والقليل غير ذلك.
ثناء سام بكتابها "عودة عشتار" تقدم قصائد وجدانية بلغة بسيطة عفوية انسيابية دون مغالاة تجعل القارئ يشاركها لحظاتها الهاربة، تطلعاتها البعيدة، شاعرة تستلهم صورها من واقعها المحلي متحصنة ضد سعي بعضهم وراء الغريب نتيجة استلاب في الغربة. مشروطة بإدراكها تبحث عن معاني تمنح اللحظات الهاربة قيمة. إنها قصائد فيها من النعومة والتلقائية ما يجعل قارئها يتابعها سطرا سطرا إلى نهاية كتابها في متعة. ذلك لا يعني إنها بلغت قمة التعبير الفني، كلا، ثمة هنات عديدة في تعبيرها عن أعماقها بدقة، إنما يمكن تناسي ذلك ومتابعتها للتعرف في الأقل على خفايا امرأة شرقية تهدأ تثور تبقى حصيفة طبيعية. دخلت صفحتها على الفيس بوك لاستكمال فهمي لها وجدت آراءها منطقية رصينة، حاسوب مكتبة ياغوبزبيري لا يكتب بالعربية آنذاك، فتركت لها على عجالة هذه الأسطر بالإنكليزية:

Commonsense in a mad, mad, mad world is dear
where from you’ve  got such  mind, good &  clear
but theft, they can do it, during daylight  with beer
I mean theft of mind, conscious & no one can hear
So, Miss thanaa.. would you be careful.. my dear


 قصائد ثناء البسيطة تذكرني بقصائد الشاعر البارع الستيني خالد الحلي الذي بلغ قمة إبداعه في ديوانه "مدن غائمة".. ثناء حين تكتب لا تنغلق على أنوثتها، تنفتح على هموم وتطلعات ناسها وبلدها وإنسانيتها. أحيانا وربما غالبا يتغلب الإيقاع على العواطف وسياق المعاني عندها تنساق وراءه مضحية بشيء من المحتوى، كقولها مثلا: شك يشاطرني، أنثى فوقها برقع، أعود نادما أهجع، أغلق أبوابي الأربع، (الصواب هنا: الأربعة. الباب مذكر، كذلك لا ندري أي أبواب، ولماذا أربعة) وتطلبين مني أن أرجع لذلك المخدع، لا لن أرجع.. واضح تحول الشعر هنا إلى سجع. لو استعاضت ثناء عن الإيقاع بمواصلة استبطان حالتها الشعرية كثفت المعنى، أمطرته صورا، زوابع، لكنها تتوقف غالبا عند حد خشية انزلاق بعيدا عند المعقول، عند "الخوف على نفسها من الكسر" في ما ألذ جسدي مثلا ص 56 بينما يستمطر القارئ من ذلك أكثر من معنى، كسر الرغبة، كسر الماضي، كسر العفاف، كلامها، مكتفية بقول: أخاف عليّ من الكسر.. لعل لها أكثر من حق في ذلك. 
نجم خطاوي له "نصوص الحكمة" كتاب بين الشعر ونقيضه، كما في حياة الشرق الأوسط اليوم، بين الواقع ونقيضه، يطير كغيره من شعراء اليوم بالصور بكلمات مجنحة ناشرا ململما عواطف متقلبة بين الوطن والغربة، يرسم صورا قهارة يسميها شعرا، حكمة، لا أدري ماذا بعد وهي أحيانا تشبه نكتة، ليس في ذلك ما يعيب كثيرا سوى إسرافه في استعمال الورق،  قصيدة "قبلة" في ص 33 من 19 كلمة، يضعها على صفحة كاملة، هذا نصها:  قبلته و في روحها لهيب عشق خارق وأنوثة ناعسة كالورد، قبلها ورأسه فارغة إلاّ من كرة القدم وهدف مسي الأخير. انتهت المعلقة. لا لوم هنا عليه. معظم "كتاب الغربة" كتبوا مضطرين، في ص42 يقول نجم خطاوي بقصيدة ميني من النوع المذكور: شكرا للشعر لولاه لهلكنا.
إنما لكتابة الشعر الحق، لتركيب صورة جديدة، ينبغي أن نفعل ذلك بمنطق، حتى والخيال بعيدا يحلق.
 يقول خطاوي مثلا: اعتلوا صهوة راياتك.. ص 74
إنما تلك صورة فاقعة، تذكرنا بالخازوق أكثر من أي  شيء آخر.
أفضل ما في كتابه، وهو ليس قليلا، قوله: حين تشح الحانات لا تقرب حانة الأراذل منتصف الجلسة يصير الشراب كالسم والكؤوس سكاكين ص71
من مجمل قصائده نفرز مرثاته "حديقتي الغرائبية" أرى لها قيمة فنية، كذلك "هموم" ثم  "سباقات" وغيرها. كتابه يستحق القراءة على أي حال فهو ليس من الكتب البريئة في عالم غير برئ، لا يجتر الماضي، إنما يحلّق في الحاضر مستشرفا مستقبلا أفضل لقارئه، تلك فضيلة في عالم الاستغراق في الذات.

