عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


مواضيع - الأب ريبوار عوديش باسه

صفحات: [1]
1
دعوة للكلدان لمواجهة السفسطة بالبنيان

بقلم الأب ريبوار عوديش باسه

كثر الحديث في هذه الأيام عن الكلدان. فمن الأشوريين من يقول بأن قوميتهم أشورية، ومن السريان من يقول بأن لغتهم سريانية، ومن العرب من يدّعي بأن هويتهم عربية، ومن الأكراد من يصّر بأن أرضهم كردستانية.
من الطبيعي إن تستمر الأطراف المتعودة على انتهاز الفرص القتال بشراسة لأخذ الحصة الأكبر من الكعكعة المتمثلة بالشعب الكلداني العريق والطيب والمنفتح، والذي من مبادئه وضع المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة.
لكن أمام هذه الحالة التي تشكل خطراً جسيماً على وجود الكلدان من كل النواحي بما فيها القومية والدينية والعقائدية والثقافية والجغرافية والتاريخية ينبغي على الكلدان الاستمرار بنهجهم المنفتح على الأخر من جهة، والعمل بالوقت نفسه على تعزيز هويتهم. نعم، ليس للكلدان سوى خيار واحد إلا وهو الرد على من يراهن على الجدال العقيم، والسفسطة الهادفة لتضليل الحقيقة، والمغالطة التي تلعب على الكلمات في سبيل النيل من الكلدان أو على الأقل استغلالهم لمصلحته الخاصة، بأن يتشجعوا ويلتزموا بشكل أشد بعقيدتهم وكنيستهم، وهويتهم وقوميتهم، ولغتهم وحضارتهم، وأرضهم وثقافتهم، وتاريخهم العريق.
الالتزام بالهوية ـ قومية كانت أم دينية ـ يتجسد بالفعل أكثر مما يتجسد بالقول. فمن ينتمي بكل كيانه لقومية ما، يعيشها في كل تفاصيل حياته، ويؤمن بها من كل قلبه. وعليه، تقع على عاتقنا نحن كلدان اليوم مسؤولية كبيرة للحفاظ على أرثنا الحضاري والقومي، والديني والثقافية، وخاصة في عالمٍ حوّله التطور السريع إلى قرية صغيرة. كل كلداني من موقعه ومن وظيفته أو حقل عمله، وفي بيته وبيئته، عليه العمل على تعزيز هويته الكلدانية، والحرص عليها، والتعمق بمعرفتها، والحفاظ على لغتها وتعلمها قراءة وكتابة وتعليمها على الأقل لأفراد عائلته أينما كان. فلغتنا الكلدانية هي أحد الروابط الأساسية التي تجعلنا ككلدان متحدين ومتحاورين مع بعضنا رغم انتشارنا في كل بقاع العالم. فالكلداني الذي ولد بأمريكا وتعلم لغة الأم، بفضلها يمكنه الحديث والتواصل مع ابن عمه الذي ولد في العراق وتعلم لغة الأم، وهكذا مع ابن خاله الذي ولد في السويد، وبنت عمته التي ولدت في سويسرا، وبنت خالته التي ولدت في تركيا.
بصراحة استخدام لغتنا الأم في طقوسنا مهم وجميل، لكن لا يكفي للمؤمن المشارك كي يتعلم اللغة بشكل جيد قراءة وكتابة. لا بل ممارسة الطقوس ليست بطبيعة الحال دورات لتعلم اللغات! من جهة أخرى، لو علمنا كلنا أولادنا لغتنا الأم في بيوتنا، فلا خوف من اندثارها حتى لو لم تستخدم هذه اللغة في الميادين الأخرى. لكن هنالك فرق بين الحفاظ على اللغة من الاندثار، وبين تطويرها وجعلها حاضرة وبقوة في كل تفاصيل الحياة. وهنا يأتي دورنا بفتح دورات لتعليم اللغة الكلدانية، ونشر كتب مبسطة وعملية واختراع برامج كومبيوترية لتعلمها، وفتح معاهد مختصة مثلما يعمل الأخرون.
باختصار شديد علينا ألا ننسى بأن لغتنا الكلدانية كغيرها من اللغات ليست عاجزة، ولا نسمح لأنفسنا بأن نكون عاجزين على تعلمها وتعليمها وتطويرها.
أما بخصوص قوميتنا الكلدانية، فنحن نفتخر بها، ونؤمن بانتمائنا لها، ونعتبرها حقنا الشرعي، والحق يؤخذ ولا يعطى. وبالتالي، لا ننتظر من غيرنا بأن يقدم لنا هويتنا هدية مجانية، بل نحن نقدمها للعالم باسره بأجمل وأبهى صورها!
وشلاما دمريا هاوي منوخنّ.

2
كي لا تصبح الزيارة الأولى لبابا إلى العراق زيارة أخيرة!

الكل يعلم بأن زيارة قداسة البابا الأولى إلى العراق لم تكن غايتها التنزه والسياحة والاستجمام، والتقاط الصور التذكارية، والقاء خطب رنانة من قبل هذا وذاك، وإنما جاءت لتعزيز السلام والأمان، وتكريم دم الشهداء، ودعم الشعب العراقي عامة والاقليات خاصة، وإدانة الإرهاب وجرائم الإبادة الجماعية والدعوة لإنهاء العنف والقتل، والتسلح والدمار، والمحاصصة والتهميش والفساد.

بالحقيقة، تفاجئنا بإقرار البرلمان العراقي مادة من مواد المحكمة الاتحادية تضاف إلى الدساتير والقوانين الأخرى المجحفة بحق المواطنين وبالأخص بحق الأقليات والمكونات التي تمثل الطرف الأضعف في المعادلة السياسية العراقية (https://ankawa.com/forum/index.php?topic=1011256.0)، ويستشف منها بأن العراق في نهاية طريقه نحو استكمال ولاية الفقيه! وحتى توقيت الموافقة على تلك المادة في البرلمان العراقي قد تكون لها دلالاتها السلبية، حيث جرى ذلك يوم الخميس ٤ آذار، أي قبل يوم من بدء قداسة البابا فرنسيس زيارته إلى العراق! تلك الزيارة التاريخية التي ختمت بخير وسلام، ورسمت على وجوه العراقيين البسمة، وزعت في قلوبهم الفرحة والرجاء بعراقٍ أفضل!

والآن جاء دور تجسيد مبادئ الاخاء والعدل والمساواة. وعليه، إن لم يعاد النظر في فقرات الدستور العراقي التي تهمش رغبة العراقيين العارمة ببناء دولة مدنية ومتحضرة وديمقراطية يكون فيها لكل انسان مها كان نفس الحقوق ونفس الواجبات، من دون تفضيل شريعة على شريعة، وديانة على ديانة، وطائفة على طائفة، وقومية على قومية، ومكون على مكون، وعشيرة على عشيرة، ولغة على لغة، ولون على لون! وإن لم تقوم السلطات العراقية والمرجعيات بكافة أشكالها وألوانها، بتكثيف الجهود وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، وتنهي مسألة الاكراه في الدين، وحكم القوي على الضعيف، نخشى ان تصبح الزيارة الأولى لبابا الفاتيكان إلى العراق، زيارة أخيرة من هذا النوع! لأن الوضع في الواقع لا يسمح بممارسة المزيد من الظلم والإجحاف بحق مكونات أصيلة وشعوب سكنت أرض الرافدين منذ آلاف السنين، وضحت بالغالي والنفيس من أجل رفع اسمه وشأنه. فإن كانت الدساتير والقوانين التي ينبغي أن تنصف المظلوم، وتدافع عن الضعيف، وتدعم المهمش، ليست عادلة، فإنها بلا شك ستهيئ أرضية خصبة للمزيد من التمييز العنصري، والظلم والإجحاف، والعنف والإرهاب باسم الدين والدولة!

كما نرى بأن من الخطوات الإيجابية والضرورية التي تبعث اشارات قوية في طريق تعزيز مبادئ الاخوة والمواطنة والعدل والمساواة - بجانب تعديل الفقرات الدستورية والقانونية التي تظلم وتهمش بعض المواطنين العراقيين - هي أن تضاف للعلم العراقي رموزاً أو شعارات تمثل كل الأديان المتواجدة في العراق منذ القدم وإلى اليوم، وأبرزها المسيحية والصابئة المندائية واليزيدية، أو ألا يوضع أي رمز أو شعارٍ ديني على العلم العراقي، الذي ينبغي أن يمثل كل المواطنين والوطن بأسره، وليس فقط فئة أو ديانة مهما كان عددها، لأن الدين لله، أما الوطن فللجميع!

3
شاءت الأقدار أن يكون الشهيد الوحيد مسيحياً
(الشهيد البطل فرحان إيليا برايموك)

صدمت بتلقي نبأ استشهاد البطل فرحان إيليا برايموك، وتألمت كثيراً لفقدانه، وحزنت جداً له ولعائلته. بالحقيقة كان الشهيد البطل فرحان معروفاً بطيبته ومحبته وبساطته وعمله وإيمانه وفرحه بالرب. فهو كان فعلاً اسماً على مسمى حيث أن الفرح لم يكن يفارق وجه فرحان، وطيبة قلبه كان يلتمسها كل أنسان.
شخصياً عرفت ومنذ صغري أبن بلدتي الحبيبة شقلاوا الشهيد البطل فرحان، حيث كنت ألتقيه مراراً وأنا في طريقي نحو المدرسة وفي عودتي للبيت، وفي اللحظات الجميلة التي كنت اقضيها مع أصدقائي بأماكن اللقاء في شقلاوا المعروفة بطبيعتها الخلابة. لكن الصورة الأجمل لي عنه والتي لم ولن يمحوها الزمن من ذاكرتي هي حضوره الدائم للكنيسة ومشاركته في القداس الإلهي وفي الصلوات الأخرى وركوعه أمام القربان المقدس بكل خشوع ومحبة وايمان.
إن رحيل الشهيد فرحان عنا وبهذه الطريقة لم يكن في الحسبان، لكن هكذا شاءت الأقدار في زمان كثر فيه الفساد والعنف والإرهاب ودمار الأوطان. نعم، شاءت الأقدار أن يكون الشهيد الوحيد في العدوان الإرهابي صباح يوم الإثنين ٢٣ تموز ٢٠١٨ مسيحياً.  شاءت الاقدار أن يكون الشهيد الوحيد من أفقر وأطيب الناس. شاءت الاقدار أن يكون الشهيد الوحيد من أفضل وأكثر الناس التزاماً بواجبه وعمله، ولو بنصف راتب أو حتى من دونه.
إن استشهاد الأخ فرحان داخل مبنى محافظة أربيل، في حادثة غريبة من نوعها، وعجيبة بتفاصيلها، وفي تلك الساعة المبكرة من الصباح خير دليل على التزامه بواجبه وعلى شجاعته ومحبته لخدمة وطنه. وهو خير دليل على أن المسيحيين بالرغم من عددهم القليل هم في الخطوط الأمامية لخدمة الوطن وابنائه والدفاع عنه وبذل الذات في سبيله وفي سبيل تطويره وازدهاره. ونتنمى أن تُخلد محافظة أربيل تضحيته بإقامة تمثالٍ له في المدينة أو بتخصيص شارع بقرب مبنى المحافظة ليحمل اسمه ويخلد ذكره، ويُذكر المواطنين بأن المسيحيين هم دوماً أوفياء لوطنهم ويضحون بدمائهم في سبيله بجانب اخوتهم المواطنين الشرفاء من كل أطياف الشعب العراقي المتألم والجريح.
انضم الشهيد فرحان لقافلة شهداء المسيحيين الذين سقطوا إما في سبيل ايمانهم بالمسيح أو في سبيل العراق الجريح، وأخص بالذكر بعضاً ممن عرفتهم من أبناء بلدتي شقلاوا وفي مقدمتهم الأب الشهيد يوحنا شير الذي اغتالته يد الخدر والخيانة في جمعة الآلام، ٢٨ آذار ١٩٨٦؛ والشهيد البطل لازار متي يوسف وابنه الشهيد البطل هه فال اللذان استشهدا على يد بعض المتطرفين الإسلاميين سنة ١٩٩٧. وكما أود أن أذكر صديقيّا الشهيدين البطلين ماجد بيا توما وهيثم سولاقا حنا اللذين اختلطت دماؤهما بدماء الكثير من الشهداء الأكراد المسلمين في الهجوم الإرهابي الذي نفذه الإرهابيون الإسلاميون في أربيل يوم عيد الأضحى سنة ٢٠٠٤.
سيبقى ذكر شهداءنا في قلوبنا وضمائرنا، وحتماً ستنبت دماءهم ايماناً في تربة وطننا وفي قلوبنا، وعسى أن تكون تضحيتهم بذواتهم في سبيل الإيمان والوطن دافعاً لنبذ الطائفية والعنصرية والاضطهاد والإبادة تجاه المسيحيين بمختلف كنائسهم وقومياتهم وأعراقهم. وكذلك بالنسبة لكل الأقليات التي تعرضت ولا تزال تتعرض للعنف والظلم والإبادة الجماعية في أبشع صورها مثل تلك التي ارتكبها تنظيم داعش الإرهابي وأعوانه. ولتكن دماء جميع الشهداء العراقيين الطاهرة رمزاً لوحدة البلاد والعباد ودافعاً لتحرير الوطن من الإرهاب والفساد على حد سواء.
نعزي أنفسنا وأبناء بلدتنا الحبيبة شقلاوا ومدينة أربيل الغالية، ونعزي بشكل خاص عائلة الشهيد البطل فرحان لفقدان هذا الإنسان الطيب والغيور والمخلص لإيمانه ولأهله ووطنه. ولنصلي عن راحة نفسه، ونفوس جميع الشهداء، ونطلب للجرحى الشفاء، وللعراق التخلص من العنف والكره والإرهاب والفساد، وسيادة العدل واستباب الأمن والسلام، ولأبنائه وفي مقدمتهم الفقراء والمساكين التنعم بخيراته وطيبة تربته ـ آمين.

4
"أًفَلا أُشفِقُ أَنا على نينَوى ...؟"
                (سفر يونان ٤، ١١)

الأب ريبوار عوديش باسه

المقدمة: نحن أهل العراق عموماً وأهل نينوى خصوصاً عندما نقرأ سفر يونان النبي تنتابنا مشاعر جياشة وجميلة ومختلفة عمن ليس لديه انتماءٌ مباشر لأرض العراق الطيبة. شخصياً عشت في نينوى لمدة تسع سنوات، وكلما أقرأ هذا السفر وكأني أحد هؤلاء الناس الذين يحذرهم يونان من الدمار، ويدعوهم الله للتوبة، ويغفر لهم ويفرح بخلاصهم.
سفر يونان هو من الأسفار القصيرة (٤٨ آية فقط) ولا تستغرق قراءته أكثر من عشرة دقائق، إلا أنه غنيٌ بمعانيه الروحية وأسراره اللاهوتية وجماليته الأدبية. وربما أقصر طريقة لتفسيره هي بالبدء من نهايته، وبالتحديد بالسؤال الذي يطرحه الرب على يونان النبي في نهاية سفره: "أَفَلا أُشفِقُ أَنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِن آثنَتَي  عَشرَة رِبْوَةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم مِن شِمَالِهم، ما عدا بَهائِمَ كَثيرة؟" (يونان ٤، ١١). هذا السؤال يطرحه الرب على كل واحدٍ منا، وخصوصاً في هذه الأيام المباركة التي نصوم فيها صوم الباعوثا التي تذكرنا بتوبة وخلاص أهل نينوى بفضل نبوءة يونان النبي ورحمة الله. كما تذكرنا بأحداث تاريخية أخرى وقعت في نينوى وحدياب وكركوك، منها الخلاص من وباء الطاعون وذلك في القرن السادس الميلادي، وكذلك قصة خلاص عذارى دير بقرب نينوى من ظلم أمير، وكل ذلك بفضل التوبة والصوم والصلاة لنيل رحمة الله (قارن كتاب: رتبة باعوثا، للبطريك لويس روفائيل ساكو، بغداد ٢٠١٤، ص ١).

نينوى رمزٌ لكل الأمم والأوطان: نينوى التي هي في مركز رسالة سفر يونان لها معاني ودلالات روحية تتجاوز جغرافية هذه المدينة العراقية العريقة وأهلها لتشمل كل من هو مختلف عنا بالدين والعرق واللغة والجنسية والشخصية، وما إلى ذلك. فهذا الإنسان المختلف نحتاجه ويحتاجنا، وينتظر منا أن ننقل له نبوءة الله التي تدعو في جوهرها للمحبة والتوبة والغفران والرحمة والخلاص. فنينوى في سفر يونان ترمز لكل إنسان مهما كان، حتى لو كان خصماً وعدواً، حيث يدعونا الله لنحبه ونحمل الرسالة الإلهية إليه كي يتوب ولا يهلك. ظن يونان بأنه كان عليه فقط أن ينقل رسالة مفادها أن: "بَعدَ أَربَعينَ يَوماً تنقَلِبُ نينَوى" (يونان ٣، ٤). ولهذا لم يدعو أهلها للتوبة. إلا أنهم رغم قساوة كلمات النبي فهموا فحوى رسالته التي كانت عبارة عن جملة واحدة، مكونة من خمس كلمات فقط.
ونحن يونان اليوم هل لدينا الاستعداد لننقل رسالة الله وبشارته الخلاصية حتى لأعدائنا؟ هل فعلاً نريد أن يخلص أعدائنا، أم نريد دمارهم وهلاكهم؟! وهل خلاصهم يغضبنا، فنقول خير لنا أن نموت من أن نحيا! (قارن يونان ٤، ١. ٨ ـ ٩). ومن جانب آخر، نتسأل: هذا المختلف عنا، حليفاً كان أم خصماً، صديقاً كان أم عدواً، هل مستعدٌ أن يقتدي بأهل نينوى الذين آمنوا وتابوا وقبلوا رسالة نبي غريب ورجعوا عن طريق الشر والعنف (قارن يونان٣، ٥ ـ ٩)؟! ولكن ينبغي ان نكون حذرين من طرفنا، ونسأل أنفسنا: هل نحن أيضاً نعترف بخطايانا ونتوب عنها ونطلب الرحمة والغفران من ربّ الأكوان؟ ففي سفر يونان، مثلما كان أهل نينوى محتاجون للتوبة، كذلك يونان كان بحاجة لذلك وكان عليه تغيير مساره والتوجه إليهم، وليس بالهرب من وجه الله ومن وجوههم (أنظر يونان ١، ١ ـ ٣؛ ٣، ١ ـ ٤). إذن جميعنا خطأة (قارن رسالة بولس الرسول إلى الرومانيين، الاصحاح الثالث)، وجميعنا بحاجة للتوبة، ولرحمة الله وحنانه ورأفته ونعمته وغفرانه!

يونان ورسالته لكل إنسان: إن رسالة سفر يونان مسكونية حيث تتجاوز الزمان والمكان وتدعو للانفتاح والشمولية وبالتالي هي موجهة لي ولك الآن ولكل إنسان. كل واحد منا مدعوٌ لكي يكون يونان! مدعوٌ ليقتدي بالرب الذي هو "إلهٌ رَؤُوفٌ رَحيمٌ طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَةِ ونادِمٌ على الشَّرّ" (يونان ٤، ٢). الله رحم نينوى وندم ولم يدمر المدينة وأهلها! أما يونان فلم يريد أن تنزل رحمة الله على تلك المدينة. فنبوءته المباشرة لأهل نينوى كانت تشير فقط للدمار الذي كان مزمع أن يحلّ بها بعد أربعين يوماً (يونان ٣، ٤). وكما نوهنا أعلاه بأن نهاية هذا السفر هي نهاية مفتوحة، وتشكل بذلك نقطة الانطلاق بالنسبة للقارئ. وتطرح علينا السؤال التالي: هل فعلاً نحن نريد من الله أن يشفق على نينوى المدينة العظيمة؟ هل نحن فعلاً نريد أن يشفق الله على من هو مختلف عنا بالدين والقومية والعرق والجنس والمواهب؟ هل نحن فعلاً نريد أن نكون رسل المحبة والمصالحة والتوبة والرحمة والغفران؟! أما أننا نغضب، لأن ما نقلناه في رسالتنا التحذيرية لم يتحقق، بسبب توبة الآخر ورحمة الله تجاهه!
يونان يصلي من بطن الحوت ويستغيث الله من جوف مثوى الأموات (قارن يونان ٢، ١ ـ ٩)، والله يسمع صوته (يونان ٢، ٢) ويخلصه (يونان ٢، ٩ ـ ١٠)، لا بل حتى يظلله فيما بعد بنبتة الخروعة لكي ينقذه من الضرر (يونان ٤، ٦). فيفرح يونان فرحاً عظيماً لذلك، إلا أنه لا يفرح بتوبة وصوم وصلاة أهل نينوى، وبالخلاص الذي تحقق لهم بفضل رحمة الله وحنانه، لا بل يغضب ويفضل الموت من أن يرى هذا الخلاص لأعدائه! تتميز شخصية يونان بالغضب، حيث أنه يغضب لأن الخروعة التي لم يتعب بها ولم يربها يبست (يونان ٤، ٥ ـ ٩)، ويغضب لأن الله رحم نينوى وأهلها وخلصهم. ومن الملاحظ بأن كلمة "غضب" ترد في هذا السفر خمس مرات، مرة واحدة فقط تشير لغضب الله "لَعَلَّ الله يَرجعُ ويَندَمُ ويَرجعُ عنِ آضطِرامِ غَضَبِه، فلا نَهِلك" (يونان ٣، ٩؛ لكن لاحظ بالمقابل صفة "طَويلُ الأَناةِ" لله؛ يونان ٤، ٢)، أما بقية الحالات الأربعة فكلها تشير لغضب يونان (يونان ٤، ١. ٤. ٩).

