عرض المشاركات

هنا يمكنك مشاهدة جميع المشاركات التى كتبها هذا العضو . لاحظ انه يمكنك فقط مشاهدة المشاركات التى كتبها فى الاقسام التى يسمح لك بدخولها فقط .


الرسائل - عبد الحسين شعبان

صفحات: 1 2 [3]
1001
الصراع المعلن.. الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً
المفارقات الكبيرة بين الرأسمالية المتوحشة والرأسمالية ذات الوجه الإنساني!


عبد الحسين شعبان
منذ أن اندلعت الأزمة العالمية الاقتصادية والمالية في خريف العام 2008 والعالم يزداد تخبطاً في تفسير أسبابها ونتائجها، ليس على أساس أوضاع الحاضر حسب، بل تأثيراتها وتداعياتها على أوضاع المستقبل، خصوصاً وقد دفعت أعداداً كبيرة من البشر الى البطالة بسبب تقليص وضيق سوق العمل وميادينه.
وعلى الرغم من أن أطياف ماركس حسب كتاب جاك ديردا قد عادت الى المخيّلة، بل وجدت طريقها الى البحث، لا في خطط التنظير حسب، بل على طاولات التشريح ومناضد رؤوساء كبار المؤسسات المالية والاقتصادية، لاسيما مدراء البنوك وشركات التأمين الكبرى، فإن الهدف الأساس كان إيجاد حلول ومعالجات سريعة تمنع من الانهيار الاقتصادي الشامل والتدهور لعموم النظام الرأسمالي، وهو ما تحسّبت له قيادات الدول الرأسمالية الكبرى.
 وإذا كان كتاب رأس المال الذي كتبه ماركس في ستينيات القرن التاسع عشر قد اعتبر متحفياً لعصر مضى، الاّ أنه أصبح الأكثر حضوراً في الوقت الحالي لتشخيص أسباب الظاهرة ومعرفة أبعاد الأزمة والبحث في نتائجها الخطيرة. وظلّت الماركسية الأكثر قدرة في اكتشاف قوانين الرأسمالية، بل يمكن أن نطلق عليها أنها علم الرأسمالية بامتياز في حين أن علم الاشتراكية ظل علم المستقبل الغامض، ولعل فشل التجارب الاشتراكية أدّى الى تصدّع الكثير من القناعات، بل وانهيارها لدرجة الكفر بالجدلية المادية والتاريخية. لكن ما حدث من انهيار اقتصادي ومالي لمصارف ومؤسسات مالية كبرى وشركات تأمين عملاقة، جعل المراجعة واجبة وضرورية  حتى لبعض من تخلّوا عن الاشتراكية أو طلّقوها، فهم يريدون التحالف مع المنتصر، لاسيما بعد أن شعروا بظفر الرأسمالية على المستوى العالمي وانهيار الاشتراكية المدوّي، وهي صورة أواخر الثمانينيات التي ظلّت مهيمنة.
   وبعد بضعة أشهر من تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية صدر كتاب مهم لثلاث اقتصاديين بعنوان Good Capitalism, Bad Capitalism and the Economics of Growth and Prosperity  " الرأسمالية الحميدة والرأسمالية الخبيثة واقتصاديات النمو والرخاء" وهو من تأليف روبرت أي ليتان وويليام جيه باومول وكارل جيه سكرام، والكتاب هو من اصدارات جامعة ييل الامريكية، وبقدر دفاعه عن الرأسمالية ومستقبلها، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن جوانب ضعفها وهشاشتها، على الرغم من محاولات تلميع صورتها المستقبلية .
   لقد ساد الاعتقاد لحد الرسوخ واليقينية أن الرأسمالية انتصرت بعد تهاوي الأنظمة الاشتراكية إثر انهيار جدار برلين العام 1989 وبعد سلسلة تراجعات وانتكاسات أصابت النظام الاشتراكي أو الاشتراكية المطبّقة، وبشكل خاص منذ أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ونظّر لتلك الأطروحات مفكرون مثل فرانسيس فوكوياما الذي قال بفكرة نهاية التاريخ وصموئيل هنتنغتون الذي نظّر لفكرة صدام الحضارات وصراع الثقافات، وكرّست بعض تلك الأطروحات وطورتها عدوانياً ما حصل في 11 أيلول (سبتمبر) العام 2001 من أعمال ارهابية وإجرامية في الولايات المتحدة، الأمر الذي دفع الى الاعتقاد بحتمية الصراع، لاسيما بعد انهيار الشيوعية الدولية على مستوى المجابهة المباشرة وانتهاء عهد الحرب الباردة واختراع الاسلام عدواً أساسياً لا يمكن التفاهم معه، لأنه دين يحض على الارهاب والعنف، مثلما روّجت وسائل الدعاية الآيديولوجية المتنفذة.
   هكذا ساد الاعتقاد ان الرأسمالية هي الفصل الأخير من الصراع الدولي، وبدأ الحديث عن فرضيات اقتصاد السوق وفشل القطاع العام والدعوة الى تشجيع وتعزيز الملكية الفردية لوسائل الانتاج وعلى المستوى العام، خصوصاً وأن دول العالم البالغة 192 دولة لم يعد فيها ما يمنع من ترويج واعلاء شأن الملكية الفردية ودور الفرد، باستثناء كوبا وكوريا الشمالية، ومع ذلك فإن المرء يواجه صعوبة في تفهّم مسألة نجاح الرأسمالية، لاسيما بعد ازمتها الخانقة والتي ما تزال مستمرة، وقد تدوم الى عامين آخرين حسب أكثر التقديرات تفاؤلاً، علماً بأن هذه الأزمة هي الأكثر عمقاً وشمولاً وتأثيراً من أزمة العام 1929-1933 التي نجمت عن الكساد والانكماش الاقتصادي ومن أزمة السبعينيات التي ترافقت مع ارتفاع أسعار النفط.
   يركز كتاب الاقتصاديين الثلاثة على أربعة أنماط من الرأسمالية، الاولى- هي رأسمالية النخبة، الاوليغارشية، التي تتركز بيدها الموارد والسلطة وهي رأسمالية خبيثة حسب الوصف الذي يقدّمه الكتاب، ولعل أبرز الأمثلة لذلك هو رأسمالية روسيا الجديدة وبعض دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما يدرج  المؤلفون بعض دول النفط في منطقة الشرق الأوسط.
   وهذ الرأسمالية لا يهمها تعزيز التنمية بمعناها الشامل، الانساني السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحقوقي والقانوني، بقدر ما يهمّها تعظيم امكانات القابضين على الموارد والسلطة، وتحويل الارباح الى مصارف أجنبية وجني الارباح السريعة، الأمر الذي يعاظم من حدّة التوتر الاجتماعي والطبقي حيث يزداد أصحاب الثروة والسلطة غنىً، ويحرم الغالبية الساحقة منها ويزدادون فقراً وبؤساً.
أما النوع الثاني من الرأسمالية فهي رأسمالية الدولة، ولكن تختلف عن رأسمالية الدولة "الشيوعية" التي طبقها لينين بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية في روسيا، لأن هذه الأخيرة تمتلك وسائل الانتاج، في حين أن رأسمالية الدولة تعتمد على القطاع الخاص الذي يكون هو المتحكّم بالوسائل الاساسية للانتاج، وتقوم الدولة بتوجيه الموارد الى القطاعات التي يمكن أن تتصوّر أو تفترض نجاحها مثل ملكية الدولة للبنوك، ومثال رأسمالية الدولة الصين الشعبية الاشتراكية حيث تسيطر على الجزء الأكبر من الموارد الاقتصادية، أما في الهند فإن الدولة تسيطر على 75 % من النظام المصرفي. يعتقد البعض أن مثل هذه الرأسمالية يمكنها النجاح في إحداث النمو الاقتصادي وإنْ كان النمو يختلف عن التنيمة الشاملة، ومثال ذلك هو بعض دول جنوب شرقي آسيا، التي استخدمت التكنولوجيا لخدمة الصناعة، واستخدمت العمالة المتعلّمة الرخيصة الكلفة، في الوقت نفسه مع التوسع في قطاع التجارة.
وقد يؤدي هذا النمو الى التوسع السريع، لكنه من المحتمل أن يتعثر، وإذا كان  نموذج سنغافورة  هو الأقرب الى الذهن، فلأنها هي الاكثر تقدّماً في مجال الصناعة. ولكن من نقاط ضعف الرأسمالية الموجهة هي أن البيروقراطية تعتبر كابحاً للتطور، وقد عانت دول جنوب شرقي آسيا من الأزمة المالية والاقتصادية، رغم محاولات منح استثمارات كبيرة من صناعات عجزت طاقاتها عن استيعاب تلك الاستثمارات، فتعرضت الى الاختناق الذي كاد أن يصرعها، ولم تنفع معها الرأسمالية الموجهة.
   النمط الثالث من الرأسمالية هو رأسمالية الشركات الكبرى، أو ما يمكن أن نطلق عليه الرأسمالية الادارية، حيث يهيمن قطبان أساسيان، الأول: الشركات الكبرى مثل شركات السيارات والحديد والصلب وغيرها.  أما الثاني فهو الذي تسيطر عليه حكومات أو تجمعات كبرى.
   هذان النمطان يقودان الى: وفرة ناتجة عن ضخامة حجم الانتاج، ثم وفرة في الموارد المالية والبشرية، لتطوير وتعزيز النمو الاقتصادي، الناجم أيضاً عن وفرة الرأسمال الذي يمكن ضخّه في الاقتصاد، وهو ما يؤدي الى الابتكار والتجربة.
   إن غرب أوروبا والولايات المتحدة واليايان، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية كانت مثالاً لنموذج رأسمالية الشركات الكبرى، وقد وصف المفكر الاقتصادي الكبير صاحب نظرية النمو الاقتصادي جون كنيث غالبرايت ( الاستاذ في جامعة هارفارد) هذه الشركات العملاقة، بأنها دول صناعية جديدة.
أما النموذج الرابع، فالمقصود به هو الرأسمالية الريادية (المبتكِرة)، الذي يضم شركات صغيرة مستقلة، لكنها مخترِعة وغير تقليدية وتقوم بتغيير الكثير من أنماط سلوك ما اعتاد الناس عليه، عبر الابتكارات التي يكون لها حصة الاسد من النمو الاقتصادي الطويل الامد.
إن ترويج هذه الرأسمالية واستنادها الى موضوع الاختراعات الحديثة يقوم على إمكانية، استغلالها تجارياً، ولعل ذلك سيؤدي الى تغييرات جذرية، وهو ما أحدثته المبتكرات والاختراعات، في حياتنا خلال القرنين ونيّف الماضيين مثل المحرك البخاري والكهرباء والسيارة والطائرة ومكيّف الهواء والكمبيوتر والبرمجيات وشبكة الانترنت والثورة الرقمية (الديجيتل) وغيرها من انجازات الثورة العلمية التقنية، وقد اعتمدت هذه الاختراعات والمبتكرات على مبادرين ورياديين لكن ذلك يحتاج الى ربطها باقتصاديات أكبر، حيث تقوم شركات على الابتكار وأخرى على تحسين نوعية المنتج وتسويقه وانتاج السلع والخدمات الناتجة عنه من الافكار الجديدة وعلى مستوى كبير من الارباح.
إن جزءًا من أسباب الأزمة يعود الى هذه الريادية المدمِّرة في القطاع المالي وبخاصة التمويل الباهظ الثمن، ويلاحظ أن الأزمة بدأت بقطاع العقارات ثم امتدّت الى بقية القطاعات الاقتصادية، حيث كانت موجتها الأكثر حدة وسرعة في القطاع المصرفي والتأميني، الأمر الذي احتاج الى موازنة جديدة وإعادة تقييم الاولويات بما يتناسب مع قدرة السوق وحاجته على استيعاب المبتكرات، ولذلك اضطرت دول الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة واليابان وغيرها الى دعوة " الدولة" للتدخل وإنقاذ الشركات والمصارف الكبرى، وكان ذلك ضرورياً لمنع الاقتصاد من الانهيار.
ولعل التنمية بمفهومها الشامل والانساني التي ينتظر منها إحداث الرفاه والرخاء المادي والمعنوي على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقانوني والحقوقي، لا بدّ أن تركّز على دور الفرد ككيان مستقل وعلى دور المجتمع ككل وبخاصة المجتمع المدني والنقابات والاتحادات المهنية، إضافة الى دور القطاع الخاص، بما فيه الشركات كوحدات مستقلة.
وإذا كانت الرأسمالية الريادية "الحميدة" كما يطلق عليها المنظرون الاقتصاديون الغربيون، هي الأكثر تأثيراً في دفع عجلة التنمية، لاسيما بتوفير فرص الابتكار وخلق أسواق جديدة، فإن الأمر بحاجة الى وقفة جديدة لمراجعة قوانين تطور الرأسمالية، بما فيها قانون القيمة الزائدة وقانون التطور الاجتماعي المتفاوت، لمعرفة أن الأزمة مرتبطة وصميمية بطبيعة الرأسمالية، ولا يمكن الفكاك منها، على الرغم من قدرة الرأسمالية على تجاوزها وتجديد نفسها، لكنها ستكون مؤثرة وعميقة كلّما ازداد التفاوت الاجتماعي عمقاً، وكلما تعاظم الغنى والفقر، لدرجة لا يمكن المواءمة بينها أو ايجاد تسوية مؤقتة لحل الصراع بينهما، وهنا سوف لا يكون الفرق واضحاً بين رأسمالية متوحشة أو رأسمالية ذات وجه انساني، فالأمر سيّان طالما ظل الاستغلال بحق الانسان داء عضال !!.


1002
الحريات الأكاديمية   


 
 
عبدالحسين شعبان
لا يمكن الحديث عن الحرية الفكرية في الإطار الجامعي والأكاديمي بمعزل عن النظام التعليمي والتربوي، وبمعنى أوسع لا بدّ من تناول استراتيجياته ومنطلقاته . وقبل نحو أربعة أعوام شاركت في ندوة مهمة في عمان عن الحريات الأكاديمية نظّمها مركز “عمان لدراسات حقوق الإنسان”، وانبثقت عنها منظمة نقابية للدفاع عن الحريات الأكاديمية، ارتباطاً مع عملية التنمية بمعناها الاجتماعي الشامل .

لقد نما التعليم الجامعي بشكل كبير وبجميع مستوياته في الوطن العربي، سواء خلال المؤسسات الجامعية ومراكز الأبحاث والدراسات العلمية أو عدد الطلبة أو الأساتذة الجامعيين . ومع هذا النمو برزت مشكلات نوعية، لعلّ أهمها موضوع الحرية الفكرية في إطارها الجامعي والأكاديمي، ولم يرافق التطور الكمّي في التعليم الجامعي تطوّر نوعي، لا في أقطار اليُسر (الغنية بالنفط) ولا في أقطار العُسر، بل إن بعض أقطار اليُسر بددت الثروات الهائلة على حروب ومغامرات وصراعات داخلية واستخدامات غير رشيدة ولاعقلانية وغيرها .

وخلال السنوات العشرين الماضية ازداد عدد الجامعات العربية ومراكز الأبحاث الأكاديمية، زيادة ملحوظة بالنسبة إلى الجامعات الرسمية أو الأهلية أو الجامعات الأجنبية، كما ارتفع عدد الطلبة بشكل كبير جداً، وكذلك عدد الأساتذة، وبخاصة من  حملة شهادة الدكتوراه، رغم التسرّب الذي حصل في السنوات الأخيرة، بزيادة هجرة العقول والأدمغة المفكرة .

وعلى الرغم من التطور الذي حصل في السنوات الأخيرة واتساع رقعة الحريات، فإن بعض المحاولات الجديدة  القديمة لاحتواء وتأطير أساتذة الجامعات والباحثين الأساسيين في مراكز الأبحاث والدراسات ظلّت مستمرة، لاسيما ضمن الاتجاه السياسي أو العقائدي أو الديني أو المذهبي السائد والمتنفذ، تحت واجهات وذرائع مختلفة، علماً أن تلك المحاولات قوبلت بعزوف شديد من جانب الأساتذة والباحثين .

وولّد الانغمار في المهمات الوظيفية والابتعاد عن الأضواء لدى الأكاديميين والعلماء شعوراً باليأس والانكفاء على الذات والانفصام عن المجتمع أحياناً، خصوصاً في ظل أنظمة عتيقة، وإدارات بيروقراطية، ومناهج لا تستجيب لروح العصر، وغياب أو ضمور للحرية الفكرية، وضعف المبادرة، وعدم تشجيع حرية البحث العلمي والأكاديمي .

لقد ظل الباحث الأكاديمي والأستاذ الجامعي يعاني القيود المفروضة عليه للالتزام بالمناهج “المقررة” التي غالباً ما تكون ذات اتجاه محدد “ضيق”، ومن الرقابة المختلفة التي جعلته يعيش في بعض البلدان تحت هاجس الرعب . وظلت حرية البحث العلمي محدودة، إضافة إلى الأنظمة الجامعية الإدارية، كالتعيين والدوام والإجازات والمرض والترقيات والتفرغ، وهذه كلها معوّقات أمام الباحث، وعامل كبح يحدّ من إبداعه، فضلاً عن ضعف الحوافز في الكثير من الأحيان، وتقديم الولاء كشرط أساس لتولّي المسؤوليات والترقيات، وذلك على حساب الكفاءة والإخلاص للوطن .

وانتشرت العديد من الاعتبارات الجديدة القديمة، التي سبق للكثير من البلدان العربية أن سلكت طريقاً يساعد على تخطّيها أو يخفف من تأثيراتها السلبية بعد أن عانت منها في حقبة سابقة، كالتطرف الديني والطائفية والشوفينية والعشائرية والجهوية وغيرها، وقد لعبت الاعتبارات الحزبية والسياسية الضيقة، دوراً كبيراً في التأثير بحرية الجامعات والبحث العلمي، وفي الاستفادة من الطاقات والكفاءات العليا لحسابات بعيدة كل البعد عن التقييمات العلمية والأكاديمية . وجرى تفريغ الجامعات ومراكز الأبحاث تدريجياً من الأغلبية الساحقة من أصحاب الكفاءات والمواهب، إذا كانت لا تتفق مع الاتجاه السائد، ما أدى إلى تدهور خطير للحرية الفكرية وهبوط المستوى الدراسي .

وبسبب غياب الحرية الفكرية وفقدان حرية التعبير، فإن هجرة كبيرة شهدتها البلدان العربية والبلدان النامية عموماً للعقول والأدمغة المفِكرة Brain Drain، إضافة إلى تأثير ذلك في الطموح الشخصي للأستاذ والباحث (موضوعياً وذاتياً)، وإغراءات أخرى دفعت بأصحاب الكفاءات إلى ترك أوطانهم، حيث يتسرّب سنوياً العديد من العلماء والنابغين والباحثين وأساتذة الجامعات بحثاً عن الحرية الفكرية والأمان، وتحسين أوضاعهم من الناحية الإبداعية والشخصية، من خلال الفرص التي تتاح لهم خارج بلدانهم، وفي نزيف خطير وهدر كبير للكفاءات والموارد .

إن علاقة الباحث بالسلطة هي علاقة ملتبسة في الأغلب، خصوصاً ما يتعلق بحريته في البحث والتعبير واستقلاله، فضلاً عن القيود المفروضة عليه التي أصبحت أكثر تعقيداً وارتياباً، وعدائية . ومؤخراً استشكل الأمر مع جماعات التطرف، فأصبح هناك شكل من العداء بينها وبين الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات الأكاديمية والفكرية، لعدم قبولها الرأي الآخر .

وتعرّض الكثير من أساتذة الجامعات والبحث العلمي والعلماء إلى الاغتيال، مثلما حصل في العراق بعد الاحتلال، حيث تمت تصفية ما يقارب 400 أستاذ جامعي وعالم وباحث . وفي الجزائر في فترة التسعينيات، سقط أكثر من 100 مثقف ومبدع بينهم أساتذة جامعات، لا لذنب سوى أن بعضهم لا يُقرّ للجماعات المتطرفة أعمالها الإرهابية .

لقد صدمتني بعض الوقائع المخيفة عن حالنا العربي، حين اطلعت على  تقارير التنمية الثقافية العربية بخصوص شحّ المعارف، وبمقارنات خاطفة مع الولايات المتحدة و”إسرائيل”، فإن ما يقرؤه العربي سنوياً لا يتجاوز النصف صفحة، في حين يقرأ المواطن الأمريكي 10 كتب سنوياً، ويقرأ “الإسرائيلي” 6 كتب .

وإذا ما عرفنا أنه يوجد في العالم العربي ما يزيد على 71 مليون أميّ، أي ما يوازي نحو ربع سكان العالم العربي، أدركنا أية حقائق صادمة تلك، لاسيما وأنه في الوقت نفسه يعاني شحّ المعرفة والعلوم والحريات، ومواقف سلبية إزاء نصف المجتمع وأعني به الموقف من النساء والتنوّع الثقافي، خصوصاً في بعض المجتمعات المتعددة التي شكّلت مصدر نزاعات تاريخية منذرة بعواقب وخيمة، ولا يختلف الأمر من دول المشرق إلى دول المغرب، ومن حوض النيل إلى دول الخليج .

الحرية الأكاديمية هي الهواء الذي يتنفس منه الأستاذ والباحث العلمي والطالب، لتحقيق الذات وإضفاء نوع من “الأنسنة” على البحث والإنتاج العلمي والإبداع الأدبي، وصولاً إلى التنمية المنشودة .


باحث ومفكر عربي



1003
ما يريده بايدن من العراق   


 
 
عبدالحسين شعبان
حلّ نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن ضيفاً مفاجئاً على بغداد للمرة الثالثة . فزيارته الأولى كانت بُعيد اعلان قوائم الاجتثاث عشية الانتخابات، وزيارته الثانية كانت بعد الانتخابات غير الحاسمة، والاختلاف حول القائمة الفائزة أو الكتلة الأكبر، لاسيما من سيكون رئيساً للوزراء، أما زيارته الثالثة، فتأتي مترافقة مع سيناريو المرحلة الأولى من الانسحاب الأمريكي من العراق، فضلاً عن وضع اللمسات الأخيرة لتشكيل حكومة عراقية، قال في زيارته الثانية يريدها ان تمثل جميع التيارات والأطياف العراقية، وشدد في زيارته الأخيرة 30/8/2010 على أن شراكة واشنطن مع بغداد هي شراكة استراتيجية طويلة الأمد، وأن واشنطن ملتزمة بذلك حتى بعد انسحابها من العراق .

وصل بايدن والجو السياسي العراقي مكفهرّاً وملبّداً بالغيوم، والمخاوف تتعاظم من احتمال تصدّع العملية السياسية، وانفلات أعمال العنف والارهاب،لاسيما الاختراقات الأمنية التي شهدها العراق طيلة الأشهر العشرة ونيّف الماضية، وقد بدأ المشهد السياسي العراقي أكثر التباساً وتشويشاً واحتداماً خصوصاً باستمرار حال التعويم السياسي الناجم من عدم الاتفاق على تشكيل حكومة وتسمية رئيس وزراء والمنافسات المحمومة والقلق المتعاظم من الفراغ السياسي والأمني، لاسيما الذي ترافق مع الانسحاب الأولي للقوات الأمريكية المقاتلة من العراق .

وعشية زيارة بايدن الثالثة تردّد أن مصلحة إيرانية وأخرى أمريكية التقتا، ولكل أسبابه في تجديد ولاية ثانية لرئيس الوزراء المالكي، إلا أن المشكلات الأخرى حول الحصص والنسب والوزارات ما تزال مصدر خلاف لا يقلّ شأناً عن منصب رئاسة الوزراء إذا افترضنا ترجيح تسمية المالكي .

وكانت سيناريوهات عديدة قد تردّدت، قيل إن بايدن أسهم فيها في زيارته الثانية، منها تقسيم فترة السنوات الأربع بين القائمتين أو الاتفاق على مرشح تسوية مع مشاركة مؤثرة للقائمتين تأخذ في الاعتبار المناصب السيادية، أو أن يكون أحدهما رئيساً للوزراء، والآخر رئيساً للجمهورية مع توسيع صلاحياته بتعديل الدستور لاحقاً، الاّ أن ترجيح خيار المالكي حسبما يبدو قد يحسم الأمر وبخاصة بعد احياء اتفاق كتلة الائتلاف الوطني برئاسة السيد عمار الحكيم مع كتلة دولة القانون .

وكانت تصريحات صدرت عن رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني بشأن عدم وجود خطوط حمر لدى قائمة التحالف الكردستاني على رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي وأن تحالفه استراتيجي، أو كما عبّر عنه إلى الأبد، وقبله كانت هناك تصريحات مماثلة لرئيس الجمهورية جلال الطالباني، الأمر الذي سيرجّح كفة المالكي، رغم أن الأمور قد تتغيّر والاصطفافات قد تتبدل، لكن الرأي الاقليمي، ولاسيما الايراني إضافة إلى الرأي الأمريكي، سيبقيان مؤثرين على نحو حاسم في الاختيار .

إن الوضع القائم هو انعكاس لأزمة دستورية وفراغ سياسي من أسبابه قانون انتخابات غير متوازن ودستور مليء بالألغام واصطفافات ما تزال قلقة، وثقة تكاد تكون معدومة بين الأطراف السياسية، ناهيكم عن منافسات سياسية مشروعة وغير مشروعة، الأمر الذي شجع على تفقيس بيض الإرهاب في محاولة لإعادة العملية السياسية القهقري، لا سيما زيادة حدّة الاستقطاب الطائفي والإثني، ولهذا حضر جو بايدن بثقله للمرة الثالثة والتقى بالكتل الرئيسية، وتحدث من موقعه عن رغبة في التوصل إلى اتفاق على تشكيل الحكومة والتعاون بين الأطراف الفائزة .

ولو افترضنا أن الحكومة سيتم تأليفها بعد عيد الفطر بشهر واحد مثلاً كواحد من الاحتمالات، إذ إن بقاء الحال كما هو عليه يعني دخول الحالة العراقية في تعويم سياسي لا يعرف أحد نتائجه في ظل الانشقاقات الحاصلة، الأمر الذي لوّح باحتمال طلب تدخل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي للتوصل إلى اتفاق بشأن الحكومة القادمة، وهو ما جاء على لسان نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي القيادي البارز في كتلة العراقية، خصوصاً في ظل ضعف هيبة الدولة، وبخاصة قواتها المسلحة، ناهيكم عن التردّي في الخدمات الضرورية، لا سيما الماء والكهرباء والتعليم والصحة، تلك التي ظلّ العراق يعاني منها طيلة السنوات السبع ونيّف الماضية .

وما زال الأمن هشّاً ويتعرض لاختراقات خطرة بين فترة وأخرى، رغم تحسنه النسبي منذ العام، 2008 وما زالت الميليشيات قائمة وتثير إشكالات بين الفينة والفينة، والتقاسم الوظيفي، المذهبي والإثني ما زال سائداً، والفساد المالي والإداري مستشرٍ، وموضوع الانسحاب الأمريكي ما زال يثير الكثير من التداعيات، الأمر الذي تتحفز له جميع القوى، خصوصاً أنه بدأ في أواخر شهر آب (أغسطس) ،2010 بسحب نحو 91 الف جندي وتسليم عدد كبير من القواعد العسكرية للحكومة العراقية مع بقاء خمس قواعد أساسية وبحدود 50 ألف جندي بمعدّات كاملة وجاهزية عالية وطائرات ومستلزمات تدخل سريع وزيارة عدد أفراد الشركات الأمنية، وذلك للتدخل السريع، إضافة إلى ما هو معلن من تأهيل وتدريب القوات العراقية .

لعل قرار الانسحاب الأمريكي من العراق يعتبر من أكبر وأخطر التحديات، التي تواجه المرحلة الراهنة، ولا أظن أن القوى المشاركة في العملية السياسية كانت ستطلب من واشنطن الإسراع فيه، لولا أن واشنطن هي ذاتها شعرت بالتورط والخيبة إزاء فشل مشروعها الامبراطوري فبادرت إلى اعلان الانسحاب، وبخاصة ارتفاع حجم الضحايا والخسائر البشرية والمادية، حيث بلغ عدد القتلى ما يقارب ،4400 أما عدد الجرحى والمعوّقين فقد زاد عن 20 ألفاً، يضاف اليهم أعداد كبيرة من المتعاقدين والمرتزقة .

وقد كلّفت الحرب على العراق أكثر من 3 تريليونات دولار حتى نهاية العام ،2008 كما أن ضغط الرأي العام الأمريكي والعالمي، لاسيما القوى المناوئة للحرب، ازداد على ادارة أوباما التي شعرت أنها ليست مسؤولة عن الاحتلال، خصوصاً بعد الفشل المرير، يضاف إلى ذلك الأزمة المالية والاقتصادية العالمية وانعكاساتها على الولايات المتحدة وانهيار مصارف كبرى وشركات تأمين عملاقة، الأمر الذي استوجب إعادة النظر بوجود قوات محتلة في العراق، مع ازدياد الحاجة إلى ارسال عدد منها إلى افغانستان الذي بدا ساحة ساخنة جداً .

ولكن لا ينبغي الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستترك الساحة خالية لإيران التي تعاظم نفوذها على نحو واسع، ولذلك ستحاول من خلال وجودها العسكري ونفوذها السياسي ودورها الاقتصادي، وخصوصاً في ظل وجود الاتفاقية العراقية -الأمريكية التي ستنتهي في أواخر العام ،2011 أن تلعب دوراً أساسياً في العراق يحدّ من النفوذ الايراني ويؤمن لها مصالحها وبخاصة النفطية، مثلما يحفظ لها “أمن” حليفتها في المنطقة “إسرائيل”، والاعتقاد السائد أن اتفاقية جديدة سيتم إبرامها بين واشنطن وبغداد بعد انتهاء الاتفاقية المذكورة، لكي لا يحصل نوع من الفراغ الأمني والسياسي، وكذلك لتأكيد دور واشنطن والتزاماتها إزاء العراق .

إن واشنطن تريد أن تطمئن على مستقبلها من جهة، ومن جهة ثانية تسعى لقطع الطريق على الأوساط الأكثر قرباً من إيران، فليس من المنطقي وبعد كل خساراتها، أن تقدّم العراق على طبق من ذهب إلى ايران . ولهذا فهي تسعى لقيام حكومة لا تكون فناءً خلفياً لإيران، مثلما يمكن وضعها في مواجهة محدودة أو جزئية معها، وهو ما يرضي طهران أيضاً على حساب حكومة حليفة لواشنطن ومعادية لها، حيث يمكنها أن تكون رأس حربة في صراع واشنطن-طهران في العراق، وهو ما تتحسّب له طهران بشدة، مثلما تدرك الولايات المتحدة أن سعيها لفرض حكومة من هذا النوع سيعني فشلها، ولهذا فهي تتوافق مع طهران في إطار توازن القوى والواقعية السياسية لحكومة منتصف الطريق . ولعل ذلك ما يريده بايدن من العراق حالياً .

باحث ومفكر عربي



1004
التنمية الموعودة والشراكة المنشودة!
لا تنمية حقيقية دون شراكة وتكامل بين الدولة والمجتمع المدني

عبد الحسين شعبان
دخل مفهوم الشراكة واصطلاحاتها، ولا سيما بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني الأدب السياسي والاقتصادي والحقوقي في إطار إرهاصات التغيير الدولي والإقليمي التي شهدتها سنوات الثمانينيات، والتي اتسعت في أواخرها بانهيار الأنظمة الشمولية وسقوط جدار برلين، الأمر الذي أخذ يتردد كثيراً في وثائق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، بما فيها جامعة الدول العربية، وقد أقرّت بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة مسألة الشراكة مع المجتمع المدني، وإنْ بتحفظ أحياناً، وقد ركّز البنك الدولي على مسألة الشراكة بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني واعتبرها مسألة أساسية لتطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي بهدف تحقيق التنمية البشرية.
وقد شهد العالم مبادرات كثيرة للأمم المتحدة طبقاً لمبدأ الشراكة، منها مؤتمر ريو دو جانيرو عام 1992، والمؤتمر الدولي الثاني لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا عام 1993، والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية عام 1994، والقمة العالمية للتنمية في كوبنهاجن عام 1995، ومؤتمر بكين العالمي للمرأة عام 1995، وقمة الألفية الثالثة للتنمية عام 2000، ومؤتمر ديربن العالمي حول العنصرية عام 2001، ومؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة المنعقد في جوهانسبرج عام 2002 وغيرها. وتشكّل هذه المؤتمرات الدولية إطارا مرجعيا فيما يتعلق بالتنمية المستدامة والقضاء على الفقر وتحقيق المساواة بين البشر ومنع التمييز، كما ارتبط مفهوم الشراكة بالتنمية وبالسياسات التنموية دوليا وإقليميا.
وقد انتقل مفهوم الشراكة من النطاق الاقتصادي والإداري وعلاقات السوق إلى النطاق الذي يبحث في شراكة المجتمع المدني مع الحكومات، خصوصاً وقد أصبح وجود منظمات مدنية شريكة للحكومات وقوة اقتراحية وتكاملية على النطاق الدولي، مسألة لا غنى عنها لعملية التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية والحقوقية، الأمر الذي حدثت معه تطورات على صعيد القوانين الناظمة والعلاقات القانونية لهذه الشراكة وآفاقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا سيما بأبعادها الإنسانية.
وإذا كان مفهوم الشراكة حديثاً بين الحكومات والقطاع الخاص والمجتمع المدني، ولا سيما في البلدان النامية ومنها البلدان العربية، فإن الأنظمة الديمقراطية اعتبرته مسألة ضرورية لإحداث التغيير والتحوّل الاجتماعي، بتعاضد الجهود وتكامل المهمات بين القطاعات الثلاثة، خصوصاً في ظل مصالحة بينها تقوم على أساس التكامل والتفاعل، وليس الصدام والصراع.
الشراكة تعني الاتفاق بخصوص تحقيق أهداف مشتركة أو محددة ويفترض أن تتضمن شكلاً من أشكال الاعتراف بالآخر وبدوره كطرف شريك كلياً أو جزئياً طالما يمكنه أن يسهم في عملية التنمية. ولعل فكرة الشراكة هي مقاربة تنموية لعلاقة حكومية مع المجتمع المدني، لاستكمال وملاقحة قدرات وإمكانات الطرفين لتحقيق بعض الأهداف، حيث يتم ضمّ المزايا النسبية لكل طرف إلى الطرف الآخر في إطار تشاركي. وكانت قمة كوبنهاجن منعطفاً في الفكر التنموي، ولا سيما بعد اعتبار الحق في التنمية أحد الحقوق الأساسية الفردية والجماعية، التي لا تستقيم مسألة حقوق الإنسان من دونها لضمّها إلى حزمة الحقوق التي لا يمكن تجزئتها أو إهمال عناصر منها.
ومنذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948 احتدم النقاش والجدال حول أية طريق للتنمية ينبغي اختياره، وتعمّق الصراع في الفترة الساخنة من الحرب الباردة بين الرأسمالية والاشتراكية، ولا سيما بصدور العهدين الدوليين عام 1966، اللذين يمثلان مع الإعلان العالمي ما نطلق عليه "الشرعة الدولية لحقوق الإنسان"، حيث كان المعسكر الغربي يميل إلى الحقوق الفردية والسياسية والمدنية، ويهمل إلى حدود غير قليلة الحقوق الجماعية (وبخاصة حقوق الشعوب) والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في حين أن المعسكر الشرقي كان يدعو للحقوق الجماعية، ويتشبث بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويعطيها الأولوية على حساب الحقوق الأخرى الفردية والسياسية والمدنية التي يعتمدها الغرب.
ولكن بعد صدور إعلان الحق في التنمية في عام 1986 وتكريس ذلك دولياً وانعقاد مؤتمر قمة كوبنهاجن عام 1995 التزم 117 رئيس دولة "بخلق تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وقانونية، تتيح لكل المجموعات البشرية بلوغ النمو الاقتصادي، وهو الأمر الذي لا يتحقق بصورة سليمة دون شراكة المجتمع المدني وهو ما أخذت الأمم المتحدة تؤكده، وتدعو الدول والبلدان لاعتماده بدعوة منظمات المجتمع المدني لحضور اجتماعات موازية.
وإذا كانت منظمات المجتمع المدني هي جمعيات ومؤسسات غير حكومية متنوّعة الاهتمامات ومتعدّدة الاختصاصات، فهي طوعية وحرّة وسلمية ومستقلة، كما أنها غير وراثية، ولا تهدف إلى الربح، ولعلّ من أهم أهدافها هو تحقيق التنمية بجميع جوانبها في المجتمع، الأمر الذي يمكن اعتبارها شريكاً ومكملاً للحكومات في رسم وتنفيذ السياسات العامة، وفي اتخاذ القرار من جهة، ومن جهة أخرى، رصد ومراقبة الانتهاكات والتجاوزات وقضايا الفساد التي تشكل معوّقاً من معوّقات التنمية، ولعل طموح المجتمع المدني يزداد اتساعاً حين يسعى لكي يكون قوة اقتراح واشتراك وتفاعل، وليس قوة احتجاج أو اعتراض أو تنافر فحسب. وإذا كانت ثمة معوّقات تحول دون وصول المجتمع المدني فيما يطمح إليه، فإن حداثة التجربة، ولا سيما في عالمنا العربي وتدنّي مستوى القدرات وضعف التكوين وغلاظة بعض التشريعات وشحّ الحريات، خصوصاً حرية التعبير وحق التنظيم السياسي والنقابي والاجتماعي وحق الاعتقاد، كلها عوامل تعرقل في تحقيق شراكة المجتمع المدني مع الحكومات، وبالتالي تعطّل التنمية الموعودة. ولعل مثل هذه القضايا تتشابك مع المعوّقات التي تحول دون تحقيق التنمية المستدامة، ومنها عقبات خارجية مثل الاحتلال والحصار والعدوان ومحاولات فرض الاستتباع، مثلما هناك عقبات داخلية مثل الموروث والعادات والتقاليد واستخدام وتوظيف الدين وتعاليمه السمحة على نحو خاطئ وضار وباسم الإسلام أحياناً، وهو ما نطلق عليه مصطلح الإسلاملوجيا.
كما أن تفشي الفقر ونقص الثقافة والمعرفة بما فيها استشراء الأمية يشكّل عقبة كأداء أمام التنمية، ناهيكم عن وجود عدد من الأنظمة الانغلاقية والاستبدادية، التي تنظر بارتياب إلى المجتمع المدني ومبادراته، وترفض مبدأ الشراكة أو تتنكّر له في الواقع العملي.
وإذا كانت تلك العوامل عقبة أمام التنمية الموعودة، فإن ضعف المواطنة وتصارع الهوّيات، بين هوية كبرى أحياناً وهويات فرعية لا يتم الاعتراف بها، سواء كانت قومية أو دينية أو لغوية أو سلالية، وعدم توافر عنصر المساواة كأساس للدولة العصرية، يحول دون الوصول إلى شاطئ التنمية المنشود، مضافاً إليه استمرار ظاهرة التمزق المجتمعي مذهبياً وطائفياً وعشائرياً وجهوياً، بما يؤدي إلى عرقلة عمليات التنمية، بوضع الكوابح أمام مشاركة المجتمع المدني للحكومات باتخاذ القرار، كما أن عدم تلبية "حقوق الأقليات" وعدم تمكين المرأة ومساواتها مع الرجل وعدم الإقرار بالتعددية والتنوّع الثقافي عوامل أخرى تؤدي إلى عدم تحقيق التنمية الموعودة. من هنا تأتي دراسة عديد من المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونسكو والإسكوا، لدور المجتمع المدني ومدى إمكاناته بالمساهمة في التنمية، حيث تصبح التنمية الغائبة قائمة، والمستحيلة ممكنة والمفقودة موعودة، ولا شك أن ذلك يتطلب أيضاً ومن خلال الضغط موافقة الحكومات وقبولها بهذا الدور، وكذلك الجماعات السياسية والتنظيمات القائمة في المجتمع دينية أو سياسية. وعلى المجتمع المدني أن يكون هو الآخر جاهزاً، ويسعى لمعالجة مشكلاته وثغراته من خلال جاهزية فكرية وأجندات وطنية تلبّي احتياجات الجمهور، ومن خلال عمل ديمقراطي طويل الأمد ومتراكم وسلمي، فالمجتمع المدني لا يسعى للوصول إلى السلطة، وليس لديه ميليشيات، ولا ينبغي أن يقتصر على طائفة أو طبقة أو دين، كما أن الانتماء إليه طوعي، وعليه ألا ينخرط في الصراع الأيديولوجي والعقائدي الدائر في مجتمعاتنا، ويعمل وفقاً للقوانين والأنظمة السائدة، ولا يلجأ إلى العمل السري، وإذا كانت الحركات والأحزاب السياسية تريد التغيير عبر الوصول إلى السلطة، فإن المجتمع المدني يريد تغيير المعادلات السياسية لتكون أكثر توازناً وعدلاً. إن ذلك ما يجعله شريكاً حقيقياً في التنمية، وهو ما تنبّهت له الأمم المتحدة ومنظماتها التي أخذت تدعوه إلى القمم العالمية كشريك، وهو ما فعلته جامعة الدول العربية في مؤتمر قمة الكويت (الاقتصادية)، والذي يحتاج إلى اعتماده دورياً في جميع القمم العربية بصورة دائمة.
ولعل التحضير لمؤتمر قمة عربية ثقافية من جانب جامعة الدول العربية وبالتعاون مع مؤسسة الفكر العربي، وكذلك مع الإسكوا (المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم) الذي التأم اجتماعه التحضيري في بيروت أخيرا، يعني فيما يعنيه دعوة جديدة لمؤسسات المجتمع المدني لكي تكون شريكاً فعّالاً في عملية التنمية، وهي دعوة للإسهام من جانب المثقفين ببرامج عمل ومقترحات ملموسة والضغط بكل السبل الممكنة لإعلاء شأن الثقافة والمثقفين لكي يأخذوا دورهم في المشاركة في التنمية والإسهام في صنع القرار. إذا كان وصف العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في عالمنا العربي، بأنها متوترة وضدّية، أي تعارضية وغير تصالحية في ظل شحّ الحريات والتحريم من جانب الأولى، والاحتجاج والاعتراض من جانب الثانية، فإنها ينبغي أن تتحول إلى قوة شراكة لاقتراح مشاريع قوانين ولوائح، لكي يكون المجتمع المدني متكاملاً مع الدولة، وعلى الدولة القبول بدوره، بل وحقه في المشاركة في عملية التنمية ودراسة اقتراحاته ومدى مساهماته في التخطيط والتنفيذ.
ولعل في مثل هذا التوجه يمكن بناء استراتيجيات وطنية ورسم سياسات عامة تُسهم في عملية التنمية وتأخذ في نظر الاعتبار مشاركة المجتمع المدني، الأمر الذي يتطلب توفير مستلزمات بنائها على أسس مستقلة وسليمة من خلال تهيئة بيئات ومناخات لتطورها على المستوى التشريعي والقانوني وعلى المستوى التربوي والتعليمي، وكذلك على المستوى القضائي وعلى المستوى الإعلامي.
واستخلاصاً مما تقدّم يمكن القول بأن لا تنمية حقيقية دون شراكة وتكامل مع المجتمع المدني، خصوصاً إذا قصدنا التنمية بمعناها الشامل، البشري، والإنساني، والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني والثقافي، وتلك خبرة الأمم والدول والشعوب التي سبقتنا في مضمار التنمية الحقيقية.


1005
المنبر الحر / اعتقال العقل
« في: 20:01 06/09/2010  »
اعتقال العقل   

عبدالحسين شعبان
نصّت معظم دساتير البلدان العربية والإسلامية وقوانينها النافذة على حرية التعبير، باعتبارها من الحقوق الأساسية للإنسان، بإضافة حق الاعتقاد وحق التنظيم الحزبي والنقابي والمهني والحق في المشاركة السياسية، وهو ما تضمنته الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لا سيما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر/ كانون الأول عام ،1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في عام 1966 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي دخل حيّز التنفيذ في عام 1976 .

لكن هذا الحق غالباً ما يتم تقييده بقانون، ليسلب روحه أو ليخفض سقفه في الممارسة إلى ما تريده السلطات، حيث بامكانها إنزال العقاب بالمخالفين . وقد صعدت الظاهرة الدينية إلى الواجهة في العقود الثلاثة الماضية، وهو ما نطلق عليه “الإسلام السياسي”، وأخذت بعض القوى الدينية تعد نفسها “سلطة” تصدر فتاوى وتحاسب على من يخالفها، متهمة إياهم بالردّة والمروق، وصولاً إلى إعطاء نفسها الحق في استخدام العنف والإرهاب، بادعائها امتلاك الحقيقة والأفضليات، والنطق باسم الدين أو تمثيل الله، ولعل ما سهّل لها مهماتها هو ممالأة بعض السلطات الحاكمة لها، إمّا لكسب ودّها أو لتجنب الصدام معها .

وإذا كان بعض قوى الإسلام السياسي نفسه ضحية لحرية التعبير في ظل أنظمة استبدادية أو لا ديمقراطية، فإنه في الوقت ذاته هو الوجه الآخر للاستبداد واللاديمقراطية وعدم الاعتراف بحرية التعبير، لا سيما عندما يقترب من السلطة أو يكون جزءاً منها، باستخدام سلاح الفتوى أحياناً لأغراض سياسية، ومن دون علم ومعرفة من جهة، ومن جهة ثانية للتأثير في جمهور الغوغاء، في لحظة ضعف الوعي وشحّ الحريات وسوء الوضع المعيشي، وهو الأمر الذي قد يتحوّل إلى لغم ينفجر في أية لحظة، منذراً بفتنة مذهبية أو طائفية أو دينية .

وأظن أن منطقتنا العربية في مشرقها ومغربها شهدت أحداثاً عنفية وإرهابية جسيمة تحت عناوين مختلفة، لكن ما يجمعها هو “الإسلام السياسي” وتحريم وتجريم الآخرين، والزعم ب “إقامة الحد” دون اعتبار لوجود قانون وسلطة قضائية، وذلك بالتعكز على نصوص يتم تأويلها وتفسيرها إغراضياً، وتبرير تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية إزاء مخالفيها، الأمر الذي يشيع نوعاً من الإرهاب الاجتماعي، قد يكون أحياناً أقسى من إرهاب السلطات، بل ويعطيها مبرراً بمثل هذا السلوك اللاقانوني واللاشرعي، على إجراءاتها اللاقانونية واللاشرعية، المتعلقة بحرية التعبير وحجب الرأي الآخر .

ولعل الإيغال في عمليات التضييق على الحريات وممارسة الإرهاب وتشديد الرقابة وتقليص فرص حرية التعبير التي تقوم بها بعض السلطات، تجد مبرراتها “غير المبررة” بالطبع بالتضييق على الحريات بشكل عام وحرية التعبير بشكل خاص، بحجة مواجهة جماعات التطرف والتعصب والغلوّ والمنظمات الإرهابية، وهو ما جرى بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية وما تعمّق بعد احتلال أفغانستان والعراق، وشيوع ظاهرة الإرهاب، لاسيما ببروز تنظيم القاعدة .

وباعتقادي، أن الفكر لا يقابل بالعنف أو الاغتيال أو إخفاء الصوت الآخر، كما لا يُحسم بالقضاء . الفكر يُردُّ بالفكر، وسماحة الحوار تتسع لصراع الأفكار . أما جعجعة السلاح فلا تنتج طحيناً، بل تجعله خليطاً برائحة البارود . والحوار يجب أن يتجه أولاً وقبل كل شيء بإقرار حق الغير “الآخر” في التعبير وفي التعايش وفي المنافسة السلمية، ثم لاستخلاص ما هو ضروري لإدامة السلام الاهلي واحترام حقوق الجميع .

وبتقديري أن مكان حرية الفكر والبحث العلمي والأكاديمي، هو قاعات الجامعات وأروقة الكليات والمعاهد وحلقات الدرس والبحث والمنابر الفكرية والثقافية، وفي إطارها يتم النقاش والجدل، فهي المكان الطبيعي والرحب لتبادل الأفكار واستمزاج الآراء وقرع الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، والشك بالشك، والبرهان بالبرهان .

وفي الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات تبدأ الأسئلة والشكوك ويثور الانتقاد ويتم البحث والاجتهاد، في محاولة الوصول إلى أجوبة مقنعة وبراهين .

أما محاكمة الفكر أو محاصرته اجتماعياً لدعاوى سياسية أو اعتبارات طائفية أو مذهبية أو دينية لا علاقة لها بالدين أحياناً، فتعني إصدار حكم بالموت المدني من دون محاكمة، وهي مناقضة لروح وجوهر الإسلام الذي يقرّ بمبدأ التسامح، ولعل عدم التسامح يعني منع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حرّ وجديد، بحجة المروق والخروج على الدين .

وتزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد حين يتم التمترس الطائفي والمذهبي، وحين يُنظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو عدواً، بل أشد عداوة من العدو الحقيقي أحياناً، وتجري محاولات لإلغاء الفِرَق والمذاهب والاجتهادات وتعميم نظرة أحادية الجانب، وفقاً للأفكار الشمولية التي لا تعترف بالغير .

ولا أظن أن مجتمعاً من دون اختلافات أو اجتهادات متعارضة مختلفة أو انقسام في الرأي أو معارضة، موجود أو أنه وِجدَ في الكون منذ الخليقة، بل أستطيع القول إن مجتمعاً بلا اختلاف أو تمايز أو خصوصيات، هو من صنع الخيال، ولا وجود له على أرض الواقع، بل إنه مجتمع ميت إنْ وجد، فالتماثل ضربٌ من المحال .

التعددية والتنوّع وحق الاختلاف والاجتهاد، هي بعض عناصر يقظة الوعي ومن أركان تنشيطه بما يساعد على التطور والتجدد ولا تستقيم هوية “الأنا” من دون هوية “الآخر” .

وجاء في القران الكريم “ . . . واختلاف ألسنتكم وألوانكم لآيات للعالمين” (سورة الروم: آية 22)، والاختلاف لا يلغي الائتلاف بالطبع “ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (سورة يونس: الآية 99)، وجاء في (سورة البقرة: الآية 256): “لا إكراه في الدين قد تبّين الرشد من الغيّ . . .” وجاء في (سورة الكهف: الآية 29): “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . . .” .

وسمح الإسلام بحرية الخطأ إذا لم يكن مقصوداً، خصوصاً إذا استهدف الاجتهاد الفكري واستنباط الحلول والأحكام حين أكد الفقه الإسلامي أن “المجتهد إن أصاب فله حسنتان، وإن أخطأ فله حسنة الاجتهاد” بمعنى أن الخطأ مع الاجتهاد يتحول إلى حسنة، لأنه محاولة لاستخدام العقل، وكانت بعض الفرق الإسلامية كالمعتزلة والصوفية وغيرها قد أكدت دور العقل بموازاة النقل، خصوصاً بكل ما له علاقة بشؤون الحياة .

وذهب الإمام الشافعي إلى القول “رأيي على صواب ولكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ، ولكنه يحتمل الصواب” . وهو ردٌ بليغ على أفكار التعصب والانغلاق والعنف، وعقلية التأثيم والتحريم والتجريم وفرض الرأي، التي قادت من الناحية السياسية إلى احتكار الحكم وتبرير مصادرة حقوق الآخرين، تارة باسم القومية أو بحجة الصراع العربي  “الإسرائيلي”، وأخرى باسم الطبقة العاملة ومصالح الكادحين، وثالثة باسم الدين، لإسكات أي صوت ولتسويغ فكرة الاستئثار وادّعاء امتلاك الحقيقة .

لعل ذلك حسب أدونيس لا يعني سوى “اعتقال العقل”، أي عقل الذات الآخر، الذي ستصبح صورته، هي صورة الخصم والعدو والمشبوه والعميل بلغة السياسة والأيديولوجيا، والزنديق والكافر والمارق والملحد بلغة الدين .

 باحث ومفكر عربي




1006

اليوم العربي للتسامح
بيان صحفي
يصادف اليوم الثاني من أيلول/ سبتمبر اليوم العربي للتسامح، الذي كانت قد أعلنته الشبكة العربية للتسامح كيوم لتعزيز ثقافة التسامح، وترسيخ مبادئ الديمقراطية، وبخاصة حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، والوقوف في وجه ثقافة التعصب وإقصاء الآخر التي أصبحت سائدة في معظم بلدان العالم العربي.

يأتي هذا اليوم في ظل أوضاع عربية غاية في الصعوبة والتعقيد من احتلالات خارجية، وصراعات داخلية تأخذ أشكالا ومسميات عديدة لكنها في المحصلة تدفع باتجاه إلغاء الحق في تقرير المصير، وتطييف المنطقة العربية وتفتيتها إلى دويلات قائمة على أساس طائفي أو عرقي، مما يشكل تهديدا جديا ليس فقط لقيم التسامح وثقافة قبول الآخر بل أيضا لوحدة النسيج الاجتماعي للشعوب العربية بعضها مع بعض، بل وحتى لمواطني الدولة الواحدة.

إن الشبكة العربية للتسامح وهي تسعى لأن يتم اعتماد تاريخ الثاني من أيلول/ سبتمبر من كل عام كيوم عربي للتسامح من قبل الجامعة العربية، فإنها تدعو لأن يخصص هذا التاريخ من قبل مؤسسات المجتمع المدني لفعاليات تؤكد على ضرورة مناهضة جميع أشكال ومظاهر العنف والتعصب داخل المجتمعات العربية، وإشاعة ثقافة السلم المجتمعي والتسامح والحوار والتقاليد الديمقراطية الحقيقية، والتأكيد على مبدأ الحق في الاختلاف، وتوسيع هوامش الحريات العامة وفي مقدمتها حرية الرأي والتعبير والاعتقاد.

إن الشبكة العربية للتسامح تؤمن بأن التغيير باتجاه مجتمع عربي حر ومتطور ومتجانس ومتآلف وعصري يحترم الحرية والتعددية وحقوق الأفراد هو هدف نبيل يمكن تحقيقه بالعمل الجاد والمتواصل لكافة القوى المؤمنة بالتحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في البلدان العربية.


1007
المنبر الحر / جرائم بلا عقاب
« في: 22:41 17/08/2010  »
جرائم بلا عقاب
   

 

عبدالحسين شعبان
إذا كانت “إسرائيل” قد ارتكبت في تاريخها الذي يربو على 62 عاماً جرائم كثيرة، وانتهكت بصورة سافرة قواعد القانون الدولي بشن الحرب واحتلال الأراضي وضمّها وارتكاب مجازر ضد الانسانية وأعمال إبادة جماعية، إضافة الى جرائم الحرب، فإن حربها ضد غزة أواخر العام 2008  اوائل العام 2009 والتي دامت 22 يوماً بعد حصار لا إنساني لثلاثة أعوام، كانت الأكثر جدلاً ونقاشاً، لاسيما بشأن مسألة الإفلات من العقاب، خصوصاً لحجم الانتهاكات الصارخة من جهة، وارتفاع حساسية المجتمع الدولي من جهة أخرى، والذي تجلّى بصدور تقرير عن لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، والذي عُرف باسم تقرير غولدستون، حيث اتهم “إسرائيل” بارتكاب جرائم ترتقي الى جرائم حرب، وبالتالي فإن هذا التقرير كان إضافة جديدة الى مسؤوليات المجتمع الدولي بشأن ملاحقة المرتكبين “الإسرائيليين” للجرائم وعدم جعلهم يفلتون من العقاب .

لقد أقرّ ميثاق الأمم المتحدة مبادئ العدالة وأكدّ احترام الالتزامات الناجمة عن المعاهدات والاتفاقيات الدولية، باعتبارها أحد أهم مصادر القانون الدولي المعاصر، الاّ أن رقعة الانتهاكات للقانون الدولي لا تزال مستمرة، وأن حجم الارتكابات مثير للقلق، وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة وجدّية أمام المجتمع الدولي بشأن نظام العدالة السائد، ويضع أمامه تحديات بخصوص استخفاف “إسرائيل” وتنكّرها للقواعد والقرارات الدولية، لاسيما تلك التي تصدرها الأمم المتحدة .

وكانت ردة الفعل الحقوقية على عملية الرصاص المسكوب أو المنصهر هو قيام منظمات محلية ودولية لجمع معلومات وتقديم تقارير وتوصيات وتحديد مهمات لملاحقة المرتكبين من خلال لجان تقصي حقائق، ولعل أبرز المنظمات كانت منظمة عدالة وجمعية حقوق الإنسان في “إسرائيل” ومنظمة الحق الفلسطينية  والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان . وقامت هذه المنظمات بالتعاون مع الفيدرالية الدولية في توثيق الجرائم والانتهاكات في عمل مهني  حقوقي - إنساني .

ولعل مسألة الجريمة والعقاب وملاحقة “إسرائيل” والمتهمين بارتكاب جرائم، لا تتوقف عند حدود، فما أن تنتهي قصة، حتى تبدأ أخرى . وقد كشفت عملية اغتيال محمود المبحوح حجم الإرهاب الدولي، الحكومي، الرسمي الذي تقوم به “دولة” عضو في الأمم المتحدة، وكانت “الدولة” الوحيدة التي اشترطت عليها المنظمة الدولية تأمين احترام حقوق الإنسان، لاسيما لعرب فلسطين والإقرار بحق اللاجئين بالعودة بالقرار 194 الصادر عام ،1948 لكن هذه الجريمة أعادت مطالبة المجتمع الدولي وهيئات حقوقية ودولية ملاحقة المرتكبين “الإسرائيليين” وتوجيه لائحة اتهام ضدهم .

لقد أصحبت مسألة إفلات “إسرائيل” من العقاب مثار جدل فقهي دولي، قانوني وسياسي، لاسيما أن العديد من المنظمات الدولية، خصوصاً الحقوقية أخذت تضغط على المجتمع الدولي للتمسك بمبدأ عدم إفلات المرتكبين من أيدي العدالة، خصوصاً إذا ما عرفنا أن حماية السلم والأمن الدوليين هو أحد أبرز الأهداف السامية للأمم المتحدة والتي لا يمكن تحقيقها دون بلوغ احترام حقوق الإنسان وتأمين مبادئ العدالة، خصوصاً ضمان حق الحياة والعيش بسلام ودون خوف، فالعدالة ضمان للسلام على المستويين الوطني والدولي .

وأظهرت الحرب المفتوحة على غزة مدى استهانة “إسرائيل” باتفاقيات جنيف لعام 1949 وبقواعد القانون الدولي، وهو ما يؤكده حجم الدمار الذي حلّ بالبشر والعمران والمرافق الاقتصادية والحيوية والبيئية، وارتفاع نسبة الوفيات بين المدنيين التي تجاوزت حسب بعض التقارير أكثر من 80 % من الضحايا البالغ عددهم أكثر من 1400 قتيل، وأكثر من 5 آلاف جريح وهدم وتدمير كلي أو جزئي لنحو 20 ألف منزل .

إن بحث مسألة الجريمة والعقاب لا يتعلق بجانبها النظري فحسب، بل بالجوانب العملية، حين يتم بسطها على طاولة الدراسة والتحقيق والفعل، بما له علاقة بالضحايا وجبر الضرر والتعويض، ناهيكم عن معاقبة المسؤولين وإصلاح نظام العدالة، ف “إسرائيل” على مدى أكثر من ستة عقود من الزمان كانت تعفي نفسها من أية مسؤولية سياسية أو جنائية أو مدنية أو أخلاقية، تجاه خرقها للقوانين الدولية والانسانية .

وهكذا فقد أقدمت على اغتيال محمود المبحوح بدم بارد متجاوزة   سيادات عدد من البلدان، منتهكة بكل استخفاف قواعد القانون الدولي، غير عابئة بردود الفعل الدولية، خصوصاً استخدام جوازات سفر دبلوماسية لعدد من البلدان الأوروبية، وقد كشفت التحقيقات أن طاقماً زاد على 26 عنصراً أسهم في هذه الجريمة . لقد أصرّت دولة الإمارات العربية المتحدة على ملاحقة المرتكبين وكشف خيوط الجريمة، ووضعت بذلك المجتمع الدولي والأمم المتحدة أمام مسؤولياتهما، وكذلك كشفت حجم التواطؤ الدولي، سواءً بتسهيل المهمات أو السكوت أو عدم اتخاذ إجراءات جدية إزاء تزوير جوازات سفر عدد من البلدان الأوروبية حيث قام الموساد بتزويد المرتكبين بجوازات سفر دبلوماسية لتنفيذ مهمتهم .

لقد أولت بعض المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية مسألة العدالة الدولية أولوية في نشاطها، الأمر الذي جعل تقاريرها محوراً جديداً للنقاش الداخلي والدولي بشأن الانتهاكات وسبل ملاحقة المرتكبين، خصوصاً وقد قدّمت بعض المنظمات الفلسطينية، لاسيما المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان معلومات الى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وكذلك الى القضاء الإسباني لملاحقة المرتكبين “الإسرائيليين” بمن فيهم بن أليعازار وستة آخرين من رفاقه، وقام القضاء الإسباني بتوجيه مذكرة اعتقال بحقهم .

وللأسف فقد أدى الضغط “الإسرائيلي” الى تبنّي البرلمان الإسباني قراراً يحدّ من التشريع الإسباني المتعلق بالولاية الدولية، لكن ذلك لا يمنع من تكرار مثل هذه المحاولات في إسبانيا، وفي غيرها من البلدان التي يأخذ نظامها القضائي بالولاية الدولية، حيث لا يزال الطريق سالكاً، حيث تسمح قوانين نحو 47 دولة باتباع هذا الطريق رغم الضغوط “الإسرائيلية” والأمريكية، وذلك بغض النظر عن مكان وزمان وقوع الجريمة وجنسية المرتكبين أو الضحايا، طالما هي جرائم دولية يحاسب عليها القانون الدولي .

وبخصوص ملاحقة المرتكبين في إطار القضاء “الإسرائيلي”، كما تقتضي قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 ونظام محكمة روما الأساسي لعام 1998 والذي دخل حيّز التنفيذ العام ،2002 فإنه من النادر أن تتكلل الشكاوى المُقامة في المحاكم “الإسرائيلية” على قلتها أية إدانة تُذكر، إذ لا يُعقل أن يصدر المتهم قراراً بإدانة نفسه وتجريمها، خصوصاً وهو من استخدم الأسلحة المحرمة دولياً ومن قام بالإرهاب والعدوان والاحتلال، ويستمر في بناء جدار الفصل العنصري ويحرم الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وبناء دولته الوطنية المستقلة .

إذا كانت “إسرائيل” تستخف بالمجتمع الدولي، لأنها في كل مرة تفلت من يد العدالة، الاّ أن ما قامت به دولة الإمارات من ملاحقة وإصرار لكشف جريمة، يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، لاسيما أن “إسرائيل” عادت وارتكبت جريمة جديدة عندما هاجمت قافلة الحرية السلمية، وقتلت 9 من ركابها المدنيين الذين جاءوا بمهمة إنسانية ينقلون مواد غذائية ودوائية ضرورية إلى سكان قطاع غزة المحاصر .

ولعل موقف تركيا الحازم إزاء جريمة “إسرائيل” بقتل مواطنيها ومن دعم سكان غزة المحاصرين، قد دخل كعنصر جديد في مقاضاة “إسرائيل”، بحيث لا ينبغي على هذه الجرائم أن تمرّ بلا عقاب، لا على المستوى الجماعي ولا على المستوى الفردي، إذ بإمكان الضحايا أو عوائلهم التقدم الى المحاكم الوطنية في الدول التي تأخذ بالولاية القضائية العالمية، بغض النظر عن جنسية المرتكبين ومكان وقوع الجريمة، لإقامة دعاوى لمحاكمة الجناة فضلاً عن طلب التعويض المادي والمعنوي .

باحث ومفكر عربي


1008
دلالات قمة نتنياهو أوباما نووياً   

 

عبدالحسين شعبان
ظلّ الجدل والنقاش الاستراتيجي “الإسرائيلي” متواصلاً، في ما يخص الردع النووي رغم تباين توجهاته، وهيمنة استراتيجية الغموض عليه، إلاّ أن هناك من يدعو إلى التحوّل نحو استراتيجية ردعية واضحة، يتمّ من خلالها تحديد خطوط حمر على الخريطة لا يُسمح بتجاوزها، لاسيما في حال تمّ الانتقال من نظام الدفاع التقليدي إلى نظام الدفاع النووي أو تفعيل الترسانة النووية .

ومثل هذه الخطوة تتطلب إظهار القدرات النووية الردعية وتحديد الشروط المسبقة لاستعمال السلاح النووي، كما تتطلب العمل على توفير نظام ردع فعّال ضد الأطراف المعادية، بحيث يسهم إزالة الغموض في إزالة الخطر على نحو حاسم .

أما الاتجاه الثاني، فيتمسك باستمرارية الغموض النووي، لاعتقاد أصحاب هذا الرأي بأن إزالة الغموض ستؤدي إلى انكشاف “إسرائيل” أمام أعدائها، وخصوصاً في سباق التسلح التقليدي الذي لا تضمن التفوق فيه، بسبب أوضاعها الاقتصادية والجغرافية والديموغرافية، في مواجهة بلدان عربية شاسعة وممتدة ومتنوعة .

وكان بيغن من أوائل المروّجين لهذه النظرية، بهدف منع أي طرف عربي من امتلاك القدرة النووية، حتى إن استدعى الأمر عملاً عسكرياً مضاداً، كما حدث في تموز /يوليو 1981 من قصف مدّمر للمفاعل النووي العراقي . ولعل ذلك ما يهدد باحتمال إقدام “إسرائيل” على قصف المفاعلات النووية الإيرانية، بغض النظر عن التداعيات الإقليمية والدولية التي ستنتج عن هذا الخيار .

وحسب شمعون بيريز فإن امتلاك “إسرائيل” للقدرات النووية هو ما دفع العرب والفلسطينيين للإذعان والذهاب إلى طاولة المفاوضات للتوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد، وأوسلو، وإبرام معاهدات الصلح المنفردة والسير في مسالك التطبيع .

وهناك اتجاه آخر في الوسط “الإسرائيلي” محدود جداً، يدعو إلى التخلي عن السلاح النووي، بسبب مخاوفه من هذا الانتشار في منطقة الشرق الأوسط، لاسيما أنه يرى أن الجغرافيا والديموغرافيا العربية ستكون قادرة على تعطيل أي ردع “إسرائيلي”، في ميزان الرعب العربي- “الإسرائيلي”، وبالتالي فإن “إسرائيل” ستكون عرضة للخطر، وستعود سيناريوهات الحروب التقليدية للظهور مما يسبب الإنهاك “الإسرائيلي” على جميع الصعد .

وحسب المنطق “الإسرائيلي”، فإن الاعتقاد السائد منذ إنشاء مفاعل ديمونة في صحراء النقب العام 1955 وحتى يومنا هذا، بأن امتلاك “إسرائيل” للقدرات النووية هو المدخل المناسب لإجراء أية تسوية، علماً بأن “إسرائيل” ترفض الانضمام إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتعمد إلى المبالغة في إضفاء هالة من الغموض حول برنامجها النووي، رغم أن امتلاكها للترسانة النووية واضح ومكشوف للعالم أجمع .

وكانت قمة أوباما - نتنياهو التي عقدت مؤخراً في واشنطن قد أعادت مجدداً طرح مسألة السلاح النووي “الإسرائيلي”، لاسيما بعد ما تردد في الكواليس عن تباعد في المواقف الأمريكية - “الإسرائيلية”، إثر إدلاء البعض في وزارة الخارجية الأمريكية بتصريحات تدعو “إسرائيل” إلى الانضمام إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، في سبيل إقامة شرق أوسط خال من كل أسلحة الدمار الشامل، وقد سبق أن تبنّت وزارة الخارجية الأمريكية بموجب وثيقة صادرة عن مؤتمر مراجعة معاهدة حظر الانتشار النووي الذي عقد في أيار/مايو الماضي، الدعوة إلى تنظيم مؤتمر دولي في العام 2012 بمشاركة جميع دول المنطقة، من أجل السعي لإقامة منطقة منزوعة السلاح النووي .

وقد دعت هذه الوثيقة “إسرائيل” إلى ضرورة الانضمام إلى المعاهدة ووضع جميع منشآتها النووية تحت نظام الضمانات الشاملة للوكالة الدولية للطاقة الذرية . وعلى الرغم من أن الدعوة لانعقاد هذا المؤتمر لا تحمل صفة الإلزام، كما أن الإشارة إلى “إسرائيل” لا تشكّل إلزاماً عليها، إلا أن مجرد دعوتها إلى هذا المؤتمر وذكرها بالاسم سبب استياءً “إسرائيلياً”، اعتبره نتنياهو والحكومة “الإسرائيلية” تراجعاً أمريكياً عن مواقف واشنطن التقليدية تجاه “إسرائيل”، مما أوجد نوعاً من الاحتكاك “الإسرائيلي” - الأمريكي . لكن هذا القلق “الإسرائيلي” سرعان ما تمّ تبديده خلال القمة الثنائية (التاريخية حسب بعض التوصيفات) بعد حصول “إسرائيل” على موافقة واشنطن بمنحها المواد الضرورية واللازمة لتشغيل مفاعلاتها النووية للأغراض المدنية، وهو ما حلّ عقدة الحصول على بعض المواد التي كانت تعاني في سبيل الحصول عليها مؤخراً، بسبب عدم انضمامها إلى نظام الضمانات الدولية التي توفرها الوكالة الدولية .

لقد لفت انتباه المراقبين، أنه إذا كانت العلاقات الأمريكية - “الإسرائيلية” قد شهدت توتراً عقب وصول أوباما إلى البيت الأبيض، وخصوصاً بعد التصريحات الرسمية التي صدرت عن إدارته بخصوص السعي لإقامة دولتين ودعوة “إسرائيل” للانضمام إلى معاهدة حظر انتشار السلاح النووي، إلا أنهم رأوا أن القمة الثنائية التي عُقدت بين نتنياهو وأوباما مؤخراً، أتت نتائجها لتصب في صلب الموقف “الإسرائيلي” من الترسانة النووية، وتبني خطة نتنياهو بشأن المفاوضات المباشرة .

إن دعم تل أبيب نووياً من قبل واشنطن يعني تفعيل التفاهم الأمريكي- “الإسرائيلي” لتنظيم العلاقات بين البلدين انطلاقاً من اتفاق العام ،1969 الذي تمّ التوصل إليه بين الرئيس الأمريكي نيكسون ورئيسة الوزراء “الإسرائيلي” غولدا مائير بعد فشل عدة محاولات أمريكية للضغط على “إسرائيل” للانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية .

أما مضمون التفاهم الجديد فهو يقضي باستمرارية الغموض النووي “الإسرائيلي”، على ألا تكون هنالك تجارب نووية جديدة، مع مراعاة عدم الضغط على “إسرائيل” للانضمام إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهي كلها شروط “إسرائيلية” بامتياز، الأمر الذي عُدّ تراجعاً أمريكياً أقرب إلى الترضية، ونجاحاً “إسرائيلياً”، أقرب إلى رد الاعتبار .

لقد عزّزت قمة نتنياهو - أوباما الاستراتيجية “الإسرائيلية” بشأن الردع النووي، لكونها وسيلة ضغط “إسرائيلية” على السلطة الفلسطينية وقيادة حماس والدول العربية لقبول المدخل “الإسرائيلي” للتسوية وفرض هيمنتها على المنطقة، وهذا هو جوهر التفاهم الأمريكي  “الإسرائيلي” خلال العقود الأربعة الماضية ونيّف، أي منذ عدوان حزيران/يونيو العام 1967 والذي تعزز باتفاق نيكسون-غولدا مائير بالأمس، وتمّ تجديد تأكيده في قمة أوباما نتنياهو اليوم .

باحث ومفكر عربي


1009

ثلاث سلطات تلاحق المثقف
      

عبد الحسين شعبان






يعتبر مصطلح "المثقف" مستحدثاً في اللغة العربية من أصل كلمة "Intellectual" حيث كانت العرب لوقت قريب تستخدم مصطلح "الأديب" أو تطلق لفظة "الكاتب" على ما تقصده بالمثقف اليوم أو ما يقع في دائرته.
ارتكزت السلطة المعرفية تاريخياً على ثلاثة أطراف هي أولاً: الحاكم الذي بيده الملك ويريد من الثقافة والمثقف حماية سلطته وبسط سلطانه والانصياع لقراراته، وثانياً العالِم الذي يمثل سلطة الفقيه الديني أو رجل الدين (الوسيط، والمؤدلج لما يريده الحاكم وحلقة الوصل مع الرعية) باستثناءات المثقف أو العالِم "المنشق" الذي يمثل "سلطة" الاعتراض والممانعة، وثالثا العامّي حيث يمثل "العامة" وهم المتلقون وجمهور "الرعية" أو "المواطنون" أو "الشعب" بالمفهوم الحديث.
أما اليوم فقد اختلف الأمر كلياً فلم تعد سلطة "الكاتب" (المثقف) "الجديد" مثل سلطة الكاتب "القديم" تستمد قوتها من الدين (وإنْ كان له قوامه الخاص)، لكنه أخذ تدريجياً يؤثر في الرأي العام ويساهم في تنمية العقل والوجدان وفي تجسيد الأخلاق ونشر الأفكار، مع أن هذه المكانة تصطدم في أحيان كثيرة بدور السياسي والديني وموقعه في سلطة القرار وبخاصة في البلدان النامية، ومنها بلداننا العربية والإسلامية.
وقديماً قالت العرب إن المتأدب هو "من يعرف شيئاً عن كل شيء، ويعرف كل شيء عن شيء". والأدب بمعناه الواسع الثقافة وهو "الأخذ من كل علم بطرف".
إن المعنى الاجتماعي اليوم لكلمة "المثقف" يتسع ليشمل كل من اشتغل بالثقافة إبداعاً ونشاطاً بما يتضمن العاملين في حقل العلوم الطبيعية والدين والفن والفلسفة والكتابة والصحافة والتأليف وغيرها.
ويواجه مثقف اليوم وبخاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ثلاث سلطات:
الأولى هي السلطة الرسمية الحاكمة، التي تحاول أن تطوّعه وتدجّنه بالإقناع أو بالاقتلاع.. بمحاربته بلقمة الخبز أو بمقص الرقيب أو بالعزل أو الاتهام أو السجن أو النفي أو بكاتم الصوت الذي يلاحقه، أي "بالقمع الفكري والأيدولوجي أو بالقمع البوليسي". وقد استعارت بعض المعارضات وربما بالعدوى "أخلاق" الجلاد أحياناً، فسارت في طريق العزل والتهميش والإقصاء إزاء الرأي الآخر.
أما الثانية فهي السلطة التقليدية أو ما نطلق عليه الثيوقراطية الدينية، وهي وإن لعبت أدواراً إيجابية في تخريج النخب، فإنها وقفت في بعض الأحيان ضد عمليات التطوير والتحديث تحت عناوين مختلفة، فتراها تتدخل أحياناً في حرق الكتب وإباحة دم المثقف وتحريم الأفكار، لدرجة أن الحداثة والشعر الحر يصبحان "بدعة وضلالا"، فما بالك بالمسرح والموسيقى والنحت والرقص وغيرها.
وإذا كانت فترة أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين قد شهدت ولادة مصلحين وتنويريين كبار أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميّل وسلامة موسى وفرح أنطوان وعلي عبد الرازق وصولاً إلى طه حسين، وخاصة بارتفاع رصيد الدعوات النهضوية، فإن انكفاء وتراجعاً شهدته الدول الوطنية -خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال- ساهم فيه إضافة إلى احتدام الصراع السياسي وشحّ الحريات، اندفاع المؤسسة الدينية أو بعض أطرافها، إما للانضواء تحت مؤسسة الدولة والعمل تحت راية الحاكم، أو للاندفاع بمعارضتها والعمل تحت راية "الإسلام السياسي"، لاسيما عبر تنظيمات دينية بمبررات اتهامها بعدم الالتزام بتعاليم الشريعة الإسلامية والخروج على الدين، وهو ما يسوّغ لها أعمال الإرهاب والعنف.
ويصبح كتاب مثل "ألف ليلة وليلة" أو "رباعيات الخيام" أو "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ أقرب إلى الزندقة، ويتم اغتيال الشيخ الجليل حسين مروة والمفكر المبدع مهدي عامل والباحث فرج فوده ويلاحق نصر حامد أبو زيد ويقاضى بتفريق زوجته -بما يسمّى بالحِسبة- باسم الدين، وظلّ يعيش في المنفى حتى رحيله، وتثار فتنة في القاهرة ضد حيدر حيدر وروايته "وليمة لأعشاب البحر" رغم مرور 17 عاماً على صدورها، وكذلك أثيرت حملة دعائية ضد الفنان اللبناني مارسيل خليفة بحجة تجاوزه على "المقدسات".
كل ذلك يجري باسم الدين في حين أن غاية كل دين هي الإنسان الحر، وذلك بعيداً عن أصابع المفسرين والمؤولين الذين يدّعون أنهم وكلاء الله، ويتم تدمير العقل ونعمة التفكير وهو موهبة ربانية ميز بها "الباري" الإنسان عن سائر المخلوقات، بل الثقافة كقيمة عليا تزيد من إنسانية الإنسان، فالإنسان جوهر كل دين وهدفه الذي يتجلى بالرحمة والغفران والتسامح والصفح والتآزر والحوار ".. وجادلهم بالتي هي أحسن.." (سورة النحل: 125).

إن مثل تلك الإجراءات والتنظيرات والمواقف المتشنجة التي تتعكز على الدين، لا يجمعها جامع مع الدين الإسلامي أو المسيحي أو أي دين آخر. ولا يمكن أن يجتمع الدين بما فيه من مُثل وقيم إنسانية، بالتصفية الجسدية بسبب الاختلاف في الرأي والتحريم للأفكار والآراء.
وفي الوقت الذي ينبري بعض رجال الدين المتطرفين والمتعصبين والغلاة برفع أصبع الاتهام إزاء أي رأي حر أو عمل إبداعي يفسرونه على طريقتهم "الظلامية"، تراهم يسكتون حين يُنتهك تراث العرب والمسلمين وتداس كراماتهم كل يوم وكل ساعة على مرأى ومسمع من السلطة التقليدية، سواءً بالاحتلال أو بالتبعية أو السجون أو الحصار أو الجوع أو الأمية أو التخلف أو تبديد ونهب المال العام، أو كل ذلك، ولا يتم تحريك ساكن "ضد سلطان جائر"!
وهل تكفي بعض أصوات الاحتجاج الخافتة إزاء استمرار الانتهاكات الصارخة والسافرة ضد الشعب العربي الفلسطيني أو العدوان الإسرائيلي ضد لبنان عام 2006 أو حصار غزة الذي يستمر منذ أكثر من أربع سنوات والحرب المفتوحة ضدها أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009، وكذلك ما تقوم به القوات المحتلة في العراق من أعمال وحشية منذ العام 2003، في حين تستثار "الغيرة" ويشمّر البعض عن ساعده إزاء نص إبداعي قابل للتفسير والتأويل وفق قراءات متعددة ومختلفة، أو اتخاذ موقف من النقاب في فرنسا أو الاستفتاء على الترخيص لبناء جامع أو تشييد منارة في سويسرا، الأمر الذي يعكس إزدواجية وعدم توازن بين قضايا أساسية وذات أولوية تتعلق بالوجود وبالإنسان وقضايا أخرى رغم أهميتها.
إن الذين يدّعون اليوم أنهم يسيرون على هدي السلف يتخذون مواقف متطرفة، بل مفرطة في الغلو والتعصب ولا يجمعها جامع مع الإسلام، بل ومع أطروحات السلف الذين كانوا أكثر انفتاحاً وتسامحاً وقبولاً لحرية الرأي والتعبير، لاسيما في العهود الإسلامية الأولى!!
أما السلطة الثالثة فهي قوة العادات والتقاليد وسكونية المجتمع، وتدخل فيها اندفاعات الغوغاء كعنصر ضاغط تستخدمه السلطات أحياناً -إضافة إلى الثيوقراطية الدينية- ضد حرية التعبير وحرية التفكير، وغالباً ما يستجيب المجتمع لما اعتاد عليه وما دلّ عليه تواتر الاستعمال من موروث وعادات وتقاليد. أما تأمّل الفكر وأجواؤه الرحبة والسير في دروبه المتعددة ومنعرجاته الكثيرة، فتراها بعيدة عن "العقل السائد" الذي يصبح كل جديد صادماً له، فضلاً عن المعوّقات والعراقيل التي يساهم التخلف في تعميمها كقاعدة، ويصبح التغيير والتجديد استثناءً.
إن العادات والتقاليد الموروثة التي عفا عليها الزمن، تشكل أحياناً عائقاً أمام تقدم المجتمع، خصوصاً إذا تم توظيفها سياسياً أو دينياً أو اجتماعياً بحيث تصبح حجر عثرة أمام التغيير، بل سلطة كابحة لكل جديد ومعرقلاً بوجه كل تقدم، ولا يختلف في ذلك إن كان "الموروث" دينياً أو طائفياً أو عشائرياً أو اجتماعياً أو غير ذلك، حيث يكون الجامع والمشترك له هو الوقوف ضد التقدم والتغيير.
إن الثقافة بمفهومها الواسع تشمل أنواع وأشكال المعرفة والمعتقدات والفنون والآداب والأخلاق والقيم والعادات والتقاليد ونمط العيش والسلوك، في حين يقصرها البعض على مفهوم ضيق يشمل الإنتاج الفكري والإبداعي بشكل عام.
وبقدر ارتباط الثقافة بالحياة تعبّر وتعكس درجة التقدم المادي، الاقتصادي والاجتماعي والتقني والعلمي، إضافة إلى اللغة والدين والفلسفة والفنون والآداب والمأكل والمشرب والأزياء والعمران.
وفي ثقافتنا فإن مكوناتها تستند إلى اللغة والدين والتراث بكل ما تحمله من مركبات، وتشكل قاعدة للهوية الثقافية بانفتاحها وتعدديتها وتفاعلها مع الغير وتأثرها وتأثيرها به، لا بانغلاقها وجمودها وعزلتها.
   


1010
الثقافة رؤية والسياسة تكتيك
ثقافة المثقــف: سلطة إثارة الأسئلة وإيقاظ دورة الوعي

عبد الحسين شعبان


ما الانسان دون حرية يا ماريانا؟
قولي لي، كيف أستطيع أن أحبّك اذا لم أكن حرّاً !؟
كيف أهبك قلبي اذا لم يكن مُلكي؟
                                           الشاعر الاسباني لوركا

لعل مدخل قصيدة لوركا يختصر هاجس الحاجة إلى الحرية، بمعناها الإنساني الواسع، الذي لا تستقيم حياة البشر دونه، ولأن ''المثقف'' كثير الهموم وكبير التطلعات وشديد الحساسية، فإن إحساسه بضرورة الحرية والفراغ الذي يتركه غيابها أو تقليص مساحتها، يلقي عليه أعباءً جديدة وضغوطاً ثقيلة تختلف عمّا يتعرض له غيره، وبالتالي فللحرية أو غيابها أثرها وانعكاساتها على فعله الثقافي ونشاطه الإبداعي.
أثار كتاب إدوارد سعيد ''صور المثقف'' جدلاً كبيراً بدأ في حياته ولم ينقطع بعد رحيله، لا سيما حول معنى ودور ووظيفة ''المثقف'' والثقافة بشكل عام، والمثقف العربي والثقافة العربية بشكل خاص، لا سيما في ظل التطورات العاصفة التي شهدها العقدان الماضيان ونيف، في ظل ''العولمة'' وثورة المعلومات والاتصالات والتقدم العلمي والتكنولوجي الهائل والثورة الرقمية (الديجيتل).
ويعد مصطلح ''المثقف'' مستحدثا في اللغة العربية من أصل كلمة Intellectual، حيث كانت العرب لوقت قريب تستخدم مصطلح ''الأديب'' أو تطلق لفظة ''الكاتب'' على ما تقصده بالمثقف اليوم أو ما يقع في دائرته.
ارتكزت السلطة المعرفية تاريخيا على ثلاثة أطراف هي أولاً: الحاكم الذي بيده المُلك الذي يريد من الثقافة والمثقف حماية سلطته وبسط سلطانه والانصياع إلى قراراته، والعالِم ثانياً الذي يمثل سلطة الفقيه الديني أو رجل الدين (الوسيط، والمؤدلج لما يريده الحاكم وحلقة الوصل مع الرعية) باستثناءات المثقف أو العالِم ''المنشق'' الذي يمثّل ''سلطة'' الاعتراض والممانعة، والعاميّ ثالثاً حيث يمثّل ''العامة'' وهم المتلقون جمهور ''الرعية'' أو ''المواطنين'' أو'' الشعب'' بالمفهوم الحديث.
أما اليوم فقد اختلف الأمر كلّيا فلم تعد سلطة ''الكاتب'' (المثقف) ''الجديد'' الكاتب ''القديم'' تستمد قوتها من الدين (وإنْ كان له قوامه الخاص)، لكنه أخذ تدريجيا يؤثر في الرأي العام ويسهم في تنمية العقل والوجدان وفي تجسيد الأخلاق ونشر الأفكار، مع أن هذه المكانة تصطدم في أحيان كثيرة بدور السياسي والديني وموقعه في سلطة القرار، وخاصة في البلدان النامية، ومنها بلداننا العربية والإسلامية.
وإذا كان للسلطة السياسية أدواتها ووسائلها لبسط نفوذها وفرض هيبتها، فالمعرفة على تعبير المفكر والفيلسوف البريطاني بيكون هي سلطة، أي أن سلطة المثقف هي معرفته ووسيلته الإبداعية لنشر ثقافته وبسط سلطانه، وكما يقال المعرفة: قوة أو سلطةKnowledge is power، إلا أن سلطة المعرفة تختلف عن السلطة السياسية والعسكرية من حيث التأثير والسلطان والجبروت، إذ إن الثانية تمتلك أدوات القمع، وبإمكانها أيضاً استخدام أدوات المعرفة والثقافة لفرض سلطتها القمعية.
وقد استخدمت الكثير من الأنظمة على نحو مترابط القمع السياسي البوليسي مرافقا للقمع الإيديولوجي الثقافي، وهو ما يتطلب من المثقف أن يحافظ على وسيلته الإبداعية وينأى بنفسه عن الاستخدام التوظيفي لثقافته من جانب السلطات، لإضفاء مشروعية على القمع السياسي، والمثقف الذي لا يخدم ولا يحترم معرفته وثقافته، فإنه بالتالي لا يحترم سلطته، أو يقبل بالتنازل عنها بالارتضاء بدور ''التابع'' و''الخاضع'' وقد يتحوّل إلى ''شاهد زور''!
فمن هو المثقف يا تُرى وما حدود سلطته؟!
يمكن القول باختصار أن المثقف الحالي حسب ميشيل فوكو يجسد ضمير الإنسان، الذي يوقظ فيه الوعي، ويبشر المجتمع بالحقيقة، وهو ما أطلق عليه اصطلاح ''المثقف الشمولي'' حامل رسالة التغيير.
أما جان بول سارتر الذي مثّل نموذج ''المثقف الشمولي'' بمواصفات فوكو، فقد دعا إلى الالتزام من جانب المثقف، وأصبح مفهوم ''المثقف الملتزم'' منذ الخمسينيات شائعاً، حسب تعبيرات سارتر والأدب الاشتراكي بشكل عام، خصوصاً ما سمي ''بالمدرسة الواقعية الاشتراكية''.
وكان كارل ماركس 1818- 1883 قد اعتبر المثقف ناقداً اجتماعياً، يعبّر عن ضمير المجتمع في البحث عن الحقيقة وحددّ وظيفته التي اعتبرها ''نقدا صارما لكل ما هو موجود، صرامة تحول دون تراجع النقد، لا أمام النتائج التي يقود إليها، ولا أمام الصراع مع السلطة أياً كانت''.
ودعا أنطونيو غرامشي 1891 – 1937 إلى ''المثقف العضوي'' الذي يتماهى مع الطبقة (العاملة) ويصبح عقلها المفكر وقلبها النابض، إلا أنه تحوّل في الواقع الفعلي إلى نوع من الاستلاب للأغلبية، وشكل من أشكال البيروقراطية ونمط صارخ من الاستبداد، خصوصاً في ظل أنظمة شمولية توتاليتارية وهيمنة أقليّة أو''أقلوية''. وقد أخذت تلك التجارب أنظمة ''العالم الثالث'' وما أطلقنا عليه ''أنظمة التحرر الوطني'' ومنها في بعض بلداننا العربية، لتضيف عليها نوعاً جديداً من القسوة والوحشية مصحوباً بالتخلف.
قضى غرامشي أكثر من 20 عاما من عمره القصير في السجون، ومن هناك كتب أهم رسائله ودراساته، وخرج منها بآراء واستنتاجات اعتبرت من جانب مدرسته الفكرية التقليدية خروجاً عن النصوص ''المقدسة''، بل مروقا، حيث دعا إلى ''وحدة المثقفين في كل مجتمع من مجتمعات العالم''، خصوصا أنه قسّمهم إلى قسمين: الأول – المثقفون التقليديون. أما القسم الثاني فهم المثقفون العضويون الذين يقع عليهم العبء والمسؤولية الكاملة في تحقيق أهداف المجتمع. وهو ما يمكن أن نطلق عليه اسم النخبة أو الصفوة Elite.
ويعتبر البعض ومنهم الناقد طراد الكبيسي أن نظرية غرامشي حول النخبة تقترب من نظرية ميكافيلي في كتابه ''الأمير''، والمثقف العضوي هو ''الأمير الحديث''، الذي يمكن أن يصنع القيم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية الجديدة عن طريق الممارسة، لا بالافتراضات النظرية.
لقد حدد غرامشي بذلك وظيفة المثقف العضوي، الذي اعتبره ألتوسير حامل المعرفة بوصفها عملية تمثيل نظري للموضوعات الخارجية، أي أن المثقف هو منتج الوعي. وركّز ماركوز على أن مهمة الفكر هي الرفض، أي كسر حدة الواقع والسيطرة عليه. ودعا هادي العلوي إلى ''المثقف الكوني'' المترفع من الخساسات الثلاث ويقصد بها: السلطة والمال والجنس، مقدّماً نقداً للمثقفين باقتفاء أثر لينين حول هشاشتهم وسرعة عطبهم وتقلباتهم.
أذكر نموذجين من المثقفين، الأول حسب توصيف غرامشي: ''كل إنسان في النهاية يمارس خارج مهنته فاعلية ثقافية ما، فهو فيلسوف، فنان، صاحب رأي، إنه يشارك في تقديم تصوّر عن العالم، له سلوك أخلاقي واع.. إنه إذن يسهم في دعم تصوّر ما عن العالم أو تعديله، أي أنه يسهم في ميلاد أنماط جديدة للتفكير''.
أما النموذج الثاني، فهو الذي أخذ به سارتر، الذي لا يميل إلى إضفاء صفة المثقف على العالِم''.. لن يُسمّى بالمثقف، العلماء الذين يشتغلون على تشطير الذرة لتحسين أسلحة الحرب الذرية، فهؤلاء علماء.. ولكن إذا اجتمع العلماء أنفسهم ووقعوا بيانا يحذر الرأي العام من استعمال القنبلة الذرية، إذ ذاك يتحولون إلى مثقفين...''.
وحسب المفكر الإنثروبولوجي البريطاني تايلور (أواخر القرن الـ 19) فإن المثقف هو ''ذلك الكلّ المعقّد، الذي يتضمن المعرفة والقصيدة والأخلاق والقانون والتقاليد، وكل ما يكتسبه الإنسان باعتباره عضوا في مجتمع إنساني''.
لقد تحدث ابن خلدون عن العمران بطوريه الحضري والبدوي، أي الحياة الاجتماعية بمختلف ألوانها وأشكالها، بما تعني الحضارة وما تعكس من ثقافة. وهو ما دعا إليه المفكر العربي المعاصر قسطنطين زريق حين اعتبرها ''نمطا من الحياة يتميز بخطوط وألوان من التقدم والرقي''، والمثقف مثلما ذهب إليه زريق في حاجة إلى معرفة وعقلانية والتصاق بقضايا المجتمع.
وقديما قالت العرب: إنّ المتأدّب هو ''من يعرف شيئا عن كل شيء، ويعرف كل شيء عن شيء''. والأدب بمعناه الواسع الثقافة وهو ''الأخذ من كل علم بطرفٍ''. وباستعارة عنوان كتاب الدكتور أحمد صدقي الدجاني هو ''عمران لا طغيان''.
إن المعنى الاجتماعي اليوم لكلمة ''المثقف'' يتسع ليشمل، كل من اشتغل بالثقافة إبداعا ونشاطا بما يتضمن العاملين في حقل العلوم الطبيعية والدين والفن والفلسفة والكتابة والصحافة والتأليف وغيرها.
ويواجه مثقف اليوم وبخاصة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ثلاث سلطات:
السلطة الأولى هي السلطة الرسمية الحاكمة، التي تحاول أن تطوعه وتدجنه بالإقناع أو بالاقتلاع.. بمحاربته بلقمة الخبز أو بمقص الرقيب أو بالعزل أو الاتهام أو السجن أو النفي أو بكاتم الصوت الذي يلاحقه، أي بـ ''القمع الفكري والأيديولوجي أو بالقمع البوليسي''. وقد استعارت بعض المعارضات وربما بالعدوى ''أخلاق'' الجلاد أحيانا، فسارت في طريق العزل والتهميش والإقصاء، إزاء الرأي الآخر.
أما السلطة الثانية فهي السلطة التقليدية أو ما نطلق عليه الثيوقراطية الدينية، وهي وإنْ لعبت أدوارا إيجابية في تخريج النخب، إلا أنها وقفت في بعض الأحيان ضد عمليات التطوير والتحديث تحت عناوين مختلفة، فتراها تتدخل أحيانا في حرق الكتب وإباحة دم المثقف وتحريم الأفكار، لدرجة أن الحداثة والشعر الحر يصبحان ''بدعة وضلالا''، فما بالك بالمسرح والموسيقى والنحت والرقص وغيرها.
وإذا كانت فترة أواخر القرن الـ 19 ومطلع القرن الـ 20 قد شهدت ولادة مصلحين وتنويريين كبار أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميّل وسلامة موسى وفرح أنطوان، وعلي عبد الرازق وصولاً إلى طه حسين، وخاصة بارتفاع رصيد الدعوات النهضوية، إلا أن انكفاءً وتراجعا شهدته الدول الوطنية، وخاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال، أسهم فيه إضافة إلى احتدام الصراع السياسي وشحّ الحريات، اندفاع المؤسسة الدينية أو بعض أطرافها، إما للانضواء تحت مؤسسة الدولة والعمل تحت راية الحاكم، أو الاندفاع بمعارضتها والعمل تحت راية ''الإسلام السياسي''، لا سيما عبر تنظيمات دينية بمبررات اتهامها، بعدم الالتزام بتعاليم الشريعة الإسلامية والخروج على الدين، وهو ما يسوغ لها أعمال الإرهاب والعنف.
ويصبح كتاب مثل ''ألف ليلة وليلة'' أو ''رباعيات الخيام'' أو ''أولاد حارتنا'' لنجيب محفوظ أقرب إلى الزندقة، ويتم اغتيال الشيخ الجليل حسين مروة والمفكر المبدع مهدي عامل والباحث فرج فودة ويلاحق نصر حامد أبو زيد ويقاضي بتفريق زوجته (بما يسمّى بالحِسبة) باسم الدين، وظل يعيش في المنفى حتى رحيله، وتثار فتنة في القاهرة ضد حيدر حيدر وروايته ''وليمة لأعشاب البحر'' رغم مرور 17 عاما على صدورها، وكذلك أثيرت حملة دعائية ضد الفنان اللبناني مارسيل خليفة بحجة تجاوزه على ''المقدسات''.
كل ذلك يجري باسم الدين في حين أن غاية كل دين هي الإنسان الحر، وذلك بعيدا عن أصابع المفسّرين والمؤولّين الذين يدّعون أنهم وكلاء الله، ويتم تدمير العقل ونعمة التفكير وهو موهبة ربانية، ميزّ بها ''الباري'' الإنسان عن سائر المخلوقات، بل الثقافة كقيمة عليا تزيد من إنسانية الإنسان، فالإنسان هو جوهر كل دين وهدفه الذي يتجلى بالرحمة والغفران والتسامح والصفح والتآزر والحوار''.. وجادلهم بالتي هي أحسن...''. سورة النحل – آية 125.
إن مثل تلك الإجراءات والتنظيرات والمواقف المتشنجة التي تتعكز على الدين، لا يجمعها جامع مع الدين الإسلامي أو المسيحي أو أي دين آخر. ولا يمكن أن يجتمع الدين بما فيه من مُثل وقيم إنسانية، بالتصفية الجسدية بسبب الاختلاف في الرأي والتحريم للأفكار والآراء.
وفي الوقت الذي ينبري بعض رجال الدين المتطرفين والمتعصبين والغلاة برفع أصبع الاتهام إزاء أي رأي حر أو عمل إبداعي يفسرونه على طريقتهم ''الظلامية''، تراهم يسكتون حين يُنتهك تراث العرب والمسلمين وتُداس كراماتهم كل يوم وكل ساعة، على مرأى ومسمع من السلطة التقليدية، سواءً بالاحتلال أو بالتبعية أو السجون أو الحصار أو الجوع أو الأمية أو التخلف أو تبديد ونهب المال العام، أو كل ذلك، ولا يتم تحريك ساكن ''ضد سلطان جائر''!
وهل تكفي بعض أصوات الاحتجاج الخافتة إزاء استمرار الانتهاكات الصارخة والسافرة ضد الشعب العربي الفلسطيني أو العدوان الإسرائيلي ضد لبنان عام 2006 أو حصار غزة الذي يستمر منذ أكثر من ثلاث سنوات والحرب المفتوحة ضدها في أواخر عام 2008 ومطلع عام 2009، وكذلك ما تقوم به القوات المحتلة في العراق من أعمال وحشية منذ عام 2003، في حين تستثار ''الغيرة'' ويشمّر البعض عن ساعده إزاء نص إبداعي قابل للتفسير والتأويل وفق قراءات متعددة ومختلفة، أو اتخاذ موقف من النقاب في فرنسا أو الاستفتاء على الترخيص لبناء جامع أو تشييد منارة في سويسرا، الأمر الذي يعكس ازدواجية وعدم توازن بين قضايا أساسية وذات أولوية تتعلق بالوجود وبالإنسان وقضايا أخرى على رغم أهميتها.
إن الذين يدعّون اليوم أنهم يسيرون على هدى السلف، يتخذون مواقف متطرفة، بل مفرطة في الغلو والتعصب ولا يجمعها جامع مع الإسلام، بل ومع أطروحات السلف، الذي كان أكثر انفتاحا وتسامحا وقبولا لحرية الرأي والتعبير، لا سيما في العهود الإسلامية الأولى!!
أما السلطة الثالثة فهي قوة العادات والتقاليد وسكونية المجتمع، وتدخل فيها اندفاعات الغوغاء كعنصر ضاغط تستخدمه السلطات أحيانا، إضافة إلى الثيوقراطية الدينية، ضد حرية التعبير وحرية التفكير، وغالباً ما يستجيب المجتمع لما اعتاد عليه وما دلّ عليه تواتر الاستعمال من موروث وعادات وتقاليد، أما تأمل الفكر وأجواؤه الرحبة والسير في دروبه المتعددة ومنعرجاته الكثيرة، فتراها بعيدة عن ''العقل السائد'' الذي يصبح كل جديد صادما له، فضلا عن المعوّقات والعراقيل التي يسهم التخلف في تعميمها كقاعدة، ويصبح التغيير والتجديد استثناءً.
إن العادات والتقاليد الموروثة، والتي عفا عليها الزمن، تشكل أحيانا عائقا أمام تقدم المجتمع، خصوصا إذا تم توظيفها سياسيا أو دينيا أو اجتماعيا، حيث تصبح حجر عثرة أمام التغيير، بل سلطة كابحة لكل جديد ومعرقلا بوجه كل تقدم، ولا يختلف في ذلك إن كان ''الموروث'' دينياً أو طائفياً أو عشائرياً أو اجتماعياً أو غير ذلك، حيث يكون الجامع والمشترك له هو الوقوف ضد التقدم والتغيير.
إن الثقافة بمفهومها الواسع تشمل أنواع وأشكال المعرفة والمعتقدات والفنون والآداب والأخلاق والقيم والعادات والتقاليد ونمط العيش والسلوك. في حين يقصرها البعض على مفهوم ضيق يشمل الإنتاج الفكري والإبداعي بشكل عام. وبقدر ارتباط الثقافة بالحياة فهي تعبّر وتعكس درجة التقدم المادي، الاقتصادي والاجتماعي والتقني والعلمي إضافة إلى اللغة والدين والفلسفة والفنون والآداب والمأكل والمشرب والأزياء والعمران. وفي ثقافتنا فإن مكوّناتها تستند إلى اللغة والدين والتراث، بكل ما تحمله من مركبات، وتشكل قاعدة للهوية الثقافية، بانفتاحها وتعدديتها وتفاعلها مع الغير وتأثرها وتأثيرها به، لا بانغلاقها وجمودها وعزلتها.


1011
سلطة المعرفة وتفتيش الضمائر
   


عبدالحسين شعبان
أخيراً غادرنا بصمت المفكر المصري نصر حامد أبوزيد، الذي أثار عاصفة من السجال والجدال طيلة عقدين من الزمان . اختفى مثل شهاب وهو الذي شغل الصحف وأروقة الجامعات وباحات الجوامع وقاعات المحاكم، بالأخذ والرد، والتأييد والتنديد، والمقدّس والمدنس، لما كان قد اجتهد فيه من قراءة تأويلية للنص الديني .

تم تكفير نصر أبوزيد وأصدرت إحدى المحاكم المصرية قراراً قضائياً تحت باب ما يسمى بالحسبة، لتفريقه عن زوجته السيدة ابتهال يونس، وأتذكر أن الموقف النقدي من حرية التعبير وحرية البحث العلمي منذ أواخر الثمانينات، وبشكل خاص في التسعينات كان أحد هموم ومشاغل الحركة العربية لحقوق الإنسان، وقد أثار قرار المحكمة المصرية بخصوص أبوزيد الذي هو أقرب إلى قرارات محاكم التفتيش في القرون الوسطى، نقاشاً وحواراً بدأ ولم ينقطع برحيله .

ورغم التحرك العربي ضد القرار، فقد اضطر نصر حامد أبوزيد، وفي ظل موجة تكفيره أو اتهامه بالمروق والارتداد، إلى الرحيل ووجد في إحدى جامعات هولندا (لايدن) مكاناً أميناً يعبّر فيه عن آرائه وأفكاره التي ضاقت بها القاهرة والعالم العربي، ومع كل ذلك فقد ظل يتطلع إليه، حتى إنه وهو يعاني من أثر فايروس أصابه في إندونيسيا التي كان يزورها بمهمة أكاديمية، فلم يفكر سوى بمصر، التي عاد إليها محمولاً على نقّالة مستشفى ليقضي آخر أيامه في القاهرة، وليرحل بعدها عن دنيانا . ورغم غيابه “اليوم”، إلاّ أنه كان أكثر حضوراً، وربما سيبقى لسنوات وعقود يعيش معنا وبعدنا، وسيُذكَر كلما جرى الحديث عن حرية التعبير وحرية البحث العلمي، وحركة التنوير .

أتذكر أننا اشتركنا معاً في محاضرة عن المفكر والباحث التراثي هادي العلوي بعد رحيله الذي كان يقدّره كثيراً، مثلما يقدّر أبوزيد، العلوي، وكان معنا الدكتور كاظم حبيب، والناقد ياسين النصيّر الذي أدار الأمسية الاستعادية النقدية عن هادي العلوي .

يمكنني القول إن مشروع نصر حامد أبوزيد هو جزء من مشروع التجديد الفكري للخطاب الديني، وأهم ما فيه أنه، رفض أن ينضوي تحت لواء السلطات القائمة أو يهادنها، سواء كانت سلطة الغوغاء التي تحركها أوساط سياسية أو دينية أو تقليدية معينة ولأغراض دينية أو غير دينية، أو سلطة المؤسسة الجامعية التقليدية، التي استعاضت عن العقل والحوار والجدل، بمسلمات ومقولات واجترار أقرب إلى التقديس .

حاول أبوزيد نقد “الثابت” و”الجامد” و”المتوارث” لاسيما من رثّ المفاهيم، مثلما سعى إلى تحريك الساكن والمستقر، في إطار الإنارة العقلية، خصوصاً أن مجتمعاتنا عانت من التآكل والركود، لدرجة أن الصدأ والتكلس أصابا الكثير من مفاصل الحياة الفكرية والثقافية . هكذا حاول حمل لواء التنوير من خلال محاضراته الأولى في الجامعة، إلى أن تبلور مشروعه الفكري باعتباره ينتمي إلى المدرسة العقلية في الثقافة العربية  الإسلامية، ولا شك في أن هذه المدرسة أسهمت مساهمة جدّية في ازدهار الحضارة العربية  الإسلامية، خصوصاً في عدم الأخذ بالتفسير الأحادي للنص القرآني، ولعل ابن رشد كان أحد أبرز رواد الاتجاهات العقلانية في ثقافتنا .

ومن الإضافات المهمة لأبي زيد أنه كان من دعاة فصل الدين عن السياسة، معتبراً أن العلمانية التي تقول بفصل الدين عن الدولة، ليست إلحاداً، لكنها عملية إجرائية ضرورية لفصل الدين عن السياسة، وهذا لا يعني فصل الدين عن المجتمع أو الحياة، فالدين على مساس وثيق بالمجتمع وحياة الناس ولا يمكن فصله عنهما، كما دعا أبوزيد إلى تحرير المرأة مُعلياً من شأن الكرامة الإنسانية، التي يُفترض أن تقوم عليها الدولة العصرية التي تستند إلى مبادئ سيادة القانون والمواطنة والمساواة والعدل .

لا تزال مسألة التأويل لم تكتسب شرعيتها في فكرنا العربي المعاصر، باعتبارها فعلاً منطقياً، لأنها تذهب إلى المقاصد والدلالات وتدخل في إثبات العقائد والضلالات، الأمر الذي قد يجعلها تبتعد عن الشريعة، في تجاوز المعنى الظاهري من الأشياء، ويعتبر أبوزيد أن الصيغة الشمولية للنص وتعددية آفاق قارئيه، هي التي تجعل التأويل المجازي ضرورياً، وهو ما حاول بحثه في كتابه “الخطاب والتأويل”، لاسيما علاقة المثقف بالسلطة، وهذا الكتاب هو امتداد لكتاب “مفهوم النص” والذي كان السبب في تكفيره، ولعل ذلك يذكّر بكتاب علي عبدالرازق “أصول الحكم في الإسلام” الذي صدر العام 1928 وجرى تكفيره والهجوم عليه إلى أن تراجع عنه أو عن بعض أحكامه لاحقاً .

كان نصر حامد أبوزيد ميّالاً إلى حداثة خاصة في قراءته للنص من خلال توظيفه في عملية تأويل شملت حتى النصوص “المقدسة”، عبر تحليل تاريخيتها، الأمر الذي خاصمه فيه المتعصّبون والمحافظون، واعتبروه خارجاً على الإسلام، في حين أنه حاول أن يقدّم قراءات مختلفة لما هو سائد، لاسيما أن قراءته هي الأخرى اجتهادية وتحتمل النقد والجدل مثل أية قراءة أخرى .

وبشجاعة واجه أبوزيد المحكمة حين رفض النطق بالشهادتين أمامها، معتبراً أنه ليس من حقها تفتيش الضمائر، وكان يرى أن إيمانه وكرامته لا يسمحان له بتقديم شهادة مبتذلة أمام جهة ليس من حقها مساءلته، وأن السؤال الوحيد والشرعي الذي يمكن أن يجيب عنه هو أمام الله، وليس أمام أحد آخر سواه .

لعل محاكمة أبوزيد واضطراره لاحقاً للذهاب إلى المنفى إحدى فضائح عصرنا العربي الرديء، فأين هي الحرية الشخصية؟ وأين هي حرية البحث والحريات الأكاديمية؟ حين تصدر محكمة قراراً بتطليق زوجة مفكر، لأنه اجتهد وفكّر واستخدم عقله، لتقديم تأويل عند قراءة نص معين، ولعل عمله اللاحق، ولاسيما في جامعة لايدن دفعه إلى تقديم قراءة مستنيرة للإسلام وللنصوص الإسلامية في وسط أكاديمي منفتح ساعياً لتأصيل العلاقة التاريخية بين العرب وأوروبا عبر العقل وعبر تجديد الفكر، بعيداً من روح الكسب أو الارتزاق أو استخدام الدين وسيلة لتمجيد الحاكم أو الحديث عن فضائل الغرب أو الطعن ببلاده ومجتمعه، وفي ذلك أحد الدروس العلمية والوطنية لمن يريد الاستفادة منها .

ظل أبوزيد حتى آخر أيام حياته متمسكاً بوسيلته الإبداعية، لا يريد أن يبارحها ماسكاً بسلاح القلم، سابحاً في بحور المعرفة من أجل تعميق وتجديد مدرسة العقل، تلك التي كان ابن رشد، أحد روادها الكبار في تاريخنا العربي  الإسلامي، محاولاً إضاءة بعض الجوانب المعتمة في حياتنا الفكرية والثقافية، الراكدة والمستكينة، لاسيما اتجاهاتها المحافظة، التقليدية، خصوصاً أن التعثر والانقطاع والانصياع للسائد والمهيمن، سواء كان سلطة أو ثيوقراطية دينية أو غوغاء اجتماعية، كان سمة غالبة، للوقوف بوجه التجديد والعقلانية والتنوير، لكن سلطة أبوزيد وهو ما اتضح، لاسيما بعد وفاته، كانت فعّالة ومؤثرة، وستبقى كذلك حتى بعد غيابه، ونعني بها سلطة المعرفة حسب وصف فرانسيس بيكون “المعرفة سلطة” وهو لم يرغب في أن يتخلّى أو يتنازل عن سلطته وبالتالي عن حقه في قراءة حرّة واجتهاد مفتوح .

 

باحث ومفكر عربي


1012
نصر حامد أبو زيد ومحنة التفكير والتكفير!

عبدالحسين شعبان
 
2010-07-26
تحدّيان أساسيان واجههما نصر حامد أبو زيد في العقد ونصف العقد الأخير من القرن الماضي، التحدي الأول: كيف يمكنه الصمود أمام غلاة التكفير، الذين اتهمومه بالمروق والإلحاد والخروج على الدين والمساس بالمقدسات، أما التحدي الثاني فهو يتعلق بقراءته للإسلام وتعاليمه، فكيف يمكن له أن يقدّمه بعيداً عن التعصب والتطرف والغلو، بل بما ينسجم مع روح العصر من خلال تأويل النص الديني.
ولعل مواجهة التحدي الأول جعلته يدخل معركتين في آن واحد، المعركة الأولى ضد التخلف والتأثيم والتحريم والتجريم، أما المعركة الثانية فهي من أجل التنوير من خلال تحرير النص الديني من قراءات وتفسيرات مسبقة بعيداً عن إضفاء نوع من القداسة والسكونية عليه بما يؤدي إلى سلب روحه وإهمال لُبّه!
وكان التحدي الأول قد واجهه أبو زيد من داخل المؤسسة الجامعية والوسط الأكاديمي، يوم أراد الحصول على ترقية جامعية ضمن تقاليد العمل الجامعي، فكتب بحثاً كان السبب وراء تفجير الضجّة التي بدأت في حياته ويبدو أنها لا تنتهي بعد رحيله، لاسيَّما تهمة الإلحاد. وكان وراء إثارة تلك الزوبعة تقرير كتبه رئيس لجنة الترقيات الدكتور عبدالصبور شاهين ضد بحث نصر حامد أبو زيد، الذي أصبح كتاباً فيما بعد. وكان شاهين ضمن اجتهاده وقراءته «الإسلامية» قد اتهم أبو زيد بالردّة، مشيراً إلى أن الأخير شديد العداوة لنصوص القرآن والسنّة النبوية والدعوة المحمدية، وأنه حاول النيل منها بإنكار المصدر الإلهي للقرآن الكريم وكذلك النيل من بعض الصحابة، وهو بذلك يروّج للعلمانية ويبرر لسلمان رشدي وروايته الشهيرة «آيات شيطانية»!
ووفقاً لما تقدّم وبسبب ملابسات قانونية تتعلق بحرية التعبير وحرية البحث العلمي، فإن الثغرة التي تم الدخول إليها لمقاضاة أبو زيد كانت «محكمة الأحوال الشخصية» التي قامت بإصدار حكم يقضي بتفريقه عن زوجته الدكتورة ابتهال يونس أستاذة الأدب الفرنسي في جامعة القاهرة، استناداً إلى نصوص فقهية للإمام أبي حنيفة النعمان، ووفقاً لما يسمى بالحسبة، على أساس أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم، أو البقاء على ذمته بعد ارتداده. وقد رفض أبو زيد الحكم كما رفض الإدلاء بالشهادتين معتبراً ذلك بمثابة تفتيش للضمائر، وأعلن تمسكه بزوجته مثلما تمسكت السيدة يونس بزوجها «أبو زيد».
وبما أن حياتهما أصبحت في خطر، لاسيَّما بمواجهته الغوغاء الاجتماعية والتحريض المعلن والمستتر ضد أبو زيد من المؤسسة الدينية أو من بعض أطرافها، لاسيَّما بعض رجال الدين، إضافة إلى اشتباكه مع المؤسسة الأكاديمية-الجامعية، وفيما بعد مع القضاء، فقد اضطر إلى اختيار المنفى، وصادف أن عرضت عليه جامعة لايدن في هولندا أن يكون أستاذاً زائراً في قسم الدراسات الإسلامية، ويقوم بالإشراف على طلبة قسم الدكتوراه في العلوم الإسلامية، وهو ما حصل فعلاً، واستطاع مفكر التنوير أن ينجو من ملاحقة فكر التكفير.
لكن أبو زيد الذي خرج من بلاده «هارباً» لم ينتقل إلى الضفة الأخرى ولم يرغب أن يعطي لفكر التكفير الحجة للمزيد من الاتهامات، بل دافع عن فهمه الحضاري للإسلام في المحافل الأكاديمية والعلمية في هولندا وأوروبا بل وفي العالم أجمع، لاسيَّما بعد أن أصبح أحد رموز التنوير والتفكير الحر، وأحد ضحايا حرية التعبير. وقد طوّر دراساته وأبحاثه وقراءاته التأويلية للنص الديني في إطار الانفتاح والجدل والبحث عن الحقيقة. ورغم إدراكه وتفهمه وقناعته للخصوصية الإسلامية، لكنه رفض توظيفها بما يؤدي إلى الانغلاق أو التحجر، ورفض اختصار هوية الإنسان ببعد واحد، كالدين مثلاً، فالهوية تأخذ أبعاداً متعددة وتتقدم بعضها في أوضاع معينة على البعض الآخر. فالهوية أحياناً تبدو مثل الطبقات الجيولوجية، فما أن تزيل طبقة حتى تظهر أخرى، وكلما انخفض بعدُ ارتفع آخر، كما أن تقدّم أي بعد لأسباب خاصة وظروف معينة، فإن ذلك لا يلغي الأبعاد أو العناصر الأخرى التي قد تتقدم في ظرف آخر! وهكذا فالهوية لا يمكن إلغاؤها أو إنشاؤها أو إحياؤها بقرار دون توفر الظروف الموضوعية والذاتية للتعبير عنها، وكان أبو زيد مع هوية منفتحة متعددة، لاسيَّما من خلال ردّه على أصحاب الخطاب الديني السائد والمهيمن، ويقصدون بها الانغلاق وعدم التفاعل مع الآخر بحجة النقاوة والتميّز والخوف من تأثيرات الغير، الأمر الذي يُسهم في إفقار الهوية ويساعد في عزلها عن التطور الإنساني.
إن مشكلة التكفير تكمن في إدعاء بعض الجماعات السياسية احتكار الحقيقة والأفضليات وحق النطق باسم الدين وباسم «الإسلام» ، بل تنصيب نفسها أحياناً ودون تخويل من أحد تمثيل «الله» وبالتالي تجيز لنفسها وخارج نطاق القوانين السائدة ملاحقة من تفترض فيهم مخالفة وجهات نظرها، بل وإنزال العقاب بهم، ولعل مثل هذه القراءات المخطوءة هي التي قادت بعض جماعات الإسلام السياسي إلى ممارسة الإرهاب واستخدام العنف وسيلة لحل النزاعات السياسية، بل وخلقت حالة من الفوضى النظرية والعملية.
لا يكفي المرء أن يكون منتمياً إلى جماعة إسلامية أو حزب أو تيار إسلامي، للادعاء بأنه الحكم في تطبيق الشريعة، وهو في الوقت ذاته الخصم أيضاً، لاسيَّما تعارضه مع تيار التفكير والتنوير والاجتهاد والنقد، سواءً كان لفرد أو جماعة، وفي حالة أبو زيد فإن التفكير والنقد والاجتهاد هي من حقوق الباحث التي تكفلها القوانين والأنظمة، لاسيَّما المتعلقة بحرية البحث العلمي، وأظن أن تاريخنا العربي - الإسلامي حافل بالكثير من الاجتهادات والقراءات التأويلية والجدلية للنصوص الدينية، ولعلها هي التي كانت السبب وراء ظهور مذاهب وتيارات فكرية ومدارس فقهية أسهمت في النهضة الحضارية التي كان الإسلام عمودها الفقري، لاسيَّما بتوفّر حرية البحث والنقد والاجتهادات المختلفة.
لقد أسهم التيار الإسلامي المتشدد والمتعصب بما يملك من وسائل دعائية وإعلامية ديماغوجية التأثير على الكثير من السياسات العامة وعلى تراجع الحريات الأكاديمية بشكل خاص والحريات بشكل عام، وحاولت بعض الحكومات مجاراته وتجنّب الصدام معه، خصوصاً أن صعوده كتيار بارز ارتبط بتراجع ونكوص التيار اليساري، الماركسي والقومي، وقد استغل هو بالذات ضعف الوعي والجانب العاطفي في مسألة الدين والحاجة الروحية إليه إضافة إلى الأوضاع المزرية التي تعيشها الكثير من المجتمعات الإسلامية، لاسيَّما باستشراء الفقر وتفشي الأمية والبطالة وانعدام الظروف الصحية الطبيعية، فعمد إلى إعلاء سقف مطالبه بفرض أنماط جديدة من الحجاب وإملاء برامج دينية معينة واستخدام أجهزة الدولة أحياناً للقيام ببعض الأنشطة السياسية «باسم الإسلام» بحيث أدى إلى ضعف تدريجي للطابع المدني للدولة، ناهيكم عن تصدّر الواجهات والمظاهر والأزياء والشعارات الإسلامية.
وبدلاً من توسيع دائرة الحريات والابتعاد عن تديين الدولة ومؤسساتها، فإن السلطات الحاكمة اتجهت إلى منافسة التيارات الإسلامية أحياناً، خصوصاً في بعض الطقوس والشعارات والمناسبات الدينية، كي لا تعطي الانطباع أنها تفعل ذلك نزولاً عند رغبة التيار الإسلامي، بل إنها هي من يحمل راية الإسلام بما يعطيها المزيد من الشرعية، ولعل ذلك سبباً كافياً لمحنة نصر حامد أبو زيد، التي انتقلت من الجامعة إلى القضاء ومنهما إلى الغوغاء، ولاحقته تهم الارتداد والإلحاد والمروق في دولة علمانية يكفل دستورها على أقل تقدير الحريات، دون أن تحرّك ساكناً، في حين كانت مصر ورغم جميع مظاهر النكوص، منارة للفكر والنقد والاجتهاد، امتازت نخبها الفكرية والثقافية والدينية بالحيوية.
ظل أبو زيد وهو في منفاه يفكّر ويتأمل ويكتب بعقلانية وحرّية مستنداً إلى تأويل واجتهاد للنصوص الدينية، وذلك عبر شرح وتفسير امتاز بالجرأة، منتصراً للدولة المدنية ولحرية التعبير على حساب الدولة الثيوقراطية الدينية المعلنة أو المستترة، ورغم عودته لفترة قصيرة إلى مصر وإلقائه محاضرة في مكتبة الإسكندرية، لكن حضوره كان مؤقتاً في حين كان يرنو إلى حضور دائم، وحتى بعد إصابته بفيروس وهو في مهمة أكاديمية في إندونيسيا، لم تكن مصر بعيدة عن تفكيره، وعاد إليها محمولاً على نقّالة مستشفى.
أخيراً رحل أبو زيد لكن أفكاره لن ترحل لأنها مدعاة للتفكير والتسامح والعقلانية في مواجهة التكفير والتعصب والتطرف!

*كاتب ومفكر عربي


       


1013
عن النقد والمراجعة الفكرية
   


عبدالحسين شعبان
ما زال فقه النقد والمراجعة الفكرية محدوداً الى درجة كبيرة، ولم يكتسب التأويل مشروعيته في إطار الخطاب العربي السائد، ولذلك يحجم الكثير من المفكرين من “التحرش” بالسائد أو نقده، لأن ذلك وفقاً للجهات المهيمنة: سلطة أو ثيوقراطية دينية أو غوغاء اجتماعية، ستتهمهم بالكفر والارتداد والمروق، ولعل ذلك حصل للعديد من المثقفين في عالمنا العربي، حين يُراد تفتيش الضمائر، ونستذكر هنا ما تعرّض له المفكر الراحل نصر حامد أبوزيد، الذي غادرنا قبل أيام، بإصدار قرار قضائي ضده يقضي بتفريقه عن زوجته، استناداً الى ما يسمى “الحسبة”، لخروجه على الدين، لاسيما قراءاته التأويلية للنصوص الدينية .

وإذا كان الفكر الديني عموماً يعلي من شأن النصوص ويتعامل معها بهالة أقرب الى التقديس، فإن الفكر القومي والفكر الاشتراكي الماركسي هما الآخران لم يسلما من مثل تلك “المقدسات”، لا سيما للنصوص القومية وبخاصة لميشيل عفلق مؤسس حزب البعث أو للنصوص الماركسية الاشتراكية، فكل فريق يتعامل مع نصوصه بوصفها “مقدساً” وما عداها “مدنّس” .

ولعل أي قراءة تأويلية لتلك النصوص، لا سيما تاريخانيتها وسياقها وظروف كتابتها والواقع الذي عبّرت عنه، ستعني لدى المتعصبين والمتزمتين والجامدين، ارتداداً وانحرافاً ومروقاً، وهو ما تجده لدى الكثير من كتب المذكرات من التيار القومي، لا سيما البعثي العفلقي، حيث يبقى عفلق وسلوكه السياسي ونصوصه خارج دائرة النقد، وهي موقف أقرب الى التديّن والإيمانية المطلقة منه إلى الفكر والعمل السياسي، وكذا الحال بالنسبة لماركس بشكل خاص والقادة الماركسيين بشكل عام، حيث يعتقد بعض المتمركسين الطقوسيين والشعارتيين والمدرسيين، أن نصوصه ونصوص القادة “مقدسات” ولا يمكن أن تُمس أو يشار إليها بالنقد .

ومع أن منهجه ظلّ صحيحاً، لا سيما اكتشافه المهم والمتعلق بقانون التطور البشري التاريخي إضافة الى قانون فائض القيمة، وهما اكتشافان أقرب إلى اكتشاف داروين لقانون تطور الطبيعة العضوية حسب انجلز، لكنه لم يكن كلّي الجبروت بحيث إن كل ما  قاله يصلح لكل زمان ومكان، خصوصاً أن عمره البيولوجي لم يكن يسمح له بدراسة أو التعمق في كل المعارف والعلوم، وإن كانت له مساهمات مهمة في الاقتصاد والفلسفة وعلم الاجتماع والسياسة والرياضيات وغيرها .

وظلّت ماركسية ماركس بعيدة عن قراءة تاريخ الشرق ودوره في التطور البشري، وكذلك لم تدرك أهمية ولزومية الدين في حياة المجتمعات الشرقية، لا سيما العربية والإسلامية، فضلاً عن عدم تقديره لدور علم النفس، خصوصاً أن النظريات الأساسية له، وبخاصة لمدرسة فرويد، لم يتم اكتشافها، وظلّت الماركسية السائدة، ولا سيما في الدول الاشتراكية، ترفض الاعتراف بذلك، بل تعتبره بدعة برجوازية، وحُرمت الجامعات الاشتراكية حتى أوائل الستينات من دراسة علم النفس أو الاعتراف به كعلم قائم بذاته يؤثر في علم الاجتماع السياسي .

ولم تكن مساهمات وقراءات ماركس “الماركسية” ذات شأن بخصوص دور الميثولوجيا والسرديات وعلم الجمال والنقد الادبي وغيرها، فضلاً عن رؤيته الطوباوية إزاء موضوع الدولة ومستقبلها، وهو الذي كان بشّر بذبولها، لكن ذلك لا يعني أن الماركسية أصبحت متحفية أو لا لزوم لها .

وقد أعادت الأزمة الاقتصادية والمالية الكبرى، التي شهدها العالم في أواخر 2008 ومطلع العام 2009 والتي لا تزال مستمرة، وبخاصة في قطاعات البنوك وشركات التأمين وبعض المؤسسات المالية الكبرى، طيف ماركس، باقتباس جاك دريدا الذي تحدث عن “أطياف ماركس” . وكانت قمة الدول الثماني الكبرى المجتمعة في تورنتو (كندا) أواخر شهر يونيو/ حزيران الماضي، ومعها قمة دول العشرين، وهما تسعيان إلى إيجاد حلول ومعالجات للأزمة، كأنها تقرأ في كتاب رأس المال لماركس .

وإذا كانت الماركسية تعني علم الرأسمالية، أي أنها كانت الأجدر والأفضل والأعمق في دراستها وتحليلها، لا سيما الاستنتاجات بشأن مستقبلها، وهي حتى الآن ما تزال صحيحة بخطوطها العريضة، مع الأخذ بنظر الاعتبار التطور العلمي والتكنولوجي الهائل الذي مثل ثورة حقيقية، وبخاصة في صناعة الإعلام والاتصالات والمواصلات والثورة الرقمية “الديجيتل”، فإن الماركسية هي الأخرى تحتاج الى وقفة مراجعة جدية لنقدها، سواءً نقد ماركس وبعض أطروحاته وتعليماته، أو نقد الماركسية ما بعد ماركس، من دون أن يعني ذلك اجترار الحديث حول الحتميات التاريخية، فالرأسمالية كما دلّ عليها تاريخياً لديها من الآليات لاستعادة حيويتها وتجديد نفسها، وهو ما أشار إليه مؤسسا الماركسية، ماركس وانجلز، منذ وقت مبكر .

لقد ظلّت الماركسية بعيدة عن النقد، وكانت محاولات التطوير والقراءات الجديدة لمدرسة فرانكفورت والأوروشيوعية لاحقاً محدودة التأثير، بحكم هيمنة التيار التقليدي الماركسي الذي يرجع كل شيء إلى ماركس بصنمية وقداسة، كان ماركس أول من عارضها ووقف ضدها .

أيجوز لنا اليوم الحديث عن الماركسية من دون ماركس؟ وهو الأمر الذي يعني أن ماركس كان مرحلة أولى ومهمة في الماركسية، وليس نهايتها والماركسية بهذا الفهم، لا سيما بلا ماركس، هي بلا نهايات أو بلا ضفاف بحسب روجيه غارودي، إنها منهج وضعي نقدي مفتوح وديالكتيكي، بمعنى أنها ليست أحكاماً جاهزة وسرمدية وخالدة .

لم يستطع ماركس ولا الماركسية الجدلية بعده، الحديث عن المجتمع الاشتراكي الاّ بصيغة “التنبؤات”، الأمر الذي كان في حاجة إلى فحص وتدقيق ضروريين، لأن ذلك يدخل في علم المستقبل، وبقدر تمكنّ الماركسية من تحليل الرأسمالية ونقدها على نحو رائع، لكن الموضوع لم يكن ممكناً بالقدر نفسه إزاء الاشتراكية المتخيّلة، لأن المستقبل لم يكن ولا يزال وسيظل غائباً، أما الرأسمالية فهي قائمة ومعلومة، ولها قوانينها ومؤسساتها ووسائل إنتاجها وقوى وعلاقات إنتاج، وقد أخذ ماركس ومنهجه “الماركسي” أي الجدلي على عاتقهما كشف عيوبها ومثالبها، والتبشير بنظام بديل عنها يضع الإنسان وحاجاته المادية والروحية في صلب حركته وهدفه، لإلغاء الاستغلال وتحقيق العدالة والمساواة .

وماركس هو الذي ردّد “لا علم كاملاً إلاّ في مملكة النحل”، ولعل كل شيء مهما بدا كاملاً فإن فيه شيئاً من النقص، وفي نقصه سرّ تقدمه، أي بنقده وقراءته تأويلياً . ويذكرني هذا الكلام بالفيلسوف العربي الصوفي، النفّري الذي كان يقول “كل علم مستقر يعني جهلاً مستمراً”، فالأشياء لا تحسب إلا بنسبيتها، ولعل ذلك كان استعادة لقراءة نقدية للتيارات الفكرية المختلفة، بمناسبة حلقة دراسية نظّمها مركز الجاحظ في تونس، الذي يرأسه المفكر التونسي صلاح الدين الجورشي، لكتابي “تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف” الذي حاولتُ فيه أن أعيد قراءة ماركس خارج النص المقدس، وعبر كشف حساب لماركسية كانت قد وصلت إلى العالم العربي، وبعض تعاليمها كان غير صالح للاستعمال، فضلاً عما أضفي عليها من نزعات ريفية ولمسات بدوية، ناهيكم عن أن الماركسيين الرسميين، وهم يجانبون فقه النقد، ويختفون وراء النصوص المقدسة، أهملوا المنهج وهو لبّ الماركسية وسداها ولحمتها، وتمسكوا بقشورها وترهاتها أحياناً .

باحث ومفكر عربي

1014
هل لا تزال الماركسية ضرورية؟
عبدالحسين شعبان
2010-07-19
ثلاث مفاجآت لفتت انتباهي في الأسابيع القليلة الماضية. المفاجأة الأولى هي صدور كتاب عن مركز «الأهرام» بالقاهرة عن «مأزق الحركة الشيوعية المصرية» وهو من تأليف طلعت رميح وقدّم له د. وحيد عبدالمجيد، وأهمية الكتاب تأتي من تجربة كاتبه الذي عمل في صفوف الحركة الشيوعية ثم قام بنقدها من داخلها ولكن هذه المرّة من منظار إسلامي، ولكن مقدّم الكتاب يجد أن الإنسانية ستظل بحاجة إلى الماركسية، ليس فقط باعتبارها منهجاً علمياً، ولكن لأن هذا المنهج هو دليل عمل ومرشد إلى مستقبل أفضل.
المفاجأة الثانية هي أن الاهتمام بالماركسية لم يعد محصوراً على الماركسيين أو «المتمركسين» بألوانهم المختلفة، فقد دفعت الأزمة الرأسمالية العالمية، بشقيها الاقتصادي والمالي جامعات ومراكز أبحاث ومختصين إلى دراسة الظاهرة الجديدة بالاستفادة من المنهج الجدلي- الماركسي. وقد كان اجتماع قمة الدول الثمانية (الكبار) وبعدها اجتماع قمة الدول العشرين المنعقد في تورنتو (كندا) في الأسبوع الأخير من شهر يونيو الماضي، قد توقف عند بعض الإجراءات لمعالجة تأثيرات الأزمة الاقتصادية والمالية الخطيرة، سواءً بتعزيز دور الدولة، ومساعدة بعض المصارف والشركات، والطلب منها التريّث إزاء مسألة الإقراض وزيادة الرقابة والشفافية وغيرها، لكن الأزمة حتى الآن ما تزال مستفحلة ومتفاقمة!
العودة إلى الماركسية لا تعني العودة إلى ماركس رغم أن طيفه حسب جاك دريدا يظلّ مخيماً، لكنها تعني العودة إلى منهجه لاستخدامه في تحليل الظواهر الجديدة، وبخاصة في ظل علوم القرن الحادي والعشرين وليس علوم القرن التاسع عشر، التي استفاد ماركس منها ووظّفها على نحو متميز، فالماركسية بقراءاتها التأويلية في عهد العولمة والحداثة أو ما بعدها، هي غيرها عمّا قبلها، وماركسية القرن التاسع عشر تختلف عن الماركسية المطبقة في الأنظمة الاشتراكية في القرن العشرين، وهذه اختلفت عنها قبل وبعد انهيار جدار برلين العام 1989، الأمر الذي لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار.
ويمكن القول إن ماركسية ماركس كانت بداية «للتمركس» وليس نهاية له، فالماركسية باعتبارها علم الرأسمالية، ظلّت منهجاً مفتوحاً لاسيَّما قراءته الجدلية لقانون تطور التاريخ الإنساني، فضلاً عن اكتشاف قانون فائض القيمة، باعتباره ملازماً للاستغلال، خصوصاً في ظل الرأسمالية، مهما تغيّر شكلها أو تبدّل اسمها، لأن جوهرها في نهاية المطاف، ظلّ واحداً، وهو أمر موضوعي ملازم لها.
الماركسية الوضعية النقدية هي إطار مفتوح ومتخالق لما بعد ماركس وطبقاً للمنهج الجدلي، فهي لم تكن ترى ماركس كلياً في عمله النقدي، بقدر ما كان نقدياً في علمه الكلي، أما مرحلة ما بعد ماركس، أي الماركسية دون ماركس، فنموذجها الأول الذي سقط هو الاشتراكية المطبقة، أما الماركسية المستقبلية، التي تأخذ منهج ماركس الجدلي بقراءات تأويلية للحداثة وما بعدها في عصر العولمة، فهي ما تزال حيوية في تحليلها وتفسيرها ونقدها للنظام الرأسمالي.
أما بخصوص علم المستقبل فهناك جزء مهم من الماركسية لا يزال تخيّلياً أو افتراضياً، وبحاجة إلى فحص وتدقيق ومراجعة مستمرة من خلال قوانين وأدوات وأساليب وتطبيقات، تتعلق بالانتقال إلى مرحلة إنسانية جديدة، ولكنها قد تطول وتأخذ أشكالاً مختلفة.
المفاجأة الثالثة: إن بعض الإسلاميين بدؤوا يهتمون بماركس، وقد لمست ذلك من خلال مداخلات عميقة ومنفتحة لعدد منهم خلال حلقة دراسية لمناقشة كتابي «تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف» الذي تضمن قراءات ارتجاعية في ضوء النقد الذاتي لتجارب تاريخية، وذلك في منتدى الجاحظ في تونس الذي يرأسه المفكر الإسلامي صلاح الدين الجورشي.
وكان أحد المتدخلين قد سألني إذا كانت الاشتراكية قد تهاوت في عقر دارها فما معنى الحديث عن راهنيتها وحيويتها، وماركس نفسه كان قد قال إنه ليس ماركسياً؟
يحلو للبعض تفسير كل نقد لماركس أو بعض جوانب من الماركسية كأنه ارتداد عن الماركسية أو براء منها أو التخلي عن منهجها، لاسيَّما وقد استدار كثيرون بعد انهيار التجربة الاشتراكية العالمية نحو الضفة الأخرى بعيداً عن محتوى ومضمون الماركسية تحت زعم الأمر الواقع وبحجة التغيير والتجديد، والبعض الآخر تمسك بقشور الماركسية وتطبيقاتها المشوّهة، واعتبر أي حديث عن المراجعة والتطوير سيعني تدنيسها، وأن أي نقد لماركس أو للماركسية السائدة في تطبيقاتها، سيخدم العدو الطبقي ويصّب الماء في طاحونته، حتى وإن حمل نوايا طيبة.
إن قراءة النص الماركسي تأويلياً والاستفادة من المنهج والبحث عن تعاليم تصلح لعهدنا، بعد أن كانت تعاليم ماركس تصلح لعهده، سيعني قراءة جديدة وحيوية وراهنية للماركسية دون ماركس، الذي لم يكن سوى حلقة من حلقاتها، لاسيَّما وهي ليست كاملة أو تمامية، وإنما مفتوحة في إطار الوضعية النقدية.
ولعل قصة قول ماركس إنني لست ماركسياً، تعود إلى مطلع الثمانينيات من القرن التاسع عشر وقبل وفاته بفترة قصيرة (1883) حين برز خلاف بينه وبين اثنين من مؤسسي الحركة الاشتراكية العالمية في فرنسا وهما جول غيد وبول لافارغ (زوج إحدى بنات ماركس) وبخاصة حول برنامج الحزب الجديد، لاسيَّما في قسمه الاقتصادي، وكان غول غيد يعتقد أن الثورة العمّالية مسألة مطروحة في وقت قريب وحتى مرئي، في حين أن ماركس كان قد قرأ المشهد بصورة مختلفة، خصوصاً بعد فشل كمونة باريس 1871، وهو ما دفعه لاتهامهما «بالجملة الثورية» ومحاولة حرق المراحل والاستخفاف بالنضالات العمالية التي ينبغي تعزيزها للحصول على بعض المكتسبات حتى في ظل النظام الرأسمالي.
وكان انجلز هو الذي نقل عن ماركس عبارته الشهيرة التي قال فيها تعليقاً على برنامج غيد ولافارغ وتطبيقاته: إذا كانت هذه هي الماركسية، فمن المؤكد أنني، أنا، لست ماركسياً. وكانت تلك المداخلة الساخرة لمؤسس الماركسية والمدرسة الاشتراكية تنبع من كونها تنطلق من عنوانين أساسيين:
العنوان الأول: إن تراث ماركس ونصوصه ليست كاملة أو منتهية، كما أنها لا تقدّم وصفة جاهزة قابلة للتطبيق لكل زمان ومكان، وإن التراث الفكري قابل للنقد، ونصوصه ليست معصومة أو مقدسة، قائمة على الإيمانية والتسليم العقدي، بقدر ما هناك قوانين عامة واستنتاجات خاصة بعد دراسة الواقع، الذي بطبيعته نقيض القراءة الجاهزة والمصنوعة التي تقدم الإرادة الذاتية والرغبة الخاصة عليه.
وبقدر ما كانت الماركسية في عهد ماركس تعي أهمية التراكم لإنجازات مباشرة وحتى محدودة، فإنها تدرك أن علم التنبؤ بكيفية إنجاز مهمة التحوّل وآلياته العملية أمر صعب، رغم ما تؤشر إليه القوانين العامة والاستخلاصات التي يمكن الوصول إليها عبر ذلك.
وهكذا كانت كتب واستنتاجات ماركس وانجلز مساهمات غنيّة للفكر الإنساني والتراث التقدمي والثوري العالمي، وهذا هو العنوان الثاني.
لعل الماركسية هي مجموعة قوانين وأفكار مفتوحة في إطار الوضعية النقدية، قابلة للإضافة والحذف والتطوير والإغناء، من خلال جهد معرفي تحليلي متواصل للواقع، خصوصاً إذا ما أخذت الاكتشافات الحديثة بنظر الاعتبار، وإذا كانت القوانين العامة صحيحة، فذلك لأن النظام السائد ما زال رأسمالياً بامتياز ومهيمناً ومستغلاً للعالم أجمع، ولذلك تبقى الإنسانية بحاجة إلى الماركسية وهو عنوان عرض كتاب «مأزق الحركة الشيوعية المصرية» كما جاء في صحيفة الشرق الأوسط!

*باحث ومفكر عربي




1015
سلطة العقل.. السيد فضل الله حضور عند الرحيل!
عبدالحسين شعبان
2010-07-12
ودّعت بيروت في موكب تشييعي كبير ومتميز العلامة السيد محمد حسين فضل الله، ومثلما غادر النجف التي أحبها، ترك هذه المرة بيروت التي عشقها دون عودة أو لقاء، والنجف التي هي مسقط رأسه وسكنت قلبه، مثل بيروت صِنوها وشقيقتها وتوأمها الروحي، كما أخبرني في إحدى المرات قائلا: لا أستطيع أن أفكر إلا بالانتماء إلى كليهما!»
لم أكن أتصور وأنا أتابع الحشود الكبيرة والجماعات المتوافدة والجهات الرسمية وغير الرسمية التي سارعت لتشارك في التشييع طواعية، إلا أن سلطة ما هي التي دفعتها لمثل هذه المشاركة، ورغم علمي بأن لا سلطة لفضل الله تقف وراءه وتدعمه سوى سلطة العقل، برجاحته وسعة صدره ودفء لسانه وتسامحه وقلبه النابض بالحب، عندها أدركت قوة تلك السلطة وهيبتها ونفوذها حتى لو كنت وحيدا وأعزل.
نعم لم يكن للسيد فضل الله سلطة سياسية، ولم يكن قريبا من أية سلطة سياسية، لكن تشْييعه المهيب الذي شهدته بيروت والعزاء الحار الذي أسهم فيه العالَمان العربي والإسلامي وإقامة العشرات من الفواتح على روحه، لفت الانتباه إلى سلطته المعنوية الكبيرة، وهي التي تذكرنا بما قاله الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون منذ قرون: «إن للمعرفة سلطة"، ولعل هذه السلطة هي سلطة العقل الأساس في تنمية الفكر والثقافة.
كان فضل الله يدرك بحسه وكبريائه أن من يمتلك سلطة العقل لا ينبغي عليه التفريط بها لحساب سلطات عابرة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو عسكرية أو غيرها، ولعل جميع هذه السلطات تحتاج إلى المعرفة وإلى العقل، وحتى لو لم يكن هناك إجماع على آرائه وأفكاره، فإن الإجماع على رجاحة عقله وعمق معرفته كان محط تسليم من الجميع بغض النظر عن آرائهم ووجهات نظرهم بالسيد فضل الله.
لقد عكس التشييع والفاتحة وتوافد المسؤولين حجم سلطة العقل التي امتلكها فضل الله رغم أنه كان «محاصرا»، فهو لا يأخذ بولاية الفقيه التي لا يجد أساسا لها في التاريخ الإسلامي. وهو إن كان مع المقاومة، لكنه كان مستقلا ووضع مسافة بينه وبين السياسة والحزبية، وهو إن كان متدينا لكن خطه كان مصدر إعجاب الكثير من غير المتدينين، وإن كان شيعيا، لكنه كان إسلاميا موحِّدا، رفض شتم الصحابة، واعتبر ذلك عملا لا يجمعه جامع مع الإسلام، والخلافة والإمامة أمور تاريخية لا ينبغي النزاع حولها، ولذلك هاجمه بعض المتعصبين والمتشددين، بل اعتبروه يسيء إلى المذهب وإلى الدين.
كان فضل الله داعية للحوار والتسامح والتقريب بين المذاهب والأديان، وكان يشعر أن ما يوحد المسلمين مع غيرهم عنوانان أساسيان هما الإيمان والإنسان، وأكد في أكثر من مناسبة أن ما يلتقي عليه المسلمون السنة والشيعة في الجوانب الفقهية يصل إلى مستوى %80، وطالبهم أن يستوحوا المرحلة التي عاش فيها الخلفاء الراشدون، بعيدا عن اتهام كل فريق للآخر بالضلال والكفر. وكنت قد سألته عن قصة من جاء إلى العلامة الراحل محسن الأمين وطلب منه أن يبدل مذهبه من المذهب السني إلى المذهب الشيعي فقال بتندّر: فما كان من الأمين إلا أن قال له قل: "لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وهو ما ظل يردده على مسامع زائريه.
لعله كان أقرب إلى فكرة الإمام علي بخصوص المسلم والإنسان، عندما خاطب مالك بن الأشتر النخعي وهو عامله في مصر موصياً إياه بالبشر قائلا: لا تكن عليهم (أي على الناس) سبعا ضاريا لتأكلهم، فالناس صنفان: أما أخ لك في الدين (أي مسلم مثلك) أو نظير لك في الخَلق (أي بشر مثلك) أيضا. وذلك تيمنا بما ورد في القرآن الكريم على لسان الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: «قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمنّ على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون» (سورة إبراهيم:11). وكذلك ما ورد في سورة الكهف على لسان النبي محمد أيضا حيث يأمره الله بمخاطبة الناس: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد» (صورة الكهف:110).
حاول فضل الله ترسيخ الفهم المتحرر للإسلام والدفاع عن هويته التنويرية لحضارته ضد الذين يحاولون «تحويلنا إلى حطام إيديولوجي» وضد «الذين يتقنون تعذيب النصوص». كان يريد لسلطة العقل أن تسود ضد «وثنية الجسد» الذي هو وعاء الروح وضد مفهوم «الزنزانة المقدسة»، ويرى أن الحياة ينبغي أن تعاش لا أن يتم اغتيالها.
تميّز بالجرأة في طرح آرائه وأطروحاته الفقهية بانفتاح كبير على التطور العلمي وعلى تفسير الإسلام بما ينسجم مع روح العصر. ولذلك أفتى باعتماد الفلك والأرصاد لإثبات شهر رمضان وانتهائه، وتحديد الأعياد وغيرها، وأفتى بتحريم القتل باسم «جرائم الشرف»، وقال إن ختان النساء ليس من السنن الإسلامية، وأفتى للمرأة برد الاعتداء عليها دفاعا عن النفس إذا حاول زوجها أو أخوها ضربها، وحظر ضرب الرؤوس بالسيوف خلال أيام عاشوراء، لاسيما يوم العاشر من محرم يوم مقتل الحسين في معركة الطف بكربلاء عام 61هـ، واعتبر ذلك محرما لسببين الأول لأنه إيذاء للنفس (التطبير) والثاني لأنه تشويه للدين وسمعة المسلمين، وقد اقتفى بذلك أثر العلامة السيد محسن الأمين الذي توفي عام 1952 والسيد آية الله أبوالحسن الذي توفي عام 1946.
طرح فضل الله نفسه مرجعية شيعية مستقلة، الأمر الذي شهد توترا في علاقته مع إيران وحزب الله، واعتبره البعض ممالئاً لقوى معادية، علما بأن علماء النجف لم يكونوا مع مبدأ ولاية الفقيه تاريخيا، وهو مبدأ حديث واجتهاد مختلف عليه.
واعتبر فضل الله الشيعة العرب المسلمين غير تابعين لإيران لا بالمعنى السياسي ولا بالمعنى الديني، ويمكن القول ولا بالمعني التاريخي، معتبرا الشيعة مخلصين لأوطانهم ولمجتمعاتهم، مثلما كان محمد مهدي شمس الدين يدعو إلى اندماجهم في أوطانهم ومجتمعاتهم، وهو ما لخصه في كراسة عشية وفاته بعنوان «الوصايا».
ولم يقل فضل الله بشروط الذكورة في المرجعية، الأمر الذي يعني حق النساء في تبوّؤ المرجعية، بما فيها الرئاسة أو القضاء أو الإمامة، معتمدا على مبدأ قاعدة المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والكرامة، مستشهدا بالآية القرآنية «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف».
مثّل فضل الله سلطة العقل ساعيا إلى أن تكون سلطة الحق، خصوصا أنه مثل الاعتدال والتسامح مقدما الإسلام بثوب عصري ولون حضاري وطابع إنساني!!
إذا كان فضل الله قد رحل عن دنيانا، فإن ما تركه لنا من ثروة عقلية ومعرفية سيبقى معنا وبعدنا مئات السنين.

* باحث ومفكر عربي
 


       


1016
الاغتيال السياسي .... مقاربة سسيو ثقافية حقوقية


عبد الحسين شعبان

باحث ومفكر عربي
تمثل قضية الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة ظاهرة خطيرة في الوطن العربي، وللأسف الشديد إنها أخذت بالتوسع والانتشار، في الوقت الذي يتطور فيه الوعي العالمي باحترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية. ولم تعد هذه الظاهرة تقتصر على الحكومات التي عمّقت وطوّرت من أساليبها ووسائلها العنفية، بل إمتدّت لتشتمل قوى خارج السلطات، حيث اعتمدت قوى التطرف والتعصب والغلو على وسائل مماثلة لحل النزاع بينها وبين السلطات ولمعارضة اجراءاتها وممارساتها الارهابية بأعمال إرهابية. وقد جرى اغتيال بعض الشخصيات الثقافية والفكرية والسياسية اللامعة بفعل سيادة ظاهرة تغييب الرأي الآخر وإن اقتضى الأمر إلغاء حق الحياة الذي هو حق أساس للانسان لا يمكن الحديث عن أية حقوق أخرى في ظل اهماله.
وقد نصّت المادة الثالثة من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في 10 كانون الاول (ديسمبر) 1948 على ما يلي: " لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه". وقد جاء حق الحياة والحرية والسلامة الشخصية في مادة واحدة وبصورة لا تخلو من التلازم، وأوضحت المواد التي تلتها تأكيداً لحق الحرية والسلامة الشخصية بعض الحقوق التكميلية كعدم جواز الرق (المادة 4) وعلى تحريم التعذيب والمعاملات القاسية الحاطّة بالكرامة (م-5) وحق الاعتراف بالشخصية القانونية (م-6) والمساواة أمام القانون (م-7) وحق اللجوء الى المحاكمة للانصاف من الاعتداء على الحقوق الاساسية (م-8) وعدم جواز القبض على الانسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً (م-9).
ونصّت المادة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966  والذي دخل حيّز التنفيذ العام 1976 على ان " حق الحياة حق ملازم لكل انسان وعلى القانون أن يحمي هذا الحق ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً ".
ان هذه الحقوق إضافة الى حقوق أخرى، ملازمة لحق الحياة ومكمّلة له في أي مجتمع متمدن، إذْ لا يمكن الحديث عن تلك الحقوق بدون حماية حق الحياة، الأساس الذي تصب فيه وتتمحور حوله بقية الحقوق.
هذه المقدّمة كانت تمهيداً لمحاضرة ألقيتها في لندن في الكوفة كاليري بمناسبة اغتيال الشيخ طالب السهيل التميمي في بيروت. ولا أهدف من وراء هذا التقديم الحديث عن ظاهرة الاغتيال والقهر السياسي في التاريخ العربي فذلك أمر عويص، لكنني أود أن أشير الى أن الظاهرة، قد تطورت كثيراً بتطور وسائل العلم والتكنولوجيا، علماً بأن الهدف ظل واحداً وإن اختلفت الوسائل، ألا وهو إلغاء حق الخصم في التعبير، والاجهاز على الرأي الآخر حتى وإن تطلب الأمر التصفية الجسدية،  أو إذلاله للتخلي عن أفكاره وآرائه ومعتقداته.
وأياً كانت الذرائع المستخدمة سواءً سياسية أو فكرية، واياً كانت المبررات سواءً كانت " طبقية" أم قومية" أم " دينية" أم " مذهبية"، وأيا كانت الوسائل المتبعة: رصاصة أو سكيناً أو كاتم صوت أو كأس ثاليوم أو حادث سيارة أو تفجيراً أو مفخخةً أو عبوة ناسفةً، فإنها من زاوية علم النفس الاجتماعي تلتقي عند عدد من النقاط هي باختصار:
الأولى – انها تستهدف تغييب الخصم والغاء دوره ومصادرة حقه.
الثانية- انها تعتمد على الغدر وإخفاء معالم الجريمة في الغالب.
الثالثة- انها تتسم بسرّية كاملة وقد يقوم بها بعض المحترفين.
الرابعة- انها تستخدم كل الأساليب لتحقيق أهدافها من أكثرها فظاظة وبربرية الى أكثرها مكراً ونعومة، بحيث يمكن إخفاء أي أثر يستدل عليه من الضحية.
الخامسة- الحرص على اخفاء هوية المرتكبين وقد يمشي المجرم في جنازة الضحية وقد يدفع الذهن للانصراف الى أطراف أخرى بهدف التمويه ودق الأسافين وتوريط جهات أخرى.
السادسة- أنها تتجاوز على القانونية والشرعية سواءً كانت حكومات هي المسؤولة عن تطبيق القانون والشرعية وهكذا يُفترض أو كانت من قوى التطرف التي عانت من الانتهاكات والتجاوزات والارهاب، فأقدمت هي الأخرى على إصدار أحكامها بعيداً عن المحاكم والشرعية والقانون، منصّبةً نفسها كجهاز تنفيذي وقضائي في الآن ذاته، بل كجهاز تشريعي " مخوّل"، محللة استخدام كل الوسائل للقضاء على الخصم.
ومهما كانت المبررات والأسباب التي استخدمت لتبرير الاغتيال وظواهر العنف والعنف المضاد والقهر، فإن هذه الظواهر تنتشر في ظل غياب الديموقراطية وعدم الاعتراف بالتنوع وانكار التعددية الفكرية والسياسية والدينية، وانعدام حالة الحوار بين السلطة والمعارضة وبين الجماعات والتيارات العقائدية والسياسية.
لعل اللجوء الى تصفية الخصم انما يعكس حالة الضعف والخوف من جانب الجهات التي تلجأ الى وسائل العنف والاغتيال والقهر لحل خلافاتها السياسية والفكرية، فالحكومات أو القوى التي تثق بنفسها وتشعر انها تحظى بتأييد الرأي العام ومؤسساته، ناهيكم عن الشفافية والرقابة والمساءلة ووجود قضاء مستقل، لا تلجأ الى مثل هذه الاساليب لأنها ستغامر بواقعها ومستقبلها، لاسيما إذا كانت تحكم بصورة شرعية أو وصلت الى الحكم عن طريق الانتخاب واختيار الشعب، ولذلك فهي لا تفكر في اللجوء الى وسائل العنف أو الاغتيال لالغاء حق الخصم في التعبير الذي قد يصل الى الغاء حياته.
ولا بدّ من الاشارة الى أن الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة هما أسوأ درجات انتهاك حقوق الانسان، وهما دليل ضعف وليس وسيلة قوة، ولذلك فإن الجهات التي تلجأ اليهما أحياناً، تحاول التنصّل منهما رسمياً أو تنفي مسؤوليتها عن أعمال ترتكب باسمها، بل تحاول خلط الأوراق لضياع هوية المرتكب.
كما لا بدّ من الاشارة الى أن القوى التي تلجأ الى الاغتيال ومصادرة حق الحياة في الغالب، تزعم أن لديها أفضليات وتقوم بممارسة تلك الأعمال استناداً الى  الايمانية المطلقة أو اليقينية الثابتة، وهي جزء من الفكر الشمولي، الاطلاقي الوحيد الجانب، وهي لا تؤمن بالتعددية وبحق الآخرين، بل تعطي نفسها الحق أحياناً في تأثيم وتحريم وتجريم الآخرين، أو مصادرة حقوقهم تارة باسم " الشعب" وأخرى باسم الأمة أو القومية أو مصالح الكادحين وثالثة باسم الدين.
ولا يربط القوى والجماعات التي تعتمد على الاغتيال والعنف رابط مع العقلانية والمدنية والديمقراطية أو الموضوعية، فالانحياز المسبق والتفكير المعلب المصنوع خصيصاً من نسيج التصورات الناجزة هو الذي يفعل فعله ويحكم علاقة هذه القوى والجماعات بالآخرين وبالموقف منهم، خصوصاً وأنها تستخدم أساليب القهر السياسي وسيلة لحل الخلافات مع الآخرين. أما الآخر بالنسبة لها فهو المريب الغريب، الخارج على ما تؤمن به وتسعى لتحقيقه، ولهذا فهي تبرر ما تقوم به ضده وما تفعله بخصوصه.
ولم يكتفِ من يزعم أن الحقيقة بجانبه باستخدام الاغتيال وسيلة لتغييب الآخر، بل يلجأ أحياناً الى اعتماد محترفين للقيام بمهمات الاغتيال ويلجأ الى استئجار مرتزقة وقد شاعت فضيحة بلاك ووتر في العراق وما قامت به من أعمال قتل في وضح النهار أحياناً إضافة الى عملياتها السرية وذلك بعد احتلال العراق، وأحياناً يقوم هؤلاء بإجبار الضحايا على القيام بارتكاب جرائم للنجاة بأنفسهم، مقابل اغتيال خصوم تختارهم هي.
كما تعتمد بعض الجهات الارهابية أحياناً على بعض الديبلوماسيين والبعثات الديبلوماسية التي تتمتع بالحصانة الديبلوماسية بموجب اتفاقية فيينا لعام 1961 حول " العلاقات الديبلوماسية " وفي الكثير من الأحيان ساهم بعض الموظفين الدبلوماسيين في تهريب الأسلحة والمعدّات ووسائل القتل بالحقائب الديبلوماسية، مستفيدين من المزايا التي تمنحها اتفاقية فيينا.
هكذا تتحول الديبلوماسية التي هي جناح من أجنحة الدولة تطير بها لإظهار حسن علاقتها مع الآخر ولحماية مصالحها الوطنية ورعاياها خارج البلاد ولتعزيز وتطوير علاقاتها الدولية، الى جهاز من أجهزة القمع يجمع بعض المحترفين من القتلة بحيث تساوي الديبلوماسية " عين المقر" على حد تعبير حسن العلوي في كتابه" دولة المنظمة السرية" وهي لا تعني سوى عين استخبارية مصحوبة في لغة فكر- الاستبداد- بالعنف والارهاب.
وحين نكون أمام حالة انعدام المعايير واختلاط الرغبة في تطويع الآخر بتبرير حق تصفيته وادعاء امتلاك الحقيقة والرغبة في الحفاظ على المواقع بمصادرة حق الآخرين بما فيهم حياتهم، فإنها الخطوة الأولى لمصادرة القانونية والشرعية، بل والانسانية في الانسان، وهي مقدمة لإلغاء حياته ووجوده حتى وإن كان بريئاً أو مظلوماً، سواءً كان الهدف خلق الرعب في صفوف الآخرين أو "مواجهة" الله قرباناً لزرع العدل على الأرض، كما سمعنا الكثير من المسوّغات، لاسيما من قبل الاسلامويين في إيران أو غيرها من القوى المتطرفة.
أغلب الظن أن الذين يمارسون الارهاب والعنف ويصدرون أوامر الاغتيال يريدون أن يصوروا الأمر لنا على هذه الشاكلة: هكذا يموت الانسان بدون مرتكب، بالمصادفة يشرب كأس الثاليوم وعن طريق رصاصة طائشة تستقر في رأسه يفارق الحياة وبقدر غاشم تصطدم سيارته أو تسقط طائرته أو يلقى على قارعة الطريق أو عن طريق حزام ناسف وانتحاري غير معروف الهوية، وتلقي السلطات القبض على الضحية ويهرب الجناة.
هكذا يريدون أن نصدّق بأن الأشياء تحدث بدون مرتكب سوى الصدفة المجنونة، وفي الواقع ليس ذلك سوى إهانة للعقول وتمادياً في الزيف واستخفافاً بالمنطق.
والاغتيال لم يعد فردياً، فقد وسّعت الحملات الجماعية من مفهومه وتحول الى نوع من العقوبة الجماعية، حروب إبادة لجماعات عرقية أو دينية أو مذهبية وأحياناً لشعوب بكاملها، فلم تكتفِ اسرائيل والصهيونية العالمية بإلغاء وجود شعب فلسطين وحقه في الحياة وتقرير المصير، بل اقتطعت أجزاء عربية عزيزة في جنوب لبنان والجولان السورية وغيرها، وامتدت يد الارهاب الصهيوني لتحاول اقتلاع بعض رموز ثقافة المقاومة ولتجهز على مثقفين بارزين أمثال غسان كنفاني، الذي طارت أشلاؤه في بيروت بانفجار سيارته وكمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، الذين اغتيلوا في وضح النهار بقرصنة اسرائيلية في بيروت، وماجد أبو شرار في روما وخليل الوزير (أبو جهاد) الذي اغتيل في تونس وباسل الكبيسي في باريس وناجي العلي في لندن ومحمود المبحوح في دولة الامارات العربية وآخرين.
وكان رد الفعل الامريكي بشكل خاص والغربي بشكل عام إزاء أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الاجرامية، التي حصلت في الولايات المتحدة، عنيفاً، وهو لم يكتفِ بالضغط على الجاليات العربية والمسلمة، والتضييق على بعض الحقوق المدنية، الأمر الذي استفزّ منظمات حقوق الانسان في العالم أجمع، بل ذهب بعيداً حين برّر احتلال أفغانستان وغزو واحتلال العراق بحجة مكافحة "الارهاب الدولي" في حين أن العالم العربي والاسلامي كان من أكثر ضحايا الارهاب الدولي على مدى عقود، وهو ما لم تأخذه واشنطن بنظر الاعتبار قبل أن تمتد يد الارهاب اليها والى الغرب عموماً.
كما لم تكن حكومات عربية أكثر رحمة مع الفلسطينيين من غيرهم، كما أن بعضهم لم يكن أقل عنفاً من " الغرباء"، لاسيما في الصراعات العربية- الفلسطينية والفلسطينية – الفلسطينية. وكان الرصاص المشبوه الهوية قد تكفلته الصراعات الداخلية، وحلّ محل الحوار والعقلانية وحق الاختلاف وحرية التعبير... رصاص ملتبس ومتسلل وإن تعددت المصادر والجهات، ولعل صراع حماس مع فتح (غزة والضفة) الذي ما يزال مستمراً منذ ثلاث سنوات ونيف خير دليل على ما نقول في حين تمارس الآلة العسكرية الاسرائيلية قضماً تدريجياً للقدس والأراضي الفلسطينية، خصوصاً بناء جدار الفصل العنصري، كما يستمر الحصار اللاانساني ضد قطاع غزة والعدوان المتكرر والمفتوح، لاسيما بعد الحرب التي قادتها اسرائيل ضد سكان غزة أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009 والتي دامت 22 يوماً، إضافة الى مهاجمة قافلة الحرية وقتل 9 أتراك وجرح أعداد أخرى (2010).
وشملت أعمال الاغتيال والارهاب في الجزائر، أعداداً كبيرة من المواطنين وخصوصاً من المثقفين حيث اغتيل إضافة الى الكاتب الجزائري المعروف الطاهر جعوط ونحو 33 صحافياً وفناناً إضافة الى عدد غير قليل من النساء اللواتي جرى اغتصاب العديد منهن ثم اغتيالهن، مع عشرات الآلاف من الضحايا.
وفي مصر امتدت قوى التطرف لتنال من الكاتب والمبدع الكبير نجيب محفوظ الذي حاولت سكين حاقدة أن تمتد الى رقبته وتصادر حقه في التعبير، خصوصاً بعد محاولات ظلامية لتفكيره عن رواية "أولاد حارتنا" التي كان مضى على إصدارها أكثر من ثلاثة عقود، كما حدث مع الكاتب فرج فودة الذي اغتيل غدراً في القاهرة، وبتصاعد موجات التطرف تضاعف الحكومة من أعمالها العنفية والارهابية، لتضيف ذرائع جديدة على كبت الحريات وتقليص دائرة المشاركة.
وفي لبنان يوم سقط الشيخ حسين مرّوة مضرجاً بدمائه وقف مهدي عامل مودعاً زميله أمام ضريح السيدة زينب في دمشق مخاطباً المثقفين بالقول إذا لم توحدنا الثقافة بوجه الظلام والتخلف فماذا سيوحدنا بعد... أهو كاتم الصوت أم ماذا؟ ولم يدر بخلده أنه سيكون الضحية القادمة بعد مرّوة بثلاثة أشهر سبقه الصحافيان خليل نعوس وسهيل طويلة وشملت عمليات الاغتيال والقهر عشرات الأسماء اللامعة والتي تشكل منارة مشرقة في الثقافة اللبنانية والعربية.
وفي ليبيا ظلّت قضية منصور الكيخيا غامضة وتتراوح بين اختفائه في مصر العام 1993 مع اشارات أعقبت ذلك ، صدرت من طرابلس الغرب تدعو الى هدر الدم وتصفية الخصوم وما زال مصيره مجهولاً حتى الآن وكذلك مصير السيد موسى الصدر العام 1979، وفي السودان اغتيل الفنان الخوجلي عثمان بحجج واهية، كما أعدم الكاتب والمفكر الاسلامي محمد محمود طه لاعتبارات تتعلق بحرية الفكر وحق التعبير.
والقائمة تطول عربياً ولا يتسع المجال لذكر كل التفاصيل، لكنني سأتناول بشيء من التركيز الاغتيال كوسيلة من وسائل تعميم الارهاب في العراق، حيث يكاد يكون النموذج الأصرخ ليس على صعيد العالم العربي وحسب، وإنما على الصعيد العالمي.
ومثلما حصلت ارتكابات جماعية في جنوب العراق وبخاصة في مناطق الأهوار وفي شمال الوطن كردستان، خصوصاً خلال الانتفاضة في 1991، وقبلها في حلبجة عام 1988، وعمليات الأنفال السيئة الصيت التي هي أقرب الى عمليات الاغيتال الجماعي، فإن الاغتيال السياسي مورس ضد جميع القوى والتيارات والاتجاهات السياسية والفكرية على الصعيد الداخلي والخارجي، وشملت قائمة الذين تم تصفيتهم رجال الدين وزعماء وقادة منظمات اجتماعية وأكاديميين وسياسيين، رجالاً ونساءً،  وكانت الممثليات الدبلوماسية العراقية في الكثير من الأحيان أداة لملاحقة المعارضين في الخارج.
وقد كشفت حادثة اغتيال الشيخ طالب السهيل (رئيس عشيرة بني تميم العربية) على أيدي عضوين من السفارة العراقية في لبنان مدى تورط البعض في أعمال الاغتيال والعنف السياسي، خصوصاً وقد ألقي القبض على المرتكبين، اللذان التجأا الى السفارة العراقية، واعترفا بأنهما قدما الى لبنان خصيصاً بهدف قتل الشيخ طالب السهيل. ونشأت أزمة ديبلوماسية بين لبنان والعراق العام 1994 نجم عنها قطع العلاقات الديبلوماسية واغلاق السفارة العراقية في بيروت في حينها.
هذه الحادثة تجعلنا نفكّر بأي زمن نعيش فيه حيث يتم اختلاط الاشياء وتداخلها وتنوّع وتبادل الأدوار والمواقف بقصد خلط الأوراق وإخفاء الحقيقة. وقد كانت اسرائيل منذ تأسيسها الأكثر استخداماً للدبلوماسية كحاضنة ذات حصانة للاغتيالات السياسية وهناك عشرات ومئات الأمثلة منذ اختطاف ايخمان من الأرجنتين ونقله سراً الى اسرائيل ومحاكمته واعدامه العام 1960.
هكذا يصبح الشرطي ديبلوماسيا والديبلوماسي الذي يفترض فيه احترام قواعد القانون الدولي والبروتوكول الديبلوماسي، يتحول الى قاتل محترف، والدولة التي يفترض فيها أن ترعى حقوق رعاياها تتحول الى صياد للخصم ولانتهاك الشرائع والأعراف والحجة هي تصفية الآخر.
ولعل ما حصل بعد الاحتلال الامريكي للعراق فاق كل التصوّرات، ابتداءً من اغتيال دميليو ممثل الامين العام للأمم المتحدة في العراق وبعدها السيد محمد باقر الحكيم، وكرّت المسبحة لتشمل علماء دين سنّة وشيعة ومسيحيين ويزيديين وصابئة  وخطباء جوامع ورجال علم وأكاديمين واعلاميين، من شتى التكوينات العراقية العربية والكردية والتركمانية والكلدانية والآشورية وغيرها، لاسيما حين أصبح العنف ظاهرة مميزة في العراق، بل على الصعيد العالمي.
إن فضائح سجن أبو غريب وسجن الجادرية وسجن مطار المثنى كانت مثالاً صارخاً تجاوز جميع القوانين والشرائع السماوية والوضعية ، بما استخدم فيها من أعمال تهدف الى القهر السياسي، إضافة الى القتل على الهوية والتطهير العرقي والمذهبي وغيرها، خصوصاً التي سادت على نحو منفلت من عقاله بعد تفجير مرقدي الامامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء في شباط (فبراير) العام 2006 وما بعده، وأدّت الى هجرة مئات الآلاف من العراقيين ونزوحهم الى مناطق داخل البلاد، أو اضطرارهم للتوّجه الى المنفى.
وأمام ظاهرة الاغتيال والقهر السياسي عربياً، وبخاصة في العقدين الماضيين نتساءل هل نحن حقاً أمام حكومات تمتثل للشرعية والارادة العامة للناس وتسوسهم باختيارهم وتمثيلهم ومشاركتهم وهو ما يفعله الميليشياويين والارهابيين والمتطرفين لا فرق إن كانوا باسم الدين أو الطائفة أو الطبقة أو مصلحة الأمة أو المصلحة الوطنية العليا؟
وأمام بعض أعمال الاغتيال من جانب قوى التطرف والتعصب والارهاب نتساءل أيضاً هل يمكن كسب الجمهور وتحقيق البرنامج السياسي بقوة السلاح، وقد جرّبت قوى وأنظمة ذلك تحت واجهات مختلفة لكنها لم تصل الى ما تصبو اليه؟ ألم يحن الوقت لمراجعة سسيوثقافية حقوقية لظاهرة العنف والاغتيال والقهر السياسي وانعكاساتها على المجتمع والفرد، استناداً الى العقدين الأخيرين، خصوصاً وأن الدولة، حكومات وجماعات سياسية ودينية، بل والشعوب العربية والاسلامية بكاملها كانت ضحيتها؟
ولا شك أن الاغتيال السياسي يمثل قمة الفشل السياسي للذين يقومون به سواءً كانت قوى سياسية أو جماعات مذهبية أو قيادات دينية أو اعمال اجرامية فردية، لأنه دليل توتر وفشل وعدم قدرة على خوض الصراع السلمي.
لعل هذه أسئلة قاسية بحاجة الى وقفة جدية سسيو- ثقافية حقوقية لقراءة تفاصيل مشهدها، مثلما هي بحاجة الى حوار مفتوح وشفاف وتحت ضوء الشمس بين النخب الفكرية والسياسية والدينية، كما هي بحاجة الى تراكم وتطور تدريجي طويل الأمد، والأمر يتوقف أيضاً على توفير بيئة تشريعية مناسبة، مثلما يحتاج الى بيئة تربوية وتعليمية ومناهج دراسية مشجعة، ويمكن للاعلام والمجتمع المدني أن يلعبا دوراً كبيراً في نشر ثقافة التسامح والحوار والمشترك الانساني .

صحيفة الاقتصادية السعودية، العدد 6115، الجمعة 9 تموز (يوليو) 2010



1017
منتدى الجاحظ (التونسي) يناقش كتاب " تحطيم المرايا"!

تونس- خاص- المحرر الثقافي

استضاف منتدى الجاحظ في العاصمة تونس، المفكر العربي الدكتور عبد الحسين شعبان لمناقشة كتابه" تحطيم المرايا- في الماركسية والاختلاف" وذلك في إطار حلقة دراسية للمراجعات الفكرية بعنوان " من تجارب النقد الذاتي".
وقد أدار الحلقة الفكرية الدراسية المفكر التونسي صلاح الدين الجورشي رئيس منتدى الجاحظ، وبعد أن رحّب بالدكتور شعبان واشاد بمساهماته الفكرية والحقوقية، توقف عند كتابه الذي أثار نقاشاً واسعاً على المستوى العربي الفكري والثقافي والاعلامي، ثم أعطى الكلام لنائب رئيس المنتدى عبد الرزاق العيّاري، الذي قدّم عرضاً مكثّفاً للكتاب وأهم محطاته وفصوله، لاسيما فسحة الجدل التي أثارها والجرأة التي تميّز بها، مشيراً الى أنه كتاب مهم ومتميز ولكاتب مهم ومتميّز أيضاً.
وجاء دور الدكتور شعبان ليتحدث عن ظروف إصدار الكتاب وأهم أطروحاته واستنتاجاته، ودور محاوره الناقد خضير ميري، مشيراً الى أن الكتاب نوقش في بيروت والقاهرة وبغداد والعمارة وستنظم حلقة دراسية له في كردستان، وكان من المؤمل إلتئام ندوة عنه في مراكش والرباط، ولكن تم تأجيلها الى الخريف القادم، وستشهد دمشق وعمان ندوتين عن الكتاب الذي حاول فيه الكاتب " إعادة الماركسية" الى النقاش على أوسع نطاق في العالم العربي، مؤكداً رغم مراجعاته الفكرية وانتقاداته النظرية، فضلاً عن التطبيقات الاشتراكية المشوّهة، راهنية وحيوية المنهج الماركسي، مشدداً على ضرورة إعادة قراءة ماركس دون قدسية أو إيمانية عقيدية مطلقة.
وجاء دور الناقدين المعقبين، وهما ماركسيان عريقان أحدهما سوري وهو الدكتور عبدالله تركماني والآخر تونسي وهو الاستاذ محمد الكيلاني، اللذان قدّما قراءة نقدية للكتاب ولمؤلفه، بما يعزز الكثير من الاستنتاجات التي جاء عليها الكتاب، خصوصاً وأن قراءتهما كانت من موقع النقد الذاتي لتجارب مشتركة وممارسات متشابهة، الأمر الذي دعاهما الى تنشيط الحوار والجدل، بشأن راهنية الماركسية دون صنمية أو تقديس.
ثم افتتح باب النقاش والحوار والأسئلة، تحدث فيه 14 متداخلاً ومتحدثاً ومناقشاً، وحاول د.شعبان الاجابة على اسئلتهم واستفساراتهم، واختتم رئيس المنتدى صلاح الدين الجورشي الحلقة الفكرية الدراسية التي استمرت ثلاثة ساعات وربع الساعة، مشيداً بحيوية النقاش واعداً بحلقات جديدة من تجارب النقد الذاتي.