ولعبد الرضا المادح قصص قصيرة بعنوان "أحزان القمر" في 64 صفحة، اطرح منها حوالي عشرين صفحة إهداء وفهرس ورسوم وفراغات وسواها، الباقي تخطيطات قلمية كان ينبغي أن تقدم نفسها دون شروح لكن هيهات، يقدم خبرا في بضعة أسطر أو مشهدا من زمن مات يسميه قصة، حسنا، قصة "8 شباط" لا يفهمها إلاّ من يحمل معه أوليات وتفاصيل تأريخ العراق، و(القصة) الثانية عبارة عن حلم وردي ينبو عن واقع من بردي، هنا أيضا السرد ينقل الخبر بلا فن، بلا إبداع.
الثالثة عن امرأة تطلب من رجلها جلب الماء من النهر أثناء الحرب، يفشل في ذلك.
 المهم في أي قصة ليس الحدث طبعا بل كيف نكتبه، ذلك ما يصنع الفن، أمامنا إذاً أيضا محاولة لتعلم كتابة القصة.
القصة الرابعة.. مشهد أطفال لم يروا تلفزيون، يتكلمون عنه، الخاتمة احدهم يفتح تلفزيونا حديثا يقول: لكل زمان طنطله. انتهت الملحمة. الخامسة ذكريات عن البصرة، السادسة أيضا مران على الكتابة. وإذا كانت القصة الأولى عن البصرة، فالرابعة عن مهاجر تخيبه الهجرة، تتبعها صورة لنزول الإنسان على القمر، واضح قصد كاتب تلك السطور تبيان البون الشاسع بين تأخرنا وتقدمهم من غير تغلغل في  أسباب ذلك، من غير وجع رأس، على ديدن كثرة تكتب اليوم، يُتشبث بالسطح والأعماق تجر النتيجة غرق مستمر. القصة المعنونة "رقم" أيضا من صفحة واحدة، فيها ملامح قصة، تفاصيل، خصوصية، الابتسار يغتال مشروع إتمامها. يتحول النص بعد قليل إلى قصص قصيرة جدا، الميني يحسدها على القصر، قصص من سطر وسطرين، صدق أو لا تصدق، حظها أسوأ من حظ صويحباتها. مقابل ذلك هناك صفحة كاملة لتوجيه الشكر لأحدهم نقح المجموعة، رغم ذلك تقرأ في ص 44 : مستندتاً يقصد طبعا مستندةً. أيضا: حض ص 47 يقصد حظ،. قس الباقي على ذلك ولا تدهش.. أو تموت من الدهشة.
كتاب "تسفير" لمؤيد عبد الستار هو الأكثر نضجا بين الكتب التي نشرها المركز الثقافي العراقي في ستوكهولم، مجموعة قصص يسرد فيها المؤلف تجربة التغرب بلغة واقعية سلسة ذات تفاصيل دقيقة تغنيها وصولا في خواتمها غير المتوقعة غالبا لشكل فني يجعل من قصته عملا  إبداعيا خاصة قصته الأولى "تسفير" التي تعرض لمحاولة عراقي تم تسفيره إلى إيران للعودة إلى وطنه، إلى خطيبته، ونهاية تلك المغامرة بتيه على بعير نهاية تذكرنا بنهاية أبطال غسان  كنفاني في "رجال تحت الشمس" كذلك بتجربة جسار في رواية " نجوم الظهر". لا شك ينجح مؤيد أيضا بقصته "امرأة من ورق" إذ يتحدث عن الحرية الفردية الواسعة في الغرب ونهاية مغترب إلى محاولة شراء دمية تشاركه حياته تعوض له خسارة عمره بين الوطن حيث الجهل والمنفى حيث الحرية الصادمة.
النصف الثاني من كتابه "تسفير" مكتوب بلغة جرائد تنقل الخبر لا تستبطنه كما يجب، لا ترقى لقصص فنية رغم طرافتها وتمحور القصص الأخيرة منها حول رياض الخائب في بحثه عن زوجة مع تنقله من الخليج إلى المحيط.
شكرا للمركز الثقافي العراقي في ستوكهولم ورئيسه د. أسعد راشد على هذه الباقة من "أزهار النشر" مع كونها برية ضارية أجدها تضاهي "أزهار الشر" الآتية من هنا وهناك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ


38
وما أدراك ما الإدراك
حمير مجنّحة.. ترفس السماء!

برهان الخطيب

الانحطاط العميق الذي يعيشه بعض العرب، سياسيا رغم ثورة، اقتصاديا رغم وفرة، ثقافيا رغم حرية، له أسبابه، في عمى الإدراك، في تشتيت المصادر وتوظيفها لخدمة الخارج أكثر مما لخدمة العرب، منها مصادر الإدراك ذاتها، الإعلام، النشر، التوجيه المعنوي من الدولة شبه الغائب، وتقصير التفكير الحر خاصة لأفراد حملوا القلم زينة وقت حرب تشن على المنطقة.