محاسن يونان: أهل نينوى تابوا، ويونان أدى رسالته لكن السفر ينتهي قبل أن يجيب يونان على السؤال الذي طرحه الله عليه: "أَفَلا أُشفِقُ أَنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِن آثنَتَي عَشرَة رِبْوَةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم مِن شِمَالِهم، ما عدا بَهائِمَ كَثيرة؟" (يونان ٤، ١١). لمعرفة جواب يونان على سؤال الله ينبغي إعادة قراءة سفره على ضوء هذا السؤال. فيونان يسرد قصته وقصة خلاص نينوى بتواضع ويذكر سيئاته وضعفه وتمرده على مخطط الله. ومن خلال ذلك يعبر عن توبته أيضاً ويضع رحمة الله في المقدمة ويقدم نفسه كعبد بطّال عمل ما كان يجب عليه (قارن لوقا ١٧: ١٠). أما نحن فجوابنا على سؤال الله يعتمد على مدى تجاوبنا مع دعوته لنا، وعلى جديّة توبتنا وصدق محبتنا لأعدائنا، وعلى مدى استعدادنا لنرحم الآخرين مثلما يرحمنا الله، وأن نعمل على خلاص الآخرين مثلما يخلصنا، وأن نغفر للأخرين مثلما يغفر لنا ذنوبنا.
بالرغم من تمرد يونان وموقفه المتعصب، وكبريائه وغضبه لعدم تحقيق كلمات نبوءته بانقلاب نينوى، نجد في سفره تعابيراً ونصوصاً تشير إلى أنه كان رجلاً يخاف الله (قارن يونان ١، ٩) ويرفع صلاته له (قارن يونان ٢، ١ ـ ٩؛ ٤، ٢ ـ ٣) ويحاوره كصديق وبكل صدق (قارن يونان ٤، ٩). وما يمكننا استنتاجه من سفره هو تواضعه وتوبته على مواقفه السابقة وسرده لنا لخبرته الصعبة وبالوقت عينه ممتعة وناجحة لكي ننتفع منها ونبدأ مغامرتنا مثله بالتوجه نحو الأخر المختلف عنا أو خصمنا من دون خوف، لا لكي ندمره وإنما لكي ينال الخلاص من الله مثلما نلناه نحن، واثقون بأن الله معنا ويصنع العجائب لتحقيق رسالته من خلالنا.

يونان وأبن الإنسان: إن سفر يونان له مكانة مميزة عندنا نحن المسيحيين، لأن ربنا يسوع المسيح بلسانه يشير إليه، وبصريح العبارة يذكر مدينة نينوى وأهلها ونبيها يونان، قائلاً:

"٣٩جِيلٌ فاسِدٌ فاسِقٌ يُطالِبُ بِآية، ولَن يُعْطى سِوى آيةِ النَّبِي  يونان. ٤٠فكما بَقِيَ يُونانُ في بَطنِ الحُوتِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وثَلاثَ لَيال، فكذلك يَبقى ابنُ الإِنسانِ في جَوفِ الأَرضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ وثلاثَ لَيال. ٤١رِجالُ نِينَوى يَقومونَ يَومَ الدَّينونةِ معَ هذا الجيلِ ويَحكُمونَ عليه، لِأَنَّهم تابوا بإِنذارِ يُونان، وههُنا أَعظَمُ مِن يُونان" (متى ١٢، ٣٩ ـ ٤١؛ قارن متى ١٦، ٤؛ لوقا ١١، ٢٩ ـ ٣٠. ٣٢؛ يونان ١، ١٧؛ ٣، ٣ ـ ١٠).

كما هنالك نصوص كتابية أخرى في العهد الجديد تشير بطريقة غير مباشرة لأحداث هذا السفر النبوي مثل أعجوبة تسكين يسوع للعاصفة، والتي يُشَبَه بها يسوع بيونان حيث كان نائماً مثله في السفينة التي كانت تتعرض لأمواج وعواصف (متى ٨، ٢٣ ـ ٢٧؛ مرقس ٤، ٣٥ ـ ٤١؛ لوقا ٨، ٢٢ ـ ٢٥؛ قارن يونان ١، ٤ ـ ٦).
تعابير أخرى وردت في العهد الجديد قد تكون لها علاقة بما ورد في سفر يونان، مثل: "بالمِسحِ والرَّمادِ" كعلامة للتوبة (متى ١١، ٢١؛ لوقا ١٠، ١٣؛ يونان ٣، ٥ ـ ٦)؛ "نَفسي حَزينَةٌ حتَّى  المَوْت" (متى ٢٦، ٣٨؛ مرقس ١٤، ٣٤؛ يونان ٤، ٩ من الملاحظ أن النص العبري هنا يستخدم كلمة تشير للغضب، بينما الترجمة السبعينية اليونانية تستخدم كلمة تشير للحزن)؛ "فَرِحوا فَرحاً عَظيماً جداً" (متى ٢، ١٠؛ يونان ٤، ٦).
فلتكن توبتنا "بالمِسحِ والرَّمادِ" طريقاً لخلاصنا، فينقلب حزننا حتى الموت إلى فرحٍ عظيمٍ جداً. فإذا كان يونان قد فرح فرحاً عظيماً بنبتة الخروعة التي لم يتعب بها ولم يربها، فكم ستكون الفرحة أعظم في السماء بتوبة إنسان خاطئ!

الخاتمة: ونحن نحيي صوم أهل نينوى ونتأمل برسالة سفر يونان التي تدعونا للتوبة والرحمة والشفقة، لنصلي من أجل السلام والأمان في نينوى، ونطلب من الرب أن يعزي قلوب كل ضحايا الصراعات والحروب وبشكل خاص الناس الأبرياء وأبناء الأقليات الذين لا تزال معاناتهم مستمرة بسب العنف والاضطهاد. ونستذكر شهداء العراق عامة وشهداء نينوى وبالأخص رئيس أساقفتها شيخ الشهداء المطران بولس فرج رحّو الذي كرس حياته وضحى بها في سبيل خدمة الرب وكنيسته في مدينة نينوى. وبما يخص موضوع الرحمة والشفقة، نستذكر ما قاله في سياق إحدى مواعظه الخالدة في كنيسة مار بولس يوم ٧ كانون الثاني ٢٠٠٨، وذلك بعد يوم من تفجيرها، معلناً بصوته الجهور وبلهجته المصلاوية الرقيقة وبثقة وحماس هذه الكلمات النبوية:

"... فأنا دِعِتُوكم اليوم حتى نصلي من أجل الذين يعتبرونا أعدائهم، وجو فجروا كنائسنا، أدعوكم اليوم أن نصلي من أجلهم، حتى الله يعطي الرحمة في قلبهم، يشفقون على هذا الشعب العراقي المتألم والجريح. كفى، كفى من هذه الشرور في هذا البلد، لأن نحن بقى نريد أن نرى الحب، نريد ان نرى السلام، نريد أن نرى الأخوة، نريد أن نرى التضامن في هذا البلد، ونريد أن نبني هذا البلد...".

دعوة شيخ الشهداء المطران بولس فرج رحّو هي من صلب رسالة سفر يونان. فالله أشفق على مدينة نينوى وسكانها وقَبِل توبتهم ورحمهم. فهل نحن مستعدون أن نتوب مثلهم؟! هل نحن مستعدون أن نرحم بعضنا البعض، ولو بعدما دمرت مدينة نينوى، وبعد خراب البصرة، وبعد كل ما لحق ببلدنا العريق العراق بكل أعراقه وأطيافه وأديانه وثقافاته وقومياته؟ هل يا ترى سنتعلم من ماضينا، ومن ضمنه أيضاً قصة النبي يونان مع أهل نينوى، لنتوب عن خطايانا ونغفر لمن أخطأ إلينا، ونحب بعضنا البعض، ونرحم بعضنا البعض، ونشفق على نينوى وعلى بعضنا البعض مثلما أشفق الرب عليها وعلينا؟

مارَن إثرَحَم علَين؛ مارَن قَبيِّلْ باعوثَن؛ مارَن إثرَّعا لعَودَيك.
يا ربنا أرحمنا؛ يا ربنا اقبل طلبتنا؛ يا ربنا ارضَ على عبيدك.

5
تَجَسدَ ربُّنا ليكُن معنا
ويمسح دموعنا ويفرح قلوبنا

الأب ريبوار عوديش باسه

[١وفي تِلكَ الأَيَّام، صدَرَ أَمرٌ عنِ القَيصَرِ أَوغُسطُس بِإِحْصاءِ جَميعِ أَهلِ الـمعَمور. ٢وجَرَى هذا الإِحصاءُ الأَوَّلُ إِذ كانَ قيريِنيوس حاكمَ سورية. ٣فذَهبَ جَميعُ النَّاسِ لِيَكتَتِبَ كلُّ واحِدٍ في مَدينتِه. ٤وصَعِدَ يوسُفُ أَيضاً مِن الجَليل مِن مَدينَةِ النَّاصِرة إِلى اليَهودِيَّةِ إلى مَدينَةِ داودَ الَّتي يُقَالُ لَها بَيتَ لَحم، فقَد كانَ مِن بَيتِ داودَ وعَشيرتِه، ٥لِيَكتَتِبَ هو ومَريمُ خَطيبَتُه وكانَت حامِلاً. ٦وبَينما هما فيها حانَ وَقتُ وِلادَتِها، ٧فولَدَت ابنَها البِكرَ، فَقَمَّطَتهُ وأَضجَعَتهُ في مِذوَدٍ لأَنَّه لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في الـمَضافة. ٨وكانَ في تِلكِ النَّاحِيَةِ رُعاةٌ يَبيتونَ في البَرِّيَّة، يَتَناوَبونَ السَّهَرَ في اللَّيلِ على رَعِيَّتِهم. ٩فحَضَرَهم مَلاكُ الرَّبِّ وأَشرَقَ مَجدُ الرَّبِّ حَولَهم، فخافوا خَوفاً شديداً. ١٠فقالَ لَهمُ الـمَلاك: "لا تَخافوا، ها إِنِّي أُبَشِّرُكم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: ١١وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ فِي مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ. ١٢وإِلَيكُم هذِه العَلامة: سَتَجِدونَ طِفلاً مُقَمَّطاً مُضجَعاً في مِذوَد". ١٣وانضَمَّ إِلى الـمَلاك بَغتَةً جُمهورُ الجُندِ السَّماوِيِّينَ يُسَبِّحونَ اللهَ فيَقولون: ١٤"الـمَجدُ للهِ في العُلى! والسَّلامُ في الأرض، لِلنَّاسِ أَهْلِ رِضاه!"] (لوقا ٢: ١ ـ ١٤).

عندما نمرُّ بخبراتٍ مؤلمة وبمحنٍ شاقة نشعر بأنه لم يبقى لنا سوى ملجئاً وحيداً، ألا وهو الله. نضع ثقتنا به ونطلب عونه. ولكن ما نختبره في بعض الأحيان هو ان الله لا يتدخل لإنقاذنا "إِلهي إِلهي، لِماذا تَرَكتَني؟" (مزمور ٢٢). يبدو وكأننا نضع ثقتنا به ونطلب منه العون والمساعدة، إلا أنه لا يحرك ساكناً لإنقاذنا! بل أن محننا تزداد، ومشاكلنا تتفاقم لتتحول الى معضلات، ومعضلاتنا تتعظم لتتحول إلى كوارث. فيتجه حالنا من سيء إلى أسوء، حيث تزداد همومنا، وتغدو أحزاننا أكثر بكثيرٍ من أفراحنا. فلا نجد من يتدخل لخلاصنا، ويزرع السلام في وقلوبنا، والاطمئنان في نفوسنا! وبالتالي نسأل أنفسنا: هل من معنى لاحتفالاتنا الدينية، ولا سيما الاحتفال بعيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح، ورأس السنة الميلادية؟
نعم يا أخواتي وإخوتي، هنالك معنى لهذا الاحتفال، لا بل في وسط ظروف كهذه، يمكننا أن نختبر المعنى الحقيقي لميلاد ربّنا يسوع المسيح. فولادة يسوع وظروفها لم تكن أفضل من ظروفنا. فمثلما حياتنا مملؤة بالمفارقات، كذلك حياة يسوع. يكفي أن نضع نصب أعيننا أين وكيف ابتدأت حياة يسوع الأرضية؟ وأين وكيف انتهت؟! إنها ابتدأت بالمذود، وانتهت على خشبة الصليب. لكن ما كان يبدو نهاية، حوله الله لبداية حياة جديدة وأبدية، وذلك بقيامة الربّ يسوع المسيح من بين الأموات، وتحقيق الخلاص للبشرية.
إن الإنجيلي لوقا في سرده لقصة ولادة يسوع (لوقا ٢: ١ـ ١٤) يبين كيف أن الرب شاركنا احزاننا وهمومنا، وأنه تجسد لينقذنا منها. فهو أيضاً ولد في ظروف غير إنسانية بسبب حكام زمنه الذين كانوا يعتبرون أنفسهم صمام الامان والاستقرار للشعوب، بينما كانوا بالحقيقة يستغلونهم ويتسلطون عليهم ويستعبدونهم ويفرضون عليهم ضرائب تثقل كاهلهم. كان الحكام والملوك، ولا يزالوا في أغلب الحالات، يتخذون قرارات لكي يحافظوا على مناصبهم من دون إي اعتبار لمصالح شعوبهم، ولهذا السبب أيضاً صلبوا الربّ يسوع، بعد أن كان قد فشل قبلهم الملك هيرودس في قتله عندما علم بولادته، ولطخ أيديه بدماء بريئة لأطفال بيت لحم وجوارها (قارن متى ٢: ١٦ ـ ١٨). لنتأمل بحال مريم العذراء، حيث كان عليها وهي حُبلى أن تسافر من منطقة لأخرى كي تؤدي واجبها بخصوص الإحصاء، ولكن السلطة لم توفر لها أدنى متطلبات هذا السفر الشاق، ولا أي مكان للإقامة، وغيرها من المتطلبات. تولد ابنها، وليس هنالك من يقدم لها يدّ العون، فتقوم هي بنفسها بعد مخاض الولادة بتقميط ابنها، ووضعه في المذود. هؤلاء هم الحكام في زمن المسيح وزمننا. فالسبت بالنسبة لهم أهم من الإنسان، والكراسي أغلى من دماء الأبرياء التي تُستباح بدلاً من أن تصان، والأموال أعزُ من كرامة الشعوب والأوطان.
لو أكتفينا بقراءة الآيات السبعة الأولى من الفصل الثاني لإنجيل لوقا، لارتابنا نفس الشعور الذي نوهنا إليه، أي أن المحنة كبيرة والظلم والفقر يتفاقمان والظن بأن الله غائب وبعيد عنا، ولا يتدخل لينقذ المظلوم من الظالم. لكن ما يبدو لنا حدث معتاد من الأحداث اليومية، كولادة طفل في ظروف مؤلمة وغير إنسانية، يتبين لنا من الآيات اللاحقة ـ أي (لوقا ٢: ٧ ـ ١٤) ـ بأنه من أهم مراحل التدبير الخلاصي. فالذي ولد في مغارة بيت لحم، هو ملك الملوك ورب الأرباب والمسيح المنتظر ومخلص العالم. إن ظهور الملاك للرعاة المساكين والساهرين لحماية رعيتهم، وتبشيره لهم بولادة المخلص، وتسبيحة الملائكة وتبشيرهم بالسلام على الأرض تشير لأهم حدث في تاريخ الخلاص. وهنا هي مفارقة المفارقات. وهذا ما يعزينا ويفرحنا ويزرع الأمل والرجاء في قلوبنا. ففي الأحداث والظروف الصعبة التي نظن فيها بأن الله بعيد عنا، هو في الحقيقة يتدخل من خلالها لخلاصنا. فلا يوجد علامة أكبر لحضور الله بينا من تجسده وولادته في أصعب ظروف لكي يكون معنا ويخلصنا؛
[" ... ٢١وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لِأَنَّهُ هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم" ...
 ٢٣"ها إِنَّ العَذراءَ تَحْمَلُ فتَلِدُ ابناً يُسمُّونَه عِمَّانوئيل" أَيِ "اللهُ معَنا"]
(متى ١: ٢١. ٢٣).
الإنجيلي لوقا في قصة ولادة يسوع يذكر سورية والجليل والناصرة واليهودية وبيت لحم. هذه الأماكن التي ولد المسيح فيها، ونشأت المسيحية في ربوعها وانطلقت منها بشارة الإنجيل لأرجاء المعمورة، لا زالت بحاجة للسلام والأمان، كما هي بحاجة لذلك أرض الرافدين موطن إبراهيم، أبو الإيمان. فلنطلب من ربنا يسوع المسيح، ملك السلام، بأن يمطر سلامه على الأرض التي ولد فيها، وينعم على كل إنسان بالأمان والاطمئنان، ولا سيما في الشرق الأوسط. وليمسح الرب دمعة كل متألم وجريح ومظلوم (قارن اشعيا ٢٥: ٨؛ رؤيا ٧: ١٧؛ ٢١: ٤)، ويحول السيوف سككاً، والرماح مناجلاً، وألا يسمح بأن ترفع أُمةٌ على أُمةٍ سيفاً؛ وعوض تعلم فنون الحرب (قارن ميخا ٤: ٣)، أن تتقن الأمم والأقوام والأديان فنون السلام والعدل والمسامحة والغفران؛
"٦فيَسكُنُ الذِّئبُ مع الحَمَل، ويَربِضُ النَّمِرُ مع الجَدْيِ، ويَعلِفُ العِجلُ والشِّبلُ معاً، وصَبِيٌّ صَغيرٌ يَسوقُهما. ٧تّرْعى البَقَرةُ والدُّبُّ مَعاً، ويَربِضُ أولادُهما معاً. والأَسَدُ يَأكُلُ التِّبنَ كالثَّور. ٨ويَلعَبُ الرَّضيعُ على حُجرِ الأفْعى، ويَضّعُ الفَطيمُ يَدَه في جُحرِ الأرقَم. ٩ولا يُسيئونّ ولا يُفسِدون ..." (اشعيا ١١: ٦ ـ ٩).
وليجعل الله كلاً منا أداة للسلام والمحبة والسعادة والوئام. ولتكن ولادته بيننا، دافعاً لولادتنا الثانية وتجديدنا بالروح والحق (قارن يوحنا ٣). فيتجدد وجه الأرض، وتتحقق في عالمنا وكنيستنا وبيوتنا وفيما بيننا وفي وسط قلوبنا كلمات رؤية يوحنا القائل:
[١ورَأَيتُ سَماءً جديدةً وأَرضاً جديدةً، لِأَنَّ السَّماءَ الأُولى والأَرضَ الأُولى قد زالَتا، ولِلبَحرِ لم يَبقَ وُجود. ٢ورَأَيتُ المَدينَةَ المُقَدَّسة، أُورَشَليمَ الجَديدة، نازِلَةً مِنَ السَّماءِ مِن عِندِ الله، مُهَيَّأَةً مِثلَ عَروسٍ مُزَيَّنَةٍ لِعَريسِها.٣وسَمِعتُ صَوتاً جَهيراً مِنَ العَرشِ يَقول: "هُوَذا مَسكِنُ اللهِ مع النَّاس، فسيَسكُنُ معهم وهم سيَكونونَ شُعوبَه وهو سَيكونُ "اللهُ معَهم". ٤وسيَمسَحُ كُلَّ دَمعَةٍ مِن عُيونِهم. ولِلمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ بَعدَ الآن، ولا لِلحُزنِ ولا لِلصُّراخِ ولا لِلأَلَمِ لن يَبْقَى وُجودٌ بَعدَ الآن، لَأَنَّ العالَمَ القَديمَ قد زال"] (رؤيا ٢١: ١ ـ ٤).

عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح مبارك
وكل عام وكنيستنا وعراقنا والعالم بأسره بألف ألف خير

6
البابا يستقبل أعضاء اللجنة المختلطة للحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة المشرق الآشورية
(راديو الفاتيكان)
استقبل البابا فرنسيس ظهر اليوم الجمعة في الفاتيكان أعضاء اللجنة المختلطة للحوار اللاهوتي بين الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة المشرق الآشورية. وجه البابا لضيوفه خطاباً استهلّه مرحباً بهم ومعرباً عن سروره للقائهم وأبلغ تحياته للبطريرك مار كوركيس الثالث وقال فرنسيس إنه يتذكر اللقاء الذي جمعه به لسنة خلت والذي شكّل خطوة إلى الأمام في درب التقارب والشركة بين الكنيستين. هذا ثم رأى البابا أن لقاء اليوم يشكل مناسبة للنظر بامتنان إلى المسيرة التي أنجزتها اللجنة المختلطة للحوار اللاهوتي في أعقاب التوقيع التاريخي على الإعلان الكريستولوجي المشترك في روما عام 1994.
وأكد البابا أن اللجنة تعمل على موضوعَين أسياسيّين الأول يتعلق باللاهوت الأسراري والثاني بدستور الكنيسة وقال إنه يرفع الشكر لله على الانتهاء من المرحلة الأولى مع التوقيع على إعلان مشترك بشأن اللاهوت الأسراري، معرباً عن أمله بتحقيق الوحدة التامة بين الكنيستين في المستقبل القريب. وانتقل فرنسيس بعدها إلى الحديث عن مضمون الإعلان الجديد لافتاً إلى أنه يتطرق إلى رسم شارة الصليب التي تشكل تعبيراً واضحاً للوحدة بين جميع الاحتفالات بالأسرار مذكراً بأن الرب المصلوب والقائم من الموت هو خلاصنا وحياتنا ومن صليبه الممجّد ينبثق الرجاء والسلام، ومنه تنبع وحدة الأسرار التي يُحتفل بها ووحدة جميع الأشخاص الذين تعمّدوا بموت وقيامة الرب.
هذا ثم قال البابا إن المؤمن وعندما يقوم برسم شارة الصليب عليه أن يتذكّر التضحيات التي يقوم بها المؤمنون من خلال الاتحاد مع يسوع، وبضرورة المكوث إلى جانب الأشخاص الذين يحملون صليباً ثقيلا. ولم تخلُ كلمات البابا فرنسيس من الإشارة إلى أن كنيسة المشرق الآشورية ـ شأنها شأن العديد من الكنائس والأخوة والأخوات في المنطقة ـ تعاني من الاضطهادات وهي تشهد أعمال عنف مروّعة تُتركب باسم التطرف الأصولي. وأشار في هذا السياق إلى انعدام الاستقرار وإلى الصراعات المسلحة التي ولّدت أوضاعاً من العوز الشديد، وأدت إلى نقص حاد في القيم الثقافية والروحية فأصبح التحريض على العنف أمرا سهلا.
وذكّر البابا بأن الأوضاع الصعبة التي تعيشها هذه الكنيسة حملت العديد من مؤمنيها على ترك أرضهم وعلى اللجوء إلى دول أخرى ونمت هكذا كنيسة المشرق الآشورية في بلدان الشتات. في ختام كلمته شجع البابا فرنسيس ضيوفه على متابعة السير قدماً، متكلين على عضد الكثير من الأخوة والأخوات الذين لم يترددوا في تقديم حياتهم ثمناً لإتّباعهم للرب المصلوب، وهؤلاء الشهداء متحدون مع بعضهم في السماء وهم يتضرعون من أجل وحدتنا التامة والمنظورة على هذه الأرض ثم سأل البابا الرب أن يبارك الجميع.