1018


ظلال غورباتشوف في صورة أوباما الأفغانية

عبدالحسين شعبان
2010-07-05
منذ ثلاثة عقود ونيّف من الزمان وأفغانستان تلعب دوراً عالمياً كبيراً لا باعتبارها بلداً محتلاً وحسب، بل في تحديد وتعديل وإعادة النظر في الاستراتيجيات العالمية، فبعد عشر سنوات من الاحتلال السوفييتي، جاءت اللحظة الفارقة حين قرر غورباتشوف في فبراير عام 1989 وفي إطار ما سمّي بسياسة الوفاق سحب آخر جندي سوفييتي منها، يومها حمل شيفرنادزا رسالة إلى إسلام آباد ومنها إلى حليفتها واشنطن، وكان يأمل إقناع بناظير بوتو بتقاسم السلطة، وإلاّ فإن العنف سينفجر إلى حدود لا يمكن توقعها، خصوصاً وأن الرئيس الأفغاني محمد نجيب الله لا يقوى على الاستمرار في السلطة.
وكان الانسحاب السوفييتي المفاجئ وعدم التفاهم على تسوية سياسية، بسبب التعنت الباكستاني- الغربي وعدم اتفاق القوى الأفغانية أيضاً، قد أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية وتدمير كابل وصعود نجم طالبان، حيث تمّ توفير ملاذ آمن لتنظيمات القاعدة التي ارتفع رصيدها منذ ذلك الوقت، خصوصاً ارتباطها مع اسمَيْ أسامة بن لادن والظواهري، اللذين أصبح لهما كاريزما خاصة على صعيد التنظيم السري والعمل السياسي والعسكري.
اليوم بعد مرور ما يزيد على عقدين من تلك اللحظة التاريخية المؤثرة وتداعياتها الاشتراكية والعالمية، عادت طالبان إلى الواجهة وأدركت الولايات المتحدة إلى حدود غير قليلة، مثلما أدرك الاتحاد السوفييتي السابق من قبل، أنه لا يمكن تحطيم تنظيمات «المجاهدين» والقضاء على الحركة الرافضة للوجود العسكري السوفييتي أو الأميركي، سواءً جاء بمبررات طلب من حكومة أفغانستان «الثورية» في حينها أو بناء على قرار لقوات التحالف بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية في الولايات المتحدة في عام 2001.
ها هي طالبان تشكّل أكثر من مفاجأة، فهي ليست منظمة مطاردة أو «منبوذة»، بل تبسط نفوذها على مناطق واسعة في غرب البلاد وشمالها وطولها وعرضها ولديها ملاذات آمنة في باكستان، وترتفع يوماً بعد آخر خسائر القوات المحتلة لاسيَّما خلال عام 2009، فما الذي سيفعله الرئيس أوباما.. هل سيكرر ما فعله غورباتشوف؟ أي الهروب إلى الأمام والانسحاب دون تسوية سياسية، خصوصاً وقد حدد 18 شهراً للانسحاب، حيث ظلت الولايات المتحدة منذ إسقاط نظام طالبان في عام 2002 بلا نصر عسكري كبير ومنظور، وحرب الاستنزاف تزداد ثقلاً، بل إن البلاد تعيش في حرب مفتوحة منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان دون أمل في وضع حد لها حتى الآن.
لقد اخترقت طالبان بعض قطاعات الجيش والشرطة الأفغانية، فكيف ستقوم الولايات المتحدة بتسليمها إلى الحكومة الأفغانية بقيادة الرئيس حامد كرزاي بحلول شهر يوليو من العام القادم 2011؟ ولعل تَوّسع نفوذ طالبان وانحسار نفوذ الحكومة والقوات المحتلة بما فيها قوات حلف الناتو، هو الذي دفع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إلى إبلاغ مجلس الأمن بأن أفغانستان تمرّ في لحظة فارقة، خصوصاً أن الوضع قد يصبح غير قابل للتعديل.
ربما فكّر الرئيس أوباما وقبل الوصول إلى لحظة اللا عودة في استمالة بعض مقاتلي وقيادات طالبان ميدانياً، لاسيَّما بعد تحقيق بعض النجاحات وذلك بجلب قوات جديدة إلى أفغانستان، أي أن يتم التفاوض مع حركة طالبان بعد إضعافها قدر الإمكان، ويحتفظ قائد القوات الأميركية وقوات الناتو الجنرال ستانلي ماكريستال (الذي تنحى من موقعه قبل أيام) بميزانية خاصة لتحقيق هذا الهدف، وتقدر الأموال التي تمّ وضعها تحت تصرفه بمليار ونصف المليار دولار لتوزيعها على بعض قيادات طالبان وجعلها مثل الحوافز على التعاون، لاسيَّما مع من يبدي استعداده لإلقاء السلاح.
صحيح أن السطوة العسكرية لا تزال بيد القوات الأميركية وقوات الناتو، لاسيَّما في المراكز الرئيسة والتجمعات السكانية، لكن ذلك لا يعني عدم وجود نفوذ مؤثّر لطالبان، التي لديها حكومات ظل في 33 مقاطعة من 34 وتحتفظ بعلاقات خاصة مع قوى عشائرية وجهوية متنوعة.
وبقدر عدم تمكن طالبان من حسم المعركة لصالحها، فإنه في الوقت نفسه ليس من السهولة بمكان إحراز نصر سريع للقوات العسكرية الأميركية أو إعلان هزيمة تنظيمات القاعدة كلياً أو إنهاء حركة طالبان.
ولعل هذا الوضع يثير تباينات واختلافات في داخل الإدارة الأميركية التي تبدو منقسمة حتى الآن، بشأن ترجيح أحد الخيارات المطروحة، فالحوار مع زعامات طالبان لا يوفر قناعات مشتركة وموحدة بالنسبة لوزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية CIA وإدارة أوباما في البيت الأبيض، إذ أن كلاً من هذه المراكز لديه رؤية خاصة حول موضوع الحوار مع طالبان.
ورغم أن الموقف لدى طالبان ليس موحداً هو الآخر، لكن بعض الإشارات المرنة وردت على لسان الملا عمر زعيم طالبان، وبخاصة خلال أحد الاحتفالات الدينية في شهر نوفمبر 2009، وفي الوقت الذي شدد فيه على استمرار الجهاد ضد العدو، فقد أكد أيضاً أن نظام الحكم بقيادة طالبان في المستقبل سوف يحقق السلام ولن يتدخل بالشؤون الداخلية للدول المجاورة وذلك في تلميح صريح إلى عدم عودة تنظيمات القاعدة إلى أفغانستان، وبعد إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما الانسحاب من أفغانستان بنحو أسبوع ردّت حركة طالبان على استعدادها لتوفير ضمانات قانونية إذا انسحبت القوات الأجنبية من أفغانستان، وهو ما فسرّه المراقبون تغييراً في لهجة طالبان، التي لم تذكر الجهاد أو تطبيق الشريعة الإسلامية، وقد يكون ذلك من نتائج المفاوضات السرية التي قيل إنها تمت تحت رعاية المملكة العربية السعودية، وبطلب من رئيس حكومة أفغانستان كرازاي، وبمشاركة أعضاء سابقين من حركة طالبان.
لكن مثل هذا التطور وإن لم يكتمل أو تتضح معالمه، فإنه كان وراء سبب جديد في فتور العلاقة بين واشنطن وإسلام آباد، التي توترت في الفترة الأخيرة، لاسيَّما مطالبة الأولى بالتصدي لزعامات طالبان الباكستانية، وهو الأمر المزدوج والذي يبدو متناقضاً، إلاّ من وجهة النظر الباكستانية، التي لا تريد فتح معركة مع طالبان الباكستانية من جهة، خصوصاً وهي مثقلة بمشاكل داخلية لا حصر لها، ومن جهة ثانية فإنها قد تنظر إليها باعتبارها حليفة للمستقبل، ولاسيَّما أن طالبان الأفغانية قد عززت مواقعها، الأمر الذي قد يجعلها قريبة من الوصول إلى السلطة في المستقبل، وذلك في إطار التخادم الآني والمستقبلي وتبادل المصالح.
إن باكستان وهي تتخذ مثل هذه المواقف تدرك حقيقة النفوذ الفعلي لحركة طالبان في أفغانستان، كما تدرك أيضاً مأزق القوات المحتلة، التي قد تضطر إلى الانسحاب سريعاً تاركة الجيوبوليتيك الأفغاني- الباكستاني هو الذي يحدد طبيعة ومستقبل العلاقة، لذلك لا تريد أن تتورط في عمل غير مدروس أو مغامرة قد تدفع ثمنها باهظاً في وقت لاحق، وقد لا يكون بعيداً رغم ضغوطات بعض العسكريين الباكستانيين.
وبقدر حساسية بعض العسكريين الباكستانيين، فإن حساسية بعض قيادات طالبان كبيرة جداً، خصوصاً وقد عانت لمدة طويلة من تلاعب الاستخبارات الباكستانية، لاسيَّما التدخل في شؤونها الخاصة أو ادعاء المعرفة التفصيلية بأوضاعها، وحتى تمثيلها في بعض المباحثات مع القوى الكبرى، ولذلك فإن بعض قيادات طالبان تفكر بتسوية على أساس الاعتراف بدورها خارج الهيمنة الباكستانية، لاسيَّما من القبائل غير الباشتونية في الشمال، الذين يعادون  طالبان وباكستان في آن واحد.
وقد يكون لباكستان سبب جيوبوليتيكي آخر هو الحذر إزاء التطويق الهندي، الأمر الذي يتطلب تعاوناً فعّالاً لدرء أية احتمالات سلبية، كما حدث في عام 2001، وهذا يتطلب إعادة قراءة مستمرة لإستراتيجية واشنطن واحتمالات تبدلاتها السريعة، بما فيها الملف الإيراني وانعكاساته أفغانياً.
حتى الآن وما لم تعلن واشنطن سياسة واضحة إزاء مستقبل أفغانستان، فقد تبقى طالبان تحت الأرض لمدة 18 شهراً أخرى، حتى تحين اللحظة الفارقة التي تنتظرها بالانسحاب الأميركي فتتحرك للقضاء على حكومة كابل كما حدث بعد الانسحاب السوفييتي، وهكذا فإن ظلال غورباتشوف قد تبدو في صورة أوباما الأفغانية.

*مفكر وباحث عربي


   


1019
المنبر الحر / الثقافة والتغيير
« في: 19:33 08/07/2010  »
الثقافة والتغيير
   


عبدالحسين شعبان
ظلت الثقافة في عالمنا العربي أقرب إلى الترف الفكري منها إلى الحاجة الضرورية الماسة، سواءً للسلطات الحاكمة أو للمشاريع السياسية المضادة لها، والتي يمكن أن تكون حاملاً لمشروع التغيير والحداثة والتنمية واللحاق بالعالم المتقدّم، لاسيما في ظل العولمة وانفجار الثورة العلمية التقنية، خصوصاً في حقول الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والثورة الرقمية “الديجيتيل” .

ولعل من أسباب تعثر المشروع الثقافي التغييري هو أن المجتمعات العربية لا تزال تعاني من الأمية، في حين أنها من أكثر المجتمعات في العالم غنى، لكنها الأكثر فقراً في العلوم والتكنولوجيا، خصوصاً بوجود أكثر من 70 مليون أمي، ناهيكم عن الافتقار إلى مقومات حرية التعبير ونقص وشحّ المعارف ونكوص دور المرأة والموقف من التنوّع الثقافي والحريات بشكل عام، يضاف إلى ذلك تفشي عوامل التعصب والتطرف، وبخاصة في ظل الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية التي تعاني منها بعض البلدان العربية، ولعل ذلك ما خلصت إليه تقارير التنمية البشرية في السنوات الأخيرة الماضية .

وإذا كان الحديث عن التغيير هاجساً مزمناً للنخب الفكرية والثقافية، فإن من نافلة القول تأكيد حقيقة أساسية تم اختبارها لعدد غير قليل من التجارب العالمية والإقليمية والعربية، تلك التي تؤكد بالملموس وبما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يمكن إنجاز أية عملية تحوّل سياسي واقتصادي واجتماعي من دون رافعات ثقافية، فالبعد الثقافي الذي لعب دوراً مهماً في عملية الإصلاح والتنوير في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين انتكس لاحقاً ولم يستطع أن يكون حاضناً للتطور اللاحق، لاسيما بنكوص الدولة العربية الحديثة عن تحقيق التنمية المنشودة، بمعناها الاجتماعي والاقتصادي، وما يطلق عليه التنمية المستدامة، ويعود سبب هذا التراجع في جزء أساسي منه إلى إهمال دور العامل الثقافي، لاسيما في ما يتعلق بمبادئ المساواة والمواطنة والاعتراف بالآخر، في حين أنه في المرحلة السابقة أنضج ظروفاً مؤاتية وأثار جدلاً واسعاً لمفهوم الهوية والانبعاث الثقافي، خصوصاً أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي وفي ما بعد سلامة موسى وأحمد أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم، حيث ساهم بفاعلية في التحرر الوطني ونيل الاستقلال السياسي ومواجهة المشاريع الاستعمارية .

ولعل أزمة المشروع الحداثي العربي لا تكمن في عملية الإخفاق في نصف القرن الماضي على الصعيد السياسي والاجتماعي والتنموي فحسب، بل في منظومة التوجّه الثقافية التي حكمت العالم العربي، وطبعت سمات الوضع العربي منذ ذلك الوقت وإلى الآن، والأمر على حد سواء تقريباً في بلدان اليُسر وبلدان العُسر .

وإذا كان غياب مشروع ثقافي عربي حقيقي متعدد وموحد، ونقصد بذلك مشروعاً عقلانياً ومدنياً وعلمانياً وديمقراطياً، فإن النتيجة قادت إلى ارتداد وتراجع وعدم قدرة على إنجاز مشروع تحول سياسي واقتصادي وتنموي حقيقي أيضاً، فمشروع التغيير والتحول السيا  اجتماعي يتطلب مشروعاً رديفاً حاملاً له ورافعاً لمسألة التغيير، وهذا لن يتحقق في ظل محدودية وشحّ الثقافة وقصور وسائلها، لاسيما حصرها بالنخب بشكل عام، في حين يتطلب الأمر تعميمها لتصبح جماهيرية وشعبية ومتوفرة للجميع .

وإذا كانت أسباب داخلية لذلك تتعلق بأنظمة الحكم وممارساتها، لاسيما الموقف من الحقوق والحريات الأساسية، فثمة أسباب خارجية أيضاً، لا يمكن إهمالها أو تخفيف دورها، ونعني بذلك محاولات الهيمنة وفرض الاستتباع وممارسة العدوان والاحتلال والحروب والحصار، التي عانت منها البلدان العربية، بما فيها مرحلة ما بعد الاستقلالات، لاسيما في ظل استمرار الصراع العربي “الإسرائيلي” منذ أكثر من ستة عقود من الزمان .

وحتى الثورات الوطنية والانقلابات السياسية والعسكرية، لم تهيئ البيئة الثقافية للأفكار والمبادئ التي دعت إليها، وكانت في الغالب تمردات وحركات فوقية، لم تستطع توفير مستلزمات التغيير الذي دعت له ثقافياً . وسارت عملية التحوّل والتغيير السياسي والاقتصادي والتنموي بتجريبية وفوقية وأوامرية وقسرية، من دون أن تكون هناك تربة خصبة لتطورها وتراكمها وازدهارها، بل إن بعض البلدان العربية التي شهدت عمليات تراكم جنينية وأولية لتجارب سياسية واقتصادية ذات توجهات ديمقراطية، انقطع فيها خط التطور التدريجي بسبب الانقلابات العسكرية، ثم عادت وارتدّت عنها لعدم وجود مؤسسات حامية وراعية، الأمر الذي ترك إحباطات كبيرة على الصعيد الشعبي، مثلما حصل في مصر وسوريا والعراق وغيرها .

لقد هيأت الثورة الفرنسية التي انتصرت في العام 1789 أساسها الثقافي والفكري في حركة واسعة وناشطة للتغيير، قادها فلاسفة ومفكرون من أمثال مونتسكيو وروسو وفولتير وغيرهم، وعندما حانت ساعة التغيير كانت البيئة الثقافية ناضجة لاستقبال أفكار الحرية والإخاء والمساواة، الشعارات الأساسية التي رفعتها الثورة، في حين أن التجربة العربية المعاصرة لم تستطع توفير الحد الأدنى للانتقال بالمجتمع والسلطة معاً من حال إلى حال، لذلك عانت الأفكار الجديدة من عزلة وتشكّك، لاسيما بغياب الحامل السوسيو ثقافي، خصوصاً باستخدام أساليب إكراهية لفرضها في ظل أوضاع التخلف والأمية وشحّ المعارف وضعف المستوى الثقافي .

إن الوعي بأهمية العامل الثقافي في عملية التغيير يضع مسألة التغيير وسيلة أساسية لإزالة التغليف الأيديولوجي حسب اصطلاح ماركس في نقد “الإيديولوجيا الألمانية” وهو نقد لا يقتصر على الدولة حسب، بل يمتد إلى المجتمع أيضاً، لاسيما للنخب السياسية والفكرية والدينية . ووفقاً لألتوسير، فإن النقد لكشف الوعي الزائف أو المغلوط، وذلك بحديثه عن الأيديولوجيا وأجهزة الدولة .

ومن دون ردّ الاعتبار للعامل الثقافي باعتباره حاملاً لمشروع التغيير، لا يمكن الحديث عن تراكم تدريجي وتطور سلمي مجتمعي وإصلاح لمشروع الدولة الحديثة ومؤسساتها، بما فيه لمشروع التغيير السياسي والتحول الاقتصا  اجتماعي .

ولعل واحداً من أسباب الإخفاق أو القصور في بلورة مشروع ثقافي حامل لمسألة التغيير، يعود إلى عدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي والتعددية الفكرية والقومية والدينية في الكثير من المجتمعات العربية، وقد كان سبب مثل هذا الإنكار فادحاً، لاسيما بعد نشوء الدول الوطنية الحديثة، الأمر الذي طرح ولا يزال أسئلة وتساؤلات مهمة لا تتعلق بالمشروع الثقافي فحسب، بل بمسألة التغيير والتنمية، وبالسلام المجتمعي، فضلاً عن وحدة وتماسك الكيانات الاجتماعية وأفقها ومستقبلها، بما فيها الدولة ومؤسساتها، ويتوقف الفضاء اللاحق سلباً وإيجاباً على سؤال الثقافة والتنوع الثقافي .

يعتبر البعض الثقافة ملحقاً للسياسة، لاسيما من السياسيين في الحكم وخارجه ويسعون لتوظيفها واستغلالها حين يريدون، حيث يعلو خطاب الوحدة والرأي الواحد والزعيم الواحد على خطاب التعددية والتنوع والخصوصية الثقافية، وينسى هؤلاء أو يتجاهلون أن الثقافة بطبيعتها متعددة وهي مثل الطبيعة مختلفة أيضاً، من حيث مصادرها وأصولها ومشاربها وتفاعلاتها وهوياتها، ولا يوجد مجتمع مهما كان متجانساً وموحداً من دون التنوّع والتعددية والاختلاف، فتلك إضافة إلى كونها من طبيعة الأشياء، فهي حقوق طبيعية لا يمكن التنازل عنها تحت أية مبررات أو مسوغات، فما بالك بالتنوّع الثقافي والديني والقومي والسلالي واللغوي والاجتماعي وغيرها .

الثقافة تمثل حاضنة أساسية للتغيير ولا يمكن إنجاز مشروع تغيير حقيقي، ناجح ومتواصل، من دون بيئة ثقافية صالحة، ومن دون اعتراف بالآخر واحترام خصوصياته، ولعله في ظل مثل هذه ا لبيئة يمكن إحداث تنمية حقيقية ومستدامة وشاملة .
 
مفكر وباحث عربي

1020
النيل والأمن المائي   

عبدالحسين شعبان
أعلن عن اتفاق مبدئي بخصوص مياه النيل وقعته دول المنبع الخمس، وفي مقدمتها إثيوبيا، لكن مصر والسودان اللتين تتمتعان بالنسبة الأكبر من المياه حسب الاتفاقيات الدولية، غابتا عنه، وكانت اتفاقية تقاسم مياه نهر النيل قد تم التوقيع عليها في العام ،1929 ثم أعيد النظر فيها ليتم توقيع اتفاقية جديدة بعد ثلاثين عاماً وعُرفت باتفاقية العام ،1959 باعتبارها الناظمة لعلاقات البلدان الإفريقية المستفيدة من نهر النيل . ولذلك، فإن توقيع اتفاق بغياب مصر والسودان ومن دون موافقتهما، سيعني إلحاق ضرر يتعلق بمنسوب المياه المخصصة للبلدين، فضلاً عن أمنهما المائي الذي هو جزء من الأمن الوطني لكل من البلدين وللأمن المائي العربي ولدول المنطقة ككل . وإذا كانت العلاقات المصرية  السودانية عنصراً ايجابياً في توقيع الاتفاقيات الآنفة الذكر، فإن تردّيها في العقدين الأخيرين ساهم في إضعاف مطالبتهما بحقوقهما، ولعل توقيع مصر على اتفاقية الصلح المنفرد واتفاقيات كامب ديفيد (1978  1979) وتطبيع العلاقات مع “إسرائيل” أسهم في إعادة النظر باستراتيجيتها على المدى الإفريقي والإسلامي، الأمر الذي غيّر من بعض أولوياتها، وهو ما استغلته بعض دول حوض نهر النيل بتشجيع من “إسرائيل” التي عادت إلى إفريقيا بقوة كبيرة بعد أن انحسرت علاقاتها في أواخر الستينات ومطلع السبعينات .

ولا شك في أن توقيع مثل هذا الاتفاق من دون مصر والسودان، إنما هو تحدٍ لهما، لم يكن ممكناً من دون توفّر بعض المستلزمات لعدد من بلدان المنبع، لاسيما مساعدات “إسرائيل” لبناء ثلاثة سدود كبرى في إثيوبيا بمساعدة إيطاليا، وكذلك تقديم مساعدات عسكرية وتكنولوجية لعدد من البلدان، حيث استعادت “إسرائيل” دورها في إفريقيا بعد أن كانت تعاني من عزلة بقطع 30 دولة إفريقية علاقاتها معها بعد عدوان العام ،1967 وبعد حرب العام ،1973 بسبب سياساتها العدوانية ضد البلدان العربية من جهة، ومن جهة ثانية بسبب تعاونها مع نظام جنوب إفريقيا العنصري .

لكن اختلال موازين القوى وتصدّع الوضع العربي، لاسيما بعد غزو الكويت العام ،1990 ومن ثم انقسام الصف العربي والحرب على العراق وفرض الحصار عليه ،1991 وما بعدها، هو الذي هيأ الظروف المناسبة لبعض دول المنبع للإقدام على هذه الخطوة، يضاف إلى ذلك انهيار الكتلة الاشتراكية وتحلل الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي أضعف العرب إلى حدود كبيرة، ناهيكم عن اتباع سياسات فلسطينية وعربية جديدة تحت باب “الواقعية السياسية” و”التسوية السلمية”، تلك التي تجسّدت في اتفاق أوسلو 1993 الذي وصل إلى طريق مسدود منذ العام ،1999 ومانعت “إسرائيل” من التوصل إلى صيغة الحل النهائي باعلان الدولة الفلسطينية، بل إنها شنّت حرباً ضد لبنان العام 2006 وحرباً ضد غزة العام 2008 -2009 بعد حصار ما زال مستمراً منذ نحو ثلاثة أعوام .

ولعل ذلك ساهم في تشجيع بعض دول المنبع لمواجهة الأمن المائي العربي لمصر والسودان، والتوجه لإبرام اتفاق سيلحق الضرر بالأمن المائي لكلا البلدين، بل يلحق الضرر بالأمن المائي العربي ككل، وبالمصالح الوطنية للبلدين وثرواتهما .

لقد ترافقت تلك التحديات مع محاولات معلنة في دفع مياه نهر النيل نحو صحراء النقب وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة من “إسرائيل”، وقد سبق لشمعون بيريز ان أشار إلى ذلك في كتابه “الشرق الأوسط الجديد” في التسعينات، وهو الأمر الذي يصبح الحديث عنه اليوم أكثر جدية وراهنية .

ان استبعاد أربع دول من الاتفاق المائي الجديد يعتبر مخالفاً للاتفاقيات الدولية ولقواعد القانون الدولي، لاسيما الخاصة بالأنهار الدولية، فضلاً عن تعارضه مع مبادئ التعاون بين الدول ومع الاتفاقيات السابقة لدول حوض النيل، ومع ميثاق الأمم المتحدة، ولعله سيكون نقطة احتكاك قد تؤثر في العلاقات العربية  الإفريقية، لا سيما مصر والسودان مع بقية دول المنبع .

وبالطبع لم يكن موقعو الاتفاق يجرؤون على استبعاد مصر والسودان لولا  الضوء الأمريكي الأخضر، والسياسات العربية الرسمية، التي كان رد فعلها ضعيفاً بما فيها جامعة الدول العربية، الأمر الذي يتطلب تحركاً عربياً وإسلامياً فعّالاً والضغط على إدارة الرئيس الأمريكي أوباما، ناهيكم عن تنشيط العلاقات المصرية  السودانية ومع الدول الافريقية، لا بخصوص الأمن المائي والغذائي فحسب، بل في ما يتعلق بمستقبل علاقات العرب مع إفريقيا، ناهيكم عن انعكاساته الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية على عموم المنطقة، فالمواجهة بخصوص النيل أو غيره من المياه العربية ستكون مواجهة مع “إسرائيل”، ومعركة المياه بكل تفرعاتها وتشابكاتها هي جزء من الصراع العربي  “الإسرائيلي” . وإذا قيل عشية الحرب العالمية الأولى: من يمتلك النفط يهيمن على العالم، لأنه سيكون بيده وقود الطائرات والسيارات والغواصات، فإنه في الألفية الثالثة يصحّ القول إن من بيده الماء سيستطيع أن يكسب المعركة، لأنه عنصر مهم للتنمية ولتوليد الطاقة والزراعة والري وبالاساس لاستمرار الحياة الانسانية .

إن معركة المياه العربية تكاد تطوّق العالم العربي كله، فتركيا بنت نحو 22 سداً بما فيها سد الغاب الكبير، منذ أربعة عقود من الزمان على حوضي دجلة والفرات، وقد تنشأ مشاكل جديدة لحوض نهر الفرات بين سوريا والعراق، بسبب المنسوب الشحيح الذي ترخّص به تركيا للبلدين، إضافة إلى ما يتعلق بنهر كارون والكرخة ومستقبل شط العرب مع إيران، يضاف إلى ذلك شفط “إسرائيل” لمياه الاردن والمياه الجوفية ونهر الليطاني ومياه الجولان وبحيرة طبرية وغير ذلك، الأمر الذي يتطلب تعاوناً وتنسيقاً بين البلدان العربية التي تواجه مخاطر مائية، فضلاً عن أن مصيرها واحد .

لقد آن الأوان للتفكير الجدّي لمواجهة هذه المخاطر المحدقة، فالنيل هو حياة مصر والسودان، ورغم انخفاض منسوبه في كلا البلدين، واحتمالات ازدياد حالات العطش وشح المياه، الاّ أن هذا الاتفاق سيكون عاملاً سلبياً في انحسار نسب كبيرة من المياه التي تصل إليهما، ولعل ذلك سيعني تدهوراً في سلّة الغذاء من المزروعات واللحوم، فضلاً عن الطاقة الكهربائية والتنمية وغيرها، فلا أمن لمصر أو للسودان من دون النيل .

باحث ومفكر عربي




1021
الانتخابات ومستقبل العراق!


الدكتور عبد الحسين شعبان *





ــــــــــــــ
•   مفكر وباحث عراقي في القضايا الإستراتيجية العربية والدولية، خبير في ميدان حقوق الإنسان، والقانون الدولي  له مؤلفات عديدة ، في قضايا الفكر والقانون والنزاعات الدولية والصراع العربي- الإسرائيلي، والإسلام المعاصر والثقافة والأدب.
•   مدير المركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني، والمدير العام لمركز الدراسات العربي- الأوروبي .


تمهيد
شهد العراق خلال العام الذي سبق إجراء الانتخابات طائفة من التغييرات والتفاعلات المتعلقة بخارطته السياسية وتحالفات قواه وأحزابه وعلاقاته الإقليمية والدولية، ولا شك أن وصول الرئيس أوباما إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة (باعتباره الرئيس رقم 44) لم يكن بمعزل عن برنامجه الانتخابي ووعوده بالانسحاب من العراق طبقاً لاتفاقية أمنية أصرّ الرئيس السابق جورج دبليو بوش على إبرامها مع الحكومة العراقية عشية مغادرته البيت الأبيض.
   لم تكن الهزيمة النكراء للجمهوريين أمام الديمقراطيين بعيدة عن العقدة العراقية الشائكة التي أرّقت فترة حكم الرئيس بوش، لاسيما ولايته الثانية وبخاصة منذ غزو واحتلال العراق في العام 2003. فقد ورّث بوش، أوباما تركة ثقيلة ليس من السهل التخلص منها وبخاصة من بعض ذيولها في المدى المنظور.
وإذا أردنا استعراض أهم التفاعلات السياسية الداخلية والخارجية، فسوف نبتدئ من الاتفاقية الأمنية، مروراً باللوحة السياسية العراقية،عبوراً بقضايا الخلاف الرئيسية مثل الديمقراطية التوافقية، والإصلاح، وصلاحيات الأقاليم (الفيدرالية)، والنفط وعقود إقليم كردستان، ومشكلة كركوك، ونتائج انتخابات المحافظات، وصولاً إلى الانتخابات البرلمانية وقضية الاجتثاث والعزل السياسي التي هي عناوين أساسية للتضاريس العراقية الوعرة والبيئة القاسية التي تعيش فيها.
ولكي تكتمل الصورة فلا بد من بحث الواقع الإقليمي، لاسيما العربي من التطور السياسي في العراق، ماذا يريد العرب من العراق وماذا يريد العراق من العرب؟ وكذلك لا بد من وقفة أولية لمراجعة العلاقات الأمريكية - العراقية خلال العام الأول من حكم أوباما والسنة الأخيرة من ولاية المالكي والاحتمالات التي قد تترتب على الانتخابات القادمة.
ولا شك أن هناك تحديات كبرى ما زال العراق يواجهها، ولعل من أخطرها هو استمرار الاحتلال التعاقدي طبقاً للاتفاقية الأمنية بدلاً من الاحتلال العسكري الذي يفترض نهاية أولية له في أواخر العام 2011.
أما التحدي الثاني فهو الخطر الطائفي والمذهبي الذي لا يقلّ  تأثيراً عن الاحتلال. ويعتبر استمرار ضعف تراكيب وهيكليات الدولة ومؤسساتها واستمرار ظاهرة العنف، هو التحدي الثالث، ورغم تحسن الوضع الأمني، إلا أن التفجيرات والمفخخات والعبوات الناسفة ضربت البلاد طولاً وعرضاً خلال الأشهر الأخيرة من العام 2009 وما بعدها، وبخاصة قُبيل وبُعيد إجراء الانتخابات في 7 آذار (مارس) العام 2010.
أما التحدي الرابع فهو استمرار ظاهرة الفساد والرشى وعمليات التزوير في مؤسسات الدولة، وحتى الآن ما تزال منظمة الشفافية العالمية تصنّف العراق باعتباره البلد الثالث في أسفل السلّم الدولي، لاستشراء الفساد المالي والإداري ونهب وتبديد المال العام.
إن التفاعلات والتطورات والاحتمالات السياسية التي شهدها العام 2009 هي مقدمة لمخاض سياسي عراقي جديد، لاسيما بعد ظهور نتائج الانتخابات،  التي أفرزت أربعة قوائم رئيسية، أولها القائمة العراقية برئاسة د. إياد علاوي، وقائمة دولة القانون برئاسة نوري المالكي، وقائمة الائتلاف الوطني برئاسة السيد عمّار الحكيم، وضمّت إضافة إلى تنظيم المجلس الإسلامي الأعلى، جماعة السيد مقتدى الصدر بثقل كبير، وقائمة التحالف الكردستاني، التي ضمّت الحزبين الكرديين، في حين توزعت المعارضة الكردية إلى مجموعتين هما التغيير بقيادة ناو شيروان مصطفى، وقائمة الإصلاح وهي تمثل جزءًا مهماً من التيار الإسلامي الكردي. ورغم الاستمرار في سياسة العزل بقرارات من هيئة المساءلة والعدالة إلا أن المسألة أخذت بُعداً قضائياً؟ بعد قرارات المفوضية العليا للانتخابات، الأمر الذي انتقده البعض واعتبره البعض الآخر انصياعاً لضغوط من الحكومة.
ومهما كانت النواقص والثغرات والمشاكل فإن اللوحة السياسية العراقية ازدادت استقطاباً وإن كانت التحالفات التي استندت إليها هي تحالفات انتخابية، وما تزال ضعيفة وهشة، وقد تنهار عند توزيع المناصب الأساسية، خصوصاً بعد حسم من سيشكل الوزارة، وهي العقدة المستعصية، وفيما بعد عند تقاسم المناصب السيادية وغيرها كما يُقال.
صحيح أن التضاريس السياسية العراقية مختلفة عن جغرافية أفغانستان بما فيها طبيعة القوى المتصارعة هناك، لكن الاحتدامات والتهديدات قد تكون أكثر خطورة على العملية السياسية إن لم يتم وضع شكل جديد من أشكال التوافق والذي قد يطال الدستور ذاته، لاسيما وقد احتوى على بعض الألغام التي قد تنفجر في أية لحظة، رغم وجود أرقام ما تزال صعبة، كاتساع نطاق المقاومة السلمية وحالات الممانعة والاحتجاج، وبقاء المقاومة المسلحة كأحد خيارات التصدي للاحتلال رغم انخفاض تأثيراتها الحالية وغياب برنامج ديمقراطي موحد يؤطر تياراتها ويعلن عن توجهاتها المستقبلية.


1- الديمقراطية التوافقية والديمقراطية "التواقفية"!!

أخذ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يطرح بين فترة وأخرى فكرة جديدة، وما يبدأ الحوار والجدل فيها، حتى ينتقل إلى فكرة ثانية، رغم عدم استكمال الأحزاب والتكتلات السياسية النقاش بشأنها بعد - سواءً من محازبيه أو المتحالفين أو المشاركين معه أو من منافسيه وخصومه أو أعدائه من داخل أو خارج العملية السياسية-.
ولعل في ذلك براعة سياسية يبديها المالكي على مجايليه من السياسيين، لاسيما الذين في السلطة، فلم يكن يبزّه فيها سوى جلال الطالباني رئيس الجمهورية، لكن اختلاف مواقع القوة والتأثير، جعل الكفة تميل لصالح المالكي، في حين أن الطالباني هو الأكثر برغماتية ودهاءً في السياسة، بل أنه أحد أبرز المخضرمين من الجيل الثاني للسياسيين العراقيين، خبرة وتجربة.
في أول عهده طرح المالكي فكرة المصالحة الوطنية وظلّت تنام وتستيقظ، ثم طرح خطة أمن بغداد الأولى والثانية والثالثة، ثم بدأ الحديث عن فرض دولة القانون، لكن هذه المراحل وإن بقيت ظلالها حتى الآن، أصبحت باهتة، رغم أن المشاريع التي كان يطرحها كان له من يشاركه فيها من القوى المؤتلفة- المختلفة في العملية السياسية، أي أنها كانت أقرب إلى القبول وربما الإجماع من لدن المشاركين في العملية السياسية، لكن المرحلة التي تلتها شهدت تعارضات واحتدامات كثيرة بين المالكي وشركائه بالدرجة الأساسية، ناهيكم عن الاختلافات بين المالكي وبعض أطراف العملية السياسية، حيث تمّ التناقض بينه وبين المعارضين للعملية السياسية.
ثم توّغل المالكي بعد إحرازه نجاحات في الميدان الأمني ومناورته بشأن الاتفاقية العراقية- الأمريكية، حين أبدى ممانعة لا تتعلق بالجوهر، والتقدم الذي حققه في انتخابات مجالس المحافظات، بطرح ثلاث قضايا في فترة زمنية قصيرة. وهي قضايا جديدة وجديرة بالمناقشة والتوقف عندها فيما إذا أصرّ على المضي فيها من الناحيتين السياسية والدستورية، الأولى تتعلق بضرورة تعديل الدستور، لاسيما ما يتعلق بصلاحيات الأقاليم ودور الحكومة الاتحادية المركزية، والثانية دعوته إلى النظام الرئاسي، والثالثة تتعلق بإلغاء ما سمّي بالديمقراطية التوافقية، وهو ما ثارت حوله الدوائر، إذ شعرت بعض الفرق والتكتلات السياسية أن مواقعها يمكن أن تتصدّع، فانتقدت تصريحات رئيس الوزراء، الذي قد يكون شعر بالقوة وربما بالغرور، لاسيما بعد بعض النجاحات التي حققها، بما فيها تصديه للميليشيات، ودعوته لدولة القانون ومحاولة تقديم أطروحة أقل تشبثاً بالطائفية قياساً لمجايليه من الحاكمين، لاسيما من كتلة الائتلاف الوطني العراقي (الشيعي)، لكن إصرار المالكي على تقديم نفسه الزعيم بلا منازع وتشبثه في مواقعه ومحاولة تهميش الآخرين، جعل طيفاً سياسياً وطائفياً واسعاً يتحالف ضده، وقاد هذا التحالف د. إياد علاوي المقرّب من الولايات المتحدة ومحل ثقتها، حيث أشعر حلفاءه أنه بتحالفهم معه سيكونون مقبولين من جانب واشنطن، التي لا تريد استمرار السلطة بأيادي قريبة من إيران، وربما بعضهم يمتثل لإرادتها لأسباب كثيرة.
ولعل أكثر المنتقدين لتوجهات المالكي عشية الانتخابات كان رئيس الجمهورية جلال الطالباني (كتلة التحالف الكردستاني) ونائبه طارق الهاشمي من كتلة التوافق سابقاً والذي استقال من قيادة الحزب الإسلامي لاحقاً وتحالف مع د. علاوي. وبغض النظر عمّا طرح المالكي من آراء فإن التعديلات المطلوبة على الدستور والتي تم الاتفاق عليها عشية إجراء الاستفتاء عليه لم تُنجز بعد، ويبدو أنها سوف لن تنجز على المدى المنظور، رغم أنه كان من المفترض إنجازها عقب مباشرة مجلس النواب أعماله بأربعة أشهر من انتخابه، وعلى الرغم من مرور أربعة سنوات، فالاحتدامات ازدادت والعقبات تعاظمت.
وهناك إشكالات موضوعية وأخرى ذاتية تقف عقبة أمام التعديلات، ولعل اللجنة الخاصة بتعديل الدستور التي تم تشكيلها لم تستطع انجاز مهمتها رغم انتهاء فترة صلاحيات مجلس النواب، فضلاً عن ذلك، فهناك حوالي 50 مادة من الدستور تتطلب إصدار قانون خاص لكي يصبح الدستور نافذاً.
   وإذا أضفنا إلى هذه المشكلات مسألة صلاحيات الأقاليم كما طرحها رئيس الوزراء المنتهية ولايته المالكي ودعوته لتعزيز سلطات الحكومة الاتحادية (المركزية)، فإننا سنكون أمام لغم كبير يكاد يهدد العملية السياسية برمتها، بإضافة الاشتباك بين إقليم كردستان والسلطة الاتحادية (المركزية) حول موضوع النفط، فضلاً عن مشكلة كركوك المتفاقمة، حيث تعتبر بعض القوى المدعومة من المالكي أن المادة 140 من الدستور، التي تم تأسيسها على المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، قد استنفذت ولا يمكن السماح بأي شكل من الأشكال بضم كركوك إلى إقليم كردستان، بل والتشكيك بمهمة الأمم المتحدة، رغم أنها حاولت تأجيل المسألة باقتراح 4 حلول توافقية تدرّجية، لكنها لم ترضِ الأكراد مثلما لم يقبل بها العرب والتركمان. ويمتد الأمر إلى دور وصلاحيات البيشمركة وخاصة في بعض المناطق التي شهدت احتكاكات وسميت متنازع عليها. وإذا افترضنا أن علاوي قد يشكل الوزارة، فيما إذا لم تنجح مساعي تحالف جديد بين المالكي والحكيم، فإنه هو الآخر سيواجه مشكلة كركوك، خصوصاً وأن معظم قيادات قائمته ضد ضم كركوك إلى إقليم كردستان.
ولعل هذه اللوحة هي التي دفعت المالكي لأن يطرح حزمة جديدة من بالونات جسّ النبض بعد الرغبة في تعديل الدستور، بما يتعلق بالنظام الرئاسي وكذلك بإلغاء الديمقراطية التوافقية، لكن ضعف رصيده بعد الانتخابات سيجعل هذه المسألة مؤجلة، أو أن يطويها عالم النسيان، خصوصاً وان الكتل الفائزة جميعها لم تحصل على الأغلبية المطلوبة، الأمر الذي يدعوها للحديث عن صيغة التوافق، بما يضمن المشاركة وللأسف الشديد فإن شبح المحاصصة ما زال مخيّماً، خصوصاً بامتداداته الطائفية والاثنية.
   وإذا كانت المحاصصة على حد تعبير بعض أقطاب العملية السياسية قد فشلت فشلاً ذريعاً لدرجة أن الكثيرين منهم غسل أيديه منها، إلا أن البعض الآخر ما زال يتشبث بها لأنه في حالة إلغائها سيتم تهديد مواقعه وامتيازاته التي حصل عليها وربما دون جدارة واستحقاق.
وإذا افترضنا أن الاحتلال سينتهي وفقاً للاتفاقية العراقية – الأمريكية بانسحاب كلي أو جزئي، خصوصاً وأن الجيش الوطني لم يتم تأهيله بعد، فضلاً عن أن الولايات المتحدة لم تحصل على النتائج التي أرادتها وغامرت من أجلها بغزو العراق، فإن هذا سيطرح بإلحاح وجدّية، الخارطة السياسية العراقية على بساط البحث، وهو ما أراد المالكي أن يسبق الزمن بطرحه، والتلويح به للآخرين من موقع القوة وباستخدام عنصر المفاجأة من جهة أخرى، لكن الأمور سارت بما لا تشتهي سفنه!.
إن موضوع النظام الرئاسي وما سمّي بالديمقراطية التوافقية، سيكون مطروحاً على نحو جديد إنْ آجلاً أم عاجلاً، وبخاصة إذا ما تحررت الإرادة السياسية العراقية، حتى وإن تضمن تخطّياً لبعض المعايير الطائفية والاثنية (التي ما تزال جهات الحكم في العراق تتمسك بها)، حين ينتخب العراق رئيساً بصورة مباشرة على أساس انتخابات عابرة للطوائف والاثنيات، مع برلمان يتمتع بصلاحيات واسعة تمثل نوعاً من التوازن، وهذا سيعني أن الديمقراطية التوافقية قد انتهى مفعولها، خصوصاً بعد أن أخضعت كل شيء للتوافق (من الوزير إلى الخفير)، الأمر الذي أوقف العمل فعلياً بمعايير الديمقراطية ونتائج الانتخابات، مستبدلاً إياها بصفقات للتقاسم الوظيفي المذهبي والاثني في غرف مغلقة أحياناً، وبتوافقات خارج الإرادة الشعبية التي رفضت المحاصصة، حتى وإن كانت صناديق الاقتراع لا تأتي بالنتائج التي تريدها.
وهنا لا بد من العودة إلى خيار حقيقي للديمقراطية، لاسيما بانتهاء الصيغة التي جاء بها الاحتلال وحواشيه وما تضمنته من اتفاقيات وقواعد، واعتماد الهوية الوطنية العراقية الجامعة، مع احترام حقوق وخصوصيات الهويات الفرعية، أساساً للتداول السلمي للسلطة، وعلى الأغلبية مراعاة مصالح وحقوق تمثيل الأقلية والمكوّنات المتنوّعة، مثلما على هذه الأخيرة احترام ومراعاة حقوق الأغلبية، وفقاً للتوازن الاجتماعي والسياسي والقومي والديني، وبخاصة باعتماد معايير الكفاءة والنزاهة والوطنية، خارج نطاق المحاصصة وانعكاساتها السلبية الخطيرة على النسيج المجتمعي.
2- الانتخابات البرلمانية: حسابات الحقل والبيدر!
لا شك أن هناك تحسناً ملحوظاً في الوضع الأمني في العراق خلال العام 2009، بدأ منذ النصف الثاني من العام 2008، لاسيما قبيل وبُعيد إجراء الانتخابات المحلية للمحافظات والأقضية والنواحي، رغم أن القلق ما زال  يخيم على الكثير من الفاعليات والأنشطة، وخاصة إثر حدوث التفجيرات الكبرى التي وقعت في خريف العام 2009 وما بعدها، الأمر الذي يجعل من عناصر عدم الثبات والاستقرار مستمرة. ومع ذلك فقد توّجه نحو 12 مليون ناخب للمشاركة في الانتخابات بنسبة بلغت نحو 62% وهي نسبة كبيرة، وبغض النظر عن التجاوزات والخروقات والانتهاكات والنواقص والثغرات، وحتى بعض التلاعبات، فإن الانتخابات سارت بإقرار المراقبين الدوليين بشكل "مقبول"، ومع أن جميع القوائم شككت بها واعترضت على النتائج، الأمر الذي يعني أن الحكومة وخصومها والمتنافسين جميعاً، كانوا على درجة عالية من المنافسة وهم ظلّوا ينتظرون النتائج بفارغ الصبر، لاسيما في ظل الاستقطابات السياسية والطائفية، وهذا بحد ذاته واحد من دلائل سير الانتخابات الصحيح رغم الكثير من الاعتراضات.
لقد ساهم التحسّن النسبي في الوضع الأمني في تعزيز هيبة الدولة نسبياً، تلك التي انهارت بعد الاحتلال، خصوصاً عند حل المؤسسات العسكرية والأمنية بما فيها الجيش وقوى الأمن والشرطة وشرطة النجدة وشرطة المرور وحرس الحدود وغيرها.
وقد كانت نتائج الانتخابات المحلية أحد المؤشرات الأولية في هذا التوجه لدرجة أن انحساراً ملموساً شمل قوى كانت مهيمنة إلى حدود كبيرة على مجالس المحافظات وعلى البرلمان وعلى الشارع، حيث تقلّص نفوذها لصالح القوى الأقل تشدداً، خصوصاً إذا كانت من موقع الدولة، ويمكن القول أن انعطافاً "إيجابياً" محدوداً حصل لصالح القوى الأقل تطرفاً والتي عملت على استبعاد الشعارت الطائفية من خطابها المعلن على أقل تقدير، وإذا كانت النتائج لا تعكس الصورة الحقيقية للمجتمع العراقي بعد سنوات من الاحتلال إلا أنها تعتبر تغييراً محدوداً في بعض التوجهات، من داخل مواقع السلطة وليس خارجها بالدرجة الأساسية. ومثل هذه النتائج كانت أكثر وضوحاً في الانتخابات البرلمانية، حيث تنبهت قوى كثيرة إلى ضرورة تحالفها لتتمكن من مواجهة كتلة المالكي وكتلة الحكيم، وهذا ما حصل عند إعلان تحالف القائمة العراقية، التي ضمّت قوى واسعة، لاسيما من الوسط السني وغير المتدين، وحققت نجاحات مهمة في محافظات الأنبار وديالى وصلاح الدين والموصل وبغداد وغيرها.
ما تزال اصطفافات القوى في الخارطة السياسية العراقية متقلبة، فالائتلاف الوطني العراقي "الشيعي" الذي يضم حزب الدعوة الإسلامي والمجلس الإسلامي الأعلى وجماعة السيد مقتدى الصدر "جيش المهدي" وحزب الفضيلة وجماعات إسلامية أخرى، قسم منها يمثل أجزاء من حزب الدعوة، تعرّض إلى التصدع وخاضت القوائم المتنافسة معركة حامية الوطيس، وهو الأمر الذي استعدّ له الفرقاء عند خوض الانتخابات البرلمانية، لدرجة أن الأخوة الأعداء تحالفوا ضد المالكي وهم "المجلس الإسلامي الأعلى" وجماعة مقتدى الصدر، وانضم إليهم الدكتور إبراهيم الجعفري رئيس الوزراء العراقي السابق ومجموعته باسم الإصلاح.
أما جبهة التوافق الوطني "السنّية" فهي الأخرى تعرضت إلى التشتت، وكان الحزب الإسلامي الذي امتلك حصة الأسد في التقسيمات الحكومية قد تصرف بمعزل عن الجبهة الوطنية للحوار (د.صالح المطلك) وجماعة أهل العراق (د.عدنان الدليمي) وكتلة خلف العليّان وقد انعكس هذا الخلاف على شغور منصب رئيس مجلس النواب واستبدال الدكتور محمود الهاشمي بالدكتور إياد السامرائي، حيث انسحبت بعض الكتل من جبهة التوافق، وكان آخر من انسحب منها ومن الحزب الإسلامي نائب رئيس الوزراء طارق الهاشمي. وقد كانت المنافسة حامية بين التجمعات والقوى المؤتلفة والمختلفة في جبهة التوافق وبين جماعة الصحوات في مناطق غرب وشمال العراق غير الكردي وديالى وصلاح الدين.
كان تشكيل مجالس الصحوات ومشاركتها في العملية السياسية ودمج أقسام منها في القوات المسلحة (20%) خطوة مهمة لمنافسة جماعة جبهة التوافق، مثلما كان تشكيل مجالس الإسناد من جانب الحكومة، وبخاصة حزب الدعوة خطوة أخرى في تعزيز توجّه الحكومة، لاسيما الاتجاه الذي يقوده رئيس الوزراء نوري المالكي الذي طرح شعار "دولة القانون"، الأمر الذي رجّح نفوذه ، فضلاً عن بعض الإجراءات والخطوات التي اتخذها، لدرجة غلّبت كفته على كفة حلفائه الإسلاميين، لاسيما المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة السيد عبد العزيز الحكيم وخلفه نجله السيّد عمار الحكيم رغم الانتقادات التي تعرّض لها من جانب بعض القوى القريبة منه، وكذلك من القوى الكردية، وبقدر ما كانت هذه تسعى لإضعافه فقد أكسبته مصادر قوة لم تكن في حساباته أو حسابات الآخرين، لكن المالكي رغم مصادر قوته إلا أنه استفزّ كثيراً من القوى والشخصيات ضده، واستعدى الكثيرين عليه، خصوصاً إثر انفراده بالسلطة وحصرها بيد المقرّبين منه.
لقد طرح المالكي مسألة استعادة قوة ومركزية الدولة، خصوصاً بمواجهته  لجماعة السيد مقتدى الصدر في البصرة ومدينة الثورة (الصدر) في بغداد ومواصلة ملاحقة تنظيمات القاعدة والجماعات المسلحة في الموصل وديالى التي تشكل عُقداً عراقية تكاد تكون مزمنة، لاسيما وأن ثلاث مكونات تتفاعل وتتداخل وتتعايش وتتصارع فيها، وهي : العرب والكرد والتركمان، فضلاً عن تعدد الأديان وتشعّب الطوائف فيها.
كما أن إصراره وتشجيعه المعلن والخفي لوزير النفط حسين الشهرستاني بشأن عدم الاعتراف أو إعادة النظر بعقود النفط التي أبرمتها حكومة إقليم كردستان، جعلته في نظر البعض يتخذ مواقف رجل دولة، وإن كان الأمر يثير إشكالات فيما يتعلق بصلاحيات وسلطات الأقاليم على حساب السلطة الاتحادية (الفيدرالية) طبقاً لما جاء في الدستور الذي هو مصدر الخلل والارتباك إزاء الكثير من القضايا العُقدية سواءًا المادة 140 المتعلقة بكركوك أو عقود النفط أو صلاحيات الأقاليم وتنازع القوانين أو غيرها، تلك الأمور التي تثير تعارضات وتفسيرات واجتهادات ومصالح متضاربة. وإذا كان البعض يحسب ذلك نقاط قوة له، فالبعض الآخر يخالفه بسبب مواقفه تلك، لاسيما بأضعاف صلاحيات وسلطات الآخرين، وبخاصة سلطات إقليم كردستان.
أما جماعة "الوفاق الوطني" التي يرأسها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور أياد علاوي والمقربة من الولايات المتحدة فقد ضعفت مواقعها، لاسيما بانسحاب البعض منها أو إعلانه مواقف مستقلة عنها وعن القائمة العراقية، حتى أن حزباً عريقاً مثل الحزب الشيوعي الذي هو طرف في القائمة العراقية، لم يستطع الحصول على مقعد واحد من المقاعد الـ440 المتنافس عليها في انتخابات مجالس المحافظات، ورغم أنه خاض انتخابات العام 2010 منفرداً باسم قائمة "اتحاد الشعب" لكنه لم يحصل على مقعد واحد. وقد جرت اتفاقات جديدة لتشكيل الحركة الوطنية العراقية، بالتحالف بين د. إياد علاوي ود.صالح المطلك، وهما ركنان أساسيان للقائمة العراقية، إضافة إلى كتلة طارق الهاشمي وكتلة أسامة النجفي وكتلة رافع العيساوي وكتلة ظافر العاني وآخرين. وهي تجمعات استطاعت إحراز نصر كبير في الانتخابات البرلمانية بحصولها على 91 مقعداً من مجموع 325 مقعد، رغم اجتثاث أعداد منها وشن حملة واسعة ضدها باعتبارها تريد إعادة البعثيين إلى مواقع الدولة. وبقدر ما ألحق ذلك ضرراً بسمعتها فإنه خدمها في الوقت نفسه وحفزّ أوساطاً كثيرة للتصويت لها، خصوصاً الجماعات التي وقفت ضد التوجهات الطائفية.
وبقيت الكتلة الكردية "التحالف الكردستاني" الأكثر تماسكاً حتى الآن من بقية الجبهات والكتل البرلمانية والسياسية، ولديها أجنّدة أكثر وضوحاً من الكتل والجماعات الأخرى، رغم ما حصل من تصدّع في حزب رئيس الجمهورية جلال الطالباني "الاتحاد الوطني الكردستاني" وبروز أصوات معارضة داخل كردستان مندّدة بالتجاوزات والانتهاكات والفساد ودخولها في معركة انتخابات المحافظات، باسم قائمة التغيير برئاسة ناو شيروان مصطفى الذي حصل على 22% من المقاعد. كما حصل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة على 10 مقاعد، وحصل حليفه الإصلاح على 7 مقاعد وهذه كلها على حساب الحزبين وبشكل خاص على حساب حزب الاتحاد والوطني، الذي يطمح جلال  الطالباني أن يبقى رئيساً للجمهورية ممثلاً عن التحالف الكردستاني، وهو أمر ما زال يثير الكثير من التداعيات وردود الأفعال.
وإذا كانت "الكتلة الكردية" تعرف ما تريد، وإنْ كانت بعض طموحاتها تصطدم بمواقف الآخرين لاعتبارات قسم منها يتعلق بالتمدد في بعض مطالبها والذي سيؤدي إلى تعزيز سلطات الأقاليم على حساب سلطات الدولة الاتحادية، فإن انقسامها سيضعف من قوتها، خصوصاً إذا جرت تحالفات جديدة بين كتلة التغيير وبعض الكتل الكبيرة الفائزة، وكانت الكتلة الكردية تتشبث بما أعطاها الدستور من "حقوق"، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن بعض المواقف أخذت تتجمع ضدها، لاعتبارات تتعلق بالموقف من القضية الكردية ومن الفيدرالية من جهة وبالدور الذي اضطلعت به ما بعد الاحتلال من جهة أخرى، إضافة إلى الاحتكاكات بخصوص موضوع كركوك.
الاصطفافات السياسية الحالية حكمتها بعض المؤشرات المهمة، ومن أبرزها نتائج الانتخابات التشريعية (البرلمانية) في 7 آذار (مارس) 2010، فجميع الكتل تعمل على إعادة حساباتها ولملمة صفوفها وإجراء تحالفات جديدة، وليس هناك من تأثير كبير للبرامج السياسية والخدمية للقوائم المتنافسة، وإنما كانت الاصطفافات السياسية المسبقة هي التي تحكم المواقف سلفاً، رغم أن تغييرات قد تطرأ على هذه المسألة.
وحتى الكتل التي أحرزت نجاحات ملحوظة في الانتخابات المحلية والبرلمانية، فإنها تبدو أكثر حذراً وقلقاً من ضياع هذه المكاسب، لذلك تسعى لإعادة تحالفاتها القديمة، بما فيها توزيع المواقع داخل الكتل الفائزة، الأمر الذي يمكن قراءته على نحو يضع الانتخابات البرلمانية نصب العين، فهي الأهم والأكبر، لاسيما للسنوات الأربعة القادمة.
ومن المؤشرات المهمة الأخرى هو التغيير في الإستراتيجية الأمريكية ما بعد عهد الرئيس الأمريكي بوش، ففي ظل ولاية الرئيس الأمريكي الجديد أوباما وفوز الديمقراطيين وتراجع الجمهوريين، يجري الحديث ليس وعوداً هذه المرة، بل واقعاً عن انسحاب أمريكي سيبدأ في آب (أغسطس) 2010 وهو ما أكدته زيارة الرئيس أوباما إلى بغداد (نيسان /ابريل) 2009. وإذا كان الانسحاب مقرراً، فالاختلاف كيف سيتم ومتى وهل سيترك العراق دون تأهيل قواته لتستطيع حمايته من التهديدات الخارجية والداخلية؟
ولعل هناك خلافات بين البنتاغون الذي وإنْ كان يقر بالانسحاب، إلآّ انه يريده منظماً ويريد وجوداً أمريكياً ليتم إكمال المهمة دون فشل أو خسائر أو فوضى، وبين الـCIA ووزارة الخارجية، اللتان تدركان حجم الخسائر من الناحية السياسية والمستقبلية، لكن الكل، لاسيما بعد قرار الرئيس أوباما يقرّ بالانسحاب، والانسحاب ليس لفشل المشروع الأمريكي في العراق فحسب، بل للتبعات المالية الهائلة التي كلفها وللخسائر في الأرواح، ولاسيما بعد انسداد الآفاق، وهذه المسألة ناجمة من الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تلفّ الولايات المتحدة والعالم منذ الأشهر الستة الماضية، والتي قد تستمر لسنتين حسب بعض التقديرات الاقتصادية، ولعل هذه هي أولوية الأولويات بالنسبة لواشنطن، فلم يعد العراق أو أفغانستان أولوية ضمن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة.
وتريد الولايات المتحدة إكمال مهمتها بالإبقاء على قواعد عسكرية تساعد القوات العراقية في التدريب والتأهيل كما تقول، ومن جهة ثانية ضمان تدفق النفط واتفاقياته طبقاً للشروط الأمريكية (رغم أنها لم تحصل حتى الآن على عقود بالتراخيص التي فازت بها شركات غير أمريكية)، وإبقاء العراق خارج دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي، وتلك إحدى القواعد الأساسية في الإستراتيجيات الأمريكية خلال العقود الستة ونيّف الماضية، فرغم التغييرات والتطورات التي تحدث، إلا أن تلك الأهداف تكاد تكون "ثابتة " ومدّورة في خطط جميع الرؤساء الأمريكيين جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين!
لقد بدأت بوادر السياسة الأمريكية بالتغيير حتى إزاء المصطلحات، فالحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، أصبحت مواجهة "الطوارئ ما وراء البحار" والحديث أصبح عن أولويات السياسة الداخلية، لاسيما أزمة البنوك وشركات التأمين والرهن العقاري وقضايا التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وهذه في مقدمة خطابات الإدارة الجديدة، وتراجعت إلى حدود معينة مفردات الحرب على الإرهاب ونشر الديمقراطية والإصلاح وغيرها.
لقد أكد أوباما خلال زيارته المفاجئة إلى العراق (مطلع نيسان/ابريل 2009) أن الإستراتيجية الجديدة لا تريد البقاء في العراق، وتحمّل تبعات وأوزار ما حصل منذ غزوها العام 2003 وإلى أجل غير معلوم، وهو أمر لا طاقة لواشنطن عليه حالياً، خصوصاً وأن البقاء مكلفٌ ومستنزف، وربما يجعل هزيمتها غير المعلنة شاملة، لاسيما انعكاساتها على سياسات واشنطن في الشرق الأوسط وربما على المستوى العالمي، بما فيها تأثيراتها على السياسة الداخلية، وقد أدرك أوباما أن استمرار وجود الولايات المتحدة في العراق، سيكون في الوقت الخطأ والمكان الخطأ وفي الخيار الخطأ.
الفرق بين بوش وأوباما، أن الأول هو المسؤول عن تبعات احتلال العراق وكان يصرّ على أن النصر قاب قوسين أو أدنى، وكان جدوله الزمني هو تراكم النجاحات حتى وإن كانت على الورق، أما بالنسبة لأوباما فإنه يريد التسريع في إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، مع الإبقاء على الحضور السياسي والنفوذ الاستخباري، مستفيداً من الأمر الواقع ووجود اتفاقية أمريكية- عراقية.
ولعل هذا يعتمد بدرجة كبيرة على مدى قدرة الولايات المتحدة على سحب قواتها بصورة منضبطة ودون حدوث فوضى أو فراغ أمني أو عسكري، ناهيكم عن إقرار دولي، لاسيما من دول الجوار وخصوصاً إيران على عدم التدخل بالشؤون الداخلية العراقية.
فهناك معادلة جديدة قد تنشأ باتفاق أمريكي، وهي تسير طردياً من خلال حكومة مركزية ومصالحة سياسية، وهما لم تتحققان حتى الآن وإن الكثير من العقبات تعترضهما، مع تقليل نفوذ الحركة الدينية وتقوية مواقع الدولة، لكن الأمر كله مرهون حالياً بقراءة نتائج الانتخابات البرلمانية والعمل على تكليف من سيتم الاتفاق عليه لرئاسة الوزراء، وقد لا يكون بعيداً عن ضغوط واتفاقات دولية، أمريكية، وإقليمية، خصوصاً بعد الزيارات المتعددة لرؤوساء القوائم والكتل إلى إيران والمملكة العربية السعودية وغيرها. يضاف إلى ذلك استعداد القوات المسلحة العراقية على ضبط الأمن والنظام العام والحراك السياسي والاجتماعي للقوى داخل وخارج العملية السياسية! ولعل بعض المؤشرات والقراءات لنتائج للانتخابات تذهب إلى أن الجميع سيكونون أقلية ولا وجود لأغلبية برلمانية، الأمر الذي يقتضي توافقات جديدة واستعانة بالولايات المتحدة.

3- هل تملك الانتخابات البرلمانية الحل السحري!

لا أظنّ أن أحداً يجادل في أهمية إجراء انتخابات وتداولية سلمية للسلطة، لكونها حق من حقوق الإنسان في المشاركة وإدارة الشؤون العامة وركناً مهماً للديمقراطية، لكنها لوحدها ودون توفر مستلزمات أخرى ضرورية مثل الأمن وسيادة القانون والمساواة والمواطنة واستقلال القضاء وغيرها، لا يمكن أن تفضي إلى نتائج سليمة وإيجابية.
المشاركون والمعارضون للعملية السياسية كلٌ يدعي أنه يمتلك الحل السحري للعراق. الفريق الأول، لاسيما القوى المتنفّذة، كان يراهن على الانتخابات التي جرت يوم 7 آذار (مارس) 2010، وأن بمقدوره لو فاز، التصدي للتحديات الكبرى التي تواجه البلاد، ويعتبر هذا الفريق خيار الانتخابات ضرورة، لاسيما بغياب أو تغييب إمكانية حلول أخرى.
أما الفريق الثاني المعارضون لخيار الانتخابات، فهم يعتبرون ألاَّ جدوى أو طائل من الانتخابات، لأنها ستكرّس القوى الطائفية - الاثنية وهي باطلة ولاغية وغير شرعية، لأنها تجري في ظل الاحتلال ودستوره وقوانينه، وبالتالي فإن رهانه الأساسي يرتكز على فشل العملية السياسية، سواءً تشبث بالمقاومة أو لم يتشبث، وإن كانت هذه الأخيرة بحاجة إلى وقفة جدية لتقويم مسارها وبرامجها وتحالفاتها وقواها وأسباب تراجعها.
وأيّا كانت مواقف الفرق المتعارضة فإن نتائج الانتخابات وسواءً قاطعها من يرغب أو شارك فيها من يريد، فإنما اختلفت إلى حدود غير قليلة عن فلك استقطابات العام 2005، زيادة أو نقصاناً لهذا الفريق أو ذاك باستبدال وتغيير المواقع أو الإبقاء عليها، ورغم الديناميكية التي خلقتها الانتخابات، لكن المجتمع العراقي رغم حراكه وحيويته، إلا أنه لم ينتج حتى الآن طبقة سياسية مدنية جديدة قادرة على مواجهة التحدي الطائفي والاثني، وإذا كان بعض الاستقطاب واضحاً، فالبعض الآخر جاء مغلّفاً، ويمكن القول لأغراض محددة، وهو ما قد ينفجر بأية لحظة.
فهل يستطيع الفائزون، الذين كان بيدهم القدح المعلاّ طيلة الأعوام السبعة ونيّف الماضية من انتشال العراق من الوضع المأساوي الذي يغرق فيه، بالانتخابات أو بغيرها؟ وهل بإمكان من قاطع الانتخابات إنقاذ البلاد من شرور الاحتلال والمحاصصة الطائفية- الاثنية وحالة التشظي وهشاشة الأمن واستمرار ظاهرة الميليشيات وضعف هياكل الدولة وشحة الخدمات، لاسيما الماء الصافي والكهرباء واستشراء البطالة وتفشي الفساد الإداري والمالي والرشى؟ وبقدر بشاعة الاحتلال وسواد صورة الحاضر وضبابية المستقبل، فليس بمقدور أحد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء مهما جرى التغنّي بالماضي.
لعل التحديات التي تواجه العراق كبيرة ومعقّدة ومتداخلة، وفيها الدولي، المتمثل بالاحتلال، والإقليمي الذي لا يقلّ إيذاءً للعراق وشعبه ووحدته ومستقبله، لاسيما دور إيران، وفيها الداخلي الذي يزداد تشظياً وتفتتاً وانقساماً. فالانتخابات في ظل أوضاع غير اعتيادية، سواءً استبعدت هذه المجموعة أو لم تستبعد، زوّرت أم لم تزوّر، فازت بها هذه الفئة أم تلك أو هذه الجماعة أو غيرها، لن تستطيع مواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بالكيان العراقي بعد حلّ الدولة ومؤسساتها، لاسيما العسكرية والأمنية،

العابرة للطوائف والاثنيات، والموحِّدة، بغض النظر عن محاولات "أدلجة" قياداتها وتسييسها في ظل الحكم السابق، إنْ لم تعيد وتسترجع وتعزز هيبة الدولة ومؤسساتها طبقاً لحكم القانون.
وإذا كانت القضايا الكبرى مهمة مثل الاحتلال والطائفية والأمن والاختراق الإقليمي، لكن التفاصيل الخاصة بحياة الناس لا تقل أهمية فالمواطن، لكي يختار ويكون اختياره صحيحاً، لا بدّ من توفير بعض المستلزمات الأولية له، إذْ هو بحاجة إلى ماء وكهرباء وتعليم وصحة وعمل. وعلى من يتصدّر المشهد السياسي أن يضع ذلك بنظر الاعتبار سواءً شارك في الانتخابات أو قاطعها فاز أو لم يفز، الأمر الذي بحاجة إلى حوار شامل دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش!!
لقد شهد الحكم الملكي في العراق انتخابات دورية وإن كانت صورية أو شكلية يجري تزويرها وحسم نتائجها سلفاً في ظل معاهدات غير متكافئة ومذلّة مع بريطانيا ولاحقاً مع الولايات المتحدة ووجود قواعد عسكرية ثابتة وامتيازات سياسية وأمنية واقتصادية، ولاحقا في إطار حلف بغداد الاستعماري، وكانت المعارضة الوطنية مرّة تشارك ومرّة تحتجب وتقاطع، وحصل أن فازت ببعض المقاعد، مع أن نتائج الانتخابات تم إلغاؤها وحُلّ البرلمان، لكن المختلف في الأمر، هو وجود الدولة وهيبتها وأمنها ووحدة جيشها  وأجهزتها الأمنية أولاً وقبل كل شيء، وهو ما يزال غائباً أو ضعيفاً حتى الآن، وهذا ما يقرّه المشاركون والمعارضون للعملية السياسية، لاسيما في ظل تقاطع أجهزة الدولة وهشاشة تكويناتها الأمنية والاتهامات بين أطرافها.
لاشك أن الانتخابات مظهر من مظاهر الدولة العصرية، لاسيما الديمقراطية، لكنها تحتاج إلى توفير فضاء من الأمن والحرية وسيادة القانون، بحيث تكون نتائجها أمانة بيد النائب ورقابة من الناخب، خصوصاً بخيار القائمة المفتوحة، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الحوار، الذي ما زال قاصراً حتى الآن في ظل توافق قلق على قانون للانتخابات لاسيما بوجود قنبلة كركوك الموقوتة، ناهيكم عن عدم إقرار قانون للترخيص للأحزاب لممارسة حقها في العمل الشرعي القانوني، وبعد ذلك كله ؛ هل سيتمكن الفائزون بالانتخابات الإمساك بالحل السحري؟
 
4- العرب والعراق: إشكاليات متبادلة!!

منذ سبع سنوات ونيّف وما زلنا في الحلقة المفرغة بين مسؤولية العرب ومسؤولية العراقيين، وتحت ضغط أسئلة يطرحها البعض على البعض الآخر. العراقيون بأصنافهم وألوانهم عاتبون على العرب كلٍ من مواقعه، يلومونهم أحياناً ويحمّلون بعضهم مسؤولية ما وقع لهم أحياناً أخرى، وقد يذهب البعض الآخر إلى حد الاتهام ولاسيما للأنظمة والمؤسسات الرسمية، بما فيها جامعة الدول العربية.
أما العرب بألوانهم واتجاهاتهم فهم يلومون العراق وحكامه، في السابق والحاضر، ويحمّلونهم مسؤولية تدهور التضامن العربي وتصدّع الموقف العربي، لاسيما بسبب غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990 وما تلا ذلك من مسلسل للتراجع وتوقيع اتفاقيات مدريد- أوسلو 1993 وما بعدها، وإنْ كان البعض يبرّر ذلك، فإن البعض الآخر له نظرة أخرى تبرّر على أقل تقدير موقفه من الوضع الجديد في العراق.
وإذا كان بعض العرب يلومون حكام بغداد في السابق ويأخذون عليهم تعنّتهم وعدم مرونتهم بما فيها التعاطي مع المستجدات الدولية، فإنهم منذ تغيير النظام السابق ووقوع العراق تحت الاحتلال يلومون الحكام الحاليين، وإن كانت النظرة قد تخففت بقبول الأمر الواقع، إلا أن الكثير من مظاهر الشك والريبة ما تزال مستمرة ولم يتم تبديدها بعد، بما فيها التردد في فتح الممثليات والسفارات العربية في بغداد، في حين أن بلداناً بعيدة أو إقليمية لا تمتلك مثل الوشائج العربية مع العراق، لديها سفارات وتمثيلاً واسعاً أحياناً رغم أن الظروف الأمنية تشمل الجميع وإن كان بدرجات متفاوتة.
   ويمكن للباحث والدارس في العلاقات العراقية – العربية، أن يطرح عدداً من الأسئلة، فهل هناك رؤية واحدة أو حتى مشتركة إزاء نظرة العرب إلى العراق، أو إزاء نظرة العراقيين إلى العرب، سواءً على الصعيد الحكومي أو اللاحكومي، أم أن هناك أكثر من رؤية وأكثر من موقف، الأمر الذي ينبغي أخذه بنظر الاعتبار.
وإذا كانت هناك أكثر من رؤية رسمية وغير رسمية عربية، وفي كل رؤية تصورات وتوجهات متباينة، ناهيكم عن تنوع المصالح والمنافع المختلفة، فإن هناك في الوقت نفسه أكثر من رؤية عراقية إزاء العرب، سواءً كانت رسمية أو شعبية، وأحياناً رؤية متعارضة حتى في إطار التيار الواحد والجماعة الواحدة باختلاف مبرراتها ومنهجها.
الرؤى العربية تحمل الكثير من التناقضات بين ثناياها في الأسس والمنطلقات والتفاصيل، مثلما تحمل الرؤى العراقية، الكثير من التناقضات والاختلافات، فعلى الصعيد العراقي يمكن تقسيمها إلى ثلاث: الأولى تريد من العرب لاسيما الحكومات الاعتراف بما هو قائم والتعاطي معه والإقرار به باعتباره الشرعية القائمة طبقاً لدستور وانتخابات وتأسيس لعراق جديد، وتطالب الحكومات العربية التعاون مع الوضع القائم بمبررات أن العراق استعاد السيادة، ومثل هذه الرؤية تنسجم مع الرؤية الدولية، لاسيما للقوات المحتلة (المتعددة الجنسيات) حسب القرار 1546 الصادر في 8 حزيران (يونيو)2004. ولعل هذا ما تريده السياسة الإستراتيجية الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة منذ العام 2003 إلى يومنا هذا.
أما الرؤية الثانية، فإنها ترفض الاعتراف بالأمر الواقع وتشكك وتدين كل ما حصل وتريد إعادة القديم إلى قدمه، باعتباره الشرعية الوحيدة التي تعترف بها، ولعله حول هذه الرؤية تلتقي جماعات مختلفة بعضها يمثل النظام السابق، وبعضها تضرر من الإطاحة به، وبغض النظر عن مناهضة الاحتلال فهناك ضعفاً في بلورة برنامج وطني ديمقراطي نقيضاً للانقسام الطائفي الراهن ومن زاوية غير طائفية.
أما الرؤية الثالثة فإنها تقوم على اعتبار القديم في عداد الماضي، وإن هذا الأخير قد احتضر، أما الجديد فإنه لم يولد بعد، أي أن الشرعية التي تريدها هي شرعية مستقبلية، وتطلب من العرب مساعدة العراق والعراقيين للوصول إليها، بعد اجتياز هذه المرحلة الانتقالية.
وكل طرف من هذه الأطراف يلوم العرب ويحمّلهم، لأهداف مختلفة إنْ لم يكن مسؤولية ما حصل، فإنه على أقل تقدير يحمّلهم عدم مساعدة العراق والعراقيين في تجاوز المحنة والتخفيف عن المأساة، ولعل هذا الموضوع كان مدار بحث على مدى 10 ساعات في ندوة فكرية سياسية في عمان بدعوة من مركز العراق للدراسات الإستراتيجية، شارك فيها عدد من الباحثين والمفكرين والمثقفين والبرلمانيين العراقيين، وعدد آخر من العرب، وقدمت فيها أبحاثاً مهمة وجرى فيها نقاشاً حيوياً وجدّياً، وربما فتح هذا النقاش الشهية لحوارات أعمق وأشمل في المستقبل.
وقد تلمّس القائمون على إدارة المركز ذلك، لاسيما الحاجة إلى حوار معرفي- ثقافي بين النخب العربية، بخصوص العلاقات العراقية- العربية، والعلاقات العراقية- العراقية أيضاً، خصوصاً بين الفرق والجماعات السياسية من جهة، وبين لفيف من الأكاديميين والباحثين من جهة أخرى، وصولاً إلى مصالحة وطنية حقيقية كما عبّر عنها بعض الحاضرين، دون عزل أو استثناء، بما فيها أطراف معارضة ومقاومة أو ممتنعة عن المشاركة.
وإذا كان الموضوع السياسي طاغياً وإن شمل بعض الأماني، إلا أن بعض الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، قد تم تناولها وبروح التعاون والمشترك الإنساني وقد أخذت هذه قدرها من النقاش، وإن كانت تستحق اهتماماً أكبر، فالفضاء الثقافي والمجال الاقتصادي والتفاعل الاجتماعي يمكن أن يلعب دوراً في تفهم المشاكل وفي تذليل المصاعب، وبالتالي في إيجاد السبل الكفيلة لنظرة متوازنة بين العراقيين والعرب على الصعيد الرسمي والشعبي، حتى وإن شملت بعض الاختلافات أو التصورات من زاوية التعددية والتنوع والخصوصية.
وبالطبع لا يمكن إهمال الجانب الإنساني، وبخاصة قضايا اللاجئين والمهاجرين وقوانين البلدان المضيفة، ولاسيما دول الجوار من البحث الجاد والمسؤولية فيما يتعلق بتقديم التسهيلات للمواطنين العراقيين الذين اضطرتهم ظروفهم إلى الهجرة، وبخاصة من أصحاب العقول والأدمغة المفكرة والذين يشكلون ثروة حقيقية للعراق وللبلدان العربية وللإنسانية جمعاء.
ولعل هناك عدداً من التحديات والمعوّقات تواجه العراقيين والعرب، لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار عند بحث الإشكالات والمشكلات القديمة والجديدة، ابتداءً من الدور والمسؤولية، وانتهاءً بسبل الخروج من المأزق والتخفيف من المأساة، إذ أن إعادة النظر وانتهاج سياسات جديدة على المستوى الرسمي أو الشعبي تتطلب أولاً وقبل كل شيء التخلص من الاحتلال وتبعاته، وبالطبع فإن ذلك يستوجب استعادة السيادة الكاملة وغير المنقوصة وإعادة هيبة الدولة العراقية، الأمر الذي يضع مسؤولية استتباب الأمن وحماية أرواح وممتلكات المواطنين وفرض النظام العام على عاتقها دون غيرها.
   وهذا يقتضي وضع حد لظاهرة استشراء الإرهاب والعنف واستفحال دور الميلشيات، وإنْ تم تقليص نفوذها والتخفيف من موجة الإرهاب والعنف مؤخراً، إلا أن الأمر يتطلب استقراراً وضماناً لعدم عودتهما. ولكي يتم إعادة الإعمار وتحقيق التنمية واستعادة الخدمات في إطار تعاون عربي واستثمار جهود العرب  لدعم هذا التوجه فإن الأمر يقتضي أيضا الحصول على تعهدات دولية  وإقليمية  بضمان سيادة العراق واستقلاله، بل ومساعدته في إعادة لحمته الوطنية وحمايته من أي تهديد خارجي، وهذا يتطلب مساعدة العراق في التخلص من مظاهر الفساد والرشوة وتحقيق مواطنة سليمة واعتماد مبدأ المساواة واحترام حقوق الأقليات القومية والدينية والتنوع الثقافي والديني والقومي وكبح جماح الطائفية، لأن انفلاتها سيضر بالعرب وليس بالعراقيين وحدهم.
ولعل الطائفية بهذا المعنى يمكن أن تسري مثل النار في الهشيم فيما إذا استفحلت واستعصي حلها، ولهذا فإن مساعدة العرب للعراقيين لإطفاء نارها، سيعني مساعدتهم لأنفسهم وهي مساعدة مزدوجة ومركبة. وهو ما جعل اقتراح تشريع قانون يحرّم الطائفية ويعزز المواطنة في العراق، يلقى اهتماماً كبيراً وخاصاً من الحاضرين عراقيين وعرب.
وقد سعدت شخصياً بكلام عدد من الباحثين العرب من غير العراق وبعدد من الباحثين العراقيين بمن فيهم من يمثلون تيارات مختلفة، لاسيما الأعضاء في مجلس النواب بما فيهم الأكراد، بخصوص ضرورة تعزيز العلاقات العراقية- العربية رغم كل المعوّقات، لكنني شعرت أن الكثير من نقاط الضعف والإبهام والالتباس، ما تزال تشوب نظرة كلا الفريقين، لاسيما  بعض التعميمات التي وجدتها قاصرة أو الاصطفافات المسبقة.
ولاحظت أن بعض العراقيين تنقصهم معلومات عن كيفية التعاطي مع الوضع العربي والنظام الإقليمي الرسمي، لاسيما فيما يتعلق بدور إيران الحالي والمستقبلي، وبالأخص فيما بعد انسحاب القوات المحتلة نهاية العام 2011 أو حتى في آب (أغسطس) 2010 كما أعلن الرئيس الأمريكي باراك اوباما، كما أن هناك نوعاً من الحيرة إزاء المستقبل، فضلاًً عن بعض الشعارات التي تتوزع بين الفريق الحاكم ومعارضيه بما فيها المقاومة، يضاف إلى ذلك سبل اتخاذ القرار والتفريق بين السلطات وحواشيها وذيولها وبين مؤسسات المجتمع المدني العربي.
 كما أن الكثير من العرب تعوزهم معرفة عميقة ودقيقة بالوضع العراقي، لذلك فقد كرر بعضهم مقولات من قبيل أن  العراق ينقسم بين شيعة وسنة وأكراد، وهي الصيغة التي روّج لها الكثير من مراكز الأبحاث والدراسات الغربية منذ الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988 وما بعدها، والتي كرّسها بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق في مجلس الحكم الانتقالي، وشملت تلك المحاصصات من الوزير إلى الخفير كما يقال.
كما تضمنت نظرة بعض العراقيين تصورات مسبقة إزاء مواقف بعض الحكام أو القوى العربية، وبسهولة ن

1022
المنبر الحر / 5 رافعات للتسامح
« في: 19:38 28/06/2010  »
5 رافعات للتسامح
عبدالحسين شعبان
2010-06-28
إذا كان التسامح قيمة حضارية وواقعية على المستوى الكوني، فهناك خمس رافعات أساسية لتجسيده، لكي يستطيع العالم الخروج من غلواء التعصب والتطرف والإقصاء والتهميش والعنف والإرهاب. ولن يتحقق ذلك بدون توفير تربة خصبة لبذر بذوره، وتعميق الوعي الحقوقي والأخلاقي والقانوني والاجتماعي بأهميته، من خلال الإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف والمغايرة والتعايش واحترام الآخر، سواءً كان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي أو على مستوى الحكومات والدول. ولعل الرافعات الخمس التي نتحدث عنها هي أكثر ما نفتقده في عالمنا العربي والإسلامي.
الرافعة الأولى هي البيئة التشريعية والقانونية، إذ إن عدم وجود قوانين وأنظمة راعية لمبادئ التسامح، وكذلك رادعة لمن يخالفها، سواءً إزاء الأديان أو القوميات أو الثقافات، سيؤدي إلى تفقيس بيوض اللاتسامح، الأمر الذي يقود إلى احتدامات وصراعات وأعمال عنف وإرهاب، بهدف إلغاء وإقصاء وتهميش الآخر.
الرافعة الثانية هي البيئة التعليمية والتربوية، ولا شك أن غياب منظومة التسامح في المناهج والأساليب التربوية والتعليمية، خصوصاً إزاء النظرة القاصرة إلى الآخر والمشفوعة بتبرير الممارسات التمييزية الاستعلائية، تخلق ردود فعل حادة وتقود إلى تشجيع عوامل الاحتراب والشعور بالاستلاب، لاسيَّما من جانب التكوينات المستضعفة والمهضومة الحقوق.
الرافعة الثالثة هي البيئة القضائية، لاسيَّما إذا كان القضاء مهنياً ومستقلاً، خصوصاً في ظل سيادة القانون وتطبيق مبادئ العدالة، حيث سيلعب دوراً إيجابياً في الإقرار بحق الاختلاف والمساواة ونصرة المظلوم وإحقاق الحق.
الرافعة الرابعة هي البيئة الإعلامية وهي سلاح ذو حدين، فبالإمكان أن يكون الإعلام عاملاً مساعداً ومهماً في نشر قيم ومبادئ التسامح أو في الترويج بعكسه لنقيضها، أي لنشر ما يغذّي الكراهية والأحقاد وتبرير العنف أو الإرهاب.
الرافعة الخامسة هي بيئة المجتمع المدني، التي يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً في نشر ثقافة التسامح، باعتبارها راصداً ورقيباً للممارسات الحكومية إزاء خرق وانتهاك مبادئ التسامح وقيمه، ناهيكم عن إمكانية تحويل منظمات المجتمع المدني إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، لاسيَّما إذا استطاعت تقديم مشاريع قوانين ولوائح وأنظمة لترسيخ وتعزيز قيم ومبادئ التسامح وتنقية مناهج التربية والتعليم والخطاب الإعلامي والديني والسياسي، من مظاهر اللاتسامح السائدة، وبخاصة التي تبرر التمييز وعدم المساواة.
وقد أثارت قضية الانقسامات الدينية والعرقية والمذهبية واللغوية في العالم العربي نقاشات واسعة، كان للباحث فرصة لمتابعتها في مؤتمر الشبكة العربية للتسامح في الدار البيضاء، وفي الملتقى الفكري السنوي لدار الخليج في الشارقة، وفي ندوة العروبة والمستقبل في دمشق، وفي ردود الأفعال والنقاشات التي تبعتها، الأمر الذي هو بحاجة إلى المزيد من النقاش والحوار بشأنه، وعلى قاعدة التسامح، وحسناً فعلت الشبكة العربية للتسامح حين اتخذت قراراً بتخصيص ندوة مستقلة لبحث موضوع التنوّع الثقافي في مجتمعات متعددة، وهي الندوة التي ستلتئم في المغرب وأيضاً بالتعاون مع منتدى «مواطنة»، لاسيَّما علاقتها بالهوية العامة وبالهويات الفرعية.
عندما أعلنت منظمة اليونسكو في 16 نوفمبر 1995 اليوم العالمي للتسامح (الدورة 28)، فإنها استندت على نشر وثيقة مبادئ التسامح على 14 إعلاناً وعهداً دولياً واتفاقية دولية، وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في عام 1966 والذي دخل حيّز التنفيذ عام 1976، وكذلك اتفاقيات منع التمييز، لاسيَّما في ميدان التربية والتعليم، إضافة إلى أهداف العقد الثالث لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري، الذي كان مؤتمر ديربن ضد العنصرية عام 2001 عنواناً بارزاً من عناوينه بإدانة الممارسات الإسرائيلية العدوانية، باعتبارها ممارسات عنصرية، والعقد العالمي لنشر ثقافة حقوق الإنسان، والعقد العالمي لنصرة سكان البلاد الأصليين على المستوى العالمي.
ولعل تلك المرجعيات تشكل سقفاً أعلى فيما يتعلق بقيم ومبادئ التسامح على المستوى العالمي، يفترض أن تنظم وتضمن العلاقة على أساسه، بين الفرد والدولة وبين الأفراد فيما بينهم وبينهم وبين الجماعات، وقد أكد إعلان مبادئ التسامح الصادر عن اليونسكو، ضرورة إدراج تلك المبادئ في الدساتير والتشريعات، والعمل على التقيّد بها أفراداً وجماعات ودولاً، الأمر الذي يقود إلى حماية مبادئ وقيم التسامح على المستوى النظري والعملي.
ويشكّل العنف والإرهاب وكراهية الأجانب والنزعات الاستعلائية العنصرية، العدوانية، ومعاداة السامية، والتهميش والإقصاء والتمييز ضد الهويات الفرعية، الوطنية والدينية والإثنية واللغوية والسلالية واللاجئين والعمال المهاجرين، والفئات الضعيفة في المجتمع، والتجاوز على حرية التعبير، بيئة مضادة للتسامح، لأنها ستهدد السلم والديمقراطية وتشكّل عقبة أمام التنمية، وهو ما ذهب إليه إعلان مبادئ التسامح، سواءً كان ذلك على الصعيد الوطني أو العالمي.
ولا شك أن الاحتلال والعدوان واستخدام القوة وفرض الهيمنة على الشعوب، تعتبر من مظاهر عدم التسامح، خصوصاً بانتهاك المنظومة الكاملة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، على المستوى العام أو الفردي.
وبعد كل ذلك، فالتسامح -حسبما ورد في الإعلان الصادر عن اليونسكو- يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية، وهو يتعزز بالمعرفة والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، وإنه يمثّل الوئام في سياق الاختلاف. والتسامح، لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل أصبح واجباً سياسياً وقانونياً، لإرساء وتعزيز قيم السلام ونبذ الحروب، لاسيَّما في البلدان المتقدمة.
ومن الجهة الأخرى وبعيداً عن بعض التفسيرات والتأويلات الضيقة، فالتسامح لا يعني المساومة أو التساهل إزاء انتهاك الحقوق والحريات، كما تذهب إلى ذلك بعض الأفكار الدارجة والسطحية، بقدر ما هو اتخاذ موقف إيجابي للإقرار بحقوق الآخرين للتمتع بجميع حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولا يمكن تحت أي مبرر، بما فيها مبررات التسامح، المساس بقيم التسامح سواءً على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الحكومات.
وبهذا المعنى، فإن قيم التسامح لا تستقيم بدون قيم المساواة والعدالة وعدم التمييز والحق في المشاركة وقبول الآخر، ولعل ذلك ما لفت إليه مفوض جامعة الدول العربية للمجتمع المدني فاروق العمد، عندما أشار إلى دعمهم لفعاليات وأنشطة التسامح.
لعلها ستكون مناسبة مهمة عند الحديث عن التنوّع الثقافي والتعددية الفكرية والسياسية والقومية والدينية واللغوية والسلالية، لاسيَّما لدول متعددة التكوينات، للبحث في الرافعات الخمس: التشريعات والتربية والتعليم والقضاء والإعلام والمجتمع المدني، ووضع خطة عمل طموحة على مدى السنوات الخمس لتغطية هذه الحقول، باتجاه خلق وعي عربي جديد قابل لازدهار قيم ومبادئ التسامح، وفي المقدمة لدى النخب، وعلى صعيد الدولة والمجتمع، وذلك لكي يصبح التسامح اختياراً حضارياً يقوم على أساس الاعتدال والعقلانية والحداثة والنسبية والعلمانية والتعددية والتنوّع، في إطار قيمة مرجعية من جهة وهويات مركّبة ومتفاعلة واستدراكات مغايرة لا متماثلة، من خلال المعرفة والمأسسة والمقدرة.

*باحث ومفكر عربي


           


1023
هل تستقيم المواطنة مع الفقر؟!
عبدالحسين شعبان
2010-06-14
كيف يمكن لنا الحديث عن مواطنة متساوية في ظل التفاوت الكبير بين من يملكون ولا يملكون، وبين الجياع والمتخمين، ولعل المواطنة التي ترتب حقوقاً وواجبات، لا بدّ من توفّرها، لكي تكون العلاقة سالكة بين المواطن وانتمائه وهويته، وبانعدامها فستكون مواطنته مبتورة أو ناقصة أو حتى ملتبسة، وكيف لمواطن ليس لديه أي مستلزمات أولية للحياة والعيش والكرامة واحترام حقوقه، أن يكون سوّياً، إن لم تخلق لديه ردّات فعل، ربما بعضها عنيفاً وقاسياً في ظل غياب الأركان الأساسية لمواطنته، وهو ما نطلق عليه «المواطنة العضوية».
إذا أردنا ملامسة فكرة مواطنة عضوية، فإننا نعني مواطنة تقوم على الحريات العامة والخاصة، لاسيَّما حرية التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم الحزبي والنقابي، وحق المشاركة، وعلى مبادئ المساواة أمام القانون والقضاء وبين البشر، رجالاً ونساءً، وبدون أي تمييز لأي سبب كان، وعلى مبادئ العدالة بمعناها الاجتماعي والاقتصادي بما فيها حق العمل وحق التعليم والحق في السكن والحق في العلاج، وكذلك بمعناها القانوني والقضائي والسياسي، وعلى مبادئ المشاركة والحق في توّلي الوظائف العليا دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو العرق أو اللون أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب كان.
وبهذا المعنى فإن المواطنة دون حماية ورعاية من الدولة (وهي رابطة قانونية بين الفرد والدولة) ستكون بائسة ومشوّهة، لاسيَّما إذا ساد الفقر والتفاوت الشاسع في دخل الأفراد وفي توزيع الثروة. ولعلنا لا نستطيع أن نتحدث عن حقوق الإنسان مع استمرار الفقر وانعكاساته وتأثيراته الخطيرة نفسياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.
ولعل مناسبة الحديث هذا هو تقرير كان قد أطلقه فريق عمل بحثي تحت عنوان «من أجل قانون في خدمة الجميع» من خلال احتفالية نظمها منتدى الفكر العربي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عمّان، وقال فيه سمو الأمير الحسن بن طلال: إن مشروع التمكين القانوني هو حرب شاملة ضد الفقر والإقصاء والتهميش.
وإذا كان الإنسان هو أثمن رأسمال وغاية كل دين أو فلسفة أو أيديولوجية، وحسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس: الإنسان مقياس كل شيء، فإنه بهذا المعنى المستهدف الأساسي لأية سياسة أو قانون أو خطة اجتماعية أو تنموية إنسانية.
والفقر يؤثر على عقول وأجساد ونفسيات البشر، مادياً وروحياً ووجدانياً، وهو استلاب لمنظومة حقوق الإنسان، إذ لا يمكن مع الفقر والفاقة الحصول على تعليم مناسب وطبابة مناسبة، على المستوى الفردي أو الجماعي، كما لا يمكن الحديث عن التنمية مع وجود واستمرار الفقر، ولا يمكن قهر الطبيعة مع الفقر والقضاء على الأوبئة والتصحّر والأمراض المستعصية، وكذلك لا يمكن استثمار الموارد البشرية والطبيعية لمواجهة الكوارث باستمرار الفقر.
يعيش في عالمنا أكثر من مليار و200 مليون إنسان تحت خط الفقر، ولا تزيد نسبة رواتبهم عن دولار واحد في اليوم، ولا يستطيع هؤلاء التعساء سد قوتهم اليومي وتلبية حاجاتهم الأساسية، فكيف والحالة هذه الحديث عن تنمية شاملة ومستدامة، فضلاً عن سلام واستقرار؟ كيف يمكن استبعاد ملايين الناس من المشاركة والتعليم وتلقي العلاج والحصول على عمل مناسب، فضلاً عن قضاء أوقات الفراغ والتمتع بالحقوق الثقافية وبحق الضمان الاجتماعي وحق الحصول على الراحة، في ظل بقاء الفقر مهيمناً بكابوسه على المجتمع ومهدداً بالانفجار.
إن إطلاق مبادرة لجنة التمكين القانوني ضد الفقر مناسبة مهمة للبحث في جداول عمل ومنهجيات وآليات لتنفيذ خطط سريعة ومناسبة للحد من هذه الظاهرة اللاإنسانية، وصولاً إلى الحق في العمل وحق التطبيب وحق التعليم والحصول على المعارف وبالتالي الحق في العدل، سواءً في دول اليُسر أو دول العُسر، لا فرق، طالما بقي التفاوت مثل القنبلة الموقوتة القابلة للانفجار في أية لحظة.
وهنا لا بد من بيئة تشريعية مناسبة وتشريعات عادلة، كما هو بحاجة إلى بيئة تعليمية مناسبة ورفع التمييز وتقديم فرص التعليم المجاني ومساعدة الفقراء وابتكار وسائل جديدة للوصول إلى ذلك، ولعل تجربة ماليزيا أحد النماذج المهمة، على هذا الصعيد.
كما لا بد من وجود بيئة إعلامية مهنية للترويج لمكافحة الفقر، وكذلك بيئة مشجعة من طرف المجتمع المدني، تعمل بحرية ومهنية وتكون قوة اقتراح لإصدار قوانين وأنظمة وتعليمات، ومراقبة تنفيذها وتدقيق المناهج التربوية والتعليمية، ومخاطبة الإعلام بما يساعد في تهيئة أجواء فكرية واجتماعية وسياسية مقبولة ضد الفقر.
إن التصدي لظاهرة الفقر يعني التصدي لظاهرة العزل أو الإقصاء أو التهميش أو تحت أي من مسمياته، وسيكون ذلك خطوة مهمة لاحترام حقوق الإنسان وتعزيز خطط الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري، بشفافية عالية وصولاً للحكم الصالح، فالكفاح ضد الفقر ومن أجل التمكين القانوني، سيلقى صداه في السعي لتحقيق الديمقراطية، خصوصاً في أجواء الحريات وتداول السلطة سلمياً بانتخابات دورية وفي ظل سيادة القانون وحق التعبير وتدفق المعلومات والمساءلة والشفافية.
ولعل تقليص ظاهرة الفقر سيؤثر اجتماعياً على تقليص حالات الجريمة المنظمة وأعمال الإرهاب واستخدام المخدرات وحالات الانتحار وغيرها، كما أن أية إصلاحات بخصوص الحد من ظاهرة الفقر، ستؤثر على المرأة إيجاباً، فهي المتضرر الأكبر من استمرار هذه الظاهرة، وكذلك الأطفال الذين تصيبهم هذه الظاهرة بالعمق، فيضطرون إلى النزول إلى سوق العمل بوقت مبكر دون السن القانونية أو التسرّب من الدراسة أو الأمية أساساً، ناهيكم عن تهيئة بيئة خصبة للإرهاب، الأمر الذي بحاجة إلى تضافر جهود محلية ودولية، لاسيَّما للمنظمات والهيئات الدولية، فإضافة إلى الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها، لا بدّ من مساهمة البنك الدولي ومنظمة العمل الدولية ومنظمة الأغذية والزراعة ومفوضية شؤون اللاجئين واتحادات العمل والعمال والنقابات والاتحادات المهنية.
ويصبح الحديث عن مبادرة التمكين القانوني ضرورياً، بل لا غنى عنها، خصوصاً إذا ما عرفنا أن نحو 4 مليارات إنسان محرومون اليوم من فرصة تحسين ظروفهم المعيشية والخروج من غلواء الفقر (دون خطه أو فوقه)، وذلك لأنهم يفتقرون إلى الحقوق وإلى أوجه الحماية المناسبة التي يوفّرها القانون.
إن العديد من القوانين والمؤسسات والسياسات الحاكمة على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي (بحكم عوامل الهيمنة الدولية الاحتكارية الرأسمالية) هي التي تحول دون حصول قسم كبير من المجتمع على فرصة المشاركة، ولعل قواعد اللعبة بين الحاكم والمحكوم والعلاقات الدولية غير عادلة، الأمر الذي سيكون مرفوضاً أخلاقياً، لأنه يشكل عائقاً جدياً أمام التنمية، وقد يؤدي إلى تقويض الاستقرار والأمن ويشجع على الإرهاب والعنف وسياسات التطرف والتعصب، في كل بلد نامٍ وعلى الصعيد العالمي أيضاً.
لا بدّ إذاً من «قانون في خدمة الجميع»، وهو ما تركز عليه «لجنة التمكين القانوني» المؤلفة من 25 شخصية دولية على مستوى رفيع، حيث سيكون جزءاً من عملية تغيير منهجية تخدم الفقراء من خلال القانون والخدمات القانونية لحمايتهم والدفاع عن حقوقهم والارتقاء بأدائهم الاقتصادي بصفتهم مواطنين لا «أُجراء» لهم حقوق أولاً مثلما لهم واجبات، ولعل أهم هذه الحقوق هو حق الحياة وعدم الخوف والعيش بسلام وحق التعبير والحق في محاكمة عادلة والحق في عدم التعرّض للتعذيب، والحق في حياة كريمة، تضمن حماية وفي الوقت نفسه رعاية ذات أبعاد إنسانية.



1024
الثقافة والتربية.. لا حقوق دون رقابة
عبدالحسين شعبان
2010-06-21
أتاح تأسيس مجلس حقوق الإنسان HRC في عام 2006 الفرصة للقيام بمراجعة دورية شاملة لسجلّ الدول ومدى التزامها بمعايير حقوق الإنسان. وفي هذه الحال ستكون حكومات الدول مضطرة لكشف سجلها، والعمل على تكييف قوانينها بما يتناسب مع مضامين المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها، وكذلك قد يترتب على هذا تشريع قوانين جديدة متوافقة معها، والأهم من ذلك الإشراف والتدقيق على الممارسات المتبعة ومعرفة مدى مطابقتها مع الالتزامات الدولية أو انتهاكها.
وقد فتحت هذه الخطوة الجديدة في تطور المساءلة الدولية للحقوق الإنسانية الباب واسعاً، لنشر ثقافة حقوق الإنسان والتربية عليها، وبالأخص, ترافق ذلك مع سعي مجلس حقوق الإنسان ولجنته الاستشارية لإعلان مشروع بشأن «التربية والتدريب على حقوق الإنسان» وهو القرار الذي اتخذه المجلس في سبتمبر 2007 وتنخرط فيه اليونسكو على نحو فعَّال.
وإذا كانت الدول تتحمل المسؤولية الأساسية في وضع معايير حقوق الإنسان وضمان تفعيلها، فإن دور منظمات المجتمع المدني والمؤسسات غير الحكومية، لاسيَّما هيئات حقوق الإنسان، لا يمكن الاستغناء عنه في تعزيز وتفعيل وحماية حقوق الإنسان ورصد الانتهاكات والتجاوزات، خصوصاً وهي تلعب دور الحارس على ضمان الالتزام بها وعلى تنمية الفهم الخاص بحقوق الإنسان، دون نسيان دور الإعلام والمجتمع الأكاديمي, وكذلك دور القطاع الخاص وأصحاب الأعمال، لإنجاز الأهداف المنصوص عليها في دستور منظمة اليونسكو أو في الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، أو فيما ورد من نصوص تخص حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة.
وإذا كنا بصدد الذكرى 65 لتأسيس الأمم المتحدة في مؤتمر سان فرانسيسكو يونيو 1945، فلا بد من استذكار أن الدول المؤسسة قد أكدت على إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية وحرياته على أساس المساواة بين النساء والرجال، كما عبرت عن تصميمها على بناء عالم يحترم ويحافظ على حقوق الإنسان وحرياته الأساسية دون تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي.
ورغم أن الإشارة إلى حقوق الإنسان قد وردت سبع مرات في ميثاق الأمم المتحدة فإنها لم تندرج كمبدأ مستقل من مبادئ القانون الدولي المعاصر وكقاعدة آمرة (Jus Cogens) من قواعده بسبب الصراع بين الشرق والغرب، وسعي كل منهما لتقديم مفهومه الخاص عن حقوق الإنسان (لاحقاً).
لكن مبدأ حقوق الإنسان أصبح بعد توقيع العهدين الدوليين، الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في عام 1966, أصبح ملزماً، لاسيَّما بعد دخول العهدين الدوليين حيز التنفيذ في عام 1976.
والأكثر من ذلك أقر مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي عام 1975 والذي حضرته 33 دولة أوروبية، إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا وثيقة ختامية، تعتبر بمثابة اتفاقية شارعة، أي منشئة لقواعد قانونية جديدة أو مثبتة لها، مؤكدة على مبدأ حقوق الإنسان, وكذلك مبدأ احترام حرمة الحدود وعدم خرقها, ومبدأ وحدة أراضي البلدان واستقلالها، باعتبارها مبادئ ملزمة ومستقلة من مبادئ القانون الدولي، بعد أن كان قد ورد ذكرها في ميثاق الأمم المتحدة، لكنه لأول مرة يتم الاعتراف بها والتعامل معها، لاسيَّما مبادئ حقوق الإنسان، باعتبارها ذات علوية، رغم التفسير المتناقض بين الشرق والغرب.
وإذا كان الأخير قد ركز على الحقوق الفردية والحقوق المدنية والسياسية لاسيَّما حق التعبير وحق المشاركة وحق التنظيم الحزبي والنقابي وحق الاعتقاد، فإن الشرق ركز على الحقوق الجماعية كحق تقرير المصير, وعلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخاصة حق العمل والتعليم, والحق في الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي وحق الاستمتاع بمنجزات الثقافة والأدب والفن, لكن المسألة لم تتطور على الصعيد العملي، إلا بعد انتهاء الحرب الباردة وانحلال نظام القطبية الثنائية وتحول الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل آخر جديد، الأمر الذي طرح موضوع حقوق الإنسان على بساط البحث، خصوصاً مع انهيار أنظمة أوروبا الشرقية ذات الطابع الشمولي وسقوط جدار برلين عام 1989.
وقد اكتسبت مبادئ حقوق الإنسان رمزية كبرى وارتقت لتصبح ذات مكانة سامية، لاسيَّما هي الخيط الواصل بين المبادئ العامة للقانون الدولي وبقية القواعد ذات العلاقة بالتنمية المستدامة، التي ينبغي أن تراعيها. ولم يعد مقبولاً أن ينفرد أي حاكم بحكم شعبه دون مساءلة قانونية تحت حجة مبدأ عدم التدخل بالشؤون الداخلية الذي ورد في ميثاق الأمم المتحدة (الفقرة السابعة من المادة الثانية).
لقد أدى هذا التطور لانبثاق مبدأ فرعي ما زال قيد الجدل الفقهي القانوني والسياسي، وهو مبدأ التدخل لأغراض إنسانية، أو مبدأ التدخل الإنساني، رغم مما اقترن به من تطبيقات سيئة ومعايير ازدواجية حيث تم توظيفه سياسياً ولأغراض خاصة, لاسيَّما الحربية منها، ولا يكمن العيب في المبدأ أساساً, فهو مثل الكثير من المبادئ الإنسانية النبيلة، لكن القوى المتنفذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، غالباً ما تستثمر موازين القوى وتسخرها لمصالحها، ولتحقيق أهدافها ومطامعها، المخالفة لإرادة الشعوب والمتعارضة مع مبادئ حقوق الإنسان، وهو ما حصل إبان غزو العراق واحتلاله، فضلاً عن استمرار التجاوز في حقوق الشعب العربي الفلسطيني لاسيَّما حقه في تقرير المصير، وكما كشفت الحرب على لبنان والحرب على غزة مدى استخفاف إسرائيل بحقوق الإنسان وبقواعد القانون الدولي الإنساني، وهو ما لفت الأنظار إليه خلال هجومها الأخير على أسطول الحرية الذي جاء لدعم أهالي غزة المحاصرين.
لقد أصبحت نصوص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 ديسمبر 1948، مصدر إلهام للعديد من الدول، لاسيَّما عند وضع دساتيرها أو تشريع قوانينها الوطنية، وبغض النظر عن طبيعته الأدبية وعدم إلزاميته، إلا أنه كان الشجرة الوارفة التي تفرَّعت عنها عشرات المعاهدات والاتفاقيات والبرتوكولات الدولية، بما فيها العهدان الدوليان الملزمان باعتبارهما اتفاقيتين دوليتين، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، والاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، والاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، والاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، والاتفاقية الدولية بشأن حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والاتفاقية الدولية بشأن حماية كافة الأشخاص من الاختفاء القسري.
ولعل هذه الاتفاقيات وغيرها قد وضعت معايير جديدة، ووسعت من نطاق حقوق الإنسان، وأسهمت في إيجاد آليات للرقابة على الدول للتأكد من مدى التزامها، بما فيه تقديم تقارير دورية عن الإجراءات التي تتخذها لتطبيق نصوص هذه الاتفاقيات.
لقد اعترف العالم في القمة الكونية مطلع الألفية الثالثة في نيويورك عام 2000 أن حقوق الإنسان أساس لا يمكن الاستغناء عنه لعالم يعمه السلام والرخاء والعدل، الأمر الذي يرتب مسؤوليات جماعية للحفاظ عليها, على أساس المشترك الإنساني, وفي إطار "عولمة" ذات وجه إنساني (أي بالضد من وجهها المتوحش)، وهذا ما أتاح لمجلس حقوق الإنسان HRC إبداء اهتمام كبير لتعزيز التربية على حقوق الإنسان، ولتهيئة البيئة المناسبة لنشر وتعميق ثقافة حقوق الإنسان، سواء من خلال مبدأ المراجعة الدورية الشاملة لسجل الدول والتزاماتها بمعايير حقوق الإنسان كخطوة مهمة لتنشيط الجهود، أم من خلال برامج التأهيل والتدريب وأنماط السلوك والعمل.
فالرقابة عنصر مهم لتعزيز وترسيخ الثقافة والوعي الحقوقي، وهذه تحتاج إلى وسائل تربوية مهمة لكي تصبح قضية حقوق الإنسان قضية المجتمع ككل، مثلما هي قضية كل إنسان.

كاتب ومفكر عربي
           


1025
الأزمة الكونية وحلم التنمية


عبدالحسين شعبان
قبل عام (يونيو/ حزيران 2009) عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤتمراً رفيع المستوى لمناقشة تداعيات الأزمتين العالميتين، المالية والاقتصادية وانعكاساتهما على التنمية العالمية، لاسيما تأثيراتهما في الفئات الضعيفة والمهمشة والفقراء بشكل عام، وصدر عن المؤتمر وثيقة ختامية دعت من خلالها الجمعية العامة إلى تولي مهمة متابعة التوصيات عبر فريق متخصص، وخلال فترة غير محددة، للتخفيف من حدّة الأزمتين، وإعادة النظر بهيكلية النظام المالي والديون الخارجية والتجارة الدولية .

ولمواجهة التحديات والمعوقات التي تحول دون تفعيل احترام حقوق الإنسان، وإيجاد حلول جذرية للمشاكل الاقتصادية والمالية القائمة، فإن ذلك يتطلب تراكم الجهود لتعميق الوعي الجماعي ومن لدن جميع الأطراف، خصوصاً بتأمين مستلزمات فاعلة للتربية على حقوق الإنسان وإيجاد بيئة مساعدة تشريعية وإعلامية وتربوية، فضلاً عن مجتمع مدني حر ومستقل ومهني، لتفعيل حقوق الإنسان وضمان عدم انتهاكها .

ولا يستطيع الإنسان الدفاع عن حقوقه والنضال من أجل تحقيقها إنْ لم يكن واعياً بضرورتها ومؤمناً بها؛ عندها ستصبح هذه الحقوق قوة مادية متجذرة من الصعب اقتلاعها أو زحزحتها، ولكن عليه أولاً التعرّف إلى مضمونها معرفة كافية تؤهله للدفاع عنها بكل السبل الممكنة والمشروعة . ومن هنا تكون التربية على مبادئ حقوق الإنسان عاملاً أساسياً في تعزيز الأهمية المتساوية لجميع الحقوق الإنسانية المدنية والسياسية من جهة، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، وذلك بهدف الحفاظ على الكرامة الإنسانية وتحقيق الرفاه على المستوى الشخصي لكل إنسان، وعلى المستوى العالمي فيما يتعلق بالتنمية .

ولعل التربية على حقوق الإنسان لا تقتصر على التدريب والتأهيل ونشر المعلومات وهي أمور مهمة ولا غنى عنها، لكنها تستهدف بناء ثقافة كونية لحقوق الإنسان لتشمل المعرفة والمهارات وأنماط السلوك التي تقوم عليها مبادئ العدالة الدولية وسيادة حكم القانون ومبادئ المساواة وعدم التمييز .

وإذا كان التقدم ملحوظاً في ميدان حقوق الإنسان بفضل جهود المجتمع الدولي ونشطاء حقوق الإنسان في كل مكان، لاسيما في العقود الثلاثة الأخيرة، لدرجة أن مسألة حقوق الإنسان أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الأجندة السياسية الدولية وعلى المستوى الوطني يقاس بهما درجة تقدم أية أمة أو شعب أو نظام سياسي أو مجموعة بشرية، بمدى الاقتراب أو الابتعاد عنها، إلاّ أن الانتهاكات ما زالت تحصل على نطاق واسع في مختلف مناطق العالم وأحياناً تتنصل الحكومات عن عقاب المرتكبين، أو أن الجناة يفلتون من العقاب بوسائل مختلفة .

ورغم الحديث الإيجابي عن بعض الإنجازات والمكتسبات فإن عدم الرضا ما زال قائماً على الصعيد الكوني إزاء تفعيل معايير حقوق الإنسان، سواءً على صعيد النهج الداخلي، أو على صعيد السياسة الدولية، التي غالباً ما تُستخدم فيها معايير ازدواجية ويتم التعامل في إطارها على أساس انتقائي ووفقاً للمصالح الضيقة والأنانية، لاسيما للقوى الكبرى المتنفّذة والمتسيّدة في العلاقات الدولية، الأمر الذي يترك تأثيراته السلبية في مجمل منظومة حقوق الإنسان نظرياً وعملياً ويضاعف من التبرم والضيق والاحتجاج والصراع الاجتماعي .

ورغم مرور ما يقارب 62 عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 ديسمبر/ كانون الأول ،1948 فإن الملايين من الأطفال ما زالوا محرومين من حقوقهم الأساسية بما فيها حقهم في التعليم وحقهم في السكن، اللذين ما زالا يمثلان حلماً بعيد المنال لملايين من البشر . كما لا تزال الحقوق الصحية وحق الحصول على الغذاء غير مكفولين بحدهما الأدنى لأكثر من ثلث سكان العالم . أما الحق في الحصول على مياه نظيفة ومرافق صحية ملائمة وبيئة مناسبة غير ملوثة، فما زال مفتقداً لمئات الملايين من البشر .

ورغم مرور 65 عاماً على صدور ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو (1945) وإقراره بالمساواة وعدم التمييز، فإن الواقع الذي يعيشه العالم يتسم في أكثر الأحيان بمظاهر صارخة للتمييز وبالنقص الفادح في مبدأ المساواة ولاسيما على أساس النوع (الجنس)، واتساع رقعة الفقر لتمتد إلى حقول كثيرة، حيث تفقس بيضة الإرهاب والجريمة المنظمة والفساد وتلوث البيئة، إضافة إلى النقص الفادح في حرية التعبير، لاسيما في الدول النامية ذات الأنظمة الشمولية والمستبدة والمحافظة، والحق في تأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب، والحق في الاعتقاد، فضلاً عن الحق في المشاركة، وهذه جميعها هي تحديات كبرى تواجه المحاولات المتعددة للنهوض بحالة حقوق الإنسان على المستوى الكوني أو على المستوى المحلي .

لقد قادت الأزمتان العالميتان الحاليتان على الصعيدين المالي والاقتصادي إلى قتامة صورة الوضع الدولي، لاسيما في ما يتعلق بارتفاع أرقام العاطلين عن العمل إلى حدود مخيفة، وازدياد عدد الفقراء أو من هم دون خط الفقر، الذين لا تزيد أجورهم اليومية على دولار واحد، حيث يؤلف هؤلاء أكثر من مليار ومائتي مليون نسمة، إضافة إلى مئات الملايين الذين هم في دائرة الفقر .

كما أدت الأزمتان العالميتان إلى ارتفاع منسوب الكراهية ضد المهاجرين، ولاسيما العرب والمسلمون في أوروبا وأمريكا بشكل خاص، وانعكاس ذلك على العمال منهم مما تسبب في تعاظم أزمة الغذاء، وانخفاض مستوى الاستثمار الأجنبي والمساعدات الممنوحة للبلدان النامية .

ولعل هذه الأزمات منفردة ومجتمعة تعترض سبيل تحقيق أهداف الألفية الثالثة التي أعلنها كوفي أنان الأمين العام السابق للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول العام ،2000 وتضعف فاعلية المبادئ الأساسية المطلوبة لإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ناهيكم عن المعوقات التي تعترض تفعيل الحقوق المدنية والسياسية .

لقد ارتفعت البطالة 30 مليوناً في العام الماضي (2009) ويُقدّر أن تصل إلى 50 مليوناً إذا ما استمر الوضع في التدهور حسب تقديرات منظمة العمل الدولية ILO، ومثل هذه الأرقام والتداعيات المفزعة للأزمة المالية والاقتصادية العالمية تثير القلق إزاء التمتع باحترام حقوق الإنسان، لاسيما للفئات الفقيرة والمهمشة، وبخاصة في البلدان النامية، الأمر الذي يتطلب إدراك السلطات المحلية مسؤولياتها الوطنية لحماية حقوق الإنسان وبالأخص الحقوق الأساسية، مثلما يضاعف مسؤولية المجتمع الدولي، وبخاصة الدول الغنية، لوقف زحف الفقر والتخلف والأمية وخاصة في دول الجنوب ولتقديم المساعدات للتخلص من غلواء سياسات التمييز والهيمنة والاستتباع واللاديمقراطية لأن ذلك لو استمر، سينعكس على العالم كله .

وقد أدرك مجلس حقوق الإنسان HRC خطر ذلك ونوّه إلى وضع أجندة حقوق الإنسان في المقام الأول وذلك بالقرار الذي اتخذه في 23 فبراير/ شباط 2009 وتحت عنوان “تداعيات الأزمتين العالميتين المالية والاقتصادية على الإدراك العالمي لحقوق الإنسان”

ولعل ذلك يضع بعض الأولويات على الصعيد الكوني على بساط البحث، منها، وضع حد لظاهرة التمييز وكفالة حقوق الفئات الضعيفة والمهمشة والأقل حظاً وخاصة النساء والأطفال واللاجئين والعمال والمهاجرين وأفراد أسرهم والسكان الأصليين، وبشكل عام الفقراء الذين تزداد معاناتهم .

كاتب ومفكر عربي




1026
المنبر الحر / بوذا البيت الأبيض
« في: 09:45 27/06/2010  »

بوذا البيت الأبيض
   
 
 
عبدالحسين شعبان

لفترة امتدت إلى ستة عقود من الزمان كان اسمها وشكلها وصوتها معروفاً في البيت الأبيض كصحافية معتمدة، بل هي عميدة المراسلين . غطت أخبار عشرة من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية، وهم على التوالي: إيزنهاور، كينيدي، جونسون، نيكسون، كارتر، ريغان، جورج دبليو بوش (الأب)، كلينتون، جورج بوش (الابن) وأوباما . في البيت الأبيض كانوا يطلقون عليها اسم “بوذا” لميلها للسلام والتسامح واللاعنف .

بعد مسيرة مهنية طويلة وحافلة، قررت توديع البيت الأبيض والذهاب إلى التقاعد بعد أن بلغت التسعين من عمرها، وكعادتها في التميّز أبت التخلي عن موقعها من دون خبر صحافي وحبكة درامية معجونة بكلمة حق، هي أقرب إلى صرخة لتتوج من خلالها حياتها المفعمة بالأجد من الأنباء . لذلك قررت هيلين توماس وهو الاسم الذي طالما تردد في البيت الأبيض لعقود من الزمان أن تقول كلمتها وتمشي، ومن على أعلى منبر أطلت مخاطبة العالم بقولها: ليذهب “الإسرائيليون” إلى بلادهم في بولونيا وألمانيا والولايات المتحدة لاسيما بعد أن أصبح الحل مستعصياً والعدل غائباً والسلام مفقوداً .

هكذا فجرّت الصحافية الأقدم هيلين توماس في البيت الأبيض قنبلتها الإعلامية وهي تغادر المهنة التي أحبتها إلى حد العشق .

هيلين توماس كانت دائماً تردد: أنا صحافية قبل أن أكون امرأة، وفي يقينها أن الصحافة أفضل مهنة في العالم، لأنها تدفع المرء إلى مواصلة تحصيل العلم والثقافة والتعلم على الدوام، وعلى الأخص إذا أراد أن يكون حارساً أميناً على الحقيقة .

طوال فترة عملها اتبعت هيلين توماس ببراعة منقطعة النظير مقولة الروائي الكبير البير كامو: أن الصحافي هو مؤرخ اللحظة، لذلك لم تشأ أن تترك موقعها الصحافي من دون أن تؤرخ لحظتها هي بالذات هذه المرة، ومن دون تأكيد سلطة الصحافة المعنوية والأدبية، باعتبارها “السلطة الرابعة” أو “صاحبة الجلالة”، لاسيما من خلال تقديمها للمعرفة وبحثها عن الحقيقة، والمعرفة حسب فرانسيس بيكون هي “سلطة” أو “قوة” أو “هيبة” لذلك أرادت توماس أن تؤكد أن تزاوج السلطة مع الحقيقة سيكون له الأثر الأكبر، وهذا ما يتساوق مع ما تفكر به وتدعو إليه من مبادئ مهنية وإنسانية .

أرادت هيلين توماس أن تقلب المعادلة في لحظتها المهنية الأخيرة، فبدلاً من أن توجّه هي الأسئلة وتنتظر الجواب، سعت هذه المرة إلى تقديم الجواب بانتظار الأسئلة، وجاءتها الأسئلة، والانتقادات، والتعليقات، وحتى الإساءات من كل مكان إلا من عالمنا العربي، فلم يتذكرها إلا قلة قليلة، حيث تم نشر خبر تقاعدها وما قالته في البيت الأبيض مثل أي خبر عادي، لم يثر أي اهتمامات استثنائية .

هيلين توماس طالما كانت تمطر المسؤولين بالأسئلة سواء كانوا في الحكم أو خارجه، وغالباً ما أحرجتهم بأسئلتها الإشكالية التي تستدعي قولة حق وصدق، فالصحافي يشكك في الكثير من الأحيان ويتبنى ما يقوله الشارع أحياناً أخرى، كاشفاً الستر عن مكونات وخبايا تفكير الحاكم أو المسؤول بشأن القرارات المهمة والقضايا المصيرية كالحرب والسلام، والسياسة والدين، والمرأة والعنف، والقانون والحق، والنظرية والممارسة . اختارت هذه المرة عمداً وعن سبق إصرار أن تدلي بتصريحاتها المدوية قبل ذهابها إلى التقاعد، وهي التي عرفت بجرأتها ومهنيتها، فقد سبق لها أن انتقدت انحياز الإعلام الأمريكي إلى جانب “إسرائيل” خصوصاً عندما وصل الأمر إلى إطلاق وصف (القتلة والإرهابيين) على المقاومة الفلسطينية، كما سبق لها أن أدلت بتصريحها الناري العلني في واشنطن وهي التي خَبِرت الرؤساء الأمريكيين قائلة: إن الرئيس بوش (الابن) هو أسوأ الرؤساء الأمريكيين على الإطلاق، لأنه أدخل العالم في دوامة من الحروب المستديمة، مكرراً أهوال الماضي، وفي عهده خسرت الولايات المتحدة معظم أصدقائها في العالم .

وفي حرب تموز/ يوليو 2006 التي شنتها “إسرائيل” على لبنان انتقدت توماس التأييد الأمريكي ل”إسرائيل”، ولعل ذلك ما دفع المتحدث باسم البيت الأبيض طوني سنو إلى اتهامها ب”الانحياز” وتبني وجهة نظر “حزب الله” لكنها بلغة الإعلامي المحترف ردت بالقول: إنني أنقل واقع العدوان “الإسرائيلي” .

لقد عبرت هيلين توماس في كلامها بخصوص هضم حقوق الشعب العربي الفلسطيني واغتصاب الأرض الفلسطينية عما يفكر ويعمل من أجله كثيرون لا في العالم العربي وحسب بل في العالم أجمع بما فيه البعض في الولايات المتحدة والغرب عموماً، رغم الحصار الذي يفرضه اللوبي الصهيوني والإرهاب الفكري الذي يمارسه إزاء أي رأي حر ينتقد ممارسات “إسرائيل” العنصرية، لدرجة تصل أحياناً إلى إنكار وجود فلسطين واعتبارها صورة متخيلة، في محاولة للتغطية على الاحتلال “الإسرائيلي” الذي هو سبب المشكلات الأساسية والحروب في الشرق الأوسط منذ عقود من الزمان، بل أنه واحد من أهم الأسباب الأساسية لكراهية الولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي منذ أكثر من ستة عقود من الزمان، وما موقف الولايات المتحدة من الهجوم الغادر والقرصنة الدولية التي مارستها الدولة الصهيونية، ضد قافلة الحرية حيث أغرقتها بالدم وقادتها بالقوة إلى أحد موانئها وأجبرتها على إفراغ حمولتها (بعض المواد الأساسية للعيش، إضافة إلى الغذاء والدواء) التي كانت تنقلها إلى سكان قطاع غزة المحاصرين منذ ثلاث سنوات إلا تأكيداً على الانحياز الكامل للولايات المتحدة لصالح “إسرائيل” .

كانت ابنة التسعين على امتداد عقود من الزمان تبادر بطرح الأسئلة على الرؤساء العشرة وتفتتح المؤتمرات الصحافية وتختتم ذلك بالشكر للسيد الرئيس، لكن الرئيس بوش الابن حرمها من هذا الامتياز “تعسفاً”، ورغم ذلك فلم يستطع إسكات صوتها أو تخفيض نبرة قلمها، فقد كانت في عهده تؤكد: أن على السياسة الأمريكية أن تتطور لتكون أكثر دراية وعدالة ومعرفة بالحقائق .

تقاعدت هيلين توماس بعد عمل مضن وممتع عاصرت من خلاله كبار المسؤولين في العالم وهي واثقة بأن الصوت الشجاع يمكنه أن يحدث ارتباكاً وضعضعة بما هو سائد إلى حد الركود أحياناً، ويفتح حزمة ضوء ولو بسيطة رغم العتمة، ففلسطين تحتاج إلى كلمة الحق والعدل والسلام، حتى وإن اقتضى الأمر رحيل من قدموا إليها من دون إذن . هذا ما قالته في البيت الأبيض، رغم أن ذلك يثير تحفظات منظمات حقوق الإنسان فما ذنب الأجيال الأخرى وخصوصاً إذا لم تكن لها علاقة بسياسات العدوان والاحتلال وانتهاك حقوق الإنسان، الأمر الذي يحتاج إلى بحث عن حلول عادلة وسلمية، لاسيما بتأكيد حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف .

مفكر وكاتب عربي


1027
قرصنة وقانون: أليست كوميديا سوداء؟   


عبدالحسين شعبان
“إسرائيل” التي لا تأبه بالقانون الدولي ولا تحترم المواثيق والعهود الدولية بما فيها ميثاق الأمم المتحدة وتتصرف بمعزل عن ذلك كله، إلاّ أنها تزعم أو تحاول تكييف عدوانها وجرائمها، بتخريجات قانونية أو تسعى إلى إيجاد “سند” لها في القانون الدولي .

ما فعلته “إسرائيل” هو أنها شنت هجوماً على قافلة الحرية وقتلت 9 نشطاء جاءوا ينتصرون لقضية حقوق الإنسان، ويعلنون أن الحصار “الإسرائيلي” المفروض على غزّة لا إنساني ومخالف للشرعة الدولية لحقوق الإنسان . ادّعت “إسرائيل” أولاً أنها تريد تفتيش السفن القادمة إلى غزة .

وثانياً أن غزة بقيادة حماس خارجة على القانون الدولي، بتصنيفها منظمة إرهابية، وأن القانون الدولي يعطيها الشرعية لشن حرب على الإرهاب الدولي، بموجب قرارات دولية، سواء كان في المياه الدولية أو الإقليمية .

وثالثاً أن النشطاء هم من امتنع عن إنزال حمولتهم لفحصها ومن ثم إرسالها إلى غزة .

ورابعاً أن النشطاء هم من قاموا بالهجوم على الجنود “الإسرائيليين”، وأن الطائرات التي أنزلت عدداً من “الكوماندوس”، إضافة إلى قوات البحرية “الإسرائيلية”، إنما تدافع عن النفس، وهي تحمي أمن “إسرائيل” . . . إلخ .

أما العرب فآخر ما يفكرون به هو القانون الدولي، رغم أنه يشكل سنداً لهم، خصوصاً أن حقوقهم مغتصبة وأرضهم سليبة ويتعرضون لعدوان مستمر وحصار ظالم، وأن الوسائل المتاحة بأيديهم لا تستخدم على نحو صحيح، بما فيها الساحة الدبلوماسية والقانونية، التي يمكن أن تكون ظهيراً للوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية .

وإذا كان فقدان أو ضعف الإرادة السياسية سبباً في ذلك، وتراجع التضامن العربي بحدّه الأدنى وعدم وجود التنسيق بين البلدان العربية، سبباً آخر، إضافة إلى أن خياراتهم محدودة، ولعل أغلبها يتعلق بالحفاظ على ما هو قائم، من دون النظر والتفكير، بما يمكن أن يقود إليه سوء الأوضاع، فضلاً عن القضم “الإسرائيلي” المستمر للأراضي الفلسطينية وتهديد سلم وأمن المنطقة بعدوان مستمر ومشاريع حرب مستمرة .

وإذا كان ثمة إيجابية وحيدة من مجزرة قافلة الحرية، التي شملت مواطنين من جنسيات مختلفة فإنها دفعت أوساطاً واسعة من الرأي العام العالمي لإدانة “إسرائيل”، إضافة إلى بروز دور تركي متميز وفاعل، الأمر الذي قد يضع معادلات جديدة، إذا ما أحسن استخدامها، ستحشد طاقات جديدة، وبخاصة في المجال الدبلوماسي والقانوني لصالح العرب .

“إسرائيل” تعرف أنها قامت بجريمة قرصنة دولية وتعريفها “الإتيان بعمل من أعمال الإكراه أو الاستعداد للقيام به، في أعالي البحار أو البحار المفتوحة” . ولعل تعريف جريمة القرصنة ينطوي على توفر عدد من الأركان التي تنطبق جميعها على “إسرائيل” .

1- عمل إكراهي، بوسائل مادية أو معنوية، ويتساوى في ذلك الإتيان بالعمل أو القصد من نيّة الفاعل، وهو ما ينطبق على قيام القوات المسلحة “الإسرائيلية” باقتحام القافلة، وقيادتها بالضد من وجهتها، وقتل عدد من أفراد طاقمها وركابها .

2- المكان، وهو أعالي البحار، أي منطقة بحرية لا تخضع لسلطات محددة أو سيادة دولة بعينها، وهو ما حصل عند مهاجمة القافلة .

3- السفينة، أي محل وقوع الجريمة، خصوصاً أنها وقعت على حمولة بشرية مدنية، إضافة إلى سلع وبضائع تحملها السفينة .

4- العلم، أي أن تحمل السفينة علم دولة أو دول أخرى غير المرتكب، لكي يتحقق ركن القرصنة الدولية، فالسفن لا تحمل العلم “الإسرائيلي”، بل تحمل أعلاماً لدول أخرى .

5- عدم شرعية فعل الإكراه، أي لا وجود لسبب مشروع وقانوني للهجوم، لاسيما أن القافلة سلمية ومدنية، ولا تحمل أية مواد حربية أو عسكرية .  وطبقاً لذلك، فإن القافلة تتمتع بالشرعية القانونية الدولية وتتساوق مع القانون الدولي الإنساني وميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً أنها جاءت لنصرة الإنسان في غزة المحاصرة، وحملت معها بعض مقوّمات الحياة الضرورية التي تمتنع “إسرائيل” عن وصولها إليها، مثل الغذاء والدواء وبعض المواد الضرورية .

وعليه فإن هجوم “إسرائيل” على قافلة الحرية، يعني هجوماً على أبسط حقوق الإنسان، لأن غزة محاصرة على نحو غير شرعي، حيث ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة الثانية): على أن لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات من دون تمييز من حيث الجنس أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل الاجتماعي أو الثروة، أو أي وضع آخر ومن دون تفرقة بين الرجال والنساء .

وبما أن “إسرائيل” هدرت هذه الحقوق، سيكون لزاماً على المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية ودعاة حقوق الإنسان بشكل خاص، العمل على تأمين مستلزمات الحياة الضرورية لسكان قطاع غزة، وهو ما تذهب اليه اتفاقية جنيف الرابعة لعام ،1949 التي تحظر استخدام مثل تلك التدابير التي من شأنها أن تؤدي إلى حصار شعب من الشعوب، وهو ما أكدته المادة ،55 حيث أوجبت على الدولة المحتلة تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية بأقصى ما تسمح به من الوسائل، في حين “إسرائيل” تمارس عكس ذلك بالضبط بفرضها الحصار الشامل . إن أركان جريمة القرصنة تنطبق تماماً على الأفعال الإكراهية “الإسرائيلية” في أعالي البحار وبالضد من أسطول الحرية .

أما قتل “ النشطاء” فهو جريمة أخرى منفصلة ومستقلة عن جرائم القرصنة، وإذا كان المدافعون عن سفينتهم هم ضحايا وجاءوا لنصرة ضحايا ودفاعاً عنهم، فلا دفاع ضد الدفاع، وهناك معتد وهناك مدافع، أي هناك منتهِك وهناك مُنتهَك، ولا يتحقق شرط الدفاع عن النفس طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة بخصوص ما قامت به “إسرائيل”، بل إن المسألة معكوسة تماماً .

“إسرائيل” هي المحاصرة (بالكسر) وهي المهاجِمة وهي القاتلة . وهكذا يترتب عليها دولة وأفراداً ومسؤوليات مختلفة ومتنوعة، لارتكاب عدّة جرائم قتل كاملة الأركان المادية والمعنوية، لاسيما ضد السكان المدنيين، وتترتب عليها بالتالي عقوبات، لاسيما ضد من اتخذ القرار ومن أصدر الأوامر ومن قام بالتنفيذ، بمن فيهم كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، الذين لا بدّ من جمع الأدلة والأسانيد ضدهم والتقدم بشكاوى أمام القضاء الدولي (المحكمة الجنائية الدولية) أو الوطني لبعض الدول التي يسمح قانونها بإقامة مثل هذه الدعاوى، بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة وجنسية المرتكب أو الضحية، طالما تحمل سمات جرائم دولية وضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، إضافة إلى جريمة العدوان .

ويكون من واجب مجلس الأمن إنشاء محاكمة خاصة إذا اقتضى الأمر، بعد تحقيق نزيه وعادل، وإحالة المرتكبين إلى القضاء الدولي، كما حصل في يوغسلافيا ورواندا وغيرهما، خصوصاً أن جرائمها هذه هددت السلم والأمن الدوليين، كما أن على المدعي العام للمحكمة الجنائية الطلب من مجلس الأمن إحالة المتهمين إلى التحقيق ومن ثم إلى القضاء .

كما ترتب هذه الجرائم مسؤوليات مدنية في ضوء الإدانة الجنائية فردياً وجماعياً، وبشكل تضامني، عن تعويض الأضرار المادية والأدبية التي لحقت بكل متضرر .

أليس جمع النقيضين في سرير واحد “القرصنة والقانون” كوميديا سوداء؟

باحث ومفكر عربي

1028
قرصنة وقانون: أليست كوميديا سوداء؟   


عبدالحسين شعبان
“إسرائيل” التي لا تأبه بالقانون الدولي ولا تحترم المواثيق والعهود الدولية بما فيها ميثاق الأمم المتحدة وتتصرف بمعزل عن ذلك كله، إلاّ أنها تزعم أو تحاول تكييف عدوانها وجرائمها، بتخريجات قانونية أو تسعى إلى إيجاد “سند” لها في القانون الدولي .

ما فعلته “إسرائيل” هو أنها شنت هجوماً على قافلة الحرية وقتلت 9 نشطاء جاءوا ينتصرون لقضية حقوق الإنسان، ويعلنون أن الحصار “الإسرائيلي” المفروض على غزّة لا إنساني ومخالف للشرعة الدولية لحقوق الإنسان . ادّعت “إسرائيل” أولاً أنها تريد تفتيش السفن القادمة إلى غزة .

وثانياً أن غزة بقيادة حماس خارجة على القانون الدولي، بتصنيفها منظمة إرهابية، وأن القانون الدولي يعطيها الشرعية لشن حرب على الإرهاب الدولي، بموجب قرارات دولية، سواء كان في المياه الدولية أو الإقليمية .

وثالثاً أن النشطاء هم من امتنع عن إنزال حمولتهم لفحصها ومن ثم إرسالها إلى غزة .

ورابعاً أن النشطاء هم من قاموا بالهجوم على الجنود “الإسرائيليين”، وأن الطائرات التي أنزلت عدداً من “الكوماندوس”، إضافة إلى قوات البحرية “الإسرائيلية”، إنما تدافع عن النفس، وهي تحمي أمن “إسرائيل” . . . إلخ .

أما العرب فآخر ما يفكرون به هو القانون الدولي، رغم أنه يشكل سنداً لهم، خصوصاً أن حقوقهم مغتصبة وأرضهم سليبة ويتعرضون لعدوان مستمر وحصار ظالم، وأن الوسائل المتاحة بأيديهم لا تستخدم على نحو صحيح، بما فيها الساحة الدبلوماسية والقانونية، التي يمكن أن تكون ظهيراً للوسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية .

وإذا كان فقدان أو ضعف الإرادة السياسية سبباً في ذلك، وتراجع التضامن العربي بحدّه الأدنى وعدم وجود التنسيق بين البلدان العربية، سبباً آخر، إضافة إلى أن خياراتهم محدودة، ولعل أغلبها يتعلق بالحفاظ على ما هو قائم، من دون النظر والتفكير، بما يمكن أن يقود إليه سوء الأوضاع، فضلاً عن القضم “الإسرائيلي” المستمر للأراضي الفلسطينية وتهديد سلم وأمن المنطقة بعدوان مستمر ومشاريع حرب مستمرة .

وإذا كان ثمة إيجابية وحيدة من مجزرة قافلة الحرية، التي شملت مواطنين من جنسيات مختلفة فإنها دفعت أوساطاً واسعة من الرأي العام العالمي لإدانة “إسرائيل”، إضافة إلى بروز دور تركي متميز وفاعل، الأمر الذي قد يضع معادلات جديدة، إذا ما أحسن استخدامها، ستحشد طاقات جديدة، وبخاصة في المجال الدبلوماسي والقانوني لصالح العرب .

“إسرائيل” تعرف أنها قامت بجريمة قرصنة دولية وتعريفها “الإتيان بعمل من أعمال الإكراه أو الاستعداد للقيام به، في أعالي البحار أو البحار المفتوحة” . ولعل تعريف جريمة القرصنة ينطوي على توفر عدد من الأركان التي تنطبق جميعها على “إسرائيل” .

1- عمل إكراهي، بوسائل مادية أو معنوية، ويتساوى في ذلك الإتيان بالعمل أو القصد من نيّة الفاعل، وهو ما ينطبق على قيام القوات المسلحة “الإسرائيلية” باقتحام القافلة، وقيادتها بالضد من وجهتها، وقتل عدد من أفراد طاقمها وركابها .

2- المكان، وهو أعالي البحار، أي منطقة بحرية لا تخضع لسلطات محددة أو سيادة دولة بعينها، وهو ما حصل عند مهاجمة القافلة .

3- السفينة، أي محل وقوع الجريمة، خصوصاً أنها وقعت على حمولة بشرية مدنية، إضافة إلى سلع وبضائع تحملها السفينة .

4- العلم، أي أن تحمل السفينة علم دولة أو دول أخرى غير المرتكب، لكي يتحقق ركن القرصنة الدولية، فالسفن لا تحمل العلم “الإسرائيلي”، بل تحمل أعلاماً لدول أخرى .

5- عدم شرعية فعل الإكراه، أي لا وجود لسبب مشروع وقانوني للهجوم، لاسيما أن القافلة سلمية ومدنية، ولا تحمل أية مواد حربية أو عسكرية .  وطبقاً لذلك، فإن القافلة تتمتع بالشرعية القانونية الدولية وتتساوق مع القانون الدولي الإنساني وميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً أنها جاءت لنصرة الإنسان في غزة المحاصرة، وحملت معها بعض مقوّمات الحياة الضرورية التي تمتنع “إسرائيل” عن وصولها إليها، مثل الغذاء والدواء وبعض المواد الضرورية .

وعليه فإن هجوم “إسرائيل” على قافلة الحرية، يعني هجوماً على أبسط حقوق الإنسان، لأن غزة محاصرة على نحو غير شرعي، حيث ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة الثانية): على أن لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات من دون تمييز من حيث الجنس أو اللون أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو الأصل الاجتماعي أو الثروة، أو أي وضع آخر ومن دون تفرقة بين الرجال والنساء .

وبما أن “إسرائيل” هدرت هذه الحقوق، سيكون لزاماً على المجتمع الدولي والمؤسسات الدولية ودعاة حقوق الإنسان بشكل خاص، العمل على تأمين مستلزمات الحياة الضرورية لسكان قطاع غزة، وهو ما تذهب اليه اتفاقية جنيف الرابعة لعام ،1949 التي تحظر استخدام مثل تلك التدابير التي من شأنها أن تؤدي إلى حصار شعب من الشعوب، وهو ما أكدته المادة ،55 حيث أوجبت على الدولة المحتلة تزويد السكان بالمؤن الغذائية والإمدادات الطبية بأقصى ما تسمح به من الوسائل، في حين “إسرائيل” تمارس عكس ذلك بالضبط بفرضها الحصار الشامل . إن أركان جريمة القرصنة تنطبق تماماً على الأفعال الإكراهية “الإسرائيلية” في أعالي البحار وبالضد من أسطول الحرية .

أما قتل “ النشطاء” فهو جريمة أخرى منفصلة ومستقلة عن جرائم القرصنة، وإذا كان المدافعون عن سفينتهم هم ضحايا وجاءوا لنصرة ضحايا ودفاعاً عنهم، فلا دفاع ضد الدفاع، وهناك معتد وهناك مدافع، أي هناك منتهِك وهناك مُنتهَك، ولا يتحقق شرط الدفاع عن النفس طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة بخصوص ما قامت به “إسرائيل”، بل إن المسألة معكوسة تماماً .

“إسرائيل” هي المحاصرة (بالكسر) وهي المهاجِمة وهي القاتلة . وهكذا يترتب عليها دولة وأفراداً ومسؤوليات مختلفة ومتنوعة، لارتكاب عدّة جرائم قتل كاملة الأركان المادية والمعنوية، لاسيما ضد السكان المدنيين، وتترتب عليها بالتالي عقوبات، لاسيما ضد من اتخذ القرار ومن أصدر الأوامر ومن قام بالتنفيذ، بمن فيهم كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين، الذين لا بدّ من جمع الأدلة والأسانيد ضدهم والتقدم بشكاوى أمام القضاء الدولي (المحكمة الجنائية الدولية) أو الوطني لبعض الدول التي يسمح قانونها بإقامة مثل هذه الدعاوى، بغض النظر عن مكان وقوع الجريمة وجنسية المرتكب أو الضحية، طالما تحمل سمات جرائم دولية وضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، إضافة إلى جريمة العدوان .

ويكون من واجب مجلس الأمن إنشاء محاكمة خاصة إذا اقتضى الأمر، بعد تحقيق نزيه وعادل، وإحالة المرتكبين إلى القضاء الدولي، كما حصل في يوغسلافيا ورواندا وغيرهما، خصوصاً أن جرائمها هذه هددت السلم والأمن الدوليين، كما أن على المدعي العام للمحكمة الجنائية الطلب من مجلس الأمن إحالة المتهمين إلى التحقيق ومن ثم إلى القضاء .

كما ترتب هذه الجرائم مسؤوليات مدنية في ضوء الإدانة الجنائية فردياً وجماعياً، وبشكل تضامني، عن تعويض الأضرار المادية والأدبية التي لحقت بكل متضرر .

أليس جمع النقيضين في سرير واحد “القرصنة والقانون” كوميديا سوداء؟

باحث ومفكر عربي


1029
   
مسيحيو العراق: الجزية أو المجهول!   
   

عبدالحسين شعبان     
 
قبل أيام تعرضت سيارة كبيرة (باص) تنقل طلاباً مسيحيين إلى هجوم أدى إلى سقوط مواطن وطالبة وجرح نحو 188 آخرين، الأمر الذي أعاد مسلسل قتل وملاحقة وخطف وتهجير المسيحيين من العراق إلى الواجهة، وقد ظلّت هذه المسألة غامضة وملتبسة على نحو شديد بعد احتلال العراق وحتى الآن، ويفسّرها البعض كجزء من أعمال العنف والإرهاب التي تشمل العراق كلّه، والبعض الآخر يعتبرها أعمالاً فردية ومتفرقة، دون النظر إليها كظاهرة منظمة ومنهجية، تتم على نحو شديد الدقة. وبكل الأحوال، فإن هذا الملف الخاص بحقوق الإنسان والانتهاكات ضد المسيحيين لم يفتح على نحو صحيح منذ سنوات، باستثناءات محدودة.
لا شك أن ما يقلقني حد الفزع هو ارتفاع أعداد الضحايا، لكن ما يخيفني وما يضاعف من حيرتي وتشتتي، هو تمزيق النسيج المجتمعي العراقي وغياب التسامح والتعايش والاعتراف بالآخر، الذي كان سمة مميزة للمجتمع العراقي، بل إن الأخطر من ذلك هو صعود نزعات الاحتراب والكراهية والحقد والثأر، تلك التي تصعب معالجتها أو الابتعاد عنها في ظل احتدام الأوضاع، لاسيَّما باستمرار استهداف المكوّنات العراقية، وبخاصة المسيحيون الذين كانوا باستمرار وعلى مدى تاريخهم القديم والحديث مصدر إثراء وخصوبة للمجتمع العراقي، خصوصاً في ظل التنوّع والتعددية والخصوصية الدينية والثقافية تلك، إذ لا يمكن الحديث عن مشاريع طموحة مثل: الديمقراطية والمواطنة والتنمية دون تأمين الحد الأدنى من مستلزمات الحياة، وأعني بذلك حفظ وضبط النظام والأمن العام وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، وإلاّ سيصبح أي حديث عن المُثُل والأهداف العليا -ناهيكم عن الحريات والعدالة والمشاركة والمساواة- ليس أكثر من رطانة أقرب إلى لغو فارغ لا معنى له.
لا أدري ولا يمكنني أن أتصوّر كيف يكون المجتمع العراقي بلا مسيحيين وآشوريين وكلدان وأرمن، وبلا صابئة أو أيزيديين أو شبك أو أكراد فيليين أو تركمان أو غيرهم، ولعل هؤلاء كانوا الأكثر استهدافاً على مدى السنوات الماضية، رغم أن التطهير المذهبي والطائفي والإثني شمل المجموعات السكانية الكبرى الأوسع عدداً ونفوذاً وتأثيراً، لكن ما واجه هؤلاء المستضعفين كان مخيفاً بكل معاني الكلمة، لأنه يتعلق بوجودهم.
كان المسيحيون ينتشرون بالأساس في العاصمة بغداد، حيث تتجاور الكنيسة مع المسجد والجامع والكنيست اليهودي قبل تسفير اليهود عام 1950 وما بعده، وتشكّلُ تلك اللوحة، فسيفساء جميلة وتناسقاً باهراً للتنوع والتعددية الدينية، فضلاً عن تعددية اللغة والقومية للعرب والكرد والتركمان والآشوريين وغيرهم. كما ينتشر المسيحيون في البصرة وسهل نينوى، إضافة إلى أربيل ودهوك والسليمانية.
وخلال سنوات الستينيات والسبعينيات، حصلت هجرة واسعة في صفوف المسيحيين بسبب صعود بعض نبرات التمييز، واتسعت خلال الحرب العراقية- الإيرانية، وفيما بعد خلال سنوات الحصار الدولي، وإذا كانت الهجرات لعوائل أو لأفراد أو لمجموعات، فإنها بدأت بعد الاحتلال لكتل سكانية وبشرية هائلة، لاسيَّما بعد أن أصبح العيش عسيراً، وبعد استهدافات مباشرة وتفجيرات لكنائس وأماكن عبادة وقتل لرجال دين، رغم أنهم ليسوا طرفاً في الصراع المباشر الذي اتخذ شكلاً طائفياً وإثنياً، كما عانى المسيحيون من التهميش سياسياً واجتماعياً واقتصادياً تحت ذرائع مختلفة، ولعل ذلك بسبب «الهوية الدينية» أو الانتماء الديني سواء بإعلان مباشر أو من دونه! وقد فشلت الأجهزة الأمنية في حمايتهم من المتطرفين والإرهابيين، وتعرضوا لعمليات قتل وخطف وطرد وترحيل.
وحسب بعض المعلومات المتوفرة، فإن عدد المسيحيين قارب المليون (رغم عدم وجود إحصاءات دقيقة) خلال فترة التسعينيات، واضطرت مجاميع واسعة منهم إلى الهجرة، وترك مساكنهم ومدنهم بعد الاحتلال. ويمكن القول إن نحو نصف المسيحيين من سكان مدينة البصرة تركوها خلال فترة المد الطائفي وسيادة التعصب المذهبي الذي استحوذ على المدينة، وهذا ما حصل في أحياء الأندلس ومناطق الباشا وجنينة والعشار والطويسة والجزائر وغيرها، وهو الأمر الذي نزفت بغداد بسببه أيضاً، وخسر العراق كفاءات وطاقات مسيحية هائلة في حي الدورة والسيدية وبغداد الجديدة والغدير والبتاوين والمشتل والكرادة وكمب سارة وشارع فلسطين والمنصور والزعفرانية وغيرها!
وخلال فترة المدّ الطائفي الشديد الغلو، وبالترافق مع تنظيمات القاعدة الإرهابية، سمع الناس عبر مكبرات الصوت ومن بعض المساجد والجوامع طلبات غريبة بترك المسيحية والتحوّل إلى الإسلام أو دفع الجزية بصفتهم «كفاراً»، وطلبوا من النساء ارتداء الحجاب، وتسلّمت عوائل مسيحية تهديدات كثيرة، بل إن بعض الرسائل حددت مبلغ الجزية الشهري، واشترطت التخلي عن بعض المهن، مثل بيع الخمور وأشرطة الفيديو والحلاقة وغيرها.
وخلال تلك الفترة العصيبة، نشط الإرهابيون والمتطرفون وأفراد من الميليشيات غير النظامية للطلب من المسيحيين ترك بيوتهم أو أن مصيرهم سيكون الموت، وبالفعل تم تنفيذ بعض العمليات ضدهم، وتعرضت بعض الكنائس إلى التفجير والتدمير، واختطف عدد من رجال الدين كما حصل للقس رعد وشان والقس باسل بلدو والقس سعد سيروب والقس دومكص البازي والقس سامي عبدالأحد والقس هاني عبدالأحد والقس نوزت بطرس. كما اغتيل في بغداد القس عادل عبودي (من الكنيسة السريانية)، والمطران بولس فرج رحو رئيس أساقفة أبرشية الموصل، والقس رغيد عزيز متّى كني من الكنيسة الكاثوليكية مع ثلاثة من الشمامسة، والقس بولس إسكندر بهنام من كنيسة السريان الأرثوذكس، وعدد من الكفاءات العسكرية والطبية والثقافية والأكاديمية في بغداد وبعقوبة والبصرة والموصل وكركوك.
ولهذه الأسباب، اضطر الآلاف من المسيحيين إلى الهرب ومغادرة بيوتهم متوجهين إلى سهل نينوى (الموصل) ومحافظتي أربيل ودهوك، ومن هناك المغادرة إلى الخارج، حيث توجد أعداد كبيرة منهم في سوريا والأردن ولبنان وتركيا، ينتظرون دورهم للرحيل إلى المنافي البعيدة! أما من لم يسعفه الحظ فيعيش في قلق وخوف دائمين وفي ظروف بالغة القسوة، حيث يضطر العديد من العوائل إلى عدم إرسال أبنائهم وبناتهم إلى المدارس بسبب حالات الفزع والرعب، ولو توفّر المال الكافي لدى هؤلاء لغادروا العراق أيضاً.
لقد كانت المسيحية الشرقية عنصر إضافة إيجابية للثقافة العربية- الإسلامية، وكان المسيحيون العراقيون جزءا حيوياً من النسيج الوطني العراقي، وأسهموا في كل فعاليات العراق الفنية والأدبية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، بحيث لا يمكن تصوّر العراق دون وجود المسيحيين منذ القدم وحتى تأسيس الدولة العراقية وإلى اليوم، ثم أليس عيباً علينا جميعاً لو غادر المسيحيون وطنهم العراق متوجهين إلى المنفى، بحجة أن من يطاردونهم يطالبونهم بدفع الجزية، وهي «أطروحة» مضى عليها أكثر من 1400 عام؟ ألم تكن قصور بني العباس تحفل بالكفاءات المسيحية؟!
وجدير بأية حكومة قادمة سواء فائزة بالقائمة (أي حصلت على أغلبية المقاعد) أو بالكتلة النيابية (الكتلة الأكبر في البرلمان حسب تفسير المحكمة الاتحادية)، أن تتوافق لوضع حد لظاهرة العنف والإرهاب وحماية الثروة البشرية من هذا النزيف للعقول والكفاءات والطبقة الوسطى، بدلاً من تعطيل كل شيء، للفوز بهذا المنصب أو ذاك!
 

1030
العروبة والهوية والثقافية   

 

عبدالحسين شعبان
هل الهوية جوهر قائم بذاته، لا يتغيّر أو يتحوّل؟ أم هي علاقة تجمعها مواصفات بحيث تكوّن معناها وشكلها؟ وهل العروبة هوية ثابتة ومحددة؟ ثم هل الهوية بركة مغلقة ومياه راكدة أم أرخبيل مفتوح وشواطئ متصلة؟

وإذا كانت الهوية غير كاملة، فهي بهذا المعنى متحوّلة ومتغيّرة وغير ثابتة،أي أنها ليست مُعطى سرمدياً، ساكناً ونهائياً وغير قابل للتغيير، لكن ذلك لا يعني انكار وجود بعض ثوابت الهوية مثل اللغة والدين، مع أن هذه تخضع أيضاً لنوع من التغيير من خلال فهمها وتفسيرها وتأويلها وقدرتها على قبول الجديد .

إن بعض عناصر الهوية تتغيّر، مثل العادات والفنون، حذفاً أو إضافة، لاسيما علاقاتها مع الثقافات والهويات الأخرى، تأصيلاً واستعارة، علماً بأن هذه التغييرات لا تأتي دفعة واحدة، بل تتم عملية التحوّل بصورة تدريجية، تراكمية، طويلة الأمد، الأمر الذي ينطبق على تفاعل وتداخل الهويات، لاسيما عناصر التأثير والتأثر، الواحدة بالأخرى .

لعل ذلك كان مثار جدل فكري وثقافي في ندوتين مهمتين، الأولى في مركز الخليج للدراسات في ندوته السنوية العاشرة وبمناسبة مرور 40 عاماً على صدور جريدة الخليج الغرّاء (الشارقة)، أما الثانية فتناولت موضوع “العروبة والمستقبل” حيث التأمت في دمشق، وشارك في المؤتمرين كوكبة من الباحثين والمفكرين والمثقفين، إضافة الى مداخلات ونقاشات حيوية تعكس الطيف الفكري والسياسي المتنوّع في عالمنا العربي، ولعل موضوع الهوية والتنوّع الثقافي والانقسام الاثني والطائفي والمذهبي، كان القاسم المشترك لكلا المؤتمرين كما أن مقاربة الموضوع كانت متداخلة .

وإذا كان ثمة تكوينات مختلفة دينية أو اثنية أو قومية أو لغوية أو سلالية، فإن اختلاف الهويات لا يكون أمراً مفتعلاً حتى داخل الوطن الواحد، ناهيكم عن اختلاف الهويات الخاصة للفرد عن غيره وعن الجماعة البشرية . ولعل هناك علاقة بين الشكل والمعنى الذي تتكون منها الهويات الفرعية  الخاصة وبين الهويات الجماعية العامة ذات المشتركات التي تتلاقى عندها الهويات الفرعية للجماعات والأفراد، حيث تكون الهوية العامة أشبه بإطار قابل للتنوّع والتعددية، جامعاً لخصوصيات في نسق عام موحد، ولكنه متعدد، وليس أحادياً، فمن جهة يمثل هوية جامعة، ومن جهة أخرى يؤلف هويات متعددة ذات طبيعة خاصة بتكوينات متميزة أما دينياً أو لغوياً أو اثنياً أو قومياً أو غير ذلك .

ولعل الحديث عن هويات فرعية، أو خصوصيات قومية أو دينية، لأقليات أو تكوينات، يستفز أحياناً بعض الاتجاهات الشمولية والمتعصبة دينياً أو قومياً أو أيديولوجياً فهي لا ترى في مجتمعاتنا سوى هوية واحدة إسلامية أو إسلاموية حسب تفسيراتها وقومية أو قوموية حسب أصولها العرقية ونمط تفكيرها واصطفافات طبقية كادحيّة حسب أيديولوجياتها الماركسية أو الماركسيوية، أما الحديث عن حقوق وواجبات ومواطنة كاملة ومساواة تامة وحق الجميع في المشاركة وتولّي المناصب العليا دون تمييز بما فيها حقوق المرأة وحقوق متساوية للأديان والقوميات، فتصبح في الواقع العملي “مؤامرة” ضد الأمة والدين، تقف خلفها “جهات” امبريالية  استكبارية تضمر الشرور للمجتمعات العربية  الإسلامية .

وإذا كان جزء من هذا المنطق “كلام حق يُراد به باطل” فإنه من غير المبرر هضم الحقوق وعدم الاعتراف بالتنوّع الثقافي وازدراء الآخر . إن بعض الممارسات المتعصبة أو غير المتسامحة، لاسيما بحق الجماعات القومية أو الدينية دفعتها إلى الانغلاق وضيق الأفق القومي، وبخاصة إذا كانت قد تعرّضت للاضطهاد الطويل الأمد وشعرت بالتهديد لهويتها، وهو الأمر الذي كان إحدى نقاط ضعف الدولة القطرية العربية تاريخياً، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلال .

يمكنني القول إن الموقف من “الأقليات” القومية والدينية ما زال قاصراً في الكثير من الأحيان وحتى الاعتراف ببعض الحقوق يأتي كمنّة أو مكرمة أو هبة أو حسنة، حيث تسود مفاهيم مغلوطة عنها، بل إن الكثير من السائد الثقافي يعتبرها، خصماً أو “عدواً” محتملاً، أو قنبلة قد تنفجر في أية لحظة أو حتى طابوراً خامساً أو أن ولاءها هش وقلق وغير مضمون، وسرعان ما يتحول إلى الخارج، دون أن نعي أن هضم حقوقها، تارة باسم مصلحة الإسلام وأخرى مصلحة العروبة والوحدة وأحياناً بزعم الدفاع عن مصلحة الكادحين، والدولة العلمانية والمدنية وغير ذلك، هو السبب الأساس في مشكلة الهويات الفرعية وليس نقص ولائها أو خروجها على الهوية الوطنية العامة التي تصبح لا معنى لها بسبب معاناتها .

ولنتأمل الحرب الأهلية اللبنانية، فبعد دماء غزيرة وخراب استمر 15 عاماً، غسل الجميع أيديهم وتعانقوا وكأن شيئاً لم يكن وظلّت الهويات الصغرى طاغية، والهوية الجامعة هشّة، قلقة، مقصاة . وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق، اندلع العنف والإرهاب على نحو لم يسبق له مثيل ليحصد أرواح عشرات ومئات الآلاف من العراقيين من جميع الأديان والطوائف والقوميات والاتجاهات، تحت شعارات طائفية واثنية، وادّعاء الأفضليات أحياناً، وهو ما كانت له بعض الأسباب في التاريخ، لاسيما المعاصر، وبخاصة الاتجاهات التمييزية السائدة، رغم أن المحاصصة والتقاسم المذهبي والاثني كانا يشكلان أساساً قام عليه مجلس الحكم الانتقالي وما بعده، وهو المجلس الذي أسسه بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق، وظل جميع  الفرقاء والفاعلين السياسيين من جميع الاتجاهات، يعلنون أن لا علاقة لهم بالطائفية والمذهبية، بل هم يستنكرونها ويعلنون البراءة منها، لكنهم عند اقتسام المقاعد والوظائف والغنائم يتشبثون بها، ويحاولون الظهور بمظهر المعبّر، وربما الوحيد، عنها، دون تخويل من أحد .

إن هذه المقدمات هي التي دفعت الباحث لاقتراح مشروع لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة في العراق، وهو إذ يعرضه على جميع الفرقاء (وعلى المستوى العربي لما لهذه المسألة من انعكاسات عربية وإقليمية)، يأمل أن يثير نقاشاً وحواراً واسعين لدى الجميع .

إن الحق في الهوية الثقافية للشعوب يعطي الأشخاص والجماعات الحق في التمتع بثقافاتهم الخاصة وبالثقافات الأخرى المحلية والعالمية، ذلك أن إقرار الحق في الثقافة يعني: حق كل ثقافة لكل أمة أو شعب أو جماعة في الوجود والتطور والتقدم في إطار ديناميتها وخصائصها الداخلية واستقلالها، ودون إهمال العوامل المشتركة ذات البعد الإنساني وقيم التعايش والتفاعل بين الأمم والشعوب والجماعات، وذلك ما اعتمدته الأمم المتحدة في “اعلان حقوق الأقليات” في العام ،1992 رغم ميلي لاستخدام مصطلح التنوّع الثقافي بدلاً من مصطلح “الأقليات” وأجده أكثر دقة في التعبير والمضمون .

إن الإقرار بالتنوّع الثقافي والديني والاثني هو إقرار بواقع أليم، فقد كان ثمن التنكّر باهظاً وساهم في تفكيك الوحدة الوطنية وهدّد الأمن الوطني واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل وفي هدر الأموال وفي الحروب والنزاعات الأهلية، بدلاً من توظيفه بالاتجاه الصحيح باعتباره مصدر غنى وتفاعلاً حضارياً وتواصلاً إنسانياً، وقبل كل شيء باعتباره حقاً إنسانياً، ولعل ذلك ما ينسجم مع فكرة العروبة الثقافية باعتبارها رابطة حضارية اجتماعية إنسانية، مثل الروابط الأخرى ذات الانتماءات القومية أو الدينية أو غيرها .

باحث ومفكر عربي




1031
الجميع يبرئون أنفسهم من تهمة الطائفية أو يحاولون إلصاقها بالآخرين
الطائفة والطائفية: المواطنة والهوية!!

 
عبد الحسين شعبان
لا أحد يجاهر أو يعترف بأنه '' طائفي''، فالجميع يبرئون أنفسهم من تهمة الطائفية، أو يحاولون إلصاقها بالآخرين، أو نسبها إلى سلوك وتصرف فردي أحياناً، أو إيجاد ذرائع ومبررات تاريخية ''بادعاء المظلومية'' أو ''الحق في التسيّد''، أو ادعاء امتلاك ناصية الدين والحفاظ على نقائه إزاء محاولات الغير للنيل منه أو من تعاليمه، الأمر الذي يخوّلهم ادعاء تمثيل الطائفة أو النطق باسمها، مع تأكيدات بملء الفم بنبذ الطائفية أو رميها على الطرف الآخر أو استنكارها، لكن دعاوى تحريم الطائفية وإن اقترن بعضها برغبات صادقة، إلا أنها تعود وتصطدم بوقائع مريرة وقيود ثقيلة، تكاد تشدّ حتى أصحاب الدعوات المخلصة إلى الخلف، إن لم تتهمهم، أحياناً بالمروق والخروج على التكوينات والاصطفافات المتوارثة.
ولعل بعض العلمانيين والحداثيين، انساقوا وراء مبررات أو تسويغات تقضي بانخراطهم في إطار الحشد الضخم للكتل البشرية الهائلة ما قبل الدولة أحيانا، التي تذكّر بعصر المداخن في أوروبا، التي تحرّكها زعامات مستفيدة من بعض الاستفزازات أحياناً، بإثارة نزعاتها البدائية إزاء الغير أو الرغبة في الهيمنة، وذلك تحت شعار الواقعية السياسية والاجتماعية، وأحياناً بدعوى التميّز والهوية، التي غالباً ما تكون على حساب الهوية الوطنية الجامعة، التي بإمكانها احترام الخصوصيات والهويات الفرعية.
ومثل هذا الأمر تفشّى في العراق وبشكل خاص ما بعد الاحتلال, حيث كرّس مجلس الحكم الانتقالي, الذي شكّله الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر, صيغة المحاصصة الطائفية والإثنية، وربما إلى حدود معينة هو ما كان سائداً في لبنان، لا سيما في دستوره بعد الاستقلال عام 1943، الذي أوحى بذلك، حيث تكرّس الأمر بعد الحرب الأهلية, خاصة بعد اتفاق الطائف عام 1990، واتخذ بُعداً آخر في السودان، خصوصاً الوضع الخاص في الجنوب, وهي بلدان شهدت انتخابات وصراعات أخيرا ولا تزال على مفترق طرق مهددة بوحدتها الوطنية، وإن لم يقتصر الأمر على هذه البلدان الثلاثة حسب، بل إن اتجاهاً نحو التشظي الطائفي والمذهبي والإثني والتمترس الديني، أصبح جزءًا من خصوصيات المرحلة، وتجلّى ذلك بما تعرّض له المسيحيون في العراق وكذلك اليزيديون والصابئة والفتنة الطائفية، لا سيما بعد عام 2006 التي اتخذت بُعداً تطهيرياً وإقصائياً وإجلائياً خطيراً.
وأيضاً صراع 7 أيار (مايو) 2009 بين حزب الله وحركة أمل من جهة وتيار المستقبل من جهة أخرى، انعكاساً للاصطفافات بين جماعة 8 آذار و14 آذار, وذلك على خلفية طائفية وسياسية ازدادت اشتعالاً بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز (يوليو) عام 2006. وكذلك اتخذ الأمر بُعداً دولياً بعد انتهاكات دارفور في السودان وقرار القاضي أوكامبو بملاحقة الرئيس السوداني، وما يرتبط ذلك بمسألة الاستفتاء حول الاستقلال لسكان الجنوب. وإذا كان الانخراط جزءا من تبرير الواقعية وعدم العزلة، فهناك من استطاب بعض الامتيازات التي حصل عليها باسم الطائفة أو بزعم تمثيلها، أو التنظير لكيانيتها تحت أسماء مختلفة، سواءً كانت أقاليم أو فيدراليات أو كانتونات لا فرق في ذلك، فأمراء الطوائف باستطاعتهم إيجاد كثير من الذرائع والمبررات لإدامة هيمنتهم.
 
وبودي أن أشير إلى أن الطائفية تختلف اختلافاً جذرياً عن الطائفة، ذلك أن الأخيرة هي تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وإرث طقوسي تواصل عبر اجتهادات فقهية ومواقف نظرية وعملية، اختلط فيها ما هو صحيح ومنفتح، بما هو خاطئ وانعزالي أحياناً، لكنها تكوين أصيل وموجود وتطور طبيعي، وليس أمراً ملفقاً أو مصنوعاً، في حين أن الطائفية، هي توجّه سياسي يسعى إلى الحصول على امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة أو ادعاء تمثيلها أو إثبات تمايزات عن الطوائف الأخرى، حتى إن كان بعضها فقهياً أو شكلياً، وأحياناً مفتعلاً وأغراضياً بهدف الحصول على المكاسب.
وإنْ أدّى مثل هذا السلوك إلى التباعد والافتراق والاحتراب، ناهيكم عن زرع الأوهام حول ''الآخر''، بصورة العدو أو الخصم، وبالتالي خلق حالة من الكراهية والعداء، في رغبة للإقصاء والإلغاء، بعد التهميش والعزل، مروراً بالتحريم والتأثيم، وإنْ تطلب الأمر التجريم أيضاً، فتراه لا يتورع عن التوّغل حيث تتحقق المصالح الذاتية الأنانية الضيقة، وإن تعارضت مع مصلحة الوطن والأمة.
والغريب في القضية أن بعض هؤلاء المنخرطين في البغضاء الطائفية أو إشعال نار الحقد والكراهية لا علاقة لهم بالدين، فهم غير متدينين فكيف يتعصّبون للطائفة، إنْ كانوا غير متدينين أو حتى غير مؤمنين أصلاً، وهو ما أطلق عليهم عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي إنهم ''طائفيون بلا دين''، وبذلك تكون الطائفية عامل تفتيت وانقسام للمجتمع وواحداً من أمراضه الاجتماعية الخطيرة، إذا ما استشرت.
عانت بلادنا العربية هذه الظاهرة الطائفية الانقسامية، بسبب ضعف الثقافة الإسلامية من جهة وشيوع كثير من الأوهام والترهات إزاء الطوائف الأخرى، ولا سيما بالتعصب والتطرف والغلو، ويعود ذلك أيضاً إلى الموروث التاريخي، والقراءة المغلوطة للتراث الإسلامي بفرقه وفقهه وجماعاته المجتهدة، بل أن هناك حقول ألغام تاريخية يمكن أن تنفجر في أي لحظة إذا ما تم الاقتراب منها، فبعض مفاصل التاريخ بما فيها تاريخ الخلفاء الراشدين الأربعة وما بعدهم، يظل مسألة احتكاك مستمرة يريد البعض تغذية نيرانها باستمرار.
وينسى هؤلاء أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (الفاروق) كان يردد: لولا علي لهلك عمر، لاسيما استشاراته في كثير من القضايا القضائية وما يتعلق بالحُكم والسياسة ودلالاتهما وأبعادهما في ظرف ملموس. ولعل تأييد الإمام علي الخليفة عمر لم يكن بمعزل عن شعوره بالقربى الفكرية، ولا سيما في الموقف من العدالة وتجلياتها على صعيد الدولة الإسلامية الناشئة والمجتمع الجديد، ووفقاً لكتاب الله '' القرآن الكريم'' وسنّة رسوله. كما أن ضعف الثقافة المدنية الحقوقية، ولا سيما ثقافة الاختلاف وحق الرأي والرأي الآخر، وعدم قبول التعددية والتنوّع، أسهم في تكريس الطائفية السياسية.
لقد نشأت المذاهب الفقهية الإسلامية متقاربة، وانتقلت بعض الأحكام من هذا المذهب إلى ذاك، تبعاً للظروف من جهة، ومن جهة أخرى للتأثيرات التي ربما تقع عليها، فقد كان الفقيه والعالم الكبير أبو حنيفة النعمان تلميذاً نجيباً للفقيه الضليع الإمام جعفر الصادق، وهما قطبان لمذهبين أساسيين في العالم الإسلامي، المذهب الحنفي (السني) والمذهب الجعفري (الشيعي الإثني عشري) حيث يشكل الأول أغلبية ساحقة، في حين يشكل الثاني أقلية متميزة، لا سيما في بعض البلدان التي يكون فيها أكثرية، أما المذهبان الشافعي والمالكي فلهما حضور في شمال إفريقيا وبلدان أخرى، في حين أن المذهب الحنبلي هو خامس هذه المذاهب الأساسية.
وإذا كان الاصطفاف عقلياً واجتهادياً، فإن العلاقة التي ينبغي أن تسود بين المذاهب والطوائف ينبغي أن تكون هي الأخرى عقلية وسلمية وعلى أساس المشترك الإنساني والوطني والعروبي والإسلامي، وليس وفقاً لمصالح سياسية أنانية ضيقة، تريد دفع الأمور باتجاه الافتراق الذي لا عودة فيه ولا إمكانية لإعادة لحمته، ولعل بعض أمراء الطوائف سيكونون هم المستفيدين من هذا الانقسام والتناحر، طالما يؤمن لهم زعاماتهم وامتيازاتهم، وحتى تفاهماتهم مع أمراء الطوائف في الأطراف الأخرى.
بين الطائفية والمواطنة فرق كبير وشاسع، والمواطنة ليست طائفية حتى وإن انتمى المواطن إلى طائفة، إلا أن الأساس الذي يربطه بالمواطن الآخر هو الوطن والمواطنة والحقوق المتساوية، المتكافئة، والمشترك الإنساني في إطار سيادة القانون، وإذا ما أقرّ الجميع ذلك وفق دستور ينظم علاقة المواطن بالدولة، فالأمر يقتضي أن تكون هي المرجعية وليس غيرها، وهو ما يتطلب التصدي لمرتكبي الطائفية، طبقاً لقانون يحظرها ويعاقب من يدعو أو يروّج أو يتستر عليها، أو يتهاون في مكافحتها أو يخفي معلومات عنها وذلك بهدف تعزيز المواطنة وتعميق أواصر اللحمة الوطنية والوحدة الكيانية للمجتمع والدولة. وإذا ما اقترنت الطائفية والتمذهب بأفعال وأنشطة من شأنها أن تؤدي إلى انقسام في المجتمع ونشر الفوضى والاضطراب، واستخدام العنف والقوة والتمرد، وقد تقود إلى حرب أهلية، فإن ذلك يرتقي إلى مصاف جرائم أمن الدولة الكبرى، بما فيها جرائم الإرهاب، وربما تصل إلى جرائم الخيانة العظمى إذا ما ترافقت مع تحريضات لجهات خارجية وفقاً لأجندات أجنبية، خصوصاً في ظل استفزاز المشاعر الخاصة، ودفعها باتجاه عدواني ضد الآخر، الأمر الذي قد يصل إلى ما لا يُحمد عقباه!!
وإذا كان الانتساب إلى الطائفة أمرا طبيعيا، مثل الانتساب إلى الدين, وهي فرع منه، أو الانتساب إلى الوطن، أو الأمة، لا سيما أن الإنسان غير مخيّر فيها، فقد يولد الإنسان مسلماً أو مسيحياً، أو عربياً أو غير عربي، ومن منطقة معينة ومن طائفة معينة حسب الآباء والأجداد، في لبنان أو المغرب أو الصومال أو السعودية أو العراق، ولم يسأله أحد عن رغبته وقد لا يجوز له تغيير ذلك لو أراد بحكم قيود وضوابط ربما تؤدي إلى هلاكه، لا سيما في ظل النزعات المتطرفة والمتعصبة السائدة، لكن التمترس وراء طائفته ومذهبه ضد الآخر، وبهدف الحصول على امتيازات، فهذا شيء آخر، خصوصاً إذا كان على حساب المواطنة والمساواة، بما يؤدي إلى التمييز لأسباب طائفية، الأمر يلحق ضرراً بحقوق الطائفة ذاتها وأفرادها مثلما يلحق ضررا بحقوق الطوائف الأخرى، وبالوطن والأمة ككل، جماعات وأفراداً وبقضية حقوق الإنسان ككل. ولتعزيز قيم المساواة والمواطنة وتطويق الطائفية سياسياً واجتماعياً بعد تحريمها قانونياً، ينبغي حظر العمل والنشاط السياسي، وتحت أي واجهات حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو نقابية أو ما شابه ذلك، إذا كانت تسعى إلى نشر الطائفية أو المذهبية (التمييز الطائفي أو المذهبي)، بصورة علنية أو مستترة، خصوصاً بحصر الانتساب إلى ذلك الحزب أو المنظمة أو الجمعية أو تلك، بفئة معينة، بادعاء تمثيلها أو النطق باسمها أو التعبير عنها. كما لا بدّ من منع استغلال المناسبات الدينية للترويج للطائفية أو المذهبية، بغية إثارة النعرات والعنعنات بين الطوائف وإضعاف مبادئ الوحدة الوطنية والهوية الجامعة المانعة، التي أساسها الوطن والإنسان، ويقتضي ذلك أيضاً منع استخدام الطقوس والشعائر والرموز الدينية بما يسيء إلى الطوائف الأخرى، خصوصاً من خلال الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي والإلكتروني، الأمر الذي يتطلب على نحو مُلح إبعاد الجيش والمؤسسات الأمنية ومرافق الدولة العامة عن أي انحيازات أو تخندقات طائفية بشكل خاص وسياسية بشكل عام. وإذا أردنا وضع اليد على الجرح فلا بدّ من حظر استخدام الفتاوى الدينية لأغراض سياسية، لا سيما انخراط رجال الدين فيها، خصوصاً إذا كانت تتعلق بالشأن العام السياسي، وهذا الأمر ينطبق أيضا على الجامعات والمراكز المهنية والاجتماعية والدينية والأندية الرياضية والأدبية والثقافية، التي ينبغي أن تكون بعيدة عن أي اصطفافات طائفية أو مذهبية. وإذا كان الهدف من إجراء انتخابات هو اختيار المحكومين للحاكم وحقهم في استبداله، فإن معيار الاختيار ينبغي أن يكون الكفاءة والإخلاص والمصلحة العامة، وليس الانتماء الطائفي أو المصالح الفئوية الضيقة، لأن ذلك سيؤدي إلى تعطيل التنمية ويضع الكوابح أمام تطور الدولة والمجتمع، ويبدد طاقات وكفاءات بسبب التمييز المذهبي والولاء الطائفي، وهو ما ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار في قوانين الانتخابات والتمثيل البرلماني وغيره، بما يعزز روح المواطنة والهوية الجامعة. إن بناء دولة مدنية دستورية عصرية واحترام حقوق المواطنة كاملة، يقتضي وضع حد للطائفية السياسية تمهيداً لتحريمها ومعاقبة القائمين عليها أو الداعين لها أو المتسترين عليها، وهي الطريق الأمثل للوحدة الوطنية والهوية الجامعة - المانعة وحسب زياد الرحباني '' يا زمان الطائفية.. خليّ إيدك على الهوية''!


1032
المنبر الحر / حكاية تعذيب!
« في: 18:59 01/06/2010  »
حكاية تعذيب!

عبدالحسين شعبان
2010-05-31
تلقيت باهتمام كبير دعوة الصديق إبراهيم الحريري (الصحافي في جريدة طريق الشعب الشيوعية) إلى اجتماع عاجل ضد التعذيب في العراق، يضم مثقفين وأكاديميين وناشطين وممثلين عن الرأي العام، وهي القضية التي تجد هوى في نفسي وعملت عليها لسنوات طويلة، وشعرت وأنا أستعيد علاقتي «المعتقة» مع الحريري وحواراتنا المستمرة بعد قصته القصيرة «يارا» التي نشرها في أواسط الثمانينيات، وكأنه يوجه كلامه إليّ أو أنني من بين الذين يقصدهم، وأقدّر مثله أن الكلام عن التعذيب سيستفز البعض، وقد يعترض عليه آخرون على حد تعبيره، لكنني سأكون مثله أيضا، وكما فعلت طيلة حياتي، ومثلما يعرف الحريري واختبرته لسنوات طويلة، وبعيدا عن الوعد والوعيد، والإغراء والإقصاء، سأكون «نذلا، متواطئا، خائنا لضميري، لكل مبادئي، ولكل ما تعلمته وكرست حياتي من أجله، لو سكتّ».
لعل ذلك بداية الحكاية، فالحريري يعلم وغيره من الضحايا أيام النظام السابق، كم كتبت وكم حاضرت وكم دافعت في المحافل الدولية والعربية عن الضحايا بغض النظر عن انتماءاتهم وتوجهاتهم وقومياتهم وأديانهم وطوائفهم ولغاتهم وأجناسهم وانحدارهم الاجتماعي، فالضحية بالنسبة لي هو الضحية، بغض النظر عن الاختلاف بكل أنواعه، ولا يمكن تحت أي مسوّغ أو أي حجة تبرير التعذيب، سواء كان عملا فرديا متفرقا أو منظما ومنهجيا، وهو ما ينبغي كشفه بعيدا عن السياسة والسياسيين وأغراضهم الخاصة، القريبة أو البعيدة!
وأتذكر أنني عندما اقترحت على القيادة الكردية في عام 2000 إنشاء وزارة لحقوق الإنسان في كردستان، وقلت في جملة ما قلته إن حساسية الضحايا ينبغي أن تكون أكبر إزاء الانتهاكات، لاسيما إزاء التعذيب، وعندما طلبت مني القيادة الكردية مساعدتها لإخراج الفكرة إلى حيز التنفيذ، قمت بإعداد هيكلية الوزارة وأقسامها ومديرياتها ووضعت أهدافها ووسائل تحقيقها، فضلا عن نشر ثقافة حقوق الإنسان، وكنت قد أوليت اهتماما كبيرا لموضوع التعذيب، وهو ما ألمحت له في الكثير من المحاضرات التي ألقيتها على طلبة الدراسات العليا في جامعة صلاح الدين أو في غيرها، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني، وعلى امتداد الوطن العربي والعالم.
وإذ أستذكر هذه المسألة الحساسة، فإن عددا من الذين يتصدرون الواجهات اليوم، كانوا قد تعرضوا للتعذيب أيضا، الأمر الذي ينبغي أن تكون حساسيته لديهم شديدة وموقفهم منه حاسما وجريئا، والمساءلات بخصوصه صارمة ولا تقبل التهاون، إلا إذا أرادوا أن يقلدوا الجلادين، وهكذا ينقلب الضحية إلى جلاد باستعارة أخلاقه، لاسيما محاولات إذلال الخصم وإجباره على التخلي عن معتقداته.
وأنا أكتب هذه المادة أستعيد حواراً كان قد جرى بين القائد الشيوعي الجزائري بشير الحاج علي وأحد الشباب الذين كانوا معه في «حفلة» التعذيب، وهو ما يرويه في كتابه «العسف» الذي قرأته قبل أربعة عقود من الزمان، فالشاب بحماسته وردود فعله وبين جلسة وأخرى، وبعد صحوته من المغطس أو استفاقته من غيبوبة يقول: إذا وصلنا إلى السلطة سأقوم بتعذيب الجلادين بالطريقة نفسها التي يعذبوننا بها، وهنا يبادر بشير الحاج علي بالقول: ستكون مهمتنا المشرفة هي القضاء على التعذيب وليس ممارسته ضد خصومنا، ولا بد من إنهاء هذه الظاهرة المشينة، ولعل في ذلك استعادة إنسانية الإنسان وكرامته، فكرامة الإنسان وحريته هي أغلى ما في الوجود الإنساني.
كنت أتجاذب أطراف الحديث مع الصديق البروفيسور الجزائري عروس الزبير، وأنا أروي له هذه الواقعة وما يشابهها حين كنا في الأنصار، وإذا بصديق يقول ملطفاً المسألة: لا نريد أن «نعذبهم»، بل نجلبهم ليحلوا مكاننا في ذلك الجبل الشهير الشديد الوعورة الذي اسمه قنديل وفي بشتاشان المهجورة وغيرها، وفي ذلك الوادي القريب من نوكان، حيث تتناثر بعض القرى النائية على السفوح. وكم كانت مثل تلك الأطروحات تثير نقاشا شديدا، فما كان من الصديق الزبير إلا أن ينقل لي حكاية عن إحدى النساء الناشطات وهي أستاذة في طب العمل وعضوة في اللجنة الوطنية لمناهضة التعذيب العام 1988، التي كان هو عضوا فيها، حين قالت بعد اعتقال مجموعات من الإسلاميين عام 1989: دعهم يفعلوا بهم مثلما يفعل الرجال بالنساء، وذلك في موجة حقد كيدية انتقاما وثأرا واستئصالا، فما كان من الزبير إلا أن قدم استقالته، لأن من يدافع عن التعذيب مهما كانت المبررات لا يستحق أن يكون عضواً في لجنة مناهضة التعذيب.
استذكرت عدداً من السجون المعروفة في تازمامات في المغرب والجفر في الأردن والمزة في سورية وأبوزعبل في مصر وسجن نقرة السلمان وسجن بعقوبة وسجن الحلة والموقف العام وقصر النهاية ومديرية الأمن العامة وأبوغريب في العراق، ناهيكم عن السجون السرية في الجادرية ومطار المثنى وغيرها، كيف كانت تحطم معنويات مفكرين وأكاديميين ومثقفين ومناضلين، وتنتزع عقائدهم وكراماتهم، كما أستذكر اليوم سجون غوانتنامو والسجون السرية الطائرة والسجون السرية العائمة لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية، ولذلك لا بد أن تكون اتفاقية مناهضة التعذيب التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1984 حاضرة دائما، خصوصا وهي تتحدث عن التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة.
وحتى مطلع العام 2010 صادقت على الاتفاقية 146 دولة، وقد دخلت حيز النفاذ يوم 26 يونيو 1987. وتدعو هذه الاتفاقية الدول الأطراف إلى اتخاذ تدابير تشريعية وإدارية وقضائية فعالة لحظر التعذيب وجعله جريمة معاقب عليها، ولعل جريمة التعذيب لا تسقط بالتقادم، أما التعريف القانوني للتعذيب فهو «أي عمل يسبب ألما أو عذابا شديدا جسديا أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما قصد الحصول منه أو من طرف ثالث على اعترافات أو معلومات أو معاقبة الشخص لعمل دفع لارتكابه، أو اتهم بارتكابه، أو ارتكبه طرف ثالث، بالإضافة إلى إكراهه أو تهديده هو أو شخص ثالث، أو لأي سبب مبني على التمييز من أي نوع» (المادة الأولى من الاتفاقية).
ولا يمكن تبرير التعذيب بظروف استثنائية أو حالة الحرب أو التهديد بها أو عدم استقرار الأوضاع السياسية أو حالات الطوارئ أو الإرهاب أو غيرها، وقد ذهبت اتفاقية مناهضة التعذيب إلى تأسيس «لجنة دولية» تتكون من 10 خبراء، وتتمتع بصلاحيات واختصاصات دراسة التقارير المقدمة إليها من الدول والأفراد بشأن التعذيب.
وحتى 31 مايو 2009، أعلنت 67 دولة إقرارها بقبول اختصاص اللجنة وصلاحيتها لذلك. وتتمتع اللجنة بالسلطة للقيام بأعمال تقصٍ سري بالتعاون مع الدولة المعنية في الحالات التي يدعى فيها وجود تعذيب منهجي، وتنقل نتائج التقصي إلى الدولة الطرف المعنية.
وفي عام 2002، تم تبني بروتوكول اختياري ملحق باتفاقية مناهضة التعذيب، ودخل حيز النفاذ في 22 يونيو 2006، ويؤسس هذا البروتوكول آليات للرقابة الدولية من أجل التطبيق الفعال للاتفاقية، ويقرر إيجاد جهاز دولي من الخبراء يمكنهم القيام بزيارات إلى أماكن التوقيف والاعتقال ومراقبة تطبيق الدول الأطراف للاتفاقية، كما يوفر تأسيس آلية وطنية بواسطة الدولة.
أما آن الأوان ليشمر بعض المثقفين عن سواعدهم لوضع حكاية التعذيب في المكان الذي تستحقه، لا في الذاكرة فحسب، بل كقضية راهنة مستمرة بما ينسجم مع القواعد والمعايير الدولية، فضلا عن انسجامه مع الشرائع الوضعية والسماوية التي تحرم التعذيب، حيث لا تسقط جريمته مهما تقادم الزمن!
إنها مجرد فكرة أو خاطرة هبطت علي بعد قراءة مقالة إبراهيم الحريري النازفة ودعوته الحارقة: كفى صمتا والسكوت يعني التواطؤ!