أحدهم يكتب مؤخرا يقول بأني تدخلت في مقالة له قبل عشرة أعوام ظهرت في عدة صحف ومواقع مرموقة مسحتُ أضفتُ غيّرت فيها.. لأمدح نفسي.. "فيا لقدرتي المديدة على التغيير وبالاتجاه الذي أريده وأنا لا أدري" يضيف بأنه: رد هو عليّ آنذاك.. فضحني.. وأنا سكت. إذاً المفروض هنا أن أصيح:  "يا مصيبتي.. كشف عورتي التي تباهيت بها وجها لوجه قدّامه!" والدليل على ذلك عنده أنني لم أرد عليه إلاّ بعد الأعوام العشرة التي هزت ما هزت، بمقال ينتقد سبعة كتب صادرة عن المركز الثقافي العراقي في ستوكهولم لكن.. لانتقص من كتابه الجديد.. "مدوّخ الأنس والجن حتما.. طالما أنطقني أخيرا".. وإذاً عليّ أن أصيح هنا في انبهار: "كذلك مرحى لقدرتك الرهيبة على الصبر يا برهان وأنت لا تدري كل ذلك الزمان.. إنما أنطقك كتابه أخيرا فلا تفخر.. فأعترف: لا عجب.. للصبر حدود يا حبيبي".. ولذلك كله ولأسباب أخرى، لا يعلن عنها نرى، ينهض هو يعيد إلى الحياة اليوم مقالته القديمة تلك، الأحفورة المدفونة في ذاكرته عميقا طويلا، يتحف بها القراء، شاء من شاء، أبى من أبى، كذلك يتمنى لي في نهايتها كما قالت العرب: "عوفيت!" من غير تشكيل فتُقرأ الكلمة حسب المزاج فأقول: ليت العرب تعافي حال الحافي أولا، السويد تعافيني عند الضرورة، واضح من "مقاله" ابتلاء العرب والسويد بغيري من عباقرة شجعان من شاكلته.
 يذكّره كاتب معروف في زاوية اترك تعليقا بكلمة لماحة مَن هو برهان الخطيب، فيعود أبو عشرة أعوام يستل فنه القتالي يدحض ذلك التعليق بفسفساء معلومات، يدري العارف كلها خطأ ويفسح له مجالا للنشر بغية إعادة صياغة الإدراك في قالبه، يتنطع عن قيام طلفاح خال صدام بحلاقة شعر أشخاص في السبعينات يضعني بينهم، وأنا أصلا غادرت العراق قبل تلك الفترة، واصطدامي بطلفاح قضيته معروفة منذ أواخر الستينات، لإصراري رسميا على تقديم خال صدام لمحاكمة بعد إطلاقه النار على والدي، ذلك مثبت في محضر تحقيق الحادث الجنائي، المذكور بصحيفة شبه رسمية أيضا، بعد ذلك تنصحني موظفة تطلع على مخطوطة روايتي "شقة في شارع أبي نؤاس" المطلوبة برسالة إليّ من مصلحة السينما لإخراجها للشاشة عام 1968 بأخذ الرواية والهجرة لو شئت السلامة. بموازاة ذلك يقف الأهل ضد حبيبة القلب، مضايقات، طموحات، أغادر العراق إلى روسيا مهندسا مسئولا عن دورة تدريبية، معي ثلاثة كتب من تأليفي أهلتني للفوز بمقعد في المعهد الأدبي العتيد هناك من غير وساطة، عبر سفارتنا أستقيل رسميا من وظيفتي كمهندس من ثلاثة لديوان رئيس مهندسي وزارة الإصلاح الزراعي المسئول عن مشاريع ومشتريات وإيفادات الوزارة أبدأ مشوار غربة مريرا خصبا حصيلته أكثر من عشرين كتابا تأليفا عن حال العراق وترجمة عن حال الأمم الأخرى حاملا وطني في قلبي كما كتبت بعد أربع سنوات بمجلة ألف باء.. 
ذلك توضيح لا بد منه في سوق هرج ثقافة اليوم، أدخله مضطرا، لسرقة تحفة من حياتي ومحاولة بيعها جهلا غدرا رأينا بسعر بخس. لكن، أمام صيحة ذلك الدلال، بأنني خلال الأعوام العشرة الأخيرة كنت في سخونة، بسبب سكوتي عنه حتى أنهيته بنقد "كتابه" وتسفيهه، انتقاما منه برأيه، لا بد لي أن أشكره على تلك السخونة، خلالها ذكرت أبدعت عدة كتب ومقالات قمت بعدة سفرات ضحكت آلاف المرات، مرة طبعا بسبب مقاله "الفلتة" ذاك، وعاليا عند كلامه عن الشجاعة، جبان مسرحية في دور شجاع يُضحِك حتما، ليته يسبب سخونة أخرى من ذلك النوع، لي أنا الذي لم يشعر سخونة في حياته غير مرة في الطفولة. إذاً لو شعر هو أني في سخونة حين تصادفنا في طريق فذلك حتما لأن وجهه لا يثير في المرء غير ذلك الإحساس.. عنده، الرجاء العودة إلى صورته "أم ضحكة جنان" للتأكد من كلامي. 