http://ar.radiovaticana.va/news/2017/11/24/البابا_يستقبل_أعضاء_اللجنة_المختلطة_للحوار_اللاهوتي_بين_الكنيسة_الكاثوليكية_وكنيسة_المشرق_الآشورية/1350898
http://en.radiovaticana.va/news/2017/11/24/pope_with_commission_with_assyrian_church_of_the_east/1351039

7
اليوم العالمي الأول للفقراء

الأب ريبوار عوديش باسه
أستحدث قداسة البابا فرنسيس اليوم العالمي الأول للفقراء (GIORNATA MONDIALE DEI POVERI)، وذلك في رسالته التي صدرت من الفاتيكان في ١٣حزيران ٢٠١٧، في ذكرى القديس أنطونيوس البادواني. وقد حدد في تلك الرسالة "الأحد الثالث والثلاثون من الزمن العادي" حسب الطقس اللاتيني، للاحتفال بيوم الفقراء العالمي. ويصادف هذا العام: يوم الأحد، ١٩ تشرين الثاني.
اختار قداسته عنواناً لرسالة بهذه المناسبة، الآية التالية: "يا بَنِيَّ، لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ" (١يو ٣، ١٨). وفي مستهل الرسالة يذكر سبب استحداثه لهذه المناسبة، قائلاً: "لقد أردت أن أقدّم للكنيسة في نهاية يوبيل الرحمة اليوم العالمي للفقير، كي تصبح الجماعات المسيحيّة، في جميع أنحاء العالم، أكثر فأكثر وبشكل أفضل علامة حسّية لمحبّة المسيح تجاه أصغر الناس وأكثرهم حاجة. أتمنّى أن يُضاف إلى الأيام العالميّة الأخرى التي أسّسها أسلافي والتي أصبحت الآن تقليدًا في حياة مجتمعاتنا، هذا اليوم العالمي الذي يحمل لمجموعتها عنصرَ اكتمال إنجيلي رائع، أي ميلَ يسوع للفقراء".
تستشهد رسالة الحبر الأعظم بالكثير من النصوص الكتابية والفقر الإنجيلي، وتركز على دور الصلاة وخاصة الصلاة الربية حيث يصفها قداسته، قائلاً: "ولا ننسى أن صلاة الأبانا هي صلاة الفقراء. طلب الخبز، في الواقع، يعبّر عن الاتّكال على الله من أجل الاحتياجات الأساسيّة لحياتنا". كما تذكر مقولة رائعة للأسقف القديس يوحنا فم الذهب حينما يتحدث عن إكرام المسيح، قائلاً: "إن أردتم تكريم جسد المسيح، لا تزدروا به حين يكون عاريًا؛ لا تكرّموا المسيح الافخارستيّ بأثواب من حرير، بينما، خارج الهيكل، تهملون ذاك المسيح الآخر الذي يعاني من البرد والعري" (عظة في إنجيل متى، ٥٠، ٣). كما تشير لمقولة للقديس فرنسيس الأسّيزي بما يخص مساعدة البرص، هذه كلماتها: "عندما كنت في خطاياي، كانت رؤية البرص تبدو لي مرّة للغاية، فقادني الربّ بنفسه إليهم وأظهرت لهم الرحمة. وعند ابتعادي عنهم، ما قد بدا لي مرًّا تحوّل إلى عذوبة في الروح والجسد" (نص ١- ٣: مصادر فرنسيسكانية ١١٠).
دعوة البابا فرنسيس لمساعدة الفقراء موجهة للجميع بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية، حيث يقول: "هذا اليوم العالميّ يهدف أوّلا إلى حثّ المؤمنين للردّ على ثقافة الهدر والتبديد، وتبنّي ثقافة اللقاء. والدعوة هي موجّهة، في الوقت نفسه، إلى الجميع، بغضّ النظر عن الدين، كي ينفتحوا على المشاركة مع الفقراء بأيّ شكل من أشكال التضامن، كعلامة ملموسة للأخوّة".
يختم قداسته رسالته هذه قائلاً: "لذا، فليصبح هذا اليوم العالمي الجديد نداءً قويًّا لضمائرنا كمؤمنين كي نقتنع أكثر فأكثر أن مشاركتنا الفقراء تسمح لنا بأن نفهم الإنجيل في حقيقته الأعمق. الفقراء ليسوا بمشكلة: إنهم منهل نستسقي منه كي نقبل جوهر الإنجيل ونحيا به".
أدناه النص الكامل لرسالة قداسة البابا فرنسيس بهذه المناسبة:
***********
رسالة قداسة البابا فرنسيس
بمناسبة اليوم العالمي للفقير
الأحد الثالث والثلاثون من الزمن العادي
19 نوفمبر / تشرين الثاني 2017

لا تكن محبّتنا بالكلام بل بالعمل
1. "يا بَنِيَّ، لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ" (1 يو 3، 18). تعبّر كلمات يوحنّا الرسول هذه عن ضرورة لا يستطيع أيّ مسيحيّ أن يتجاهلها. والجدّية التي يَنقُل بها "التلميذ الحبيب" إلى أيّامنا هذه وصيّة الربّ يسوع، قد تجلت بشكل أوضح بفضل التناقض الذي يظهر بين الكلمات الفارغة التي غالبًا ما تكون في أفواهنا والأعمال الملموسة التي نحن مدعوّون إلى اتخاذها كمعيار لنا. المحبّة لا تقبل الأعذار: من يعتزم أن يحبّ كما قد أحبّ يسوع، عليه أن يتبنّى مثاله؛ ولا سيّما عندما نكون مدعوّين لمحبّة الفقراء. بيد أن طريقة ابن الله في المحبّة هي معروفة خير المعرفة، ويوحنا يذكّر بها بوضوح. وهي تقوم على ركيزتين: الله قد أحبّ أوّلًا (را. يو 4، 10. 19)؛ وقد أحبّ باذلًا نفسه بكاملها، باذلًا حتى حياته (را. 1 يو 3، 16). ولا يمكن لحبٍّ كهذا أن يبقى دون جواب. ورغم أنه مُعطى من طرفٍ واحد، دون أن ينتظر أيّ شيء في المقابل، لكنه يُشعِل قلبَ الذي يشعر أنه مدعوٌّ للإجابة عليه بالرغم من محدوديّاته وخطاياه. وهذا ممكن إن قَبِلنا نعمةَ الله ومحبّته الرحيمة في قلبِنا بقدر المستطاع، لدرجة تحريك إرادتنا ومشاعرنا لمحبّة الله نفسه ومحبّة القريب. وبهذه الطريقة، تتوصّل الرحمة التي تنبع، إذا جاز التعبير، من قلب الثالوث، إلى تحريك حياتنا وتوليد التعاطف وأعمال الرحمة تجاه الإخوة والأخوات المحتاجين.
2. "دَعا بائِسٌ والرَّبُّ سَمِعَه ومِن جَميعِ مَضايِقهِ خَلَّصَه" (مز 34، 7). لقد أدركت الكنيسة أهمّية هذا الدعاء منذ البدء. ولدينا شهادة عظيمة في أوّل صفحات أعمال الرّسل، حيث طلب بطرس أن يتمّ اختيار سبعة رجال "مُمتَلِئينَ مِنَ الرُّوحِ والحِكمَة" (6، 3) كي يقوموا بخدمة مساعدة الفقراء. ويشكّل هذا بالتأكيد أوّل علامة دخلت فيها الكنيسة مسرح العالم: خدمة الفقراء. وكان هذا ممكنا للكنيسة لأنّها أدركت أنّ حياة تلاميذ يسوع كان عليها أن تتجسّد عبر أخوّةٍ وتضامنٍ يتطابقان مع التعليم الأساسيّ للمعلّم الذي أعلن أن الطوبى هي للفقراء وأنّهم سوف يرثون ملكوت السماوات (را. متى 5، 3). كانوا "يَبيعونَ أَملاكَهم وأَمْوالَهم، ويَتَقاسَمونَ الثَّمَنَ على قَدْرِ احتِياجِ كُلٍّ مِنْهُم" (رسل 2، 45). إن هذه العبارة تُظهِر بوضوح قلقَ المسيحيّين الأوائل الكبير. والإنجيليّ لوقا –الكاتب الإنجيلي الذي خصّص مكانًا للرحمة أكثر من أيّ كاتب آخر- لا يبالغ أبدًا حين يصف تقاسم الخيرات الذي كانت تمارسه الجماعة الأولى. بل على العكس، عندما يرويها، إنّما يعتزم مخاطبة المؤمنين في كلّ الأجيال، وبالتالي نحن أيضًا، كي يدعمنا في شهادتنا ويدفعنا إلى العمل من أجل المحتاجين. التعليم ذاته يعطيه، بالقناعة نفسها، الرسول يعقوب الذي يستخدم في رسالته عبارات قويّة وقاطعة: "إِسمَعوا، يا إِخوَتي الأَحِبَّاء: أَلَيسَ اللهُ اختارَ الفُقَراءَ في نَظَرِ النَّاس فجَعَلَهم أَغنِياءَ بِالإِيمان ووَرَثةً لِلمَلَكوتِ الَّذي وَعَدَ بِه مَن يُحِبُّونَه؟ وأَنتُم أَهَنتُمُ الفَقير! أَلَيسَ الأَغنِياءُ همُ الَّذينَ يَظلِمونَكم وَيسوقونَكم إِلى المَحاكِم؟ [...] ماذا يَنفعُ، يا إِخوَتي، أَن يَقولَ أَحَدٌ إِنَّه يُؤمِن، إِن لم يَعمَل؟ أَبِوُسْعِ الإِيمانِ أَن يُخَلِّصَه؟ فإِن كانَ فيكُم أَخٌ عُريانٌ أَو أُختٌ عُريانَةٌ يَنقُصُهما قُوتُ يَومِهِما، وقالَ لَهما أَحدُكم: «اِذْهَبا بِسَلام فاستَدفِئا واشبَعا» ولم تُعطوهما ما يَحتاجُ إِلَيه الجَسَد، ماذا يَنفَعُ قَولُكُم؟ وكَذلِكَ الإِيمان، فإِن لم يَقتَرِنْ بِالأَعمال كانَ مَيْتًا في حَدِّ ذاتِه" (2، 5- 6. 14- 17).
3. إنما قد كان هناك أوقات لم يسمع فيها المسيحيّون هذا النداء، وسمحوا للعقلية الدنيويّة أن تَعديَهم. لكن الرّوح القدس لم يتأخّر بدعوتهم إلى الإبقاء على نظرهم مركّزا على ما هو أساسيّ. وأقام في الواقع رجالًا ونساءً قدّموا حياتهم بطرق مختلفة في خدمة الفقراء. كم من صفحة في التاريخ، عبر الألفيّ سنة هذه، قد كُتِبَت من قِبَلِ مسيحيّين خدموا إخوتهم الفقراء بكلّ بساطة ووداعة، وبإبداع المحبّة السخيّ!
من بين كلّ الأمثلة يبرز مثل فرنسيس الأسّيزي، الذي اتّبعه الكثير من الرجال والنساء القدّيسين على مرّ القرون. فهو لم يكتفِ بمعانقة البرص والتصدّق إليهم بالمال، إنما قرّر الذهاب إلى غوبيو كي يقيم معهم. ويرى شخصيًّا أن هذا اللقاء قد كان نقطة تحوّل في توبته: "عندما كنت في خطاياي، كانت رؤية البرص تبدو لي مرّة للغاية، فقادني الربّ بنفسه إليهم وأظهرت لهم الرحمة. وعند ابتعادي عنهم، ما قد بدا لي مرًّا تحوّل إلى عذوبة في الروح والجسد" (نص 1- 3: مصادر فرنسيسكانية 110). إن هذه الشهادة تبّين القوّة التحويليّة للمحبّة ونمط حياة المسيحيّين.
إنّنا لا نفكّر بالفقراء كأشخاصٍ علينا أن نقوم تجاههم بأعمالٍ تطوّعية مرّة في الأسبوع، أو ببوادر حُسنَ نيّة مرتجلة كي نريح ضميرنا. يجب على هذه الاختبارات -وإن كانت صالحة ومفيدة للتوعية على حاجات الكثير من الإخوة والظلم الذي غالبًا ما نكون سببه- أن تدخلنا في لقاء حقيقيّ مع الفقراء وتفسح المجال لمشاركةٍ تصبح نمطًا للحياة. في الواقع، إن الصلاة، ومسيرة التلمذة، والتوبة، تتحقّق من صحّتها الإنجيلية عبر المحبّة التي تصير مشاركة. وينبع من طريقة العيش هذه الفرحُ والطمأنينةُ، لأنّنا نلمس بأيدينا جسد المسيح. وإن أردنا أن نلتقي حقّا بالمسيح، من الضروري أن نلمس جسده في جسد الفقراء الجريح، كجواب على الشركة السرّية التي ننالها في الافخارستيّا. جسد المسيح المكسور في الليتورجيا المقدّسة يدعنا نجده مجدّدًا عبر المحبّة التي نشارك بها أوجه إخوتنا وأخواتنا الضعفاء وشخصهم. فما زالت ترنّ حاليّة كلمات الأسقف القديس يوحنا فم الذهب: "إن أردتم تكريم جسد المسيح، لا تزدروا به حين يكون عاريًا؛ لا تكرّموا المسيح الافخارستيّ بأثواب من حرير، بينما، خارج الهيكل، تهملون ذاك المسيح الآخر الذي يعاني من البرد والعري" (عظة في إنجيل متى، 50، 3).
لذا فإنّنا مدعوّون إلى مدّ يدنا للفقراء، إلى ملاقاتهم، إلى النظر إليهم في أعينهم، ومعانقتهم، كي نجعلهم يشعرون بحرارة المحبّة التي تكسر حلقة الوحدة. فيدهم الممدودة نحونا هي أيضًا دعوة للخروج من ضماناتنا وراحتنا، ولنعترف بالقيمة التي يشكّلها الفقر بحدّ ذاته. 
4. دعونا لا ننسى أن الفقر بالنسبة لتلاميذ يسوع هي قبل كلّ شيء دعوة لاتباع يسوع فقيرا. إنها مسيرة على خطاه ومعه، مسيرة تقود إلى تطويبات ملكوت السماوات (را. متى 5، 3؛ لو 6، 20). الفقر يعني قلبًا وديعًا يعرف كيف يقبل حالته كخليقة محدودة وخاطئة كي يتخطّى تجربة السلطة المطلقة التي توهم بالخلود. الفقر هو موقف القلب الذي يمنعه من التفكير بالمال، والمهنة، والترف كهدف للحياة وشرط للسعادة. بل هو الفقر الذي يخلق الفرص كي نتحمّل، وبحرّية، المسؤوليّات الشخصيّة والاجتماعيّة، بالرغم من محدوديّتنا، إذ نثق بقرب الله، ونعمته تساندنا. الفقر، بهذا المفهوم، هو المقياس الذي يسمح لنا أن نقيّم استخدامنا السليم للخيرات الماديّة، وأن نحيا أيضًا العلاقات والمشاعر بشكل غير أنانيّ وتملّكيّ (را. التعليم الديني للكنيسة الكاثوليكية، عدد 25- 45).
لذا فلنتبنّى مثال القديس فرنسيس، شاهد الفقر الحقيقي. فقد عرف هو، إذ أبقى عينيه مركّزتين على المسيح، كيف يتعرّف عليه ويخدمه في الفقراء. إن رغبنا بالتالي أن نقدّم مساهمتنا الفعّالة من أجل تغيير التاريخ، وأن نولّد التطور، من الضروري أن نصغي إلى صرخة الفقراء ونتعهّد بانتشالهم من أوضاعهم كمهمّشين. وأذكّر في الوقت عينه الفقراء الذين يعيشون في مدننا وفي جماعاتنا بألّا يفقدوا حسّ الفقر الإنجيليّ الذي يحملونه مطبوعًا في حياتهم.     
5. إنّنا ندرك الصعوبة الكبيرة التي ظهرت في العالم المعاصر، صعوبة تحديد الفقر بشكل واضح. وبعد، فهي تستدعي اهتمامنا كلّ يوم في آلاف الوجوه المطبوعة بالألم، والتهميش، وسوء استخدام السلطة، والعنف، والتعذيب، والسجن، والحرب، والحرمان من الحرّية والكرامة، والجهل، والأمّية، والطوارئ الصحيّة، ونقص العمل، والاتّجار والعبوديّة، والنفي والبؤس، والهجرة القصريّة. للفقر أوجه: وجوه نساء، ورجال، وأطفال يُستَغلّون لمصالح حقيرة، ويدوسهم المنطق الملتوي للسلطة والمال. أيّة قائمة لا ترحم ولا تنتهي علينا أن نؤلّف إزاء فقرٍ هو ثمرة الظلم الاجتماعي، والبؤس الأخلاقي، وجشع الأقلّية، واللامبالاة الشاملة!
إن انتشار الفقر في قطاعات واسعة من المجتمع في جميع أنحاء العالم -فيما يظهر أكثر فأكثر الغنى الفاحش الذي يتراكم في أيدي قلّة متميّزة، وغالبًا ما يترافق بعدم الشرعيّة وباستغلال مؤذٍ لكرامة الإنسان- للأسف يشكّل فضيحة في أيّامنا هذه. لا يمكننا تبنّي وقفة خمول إزاء هذا السيناريو، ولا الاستقالة. فأمام الفقر الذي يحول دون روح المبادرة عند العديد من الشباب، ويمنعهم من أن يجدوا عملا؛ وأمام الفقر الذي يخدّر حسّ المسؤوليّة ويؤدّي إلى تفضيل التفويض والبحث عن المحسوبيّات؛ وأمام الفقر الذي يسمّم آبار المشاركة ويضيق مجال الاحتراف ملحقا هكذا الاهانة بمن يعمل وينتج؛ أمام كلّ هذا يجب الاجابة بنظرة جديدة للحياة وللمجتمع.
كلّ هؤلاء الفقراء ـ على حدّ تعبير الطوباوي بولس السادس - ينتمون إلى الكنيسة "بحكم الإنجيل" (خطاب بمناسبة افتتاح الجلسة الثانية للمجمع الفاتيكاني الثاني، 29 سبتمبر / أيلول 1963) ويلزمونا بالقيام بخيار أساسيّ لصالحهم. مباركة هي بالتالي الأيدي التي تنفتح لتستقبل الفقراء وتعينهم: إنها أيدي تحمل الرجاء. مباركة الأيدي التي تتخطّى كلّ حاجز يتعلّق بالثقافة، والدين والجنسيّة، فتسكب زيت العزاء على جراح البشريّة. مباركة الأيدي التي تنفتح دون أن تطلب شيئا بالمقابل، دون "إذا"، دون "لكن"، ودون "ربّما": إنّها أيادٍ تجعل بركةَ الله تنزل على الإخوة. 
6. لقد أردت أن أقدّم للكنيسة في نهاية يوبيل الرحمة اليوم العالمي للفقير، كي تصبح الجماعات المسيحيّة، في جميع أنحاء العالم، أكثر فأكثر وبشكل أفضل علامة حسّية لمحبّة المسيح تجاه أصغر الناس وأكثرهم حاجة. أتمنّى أن يُضاف إلى الأيام العالميّة الأخرى التي أسّسها أسلافي والتي أصبحت الآن تقليدًا في حياة مجتمعاتنا، هذا اليوم العالمي الذي يحمل لمجموعتها عنصرَ اكتمال إنجيلي رائع، أي ميلَ يسوع للفقراء.
إني أدعو الكنيسة جمعاء، والرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة إلى أن يبقوا نظرهم ثابتا، في هذا اليوم، على الذين يمدّون أيديهم وهم يستغيثون ويطلبون تضامننا. إنّهم إخوتنا وأخواتنا، وقد خلقهم الآب السماوي الأوحد وأحبّهم. هذا اليوم العالميّ يهدف أوّلا إلى حثّ المؤمنين للردّ على ثقافة الهدر والتبديد، وتبنّي ثقافة اللقاء. والدعوة هي موجّهة، في الوقت نفسه، إلى الجميع، بغضّ النظر عن الدين، كي ينفتحوا على المشاركة مع الفقراء بأيّ شكل من أشكال التضامن، كعلامة ملموسة للأخوّة. فقد خلق الله السماء والأرض للجميع؛ والبشرُ للأسف هم الذين رسموا الحدود ورفعوا الجدران والأسوار، وغرّروا بالهبة الأصليّة الموجّهة للبشريّة دون أيّ استثناء.     
7. أودّ أن تلتزم الجماعات المسيحيّة، خلال الأسبوع الذي يسبق اليوم العالمي للفقراء -والذي يقع هذا العام يوم 19 نوفمبر / تشرين الثاني، الأحد الثالث والثلاثين من الزمن العادي- بخلق أوقات تلاق وصداقة، أوقات تضامن ومساعدة ملموسة. يمكنهم من ثمّ أن يدعوا الفقراء والمتطوّعين إلى المشاركة معًا بالقدّاس الإلهيّ لهذا الأحد، فيكون بهذا الشكل الاحتفالُ بعيد ربّنا يسوع المسيح ملك العالم، الأحد التالي، أكثر أصالة. فملوكيّة المسيح في الواقع، تظهر بكلّ معناها على الجلجلة، عندما يجسّد البريءُ المُسَمَّر على الصليب، الفقير، العار والمحروم من كلّ شيء، ملءَ محبّة الله ويظهرها. إن تسليم ذاته بالكامل للآب، بينما يعبّر عن فقره التام، يجعل قوّة هذه المحبّة واضحة، المحبّة التي أقامته من الموت إلى حياة جديدة يوم عيد الفصح.
وفي هذا الأحد، إن كان هناك فقراء يعيشون في حيّنا ويبحثون عن حماية وعون، فلنقترب منهم: فسيكون وقتًا مناسبًا للقاء الإله الذي نبحث عنه. ووفقًا لتعليم الكتب المقدّسة (را. تك 18، 3- 5؛ عب 13، 2)، لنستقبلهم كضيوف متميّزين على مائدتنا؛ وقد يكونوا معلّمين يساعدوننا على عيش إيماننا بطريقة أكثر تناسقا. بثقتهم واستعدادهم لقبول المساعدة، يبيّنون لنا، بطريقة متّزنة وغالبًا ما تكون بفرح، كم هو حاسم أن نعيش الضروري وأن نسلّم ذواتنا لعناية الآب السماوي.   
8. ولتكن الصلاة دومًا هي أساس المبادرات العديدة الملموسة التي يمكن القيام بها في هذا اليوم. ولا ننسى أن صلاة الأبانا هي صلاة الفقراء. طلب الخبز، في الواقع، يعبّر عن الاتّكال على الله من أجل الاحتياجات الأساسيّة لحياتنا. وما قد علّمنا يسوع بهذه الصلاة يلخّص ويعبّر عن صرخة مَن يعاني من هشاشة الوجود وعدم وجود ما هو ضروريّ. والتلاميذ الذين طلبوا من يسوع أن يعلّمهم الصلاة، أجابهم بكلمات الفقراء الذين يتوجّهون إلى الآب الوحيد الذي يدركون به أنهم بمثابة إخوة. إن صلاة الأبانا هي صلاة تُتلى في صيغة الجمع: الخبز الذي نطلبه هو "خبزنا"، وهذا يتضمّن المقاسمة، والمشاركة، والمسؤوليّة المشتركة. ونعترف كلّنا في هذه الصلاة بضرورة تخطّي كلّ نوع من أنواع الأنانيّة كي نتوصّل إلى فرح التقبّل المتبادل.
9. أطلب من زملائي الأساقفة، ومن الكهنة والشمامسة –الذين بحكم دعوتهم لديهم مهمّة دعم الفقراء-، ومن المكرّسين، والجمعيّات، والحركات وعالم التطوّع الواسع، أن يعملوا كي ينشأ عبر هذا اليوم العالمي للفقراء تقليد يكون مساهمة حسّية في تبشير العالم المعاصر.
لذا، فليصبح هذا اليوم العالمي الجديد نداءً قويًّا لضمائرنا كمؤمنين كي نقتنع أكثر فأكثر أن مشاركتنا الفقراء تسمح لنا بأن نفهم الإنجيل في حقيقته الأعمق. الفقراء ليسوا بمشكلة: إنهم منهل نستسقي منه كي نقبل جوهر الإنجيل ونحيا به.       
من الفاتيكان، 13 يونيو / حزيران 2017
ذكرى القديس أنطونيوس البادواني
فرنسيس
***********
© Copyright - Libreria Editrice Vaticana
https://w2.vatican.va/content/francesco/ar/messages/poveri/documents/papa-francesco_20170613_messaggio-i-giornatamondiale-poveri-2017.html