1033
ضوء على تدريس حقوق الانسان في العراق*
                                                                                             عبد الحسين شعبان

تسنّى لي للعام الدراسي 1999-2000 أن ألقي محاضرات على طلبة الدراسات العليا في جامعة صلاح الدين (أربيل- العراق) بعنوان " مدخل الى القانون الدولي الانساني وحقوق الانسان"، وقد طبعت "الملازم" التي قدمتها للطلبة في كتاب، بالعنوان ذاته، ثم عدتُ وطورتها لأطبعها في كتاب بعنوان " الإنسان هو الأصل" الذي صدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان، في العام 2001.
يومذاك لم تكن قضية حقوق الانسان قد أخذت طريقها الى الجامعات الأساسية في العراق، لاسيما العاصمة بغداد، بسبب النظام التوتاليتاري الشديد الصرامة، خصوصاً في ظل القيود الكبيرة المفروضة على حرية التعبير والحريات الاكاديمية بشكل خاص والحريات العامة بشكل عام. وإذا كان ثمت حديث عن حقوق الانسان، فإنه بلا أدنى شك لا يتعلق بالأوضاع الداخلية لأن عقوبات غليظة تنتظر من يغامر بمثل هذا الحديث تصريحاً أو حتى تلميحاً. وكل ما كان يتعلق بحقوق الانسان فإنه يخص الخارج، التي يحركّها الاعداء والخصوم.
أما في كردستان فرغم خروجها على السلطة المركزية منذ أواخر العام 1991، فلم تكن جامعاتها قد اكتسبت هذه الخبرة بعد في ظل أوضاع قلقة ومخاوف كثيرة وبيئة غير مهيأة، لاسيما في ظل اندلاع القتال الكردي – الكردي (1994-1998)، لكن بعض الارهاصات الاولى قد بدأت، وبعض اللبنات المهمة قد تم بناؤها، وبخاصة عند تأسيس وزارة باسم حقوق الانسان في أربيل العام 2000 التي كان لي الشرف في اقتراح المشروع على القيادة الكردية التي طلبت
ـــــــــــــــــــ
* بحث ألقاه الكاتب في حلقة دراسية أقامتها جامعة السيدة اللويزة في بيروت ، يوم 21 أيار (مايو) 2010.
مني كتابة أهدافها ووضع تراكيب لهيكلياتها ومديرياتها ووسائل تحقيقها، وغير ذلك من الجوانب الحقوقية والقانونية والفكرية والادارية، الأمر الذي ساهم في الارتقاء بوضعية حقوق الانسان بوضعها في منزلة رفيعة، كاعتراف رسمي على أقل تقدير، حتى وإن استمرت الانتهاكات.
بعد سقوط النظام السابق، ورغم وجود الاحتلال، فإن التوجه للحديث عن حقوق الانسان أصبح ملازماً للحديث عن التغيير والعراق الجديد، سواءً بما ينطبق عليه أو لا ينطبق، لكن موجة حقوق الانسان كانت قد وصلت الى العراق، وأخذ رصيدها بالارتفاع ورنينها يملأ الأسماع، لدرجة أن الكثير من الذين كانوا بعيدين كل البعد عنها أصبحوا ينظرون اليها بشيء من الاعجاب، حقاً أو باطلاً، مجاراة لموجة أو لتوجّه أو ايماناً أو أمراً واقعاً، خصوصاً وأن فكرة حقوق الانسان أصبحت عنواناً لعدد من الفاعليات والأنشطة، شملت حتى رؤوساء العشائر وأنشطة دينية ومذهبية.
بدأت أول محاضرة لي بعد احتفال تكريمي بمناسبة عودتي الى العراق في الجامعة المستنصرية في بغداد عن حقوق الانسان، وكان عنوان محاضرتي هو "ثقافة حقوق الانسان" وذلك لعدة أسباب، السبب الأول أن موضوع حقوق الانسان هو موضوع راهني، وأصبح مطروحاً على بساط البحث، لاسيما وأن هناك تجاذبات كثيرة حوله، داخلياً وخارجياً، ناهيكم عن أن زاوية النظر بشأنه تتراوح حدتها بالايمان المطلق أو الاتهام بالتخوين أو التحريم باعتبارها بدعة وضلالاً!.
والسبب الثاني هناك التباساً نظرياً وعملياً بشأنه، وبخاصة في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة، لكن بعض هذه الجماعات بدأ بتشكيل جمعيات ومنظمات أو فروع لحقوق الانسان.
والسبب الثالث إن اشكالية المواطنة بدأت تحفر في أساسات الهوية والدولة، الأمر الذي يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، طالما وأنه يدخل في صلب الاشكاليات والمشكلات التي تواجه العراق بفرقه وجماعاته، بفسيفسائه وموزائيكه الاثني والديني واللغوي والسلالي وغير ذلك، ناهيكم عن علاقة ذلك بالجنسية العراقية وازدواجيتها.
والسبب الرابع علاقة حقوق الانسان بمبدأ المساواة والحقوق الاساسية وبالأخص حق التعبير وحق الاعتقاد وحق تأسيس الأحزاب والمنظمات السياسية والمهنية، وحق المشاركة، وإدارة الشؤون العامة دون تمييز، وهو ما يضع تحديات جديدة أمام التطور اللاحق للعراق.
وكان عنوان محاضرتي الثانية هي عن الدستور: الحريات والحقوق، لاسيما بإلقاء نظرة حول الدساتير العراقية السابقة منذ العام 1925(القانون الاساسي) والدساتير المؤقتة: دستور ثورة 14 تموز 1958 ودستور العام 1963 ودستور العام 1964 ودستور العام 1968 ودستور العام 1970 وهو الدستور المؤقت الذي استمر نحو 33 عاماً مثلما استمر الدستور الاول (القانون الاساسي 1925) الفترة ذاتها وكنت أقصد من ذلك هو تهيئة أجواء مناسبة للحوار ولعرض قضية حقوق الانسان باعتبارها مسألة ذات سمة علوية وتشكل قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي Jus Cogens وعلى أية حكومة جديدة تتشكل وأي دستور جديد أن يأخذ بها وكنت قد تلمست مدى النقص وشحّ المعرفة في هذا الميدان.
وخلال لقاءاتي المتكررة ركّزت على البيئة التشريعية، لاسيما القواعد الدستورية والقانونية، إضافة الى دور القضاء، لاسيما إذا كان مستقلاً ونزيهاً ومهنياً والبيئة التربوية ( التعليم بمراحله المختلفة) والبيئة الاعلامية وبيئة المجتمع المدني، لاسيما المنظمات والجمعيات والاتحادات والنقابات ومدى تأثيرها على الفاعلين السياسيين، خصوصاً في ظل بوادر عنف وتفجيرات وتداخلات مع الارهاب الدولي ومحاولات لاملاء الارادة وفرض الوصاية باسم الدين أو الطائفة أو العشيرة أو غيرها.
وأود هنا أن اشير الى أن أي تحول ديمقراطي ودستوري، لا بدّ أن يتمثل في بيئة مناسبة لنشر الثقافة الديمقراطية، بحيث تؤثر الاخيرة على سلوك وعلاقات الأفراد والهيئات، لاسيما بعضهم ببعض وعلاقاتهم بالسلطة الحاكمة من جهة أخرى، والديمقراطية ليست فقط نظام حكم، وإنما هي أيضاً نمط من العلاقات الانسانية ونهج في ممارسة السلطة. ولعل ذلك كان مقاربة قدمها الصديق الدكتور عصام سليمان رئيس المجلس الدستوري اللبناني عن تدريس حقوق الانسان والثقافة الديمقراطية.
وهنا أود أن أشير الى أن الديمقراطية لا يمكن أن تختزل باجراء انتخابات دورية حسب، وإن كانت الانتخابات أحد مظاهرها، لكن لا بدّ أن تستند الى سيادة القانون وفصل السلطات ومبادئ المساواة وعدم التمييز وتداولية السلطة سلمياً وحقوق وحريات عامة وخاصة،  فضلاً عن الشفافية والمساءلة وغيرها.
وبقدر تجذّر الديمقراطية نظام قيمي يحدد ويحكم تصرفات الأفراد، وبالأخص خياراتهم السياسية ومواقفهم مع من يحكمون، يكون هذا النظام قد استطاع ترسيخ الثقافة الديمقراطية وإعطائها بُعداً حياتياً وسلوكياً وحضارياً.
إن مشكلة وإشكالية الديمقراطية لا تكمن في طبيعة النظام السياسي حسب وواقع مؤسسات الدولة ونهج ممارسة السلطة، بل في أنماط العلاقات المجتمعية والسياسية، التي ما تزال تتحكم بها العصبيات، مثلما هي الطائفية والمذهبية والاثنية والعشائرية والجهوية وغيرها، لاسيما التي تحول دون الاندماج المجتمعي ودون التحول الديمقراطي، حيث تشكل تلك التحديات كوابحاً له إذ أن أي تحول ديمقراطي يتطلب ذوبان الفرد مع إطار الجماعة مع احتفاظه بفردانيته.
بودي أن اشير الى أن الديمقراطية كمفاهيم وحقوق وقوانين ومؤسسات وتطبيقات بحاجة الى ضوابط لمنع تغوّل السلطة السياسية ضد الفرد والمجتمع وضمانات ضد العسف السياسي. ولعل الشرط الاول لتحقيق التحول الديمقراطي هو وعي المواطن لذاته ومشاركته في الحياة السياسية في إطار خياره الحر ومراقبته من يمارس السلطة وفقاً للمساءلة والمحاسبة، اللتان هما الاساسان للحكم الصالح، الامر الذي يتطلب " التحرر من العصبيات  التي تحول دون عقلنة العلاقات المجتمعية ..." والمقصود هنا المجتمع والدولة.
أما كيف يمكن التحرر من العصبيات؟ فتلك عملية معقدة تتطلب" نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان" أي إحلال الديمقراطية وقيمها مثل: الحق في الحرية والحق في المساواة والحق في العدالة والحق في المشاركة، محل العلاقات العصبية الموروثة، ولعل في ذلك تعبير حقيقي عن مواطنة عضوية وفاعلة وهذا يتم من خلال وعي الذات وتطور الفرد كمواطن له حقوق وعليه واجبات بغض النظر عن إنتمائه الديني أو القومي أو العرقي أو العائلي أو أي انتماء آخر، ويمكن الإضافة هنا أو اللغوي أو الجنسي، لاسيما في ظل توفّر بيئة مناسبة وتربة صالحة.
إن تنشئة المواطنين وتعزيز مداركهم ووعيهم لحقوقهم ومعرفتهم بالوسائل اللازمة للاعتراف بهذه الحقوق، التي تتحول إذا ما اقتنعوا بها وأبدوا استعدادهم للدفاع عنها الى قوة مادية، خصوصاً إذا اغتنت بالمعرفة سيوفر الشروط التي تمكنّه من التمتع بها، ولعل تدريس حقوق الانسان يأتي هنا وسيلة أساسية من الوسائل التي يتطلبها نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الانسان.
يمكن القول أن المعرفة هي أساس الثقافة، ولعل المعرفة هي " قوة" حسب الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون وقصد بذلك " سلطة " فسلطة المعرفة وقوة الثقافة تتجلّيان بمدى التقدم لفرض تأثيرهما في إطار ضمانات دستورية وقانونية وذات بعد دولي، ومدى فاعليتهما وانعكساتهما على الحقوق والحريات، والممارسة تشكّل هنا عنصراً أساسياً في تعميق الثقافة ونشرها من خلال المشاركة وإدماج أنشطة المجتمع المدني والاحزاب والقوى السياسية وفقاً لمبادئ وقواعد الديمقراطية وفي إطار آليات، مثلما هو معمول به في الانظمة الديمقراطية.
إن الممارسة الصحيحة تؤدي الى تطوير ثقافة الديمقراطية وترسّخ قيمها في المجتمع، خصوصاً إذا ما تحولت الى سلوك يومي مجتمعي في الحكم وخارجه، ومن خلال الدور الذي يلعبه المواطن عبر اختياره الحر في انتخابات دورية ومن خلال المراقبة والمساءلة والمحاسبة، وفي ظل حكم القانون.
إن كل يندرج أيضاً في إطار العلاقة الجدلية بين تدريس مادة حقوق الانسان وبين المجتمع المدني والحركة السياسية وفي داخلها من علاقات تنظيمية وادارية وتراتبية؟
منذ أكثر من 50 عاماً درّست بعض كليات الحقوق والعلوم السياسية مادة حقوق الانسان من خلال مادة الحريات العامة أو بصورة أدق وردت إشارات عنها، ثم تطوّر الأمر من خلال تخصيص مواد تعنى بحقوق الانسان ومنظوماته، وإذا كان لي إجراء بعض المقارنات فإن لبنان كبلد متقدم بهذا المجال، وقد يعود الى تكوين لبنان المجتمعي وموقعه الجغرافي الشرق متوسطي وطبيعته الجبلية، حيث كان ممراً عبر التاريخ لشعوب عديدة ومكاناً احتمت فيه الكثير من الجماعات هرباً من الاضطهاد السياسي أو الديني أو غير ذلك، فضلاً عن أجواء حرية التعبير التي كانت واحداً من معالم لبنان المعاصر..
ولعل التكوين المتنوّع للشعب اللبناني وخصوصيات الطوائف كان قد انعكس على دستوره وحقوقه منذ اعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 وكذلك عبر الدستور اللبناني لعام 1926، الذي إعترف بمبدأ المساواة بين المواطنين وبالحقوق السياسية والمدنية والحقوق الشخصية وحرية الاعتقاد واحترام جميع الاديان وضمان حرية إقامة الشعائر الدينية. ونص الدستور على حرية التعليم وحرية التعبير وحرية تأليف الجمعيات والحق في الملكية وحق تولي الوظائف العامة دون تمييز.
ويمكن القول ان الدستور اللبناني خطى خطوات كبيرة في مجال الاعتراف بحقوق الانسان والحريات العامة، وذلك بعد العام 1990، أي بعد إتفاق الطائف، الذي تم بموجبه تعديل الدستور، ولعل هذا الدستور لا يمكن تحقيقه وتطويره باتجاه تجاوز الحالة الطائفية والمذهبية وترسيخ الوحدة الوطنية على أساس حقوق الانسان والمواطنة، الاّ من خلال العملية الديمقراطية، ولعل ذلك يستوجب تحديد الآليات المطلوبة في الظرف اللبناني الملموس، خصوصاً بانشطار الحركة السياسية بين موالاة ومعارضة.
وإذا كانت بعض الاشارات الى حقوق الانسان في الجامعات العراقية تأتي عبر مادة الحريات العامة في البرامج الجامعية أو في القانون الدستوري منذ نهاية الاربعينات إقتفاء بأثر بعض الجامعات الغربية، فإنها ظلت محدودة، أما التطور المهم فقد حصل في مناهج وبرامج حقوق الانسان وفي القانون الدولي الانساني بعد العام 2003، لاسيما وأن قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 وبعده الدستور العراقي الدائم (النافذ) لعام 2005 أوردا فقرات خاصة تتعلق بمبدأ المساواة والمواطنة واحترام حقوق الانسان، وهي مواد وفقرات إيجابية وذلك مقارنة مع الدساتير السابقة جميعها.
ورغم وجود بعض الكوابح أمام هذه النصوص، لاسيما ما يوازيها بربط عدم تعارض التشريعات والقوانين مع مبادئ الاسلام، الأمر الذي قد يؤدي الى تعطيلها، أو افراغها من محتواها، خصوصاً إذا ما أدركنا أن هناك تأويلات وتفسيرات مختلفة لهذه النصوص، وهو موضوع معقد لا يمكن الاقتراب منه دون حساسية، لاسيما في ظل طغيان موجة التكفير والتحريم والتأثيم، ناهيكم عن وجود ألغام خطيرة أخرى في الدستور قد تنفجر في أية لحظة، ولعل المجال لا يسمح هنا للحديث عنها.
ومن المفارقات الطريفة أن تعتمد مادة حقوق الانسان في برامج الجامعات العراقية بعد الاحتلال، ولكنها مفارقة تستحق التوقف عندها رغم الانتهاكات السافرة والصارخة، وقد حصل خلال السنوات السبع ونيف الماضية عشرات من الطلبة في الدراسات العليا على مادة اساسية أو إضافية أو درسوا الماجستير أو الدكتوراه في أحد اختصاصات حقوق الانسان، وأخذ الحديث يكثر عن مراحل التعليم ما قبل الجامعي: الابتدائي والمتوسط والثانوي من خلال مادة التربية الوطنية.
إن النقص ما زال فادحاً في عدد المختصين والمدرسين والعاملين في ميدان  ثقافة حقوق الانسان، ولعل غالبيتهم ممن كانوا يدرّسون الثقافة القومية (أي فكر حزب البعث السابق) ثم تحولوا الى تدريس مادة حقوق الانسان، وقبل ذلك كان بعضهم يدرّس مادة المجتمع العربي، وهي مواد ثانوية لا توجد فيها كفاءات معينة، وغالباً ما يتم إنجاح الطلبة فيها دون عناء يذكر أو بجهد يُبذل.
وإذا كان دور مؤسسات المجتمع المدني جديداً، حيث كانت السلطة تبتلع المجتمع المدني وتحوّله الى واجهة لها، فإن هذا الدور قد تحول الى شكل جديد، لاسيما بعد سقوط النظام السابق. وإذا كان القديم انتهى ولكن الجديد لم يولد بعد، حسب غرامشي، فإن الحاجة تزداد الى بناء منظمات مهنية ومستقلة وفاعلة، بحيث تستطيع أن تلعب دورها في نشر ثقافة حقوق الانسان على صعيد الحقوق والواجبات، في التشريعات الدستورية والقوانين والأنظمة وفي جميع المرافق خصوصاً في نطاق التربية والتعليم، لاسيما لجهة مراجعة وتدقيق المناهج وتكييفها للانسجام مع المعايير الدولية لحقوق الانسان.
وللأسف الشديد ساهم الاحتلال وبول بريمر بالذات الحاكم المدني الامريكي للعراق في إفساد الكثير من المنظمات والمؤسسات الحقوقية، ناهيكم عن الحركة السياسية وتشجيع الارتزاق والاحتيال، وقد وزع خلال حكمه الذي دام نحو عام، 780 مليون دولار لمؤسسات المجتمع المدني، ولا نعلم أين ذهبت ولمن ذهبت وكيف صرفت هذه الأموال بدون أية مساءلة أو محاسبة!؟.
ورغم وجود الاحتلال  فإن مناخ "الحريات" رغم تعقيداته كان عاملاً مساعداً لتدريس مادة حقوق الانسان، لاسيما وأن الحديث عن التعددية الحزبية والتكوينات الايديولوجية والدينية أصبح واقعاً، وانتهت الاحادية الحزبية والسياسية، رغم أن الصراع اندلع واستمر، متخذاً طابعاً طائفياً واثنياً، الامر الذي يحتاج الى ظروف وأوضاع سلمية لتعزيز الحوار والجدل حول قضايا الحقوق والحريات وبخاصة حول مضمون ومحتوى حقوق الانسان .
أما في ميدان البحث العلمي لقضايا حقوق الانسان، فما زال رغم دعم الامم المتحدة وجهات دولية، شحيحاً وقاصراً وناقصاً، بل مشوّهاً في بعض الأحيان، وحتى من تتوسم فيهم القيام بهذا الواجب تراهم يفتقدون الى التأهيل النظري والخبرة العملية، وإذا كان هناك عدّة مئات من الجمعيات والمنظمات وعشرات الآلاف من الناشطين في ميدان حقوق الانسان، فإن الباحثين لا يتجاوزون بضعة عشرات ومن هم في كفاءة متوسطة قليلون جداً. وقد تلمست ذلك خلال عدد من المحاضرات التي ألقيتها في أربيل وبغداد وبيروت وعمان على عدد من أساتذة الجامعات العراقية في برامج تعاون دولية.
وأخيراً لا بد من دراسة أثر تدريس مادة حقوق الانسان على الحركة السياسية وذلك من خلال انتشار ثقافة حقوق الانسان وانعكاسها على أنماط العلاقات المجتمعية وعلى مؤسسات الحكم نفسها في النظرية والممارسة وهذا يحتاج الى تراكم وتدرّج طويل الأمد وإعادة النظر في المناهج والسياسات ولن يتم دون تأهيل وتدريب وخبرات لاسيما لجيل الشباب. وهنا يمكن وضع بعض التوصيات لما يعزز نشر ثقافة حقوق الانسان على مستوى العراق ككل وبخاصة لدى النخب الحاكمة وغير الحاكمة، الأمر الذي يتطلب اجراء عدد من الاصلاحات منها:
1-   التوسع في تدريس حقوق الانسان وتعميمها واعادة النظر في بعض البرامج واعتماد اساليب تربوية متطورة واعداد المدرّسين، لاسيما في جميع الجامعات والمعاهد العليا.
2-   اعتماد قانون للاحزاب السياسية يقوم على اساس انتخابات داخلية وعلى أساس مراقبة التطور الداخلي للحزب السياسي، فحتى الآن لا يوجد قانون لممارسة حق العمل السياسي والحزبي، ولا توجد ضوابط حول العضوية والتمويل والآليات الداخلية.
3-   تعديل الدستور وسد النواقص والثغرات الاساسية فيه، أو سن دستور جديد بعد أن وصلت العملية السياسية الى طريق مسدود، وذلك لمنع احتمالات الحرب الأهلية التي يلوّح البعض بها، وقطع الطريق على التطهير الطائفي والاثني، واعتماد قاعدة حقوق الانسان ذات السمة  العلوية معياراً اساسياً للتقييم، بحيث تكون عابرة للطوائف والاثنيات  والمذاهب والأديان.
4-   اعتماد قانون انتخابات جديد يضمن تكافؤ الفرص ومعالجة العيوب والمثالب التي تضمنها القانون القديم والتي تعطل العملية السياسية بعد كل انتخابات وتزيد من احتدام الوضع السياسي.
5-   اعتماد قانون جديد للجمعيات والنقابات بما يعزز طابع الحياة الديمقراطية ويجعل انشاء المنظمات حقاً من حقوق الانسان بمجرد الاخبار عنه.
وتبقى هذه التوصيات رغم اهميتها بحاجة الى آليات لتحقيقها، ولكن أولاًً وقبل كل شيء فهي بحاجة الى توافق وطني وتعايش سلمي بين المكونات المختلفة وظرف اقليمي ودولي يساعد في تحسين الاجواء للسير قدماً الى الامام لتحقيقها.
ولعل تلك التوصيات تتواءم مع التطور الدولي ومع المعايير الحضارية للدولة الدستورية العصرية، خصوصاً بتأكيد جوهرية هذه الحقوق للفرد والمجتمع وشمولها للحقوق المدنية والسياسية باعتبارها تمثل الجيل الاول لحقوق الانسان والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمثل الجيل الثاني لحقوق الانسان، أما الجيل الثالث فيتعلق بالحق في التنمية والحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية -التقنية.
وتصبح الديمقراطية والتنوّع الثقافي والانتخابات الحرة الدورية والتعددية جزءاً من الجيل الرابع لحقوق الانسان، ولا شك أن ذلك يتفاعل ويتداخل ما بين الحقوق الجماعية والفردية، والحقوق الخاصة والعامة في إطار منظومة الحقوق غير القابلة للتجزئة أو الانتقاص.
وبتقديري إن تدريس مادة حقوق الانسان في العراق أو في عدد من البلدان العربية الاخرى استناداً الى تلك التوصيات، يمكن أن تشكل مدخلاً مهماً للاصلاح المنشود عبر التطور الداخلي السلمي التراكمي الطويل الامد، وعلى أساس التطامن والتضامن الاجتماعي وتطوير العلاقات السياسية في الحكم وفي معارضاته على أساس الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.












1034
صوت وصدى عبد الحسين شعبان

شبكة الوليد للإعلام – خاص :
     في كتابه الجديد «الصوت والصدى» يتنقل المفكر والباحث العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان بين محطات عديدة، منها المكانية حيث عاش في هذه المدينة، ومضى يشب في تلك، وفي مكان آخر قضى ردحاً من الزمن طالباً أو سياسياً مطارداً أو منفياً، والترحال بين الأزمنة لا يختلف عنه في الأمكنة، وبين هذا وذاك يتعاشق السياسي والثقافي في مزاوجة لا فصل بينهما. وفي هذين العالمين، يفتش شعبان عن نقاط معتمة فيسلط الضوء عليها وفق رؤية خاصة، فإذا ما وقف أمام زاوية يحتدم فيها الصراع السياسي والفكري، لا يتردد في إعلان انحيازه التام للوطن والأرض والناس.
في صفحات «الصوت والصدى» الأربعمائة، يتعرف القارئ على مراحل عديدة من حياة الدكتور عبد الحسين شعبان، وفي تقديمه المتميز للكتاب يقول الدكتور كاظم الموسوي: «لقد ارتضى الصديق شعبان تدريجياً بصفة المفكر أو الكاتب، ولعله فضلها على غيرها من الصفات والألقاب السياسية وغير السياسية، والمناصب الإدارية وغيرها، لأنه اعتقد بيقينية أن تلك المناصب والمواقع ستكون طارئة ومؤقتة، أما صفة الفكر والكتابة والنقد لدى المثقف، فستكون هي الثابتة واللصيقة به مثل اسمه». ودون أدنى شك فإن رصد الأستاذ الموسوي لهذه المسألة يشير إلى مدى القراءة العلمية المتقدمة عند الدكتور شعبان، إذ أن ردع مغريات السلطة بتقديرنا لا يأتي إلا لمن أخذ على عاتقه العيش مع الآخر متحملاً معه مسؤولية الأحداث والوقائع كافاً الذات عن تطلعاته الأنوية، وهذا صراع نادراً ما تحسم نتائجه لصالح الغيرية، وإن حصل فهو نادراً ما يتواصل وسط موجات الإغراءات السلطوية اليومية.
    يقول الموسوي: «منذ نحو أربعة عقود تدفق شلال الكتابة لدى شعبان دون أن يتوقف، كتب وأبحاث ودراسات ومقالات ومحاضرات وندوات... كل ذلك في سعي حثيث للتعبير عن جوهر الموقف العضوي حسب انطونيو غرامشي، متماهياً مع الأهداف الإنسانية التي آمن بها، وقدم الغالي والنفيس في سبيلها، ولم يكن بمعزل عن نقد ذاتي ومراجعة، كان هو الأجدر في مبادرة تشخيصها وصياغتها بجرأة، إذ لم يتردد كما تقول المقابلات من جردة حساب مع النفس، ومساءلتها بروح رياضية عالية وبثقة كبيرة، لا سيما ثمة صميمية وصدق، حتى في تلك الهفوات والنواقص، التي قد تكون عابرة، لكنه لا يهملها أو يتغافل عنها»!
لعل انخراطه المبكر في عالم السياسة، وهو لم يزل يافعاً يوم حملة المتظاهرون في انتفاضة العام 1956، هاتفاً بسقوط حكومة نوري السعيد ومطالباً بالخروج من حلف بغداد والانتصار للشقيقة مصر، وحين اشتعلت ثورة تموز (يوليو) العام 1958م كان الفتى عبد الحسين شعبان في خضمها رغم يفاعته فكره يتقدم عمره، وتدرج في مسالك النضال فكان أحد أعضاء الحزب الشيوعي، منذ مطلع الستينات، فمعتقلاً، فمفصولاً من الدراسة، ثم مطارداً ومختفياً عن الأنظار، كل ذلك ولم يكن قد بلغ الثامنة عشرة من عمره، وما أن انتقل إلى الجامعة بعد إعادته إلى الدراسة حتى استلم القيادة الطلابية.
شبّ شعبان عن الطوق وتحرر فكره من كل التبعيات وبدأت قناعاته السابقة تتصدع تدريجياً، لم يكن ذلك الذي يتكلس في مكانه فهو متحرك في كل لحظاته، وهذا ما أدى به إلى نكران السائد والمألوف حتى من المبادئ التي اعتنقها هو ووجد أنه لا يستطيع ائتلاف الماركسية الساذجة والمسطحة التي قال عنها: «أنها ماركسية ذات مسحة بدوية ونكهة ريفية».
وازداد الأمر عمقاً كلما توغل في دراسة الفلسفة والانشغال بالفكر والقراءة النقدية، خصوصاً تمثلاته لوظيفة المثقف ذات البعد النقدي، والتي لم يكن المثقف مثقفاً دونها، ومن موقعه الفكري بدأت تضغط عليه إرهاصات جديدة تتعلق بالفكر والمفكر والممارسة، لا سيما بالدراسة والبحث، خصوصاً عندما اعتبر الماركسية كنظرية وضعية نقدية، من أبرز مدارس علم الاجتماع والفلسفة والاقتصاد، دون مغالاة باعتبارها الوحيدة والمطلقة.
عبد الحسين شعبان المناضل السياسي والمفاوض المعتمد في الميدان الطلابي والنقابي على السواء تعرض كغيره من المناضلين إلى المطاردة والملاحقة والاختفاء عن الأعين، واستعمل أكثر من وثيقة وهوية، سلك الدروب الوعرة بكل اتجهاتها، تارة للشمال وأخرى للجنوب، عرفته السجون وعانقته المنافي، من العراق إلى الكويت إلى سورية إلى براغ إلى بيروت إلى بغداد ومن ثم إلى المنفى الفردوس والزمهرير كما يردد نقلاً عن الشاعرين مظفر النواب والجواهري الكبير.
   يقول عنه الموسوي في مقدمة الكتاب: «المفكر عبد الحسين شعبان يتميز بنبرته الخاصة ولغة نثرية تخفي وراءها إرهاصات شاعر يحتفظ لنفسه ويسرب أحياناً مقطوعات من نصوص أو قصائد يرفض أن يسميها شعراً».
من النادر أن تجد مثقفاً وباحثاً سياسياً، يرضى بكل ما قاله الدكتور شعبان وتحدث به عبر مراحل زمانية ومكانية وانتقالات في العمل السياسي وتفاعلات مع أحداث ووقائع كثيرة، ويجمع ذلك دون أن تغيير أو تبديل، رغم تطور الأحداث التي تصل في بعض الأحيان إلى التناقض الشديد.
يبدأ في المقابلات التي تحدثت عن بداية الوعي والنشأة والعائلة وإرهاصات الحب الأول، المراجعة والنقد الذاتي، والمنفي والهوية، ومع الماركسية والحلم وصداقة النفس.
ويتحدث عن موقفه الواضح عن حقبة الحرب العراقية الإيرانية ( 1980-1988).
هناك محطات عديدة في حياة شعبان تحرك فيها القطار تحت عنوان (المعارضة العراقية)، وفي حواراته يعطي الدكتور شعبان تصوراً دقيقاً وشاملاً عن هذه المرحلة بغالبية عناوينها وتفرعاتها.
وبعد أن يفرد مساحة واسعة للفكر والثقافة، يخصص مساحة أخرى للاحتلال وتداعياته، ويتوقف عند عنوان ما زال يهدد حاضر ومستقبل العراق هو الحروب الطائفية، والجدير بالذكر أن الباحث عبد الحسين شعبان أعد مؤخراً مشروع قانون يأمل أن تتبناه كل القوى الوطنية والسياسية ليس في بغداد وحسب بل في كل العالم العربي والإسلامي وهو مشروع قانون تحريم الطائفية.
والدكتور شعبان من المفكرين والباحثين العراقيين المعروفين بعطائهم الفكري الثر ومواقفهم الوطنية، وتجلى ذلك في أكثر من مرحلة وحقبة، وما موقفه الرافض للاحتلال الأمريكي للعراق إلا تتويجاً لتلك المواقف التي يسجلها تاريخ العراق في أصعب وأخطر مراحله.








1035
المنبر الحر / العروبة والمواطنة
« في: 22:19 26/05/2010  »
العروبة والمواطنة
      

عبد الحسين شعبان







إذا كان موضوع الهوية -وخاصة العلاقة مع الآخر- يوضّح جوهر العروبة الإنساني وتجددها الحضاري، وموقفها التقدمي أو نقيضه، فإن ذلك يقودنا إلى الحديث عن جانب آخر يتعلق بعلاقة العروبة بالمواطنة، خصوصاً في إطارها القانوني، لاسيما في ظل الدولة المنشودة.
هناك أربع دلالات أساسية يمكن التوقف عندها:
الدلالة الأولى أنه موضوع راهني أصبح مطروحاً على بساط البحث، لاسيما أن هناك تجاذبات كثيرة حوله داخلياً وخارجياً.
والدلالة الثانية أن هناك التباسا نظريا وعمليا بشأنه، خاصة في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة.
والدلالة الثالثة أن إشكالية المواطنة بدأت تحفر في أساسات الدولة والهوية، وبالتالي لا يمكن إبعادها عن التأثيرات العميقة للعروبة، الأمر الذي يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، طالما أنه يدخل في صلب الإشكاليات والمشكلات التي تواجه المصير العربي.
والدلالة الرابعة علاقتها بحقوق الإنسان، خصوصاً بمبدأ المساواة والحقوق الأساسية وبالأخص حق المشاركة، وإدارة الشؤون العامة دون تمييز، وهو ما يضع تحديات جديدة لمسألة العروبة.

ومثل هذه الإشكالية هي التي تؤلف جوهر فكرة المواطنة في الدولة العصرية، خصوصاً إذا ما قرناها بالعدل وهو ما نطلق عليه "المواطنة العضوية"، حيث ما نزال نعاني من نقص فادح فيما يتعلق بثقافة المواطنة، وتستمر النظرة الخاطئة أو القاصرة إلى مبدأ المساواة قائمة، إضافة إلى الموقف السلبي من التنوّع الثقافي الديني والاثني واللغوي، فضلاً عن حقوق المرأة، وهو الأمر الذي يحتاج إلى معالجات ودراسات، وبيئة تشريعية وتربوية مناسبة، إضافة إلى ما يمكن أن يلعبه الإعلام ومنظمات المجتمع المدني من دور إيجابي في نشر ثقافة المواطنة، لاسيما إذا تمكنت من إيجاد رصيد لها لدى القوى والأحزاب والجماعات السياسية والدينية بذلك.
إن مناسبة الحديث عن العروبة هو مؤتمر فكري مهم دعت إليه الأديبة السورية الدكتورة نجاح العطار في دمشق بعنوان "العروبة والمستقبل". وقد أثار هذا المؤتمر تداعيات وردود فعل متنوّعة، الأمر الذي يقتضي نقل هذا الحوار والجدل إلى الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات والمنتديات الفكرية والثقافية، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والحكومات في الآن ذاته، ناهيكم عن قطاعات شعبية، وخصوصاً من النساء ومن الأنشطة الثقافية المتنوعة والمتعددة. وبمساهمة حيوية من جانب الإعلام، لاسيما الفضائيات في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات، وبفضل الإنترنت والحاسوب، يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في زيادة الاهتمام بفكرة المواطنة ويعزز أركانها وصولاً إلى "المواطنة العضوية".
وإذا كان الحديث عن فكرة المواطنة الأوروبية قبل نحو ستة عقود من الزمان يعتبر ضرباً من الخيال، لاسيما بعد حربين عالميتين مدمرتين، سبقتهما حروب وعداوات وكراهية وكيد، ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر في أوروبا، فإن الحديث اليوم عن مواطنة أوروبية واتحاد أوروبي وبرلمان أوروبي وهوية أوروبية ومحكمة أوروبية لحقوق الإنسان وعدالة أوروبية واقتصاد أوروبي وعملة أوروبية وثقافة أوروبية أمر ممكن بل واقعي، رغم التنوع والاختلاف والتمايز، لكن في إطار وحدة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة وفي إطار المشترك الإنساني.
فهل سيصبح الحديث عن مواطنة عربية أو مواطنة مغاربية أو خليجية ممكناً، وبأي اتجاه يمكن إدراجه في إطار مواطنة فاعلة، خصوصاً في ظل هوية تمثل العروبة في إطار دولة عصرية؟
يمكننا التوقف عند تجربتين عربيتين جنينيتين: الأولى خليجية (مجلس التعاون الخليجي) والثانية مغاربية (الاتحاد المغاربي).
لكن ما زال الطريق طويلاً أمامهما، إذ لا يمكن التكهن حتى الآن بما ستؤول إليه هاتان التجربتان، فالنواتان يمكن أن تكونا أساساً مشتركاً لمواطنة موسعة تنطلق من المواطنة المحلية إلى المواطنة العربية، في ظل الاتحادات والتجمعات والكتل السياسية والاقتصادية الكبيرة على النطاق العالمي، بما يؤدي إلى تفعيل المواطنة "القطرية" وتعميقها من خلال مواطنة عربية أوسع وأشمل وأكثر فائدة وجدوى على المستوى الرسمي أو الشعبي، خصوصاً أن استهدافات حالية تقصد إضعاف النزعات الوطنية، بل تشطير وتفتيت المواطنة المحلية، الأمر الذي يجعل توسيع دائرة المواطنة يوفّر منافع أكبر ومصالح أكثر، بحيث يكون لكل مواطن من أي بلد عربي وبغض النظر عن النظام السياسي، حرية التنقل والإقامة والعمل، ولكن ذلك بحاجة إلى إرادة سياسية وتفاهم بين الدول العربية على أسس التعاون الطويل الأمد.

ولعل في ذلك طموحا جد متواضع -رغم عظمة شأنه في الوقت الحاضر- إذا ما ذهبنا إلى الحق في التصويت والترشح للانتخابات المحلية والبلدية بعد حق الإقامة الدائم، حتى وإن لم يحمل جنسية الدولة العربية المقيم فيها، وأن يكون الاتحاد البرلماني العربي (البرلمان الموحد) منتخباً من جانب المواطن العربي -بغض النظر عن جنسيته- لاختيار الهيئة التشريعية العربية، تمهيداً للمواطنة العربية.
ويكون من حق كل عربي أو من يحمل جنسية أي بلد عربي، حتى لو كان من "الأقليات" القومية أو الدينية، التمتع بالحقوق التي يمكن الاتفاق عليها على غرار معاهدة ماستريخت لعام 1992 للاتحاد الأوروبي، وإن كان الأمر يحتاج إلى تدرّج وتراكم وصولاً إلى ذلك.
إن المشهد السائد على الصعيد الفكري والعملي ما زال يعكس أشكالاً من المواطنة المفقودة أو المنقوصة أو المكبّلة، في حين أن العالم يسير باتجاه مواطنة عضوية واسعة وموعودة، لاسيما باتساع دائرة الحريات والمشاركة والمساواة والعدل.
لم تترسخ بعدُ في الدولة العربية الحديثة، فكرةُ المواطنة على الصعيدين النظري والعملي، فهي تحتاج إلى جهدٍ كبيرٍ على صعيد الدولة والحكم (السلطة والمعارضة) إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني على حدٍ سواء، نظراً لغياب ثقافة المواطنة وضعف الهياكل والتراكيب والمؤسسات الناظمة للاجتماع السياسي الحكومي وغير الحكومي، بما فيه فكرة الدولة المدنية وسياقاتها!
وفي القرن العشرين توسعت فكرة المواطنة لتشمل مبادئ حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعد التطور الذي حصل بإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، خصوصاً بتطور الحقوق المدنية والسياسية. ولهذا حظيت فكرة المواطنة باهتمام أكبر، لاسيما بانتقالها من فكرة تأسيس دولة الحماية إلى تعزيز دولة الرعاية.
وقد خطت بعض البلدان خطواتٍ مهمةً في طريق تأمين الحقوق والحريات المدنية والسياسية، وقطعت شوطاً بعيداً في تعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لتأكيد حيوية وديناميكية فكرة المواطنة بمزاوجة الحقوق والحريات بالعدالة، أي المواطنة التي تقوم على قاعدة المساواة أولاً في الحقوق والواجبات، وأمام القانون ودون تمييز بسبب الدين أو اللون أو اللغة أو الجنس أو العرق أو المنشأ الاجتماعي أو لأي سبب آخر.
وثانياً، قاعدة الحرية كقيمة عليا لا يمكن تحقيق الحقوق الإنسانية الأخرى بدونها، فهي المدخل والبوابة الضرورية للحقوق الديمقراطية السياسية، بما فيها حق التعبير وحق تأسيس الجمعيات والأحزاب وحق الاعتقاد وحق المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة وتولي المناصب العليا، وإجراء انتخابات دورية، إلى حق التملك والتنقل وعدم التعرض إلى التعذيب.. إلخ.
والثالثة قاعدة الهوية الوطنية العامة التي يمكن أن تتعايش فيها هويات خاصة وفرعية في إطار من المساواة والحرية واحترام حقوق الأغلبية من جهة، وتأمين حقوق "الأقلية" من جهة أخرى، أي التنوع في إطار الوحدة، وليس التنافر والاحتراب، فقد ظلّ الاتجاه السائد في الثقافة المهيمنة يميل إلى عدم الاعتراف بالخصوصيات أو التقليل من شأنها ومن حقوقها، سواءً كانت قومية أو دينية أو لغوية أو سلالية أو غير ذلك.
أما القاعدة الرابعة فهي تستند إلى فكرة العدالة التي يمكن أن تتحقق من خلال التنمية، وهو ما أطلق عليه التنمية المستدامة: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستندة إلى قاعدة الحريات والحقوق المدنية والسياسية، التي تغتني بالمعرفة وتنمية القدرات لاسيما التعليمية، وتأمين حقوق المرأة و"الأقليات" وتقليص الفوارق الطبقية وتحقيق العدالة الاجتماعية.
القاعدة الخامسة هي قاعدة المشاركة والحق في تولي الوظائف العامة دون تمييز.

مثل هذا الأمر يطرح فكرة العلاقة الجدلية بين العروبة والمواطنة وحقوق الإنسان، وبالتالي بين العروبة والهوية وبين العروبة والدولة. وبقدر تحقيق هذه المقاربة، تكون فكرة العروبة المعبّر عنها بالهوية وفكرة المواطنة ببعدها الإنساني وأساسها الحقوقي القانوني، قد اقتربت من المشترك الإنساني، مع مراعاة الخصوصيات الدينية والإثنية واللغوية، أي بتفاعل وتداخل الحضارات والثقافات، لاسيما باحتفاظها بكينونتها الخاصة في إطار علاقتها العضوية بالأبعاد الكونية الإنسانية.
المواطنة تقوم وتستند إلى قاعدة المواطن-الفرد الذي ينبغي مراعاة فردانيته من جهة، ومن جهة أخرى حريته الأساسية في مساواته مع الآخر تساوقاً في البحث عن العدالة، وتتعزز مبادئ المساواة والحرية في إطار المنتظم الاجتماعي الوطني والائتلاف والانسجام من جهة، وتغتنيان بالتنوع والتعددية من جهة أخرى، وذلك من خلال الوحدة والاشتراك الإنساني والحقوق والواجبات وليس الانقسام أو التشظي أو التمييز.
وإذا كانت فكرة المواطنة تتعزز من خلال الدولة، فإنها تغتني وتتعمق بوجود مجتمع مدني حيوي وناشط، بحيث يكون قوة رصد من جهة للانتهاكات المتعلقة بالحرية والمساواة والحقوق، ومن جهة أخرى قوة اقتراح لا احتجاج فحسب، بحيث يصبح شريكاً فعالاً للدولة في توسيع وتعزيز دائرة المواطنة العضوية وتأمين شروط استمرارها، لاسيما إذا تحولت الدولة من حامية إلى راعية، مرتقية لتعزيز السلم المجتمعي والأمن الإنساني، لاسيما بوجود مؤسسات ترعى المواطنة كإطار والمواطن كإنسان في ظل الحق والعدل.
أخيراً، لا يمكن الحديث عن عروبة متطورة دون التعبير وجدانياً عن هوية مقترنة بمواطنة، وهذه الأخيرة في دولة عصرية تحترم الحقوق والحريات، مثلما تقرّ بالتنوع الثقافي والتعددية القومية والدينية في دول متعددة الهويات في إطار الهوية العامة.
   







1036
المفكر عامر عبد الله في ذكراه العاشرة:
الجوهر وجدلية الأمل والقنوط!*
عبد الحسين شعبان

سبقته شهرته، وقبل أن يتعرّف عليه الكثيرون كانوا قد سمعوا عنه أو قرأوا له أو جاءوا على ذكره في إحدى المناسبات، فهو الحاضر دائماً الذي لا يملأ المكان حسب، بل يفيض عليه، نظراً لما يتركه حضوره من إشكاليات وجدل واختلاف وعدائية «مستترة» أحياناً.
ولعليّ لم أجد شخصاً اختلف حول رفاقه قبل خصومه مثلما هو عامر عبد الله الشيوعي العراقي المخضرم، الذي ملأ الأسماع مثلما شغل أوساطاً واسعة من الشيوعيين وأعدائهم، وهو المثقف الماركسي البارز الذي تعود أصوله إلى مدينة عانة غرب العراق، وكان قد ولد في العام 1924 لأسرة متدينة ومُعدمة، وهو ما يرويه بتندّر شديد وألم كبير.
سمعت عن عامر عبد الله كزعيم شيوعي قبيل ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 وذلك في بدايات تفتح وعيي الأول وكان لاسمه رنين خاص بعد الثورة، وقد وصل إلى العراق من سورية، التي كان قد عاش فيها بضعة أشهر قبيل الثورة، منتقلاً بين سورية ومصر حيث ساهم في محاولة توحيد الحزب الشيوعي المصري مع «حدتو» (الحركة الديمقراطية التحررية الوطنية)، ملتقياً بقيادات شيوعية بارزة مثل خالد بكداش، ونقولا شاوي، وفرج الله الحلو، وانطوان ثابت، وحسين مروّة، وجورج حنا، ورضوان الشهال، ويوسف خطار الحلو، وعبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي السوداني وآخرين، مثلما كانت زيارته المثيرة إلى موسكو والصين، حيث التقى مع نيكيتا خروشوف زعيم الحزب الشيوعي السوفييتي وماو تسي تونغ وشوان لاي زعيما الحزب الشيوعي الصيني وهوشي منه زعيم الحزب الشيوعي الفيتنامي وتولياتي زعيم الحزب الشيوعي الايطالي وموريس توريز زعيم الحزب الشيوعي الفرنسي وأولبريخت زعيم الحزب الشيوعي الألماني وغيرهم.
وكنتُ قد سألتُ عامر عبد الله خلال مطارحاتي معه في الثمانينات إضافة إلى مقابلات لم تنشر بعد، عمّا إذا كان اختيار الأسلوب الكفاحي العنفي قد تمخّض  عن مؤتمر أو كونفرنس(conference)، علماً بأن الكونفرنس الثاني الذي عقد العام 1956 كان قد اتخذ قراراً بالخيار السلمي، فأجاب؛ كانت الأمور أقلّ تعقيداً والثقة عالية وظروف العمل السري لا تسمح كثيراً بعقد مؤتمر أو اجتماع موسع لأخذ رأي القيادات والكوادر، بل إنني كنت قد كتبت رأياً بهذا الخصوص وعرضته على سلام عادل، فأبدى تأييداً وحماسةً له واقترح أن يتم تعميمه، ليصبح هذا الرأي بمثابة رأي الحزب وتوجيهاً للرفاق، وقد سعينا إلى تثقيف كادر الحزب الأساس وملاكاته المهمة بضرورة الاستعداد لكل طارئ جديد، وكانت انتفاضة العام 1956 التي شارك الحزب بقيادتها بروفة جديدة لقياس استعداداتنا، لاسيما الجماهيرية للنزول إلى الشوارع وقطع الطريق على القوى الرجعية فيما إذا تحرك الجيش، وهو ما حصل يوم 14 تموز (يوليو) العام 1958، حيث كانت الكتل البشرية الهائلة، هي صمام الأمان لانتصار الثورة، وكان الحزب قد أصدر تعميماً داخلياً لكوادره للاستعداد للطوارئ يوم 12 تموز (يوليو) أي قبل يومين من اندلاع الثورة.
كان رشيد مطلك صاحب مطعم شريف وحداد، صلة الوصل بين عامر عبد الله (والحزب الشيوعي) والزعيم عبد الكريم قاسم (الذي يقول عبد الله انه تعرّف عليه العام 1949) لضمان دعم الحزب للثورة، وكان قاسم قد طلب من الحزب دعماً وتأييداً من السوفييت والصينيين، وهو ما حاول عامر عبد الله عرضه تلميحاً وبشكل محاذر مع السوفييت والصينيين خلال جولاته.
***
لم يسلم عامر عبد الله من الحسد والغيرة التي شنّها ضده رفاقه أولاً، بل نسجوا حوله حكايات لها أول وليس لها آخر، رغم أن بعضهم كان يتملّق له، لاسيما عندما أصبح وزيراً في العام 1972، ورغم أن مواقفه بحاجة إلى نقد وتقييم موضوعي، بما لها وما عليها، إلاّ أن قصصاً كثيرة بعضها من صنع الخيال رافقت مسيرته كشائعة زواجه من البلغارية وحفل الاستقبال الذي أقامه بهذه المناسبة في بغداد، تلك التي كانت «فاكهة الشتاء» في بعض المجالس، حيث يتم تغذيتها يوماً بيوم بل ساعة بساعة كي لا تنطفئ وهكذا سرت تلك الإشاعة مثل النار في الهشيم.
كان عامر عبد الله أممياً وشديد الإيمان بالاتحاد السوفيتي ودوره، لكن إيمانه بدأ يتزعزع، خصوصاً بعد فقد بوصلة التحليل إثر الخطوات المتسارعة التي أعقبت البريسترويكا وصعود نجم غورباشوف. كما لم يجد تفسيرات لبعض مواقفهم إزاءه بعد أن تعرّض للتنكيل الحزبي إذ كان معولاً على دعمهم أو تدخلهم، رغم أنه كتب الكثير من «المذكرات» والرسائل إليهم، وحاول اللقاء مع يفغيني بريماكوف في موسكو، لكن صورة الوحدانية الحزبية والقيادة الرسمية ظلّت تمثل جوهر العلاقة بين الحزبين، الأمر الذي جعله يشعر بالخيبة والإحباط، مما أدى إلى انعكاس ذلك على علاقته المتأرجحة مع المعارضة الحزبية، التي عمل على تجميعها بحماسة منقطعة النظير، مثلما عمل على تشتيتها بذات الاندفاع، بعد أن فقد القدرة على التواصل معها بسبب القنوط الذي أصابه.
***
كان لشخص عامر عبد الله وحده هيبة كبيرة لاسم الشيوعيين العراقيين ولثقتهم بأنفسهم، ولم ألتقِ شيوعياً واثقاً من نفسه ومعتدًّا بها وحساساً إزاء كبريائه مثل عامر عبد الله. وأتذكر أنني عندما عرّفته على القيادي البعثي باقر ياسين علّق هذا الأخير بذكائه، «لهذا السبب إذن يكرهون عامر عبد الله». وقال لي بعد ذلك: «لقد شعرت أن عامر عبد الله منحني ثقته منذ اللقاء الأول، والسبب أنه واثق من نفسه، وهو جدير بأحقاد خصومه وأعدائه حتى لو كانوا من طرفنا»، وهو ما كنت قد توصلت إليه.
عند وصولي إلى الشام في صيف العام 1980 وصل عامر عبد الله إليها، وكان قادماً من براغ، وكنت قد نُسبّت إلى العمل في مجال العلاقات حيث كنت مسؤولاً عن علاقات الحزب في دمشق، توثقت علاقاتي مع عامر عبد الله، وكنّا نلتقي بشكل مستمر في منزله وكثيراً ما كنت أتناول وجبة الغداء عنده، بكرم سخي تشاطره فيه زوجته بدور محمد زكي الددة.
كنت وعامر عبد الله نذهب سوية أحياناً لزيارة الجواهري، كما كنا نلتقي عدداً من الرفاق والأصدقاء بما فيهم الأصدقاء الفلسطينيين المشتركين، مثل عاطف أبو بكر وتيسير قبعة وبسام أبو شريف ونايف حواتمه، وعبد المحسن أبو ميزر وبعض الأصدقاء اللبنانيين مثل كريم مروة، وسعد الله مزرعاني وكذلك بعض الشخصيات السورية مثل يوسف فيصل، وعطية الجودة، وفؤاد بلاط، ود.نبيه رشيدات وآخرين، إضافة إلى الأصدقاء العراقيين مثل د. عبد اللطيف الراوي وماجد عبد الرضا وباقر إبراهيم وفوزي الراوي، وفاضل الأنصاري، وقيس السامرائي وغيرهم.
***
أتذكّر أنني التقيت عامر عبد الله في كردستان (منطقة ناوزنك- نوكان) حين جاء لحضور اجتماع اللجنة المركزية، وقبل أن يبادر بسؤالي عن صحتي وأحوالي، قال لي كيف تكتب في هذه البيئة الضيقة، ومن أين تأتيك الأفكار؟ ومن أين تأتي بالمصادر والمراجع؟ وختم ذلك أنها بيئة تساعد على التآكل والاحتراب الداخلي، والأفضل أن تعود بأسرع وقت. قلت له أنت تعرف موقفي، لاسيما بعد أن بدأت القوات العراقية بالانسحاب من الأراضي الإيرانية، وآن الأوان لتصحيح المسار، قال لكن الجماعة سائرون باتجاه آخر. وقبل أحداث بشتاشان كتبت له رسالة قلت فيها تصوّر أن خط انسحابنا هو جبل قنديل ولم أكن أتصوّر بأننا سنضطر لاحقاً لعبور هذا الجبل الوعر بارتفاع 7800 قدم والمكسو بالثلج طيلة أيام السنة (باستثناء تموز وآب/ يوليو وأغسطس) وذلك حين شنّت قوات الاتحاد الوطني الكردستاني هجوماً ضد قواعد الشيوعيين الأنصار.
***
سافرنا إلى عدن بوفد برئاسة عامر عبد الله وعضوية د. نزيهة الدليمي وكاتب السطور، ساهم عدنان عباس بالكثير من الجهود لتنظيم لقاءات الوفد، ومن خلال ذلك التقينا مع علي ناصر محمد الرئيس اليمني الجنوبي آنذاك ورغم حدوث مشكلة مع الوفد الرسمي، إلا أننا حاولنا معالجتها بالحكمة .
كان عامر عبد الله كثير الألم لموقف راميش شاندرا رئيس مجلس السلم العالمي (من الهند) الذي ما أن عرف بوجود الوفد العراقي الرسمي حتى غادر بحجة أنه سيعود بعد 5 دقائق تاركاً الاجتماع. لكنه خرج من فندق عدن دون عودة ولم نرَهْ إلاّ في اليوم الثاني في قاعة المؤتمر.
***
وبعد مرور بضعة سنوات ما بين دمشق وبراغ (1972-1989)، التقيت عامر عبد الله في براغ  وقضيت معه ما يقارب العام، كنّا نلتقي يومياً تقريباً وينضم إلينا في بعض الأحيان آرا خاجادور، ود. حميد برتو، وباقر إبراهيم، ود. عصام الزند، وحسين سلطان، وأحمد كريم، وعدنان عباس، ود. موفق فتوحي، وصادق الصائغ، ومحمود البياتي، وآخرين إضافة إلى سميح عبد الفتاح السفير الفلسطيني الذي نظّم لقاءً لعزيز محمد وعامر عبد الله مع مكرم الطالباني، الذي جاء بمهمة من بغداد. كانت أيام براغ مؤلمة لعامر عبد الله فقد كان محبطاً فهو على الرغم من أنه كان يحمل وسام يوليوس فوجيك، إلا أن التشيك لم يعتنوا به، مما حزّ في نفسه.
اضطر عامر عبد الله العودة إلى الشام معكر المزاج محبطاً ومن ثم توجه إلى لندن بمزاج أكثر إحباطاً بل وقنوطاً، خصوصاً وقد تزامن ذلك مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتراجع دور الحركة الشيوعية، وقد ألف كتاباً وضع فيه خلاصة تجربته لكنه لم يحقق النجاح الذي أراده، في حين كنت أرى أن هذا الكتاب من أهم الكتب التي تحدثت عن مقوضات النظام الاشتراكي لكنه لم يلقَ الاهتمام المطلوب، ولم يُقرأ قراءة نقدية موضوعية وقوبل بإهمال الشيوعية الرسمية له.
***
كان عامر عبد الله بغض النظر عن مواقفه «اللندنية» والمتعلقة بتسفيه فكرة السيادة، وتبرير التدخل الخارجي والحصار الدولي، تميّز على أقرانه بنزعته العروبية، وبمواقفه من القضية الفلسطينية، حيث خاض صراعاً مريراً  داخل الحركة الشيوعية العالمية ليعمل على تثبيت مبدأ حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني وذلك في الاجتماع التحضيري للحركة الشيوعية والعمّالية المنعقد في بودابست العام 1968 وفيما بعد في الاجتماع العام المنعقد في موسكو العام 1969، وقد أشرت إلى دور عامر عبد الله في بحث لي في مجلة الهدف الفلسطينية العام 1985.
***
   ختاماً يمكنني القول بان أهم ما ميّز عامر عبد الله هو فكره المنفتح واستعداده لتقبّل الجديد، وديناميكيته وحيويته وتعامله كسياسي متجاوزاً للإطار الحزبي، ومن المؤكد أن علاقاته الواسعة وثقة الآخرين به، قد جعلته كثير التأثير في الوسط السياسي إضافة إلى شجاعته وجرأته واعتداده بنفسه، فهو يتصرّف بندّية عالية مع الجميع ويشعر الآخرين أنهم أنداد له أيضاً.
يمتاز عامر عبد الله بكرم وسخاء لا حدود لهما وبعفة النفس، عاش في المنافي ضمن ظروف مادية  قاسية هي أقرب إلى التقشف، لكنه كان يضع كل ما عنده مرّة واحدة ودون حساب حين يولم أو يستضيف صديقاً، كان منزله مفتوحاً يستقبل الأصدقاء على قلّتهم بفرح غامر وارتياح كبير، ونكتة لاذعة لا تكاد تفارقه، كما  كان يذكر أصدقائه الذين يتذكرونه أو يحاولون تقديم المساعدة له ويثني عليهم.
   كان عامر عبد الله مواجهاً لا موارباً، فهو غير معني بالنتائج أحياناً، وإذا اقتضى الأمر مكاشفة ومصارحة فهو أهل لها، رغم أنه في السنوات الأخيرة وبسبب المرض وظروفه الاجتماعية الخاصة ووحدته، أخذ يشعر بالضعف، وهو على أية حال ضعف إنساني، وسبحان من يخلو منه، وكان يتألم لجحود بعض الأصدقاء، لاسيما مواقف الغدر والتنكر والإساءة التي اتخذوها بحقه.
***
علينا جميعاً تقع مهمة جمع تراث عامر عبد الله، علينا جميعاً إخراج عامر عبد الله من دائرة النسيان لإعادته إلى دائرة الضوء، فعامر عبد الله المفكر الماركسي، كان مجتهداً، وصميمياً، وشجاعاً أخطأ أم أصاب!
***

* كلمة أرسلت إلى حفل تكريم المفكر الكبير عامر عبد الله بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيله الذي سيقام في لندن 15/5/2010

 

1037
التسامح: مثل الريح الخفيفة التي تسبق المطر!



عبدالحسين شعبان

2010-05-17
ينصرف الذهن في الكثير من الأحيان -ونحن نناقش مفهوم التسامح- إلى موضوع الدين، رغم أن التسامح الديني، لاسيما في أوروبا، في القرن السابع عشر وما بعده شكّل أساساً متيناً لفكرة التسامح بدءا من لوك ووصولاً إلى فولتير، لكن التسامح أوسع من ذلك بكثير، خصوصاً إذا ما ربطناه بالهوية، وهو أمر لا يمكن القفز فوقه أو تجاوزه.
وحسناً فعلت «الشبكة العربية للتسامح» في ملتقاها الفكري الثاني بمدينة الدار البيضاء بالمغرب، حين عقدته تحت عنوان «التسامح والهوية» لتضفي عليه هذه القيمة المعنوية-الاعتبارية من جهة، والضرورية-الواقعية من جهة ثانية، إذ لا يمكن بحث موضوع التسامح بعيداً عن الهوية وعن التنوّع والتعددية وحق الاختلاف، ولكن في إطار المشترك الإنساني.
وقد جاء ذلك على لسان المنسِّق العام للشبكة الدكتور اياد البرغوثي وهو يكرّم البروفسور المفكر المغربي محمد مفتاح، لمساهماته الإبداعية البحثية والأكاديمية لنشر ثقافة التسامح، لاسيما في تفعيل موضوع حوار واشتراك الهويات واتصالها وتداخلها في إطار إنساني، وهو ما كان مثار نقاش وجدل في إطار الاختلاف بين اتجاهات متنوّعة، كلٌّ منهما نظر للتسامح من زاويته، الأمر الذي طرح موضوع الموقف من اللامتسامحين، فهل يجوز -بحجة اللاتسامح- تجاوز مبادئ التسامح والتعامل بعنف مع اللامتسامحين خروجاً عليها، وهو الذي دفع المفكر كارل بوبر -ومنذ وقت مبكر- إلى التفكير بمآل التسامح في ظل أطروحات اللاتسامح السائدة.
وإذا كان من ضرورة لفك الاشتباك مع فكرة عدم التنازل عن الحقوق وتنزيه مبادئ التسامح عن الفكرة الدارجة عن الصلح مع العدو، لاسيما في الوضع العربي، وبخاصة استمرار احتلال الأراضي العربية والتنكر لحق تقرير المصير، فإن الموضوع كما طُرح بحاجة إلى وقفة مراجعة جدية ونقاشات معرفية معمّقة.
في كتابه «موسيقى الحوت الأزرق» يناقش أدونيس فكرة الهوية ويستهل حديثه بالعبارة القرآنية التي تضيء بقِدَمِها نفسه، حداثتنا نفسها على حد تعبيره، وأعني بها التعارف، «وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا» أي الحركة بين الانفصال والاتصال في آن، من خلال «رؤية الذات، خارج الأهواء» -خاصة الأيديولوجية، ويمكن أن نضيف الدينية والقومية وغيرها- بمعايشة الآخر داخل حركته العقلية ذاتها، في لغته وإبداعاته وحياته اليومية وهي التي تتجسد بالبعد الإنساني.
وبعد أن يستعرض أدونيس أركيولوجية الغياب المعرفي العربي على خارطة المعرفة الإنسانية، وهو ما أشارت إليه على نحو صارخ تقارير التنمية البشرية في العقد الأخير، لاسيما شحّ المعارف ونقص الحريات واستمرار الموقف السلبي من حقوق الإنسان وبخاصة حقوق المرأة والأقليات وغيرها، يطرح سؤالاً حول سبل الخروج من هذا الغياب، ويسأل أيضاً: ولِمَ هذا الغياب؟ لاسيما بتمثّل ذلك نقدياً ومعرفياً، من خلال معرفة الآخر، بمعرفة ذاتنا معرفة حقيقية، ولعل الخطوة الأولى التي ظل يركّز عليها في كتابه الممتع والعميق، هو كيف يمكن أن يصغي بعضنا إلى بعض؟، أي أن الحوار هو الخيط الذي ظلّ يشدّه باعتباره سبيلاً للخروج من الغياب وصولاً إلى معرفة الآخر. ولعل مثل هذه الرؤية تندرج في إطار الهوية من جهة والمشترك الإنساني من جهة أخرى، تلك التي يمكن أن تتجسد في مبادئ التسامح.
ولعل هذه الرؤية تستند إلى إحلال الفكر النقدي التساؤلي، محل الفكر التبشيري-الدعائي، حيث يصبح الوصول إلى الحقيقة التي هي على طول الخط تاريخية ونسبية، وصولاً يشارك فيها الجميع -رغم تبايناتهم إلى درجة التناقض أحياناً- وهذا يعمّق الخروج إلى فضاء الإنسان بوصفه أولاً إنساناً، ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر أي بالحوار ثانياً، وثالثاً يكشف لنا أن الهوية ليست معطى جاهزاً ونهائياً، وإنما هي تحمل عناصر بعضها متحرّكة ومتحوّلة على الصعيد الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله دائماً في إطار منفتح بقبول التفاعل مع الآخر، ولعل الحوار هو السؤال الأكثر إلحاحاً بشأن هذا التأثر والتأثير والتلاقح والتعاشق، باعتباره قيمة أساسية من القيم السماوية، لاسيما للمتدينين التي دعت إلى الحوار والسلم والتواصي والتآزر والتراحم والتقوى والتسامح، بقدر كونها قيمة وضعية على المستوى الإنساني، لا غنى عنها سواءً بمعناها الاجتماعي أو السياسي أو القانوني أو الثقافي أو الأخلاقي.
هل الهوية جوهر قائم بذاته، لا يتغيّر أو يتحوّل؟ أم هي علاقة تجمعها مواصفات بحيث تكوّن معناها وشكلها؟ وبالتالي لا بدّ من تنميتها وتعزيزها وتفعيلها في إطار المشترك الإنساني، الأمر الذي يتخطّى بعض المفاهيم السائدة، ذات المسلّمات السرمدية السكونية لدرجة التقوقع، وينطلق إلى خارج الأنساق والاصطفافات الحتمية، من خلال قراءات مفتوحة تأخذ التطور بعين الاعتبار كعناصر تفعيل وتعزيز وتحوّل في الهويات الخاصة والعامة.
بهذا المعنى لا يكون اختلاف الهويات أمراً مفتعلاً حتى داخل الوطن الواحد، إذا كان ثمة تكوينات مختلفة دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية، ناهيكم عن اختلاف الهويات الخاصة للفرد عن غيره وعن الجماعة البشرية، ولعل هناك علاقة بين الشكل والمعنى التي تتكون منها الهويات الفرعية–الجزئية الخاصة وبين الهويات الجماعية العامة ذات المشتركات التي تتلاقى عندها الهويات الفرعية للجماعات والأفراد، حيث تكون الهوية العامة أشبه بإطار قابل للتنوّع والتعددية، جامعاً لخصوصيات في نسق عام موحد، ولكنه متعدد وليس آحاديا، فمن جهة يمثل هوية جامعة، ومن جهة أخرى يؤلف هويات متعددة ذات طبيعة خاصة بتكوينات متميزة إما دينياً أو لغوياً أو إثنياً أو غير ذلك، فالشكل ليس مسألة تقنية، حسب أدونيس، وإنما هو مسألة رؤية.
ولعل الحديث عن هويات فرعية، أو خصوصيات قومية أو دينية، لأقليات أو تكوينات، يستفز أحياناً بعض الاتجاهات المتعصبة دينياً أو قومياً، فهي لا ترى في مجتمعاتنا سوى هوية واحدة إسلامية أو إسلاموية حسب تفسيراتها وقومية أو قوموية حسب أصولها العرقية ونمط تفكيرها واصطفافات طبقية كادحيّة حسب أيديولوجياتها الماركسية أو الماركسيوية، أما الحديث عن حقوق وواجبات ومواطنة كاملة ومساواة تامة وحق الجميع في المشاركة وتولي المناصب العليا دون تمييز بما فيها حقوق المرأة وحقوق متساوية للأديان والقوميات، فهي تصبح في الواقع العملي ليس أكثر من مؤامرة ضد الأمة والدين، تقف خلفها جهات إمبريالية-استكبارية تضمر الشرور للمجتمعات العربية–الإسلامية، وبهذا المعنى لم تسلم حقوق بعض المبدعين في التميّز والاستقلالية والتفكير الحر، واعتبرت بمثابة انشقاق وخروج على الجماعة، أما في معارضة تفكيرها، فالأمر قد يستحق العقاب والتحريم والتجريم.
إن مثل هذه الممارسات المتعصبة أو غير المتسامحة، لاسيما بحق الجماعات القومية أو الدينية دفعتها إلى الانغلاق وضيق الأفق القومي، وبخاصة إذا كانت قد تعرّضت للاضطهاد الطويل الأمد وشعرت بالتهديد لهويتها، وهو الأمر الذي كان أحد نقاط ضعف الدولة القطرية العربية تاريخياً، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلال.
لنقارب المسألة من زاوية أخرى، بالقول إن الأفكار الشمولية التي غالباً ما تدّعي امتلاك الحقيقة والأفضليات لا تقبل الحوار ولا تعترف بالآخر ولا تقرّ بمبادئ التسامح، وهي تستبطن الاصطفافات الجاهزة حيث تذوب كيانية الفرد وخصوصيته في إطار الجماعة مثلما تصهر حقوق الجماعات القومية أو الدينية أو اللغوية الأخرى، في إطار الثقافة السائدة في المجتمع، عرقاً أو ديناً أو لغة، والحجة كما يتم التبرير في كل مرة، «الرأي الواحد الموحد المركزي»، الذي ينبغي أن يخضع له الجميع وفق تراتبية نمطية مفروضة عمودياً، فالحقيقة معها وما عداها ليست سوى بطلان وشرور وهو ما يعبّر عنه في إطار الدول الشمولية.
إن الإقرار بالتنوّع الثقافي والديني والإثني هو إقرار بواقع أليم، فقد كان ثمن التنكّر باهظاً، وأسهم في تفكيك الوحدة الوطنية، وهدّد الأمن الوطني، واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل، وكان سبباً في هدر وتبديد الأموال وفي الحروب والنزاعات الأهلية وفي الفساد، بدلاً من توظيفه بالاتجاه الصحيح باعتباره مصدر غنى وتفاعل حضاري وتواصل إنساني، وقبل كل شيء باعتباره حقاً إنسانياً، ولعل ذلك من أهم ما دعت إليه «الشبكة العربية للتسامح»
منذ تأسيسها، حين وضعت نشر ثقافة التسامح هدفاً
أسمى لنفسها، وكأنها تستقرب ريحاً خفيفة بانتظار مطر واعد!


       

1038
الإعلام وحق الحصول على المعرفة
   



عبدالحسين شعبان
يعتبر الحق في المعرفة وحرية الوصول إلى المعلومات ونشرها وإذاعتها بكل الوسائل الممكنة أهم مرتكزات الدولة العصرية، لا سيما الديمقراطية، ولعل هذه الحقيقة أصبحت اليوم وفي ظل العولمة وثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، والثورة الرقمية (الديجيتل)، مسألة لا غنى عنها للتقدم والرفاه الاجتماعيين، إذْ لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها أو القفز فوقها، ذلك أن معيار احترام الحقوق والحريات الأساسية، وبخاصة حرية التعبير، الذي يمكن بموجبه الدفاع عن بقية الحريات والحقوق بما فيها الحق في الحياة والعيش بسلام ومن دون خوف، تشكل محور منظومة حقوق الإنسان غير القابلة للتجزئة أو للانتقاص منها، سواءً على الصعيد المدني والسياسي أو الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وعلى المستوى الفردي والجماعي، للأفراد والشعوب .

وإذا كان اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو/ أيار) قد مرّ مرور الكرام في عالمنا العربي، فإن السبب يعود إلى هموم كبيرة وانشغالات كثيرة، تتعلق بتحديات خارجية وداخلية مثل الاحتلال والنزاعات والإرهاب والعنف والفقر والأمية والتخلف وشح الحريات وضعف المواطنة وجدل الهويات، مع وجود الكثير من القيود القانونية وغير القانونية التي لا تزال مفروضة على الصحافة “صاحبة الجلالة” كما يُقال، وعلى الصحافي الذي يصفه ألبير كامو بمؤرخ اللحظة، في حين أن مئات الصحافيين قتلوا وتعرضوا للملاحقة في عالمنا العربي، الأمر الذي يضع أعباء جديدة على مهنة المتاعب والمخاطر .

وإذا كان الإقرار بدور وأهمية الصحافة قد ازداد منذ ما يزيد على قرن من الزمان، لدرجة اعتبرت السلطة الرابعة، بإضافتها إلى السلطات الثلاث: التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (البرلمان ومجالس الشيوخ) والقضائية (المحاكم)، فإن مثل هذا الدور أصبح حقيقة كبرى من حقائق عصرنا، حيث يشكل الإعلام وتكنولوجياته وما يرتبط بهما إحدى أكبر الثورات الهائلة، بحضورها الفاعل والمؤثر، لا سيما في صناعة الرأي العام والتأثير فيه، خصوصاً في الانفجار الكوني الذي أحدثته الثورة العلمية - التقنية في القرن العشرين، المبتدئة بعصر الحداثة وما بعدها، وبخاصة في إطار العلمانية والعقلانية والليبرالية والنسبية والتعددية، التي بشّرت بها .

تشكّل المعلومات حجر الزاوية في العمل الإعلامي، ولا يمكن تصوّر وجود إعلام مؤثر وقادر على كسب صدقية أمام الرأي العام من دون توفّر حريات، وبخاصة حرية التعبير، وبذلك يمكن للإعلام نقل ونشر وإذاعة المعلومات بحرية، إذ سيكون عسيراً على الإعلامي، القيام بمهامه من دون حق الوصول إلى المعلومات ومن دون تعاون الأجهزة الرسمية (الحكومية) بتسهيل مهمة الإعلامي للوصول اليها، والاطلاع على برامج الحكومات وخططها ومشاريعها، بحيث يكون تدفق وانسيابية المعلومات إلى المواطن أمراً يسيراً من دون قيود أو إجراءات تؤدي إلى حجب أو حرمان الإعلامي من القيام بدوره المهني بحثاً عن الحقيقة التي يسعى لوضعها بيد المواطن .

وإذا كانت حرية وصول المعلومات والحق في المعرفة أمراً مفروغاً منه في الدول المتقدمة، لا سيما الديمقراطية، فإن بلداننا العربية لا تزال بعيدة عن ذلك، رغم وجود حراك قانوني وسياسي، وفي إطار بعض مؤسسات المجتمع المدني، لكنه ما زال في بداياته، التي هي أقرب إلى الإرهاص، خصوصاً بشأن إصدار قوانين تعطي للإعلامي حق الوصول إلى المعلومات، طبقاً للمعايير والاتفاقيات الدولية، حيث لا تزال هناك الكثير من الكوابح التي تحول دون ذلك، فمن جهة هناك الاحتلال في فلسطين والعراق، وهناك بعض البلدان ذات الأنظمة الشمولية التي لا تزال الثقافة السرية سائدة ومطبقة فيها، فكل شيء خاضع للدولة بحكم النظام الشمولي، الأحادي، الذي يدّعي وحده امتلاك الحقيقة لا يشاركه أحد في السلطة والمال والإعلام والحقيقة، وانعدام أو ضعف الشفافية، بحيث تصبح كل معلومة من أسرار الدولة وربما الخطيرة، ابتداءً من الميزانية ووصولاً إلى تنظيم الخدمة المدنية، ناهيكم عن العقوبات الصارمة، بحيث يعتبر تداول أية معلومات عامة تعرّض صاحبها لأقسى العقوبات، الأمر الذي يعزز الفساد ويمنع قيام نظام للمساءلة والشفافية وصولاً للحكم الرشيد، لاسيما في إطار المحاسبة وتحديد المسؤولية . أما في الأنظمة المحافظة فإن غياب تشريعات تعطي الحق لشخص طبيعي أو اعتباري الحصول على المعلومات، أمرٌ خطير يصل أحياناً إلى إصدار أحكام غليظة فيما إذا تمت مناقشة قضايا التسلح والأمور العسكرية وأسرار الدولة الأمنية الكبرى .

وتذهب بعض الدول الأمنية العالية المركزية إلى حجب كل شيء عن الإعلامي، لمنع المواطن، بالتالي من الحصول على المعلومات، بحجة الأمن الوطني والتهديد الخارجي، ومصلحة الشعب وسيادة الامة وغير ذلك .

ويضاف إلى هذه وتلك وجود قوانين للطوارئ في بعض البلدان العربية وقوانين الأحكام العرفية، ناهيكم عن نقص دستوري في دساتير بعض البلدان التي تلزم الصمت إزاء حماية الحق في الحصول على المعلومات ونشرها وإذاعتها . كما أن بعض قوانين المطبوعات والنشر المعمول بها لا تتحدث عن نصوص صريحة وواضحة للحصول على المعلومات، وهو أمرٌ يكاد يكون الأكثر تخلفاً في موضوع الحريات الإعلامية على المستوى العالمي .

إن اللحاق بركب الدولة المتقدمة، يقتضي أولاً وقبل كل شيء حماية الإعلاميين وعدم تعريضهم للحبس بسبب نشرهم معلومات تتعلق بسير عمل الإدارة وانتقادات للمسؤولين، والأكثر من ذلك عدم تعريضهم للأذى والحطّ من الكرامة أو الاعتداء عليهم بوضع قوانين صارمة تحول ذلك، وكذلك الحفاظ على حياتهم وعلى مصادر معلوماتهم وأسرارهم، وأيضاً تنظيم المهنة بما تستحق من تقدير، خصوصاً أن وظيفة الإعلام سواءً كان مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً، من أخطر وأهم المهن والوظائف، لا سيما إذا اقترنت بالدفاع عن حقوق الانسان والحريات الأساسية .

لعلنا في يوم الصحافة العالمي نجري جردة حساب لما تحقق وما لم يتحقق على المستوى القطري وعلى المستوى العربي، انطلاقاً من قاعدة حرية التعبير والحق في الحصول على المعلومات ونقلها وإذاعتها، طبقاً للاعتبارات الإنسانية، الحضارية، المتمدنة وذلك خدمة للحقيقة والإنسان، فهما الهدفان الساميان لأية فعالية اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو دينية .

باحث ومفكر عربي


1039
الجامعة الاسلامية في روتردام
المنتدى العربي في هولندا
17-20/12/2009
روتردام







قيم التسامح
في الفكر العربي الاسلامي المعاصر *


الدكتور
عبد الحسين شعبان


ــــــــــــ
•   مفكر وباحث عراقي، له أكثر من 50 كتاب ومؤلف في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والصراع العربي- الاسرائيلي، والاسلام، والمجتمع المدني وحقوق الانسان .
•   محاضرة القيت في روتردام بدعوة من الجامعة الاسلامية في روتردام والمنتدى العربي في هولندا بتاريخ 18/12/2009


مقدمة

في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بادرت المنظمة العربية لحقوق الانسان في لندن، التي كنت أتشرف برئاستها، الى تنظيم ملتقى فكري بعنوان "التسامح والنخب العربية" حضره نحو 50 باحثاً ومثقفاً وحقوقياً من بلدان عربية مختلفة، ومن تيارات فكرية وسياسية متنوعة. وقد انعقد الملتقى بمناسبة تسمية يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام "يوماً للتسامح العالمي"، بصدور قرار من الدورة الـ 28 للمؤتمر العام لليونسكو (1995).
وقد طرح البروفسور خليل الهندي في الجلسة الاولى سؤالاً في غاية الأهمية: هل يوجد تسامح لننظّم له ملتقانا الفكري الخامس أم أن غيابه يدعونا لتنظيم فعاليات للتذكير بجوهر مبادئ التسامح بمناسبة إقرار اليونسكو الاحتفال السنوي باليوم العالمي للتسامح؟ ولعل هذا السؤال المزدوج والمركّب ظلّ يتردد بأشكال مختلفة على ألسنة أكثر الباحثين والمتداخلين نفياً أو إيجاباً، إقراراً بواقع أليم أو أملاً وهدفاً في واقع جديد يتّسم بالتسامح.
لكن خاتمة الملتقى لم تكن تشبه بداياته، فقد استمرت أعمال الملتقى ثمان ساعات متصلة من الحوار والجدل، وصدرت لاحقاً في كتاب بعنوان: ثقافة حقوق الانسان، عن " البرنامج العربي لنشطاء حقوق الانسان" في القاهرة عام 2000، من إعداد وتقديم الباحث، حيث عبّر أغلب المتداخلين عن تأييدهم ودعمهم لنشر ثقافة التسامح على المستوى العربي، بينهم أديب الجادر وراشد الغنوشي ورغيد الصلح ومحمد بحر العلوم وأبونا بولص ملحم  وخليل الهندي ومحمد الهاشمي الحامدي وعبد السلام نور الدين وليث كبه وصلاح نيازي وبهجت الراهب ومصطفى عبد العال وآدم بقادي وعلي زيدان وعبد الحسن الأمين وعبد الرحمن النعيمي وكاتب السطور وآخرين، ودعوا الى: تأكيد قيم التسامح مع بعضنا البعض أولاًً، دون تخوين أو تكفير أو تأثيم أو تحريم أو تجريم أو غير ذلك من عوامل الاقصاء والإلغاء والاستئصال وعدم الاعتراف بالاختلاف والتنوع والتعددية.
وثانياً تأكيد قيم التسامح مع الآخر، فلا ينبغي النظر اليه باعتباره خصماً متربصاً أو عدواً مارقاً لمجرد الاختلاف، وثالثاً لا بدّ من تنزيه مبادئ التسامح من الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ العدالة وتصويرها وكأنها دعوة للاستسلام، أو نسيان ما تم ارتكابه من جرائم لاسيما في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها، ورابعاً إن تأكيد قيم التسامح لا تعني غضّ الطرف عن الارتكابات والانتهاكات لحقوق الانسان، بممارسة التعذيب او الاغتصاب او القتل الجماعي أو غيرها، ولعل تلك الجرائم لا تسقط حتى بالتقادم.

•   في مفهوم التسامح

التسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي، فيه اقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية. وحسب اعلان مبادئ التسامح الذي صدر عن اليونسكو " إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد..." وهكذا فالتسامح تأسيساً على ذلك: يعني الوئام في سياق الاختلاف  وهو ليس واجباً أخلاقياً حسب، وانما هو واجب سياسي وقانوني، الأمر الذي يعني قبول وتأكيد فكرة التعددية وحكم القانون والديمقراطية ونبذ الدوغماتية والتعصب.
   ان التسامح يعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، وكما أن الاختلاف من طبيعة الاشياء، فلا بدّ من الإقرار باختلاف البشر بطبعهم ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، وهذا يقود الى الإقرار بحقهم بالعيش بسلام ودون عنف أو تمييز لأي سبب كان: دينياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو جنسياً أو ثقافياً أو سياسياً...الخ.
وإذا لم يرد ذكر التسامح لفظاً في القرآن الكريم، الاّ أن ما يفيد عليه أو ما يقاربه أو يدّل على معناه قد جاء، حين تمت الدعوة الى: التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف والعفو والصفح والمغفرة وعدم الاكراه، وكلّها من صفات " التسامح" مؤكدة حق الاختلاف بين البشر و" الاختلاف آيات بيّنات"، ويشير ابن منظور في لسان العرب الى التسامح والتساهل باعتبارهما مترادفين، ويقول الفيرزوأبادي في القاموس المحيط: المساهلة كالمسامحة، وتسامحوا وتساهلوا، وتساهل أي: تسامح، وساهله أي ياسره، ولعل من استخدم مصطلح التسامح لأول مرّة بمعنى " التساهل" هو فرح انطوان في العام 1902.
ومنذ اعلان اليونسكو قبل عقد ونصف من الزمان تقريباً فقد انعقد الكثير من الفاعليات والأنشطة بشأن نشر ثقافة التسامح وصدرت كتب ومطبوعات وتأسست منظمات وشبكات لهذا الغرض، بينها الشبكة العربية للتسامح التي شكّلت دعوة مهنية وحقوقية لمبادئ التسامح، رغم اننا على الصعيد الفكري أو العملي ما تزال تفصلنا هوّة سحيقة عن قيم التسامح الانساني التي تكرست في مجتمعات سبقتنا على هذا الصعيد، الأمر الذي يحتاج الى مراجعات ونقد ذاتي، لاسيما من جانب النخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، لمقاربة فكرة التسامح والتعاطي معها ايجابياً، على الصعيد الاخلاقي والاجتماعي، لاسيما بعد اقراره قانونياً ودستورياً. 
وقد لفت انتباهي صدور تقرير نصف سنوي عن حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية من مركز رام الله لدراسات حقوق الانسان، ولعله حسب معلوماتي هو التقرير الاول في العالم العربي، حيث رصد الفترة من 1/1/2008 ولغاية 30/6/2008، واشتمل على مقدمة وجزءين، وكان الجزء الأول قد تضمن تعريف المصطلح ومحدداته والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما توقّف عند حرية المعتقد والحق في الاختلاف، ولعل هذا المبحث الأخير يعتبر جديداً في تناول من يتصدّون لفكرة التسامح التي تعتبر منظومة سامية لحقوق الانسان.
اما الجزء الثاني من التقرير: فقد تناول حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية تطبيقياً، لاسميا بعد الانقسام الحاصل في الصف الفلسطيني بين (حماس وفتح) والذي تمخّض عن سلطتين ولكن مع استمرار بقاء الاحتلال، في حين ان الهدف هو دولة فلسطينية تستند الى مبادئ التسامح. وتناول هذا المبحث محاولات توظيف الدين ومظاهر التعصب ونفي الآخر والصراع على السلطة القضائية ومحاولات التمييز وظيفياً، كما تناول في مبحث خاص التسامح الاجتماعي، فتوقّف عند مسألة المرأة والقتل العائلي والخلافات الشخصية والاعتداء على الممتلكات.
ومن مزايا التقرير أنه خصص مبحثاً خاصاً لحرية الاعتقاد والحق في التعبير، كما ختم هذا الجزء بخاتمة وخلاصات: بالشروع بالعمل الجاد للقضاء على مظاهر العنف واللاتسامح على المستويين الرسمي والشعبي، وتأكيد الحق في الاختلاف واحترام تطبيقه والدفاع عنه، الأمر الذي يستوجب توسيع هوامش الحريات العامة وفي مقدمتها حرية المعتقد، وهي اشارة متميزة عندما توضع في مقدمة الحريات التي يراد تأمينها والحق في الرأي والتعبير والتنظيم النقابي والتجمع السلمي والتعددية السياسية، ويتطلب الأمر تنشئة اجتماعية ونظام تعليمي يستجيب لذلك وتربية وتثقيف على الصعيد الحزبي والسياسي والديني، وتوظيف خطاب ديني ينبذ التحريض ضد المُختَلِف، ويرفض التطرف والتشدد، كما توجهت التوصيات الى الجهات الاعلامية ومؤسسات المجتمع المدني ودعتها لأن تلعب دورها في نشر ثقافة التسامح.
* غاندي وروح التسامح واللاعنف !
وإذا كنّا نتحدث عن حال التسامح في فكرنا العربي – الاسلامي المعاصر، فحريٌ بنا أن نستذكر المهاتما غاندي الذي عبّر عن فكرة التسامح في رسالة من السجن بالقول: لا أحب التسامح، ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده، وهو الفكرة التي آمن بها نيلسون مانديلا بعد سجنه لمدة 27 عاماً، وهو ما عبّر عنه المطران جورج خضر في تقديمه لكتابنا حول " فقه التسامح في الفكر العربي-الاسلامي" بالقول: لست هنا مبرئاً ساحة الغرب وأعرف كل البؤس الذي أحلّه ليس فقط في الاسلام ولكن في الكنيسة الشرقية أيضاً... ولكن أن تردّ "العدوانية" بهجوم معاكس (أي بعدوانية معاكسة) فذلك يضعف مواقعك، ولعل ذلك كما نعتقد ليس هو الحل الأمثل!
نحن الآن أمام الذكرى الثايية والستين على إغتيال الزعيم الهندي المهاتما غاندي في 30 كانون الثاني (يناير)، ففي العام 1948 حين هاجمه متطرف هندوسي يُدعى فاتورام غودسي وأرداه قتيلاً، واضعاً حداً لحياة زعيم اقترب من " التقديس"  لدى الشعب الهندي بمختلف توجهاته وقومياته وأديانه وطوائفه وطبقاته الاجتماعية، فاتحاً صفحة جديدة من العنف أودت بحياة زعامات هندية مثل أنديرا غاندي ابنة جواهر لال نهرو 1984 وراجيف غاندي 1981 وآخرين. ولعل ذلك من مفارقات التاريخ، فالعام 1948 هو عام صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان وهو العام ذاته الذي تأسست فيه دولة اسرائيل.
لعل القاتل لم يفكّر في الاجابة عن سؤال طالما ظل يقلق غاندي ويسعى لاختبار صدقيته، وهو مستغرق في نضاله لتحرير بلاده، فهل هناك جدوى من العنف؟ وهل يمكن الوصول الى الهدف باللاعنف والتسامح؟ وقد فضّل غاندي الخيار الثاني رغم العذابات والحرمان، لكنه لم يكن يتوقع أن الغدر سيأتيه هذه المرّة على يد هندوسي بعد أن تمكّن من احراز النصر لشعبه.
كان غاندي يؤمن باللاعنف وبواسطته استطاع هزيمة أكبر امبراطورية في عصره (بريطانيا العظمى)، فهذا الرجل الأعزل نصف العاري، بنمط حياته البسيط، وبعلاقته الحميمة بشعبه، استطاع أن يثبت للعالم أن احدى وسائل المقاومة هي اللاعنف والتسامح والقدرة على إنجاز مشروع التحرير واستعادة السيادة والحقوق، بالمقاومة السلمية. وكان غاندي يُردّد: لو كان هناك بديل أفضل من التسامح لاخترته ولكني والحالة هذه لا أجد افضل منه!!
   اقترنت فكرة التسامح باسم فولتير التي بحث فيها وروّج لها ودافع عنها، إذ يعتبر الأب الروحي لها، وكان يبّشر بضرورة تحمل الانسان للانسان الآخر، فكلّنا بشر ضعفاء ومعرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح!!
   لقد ترك غاندي تأثيراته الكبيرة على ما سمّي بحركة اللاعنف أو المقاومة السلمية، الأمر الذي دفع دُعاة المساواة والحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة الى استلهام أساليب النضال التي أبدع فيها غاندي، وكان مارتن لوثر كينغ من أبرز الزعماء السود الذين تأثروا به.
   لم يكتفِ غاندي بالحديث عن اللا عنف، بل أظهر كيف أن المقاومة السلمية يمكنها أن تواجه وتتحدى من خلال سلاح المقاومة والإضراب عن الطعام والاحتجاج والاعتصام والتسامح!؟
   ولعل شخصية مثل نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب أفريقي (ورئيس المؤتمر الوطني)، الذي مكث في السجن 27 عاما وقاد مقاومة سلمية ضد نظام التمييز العنصري " الابارتايد"، كان قد أمسك بمفتاح التسامح بعد مفتاح المقاومة السلمية، فاتحاً صفحة جديدة في نضال شعب جنوب أفريقيا مقدماً نموذجاً مهماً: للعدالة الانتقالية من خلال كشف الحقيقة وتحديد المسؤولية وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والمؤسسي، والأهم من كل ذلك نشر فكرة التسامح وعدم اللجوء الى الثأر أو الانتقام أو العنف.
لقد ادرك غاندي أن  منهجه القائم على اللاعنف حظي بقبول واسع، وكان يردد أن ذلك خيار شعبي " فإذا انطلق شعبي فيجب أن ألحق بركبه لأنني زعيمه".
   وكان إعلان اليونسكو قد جاء بعد حين ليؤكد أنه " بدون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، وبدون سلام لا يمكن أن يكون هناك تنمية وديمقراطية".
   وإذا كان التسامح اصطلاحاً يعود الى تطور الفلسفة الغربية في القرنين السابع والثامن عشر، وبخاصة ما سمي بفلسفة التنوير، وذلك بعد بروز وتطور النزعة الانسانية المعتمدة على العقل في مواجهة اللاهوت والغيبيات، فإن هذا المصطلح راج في السنوات الأخيرة، حيث خصصت اليونسكو يوم 15 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام يوماً للتسامح على المستوى العالمي، منذ العام 1995، كما تمت الاشارة اليه.
   في عالمنا العربي ما زال التسامح غير مقبول لدى أوساط واسعة، وربما نظرت اليه بعض الاتجاهات الإقصائية والإلغائية الاسلاموية باعتباره " نبتاً شيطانياً" أو " فكراً مستورداً"، لاسيما بعد خلطه بالنزعات التغريبية الاستتباعية التي تستهدف فرض الهيمنة وإملاء الارادة.
وفي الوقت الذي يهرب أصحاب وجهات النظر هذه الى التاريخ باعتباره ملاذاً، يتناسون أن الاسلام الأول وبخاصة الراشدي إتّسم بقدر كبير من التسامح والاعتراف بحق الاختلاف، لكنهم يحاولون الزوغان عن ذلك رغم محاولة تمجيد الماضي بهدف الهروب من الحاضر، الذي يزخر بالتأثيم والتحريم والتجريم ضد الآخر، الخارجي، الأجنبي، العدو، الخصم، بادعاء الأفضليات وإنسابها الى النفس ونفي الإيجابيات عن سواه، لذلك احتاج مفهوم التسامح الى " تبيئة" وتأصيل تاريخي بهدف جعله راهنياً وقائماً ومستمراً، بالعودة الى حلف الفضول ودستور المدينة  وصلح الحديبية والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة الى القرآن والسنّة النبوية كدليل ومرشد لفقه التسامح.

•   اعلان اليونسكو حول التسامح

إذا كانت قضية التسامح حديثة في مجتمعاتنا العربية وهي ما تفتقر له وما تحتاج اليه، فإنها ما تزال محدودة على الصعيد العالمي، وإن كانت بعض المجتمعات قد وصلت اليها بعد معاناة طويلة.
ولعل اعلان منظمة اليونسكو بشأن التسامح كان قد حثّ المجتمع الدولي على الاحتفال بيوم التسامح ودعا الى لاعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح، وذلك بعد تشخيص أسباب عدم التسامح أو اللاتسامح، الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية وغيرها، أي أنه دعا الى فحص وتدقيق الجذور الرئيسية للتمييز والعنف والاستبداد في المجتمعات، لاسيما مع الآخر المُختلف، دون تأثيم أو تحريم أو تجريم، ذلك أن المجتمع البشري بحاجة الى نشر وتأصيل قيم التسامح كمنظور انساني وأخلاقي، لا يمكن تقدّم المجتمع الدولي والانساني من دونه، إذ لا يمكنه الخروج من غلواء التطرف والتعصب واللاتسامح، الاّ بتعميم فكرة قبول الآخر، حتى وإن تناقض مع رأي " الجماعة!!! وحسب اعلان اليونسكو فالتسامح يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، وهو يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال مع الآخر وحرية الفكر والضمير والمعتقد.
لقد أصبح التسامح حاجة ماسّة ولم يعدْ ترفاً فكرياَ، فنقيضه هو اللاتسامح والتعصب والاستئثار ورفض الآخر. والتسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي فيه اقرار بحق الآخر في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية. وبهذا المعنى فهو مسؤولية قيمية وواقعية للاقرار بالحقوق والتعددية والديمقراطية وحكم القانون، وهو أمر ينطوي على نبذ الدوغمائية والاستبدادية، خصوصاً بالاقرار بحق الانسان التمسك بمعتقداته، وهو اقرار ناجم بأن البشر مختلفون في طباعهم ومظاهرهم وأوضاعهم وسلوكهم وقيمهم وقومياتهم ودياناتهم ولغاتهم وأصولهم، لهم الحق والمساواة في العيش بسلام، ولعل الخطوة الأولى لتعميم مبدأ التسامح حسب اعلان اليونسكو هي " تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها"، وذلك كي تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين.

•   كوابح التسامح !

   إذا ما استعرضنا العوامل الكابحة لنشر قيم التسامح، فعلى الصعيد الفكري ستعني حجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير لدى الآخر، بفرض قيود وضوابط تمنع أو تحول دون ممارسة هذه الحقوق، وأحياناً تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد أو مألوف سواءًا عبر قوانين مقيّدة أو ممارسات قمعية تحت مبررات شتى.
   اما على الصعيد السياسي فان اللاتسامح يعني احتكار الحكم والسعي للحفاظ عليه وتبرير مصادرة الرأي الآخر، تحت مبررات مختلفة تارة قومية او بحجة الصراع العربي- الاسرائيلي وأخرى طبقية بحجة الدفاع عن مصالح الكادحين، وثالثة دينية بحجة الحفاظ على الدين واعلاء كلمته، وفي كل الأحوال فإن الأمر لا يعني سوى إسكات الصوت الآخر أو تسويغ فكرة الاستئثار وإدعاء الحقيقة.
   وعلى الصعيد الديني فان عدم التسامح يعني التمييز بحجة الافضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حر، بحجة المروق في ظل تبريرات ديماغوجية وضبابية، تمنع الحق في اعطاء تفسيرات مختلفة، خصوصاً ضد ما هو سائد، وأحياناً تزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد عبر التمترس الطائفي أو المذهبي في محاولة لالغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الفقهية الاخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة.
واجتماعياً فإن عدم التسامح يعني فرض نمط حياة معينة بغض النظر عن التطورات العاصفة التي شهدها العالم ، لأنماط متنوعة ، مختلفة ، متداخلة ، متفاعلة ، وأحياناً يتم التخندق بسلوك وممارسات عفا عنها الزمن وأصبحت من تراث الماضي .
وثقافياً، فإن اللاتسامح يعني التمسك بالقيم والمفاهيم القديمة والتقليدية ومحاربة أي رغبة في التجديد، أو أي شكل أو نمط للتغير، حتى إن الشعر الحديث يصبح "بدعة وضلالاً "  بل ضد التراث والتاريخ  وربما مؤامرة كبرى تستحق رجم ومعاقبة  القائمين عليه، وتنسحب مثل هذه النظرة على الكثير من الآداب والفنون وبخاصة  الموسيقى والرقص  والغناء  والمسـرح  والنحت  وغيرها،  ناهيك عن الحـب ! 
وإزاء الانغلاق وعدم التسامح الذي يسود عالمنا العربي والإسلامي،               ورغم  بعض الإرهاصات الجديدة، نرى العالم يسعى لتوسيع التسامح  حقـوقياً   بعد  أن جرى  تعميمه  أخـلاقياً ،  بحيث تشتمل الدعوة للدفاع عن أولئك اللامتسامحين أو الذين ينشرون  ويروجون  لإيديولوجيات اللاتسامح  التوتاليتارية. ورغم أن هذه الفكرة تثير نوعاً من النقد وربما الفزع في الغرب حالياً،  خصوصاً  بعد  احداث  11  أيلول (سبتمبر ) 2001  الارهابية  في الولايات المتحدة  لأن هناك من يعتبرها  خطراً على فكرة التسامح  ذاتها ، بل وتدميرها للحرية، لكن كارل بوبر،  يجيب بأن علينا عدم الانخداع بذلك الشعور الغريزي  بأننا  على صواب دائماً.

•   التسامح والآيديولوجيا!

تطور مفهوم التسامح من الفرد الى المجتمع ومنه الى الدولة، ثم الى المجموعة الدولية، ولم يعد المفهوم اصطلاحياً أو لغوياً يرتبط بالتكرّم والسخاء والجود والعفو والصفح والغفران والتساهل وغيرها، بل وصل الى الاعتراف بالحق واحترام الحق، مثلما له علاقة بالعمران والتنمية.
ان نشر مبادئ التسامح وسيادة روح الحق في الاختلاف، تتطلب إعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وإعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة وبين الحكومة والمعارضة، التي هي مسؤولية جماعية وفردية في آن، فلا يوجد مجتمع بمعزل عن اغراء الاقصاء أو اللاتسامح، الاّ إذا أثبت هذا المجتمع قوة عزيمة ويقظة دائمة.
التسامح ليس لصيقاً بتراث أو مجتمع، إنه يمتد عبر العصور فلا "هو غربي ولا هو شرقي". ورغم أن الاديان جميعها تعلن تمسكها بالتسامح، فإن الحروب والإبادات استمرت عبر التاريخ وتمت في الكثير من الاحيان بإسمها وتحت لوائها.
   يمكن القول ان كل المجتمعات البشرية تحمل قدراً من اللاتسامح سلبياً أو إيجابياً، لكن الفرق بين مجتمع وآخر هو في مدى اعتبار التسامح قيمة اخلاقية وقانونية ينبغي اقرارها والالتزام بها حتى وان كان البعض لا يحبّها.
    اما الفرق الثاني بين المجتمعات المفتوحة التي توافق على التسامح وبين المجتمعات المغلقة التي ما تزال تتمسك باللاتسامح وبتهميش أو إلغاء الآخر، فإن بعض المجتمعات تستطيع إدارة التنوّع والتعددية الثقافية والدينية واللغوية والسلالية والاجتماعية وغيرها، في حين تخفق أو تعجز فيها مجتمعات أخرى، ويوجد في العالم اليوم أكثر من عشرة الاف تعددية، الامر الذي يستوجب ان تكون الدولة هي الحاضن الاكبر للتسامح، وهو يتطلب اعادة صياغة العلاقة بين الأنا والآخر على أساس المواطنة والمساواة الكاملة، ومن خلال التربية والاستفادة من المخزون القيمي للأديان وللفطرة الانسانية، وهو ما ينبغي أن ينعكس على الصعيد الدولي أيضاً.
بقي أن نقول، ان التسامح ليس ايديولوجيا مثل الايديولوجيات الأخرى الاشتراكية أو القومية أو الدينية، بل هو جزء من منظومة ثقافية، وعلينا ان نتعاطى معه على هذا الاساس الذي يسهم في تنمية المجتمع من خلال سنّ منظومة قانونية لا تعترف بالتمييز أو التعصب أو التطرف أو العنف، وهو ما تبنته الشبكة العربية للتسامح عندما وضعت شرطاً لمنح الجائزة على أن " يكون من الداعين لفكرة المساواة وحق بين البشر في العيش بسلام ودون خوف على المستوى الفردي والجماعي، دون تعصب أو انغلاق أو اقصاء أو إلغاء".

•   التسامح وصورة الاسلام النمطية!
شاعت في الغرب منذ سنوات، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية ما سمّي "بالاسلامفوبيا"  أي الرهاب من الاسلام، مثلما انتشرت في الفترة الاخيرة ما يمكن اصطلاحه بـ"العربفوبيا"  أي كراهية العرب والعداء لهم، ولعل ذلك ليس بمعزل عمّا يمكن نحته من " الزينوفوبيا" Xenophobia أي الرهاب من الأجانب، بمعنى كراهيتهم وعدائهم، وقد اتسعت هذه المسألة على نطاق كبير بصعود وانتشار بعض التيارات والاتجاهات العنصرية والفاشية في أوروبا. وقد تلمسنا حجم الهجوم الشديد على مؤتمر جنيف (ديربن-2)حول العنصرية وانسحاب الولايات المتحدة واسرائيل وعدد من دول الاتحاد الاوروبي منه، وتأييد مواقفها من لدى جهات وجماعات ودول غربية كثيرة، لمجرد استنكار ما ذهب اليه مؤتمر ديربن الاول العام 2001 من دمغ الممارسات الاسرائيلية بالعنصرية.
   ولعل حدثاً مثل مؤتمر ديربن يمكن استحضاره دليلاً على أن هناك اكثر من جهة هي التي تقف مسؤولة أمام تشويه صورة الاسلام في أعين العالم، فإضافة الى سيل الدعاية الصهيونية، التي سعت الى تصوير الصراع العربي- الاسرائيلي، باعتباره صراعاً بين أديان، أي بين الاسلام واليهودية، وبين قوى متخلفة عربية لا تؤمن بحق الوجود والديمقراطية، و"دولة" يهودية تسير في طريق الممارسة الديمقراطية، في حين ان الصراع بين حقوق مغتصبة وأرض محتلة وشعب مشرد في غالبيته الساحقة، وبين مغتصب اجلائي استيطاني، رغم أنه يتعكز على حقوق " سماوية " بأرض الميعاد المقدسة لشعب الله المختار، في حين ان الصراع دنيوي لتحرير الارض والوطن، وليس حول تعاليم الدين الاسلامي وشريعته وبين اليهودية وتلمودها.
أما في الغرب بشكل عام فتندفع بعض الاطروحات الرسمية وغير الرسمية لتساوي بين الاسلام وبين بعض الاتجاهات المتطرفة والمتعصبة الاسلاموية، والتي تستخدم تعاليم الدين أحياناً على نحو مشوّه ضد الدين ذاته، وهو ما نطلق عليه اسم "الاسلاملوجيا" أي توظيف التعاليم الاسلامية بالضد منها رغم أنها ترفع راية الاسلام. ولعل العرب والمسلمين دفعوا ثمن هذه الاتجاهات قبل غيرهم، رغم ان هذه الاتجاهات حتى وقت قريب وقبل حدوث ارهاب 11 سبتمبر (ايلول) لقيت تشجيعاً علنياً ومستتراً من بعض القوى والجماعات والدول الغربية مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
   وأستطيع القول أن الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب، لم تتفهم حتى الآن وربما بصعوبة، طبيعة العلاقة مع العرب، طالما يتم تصوير الصراع العربي- الاسرائيلي على نحو مشوّه، لاسيما من خلال ممارسات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف اثبات افضليات الاسلام على المسيحية وعلى اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم مبرراً لمواصلة هذا الصراع بطريقة لا تخلو من عبثية، بحيث يمتد من أقصى المعمورة وحتى أقصاها، وكأن لا علاقة للمصالح الدولية بذلك، بما فيها مصالح المسلمين أنفسهم، والسياسة منذ بدء الخليقة وحتى تنتهي ستبقى تحكمها الصراعات واتفاقات المصالح، باقترابها أو ابتعادها عن المبادئ.
لا شك ان هناك نظرة ارتيابية مسبقة لدى الغرب والشرق بما فيه الاسلامي إزاء الآخر، والغرب ليس وحده المسؤول عن ذلك، فثمة مساهمات نحن مسؤولين عنها، لاسيما وقد انتشرت لدينا تيارات "أصولية" متعصبة ومتطرفة ومعادية للغرب، وهو ما نطلق عليه اصطلاحاً "الغربفوبيا " أي كراهية الغرب، والعداء لكل ما هو غربي بما فيها للحضارة الغربية وانجازاتها العلمية والتكنولوجية والفنية والجمالية والعمرانية الهائلة، بكل ما لها وما عليها.
الغرب ليس كلّه غرباً، فإلى جانب الغرب الامبريالي- العنصري في الماضي والحاضر، هناك الغرب التقدمي المؤيد لحقوق الانسان وحقوق الشعوب في تقرير المصير، وهو ما حاول مفكر بريطاني مرموق مثل الفريد هاليداي أن يضع اصبعه عليه في كتابه الموسوم " ساعتان هزتا العالم" وقبله كتابه " الاسلام والغرب". وكان عرفان نظام الدين قد تناول العلاقة بين العرب والاسلام في الغرب بوجهيها وذلك في كتابه " العرب والغرب" مثلما، أطلّ اعلامياً على ذلك في كتاب " الاسلام والاعلام " مؤشراً الى التقصير لدى الجانبين، خصوصاً في فهم العلاقة المتميزة والمتناقضة والمتداخلة، إضافة الى التعقيدات والاوهام والتشويهات التي صاحبتها ورافقتها وهو ما أسماه الدكتور غازي القصيبي الأساطير الاربعة التي حكمت نظرة الغرب الى الاسلام ما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
ما زالت بعض تفسيراتنا قاصرة لفهم ما نطلق عليه " الصراع التاريخي" الذي يستمر بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، وهو ما ندعوه الحروب الصليبية والمقصود "حروب الفرنجة" التي حدثت في القرن الحادي عشر الميلادي، ومن ثم الصراع مع الدولة العثمانية، وذلك لتأكيد حتمية الصراع باعتباره صراعاً تناحرياً غير قابل للحل أو التوافق، رغم أن الصراع يمكن أن يؤدي الى اتفاق مصالح حسب منطوق السياسة الدولية تاريخياً.
ان الابقاء على صورة العدو حاضرة في الأذهان، رغم اختلاف المواقف، حملت معها خرافات وأوهام كل طرف إزاء الآخر، فالاسلام حسب بعض الاطروحات الغربية يشجع على الارهاب ويحض على العنف، ويستند بعض هذه التصورات على عدد من غلاة الاسلامويين، الرافضين لكل تقدم أو حضارة باعتبار الغرب كلّه " شرٌّ مطلق"، وهكذا تستكمل صورة العدو، وإن لم يوجد بالفعل، فقد تم صناعته مثلما حصل بعد انهيار الشيوعية الدولية، فوجدت بعض التيارات في الغرب، اختراع الاسلام عدواً بديلاً، وحسب أحد المعلقين البريطانيين جورج مونبيت Georges Monbiot ، فلو لم يكن بن لادن موجوداً، لكان على امريكا أن تخترعه، فقد اخترعته الـ CIA العام 1979 واليوم تبحث عنه الـ FBI، وهكذا تم استبدال مصطلح المجاهدين الافغان أيام الغزو السوفيتي الى أبالسة وشياطين بسبب مواجهتهم للسياسة الامريكية لاحقاً.
ان صورة العدو الذي يتم صناعته في الغرب ليست بعيدة عن الخرافات والاختلاقات بمجابهة مزعومة مع الاسلام، وهي الصورة التي يقابلها لدى الاسلامويين والتيارات المتشددة، بوضع الغرب في صورة العدو المستمر والمواجهة الحتمية الابدية، ويميل هاليداي الى اعتبار نموذج صموئيل هنتنغتون بشأن الصدام الحتمي للحضارات هي الأكثر رواجاً لدى الفريقين، ولذلك لقي كتابه "صدام الحضارات" اهتماماً منقطع النظير مثل كتاب فرانسيس فوكوياما " نهاية التاريخ".
ولعلي طرحت باستمرار سؤالاً على نفسي: هل يستطيع المواطن الغربي أو الاوروبي أن يدرك وأن يتفهم أن من يضحّي بنفسه في فلسطين، ليس من أجل تطبيق الشريعة الاسلامية، وليس من أجل فرض ارتداء الحجاب للنساء أو إقامة الحد أو لفرض دفع الجزية أو التعامل مع أهل الذمة أو حتى إقامة الحكم الاسلامي، بل إنه يفعل ذلك من أجل تحرير وطنه وأرضه المحتلة والمغتصبة، سواءً كان متديناً أو غير متدين، مسلماً أم مسيحياً أم غير ذلك!
وأدركت في حوارات مختلفة مع الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية، الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب، أنه ليس من السهولة عليها فهم طبيعة الصراع، طالما جرى تصويره على نحو مشوّه ودون دلالة تُذكر، لاسيما من خلال ممارسات وتطبيقات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف اثبات افضليات الاسلام على اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم حول نكث العهود مبرراً باعتبار الصراع الديني بين اليهودية والاسلام استئصالياً، وبالتالي فهو صراع دائم لا نهاية له.
ووفقاً لهذا المنطق الخاطئ فإن هذا الصراع يمتد من أقصى المعمورة الى أقصاها، وهو غير محصور في بقعة معينة من العالم محتلة بقوة السلاح باستعمار اجلائي، استيطاني، وارهاب دائم ومستمر بكونه يشتبك مع مصالح دولية  ويعبّر عنها في جزء متقدم من ستراتيجيتها الكونية في الشرق الأوسط، حتى وان تعكّز على " حق ديني" أو مزاعم آيديولوجية روّجت لها الصهيونية العالمية منذ مؤتمرها الاول في مدينة بال " بازل"  السويسرية العام 1897 وبعد صدور كتاب تيودور هيرتزل " دولة اليهود" بعام واحد.
ان ما يقوم به الفلسطينون مدعومين من المسلمين وأحياناً تحت راية الاسلام لإضفاء نوع من القدسية على هدفهم النبيل، انما ينسجم مع قواعد القانون الدولي، الذي يجيز للشعوب التابعة والمستعمرة استخدام جميع الوسائل بما فيها القوة المسلحة، لاسترداد وطنها واستعادة سيادتها، وذلك لا علاقة له بالرؤية المشوّهة لاعطاء الصراع طابعاً دينياً.
وإذا كان الاسلام يذهب الى تأييد مثل هذه التوجهات بما فيها استرخاص الغالي والنفيس وصولاً الى الهدف، بالسلم او بالجهاد، فإن دعوته هذه أرضية وحقوقية وقانونية وضعية، حتى وإن يتم فيها توظيف التعاليم السماوية كأداة فلسفية وروحية، لهدف أرضي وانساني وهو تحرير الاراضي المغتصبة وحق تقرير المصير، في حين ان دعاوى الصهيونية سماوية تتعلق بأرض الميعاد وتحقيق الوعد الالهي لشعب الله المختار.
على النخب الفكرية والسياسية والثقافية العربية والمسلمة التمييز دائما بين مفهوم الحضارة التي ننسبها الى الغرب وهي نتاج انساني وبشري، وبين مفهوم الغرب السياسي، فالاولى هي منظومة من الفلسفات والافكار لما وصلت اليه البشرية كنتاج لتطورها السياسي والثقافي والجمالي والعمراني والفني والتكنولوجي والادبي، في حين ان الغرب السياسي يعني النظم والآيديولوجيات الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة، القائمة على المصالح بالدرجة الاساسية، وقد تكون أحياناً في تعارض مع مقتضيات السلوك الحضاري أو مثله وقيمه الانسانية العليا، خصوصاً مع شعوب وأمم أخرى.
لكن هذه النظم المتمثلة باوروبا وامريكا في الوقت نفسه تعتبر مستودعاً للتقدم العالمي لعصرنا بجميع ايجابياته وسلبياته، وبالتالي لا يمكن تبسيط الموقف من الغرب باعتباره كله " شرٌّ مطلق"، وهي النظرة التي تتذرع بها اسرائيل لحماية نفسها من " آلة التدمير" العربية والاسلامية، بتأكيد انتمائها الى الغرب الحديث، ولاثبات تعارضها مع أهداف العرب والمسلمين، ولعل هذا ما حاولت ترويجه خلال انعقاد مؤتمر جنيف (ديربن-2) حول العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب نيسان (ابريل) 2009، وهو ما استطاعت أن تحشد له طاقات وامكانات دولية هائلة في الولايات المتحدة والغرب، مستفيدة من بعض الاطروحات الخاطئة والضارة التي ما تزال تهيمن على بعض التوجهات الاسلاموية، فضلاً عن تقاعس العرب والمسلمين منذ مؤتمر ديربن العام 2001، وذلك بعد أن حصلوا على نصر سهل لم يستطيعوا الحفاظ عليه أو توظيفه لمصلحتهم، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية، وهو ما حشدت اليه اسرائيل جميع الطاقات منذ ثمانية أعوام، حتى تحقق لها ما أرادت، رغم مقاطعتها مؤتمر جنيف، وهو ما سبق أن استخدمته بشكل بارع يوم تمكّنت من إلغاء القرار 3379 الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975 بخصوص مساواة الصهيونية بالعنصرية.
لقد عبأت اسرائيل آلة اعلامية وسياسية كبيرة، بما فيها حضور عشرات من منظمات المجتمع المدني بتكليف واسهام مباشر منها أو بطريق غير مباشر عبر التنسيق والتحالف وضخ المعلومات وتهويل صورة مؤتمر ديربن الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية، وكذلك بالاستفادة من بعض الأطروحات المتطرفة أو الشعارات ذات النبرة العالية، مستغلة إياها باعتبارها مهددة بالاستئصال، في حين  أنها هي التي تحتل الاراضي العربية وتمارس سياسة عنصرية ضد سكان البلاد الاصليين وترفض القرارات الدولية وحق العودة، وتضم القدس والجولان خلافاً للشرعية الدولية، وفي الوقت نفسه تلصق كل أعمال العنف والارهاب بالاسلام في صورة نمطية، ليست بعيدة عن الصهيونية ذاتها.
ولعل صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بخصوص عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري، ومن ثم صدور تقرير غولدستون الذي اتهم اسرائيل بارتكاب جرائم في غزة تقترب من جرائم الحرب، وقبل ذلك صدور تقرير بوستروم بشأن اتهام اسرائيل بالاتجار بالاعضاء البشرية للفلسطينيين، كلّه يضع اسرائيل أمام مساءلات دولية، خصوصاً وأن سياساتها طيلة ما يزيد عن 60 عام، كانت عدوانية وعنصرية بامتياز وبالضد من قيم التسامح.

•   وقفة للمراجعة الفكرية
أيكفي تكرارنا القول ان تعاليم الاسلام وبخاصة الواردة في القران الكريم والسنّة النبوّية تحضّ على التسامح، وان الكثير من تطبيقات الخلفاء الراشدين في الاسلام الاول كانت تمثل قيم التسامح؟ أم ان هناك فروقاً كثيرة وجوهرية بين بعض النصوص النظرية وبين التاريخ الاسلامي، الذي هو مثل كل تاريخ البشرية، حفل بالكثير من مظاهر اللاتسامح والعنف والاقصاء وتهميش الآخر، لدرجة تأثيمه وتجريمه أحياناً، سواءً على الصعيد النظري او على الصعيد العملي والتطبيقي من خلال الممارسات والاعمال؟
   جدير بالذكر الاشارة الى ان فترة الاسلام الاول، شهدت اعترافاً بالآخر والدعوة الى المساواة والتواصي والتآزر والرحمة، لكن ثلاثة من " الخلفاء الراشدين" : عمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) لقوا حتفهم مقتولين، ولم تفلح مبادئ التسامح التي دعا اليها الاسلام من أن تحول دون ذلك، فالتسامح بحاجة الى بيئة حاضنة وتراكم وتربية، ليتحوّل الى قوة مادية يصعب إقتلاعها، خصوصاً اذا ما انتقل من طور الاخلاق الى الحق ومن ثم ليؤسس عبر قوانين وتشريعات ومؤسسات!
   لكن هذه القراءة الانتقادية للتاريخ الاسلامي، لا ينبغي ان تصب في الموجة الجديدة- القديمة من الاتجاه المعادي للاسلام، التي تحاول التصيّد بالماء العكر، لأخذه بجريرة بعض الاعمال الارهابية، أو أن تشمل جميع المسلمين، الذين يتم دمغهم بالارهاب بالجملة، وهو ما يتردد على لسان مسؤولين ومفكرين واعلاميين ورجال دين ومستشرقين في الغرب، بل هناك بعض الاساءات شملت حتى رسولهم النبي محمد (ص)، لعل آخرها كان ما أطلقه البابا بنديكتوس السادس عشر، في محاضرة بجامعة ريغينسبورغ، من توصيفات على لسان الامبراطور اليوناني مانويل الثاني في القرن الرابع عشر، "باتهام الاسلام بالعنف".
   ولعل مثل هذه الاتهامات والتعميمات لا يجمعها جامع مع المشترك الانساني والديني، ناهيكم عن الوقائع التاريخية، خصوصاً وانها تصدر من اعلى مرجع في الكنيسة. كل ذلك يحدث ولم تكن قد إنتهت تداعيات نشر صحيفة دانماركية صوراً مسيئة للنبي محمد (ص)، بما سببته من تصدع العلاقات المسيحية- الاسلامية، ليس على صعيد الحاضر حسب، بل على صعيد المستقبل، يضاف اليه الآن نتائج الاستفتاء الشعبي في سويسرا ضد بناء المنائر الاسلامية.
   كما أن ما ورد على لسان الرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش(آب/ اغسطس2006) وخلال العدوان الاسرائيلي على لبنان حول " الفاشية الاسلامية" وقبلها الاشارة الى "الحرب الصليبية" فيما يتعلق بحملة مكافحة الارهاب الدولي، انما يصّب في هذا الاتجاه العدائي، خصوصاً وانه قسّم العالم الى قسمين " اما معنا.. أو مع الارهاب" اي مع " معسكر الخير والنور" او "معسكر الشر والظلام"، وهو الوجه الآخر لما ذهب اليه اسامة بن لادن حين قسّم العالم الى فسطاطين، ولعل هذا الأمر يحتاج الى إعادة النظر بالأفكار والآراء المسبقة بخصوص الاسلام، وهو ما يضع مسؤوليات على ادارة أوباما، طالما أنه أخذ على عاتقه مبادرة مخاطبة المسلمين على نحو مختلف، بما يعزز الحوار والتفاهم بدلاً من الصراع والصدام بين الحضارات والثقافات والأديان.


•   نحن ومفارقات التسامح

   اذا كان "الغرب" قد وصل الى التسامح في مجتمعاته، بعد معاناة طويلة ومعارك طائفية طاحنة وحروب عالمية حصدت ارواح عشرات الملايين من البشر، فان مثل هذا الامر لم يأخذ مداه على المستوى الدولي وبخاصة محاولات فرض الهيمنة والاستتباع، وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية في اواخر الثمانينات، حيث يراد للعالم التسليم بظفر الليبرالية الجديدة، نموذجاً وحيداً للنظام الدولي على المستوى السياسي والاقتصادي، وخلال نحو عقدين من الزمان خيضت حروب وأعمال ابادة وفرضت حصارات وشنت عدوانات وُقلبت انظمة واقيمت كيانات، كلّها بعيدة عن روح التسامح، بالاعتماد على نظرية القوة وليس قوة القانون وروح ميثاق الامم المتحدة، وذلك بسبب نهج التفرد والاستئثار والمصالح الأنانية الضيقة!
   ومن جهة اخرى فإن التسامح كمفهوم في العالمين العربي والاسلامي ما زال قليل القبول لدى اوساط واسعة، وربما نظرت اليه بعض الاتجاهات الاقصائية والالغائية على انه " نبت شيطاني" او " فكر مستورد" خصوصاً مع خلط المفاهيم  تعسفاً احياناً، بالنزعات التغريبية وتصويرها باعتبارها استتباع واستخداء للآخر، الخارجي، الاجنبي، المختلف، الخصم والعدو! والامر ينسحب على نحو أشد ربما على النطاق الداخلي وفي داخل كل بلد عربي أو جماعة سياسية ودينية ومذهبية واثنية!
   ويهرب اصحاب هذا الاتجاه الى التاريخ، ملاذهم، بالادعاء: ان الاسلام الاول، الراشدي إتسم بالتسامح والاعتراف بحق الاختلاف،وهو وإن كان صحيحاً، لكنهم لا يناقشون الحاضر او يحاولون الزوغان عن كل ما من شأنه الاعتراف بمبادئ التسامح وحق الاختلاف في زمننا الحالي، فهو من وجهة نظرهم مرفوض ومستغرب، في محاولة تمجيدية للماضي وادعاء الافضليات، لذلك احتاج هذا المفهوم الى تبيئة وتأصيل تاريخي بهدف جعله راهناً ومستمراً وقائماً.
   وبقراءة الوضع الراهن فهناك اربعة مواقف أو اتجاهات من مسألة التسامح:
   الاتجاه الاول-الذي نطلق عليه "الرافض" فهو يرفض كل حديث عن التسامح على النطاق الديني او الفكري او السياسي او الثقافي او الاجتماعي، الداخلي او الخارجي (الدولي) بحجة امتلاكه للحقيقة والافضليات، اما المختلف والآخر فإنه لا يمثّل سوى النقيض، وعلى المستوى العالمي فإنه يمثل الكفر والاستكبار.
   الاتجاه الثاني- هو الاصلاحي وهو تعبير عن تيار اصلاحي (توافقي) يتقبّل بعض افكار التسامح بانتقائية بهدف مواكبة التطور الدولي، لكنه يظل مشدوداً للفكر التقليدي السائد، وان كان يسعى للتواصل مع الآخر بحذر شديد، وربما بريبة أيضاً.
الاتجاه الثالث- الذي نسميه الاتجاه التغريبي، فهو يؤيد فكرة التسامح ويحاول تعميمها على كل شيء، وهو يدعو الى قطع الصلة بالتراث والتاريخ واعتبار التسامح قيممة حداثية لا علاقة لها بالاسلام، بل يضع في اعتباره كون التسامح نقيضاً للاسلام الذي يحضّ على "العنف" و"الارهاب" حسب فهم خاطئ لبعض الاتجاهات الاسلاموية أو الاسلامية وموقفها من الحداثة، دون تمييز بين الاسلام وبين بعض الاتجاهات السياسية.
الاتجاه الرابع- الذي نعتبره قيمياً وهو تعبير عن التيار المؤيد للتسامح، والذي يعتبره قيمة عليا، لاسيما بربطه بحقوق الانسان، دون التعامل معه على نحو مبتذل فيما يتعلق بالصراع العربي- الاسرائيلي والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فالتسامح لا يعني التهاون إزاء حقوق الانسان أو قيم العدالة أو تبريرها تحت أية حجة أو ذريعة.
وإذا كانت فكرة التسامح مؤاتية ولها تفاعلات مع الفكرة الليبرالية والعقلانية والمدنية والعلمانية، الاّ ان جذورها تمتد الى الحضارات والثقافات المختلفة، ويزخر التراث الانساني باستلهامات من قيم التسامح، لكنه كمنظومة متكاملة كان من نتاج حقبة التنوير لاسيما في القرن الثامن عشر.

•   الهروب الى الماضي !
    ان القراءة الارتجاعية للنص الاسلامي وللتعاليم والمفاهيم الاسلامية دون عُقد الحاضر وحساسياته، ودون اخضاعها لحسابات مؤقتة وربما طارئة، فإنها تؤكد ان الاسلام " المفاهيمي" ومن خلال عدد من فقهائه، طريق رحب يمكن ان يسلكه الانسان في حياته حيث سيجده، مفعم بالحيوية والنشاط والانفتاح والعطاء، وصولاً الى التسامح، خصوصاً إذا كان الأمر بعيداً عن أصابع المفسرين والمؤولين من المتشددين واللامتسامحين من الاسلامويين، الذين حاولوا تطويع احكام الاسلام بطريقة مؤدلجة تماشياً مع القيم السائدة والافكار المتعصبة والمغلقة وخدمة لمن بيدهم الامر.
   وساهمت بعض هذه التنظيرات في كبح جماح العقل وتحويل تعاليم الاسلام الى مجرد " تعاويذ" و"أدعية" ووصفات جاهزة ومعلبة، اقرب الى التحنيط والجمود والصنمية خصوصاً ازاء الآخر، وعبر يقينيات لا تقبل الجدل او الحوار.
   كان الى جانب الاسلام والايمان نقيضهما أحياناً في دولة الاسلام المدنية، ولكن ثقة الاسلام بنفسه جعلت التعايش ممكناً مع النقيض. حسبي هنا ان اشير الى احتواء كتاب  " التوحيد الكافي" على اقوى الاستدلالات، التي إستند اليها منكروا التوحيد دون ان يؤثر ذلك في عرض الرأي الآخر المناقض، المخالف، المعارض، حتى وان احتوى على ما يتعارض مع جوهر الايمان.
   الاسلام بتعاليمه لا يجد غضاضة في الجدل والنقاش ونقد الرأي المخالف انطلاقاً من قاعدتين :
1-   مبدا التسامح ازاء سماع الراي الآخر.
2-   الايمان بالعقل باعتباره الاساس في المحاججة وليس النظرة المسبقة.
   ليس ثمت تناقض بين العقل والايمان، وهو جوهر النقد الذي تناوله البابا في محاضرته التي اثارت ردود فعل شديدة، لكن التاريخ الاسلامي شهد فترات سبات للعقل وتغلّب عليه العنف وساد السيف قبل الرأي، ولكننا لا بدّ من التمييز بين الاسلام كمفاهيم ومبادئ ومعتقدات وتعاليم وبين التاريخ والممارسات والتطبيقات والتجاوز على المبادئ.
   بخصوص التسامح والاختلاف فهناك نموذجين احدهما: معياري والثاني واقعي، فهناك من يقرّ بالاختلاف وبالتالي بالتسامح في المسائل الفرعية، وهناك من يذهب أبعد من ذلك حين يقرّه في المسائل العقدية والاصول " فكل مجتهد مصيب في اجتهاده، وان لم يصب في حكمه" وذهب الامام الشافعي للقول:" رأيي صواب ولكنه يحتمل الخطأ ورأي غيري خطا ولكنه يحتمل الصواب".
   وقديماً قيل قد يصيب الناظر وجهاً من وجوه الحقيقية، وهو ما ذهب اليه ابن رشد، ولهذا فإن تباين الاجتهادات واختلاف التفسيرات، انما يدل على تباين الطرق الموصلة الى الحقيقة، فطريق الحق ليس واحداً، بل كثير ومتعدد، وهو الامر الغائب عن واقعنا الحاضر الشديد الالتباس والبعيد عن قيم التسامح.
   هناك بعض الاسلاميين المتعصبين أو الاسلامويين، يعتبرون أي حديث عن التسامح يقود الى " التساهل ازاء العقيدة والى الاباحية" وبعبارة اخرى: نشر الليبرالية بكل ابعادها على حساب الدين. وهو ما يذهب اليه مصباح يزدي احد منظري التيار اليميني المحافظ في ايران، الذي يعتبر التسامح يعني فيما يعنيه: التسيّب وانعدام الغيرة واسلوباً

1040
العراق ومعركة المياه

عبدالحسين شعبان
2010-05-10
يعاني العراق من كارثة مائية خطيرة تتعلق بشحّ المياه واتخاذ إجراءات من دول الجوار، أسهمت في تفاقم أوضاعه وزادت من عملية التصحّر وأدت إلى موت الكثير من المزارع والبساتين، لاسيَّما قيام إيران بتغيير مجرى الأنهر الحدودية، وتغيير مجرى نهر كارون الذي يصب في شط العرب، وإنشاء 12 سداً وخزانات كبرى، وتغيير مجرى نهر الكرخه الذي يغذّي شط العرب وهور الحويزة.
وكانت تركيا منذ نحو أربعة عقود من الزمان قد بنت نحو 22 سداً بما فيها سد الغاب الكبير Gap، الأمر الذي أثّر على منسوب المياه التي تصل إلى العراق من حوضي نهري دجلة والفرات، وإلى حدود غير قليلة تضررت سوريا، وقد نشبت في السبعينيات معركة ضارية شكلها مائي وأساسها سياسي بين العراق وسوريا، ثم تمت بعض التسويات، ودخلت كل من سوريا والعراق مفاوضات مع تركيا طيلة العقود الماضية.
ولعل مشكلة المياه الإقليمية تفاقمت واتخذت أبعاداً خطيرة بعد اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية التي دامت ثماني سنوات (1980-1988) وفي ظروف الحصار الدولي الجائر الذي دام 13 عاماً، وعند انهيار الدولة وحل مؤسساتها.
وكنت قد تابعت هذا الملف قبل ثلاثة عقود من الزمان، وقد نشرتُ كتاباً عن النزاع العراقي- الإيراني وعدداً من الدراسات، تعرضت فيها لمشكلة شط العرب والمياه الإقليمية، وأشرت فيها إلى أثر العوامل الطبيعية على وقوع النهر لاحقاً في الأراضي الإيرانية، لاسيَّما إذا تم اتباع خط الثالويك Thalweg، وتسنّى لي متابعة شحّ المياه على المستوى العربي والدور الخارجي لتفاقم المشكلة، وبعد توقف الحرب وبُعيد غزو الكويت، كتبت مقالة في جريدة الحياة (1991) حول معركة المياه العربية، وبضمنها مسألة شط العرب، حيث تمت العودة إلى اتفاقية الجزائر الموقعة في 6 مارس لعام 1975 بين شاه إيران والرئيس السابق صدام حسين (عندما كان نائباً)، وعالجت ذلك لاحقاً في كتابي «عاصفة على بلاد الشمس» الصادر عام 1994، بتخصيص فقرة خاصة عن ذلك باعتبارها المعركة القادمة. ولم يكن بمقدوري تصوّر أن الأمر سيصل إلى ما نحن عليه، خصوصاً لما تعانيه بلاد الرافدين الآن، من عطش وشح في المياه.
وإذا كان ارتفاع بعض الأصوات ضد معاهدة 6 مارس عام 1975 بين بغداد وطهران لاعتبارات سياسية، فإن الأمر يتجاوز ذلك لأسباب تتعلق بمصالح العراق وأمنه الاستراتيجي، لاسيَّما أن النظام السابق قدّم تنازلات كبيرة لنظام شاه إيران، وبخاصة باعتبار خط الثالويك هو الحد الفاصل للحدود العراقية الإيرانية، وهو خط وهمي يمتد من وسط مجرى النهر عند أعمق نقطة فيه وحتى البحر، علماً بأن شط العرب ليس نهراً دولياً، وإن كان هناك جزء منه كحد فاصل للحدود، بل هو نهر وطني عراقي، وأن الضفة الشرقية اليُسرى له كانت هي الحدود الفاصلة بين البلدين، رغم أن المعاهدات التي تم التوقيع عليها سواءً في عهد الدولة العثمانية أو عند تأسيس المملكة العراقية وبخاصة معاهدة عام 1937 قدّمت بعض التنازلات لإيران.
وكانت آراء بعض الخبراء والمختصين قد تحدثت مبكراً عن احتمال ذهاب شط العرب -بسبب الطمي والغرين والعوامل الطوبوغرافية- إلى داخل إيران وانحساره عن العراق، وحسب بعض التقديرات فإن الأمر سيحصل خلال قرن من الزمان أو أكثر قليلاً، الأمر الذي تعتبر معه اتفاقية الجزائر تفريطاً بحقوق عراقية في المياه واليابسة، وبغض النظر عن بعض التبريرات السياسية، بما فيها السكوت عن المطالبة بالجزر العربية الثلاث التابعة لدولة الإمارات العربية (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى) فضلاً عن التصدّي لحركات المعارضة، بما فيها ثوار ظفار والمعارضة الإيرانية لنظام الشاه بحجة ملاحقة المتمردين، وكذلك للمعارضة العراقية السابقة، وبخاصة البيشمركة الأكراد، فإن الاتفاقية كانت لصالح إيران باستثناء وقف دعم الكرد العراقيين، الذي كان الهدف الأول للحكومة العراقية.
وإذا كان المحذور قد حصل، لاسيَّما بإشعال الحرب العراقية- الإيرانية، فإن من وصل السلطة من المعارضة لم يحرّك ساكناً، وهكذا تمت العودة الى اتفاقية الجزائر بعد حرب ضروس وظلّت هي التي تحكم العلاقات بين البلدين، وهي اتفاقية مجحفة ومذلّة وغير متكافئة، وقّعها نظامان أطيح بهما، لكن التأثيرات السلبية الخطيرة لها لا تزال تفعل فعلها، بل إن أحد رؤساء مجلس الحكم الانتقالي طالب بتعويض إيران مبلغ 100 مليار دولار بتحميل العراق مسؤولية الحرب، علماً بأن النظام الذي بدأ الحرب كان قد انتهى، حتى وإن كان يتحمل مسؤولية في شنّها، في حين أن إيران واصلت هذه الحرب، رغم إبداء العراق استعداده للجلوس إلى طاولة المفاوضات، ثم انسحابه منذ عام 1982 إثر معركة المحمرة (خورمشهر)، إلى أن وافقت إيران على القرار 598 الصادر في عام 1987، وتوقفت الحرب في 8/8/1988.
اليوم وبعد مرور 30 عاماً على اندلاع الحرب تزداد كارثة المياه في العراق، وهو ما نبّه إليه مركز علوم البحار ومحافظة البصرة وعدد من النواب، وذلك بسبب جفاف الكثير من الأنهار والروافد الصغيرة، إضافة إلى قطع وتحويل مياه بعض الأنهر والروافد، التي تصبُّ في مياه دجلة والفرات، وترافق ذلك مع حبس حصة العراق المائية في تركيا بسبب السدود الكبيرة، وتسبب ذلك في شحّ المياه في العراق، وبسبب عدم الاستقرار السياسي وضعف الحكومات المتعاقبة بعد احتلال العراق في عام 2003، وقبلها لأسباب الحصار الدولي وانشغال الحكومة بمشاكلها الداخلية، فقد تسلل العطش والتصحّر إلى محافظات كثيرة بما فيها البصرة «أم المياه» كما يقال، حيث أسهم بانجراف التربة البحرية وتهديد إغلاق القنوات الملاحية في البحر وإغلاق بعضها في المواني العراقية، مثلما هي قناة خور عبدالله بعد قرار مجلس الأمن 833 بشأن ترسيم الحدود العراقية- الكويتية.
إن هذا الوضع يتطلب بحث المسألة مع دول الجوار، لاسيَّما إيران وموضوع شط العرب وخور عبدالله والكويت ومياه حوضي دجلة والفرات والسدود التركية مع تركيا، إضافة إلى التفاهم مع سوريا على عمل مشترك وتنسيق المواقف إزاء حقوقهما لدى الجانب التركي وفي كمية المياه التي تأتي عن طريق سوريا في نهر الفرات.
إن ما يحصل اليوم هو بمثابة ناقوس خطر فيما يتعلق بالمياه الإقليمية والمواني العراقية والمنافذ البحرية، وينعكس ذلك سلباً على البيئة البحرية والموارد المائية، إضافة إلى تأثيراتها الاستراتيجية على مرور السفن والناقلات العراقية، حيث يخسر العراق سنوياً الكثير من أراضيه، بسبب النشاط الترسبي وعمليات التعرية، وهذه الأراضي تضاف إلى إيران.
إن شط العرب هو المنفذ الملاحي العراقي الوحيد إلى الخليج العربي، ويتألف من التقاء نهري دجلة والفرات عند كرمة على جنوب العراق، ويبلغ طوله 204 كم، ونصفه في العراق (بكلتا ضفتيه)، أما عرضه فيتراوح بين 400 متر أمام مدينة العشار ليصل إلى 1500 متر عند مصبه في الخليج.
ومع جميع التنازلات التي قدمتها الدولة العثمانية لبلاد فارس، فإن معاهدة إرضروم الأولى 1823 ومعاهدة إرضروم الثانية 1847، اعترفتا بأن الحدود تسير مع الضفة الشرقية اليسرى لشط العرب، أي أن الشط بقي بكامله داخل الأراضي العراقية باستثناء جزء منه اعتبر الخط الفاصل للحدود، وهو ما أكده بروتوكول طهران لعام 1911 وبروتوكول القسطنطينية لعام 1913، وبهذا المعنى فإن النهر كلّه ظلّ عراقياً، باستثناء موافقة الدولة العثمانية على بناء مرسىً أمام ميناء المحمرة (لمسافة نحو 7.5 كم)، وهو ما أقرّته اتفاقية عام 1937 وكذلك باعتراف وضع خاص مقابل مدينة عبادان طوله نحو 7 كم، مع تأكيد سيادة العراق وبقاء النهر مفتوحاً للسفن التجارية والأخرى ومراعاة خصوصية الوضع الإيراني.
وإزاء سوء العلاقات أقدمت إيران على إلغاء معاهدة عام 1937 من طرف واحد عام 1969، في حين ألغى العراق اتفاقية 6 مارس عام 1975 من طرف واحد أيضاً، تمهيداً لشن الحرب (17 سبتمبر 1980) وقامت الحرب بعدها بخمسة أيام.. وإذا كانت العلاقات بين الدول وتنظيم حياة المجتمعات تقوم على أساس الاتفاقيات والمعاهدات المبرمة بين الأطراف، وأنه يجب عليها احترام التزاماتها طبقاً لنظرية «العقد شريعة المتعاقدين»، حسبما تنص عليه معاهدة فيينا لعام 1969 (قانون المعاهدات)، الأمر الذي يقتضي الدخول في مفاوضات لاستعادة حقوق العراق، لاسيَّما المائية وإلاّ فإن الكارثة زاحفة لا محالة، ولن ينفع تشكيل كتلة دولة القانون أو القائمة العراقية للوزارة، إن لم تستند المفاوضات على إرادة شعبية وسيادة قانون واستقرار وحكومة قوية!

       

1041
حقيقة السجون السرية في العراق
   

عبدالحسين شعبان
تابع العالم أجمع بقلق وسخط شديدين ما نقلته وكالات الأنباء، بخصوص واقعة اكتشاف السجن السري الجديد في مطار المثنى في بغداد، فضلاً عما نقلته شاشات التلفاز ووكالات الأنباء والصحف، وخصوصاً الشهادات التي أدلى بها بعض النزلاء السابقين في هذه السجون السرية، التي كشفت عن معاناة فائقة ومأساة حقيقية لعشرات الآلاف من السجناء والمعتقلين .

ورغم تضارب التصريحات بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المنتهية ولايته ووزير الدفاع عبدالقادر العبيدي ووزيرة حقوق الانسان وجدان ميخائيل، حول نفي أو تأكيد وجود مثل هذه السجون، إلآّ أن الغموض والإبهام حول طبيعة هذه السجون جاء على لسان جميع المسؤولين بتأكيدهم أنها وإنْ كانت سجوناً غير سرية، إلاّ أنها سجون غير معروفة لأهالي المعتقلين ولا حتى لمحامي المحتجزين، الأمر الذي يجعلها في التكييف القانوني سجوناً سرّية بكل معنى الكلمة .

لقد عانى العراق طويلاً من انتهاكات حقوق الانسان وعرف ظاهرة السجون السرية والخاصة، إضافة الى ظاهرة التعذيب المزمنة، وهو ما كانت تمارسه جميع الحكومات من دون استثناء، لا سيما في عهد النظام السابق، حيث شهدت السجون والمعتقلات، السرّية والعلنية، مآسي حقيقية، بما فيها من تم إبعادهم من المهجرين العراقيين، وضاعت أخبار عشرات السياسيين في ظروف غامضة، بمن فيهم بعض أتباع الحزب الحاكم كما تفشت ظاهرة الاختفاء القسري على نحو صارخ، لكن ما حصل بعد احتلال العراق فاق جميع ما حصل من انتهاكات سافرة لمنظومة حقوق الإنسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ظل جميع الحكومات العراقية المتعاقبة، وبفترة زمنية قياسية، حيث تكدّس في السجون على مدى السنوات السبع الماضية عشرات الآلاف من العراقيين، من دون محاكمات أو تهم محددة في الغالب، وكانت الاعتقالات العشوائية، لشباب وفتيان بعضهم لم يبلغ سن الرشد في مناطق وأحياء كاملة تقريباً، جراء عمل إرهابي أو عمليات عسكرية، عنفية، تستهدف قوات حكومية أو قوات محتلة او ميليشيات مقرّبة من هذه المجموعة أو تلك من المجاميع المتنفذة، لا سيما التي في الحكم أو محسوبة عليه، وظلّت ظاهرة الاختفاء القسري مستشرية إضافة إلى ما شهده العراق من أعمال تطهير طائفي ومذهبي وعرقي، وهجرة الملايين من مناطقهم ونزوحهم إلى مناطق أخرى أو اختيارهم المنفى .

وكانت السجون السرية والسجون الطائرة والسجون العائمة قد أصبحت منذ أحداث 11سبتمبر/أيلول الإرهابية الإجرامية، التي حصلت في الولايات المتحدة ظاهرة شائعة، لا سيما سجن غوانتانامو الذي يقبع فيه حتى الآن مئات من المعتقلين، وفاحت رائحته الكريهة، الأمر الذي دعا الرئيس أوباما لإعلان إغلاقه كجزء من حملته الانتخابية، وأمرَ بذلك بُعيد وصوله إلى البيت الأبيض، لكن لم يلغ الآن، ولم يُنقل نزلاؤه، رغم سوء أوضاعهم باعتراف الجميع، بما فيه هيئات أمريكية، حقوقية، وأعضاء في الكونغرس .

كما شهدت أوروبا، لا سيما رومانيا وبولونيا وجود سجون سرّية على أراضيها رغم احتجاجات الرأي العام الأوروبي، وكانت طائرات أمريكية وغيرها تقوم بمهمة النقل والاحتفاظ بهم، وظلّت تطوف بالمعتقلين خافية ذلك عن الرأي العام ومنظمات حقوق الإنسان، مثلما شهدت البحار وبعض البواخر الكبرى معتقلات عائمة في وسط البحر من دون الإعلان عنهم أو تقديمهم الى القضاء، وكانت الذريعة انهم متهمون بالإرهاب وهم من الخطورة بمكان، ما يتطلب إسدال ستار كثيف حول وجودهم .

ولا شك أن الحكومات العراقية المتعاقبة، وبخاصة بعد الاحتلال لجأت إلى السجون السرية التي أصبحت هي الأخرى ظاهرة مقلقة، بحجة أن نزلاء هذه السجون من العناصر الإرهابية الخطرة، الأمر الذي يتنافى مع المواثيق والأعراف الدولية، بما فيها اللوائح السجنية . ولعل اكتشاف سجن مطار المثنى الذي يضم أكثر من 430 معتقلاً، وفي ظروف قاسية، أعاد مسألة المعتقلات السرية إلى الواجهة .

والمفارقة أن وسائل الإعلام الأمريكية كانت في كل مرّة هي التي تقوم بنشر وتصوير وإذاعة مثل هذه الأخبار كما في واقعة سجن أبو غريب، وفي واقعة سجن الجادرية العام 2005 وواقعة سجن رقم 4 في العام ،2006 وفي واقعة سجن المثنى مؤخراً، ولكن للأسف كانت تذهب جميع مطالبات انزال العقوبات الصارمة بالمرتكبين أدراج الرياح، بما فيها المطالبات الدولية بإغلاق سجن غوانتانامو والسجون السرية الأخرى، سواءً كانت طائرة أو عائمة .

وبالعودة للوضع العراقي فإن لجان التحقيق التي كانت الحكومات العراقية تقوم بتشكيلها في كلّ مرّة كانت تصل في غالب الأحيان إلى طريق مسدود، وإنْ توصلت إلى اتهام بعض المرتكبين وصدور مذكرات اعتقال بحقهم، إلاّ أنها لم تنفّذ باستمرار، الأمر الذي يحمّل السلطات الحكومية المسؤولية الأساسية .

ولعل من أولى مهمات المفوضية السامية لحقوق الإنسان والمنظمات الدولية الأخرى هو القيام بإرسال لجان تقصّي حقائق وزيارة السجون والالتقاء بعوائل الضحايا وبالضحايا أنفسهم، وسماع شهادات لخبراء ومختصين وناشطين، لا سيما من نقابة المحامين العراقية والهيئات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان وغيرها، علماً بأن الكثير من الضحايا موجود حالياً خارج العراق أيضاً .

وبخصوص المسؤوليات الأخرى فإن القوات المحتلة لا يمكن أن تعفي نفسها من المسؤولية، بحكم احتلالها للعراق بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام ،1977 الأمر الذي يتطلب مساءلات قانونية ناهيكم ما تفرضه الاتفاقية العراقية - الأمريكية من التزامات، بغض النظر عن تعارض هذه الأخيرة مع قواعد القانون الدولي، باعتبارها اتفاقية غير متكافئة بين طرفين أحدهما قوي والآخر ضعيف، ولا بدّ من تقديم المرتكبين الى القضاء لينالوا جزاءهم العادل، خصوصاً وأن جرائم التعذيب والحطّ من الكرامة لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن للقوات المحتلة أن تعفي نفسها من هذه المسؤولية بحكم التزاماتها الدولية طبقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني .

لعل الرأي العام العربي والدولي بجميع مكوّناته وبمنظمات حقوق الإنسان والهيئات الحقوقية والنقابية جميعها مطالبة برفع صوت الاحتجاج وتوجيه رسائل إلى الحكومة العراقية تطالبها بوضع حد لهذه الظواهر المشينة وكشف بقايا السجون السرية ومحاسبة المسؤولين عنها بمن فيهم من أصدر الأوامر أو تستّر عليها أو مارس التعذيب، وذلك بهدف كشف الحقيقة وإنفاذ العدالة وإنزال أقصى العقوبات بالمرتكبين والمتواطئين، والأهم في كل ذلك هو جلاء حقيقة السجون السرية وحقيقة المأساة العراقية المستمرة .

باحث ومفكر عربي

1042
المنبر الحر / حلم وردي مرعب!
« في: 18:15 03/05/2010  »
حلم وردي مرعب!

عبدالحسين شعبان

2010-05-03
منذ ثلاثة وعشرين عاماً وأنا أتطلع إلى هذه اللحظة، وربما ذلك الحلم, أن أستيقظ صباحاً لأجد نفسي في بغداد، ولكن دون دكتاتورية ودون وجوه وقسمات قاسية لغلاظ القلوب والقساة بلا رحمة.
هكذا كنت أحلم باستمرار، وكنت كلما يراودني ذلك الحلم ويحتل كل عقلي وكياني، أشد الرحال متسللاً إلى كردستان، وفي كل مرة كنت أختار طريقاً، لعل وصولي يكون أقرب إلى أرض الوطن... هناك حيث ذكرياتي وأيام صباي وفتوتي وأحلامي الملقاة على قارعة الطريق. كنت أتساءل: لماذا غادرت نجفك الأشرف، وبغدادك الحبيبة؟ ألكي تشيخ وتهرم في المنافي الباردة؟! وقد تعود أو لا تعود إلى الوطن، في جنازة «مرخّصة» أو «تابوت» غير مسموح له بالعبور؟!.
ألم تصرخ ذات يوم كفانا رحيلاً، فقد بتُّ أكره تمر بلادي المغلّف بـ «السيلفون» والمكتوب عليه للتصدير, أتراك تترك كل أطايب الدنيا حين تتذوق رطباً من عسق البرحي الذهبي؟ أنسيت حين كنتَ تمدّد قدميك في ساقية متفرعة من نهر دجلة أو في التاجي, أو عند شط الكوفة التابع للفرات، وتحلم، بل تستغرق في الحلم، وتسبح حتى ينقضي النهار، وتأكل من تلك التكيّة اللذيذة التي تحتمي تحتها من القيظ، قرب قصر الملك, وكأن الحلم كان مرتبطاً دائماً بعلاقتك بالماء، سواء كان نهرا أم بحراً. هكذا تحلم وأنت بعيد عن بغداد!.
نعم يا صديقي
لكن الضرورة، الحرية، هناك وراء ذلك الإصرار، وهذا العناد وربما المكابرة, وليس هناك أي شيء أغلى ثمناً من الحرية والكرامة.
تراك تردد مع نفسك بمناسبة وبدونها: عندما أكون في بغداد أفكر في المنفى، لعلّي أنفذ بجلدي, وأفلت من يد ذلك الذئب المفترس, الذي ظل يترصدني، وعندما تكون في المنفى تظل بغداد هي هاجسك الأول وربما الأخير، وبين الأول والأخير هواجس إنسانية وحساسيات فكرية وثقافية، وهموم ومشاغل سياسية وأخلاقية كثيرة.
كم مرة فعلتها؟ كم مرة افترشت الجبال غطاءً ووسادة؟ وكم مرة اخترقت المسافات والصحاري؟ ودخلت وخرجت من الوطن، متوجساً، مرتاباً، خائفاً، على ظهر دابة، أو سيارات قديمة أو «تراكتور» أو مشياً على الأقدام... بوثائق يتم تصنيعها عند الحاجة أو حتى من دونها.
اللعنة. هذه المرة تدخل بغداد وأنت حر طليق، ولكنك حزين وكئيب وكأنك تحضر مأتماً، حتى صور التلفاز المرعبة كانت ملوَّنة ومتحركة، قياساً بالكابوس. ألست تقول إنك تريد بغداد بلا طغاة, إنهم رحلوا، ولم يتركوا في قلب ملايين الناس أية حسرة أو لوعة لهذا السقوط المدوي، فلماذا لا يفارقك الحزن والكآبة والشعور بالذل أيها العراقي المتوّجس؟.
عند مشارف بغداد، بدأت أستعيد ملامحها، وصورها، وحاراتها، وأزقتها، ونساءها، وقبابها، وجوامعها، وجامعاتها، وحاناتها، وكنت أبكي دماً, أبكي بصمت... اللعنة مرة أخرى، أهذه هي بغداد التي تركناها؟ كيف دهمتها البادية واحتلها الريف وتصحرت إلى هذا الحد؟ لماذا كل هذا الخراب؟ فكلُّ شيء كان يشي بأن هناك انحطاطا وتخلفا ووحشية، وانعدام ذوق، لا علاقة له بالحروب والحصار، إنما الخراب كان أعمّ وأشمل... فهو خراب للعقول والنفوس والعمران والحضارة والثقافة والقيّم... زاده الاحتلال تشوهاً، يوم فقس بيض الهمجية والتخلف والقمع والجوع والمهانة، والفوضى لتغيّر وجه المدينة الفارهة الجميلة الأليفة.
عند المشارف مرة أخرى, ضعت بين الحلم والذاكرة، فداهمني انبلاج الفجر الجميل وكأنه لا يريد لعينيّ أن تكتحل برؤية بغداد -وأنا في هذا الجو الكابوسي المتوتر- إلا وهو يعيد إليَّ هواجسي القديمة-الجديدة... إنه الجندي الأميركي من على سطح الدبابة, موجهاً سلاحه وكأنه في ساحة معركة، يبدو أنها حامية الوطيس، إذن كيف يقولون إن المعركة قد انتهت وإنهم انتصروا؟.
قلت: هذه هي بغداد, نكون فيها ونحن نتطلع إلى الخلاص يوماً بعد آخر، ما إن يرحل طاغية أو غاز إلا ويحل آخر, وعندما نكون خارجها نعيش معها بكل جوارحنا, نحلم بالعودة إليها, هذه الحبيبة الملتاعة، المستنجدة، الضاحكة, الباكية, المكسورة. وكأنني أستذكر الجواهري الكبير وما قاله في بغداد:
لا درّ درّك في ربوع دياري  قرب المزار لها كبعد مزاري
والنجف والسلام ماذا تبقى منهما؟ لقد مسحوا ذاكرتنا، حوّلوا صروحاً حضارية وتاريخية وذات دلالة دينية وعمرانية إلى شوارع. كذلك اختفت مدرسة الخليلي وحسينية الشترلية وبيوت آل شعبان وعكَد السلام العتيد، مسقط رأسي. شعرت أن جزءا من ذاكرتي الطفولية تحول إلى حجر و «كونكريت» وإسفلت، وكذلك الدرّعية منبع ثورة العشرين ورجالاتها من شيوخ آل كلل: الحاج عطية وصحبه، وكذلك منطقة الطارات الجميلة، ذات الكهوف والوديان، وكوخ المناضل حسين سلطان والزواريب والنهيرات، وبحر النجف، كل ذلك تحوّل إلى يَباب قاحل.
ومقبرة الغري الشهيرة، ماذا حل بها؟ لقد فتحوا شوارع داخلها ومسحوا قبور الآباء والأجداد، لكي لا تتحول إلى مركز يختفي فيه من يعارض السلطة، كما حصل في عام 1991, هكذا مسحوا الذاكرة بتغيير الخرائط، ومسحوا القبور لكي يقلعوا الجذور، وما بين القبور والجذور الشيء الكثير، حضارة وعمران وجمال وتاريخ وتحديات، ندخرها ليوم نريد فيه العراق حرا، مستقلاً، سعيداً وسيداً!.
قضيت نهاراً كاملاً أفتش عن قبر والدي، الذي ابتلعه الإسفلت, عندما رفضوا دفنه في المقبرة الخاصة بالعائلة وفي الصحن الشريف بجوار الإمام علي، مثلما هي طقوس ومقامات أفراد العائلة الأوائل وعائلات أخرى، خصوصاً من سدنة الروضة الحيدرية، وكنت أتمنى أن يدفن
والدي بجوار جدي, الشيخ جابر شعبان, عند مدخل الحضرة وبالقرب من باب الذهب، أو في مقبرة العائلة في الصحن بجوار جدي الحاج حمود شعبان, وأعمامي الدكتور عبد الأمير, وضياء شعبان, والعشرات من وجهاء العائلة.
لقد اضطرت العائلة إلى دفنه في مقبرة السلام, ولكن أحداث عام 1991, واختفاء بضعة مئات من المنتفضين في المقابر وقتالهم لعدة أيام، دفع الحكام إلى إصدار قرار بشق شوارع داخل مقبرة الغري، لكي تتحرك السيارات بسهولة، وبالتالي لم يعد بإمكان أحد الاختفاء فيها.
هكذا يتحول الموتى إلى وسيلة للقضاء على الأحياء، فحتى الموتى يمكن استغلالهم، وللسياسة قوانينها اللاقانونية، ولعلي بعد إلقاء محاضرتي في فندق النجف السياحي الكبير أستعيد ما تبقى في مخزون ذاكرتي، لكن ما داهمني كان أقرب إلى الكابوس، عندما رأيت جنوداً أميركيين يأكلون الكباب، فشعرت بألم قرحتي المزمنة يصعد إلى أنفي، فعدت من حيث أتيت.
لعل ذلك كان شهادة حضور, هي أقرب إلى شهادة غياب عن أول زيارة إلى بغداد بعد الاحتلال.


   

1043
ثقافة التغيير وتغيير الثقافة

عبدالحسين شعبان


2010-04-26
منذ ما يزيد على عقدين ونيّف من الزمان، بدأت الكثير من الحركات السياسية تعلن عن مزاوجة أو تلقيح برامجها بفكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان والتطور التدريجي والتراكم الطويل الأمد، وهو أمر إيجابي إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن التطورات الانقلابية الثورية قد عادت القهقرى، وتراجعت على نحو ارتدادي، لدرجة أن عملية التغيير ذاتها تأخرت وانقلبت إلى الضد منها.
وإذا كانت الديمقراطية قد أصبحت مسألة مركزية لكنها لم تهبط هكذا مرّة واحدة، بل هي بحاجة إلى ثقافة وتراكم، ولا بدّ أن تكون ضمن سياق المراجعة الشاملة والنقد الذاتي لمجمل الأطروحات السابقة، وليس الانتقال من ضفة إلى أخرى؛ إذْ لم يعد بالإمكان تجاوزها أو الاستخفاف بها وتبرير حجرها بمزاعم مختلفة، لكن إعلان الانفصال عن الماضي وثقافته الخاصة الانقلابية واستبعاد «العنف الثوري» وما له علاقة بعموم ثقافة الحرب الباردة والصراعات الأيديولوجية والاستقطاب الدولي، يتطلب ترسيخ ثقافة جديدة، ما تزال رغم ادعاء تبنيّها بعيدة المنال حتى الآن.
لقد كانت هزيمة الاشتراكية «المطبقة» في الاتحاد السوفييتي وتوابعها بما فيها بعض أنظمة وحركات التحرر الوطني سبباً في هجران الكثير من الماركسيين والقوميين والإسلاميين (ودعاة الفكر الشمولي حتى البارحة) وانقلابهم فجأة إلى ليبراليين جدد، يبشرون بقيم السوق وبفضائل الرأسمالية، ويزدرون الاشتراكية المرذولة. لكن السعي للمصالحة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان من جهة وبين الفكر السائد الثوري من جهة أخرى لم يكن الأول من نوعه، فقد جرت في الخمسينيات مثل هذه المحاولات التوفيقية بين الاشتراكية والإسلام، ولاحظنا كمًّا هائلاً من المنشورات والأطروحات لإعلان الزواج أو التعشيق وحسن العلاقة، أو الارتباط بين فكرة الاشتراكية وبين الفكرة الإسلامية أو الفكرة القومية بزعم عدم وجود تعارض أو اختلاف بين جوهر الإسلام والعدالة الاجتماعية، القائمة على الاشتراكية وبين الفكرة القومية والاشتراكية أو العدالة الاجتماعية حسب الأطروحات التي كانت سائدة.
إن التخلي عن نظرية «الثورة المسلحة» والانتقال إلى فكرة التداول السلمي للسلطة وإقرار التعددية وحق الاختلاف ودور المجتمع المدني، خصوصاً في ظل انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية وتفكك المنظومة الاشتراكية، وكذلك في ظل انفتاح السوق وتكنولوجيا الإعلام وثورة الاتصالات والمعلومات، استوجب إعادة النظر في الكثير من القضايا، فهل فشل المشروع التغييري الثوري العنفي والإرادي، الأمر الذي يعني قطيعة ابستمولوجية مع فكرة الثورة المسلحة؟ أم أن وصول الرهان الثوري إلى طريق مسدود قد أدى إلى استبدال أو تغيير الوسائل دون تغيير المضامين؟
ولكن من جهة أخرى هل سيكون الرهان الجديد القائم على الديمقراطية وحقوق الإنسان والتطور التدريجي وسيلة جديدة لتحقيق الحلم الثوري، أم أن الانهيار والإحباط دفع بعض الأوساط الثورية لتغيير رحيلها واستبدال مناهجها؟ أي هل ستكون الديمقراطية بدلا عن الاشتراكية أو الوحدة أو الثورة الإسلامية، أطروحة خلاص أيديولوجي وخشبة نجاة عقائدية يتم التشبث بها، مثلما كان في الماضي يتم التمسك بأهداب فكرة الثورة المسلّحة؟ وينطبق الأمر بالنسبة للحركات الإسلامية والقومية والماركسية على حد سواء، ولعل هذا سيعني العودة إلى فكرة كانت مستساغة إلى حدود كبيرة، أساسها: أن التحول المطلوب ينجز من القمة وليس من القاعدة، وفي ذلك ليس سوى أسلوب جديد لفكر عتيق، لاسيَّما إذا أهمل الثقافة.
وإذا كانت أميركا اللاتينية قد حوّلت البندقية من الكتف الأيمن إلى الأيسر، لاسيَّما بالانتقال بالثورة من الكفاح المسلح إلى «لاهوت التحرير» والإقرار بدور الكنيسة في عملية التغيير، ومن ثم رفع شعار «الثورة في صندوق الاقتراع» وما أفرزه من تحوّلات في عدد من البلدان الأميركية الجنوبية، وعودة جديدة لحضور اليسار، فإن واقع الحال العربي قد سار من نكوص إلى نكوص، ومن تراجع إلى تهميش وتبديد لدور القوى اليسارية، الأمر الذي يعني أن القراءة للواقع ما زالت مغلوطة، وأن التشبث بالمنقذ الأيديولوجي ما زال مستمراً وإنْ تغيّر عنوانه.
لعل أزمة المشروع الحداثي العربي، لا تكمن في عملية الإخفاق في نصف القرن الماضي على الصعيد السياسي أو على صعيد التنمية فحسب، بل في منظومة التوجّه الثقافي. ولعلي هنا أتوقف عند فكرة أو سؤال: هل يمكن إنجاز مشروع اجتماعي تغييري حداثي من دون مشروع ثقافي حقيقي؟ وهو في جانب سياسي منه ينتسب إلى فكرة لينين بالقول «لا حركة ثورية من دون نظرية ثورية»، فالبعد الثقافي في عملية التحوّل لم يكن بالمستوى الذي يتطلبه اللحاق بالمشروع السياسي أو الاقتصادي. وظلت الثقافة في حالة الهيمنة والتخلف والعزل ترفاً فكرياً في الغالب في مجتمعات تعاني الأمية والعوز وانعدام أبسط متطلبات الحياة، ناهيكم عن الافتقار إلى مقوّمات حرية التعبير، يُضاف إليها عدوان واحتلال وحروب وحصار.
لقد هيأت الثورة الفرنسية عام 1789 أساسها الثقافي في حركة واسعة وناشطة للتغيير من مونتسكيو وروسو إلى فولتير وغيرهم، وعندما انتصرت كانت البيئة الثقافية مهيأة لقبول مُثل الحرية والإخاء والمساواة، الشعارات الأساسية التي رفعتها، في حين أن التجربة العربية المعاصرة لم تستطع توفير مستلزمات التغيير الثقافي، ليتم استكمال وتطوير المنجز السياسي والسير بالتوجهات التنموية إلى حيث تهدف.
إن انهيار تجربة الموديل «النموذج» الأصل سواءً كان اشتراكياً أو قومياً أو إسلامياً، قاد العديد من النخب العربية من الموزاييك الفكري الثلاثي إلى البحث عن الأسباب الحقيقية لإخفاق المشاريع الثورية الراديكالية، بإيلاء دور أكبر للعامل الثقافي، خصوصاً باستعادة الفكر الإصلاحي لمحمد عبده، والتجديد الثقافي لطه حسين، ومحاولات نقد الفكر العربي لمفكرين من أصول يسارية قومية أو اشتراكية مثل: ياسين الحافظ وعبدالله العروي وإلياس مرقص، وتقديم قراءات جديدة ذات أبعاد ماركسية مثلما حاول إسماعيل صبري عبدالله وسمير أمين وغيرهما.
مثلما هي محاولة قراءة التاريخ العربي الإسلامي لحسين مروة ومهدي عامل وهادي العلوي قراءة انتقادية بإيلاء دور أكبر للجانب الديني (الإسلام) في ثقافة المجتمع والأمة الذي ترسخ عبر أكثر من 1400 عام، وبعيداً عن بعض المحاولات السلفية والأصولية، بل قراءة بروح العصر ووفقاً لمنطق التطور التاريخي الدولي رغم محاولات التكييف التي لم تخلُ من إرادة وتعسف أحياناً، مع الأخذ بعين الاعتبار محاولات مفكرين إسلاميين مثل: محمد باقر الصدر ومحمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين ومحمود طه والغزالي وفهمي هويدي ومحمد سليم العوّا وطارق البشري وحسن حنفي وغيرهم.
لكن انهيار الكتلة الاشتراكية دفع أوساطاً غير قليلة من اليسار الراديكالي المتشدد إلى الكفر بالاشتراكية والثورة وقيمهما بدلاً من مراجعة أسباب الإخفاق وتطوير وتجديد النظرية، وعندما أرادوا الالتحاق بالمشروع الليبرالي الجديد الذي لا يجمعه جامع مع الفكر الليبرالي، كانوا مثل الأيتام على مائدة اللئام، والأمر يشمل بعض القوميين والإسلاميين أيضاً.
إن الوعي بأهمية العامل الثقافي في عملية التغيير، يضع مسألة نقد السلطة ونقد المجتمع بما فيها النخب السياسية والفكرية من التيارات المختلفة، وسيلة لإزالة التغليف الأيديولوجي حسب اصطلاح ماركس في نقد «الأيديولوجيا الألمانية» أو وفقاً لألتوسير بحديثه عن الأيديولوجيا وأجهزة الدولة بصفتها وعياً زائفاً أو مغلوطاً، وذلك بإعطاء «المشروع الثقافي» لعملية التغيير الاعتبار الذي يستحقه كتراكم للتطور التدريجي السلمي للمجتمع والدولة والنخب الفكرية والسياسية والدينية.



1044
الثقافة والشرعية: الوعي الموروث
   


عبدالحسين شعبان
مثّلت فكرة الثورة حقبة مهمة من الوعي المعاصر، فقد كان الاعتقاد السائد أن بإمكان “الثورة” اختصار طريق التغيير والإمساك بالسلطة السياسية التي بإمكانها إنجاز التحوّل السريع والجذري، بإقصاء “العدو” والتحكّم بمسار الدولة لتحقيق مآل الثورة .

لقد حكمت هذه الفكرة نصف القرن الماضي كله تقريباً على المستوى العربي فشكلت أساساً متيناً وصلباً من أساسات الوعي العربي لشرائح وتيارات سياسية مهمة . ونسج القوميون العرب فكرهم “الانقلابي” حسب ميشيل عفلق واستناداً إلى ساطع الحصري بنقض الدولة القطرية، المستندة إلى التجزئة، في حين نقض الإسلاميون وبخاصة “الاخوان” والجماعات الإسلامية التي تلتها، العقيدة السياسية للدولة مثلما فعل حسن البنا وسيد قطب .

وتوجّه اشتراكيون عروبيون إلى نقض الدولة القطرية ذات التبعية الاستعمارية بالسعي لتلقيح الوحدة بالاشتراكية أو بالعدالة الاجتماعية، مثلما فعل قسطنطين زريق وياسين الحافظ وغيرهما بإعلان الثورة المزدوجة .

أما “الماركسيون” العرب وشيوعيو العالم الثالث عموماً فقد كانوا ورثة الثورة البلشفية التي وجدوا فيها الحل السحري لجميع المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمجتمع القطري كل على حدة، فكل شيء قابل للتغيير بالثورة، وبعنفها تلغي الطبقات المخلوعة، والعنف الثوري حسب ماركس هو قاطرة التاريخ، وحسب ريجيس دوبريه هو “مضخّة التاريخ”، وازدهرت هذه الفكرة خلال الموجة الجيفارية الرومانسية في الستينات .

وتأثر بهذا المنطق الثوري الكثير من القوميين العرب، سواء، الحركة الناصرية أو البعثية أو فروع المقاومة الفلسطينية وبخاصة الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش والجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة وغيرهما وكذلك “ثوار اليمن” (الجنوبي) . وكانت تجربة ثورة ردفان قد سارت بقفزات وتطورات دراماتيكية بقياداتها “الثورية” والحالمة والانقلابية مثل سالمين وعبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد وغيرهم، وبالإمكان إضافة البنبلية (بن بلا) والبومدينية (بومدين) الجزائرية أيضاً، من دون نسيان الحركة القذافية الجماهيرية الثورية و”كتابها الأخضر”، مع وقفة خاصة للتجربتين في العراق وسوريا، لاسيما وهما الأطول عمراً بين التجارب “الثورية” الانقلابية العربية، ويمكن إضافة التجربة الإسلاموية السودانية إلى ذلك .

الجامع الأساسي والمشترك لجميع هذه التجارب والتيارات الفكرية القوموية والإسلاموية والماركسيوية هو ازدراء فكرة التطور التدريجي والإصلاحي باعتباره فكراً يمينياً لا يرتقي إلى صعيد التغيير الجذري الذي تنشده هذه القوى، وصولاً للحداثة في فهمها الملتبس حسب تفسيرات القوى المختلفة . وأقامت جميع القوى شرعيتها على فكرة الثورة بإدعاء امتلاك الحقيقة والتعبير عن وجدان الشارع العربي ضد نظم التبعية والاقطاع والملكية الممالئة للاستعمار والامبريالية .

المرتكز الذي استندت إليه التيارات الثوروية  الارادوية هو “الشرعية الثورية” الذي برّر أحياناً التجاوز على الشرعية الدستورية، بل ازدرى مضمونها أو حوّلها إلى شكلانية بتطويعها لخدمة المنطق الثوروي، وذلك بتأكيد أن طريق الخلاص الأساسي والانتقال إلى المجتمع المنشود يمرّ عبر السلطة السياسية التي بإمكانها وحدها وبقدرة خارقة تحقيق عملية التغيير وتثوير المجتمع، وذلك بالاستناد إلى أداة سياسية، أي حزب أو تنظيم ثوري ليقوم بالمهمة الجليلة .

وقد استعارت الحركات القومية والإسلامية شكل وهيكلية الإدارة ودورها من الفكرة الماركسية عن دور الحزب الطليعي الذي طوره لينين في كتابه “ما العمل” العام ،1903 حين تحدث عن “حزب من طراز جديد ذي ضبط حديدي شبه عسكري”، بدحض الفكرة التي نادى بها مارتوف والتي وصفها لينين “بالمائعة” وفي ما بعد الاتجاه التروتسكي الذي وصفه ب “المغامر” وبخاصة في العهد الستاليني .

وظلت أطروحتا “الحزب الفولاذي” و”العنف الثوري” اللتين اصطفّ حولهما الماركسيون والشيوعيون “الثوريون” إضافة إلى اليساريين القوميين والإسلاميين الراديكاليين بتمييز أنفسهم عن الاتجاهات “اليمينية” في الحركة الثورية، الأرجوزة التي تتردد على الأفواه بادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة والتعالي على الآخرين .

وحسب وجهات النظر تلك يستحيل تحقيق فكرة التحوّل المنشود بالوصول إلى السلطة السياسية من دون العنف الثوري، تلك المسألة التي اعتبرها لينين جوهر كل ثورة وواجب كل حزب ثوري، سواء كانت ثورة شعبية أو كفاحاً مسلحاً، أو انتفاضة مسلحة أو انقلاباً عسكرياً . وهكذا لم يكن التيار الشيوعي وحده لينينياً، بل كان التيار القومي والإسلامي لينينياً أيضاً من حيث مفهوم الحزب والعنف الثوري .

هذه هي المرحلة الأولى من الثورة “السياسية”، إذا شئنا ترميزها، أما الخطوة التالية فتبدأ من لحظة الوثوب إلى السلطة بإيلاء الاهتمام المطلوب بالاقتصاد باعتباره “التعبير المكثف للسياسة”، وتقوم هذه المرحلة على فكرة السيطرة على وسائل الإنتاج وتجريد “العدو الطبقي” من مصادر نفوذه السياسية والاقتصادية، أي بالهيمنة والتحكّم بمسار الدولة من أصغر القضايا حتى أعقدها .

وكان وصول هذه الفكرة إلى طريق مسدود بل عسير، قد اضطر العديد من الماركسيين والقوميين والإسلاميين إلى إكثار الحديث، عن “التنمية المستقلة”، لاسيما في الفترة الأخيرة في عهد العولمة لتخطي عتبة التخلف، ولمواجهة الاستكبار العالمي حسب الإسلاميين، وذلك تعويضاً عن فكرة التأميم الشامل لوسائل الإنتاج التي طبعت الغالبية الساحقة من التجارب الثورية، رغم أن الأوضاع سارت باتجاه معاكس .

ويذهب المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز في كتابه “في البدء كانت الثقافة” إلى القول إن القوميين نظروا إلى الثورة الاقتصادية كضرورة لوجود كيان قومي عربي في إطار المعركة ضد الاستعمار، في حين أرادها الماركسيون مرحلة انتقالية صوب الاشتراكية، ولذلك أطلقوا على البلدان التي أحرزت الاستقلال السياسي “بلدان التحرر الوطني” وأنظمة التطور اللارأسمالي أو “بلدان التوجّه الاشتراكي” .