 
نعود إلى "فضيحته" المدوية.. سمعها جيرانه.. لا.. لا أدري. إنما هو لأمر معروف تدبير "فضائح" لساسة يخرجون عن "صراط" مستقيم مافيا تريد الهيمنة، ذلك معتاد، معاد، يصل إلى اغتيال، بالمه، كندي، لوثر كينغ، الليندي، لومومبا، قاسم، قائمة طويلة، لا يُوفر منها فنانون، رحم الله سعاد حسني، أدباء، كنفاني لا يُنسى، إذا لم يكن انتحر كعادة الأدباء الحساسة، هذه المرة بحضوره إلى مكان الاغتيال ليصفّوه يخلصوه من عالم يتسخ بتافهين يظهرون على الملأ ملائكة، كذلك الإعدام المدني وارد، دستويفسكي.. ألم يقودوه إلى ساحة الإعدام ويعفى منه، تشيرنيشيفسكي.. ألم ينزلوا الحربة على رأسه وقالوا لن نفعلها، وحضرتي ألم يقاد إلى سجن البتروفكا الشهير قبيل البريسترويكا لأني لم أذعن لدعوة عمالة لأجنبي ذلك بموازاة وعد بجائزة كبرى في حال أتعاون معه ليسفروني من ذلك السجن والحرب العراقية الإيرانية في ذروتها إلى المجهول بعد شغل دؤوب مخلص عشرة أعوام بأكبر دار نشر هناك بذريعة نفاد إقامتي وهي نافذة، قلت للمسفِّر متذكرا السابقين مقارنة بحال لاحقين: هذا إعدام مدني! يرد ضمن ما يرد: مضبوط، ينال منه الأصدقاء أحيانا قبل الأعداء. و.. قد يمرر الاغتيال المعنوي على درجات، بمقاطعة، تهميش، تشويش، إزعاج، ساكن بيت يدوّي بعد النزول فيه يطلب تبديله يقال انتظر عشر سنوات، مكائد لا تنتهي، يُستخدم فيها أصدقاء أقارب فضائيات صعاليك مجرمون، تفعل كما نريد أيها المستهدَف طائعا مختارا أو لك الويل الويل يا يمه الويل.. أحيانا حتى "يمه" تبدو مساهمة في صناعة ذلك الويل! أو.. لا تبتئس يا ختيار، هو اختبار، حتى محاولة قتل فاشلة يمكن تحويلها لمزاح، لاختبار، في إدراك جبار يعيش على مصادرة ما يمكن من إدراك، ذلك يحتاج فوضى منظمة لا تُكشف سرها لا يُطال.. صناعتها بزنس عال.. طلبا لحسن مآل.. هكذا أدري من بعض الأهوال.. منه الوافد في مقال.. إنما والحق يحسن أن يقال.. ما قيل فيه لا يرقى لذلك التفسير والحال.. هو سعي إذاً لتسجيل نقطة في سجال.. بين ذبابة وملاكم.. أو عتّال.
لفوضى ثقافية سياسية اقتصادية نعيشها سبب داخلي قبل أن يكون خارجيا، ينتظم خُلُقنا رغم تشويهات اغراءات ننتظم نتقدم، ينتظم خُلقنا بإصرار منا، لا بجوائز من الخارج قد تحفز نرى على ترويج السلاح عليكم.. بدل السلام عليكم.. فرنكشتاين منتقم فيكم.. بدل ضمير يدعو لتآلف وسيطرة على المصير.. ذلك إذا آمنا بأن الصراع القائم في المنطقة بين بشر عقلي، قبل أن يكون ضد قوى توحش هنا.. جشع هناك.. لكن.. أواه! يُقال على مسرح واه، الصراع متعدد السمات تعدد إدراك أبعاده. منه مَا يُرى طبقيا، قوميا، دينيا، طائفيا، لتغليب الجزئي منها على الكلي لها، لغلبة جزء على الكل الداخلي، النتيجة دوام الصراع، خسارة الجزء والكل في آن، بتدمير ذاتي، كما بتدمير الذرة للحصول على طاقتها الكامنة لفائدة خارجها. في الواقع كل أنواع الصراع متداخلة. ثمة قيمة قصوى لإدراك، في تحديد طبيعة الصراع ونتائجه، بل طبائعه، في إبراز الثانوي منها على أساسي، ذلك لو شئنا الذود عن أنفسنا وعن تقدمها.