8
البابا فرنسيس يتبرع بلومباركيني لإعادة بناء سهل نينوى

الأب ريبوار عوديش باسه 

أهدت شركة لومباركيني لقداسة البابا فرنسيس سيارة رياضية فاخرة موديل "لومباركيني هوراكان" Lombarghini Huracán هذا الصباح (١٥ تشرين الثاني ٢٠١٧) في الفاتيكان. هذا وقد تمت المراسيم بحضور أصحاب الشركة، ووقع الحبر الأعظم على غطاء محرك السيارة، التي ستُباع بالمزاد العلني في دار سوذبيز للمزادات.
وسيتم تسليم العائدات مباشرة للحبر الأعظم ليمنحها لجمعيات خيرية. وبالجدير بالذكر بأن جزءاً من هذه الأموال سيخصص لدعم مشروع إعادة بناء سهل نينوى، وذلك من خلال المؤسسة الحبرية "مساعدة الكنيسة المتألمة". يهدف هذا المشروع ضمان عودة المسيحيين إلى سهل العراق، وذلك من خلال إعادة بناء منازلهم وكنائسهم والمباني العامة التي دمرت وسرقت وحرقت وانتهكت بسبب داعش. ويأمل من خلال هذه الجهود مساعدة المسيحيين المضطهدين الذين تعرضوا لإبادة جماعية على العودة أخيراً إلى جذورهم واستعادة كرامتهم، بعد مرور ثلاث سنوات على غزو داعش الهمجي الذي قام باضطهاد المسيحيين والأقليات العرقية العراقية الأخرى وبنوع خاص الإخوة والأخوات اليزيديين، وأجبرهم على ترك مناطقهم التاريخية واللجوء لمناطق كوردستان العراق. بارك الرب بجهود البابا فرنسيس في دعمه للمسيحيين المضطهدين وكل المظلومين والفقراء والمساكين والمتألمين وضحايا الحروب والصراعات.

http://it.radiovaticana.va/news/2017/11/15/al_papa_donata_una_lamborghini_andrà_in_beneficenza/1348988
http://www.repubblica.it/motori/sezioni/attualita/2017/11/15/news/all_asta_per_beneficenza_la_lamborghini_donata_al_papa-181150862/#gallery-slider=181157406

9
إلتباسات الحرية الدينية
(من وجهة نظر الرابينية)

تأليف رابي ديفيد ماير
ترجمة الأب ريبوار عوديش باسه
 
المقدمة:

"التاريخ مختبر للاهوت اليهودي". هذه المقولة هي للكاتب واللاهوتي اليهودي الأمريكي المعاصر رابي إيوجن بوروفيتس، يذكرها في كتابه الشهير "كيف يستطيع اليهودي الحديث عن الإيمان اليوم" (Eugene BOROWITZ, How can a Jew speak of faith today, The Westminster Press, Philadelphia, 1969, p 25). يبين بوروفيتس من خلال هذه الكلمات البسيطة بأن الفكر الديني اليهودي هو ناتج عن محاولات لإعطاء معنى لخبراتنا التاريخية كشعب يهودي. إذن التاريخ يشكل اللاهوت، وليس العكس. ففي الواقع، تجمعنا هنا اليوم (٣ حزيران ٢٠١١) وكذلك موضوع نقاشنا مبنيٌّ على تاريخ، على قصة حقيقية لشخص، لا بل فاجعة حقيقة لشخص. تواجدنا هنا في المعهد الكهنوتي الحبري الإيرلندي في روما، حيث ارتسم الأب رغيد كني كاهناً قبل عودته إلى الموصل، ومقتله هناك قبل اربعة سنوات بسبب حقد ديني وتعصب أعمى، يدعونا مجدداً للطرح على طاولة النقاش حقيقة مواقفنا تجاه مفهوم الحرية الدينية. فإذا كان التاريخ يشكل اللاهوت، فلنستلهم إذن من شجاعة الأب الشهيد رغيد شجاعة لدراسة تعاليم موروثنا الديني من دون التستر بافتراض أخلاقي مريح مفاده أن كل واحد منا من طبيعته متسامح دينياً، وينبغي الإلقاء باللائمة على الصراعات والتوترات السياسية فقط.
إن الحرية الدينية هي من المواضيع التي يتحدث عنها الناس بكثرة. وكم يحلو ويطيب لنا جميعاً الحديث عن فائق احترامنا للخيارات الدينية للآخرين، وكم عانينا نحن من التعصب الديني الذي مارسه الآخرون ضدنا في حقبات مختلفة من التاريخ. كل منا بإمكانه الحديث عن كونه ضحية وأن يشتكي من المظلومية. إذا كان هنالك جزء من الحقيقة في هذا الادعاء، فهنالك أيضاً حقيقة دينية أخرى لا ينبغي لنا إنكارها، وهي بأنه عندما تسنح لنا الفرصة وبالأخص عندما تتوافق وتنسجم القوى السياسية والدينية مع بعضها فإننا معرضون بأن نمارس التعصب الديني ضد الآخرين. في الواقع هنالك فجوة واضحة وواسعة بين وجهات نظرتنا اللاهوتية تجاه تعليمنا الديني من جهة، وحقيقة الواقع التاريخي من جهة أخرى. تدعوني هذه الفجوة لإلقاء نظرة نقدية على تقليد ديانتي بخصوص كيفية تصورها للحرية الدينية، ومحاولة الفهم بوضوح وأمانة موقفنا الفعلي من المفهوم المعاصر للحرية الدينية، وكم نحن منسجمون معه!
يجدر الملاحظة بأن الديانة اليهودية كونها أقدم ديانة تؤمن بالتوحيد هي بمثابة مفترق الطرق بين الشرق والغرب. فمن الناحيتين الجغرافية والتاريخية موقع اليهودية هو "ما بين وبين". فمع انتشار الجماعات اليهودية القديمة في بابل شرقاً وفي روما غرباً وبعدها نحو المناطق الجنوبية من الغرب، أصبح الشعب اليهودي قاطناً بشكل كبير بين عالمين مختلفين. إضافة إلى ذلك، فإن مفهوم "الوسطية" هو في قلب الديانة اليهودية. يذكر في هذا السياق، بأن أحد الرابينيين الذي عاش في براغ في القرن السادس عشر، ذهب إلى حد تعريف اليهودية بأنها ديانة الوسطية "إيمتسا" أي الديانة التي هي في توتر دائم بين متناقضات، وبهذا المعنى هي ديانة أقرب لما يسميه العلماء "التوازن غير المستقر"، وليس بقدر ما هي مبنية على "أعمدة إيمان" ثابتة ومستقرة. هذا الرأي يبقى صائباً حتى عندما ينظر المرء الى موضوع الحرية الدينية في اليهودية. ولهذا السبب اخترت كلمة "تناقض"ambivalence لعنوان هذا النقاش لوصف التعاليم اليهودية بما يخص الحرية الدينية.
لنحاول إذن شرح المقصود بمصطلح "الحرية الدينية" حسب الرؤية اليهودية. نقوم بذلك من دون الدخول في جميع التفاصيل، إلا أنه من الضروري بهذا الخصوص التمييز حسب وجهة النظر الرابينية بين ثلاث مستويات للحرية الدينية، وكما يلي:
١. الحرية الدينية للفرد المنتمي للشعب اليهودي.
٢. الحرية الدينية "للآخر"غير المنتمي للشعب اليهودية، وبُعدها الأواخراي.
٣. الحرية الدينية في دولة إسرائيل اليهودية العلمانية.
 
١. الحرية الدينية للفرد المنتمي للشعب اليهودي:
 
بهذا الخصوص علينا طرح هذا السؤال: ما هي حالة الحرية الدينية للفرد في اليهودية؟ انه لمن الضروري التذكير بأن أساس تعريف الهوية اليهودية وبالتالي الإنتماء إلى الإيمان اليهودي للفرد هو أن تكون والدته يهودية. بما معناه، اليهودي يهوديٌ بالولادة، وليس بالإختيار. بالطبع الإهتداءات إلى اليهودية ممكنة، ولكن إضافة إلى كون الديانة اليهودية غير إهتدائية، فالمهتدون يبقون أقلية ضمن الشعب اليهودي، وعليه من الممكن القول بأن هؤلاء المهتدون لا يؤثرون بشكل كبير على تعريف من هو يهودي. ولهذا عدم وجود حرية الأختيار يمكن بالتأكيد ترجمته كنقص في الحرية الدينية للفرد ليس فحسب كون الفرد لم يختار بأن يولد يهودي، بل أيضاً بعدم السماح له بإتخاذ قرار ترك اليهودية بإهتدائه لدين آخر. فاليهودي يبقى يهودياً بغض النظر عن أختياره الشخصي. ولا يقتصر غياب الحرية الدينية في حياة الفرد على التعريف الشرعي للإنتماء الديني، كونه يظهر أيضاً في سياقٍ أوسع ألا وهو العلاقة اللاهوتية بين الله وأبناء إسرائيل. وفي هذا الإطار تُذكر عادة العلاقة العهدية بين الله والشعب اليهودي . يعطي المدراش شرحاً مثيراً للإنتباه بهذا الخصوص حيث يرجع أصل هذا العهد لجبل سيناء وإعطاء التوراة بعد الخروج. ولتبرير ذلك يستند على آية من سفر الخروج (خر ١٩، ١٧) التي تفيد بأن أولاد إسرائيل كانوا واقفين "تحت الجبل". يفسر الرابينيون غرابة هذا التعبير بما معناه أن "الله أمسك بالجبل فوقهم كجرة، وقال لهم: إذا قبلتم التوراة فحسناً، أما إذا رفضتموها فهنا سيكون قبركم" (Shabbat 88a). يؤكد هذا التفسير على غياب الحرية الدينية بشكل واضح وجريء جداً.
لتكوين نظرة شاملة عن الفكر الرابيني يمكن القول بأن الطبيعة اللاإختيارية للانتماء اليهودي، بكلا المعنين الوجودي ولاهوت العهد، يوازيها من الجهة الثانية التوكيد على فكرة المسؤولية. تفرض شروط العهد "بريت" على الشعب اليهودي الطاعة للوصايا (ميتزفوت). هنالك المئات من القوانين في التوراة والالاف في الأدب الرابيني لتنظيم السلوك اليهودي فيما يتعلق بكل جوانب الحياة اليومية لكل يهودي ملتزم. إن اليهودية بإعتبارها ديانة تعلم السلوك الصحيح orthopraxy  فهي عبارة عن ممارسات ينبغي على المؤمن اليهودي تطبيقها في حياته. ولكن بالرغم من ذلك، فإن خيار إنتهاك هذه الوصايا يبقى وارداً. تؤكد اليهودية في عدة أماكن إبتداءاً من الوصية الأولى من الوصايا العشرة بأن الناس قد منحوا حرية الإرادة من خلال "تحريرهم من عبودية مصر". ولكن الحرية الدينية للفرد داخل الجماعة قد حصرت لتقتصر فقط على حرية "المخالفة الدينية". إن الفرد مسؤول ومعرض للمحاسبة على مثل هذه الخيارات، وعليه أن يكون مستعداً لقبول عواقب ذلك. بمصطلحات دينية، ما نقصده هنا هو "العقاب والثواب الإلهيين"، أما بمصطلحات علمانية فما نقصد هنا هو ما يسمى بـ "العواقب التي لا مفر منها لسلوكيات فردٍ ما". وفي النتيجة ربما المقصود بكل هذه المصطلحات هو الشيء ذاته!
إذا كان قبول الوصايا ـ "عبء السماء" ـ  هو حقيقة لاإختيارية وفيها يوجد حرية المخالفة فقط، فلا بد من الحديث عن الوجه الثاني للعملة، أي الحرية الدينية الكاملة المعطاة بخصوص مسألة الإيمان وتفسير الكتاب المقدس. لا يوجد في اليهودية عقائد، وحتى مسألة الإيمان بالله ليست فرضاً. نجد صدى لهذه الحقيقة في الكثير من قصص تلمودية ورابينية. لطالما الفرد باقيٌ ضمن حدود هلاخاه Halakhah (النظام الشرعي اليهودي)، فأنه حرٌ في طرح أسئلة وتقديم شروح وإبداء تمرد والرضى أو عدم الرضى مع الرابينيين ومع المحكمة الرابينية وحتى مع الله. إن حادثة "الشيخ المتمرد" الواردة في سفر تثنية الإشتراع وكيفية تفسيرها في التلمود تساعدنا على فهم هدف وحدود هذا النوع من الحرية الدينية للفرد.
يذكر في سفر تثنية الإشتراع (تث ١٧، ٨ ـ ١١) بأنه إذا واجه أحد الكهنة أمر قضائي يصعب عليه أن يتخذ قراراً بخصوصه، فعليه أن يستعين بسلطة شرعية أعلى:
"إذا أعجزتك قضيةٌ في القضاء بين دم ودم أو دعوى ودعوى، أو ضربة وضربة، من قضايا الخُصومات في مُدُنكَ، فقم واصعد إلى الموضع الذي يختاره الرب إلهك، واذهب إلى الكهنة اللاويين وإلى القاضي الذي يكون في تلك الايام، فتستشيرُ ويبلغونك قرار الحُكم. واعمل بحسب القرار الذي يبلغونك إياه في الموضع الذي يختاره الربّ، وتنبه أن تعمل بكل ما أوصوك به. بحسب القرار الذي يُوجهونه إليك والحكم الذي يصدرونه لك تصنع، ولا تبتعد عن القرار الذي يبلغونك إياه يمنة ولا يسرة."
من حيث المبدأ، إذا رفض بعدئذ الشيخ الحكم الصادر من السنهدرين يكون عقابه الموت. ولكن التلمود يقترح قراءة مثيرة للإهتمام لهذه الحالة المذكورة في سفر تثنية الإشتراع. ففي مشنا إدويوت Mishnah Eduyot (٥، ٦ ـ ٧) نقرأ القصة التالية:
"يذكر أقافيا ب. ميهالّاليل أربعة أشياء أقنعه الحكماء بإنكارها وعلى أساس ذلك وعدوه ليرأس على العدالة في إسرائيل. وعليه أجاب هو بدوره قائلاً: أُفَضِل سماع كلمة غبي طوال حياتي على أن أصبح شريراً ولو لمدة ساعة واحدة أمام حضرته تعالى (Omnipresent)؛ ولكن لا ينبغي أن يقول أحد ’لقد قام بالإنكار للحفاظ على موقعه‘ [...] فوضعوه تحت حكم الحرم، وعندما وافاه الآجل رجمت المحكمة كفنه. إلا أن ر. يهوذا عارض قائلاً: إن أقافيا ب. ميهالّاليل الذي وسط كل إسرائيل أُغلِقت بوجهه جميع أبواب باحة الهيكل، كان منقطع النظير في المعرفة والرحمة، فهل كان فعلاً يستحق بأن يوضع تحت حكم الحرم؟ ما كان ينبغي حصول ذلك!".
لا يسعفنا الوقت الآن للدخول في جميع تفاصيل هذه الفقرة من التلمود، ولكن لنقول ببساطة بأنه في نهاية المطاف رفضت قضية أعتبار أقافيا ب. ميهالّاليل بـ"الشيخ المترد"، وبذلك وضَّحَ حكماء التلمود بأن المرء لا يعتبر متمرداً بسبب آراء وتعاليم مناقضة، إلا أنه يكون متمرداً عندما يُحرّض الآخرين على التصرف بحسب وجهات نظره الشخصية وتفسيراته الخاصة للممارسة الدينية. إن حرية الفكر الديني مضمونة في التقليد الرابيني، طالما الممارسة المطلوبة موجهة من قبل قاعدة الأكثرية. فبينما الهلاخا تحد من حرية الفرد، فإن حرية الفكر وحرية التفسير تبقى عنصراً أساسياً في اليهودية.
بعد أن ألقينا الضوء على مسألة غياب حرية الفرد الدينية داخل الجماعة بشكل عام، يبدو لنا أساسياً الآن محاولة فهم كيفية تأثير هذه الحقيقة على المفهوم الذي كونته اليهودية بخصوص الحرية الدينية لهؤلاء المنتمين لإيمان مختلف.
 
٢. الحرية الدينية "للآخر" غير المنتمي للشعب اليهودي، وبُعدها الأواخراي:

يرتبط بالطبع الجانب الآخر للحرية الدينية بموقف ديانة ما تجاه الذين لا ينتمون إليها أو لا يشاركونها نفس الإيمان. فالسؤال هنا هو الآتي: هل اليهودية من طرفها متسامحة وتقبل الآخر الذي يختلف عنها بالديانة وتحترمه، أم أنها ترفض الممارسات الدينية للآخرين وتمارس التمييز العنصري ضدهم؟
يظهر الخط الفاصل بسرعة عند المحاولة للإجابة على هذا السؤال. ينبغي على المرء الرجوع لما يسمى بقوانين نوح السبعة لكي يُكَوِّن تصوراً واضحاً لقضية التسامح اليهودي وقبوله بالحرية الدينية. إستناداً على قصة الطوفان الكتابية والفرصة الثانية المعطاة للإنسانية في سفر التكوين، وضع التقليد الرابيني مجموعة مكونة من سبعة قوانين، يطلق عليها الرابينيون "مجموعة الحد الأدنى من السلوكيات الإجتماعية والأخلاقية". ثُبِتَت هذه القوانين بشكل صريح في التلمود ونُقِشت بشكل مطول. لنقول ببساطة وأختصار بأنها تطرح خيارين أساسيين: إما الآخرون (أي غير اليهود) يحترمون الشرع الأخلاقي للنوحيين Noachides، وبالتالي تُمنَح وتُضمن لهم الحرية الدينية الكاملة من دون التمييز العنصري أو أي تقييد مهما كانت طبيعته، أو تتضارب ممارساتهم الأخلاقية مع أحد قوانين نوح السبعة، وبتلك الحالة اليهودية لا تعتبر العيش المشترك ممكناً ضمن أجواء إجتماعية وسياسية متقاسمة مع هؤلاء. من الملاحظ هنا بأن الخط الفاصل بين الحرية الدينية الممنوحة للنوحيين Noachides، وإنعدامها للآخرين واضحٌ. ولكن هذا الوضوح غير مذكور إطلاقاً في تعريف القوانين السبعة. بالحقيقة لا يتفق رابينيو التلمود مع بعضهم بهذا الشأن، ويقترحون مجموعات مختلفة لهذه القوانين. لنأخذ مثلاً واحداً يتعلق بعبادة الأوثان التي تُعد من القضايا الأخلاقية والدينية الممنوعة ضمن قوانين نوح، وذلك بحسب كل السلطات الرابينية. وكونها كذلك، فإن اليهودية غير متسامحة مع الشعوب التي تمارسها. موسى بن ميمون، المعروف أيضاً بلقب ميمونيدس Maimonides والذي عاش في القرن الثاني عشر، يختصر بكلمات قاسية جداً موقف الرابينيين من ذلك، قائلاً:
"بينما لا نجبر أحداً على إتباع التوراة، فمن جهة ثانية يوصينا موسى بأن الفرد مجبر بدفع كل إنسان إلى احترام قوانين نوح السبعة. والذين يرفضون إتباع تلك القوانين يُقتَلون"
( Maimonides, Mishneh Torah, Hilkhot Melakhim, 10, 8﹚.
وجهة نظر موسى بن ميمون هذه كانت في جوهرها دينية ولاهوتية، لأن اليهود لم يكونوا في موقع سياسي يسمح لهم بتطبيق مثل هذا المبدأ، ولم يقتل اليهود أحداً على الإطلاق بسبب ممارسته لعبادة الأوثان، إلا أن العكس يبدو في الواقع صحيحاً. صرح ميناهيم ميري Menahem Meiri وهو أحد الرابينيين الشهيرين من القرن الثالث عشر، قائلاً:
"لا أحد إطلاقاً يعتبر اليوم بأن الوصية الكتابية ضد عابدي الأوثان ينبغي تطبيقها على الأمم، بل ينبغي معاملتهم كما يعامل الآخرين اليهود، فحالهم كحالنا، نحن اليهود، ينتمون من جانبهم لأمم مقيدة بممارساتها الدينية" (Umot Hagedurot be Darkei Hadato; Beth Habechirah, Avodah Zarah, 2b, 22a).
نستنتج من هذه الصورة المتباينة بأن حرية الممارسات الدينية التي عاش اليهود في أجوائها كانت تضمن حالة مساوية تجاه الآخرين، كما هي بالنسبة لليهود أنفسهم. بالحقيقة، هذه النظرة الممتلئة بالاحترام تجاه الممارسات الدينية للآخرين تعكس ببساطة تعاليم كتابية سبقتها، كالمقطع الكتابي البارز من سفر ميخا:
"لأَن جَمِيعَ الشُّعُوبِ يَسْلُكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ بِاسْمِ إِلهِهِ، وَنَحْنُ نَسْلُكُ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِنَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ" (ميخا ٥، ٤).
هذا المبدأ الذي يعكس الحرية الدينية بشكل كامل يتجاوز حدود المنهج العملي pragmatic approach الذي وفقه كأقلية يهودية تعيش بين المسيحيين أو مسلمين تبدي قبولها بأديان القوى الحاكمة، وذلك لتسليم بأمر الواقع وقبول الحكم السياسي للمحافظة على المكاسب السياسية، أو على الأقل لضمان سلامة الأفراد المنتمين لأقلية. بالنسبة لليهودية، فإن هذه الحرية الدينية الحقيقية تحتاج إلى أن تفهم بكل أبعادها، بما في ذلك البعد الآواخري. بعبارة أخرى، يؤمن الرابينيون بأن الديانات الأخرى لها أيضاً نصيبها من الحقيقة، وتقدم طريقاً صحيحاً جداً للسلوك الحسن وللخلاص. كما نقرأ في كثير من الأحيان في مختلف تعاليم يهودية تعاليماً مشابهة لنص الآتي:
"أي شخص يقبل على نفسه إتباع الوصايا السبع ويكون دقيقاً في مراعاتها يُعتبر واحداً من صالحي أمم العالم hasidei umot ha'olam، ويستحق نصيبه في العالم الآتي" (Maimonides, Mishnah Torah, Hilkhot Melakhim, 8, 11).
هذا المبدأ الآواخري الذي يعترف بالخيارات الدينية للآخرين، مبررٌ فقط على أساس مفهوم الحقيقة في اليهودية، حيث تنظر للحقيقة كتعبير ثنائي لله الحي. بهذا الخصوص تتبادر إلى الأذهان العبارة التلموذية الشهيرة بشأن وجهات النظر والنقاشات المتناقضة للرابينيين، والتي تفيد بأن "هذه وتلك هي الكلمات الحقيقية للإله الحي". في هذا السياق، ولكن بالتركيز بشكل أكبر على الأخطار الكامنة في مفهوم الحقيقة الدينية، يسترعي الرابينييون الانتباه إلى أن جذر الكلمة العبرية "ايميت" (אמת) أي الحقيقة هو نفس جذر الكلمة العبرية "مُت" (מת)، أي الموت. فالادعاء بامتلاك الحقيقة الدينية عادة ما يترجم بإنكار الحرية الدينية للأخرين وذلك في أفضل الأحوال، أما في أسوأها فيترجم بإماتتهم.
لا يمكن للمرء أن يتفادى التناقض الواضح في مناقشتنا حتى الآن. فمن ناحية، هنالك افتقار معين للحرية الدينية للفرد اليهودي، ومن ناحية أخرى هنالك التزام حقيقي بالحرية الدينية تجاه من هم خارج الجماعة اليهودية. كيف يمكن لهذا الشعور القوي والإيمان بالحرية الدينية الآواخري الانسجام مع لااختيارية المرء بالنسبة لكونه يهودياً؟ لشرح هذا التناقض الظاهري، نستعين بنصين من التلمود كونهما يبينان بطريقة رائعة كيف أن الافتقار إلى الحرية الفردية في اليهودية، يمكن أيضاً أن يكون مفتاحاً لضمان الحرية الدينية للآخرين.
يرد النص الأول فيBaba Batra  (60b)، وفيه يذكر رابي إسماعيل بن اليشاه بأنه بعد يوم من تدمير الهيكل وبعد أن أصدرت السلطات الرومانية مراسيم ضد الشعب اليهودي تحظر فيها الالتزام بالتوراة، كان يجدر باليهود وبكل حق إلزام أنفسهم بعدم الزواج وعدم إنجاب الأطفال حتى ينتهي نسل إبراهيم من نفسه. نعم، فقد كان أفضل للإنسان اليهودي بأن لا يولد كي يعيش في ذلك الحال. ومع ذلك، واصل الشعب اليهودي بالتزاوج وإقامة النسل. وبالرغم من أن أولاد اليهود لم يكونوا مخيرين بأن يكونوا يهوداً، كان عليهم العيش وتحمل الاضطهاد بسبب هويتهم. وهكذا دُفِعَ ثمن غياب الحرية الدينية بشكل باهض، كونه أدى إلى المزيد من الاضطهاد والمزيد من المعاناة.
النص الثاني من التلمود هو أقل مأساوية، ويرد في Iruvin (13b). ويُسرد فيه بأن المدرستين للفكر الرابيني هيلّل Hillel وشماي Shamaï ناقشتا لمدة سنتين القضية التالية: هل كان أفضل للإنسان بأن لم يكن قد خُلق؟ والنتيجة التي اتفقتا عليها هي أنه فعلاً كان من الأفضل للإنسان بأن لم يكن قد خُلق، وذلك بسبب الألآم التي عليه تحملها في الحياة من جهة، والقساوة التي يمكن أن يمارسها ضد الآخرين من الجهة الأخرى. ولكن بما أن الإنسان قد خُلق ولم يكن مخيراً بما يتعلق بولادته، تقع على عاتقه مهمة مراجعة سلوكه وأعماله بشكل مستمر وذلك للمساهمة في ضمان عيش البشر مع بعضهم بسلام وانسجام. يُبين هذا بأن لااختيارية الولادة والوجود لكل إنسان تقوده للعيش حياة متسمة بتحمل المسؤولية والاحترام والمساهمة في تكوين مجتمع متحضر تقدر فيه قيم الحياة.
هنالك تشابه كبير بين النصين اللذين استشهدنا بهما. فكلاهما يؤكدان على غياب الحرية الوجودية (الأنطولوجية). ومثلما لا يخير الانسان، من الناحية الأنطولوجية بأن يكون أو لا يكون، كذلك لا يخير اليهودي بأن يكون يهودياً او لا يكون يهودياً. أفلا ينبغي إذن أن تقودنا هذه اللااختيارية للحالة الإنسانية إلى احترام وبصورة تلقائية من ولدوا مختلفون عنّا والتسامح معهم وضمان حريتهم الدينية؟ وبينما قد تقدر أو تدان (بالاعتماد على وجهات نظر) إمكانية اختيار المرء لدينه، كيف يمكننا أن نحكم على الآخر بسبب هويته الدينية، في حين نحن بأنفسنا قد فرضت علينا هويتنا الدينية؟ فالمفارقة هنا هي أن الافتقار إلى الخيار الديني للفرد يمكن أن يكون مفتاحاً لضمان التسامح الديني في سياق أوسع.
 
٣. الحرية الدينية في دولة إسرائيل اليهودية العلمانية:
 
من يريد أن يقوم بتحليل ديني نقدي صادق، يجب أن يتجاوز الرؤية النظرية البحتة لمبادئه الخاصة، ليواجه بشجاعة الواقع الذي تنتجه ممارسة السلطة السياسية. وعلى هذا النحو، يجب أن نتساءل ما هي الحالة الفعلية للحرية الدينية في دولة إسرائيل، كونها الكيان السياسي الوحيد الذي تخضع فيه روح التعاليم اليهودية لاختبار السلطة السياسية؟ (إسرائيل لا يحكمها القانون اليهودي، وبهذا المعنى هي دولة يهودية علمانية). فهل تضمن الدولة الاسرائيلية الحرية الدينية؟
للإجابة على هذا السؤال، نبدأ بوثيقة الاستقلال لعام ١٩٤٨، وبالقوانين الأساسية للبلاد والتي تؤكد على مبدأ الحرية الدينية من دون أي تمييز. في الكثير من النواحي، تعتبر الحرية الدينية واقعاً راسخاً في إسرائيل، فهي ليست مضمونة من الناحية القانونية فحسب، بل مقبولة أيضاً من قبل عامة الناس. ومع ذلك، هناك ثلاثة أنواع من التمييز الديني لا بد من الوقوف عندها، وهي:
أولاً، التمييز الديني الذي يهدف المجتمعات اليهودية غير الأرثوذكسية، حيث أنها لا تستمتع بنفس الحقوق أو الدعم المالي مثل نظرائها الأرثوذكسيين. فالحاخامية الإسرائيلية، كمؤسسة ذات سلطة سياسية، هي حكر على (الحاخامات) الأرثوذكس، حيث لهم يحق فقط ترأس مراسيم الزفاف ومنح الطلاق وأداء مراسيم الدفن.
ثانياً، التمييز الديني الذي يتعلق بالمنتمين لأديان أخرى. من هذا الجانب، يبدو أن حريتهم الدينية لا تقييد إلا في أوقات الأزمات السياسية الخطيرة. على سبيل المثال، عندما يمنع على الرجال المسلمين الذين تقل أعمارهم عن ٤٥ سنة الدخول إلى مسجد قبة الصخرة. هذا التقييد، وإن كان مؤقتاً، فإنه يحدُ بكل الأحوال من ممارسة حقيقية للحرية الدينية.
ثالثاً، التمييز الديني الذي يتمثل بعدم سماح اليهود للآخرين بالدخول إلى المواقع الدينية المشتركة ضمن الأراضي الفلسطينية التي هي تحت السلطة المزدوجة للهيئات الإسرائيلية والفلسطينية. فهكذا هو الحال بالنسبة لمغارة المكفيلة الواقعة في حبرون، وكذلك في أماكن أخرى.
بالنظر إلى النقطتين الثانية والثالثة، من المؤكد أن المرء يميل إلى تحليل هذا الخرق للحرية الدينية وربما تبريره على أساس الدواعي السياسية / الأمنية. ومع ذلك، فإن اليهودية في جوهرها دين سياسي بعمق كونه يعنى بتكوين مجتمع لائق، ولا يكتفي فقط بالطقوس لتنظم العلاقة بين الله والشعب، وعليه فإن انتهاكات ضد الحرية الدينية بسبب التوترات السياسية هي مشكلة لا يمكن لليهودية تجاهلها أو رفضها. كل هذا يؤدي إلى الاعتراف بأن الحرية الدينية بالرغم من كونها قيمة فائقة الأهمية في نظر الرابينيين، إلا أنها أبعد من أن تكون أهم قيمة في اليهودية. فالقيم الأخرى مثل احترام الحياة وبقاء شعب، قد تكون لها الأسبقية في بعض الأوقات. مثال على هذا يمكن التماسه في المراحل الأولى لإنشاء قانون العودة (١٩٥٠) حيث بموجبه كل يهودي يحق له أن يصبح مواطناً إسرائيلياً. من الواضح أن هذا الجزء الأساسي من التشريع الإسرائيلي يخلق تمييزاً وفصلاً بين اليهود وغير اليهود، ويمكن بالتأكيد القول بأنه تجاوز لمبدأ المساواة الدينية. إذن نوعاً ما، التفضيل الديني متجذر بعمق في روح الدولة وفي "سبب وجودها" raison d’être. لا يزال هذا الواقع مستمراً حتى يومنا هذا، إذ أن ضمان تواجد أغلبية ساحقة من اليهود في إسرائيل، حتى لو كان ذلك سياسياً وأخلاقياً ودينياً غير مقبول، يعتبر في الوضع الراهن ضرورة تاريخية تقبل به اليهودية الآن، إذ أن بقاء الشعب اليهودي، في دولة خاصة به، هو قيمة دينية أعلى من الحرية الدينية والمساواة الدينية.
بدأنا بحثنا بمقولة الرابي إيوجن بوروفيتس "التاريخ مختبر للاهوت اليهودي"، ومن الطبيعي أن نعود إليها للاستنتاج. فاللاهوت اليهودي، بمعزل عن الاضطرابات التاريخية، يُقدر الحرية الدينية تقديراً عالياً. إن الطبيعة اللااختيارية للهوية اليهودية تعزز بطريقة مفارقة القناعة بأن الآخر له الحق الكامل في ممارسة ديانته وإيمانيه. ومع ذلك، عندما نواجه الواقع التاريخي، خاصة بعد الإبادة الجماعية لليهودHolocaust  وإقامة الدولة اليهودية، يمكن أن تعتم جزئياً الحرية الدينية في سبيل غاية أكبر ألا وهي الضرورة الوجودية. من المؤكد أن الحقائق السياسية في إسرائيل اليوم سيكون لها دور في تكوين قيم اللاهوت اليهودي في المستقبل. وطالما قضية بقاء الشعب اليهودي هي على المحك فإن الحرية الدينية، بالرغم من كونها تعليماً رئيسياً للرابينيين، قد لا تكون في مقدمة جدول الاهتمامات اللاهوتية لليهودية المعاصرة.
يعطينا الكتاب المقدس تعليماً عن العدالة، قائلاً: “Tsedek tsedek Tirdof” "اتبع العدالة ثم العدالة" (تث ١٦، ٢٠). يسأل الرابينيون: لماذا يستخدم هنا الفعل "اتبع"، ولم يتم اختيار فعل أكثر إيجابية، مثل "أقيم" أو "حقق"؟ ويجيبون بأن العدالة من طبيعتها لا يمكن إلا اتباعها، حيث أن الأنسان لا يستطيع تحقيق العدالة بشكل كامل وتام. فالعدالة هي من القيم التي ينبغي على المرء الكفاح من أجلها، وعدم الادعاء بإنجازها مطلقاً. ويبدو أن الحرية الدينية هي الأخرى قيمة ذات طبيعة مماثلة. ولهذا لا ينبغي أن يدعي المرء أبداً بأن تقاليده الدينية تضمن الحرية الدينية بشكل كامل وتام، وإنما عليه أن يكافح باستمرار من أجل تحقيق هذا الهدف السامي.
 
المصدر:
Rabbi David Meyer, The Ambiguities of Religious Freedom: a Rabbinic Perspective (For the conference on Religious Freedom, EAST & WEST; On the Anniversary of the death of Father Ragheed Ganni; Pontifical Irish College, Rome, 3d June 2011).


10
قام الأب توم اوزهونناليل بزيارة الفاتيكان يوم الأربعاء المصادف ١٣ أيلول ٢٠١٧ بعد أن تمّ تحريره، لكي يلتقي بقداسة البابا فرنسيس. وفور لقائه بقداسة البابا، سقط الأب توم على ركبتيه منحنياً ليقبل أقدام قداسته لكي يعبر عن شكره للجهود التي بذلها قداسته لتحريره ولصلاته من أجله. إلا ان قداسة البابا أمسك بيد الأب توم وأقامه وقبل يديه وباركه وشجعه ووعده بأنه سيستمر بالصلاة من أجله مثلما كان يفعل عندما كان الكاهن بيد مختطفيه.
وبعد لقائه بالبابا، قال الاب توم: "كنت أصلي كل يوم من أجل البابا، وكنت أقدم كل معاناتي على نية نجاح رسالته ولخير الكنيسة". وأضاف قائلاً: "بالحقيقة، كل يوم كنت أشعر بحضور يسوع إلى جانبي. إني أدركت وشعرت في قلبي بأني لم أكن وحيداً". كما أكد بأنه لم يكن باستطاعته أن يحتفل بالقداس الإلهي طوال فترة الاختطاف، إلا انه أضاف قائلاً: "كل يوم كنت أكرر في قلبي كل كلمات القداس الإلهي".
يُذكر بأن الأب توم، وهو كاهن ساليزياني هندي ويبلغ من العمر ٥٧ سنة، كان قد خطف في ٤ اذار ٢٠١٦ في مدينة عدن من قبل الارهابيين الذين كانوا قد هاجموا في ذلك اليوم على دار للمسنين والعجزة التابع لجمعية مرسلات المحبة التي أسستها القديسة الأم تريزا من كلكتا، وارتكبوا مجزرة راح ضحيتها أربعة راهبات وحارس ذلك الدار.
إن مشهد تقبيل البابا فرنسيس يد الأب توم يذكرنا بلقائه بالمونسنيور روفائيل قطيمي الذي نجى من مجزرة كنيسة سيدة النجاة للسريان الكاثوليك بالكرادة في بغداد. وكان قد استشهد نتيجة ذلك الهجوم الإرهابي، الذي وقع في ٣١ تشرين الأول ٢٠١٠، العشرات من المؤمنين ومن ضمنهم الأبوين الشهيدين ثائر ووسيم، إضافة إلى العشرات من الجرحى، من بينهم المونسنيور روفائيل قطيمي، والذي بالرغم من جراحه البليغة استطاع إنقاذ حياة العديد من المؤمنين بإدخالهم إلى سكرستية الكنيسة لحمياتهم من الإرهابيين الانتحاريين. 

http://it.radiovaticana.va/news/2017/09/13/papa_benedice_don_thomas_uzhunnalil_incontro_commovente/1336715
http://www.lastampa.it/2017/09/13/vaticaninsider/ita/vaticano/francesco-incontra-padre-tom-il-prete-indiano-rapito-in-yemen-Le9JEWEsbqoc4AL2RmqdGL/pagina.html
http://www.abouna.org/content/مجزرة-بحق-أربع-أخوات-من-راهبات-الأم-تريزيا-في-مدينة-عدن-اليمنية
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=668606.0

11
طريق الأشرار وسبيل البار
تفسير مزمور ١

ترجمة الأب ريبوار عوديش باسه

١ طوبى للإِنسان الذي لا يَسيرُ على مَشورَةِ الشِّرِّيرين،
 وفي طَريقِ الخاطِئين لا يَتَوَقَّفُ،
 وفي مَجلِس السَّاخِرين لا يَجلِسُ؛
٢ بل في تَوراة يهوه هَواه،
 وبِتوراتِه يُتَمتِمُ نَهارَاً ولَيلاً.
٣ فيَكونُ كالشَّجَرَةِ المَغْروسةِ على مَجاري المِياه،
 تُؤْتي ثَمَرَها في أَوانِه،
 ووَرَقُها لا يَذبُلُ أَبَداً:
 فكُلُ ما يَصنَعُه يَنجَح.

٤ لَيسَ كذلك الأَشْرارُ:
 بل إِنَّهم كالعُصافةِ الَّتي تَذْروها الرِّياح.
٥ لِذلك لا يَقُومُ الأَشْرار في الدَّينونةِ،
 ولا الخاطِئونَ في جَماعةِ الصدِيقِين.

٦ فإِنَّ يهوه عالِمٌ بِطَريقِ الصدِيقِين
 وإِنَّ إِلى الهلاكِ طَريقَ الأَشْرار.

مقدمة سفر المزامير: يشكل المزموران "الأول والثاني" مقدمة لسفر المزامير بشكل عام وللكتاب الأول من هذا السفر بشكل خاص (مز ١ـ٤١). بدءاً من مز ٣ توضع للمزامير عناوين، بينما المزموران الأولان ليس لديهما أي عنوان وهذا ما يجعلهما مميزان عما يليهما ليبرز استخدامهما كمقدمة. هنا يعطي مؤلف سفر المزامير مفتاح تفسير لسفره بذكره للمواضيع الأساسية. فمن جهة يؤكد مز ١ على التوراة كطريق إلى الحكمة ومن جهة ثانية يشدد مز ٢ على موضوع المشيح وإقامة ملكوت الله في العالم. مز ١ ذو طابع فردي بيمنا الثاني ذو طابع جماعي. وعليه ينبغي قراءة سفر المزامير بالأبعاد التالية: كتأمل فردي بتوراة الله (الموضوع الذي سيظهر ثانية في مز ١٩ و ١١٩)، وكتعليم لشعب الله الذي يتألم منتظراً مجيء ملكوت الله ومشيحه (قارن المزامير عن الملك ـ مثل مز ١٨؛ ٢٠ـ٢١؛ ٧٢؛ ٨٩ ـ والمزامير عن ملوكية الله أي مز ٩٣ـ١٠٠، كل هذه المزامير ترد في مواقع رئيسية من السفر موسعةً بهذين الموضوعين.
   إن هذين الموضوعين مرتبطان مع بعضهما، لأن الطاعة لإرادة الله هي علامة لمجيء ملكوته: ملكوت الله يتحقق حيث يعمل الناس بحسب مشيئته، وهذا ما تعبر عنه الصلاة الرّبية. هكذا المزموران الأولان مرتبطان بشكل أساسي. الإشارة لهذه الوحدة الصياغية هو التضمين بين الطوبى في مستهل مز ١ ("طوبى للإِنسان الذي لا يَسيرُ على مَشورَةِ الشِّرِّيرين ... " مز ١، ١) وتلك الختامية في مز ٢ ("فطوبى لجميع الذين به يعتصمون" مز ٢، ١٢).
   يتميز مز ١ بصبغته "الحكمية" وما يبرر ذلك هي الطوبى الاستهلالية. بالحقيقة يمكن القول بأن الحكمة هي فن النجاح والسعادة في الحياة. إذن مز١ هو مزمور حكمي بميزته الإسرائيلية. بينما في الكتب الحكمية المعلم الأول للحياة هي الحياة ذاتها والنظام الكوني، نجد هنا معلم الحياة هي التوراة أي الناموس الذي كشفه الله لبني إسرائيل (قارن مز١، ٢). إن هذا الموضوع يتكرر مراراً في سفر المزامير وقد كرس له بشكل خاص مز ١٩ في الكتاب الأول من هذا السفر وفي الكتاب الخامس مز ١١٩ الذي يعد أطول مزمور في سفر المزامير.
   إن دمج هذين العنصرين أي تحديد الحكمة بالتوراة هي ميزة الكتب الحكمية المتأخرة (أنظر خاصة إبن سيراخ ٢٤). إن الحكمة باعتبارها النظام الكوني المشخص والتي كانت متواجدة أثناء خلق العالم (إبن سيراخ ٢٤، ٣ـ٩)، تأخذ في النهاية مسكناً لها في إسرائيل (الآيات ١٠ـ٢٢) وتُعَرَّف كتوراة الرب:
" هذه كُلُّها هي سِفْرُ عَهْدِ الإِلهِ العَلِيّ والشّريعةُ الّتي أَوصانا بِها موسى ميراثاً لِجَماعاتِ يَعْقوب" (سي ٢٤، ٢٣).
   كذلك في مز ١٩ هنالك نوع من التوازي (parallelisim) بين النظام الكوني (مز ١٩، ٢ـ٧) والتوراة (مز ١٩، ٨ـ١١): إن سرّ هذا النظام الكوني قد كُشِفَ في الناموس. شيئاً مشابهاً لهذا يعمله مز ١. البحث عن الحكمة كطريق لبلوغ السعادة تُبَدَل بالقراءة المملؤة بالمحبة للتوراة.
    إن مز ١ بإعتباره مقدمة لسفر المزامير يُعّد من المزامير المتأخرة وعليه لا ينبغي تحديد زمنه أبعد من فترة التي كتب فيها سفر بن سيراخ (مطلع القرن الثاني ق.م.) أي في الفترة الهيلينية (القرنين الثالث والثاني ق.م.). لا تشير كلمة "الأشرار" في تلك الفترة للوثنين أي الشعوب الهيلينية وإنما إلى هؤلاء اليهود الذين تبنوا العادات الهيلينية تاركين جذورهم اليهودية. فلأولئك اليهود المتحررين المنتمين للطبقة البرجوازية الغنيّة في ذلك العهد، يقدم مز ١ حياة مثالية مخلصة للهوية الثقافية والدينية اليهودية حتى ولو تسبب ذلك خسارة اقتصادية.