وفي تجربة الأصل والفرع، فإن المشروع التنموي  الاقتصادي الثوري، قام على فكرة التأميمات الشاملة أو الغالبة، وتعزيز دور الدولة وتحديد سقف الملكية الزراعية وتأكيد دور التنظيم السياسي “الطليعة” واستخدام الإعلام “وسيلة أساسية لنشر الايديولوجيا”، ولتصفية ايديولوجية الخصم الطبقي البرجوازي أو غير الوحدوي أو الكافر . . . إلخ، لكن فكرة التحوّل الثوري السياسي والاقتصادي حسب الأطروحات القومية والماركسية وفي ما بعد الإسلامية، رغم عدم اكتمال المشروع الإسلامي المعاصر، وصلت هي الأخرى إلى طريق مسدود، باستثناء سباحة باتجاه آخر ضد التيار، مثلما هي فكرة الحكومة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي والبنك اللاربوي باستعارة كتابات الإمام الخميني وخصوصاً كتابه “الحكومة الإسلامية” ومحمد باقر الصدر وكتابه “فلسفتنا” وكتابات حديثة مثل فهمي هويدي وراشد الغنوشي وحسن حنفي ومحمد سليم العوا وطارق البشري وغيرهم .

وكشفت التجربة السوفييتية الماركسية وملاحقها ومصر الناصرية وتقليداتها وإيران الإسلامية وشبيهاتها الفارق الشاسع والهوة العميقة بين إرادة التغيير الثوري والواقع الثقافي القاسي بتضاريسه ومنعطفاته .

باحث ومفكر عربي


1045
الجواهري وسعد صالح: صديقان وثالثهما الشعر!

          كان يمكن أن أستبدل كلمة «صديقان» الواردة في عنوان المقالة هذه، لأضع بدلها «كتابان.. وثالثهما الشعر»، إشارة إلى كتابي عن «الجواهري - جدل الشعر والحياة» وكتابي عن «سعد صالح - الضوء والظل - الوسطية والفرصة الضائعة».
          وقبل أن أتناول أركان الصداقة بين الجواهري وسعد صالح، أود أن أشير إلى أن الجواهري في حواراته المطوّلة معي، المنشور قسم منها في كتابي، والقسم غير المنشور والذي أعدّه للطبع، إضافة إلى مذكراته بجزئيها المنشورة في حياته، يأتي على ذكر سعد صالح في عدد من المرات ليقول بتأس: «لقد رحل وهو في عنفوان عطائه، وتفتق مواهبه وكفاءاته، لا أدري إذا كان قد رأى بعض الحقائق مثلنا! لكنني دائماً أتساءل مع نفسي، من أين أتت هذه النزعة الوسطية في مجتمع متناقض ومحتدم ومتعصب وحاد الاستقطاب».
          ويرى الجواهري ومثله كثيرون «أن ساحة السياسة والإدارة حين كسبت سعد صالح، فإن ساحة الثقافة والأدب خسرته شاعراً مبدعاً، ومثقفاً بارزاً، وتعكس لغته الجميلة ومقالاته وخطبه ونثره نموذجاً متقدماً في حينه".
          يقول الدبلوماسي والمؤرخ العراقي نجدت فتحي صفوت، في تقييمه لسعد صالح: «إن بغداد شهدت - «أي فترة الأربعينيات» - مولد شيء جديد هو الأدب السياسي، وكان سعد صالح الأديب الموهوب، والكاتب الملهم، قد عاد بعد استقالته «استقالة وزارة توفيق السويدي التي كان فيها وزيراً للداخلية» إلى جريدة الأحرار معارضاً يكتب افتتاحياتها بعقل السياسي الناضج، وقلم الشاعر الناقد، الذي أخذ البلاغة من جميع جوانبها، فكانت مقالاته حديث النوادي الأدبية قبل المجالس السياسية". ويضيف صفوت: أن سعد صالح اتصف في جميع مراحل حياته بالنزاهة والاستقامة، وكان خطيباً برلمانياً جريئاً ومعارضاً حرّ الرأي، صُلب العقيدة، ثابت المبدأ، لم يتوان عن دعوته إلى الإصلاح، وكان إضافة إلى خبرته الإدارية وحنكته السياسية، أديباً ضليعاً وشاعراً مطبوعاً، خصب القريحة، ولو لم تستأثر الإدارة والسياسة بمعظم وقته لكان له في عالم الأدب شأن كبير.
          ويعتبر المؤرخ اللبناني حسن الأمين «الحياة 18 / 2 / 1992»: أن الأربعينيات هي التي أطلقت بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعاتكة الخزرجي ولميعة عباس عمارة وبلند الحيدري رواد الشعر الحر، إلا أنه لم يول تأريخ تلك الفترة أية عناية، وكان الأبرز في ذلك، كسياسي بدأ نجمه يسطع شعبياً ونيابياً، باعتباره رجل مبادئ وقيم وذا كفاءة قيادية وفكرية، مضافاً إلى ذلك أنه شاعر مجيد، وكاتب متفوق، وخطيب، إنه سعد صالح.
أركان الصداقة
          صداقة الجواهري وسعد صالح أركانها عشرة:
          الركن الأول: ولادتهما ونشأتهما في عمر متقارب في النجف، المنبع الأول، حيث التمرّد الأول، والمشاكسة والتطلع للتجديد والتغيير ورفض الواقع السياسي والاجتماعي.
          الركن الثاني: دراستهما في الحوزة العلمية، لاسيما في منهجها التمهيدي المعروف باسم «المقدمات»، وبخاصة في دراسة الفقه والعلوم الدينية واللغة والعروض.
          الركن الثالث: شجاعتهما، فقد عرف سعد صالح ثائراً وكان له دور مهم في ثورة العشرين، لاسيما بنقل الرسائل بين معقل الثورة وقيادتها في النجف والفرات الأوسط وبين بغداد، واتصاله بمحمد جعفر أبو التمن ومحمد الصدر، كما كان الجواهري يومها قد عرف طريقه إلى المشاركة في الثورة، وكتابة أولى قصائده تمجيداً لها، ومثلما عُرف سعد صالح خطيباً، غير هيّاب، كان الجواهري يعتلي المنابر ليقرّع الحكام وينزل الحمم على رءوسهم، يتحدّاهم، غير عابئ بما ترتبه هذه المواجهة، وكان سعد صالح يندد بالظلم والفساد وسوء الحكم من خلال قبّة البرلمان، الأمر الذي قال عنه كامل الجادرجي زعيم التيار الوطني الليبرالي «لم أشعر قط بأني قد اتقت مع أي سياسي من حزب آخر، اتفاقي وسعد صالح في أيامه الأخيرة».
          الركن الرابع: انغمارهما في الأدب، كونهما شاعرين مجيدين، الجواهري اعتلى منصة الشعر وجلس على مقاعده الذهبية تاركاً ما سواه فناً ومزاجاً وفضاءً، وسعد صالح ظل الشعر رفيقه وصديقه، بالرغم من انغماره في عمله الوظيفي، ولعل رثاءه لنفسه كان آخر لقاء بينه وبين الشعر في قصيدة الأشباح، فكأنه أراد أن يودّع الحياة بالشعر وكان كلاهما غير هيّاب بالموت، الشبح الذي ظل يترصدهما، فالجواهري منذ الثلاثينيات اعتبر الموت كالذئب الذي يريد أن يفترسه وظل يطارده من مكان إلى آخر، في حين تمكن الموت سريعاً من سعد صالح، لكن كليهما واجها حياتهما مثلما واجها حتفهما بشجاعة، والجواهري ساوى بين الحياة والموت حين قال:
          وأركب الهول في ريعان مأمنةٍ
                                        حبّ الحياة بحبّ الموت يُغريني

          إذاً هو لم يحاول الزوغان من ذلك الذئب وكانت تتساوى عنده الحياة والموت، لاسيما لأنه يريد العيش في عز، وكما يقول الشاعر:
          لا تسقني كأس الحياة بذلةٍ
                                        بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل

          أما سعد صالح فيخاطب الموت فيقول:
          وأنا وأنت مهاجمٌ ومدافعُ
                                        أنا ما اندحرتُ ولا فررتَ أمامي
          أتخافُ من طعم الردى فتعافه
                                        لا تخشَ فهو ألذّ كل طعام
          الركن الخامس
: بالرغم من أن الجواهري وسعد صالح عاشا في بيئة منغلقة، فإنهما كانا تقدميّين في نظرتهما للحياة ويتطلعان للتجديد والتغيير، بل يطربان لكل تطور، وهكذا كانا يميّزان في نظرتهما الإيجابية إلى المرأة ودورها وحقوقها، فضلاً عن مواقفهما من القضايا الاجتماعية، لاسيما تأسيس مدرسة البنات في النجف العام 1929، وكانا ثورة على العادات والتقاليد السياسية والمتخلفة.
          الركن السادس: اصطدما مع المؤسسة الدينية التقليدية ونبذا الطائفية والتزمّت، وبالرغم من حب النجفيين والعراقيين عموماً لهما، فإنهما لقيا توجساً من المؤسسة الدينية الثيوقراطية، لاسيما مطالبتهما بالتحرر وتوعية المرأة ومساواتها، وفي الوقت الذي كان فيه الجواهري راديكالياً، كان سعد صالح أميل إلى الوسطية والاعتدال مع تمسكه الشديد بحقوق المرأة، وكان قد بدأ مع أهل بيته في الدعوة إلى السفور، كما تذكر ذلك كريمتاه الأستاذتان سلمى ونوار، وهو ما يؤكده، نجله المحامي لؤي سعد صالح.
          الركن السابع: ميلهما إلى العدالة الاجتماعية، وإذا كان الجواهري أقرب إلى اليسار وغنّاه ومجّده بقصائده، فإن سعد صالح ساهم في تدعيمه عملياً بإجازة أحزاب يسارية، لاسيما حزب الشعب برئاسة عزيز شريف وحزب الاتحاد الوطني برئاسة عبدالفتاح إبراهيم، إضافة إلى أحزاب وطنية وقومية مثل الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة الجادرجي وحزب الاستقلال برئاسة محمد مهدي كبة، أما حزب الأحرار فقد أصبح سعد صالح رئيسه بعد استقالة الوزارة العام 1946، وهو الحزب الذي خرج من معطف الحكومة ليرتدي زي المعارضة الوطنية. ورغم أنه لم يجز حزب التحرر الوطني واجهة الحزب الشيوعي، الاّ انه منح ترخيصاً (واقعياً) لعصبة مكافحة الصهيونية التي كانت تحت قيادة الشيوعيين.
          الركن الثامن: التحدّي كان جامعاً لهما، وحتى عندما كان سعد صالح في الوزارة أو نائباً أو محافظاً، فقد كان يطرب لقصيدة الجواهري ذات الرنين العالمي والتحدي الكبير، ومَن يدري ما كان يخفيه عن أنظار السلطة، فقد يكون مشجعاً له، لاسيما وهو يحرّك في نفس سعد صالح إيقاع المواجهة والتحدي، الذي كان يستجيب له، وهو الأمر الذي قيّمه الجواهري على نحو عال.
          الركن التاسع: هو انغمارهما في العمل الصحافي، فقد كانت المقالات التي يكتبها سعد صالح في افتتاحيات حزب الأحرار أو لجريدة الزمان أو لغيرهما مؤثرة، وهي حديث المجالس الأدبية والثقافية، كما جرت الإشارة إلى اقتباس من المؤرخ حسن الأمين، ونجدت فتحي صفوت الدبلوماسي والكاتب، وهو ما يوثّقه أيضاً المؤرخ والباحث مير بصري وغيرهم، كما كانت مقالات الجواهري ودور جريدة الرأي العام مؤثرة جداً في الحياة السياسية والثقافية العراقية.
          الركن العاشر: حبّهما للذائذ الحياة ومتعها وللسفر وللاطلاع، وباختصار، فإن «الجواهري وسعد صالح» وإنْ سعيا للخلود، لكنهما لم يكونا يريدان أن تفلت لحظة من بين أيديهما، وأرادا أن يغرفا من الحياة ما استطاعا ولكن بإباء وكبرياء.
تناقضات الأصدقاء
          أما تناقضهما فيعود إلى أن سعد صالح سلك طريق الوظيفة في حين اعتلى الجواهري سلّم الشعر، ربما يعود الأمر أيضاً إلى أن سعد صالح تخرّج في كلية الحقوق، وكانت الوظائف آنذاك تساعد على إحداث التغيير، في حين اتجه الجواهري للجمهور، فقرّع الحكام وتنابز معهم، واختار الشعر طريقاً للحياة وربما للتغيير، لاسيما بعد تجربته المريرة مع ساطع الحصري عندما تم تعيينه، ثم فصله من وظيفته التعليمية، وكذلك شعوره وهو في البلاط الملكي 1927-1930 بالضيق ورغبته في الإمساك بجناح الحرية، لاسيما أنه كان قد اتجه لنشر قصائد غزل مكشوف، كانت سبباً في إحراج الملك فيصل الأول، ولعل قصيدة «جربيني» التي ذاع صيتها كان قد نشرها العام 1929.
          كان الجواهري راديكالياً جذرياً، وقد رافق عبدالفتاح إبراهيم في تأسيس حزب الاتحاد الوطني العام 1946، والحزب الجمهوري عام 1960، ومنظمة أنصار السلام في بداية الخمسينيات، وحركة الدفاع عن الشعب العراقي بعد انقلاب 8 شباط ( فبراير) 1963، أي أنه كان أقرب إلى الوسط اليساري بالرغم من أنه وضع مسافة بينه وبين اليسار، وكانت كلمته كالسيف، وموقفه يثير مواقف الآلاف، وهو ما عبّر عنه فهد زعيم الشيوعيين بالقول: هاتوا انتفاضة يغرّد لها الجواهري.
          أما سعد صالح فقد انضم مع توفيق السويدي إلى حزب الأحرار الذي قيل إن نوري السعيد شجع على تأسيسه، وأصبح السويدي رئيساً له وسعد صالح نائباً للرئيس، وبعد استقالة أو إقالة السويدي أصبح سعد صالح رئيساً للحزب، الذي أعطاه نكهة وطنية مستقلة، فاستدار به من موقع السلطة إلى موقع المعارضة، لكنه ظلّ متوازناً ومعتدلاً في أطروحاته بالرغم من نقده الشديد للسلطة، لاسيما لقمع الحريات، ولم يتردد من النقد الشديد لنوري السعيد وأتباعه.
          هناك ثلاثة أصدقاء يتفقون ويختلفون، وإذا كانت جوانب الاتفاق والاختلاف بين شخصين كالجواهري وسعد صالح قد تحدّثنا عنها، فالصديق الثالث كان المشترك بينهما، وكان ولاؤهما له بحكم شيطانه الذي يحلق فوق الرءوس وملكوته الذي يسلب الألباب، إنه الشعر الجامع، والصديق الصدوق لمبدعين كبيرين، حيث كان الشعر صديقهما الثالث الذي استطاع أن يجمع بينهما، في حين أنهما افترقا في المسار والمصير، على أن أحدهما لم يتخلّ عن الآخر ولا عن الموقف المشرّف تجاه الآخر في كل المواقف والظروف. وسبق وأن أثرت ما ذكره لي الشاعر الجواهري في حوار نشرته في كتابي"جدل الشعر والحياة" عن صداقته مع سعد صالح.
          كان اعتماد الجواهري على سعد صالح كبيراً، إذ إنه يذكر أن الجو السياسي كان مملوءاً بالنفاق والتزلف والخضوع لأصحاب المراتب العليا، وهي أجواء لم يألفها سعد صالح، بل كان يستاء منها، وعندما ألف قصيدته «طرطرا» للاستهزاء والتهكّم من الساسة الملفّقين، استثمر وجود صديقه سعد صالح كما يقول لنشر القصيدة، التي أصبحت لها شهرة كبيرة.
          ولو عدنا إلى القصيدة على ما فيها من استهزاء، فقد استثمرها الوصي على العرش لتهديد بعض السياسيين، لاسيما وهو لم يحرّك ساكناً واستغل القضية للمناورة ضد خصومه، وذلك لتوافقها مع ما تحمله من ازدراء واستخفاف ببعضهم، فكان يهددهم بها بالقول: «أتسكتون أم ترغبون في طرطرا»؟ بتهديدهم بكشف أوراقهم.
          وكان الجواهري هو الآخر حريصاً على الحفاظ على صاحبه، ويذكر الجواهري أنه عندما ألقى قصيدة « القسم» في ذكرى أربعين جعفر أبو التمن بحضور كبار المسؤولين في الحكومة فيما بعد، أثارت تلك القصيدة ضجة كبرى على الشاعر، خصوصاً وأن رئيس الوزراء نوري السعيد اعتبرها موجهة، ضده، لاسيما بعد أن اضطر المسؤولون الى ترك الاحتفال، فما كان من «صديقي سعد صالح إلا أن عرض علي أن أذهب معه إلى بيته للاستراحة أو القيلولة إدراكاً منه للعواقب المحتملة جراء غضب الحكام ونقمتهم بسبب القصيدة»، ويقول: وبالفعل ذهبت معه فافترش لي فراشاً نظيفاً في صالون الزوار، لكني لم أتمكن من النوم فانتفضت مرتدياً ملابسي وغادرت بيته إلى بيتي الواقع في محلة الجعيفر في الكرخ أيضاً، فقلق علي الرجل وهاتفني مستفسراً ومطمئناً، فقلت له: يا أبا لؤي أنا مغامر طيلة حياتي وأتوقع كل شيء، وإذا اختفيت عندك اليوم أو عند غيرك غداً فماذا سيكون بعد غد؟
          يقول الجواهري في رثاء أبو التمن:
          قسماً بيومك والفرات الجاري
                                        والثورة الحمراء والثوار

          إلى أن يقول مندداً بـ«الدولة» العراقية
          خمسٌ وعشرون انقضت وكأنها
                                        بشخوصها خبرٌ من الأخبار

          ضقنا بها ضيق السجين بقيده
                                        من فرط ما حملت من الأوزار

          ولعل الاثنين الجواهري وسعد صالح وصلا إلى حد اليأس من إمكان التغيير في العراق، وإذا كان سعد صالح قد اختتم حياته وودّع أحباءه بقصيدة الأشباح التي يؤكد من خلالها على النظرة التشاؤمية إلى المستقبل، فإن محمد مهدي الجواهري وصل إلى المستوى نفسه من اليأس في تلك الأيام حتى أنه قال فيها:
          ولم يبق معنى للمناصب عندنا
                                        سوى أنها ملك القريب المصاهر
          وكانت طباع للعشائر ترتجى
                                        فقد لوّثت حتى طباع العشائر

    أما سعد صالح فقد قال:
أبوارق الآمال والآلام       لعلك تكشفين ظلامي
         وأكاد اليوم، حين أذكر هذا الترابط بين الطرفين أشعر وكأنها الصداقة الصحيحة والحقيقية التي تبدأ بالاحترام بين الفريقين، فإنْ فصلت بينهما دروب السياسة، فإن وحدة المشاعر بقيت القوة الجامعة لهما حتى اليوم بالرغم من الممات، ولعل نبع الشعر كان ملاذاً لكل منهما ينهل منه ما يريد!
عبد الحسين شعبان
 






1046
ندوة عن "العراق بعد لبنان: تجربة الحكم التوافقي" في مركز عصام فارس
شعبان: التوافقية في العراق وصلت إلى طريقٍ مسدود
عبد الجبار: الفيدرالية ليست تجزئة للبلدان بل للسلطة

نظَّم مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية ندوة عن "العراق بعد لبنان: تجربة الحكم التوافقي" بمشاركة الخبيرين العراقيين في الشؤون الإستراتيجية الدكتور عبد الحسين شعبان والدكتور فالح عبد الجبار رئيس معهد العراق للدراسات الإستراتيجية، في حضور النائبة في البرلمان العراقي السيدة ليلى الخفاجي ووفد من مؤسسة الإمام الحكيم في لبنان برئاسة السيد علي الحكيم وعددٍ من الناشطين العراقيين والمهتمين اللبنانيين.
 بداية كانت كلمة لمساعد مدير المركز ميشال أبو نجم أشار فيها إلى أن تداعيات نتائج الإنتخابات الأخيرة في العراق أظهرت إشكاليات مماثلة لتلك التي برزت في لبنان بعد انتخابات 2009، وأبرزها الخلاف حول مبادئ تشكيل الحكومة والجدل حول مفهوم الأكثرية والأقلية، وعدم قدرة أي فريق على تشكيل حكومة أكثرية كلاسيكية بسبب تمركز المذاهب والإثنيات والتفافها حول نفسها وتالياً عدم توفر خيارات سياسية متعددة، وذلك في إطار تجربة الفدرالية بين المجموعات.
 
شعبان
الدكتور عبد الحسين شعبان اعتبر أنَّ التوافقية في العراق وصلت إلى طريقٍ مسدود لأن التوافقية مرحلة انتقالية ولا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، إذ إنها ستتحول إلى محاصصة وتكون سبباً من أسباب البلاء في العراق إذا لم يتم الوصول إلى المواطنة واحترام جميع مكونات الشعب العراقي. ورأى أن القواعد التي بُني عليها الدستور العراقي الفيدرالي خاطئة، لأنَّ في الدساتير الفيدرالية يخضع القانون الإقليمي للقانون الإتحادي في حين أنَّ الأمر معكوس في العراق. وأضاف أن في الفيدراليات يكون التمثيل الديبلوماسي موحداً، أما في السفارات العراقية فهناك وحدة "لمتابعة الشؤون الثقافية والإنمائية"، ما يعتبر سفارةً داخل السفارة.
وانتقد أيضاً الدستور العراقي معتبراً أنه كتب على عجل وبتأثير خارجي تحت إدارة رئيس مجلس الحكم السابق بول بريمر مشيراً إلى ان المسودة الاولى كتبها أستاذ القانون في جامعة هارفرد نوح فيلدمان الذي وصفه بالصهيوني.
وأكد شعبان أن هناك اختلافاً كبيراً بين الوضعين اللبناني والعراقي لأن العراق ما يزال تحت الإحتلال على الرغم من وجود اتفاقيةً امنية. وأشار إلى أن لا يمكن الحديث عن السنة او الشيعة في شكل مطلق، لأن هناك تنوعاً سياسياً واحزاباً داخل كل من السنة والشيعة، لافتاً إلى أن الوضع الكردي يختلف لأن الأكراد يشكلون قومية لطالما امتهنت حقوقها من قبل السلطات العراقية. ورأى إنَّ الإيجابية الأبرز في الوضع العراقي هي في تكريس مبدأ الإنتخابات على الرغم من وجود الإحتلال وثغرات وتجاوزات وانتهاكات.
وشدد شعبان على أن هناك ملفات عالقة وألغاماً سياسية قد تنفجر في أي لحظة، مشيراً إلى ان الخطر الأول هو استمرار الإحتلال الأميركي لأن واشنطن لن تنسحب في شكلٍ كامل من العراق وستبقي على حوالي خمسين ألف جندي وقواعد عسكرية حتى بعد العام 2011 الموعد المقرر لاستكمال انسحاب الجيش الأميركي. وقال إنَّ الخطر الثاني هو الطائفية لأنَّ المشروع الطائفي ما زال قائماً، معتبراً أنَّ نتائج الإنتخابات التشريعية والعدوانية في التصريحات تعبير عن الإحتقان الطائفي الذي قد ينفجر في أيّ لحظة. وأضاف أن الخطر الثالث يتعلق بالميليشيات المنخرطة في المؤسسات الأمنية مما ينعكس سلباً على الوضع السياسي ويساهم في تفجير الوضع، وذلك على الرغم من أن حكومة نوري المالكي ساهمت في تحسين الوضع الأمني.
ولفت شعبان إلى ضعف المواطنة وهذا ما أدى إليه نظام صدام حسين الشمولي الذي ضرب المؤسسات المجتمعية واستكمل ذلك مع تخريب الدولة تحت الإحتلال الأميركي وحل الجيش مما جعل المجتمع من دون مرجعية، وتم اللجوء تالياً إلى المرجعيات الدينية والعشائرية. وأشار إلى مشكلة استشراء الفساد في ظلِّ سعي أمراء الطوائف إلى الحصول على أكبر قدرٍ ممكن من الإمتيازات، مؤكداً أن نهب المال العام وابتلاع المؤسسات بات ظاهرةً خطيرة.
وعدد شعبان ثلاثة معضلات عانت منها الدولة العراقية منذ تأسيسها هي المشكلة الكردية وسياسات التمييز الطائفي وضعف التركيبة الدولتية. وقال إن مشكلة الأكراد أدت إلى توترات كثيرة وثورات وتفاعلت مع الأوضاع الدولية والإقليمية لتصل إلى الحال الراهنة. وذكَّر بأن قوانين الجنسية العراقية التي كانت معتمدة استند إليها نظام صدام حسين لتهجير مئات الآلاف من المواطنين، كما حصل في العام 1980 حين تم تسفير نحو نصف مليون عراقي إلى إيران.
 
عبد الجبار
الدكتور فالح عبد الجبار أكد من جهته أنَّ الفيدرالية ليست تجزئة للبلدان بل للسلطة لافتاً إلى أن شدة المركزية تؤدي إلى نقيضها وإلى أنَّ الكثير من الدول المتعددة اعتمدت النظام الفيدرالي.
ورأى أن محاولة تصوير قائمة "العراقية" التي ترأسها رئيس الحكومة السابق إياد علاوي على انها تمثل السنة فحسب فاشلة لأن هناك ناخبين شيعة منحوا أصواتهم لها، معتبراً أن المناطق السنية صوتت بكثافة لعلاوي لأنه علماني. وأضاف أن التصويت الكثيف لرئيس قائمة "ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي عائد لطرحه بناء دولة القانون والوطنية العراقية وميله إلى المركزية.
وقال عبد الجبار إن النظام الإنتخابي الحالي المستند إلى المحافظة كدائرة انتخابية في ظل وجود غالبياتٍ طائفية من لون واحد في معظم المحافظات دفع إلى أن يكون الصراع في داخل الطوائف والقوميات وإلى أن يصبحَ التنافس قائماً على برامج سياسية، لافتاً إلى أن الإسلام السياسي بدأ يفقد بريقه في العراق. ورأى أن الوظيفة الطائفية للنظام السياسي في العراق انتهت، وأن على الرغم من أن البرلمان ستكون فيه غالبية شيعية لكن هذه الغالبية تضم أطيافاً سياسية متنوعة كالليبراليين والمعتدلين والإسلاميين، مؤكداً أن الجانب السلبي في الطائفية يكمن في أنها تقمع التنوع في داخل الطائفة في حين أنَّ الجانب الإيجابي يتمثل في كون الطائفية جرس إنذار للأخطاء في المجتمع، مشدداً على استحالة قمع التنوع في المجتمعات بسبب عوامل عدة اقتصادية واجتماعية وثقافية... وأضاف أن تفكك النظام السياسي في العراق أدى إلى إمساك الطوائف بالسلطة واقتسامها منبهاً من أن نجاح إحياء أي كتلة طائفية في الحكم سيؤدي إلى الإنفجار مجدداً.
وعرض عبد الجبار لبعض أسباب وصول العراق إلى الوضع الحالي من التفكك فأشار إلى أن العمل السياسي انتقل من الإستناد إلى الإيديولوجيا (الماركسية، القومية، الليبرالية...) التي سادت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي إلى سياسات الهوية Identity Politics التي تصل فيها المجتمعات إلى تفتت داخلي. وأضاف أن في العراق كما في الإتحاد السوفياتي سابقاً بدأ حزب البعث يضعف ويتفكك كأداة هندسة اجتماعية مما أدى إلى استبداله بالعشائرية والمؤسسات الدينية وإلى تفكيك الطبقات الوسطى التي لجأت هي الأخرى كما الدولة إلى العشائر والتدين. ولفت إلى أن الإجتياح الاميركي للعراق حصل بعدما كان المجتمع منهاراً بالكامل تحت وطأة الحصار الذي فُرض على العراق على إثر حرب "عاصفة الصحراء" في العام 1991، فتفككت الدولة وتشظى المجتمع في ظل غياب الاحزاب والنقابات فتصاعد نفوذ المؤسسات الدينية والقبائل والعشائر.
وقال عبد الجبار إن الثقافة السياسية تبدلت عموماً في العراق والمنطقة العربية إذ انحسر الخطاب الحداثي والعقلاني وتراجع دور القوى اليسارية والعلمانية ومن أسباب ذلك صعود الإسلام السياسي والهويات الدينية خاصةً بعد انتصار الثورة الإيرانية.
وأبدى اعتراضه على مبدأ استعمال العنف لمقاومة الإحتلال وتحقيق التغيير مشدداً على أهمية العمل اللاعنفي ودور الفكر والعلم في تحفيز الإرادة الشعبية لمقاومة المحتل والتغيير السياسي.
 

1047
الوصل والفصل بين العالمية والخصوصية

عبدالحسين شعبان
منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان وقضية حقوق الإنسان تشغل حيّزاً مهماً من المناقشات الدائرة على الصعيدين السياسي والفكري، سواء في إطارها القانوني أو الاجتماعي، باعتبارها إحدى ركائز التقدم البشري، والتي يقاس تقدّم أيّة أمّة أو شعب أو جماعة بمقدار احترامها للإنسان وحقوقه وحرياته الأساسية .

ولم تعد قضية حقوق الإنسان تقتصر على علاقة الأفراد والجماعات بالدولة ومؤسساتها، بل امتدّت إلى العلاقات الدولية والمنظمات العالمية والإقليمية، خصوصاً وأن مبادئ حقوق الإنسان أصبحت مع مرور الأيام قاعدة آمرة وملزمة من قواعد القانون الدولي المعاصر، كما يقال في اللاتينية Jus Cogens، وأخذت تكتسب بالتدريج دوراً أكبر، خصوصاً بتعاظم دور الفرد باعتباره أحد أشخاص القانون الدولي بعد الدول والمنظمات الدولية .

لقد اهتمّت جميع الأديان بالإنسان، وكان خاتمتها الدين الإسلامي، من خلال خطابها الإلهي المقدس الذي يمثل القيم الإنسانية، لكن القضية وجدت طريقها إلى النظم والقوانين الوضعية التي هي انعكاس للعقل البشري ولتفسيرات وتأويلات الإنسان في مراحل تطوره المختلفة، وبخاصة إزاء مواقفه من الصراع الاجتماعي، لاسيما عبر الآليات التي تطورت مع مرور الأيام .

وبقدر الاهتمام بقضية حقوق الإنسان والتعاطف معها على صعيد الإسلام فكرياً ونظرياً، إلاّ أنها كانت القضية الأكثر إثارة للجدل والنقاش، بل والاختلاف والتناقض، لا على صعيد التطبيق وحسب، بل في المنطلقات والتبريرات وبعض الأسس أيضاً، خصوصاً في جوانبها التفسيرية والتأويلية، لاسيما استخدامها وتوظيفها لأغراض بعيدة عن جوهرها، وبما يخدم الجهات السائدة والمتنفّذة .

وإذا كان هناك إجماع، أو ما يشبه الإجماع، على مسألة حقوق الإنسان بحيث لم يعد بمقدور أحد معاداتها صراحة وعلناً، أو إدارة الظهر عنها كلياً - حتى من الزاوية الشكلية أو النظرية - إلاّ قلة متخلفة تريد أن تعلن عن نفسها باعتبارها خارج نطاق الزمن، فإن التعارض والتناقض في مفهوم حقوق الإنسان يصل أحياناً إلى مديات بعيدة، أي عبر قراءات مختلفة من جانب القوى الدولية المهيمنة من جهة، ومن جانب الحكومات المتسلّطة من جهة أخرى، فضلاً عن قراءات خاصة للجماعات المتعصبة والمتطرفة وللقوى الشمولية “التوتاليتارية” .

لقد كانت قضية حقوق الإنسان جزءاً أساسياً من الصراع الايديولوجي والإعلامي والثقافي إبان فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، من حيث زاوية النظر والتناول ودائرة الاهتمام والمصالح للقوى المتصارعة، لكنها أخذت بُعداً جديداً بانهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية وتفكك الاتحاد السوفييتي، خصوصاً لدى بعض مفكري الغرب، ونظرتهم السلبية إلى الإسلام السياسي .

وفي بؤرة الصراع الايديولوجي والدعائي ظهرت عشرات بل مئات من الكتب والأبحاث والدراسات التي تشكّل صناعة فكرية ضد الإسلام في إطار الموجة الثانية من الحرب الباردة، التي اتخذت الإسلام عدواً مُعلناً . وقسم من هذه المؤلفات والتأسيسات احتوى على مغالطات باتت مفضوحة وتأويلات لا تخلو من فجاجة لبعض الأحكام الإسلامية وتضمر نوعاً جديداً من الكراهية والعداء .

ولعل ما احتواه كتاب صموئيل هنتنغتون الموسوم “صدام الحضارات” وقبله كتاب “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما وما أعقبهما من أطروحات ومسوّغات ما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، بما فيها بيان المثقفين الستين الامريكان، خير دليل على المنهج المتشدد إزاء العدو الجديد، ونعني به “الإسلام” .

بالمقابل فإن قضية حقوق الإنسان - سواءً بجانبها الفكري (الفلسفي) أو القانوني (الحقوقي) أو اعتباراتها العملية (الممارساتية) - شكّلت منطقة جدل وتشابك في الساحة السياسية والثقافية العربية والإسلامية، فالقراءة الإسلامية أو الإسلاموية المنطلقة من عمومية النص الديني تسمح باستخلاص معان متعددة ومختلفة أحياناً، وتصل إلى درجة التناقض والتعارض، في بعض الأحيان لاسيما آراء وفتاوى بعض المفسرين والمؤولين، ليس على الصعيد الديني وحسب، بل على الصعيد العلماني أيضاً .

فالديمقراطية بقراءة منحازة تصبح مرادفة للشورى، و”أهل الحل والعقد” هو المفهوم المرادف للبرلمانات، وفي قراءة أخرى تصبح الشورى بعيدة كل البعد عن الديمقراطية، بل تعارضها في المنطلقات وفي الأساليب ناهيكم عن المنهج . أما القراءة الثالثة فتعطي للشورى والديمقراطية منطقة للاتفاق وأخرى للاختلاف، وكذا الحال بالنسبة لمبدأ سيادة الشعب أو الأمة الذي يقف مقابله “حاكمية الله”، أي نفي اعتبار الإنسان مصدراً للتشريع بوضع النص الإلهي مقابل حكم الاغلبية الذي توفره الأنظمة الديمقراطية، كوسيلة لاختيار الحكام من جانب المحكومين .

وهكذا يصبح الفقه الإسلامي، الذي هو العلم بالأحكام الشرعية العملية والمكتسبة من أدلتها التفصيلية متساوقاً أو متعارضاً مع ما توصلت اليه الدولة العصرية، من خلال القراءات التأويلية المختلفة، لتأكيد الانسجام أو التعارض بين الإسلام وحقوق الإنسان . أما النظرة التقليدية التي تعتبر الشريعة محور حياة المسلم وأساسها العقيدة والوحي لا العقل، فتؤكد تفوقها على جميع القوانين الوضعية التي تعتمد العقل كمحور للحقوق والتفكير استناداً إلى تفسير النص المقدس (القرآن الكريم والسنة النبوية) .

ومقابل القراءة المتشددة والمتعصبة فإن بعض التفسيرات والتأويلات يقدّم قراءة متسامحة ومنفتحة للنص الإسلامي، مع واقع تطور الفقه القانوني الدولي لقضية حقوق الإنسان العالمية . فالإسلام دين وحداني، حيث يؤكد على وحدة الله والجنس البشري . إن الله مطلق ولا يتغير، بينما البشر يتغيرون ويغيّرون مواقفهم وآراءهم ونظراتهم إلى الكون والطبيعة والتطور .

ورسالة الإسلام عالمية، بمعنى أنها لا تخاطب المسلمين وحدهم، بل تخاطب “بني البشر”، حتى إن كلمة “المسلم” فيها تعبير عالمي، فهي لا تدلّ على قومية أو عرق أو جنس أو لون أو منحدر اجتماعي أو طبقي أو اتجاه سياسي أو فكري . والناظم في الإسلام هو القرآن والسنة النبوية اللذين يخضع لهما الحاكم والمحكوم على حد سواء، وذلك من سمات “الدولة القانونية” في المفاهيم الدستورية المعاصرة، وهو الذي يؤكد مبدأ الوصل بين العالمية والخصوصية، لاسيما إذا كان المشترك الإنساني يشكّل الأساس في زاوية النظر، عندها يصبح الفصل بالضد من التطور التاريخي للمجتمع البشري المؤلف من حضارة كبرى يتم في إطارها التنوّع والتعددية، ويفترض أن تقوم على مبدأ المساواة والاحترام المتبادل للخصوصيات القومية والدينية واللغوية والتاريخية وغيرها .

 

باحث ومفكر عربي


1048
أرمينيا وسيمفونية المبارز!


عبدالحسين شعبان

2010-04-19
يُطلق على أرمينيا وعاصمتها يريفان بلد الورد والشمس، فالزهور تنشر عطرها في كل مكان، والشمس لا تغيب عنها مدة 340 يوماً من السنة. وهذا البلد الذي كان ضمن السلطة السوفييتية منذ مطلع العشرينيات تمكّن من إحراز الاستقلال في العام 1991، والانضمام إلى الأمم المتحدة العام 1992.
ورغم مآسي الأرمن والمجازر التي تعرّضوا لها تاريخياً، فبلدهم يجسّد الفرح والجمال ويُعرف بـ«المتحف في الهواء الطلق" لكثرة التماثيل التي تنتشر في الشوارع والساحات العامة والمنتزهات والحدائق التي تطوّقه وتتغلغل فيه، كما ترسم صخور يرفان صورة المدينة الوردية، لاسيَّما في مركزها الرئيسي. ويقرّ الأرمن ويعترفون بفضل الكاتب المعروف والمخلّد خاجادور أبوفيان في اكتشاف اللغة الأرمينية الجديدة، وذلك في القرن التاسع عشر.
كأن العالم كلّه قد تواطأ على إسدال الستار على المجازر التاريخية التي تعرّض لها الأرمن طيلة نحو قرن من الزمان، ولعل مؤتمر ديربن عام 2001 حول العنصرية، كان قد استعاد مسألة اعتذار المستعمرين عما تسبّبوه من آلام وأذى للشعوب المستعمَرة، ناهيكم عن أعمال الإبادة والقمع والاضطهاد، الأمر الذي شجع الأرمن وجهات دولية -لأغراض مختلفة- على مطالبة تركيا بالاعتذار.
ورغم أن الأرمن في إطار الدولة العثمانية كانوا يعيشون مثل غيرهم من الشعوب والأمم والأديان -لاسيَّما الأقليات- إلاّ أن ما حصل لهم منذ العام 1895 على يد السلطان عبدالحميد ولاحقاً على يد طلعت باشا وأنور باشا وصولاً إلى المجزرة الكبرى في العام 1915، واستمراراً حتى العام 1922، يعتبر الأسوأ في تاريخ أرمينيا.
وإذا كان الحديث عن التاريخ ضرورياً فالهدف هو الاستفادة من عبره ودروسه وتقييمه، ولعل هذا الأمر لا يستهدف أية إساءة لتركيا، لاسيَّما مواقفها الإيجابية، خصوصاً التي تتخذها اليوم في ظل قيادة حزب العدالة والتنمية، فهذا الأمر شيء والبحث في التاريخ شيء آخر، وفي تاريخ كل أمة ثمة نواقص وثغرات وعيوب لا بدّ من الإقرار بها والاعتذار عنها.
كانت أولى المجازر ضد الأرمن هي المجزرة التي راح ضحيتها عشرات الآلاف منهم في العام 1895، وفي العام 1909 كانت مجزرة أضنة هي الأبشع، حيث سقط فيها الآلاف أيضاً، أما مجزرة العام 1915 فقد كانت الأسوأ على الإطلاق، حيث قتل فيها على نحو جماعي مئات الألوف من الأرمن بعد أن تم تجنيد الرجال للحرب العام 1914 بدون سلاح، وللقيام بأعمال خدمية، ثم بُوشِر بقتل المتميّزين من العلماء والأطباء والكتّاب والمثقفين وأصحاب الاختصاصات، والأكثر من ذلك كان كل شيء قد تم بصمتٍ ودون احتجاجات تُذكر.
وخلال الحرب وما بعدها حصلت مذابح كثيرة، منها معركة الجزء الشرقي التي حصلت في 26/5/1918 وراح ضحيتها الآلاف أيضاً، واستمرت المجزرة حتى العام 1922، ولكن بتواطؤ أكبر هذه المرة، حين انضمت أرمينيا إلى الاتحاد السوفييتي الذي كان يرغب في تسوية علاقته مع تركيا، فتم التنازل لها عن جبال آرارات الشهيرة وأصبح نهر أراكس عند أقدام سلسلة الجبال هو الحد الفاصل لأرمينيا وتركيا، كما تقول الرواية الأرمينية. ولا تزال الحدود بين تركيا وأرمينيا مغلقة، إذ لا يمكن الوصول إلى تركيا من أرمينيا إلاّ عبر جورجيا التي تربطها بأرمينيا علاقات متميّزة، ولا تزال علاقة أرمينيا بروسيا جيدة جداً، مثلما أن علاقتها طيبة مع إيران.
ظل الأرمن يعانون بصمت ويكبتون مشاعرهم، ولعل مشكلة الجيل الثالث أنه ما زال يبحث في بطون التاريخ والكتب عن أقارب أو أجداد لهم، وعن كل خيط يربطهم بالماضي، إذ إن السياسة والمصالح الدولية لعبت دورها، فلم يرخّص لهم باستعمال كلمة الجينوسايد (الإبادة الجماعية) إلاّ في أواسط الستينيات، رغم مجازر الأناضول وفان وارضروم وساسون وديار بكر وغيرها، إلى أن تم بناء مجمع رمزي للضحايا في العام 1965، علماً بأن الأرمن أسهموا بتفانٍ وإخلاص في "بناء الاشتراكية"، وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية أرسلوا نحو نصف مليون جندي دفاعاً عن "الاتحاد السوفييتي" السابق.
سألت مرافقتي الجميلة (أرمينه): هل لديكم نوستالجيا (حنين) إلى الماضي، رغم أنها لا تتذكر شيئاً عنه لأن عمرها 31 عاماً، فأجابت أن الكبار وحدهم هم من يعيشون على الذكرى لأن حياتهم كانت سهلة وظروفهم الاجتماعية بسيطة وبعض المستلزمات مؤمنة، والغالبية أقرب إلى الكسل منها إلى الإبداع والمنافسة الفردية المشروعة، فضلاً عن شحّ الحريات والنظام الشمولي. مرافقتي قالت بعد سؤالي عن الجمال الأرميني إن الأرمينيين بسبب الاختلاط والتزاوج اكتسبوا بعض الملامح الجديدة، فبعد أن كان الشكل الغالب للنساء قبل عقود من الزمان هو: الشعر الأجعد والقوام الأشقر والأنف الكبير والعنينان الزرقاوان، أصبح اليوم أقرب إلى خليط جميل ومتجانس من تعاشق ملامح وأمم وحضارات وثقافات متنوعة، ولعل ذلك ما أعطى هذه الملاحة للوجوه المشرقة.
لا أدري لماذا تذكّرت شخصيتين عراقيتين أثيرتين، الأولى هي الجواهري الشاعر الكبير الذي كان يتغزّل بالكونياك الأرميني (آرارات.. وأصل الكلمة أشوري)، وأتذكر أنه في كل مرة يتذوقه كان يقارن ذلك بالكونياك الفرنسي (غورفازية ونابليون وريمي مارتين)، مشيراً إلى أن هذا الكونياك هو 7 نجوم، وكان يدعو عامر عبدالله ويدعوني لتناول كأس صغيرة قبل الظهيرة لفتح الشهية كما يقول، وبالمناسبة فهذا الكونياك كان يفضّله رئيس الوزراء البريطاني الشهير ونستون تشرشل على غيره، وكان ستالين الزعيم الروسي قد أهداه عدّة صناديق منه. وبالمناسبة فمعمل آرارات تم بناؤه العام 1877 وهو أرميني– فرنسي. وكان مؤسسه نيرسين تايربان.
أما الشخصية الثانية فهو آرا خاجادور أحد أبرز القيادات العمالية النقابية الشيوعية في العراق، وظل بُعده الوطني متميّزاً رغم حنينه للماضي واعتزازه بقوميته الأرمينية، لكن أمميته جعلته يغضّ النظر عن ارتكابات السلطة السوفييتية، ناهيكم عن اعتقاده أن قضية الأرمن لا يمكن حلّها إلاّ بتحقيق الاشتراكية، وما زال القائد الشيوعي العراقي حيّاً ويعيش في براغ ويرفض الاحتلال الأميركي لبلده.
ثمة أسماء أرمينية كانت مؤثرة عالمياً وذات شهرة كبيرة، لعل أبرزها وأهمها على الإطلاق هو الموسيقار آرام خاجودوريان، الذي ينتصب تمثاله أمام دار الأوبرا، ولا أدري لمَ قفزت إلى ذاكرتي سيمفونيته الشهيرة رقصة المبارز sword، وقد يعود الأمر إلى مشاهدتي لتمثال أمّ أرمينيا (وهي تحمل سيفاً كبيراً دلالة على أنها أمّ مقاتلة)، حيث نُصب هذا التمثال في المكان الذي كان ينتصب فيه تمثال ستالين الذي أزيح العام 1956 بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفيتي، حيث ألقى نيكيتا خروشوف تقريره الشهير. أما الاسم الثاني فهو انستاس ميكويان نائب رئيس مجلس السوفييت الأعلى، وأتذكر زيارته إلى العراق العام 1959، وأخوه هو آرام ميكويان مصمم طائرة الميغ الشهيرة مع اليهودي غوريان.
أرمينيا التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي السابق لم تسلم من المشاكل حتى الآن، ولم تتخط عتبة الماضي بسهولة، ولا يزال الكثير من التحديات تواجهها، ففي الفندق الذي أقمت فيه وكانت الاجتماعات الأساسية للفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان تنعقد فيه، واجهتنا تظاهرة تندد بأعمال القمع واغتيال عدة نشطاء في مارس 2009، وقد بادرنا بالمشاركة فيها، الأمر الذي أغضب بلدية مدينة يريفان التي ألغت حفل العشاء المقام على شرف المؤتمر. وبالمناسبة فالفيدرالية الدولية تعقد مؤتمرها الـ37، وهي منظمة حقوقية تأسست العام 1922 في باريس وتضم في عضويتها 155 منظمة من 115 بلداً.
قبيل إعلان استقلال أرمينيا عانت من حروب وتعرض الأرمن إلى عقاب جماعي قرب باكو (أذربيجان)، ودامت الحرب أربع سنوات حتى تم وقف إطلاق النار العام 1992 بين أرمينيا وأذربيجان وناغورنو كاراباخ (الذي يتمتع باستقلال واقعي De facto ويبلغ عدد نفوسه 170 ألف نسمة).
الدولة الجديدة التي كانت جزءا من الصراع العثماني- الفارسي أصبحت جزءا من الدولة السوفييتية، وهناك أجزاء منها في تركيا، واجهت كوارث طبيعية غير قليلة، فبعد أن اشتهرت بالصناعات الكيماوية تعرضت لزلزال ضخم راح ضحيته 25 ألف أرميني، وذلك في 7/12/1988، مثلما عانت من حروب، وتعاني حالياً من بطالة ومن قلّة الأجور والموارد، إذ إن الحد الأدنى لا يتجاوز 200 دولار في الشهر، الأمر الذي يجعل التنمية تحت مخالب كثيرة منها الفساد المالي والإداري والتهديدات الخارجية والشعور بالقلق إزاء المستقبل. ولكن أما آن الأوان للاعتراف والاعتذار للأرمن عما تعرضوا له تاريخياً!


    

1049
كاظم حبيب: النقد الشجاع والاختلاف الجميل*

                                                                                         عبد الحسين شعبان

لم أكن أتصور أن الصديق كاظم حبيب (أبو سامر) قد بلغ الخامسة والسبعين  من عمره الى أن وصلتني رسالة من لجنة التكريم تطلب مني المساهمة في الكتابة عنه، ولعل تلك المبادرة نبهتني الى أننا نكبر دون أن نشعر بذلك، الى أن يأتينا من يحسسنا بتلك الحقيقة. وهذه المرّة كان الشعور بتقدم السن أمراً مفرحاً وليس محزناً، فالمحتفى به ما زال " شاباً" بمعايير العمل والنشاط والتفكير، وما زال مُنتجاً، بل انه في سنواته الأخيرة ازداد حيوية، لدرجة أنه أصبح يكتب كل يوم تقريباً.
وقد يعود ذلك الى شعوره بأن فرصته في العطاء ما تزال خصبة، ولأن الجيل الجديد يحتاج الى خبرته وتجربته، وما رسى عنده وما تركه يفلت من بين أصابعه لا بدّ أن يضعه في متناول الجميع. ولعلي وأنا أتابع نشاط د.كاظم حبيب، استذكرت نشاطه الاول يوم أشرف على تنظيمات الطلبة في أواخر الستينات من القرن الماضي، حيث كان في الظهيرة الساخنة من صيف بغداد يجوب شوارع وأزقة بغداد وهو الاستاذ الجامعي آنذاك، وكانت مساهماته الأولى، لاسيما كتابه مع الدكتور مكرم الطالباني بخصوص قانون الاصلاح الزراعي لعام 1969 هي الأبرز.


ــــــــــــــــــ
* كلمة أرسلت الى الحفل التكريمي الذي يقيمه أصدقاء ومحبو الاقتصادي  والكاتب البروفسور كاظم حبيب الذي سينظم في برلين يوم 17/4/2010 .

كاظم حبيب مثل غيره من القياديين الشيوعيين كان مندفعاً بإخلاص لتأسيس الجبهة الوطنية مع حزب البعث العام 1973، وكان شديد الحماسة لها، ولذلك أصيب بإحباط وخيبة أمل شديدة، عندما انهارت الجبهة فاندفع بالاتجاه الآخر، ولعله كان أحد ضحاياها الأوائل يوم اعتقل وعذّب في العام 1978، واضطر الى مغادرة العراق متوجهاً الى الجزائر للتدريس في جامعاتها، ومنها الى كردستان للمشاركة في الكفاح المسلح وحركة الأنصار، التي راهن عليها كثيراً .
ويبدو لي أن الوسط الشيوعي والماركسي واليساري بشكل عام، لاسيما المعتدل منه كان اول ضحايا النظام الحاكم في بغداد، مثلما كان الوسط البعثي، الميّال الى التعاون الوطني أكثر ضحايا حزب البعث نفسه، فقد ساهم صعود نجم صدام حسين في ضرب الاتجاهات المعتدلة في الحزبين، الأمر الذي سهّل مهمة بعض المغامرين في وضع الامور باتجاه القطيعة، وبخاصة حين تورط النظام بشن الحرب على إيران في العام 1980 وفيما بعد إثر غزو الكويت العام 1990، مُنزلاً بالبلاد كارثة وطنية كبيرة، وبخاصة عند تصفية جميع الهوامش  وإغلاق جميع النوافذ التي قد يصل منها أو يتسرب صوت آخر غير الصوت المهيمن، حيث سارت البلاد باتجاه تعسفي شمولي لا نظير له، وتمركز حكم أقلي ضيق، أُخضع فيه حتى حزب البعث نفسه لأجهزة المخابرات، التي تسلّطت على الدولة والمجتمع وجميع مرافق الحياة، وتحوّل حكم الحزب الى حكم الطغمة ومن هذه الى حكم جهوي، عائلي، حيث تربع شخص واحد فوق الجميع، وأمسك بيده جميع المسؤوليات والصلاحيات، حتى وقعت البلاد تحت الاحتلال.
كان كاظم حبيب، لاسيما بعد اندلاع الصراع داخل الحزب الشيوعي في أواسط الثمانينات مندفعاً ومتحمساً ضد الاتجاه الآخر، الذي ساهم بحملات شديدة ضده، بما فيها المقاطعة الاجتماعية واتخاذ إجراءات زجرية وتهديدية ضده، الأمر الذي جعله مهيئاً ليصبح أميناً عاماً للحزب بحكم ما أبداه من اندفاع وشدّة في التصدي للتوجه السائد، وقد فوتح بذلك في ظل توازن القوى الجديد، لكنه فضّل البقاء على عضويته من الاحتفاظ ببطاقة القيادة، خصوصاً وقد شعر بإحباط شديد، لاسيما وأن الصراع داخل القيادة كان قد اتخذ مسارات جديدة ومتباعدة.
وبشجاعة امتاز بها قام كاظم حبيب بنقد نفسه وتجربته، لاسيما بعض مواقفه إزاء بعض رفاقه وأصدقائه، وهي شجاعة وجدت الكثيرين يفتقدون اليها، ومارس ذلك علناً سواءً مع أصدقاء أو أمام محافل وتجمعات في ندوات أو غيرها، وأتذكر ما قاله في حفل تأبين وتقييم أعمال الراحل هادي العلوي في امستردام، الذي ساهمنا به د. حبيب ونصر حامد أبو زيد وكاتب السطور وكان نقده لنفسه مصدر ارتياح لدى أوساط غير قليلة، وسبق لي أن أشدت بهذا الموقف أكثر من مرّة، لاسيما في مطارحات نشرتها مع بعض القياديين الآخرين.
لا يهم إن أخطأ الانسان، فكلنا بشر وكلنا نخطئ، ولكن المهم أن يتنبّه الانسان الى أخطائه ويقوم بتصحيحها، مقدماً نقداً ذاتياً هو الأجدى والأجدر به، خصوصاً إذا كانت أخطاءه غير صميمية، لاسيما إذا توفّرت لديه معلومات جديدة أو معطيات مختلفة، فيمكن للمرء أن يعيد النظر بمواقفه، بل ويخالفها أحياناً ويخطئها، متخذاً موقف المثقف الماركسي، الناقد لنفسه.
إذا كان نقد الماضي مسألة ضرورية، فلعل التفكير في المستقبل هو المسألة الأكثر أهمية، بما فيه من استشراف وآفاق. لا يكفي أن نقول أن فلاناً لم يغيّر آراءه، لا بمعنى الثبات في المنهج أو الصلابة في الرأي، لأن ذلك سيكون ثناءً باطلاً حسب فيكتور هوغو، لأن ذلك يعني أن حياته كانت خالية من التجارب اليومية والتفكير والتعمّق الفكري، لاسيما بتوالي الأحداث.
لعله سيكون مثل الثناء على الماء الراكد أو على شجرة ميتة، لأن الذين لا يغيّرون آراءهم لا يفعلون شيئاً.. إنهم يتحولون الى أصنام لا يتأثرون بالحياة المتحركة، فكل ما حولنا يتغيّر فيكف لنا السكون، والحياة فيها الكثير من المنعرجات والتضاريس، وهي لا تسير بخط مستقيم أو تقبل الجمود والتحجر، انها متواصلة ومتراكبة ومتخالقة.
إذا كنت أخاطب حفلكم الكريم في ألمانيا ومعكم العزيز د. كاظم حبيب، فلنستذكر فريدريك نيتشه الذي كان يقول على المرء أن يغيّر أفكاره مثلما تنزع الحية جلدها. وعلينا حسب شيخ الماركسيين فردريك انجلز، إعادة النظر بستراتيجيتنا عند كل اكتشاف لسلاح حربي، فما بالك والحياة متغيرة ومتفاعلة ومتطورة. السكون والثبات دليل عجز وتقهقر وتراجع .
ورغم كل الادعاءات بالانفتاح وقبول الرأي الآخر والاعتراف بالتعددية، نحن بحاجة الى حوار حقيقي، والحالات التي يفرزها الحوار تتمثل في حالة الامتلاء وحالة التحقق وحالة الدلالة، ومن خلال المعنى الامتلائي، التحققي نصل الى الدلالة، مقابلة أو مقارنة أو مقاربة. الحوار يمثل حالة حضور وهو نقيض الفراغ، وهو استحقاق مترتب من خلال الحوار مع النفس والحوار مع الآخر والحوار بين الفرد والمجموعة وبينه وبين المجتمع، وتكمن وظيفة الحوار في البحث عن الحقيقة، وأحياناً يكون الحوار تعبيراً عن وجهات نظر متعددة الأصوات، داخل الفرد وداخل كل جماعة وفي كل مجتمع.
أظن أن المحتفى به هو من هذا النوع، الذي أخذ يقبل الحوار والنقد رغم أن الثقافة السائدة لا تقبل النقد الذاتي في الكثير من الأحيان، بل إن التبرير والمكابرة وادعاء امتلاك الحقيقة هي العناصر السائدة في غالب الأحوال، وأعتقد أن كاظم حبيب قد يكون تمكّن من تجاوز ذلك أو بعضاً منه، لأنه جمع بين نهجه الاكاديمي وثقافته الحزبية القديمة بما فيها من إيجابيات والتزامه العقائدي، وفي الفترة الأخيرة بين انفتاحه وعلاقاته الجديدة، وكل ذلك وفّر له، لاسيما بعد انتهاء عمله المسلكي – الحزبي والروتيني فسحة من الحرية، للمراجعة والنقد، والشجاعة الادبية التي قد تحرج آخرين.
*   *   *
تعرفت على الدكتور كاظم حبيب منذ أكثر من أربعة عقود من الزمان، واقتربنا من بعضنا في بعض الفترات، لكنني لم أعمل معه في إطار الحزب، وإنْ كنّا قد سافرنا سويّة لزيارة البوليساريو في العام 1981 والتقينا في كردستان والشام وتعددت لقاءاتنا في ألمانيا والقاهرة ولندن وغيرها، وأستطيع القول أن كاظم حبيب رغم اختلافي معه في السابق والحاضر، في التوجهات والمواقف السياسية والكثير من الجوانب الفكرية، الاّ أنه يمتاز بخلق رفيع وكرم مميز وشجاعة واضحة، وتلكم لعمري صفات انسانية تمثل المشترك القِيَمي لبني البشر، وأضيف الى ذلك انه كان مخلصاً ومنسجماً مع نفسه، حتى وإن اختار طريقاً وقام بمعارضته بنفس الدرجة الى تحمّس له فيها.
قد لا يكون أمر هذه المطالعة مناسباً لاحتفالية يستحقها الدكتور كاظم حبيب، الذي قدّم الكثير وحاول أن يجتهد وكتب وناظر وحاضر وجادل وانقلب واختلف، الاّ أنني أعرف أن صدر أبا سامر أوسع وارحب، لاسيما في السنوات الأخيرة، حيث قدّم هو مثل هذه المقاربات، ولكي يكون الحديث جديًّا أكثر ويتسم بالنزاهة والموضوعية، فربما تلك المواصفات التي أذكرها لا تنطبق عليه وحده، فجيلنا القلق المضطرب عاش الكثير من المتناقضات وهو ما ينطبق على الكثيرين، ولا أستثني نفسي من ذلك بهذا الشكل أو ذاك، زيادة أو نقصاناً، لكنني من موقع الصديق والناقد أقول أن الاختلاف لا يفسد في الود قضية، لاسيما إذا كان الاخلاص هو ديدن المختلفين.
العمر المديد لأبا سامر الورد، وتمنياتي له بالمزيد من العطاء والحيوية والصحة، ولأحلامنا المشتركة فضاء أكثر رحابة، وعلاقات ذات بُعد انساني، وإذا كان كل ما يحيط بنا مدعاة للتشاؤم فلعل الأمل وحده هو الذي يلهمنا هذه القدرة العجيبة على المواصلة. التشاؤم لا يعني اليأس، لكن ادراك ما نحن فيه أمرٌ لا غنى عنه لنقد تجاربنا وممارستنا ليس إزاء الماضي حسب، بل إزاء الحاضر بكل مأساته وانسداد آفاقه، ذلك أن نقد أفكارنا، لاسيما تلك التي طوّح بها الزمن وتجاوزتها الحياة، مسألة حيوية للوضعية النقدية الجدلية للتجديد والتغيير على صعيد الحاضر والمستقبل .
المهم هو الصدق مع النفس والتمسك بالحوار وصولاً للحقيقة.
ولنحترم اختلافنا الجميل،
وكاظم حبيب أحد الصادقين في محاولة نقد أنفسهم، سواءً أخطأ أم أصاب.
العمر المديد للشاب كاظم حبيب 
وتحية لاحتفالكم ومبادرتكم القيمة.




1050
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (24) ملكوت السماء وملكوت الأرض
                                                                                       عبدالحسين شعبان
2010-04-12
شغل ماراثون الصراع الفكري بين الماركسيين والمتدينين القرن التاسع عشر والقرن العشرين كله، لاسيَّما بعد أن قادت الحركات الماركسية أنظمة اشتراكية، وخاصة بعد ثورة أكتوبر الروسية عام 1917 وما بعد الحرب العالمية الثانية في عدد من دول أوروبا الشرقية، ثم في الصين وبعض دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، خصوصاً أن موقفها من الدين والإيمان الديني كان سلبياً، مثلما كانت مواقف رجال الدين مسيحيين ومسلمين ويهود وغيرهم كل منها كان معادياً للآخر. لكن ثمة إرهاصات قليلة وخافتة ظلّت تبحث في جوهر الموقف الماركسي من نقد الدين، لاسيَّما أن ماركس لم يقدم أطروحة متكاملة على هذا الصعيد، بقدر استفادته من فيورباخ، الذي نادراً ما تتناوله الأدبيات الماركسية.
وباستثناء كتاب ماركس عن المسألة اليهودية، فإنه لم ينصرف إلى دراسة الدين أو تقديم أطروحات ومساهمات تُذكر بخصوصه، اللهم إلا إذا اعتبرنا تأثيرات فيورباخ عليه. وإذا كان هذا يتعلق بالجانب النظري (الفكري) فإن الجوانب العملية شهدت صراعات حادة وخصومات شديدة مع التيار الديني. وتوقفت في كتابي تحطيم المرايا لأسلط الضوء على الفهم الخاطئ والملتبس للعبارة الشهيرة «الدين أفيون الشعوب» سواء من جانب بعض الماركسيين الذين فسّروها ضد الدين أو من جانب أعدائهم الذين استثمروها باعتبارها الموقف الماركسي وعلى لسان ماركس من الدين، وهو ما لم يقصده ماركس على الإطلاق.
ولعل ما ساد في وقت متأخر حول إمكانية التحالف بين الماركسيين والمتدينين لم يتم في إطار مراجعة شاملة من الفريقين، بقدر ما كان يحمل في ثناياه إقرارا بواقع أليم، هو أن كلا منهما لم يستطع إلغاء الآخر، رغم محاولات التهميش والإقصاء والاستئصال، فضلا عن ذلك فإن كلا منهما لم يستطع أن يحقق ما كان يطمح إليه، لاسيَّما الانفراد بالساحة، ومع ذلك فإن ما حصل حتى الآن لم يكن أكثر من آمال أو أمنيات لم تجد طريقها إلى الواقع إلا في ظروف محدودة وعلى نحو محدود، الأمر الذي يطرح المسألة على بساط البحث مجدداً.
وإذا كان كاسترو قد بحث هذه العلاقة بين الماركسية والدين، لاسيَّما في السبعينيات وبشكل خاص في الثمانينيات، فثمة فراغات فكرية وعملية، لا تزال بحاجة إلى جهد مثابر وعمل طويل الأمد للوصول من الطرفين إلى الهدف المنشود، إذ إن المسألة لا تتعلق بالماركسيين فحسب، بل بالمتدينين أيضاً, الذين لا ينبغي عليهم الصراع على «الآمال والأحلام» الماورائية الغيبية بقدر ما عليهم دراسة الواقع والبحث عما يعانيه الإنسان من بؤس وظلم واستغلال، انطلاقاً من مقاربة نظرية فكرية ومصالح سياسية واجتماعية واقتصادية راهنة تخص البشر الذين يعيشون على الأرض, وليس في مملكة السماء، لهذا اقتضى أن يحتفظ كل فريق بما لديه من آمال وأمنيات تبشيرية بالخلاص على طريقته دون إرغام أو إكراه الطرف الآخر على الإيمان بها.
فالماركسيون يقولون إن المجتمع الشيوعي سيكون الأكثر سعادة, حيث لا وجود للطبقات والاستغلال، وسينعم البشر «كل حسب طاقته وحسب حاجته»، أما المتدينون فيقولون إن مملكة الأرض زائلة، والباقية هي مملكة السماء، حيث العالم الآخر الأكثر عدلاً وسلاماً وسعادة، والأرض مجرد دار فناء، في حين أن السماء هي دار استقرار.
ولهذا فإن ترك أو تأجيل مسألة الاختلاف على ملكوت العالم الآخر الآتي سيضع مشكلات الأرض أمام استحقاقاتها، أما ملكوت المستقبل فهو ما زال برحم الغيب، ولن يوصل الصراع حوله أياً من المتدينين أو الماركسيين إلى أي نتيجة تذكر.
المهم البحث في إشكاليات ومشكلات عالم اليوم، حيث النضال المشترك والمصالح المشتركة للفقراء والكادحين، الذي هو الحقل الفعلي والمساحة الحقيقية الممكنة للعمل والتعاون وحتى للصراع، أي ترك مشكلات عالم السماء والبحث في مشكلات عالم الأرض، التي تواجههم يومياً، لأن التمسك بالصراع حول عالم الغيب لن يقرّب بين المظلومين بقدر ما يشتت نضالهم.
لقد اصطدم الحزب الشيوعي الكوبي الذي توحّد مع حركة 26 يوليو مع الكنيسة والابرشيات بعد الثورة وتوّلد انطباع لدى الطرفين بأن صراعهما حتمي واستئصالي، ولذلك حُرما من رؤية رحبة بعيداً عن اللاهوت، إزاء قضايا الحاضر والمستقبل وسعادة ورفاه البشر.
وإذا كان قد حدث تطور مهم في رؤية الكنيسة في أميركا اللاتينية، لاسيَّما لدى المجمع المسكوني في الفترة بين 1962-1965 والتي قادتها إلى أن تلعب لاحقاً دوراً مهماً في لاهوت التحرير، فإن النقاش الذي دار بين كاسترو ومحاوره بيتو عام 1985 عكس رؤية ماركسية جديدة إزاء الموقف من الدين دون مجاملة أو مداهنة أو تنازل، ولكن في إطار قراءة وضعية نقدية للواقع دون تصغير من حجم الآخرين أو تضخيم بالذات. وكان بيتو قد قضى مع كاسترو 23 ساعة عمل كرّسها لرؤيته حول الدين.
إذا كانت هناك جوانب متطورة في هذه الرؤية الجديدة، فإن الكثير من الأحزاب الشيوعية والتيارات الماركسية لا تزال بعيدة عن هذه المراجعة الضرورية، إما تشبثاً بالماضي وإما تجنباً لفتح هذه السيرة وإما مداهنة لتيار إسلامي صاعد في الكثير من البلدان العربية والإسلامية وفي بلدان آسيا وإفريقيا من جانب المتدينين.
لم يكن كاسترو وحده هو الذي درس في المدارس اليسوعية، فقد كان شقيقه راؤول رئيس الدولة حالياً هو الآخر قد درس على أيدي رهبان مسيحيين ويسوعيين في مدينة سانتياغو دي كوبا، وقد حضر -حسبما يقول- من القداسات ما يكفيه لبقية العمر، لكنه لم يبق على إيمانه بالكنيسة، لكنه يعترف أنه حافظ على مبادئ المسيح، وهو لا ينكر هذه المبادئ ولا يجحد حقها. يقول راؤول كاسترو: إن مبادئ المسيح تمنحني أملاً في الخلاص والثورة، إنها تطرد الأغنياء من الجنة خالي الوفاض وتهب الخبز للفقراء، وهو ما ذكّرني بالباحث العراقي هادي العلوي الذي تحدث عن الفلسفة التاوية مشبهاً لاوتسة بالمسيح وأبي ذر الغفاري وماركس، وحسب رأيه فإن المسيح يعتقد أنه لا مكان للأغنياء في الجنة «إنه لأسهل أن يدخل جمل في ثقب إبرة من أن يدخل غني ملكوت السماوات»، التي لا يمكنها أن تستوعبهم.
هل تتعارض الحياة الروحانية مع الحياة الدنيوية المادية؟ وهل هناك ضرورة لاعتزال العالم، واعتزال الحياة اليومية، تحت حجة التأمل والانصراف للاتصال بالخالق، في صومعة خاصة بدير أو أبرشية أو مسجد أو جامع أو خلوة مع النفس ومع الله. لعل هناك نوعاً من القداسة، فبركات الروحانية التي تظهر كمرايا إيمانية لاتباع طريق الحق والعدل، سواءً كانت تجلياً أم انصرافاً لاهوتياً، هي ذاتها التي لا تفصل عن قضايا ومشكلات الحاضر.
وإذا أردنا الحديث عن اللاهوت الخاص بالأناجيل، فهناك لاهوت متى ولاهوت مرقص ولاهوت لوقا ولاهوت يوحنا، ويعني اللاهوت فيما يعنيه انعكاسا للإيمان في نطاق واقع معين. وإن الذي ميّز لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية هو الوجود الجمعي لملايين من الجياع بعيداً عن الشخصانية، وهذا اللاهوت اكتشف أهمية وضرورة اللجوء إلى العلوم الاجتماعية، بما فيها الاستفادة من الماركسية، إذ إن الخوف من الماركسية كما يقول بيتو كان أقرب إلى الخوف من الرياضيات، لأنك تشك أنها ربما تأثرت بفيثاغورس، ولا يمكن لأحد في عالمنا المعاصر أن يتحدث عن التناقضات الاجتماعية دون أن يعزو بعض التقدير للمفاهيم التي بلورها وصاغها ماركس.
كان البابا يوحنا بولس الثاني قد استعار من ماركس عندما تحدث عن التوترات الطبقية والظلم الاجتماعي في رسالته البابوية عن العمل المتفاني الإنساني، والبابا هو نفسه الذي حاول محمد علي أغجا الذي ادعى أنه المسيح اغتياله في تركيا 1981 (كتابنا: قرطاجة يجب أن تدمّر، دار صبرا، نيقوسيا- دمشق، 1985)، واتهمت بلغاريا حينها بتنظيم عملية اغتياله في حملة دعائية وأيديولوجية شعواء، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتحلل المنظومة الاشتراكية، اتضح بطلان تلك الحملة وتم إسدال الستار على القصة بكاملها وقد أنهى أغجا مدة محكوميته في ظرف غامض ليطلق سراحه بعد سجنه 20 عاما.

           


1051
فضاء الثقافة القانونية وحكم القانون
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

ان الحديث عن قيام دولة المؤسسات لا يستقيم بدون الحديث عن حكم القانون، ولعل هذا الأخير يعتبر مدخلاً أساسياً ولا غنى عنه لاستكمال مسيرة الاصلاح والتحديث والتنمية، وما تزال مجتمعات البلدان النامية ومنها بلداننا العربية تعاني من ضعف الثقافة القانونية والحقوقية فيما يتعلق بحكم القانون، وغالباً ما تتم مقاربة الشأن العام بعيداً عن ذلك، الأمر الذي يطبع الممارسات الحكومية وسلوكيات الحكام بالطابع الفردي والتسلطي على حساب أولوية المؤسسات التي يحكمها القانون.
وحتى جامعاتنا ومراكز الابحاث والدراسات المنتشرة في العالم العربي لم تولِ الجهد الكافي للارتقاء بفكرة حكم القانون بما تستحقه من اهتمام رغم كثرة الحديث عن التحولات الديمقراطية وقضايا الاصلاح والتقدم والتنمية والمشاركة وتداولية السلطة والانتخابات واستقلال القضاء، ولعل كل تلك المفاهيم تظل ناقصة بدون مقاربات جدّية ومسؤولة للتمسك بحكم القانون، باعتباره القاعدة التي يمكن الانطلاق منها الى فضاءات المعرفة القانونية والحقوقية والديمقراطية.
إن معظم الدراسات والأبحاث المتداولة في العالم العربي أو التي يتم الاستناد اليها، ظلّت تدور في الإطار النظري أو التنظيري، دون أن تأخذ بنظر الاعتبار، الواقع الذي نعيشه وتعقيداته، ومتغيّراته، ولهذا السبب فإن بعض المقاربات بقيت معزولة أو محدودة التأثير.
وقد تعود المسألة الى حداثة نشؤ الدولة العربية وحداثة مؤسساتها، ناهيكم عن ضعف هياكلها الادارية وتراكيبها الدستورية، التي حالت حتى الآن دون قيام حكم القانون، لاسيما بوجود كوابح اعترضت طريق انطلاقتها، سواءً كانت هذه الكوابح اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية، أو ما يتعلق بالموروث الديني الذي يتم توظيفه سلبياً في الكثير من الأحيان، فضلاً عن التهديدات الأمنية التي تعرضت سواءً في مرحلة الاستعمار أو ما بعد مرحلة الاستقلالات، في الخمسينات والستينات وبخاصة منذ قيام اسرائيل العام 1948، الأمر الذي بحاجة الى ترسيخ البناء القانوني وتعزيز الهياكل القانونية وتحديث القوانين، وتأكيد استقلال القضاء ونزاهته وتأكيد مبادئ المحاكمات العادلة، لاسيما اعتماد العدالة الجنائية في إطار منظومة حقوق الانسان.
ومثل هذا الأمر يحتاج الى جهاز اداري كفوء ونزيه، ومشاركة واسعة من المجتمع المدني والقطاع الاهلي وقطاع الأعمال، في رسم السياسات الحكومية والمشاركة في اتخاذ القرارات المتعلقة بعملية التنمية، كما يتطلب قيام مجالس تمثيلية ذات صلاحيات تشريعية ورقابية.
وقد جاءت مبادرة تأسيس المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة منذ مطلع الألفية الثالثة والذي دخل خطته الستراتيجية الثانية (2010-2014) كمحاولة لسد بعض النقص الفادح في هذا المجال ولنشر وتعزيز الثقافة الحقوقية والقانونية فيما يتعلق بحكم القانون، من زاوية توضيح معالم وأبعاد المفهوم، ثم دراسة تجارب الرصد والقياس للاداء وفقاً لعدد من المعايير، اختار المركز أن يبتدئ بها في مرحلته الاولى وشملت قطاعات أساسية وهي البرلمان والقضاء والاعلام، وقد اختيرت عيّنة من البلدان العربية بغية استكشاف الطريق والتأسيس لآليات معتمدة علمياً ومستندة الى الخبرة والكفاءة، ليتم بعدها توسيع نطاق الدراسة لتشمل نختلف البلدان العربية.
   يعتبر حكم القانون حجر الزاوية في الدولة العصرية، لأنه الخيط الرابط للعلاقة بين مؤسسات الدولة من جهة وبين نظام الحكم فيها من جهة أخرى، ويتجسّد هذا المفهوم بخضوع المحكومين والحكام لحكم القانون، ولعل ذلك واحداً من التحديات التي تواجه بلداننا، لاسيما تحقيق مبادئ العدالة والمساواة والمشاركة واحترام وحماية حقوق الانسان، وصولاً لتحقيق التنمية المستدامة بمعناها الانساني الشامل، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وحقوقياً.
ان تعزيز حكم القانون يعني تعزيز حكم المؤسسات، وحكم الجماعة حيث لا يكون الحاكم سوى ممثلاً عنها لإدارة الشؤون العامة، ويمكن استبداله وتغييره بشكل سلمي وفقاً لانتخابات دورية على أساس تداول السلطة. وبهذا المعنى فحكم القانون يقود الى الحكم الصالح، والعلاقة بينهما طردية، فكلما تعزز حكم القانون تعزز الحكم الصالح والعكس صحيح أيضاً، ومثل هذا التواؤم سيقود الى تعزيز العملية التنموية. وكلما كان القانون حامياً لحقوق الانسان والمعايير الدولية التي أقرّها المجتمع الدولي، فإنه سيضفي مسحة من الانسجام مع القواعد الدولية، إضافة الى أنه سيعزز من قوتها المادية والمعنوية، لاسيما إذا اقتنع المجتمع بها وتبنّاها.
لا توجد حتى الأن وثيقة دولية أو ميثاق أو بروتوكول يحدد ما الذي نعنيه بحكم القانون ويوضح أبعاده، وإذا جادل البعض بوجود الشرعة الدولية لحقوق الانسان، التي تقوم على الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948 والعهدين الدوليين الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادران عن الجمعية العامة العام 1966، واللذان دخلا حيّز التنفيذ العام 1976، وهناك من يضيف اليهما بروتوكولين دوليين ملحقين، الاّ أن مشروع مدونة دولية لحكم القانون لم يتبلور حتى الآن، حيث تبقى الحاجة ماسة وملحّة اليها كوثيقة مستقلة.
وهنا لا بد من تأكيد بعض المبادئ فأولاً لا بدّ من وجود قانون وهذه مسألة بديهية، لنتحدث عن حكمه، وهذا القانون لا بدّ أن يكون منشوراً ومعلوماً ومستقراً، وثانياً السعي لتنفيذ هذا القانون بشكل فعّال وسليم، وثالثاً توفير امكانات لتحديثه وتطويره في ضوء المساحات المستجدة والمتغيرات الضرورية، ورابعاً يفترض أيضاً أن يكون القانون عادلاً ومنسجماً مع الاتفاقيات والقوانين الدولية والشرعية الدولية لحقوق الانسان، وهو طموح للانسجام بين القوانين الوطنية والقوانين الدولية، ولعل مثل ذلك يتطلب وجود قضاء مستقل ونزيه وحيادي وفعّال ويضمن تطبيق القانون لتحقيق العدل والحق.
إن واجب النهوض بالثقافة القانونية العربية يتطلب وجود هيئات أو مجالس تشريعية منتخبة ورفع مستوى الاداء والجودة والخدمات القانونية والقضائية، وتأصيل مفهوم الشراكة الديمقراطية، وترسيخ أسس الادارة الصالحة القائمة على الشفافية والمساءلة وتكافؤ الفرص في القطاع العام ومؤسسات المجتمع المدني، وخطة واسعة لمحاربة الفساد المالي والاداري باعتباره آفة خطيرة تعرقل جهود الاصلاح وتهدر المال العام وتقوّض انجازات التنمية.




1052
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (23) الاشتراكية والإيمان الديني

عبدالحسين شعبان

2010-04-05
سأل الكاردينال سيلفا هرناندز الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عمّا إذا كان الكتاب المقدس الذي قدّمه إليه هدية قد أغاظه، فأجاب كاسترو: "ولماذا؟ هذا كتاب عظيم، قرأته ودرسته في الصبا، وسأستعيد العديد من المسائل التي تثير اهتمامي" لعل هذا ما ينقله محاور كاسترو فراي بيتو عن علاقة كاسترو بالدين ورؤيته للإيمان الديني والموقف من الاشتراكية، خصوصاً وهو يستعرض أحاديثه إلى الرهبان في تشيلي (نوفمبر 1971)، التي كان قد قرأها وهو سجين سياسي في ساو باولو (البرازيل) عندما كان يقضي حكماً بالسجن لمدة 4 سنوات تتعلق بالأمن الوطني.
كان كاسترو قد زار الكاردينال هرناندز زيارة بروتوكولية في سانتياغو؛ حيث كانت كلماته تتردد عن أن "في الثورة هناك عوامل معنوية تغدو حاسمة" وأن الحاجة الموضوعية لشعوبنا لأن تحرر نفسها، وهذه الحاجة تخص المسيحيين والشيوعيين، الذين عليهم أن يتحدّوا من أجل هذا الهدف، ولفت كاسترو النظر وهو يتحدث إلى رجال الدين التشيليين إلى أنه درس في مدرسة كاثوليكية ومع اليسوعيين، الذين وصفهم بأنهم أناس جادون منضبطون، صارمون، أذكياء، ذوو عزيمة قوية، وأردف: لقد قلت هذا دائماً وأقول لكم فيما بيننا إن هناك تشابهاً عظيماً بين غايات المسيحيين وبين تلك التي يسعى إليها الشيوعيون، أي: أن من بين تعاليم المسيحية: التواضع والزهد والإيثار وأن تحب جارك، وبين ما يمكن أن ندعوه فحوى وحياة ونشاط الثوري (انظر: كاسترو والدين، حوارات مع فراي بيتو، مصدر سابق، ص 13-14).
وحول علاقة الدين بالسياسة يقول كاسترو: إن السياسة في عصرنا دخلت في مجال يقترب من الدين، فيما يتعلق بالإنسان واحتياجاته المادية، ونستطيع أن نقارب الوصايا العشر: لا تقتل، لا تسرق، لا تكون أنانياً، لا تستغل الآخرين... إلخ، هناك توافق إذاً بين المسيحية والشيوعية أكثر من 10 آلاف مرة مما بين المسيحية والرأسمالية، ولعله بذلك قصد الجوانب الأخلاقية والروحية والمُثل الإنسانية، خصوصاً إذا استثنينا الموقف من الملكية الخاصة ودورها.
لا ينفي كاسترو أن الإيمان الديني لم يُغرس فيه أبداً، لكنه كان يحترم المقدسات الدينية، ويعتقد أن الدين مُحرّف على أيدي الطبقات الرأسمالية المستغلة؛ حيث وظّفته لصالحها وجعلته في خدمتها، فهناك دين ملاك الأراضي والأثرياء، وهناك دين الفقراء والمستلبين.
لعل الشيء المتقدم الذي كان كاسترو قد طرحه ومنذ وقت مبكر هو الذي يتعلق بالتحالف الاستراتيجي وليس التكتيكي بين المسيحيين والشيوعيين "نحن مع أن نكون حلفاء استراتيجيين، ما يعني أن نكون حلفاء دائمين". وكان كاسترو يردد ألا حاجة لوجود أي تناقض بين الثورة الاجتماعية ومعتقدات الناس الدينية، وحرصت الثورة الكوبية على ألا تقدم نفسها كمعادية للدين.
وبخصوص المسيح كان كاسترو يعتقد أن المسيح ثوري عظيم وأن عقيدته هي لصالح الفقراء وضد الظلم والتعسف وإذلال الإنسان، ولعل ذلك هو المشترك الإنساني الذي يجمع بين تعاليم الدين وبين تعاليم الاشتراكية.
هل ينقسم الناس إلى متدينين وغير متدينين، أي إلى مسلمين ومسيحيين وغيرهم، وإلى شيوعيين واشتراكيين، أم ثمة قسمة أكثر عدلاً، حين يمكن تقسيمهم إلى ثوريين وغير ثوريين حسبما استخداماتنا السابقة، وإلى من هم مع الاستغلال والقهر ومن هم ضده، بغض النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم؟
بودي هنا أن أقول إن الكثير من الحركات الشيوعية والماركسية ارتكبت أخطاء جسيمة عندما بشّرت على نحو ساذج بإلحادية مدرسية نزقة، ما جعلهم "غرباء" إلى حدود معينة في مجتمعاتهم رغم تضحياتهم الكبيرة، لاسيَّما عن جمهور الفقراء الذين يدّعون أنهم يمثلونهم. وهذا هو ما استذكرته في كتابي "تحطيم المرايا.. في الماركسية والاختلاف، حوار: خضير ميري، الدار العربية للعلوم، بيروت 2009" حين استعرضت كتاب المفكر الإيراني الإسلامي علي شريعتي "العودة إلى الذات" والمتعلق بموقف اليسار الماركسي من الدين.
ورغم أن شريعتي يشيد بدور الماركسيين وما قدمه الفكر الماركسي ويعتبره شيئاً مهماً، لاسيَّما لجهة الكفاح ضد الاستغلال والاستعمار والظلم، فإنه يعتبر أن مدخله كان خاطئاً، خصوصاً موقفه من الدين، ولعلي هنا أتفق معه حول بعض التصرفات الطفولية والمراهقة التي حُسبت على الماركسيين والشيوعيين، وكان ينبغي أن يكون مدخلهم هو العدالة وليس الله، فالعدالة هي المشترك الذي يمكن أن يلتقي عنده المتدينون وغير المتدينين، المسلمون والماركسيون وغيرهم، خصوصاً إذا اتسمت بالدعوة إلى الحرية، التي هي القيمة العليا للبشر، وأقتبس هنا ثلاث صور كاريكاتيرية طريفة من شريعتي.
الصورة الأولى: يرسم فيها مثقفاً يسارياً يخاطب جمهرة الفلاحين ويحرضهم ضد السلطات الحاكمة، ثم يقنعهم بالهجوم عليها وأخذ زمام المبادرة لتحرير أنفسهم.
الصورة الثانية: يصوّر فيها جمهرة الفلاحين وهم يسيرون خلف المثقف اليساري لمواجهة السلطة عبر الاستيلاء على رمزها "مركز الشرطة".
الصورة الثالثة: يرسم فيها المثقف اليساري مختبئاً وراء أفراد الشرطة، في حين تطارده جمهرة الفلاحين وتريد قتله؛ لأنه شكّك بوجود الخالق.
ولعل هذه الصورة النمطية تكاد تتكرر على المستوى العالمي، ولكن تأثيراتها أكثر ضرراً وعمقاً في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ إذ إن مجرد التشكيك أو الاستخفاف بوجود الخالق حوّل ما بناه المثقف اليساري برمشة عين إلى الضد منه؛ لأنه تناول قضية مستقرة في أذهان العامة، وتمثل جزءاً من وجدانهم، فانقلب مصدر سخطهم من عدوهم "السلطة الظالمة"، إلى نصير لهم ومدافع عن حقوقهم؛ لأنه شكك بعقائدهم.
لقد واجهت الماركسيين مثل هذه الإشكالات في حياتهم اليومية، ولم يتصرفوا إزاءها بنوع من الحصافة والحصانة الفكرية ومن المعرفة بخصائص وعقائد المجتمع وتاريخ بلدانهم سواء أكانت مسلمة أم مسيحية، ذلك أن المساس بالعقائد المتوارثة سيلحق ضرراً كبيراً بقضية النضال المشترك الذي ستكون مادته هي جمهور الناس البسطاء، المُعدمين، المؤمنين على طريقتهم الخاصة وعلى ما توارثوه من معتقدات وأساطير وحتى أوهام أحياناً، لكن ذلك ينبغي مراعاته على نحو دقيق؛ إذ إن مجرد الاقتراب منه أو الشعور بأن ثمة خدشا له وهو مستقر في الأذهان وغير قابل للنقاش، سيجعل المعنيين بالتغيير في دائرة الرفض، وسيحسب من يحاول ذلك إلى دائرة الإساءة إلى المقدسات، وهو ما يمكن اعتباره استراتيجياً وتكتيكيا أمراً خاطئاً، ولعل هذا هو ما توصّل إليه فيدل كاسترو عند حديثه في إطار النقد الذاتي عن التحالف الاستراتيجي، الدائم بين الماركسيين والمسيحيين.
وبالطبع لا يمكن بلوغ مثل هذا التحالف من الكتب والتفسيرات والتأويلات وحدها، على أهميتها وقيمتها التي لا يمكن الاستغناء عنها، فالأمر يحتاج إلى أرضية يلتقي عندها من هو معني بالتغيير والتحرير ومكافحة الاستغلال، ومن خلال عمل شاق وطويل وتراكم وتطور تدريجي وترويض للنفس.
الشيء الممتع والمثير للدهشة حقاً هو حوار كاسترو مع المتدينين، ولعلك وأنت تتوغل في التعرف والقراءة والنقد، تكتشف أنك أمام شخصية متميزة ومفتوحة وصريحة وتستطيع أن توجّه إليها أي أسئلة دون حرج، بما فيها ألا توافقه في الرأي.
لقد تأثر كاسترو مثلما تأثرنا جميعاً، دون إغراق، لاسيَّما من انحدروا من عوائل دينية أو درسوا في مدارس دينية أو عاشوا في بيئة دينية، ببعض المثل والقيم الدينية الإنسانية، رغم عدم إيمان بعضنا دينياً، إلا أنه، وهذه تجربتي الشخصية أيضاًً، لم نكن محصنين إزاء ما ورثناه من تعاليم، وهذه أضافت إلينا بُعداً أخلاقياً ورمزياً؛ لأننا كنّا نعتبرها قيماً إنسانية اجتماعية وفي الوقت نفسه قيماً ثورية، نتعاطى معها بسليقية وانسيابية.
وسبق أن كتبت قبل عقد ونيف من الزمان عن السيد محمد باقر الصدر (الذي اختفى قسرياً هو وأخته بنت الهدى، عام 1980): "حلق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة"، عن العلاقة بين الماركسيين والإسلاميين، مفرّقاً ما بين الأيديولوجي المختلف، وبين السياسي والاجتماعي النضالي اليومي الذي يمكن أن يكون مؤتلفاً، بحثاً عن الحرية والعدالة، التي يُفترض أن تشكل المشترك الإنساني الذي يساعد في تكوين تصورات مشتركة إزاء أوضاع الظلم والقهر والاستغلال.
وفي هذا المجال كنت قد قرأت نقدياً فتوى السيد محسن الحكيم "الشيوعية كفر وإلحاد" وكذلك موقف السيد محمد باقر الحكيم (المجلس الإسلامي الأعلى) في اجتماع للمعارضة العراقية في دمشق، 1996، وإصراره على استبعاد الحزب الشيوعي، وهو ما نشرته في صحيفة الحياة اللندنية في حينها، وذلك بتغليب طبق الأيديولوجيا على مقبّلات السياسة، خصوصاً أن هناك بعض المشتركات كان الطرفان يعيشانها، لاسيَّما ضغط وكبت النظام السابق، خصوصاً في السجون والمنافي؛ حيث كان الواقع والعقل يقتضيان تقديم السياسة على الأيديولوجيا، ولكن دون تنازل أو تهادن أو استرخاء أو مجاملة، بما فيها للخلاف الفلسفي والفكري.
 


       

1053
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (22) كاسترو والدين

عبدالحسين شعبان

2010-03-29
منذ اللقاء التاريخي بين ماركس وانجلز وصدور البيان الشيوعي في عام 1848 وجهت الماركسية الجدل الفلسفي والاجتماعي التاريخي إلى بؤس الإنسان وأسبابه لا فيما يتعلق بالتفسير فحسب، بل انصبَّ الاهتمام على التغيير، وقد اصطدمت بالكثير من الدعاوى التي حاولت البرجوازية التعكّز عليها ومنها التستر بالدين وارتداء جلبابه أحياناً، ليس دفاعاً عن مملكة السماء، بل للدفاع عن مملكة الأرض «المقدسة»، ونعني بذلك نظام الملكية الذي لا يمكن المساس به، وليس لمثل الدين قدرة «أسطورية» على المواجهة مع الماركسية، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بالملكية، وخصوصاً إذا جرى التعرض لما استقرت عليه المجتمعات، لاسيَّما المساس بالقواعد والأنظمة والقوانين السائدة التي تحمي مصالحها، وكان «اتهام» الماركسية، بالإلحاد والوقوف ضد الإيمان الديني، واحداً من الأسلحة الماضية التي استخدمت ضدها.
أنقل هنا حديثاً لأحد أساقفة المسيحية، وهو الرئيس السابق لأساقفة كانتربري عن علاقة رأس المال بالدين، ولعل مثل هذا الفهم قريب من التفكير الماركسي حين يقول: «إن الرأسماليين يعبدون المال ستة أيام في الأسبوع ويذهبون إلى الكنيسة في اليوم السابع»، ولعلنا من خلال تجاربنا نعرف، كم من الذين لا علاقة لهم بالدين في سلوكهم وتعاملهم، ينتظرون موسم الحج للذهاب إلى مكة، ليغسلوا ذنوبهم كما برر أحد المعارف من رجال الدين، ولا يهمّ إن عادوا إلى عاداتهم، ولعلهم ليسوا بعيدين عنها حتى عندما يكونون في أوج تأديتهم للفروض الدينية، وفي الأماكن المقدسة أحياناً، وفي مقدمتها بيت الله الحرام.
إن مملكة المستغلّين هي الأرض، وليأخذ المؤمنون مملكة «السماء»، لهم وحدهم، ولذلك فقد سعى المستغلون لمنع أية تحالفات بين المؤمنين سواء كانوا متدينين أو غير متدينين وبين الماركسيين الذين تجمعهم أهدافٌ مشتركة ومُثلٌ وقيم ومبادئ مثل الحرية والعدالة والمساواة واحترام حقوق الإنسان، بغض النظر عن الدين واللون والجنس واللغة والقومية والانحدار الاجتماعي، ذلك أن المؤمنين والماركسيين، والمتدينين والعلمانيين، يكتشفون في المُثل المشتركة والجامع الإنساني جوهر الحياة البشرية، فالمسيح والنبي محمد والنبي موسى في لحظة من لحظات النقاء التاريخي قدّموا ملكوت السعادة للفقراء والمظلومين مثلما يحاول الماركسيون تقديمه, وإن كان كل من زاويته، إلا أن الأمر له علاقة بالصيرورة الإنسانية فهو ليس بعيداً عن حلم البشرية للقضاء على الاستغلال وتحقيق حلم الإنسان في الحرية والعدالة والرفاه.
وإذا أردنا تطبيق ذلك على أوضاعنا الراهنة فإن ما قدمه لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية ونضال بعض القوى الدينية، الإسلامية المعادية للإمبريالية والصهيونية في منطقتنا، التقى إلى حدود كبيرة مع نضال التيار الماركسي، ولعل حواراً مفتوحاً وعلنياً واسعاً لا بد أن ينفتح بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين المسلمين والمسيحيين وغيرهم وبين الماركسيين والعلمانيين من جهة أخرى، لاسيَّما في قضايا التحرر ومكافحة الاستغلال ومناهضة الاستبداد، ناهيكم عن العدل والمساواة والسلام.
إن مصدر الشقاء الإنساني هو الاستغلال، ولكي يتم استئصال شأفته لا يمكن انتظار ما تمطره السماء، بل إن العمل والكفاح سيكونان كفيلين بإشاعة الحب والعدل والمساواة، تلك التي بشّر بها الرسل والأنبياء والمصلحون الدينيون والاجتماعيون، وهو ما تبشّر به الماركسية التي تدعو إلى حياة إنسانية تليق بالإنسان.
إن الشوق إلى العدل هو الرسالة المباركة الأساسية لكل من يريد أن يتعمد بالمناعة ضد فيروس الاستغلال والظلم، سواء كان متديناً أو ماركسياً، حالما بمستقبل جديد للبشرية.
في العام 1988 نُشر كتاب في بيروت وعدن بعنوان مثير هو «فيديل كاسترو والدين»، ومثل هذه العناوين لاسيَّما لقادة ماركسيين مثيرة إلى حدود كبيرة، خصوصاً وهي تتحدث عن تابوهات ظل الكثير من الماركسيين، لاسيَّما في عالمنا العربي والإسلامي يتجنبونها، وخاصة بعد مرحلة الطفولة الثورية التي مرت بها الماركسية في بلداننا، حيث تعاملت بخفة ونزق وسذاجة كبيرة في قضايا تخص معتقدات الناس، وبسببها تعرضت إلى نكسات كبيرة، والأمر له علاقة بموضوع الفهم الخاطئ للموقف من الدين وتعاليمه. وهو ما اعترف به فيديل كاسترو في حواراته مع فراي بيتو عندما قال في معرض تقييمه لسنوات الثورة المبكرة: «لقد شُددنا بإحكام إلى أكاذيب وأُرغمنا على العيش معها، لذلك يبدو العالم مرتبكاً عندما نسمع الحقيقة».
إن حوار كاسترو مع راهب دومينيكاني من البرازيل هو فراي بيتو يزيل الكثير من الغشاوة الكثيفة التي غلّفت مواقف الماركسيين والشيوعيين من الدين، وهو يبحث في المشترك الذي يجمع الماركسيين والمسيحيين، وذلك بأسلوب أخاذ على نحو مدهش، الأمر الذي لم يتم التوقف عنده في بلداننا منذ أن قاربنا الموقف من الدين سلبياً، ثم ابتعدنا وكأنه تابو يمنع الدخول في مناقشته أو الحوار حوله.
الحوار الطريف والعميق تم بين رجل دين كاثوليكي يمارس شعائره وطقوسه بإيمانية، مع قائد شيوعي يؤمن بالماركسية، وهو ما ذكّرني بحواري مع المطران جورج خضر (مطران البترون وجبل لبنان) الذي قدّم لكتابي «فقه التسامح في الفكر العربي- الإسلامي: الدولة والثقافة»، دار النهار، بيروت، 2005، وكنت قد عبّرت عنه في الندوة الفكرية التي نظمها المجلس الثقافي للبنان الجنوبي بإدارة الأديب حبيب صادق، والتي شارك فيها إضافة إلى المطران خضر، الناقد السوري محمد جمال باروت.
قلت عندما قرأ المطران مخطوطة الكتاب، لاسيَّما الفقرة الخاصة بالمسيحية، توقف قليلاً ليقول: كنت أشعر كأن مسيحياً يقف خلف شعبان ليكتب ما كتب، وهو ما دعاه بعدها إلى نقده بكتابة مقدمة له، وقد سرّني ذلك كثيراً، ثم بادر إلى سؤالي ولماذا تفضل أن أكتبها أنا دون سواي، أجبته لأنك مسيحي وأرثوذكسي لبناني، وأنا من عائلة عراقية عربية مسلمة، وأنت من جبل لبنان وأنا من النجف، وأنت رجل دين ومطران البترون وجبل لبنان وأنا من عائلة دينية، لها مكانتها في حضرة الإمام علي، وأنت متديّن وأنا علماني، وذلك وحده يكفي لكي نتحدث من موقعين متوازيين عن التسامح، وقال لي ولهذه الأسباب إنه متحمس لكتابة المقدمة، التي وصلتني بعد 4 أيام من تسلّمه المخطوطة، وكانت قطعة أدبية- فلسفية رصينة وجامعة وإنسانية.
بعدها سردت عليه تلك الحكاية التي كنّا نتناقلها منذ سنوات طويلة ومفادها أن رجل دين مسلماً أدار حواراً مع ماركسي ودام الحوار أكثر من ستة أشهر، تأثر الثاني بالإسلام وأبدى إعجابه به، لكن الأول كان قد تأثر بالماركسية وأبدى إعجابه بها، وهو ما تم الاتفاق عليه بينهما لمواصلة العمل المشترك والحوار المستمر وكل من موقعه. وأنا أقرأ حوارات كاسترو مع بيتو تملكني الشعور ذاته لأن كلاّ منهما بنى حججه عن المنابع الأصيلة للمسيحية أو الماركسية، دون أن يتخلى أي منهما عن أفكاره، لاسيَّما الفهم الأكثر عمقاً للأخلاق والسياسة والاستغلال، ثم الحاجة للعمل المشترك لمصلحة الفقراء.
لقد راهن الكثيرون على الاختلاف العقائدي بين المسلمين والماركسيين وبين الماركسيين والمسيحيين وغيرهم، وهو اختلاف لا يمكن ولا ينبغي إنكاره أو تجاوزه، أو محاولة التوفيق بينه على المستوى الفكري مثلما درجت بعض الدراسات لإيجاد مصالحة بين الإسلام والاشتراكية في الخمسينيات والستينيات، وبين الإسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان في الثمانينيات والتسعينيات وما بعدها، لكن تلك المحاولات لم يكن حظها في النجاح وفيراً، فلكلٍ حقله ونطاقه الفكري، دون إهمال المشترك في قضايا النضال السياسي والاجتماعي والحقوقي، ولعل هذا المشترك هو إزاء الحياة الراهنة والممارسة الضرورية، التي تحتاج إلى حيّز مهم من المهارة الفائقة للتلاقي، خصوصاً إذا وضع الطرفان مصلحة الناس وحقوقهم بنظر الاعتبار.
عندما اطلعت خلال مشاهدتي الكوبية على استعادة الكنيسة لدورها سألت عن موقف كاسترو والحزب الشيوعي من الدين، وهو الذي دلّني على الانطباعات الإيجابية الأولى لكاسترو يوم كان يافعاً، ثم اطلعت على أحاديثه ما بعد فترة انقطاع عن الدين، لاسيَّما في العام 1971 في لقاء مع رجال الدين الكاثوليكيين في تشيلي ولقائه العام 1977، بالقساوسة الجامايكيين، وتذكرت ما كان يردده بعد انتصار الثورة وأيامها الأولى من أن «من يخون الفقراء يخون المسيح»، خصوصاً فترة التنافر الشديدة مع الكنيسة.
تلقى كاسترو تعليمه الأولي والثانوي في أفضل المدارس الكاثوليكية في كوبا، لاسيَّما رسالتها الأخلاقية، التي شكلت بُعداً استراتيجيا ناظماً لممارسته الثورية. وقد قال آرماندو هارت عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الكوبي ووزير الثقافة الأسبق، إنه وُجد «ينبوعان من أهم الينابيع التاريخية للفكر والعاطفة الإنسانيين: المسيحية والماركسية، اللتان صوّر أعداؤهما أنهما خطان متوازيان لا يلتقيان أبداً»، ويمكنني القول إن الدين في أميركا اللاتينية كما في بعض التجارب العربية، لاسيَّما في موضوع النضال التحرري ضد الصهيونية والإمبريالية، وجد دروباً جديدة مدهشة، الأمر الذي يستحق وقفة جدّية للتفكير والبحث والعمل والنقد الذاتي أيضاً، لاسيَّما للأخطاء والثغرات التي مورست خلال العقود الماضية من الزمان.


        
   

1054
المنبر الحر / الشراكة والتنمية
« في: 22:18 31/03/2010  »
الشراكة والتنمية


عبدالحسين شعبان
يعتبر البنك الدولي مسألة الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص والمجتمع المدني مسألة أساسية لتطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي بهدف تحقيق التنمية البشرية . ولعل مفهوم الشراكة واصطلاحاتها كانت قد دخلت الأدب السياسي والاقتصادي والحقوقي في إطار إرهاصات التغيير الدولي والإقليمي التي شهدتها سنوات الثمانينات، والتي اتسعت في أواخرها بانهيار الأنظمة الشمولية وسقوط جدار برلين، الأمر الذي أخذ يتردد كثيراً في وثائق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، بما فيها جامعة الدول العربية، وقد أقرّت بعض البلدان العربية في السنوات الأخيرة مسألة الشراكة مع المجتمع المدني، وإنْ بتحفظ أحياناً .

وقد شهد العالم مبادرات كثيرة للأمم المتحدة طبقاً لمبدأ الشراكة، منها مؤتمر ريوديجانيرو العام ،1992 والمؤتمر الدولي الثاني لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا العام ،1993 والمؤتمر الدولي للسكان والتنمية العام ،1994 وقمة العالم للتنمية الاجتماعية ومؤتمر بكين العالمي للمرأة العام ،1995 وقمة الألفية الثالثة للتنمية العام ،2000 ومؤتمر ديربان العالمي حول العنصرية العام 2001 وغيرها، وارتبط مفهوم الشراكة بالتنمية وبالسياسات التنموية دولياً وإقليمياً .

وقد انتقل مفهوم الشراكة من النطاق الاقتصادي والإداري وعلاقات السوق إلى النطاق الذي يبحث في شراكة المجتمع المدني مع الحكومات، خصوصاً وقد أصبح وجود منظمات مدنية شريكة للحكومات وقوة اقتراحية وتكاملية على النطاق الدولي، مسألة لا غنى عنها لعملية التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي حدثت معه تطورات على صعيد القوانين الناظمة والعلاقات القانونية لهذه الشراكة وآفاقها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .

وإذا كان مفهوم الشراكة جديداً بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، لاسيما في البلدان النامية ومنها البلدان العربية، فإن الأنظمة الديمقراطية اعتبرته مسألة ضرورية لإحداث التغيير والتحوّل الاجتماعي، بتعاضد الجهود وتكامل المهمات بين الدولة والمجتمع المدني، خصوصاً في ظل مصالحة بينهما تقوم على أساس التكامل والتفاعل، وليس الصدام والصراع .

الشراكة تعني الاتفاق بخصوص تحقيق أهداف مشتركة أو محدودة، ويفترض أن تتضمن شكلاً من أشكال الاعتراف بالآخر وبدوره كطرف شريك كلياً أو جزئياً طالما يمكنه أن يساهم في عملية التنمية .

يمكن القول إن مفهوم الشراكة، هو مقاربة تنموية لعلاقة حكومية مع المجتمع المدني، لاستكمال وملاحقة قدرات وامكانات الطرفين، لتحقيق أهداف محددة، بحيث يتم ضمّ المزايا النسبية لكل طرف إلى الطرف الآخر في إطار تشاركي، ويتحمل كل فريق المهمات التي يستطيع القيام بها في إطار من التوافق، سواءً في تحديد الأهداف أو الوسائل أو عملية البرمجة والتخطيط أو في التنفيذ والمراقبة والمتابعة .

لعل موضوع الحديث عن الشراكة وعلاقته بالتنمية، كان محور نقاش مثير في مؤتمر حول الطفولة ودور المجتمع المدني وعلاقة ذلك بالتنمية، وكان المجلس العربي للطفولة والتنمية وبرنامج الخليج العربي للتنمية وجامعة الدول العربية وشركاء آخرون قد هيأوا لتنظيم هذا المؤتمر المهم، والذي ترافق معه ورشة عمل وحوارات بين الاعلاميين ونشطاء المجتمع المدني أدارها المشرف العام على المجلس العربي للطفولة والتنمية، الخبير الإنمائي د .حسن البيلاوي .

وكانت مسألة الفقر قد استحوذت على الكثير من المناقشات، لاسيما أن لها تأثيرات عالمية وانعكاسات عربية وإقليمية، حيث تبلغ نسبة الفقراء أو ما دون حدّ الفقر أكثر من مليار و200 مليون إنسان، بدخل لا يزيد على دولار واحد في اليوم، الأمر الذي ينعكس على مستوى التعليم والصحة والخدمات والتنمية بشكل عام، لاسيما على الطفولة والمرأة والأقليات والمهمشين واللاجئين وأصحاب الإعاقة وذوي الاحتياجات الخاصة .

وما زالت علاقة الدولة بالمجتمع المدني في عالمنا العربي متوترة وغير تصالحية، وهي علاقة ضدية تعارضية، بحيث تمظهرت بقوة احتجاج واعتراض من جانب المجتمع المدني، لاسيما في ظل شحّ الحريات، وقوة قمع وتحريم من جانب الدولة، الأمر الذي يحتاج إلى أن تتحول إلى قوة شريكة واقتراح وتكامل من جانب المجتمع المدني . أما من جانب الدولة فينبغي القبول بدور المجتمع المدني والإقرار بحقه في المشاركة والتنمية، ودراسة اقتراحاته ومدى مساهمته في التخطيط والتنفيذ .

ولعل مثل هذا التوجّه يمكنه بناء استراتيجيات وسياسات وطنية تسهم في عملية التنمية وتأخذ في الاعتبار دور المجتمع المدني الحر المستقل والسلمي الطامح إلى التغيير في إطار عملية تنمية وتراكم ومراقبة، للحد من ظاهرة الفقر، ومثل هذا الدور لا بدّ لمؤسسات المجتمع المدني أن تضطلع به كشريك، لاسيما الدور التنموي في ما يتعلق بالطفولة بشكل خاص .

ويتطلب هذا من الحكومات التشجيع على تأسيس منظمات للمجتمع المدني مستقلة ومعنية بالتنمية وتوفير مناخات وبيئات مناسبة لتطورها، تشريعية وتربوية وإعلامية وقضائية، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بالتشريعات المقيِّدة للحريات وللحق في تأسيس الجمعيات، كما يتطلب الأمر من الحكومات إشراك المجتمع المدني والتعامل معه كشريك وليس كديكور أو تابع، بهدف الحصول على تزكية مجانية من منظمات مدنية، وإن كانت شكلية أو تابعة للدولة أو حتى مؤسسة من قبلها أحياناً، ولعل ذلك لن يخدم عملية التنمية، كما لا يخدم قواعد الشراكة المنشودة .

وقبل هذا وذاك، لا بدّ من توفّر قاعدة بيانات متخصصة بالمنظمات والمؤسسات المعنية بالتنمية، وهذا ما أشار إليه الباحث اليمني الخبير في الأسرة والطفولة بجامعة الدول العربية، محمد عبده الزغير، ويمكن القول إنه لا تنمية من دون شراكة من جانب المجتمع المدني، خصوصاً التنمية بمعناها الشامل، البشري الإنساني، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحقوقي .

 

باحث ومفكر عربي


1055
كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (21) «الشبح» والأسطورة: هل اختلط شبح جيفارا بشبح ماركس؟
عبدالحسين شعبان
2010-03-22
ظلّت حكومة بوليفيا تطارد جيفارا لعدة أشهر، منذ أن شاع خبر التحاقه على رأس مجموعة ثورية لتحضير الثورة في الأدغال، ليزحف بها من الريف إلى المدينة، يومها جنّدت المخابرات المركزية الأميركية جميع إمكاناتها وبالتعاون مع حكومات أميركا اللاتينية -لاسيَّما حكومة بوليفيا- لتعقّب تحركاته ومعرفة مكانه، وسعت لاختراق التنظيمات التي كان يقودها، كما عملت لتوسيع رقعة الخلاف الذي دبّ بينه وبين الحزب الشيوعي البوليفي الذي يعمل ضمن المحور الرسمي للحركة الشيوعية بقيادة موسكو، وذلك بنشر نقاط الخلاف والمبالغة فيها، إضافة إلى معلومات مضللة.
لقد تلاقحت أوضاع البؤس التي كانت تعيشها أميركا اللاتينية مع النفحة الرومانسية الواعدة التي أطلقتها الثورة الكوبية والحركة الجيفارية، لدرجة أصبحت كل خطوة مهما كانت بسيطة تقلق الدكتاتوريات والقوى المستغلة والمحافظة، لاسيَّما حين يستقبلها الشباب المتطلع إلى الحرية والعدالة بحيوية مفعمة بالاحترام، الأمر الذي كان ينذر بفتح جبهات شبابية جديدة وتجنيد فتيات وفتيان من كل القوميات والأديان للنضال ضدها، هكذا تصوّرت القوى الاستغلالية والإمبريالية أن الشبح حاضر وموجود، أينما وحيثما اتجهت أو توجهت فستجده أمامها.
وإذا كان شبح ماركس الذي أرعب أوروبا العجوز في القرن الثامن عشر، حيث كان بلحيته وقلمه وخلفه كادحون ومستلبون، يبشّر بغدٍ أكثر إشراقاً وسعادة للإنسانية، لاسيَّما بالخلاص من حكم الاستغلال، فإن ما كان يقلق الرأسمالية والإمبريالية في إطار الموجة الجديدة للاشتراكية في أميركا اللاتينية، هو ما كان يدعو إليه جيفارا، ولكن ببندقيته وقبعته العسكرية وسيجاره المميز.
ومثلما استحكم حكام أوروبا حينها، لاسيَّما بعد صدور البيان الشيوعي العام 1848، وفيما بعد عند حدوث كومونة باريس العام 1870، وسقوط إحدى أهم قلاع الرأسمالية حينها، فقد استحكمت «أميركا اللاتينية» وحكوماتها الرجعية والدكتاتورية، وبقيادة مباشرة من الولايات المتحدة، لتطارد الشبح الجديد -الذي حاول أن ينقل الثورة إلى إفريقيا ويدعو إلى لقاء ممثلي القارات الثلاث: آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية- لملاحقته، مخصصةً مجموعةً عسكريةً متخصصةً زادت على 1500 جندي.
ولعل الأهم من السعي لقتله، كانت محاولة القضاء على أسطورته التي ظلّت تتناقلها الألسن والدفاتر والصحف والمعامل والساحات والحقول وقلوب الشابات والشبان في كل مكان، بغض النظر عن نجاحه أو فشله في تحقيق حلمه الثوري، وبغض النظر عن صواب أو خطأ منهجه، لكن ما هو مؤكد أنه كان شجاعاً وحالماً، وساعياً لتحقيق العدالة على النطاق العالمي، وهو ما ينبغي أن يخضع لسياقه التاريخي.
لقد حاولت الدعاية الإمبريالية في حينها أن تنقل كلمة على لسانه ساعة احتضاره، بقوله: «أنا تشي غيفارا، لقد فشلت»، وبذلك ضجّت الوكالات بتكرارها ونقلها وكأنها هي النهاية المحتّمة لكل من يناضل من أجل الحرية والعدالة بطريقة لا تريدها القوى المتنفذة.
وإذا كان النجاح والفشل نسبيّين، فإن جيفارا فشل في الوصول إلى تحقيق هدفه، وهو أمرٌ مؤكد، فليس كل من يختار طريقاً صحيحاً فإنه بالضرورة سيصل إلى هدفه وسينجح في مهمته، ولا بدّ من توفّر عوامل سياسية ولوجستية وجيوبولتيكية وتوازن قوى، لكن ما هو مؤكد أنه نجح بصدقيته في طريقة التعبير، كما نجح في جرّ مئات الآلاف إلى النضال ضد الاستغلال وضد الإمبريالية والاستبداد، وهو نجاح باهر ومنقطع النظير، لأنه جسّد رمزية رومانسية ثورية حالمة وصادقة، حتى وإن اختلف الثوريون حول جدوى الأسلوب الذي اختاره وتوقيته وأفق عملية التغيير التي سعى إليها، ولعلهم أكثر اتفاقاً حول طهرية وصدقية ونجاعة سجاياه الشخصية والنضالية وإنسانية الأهداف التي دفع حياته ثمناً لها. وكان خطاب كاسترو بعد أيام من مصرع جيفارا جواباً على الغدر ومنطق الخديعة، وإعلاناً جديداً بمواصلة النضال، بتأكيده أن «النضال سيستمر بعد موت تشي، والحركة الثورية لن تتوقف».
وقبل فترة قصيرة نشر فيلكس رودريجيس -العميل السابق لجهاز المخابرات المركزية الأميركية CIA- عبر الإنترنت صوراً لأول مرة عن إعدام جيفارا، وهذه الصور تمثل حياة الثوري الأرجنتيني قبل إطلاق الرصاص عليه في «لا هيغويرا» في غابة «فالدي غراندي» في بوليفيا في 9 أكتوبر العام 1967. وتُظهر الصور كيف تم أسر جيفارا وإلقاؤه على الأرض، ووجهه المتورم الكثير الكدمات، ودمه المسفوح بجواره، وعينيه شبه المغلقتين، والجديد أيضاً هو ما قاله رودريجيس عن بتر كفيه بعد قتله، لأجل التعرّف على بصمات أصابعه، ثم القيام بحرقه.
وإذا كان الذئب المفترس يحوم حول جيفارا ويلاحقه كظلّه، فإن شيئاً آخر شاطره حياته أيضاً، وهو مرضه، حيث كان مصاباً بالربو وتأتيه نوبات موجعة، وكان يئن زفيراً ويتمزق صدره لقلة الأكسجين، لكن شعلة الحرية الحمراء المتوهجة ظلّت ما يرنو إليه، وهي ما يريده وما يسعى له، مرفقة بالعدالة، وظلّ وفيّاً لها حتى آخر لحظة في حياته القصيرة.
لم يكن الموت يخيف جيفارا، وكان يتشهى موته، فقد قال مرّة لرفيق له العام 1957، وهما يقاتلان جنباً إلى جنب في الأدغال، وكانت القوات الحكومية التابعة لباتيستا تمطرهما بالرصاص: «أتدري كيف أتمنى أن أموت؟ ثم يجيبه: مثلما مات بطل قصة جاك لندن.. لقد تجمّد حتى الموت في أراضي ألاسكا البيضاء المقفرة، فاستند بهدوء إلى شجرة، واستعد لمواجهة الموت بصمت وكبرياء». كان جيفارا يتمنى عندما يأتيه الموت، أن يستريح عند جذع شجرة، ليهدأ زفيره الداخلي، ثم يموت بصمت، لكنه لن ينسى أن تكون بندقيته معه، لكي يفرغ ما تبقى فيها من رصاص في العدو الذي يهاجمه خلف الأشجار.
قال جيفارا لكاسترو في الرسالة الأخيرة التي وجهها له العام 1965 قبل اختفائه: «ذات يوم، سألنا عن الشخص الذي ينبغي إنذاره أو إبلاغه عند موت أحدنا، وفوجئنا جميعاً لهذه الإمكانية الحقيقية، ثم أدركنا أن الثائر الحقيقي: إما أن ينتصر أو يموت. وكثيرون سقطوا في طريق النصر الطويل.. بمعنى إن لم يتحقق النصر فسيكون الموت حليفنا المنطقي».
ولعل أكثر ما تردد على لسان جيفارا عن الموت -وهو ما نشر عنه وزيّن واجهات ومكاتب المقاومة والحركات الثورية الفلسطينية والعربية- قوله: «لا يهمني متى وأين سأموت، ولكن يهمني أن يبقى الثوار منتصبين، يملؤون الأرض ضجيجاً، كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق أجساد البائسين والفقراء والمظلومين».
ولعل هذا ما أراده جيفارا، فقد أفرغ ما في جعبته في المعركة، ونفد عتاده، وحينها استقبل الموت كزائر تصالح معه بعد طول مطاردة وعناء، وبقدر ما كان موته مصدر حزن وأسى بالغين للثوريين واليساريين من كل الأشكال، ورغم اختلافاتهم مع توجهاته، فقد كان ابتهاجاً منقطع النظير للقوى الاستكبارية العالمية الرأسمالية والاستبدادية على المستوى الدولي والمحلي أيضاً، التي اعتقدت أن القضاء على الرمز يمكن أن يقطع الطريق على نشوء وتبلور حركة ثورية فاعلة.
وإذا كانت حياة جيفارا قد شهدت صخباً وضجيجاً، فإن موته هو الآخر كان الأكثر إثارة وغموضاً، وإذا كانت حياته قد توقفت، فإن إشعاع الفكر الجيفاري لم يتوقف، وهو اليوم الأكثر دراسة ومراجعة ونقداً وارتباطاً بالفكر الماركسي ذاته، خصوصاً في ظل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية منذ أواخر العام 2008 والتي قد تدوم -حسب بعض التقديرات- إلى مطلع العام 2012، وإن رمزيته كباحث عن العدالة على المستوى الأممي ازدادت تأثيراً، لدرجة أن قوى اليسار في أميركا اللاتينية -وهي اليوم تنهض عبر شعار «الثورة في صندوق الاقتراع»- لم تنس دور جيفارا الذي حفر الثورة بيديه في الستينيات، وكان جسراً نحو لاهوت التحرير في الثمانينيات، ثم انخرطت الملايين لتدلي بأصواتها للمثل والقيم التي دعا إليها في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة، حين أحرز اليسار انتصارات كبرى في أميركا اللاتينية، من كوبا كاسترو إلى هوغو شافيز في فنزويلا، مروراً بعدد من أقطار أميركا اللاتينية.


           

1056
الموساد والجريمة والعقاب   



عبدالحسين شعبان
في 19 يناير/ كانون الثاني قتل محمود المبحوح القيادي في منظمة حماس الفلسطينية في غرفته بدبي، وسارعت شرطة دبي إلى تحقيقات سريعة ودقيقة لجمع خيوط الجريمة التي حامت منذ اللحظة الأولى حول ضلوع جهاز الموساد “الإسرائيلي”. وتوصلت الشرطة الإماراتية بعد 16 يوماً من التحقيق والتدقيق إلى توجيه اتهام صريح ومباشر إلى الموساد، الذي جنّد 27 متهماً (حتى الآن) كانوا ضالعين بالتنفيذ بعد أن زوّدهم بجوازات سفر أوروبية وغربية.

لعل طريقة الكشف عن الأدلة وعرضها على الجمهور عبر شاشات التلفزيون، ناهيكم عن السخاء الإعلامي الذي اتسمت به والذي أعقب الجريمة بعد الإعلان عنها، لاسيما بعد تحليل نحو 648 ساعة كاملة من الأشرطة المصوّرة لجميع المتهمين، دلّت على حرفية هذه العملية البارعة الفريدة من نوعها، الأمر الذي يثير سؤالاً كبيراً حول جهاز الموساد “الإسرائيلي”، الذي ظلّت الدعاية تصوّره وكأنه “أسطورة” خارقة لا يمكن تجاوزها، وإذا به يستخدم أساليب ووسائل تعود إلى الستينات والسبعينات وليس إلى مرحلة العولمة وثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والثورة الرقمية، وكأنه يعيش خارج الزمن، إذْ لم يعد أسلوب التخفي والتنكر الذي قام به فريق الاغتيال مجدياً، بل إنه اتسم بالبدائية والسذاجة، مثل استخدام الباروكة أو ارتداء ملابس التنس أو ادعاء ممارسة الرياضة، تلك التي تثير ارتياباً أحياناً أكثر من كونها تسهم في إخفاء الهوية، لاسيما الجلوس طويلاً في الملعب قبل ممارسة لعبة التنس، فضلاً عن أن الصور كشفت أن من يقوم بتلك الممارسة لا يجيد مسك مضرب التنس.

وفي تطور جديد طلب الفريق ضاحي خلفان تميم من المدعي العام توجيه مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو ورئيس الموساد مئير داغان، باعتبارهما مسؤولين عن ارتكاب الجريمة بحكم موقعيهما، وهما من أصدرا الأوامر باغتيال المبحوح، وحسب ما نُشر فإن لقاءً كان قد جمع المسؤولين “الإسرائيليين” مع المرتكبين قبيل تنفيذ العملية الإجرامية بأيام، تلك العملية التي يمكن تصنيفها كجزء من الإرهاب الدولي، الذي تمارسه  الحكومة “الإسرائيلية”، ناهيكم عن انتهاك صارخ وسافر للقانون الدولي المعاصر ضد سيادة دولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة، فضلاً عن استخدام جوازات سفر دبلوماسية لدول أوروبية وغربية، الأمر الذي يستوجب كشف خفايا هذه القضية، سواءً كانت عبر تواطؤ أو “ تخادم” أو “تزوير” أو “استغلال” مواقع نفوذ شخصية أو السكوت عنها، لكنها بكل المعايير تجاوز على القواعد والأعراف الدبلوماسية، لاسيما اتفاقيتي فيينا حول العلاقات القنصلية والعلاقات الدبلوماسية لعامي 1961 و1963.

لقد أقرّ ميثاق الأمم المتحدة مبادئ العدالة وأكد احترام الالتزامات الناجمة عن المعاهدات والاتفاقيات الدولية، باعتبارها أحد أهم مصادر القانون الدولي المعاصر، ومع ذلك فإن رقعة الانتهاكات للقانون الدولي لا تزال مستمرة وإن حجم الارتكابات مثير للقلق، وهو ما يضع علامات استفهام كبيرة وجدّية أمام المجتمع الدولي بشأن نظام العدالة السائد.

إن مسألة الجريمة والعقاب لا تتعلق بقصة المبحوح فحسب، رغم أنها كشفت حجم الإرهاب الدولي، الحكومي، “الرسمي” الذي تقوم به “ دولة” عضو في الأمم المتحدة، وكانت “ الدولة” الوحيدة التي اشترطت عليها المنظمة الدولية تأمين احترام حقوق الإنسان، لاسيما لعرب فلسطين والإقرار بحق اللاجئين بالعودة بالقرار 194 الصادر عام ،1948 لكن هذه الجريمة أعادت مطالبة المجتمع الدولي وهيئات حقوقية ودولية بملاحقة المرتكبين “الإسرائيليين” وتوجيه لائحة اتهام ضدهم.

إن بحث مسألة الجريمة والعقاب لا يتعلق بجانبها النظري فحسب، بل بالجوانب العملية، وبخاصة بتحديد المسؤولية عن الارتكابات، بما له علاقة بالضحايا وجبر الضرر والتعويض، ناهيكم عن معاقبة المسؤولين وإصلاح نظام العدالة، ف”إسرائيل” على مدى أكثر من ستة عقود من الزمان كانت تعفي نفسها من أية مسؤولية سياسية أو جنائية أو مدنية أو أخلاقية، تجاه خرقها للقوانين الدولية والإنسانية، ولعل ذلك ما ذهب إليه تقرير غولدستون باسم لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق، لاتهامه “إسرائيل” بارتكاب جرائم ترتقي إلى جرائم الحرب، التي يحاسب عليها القانون الدولي.

إن الإقدام على اغتيال المبحوح بدم بارد يعني أن “إسرائيل” لا تزال غير مكترثة بالقانون الدولي، فهي في الوقت الذي تمارس إرهاباً دولياً على أراضي دولة الإمارات وضد قيادي فلسطيني، فإنها تتجاوز سيادات عدد من البلدان، منتهكة بكل استخفاف قواعد القانون الدولي، غير عابئة بردود الفعل الدولية، خصوصاً استخدام جوازات سفر دبلوماسية لعدد من البلدان الأوروبية والغربية. ولذلك فإن إصرار دولة الإمارات العربية المتحدة على ملاحقة المرتكبين وكشف خيوط الجريمة يعني وضع المجتمع الدولي والأمم المتحدة أمام مسؤولياتهما، لاسيما الاستحقاق القانوني بعدم إفلات المرتكبين من العقاب، وكذلك الكشف عن حجم التواطؤ الدولي، سواء بتسهيل المهمات أو السكوت عن الجريمة أو عدم اتخاذ إجراءات جدية إزاء استخدام جوازات سفر دبلوماسية لعدد من البلدان، حيث قام الموساد بتزويد المرتكبين بها لتنفيذ مهمتهم.

وهنا يمكن اللجوء إلى القضاء الوطني لعدد من الدول لملاحقة المتهمين بارتكاب جريمة اغتيال المبحوح، خصوصاً أن نحو 47 دولة غربية تسمح قوانينها باتباع هذا الطريق رغم الضغوط “الإسرائيلية” والأمريكية، لاسيما أن الولاية القضائية لا تنحصر عند مكان أو زمان وقوع الجريمة، بل تقضي بملاحقة المرتكبين، بغض النظر عن جنسياتهم، طالما ارتكبوا جرائم بحق الإنسانية أو جرائم الإبادة الجماعية، أو جرائم الحرب، وتلك التي يقع في تصنيفها جرائم الإرهاب والتعذيب والاختفاء القسري وغيرها، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.

كما يمكن اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية التي تم تأسيسها في روما العام 1998 ودخلت حيز التنفيذ العام ،2002 لملاحقة المتهمين باتباع الإجراءات القانونية التي يحددها ميثاقها.

وإذا ما استمرت الملاحقات على الوتيرة ذاتها وصولاً إلى نهاية الشوط، فهل ستبقى أسطورة “الموساد”؟

 

باحث ومفكر عربي



1057
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (20) القبعات الخضر والصيد الثمين!
عبدالحسين شعبان

2010-03-15
أخيراً تمكّن ذلك "الذئب" اللعين الذي ظل يترصّد جيفارا في حلّه وترحاله من الإمساك به، ثم افترسه على نحو شرس وفي ظرف ملتبس وغامض، حيث تعددت الروايات حول مقتله.
وكانت السلطات البوليفية قد ألقت القبض على المفكر الفرنسي "الماركسي" ريجيس دوبريه (أبريل 1967) وسجنته وعذبته، وحاولت أن تنتزع اعترافات منه حول مكان اختباء جيفارا، حيث اتهمته بالتعاون مع جيفارا في حرب العصابات "الأنصار" التي قادها في بوليفيا على رأس عصبة ماركسية اختارت طريق الكفاح المسلح والعنف الثوري، معتقدة بأن إنزال الضربات بالعدو ومباغتته بالهجوم بفرق مسلحة، لا سيما في الريف والأطراف يمكن أن يحقق الانتصار عليه، ويمهّد الطريق للوصول إلى العاصمة.
وبعد عمليات تعقّب معقدة وطويلة واكتشاف بعض الخيوط والحلقات الموصلة إلى مكان وجود جيفارا، وفي محاولة دعائية في إطار الحرب النفسية، "بشّر" الرئيس البوليفي الجنرال رونيه بارينتوس "العالم" بأن عملية اصطياد جيفارا باتت وشيكة، وأنه واثق هذه المرة من إلقاء القبض عليه حياً أو ميتاً، بعد أن كانت الإشاعات الرسمية قد "قتلته" عدّة مرات وأعلنت عن موته، لكنها هي نفسها عادت وكررت خبر ملاحقته ومحاصرته واحتمال إلقاء القبض عليه أو قتله.
ولعل واحداً من أسباب ثقة الرئيس بارينتوس يعود إلى تخلّي بعض أنصار جيفارا عنه ومحاولتهم كشف مكان وجوده، لا سيما بعد أن خصصت السلطات البوليفية مبلغ 5.000 (خمسة آلاف دولار) هدية لمن يبلّغ عنه، وثانيهما وهو الأهم اعتماد السلطات البوليفية على قوات متخصصة في حرب العصابات، والسعي للتصدي للأنصار بوسائل مستحدثة وقديرة.
وكانت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) قد أنشأت في بنما مدرسة حربية العام 1949، وتألف طاقمها القيادي من مجموعة من الخبراء العسكريين برئاسة الجنرال بورتر، وهي مدرسة لتأهيل وتدريب عالية الكفاءة، لتخريج ضباط متخصصين بفنون الحرب في أميركا اللاتينية، الشاسعة والبالغة الصعوبة، وقد أضيف إلى اختصاصات المدرسة الحربية وعلى المنهج التدريبي والتأهيلي قسم جديد يتعلق بتدريب الجنود على أصول ووسائل حروب الغوار (العصابات) Gurrelia war لمواجهة الثوار في أميركا اللاتينية، لا سيما بعد انتصار الثورة الكوبية العام 1959 والخوف من امتدادها إلى دول القارة التي كانت أشبه بمرجلٍ يغلي، خصوصاً بصعود نمط التفكير الجيفاري، والدعوة إلى تأسيس البؤر الثورية في الريف، للانتقال بالثورة من الأطراف إلى القلب، بالزحف على المدن، لا سيما العواصم ومراكز التمدن.
لقد كانت مدرسة بنما نموذجاً للتعاون ما بين القوى المهيمنة على أميركا اللاتينية بقيادة الولايات المتحدة، والحكّام الدكتاتوريين لمواجهة المدّ الثوري، الذي تحرّك في مطلع الستينيات، وتضمن البرنامج التدريبي 40 أسبوعا من التدريب المتنوّع في ظروف وعرة وقاسية وتشبه إلى حدود غير قليلة، أوضاع حروب العصابات وتحمّل المصاعب والظروف الديموغرافية والطبيعية القاسية. وأوكل إلى خريجي مدرسة بنما الذين تدربوا على أيدي ذوي "القبعات الخضر" مطاردة جيفارا ونصب الكمائن له للإيقاع به تمهيدا لتصفيته، حيث تصاعد نشاطهم في مطلع العام 1967.
كان الرئيس البوليفي بارينتوس قد صرّح للصحافيين بأنهم توصلوا إلى محاصرة ريمون إحدى القيادات "المتمردة"، ولم يكن يعرف أنه أحد الأسماء المستعارة التي كان يستخدمها جيفارا في تحركاته بين الفصائل الأنصارية، وأكّد أنه سيلقي القبض على "تشي"، وتأتي بقية القصة حيث كان قد اعتقل اثنان من أنصار جيفارا واعترفا أثناء التحقيق معهما وتعذيبهما بأنهما يعرفان مكانه، وأن مرض الربو اشتد عليه، ثم قاما بإرشاد القوات البوليفية المتعاونة مع خريجي مدرسة بنما بطريق الوصول إليه، فدارت معركة طاحنة يوم 8 أكتوبر 1967 في منطقة "لاهيغويرا" بالقرب من "فالدي غراندي" وقتل 6 من الأنصار إضافة إلى جيفارا نفسه الذي جرح وظل يعاني حتى لفظ أنفاسه الأخيرة يوم 9/10 بعد أن اخترقت جسده 9 رصاصات ثم أحرق جثمانه.
وبغض النظر عن رواية أسره حياً أو جرحه وغيابه عن الوعي أو قتله بإطلاق الرصاص عليه في المعركة، ثم مفارقته الحياة، فإن روايات كثيرة وغامضة ظلّت تكتنف غيابه، بما فيها رواية تقول عن أسره وتعذيبه بعد إلقاء القبض عليه، لكن أخطر تلك الروايات وأكثرها ألماً بالنسبة للثوريين وأصحاب المبادئ والقيم الذين يكرّسون حياتهم من أجلها هو خيانة الأوساط المقرّبة إليه، وبخاصة من رفاقه أو من المتعاونين مع قوات الأنصار، أو من يدافع عنهم وأعني بذلك، بعض الفقراء أو الكادحين، ممن يتم الضغط عليهم.
ولعل ثمة حكايات كثيرة عن الاختراقات الأمنية يعرفها من عاش وعمل مع القوات الأنصارية، مثلما تعرفها القوى الفلسطينية المسلحة. وحسبي هنا أن أشير إلى الرواية التي تقول إن السلطات البوليفية ورطت أحد الأنصار القدامى بجائزة مالية للأدلاء بمعلوماته عن جيفارا، تلك التي ضعف أمامها فسهّلت كشف مكانه ومن ثم تصفيته.
ولعل أجواءً سلبية كانت قد نشأت حتى داخل الأوساط الماركسية، لا سيما الرسمية، التي وقفت ضد "استراتيجيته" في الكفاح المسلح، بغض النظر عن صوابها أو عدم صوابها، فتسريب المعلومات عن الخصم أو المنافس، مهما كانت الحجج والادعاءات لا يخدم بالنتيجة إلا العدو المشترك، ومع كل ما قيل لا يوجد ما يؤكد أو ينفي، الدور الذي لعبته مثل تلك "الثرثرات" في الوصول إلى جيفارا واغتياله، لكن ظروف المنافسة وادعاء الأفضليات تدفع أحياناً إلى التصرف على نحو لا مسؤول في الكثير من الحركات الثورية والسرية بشكل خاص.
هكذا باعه بعض رفاقه إلى العدو لينتقم منه ويقتله بتلك السادية الوحشية وهو الذي ظل يسخر من الموت، لذلك ظل الكثيرون يعتقدون بأنه جيفارا لم يمت وأن الإعلان عن مصرعه، ليس سوى خدعة إمبريالية، وبقي أفراد عائلته والده وشقيقه يبحثان عنه ويتوقعان أن الثوري الشجاع والمشرد الأبدي سوف يتواصل معهم في أية لحظة ليقول لهم: إنه انتقل إلى بقعة أخرى من العالم ليواصل نضاله من أجل إسعاد البشر والدفاع عن حقوقهم.
لقد قتلوا جيفارا عدة مرّات وأعلنوا ذلك للعالم، الأمر الذي لم يصدقه الكثيرون يوم إعلان مصرعه الحقيقي، وهو الذي كان في كل مرة ينفض عنه غبار الموت ويُبعد قدر المستطاع أنياب الذئب الذي حاول أن يغرسها في لحمه، ويظهر بابتسامته وسخريته، أكثر قدرة على الصمود والمواصلة لحلمه الثوري الأزرق حتى وإن كان طيفاً، فالأخبار السيئة، لا يمكن التكتّم عليها!
بعد أسبوع على إعلان مصرع جيفارا قطع فيديل كاسترو الشك باليقين يوم أعلن في 15 أكتوبر 1967 بحزن شديد في خطاب دام ساعتين إنهم متأكدون من مقتله، وذلك بعد دراسة جميع الوثائق المتعلقة بمقتله، لا سيما الصور وفقرات من يومياته التي نشرت، والظروف التي رافقت اللحظات الأخيرة من مصرعه، وقال كاسترو بنبرة حزينة "تأكدنا للأسف أن تشي مات فعلاً".



   


1058
المعرفة من أجل الحق
   

عبدالحسين شعبان
يستعيد هذا العنوان ما كان طرحه الفيلسوف البريطاني فرانسيس بيكون قبل قرون من الزمان حين وصف المعرفة بأنها “قوة” أو “سلطة”. وبهذا المعنى، فالمعرفة تمتلك نفوذاً معنوياً ومادياً، وفي الوقت نفسه، فهي حق وواجب أيضاً، حين تتحدد المسؤولية على الدولة والمجتمع بوحداته المختلفة، ابتداءً من العائلة والمدرسة والمحيط، ووصولاً إلى الرهان على المستقبل، وخصوصاً إذا ما تم غرس المعرفة في الطفولة، فيمكن لها أن تزدهر وتتفتح في الكِبَر، لأن الطفولة لا تعني الحاضر فحسب، بقدر ما لها من ارتباط وثيق بالمستقبل، الأمر الذي يقع أيضاً في صلب مهمات الدولة، إضافة إلى النخب الفكرية والسياسية.

يمكن القول إن مسألة البيانات وقاعدة المعلومات مهمة لأي بحث أكاديمي، ولا يصحّ من دونها تعميق المعرفة وتطوير البحث، فالوثيقة في البحث العلمي هي خبر لأنها تُغني عن الكثير من التفاصيل والشروح أحياناً، مثلما نقول في الإعلام الصورة خبر، والإعلامي أو الصحافي حسب ألبير كامو هو مؤرخ اللحظة، والصحافة.. ويمكننا القول إن الإعلام، في ظل الثورة العلمية - التقنية وثورة الاتصالات والثورة الرقمية، هو صاحب الجلالة، وهو بموازاة السلطات الثلاث، خصوصاً وهو يملك صفتين أساسيتين، هما سلطة الكلمة وسلطة الحق، لاسيما إذا ما أُحسن استخدامه، وإذا ما استطاع التأثير في المجتمع، وأصبح جزءاً مهماً من الرأي العام، فإنه سيكون ذا تأثير كبير في عملية التنمية والإصلاح الديمقراطي، وبخاصة إذا توفرت له بيئة حاضنة، تتيح تعزيز وتعميق الثقافة والوعي.

إن الوعي بالحقوق وتبنيها يتحوّل بالتدريج إلى قوة مادية يصعب اقتلاعها، إذا جاءت بالتراكم وعبر قناعات لقطاعات ونخب المجتمع والدولة، الأمر الذي يطرح مسألة دور المجتمع المدني، باعتباره قوة اقتراح وشراكة وليس قوة احتجاج واعتراض فحسب، خصوصاً إذا كان ما يقوم به مهنياً ومستقلاً، نائياً بنفسه عن الانخراط بالصراع الإيديولوجي الدائر في المجتمع، وإذا ما اتّبع طريقاً سلمياً للمطالبة بتحقيق أهدافه، بصورة تتّسم بالعلانية والشفافية والقانونية، فسيكون له تأثير كبير في مجرى التحوّل الاجتماعي.

ولعل الشراكة تتطلب حرية التعبير، وتأكيد حق الاعتقاد، وحق التنظيم الحزبي والنقابي، وحق تولّي جميع الوظائف بما فيها العليا من دون تمييز بسبب الدين أو الجنس أو اللغة أو اللون أو العرق أو المنشأ الاجتماعي أو غيرها.

لا شك في أن هناك تحدّيات تقف في مواجهة المعرفة، داخلية وخارجية، سياسية واجتماعية واقتصادية وقانونية، وهي تعرقل الوصول إلى الحق، بل تضع كوابح وعقبات في طريقه، ولعل من أهمها عدم توفّر بيئة تشريعية مناسبة تنسجم مع المعايير والاتفاقيات الدولية.

وما زالت المنظومة القضائية وأطرافها (القضاة وأجهزة التحقيق) وسلك التنفيذ: جهاز الشرطة والأمن والسجون، وغيرها قاصرة، ناهيكم عن النقص الفادح في ميدان التربية والتعليم، لاسيما تعارض أو عدم انسجام المناهج التربوية مع المعايير الدولية، الأمر الذي يحول دون بناء مواطنة متوازنة وحرّة وواثقة بنفسها.. وإذا ما أخذنا في الاعتبار استمرار تفشي ظاهرة الأمية، حيث يوجد أكثر من 71 مليون أميّ في الوطن العربي، وهي نسبة تعتبر من أكبر النسب العالمية، فإن المسألة ستكون في غاية الخطورة، خصوصاً في ظل عدم التوزيع العادل للثروة. وإذا ما عرفنا الموارد الهائلة التي تمتلكها هذه المنطقة، فإن مثل هذا التفاوت الذي يؤدي إلى هضم حقوق فئات واسعة من السكان تعاني من شظف العيش أو الفقر وما دونه أحياناً، سيترك انعكاساته السلبية، بزيادة حدة توتر المجتمعات التي تعاني منه وارتفاع منسوب العنف وسياسات الإقصاء والتهميش.
والأمر ينسحب أيضاً على الإعلام والثقافة، خصوصاً بضعف الوعي والنقص الفادح في ثقافة المواطنة والمساواة واحترام حقوق الأقليات وحقوق المرأة وحقوق الطفل، لاسيما الحق في التعبير والنظرة غير المتوازنة، بل والتمييزية، بين الذكور والإناث، ناهيكم عن الموقف من الأقليات القومية والدينية والمعاقين والمهاجرين والمهجرين والمهمشين والأيتام وغير ذلك.
لعل الحق في التعليم والحق في الصحة والحق في السكن وفي ضمان مستقبل للطفولة يشكل أساساً للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إضافة إلى الحقوق المدنية والسياسية، وهذه جميعها حقوق غير قابلة للتجزئة ولا يمكن التعامل معها بانتقائية، كما لا يمكن تأجيل بعضها أو استبعاد بعضها الآخر، بحجة الأولويات، لأن غياب أي جزء سيؤثر في الأجزاء الأخرى، فمسألة الحقوق مثل السبيكة الذهبية، لا يمكن اقتطاع جزء منها وإلاّ ستكون ناقصة أو مبتورة أو مشوّهة.
وتلعب العادات والتقاليد الاجتماعية البالية واستخدام الموروث واستغلال الدين بالضد من تعاليمه السمحاء، لاسيما بالتطرف والتعصب والغلو، دوراً معرقلاً لاحترام الحقوق، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من المعرفة والثقافة لمواجهة مثل هذا النقص، وهو ما يتطلب نشر الوعي الحقوقي لدى خطباء المساجد والجوامع وقيادات الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والمهنية، وبخاصة تأكيد وحدانية القانون وسيادته وخضوع الجميع له، حكاماً ومحكومين، ولعل ذلك سيكون عاملاً مساعداً في نشر الثقافة الحقوقية والمعرفية في المجتمع بخصوص احترام جميع الحقوق، وباتجاه تجسير الفجوة بين الحكومات والمجتمع المدني من جهة، وبين مجتمع الكبار ومجتمع الصغار من جهة أخرى، فضلاً عن تجسير الفجوة بين النظرية والتطبيق، لا من خلال التطابق بينهما، بل لجعل الأولى تسير بخط متواز مع الواقع المتغيّر، وهذا يحتاج إلى الرصد والمراجعة، مثلما يتطلب تجسير الفجوة بين ما هو قانوني وما هو عملي وواقعي.
ستكون المعرفة قوة حقيقية إذا ما اتّسمت بالحق وصولاً إلى العدالة المنشودة. وحسناً فعل المجلس العربي للطفولة والتنمية وبرنامج الخليج العربي للتنمية وجامعة الدول العربية وشركاؤهم عندما وضعوا عنواناً لمنتداهم الثالث للطفولة المنعقد في القاهرة “المعرفة من أجل الحق”، ولعل هذا العنوان البليغ يختصر الكثير من الدلالات، لاسيما وأنه جمع في دفتيه: المعرفة والحق اللذين لا يمكن لأي مجتمع أن يحقق التقدم من دون الطيران بهذين الجناحين، خصوصاً بمساهمة جدية من المجتمع المدني المكمّل والشريك مع الدولة في فضاء من الحرية، ليس بعيداً عن فضاء الوعي والثقافة.
باحث ومفكر عربي


1059
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (19) نزيف بصمت!
عبدالحسين شعبان
2010-03-08
تأسست أول جمعية للصداقة الفلسطينية-الكوبية العام 1981 في بيروت، وكان رئيسها محمد أبوميزر (أبوحاتم)، وبعد العام 1988 تم «ترشيد» الجمعية وهيكلتها مجددا من قبل الرئيس الراحل ياسر عرفات، حيث تم تعيين صلاح صلاح رئيسا لها بعد أن كان أمينا للسر، وما زال حتى الآن رئيسها، في حين أصبح عثمان أبوغربية أمينا للسر. وكان لقاء مهم قد عُقد بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (أبوعمار) وفيديل كاسترو، وآخر بين الدكتور جورج حبش وكاسترو، وكانت اللقاءات حميمية، لدرجة أنه في أحدها أخذهم الزعيم الكوبي إلى حقل رماية (وضمّت ذلك صورة كاسترو- حبش- صلاح صلاح).
وكان واحد من اللقاءات العربية-الفلسطينية قد تم في إطار مؤتمر الشعب العربي برئاسة عمر الحامدي، حيث زار هافانا في الثمانينيات، وكان من بين أعضاء الوفد صلاح صلاح وأحمد السويسي وإنعام رعد، وفي زيارة أخرى للجبهة الشعبية كان رئيس الوفد أبوعلي مصطفى.
ويُعتبر صلاح صلاح أحد الشخصيات الفلسطينية الأكثر قرباً من الأجواء الكوبية، حيث درس هناك واستمرت علاقته طيلة العقود الثلاثة الماضية، وحرص على تمثيل فلسطين بغض النظر عن موقعه القيادي السابق في الجبهة الشعبية، ومن خلاله تعرّفه على أميركا اللاتينية ارتبط بصداقات واسعة وفضاء شاسع مع المجتمع المدني وبخاصة خلال العقد الماضي.
يقول صلاح صلاح إنه التقى بكاسترو ثلاث مرات، في الأولى عندما كانوا في بيت الضيافة وجاءهم من يخبرهم بلقاء أحد المسؤولين، فوجدوا كاسترو أمامهم، وكان الحديث غير بروتوكولي. وفي الثانية في مؤتمر الحزب (أواسط الثمانينيات)، والثالثة في المهرجان العالمي للصداقة مع كوبا في التسعينيات حيث ألقى في الجلسة الختامية كلمة فلسطين، وهناك التقى كاسترو حيث دعاه إلى قصر الضيافة والتقاه أكثر من مرة.
ولعل واحدا من أسباب صمود كوبا واجتراحها الحرمانات والعذابات هو شخص كاسترو، الذي كان يتحسس نبض الناس ويعيش همومهم ويخاطبهم بلغتهم، ويتعامل ببساطة وشعبية معهم، فضلا عن مصارحتهم بحجم المصاعب والتبعات، الأمر الذي كان فيه تخفيف للكثير من معاناتهم، رغم أن الحصار الأميركي وصل إلى حدود لا تطاق. وقد كان كاسترو رغم مكانته الريادية ودوره الفكري والسياسي وقدراته التنظيمية الكبيرة في الثورة والدولة- حريصا على إظهار رمزية جيفارا وكفاحه، وظل على هذا الوفاء طيلة العقود الماضية، دون أن تتضخم لديه «الأنا» فيشطب أقرب المقربين له، حتى وإن كان هو الأول بامتياز.
كان كاسترو أقرب إلى رومانسية وراديكالية حبش منه إلى الوسطية والبراغماتية التي يتسم بها بعض قيادات الحركة الثورية الفلسطينية والعربية، وعندما اندلعت المشكلات الفلسطينية-الفلسطينية والموقف من التسوية، جاء وزير المواصلات الكوبي (من أصل لبناني) وبقي نحو شهر في بيروت في محاولة لحل الخلاف داخل فتح (1983). وكان نايف حواتمة هو الآخر قد التقى كاسترو كما ذكر ممدوح نوفل، وقد أقامت الجبهة الديمقراطية علاقات وطيدة مع كوبا بما فيها تبادل الزيارات، حيث فتحت كوبا ذراعيها لاستقبال أعداد من كوادر الجبهة الديمقراطية للتدريب والدراسة، وقد تقلّص العدد لاسيما بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية الكوبية في مطلع التسعينيات.
وكان كاسترو يردد دائما: صحيح أننا وحدنا، لكننا دائما في القمة، وكانت فلسطين في قلب كاسترو ورأسه، وتعتبر كوبا الدولة الأكثر قربا إلى فلسطين التي كانت تصوت باستمرار في صالحها في الأمم المتحدة، رغم أنه في أوائل الألفية الثالثة بدأت بعض العلاقات الاقتصادية تتشكل مع إسرائيل وأعيد افتتاح الكنيس اليهودي، لاسيما إثر أطروحات كاسترو ومراجعاته عن الشيوعية والدين، وهي أطروحات بحثت في المشترك الإنساني والأخلاقي بين الكنيسة والشيوعية، وكانت تلك الأطروحات عبارة عن مقابلة مطولة مع رجل الدين المسيحي فراي بيتو، ونشرت لاحقا في كتاب ترجمه حامد جامع وصدر عن «الحقيقة برس» ومجلة «قضايا العصر» في بيروت وعدن العام 1988، واحتوى الكتاب على حوارات مثيرة تستحق أن تُقرأ، وأن يتم التوقف عندها فيما يتعلق بالموقف الماركسي من الدين وتجربة كاسترو الشخصية.
وقد قامت إسرائيل بشكل غير مباشر -وأحيانا بشكل مباشر- بفاعليات وأنشطة عبر شركات ومؤسسات، في محاولة للتغلغل لاستعادة العلاقة مع كوبا، ويروي عماد الجدع (نقلا عن صلاح صلاح) أن أحد الفلسطينيين في أميركا اللاتينية حاول تقديم عطاءات حول استثمار الحمضيات، واتفق مع الكوبيين على المشروع، لكنه اعتذر لاحقا حين وضعه الأميركيون أمام خيارين، إما إلغاء الشراكة والصفقة، أو أن مصالحه ستكون في خطر، الأمر الذي دفعه لاتخاذ قراره بالتخلي عن عطائه، وهنا تقدمت على جناح السرعة شركة أخرى لأخذ المشروع، واتضح أنها لم تكن بعيدة عن الأيادي الصهيونية.
وبغض النظر عن صحة الرواية أو عدم صحتها فإن هذا هو ما فعلته إسرائيل مع إفريقيا، فبعد أن تم قطع علاقات 30 دولة إفريقية فيما بين العام 1967 والعام 1973، إذا بإسرائيل تعود بنفوذها الاقتصادي وعلاقاتها التجارية «ومساعداتها» كقوة نافذة يُحسب لها حسابها، ابتداء من السدود التي قامت ببنائها في إثيوبيا، ومرورا باتفاقيات وامتيازات عسكرية، ووصولا إلى تعاون سياسي وأمني متعدد الجوانب، وهو ما عملت عليه لتعزيز علاقاتها مع دول أميركا اللاتينية.
ولا يفوتني هنا وأنا أتناول العلاقات الفلسطينية-الكوبية كجزء من العلاقات العربية-الكوبية أن أذكر أن علاقة كاسترو بصدام حسين كانت قوية جدا، وهو ما أثار عليه حفيظة اليسار العراقي، لاسيما التهاون إزاء القمع والملاحقات التي كان الشيوعيون واليساريون وغيرهم يتعرضون لها، وهو الموقف ذاته من الدول الاشتراكية الأخرى التي غالبا ما كانت تقدم مصالح الدولة على «المصالح الأممية»، وتلك إشكالية ظلت دون حل، بل إن حلها كان مستعصيا بحكم نهج الهيمنة وتفضيل ما هو قطري وحكومي على حساب ما هو أممي وإنساني، وتلك معاناة مشتركة لا تتعلق بالتيار الماركسي وحده، بل بالتيار القومي العربي والتيار الإسلامي اللذين وصلا إلى السلطة، وكيف تعاملت هذه التيارات أو القوى مع رفاقهم بتقديم مبدأ الدولة والمصلحة على مبدأ التضامن والمبادئ.
وبالنسبة لكوبا وكاسترو كانت الحساسية أشد؛ بحكم الجانب العاطفي والنظرة الرومانسية التي كان يتعامل بها اليسار العربي والعراقي مع كوبا، قياسا بالدول الاشتراكية البيروقراطية التي كان لليسار معها تجارب مريرة، دون التقليل من حجم مساعداتها ومواقفها الإيجابية، لكن علاقة كاسترو بصدام بدأت بالتصدع، لاسيما عندما خاطبه برسالتين طالبا منه الانسحاب من الكويت، رغم أن كوبا استمرت في موقفها ضد الحصار الاقتصادي على العراق وضد إعلان الحرب الإمبريالية عليه، كما وقفت ضد احتلاله العام 2003 وصوتت في الأمم المتحدة ضد القرارات الجائرة والمجحفة بحقه. ولعل هذه المسألة تستحق وقفة جدية في التقويم والمراجعة، وباختصار يمكننا القول إنه غالباً ما يجري التبرير من جانب الدول والحكومات «الاشتراكية» بأن تعزيز علاقاتها مع دول التحرر الوطني سيعزز من مكانتها ومن مكانة الاشتراكية موضوعيا، الأمر الذي يمكن النظر إليه بعيون مستقبلية في إطار الصراع الكوبي ضد الرأسمالية والإمبريالية.
وكانت تململات أو همهمات بعض الأحزاب الشيوعية -التي غالبا ما تقال على استحياء أو تقدَّم كاستفسارات- تذهب أدراج الرياح، ويفضل المسؤولون عدم التعرّض لها في الإعلام، أو النقد العلني لبعض المواقف التي تتخذها الدول الاشتراكية كمداهنات للدكتاتوريات «الثورية» الحاكمة، طالما كانت علاقاتها معها جيدة، وفي الكثير من الأحيان كان للقياديين من الأحزاب الشيوعية امتيازات لا يريدون تخفيض سقفها، ناهيكم من أن أي مواقف متعاكسة مع «المركز الأممي» أو مواقف الدول الاشتراكية قد تطيح بهم وتشجع بعض المتنافسين والمغامرين على المواقع الأولى، حيث تبدي هذه العناصر استعدادها لتقديم الولاء الأعمى «للأممية الحاكمة»، الأمر الذي يمكن معه إزاحة خصومهم، فضلا عن أن جزءًا من هيبتهم ونفوذهم اكتسبوه من علاقاتهم الأممية.
في التسعينيات ظلت كوبا تنزف بصمت، وأدار الكثيرون ممن حلموا بجزيرة الحرية وتغنوا بها ظهورهم للتجربة بكل ما لها وما عليها، باستثناءات قليلة، ولعل واحدا منها هو الاستثناء الفلسطيني، فقد ساعد أبوعمار في دعم كوبا إبان أزمتها الخانقة، ويذكر صلاح صلاح أن عملية وقف تصدير النفط إلى كوبا كانت أقرب إلى عملية خنق، لاسيما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وتفتيت الاتحاد السوفيتي، حيث هيمن الظلام على كل شيء، وكاد كل شيء أن يتوقف ويتعثر ويتعطل، يومها استعانت القيادة الكوبية بأصدقائها الفلسطينيين، فجاء وكيل وزارة خارجية كوبا إلى لبنان وطلب مساعدة أبوعمار، وجرت اتصالات لتأمين ذلك، وذهب وفد كوبي إلى تونس، وكان أبوعمار حينها يتعامل مع شركات نفطية، فأمّن له عدداً من البواخر التي نقلت النفط على جناح السرعة إلى كوبا، وهي مسألة لا ينساها الكوبيون!
ومع أن الأزمة التسعينية قد تم احتواؤها، إلا أن آثارها لا تزال باقية حتى الآن، ولعل هافانا لا تزال من أكثر المدن ظلاما، حتى أنني تخيلت -بسبب الاقتصاد في الطاقة الكهربائية والحرص على عدم تبديدها- أن ثمة خللا مركزيا قد حصل في التوزيع الكهربائي لأحياء وبلدات تعاني من انقطاعه لأوقات طويلة، وهو أحد أعصاب الحياة الضرورية، حتى وإن تم تخصيصه للقطاعات الأكثر حاجة مثل المستشفيات والمراكز الطبية والتغذوية والمعامل والجامعات وغيرها، وهذا ما انعكس على وجوه الناس وما أثر في سلوكهم، لدرجة أن الشعب الكوبي الطيب كثير المرح والرقص والغناء، بدا كأنه منكمش، وهو ما تركته عليه سنوات الحصار الأميركي الجائر.
 


1060
أين سترسو سفينة الانتخابات العراقية؟!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
لعل الانتخابات العراقية تثير أكثر من مفارقة، فهي الثانية بعد انتخابات العام 2005 وما زالت سفينتها تتأرجح وسط أمواج البحر العاتية، فهل ستصل في نهاية المطاف الى المرفأ الذي سيؤمن لها إعادة الابحار أم أن العواصف الهوجاء  ستتقاذفها في منتصف الطريق؟
المفارقة الأولى بدأت بالمعركة العنيفة حول قانون الانتخابات حين تأخر تشريعه في البرلمان ودار الجدل والسجال حول مسألتين أساسيتين: أيهما أصلح القائمة المغلقة أو القائمة المفتوحة؟ وإن أعطت الأخيرة خيارات أكثر للناخب في إطار القائمة الاّ انها حرمته من حق الاختيار لشخصيات أخرى في قوائم أخرى، أو في إطار الترشيح الفردي، وهذا النظام المعمول به في بعض البلدان، مثل بلجيكا واسرائيل حسبما أعرف، يحتاج الى درجة عالية من الوعي ومن الاصطفاف السياسي وفقاً لبرامج محددة، لا أراها واضحة في الحالة العراقية، لأن البرلمان سيعيد انتخاب المجاميع السياسية ذاتها، وهي ستة كتل أساسية: جماعة المجلس الاسلامي وحزب الدعوة وجماعة مقتدى الصدر والحزبين الكرديين يضاف اليهما كتلة ناوشيروان مصطفى والحركة الاسلامية الكردستانية وجماعة إياد علاوي، ويمكن إضافة جماعة جواد البولاني وزير الداخلية الحالي.
وبعد نقض نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي قانون الانتخابات، أعيد الى مجلس النواب، الذي تم تعديله بالتجاوز على حصص بعض المحافظات، الأمر الذي أثار رد فعله الشديد وتهديده بنقضه ثانية، فضلاً عن حفيظة تلك المحافظات، والمهاجرين واللاجئين في المنافي. ولعل تلك المفارقة الاولى كانت مثار صراع عنيف ومخاض قاسي، ورافقها أخطاء وحساسيات وتفسيرات مختلفة، لاسيما في مسألة المقاعد التعويضية التي ستستحوذ عليها القوائم الكبيرة، الأمر الذي بحاجة الى مناقشة مفتوحة لقانون جديد للانتخابات لاحقاً.
المفارقة الثانية هي أن الانتخابات بدأت بمعركة قاسية سبقت معركة الانتخابات، وهي معركة ما سمي بالاجتثاث، باستبعاد عدّة مئات من المرشحين بينهم من شارك في العملية السياسية منذ سنوات، بل كان جزءًا من البرلمان المنتخب والذي انتهت  ولايته التي دامت أربع سنوات.
أما المفارقة الثالثة فهي المحاولات التي سعى اليها الاميركان لثني الحكومة العراقية عن مسألة الاجتثاث، لكي تكون الانتخابات أكثر شفافية وتمثيلاً وأكثر قبولاً لدى الرأي العام العالمي، وهو ما صرّح به نائب الرئيس الامريكي جوزيف بايدن الذي وصل الى بغداد عشية اتخاذ قرار حاسم بشأن الاجتثاث، وما ذهبت اليه الامم المتحدة أيضاً، لكن الأمور سارت باتجاه آخر رغم التحذيرات والضغوط وربما التهديدات برفع اليد عن الوضع العراقي، والتسريع بالانسحاب، الذي قد ينجم عنه فراغ غير قليل، خصوصاً في ظل عدم استكمال تأهيل الجيش العراقي، وهو ما يؤيده وزير الدفاع العراقي الذي قال أنه بحاجة الى عشر سنوات أخرى، أي أنه في العام 2020 ستكون القوات المسلحة العراقية قادرة على حماية العراق من التهديدات الخارجية، خصوصاً باستكمال تسليحه، وهو ما تذهب اليه بعض المصادر العسكرية الغربية أيضاً، حين تقول أن الجيش العراقي سيكون جاهزاً في العام 2018، ليضطلع بمهماته في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية.
المفارقة الرابعة هي "انتصار" إرادة حكومة المالكي على المحتل الأمريكي ورضوخ هذا الأخير للرأي السائد لدى الحكومة في موضوع الاجتثاث المدعوم ايرانياً، رغم أنه لا يمكن التكهن فيما إذا خسر الفريق، الذي تراهن عليه الولايات المتحدة، وهو أكثر من واحد، فماذا سيكون موقفها إزاء الفريق الفائز، ثم كيف سيتصرف هذا الأخير معها وبخاصة علاقته مع إيران؟ وهي مسألة شديدة الحساسية لواشنطن.
ان نجاح المالكي والمتشددين ضد البعثيين عشية الانتخابات في معركة الاجتثاث أعطتهم رصيداً جديداً وربما ساهمت في نوع من الدعاية لهم، خصوصاً "تعظيم" المخاوف بشأن مسألة عودتهم واحتمالات القيام بانقلاب عسكري وغيرها من المحاولات التي سعت للتلويح بالخطر القادم من "الآخر" في سعي لتحفيز بعض الناخبين لكي ينخرطوا في التصويت لهم، للحيلولة دون عودة الماضي، أو هكذا عزفت وسائل الدعاية للجماعات " الشيعية" في الحكم. وإذا كانت مسألة الاجتثاث وسيلة دعائية أغراضها انتخابية، وهي ستضعف المُستبعدين والقائمة العراقية التي تمثلهم في بعض المناطق، فإنها في الوقت نفسه ستكون دعاية لصالحها في مناطق أخرى.
اللافت في الأمر أن السفير الامريكي سلّم بمسألة تجاوز المُستبعدين، وقد يعود ذلك الى تسليم القائمة العراقية ذاتها، بما فيها المستبعدين أنفسهم الذين دعوا أنصارهم للمشاركة في الانتخابات بقوة، لكي يتم الحيلولة دون مقاطعة سياسية وشعبية، وهي لم تعد واردة، رغم أن المشاركة ستكون غير كبيرة، وهو واحد من الاحتمالات الراجحة، لاسيما في ظل الموجة الارهابية التي ضربت البلاد طولاً وعرضاً بما فيها استهداف المسيحيين في الموصل وغيرها، في الاسابيع الاخيرة، وكانت " دولة العراق الاسلامية" قد هددت القيام بعمليات دموية ضد المراكز الاقتراعية وبعض المرافق والمنشآت الرسمية وبخاصة الوزارات.
المفارقة الخامسة التي تشهدها الانتخابات الحالية، أن الكل يتهم الكل بمحاولة شراء الأصوات والذمم، وإن الجميع حصل على دعم خارجي وتمويل أجنبي، وأن الكل يغمز الكل بأن "هذا" تقف خلفه جهة إقليمية و"ذاك" جهة دولية، بل ان البعض يقول صراحة أن أجهزة الدولة تسخّر للدعاية الانتخابية وإن المال العام يوظّف بطريقة حزبية، حتى أن رجل دين اتهم وزير التعليم علناً بأنه يقف وراء انحيازات حزبية بتهديده المعلمين للحضور الى احتفالات ينظمها بيوم المعلم، وإذا بالأمر عبارة عن تحشّدات انتخابية.
المفارقة السادسة ذات الخصوصية العراقية وربما اللبنانية الى حد ما، هي أن الإنتخابات عالمياً تشهد مرحلة الاحتدام وما بعدها يمكن للفريق الفائز تشكيل الحكومة حيث تنتقل الأقلية الى المعارضة، لكن معضلة التوافق أو ما أطلق عليه الديمقراطية التوافقية تحوّلت الى ديمقراطية تواقفية بحيث تم تعطيل أجهزة الدولة والبرلمان والى حدود معينة جرى التأثير على القضاء (اتهامات متبادلة من الفرق المتخاصمة) عبر نظام المحاصصة والتقاسم الوظيفي المذهبي والاثني، حيث طالت في انتخابات العام 2005 فترة تشكيل الحكومة بضعة أشهر بحجة الاتيان بحكومة وحدة وطنية، وإذا بها بعد فترة تتعرض للتصدع والتراشق والتكتلات وتغيب وحدتها السياسية، ناهيكم عن عدم تمكنها من تحقيق الوحدة الوطنية والمصالحة السياسية، وما زال الوضع الأمني يعاني من هشاشة واختراقات رغم تحسنه على نحو ملحوظ خلال عامي 2008 و2009.
المفارقة السابعة ان الانتخابات ستكون مجسّاً جديداً للأمريكيين للانسحاب من العراق حسب ما تذهب اليه الاتفاقية العراقية- الامريكية، حيث ستبدأ المرحلة الاولى في آب (أغسطس) العام الجاري، وستنتهي في نهاية العام 2011، لكن بقاء بعض الاشكالات، بل ارتفاع منسوبها بعد الانتخابات، سيكون لغماً كبيراً يواجه الوضع السياسي، وهذا ما ستحدده نتائج الانتخابات، فهناك لغم كركوك وهو ما يعكسه الاحتدام السياسي في محافظة كركوك وكذلك لغم الموصل الى حدود غير قليلة،  وتوضحه البرامج الانتخابية المتضادة ، المتناحرة، والتي ليست بعيدة عن التداخل الاقليمي، إن الأمر خطير جداً ما لم يصغِ الجميع الى صوت العقل والحكمة ويجنحوا الى السلم.
والأمر ينطبق على الدستور وتعديلاته المنشودة وكذلك صلاحيات الدولة الاتحادية على حساب صلاحيات الاقليم، ففي حين يعتبر الكرد هذه الصلاحيات خطاً أحمر، لكن المالكي كان قد ألمح بصوت خافت احياناً أو بصوت عال في أحيان أخرى، بأنه لا بدّ من إعادة النظر بصلاحيات الإقليم لحساب السلطة الاتحادية، والمسألة ستشمل النفط والعقود النفطية للاقليم وغيرها من القضايا العقدية.
لعل المفارقة الثامنة هي أنه من المحتمل أن لا يحصل أي فريق على الأغلبية المنشودة، الأمر الذي سيفتح الباب واسعاً للمناورات السياسية والحزبية بين "الأقليات" ، لأن الجميع قد يكونون أقلية في البرلمان القادم، وإن كان حجم الاقليات يكبر أو يصغر، لكن الجميع سيكون بحاجة الى المظلّة الامريكية، خصوصاً في ظل وجود اتفاقية أمنية لم تستنفذ أغراضها من جانب  الفريقين حتى الآن.



1061
كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (18) كاسترو- أبوعمار- حبش: رومانسية لا غنى عنها
   

عبدالحسين شعبان
2010-03-01
ظل جيل الستينيات وإلى حدود معينة جيل السبعينيات يربط بين رمزية النضال الفلسطيني والكوبي، لاسيَّما الالتقاء في الكثير من الشعارات والأهداف وأساليب الكفاح الثوري التي سادت آنذاك، خصوصاً ما مثّله جيفارا من أحلام وشجاعة جاءت به من أميركا اللاتينية إلى مصر والجزائر، ثم الاختفاء الغامض في الكونغو وبعده انتقاله لقيادة الكفاح المسلح في بوليفيا، وفيما بعد مصرعه الذي حمل الكثير من المعاني والأسرار.
كل ذلك حصل في إطار رومانسية ثورية كانت تميل إليها حركات تحرر فلسطينية وعربية ومناضلون حالمون وجدوا في النموذج الجيفاري مثالاً يتطلعون إليه في ملامسة واقع شديد البؤس، متجسداً في الاحتلال من جهة، ومن الجهة الأخرى في أنظمة حكم لا تستجيب لمطالب شعوبها. ورغم ما أثارته الموجة الجيفارية من جدل واختلاف وتباين في الرؤية وبين ما كانت الحركة التحررية العربية تعيشه، لاسيَّما تياراتها الأساسية آنذاك، اليسارية الماركسية بما فيها الجديدة، واليسارية القومية، فإنها تركت الكثير من البصمات على الجو السياسي والفكري السائد آنذاك.
وأستطيع القول -رغم وجود نموذج فيتنامي ناجح وتجارب لحركات الأنصار الشيوعية، لاسيَّما في الحرب العالمية الثانية وبخاصة في أوروبا- أن الموديل الجيفاري كان الأكثر جاذبية وتأثيراً، لدرجة أن بعض خصومه الفكريين كانوا قد تأثروا به أيضاً، وعلى أقل تقدير كانوا ينظرون إليه بإعجاب كبير.
وقد زخر الأدب السياسي الفلسطيني المقاوم والأدب العربي خلال فترة أواخر الستينيات والسبعينيات بمصطلحات واقتباسات لم تكن بعيدة عن اللغة السياسية والأدبية التي كان يستخدمها جيفارا وكاسترو، فجرى الحديث عن «البؤر الثورية» و «الكفاح المسلح» و «الزحف من الريف إلى المدينة» و «تسريع دور العامل الذاتي في تثوير العامل الموضوعي» و «استخدام العنف الثوري» و تأسيس نُويّات لحركات الأنصار وإشعال المقاومة ودور القوى التحررية في القارات الثلاث كضلع ثالث للدول الاشتراكية والطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية، لاسيَّما أن الثقل الثوري انتقل إليه.
وهكذا ساد نوع من الرومانسية الثورية والحلم الغامض الجميل، لدرجة حاول بعض الشباب تمثيل شخصية جيفارا فارتدوا قبعته وأطلقوا ذقونهم واتجهوا إلى الأرياف ومعهم كثير من الأحلام وبضعة كتب، على أمل حشد الفلاحين للثورة على الحكام الدكتاتوريين والأنظمة التقليدية، بل إن بعض الحركات الثورية كانت قد تبنّت هذا النهج حتى وإن كان في ظروف مختلفة، الأمر الذي أدّى في بعض الأحيان إلى حرق المراحل وتبديد إمكانات وطاقات كان يمكن ادّخارها، ولو كانت قد تُركت للتطور الطبيعي، التدريجي، التراكمي لأحدثت نوعاً من التغيير حتى وإن كان طويل الأمد. وهنا أستذكر كيف انخرط بعض الشباب في ما سمّي بالكفاح المسلح في العراق، وهو ما دعت إليه القيادة المركزية للحزب الشيوعي- جناح عزيز الحاج بعد الانقسام في الحزب (سبتمبر عام 1967) وقيل إن الفلاحين لم يستوعبوا ذلك، فجرى الإخبار عنهم، أو إن بعضهم قتل من جانبهم، وبين هؤلاء صديقاي أزهر الجعفري وسامر مهدي، فضلاً عن بعض الشخصيات المعروفة مثل خالد أحمد زكي الذي قتل في معركة غير متكافئة.
وكانت المقاومة الفلسطينية الصاعدة، لاسيَّما بعد عام 1967 قد تمثلت هذا النموذج واتخذت منه شكلاً ومضموناً مصدراً أساسياً في نشاطها وأساليب عملها، وكان شعور عام قد ساد بأن كوبا هي الأكثر قرباً من الدول الاشتراكية إلى العالم العربي وأنها أكثر حرارة وصدقاً في التعامل مع قضاياه، لاسيَّما ما مثّلته شخصية كاسترو وجيفارا من رمزية كبيرة، دفعت الكثير من الشباب إلى التمثل بهما.
وقد كانت السبعينيات المحطة الأساسية التي توطدت فيها، بل واستقرت العلاقات الفلسطينية- الكوبية وربما العربية- الكوبية، لاسيَّما زيارات ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة وعامر عبدالله وجورج حاوي وآخرين إلى هافانا، كما تعززت العلاقات الكوبية- العربية على صعيد العلاقات الدولية، لاسيَّما مع العراق واليمن الجنوبية والجزائر وسوريا وليبيا، وقبل ذلك مصر وغيرها.
ويتذكر المقاومون الفلسطينيون باعتزاز كبير موقف السفير الكوبي في بيروت، خسنتو، الذي كان خلال فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت عام 1982، يداوم يومياً بمقرات قيادات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وهذا الموقف الذي اتّخذه لم يكن بعيداً عن المواقف التي اتخذتها القيادة الكوبية ممثلة بكاسترو وجيفارا يوم اعترفت، بل وتميّزت بمواقفها المؤيدة للحقوق الوطنية الفلسطينية وفي المقدمة منها حق تقرير المصير، لاسيَّما أن إسرائيل حسب تقييمات القيادة الكوبية كانت حتى قبل عام 1967 بؤرة للتوتر وتهديداً للسلام والأمن في المنطقة ومصدراً للحروب والنزاعات المستمرة.
لقد كانت حساسية الكوبيين شديدة إزاء ما حصل للفلسطينيين، وكلما تعرفوا أكثر على الأوضاع العربية، كلما ازدادت قناعتهم بأن ما حصل لفلسطين لم يكن بمعزل عن قوى الاستغلال والرأسمالية العالمية. وكان لجيفارا دور كبير في تكوين مثل هذا التصوّر، خصوصاً من خلال اطّلاعه على ما كان يناقش ويصدر عن منظمة التضامن الأفروآسيوي، ومن خلال علاقته بأحمد بن بيلا وجمال عبدالناصر والمهدي بن بركه وزياراته للجزائر والقاهرة، ولعل ذلك قد أسهم في بلورة الفكر الجيفاري تأثراً بالمحيط العربي، الذي علينا الاعتزاز به، لأنه جزء من المشترك اليساري الإنساني برفد متبادل على الصعيد الفكري.
اطّلع الكوبيون على المذابح التي ارتكبت بحق الفلسطينيين منذ قيام إسرائيل، حيث نفّذت مجازر شنيعة في دير ياسين عام 1948، وكفر قاسم عام 1956، وأدركوا أن إسرائيل بممارساتها تلك كانت جزءًا من المعسكر الإمبريالي، وقاعدة متقدمة له لوقف تقدم حركة التحرر الوطنية العربية ومناهضة تطلعات الشعوب العربية في التحرر والانعتاق والتنمية والتقدم، لاسيَّما مشاركتها في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 بالتعاون مع بريطانيا وفرنسا، يوم قام الرئيس عبدالناصر بتأميم قناة السويس.
وقد تمت بعض اللقاءات بين الفلسطينيين والكوبيين، في إطار اتحادات الطلبة، حين كان يرأس اتحاد طلبة فلسطين تيسير قبعة القيادي في الجبهة الشعبية، وكان الاتحاد عضواً في اتحاد الطلاب العالمي، واتسعت علاقاته لاحقاً في أواخر الستينيات والسبعينيات.
وتعزّزت العلاقة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 حيث التقى جيفارا بعض القيادات الفلسطينية خلال زياراته للقاهرة، وربما كان قد التقى خليل الوزير (أبوجهاد) في الجزائر خلال التحضيرات لمؤتمرات التضامن الأفروآسيوي تمهيداً لمؤتمر القارات الثلاث.
يقول صلاح صلاح، القيادي في الجبهة الشعبية الذي أجريت معه مقابلة بعد عودتي من هافانا باعتباره رئيساً لجمعية الصداقة الفلسطينية- الكوبية، إن كوبا اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية وفتحت لها سفارة في هافانا منذ وقت مبكر، لكن العلاقة تعززت في السبعينيات. وأكثر التقديرات أن مؤتمر القارات الثلاث الذي كان يحضّر له أحمد بن بيلا والمهدي بن بركة وجيفارا، كان المحطة الأولى المهمة للعلاقة، لاسيَّما بعد انعقاده عام 1966 رغم غياب القادة الثلاث عنه لأسباب تتعلق بذهاب جيفارا إلى الكونغو لقيادة الثورة فيها وإزاحة أحمد بن بيلا عن السلطة إثر الانقلاب ضده، واختفاء المهدي بن بركه قسرياً في باريس.
وكانت منظمة «فتح» أول من فتح مكتباً لها في هافانا. ويتذكّر صلاح صلاح أن وفداً فلسطينياً كبيراً كان قد زار كوبا برئاسة تيسير قبعة عام 1978، لاسيَّما بعد أن برزت بعض التمايزات بين ما أطلق عليه قوى اليسار واليمين في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، حيث فتح الكوبيون خطّاً جديداً لهم مع الفلسطينيين واعترفوا بتنظيمين هما: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة جورج حبش، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نايف حواتمة، وذلك بعد توثيق علاقة الجبهتين بالاتحاد السوفيتي. وكان صلاح صلاح قد شارك في دورة حزبية لمدة عام (1979 -1980) وبدأت دورات أخرى أمنية وسياسية وأكاديمية للفلسطينيين عبر تقديم منح لهم عن طريق «م.ت.ف» ثم بدأت بعض الفصائل تحصل على دعم سياسي وعسكري ومهني مباشر أيضاً.


      

1062
البحث العلمي ووليمة التفكير
   


عبدالحسين شعبان
كان المؤتمر الذي نظمته مؤسسة المستقبل (الدولية) في البحر الميت مؤخراً مناسبة مهمة لتبادل الرأي بخصوص البحث الاكاديمي في إطار المجتمع المدني العربي، ولا شك في أن هذا الأمر فتح الباب أمام اشكاليات كثيرة، حيث تناولت الأبحاث بالدراسة والنقد الأدبيات وواقع ومستقبل المجتمع المدني العربي من شمال افريقيا وحتى الخليج العربي .

وكانت الخبيرة نبيلة حمزة رئيسة “مؤسسة المستقبل” هي المبادِرة لطرح الاشكالية في كلمتها الافتتاحية بالاشارة إلى سؤال مهم وكبير يتعلق بكيف لنا أن نطوّر بحوث ودراسات المجتمع المدني في المنطقة؟ وما هي المواضيع التي يتعيّن علينا الوقوف عندها وكذلك المنهجيات التي حريّ بنا اتّباعها، علاوة على الشراكات التي لا بدّ من بنائها في المستقبل لتحفيز دور المجتمع المدني؟ ومثل هذه الاسئلة لا بدّ من استكمالها بالتوقف عند البرامج الممنوحة، ولاسيما من خلال التجربة العملية:

* الأولى- حقل المشاريع المدعومة في مجال تعزيز المواطنة وحقوق الانسان وارساء حكم القانون وتمكين المرأة .

* الثانية- حقل بناء القدرات لتطوير أداء قياديين واداريين .

* الثالثة- تقديم ونشر أبحاث ودراسات تطبيقية تتعلق بالمسار الديمقراطي .