 الإدراك نسبي، ليس الكل يتصرف عن إدراك تام، ثمة تصرف عن إدراك محدود رأينا، داعش مثلا تعتقد نفسها منقذة للأمة، على الواقع تدمرها، وتدمر ذاتها، الدمار تراه طريقا إلى الخلافة، لا تدري ان المجتمع الدولي وطرف منه غير بعيد يساعدها مرغما أو مختارا لتحقيق مآربها، لتحقيق مآربه في تفاقم صراع سني شيعي يدمر بعضه بعضا على طريق إلغاء وجود منافس أكبر لو توحد، من العرب، من آخر معه تهديد نووي متخيل محتمل، من إيران في الظاهر، إيران تكسب حين تغلّب رسميا خطابها المدني على الديني، كما في واقعها، فالقصد من محاصرة المنطقة في قلبها إيران إمساك بقية طاقة المنطقة باليد، إبقاؤها سوقا تابعة لا منتجة، لا منافسة، أشرت. ذلك الطرف غير البعيد في مرحلة أخرى لا يسمح على العموم ببقاء داعش صرنا نرى اليوم، أو أي قوة دينية أخرى فاعلة على الساحة استراتيجيا، لنشازها البيّن حسب معتقد العولمة عن مسيرة الحضارة المجتمعة نحو كل واحد يُوحَّد لا يوحِّد، القرية العالمية. المجتمع الدولي في الفوضى المتقنة المقننة قادر على تحقيق هدفه، بالضرب بداية حجرا بحجر، لاحقا جوا، لاحقا برا، ولو بالواسطة.
ذلك يعني ان إدراك داعش غير مدرِك تماما، محدود، يؤدي لتدميرها في النهاية، بإدراكها أولا.
في حرب الأخوة، قلت ما زلت أقول، القائمة اليوم في منطقتنا، في كل حرب، للإدراك وصياغته الدور الأكبر لتصريف الأمور، تسيطر على الإعلام تسيطر على العالم. المثقف في هذه المعمعة يحاول الارتقاء بإدراكه من المحدود إلى أبعد، طبيعته المتناقضة أو المتفاعلة مع الغير تدفعه لسبر البعيد، عند البعض إلى حين، إلى أن يجد في وقفة على تلة ملائمة له من مرتفع الوجود السياسي أمنا، منفعة، ُيسمى ذلك عند غيره انتهازية، خيانة للشعب.. أو حصافة عنده.. خاصة حين يقر لنفسه، لغيره، بعدم قدرته على ارتقاء أعلى، لو يتبجح  يصر بأنه توصل هناك إلى الحقيقة الكلية يتكلم عنها بأبهة نيابة حتى عن المريخ كما يفعل ذو الهذيان والصريخ الذي رأيناه يصير مثل المرحوم عبد الفتاح القصري الممثل الهزلي بدوره الشهير مع زينات صدقي ممثلة الشعب إذ يصيح: أنا كلمتي كلمة راجل متنزلش الأرض أبدا! فتذكره بل تنذره تزلزله زينات زوجته العاتية بذلك الدور رافعة صوتها وشبشبها عليه مثل سيف: حنفي!!! فيخفض عبد الفتاح أي حنفي عينه السليمة إلى الأرض مستسلما لسلطة زينات الشعبية الطاغية بمذلة يقول بلا حول:  خلاص! حتنزل المرة دي! بس المرة الجاية مش حتنزل الأرض أبدا!..
مثقف يراعي مصلحته، يوازن بين الداخل والخارج، بين الشبشب والصاروخ، لا نلومه كثيرا.
لكن تلك المرة الجاية لا تأتي أبدا، حنفي يبقى في الحضيض رغم ادعاء رجولة وزينات وليّة عليه لا له، مع تغير الزوجة طبعا، حسب الدور المرسوم لذلك النوع من شبه مثقف مأزوم. في الواقع يواصل بعض آخر من المثقفين ارتقاء المرتفع، لرؤية الأبعد والجديد ولو في ذلك خطورة عليه، عرقلة، إقصاء، تهميش يقال اليوم، تسفيه كما رأينا، يعرفه مَن يثبت على موقف في وجه مافيا تريد الأفق ملكا لها، كل شيء بيدها، توظيفه في مسعى تغيير المنطقة، بحرب، بحب، بقلب الحقائق، بمنطق أيضا، بفهلوة باختصار. الضباط  المتدربون أمريكيا سلموا ثلث الجيش العراقي تقريبا والموصل لداعش في انقلاب موقوت لإفشال نتيجة الانتخابات العراقية الباهرة والنهج الوطني المتصاعد بها، المالكي يقصي منهم  مَن يقصي يتلافى انهيارا، أشرت لذلك بمقالة سابقة، اليوم بريمر يقلب الآية يقول لأنهم أُقصوا من المالكي سقطت الموصل، يحمّل قيادته العراقية الوطنية المخلصة للبلد مسؤولية الفتنة لا حضرة مشعلها وراء ستار، بما في ذلك الاتهام من إهانة للعسكري العراقي عموما.. إلاّ المتدرب أمريكيا طبعا، ما هذا؟ لا يخلص أحد من تجريح وانتقاص عندهم إلاّ من تأمرك؟ مَن البِجح في هذا الحال و مَن الجدع السمح؟ الظاهر الواضح من كل ذلك مسعى لتبرير التدخل الخارجي المستمر مجددا، للعودة إلى المنطقة بقوة إتماما لبناء الشرخ الأوسط الجديد، أقصد الشرق الأوسط الجديد، ولو بتخريب بقية بيوت أهله على رؤوس مَن لم ينزح منهم بهذه الفتنة الأكبر نرى كل يوم. كذلك يعلق السيد بريمر مسؤولية حل الجيش العراقي السابق برأس الأكراد والشيعة، يعني هكذا منذ البداية وقبل الغزو يتم تصنيف الخانات مسبقا، ليتحرك لاحقا كل الحال العراقي ضمنها كما رسم له قبل سنوات: طائفيا، قوميا، لا وطنيا، نحو تقسيم مؤهل لاستمرار وتفاقم مشاكل لا تطفئها غير وحدة الانتماء للوطن الواحد، على الأقل كما في أوربا، كما في الغرب عموما، متناسيا انه تم قبل الغزو استبيان أهل الرأي ولو شكليا حول مصير الجيش العراقي بعد الغزو، رأيي يعرفه مَن سمعه، حي يرزق: يجب الاكتفاء بتبديل بعض القيادات العليا وتنشيط الباقي بقوة جديدة وعدم المساس بأي من القوى الوطنية، السيد المستبين دهش حينه من وقوفي إلى جانب الجيش أكد قال: كل الذين خدموا في الجيش العراقي لهم رأيك موقفك. ذلك يعني أن لجيشنا سمعة طيبة حتى بين الذين تمرمروا في الخدمة وقرار حله جاء من الخارج لا من مخلصين لبلدهم عمدوا لاحقا لتكوين رديف مساند من أهل البلد عن ضرورة وطنية لحماية الوطن ينتبه لها الجيش الروسي اليوم فيقيم أيضا جيشا آخر داعما للرسمي.
 
 من ذلك نفهم أن في الحرب الدائرة على منطقتنا وأبعد، بل على الأبعد عبر منطقتنا، علنا، في خفاء، يُستعمل الإدراك وتوجيهه سلاحا ماضيا في قيادة شعابها، ذلك يتضمن توجيه الإعلام نوهت، الثقافة عموما، السياسة، الاقتصاد، كل حياة المنطقة الروحية والمادية، لتحقيق هدف القائمين على الحرب، ترويض الإدراك العام، الإدراك الفردي، العلاقات الخاصة، العائلية، العامة، غيرها، تحويلها إلى المجرى المطلوب حسب متطلبات الهدف، ضمنا التجريح، التشهير، رفع أكاذيب إلى مصاف حقائق ومقدسات، خفض حقائق إلى مرتبة أكاذيب، دبلوماسي، حزبي، مثقف، أي منهم يمارس ذلك الدور، مدركا أو ناقص إدراك، على يسار أو يمين، مستفيدا أو منفعلا، لا يختلف عن تكفيري داعشي يؤجج الحال على طريق الخطأ..
نعود من ساحة السياسة إلى ساحة الثقافة، لتوضيح الصورة أكثر، مع الفرق الكبير بين النجم الذي يعرفه الجميع ساطعا في سماء العالم بسبب العراق، أو الكوكب السيد بريمر، لا الكويكب طبعا، وآخر.. الكويتب الذي ذكرته، نرى هذا يدخل مهزلة دامية يظنها بدعة منه منزّلة سامية، أو منازلة في الأقل، مقارنته بالسابق مقارنة المريخ بالبطيخ طبعا، يعني نحتاج مجهرا لرؤيته بحجمه الطبيعي، تحت عدسة تبرز المخلوقات المجهرية، فنرى ذلك النهج، نهج تأميم الحقائق والقيم وقلبها في صورة وأخرى، توظيفها في استثمار جديد، قائما عنده على قدم وساق، ذلك الكويتب دبج قلنا قبل عشرة أعوام مقالا" يفتخر يسميه حتى اليوم "رسالة لئيمة" يتهمني بها بأني فرضت رأيي عليه، يا للاستخذاء لاحظ، بل أجبرته على توقيع مقال أدخلت فيه جُملا وربما جَملا ونشرته من باب مديح الذات. لم أرد عليه حينه تدرون، صديقة سألتني آنذاك لماذا لا أرد عليه؟ قلت: على تفاهة لا أرد. كلماته متناقضة تدحض نفسها بنفسها عند القارئ، ومحررو الصحف فوق يعلمون الحقيقة، بقية الناس لو تشاء تكتشفها مع الوقت.. ونسينا الموضوع، حتى أني صادفت ذلك الآدمي في طريقي أكثر من مرة عطفت عليه والله تكلمنا لا أشعر حتى رغبة في الكلام عن "رسالته اللئيمة" كي لا أحرجه.. نسأل لماذا تلك السيرة تعود بعد عشرة أعوام. يقلب هو آية يقول بسبب تصفية حساب من جانبي بالمقال ضد كتابه، وأنا لا حساب لي مع أحد، أتناسى أغفر لضيم طفيف، إنما الموضوع هكذا..