 بنيّة مز ١:
الجدول رقم ١
أ الآيات ١ـ٣ طريق الصالح.
ب الآيتين ٤ـ٥ طريق الأشرار.
أ + ب الآية ٦ الطريقان: النتيجة.

   يمكن تقسيم المزمور إلى ثلاثة أقسام. يقدم المُزَمّر في القسم الأول (أ الآيات ١ـ٣) طريق الإنسان الصالح (من دون أن يذكر كلمة "الصالح"). أما في القسم الثاني وعلى خلاف مع طريق الإنسان الصالح ("ليس الأشرار كذلك" الآية ٤أ) يقدم المُزَمّر طريق الأشرار (ب، الآيات ٤ـ٥). إن كلمة "الأشرار" تشكل تضميّن لأنها ترد في الآيتين ٤أ و ٥أ. وفي القسم الثالث والأخير يُعاد ذكرهما معاُ (أ+ ب، الآية ٦) لتقديم نتيجة كلٌ منهما (قارن الجدول ١).

القسم الأول: طريق الإنسان الصالح (الآيات ١ـ٣)

   الإنسان الصالح و"لا" لثلاثة مرات (الآية ١) ـ "طوبى للإنسان ...": يبدأ المزمور الأول (وبالتالي سفر المزامير) بكلمة "طوبى". يسوع أيضا يبدأ الموعظة على الجبل بالتطويبات. إن تطويبات الموعظة على الجبل والطوبى الواردة في مستهل مز ١ هي ذو طابع استفزازي وتناقضي. يسوع يقول "طوبى للفقراء"، بينما الناس عادة يقولون العكس أي "طوبى للأغنياء". وهكذا أيضاً المُزَمِّر عن قصدٍ يقدم نموذج الإنسان الذي يسير عكس التيار. ليكون الإنسان سعيداً ينبغي عليه أن يغير طريقة نظرته للعالم. السعادة تبدأ بثلاثة مرات "لا" وبشكل حاسم في تحديد قيّم العالم. تشكل العبارات الثلاثة في الآية الأولى نوعاً من التدرج في المعايشة مع "الأشرار". تبدأ هذه المعايشة بـ "السير" بنفس الطريق مع الأشرار وبعد ذلك يأتي التوقف والحديث معهم وبعدها الجلوس معهم على الطاولة والمشاركة معهم في السُّخْرِيَة. الاستعارة المجازية للطريق وللسير لها أهمية كبيرة في سفر المزامير. السفر ذاته يمكن اعتباره "كتاب الحج" حيث أن الحج إلى الهيكل يصبح رمزاً للحياة باعتبارها سير نحو الله ونحو "أرض الميعاد". إن الطريق الذي يؤدي إلى هذه الغاية هي التوراة. وعليه التحول من حالة السير إلى التوقف يعتبر ارتداداً عن الطريق الصحيح. إن "الذهاب" مع الأشرار ينتهي بالجلوس وبالتالي لا تكتمل المسيرة.
"الذي لا يَسيرُ على مَشورَةِ الشِّرِّيرين": يشير المصطلح العبري "عِصا" إلى "مبادئ الحياة أو الآيديولجية". يضع مز ٣٣ "مبادئ حياة الأمم" (الآية ١٠) على نقيض لـ "مبادئ حياة يهوه" (الآية ١١). بالطبع يُشير المُزمّر هنا الى التوراة الإلهية. فالمخطط الإلهي لحياة الإنسان يتناقض مع "مخططات الحياة" التي وضعتها الأمم (الآية ١٠) وكذلك يتناقض مع "فلسفة الشِّرِّيرين" (مز ١، ١).   
   يشير مصطلح "الشِّرِّيرين" هنا إلى ذلك الصنف من الناس الذي يتميز باستهانته من الله وتصرفه العنيف تجاه قريبه الإنسان (قارن مز ١٠، ٢ـ١١). يبدو أن الشريرين كانوا ناجحين في المجتمع ولهذا كانت فلسفتهم مُغرية (قارن مز ٣٧، ٧٣). إذا كان تأريخنا للمزمور صحيح، فإن الشريرين هم هؤلاء اليهود المتأثرين بالثقافة الهيلينية حيث كانوا ينكرون إيمانهم ويتبنون العادات الاجتماعية والدينية للمحتل من أجل تحقيق النجاح. "تماشياً مع السلوك السائد في بدايات الفترة الهيلينية، كانوا هؤلاء من الداعمين لنهج حياة مادي وتحرري ومٌتعوي وبالتالي قاعدته الأساسية هي النجاح الخارجي" (E. Haag, Psalm 1. Lebensgestaltung nach dem alttestamentlichen Menschenbild, in R. Mosis – L. Ruppert [edd.], Lebensgestaltung nach dem alttestamentlichen Menschenbild, Freiburg 1989, pp. 153-172, 161).
   "... وفي طَريقِ الخاطِئين لا يَتَوَقَّفُ": مصلح "الطريق" يشير للسلوك أو طريقة تصرف. إذا كانت الـ "لا" الأولى تخصّ الآيديولوجية، ف الـ "لا" الثانية تتعلق بالتصرف الواقعي لهؤلاء الشريرين.
   " ... وفي مَجلِس السَّاخِرين لا يَجلِسُ": بعد الآيديولوجية والسلوك يأتي الدور للكلام. إن "السَّاخِرين" هم هؤلاء الذين من خلال الكلمات التي يتفوهون بها يستخفون من الذين يطبقون التوراة في حياتهم. يشكل السَّاخِرون جماعة حيث أنهم يجلسون مع بعضهم ويشكلون قوة بسبب كثرة عددهم. هنا علينا الملاحظة بأن "الإنسان الصالح" يُذكر كفرد واحد، بينما خصمهُ يُذكر دائماً كجماعة لأنهم يشكلون حقيقة جمعيّة أي كآيديولدوجية وموضة وجماعة. هم الغالبية والذي لا يتبعهم يُعزل عن الآخرين. إن طريق الخير هو دائماً ضيق وقليلون يسلكونه.
   محبة التوراة (الآية ٢): بعد تكرار ثلاثة مرات "لا"، يُعَبر عن الـ "نعم" الوحيد للتوراة. تعني كلمة "التوراة" بشكل أساسي "التعليم" وهذا المعنى هو حكمي وينبغي آخذه بنظر الاعتبار في قرأتنا للمزمور ١. فبحسب تعريف الحكمة والتوراة في الكتب الحكمية المتأخرة، التعليم الإلهي يأخذ مكان معلم الحكمة. بالتأكيد مصطلح "التوراة" في تلك الفترة يشير إلى أسفار موسى الخمسة أو ما يسمى ببنتاتوخ. لكن ربما قد يكون في هذه الآية إشارة لسفر المزامير حيث أن المؤمن الذي يُردد المزامير يقبل في حياته إرادة الله المُعلنة في توراة موسى. يُعد سفر المزامير كتوراة صغيرة لأنه مقسم إلى خمسة كتب مثل التوراة.
   " ... بل في تَوراة يهوه هَواه،": المصلح العبري المستخدم هنا من دلالاته التعبير عن المشاعر وخاصة التفتن بشخص ما، لا بل له حتى الدلالات بما يخص الشهوة الجنسية تجاه الآخر ويرافق بعض الأفعال مثل "أحب، أشتهى". إذن في سياق هذه الآية هذا المصطلح يُبين بأن العمل بالتوراة بالنسبة للمؤمن ليس أداء واجب بل هو عمل شيء ممتع حيث يقوم به الشخص بكامل إرادته لأن ذلك يملأ قلبه فرحاً. تُعد هذه المحبة للتوراة من خصائص الفترة الهيلينية وقد أخذت لاحقاً طابعًا خاصاً في الديانة اليهودية حيث أصبح الشعب اليهودي يُدعى بـ "أهل الكتاب". إن العهد الجديد يحذر من "عبادة حرفية" (مثلاً مار بولس يقول: "الحرف يقتل، أما الروح فيُحيي" ٢ كور ٣، ٦). ولكن في سفر المزامير ليس هذا هو الحال. ما تقدمه المزامير بهذا الخصوص هو نموذج حياة يعيش الفرد باتكاله على الفرح الذي يستمده من الله، وهذا ما يتناقض مع حياة الأشرار. هذا ما فعله أيضا يسوع: "طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني" (يو ٤، ٣٤). فبينما الأشرار يتبعون خُططهم للوصول إلى السعادة، المُزَمِّر يَتّكل على الله واثقاً بأن خطط الله أفضل من خطط البشر، وعليه فهو يصرف طاقاته لا في وضع خطط شخصية بل بمحاولة فهم ما خططه الله لحياته.
   " ... وبِتوراتِه يُتَمتِمُ نَهارَاً ولَيلاً": الفعل العبري "هكا" يعني "ترديد بصوت خافت، التأمل". يذكرنا هذا الفعل بما يسمى "شَمَاعْ" الواردة في سفر تثنية الإشتراع: "ولتكن هذه الكلمات التي أنا امرك بها اليوم في قلبك. وردّدها على بنيك وكلّمهم بها، إذا جلست في بيتك، وإذا مشيتَ في الطّريق وإذا نِمتَ وقُمتَ" (تث ٦، ٦ـ٧). يستهل سفر يشوع بوصية موسى لخليفته، قائلاً: "لا يبرح سفر هذه التّوراة من فمك، بل تأمّل فيه نهاراً وليلاً لتحرص على العمل بكلما كُتبَ فيه، فإنّك حينئذٍ تُيسّرُ طُرُقَكَ وحينئذٍ تنجح" (يش ١، ٨). ما يوصي به موسى خليفته، يطبقه مز ١ على كل إسرائيلي.
   شجرة الحياة (الآية ٣): التعبير المجازي للشجرة كرمز للحياة هو تعبيرٌ حكميٌ بشكل خاص وسبق وأن اُستخدم حتى في الأدب المصري القديم.
"فيَكونُ كالشَّجَرَةِ المَغْروسةِ على مَجاري المِياه ...": الفعل غرس يعبر عن خاصية هذه الشجرة التي لم تنمو بشكل طبيعي من بذرة وإنما كان هنالك من نقلها من مكان آخر وشتلها من جديد كما هو الحال لأشجار حديقة. فما جرى للشجرة عبارة عن "خروج" حيث كان عليها ترك بيئتها الطبيعية والتأقلم مع بيئة جديدة.
 "مَجاري المِياه" هنا معمولة من قبل الناس كتلك التي تتواجد في الحدائق. إن امتلاك مجاري مياه دائمة يُعدّ حلماً (قارن تث ١١، ١٠ـ١٢) في بلد مثل إسرائيل حيث الزراعة تعتمد على الأمطار القليلة والغير منتظمة. حلم كهذا بما يخص الخصوبة كان يمكن تحقيقه فقط في حدائق القصور الملكية، وخاصة في حدائق الهيكل والتي بدورها كانت ترمز لحدائق الفردوس حيث سقيها لا يعتمد على الأمطار، بل على مجاري مياه دائمية (قارن تك ٢، ٦). إذن التعبير "مَجاري المِياه" يُبيّن هذه الروابط بالفردوس والهيكل (قارن إش ٣٠، ٢٥؛ ٣٢، ٢؛ مز ٤٦، ٥؛ ٦٥، ١٠).
   إن التعبير المجازي للشجرة المغروسة على مجاري المياه مقارنة بالتعبير المجازي بما يخصّ "العُصافة" (الآية ٤) له بعدين. ففي المقام الأول يشير مثل الشجرة إلى الاستقرار. أما العُصافة فليس لها تماسك، لا بل "تَذْروها الرِّياحُ". يبرز الكاتب فوكلس W. Vogels "عامودية" (↕) الشجرة على عكس "أفقية" (↔) العُصافة. وهكذا أيضا الدراسة المفعمة بالمحبة للتوراة تمنح المؤمن الاستقرار والتعمق والتجذر. طالما أنه لم يبق سطحياً بل غرس جذوره في العمق (↓)، فالنتيجة هي الثبات والتماسك ولهذا لا يتغير بتأثير الموضة السائدة في زمنه. كل هذا يظهر الترابط المنطقي في النص مع الوصف الوارد في الآية الأولى حيث أن الذي يجعل من كلمة الله كخبز له، لا يتأثر بسهولة بالموضة العابرة.
   أما البُعد الآخر فيمكن تمثله بسهم متجهٍ نحو الأعلى (↑). إن الجذور العميقة والمرتوية ماءاً بما فيه الكفاية تضمن للشجرة الخصوبة. شجرة كهذه تنمو أغصانها وأوراقها وتُعطي ثمارها، بينما العُصافة لا تنتج شيئاً.
    " ... تُؤْتي ثَمَرَها في أَوانِه": تُبين عبارة "ثَمَرَها " على أن ثمرة هذه الشجرة هي فريدةٌ من نوعها. كل شجرة (إنسان) تُعطي ثمرة فريدة ومميزة بحيث فقط هي، لا غيرها، يمكنها أن تثمرها. بالرغم من أن التوراة هي دوماً نفسها، إلا أنها تثمر ثمرة مختلفة في كل شخص يتأملها. وهذا يبين بأن إرادة الله لا تلغي حريّة الإنسان، بل تُقويها أي فقط عندما نعمل بمشيئة الله نكتشف حقيقة وجودنا ونحقق ذاتنا. إن كلمة "ثمرة" تستخدم بشكل مجازي في الكتاب المقدس للإشارة إلى الأعمال الحسنة (قارن أش ٥، ٢.٧؛ مي ١١، ١٢ـ١٣)، وخاصة للإشارة إلى المحبة الفَعَّالة (يو ١٥، ١ـ١٧). يقول إشعيا النبي إن كلمة الله ليست أبدا بدون ثمر (إش ٥٥، ١٠ـ١١).
   يحذر المُزمّر من الاستعجال للحصول على الثمار وذلك بقوله: "تُؤْتي ثَمَرَها في أَوانِه". إن الشجرة بالتأكيد ستعطي الثمار ولكن في أوانه. ومثلما الثمرة بحاجة للوقت لكي ينضج هكذا أيضا كلمة الله بحاجة للوقت لتعطي ثمارها. إن النبي إرميا كان في حيرة بسبب عدم تحقيق النبوءة التي كان الله قد وكله بها، والله يُريه رؤية شجرة لوز مزهرة: "وكانت كلمة الرب إلي قائلاً: ماذا أنت ترى يا إرميا؟ فقُلتُ: إني راءٍ غُصن شجرة ساهرة dqv. فقال لي الرب: قد أحسنت فيما رأيت، فإني ساهرٌ dqv على كلمتي لأصنعها" (إر ١، ١١ـ١٢). تبدو شجرة اللوز في الشتاء بلا أوراق وكأنها ميتة ولكن بحلول الربيع أي في أوانها ـ كما يقول المزمور ـ تتورد. هكذا أيضاً لا تموت كلمة الله بل إنها تنتظر أوانها لتثمر.
   إذا كان التعبير المجازي المتعلق بالثمر يشير للشجرة بشكل عام، ولكن ما يلي يتحول إلى نوع آخر من الشجرة "ووَرَقُها لا يَذبُلُ أَبَداً". تذبل وتتساقط أوراق شجرة اللوز في الشتاء. بما يخص الشجرة التي " وَرَقُها لا يَذبُلُ أَبَداً" يتحدث النبي حزقيال (حز ٤٧، ١٢. قارن رؤ ٢٢، ٢). يشير هذا التعبير إلى "شجرة الحياة" التي كانت موجودة في الفردوس الأرضي (قارن تك ٢، ٩) وهذا التعبير هو كناية للرغبة الموجودة في كل إنسان بأن يحيى إلى الأبد. هذه "الحياة الأبدية" التي حاول آدم الوصول إليها بطريقته المخالفة لإرادة الله، يُعطيها الله لمن يقوم بالعكس أي يجعل من الطاعة لله المعبر عنها من خلال المحبة للتوراة غايته في الحياة. نموذج الإنسان الذي يقدمه الزمور ١ هو عكس آدم، لأن هذا النموذج يثق بالله مثلما يثق الطفل بأبيه. والتوراة بالنسبة له هي "شجرة معرفة الخير والشر"، لأنها تبين له أين يكمن الخير وأين يكمن الشر. وفي الوقت عينه هي "شجرة الحياة" لأنها تظهر له الطريق إلى الحياة الأبدية.
   تشير "شجرة الحياة" إلى الهيكل وذلك فيما يقدمه النبي حزقيال بالنسبة للاهوت الهيكل (حز ٤٧، ١٢) وهذا أيضاً ما يُقدمْ على سبيل المثال في المزمورين ٥٢، ١٠ و٩٢، ١٣ـ١٥. إن الله الذي هو "ينبوع الحياة" حاضرٌ في هيكل أورشليم والذي يستقي من هذا الماء ينال الحياة الأبدية. ولكن حسب مزمور ١ "شجرة الحياة" تصبح التوراة والذي يتغذى من ثمارها يحيا إلى الأبد. إذن هنا التركيز يتحول إلى الجانب الحكمي. يمكن تفسير هذا التحول في التركيز من الهيكل إلى الجانب الحكمي بأن الكثير من الجماعات اليهودية بسبب السبي والشتات في الفترة الهيلينية لم يكن بوسعهم الذهاب إلى الهيكل.
" ... فكُلُ ما يَصنَعُه يَنجَح": هنا الكاتب يترك التعبير المجازي للشجرة ويبدأ بالحديث مباشرة عن الإنسان وخاصة عما يصنعه. إن سبب نجاح عمل الإنسان هو توافقه مع المخطط الإلهي وبالتالي الله هو من يجعل هذا العمل يتكلل بالنجاح. يظهر العهد القديم بأن طريق الإنسان للنجاح لا يعتمد عليه بل على الله (قارن تك ٢٤، ٢١. ٤٠. ٤٢. ٥٦؛ ٣٩، ٣. ٢٣؛ أم ١٦، ١ـ٣). إذن النجاح أو الفشل لمخططات البشر يعتمد بالنهاية على مدى توافقها من عدمه مع المخطط الإلهي المعلن من خلال التوراة.
   ولكن هذا لا يبدو مطابقاً للواقع وإنما يتماشى مع الفرضية الحكمية بأن الخير يلقى المكافأة والشر يلقى التعاسة. إن هذه الفرضية عادة ما تناقض واقع الحياة حيث أن الصالحين أحياناً لا ينجحون بينما الطالحون ينجحون ويصلون لمناصب ومواقع مهمة. وعليه فإن مزامير الاستغاثة وخاصة المزامير الحكمية (قارن مز ٣٧؛ ٣٩؛ ٧٣) تناقش هذه الفرضية وتضعها موضع شك. إن العبارة "تُؤْتي ثَمَرَها في أَوانِه" تظهر بأن النجاح لا يحصل عليه المرء بشكل فوري، لا بل قد تلمح هذه العبارة للحياة الأبدية. على أية حال، بما أن الواقع مختلفٌ فأن الكاتب بقوله "فكُلُ ما يَصنَعُه يَنجَح" يعطي قيمة لفعل الإيمان.
   