ولعل الظاهرة التي كشفت عنها بعض الأبحاث والدراسات تتلخص في غياب استراتيجيات وضعف الثقافة الحقوقية، ولاسيما تداخل المهني بالسياسي، والحقوقي بالأيديولوجي، والمدني بالديني والعشائري أحياناً، ناهيكم عن عدم الجاهزية الفكرية، للتعاطي والتفاعل مع المتغيرات والتطورات الدولية من موقع نقدي مستقل .

واللافت أن بعض اشكاليات ومشكلات المؤسسات الرسمية والحكومات بدأت تنتقل إلى المجتمع المدني، وأن بعض “الأمراض” أخذت تنتشر عدواها في صفوفه أحياناً بسرعة كبيرة، رغم حداثة عهده .

إن الجهر ببعض العيوب والمثالب والأخطاء لا يستهدف التشكيك بمؤسسات المجتمع المدني أو التجريح بها، بقدر ما يستهدف التصويب والتصحيح والنقد، والتفكير بصوت عال وجماعي في الأزمة التي تستفحل، بهدف سدّ النواقص والثغرات كي لا تنفذ منها القوى المعادية لحركة المجتمع المدني، ناهيكم عن أن القراءة الانتقادية للواقع ومحاسبة الذات من خلال الشفافية والنقد الذاتي يستهدفان تعزيز وتطوير دور مؤسساته، فضلاً عن كونه مشاركة في الجدل الدائر والنقاش العلني، الذي لا يمكن اغماض العين عنه أو اغفاله، ورمي كل الأخطاء والخطايا على الحكومات والجهات التي لا تريد خيراً بالمجتمع المدني وحدها .

الاشكالية الأولى تتعلق بالدور التنويري لمؤسسات المجتمع المدني، ولاسيما بنشر ثقافة التسامح والسلام ونبذ العنف والاقصاء والعزل والدفاع عن حقوق المرأة والأقليات والفئات الضعيفة وغيرها، وهذه المسألة لا تزال محدودة وضعيفة جداً، ولاسيما أن الأمر يتطلب كفاءات وقدرات و”إخلاص” بعض قياداته .

الاشكالية الثانية، كيف يمكن لمؤسسات المجتمع المدني المساهمة في نشر الثقافة الحقوقية الديمقراطية، ولاسيما في ظل صعود التيارات المتشددة والمتعصبة والمتطرفة، خصوصاً أنها من دون عدّة فكرية وعملية كافية، ناهيكم عن اختلال موازين القوى في معظم الأحيان، إن لم يكن دائماً؟

الاشكالية الثالثة- تتعلق بضعف وغياب المبادرة، ولاسيما في الجوانب الفكرية أو العملية، خصوصاً أن الأمر يتطلب منها دراسات للظواهر الجديدة، في ما يتعلق بالعولمة والحداثة والتدخل لأغراض انسانية، وبما يعزز دورها الحقوقي والانساني بعيداً عن الانخراط في تطويع وترويض الخصوم المحليين أو الدوليين .

ان أغلب مؤسسات المجتمع المدني وبخاصة منظمات حقوق الانسان تنصرف للبحث والنشاط في الحقوق السياسية والمدنية وتهمل إلى حدود كبيرة الحقوق الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، ولعل اغلبها يبحث في الانتهاكات واساليب وآليات الاحتجاج، في حين تغفل الجانب الاقتراحي، وقلّة منها تهتم بالدراسات والابحاث التنموية أو مشاريع القوانين واللوائح أو غيرها .

ظلّ موضوع الخصوصية والعالمية هاجساً للكثير من أبحاث ودراسات المجتمع المدني ونشاطات مؤسساته، فالبعض يريد بحجة الخصوصية التملص من المعايير الدولية، والبعض الآخر بحجة المعايير الدولية يريد قطع الصلة بالتراث وبأية خصوصية، طالما يعتبر فكرة المجتمع المدني تنتمي إلى الحداثة والليبرالية والعقلانية والعلمانية، الأمر الذي لا يعني رفض رافدنا المعرفي والثقافي للتطور الدولي على هذا الصعيد، وبالتالي مراعاة الخصوصية في إطار العالمية والكونية والانسانية التي تشكل القاسم المشترك للجميع .

إن واحداً من جوانب الرفض أو الارتياب الرسمية أو المجتمعية لفكرة المجتمع المدني تتعلق بالتعصب والانغلاق ورفض الآخر بحجة الاختراق الثقافي ونشر الرذيلة وكأن مجتمعاتنا ترفل بالفضيلة، إذ لا يمكن اعتبار كل ما هو قادم من الغرب هو اختراع مشبوه، فليس الغرب “كلّه شرٌّ” مطلق ونزعات للهيمنة وفلسفات وآيديولوجيات عنصرية واستعلائية، فهناك بالمقابل مستودع لخير ما أنجبته البشرية من ثقافة وعلوم وتكنولوجيا وآداب وفنون وعمران وقواعد قانونية عصرية تقوم على أساس المساواة بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي، ناهيكم عن التعاطف مع حقوقنا العادلة والمشروعة .

ولعل أهم استنتاج مشترك عام يتم التوصل اليه بعد نحو 30 عاماً من الممارسة، هو أن المجتمع المدني العربي لا يمتلك عصا سحرية للتغيير المنشود، خصوصاً أن بعض العاملين فيه توهموا ذلك، وأن هناك من راهن عليهم أحياناً في الغرب، لكنه في الوقت نفسه ليس بعيداً عن مشاركة فاعلة في أي تغيير حقيقي، وهو الدور الذي يمكن التطلع اليه، كما حصل في أوروبا الشرقية والى حدود معينة في أمريكا اللاتينية .

ولكي تكون مؤسسات المجتمع المدني مؤثرة وقادرة على المشاركة ينبغي أن تكون مستقلة وسلمية ولا تنخرط في الصراع العقائدي، مثلما يُفترض فيها أن تكون غير وراثية وغير ربحية، وبعيدة عن الاعتبارات العشائرية والمذهبية والدينية، لتتمكن من دعم أي مشروع للتغيير السلمي الديمقراطي، ولاسيما إذا تهيأت مستلزماته عبر بيئة تشريعية وتعليمية واعلامية وثقافية وحقوقية مناسبة .

باحث ومفكر عربي


1063
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (17) همنغواي والجواهري: الشيخان والبحر!


                                                                                        عبدالحسين شعبان
2010-02-22
الجواهري المأسور بالبحر والنهر وخلدهما بقصائد خالدة «يا دجلة الخير..» و «سجى البحر» الأولى كتبها في براغ والثانية في أثينا وقصائد أخرى، وكان من أمنيات حياته أن تكون له شقة على البحر، والتي يستذكر فيها أيامه الخوالي، عندما كان بيته على نهر دجلة، ويتذكّر شط الكوفة في الفرات، يندهش، بل لا يصدق الأمر عندما يعرف أن همنغواي، وهو يعيش بكل هذه العيشة الأُبهة يفارق الحياة منتحراً، (يوليو 1899- يوليو 1961) أي أنه غادر الحياة في نفس الشهر الذي ولد فيه، ولعل تلك مفارقة أخرى ما بين الجواهري وهمنغواي، فقد ولد الجواهري في 27 يوليو عام 1900 حسب أكثر التقديرات رجاحة بشأن ولادته، وتوفي في اليوم نفسه من العام 1997، أي أنهما كليهما ولدا وتوفيا في شهر يوليو.
وإذا كان ثمة ما يجمع بين الجواهري وهمنغواي، فثمة ما يفرّق، وإذا كان كلاهما يعشقان النساء، إلا أن همنغواي كان ما إن يتعرّف على امرأة حتى لا تنقضي بضعة أيام على تعارفهما ليطلب الزواج منها! يقول هو عن نفسه: تلك هي طبيعتي مع النساء، لا أعرف من أين جاءت إليّ..؟ عندما أحبُّ أحب أن أتزوّج فوراً، فلا مكان لأوقات الغزل وساعات الانتظار، ومع أن الجواهري تزوّج مرتين، فبعد وفاة أم فرات في العام 1938، تزوج شقيقتها أم نجاح «أمّونة» التي رافقته حتى العام 1992، حيث توفيت في لندن، إلا أنه يقول عن نفسه إنه لم يعرف طعم الحب، أو يتذوق طعم المرأة الحقيقي وهو على مشارف الخمسين، وذلك يوم أحب أنيتا الكورسيكية من بنات السين في باريس العام 1949، ونظم فيها خمس قصائد، كما يقول في حواراته المنشورة في كتاب «الجواهري- جدل الشعر والحياة»، وفيما بعد علاقته مع بارنيا وماروشكا التشيكية.
كان همنغواي يصطاد السمك ولكنه يحب تناوله في مطعم لاتراسا الشهير، حيث تنزل شرفته إلى البحر مباشرة في خليج صغير يرتبط بعمق البحر، في ضاحية على مشارف هافانا حيث الموقع الاستراتيجي، وبالقرب من المطعم اليوم ينتصب تمثاله على الساحل، بمحاذاة البحر، ومثلما في حانته الشهيرة وفي مزرعته فقد كان همنغواي يطبع المكان بطابعه، فقد اتسمت حانة بودغيتا دل ميديو بالبساطة والشعبية، ورغم ذلك فقد أصبحت محجّاً يتسابق إلى زيارتها آلاف المشاهير ممن يزورون هافانا، حيث يبادر القائمون عليها بوضع صورهم وأسمائهم، على جدرانها المزدحمة بالأسماء والتواريخ لزيارات من كل أصقاع الدنيا، فقد كان «الشقي» همنغواي يعشق النساء والخمور والملذّات بجميع أنواعها، ويستهويه السفر بلا حدود، وهناك شيئاً من فوضاه الأثيرة.
ورغم أنه عاش في الوقت الضائع كما يقال، فقد أصيب بـ237 جرحاً وأجريت له 12 عملية، ومكث في المستشفى في ميلانو نحو 6 أشهر، وقد حدث ذلك يوم كان في الجبهة الإيطالية عندما عمل مراسلاً حربياً في الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي دفعه لاحقاً إلى التشبث بالحياة وخوض غمارها والاستمرار في مغامراته التي بدأها منذ صباه، فقد تشبث بالحياة بكل ما فيها من عنفوان، وهو ما ترك حيرةً واستفهاماً كبيرين حول موته.
لقد وصف همنغواي الموت الذي تعرّض له في الحرب العالمية الأولى عندما قال: لقد متُّ في تلك اللحظة، أحسست روحي تخرج من جسدي. افهموا هذا الإحساس كما تريدون. شعرت بأن روحي تنسلّ من جسدي كما ينتزع منديل حريري من جيب سترة، لكن هذا الشعور تبدد فجأة وعاد إليّ شيء أنعش جسدي من جديد، وعرفت أنني لم أمت وقد استوحى همنغواي من هذه الحادثة فيما بعد قصته الشهيرة «وداعاً للسلاح»، وكان قد وصف الحرب باعتبارها أخطر قضية في حياة الإنسان وأصعب مشكلة للعقل البشري.. إنها الشيء الرهيب في حياة البشر، ولا نستطيع تناولها إلا إذا قدّرنا خطورتها في صدق وحرارة.
كان أول ما نشره همنغواي وهو ينتقل من الصحافة التي أحبّها، لأنها تعنى بالواقع، إلى الرواية التي تعنى بالمتخيّل هو قصة: لا تزال الشمس تشرق العام 1926، وهي تصوير حزين للحياة القلقة المتشردة، لاسيما بعد الحرب العالمية الأولى، وبخاصة للأميركان في أوروبا، وبمجرد صدور الكتاب أصبح همنغواي مشهوراً، حيث هيمن على نفوس القراء، لاسيما من الشباب، شعور بأن ثمت من يُحسن التعبير عن مشاعرهم.
التحق همنغواي بالجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية، فترك كل شيء، وكان همّه الأساسي هو القضاء على الفاشية، وكما يقول، فإنه لم يكتفِ بالقتال، بل اشترى سيارة إسعاف وأهداها إلى الثوار. وكان حصيلة مغامرته الإسبانية «قصة موت بعد الظهر»!
وقد التقى همنغواي في إسبانيا بالكاتب الفرنسي المعروف أندريه مالرو وارتبط معه بصداقة مديدة، وقررا الاشتراك في مشروع أدبي هو الكتابة عن الثورة واقتسما المراحل، حيث ألف مارلو كتاب الأمل في العام 1938 في حين أصدر همنغواي روايته الشهيرة «لمن تقرع الأجراس» عام 1940. وقد تحوّلت روايات وقصص همنغواي إلى أفلام مثيرة غزت الشاشة وتركت انطباعات إيجابية على قدرته في تصوير حياة الحرب وتفاصيلها وآلامها. وهو ما قدّر لي أن أشاهده في أواخر الخمسينيات وبدايات الستينيات.
في عام 1946 تزوّج للمرة الثالثة وقرر الرحيل إلى كوبا للعيش فيها نهائياً، حيث سكن في فيلا شهيرة تبعد نحو 20 كيلومترا عن هافانا واسمها كما ذكرنا «لافيهيا» وهي عبارة عن مزرعة فيها أعداد من الحيوانات الأليفة. ونشر في العام 1950 روايته «عبر النهر وتحت الشجر»، ثم روايته الرائعة «الشيخ والبحر» العام 1952 التي في إثرها نال جائزة نوبل العام 1954، وقد اعتبر الناقد روجيه غروينر أن همنغواي كتب تلك الرواية «الشيخ والبحر» متأثراً بالكاتب ملفيل وروايته «موبي ديك» Moby Dick وذلك كما ورد في كتاب لصدقي إسماعيل بعنوان «نبلاء الإنسانية» الصادر عن دار رياض نجيب الريس، بيروت، 2008.
وإذا كانت حياة همنغواي قد عرفت كل هذه المنعرجات والمغامرات والتحديات، فإن عزاءه كان التأمل والعزلة والتفكير، وهو يتقدم في مرحلة الكهولة، إلى أن أنهى حياته بضربة واحدة من قدر غامض، لعله كان مثل غموض بعض شخصياته وربما شخصيته الغامضة هو بالذات أيضاً.
يشير الكاتب صباح المندلاوي على لسان الجواهري إلى تفاصيل غالباً ما كان الجواهري يرددها بشأن رفض بعض الناشرين نشر كتب بعض المبدعين، وإذا بهم يتنافسون عليهم بعد أن يذيع صيتهم، وكيف أنه تم رفض بعض مخطوطات همنغواي، الذي عاش الفاقة والعوز والجوع حتى وصل الأمر في إحدى المرات أن يجمع له بعض العاملين في تلك البارات مبلغاً من المال لغرض مساعدته وانتشاله، وذلك قبل حصوله على جائزة نوبل العام 1954، حيث انفتحت أمامه أبواب الدنيا، وهو ما ذكّرني بالشاعر المبدع عبدالأمير الحصيري، الذي عاش حياة متشردة، نؤاسية، متصعلكة، وكان في كل مقهى أو بار هناك من يقوم «بواجبه» بدفع متطلباته، فارقه الوحيد مع همنغواي، أنه مات منتحراً ولكن على طريقته، معوزاً ووحيداً ومحروماً من كل شيء بما في ذلك النساء، إلا أنه مُتخماً بالخمرة صديقته الوحيدة وملاذه الأخير، في حين انتحر همنغواي وهو يرفل بكل أنواع الامتيازات والترف.
لقد مزج همنغواي تجربته الأدبية بتجربته الحياتية لدرجة التماهي أحياناً، حيث كانت حياته حافلة بالأحداث والمغامرات والخفايا وإن لم يجد إلى ذلك سبيلاً فكان يخترعها أحياناً ويبدع في تخيّلها، وقد قال عن نفسه: لم أفهم حياتي بعد، لأنني أخشى الالتفات إلى الوراء.
صدق هادي العلوي عندما أطلق على صباح المندلاوي «صباح النجيب» وهو ما كنت أشاطره الرأي فيه منذ أن اقترن المندلاوي بكريمة الجواهري خيال، حتى أصبح عين الجواهري التي يقرأ بها، فالتزمه وحرص على تلبية جميع متطلباته، لاسيما خلال فترة مرضه، وكان يجول معه في روائع وأمهات الكتب، وما يحبب وما يرغب أبا فرات، وهو ما يكشف عنه في كتابه، الذي أحسن صنعاً بإصداره. الشيخان همنغواي والجواهري، استلهما من البحر الشيء الكثير، ففيه عالم الأسرار والغموض واللانهايات والمتعة في الاكتشاف الأبدي.


           

1064
الخليج وصورة المجتمع المدني
   


عبدالحسين شعبان
يميل الاعتقاد السائد إلى أن دول الخليج العربي، أو ما يمكن أن نطلق عليه دول مجلس التعاون الخليجي الذي تأسس في العام ،1980 لا تمتلك تجربة كافية بخصوص المجتمع المدني، فإما أنها حديثة التكوين أو لا تزال ضعيفة ولم يشتدّ عودها، أو أنها لا تكترث كثيراً بهذا الحقل، أو أن هناك عقبات أمام الترخيص لتأسيس أو إنشاء مؤسسات خاصة بالمجتمع المدني، لكن بعض الدراسات ذهبت إلى القول إن هناك أكثر من 10 آلاف جمعية ومؤسسة خاصة بالمجتمع المدني، وإن عدد المنتسبين المنضمّين اليها يزيد على مليون شخص، في مجلس عدد سكانه حسب بعض الإحصاءات يقارب من 48 مليوناً .

لكن الباحث والمتخصص في المجتمع المدني، سيلاحظ أن المؤسسات التي نطلق عليها مؤسسات المجتمع المدني هي في الغالب مؤسسات خيرية أو يغلب عليها التوجّه الخيري - الإنساني والطابع الدعووي الإسلامي، في إطار حقوق الزكاة أو ما نسميه “التكافل الاجتماعي” لمساعدة من يحتاج اليه، لاسيما من ذوي الإعاقة أو الفئات الفقيرة أو الضعيفة .

وإذا كانت ثمة تطورات قد حدثت في دول مجلس التعاون الخليجي في ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبخاصة الحق في التعليم والصحة والعمل والضمان والبيئة والتمتع بأوقات الراحة والاستفادة من منجزات الثورة العلمية- التقنية وفي إشباع بعض الحاجات الروحية والثقافية، فإن الأمر يحتاج إلى تعزيز جوانب أخرى تشكل منطلقاً لتعميق هذه الحقوق من جهة، ومن جهة أخرى لضمان استمرارها وتأصيلها، لاسيما الحقوق المدنية والسياسية، التي تنطلق في منظومة شاملة أساسها المساواة الكاملة والمواطنة التامة، خصوصاً في الموقف من تأهيل وإعداد المرأة وإدماجها في العمل العام، بما فيه حقوقها السياسية، كالحق في الانتخاب والترشيح وتولّي المناصب العليا من دون تمييز، ولا شك في أن هذه الحقوق لا بدّ أن ترتكز على أربعة أطر أساسية:

الإطار الأول: يتعلق بحرية التعبير بالقول والكلام والكتابة والنشر وتبادل المعلومات، وحق التظاهر والإضراب، وغيرها، تلك التي تكفلها الشرائع الدولية لحقوق الإنسان، والتي لا تزال بحاجة إلى تأطير وتقنين في العديد من بلدان الخليج .

والإطار الثاني: يتعلق بحق الاعتقاد، بما يفيد ذلك من حيثيات كما ورد في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، أي حق الإنسان في تبنّي وتغيير آرائه بحرية ومن دون إكراه، وهذا الأمر بحاجة إلى تطور تدريجي، تراكمي، طويل الأمد وإلى بيئة اجتماعية حاضنة، وقبول من النخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، وإلى أجواء تتسم بالتسامح والاعتراف بالآخر وحق الاختلاف .

الإطار الثالث: يتعلق بحق التنظيم، وهذا يعني الحق في تأسيس الأحزاب والنقابات والاتحادات والجمعيات، السياسية والمهنية والاجتماعية والثقافية وغيرها، على نحو اختياري وبما تكفله المواثيق الدولية، وكانت بعض الخطوات الإيجابية قد بدأت في بعض دول الخليج العربي، وبخاصة في مطلع الألفية الثالثة، باستثناء الكويت التي كانت سبّاقة إلى ذلك منذ استقلالها العام 1961 .

وإذا توقفنا عند هذه المسألة بقراءة دساتير وقوانين دول مجلس التعاون الخليجي، فإننا سنرى أنها لا تزال في أول السلم قياساً للمعايير الدولية، حيث قطع المجتمع الدولي أشواطاً بعيدة، في حين أن الكثير من دول مجلس التعاون الخليجي ما زال متردداً . ومع أن هناك خطوات أولى مهمة لكنها لا تزال محدودة ويحتاج الأمر إلى توفّر إرادة سياسية حازمة لولوج هذا الطريق، لاسيما أن هناك عقبات مجتمعية قد تحول دون ذلك .

الإطار الرابع: هو الحق في المشاركة، ذلك لأن تداول مفهوم الشراكة والتحول الكوني باتجاه الإصلاح والاعتراف بدور المجتمع المدني، جعل الدولة الخليجية الريعية أمام سؤال كبير لا يتعلق الأمر بالاقتصاد ودور القطاع الخاص والاعتماد على اقتصاد السوق حسب، بل في ما يتعلق بدور المجتمع المدني، خصوصاً أن دولاً خليجية كانت قد وقعت على عدد من الاتفاقيات الدولية الخاصة باحترام حقوق الإنسان، مثل العهدين الدوليين، الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقيات المرأة والطفل وغيرها (رغم بعض التحفظات)، الأمر الذي يتطلب تكييف قوانينها وأنظمتها، فضلاً عن دساتيرها لتتماشى مع الاتفاقيات الدولية .

وإذا كان الخطاب الرسمي الخليجي يؤكد على قيمة المشاركة ودور المجتمع المدني فثمة كوابح منظورة وأخرى غير منظورة بحكم طبيعة المجتمعات الخليجية المحافظة التي تحول أحياناً دون مشاركة فعّالة، ناهيكم عن المركزية في شكل الدولة، يضاف اليها التماهي بين الحالكم والسلطة أحياناً .

لعل مناسبة الحديث هذا هو مؤتمر مهم حول البحث الأكاديمي في ميدان المجتمع المدني نظمته مؤسسة المستقبل “الدولية” في البحر الميت بحضور عشرات من الباحثين والناشطين العرب والأجانب، فضلاً عن خبراء دوليين، وكانت ورقة الخليج قد قدّمها الباحث البحريني المعروف عبد النبي العكري، وقدّم عرضاً معمقاً لستة بلدان خليجية ودور مؤسسات المجتمع المدني، لاسيما كشفاً مهماً ببيلوغرافيا الدراسات والابحاث، لكن باحثاً خليجياً آخر استاذاً في علم الاجتماع هو الدكتور باقر النجار كان قد كتب مشككاً في وجود المجتمع المدني، وإن وجد فهو غير قادر على فرض إرادته أو رغباته أو تأثيراته في قرارات الدولة، كما هي في حالة أوروبا الغربية والشرقية أو بعض أقطار آسيا وأمريكا اللاتينية، بمعنى آخر حسبما يقول “من الصعب أن نجد مجتمعاً مدنياً في المنطقة العربية مستقلاً عن الدولة وقادراً على التأثير فيها”، لكنه يقبل بفكرة منظمات غير حكومية أو أهلية مستقلة عن الدولة .

إن أي تطور للمجتمع المدني، بما فيه دول الخليج العربي، يحتاج إلى بيئة تشريعية مناسبة وقوانين تنسجم مع التطور الدولي ونظام تعليمي وتربوي مناسب وإعلام عقلاني لنشر الوعي القانوني والمهني ومجتمع مدني يكون شريكاً ورقيباً وراصداً، بجاهزية فكرية ومهنية وأداء ديمقراطي مستقل بعيداً عن الواجهات الدينية أو الطائفية أو السياسية أو العقائدية لهذا الطرف أو ذاك .

 

 

باحث ومفكر عربي



1065
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين!! -16 -أرنستو همنغواي: حانة بودغيتا دل ميديو!
                                                                                    عبدالحسين شعبان
2010-02-15
أعادني الصديق صباح المندلاوي في مؤلفه الجديد عن الشاعر الكبير الجواهري «الليالي والكتب» الصادر في بغداد عام 2009، إلى نظرة الجواهري إلى الكثير من زملائه المبدعين بينهم بيكاسو وبابلونيرودا وهمنغواي ولوركا وماركيز وغيرهم، وهو ما كنت قد أشرت إليه في كتابي «الجواهري-جدل الشعر والحياة» الصادر في بيروت عن دار الآداب، ط2، 2009، ولعل بعض الحوارات التي نشرتها مع الجواهري تتضمن وقفات مهمة لبعض علاقاته بالمبدعين عربا أو أجانب. وهو ما يذكره الجواهري أيضا في مذكراته «ذكرياتي» في جزأين، دمشق، دار الرافدين، 1988في علاقته مع الفنان الإسباني-الفرنسي بيكاسو الذي رافقه في «المقصورة» ذاتها خلال رحلته بالقطار عائدا من وارشو إلى باريس بعد حضوره مؤتمر السلام العالمي العام 1949 الذي شارك فيه نخبة من كبار المثقفين والمفكرين، يقول الجواهري: «استلقيت أنا في الطابق الأسفل من المقصورة (المقصود بالمقصورة غرفة تحتوي على سريرين، سرير علوي وآخر سفلي) وقد أخذ بيكاسو الطابق الأعلى أي «السرير العلوي»، ثم علمت أنه يود المنام في السرير السفلي، وهو ما حدثتني به السكرتيرة؛ لأنه قصير القامة وأنا طويل القامة وبإمكاني الصعود إلى الأعلى، وقد يتعذر عليه القيام بذلك، في حين كنت أقوم بها بسهولة، وضحكنا لهذا الالتباس والمفارقة من خلال الكلمات القليلة التي تحدثنا بها بالإنجليزية البسيطة، وطلب مني بيكاسو أن نأخذ صورة تذكارية فقلت له: هذا شرف لي.
ويسرد الجواهري الكثير من إعجابه بإبداع الفنان الكبير بيكاسو، ويقارن ما يتمتع به المبدع في فرنسا والغرب بشكل عام، وبلادنا العربية، لاسيما العراق بشكل خاص، ولعل ذلك إحدى المفارقات المريرة التي غالبا ما يتوقف عندها الجواهري، وهو ما يمكن قراءته من خلال تقييمه لأرنستو همنغواي، وحيرته بخصوص مقتله الغامض.
ويعلق الجواهري على كتاب مذكرات الشاعر التشيلي بابلو نيرودا «أشهد أنني قد عشت» الذي تضمن سردا غنيا وجميلا لحياة مفعمة بالحيوية، تلك التي أحبها الجواهري بكل ما فيها من جنون وعبقرية، وكان قد قال مع نفسه ذات يوم: وهل لي أن أكتب مذكرات بعدها، وهو ما أوردته في حواراتي المنشورة معه.
في حانة بودغيتا دل ميديو وأنا أحتسي كأس الموهيبا اللذيذ، استعدت حواري مع الجواهري (الموهيبا هو نوع من الروم Rum، مضافا إليه الثلج والليمون والنعناع) عن كوبا وهمنغواي الذي كانت شخصيته محيرة للجواهري، لاسيما وهو الذي اكتسب شهرة كبيرة ومالا عظيما (ويذكر الجواهري أنه كان يطلب من الناشرين 750 ألف دولار للاتفاق على طبع رواياته) وعاش مرفها في جزيرة حالمة وبأوضاع متميزة (بعد حرمان)، وهو الأميركي الذي كان صديقا لفيديل كاسترو، رغم العداوة التي تصاعدت بين الولايات المتحدة وكوبا بعد انتصار الثورة في مطلع العام 1959.
لقد ظلت ظروف مقتل همنغواي غامضة وملتبسة، وهي التي جعلت الجواهري يتساءل: «كيف يستطيع من هو في هذه البحبوحة أن يقدم على الانتحار؟ فقد قيل إنه توفي على نحو غامض بانطلاقة رصاصة من بندقيته أردته قتيلا في ظروف غامضة في 2 يوليو 1961، وهو الذي ولد لأب طبيب في أواخر العام 1899 في مدينة صغيرة اسمها أوك بارك Oak Park، غير بعيدة عن شيكاغو، ونشأ في أسرة محافظة، لكنه أبدى ميلا إلى التمرد منذ نعومة أظافره، ورغم أنه كان تلميذا نابهاً فإنه كان كثير الفرار من المدرسة، ومنذ وقت مبكر دخل عالم الصحافة والكتابة، ولم يكمل دراسته، لاسيما عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، حيث توجه همنغواي إلى ساحات القتال.
لعل الكتاب الممتع والذي يحظى بامتياز آخر أن صاحبه الفنان صباح المندلاوي هو صهر الجواهري، زوج ابنته الدكتورة خيال، وكان قد عاش معه ورافقه في السنوات الأخيرة من حياته، وتمثل انضمامته التي نحن بصددها صبرا وجهدا غير عادي، لتدوين ما يصدر عن الجواهري من ملاحظات وتعليقات، لاسيما بخصوص كتب ومبدعين في فترة لم يسلط عليها الضوء بما فيه الكفاية، حيث كان المؤلف أقرب إلى حامل كاميرا لتصوير حياة الجواهري، وما كان يختلج في ذهنه من آراء وأفكار يعبر عنها بطريقته الخاصة، وهو يدلف بأيامه الأخيرة نحو تلك الحقيقة المطلقة، التي ظل يزوغ عنها ويراوغها ويتحايل عليها، حيث كان بينه وبين الموت -ذلك الذئب اللعين الذي ظل يترصده منذ عقود من الزمان وبأنيابه دم الأخوة والأحبة والصحاب- صراع مرير وهدنات طويلة، وكر وفر وإصابات لم يسلم منها الجواهري، لاسيما عندما رحلت رفيقة عمره أمونة «أم نجاح» وهو القائل: «يظل المرء مهما أدركته يد الأيام طوع يد المصيب».
فقد كان مصابه بوفاة الحبيبة نائبة كبيرة ألمت به وتركت فيه جرحا لم يندمل، ولكن الجواهري العنيد لم يستسلم بسهولة، إلى أن اقتنع أن الصراع العبثي لا بد أن يتوقف، فعقد صداقة مع الموت، بحيث يكفان كل منهما عن مطاردة الآخر، ليرحل بعدها الجواهري بهدوء كامل وهو الذي عاش في وسط العاصفة.
ذاكرة الجواهري كما يحدثنا المندلاوي، تروي قصة ذلك الصحافي الهاوي، الذي تقدم للعمل في إحدى الصحف فاشترط عليه رئيس التحرير أن يجري لقاء مع الكاتب الشهير همنغواي ليكون شرطا لاستمراره في العمل، وبعد سلسلة اتصالات وتنقلات، يحط الصحافي في كوبا حيث يقيم همنغواي، ويخبره برغبته في اللقاء وشروط وحيثيات عمله، ويلتقي همنغواي والصحافي في حانة بودغيتا دل ميديو، وبعد احتساء كاسين من الموهيبا يشعر همنغواي بالتعاطف مع الصحافي ويقترح عليه العمل معه كسكرتير بظروف أفضل. يستبد الفرح والسرور -فضلا عن المفاجأة- بالصحافي هوتشز، ويبدأ على الفور عمله سكرتيرا لهمنغواي، بدلا من إجراء مقابلة معه، وبعد رفقة ومعايشة لسنوات يطالعنا هوتشز بكتاب قيم ومثير عن تفاصيل شيقة ومثيرة لحياة همنغواي بعنوان «بابا همنغواي».
وخلال زيارتي لهافانا بحثت عن أثر همنغواي وسبب اختياره كوبا ومكوثه فيها، فزرت فيلته لافيهيا «مزرعة همنغواي» في منطقة سان فرانسيسكو دي باولا، وهي ضاحية قريبة من العاصمة. المزرعة مدهشة إلى حد كبير، وفيها أنواع الزهور والأشجار التي جلبها من جميع أنحاء العالم، وهو ما كان يشغل الجواهري كثيرا، لاسيما «المركب الصغير» الذي كان يصطاد فيه السمك في عرض البحر، وكانت تلك إحدى هواياته، وما زال هذا المركب الأنيق موجودا في مزرعته، وتحتوي المزرعة على صالات وغرفة ضيوف وغرفة طعام ومناظير وأنواع من البنادق وصفارات، إضافة إلى سينما صغيرة وأفلام وصور ولوحات وخمور وكؤوس متنوعة.
ذكرتني الفيلا بالمنزل الجميل على الساحل الذي يبعد نحو 100 كيلومتر عن سنتياغو في تشيلي لبابلو نيرودا، الذي كان يحتوي هو الآخر على أنواع الخمور والقناني والكؤوس، إضافة إلى إسطبل للخيول، وفيه حصان بكل متطلباته، مصنوع بمهارة ودقة كعمل نحتي وفني جميل، مع أن نيرودا لا يجيد ركوب الخيل، مثلما لا يجيد السباحة، رغم أن منزله مطل على البحر مباشرة، ولعل أجمل ما فيه هو غرفة الحبيبة ماتيلدا التي تجلس فوق البحر وكأنه أراد أن يستمع إلى موسيقاه المختلطة بأمواج البحر، وذلك حين يداعب النوم عيونه، وللبحر وهمنغواي والجواهري قصة أخرى.



1066
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين -15- حروب سبعة آخرها الحرية والحداثة!

                                                                                          عبدالحسين شعبان
2010-02-08
شهد التاريخ الكوبي خلال القرن ونصف القرن الماضي عدداً من الحروب والنزاعات التي ما زال المجتمع الكوبي يستذكرها، في الحانة والمقهى وعلى الجدار وفي الساحات والمتاحف واللقاءات والمحاضرات، حيث تتردد أسماء الأبطال على كل لسان، ويمتاز الكوبي بشكل عام بوطنية عالية، وبالقدر الذي يتسامح فيه مع نقد النظام وأحياناً كشف بعض عيوبه ومثالبه، إلا أنه لا يقبل أن يكون جزءًا من الخطة الأميركية للإطاحة به رغم معارضته له.
وإذا كانت الظروف القاسية وبعض الإجراءات التعسفية التي لجأت إليها السلطات الكوبية قد أجبرت أعداداً كبيرة وبمئات الآلاف إلى مغادرة كوبا، لا سيَّما بفعل استمرار الحصار الأميركي إلا أن القسم الأكبر والساحق منهم لم ينخرطوا للعمل مع واشنطن ضد بلادهم، ولعل تجربة خليج الخنازير وأزمة الصواريخ وإحباط محاولات التسلل والغزو جعلت الكثير من الأوساط تعيد النظر لكي لا يتم استخدامها أو توظيفها تحت باب "التمرد" أو "المعارضة" بأجندات خارجية.
وهناك داخل الولايات المتحدة بما فيهم من المهاجرين من أخذ يتعاطف مع كوبا، رغم أن أعدادهم قليلة، وإن كانت غالبيتهم ضد النظام القائم. وتكشف مسألة اعتقال ومن ثم الحكم على 5 من الكوبيين في المحاكم الأميركية، والذين مضى على وجودهم في السجن أكثر من 11، عاماً أن بعضهم لم يعرف حتى كوبا وعاش في الولايات المتحدة، لكن قلبه كان في كوبا حيث تعرّض زعيمها كاسترو لنحو 683 محاولة اغتيال، وسأعود للتوقف عند هذه المسألة في مكان آخر، لأسلّط الضوء على محاولات الاختراق والاختراق المضاد، من زاوية قانونية وسياسية، ولعل أبرز الحروب وأهمها هي:
الحرب الأولى- المتمثلة بمقاومة الاستعمار الإسباني منذ العام 1868 والتي استمرت حتى العام 1878، وقد أبدى فيها الكوبيون بسالة منقطعة النظير، وخسر فيها الغزاة الكثير من الأرواح والمعدّات دون أن يتمكنوا من فرض "سيادتهم" الكاملة على كوبا، التي ظلّت عصيّة عليهم. أما الحرب الثانية فقد ابتدأت العام 1881 واستمرت لبضع سنوات، وهي استكمال وتوسيع للحرب الأولى. وكانت الحرب الثالثة منذ مطلع العقد الأخير من القرن الـ19، والتي قتل فيها الزعيم الوطني خوسيه مارتيه بعد أن جاء من هايتي، أما الحرب الرابعة فهي حرب أهلية داخلية، بين نظام كان صنيعة لواشنطن وبين حركة ثورية استطاعت استقطاب جمهور واسع لاحقاً، فكانت النخبة وسيطاً بين الشعب المستضام والوعي المفترض، الذي حاولت توظيفه لصالح الصراع.
أما الحرب الخامسة التي لا تزال مستمرة فهي حرب السلطة الثورية ضد الثورة المضادة المدعومة أميركياً، وإنْ استطاعت الثورة التقدم بتحقيق إنجازات اجتماعية وتنموية مهمة، لكن حقل الحريات واحترام حقوق الإنسان، بحاجة إلى إعادة نظر، لا سيَّما موضوع الإقرار بالتعددية وحرية التعبير وحق الاجتماع والاعتقاد والتنظيم والمشاركة، فقد أدى التضييق على هذه الحقوق إلى استثمار الثورة المضادة، لهذه الثغرات والمثالب، وهو أمر لو استمر دون مراجعة ومعالجة إيجابية، فإنه سيؤدي إلى تفتيت القاعدة الداخلية الأساسية للثورة، ولا يمكن لأية ثورة أن تستمر دون حريات الناس وحقوقهم وقناعاتهم، فهم المستفيدون من أية ثورة، مهما تحققت بعض المكتسبات الاجتماعية، فيما يتعلق بالعمل والصحة والتعليم والضمان، ولعل تجربة البلدان الاشتراكية وبعض أنظمة العالم الثالث دليل على ذلك.
أما الحرب السادسة فهي الحرب ضد الحصار الأميركي الجائر، المفروض على كوبا منذ 50 عاماً، أي منذ العام 1960 في عهد الرئيس كيندي الذي فرض حظراً على السلاح، ثم أصبح شاملاً لجميع مرافق الحياة، ابتداءً من قلم الرصاص وحتى آخر متطلبات الحداثة، بما فيها من انتقال الأشخاص والأموال والسفر والزيارات والاتصال الثقافي والعلمي وغيرها. ورغم أن تخفيفاً نسبياً قد بدأ في عهد الرئيس أوباما بشأن الاتصالات وتحويل الأموال والزيارات، مع لغة امتازت بالمرونة، فإن السياسة العامة لا تزال تندرج في إطار لغة الحرب والتهديد واحتمالات الغزو والتدخل بالشؤون الداخلية، وإن اختلفت منطقة التدخل ففي خطة أيزنهاور كانت ميناء ترينداد Trinndad التي زرتها وأنا في طريق عودتي من سانتا كلارا، ثم أصبحت في عهد كيندي ميناء بيك PIG وتطور الأمر إلى أزمة خليج الخنازير، ومن ثم إلى أزمة الصواريخ الشهيرة، وكان خيار واشنطن حتى نهاية عهد الحرب الباردة يقوم على الحصار والاحتواء عبر الصراع الأيديولوجي والضغط العسكري والسياسي والعقوبات الاقتصادية وتشجيع قوى الثورة المضادة.
أما بعد العام 1991 وتفكك الاتحاد السوفييتي، فقد أخذت الولايات المتحدة من تصعيد نبرتها والتهديد بالغزو مرّة أخرى، لا سيَّما خلال عهد الرئيس بوش واستخدام عصا الحصار لتركيع كوبا التي ظلّت تعاني وتنزف بصمت، وما كان يُحسب لها مثل القضاء على الأمية ونشر التعليم والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والقضاء على البطالة، أصبح غير كاف، لا سيَّما في خضم المعركة الجديدة القائمة وتحديات التنمية وتزايد حاجات الإنسان في ظل العولمة والحداثة، وانعكاس ذلك على مسألة احترام حقوق الإنسان والإقرار بالتعددية وتوسيع دائرة الحريات.
المعركة الجديدة القائمة والتي سيتوقف عليها مصير ومستقبل كوبا ونظامها السياسي هي المعركة السابعة ونعني بها معركة كوبا مع الحداثة واستخدام العلم والتكنولوجيا، فقد ظلّت كوبا إلى حدود غير قليلة وبسبب الحصار وعدم وجود إمكانات كافية، معزولة وتعاني من شح الموارد، الأمر الذي عطل التنمية وأضعف فرص الالتحاق بركب الحداثة والاستفادة من منجزاتها، إضافة إلى ضيق فسحة الحريات، حيث تعمّق الاحتقان الاجتماعي والهيمنة السلطوية، ولعل هذا يتطلب فحص وتدقيق الشعارات القديمة، لا سيَّما بعد مرور 50 عاماً على الثورة، وإلا فإن الثورة ستهلك بفعل عوامل داخلية لا محال، ناهيكم عن العنصر الخارجي الذي يحاول تفتيت أطرافها ليتمكن من اختراق قلبها والنفاذ إلى صميمها!
بعد العام 1991 غادر الروس على نحو شبه مفاجئ قاعدة لوردس بالقرب من هافانا، حتى دون اتفاق مع الجانب الكوبي، وربما دون كلمات وداع رسمية، الأمر الذي أضعف من إمكانات كوبا الاقتصادية والسياسية في مواجهة الحصار والتصدي لتحديات الولايات المتحدة، فقد خسرت كوبا حليفاً قوياً وكبيراً رغم جميع التحفّظات ومحاولات فرض الهيمنة، حيث كان يمدّها بنحو مليون دولار يومياً ولمدة ثلاث عقود من الزمان تقريباً. ولم يكن ذلك الخلل وحده هو السبب في الأزمة الراهنة، فقد أشرنا إلى شح الحريات، إضافة إلى الموقف السلبي من الدين الذي اتخذته الثورة، وأصبح سياسة رسمية، بحيث كان قلّة من المتدينين من يدخلون الحزب ويحتلون مناصب عليا، وكان هذا التمييز سبباً في تهييج الكنيسة ضد الثورة واتخاذها مواقف مناوئة لها، وقد جرت محاولات أخيرة للانفتاح واحترام الطقوس والتقاليد الدينية، لكن الكثير من قوى الثورة المضادة، اختبأت تحت بعض العناوين الجديدة.
وكان من الأخطاء التي وقعت بها الثورة اللجوء إلى الصناعات الثقيلة وبناء مصانع للصناعات الكبيرة، الأمر الذي أدّى إلى تبديد طاقات اقتصادية وإنتاج سلع وبضائع لم تجد لها تصريفاً ولا حاجة للاستهلاك المحلي.
وتستغل بعض قوى الثورة المضادة اليوم، لا سيَّما بعض رجال الأعمال الانفتاح النسبي الذي حصل بعد فترة انغلاق طويلة لإمرار دعوات لإعادة العلاقات مع إسرائيل وأخذت بعض الجماعات تتستر للقيام بأعمال معادية تحت تلك الحجة، حيث نشطت الدعاية الصهيونية المتسترة وراء شعارات أخرى.
إن الماركسيين وإن اختلفت مدارسهم وتوجهاتهم يتطلعون بقلق إلى التجربة الكوبية، وكيف يمكنها حسم معركة الحداثة والحرية، اللتين من دونهما لا يمكن تحقيق التنمية المنشودة، وبذلك فهم ينظرون إلى الشجرة من منظار آخر، ويأملون أن تنضج تفاحتها لكي يقطفها الشعب الكوبي، لا أن تسقط في سلّة واشنطن التي تنتظرها منذ 50 عاماً، وذلك أحد تحديات الاشتراكية الراهنة، خصوصاً إذا استطاعت أن تنحى باتجاه صورتها الإنسانية المنتظرة!

1067
جدلية القانون والنزاهة   

 

 

عبدالحسين شعبان
عنصران أساسيان يشكّلان القاسم المشترك للدولة العصرية المتقدمة، وهما حكم القانون والنزاهة، فالأول يعني وجود مؤسسات تتقدم على الأفراد لكي تحكم السلوك والممارسة الفعلية، لاسيما عند التعاطي بالشؤون العامة . ولعل حكم القانون هو المدخل الصحيح والذي لا غنى عنه عند الحديث عن دولة مواطنة وحقوق انسانية ومساواة تامة بين بشر لا يميّزّ بينهم الدين أو اللغة أو الجنس أو القومية أو المنحدر الاجتماعي أو غيره .

كما أن توفّر حكم القانون ووجود مؤسسات، ضمانة للمراقبة والرصد والمساءلة فيما يتعلق بالعمل العام على أساس الشفافية والنزاهة وهو العنصر الثاني، الذي تقوم عليه الدولة الحديثة بالتوجه الديمقراطي، فإذا كان الضلع القانوني مرتكزاً أساسياً لها فإن الضلع الثاني هو النزاهة، الأمر الذي تتقلص فيه إلى حدود كبيرة عمليات التجاوز أو النهب أو التصرف بالمال العام، فلم يعد بإمكان الحاكم أن يتصرف بمفرده وبمعزل عن مؤسسات منتخبة تعود إلى الدولة التي يحكمها قانون يخضع له الجميع حكاماً ومحكومين، وهو ما يحدّ إلى درجة كبيرة من الفساد المالي والاداري، خصوصاً وأن تداولية الحكم سلمياً والمساءلة ووجود المؤسسات التي يحكمها القانون تشكل ضمانة مهمة .

ولعل هشاشة حكم القانون وضعفه وشكلانية المؤسسات وشيوع ظواهر اللانزاهة ناهيكم عن غياب أو ضعف المساءلة، تكاد تشكل ظاهرة عربية وعالمثالثية، ولهذا فإن وجود مركز عربي متخصص على درجة عالية من المهنية والكفاءة أمر مهم جداً، وقد يكون أحد النقاط المضيئة في ظل عتمة شرسة، خصوصاً في ما يتعلق بنشر الثقافة القانونية والحقوقية الخاصة بحكم القانون والنزاهة وتطوير آداء العالم العربي دولة ومؤسسات ومجتمع مدني وقطاع الأعمال، لاسيما وأن الانتاج الفكري العربي بما فيه البحثي والجامعي ما زال محدوداً على هذا الصعيد، ناهيكم عن أن مصادره في الغالب غير عربية، يضاف إلى ذلك، أن مقارباته لا تزال نظرية ولا وجود لأبحاث ميدانية تطبيقية .

من هنا كان الوسط الأكاديمي والحقوقي مهتماً عند انشاء “المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة” في مطلع الألفية الثالثة، كجهد متميز ومساعد في تحقيق التنمية والتقدم . ولعل أهم ما يمكن التوقف عنده هو تجارب الرصد والقياس لأداء المؤسسات من خلال ثلاثة حقول عمل عليها بنشاط وحيوية هي: البرلمان، والقضاء، والاعلام، وهي مجسّات أساسية لرصد حالة حكم القانون . وإذا كانت المقاربة قد اقتصرت على عدد محدود من البلدان، فإن الأمر يتطلب تغطية البلدان العربية جميعها، من خلال آليات متينة ومركّزة علمياً والاستفادة من الخبرة التاريخية، لكي يتم توسيع رقعة الرصد والقياس في جميع المجالات التي تعنى بحكم القانون .

وقد تسنى لي حضور اجتماع مجلس أمناء “حكماء” المركز الذي أعيد تشكيله مؤخراً ليضم شخصيات عربية وعالمية عاملة ومعنيّة في هذا الميدان، تمثل كوكبة لامعة في الفكر والقانون والقضاء والاعلام وقطاعات مهنية من القطاع الخاص والمجتمع المدني، فضلاً عن الخبرة الممارساتية، ولعل وجود الرئيس أحمد عبيدات رئيساً للمجلس وبمشاركة الرئيس سليم الحص وإشراف مؤسس المركز د . وسيم حرب، وأمينه العام د . ساسين عساف، سيعطيه بُعداً حيوياً، خصوصاً إذا ما استكمل دراساته وأبحاثه لقياس حكم القانون والنزاهة، وإذا ما أدخلنا الجانب التربوي والأنظمة التعليمية كحقل مهم، مع تدقيق الجوانب التشريعية والقانونية، لاسيما للدساتير والأنظمة القانونية، فإن ذلك سيكون مرجعية عربية مهمة، يمكنها أن تشكل قوة اقتراح ومختبراً عملياً لتطوير حكم القانون والنزاهة .

يمكن القول أن مفهوم حكم القانون، يشكّل حجر الزاوية في الدولة الحديثة، لأنه الرافعة التي تستند اليها مؤسسات الدولة، ويندرج تحته خضوع الجميع، بمن فيهم الحكّام لحكم القانون ومرجعيته .

ويُعدّ حكم القانون ركناً أساسياً من أركان الحكم الصالح، ومن خلال التفاعل بين حكم القانون والحكم الصالح تتعمّق عملية التنمية، لاسيما وأن القانون يقوم بدور الحامي لحقوق الانسان عبر مؤسسات، واستناداً إلى ذلك فإن حكم القانون يتطلب وجوده أولاً ونشره وتعميمه ثانياً، ثم تنفيذه بشكل سليم ثالثاً، وفيما بعد تطويره ومواءمته للمعايير الدولية، رابعاً .

ولا بد هنا من توفّر نظام قضائي سليم لتطبيق حكم القانون، يكون حيادياً وقائماً على أساس المساواة بين حقوق المتقاضين، ذلك أن وجود القضاء المستقل، يعتبر ركنا مهما من أركان حكم القانون، ولكي يكون القضاء مستقلاً لا بدّ أن يكون نزيهاً ومحايداً فضلاً عن كونه كفئاً وفاعلاً .

ولكي يستكمل حكم القانون جوانبه الأساسية في الدولة العصرية الديمقراطية، لا بد من وجود برلمان منتخب على أساس حر ونزيه، بحيث يمكنه سنّ تشريعات والقيام بدور الرقابة .

كما أن الثقافة القانونية ما تزال شحيحة ومؤسسات المجتمع المدني وقطاعات الأعمال ما تزال ضعيفة، بل ان بعض البلدان العربية لا ترخّص لها، أو تضع عقبات قانونية أمام انطلاقتها .

ولا تزال حركة تحديث القانون بطيئة وغير مواكبة لروح العصر، وما زال الفصل بين السلطات محدوداً وشحيحاً، الأمر الذي يؤثر في استقلال السلطات القضائية ونزاهة القضاء، لاسيما عبر تدخّلات السلطة التنفيذية فيه، وما تزال حالة حقوق الانسان متعسّرة، حيث يعتبر العالم العربي في أدنى درجات السُلّم العالمي بخصوص احترام حقوق الانسان وهو ما تعكسه تقارير الامم المتحدة والمنظمات الدولية والعربية المعتمدة، ناهيكم عن أن الكثير من البلدان العربية لا تزال بينها وبين الانضمام للاتفاقيات الدولية هوّة سحيقة، وحتى لو انتظمت فإنها تضع هذه الاتفاقيات في الادراج أو تتحفظ على بعض بنودها، الأمر الذي يؤدي إلى تعطيلها .

وتبقى المشاركة السياسية والحق في تولّي الوظائف العامة العليا من دون تمييز محدودة، خصوصاً عبر الانتخابات التي في الكثير من المجتمعات العربية تستبعد دور المرأة، كما أن دور البرلمانات والمجالس التشريعية محدود، وغالباً ما يجري اخضاعه لمتطلبات السلطة التنفيذية .

حسناً فعل المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة عندما وضع في سُلّم أولوياته، بناء وتعزيز البنية التحتية لحكم القانون من خلال انشاء وتطوير المؤسسات وتعميم مفاهيم الحكم الصالح وحشد الطاقات والجهود لمشاريع التنمية وفق رؤية استراتيجية، ومنهجيات ووسائل وآليات لتحقيق ذلك، من خلال نشر التشريعات وحث البلدان العربية على توفير المعلومات القانونية وتدريب المعنيين ورصد وتدقيق القوانين، التي تخالف مبادئ حكم القانون، ورصد مؤسستي القضاء والتشريع وإيلاء المشاركة اهتماماً كبيراً، لاسيما في صناعة المعرفة وبناء القدرات والعمل على تطوير المشاريع الخاصة بمكافحة الفساد .

باحث ومفكر عربي


1068

ماراثون الانتخابات العراقية.. من العزل إلى العزل!
      

عبد الحسين شعبان






رغم صدور قرار قضائي بتأجيل البت في قضية المستبعدين تحت قانون اجتثاث البعث في العراق إلى ما بعد الانتخابات، فإن النقاش والجدل الذي احتدم قبل صدور القرار بخصوص هيئة المساءلة والعدالة ومدى شرعية وقانونية قراراتها، ما زال يتفاعل ويزداد تعقيدا.
ومع أن هيئة من سبعة قضاة حظيت بموافقة البرلمان هي التي أصدرت هذا القرار، الذي كانت له ثلاثة أبعاد أساسية، الأولى تقنية لأنه لم يكن بإمكانها التدقيق بملفات أكثر من 500 حالة من المشمولين بالاجتثاث، والثانية قانونية لأن الهيئة المؤسسة باسم المساءلة والعدالة وإن كانت دستورية، لكن البرلمان رفض المصادقة على أعضائها، والثالثة سياسية حين راعى القرار متطلبات مناشدة جوزيف بايدن بضرورة أن تكون الانتخابات شفافة وأن تحظى بثقة العالم، وهو ما ذهبت إليه الأمم المتحدة أيضا.
"
إذا كان قرار البت في قضية المستبعدين تحت قانون اجتثاث البعث في العراق قد نزع فتيل الأزمة مؤقتا, فإن الجمر لا يزال يكمن تحت الرماد، ويمكن للأزمة أن تنفجر, وهو ما جرى التحذير منه أميركيا
"
كما أن القرار لم يبت في شرعية أو عدم شرعية قرارات هيئة المساءلة والعدالة، وإنما حاول إجرائيا أن يرحّل المسألة إلى ما بعد الانتخابات، لعدم إمكانية اتخاذ قرار تنفيذي في ظرف قصير وقياسي زمنيا، وإذا كان القرار قد نزع فتيل الأزمة مؤقتا وأجّل الصدام، خصوصاً إذا ما امتثل له الجميع، المعارضون والمؤيدون، لكن الجمر لا يزال يكمن تحت الرماد، ويمكن للأزمة أن تنفجر وقد تؤثر على المشهد السياسي الراهن، وهو ما جرى التحذير منه أميركيا.
ولو افترضنا فوز المستبعدين في الانتخابات فإنهم قد يُستبعدون ما بعدها، وهو ما حصل في انتخابات العام 2005 وبهذا المعنى فإن سيف العزل يبقى قائما طالما ظل قانون الاجتثاث مستمرا، وطالما لا توجد جهة حتى الآن تبتّ في مدى قانونية هيئة المساءلة والعدالة (بأشخاصها الحاليين) ومن ثم شرعية قراراتها، وقد يكون ذلك ممكناً بعد انتخاب برلمان جديد، يمكنه أن يصادق على من يتم تسميتهم، أو حتى يعيد النظر بالموضوع كاملا.
ولعل هذه الفوضى القانونية والسياسية تدفعنا إلى إعادة قراءة تاريخ العزل السياسي في العراق، الذي نحن إزاء فصل جديد وصاخب من فصوله، وقد تبادلت الأطراف المختلفة القاصية والمقصية اتهامات متبادلة بارتكابات وعلاقات خارجية وفساد وإثراء على حساب المال العام والتعاون مع الأجهزة الأمنية في السابق والحاضر.
وإذا عدنا إلى جذر المشكلة حاليا فسنرى أنها ارتبطت بقرار اجتثاث البعث، فمن الناحية السياسية كانت عملية الاجتثاث أقرب في الذاكرة إلى عملية تحريم حزب الدعوة الإسلامي، وإصدار أحكام ضد أعضائه بالإعدام بأثر رجعي، بالقرار الذي اتّخذه مجلس قيادة الثورة في 31 مارس/آذار 1980 والذي تبعه القرار 666 الصادر في 7 مايو/أيار من العام ذاته القاضي بإسقاط الجنسية، والذي تم بموجبه تهجير نحو نصف مليون مواطن عراقي بحجة التبعية الإيرانية وهم في غالبيتهم الساحقة عراقيون أبا عن جد، وكان هذا الاجراء تمهيدا للحرب العراقية الإيرانية.
كما ذكّر قرار الاجتثاث بقرار تصفية الحزب الشيوعي الذي حدد نهاية العام 1980 مهلة للقضاء عليه، وقبل ذلك بقوانين مكافحة الأفكار الهدامة في العهد الملكي، لا سيما إبان حلف بغداد عام 1955، واستخدام سلاح البراءة لإجبار السياسيين على ترك العمل السياسي، تلك التي استخدمها الجميع ضد الجميع لاحقا، لا سيما عند القرب من السلطة، وكان الشيوعيون من أول ضحاياها حيث استخدمها ضدهم جميع الحكومات السابقة، رغم أنهم استخدموها ضد القوميين والبعثيين عام 1959، وكان البعثيون والقوميون قد استخدموها ضد الشيوعيين بعد العام 1963، خصوصا بعد صدور بيان رقم 13 القاضي بإبادة الشيوعيين.
ورغم الانفراج السياسي النسبي الذي أعقب العام 1968 فإن الأوضاع عادت للتوتر وبالأخص في أواسط السبعينيات حيث استخدم العزل السياسي ضد الكرد والشيوعيين والإسلاميين، واليوم نعود إلى المربع الأول حين تستخدمها القوى المتنفذة في العملية السياسية، لا سيما الإسلامية ضد البعثيين وخصوم العملية السياسية أو المنافسين لها، وكأن السياسيون ما زالوا يعيشون في الماضي.
"
كانت قوانين الاجتثاث أقرب إلى عقوبات جماعية ذات طبيعة انتقامية لاعتبارات سياسية وعقائدية حيث جرى تحريم وتجريم العقيدة السياسية وأخذ البريء بجريرة الجاني أو المرتكب
"
لقد كان قانون الاجتثاث أقرب إلى عقوبات جماعية ذات طبيعة انتقامية لاعتبارات سياسية وعقائدية حيث جرى تحريم وتجريم العقيدة السياسية، وأخذ البريء بجريرة الجاني أو المرتكب، حارماً إيّاه من حق العمل السياسي، الذي هو حق من حقوق الإنسان، وهذا هو الوجه الآخر للتحريم القانوني، في حين يمكن ملاحقة المرتكبين وتقديمهم إلى القضاء.
أما التداعيات الإدارية والفنية، فإنها تركت تأثيراتها السلبية الخطيرة على جميع مرافق الدولة، خصوصا إذا ما عرفنا أن حزب البعث الحاكم سابقا، كان يحتكر المناصب العليا والمواقع الإدارية الرفيعة المستوى والمسؤوليات الأساسية في الإدارة المدنية والسياسية في الدولة، مما يعني إحداث فراغات خطيرة في الجهاز التنفيذي والإداري والفني للدولة العراقية بمجملها، ولعل هذا الأمر هو الأسوأ، إذا ما ترافق مع حل المؤسسة العسكرية والأمنية وبعض الأجهزة الأخرى الحساسة، وهو القرار الثاني الذي اتخذه بريمر باسم سلطة الائتلاف المؤقتة.
حسب المعطيات المتداولة كان حزب البعث يضم عشية احتلال بغداد نحو مليون ومائتي ألف عضو، وهؤلاء يتحدّرون من جميع مكوّنات الشعب العراقي، وإنْ كان قسم كبير منهم قد انضم إلى الحزب لأسباب مصلحية ونفعية وحفاظا على لقمة عيشهم، وقد تدرّج البعض من هؤلاء ليحتلّ مواقع في الدولة ومؤسساتها على المستويات السياسية والقانونية والإدارية والفنية، ولذلك فإن القانون حتى وإن لم يشمل هؤلاء جميعا إلا أنه وجّه الاتهام إليهم دون استثناء من خلال العقيدة السياسية التي كانوا ينتمون إليها قناعة أو اضطرارا، مما ترك تداعياته الاجتماعية والإنسانية على عشرات بل مئات الألوف من العراقيين من المنتمين لأسباب مختلفة إلى حزب البعث.
صحيح أن البعض بادر إلى ترك حزب البعث على نحو مجاني أحيانا، حيث استبدل ولاءه من الحزب والأجهزة الأمنية إلى التعاون مع الاحتلال والقوى التي تمثله مباشرة أو بصورة غير مباشرة، إما للنجاة أو تبرّما بالماضي أو رغبةً في ركوب الموجة الجديدة والحصول على امتيازات.
وهكذا أغرقت بعض الكتل الحديثة التكوين بعناصر انتهازية وهشّة، مثلما أغرق الحزب الحاكم نفسه في السابق بمثل هذه العناصر تحت الشعار الشهير الذي أطلقه الرئيس السابق صدام حسين في أواخر السبعينيات "الكل بعثيون وإن لم ينتموا"، وهو مصادرة للعقول ولحق التفكير والاختيار والاعتقاد، بمعنى أن العراقيين سواءً كانوا أعضاء في حزب البعث، أي منتمين بإرادتهم الطوعية أو لم ينتموا، فهم كذلك أعضاء بنظره حتى وإن لم يتقدموا بطلبات انتساب، طالما كان مجلس قيادة الثورة منذ العام 1974 قد كرّس حزب البعث قانونيا ورسميا، باعتباره حزبا قائدا ووثائق مؤتمره الثامن مرجعية للدولة، أي جعلها بمصاف الدستور أو حتى أعلى منه.
وهكذا شهدت البلاد حملة تبعيث قسرية في أواخر السبعينيات، واضطر نحو ربع مليون مواطن عراقي إلى التوقيع على المادة 200 من قانون العقوبات البغدادي والتي تقضي بالتعهد بعدم العمل مع أي تنظيم سياسي باستثناء حزب البعث وإلا سيتعرّض المخالفون لعقوبة الإعدام.
إن الطلب حاليا تقديم البراءة من حزب البعث يذكّر بالمادة 200 التي استخدمها النظام السابق ضد معارضيه، والتي تجد أساسا لها حاليا في الدستور العراقي النافذ، خصوصاً في المادة (7) التي حرمت على البعثيين العمل السياسي تحت اسم حزب البعث أو أي اسم آخر يمتُ بصلة إليه، وهو ما حاول المتشددون العزف عليه.
وإذا كانت ثمة محاولة لنزع الفتيل ترافقت مع القرار القضائي بالتأجيل فلا يمكن أن ننفي تأثير الجانب الأميركي، حيث كان لمجيء جوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي إلى العراق بعد اندلاع مشكلة استبعاد صالح المطلك وعدد من الشخصيات السياسية من الترشّح للانتخابات، دور غير قليل في حلحلة المسألة بإيجاد تسويات مؤقتة حتى وإن اتخذت شكلا قانونيا بترحيلها إلى ما بعد الانتخابات، لا سيما وأن البلاد لا تزال تعيش في إطار فوضى قانونية وقرارات ملتبسة.
لكن المشكلة القانونية ستبقى قائمة طالما بقي قرار اجتثاث البعث وطالما استمر قانون المساءلة والعدالة، بعد حل هيئة اجتثاث البعث، إذ لا يمكن تحقيق مصالحة حقيقية كما يضعها السياسيون وقادة الكتل في برامجهم في ظل سيف العزل والإقصاء والاتهام المسبق، وهو اتهام متبادل في السابق والحاضر بالارتكاب والتخوين والفساد.
ولعل ذلك يقتضي التوقف عند المادة (7) من الدستور التي جعلت المسألة أكثر تعقيدا، وهو الأمر الذي دعا بترايوس القائد العسكري الأميركي إلى اتهام هيئة المساءلة والعدالة بالانحياز إلى إيران والعمل وفقا لتعليمات فيلق القدس الإيراني، الأمر الذي ردّ عليه علي اللامي (من هيئة المساءلة والعدالة) بالقول لو كان بترايوس في العراق لوجهّنا إليه تهمة الانضمام أو التستر على حزب البعث ولحاولنا اجتثاثه.
"
ماذا سيحصل لو تم الإصرار على إجراء الانتخابات في ظل عملية سياسية ناقصة أصلا أو مطعون فيها، مع إصرار أوباما على الانسحاب في شهر أغسطس/آب القادم؟
"
وإذا كان رد رئيس الوزراء نوري المالكي على ضرورة عدم تدخل السفير الأميركي كريستوفر هيل في شؤون خارج وظيفته الدبلوماسية، فإن رد الفعل الذي أعقب صدور القرار القضائي بتأجيل البت لما بعد الانتخابات، يعكس حالة التوتر الذي يشهدها الوضع السياسي الحالي.
ولكن ماذا سيحصل لو تم الإصرار على إجراء الانتخابات في ظل عملية سياسية ناقصة أصلا أو مطعون فيها، وفيما بعد إبعاد فريق من المشاركين عنها، بمن فيهم من هو قريب من واشنطن، مع إصرار الرئيس الأميركي أوباما على بدء الانسحاب في شهر أغسطس/آب القادم؟
لعل ذلك سيعني التوسع في الدور الإيراني الذي سيدفع الكثيرين من المشاركين الحاليين إلى الانحسار أو مقاطعة العملية السياسية القلقة والهشة أو حتى الانسحاب منها لاحقا، وإذا ما أضفنا إلى ذلك احتمال تصاعد الخلاف الكردي العربي حول صلاحيات الأقاليم وسلطات الفدرالية، فإن الأمر سيأخذ جوانب أخرى للتصدّع السياسي      







1069
الجامعة الاسلامية في روتردام
المنتدى العربي في هولندا
17-20/12/2009
روتردام







قيم التسامح
في الفكر العربي الاسلامي المعاصر



الدكتور
عبد الحسين شعبان



ــــــــــــ
•   مفكر وباحث عراقي، له أكثر من 50 كتاب ومؤلف في قضايا الفكر والقانون والسياسة الدولية والصراع العربي- الاسرائيلي، والاسلام، والمجتمع المدني وحقوق الانسان .

مقدمة


في أواسط التسعينات من القرن الماضي، بادرت المنظمة العربية لحقوق الانسان في لندن، التي كنت أتشرف برئاستها، الى تنظيم ملتقى فكري بعنوان "التسامح والنخب العربية" حضره نحو 50 باحثاً ومثقفاً وحقوقياً من بلدان عربية مختلفة، ومن تيارات فكرية وسياسية متنوعة. وقد انعقد الملتقى بمناسبة تسمية يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام "يوماً للتسامح العالمي"، بصدور قرار من الدورة الـ 28 للمؤتمر العام لليونسكو (1995).
وقد بادر البروفسور خليل الهندي في الجلسة الاولى لطرح سؤال في غاية الأهمية: هل يوجد تسامح لننظّم له ملتقانا الفكري الخامس أم أن غيابه يدعونا لتنظيم فعاليات للتذكير بجوهر مبادئ التسامح بمناسبة إقرار اليونسكو الاحتفال السنوي باليوم العالمي للتسامح؟ ولعل هذا السؤال المزدوج والمركّب ظلّ يتردد بأشكال مختلفة على ألسنة أكثر الباحثين والمتداخلين نفياً أو إيجاباً، إقراراً بواقع أليم أو أملاً وهدفاً في واقع جديد يتّسم بالتسامح.
لكن خاتمة الملتقى لم تكن تشبه بداياته، فقد استمرت أعمال الملتقى ثمان ساعات متصلة من الحوار والجدل، وصدرت لاحقاً في كتاب بعنوان: ثقافة حقوق الانسان، عن " البرنامج العربي لنشطاء حقوق الانسان" في القاهرة عام 2000، من إعداد وتقديم الباحث، حيث عبّر أغلب المتداخلين عن تأييدهم ودعمهم لنشر ثقافة التسامح على المستوى العربي، بينهم أديب الجادر وراشد الغنوشي ورغيد الصلح ومحمد بحر العلوم وأبونا بولص ملحم  وخليل الهندي ومحمد الهاشمي الحامدي وعبد السلام نور الدين وليث كبه وصلاح نيازي وبهجت الراهب ومصطفى عبد العال وآدم بقادي وعلي زيدان وعبد الحسن الأمين وعبد الرحمن النعيمي وكاتب السطور وآخرين، ودعوا الى: تأكيد قيم التسامح مع بعضنا البعض أولاًً، دون تخوين أو تكفير أو تأثيم أو تحريم أو تجريم أو غير ذلك من عوامل الاقصاء والإلغاء والاستئصال وعدم الاعتراف بالاختلاف والتنوع والتعددية.
وثانياً تأكيد قيم التسامح مع الآخر، فلا ينبغي النظر اليه باعتباره خصماً متربصاً أو عدواً مارقاً لمجرد الاختلاف، وثالثاً لا بدّ من تنزيه مبادئ التسامح من الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ العدالة وتصويرها وكأنها دعوة للاستسلام، أو نسيان ما تم ارتكابه من جرائم لاسيما في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها، ورابعاً إن تأكيد قيم التسامح لا تعني غض الطرف عن الارتكابات والانتهاكات لحقوق الانسان، بممارسة التعذيب او الاغتصاب او القتل الجماعي أو غيرها، ولعل تلك الجرائم لا تسقط حتى بالتقادم.

•   في مفهوم التسامح

التسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي، فيه اقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية. وحسب اعلان مبادئ التسامح الذي صدر عن اليونسكو " إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد..." وهكذا فالتسامح تأسيساً على ذلك: يعني الوئام في سياق الاختلاف  وهو ليس واجباً أخلاقياً حسب، وانما هو واجب سياسي وقانوني، الأمر الذي يعني قبول وتأكيد فكرة التعددية وحكم القانون والديمقراطية ونبذ الدوغماتية والتعصب.
   ان التسامح يعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، وكما أن الاختلاف من طبيعة الاشياء، فلا بدّ من الإقرار باختلاف البشر بطبعهم ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، وهذا يقود الى الإقرار بحقهم بالعيش بسلام ودون عنف أو تمييز لأي سبب كان: دينياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو جنسياً أو ثقافياً أو سياسياً...الخ.
وإذا لم يرد ذكر التسامح لفظاً في القرآن الكريم، الاّ أن ما يفيد عليه أو ما يقاربه أو يدّل على معناه قد جاء، حين تمت الدعوة الى: التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف والعفو والصفح والمغفرة وعدم الاكراه، وكلّها من صفات " التسامح" مؤكدة حق الاختلاف بين البشر و" الاختلاف آيات بيّنات"، ويشير ابن منظور في لسان العرب الى التسامح والتساهل باعتبارهما مترادفين، ويقول الفيرزوأبادي في القاموس المحيط: المساهلة كالمسامحة، وتسامحوا وتساهلوا، وتساهل أي: تسامح، وساهله أي ياسره، ولعل من استخدم مصطلح التسامح لأول مرّة بمعنى " التساهل" هو فرح انطوان في العام 1902.
ومنذ اعلان اليونسكو قبل عقد ونصف من الزمان تقريباً فقد انعقد الكثير من الفاعليات والأنشطة بشأن نشر ثقافة التسامح وصدرت كتب ومطبوعات وتأسست منظمات وشبكات لهذا الغرض، بينها الشبكة العربية للتسامح التي شكّلت دعوة مهنية وحقوقية لمبادئ التسامح، رغم اننا على الصعيد الفكري أو العملي ما تزال تفصلنا هوّة سحيقة عن قيم التسامح الانساني التي تكرست في مجتمعات سبقتنا على هذا الصعيد، الأمر الذي يحتاج الى مراجعات ونقد ذاتي، لاسيما من جانب النخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، لمقاربة فكرة التسامح والتعاطي معها ايجابياً، على الصعيد الاخلاقي والاجتماعي، لاسيما بعد اقراره قانونياً ودستورياً.  
وقد لفت انتباهي صدور تقرير نصف سنوي عن حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية من مركز رام الله لدراسات حقوق الانسان، ولعله حسب معلوماتي هو التقرير الاول في العالم العربي، حيث رصد الفترة من 1/1/2008 ولغاية 30/6/2008، واشتمل على مقدمة وجزءين، وكان الجزء الأول قد تضمن تعريف المصطلح ومحدداته والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما توقّف عند حرية المعتقد والحق في الاختلاف، ولعل هذا المبحث الأخير يعتبر جديداً في تناول من يتصدّون لفكرة التسامح التي تعتبر منظومة سامية لحقوق الانسان.
اما الجزء الثاني من التقرير: فقد تناول حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية تطبيقياً، لاسميا بعد الانقسام الحاصل في الصف الفلسطيني بين (حماس وفتح) والذي تمخّض عن سلطتين ولكن مع استمرار بقاء الاحتلال، في حين ان الهدف هو دولة فلسطينية تستند الى مبادئ التسامح. وتناول هذا المبحث محاولات توظيف الدين ومظاهر التعصب ونفي الآخر والصراع على السلطة القضائية ومحاولات التمييز وظيفياً، كما تناول في مبحث خاص التسامح الاجتماعي، فتوقّف عند مسألة المرأة والقتل العائلي والخلافات الشخصية والاعتداء على الممتلكات.
ومن مزايا التقرير أنه خصص مبحثاً خاصاً لحرية الاعتقاد والحق في التعبير، كما ختم هذا الجزء بخاتمة وخلاصات: بالشروع بالعمل الجاد للقضاء على مظاهر العنف واللاتسامح على المستويين الرسمي والشعبي، وتأكيد الحق في الاختلاف واحترام تطبيقه والدفاع عنه، الأمر الذي يستوجب توسيع هوامش الحريات العامة وفي مقدمتها حرية المعتقد، وهي اشارة متميزة عندما توضع في مقدمة الحريات التي يراد تأمينها والحق في الرأي والتعبير والتنظيم النقابي والتجمع السلمي والتعددية السياسية، ويتطلب الأمر تنشئة اجتماعية ونظام تعليمي يستجيب لذلك وتربية وتثقيف على الصعيد الحزبي والسياسي والديني، وتوظيف خطاب ديني ينبذ التحريض ضد المُختَلِف، ويرفض التطرف والتشدد، كما توجهت التوصيات الى الجهات الاعلامية ومؤسسات المجتمع المدني ودعتها لأن تلعب دورها في نشر ثقافة التسامح.
* غاندي وروح التسامح واللاعنف !
وإذا كنّا نتحدث عن حال التسامح في فكرنا العربي – الاسلامي المعاصر، فحريٌ بنا أن نستذكر المهاتما غاندي الذي عبّر عن فكرة التسامح في رسالة من السجن بالقول: لا أحب التسامح، ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده، وهو الفكرة التي آمن بها نيلسون مانديلا بعد سجنه لمدة 27 عاماً، وهو ما عبّر عنه المطران جورج خضر في تقديمه لكتابنا حول " فقه التسامح في الفكر العربي-الاسلامي" بالقول: لست هنا مبرئاً ساحة الغرب وأعرف كل البؤس الذي أحلّه ليس فقط في الاسلام ولكن في الكنيسة الشرقية أيضاً... ولكن أن تردّ "العدوانية" بهجوم معاكس (أي بعدوانية معاكسة) فذلك يضعف مواقعك، ولعل ذلك كما نعتقد ليس هو الحل الأمثل!
بعد أسابيع ستحلّ الذكرى الحادية والستين على إغتيال الزعيم الهندي المهاتما غاندي في 30 كانون الثاني (يناير)، ففي العام 1948 هاجمه متطرف هندوسي وأرداه قتيلاً، واضعاً حداً لحياة زعيم اقترب من " التقديس"  لدى الشعب الهندي بمختلف توجهاته وقومياته وأديانه وطوائفه وطبقاته الاجتماعية، فاتحاً صفحة جديدة من العنف أودت بحياة زعامات هندية مثل أنديرا غاندي ابنة جواهر لال نهرو وراجيف غاندي وآخرين. ولعل ذلك من مفارقات التاريخ، فالعام 1948 هو عام صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان وهو العام ذاته الذي تأسست فيه دولة اسرائيل.
لعل القاتل لم يفكّر في الاجابة عن سؤال طالما ظل يقلق غاندي ويسعى لاختبار صدقيته، وهو مستغرق في نضاله لتحرير بلاده، فهل هناك جدوى من العنف؟ وهل يمكن الوصول الى الهدف باللاعنف والتسامح؟ وقد فضّل غاندي الخيار الثاني رغم العذابات والحرمان، لكنه لم يكن يتوقع أن الغدر سيأتيه هذه المرّة على يد هندوسي بعد أن تمكّن من احراز النصر لشعبه.
كان غاندي يؤمن باللاعنف وبواسطته استطاع هزيمة أكبر امبراطورية في عصره (بريطانيا العظمى)، فهذا الرجل الأعزل نصف العاري، بنمط حياته البسيط، وبعلاقته الحميمة بشعبه، استطاع أن يثبت للعالم أن احدى وسائل المقاومة هي اللاعنف والتسامح والقدرة على إنجاز مشروع التحرير واستعادة السيادة والحقوق، بالمقاومة السلمية. وكان غاندي يُردّد: لو كان هناك بديل أفضل من التسامح لاخترته ولكني والحالة هذه لا أجد افضل منه!!
   اقترنت فكرة التسامح باسم فولتير التي بحث فيها وروّج لها ودافع عنها، إذ يعتبر الأب الروحي لها، وكان يبّشر بضرورة تحمل الانسان للانسان الآخر، فكلّنا بشر ضعفاء ومعرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا البعض بالتسامح!!
   لقد ترك غاندي تأثيراته الكبيرة على ما سمّي بحركة اللاعنف أو المقاومة السلمية، الأمر الذي دفع دُعاة المساواة والحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة الى استلهام أساليب النضال التي أبدع فيها غاندي، وكان مارتن لوثر كينغ من أبرز الزعماء السود الذين تأثروا به.
   لم يكتفِ غاندي بالحديث عن اللا عنف، بل أظهر كيف أن المقاومة السلمية يمكنها أن تواجه وتتحدى من خلال سلاح المقاومة والإضراب عن الطعام والاحتجاج والاعتصام والتسامح!؟
   ولعل شخصية مثل نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب أفريقي (ورئيس المؤتمر الوطني)، الذي مكث في السجن 27 عاما وقاد مقاومة سلمية ضد نظام التمييز العنصري " الابارتايد"، كان قد أمسك بمفتاح التسامح بعد مفتاح المقاومة السلمية، فاتحاً صفحة جديدة في نضال شعب جنوب أفريقيا مقدماً نموذجاً مهماً: للعدالة الانتقالية من خلال كشف الحقيقة وتحديد المسؤولية وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والمؤسسي، والأهم من كل ذلك نشر فكرة التسامح وعدم اللجوء الى الثأر أو الانتقام أو العنف.
لقد ادرك غاندي أن  منهجه القائم على اللاعنف حظي بقبول واسع، وكان يردد أن ذلك خيار شعبي " فإذا انطلق شعبي فيجب أن ألحق بركبه لأنني زعيمه".
   وكان إعلان اليونسكو قد جاء بعد حين ليؤكد أنه " بدون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، وبدون سلام لا يمكن أن يكون هناك تنمية وديمقراطية".
   وإذا كان التسامح اصطلاحاً يعود الى تطور الفلسفة الغربية في القرنين السابع والثامن عشر، وبخاصة ما سمي بفلسفة التنوير، وذلك بعد بروز وتطور النزعة الانسانية المعتمدة على العقل في مواجهة اللاهوت والغيبيات، فإن هذا المصطلح راج في السنوات الأخيرة، حيث خصصت اليونسكو يوم 15 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام يوماً للتسامح على المستوى العالمي، منذ العام 1995، كما تمت الاشارة اليه.
   في عالمنا العربي ما زال التسامح غير مقبول لدى أوساط واسعة، وربما نظرت اليه بعض الاتجاهات الإقصائية والإلغائية الاسلاموية باعتباره " نبتاً شيطانياً" أو " فكراً مستورداً"، لاسيما بعد خلطه بالنزعات التغريبية الاستتباعية التي تستهدف فرض الهيمنة وإملاء الارادة.
وفي الوقت الذي يهرب أصحاب وجهات النظر هذه الى التاريخ باعتباره ملاذاً، يتناسون أن الاسلام الأول وبخاصة الراشدي إتّسم بقدر كبير من التسامح والاعتراف بحق الاختلاف، لكنهم يحاولون الزوغان عن ذلك رغم محاولة تمجيد الماضي بهدف الهروب من الحاضر، الذي يزخر بالتأثيم والتحريم والتجريم ضد الآخر، الخارجي، الأجنبي، العدو، الخصم، بادعاء الأفضليات وإنسابها الى النفس ونفي الإيجابيات عن سواه، لذلك احتاج مفهوم التسامح الى " تبيئة" وتأصيل تاريخي بهدف جعله راهنياً وقائماً ومستمراً، بالعودة الى حلف الفضول ودستور المدينة  وصلح الحديبية والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة الى القرآن والسنّة النبوية كدليل ومرشد لفقه التسامح.

•   اعلان اليونسكو حول التسامح


إذا كانت قضية التسامح حديثة في مجتمعاتنا العربية وهي ما تفتقر له وما تحتاج اليه، فإنها ما تزال محدودة على الصعيد العالمي، وإن كانت بعض المجتمعات قد وصلت اليها بعد معاناة طويلة.
ولعل اعلان منظمة اليونسكو بشأن التسامح كان قد حثّ المجتمع الدولي على الاحتفال بيوم التسامح ودعا الى لاعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح، وذلك بعد تشخيص أسباب عدم التسامح أو اللاتسامح، الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية وغيرها، أي أنه دعا الى فحص وتدقيق الجذور الرئيسية للتمييز والعنف والاستبداد في المجتمعات، لاسيما مع الآخر المُختلف، دون تأثيم أو تحريم أو تجريم، ذلك أن المجتمع البشري بحاجة الى نشر وتأصيل قيم التسامح كمنظور انساني وأخلاقي، لا يمكن تقدّم المجتمع الدولي والانساني من دونه، إذ لا يمكنه الخروج من غلواء التطرف والتعصب واللاتسامح، الاّ بتعميم فكرة قبول الآخر، حتى وإن تناقض مع رأي " الجماعة!!! وحسب اعلان اليونسكو فالتسامح يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، وهو يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال مع الآخر وحرية الفكر والضمير والمعتقد.
لقد أصبح التسامح حاجة ماسّة ولم يعدْ ترفاً فكرياَ، فنقيضه هو اللاتسامح والتعصب والاستئثار ورفض الآخر. والتسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي فيه اقرار بحق الآخر في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية. وبهذا المعنى فهو مسؤولية قيمية وواقعية للاقرار بالحقوق والتعددية والديمقراطية وحكم القانون، وهو أمر ينطوي على نبذ الدوغمائية والاستبدادية، خصوصاً بالاقرار بحق الانسان التمسك بمعتقداته، وهو اقرار ناجم بأن البشر مختلفون في طباعهم ومظاهرهم وأوضاعهم وسلوكهم وقيمهم وقومياتهم ودياناتهم ولغاتهم وأصولهم، لهم الحق والمساواة في العيش بسلام، ولعل الخطوة الأولى لتعميم مبدأ التسامح حسب اعلان اليونسكو هي " تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها"، وذلك كي تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين.

•   كوابح التسامح !

   إذا ما استعرضنا العوامل الكابحة لنشر قيم التسامح، فعلى الصعيد الفكري ستعني حجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير لدى الآخر، بفرض قيود وضوابط تمنع أو تحول دون ممارسة هذه الحقوق، وأحياناً تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد أو مألوف سواءًا عبر قوانين مقيّدة أو ممارسات قمعية تحت مبررات شتى.
   اما على الصعيد السياسي فان اللاتسامح يعني احتكار الحكم والسعي للحفاظ عليه وتبرير مصادرة الرأي الآخر، تحت مبررات مختلفة تارة قومية او بحجة الصراع العربي- الاسرائيلي وأخرى طبقية بحجة الدفاع عن مصالح الكادحين، وثالثة دينية بحجة الحفاظ على الدين واعلاء كلمته، وفي كل الأحوال فإن الأمر لا يعني سوى إسكات الصوت الآخر أو تسويغ فكرة الاستئثار وإدعاء الحقيقة.
   وعلى الصعيد الديني فان عدم التسامح يعني التمييز بحجة الافضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حر، بحجة المروق في ظل تبريرات ديماغوجية وضبابية، تمنع الحق في اعطاء تفسيرات مختلفة، خصوصاً ضد ما هو سائد، وأحياناً تزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد عبر التمترس الطائفي أو المذهبي في محاولة لالغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الفقهية الاخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة.
واجتماعياً فإن عدم التسامح يعني فرض نمط حياة معينة بغض النظر عن التطورات العاصفة التي شهدها العالم ، لأنماط متنوعة ، مختلفة ، متداخلة ، متفاعلة ، وأحياناً يتم التخندق بسلوك وممارسات عفا عنها الزمن وأصبحت من تراث الماضي .
وثقافياً، فإن اللاتسامح يعني التمسك بالقيم والمفاهيم القديمة والتقليدية ومحاربة أي رغبة في التجديد، أو أي شكل أو نمط للتغير، حتى إن الشعر الحديث يصبح "بدعة وضلالاً "  بل ضد التراث والتاريخ  وربما مؤامرة كبرى تستحق رجم ومعاقبة  القائمين عليه، وتنسحب مثل هذه النظرة على الكثير من الآداب والفنون وبخاصة  الموسيقى والرقص  والغناء  والمسـرح  والنحت  وغيرها،  ناهيك عن الحـب !  
وإزاء الانغلاق وعدم التسامح الذي يسود عالمنا العربي والإسلامي،               ورغم  بعض الإرهاصات الجديدة، نرى العالم يسعى لتوسيع التسامح  حقـوقياً   بعد  أن جرى  تعميمه  أخـلاقياً ،  بحيث تشتمل الدعوة للدفاع عن أولئك اللامتسامحين أو الذين ينشرون  ويروجون  لإيديولوجيات اللاتسامح  التوتاليتارية. ورغم أن هذه الفكرة تثير نوعاً من النقد وربما الفزع في الغرب حالياً،  خصوصاً  بعد  احداث  11  أيلول (سبتمبر ) 2001  الارهابية  في الولايات المتحدة  لأن هناك من يعتبرها  خطراً على فكرة التسامح  ذاتها ، بل وتدميرها للحرية، لكن كارل بوبر،  يجيب بأن علينا عدم الانخداع بذلك الشعور الغريزي  بأننا  على صواب دائماً.

•   التسامح والآيديولوجيا!

وتطور مفهوم التسامح من الفرد الى المجتمع ومنه الى الدولة، ثم الى المجموعة الدولية، ولم يعد المفهوم اصطلاحياً أو لغوياً يرتبط بالتكرّم والسخاء والجود والعفو والصفح والغفران والتساهل وغيرها، بل وصل الى الاعتراف بالحق واحترام الحق، مثلما له علاقة بالعمران والتنمية.
ان نشر مبادئ التسامح وسيادة روح الحق في الاختلاف، تتطلب إعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وإعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة وبين الحكومة والمعارضة، التي هي مسؤولية جماعية وفردية في آن، فلا يوجد مجتمع بمعزل عن اغراء الاقصاء أو اللاتسامح، الاّ إذا أثبت هذا المجتمع قوة عزيمة ويقظة دائمة.
التسامح واللاتسامح ليس لصيقاً بتراث أو مجتمع، إنه يمتد عبر العصور فلا "هو غربي ولا هو شرقي". ورغم أن الاديان جميعها تعلن تمسكها بالتسامح، فإن الحروب والإبادات استمرت عبر التاريخ وتمت في الكثير من الاحيان بإسمها وتحت لوائها.
   يمكن القول ان كل المجتمعات البشرية تحمل قدراً من اللاتسامح سلبياً أو إيجابياً، لكن الفرق بين مجتمع وآخر هو في مدى اعتبار التسامح قيمة اخلاقية وقانونية ينبغي اقرارها والالتزام بها حتى وان كان البعض لا يحبّها.
    اما الفرق الثاني بين المجتمعات المفتوحة التي توافق على التسامح وبين المجتمعات المغلقة التي ما تزال تتمسك باللاتسامح وبتهميش أو إلغاء الآخر، فإن بعض المجتمعات تستطيع إدارة التنوّع والتعددية الثقافية والدينية واللغوية والسلالية والاجتماعية وغيرها، في حين تخفق أو تعجز فيها مجتمعات أخرى، ويوجد في العالم اليوم أكثر من عشرة الاف تعددية، الامر الذي يستوجب ان تكون الدولة هي الحاضن الاكبر للتسامح، وهو يتطلب اعادة صياغة العلاقة بين الأنا والآخر على أساس المواطنة والمساواة الكاملة، ومن خلال التربية والاستفادة من المخزون القيمي للأديان وللفطرة الانسانية، وهو ما ينبغي أن ينعكس على الصعيد الدولي أيضاً.
بقي أن نقول، ان التسامح ليس ايديولوجيا مثل الايديولوجيات الأخرى الاشتراكية أو القومية أو الدينية، بل هو جزء من منظومة ثقافية، وعلينا ان نتعاطى معه على هذا الاساس الذي يسهم في تنمية المجتمع من خلال سنّ منظومة قانونية لا تعترف بالتمييز أو التعصب أو التطرف أو العنف، وهو ما تبنته الشبكة العربية للتسامح عندما وضعت شرطاً لمنح الجائزة على أن " يكون من الداعين لفكرة المساواة وحق بين البشر في العيش بسلام ودون خوف على المستوى الفردي والجماعي، دون تعصب أو انغلاق أو اقصاء أو إلغاء".

•   التسامح وصورة الاسلام النمطية!
شاعت في الغرب منذ سنوات، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية ما سمّي "بالاسلامفوبيا"  أي الرهاب من الاسلام، مثلما انتشرت في الفترة الاخيرة ما يمكن اصطلاحه بـ"العربفوبيا"  أي كراهية العرب والعداء لهم، ولعل ذلك ليس بمعزل عمّا يمكن نحته من " الزينوفوبيا" Xenophobia أي الرهاب من الأجانب، بمعنى كراهيتهم وعدائهم، وقد اتسعت هذه المسألة على نطاق كبير بصعود وانتشار بعض التيارات والاتجاهات العنصرية والفاشية في أوروبا. وقد تلمسنا حجم الهجوم الشديد على مؤتمر جنيف (ديربن-2)حول العنصرية وانسحاب الولايات المتحدة واسرائيل وعدد من دول الاتحاد الاوروبي منه، وتأييد مواقفها من لدى جهات وجماعات ودول غربية كثيرة، لمجرد استنكار ما ذهب اليه مؤتمر ديربن الاول العام 2001 من دمغ الممارسات الاسرائيلية بالعنصرية.
   ولعل حدثاً مثل مؤتمر ديربن يمكن استحضاره دليلاً على أن هناك اكثر من جهة هي التي تقف مسؤولة أمام تشويه صورة الاسلام في أعين العالم، فإضافة الى سيل الدعاية الصهيونية، التي سعت الى تصوير الصراع العربي- الاسرائيلي، باعتباره صراعاً بين أديان، أي بين الاسلام واليهودية، وبين قوى متخلفة عربية لا تؤمن بحق الوجود والديمقراطية، و"دولة" يهودية تسير في طريق الممارسة الديمقراطية، في حين ان الصراع بين حقوق مغتصبة وأرض محتلة وشعب مشرد في غالبيته الساحقة، وبين مغتصب اجلائي استيطاني، رغم أنه يتعكز على حقوق " سماوية " بأرض الميعاد المقدسة لشعب الله المختار، في حين ان الصراع دنيوي لتحرير الارض والوطن، وليس حول تعاليم الدين الاسلامي وشريعته وبين اليهودية وتلمودها.
أما في الغرب بشكل عام فتندفع بعض الاطروحات الرسمية وغير الرسمية لتساوي بين الاسلام وبين بعض الاتجاهات المتطرفة والمتعصبة الاسلاموية، والتي تستخدم تعاليم الدين أحياناً على نحو مشوّه ضد الدين ذاته، وهو ما نطلق عليه اسم "الاسلاملوجيا" أي توظيف التعاليم الاسلامية بالضد منها رغم أنها ترفع راية الاسلام. ولعل العرب والمسلمين دفعوا ثمن هذه الاتجاهات قبل غيرهم، رغم ان هذه الاتجاهات حتى وقت قريب وقبل حدوث ارهاب 11 سبتمبر (ايلول) لقيت تشجيعاً علنياً ومستتراً من بعض القوى والجماعات والدول الغربية مباشرة أو بصورة غير مباشرة.
   وأستطيع القول أن الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب، لم تتفهم حتى الآن وربما بصعوبة، طبيعة العلاقة مع العرب، طالما يتم تصوير الصراع العربي- الاسرائيلي على نحو مشوّه، لاسيما من خلال ممارسات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف اثبات افضليات الاسلام على المسيحية وعلى اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم مبرراً لمواصلة هذا الصراع بطريقة لا تخلو من عبثية، بحيث يمتد من أقصى المعمورة وحتى أقصاها، وكأن لا علاقة للمصالح الدولية بذلك، بما فيها مصالح المسلمين أنفسهم، والسياسة منذ بدء الخليقة وحتى تنتهي ستبقى تحكمها الصراعات واتفاقات المصالح، باقترابها أو ابتعادها عن المبادئ.
لا شك ان هناك نظرة ارتيابية مسبقة لدى الغرب والشرق بما فيه الاسلامي إزاء الآخر، والغرب ليس وحده المسؤول عن ذلك، فثمة مساهمات نحن مسؤولين عنها، لاسيما وقد انتشرت لدينا تيارات "أصولية" متعصبة ومتطرفة ومعادية للغرب، وهو ما نطلق عليه اصطلاحاً "الغربفوبيا " أي كراهية الغرب، والعداء لكل ما هو غربي بما فيها للحضارة الغربية وانجازاتها العلمية والتكنولوجية والفنية والجمالية والعمرانية الهائلة، بكل ما لها وما عليها.
الغرب ليس كله غرباً، فإلى جانب الغرب الامبريالي- العنصري في الماضي والحاضر، هناك الغرب التقدمي المؤيد لحقوق الانسان وحقوق الشعوب في تقرير المصير، وهو ما حاول مفكر بريطاني مرموق مثل الفريد هاليداي أن يضع اصبعه عليه في كتابه الموسوم " ساعتان هزتا العالم" وقبله كتابه " الاسلام والغرب". وكان عرفان نظام الدين قد تناول العلاقة بين العرب والاسلام في الغرب بوجهيها وذلك في كتابه " العرب والغرب" مثلما، أطلّ اعلامياً على ذلك في كتاب " الاسلام والاعلام " مؤشراً الى التقصير لدى الجانبين، خصوصاً في فهم العلاقة المتميزة والمتناقضة والمتداخلة، إضافة الى التعقيدات والاوهام والتشويهات التي صاحبتها ورافقتها وهو ما أسماه الدكتور غازي القصيبي الأساطير الاربعة التي حكمت نظرة الغرب الى الاسلام ما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر).
ما زالت بعض تفسيراتنا قاصرة لفهم ما نطلق عليه " الصراع التاريخي" الذي يستمر بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، وهو ما ندعوه الحروب الصليبية والمقصود "حروب الفرنجة" التي حدثت في القرن الحادي عشر الميلادي، ومن ثم الصراع مع الدولة العثمانية، وذلك لتأكيد حتمية الصراع باعتباره صراعاً تناحرياً غير قابل للحل أو التوافق، رغم أن الصراع يمكن أن يؤدي الى اتفاق مصالح حسب منطوق السياسة الدولية تاريخياً.
ان الابقاء على صورة العدو حاضرة في الأذهان، رغم اختلاف المواقف، حملت معها خرافات وأوهام كل طرف إزاء الآخر، فالاسلام حسب بعض الاطروحات الغربية يشجع على الارهاب ويحض على العنف، ويستند بعض هذه التصورات على عدد من غلاة الاسلامويين، الرافضين لكل تقدم أو حضارة باعتبار الغرب كلّه " شرٌّ مطلق"، وهكذا تستكمل صورة العدو، وإن لم يوجد بالفعل، فقد تم صناعته مثلما حصل بعد انهيار الشيوعية الدولية، فوجدت بعض التيارات في الغرب، اختراع الاسلام عدواً بديلاً، وحسب أحد المعلقين البريطانيين جورج مونبيت Georges Monbiot ، فلو لم يكن بن لادن موجوداً، لكان على امريكا أن تخترعه، فقد اخترعته الـ CIA العام 1979 واليوم تبحث عنه الـ FBI، وهكذا تم استبدال مصطلح المجاهدين الافغان أيام الغزو السوفيتي الى أبالسة وشياطين بسبب مواجهتهم للسياسة الامريكية لاحقاً.
ان صورة العدو الذي يتم صناعته في الغرب ليست بعيدة عن الخرافات والاختلاقات بمجابهة مزعومة مع الاسلام، وهي الصورة التي يقابلها لدى الاسلامويين والتيارات المتشددة، بوضع الغرب في صورة العدو المستمر والمواجهة الحتمية الابدية، ويميل هاليداي الى اعتبار نموذج صموئيل هنتنغتون بشأن الصدام الحتمي للحضارات هي الأكثر رواجاً لدى الفريقين، ولذلك لقي كتابه "صدام الحضارات" اهتماماً منقطع النظير مثل كتاب فرانسيس فوكوياما " نهاية التاريخ".
ولعلي طرحت باستمرار سؤالاً على نفسي: هل يستطيع المواطن الغربي أو الاوروبي أن يدرك وأن يتفهم أن من يضحّي بنفسه في فلسطين، ليس من أجل تطبيق الشريعة الاسلامية، وليس من أجل فرض ارتداء الحجاب للنساء أو إقامة الحد أو لفرض دفع الجزية أو التعامل مع أهل الذمة أو حتى إقامة الحكم الاسلامي، بل إنه يفعل ذلك من أجل تحرير وطنه وأرضه المحتلة والمغتصبة، سواءً كان متديناً أو غير متدين، مسلماً أم مسيحياً أم غير ذلك!
وأدركت في حوارات مختلفة مع الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية، الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب، أنه ليس من السهولة عليها فهم طبيعة الصراع، طالما جرى تصويره على نحو مشوّه ودون دلالة تُذكر، لاسيما من خلال ممارسات وتطبيقات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف اثبات افضليات الاسلام على اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم حول نكث العهود مبرراً باعتبار الصراع الديني بين اليهودية والاسلام استئصالياً، وبالتالي فهو صراع دائم لا نهاية له.
ووفقاً لهذا المنطق الخاطئ فإن هذا الصراع يمتد من أقصى المعمورة الى أقصاها، وهو غير محصور في بقعة معينة من العالم محتلة بقوة السلاح باستعمار اجلائي، استيطاني، وارهاب دائم ومستمر بكونه يشتبك مع مصالح دولية  ويعبّر عنها في جزء متقدم من ستراتيجيتها الكونية في الشرق الأوسط، حتى وان تعكّز على " حق ديني" أو مزاعم آيديولوجية روّجت لها الصهيونية العالمية منذ مؤتمرها الاول في مدينة بال " بازل"  السويسرية العام 1897 وبعد صدور كتاب تيودور هيرتزل " دولة اليهود" بعام واحد.
ان ما يقوم به الفلسطينون مدعومين من المسلمين وأحياناً تحت راية الاسلام لإضفاء نوع من القدسية على هدفهم النبيل، انما ينسجم مع قواعد القانون الدولي، الذي يجيز للشعوب التابعة والمستعمرة استخدام جميع الوسائل بما فيها القوة المسلحة، لاسترداد وطنها واستعادة سيادتها، وذلك لا علاقة له بالرؤية المشوّهة لاعطاء الصراع طابعاً دينياً.
وإذا كان الاسلام يذهب الى تأييد مثل هذه التوجهات بما فيها استرخاص الغالي والنفيس وصولاً الى الهدف، بالسلم او بالجهاد، فإن دعوته هذه أرضية وحقوقية وقانونية وضعية، حتى وإن يتم فيها توظيف التعاليم السماوية كأداة فلسفية وروحية، لهدف أرضي وانساني وهو تحرير الاراضي المغتصبة وحق تقرير المصير، في حين ان دعاوى الصهيونية سماوية تتعلق بأرض الميعاد وتحقيق الوعد الالهي لشعب الله المختار.
على النخب الفكرية والسياسية والثقافية العربية والمسلمة التمييز دائما بين مفهوم الحضارة التي ننسبها الى الغرب وهي نتاج انساني وبشري، وبين مفهوم الغرب السياسي، فالاولى هي منظومة من الفلسفات والافكار لما وصلت اليه البشرية كنتاج لتطورها السياسي والثقافي والجمالي والعمراني والفني والتكنولوجي والادبي، في حين ان الغرب السياسي يعني النظم والآيديولوجيات الحاكمة في أوروبا والولايات المتحدة، القائمة على المصالح بالدرجة الاساسية، وقد تكون أحياناً في تعارض مع مقتضيات السلوك الحضاري أو مثله وقيمه الانسانية العليا، خصوصاً مع شعوب وأمم أخرى.
لكن هذه النظم المتمثلة باوروبا وامريكا في الوقت نفسه تعتبر مستودعاً للتقدم العالمي لعصرنا بجميع ايجابياته وسلبياته، وبالتالي لا يمكن تبسيط الموقف من الغرب باعتباره كله " شرٌّ مطلق"، وهي النظرة التي تتذرع بها اسرائيل لحماية نفسها من " آلة التدمير" العربية والاسلامية، بتأكيد انتمائها الى الغرب الحديث، ولاثبات تعارضها مع أهداف العرب والمسلمين، ولعل هذا ما حاولت ترويجه خلال انعقاد مؤتمر جنيف (ديربن-2) حول العنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب نيسان (ابريل) 2009، وهو ما استطاعت أن تحشد له طاقات وامكانات دولية هائلة في الولايات المتحدة والغرب، مستفيدة من بعض الاطروحات الخاطئة والضارة التي ما تزال تهيمن على بعض التوجهات الاسلاموية، فضلاً عن تقاعس العرب والمسلمين منذ مؤتمر ديربن العام 2001، وذلك بعد أن حصلوا على نصر سهل لم يستطيعوا الحفاظ عليه أو توظيفه لمصلحتهم، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية، وهو ما حشدت اليه اسرائيل جميع الطاقات منذ ثمانية أعوام، حتى تحقق لها ما أرادت، رغم مقاطعتها مؤتمر جنيف، وهو ما سبق أن استخدمته بشكل بارع يوم تمكّنت من إلغاء القرار 3379 الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975 بخصوص مساواة الصهيونية بالعنصرية.
لقد عبأت اسرائيل آلة اعلامية وسياسية كبيرة، بما فيها حضور عشرات من منظمات المجتمع المدني بتكليف واسهام مباشر منها أو بطريق غير مباشر عبر التنسيق والتحالف وضخ المعلومات وتهويل صورة مؤتمر ديربن الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية، وكذلك بالاستفادة من بعض الأطروحات المتطرفة أو الشعارات ذات النبرة العالية، مستغلة إياها باعتبارها مهددة بالاستئصال، في حين  أنها هي التي تحتل الاراضي العربية وتمارس سياسة عنصرية ضد سكان البلاد الاصليين وترفض القرارات الدولية وحق العودة، وتضم القدس والجولان خلافاً للشرعية الدولية، وفي الوقت نفسه تلصق كل أعمال العنف والارهاب بالاسلام في صورة نمطية، ليست بعيدة عن الصهيونية ذاتها.
ولعل صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية بخصوص عدم شرعية بناء جدار الفصل العنصري، ومن ثم صدور تقرير غولدستون الذي اتهم اسرائيل بارتكاب جرائم في غزة تقترب من جرائم الحرب، وقبل ذلك صدور تقرير بوستروم بشأن اتهام اسرائيل بالاتجار بالاعضاء البشرية للفلسطينيين، كلّه يضع اسرائيل أمام مساءلات دولية، لاسيما وقد كانت سياساتها طيلة ما يزيد عن 60 عام، عدوانية وعنصرية وبالضد من قيم التسامح.

•   وقفة للمراجعة الفكرية
أيكفي تكرارنا القول ان تعاليم الاسلام وبخاصة الواردة في القران الكريم والسنّة النبوّية تحضّ على التسامح، وان الكثير من تطبيقات الخلفاء الراشدين في الاسلام الاول كانت تمثل قيم التسامح؟ أم ان هناك فروقاً كثيرة وجوهرية بين بعض النصوص النظرية وبين التاريخ الاسلامي، الذي هو مثل كل تاريخ البشرية، حفل بالكثير من مظاهر اللاتسامح والعنف والاقصاء وتهميش الآخر، لدرجة تأثيمه وتجريمه أحياناً، سواءً على الصعيد النظري او على الصعيد العملي والتطبيقي من خلال الممارسات والاعمال؟
   جدير بالذكر الاشارة الى ان فترة الاسلام الاول، شهدت اعترافاً بالآخر والدعوة الى المساواة والتواصي والتآزر والرحمة، لكن ثلاثة من " الخلفاء الراشدين" : عمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) لقوا حتفهم مقتولين، ولم تفلح مبادئ التسامح التي دعا اليها الاسلام من أن تحول دون ذلك، فالتسامح بحاجة الى بيئة حاضنة وتراكم وتربية، ليتحوّل الى قوة مادية يصعب إقتلاعها، خصوصاً اذا ما انتقل من طور الاخلاق الى الحق ومن ثم ليؤسس عبر قوانين وتشريعات ومؤسسات!
   لكن هذه القراءة الانتقادية للتاريخ الاسلامي، لا ينبغي ان تصب في الموجة الجديدة- القديمة من الاتجاه المعادي للاسلام، التي تحاول التصيّد بالماء العكر، لأخذه بجريرة بعض الاعمال الارهابية، أو أن تشمل جميع المسلمين، الذين يتم دمغهم بالارهاب بالجملة، وهو ما يتردد على لسان مسؤولين ومفكرين واعلاميين ورجال دين ومستشرقين في الغرب، بل هناك بعض الاساءات شملت حتى رسولهم النبي محمد (ص)، لعل آخرها كان ما أطلقه البابا بنديكتوس السادس عشر، في محاضرة بجامعة ريغينسبورغ، من توصيفات على لسان الامبراطور اليوناني مانويل الثاني في القرن الرابع عشر، "باتهام الاسلام بالعنف".
   ولعل مثل هذه الاتهامات والتعميمات لا يجمعها جامع مع المشترك الانساني والديني، ناهيكم عن الوقائع التاريخية، خصوصاً وانها تصدر من اعلى مرجع في الكنيسة. كل ذلك يحدث ولم تكن قد إنتهت تداعيات نشر صحيفة دانماركية صوراً مسيئة للنبي محمد (ص)، بما سببته من تصدع العلاقات المسيحية- الاسلامية، ليس على صعيد الحاضر حسب، بل على صعيد المستقبل، يضاف اليه الآن نتائج الاستفتاء الشعبي في سويسرا ضد بناء المنائر الاسلامية.
   كما أن ما ورد على لسان الرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش(آب/ اغسطس2006) وخلال العدوان الاسرائيلي على لبنان حول " الفاشية الاسلامية" وقبلها الاشارة الى "الحرب الصليبية" فيما يتعلق بحملة مكافحة الارهاب الدولي، انما يصّب في هذا الاتجاه العدائي، خصوصاً وانه قسّم العالم الى قسمين " اما معنا.. أو مع الارهاب" اي مع " معسكر الخير والنور" او "معسكر الشر والظلام"، وهو الوجه الآخر لما ذهب اليه اسامة بن لادن حين قسّم العالم الى فسطاطين، ولعل هذا الأمر يحتاج الى إعادة النظر بالأفكار والآراء المسبقة بخصوص الاسلام، وهو ما يضع مسؤوليات على ادارة أوباما، طالما أنه أخذ على عاتقه مبادرة مخاطبة المسلمين على نحو مختلف، بما يعزز الحوار والتفاهم بدلاً من الصراع والصدام بين الحضارات والثقافات والأديان.

•   نحن مفارقات التسامح

   اذا كان "الغرب" قد وصل الى التسامح في مجتمعاته، بعد معاناة طويلة ومعارك طائفية طاحنة وحروب عالمية حصدت ارواح عشرات الملايين من البشر، فان مثل هذا الامر لم يأخذ مداه على المستوى الدولي وبخاصة محاولات فرض الهيمنة والاستتباع، وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية في اواخر الثمانينات، حيث يراد للعالم التسليم بظفر الليبرالية الجديدة، نموذجاً وحيداً للنظام الدولي على المستوى السياسي والاقتصادي، وخلال نحو عقدين من الزمان خيضت حروب وأعمال ابادة وفرضت حصارات وشنت عدوانات وُقلبت انظمة واقيمت كيانات، كلّها بعيدة عن روح التسامح، بالاعتماد على نظرية القوة وليس قوة القانون وروح ميثاق الامم المتحدة، وذلك بسبب نهج التفرد والاستئثار والمصالح الأنانية الضيقة!
   ومن جهة اخرى فإن التسامح كمفهوم في العالمين العربي والاسلامي ما زال قليل القبول لدى اوساط واسعة، وربما نظرت اليه بعض الاتجاهات الاقصائية والالغائية على انه " نبت شيطاني" او " فكر مستورد" خصوصاً مع خلط المفاهيم  تعسفاً احياناً، بالنزعات التغريبية وتصويرها باعتبارها استتباع واستخداء للآخر، الخارجي، الاجنبي، المختلف، الخصم والعدو! والامر ينسحب على نحو أشد ربما على النطاق الداخلي وفي داخل كل بلد عربي أو جماعة سياسية ودينية ومذهبية واثنية!
   ويهرب اصحاب هذا الاتجاه الى التاريخ، ملاذهم، بالادعاء: ان الاسلام الاول، الراشدي إتسم بالتسامح والاعتراف بحق الاختلاف،وهو وإن كان صحيحاً، لكنهم لا يناقشون الحاضر او يحاولون الزوغان عن كل ما من شأنه الاعتراف بمبادئ التسامح وحق الاختلاف في زمننا الحالي، فهو من وجهة نظرهم مرفوض ومستغرب، في محاولة تمجيدية للماضي وادعاء الافضليات، لذلك احتاج هذا المفهوم الى تبيئة وتأصيل تاريخي بهدف جعله راهناً ومستمراً وقائماً.
   وبقراءة الوضع الراهن فهناك اربعة مواقف من مسألة التسامح:
   الاول- يرفض كل حديث عن التسامح على النطاق الديني او الفكري او السياسي او الثقافي او الاجتماعي، الداخلي او الخارجي (الدولي) بحجة امتلاكه للحقيقة والافضليات، اما المختلف والآخر فإنه لا يمثل سوى النقيض، وعلى المستوى العالمي فإنه يمثل الكفر والاستكبار.
   الثاني- تيار اصلاحي (توافقي) يتقبل بعض افكار التسامح بهدف مواكبة التطور الدولي، لكنه يظل مشدوداً للفكر التقليدي السائد، وان كان يسعى للتواصل مع الآخر بحذر شديد، وربما بريبة أيضاً.
الثالث- يؤيد فكرة التسامح ويحاول تعميمها على كل شيء، وهو يدعو الى قطع الصلة  بالتراث والتاريخ واعتبار التسامح قيممة حداثية لا علاقة لها بالاسلام، بل يضع في اعتباره كون التسامح نقيضاً للاسلام الذي يحضّ على "العنف" و"الارهاب" حسب فهم خاطئ لبعض الاتجاهات الاسلاموية أو الاسلامية وموقفها من الحداثة، دون تمييز بين الاسلام وبين بعض الاتجاهات السياسية.
الرابع- التيار المؤيد للتسامح، والذي يعتبره قيمة عليا، لاسيما بربطه بحقوق الانسان، دون التعامل معه على نحو مبتذل فيما يتعلق بالصراع العرابي- الاسرائيلي والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فالتسامح لا يعني التهاون إزاء حقوق الانسان أو قيم العدالة أو تبريرها تحت أية حجة أو ذريعة.

•   الهروب الى الماضي !
    ان القراءة الارتجاعية للنص الاسلامي وللتعاليم والمفاهيم الاسلامية دون عُقد الحاضر وحساسياته، ودون اخضاعها لحسابات مؤقتة وربما طارئة، فإنها تؤكد ان الاسلام " المفاهيمي" ومن خلال عدد من فقهائه، طريق رحب يمكن ان يسلكه الانسان في حياته، طريق مفعم بالحيوية والنشاط والانفتاح والعطاء، بعيداً عن أصابع المفسرين والمؤولين المتشددين واللامتسامحين من الاسلامويين، الذين حاولوا تطويع احكامه بطريقة مؤدلجة تماشياً مع القيم السائدة والافكار المتعصبة والمغلقة وخدمة لمن بيدهم الامر.
   وساهمت بعض هذه التنظيرات في كبح جماح العقل وتحويل تعاليم الاسلام الى مجرد " تعاويذ" و"أدعية" ووصفات جاهزة ومعلبة، اقرب الى التحنيط والجمود والصنمية خصوصاً ازاء الآخر، وعبر يقينيات لا تقبل الجدل او الحوار.
   كان الى جانب الاسلام والايمان نقيضهما أحياناً في دولة الاسلام المدنية، ولكن ثقة الاسلام بنفسه جعلت التعايش ممكناً مع النقيض. حسبي هنا ان اشير الى احتواء كتاب  " التوحيد الكافي" على اقوى الاستدلالات، التي إستند اليها منكروا التوحيد دون ان يؤثر ذلك في عرض الرأي الآخر المناقض، المخالف، المعارض، حتى وان احتوى على ما يتعارض مع جوهر الايمان.
   الاسلام بتعاليمه لا يجد غضاضة في الجدل والنقاش ونقد الرأي المخالف انطلاقاً من قاعدتين :
1-   مبدا التسامح ازاء سماع الراي الآخر.
2-   الايمان بالعقل باعتباره الاساس في المحاججة وليس النظرة المسبقة.
   ليس ثمت تناقض بين العقل والايمان، وهو جوهر النقد الذي تناوله البابا في محاضرته التي اثارت ردود فعل شديدة، لكن التاريخ الاسلامي شهد فترات سبات للعقل وتغلّب عليه العنف وساد السيف قبل الرأي، ولكننا لا بدّ من التمييز بين الاسلام كمفاهيم ومبادئ ومعتقدات وتعاليم وبين التاريخ والممارسات والتطبيقات والتجاوز على المبادئ.
   بخصوص التسامح والاختلاف فهناك نموذجين احدهما: معياري والثاني واقعي، فهناك من يقرّ بالاختلاف وبالتالي بالتسامح في المسائل الفرعية، وهناك من يذهب أبعد من ذلك حين يقرّه في المسائل العقدية والاصول " فكل مجتهد مصيب في اجتهاده، وان لم يصب في حكمه" وذهب الامام الشافعي للقول:" رأيي صواب ولكنه يحتمل الخطأ ورأي غيري خطا ولكنه يحتمل الصواب".
   وقديماً قيل قد يصيب الناظر وجهاً من وجوه الحقيقية، وهو ما ذهب اليه ابن رشد، ولهذا فإن تباين الاجتهادات واختلاف التفسيرات، انما يدل على تباين الطرق الموصلة الى الحقيقة، فطريق الحق ليس واحداً، بل كثير ومتعدد، وهو الامر الغائب عن واقعنا الحاضر الشديد الالتباس والبعيد عن قيم التسامح.
   هناك بعض الاسلاميين المتعصبين أو الاسلامويين، يعتبرون أي حديث عن التسامح يقود الى " التساهل ازاء العقيدة والى الاباحية" وبعبارة اخرى: نشر الليبرالية بكل ابعادها على حساب الدين. وهو ما يذهب اليه مصباح يزدي احد منظري التيار اليميني المحافظ في ايران، الذي يعتبر التسامح يعني فيما يعنيه: التسيّب وانعدام الغيرة واسلوباً تخريبياً ضد الاسلام، يؤدي الى الانحراف والتحلل، في حين يميل تيار محمد خاتمي الرئيس الايراني السابق الى التسامح، ويدعو راشد الغنوشي الى هذا الاتجاه، ويعتبر فكر التشدد والتكفير وادعاء احتكار الاسلام وزعم النطق بإسمه، اكثر خطراً من الصهيونية والغرب والحكام المستبدين!
   اعتقد ان جزءًا من مشكلة الراهن والمستقبل، تكمن في المتراكم السلبي والموروث اللامتسامح، والذي تجري محاولات لاجتراره بهدف الحفاظ على سكونية المجتمع وانظمة الحكم السائدة، التي لا تقبل بالتنوع والاختلاف والتسامح والديمقراطية، ومثل هذا الامر يجد صداه داخل المجتمع عبر تيارات متطرفة ومتعصبة تحمل راية الاسلام او ما نطلق عليه " الاسلام السياسي".
   العرب والمسلمون ليسوا أبالسة او شياطين ا

1070
ماراثون العزل السياسي في العراق
   



عبدالحسين شعبان
فصل جديد وصاخب من فصول العزل السياسي في العراق بدأ عشية الحملة الانتخابية لدورة جديدة للبرلمان العراقي، حيث فوجئ الرأي العام بصدور قرارات من هيئة المساءلة والعدالة تمنع أكثر من 500 من الناشطين السياسيين من الترشّح للانتخابات تحت باب “قانون اجتثاث البعث”. وقد تم تبليغ مفوضية الانتخابات بذلك، الأمر الذي تناوله الإعلام على نحو شديد وعاصف، ولاسيما في قضية الدكتور صالح المطلك رئيس كتلة مجلس الحوار الوطني والأمين العام للحركة الوطنية العراقية التي يرأسها الدكتور إياد علاوي، التي أنشئت قبل بضعة أسابيع في بغداد، لخوض الانتخابات البرلمانية. وقد تبادلت الاطراف المختلفة القاصية والمقصية اتهامات متبادلة بارتكابات وعلاقات خارجية وفساد وإثراء على حساب المال العام والتعاون مع الأجهزة الأمنية في السابق والحاضر.

وتطوّرت المسألة إلى سجالات سياسية واشكالات قانونية، خصوصاً أن العدد الأكبر من الذين تم استبعادهم مشاركون بالعملية السياسية وقسم منهم نواب في البرلمان منذ أربع سنوات أو أكثر. وقد أعاد الجدل بخصوص هذه القضية السؤال الكبير حول مدى قانونية قرارات “هيئة المساءلة والعدالة” التي أقرّها البرلمان في العام ،2008 لكنه لم يوافق على تسمية أعضائها، الأمر الذي سيعرض قراراتها للطعن بشرعيتها فضلاً عن قانونيتها أصلاً.

ومن جهة أخرى فهناك تساؤل بدأ يكبر من داخل العملية السياسية حول مدى قانونية “ قانون اجتثاث البعث” الذي شرّعه بريمر الحاكم المدني الأمريكي في العراق، وهو ما عبّر عنه في كتابه الذي صدر بعنوان “عام قضيته في العراق” العام 2006 عندما قال “.. سأكون شرطياً صالحاً عندما سأوقّع أمر اجتثاث البعث..”.

وقد أثار قرار اجتثاث البعث تداعيات سياسية وقانونية وإدارية وفنية واجتماعية وإنسانية، تركت تأثيراً بليغاً في الخارطة السياسية والمجتمعية العراقية، ستظهر نتائجها لاحقاً، خصوصاً على الاصطفافات والتحالفات السياسية والمسلحة. فمن الناحية السياسية كانت عملية الاجتثاث أقرب في الذاكرة إلى عملية تحريم حزب الدعوة الاسلامي، وإصدار أحكام ضد أعضائه بالإعدام بأثر رجعي، بالقرار الذي اتّخذه مجلس قيادة الثورة في 31 مارس/ آذار ،1980 وكان تمهيداً للحرب العراقية  الايرانية، كما ذكّرت بقرار تصفية الحزب الشيوعي الذي حدد نهاية العام 1980 مهلة للقضاء عليه، وقبل ذلك بقرارات مكافحة الأفكار الهدامة في العهد الملكي، واستخدام سلاح البراءة لإجبار السياسيين على ترك العمل السياسي، تلك التي استخدمها الجميع ضد الجميع، ولاسيما عند القرب من السلطة، فالشيوعيون استخدموها ضد القوميين والبعثيين العام ،1959 والبعثيون والقوميون ضد الشيوعيين بعد العام 1963 وبعد العام 1968 وبالأخص في أواخر السبعينات استخدم العزل السياسي ضد الكرد والإسلاميين والشيوعيين، واليوم نعود إلى المربع الأول حين تستخدمها القوى المتنفذة في العملية السياسية، ولاسيما الإسلامية ضد البعثيين وخصوم العملية السياسية أو المنافسين.

لقد كان قانون الاجتثاث أقرب إلى عقوبات جماعية ذات طبيعة انتقامية لاعتبارات سياسية وعقائدية حيث جرى تحريم العقيدة السياسية وتجريمها، وأخذ البريء بجريرة الجاني أو المرتكب، حارماً إيّاه من حق العمل السياسي، الذي هو حق من حقوق الإنسان، وهذا هو الوجه الآخر للتحريم القانوني.

أما التداعيات الإدارية والفنية، فإنها تركت تأثيراتها السلبية الخطيرة على جميع مرافق الدولة، خصوصاً إذا ما عرفنا أن حزب البعث الحاكم سابقاً، كان يحتكر المناصب العليا والمواقع الادارية الرفيعة المستوى والمسؤوليات الأساسية في الإدارة المدنية والسياسية في الدولة، ما يعني إحداث فراغات خطيرة في الجهاز التنفيذي والإداري والفني للدولة العراقية بمجملها، ولعل هذا الأمر هو الأسوأ، إذا ما ترافق مع حل المؤسسة العسكرية والأمنية وبعض الأجهزة الأخرى الحساسة، وهو القرار الثاني الذي اتخذه بريمر باسم سلطة الائتلاف المؤقتة.

حسب المعطيات المتداولة كان حزب البعث يضم عشية احتلال بغداد نحو مليونٍ ومائتي ألف عضو، وهؤلاء يتحدّرون من جميع مكوّنات الشعب العراقي، وإنْ كان قسم كبير منهم قد انضمّ إلى الحزب لأسباب مصلحية ونفعية وحفاظاً على لقمة عيشهم، وقد تدرّج البعض من هؤلاء ليحتلّ مواقع في الدولة ومؤسساتها على المستويات السياسية والقانونية والإدارية والفنية، ولذلك فإن القانون حتى إن لم يشمل هؤلاء جميعهم، إلا أنه وجّه الاتهام إليهم من دون استثناء من خلال العقيدة السياسية التي كانوا ينتمون اليها قناعة أو اضطراراً، ما ترك تداعياته الاجتماعية والإنسانية على عشرات بل مئات الألوف من العراقيين من المنتمين لأسباب مختلفة إلى حزب البعث.

ان طلب تقديم البراءة من حزب البعث حالياً يذكّر بالمادة 200 التي استخدمها النظام السابق ضد معارضيه، والتي تجد أساساً لها حالياً في الدستور العراقي النافذ، خصوصاً في المادة 7 التي حرّمت على البعثيين العمل السياسي تحت اسم حزب البعث أو أي اسم آخر يمتُ بصلة اليه، وهو ما حاول المتشددون العزف عليه.

ان استمرار هذه المسألة سيهدد العملية السياسية برمتها، ولاسيما إن سيف العزل طال أعداداً كبيرة من العاملين في الوسط السياسي من جميع الفرق، وخصوصاً من غير المحسوبين على الجماعات الدينية الحاكمة. وإذا ما تم الاصرار على إجراء الانتخابات في ظل عملية سياسية ناقصة أصلاً أو مطعون فيها، وفيما بعد ابعاد فريق من المشاركين عنها، بمن فيهم من هو قريب من واشنطن، مع اصرار الرئيس أوباما

على الانسحاب في شهر أغسطس/ آب المقبل، سيعني التوسع في الدور الإيراني الذي سيدفع الكثيرين من المشاركين الحاليين إلى الانحسار أومقاطعة العملية السياسية القلقة والهشة، وإذا ما أضفنا إلى ذلك احتمال تصاعد الخلاف الكردي  العربي حول صلاحيات الاقاليم وسلطات الفيدرالية، فإن الأمر سيأخذ جوانب أخرى للتصدّع السياسي.

إن سياسة العزل مهما كانت مبرراتها ستؤدي إلى تضييق هوامش العملية السياسية وقد تجعلها تصل إلى طريق مسدود، إن لم تكن هذه الانتخابات المستعصية إحدى المؤشرات القوية على ذلك.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج الاماراتية الأربعاء ,03/02/2010

1071
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (14) ثورة ومغامرات وكبرياء
عبدالحسين شعبان
2010-02-01
في 10 مارس 1952 دعمت المخابرات المركزية الأميركية انقلاباً حصل في هافانا، حين قاد الجنرال باتيستا هجوماً للإطاحة ببعض هوامش الحريات التي كانت متوافرة، حيث ألغيت العديد من الأنظمة والقوانين التي تؤمّن حرية الصحافة وبعض الحقوق والحريات العامة والفردية، وحلّت بالبلاد دكتاتورية جديدة سافرة، الأمر الذي سبّب خيبة أمل كبيرة للكوبيين، لاسيَّما لجيل الشباب المتطلع إلى الحرية والحياة الكريمة والعدالة الاجتماعية.
وخلال أحاديثي مع العديد من الأوساط السياسية والأكاديمية والناس البسطاء في كوبا وخارجها، كان دائماً ما يُذكر باتيستا، وإلى جانبه، بل وندّه هناك من يذكر شاباً مفعماً بالحيوية كان قد تخرّج لتوّه في كلية الحقوق، ولم يبلغ عمره أكثر من 25 عاماً، فقد ولد كاسترو في عام 1927، وسيصبح هذا المحامي الشاب من أكثر ثوار العالم شهرة بعد قيادته لمجموعة من الشبّان، حيث كان كاسترو قد يئس من الأحزاب القائمة بما فيها "حزب الحقيقة" و "الحزب الشيوعي"، فأسس مع مجموعة من رفاقه سيبرز فيهم لاحقاً تشي جيفارا وراؤول كاسترو شقيقه، حركة أطلق عليها اسم "حركة 26 يوليو" كان هدفها الإطاحة بالنظام الدكتاتوري عبر اختيار طريق الكفاح المسلح وسيلة لذلك.
وبعد نحو عام من التدريب والتهيئة، اجتمع تحت قيادة كاسترو نحو 150 شاباً، انتقلوا من هافانا ليقوموا بهجومهم على ثكنة مونكادا في سنتياغو دي كوبا، مستهدفين الاستيلاء على السلاح واللجوء إلى الجبال للاحتماء بها ومن ثم الزحف على المدن، حسبما اقتضت خطة الكفاح المسلح.
وكان اللجوء إلى جبال السيرامايسترا، وهي أعلى سلسلة جبال في كوبا وتمتد بكتلة واحدة على طول البحر الكاريبي (نحو 150 كم وعرض 30 كم)، يستهدف الاختباء في جبال وعرة وغير مأهولة ومغطّاة بغابات يصعب اجتيازها، ولذلك فهي تؤمن ملجأً يمكن للثوار الاختباء فيه.
لكن فشل الهجوم دفع البلاد إلى المزيد من القمع والملاحقة، وتمكّن فيدل كاسترو من الهروب إلى خارج كوبا، وقد حُكم عليه وعلى 30 من رفاقه في جزيرة الصنوبر، إلى أن حان موعد الانتخابات العامة التي فرضها الرأي العام على حكومة باتيستا، والتي أُجريت عام 1955، حيث صوّت المجلس الجديد بالعفو عن فيدل كاسترو ورفاقه، وعند خروجهم من السجن غادروا البلاد والتجؤوا إلى المكسيك، وهناك تعرّف على جيفارا.
وخلال عام كامل استجمع كاسترو خطته ورجاله، ليعودوا بسرية تامة إلى الجزيرة وكان عددهم 82 شخصاً، ولم ينجُ منهم سوى 21 عند وصولهم إلى الشواطئ الكوبية. وخلال تلك الفترة سعت واشنطن لوضع هيمنتها بالكامل على أميركا اللاتينية، فقادت تحركاً لصالحها في غواتيمالا عام 1954، وقمعت فيه الحركة الوطنية الغواتيمالية المتطلعة إلى الديمقراطية. في تلك الظروف وتحت تلك المخاوف وتقاطع الأجندات، انطلقت الثورة الكوبية لتشق سكون أميركا اللاتينية آنذاك، الأمر الذي لم تحسب له واشنطن الحساب الكافي، لاسيَّما أن الثورة جاءت من حديقتها الخلفية، وإذا بها تصبح مصدر إزعاج تواجهه كل يوم وتنشغل به على نحو كبير، وبخاصة إشعاعاتها على أميركا اللاتينية!
لم يكن الانقلاب العسكري "السلمي" الذي قاده باتيستا هو الحدث الأول الذي حدث للجزيرة، فتاريخ كوبا شاهد على التدخل والحروب الإسبانية، والأميركية لاحقاً، حيث شهدت موجات إمبريالية للتدخل حتى بعد إحراز استقلالها من الاستعمار الإسباني الناقص، فوقعت مثل التفاحة الناضجة في حضن الولايات المتحدة، وتشهد على ذلك تدخلات واشنطن بتوقيع اتفاقية بلات عام 1901 التي أرادت حصد نتائج حروب التحرر الوطنية الكوبية فسعت لكي تقع التفاحة في سلّتها بعد أن تخلّصت من إسبانيا، ومن ثم تدخل السفير الأميركي سومتر 1933 للهيمنة وإملاء الإرادة، وصولاً إلى حكم باتيستا الذي أطاحت به الثورة في مطلع عام 1959.
في ليلة مكسيكية باردة، جمعته بكاسترو كما يروي جيفارا في مذكراته ، ودار بينهما نقاش حول السياسة الدولية وشؤون وشجون أميركا اللاتينية طوال الليل حتى ساعات الصباح الباكر، أعلن بعدها جيفارا انضمامه إلى العصبة الثورية التي كان قد بدأ كاسترو بتأسيسها، وقام معه برحلته الأثيرة من المكسيك، وفي المركب غرانما، وصولاً إلى الشواطئ الكوبية، ومن ثم بدء عمليات الكفاح المسلح في جبال السيرامايسترا وصولاً إلى هافانا. حدث ذلك بعد سقوط نظام جاكوب أربنز في غواتيمالا على إثر عدوان واشنطن، بإشراف جون فوستر دالاس محامي شركة الفواكه المتحدة، الذي يحمل عدداً من أسهمها كأكبر مؤسسة إمبريالية في غواتيمالا.
يومها جاء كاسترو إلى أرض المكسيك المحايدة ليجهّز حملته المضادة بالعودة إلى هافانا على أسنّة الحراب، وقد تعرّض الثوار إلى هجوم مباغت. وكانت مجموعتان من الشرطة المكسيكية تبحثان عن فيديل كاسترو بإيعاز من باتيستا، وسقط أعضاء المنظمة في أيديهم لدى مهاجمتهم المزرعة بالقرب من ضاحية المدينة، وكما يقول جيفارا في مذكراته" تشي جيفارا- يروي مراحل الثورة الكوبية، إعداد سعيد الجزائري، دار الجيل، بيروت، 2004"، وجدنا أنفسنا جميعاً في السجن... وقضى بعضنا 57 يوماً فيه وكان خطر تسليمنا لحكومتنا معلّقاً فوق رؤوسنا، وبسبب اكتشاف جاسوس بين صفوف الثوار، كما يروي جيفارا، فقد كان ينبغي عليهم القيام بنشاط محموم لإعداد المركب، الذي سيتم تخليده كرمزية كبيرة، وتحت اسم "غرانما" وينطلق يوم 25 نوفمبر 1956 حاملاً على ظهره 82 ثائراً وبضعة بنادق وأعتدة وألبسة عسكرية. وفي الساعة الثانية صباحاً كانت كلمات كاسترو تتردد "سنتحرر أو نستشهد" وظلّ صداها مخيّماً على أجواء الثورة حتى تحقق النصر، بل إن بعض الحركات الثورية كانت تختتم بياناتها بشعارات: الموت أو النصر.
لعل ساعة الانطلاق نحو الشواطئ الكوبية لبدء الكفاح المسلح كانت مثيرة ومدعاة للقلق والتأمل، فقد أطفأوا أنوار مركب غرانما، وتركوا على عجالة مرفأ توكسبان، لكن دوار البحر سرعان ما داهمهم، ويصف جيفارا وضعهم بالمحزن المثير للقرف بالقول: رجال وجوههم كالحة من الخوف والقلق ويمسكون بطونهم بأيديهم من الغثيان.. ثيابهم ملوثة بالقيء... وبعد مسيرة مضنية وإلقاء جزء من حمولة المركب لتخفيف الوزن يصلون إلى الشواطئ الكوبية بطريق استدارة كبيرة استمرت لبضعة أيام حيث وصلوا إلى البر الكوبي..
يقول جيفارا: كنّا جيشاً من الظلال والأشباح التي تتقدم كأنها مدفوعة بقوة بدنية غامضة، حيث تعرّضنا للجوع ودوار البحر لمدة 7 أيام، ثم لمدة ثلاثة أيام مريعة على الأرض، في بعض المستنقعات، لاسيَّما بعد هجوم قوات باتيستا عليهم وحصدها أرواح العشرات منهم لدرجة أن من تبقّى على قيد الحياة، كادت قواه أن تخور، وأن بعضهم كان جريحاً، لدرجة أن جيفارا الذي أصيب بجراح أيضاً، فكّر بالموت بأن يترك نفسه عند جذع شجرة ويستعد لإنهاء حياته بكل كبرياء، مثل بطل جاك لندن الذي عرف أنه محكوم عليه بالموت متجمداً وسط ثلوج آلاسكا، فاختار طريقاً آخر أقصر منه.
بعد فترة وجيزة تجمّع من تبقى من فلول الثوار المنتشرة دون هدى ما وكانت نقطة الالتقاء هي معرفتهم بأن كاسترو ما زال على قيد الحياة، ووصلوا إليه بواسطة بعض القرويين، وكان أن خططوا لمعركة سريعة لتحسين المعنويات، وتحقق لهم ما أرادوا حين كسبوا معركة لابلاتا التي انتصروا فيها في 17 يناير 1957 أي بعد 6 أسابيع من وصولهم إلى الشواطئ الكوبية، حيث هاجموا الثكنة الصغيرة التي تقع على مصب نهر لابلاتا في سيرامايسترا، تلك المعركة التي انتشرت أخبارها مثل النار في الهشيم، الأمر الذي عاظم من معنويات الثوار وزاد من ثقتهم بأنفسهم وعزز من قدراتهم. ولعل تلك المعارك التي استمرت منذ أواخر عام 1956 وأوائل عام 1957 وحتى الأول من يناير 1959 (يوم كان الإعلان عن انتصار الثورة) إنما تعيد إلى الذاكرة الحروب والتحديات التي تعرّضت لها كوبا قبل الثورة وما بعدها.

1072
الانتخابات والعزل السياسي في العراق   
   

                                                                                   عبد الحسين شعبان


في خضم الحملة الانتخابية لدورة جديدة للبرلمان العراقي، فوجئ الرأي العام بصدور قرارات من هيئة المساءلة والعدالة تمنع نحو خمسمائة من الناشطين السياسيين من الترشّح للانتخابات تحت باب "قانون اجتثاث البعث".
وقد تم تبليغ مفوضية الانتخابات بذلك، الأمر الذي تناوله الإعلام على نحو شديد الصخب، ولاسيما في قضية الدكتور صالح المطلك رئيس كتلة مجلس الحوار الوطني والأمين العام للحركة الوطنية العراقية التي يترأسها الدكتور إياد علاوي، التي أنشئت قبل أسابيع في بغداد، لخوض الانتخابات البرلمانية.
"
أعاد الجدل بخصوص قضية الانتخابات السؤال الكبير عن مدى قانونية قرارات هيئة المساءلة والعدالة من جهة ومدى قانونية قانون اجتثاث البعث الذي شرّعه بريمر -الحاكم المدني الأميركي في العراق- من جهة أخرى
"
وتطوّرت المسألة إلى سجالات سياسية وإشكالات قانونية، خصوصاً وأن العدد الأكبر من الذين تم استبعادهم مشاركون بالعملية السياسية وقسم منهم نواب في البرلمان منذ أربع سنوات أو أكثر.
وقد أعاد الجدل بخصوص هذه القضية السؤال الكبير عن مدى قانونية قرارات هيئة المساءلة والعدالة من جهة ومدى قانونية قانون اجتثاث البعث الذي شرّعه بريمر -الحاكم المدني الأميركي في العراق- من جهة أخرى، وهو ما عبّر عنه في كتابه الذي صدر بعنوان "عام قضيته في العراق" العام 2006 عندما قال " .. سأكون شرطياً صالحاً عندما سأوقّّع أمر اجتثاث البعث...".
ولعل هذا القانون كان الأمر رقم (1) الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة وتم توقيعه في الصباح الباكر من يوم الجمعة الموافق 16 مايو/أيار 2003 بحضور عدد من المسؤولين الأميركيين بينهم ريان وسكوت وميغهان ومارتيز.
وقد أثار قرار الاجتثاث تداعيات سياسية وقانونية وإدارية وفنية واجتماعية وإنسانية، تركت تأثيراً بليغاً على الخارطة السياسية والمجتمعية العراقية، ستظهر نتائجها لاحقاً، خصوصاً على الاصطفافات والتحالفات السياسية والمسلحة.
فمن الناحية السياسية كانت عملية الاجتثاث أقرب في الذاكرة إلى عملية تحريم حزب الدعوة الإسلامية، وإصدار أحكام ضد أعضائه بالإعدام بأثر رجعي، بالقرار الذي اتخذه مجلس قيادة الثورة في 31 مارس/آذار1980، وكان تمهيداً للحرب العراقية الإيرانية، التي شهدت تهجير نحو نصف مليون مواطن عراقي بحجة التبعية الإيرانية، بعقوبات جماعية، ليس لها أي مبرر مشروع على الإطلاق، مثلما هو قرار الاجتثاث الذي هو أقرب إلى العقوبة الجماعية ذات الطبيعة الانتقامية لاعتبارات عقائدية وسياسية.
إذ إنه بدلاً من إحالة المتهمين بارتكابات محددة إلى القضاء، جرى تحريم وتجريم العقيدة السياسية، وهو الذي تضمنه قانون الاجتثاث، الذي أخذ البريء بجريرة الجاني أو المرتكب، حارماً إيّاه من حق العمل السياسي، الذي هو حق من حقوق الإنسان، وهذا هو الوجه الآخر للتحريم القانوني.
أما التداعيات الإدارية والفنية، فإنها تركت تأثيراتها السلبية الخطيرة على جميع مرافق الدولة، خصوصاً إذا ما عرفنا أن حزب البعث الحاكم سابقاً، كان يحتكر المناصب العليا والمواقع الإدارية الرفيعة المستوى والمسؤوليات الأساسية في الإدارة المدنية والسياسية في الدولة، مما يعني إحداث فراغات خطيرة في الجهاز التنفيذي والإداري والفني للدولة العراقية بمجملها، ولعل هذا الأمر هو الأسوأ، إذا ما ترافق مع حل المؤسسة العسكرية والأمنية وبعض الأجهزة الأخرى الحساسة، وهو القرار الثاني الذي اتخذه بريمر باسم سلطة الائتلاف المؤقتة.
"
رغم " الطابع السياسي" للوظيفة العامة كما كان سائداً وكما هو حالياً، فإن أجهزة الدولة كانت تحفل بعشرات الآلاف من الكفاءات العلمية المرموقة والمشهود لها، وكان الكثير منها بعيداً عن السياسة أو العمل السياسي في الغالب
"
ورغم "الطابع السياسي" للوظيفة العامة وبخاصة للمواقع العليا كما كان سائداً وكما هو حالياً، فإن أجهزة الدولة كانت تحفل بعشرات الآلاف من الكفاءات العلمية المرموقة والمشهود لها، وكان الكثير منها بعيداً عن السياسة أو العمل السياسي في الغالب، حتى وإنْ أحتُسِبت ضمن التصنيف السياسي على "الموالين" لسياسة الحزب الحاكم، وإنْ كان الأمر شكلياً كما سيتم ذكره.
حسب المعطيات المتداولة كان حزب البعث يضم عشية احتلال بغداد نحو مليون ومائتي ألف عضو، وهؤلاء يتحدّرون من جميع مكوّنات الشعب العراقي، وإنْ كان قسم كبير منهم قد انضم إلى الحزب لأسباب مصلحية ونفعية وحفاظاً على لقمة عيشهم، وقد تدرّج البعض من هؤلاء ليحتل مواقع في الدولة ومؤسساتها على المستويات السياسية والقانونية والإدارية والفنية.
ولذلك فإن القانون حتى وإن لم يشمل هؤلاء جميعاً إلا أنه وجّه الاتهام إليهم دون استثناء من خلال العقيدة السياسية التي كانوا ينتمون إليها قناعة أو اضطراراً، مما ترك تداعياته الاجتماعية والإنسانية على عشرات بل مئات الألوف من العراقيين من المنتمين لأسباب مختلفة إلى حزب البعث.
ورغم التفسيرات والمراجعات التي قيلت بشأن قانون الاجتثاث بأنه يشمل أعضاء القيادة القطرية وأعضاء الفروع والشُعب والفرق بما يقارب أو يزيد قليلاً عن ثلاثين ألف عضو، فإن الأمر كان أعقد من ذلك وإذا ما انضم إليهم عناصر من القوات المسلحة والقوى الأمنية وبعض الأجهزة التنفيذية، فإنه سيشمل عشرات بل مئات ألوف أخرى.
لكن الأهم أن القانون دفع أوساطاً كانت متململة أو غير راضية على انضمامها "القسري" أو شبه القسري إلى حزب البعث، بل استعدادها للتخلي عنه، إلى الاقتراب من بعضها البعض لشعورها بأنها جميعاً مستهدفة، أو يراد لها تقديم تنازلات من شأنها أن تلحق الأذى بسمعتها وبمستقبلها.
صحيح أن البعض بادر إلى ذلك على نحو مجاني أحياناً، حيث استبدل ولاءه من الحزب والأجهزة الأمنية، إلى التعاون مع الاحتلال والقوى التي تمثله مباشرة أو بصورة غير مباشرة، إما للنجاة أو تبرّماً بالماضي أو رغبةً في ركوب الموجة الجديدة والحصول على امتيازات، خصوصاً وأن بعض القوى الناشئة، والتي جاءت مع الاحتلال ليس لديها جماهير أو كوادر أو أتباع، فاستعانت بالجماعات البعثية التي جرى اجتثاثها، وبذلك أُغرِقت هذه الكتل الحديثة التكوين وفي ظل الانفلات وغياب الضوابط والمعايير، بعناصر انتهازية وهشّة، مثلما أغرق الحزب الحاكم نفسه في السابق بمثل هذه العناصر تحت الشعار الشهير الذي أطلقه الرئيس السابق في أواخر السبعينيات "الكل بعثيون وإن لم ينتموا".
بمعنى أن العراقيين سواءً كانوا أعضاء في حزب البعث، أي منتمين بإرادتهم الطوعية أو لم ينتموا، فهم كذلك أعضاء بنظره حتى وإن لم يتقدموا بطلبات انتساب، طالما كان مجلس قيادة الثورة منذ العام 1974 قد كرّس حزب البعث قانونياً ورسمياً، باعتباره حزباً قائداً ووثائق مؤتمره الثامن مرجعية للدولة، أي جعلها بمصاف الدستور.
من الناحية العملية فإن هيئة اجتثاث البعث قد تم حلّها وأسست هيئة المساءلة والعدالة على أساس قانون صدر بهذا الاسم. وإذا كان البرلمان قد صادق على مشروع القانون، إلا أنه لم يوافق على تأسيس الهيئة بالشخصيات المُعلنة، الأمر الذي يثير إشكالات قانونية وسياسية حول قراراتها، طالما لم يوافق البرلمان على عضويتها، لكنها ظلت تعمل دون وجود غطاء قانوني لها ودون أن يطلب أحد حلّها أو إبطال قراراتها إلى أن وصل الأمر إلى منع صالح المطلك و15 كياناً سياسياً ومئات الشخصيات من الترشح، حيث جرى التنبّه إلى قراراتها غير القانونية، ولعل هذه واحدة من حالات الفوضى السياسية والقانونية السائدة في العراق وفي جميع المجالات.
"
لعل مجيء بايدن نائب الرئيس الأميركي إلى العراق بعد اندلاع مشكلة استبعاد صالح المطلك وعدد من الشخصيات السياسية من الترشح للانتخابات، يمكن أن يحلحل المسألة ويجد تسويات حتى وإن كانت غير قانونية
"
ولعل الأمر كله بحاجة إلى وقفة جدية قانونية وسياسية حول مدى صلاحية هيئة بهذا المعنى، وبقانون المساءلة والمصالحة ككل، فإذا كان هناك مرتكبون وتوجد شكاوى ضدهم، فيمكن إحالتهم إلى القضاء، ولاسيما أن حزب البعث محظور دستورياً بغض النظر عن وجاهة مثل هذا القرار أو عدم وجاهته فيما يتعلق بتحريم العقيدة السياسية.
لعل مجيء جوزيف بايدن نائب الرئيس الأميركي إلى العراق بعد اندلاع مشكلة استبعاد صالح المطلك وعدد من الشخصيات السياسية من الترشح للانتخابات، يمكن أن يحلحل المسألة ويجد تسويات حتى وإن كانت غير قانونية، في إطار فوضى قانونية وقرارات ملتبسة وهيئة لم يصادق عليها البرلمان، لكن المشكلة القانونية ستبقى قائمة ما لم يتم إلغاء قرار اجتثاث البعث الذي أصدره بريمر وإلغاء قانون المساءلة والمصالحة وحل الهيئة غير المصادق عليها، التي اقترحتها الحكومة الحالية بعد حل هيئة اجتثاث البعث التي كان يترأسها الدكتور أحمد الجلبي ونائبه رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي.
إذ لا يمكن تحقيق مصالحة حقيقية في ظل سيف العزل والإقصاء والاتهام المسبق، وهو اتهام متبادل في السابق والحاضر بالارتكاب، وأعتقد أن الأمر بحاجة إلى أجواء سياسية سليمة وسلمية وأوضاع أمنية مناسبة وظروف اقتصادية وخدمية طبيعية، ولا سيما بحل أزمة المياه والكهرباء والبطالة، فذلك وحده الذي سيضع مسألة التعايش والاعتراف بالآخر وفق عقد سياسي واجتماعي جديد وفي إطار حكم القانون واستقلال القضاء.      


1073


كوبا: رؤية ما بعد الخمسين!! 13 - جيفارا بين رامبو ودون كيشوت!
عبدالحسين شعبان
2010-01-25
يسرد جيفارا على نحو تصويري تجربته في أول مواجهة مع العالم الخارجي من خلال دراجته النارية وهي تلتهم آلاف الكيلومترات في مغامرة عاصفة، ولعله وهو يقوم بتلك الرحلة يحمل روح دون كيشوت الحالمة وكأنها استيقظت فيه!!
التجوال، أي الانتقال من مكان إلى آخر، ظلّ رفيقاً أساسياً لجيفارا نمت معه بذرة التمرد الأولى، فضلاً عن كونه متعة وممارسة إنسانية له، لاكتشاف ثقافات وتمازج حضارات وتفاعل صداقات وتكامل علاقات إنسانية قومية وإثنية ودينية وسلالية بحيث تشكل تناسقاً ومشتركاً علوياً، عابراً للمكوّنات الفرعية، لحساب المشترك الإنساني، لعل روح رامبو الشاعر الفرنسي كانت قد تلبسته هي الأخرى، وهو القائل: "يذهب بعيداً بعيداً جداً، عبر الطبيعة"، حيث كان رامبو ضجراً وغير قادر على الاستمرار في مكان واحد (من قصيدة لرامبو وهو في سن السادسة عشرة). فقد كان الفتى جيفارا مثل رامبو يحبّ التجوال منذ صباه". الحياة دائماً في المكان نفسه أمرٌ بائس جداً".
كان جيفارا يكتشف مثل رامبو أزهاراً جديدة ونجوماً جديدة ولغات جديدة وربما بشراً آخرين، كل ذلك من أجل "حريته المشتهاة". لقد غادر رامبو الفرنسي شارلفيل الفرنسية، إلى لوكانو (السويسرية) ومنها إلى جنوى الإيطالية ووصل إلى الإسكندرية المصرية ومنها إلى جزيرة قبرص وبعد ذلك إلى جدة السعودية فالحديدة اليمنية، واستقرّ به المقام في عدن جنوب اليمن، التي ناسب جوّها الحار مزاجه. وجيفارا الأرجنتيني اخترق كل أميركا الجنوبية على ظهر دراجة نارية وصولاً إلى شمالها حتى الولايات المتحدة، ومن أميركا اللاتينية إلى أدغال إفريقيا بعد أن زار 15 بلدا وعقد صداقات جزائرية، مصرية، مغربية، كونغولية، وإفريقية وآسيوية ومنها عاد إلى بوليفيا، لا من أجل الهمّ الإنساني الخاص فحسب، بل لحمل مشعل الثورة، متماهياً مع الهم الإنساني العام.
النثر الجميل المفعم بالحياة الذي يسرد فيه جيفارا يوميات رحلته الدونكيشوتية يجعلنا نتوقف أمام مهارته وأسلوبه الأدبي الرقيق، لاسيما إذا كان ممزوجاً بروح مخلصة لتجربة فريدة، حيث يلقي ضوءا على مشاعره وأحاسيسه خلال تلك الرحلة، ولعل جيفارا يبحث عن نفسه في تلك اليوميات عندما ينقل عن الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس قوله "الإنسان مقياس كل شيء"، فالشخص الآخر يتكلم ويروي على لسانه وبلغته الخاصة، ما رأته عيناه، حتى وإن بدت بطريقة المراقبة، فيصف الطريق بلمسة رسام ماهر بالقول:
"تتلوى الطريق بين سفوح الجبال التي تسير بداية سلسلة جبال الإنديز، ثم تهبط منحدرة حتى تصل بلدة بائسة غير جذّابة محاطة بنقيض حاد من الجبال العظيمة الكثيفة المشجرة".
لم يتورّع جيفارا أن ينقل إلينا بشيء من المتعة والسخرية وحسّ الغرابة، واقع حاله مع صديقه غرانادو، يوم يقومان بمحاولة سرقة النبيذ، مزاوجة سلوكه حين يكون ثملاً وبين سخرية القدر في كشف اللص، وبشيء من الدونكيشوتية والشارلشابلنية حسب تشينتيو فيتير، يعرض المطاردة بين الراقصين وكأنه في فيلم يعود للحقبة الثلاثينية للأفلام الصامتة من القرن الماضي.
مغامرات الشاب المملوءة بالفرح والسخرية تنتقل إلى هذه "الجبارة" (الدراجة النارية) كما كان يطلق عليها، للسير أحياناً والعطب في أحيان أخرى والتوقف لإصلاحها في مرات كثيرة، ومفاجأة العلاقة بالناس البسطاء و "الشغيلة" والفلاحين المعدمين، عبر الحدود واجتياز دول، وتنوّع تضاريس وجغرافيات ومناخات، وامتزاج ثقافات وحضارات.
ولعل الغرابة والجسارة والفضول، كانت من أولويات عنصر المغامرة لدى جيفارا وصديقه غراندو، وهو ما كان يقرّبهما من دون كيشوت، الوحيد المحاط بالعزلة والحماقة، رغم أن قلبه مملوء بحب الكادحين والفقراء والأطفال الجياع. وينقل علاقته بمرضى الجذام ومستعمرتهم، لاسيما عندما قاموا بتوديعه وصديقه وداعاً غنائياً، حيث انطلق المرضى الذين ساعدوهما، على صوت لحن شعبي، فانساقت الحمولة البشرية بعيداً عند الشاطئ، وأضفت أضواء قناديلهم الخافتة على الناس، سمة الأشباح.
لقد شعر جيفارا وصديقه غراندو أنهما لا يحسنان لمرضى الجذام فحسب، بل يشاطرونهم محنتهم، ليس بالمعاملة والمعالجة فحسب، بل حين لعبا معهم كرة القدم، وتحدثا إليهم بروح أخوية إنسانية، مفعمة بالتفاني والمشاركة في البؤس الإنساني، والإحساس بألم العزلة والحيرة والمصير البائس.
ولعل مجلة التايم كانت قد أصابت كبد الحقيقة حين وصفت جيفارا المولود في 18 يونيو (يونيو) 1928 ولعائلة من الطبقة الوسطى بـ "أيقونة القرن العشرين". وتكشف رسائله لوالدته أحاسيسه الإنسانية وهواجسه وهمومه وتطلعاته، بما فيها نوبات الربو التي كانت تصيبه والقلق الذي يداهمه وأحياناً خوفه من المجهول، وحرصه على بقاء حلمه مستمراً وإرادته صلبة، كأن مقولة المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي حول "المثقف العضوي" كانت أمامه باستمرار، لاسيما عندما يتحدث عن تشاؤم الواقع، فكل ما حوله كان مدعاة للتشاؤم والقنوط، لاسيما محق الإنسان واستغلاله أبشع استغلال من جانب قلة احتكارية متسلطة على شعوب مستلبة ومهضومة، لكنه رغم كل ذلك لم يكن يائساً، وبقدر تشاؤمه، فقد كان يمتاز بتفاؤل الإرادة، الأمر الذي يضعه في صلب مواصفات المثقف العضوي، الذي أراد أن يتماهى مع قضية العدالة والإنسانية، والتطلع إلى غدٍ جديد يتساوى فيه البشر ويتكافؤون في الحصول على الرفاه، كلٌّ حسب طاقته، ولكلٍّ حسب حاجته!!
وعلى طول اليوميات وعرضها وعلى امتداد  امريكا اللاتينية كلها، هناك من يتحدث عن الخيالات الهائجة وغبار الطريق واللحم المشوي والارتجال والنساء الجميلات ورسائله إلى أمه وطريق البجعات السبع، وأخوة الكائنات البشرية.. وكأنها مفردات حياة يومية متخيّلة، لكنها واقعية أيضاً!! وتلك كانت أقرب إلى قصائد رامبو في مرحلته العدنية ومغامرته الكونية!



7897 العدد - صحيفة العرب القطرية ، الإثنين 25 يناير 2010 م - الموافق 10 صفر 1431 هـ




1074
الحلقة الرابعة  والحلقة الخامسة من كتاب سعد صالح


للاطلاع على التقارير كاملا انقر على الروابط التالية


الحلقة الرابعة
http://www.ankawa.com/upload/634/07.pdf


الحلقة الخامسة
http://www.ankawa.com/upload/634/08.pdf



1075
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين!! - 12 - يوميات المغامر النبيل
                                                                                         عبدالحسين شعبان
2010-01-18
أينما ذهبت في كوبا فهناك من يحدّثك عن الشخصية الأثيرة التي كلما ابتعد موسم رحيلها ازدادت قرباً، فقد كان لها سحر خاص ظلّ يفيض على كل من يتطلع إلى حياة جديدة، لاسيَّما من الشباب الحالم، الذين ما فتئوا يستعيدون ذكرى المغامر النبيل، وكأنها طيف، طالما تمنّوا أن يكون قريباً من اليقظة، فقد طبع حياتهم كلها بأحلام غامضة، وردية، هكذا يحدثني أحد الشباب في حانة أرنست همنغواي في هافانا "حانة بودغيتا دل ميديو" فقد حدس شكل ملامحنا الشرق أوسطية وربما سحنتنا العربية، فأراد أن يتعرّف علينا أو يثرثر معنا، وسرعان ما انضمت إلينا فاتنة حسناء، لكن حاجز اللغة حال بيننا وبينها. يقول الشاب الكوبي بإنجليزية طليقة: رغم أن تشي جيفارا غادرنا سريعاً، لكن صورته وصوته وابتسامته لا تزال تعيش معنا.
لقد أعادني هذا الحديث إلى ما سبق أن قرأته عن مغامراته التي حاول تدوينها لاحقاً في رحلته الشهيرة لعبور القارة الأميركية الجنوبية. وبفضول معرفي ورغبة في اجتراح المغامرة كنّا نحاول أن نجد طريقنا الخاص، بإعلان تمردنا ورفضنا النمطية والرتابة والمألوف بما فيها شكوكنا أحياناً بماركسية معلّبة أو وصفة جاهزة، في حين اعتبرنا جيفارا ناقداً لحدود الجمود والتحجر، طامحاً في تجاوز السائد، حتى وإن كان ذلك جزءا مما كنّا نعتقد فيه.

كيف نصنّف "يوميات دراجة نارية" وهو عنوان كتاب عن رحلة جيفارا في أميركا اللاتينية، هل ندخله في أدب الرحلات والرحّالة، وهو ما حاول المشروع الجغرافي العربي الذي يشرف على إصدار سلسلته الشاعر نوري الجراح، الإجابة عليه في تقديمه الذي كتبه محمد أحمد السويدي عن "ارتياد الآفاق" فضمّه إلى مجموعة المؤلفات التي وضعها الرحالة والجغرافيون العرب والمسلمون، وإن كانت رحلة جيفارا من طراز خاص ولغايات أخرى.
إن يوميات جيفارا في تجربته الأميركية اللاتينية والتي قطع فيها مع صديقه ألبرتو غرانادو على دراجة نارية نحو 4500 كيلومتر، لم تكن مغامرة فحسب، مدروسة أو غير مدروسة، بل كانت تطلع شاب إلى المعرفة واستعداده لاجتياز الصعاب، لإثبات التميّز، وبقدر ما في المسألة من جدّية، كان فيها الكثير من عناصر السخرية، إزاء الواقع، وإزاء ما صادفه من تحدّيات، وإزاء نفسه في الكثير من الأحيان، لكن تلك الرحلة كانت بروفة أولية ضرورية لمغامرة أكثر خطورة ومسؤولية لتشمل العالم كله هذه المرّة، مبشراً بالثورة والحرية والتمرد على ما هو سائد، طامحاً في عالم جديد أكثر عدلاً.
بواسطة الدراجة النارية جاب جيفارا مجتمع أميركا اللاتينية، وهو الطبيب الذي وجد المرض والتخلف والأمية منتشرة من جنوب القارة وصولاً إلى شمالها، وفي الشمال كانت أقلية صغيرة متنفذة تتمتع بالخيرات والموارد، ناهبة شعوب أميركا اللاتينية، واضعة كل ما تنتجه سواعد الملايين في خدمتها.
كان الطبيب الأرجنتيني الشاب ينتقل من على ظهر دراجته النارية مع صديقه من الأرجنتين إلى شيلي، ومنها إلى بوليفيا وبعدها يصل إلى بيرو ومنها ينتقل إلى بوليفيا ثم إلى فنزويلا، ولو اطّلعنا على خارطة الرحلة، لاسيَّما عبر دراجة نارية ليست على ما يرام، لاكتشفنا أية إرادة أسطورية نفّذت ذلك، وأية مفاجآت وتحديات واجهته، وكيف تعامل في ظروف بالغة القسوة والحساسية أحياناً، بكل ثقة بالنفس وبالسخرية، والخروج على المألوف.
هكذا التهمت الدراجة آلاف الكيلومترات في أميركا اللاتينية وصولاً إلى "سرّة العالم"- عاصمة الانكا، وكأنه يحمل شعلة لصهر روحه ومزجها بآلام القارة المستلبة، والمتطلعة إلى الانعتاق. لعل ذلك كان مقدمة لطريق الحرية والفداء الذي اختاره جيفارا دون تردد أو رجوع، حيث كان عمره لا يزيد على 24 عاماً عندما كتب "علمت أنه حين تشق الروح الهادية العظيمة الإنسانية إلى شقين متصارعين، سأكون إلى جانب الشعب، أعلم هذا، أراه مطبوعاً في سماء الليل، أرى نفسي قرباناً في الثورة الحقيقية، المعادل العظيم لإرادة الأفراد..". ولعل كتابة مثل هذا النص، وفي وقت مبكر من حياته، تكشف عن عمق مشاعره الإنسانية، وعن سحر كلمته الأنيقة.
يوميات جيفارا بدت أقرب إلى مغامرة تلقائية لروح مجبولة على المغامرة، وماذا ستكون الحياة من دونها؟ ولعل المغامرة من أجل الحقيقة هي أجمل المغامرات وأحلاها.
لعلنا في شبابنا كنّا قد تمثلنا تلك الرحلة المثيرة، فوق الجبال والبحيرات، في السهول والوديان، وفي عبور الحدود، والجميل في تلك المغامرة أن صاحبها حاول أن يكون أميناً في تدوينها، بل غير تقليدي أيضاً.
كان الشاب الأرجنتيني الأممي فيما بعد، اليافع، البالغ الحساسية، وهو يروي لنا يومياته ومغامراته، يظهر بقدر عقلانيته، جنونه أيضاً، وبقدر جديته، سخريته أيضاً، وهو ينقل لنا فقر وجوع واستغلال الأراضي الشاسعة التي يمرّ بها، وينتقل منها من بلد إلى آخر، وقد حاول بتلك الروح المرحة مقاومة التحديات وتجاوز الصعاب، وبقدر صلابته كان رقيقاً، وكان يميّز دائماً بين الجمال والفجاجة، وبين الحب والعطش إلى المعرفة والرغبة في التغيير، يقابلها الكراهية والتخلف والاستكانة.
لقد كانت ابنته أليدا جيفارا مارش محقّة عندما كتبت عن رحلته تلك قائلة "لم أعرف الشخص الذي كتبها، كنت آنذاك صغيرة وتماهيت مباشرة مع ذلك الرجل الذي سرد مغامراته بطريقة تلقائية كهذه.. عندما تنتهون من الكتاب ستودوّن العودة إليه للاستمتاع ببعض القطع ثانية، إما لجمال ما تصفه أو لكثافة المشاعر التي تتضمنها"، ولقد فعلت ذلك مرات ومرات، كنت أريد مقارنتها ببعض تجاربنا تارة، وأخرى لاختبار طول صبره، وثالثة لمعرفة حكمته أو جنونه، ورابعة لتقييم سجاياه الشخصية الشجاعة، لاسيَّما في المحن وتحدّي الصعاب.
يقول جيفارا الذي سيتحوّل إلى بطل كبير من أبطال القرن العشرين إن يوميات رحلة دراجة نارية "ليست قصة بطولة خارقة"، ولكنه لا يمكن إلاّ أن نفكّر بتلك البطولة باعتبارها مقدمة لتكوينه الثوري وشعوره الداخلي وهو يدوّنها، وهو ما يعبّر عنه بوضوح بالقول: الشخص الذي أعاد تبويبها وصقلها، أنا، لم يعد له وجود على الأقل، لست ذلك الشخص الذي كان. كل هذا التجوال هنا وهناك في "أميركتنا" لتكتب بحروف كبيرة"، غيّرني أكثر مما حسبت"، فقد كان ولوج عالم التمرد والتغيير، قد مرّ عبر جولته الأولى داخل قارة أميركا اللاتينية، برحلته المثيرة تلك.


7890 العدد - صحيفة االعرب القطرية  الإثنين 18 يناير 2010 م - الموافق 3 صفر 1431 هـ


1076
هل تفلت ليفني من يد العدالة؟
   


عبدالحسين شعبان
لم تكن قد هدأت الضجة التي أثيرت حول تقرير غولدستون الذي أدان جرائم “إسرائيل” في قطاع غزة إبان حربها المفتوحة عليها والتي دامت 22 يوماً، وقبله الضجة التي أثارها تقرير الصحافي السويدي بوستروم بشأن متاجرة “إسرائيل” بالأعضاء البشرية لشباب فلسطينيين تُسرق أعضاؤهم بعد اغتيالهم، حتى بدأت ضجة كبرى تكاد تكون هي الأعظم خلال العقد الماضي كلّه تقريباً وذلك بصدور مذكرة قضائية من المحاكم البريطانية تقضي باعتقال تسيبي ليفني وزيرة الخارجية “الإسرائيلية” السابقة على خلفية مشاركتها في ارتكاب جرائم حرب في عملية “الرصاص المسكوب” التي استهدفت قطاع غزة بعد تجويعه لأكثر من عامين .

المذكرة البريطانية هي المذكرة الثالثة من نوعها أوروبياً، حيث كانت المذكرة الأولى قد أصدرها القضاء البلجيكي بملاحقة آرييل شارون رئيس الوزراء “الإسرائيلي” الأسبق وعدد من المسؤولين على خلفية مجازر صبرا وشاتيلا إثر اجتياح لبنان ومحاصرة العاصمة بيروت العام ،1982 وكان القضاء البلجيكي قد أصدر مذكرة بعد إعلان شارون عن زيارة بروكسل، الأمر الذي اضطرّه إلى إلغاء الزيارة في العام ،2001 وجاء هذا التحرك من جانب بعض مؤسسات المجتمع المدني وبعض الناشطين والناجين من المجزرة وفي مقدمتهم سعاد سرور، حيث وافق القضاء البلجيكي على النظر في الدعوى الخاصة بشارون .

والمذكرة الثانية عندما باشر القضاء الإسباني بالتحقيق في شكاوى مرفوعة ضد وزير الدفاع “الإسرائيلي” الأسبق بن اليعازر وستة من كبار المسؤولين العسكريين والسياسيين وذلك في 29 كانون الثاني (يناير) 2009 أي بُعيد الحرب على غزة بأيام بتهمة ارتكاب جرائم حرب من خلال قصف عشوائي على غزة في تموز(يوليو) 2002 .

المذكرة الثالثة ونعني بها ملاحقة تسيبي ليفني تكتسب أهمية خاصة لأنها تأتي على خلفية انكشاف جرائم الإبادة “الإسرائيلية” أمام الرأي العام على نحو لم يسبق له مثيل، خصوصاً إدانة منظمات دولية مرموقة لها، أقل ما يقال عنها إنها ليست موالية للعرب أو للفلسطينيين بقدر حياديتها ومهنيتها، إلاّ أنها في نهاية المطاف أصدرت تقارير تدين “إسرائيل” برغم الضغوط التي تعرّضت وتتعرض لها من داخلها ومن خارجها .

وكان العالم كلّه يشاهد من خلال شاشات التلفاز حجم الجرائم المرتكبة بحق المدنيين، في غزة، أواخر العام 2008 وأوائل العام ،2009 وقبله خلال الحرب على لبنان التي دامت 33 يوماً العام ،2006 وهو الذي دفع القضاء البريطاني للقيام بإجراءات الملاحقة، بعد تلقّيه شكوى لملاحقة تسيبي ليفني .

وقد تفاوتت الروايات بشأن ملاحقة تسيبي ليفني، فالرواية “الإسرائيلية” تقول أن ليفني ألغت زيارتها المقررة إلى لندن حيث كان من المؤمل أن تلقي كلمة أمام مؤتمر الصندوق القومي اليهودي، لكن رواية أخرى أقرب إلى الجانب العربي مع شهود عيان قالوا إنها شوهدت في قاعة المؤتمر وعندما علم القاضي البريطاني بوجودها، أصدر مذكرة اعتقال بحقها، لكنها فرّت من وجه العدالة بجواز سفر مزوّر وبتنسيق خاص بين المخابرات البريطانية و”الإسرائيلية” .

وبغض النظر عن ملابسات الحضور أو الاختفاء فإن قرار المحكمة البريطانية سيظل قائماً في حال عادت ليفني إلى بريطانيا حيث تقضي الإجراءات باعتقالها تمهيداً للتحقيق معها ومحاكمتها، الأمر الذي يعني فيما يعنيه أنها لن تعود إلى بريطانيا مرة أخرى، ولعل ذلك واحدة من فوائد الشروع بملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، خصوصاً تحريك الملفات بشأنهم عبر المحاكم الوطنية ذات الولاية القضائية العالمية، كما هي في بريطانيا وإسبانيا وبلجيكا وهولندا وكندا وسويسرا وفرنسا ونحو 47 دولة .

ومنذ أن جرى مثل هذا التحرك من جانب هيئات عربية ودولية لملاحقة المرتكبين فإن الحكومة “الإسرائيلية” درست بعناية المخاطر التي قد تلحق بها جراء ملاحقة المرتكبين وسبل التملص منها، بل إنها حددت بعض الخطوات بشأن السماح لمسؤولين سياسيين وعسكريين “إسرائيليين” متورطين بجرائم حرب للتنقل بجوازات سفر مزورة، وقد يصحّ هذا الأمر على ليفني التي كشفت سيرتها صحيفة التايمز البريطانية التي قالت إنها كانت تعمل مع الموساد، لاسيما فترة ما بين 1980 و،1984 حيث انخرطت في صفوفه عن طريق صديقة طفولتها ميرا غال التي عملت فيه لمدة 20 عاماً ثم أصبحت مديرة لمكتب ليفني .

وقد عملت ليفني في أخطر المواقع الخارجية حيث كانت تنشط بعض القيادات الفلسطينية والعربية في باريس التي شهدت في العام 1980 مقتل عالم الذرة مصري الجنسية يحيى المشد الذي كان يعمل في البرنامج النووي العراقي ووجد مقتولاً في غرفته، فحامت الشكوك حول الموساد المستفيد من تلك الجريمة، وعندما أدلت إحدى فتيات الليل بشهادتها بأنها سمعت أصواتاً في الغرفة المجاورة، وجدت مقتولة هي الأخرى بعد شهر في ظروف مريبة .

بعد نحو عام من هذه الجريمة تم قصف المفاعل النووي العراقي في 7 حزيران (يونيو) 1981 خلال انشغال العراق بالحرب غير المبررة مع إيران، وقد كشف تقرير فرنسي أن ليفني كانت ضمن الوحدة الخاصة المشرفة على العمليات في باريس في الفترة المذكورة التي شهدت مقتل عالم عراقي آخر .

وبغض النظر عن هذه المعلومات فإن صدور مذكرة قضائية باعتقال ليفني كان قد أثار ردود فعل “إسرائيلية” جدّية حيث ندد رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو بتلك الخطوة التي اعتبرها شديدة الخطورة بحق زعيمة المعارضة وحزب كاديما ووزيرة خارجية “إسرائيل” سابقاً وقال: إن “إسرائيل” لن توافق على استدعاء ليفني أو باراك وزير الدفاع “الإسرائيلي” أو أولمرت رئيس الوزراء السابق إلى المحاكم البريطانية، لأنهم كانوا يدافعون عن دولة “إسرائيل” ببسالة ضد عدوٍ مجرم وقاس ومجرمي حرب .

وهكذا شنّت “إسرائيل” هجوماً على الضحايا مبررة الأعمال الإجرامية التي اتهمت بها ليفني، كما تضمّنت تصريحات قادتها إشارات مبطّنة إلى الحكومة البريطانية، لاسيما ممارسة ضغوط عليها لتغيير الوضع القانوني الذي يسمح بملاحقة مرتكبي الحرب، كما حصل الأمر للقضاء البلجيكي عندما شرع بملاحقة شارون، لكن هذا التصرف يعكس القلق الذي وصل إلى حد الهلع للمسؤولين “الإسرائيليين”، فقد كانت “إسرائيل” قد كلفت أحد أشهر مكاتب المحاماة ودفعت له مبلغاً أكثر من ثلاثة ملايين دولار لإيجاد “سبل ودفوع قانونية” تحول دون ملاحقة المرتكبين “الإسرائيليين” .

إن الاتهام بارتكاب مثل هذه الجرائم وبالتالي السعي لملاحقة المتهمين فضلاً عن التقارير الدولية وفي مقدمتها تقرير غولدستون يضع لأول مرّة بصورة جدية مشروعية “إسرائيل” أمام الرأي العام الدولي، لاسيما في جانبها القانوني، وهو الأمر الذي تستشاط غضبا منه مثلما فعلت بخصوص القرار 3379 الخاص بمساواة الصهيونية بالعنصرية الصادر في 10 نوفمبر/تشرين الثاني ،1975 حيث طوت الليل بالنهار حتى تمكنت من الإطاحة به في العام 1991 عندما تغيّرت موازين القوى لصالحها .

فهل ستفلت ليفني ورفاقها من يد العدالة إذا كانت “إسرائيل” ككيان معرضة للمساءلة ليس بسبب اغتصابها أرض فلسطين فحسب، بل أيضاً بسبب استمرارها في ارتكاب جرائم عدوان وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية؟

باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 13/1/2010

1077
المنبر السياسي / بيئة التسامح
« في: 00:37 12/01/2010  »
بيئة التسامح   


عبدالحسين شعبان
هل نحن إزاء بيئة صحية لنشر وتعميم قيم التسامح، أم ثمة عوائق وعقبات تعترض ثقافة التسامح، لاسيما وأن هناك فهماً مختلفاً أحياناً بخصوص ما يعنيه البعض بالتسامح؟

التسامح يعني اتخاذ موقف إيجابي، فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية . وحسب إعلان مبادئ التسامح الذي صدر عن اليونسكو فإن “التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد . .” . وهكذا فالتسامح تأسيساً على ذلك: يعني الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجباً أخلاقياً حسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني، الأمر الذي يعني قبول وتأكيد فكرة التعددية وحكم القانون والديمقراطية ونبذ الدوغماتية والتعصب .

إن التسامح يعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته، وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، وكما أن الاختلاف من طبيعة الأشياء، فلا بدّ من الإقرار باختلاف البشر بطبعهم ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، وهذا يقود إلى الإقرار بحقهم في العيش بسلام ومن دون عنف أو تمييز لأي سبب كان: دينياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو جنسياً أو ثقافياً أو سياسياً . . الخ .

وإذا لم يرد ذكر التسامح لفظاً في القرآن الكريم، إلا أن ما يفيد به أو ما يقاربه أو يدّل على معناه قد جاء حين تمت الدعوة إلى: التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف والعفو والصفح والمغفرة وعدم الإكراه، وكلّها من صفات “التسامح”، مؤكدة حق الاختلاف بين البشر و”الاختلاف آيات بيّنات”، ويشير ابن منظور في لسان العرب إلى التسامح والتساهل باعتبارهما مترادفين، ويقول الفيرزوأبادي في القاموس المحيط: المساهلة كالمسامحة، وتسامحوا وتساهلوا، وتساهل أي: تسامح، وساهله أي ياسره، ولعل من استخدم مصطلح التسامح لأول مرّة بمعنى “التساهل” هو فرح انطوان في العام 1902 .

ومنذ إعلان اليونسكو قبل عقد ونصف العقد من الزمان تقريباً فقد انعقد الكثير من الفاعليات والأنشطة بشأن نشر ثقافة التسامح، وصدرت كتب ومطبوعات وتأسست منظمات وشبكات لهذا الغرض، بينها الشبكة العربية للتسامح التي شكّلت دعوة مهنية وحقوقية لمبادئ التسامح، رغم أننا على الصعيد الفكري أو العملي لا تزال تفصلنا هوّة سحيقة عن قيم التسامح الإنساني التي تكرست في مجتمعات سبقتنا على هذا الصعيد، الأمر الذي يحتاج إلى مراجعات ونقد ذاتي، لاسيما من جانب النخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، لمقاربة فكرة التسامح والتعاطي معها إيجابياً، على الصعيدين الأخلاقي والاجتماعي، لاسيما بعد إقراره قانونياً ودستورياً .

وإذا كنّا نتحدث عن حال التسامح في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، فتجدر الإشارة إلى أن المسيحية كانت قد سبقت الإسلام بقرون للتبشير بقيم التسامح، وفي التاريخ الحديث شكّلت خلفية لحركة التنوير، وقد وظّفها فولتير على نحو سليم بإبراز نزعتها الإنسانية المتميّزة، حيث اقترنت فكرة التسامح باسمه ويعتبر هو “الأب الروحي” لها، وكان يبّشر بضرورة تحمّل الإنسان للإنسان الآخر، فكلّنا بشر ضعفاء ومعرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا بعضاً بالتسامح .

وهنا حريٌ بنا أن نستذكر المهاتما غاندي الذي عبّر عن فكرة التسامح في رسالة من السجن بالقول: لا أحب التسامح، ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده . وهي الفكرة التي آمن بها نيلسون مانديلا بعد سجنه لمدة 27 عاماً، وهو ما عبّر عنه المطران جورج خضر في تقديمه لكتابنا حول “فقه التسامح في الفكر العربي  الإسلامي” بالقول: لست هنا مبرئاً ساحة الغرب وأعرف كل البؤس الذي أحلّه ليس فقط بالاسلام ولكن في الكنيسة الشرقية أيضاً . . ولكن أن تردّ “العدوانية” بهجوم معاكس (أي بعدوانية معاكسة) فذلك يضعف مواقعك، ولعل ذلك كما نعتقد ليس هو الحل الأمثل .

بعد أسابيع ستحلّ الذكرى الحادية والستين على اغتيال الزعيم الهندي المهاتما غاندي في 30 يناير/ كانون الثاني، ففي العام 1948 هاجمه متطرف هندوسي وأرداه قتيلاً، واضعاً حداً لحياة زعيم اقترب من “التقديس” لدى الشعب الهندي بمختلف توجهاته وقومياته وأديانه وطوائفه وطبقاته الاجتماعية، فاتحاً صفحة جديدة من العنف أودت بحياة زعامات هندية مثل أنديرا غاندي ابنة جواهر لال نهرو وراجيف غاندي وآخرين . ولعل ذلك من مفارقات التاريخ، فالعام 1948 هو عام صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو العام ذاته الذي تأسست فيه دولة “إسرائيل” .

لعل القاتل لم يفكّر في الإجابة عن سؤال طالما ظل يقلق غاندي ويسعى لاختبار صدقيته، وهو مستغرق في نضاله لتحرير بلاده، فهل هناك جدوى من العنف؟ وهل يمكن الوصول إلى الهدف باللاعنف والتسامح؟ وقد فضّل غاندي الخيار الثاني رغم العذابات والحرمان، لكنه لم يكن يتوقع أن الغدر سيأتيه هذه المرّة على يد هندوسي بعد أن تمكّن من إحراز النصر لشعبه .