المركز الثقافي في ستوكهولم أهدى مؤخرا لي كتبا نشرها منها "رواية" الكويتب، يعني لم أتعمد الحصول عليها، لم أطلبها، بالمقابل وعدت مديره بتقديم تلك الكتب للقارئ عبر الصحافة، أوفيت وعدي، سبعة كتب، عرضت ما فيها من حسن وسيء، "رواية" الكويتب لم ترق لي لسبب منها لا مني، ككتاب آخر وآخر، حرام؟ كفرت؟ لازم تعجبني؟! بعد ذلك من دون مؤلفي تلك الكتب يرسل الفارس إلى موقع إلكتروني "مقاله" الطويل يحرم فيه يحلل، يعيد كلمات "رسالته اللئيمة" كما يسميها بنفسه قلنا متهما إياي هذه المرة بأني سكت عشرة أعوام لأنتقم منه بما كتبته اليوم عن "روايته"! بينما هو يعترف بمقاله بالنص يقول: كلما ظهر جيل جديد لروائيين حقيقيين (لا أضع نفسي بينهم).. انتهى الاقتباس منه، يقصد نفسه طبعا، عليه هو يدين نفسه بنفسه. المعنى: إذا أنت تقول عن نفسك أنك لا تضعها بين الروائيين الحقيقيين فما ذنبي أنا حين أقول ذلك أيضا، أو أنا ملزم بتقدير "روايتك" عاليا وهي لا ترقى لأن تكون حتى مسودة رواية؟! بالقوة تريدها جيدة؟! ندري حتى الغرب، حتى احتلال، يفرض ثقافته بأساليب أرقى، خلافه الناقد منتقم أسود؟ بهذلوه قبل ما يفضحنا، هزئوه كي لا تبقى لكلمته قيمة.
بلوى فعلا! العتبى على مَواقع نت تفسح مجالا لمن هب دب التزاما بحرية تعبير بلا حدود، تنشر "مقالة" غير مهذبة تبدو في صيغة مؤدبة، في تأدب يزيح الأدب تفضحه صيغته غير المرتبة، حال يشبه لو يمنح الخالق حميرا أجنحة تطير بها.. فتأخذ في رفس السماء في نشوة متعجبة!

 شواهد أحجم عن ذكرها حرصا على ترك موتى وأحياء يرفلون في راحتهم، لست من هواة إثارة فضائح وأقاويل. لكن يتجاوز التجريح حدوده إلى كسر بابي انتهاك خصوصيتي ذلك حدث يحدث لا أسكت. قد يقول قائل: أدباء ناشئون هنا كتبوا تعبوا تفضل المركز الثقافي في ستوكهولم بنشر أعمالهم أنت تشطب عليها بمقالك "الثقافة العراقية تشرق من الغرب" فأقول: أساتذة معروفون أعجبهم ذلك النقد، نصحوني بعدم الرد، لكني آثرت التوضيح في هذا العهد.. إذاً.. يا ناس اقرءوا تلك الأعمال ونقدها اقبل منكم أي حكم..

يوما دعوت لقيام سلطة خامسة، سلطة القارئ،  للعب دور حَكم في الأقل بين ناقد وكاتب، ولو مع الناقد تجربة أدبية نصف قرن ومع الكاتب عقل نصف قرد، ففي الفوضى السياسية التي نعيشها تزداد الحاجة لضوابط ترشيد حال ينفلت سياسيا اقتصاديا ثقافيا، فوضى تنعكس على مجمل حياتنا، على بيوتنا، كل شخص يصير إمبراطور زمانه بقدرته لا بأس، لكن لا بقدرة مواقع نت مستعدة لتتويجه على أفضل منه حين يتقافز لها تحت طلبها على لحن طبلها، مواقع أُسست أساسا لخدمة ثقافة احتلال، ثقافة الضرب والضارب والمضروب، ثقافة مؤخرات لوبيز وكردشان التي يكرهها كل شرفاء الأرمن ونكاح جهاد القرداوي، لا لخدمة ثقافة وطنية داعية لأخوة بين البشر وقيم معقولة قبل أن تكون سماوية.
 ناقد يكتب عن أعمالي منذ سنوات أرسلت له ذلك "المقال" سألته: بربك هل تدخلتُ يوما في كلمة مما تكتبه؟ هل طلبتُ منك يوما أن تفعل هذا أو ذاك؟ هل بدر مني أي شيء ينم عن تطفل عليك أو على غيرك؟ رد عليّ: على ذلك الكاتب مراجعة مقاله والاهتمام بنقد روايته، لي شخصيا نشروا بصحيفة وأخرى بفضلك..