القسم الثاني: طريق الأشرار (الآيات ٤ـ٥)

   مقارنة بالقسم الأول حيث يقدم الكاتب بشكل دقيق وتفصيلي طريق الإنسان الصالح، نلاحظ أنه لا يدخل في وصف الدقيق لطريق الأشرار، والسبب هو أنه ليس مهتماً بالإشارة لطريق الخاطئين وإنما بطريق الإنسان الصالح. يرد ذكر طريق الأشرار لكي يتجنبها المؤمن، لا بل يمكن القول بأن النص لا يصف هذا الطريق بل يعطي فقط الحصيلة أي المصير النهائي لهذا الطريق حيث يمكن الحكم فيما إذا كانت تلك الحياة ناجحة أو فاشلة (قارن مز ٧٣، ١٦ـ ١٧).
فشل الاشرار (الآية ٤أ): إن التعبير "لَيسَ كذلك" الوارد في مستهل هذه الآية ينبغي ربطه بالجملة التي سبقته "فكُلُ ما يَصنَعُه يَنجَح". ويدل على أن خطط الأشرار لا تنجح. كل خطة لا تتماشى مع إرادة الله لا يكتب لها النجاح.
   من الملفت للنظر صيغة الجمع المستخدمة بما يخص الأشرار "لَيسَ كذلك الأَشْرارُ". ربما هذا لا يدل فقط على أن الأشرار هم الغالبية، وإنما قد يبين بأنهم لا يفكرون بشكل فردي أي أنهم بلا شخصيّة. كل منهم يفعل ما تفعله الجماعة. ظناً منهم بأنهم أحرار يصبحون مقيدين بالموضة والميول. أما الإنسان الصالح فإنه يفكر ويتصرف بشكل فردي. للسير في الاتجاه المعاكس يجب أن يتميز الفرد بشخصية قويّة. إن إتباع التوراة يتطلب فعلاً حراً وهذا لا يعتمد على قرار الجماعة وإنما على قرار فردي.
   العُصافة (الآية ٤ب): إن التناقض بين الفرد والجماعة الذي شدد عليه الكاتب يتوضح أيضاً من خلال التعبيرين المجازيين للشجرة والعُصافة. فالشجرة تشير إلى الأنسان الصالح والذي يُذكر بصيغة المفرد في حين إن العُصافة تشير إلى الأشرار وذلك بسبب كونها مجموعة كبيرة من قطع دقيقة للتبن المهشم. إذن العُصافة هو ما يتبقى من السنبلة عند عملية الدرس لفصل الحنطة عن قشرها. بعد الدرس ينبغي فصل الحنطة عن العُصافة وذلك من خلال قذف السنابل المدروسة في الهواء وتُسمى هذه العملية ـ التي لا تزال مستخدمة في الشرق ـ التذرية بالرياح وتتم عادة في يوم مذرور بالرياح (قارن لو ٣، ١٧). إن فصل الحنطة عن العُصافة في الإنجيل هو صورة للدينونة الإلهية في نهاية العالم وفي العهد القديم أيضا العُصافة ترد عادة في مثل هذا السياق (قارن إش ٥، ٢٤؛ ١٧، ١٣؛ ٢٩، ٥؛ صف ٢، ٢؛ اي ٢١، ١٨؛ ملا ٣، ١٩). على أية حال، بالنسبة للمزمور ١ يمكن ملاحظة الربط بين الآية ٤ب والآية ٥ حيث الموضوع هو الدينونة، ولكن الدينونة بالحقيقة تظهر فقط حقيقة ما هم عليه الأشرار أصلاً.
   إذا كانت الشجرة تتميز بميزتها العامودية فإن العُصافة هي على العكس أي تتميز بأفقيتها. فمن جهة، العُصافة ليس لها لا الجذور ولا العمق ولا التماسك. يذريها الرياح في كل الاتجاهات. إنها رمز للإنسان السطحي. ومن جهة أخرى، العصافة لا تعطي الثمر، إنها عقيمة. كل ذلك لأنه لا يوجد فيها الحياة، وأنها تصلح فقط للحرق.
   الدينونة (الآية ٥): يمكن ملاحظة التضمين بين الآية ١ والآية ٥ من خلال الكلمتين "الأَشْرار" و "الخاطِئونَ" وهذا التضمن يحمل في طياته ما يمكن تسميته المجازاة بالمِثل. ففي بداية المزمور نرى أن الإنسان الصالح هو معزول عن مجلس الأشرار، وفي النهاية الأشرار معزولون عن مجلس الأخيار. من هنا نستنتج بأن الإنسان الصالح ليس وحده، بل هنالك ما يمكن تسميته بـ "جماعة القديسين" التي تظهر هنا في نهاية المزمور. فما هي هذه الجماعة التي يسميها المزمور بـ "جَماعةِ الصدِيقِين"؟
   إن الفعل "يَقُومُ" هو تعبير كان يستخدم في المحاكم أمام البوابة حيث أن المتهم كان عليه الوقوف للحديث مدافعاً عن نفسه (قارن مز ١٢، ٦؛ ٣٥، ٢؛ ٧٤، ٢٢؛ ٩٤، ١٦؛ اي ١٩، ٢٥ وإلخ). هذا الفعل هو مرادف بطبيعة الحال للفعل "وقف على الرجلين" ومن خلاله كان يعلن براءة شخص ما. كذلك ترد هنا كلمة "الدَّينونةِ" التي تخص المحاكم. وبالتالي يمكن القول بأن "جَماعةِ الصدِيقِين" هي جماعة قضائية.
   تتميز "جَماعةِ الصدِيقِين" هذه بطابع آواخري. مز ١٤٩ يتحدث عن مشاركة المؤمنين في الدينونة الأخيرة "لِتَنْفيذِ الحُكْمِ المَكْتوبِ بِهم" (مز ١٤٩، ٩). هنا أيضاً المؤمن ليس منعزلاً بل هو جزء من "جماعة الأصفياء" (مز ١٤٩، ١). وما يسمى بـ "جماعة الأصفياء" هو مرادف لما يسميه مز ١ بـ "جَماعةِ الصدِيقِين". جماعة الصديقين هذه هي شعب الله الذي يشارك في الدينونة الآواخرية (قارن دا ٧، ١٨. ٢٢. ٢٧؛ حك ٣، ٧ـ٨؛ ملا ٣، ٢١؛ وبالنسبة للعهد الجديد قارن مت ١٩، ٢٨؛ لو ٢٢، ٣٠). بما يخص مز ١ فإن الكاتب لا يقصد التنافر بين الشعب العبراني والأمم، وإنما يفرق بين الصالحين والطالحين في الشعب العبراني ذاته. يشكل الخاطئون جزءاً من هذا الشعب بحسب الظاهر حيث يعتقدون بأنهم إسرائيليون كغيرهم، لكن في يوم الدين سيتبين بأنه ليس لديهم أي علاقة بجماعة الصديقين.
   إذن الحديث هنا هو عن الدينونة الآواخرية التي تتجاوز التأريخ، ولكن هل هذه الدينونة تأتي قبل الموت أم بعده؟ جواب الترجمة السبعينية هو بأن هذه الدينونة ستكون بلا شك بعد الموت، وذلك لأن هذه الترجمة تترجم الفعل العبري "لا يقومون" إلى oujk aÓnasth/sontai (هذا الفعل باليوناني يستخدم للإشارة للقيامة من بين الأموات). الفعل العبري أيضاً قد يشير للقيامة من بين الأموات، ولكن ليس لدينا في سياق العهد القديم نصوصاً تبرر هذا التفسير. وعليه شهادة المزامير تبقى مُبهمة. بالتأكيد في المزامير هنالك الرجاء في حياة أبدية مع الله، فعلى سبيل المثال مز ١ يتحدث عن "شجرة الحياة" (الآية ٣) ليشير لهذا، ولكن ربما قد تكون الإشارة هنا لعمر مديد في هذه الحياة. ولكن إذا أخذنا بنظر الاعتبار الفترة المتأخرة لصياغة هذا المزمور فإن فكرة القيامة من بين الأموات لا ينبغي استبعادها، بالرغم من إنه لا يمكننا تأكيدها بشكل جازم. على أية حال، فإن المزمور يقبل مثل هذا التفسير حتى في سياق العهد القديم. ولكن على ضوء سرّ المسيح فإن المزمور يكسب معنىً جديداً. فمن وجهة نظر بشرية فإن "طريق" يسوع ينتهي بالصليب، وهذا يتناقض تماماً مع ما يمكن تسميته بالنجاح. فقط عندما نأخذ القيامة بنظر الاعتبار يمكننا الحديث عن حياة مكللة بالنجاح. ما يسميه مز ١ "في آوانه" يقابل "ساعتي" التي يتحدث عنها يسوع ـ بحسب إنجيل يوحنا ـ مشيراً لموته وقيامته (قارن يو ٢، ٤).

شرح لاهوتي (الآية ٦)

   الطريقان اللذان ذكرهما الكاتب في القسمين الأول (الآيات ١ـ٣) والثاني (الآيتان ٤ـ٥) يضعهما في الآية الأخيرة مع بعضهما ويقارن بينهما ليساعد المؤمن على اختيار الطريق الصحيح وتجنب الطريق الخاطئ. هذه المقارنة بين الطريقين تظهر سبب "الطوبى" او "عدم الطوبى" الواردتين في بداية القسم الأول والثاني. لماذا الإنسان الصالح هو كشجرة مثمرة بينما الأشرار هم مثل العُصافة التي مصيرها الحرق؟ الآية ٦ تجيب على هذا السؤال.
   لا يوجد توازي ـ من حيث المعنى ـ بين الشطرين اللذين يشكلان الآية ٦، لأن السببين اللذين يعطيهما الكاتب يختلفان عن بعضهما. السبب الذي يجعل كل ما يصنعه الإنسان الصالح يتكلل بالنجاح هو لأن "يهوه عالِمٌ بِطَريقِ الصدِيقِين". هنا يظهر للمرة الثانية أسم الله في المزمور. المرة الأولى كانت في الآية ٢: "بل في تَوراة يهوه هَواه". بما أن الإنسان الصالح يجعل طريقه بحسب إرادة الله فإن الله يعرف هذا الطريق، لأنه بالحقيقة هو طريق الله ذاته، لا بل يجد الله ذاته على طريق الإنسان الصالح. وهذا هو السبب الحقيقي لسعادة الإنسان الصالح، ولهذا يرفض كل المظاهر الأخرى. إن ثقته كبيرة لأنه عالم بأن هذا الطريق الذي يسلكه هو طريق الله، ولهذا هو متأكد بأنه عاجلاً أم آجلاً ـ في هذه الحياة أو في تلك ما بعد الموت ـ سيقوده هذا الطريق نحو النجاح. إن الفعل "عرف"  له معنى يتجاوز المعرفة الفكرية ليصبح كمرادف لفعل "أحب". يقول م. بوبر بهذا الخصوص: "الطريق، ذلك الطريق الحيوي لهؤلاء الناس (أي الصديقين) مَعمُولٌ بحيث أنهم في كل مرحلة من مراحله يختبرون حضور الله. فبالرغم من أن أحداث الحياة، من دون هذه العلاقة مع الله، قد تبدو قاسية وعدائية، إلا أنها على نور هذه "المعرفة" وهذه العلاقة تساهم في تحقيق "النجاح" المبتغى. إذن كل "عمل" يقوم به هذا الإنسان الذي اختار طريق الله، بما في ذلك خطواته الخاطئة وفشله ستساهم في النهاية في تحقيق النجاح. يا لسعادة الإنسان الذي يسلك الطريق الذي أعده الله له وهو عالمٌ به" (M. Bubber, Die Wege. Deutung des Psalms 1, in BiKi 47 [1992] 181-183).
" ... وإِنَّ إِلى الهلاكِ طَريقَ الأَشْرار": لا يُذكرُ الله في شرح سبب فشل الأشرار، وذلك للدلالة بأنه لا حاجة لتدخل الله لأن الشرّ يعاقب ذاته. إن "الطريق" الذي كان الأشرار يعتقدون بأنه سيؤدي بهم إلى النجاح، بالواقع هو طريق بلا مخرج وبلا مستقبل. عاجلاً أم آجلاً يدرك المرء هذه الحقيقة كما يؤكد المُزمّر قائلاً: "أَلا إِنَّ مَن يَبتَعِدونَ عنكَ يَهلِكون" (مز ٧٣، ٢٧).

ترجمة من كتاب:
 (G. Barbiero, Il tuo amore è meglio della vita. Salmi commentati per la preghiera [Milano 2009] 17-31)

12
إعلان مريم العذراء لبشارة الخلاص

ترجمة الأب
ريبوار عوديش باسه

مقدمة المترجم: بمناسبة حلول عيد انتقال أمنا مريم العذراء إلى السماء، نهدي لمؤمنينا الأحبة ترجمة كتيب عن مريم العذراء لأحد أساتذتنا في المعهد الحبري للدراسات الكتابية، الأب كليمنس شتوك اليسوعي (K. Stock, La buona notizia portata da Maria [Roma 2009]). يتناول الكاتب فيه بأسلوب مبسط سيرة مريم العذراء في العهد الجديد، وخاصة كيف أنها قبلت البشارة الخلاصية وعاشتها وساهمت في تحقيقها وأعلنتها إلى أن انتقلت إلى السماء لتكون بجانب ابنها ومخلصنا الرب يسوع المسيح ولتتشفع لنا من السماء. ننتهز هذه الفرصة لتقديم التهاني القلبية للجميع، طالبين من الرب العون لنكون نحن أيضاً مبشرين بالخبر السار على مثال مريم ورسلاً وخداماً للمسيح ولكنيسته، ونكون فرحين بالرب رغم كل صعوبات الحياة ومشقاتها وآلامها، مقتدين بأمنا مريم العذراء وطالبين منها الصلاة من أجلنا نحن الخاطئين، وليمنحنا الرب أمنه وسلامه ونعمه وبركاته.
 
المقدمة: تذكر جميع الأناجيل مريم العذراء ولو بنسب مختلفة. يأتي إنجيل لوقا بالمرتبة الأولى من هذه الناحية، حيث تقدم مريم فيه بشكل أكثر حيوية. وفي المرتبة الثانية يأتي إنجيل يوحنا، وبعده إنجيل متى حيث نلاحظ بأن كاتبه لا يشير إلى أية كلمة أو شعور لمريم، ولكن يروق له تكرار عبارة "الطِّفل مع أُمهِّ مَريم" (٢، ١١. ١٣. ١٤. ٢٠. ٢١)؛ وبهذا يشدد على العلاقة الغير قابلة الانفصال بينهما، ويُبين معنى الأم للطفل المحتاج للعون. أما في إنجيل مرقس، فإن التركيز على مريم يقل بشكل أكبر. وآخر ذكر صريح لمريم يرد في سفر أعمال الرسل (أع ١، ١٤) حيث تشكل "مَرْيَمُ أمُّ يسوع" جزءاً من النواة الأولى للكنيسة الناشئة، وتصلي معها لحلول الروح القدس.
   نود هنا البحث في الأناجيل، وبالأخص في إنجيل لوقا، لتعميق معرفتنا في طريقة تقديم كل إنجيل لمريم، وأي خبر سار يُعلَن لنا من خلال شخصها. إن الإنجيلي لوقا يركز بشكل خاص على علاقة مريم بالله، أما يوحنا فإنه يركز على علاقتها بإبنها البالغ. بالحقيقة، إن كل ما يتعلق بمريم وورد ذكره في العهد الجديد لا بد أن يُنور حياتنا ويساعدنا لفهم علاقتنا بالله بشكل أفضل وعيشها بصورة أمثل. ما يرد في الأناجيل عن مريم يمكننا تلخيصه بستة محاور، على النحو الآتي: ١. ممتلئة نعمة ومباركة من قبل الله. ٢. مكرسة لخدمة الله. ٣. مصلية لله. ٤. أم الأحزان ٥. أم السعادة. ٦. أُمنا.

١. ممتلئة نعمة ومباركة من قبل الله: هذه أول عبارة توجه لمريم العذراء وتتجسد فيها، حيثُ يُحييها الملاك قائلاً: "إفرَحي، أَيَّتُها المُمتَلِئَةُ نِعْمةً" (لو ١، ٢٨). وإليصابات تتحدث إليها، قائلة: "مُبارَكةٌ أَنتِ في النِّساء! ومَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطنِكِ!" (لو١، ٤٢). نكرر هذين التعبيرين اللذين يصفان علاقة الله بمريم في كل مرة نصلي فيها "السلام لك يا مريم". "المُمتَلِئَةُ نِعْمةً" تعني بالطبع بأن الله ملئها من نعمه. وكذلك "مُبارَكَةٌ" تعني أن الله منحها بركاته. فالإنجيل يخبرنا قبل كل شيء عما فعله الله وكيف صنع العجائب من خلال مريم العذراء، وبالتالي يعلن لنا الخبر السار عن الله.
الفعل اليوناني "χαριτόω: ملءَ نعمة" يعني جَعلُ شيء ما أو شخص ما جميلاً وموضع إعجاب. إذن كان على الملاك نقل هذه الرسالة: (إن الله جعلكِ جميلة وموضع إعجاب. إنه جعلك مستحقة لمحبته. فالله التفت إليك، وإنك بالتالي في محبة الله، وهذه المحبة سترافقك دوماً في مسيرتك الإيمانية. هذا ما صنعه الله تجاهك، فهو يقف إلى جانبك. وهذه هي نعمته المجانية والغير مستحقة تجاهك). كل هذه المحبة تتجسد في مريم العذراء منذ الوهلة الأولى. وهذا ما ينطبق علينا أيضاً منذ لحظة معموذيتنا، لأننا في لحظة غطسنا في جرن العماذ نغطس أيضاً بمحبة الله، ومحبته اللامتناهية هذه ترافقنا في مسيرة حياتنا كأبناء الله. ولهذا يجب علينا أن نكون دوماً واعيين لهذه المحبة ومقدرين لها ومملؤين من السعادة والامتنان بفضلها.
أما بالنسبة للفعل "باركَ"، فأنه يعني إعطاء قوة مفعمة بالحياة، وبعث الحياة وتعزيزها. ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأن الله وحده يمكنه أن يمنح البركة بشكل كامل، لأنه هو وحده مصدر الحياة وسيدها. الله يبارك مريم ويجعلها مؤهلة لتكون أماً لابنه. ولدت مريم يسوع المسيح ابن الله، وقامت بإرضاعه وتغذيته، وتربيته والاعتناء به إلى أن بلغ سن النضوج واندمج في الحياة البشرية. وهكذا وهب الله للبشرية مخلصاً وفادياً من خلال مريم. وهي بدورها قبِلت من الله هذه البركة والإمكانية بكل تواضع وخشوع. يذكر الكتاب المقدس بأنه سبق وأن نال إبراهيم من الله البركة، لا لنفسه وإنما كي تتبارك كل البشرية من خلاله: "ويَتَبَاركُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض" (تك ١٢، ٣). وهذا ما ينطبق بطريقة أجلى على مريم، وعلى ابنها يسوع المسيح الذي من خلاله غلب الله على الموت ووهب الحياة الأبدية للبشرية. ونحن أيضاً باركنا الله، ونلنا منه حياتنا وقوانا وإمكانياتنا لكي نكون من خلالها "بركة" للأخرين. إذن كل هذه القوى والإمكانيات وُهِبت لنا لا لكي نستخدمها لإيذاء القريب وتهديده وتثبيط عزيمته، وإنما لدعمه وتشجيعه ومساعدته وجعله أن ينمو ويتقدم نحو الأفضل ويعيش الحياة بملئها.

٢. مكرسة لخدمة الله: إن الله وكّلَ مريم مَهمةً. فهي ليست شخصية دون فائدة أو ثانوية، بل أن الله بحاجة إليها. فملاك الرب يبشرها، قائلاً: "فَستَحمِلينَ وتَلِدينَ إبناً فسَمّيه يسوع" (لو١، ٣١). إذن، يجب على مريم أن تقدم لإبن الله هذه الخدمة الإنسانية الأساسية. إنها بالفعل أعظم خدمة وذات أهمية فائقة، لأن مريم من خلال تلك الخدمة تصبح أمّاً ليسوع. هذه الخدمة تتطلب من مريم تكريس ذاتها بأسرها له. إن الخدمة تُقاس بما يقدمه المرء من المساعدة لقريبه الإنسان كي يستطيع أن يحيا الحياة بملئها وكأبن الله. يذكر الإنجيل باستمرار الخدمة التي قدمتها مريم لابن الله: "فولَدَت أبنَها البِكر، فَقَمَّطَتهُ وأَضجَعَتهُ في مِذوَدٍ لأَنَّه لم يَكُنْ لَهُما مَوضِعٌ في المَضافة" (لو ٢، ٧). كما يذكر الإنجيل إمراة تصرخ من بين حشدٍ، قائلة: "طوبى لِلبَطنِ الَّذي حَمَلَكَ، ولِلثَّدْيَيْنِ رَضِعتَهما!" (لو ١١، ٢٧). مريم بعد تأملها (لو ١، ٢٩) وتَسَأُلها (لو ١، ٣٤) ورغبتها بتوضيح الأمور وفهمها، تقبل هذه الخدمة، قائلة: "هَا أَنا أَمَةُ الرَّبّ، فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ" (لو ١، ٣٨). تقول مريم نعم من دون إكراهٍ أو قلقٍ، بل بفرح شديد وبرغبة عارمة تنوي تحقيق مطلب الله منها. وهكذا اعتبرت مريم من تلك اللحظة دعوتها بأن تكون " أَمَةُ الرَّبّ" ومكرسة لخدمته شرفاً وكرامةً.
   إن الله بحاجة لنا، وهو يعطي كل واحد منا مَهمّةً. ونحن من موضعنا علينا مساعدة القريب على أن يعيش الحياة بملئها. ويتوجب علينا أن نفتح أعيُنِنا لملاحظة ما يحتاجه الآخرين. نحتاج لقلب حنون ورحوم لنستطيع تكريس أنفسنا للآخرين والتعاطف معهم. نحتاج لسواعد نشطة تعمل كل ما هو ضروري ومفيد. رأينا كيف تُقَدِم مريم نفسها بكل تواضع كـ "أَمَةُ الرَّبّ". وهكذا نحن أيضاً ينبغي أن تكون أذهاننا وقلوبنا مركزة على خدمة الرب والقريب على مثال مريم، وبالوقت عينه يجب ألا ننسى بأن الله منحنا كل إمكانياتنا ومواهبنا وقوانا، وقد كرسنا للخدمة، وبالتالي علينا دوماً التوكل عليه لإتمام رسالتنا. وعليه يجب أن نتذكر دوماً بأن ما يسندنا في خدمتنا ويجعلها خدمة لائقة وأمينة وثابتة ليس الدعم البشري وتعاطفه معنا ورضاه عنا، وإنما علاقتنا الوثيقة الله والقوة التي نستمدها منه.