كان غاندي يؤمن باللاعنف وبواسطته استطاع هزيمة أكبر امبراطورية في عصره (بريطانيا العظمى)، فهذا الرجل الأعزل نصف العاري، بنمط حياته البسيط، وبعلاقته الحميمة بشعبه، استطاع أن يثبت للعالم أن إحدى وسائل المقاومة هي اللاعنف والتسامح والقدرة على إنجاز مشروع التحرير واستعادة السيادة والحقوق، بالمقاومة السلمية . وكان غاندي يُردّد: لو كان هناك بديل أفضل من التسامح لاخترته ولكني والحالة هذه لا أجد أفضل منه .

لقد ترك غاندي تأثيراته الكبيرة في ما سمّي بحركة اللاعنف أو المقاومة السلمية، الأمر الذي دفع دُعاة المساواة والحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة إلى استلهام أساليب النضال التي أبدع فيها غاندي، وكان مارتن لوثر كينغ من أبرز الزعماء السود الذين تأثروا به .

لم يكتفِ غاندي بالحديث عن اللا عنف، بل أظهر كيف أن المقاومة السلمية يمكنها أن تواجه وتتحدى من خلال سلاح المقاومة والإضراب عن الطعام والاحتجاج والاعتصام والتسامح .

ولعل شخصية مثل نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب إفريقي (ورئيس المؤتمر الوطني)، الذي مكث في السجن 27 عاماً وقاد مقاومة سلمية ضد نظام التمييز العنصري “الأبارتايد”، كان قد أمسك بمفتاح التسامح بعد مفتاح المقاومة السلمية، فاتحاً صفحة جديدة في نضال شعب جنوب إفريقيا مقدماً نموذجاً مهماً: للعدالة الانتقالية من خلال كشف الحقيقة وتحديد المسؤولية وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والمؤسسي، والأهم من كل ذلك نشر فكرة التسامح وعدم اللجوء إلى الثأر أو الانتقام أو العنف .

لقد أدرك غاندي أن منهجه القائم على اللاعنف حظي بقبول واسع، وكان يردد أن ذلك خيار شعبي “فإذا انطلق شعبي فيجب أن ألحق بركبه لأنني زعيمه” .

وكان إعلان اليونسكو قد جاء بعد حين ليؤكد أنه “من دون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، ومن دون سلام لا يمكن أن تكون هناك تنمية وديمقراطية” .

وإذا كان التسامح اصطلاحاً يعود إلى تطور الفلسفة الغربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، خصوصاً ما سمي بفلسفة التنوير، وذلك بعد بروز وتطور النزعة الإنسانية المعتمدة على العقل في مواجهة اللاهوت والغيبيات، فإن هذا المصطلح راج في السنوات الأخيرة، حيث خصصت اليونسكو يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام يوماً للتسامح على المستوى العالمي، منذ العام ،1995 كما تمت الإشارة اليه .

في عالمنا العربي، ما زال التسامح غير مقبول لدى أوساط واسعة، وربما نظرت إليه بعض الاتجاهات الإقصائية والإلغائية الإسلاموية باعتباره “نبتاً شيطانياً” أو “فكراً مستورداً”، لاسيما بعد خلطه بالنزعات التغريبية الاستتباعية التي تستهدف فرض الهيمنة وإملاء الإرادة .

وفي الوقت الذي يهرب أصحاب وجهات النظر هذه إلى التاريخ باعتباره ملاذاً، يتناسون أن الإسلام الأول، خصوصاً الراشدي اتّسم بقدر كبير من التسامح والاعتراف بحق الاختلاف، لكنهم يحاولون الزوغان عن ذلك رغم محاولة تمجيد الماضي بهدف الهروب من الحاضر، الذي يزخر بالتأثيم والتحريم والتجريم ضد الآخر، الخارجي، الأجنبي، العدو، الخصم، بادعاء الأفضليات وإنسابها إلى النفس ونفي الإيجابيات عن سواه، لذلك احتاج مفهوم التسامح إلى “تبيئة” وتأصيل تاريخيين بهدف جعله راهنياً وقائماً ومستمراً، بالعودة إلى حلف الفضول ودستور المدينة وصلح الحديبية والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة إلى القرآن والسنّة النبوية، كدليل ومرشد لفقه التسامح، بما فيه تأشير جوانب اللاتسامح في تاريخنا، خصوصاً التي اتسمت بالتطرف والتعصب والغلو والعنف والإقصاء والاستئصال .

باحث ومفكر عربي


صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 6/1/2010.

1078
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين!! - 11 - شعاع الثورة ومتطلبات الدولة!
عبدالحسين شعبان
2010-01-11
كان آخر ظهور علني رسمي لجيفارا هو حضور مؤتمر التضامن الأفروآسيوي (1965)، وذلك بعد عودته من الجزائر والقاهرة في 14 مارس 1965، وبعد اجتماع سري مغلق لم يعرف ما جرى فيه حتى الآن، اختفى جيفارا مثل شعاع، ولعل غضب الاتحاد السوفيتي إثر خطاب الجزائر قد يكون وراء ضغوطه على كاسترو، ولم يكن جيفارا يريد أن يحرج صديقه مثلما كان حريصا على الثورة الكوبية، وبغض النظر عن بعض الملابسات، فقد تقرر أن يخوض هو في المهمة العسكرية-الأممية خارج حدود كوبا، وبدعم من كاسترو وهو ما أراد، وأن تستمر الدولة وإداراتها وعلاقاتها الدولية طبقا لتوازن القوى السائد آنذاك، لاسيما للعلاقة الكوبية-السوفيتية. وسواء حصل الاتفاق بشكل مباشر أو غير مباشر، بقناعة تامة أو بنصف قناعة، أو تحت الأمر الواقع، فإن ذلك ما حصل.
وهكذا انتقل جيفارا يجوب أرض الله الواسعة ليبشر بالثورة ويحرض على المستعمرين ويعد الشعوب المنكوبة بغد أفضل، وكانت مهمته الأولى في إفريقيا من الكونغو تحديدا حيث بدأت العملية العسكرية، وبعد فشله غادر إلى بوليفيا، وحاول أن يلعب الدينامو المحرك للتحريض والتحضير وإنضاج العامل الذاتي لاندلاع الثورة، لكن ثمت ظرف موضوعي لم يتوفر وعامل ذاتي لم يتم تهيئته، الأمر الذي دفع جيفارا مثل غيره ثمنه باهظا، ناهيكم من أن محاولة نقل أو استنساخ تجربة قد لا يصح لتجربة أخرى، وهو ما كان ينبغي أخذ مواصفاته بنظر الاعتبار.
رغم بطولة وشجاعة جيفارا، فإنه أخطأ يوم اعتقد أنه بالإرادة يمكن فتح أكثر من جبهة، وزرع أكثر من حرب ثورية أمام الولايات المتحدة، وهو الذي دعا إلى خلق أكثر من فيتنام، واحدة.. اثنتان أخرى. لقد فشل جيفارا في هذه المهمة وكانت تقديراته غير موضوعية؛ لأن مهمة بهذا الحجم هي أكبر من طاقته، بل وطاقة الحركة الثورية حينها برمتها.
أما بالنسبة للشرق الأوسط، فقد دعا جيفارا إلى «خلق اثنين وثلاث وعدة فيتنام» وكان يشعر أن الشرق الأوسط في حالة غليان كامل ومن المستحيل التكهن بمسارات الحرب الباردة (قبل العام 1967) مع إسرائيل المدعومة من الإمبرياليين، ولعل هذه المنطقة أحد أكبر البراكين التي تهدد العالم كما قال، وكان على حق، فبعد بضعة أسابيع على تصريحاته تلك التي أدلى بها في 16 أبريل 1967، هاجمت إسرائيل البلدان العربية واحتلت كامل أراضي فلسطين التاريخية وأراض مصرية وسورية، ودخل العرب والعالم في فصل جديد من الصراع العربي-الإسرائيلي، ومن النضال التحرري، خصوصا أن الممارسات الإسرائيلية طيلة عقدين من الزمان كشفت عن الطابع العنصري الإجلائي الإحلالي للعقيدة الصهيونية التي قامت عليها إسرائيل، ولعل هذا ما كان يتميز جيفارا بإدراكه عن القيادات الثورية الأممية الأخرى، وما عبر عنه حول مآل الصراع، ناهيكم من المخاطر التي تهدد السلم والأمن الدوليين باستمرار، لاسيما التنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير.
حظي جيفارا بتمجيد عربي يوم رحيله، ونظمت في العالم العربي كله احتفالات تأبينية وتكريمية، وانتشرت صوره وكتاباته في كل مكان، في العديد من الجامعات والمنتديات، العلنية والسرية، وأتذكر أننا في العراق كنا قد نظمنا احتفالا كبيرا في جامعة بغداد، حيث كنت في الصف المنتهي، والتأم الاجتماع المهيب في كلية التربية، بخطب وأناشيد وأشعار، وفي جو حماسي زاده عريف الحفل اشتعالا، وكان حينها د.عبدالحسين رمضان (أبونهار). وكان صوت الشيخ إمام لاحقا وقصيدة أحمد فؤاد نجم تملأ الحناجر حيث كانت احتفالاتنا اللاحقة تنشد: جيفارا مات.. جيفارا مات.. جيفارا مات.. آخر خبر في الراديوهات وفي الكنايس والجوامع وفي الحواري وفي الشوارع وعالقهاوي وعالبارات... جيفارا مات... مات المناضل المثالي.. مات البطل /الكلمة للنار وللحديد/ والعدل أخرس أو جبان/ صرخة جيفارا.. يا عبيد، في أي موطن أو مكان/ما فيش بديل.. ما فيش مناص.. ياتجهزوا جيش الخلاص /يا تقولوا على العالم خلاص!!
وإذا كان جيفارا قد أخطأ في قراءة وتقدير العامل الذاتي والعامل الموضوعي واختيار اللحظة الثورية، لاسيما توازن القوى والجهات المؤثرة في خارطة الصراع على المستوى الدولي، والظروف الخاصة بنضال بعض الشعوب، لكنه نجح في وضع ما آمن به موضع التطبيق، والأكثر من ذلك حين وضع حياته وقودا لما اعتقد به بصدقية عالية وشجاعة نادرة، وهو القائل: «ليست هناك حدود في هذه المعركة حتى الاستشهاد».
ونجح جيفارا في جعل كوبا الرمز الأول لاستيقاظ أميركا التي بدأت دولها الواحدة بعد الأخرى تتمرد بطرقها الخاصة على هيمنة واشنطن من موجات الكفاح المسلح في الستينيات والسبعينيات، إلى لاهوت التحرر في الثمانينيات إلى مصالحات واتفاقات، وصندوق اقتراع تفقس فيه الثورة في أواخر التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الثالثة.
كما نجح جيفارا في جعل كوبا بوابتنا إلى أميركا اللاتينية، لكن ثمت معوقات موضوعية وذاتية وقفت أمام تطوير التقنية وبناء الإنسان الجديد، وإذا كان لينين قد قال إن الشيوعية تعني السلطة السوفيتية زائد كهربة البلاد السوفيتية، وسعى لتحقيق ذلك، فإن جيفارا شغل نفسه بالتنمية والتقنية اللتين أسهمت الولايات المتحدة في وضع العراقيل أمامهما، لاسيما باستمرار فرض حصارها الجائر على كوبا منذ أكثر من 50 عاما.



7883 العدد -  صحيفة العرب القطرية - الإثنين 11 يناير 2010 م - الموافق 25 محرم 1431 هـ


1079
 
كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (10) التغريد خارج السرب: رومانسيان حتى الموت!
   

  
عبدالحسين شعبان    

2010-01-04
بلوَر جيفارا أفكاره الثورية تلك التي تجسدت في مداخلاته وأحاديثه المثيرة و "الشهيرة" خارج التفكير الرسمي للاشتراكية النمطية الوظيفية البيروقراطية السائدة، لا سيما في ثلاثة مواقع على الأقل: الأول يتعلق بمداخلته تحت عنوان "أميركا من على الشرفة الإفريقية والآسيوية"، والثاني "الاشتراكية والإنسان وكوبا" والثالث "خطاب الجزائر".
ولم يكن بإمكان جيفارا أن يحتل هذه المساحة من الرمزية النضالية الكبيرة في العالم الثالث، بل وفي العالم أجمع لو حصر نفسه في أميركا اللاتينية، ولأنه كان أمميا بامتياز فقد كرس جهداً استثنائياً لتجميع الطاقات النضالية للقارات الثلاث في إفريقيا وآسيا، إضافة إلى أميركا اللاتينية، ولهذا السبب قطع آلاف الأميال لينقل الثورة -كما أعتقد- إلى أحراش الكونغو وليحوّل إفريقيا إلى أرض متزلزلة تحت أقدام المستعمرين، ويحفّز نضال آسيا عندما يكون حلقة الوصل من هافانا إلى الجزائر إلى العمق الآسيوي، كل ذلك جرى في هارمونية رومانسية عالية، لا تعرف الحدود، سعياً وراء أسطورة خلاص لعالم أفضل وغد أكثر إشراقاً ونبلاً.
ولعل الفضاء العربي كان له عوناً في بلورة تلك الأفكار التي ما كان جيفارا يكون بدونها، وهو ما ينبغي أن نعتزّ به أيّما اعتزاز ونعيد قراءته، بما فيها انتقاداتنا السابقة للتوّجه الجيفاري، حتى وإن كان بعضها على صواب، ولكن القراءة الارتجاعية للتاريخ وللأفكار، وبشكل خاص ما أفرزته الممارسة، وما أثبتته الحياة، تعطي نكهة خاصة، لا سيما إذا كانت المراجعة جريئة والنقد شجاعاً والهدف مخلصاً والقصد صميمياً.
وإذا كان جيفارا قد تمثل روح سيمون بوليفار، فإن كاسترو تمثل روح الزعيم الوطني الكبير خوسيه مارتيه، الذي كان شاعراً وكاتباً وخطيباً وصحافياً معروفاً، أسس الحزب الثوري الكوبي عام 1892 لمقاومة الاستعمار الإسباني وأعلن الاستقلال العام 1895 وأبدى بطولة نادرة، وقتل خلال المعارك دفاعاً عن كوبا من قبل المستعمرين والغزاة الإسبان.
لقد وجد جيفارا في المعارض المغربي المهدي بن بركة خير صديق له في حلمه الثوري مثلما وجد بن بركة في جيفارا نموذجاً للرومانسي الحالم المستعد للموت في أية لحظة وعلى أية أرض، إن بحثهما عن الحرية ومعنى الوجود الإنساني دفعهما للتقارب والتماهي أحياناً، في إطار الثورة التي ظلّت فناراً هادياً لهما. أراد بن بركة حل معادلة الداخل- الخارج، والعامل الذاتي بتلقيحه بالعامل الموضوعي، والبعد الوطني- العروبي- الإفريقي، بالبعد الكوني- الأممي، لا سيما الأميركي اللاتيني، ولعل في ذلك كان جديراً فهو متمرسٌ في النضال وكان أستاذاً للرياضيات من بين تلامذته الملك الحسن الثاني، واضطر للهروب إلى الجزائر وتنقّل بين عدد من العواصم والبلدان حاملاً قضية التحرر والتضامن الإنساني بين يديه من الجزائر إلى القاهرة إلى جنيف إلى روما إلى هافانا إلى إفريقيا، مثلما وجد في منظمة التضامن الآفروآسيوي التي تأسست العام 1957 منبراً يستطيع من خلاله يرفع صوت المغرب وإفريقيا وجميع قوى التحرر.
وكان جيفارا الوجه الآخر لبن بركة، فقد أراد الخروج من دائرة نضال أميركا اللاتينية إلى جبهة القوى التحررية على النطاق العالمي، لا سيما بالاستفادة من التحالف مع الدول الاشتراكية، ومع المناضلين ضد الرأسمالية في الغرب.
ومثل بن بركة أراد جيفارا منظمة التضامن الأفروآسيوي منصة ينطق من عليها باسم أميركا اللاتينية، حيث اعتبرت كوبا منذ مؤتمر القاهرة العام 1961 عضواً مراقباً فيها، خصوصاً في إطار مناقشات للجنة الاستعمار الجديد التي كان يترأسها المهدي بن بركة.
خلال التحضير لمؤتمر هافانا للقارات الثلاث: حصل الانقلاب على بن بلّه وأطيح به في 19 يونيو 1965، وبعدها أطيح بالزعيم الإندونيسي سوكارنو في ظل مذبحة لليسار والشيوعيين، ثم شهدت اختفاء جيفارا في مهمة ثورية في الكونغو، وأخيراً اختفاء المهدي بن بركة قسرياً في باريس في شهر أكتوبر، ولم يظهر له أثر حتى الآن ولم يتم إجلاء مصيره.
وكان بن بركة قد زار هافانا للتحضير للمؤتمر قبل شهر واحد من تاريخ اختفائه، أي في يوم 29 سبتمبر 1965 ورغم أن المؤتمر انعقد لاحقاً في هافانا في شهر ديسمبر العام 1966، أي أنه تأجّل نحو عام وحضرته وفود يسارية من العالم العربي، لا سيما من سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، إلا أن رموزه الأساسية كانت قد غابت، وهو ما ترك فراغاً كبيراً.
لقد وجد المهدي بن بركة في صداقة جيفارا تكاملاً نضالياً، فهو الآخر كان يسعى للتضامن منذ أن اضطر للهروب من المغرب إلى الجزائر، وحكم عليه لاحقاً غيابياً بالإعدام، وهو المناضل الذي قاوم الاستعمار الفرنسي وأنشأ حزب الاستقلال وترأس مجلسه الاستشاري حتى العام 1959. وقاد المهدي بن بركة تحركاً واسعاً في الخارج، وكان أهم وأكبر عمل يقوم به هو التحضير لمؤتمر القارات الثلاث، الذي تربصت به الولايات المتحدة وحلفاؤها.
مثلما كان المناضلون يسعون للتضامن، فإن الأجهزة الأمنية المعادية في الدول الكبرى ودول إفريقيا وآسيا كانت متضامنة مع بعضها، بل داعمة ومساندة ومشاركة لها وإنها -كما هي العادة- الأكثر انسجاماً مع نفسها، ويشهد على ذلك اجتماعات وزراء الداخلية في العالم العربي، ولم يكن أحد يتخيّل حينها، أن يختفي المهدي بن بركة بكل ثقله وجبروته وزعامته من مقهى ليب في قلب باريس، ويضيع له كل أثر منذ ذلك الحين وحتى الآن، رغم وجود روايات عديدة، وهو ما أصاب جيفارا بصدمة كبيرة.
أطلق على المهدي بن بركة "سفير الثورة المتجوّل"، لما لعبه من دور من خلال أسفاره ولقاءاته تحضيراً لمؤتمرات ومشاركة في حوارات، وأصبح سفيراً عالمياً، لم يعد مغربياً أو عربياً أو إفريقياً أو آسيوياً أو أميركياً لاتينياً، إنه مثل جيفارا خرج من محليته ليصبح كونياً، أمميا، إنسانياً، حالماً لتحرير العالم وإلغاء الظلم والاستغلال.
ولعل اختفاءه كان له تأثير رمزي ومعنوي سلبي على الحركة التحررية العالمية، التي فقدت بخسارته، رجلاً مجرّباً وإنساناً شجاعاً، ومناضلاً عابراً للقُطريات والقوميات والهويات المحلية، ليتحدث بلسان العالم الحر الرافض للعبودية والاستغلال، وقد يكون تفسير ذلك منطقياً بأن من أراد إخفاءه أو تغييب صوته، كان يدرك أية ضربة يمكن توجيهها ضد حركة التحرر الوطني الصاعدة آنذاك، حتى وإن اقتضى ذلك ارتكاب جريمة في وضح النهار وفي فرنسا، بل وفي قلب باريس بالذات، بلد الحريات والحقوق، فالمرتكب لم يكن يتورّع عما يمكن أن تجلب فعلته تلك من ردود فعل عالمية، لا سيما وهي جريمة ضد الإنسانية وضد شخصية عالمية مرموقة.
كان انعقاد مؤتمر القارات الثلاث بناء على اقتراح من المهدي بن بركة وبالتنسيق مع صديقه جيفارا، لا سيما بعد الإعلان عن فصل كوبا من منظمة الدول الأميركية في فبراير عام 1962، وهو ما أعلنه بن بركة قبيل اختطافه بأن المؤتمر القادم سينعقد في هافانا، وكان هذا يعني بحساب تلك الأيام شيئاً كبيراً وتضامناً عالمياً وتحدّياً جريئاً، وجاء ذلك على لسانه مع المؤتمر الرابع للمنظمة الأفروآسيوية المنعقد في أكرا في مايو 1965 وبدعم من الصين والاتحاد السوفييتي في حينها.
باحث ومفكر عربي      
      
صحيفة العرب القطرية  العدد 7876- الاثنين 4 يناير 2010 م - الموافق 18 محرم 1431 هـ   

1080
المنبر السياسي / كوابح التسامح
« في: 21:23 30/12/2009  »
كوابح التسامح
عبدالحسين شعبان

أقرّت اليونسكو قبل نحو عقد ونصف من الزمان يوماً عالمياً للتسامح، ودعت إلى نشر قيمه وتعميمها، لا سيما من خلال التربية والتعليم ووسائل الثقافة والإعلام وصولاً إلى المشترك الإنساني الذي يجمع بين البشر ويوحدّهم في إطار المساواة، رغم اختلاف منابع ثقافاتهم وتنوّع مشارب حضاراتهم، وقد أدركتْ أن نقيض التسامح هو اللاتسامح، الأمر الذي سيؤدي استفحاله إلى التعصب والتطرف، ولهذا السبب فقد اتجهت إلى وضع إعلان لمبادئ التسامح لتأكيد التقارب والتعايش بين الأمم والشعوب والأفراد، بهدف وضع حد للظواهر التي قادت إلى العدوان والحروب والمنازعات والتناحر والعنف.

وبهذه المناسبة نظّم المنتدى العربي في روتردام وبالتعاون مع جامعة روتردام الإسلامية وبحضور عربي وهولندي وأوروبي كثيف ومتميز، ندوة فكرية - أكاديمية عن قيم التسامح، وقد أعيد طرح سؤال ظل يشغل عدداً من المثقفين والباحثين لسنوات طويلة وهو: هل يوجد تسامح لكي ننظم ندوة متخصصة لبحثه سواء في النظرة إلى الغرب أو نظرته إلى الاسلام؟ أو أن غيابه أو ضعفه يدعونا لتنظيم فاعليات فكرية وثقافية للتذكير بجوهر ومبادئ التسامح، لا سيما لمناسبة إقرار اليونسكو يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام يوماً عالمياً للتسامح منذ العام 1996. وأتذكر أن البروفيسور خليل الهندي كان قد طرح سؤالاً في ندوة نظمتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن عام 1996: هل يوجد تسامح في ما بيننا لنعقد ملتقى فكرياً حول البحث عن الحاجة إلى التسامح مع الآخر؟

ولعل هذا السؤال المزدوج والمركّب ظلّ يتردد بأشكال مختلفة على ألسنة الكثير من المفكرين والكتاب والاعلاميين نفياً أو إيجاباً، إقراراً بواقع أليم أو أملاً وهدفاً في واقع جديد يتّسم بالتسامح.

ويمكن للباحث عن الحقيقة أن يلحظ أن الحصيلة المهمة الأولى كانت تنصب أولاً على تأكيد القيم إيماناً أو كأمر واقع سواءً اتّسم بالتسامح الايجابي أو التسامح السلبي، بفعل وجود تشريعات وأنظمة ودرجة تطور اجتماعي، لا يمكن معها الدعوة الى اللاتسامح.

ثم البحث في الكوابح التي تقف حجرا عثرة أمام نشر وتعميم قيم التسامح. وهذه القيم تقتضي الابتعاد عن لغة التخوين والتكفير والتأثيم والتحريم والتجريم والتخلّي عن لغة الاقصاء والاستئصال وعدم الاعتراف بحق الاختلاف أو التنكّر للتعددية والتنوع، ولعل هذا التوجه يفترض تأكيد هذه القيم مع بعضنا بعضا أولاً وقبل كل شيء، ومن ثم بيننا وبين الآخر.

أما الوجه الثاني فيقوم على التخلّص من النظرة المسبقة إزاء الآخر باعتباره خصماً متربصاً أو عدواً مارقاً، لمجرد الاختلاف، ويقتضي الإيمان بقيم التسامح تنزيهها عن الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ العدالة وتصويرها وكأنها دعوة للاستسلام أو لنسيان الارتكابات للجرائم وللانتهاكات، سواء في فلسطين أو العراق أو لبنان، وهو الأمر الذي ينبغي تأكيده باعتبار قيم التسامح لا تعني غض الطرف عن التجاوزات والممارسات المعادية لحقوق الإنسان، سواءً ممارسة التعذيب أم الاغتصاب أم القتل الجماعي أو جرائم الحرب أم غيرها، لا سيما وأن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم حسب القانون الدولي الإنساني.

وبهذا المعنى فإن قيم التسامح تعني إقرار حق الآخرين في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية، وعلى المستوى الفردي حق الإنسان في التمسك بمعتقداته والدفاع عنها في إطار الوئام والمشترك الإنساني، أي حقه في الاختلاف.

وهكذا فإن قيم التسامح تطورت من منظومة أخلاقية وواجب أدبي، لتصبح قاعدة قانونية وسياسية واجبة الأداء.

وإذا كان عالمنا العربي والإسلامي لا يزال يعاني من عدم التسامح أو ضعف قيمه فإن البحث في هذا الاطار، لا سيما عقد ندوات ومؤتمرات وورش عمل إنما يستهدف في هذا الوقت العصيب توجيه رسالة أو نداء إلى المجتمع الدولي يؤكد حاجتنا كعرب ومسلمين إليه داخل مجتمعاتنا وفي العلاقة مع الآخر، لا سيما في إطار ابداء الاستعداد للتعايش والتفاهم والسلام ببعده الإنساني، وهو ما عبّر عنه الباحث والكاتب التونسي د. خالد شوكات في ندوة جامعة روتردام التي تم تنظيمها بالتعاون مع المنتدى العربي في روتردام الذي يترأسه، وهو ما دعا البروفيسور التركي اقندوز رئيس الجامعة، للقول أن نداء التسامح ليس موجّهاً إلى المسلمين فحسب، بل إنه موجه إلى بني البشر ككل مسلمين وغيرهم. وإذا كانت الندوة ضمّت كفاءات وخبرات عربية وهولندية، فإن السؤال ظل يتردد: إذا كنا حقيقة بحاجة إلى “التسامح” فلنبدأ بأنفسنا أولاً، ثم كيف السبيل للتمثل بقيمه واعتمادها مرشداً لتوجهاتنا؟

وإذا كنّا نتحدث عن أنشطة وفاعليات خاصة بالتسامح، فلا بدّ من الإشارة الى تأسيس الشبكة العربية للتسامح التي منحت جائزتها الاولى الى الدكتور سليم الحص وإلى رمزية ودلالة اختيارها، ولا بدّ أيضاً من التوقف عند دعوة غاندي إلى روح التسامح واللاعنف، حيث يقول في رسالته من السجن: لا أحبّ التسامح ولكني لا أجد وسيلة أفضل منه للتعبير عما أقصده، رغم أنه ذهب ضحية اللاتسامح العام ،1948 يوم قام أحد اللامتسامحين باغتياله، مع أنه حقق نصراً كبيراً لشعبه وكان بحق زعيماً تاريخياً له، ولعل بهذه المناسبة يمكن استحضار كيف أن  ثلاثة من الخلفاء الراشدين قد قضوا نحبهم اغتيالاً وهم عمر وعثمان وعلي في فترة مشرقة من التاريخ العربي- الإسلامي، وذلك لضعف بيئة التسامح التي تحتاج إلى تراكم طويل الأمد.

إن الكوابح التي تواجه التسامح قسم منها يعود إلى أسباب فكرية تتعلق بحجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير، والأخرى سياسية تتجسد باحتكار الحكم والسعي للحفاظ عليه وتبرير مصادرة الرأي الآخر واستئصاله، وثالثة دينية وذلك بالتمييز بحجة ادعائه الأفضليات ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حر، ورابعة اجتماعية بالسعي لفرض نمط معين من الحياة، في التفكير وفي المأكل والملبس والمشرب، وخامسة ثقافية لمنع التغيير والتجديد لدرجة يصبح الشعر الحديث بدعة وضلالاً ويتم تصويره وكأنه ضد التاريخ والتراث وربما مؤامرة كبرى، وتنسحب هذه التقييمات على الموسيقا والرقص والغناء والمسرح والنحت على نحو أشد.

يمكن القول إن هناك خمسة اتجاهات تتصدى لمبادئ وقيم التسامح في عالمنا العربي والإسلامي وهي:

الاتجاه الأول الذي لا يعترف بالتسامح وهو ما نطلق عليه التيار الانكاري، فالتسامح حسب هذا التوجه، “نبت شيطاني” و”فكر مستورد” يستهدف تشويه الإسلام، أو حرفه، لذلك اقتضى مواجهته حفاظاً على نقاء الإسلام.

أما الاتجاه الثاني فهو التيار الذي يدّعي الأفضليات، بانساب كل شيء إلى الإسلام، وأغلاق باب العقل، لا سيما من خلال قراءة جامدة، حيث التشبث ببعض الشكليات، وعدم الرغبة في التعاطي مع روح العصر وسمته الديناميكية، وهكذا تكون “بضاعتنا قد ردّت إلينينا”. ولعل هذا التيار ينفي التفاعل والتخالق مع الآخر، وهو بقصد أو من دون قصد يدعو إلى عزل الإسلام عن الكيانات والحضارات والشعوب الأخرى لكي لا يؤثر ولا يتأثر بغيره من الإضافات إلى الفكر الإنساني، الأمر الذي لا تؤيده مبادئ الإسلام الحنيف التي تدعو إلى التواصي والتآزر والتعارف واحترام الحقوق والكرامة الإنسانية، وهي قيم تصب في صميم فكرة التسامح، التي لا تعني المسلمين وحدهم، بل تهم البشر ككل.

أما التيار الثالث فهو التيار التوفيقي الذي يحاول أن يوفّق بين الإسلام وغيره من التوجهات الفكرية، ومهما كانت النوايا والدوافع طيبة، إلاّ أنها لم تفلح في السابق حين جرت محاولات لتعشيق الإسلام مع الاشتراكية أو الديمقراطية وحقوق الإنسان، فلكل حقله ومجاله، في حين أن التيار الرابع هو تيار تغريبي حين يدعو إلى قطع الصلة بالتراث والتاريخ، لا سيما الإسلامي إذا ما أردنا الدخول إلى عالم الحداثة، حيث يؤلف التسامح جزءًا من قيمها العصرية، الحداثية.

ويتأسس التيار الخامس على نحو حر مستفيداً من التراث والتاريخ ملحقاً ذلك بعالم الحداثة، الذي يقوم على العقلانية والعلمانية والإنسانية والديمقراطية، متكئاً على تاريخنا وتراثنا بما فيه من قيم التسامح ابتداء من حلف الفضول إلى دستور المدينة إلى صلح الحديبة إلى العهدة العمرية إلى قواعد فتح القطسنطينية، زائداً ما ورد في الكتاب الكريم والسنّة النبوية في تأكيد قيم التسامح وما يدّل عليها، حتى وإن لم ينصّ عليها كمصطلح في القرآن، لكن الاشارة كانت قد وردت في ما يخصّ التآزر والتعارف والتقوى والتراحم والرحمة والعفو وعدم الاكراه، وغيرها. وهي قيم كانت المسيحية قد سبقت الإسلام إليها والتي تشكل أساساً في حركة التنوير والحداثة لاحقاً، لا سيما ما بشّر به فولتير.

لعل قيم التسامح التي اتبعها الإسلام الأول الراشدي تتطلب إعادة النظر بقراءة ارتجاعية لتاريخنا وتأصيل لحاضرنا، لتأكيد وتعزيز قيم التسامح بعيداً عن التاريخ المعكوس أو المغلق أو الساكن، وإنما ربطه بما هو حاضر وما يتسم به من حداثة ومعاصرة بحيث تكون البيئة صالحة لتفقيس بيوض التسامح اجتماعياً وتربوياً وتعليمياً وثقافياً ومن خلال تشريعات وعبر الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني التي يمكن أن تؤدي دورها المنشود على هذا الصعيد.

لقد أصبح التسامح حاجة ماسة، ولم يعد ترفاً فكرياً فنقيضه هو اللاتسامح والتعصب والاستئثار ورفض الآخر، إنه مسؤولية قيمية وواقعية للإقرار بالحقوق والتعددية وحكم القانون والديمقراطية، وهو أمر ينطوي على نبذ الدوغمائية والاستبدادية وادعاء احتكار الحقيقة، سواءً على المستوى الداخلي أو المستوى الدولي، فنزعات الهيمنة واملاء الإرادة والاكراه والحروب والحصارات والاحتلال، كلّها تتعارض مع قيم التسامح.

 باحث ومفكر عربي   

صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 30/12/2009

1081

كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (9) جيفارا والمهدي بن بركة.. غياب غامض!
      
   
عبدالحسين شعبان    


2009-12-29
«لحيةٌ، شعرٌ طويل، بدلة عسكرية خضراء، وبعض الجبال من دون موقع محدد في بلد لا يعرف أحد عدد سكانه، ولا أحد يعلم بأنه جزيرة».. بهذه الكلمات اختزل جيفارا «الثورة الكوبية» وهو يتحدث في القاهرة في أول زيارة لها في عام 1959، وقد أعيد نشر مداخلته تلك التي ذاع صيتها تحت عنوان «أميركا من على الشرفة الإفريقية والآسيوية» في سبتمبر 1959. ولعل جيفارا كان رساماً ماهراً في التعبير عن تطلّع جيل الستينيات وأحلامه بما اتّسمت من عنفوان ورومانسية وآمال.
كانت مهمة جيفارا التعريف بالثورة الكوبية كسفير «مطلق الصلاحيات» بعد نجاح الثورة مباشرة، لكنه شعر أن أميركا اللاتينية قارة تكاد تكون مجهولة بالنسبة للعرب والأفارقة والآسيويين على حد سواء، فما بالك بكوبا الجزيرة البعيدة، ولذلك قدّر ثقل مهمته، فضلاً عن أنه هو الآخر شعر بأن الكثير من العالم العربي والإسلامي وشعوب آسيا وإفريقيا كانت مجهولة بالنسبة إليه، وهو ما عبّر عنه في مداخلته تلك حين قال «ونحن نجهل جزءاً كبيراً من العالم».
ولعل جيفارا أراد بهذا التقديم التمهيد لجسر التواصل بحثاً عن المشترك الإنساني للقارات الثلاث، وهو ما كان شاغل صديقه المهدي بن بركة، الزعيم المغربي الذي اختفى قسرياً في باريس في خريف عام 1965، وهو يحضّر لمؤتمر القارات الثلاث مثل صديقه جيفارا، وينتقل من عاصمة إلى أخرى ليبشر بالثورة ويعمل لتحقيق تضامن عالمي من أجلها.
لقد كان هاجس المهدي بن بركة وجيفارا إضافة إلى الزعيم الجزائري أحمد بن بلّه ومصر عبدالناصر وعدد من قادة دول عدم الانحياز، تنسيق الجهود لتحرير إرادة المُستغَلين ومواجهة أسباب الاستغلال وتحدي مسبّبيه، لاسيَّما الاستعمار والرأسمالية الاحتكارية العالمية التي نهبت خيرات وموارد شعوب القارات الثلاث: أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وهذا السبب بحد ذاته يمكن أن يكون عامل اشتراك بين القوى التحررية من أجل الانعتاق والاستقلال واستعادة الثروات المسروقة، وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية.
ورغم أن علاقات أميركا اللاتينية مع العرب تمتد إلى زمن بعيد، منذ وصول المستعمرين الإسبان في القرن الخامس عشر، وفيما بعد المستعمرين البرتغاليين، الذين أسهموا في فتح حلقة اتصال مع الحضارة العربية-الإسلامية، فإن العلاقات ظلّت شحيحة ومحدودة. كانت كوبا الجزيرة الوادعة الجميلة شبه مجهولة قبل الثورة، لكنها أصبحت بوابة أميركا اللاتينية بعدها، وكان لجهود جيفارا وعمله الحثيث، لاسيَّما صداقاته مع المهدي بن بركة وأحمد بن بلّه وعبدالناصر، دور في ذلك حيث تم بناء جسور بين القارات الثلاث عبر المشترك في الأهداف والمصالح والسعي لتقريب المواقف والتوجّهات.
ولعل من المناسب الإشارة هنا إلى أن كوبا هي أول أرض في أميركا اكتشفها كريستوفر كولومبس، وعُدّت مستعمرة إسبانية منذ ذلك التاريخ، ولم تتمكن من التحرر من الاستعمار الإسباني إلا بحرب طويلة ودامية دامت نحو 30 عاماً، من عام 1868 إلى عام 1898، وعندما كانت وحدات المقاومة الكوبية تهاجم الجيش الإسباني عام 1868 كانت كوبا تعيش ازدواجية اجتماعية وسياسية، فمن جهة كان الإسبان يستغلون الكوبيين، ومن جهة أخرى كانت توجد أعداد كبيرة من العبيد في كوبا، ولكن المقاومة استطاعت توحيد الصفوف، فانضم الزنوج إليها، وهم بذلك تحرروا من العبودية من جهة، وحرروا بإسهاماتهم مع الكوبيين الآخرين كوبا من الاستعمار الإسباني.
وقد تدخلت الولايات المتحدة عشية حصاد نتائج التحرير، مستغلة انفجار الباخرة العسكرية الأميركية «مني» في كوبا، ونزل الأميركيون في سانتياغو الكوبية واستولوا على الجزيرة، الأمر الذي جعل استقلال كوبا مشوباً بالشبهة، واستخدمت واشنطن كوبا فناءً خلفياً، لاسيَّما لكبار المحتكرين الذين استغلّوها كمنتجع رخيص وعملوا على نهب ثرواتها.
واستمرّ الأمر على هذه الصورة حتى انتصرت الثورة في مطلع عام 1959 بعد بداية انطلاقتها بالهجوم على ثكنة مونكادا في 26 يوليو 1953، هذا الهجوم الذي مُني بالفشل وتحوّل إلى نكبة على حد تعبير جيفارا، حيث سجن الأحياء، لكنهم عادوا بقيادة كاسترو إلى النضال الثوري بعد حصولهم على العفو، بحرب عصابات مثّلت طليعة كما قيل إزاء خدر الشعب التي سعى المقاومون لتحريكه، وقد مثلت الطليعة «الضمير الثوري» وكانت وسيطاً لخلق الظروف الذاتية الضرورية للانتصار. وهذه الفكرة هي التي شكّلت جوهر حركة الكفاح المسلح التي راحت في الستينيات. وإذا كان سيمون بوليفار قد مثّل بطولة أميركا اللاتينية وساعد في نجاح نضال العديد من دولها في الحصول على الاستقلال من إسبانيا، ودعا إلى اتحاد فيدرالي بين دولها الناطقة بالإسبانية، فإن جيفارا مثّل تطلع الشباب وحيويته، وكأنه في نضاله كان أقرب إلى مغامرته لقيادة دراجته النارية مع صديقه ألبيرتو غرانادو التي قطع فيها أميركا من جنوبها وحتى شمالها، مثلما قطع جيفارا رحلته الشيّقة ومغامرته النضالية الممتعة من جبال السيرامايسترا وحتى بلغ كماله في موته المبجّل في كيبرادا ديل ورو في بوليفيا يوم وقع أسيراً ثم شهيداً في الوادي الضيق شديد الانحدار يوم 8 أكتوبر 1967، ذلك الوادي الذي ذكّرني بمنطقة نوكان (ناوزنك) في كردستان العراق، تلك المنطقة الحدودية النائية، التي لا يعيش فيها إلا «الخنازير» (تعبير كان القصد منه الصبر والجلد وقوة الاحتمال، لاسيَّما وعورة المنطقة ومناخها القاسي، حيث تصل درجات الحرارة في الشتاء إلى نحو 20 درجة تحت الصفر) على حد تعبير بعض الفلاحين أو المتعهدين الذين يزورون المنطقة كل بضعة أسابيع، حيث كان الوادي عميقاً وانحدار النهر شديداً والمياه سريعة، وفي إحدى المرات جرفت معها خيام الشيوعيين الأنصار وبعض المباني الطينية، التي كانوا يضطرون للعيش فيها، فضلاً عن اضطرارهم إلى تركها عندما تقدّمت القوات الإيرانية باتجاههم.
وحسب بعض المعلومات فإن الكثير من المهاجرين العرب، لاسيَّما من المسيحيين في سوريا ولبنان وفلسطين، أخذوا يتوافدون على أميركا الجنوبية، منذ عام 1875 ويقدر عددهم اليوم بنحو 18 مليون نسمة من أصول عربية يعيشون في أميركا اللاتينية.
وإذا كان الاهتمام بما كتبه جيفارا كبيراً، فإن الكثير من الكوبيين اليوم يعرفون، بالقدر نفسه من الهيبة والاعتزاز، أن جيفارا بلور أفكاره الرئيسية في العالم العربي ومع أصدقاء عرب، ولعل هذا ما نجهله نحن، وربما لم نعطه حقه بما فيه الكفاية، وهو يحتاج إلى عمل متواصل، أرشيفي ووثائقي، وحوارات ومقابلات مع من التقاهم وتحدث إليهم وكانوا قريبين منه، ولعل الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل يمكنه أن يكشف جانباً من هذه العلاقة مع عبدالناصر وربما مع بن بله (الذي كتب شهادته بشكل مقتضب ولكنه مهم جداً) والمهدي بن بركة، بحكم لقاءاته غير القليلة مع جيفارا وصلته بعبدالناصر، وذاكرته الخصبة، وما تراكم لديه من معلومات ووثائق.
لقد لعبت ظروف جيفارا، لاسيَّما مكانياً وزمانياً وعلاقته مع عبدالناصر وبن بلّه والمهدي بن بركة دوراً كبيراً في صياغة منظومة أفكاره أو في التأثير على تلك الصياغة، بحيث اقترب إلى حدود غير قليلة من توجهات الزعماء الثلاثة رغم ماركسيته، مثلما هم اقتربوا منه وتأثروا به وصار الجميع يكمّل بعضه البعض!
لعب المهدي بن بركة مثل صديقه جيفارا دوراً في بلورة خطة قبول كوبا وعضوية دول أميركا اللاتينية في المؤتمر الذي كان مزمعاً عقده في هافانا، والذي انعقد بعد رحيله، وكان قد صاغ مع جيفارا برنامج «التحرير الكامل» بدعم من الدول الاشتراكية، لاسيَّما الصين والاتحاد السوفييتي في حينها وهو البرنامج الذي تضمن عدة أهداف منها:
- مساعدة الحركات الوطنية التحررية وبخاصة منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) وكانت كوبا قد أقامت علاقات معها ومع منظمة فتح التي تأسست في 1/1/1965.
- تعزيز وتعميق النضال السلمي والمسلح في القارات الثلاث.
- دعم ومساندة الثورة الكوبية.
- العمل على إلغاء القواعد العسكرية الأجنبية للدول الإمبريالية.
- تشجيع سياسة نزع السلاح، لاسيَّما تحريم الأسلحة النووية.
- النضال ضد العنصرية والتمييز العنصري.
وإذا كان ثمة تغييرات كبيرة قد حصلت على الصعيد العالمي، فإن برنامج المهدي بن بركة-جيفارا ما زال حتى هذه اللحظة يحظى من حيث الجوهر باهتمام غير قليل، لاسيَّما ما تضمنه من أهداف بعيدة أو قريبة، لكن غيابهما الغامض أضفى عليه نوعاً من الروتينية، وهو ما كانا بحيويتهما يتجاوزانها لأفق أكثر رحابة وشفافية.

1082
جدل هادئ للفيدرالية الساخنة في العراق


عبدالحسين شعبان

تأسست الدولة العراقية في 23 أغسطس/آب ،1921 بتنصيب فيصل الأول ملكاً على العراق، لاسيما بعد فشل ثورة العشرين في تحقيق أهدافها في الاستقلال وحق تقرير المصير، وبدلاً من الحكم البريطاني المباشر بعد احتلال العراق 1914- ،1918 فقد اتجهت النيّة لفرض صيغة الانتداب، وإعلان تأسيس المملكة العراقية وتشريع دستور لها “النظام الأساسي” في العام ،1925 وهو الذي حدد طبيعة الدولة العراقية الجديدة التي انفكّت من الدولة العثمانية، بمكوناتها المختلفة .

لكن الاستفتاء على إقامة المملكة العراقية لم يشمل جميع أرجاء العراق، حيث كان الشيخ محمود الحفيد قد نصّب نفسه ملكاً على كردستان من السليمانية، لشعور بالإجحاف إزاء حقوق الكرد، التي جاء الإقرار بجزء منها في معاهدة سيفر العام ،1920 لكن هذه الحقوق تمت المساومة عليها في معاهدة لوزان العام ،1923 وهكذا لم تؤخذ وجهة نظر الكرد إزاء الكيان العراقي، الذي هم جزء منه .

ومنذ العام 1921 حتى العام 2003 كانت الدولة العراقية دولة بسيطة مركزية في إطار التصنيف القانوني لطبيعة الدول، ونظامها السياسي يمتاز بالمركزية البيروقراطية الشديدة الصرامة، إلى أن حصل حراك سياسي واجتماعي جديد، كان قد بدأت ارهاصاته أيام المعارضة العراقية حول طبيعة الدولة، حيث برز ميل إلى تبنّي فكرة دولة اتحادية “فيدرالية” . وكانت المعارضة العراقية في مؤتمر فيينا (يونيو/حزيران) 1992 قد وافقت على مبدأ حق تقرير المصير للشعب الكردي بتقييده بعبارة “دون الانفصال” التي كتبها الرئيس الحالي جلال الطالباني بخط يده وبقلمه، وبعد إقرار البرلمان الكردستاني النظام الفيدرالي (من طرف واحد) كصيغة مقترحة للدولة العراقية في 4 اكتوبر/تشرين الأول ،1992 إثر إجراء الانتخابات لأول مرّة في كردستان (مايو/أيار 1992) وافقت المعارضة العراقية في مؤتمر صلاح الدين نوفمبر/تشرين الثاني 1992 على فكرة النظام الفيدرالي، وإن تحفّظ عليها الإسلاميون بوضع مرادفات لها (نظام الولايات) بما يدّل على الفيدرالية .

انتقل النقاش والجدل بعد الاحتلال ليشمل قوى وتيارات سياسية أخرى من داخل العملية السياسية ومن خارجها حول طبيعة الدولة، ففي قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (2004) تم اقرار نص على كونها “دولة فيدرالية - برلمانية” وهو ما أكدّه دستور جمهورية العراق، الذي تم الاستفتاء عليه في 15 اكتوبر/تشرين الأول 2005 وأجري الاستفتاء على أساسه في 15 ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته .

وبغض النظر عن الملاحظات والاعتراضات والتحفظات حول الدستور لكن موضوع الفيدرالية الذي أقرّ دستورياً ما زال يثير الكثير من النقاشات التي تتعلق بالخلفيات الفكرية والأيديولوجيات لبعض القوى، ومواقفها واصطفافاتها تاريخياً، ناهيكم عن تخوّفات بعضها بشأن مستقبل العلاقة العربية - الكردية، لاسيما وقد نشأت بعض الهواجس بشأن موضوع الانفصال أو التقسيم وهو ما راج بعد الاحتلال بشكل خاص، الأمر الذي تقابله مخاوف العودة إلى المربع الأول، لاسيما الدولة المركزية، وهضم حقوق الكرد والأقليات الأخرى، واحتمال اندلاع العنف .

وبين هذا وذاك تبرز قضايا فكرية خلافية، وأسئلة حارة حول الدولة المركزية والدولة الاتحادية، وأي منهما يمكنه تأمين وحدة العراق، ثم أية وحدة مطلوبة؟ هل هي وحدة قسرية إكراهية أم طوعية اتفاقية؟ فالوحدة الأولى ستلغي حقوق الآخرين، رغم أنها قد تحافظ على كيانية موحدة شكلاً، لكنها مقسّمة فعلاً، في حين أن الوحدة الثانية هي التي تؤمن الاعتراف بالمساواة وبالحقوق وبالتالي يمكن أن تضمن قيام واستمرار وحدة صلبة طوعية على أساس مواطنة متساوية تكون بديلاً عن وحدة قسرية . ولعل هذه الأمور لا تزال بحاجة إلى نقاش هادئ رغم سخونتها .

وبالمقابل فإن الحل الفيدرالي لم يكن سالكاً رغم ان الكرد مارسوا “حقهم” كتحصيل حاصلde facto  حتى قبل الاقرار به دستورياً بعد الاحتلال، وهو ما  أثار مخاوف قوى وكيانات كبرى أو صغرى، أساسية أو فرعية، الأمر الذي له علاقة بثلاث قضايا أساسية: الأولى قصر عمر التجربة والصراع بين أطرافها وزاوية النظر اليها، الثانية بروز بعض النزعات المبالغة في كياناتها الخاصة لدى جميع الاطراف، وبخاصة في المناطق التي سمّيت متنازع عليها، لاسيما كركوك الثالثة الالتباسات والتفسيرات المختلفة الواردة في الدستور، وهناك نقطة رابعة هي ما ورد في الدستور من صلاحيات، يحسبها البعض تتعارض مع المبادئ الدستورية العامة، في حين يعتبرها البعض الآخر “خصوصية عراقية” للتجربة الفيدرالية الجديدة، لا بدّ من الإقرار بها، لاسيما أنها تكوّنت عبر مسيرة الحكم الذاتي وهيئاته منذ العام 1974 حتى وإن كانت شكلية أو ناقصة أو مبتسرة، الاّ أن وجود كيانية خاصة يعني أن ثمة شكلاً من “الاستقلالية الذاتية” في التشريع والتنفيذ فضلاً عن بعض الصلاحيات الأخرى .

ولما كانت صيغة الحكم الذاتي السابقة قد وصلت إلى طريق مسدود، فإن صيغة الفيدرالية أريد بها تعويض وضمان للعلاقة العربية - الكردية في العراق . ويوم جاءت ساعة التنفيذ لما اتفقت عليه المعارضة، حصل نوع من الشدّ والجذب، لكن الأطراف المختلفة وافقت كلٌ لأغراضه على الصيغة الواردة في الدستور المثيرة للإشكال والاختلاف والتعارض، ولعلها ستبقى لغماً قابلاً للانفجار إن لم يتم نزعه بطريقة ماهرة .

إن دراسة التجربة الإيجابية لفيدراليات ناجحة في نحو 25 بلداً ونحو 40% من سكان البشرية، يمكن أن يسهم في تعزيز الثقافة الحقوقية الديمقراطية القائمة على التعايش والتوازن في الحقوق والاعتراف المتبادل في ظل مبادئ الدولة العصرية المستندة إلى المساواة والمواطنة، كما يبرز الجانب الإيجابي في العلاقة بين المكوّنات المختلفة .

ولعل هذا ما حاول الدكتور شيرزاد النجار الخبير في القانون الدستوري وأستاذ العلوم السياسية في جامعة صلاح الدين إظهاره من خلال التمهيد الذي كتبه مقدمة لترجمة دستور ولاية بافاريا، بعرض طبيعة النظام السياسي لجمهورية ألمانيا الاتحادية (الفيدرالية) مشيراً إلى أن في ألمانيا “نظام فيدرالي وبرلماني وديمقراطي” (المادة -20 من القانون الأساسي - الدستور - لعام 1949) ولا يمكن تعديل المبادئ التي تأسست عليها لأنها مبادئ جامدة أو خالدة المادة ،79 وهذا القانون هو الذي يحدد صلاحيات الاتحاد وتوزيع السلطات والمهمات بين الاتحاد والولايات، لاسيما عند تحديد اختصاص السلطات الاتحادية في ما يتعلق بالقوات المسلحة والعلاقات الدولية وقضايا العملة والموارد الطبيعية والخطط الاقتصادية الكبرى، وما عدى ذلك من اختصاص سلطات الأقاليم، وهذا بحاجة إلى استكمال هيكلياته وتأسيس مجلس الاتحاد وتحديد ممثلي الإقليم فيه أو الأقاليم في حالة تكوّنها .

باحث ومفكر عربي   

صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 23/12/2009

1083

النجف... والفرصة الواعدة!!


•    سسيولوجية النجف وتاريخها

النجف، هي المدينة التي تقع في طرف الصحراء، بالقرب من نهر الفرات المارّ بالكوفة، وتسمّى في أحيان كثيرة بالنجف الأشرف، تأكيداً على قدسيتها وعلى تقدير الناس لها.

ومن أسمائها الأكثر شهرة هي " الغري" و" وادي السلام" و" المشهد" و"النجف السعيد" وتكنّى بـ" خدّ العذراء"، وقد ارتبطت هذه الاسماء كلها بكون النجف ملتقى الأطراف المحيطة بها من حضر وبدو، وقبائل ووافدين، ومِللٍ ونحِلٍ، فهي بذلك " المشهد"، ولكونها أرضاً عاليه معلومة تصدّ الماء الذي ينجّفها، أي يحيطها، أيام السيول ولذا كانت "النجف"(1)، كما أنها تضم أكبر مقبرة في العالم، سواءً من أبناء العراق، أو ممن يُنقلون ليدفنوا فيها من بلادهم، ليكونوا على مقربة من الحرم العلوي لحضرة الامام علي بن ابي طالب، أي " الروضة الحيدرية" وهؤلاء في العادة من الشيعة الإمامية من مختلف ارجاء العالم الاسلامي، ومن هنا جاءت تسميتها  بمقبرة " وادي السلام" أو مقبرة الغري.(2)
وقد ورد اسم النجف في كتاب " تاج العروس" باعتبارها مسنّاة بظاهر الكوفة، تمنع ماء السيل أن يعلو منازلها، ويصفها ياقوت الحموي في "معجم البلدان" بأنها أعدل أرض الله هواءً، وأصحّها مزاجاً وماءً، كما ورد في " تاريخ الطبري" أن النعمان بن المنذر ملك الحيرة أعجبه ما رأى فيها من البساتين والنخيل والأنهار فبنى فيها قصر الخورنق أيام العصر الجاهلي، ويذكر الشيخ جعفر محبوبة في كتابه " ماضي النجف وحاضرها"، أن النعمان خرج الى ظهر الحيرة وكان معشاباً فمرّ بشقائق أعجبته، إضافة الى نبت الشيح والقيصوم والخزامى والزعفران والأقحوان، فقال من نزع شيئاً من هذا، أي من الشقائق
فانزعوا كتفه، وهكذا سميّت "شقائق النعمان". والنعمان بن المنذر هو بن امرؤالقيس أشهر ملوك الحيرة وتوفي قبل هجرة الرسول بنحو 15 عاماً. (3) ، وحسب المسعودي في مروج الذهب ظلّت النجف منتجعاً للملوك والأمراء وقد كان "النجف" سعيداً باقبال الناس على المدينة من كل حدب وصوب، امّا للزيارة أو للتعلّم في جامعتها لاحقاً.(4)
والواقع ان النجف كمدينة، هي الحد الفاصل أساساً للصحراء أو البادية الشاسعة الممتدة الى المملكة العربية السعودية، وبين الداخل العراقي بما يضمه من حضارات تمتد الى نحو سبعة آلاف عام في التاريخ، وقد ظلت ميداناً لتصارع قيم البداوة والحضارة حتى وقت قريب باستعارة تعبير العلاّمة الاجتماعي "علي الوردي(5) " باستلهام الفكرة  الخلدونية(6) ، وتعتبر النجف رابع المدن الاسلامية المقدسة بعد مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والقدس الشريف، فبالإضافة الى احتضانها الروضة الحيدرية، فهي دار هجرة الأنبياء ومواطئ الاولياء، وبها نزل النبي ابراهيم الخليل، ودفن فيها النبي هود والنبي صالح عليهم السلام جميعاً.
ولعل هذا المدخل يعطينا اطلالة أولية لفهم بعض جوانب الشخصية النجفية المدينية العراقية، الأمر الذي يبدو ضرورياً لمعرفة دور النجف الديني والسياسي والاجتماعي، فضلاً عن تأثيراتها في بناء الشخصية العراقية العربية، لاسيما في العهد الاسلامي، وهي شخصية مركّبة ومتراكبة بفعل الحضارات التي ولّدتها والتاريخ الذي عاشته والمعارف التي تحصّلت عليها.
لقد ابتدأت ملامح الشخصية النجفية التركيبية مع بناء مدينة الكوفة وهي الأساس، فعندما بُنيت الكوفة في بداية العصر الاسلامي تم بناؤها كقاعدة عسكرية تنطلق منها الجيوش الاسلامية المقاتلة للقيام بالفتوحات الاسلامية في آسيا، ولذا جمعت في داخلها مجموعات كبرى، من قبائل متفرقة، وعشائر مختلفة، كانت تأتي اليها لكونها محطة انطلاق القوات المقاتلة، وعندما أُنشئت النجف الى جانبها تحوّلت الى شكل مشابه لها، فنشأ فيها تجمع هائل لأهل الفكر من مختلف المشارب والمناهج.
مثّلت الكوفة في تلك الايام مدرسة خاصة في النحو والصرف واللغة والفكر، مقابل مدرسة البصرة، وكانت النجف متداخلة مع الكوفة ولصيقة بها، وهي الملتقى للآراء والأفكار المتفاعلة، وبما ان الكوفة كانت عاصمة الخليفة الراشد الرابع الامام علي بن ابي طالب خلال خلافته، فقد تجمّع فيها مؤيدوه، وعدد كبير من المفكرين والصحابة والتابعين، الأمر الذي أسهم في طبع النجف بطابع الفكر الاجتهادي، الذي ينشأ عادة عن التفاعل ما بين أصحاب الآراء والأفكار.
ولأن مدرسة الكوفة أبقت باب الاجتهاد الفقهي واللغوي مفتوحاً، بعكس مدرسة البصرة التي كانت أكثر محافظة، وحرصت بحكم ضغط موروثها وخصوصيتها على التمسك بما توارثت عليه، بل النظر بحذر الى مسألة التجديد، في حين شهدت الكوفة حركة تفاعل بين مختلف القبائل والعشائر والأفكار الفقهية واللغوية والعلمية، فقد ظلّت مفتوحة وتستطيع استيعاب واستقطاب الجديد والوافد وصهره في إطار بوتقها العربية، خصوصاً وأنها كانت لغة الدراسة التي لا يمكن التقدم دون الالمام بها واتقانها، الأمر الذي أوجد فيها وضعاً متميّزاً ومناخاً واسعاً وأفقاً رحباً كرسته بالاجتهاد وبدور العلماء في النجف، ولا ننسى هنا ان "السلفية" نشأت في البصرة ومنها خرجت الى الحجاز، بينما نشأ في الكوفة والنجف كبار المجتهدين في الفكر الاسلامي والشعر والأدب، انطلقوا من الموروث الى رحاب التجديد على الصعيد الفكري واستشرافاً مستقبلياً لتطوره.
وقد ظلت قراءة القرآن السائدة في العالم الاسلامي اليوم، وبخاصة في آسيا، هي القراءة الكوفية أي قراءة حفص بن عاصم الكوفي، وقد سادت هذه القراءة  في بلاد الشام أيضاً مقارنة بقراءة عبدالله بن عمر الشامي، وقراءة ابو عمر بن العلاء البصري، وسادت على كل القراءات حتى أصبحت القراءة المعتمدة، لأن الكوفة كما ذكرنا هي المحطة التي يلتقي فيها الجميع ويحملون منها فيما يحملوه القراءة الكوفية التي تُعتمد الآن في المصاحف التي تطبع وتوزّع في العالم كله.
بالمقابل نجد ان القراءة التي انتشرت في افريقيا، كانت قراءة أهل المدينة، وهي قراءة نافع بروايتي ورش وقالون، وظلّت هي الاساس في الدول الاسلامية الافريقية.(7)
لا بد من الاشارة هنا الى ان الشخصية العراقية المركّبة بما فيها الشخصية النجفية المتميزة، هي شخصية عروبية تعتز بعروبتها، وفي الوقت نفسه تحافظ على علاقة ايجابية بالمرجعيات الدينية الروحية، والمرجعية في النجف وفي الأوساط الشيعية بشكل عام تعددية، أي لا يوجد فيها مرجع واحد، مهما علت منزلته وانما هناك أعداداً من المراجع معترف بها ولديها مقلّدون، كما أن المرجعية أممية، أي انها غير محصورة بالعنصر العربي أو العراقي، وذلك انطلاقا من الاسلام نفسه الذي ساوى بين بني البشر " ولا فرق بين عربي وأعجمي الاّ بالتقوى "، فمن كان الأعلم والأكثر نفوذاً وتأثيراً وزهداً يمكن أن يتولّى المرجعية، ومبرر ذلك أيضاً "الولاء لآل بيت رسول الله" رغم ما تثيره أحياناً الأصول العرقية واللغوية من منافسات منظورة وغير منظورة، لاسيما التسابق بين مرجعية النجف ومحاولات قم الاستحواذ عليها.
وهكذا فإن الشخصية النجفية رغم تمسكها بعروبتها وتأثرها بالمناخ الاسلامي بشكل عام، فضلاً عن التأثيرات العشائرية وأجواء المدينة المنغلقة اجتماعياً، الاّ أنها شخصية منفتحة في داخلها لا ترفض الغريب، لكونه غريباً، بل تسعى لإقامة العلاقات مع الجديد الوافد اليها، طالما كان يرتبط معها بالعقيدة ويسعى لاحترامها في إطار مصالح مشتركة، فإذا تعارضت وجهته بالضد منها وحاول استغلال علاقته دون مراعاة المصالح المتبادلة، يبدأ الصراع وتغيب الحدود في هذا الصراع، إذ أنه في الصراع هناك الصديق أو العدو، الابيض أو الأسود، ولا رمادية بينهما، وهو ما يجعل جوانب حادة وصارمة أحياناً في تركيبة الشخصية النجفية.
لعل ذلك سمة مشتركة للعراقي والعربي من أصل بدوي، فالقبائل العربية العراقية لا تزال مرتبطة بعروبتها ويتداخل فيها البدوي بالحضري رغم انها انتقلت، لاسيما بعد العام 1958 الى مجتمعات مدنية، ففي العراق ورغم أن أهم أماكن سكن القبائل صارت في المدن، الاّ أن بعضها لا يزال محافظاً على روابطه وعلاقاته وقيمه وزعاماته القبلية، والانسان في العراق ينتسب الى قبيلته، فيما تنتسب العائلات والعشائر الصغيرة الى مدنها وأماكن سكناها أو مهنها، وفي بغداد نجدها أحياناً تنتسب الى المهن كالعطار والنجار والقصاب والصفار أو الى المواقع فعلى جانبي نهر دجلة  كالرصافي والكرخي، فيما تكوّنت بعض العائلات التي لم تحمل اسماء مدنها أو قبائلها في بعض المدن الحديثة والمراكز الاقتصادية الهامة وبعض المراكز الدينية.
اما في النجف فالسكان هم من كل القبائل العراقية، وبعضهم ينتسب الى المدينة أو مواقعها لأنه لا يوجد تجمع قبلي واحد أو ذو لون واحد، فالشخصية المركبة ما زالت تضم وتحتوي العقلية القبلية وبعضها يمتد الى الريف، إضافة  الى الثقافة العربية، والفكر الديني والعلاقات الاقتصادية الجديدة التي نمت، والمصالح وأسلوب التفكير والتعامل الحديث والمديني، وكل هذه التركيبة اختلطت ببعضها وتركت تأثيراتها في مناحي الفكر والعقيدة والاجتهاد والسياسة والاجتماع والأدب والثقافة.
وقد استطاع النجفيون تاريخياً استيعاب كل من أسلم أو اعتنق الاسلام وتحدث بالعربية فصار واحداً منهم، فكان من الطبيعي ان تذوب الفوارق بين الناس، وأن لا يتحسّسوا الا من المعادي لهم في الهوية، ولم يكن تحسّسهم أو تعصّبهم ناشئاً عن المخالفة لهم في العقيدة أو الهوية العربية، بل لأن هذه المنطقة عانت من اختراقات وغزوات، فعاشت فترات طويلة تحت ضغط الحكم الاموي والعباسي وصولاً الى الحكم العثماني، ودخلت النجف في صراعات دفعت بسببها أثماناً باهظة جداً، لاسيما لمحاولة دفاعها عن هويتها وعقيدتها التي كانت تشكّل طابع تلك الصراعات آنذاك، فيما بقيت الشخصية العربية العراقية في مناطق أخرى أقل تعرضاً للانتهاك، وأكثر بساطة ووضوحاً، وليس فيها هذا التعقيد لأنها كانت أقرب الى السلطة أو كانت السلطة وبعض حواشيها من طاقمها سواءً كانت ظالمة أو عادلة.
وتأكيداً على ما أسلفنا فإننا نجد تاريخياً مركزين متشابهين لحاضرتين مهمتين للفكر الاسلامي، كانت أولهما في النجف الأشرف والثانية هي الأزهر الشريف الذي يعتبر الآن مركز تدريس وتعليم الفكر الديني للمذاهب الأربعة في العالم كله، وقد بُني في عهد الدولة الفاطمية ونُسب بالاسم الى فاطمة الزهراء بنت رسول الله، في حين اختصّت النجف بالفكر الشيعي.
والجدير ذكره هنا، أن الشخصية العربية بشقيها النجفي وغير النجفي في تلك المرحلة التاريخية لم تكن في موضع العداء المخالف في العقيدة، إذ أن ذلك نشأ فيما بعد أثناء الصراع على السلطة ودور تلك السلطة، حيث يُذكر مثلاً ان الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي فيما بعد، جاء اليه الامام زين العابدين علي بن الحسين وكان عجوزاً، فقال له " لو أعلمتني لجئت اليك ولو حبواً "، ثم كشف عن صدره عند وداعه وقبّله وقال له :" عساني أن ألقى الله فيكون آخر ما ودعت به الدنيا لحماً من لحم رسول الله...".
وابو حنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفي فيما بعد، أفتى وفي زمن الأمويين باعطاء الزكاة الى الإمام زيد بن علي بن الحسين، مع علمه بأن ذلك المال سيذهب لمناهضة بني أمية، ثم وقف في وجه العباسيين الذين اعترضوا عليه لكثرة حبه لآل البيت، فسجن وخرج من السجن ليموت.
والامام الشافعي يكفيه انه قال في وجه العباسيين والروانديين وجماعاتهم المعترضين على حبه لآل البيت:
" إن كان حب آل البيت رفض        فليشهد الثقلان اني رافضي
 وقال :
يا آل بيت رسول الله حبّكم        فضل من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم الفخر انكّمُ        من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
فجيء به من اليمن الى بغداد بالحديد والسلاسل ماشياً، ثم نفي الى مصر لكي لا يساكن مقر الخلافة في بغداد.
اما الامام أحمد بن حنبل فامتحنه العباسيون بحديث ليعرفوا توجهه، فارسلوا اليه رجلاً قال له: روي عن جعفر بن محمد عن محمد بن علي عن ابيه عن جده رسول الله، فقال كفّ، ولم يرد ان يسمع حتى الحديث وقال: هذا اسناد لو قرئ على مجنون لأفاق، وقد حفظها له العباسيون، فسجن في أيام المأمون والمعتصم والواثق ولم يخرج من السجن الاّ في عهد المتوكل، وعاش بعد ذلك أشهراً ومات.(8)
إذاً، في هذه الأجواء العربية نشأت المذاهب الاسلامية،ولم تتحكم بها العداوات الاّ نتاج الفكر السياسي للسلطة، التي كانت تقوم بين فترة وفترة لانتاج الخلاف العقيدي، لأن أصل العقيدة واحد ولا خلاف فيه. ولعل من استغلّ هذه الخلافات وروّج لها، انما استهدف أشياءً أخرى، وقد كان الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب يردد " لولا علي لهلك عمر"، ولا كانت له مكانة كبيرة في عهده بما فيه الفصل في الاحكام.
من هنا نفهم لماذا تركت النجف تأثيراتها الثقافية والفكرية على رجال من أمثال سعد صالح جريو الذي لم يُنقل عنه يوماً وقوفه الى جانب فريق دون آخر في العراق، انطلاقاً من مذهب أو قومية، أو طائفة أو منطقة وهو ما سنبيّنه لاحقاً.
يذكر الشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين(9) في كتابه " الديوان" ان في النجف الأشرف خصائص يندر وجودها في مدن العراق قاطبة وهي(10) :
أولا- أنها مدينة الوافدين زواراً ومجاورين وطلاب علم، وأن كثيراً ممن يسمّون اليوم بالأسر النجفية هم من أبناء تلك الأسر المهاجرة اليها لطلب العلم أو لمجاورة مرقد الامام علي، وكانت لشغفها بهذه المدينة وطول اقامتها بها قد نسيت أصولها في المدن العراقية أو البلاد العربية أو الأقطار الاسلامية، وانقطعت العلائق شيئا فشيئاً بينها وبين البلاد التي تحدّرت منها، وتشابكت بأواصر القربى والمصاهرة مع بعضها البعض، وبعضها قد مرّ عليه أكثر من اربعمائة سنة على الإقامة في النجف، حتى أن اجيالها المتأخرة قد لا تعرف  شيئاً عن بلدها الأصلي أو لغاتها لأنها انصهرت بلغة العرب.
ثانيا- ان الطابع العربي القريب من البداوة، هو الذي يطبع المدينة بطابعه فالعشائرية والنخوة ورعاية الجار والكرم والضيافة كلها من صفات أهل النجف، ولعل السر في ذلك كونها تقع بين الريف العراقي المنتشر على ضفاف الفرات، وبين البادية الممتدة من العراق الى الحجاز، ولذا فإن انصهار مختلف الأعراق فيها أمرٌ طبيعي بسبب التلاقي والاختلاط والامتزاج.
ثالثا- انها " السوق المشتركة" بين عشائر الريف وعشائر البادية تصل اليها منتجات تلك المناطق وتُصدّر منها الى مناطق العراق الأخرى، وبعض المصدّّرين لهم في النجف بيوت يأوون اليها في أيام المواسم، وكذلك بعض المستوردين مما حوّلها الى مدينة عشائرية الروح، بدوية المجتمع، ولعلنا نضيف تجارية الطابع، متسامحة مع الغريب، ولديها الاستعداد للتعايش والتواصل مع الآخر، لاسيما في أجوائها الثقافية والأدبية.
رابعاً- انها " المدينة الجامعية للدراسات الاسلامية"، وتمتد جامعتها الى مدى يقرب من عشرة قرون، وقد احتفظت باللغة العربية وآدابها، وفشلت كل محاولات التتريك التي تعرّضت لها أيام المماليك والعثمانيين، كما لم تتأثر باللغات الشرقية وبخاصة اللغة الفارسية التي كانت لغة الكثير من بين الوافدين اليها، ولكنها لم تترك أي اثر على سلامة لغتها العربية، لأن الدراسة الدينية فيها واستنباط الاحكام الشرعية من أدلتها تعتمد بصورة أساسية، على مصادر عربية وهي نصوص عربية أصلية، إذ لا يحقّ لأحد، حسب الإمام الشافعي، أن يفتي في دين الله الا رجلاً عارفاً بكتاب الله وبصيراً باللغة والشعر وما يحتاج اليه للسُنّة والقرآن، ولأن الدراسة الدينية تبدأ فيها بالمقدمات وأهمها النحو والصرف والبلاغة، فضلاً عن التبحّر في علومها وثقافتها، فان اللغة العربية السليمة تبقى ركناً أساسياً من أركان الدراسة في الحوزة العلمية، إذ لا يمكن للدارس أن يصل الى المستوى الفقهي دون أن يكون ضليعاً باللغة العربية وآدابها وفلسفتها اللغوية، فهي لا تتطلب البلاغة والفصاحة حسب، بل فهماً واستيعاباً للمجازات والكنايات والصور البيانية (11).
خامساً- ان " الشعر متنفس المجتمع المتحفظ" (المحافظ) في النجف، ولعل ذلك هو الذي يفسّر لنا كثرة الشعراء في مدينة صغيرة كالنجف، فكونها تضم مائتي شاعر في فترة قصيرة ظاهرة ملفتة للنظر، سواءً في ذلك شعراء الفصحى أو العامية. حيث كان في عهد السيد محمد مهدي بحر العلوم أكثر من 200 شاعر في مدينة لا يزيد عدد نفوسها على 30 الف نسمة، وهو ما أحصاه الشيخ محمد رضا الشبيبي، وما ورد في موسوعة الغري الشعرية.
وبالمناسبة فإن عهد بحر العلوم 1155-1212 هـ سمّي بعهد النهضة العلمية، لكثرة من نبغ فيه، فضلاً عن كثرة الدارسين، وقد اتخذ بحر العلوم سلسلة من الخطوات يمكن تقييمها بشكل ايجابي، لاسيما بعد قراءة تاريخ المرجعية وما لحق بها وما تعرّضت له من اشكالات أحياناً، وكان بحكم شخصيته الصارمة والمحببة، مهاباً وجذّاباً.
واتّسمت محاولته التجديدية بشيء من حسن الادارة والتنظيم، فوزّع مسؤوليات الحوزة وأعباء المرجعية على عدد من رفاقه ولم يحصرها كلّها بيده مثلما فعل الآخرون، وهكذا سمّى الشيخ جعفر كاشف الغطاء للعلاقات والصلة بالناس والاعتناء بمصالحهم (توفي 1228 هـ) بما فيه اعطاء الفتوى والرجوع اليه في المسائل الشائكة (كمقلّدين) ورغم ان بحر العلوم المرجع الأعلم، الاّ أنه

ــــــــــــــــــــ
(1)أنظر: شعبان، عبد الحسين، الدولة العراقية والمؤسسة الدينية في النجف، مجلة النور(لندن)، العدد 87، آب (أغسطس)، 1998. انظر كذلك:  مصطفى جمال الدين، الديوان، دار المؤرخ العربي، بيروت، ط1، 1995ص 48 وما بعدها.
(2)المصدر السابق .
 (3) قارن: المسعودي- مروج الذهب، ج1، القاهرة، 1346 هـ، ص 297، نقلا عن : انظر محبوبة، جعفر - ماضي النجف وحاضرها، 3 أجزاء، دار الأضواء، ط8، بيروت، 1986، ص4
(4) كانت قصور العباسيين مشرفة على النجف يتنزهون بها أيام الربيع، لاسيما قصر " أبي الخصيب" الذي كان موقعه قريباً من قصر السدير بظاهر الكوفة، وبينه وبين السدير ديارات (أديرة) الأساقف، وهو أحد المنتزهات التي تشرف على النجف. وأبو الخصيب هو مزروق بن ورقاء مولى المنصور وأحد حجّابه، ويقال أنه بني هذا القصر بأمر المنصور، وقيل بناه لنفسه وكان المنصور يزوره فيه، إضافة الى القصر الأبيض وموقعه قرب الحيرة ويُنسب الى الرشيد وكتب على جداره حضر عبدالله بن عبدالله ولأمر كتمت نفسي وغيّبت بين الأسماء اسمي (العام 305 هـ)، إضافة الى قصر الخورنق انظر: معجم البلدان، نقلاً عن محبوبة، جعفر، مصدر سابق، ص 5 وما بعده.
(5) ولد العلآمة الدكتور علي حسين عبد الجليل الوردي في مدينة الكاظمية ببغداد عام 1913 ونشأ ابناً وحيداً لوالديه عقب تسعة أخوة توفوا بعد وقت قصير من ولادتهم. بدأ تعليمه في الكُتَّاب كما كان سائداً آنذاك، وعمل في صغره عطاراً في مهنة والده، لكنه سرعان ما عاد الى الدراسة في المدارس الحكومية عام 1931 فأتم الدراسة الثانوية وحلّ بالمرتبة الثالثة على العراق، فأرسل لبعثة دراسية للجامعة الاميركية في بيروت وحصل على البكالوريوس، وأرسل بعدها في بعثة أخرى الى جامعة تكساس حيث نال الماجستير  عام 1948 فالدكتوراه عام 1950 من الجامعة ذاتها. درّس مادة علم الاجتماع في كلية الآداب في جامعة بغداد من عام 1950. ولغاية العام 1972.توفي في شهر تموز (يوليو)عام 1995 . في عمان  من أهم مؤلفاته : لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث – ثمانية أجزاء (1969-1980) ، شخصية الفرد العراقي (1951)، خوارق اللاشعور (1952)، وعاظ السلاطين (1954)، مهزلة العقل البشري (1955)، أسطورة الأدب الرفيع (1957)، الأحلام بين العلم والعقيدة (1959)، منطق ابن خلدون (1962)، طبيعة المجتمع العراقي(1965). وقد حدثني الدكتور ناهض شعبان الذي كان طبيبه الخاص في السنوات العشر الاخيرة من حياته أن عقله ظلّ متوقداً وذهنه نشطاً حتى آخر أيام حياته رغم تدهور صحته وعدم قدرته على الكتابة. انظر: مظلوم، محمد، كتاب في جريدة، صحيفة النهار اللبنانية ، 1 تموز(يوليو) 2009. قارن كذلك: حديث خاص مع الدكتور ناهض شعبان، بغداد، حزيران(يونيو)2003.
(6) انظر: الوردي، علي(الدكتور)- لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ستة أجزاء، مطبعة الأديب، بغداد، 1978
(7) ملاحظة  لفت انتباهي اليها الصحافي خالد اللحام خلال حوار دار بيني وبينه حول النجف ودورها، باسترجاع قراءة عدد من المراجع والمصادر التي تمثل النهضة الأدبية والثقافية والعلمية لمدرسة النجف، بيروت، 24 أيار (مايو) 2009.
(8)حديث حواري (استعادات في الفكر الاسلامي) مع الصحافي خالد اللحام، مصدر سابق.
(9) ولد في قضاء سوق الشيوخ " قرية المؤمنين بلواء " محافظة "  ذي قار (الناصرية) أو كما كانت تسمى المنتفك، وذلك عام 1927، انتقل الى النجف للدراسة الدينية أواخر العام 1938، والتحق بجامع الهندي للدراسة، حيث كان قد ترك دراسته وهو في الصف الرابع الابتدائي، واستمر في النجف طيلة حياته رغم انتقاله الى بغداد، لكنه ظل يتردد عليها ويعتبرها موازية ربما لمسقط رأسه، أو منبته الحقيقي. تخرج من كلية الفقه العام 1962 وأكمل دراسة الماجستير في الشريعة الاسلامية العام 1972 والدكتوراه في اللغة العربية العام 1979 ودرّس في كلية الفقه وكلية الآداب وكلية أصول الدين، وترأس جمعية الرابطة الأدبية في النجف العام 1975، واضطر لمغادرة العراق العام 1980، من مؤلفاته، الايقاع في الشعر العربي، وديوان عيناك واللحن القديم، والديوان  الذي هو أقرب الى ملامح السيرة والتجربة الشعرية. توفي ودفن في دمشق.
(10) انظر: جمال الدين، مصطفى- الديوان، مصدر سابق،  ص 13-20 وما بعدها.
(11) انظر: جمال الدين، مصطفى- الديوان ، المصدر السابق،  ص 15.   

1084
 
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (8)
 جيفارا وعبدالناصر: قلق وهواجس!

      
   عبدالحسين شعبان    


2009-12-21

انتظر الرئيس عبدالناصر عودة جيفارا من الجزائر، وعاد إليها فعلاً قبل سفره إلى كوبا، وكان عبدالناصر قد اطلع على خطابه المشحون بالهّم والمسؤولية والقلق الذي حمله على كاهله، إزاء مستقبل "الحركة الثورية" وآفاق نضالها.
إذاً من الجزائر فجّر جيفارا القنبلة يوم ألقى خطابه الشهير، والذي سيعرف في الأدب السياسي "بخطاب الجزائر" الذي كان عبارة عن رؤية مكثفة لتوجهاته الاشتراكية ونقده للبيروقراطية السوفييتية، التي احتجّت على ذلك الخطاب رسمياً لدى كوبا، وجرى حديث في السر والعلن عن ضغوط موسكو على كاسترو، لاسيما وأن كوبا كانت بحاجة إلى المساعدات السوفييتية.
كان خطاب الجزائر في 24 فبراير 1965 محطة فاصلة عبّر فيها جيفارا عن ما كان يلوّح به من انتقادات ووجهات نظر إزاء التحديات والمصاعب النضالية، ليس في جانبها الموضوعي من طرف "العدو الطبقي" حسب، بل بجانبها الذاتي، خصوصاً مواقف البلدان الاشتراكية والاتحاد السوفييتي تحديداً، الأمر الذي جعله في تناقض بينه وبين الواقع من جهة، وبين الرغبات والإرادات من جهة أخرى، وبين الدول الاشتراكية ومصالحها من جهة والدول النامية وحركات التحرر الوطني في أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا من جهة أخرى.
ولعل التناقض الأكبر كان بينه وبين نفسه، فرغم آماله الكبيرة لكن ثمة تشاؤم كان قد بدأ يتسلل إليه، لم يطرده إلا بشحذ العزيمة والإرادة بديلاً عن الواقع، وهو ما عبّر عنه في حديثه مع عبدالناصر، الذي وإن كان يكّن له محبة أخوية لأفكاره النبيلة ولشخصه الكريم الآتي من قارة أخرى (لنصرة الثورة في إفريقيا) لكنه كان يأمل "اعتدال" مطالبه الثورية، وعندما كان جيفارا قد حصل على موافقة أحمد بن بلّه على دعم ثوار الكونغو، الذي سيتولى هو تقديم المساندة الكوبية لهم، كان وقتها يتقلب في فراشه لليلة كاملة: هل يطلب ذلك من عبدالناصر أيضاً وماذا سيكون رد فعله؟
بعد خطاب الجزائر الشهير، توجّه جيفارا إلى القاهرة يوم 2 مارس 1965 ومكث فيها 8 أيام، ودار بين الزعيمين المصري القومي العربي وبين الكوبي الأممي حديث حول سبل تحرير إفريقيا، وعندما علم عبدالناصر بمشروع جيفارا بالانخراط في العملية العسكرية في الكونغو، أبدى قلقه ومخاوفه، ووجه الخطاب مباشرة إلى صديقه، قائلاً له بكل وضوح: "أنت تدهشني جداً.. هل تريد أن تصبح طرزاناً جديداً؟ رجلٌ أبيض بين الزنوج من أجل قيادتهم وحمايتهم.. هذا مستحيل!! لن تنجح أبداً.. سيسهل كشفك لأنك أبيض، وإذا أتيت مع الكثير من البيض.. فستعطي الإمبرياليين الفرصة للقول بأنه لا يوجد فرق بينكم وبين المرتزقة".
وأردف عبدالناصر بالقول ببعد نظرٍ ودراية بظروف الصراع الدولي وشؤون السياسة والدبلوماسية، فضلاً عن كونه عسكرياً ميدانياً يعرف خطورة اتخاذ قرار من هذا القبيل: "إذا ذهبت إلى الكونغو مع كتيبتين كوبيتين، وإذا أرسلت معك كتيبة مصرية فسيتهموننا بالتدخل في الشؤون الداخلية في الكونغو، وهذا يضر أكثر مما ينفع"!
في منزل عبدالناصر في المنشية، تابع الصديقان حوارهما في ليلة أخرى أفضى جيفارا بهمومه ومشاغله الفكرية والسياسية، ومتاعبه العملية، وشرح أسباب انتقاده لمعاملة الدول الاشتراكية "الأنانية"، كما وصفها، وأفاض ما في قلبه من حنق، كان قد عبّر عنه في خطاب الجزائر.
في تلك الليلة جرى الحوار بين عبدالناصر وجيفارا حول الموت، الذي كان يتردد على لسان جيفارا باستمرار، فقال عبدالناصر وهو الأخ الأكبر: لماذا تتكلم دائماً عن الموت؟ أنت رجل شاب، إذا اضطررنا أن نموت سنموت من أجل الثورة، ولكن الأفضل أن نحيا من أجلها، لكن جيفارا برومانسيته وحسّه لما هو ذاهب إليه، كان قد وضع الموت نصب عينيه، وعندما اضطر أن يضرب مثلاً حول بيرون الزعيم الأرجنتيني فأشار إلى جبنه وهروبه، لأنه لم يقوَ على مواجهة الموت، وشدد جيفارا قوله وهو ما أوفى بعهده: اللحظة الحاسمة في حياة الإنسان هي عندما يتخذ قراراً بمواجهة الموت، فإذا قرر ذلك فهو البطل سواءً توّجت معركته بالنجاح أو بالفشل! لقد كان يدرك خطورة قراره، وربما لم يتأكد من نجاحه في معركته، لكن ما كان متأكداً منه هو صدقية خياره وشجاعته في مواجهة الموت لحظة يتطلب ذلك منه، وهنا مقياس اختبار لقيمه ومبادئه، لاسيما حين يبدي استعداده للتضحية بحياته من أجلهما.
وبقدر حبّه للحياة وتمسكه بأهدابها، فقد كان يسترخص الموت من أجل حياة حرة كريمة، ولعلي بهذه القراءة الارتجاعية أستعيد هذا التناقض والتحدي الذي يمثل جوهر سلوك جيفارا من خلال هذا البيت الكثير الانطباق عليه وهو ما كان الجواهري الكبير يردده باستمرار:
وأركبُ الهولَ في ريعان مأمنةٍ
حبّ الحياةِ بحب الموت يُغريني
زار جيفارا سد أسوان العظيم وأعجب به أشدّ الإعجاب، وكان بصحبة عبدالناصر، وزار معه أيضاً افتتاح أحد المصانع، فلقي ترحيبا هائلاً من عمالها وأهل القرية، وقد تأثر جيفارا كثيراً لما أسماه "بالخميرة الثورية"، وقد علق عليها عبدالناصر، ببساطة: الحصول عليها يتطلب هذا، مشيراً إلى المعمل. ودار حوار بينهما حول انتصار الثورة التي تتحقق بجهود الثوار، لكن البناء يتم بمساعدة التكنوقراط البيروقراطيين الذين هم أحياناً ضد الثورة كما يُقال.
ولعل حواره مع ناصر كان وراء كتابة مقالة بعنوان "الاشتراكية والإنسان وكوبا" التي تعتبر أساساً في الفكر الجيفاري، الذي ألهم شباناً وشابات من جميع القارات، فقد أراد أن يضع بعض النقاط على الحروف، لاسيما فيما يتعلق بالحصول على التقنية وبناء الإنسان الجديد.
يقول جيفارا في خاطرة حول الموت: لون حريتنا وخبزنا اليومي أحمر كالدم وهما منتفخان بالتضحيات، تضحياتنا واعية، نحن نبني ثمن الحرية.. تسلّموا تحيتنا الطقسية كمصافحة أو كسلام ملائكي: النصر أو الموت.
لخّص جيفارا في الزيارة الأولى التجربة المصرية بقوله: أول خطوة قامت بها الحكومة المصرية لتنظيم الهيكل الاقتصادي هي الإصلاح الزراعي الذي تناول ألفاً و768 من كبار الملاكين مع توزيع الأراضي المسترجعة على الفلاحين والتي تشكل %10 من الأراضي. أصبحت التعاونية أساس الاقتصاد الزراعي وهي مؤلفة من صغار الملاكين لهكتار أو اثنين ويعملون في الأرض جماعياً ولكن يستفيدون منها قروياً. وكان جريئاً عندما ندد في 28 سبتمبر 1962 بتجربة المعامل المؤممة وهو وزير للصناعة، لأنها فشلت والآلات مهملة ويعلوها الصدأ.
آخر زيارة لمصر هي عندما جاءها متخفياً بهوية روسية، وأمضى نهاراً واحداً في القاهرة، وذلك في 5 أبريل 1965 قبل سفره إلى دار السلام لبدء العملية العسكرية في الكونغو، التي يتحدث عنها بمرارة. لعله تذكّر ما دار بينه وبين عبدالناصر وإذا استعدنا الأمر الآن، فكلاهما كانا على صواب، وربما في الوقت نفسه على خطأ، فعبدالناصر تحدث من موقع الدولة، المسؤول، الذي يحسب تبعات انخراطه في عمل مسلح لمجموعات ثورية وردود فعل الولايات المتحدة والقوى الإمبريالية الكبرى، ولكن كان بالإمكان التنسيق معه وتسهيل مهمته بشكل غير رسمي وهو غالباً ما كان يحدث.
أما جيفارا فقد أراد للثورة أن تبقى حلماً وردياً، حتى وإن كان بعيد المنال، فأسقط إرادته على الواقع، لكي يستعجل في إنضاج العامل الذاتي، حتى إن تطلّب الأمر أن يأتي من أميركا اللاتينية ليقود كتائب ثورية في الأدغال، دون حساب للمخاطر والتحديات التي قد تطال حياته، وهو ما كان يتطلب وربما ما يزال حتى الآن وقفة مراجعة جدّية جريئة، بخصوص دور العامل الذاتي سلباً أو إيجاباً، وكذلك تقدير دور العامل الموضوعي داخلياً ودولياً، دون استخفاف أو مبالغة بالذات بالآخر "العدو" ومراعاة مسألة التراكم الكمي والوضع الاجتماعي والعادات والتقاليد، التي تحول دون تحقيق الحلم الثوري!
كان جيفارا يستعد لتنظيم مؤتمر القارات الثلاث حيث كان من المزمع عقد اجتماعات تمهيدية في 24 أغسطس 1965 بتنسيق مع المهدي بن بركة تضم ممثلين عن: آسيا، وإفريقيا وأميركا اللاتينية، لكن الذي حدث كان مفاجئاً بكل المقاييس: حصل الانقلاب ضد أحمد بن بلّه في 19 يونيو 1965 وقبل انعقاد المؤتمر اختطف المهدي بن بركة في باريس في خريف العام ذاته، واختفى جيفارا عن الظهور قبيل ذلك!       
    

1085
الدكتور شعبان يوقع كتاب سعد صالح في بيروت


المحرر الثقافي- خاص/بيروت
الكاتب والمفكر العراقي عبد الحسين شعبان وقّع كتابه "سعد صالح : الضوء والظل- الوسطية والفرصة الضائعة" في معرض الكتاب في بيروت (بييل) وسط حشد من المثقفين والاصدقاء وذلك يوم 14/12/2009.
كما شارك في الحضور أبناء وأحفاد سعد صالح وتلى توقيع الكتاب عشاءً في مطعم مهنا في منطقة جل الديب حيث سبقه امسية ثقافية توالى على الحديث نجله المحامي لؤي سعد صالح وكريمته الدكتورة ضحى سعد صالح والاستاذ الدكتور حيدر كمونة ورئيس غرفة تجارة بغداد الاستاذ فلاح كمونة، كما ألقى المحامي الاديب جليل شعبان قصيدة بالمناسبة بعنوان "لبنان وسعد صالح" واختتمت الأمسية الاستاذة نوار سعد صالح بكلمة شكر للحضور وللمؤلف.

1086
 
المجتمع المدني بين القانونين الوطني والدولي


عبدالحسين شعبان

ماذا ترّتب اتفاقية فيّينا بشأن التوافق بين القانونين الدولي والداخلي؟ تعرّف المادة الثانية الفقرة (1) أ من اتفاقية فيّينا، المعاهدة الدولية بأنها “اتفاق دولي معقود بين دولتين أو أكثر بصورة خطية وخاضعة للقانون الدولي . . .” وبهذا المعنى فلا يجوز لطرف الاستناد إلى أحكام دستوره أو قانونه الداخلي كمبرر لعدم الوفاء بالتزام دولي تعهد به بموجب المعاهدة، وذلك استناداً إلى مبدأ فقهي عام يقول: إن العقد شريعة المتعاقدين .

إن وجهة النظر هذه تطرح مسألة العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي، وهي مسألة غالباً مايتكرر طرحها بالارتباط مع (المادة 46) من اتفاقية فيّينا، التي تؤكد “لايجوز للدولة أن تستظهر بأن التعبير عن موافقتها على الالتزام بمعاهدة ما، تم على وجه سينطوي كمبرر لإبطال موافقتها تلك، ما لم يكن هذا الخرق بيّناً ومتصلاً بقاعدة ذات أهمية أساسية من قواعد القانون الداخلي” .

ويلاحظ هنا أن اتفاقية فيّينا اشترطت الخرق البيّن أولاً، وثانياً وهذا يُفهم من مضمون النص، التصرف بحسن نيّة، فبعض الدول يعتبر التنفيذ التلقائي (المشروط بالنشر في الجريدة الرسمية كافياً لتأكيد الالتزام بأحكام المعاهدة الدولية)، والبعض الآخر يؤكد أن ذاتية التنفيذ ليست تلقائية، بل تتطلب إصدار تشريع تنفيذي خاص، والبعض الآخر يؤكد أسبقية القانون الداخلي (الوطني) مع إدماج أحكام المعاهدة به لتأخذ بُعداً دولياً، وهناك بعض الدول، التي تعتبر المعاهدة جزءاً من القانون الداخلي طالما تم التصديق عليها .

وإذا كان موضوع قانون المعاهدات يشكّل سقفاً للعلاقة بين التشريع الوطني والدولي، لا بد من مراعاته كإطارٍ عام، فإن الحق في تكوين الجمعيات Associations، الذي تنصّ عليه مواثيق حقوق الانسان، يشكّل نقطة احتكاك أو اشتباك تحاول فيها بعض الحكومات التحلل من التزاماتها المنصوص عليها في العديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي وقّعتها، ناهيكم عما تنصّ عليها دساتير بعضها، إذ لا يمكن اعتبار أي نظام يتمتع بالديمقراطية من دون كفالة هذا الحق، إضافة إلى الحقوق الأخرى ولو بحدودها الدنيا .

إن حق تكوين جمعيات لها أهدافها ومبادئها وبرامجها وتوجهاتها وأسماؤها خارج اطار السلطات الحاكمة ومن دون تدخل منها، يعتبر الأساس في إنشاء وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وبما يوفّر لها شخصية اعتبارية بإمكانها رفع الدعاوى أمام القضاء وتلقّي الاشتراكات والمساعدات والتبرعات، وقد نص الاعلان العالمي لحقوق الانسان، الصادر في 10/12/1948 في المادة (20) على:

1- لكل شخص الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والاجتماعات السلمية .

2- لايجوز إرغام أحد على الانتماء إلى جمعية ما .

أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في 16/12/1966 والنافذ ابتداء من 3/6/1976 فقد نص في المادة (21) على مايلي: “يكون الحق في التجمع السلمي معترفاً به، ولايجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق، إلاّ تلك التي تُفرض طبقاً للقانون وتشكّل تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي” . ونصّت المادة (22) على أن: “لكل فرد الحق في حرية تكوين الجمعيات مع آخرين، بما في ذلك حق إنشاء النقابات والانضمام اليها من أجل حماية مصالحه” .

خلاصة القول: إن هذه الحقوق وماتُرتّب من التزامات على الحكومات والدول، لا يمكن ردّها استناداً إلى مبدأ السيادة التقليدي أو مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، فمع انهيار جدار برلين وتداعي أركان نظام القطبية الثنائية الدولي، بدأ نمط جديد من العلاقات الدولية، وإنْ كان لم يكتمل بعد، ومتناقضاً أحياناً وغير متكافىء أو يكيل بمكيالين ويتعامل بطريقة انتقائية في الكثير من الأحيان، إلاّ أنه رغم كل شيء حدد بعض الملامح الجديدة للعولمة بما عليها من تحفظّات ومساوىء، وهو كثير جداً، وبما لها من مزايا وإن كانت قليلة ومحدودة خصوصاً للقضايا العربية والعراقية، لكنها تبقى مشروطة بحسن الاستخدام والاستفادة السليمة والعادلة من الظروف الجديدة التي خلقتها، إذ لا يمكن إعلان رفضها أو إعلان عدم الدخول في صومعتها حسب، لاتقاء شرورها وآثارها، بمثابة طوق نجاة، خصوصاً أنها أخذت تدخل في جميع مناحي الحياة، في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات والعلم والتكنولوجيا .

وإذا كان النظام الدولي “الجديد” قد تكرّس نظرياً في مؤتمر باريس الذي انعقد في نوفمبر/ تشرين الثاني ،1990 أي بعد اجتياح القوات العراقية للكويت وقبل حرب الخليج الثانية، فإن اتفاقية برلين الموقّعة في يونيو/ حزيران ،1991 قد أكدت بعض المبادىء الجديدة، منها تجاوز مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، الذي نصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة (المادة الثانية الفقرة السابعة)، حيث دعت اتفاقية برلين إلى اعتماد “مبدأ التدخل الانساني” مؤكدة “أحقية الدول الأعضاء للتدخل لوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان والقوانين الدولية” .

وذهبت الاتفاقية أكثر من ذلك، حين دعت إلى وضع “خطة للطوارىء” وضرورتها لمنع حدوث الصدام المسلّح متجاوزةً مبدأ السيادة التقليدي . وهكذا لم تعُدْ قضية حقوق الإنسان وحرياته، المنصوص عليها في المواثيق والاتفاقيات الدولية، قضية داخلية تحجِمُ الدول والحكومات والمنظمات الدولية عن التدخل فيها، فقد أصبحت ضمن التطور الدولي الراهن جزءًا لا يتجزأ من المبادىء الآمرة، الملزمة، وضمن الاتفاقيات الشارعة (الاشتراعية)، أي المنشئة لقواعد جديدة في القانون الدولي المعاصر، وهو ماذهب إليه مؤتمر فيّينا حول حقوق الانسان الذي انعقد في يونيو/ حزيران 1993 .

باحث ومفكر عربي   

1087
مركز باحث للدراسات


بيروت –لبنان
10/12/2009

محاكمة اسرائيل بين القانون والسياسة


الدكتور عبد الحسين شعبان *

ــــــــــــــ
مفكر وباحث عراقي في القضايا الستراتيجية العربية والدولية، خبير في ميدان حقوق الانسان، والقانون الدولي  له مؤلفات عديدة .
مدير المركز الوثائقي للقانون الدولي الانساني .

عوضاً عن المقدمة!
مع عملية الرصاص المسكوب  أو "المنصهر" و" الثأر المبرر"(1) التي أطلقتها اسرائيل على حربها المفتوحة، تدفق الدم على جنبات الأسفلت في قطاع غزة، وتوشّحت بالموت مدينة فلسطينية جديدة مثلما حدث لمدن أخرى، وتدحرجت رؤوس الأطفال في الطرقات والملاعب والمدارس، وقفز السؤال مجدداً، خارج إطار الصراعات السياسية الفلسطينية والخلافات العربية والمشاريع والشعارات... هل هناك أمل هذه المرة في مقاضاة المرتكبين، لاسيما وأن حجم التضامن العالمي ارتفعت وتائره الى حدود كبيرة، والعالم كلّه شاهد ما ارتكب من جرائم بحق المدنيين الفلسطينيين؟ ولكن ما السبيل الى ذلك وكيف يمكن جلب المتهمين الى قفص الاتهام امتثالاً لمعايير وقيم العدالة وحكم القانون الدولي؟ ثم هل اقترب الحلم من الواقع أم ثمت عقبات جدية تحول دون ذلك؟ وكيف يمكن تذليل بعض الصعوبات العملية والموانع الدولية لمقاربة العدالة؟ وبالتالي كيف يمكن بحث جدلية السياسي بالقانوني؟
لعل ذلك كان استعادةً لم تغادرني، لاسيما منذ أكثر من ربع قرن من الزمان حين تكدّست في ذاكرتي ما ارتكبه الصهاينة في لبنان خلال الاجتياح الاسرائيلي العام 1982، خصوصاً ما حصل في صبرا وشاتيلا، حيث تم الانتقام من الفلسطينيين في مجزرة رهيبة راح ضحيتها نحو ألف مدني في ليلة قاسية ومرعبة 17-18 ايلول (سبتمبر) 1982، قتلوا بدم بارد، وهو ما ذكّرنا بمجازر دير ياسين وكفرقاسم ومدرسة بحر البقر ومعمل أبو زعبل والمجازر في الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وصبرا وشاتيلا، إضافة الى قصف المفاعل النووي العراقي وقصف مقرّات منظمة التحرير الفلسطينية في تونس وغيرها(2).
واشتغل العقل بعد المحنة عسى أن نرتقي بمساءلة حقيقية لما حدث لا على المستوى السياسي حسب، بل على المستوى القانوني، الأمر الذي تطلّب جمع وتنسيق وتصنيف الجرائم المرتكبة، تمهيداً لتقديم المهتمين بالارتكاب الى القضاء الدولي لادانتهم كجناة يستحقون العقاب. ولم يكن الأمر مجرد رغبة فردية، لكن المبادرة اتخذت هذا الطابع، الذي كان وما يزال يحتاج الى جهد جماعي وطاقات متنوّعة ومبدعة حقوقية ودبلوماسية وقانونية واعلامية، حكومية وغير حكومية، فضلاً عن ارادة سياسية ضرورية.
   وظلّت عقبات كثيرة تعترض العقل القانوني، سواءً على الصعيد السياسي أو الواقعي، لاسيما توازن القوى على المستوى الدولي ودرجة الاستعداد الكافية لخوض مغامرة من هذا العيار، يضاف الى ذلك عدم إيلاء مؤسسات المجتمع المدني ما تستحقه في الحشد والتعبئة، وبالتالي في تكوين رأي عام مساند للفكرة، فحتى الآن لم تُدرس مسألة ملاحقة شارون عندما كان ينوي زيارة بروكسل، والحلقة المفقودة التي حاول بعض شخصيات المجتمع العربي استثمارها، طالما هناك تقاعساً أو نكوصاً رسمياً أو حسابات خاصة تحول دون ملاحقة المرتكبين لتقديمهم الى القضاء الدولي، خصوصاً وأن مبدأ العقوبة فردية، ولكن ذلك ضمناً سيعني تحميل اسرائيل " أدبياً " المسؤولية الجنائية والمسؤولية المدنية عن كل ما حصل وما يحصل في الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، لاسيما بحق السكان المدنيين الابرياء والعزّل.
وإذا كان البحث العلمي يستوجب عرض الحقائق والمعطيات الواقعية في الظرف الملموس، لكنه في الوقت نفسه وإن عاكسته الظروف والتوازنات السياسية، فإنه سيستشرف آفاق المسقبل، وإذا اعتبر البعض أن محاكمة اسرائيل أو المرتكبين باسمها حلماً بعيد المنال، فإن محاكمة مجرمي الحرب النازيين والقيادات العسكرية التي تسبّبت في الحروب والويلات في الحرب العالمية الثانية كانت هي  الأخرى، حلماً أيضاً لم يتحقق الاّ بعد هزيمة المعسكر النازي- الفاشي!
ان مشروع " المحاكمة " هو عمل تحضيري لسيناريو قادم سيكون ضرورياً لرؤية المستقبل بكل تضاريسه وتشابكه، وإذا كان الحديث عن الشجر حسب الشاعر والمسرحي الالماني بريخت يعتبر " جناية"، لأنه ينبغي السكوت عن جرائم كثيرة، لهذا السبب يحق للباحث العلمي أن يحلم أيضاً، وكان الروائي الروسي مكسيم غوركي قد وصف أحد كبار القادة الثوريين في العالم، بأن نصف عقله يعيش في المستقبل، أي أن نصف تفكيره كان يسكن في الحلم، ولا يمكن لأي باحث الاّ أن يفكر بالمستقبل، والمستقبل يعني فيما يعنيه الحلم بالتغيير، والحلم هو جزء من اليوتوبيا كما نقول في الفلسفة، ولعل في كل فلسفة حلماً والاّ ستصبح يباباً...، إذاً دعونا نحلم، ولعلنا في ذلك نبحث عن الحقيقة، وعن المثل والحب والمساواة والحرية، وكان اينشتاين قد قال : المُثل التي أنارت طريقي ومنحتني المرّة بعد المرة الشجاعة لمواجهة الحياة، هي الحب والجمال والحقيقة.
قبل ربع قرن كنت حالماً أيضاً، ولعلي ما زلت ازداد توغلاً في أحلامي، فالحلم وحده هو الذي يمنحنا هذه القدرة العجيبة على التواصل، رغم كلِّ ما حصل ويحصل لنا، على المستوى العام والخاص، لكن قدرتنا على الحلم تعطينا نوعاً من الأصرار على المواصلة وثقة واطمئناناً لمواجهة التحديات ولرؤية أحلامنا وهي تتجدد على أرض الواقع، رغم أن كل ما حولنا مدعاة للتشاؤم، لكن التشاؤم لا يعني اليأس، انه يعني الاعتراف بأن التغيير ضرورة لا مفرّ منها!!
كان حلمي يتجسد في تقديم سيناريو لمحكمة القدس الدولية العليا(3)، الصورة التي كنت أراها تكبرُ كلّما توغلت اسرائيل في مشروعها العدواني- الاستيطاني الاستئصالي، الالغائي، الاحلالي. ولم تشفع الاتفاقات الفلسطينية -الاسرائيلية التي عُرفت بـ "مدريد – أوسلو" ( 1991-1993) بتخفيض سقف الحلم، بل زادته اتقاداً ويقيناً وأملاً، فكلّما اقترفت اسرائيل المزيد من الارتكابات والجرائم، كان الحلم يقترب من الواقع ويسير حثيثاً باتجاهه.
ان العدوان على غزة العام 2008-2009 وقبله العدوان على لبنان العام العام 2006، يجعل أمر ملاحقة الجناة قضائياً مشروعاً قائماً بل راهنياً وحتى البلدان العربية التي وقّعت على اتفاقيات سلام مع اسرائيل، لا ينبغي أن تصاب بالخدر، بل عليها أن تتحلى بالمزيد من اليقظة لمواجهة الاحتمالات والتحديات المختلفة، لاسيما ما تبيّته اسرائيل ازاءها وما تحضّره من عدوان عليها، خصوصاً وأن اسرائيل بؤرة للتوتر ومشروع حرب دائمة في المنطقة، الأمر الذي يتطلب تهيئة المستلزمات الضرورية للشروع بملاحقة المتهمين الاسرائيليين، ولا بدّ من الاعداد الجيد للشروع به وجعله ممكناً، من خلال دراسة الواقع السياسي والقانوني الدولي، ومن خلال بعض المستلزمات والمعطيات المتوفرة، على أمل تطويرها، الأمر الذي يتطلب معرفة دقيقة وآليات مناسبة وكفاءات قانونية ضرورية وخطة محكمة تأخذ بنظر الاعتبار الممكنات في الظرف الملموس من خلال الوثائق القانونية الدولية، لا أن نسقط الرغبات على الواقع بإرادوية مفترضة!(4)

القانون الدولي الانساني وتصنيف الجرائم
يمكن تصنيف الجرائم الخطيرة والجسيمة حسب اتفاقيات جنيف الاربعة العام 1949 والبروتوكولين الملحقين بها العام 1977 الى 22 جريمة، منها:
13 جريمة ورد ذكرها في المادتين 50 و53 من الاتفاقية الأولى والمادتين 44 و51 من الاتفاقية الثانية والمادة 130 من الاتفاقية الثالثة والمادة 147 من الاتفاقية الرابعة.
و9 جرائم وردت في البروتوكولين الملحقين، حيث تضمن البروتوكول الاول المادتين 51 و85 اعتبارها " انتهاكات جسيمة".
وقد اعتبرت هذه الجرائم الخطيرة والجسيمة بمثابة " جرائم حرب" التي هي جرائم ضد قوانين وعادات الحرب وتدخل فيها:
الجرائم ضد السلام.
جرائم الحرب.
الجرائم ضد الانسانية.
التآمر لارتكاب احدى هذه الجرائم(5).

وأوجبت اتفاقيات جنيف الاربعة وملاحقها، على الدول الموّقعة أن تعدل تشريعاتها لمعاقبة مرتكبي هذه الافعال.
ويمكن تعداد هذه الجرائم وفقا للتصنيف المذكور (6)
القتل العمد.
التعذيب.
التجارب البيولوجية التي تُجري على الأسرى.
إحداث الآم كبرى مقصودة.
إيذاء خطير ضد سلامة الجسد والصحة.
المعاملة غير الانسانية (الحاطّة بالكرامة).
تخريب المنشآت والممتلكات والاستيلاء عليها لأسباب لا تبررها الضرورات العسكرية.
إكراه الأشخاص على الخدمة في القوات المسلحة لدولة تعتبر عدواً لبلادهم.
حرمان شخص محمي من حقه في محاكمة قانونية عادلة وفقاً للمعاهدات الدولية.
ترحيل أشخاص بصورة غير مشروعة.
الاعتقال غير المشروع (التعسفي).
أخذ الرهائن.
سوء استعمال علم الصليب الأحمر وإشاراته أو الاعلام المماثلة.
جعل السكان المدنيين هدفاً للهجوم.
الهجوم العشوائي ضد السكان المدنيين والأعيان المدنية.
الهجوم ضد المرافق والمنشآت الهندسية التي تحتوي على مواد خطرة.
الهجوم ضد مناطق منزوعة السلاح أو مجردة من وسائل الدفاع.
الهجوم ضد أشخاص عاجزين عن القتال.
نقل السكان المدنيين لدولة الاحتلال الى الاراضي المحتلة، أو نقل سكان الاراضي المحتلة الى مناطق أخرى (حالات الاستيطان والترحيل نموذجا).
التأخير في إعادة أسرى الحرب أو المدنيين الى بلدانهم.
ممارسة التمييز العنصري (الابرتايد).
الهجوم على الاثار التاريخية وأماكن العبادة والصروح الثقافية وكل ما له علاقة بالتراث الثقافي والروحي للشعوب.

حيثيات العدوان والجرائم الدولية!
خلال حرب الـ 22 يوماً ضد غزة  التي بدأت في 27 كانون الاول (ديسمبر) 2008 قامت اسرائيل بشن 2500 غارة عسكرية ضد المدنيين وإلقاء ما يزيد عن ألف طن من المتفجرات عن طريق البحر فقط، واستهدفت المدنيين بشكل عشوائي كما تعمّدت استهداف الملاجئ والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والمنشآت المدنية وتدمير البنية التحتية واستخدام الاسلحة المحرّمة دولياً، تلك التي عُرفت باسم " القنابل الفسفورية".
ولعل التصريحات الاسرائيلية الصريحة والضمنية الصادرة عن المسؤولين المتعلقة بنيّة اسرائيل في القضاء على "حماس" واستئصالها كهدف رئيسي للعدوان، ليست سوى الشروع عملياً بحرب إبادة وهي تعني: ارتكاب أي  فعل بنيّة إهلاك جماعة قومية أو اثنية أو عرقية أو دينية اهلاكاً كلياً أو جزئياً.
وقد أصدرت الجمعية العامة للأمم  المتحدة قراراً بتاريخ 9/9/1946 بشأن إبادة الجنس البشري، اعتبرت بموجبه كل عمل من شأنه أن يؤدي الى الابادة جريمة دولية موجهة ضد الانسانية، وهو ما اخذ به نظام محكمة نورمبرغ وأحكامها، كما وافقت الجمعية العامة على اتفاقية لتحريم ابادة الجنس البشري، تلك التي يمكن أن تحدث بصور مختلفة، كالتآمر الذي يرمي الى القضاء على جماعات وطنية، بسبب خصائص جنسية أو دينية أو لغوية أو ما شابه ذلك، وهو ما اعتمدته المحكمة الجنائية الدولية  التي تأسست في روما العام 1998 ودخلت حيّز التنفيذ العام 2002 أيضاً.
ان القانون الدولي المعاصر والقانون الدولي الانساني يعتبر تلك الأعمال جرائم خطيرة سواءً ارتُكبَتْ في زمن الحرب أو زمن السلم، وقد نصّت المادة الأولى من اتفاقية تحريم ابادة الجنس البشري العام 1954 على تعهد الدول بالامتناع عن القيام بها  ومعاقبة مرتكبيها.
ولعل القتل الجماعي الذي تعرّض له السكان المدنيون في غزة يعدّ جريمة دولية، وهو ما اعتادت اسرائيل على ممارسته بمبررات ردود الفعل إزاء أعمال المقاومة، وتحت باب الدفاع عن النفس، وهو ما بررته في عملية الرصاص المنصهر أو المسكوب، والثأر المبرر عندما اجتاحت قطاع غزة بآلة عسكرية ضخمة بعد حصار شامل لبضعة أشهر، وقبلها تطويق وحصار جزئي دام أكثر من عامين ونصف.
والابادة الجماعية وفقاً للاتفاقيات الدولية ابتداءً من الاتفاقية الدولية بخصوص منع التمييز بسبب الدين أو الجنس أو اتفاقية منع ابادة الجنس البشري في العام 1954 أو اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية ونظام روما العام 1998، تعني: الأعمال التي تُرتكب على أساس إبادة جماعة سلالية أو عرقية أو دينية، إبادة تامة أو جزئية، كالقتل وإلحاق الأضرار الجسدية أو النفسية وإحداث خلل عقلي أو الاخصاء أو اغتصاب الاطفال ونقلهم الى جماعات سلالية أو عرقية أخرى. ولعل التصريحات الاسرائيلية التي سبقت وهيأت لعملية اجتياح غزة استهدفت القضاء على السكان الفلسطينيين كجماعة تاريخية وسلالية بحجة اجتثاث " حماس".
أما جرائم الحرب بموجب القانون الدولي الانساني وهي النوع الثاني من الجرائم  حسب تصنيف المحكمة الجنائية الدولية، فقد ارتكبت اسرائيل على نحو صارخ مختلف أصناف الجرائم الحربية، ولعل أكثر من سبعة آلاف ضحية بينهم 1232 شهيداً تؤكد ذلك وجلّهم من المدنيين. وقبل ذلك قامت بفرض الحصار ضد سكان غزة ومنعت عنهم الدواء والغذاء، وهو الأمر الذي استمر خلال فترة الحرب.
يعرّف القانون الدولي الجنائي، جرائم الحرب: بأنها الأفعال المخالفة لقوانين الحرب وأعرافها، التي يرتكبها الجنود أو الأفراد غير المحاربين التابعين لدولة العدو، كما جاء في مشروع الامم المتحدة الخاص بتقنين الجرائم التي تقع ضد سلم وأمن البشرية، وتناولت المادة الثانية عشرة الفقرة12، جرائم الحرب بالتأكيد على " أن الأفعال المرتكبة إخلالاً بقوانين الحرب وأعرافها، تكون جرائم خاضعة لهذا التقنين." (7)
ويمكن فيما يلي إدراج بعض الجرائم التي ارتكبها الصهاينة والتي تعتبر منافية لقوانين الحرب وأعرافها بشكل سافر، والتي تستحق العقاب.
استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، لا سيما القنابل الفسفورية.
الاعتداءات التي ترتكب بطريقة الغدر، حيث تتعارض تلك الأفعال مع اتفاقيات لاهاي وجنيف وملحقيها، اللتان حرمتا مثل تلك الأفعال. كما تحرّم الاتفاقيات الدولية، القتال أثناء وقف اطلاق النار وخلال فترات الهدنة، وهو ما لم تلتزم به اسرائيل في كل حروبها ضد البلدان العربية، ومنها حربها ضد غزة حيث واصلت عدوانها رغم قرار مجلس الأمن رقم 1860 العام 2009 القاضي بوقف القتال، وقرارها المنفرد بوقف اطلاق النار، الذي استمرت هي بخرقه رغم اعلانها، الأمر الذي يعتبر من باب الغدر الذي يعاقب عليه القانون الدولي الانساني.
الاعتداءات الموجهة ضد المدنيين والمقاتلين الذين أصبحوا في حالة عجز تمنعهم من مواصلة القتال، وقد ارتكبت اسرائيل أعمالاً بربرية منافية لقواعد وقوانين الحرب بهذا الشأن منها:
مهاجمة المدنيين لاسيما الشيوخ والنساء والأطفال وقصف المنازل والمدارس والجوامع والكنائس ورياض الأطفال ومقرّات المنظمات الدولية والانسانية.
مهاجمة الأماكن غير المدافع عنها.
ج- ضرب الأماكن، التي تتمتع بحماية خاصة كالمستشفيات والمرافق الأثرية والمتاحف والأماكن المقدسة والمراكز الاعلامية وغيرها.
   4-    قتل الرهائن، حيث تنصُّ معظم القوانين العسكرية لمختلف الدول على تحريم قتل الرهائن، كما نصت اتفاقية الصليب الأحمر لسنة 1929 على تحريم كل فعل من أفعال القصاص ضد أسرى الحرب، واعتبرت محكمة نورمبرغ، قتل الرهائن جريمة من جرائم الحرب، وعلى سبيل المثال لا الحصر فقد قامت اسرائيل بجريمة قتل 250 رهينة في مذبحة دير ياسين و49 رهينة في مذبحة كفر قاسم ومئات من الأسرى المصريين في سيناء العام 1956 وفي العام 1967 ونحو 1000 انسان في مجازر صبرا وشاتيلا، ويعتبر قطاع غزة بكامله وجميع الاراضي الفلسطينية والعربية المحتلة "رهينة" وسكانها بمثابة " رهائن"، حيث تستوجب القوانين الدولية، لاسيما قوانين الحرب والاحتلال حمايتهم والحفاظ على حياتهم وممتلكاتهم، طبقاً لاتفاقيات جنيف العام 1949 وقواعد القانون الدولي الانساني.
   5-    سوء معاملة أسرى الحرب، حيث تحرّم الاتفاقيات الدولية، وبخاصة اتفاقية لاهاي العام 1907 واتفاقية جنيف العام 1906 والعام 1949 وكذلك البروتوكولين الملحقان بها العام 1977، المعاملة القاسية لأسرى الحرب . وتؤكد تلك الاتفاقيات على تحريم أي اعتداء يقع على شخصهم وشرفهم وأموالهم. كما تحرّم قتلهم وتعذيبهم أو حجزهم في أماكن غير صحية أو تشغيلهم في أعمال شاقة. ولعل هناك أمثلة كثيرة على هذا الصعيد، أهمها اختطاف رئيس البرلمان الفلسطيني الدكتور عزيز الدويك وعدد كبير من النواب والوزراء في حكومة غزة.
ان الشهادات التي قدمها المواطنون العرب الفلسطينيون واللبنانيون، أصبحت معروفة للرأي العام العالمي، لما فعله الاحتلال الاسرائيلي بحق السكان المدنيين أو الذين جرى اقتيادهم كأسرى وما تركه التعامل المخالف لقواعد القانون الدولي الانساني من نتائج وآثار لاانسانية عليهم.
6- سوء معاملة الجرحى والمرضى، فقد تضمنت الاتفاقيات الدولية وبخاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949، موضوع تقديم حماية خاصة للجرحى والمرضى والمنكوبين بسبب الحرب، ولكن اسرائيل خلافاً لكل تلك الاتفاقيات، كانت تعامل الجرحى والمرضى بشكل مزرٍ، وفي أحيان كثيرة تقوم بتصفيتهم والتخلص منهم أو عدم تقديم الدواء اللازم لهم وجعلهم عرضة للهلاك، وهو ما كان صارخاً في عدوانها على غزة، خصوصاً وهي تعرف ماذا يعني اغلاق المعابر واقفال الحدود، الذي يعني موتاً بطيئاً وجماعياً، خصوصاً بقصف المستشفيات والمراكز الصحية.
أما الجرائم ضد الانسانية فهي الصنف الثالث من الجرائم حسب نظام روما، إذ لا يمكن قبول مزاعم اسرائيل بشأن مسألة الدفاع عن النفس حسب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، تلك التي لا تنطبق عليها بتاتاً.
تعتبر جرائم الاغتيال والاسترقاق والابادة والترحيل لأسباب سياسية أو عنصرية أو دينية أو ما شابهها، جرائم موجهة ضد الانسانية. وقد اعتبرت هذه الجرائم دولية أيضاً.
أما عمليات العقاب الجماعي Collective punishment لأسباب عنصرية وعرقية فهي سياسة مميزة على امتداد الدولة العبرية سواءً بحق المواطنين العرب الفلسطينيين أو سكان الاراضي العربية المحتلة. وهو ما ظهر على نحو جلي في العدوان على غزة والعمل على معاقبة السكان المدنيين على نحو جماعي بحجة صواريخ حماس والمقاومة ضدها.
العقاب الجماعي يعني إنزال عقوبة على مجموعة من السكان الأبرياء بالرغم من علم السلطات الحاكمة أو المحتلة، ببراءة هؤلاء السكان، ولكن انتقاماً لحادث ما ضد السلطة الحاكمة أو المحتلة، قام به فرد أو بضعة أفراد سواءً لمقاومة تلك السلطة أو التصدي لقوات الاحتلال!
أما الارهاب الجماعي    Collective Terror فإن السلطات الاسرائيلية تمارسه على أوسع نطاق . فتقوم بأعمال تهديد جماعية وحملات تفتيش عشوائية لارهاب المواطنين واخراج الناس من منازلهم وسوقهم الى الساحات العامة وتعريضهم لقسوة الطبيعة وممارسة عمليات انتقام جماعية بحقهم كالتجويع، خصوصاً بفرض الحصار وقد حدث ذلك أيضاً في أثناء الاحتلال الاسرائيلي للبنان ومحاصرة مدينة بيروت وقطع التيار الكهربائي والمياه عنها وكذلك محاصرة المخيمات وتحويلها الى ما يشبه معسكرات الاعتقال، وهو ما حصل في غزة التي ارتدت ثوب الظلام وعانت من انقطاع التيار الكهربائي وشحة الغذاء والدواء والمياه.
ان القانون الدولي الذي يحرم اعمال الاغتيال والاسترقاق والابادة والترحيل لأسباب عنصرية أو دينية أو سياسية، فإنما يستهدف حماية شخص الانسان وصيانة القيمة والمُثل العليا والمبادئ الانسانية العامة، وهو ما ذهب اليه الاعلان العالمي لحقوق الانسان العام 1948، واتفاقيات جنيف الاربعة العام 1949 وملحقيها العام 1977 وما أكدّه ميثاق هيئة الامم المتحدة.
أما الصنف الرابع من الجرائم فهو يتعلق بجريمة العدوان ذاتها وخرق قواعد القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة وتهديد السلم والأمن الدوليين.(8)


اسرائيل والدفاع عن النفس !!
أشرنا الى ما تناولته المادة السادسة من نظام محكمة نورمبرغ بشأن تعريف الجرائم الموجهة ضد السلم والأمن الدوليين. ولا بد هنا من التصدي لمزاعم وادعاءات " اسرائيل"  بشأن " الدفاع عن النفس" مثلما تبرر الدعاية الصهيونية الديماغوجية، فحجة الدفاع عن النفس التي تتعكز عليها الصهيونية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة (المادة 51) مردودة من الاساس، لأنها لا يمكن أن تنطبق على دولة قامت أساساً على العدوان والاغتصاب مشردة شعباً بالقوة من أراضيه ومخالفة حتى تعهداتها باحترام ميثاق الامم المتحدة، التي كانت وراء تأسيسها لاسيما بصدور القرار رقم 181 العام 1947 الخاص بالتقسيم، والذي قامت اسرائيل بخرقه والتجاوز عليه، وكذلك القرار رقم 194 العام 1948 الخاص بحق العودة، ناهيكم عن قرارات مجلس الأمن رقم 242 العام 1967 والقرار رقم 338 العام 1973 بخصوص الانسحاب من الاراضي العربية المحتلة. فأي قانون دولي ذلك الذي يبيح (تحت هذه الحجة الواهية) القيام بأعمال بربرية وممارسة جرائم وحشية؟
وتذهب المادة الثانية، الفقرة الأولى، من مشروع قانون الجرائم ضد سلامة وأمن البشرية لتحرّم مثل تلك الأعمال وتعدّها بشكل صريح من قبيل الحروب العدوانية. وتقاضي اتفاقيات جنيف مجرمي الحرب ومشعلي نيرانها، باعتبارهم متسببين في إثارتها.
ان القانون الدولي المعاصر، منذ ميثاق بريان كيلوك (ميثاق باريس العام 1928) أدان الحروب العدوانية، باعتبارها تشكّل جريمة بحق السلم والأمن الدوليين، وعليه فإن الجرائم التي سبّبها الجناة الاسرائيليون، الذين يتقلدون مناصب سياسية رفيعة (عسكرية ومدنية) أو مراكز هامة في الحياة المالية والصناعية أو الاقتصادية، يعدّون مجرمين بحق السلم والأمن الدوليين، وعلى هذا يُعتبر من مجرمي الحرب الكبار رؤوساء الدولة العبرية ورؤوساء الوزراء المتعاقبين وجميع الوزراء وكبار قادة الجيش، الذين رسموا خطط الغزو والاحتلال والاجتياح وقاموا بإشعال الحروب وممارسة العدوان.
ان " اسرائيل" ما تزال تتشبث بقواعد القانون الدولي التقليدي الذي كان يجيز الحق في الحرب، حيث كانت الحرب " عملاً مشروعاً دائماً، ينطلق من حق الدولة أن تأتيه، كلما كانت مصلحتها تقتضي ذلك" واسرائيل ظلت تتمسك باعتبار الحرب وسيلة لتحقيق مكاسب اقليمية وأساساً لتعديل النظام القانوني الدولي ولفض المنازعات الدولية وهو ما يناقض صراحة التطور الذي حصل في القانون الدولي، حيث فتح مبدأ تحريم الحرب العدوانية ( منذ ميثاق بريان كيلوك) المجال امام استقرار مبدأ جديد في العلاقات الدولية، يقوم على أساس حظر استخدام القوة في العلاقات الدولية.
ولم تعد الحرب وسيلة صالحة تتوسل بها الدولة لتنفيذ سياستها القومية، وتحقيق أغراضها وأن لها ما يبررها. ولا يقيّد اللجوء اليها أي اعتبار خارج مصالحها الخاصة، لكن القانون الدولي تطور كثيراً فبدلاً من اعتبار الحرب حقاً مشروعاً أصبحت الحرب محرّمة وتشكل جريمة دولية، فلم يعد القانون الدولي "أداة لتسود به أوروبا على شعوب آسيا وأفريقيا " كما لم يعد يقتصر على تنظيم العلاقات بين " الدول المتحضرة" أو بلدان " العالم المسيحي" كما كان قبل الحرب العالمية الاولى(9).
وقد شهد التطور اللاحق للقانون الدولي المعاصر، وخصوصاً في ميثاق الامم المتحدة وقرارات الجمعية العامة أهمية مبدأ تحريم الحرب العدوانية، وحظر استخدام القوة في العلاقات الدولية، وجرى التأكيد على عدم الاعتراف بالنتائج التي يتمخّض عنها، الاستخدام غير الشرعي للقوة، وبخاصة بالنسبة لاحتلال أراضي الغير، كما تم تحميل المسؤوليات الجنائية للأفراد والحكام المسؤولين عن الجرائم التي يقترفونها بحق السلم والأمن الدوليين وبحق الانسانية.
ان ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات والاتفاقيات الدولية المعاصرة، لا يمكنها تبرير عدوان اسرائيل أو تدعيم وجهة نظر الفقهاء والمنظرّين الحقوقيين الاسرائيليين، الذين حاولوا أن يجدوا غطاءً قانونياً لاسرائيل بحجة الدفاع عن النفس.
فبموجب القانون الدولي المعاصر يمكن استخدام القوة بشكل شرعي وفقاً للحالات التالية:
حالة الدفاع عن النفس والاجراءات الوقائية، وهو ما حاولت اسرائيل أن تضلل الرأي العام العالمي، باستمرار تحت هذه الحجة. فماذا يقول ميثاق الامم المتحدة بشأن الدفاع عن النفس والاجراءات الوقائية؟ وهل يمكن لاسرائيل أن تستند في دعاواها الى تلك القواعد كيما تبرر عدوانها؟
ان الاجراءات الوقائية لا يمكن استخدامها الاّ من جانب مجلس الامن الدولي، حيث تؤكد المادة التاسعة والثلاثون : ان مجلس الأمن هو الذي يحدد وجود أي تهديد للسلام وأي خرق له أو أي عمل عدواني وبالتالي فهو يوصي أو يقرر اتخاذ تدابير من شأنها صيانة السلام واعادته عند خرقه وفقاً للمادتين 41 و42. وقد حاولت الولايات المتحدة بغزوها لأفغانستان 2002 واحتلالها للعراق 2003 تبرير ذلك بحجة الدفاع عن النفس إزاء انتهاك وشيك الوقوع، الأمر الذي سوّغ لها ما أسمته بالحرب الاستباقية والوقائية، التي لا سند لها في القانون الدولي.
أما بصدد الدفاع عن النفس، فإن المادة 51 من الميثاق تنص على أنه ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول فرادى أو جماعات في الدفاع عن نفسها، إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة أو تعرّضت لعدوان مسلح، وذلك لحين أن يتخذ مجلس الأمن التدابير الضرورية للمحافظة على السلم والأمن الدوليين.
وتضيف المادة المذكورة، أن الاجراءات المتخذة في إطار الدفاع عن النفس تبلّغ فوراً الى مجلس الأمن على أن لا تؤثر على سلطة المجلس وواجبه في التحرك في كل وقت وبموجب احكام الميثاق وبالطريقة التي يرتئيها مناسبة.
وهكذا يتضح ان المادة التي تتذرع اسرائيل بها لا تنطبق على الأعمال العدوانية التي قامت بها منذ تأسيسها، فهي لم تكن عرضة للعدوان في يوم من الايام لكي تدافع عن نفسها، كما أن أعمالها لم تكن ردًّا على عدوان أو هجوم مسلح، فضلاً عن أنها لم تبلّغ مجلس الأمن، ولا في أي مرة بالاجراءات التي تنوي اتخاذها، بل كانت تقوم بأعمالها " الغادرة" بصورة مباغتة، وبهذه الطريقة دمّرت المفاعل النووي العراقي وضربت مقر م.ت.ف في تونس وتنزل طائراتها حمولاتها على رؤوس السكان العرب في غزة.

بتخويل من الجهاز الخاص للأمم المتحدة مثلما يعرض الفصلان السابع والثامن من الميثاق، أو استخدام القوة ضد دول المحور (المادة 107 من الميثاق) وهذه الحالة هي الأخرى لا تنطبق على عدوان اسرائيل المتكرر على الشعوب العربية ولا تدعم  وجهة نظرها أو تبرر غدرها.
النضال من أجل التحرر الوطني وحق تقرير المصير، حسبما تقرره مبادئ الميثاق وتعريف العدوان والاعلان عن تصفية الاستعمار وغيرها من قرارات الجمعية العامة والوثائق الدولية الأخرى. ولا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير وتكييف العدوان الاسرائيلي، بموجب هذا البند، فليست معركة اسرائيل من أجل التحرر الوطني أو حق تقرير المصير، بل من أجل التوسع والالحاق والضم والاغتصاب، وكجزء من الستراتيجية الامبريايلة- الصهيونية في المنطقة(10).
يمكن القول أن الجرائم الاسرائيلية مكتملة مادياً ومعنوياً بالأدلة والاسانيد والقرائن والشهود والصوت والصورة، وأركان الجريمة محددة وواضحة، الأمر الذي يتطلب تحريك اجراءات رفع دعاوى ضد المسؤولين الاسرائيليين، وهو ما يدعو الدول الاعضاء في نظام روما وبدعم عربي لرفع دعوى ضد القيادات الاسرائيلية المسؤولة.
أما أهم شهود الواقع والاثبات هو الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون الذي صرّح بعد زيارته الميدانية الى غزة في 20 كانون الثاني (يناير) 2009 بأن الجيش الاسرائيلي قد أفرط في استخدام القوة والقنابل الفسفورية.
ولعل شهادة أطباء وخبراء منظمة الأنروا الدولية مهمة جداً، فقد كان هؤلاء الأطباء والعاملون في الاونروا على قناعة تامة بأن اسرائيل استعملت فعلاً قنابل الدمار الشامل ضد السكان المدنيين العزّل، وهو من المحرّمات في قوانين الحرب والقانون الدولي الانساني. ويمكن إضافة ما صرحت به منظمة " أطباء  بلا حدود"  ومنظمة العفو الدولية وهما منظمتان دوليتان محايدتان حول ارتكاب اسرائيل أعمالاً منافية للقانون الدولي الانساني واتفاقيات جنيف، لاسيما بحق السكان المدنيين واستخدامها للقنابل الفسفورية المحرّمة دولياً.

وثائق التجريم
أما أهم الوثائق الدولية(11) التي يمكن بموجبها إحالة اسرائيل الى القضاء الدولي فهي:
ميثاق بريان كيلوك (ميثاق باريس) العام 1928 الذي أدان الحرب العدوانية.
ميثاق الامم المتحدة المبرم في سان فرانسيسكو  العام 1945.
اتفاقية لندن العام 1945 لمحاكمة مجرمي الحرب.
نظام محكمة نورمبرغ العسكرية العام 1946 .
أحكام محكمتي نورمبرغ وطوكيو.
اتفاقية الامم المتحدة لتحريم الاضطهاد بسبب الدين أو الجنس.
الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عام 1948.
العهدان الدوليان: الاول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادران العام 1966، واللذان دخلا حيز التنفيذ العام 1976.(وهما اتفاقيتان دوليتان شارعتان أي منشئتان لقواعد قانونية جديدة ومثبتتان لها).
اتفاقيات جنيف الاربعة العام 1949 والبروتوكولان الملحقان بها العام 1977 (الاول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة والثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية).
اتفاقية الامم المتحدة بشأن إبادة الجنس البشري العام 1954.
مشروع التقنين الخاص بالجرائم المتعلقة بالسلم والأمن الدوليين (اعداد اللجنة القانونية التابعة للامم المتحدة).
اتفاقيات لاهاي العام 1899 والعام 1907.
اعلان الامم المتحدة حول علاقات الصداقة والتعاون في ضوء ميثاق الامم المتحدة الصادر في 24/10/1970 (المعروف باعلان التعايش السلمي وقواعد القانون الدولي).
قرار الجمعية العامة للامم المتحدة الخاص، بتعريف العدوان في القانون الدولي العام 1974.
قرارات الامم المتحدة بخصوص مدينة القدس (قرار مجلس الامن العام 1980 برفض ضم القدس من جانب الكنيست الاسرائيلي).
الاعلان العالمي لتصفية الاستعمار ومنح الشعوب المُستعمَرة والتابعة استقلالها وحقها في تقرير مصيرها الصادر العام 1960.
مقررات مؤتمر هلسنكي العام 1975 للامن والتعاون الاوروبي والتي أدخلت مبادئ أساسية جديدة في العلاقات الدولية باعتبارها مبادئ مستقلة وهي :
 1- احترام حرمة الحدود وعدم جواز خرقها.
2-   احترام وحدة الاراضي والاستقلال السياسي للدول .
3-   احترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية.
قرار مجلس الأمن رقم 242 العام 1967.
قرار مجلس الامن رقم 338 العام 1973 .
قرار الامم المتحدة بشأن ضم اسرائيل مرتفعات الجولان السورية العام 1981.
القرارات الدولية لمكافحة الارهاب وهي : 1368 و 1378 و1390 والتي صدرت على التوالي بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الاجرامية، في 12 و28 أيلول (سبتمبر) 2001 و 16 كانون الثاني (يناير) 2002.
قرار مؤتمر ديربن المنعقد في أواخر آب (اغسطس) ، أوائل أيلول (سبتمبر) العام 2001، الذي دمغ الصهيونية وممارسات اسرائيل بالعنصرية.
تقرير بوستروم حول الاتجار بالأعضاء البشرية.
تقرير غولدستون حول انتهاكات اسرائيل للقانون الدولي الانساني.
 
وفي ضوء هذه الوثائق يمكن تكييف التهم التي ارتكبتها اسرائيل في غزة وتجريمها باقتفاء أثر أحد الخيارات القانونية التي تم عرضها، واستناداً الى تصنيف الجرائم حيث يمكن اسناد التهم التالية لاسرائيل وقادتها من الذين رسموا خطط الغزو والتآمر ونفّذوا أعمال العدوان وأصدروا الاوامر للقيام بالمجازر الوحشية.
وهذه التهم هي:
الجرائم الموجهة ضد السلم والأمن الدوليين ( جريمة العدوان ).
جرائم الحرب.
الجرائم الموجهة ضد الانسانية .
 جرائم ابادة الجنس البشري.

وقد عرفت المادة السادسة من نظام محكمة نورمبرغ العسكرية الجرائم ضد السلم العالمي بأنها(12):
تدبير أو تحضير أو اثارة أو متابعة حرب عدوانية.
تدبير أو تحضير أو إثارة حرب خرقاً للمعاهدات والالتزامات الدولية.
الاشتراك في خطة مدبرة أو تآمر لارتكاب أحد الاشكال السابقة.

ولعل هذه الاعمال جميعها تنطبق على ممارسات اسرائيل في السابق والحاضر، لاسيما في غزة، الامر الذي يقتضي جهداً جماعياً لملاحقتها، وهو ما حدا بالباحث الى تصور قيام (محكمة القدس الدولية العليا)، وإذا كان ذلك حلماً فدعونا نحلم مرة أخرى في البحث عن الحقيقة بل نغامر من أجلها.

خيارات الملاحقة القانونية والآليات المتاحة!!

بعد هذا العرض ما هو السبيل لتوجيه الاتهامات الى مرتكبي الجرائم في غزة، وهل يمكن تجريمَهم طبقاً للقانون الدولي الانساني؟
لعل هناك أكثر من خيار قانوني دولي يمكن اعتماده لملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم الابادة الجماعية وجرائم الحرب وجريمة العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين، ولكن هذه الخيارات تعترضها عقبات سياسية بالدرجة الاساسية وعقبات قانونية أيضاً، ولعل ذلك يتمثل بمواقف الولايات المتحدة والقوى المتنفذة في نظام العلاقات الدولية التي حالت على مدى 60 عاماً من ملاحقة اسرائيل وتجريمها قضائياً بموجب أحكام القانون الدولي.
ومثل هذه المواقف استفحلت بتفرّد الولايات المتحدة الامريكية وهيمنتها على الامم المتحدة، خصوصاً عند انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل الى آخر، لاسيما بعد انهيار النظام الاشتراكي العالمي وانحلال الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي مهّد لاعتبار الاسلام هو العدو الاول والخطر الأكبر بعد ظفر الليبرالية الجديدة من الهيمنة على العالم.
اما الخيارات المتاحة هي:
الخيار الاول: هو الطلب من الامم المتحدة انشاء محكمة خاصة مؤقتة على غرار محكمة يوغسلافيا ورواند وسيراليون وكمبوديا والمحكمة الدولية لملاحقة قتلة الرئيس رفيق الحريري، التي هي محكمة خاصة لها طابع دولي. ولكن العقبة الأساسية التي قد تحول دون تحقيق ذلك هي: استخدام واشنطن حق الفيتو، وانحيازها لصالح اسرائيل، الأمر الذي يعرقل اتخاذ مثل هذا القرار، وهو ما ينبغي أخذه بالحسبان عند التفكير باتخاذ خطوة جدية ناجحة.
الخيار الثاني  إحالة الأمر الى الجمعية العامة للامم المتحدة بانشاء محكمة خاصة من قبلها طبقاً لمبدأ " الاتحاد من أجل السلام" الصادر بقرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 377 في العام  1950 (بشأن كوريا). ورغم النزاع الفقهي بشأن  القرار المذكور، الاّ انه يعدّ إحدى السوابق التي يمكن اعتمادها  والبناء عليها، الأمر الذي يحتاج الى المزيد من الأنشطة لحشد وتعبئة الكثير من الطاقات للحصول على قرار يمكن بموجبه مقاضاة مرتكبي الجرائم.
ولكن هذا الخيار قد لا ينجح بالحصول على أغلبية في الامم المتحدة، وإن نجح فقد تمتنع الأمم المتحدة من تمويل المحكمة، لاسيما وأن الولايات المتحدة متحكّمة بالتمويل، ومن المحتمل وهذا ما  هو متوقع أن تمتنع من تقديم التمويل اللازم للامم المتحدة بهذا الخصوص، الأمر الذي قد تنهار معه امكانية تحقيق هذا الخيار.
الخيار الثالث العمل على إحالة اسرائيل الى المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمة دائمة، لاسيما بعد أن صدقت عليها أكثر من 100 دولة وهذا يتطلّب من الدول العربية الانضمام اليها والتصديق على ميثاقها بعد التوقيع عليه. ولعل نظام محكمة روما فيه بعض العقبات أيضاً.
ويمكن عرض أهم المبادئ الخمسة التي قامت عليها المحكمة الجنائية الدولية لكي يتم أخذها بنظر الاعتبار عند التحرك باتجاه رفع دعوى ضد المرتكبين الصهاينة.
المبدأ الاول :   انها نظام قضائي دولي نشأ بارادة الدول الاطراف الموقعة     والمُنشئة للمحكمة.
المبدأ الثاني :   إن اختصاص المحكمة سيكون اختصاصا مستقبليا فقط، وليس في وارد حيثياته إعماله بأثر رجعي .
المبدأ الثالث :   ان اختصاص المحكمة " الدولي" سيكون مكملاً للاختصاص القضائي " الوطني"، أي ان الاولوية للاختصاص الوطني، ولكن المحكمة بامكانها ممارسة اختصاصاتها في حالتين، الاولى عند انهيار النظام القضائي والثانية عند رفضه او فشله من القيام بالتزاماته القانونية بالتحقيق ومحاكمة الاشخاص المتهمين بارتكاب جرائم.
المبدأ الرابع  :   اقتصر اختصاص المحكمة على ثلاث جرائم هي: جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم ابادة الجنس البشري، حسبما حددته المادة الخامسة من النظام الاساسي لمحكمة روما.
المبدأ الخامس:   المسؤولية المُعاقب عليها هي المسؤولية الفردية (13).

وقد حددت اتفاقية روما أنه لا يجوز محاكمة هيئات أو دول، واقتصرت على محاكمة أفراد مسؤولين حتى وإن كانوا رؤساء دول أو رؤساء حكومات (رؤساء وزراء) والمسؤولين الآخرين، بمن فيهم القيادات العسكرية العليا، الأمر الذي يحتاج أن يتقدم أحد الأعضاء المصدّقين على الاتفاقية بطلب لرئيس المحكمة الجنائية يحدد من خلاله أسماء المتهمين، وحيث يمكن محاكمة رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق أيهود أولمرت ووزيرة خارجيته تسيبي ليفني ووزير دفاعه ايهود باراك، إضافة الى شيمون بيريز وعدد من القيادات العسكرية العليا، ولعل من حق أحد " رعايا" الدولة المصدقة على الاتفاقية أن ترفع دعوى قضائية ضد المرتكبين، كما يمكن طلب إحالة المتهمين الى القضاء الدولي طبقاً لاتفاقية منع ابادة الجنس البشري التي يتم التوقيع عليها العام 1948.
وفي هذه الحالة يمكن محاكمة المتهمين في أي من الدول المعتدى عليها، ومع ان فلسطين ليست دولة في الوقت الحاضر، وهو الأمر الذي "تتذرع" به اسرائيل "قانونياً"، كما يذهب الى ذلك المنطق القانوني الاسرائيلي، وانها، كما تدّعي انسحبت من غزة منذ العام 2006، وإن اتفاقيات جنيف لا تنطبق على مثل هذه الحالات، لأنها تُعنى بالنزاعات بين الدول، لكن مثل هذا الأمر مردودٌ، خصوصاً وأن الاراضي العربية التي استولت عليها اسرائيل تعتبر محتلة منذ العام 1967، وهو ما أكدته القرارات الدولية، التي طالبتها بالانسحاب، لاسيما القرار 242 لعام 1967 والقرار 338 لعام 1973، الأمر الذي تكون محاكمة المسؤولين الاسرائيليين بأسمائهم، من صلب قواعد العدالة والقضاء الدوليين، وهو ما تقف أمامه عواقب كثيرة في الوقت الحاضر بسبب اختلال توازن القوى.
ولئن ظل اختصاص المحكمة يشوبه الكثير من النقص تبعا للصراع السياسي بين الدول، فقد انقسمت هذه الى فريقين رئيسين، الاول أراد للمحكمة صلاحيات واسعة ودرجة عالية من الاستقلالية. والثاني أراد تقليص صلاحياتها بحيث تكون خاضعة للدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن ومبدأ أسبقية الدول على الافراد، الاّ أنها رغم كل شيء كانت ثمرة التطور في ميدان حقوق الانسان.
ان اتخاذ البلدان العربية والاسلامية مواقف موضوعية ازاء الانضمام والتصديق الى المحكمة ضرورة تُمليها عدم التغيّب عن مرجعية دولية مهمة بهذه الاهمية التاريخية والمستقبلية، وإذا كنّا نردّدُ كثيراً موضوع مقاضاة مرتكبي الجرائم، فإن واحداً من الآليات التي يمكن اعتمادها هو نظام محكمة روما، الأمر الذي يتطلب الانضمام اليه والتصديق عليه، وبالتالي رفع الشكاوى وتحريك الدعاوى ضد المرتكبين. وهذا الخيار معقدٌ أيضاً، وتكتنفه الكثير من الصعوبات والعراقيل القانونية والعملية، لاسيما أن اللجوء الى المحكمة أمر لا يسمح به الآّ إذا قام مجلس الأمن بإحالة هذه الجرائم الى المحكمة الجنائية الدولية، وهو غير ممكن حالياً ضمن الفيتو الامريكي، أو قناعة المدعي العام الذي يوجّه حاليا التهم الى الرئيس السوداني عمر البشير بخصوص الجرائم المرتكبة في دارفور، في حين يغضّ النظر عن جرائم اسرائيل.
الخيار الرابع هو الاختصاص العالمي، وسيكون من حق أية دولة طبقاً لاتفاقية جنيف الرابعة العام 1949، محاكمة المتهمين بارتكاب الجرائم ضد الانسانية، بصرف النظر عن مكان وقوع هذه الجرائم، طبقاً لقوانين الدولة ذاتها. وقد قامت اسرائيل مؤخراً بتكليف محامين دفعت لهم أكثر من 3 ملايين دولار لمعرفة القوانين التي تنطبق على مسؤولين يمكن اتهامهم بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الانسانية، كما قامت من خلال ضغط امريكي لتعديل القانون البلجيكي. وهي تشن حالياً حملة ضد اسبانيا وتسعى لتغيير قوانينها، خصوصاً بعد قبولها دعاوى ضد مسؤولين اسرائيليين. وكانت وزيرة الخارجية الاسرائيلية السابقة تسيبي ليفني قد صرّحت بأنها تجري اتصالات مع اسبانيا بهدف تعديل قوانينها للحؤول دون استخدامها من جانب بعض منظمات المجتمع المدني في ملاحقة عدد من المسؤولين الاسرائيليين، ولعل المفارقة حين يلاحقها القضاء البريطاني اليوم بشأن مسؤوليتها في الحرب ضد غزة.
ولعل هذا يفسّر ضيق صدر اسرائيل وتبرّمها، وهي التي لا تكترث بالقانون الدولي كثيراً، حيث شنّت هجوماً ضد تقرير غولدستون وكذلك ضد تقرير بوستروم، لأنهما يعرّضا "مشروعية" وجودها للتساؤل المشروع، خصوصاً وأن هذين التقريرين يوجهان اتهامات صريحة الى قيامها بارتكاب حرب تستحق إحالة المرتكبين الى القضاء الدولي. ومثل هذا الهجوم يذكّر بحملتها المحمومة ضد كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة، بسبب اصدار الجمعية العامة قرارها رقم 3379 الخاص بمساواة الصهيونية بالعنصرية في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1975، وقد تمكّنت من إلغائه في 16 كانون الاول (ديسمبر) العام 1991 في سابقة دولية خطيرة، ولعل سبب حملتها تلك لأن القرار يتعلق بالادانة لصميم العقيدة الصهيونية.
 ورغم أن هذه إمكانية اللجوء الى الاختصاص العالمي ما تزال متوفرة حتى الآن حيث ان هناك عدداً من الدول تسمح قوانينها ونظامها القانوني بمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب ومنها: كندا واسبانيا وألمانيا وهولندا وفرنسا وبريطانيا، الاّ أن الأمر  لم يجرِ استثماره من جانب العرب على نحو مؤثر، فالحكومات لم تدخل هذا الباب بعد، أما المجتمع المدني فإمكاناته شحيحة وأهالي الضحايا بأوضاع صعبة ولا تسمح لهم اختيار هذا الطريق لتكاليفه الباهظة. ويتطلب الأمر أيضاً تعديل قوانين الجزاء والعقوبات العربية، لكي تقبل دعاوى ضد مسؤولين اسرائيليين متهمين بارتكاب جرائم، خصوصاً إذا مرّوا عبر أراضيها، إذ يتعين في هذه الحالة وجود تشريعات قانونية تسمح بتجريم ومحاكمة المتهمين بارتكاب الجرائم،وهذا هو الاساس الذي استندت اليه المحاكم البلجيكية في قبول النظر في الدعاوى التي أقيمت ضد شارون باعتباره المتهم الاساسي في جرائم صبرا وشاتيلا 17-18 أيلول/سبتمبر 1982، علماً بأن اسرائيل هي أول من لجأ الى استخدام هذا " الحق" رغم أنها قامت بمخالفة صريحة وسافرة لقواعد القانون الدولي، عند اختطاف ايخمان من الارجنتين العام 1960 وقامت بنقله الى مطار بن غوريون، وأعلنت عن بدء محاكمته ثم قامت باعدامه (بعد صدور الحكم ضده)، وهي ما تزال تطارد أعداداً من المتهمين بارتكاب جرائم الابادة بحق اليهود.
لعل الاختصاص الجنائي الدولي يتيح نظرياً على الأقل لنحو 47 بلداً (معظم دول مجلس أوروبا) التقدم أمام المحاكم الوطنية ورفع دعاوى تطلب جلب المتهمين الى العدالة لمقاضاتهم، حتى وإن كان الجناة  يتمتعون عن جنسية بلد آخر، حيث يمكن رفع دعاوى قضائية أمام المحاكم الوطنية لملاحقة المتهمين، وابلاغ المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية بهذه الجرائم، حيث تقع هذه المسألة ضمن سلطاته واختصاصه، لاسيما بعد إخطار مجلس الأمن بذلك.
يكفي أن يحمل الضحية جنسية البلد الذي يرفع الدعوى أمام قضاء بلده، ليحق له مقاضاة المتورطين في جرائم يقدّمها ضد مجهول أو ضد شخص بذاته من المسؤولين الاسرائيليين، حتى وان كان يتمتع بحصانة، لأن هذه الأخيرة لا تعفيه عن المساءلة بارتكاب الجرائم.
ورغم عدم تفعيل هذه الآليات وعدم الرجوع اليها لدرجة كافية حتى الآن، الاّ ان الكثير من المسؤولين الاسرائيليين أصبحوا يخشون السفر الى اوروبا، تحاشياً لاحتمال إلقاء القبض عليهم، لاسيما إذا كان هناك من سيرفع أو رفع شكوى ضدهم بموجب الاختصاص الجنائي الدولي.
ان اللجوء الى هذا الخيار ممكن رغم أنه غير مضمون، لاسيما من خلال الضغوط السياسية والتعقيدات القانونية، التي قد تجعل الجناة يفلتون من يد العدالة.

الخيار الخامس  ال

1088

كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (7).. جيفارا وعبدالناصر: أحلام الكبار!      
   عبدالحسين شعبان
      
2009-12-14
حاولت أن أستعيد ما اختزنته الذاكرة وأنا أقوم بجولة في هافانا، للبحث عن أثر جيفارا قبل ذهابي إلى سانتا كلارا، وهناك داهمتني ذكريات وأحاديث قديمة مضت عليها خمس سنوات وأربعة عقود من الزمان.
حين زرت القاهرة لأول مرة في فبراير 1965 كنت أبحث أيضاً عن أثر جيفارا في حواريها وأزقتها ولكن على نحو مختلف عما فعلته في هافانا. في القاهرة كنت أحاول أن أقتفي أثره، حيث كان جيلنا الستيني متطلعاً حالماً، شديد الحماسة، أما في هافانا فقد جئت ناقداً، مقلّباً التجربة وأخطاءنا، مراجعاً المتن والمنهج والممارسة، متفحصاً ما أفرزته الحياة من غث ومن سمين.
ولعل الشاعر عبدالوهاب البياتي الذي التقيته في مقهى لاباس في القاهرة في العام 1969 حيث كنّا نلتقي يومياً، كان أول من حدثني عما ترك الرجل من عمق تأثير في القاهرة. أصغينا إليه، الشاعر عبد السامرائي وأنا، وهو يتحدث بإعجاب عن "شاعريته" ورومانسيته الثورية التي قال إنها أقرب إلى الشعر. كانت نقاط الاختلاف والالتقاء تدور حول الكفاح المسلح ودور الطليعة والبؤر الثورية ودور الحزب والعلاقة مع السوفييت، كان بعض ما أورده عبدالوهاب البياتي صحيحاً، بل متقدماً علينا، وهو الذي كتب قصيدته الشهيرة بعد مغادرته موسكو العام 1964 "مدنٌ بلا فجرِ تنامْ/ ناديتُ باسمكَ في شوارعها فجاوبني الظلامْ/ وسألتُ عنك الريح وهي تئنُّ في قلب السكونْ/ ورأيتُ وجهكَ في المرايا والعيون/... وفي بطاقات البريد.. مدنٌ يغطّيها الجليد!".
كنت أشم رائحة جيفارا وأنا أتجوّل في الساحات والشوارع وأنتقل بين المكتبات والحانات والمعارض الهافانية وأستمع إلى موسيقى السالسا والسامبا. استعدت الزمن الجميل في القاهرة، يوم كنت أبحث عن مجلة الكاتب ومجلة الطليعة وأزور دار الأهرام العتيدة وجامعة القاهرة "الحية". أتصفح ما يقع تحت يدي آنذاك من أثر لجيفارا وعلاقته بعبدالناصر، ومواقفه من القضية الفلسطينية وقضايا التحرر الوطني، و "الحلم" المنشود.
كانت القاهرة أولى محطات جيفارا إلى إفريقيا، حيث كانت زيارته الأولى لها قد استمرت أسبوعين، من 15 يونيو إلى 30 من الشهر ذاته العام 1959، وذلك يوم عيّنه فيدل كاسترو زعيم الثورة المنتصرة في الأول من يناير 1959 "سفيراً مطلق الصلاحيات"، لشرح أهداف الثورة وخططها وتوجهاتها، ولعل اختيار القاهرة له أكثر من دلالة:
الأولى: أن زعيمها هو جمال عبدالناصر، بطل حرب السويس والصامد بوجه العدوان الإسرائيلي، الأنجلو-فرنسي والرافض لحلف بغداد ومشروع أيزنهاور، والمساندة لثورة العراق.
والثانية: أن توجهه الاجتماعي بتعميق ثورة 23 يوليو 1952 اتخذ مسارات جديدة أكثر راديكالية وثورية بعد تأميم قناة السويس وفشل العدوان، لاسيما الصداقة مع المعسكر الاشتراكي والاتحاد السوفييتي تحديداً.
والثالثة: أن مصر هي قلب العروبة وأكبر بلد عربي ولها إشعاع فكري وثقافي وسياسي على العالم العربي كلّه، لاسيما الدور الريادي الوحدوي لجمال عبدالناصر وارتفاع رصيده في مواجهة الإمبريالية، وهي مصدر إلهام لحركات التحرر العربية، التي أخذت تعبّر عن نفسها بالناصرية أو العروبية، وأنا هنا أتحدث عن جانبها الإيجابي، مع وجود نواقص وثغرات وجوانب سلبية للظاهرة، لاسيما الموقف من الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان.
والرابعة: أن مصر تشكّل قاعدة لتحالف دولي عُرف باسم عدم الانحياز لاحقاً، أو دول الحياد الإيجابي، لاسيما من خلال الزعامات الثلاث، جمال عبدالناصر، وجواهر لال نهرو، وجوزيف برونز تيتو، والذي اتخذ تسمية مجموعة الـ77 فيما بعد.
الخامسة: أن مصر هي مركز ملهم لإفريقيا ولحركاتها التحررية، فضلاً عن كونها جسر الوصل مع آسيا، وكانت القاهرة يومها تعجّ بالثوار الأفارقة والقيادات والزعامات المختلفة.
السادسة: أن مصر يمكن أن تشكل إقليماً قاعدياً لوحدة عربية أو اتحاد عربي أكبر من مصر وسوريا، لاسيما بعد انتصار الثورة العراقية في 14 يوليو 1958 التي شكلت ضربة كبيرة لمخططات الإمبريالية والغرب الاستعماري في المنطقة وبخاصة لحلف بغداد، لولا الصراعات التي لا مبرر لها والأخطاء والثغرات التي رافقت العلاقات حينها، مثلما وجهت الثورة الكوبية ضربة موجعة لواشنطن في فنائها الخلفي، لهذه الأسباب اختار جيفارا زيارة القاهرة وبدء تحالفه الثوري- الاستراتيجي منها.
السابعة: أن جيفارا أراد دراسة التجربة المصرية، لاسيما الصناعية منها والزراعية، وبخاصة الإصلاح الزراعي وتجربة سد أسوان وبهدف استفادة الكوبيين من خبرة مصر في هذه الميادين، ولعل شخصية القائدين المستقلين المتميزين (عبدالناصر وكاسترو) ووضعهما مسافة بين بلديهما والاتحاد السوفييتي، بحيث لا تتحول كوبا أو مصر إلى "تابعين" كما هي البلدان الاشتراكية، أعطاهما أهمية استثنائية في العلاقة، رغم عدائهما الشديد للولايات المتحدة، ولعل ذلك بحد ذاته كان عنصر جذب لتعزيز الصداقة المديدة بين عبدالناصر وجيفارا، لاسيما تقارب وجهات نظرهما بهذا الخصوص! وقد انجذب جيفارا إلى الثورة المصرية وتأثر بمواقف عبدالناصر منذ أن كان مع صديقه فيديل كاسترو في المكسيك وكذلك صديقه راؤول، يومها نَظَم بضعة أبيات أسماها نشيد النيل (العام 1956- إثر العدوان الثلاثي الإسرائيلي، الأنجلو-فرنسي).
لم يكن جيفارا يحب البروتوكول الدبلوماسي أو السجادة الحمراء التي يفرشها له مستقبلوه المصريون، وقد حاول عدة مرات تضليل مرافقيه، ليذهب إلى المناطق الشعبية ويلتقي بالناس البسطاء، ويأكل أسياخ اللحم المشوي من الكباب والشقف في أزقة القاهرة وحاراتها.
خلال حضوره مناورات عسكرية مصرية في البحر الأبيض المتوسط، سأل جيفارا الرئيس جمال عبدالناصر "كم عدد الأشخاص الذين اضطروا للهروب من البلاد بسبب الإصلاحات الزراعية؟" فأجابه عبدالناصر "إنهم قلة" فردّ عليه جيفارا وقد غلبه الشك: "هذا يعني أن الثورة لم تُحدث تغييراً مهماً في مجال الإصلاح الزراعي" وأردف جيفارا قائلاً: إنني أقيس عمق التغييرات الاجتماعية بعدد الأشخاص الذين تنالهم هذه الإصلاحات... أُعجب عبدالناصر بالشاب جيفارا الذي يصغره بنحو عشر سنوات، وبدأ يشرح له مسعى تدمير القاعدة الاجتماعية والسياسية التي ارتكز عليها الإقطاع.
خلال زيارته الأولى إلى مصر حصل عدوان على غزة التي كانت تحت الإدارة المصرية، فلم يتوان عن القيام بزيارتها يوم 18 يونيو 1959، ويتجوّل في المخيمات الفلسطينية، حيث استقبل بهتافات ترحيبية وتضامنية مع الثورة الكوبية، مشدداً على موقف كوبا من ثورة مصر وثورة الجزائر والتضامن الأممي الأميركي- اللاتيني- العربي الإفريقي.
وفي خطاب له في المؤتمر الأفرو-آسيوي، قال جيفارا بروح أممية "لقد بدأت إفريقيا وآسيا بالنظر إلى ما وراء البحار"، ولعل ذلك كان مرتكزاً لدراسة كان قد كتبها بعنوان "أميركا من على الشرفة الإفريقية والآسيوية" وقد نُشر هذا البحث الذي يمثل رؤية استراتيجية بما عُرف لاحقاً بالجيفارية في أواخر العام 1959.
يذكر الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل، أن عبدالناصر كان معجباً بجيفارا وارتبط معه بعلاقة حميمة، وكان جيفارا من جهته شديد الإعجاب بقيادة عبدالناصر التي بإمكانها لا الانخراط في جبهة البلدان المتحررة من الاستعمار فحسب، بل أن تلعب دوراً مهماً فيها، لاسيما في إفريقيا وآسيا، وبالخصوص في العالم العربي. وقد حاول تفسير أسباب ثورة 23 يوليو 1952 بتشديده على أن الفقر والاستغلال هما سبب تحرّك الضباط الشباب للإطاحة بالنظام السياسي واستعادة الثروات المنهوبة وإجلاء القوات الأجنبية البريطانية وتأميم قناة السويس، الأمر الذي ردّت عليه بريطانيا وفرنسا ومن خلال العدوان الإسرائيلي بالهجوم على مصر، في معركة راح ضحيتها 3000 مدني في مدينة بورسعيد وحدها، ولكن بفضل التضامن العالمي ومقاومة الشعب المصري تم دحر العدوان.
يروي محمد حسنين هيكل، أن عبدالناصر شعر بأن جيفارا كان حزيناً ومهموماً فطلب منه أن يفضي إليه بمكنونات قلبه، فقال جيفارا إنه متجهٌ إلى الجزائر وبعد عودته سيصارحه ويفضي إليه بهمومه، كان ذلك لدى توقف جيفارا في القاهرة لمدة ثلاثة أيام في 19 يناير 1965 قبل ذهابه إلى الجزائر، وكان وقتها يدير مجموعة خلايا لقوى تحررية إفريقية من قاعدة في الجزائر ودار السلام (تنزانيا) إضافة إلى القاهرة، ولعل خطاب الجزائر 24 فبراير 1965 كان الإعلان الأول عن "قطيعة" جيفارا مع المواقع الرسمية، وهو ما سيبوح به لعبدالناصر.    

1089
حدد‮ ‬6‮ ‬تحديات تواجه حكومة بغداد‮.. ‬الباحث العراقي‮ ‬شعبان لـــ‮ »الوطن«
الطائفية أكثر خطراً‮ ‬على المجتمع العراقي‮ ‬من الاحتلال
   
    
محمد الغسرة
   
قال المفكر والباحث العراقي‮ ‬الدكتور عبدالحسين شعبان إنه رغم تحسن الوضع الأمني‮ ‬نسبياً‮ ‬في‮ ‬العراق إلا أن هناك اختراقات أمنية مستمرة بينها الأربعاء الدامي‮ ‬والأحد الأسود،‮ ‬وأخيراً‮ ‬الثلاثاء البغيض مما‮ ‬يضع العديد من التحديات أمام الحكومة العراقية‮. ‬
وقال في‮ ‬مقابلة مع‮ ''‬الوطن‮'' ‬إن أهم تلك التحديات هو التدخل السافر من الاحتلال،‮ ‬والتحدي‮ ‬الثاني‮ ‬هو المحاصصة الطائفية وانقسام المجتمع،‮ ‬مشيراً‮ ‬إلى أن‮ ''‬الطائفية أكثر بلاءً‮ ‬على المجتمع من الاحتلال الذي‮ ‬سيزول وإن طال الأمد فيما ستنخر الطائفية الجسم العراقي‮ ‬أن لم‮ ‬يوضع حل لها‮''.‬ وأضاف‮ ''‬في‮ ‬العراق الكل‮ ‬يقول إنه ضد الطائفية ولكن بالممارسة الفعلية هو‮ ‬يمارس الطائفية بطريقة ما،‮ ‬وهذا ما أضر بالعمل السياسي‮ ‬وبالعملية السياسية برمتها‮. ‬الكل من النخب الحاكمة مستفيد من هذه الطائفية حيث‮ ‬يحصل على امتيازات باسم الطائفية رغم أن الكثير ممن انضموا تحت راية الطائفية هم لا دين لهم لأن الطائفية لا دين لها ولأن المسلم الحقيقي‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يكون طائفياً‮ ‬لذا فإن الطائفية ضد الدين‮''.
‬ وقال إن التحدي‮ ‬الثالث هو الإرهاب من قبل الجماعات المسلحة والإرهابيين الذين تكاثروا بالعراق وهم قسم ضد العملية السياسية وقسم آخر قريب من العملية السياسية وثالث ضدها،‮ ‬وهم تنظيم القاعدة والجماعات المسلحة القريبة من البعث والتي‮ ‬تمارس العنف كوسيلة وحيدة للعلاقة مع الآخر وهي‮ ‬أخطر الجماعات وأكثرها ضرراً‮ ‬على الواقع العراقي‮ ‬ومستقبله وعلى الجماعات المعارضة سلمياً‮ ‬أن تتكاتف لتطويق هذه الظاهرة ونبذها‮. ‬ التحدي‮ ‬الرابع هو الفساد والرشى الذي‮ ‬يعتبر من الظواهر التي‮ ‬تعززت وتعممت بعد الاحتلال بل شارك فيها الاحتلال أيضاً،‮ ‬وقد أصدرت مفوضية النزاهة بالعراق تقريراًً‮ ‬قبل ثلاث سنوات أشارت فيه إلى أن‮ ‬93‮ ‬مسؤولاً‮ ‬كبيراً‮ ‬بما في‮ ‬ذلك 15 من الوزراء شاركوا بالفساد بل متهمون فيه وهناك أكثر من ألف حالة صارخة كبرى على عمليات الفساد المنظم وعقبات وعراقيل لاجتثاثه‮.
وتابع شعبان‮ ''‬التحدي‮ ‬الخامس هو وجود المليشيات المسلحة التي‮ ‬تشكل خطراً‮ ‬على الوضع العراقي‮ ‬وهي‮ ‬متعددة من الصحوات ومجالس الانقاذ وجيش المهدي‮ ‬وغيرها،‮ ‬وهذا الوضع لا‮ ‬يصح مع الديمقراطية لأنها تعني‮ ‬سلطة القانون،‮ ‬واستخدام عشائر وجماعات مسلحة لفرض القانون‮ ‬ينافي‮ ‬الديمقراطية والدولة‮ (...) ‬الغريب أن العشائرية تعززت بعد مجيء الاحتلال بعد أن كانت تاريخاً‮ ‬وكانت العشائرية مطبقة قبل‮ ‬العام 1958 (ثورة 14 تموز /يوليو) ‮''.
 وقال‮ ''‬التحدي‮ ‬السادس هو عدم الاتفاق على الفدرالية والأقاليم،‮ ‬ومشكلة كركوك نموذجاً‮ ‬حيث إن العلاقة‮ ‬غر متوازنة بين السلطة الاتحادية وسلطة الأقاليم رغم أن النظام الفدرالي‮ ‬به الكثير من الامتيازات والإيجابيات بل إن‮ ‬25‮ ‬بلداً‮ ‬في‮ ‬العالم تعمل بالفدرالية ونحو‮ ‬40٪‮ ‬من سكان العالم في‮ ‬نظام فدرالي،‮ ‬ولكن الخطر أن هذا النظام في‮ ‬ظل ضعف الحكومة‮ ‬يهدم الدولة في‮ ‬أي‮ ‬وقت وبشكل كامل‮ (...) ‬من الممكن تحقيق نظام فدرالي‮ ‬في‮ ‬العراق ولكن الدستور الحالي‮ ‬لا‮ ‬يعطي‮ ‬هذا النجاح،‮ ‬نظراً‮ ‬لمستلزمات وشروط الفدرالية المتمثلة في‮ ‬توحيد الجيش والعلم والموارد والدبلوماسية للسلطة الاتحادية دون منازع،‮ ‬وعدا ذلك مما‮ ‬يتعلق بالتعليم والصحة والإدارة المحلية‮''.‬ وأوضح أنه‮ ''‬حسب الدستور العراقي‮ ‬إذا اختلف الطرفان في‮ ‬مسألة ما‮ ‬يجب تطبيق القانون الاقليمي‮ ‬وليس الاتحادي،‮ ‬وهو مغاير لقوانين العالم،‮ ‬ومسألة كركوك مادامت عراقية فليس مهماً‮ ‬أي‮ ‬من الأقاليم تتبع على أن لا‮ ‬ينتهك حق الساكنين فيها أو تهجيرهم،‮ ‬وهذا‮ ‬يستوجب تعديل العلاقة بين السلطة الاتحادية والفدرالية‮''‬،‮ ‬وأكد أن العراق القوي‮ ‬هو ساند للقوى العربية ونأمل عودته باكراً‮ ‬إلى مكانه الطبيعي‮ ‬للعب دوره الحقيقي‮.‬


صحيفة الوطن البحرينية الخميس 10/12/2009


1090
دعا إلى تطوير التجربة بمزيد من إشراك الناس
شعبان: البحرين متقدّمة «عربياً» في حقوق الإنسان
الوقت:
قال الخبير في ميدان القانون الدولي وحقوق الإنسان، عبدالحسين شعبان، إن أوضاع حقوق الإنسان في البحرين تطوّرت بشكل كبير بعد مرحلة التصويت على ميثاق العمل الوطني، حتى أصبحت من بين أفضل الدول العربية في هذا المضمار.
وفي لقاء خاص مع «الوقت» أشاد شعبان بتجربة البحرين التي استندت إلى «الوعي السياسي لدى النخبة الحاكمة وقناعتها بضرورة مواكبة التطورات العالمية والاستجابة للإرادة الشعبية»، بحسب ما قال، إلاّ أنه دعا إلى مزيد من إشراك الناس بهدف تطوير التجربة.
وفي السياق ذاته، أشاد شعبان بتشكيل المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان، ودعا أن تمارس دورها في «مراجعة القوانين والأنظمة في البلاد وتكييفها أو اقتراح تعديلها وفق مبادئ حقوق الإنسان، وتشجيع الحكومة ودعوتها للانضمام للاتفاقيات الدولية».وإليكم نص الحوار:

•   بدايةً كيف تقيّم وضع حقوق الإنسان في الوطن العربي؟ كيف تسير؟ هل تتقدّم؟ وأين موقعنا من العالم؟

- مازال العالم العربي في أسفل السلّم إزاء موضوع احترام حقوق الإنسان وذلك رغم التطورات التي حقّقها في السنوات العشرين الماضية، وقد سبق لي أن أشرت إلى تميّز كل من المغرب والأردن والبحرين في السنوات الأخيرة، ولكن ثمّة تراجعات قد حصلت، ما أدّى إلى حصول نوع من الاحتدام أو الاحتكاك ما بين السلطات السياسية والمعارضات، ودفع أوساط من العاملين في حقوق الإنسان إلى الحديث عن أهم النواقص والثغرات.
إذاً هناك بالفعل تحديات موضوعية وذاتية تواجه ملف حقوق الإنسان في البلاد العربية، بعضها خارجية مثل استمرار الاحتلال لفلسطين والعراق، الحصارات التي فرضت على بعض البلدان، إضافة إلى ظاهرة الإرهاب وإملاء الإرادة من جانب القوى المتسيّدة في العالم.
أما على صعيد التحديات الداخلية، فتتمثل في وجود القوانين المقيّدة للحريّات، عدم الترخيص لحق العمل الشرعي والقانوني، تقييد حرية الصحافة، ضعف المشاركة السياسية ومشاركة المرأة بشكل أخص، إضافة إلى الأمراض الطائفية والعشائرية التي دفعت مجتمعاتنا العربية إلى مزيد من التشظّي والتفتيت والتباعد.
حقوق الانسان

* ذكرت أننا - كدول عربية - في أسفل السلّم بين دول العالم. ما أبرز الموضوعات التي تجعلنا في الأسفل؟

- التعذيب الذي يتفشّى في كثير من الدول العربية، والإعدامات التي تتم خارج إطار القضاء، محدودية حرية التعبير وفقدان الحريات العامّة، غياب حق حرية الاعتقاد، ضعف المشاركة السياسية وتجاوز حقوق المرأة، إضافة إلى كثير من القيود والموروث البالي الذي يعطّل ويعرقل حركة تقدّم حقوق الإنسان، وهو ما يعني الحاجة إلى مضاعفة الجهود بدءاً من المناهج التربوية لصالح حقوق الإنسان وليس انتهاءً بالإرادة السياسية.
إذاً، فهذه أبرز المؤشرات التي تُعتمد في تقييم حقوق الإنسان والتي تعاني من تراجع وضعف كبير في الوطن العربي.

* فيما يخص «التجربة البحرينية».. وقد ذكرت قبل قليل أنها من بين ثلاث دول عربية متمّيزة في هذا المجال رغم بعض التراجعات كما أشرت. كيف تقرأ هذه التجربة عموماً؟ وعلامَ استندت في وصفك لها بالمتميزة من بين الدول العربية؟

- دعني أقول إن هناك تطوراً كبيراً حصل على صعيد حقوق الإنسان في البحرين قياساً بمرحلة ما قبل العام ,1998 وجرى ذلك على نحوٍ تدريجي، وتقدّم أكثر في مرحلة ما بعد الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني الذي حظي بأغلبية ساحقة.
وفي رأيي أن تطوّر أوضاع حقوق الإنسان استند في البحرين على ثلاثة عناصر:
- الأول: ويتمثل في الحراك الشعبي الذي ساهم كثيراً في وصول البلاد إلى ما وصلت به بعد التسعينات.
- الثاني: ويتمثّل في صدور قرارات ذات أبعاد سياسية وقانونية مهمّة أبّان التصويت على الميثاق، حيث سمحت تلك القرارات بعودة المبعدين، إلغاء محاكم أمن الدولة والاعتقال التسعفي، وقف الانتهاكات المتعلّقة بالتعذيب والمعاملة التي تحط من كرامة الإنسان والترخيص للجمعيات بمزاولة العمل السياسي.
- أما العنصر الثالث الذي استندت إليه التجربة، فهو الوعي السياسي لدى النخبة الحاكمة وقناعتها بضرورة مواكبة التطورات العالمية والاستجابة للإرادة الشعبية.
وبعد تصويت البحرينيين على ميثاق العمل الوطني في العام 2001 حصلت ردود فعل إيجابية، كما أن استجابة المعارضة والتلاحم الشعبي مهّد الطريق أمام مناخات سياسية واقتصادية إيجابية، وإلى تطوّر حقيقي وملموس في أوضاع حقوق الإنسان، حتى لو بدا في السنوات القليلة الماضية أن هناك نوعاً من الاحتدام بين أطراف من المعارضة والسلطة، إلاّ أن المشهد العام ظلّ إيجابيا،ً وخصوصاً إذا ما قارنّاه بأوضاع التسعينات.

اختيار شخصيات المؤسسة
•   شكّلت البحرين «المؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان».. كيف تقرؤون هذا الحدث؟

- تشكيل المؤسسة كان شيئاً إيجابياً، وبقي أن تُحسن الدولة اختيار الشخصيات التي ستوضع في المكان المناسب، فيجب أن يكونوا من أصحاب الكفاءات، المدافعين عن حقوق الإنسان، الذين لم يتورّطوا في قضايا فساد إداري أو مالي أو في معاملة سيئة مع المواطنين، وأن يُشهد لهم بالنزاهة والموضوعية وتقديم خدمات اجتماعية وإنسانية.

وعلى المستوى العملي، فأعتقد أن هذه المؤسسة يجب أن تكون من أوّلى مهماتها مراجعة القوانين والأنظمة في البلاد وتكييفها أو اقتراح تعديلها وفق مبادئ حقوق الإنسان، وتشجيع الحكومة ودعوتها للانضمام للاتفاقيات الدولية، ثم مراقبة مدى تطبيق الحكومة لتلك الاتفاقيات، ومن جهة أخرى تشجيع مؤسسات المجتمع المدني بأن تمارس دورها في الرقابة وفي أن تكون شريكاً حقيقياً في تطبيق الاتفاقيات والمعايير الدولية، لا أن تكون مجرّد منظمات اعتراضية أو احتجاجية، فمؤسسات المجتمع المدني لابدّ أن تتحوّل إلى قوّة اقتراح، وأن تقدّم وتقترح القوانين للحكومة والجهات المعنية.
كما أن الإعلام لابدّ أن يلعب دوره في الترسيخ لمبادئ حقوق الإنسان، أي أن المؤسسة يجب أن تناط بها مهمّة تحفيز وتشجيع وسائل الإعلام المحليّة على أن تكون شريكاً حقيقياً وفاعلاً ومؤثراً في ترسيخ حقوق الإنسان.
وإضافة إلى ذلك، فإن هناك دوراً أساسياً جداً يتمثّل في تطوير المؤسسات التربوية والمناهج التعليمية بما يخدم هذه الأهداف.