 المقالجي إذاً يخرط خرطا لا ينبت عليه شعر يقال عندنا، منذ البداية يخدع حتى قارئه، يقول مثلا بأني ألومه على وضع صورة المؤلف على الغلاف، وذلك اللوم بمقالي واضح صريح: لوضعه صورة الصبي على الغلاف دون ضرورة والقول عنه هذا هو المؤلف وقت تكلمت فلانة. كذلك المقال الذي يفتخر بنشره في الشرق الأوسط والحقيقة صلحته أنا نعم، لضعف أسلوبه، صادفته بالقطار أخبرته نشر. والمقال الثاني بالقدس العربي أيضا عدلته لغويا ونشر هناك. حينه قال لي  محرر الصحيفة المعروف في لندن ذاكرا اسم "كاتب المقال" الفارس المغوار بالحرف، احجبه لتجنب بذاءة: هذا الشخص.. نعرفه لا ننشر له.. لكنا نشرنا مقاله هذا لخاطرك. شكرته طبعا أكدت له على إن أسلوب ذلك المخلوق يحتاج مراجعة فعلا قمتُ بها، وانتهينا.
بعد ذلك وقبل ذلك لم يُنشر له لا بهذه الصحيفة ولا بتلك شيئا.. واضح لعدم تقبلهم له.
مقال الزمان امتدحني به كثيرا عرضه علي كسابقيه قلت له نحذف المديح، من غير تواضع حقيقي أو زائف، لا لأني لا أستحقه قلت في خاطري بل لأني لا أريده من شخص غير راسخ.. تبيّن فعلا كذلك. ثم نُشر المقال أو غيره على مواقع النت، بعدها يخابرني حول مقال آخر لا أعلم عنه شيئا إطلاقا فعلا، استغرب ما فيه من سؤال إليّ وجواب مني لم يصدرا، أفهمته لا شأن لي بذلك الموضوع إطلاقا وانتهينا.

قبل عشرة أعوام إذاً ينشر هو رسالة يسميها بنفسه "لئيمة" يعيد سفاهتها اليوم يضيف عليها، يزج أنفه حتى في أمور لا يعرف عنها شيئا بكلام عن غائب فرمان وصداقتنا، ليوحي لو ردوا عليه كما عبّر أحد الزملاء بدقة بأنه من الحاضرين في الثقافة بين الكبار، عن زيارة غائب لدمشق حين كنت فيها منتصف الثمانينات، طارقا بذلك مجاهل وعرة له حتى من غير أن يتعوذ "دستور يا أسيادي دستور" فهل ننصحه فعلا: تكلم عن "روايتك" ونقدها لا تدس أنفك بعيدا في شأن لا تعرفه، القارئ والعارف يحكمان أخيرا على الغائب والموجود، يتطاول أكثر يكرر هلوسته يصير كلامي مع أسياده.. آنذاك تعرف شغلها معه حتما.. تصوّب له أو لعلها تصوّب نحوه.. تضعه في مكانه أفضل مني.. أو ينالها من زعل متبادل المزيد. وإذا ليس له أسياد فمصيبته أوهى.. من بيت عنكبوت.
ومنذ سنوات تم تجميع مقالات نقدية في الشأن الثقافي، مما كتبته نخبة من المثقفين، في كتاب استبعدتُ منه مقالات ذلك الشخص لنخلص من ضجيجه من رغبته إظهار نفسه بطريقة فجة، وصل الكتاب الكترونيا إلى المركز الثقافي العراقي في ستوكهولم مؤخرا قصد نشره، اطلع الورائي أقصد ذلك "الروائي" على استبعاده منه ثارت حفيظته.. لا أدري تماما..
ها، زوجته الكريمة دعتني يوما لبيتها زرتها، عرفتني على شاعرة مطلقة، خابرني بعد ذلك زوج الشاعرة رجاني أن لا اتصل بمطلقته لأنه يريد إعادتها إليه، احترمت رغبته عاليا وعدته بالمطلوب نفّذت ذلك. بعدها عرفتني الزوجة الكريمة على فنانة سألتني عن أغنيتي المفضلة قلت "عد وآني أعد" دعتني هذه إلى أمسية افتتاح فضائية ما بعد حين فاجأتني بتقديم تلك الأغنية فيها ثم سألتني عن رأيي قلت: أداء ممتاز. ثم قامت الفنانة عرفتني على مثقفة اذربيجانية لم أشأ اللقاء معها لاحقا. وبعد أمسية أدبية أخرى دعتني تلك الزوجة الكريمة بحضور بعلها الكويتب وغيره إلى بيتها، ألحت عليّ لمرافقتهم إلى هناك لإكمال السهرة، لكني اعتذرت عن تلبية الدعوة. ذلك كل ما بيني وبين ذلك السيد، لا علاقة لي معه لو يكتب ولا صداقة. بعد تهجمه عليّ فكرت: لا تصنع المعروف في غير أهله.. حكمة صحيحة فعلا.
لا بأس، وذبابة تشوش على ملاكم ممكن هشها.. لا ترعوي.. نسأل محمد علي كلاي ما العمل معها.



صفحات: [1]