٣. مصلية لله: نقرأ ونصلي وننشد مراراً وتكراراً نشيد مريم: "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي". بهذا النشيد تَذكُرُ مريم ما صنعه الله من عجائب من خلالها (لو ١، ٤٦ ـ ٤٩)، وكيف يعمل الله بطريقة شاملة لخير البشرية بأسرها (لو ١، ٥٠ ـ ٥٣)، وكيف تعامل مع الشعب العبراني (لو ١، ٥٤ ـ ٥٥). هذه الصلاة تجعلنا أن نرى الله بعيون مريم. فالله يملئ قلب مريم بالسعادة من خلال تدبيره الخلاصي، وهذا ما يدفعها للتعبير عن شدّة غبطتها وكبر بهجتها وإنشادها بصوت عالٍ نشيد الخلاص هذا. تتوجه مريم من خلاله إلى الله بكلمات امتنان وشكر وتمجيد. تُعينُنا صلاة مريم هذه على التعمق في معرفة الله. فسلوك مريم يكشف لنا كيفية اللقاء مع الله. إنه لفي غاية الأهمية تكوين صورة سليمة عن الله وفهمه بشكل صحيح. لا ينبغي علينا أن نكون مضطربين أو غير مبالين، وإنما يجب أن تكون قلوبنا وأرواحنا متوجهة نحو الله بكل محبة وإهتمام، وأن يكون لدينا رغبة قوية وجهد مستمر لمعرفة الله وفهمه بطريقة سليمة. ومعرفتنا لله هذه يجب أن تُفعِمَ قلوبنا بالحيوية وتملئهُ بالسعادة وتوجهه نحو البهجة وتمجيد الله.
   بعد ولادة الرب يسوع، يأتي الرعاة لزيارة الطفل ويخبرون عما قيل لهم عنه، ويضيف الإنجيلي لوقا بعد سرد هذا الحدث، قائلاً: "وكانَت مَريمُ تَحفَظُ جَميعَ هذهِ الأُمور، وتَتَأَمَّلُها في قَلبِها" (لو ٢، ١٩). ومرة أخرى – بعد المقطع الإنجيلي الذي يتحدث عن يسوع ذي الثانية عشر من العمر في الهيكل – يكتب الإنجيلي لوقا: "وكانَت أُمُّه تَحفَظُ تِلكَ الأُمورَ كُلَّها في قَلبِها" (لو ٢، ٥١). ولكن قبل هذه الآية يذكر الإنجيلي ما يلي: "فلَم يَفهَما ما قال لَهما" (لو ٢، ٥٠). تلك الأمور التي يشير إليها الإنجيلي هي عن يسوع وتتعلق به، أي: الولادة في المغارة، مجيء الرعاة، رسالة الملاك، سلوك يسوع ذي الثانية عشر من العمر، وإلخ. كل هذه الأحداث ليست واضحة بالحقيقة ومعانيها ليست جلية ولا يمكن فهمها بمجرد إعطاء معلومة متواضعة، كونها تحمل معاني عميقة وواسعة، ومريم باستطاعتها التقرب من هذه الاحداث فقط ومحاولة فهمها، محتفظة بتلك الأمور في قلبها ومتأملة بما يجري بصبر. لا تستثني مريم إطلاقاً الأمور التي يٌصعب عليها إدراكها على الفور، بل تحفظها في قلبها بكل صبر وإيمان، إلى أن يأتي الوقت المناسب لفهمها بشكل أفضل وأعمق. إن احتفاظ مريم بتلك الأمور في قلبها يدل على عمق كيانها وشخصيتها التأملية وصبرها وإيمانها. كل ما يحدث ليسوع يمس أعماق قلب مريم. وهي بدورها ترغب بفهمه والتعامل معه بشكل صائب ولائق. إنها تهتم بكل ذلك وتعمل من أجله، ولكنها تتأنى في الوقت ذاته. إننا نتعلم منها أهمية التأمل ودوره في حياتنا الإيمانية، فمن خلاله تصبح صلاة مسبحة الوردية – على سبيل المثال – أكثر حيوية، لأن الأحداث التي تُذكَر في هذه الصلاة تتعلق كلها بما حدث ليسوع، وبالتالي يجب حفظها والتأمل بها في قلوبنا.
   يذكر لنا العهد الجديد وللمرة الاخيرة بأن مريم كانت مواظبة على الصلاة. ففي سفر أعمال الرسل (أع ١، ١٤) يذكر لوقا: "وكانوا يُواظِبون جَميعاً على الصَّلاةِ بِقَلْبٍ واحِد، مع بَعضِ النِّسوَةِ ومَريَمَ أُمِّ يسوع ومعَ إخوَتِه". كان المنتمون الى الكنيسة الناشئة حاضرين أيضاً بجانب التلاميذ الإثني عشر. يا لها من لحظة فريدة، فقد إلتقوا بالرب يسوع القائم من بين الأموات وأستطاعوا أن يُعلنوا بأن يسوع قد إنتصر على الموت، وبأنه حيٌّ وعاد إلى الله أبيه. أعطى يسوع لهم مَهمة تبشير كل الأمم، وأمرهم بالبقاء في أورشليم، وإنتظار حلول الروح القدس. مريم بدورها تشكل جزءاً من هذه الكنيسة الفصحية والتبشيرية التي تصلي وتنتظر حلول الروح القدس. تؤدي هي أيضاً في وسطهم ومعهم الرسالة التي اُوكلها يسوع للجميع، حيث تصلي معهم لحلول الروح القدس. فبالرغم من أن مريم لها علاقة مميزة مع يسوع ومع الله، إلا أنها حاضرة دوماً وبكل تواضع بين المؤمنين بيسوع، ومُصغية لكلمة إبنها يسوع. فكم بالأحرى علينا نحن أن نقتدي بأفعال مريم وبالأخص فيما يتعلق بدورنا في الكنيسة وتعاملنا معها بكل تواضع. بالتأكيد لا يمكننا القيام بشيءٍ أفضلٍ من الصلاة في الكنيسة ومعها ولأجلها. هذه الكنيسة التي أسسها الرب يسوع القائم من بين الأموات وأوكلها مهمة إعلان بشارة الخلاص، مدعوة دوماً لتكون متحدة بالصلاة وخاصة من أجل أن يرافقها الروح القدس ليجددها على الدوام. تعلمنا مريم بأنه لا يسعنا أن نعرف يسوع من تلقاء أنفسنا، وإنما من خلال الكنيسة، ولهذا برفقة مريم وفي قلب الكنيسة وبقلب واحد ينبغي علينا أداء شهادتنا الإيمانية للرب، ونخدم الكنيسة والإنسانية.

٤. أم الأحزان: لم تضمن قرابة مريم ليسوع حياة مريحة لها وخالية من الصعوبات، بل كان عليها اختبار عذابات وآلام ومعانات وغموض ومصير مجهول. ففي الواقع، قرابة مريم ليسوع وقربها منه يرافقهما الكثير من الآلام والتحديات والصعوبات.
   قدمت مريم يسوع للهيكل بعد أربعين يوماً من ولادته، وفي تلك اللحظة كان عليها أن تصغي لكلمات شمعون، القائل: "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيام كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض. وأَنتِ سيَنفُذُ سَيفٌ في نَفْسِكِ لِتَنكَشِفَ الأَفكارُ عَن قُلوبٍ كثيرة" (لو ٢، ٣٤ ـ ٣٥). ستكون حياة ابنها موسومة بإيمان وامتنان من جهة، وبالمقاومة والرفض من جهة أخرى. وكل ما يصيب إبنها من السوء، يجرح دون شكٍ قلبها، كونها أمه.
   لم يكن مصدر آلام مريم من الآخرين فقط، بل من يسوع نفسه أيضاً! فعلى سبيل المثال، عندما سألت مريم إبنها ذي الثانية عشر من العمر: "يا بُنَيَّ، لِمَ صَنَعتَ بِنا ذلك؟ فأَنا وأَبوكَ نَبحَثُ عَنكَ مُتَلَهِّفْين" (لو ٢، ٤٨). إبتعد يسوع ببساطة ولم يفسر سبب تصرفاته، بل رافق مريم ويوسف من دون أن يقول لهما شيئاً. لم تكن مريم متهيئة ومستعدة لكل شيء، ولم تكن متفقة دائماً مع إبنها. كان يسوع ينتظر منها الكثير وكان عليها تحمل الكثير. يشير الإنجيل بأن أم يسوع وأقاربه كانوا يترددون إليه غالباً رغبة منهم برؤيته طيلة مسيرته التبشيرية؛ بينما كان يسوع من جانبه يتهرب منهم، قائلا: "مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله هو أَخي وأُخْتي وأُمِّي" (مر ٣، ٣٥). سبق وأن قال مرقس في ذات الفصل ما يلي: "وبَلَغَ الخَبَرُ ذَويه فَخَرَجوا لِيُمسِكوه، لأَنَّهم كانوا يَقولون: إنَّه ضائِعُ الرُّشد" (مر ٣، ٢١). هنا يوجد بعض الغموض. عمل يسوع والمخاطر التي كان يواجهها (مر ٢، ٧؛ ٣، ٦. ٢٢) كانت تقلق أقاربه وتثير مخاوفهم عليه. وكأنهم يفكرون بهذه الطريقة: (عندما كان يسوع في الناصرة لم يكن هنالك مشكلة. نود إرجاعهُ إلى الناصرة لتصبح حياته بمأمن). يسوع يرفض هذا المنطق، ويفضل الاستمرار بالعمل بمشيئة الآب وإتمام الرسالة المُوكلة إليه، والتي بالفعل تضع حياته في خطر، وفي النهاية يُعَلَقُ على الصليب. وأُمه مريم من جانبها تشاركه كل هذه المراحل وكل هذه العذابات والآلام.
   وفي نهاية المطاف تقف مريم تحت خشبة صليب يسوع، إلا أنها لا تستطيع تقديم أية معونة له ولا تقدر على تغيير أي شيء. تنظر الى ضعف إبنها والإهانات التي ألحقت به والآلام التي كان عليه تحملها. تفتكر بأن الرفض قد انتصر ورسالة يسوع قد انتهت بالفشل فعلياً. لم يتدخل الله، واستمر يسوع في طريقه الذي سينتهي في القبر. كانت مريم في تلك اللحظة في عتمة كاملة، وقد إلتجئت إلى الإيمان. كان إيمانها يكمن في أن الذي حفظته في قلبها حتى الآن لا يزال ذي قيمة ومغزى، وبأن يسوع يبقى إبن العَلِيِّ (لو ١، ٣٢)، والمخلص والمشيح والرّب (لو ٢، ١١).
   إختبرت مريم معنى الآلام والعتمة والإيمان. إن المشهد الذي يسمى الرحمة "Pietà" والذي فيه تحمل مريم بين ذراعيها ابنها الميت والمنزل من الصليب، يُظهِر كم عانت مريم، ولماذا تدعى أم الأحزان. بتحملها لكل هذه الآلام والعذابات، أصبحت مريم قريبة من كل الذين يتألمون ويتعذبون في كل زمان ومكان. ونحن اليوم مدعوون بأن نتقاسم معها آلامنا، وبجانبها ينبغي علينا ألا نفقد الإيمان والرجاء بالله الذي يقود البشرية نحو الخير والمحبة والخلاص.

٥. أم السعادة: كان يجب على ملاك الرب إبلاغ مريم قبل كل شيء بما يلي: "إفرَحي، أَيَّتُها المُمتَلِئَةُ نِعْمَةً، الرَّبُّ مَعَكِ" (لو ١، ٢٨). قبل كل الأشياء الأخرى يخاطب الله مريم بطريقة شخصية للغاية ويدعوها للسعادة. ينبغي أن يملئ قلبها من السعادة، يجب أن تتصف حياتها ودعوتها بالسعادة. هذه الكلمة الأولى، أي "إفرَحي" ليست دعوة بلا معنى وبلا أساس، لأن كل ما سيأتي بعد هذه الكلمة يدعو للسعادة، فهي ممتلئة بنعمة، والله معها، ومدعوة لتصبح أُمّاً لإبن الله، والله يمنح من خلالها للبشرية مخلصاً يسوع المسيح. كلما تأملت مريم بكل هذا في قلبها بشكل أكبر واكتشفت شيئاً فشيئاً معناه، كلما أمتلأ قلبها بمزيد من السعادة والإمتنان.
أما نحن ففي الكثير من الأحيان نجد أنفسنا في عتمة وتكون أفكارنا مشوشة، وهذا ما يدفعنا بأن نكون غير مقتنعين وغير راضين، وبالتالي لا تبرز في حياتنا السعادة والامتنان.
بدأ ملاك الرب رسالته بكلمة "إفرَحي"، أما إليصابات فإنها ختمت حديثها لمريم بهذه الكلمات: "فَطوبى لِمَن آمَنَت: فسَيَتِمُّ ما بَلَغها مِن عِندِ الرَّبّ" (لو ١، ٤٥). تعلن إليصابات بأن مريم طوباوية وممتلئة من سعادة فائقة النظير، لأنه من خلالها يحقق الله التدبير الخلاصي لكل الخليقة. إليصابات تشير إلى أن إيمان مريم بكلمة الله الخلاّقة يُعد أساس لهذه الطوبى. وهذا ما يتعلق بنا أيضاً، لأن إيماننا ينبغي أن يكون الطريق للسعادة، كونه يربطنا بعلاقة وثيقة بالله.
   وبعد كلام إليصابات، تتكلم مريم ذاتها وتنشد قائلة: "تُعَظِّمُ الرَّبَّ نَفْسي وتَبتَهِجُ روحي بِاللهِ مُخَلِّصي لأنَّهُ نَظَرَ إلى أَمَتِه الوَضيعة" (لو ١، ٤٦ - ٤٨). لم تغمر مريم بالسعادة على الفور. ففي الواقع، لا يمكن أن تأمر الإنسان بأن يكون سعيداً، وإنما ينبغي أن يأخذ وقته كي تنبع السعادة من داخله وتنضج. وبهذا الشكل تصبح السعادة أقوى ويُعبر عنها ببهجة وبصوت عالٍ أمام الله. وهكذا أدركت مريم بأن أساس سعادتها هو الله والتفاتته نحوها، ونظرته الحنونة والمملؤة بالمحبة تجاهها، ومن خلالها لكل البشرية. وهذا ما تشير إليه مريم في نشيدها، حيث تذكر كل الأسباب التي هي مصدر سعادتها وبهجتها.
   مريم في نشيدها تتوجه بالحديث نحو إليصابات وتُجيبُها، قائلة: "لأَنَّه نَظَرَ إِلى أَمَتِه الوَضيعة. سوف تُهَنِّئني بَعدَ اليَوم جَميعُ الأَجيال لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة" (لو ١، ٤٨ - ٤٩). بالتحديد قبل هذا النشيد، كانت إليصابات قد دعتها: مريم الطوباوية (لو ١، ٤٥). وفي إجابتها لإليصابات، تشير مريم بتعبيرٍ جريء إلى المستقبل، وتعلن بأن إليصابات بدأت بشيءٍ لن يكون له نهاية. إليصابات هي الأولى في جوقٍ عظيم يدعو مريم في كل زمان ومكان بالطوباوية، ويُعلن بذلك امتلائها بالسعادة اللامتناهية. ومجدداً نرى بأن الأساس هو الله. فالله بقوته صنع أموراً عظيمة في شخص مريم. أنه اختارها وأعطاها النعمة والقدرة لتصبح أماً لابنه. نشيد مريم يبين الصفة المميّزة لشخصية مريم بالنسبة لكل الأجيال، فهي مميزة بسعادتها وطوباويتها.
نحن اليوم مدعوون للتسأل فيما إذا كانت نظرتنا لمريم وعلاقتنا بها مرتكزة على هذا. إن مريم هي فعلاً طوباوية ومصدر للسعادة. فكلما تعمقنا بتأملنا بما صنعه الله بقدرته ومحبته تجاه مريم، كلما نلنا نحن أيضاً هذه السعادة وسترافقنا في مسيرتنا الإيمانية أكثر فأكثر.

٦. أُمنا: يذكر إنجيل يوحنا ما يلي: "فرأَى يسوعُ أُمَّه وإِلى جانِبها التِّلميذُ الحَبيبُ إلَيه. فقالَ لأُمِّه: أَيَّتها المَرأَة، هذا ابنُكِ. ثمَّ قالَ لِلتَّلميذ: هذه أُمُّكَ. ومُنذُ تِلكَ السَّاعةِ استَقبَلَها التِّلميذُ في بَيتِه" (يو ١٩، ٢٦ - ٢٧).
   يلتفت يسوع أولاً لأمه، ويعطيها مهمة جديدة وعظيمة، إنها بالفعل لرسالة: ينبغي عليها أن تُصبحَ أمًّا للتلميذ الذي يُحبه يسوع (قارن يو ١٣، ٢٣؛ ١٨، ١٥ وألخ؛ ١٩، ٢٦؛ ٢٠، ٢ ـ ٨؛ ٢١، ٧ ـ ٢٠). بالرغم من أن يسوع يحب هذا التلميذ بشكل مميز، إلاَّ أنه أعلن محبته لجميع التلاميذ (يو ١٣، ٣٤؛ ١٥، ٩). الكلمات المُوجهة من قبل يسوع لأمه توازيها من جهة أخرى الكلمات التي يوجهها للتلميذ، حيث ينبغي على هذا التلميذ قبول مريم أم يسوع ويعتبرها أمّاً له.
إذن يسوع نفسه هو من يوحد أمه مع تلميذه. أنه يقوم بذلك في الساعة الأخيرة من حياته، وهو معلق على خشبة الصليب، حيث تبلغ محبته لخاصته إلى ذروتها (يو ١٣، ١). وبعدئذ يعلن الإنجيلي، قائلاً: "كانَ يَسوعُ يَعلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيءٍ قد انتًهى" (يو ١٩، ٢٨)، أي أن الرسالة المُوكلة إليه من قبل الله الآب قد تمت (قارن: يو ٤، ٣٤؛ ٥، ٣٦). عندما يوحد يسوع بين أمه وتلميذه، لا يتمم فقط وعده بمحبته لخاصته وجعلها تصل إلى ذروتها فحسب، وإنما يؤدي أيضاً آخر مهمة ملقاة على عاتقه من قبل الآب أي تتميم كل شيء. فلنحاول فهم أساس وأهمية هذه الوحدة بين أم يسوع وتلميذه. بالتأكيد قد تتعلق القضية أيضاً بما يجب أن يقدمه تلميذ يسوع من العناية لأم يسوع التي بقيت الآن لوحدها، ولكن هذه العلاقة بين أم وإبنها لا ينبغي أن تكون فقط من طرف واحد. فقبل أن يقدم إبنا ما خدمة معينة لأمّه، تقوم هي بالكثير تجاههُ. كيف علينا إذن أن نفهم هذه العلاقة بين الأم والتلميذ الذي أصبح كابن لها؟ بالنسبة لإنجيل يوحنا هذه العلاقة تتصف بحقيقة أن أم يسوع لا تدعى أبداً باسمها "مريم"، وإنما منذ أول ذكر لها (يو ٢، ١) تدعى دائماً "أُمُّ يسوع"، أو "الأم". ومن جهة أخرى، لا يوضح الإنجيل المقصود بمصطلح "الأم". إن هذا المصطلح يجري التعامل معه كبقية المصطلحات الجوهرية في هذا الإنجيل، مثل: الماء، الخبز، النور، الباب، الراعي، الطريق، الحياة، الكرم، والخ. هذه المصطلحات لا يشرحها الإنجيلي، ولكنه يستخدمها كتعابير أساسية. ولهذا كل قارئ منذ البدء ينبغي أن يعرف معانيها وقيمتها.
   مصلطح الأم مميزٌ، لأن الأم تعطي الحياة، وهي تكرس ذاتها لخدمة الحياة بشكل أساسي وغير قابل للتبديل. ليس بمقدور أي مرءٍ ولا حتى إبن الله أن يولد ويبدأ حياته وينمو من دون أم. الأم هي الأقرب إلى الحياة، ولهذا هي أهم حتى من الخبز والماء والنور.   
   مريم هي أم يسوع، وبالتالي وجودها له دورٌ أساسيٌ لحياة كل تلميذٍ ليسوع. فمن خلالها ومن خلال خدمتها ينبغي علينا أن نقبل ذاك الذي بواسطته تُفتَح لنا آفاق الحياة بملئها. بخصوص يسوع كونه الكلمة المتجسد وابن الله، يقول الإنجيل: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبناء الله" (يو١، ١٢). فكوننا أبناء الله، لدينا حياة جديدة غير قابلة للفناء، وبواسطة إبن الله ننال هبة الدخول بالشركة مع الله الآب. وعندما نقبل مريم كأمنا، نعترف بما وُهِبَ لنا بواسطة إبنها وبواسطتها. ونؤدي الإكرام لله ذاته حينما نعترف وندرك الطريق الذي اختارهُ، وعندما لا نغض النظر عن أحد، وإنما نعترف بالأشخاص والمهمات الملقاة على عاتقهم، كونه الله ذاته إختارهم وأمرهم ليعملوا من أجل حياة وخلاص الكل. إن يسوع، وهو معلقٌ على خشبة الصليب، أعطانا مريم كأمّ لنا، مُتمِماً بذلك الرسالة التي أوكلها إياه الله الآب.

الخاتمة: هنالك مقاطع قليلة في الإناجيل تتحدث عن مريم. ولكن هذا القليل الذي ورد ذكره عما صنعه الله من خلال مريم، وكلما يتعلق بها وبإبنها غنيٌ جداً بمعانيه، وهو منهل سعادة غير متناهية. فإذا أردنا الإنضمام إلى الذين يدركون ويُقيّمون في أعماق كيانهم بما صنعه الله من العظائم بواسطة مريم، فسننضم بالتالي إلى هؤلاء الذين من خلالها وبالاقتداء بها والعمل بوصايا ابنها وإعلان بشارة الخلاص، سينالون السعادة وسيُعتبرون طوباويين على مثالها ومثال ابنها وربنا ومخلصنا يسوع المسيح.

https://www.libreriadelsanto.it/libri/9788873574743/la-buona-notizia-portata-da-maria.html

13
حصول الأب عماد خوشابه جرجيس على
شهادة الدكتوراه في القانون الكنسي الشرقي

حصل الأب الفاضل عماد خوشابه جرجيس على شهادة الدكتوراه بتفوق في القانون الكنسي الشرقي بعد مناقشة أطروحته الموسومة "قوانين عبديشوع الصوباوي ١٣١٨م عن الشماسية والكهنوتية وعلاقتها بالشرع العام والشرع الخاص الكلداني"، وذلك في المعهد الحبري للدراسات الشرقية Pontificio Istituto Orientale في روما، مساء يوم الإثنين المصادف ٢٠ حزيران ٢٠١٦. هذا وقد حضر جلسة المناقشة سيادة المطران مار ربان القس، راعي إيبارشية العمادية وزاخو، وسعادة سفير جمهورية العراق لدى الجمهورية الايطالية الدكتور احمد بامرني، ولفيف من الكهنة والرهبان والراهبات، وزملاء الدراسة والأقارب والأصدقاء. 
الأب عماد خوشابه جرجيس من مواليد ١٩٧٨، وينتمي لإيبارشية العمادية وزاخو. دخل عام ١٩٩٥ المعهد الكهنوتي/قسم التحضيري، وأنتقل عام ١٩٩٧إلى المعهد الكهنوتي/قسم الكبار ليباشر دراسته في كلية بابل الحبرية للفلسفة اللاهوت (بغداد). أرتسم شماساً إنجيلياً بتاريخ ١٦ تشرين الثاني ٢٠٠٣، وكاهناً بتاريخ ٨ حزيران ٢٠٠٤ بوضع يد سيادة المطران سيادة المطران مار ربان القس. خدم لمدة ٦ سنوات في عدة خورنات إيبارشية العمادية. بعث لروما بتاريخ ٢١ آب ٢٠١٠ لتخصص بالقانون الكنسي الشرقي. حصل على الماجستير في هذا المجال عام ٢٠١٣.
والجدير بالذكر بأن الأب عماد خلال السنة الأكاديمية ٢٠١٥ ـ ٢٠١٦ وبجانب دراسة الدكتوراه في القانون الكنسي الشرقي، درس مادة دعاوى القديسين Cause dei Santi ليحصل على شهادة الدبلوم في هذا المجال. الحاصلون على هذا التخصص بإمكانهم التعاون مع مجمع دعاوى القديسين  Congregazione delle Cause dei Santi لمتابعة ملف دراسة إعلان مؤمن ما، طوباوياً ومن ثم قديساً.
نهنئ الأب الدكتور عماد أجمل التهاني بهذه المناسبة، متمنين له الموفقية والنجاح الدائم في مسيرته الكهنوتية والأكاديمية لخدمة كنيستنا الكلدانية الحبيبة وبلدنا الغالي عراق.


صفحات: [1]