* ما الشروط التي يجب توافرها في هذه المؤسسة لكي تكون متوافقة مع المتطلبات العالمية؟ أي بمعنى آخر، هل هناك معايير عالمية ينبغي توافرها في المؤسسة لكي نضمن إنتاجيتها وصدقيتها؟

- تحتاج المؤسسة إلى خبراء في القانون الدولي وحقوق الإنسان، ولمعرفة وإحاطة واسعة بالآليات الدولية وتهيئة وتدريب كوادر في هذا المجال.
وبلا شك ينبغي أخذ المعايير الدولية بعين الاعتبار، فهناك الإعلان العالمي لحقوق الانسان، وهناك العهدان الدوليان اللذان ينظّمان الحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وفي السياق ذاته، يجب على المؤسسة أن تتحلّى بمعايير النزاهة والشفافية واعتماد الوسائل الديمقراطية في علاقاتها.
وفي الأساس، فإن اختيار العاملين في هذه المؤسسة كما أسلفنا ينبغي أن يراعي توافر عناصر الكفاءة والنزاهة والإخلاص، وأيضاً الابتعاد عن السياسة وهي نقطة في غاية الأهمية، فيجب عدم تسييس العمل الحقوقي وعدم الخوض في الصراع الأيديولوجي وبالنتيجة عدم الجمع بين العمل السياسي والحقوقي المهني، كما أن المؤسسة معنية بأن تضع مسافة كافية ما بين الفرقاء.

انجازات كبيرة

* ذكرت في تقييمك لتجربة البحرين أن المشهد العام إيجابي. هل من الممكن أن تذكر لنا أهم الإنجازات التي حققتها البحرين في مجال حقوق الإنسان؟

- هناك إنجازات كبيرة حققتها البحرين على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي، وخصوصاً على صعيد العمل والضمان الاجتماعي والصحة والتعليم، فالبحرين قياساً ببلدان المنطقة خطت خطوات إيجابية، وخطت خطوات سياسية ومدنية بحاجة أن تتعزّز وتتعمّق فيما يتعلّق بالانتخابات، السلام الاجتماعي، الترخيص للجمعيات، الحق في التعبير والحريات الإعلامية والصحافية.
كما أن البحرين مطالبة بتعزيز الحق في محاكمة عادلة وتعزيز دور القضاء بما يجعلها ترتقي مع المعايير الدولية.

* وماذا عن المعوّقات والتحدّيات؟

- حصلت بعض التراجعات وهي بحاجة إلى مزيد من الحوار وسماع رأي الجمهور فيما يتعلّق ببعض الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولكن كما قلت إن المشهد العام مازال إيجابياً، ومازال يمكن البناء عليه والاستناد إليه، وأعتقد أن خبرة قياديي الدولة ومسؤوليها والخطوات الشجاعة التي اتخذوها في مطلع الألفية الجديدة سيشكّل مرجعية حقيقية للتطوّر والتقدّم والاقتراب من المعايير الدولية.

* هل من كلمة أخيرة؟

- أودّ القول إن معيار ومقياس تقدّم أي أمّة وأي شعب أو جماعة بشرية لا يتعلّق بعدد الحواسيب والتكنولوجيا والصناعات، ولكن مدى احترامها لحقوق الإنسان، فهذا هو معيار التقدّم الحقيقي الذي يستفيد من الموارد البشرية في خدمة الإنسان في جميع المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
كما ألفت الانتباه إلى ضرورة حق الإنسان بالتمتّع بالراحة وبمنجزات الثقافة، وكما يقول الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس إن الإنسان مقياس كل شيء. إذاً، فأنا أقول إن كل شيء لمصلحة الإنسان ولأجل الإنسان ولمستقبل الإنسان.



صحيفة الوقت البحرينية العدد 1389 الخميس 22 ذي الحجة 1430 هـ - 10 ديسمبر 2009

1091
سعــد صالـح الضوء والظل "الوسطية" والفرصة الضائعة

الدكتور عبدالحسين شعبان


ستقوم "الاهالي " وعلى شكل حلقات متتالية بنشر  كتاب الاديب والمفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان عن الشخصية الوطنية الكبيرة الاستاذ سعد صالح جريو ، ، الذي امتاز بالوسطية والاعتدال، وجمع بين الثقافة والسياسة، وكان شاعراً رقيقاً مثلما عمل وزيراً للداخلية، ورئيساً لحزب الاحرار الوسطي، الذي خرج من معطف الحكومة، ليرتدي بدلة المعارضة الوطنية.
ومثلما يسلط الباحث والاكاديمي شعبان، الضوء حول سجاياه الشخصية وبيئته النجفية ونجاحاته الادارية ومواقفه السياسية وخطبه البرلمانية، متوقفاً عن دراسته الاولى في الحوزة العلمية، ثم تخرّجه من دار المعلمين وكلية الحقوق، فإنه يشدد على اصراره على إجازة الاحزاب وإطلاق حرية الصحافة واغلاق السجون في الوزارة التي شارك فيها ولم تدم أكثر من 97 يوماً
ان كتاب الدكتور شعبان الذي يقدّمه عن سعد صالح، إضافة مهمة للمكتبة العراقية والعربية، وبشكل خاص لمكتبة التيار الديمقراطي، الوسطي، والليبرالي، الذي سبق لشعبان وهو كاتب متمرس ومفكر مجدد ينتمي الى المدرسة الحداثية والى جيلها الثاني، أن رفدها بأكثر من 50 كتاباً في مجالات الفكر والثقافة والقانون والسياسة الدولية والاسلام والنزاعات الاقليمية والدولية والمجتمع المدني وحقوق الانسان.

سعــد صالـح
الضوء والظل
"الوسطية" والفرصة الضائعة
الحلقة الأولى

تمهيد
لا يشكّل الفهم التاريخي لوحده للعمل الفكري والمسيرة الثقافية لأعلام بارزين، مرجعاً كافياً لاستيعاب التطور الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي لحقبة تاريخية كاملة ولشخصيات مؤثرة فيها، سواءً في قراءته للأحداث وتراتبها وتعاقبها أو في أسسه ومنطلقاته الاساسية بحصر الظاهرة دون رؤية لجوانبها المتنوعة والمختلفة، وذلك لأن المنهج التاريخاني يبقى منهجاً انطباعياً قائما على قراءة التاريخ بخط واحد أو بحلقات متصلة، كسلسلة مستقيمة تعتمد على فهم ما هو سائد للأحداث والوقائع، الاّ إذا جرى ربطه بالأوضاع الاجتماعية السائدة بكل تنوّعها وأطيافها، وبدلالات تأثيراتها وانعكاساتها.
ومن هنا فإن بعض جوانب القصور والنقص قد تعتور هذه القراءة، وإنْ كانت في الوقت نفسه تتضمن جوانب صحيحة، لا يمكن الاستغناء عنها أحياناً، في إطار المنهج الوضعي النقدي الجدلي المطلوب في معرفة التاريخ والسيرة الفكرية والثقافية والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة، وهذا الأمر يحتاج الى دراسة الظواهر الاجتماعية وسير تطور الأحداث التاريخية، لا وفقاً لتراتبيات متوازية وتسلسلات منطقية لمراحلها حسب، بل أيضاً في ضوء الانقطاعات التاريخية والمنعرجات المحتدمة والتحولات الجزئية والتكوينات الصغيرة، والاسهامات الفردية والمحاولات الشخصية، والبدايات الاجتهادية، والخطوات الشجاعة، رغم ان هذه لا تشكّل هي الاخرى قاعدة كافية يمكن الركون اليها، لكنها تُسهم في إظهار عمل التاريخ في المؤسسات والافراد، والعكس صحيح أيضاً، بابراز دور الافراد والمؤسسات على محدوديتها أحياناً في حركة التاريخ، ولكن تراكمها وتفاعلها مع الكل العام، هو الذي يعطيها هذا الدور المتميز.
هكذا يبدو التداخل بين الفردانية والمجتمعية أو "الفرد الجمعي"، في إطار الصراع السياسي والاجتماعي ودور الفرد في التاريخ من خلال المنهج الجدلي للوضعية النقدية لمسيرة مثقف ومفكر وإداري وسياسي من موقع السلطة ومن موقع المعارضة. وقد اجتمعت في الرجل عدد من الصفات، ولا يمكن للباحث ان يرجّح احداها على الاخرى، فجاء بامتياز هذا الجامع الكبير: رجل الدولة من الطراز الأول، موظفاً ادارياً يراكم الخبرة، متصرفاً (محافظاً) مبادراً، وسياسياً صاحب قرار، ووزيراً مجدّداً، وفي الوقت نفسه معارضاً لا يلين، بالنقد والكلمة والموقف، في الصحافة والبرلمان ولغة الاحتجاج أيضاً. ولعل شفيعه عندما يكون في موقف الناقد والمعارض لا ينسى موقعه كرجل دولة، وعندما يكون في موقف المسؤول والسلطة، لا يتخلّى عن موقعه كمعارض وناقد واصلاحي طامح للتغيير.
نحن إزاء رجل اسمه سعد صالح جمع في شخصه وسلوكه ودوره الادبي والثقافي، مجموعة من الشخصيات المؤتلفة والمختلفة، وتلك احدى سماته الاستثنائية، وهو ما يختلف به عن الكثير من مجايليه، فقد يكون أحدهم مثقفاً بامتياز، ولكن لا علاقة له بعلم الادارة او الاقتصاد، وقد يكون الآخر سياسياً محنّكاً ولامعاً، لكن ثقافته محدودة وعلمه قليل، وقد يكون دَرَسَ التراث والتاريخ والأدب، لكنه لم يطلّع على المدارس الفكرية والثقافية الحديثة، لكن سعد صالح جمع هذه الشمائل كلها في شخصه مع قوة شخصية واصرار ومنهج نقدي تقدمي، وهو ما حاول تطبيقه في سلوكه اليومي، ومن أصغر القضايا حتى أرقاها، ومن أبسطها حتى أعقدها، ومن أسهلها حتى أصعبها، حيث كان يملك خزيناً ابداعياً وطاقة حيوية نادرة ورؤية سياسية ثاقبة وموقفاً اجتماعياً متقدماً ولساناً ذرْباً، لم يكن يضاهيه خطيب في البرلمان، وفوق كل ذلك امتاز بتفوق اداري ووظيفي اعترف به أعداؤه أو خصومه قبل أصدقائه أو مريديه.
لقد عبّر سعد صالح من خلال عمله الوظيفي والاداري أو خطاباته ومواقفه في البرلمان أو في دوره الثقافي والفكري عمّا يؤمن به، وسعى لوضعه موضع التطبيق، في اشاعة الحريات وإجازة الاحزاب في الوزارة التي شارك فيها، والتي دامت نحو 100 يومٍ، أو في رئاسته لحزب الأحرار الوسطي، الذي خرج من معطف الحكومة والقوى المتنفذة فيها، ليصبح بعد رئاسة سعد صالح، جزءًا من التيار الليبرالي التحرري المستقل، لاسيما بعد ابتعاد أو إبعاد توفيق السويدي عن قيادته حيث كان يريده فناءً خلفياً لتأييد السياسة البريطانية.
 في ظل المنهج الجدلي، يمكن القول ان ساحة الثقافة والادب، خسرت سعد صالح، أديباً واعداً وشاعراً رقيقاً، وهو ما عبّر عنه الجواهري الكبير في حواراته مع الكاتب المنشورة في كتابنا " الجواهري – جدل الشعر والحياة"، حيث ورد ذكر سعد صالح أكثر من 3 مرات، كما وردت إشارات الى سعد صالح في مذكراته (جزءان)، فضلاً عن حديث خاص مع الكاتب لم ينشر حتى الآن!
امتازت لغة سعد صالح الادبية مثل قصيدته العمودية بالعذوبة والعمق، وصوره بالجمال والشفافية، وكان أميل الى الجديد ليس على صعيد الأدب حسب، بل على صعيد الفكر والممارسة، خصوصاً في القضايا الاجتماعية، حيث كان داعياً لحقوق المرأة ورافضاً تكبيلها بالقيود والعادات الاجتماعية العتيقة، مبتدئاً من أهل بيته في معركة السفور ضد الحجاب، كما سيأتي ذكره بشهادات لاحقاً من كريمتيه الاستاذتين سلمى ونوار ونجله المحامي لؤي سعد صالح
 ان التوقّف عند دراسة المرحلة التاريخية تقتضي دراسة فكر بعض أعلامها لأنه يشكّل معيناً في فهمها، وذلك بمعاينة الاتجاهات الفكرية التي تمتد حضوراً في أوساط الشبيبة المتطلعة الى المستقبل من جهة، وفي أوساط الناس وحركة التاريخ من جهة أخرى
لقد شهد العراق وعياً وطنياً وقومياً في أواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، خصوصاً بانبثاق حركة المشروطة في ايران العام 1906 وصراعها مع المستبدّة وانعكاس ذلك على السجالات والصراعات الفكرية والثقافية في العراق، لاسيما في المجتمع النجفي الذي انقسم بين مؤيد لحكومة مقيّدة بدستور "المشروطة" وبين حكومة "مطلقة" بحجة أو زعم " المستبد العادل"، وإضافة الى ذلك كان الصراع الدائر في الدولة العثمانية والدعوة للاصلاح والتغيير قائماً، لاسيما في ظل ارهاصات عربية استقلالية وتحررية، خصوصاً عشية وبُعيد صدور دستور العام 1908 وما تبعه من حركة كمال اتاتورك، وكان هو الآخر قد ترك تأثيراته الكبيرة على الحركة الفكرية والسياسية، في الدولة العثمانية وفي العراق بشكل عام والمجتمع النجفي بشكل خاص، لاسيما وأن بوادر انحلال الدولة العثمانية و"الجامعة" الاسلامية بدأت تزداد وتتسع فسحة أطرافها للانعتاق والاستقلال.
وقد اتّجه الفكر في ثلاث مدارس أساسية:
الأولى: مدرسة التجديد والتحديث، لاسيما بعد الاطلاع على كشوفات الثقافة الحديثة وما أفرزته، واتّسمت هذه المدرسة التنويرية بالدعوة الى الاصلاح، مع الاخذ بنظر الاعتبار حضارتنا العربية- الاسلامية، ولعل أبرز دعاتها هم: جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورفاعة الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا مروراً بشبلي شميّل وفرح انطوان وصولاً الى سلامة موسى وعلي عبد الرازق، وكان سعد صالح أقرب الى هذه المدرسة.
والثانية: المدرسة التغريبية، وهي مدرسة دعت الى "التجديد"، لكنها كانت أقرب الى التغريب أو محاكاة كل ما هو غربي، خصوصاً بموقفها السلبي من التراث والتاريخ العربي، وهذه المدرسة اقتدت بالجملة والمفرد كما يقال وبالتفاصيل بكل ما هو غربي، في حين تمسكت الأولى بالتجديد مع الحفاظ على الهوية وتعزيزها بالفكر الاصلاحي، من خلال الحداثة والاصالة والمعاصرة والتراث.
اما المدرسة الثالثة: فهي المدرسة المحافظة، التي ظلّت بحجة الحفاظ على التقاليد والدين منكفئة على نفسها وترفض أي تغيير أو تقدم، لدرجة تعتبر ان كل ذلك خروجاً على التقاليد والقيم ومؤامرة على الدين، باعتبار كل جديد "بدعة وضلال" وكل بدعة وضلال "كفر وحرام".
وكان سعد صالح من المدرسة الاولى الحديثة الانفتاحية مع الحفاظ على الهوية، لاسيما في الموقف من الاستعمار  وخططه واهدافه وفي الموقف من فلسطين، فضلاً عن بناء دولة عصرية أساسها حكم القانون والمساواة والحرية والعدل.
وكانت المدرسة الثانية هي اقرب الى الحركة التركية التي نشأت عشية انحلال الدولة العثمانية، ونعني بها " جمعية الاتحاد والترقي"، لكن هذه المدرسة رغم تأثّر بعض العرب بها، الاّ انها اصطدمت مع الطموحات القومية العربية، التي كان سعد صالح أحد روادها الاوائل، خصوصاً وقد اشترك في ثورة العشرين ضد الانكليز، وساهم بحماسة ونشاط في عدد من الجمعيات السرية ضدهم منذ ثورة النجف العام 1918، وتعرّض للملاحقة والنفي وترك الدراسة، حيث اضطر الى مغادرة العراق الى الكويت، والمكوث فيها بضعة شهور، ثم عاد لاكمال دراسته حيث تخرج من دار المعلمين، وفيما بعد من كلية الحقوق في بغداد.
ورغم ان الوعي العروبي تمثّل آنذاك بعدد من الرواد، الاّ ان الوعي الديني كان ميالاً وظهيراً للوعي العروبي، وقد اتّسم هذا التوجه برابطة الدين للابقاء على السلطة العثمانية، بدلاً من الاستقلال، في حين ان وعياً قومياً عروبياً نشأ متأثراً الى حدود معينة بأوروبا، لكنه في الوقت نفسه كان جزءًا من شعور استقلالي غريزي وفطري بالانتماء والشعور بالهوية الجامعة.
وقد كان سعد صالح معتمراً القبعتين كما يُقال فقد درس في مطلع شبابه في الحوزة العلمية النجفية، ثم اطّلع على الثقافة الحديثة مزاوجاً ايّاها بثقافته الدينية والفقهية، لاسيما برافد حقوقي وقانوني، كما تلقّحت بذرته وسنديانته الأدبية والثقافية، بالسياسة وعلم الادارة، اللذان تميّز بهما في إطار مخزونه الأدبي والثقافي، مثلما هو مخزونه الديني والفقهي، حيث كان عامل رفد له في إطار تطلّعه العصري الحديث ورؤيته التقدمية للثقافة.
ان المراجعة الفكرية للاوضاع الاجتماعية والاقتصادية السائدة في مطلع القرن العشرين تستهدف استجلاء الدور الذي قام به عدد من العروبيين في تراكم الوعي الثقافي والنزعات الاستقلالية، وبالتالي التوصل الى دور سعد صالح وما قدّمه وما بذله فيما اوكل اليه من مهمات أو ما بادر هو شخصياً اليها، ولعل ذلك أحد الأهداف الاساسية لتأليف هذا الكتاب، ولتسليط الضوء حول شخصية ريادية متميّزة، وعلى دورها التنويري على الصُعد الفكرية والسياسية.
ينتسب سعد صالح جريو الى السادة آل جريء بن القاسم، حيث يستمر نسبه ليتصل بجدهم الأعلى عبيد الله الاعرج بن الحسن الأصغر بن الامام زين العابدين بن الامام الحسين بن علي، وهم علويون حسينيون، وقد نشأ في إطار الضمير النجفي الثائر، للأسرة والمجتمع والمدينة، حيث استلهم من عائلته دفاعه عن الهوية في الحروب التي خاضتها النجف ضد الهجمات عليها، وبرز يومها اسم " صكر جريو"، كما عاش ثورة النجف ضد العثمانيين العام 1915، وشهد وشارك في الثورة على الانكليز العام 1918 التي لمع فيها " علي جريو" ، كما ساهم هو مع عائلته في ثورة العشرين، إضافة الى نقله الرسائل من قيادة الثورة الى بغداد واعتباره إحدى حلقات الوصل، كما ساهمت عائلته في لعب دور الحارس لثغور النجف حيث كان السيد محمد الصدر قد قال له " كن خليتنا السرية"، أما جعفر أبو التمن فقال لسعد صالح: أنت عمادنا في الشباب، كما يذكر المؤرخ حميد المطبعي.
تخرّج سعد صالح جريو من المدرسة النجفية لا من سوح نضالها ومصهر رجالها حسب، بل من منابرها الثقافية وحلقاتها الأدبية ومحافلها الشعرية، وكان جيله يتمثل في عدد من الأدباء بينهم محمد سعيد الحبوبي وجواد الشبيبي وعلي الشرقي ومحمد رضا الشبيبي ومحمد باقر الشبيبي وأحمد الصافي النجفي ومحمد مهدي الجواهري ومحمد رضا الصافي وحسين كمال الدين ومحمد علي الدمشقي وعباس الخليلي وصالح الجعفري وآخرين.
قسّمت الكتاب الى ثمانية فصول، فبحثتُ في الفصل الأول: النجف والفرصة الواعدة بعرض البيئة الثقافية والفكرية والسياسية والدينية التي نشأ فيها سعد صالح، أما في الفصل الثاني فقد انتقلت وانا أتحدث عن سعد صالح من النجف الى العراق من خلال فرصة حالمة وذلك بدخوله المعترك الوطني والاجتماعي والاداري، سواءً بتسجيله ذاكرة المستقبل او من خلال ارهاصاته الاولى للاصلاح الذي ينشده.
وكان الفصل الثالث بعنوان: الفرصة الوطنية " أهلك وطنك" حيث تناول العراقية الحميمة والسجايا الانسانية الشخصية لسعد صالح. وكرّست الفصل الرابع لدوره الادبي وهو بعنوان " البلاغة- الفرصة الحائرة " تناولت فيه اسلوبه المتميز وفرادته ووسطيته في ظل عواصف التطرف والاحتدام، كما بحثت في مدى ثقته بالشعب من خلال الممارسة، وخصّصتُ الفصل الخامس لإبداع سعد صالح تناولت فيه اسلوبه الشعري وصوره الجمالية، وتوقفت لألقي ضوءًا حول قصيدته الشهيرة الاشباح.
ووسم الفصل السادس بعنوان: الفرصة الشخصية بفحصها سسيولوجياً وتاريخياً وهي قراءة في السيماء الشخصي لسعد صالح ارتباطاً بالمرحلة التاريخية، وخصصت الفصل السابع للحديث عن سعد صالح ومجايليه: الفرصة الصادقة ، وقد اشتمل على علاقة سعد صالح بالجادرجي والجواهري وصالح جبر وعبد الكريم الازري واحمد الصافي النجفي. وكان الفصل الأخير (الثامن) بعنوان: المواطنة والفرصة الضائعة وتوقفت عند بعض الاستعادات التاريخية ورأي سعد صالح بالمواطنة والهوية والخلفية الفكرية.
وقبل أن أختتم الكتاب بفهرست للأعلام وبفهرست للمدن والأمكنة، وضعت إضمامة للكتاب هي أقرب الى الملاحق، التي وجدتها مكملة للبحث ورأيت أنها مفيدة للقارئ، اشتملت على ملحق بقصيدة الاشباح وآخر بنص نثري عنوانه السفينة الذهبية وثالث برسالة شخصية الى ماجد الزئبق وعقيلته ورابع بخطابه حول المعاهدة التركية- العراقية وخامس بيان لحزب الأحرار عن معاهدة بورتسموث.
صحيفة الاهالي العراقية، العدد 321 ، 9/12/2009

1092
الحرب الثقافية في العراق


عبدالحسين شعبان
كشف اتحاد الحقوقيين العرب في ندوة متخصصة بالتعاون مع منظمة الصليب الأحمر الدولية، حجم الدمار الذي أصاب الآثار والممتلكات الثقافية العراقية، وتوقف بعض المفكرين والحقوقيين والخبراء عند المسؤولية التي يرتّبها القانون الدولي، على السرقة والاتجار بالممتلكات الآثارية والثقافية، ناهيكم عن تدميرها وإتلافها، سواءً كان بقصد أو جرّاء العمليات الحربية، وهو ما تورّطت به القوات المحتلة خلافاً لقواعد القانون الدولي الانساني .

وإذا كانت اليونسكو قد أطلقت نداءً يقضي بوجوب إعادة المسروقات الأثرية، فإن ذلك يستوجب تحديد المسؤوليات والقيام بملاحقات قضائية لتلك الارتكابات والانتهاكات، وهو ما تقاعس عنه مجلس الأمن الدولي حتى الآن، حيث تُركت المواقع الآثارية عرضة للنهب، بما فيها المكتبات والمخطوطات والمتاحف، وبخاصة متحف بغداد الشهير، بما يحتوي من كنوز لا تقدّر بثمن .

ولكن ماذا استهدف المحتلّون من نهب المتاحف وإتلاف وسرقة الآثار وحرق وتدمير المكتبات والمخطوطات، وملاحقة وقتل الأكاديميين والعلماء العراقيين؟ هل هي مجرد رغبة همجية بالانتقام أم أن الحرب الثقافية هي جزء أساسي من الحرب المعلنة على العراق؟

لعل فكرة “الصدمة والترويع” كانت تستهدف الهوية والذاكرة والتراث الثقافي والتاريخي للعراق، حيث كشفت خطط الحرب أن “التطهير الثقافي” وهو عنوان كتاب صدر في القاهرة مؤخراً عن دار “الشروق”، جزء من خطة طويلة الأمد في إطار ما سمّي “الفوضى الخلاّقة”، فتدمير الممتلكات الثقافية لا تقلّ أهمية عن تدمير المنشآت الحيوية والاقتصادية والهياكل الارتكازية والبُنى التحتية، ناهيكم عن التدمير النفسي والمعنوي للعنصر البشري .

وهكذا تظهر الصورة التي نقلتها شاشات التلفاز عن عمليات نهب وحرق وتدمير مؤسسات الدولة العراقية عن فعل قصدي، وعن سابق إصرار وترصّد، فلم تكن مجرد ردود فعل عفوية أو من عمل رعاع حسب، بل هي جزء مدروس من عمليات مبرمجة طبقاً لتصريحات وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد، الذي قال مبرراً تلك العمليات: “الحرية عادة ما تتسم بالفوضى”، ولم يرّف للقوات المحتلة جفن عندما فتحت أبواب المكتبات والمتاحف والجامعات وتركتها مشرّعةً أمام النهب “المتعمّد” مما يلقي عليها مسؤولية قانونية .

لقد ادّعت القوات المحتلة أنها جاءت للقضاء على نظام دكتاتوري استبدادي، لكنها ذهبت إلى حل الدولة ومؤسساتها وعرّضت ممتلكاتها الثقافية ومؤسساتها للسرقة والتدمير، تحت حجة التفكيك وإعادة البناء، ومحو ما تم كتابته على لوح “الدولة السابقة”، لكي تأتي الولادة جديدة “نظيفة” من الماضي، بكل ما فيه، فسعت الى عملية هدم وتدمير وسرقة للمكتبات والكتب والسجلات الحكومية وغيرها، إضافة الى عمليات نهب منظم طالت المتاحف والممتلكات الثقافية، وشمل الأمر لاحقاً العقول والأدمغة العراقية، والهدف هو كما صرّح جورج شولتز، إعادة العراق الى العصر الحجري .

لعل الثمن الفادح الذي دفعه العراق، ليس فقط بسبب الخسائر البشرية وتدمير بنيانه التحتي، بل كان هويته الثقافية وآثار حضاراته القديمة وتراثه العربي- الاسلامي ومخطوطاته وكتبه وجامعاته وعقوله .

وكانت قرارات بريمر ال 99 التي اتخذها منذ أن حطّ رحاله في العراق (مايو/أيار 2003 ولغاية أواخر يونيو/حزيران 2004) قد سارت ضمن خطة مبرمجة، حتى وإن اتسمت في بعض الأحيان بالارتجالية أو ردود الفعل وعدم الكفاءة، لكن ما كان واضحاً هو تجريد الهوية العراقية وتجويف محتواها وتحويلها الى مجرد هويات فرعية لا يجمعها جامع مع بعضها، بل هويات متنافرة ومتصارعة اثنياً ومذهبياً، وكذلك تهميش دور العراق العربي وشطب العراق من توازن القوى في المنطقة، لاسيما إزاء الصراع العربي- “الإسرائيلي” ناهيكم عن السيطرة على مصادره الطبيعية .

ولم تتورع القوات المحتلة من بناء قواعد عسكرية بالقرب من المواقع الآثارية مثل أور وبابل ونينوى، ولم يكن النهب الذي تم تصويره في الأيام الاولى قد توقف، لكن نهباً منظماً وغير عشوائي كان قد أخذ طريقه في خضم تلك الفوضى المطلوبة، الأمر الذي يعتبر جريمة حرب تضاف الى الجرائم المرتكبة بحق البشر .

ولم تكشف التحقيقات أية عمليات نهب حتى الآن على كثرة الادعاءات بالملاحقة والوعود بمقاضاة المرتكبين، فالجرائم المرتكبة لا تزال تسجّل ضد مجهول، رغم أن الكثير من الكبار والصغار مساهمون فيها، فإنهم من يعلن ذلك أحياناً، على نحو مقصود إما لذرّ الرماد في العيون أو لإبعاد الشبهة .

ولم تفلح جهود مفوضية النزاهة في شيء حتى الآن، فيما يتعلق بالفساد المالي والإداري، ناهيكم عن تزامن وتداخل ذلك مع وجود عصابات متخصصة، بحيث كانت تعرف ما تريد، وقامت بسرقات منظمة لقِطَع ومحفوظات ومخطوطات من المتحف العراقي ودار المخطوطات والمكتبة الوطنية، وتم نقل جزء من الأرشيف الوطني والأرشيف الخاص بالحزب الحاكم سابقاً إلى الولايات المتحدة خلافاً لقواعد القانون الدولي الإنساني .

إن الخسارة الحقيقية للعراق أيضاً هي في التدمير المنهجي للعقول والأدمغة وللذاكرة العراقية، فقد قُتل أكثر من 350 عالماً واستاذاً جامعياً وما يزيد على 300 صحافي وأعداد أخرى من المثقفين، الأمر الذي يتطلب جهداً إنسانياً وجماعياً دولياً من جانب المؤسسات والمنظمات الحقوقية لمقاضاة المسؤولين واستعادة الآثار المنهوبة، وهو ما يضع على عاتق الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو (للثقافة والتربية والعلوم) مسؤوليات إضافية، إذ إن عليهما اتخاذ إجراءات تحقيقية وعقابية لاستعادة جميع المسروقات بالتعاون مع القضاء الدولي، حيث إن القانون الدولي الإنساني، ولا سيما الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية، والتي أعقبت اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبالتحديد في العقود الخمسة الماضية، تحظر تصدير واستيراد الممتلكات .

وطبقاً لاتفاقية لاهاي لعام 1954 والتي دخلت حيّز التنفيذ منذ العام ،1956 إضافة إلى البروتوكول الأول الملحق بها وكذلك اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام ،1972 والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام ،1998 والبروتوكول الثاني الملحق باتفاقية لاهاي لعام ،1999 الذي تضمن تحديد مسؤوليات جنائية ومدنية، فإن قواعد قانونية جديدة منظمة أخذت طريقها لملاحقة مرتكبي الجرائم بحق الآثار والممتلكات الثقافية، وقد دخل هذا البروتوكول المهم حيّز التنفيذ العام ،2004 ونص البروتوكول الثاني وكذلك نظام محكمة روما على الاختصاص القضائي الدولي فيما يتعلق بذلك، وكانت محكمة يوغسلافيا الدولية قد وجهت الاتهام إلى تدمير الممتلكات الثقافية .

ومن الاتفاقيات الأخرى التي تحمي الآثار الثقافية اتفاقية حماية التراث الثقافي المطمور بالمياه لعام ،2001 وكذلك اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003 واتفاقية حماية وتعزيز وتنوّع أشكال التعبير الثقافي لعام 2005 .

ولعل قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1483 الصادر في 22 مايو/أيار العام 2003 والذي “شرعن” الاحتلال، واعتبر القوات الأمريكية محتلة طبقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 كان قد شدد على ضرورة احترام تراث العراق، الأمر الذي يضع مسؤوليات جنائية ومدنية على الدول والأفراد، وهو ما ذهب اليه بروتوكول لاهاي الثاني الذي أكد مبدأ التعويض، إضافة إلى المسؤولية الجنائية الفردية، التي تقضي وجوب مقاضاة المرتكبين، لا سيما تحميل القيادة العسكرية مسؤولية في ذلك .

إن على الدول التي تتعرض آثارها للسرقة أن تستعين بالدول الأخرى، وأن تشترك في الأعمال الدولية لوضع التدابير المناسبة لمراقبة الصادرات والواردات والتجارة الدولية في الممتلكات الثقافية، كما جاء في اتفاقية اليونسكو لعام ،1970 التي أكدت: أن نقل الممتلكات الثقافية وتصديرها من قبل دولة الاحتلال الأجنبي يعتبر عملاً غير مشروع، وعلى الدول الموقعة على هذه الاتفاقية قبول دعاوى لاسترداد المسروقات والمفقودات الثقافية وتسليمها إلى أصحابها الشرعيين . ورغم استعادة بعض المنهوبات، فإن الجهد الحكومي العراقي، فضلاً عن دور المنظمات غير الحكومية، ما زال قاصراً .

والجدير ذكره، أنه لا يمكن اغفال مسؤولية الحكومة العراقية أيضاً، بحكم الدستور العراقي النافذ إذ لا بدّ من التحرّي بجدية وفاعلية عن الآثار والقِطَع المسروقة والمدمّرة والجهات التي تقف وراء هذا التدمير وضرورة الكشف عنها وتقديمها إلى القضاء، ومطالبة الجهات المحتلة إخلاء هذه الأماكن وتعويض العراق عنها وذلك طبقاً لنص المادة 50 من الدستور، وكذلك كشف بعض المتواطئين معها .

إن حماية الممتلكات الثقافية والحضارية يتطلب أولاً وقبل كل شيء السعي لاستعادة المنهوبات وترميم وصيانة وحفظ وتوثيق ما هو موجود وتوفير المستلزمات المادية والمعنوية لذلك عراقياً وبمساعدة دولية .

وثانياً، إصدار تشريعات قانونية وإنزال أقسى العقوبات ضد السرقة والتخريب وذلك بهدف الحفاظ عليها، وتأسيس أجهزة أمنية وقضائية متخصصة لتنفيذ ذلك والحرص على سلامة المواقع ومنع الاعتداء عليها، وكذلك تحريم الاتجار بالممتلكات والآثار الثقافية، والمعاقبة عليها .

باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 9/12/2009

1093
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (6).. جيفارا وأحمد بن بيلا: العنفوان!
عبدالحسين شعبان
2009-12-07
ثلاث شخصيات عربية كبرى جمعتها صداقة مديدة مع جيفارا، أوّلها أحمد بن بيلا أول رئيس جزائري بعد الاستقلال، وثانيها الرئيس جمال عبدالناصر، وثالثها المهدي بن بركة الذي اختطف في باريس في ظروف غامضة.
تميّزت علاقات جيفارا بأحمد بن بيلا بالتفاعل والتأثر المتبادل، لاسيما وقد نظر هو إلى إفريقيا كفضاء جديد للثورة خصوصاً بعد إحراز الجزائر استقلالها بعد معاناة من الاستعمار الفرنسي دامت 132 عاماً، وكان هو قد عيّن في بدايات الثورة الكوبية "سفيراً بصلاحيات مطلقة" من قبل زعيم الثورة الكوبية فيدل كاسترو، حيث توجّه في 12 يونيو 1959 إلى زيارة العديد من البلدان للتعريف بكوبا وثورتها ونضال أميركا اللاتينية، في جولة طويلة زار فيها 15 دولة.
وخلال جولته أبرم اتفاقيات تعاون اقتصادية وعسكرية مع العديد من البلدان في آسيا وإفريقيا، لاسيما دول عدم الانحياز، وزار الجمهورية العربية المتحدة (القاهرة ودمشق)، كما اطلع على تجاربها فيما يتعلق بالإصلاح الزراعي والنظم الاقتصادية والاجتماعية ومشاكل التصنيع وسبل الانفكاك من هيمنة الاحتكارات وإحراز الاستقلال.
بعد الاستفتاء الذي حصل في الجزائر يوم 13 يوليو 1962 وتصويت الجزائريين على الاستقلال عن فرنسا بنسبة %93.7 جاءت النتيجة طبقاً لما أكدته اتفاقية "إيفيان" في 19 مارس من العام ذاته بين قيادة الثورة الجزائرية (جبهة التحرير الوطني الجزائرية) والحكومة الفرنسية، وقد تشكلت الحكومة الجزائرية برئاسة أحمد بن بيلا أول رئيس بعد الاستقلال.
وكان من أول البلدان التي زارها أحمد بن بيلا هي كوبا، وذلك بعد مشاركته في أعمال دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، حيث توجّه بعدها إلى زيارة كوبا في 16 أكتوبر 1962، والتقى فيدل كاسترو وتشي جيفارا وراؤول كاسترو وقيادات الحزب والدولة.
ولعل للزيارة دلالاتها: الأولى أنها جاءت إثر احتدام حدّة التوتر بين واشنطن وهافانا بسبب أزمة الصواريخ الكوبية التي بناها الاتحاد السوفييتي في الجزيرة لمواجهة احتمالات هجوم تقوم به واشنطن للإطاحة بالنظام الكوبي، تلك التي تطورت إلى أزمة دولية عُرفت بأزمة الصواريخ بعد خليج الخنازير والتي كادت تهدد بحرب عالمية، لولا محاولات احتوائها من جانب الإدارة الأميركية والرئيس جون كيندي والقيادة السوفييتية ممثلة في نيكيتا خروشوف، حيث تمت المساومة على سحب الصواريخ، مقابل تعهد بعدم مهاجمة الجزيرة، في إطار تسوية سمحت بها ظروف تلك الأيام.
والدلالة الثانية أن الزيارة كانت بإصرار من جانب أحمد بن بيلا الذي يقول إن كيندي حذّره من زيارة هافانا مباشرة بعد حضوره اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويضيف: "دعيت في صباح 15 أكتوبر (أي قبل يوم من زيارته إلى كوبا) إلى البيت الأبيض حيث أجريتُ حوارات ساخنة وصريحة مع الرئيس كيندي بشأن كوبا" ويواصل: "أجابني الرئيس على سؤال مباشر وجهته له: هل أنتم ذاهبون إلى مواجهة مع كوبا؟ ومن دون أن يترك مجالاً للشك في نياته الحقيقية أجاب: "لا إذا كانت الصواريخ السوفييتية غير موجودة.. نعم إذا كان الأمر عكس ذلك"، ولعل إجابة الرئيس كيندي تلك تحمل قدراً من التهديد ورسالة إلى القيادة الكوبية عبر أحد أصدقائها وهو أحمد بن بيلا، ويمضي أكثر من ذلك ليؤكد تهديداته حتى بالنسبة لبن بيلا حين يقول الرئيس الجزائري الأسبق: حاول كيندي أن يثنيني وبإصرار عن الذهاب من نيويورك إلى كوبا مباشرة، حتى إنه ذكر احتمال حصول اعتداء على الطائرة التابعة للقوات الجوية الكوبية التي سأستقلها، من قبل المعارضة الكوبية المتمركزة في ميامي.
ويجيبه بن بيلا بكل ما تحمل إجابته من بساطة وعفوية، لكن لها دلالاتها في الصدق والشجاعة حين يعلّق ردّاً على تهديداته المبطّنة: "إني فلاح لا ترهبني المعارضة الجزائرية ولا الكوبية" (من خطاب ألقاه بن بيلا حين أدلى بشهادته عن جيفارا بعد مرور 30 عاماً على استشهاده ونقلته جريدة لومانيتيه الفرنسية التي بصدرها الحزب الشيوعي الفرنسي في 9 أكتوبر 1997).

كان تاريخ زيارة بن بيلا إلى كوبا هو تاريخ صداقة مديدة مع جيفارا استمرت بضع سنوات قبل أن يقطعها الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال هواري بومدين في 19 يونيو عام 1965، ويذكر بن بيلا في شهادته أن يوم 9 أكتوبر 1967 مكتوب في ذاكرته بأحرف من نار، لا سيما وهو سجين متفرّد، عندما سمع من جهاز الراديو إعلان خبر رحيل "أخيه" جيفارا كما يقول.
وقد زار جيفارا الجزائر بمناسبة الذكرى الأولى للاستقلال ممثلاً لكوبا وذلك في 4 يوليو عام 1963، ومكث فيها نحو 3 أسابيع، واندمج جيفارا بالجو الجزائري طبيعياً وسياسياً، حيث المناخ الحار و"الناشف" الذي ذكّره -كما يشير- بطبيعة أرض الأرجنتين التي ترعرع فيها، كما أبدى إعجابه بقدرة الشعب الجزائري وبطولته في طرد المستعمرين الفرنسيين، لاسيما بعد اندلاع الثورة وفي حرب الأنصار والكفاح المسلح الذي دام 7 سنوات (من عام 1954 وحتى عام 1962)، وإضافة إلى علاقته مع بن بيلا، فقد استضاف في كوبا خلال عودته قائد القوات المسلحة الجزائرية هواري بومدين بمناسبة يوم 26 يوليو، وهو يوم انطلاقة الحركة المسلحة التي قادها فيدل كاسترو.
وزار جيفارا الجزائر مرّة أخرى بعد زيارة نيويورك في 9 ديسمبر 1964، حيث ألقى خطاباً باسم كوبا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان جيفارا قد التقى خلال وجوده في نيويورك الزعيم الأسود مالكولم إكس ووجه عَبره رسالة تضامن إلى "إخوته وأخواته" من الأصول الإفريقية، لاسيما أن إفريقيا حسب تقييماته تعتبر مرتكزاً جديداً للثورة التي شغلته.
ودامت زيارة جيفارا إلى الجزائر نحو 3 أشهر، حيث وصلها يوم 18 ديسمبر 1964 وكانت هذه الزيارة الثالثة، واتفق مع بن بيلا على دعم ومساندة حركات التحرر الوطني، معتبراً الجزائر العاصمة البيضاء المنوّرة للثورة غرفةَ قيادة، وهي في الوقت نفسه القاعدة السرّية للعديد من قيادات وكوادر حركات التحرر في أميركا اللاتينية وإفريقيا، وقد سهّلت معرفة كل من جيفارا وبن بيلا الفرنسية والإسبانية، صداقتهما الحميمة وتفاعلهما المستمر والمتواصل. وقد اقترح جيفارا على بن بيلا أن تصبح الجزائر محطة لتزويد الحركات الثورية الأميركية اللاتينية بالأسلحة، دفعاً لعيون واشنطن التي هي قريبة من كوبا، وكان رد بن بيلا الموافقة الفورية والإيجابية، بل والأكثر من ذلك تحضير التجهيزات اللازمة لذلك، وحدد مركز القيادة الذي وضع تحت تصرف جيفارا فيللا كبيرة في مرتفعات العاصمة تدعى فيللا "موزيني"، ولهذه الفيللا رمزية خاصة، إذ كانت مخصصة للتعذيب ومركزاً للفرنسيين أيام الاحتلال، وإذا بها تتحول إلى مركز للحركات التحررية لدول العالم الثالث، وللتغطية على نشاطها في أميركا اللاتينية، أُنشئت عدة شركات للاستيراد والتصدير بهدف التمويه وذرّ الرماد في العيون!
واعتقد جيفارا أن إفريقيا هي الحلقة الضعيفة للإمبريالية وهي غنية بالمواد الأولية، ولذلك يتوجب كسر هذه الحلقة من السلسلة، وتحضيراً لفكرته قام بزيارة 7 بلدان إفريقية نالت استقلالها في حينها، واحتسبت ضد المعسكر الإمبريالي، ولعل جيفارا هو من دعا إلى تأسيس اتحاد الجمهوريات الاشتراكية الإفريقية، وكان قد قال: "وجدت شعوباً بكاملها تحت الضغط مثل الماء الذي يوشك على الغليان"، وقد سمّي خلال زيارته إلى جمهورية مالي في 17 يناير 1965 بـ "ماو أميركا اللاتينية" (نسبة إلى ماو تسي تونغ).
وخلال زيارته الرابعة إلى الجزائر في 24 فبراير 1965 ألقى خطابه الشهير في ندوة اقتصادية لمنظمة التضامن الأفروآسيوي، والذي عُرف لاحقاً "بخطاب الجزائر"، وهو وثيقة أو لائحة مرافعة ضد بعض مواقف الاتحاد السوفيتي، علماً بأن كوبا لم تكن سوى مراقبٍ في المؤتمر وسوف نعود لمناقشة هذه الوثيقة التي تشكل محتوى الفكرة الجيفارية بعد 6 سنوات على انتصار الثورة الكوبية، وجوهر الخلاف الذي اتسع بينه وبين التيار الاشتراكي الرسمي السائد.
ومن الجزائر توجه إلى القاهرة ومكث فيها 8 أيام في 2 مارس 1965 بعد سلسلة من التأملات والاعتراضات والمراجعات، ويبدو أن هذا التحول كان أقرب إلى القطيعة بينه وبين المناصب الرسمية، فعاد إلى ميدان المعركة الحقيقي في الكونغو ومنها إلى كوبا حيث اجتمع بكاسترو، وبعدها قرر السفر إلى بوليفيا حيث اختفى هناك حتى أعلن عن جرحه وأسره ثم إعدامه.
وإذا كان عبدالناصر أو بن بيلا قد رحبا بحماسةِ جيفارا وانجذبا معه بصداقة مديدة، لكنهما كل من موقعه حاولا تبصيره بتعقيدات النضال في إفريقيا، وقد سهل بن بيلا جميع متطلباته، بما فيها كما يقول وضع معاونته الشخصية مريم مرزوق في خدمته، التي شعرت بصداقة قوية تجذبها إلى جيفارا، الذي داعبها مازحاً ذات يوم "أشعر بأن روحي مسلمة لأني متعدد الزوجات، واعتقد أن بالإمكان محبّة عدّة نساء في آن واحد"، حيث كان متزوجاً مرتين.
يقول بن بيلا: كنت أحاول لفت انتباهه إلى أن خياراته في العمل المسلح، ليست الطريقة الأجدى في مساعدة النضج الثوري الذي ينمو في القارة الإفريقية، فإذا كانت ثورة مسلّحة، فيمكن أن تحظى بدعم خارجي، إلا أنها لا بد أن تتهيأ الظروف الذاتية التي تعتمد عليها، لكنه كما يذهب بن بيلا ظلّ مصرًّا على خياره، وصادقاً في اختياره مضحياً بحياته من أجل ذلك.
ويلخّص بن بيلا علاقته بصديقه جيفارا بالقول: "من بين جميع السياسيين الذين التقيتهم في حياتي، ترك جيفارا عندي انطباعاً أكثر من الآخرين.. كان يحب الجزائر كثيراً وبقي فيها مدة أطول مما يعتقده الناس، من خمسة إلى ستة أشهر مع ذهاب وإياب.. كان ثورياً من النوع غير المألوف، إنسانياً.. كان يعرف أن يعيش وأن يتألم، كان رجلاً ساخراً حتى من نفسه، شجاع ومتيقظ..".
ويمضي بن بيلا بالقول: وذهب إلى كابيندا في أنغولا، ثم إلى الكونغو برازافيل (البرتغالية كما تسمّى)، ولم يكن مرتاحاً من علاقاته مع بعض الأحزاب الماركسية للدول التي زارها، ولعلّه كان ساخطاً على مفاهيمها وتطبيقاتها، الأمر الذي ترك عنده خيبة أمل ومرارة كبيرة، وهو الذي حاول التصدي لقتلة لومومبا وإذا به يحاصَر، فكرياً وسياسياً، ويداهمه المرض، ليضطر إلى الرحيل بعد فشل تجربة الكونغو كما يقول، ثم يرحل ليلتقي بكاسترو ويغادر بعدها راكضاً وراء حلمه، ليقتل في بوليفيا، وفي ذلك روايات كثيرة وجدتها في كوبا ولدى أوساط الثوريين القدامى والشباب مع تفسيرات متباينة، سأحاول المرور عليها.



7848 العدد -صحيفة العرب القطرية ، الإثنين 7 ديسمبر 2009 م - الموافق 20 ذو الحجة 1430 هـ


1094
صراع أم جدل الهويات في العراق!؟




      الدكتور عبد الحسين شعبان*





•   باحث أكاديمي ومفكر عراقي له العديد من المؤلفات
•   مدير عام المركز الوثائقي للقانون الدولي الانساني

•   الهوية ومرجعية الدولة!

      في 9 نيسان (ابريل) 2009 مرّت ستة أعوام على احتلال العراق، فالحرب المحسومة النتائج سلفاً لم تستمر أكثر من 3 أسابيع، حيث بدأت بالقصف الأمريكي صباح يوم 20 آذار (مارس) 2003 وانتهت باحتلال بغداد، ولم تستهدف واشنطن النظام الاستبدادي الذي حكم العراق طيلة 35 عاما حسب، بل سعت بإصرار الى تحطيم وإسقاط الدولة العراقية، وذلك بحل مؤسساتها العسكرية والأمنية بعد تدمير بنيانها التحتي ومرافقها الحيوية ومنشآتها الإقتصادية، وامتدّت يد التخريب والسرقة لتصل الى المتاحف والمكتبات والجامعات ودور العلم وغيرها.
   وقد ترافق قرار حل الجيش، الذي أصدره بول بريمر الحاكم المدني الامريكي في العراق الذي أعقب الجنرال جي غارنر، مع قرار اجتثاث البعث الذي خلق ردود فعلٍ سلبية تركت نتائجها على مجمل العملية السياسية التي أريد لها أو تكون مظلّةً تستطيع الولايات المتحدة بواسطتها تسويق مشروعها السياسي(1).
ولعل هذه التداعيات تركت تأثيراتها الخطيرة على جميع مفاصل الدولة العراقية، فالجيش باعتباره مؤسسة عراقية فوق طائفية وفوق قومية، رغم تسييسه أو اخضاعه لتوّجه عقائدي حزبي أيام النظام السابق، لكنه ظلّ كياناً وطنياً موحداً يجسّد الهوية العراقية رغم ما أصابها من تصدّع، وقد اثار قانون اجتثاث البعث جدلاً واسعاً، لم ينقطع حتى الآن رغم دعوات المصالحة وابداء استعداد الحكومة للتعامل مع البعثيين كأفراد كما صرح رئيس الوزراء نوري المالكي وليس كياناً سياسياً أو عقائدياً، لأن الدستور الذي كان قد حرّم عليهم العمل السياسي، لا يسمح بذلك كما تبرر القوى المتنفذة.
وقد جرت محاولات لإعادة النظر في قانون الاجتثاث بمناقشته من جانب الحكومة وعرضه على البرلمان، عبر ما سمي بقانون المصالحة والمساءلة وكلاهما استهدفا العقيدة السياسية وتحريم الأفكار، في حين كان الأمر يقتضي توجيه الاتهام الى المرتكبين ومحاسبتهم بواسطة القضاء في إطار برنامج شامل للعدالة الانتقالية، انطلاقا من المساءلة وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا واصلاح المؤسسات، بدلاً من إصدار أحكام سياسية بالجملة وبطريقة عشوائية، الأمر الذي أدى الى شموله مباشرة  لأكثر من 30.000 (ثلاثون ألف) من كوادر حزب البعث المتقدمة والوسطية، جلّهم من الكوادر العلمية والأكاديمية في الدولة ولدى الكثيرين منهم خبرات ومهارات، وأغلبيتهم  الساحقة من المدنيين. والأنكى من ذلك ان الدستور نفسه لاحقهم بتسميتهم بالصداميين، كما ان الاتفاقية الامريكية – العراقية، جعلت مسألة ملاحقتهم باعتبارهم من فلول النظام السابق، أحد أهدافها(كما ورد في المادة الرابعة).
   وبعد الاحتلال وبغياب مرجعية الدولة ومؤسساتها عاد العراقيون وربما اضطراراً إلى مرجعيات تقليدية، وإن كانت موجودة الاّ أنها ليست بديلاً ولا يمكنها أن تكون كذلك عن الدولة ذات البعد الشمولي والتراكم التاريخي، مثل المرجعية الدينية والمذهبية والعشائرية والمناطقية والجهوية والعائلية وغيرها، لدرجة أصبح التشظي في المرجعيات وغياب مرجعية مؤسسية موّحدة هو انعكاس لواقع حال مرير،  اذ اتخذت بعض القوى الطائفية والأطراف الإثنية مكانها في" التركيبة الجديدة" التي لم ترغب في مبارحتها أو الاستغناء عن امتيازاتها، رغم أن بعض الذين شاركوا في المحاصصة والتقسيم المذهبي والإثني، بدأوا يغسلون أيديهم منها، خصوصاً وان  حكم الاستبداد وفيما بعد الاحتلال كما يبررون لم يترك لهم خيارات اخرى، هكذا تشكلت ملامح صورة مضبّبة لدولة عراقية جديدة لم تولد بعد، رغم احتضار شكلها السابق ! وقد ظلّت الدولة رغم كل ما عليها إطاراً موحداً للعراقيين بكل مكوّناتها وهياكلها ودواوينيتها وبيروقراطيتها.

     مرّ العراق خلال الأعوام الستة الماضية من الاحتلال بأربع مراحل أساسية(2). وإذا كانت المرحلة الأولى من الإحتلال قد شهدت حكماً أمريكياً مباشراً بواسطة الحاكم العسكري الامريكي للعراق الجنرال جي غارنر لم يستمر سوى بضعة أسابيع (أي من 9 نيسان/ابريل) ولغاية استلام بول بريمر في 13 ايار (مايو) 2003، وكانت مرحلة فوضى وغياب للدولة وشهدت أعمال نهب وسلب منظمّين، فان المرحلة الثانية شهدت حكماً أمريكياً ولكن بمشاركة شكلية من جانب قوى عراقية، واتسمت المرحلة الثانية التي دامت نحو عام بتحديد صورة العراق النمطية التي جرى رسمها من جانب الدوائر السياسية والستراتجية الأمريكية والغربية عموماً منذ نحو عقدين من الزمان أو ما يزيد على ذلك. أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة الأمريكية- الدولية، لاسيما بصدور القرار 1546 في 8 حزيران (يونيو) 2004 عن مجلس الأمن الدولي وتشكيل حكومة مؤقتة، في حين شهدت المرحلة الرابعة اجراء انتخابات وإعداد دستور دائم.
   ولمعرفة صورة ما يسمّى بالعراق الجديد، سيتم التركيز على هذه المرحلة التي كانت تفاصيلها وخفاياها وخباياها، ناهيكم عن ما جرى اعلانه، الاساس في الاستراتيجية الامريكية، التي قامت وفقاً لنظرية الفوضى الخلاّقة، وتطبيقاً لها في العراق: تفكيك الدولة ومؤسساتها واعادة بنائها طبقاً للتصورات الامريكية، وهو الامر الذي كان كارثة حقيقية لا على الصعيد العراقي حسب، بل على الصعيد الامريكي، حيث ألحق ضرراً بالغاً بسمعة الولايات المتحدة، التي هي مهزوزة بالاساس، فضلاً عن الخسائر البشرية والمادية الكبيرة، التي كانت وراء التعجيل باندلاع الازمة المالية والاقتصادية الامريكية والدولية، لاسيما اشكاليات الرهن العقاري وافلاس بنوك ومؤسسات مالية وانحلال شركات تأمين عملاقة!
خضع العراق خلال المرحلة الثانية الى قيادة حاكم مدني أمريكي ذاع صيته وتندّر العراقيون "بسجاياه" وأعني به بول بريمر الذي كان حاكماً بأمره(3)، كما أطلق عليه بعض السياسيين ممن كانوا قريبين من المشهد السياسي بمن فيهم بعض أعضاء مجلس الحكم الانتقالي الذي عيّنه هو ذاته، وشهدت هذه المرحلة فساداً مالياً وادارياً وخضوعاً وضعفاً من جانب الجهات العراقية التي تعاملت مع المحتل، حتى أصبح القول ان الحكومة الإنتقالية الأولى والثانية هي "حكومة لكنها لا تحكم" أمراً واقعاً ، وليس مبالغة أو اتهاماً، زاده حال الفوضى والإنفلات الأمني وأعمال إرهاب وجرائم منظّمة، ناهيكم عن اتساع أعمال مقاومة المحتل.
إن بول بريمر الذي جاء ليؤسس " صورة العراق المستقبلية " واعداً مثل الرئيس بوش بحلول نعيم الديمقراطية وربيع الحرية، حاول تكريس الاحتقان الطائفي والتوتر الإثني عبر تركيبة مجلس الحكم الانتقالي، وذلك بتوزيع غريب للمحاصصات والنسب على الفئات المختلفة، الأمر الذي أثار تداعيات وإشكالات قديمة - جديدة بخصوص الطائفية السياسية  وتبعاتها في الماضي والحاضر ، وانعكاسها على الهوية الوطنية الجامعة، خصوصاً التشبث بهويات مصغّرة.

الهوية والطائفية السياسية
    اذا كانت الطائفية السياسية المعاصرة قد وجدت ضالتها وبتشجيع من الاحتلال البريطاني  منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921، حيث حاولت السلطات الحاكمة التعكّز عليها أحياناً لبسط نفوذها وهيمنتها، من خلال قوانين الجنسية وبخاصة القانون رقم 42 العام 1924 الذي سُنَّ قبل تشريع الدستور العراقي الاول (القانون الاساسي) العام 1925 وقانون رقم 43  لسنة 1963 وما تبعه من قرارات تمييزية لمجلس قيادة الثورة منذ العام 1968 والى العام 2003، أدت فيما أدت اليه، الى تهجير نحو نصف مليون عراقي، خصوصاً خلال الحرب العراقية – الايرانية وما بعدها ، (طبقا للقرار 666 الصادر في 7 ايار /مايو 1980)(4)، فإن هذه الطائفية السياسية بعد الاحتلال أريد لها أن تتحول الى طوائفية مجتمعية، لعلها أشد خطراً من الطائفية السياسية ذاتها، أو هي الوجه السيء الآخر لها على اقل تقدير.
     وفي كلا الحالين ولدى كلا الفريقين، فقد أصبح الاحتقان الطائفي والتوتر الإثني وفيما بعد الاحتراب والتطهير سمة بارزةً لما نطلق عليه من كيان باسم الدولة العراقية ما بعد الاحتلال، وتعاظمت التمترسات المذهبية " الشيعية – السنية " خصوصاً بعد أحداث تفجير مرقدي الامامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء (22 شباط/فبراير2006) واحتدمت الخلافات والنزاعات الكردية– التركمانية-العربية بخصوص "كركوك"، ناهيكم عن بعض الاحتكاكات والتشنجات العربية–الكردية حول حدود الفيدرالية، كما تكرّست الاصطفافات المسيحية والكلدو- آشورية وغيرها، ناهيكم عن شرائح دينية وقومية أخرى، ويمكننا ان نستعير تعبير عالم الاجتماع العراقي الكبير الراحل علي الوردي، عندما وصف المتمترسين بالطائفيات والطوائفيات بوصف ظل صالحاً وربما الأكثر انطباقاً في الوقت الحاضر وأعني به " طائفيون بلا دين"، لأن المتديّن الحقيقي والمسلم الصادق ناهيكم عن أن المؤمن لا يمكنه ان يكون طائفياً، فالدين الاسلامي مثل كل دين ينبذ الطائفية والتمذهب، اما وجود المذاهب المختلفة، فإنما يدّل على تعددية واجتهاد وتنوّع وليس تمترساً واحتراباً وكراهية.
المرحلة الثانية من الحكم الأمريكي سعت لتقديم العراق وفقا للصورة الأمريكية، التي اشتملت عليها عشرات الدراسات والبحوث والمقالات في المراكز البحثية والاستراتجية الأكاديمية والسياسية، هذه الصورة قسّمت العراق الى طوائف وإثنيات وبخاصة منذ أكثر من عقدين من الزمان، بل إن الأمر يمتد الى أبعد من ذلك خلال الحرب العراقية - الإيرانية التي أريد "أسلمتها" باعتبارها حرباً إسلامية – إسلامية، وأُريد تطييفها باعتبارها حرباً سنية – شيعية، في حين كان هناك من يريد اعتبارها حرباً فارسية- عربية، لكن تلك الحرب العبثية كانت بعيدة عن ذلك، فهي بالاصل مغامرة وإصراراً من نظامين استهدفا كل منها إلغاء الآخر.

الهوية وصورة العراق " الجديد"
وبعد حرب قوات التحالف على العراق 17 كانون الثاني (يناير) 1991 التي انتهت بهزيمة القوات العراقية وانسحابها من الكويت واضطرار العراق للتوقيع على قرارات مجحفة ومذّلة خصوصاً القرار 687 الصادر عن مجلس المن الدولي في 3 نيسان (ابريل) 1991 حيث وصلت فيما بعد إلى نحو 60 قراراً (كلها صدرت بعد غزو الكويت) فرضت نظاماً قاسياً للعقوبات وحصاراً دولياً جائراً استمر 13 عاماً، رسمت فيه صورة العراق على أنه: مجموعة أثنيات وطوائف ومذاهب، بل أنه مجموعة أقليات لا يوجد فيها مكوّن غالب يطبع الهوية العراقية وذلك بالتعكّز على نظرة تجزيئية، تقسيمية، تفتيتية، عند تناول الهوية العراقية التي يتم اختزالها الى هويات طائفية واثنية، وليس هوية شمولية للمواطنة العراقية في دولة موحدة ذات تنوّع ثقافي وديني وقومي بهويات فرعية في إطار الهوية الكبرى.
 وهكذا أصبح الحديث عن الملاذ الامن Save Heaven  باعتباره يخص الكرد (خط العرض 36)، ثم جرى الحديث عن حماية "الشيعة" في الجنوبNo fly Zone،( خط العرض 32)، أما الحديث عن السنّة فكان يتسم بنوع من " الإتهام" سلفاً بإنسابهم  إلى الحكم السابق بكل شروره.
التشظي في رسم صورة العراق وتكويناته لا يشمل الشيعة والسنة والكرد، بل أخذ الحديث يكثر عن تكوينات وأقليات أخرى مثل التركمان والكلدو اشوريين وغيرهم إضافة الى أديان  صغيرة كاليزيدية والصابئة، ليس من باب حقوق المواطنة والمساواة وعدم التمييز، بل من باب التباعد والتناقض والتناحر.
وإذا كان الموزائيك العراقي مصدر اثراء وقوة واجتماع للعراق على مدى تاريخه السابق والمعاصر،  فان تلبية حقوق الجميع مسألة أساسية ولا يمكن تجاوزها وفقا لمعايير ومنظومات حقوق الإنسان، إلاّ أن الصورة "الغربية" ذات الحكم المسبق استهدفت شيئاً آخر أرادت له أن ينغرس في الواقع الحالي، حيث اللهاث وراء الإمتيازات والتدافع على المكاسب والإلغاء للآخر، بهدف الحصول على أكبر قدر من " الغنائم"، حتى وإن جاءت على طبق المحتل وعلى حساب الهوية الجامعة.
وحسب بعض الدوائر الغربية ومراكز الأبحاث والدراسات فإن المجتمع العراقي يتمَّ تقسيمه الى تقسيمات غريبة لاعتبارات خدمة الستراتيجية الامريكية وليس لحسابات تتعلق بمصالح المكوّنات العراقية، فالكرد الذين يحظون بتأييد لا لكونهم  يشكّلون قومية وهو جزء من أمة مجزّأة وعانت من اضطهاد طويل ومزمن، بل لأن بعض الاتجاهات والقيادات رمت بثقلها في الملعب الامريكي، والاّ كيف يمكن تفسير سكوت الولايات المتحدة، بل خديعتها للكرد وتنكرها لحقوقهم، لاسيما خلال تخليّها عنهم وعن مسؤولياتها الدولية في العام 1975 عندما تم توقيع اتفاقية الجزائر، وحتى خلال الحرب العراقية- الايرانية، عندما تعرّض الكرد لحملات منظّمة بما فيها قصف حلبجة بالسلاح الكيماوي العام 1988، لم تحرك الولايات المتحدة ساكناً.
الكرد مكوّن أساسي من مكونات الشعب العراقي والعراق، ولا يمكن استقرار وتقدّم العراق دون حل القضية الكردية حلاً سلمياً ديمقراطياً وانسانياً عادلاً بالاعتراف لهم بحق تقرير المصير واختيار الصيغة الملائمة لعلاقتهم بالشعب العربي شقيقهم الاكبر في العراق، سواءًا كانت صيغة الحكم الذاتي أو الفيدرالية أو اللامركزية أو غيرها، علماً أنهم يفضلون صيغة الدولة الفيدرالية (الاتحادية) ذات الصلاحيات لاقليم كردستان.
أما عرب العراق وهم الذين يؤلفون غالبية سكانه فإذا تم التطرق اليهم فيقسّمون الى مذاهب وطوائف، فهم سنة وشيعة وليسوا عرباً يجمعهم الشعور بالانتماء العروبي والوطني والقومي، وهنا نعيد استذكار أن الشيعة هم مثل السنة أغلبيتهم الساحقة من العرب وفيهم الكرد أيضاً وبخاصة "الفيلية" وبعض التركمان كذلك، مثلما غالبية السنة من العرب، كما أن غالبية الكرد والتركمان من السنّة أيضاً(5).

كيف يمكن تقسيم العراق!؟
يمكنني القول: إن العراق وفقاً لتقسيمات قومية وإثنية يتألف من العرب الذين يشكلون غالبية سكان العراق (أكثر من 80%)  وطبعوا هويته التاريخية والمعاصرة، وكرد وهم قومية ثانية اعترفت لهم الدساتير العراقية منذ العام 1958 بجزء من حقوقهم  بكونهم "شركاء في الوطن العراقي" (دستور عام 1958) وكون العراق يتألف من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية (دستور عام 1970) وهم يطالبون حالياً بضمانات أكبر طبقا لصيغة الإتحاد الفيدرالي، بدلاً من صيغة الحكم الذاتي السابقة لعام 1974، كما يتألف من قوميات أخرى أصغر مثل التركمان والكلدو -اشوريين(6).
إذاً يتألف العراق ووفقاً للتقسيم القومي من العرب وهم القومية الكبرى والكرد وهم القومية الأساسية الثانية، والتركمان والكلدو أشوريين وغيرهم، وبدون ضمان الحقوق القومية للأكراد والحقوق الثقافية والادارية للتركمان والكلدو أشوريين وغيرهم، إضافة الى ضمان حقوق الإنسان في دولة تقوم على المساواة والمواطنة الكاملة، لا يمكن الحديث عن التآخي القومي والاثني في العراق، خصوصاً وان الحكومات السابقة تجاوزت على حقوق الأقليات ناهيكم عن تجاوزها على حقوق الإنسان، مما عزز بعض الإتجاهات الإنعزالية والتي زادتها تركيبات ما بعد الاحتلال بما فيها قانون الانتخابات والبرلمانات التي انبثقت عنه، حيث عكست الاستقطاب الطائفي والاثني الذي سبق لبول بريمر أن كرّسه في مجلس الحكم الانتقالي.
اما اذا اردنا تقسيم العراق على اساس ديني، فهو مؤلف من مسلمين (حوالي 95%) من السكان ويشكّل الاسلام الهوية الغالبة للمجتمع العراقي، كما يتألف من مسيحيين كجزء من النسيج العراقي لعبوا دورا مهما في تاريخه المعاصر، ويزيديين وصابئة وديانات صغيرة اخرى، ويعتبر الاسلام مكوّناً أساسياً منذ اكثر من 1400 سنة وشكّل مركزاً للحضارة العربية – الاسلامية.
إن ضمان حقوق الأقليات الدينية وطمأنتها سيساهم في لحمة المجتمع العراقي، بعكس ما يؤديه الاستعلاء والاستقواء على الآخرين بحجة الحيف والظلم السابقين وادعاء تمثيل الأغلبية في الحاضر، كما أن هضم الحقوق يكون سبباً في انهيار ودمار المجتمع العراقي وانحلال الهوية الوطنية.
هذه هي الصورة الحقيقية لعراق تاريخي موّحد وجامع وليس مفترض، بمعنى عراقات، وبلدات ومناطق وطوائف واثنيات، وإنْ كان الاعتراف بالتمايز والخصوصية مسألة مهمة، اذ ان تلبية الحقوق الخاصة هو رفد وتعزيز لحق المواطنة، الجامع للهوية العراقية، خصوصاً بإقرار مبدأ المساواة ، الذي لا غنى عنه للمواطنة الكاملة وغير المنقوصة طبقا لمواثيق حقوق الإنسان.

المواطنة والجنسية: الماضي والحاضر
ينفرد القانون العراقي عن غيره من القوانين في موضوع الجنسية حيث يشترط على المواطن العراقي لا إكتساب الجنسية العراقية حسب، بل شهادة الجنسية العراقية، وحسب معلوماتي فإن هذا الاجراء غريب ويكاد لا يوجد قانون في العالم المتحضر يتطلب الحصول على " شهادة الجنسية" بعد الجنسية! وقد كان مثل هذا الامر إيذاناً بتكريس الطائفية في العراق، ضمن صيغة (بيرسي كوكس- مس بيل) التي جرى تقنينها فيما بعد، ووفقا لسياسة بريطانيا " فرق تسد" وخصوصا بعد ثورة العشرين وبهدف التفريق بين المواطنين العراقيين ولأحداث صدع خاص بين المسلمين، وصولاً لصيغة بول بريمر- نيغروبونتي- زلماي خليل زاد.
وكان أول قانون للجنسية يصدر في العراق هو القانون رقم 42 العام 1924، بعد نفاذ معاهدة لوزان في 6 آب 1924 حيث تم بموجبه تحويل الجنسية العثمانية الى الجنسية العراقية (بالنسبة للمواطنين الذين يحملون العثمانية والمقيمين في العراق قبل الاستقلال)(7).
ونظم القانون المذكور حالات اكتساب الجنسية لغير العثماني حيث نص:" يعتبر عراقياً كل من ولد في العراق وبلغ سن الرشد ان كان والده مولوداً في العراق مقيماً به عادة حين ولادة ابنه على ان لا تطبق هذه الفقرة على من ولد قبل آب 1924)(8) وقد قسم القانون الذين يحملون الجنسية وجعلها أصلية وميزها بالفئة (أ) والتبعية وعرفت بالفئة (ب).
وفي العام 1963 تم سن قانون جديد للجنسية تحت رقم القانون (43) حيث أدخلت تقييدات جديدة للحصول على الجنسية العراقية وتم حصرها بموافقة وزير الداخلية بالنسبة للمولود في العراق ولأب مولود ومقيم فيه بصورة معتادة، وتم تطبيق هذه الفقرة على من لم يحصل على شهادة الجنسية العراقية قبل نفاذ القانون.
ان القانون المذكور أكدّ مبدأ الولادة المضاعفة (للولد والأب) طبقا لحق الاقليم ولحق البنوّة في حالة إقامة الوالد إقامة دائمة ومتصلة واشترط اكثر من ذلك تقديم طلب تحريري الى وزير الداخلية للحصول على موافقته(9) وقد تكرّس هذا الجانب (الشوفيني والطائفي)، وإن لم يعلن في قراري مجلس قيادة الثورة رقم 131 لسنة 1972 ورقم 803 في 12/7/1977، حيث أصبح اكتساب الجنسية العراقية للمولود في العراق (ولادة مضاعفة) متوّقفاً على تقدير وزير الداخلية وعلى مصلحة السلطة الحاكمة، ولم يشفع بذلك حتى أداء الخدمة العسكرية الالزامية كعامل مجزٍ لاكتساب الجنسية كما تقرره معظم القوانين.
وفي شباط (فبراير) 1980 أصدر مجلس قيادة الثورة القانون رقم 180 حول منح الجنسية العراقية للاجانب المتزوجين من عراقيين وبموجبه أعطي لوزير الداخلية الحق في منح الجنسية الى الرجال والنساء والاجانب المتزوجين عن عراقيين(10).
وكانت تلك الاجراءات قد ترافقت مع بدء الحرب الاعلامية بين العراق وإيران بعد الثورة الايرانية وضيق صدر السلطة العراقية لأي هامش للتيارات السياسية وبخاصة المعارضة، ولكن الأمر كان أبعد من مجرد عملية "جرد" جديدة للتيارات "المعادية"، بل قاد الى حملة لعملية تهجير واسعة شملت عشرات الآلاف باعتبارهم "طابوراً خامساً " وزاد الامر غلاظة وقسوة خلال الحرب العراقية- الايرانية 1980-1988 مع تصاعد نزعات الكراهية والبغضاء.
وقد أقدمت الحكومة العراقية بعد عملية التهجير التي تمت من دون قرارات قضائية، وبوضع اليد على ممتلكات المهجرين، وشكّلت فيما بعد هيئة عرفت بإسم "إدارة أموال المهجرين" لغرض التصرّف بها واستثمارها على نحو مسيء ويتعارض مع أبسط الاعتبارات الانسانية، في حين تؤكد المادة السابعة عشر من الاعلان العالمي لحقوق الانسان: ان حق الملكية الشخصية هو حق مقدس ومنعت مصادرة الاملاك بصورة تعسفية، بما يعني وجوب احترام هذا الحق وعدم التصرف به بصورة متعسفة.
ان نظام الجنسية هو نظام قانوني وليس علاقة عقدية تشترط توافق ارادة الطرفين والجنسية بهذا المعنى هي غير (التجنّس) الذي هو عمل ارادي، وبهذا فإن القانون العراقي بسبب من تمييزه وانحيازه وضع قيوداً حوّلت الجنسية التي هي حق للمواطنين الى حالة من حالات التجنّس بربطها تقديم طلب وموافقة وزير الداخلية وتأييد السلطات الحاكمة(11).
وإذا كان قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وفيما بعد الدستور الدائم وضع بعض القواعد الجديدة فيما يتعلق بالجنسية حين نص في المادة (11) على أن كل من يحمل الجنسية العراقية يعدّ مواطناً عراقياً وتعطيه مواطنته كافة الحقوق والواجبات ومواطنته أساس علاقته بالوطن والدولة، الآّ ان هذه النصوص ظلّت عائمة وملتبسة، فهي لم تتضمن نصاً صريحاً بالغاء قانون شهادة الجنسية العراقية الذي يشترط بعد الحصول على الجنسية الحصول على شهادة الجنسية، وإنْ كان الأمر يفترض إلغاءًا  لقانون شهادة الجنسية ذاته الذي كان أساساً للتمييز وفقاً لقانون الجنسية رقم 42 لسنة 1924.
كما نص القانون على جواز حمل العراقي أكثر من جنسية، وإن كان الأمر تحصيل حاصل، خصوصاً وأن نحو مليوني عراقي يحملون جنسية أجنبية، الآّ أن النص على عموميته أثار إشكالات  كان لابدّ للمشرع من تحديدها فمثلاً ان بعض اليهود الذين غادروا العراق مضطرين بموجب القانون السيء الصيت عام 1950 حيث أسقطت عنهم الجنسية، وأصبح جزء منهم أو من أبنائهم أعضاء في جيش الدفاع الاسرائيلي أو في جهاز الموساد، مما يعتبر إعادة الجنسية اليهم يشكّل خطراً على أمن العراق والأمن القومي العربي، فالعراق فعلياً ما زال في حالة حرب مع اسرائيل قانوناً، وهو لم يوقع على اتفاقية رودس للهدنة للعام 1949، ولهذا كيف يمكن اعتبار الاسرائيلي من أصل عراقي وهو يحمل الجنسية الامريكية مثلاًَ، عراقياً يمكن قبول مواطنته العراقية في هذه الظروف الملتبسة، وكان على المشرّع وضع استثناءات لكي لا يحصل مثل هذا الغموض والإبهام والالتباس (12) .

التنوّع الثقافي والهويات الفرعية!

يمكن القول ان الاهتمام بالتنوع الثقافي وفيما بعد الاعتراف به لم يكن كافياً، خصوصاً من الناحية القومية أو الاثنية أو الدينية أو الطائفية أو السلالية أو اللغوية أو غيرها، بل أن هناك تجاهلاً للتعددية قاد أحياناً الى عدم الاعتراف أو التقليل من شأن الآخر، ولكن الإنكار أو التنكّر وعدم الاعتراف بالحقوق لم يؤدِ الى وحدة ونقاء المجتمعات العربية، بل ازدادت اشكالية وانقساماًَ وتناقضاً ! ولعل تلك واحدة من نواقص الدولة العراقية التي حفرت في أساساتها عميقاً وأضعفت من وحدتها الوطنية وساهمت القوى الخارجية في استثمارها بالضد من المصالح العليا للعراق وبخاصة في حال استمرار هضم الحقوق.
وغالباً ما تعاملت النخب الفكرية والثقافية والسياسية بمسألة التنوع الثقافي بالعموميات وقدّمت الشعارات المركزية الكبرى على حساب الواقع الذي يزخر بالتعددية والتنوع القومي والديني واللغوي، وأحياناً تجاهلت هذه النخب الواقع أو انتقصت منه بتقديمها الأهداف الكبرى على حساب التنوع والتعددية والاعتراف بالآخر، فالتنوع ليس جزئيات أو تفاصيل يمكن تجاوزها، بل هو ضرورات لا يمكن الاستغناء عنه، على أهمية الأهداف الكبرى.
إن وحدة قسرية أو فوقية أو أوامرية تسلطية ستكون ضارّة وخطيرة واستعلائيةً إزاء الأقليات الأخرى مهما كانت المبررات والذرائع، وللأسف لم تبلور النخب الفكرية والثقافية والسياسية موقفاً حقوقياً وإنسانياً " موحداً " بخصوص التنوّع الديني والثقافي والقومي وغيرها، ولذلك ظلّت فئات واسعة من المسيحيين والأكراد والتركمان ومن الأقليات غير العربية أو غير الاسلامية تعاني من الحيف بشأن عدم تمكّنها من تقلّد المناصب العليا في الدولة وخصوصاً رئاسة الدولة ورئاسة الجيش ورئاسة القضاء، وهو حق لها مثل غيرها اذا تحدثنا عن المواطنة والمساواة في الدولة العصرية.
وظلّت النظرة قاصرة الى الأقليات التي تعيش في العراق أو في المنطقة العربية منذ مئات وآلاف السنين وهي منطقتها أيضا، لدرجة أن الشك في الولاء كان سائداً، بل إن البعض يُرجعه الى اعتبارات تاريخية مثل "دور البرامكة" و"أبو مسلم الخراساني" و"حروب الفرنجة" وغير ذلك من عوامل الارتياب التاريخية، وقد تم  استحضار الصراع العربي -الفارسي التاريخي أو دور ما سمّي " بالشعوبية " لربطه بالحاضر خلال الحرب العراقية- الايرانية، بما يساعد على الكراهية والحقد، في حين أن هضم الحقوق وعدم تأمين مستلزمات المواطنة التامة، هو الذي يمكن أن يؤدي الى التباعد وليس ضعف الولاء أو التأثير الخارجي، ولعل التمييز ونظرة الشك والاستعلاء هي التي تدفع بالبعض الى اتخاذ بعض المواقف التي تميل الى ضيق الافق والانغلاق والانعزالية وأحياناً الاستقواء بالأجنبي.
إن الاعتراف بحقوق الأقليات وبالتنوّع القومي يمكن أن يكون مدخلاً واستحقاقاً حقوقياً وانسانياً لتأكيد الهوية الفرعية أو الصغرى باعتبارها استكمالاً وتعبيراً عن حقيقة الهوية العامة الكبرى، التي لا يمكنها إلغاء الهويات الصغرى أو الفرعية، ولعلنا نطرح السؤال مجدداً ما الفرق بين ثقافة عربية واحدة وثقافة عربية موّحدة جامعة تقرّ بالتنوع الناجم عن حقيقة المجتمعات المتعددة الثقافات والمشارب والمصادر، خصوصاً وأن الوطن العربي والعراق تحديداً مصدر استقطاب للحضارات والثقافات والأقوام والديانات المختلفة!؟

الهوية وحقوق الانسان
إن منظومة حقوق الانسان الثقافية للحقوق الجماعية والفردية تقرّ بحق الأمم كبيرها وصغيرها بالمساواة في الحقوق، واعتبار جميع الثقافات جزءًا من التراث الانساني المشترك للبشرية بما فيها من تنوّع واختلاف بتأكيد واجب الحفاظ على الثقافة ورعايتها وضمان حق كل شعب في تطوير ثقافته، إضافة الى حق كل فرد في المشاركة الحرة في حياة مجتمعه وحقه في التمتع بالفنون والآداب والمساهمة في التقدم العلمي وحقه في الحرية الفكرية الخ ...
وتقرّ الشرعة الدولية بالمساواة بين الثقافات ورفض التمييز بين الأمم والشعوب وعدم الاعتراف بفكرة التفوّق أو الهيمنة، وهو ما أكدته منظمة اليونسكو وما تبنّاه إعلان مكسيكو عام 1982 حول الحق في احترام الهوية الثقافية.
إن الحق في الهوية الثقافية للشعوب يعطي الاشخاص والجماعات الحق في التمتع بثقافاتهم الخاصة وبالثقافات الاخرى المحلية والعالمية، ذلك أن إقرار الحق في الثقافة يعني : حق كل ثقافة لكل أمة أو شعب أو جماعة في الوجود والتطور والتقدم في إطار ديناميتها وخصائصها الداخلية واستقلالها، ودون إهمال العوامل المشتركة ذات البعد الانساني وقيم التعايش والتفاعل بين الأمم والشعوب والجماعات.
وقد شهد القانون الدولي في العقود الثلاثة الماضية تطوراً ايجابياً في موضوع الأقليات، حيث تناولت العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية موضوع عدم التمييز، كما حظيت " الحقوق الخاصة" باهتمام كبير، خصوصاً بعد إبرام " إعلان حقوق الأشخاص المنتمين الى أقليات قومية أو اثنية أو دينية أو لغوية " الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ 27  برقم 135 في 18 كانون الاول (ديسمبر) 1992 والذي عُرف باسم " إعلان حقوق الاقليات " Minority Rights، حيث أنشئ على أساسه فريق معني بحقوق الأقليات عام 1995 اعتماداً على الحقوق الثقافية ( 13).
والمقصود بالحقوق الخاصة هو الحفاظ على الهوية والخصائص الذاتية والتقاليد واللغة في إطار المساواة وعدم التمييز وهو نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.
إن الإقرار بالتنوّع الثقافي والديني والإثني هو إقرار بواقع أليم، فقد كان ثمن التنكّر باهظاً وساهم في تفكيك الوحدة الوطنية وهدّد الأمن الوطني واستخدمته القوى الخارجية وسيلة للتدخل وفي هدر الأموال وفي الحروب والنزاعات الأهلية، بدلاً من توظيفه بالاتجاه الصحيح باعتباره مصدر غنى وتفاعل حضاري وتواصل انساني، وقبل كل شيء باعتباره حقاً إنسانياً !!

المرحلة الامريكية- الدولية

أما المرحلة الثالثة من مراحل الدولة العراقية بعد الاحتلال الامريكي للعراق فيمكن اعتبارها المرحلة الأمريكية – الدولية بمشاركة "عراقية"، وقد كان في مقدمتها سن قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية في 8 أذار (مارس) 2004 وإعلان نقل "السيادة" إلى العراقيين في 28 حزيران (يونيو) بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1546 في 8 حزيران (يونيو) 2004 الذي أكد على دور القوات المتعددة الجنسيات ولكن بقيادة أمريكية، وهيأت هذه المرحلة لإجراء الإنتخابات في 30 كانون الثاني (يناير) 2005.
وشهدت المرحلة الثالثة للإحتلال الأمريكي تصاعد وتيرة المقاومة من جهة، وأعمال عنف وإرهاب وتفخيخ للسيارات وقطع الرؤوس وجزّ الأعناق من جهة أخرى فضلاً عن التطهير العرقي والمذهبي، لدرجة أن الولايات المتحدة والقوات المتعددة الجنسيات عاشت ظروفاً عصيبة خصوصاً الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها بشرياً ومادياً.(14) ورغم مرور ست سنوات فلم تستطع القوات المحتلة إحكام قبضتها على الوضع العراقي الذي ما زال معوّماً  رغم تحسن الوضع الأمني نسبياً منذ أواسط العام 2008 وتوقيع الاتفاقية العراقية- الامريكية ( أواخر العام 2008) والوعد الذي أطلقه الرئيس أوباما في حملته الانتخابية للانسحاب من العراق، وعاد وأكّده عند استلامه مقاليد البيت الأبيض في مطلع العام 2009، رغم أن التفكير بالانسحاب وإن لم يتبلوّر كلياً، الاّ أنه أصبح مطروحاً، سواءًا جاء بتوصيات بيكر- هاملتون أواخر العام 2006، مع اهمالها من جانب الرئيس بوش، أو بسبب المأزق الامريكي في العراق والخسائر البشرية والمادية، أو عند اندلاع وتفاقم الأزمة المالية والاقتصادية المستفحلة والتي ابتدأت بالرهن العقاري ، ثم بالبنوك الكبرى وشركات التأمين العملاقة، حتى وصلت الى جميع مفاصل الاقتصاد والحياة العامة.
أما المرحلة الرابعة  فقد بدأت بعد انتخابات أوائل العام 2005 ورغم فوز قائمة الائتلاف العراقي الموّحد " الشيعية" فلم تتوصل الأطراف الفائزة إلى تشكيل وزارة موحدة الاّ بعد جهد جهيد، حتى تمّ  إعلان رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزارة ورئاسة الجمعية الوطنية، ووفقاً لجدول زمني وضعته الإدارة الامريكية فقد تقرر إعداد دستور دائم في 15 آب (أغسطس) وتم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الاول (اكتوبر) واجريت الانتخابات على أساسه في 15 كانون الاول (ديسمبر)2005، رغم تحفظ جبهة التوافق "السنية" المكوّن الثالث في العملية السياسية والتي حصلت على 44 مقعداً في البرلمان من أصل 275 مقعداً، على الدستور الذي تقرر تعديله بعد الانتخابات، في حين حصلت القائمة الكردية على 53 مقعداً وشكّلت القائمة الثانية، أما قائمة الائتلاف "الشيعية" فحصلت على 138 مقعداً.
وإذا كانت انتخابات مجلس المحافظات قد أفرزت واقعاً جديداً، فلعله سيكون احدى التحديات التي تواجه العملية السياسية، لاسيما بعد التحسن النسبي في الوضع الأمني والانحسار النسبي للتشظي الطائفي، لكن مشكلات جدية ستواجه انتخابات نهاية العام 2009 البرلمانية، خصوصاً موضوع صلاحيات الأقاليم ومشكلة كركوك واتفاقيات النفط وغيرها، فضلاً عن تصدع بعض التحالفات والتكتلات السياسية.

الفيدراليات العراقية وجدل الهويات !
   أثار موضوع الفيدرالية أو قانون الأقاليم الذي أُقرّ في البرلمان، ولكن تمّ تأجيله الى 18 شهراً، إشكالات كثيرة على الصعيدين النظري والعملي فيما يخصّ وحدة العراق ومستقبله، ولعل هذا ترافق مع عدد من المشاريع التي تحدثت عن تقسيم العراق مباشرة أو بصورة مواربة، كان آخرها مشروع جوزيف بايدن الذي اقترح تقسيم العراق الى ثلاث فيدراليات (أقرب الى الكانتونات) وتوضع حدود بين الأقاليم الثلاثة ونقاط تفتيش وتنظم بطاقات هوية أقرب الى جوازات سفر وتحدد قوة بحدود 300 ثلاثمائة ألف جندي مدعوم من "قوات التحالف" وقدّرت تكاليف تنفيذ هذا المشروع بمليار دولار امريكي.(14)
وكان قانون الأقاليم، بالارتباط مع نفوذ أمراء الطوائف وانتشار الميليشيات واستفحال موجة العنف الطائفي واستشراء الفساد والرشوة وبخاصة التلاعب بالمال العام وسرقة النفط وتهريبه، قد خلق نوعاً من الالتباس والإبهام في ما تعنيه الفيدرالية والنظام الفيدرالي، وقبل ذلك كان الدستور العراقي قد أوجد مثل هذا الانطباع وذلك بتعويم السلطة الفيدرالية (الاتحادية) وقوانينها لصالح السلطة الإقليمية وقوانينها فيما إذا تعارضت قوانينهما حيث ستكون الغلبة لقوانين الاقاليم، ناهيكم عن تداعيات موضوع توزيع الثروة وعقود النفط المبرمة في منطقة كردستان دون إذن من السلطة الفيدرالية، وكذلك الصلاحيات الملتبسة للقوات المسلحة الاتحادية على الأقاليم بما فيها على قوات البيشمركة الحالية، لذلك اقتضى البحث في موضوع الفيدرالية وحدودها وسقفها مدخلاً لهذه الفقرة مما له علاقة بالهوية.
ابتداءًا أقول أن الفيدرالية كمصطلح جديد دخل الادب السياسي العربي منذ عقدين من الزمان تقريباً، فمنذ مطلع التسعينات ومع انهيار نظام القطبية الثنائية وإنتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي الى طور جديد، بدأ الحديث يكثر عن الفيدرالية خصوصاً في العراق والسودان ومناطق أخرى.(15)
الأمران الآن مطروحان للمناقشة و" التطبيق " بصيغ دستورية مقترحة أثارت وتثير جدلاً واسعاً، وأعني بذلك " الفيدرالية الكردية " و " فيدرالية جنوب السودان"، لكن ذلك حثّ أوساطا واسعة في العالم العربي على التفكير أو المطالبة بفيدراليات متنوعة سواءًا حملت أساساً واقعياً او رغبة في الحصول على مكاسب أو إمتيازات.
هذه الفقرة تبحث في الفيدراليات العراقية المطروحة، وليس " الفيدرالية الكردية" حسب: واقعيتها، ضرورتها، إمكانيات تحقيقها، آفاقها والتحديات والمخاطر التي تواجهها، وبالتالي إنعكاسات ذلك على الواقع العربي سواءًا تعزيز الوحدة الوطنية أو مواجهة التحديات الخارجية وإحتمالات التشظي والتشطير والتفتيت والتقسيم التي تواجهه!!! وبين هذا وذاك، لم تعد الدولة المركزية وإحتكار القرار السياسي والاداري ممكناً خصوصاً بإقصاء الآخر وهضم الحقوق، في ظل عالم يتجه نحو اللامركزية وتوسيع دائرة المشاركة واحترام الخصوصيات.
الدستور والمسألة المعقّدة!
من القضايا المركزية والعقدية، التي كانت مثار خلاف شديد وحاد في لجنة صياغة الدستور العراقي بين القوى والاطراف السياسية في الجمعية الوطنية أو خارجها من الفئات الممانعة أو المعارضة، هي قضية الفيدراليات أو ما أطلق عليها إسم "الاقاليم"، فقد ذهب الباب الخامس (المادة -113) لتحديد مكوّنات النظام الاتحادي (الفيدرالي) بالقول : إنه يتكون من " عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية".
ورغم إقرار البرلمان العراقي أواخر العام 2006 قانون الأقاليم، الاّ أنه تمّ تأجيل تطبيقه لـ 18 شهراً بسبب إندلاع الخلافات بشأنه وتهديد بعض القوى الانسحاب من الحكومة، مما قد يؤثر على كامل العملية السياسية، ولذلك تقرر تأجيل تنفيذه على أمل أن يتم تعديل الدستور وإحداث نوع من التوافق الجديد، الذي قد يؤدي الى تعويم قانون الاقاليم كما تريد جبهة التوافق وقوى اخرى، في حين أن قائمة الائتلاف "الشيعية" تراهن على الزمن لإقناع أو إجبار الأطراف الممانعة على الإمتثال لقرار البرلمان المذكور، خصوصاً وانها تحظى بالأغلبية فيه.
ولأن (المادة – 114) أقرّت إقليم كردستان وسلطاته القائمة " إقليماً اتحادياً "، فإن النقاش والاختلاف ينصرف حاليا حول: حدود سلطات وصلاحيات الاقليم وإمتداداته وتطبيقات وتفسيرات النصوص الواردة في الدستور لجهة العلاقة التي تزداد إلتباساً بينه وبين السلطة الاتحادية (الفيدرالية)، خصوصا انعكاسات ذلك على فكرة إنشاء أقاليم في الجنوب والوسط، تحت مبررات "الروابط الخاصة" و" وحدة النسيج المذهبي" و" المظلومية التاريخية"، وكأن الامر لا علاقة له بتغوّل الدولة المركزية الشديدة الصرامة والشمولية وحصر الصلاحيات والمسؤوليات بيدها على حساب علاقتها بالاطراف والاقاليم، ليس في الجنوب والوسط ولإعتبارات طائفية ومذهبية حسب، بل في الغرب والشمال، ناهيكم عن المنطقة الكردية وعموم العراق، وهي المسألة التي تغيب عن الأطراف الداعية للفيدراليات الجنوبية أو لأن رغبتها في الحصول على مكاسب وامتيازات يجعلها تتشبث بكل الوسائل لتحقيق هذا الهدف الذي تعتبره ملاذاً لحماية الطائفة، رغم أن بغداد العاصمة تظلّ عصيّة على التقسيم أو التمذهب بحكم الاشتباك الكبير فيها قومياً ودينياً ومذهبياً واجتماعياً، رغم عمليات التطهير الطائفي والمذهبي التي طالتها والإجلاء السكاني لتغيير طابعها الديموغرافي.
واذا كانت الفيدرالية نظاماً ادارياً على درجة عالية من الرقي والتطور وينشأ استجابة لضرورات واحتياجات تاريخية ملحّة اقتصادية واجتماعية وسياسية لتنظيم وادارة المجتمع، وزيادة مشاركة الاقاليم في مسؤولية اتخاذ القرارات، سواء ما يتعلق بشؤونها الخاصة او تلك التي تعنى بعموم الدولة، فان حجج " رد المظالم" او " إحقاق الحق" او " الغاء التمييز" ليست كافية لقيام نظام فيدرالي ان لم يكن هذا الاخير استجابة لتطور تاريخي ثقافي وحاجة ماسة لهيكلة وادارة وتنظيم امور الدولة والمجتمع، فقضايا مثل " المظلومية" او " الغبن التاريخي" او "النسيج المذهبي" او "التمييز" يعالجها الدستور في باب الحقوق والحريات، وسواء" كان دستورا" فيدراليا" اتحاديا" أم لم يكن!(16)
ختاماً أقول: ان حل مشكلة التمييز ونبذ الطائفية السياسية والغاء الاضطهاد القومي، يساهم في تعزيز وتعميق الشعور الوطني والانتماء للعراق كوطن وليس طائفة أو مذهب أو قومية أو أثنية او عشيرة أو منطقة ، وان كان ذلك يحافظ على الخصوصية ولا يلغيها، بل يجعلها في تفاعل في اطار المواطنة العراقية المتعددة والمتنوعة والتي هي عنصر قوة وليس عنصر ضعف، فالمواطنة، بحاجة الى مواطنين أحرار والى مجتمع مدني بحده الادنى يتجاوز الولاءات الطائفية والمذهبية والاثنية والدينية والعشائرية والجهوية، ويستوعبها في علاقة المواطنة وقيمها من دون ان يعني ذلك ان حلا سحريا للمشكلات والصراعات المعروفة سينتهي أو يزول.  وبهذا المعنى عندما نتحدث عن شروط الديمقراطية فانما نتحدث عن شروط مواطنة في الدولة الحديثة وقانون موحد ودستور جامع، لا على أساس ديمقراطية الطوائف والاثنيات والحصص والنسب والتقسيمات البعيدة عن جوهر المواطنة بالمعنى المعاصر.
وإذا كان ثمة ضعف في الهوية العراقية بسبب هضم الحقوق وبخاصة للاقليات، ناهيكم عن غياب الحريات ودولة القانون ومبادئ المساواة والمواطنة الكاملة، فان الاحتلال ساهم في تحطيم الدولة وبالتالي في تمزيق الهوية العراقية الجامعة وخصوصاً عند حل الجيش العراقي، وإقرار المحاصصة المذهبية والطائفية والإثنية، مما أدى الى اندلاع احتراب داخلي غذّاه أمراء الطوائف والمستفيدون من تعميق الانقسام والتشظي في المجتمع العراقي.


















المصادر والهوامش
(1)   أنظر : بريمر، بول- عام قضيته في العراق  My Year in Iraq، دار الكتاب العربي، بيروت ، لبنان، 2006.
أنظر كذلك:  شعبان، عبد الحسين- اجتثاث البعث ... وشيء عن المصالحة والمساءلة والعزل السياسي، بحث نشر على حلقتين في  جريدة الزمان بتاريخ 5 و6/8/2007.
(2)   انظر : تقرير حال الامة ، 2006-2007، مجموعة مؤلفين : أزمات الداخل وتحديات الخارج (العراق: سياقات الوحدة والانقسام: النصر أم الهزيمة؟) ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2007.
(3)   قارن: شعبان ، عبد الحسين- تقريضي لكتاب بول بريمر – مجلة المستقبل العربي- عام بريمر العراقي في الميزان ، تموز (يوليو) 2006.
(4)   يعتبر الحق في الجنسية حق أساسي ولا يمكن حرمان شخص من جنسيته تعسفاً أو انكار حقه في تغييرها حسبما نصّت عليه المادة 15 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر عن الجمعية العامة للامم المتحدة العام 1948. وقد سعى المجتمع الدولي للتقليل من حالات انعدام الجنسية بتوقيع اتفاقية دولية في 30 آب (اغسطس) العام 1959 (اعتمدت العام 1960) convention on the Reduction of   Statelessness   ثم اعتمدت في العام 1961 من الجمعية العامة للامم المتحدة ودخلت حيّز التنفيذ في 13 كانون الاول (ديسمبر) 1975، ولعل أهم أحكامها تتلخص فيما يلي:
يتعين على الدول المتعاقدة أن تمنح جنسيتها لأي شخص ولد على أراضيها، اذ أن عدم منحه الجنسية يجعله بلا جنسية، وتمنح هذه الجنسية بموجب ما يأتي :
أ‌-   عند المولد بحكم القانون.
ب‌-   بناءًا على طلب يقدم الى جهة الاختصاص.
    كما أكدت الاتفاقية على عدم جواز الحرمان من الجنسية لأي فرد أو مجموعة أفراد لأسباب تتعلق بالجنس أو العرق أو الدين أو السياسة.
أنظر: شعبان، عبد الحسين- من هو العراقي، دار الكنوز الادبية، بيروت، 2002، ص 28-29 وما بعدها.
قارن كذلك: القرار 666 الصادر عن مجلس قيادة الثورة في 7 أيار (مايو) 1980 والذي تم بموجب نزع جنسية عشرات الآلاف من العراقيين بحجة التبعية الإيرانية، وتعاظمت حملة التهجير خلال الحرب العراقية- الايرانية 1980-1988.
(5)   قارن: شعبان، عبد الحسين- الخارطة السياسية العراقية، مجلة المستقبل العربي، العدد رقم 333 شهر تشرين الثاني(نوفمبر)2006.
(6)   انظر: الدستور العراقي المؤقت العام 1958 والدستور المؤقت العام 1970، وقانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية الصادر في 8 آذار (مارس) العام 2004 والدستور العراقي الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الاول (اكتوبر) العام 2005.
(7)   انظر: أبوحاتم، كراس خاص " ملاحظات عامة على تطبيق قانون الجنسية العراقي"، منشور سابقاً في مجلة الثقافة الجديدة العراقية، دار النشر بلا، مكان لنشر بلا.،  ص 7 وقد نص قانون الاحزاب السياسية الذي أصدره مجلس قيادة الثورة في العراق 1 ايلول (سبتمبر) 1991 على حق كل عراقي وعراقية تأسيس حزب سياسي والانتماء اليه (م-2) ويقدم طلب التأسيس الى وزير الداخلية ولا يكون ( الشخص) محكوماً بجريمة القتل او جريمة مخلة بالشرف وينبغي ان يرفق طلب التأسيس ببيان يتضمن فيه اسم ولقب ومهنة كل عضو مؤسس ونبذة ومختصرة عن حياته فضلاً عن " شهادة الجنسية العراقية" وتعلّق اللجنة الدولية للحقوقيين على ذلك بالقول: شهادة الجنسية هي إفادة تمنحها وزارة الداخلية ويشار فيها الى ان الشخص من التبعية العثمانية او التبعية الايرانية وذلك اسناداً الى دفاتر النفوس التي تعود الى الثلاثينات. (للدقة فان القانون رقم 42 لسنة 1924 تحدث عن التبعية العثمانية وغير العثمانية). أنظر: كتاب العراق وسيادة القانون، اللجنة الدولية للحقوقيين، جنيف، شباط (فبراير) 1994، ص 92.
(8)   قارن المادة (8) من القانون رقم 42 العام 1924.
(9)   انظر المادة السادسة من قانون الجنسية رقم 43 العام 1963.
(10)    انظر قرار مجلس قيادة الثورة رقم 180 لسنة 1980، في صحيفة الثورة (العراقية) العدد 3551 في 6 شباط (فبراير)1980، شعبان، عبد الحسين، عاصفة على بلاد الشمس، دار الكنوز الادبية، بيروت، 1995، ص 231.
(11)    انظر: نص قانون الجنسية العراقية 43 لسنة 1963، صحيفة الوقائع العراقية، العدد 818 في 19/6/1963.
(12)   أنظر: نص قانون اسقاط الجنسية العراقية عن اليهود، القانون رقم (1) لسنة 1950. قارن رسالة مير بصري ال

1095
الاتحاد الأوروبي: هل من وقفة جديدة إزاء "إسرائيل"؟
   


عبدالحسين شعبان
رغم التطور الذي حصل في بعض مواقف الدول الأوروبية إزاء حقوق الشعب العربي الفلسطيني، لاسيما الشعور العام بخصوص تهديد “إسرائيل” للسلم والأمن في الشرق الأوسط، ومسؤوليتها الأساسية في تدهور الأوضاع ووصولها إلى طريق مسدود، خصوصاً باستمرار عدوانها المتكرر على البلدان العربية، الذي كان آخره حربها ضد لبنان العام 2006 وحصارها لغزة ومن ثم شن عدوان عليها دام 22 يوماً أواخر العام 2008 ومطلع العام ،2009 إلا أن البلدان الأوروبية ظلّت بشكل عام تدور في فلك السياسة الأمريكية المنحازة إلى “إسرائيل” وبخاصة في اللجنة الرباعية وفي مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة والمجلس الدولي لحقوق الإنسان.

وإذا كان الرأي العام الأوروبي يتعاطف مع حقوق الشعب العربي الفلسطيني ويلقي اللوم على “إسرائيل” ويحمّلها مسؤولية اندلاع الحروب والعنف في المنطقة (59% منه)، ويدعم تنفيذ برامج إنسانية في الضفة الغربية وقطاع غزة للتخفيف من المأساة الفلسطينية المستمرة، إلا أن مواقف الحكومات فرادى أو مجتمعة في “الاتحاد الأوروبي” ظلّت قاصرة وبعيدة عن الارتقاء إلى المعايير الإنسانية والأخلاقية التي يفترض بالعالم المتمدن الأخذ بها.

وقد خضع الموقف الأوروبي لضغوط اللوبيات الصهيونية، لاسيما الأمريكية بشكل خاص، ناهيكم عن ضغوط الولايات المتحدة بشكل عام، مبرراً مواقفه تارة بحجة التكفير عن ذنوب كارثة الهولوكوست بحق يهود أوروبا، لاسيما خلال الحرب العالمية الثانية، وبالأخص على يد هتلر والنازية الألمانية، وأخرى بحجة أن “إسرائيل” دولة صغيرة وديمقراطية، لكنها محاطة بالذئاب الكاسرة التي تريد القضاء عليها، ممثلة بدكتاتوريات عربية صارخة أو أنظمة محافظة تقليدية غير ديمقراطية، رغم أن “الحمل الوديع” المزعوم له حراشف نووية وأطراف عنصرية، لا يجمعها علاقة بالديمقراطية، فهي لا تمتلك دستوراً حتى الآن وليس لديها حدود، ولا تعترف بمبدأ المساواة وعدم التمييز بين “المواطنين”، ناهيكم عن قيامها بتهديد سلم وأمن المنطقة منذ تأسيسها قبل أكثر من 60 عاماً وحتى الآن. وثالثة بزعم مكافحة الإرهاب الدولي و”الأصولية الإسلامية” التي تجرّأ الرئيس الأمريكي السابق بوش وأطلق عليها مصطلح “الفاشية الإسلامية” خلال العدوان “الإسرائيلي” على لبنان العام 2006. وهو الذي عزفت عليه “إسرائيل”، لاسيما بارتكاباتها ضد قطاع غزة، بزعم سيطرة حركة حماس “الإسلامية” المتطرفة. ولعل هذه التبريرات والذرائع تفسّر مواقف الاتحاد الأوروبي رسمياً في اللجنة الرباعية التي تضم إضافة إليه، الأمم المتحدة والولايات المتحدة وروسيا، سواءً ما يتعلق بالموقف من الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بخصوص عدم شرعية بناء الجدار وبطلانه وطلب تفكيكه وتعويض السكان المدنيين المتضررين أو في الموقف من تقرير غولدستون، الذي انتقل من المجلس الدولي لحقوق الإنسان الذي أقرّه بأغلبية كبيرة، إلى الجمعية العامة التي صادقت عليه ورفعته إلى مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي سيضع الاتحاد الأوروبي، أمام تحديات جديدة تتعلق بمدى صدقيته كمؤسسة أولاً، ناهيكم عن صدقية بعض دوله، التي عارضت تقرير غولدستون، لاسيما فرنسا وبريطانيا (العضوان الدائمان في مجلس الأمن)، ولعله سيكون اختباراً جديداً على مدى إقران الأقوال بالأفعال، حيث لم تعد السياسة الانتقائية والمعايير المزدوجة والمنطقة الرمادية مقبولة، لاسيما في ميزان حقوق الإنسان، الذي يفترض فصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود.

ولعل مواقف فرنسا وبريطانيا ومعهما الولايات المتحدة، الدول الثلاث الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي ستلقي المزيد من ظلال الشك لو مارست “حقها” باستخدام “الفيتو” لمنع إمرار قرار يدين “إسرائيل” ويرتّب عليها مسؤوليات قانونية، تقتضي من مجلس الأمن اتخاذ التدابير الكفيلة لتطبيقها طبقاً لميثاق الأمم المتحدة ووفقاً للمواد 39 إلى 42 الخاصة بالعقوبات، كما أن مواقف روسيا والصين ليستا بعيدة عن مواقف القوى المتنفذة، الأمر الذي لا يستبعد امتناعهما عن التصويت في مجلس الأمن لمنع صدور قرار يدين “إسرائيل”.

وبهذا المعنى ستنجو “إسرائيل” من العقاب الذي كان يمكن لمجلس الأمن الدولي إصدار قرارات مسؤولة ضدها، طبقاً للفصل السابع، مثلما فعل مع العراق وليبيا والسودان وغيرها. ومع أن الجمعية العامة للأمم المتحدة بإمكانها أن توصي بفرض عقوبات ضد “إسرائيل” شبيهة بالعقوبات التي تم فرضها على نظام جنوب إفريقيا العنصري، إلا أنها رغم إصرار تقرير غولدستون، من غير المرجح أن تقوم بذلك لأسباب تتعلق بتوازن القوى الدولي من جهة، وبالضغوط التي تمارسها الولايات

المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تمارسانها من جهة أخرى.

كما أن ليس بوسع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أوكامبو القيام بفتح تحقيق للجرائم المرتكبة في غزة، استناداً إلى المادة 12 من اتفاقية روما ونظامها الأساسي، أسوة بما فعل بشأن جرائم دارفور وتوجيه الاتهام إلى الرئيس السوداني عمر حسن البشير، إذ إن الأمر لا يخلو من الإغراض والتوظيف السياسي، وهو الذي يتطلب، بل ويحتاج إلى مقاربة أخرى، في ظل مهنية وشجاعة كبيرتين، خصوصاً في مواجهة الخضّم الهائل من احتجاجات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والغرب عموماً، تلك التي تضغط لتبرئة “إسرائيل”، بل أحياناً تلقي باللوم على الفلسطينيين.

ويرى الاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية البديل عن ملاحقة “إسرائيل” “المُستَبعَدة” أصلاً هو اتباع خطة الطريق والسعي لتفعيلها، عبر دعوة “إسرائيل” لوقف الاستيطان، وأحياناً يُشار إلى ذلك مؤقتاً، لستة أشهر أو أكثر وإبداء حسن السلوك والبدء بالمفاوضات، مقابل وقف أعمال “الإرهاب” من جانب الفلسطينيين وقبول العودة إلى طاولة المفاوضات، خصوصاً باستبعاد حماس وغزة.

وإذا كان مجلس الأمن الدولي عاجزاً عن فرض عقوبات وإرغام “إسرائيل” على وقف بناء المستوطنات وملاحقة المرتكبين، فإن ذلك سيعني إبقاء الوضع كما هو عليه، وهذا ما تريده “إسرائيل”، أي استمرار بناء المستوطنات في الضفة الغربية واستكمال بناء الجدار العازل وقضم 13% من الأراضي الفلسطينية، واستمرار عملية قضم القدس وبقاء حصار غزة واحتمال تمدّد “إسرائيلي” في القطاع بحجة أو من دونها بين الحين والآخر، لاسيما في ظل الحصار اللاإنساني، وتحت باب الضرورات العسكرية والأمنية وملاحقة “الإرهابيين” كما تدعي دائماً.

إن فشل الاتحاد الأوروبي في تحميل “إسرائيل” مسؤولية الانتهاكات والتجاوزات على القانون الدولي وحقوق الإنسان، لاسيما بممارسة سياسة الكيل بمكيالين وحماية المعتدي ومنع إدانته، سيضعف إلى حدود كبيرة من صدقية أطروحاته بشأن حقوق الإنسان، فضلاً عن أنه على المدى البعيد سيشجع على سياسة التطرف والتعصب والعنف والإرهاب في المنطقة، وهو الأمر الذي لا يمكن للاتحاد الأوروبي والقوى الكبرى، لاسيما الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي أن تعفي نفسها منه، بحكم مسؤولياتها بموجب الميثاق في حفظ السلم والأمن الدوليين، ناهيكم عن انعكاساته السلبية على مجمل الوضع الدولي، فهل من وقفة جديدة للاتحاد الأوروبي إزاء “إسرائيل”؟

باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية آخر تحديث:الأربعاء ,02/12/2009

1096
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (5).. جيفارا والمباراة المصرية- الجزائرية!
عبد الحسين شعبان  
2009-11-30
لا يستهدف هذا العنوان الإثارة الصحفية لكن ما فيه من مفارقة تعطيه أكثر من دلالة وراهنية، لاسيما وأن للحدث أساسا يمتد إلى أكثر من أربعة عقود ونيّف من الزمان، يوم صادف وجود جيفارا في الجزائر عند إجراء مباراة لكرة القدم بين الفريقين الجزائري والمصري.
في أحد تصريحاته لصحيفة فرنسية أعرب جيفارا عن ولعه بالجزائر بالقول: "هذا البلد ثوري، وحتى الفوضى فيه ثورية" ويبدو أن هذا الشغف كان متبادلاً بين جيفارا والشعب الجزائري، الذي أحبّ جيفارا وأخلص له وسمّى أحد أبرز شوارع العاصمة الجزائر باسمه، حيث تعتبر جادة جيفارا من الشوارع المهمة، والدليل على ذلك هو ما ينقله الدكتور جاد عبدالله حريكي في كتابه الموسوم "جيفارا والعرب" والصادر عن دار الفرات، العام 2007 (بمناسبة الذكرى الـ40 لرحيله) ونقلاً عن أحد الصحافيين: إن الجمهور الجزائري الذي كان يحضر مباراة بكرة القدم بينه وبين المنتخب المصري، وهي مباراة ذات أهمية كبرى، خصوصاً وقد التأمت بعد تأسيس جمهورية الجزائر الديمقراطية، المستقلة حديثاً، هذا الجمهور هتف لتشي جيفارا، حيث لم يكترث أكثر من 20 ألف جزائري لمتابعة تلك المباراة المشوّقة والمثيرة، لاسيما عندما حضر جيفارا الذي توجّهت إليه جميع الأنظار.
قلت مع نفسي وأنا أتابع ما حصل من ردود فعل واحتدامات حادة لجماهير غاضبة من الطرفين: هذا اليوم لا يشبه البارحة!! وبخاطرة سريعة وأنا أعدّ الحلقة الخامسة من انطباعات وقراءات التجربة الكوبية بعد 50 عاماً ومن خلال أميركا اللاتينية أين هو جيفارا اليوم، "ليُعقْلِن" على أقل تقدير برمزيته ووهجه الثوري، جماهير مستفزّةً ويائسة ومشحونة، وادعاءات مفرطة بالانحياز حد التعصب، واتهامات تصل إلى الإدانة، والأكثر من ذلك هناك من كان يصبّ الزيت على النار، ليبقى الفتيل مشتعلاً، لينسف جسر المودة والمحبة والتضامن بين شعبين شقيقين، كانت علاقاتهما هي الأسمى والأجمل والأنبل، منذ عقود من الزمان، يوم اجتمع عمالقة مثل عبد الناصر وأحمد بن بيلا وارنستو تشي جيفارا، ولم تكن الكرة أو غيرها تفرّق ثواراً من أميركا اللاتينية وإفريقيا، فما بالك بين شعبين عربيين شقيقين.
لم يجرِ في تاريخ العلاقات الجزائرية- المصرية أن تم استدعاء سفراء وإجراء اتصالات بين وزراء على أعلى المستويات وعلى هذه الدرجة من الحساسية، والسبب هو مباراة لكرة القدم، بل الأكثر من ذلك حين انطلقت دعوات للقطيعة، في ظل احتدام عاطفة بدائية وتجييش إعلامي وغياب للعقل والعقلانية وتفاقم أزمة دبلوماسية، شملت السودان أيضاً، وتدخلت فيها جامعة الدول العربية ووساطات كثيرة دون أن تجدي نفعاً، لاسيما بحدوث حالات شغب وعنف لا مبرر له على الإطلاق.
وبدت صورة "العروبة" باهتة في زمن أفل بريق الكثير من إشعاعها الذي كان يحمله رموز كبار ويتطلع إليه ثوريون كبار، وتمور جماهير واسعة مائزة ورائزة حين تهبّ لنصرة جماهير البلد الشقيق، والأكثر من ذلك فقد نكصت العروبة والأممية اللتان كانتا يوماً مساراً لطريق مشترك تم تخطيطه بين أحمد بن بيلا وجمال عبدالناصر وجيفارا.
لم ينصرف الجمهور الجزائري الذي حيّى جيفارا يوم لعبة كرة القدم قبل أربعة عقود ونيّف من الزمان عن التشجيع لمنتخبه، لكن الفارق كان كبيراً، لأنه كان ثمة ما يجمعه بالجمهور المصري المشجع أيضاً، وهو جامع مشترك ضم بين ظهرانيه أخلاق الرياضة والسياسة معاً وفي ملعب واحد، وكان الفائز بالطبع هو العروبة والحرية وعلاقة إفريقيا والعرب بأميركا اللاتينية، في حين أن الجميع خسروا مباراة العام 2009 في القاهرة أو الخرطوم لاحقاً، التي هيمن عليها العداء والكراهية ومحاولات الكيد ولغة الاتهام كلٌ على الآخر، ومن ضمنهم السودان البلد المضيف الذي أفرز أكثر من 15 ألف جندي ورجال أمن وشرطة وإداريين بعدد أكبر لحماية اللاعبين ولمنع أعمال العنف والشغب، ولم يكن له مصلحة بفوز هذا الفريق أو ذاك، سوى استضافة الأشقاء وتوفير أسباب الراحة والنجاح واللعب النظيف للجميع، بمن فيهم المشاهدون ومحبو لعبة كرة القدم، سواءً من أتى منهم من الخارج، من مصر والجزائر اللتين شجعتا وبأسعار متهاودة سفر المشجعين إلى الخرطوم، أو من أبناء السودان من محبي كرة القدم، ولعل عدد المشجعين من الخارج كان أكثر من 35 ألف مشجع.
الأحداث المأسوية المؤسفة تأكيد جديد على طغيان القُطرية والفئوية والنرجسية على حساب الوطنية والقومية والإنسانية، لدرجة أن الحكمة قد غابت من رؤوس العديد ممن كان يمكنهم إطفاء النار، وإخماد الفتنة بين شعبين شقيقين، حيث كانت الرياضة على الدوام تصلح ما تفسده السياسة، أما في حالة مصر والجزائر، فإن "الرياضة" أساءت إلى ما قدمته السياسة من مساعدات وتضحيات وعلاقات بين البلدين والشعبين، منذ إعلان مصر تبنيّها للثورة الجزائرية في العام 1954 عند اندلاعها، وحيث تحوّلت القاهرة إلى مركز جذب للثوار وعلاقاتهم، ولاسيما لجبهة التحرير الجزائرية وقياداتها، خصوصاً عند اختطاف الطائرة التي أقلّت خمسة من قيادات الثورة من جانب فرنسا.
جيفارا الذي شاهد جمهور المتفرجين في المباراة المصرية الجزائرية في الجزائر، كان حالماً وظل حلمه مستمراً، كان أمامه مثالان وتجربتان كبيرتان تعلّم منهما، ولعلهما أثّرتا في حياته وتوجهاته لاحقاً، مثلما أثّر هو الآخر فيهما. الأولى هي نموذج وتجربة الثورة المصرية، والثانية هي نموذج وتجربة الثورة الجزائرية، الأولى ضد الفساد والظلم والاستغلال، والثانية ضد الاستعمار والاستعلاء ومحاولات تدمير الهوية.
لقد شاهد جيفارا الهوية العربية الجامعة، بشقيها الجزائري والمصري من خلال لعبة كرة القدم، في حين ضعفت وخفتت ألوان هويتنا العربية بعد أربعة عقود ونيّف من الزمان، وبدلاً من مواجهة الاستعمار والرأسمالية الاحتكارية وذيولهما، لاسيما الصهيونية العالمية في عالمنا العربي وفي إفريقيا مثلما هو في أميركا اللاتينية وآسيا وشعوب البلدان النامية في كل مكان، فإذا بالاستعمار الجديد والنيوكولونيالية في عصر العولمة تسود وتهيمن، وتنقسم العائلة العربية إلى "عدوين" لدودين بسبب مباراة كرة القدم التي حملت معها أشد المشاعر سفلية وانحطاطاً، كأنها مقدمات حرب داحس والغبراء في زمن رديء.
هل نحن إزاء نستولوجيا الماضي، واستعادات الزمن الجميل؟ أم أن البحث عن مخلّص جديد واستلهام أسماء ذات وزن مثل عبدالناصر وبن بيلا وجيفارا، أمر نفتقده، خصوصاً النهج الذي ساروا عليه، لدرجة جعلنا نشعر بالفَقْدِ، لاسيما نهج التحدي!!
لعل ذلك كان هاجساً وربما هيمن على عقلنا الباطن ونحن نستعيد شكل العلاقات الثورية- الإنسانية في لحظة تصدّع وتشظٍ، مستذكرين الصداقة المديدة التي صهرت هؤلاء الثوار، من أرض المليون شهيد، إلى أرض الكنانة ومعارك السويس والتصدي للعدوان الإسرائيلي، الأنجلو-فرنسي ومشاريع القوى الامبريالية بقيادة الولايات المتحدة، إلى أرض الأرجنتين وابنها البار الثائر الكوبي الذي وضع الثورة على كتفه وجاب بها العالم، من الكونغو إلى بوليفيا بقاعدة ثورية في الجزائر وخطوط واتصالات في القاهرة، وأساسات قوية وقويمة في هافانا، وعلاقة وطيدة ونقدية بمعسكر اشتراكي أراد له جيفارا وجهاً إنسانياً جديداً ومشاركة في دفع ثمن الثورة وسلاحها واستحقاقاتها.لم يتابع جيفارا كرة القدم العربية فحسب، بل تابع شؤون الثورة مصعّداً من نبرته الانتقادية للحلفاء السوفييت، تلك التي قد لا تكون بمعزل عن مواقف وبعض هموم عبدالناصر وبن بيلا، مثلما هي هموم السوفييت إزاء بعض مواقف البلدان النامية، لاسيما تردد بعض قيادات حركات التحرر الوطني في السلطة، وربما قلقها إزاء المستقبل.
لقد تمكّن جيفارا من تطوير خطابه الثوري، وبعد مشاهدات لمدة 6 سنوات خلص إلى باقة من الأفكار التي شكلت أهم ملامح الجيفارية أودعها في ثلاث خطب مهمة، ومن المفارقة أن هذه الخطب الثلاث كان قد ألقاها كلها في العالم العربي (باللغتين الفرنسية والإسبانية) وتحديداً في الجزائر ومصر وهذه الخطابات هي "أميركا من على الشرفة الإفريقية والآسيوية" و "الاشتراكية والإنسان في كوبا" و "خطاب الجزائر" الذي أغضب السوفييت، ووضع حداً فاصلاً بينه وبين المسؤوليات الحكومية الإدارية، متفرّغاً بعدها للثورة التي أراد إشعال أكثر من فيتنام أمام واشنطن، وأكثر من موقد لها في العالم. ولعل خطاباته وعلاقاته تلك جعلت من جيفارا كما عرفناه، الأممي الرومانسي الذي ظهر واختفى مثل شعاع، لكن ذكراه في العالم أجمع وفي العالم العربي على نحو خاص، ظلّت تحمل نكهة مستساغة، وها نحن نتذكّره في الزمن العصيب في مباراة كرة القدم بين الفريقين الجزائري والمصري، كأن خياله ما زال يظهر بين الحين والحين!!


7841 العدد - صحيفة العرب القطرية - الإثنين 30 نوفمبر 2009 م - الموافق 13 ذو الحجة 1430 هـ

1097
ستراتيجية أوباما: قراءة في الثابت والمتغيّر

   قبل أن نستعرض الستراتيجية الامركية الجديدة في عهد الرئيس أوباما، سنتوقف قليلاً عن تركة سلفه الرئيس بوش فإرثه الثقيل قد يستمر في تقييد الرئيس أوباما لفترة غير قليلة، إنْ لم يستطع التخلص منه ومن تأثيراته، باتباع سياسات منسّقة ومتناسقة وضمن خطة ستراتيجية واضحة، وسنتوقف بعد المراجعة الاستعراضية العامة عند محطات في سياسات الرئيس أوباما الداخلية، لننتقل بعدها الى السياسة الخارجية، خصوصاً شقها الأوروبي، ومن ثم نبحث في تأثير الأزمة الاقتصادية الدولية على استراتيجية أوباما، لنصل الى سياسته الشرق أوسطية والعراقية.

1- أوباما والارث الثقيل!؟

أصبح الرئيس الامريكي باراك أوباما سيّداً على البيت الأبيض بعد فوزه الساحق على منافسه الجمهوري جون ماكين، ولعله وهو الرئيس رقم 44 سيكون  أول رئيس أسود يحكم الولايات المتحدة، حيث ظلّ العالم كلّه يتطلع الى سياسة جديدة للحزب الديمقراطي، بعد دورتين متتاليتين (ثمان سنوات) حكم خلالهما الرئيس جورج دبليو بوش من الحزب الجمهوري.
وقد شهدت الولايات المتحدة أطول وأقسى حملة انتخابات في تاريخها، انتصر فيها أوباما من ذوي الأصول الأفريقية المتواضعة على ماكين ابن قائد الاسطول البحري الامريكي في المحيط الهادي.
إن صورة الولايات المتحدة قبل بداية حكم الرئيس بوش كانت تمثّل لوناًً قاتماً بالنسبة لكثير من الشعوب والبلدان، لكنها أصبحت بعد ثمان سنوات أكثر قتامة، لاسيما مشاهد الرعب التي اختفت وراءها، من أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية العام 2001 وردود أفعالها الى غزو أفغانستان العام 2002، الى الحرب على العراق واحتلاله، العام 2003، ثم الحرب على لبنان العام 2006 وبعدها الحرب على غزة نهاية العام 2008 ومطلع العام 2009 بعد حصارها الذي زاد عن سنتين، يضاف الى ذلك أوضاع سجناء أبو غريب وغوانتانامو والسجون السرية الطائرة والعائمة، وقبل الأزمة المالية الطاحنة التي انفجرت عشية توّلي أوباما الرئاسة وتحوّلت الى أزمة اقتصادية شاملة انعكست على العالم كلّه، كان هناك اعاصير وكوارث طبيعية مثل اعصار كاترينا وغيرها، ولعل هذه تركة ثقيلة انتقلت الى أوباما، على الصعيد الداخلي وعلى الصعيد الخارجي.
قبل مجيء الرئيس بوش الى الحكم، كان العالم في حالة شبه سلام واستقرار نسبياً، واسعار النفط لم ترتفع عن 32 دولاراً، والجيش الأمريكي لم يكن لديه مهمات خارج بلاده، باستثناء القواعد العسكرية المعروفة، لاسيما بعد حرب الخليج الثانية العام 1991 والاقتصاد الامريكي في حالة نمو زاد عن 3%، وسعر الدولار كان "معقولاً" وديون واشنطن أقل من 6 تريليون دولار رغم العجز المستمر. وبعد أن ترك بوش البيت الأبيض، تحوّلت كل هذه التركة الثقيلة، وهذا الحمل القاسي الى ظهر أوباما، الأمر قد لا يكون بمقدوره تحملها ومواجهة التحديات بحكمة وبُعد نظر؟
   لقد ورث أوباما، حربين مفتوحتين في أفغانستان والعراق، وقوات مسلحة منهكة ومبعثرة على أكثر من جبهة، وحروباً على الارهاب بدأت بعد أحداث 11 أيلول(سبتمبر)، لكنها لم تنتهِ ويبدو أنها ستستمر حسب تقديرات واشنطن الاولية الى أكثر من 10 سنوات، وقد تطال بلداناً أخرى حتى وإن اختلفت اللهجة والتسمية، وإن خفّت حدة النبرة أو حتى خفتت! وهذه  المشكلات المتعاظمة أوقعت المواطن الأمريكي في ورطة كبيرة لدرجة مؤرقة، خصوصاً وهو مازال يتساءل كيف سيتم وضع حد لهذين الحربين؟ وهل سينفذ أوباما وعوده بشأن الانسحاب من العراق في أقرب وقت ممكن؟ وعلى الأقل تخفيف مشاعر السخط والعدائية إزاء الولايات المتحدة؟ وما هو السبيل لايجاد حلول ناجعة وسريعة للازمة الاقتصادية؟
كما ورث أوباما صعوداً في اسعار النفط وصلت الى نحو 150 دولاراً، رغم عودتها الى الانخفاض الى أقل من النصف قليلاً، وعجزاً بلغ أكثر من تريليون دولار وديناً زاد عن 10 تريليون دولار، ناهيكم عن تدني في النمو الاقتصادي، وأخيراً انفجار الأزمة المالية والاقتصادية، التي أدت الى انهيارات كبرى لشركات التأمين العملاقة مثل شركة ليمان براذرز وبنوك عالمية كبرى، لاسيما بعد أزمة الرهن العقاري وانخفاض سعر الدولار وارتفاع اسعار النفط.
وورث أوباماً ملفاً ساخناً جديداً، وهو العلاقة المتوترة مع روسيا، فبعد انتهاء الحرب الباردة وتقلّص النفوذ الروسي، وانحلال المنظومة السوفياتية، عادت روسيا بقوة الى منطقة القوقاز والبلقان وأوربا الشرقية، لاسيما بسبب سياسة واشنطن الاستفزازية، الأمر الذي دفعها الى معارضتها الشديدة، خصوصاً بعد نصْبِ واشنطن دروعاً صاروخية مضادة للصواريخ، وتوسيع دائرة حلف الناتو في دول الجوار الروسي، وبخاصة في جمهوريتي بولونيا والتشيك.
وإذا كان أوباما يتولى رئاسة الولايات المتحدة بعد مضي أكثر من عقدين على انتهاء الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل الى شكل آخر، لاسيما بعد انهيار الشيوعية الدولية، وصعود الاسلام السياسي كعدو شرس ضد واشنطن وسياساتها، فكيف ستتعامل واشنطن مع هذا الملف الساخن، وقد شاع خلال الحملة الاعلامية والآيديولوجية في حينها بأن " التهديد" إنْ لم يكن موجوداً، فلا بدّ من "تلفيقه"، بالتنظير لصدام الحضارات، ولابقاء الاحتراس الدائم والتسلح المستمر والصراع المتواصل على المستوى العالمي، حتى وإن اتخذ صفة صراع الثقافات، بعد ذبول صراع الآيديولوجيات الذي طبع القرن العشرين كله، وصراع القوميات الذي طبع القرن التاسع عشر حسب الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.
وقد حاولت واشنطن تطبيق ذلك على الملف التسليحي وهذا له علاقة بالمسألة الايرانية بالدرجة الاساسية، خصوصاً البرنامج النووي الذي يعتبر أحد مجالات الاحتكاك الامريكية- الايرانية، إضافة الى نفوذ طهران في المنطقة باعتبارها رأس حربة ضد السياسة الامريكية (العراق ولبنان وفلسطين)، رغم أن أوباما أبدى استعداده لسلوك سبيل مفاوضات أطلق عليها "حازمة"، وهو أمر لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار بعد ما حصل من تجاذبات في الانتخابات الايرانية الأخيرة.
وإذا كانت الحروب تُصنع في العقول، فإن السلام هو الآخر يصنع في العقول أيضاً، حسبما جاء في دستور اليونسكو، ومثل هذا الأمر سيواجه الرئيس أوباما على نحو راهن، لاسيما في الشرق الأوسط، وهو أمر سيكون إحدى المجسّات الاساسية لسياسته الستراتيجية إزاء المنطقة.
ان الرئيس أوباما واجه تركة الرئيس بوش واشكالياته جميعها وعليه الخوض في المشكلات العويصة الخاصة، لاسيما بشأن الشرق الأوسط، التي شكلت نقطة تجاذب شديدة منذ عهد الرئيس جيمي كارتر واتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد. وإذا كانت واشنطن تسعى الى دور نشيط في الشرق الأوسط وتحريك خارطة الطريق الفلسطينية – الاسرائيلية، خصوصاً تجاوز الصعوبات التي جابهت العديد من الرؤساء الامريكيين قبله، فإن الأمر يحتاج الى تأكيد إقامة دولة فلسطينية، تلك الأطروحة التي اعتمدت منذ عهد الرئيس بيل كلينتون، لكنها ظلّت باردة وباهتة، خصوصاً في ظل التصعيد العدواني الاسرائيلي ضد الشعب العربي الفلسطيني منذ العام 2000، لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية السلمية التي اندلعت، بعد أن وصلت اتفاقات أوسلو الى طريق مسدود.
وزاد الامر تعقيداً حصار غزة وبعدها الحرب المفتوحة عليها والتي دامت 22 يوماً وقبلها حصار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومن ثم بناء جدار الفصل العنصري الذي قالت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً في عدم شرعيته، الأمر الذي اقتضى ازالته وتعويض السكان المدنيين المتضررين، وهو ما كان ينبغي على واشنطن أن تضغط على حليفتها اسرائيل للعدول عنه والعودة الى خيار المفاوضات ضمن خارطة الطريق المقترحة، رغم عدم تلبية هذه الأخيرة للحد الأدنى من حقوق الشعب العربي الفلسطيني، لاسيما حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين.
وإذا تردد الرئيس أوباما عن تعيين السيناتور الجمهوري تشاك هيغل وزيراً للخارجية وهو شخصية متوازنة نسبياً واختار هيلاري كلينتون بدلاً عنه، فإن واحداً من الأسباب تعود الى مواقف اسرائيل ورؤيتها إزاء الحل، وكان هيغل قد زار الارض المحتلة مع أوباما والتقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس يضاف الى ذلك تعيين عدد من المستشارين معظمهم من اليهود وبعضهم من العناصر المعروفة بموالاتها لاسرائيل، بمن فيهم أمين عام البيت الأبيض رام بنيامين مانوئيل الذي سبق له ان ادى الخدمة العسكرية في جيش الدفاع الاسرائيلي عام 1997 كما تطوّع في الحرب على العراق 1991 في مكتب التجنيد التابع لاسرائيل، إضافة الى كبير المخططين الستراتيجيين لحملته الانتخابية وهو ديفيد أكسل رود، الأمر الذي قد لا يساعد في حلحلة الأمور باتجاه إيجاد حل ولو بمعيار  الحد الأدنى، ولعل الاستثناء في هذا الشأن هو تعيين مستشار لأوباما للشؤون الخارجية وهو دنيس روس منسق عمليات السلام في الشرق الأوسط.
حقاً إنها تركة ثقيلة وسيتوقف حملها بجدارة على ما سينتهجه أوباما من سياسة ومراجعة وإعادة نظر بأخطاء وخطايا السياسات السابقة خلال الثمان سنوات الماضية وما قبلها!!

2- المحطة الاوروبية – الدولية!
عادت القضايا الدولية مرّة أخرى الى الواجهة في ستراتيجية الولايات المتحدة التي احتلت لنحو ثمان سنوات المكانة الأولى، ولكن هذه المرّة جاءت في إطار إدارة جديدة ديمقراطية وليست جمهورية. فبعد أن تصدّرت جهود انقاذ الاقتصاد الامريكي الحيّز الأكبر، سواءً في برنامج الرئيس باراك أوباما الانتخابي أو خلال الأشهر الأخيرة منذ توليه مسؤولية البيت الأبيض، عادت السياسة الخارجية من جديد لتأخذ موقعها المتقدم.
ولكن كيف سيتعامل أوباما مع التركة الثقيلة للرئيس بوش بخصوص أوروبا، التي أطلق عليها سلفه اسم " العجوز" عشية غزو العراق العام 2003 وممانعة فرنسا وألمانيا وبلجيكا؟ لا شك أن العودة الى المسرح الدولي وتحديداً الخشبة الاوروبية مسألة ليست بالسهولة رغم ما حظيت به توجهات الرئيس الجديد أوروبياً وما استقطبه شعبياً، لكن الكثير من العقبات والتحديّات تعترض طريقها وتقف حجة عثرة أمامها.
ما الذي ينوي فعله الرئيس أوباما؟ هل يعتزم حسبما تشير مفردات بعض عناوينه الستراتيجية الى دفع الامور باتجاه مقاربة جديدة للحرب في افغانستان بعد اعلان الانسحاب من العراق، خصوصاً بعد إعادة الانتشار للقوات الامريكية وسحبها من المدن وابقائها في معسكرات خارجها ؟ وتبرز سياسة أوباما الاوروبية بخصوص تكثيف الجهود لوقف انتشار الاسلحة، لاسيما بعد اعادة بعض عناوين وتهديدات الحرب الباردة مع روسيا بشأن الصواريخ الامريكية في بولونيا والتشيك. ويضاف الى ذلك ضم الجهود الى بعضها لاتخاذ مواقف موحدة إزاء محاربة الركود الاقتصادي على الصعيد العالمي، وهو ما تنتظر أوروبا موقفاً بشأنه يخفف عنها العبء.
ومع أن هذه الرافعات تحظى بدعم أوروبي وربما دولي، لكن ثمة اعتراضات فيما يتعلق بإرسال المزيد من الجنود الى افغانستان، من جانب ألمانيا، في حين تعترض روسيا بشدّة على إقامة نظام درع صاروخي لحلف الناتو في جمهورية التشيك وجمهورية بولونيا.
ومع ان واشنطن أكدت أنها لا تريد أن تملي على العواصم الاوروبية، كيفية الانفاق لانعاش الاقتصاد العالمي، الاّ أن الأمر ظل ملتبساً، لاسيما باعتراضات فرنسا وألمانيا ودول أخرى، وهذا سيضع مسألة وحدة الموقف الامريكي- الاوروبي أمام امتحان جديد، فقد لا تستطيع واشنطن والإدارة الجديدة لأوباما أن تسحب أوروبا خلفها، لا كما أخفق الرئيس بوش في ذلك، تاركاً ندوباً وتصدّعات على العلاقات الاوروبية- الامريكية. وإذا كان ثمة ترحيب كبير بمجيء اوباما ورحيل بوش، الاّ ان القضايا العالقة والساخنة كثيرة وستثير نقاشاً وجدلاً حاداً في الأشهر القادمة، ما لم تتضح الرؤية والمسار للسياسة الخارجية الامريكية، لاسيما بالتوافق مع أوروبا وأخذ مصالحها بنظر الاعتبار، وبخاصة الاتحاد الاوروبي كمنظمة اقليمية فاعلة ومهمة.
ومن جانبه حاول أوباما الظهور بأن عهده يشكل قطيعة من سلفه محاولاً فتح صفحة جديدة وفي إطار دبلوماسية عالية ورفيعة المستوى، رغم أن اوروبا ظلّت متحفظة مع أنها استبشرت بفوزه وهزيمة الجمهوريين، حيث شعر الاوروبيون انه تم التقليل من شأنهم خلال ادارة الرئيس بوش، الذين كانوا ينظرون اليه كصاحب قرار حاسم في الوضع الدولي، الآّ أنه يتخذ قرارات انفرادية ويمضي بتطبيقها ويضعهم أمام الأمر الواقع، ولا يراعي مصالح أوروبا بنظر الاعتبار.
لقد كانت زيارة أوباما الى اوروبا بمثابة جس النبض إزاء الموروث وإزاء المستقبل، إذ أن مشاركاته في القمم الثلاث جعلته يقدم مقاربات جديدة بشأن انعاش الاقتصاد العالمي ومحاربة الارهاب والسعي للوصول الى تأمين السلام في بعض مناطق العالم، لاسيما غير المستقرة، وإنْ ستظل القضية الفلسطينية إحدى القضايا المستعصية والمعقدة، خصوصاً في ظل صعود إدارة اسرائيلية متطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو!!
لقد كانت لندن أول محطة للرئيس الامريكي أوباما لحضور قمة الـ 20 زعيماً وبعدها شارك في قمة حلف شمال الاطلسي بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسه حيث تم الاحتفال في ستراسبورغ، وقام بعبور الحدود الالمانية- الفرنسية، ولعل هذا الحدث مهماً، خصوصاً بعودة فرنسا الى أحضان الحلف بعد غياب استمر نحو أربعة عقود من الزمان. وبعدها زار جمهورية التشيك وتركيا، كما اجتمع بزعماء روسيا والصين، وكان جدول أعماله حافلاً وثقيلاً وعدّ أول اختبار دولي لادارته وستراتيجيته وعلاقاته الدولية.
فهل ستظل صورة امريكا كما طبعها الرئيس بوش أم ثمة اصلاحات وتعديلات تقضي تحسينها في ظل الادارة الجديدة؟ وهل ستكفي نجومية أوباما العابرة للقارات والمحيطات، في إيجاد حلول ومعالجات للأوضاع القائمة، خصوصاً إذا استطاع الحفاظ عليها؟ علماً بأن الكثير من القادة الاوروبيين يميلون الى مصاحبة أوباما، ولعلها وسيلة مفيدة لهم لكي يدعموا شعبيتهم، لكنه من جهة أخرى قد يكون الأمر عبئاً جديداً على واشنطن، بعد تركة ثقيلة قد تجعل كل ما يفكر به هو الخروج منها!؟ وليس الاستغراق في تحسينها، فقد يكون المطلوب هو  تبنّي ستراتيجية جديدة تكون الولايات المتحدة بواسطتها قادرة على أن تلعب دوراً اكثر ايجابية على المستوى العالمي، بحيث تستعيد جزءًا من هيبتها وصدقيتها اللتان بددهما الرئيس بوش.
إذاً هل نحن أمام أوهام في أن استبدال بوش بأوباما سيمحي الصورة السيئة أو يغيّرها الى هذه الدرجة، أم أنها أوقات عصيبة ومعقدة لا بدّ من عمل مضني لتجاوزها؟ ولعل ذلك سيتوقف على مدى وفاء أوباما بالتزاماته ووعوده سواءً التي أطلقها في حملته الانتخابية أو بعدها، وقد حاول أوباما حسب مساعديه الاتصال بالعديد من رؤوساء العالم بعد وصوله الى البيت الأبيض، بهدف تهيئة الظروف المناسبة للاعلان عن ستراتيجيته الجديدة.
وإذا كان اغلاق سجن غوانتانامو السيئ الصيت في كوبا خطوة ايجابية، فإن الخطوة الاساسية التي ستتوقف عليها ستراتيجية واشنطن وصدقية الادارة الامريكية تتعلق بالانسحاب الامريكي من العراق تنفيذاً لوعد أطلقه وعمل على وضع برنامج له بعد وصوله الى البيت الأبيض رغم بعض التعديلات وربما الضغوط، لاسيما من جهة العسكريين. من جهة أخرى إن اعلان الاستمرار في ملاحقة تنظيمات القاعدة والشروع بالتحرك باتجاه أفغانستان وباكستان يقتضي التركيز على نجاحات محددة وليس اطلاق حملة دون تحديد مدى زمني لها.
ان الستراتيجية الامريكية، لاسيما سياسة الادارة الجديدة الخارجية وتحركاتها الدولية، ترافقت إضافة الى الحضور الاوروبي، اتخاذ اجراءات على الصعيد الداخلي، لاسيما عمليات التحفيز الاقتصادي والاصلاح الاداري في مجالات الرهن العقاري والسكن والاستقرار المالي وغيرها، ولكن السبيل للخروج من المأزق يبقى صعب المنال إن لم تتخلص الادارة الجديدة من التركة الثقيلة، لاسيما على الصعيد الخارجي.

3- استحقاقات أوباما

استثمر أوباما ومن خلفه الديمقراطيين ثلاث قضايا أساسية لهجومهم ضد الجمهوريين، وهذه المسائل الاشكالية الثلاث تشكل المحتوى الرئيسي للاستراتيجية الامريكية على المستوى الكوني.
القضية الأولى السياسة الداخلية، لاسيما بعد اندلاع الأزمة المالية المعروفة باسم " الديون المسمومة" والتي انفجرت في خريف العام 2008 وشتاء العام 2009، وتحوّلت أزمة الرهن العقاري وانخفاض سعر الدولار وانهيار شركات تأمين كبرى وبنوك عالمية، الى أزمة اقتصادية ومالية طاحنة، ساهمت بامتياز في فوز الديمقراطيين، خصوصاًُ في ظل الهلع الذي اصاب الناخب الامريكي وضياع مدخّرات أصحاب دخول محدودة، ناهيكم عن الأفق الغائم للسياسات الاجتماعية والصحية والخدمية خلال السنوات الثمان الأخيرة.
وقد قدّم أوباما برنامجاً يختلف تماماً عن برنامج ماكين فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، لاسيما فرض الضرائب على الأغنياء وأصحاب الثروات الكبيرة، ودعوته الى تدخل الدولة لحماية العملية الاقتصادية، ونزعته الاجتماعية لتحسين نظام الصحة والتعليم وتقليص البطالة. وركز أوباما في برنامجه الانتخابي على السياسة الداخلية، وهو ما أكسبه ثقة أكبر من الشعب الامريكي الذي عانى الكثير خلال ولاية الرئيس بوش، في حين أن منافسه ماكين ركّز على السياسة الخارجية دون أن يقدّم برنامجاً مختلفاً عن برنامج سلفه الجمهوري أو اعادة النظر به.
   أما القضية الثانية، فقد كانت تخص السياسة الخارجية، حيث ظلّت تؤرق الامريكان وأعني بها الحربين المفتوحتين في كل من أفغانستان العام 2002 والعراق العام 2003، وقد وقعت الولايات المتحدة بسبب هاتين الحربين في ورطة حقيقية وتعرّضت سمعتها الى الهبوط تدريجياً حتى وصلت الى الحضيض، الأمر الذي أخذه أوباما بنظر الاعتبار عند صياغة برنامجه حين دعا الى انسحاب سريع قدر الامكان من العراق، على ان تبدأ عملية الانسحاب في منتصف العام 2009، (حيث تم انسحاب القوات الامريكية من المدن العراقية الى معسكرات خارجها) وفي ذلك تأكيد جديد على إقرار العسكريين بفشل الحل العسكري، مع تركيز الحملة على أفغانستان بسبب تهديدات تنظيمات القاعدة ونشاطها المعروف، رغم الاعتراف بامكانية التفاوض مع قيادات طالبان المعتدلة.
ولعل هناك علاقة وثيقة بين الحرب على العراق وبين الملف العربي- الاسرائيلي الذي يستمر منذ ستة عقود من الزمان، فقد أهملت إدارة الرئيس بوش هذا الملف طيلة ثمان سنوات، في حين تم تفعيله في فترة حكم الرئيس كلينتون، خصوصاً الدعوة الى انشاء دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل، لكن اسرائيل استثمرت فترة وجود بوش في الحكم، إضافة الى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية فتنكرت لخارطة الطريق وزادت من تعنّتها، بل قامت ببناء جدار الفصل العنصري رغم صدور قرار استشاري من محكمة العدل الدولية يدعو الى  تهديمه وعدم اكماله لعدم شرعيته، كما فرضت عقوبات جماعية ضد الفلسطينيين، لاسيما بحصار غزة ومارست أعمال الارهاب والعنف المنفلت من عقاله، والأكثر من ذلك يوم شنت هجوماً عدوانياً على لبنان (في 12 تموز /يوليو 2006) بتشجيع وتواطؤ من إدارة بوش الذي بشّرت بميلاد شرق اوسط جديد، كما جاء على لسان كونداليزا رايس وزيرة خارجية واشنطن، وفيما بعد قامت بعدوانها المفتوح على غزة والذي دام 22 يوماً.
أما القضية الثالثة فهي ذات بُعد دولي أيضاً فتتعلق بشقين: الشق الأول- هو الملف الروسي الذي عاد الى الحضور بشدة بما يذكّر بعهد الحرب الباردة، خصوصاً بالضد من سياسات واشنطن الاستفزازية على الجوار الروسي، في القوقاز والبلقان وأوروبا الشرقية، وبشكل خاص محاولة نصب دروع صاروخية في كل من جمهوريتي التشيك وبولونيا وتوسيع نطاق دائرة حلف الناتو، الأمر الذي أثار حفيظة روسيا فأصدرت عدة إشارات، كان أولها الرد المباشر في جورجيا، خصوصاً وأن الدب الروسي هو قطب مهم ولا يمكن الاستهانة به، وكادت أوكرانيا بعد جورجيا أن تكون قاب قوسين أو أدنى من خطتها " الدفاعية".
وإذا كانت روسيا حاسمة بشأن الاوضاع في امبراطوريتها القديمة، لكنها في الوقت نفسه تدرك مخاطر السير في سباق تسلّح وحرب باردة ليس بوسعها أو لا يمكنها المضي فيها، ولعلها تتطلع الى تعامل مختلف من جانب أوباما، الذي لا بدّ له أن ينظر بواقعية أكبر وتوازن أكثر الى ملف العلاقات.
أما الشق الثاني فهو الملف الايراني، والمقصود هنا بشكل خاص المفاعل النووي الايراني وتخصيب اليورانيوم، وهو ملف متوتر ومعقد بين البلدين منذ العام 1979 ولحد الآن. فإيران تشكل بنظامها الاسلامي ومعاداتها للسياسة الامريكية وموقفها المناوئ لاسرائيل إضافة الى تحالفها مع سوريا، عقبة كأداء أمام السياسة الامريكية، بغض النظر عن مشاريعها وأهدافها الخاصة ف يمنطقة الشرق الأوسط.
وإذا كان أوباما يسعى لفتح حوارات وتنشيط دبلوماسية حازمة كما قال، فلا بدّ من التفكير ببعد نظر إزاء الملف الدولي خصوصاً الروسي والايراني، دون مغامرات أو ردود فعل تلحق ضرراً بمصالح واشنطن، كما فعل سلفه بوش من قبل، وهو ما يشكل الاستحقاق في ستراتيجيته الدولية.

4- أولويات الرئيس أوباما!!

لم تعد قضية العراق تستحوذ على الاهتمام المطلوب أو أن لها الأولوية الاساسية، خصوصاً لدى واجهات وعناوين الصحف ووسائل الاعلام، ولعل الامر لا يعود الى ثانوية المسألة العراقية، بل بسبب انهيار مؤشر داوجونز وطغيان أعراض الأزمة المالية، والتي ضاعفها استمرار المأزق العراقي بوجود 150 الف جندي أمريكي في العراق وتكلفة أكثر من ثلاث تريليونات من الدولارات.
ولعل هذه المرة هي الأولى حين يفوز حزب معارض على حزب حاكم في ظل استمرار الحرب، سواءً منذ احتلال أفغانستان 2002 واحتلال العراق 2003 وقبلها الحرب على الارهاب 2001، كما أنها المرة الأولى حين ينتخب الشعب الامريكي رئيساً بعد جيلين من الحرب العالمية الثانية، وهو مولود بعدها.
تراجعت قضية العراق في نظر الرأي العام الامريكي والرئيس أوباما لأن الذي حلّ محلها شبح الأزمة المالية الخانقة وقضايا الرعاية الصحية، لدرجة أن الكثير من الأمريكيين في ظل تلك الدوامة لم " يلتفتوا" الى الجنود العائدين من العراق وأفغانستان، رغم حساسية موقف مثل ذاك، خصوصاً للعسكرية والوطنية الامريكية، ولسيل الدعاية الصاخب.
ويعود السبب الأول في هذا " النسيان"، إذا جاز القول، هو تحوّل انتباه الرأي العام والكثير من الامريكيين الى المشاكل الداخلية وليس الى مأزق العراق، أما السبب الثاني فيعود الى الأزمة الاقتصادية وانهيار الاسواق، والسبب الثالث هو ان الدعاية الامريكية ضجّت بشأن انخفاض موجة العنف في العراق، لاسيما إزاء الجنود الامريكيين، الذين وصلت نسبة قتلاهم الى 4320 قتيلاً واكثر من 26 الف جريح حسب الاحصاءات الرسمية، وهي احدى مفارقات الوضع العراقي.
وإذا كان هناك سبب رابع فإن المعركة الانتخابية ذاتها لم توضح الفرق الكبير في الموقف من العراق بين أوباما وماكين، وقد عكست ذلك استطلاعات الرأي العام التي كانت تؤكد أن حرب العراق لا تلقى تأييد الامريكيين بسبب الأزمة الاقتصادية وصعوبات الطاقة والرعاية الصحية ومشاكل وعقبات اجتماعية، وتلك كانت في صلب الاهتمامات التنافسية للمرشحين وتصدّرت أولوياتهم، بما فيها بعض القضايا المثيرة مثل حق الاجهاض وزواج المثليين وغيرها.
   وإذا اعتقد المرشح الجمهوري ماكين البالغ من العمر 72 عاماً والمشارك في حرب الفيتنام، ان الأمن القومي هو الورقة " الرابحة" فإن المرشح الديمقراطي الشاب كانت ورقته الفائزة بامتياز هي قضايا الاقتصاد والرعاية الصحية والخدمات ومسائل اجتماعية تهم المواطن الامريكي، وبخاصة جمهرة الفقراء أو من هم دون خط الفقر البالغ عددهم أكثر من 40 مليون نسمة، ولعل هذا الاصطفاف هو الذي حسم الأمر وحدد الأولويات على نحو واضح ودون لبس أو غموض.
لقد عكس التحول غير المتوقع في الأحداث السياسية كفة الرجحان الى أوباما وبرنامجه الاجتماعي والاقتصادي وليس للسياسة الخارجية حسب، بعد أن كانت الانتخابات النصفية في الكونغرس الامريكي عام 2006 ترفع شعار الانسحاب من  العراق عالياً، وهي المسألة التي لعبها الديمقراطيون على أحسن وجه آنذاك.
وقد ظن ماكين أن سياسة زيادة القوات قد نجحت لذلك تمسّك بها، في حين أنها أصبحت ورقة محروقة كما يقال، وأن النجاح كان يعني صرف الانظار الى مسائل أخرى، وهو ما سعى أوباما للعزف عليه بايقاع مؤثر، وهكذا تماهى الموقف بين الفريقين في مسألة الانسحاب التدريجي من العراق، في حين ظلاّ يختلفان في المدة الزمنية، مثلما يختلفان حول التاريخ والماضي.
وكان أوباما قد أعلن ان القوات الامريكية ستنسحب من العراق، بينما قال منافسه الجمهوري الذي انهزم شر هزيمة أن وعود الانسحاب تتسم بالتهور، لكنه رأى فرصة لخفض حجم القوات، وهذه الارضية المشتركة للانسحاب، رجحت كفة أوباما، خصوصاً بإيلاء اهتمام أكبر للقضايا الاقتصادية والاجتماعية.
ان الجنود الامريكان الذين ما زالوا حتى الآن يستقبلون في مطار دالاس بعبارات "بارك الرب أمريكا" و" شكراً للرب"، كانوا يقابلون عند عودتهم من فيتنام بالازدراء والاهانة، خصوصاً عندما أصبح الرأي العام ينظر الى استمرار حرب فيتنام بمثابة كارثة وطنية، الأمر الذي لم يتحقق في حرب العراق حتى الآن. فهل ستزيد الأزمة الاقتصادية من شعور النسيان أم ستساعد على إعادة النظر بالأولويات وتمهّد لتنفيذ باراك أوباما لوعوده بالانسحاب التدريجي، ذلك السؤال سيتحدد في ضوء تنفيذ الخطة الستراتيجية للرئيس أوباما، خصوصاً عند استحقاق الاتفاقية العراقية- الامريكية في نهاية العام 2011!؟
إن تكاليف غزو العراق وصلت الى 3 تريليون دولار وفقاً لتقديرات جوزيف ستيكليتز ولندا بيلمنس، فهل كانت هذه خطة محكمة لاستنزاف الولايات المتحدة؟ الجواب هذه المرّة جاء من أسامة بن لادن وهو جالس في كهفه الذي قال في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 وهو يفخز بنجاح ستراتيجيته في جعل أمريكا تنزف الى حد الافلاس، حين ردد ساخراً: أن كل دولار أنفقته القاعدة في حملتها كلّف الامريكان بالمقابل مليون دولار.
وإذا كان أوباما بذكائه وحضوره قد استطاع تحسس جزء مهم من نبض الشارع الامريكي عندما لامس قضاياهم الحياتية مباشرة ودعا الى تنظيم الأسواق وأن على الحكومة أن تلعب دوراً لا غنى عنه في مسار الاقتصاد، الأمر الذي جعل ماكين يهاجمه باعتباره " اشتراكي"، وهي تهمة نفعته بالقدر التي أضرّت ماكين.
فهل سيدرك أوباما أن السياسة الداخلية ليست بمعزل عن السياسة الخارجية، وهذه الأخيرة التي هي انعكاس للسياسة الداخلية ووجه آخر من وجوهها، ولا يمكن تحقيق نجاح في أحدهما والاخفاق في الأخرى، لأن الفشل سيمسح النجاح، وما عليه إذا أراد انجاز برنامجه الاجتماعي – الاقتصادي وامتصاص الأزمة المالية الطاحنة، الاّ إعادة النظر بسياسة واشنطن الخارجية، والاسراع بتنفيذ وعوده بالانسحاب من العراق مثلما أعلن ذلك، وقبل فوات الأوان. وكما يقال ليس المهم تحقيق الفوز، بل المحافظة عليه والسعي لمواصلته وتوسيع دائرته، فهل سيستطيع أوباما أن يفعل ذلك وكم سيحتاج من الوقت؟ ومن أين سيبدأ؟
هذه أسئلة واجهت الرئيس أوباما منذ أن وطأت قدماه عتبة البيت الأبيض، وستظلّ تلحّ عليه وتضغط بشدة إن لم يجد أجوبة مناسبة لها.

5- أوباما " شرق أوسطياً "!!

لاشك ان سياسة الرئيس بوش والجمهوريين خلال السنوات الثمان كانت هي الأسوأ، لاسيما بخصوص المسألة الفلسطينية والصراع العربي- الاسرائيلي، حيث أدخلت الولايات المتحدة في نفق مظلم زاد منه قتامة المشهد السياسي، خصوصاً بعد احتلال العراق.
ولهذا استبشر الكثير من العرب بالهزيمة التي مني بها الجمهوريون، وعبّروا عن ارتياحهم للفوز الساحق الذي حققه الديمقراطيون بفوز باراك أوباما، ويأتي نجاحه بعد فترة قاسية بالنسبة للعرب والفلسطينيين، حيث زادت من صورة الولايات المتحدة سلبية وتدهوراً في العالم العربي، فإضافة الى احتلال العراق العام 2003، فقد بررت واشنطن لاسرائيل عدوانها على لبنان العام 2006 معتبرة ذلك ولادة جديدة للشرق الأوسط، على حد تعبير وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس خلال العدوان، وحاولت واشنطن ثني مجلس الأمن الدولي من إصدار أي قرار يدعو الى وقف القتال، ناهيكم عن إدانة اسرائيل، متنصلة عن موقعها الدولي باعتبارها عضوا دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي، إضافة الى كونها معنية بشكل خاص بالملف العربي – الاسرائيل.
وقد وصلت القضية الفلسطينية في فترة رئاسة بوش الى طريق مغلق بسبب التعنت الاسرائيلي والعنف والارهاب الذي مارسته اسرائيل خلال الفترة المنصرمة، خصوصاً بعد تعثر اتفاقيات أوسلو، ومسار خارطة الطريق الفلسطينية- الاسرائيلية، وبالأخص الآفاق المضببة التي واجهتها قبل نهاية العام 1999 وحتى الآن، بما فيها بعد ذلك بناء جدار الفصل العنصري وتقطيع أوصال الارض الفلسطينية ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتطبيق عقوبات اقتصادية مشددة ضد قطاع غزة خلافاً للشرعية الدولية ولمبادئ حقوق الانسان وقواعد القانون الدولي الانساني.
لعل بعض العرب يتوقعون أن يقدّم الرئيس أوباما شيئاً جديداً مختلفاً عن ادارة بوش، وهو وإن كان ممكناً، الاّ أنه ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار ثبات أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط مع تغيير الرؤساء، إضافة الى  تغلغل النفوذ الصهيوني واللوبي المساند لاسرائيل مالياً واقتصادياً واعلامياً وحكومياً، لكن الأمر يحتاج الى جهود ومثابرة ونضال على مختلف الجبهات وبجميع الأسلحة، وذلك ما ينبغي على العرب أن يأخذوه بالحسبان عند التصدي والمعالجة للقضية الفلسطينية وللصراع العربي – الاسرائيلي، سواءً  من خلال  تفعيل المبادرة العربية لعام 2002 أو ما بعدها، باتجاه حل يؤدي الى اقامة دولة فلسطينية على أساس حق تقرير المصير، وإن كان لا يلبّي كامل طموحات الشعب العربي الفلسطيني.
وإذا كانت الأزمة المالية التي لم يشهد لها العالم مثيلاً بعد الكساد العالمي والانكماش الاقتصادي للفترة 1929-1933، فإن الأولويات ستتجه بلا أدنى شك لمعالجة هذه الأزمة، بما فيها النفقات الباهظة للحربين المفتوحتين منذ عام 2002 و2003 وأعني بذلك الحرب في أفغانستان والحرب في العراق.
لكن الرئيس أوباما الذي كان قد أبدى اهتماماً خاصاً بالشرق الأوسط، عشية انتخابه بما في ذلك زيارة فلسطين ولقاء الرئيس محمود عباس، ليس بوسعه التقدم بتحركات واسعة ونشيطة على هذا الصعيد، إن لم يتبين هناك رغبة شديدة وقدرة على التأثير لفتح هذا الملف المعقد، والذي كان منذ عهد كلينتون قد توقف عند تأييد قيام دولة فلسطينية، لاسيما في أشهره الأخيرة، لكنه لم يمضِ قدماً، حيث بهتت الدعوة وبردت همّة الداعين اليها في ظل تصاعد الارهاب الاسرائيلي، فازدادت الصورة سوءًا وقتامة، خصوصاً بعد قمع الانتفاضة السلمية الفلسطينية منذ 28 أيلول (سبتمبر) 2000 وحتى الآن، وقد تدهور الأمر على نحو مريع بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية- الاجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة والتي استغلتها اسرائيل أبشع استغلال، فشنّت حملات متتالية لقمع الفلسطينيين وملاحقتهم واتهامهم بالارهاب.
كيف للرئيس أوباما أن يبدأ سياسة نشطة في الشرق الأوسط، بعد أن راوحت الولايات المتحدة في مكانها طيلة السنوات الثمان، هل بتعيين رام بنيامين مانوئيل كبيراً لموظفي البيت الأبيض (الأمين العام )!؟ وهو من أصل يهودي (اسرائيلي)، وأدّى الخدمة في جيش الدفاع الاسرائيلي العام 1997، وتطوّع في مكتب تجنيد تابع للجيش الاسرائيلي في فترة سبقت حرب الخليج الاولى ضد العراق العام 1991، كما أشرنا.
جدير بالذكر ان بنيامين والد رام مانوئيل كان عضواً في منظمة الارغون السرية الصهيونية ، التي مارست أعمالاً ارهابية في فلسطين منذ العام 1931 ولغاية العام 1948، أي حتى قيام اسرائيل في 15 أيار(مايو) 1948، وقد هاجر هو وأسرته الى شيكاغو في الستينات، كان قد صرح بعد تعيين ولده مانوئيل بأن اختيار ابنه سيكون عاملاً مساعداً للتأثير على الرئيس أوباما ليكون صديقاً لاسرائيل، ولم يكن هو عكس ذلك، لكن والد مانوئيل يريده أكثر صداقة وحميمية مع اسرائيل، وهذا يعني فيما يعنيه ادارة الظهر عن العرب والفلسطينيين، والتخلي عن دور الرعاية أو الضامن لاتفاق خارطة الطريق، أو وضعها ومعها فكرة الدولة الفلسطينية في الأدراج، ولعل ذلك سعي ثابت من جانب اسرائيل مع جميع الرؤساء الامريكان جمهوريون كانوا أم ديمقراطيون!!؟ فهل ستفلح اسرائيل في ذلك أم أن الأمر سيكلّف واشنطن خسائر جديدة فادحة، وهي الخسائر التي كانت سبباً في تدهور شعبية الرئيس بوش وحزبه الجمهوري!؟
إذا أراد الرئيس أوباما أن يعيد جزءًا من " صدقية" الولايات المتحدة لاسيما في الشرق الأوسط، تلك التي نزلت الى الحضيض، فما عليه الاّ اتخاذ سياسة نشيطة ومتوازنة بحيث تضغط على حليفتها اسرائيل لتنفيذ مقررات ما يسمى بالشرعية الدولية رغم انتقامها من مبادئ القانون الدولي المعاصر أحياناً.
ولعل التخلص من هيمنة " الصقور" الذين مسكوا بمقاليد البيت الأبيض طيلة ثمان سنوات وسياسات التصعيد التي عرفتها واشنطن منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، والضغط على حكومة اسرائيل ولاسيما بعد وصول نتنياهو الى سدة الحكم للامتثال بخيار الدولتين، في حين أن اخذت تشدد على أطروحة تطالب بها العرب " الاعتراف باسرائيل دولة نقية لليهود" ، الأمر جعل الأفق غائم وزاد من احتمالات استمرار الحال على ما هو عليه، وهذا سيعني فيما يعنيه فشل في واحد من الملفات المهمة والساخنة التي ستلقي ظلالها على العرب والفلسطينيين!!

أوباما: شرق أوسط ممكن.. شرق أوسط مستحيل!

انطفأ الحديث الذي راج خلال السنوات الماضية، لاسيما في فترة الرئيس بوش بخصوص " الشرق الأوسط الكبير"، والذي استُبدِل أو طُوِّر الى فكرة "الشرق الاوسط الجديد" التي روَّجت اليها وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان في 12 تموز (يوليو) 2006 حين قالت : أنه مخاض حيث سيولد بعدها شرق أوسط جديد، لكن تلك " النبوءة: لم تتحقق، بل إن الذين دعوا اليها سرعان ما عادوا يتحدثون عن الاستقرار والأمن بعد مشاريع وطموحات كبرى بحلول ربيع الحرية وبزوغ شمس الديمقراطية، لا في العراق حسب، بل في عموم المنطقة، الأمر الذي سيضعُ هذه الاخفاقات والطموحات غير الواقعية أمام الرئيس أوباما.
ولعل الشرق الأوسط البوشي (الأب) والكلينتوني والبوشي (الابن)  لم يكن ممكناً، لاسيما في ظل اختلال موازين القوى بين العرب والاسرائيليين، حيث وصلت اتفاقيات أوسلو التي تم التوقيع عليها عام 1993 الى طريق مسدود بسبب النهج الاسرائيلي المتعنّت والممالئة الامريكية التي أدّت الى استخفاف تل أبيب بقرارات الشرعية الدولية والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني. فهل سيتمكن الرئيس أوباما وضع خطة جديدة وانتهاج سياسة واقعية من شأنها أخذ تكوينات الشرق الأوسط بنظر الاعتبار، لا برسم سياسة أثبتت حتى الآن استحالتها لتغيير خارطة الشرق الأوسط طبقاً لهوى الادارة الامريكية ومشاريعها الامبراطورية الحالمة، بل بالنظر الى امكانية تطبيقها واقعياً على الارض، حتى وإن كانت بمرارة أيضاً!؟
سيكون التفكير بشرق أوسط ممكن أو واقعي هو أحد التحديات التي تواجه الرئيس أوباما، إذ أن ذلك سيكون محل اختبار لمدى نجاحه في تجاوز السياسات الخاطئة التي اتبعها سلفه الرئيس بوش، حيث أنها كانت الأسوأ في تاريخ المنطقة، وفقدت الولايات المتحدة صدقيتها لا أمام خصومها التقليديين حسب، بل حتى بالنسبة لأصدقائها المقربين، وضعُفت الى درجة كبيرة، الكثير من عوامل الوصل وجسور الثقة بينها وبين العرب.
وقد ساهمت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الاجرامية في قتامة الصورة، خصوصاً بعد ردود الفعل الخاطئة والتي ألحقت ضرراً بسمعة الولايات المتحدة كدولة عظمى لها مسؤولياتها في إطار المُنتظم الدولي، لاسيما في مجلس الأمن التابع  للأمم المتحدة، كعضو دائم العضوية.
وإذا كانت فترة الثمان سنوات الماضية قاسية في الشرق الاوسط بشكل عام فإنها كانت الاقسى بالنسبة للعرب، خصوصاً في فلسطين والعراق ولبنان ويمكن أن نضيف عليها السودان والصومال وغيرها، حيث شهدت احتلالاً للعراق العام 2003 بعد احتلال أفغانستان العام 2002 وعدواناً اسرائيلياً بتشجيع أمريكي على لبنان العام 2006، وحصاراً ما زال مستمراً على غزة بعد العدوان عليها (أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009)، ناهيكم عن تدهور في المسار السلمي ووصول اتفاقيات أوسلو الى طريق مسدود منذ العام 1999.
ولم تفلح كل محاولات اعادة الروح الى اتفاقيات أوسلو وتحريك المسار السلمي المتعثر، رغم اجتماعات واي ريفر وخارطة طريق جديدة، بل انها سارت باتجاهات أخرى، خصوصاً في ظل عاملين أساسيين: الاول- استمرار العنف والارهاب، لاسيما المتمثل بـ حصار غزة بعد حصار الرئيس عرفات حتى وفاته وبناء جدار الفصل العنصري والثاني – تخلّي الولايات المتحدة عن دور الراعي أو الضامن وانحيازها الكامل الى اسرائيل، الأمر الذي فاقم من تردي الاوضاع وتدهورها.
وإذا أضفنا موضوع احتلال العراق وما تبعه من انفلات أمني وعنف طائفي وتشظي مجتمعي واستشراء الميليشيات وتفشي الفساد والرشوة الى درجة مريعة، ناهيكم عن ورطة الجيش الامريكي ذاته في حرب لا نهاية لها، فإن التغيير سيتخذ طابعاً أكثر إلحاحاً بخصوص الستراتيجية العامة، وهو ما وعد به الرئيس أوباما في حملته الانتخابية، التي اتخذت من " التغيير" Change عنواناً، سواءً  على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي.
هل سيكون ممكناً بالنسبة للرئيس أوباما تحويل منطقة الشرق الأوسط الغنية بالحضارة والثروة والتنوع الثقافي، الى منطقة سلام، بدلاً من الحرب والعدوان والحصار، وهدر حقوق الانسان؟ وكيف السبيل لدور للولايات المتحدة إذا ما قررت ذلك؟
ولعل هذا الأمر يضع عدداً من الاستحقاقات أمام الادارة الامريكية:
1-   اتخاذ سياسة معتدلة في الشرق الأوسط، لاسيما بين العرب والاسرائيليين، الأمر الذي يتطلب أولاً وقبل كل شيء كإجراء عاجل وانساني، انهاء حصار غزة وفتح جميع المعابر وتيسير حركة السكان المدنيين بإنسيابية على نحو يضمن حقوق الانسان الجماعية والفردية، وتهيئة المستلزمات لتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين ووقف المستوطنات، طبقا للشرعية الدولية والقرارات الدولية 181 و194 و 242 و338. وهذا يعني مواصلة الجهود التي بذلها الرئيس كلينتون بشأن " الدولة الفلسطينية" ، لاسيما في آخر عهده، والتي بردت أو تكاد تكون تلاشت في عهد الرئيس بوش.
2-   تنفيذ الوعود التي اطلقها الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق و"انهاء الاحتلال"، والشروع بتخفيض القوات الامريكية، ولعل هذا الأمر لا يتعلق بالعراقيين حسب، وإنما يتعلق أيضا بمأزق السياسة الامريكية  وأزمتها الاقتصادية الطاحنة، التي انعكست على العالم أجمع، خصوصاً تحمّل أعباء وتكاليف حربين مفتوحتين منذ العامين 2002 و2003 ومعها "الحرب على الارهاب الدولي" منذ العام 2001، وهي حروب حقيقية وبلا حدود، وهذا يتطلب من الرئيس أوباما مراجعة جدية وخطوات عاجلة وسريعة، بدلاً من الاستمرار في التوغّل بالمزيد من الأخطاء والخطايا.
وإذا كان الأمر يقتضي عدم حصول فراغ سياسي وأمني وعسكري، وهو مسألة مشروعة ومهمة فلا بدّ من نقل المسؤولية مؤقتا الى الأمم المتحدة بصورة تزامنية تبدأ مع الانسحاب، وهذا يحتاج الى تعهدات من المجتمع الدولي بحماية سيادة العراق لدى تعرّضها للانتهاك من أي طرف خارجي، وتعهد عربي وإقليمي بمساعدة العراق، على إعادة الاعمار، وذلك في إطار خطة ستراتيجية دولية، لمعافاة العراق الأمر الذي يمهد لإجراء انتخابات ديمقراطية باشراف دولي وفي إطار التعددية واحترام حقوق الانسان وفي ظل الخيار الديمقراطي، الذي ينبغي أن يكون حاسماً ولا عودة فيه.
ولعل هذه الخطوة تتطلب اسقاط جميع الديون عن العراق وتعويضه عما لحق به من غبن وأضرار طيلة السنوات الماضية والعمل على اخراجه من الفصل السابع الخاص بالعقوبات طبقاً لميثاق الامم المتحدة، بل والأكثر من ذلك تعويضه عن الخسارة البشرية، لاسيما في العقول والأدمغة ونهب الآثار والممتلكات التاريخية، وتتطلب العدالة الدولية مساءلة المتهمين بممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الانسان والمُفسدين ومن قاموا بهدر المال العام في فترة الحاكم المدني بول بريمر أو ما بعده.
3-   اتخاذ علاقة متوازنة تقوم على أساس الحوار والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة مع سوريا، والسعي لإحداث نوع من الانفراج لتنقية الاجواء بدلا من توتيرها مع لبنان، والضغط على اسرائيل للامتناع عن العدوان مجدداً على لبنان واحترام سيادته وإعادة مزارع شبعا اليه، وإعادة الجولان الى سوريا في إطار تسوية سلمية شاملة، الأمر الذي يقتضي أيضاً فتح حوار مع إيران، طبقاً لخطة بيكر- هاملتون (أواخر العام 2006) واشراكها وسوريا في بحث حلول ايجابية في المنطقة.
اما موضوع الملف النووي الايراني الشائك والمعقد، فهو يحتاج الى الصبر والمزيد من الحوار والتفاهم والضغط الدولي السلمي لتقديم ضمانات حول الوجهة السلمية للمفاعلات النووية الايرانية، وطبقاً للمتطلبات والمعايير الدولية لمنظمة الطاقة وللمعاهدات والاتفاقية الدولية بهذا الخصوص، وعدم الاستخدام للأغراض الحربية، وسيكون الأمر ممكناً إذا ما توفرت فرصة السلام الحقيقي، خصوصاً بإقامة الدولة الفلسطينية  والانسحاب الامريكي من العراق، إذ أن مثل هذه الأجواء ستنعكس على ملف العلاقات الايرانية- الامريكية إيجاباً.
4-   دمقرطة المنطقة، ولعلها المسألة الملحّة الأخرى، بل هي الوجه الثاني للسلام والتقدم والتنمية، ذلك تشجيع خطط الاصلاح والتحديث والدمقرطة في المنطقة يقتضي فتح حوارات على المستوى الدولي لتنشيط ثقافة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، لدى الجميع، الأمر الذي يتطلب احترام المعايير الدولية، لاسيما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 4 كانون الاول (ديسمبر) العام 2000، القاضي بالتنوع الثقافي وعدم وجود موديل واحد للديمقراطية مع تاكيد احترام خاصيات الشعوب والأمم وتراثها الانساني، إضافة الى المشترك الانساني الدولي. ولعل هذا الأمر يتطلب اشراك المجتمع المدني ومؤسساته في القرار وتطويق الارهاب، خصوصا ببحث أسبابه وجذوره الاجتماعية والاقتصادية ومعالجة آثاره بهدف القضاء عليه واستئصال شأفته ووضع حد لهذه الظاهرة المشينة.
وبقدر نجاح أوباما في مواجهة هذه التحديات بشجاعة وجرأة سيكون قد حقق له وللولايات المتحدة ولمنطقة الشرق الأوسط، فرصة كبيرة للسلام الممكن وليس المستحيل وهذا بدوره سيسهم في تعزيز التنمية والديمقراطية والتخلص من إخطبوط الارهاب الدولي.!!


نشرت في مجلة الغدير العدد 48 خريف 2009

1098
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (4)
عبدالحسين شعبان

«جيفارا والأممية البيروقراطية»

ثمة إشكالية فكرية وخلافات نظرية وتكتيكية كانت قد أخذت طريقها بين الحزب الشيوعي الكوبي المتأثر بالنهج السوفييتي، وبين الاتجاه الثوري لكاسترو وجيفارا ورفاقهما. وكانت الأطروحة الشيوعية الرسمية تشكك بإمكانية نجاح ثورة جبال السيرامايسترا واستخدام البؤر الثورية والتركيز على دور الطليعة والنخبة بدلاً من دور الجماهير وقناعاتها، لاسيما تجاوز دور الحزب والسعي لحرق المراحل لإنضاج الظروف الموضوعية وتسريع إنضاج الظروف الذاتية، ولهذا السبب ناصبت الحركة الشيوعية الرسمية العداء للاتجاه الكاستروي- الجيفاري، وهو ما كان سائداً ضمن الخط السوفييتي، خصوصاً بتفضيل أسلوب النضال السلمي والسياسي وإعراضها عن أسلوب الكفاح المسلح، بل تسفيهه.
وقد انعكس ذلك لاحقاً على تطور العلاقات الكوبية- السوفييتية وفي الموقف من تشي جيفارا أيضاً، الثوري الذي ظل حالماً، فيوم أنهى دراسته في كلية الطب العام 1953 قام بجولة بموتور سايكل في أنحاء القارة الأميركية ليتعرف على أوضاعها ويتحسس الظلم الذي تعاني منه. وفي العام 1954 التقى بصديقته (الليدا) Aleida التي تزوجها لاحقاً، وكان تشي جيفارا قد التقى بكاسترو بعد فشل المحاولة الثورية الأولى واعتقال عدد من القيادات الثورية بينهم كاسترو وجيفارا وراوؤل في المكسيك، وهناك اتفقا في عهدٍ لا انفصام فيه على مشروع الثورة، التي كان كاسترو منظّرها ومحاميها وكان تشي جيفارا أحد أبطالها وطبيبها.
في شهر ديسمبر عام 1956 غادرت ثلة من الثوار نحو الشواطئ الكوبية، وكان عددهم 82، وكانت المفاجأة يوم انتظرهم رجال باتيستا، ولم يبقَ منهم إلا 21 مناضلاً. بعد الثورة حظي تشي جيفارا بمكانة كبيرة وأصبح رمزاً لجيل الشباب الثوري، ليس في أميركا اللاتينية حسب، بل في العالم أجمع، لدرجة أن تقليعة شعره وقبعته العسكرية أصبحتا أحد موديلات العصر. لم يطق أن يكون وزيراً للصناعة ومسؤولاً في الحزب والدولة التي شهدت تحالفاً ثورياً جديداً بانضمام المجاميع الثورية بما فيها الحزب الشيوعي إلى جناح فيدل كاسترو وتتويجه زعيماً على البلاد دون منازع، وقد يكون ذلك أحد أخطاء الثورة التي أنهت عهد التعددية والمنافسة المشروعة ودفعت البلاد باتجاه الواحدية والمركزية والصرامة والحزب الواحد، وزاد من هذا التوجه السلطوي الشمولي، استمرار الحصار الأميركي الجائر، وما تركه من تأثيرات سلبية عميقة، نفسية واجتماعية على المجتمع الكوبي.
ورغم التصالح الكوبي- السوفييتي فإن موقف تشي جيفارا والثورة الكوبية ظل ملتبساً بالنسبة للحركة الشيوعية العالمية، قبل وبُعيد أزمة الصواريخ العام 1962، وعندما زار كاسترو الاتحاد السوفييتي في زيارة سرّية استغرقت مدة 35 يوماً، عاد وقلبه مملوء بالقيح للبيروقراطية والفوارق الطبقية بين القيادات والجماهير، وتبدد الحلم الثوري، خصوصاً في ظل تفاقم الصعوبات والأخطاء والتحديات.
أما عندما زار تشي جيفارا الاتحاد السوفييتي لأول مرة فقد استقبله أمين عام الحزب نيكيتا خروشوف بالأحضان، ولم يكن هو مرتاحاً من تلك الزيارة، وانتقد الأوضاع كثيراً وعبّر عن تبرمه، الأمر الذي لم يحبّذه السوفييت، الذين كانوا يرغبون في أن يقدّم إليهم زعماء الأحزاب الشيوعية الولاء والطاعة ويعلنون جهاراً نهاراً عن تأييد كامل سياساتهم وتوجهاتهم، حتى إزاء بلدانهم أحياناً.
في الزيارة الثانية لم يستقبله مسؤول سوفييتي كبير واكتفوا بموظف حزبي من وزارة الخارجية، لأن حبل الود بينه وبينهم قد انقطع، وذلك جزء من عدم الارتياح سواءً اتفق ذلك أو تعارض مع البروتوكول الدبلوماسي، فالمركز الأممي لم تكن تهمّه كثيراً مثل تلك الاعتبارات، لاسيما في ظل بيروقراطية الدولة وآلتها التي أكلت الثوريين، فتحولوا في الكثير من الأحيان إلى مجرد موظفين لا قلب لهم، في حين كان جيفارا يضع قلبه وعقله في مكان واحد.
وعندما قرر تشي جيفارا الذهاب إلى الكونغو لم يُطلع السوفييت على سرّ رحلته، الأمر الذي أغاظهم كثيراً، وحاولوا النيل منه لأنه حسب التبريرات السائدة كانت خطوته تهديداً لسياسة التعايش السلمي، وهو الموضوع الذي كانوا يحرصون عليه أشد الحرص، حتى قيل إنهم كانوا لا يتورّعون عن إعلان معارضتهم لسياسات حلفائهم «انسجاماً» مع ما سُمّي «سياسة الوفاق الدولي». أما في بوليفيا فقد كانت المسألة أكثر سوءا حين اتخذ الحزب الشيوعي البوليفي موقفاً أقرب إلى العداء، وأكثر من النقد والاختلاف الفكري من تشي جيفارا، وأشيع في حينها أن كشف مكان تشي جيفارا الذي بذلت فيه الـ CIA جهوداً مضنية لم يكن بمعزل عن تواطؤ مباشر أو غير مباشر مع الـ KGB عبر اختراقات ملتبسة ومعقدة، رغم أن هذه المسألة لم تظهر حولها دراسات كافية حتى الآن، لاسيما من جانب الأوساط المتنفذة آنذاك، وهو ما حاولت أن أناقش فيه مرافقي إدواردو البالغ من العمر 45 عاماً والمتحدث الممتاز باللغة الإنجليزية، الذي رافقني من منتجع فراديرو، إلى مدينة سانتا كلارا الشهيرة في محافظة فيلا كلارا، إلى مدينة ترنيراد التاريخية الجميلة، والتي كانت ضمن إحدى خطط الـ CIA لغزو كوبا في الستينيات.
في 8 نوفمبر 1967 أعلن عن مقتل تشي جيفارا ولم يعثر على رفاته إلا بعد مرور 30 عاماً أي في العام 1997 فنقل إلى مقبرة سانتا كلارا وإلى جانبه صديقته الألمانية تمارا بونكر المعروفة باسمها الحركي «تانيا» التي ربطته بها علاقة متميزة وأثيرة. إن صورة جيفارا الشهيرة التي التقطها المصور كوردا تجوب العالم اليوم، وهي تعود مثل طائر العنقاء تحط على الصدور والقمصان والمحفظات وعلب الموسيقى وتتصدر بروشورات العروض المسرحية والأفلام وقصائد الشعر والروايات والمنحوتات والدراسات والأبحاث. إن صورة جيفارا اليوم تزيّن البيوت والمكاتب والقاعات والساحات، والأهم من ذلك أنها تسكن في قلوب النساء والرجال، ولاسيما الشباب منهم من ألوان وأجناس وأمم وشعوب وقوميات ولغات وأديان شتى.
الصورة ليست للتسويق أو «الماركيتنغ» كما يتم التداول، بل تختزل كل الأشياء الآن، فهي لرمز صنع نفسه وصنعته الأحداث، لبطولة ورومانسية ومثالية نادرة، لذلك الحلم الغامض الذي ظل يلفّ كل عقل جيفارا، وكان يردد ما كان إنجلز يكتبه: «السعادة في النضال والتعاسة في الخنوع».
إن صورة جيفارا ليست مدفوعة الثمن، إنها ملك مشاع لكل من يرغب للتمثل به أو إحياء ذكراه.

• باحث ومفكر عربي

صحيفة العرب القطرية ، العدد 7834، الاثنين 23 نوفمبر 2009 م - الموافق 6 ذو الحجة 1430 هـ


1099
في تجربة الفيدراليات ودلالاتها عراقياً!
المستقبل - السبت 21 تشرين الثاني 2009 - العدد 3490 - رأي و فكر - صفحة 17


عبد الحسين شعبان()
يكشف البروفسور شيرزاد النجار في مقدمته لترجمة دستور ولاية بفاريا (عن اللغة الألمانية) عن حيثيات علاقة السلطات الفيدرالية الاتحادية وسلطات وصلاحيات الاقاليم، تلك التي يجسّدها دستور ألمانيا الاتحادي الصادر في 23 ايار (مايو) 1949، وذلك بعد وقوع المانيا تحت الاحتلال إثر هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية.
ولعل البروفسور النجار بما عُرف عنه من علم ومعرفة وخبرة أراد أن يسلط الضوء على الفكرة الفيدرالية، لا باعتبارها فكرة مجردة أو نظام متخيّل، بل عندما تصبح واقعاً من خلال التطبيق، لاسيما بتحديد سلطات وصلاحيات الاقاليم في إطار دستور اتحادي من جهة، ودستور اقليمي من جهة ثانية.
وإذا كانت الفكرة الفيدرالية قد أصبحت محل نقاش ومدار حوار منذ عقدين من الزمان في العراق، اتفاقاً واختلافاً، لاسيما بعد اقرارها كمبدأ في المعارضة العراقية في مؤتمر صلاح الدين (تشرين الثاني/ نوفمبر 1992)، وإن كان الاسلاميون قد تحفظوا عليها بوضع مصطلح مرادف لها " الولايات"، كما هي في الدولة الاسلامية القديمة، فإنها في التطبيق العملي واجهت تجاذبات وافتراقات حادة باختلاف أجندات وخلفيات ايديولوجية، ومواقف تاريخية.
وبين تأييد خافت أو تنديد باهت أو رفض ثابت، بدأت مناقشة الفكرة الفيدرالية ما بعد الاحتلال، لاسيما باقرارها في قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية العام 2004، أو في الدستور العراقي الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في يوم 15 تشرين الاول (اكتوبر) 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه يوم 15 كانون الاول من العام ذاته.
وإذا كان اقرار النظام الفيدرالي من طرف واحد في البرلمان الكردستاني يوم 4 تشرين الاول (اكتوبر) العام 1992، فإن الاطراف المشاركة في العملية السياسية، بغض النظر عن تأييدها أو لتحفظها وافقت في نهاية المطاف على الفيدرالية، وإن كان كل طرف فسّرها حسب ما يريد أو يشتهي، لاسيما في ظل الاستقطابات والاصطفافات السياسية، حيث نظر اليها البعض كصفقة سياسية أو تكتيك لمعارضة طرف في السلطة أو خارجها، او لكسب الحركة الكردية ضد خصومه، خصوصاً وان الفيدرالية الكردية أصبحت كأمر واقع وتحصيل حاصل.
ان اضاءة البروفسور النجار لها أكثر من دلالة، الاولى تتمثل في كون المانيا عادت وانقسمت بعد ان عاشت فترة الوحدة البسماركية في العام 1871، حيث " ائتلفت" مقاطعاتها الكبيرة والصغيرة في نظام شمولي، وان تميّز فيه جمهورية فاريمار التي مثلت تجربة ديمقراطية يتيمة، الاّ انها انتهت في العام 1932، اثر وصول آدولف هتلر والحزب النازي الى السلطة، وصعود نظام فاشستي شمولي، شديد المركزية والصرامة.
والثانية ان الانظمة الشمولية التي شهدها القرن العشرون، مثلما هو النظام النازي والنظام السوفيتي والانظمة الاشتراكية " التوتاليتارية " السابقة، لم تستطع الحفاظ على وحدتها، بل كانت من أسباب تفكيكها، حيث تحوّلت بفعل نزاعات وحروب الى دول وكيانات، كما هي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية والاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا، في حين انقسمت جمهورية تشيكوسلوفاكيا بطريقة مخملية الى جمهوريتي التشيك وسلوفاكيا العام 1993.
الثالثة إن بعض أنظمة العالم الثالث كثيرة الشبه بالأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، من حيث المركزية الشديدة الصرامة، وهي الأخرى وصلت الى طريق مسدود، خصوصاً تلك التي تتميز بتعددية قومية وثقافية مهضومة الحقوق، مثلما هو العراق، الأمر الذي يحتاج الى معالجة من خلال نظام جديد، لا مركزي، يأخذ بنظر الاعتبار الحقوق القومية، لاسيما حقوق الكرد.
كأن البروفسور شيرزاد النجار أراد أن يلفت النظر الى أن جزءًا مهماً من مشكلات العراق الراهنة يعود الى الانظمة الشمولية السابقة، التي لا بدّ من ايجاد حلول ومعالجات لها عبر توزيع الصلاحيات والسلطات، وبما ان اقليم كردستان هو الوحيد القائم وهو الذي سبق ان اعلن عن رغبته في شكل نظام الحكم باختيار الدولة الاتحادية ، بدلا من الدولة المركزية البسيطة التي قادت الى شكل من الدكتاتورية والتسلط، فإن هذا الواقع ينبغي التعاطي معه على أساس دستوري وقانوني، ولعل الاطلاع على تجارب الفيدرالية، ومنها تجربة ألمانيا ودستور بافاريا قد يكون مفيداً للاستلهام وليس للتقليد، وهو ما قصده النجار.
أعتقد أن مشكلات كركوك اليوم وعقود النفط التي وقعها الاقليم وعلاقة الدستور الاتحادي بالدستور الاقليمي والاحتكاك والحساسيات حول ما سمّي بالمناطق المتنازع عليها، تشكل خلفية لما أراد الدكتور النجار تسليط الضوء عليه حين ترجم دستور بافاريا، لنظام فيدرالي ناجح ومستقر، خصوصاً بتحديد الصلاحيات والسلطات على نحو واضح ويتسم بالتفاهم والمشترك الانساني.
لقد كان الخيار الفيدرالي لألمانيا ما بعد العام 1949 المستند الى نظام ديمقراطي، لا مركزي وتوزيع الصلاحيات والسلطات الاتحادية مع الاقاليم، طريقاً قاد الى ازدهار المانيا ورفاهها، وقد يكون هذا واحداً من أهداف ترجمة دستور بافاريا. وقد ساعد تطور النظام الفيدرالي على استقطاب "الجزء الشرقي" الذي عُرف باسم ألمانيا الديمقراطية، بعد انهيار جدار برلين العام 1989، حيث تحققت الوحدة في إطار نظام فيدرالي ديمقراطي، لألمانيا الموحدة 1990، وهو النظام الذي ضم ستة عشر اقليماً أو ولاية، لها دساتيرها الاقليمية، مثلما هي تنضوي تحت لواء الدستور الاتحادي.
ان الفيدرالية بمعناها القانوني، هي نظام لا مركزي يتم فيه توزيع صلاحيات واختصاصات الدولة بين المركز " الاتحادي" والفروع " الاقليمية" وهي أقرب الى الاتحاد والوحدة منها الى الانقسام والتقسيم، أي أن الدولة الفيدرالية هي دولة واحدة ولها حكومة اتحادية واحدة وجيش واحد وعلاقات دولية واحدة وميزانية واحدة وعلم واحد وتمثل وطناً واحداً غير قابل للتجزئة، الاّ إذا فكرت الأطراف المتحدة فك الارتباط بين بعضها البعض، وذلك هو التفسير القانوني لفكرة الفيدرالية، لاسيما إذا توفرت الثقة بين الأطراف، الأمر الذي يُبعد الهواجس السياسية والقلق إزاء احتمالات الانفصال أو التقسيم، وإن كانت فكرة الانفصال واردة إذا تعذر العيش المشترك وفي إطار حق تقرير المصير، لكنها قد لا تكون بسبب النظام الفيدرالي، بل على العكس من ذلك أحياناً، فقد يكون سببه صيغة نظام الحكم المركزية الشديدة الصرامة، لاسيما الطابع الشمولي الاستبدادي، الذي لم يراع الحقوق للتكوينات المختلفة، وقد تجلّى مثل هذا الامر عملياً في انحلال الاتحاد السوفيتي وبعض دول أوروبا الشرقية.
أما الصفة الثانية للنظام الفيدرالي فهي اللامركزية واحترام الخصوصيات للهويات الفرعية، لاسيما لمجتمع متعدد الأعراق والقوميات والثقافات، أي احتفاظ الاقاليم والكيانات بشيء من استقلاليتها في الادارة والتشريع وبنوع من اللامركزية يتسع أو يتقلص حسب التطور التاريخي، وأظن أن دستور ولاية بافاريا قد حدد ذلك باعتبار بافاريا ولاية حرة مبيّناً لون علمها وشعارها وحقوق مواطنيها في إطار دستورها الخاص وصلاحيات سلطاتها وعدم تعارض ذلك مع الدستور الاتحادي. وقد ذهبت المادة 79 من الدستور الالماني الى تأكيد بعض القواعد الجامدة أو الخالدة، التي لا يجوز تعديلها حفاظاً على طبيعة النظام الفيدرالي.
اما الصفة الثالثة للنظام الفيدرالي فهي تستند الى مبدأ المشاركة والشراكة، أي اشراك الاقاليم والكيانات الفرعية في اتخاذ القرارات واشباعها بصلاحيات محلية لادارة شؤونها واحترام خصوصيتها، وذلك باعتباره حقاً لها. ولعل هذه هي القواسم المشتركة والقواعد القانونية العامة للنظام الفيدرالي سواءً اتسعت أو ضاقت.
وتكتسب دراسة الانظمة الفيدرالية اليوم أهمية بالغة بالنسبة للحوار الدائر حولها عراقياً، لتكوين رأي عام عراقي سياسي وثقافي بعيداً عن العصبيات أو التقاطعات، ولا بدّ هنا من البحث عن المشترك الانساني وفي إطار حقوق المواطنة والمساواة واحترام الهويات الفرعية.
وللأسف الشديد فإن النخب الفكرية والسياسية لم تدرس الأنظمة الفيدرالية دراسة كافية، بقدر ما اتخذت منها مواقف مسبقة، بالتأييد أو التنديد، أو نظرت اليها نظرة رمادية بما يستجيب لبعض مكاسبها الآنية، ولم تطرح مسألة الفيدرالية على الفاعليات والحساسيات الثقافية والمدنية عند مناقشتها بما في ذلك عند مناقشة مسودات الدساتير، وتم الاكتفاء أحياناً باللقاءات الخاصة والغرف الضيقة للجان وهيئات، واعتبرت المسألة من قبيل الصفقة أو المكاسب أو التنازلات التي يمكن أن يقدّمها هذا الفريق لذاك، في حين أن الأمر يتعلق يتحديد طبيعة الدولة وكيانيتها وعلاقة الهوية الجامعة الكبرى، بالهويات الفرعية وضمان حقوقها، مع الحفاظ على حقها في إقامة كيانية خاصة.
ولعل هذا هو ما أراده البروفسور النجار من ترجمته المهمة لدستور ولاية بافاريا، الذي هو إضافة الى المكتبة العربية والكردية في آن، وحسب البروفسور النجار فإن تقاسم المسؤوليات والواجبات ما بين الاتحاد والولايات يتم وفقاً لمبدأ المسؤولية الذاتية، وإذا كانت صلاحيات التشريع بشكل عام بيد الاتحاد، لكن الولايات تمارس الصلاحيات المتعلقة بالشرطة المحلية والادارة المحلية والسياسية والثقافية والتربوية والسياحية وغيرها، وتمارس الولايات الجزء الاكبر من مهمات الادارة والقضاء. وتتمثل الولايات في مجلس الولايات على صعيد الاتحاد، وتستمد هذه المؤسسة صلاحياتها واختصاصاتها من القانون الاتحادي وليس من القانون الاقليمي. وحسب الدستور المحلي لولاية بافاريا فهي حرّة وشعبية وقانونية ثقافية اجتماعية وحكومتها هي السلطة العليا لادارة وتنفيذ ما يتفق عليه برلمان الولاية ولديها محكمة دستورية خاصة، مثلما ذهبت الى ذلك المادة 43.
() كاتب وحقوقي عراقي


1100
"إسرائيل" أي قانون دولي تريد؟
   


عبدالحسين شعبان
لم يعر العرب اهتماماً بالقانون الدولي منذ أن اندلع الصراع العربي  الصهيوني، ورغم أن الصراع هو صراع سياسي بالأساس، إلا أنه يجري في سياقات وأطر قانونية، ولعل وراء كل مسألة قانونية هناك مشكلة سياسية، وهو الأمر الذي شغل المحافل الدولية قبل وبعد صدور قرار التقسيم من الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 في العام 1947. ولعله منذ ذلك التاريخ والقانون الدولي يلعب دوراً مهماً في الصراع، وربما ازداد وتعاظم هذا الدور في الوقت الحاضر، لاسيما بعد عدوان “إسرائيل” على لبنان في العام 2006 وعدوانها على قطاع غزة أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009 والذي دام 22 يوماً بعد حصار شامل استمر أكثر من سنتين.

ومع صدور تقرير غولدستون بشأن الاتهامات الموجهة إلى “إسرائيل” بارتكاب جرائم حرب، والجدل الذي رافقه والاستعادات لبعض المواقف القانونية بخصوص الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية 2004 بعدم شرعية بناء الجدار وطلب تفكيكه وتعويض السكان المدنيين المتضررين، إضافة إلى الطعون المتراكمة ببطلان قرار الكنيست بضم القدس 1980 وقراره بضم مرتفعات الجولان ،1981 فإن الجدل والنقاش القانونيين ازدادا بخصوص موقف “إسرائيل” تاريخياً من القانون الدولي وانتهاكاتها المستمرة والمتصاعدة لقواعده، الأمر الذي لم يستمر توظيفه على نحو سليم من جانب العرب منذ قيام “إسرائيل” العام ،1948 وشنها الحروب المتكررة وتهديدها للسلم والأمن الدوليين وحتى الآن.

ففي ما يزيد على 60 عاماً قامت “إسرائيل” بانتهاك أكثر المعايير والقواعد الاساسية الملزمة في القانون الدولي المسمّاة باللاتينية Jus Cogens دون أن تتعرض للعقاب، والأمر لا يتعلق بالضحايا والمتضررين فحسب، وبالعرب عموماً، بل إن مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الانسان وغيرها من الهيئات والمنظمات الدولية وجهت أصبع الاتهام إلى “إسرائيل”، وهو الأمر الذي كان كثير الشبه بنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا المنبوذ من المجتمع الدولي والمعاقب من قبل مجلس الأمن الدولي، في حين ظلّت “إسرائيل” طليقة خارج المساءلة والملاحقة الدولية رغم سياساتها المناوئة لنظام العدالة الدولية.

لقد مارست “إسرائيل” سياسة تطهير عرقي منذ قيامها يوم أجبرت نحو 750 ألف فلسطيني على الهجرة من أراضيهم وديارهم في عملية تهجير قسرية. ولعل التطهير العرقي يعتبر إحدى أكبر الجرائم الدولية وهو جريمة ضد الإنسانية، وقد يشكّل جريمة إبادة جماعية.

وتجاهلت “إسرائيل” قرار الجمعية العامة رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين الصادر في 11/12/،1948 وعندما تقرر قبولها عضواً في الأمم المتحدة 1949 تعهدت بانتهاج سياسة تقوم على احترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، لاسيما حماية السلم والأمن الدوليين، وهو الأمر الذي قامت بخرقه على نحو صارخ طيلة ما يزيد على 60 عاماً في حروبها وعدوانها على الدول العربية وتنكّرها لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، لاسيما حقه في العودة وتقرير المصير بما فيها إقامة الدولة المستقلة. ورفضت “إسرائيل” جميع القرارات الدولية ولم تمتثل لمقتضيات القرار 242 لعام 1967 والقرار 338 لعام 1973 بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة (باستثناء سيناء) مبررة أن تلك القرارات لا تنص على “كل” أو “جميع” الأراضي المحتلة، وهو الأمر الذي يسمح لها بالاحتفاظ ببعض الأراضي العربية، في حجة واهية خلافاً لاتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام ،1977 لاسيما الاتفاقية الرابعة “الملزمة ل”إسرائيل” في تعاملها مع الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، زاعمة أنها تحتل أراضي غير تابعة لدولة ذات سيادة، وهو الأمر الذي تتحدث عنه اتفاقية جنيف الرابعة.

وتحت الحجج والمزاعم القانونية ذاتها تبرر “إسرائيل” عدم انصياعها للرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بخصوص الجدار ووقف بناء المستوطنات، الذي يعتبر انتهاكاً سافراً لروح اتفاقية جنيف الرابعة، لاسيما للمادة 49 منها. ولعل “إسرائيل” عندما تصرّ على فرض العقوبات الجماعية بحق السكان المدنيين وتقوم بتدمير ومصادرة الأراضي والمنازل وتجريف المزارع بادعاء وجود ضرورات عسكرية أو أمنية، فإنها في الوقت نفسه تتنصل من واجباتها كدولة محتلّة طبقا لقواعد القانون الدولي الإنساني، وعليها حماية السكان المدنيين وتوفير الأمن لهم وتلبية احتياجاتهم الصحية والتعليمية والتغذوية وغيرها.

وتستخدم “إسرائيل” القانون الدولي بطريقة ديماغوجية تضليلية حين توقع على بعض الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز، واتفاقية حقوق الطفل والاتفاقية الخاصة بمناهضة التعذيب، لكنها في الوقت نفسه تبرر عدم انطباقها على الأراضي العربية المحتلة، في حين تعتبر المعايير الواردة في هذه الاتفاقيات قواعد ملزمة واجبة الأداء، أي أنها Jus Cogens.

وبهذا الصدد يقول جون دوغار المبعوث الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لقد تقصّدت القيام بزيارة الجدار والحديث إلى المزارعين والسكان المتضررين من قيامه، وليس لدي شك بأن الهدف الأساسي من بنائه هو الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية بحكم الأمر الواقع Status Que. وبهذا المعنى فهو يفضح ادعاء “إسرائيل” بكون الجدار “سياجاً أمنياً”، الأمر الذي بدأت لا تكترث به اليوم، حين تتحدث عن “إعادة ترسيم حدود “إسرائيل”” وهو أمر يتعارض مع قواعد القانوني الدولي، وهو ما أكدته منظمة مراقبة حقوق الإنسان، ومنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان ولجنة مارتين التي شكّلها الأمين العام للأمم المتحدة للتحقيق بشأن اعتداءات الجيش “الإسرائيلي” على منشآت الأمم المتحدة في غزة، إضافة إلى تقرير غولدستون.

إن “إسرائيل” التي استخفّت بقواعد القانون الدولي بتشجيع وتبرير من بعض القوى الدولية المتنفذة في العلاقات الدولية، ولاسيما الولايات المتحدة، لم تعد تتورع في السعي لتغيير ما استقر عليه العرف والقانون الدولي من قوانين واتفاقيات دولية بشأن “الحرب والقانون الدولي الإنساني” من أجل إطلاق يدها والسماح لها بارتكاب جرائمها تحت مبررات ومزاعم “قانونية” وتحت باب “الحرب على الإرهاب”، الأمر الذي يعني ضمناً إقرارها بارتكاب جرائم حرب في غزة.

ولعل “دولة” بهذا السجل الفاضح، لاسيما بانتهاك الشرعية الدولية لحقوق الإنسان وحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير، ناهيكم عن الممارسات المدموغة دولياً بالعنصرية والتمييز، يجعلها خارج نطاق القانون الدولي، خصوصاً بما تجسّده من استعمار استيطاني إجلائي في وقت تغرب فيه شمس الاستعمار منذ صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1960 بشأن تصفية الاستعمار، الأمر الذي يمكن تصنيفه في سياقات العدالة الدولية بكونها “دولة” مارقة، وقياداتها العسكرية والسياسية  قامت بشن حروب وعدوان متكرر على البلدان العربية، ولعل ذلك يحتاج إلى تفعيل وتطبيق قواعد القانون الدولي ونظام العدالة الدولية عليها وملاحقة ومساءلة المرتكبين. وقد كان هذا المدخل موضوع ندوة فكرية مهمة نظمها مركز الزيتونة في بيروت بمشاركة نخبة من المفكرين والباحثين والحقوقيين العرب والأجانب، وقد وجدتُ في الالتفاتة إلى موضوع القانون الدولي، مناسبة مهمة لإعادة بحث قضايا الصراع العربي  الصهيوني، في إطار مقاربات قانونية كجزء من متطلبات المعركة المتعددة الجوانب، إذ لم تعد هناك أية مبررات لإهمال أو الاستخفاف بالعامل القانوني الدولي والمعركة القانونية الدبلوماسية التي تحتاج إلى تكريس وتراكم العلم والمعرفة والخبرة والعمل الطويل الأمد.

باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 18/11/2009


1101
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (3)
عبدالحسين شعبان
2009-11-16
جيفارا: رمزية الصورة وصورة الرمز

لعلها مفاجأة لمن يزور كوبا، حين لا يلحظ وجود صورة فيديل كاسترو قائد الكفاح المسلح وزعيم الثورة ضد نظام باتيستا وقائد البلاد لنحو 5 عقود من الزمان، مثلما شاعت صور كيم إيل سونغ في كوريا وماوتسي تونغ في الصين وستالين وبعده الزعماء السوفييت في الاتحاد السوفييتي السابق وتشاوتشسكو في رومانيا وجوزيف برونز تيتو في يوغسلافيا، وتقليدهم في دول العالم الثالث وما أطلقنا عليه بلدان «التحرر الوطني»، التي بالغت في نشر صور «القادة» المنزّهين، وخارج نطاق النقد، في كل مكان.
ربما تلك المفارقة الأولى المباشرة التي تدهش الزائر، لاسيما إذا كان قد عاش في ظل أنظمة «العالم الثالث» والأنظمة الثورية والاشتراكية، لدرجة تجعل المرء في حيرة من أمره، حين يستعيد كيف تنتشر صور وتماثيل قادة الأنظمة الشمولية اليسارية والقومية والإسلامية وغيرها، في حين تختفي تماماً صورة كاسترو من المكاتب والجدران والساحات والأماكن العامة، ويتحدث عنه الناس لا باعتباره معصوماً أو خارج النقد، بل باعتباره صديقاً لهم أحياناً، حتى وإن اختلفوا معه أو بشأنه، وبشأن نظام الحكم وتقييماتهم له، ونقول ذلك ليس من باب الدعاية الأيديولوجية السابقة لإثبات الأفضليات، كما كان سائداً، ولكننا نتعرض لذلك مقارنة، بقدر كونه واقعاً تتميّز به كوبا ونظامها السياسي، لكن ذلك لا يمنع من نقد بعض الجوانب التي تتعلق باحتكار العمل السياسي والنقابي وهيمنة الحزب الواحد والمركزية الصارمة وشح حرية التعبير وغيرها.
أما المفارقة الثانية فإن صورة أرنستو تشي جيفارا تكاد تصادفها في كل مكان، وقد تكون تعويضاً عن صورة القائد- الرمز، مثلما هي رمزية البطولة والشهادة، خصوصاً وأن صاحبها غادرنا، وهو بعيد عن جبروت وقوة أهل النفوذ والسلطة، الأمر الذي يجعل صورة جيفارا نموذجاً رمزياً لحالة رومانسية وليست سلطوية، فهذا الاشتراكي النبيل، يبدو مثل فارس أو أمير، مملوء بالأحلام الغامضة الخضراء.
كان ذلك الطبيب الأرجنتيني الوسيم، الشجاع، ومحبوب النساء، قد ضاق ذرعاً بالوزارة، فقرر الانتقال إلى حيث مواقع المواجهة، مقاوماً بلا هوادة آفة البيروقراطية التي خاف على نفسه من أن تأكله، مدافعاً بلا حدود عن موقعه الثوري، ضد آلة الدولة التي حاول «الزوغان» عنها خوفاً من التهامه.
لقد أراد جيفارا أن يبقى ثورياً «طازجاً» لكل الفصول، فبذل كل ما في وسعه لكي لا يتحوّل إلى موظف أو إداري بيروقراطي، وهو الثوري الحالم، ولذلك لبّى نداء قلبه وعقله، وعاد إلى موقعه الحقيقي حيث الثورة التي في داخله، وهي التي قادته إلى الكونغو العام 1965، ليناضل ضد ظلم المستعمرين وأعوانهم وكان يردد «حيثما ثمة ظلم فهناك وطني»، مؤمناً بأن الحرية والعدالة هما وطنه، الذي يستحق أن يدافع فيه عن الإنسان بغض النظر عن قوميته وجنسيته وجنسه وانتمائه السياسي والثقافي وانحداره الاجتماعي وغير ذلك.
ومن الكونغو في إفريقيا إلى بوليفيا في أميركا اللاتينية شدّ رحاله مرة أخرى، حيث لم يهدأ أو يقرّ له قرار منذ أن التقى كاسترو وشقيقه راؤول في المكسيك، وانتقلوا منها إلى الشواطئ الكوبية، ليتمكنوا لاحقا من الزحف على هافانا لإسقاط نظام الدكتاتور باتيستا، بعد رحلة مضنية ومثيرة وشجاعة عبر جبال السيرامايسترا. لقد رفض تشي جيفارا كل إغراءات السلطة وكان ظمؤه إلى الحرية يزداد ويتعمّق كل يوم مثلما كانت العدالة الاجتماعية هاجسه باستمرار.
يوم شاع نبأ اغتيال جيفارا في 8 أكتوبر 1967، علق المفكر الفرنسي الكبير جان بول سارتر قائلاً إن جيفارا كان «أكثر الرجال كمالاً في عصرنا» وهو الذي التقاه مع صديقته الأديبة سيمون دي بوفوار بعد انتصار الثورة العام 1959، بكل العفاف الثوري والنزاهة الأخلاقية والتجرد الإنساني والاستعداد للتضحية بلا حدود. وكنت قد سألت الجواهري شاعر العرب الأكبر في إحدى مطارحاتنا عن جيفارا فردد بيتاً من الشعر:
إن الحياة معاناةٌ وتضحيةٌ حبّ السلامة فيها أرذل السبلِ
وعلّقت عليه ألست أنت القائل:
وأركبُ الهولَ في ريعان مأمنةٍ حبّ الحياة بحب الموت يغريني؟


وهنا التمعت عينا الجواهري فرحاً وكأنه يتحدث عن نفسه، فقال إن الشجعان المضحّين هم أكثر حبّاً للحياة وتفانياً من أجلها واستعداداً للبذل والعطاء، لأنهم يريدون حياة كريمة وحرّة، وصدق من قال:
لا تسقني كأس الحياة بذلّةٍ      بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل

وإذا كان جيفارا شجاعاً، فلكونه إنساناً لديه إحساس عالٍ بالعدالة بكل ما تعني هذه الكلمة، وهنا لا أريد أن أضفي عليه صفة القداسة، مثلما يفعل البعض من محبيه ومريديه، في حين يدمغه خصومه وأعداؤه بممارسة العنف، بل والإرهاب، لكونه اختار طريق الكفاح المسلح، ومرّة أخرى لا بدّ من تسليط الضوء على خيارات جيفارا باعتباره نتاج مرحلة، كان فيها العنف الثوري والكفاح المسلح، أحد مستلزمات النضال الاشتراكي واليساري، لاسيما خلال فترة الستينيات وتفاقم الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي، فقد وضع ما يؤمن به موضع التطبيق، وعاش بكل جوارحه للمثل والقيم التي كان يدعو إليها.

قد يكون البعض بالغ حين جعل من جيفارا أسطورة من الأساطير، وهو ما ينسجم مع البحث الإنساني -لاسيما في البلدان النامية- عن مخلّص أو منقذ أو بطل خارق، الأمر الذي كان يتعارض مع سلوك ونهج جيفارا، حيث كان يعيش حياته بكل اعتيادية وإنسانية شفيفة، يحب ويعشق ويدخّن ويكتب، يخطئ ويصيب وهو هكذا ينظر إلى الآخرين من موقع النقد والنقد الذاتي، ولعل أهم ما يميّزه عن غيره أنه في كل ما قال وعمل كان صادقاً وأصيلاً وشجاعاً، الأمر الذي ينبغي أن يؤخذ في سياقه التاريخي، ضمن الفكر السائد آنذاك، لاسيما باشتعال الصراع على جميع الجبهات بين الرأسمالية والاشتراكية.

وإذا كان لجيفارا رمزية خاصة، فلعل جزءاً منها تكوّن بعد استشهاده المثير في بوليفيا وتعدد الروايات حول مقتله، ومن ثم تغييب جثمانه وأخيراً ما ارتبط بنقل رُفاته بعد 30 عاماً.
ليست صورة تشي جيفارا وحده، رغم أنها الأبرز تزيّن الأماكن العامة، والساحات والمكاتب الرسمية وغير الرسمية، فصور وتماثيل الشهداء والأبطال تملأ الفضاءات بكل أناقة وذوق، إنها رمزية الصورة وصورة الرمز، حيث تختلط في إطار من الحلم الوقّاد، بهارمونية إنسانية باهرة.
في مكان متميّز من هافانا انتصب تمثال البطل القومي الكوبي سان خوزيه الذي استشهد في نهاية القرن التاسع عشر مقاوماً الغزو الاجنبي، دفاعاً عن وطنه وهو الشخصية الكوبية الجامعة التي يمجّدها الكوبيون ويتحدثون عنها باعتزاز كبير. تمثال سان خوزيه وهو يحمل طفلاً، له رمزية أخرى، فكأنه يريد أن يقول لأطفال كوبا والعالم أجمع وجميع المضطهدين من مختلف الأجيال: إن عدوكم هو هذا، حيث يوجّه نظره صوب الولايات المتحدة التي تحاصر كوبا منذ خمسة عقود من الزمان.
لم يكن الاتحاد السوفييتي السابق رغم كل الاختلافات والمشاحنات الفكرية والعملية يتردد في تقديم المساعدات الأممية لكوبا، وبغض النظر عن بعض الضغوط ومحاولات إملاء الإرادة وإشكالية العلاقات، إلا أنها استطاعت حماية كوبا في فترة عصيبة من الحرب الباردة، ولم تتجرأ واشنطن على مهاجمتها، لاسيما بعد الوفاق الذي أعقب أزمة الصواريخ العام 1962 بين جون كينيدي ونيكيتا خروشوف، حين تم سحب الصواريخ السوفيتية، مقابل تعهد بعدم مهاجمة كوبا.
لكن واشنطن بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانقطاع المساعدات عن كوبا، أقدمت سفارتها في هافانا على رفع لوحات مضاءة أمام مبناها وبأعلى طابق تدعو الشعب الكوبي إلى التمرد والثورة ضد حكومة فيديل كاسترو والحزب الشيوعي، ورغم أن ذلك الإجراء غير دبلوماسي، إلا أن السلطات الكوبية واجهتها بالأسلوب نفسه حين رفعت راياتٍ وأعلاماً، حتى كادت المنطقة تحجب رؤية المارّة عن قراءة ما كتبته السفارة الأميركية، وسمي ذلك المكان «جبل الرايات» أو «تلة الأعلام»، وهو عبارة عن مرتفع عُرف باسم «منصّة مناهضة الإمبريالية» قبالة السفارة الأميركية، وبادر المواطنون لعقد محاكمات صورية لقادة الولايات المتحدة، حيث يحضر فيها أبناء الشهداء والضحايا الذين سقطوا جراء خطط الغزو والتآمر والحصار، إضافة إلى بقايا الهنود الحمر الذين يقدمون شهاداتهم بحق ما لحق بهم من غبن وحيف ويطالبون بالتعويض وجبر الضرر وإحقاق العدالة!
• باحث ومفكر عربي


7827 العدد - صحيفة العرب القطرية ، الاثنين 16 نوفمبر 2009 م - الموافق 28 ذو القعدة 1430 هـ


1102
بغداد - واشنطن: للعلاقة تاريخ
بقلم عبد الحسين شعبان

بمبادرة من المركز الدولي للتجديد الحكومي CIGI ومؤسسة الخطوات البراغماتية للأمن العالمي Stimson، وباشراف وتهيئة من السفير مختار لماني ممثل جامعة الدول العربية في العراق الذي استقال من منصبه مطلع 2007 وألين ليبسون المستشارة الخاصة السابقة للبعثة الدائمة الاميركية في الامم المتحدة، إلتأمت ندوة مهمة في البرلمان الكندي بخصوص العلاقات العراقية - الاميركية والحوار حول المستقبل، وشاركت فيها نخبة من الاكاديميين والباحثين والممارسين العراقيين والأميركيين والكنديين. ولعل هدف الندوة هو تقديم قراءات ورؤى وتصورات حول مستقبل العلاقات بين بغداد وواشنطن.
وإذا كان هناك ثمة اختلافات في المنطلقات والاولويات والآفاق، فإن قراءة الحيثيات والمعطيات من زوايا نظر مختلفة، والجدل الذي دار بشأنها، شكّلت مجسّات وارهاصات لحاضر العلاقات ومستقبلها، سواءً قبل الانسحاب الاميركي من العراق أو بعده، لاسيما أن أهم ما ينصبّ الجدل حوله الآن، يتلخّص بالآليات والجداول الزمنية، إذا ما أخذنا في نظر الاعتبار ما هو معلن من الطرفين الرسميين، مع وجود تحدّيات، وربما معوّقات قد تحول دون تنفيذ ذلك، ناهيكم عن أجندات معلنة أو مستترة. وقد تسنّى لي كباحث مستقل المشاركة في الحوار وتقديم مطالعة بخصوص مستقبل العلاقات العراقية - الاميركية.
اعتقد أن قراءة ارتجاعية لتاريخ العلاقات العراقية - الاميركية تجعل من رؤية المستقبل أكثر وضوحاً، خصوصاً ما رافقها من منعرجات وتضاريس حادة، بحيث تجعل خريطة الحاضر ملتبسة، حتى بالنسبة الى نص القوى المحسوبة على واشنطن، لاسيما بعد احتلال العراق في العام 2003.
ان قراءتي التاريخية تشمل تقسيم العلاقات العراقية - الاميركية مراحل ست:
المرحلة الاولى اتسمت بصعود الحرب الباردة وتفاقم الصراع الإيديولوجي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تطوراً في العلاقات العراقية - الاميركية، لاسيما عند توقيع اتفاقية بين البلدين العام 1954، وتأسيس حلف بغداد العام 1955، وتعاظم الدور الاميركي في المنطقة، ترافقاً مع ما عُرف بمشروع "النقطة الرابعة"، وفي ما بعد بـ"مشروع أيزنهاور" العام 1957 لملء الفراغ. لكن هذه العلاقات سرعان ما تدهورت على نحو شديد اثر ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، التي أطاحت بالنفوذ الغربي في العراق، وباستثناء فترة قصيرة تحسنت فيها العلاقات بعد اطاحة الزعيم عبد الكريم قاسم العام 1963، فإن العلاقات العراقية - الاميركية شهدت انحداراً سريعاً، خصوصاً بعد عدوان 5 حزيران 1967، وقد بادر العراق الى قطع علاقاته مع واشنطن متهماً ايّاها بالانحياز الكامل لاسرائيل.
المرحلة الثانية هي التي تبدأ من العام 1968 اثر مجيء حزب البعث الى السلطة وتنتهي في العام 1980. واتسمت العلاقات في هذه الفترة بنوع من التوتر والتعارض والعدائية، لاسيما عند تأميم النفط العام 1972، وبعد حرب اكتوبر العام 1973 واستخدام النفط كسلاح في المعركة. وخلال هذه الفترة احتسبت الولايات المتحدة العراق ونظام حكمه، على ملاك النفوذ السوفياتي، لاسيما بتوقيع المعاهدة العراقية - السوفياتية في نيسان 1972 وعقد الجبهة الوطنية مع الحزب الشيوعي العام 1973.
ولهذا السبب سعت الولايات المتحدة لاضعاف العراق وجيشه، وشجعت اندلاع القتال بين الحركة الكردية والحكومة العراقية، وقد عبّر الملا مصطفى البارزاني بمرارة عن انعدام ثقته بواشنطن بعد توقيع اتفاقية 6 آذار العام 1975 المعروفة باسم "اتفاقية الجزائر" بين شاه ايران وصدام حسين، وعلى اثر ذلك انهارت الحركة الكردية المسلحة، الأمر الذي كان مساومة على حسابها بررها هنري كيسينجر وزير خارجية الولايات المتحدة، بافتراق السياسة عن الاخلاق. ولعل ذلك كان أول إشارة لحساب تحسين العلاقات بين البلدين.
المرحلة الثالثة هي فترة الحرب العراقية - الايرانية (1980-1988) التي شهدت عودة غير مباشرة للعلاقات العراقية - الاميركية، حيث كانت واشنطن ترغب في اطاحة الثورة الايرانية التي قضت على شاه ايران العام 1979، ولعل ذلك كان عنصر تشجيع لبغداد أيضاً. وبالامكان وصف هذه الفترة بـ"شهر العسل الصامت" أو "الزواج غير المعلن"، فالعلاقات ظلّت مقطوعة رسمياً، لكن الكثير من الشركات الاميركية اعادت عملها في العراق، وكان دونالد رامسفيلد الذي أصبح وزيرا للدفاع في عهد الرئيس بوش وساهم بحماسة في غزو العراق، زار العراق والتقى الرئيس العراقي السابق صدام حسين، العام 1984.
وخلال فترة العدوان الاسرائيلي على لبنان واحتلال العاصمة بيروت، ادلى الرئيس السابق بتصريحات (في آب 1982 أثناء استقباله عضو الكونغرس الاميركي سولارز لم تنشر الاّ بعد مرور نحو 4 أشهر في جريدة الثورة العراقية كانون الاول 1982) ما يفيد استعداد العراق للاعتراف باسرائيل، وفد فسّرت المسألة في حينها تكتيكاً لكسب واشنطن، عندما كانت الحرب تتخذ مسار التراجع من الجانب العراقي بعد تشديد الهجمات الايرانية، وبخاصة بعد معركة المحمّرة (خورمشهر) 1982 واعلان العراق سحب قواته، ومحاولة ايران اختراق الاراضي العراقية وعبور الحدود الدولية.
وحسب الجنرال (وفيق السامرائي) مدير الاستخبارات العراقية الاسبق فقد كان ممثل عن "السي آي إي" يداوم في مقر الاستخبارات العسكرية لتقديم الخبرة والدعم للعراق في حربه ضد ايران، ولعل هذه اللعبة كان الاميركيون مارسوها على نحو مزدوج مع الايرانيين، حين كانوا يسلّمون صور الاقمار الاصطناعية لاستمرار الحرب.
المرحلة الرابعة بدأت بعد غزو القوات العراقية الكويت في 2 آب 1990 حيث عادت العلاقات العراقية - الاميركية الى التدهور حتى وصلت الى نقطة اللاعودة بعد مغامرة صدام حسين. واستمرت هذه المرحلة الى العام 2003، وشهد العراق خلالها حربان ضده، الأولى سمّيت "حرب تحرير الكويت" ابتدأت في 17/1/1991 واستمرت 42 يوماً وانتهت بانسحاب القوات العراقية من الكويت بعد هزيمتها في 28 شباط من العام ذاته، وكانت هذه الحرب في الوقت نفسه "حرب تدمير العراق" وبنيته التحتية ومرافقه الاقتصادية والحيوية.
أما الحرب الثانية فهي حرب قوات التحالف ضد العراق، والتي انتهت بوقوعه تحت الاحتلال في 9 نيسان 2003، وإذا أردنا إضافة "الحصار الدولي" المفروض بقرارات مجلس الامن التي زادت على 60 قراراً فإنه يمكننا الاشارة الى حرب ثالثة استمرت 13 عاماً، وعانى العراقيون خلالها من مجاعة حقيقية ومحق لانسانيتهم، فاقمت من مأساتهم، وتركت هذه الفترة تأثيراتها السلبية الخطيرة على حاضر العراق ومستقبلهم اجتماعيا ونفسياً وعلى بنيته المجتمعية.
وإذا كان العراقيون في قسمهم الاكبر والأغلب يتطلعون الى الخلاص من الديكتاتورية، فإن سقوط نظام صدام حسين أدى الى انهيار الدولة العراقية، لاسيما بحل مؤسسة الجيش، العابرة للاثنيات والطوائف، والتي عمل بول برايمر على تفكيكها فاضطر العراقيون للاحتماء بمرجعياتهم التقليدية، بعدما فقدوا مرجعية الدولة الحامية ومؤسستها العسكرية والأمنية.
المرحلة الخامسة كانت بعد الاحتلال وشهدت فترة قصيرة تولى فيها الحاكم العسكري الاميركي جي غارنر الحكم المباشر وانتهت بتسليم بول برايمر مقاليد السلطة المطلقة في 13 أيار 2003 وبقائه فيها لغاية أواخر حزيران 2004، رغم وجود ما سمّي مجلس الحكم الانتقالي.
ويمكن القول ان علاقات بغداد - واشنطن من عام 2003 وحتى العام 2008، هي الأشد سوءا بالنسبة الى العراقيين، لاسيما خلال فترة الرئيس بوش، حيث عانى العراق من نظام المحاصصة الطائفي والمذهبي والاني، وشهد عنفاً لم يكن معروفاً على الاطلاق، وارهاباً منفلتاً من عقاله، وميليشيات متنوعة وفساداً ورشوة، وقد ظل الوضع الامني رغم التحسين هشّاً وقلقاً.
أما المرحلة السادسة فهي مرحلة الرئيس باراك أوباما والتي لا تزال مستمرة. وقد سألني معهد كارنيغي بعد نجاح الرئيس أوباما في استطلاع لعدد من المثقفين العرب: ماذا يريد المثقف العربي من الرئيس الاميركي الجديد؟ وأظن أن إجابتي تتضمن رؤيتي المستقبلية للعلاقات العراقية - الاميركية، لاسيما بعد الاخطاء والخطايا الفادحة للرئيس بوش طيلة فترة حكمه، وبخاصة بعد احتلال العراق، وأجبت أنه يريد:
-1 انسحاب القوات الاميركية من العراق بأسرع وقت ممكن طبقاً لوعود الرئيس أوباما.
-2 اعادة بناء العراق لأن ذلك جزء من مسؤولية الولايات المتحدة، التي عليها تعويضه.
-3 مساعدة العراق للخروج من الفصل السابع طبقاً لأحكام ميثاق الامم المتحدة وقرارات مجلس الامن الدولي.
-4 مساعدة العراق في الحفاظ على وحدته واستعادة سيادته، وذلك لمواجهة محاولات التدخل الاقليمي بشؤونه.
-5 دعم وتشجيع الخطوات نحو الديموقراطية والاصلاح في العراق ولدى دول المنطقة في إطار التعايش السلمي المجتمعي للمكوّنات المختلفة، وتحقيق أمنها الانساني في إطار دولة مدنية حرة عصرية.
-6 مساعدة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه والضغط على اسرائيل لوقف العدوان وبشكل خاص على غزة، وإيجاد مخرج عملي لفكرة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة.
أعتقد أن الحوار بين بغداد وواشنطن لا بدّ أن يتضمن هذه المحاور الاساسية، سواءً احتوتها الاتفاقية الأمنية أم لم تحتوها؟ وذلك بهدف استعادة الثقة بين العراقيين والاميركيين التي لا تزال مفقودة حتى الآن. وقد أدرك الرئيس أوباما الهوة السحيقة بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والاسلامي، فدعا من على منبر جامعة القاهرة الى حوار وتعايش وتسامح بين الاديان والثقافات والحضارات.

كاتب عراقي
جريدة النهار اللبنانية العدد 23873 تاريخ 12/11/2009

1103
الانتخابات العراقية والحل السحري
   

عبدالحسين شعبان

لا أظن أن احداً يجادل في أهمية إجراء انتخابات وتداولية سلمية للسلطة، وكونها حقاً من حقوق الإنسان في المشاركة وإدارة الشؤون العامة وركناً مهماً للديمقراطية، لكنها وحدها ومن دون توفير مستلزمات أخرى ضرورية مثل الأمن وسيادة القانون والمساواة والمواطنة واستقلال القضاء وغيرها، لا يمكن أن تفضي إلى نتائج سليمة وإيجابية.

المشاركون والمعارضون للعملية السياسية كلٌ يدعي أنه يمتلك الحل السحري للعراق. الفريق الأول، لاسيما القوى المتنفذة، يراهن على الانتخابات القادمة التي ستجري يوم 16 يناير/ كانون الثاني ،2010 وأن بمقدوره لو فاز التصدي للتحديات الكبرى التي تواجه البلاد، ويعتبر هذا الفريق خيار الانتخابات ضرورة، لاسيما بغياب أو تغييب إمكانية حلول أخرى.

أما الفريق الثاني المعارضون لخيار الانتخابات حالياً فهم يعتبرون ألا جدوى أو طائل من الانتخابات، لأنها ستكرس القوى الطائفية  الاثنية وهي باطلة ولاغية وغير شرعية، لأنها تجري في ظل الاحتلال ودستوره وقوانينه، وبالتالي فإن رهانه الأساسي يرتكز على فشل العملية السياسية، سواء تشبث بالمقاومة أو لم يتشبث، وإن كانت هذه الأخيرة بحاجة إلى وقفة جدية لتقويم مسارها وبرامجها وتحالفاتها وقواها وأسباب تراجعها.

وأياً كانت نتائج الانتخابات وسواء قاطعها من يرغب أو شارك فيها من يريد، فإن المتوقع أن تدور في فلك استقطابات العام 2005 زيادة أو نقصاناً لهذا الفريق أو ذاك باستبدال وتغيير المواقع أو الإبقاء عليها رغم الديناميكية التي يمكن أن تخلقها الانتخابات. لكن المجتمع العراقي رغم حراكه وحيويته، إلا أنه لم ينتج حتى الآن قطبية مدنية جديدة قادرة على مواجهة التحدي الطائفي والإثني، فهل يستطيع الفائزون، الذين كان بيدهم القدح المعلا طيلة الأعوام الستة ونيف الماضية من انتشال العراق من الوضع المأساوي الذي يغرق فيه، بالانتخابات أو بغيرها؟ وهل بإمكان من سيقاطع الانتخابات إنقاذ البلاد من شرور الاحتلال والمحاصصة الطائفية  الإثنية وحالة التشظي وهشاشة الأمن واستمرار ظاهرة الميليشيات وضعف هياكل الدولة وشحة الخدمات، لاسيما الماء الصافي والكهرباء واستشراء البطالة وتفشي الفساد الاداري والمالي والرشى؟ وبقدر بشاعة الاحتلال وسواد صورة الحاضر وضبابية المستقبل، فليس بمقدور أحد إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء مهما تغنى بالماضي.

لعل التحديات التي تواجه العراق كبيرة ومعقدة ومتداخلة، وفيها الدولي، المتمثل بالاحتلال، والإقليمي الذي لا يقل إيذاء للعراق وشعبه ووحدته ومستقبله، لاسيما دور إيران وفيها الداخلي الذي يزداد تشظياً وتفتتاً وانقساماً. فالانتخابات في ظل أوضاع غير اعتيادية، سواء، زورت أم لم تزور، فازت بها هذه الفئة أم تلك أو هذه الجماعة أو غيرها، لن تستطيع مواجهة التحديات الكبرى التي تعصف بالكيان العراقي بعد حل الدولة ومؤسساتها، لاسيما العسكرية والأمنية، العابرة للطوائف والإثنيات، والموحِدة، بغض النظر عن محاولات “أدلجة” قياداتها وتسييسها في ظل الحكم السابق.

وأهم هذه التحديات هي:

1 التحدي الأول  يتمثل بالاحتلال، فمتى ستنسحب القوات الأمريكية المحتلة من العراق؟ هل طبقاً للاتفاقية العراقية  الأمريكية غير المتكافئة؟ وهل سيتم تنفيذ وعود أوباما؟ وكيف سيتم ضبط الأمن، وهو لا يزال هشاً في ظل الاحتلال، فما بالك لو تقرر الانسحاب في نهاية العام 2011؟

2 التحدي الثاني: هو الطائفية، فالاحتلال صائر إلى زوال لا محال، لكن الطائفية لا تقل خطراً عنه لأنها تنخر في الجسم العراقي وستترك تأثيراتها العميقة لاحقاً، وهي مثل الدودة التي ستأكل الجميع ما لم تتم معالجة آثارها بالسرعة الممكنة والتوقيع على قانون يحرمها ويعزز المواطنة، خصوصاً أن الجميع غسل أيديه منها على ما يدعي، وحتى القوى المستفيدة اليوم من التقسيم الطائفي  الإثني، لن تنجو من المرض الخطير الذي سيطالها إن آجلاً أم عاجلاً.

3 أما التحدي الثالث، فهو الأمن، فما زال هشاً وتفجيرات الأحد الدامي وقبله الأربعاء الأسود دليل على ذلك. والعمليات الإرهابية “التفجيرية” والسيارات المفخخة انتقلت إلى عمل نوعي ومنهجي في إطار حركة الإرهاب الدولي في العراق.

4 أما التحدي الرابع فهو استمرار ظاهرة الفساد الإداري والرشى والتزوير الذي أصبح حالة سائدة، ولعل هذا هو القسم المكشوف، فما بالك بالمستور؟

5 ويقع التحدي الخامس في استمرار ضعف الدولة وتفكك هياكلها وغياب المرجعية الموحدة، وصعود الهويات الفرعية على حساب الهوية المانعة الجامعة الوطنية، الأمر الذي يضعف من هيبتها ومن قدرتها في فرض سيادة القانون، لاسيما مبادئ المواطنة والمساواة والشفافية وحقوق الإنسان.

6 أما التحدي السادس فيتعلق بتردي الخدمات، ففي حين تُهدر الأموال ويكون المال العام سائباً، لم يلتفت أحد إلى شظف العيش وقلة الأجور لملايين العراقيين، ناهيكم عن البطالة، حيث بلغ عدد السكان عند حدود الفقر أو ما ينقص حسب احصاءات دولية معتمدة نحو 40%، لكننا لم نلحظ أية تظاهرة شعبية تطالب بتحسين الخدمات، ولم تسقط أية حكومة جراء اخفاقها، ولم ينحز الناس إلى المعارضة والمقاطعة، لأنها اختارت طريق الدفاع عن مصالحهم، في حين يتمترس البعض بالخنادق والتمايزات الضيقة والتقاطعات الفئوية، على حساب المشترك الاساسي الذي يشغل الناس جميعاً أو غالبيتهم الساحقة على الأقل.

وإذا كانت القضايا الكبرى مهمة مثل الاحتلال والطائفية والأمن والاختراق الإقليمي، فإن التفاصيل الخاصة بحياة الناس لا تقل أهمية، فالمواطن لكي يختار ويكون اختياره صحيحاً، لا بد من توفير بعض المستلزمات الأولية له، إذْ هو بحاجة إلى ماء وكهرباء وتعليم وصحة وعمل. وعلى من يتصدر المشهد السياسي أن يضع ذلك بنظر الاعتبار سواء شارك في الانتخابات أو قاطعها، الأمر الذي يحتاج إلى حوار شامل دون إقصاء أو إلغاء أو تهميش.

لقد شهد الحكم الملكي في العراق انتخابات دورية وإن كانت صورية أو شكلية يجري تزويرها وحسم نتائجها سلفاً في ظل معاهدات غير متكافئة ومذلة مع بريطانيا ولاحقاً مع الولايات المتحدة ووجود قواعد عسكرية ثابتة وامتيازات سياسية وأمنية واقتصادية، ولاحقاً في إطار حلف بغداد الاستعماري، وكانت المعارضة الوطنية مرة تشارك ومرة تحتجب وتقاطع، وحصل أن فازت ببعض المقاعد، مع أن نتائج الانتخابات تم إلغاؤها وحُل البرلمان، لكن المختلف في الأمر، هو وجود الدولة وهيبتها وأمنها ووحدة جيشها وأجهزتها الأمنية أولاً وقبل كل شيء، وهو لا يزال غائباً أو ضعيفاً حتى الآن، وهذا ما يقره المشاركون والمعارضون للعملية السياسية، لاسيما في ظل تقاطع أجهزة الدولة وهشاشة تكويناتها الأمنية والاتهامات بين أطرافها.

لاشك أن الانتخابات مظهر من مظاهر الدولة العصرية، لاسيما الديمقراطية، لكنها تحتاج إلى توفير فضاء من الأمن والحرية وسيادة القانون، بحيث تكون نتائجها أمانة بيد النائب ورقابة من الناخب، خصوصاً بخيار القائمة المفتوحة، الأمر الذي يحتاج إلى المزيد من الحوار، الذي لا يزال قاصراً حتى الآن في ظل عدم التوافق على قانون للانتخابات وبضمنها قنبلة كركوك الموقوتة، ناهيكم عن عدم إقرار قانون للترخيص للأحزاب لممارسة حقها في العمل الشرعي القانوني فهل ستأتي الانتخابات اليوم بالحل السحري؟

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 11/11/2009

1104
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (2)
عبدالحسين شعبان
2009-11-09

أميركا اللاتينية: الثورة في صندوق الاقتراع

قبل زيارتي لكوبا بنحو 9 أشهر، كنت قد زرت البرازيل، وخلال وجودي حدث العدوان على غزة، ورغم وجود حزب عمالي بقيادة ثورية زعيمتها «لولا» فإن علاقتها، ولاسيما اتفاقياتها الاقتصادية الأخيرة مع الولايات المتحدة الأميركية، فضلاً عن طبيعة نظامها السياسي، خصوصاً التفاوت الطبقي والاجتماعي الحاد ووجود ملايين الفقراء في ظل غنى فاحش، جعلتها محطّ نقد من جانب كوبا وبعض الثوريين، لكن المواطن العادي البسيط عندما كان يعرف أنني من العراق وعربي، كان يتصرف بشيء من التضامن التلقائي إزاء الضحايا.
أما زيارة تشيلي فكانت لدراسة التجربة التشيلية للعدالة الانتقالية، وهو ما أعادني إلى السبعينيات ومطالباتنا بالتضامن في كل مؤتمر وندوة وحتى بعض الأغاني السياسية اليسارية العراقية، كانت تردد ذلك «تشيلي تمرّ بالليل نجمة بسمانه» (بسمائنا) وكان صوت الفنان جعفر حسن يصدح بالتضامن مع أطفال تشيلي وفلسطين وأطفال كل العالم.
التجربة المثيرة في تشيلي تحتاج إلى وقفة خاصة للدراسة والتأمل وقد حاولت خلال تقريظي لكتاب شوكت خازندار «الحزب الشيوعي- رؤية من الداخل» أن أعلق عليها، لكنها بالفعل تحتاج إلى اطلاع القارئ العربي عليها، لاسيما مسار العلاقات السياسية بين قائد الانقلاب العسكري بينوشيه الذي أطاح بالحكومة الشرعية للسلفادور الليندي الذي قتل في مبنى البرلمان سبتمبر 1973 وهو يدافع عن قضية العدالة والديمقراطية، وبين قوى شعبية كانت ضحايا الانقلاب وبينها الحزب الشيوعي، وزعيمه كورفلان، حيث تم الاتفاق بعد سنوات من القمع على إغلاق الملفات، واحتفاظ بينوشيه بالسلطة العسكرية لبضع سنوات ضماناً لعدم الملاحقة وإجراء انتخابات تشريعية.
وأتذكر أنني كنت مغتبطاً عند مطالبة السلطات الإسبانية بإلقاء القبض على بينوشيه في بريطانيا، وإذا بصديق قديم من أميركا اللاتينية يفاجئني، بأن ذلك يعني تخريب الاتفاق والإخلال بالسلام الاجتماعي, وكنت أحسب تعليقي في إحدى الفضائيات في لندن إيجابياً بشأن إلقاء القبض على بينوشيه، إلى أن أدهشني الصديق المذكور، لكن رأيي أن الاتفاقات والمصالحات السياسية ليس بإمكانها إغلاق ملف الضحايا، إذ يمكن استمرار الملاحقات القضائية، لاسيما من جانب الضحايا أو عائلاتهم، وهو الرأي القانوني الذي كنت أتمسك به، وما زلت، بخصوص انتهاكات الحكم السابق أو الحالي لحقوق الإنسان في العراق، وبشأن ما حدث لضحايا بشتاشان أو غيرها من الارتكابات التي حصلت خارج القضاء، خصوصاً خارج المواجهة المسلحة أو العسكرية، أثناء المعارك، وهو رأي أسعى لأن أقدم فيه شهادة سياسية وقانونية، مع فصل السياسي عن القانوني. لقد قُتل في مجازر تشيلي أكثر من ثلاثة آلاف إنسان وكان سجل الضحايا الذين تعرّضوا للتعذيب يربو على 38 ألفاً، وهو ما اشتغلت عليه العدالة الانتقالية لتأهيل الضحايا من جهة ولجبر الضرر من جهة ثانية، فضلاً عن التعويض المادي والمعنوي، والأهم من ذلك كشف الحقيقة كاملة, والسعي لوضع ضوابط جديدة لإصلاح النظام القانوني لوضع حد لمنع تكرار هذه الجرائم.
الزيارة الأخرى لأميركا اللاتينية كانت بُعيد احتلال العراق لحضور مؤتمر في كيتو (الإكوادور)، وأتذكر أن نقاشاً حاداً ساد آنذاك بخصوص المطالبة بالانسحاب وحق الشعب العراقي في تقرير مصيره بنفسه واحترام حقوق الإنسان، وضمان حقوق الشعب الكردي في إطار عراق حر ديمقراطي موحد، وهو القرار الذي صدر عن المؤتمر.
زيارتي لكوبا تأتي من منظور مختلف, وفي وقت مختلف، خصوصاً بعد أن انتصرت القوى الاشتراكية واليسارية في الانتخابات في أكثر من خمس دول في القارة، التي عرفت موجة الكفاح المسلح في الستينيات والسبعينيات وبعض الثمانينيات وعاشت لاهوت التحرير في الثمانينيات، وها هي تجرّب الطريق الاشتراكي سلمياً في الألفية الثالثة، تحت شعار «الثورة في صندوق الاقتراع».
وقد لعبت مؤسسات المجتمع المدني دوراً كبيراً في نشر الثقافة الحقوقية، لاسيما ثقافة حقوق الإنسان، وفي تعبئة القوة الانتخابية باتجاه انتخابات ديمقراطية شفافة، تحت شعارات جديدة آخذة بالاعتبار التطور العالمي الكبير الذي حصل في هذا الميدان، وخاصة في حقل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والإعلام والثورة العلمية-التقنية المتصاعدة والمعوْلمة بوجهها الإيجابي، ناهيكم عن وجهها القبيح أيضاً.
ولعل تجربة فوز اليسار في أميركا اللاتينية مدهشة ومثيرة وتستحق القراءة الدقيقة، لاسيما لجهة اصطفاف القوى والاستقطابات والتحالفات الجديدة، في حين هو في تراجع كبير على المستوى العالمي، بما فيه أوروبا وخاصة في البلدان الاسكندينافية التي كانت الأحزاب الاشتراكية واليسارية حاكمة، حيث تراجع في السويد والدنمارك إضافة إلى ألمانيا وغيرها.
لقد استطاعت القوى اليسارية أن تحرز النصر عبر صندوق الاقتراع في كل من تشيلي بقيادة السيدة باشليه, وفي فنزويلا، فاز هوغو شافيز الاشتراكي اليساري بنبرة صاخبة، وفي الإكوادور فاز كوريّا، وفي بوليفيا فازت القوى الاشتراكية اليسارية بقيادة موراليس مثلما حازت على أغلبية المقاعد في البرلمان في باراغواي بقيادة لوغو, ولعل تجربة نيكاراغوا مثيرة للجدل، فقد وصل دانيال أورتيغا قائد الثورة الساندينية المسلحة سابقاً، إلى السلطة بعد غياب عنها 15 عاماً، بواسطة صندوق الاقتراع.
ولعل هذه التجارب الكبرى بحاجة إلى تأمل ودراسة، لاسيما من جانب الحركات التي سمّيت ثورية في بلداننا, وكيف تراجعت ولماذا وما هو أفقها؟! وهو ما سأحاول التوقف عنده بعد محاولة تسليط الضوء على التجربة الكوبية.


7820 العدد - صحيفة العرب القطرية، الاثنين 9 نوفمبر 2009 م - الموافق 21 ذو القعدة 1430 هـ


1105
ستراتيجية أوباما: قراءة في الثابت والمتغيّر

   قبل أن نستعرض الستراتيجية الامركية الجديدة في عهد الرئيس أوباما، سنتوقف قليلاً عن تركة سلفه الرئيس بوش فإرثه الثقيل قد يستمر في تقييد الرئيس أوباما لفترة غير قليلة، إنْ لم يستطع التخلص منه ومن تأثيراته، باتباع سياسات منسّقة ومتناسقة وضمن خطة ستراتيجية واضحة، وسنتوقف بعد المراجعة الاستعراضية العامة عند محطات في سياسات الرئيس أوباما الداخلية، لننتقل بعدها الى السياسة الخارجية، خصوصاً شقها الأوروبي، ومن ثم نبحث في تأثير الأزمة الاقتصادية الدولية على استراتيجية أوباما، لنصل الى سياسته الشرق أوسطية والعراقية.

1- أوباما والارث الثقيل!؟

أصبح الرئيس الامريكي باراك أوباما سيّداً على البيت الأبيض بعد فوزه الساحق على منافسه الجمهوري جون ماكين، ولعله وهو الرئيس رقم 44 سيكون  أول رئيس أسود يحكم الولايات المتحدة، حيث ظلّ العالم كلّه يتطلع الى سياسة جديدة للحزب الديمقراطي، بعد دورتين متتاليتين (ثمان سنوات) حكم خلالهما الرئيس جورج دبليو بوش من الحزب الجمهوري.
وقد شهدت الولايات المتحدة أطول وأقسى حملة انتخابات في تاريخها، انتصر فيها أوباما من ذوي الأصول الأفريقية المتواضعة على ماكين ابن قائد الاسطول البحري الامريكي في المحيط الهادي.
إن صورة الولايات المتحدة قبل بداية حكم الرئيس بوش كانت تمثّل لوناًً قاتماً بالنسبة لكثير من الشعوب والبلدان، لكنها أصبحت بعد ثمان سنوات أكثر قتامة، لاسيما مشاهد الرعب التي اختفت وراءها، من أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية العام 2001 وردود أفعالها الى غزو أفغانستان العام 2002، الى الحرب على العراق واحتلاله، العام 2003، ثم الحرب على لبنان العام 2006 وبعدها الحرب على غزة نهاية العام 2008 ومطلع العام 2009 بعد حصارها الذي زاد عن سنتين، يضاف الى ذلك أوضاع سجناء أبو غريب وغوانتانامو والسجون السرية الطائرة والعائمة، وقبل الأزمة المالية الطاحنة التي انفجرت عشية توّلي أوباما الرئاسة وتحوّلت الى أزمة اقتصادية شاملة انعكست على العالم كلّه، كان هناك اعاصير وكوارث طبيعية مثل اعصار كاترينا وغيرها، ولعل هذه تركة ثقيلة انتقلت الى أوباما، على الصعيد الداخلي وعلى الصعيد الخارجي.
قبل مجيء الرئيس بوش الى الحكم، كان العالم في حالة شبه سلام واستقرار نسبياً، واسعار النفط لم ترتفع عن 32 دولاراً، والجيش الأمريكي لم يكن لديه مهمات خارج بلاده، باستثناء القواعد العسكرية المعروفة، لاسيما بعد حرب الخليج الثانية العام 1991 والاقتصاد الامريكي في حالة نمو زاد عن 3%، وسعر الدولار كان "معقولاً" وديون واشنطن أقل من 6 تريليون دولار رغم العجز المستمر. وبعد أن ترك بوش البيت الأبيض، تحوّلت كل هذه التركة الثقيلة، وهذا الحمل القاسي الى ظهر أوباما، الأمر قد لا يكون بمقدوره تحملها ومواجهة التحديات بحكمة وبُعد نظر؟
   لقد ورث أوباما، حربين مفتوحتين في أفغانستان والعراق، وقوات مسلحة منهكة ومبعثرة على أكثر من جبهة، وحروباً على الارهاب بدأت بعد أحداث 11 أيلول(سبتمبر)، لكنها لم تنتهِ ويبدو أنها ستستمر حسب تقديرات واشنطن الاولية الى أكثر من 10 سنوات، وقد تطال بلداناً أخرى حتى وإن اختلفت اللهجة والتسمية، وإن خفّت حدة النبرة أو حتى خفتت! وهذه  المشكلات المتعاظمة أوقعت المواطن الأمريكي في ورطة كبيرة لدرجة مؤرقة، خصوصاً وهو مازال يتساءل كيف سيتم وضع حد لهذين الحربين؟ وهل سينفذ أوباما وعوده بشأن الانسحاب من العراق في أقرب وقت ممكن؟ وعلى الأقل تخفيف مشاعر السخط والعدائية إزاء الولايات المتحدة؟ وما هو السبيل لايجاد حلول ناجعة وسريعة للازمة الاقتصادية؟
كما ورث أوباما صعوداً في اسعار النفط وصلت الى نحو 150 دولاراً، رغم عودتها الى الانخفاض الى أقل من النصف قليلاً، وعجزاً بلغ أكثر من تريليون دولار وديناً زاد عن 10 تريليون دولار، ناهيكم عن تدني في النمو الاقتصادي، وأخيراً انفجار الأزمة المالية والاقتصادية، التي أدت الى انهيارات كبرى لشركات التأمين العملاقة مثل شركة ليمان براذرز وبنوك عالمية كبرى، لاسيما بعد أزمة الرهن العقاري وانخفاض سعر الدولار وارتفاع اسعار النفط.
وورث أوباماً ملفاً ساخناً جديداً، وهو العلاقة المتوترة مع روسيا، فبعد انتهاء الحرب الباردة وتقلّص النفوذ الروسي، وانحلال المنظومة السوفياتية، عادت روسيا بقوة الى منطقة القوقاز والبلقان وأوربا الشرقية، لاسيما بسبب سياسة واشنطن الاستفزازية، الأمر الذي دفعها الى معارضتها الشديدة، خصوصاً بعد نصْبِ واشنطن دروعاً صاروخية مضادة للصواريخ، وتوسيع دائرة حلف الناتو في دول الجوار الروسي، وبخاصة في جمهوريتي بولونيا والتشيك.
وإذا كان أوباما يتولى رئاسة الولايات المتحدة بعد مضي أكثر من عقدين على انتهاء الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل الى شكل آخر، لاسيما بعد انهيار الشيوعية الدولية، وصعود الاسلام السياسي كعدو شرس ضد واشنطن وسياساتها، فكيف ستتعامل واشنطن مع هذا الملف الساخن، وقد شاع خلال الحملة الاعلامية والآيديولوجية في حينها بأن " التهديد" إنْ لم يكن موجوداً، فلا بدّ من "تلفيقه"، بالتنظير لصدام الحضارات، ولابقاء الاحتراس الدائم والتسلح المستمر والصراع المتواصل على المستوى العالمي، حتى وإن اتخذ صفة صراع الثقافات، بعد ذبول صراع الآيديولوجيات الذي طبع القرن العشرين كله، وصراع القوميات الذي طبع القرن التاسع عشر حسب الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.
وقد حاولت واشنطن تطبيق ذلك على الملف التسليحي وهذا له علاقة بالمسألة الايرانية بالدرجة الاساسية، خصوصاً البرنامج النووي الذي يعتبر أحد مجالات الاحتكاك الامريكية- الايرانية، إضافة الى نفوذ طهران في المنطقة باعتبارها رأس حربة ضد السياسة الامريكية (العراق ولبنان وفلسطين)، رغم أن أوباما أبدى استعداده لسلوك سبيل مفاوضات أطلق عليها "حازمة"، وهو أمر لا بدّ من أخذه بنظر الاعتبار بعد ما حصل من تجاذبات في الانتخابات الايرانية الأخيرة.
وإذا كانت الحروب تُصنع في العقول، فإن السلام هو الآخر يصنع في العقول أيضاً، حسبما جاء في دستور اليونسكو، ومثل هذا الأمر سيواجه الرئيس أوباما على نحو راهن، لاسيما في الشرق الأوسط، وهو أمر سيكون إحدى المجسّات الاساسية لسياسته الستراتيجية إزاء المنطقة.
ان الرئيس أوباما واجه تركة الرئيس بوش واشكالياته جميعها وعليه الخوض في المشكلات العويصة الخاصة، لاسيما بشأن الشرق الأوسط، التي شكلت نقطة تجاذب شديدة منذ عهد الرئيس جيمي كارتر واتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد. وإذا كانت واشنطن تسعى الى دور نشيط في الشرق الأوسط وتحريك خارطة الطريق الفلسطينية – الاسرائيلية، خصوصاً تجاوز الصعوبات التي جابهت العديد من الرؤساء الامريكيين قبله، فإن الأمر يحتاج الى تأكيد إقامة دولة فلسطينية، تلك الأطروحة التي اعتمدت منذ عهد الرئيس بيل كلينتون، لكنها ظلّت باردة وباهتة، خصوصاً في ظل التصعيد العدواني الاسرائيلي ضد الشعب العربي الفلسطيني منذ العام 2000، لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية السلمية التي اندلعت، بعد أن وصلت اتفاقات أوسلو الى طريق مسدود.
وزاد الامر تعقيداً حصار غزة وبعدها الحرب المفتوحة عليها والتي دامت 22 يوماً وقبلها حصار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومن ثم بناء جدار الفصل العنصري الذي قالت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً في عدم شرعيته، الأمر الذي اقتضى ازالته وتعويض السكان المدنيين المتضررين، وهو ما كان ينبغي على واشنطن أن تضغط على حليفتها اسرائيل للعدول عنه والعودة الى خيار المفاوضات ضمن خارطة الطريق المقترحة، رغم عدم تلبية هذه الأخيرة للحد الأدنى من حقوق الشعب العربي الفلسطيني، لاسيما حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين.
وإذا تردد الرئيس أوباما عن تعيين السيناتور الجمهوري تشاك هيغل وزيراً للخارجية وهو شخصية متوازنة نسبياً واختار هيلاري كلينتون بدلاً عنه، فإن واحداً من الأسباب تعود الى مواقف اسرائيل ورؤيتها إزاء الحل، وكان هيغل قد زار الارض المحتلة مع أوباما والتقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس يضاف الى ذلك تعيين عدد من المستشارين معظمهم من اليهود وبعضهم من العناصر المعروفة بموالاتها لاسرائيل، بمن فيهم أمين عام البيت الأبيض رام بنيامين مانوئيل الذي سبق له ان ادى الخدمة العسكرية في جيش الدفاع الاسرائيلي عام 1997 كما تطوّع في الحرب على العراق 1991 في مكتب التجنيد التابع لاسرائيل، إضافة الى كبير المخططين الستراتيجيين لحملته الانتخابية وهو ديفيد أكسل رود، الأمر الذي قد لا يساعد في حلحلة الأمور باتجاه إيجاد حل ولو بمعيار  الحد الأدنى، ولعل الاستثناء في هذا الشأن هو تعيين مستشار لأوباما للشؤون الخارجية وهو دنيس روس منسق عمليات السلام في الشرق الأوسط.
حقاً إنها تركة ثقيلة وسيتوقف حملها بجدارة على ما سينتهجه أوباما من سياسة ومراجعة وإعادة نظر بأخطاء وخطايا السياسات السابقة خلال الثمان سنوات الماضية وما قبلها!!

2- المحطة الاوروبية – الدولية!
عادت القضايا الدولية مرّة أخرى الى الواجهة في ستراتيجية الولايات المتحدة التي احتلت لنحو ثمان سنوات المكانة الأولى، ولكن هذه المرّة جاءت في إطار إدارة جديدة ديمقراطية وليست جمهورية. فبعد أن تصدّرت جهود انقاذ الاقتصاد الامريكي الحيّز الأكبر، سواءً في برنامج الرئيس باراك أوباما الانتخابي أو خلال الأشهر الأخيرة منذ توليه مسؤولية البيت الأبيض، عادت السياسة الخارجية من جديد لتأخذ موقعها المتقدم.
ولكن كيف سيتعامل أوباما مع التركة الثقيلة للرئيس بوش بخصوص أوروبا، التي أطلق عليها سلفه اسم " العجوز" عشية غزو العراق العام 2003 وممانعة فرنسا وألمانيا وبلجيكا؟ لا شك أن العودة الى المسرح الدولي وتحديداً الخشبة الاوروبية مسألة ليست بالسهولة رغم ما حظيت به توجهات الرئيس الجديد أوروبياً وما استقطبه شعبياً، لكن الكثير من العقبات والتحديّات تعترض طريقها وتقف حجة عثرة أمامها.
ما الذي ينوي فعله الرئيس أوباما؟ هل يعتزم حسبما تشير مفردات بعض عناوينه الستراتيجية الى دفع الامور باتجاه مقاربة جديدة للحرب في افغانستان بعد اعلان الانسحاب من العراق، خصوصاً بعد إعادة الانتشار للقوات الامريكية وسحبها من المدن وابقائها في معسكرات خارجها ؟ وتبرز سياسة أوباما الاوروبية بخصوص تكثيف الجهود لوقف انتشار الاسلحة، لاسيما بعد اعادة بعض عناوين وتهديدات الحرب الباردة مع روسيا بشأن الصواريخ الامريكية في بولونيا والتشيك. ويضاف الى ذلك ضم الجهود الى بعضها لاتخاذ مواقف موحدة إزاء محاربة الركود الاقتصادي على الصعيد العالمي، وهو ما تنتظر أوروبا موقفاً بشأنه يخفف عنها العبء.
ومع أن هذه الرافعات تحظى بدعم أوروبي وربما دولي، لكن ثمة اعتراضات فيما يتعلق بإرسال المزيد من الجنود الى افغانستان، من جانب ألمانيا، في حين تعترض روسيا بشدّة على إقامة نظام درع صاروخي لحلف الناتو في جمهورية التشيك وجمهورية بولونيا.
ومع ان واشنطن أكدت أنها لا تريد أن تملي على العواصم الاوروبية، كيفية الانفاق لانعاش الاقتصاد العالمي، الاّ أن الأمر ظل ملتبساً، لاسيما باعتراضات فرنسا وألمانيا ودول أخرى، وهذا سيضع مسألة وحدة الموقف الامريكي- الاوروبي أمام امتحان جديد، فقد لا تستطيع واشنطن والإدارة الجديدة لأوباما أن تسحب أوروبا خلفها، لا كما أخفق الرئيس بوش في ذلك، تاركاً ندوباً وتصدّعات على العلاقات الاوروبية- الامريكية. وإذا كان ثمة ترحيب كبير بمجيء اوباما ورحيل بوش، الاّ ان القضايا العالقة والساخنة كثيرة وستثير نقاشاً وجدلاً حاداً في الأشهر القادمة، ما لم تتضح الرؤية والمسار للسياسة الخارجية الامريكية، لاسيما بالتوافق مع أوروبا وأخذ مصالحها بنظر الاعتبار، وبخاصة الاتحاد الاوروبي كمنظمة اقليمية فاعلة ومهمة.
ومن جانبه حاول أوباما الظهور بأن عهده يشكل قطيعة من سلفه محاولاً فتح صفحة جديدة وفي إطار دبلوماسية عالية ورفيعة المستوى، رغم أن اوروبا ظلّت متحفظة مع أنها استبشرت بفوزه وهزيمة الجمهوريين، حيث شعر الاوروبيون انه تم التقليل من شأنهم خلال ادارة الرئيس بوش، الذين كانوا ينظرون اليه كصاحب قرار حاسم في الوضع الدولي، الآّ أنه يتخذ قرارات انفرادية ويمضي بتطبيقها ويضعهم أمام الأمر الواقع، ولا يراعي مصالح أوروبا بنظر الاعتبار.
لقد كانت زيارة أوباما الى اوروبا بمثابة جس النبض إزاء الموروث وإزاء المستقبل، إذ أن مشاركاته في القمم الثلاث جعلته يقدم مقاربات جديدة بشأن انعاش الاقتصاد العالمي ومحاربة الارهاب والسعي للوصول الى تأمين السلام في بعض مناطق العالم، لاسيما غير المستقرة، وإنْ ستظل القضية الفلسطينية إحدى القضايا المستعصية والمعقدة، خصوصاً في ظل صعود إدارة اسرائيلية متطرفة بقيادة بنيامين نتنياهو!!
لقد كانت لندن أول محطة للرئيس الامريكي أوباما لحضور قمة الـ 20 زعيماً وبعدها شارك في قمة حلف شمال الاطلسي بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسه حيث تم الاحتفال في ستراسبورغ، وقام بعبور الحدود الالمانية- الفرنسية، ولعل هذا الحدث مهماً، خصوصاً بعودة فرنسا الى أحضان الحلف بعد غياب استمر نحو أربعة عقود من الزمان. وبعدها زار جمهورية التشيك وتركيا، كما اجتمع بزعماء روسيا والصين، وكان جدول أعماله حافلاً وثقيلاً وعدّ أول اختبار دولي لادارته وستراتيجيته وعلاقاته الدولية.
فهل ستظل صورة امريكا كما طبعها الرئيس بوش أم ثمة اصلاحات وتعديلات تقضي تحسينها في ظل الادارة الجديدة؟ وهل ستكفي نجومية أوباما العابرة للقارات والمحيطات، في إيجاد حلول ومعالجات للأوضاع القائمة، خصوصاً إذا استطاع الحفاظ عليها؟ علماً بأن الكثير من القادة الاوروبيين يميلون الى مصاحبة أوباما، ولعلها وسيلة مفيدة لهم لكي يدعموا شعبيتهم، لكنه من جهة أخرى قد يكون الأمر عبئاً جديداً على واشنطن، بعد تركة ثقيلة قد تجعل كل ما يفكر به هو الخروج منها!؟ وليس الاستغراق في تحسينها، فقد يكون المطلوب هو  تبنّي ستراتيجية جديدة تكون الولايات المتحدة بواسطتها قادرة على أن تلعب دوراً اكثر ايجابية على المستوى العالمي، بحيث تستعيد جزءًا من هيبتها وصدقيتها اللتان بددهما الرئيس بوش.
إذاً هل نحن أمام أوهام في أن استبدال بوش بأوباما سيمحي الصورة السيئة أو يغيّرها الى هذه الدرجة، أم أنها أوقات عصيبة ومعقدة لا بدّ من عمل مضني لتجاوزها؟ ولعل ذلك سيتوقف على مدى وفاء أوباما بالتزاماته ووعوده سواءً التي أطلقها في حملته الانتخابية أو بعدها، وقد حاول أوباما حسب مساعديه الاتصال بالعديد من رؤوساء العالم بعد وصوله الى البيت الأبيض، بهدف تهيئة الظروف المناسبة للاعلان عن ستراتيجيته الجديدة.
وإذا كان اغلاق سجن غوانتانامو السيئ الصيت في كوبا خطوة ايجابية، فإن الخطوة الاساسية التي ستتوقف عليها ستراتيجية واشنطن وصدقية الادارة الامريكية تتعلق بالانسحاب الامريكي من العراق تنفيذاً لوعد أطلقه وعمل على وضع برنامج له بعد وصوله الى البيت الأبيض رغم بعض التعديلات وربما الضغوط، لاسيما من جهة العسكريين. من جهة أخرى إن اعلان الاستمرار في ملاحقة تنظيمات القاعدة والشروع بالتحرك باتجاه أفغانستان وباكستان يقتضي التركيز على نجاحات محددة وليس اطلاق حملة دون تحديد مدى زمني لها.
ان الستراتيجية الامريكية، لاسيما سياسة الادارة الجديدة الخارجية وتحركاتها الدولية، ترافقت إضافة الى الحضور الاوروبي، اتخاذ اجراءات على الصعيد الداخلي، لاسيما عمليات التحفيز الاقتصادي والاصلاح الاداري في مجالات الرهن العقاري والسكن والاستقرار المالي وغيرها، ولكن السبيل للخروج من المأزق يبقى صعب المنال إن لم تتخلص الادارة الجديدة من التركة الثقيلة، لاسيما على الصعيد الخارجي.

3- استحقاقات أوباما

استثمر أوباما ومن خلفه الديمقراطيين ثلاث قضايا أساسية لهجومهم ضد الجمهوريين، وهذه المسائل الاشكالية الثلاث تشكل المحتوى الرئيسي للاستراتيجية الامريكية على المستوى الكوني.
القضية الأولى السياسة الداخلية، لاسيما بعد اندلاع الأزمة المالية المعروفة باسم " الديون المسمومة" والتي انفجرت في خريف العام 2008 وشتاء العام 2009، وتحوّلت أزمة الرهن العقاري وانخفاض سعر الدولار وانهيار شركات تأمين كبرى وبنوك عالمية، الى أزمة اقتصادية ومالية طاحنة، ساهمت بامتياز في فوز الديمقراطيين، خصوصاًُ في ظل الهلع الذي اصاب الناخب الامريكي وضياع مدخّرات أصحاب دخول محدودة، ناهيكم عن الأفق الغائم للسياسات الاجتماعية والصحية والخدمية خلال السنوات الثمان الأخيرة.
وقد قدّم أوباما برنامجاً يختلف تماماً عن برنامج ماكين فيما يتعلق بالسياسة الداخلية، لاسيما فرض الضرائب على الأغنياء وأصحاب الثروات الكبيرة، ودعوته الى تدخل الدولة لحماية العملية الاقتصادية، ونزعته الاجتماعية لتحسين نظام الصحة والتعليم وتقليص البطالة. وركز أوباما في برنامجه الانتخابي على السياسة الداخلية، وهو ما أكسبه ثقة أكبر من الشعب الامريكي الذي عانى الكثير خلال ولاية الرئيس بوش، في حين أن منافسه ماكين ركّز على السياسة الخارجية دون أن يقدّم برنامجاً مختلفاً عن برنامج سلفه الجمهوري أو اعادة النظر به.
   أما القضية الثانية، فقد كانت تخص السياسة الخارجية، حيث ظلّت تؤرق الامريكان وأعني بها الحربين المفتوحتين في كل من أفغانستان العام 2002 والعراق العام 2003، وقد وقعت الولايات المتحدة بسبب هاتين الحربين في ورطة حقيقية وتعرّضت سمعتها الى الهبوط تدريجياً حتى وصلت الى الحضيض، الأمر الذي أخذه أوباما بنظر الاعتبار عند صياغة برنامجه حين دعا الى انسحاب سريع قدر الامكان من العراق، على ان تبدأ عملية الانسحاب في منتصف العام 2009، (حيث تم انسحاب القوات الامريكية من المدن العراقية الى معسكرات خارجها) وفي ذلك تأكيد جديد على إقرار العسكريين بفشل الحل العسكري، مع تركيز الحملة على أفغانستان بسبب تهديدات تنظيمات القاعدة ونشاطها المعروف، رغم الاعتراف بامكانية التفاوض مع قيادات طالبان المعتدلة.
ولعل هناك علاقة وثيقة بين الحرب على العراق وبين الملف العربي- الاسرائيلي الذي يستمر منذ ستة عقود من الزمان، فقد أهملت إدارة الرئيس بوش هذا الملف طيلة ثمان سنوات، في حين تم تفعيله في فترة حكم الرئيس كلينتون، خصوصاً الدعوة الى انشاء دولة فلسطينية الى جانب اسرائيل، لكن اسرائيل استثمرت فترة وجود بوش في الحكم، إضافة الى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية فتنكرت لخارطة الطريق وزادت من تعنّتها، بل قامت ببناء جدار الفصل العنصري رغم صدور قرار استشاري من محكمة العدل الدولية يدعو الى  تهديمه وعدم اكماله لعدم شرعيته، كما فرضت عقوبات جماعية ضد الفلسطينيين، لاسيما بحصار غزة ومارست أعمال الارهاب والعنف المنفلت من عقاله، والأكثر من ذلك يوم شنت هجوماً عدوانياً على لبنان (في 12 تموز /يوليو 2006) بتشجيع وتواطؤ من إدارة بوش الذي بشّرت بميلاد شرق اوسط جديد، كما جاء على لسان كونداليزا رايس وزيرة خارجية واشنطن، وفيما بعد قامت بعدوانها المفتوح على غزة والذي دام 22 يوماً.
أما القضية الثالثة فهي ذات بُعد دولي أيضاً فتتعلق بشقين: الشق الأول- هو الملف الروسي الذي عاد الى الحضور بشدة بما يذكّر بعهد الحرب الباردة، خصوصاً بالضد من سياسات واشنطن الاستفزازية على الجوار الروسي، في القوقاز والبلقان وأوروبا الشرقية، وبشكل خاص محاولة نصب دروع صاروخية في كل من جمهوريتي التشيك وبولونيا وتوسيع نطاق دائرة حلف الناتو، الأمر الذي أثار حفيظة روسيا فأصدرت عدة إشارات، كان أولها الرد المباشر في جورجيا، خصوصاً وأن الدب الروسي هو قطب مهم ولا يمكن الاستهانة به، وكادت أوكرانيا بعد جورجيا أن تكون قاب قوسين أو أدنى من خطتها " الدفاعية".
وإذا كانت روسيا حاسمة بشأن الاوضاع في امبراطوريتها القديمة، لكنها في الوقت نفسه تدرك مخاطر السير في سباق تسلّح وحرب باردة ليس بوسعها أو لا يمكنها المضي فيها، ولعلها تتطلع الى تعامل مختلف من جانب أوباما، الذي لا بدّ له أن ينظر بواقعية أكبر وتوازن أكثر الى ملف العلاقات.
أما الشق الثاني فهو الملف الايراني، والمقصود هنا بشكل خاص المفاعل النووي الايراني وتخصيب اليورانيوم، وهو ملف متوتر ومعقد بين البلدين منذ العام 1979 ولحد الآن. فإيران تشكل بنظامها الاسلامي ومعاداتها للسياسة الامريكية وموقفها المناوئ لاسرائيل إضافة الى تحالفها مع سوريا، عقبة كأداء أمام السياسة الامريكية، بغض النظر عن مشاريعها وأهدافها الخاصة ف يمنطقة الشرق الأوسط.
وإذا كان أوباما يسعى لفتح حوارات وتنشيط دبلوماسية حازمة كما قال، فلا بدّ من التفكير ببعد نظر إزاء الملف الدولي خصوصاً الروسي والايراني، دون مغامرات أو ردود فعل تلحق ضرراً بمصالح واشنطن، كما فعل سلفه بوش من قبل، وهو ما يشكل الاستحقاق في ستراتيجيته الدولية.

4- أولويات الرئيس أوباما!!

لم تعد قضية العراق تستحوذ على الاهتمام المطلوب أو أن لها الأولوية الاساسية، خصوصاً لدى واجهات وعناوين الصحف ووسائل الاعلام، ولعل الامر لا يعود الى ثانوية المسألة العراقية، بل بسبب انهيار مؤشر داوجونز وطغيان أعراض الأزمة المالية، والتي ضاعفها استمرار المأزق العراقي بوجود 150 الف جندي أمريكي في العراق وتكلفة أكثر من ثلاث تريليونات من الدولارات.
ولعل هذه المرة هي الأولى حين يفوز حزب معارض على حزب حاكم في ظل استمرار الحرب، سواءً منذ احتلال أفغانستان 2002 واحتلال العراق 2003 وقبلها الحرب على الارهاب 2001، كما أنها المرة الأولى حين ينتخب الشعب الامريكي رئيساً بعد جيلين من الحرب العالمية الثانية، وهو مولود بعدها.
تراجعت قضية العراق في نظر الرأي العام الامريكي والرئيس أوباما لأن الذي حلّ محلها شبح الأزمة المالية الخانقة وقضايا الرعاية الصحية، لدرجة أن الكثير من الأمريكيين في ظل تلك الدوامة لم " يلتفتوا" الى الجنود العائدين من العراق وأفغانستان، رغم حساسية موقف مثل ذاك، خصوصاً للعسكرية والوطنية الامريكية، ولسيل الدعاية الصاخب.
ويعود السبب الأول في هذا " النسيان"، إذا جاز القول، هو تحوّل انتباه الرأي العام والكثير من الامريكيين الى المشاكل الداخلية وليس الى مأزق العراق، أما السبب الثاني فيعود الى الأزمة الاقتصادية وانهيار الاسواق، والسبب الثالث هو ان الدعاية الامريكية ضجّت بشأن انخفاض موجة العنف في العراق، لاسيما إزاء الجنود الامريكيين، الذين وصلت نسبة قتلاهم الى 4320 قتيلاً واكثر من 26 الف جريح حسب الاحصاءات الرسمية، وهي احدى مفارقات الوضع العراقي.
وإذا كان هناك سبب رابع فإن المعركة الانتخابية ذاتها لم توضح الفرق الكبير في الموقف من العراق بين أوباما وماكين، وقد عكست ذلك استطلاعات الرأي العام التي كانت تؤكد أن حرب العراق لا تلقى تأييد الامريكيين بسبب الأزمة الاقتصادية وصعوبات الطاقة والرعاية الصحية ومشاكل وعقبات اجتماعية، وتلك كانت في صلب الاهتمامات التنافسية للمرشحين وتصدّرت أولوياتهم، بما فيها بعض القضايا المثيرة مثل حق الاجهاض وزواج المثليين وغيرها.
   وإذا اعتقد المرشح الجمهوري ماكين البالغ من العمر 72 عاماً والمشارك في حرب الفيتنام، ان الأمن القومي هو الورقة " الرابحة" فإن المرشح الديمقراطي الشاب كانت ورقته الفائزة بامتياز هي قضايا الاقتصاد والرعاية الصحية والخدمات ومسائل اجتماعية تهم المواطن الامريكي، وبخاصة جمهرة الفقراء أو من هم دون خط الفقر البالغ عددهم أكثر من 40 مليون نسمة، ولعل هذا الاصطفاف هو الذي حسم الأمر وحدد الأولويات على نحو واضح ودون لبس أو غموض.
لقد عكس التحول غير المتوقع في الأحداث السياسية كفة الرجحان الى أوباما وبرنامجه الاجتماعي والاقتصادي وليس للسياسة الخارجية حسب، بعد أن كانت الانتخابات النصفية في الكونغرس الامريكي عام 2006 ترفع شعار الانسحاب من  العراق عالياً، وهي المسألة التي لعبها الديمقراطيون على أحسن وجه آنذاك.
وقد ظن ماكين أن سياسة زيادة القوات قد نجحت لذلك تمسّك بها، في حين أنها أصبحت ورقة محروقة كما يقال، وأن النجاح كان يعني صرف الانظار الى مسائل أخرى، وهو ما سعى أوباما للعزف عليه بايقاع مؤثر، وهكذا تماهى الموقف بين الفريقين في مسألة الانسحاب التدريجي من العراق، في حين ظلاّ يختلفان في المدة الزمنية، مثلما يختلفان حول التاريخ والماضي.
وكان أوباما قد أعلن ان القوات الامريكية ستنسحب من العراق، بينما قال منافسه الجمهوري الذي انهزم شر هزيمة أن وعود الانسحاب تتسم بالتهور، لكنه رأى فرصة لخفض حجم القوات، وهذه الارضية المشتركة للانسحاب، رجحت كفة أوباما، خصوصاً بإيلاء اهتمام أكبر للقضايا الاقتصادية والاجتماعية.
ان الجنود الامريكان الذين ما زالوا حتى الآن يستقبلون في مطار دالاس بعبارات "بارك الرب أمريكا" و" شكراً للرب"، كانوا يقابلون عند عودتهم من فيتنام بالازدراء والاهانة، خصوصاً عندما أصبح الرأي العام ينظر الى استمرار حرب فيتنام بمثابة كارثة وطنية، الأمر الذي لم يتحقق في حرب العراق حتى الآن. فهل ستزيد الأزمة الاقتصادية من شعور النسيان أم ستساعد على إعادة النظر بالأولويات وتمهّد لتنفيذ باراك أوباما لوعوده بالانسحاب التدريجي، ذلك السؤال سيتحدد في ضوء تنفيذ الخطة الستراتيجية للرئيس أوباما، خصوصاً عند استحقاق الاتفاقية العراقية- الامريكية في نهاية العام 2011!؟
إن تكاليف غزو العراق وصلت الى 3 تريليون دولار وفقاً لتقديرات جوزيف ستيكليتز ولندا بيلمنس، فهل كانت هذه خطة محكمة لاستنزاف الولايات المتحدة؟ الجواب هذه المرّة جاء من أسامة بن لادن وهو جالس في كهفه الذي قال في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 وهو يفخز بنجاح ستراتيجيته في جعل أمريكا تنزف الى حد الافلاس، حين ردد ساخراً: أن كل دولار أنفقته القاعدة في حملتها كلّف الامريكان بالمقابل مليون دولار.
وإذا كان أوباما بذكائه وحضوره قد استطاع تحسس جزء مهم من نبض الشارع الامريكي عندما لامس قضاياهم الحياتية مباشرة ودعا الى تنظيم الأسواق وأن على الحكومة أن تلعب دوراً لا غنى عنه في مسار الاقتصاد، الأمر الذي جعل ماكين يهاجمه باعتباره " اشتراكي"، وهي تهمة نفعته بالقدر التي أضرّت ماكين.
فهل سيدرك أوباما أن السياسة الداخلية ليست بمعزل عن السياسة الخارجية، وهذه الأخيرة التي هي انعكاس للسياسة الداخلية ووجه آخر من وجوهها، ولا يمكن تحقيق نجاح في أحدهما والاخفاق في الأخرى، لأن الفشل سيمسح النجاح، وما عليه إذا أراد انجاز برنامجه الاجتماعي – الاقتصادي وامتصاص الأزمة المالية الطاحنة، الاّ إعادة النظر بسياسة واشنطن الخارجية، والاسراع بتنفيذ وعوده بالانسحاب من العراق مثلما أعلن ذلك، وقبل فوات الأوان. وكما يقال ليس المهم تحقيق الفوز، بل المحافظة عليه والسعي لمواصلته وتوسيع دائرته، فهل سيستطيع أوباما أن يفعل ذلك وكم سيحتاج من الوقت؟ ومن أين سيبدأ؟
هذه أسئلة واجهت الرئيس أوباما منذ أن وطأت قدماه عتبة البيت الأبيض، وستظلّ تلحّ عليه وتضغط بشدة إن لم يجد أجوبة مناسبة لها.

5- أوباما " شرق أوسطياً "!!

لاشك ان سياسة الرئيس بوش والجمهوريين خلال السنوات الثمان كانت هي الأسوأ، لاسيما بخصوص المسألة الفلسطينية والصراع العربي- الاسرائيلي، حيث أدخلت الولايات المتحدة في نفق مظلم زاد منه قتامة المشهد السياسي، خصوصاً بعد احتلال العراق.
ولهذا استبشر الكثير من العرب بالهزيمة التي مني بها الجمهوريون، وعبّروا عن ارتياحهم للفوز الساحق الذي حققه الديمقراطيون بفوز باراك أوباما، ويأتي نجاحه بعد فترة قاسية بالنسبة للعرب والفلسطينيين، حيث زادت من صورة الولايات المتحدة سلبية وتدهوراً في العالم العربي، فإضافة الى احتلال العراق العام 2003، فقد بررت واشنطن لاسرائيل عدوانها على لبنان العام 2006 معتبرة ذلك ولادة جديدة للشرق الأوسط، على حد تعبير وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس خلال العدوان، وحاولت واشنطن ثني مجلس الأمن الدولي من إصدار أي قرار يدعو الى وقف القتال، ناهيكم عن إدانة اسرائيل، متنصلة عن موقعها الدولي باعتبارها عضوا دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي، إضافة الى كونها معنية بشكل خاص بالملف العربي – الاسرائيل.
وقد وصلت القضية الفلسطينية في فترة رئاسة بوش الى طريق مغلق بسبب التعنت الاسرائيلي والعنف والارهاب الذي مارسته اسرائيل خلال الفترة المنصرمة، خصوصاً بعد تعثر اتفاقيات أوسلو، ومسار خارطة الطريق الفلسطينية- الاسرائيلية، وبالأخص الآفاق المضببة التي واجهتها قبل نهاية العام 1999 وحتى الآن، بما فيها بعد ذلك بناء جدار الفصل العنصري وتقطيع أوصال الارض الفلسطينية ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتطبيق عقوبات اقتصادية مشددة ضد قطاع غزة خلافاً للشرعية الدولية ولمبادئ حقوق الانسان وقواعد القانون الدولي الانساني.
لعل بعض العرب يتوقعون أن يقدّم الرئيس أوباما شيئاً جديداً مختلفاً عن ادارة بوش، وهو وإن كان ممكناً، الاّ أنه ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار ثبات أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط مع تغيير الرؤساء، إضافة الى  تغلغل النفوذ الصهيوني واللوبي المساند لاسرائيل مالياً واقتصادياً واعلامياً وحكومياً، لكن الأمر يحتاج الى جهود ومثابرة ونضال على مختلف الجبهات وبجميع الأسلحة، وذلك ما ينبغي على العرب أن يأخذوه بالحسبان عند التصدي والمعالجة للقضية الفلسطينية وللصراع العربي – الاسرائيلي، سواءً  من خلال  تفعيل المبادرة العربية لعام 2002 أو ما بعدها، باتجاه حل يؤدي الى اقامة دولة فلسطينية على أساس حق تقرير المصير، وإن كان لا يلبّي كامل طموحات الشعب العربي الفلسطيني.
وإذا كانت الأزمة المالية التي لم يشهد لها العالم مثيلاً بعد الكساد العالمي والانكماش الاقتصادي للفترة 1929-1933، فإن الأولويات ستتجه بلا أدنى شك لمعالجة هذه الأزمة، بما فيها النفقات الباهظة للحربين المفتوحتين منذ عام 2002 و2003 وأعني بذلك الحرب في أفغانستان والحرب في العراق.
لكن الرئيس أوباما الذي كان قد أبدى اهتماماً خاصاً بالشرق الأوسط، عشية انتخابه بما في ذلك زيارة فلسطين ولقاء الرئيس محمود عباس، ليس بوسعه التقدم بتحركات واسعة ونشيطة على هذا الصعيد، إن لم يتبين هناك رغبة شديدة وقدرة على التأثير لفتح هذا الملف المعقد، والذي كان منذ عهد كلينتون قد توقف عند تأييد قيام دولة فلسطينية، لاسيما في أشهره الأخيرة، لكنه لم يمضِ قدماً، حيث بهتت الدعوة وبردت همّة الداعين اليها في ظل تصاعد الارهاب الاسرائيلي، فازدادت الصورة سوءًا وقتامة، خصوصاً بعد قمع الانتفاضة السلمية الفلسطينية منذ 28 أيلول (سبتمبر) 2000 وحتى الآن، وقد تدهور الأمر على نحو مريع بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية- الاجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة والتي استغلتها اسرائيل أبشع استغلال، فشنّت حملات متتالية لقمع الفلسطينيين وملاحقتهم واتهامهم بالارهاب.
كيف للرئيس أوباما أن يبدأ سياسة نشطة في الشرق الأوسط، بعد أن راوحت الولايات المتحدة في مكانها طيلة السنوات الثمان، هل بتعيين رام بنيامين مانوئيل كبيراً لموظفي البيت الأبيض (الأمين العام )!؟ وهو من أصل يهودي (اسرائيلي)، وأدّى الخدمة في جيش الدفاع الاسرائيلي العام 1997، وتطوّع في مكتب تجنيد تابع للجيش الاسرائيلي في فترة سبقت حرب الخليج الاولى ضد العراق العام 1991، كما أشرنا.
جدير بالذكر ان بنيامين والد رام مانوئيل كان عضواً في منظمة الارغون السرية الصهيونية ، التي مارست أعمالاً ارهابية في فلسطين منذ العام 1931 ولغاية العام 1948، أي حتى قيام اسرائيل في 15 أيار(مايو) 1948، وقد هاجر هو وأسرته الى شيكاغو في الستينات، كان قد صرح بعد تعيين ولده مانوئيل بأن اختيار ابنه سيكون عاملاً مساعداً للتأثير على الرئيس أوباما ليكون صديقاً لاسرائيل، ولم يكن هو عكس ذلك، لكن والد مانوئيل يريده أكثر صداقة وحميمية مع اسرائيل، وهذا يعني فيما يعنيه ادارة الظهر عن العرب والفلسطينيين، والتخلي عن دور الرعاية أو الضامن لاتفاق خارطة الطريق، أو وضعها ومعها فكرة الدولة الفلسطينية في الأدراج، ولعل ذلك سعي ثابت من جانب اسرائيل مع جميع الرؤساء الامريكان جمهوريون كانوا أم ديمقراطيون!!؟ فهل ستفلح اسرائيل في ذلك أم أن الأمر سيكلّف واشنطن خسائر جديدة فادحة، وهي الخسائر التي كانت سبباً في تدهور شعبية الرئيس بوش وحزبه الجمهوري!؟
إذا أراد الرئيس أوباما أن يعيد جزءًا من " صدقية" الولايات المتحدة لاسيما في الشرق الأوسط، تلك التي نزلت الى الحضيض، فما عليه الاّ اتخاذ سياسة نشيطة ومتوازنة بحيث تضغط على حليفتها اسرائيل لتنفيذ مقررات ما يسمى بالشرعية الدولية رغم انتقامها من مبادئ القانون الدولي المعاصر أحياناً.
ولعل التخلص من هيمنة " الصقور" الذين مسكوا بمقاليد البيت الأبيض طيلة ثمان سنوات وسياسات التصعيد التي عرفتها واشنطن منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر)، والضغط على حكومة اسرائيل ولاسيما بعد وصول نتنياهو الى سدة الحكم للامتثال بخيار الدولتين، في حين أن اخذت تشدد على أطروحة تطالب بها العرب " الاعتراف باسرائيل دولة نقية لليهود" ، الأمر جعل الأفق غائم وزاد من احتمالات استمرار الحال على ما هو عليه، وهذا سيعني فيما يعنيه فشل في واحد من الملفات المهمة والساخنة التي ستلقي ظلالها على العرب والفلسطينيين!!

أوباما: شرق أوسط ممكن.. شرق أوسط مستحيل!

انطفأ الحديث الذي راج خلال السنوات الماضية، لاسيما في فترة الرئيس بوش بخصوص " الشرق الأوسط الكبير"، والذي استُبدِل أو طُوِّر الى فكرة "الشرق الاوسط الجديد" التي روَّجت اليها وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان في 12 تموز (يوليو) 2006 حين قالت : أنه مخاض حيث سيولد بعدها شرق أوسط جديد، لكن تلك " النبوءة: لم تتحقق، بل إن الذين دعوا اليها سرعان ما عادوا يتحدثون عن الاستقرار والأمن بعد مشاريع وطموحات كبرى بحلول ربيع الحرية وبزوغ شمس الديمقراطية، لا في العراق حسب، بل في عموم المنطقة، الأمر الذي سيضعُ هذه الاخفاقات والطموحات غير الواقعية أمام الرئيس أوباما.
ولعل الشرق الأوسط البوشي (الأب) والكلينتوني والبوشي (الابن)  لم يكن ممكناً، لاسيما في ظل اختلال موازين القوى بين العرب والاسرائيليين، حيث وصلت اتفاقيات أوسلو التي تم التوقيع عليها عام 1993 الى طريق مسدود بسبب النهج الاسرائيلي المتعنّت والممالئة الامريكية التي أدّت الى استخفاف تل أبيب بقرارات الشرعية الدولية والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني. فهل سيتمكن الرئيس أوباما وضع خطة جديدة وانتهاج سياسة واقعية من شأنها أخذ تكوينات الشرق الأوسط بنظر الاعتبار، لا برسم سياسة أثبتت حتى الآن استحالتها لتغيير خارطة الشرق الأوسط طبقاً لهوى الادارة الامريكية ومشاريعها الامبراطورية الحالمة، بل بالنظر الى امكانية تطبيقها واقعياً على الارض، حتى وإن كانت بمرارة أيضاً!؟
سيكون التفكير بشرق أوسط ممكن أو واقعي هو أحد التحديات التي تواجه الرئيس أوباما، إذ أن ذلك سيكون محل اختبار لمدى نجاحه في تجاوز السياسات الخاطئة التي اتبعها سلفه الرئيس بوش، حيث أنها كانت الأسوأ في تاريخ المنطقة، وفقدت الولايات المتحدة صدقيتها لا أمام خصومها التقليديين حسب، بل حتى بالنسبة لأصدقائها المقربين، وضعُفت الى درجة كبيرة، الكثير من عوامل الوصل وجسور الثقة بينها وبين العرب.
وقد ساهمت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الاجرامية في قتامة الصورة، خصوصاً بعد ردود الفعل الخاطئة والتي ألحقت ضرراً بسمعة الولايات المتحدة كدولة عظمى لها مسؤولياتها في إطار المُنتظم الدولي، لاسيما في مجلس الأمن التابع  للأمم المتحدة، كعضو دائم العضوية.
وإذا كانت فترة الثمان سنوات الماضية قاسية في الشرق الاوسط بشكل عام فإنها كانت الاقسى بالنسبة للعرب، خصوصاً في فلسطين والعراق ولبنان ويمكن أن نضيف عليها السودان والصومال وغيرها، حيث شهدت احتلالاً للعراق العام 2003 بعد احتلال أفغانستان العام 2002 وعدواناً اسرائيلياً بتشجيع أمريكي على لبنان العام 2006، وحصاراً ما زال مستمراً على غزة بعد العدوان عليها (أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009)، ناهيكم عن تدهور في المسار السلمي ووصول اتفاقيات أوسلو الى طريق مسدود منذ العام 1999.
ولم تفلح كل محاولات اعادة الروح الى اتفاقيات أوسلو وتحريك المسار السلمي المتعثر، رغم اجتماعات واي ريفر وخارطة طريق جديدة، بل انها سارت باتجاهات أخرى، خصوصاً في ظل عاملين أساسيين: الاول- استمرار العنف والارهاب، لاسيما المتمثل بـ حصار غزة بعد حصار الرئيس عرفات حتى وفاته وبناء جدار الفصل العنصري والثاني – تخلّي الولايات المتحدة عن دور الراعي أو الضامن وانحيازها الكامل الى اسرائيل، الأمر الذي فاقم من تردي الاوضاع وتدهورها.
وإذا أضفنا موضوع احتلال العراق وما تبعه من انفلات أمني وعنف طائفي وتشظي مجتمعي واستشراء الميليشيات وتفشي الفساد والرشوة الى درجة مريعة، ناهيكم عن ورطة الجيش الامريكي ذاته في حرب لا نهاية لها، فإن التغيير سيتخذ طابعاً أكثر إلحاحاً بخصوص الستراتيجية العامة، وهو ما وعد به الرئيس أوباما في حملته الانتخابية، التي اتخذت من " التغيير" Change عنواناً، سواءً  على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي.
هل سيكون ممكناً بالنسبة للرئيس أوباما تحويل منطقة الشرق الأوسط الغنية بالحضارة والثروة والتنوع الثقافي، الى منطقة سلام، بدلاً من الحرب والعدوان والحصار، وهدر حقوق الانسان؟ وكيف السبيل لدور للولايات المتحدة إذا ما قررت ذلك؟
ولعل هذا الأمر يضع عدداً من الاستحقاقات أمام الادارة الامريكية:
1-   اتخاذ سياسة معتدلة في الشرق الأوسط، لاسيما بين العرب والاسرائيليين، الأمر الذي يتطلب أولاً وقبل كل شيء كإجراء عاجل وانساني، انهاء حصار غزة وفتح جميع المعابر وتيسير حركة السكان المدنيين بإنسيابية على نحو يضمن حقوق الانسان الجماعية والفردية، وتهيئة المستلزمات لتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين ووقف المستوطنات، طبقا للشرعية الدولية والقرارات الدولية 181 و194 و 242 و338. وهذا يعني مواصلة الجهود التي بذلها الرئيس كلينتون بشأن " الدولة الفلسطينية" ، لاسيما في آخر عهده، والتي بردت أو تكاد تكون تلاشت في عهد الرئيس بوش.
2-   تنفيذ الوعود التي اطلقها الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق و"انهاء الاحتلال"، والشروع بتخفيض القوات الامريكية، ولعل هذا الأمر لا يتعلق بالعراقيين حسب، وإنما يتعلق أيضا بمأزق السياسة الامريكية  وأزمتها الاقتصادية الطاحنة، التي انعكست على العالم أجمع، خصوصاً تحمّل أعباء وتكاليف حربين مفتوحتين منذ العامين 2002 و2003 ومعها "الحرب على الارهاب الدولي" منذ العام 2001، وهي حروب حقيقية وبلا حدود، وهذا يتطلب من الرئيس أوباما مراجعة جدية وخطوات عاجلة وسريعة، بدلاً من الاستمرار في التوغّل بالمزيد من الأخطاء والخطايا.
وإذا كان الأمر يقتضي عدم حصول فراغ سياسي وأمني وعسكري، وهو مسألة مشروعة ومهمة فلا بدّ من نقل المسؤولية مؤقتا الى الأمم المتحدة بصورة تزامنية تبدأ مع الانسحاب، وهذا يحتاج الى تعهدات من المجتمع الدولي بحماية سيادة العراق لدى تعرّضها للانتهاك من أي طرف خارجي، وتعهد عربي وإقليمي بمساعدة العراق، على إعادة الاعمار، وذلك في إطار خطة ستراتيجية دولية، لمعافاة العراق الأمر الذي يمهد لإجراء انتخابات ديمقراطية باشراف دولي وفي إطار التعددية واحترام حقوق الانسان وفي ظل الخيار الديمقراطي، الذي ينبغي أن يكون حاسماً ولا عودة فيه.
ولعل هذه الخطوة تتطلب اسقاط جميع الديون عن العراق وتعويضه عما لحق به من غبن وأضرار طيلة السنوات الماضية والعمل على اخراجه من الفصل السابع الخاص بالعقوبات طبقاً لميثاق الامم المتحدة، بل والأكثر من ذلك تعويضه عن الخسارة البشرية، لاسيما في العقول والأدمغة ونهب الآثار والممتلكات التاريخية، وتتطلب العدالة الدولية مساءلة المتهمين بممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الانسان والمُفسدين ومن قاموا بهدر المال العام في فترة الحاكم المدني بول بريمر أو ما بعده.
3-   اتخاذ علاقة متوازنة تقوم على أساس الحوار والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة مع سوريا، والسعي لإحداث نوع من الانفراج لتنقية الاجواء بدلا من توتيرها مع لبنان، والضغط على اسرائيل للامتناع عن العدوان مجدداً على لبنان واحترام سيادته وإعادة مزارع شبعا اليه، وإعادة الجولان الى سوريا في إطار تسوية سلمية شاملة، الأمر الذي يقتضي أيضاً فتح حوار مع إيران، طبقاً لخطة بيكر- هاملتون (أواخر العام 2006) واشراكها وسوريا في بحث حلول ايجابية في المنطقة.
اما موضوع الملف النووي الايراني الشائك والمعقد، فهو يحتاج الى الصبر والمزيد من الحوار والتفاهم والضغط الدولي السلمي لتقديم ضمانات حول الوجهة السلمية للمفاعلات النووية الايرانية، وطبقاً للمتطلبات والمعايير الدولية لمنظمة الطاقة وللمعاهدات والاتفاقية الدولية بهذا الخصوص، وعدم الاستخدام للأغراض الحربية، وسيكون الأمر ممكناً إذا ما توفرت فرصة السلام الحقيقي، خصوصاً بإقامة الدولة الفلسطينية  والانسحاب الامريكي من العراق، إذ أن مثل هذه الأجواء ستنعكس على ملف العلاقات الايرانية- الامريكية إيجاباً.
4-   دمقرطة المنطقة، ولعلها المسألة الملحّة الأخرى، بل هي الوجه الثاني للسلام والتقدم والتنمية، ذلك تشجيع خطط الاصلاح والتحديث والدمقرطة في المنطقة يقتضي فتح حوارات على المستوى الدولي لتنشيط ثقافة الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، لدى الجميع، الأمر الذي يتطلب احترام المعايير الدولية، لاسيما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 4 كانون الاول (ديسمبر) العام 2000، القاضي بالتنوع الثقافي وعدم وجود موديل واحد للديمقراطية مع تاكيد احترام خاصيات الشعوب والأمم وتراثها الانساني، إضافة الى المشترك الانساني الدولي. ولعل هذا الأمر يتطلب اشراك المجتمع المدني ومؤسساته في القرار وتطويق الارهاب، خصوصا ببحث أسبابه وجذوره الاجتماعية والاقتصادية ومعالجة آثاره بهدف القضاء عليه واستئصال شأفته ووضع حد لهذه الظاهرة المشينة.
وبقدر نجاح أوباما في مواجهة هذه التحديات بشجاعة وجرأة سيكون قد حقق له وللولايات المتحدة ولمنطقة الشرق الأوسط، فرصة كبيرة للسلام الممكن وليس المستحيل وهذا بدوره سيسهم في تعزيز التنمية والديمقراطية والتخلص من إخطبوط الارهاب الدولي.!!


نشرت في مجلة الغدير العدد 48 خريف 2009

1106
بغداد - واشنطن: الحوار حول المستقبل   


عبدالحسين شعبان
بمبادرة من المركز الدولي للتجديد الحكومي CIGI ومؤسسة الخطوات البرغماتية للأمن العالمي Stimson، وبإشراف وتهيئة من السفير مختار لماني ممثل جامعة الدول العربية في العراق، الذي استقال من منصبه مطلع العام ،2007 وألين ليبسون المستشارة الخاصة السابقة للبعثة الدائمة الأمريكية في الأمم المتحدة، التأمت ندوة مهمة في البرلمان الكندي بخصوص العلاقات العراقية  الأمريكية والحوار حول المستقبل، وشارك فيها نخبة من الأكاديميين والباحثين والممارسين العراقيين والأمريكان والكنديين. ولعل هدف الندوة هو تقديم قراءات ورؤى وتصورات حول مستقبل العلاقات بين بغداد وواشنطن.

وإذا كان هناك ثمة اختلافات في المنطلقات والأولويات والآفاق، فإن قراءة الحيثيات والمعطيات من زوايا نظر مختلفة، والجدل الذي دار بشأنها، شكّلت مجسّات وإرهاصات لحاضر ومستقبل العلاقات، سواء قبل الانسحاب الأمريكي من العراق أو بعده، لاسيما أن أهم ما ينصبّ الجدل حوله الآن، يتلخّص بالآليات والجداول الزمنية، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ما هو معلن من الطرفين الرسميين، مع وجود تحدّيات، وربما معوّقات قد تحول دون تنفيذ ذلك، ناهيكم عن أجندات معلنة أو مستترة. وقد تسنّى لي كباحث مستقل المشاركة في الحوار وتقديم مطالعة بخصوص مستقبل العلاقات العراقية  الأمريكية.

أعتقد أن قراءة ارتجاعية لتاريخ العلاقات العراقية  الأمريكية تجعل من رؤية المستقبل أكثر وضوحاً، خصوصاً ما رافقها من منعرجات وتضاريس حادة، بحيث تجعل خارطة الحاضر ملتبسة، حتى بالنسبة لبعض القوى المحسوبة على واشنطن، لاسيما بعد احتلال العراق في العام 2003.

إن قراءتي التاريخية تشمل تقسيم العلاقات العراقية  الأمريكية إلى مراحل عديدة:

المرحلة الأولى، التي اتسمت بصعود الحرب الباردة وتفاقم الصراع الايديولوجي بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي. وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تطوراً في العلاقات العراقية  الأمريكية، لاسيما عند توقيع اتفاقية بين البلدين العام ،1954 وتأسيس حلف بغداد العام ،1955 وتعاظم الدور الأمريكي في المنطقة، ترافقاً مع ما عُرف بمشروع “النقطة الرابعة”، وفيما بعد “بمشروع أيزنهاور” العام 1957 لملء الفراغ. لكن هذه العلاقات سرعان ما تدهورت على نحو شديد إثر ثورة 14 يوليو/ تموز العام ،1958 التي أطاحت بالنفوذ الغربي في العراق، وباستثناء فترة قصيرة تحسنت فيها العلاقات بعد الاطاحة بالزعيم عبدالكريم قاسم العام ،1963 فإن العلاقات العراقية  الأمريكية شهدت انحداراً سريعاً، خصوصاً بعد عدوان 5 يونيو/ حزيران ،1967 وقد بادر العراق إلى قطع علاقاته مع واشنطن متهماً إيّاها بالانحياز الكامل ل”إسرائيل”.

المرحلة الثانية: هي المرحلة التي تبدأ من العام 1968 إثر مجيء حزب البعث إلى السلطة وتنتهي في العام ،1980 واتسمت العلاقات في هذه الفترة بنوع من التوتر والتعارض والعدائية، لاسيما عند تأميم النفط العام ،1972 وبعد حرب أكتوبر العام 1973 واستخدام النفط كسلاح في المعركة. وخلال هذه الفترة احتسبت الولايات المتحدة العراق ونظام حكمه، على ملاك النفوذ السوفييتي، لاسيما بتوقيع المعاهدة العراقية  السوفييتية في إبريل/ نيسان 1972 وعقد الجبهة الوطنية مع الحزب الشيوعي العام 1973.

ولهذا السبب سعت الولايات المتحدة لإضعاف العراق وجيشه، وشجعت اندلاع القتال بين الحركة الكردية والحكومة العراقية، وهو ما عبّر عنه الملاّ مصطفى البارزاني بمرارة عن انعدام ثقته بواشنطن بعد توقيع اتفاقية 6 مارس/ آذار العام 1975 المعروفة باسم “اتفاقية الجزائر” بين شاه إيران وصدام حسين، وعلى اثر ذلك انهارت الحركة الكردية المسلحة، الأمر الذي كان مساومة على حسابها بررها هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة، بافتراق السياسة عن الاخلاق، ولعل ذلك كان أول إشارة لحساب تحسين العلاقات بين البلدين.

المرحلة الثالثة: هي فترة الحرب العراقية  الإيرانية (1980-1988) التي شهدت عودة غير مباشرة للعلاقات العراقية  الأمريكية، حيث كانت واشنطن ترغب في الإطاحة بالثورة الإيرانية التي قضت على شاه إيران العام ،1979 ولعل ذلك كان عنصر تشجيع لبغداد أيضاً. وبالإمكان وصف هذه الفترة “بشهر العسل الصامت” أو “الزواج غير المعلن”، فالعلاقات ظلّت مقطوعة رسمياً، لكن الكثير من الشركات الأمريكية أعادت عملها في العراق، وكان دونالد رامسفيلد الذي أصبح وزيراً للدفاع في عهد الرئيس بوش وأسهم بحماسة في غزو العراق، قد زار العراق والتقى الرئيس العراقي السابق صدام حسين، العام 1984.

وخلال فترة العدوان “الإسرائيلي” على لبنان واحتلال العاصمة بيروت، أدلى الرئيس السابق بتصريحات (في أغسطس/ آب 1982 أثناء استقباله عضو الكونجرس الأمريكي سولارز لم تنشر إلا بعد مرور نحو 4 أشهر في جريدة “الثورة” العراقية ديسمبر/ كانون الأول 1982) ما يفيد استعداد العراق للاعتراف ب”إسرائيل”، وفد فسّرت المسألة في حينها تكتيكاً لكسب واشنطن، طالما كانت الحرب قد اتخذت مسار التراجع من الجانب العراقي بعد تشديد الهجمات الإيرانية، وبخاصة بعد معركة المحمّرة (خورمشهر) 1982 وإعلان العراق سحب قواته، ومحاولة إيران اختراق الأراضي العراقية وعبور الحدود الدولية.

وحسب الجنرال (وفيق السامرائي) مدير الاستخبارات العراقية الأسبق فقد كان ممثل عن ال CIA “المخابرات المركزية الأمريكية” يداوم في مقر الاستخبارات العسكرية لتقديم الخبرة والدعم للعراق في حربه ضد إيران، ولعل هذه اللعبة كان الأمريكان قد مارسوها على نحو مزدوج مع الإيرانيين، حين كانو يسلّمون صور الأقمار الصناعية إلى البلدين، لاستمرار الحرب.

المرحلة الرابعة: بدأت بعد غزو القوات العراقية للكويت قي 2 أغسطس/ آب 1990 حيث عادت العلاقات العراقية  الأمريكية إلى التدهور حتى وصلت نقطة اللاعودة بعد مغامرة صدام حسين. واستمرت هذه المرحلة إلى العام ،2003 وشهد العراق خلالها حربين ضده، الحرب الأولى سميت “حرب تحرير الكويت” ابتدأت في 17/1/1991 واستمرت 42 يوماً وانتهت بانسحاب القوات العراقية من الكويت بعد هزيمتها في 28 فبراير/ شباط من العام ذاته، وكانت هذه الحرب في الوقت نفسه “حرب تدمير العراق” وبنيته التحتية ومرافقه الاقتصادية والحيوية.

أما الحرب الثانية فهي حرب قوات التحالف ضد العراق، التي انتهت بوقوعه تحت الاحتلال في 9 إبريل/ نيسان ،2003 وإذا أردنا إضافة “الحصار الدولي” المفروض بقرارات مجلس الأمن التي زادت على 60 قراراً فإنه يمكننا التأشير لحرب ثالثة استمرت 13 عاماً، وعانى العراقيون خلالها من مجاعة حقيقية ومحق لإنسانيتهم، فاقمت من مأساتهم، وتركت هذه الفترة تأثيراتها السلبية الخطيرة على حاضر ومستقبل العراق اجتماعياً ونفسياً وعلى بنيته المجتمعية.

وإذا كان العراقيون بقسمهم الأكبر والأغلب يتطلعون إلى الخلاص من الدكتاتورية، فإن سقوط نظام صدام حسين أدى إلى انهيار الدولة العراقية، لاسيما بحل مؤسسة الجيش، العابرة للاثنيات والطوائف، والتي عمل بول بريمر على تفكيكها فاضطر العراقيون للاحتماء بمرجعياتهم التقليدية، بعد أن فقدوا مرجعية الدولة الحامية ومؤسستها العسكرية والأمنية.

المرحلة الخامسة: كانت بعد الاحتلال وشهدت فترة قصيرة تولى فيها الحاكم العسكري الأمريكي (جي غارنر) الحكم المباشر والتي انتهت بتسليم بول بريمر مقاليد السلطة المطلقة في 13 مايو/ أيار 2003 وبقائه فيها لغاية أواخر يونيو/ حزيران ،2004 رغم وجود ما سمّي بمجلس الحكم الانتقالي.

ويمكن القول إن علاقات بغداد  واشنطن من عام 2003 ولغاية العام ،2008 هي الأشد سوءاً بالنسبة للعراقيين، لاسيما خلال فترة الرئيس بوش، حيث عانى العراق من نظام المحاصصة الطائفي والمذهبي والاثني، وشهد عنفاً لم يكن معروفاً على الإطلاق، وإرهاباً منفلتاً من عقاله، وميليشيات متنوعة وفساداً ورشوة، حيث ظل الوضع الأمني رغم التحسين هشّاً وقلقاً.

أما المرحلة السادسة: فهي مرحلة الرئيس أوباما ولا تزال مستمرة. وقد سألني معهد كارنيجي بعد نجاح الرئيس أوباما في استطلاع لعدد من المثقفين العرب: ماذا يريد المثقف العربي من الرئيس الأمريكي الجديد؟ وأظن أن إجابتي تتضمن رؤيتي المستقبلية للعلاقات العراقية  الأمريكية، لاسيما بعد الأخطاء والخطايا الفادحة للرئيس بوش طيلة فترة حكمه، وبخاصة بعد احتلال العراق، وأجبت أنه يريد:

1 انسحاب القوات الأمريكية من العراق بأسرع وقت ممكن طبقاً لوعود الرئيس أوباما.

2 إعادة بناء العراق لأن ذلك جزء من مسؤولية الولايات المتحدة، التي عليها تعويضه.

3 مساعدة العراق للخروج من الفصل السابع طبقاً لأحكام ميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدولي.

4 مساعدة العراق في الحفاظ على وحدته واستعادة سيادته، وذلك لمواجهة محاولات التدخل الإقليمي بشؤونه.

5 دعم وتشجيع الخطوات نحو الديمقراطية والإصلاح في العراق ولدى دول المنطقة في إطار التعايش السلمي المجتمعي للمكوّنات المختلفة، وتحقيق أمنها الإنساني في إطار دولة مدنية حرة عصرية.

6 مساعدة الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه والضغط على “إسرائيل” لوقف العدوان وبشكل خاص على غزة، وإيجاد مخرج عملي لفكرة الدولة الفلسطينية القابلة للحياة.

أعتقد أن الحوار بين بغداد وواشنطن لا بدّ أن يتضمن هذه المحاور الأساسية، سواء احتوتها الاتفاقية الأمنية أم لم تحتوها؟ وذلك بهدف استعادة الثقة بين العراقيين والأمريكان التي لا تزال مفقودة حتى الآن. وقد أدرك الرئيس أوباما الهوة السحيقة بين الولايات المتحدة والعالمين العربي والإسلامي، فدعا من على منبر جامعة القاهرة إلى حوار وتعايش وتسامح بين الأديان والثقافات والحضارات.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 4/11/2009

1107
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (1)
عبدالحسين شعبان
2009-11-02

جزيرة الحرية: الجمال والشغب


زيارتي إلى كوبا هي الرابعة في زياراتي إلى أميركا اللاتينية، القارة التي ظلت مرجلا يغلي منذ نحو نصف قرن من الزمان، فقد شق سكونها بعد الحدث الغواتيمالي عام 1954 انتصار الثورة الكوبية وسقوط نظام باتيستا في 1 يناير العام 1959.
وتعود علاقتي بكوبا منذ تفتح وعيي، لاسيما بعد ثورة 14 يوليو 1958 في العراق، حين اعتبر «الثوريون» انتصار الثورة الكوبية بمثابة الرديف لانتصار الثورة في العراق، معقل حلف بغداد، حيث كان المعقل الثاني هو نظام الدكتاتور باتيستا في كوبا التي لا تبعد شواطئها عن شواطئ ميامي الأميركية أكثر من 90 ميلا، الأمر الذي كان يثير فينا الغبطة والإعجاب عن اختراق «الفناء الخلفي» لواشنطن، كما كانت تسمى كوبا وعدد من دول أميركا اللاتينية، والأكثر من ذلك هو طريقة الانتصار الرومانسية الثورية الساحرة لفتية شجعان.
رؤية ما بعد الخمسين لها مغزيان، الأول هو نظرتي الانتقادية للأمور رغم تمسكي بالخيار الاشتراكي بعد 50 عاما واستمرار امتداد خيط الوصل بين الماضي والحاضر وربما المستقبل، والثانية لأن كوبا تحتفل بمرور 50 عاما على انتصارها، وهو الأمر الذي استعدته وأنا في زيارتي لجزيرة الحرية، ومن موقع القراءة الارتجاعية للحدث ومساراته وتحدياته ومنجزاته وصعوباته وأخطائه وارتكاباته، تساوقا مع عالم الحداثة والعولمة، سواء على الصعيد النظري لفحص الشعارات والوسائل بمدى إمكانية تطبيقها في الواقع من جهة، ومن جهة أخرى بمدى القناعة المتحققة لدى الناس المعنيين بالثورة وأبنائها، ومن جهة ثالثة بالقدرة على الاستمرار والعيش بالطريقة ذاتها بعد 50 عاما في ظل تبدلات كبرى تاريخية على الصعيد العالمي.
وكنت قد استذكرت كتاب المفكر الماركسي الإشكالي عامر عبدالله الموسوم بـ «جزيرة الحرية» عام 1976 وحواراتي اللاحقة معه بخصوص كوبا وفيتنام والصين والتجربة الاشتراكية عموما، وقد دون بعض ملاحظاته في كتاب مهم وضعه لاحقا، وربما من «موقع آخر» و «قناعات جديدة» في أواخر التسعينيات عن «مقوضات النظام الاشتراكي العالمي». وقد أعود إلى هذه المسألة وإلى حوارات غير منشورة كنت قد أجريتها مع عامر عبدالله في وقت لاحق.
لقد أدى انهيار الكتلة الاشتراكية وانحلال الاتحاد السوفيتي إلى ترك كوبا وحيدة وعارية في مواجهة الرياح العاتية وعلى نحو مفاجئ وحتى دون كلمة وداع، كما يقال، حيث وجدت نفسها يتيمة في مواجهة الحصار الاقتصادي الجائر، لاسيما بعد العام 1991، حين أخذ الحصار يفعل فعله في المجتمع الكوبي، متمثلا بشح البضائع والسلع والمواد الاستهلاكية الضرورية ومحدودية الأجور وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة وأزمة البنزين، فضلا عن تنامي بعض مظاهر التذمر من داخل الحزب وبالأساس من خارجه، فلم تعد الإيمانية العقائدية والآمال الكبرى تعوض عن الواقع المرير، خصوصا بعد صبر طويل، الأمر الذي يستوجب وقفة متأنية لمعالجة سبل التعامل مع الاختلاف، وإعادة النظر في مسألة الحزب الواحد وتأثيراتها السلبية وتطوير آليات العمل السياسي والمهني في إطار التنوع والتعددية، ولكن في ظل الخيار الاشتراكي وليس خارجه، وبصيغ ديمقراطية وليست قسرية.
وبالعودة إلى نجاح الثورة فقد كانت المعركة الفاصلة لثوار جبال السيرامايسترا هي الهجوم الذي قاده تشي جيفارا على القطار الذي كان ينقل عتادا حربيا للدكتاتور في هافانا، فاعترضه الأنصار المسلحون في مدينة سانتا كلارا ذات السماء الفضية (حيث يوجد نصب ومتحف ومقبرة لجيفارا ورفاقه) بهجوم مباغت بتراكتور، وقد استسلم جنود الحكومة الكوبية، وشاع خبرهم، واضطر باتيستا إلى الفرار إلى الولايات المتحدة، وحدثت المفاجأة حين امتنعت سلطاتها عن استقبال طائرته فاتجه إلى الدومينيكان الذي كان يحكمه صديقه الدكتاتور نوهيو.
وكان الثوار قد انطلقوا في العام 1956 بعد فشل حركتهم في العام 1953 واعتقالهم بما فيهم كاسترو وشقيقه راؤول وجيفارا، ونزلوا إلى الشواطئ الكوبية قادمين من هايتي التي تجمع فيها 82 ثائرا، لكنه لم يبق منهم سوى 21، بعد أن كان في انتظارهم جلاوزة باتيستا.
زيارة جزيرة الحرية جاءت بعد تأخرها أكثر من ثلاثة عقود، حيث كان مقررا زيارتي للمشاركة في مهرجان الطلاب والشباب الذي انعقد في كوبا في صيف العام 1978، لكن تعقيد الأوضاع السياسية في العراق وطلبي لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية حال دون ذلك، وحدث لأكثر من مرة أن تلقيت دعوة لزيارة خاصة لكوبا، لكن بعض العوائق والالتزامات وقفت في طريقي.
وصلت هافانا وكلي فضول لمشاهدة هذه الجزيرة الجميلة، المشاغبة، العصية، التي شغلت الولايات المتحدة والعالم برؤية سياسية ما بعد الخمسين (سأتحدث عن رؤيتي للمشهد الثقافي في مقالة قادمة)، وبعقلية مثقف ناقد ويسعى لقراءة التجربة الكبيرة والمميزة بكل ما لها وهو كثير جدا، لشعب بسيط وطيب وشجاع ومرح، وكل ما عليها وهو ليس بقليل، لاسيما وقد عاشت التجربة تحت هاجس الضغط والتآمر الخارجي الأميركي منذ اليوم الأول ولغاية عامها الخمسين، خصوصا تأثير الحصار الدامي الذي تعرضت له، وهو حصار شامل بكل معنى الكلمة، يبدأ من أصغر الأشياء حتى أكبرها، ومن قلم الرصاص إلى المعدات والأجهزة، ولأنني عراقي أعرف معنى الحصار الذي وقع على شعبي والظلم والحيف الذي لحقه طيلة 13 عاما بغض النظر عن الحاكم، فأستطيع أن أدرك وأن أهجس ما عاناه الشعب الكوبي من عسف واضطهاد طيلة خمسة عقود من الزمان جراء الحصار اللاإنساني.
ولعل الفارق بين الحصارين العراقي والكوبي، أن الحصار الأول كان بقرارات مجحفة ومذلة من مجلس الأمن الدولي، في حين أن قرار الحصار الكوبي كان أميركيا بامتياز، وإن شمل دولا وشركات عملاقة تأتمر بأمر واشنطن، رغم تنديد الجمعية العامة للأمم المتحدة به لأكثر من 14 مرة وبتأييد من غالبية أعضائها باستثناء الولايات المتحدة وإسرائيل.
الحصار هو حرب بوسائل أخرى قد تكون أكثر خطورة وخبثا وضررا، لكنه بوسائل غير حربية، حتى وإن بدت ناعمة لكنها أكثر مكرا وإيذاء، وهو مثل دودة تأكل في جسد كوبا اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا ولا تزال، وهو ليس حصارا ضد السلطة الكوبية حسب، بل هو ضد الشعب الكوبي الذي يراد إذلاله والحط من كرامته بل وطحن عظامه.
كان جل اهتمام كوبا الهاجس الأمني وردم الثغرات التي سببها الحصار خلال السنوات الخمسين، وهي مهمات طوارئ أقرب إلى الظرفية منها إلى التنمية الإنسانية المستدامة بمعناها السائد، وحتى لو تمكنت كوبا من التخلص من الأمية وحققت نظاما تعليميا متطورا ونظاما صحيا مشهودا، إلا أنها كانت تئن تحت وطأة حصار شامل ومتراكم وحاجات ضرورية للبشر لا يمكن الاستغناء عنها في النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وهي متطلبات كل ما يتعلق بالحداثة التي لا يمكن العيش خارجها.
*باحث ومفكر عربي


7813 العدد - صحيفة العرب القطرية - الاثنين 2 نوفمبر 2009 م - الموافق 14 ذو القعدة 1430 هـ


1108
الفيدرالية في البرلمان الكندي
عبدالحسين شعبان
2009-10-26
نظم المركز الدولي للتجديد الحكومي (CIGI) ومؤسسة الخطوات البراغماتية للأمن العالمي (Stimson) ندوة دولية- فكرية في البرلمان الكندي حول المسألة الفدرالية، شارك فيها أكاديميون وباحثون وممارسون كنديون وأميركان وعراقيون في إطار حوار معرفي- ثقافي لموضوع حساس ومهم يتعلق بحاضر ومستقبل العراق.
وكان السفير القدير مختار لماني الذي عمل ممثلاً للجامعة العربية في بغداد، خلال عام 2006 و2007 واستقال من منصبه، قد نظم خلال الثمانية عشر شهراً الماضية عدداً من الفعاليات والأنشطة بهدف استكشاف رؤى وتصورات حول الهوية والمواطنة والمسألة الطائفية والأقليات والمستقبل العراقي، وذلك في نطاق مشروع ثقافي فكري غير سياسي لا يتعلق بالتفاوض أو المصالحة بين القوى السياسية، بقدر ما يمكن اعتباره مجسّاً لمواقف وأفكار وآراء النخب الفكرية والسياسية من موقع السلطة في العراق ومن خارجها، إزاء التحديات والإشكالات التي تواجه العراق راهناً ومستقبلاً، استناداً إلى تشجيع ثقافة الحوار وتبادل وجهات النظر، بإشراك عدد من الجامعات ومراكز الأبحاث الكندية والأجنبية.
ولعل هذه الندوة التي جاء تنظيمها في البرلمان وبحضور متميز، تكتسب أهمية خاصة، لاسيما أنها تلقي ضوءا كاشفا حول موضوع راهنيّ لا يزال الجدل بشأنه يكتسب أهمية فائقة، وربما يتوقف عليه مستقبل العملية السياسية، خصوصاً أن العلاقات العربية-الكردية، تشكل مرتكزاً أساسياً لها وركناً كيانياً من أركانها، بل من مقومات الدولة العراقية، منذ تأسيسها عام 1921 سلباً أو إيجاباً.
وبقدر وجود تجاذبات واختلافات واصطفافات كانت قد تشكلت أو قد تتشكل ما بعد الانتخابات النيابية القادمة في شهر يناير القادم 2010، فإن استكشاف هذه الرؤى يستند إلى تصورين أساسيين، الأول الذي ينظر إلى العملية السياسية باعتبارها حجر الرحى في تطور الوضع العراقي ولأية تغييرات محتملة، والثاني يراهن على ضرورة إجراء تغييرات بنيوية، إن لم يكن إلغاء العملية السياسية برمتها، ومع ذلك فالحوار اكتسب بُعداً معرفياً ضرورياً، فيما يتعلق بمصطلح الفدرالية ودلالته بعد أن قدم البروفسور ديفيد كاميرون من جامعة تورنتو عرضاً نظرياً لمفهوم الفدرالية وتجاربها المختلفة.
يمكنني القول إن مصطلح الفدرالية عراقياً دخل الأدب السياسي منذ عقدين من الزمان، واكتسب الحوار بشأنه بُعداً جديداً بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس 1990، وشعرت بعض القوى بأن مشروع الحكم الذاتي قد انتهى منذ زمن، ولا بد من تطوير صيغة جديدة للعلاقة العربية-الكردية.
وإذا كان الحزبان الكرديان الاتحاد الوطني الكردستاني, والديمقراطي الكردستاني، قد ناقشا إرهاصاتٍ وأفكاراً تتعلق بمشاريع فدرالية، فإن الحزب الشيوعي العراقي والمجلس العراقي الحر منذ عام 1991، بحثا بصيغ أولية ومتبلورة فيما بعد، مشروع الفدرالية في أدبياتهما.
واستندت بعض النقاشات حول الفدرالية على التأثير الكبير الذي تركه صدور القرار 688 من مجلس الأمن الدولي، القاضي بوقف القمع الذي تعرضت له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق واحترام حقوق الإنسان السياسية، باعتبار انتهاكها يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وذلك في إطار تطور فقهي- نظري على أقل تقدير.
ولعل هذا القرار أعاد القضية الكردية إلى الأروقة الدولية بعد أن اختفت عنها طيلة 80 عاماً، وذلك بإسدال الستار على معاهدة سيفر (SEVER) المبرمة عام 1920 التي أقرت بجزء بسيط من حقوق الشعب الكردي، بتأكيد معاهدة لوزان عام 1923 التي تنكرت لمثل هذا الإقرار.
في 4 أكتوبر وبعد الانتخابات الكردية (مايو 1992) تبنى برلمان كردستان قانوناً للاتحاد الفدرالي (من طرف واحد) كصيغة للدولة العراقية (المقترحة). وفي مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية (نوفمبر 1992) وافقت القوى المشتركة فيه على صيغة الفدرالية، اتحاداً طوعياً للدولة العراقية المنشودة، بتحفظ الإسلاميين عند تفسيرها بوضع مصطلح «الولايات» مقابل الفدرالية (وكان هذا رأي حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى ومنظمة العمل الإسلامية وشخصيات أخرى)، وجاء هذا التغيير في مواقفها بإقرارها صيغة حق تقرير المصير للشعب الكردي (وإن جاءت مقيدة في موضع ومفتوحة في موضع آخر، بتأكيد عبارة دون الانفصال التي كتبها جلال الطالباني بقلمه) في مؤتمر فيينا (يونيو 1992). ولعل هذا التطور يعتبر نقلة غير مسبوقة في الموقف من القضية الكردية في إطار الموقف المشترك للقوى السياسية العراقية، لاسيما المعارضة.
ومع تأييد مشروط وتحفظ مكبوت حول الفدرالية، انتقل الحوار بشأنها إلى مواقع السلطة بعد احتلال العراق وسقوط سلطة صدام حسين، حيث شاركت في الحوار قوى وشخصيات جديدة، لاسيما من داخل العملية السياسية ومن خارجها، خصوصاً عند مناقشة قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، الذي تم إقراره في 8 مارس 2004، بعد أن كان قد أعد الصيغة نوح فيلدمان (الأميركي-اليهودي) وازداد النقاش سخونة عند بحث موضوع الدستور الدائم الذي تمت المصادقة عليه في 15 أكتوبر 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه في 15 ديسمبر من العام ذاته، وجاءت حكومة نوري المالكي التي أعقبت حكومتي الدكتور علاوي والدكتور الجعفري بانتهاء عهد حكومة مجلس الحكم الانتقالي الأولى.
لكن مشكلة الفدرالية رغم إقرارها في الدستور لم تنته، بل ازدادت حدة وتعارضاً وتعقيداً، لاسيما في التطبيق العملي، ليس بين المؤيدين والمعارضين فحسب، بل من داخل معسكر الحكم إذا جاز التعبير، خصوصاً فيما يتعلق بالصلاحيات، وموضوع عقود النفط والمناطق المتنازع عليها والمادة 140 من الدستور الدائم, والمادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، بخصوص كركوك، وغيرها من المشكلات التي أخذت تكبر بتنازع السلطات الاتحادية والمحلية (الإقليمية).
المشكلة الأساسية بشأن الفدرالية لا تتعلق ببعض العقد والإشكالات التاريخية فحسب, بل شملت بعض الحساسيات الجديدة بشأن مواقع وأدوار الأطراف المختلفة، فضلاً عن مناطق النفوذ والامتيازات والصلاحيات، ناهيكم عن الخلفيات السياسية والفكرية للأحزاب والقوى والجماعات السياسية، ومواقف بعضها «التاريخية»، معارضة أو اتفاقاً.
وكان موضوع الفدرالية مدار نقاش وحوار جدي داخل قبة البرلمان الكندي، خصوصاً بما له علاقة بمستقبل العراق ومواقف القوى المؤتلفة- المختلفة، والمتعارضة فيه، ولعل ما ورد في الدستور الدائم من نصوص زاد الأمر تعقيداً، باختلاف التفسيرات والارتيابات والتخندقات!، الأمر الذي يحتاج إلى نقل الحوار ليتخذ طابعاً ميدانياً أكثر عمقاً وشمولاً، وخاصة إذا اتسم بالحرص والمسؤولية على تأكيد الهوية العراقية العامة، في إطار احترام الهويات الفرعية وحقوق الكرد التاريخية، لاسيما إذا اكتسبت المسألة بُعداً قانونياً وإدارياً يستجيب لمتطلبات تطور الدولة العراقية وشكل نظامها السياسي.



7806 العدد - صحيفة العرب القطرية  الاثنين 26 أكتوبر 2009 م - الموافق 7 ذو القعدة 1430 هـ


1109
5 اتجاهات إزاء الفيدرالية في العراق
   
عبدالحسين شعبان
عشية إجراء الانتخابات النيابية في العراق المزمع إجراؤها في 15 يناير/ كانون الثاني 2010 يتجدد النقاش والجدل والصراع حول موضوع الفيدرالية تأييداً أو تنديداً، تصريحاً أو تلميحاً، وهو ما يمكن استكشافه من خلال خمسة اتجاهات أساسية تحدد الموقف من الفيدرالية في العراق وتقويمات القوى المؤيدة والمعارضة لها، ونستطيع من خلالها رسم ملامح الخارطة السياسية العراقية.

1  الاتجاه الأول القوى المؤيدة للفيدرالية، كما جاءت بحذافيرها في الدستور العراقي الدائم، والتزاماً بأحكامه وسعياً لتأكيد سلطاته من خلاله وبواسطته، لاسيما القوى الكردية، وبالتحديد حكومة إقليم كردستان، وبرلمانها، الذي رسم ملامح دستور جديد لكردستان قبيل انتهاء دورته الأخيرة 2009. ومن القوى المؤيدة إلى حد ما لهذا التوجه أو أنها لا تعارضه أو تتحفظ عليه، الحزب الشيوعي العراقي وبعض المحسوبين عليه والقريبين من العملية السياسية.

لكن المشكلة لا تتعلق بالدستور حسب، رغم أنه سبب المشكلة الأساسي، لاسيما ببعض صياغته المبهمة والتي يمكن تفسيرها أو قراءتها على نحو مختلف، بل في الجوانب العملية التي تترتب على النصوص والوقائع، خصوصاً تحفظ قوى من داخل العملية السياسية، بما فيها أركان حكومة المالكي، على الدور الكردي المتعاظم.

2  الاتجاه الثاني قوى مؤيدة للفيدرالية من داخل العملية السياسية، لكنها تنظر إليها باعتبارها جزءاً من صفقة تاريخية، لاعتقادها أن الموافقة على الفيدرالية الكردية يجعل الحركة الكردية توافق على فيدرالية أو فيدراليات الجنوب (العربية) (واحدة أو متعددة)، في إطار تقاسم وظيفي “طائفي  اثني” وهو ما حصل لدى إقرار قانون الأقاليم الذي تم تجميد تطبيقه إلى 18 شهراً، انتهت من دون أن تحرك ساكناً القوى التي حضّرت له ونافحت من أجله كثيراً، وذلك بسبب رد فعل شعبي وظروف وصراعات ما بين أطرافها.

وإذا كان رئيس الوزراء نوري المالكي قد وافق على الفيدرالية الكردية وأبدى مرونة في الأسابيع والأشهر الأول إزاء تطبيقاتها، إلا أنه عاد وتمسك على نحو شديد “بمركزية” الدولة، وسعى لتوسيع صلاحياتها الاتحادية على حساب سلطات الأقاليم التي عبّر عنها بضرورة إعادة النظر في الدستور، لكن مواقفه تلك لم تترجم إلى واقع عملي باستثناء بعض ردود الأفعال، خصوصاً عندما اكتسبت موقفاً أكثر حزماً بشأن عقود النفط في حكومة الإقليم التي عارضها وزير النفط الدكتور حسين الشهرستاني بشدة، وموضوع كركوك الذي تحرّك مؤخراً بسماع مقترحات المفوض الدولي، التي لم ترضِ أحداً أو لم تستطع الوصول إلى التوافق المُنتظر، وهو الأمر الذي، حسب تقديري المتواضع، لا يمكن حسمه، لا بتطبيق المادة 140 أو إلغائها، ولا بالإحصاء السكاني أو من دونه، لأنه أكثر تعقيداً مما نتصور لارتباطه بمشكلات تاريخية بعضها موروثة من الحكم السابق، وبعضها تفاقمت خلال الاحتلال، بين الكرد والتركمان والعرب، ناهيكم عن اشتباكها مع ملفات أخرى بما فيها إقليمية.

3 الاتجاه الثالث يميل إلى الموافقة على الفيدرالية الكردية كتحصيل حاصل وحقيقة قائمة وأمر واقع

status que وجزء من توازن القوى الحالي

Balance of Power  (المُختل)، لكنه يرفض بشدة الفيدراليات الجنوبية.

ولعل بعض القوى التي توافق على الفيدرالية الكردية تنتظر دعم القوى الكردية لرفضها الفيدراليات الجنوبية، على عكس الاتجاه الثاني الذي ينظر إلى موافقته على الفيدرالية الكردية، عربوناً لموافقة الحركة الكردية على الفيدراليات الجنوبية.

وبعض أصحاب هذا الاتجاه ينظرون إلى تأييد الفيدرالية الكردية باعتباره تكتيكاً للوقوف ضد الفيدرالية الجنوبية وضد الاتجاهات المتنفّذة في الحكومة الحالية برئاسة المالكي. من أصحاب هذا الاتجاه جبهة التوافق وبخاصة الحزب الإسلامي، وقائمة التجديد برئاسة طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية الحالي، وقائمة الجبهة الوطنية للحوار برئاسة الدكتور صالح المطلك، وقائمة الوفاق (الوطنية) برئاسة الدكتور علاوي وغيرها.

4 الاتجاه الرابع يؤيد الفيدرالية كمبادئ وقواعد دستورية وإدارية، لكنه يفترق عنها في التطبيق، لاسيما ببعض التفسيرات الضيقة، وبعض أصحاب هذا الاتجاه من الماركسيين واليساريين والديمقراطيين والليبراليين، الذين لا يميل بعضهم إلى ما ورد في الدستور لأنه مخالف لقواعد النظام الفيدرالي كمفهوم اكتسب إقراراً عبر تجارب مشهودة، وناجحة لنحو 25 دولة وأكثر من 40% من سكان البشرية، ناهيكم عن أن هذه الصيغة لم تأخذ حيّزاً كافياً من الحوار، لاسيما أن اقرارها جاء في ظروف الاحتلال، وفي أوضاع استثنائية وغير طبيعية، ناهيكم عن موجة العنف والإرهاب التي ضربت العراق، خلال الفترة تلك.

إن تأييد أصحاب هذا الاتجاه للفيدرالية كمبادئ وقواعد متطورة، يجعلهم حائرين وقلقين في أحيان كثيرة من العودة إلى المربع الأول باحتدام الأوضاع واحتمال تجدد الصراعات الضيقة، خصوصاً بتنامي اتجاهات مركزية صارمة داخل الحكومة الاتحادية، تقابلها اتجاهات انعزالية لدى الإقليم، وفي كل الأحوال يوجد من يدفع الأمور باتجاه التباعد والتطرف أحياناً، والابتعاد عن دائرة الحوار، تلك الدائرة التي ينبغي أن تكون هي الأساس في أية تغييرات أو تطورات.

5 الاتجاه الخامس يعارض الفيدرالية بشدّة كمبادئ وتطبيقات ويعتبرها دعوة مبطّنة ومقدمة خطيرة للتقسيم والانفصال، ومن أصحاب هذا الاتجاه حزب البعث حالياً (رغم أنه شرّع قانون الحكم الذاتي العام 1974 بعد بيان 11 آذار 1970 الذي اعترف بحقوق الكرد القومية، وأدرجها في الدستور العراقي المؤقت الذي صدر في 16 يوليو/ تموز من العام ذاته بتأكيده على أن الشعب العراقي مكوّن من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية). ومن القوى الرافضة لفكرة الفيدرالية بعض القوى والشخصيات القومية العربية، في حين ذهب البعض منها لتأييد المشروع الفيدرالي من دون ابداء تحفظات بشأنه، باستثناء الموقف من فيدراليات الجنوب، ومن أكثر المواقف تشدداً إزاء الفيدرالية هيئة علماء المسلمين التي يرأسها الدكتور حارث الضاري.

إن الاتجاه الغالب لدى معارضي الفكرة الفيدرالية يقوم على أنها جاءت مع الاحتلال ويعتبرونها جزءاً من مشروع “إسرائيلي” قديم. أما تنظيم القاعدة وزعيماه أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، فيميل إلى اعتبارها فكرة صليبية تهدف إلى تقسيم وحدة العراق والأمة الإسلامية رغم اختلافهما في المنطلقات وفي التقييم.

ولعل مناسبة هذا الحديث هو مناقشة موضوع الفيدرالية في البرلمان الكندي بمبادرة من المركز الدولي للتجديد الحكومي CIGI ومؤسسة الخطوات  البرغماتية للأمن العالمي Stimson في إطار استكشاف لرؤى وتصورات عبر الحوار لأكاديميين وباحثين عراقيين وكنديين وأمريكان، وهو حوار لا يتضمن مشروعاً سياسياً بخصوص المصالحة أو دعم العملية السياسية أو نقضها، بقدر ما يستهدف تكوين صورة دقيقة لفاعليات وأنشطة عراقية ودولية، بشأن موضوع مهم وحساس يتعلق بمستقبل العراق، وهو ما عبّر عنه السفير مختار لماني ممثل جامعة الدول العربية في العراق، الذي استقال من منصبه بعد أن عمل ما بين العام 2006-،2007 باعتباره أحد المنظمين الأساسيين لبرنامج الحوار.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليخ الاماراتية ، الاربعاء، 28/10/2009

1110
الفيدرالية في البرلمان الكندي
عبدالحسين شعبان
2009-10-26
نظم المركز الدولي للتجديد الحكومي (CIGI) ومؤسسة الخطوات البراغماتية للأمن العالمي (Stimson) ندوة دولية- فكرية في البرلمان الكندي حول المسألة الفدرالية، شارك فيها أكاديميون وباحثون وممارسون كنديون وأميركان وعراقيون في إطار حوار معرفي- ثقافي لموضوع حساس ومهم يتعلق بحاضر ومستقبل العراق.
وكان السفير القدير مختار لماني الذي عمل ممثلاً للجامعة العربية في بغداد، خلال عام 2006 و2007 واستقال من منصبه، قد نظم خلال الثمانية عشر شهراً الماضية عدداً من الفعاليات والأنشطة بهدف استكشاف رؤى وتصورات حول الهوية والمواطنة والمسألة الطائفية والأقليات والمستقبل العراقي، وذلك في نطاق مشروع ثقافي فكري غير سياسي لا يتعلق بالتفاوض أو المصالحة بين القوى السياسية، بقدر ما يمكن اعتباره مجسّاً لمواقف وأفكار وآراء النخب الفكرية والسياسية من موقع السلطة في العراق ومن خارجها، إزاء التحديات والإشكالات التي تواجه العراق راهناً ومستقبلاً، استناداً إلى تشجيع ثقافة الحوار وتبادل وجهات النظر، بإشراك عدد من الجامعات ومراكز الأبحاث الكندية والأجنبية.
ولعل هذه الندوة التي جاء تنظيمها في البرلمان وبحضور متميز، تكتسب أهمية خاصة، لاسيما أنها تلقي ضوءا كاشفا حول موضوع راهنيّ لا يزال الجدل بشأنه يكتسب أهمية فائقة، وربما يتوقف عليه مستقبل العملية السياسية، خصوصاً أن العلاقات العربية-الكردية، تشكل مرتكزاً أساسياً لها وركناً كيانياً من أركانها، بل من مقومات الدولة العراقية، منذ تأسيسها عام 1921 سلباً أو إيجاباً.
وبقدر وجود تجاذبات واختلافات واصطفافات كانت قد تشكلت أو قد تتشكل ما بعد الانتخابات النيابية القادمة في شهر يناير القادم 2010، فإن استكشاف هذه الرؤى يستند إلى تصورين أساسيين، الأول الذي ينظر إلى العملية السياسية باعتبارها حجر الرحى في تطور الوضع العراقي ولأية تغييرات محتملة، والثاني يراهن على ضرورة إجراء تغييرات بنيوية، إن لم يكن إلغاء العملية السياسية برمتها، ومع ذلك فالحوار اكتسب بُعداً معرفياً ضرورياً، فيما يتعلق بمصطلح الفدرالية ودلالته بعد أن قدم البروفسور ديفيد كاميرون من جامعة تورنتو عرضاً نظرياً لمفهوم الفدرالية وتجاربها المختلفة.
يمكنني القول إن مصطلح الفدرالية عراقياً دخل الأدب السياسي منذ عقدين من الزمان، واكتسب الحوار بشأنه بُعداً جديداً بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 أغسطس 1990، وشعرت بعض القوى بأن مشروع الحكم الذاتي قد انتهى منذ زمن، ولا بد من تطوير صيغة جديدة للعلاقة العربية-الكردية.
وإذا كان الحزبان الكرديان الاتحاد الوطني الكردستاني, والديمقراطي الكردستاني، قد ناقشا إرهاصاتٍ وأفكاراً تتعلق بمشاريع فدرالية، فإن الحزب الشيوعي العراقي والمجلس العراقي الحر منذ عام 1991، بحثا بصيغ أولية ومتبلورة فيما بعد، مشروع الفدرالية في أدبياتهما.
واستندت بعض النقاشات حول الفدرالية على التأثير الكبير الذي تركه صدور القرار 688 من مجلس الأمن الدولي، القاضي بوقف القمع الذي تعرضت له المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق واحترام حقوق الإنسان السياسية، باعتبار انتهاكها يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وذلك في إطار تطور فقهي- نظري على أقل تقدير.
ولعل هذا القرار أعاد القضية الكردية إلى الأروقة الدولية بعد أن اختفت عنها طيلة 80 عاماً، وذلك بإسدال الستار على معاهدة سيفر (SEVER) المبرمة عام 1920 التي أقرت بجزء بسيط من حقوق الشعب الكردي، بتأكيد معاهدة لوزان عام 1923 التي تنكرت لمثل هذا الإقرار.
في 4 أكتوبر وبعد الانتخابات الكردية (مايو 1992) تبنى برلمان كردستان قانوناً للاتحاد الفدرالي (من طرف واحد) كصيغة للدولة العراقية (المقترحة). وفي مؤتمر صلاح الدين للمعارضة العراقية (نوفمبر 1992) وافقت القوى المشتركة فيه على صيغة الفدرالية، اتحاداً طوعياً للدولة العراقية المنشودة، بتحفظ الإسلاميين عند تفسيرها بوضع مصطلح «الولايات» مقابل الفدرالية (وكان هذا رأي حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى ومنظمة العمل الإسلامية وشخصيات أخرى)، وجاء هذا التغيير في مواقفها بإقرارها صيغة حق تقرير المصير للشعب الكردي (وإن جاءت مقيدة في موضع ومفتوحة في موضع آخر، بتأكيد عبارة دون الانفصال التي كتبها جلال الطالباني بقلمه) في مؤتمر فيينا (يونيو 1992). ولعل هذا التطور يعتبر نقلة غير مسبوقة في الموقف من القضية الكردية في إطار الموقف المشترك للقوى السياسية العراقية، لاسيما المعارضة.
ومع تأييد مشروط وتحفظ مكبوت حول الفدرالية، انتقل الحوار بشأنها إلى مواقع السلطة بعد احتلال العراق وسقوط سلطة صدام حسين، حيث شاركت في الحوار قوى وشخصيات جديدة، لاسيما من داخل العملية السياسية ومن خارجها، خصوصاً عند مناقشة قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، الذي تم إقراره في 8 مارس 2004، بعد أن كان قد أعد الصيغة نوح فيلدمان (الأميركي-اليهودي) وازداد النقاش سخونة عند بحث موضوع الدستور الدائم الذي تمت المصادقة عليه في 15 أكتوبر 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه في 15 ديسمبر من العام ذاته، وجاءت حكومة نوري المالكي التي أعقبت حكومتي الدكتور علاوي والدكتور الجعفري بانتهاء عهد حكومة مجلس الحكم الانتقالي الأولى.
لكن مشكلة الفدرالية رغم إقرارها في الدستور لم تنته، بل ازدادت حدة وتعارضاً وتعقيداً، لاسيما في التطبيق العملي، ليس بين المؤيدين والمعارضين فحسب، بل من داخل معسكر الحكم إذا جاز التعبير، خصوصاً فيما يتعلق بالصلاحيات، وموضوع عقود النفط والمناطق المتنازع عليها والمادة 140 من الدستور الدائم, والمادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، بخصوص كركوك، وغيرها من المشكلات التي أخذت تكبر بتنازع السلطات الاتحادية والمحلية (الإقليمية).
المشكلة الأساسية بشأن الفدرالية لا تتعلق ببعض العقد والإشكالات التاريخية فحسب, بل شملت بعض الحساسيات الجديدة بشأن مواقع وأدوار الأطراف المختلفة، فضلاً عن مناطق النفوذ والامتيازات والصلاحيات، ناهيكم عن الخلفيات السياسية والفكرية للأحزاب والقوى والجماعات السياسية، ومواقف بعضها «التاريخية»، معارضة أو اتفاقاً.
وكان موضوع الفدرالية مدار نقاش وحوار جدي داخل قبة البرلمان الكندي، خصوصاً بما له علاقة بمستقبل العراق ومواقف القوى المؤتلفة- المختلفة، والمتعارضة فيه، ولعل ما ورد في الدستور الدائم من نصوص زاد الأمر تعقيداً، باختلاف التفسيرات والارتيابات والتخندقات!، الأمر الذي يحتاج إلى نقل الحوار ليتخذ طابعاً ميدانياً أكثر عمقاً وشمولاً، وخاصة إذا اتسم بالحرص والمسؤولية على تأكيد الهوية العراقية العامة، في إطار احترام الهويات الفرعية وحقوق الكرد التاريخية، لاسيما إذا اكتسبت المسألة بُعداً قانونياً وإدارياً يستجيب لمتطلبات تطور الدولة العراقية وشكل نظامها السياسي.


7806 العدد - صحيفة العرب القطرية  الاثنين 26 أكتوبر 2009 م - الموافق 7 ذو القعدة 1430 هـ

1111
92 عاماً على وعد بلفور
   
عبدالحسين شعبان
قبل عامين كتبت عن وعد بلفور لمناسبة مرور 90 عاماً على صدوره في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني ،1917 يوم وجّه آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا آنذاك رسالة إلى اللورد روتشتيلد، دعا فيها إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وجاء فيها:

“يسعدني كثيراً أن أعلن إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي تعاطفاً مع أماني اليهود الصهيونيين، التي قدّموها ووافق عليها مجلس الوزراء، أن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف، وليكن مفهوماً بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو بالحقوق والأوضاع غير القانونية، التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى”.

ولا شك أن الحركة الصهيونية استندت إلى وعد بلفور لتحقيق برنامجها الذي دعا إليه المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في مدينة بال السويسرية العام ،1897 استناداً إلى كتاب الأب الروحي تيودور هيرتزل “دولة اليهود” الذي صدر العام ،1896 فسعت لاحتلال الأرض والعمل والإنتاج والسوق، خصوصاً بالهجرة المنظمة إلى فلسطين.

ولا نريد هنا مناقشة تاريخ القضية الفلسطينية، حيث تتوجت الجهود الدبلوماسية الصهيونية والدولية لإصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم ،181 المعروف بقرار التقسيم، والذي تم على أساسه إنشاء دولة “إسرائيل” في 15 مايو/ أيار ،1948 ومن ثم بدأت عمليات التوسع والقضم لكامل فلسطين عبر حروب واعتداءات لا تزال مستمرة حتى الآن. لكننا هنا نريد أن نتوقف عن الحدث التاريخي الذي مضى عليه 92 عاماً، لنناقش فكرة الوعد، الخاطئة بالمطلق، واللاإنسانية بالكامل، لاسيما التنكر لسكان البلاد الأصليين، الذين أشار إليهم الوعد بجماعات غير يهودية مقيمة في فلسطين، وليست كياناً تاريخياً لشعب يسكن منذ آلاف السنين وجزء من أمة عريقة، شهدت بلادها أقدم حضارات التاريخ.

لقد تعامل وعد بلفور مع فلسطين وكأنها خالية من البشر، وتعهد بمنحها من دون وجه حق، وبشكل لا شرعي إلى غرباء، لاسيما أن بريطانيا دولة محتلة، ليس من حقها التنازل عن شبر واحد من الإقليم المحتل، وأصبحت لاحقاً دولة انتداب، من واجبها تأهيل الدولة المنتدبة، وخلقت بريطانيا طبقاً للتصريح “الوعد” بؤرة نزاع دفعت منطقة الشرق الأوسط أثماناً باهظة بسببها، من مواردها البشرية والمادية، فضلاً عن ذلك أصبحت هذه البؤرة سبباً في شن الحروب والعدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين وفي المنطقة، ناهيكم عن تعطيل التنمية والديمقراطية، بالانشغال بالتسلح، وتبديد الثروات، الأمر الذي جعل المنطقة مرجلاً يغلي باستمرار ويهدد بالانفجار.

وإذا كنت قبل عامين قد طالبت بريطانيا بالاعتذار بسبب الظلم التاريخي الذي أُلحق بالعرب والمسلمين وبخاصة الشعب الفلسطيني، وذلك باقتفاء أثر القمة العالمية ضد العنصرية المنعقدة في ديربن (جنوب إفريقيا) أواخر أغسطس/ آب وأوائل سبتمبر/ ايلول ،2001 التي طالبت الولايات المتحدة بالاعتذار عن سكان البلاد الأصليين (الهنود الحمر)، مثلما طالبت أوروبا الاعتذار من الشعوب الإفريقية، لاسيما في مسألة الاتجار بالرقيق، وما ألحقته من أذى نفسي ومادي بتطورها بسبب السياسة الكولونيالية، وهو ما أقدمت عليه بلجيكا العام ،2002 حين قدّمت اعتذارها، وهو ما تطالب به فرنسا والولايات المتحدة، تركيا للاعتذار من الأرمن بسبب مجازر العام ،1915 فالأولى بواشنطن ولندن ليس الاعتذار فحسب بسبب المأساة المستمرة التي كان آخرها العدوان المفتوح على غزة أواخر العام 2008 واوائل العام ،2009 والذي دام 22 يوماً بعد حصار ما زال مستمراً منذ نحو 3 أعوام، وإنما ينبغي عليهما التعويض لما أصاب الشعب العربي الفلسطيني من غبن وأضرار طيلة السنوات الستين ونيّف الماضية. والاعتذار والتعويض يبدأ بخطوة أولى هي إبطال مفعول الوعد، أي نقضه لأنه يتعارض مع قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني ومبادئ العدالة، وبالتالي لا بدّ من مراجعة تبعاته القانونية والتاريخية واستحقاقاته السياسية والحقوقية والإنسانية.

ولعل سابقة إلغاء القرار 3379 الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني العام ،1975 يمكن الاستناد إليها في ذلك، حين عملت الصهيونية، ليل نهار، لإعدام القرار المذكور حتى نجحت في مسعاها أواخر العام ،1991 وانهزم “العرب” الذين ناموا على نصر سهل، لم يتابعوه ولم يعملوا لوضع متطلباته وتبعاته القانونية موضع التطبيق.

وإذا كانت حالة النكوص الرسمي عربياً هي السائدة، وأن “إسرائيل” لا تزال مستأسدة، لدرجة أنها ترفض حتى تجميد الاستيطان كشرط لإعادة المفاوضات، بعد فشل اتفاقيات أوسلو وواي ريفر وخارطة الطريق، فإن جهداً شعبياً يمكن أن ينطلق ليحرّك المسألة ويضعها في نصابها الصحيح.

وقد كانت جامعة الدول العربية وأمينها العام عمرو موسى قد تبنّت فكرة التحرك الشعبي، لاسيما باستخدام وسائل إعلام دولية وقنوات دبلوماسية، إضافة إلى مشروعية مثل هذا التحرك الذي يطالب بإلغاء الوعد واعتباره باطلاً، لأنه لا يستند إلى أساس قانوني شرعي ويتعارض مع مبادئ العدالة الدولية.

لعلّها فرصة لكي نتعلّم من العدو “إسرائيل” التي طلبت قاعة من الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك لتنظيم اجتماع خصصته للمطالبة بإلغاء القرار ،3379 بعد 10 سنوات على صدوره، وهو القرار الذي دمغ الصهيونية بالعنصرية، واعتبرها شكلاً من أشكال التمييز العنصري، أليس أمامنا فرصة تخصيص قاعة للمطالبة بإلغاء وعد بلفور وكأن شيئاً لم يكن؟

إن هذه الدعوة إضافة إلى شمولها جميع مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان والنقابات والبرلمانات والاتحادات النقابية والمهنية العربية الإسلامية، فإنها موجهة إلى المؤتمر القومي العربي للقيام بدوره التنسيقي على هذا الصعيد، وكذلك بالتعاون مع الجهات الرسمية، لحشد جميع الجهود وتكرار ذلك سنوياً لحين يتمكن العرب من إلغاء الوعد وما ترتب عليه من ظلم تاريخي، ولعل ذلك واحد من أسس المعركة الدبلوماسية الدولية.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 21/10/2009

1112
المجتمع المدني بين الفلسفة والقانون
عبدالحسين شعبان
2009-10-19
تبلور مفهوم المجتمع المدني في سياق نظرية التعاقد الاجتماعي بما يقابل المجتمع السياسي، أي المجتمع المؤسس على التعاقد الاجتماعي، فالغاية من اتحاد الناس في المجتمع المدني، إضافة إلى تحقيق الأمن والسلام، هي المحافظة على ممتلكات الأفراد مثلما يقول جون لوك, وهكذا فحيث يؤلف عدد من الناس جماعة واحدة، ويتخلى كلٌّ منهم عن سلطة تنفيذ السنة الطبيعية التي تخصه، ويتنازل عنها للمجتمع، ينشأ عندنا حينذاك فقط مجتمع سياسي أو مدني.
وقد برزت نظرية العقد الاجتماعي، التي أسهم روسو في ترسيخها بالضد من نظرية الحق الإلهي, من هنا اقترنت فكرة المجتمع المدني بالميدان الليبرالي السياسي، نقيضاً للفكر القروسطي، وهي جزء من مفهوم الدولة الحديثة، والدولة هي آلة تتجه لضبط سلوك الأفراد وحماية أمنهم وسلامتهم وملكيتهم حسب توماس هوبز، الذي كان يعطي لمفهوم الدولة بُعداً أرضياً بإنزال مفاهيم السماء إلى الواقع، عبر الحق الإلهي.
أما جان جاك روسو (1713-1788) فقد دعا إلى عقد اجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، لتنظيم حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في حين أن جون لوك (1632-1704)، اعتبر أن الغرض من العقد الاجتماعي هو الحفاظ على حق الأفراد في الملكية بوجود سلطة تنظم «الحق» في استخدام «العنف» لمعاقبة من ينحرف عن ذلك، لكنه اعتبر «الملكية المطلقة» لا تتفق مع طبيعة المجتمع المدني.
وكان توماس هوبز (1588-1679) قد جاء بفكرة القانون الطبيعي، معتبراً لكل إنسان كامل الحق في ممارسة قدراته الشخصية، وأن حياة الإنسان لا تستقيم من دون تشريعات وتنظيم لممارسة حريته.
أما جون لوك فقد اعتبر المجتمع المدني كأفراد طبيعيين دون دولة، أي مجتمع مدني بانفصال عن الدولة, وهو ما ذهب إليه جان جاك روسو، وقد انتقد هيغل (1770-1831) في كتابه «فلسفة الحق» الصادر عام 1821، نظرية العقد الاجتماعي، واعتبر أن المجتمع المدني قاصر في صيغته التعاقدية عن تحقيق الأمن، والدولة وحدها حسب وجهة نظره هي «نظام» العقل القادر على حماية الحرية.
ويعتقد هيغل أن هناك علاقة مركبة بين الدولة والمجتمع المدني، وهي علاقة تعارضية وتكاملية، فالمجتمع المدني هو مجال لتقسيم العمل وإشباع الحاجات المادية، وهو مجال تنافس الحاجات الخاصة والمتعارضة, أما الدولة فهي النظام السياسي القادر على صيانة مصالح المجتمع المدني، الذي هو حسب وجهة نظره لحظة من لحظات الحياة الروحية، وهي تقع بين العالم البسيط للأسرة الأبوية والدولة المتحكمة في ذاتها.
ولاحظ هيغل ميلاً في المجتمع المدني إلى التذرر والفردية، واعتقد خلافاً لليبراليين الكلاسيكيين على أنواعهم، أنه في سياق نظام الحاجات أو علاقات التذرر والاعتماد المتبادل المتوازنة، لا بد من أن تعلو حسابات السوق من ربح وخسارة على الاعتبارات الأخلاقية.
أما هيغل فإنه يفرق بين المجتمع السياسي (الدولة) وبين المجتمع المدني، الأول يمثل الإرادة العامة، في حين أن الثاني يمثل الإرادة الخاصة، حيث يعبّر عن مصالح الأفراد, ويعتبر هيغل «العائلة» إحدى أسس المجتمع المدني، فالدولة لا يمكن أن توجد بدون الأساس الطبيعي «العائلة»، التي يستند عليها «المجتمع المدني».
وفي نقد كارل ماركس (1818-1883) لأفكار هيغل يتعرض إلى المجتمع المدني، خصوصا في كتابه المثير والغني «الثامن عشر من برومير-لويس بونابرت»، حيث ينتقد الدولة البونابرتية، التي تلغي المجتمع المدني وتهيمن عليه، وهكذا اعتبر ماركس المجتمع المدني ركيزة واقعية للدولة، لكونه يمثل العلاقات المادية للأفراد، وهو مجال للصراع الطبقي، خصوصاً أن المجتمع المدني بالنسبة له هو مجتمع الإنتاج والاقتصاد والطبقات الاجتماعية، أي أنه الواقع الملموس، ذلك أن تدخل الدولة فيه يعني تجريداً له واستلاباً لفاعليته، أي أنه بهذا المعنى ركيزة للدولة ونقيض لها في الآن نفسه.
وقد نظرت الماركسية لفكرة اعتبار المجتمع المدني، يشكل قاعدة مادية مؤسسة للدولة، وقد استخدم كارل ماركس الشاب مفهوم المجتمع المدني بمعاني قريبة الدلالة من مفهوم هيغل، لكنه تخلى عن وجهة نظره هذه في إطار نقده للمثالية الهيغلية، حين اعتبر المجتمع المدني الأساس الواقعي للدولة، وأنه يعبر عن مجموع العلاقات المادية للأفراد في مرحلة محددة من مراحل تطور الإنتاج، وكاستنتاج يمكن القول إن المجتمع المدني عند ماركس هو مجال للصراع الطبقي.
من جهته اعتبر ماركس التذرر الفردي نوعاً من الاغتراب (Alianation) عن الجوهر الاجتماعي، وكذلك تعبيراً عن الصراع الطبقي, وكان رفض ماركس لفكرة مؤسسات وسيطة بين الفرد والدولة، يستهدف استبدال الدولة نفسها بمؤسسات طوعية بين الأفراد بعد ذبول الدولة، أي اضمحلالها، وعند ذلك يزول الفرق بين الفردي والاجتماعي والسياسي، أي أن الدولة تنحل في المجتمع وتذوب فيه.
وبهذا المعنى فإن نقده لفلسفة الحق عند هيغل يقوم على أساس أن المجتمع المدني هو الواقع المتميز، المتبدل والمتنوع، وهو الذات المتطورة في التاريخ، والتي تفعل فعلها وتؤثر في شكل الدولة ونظامها.
لقد رفض ماركس الجماعات الطوعية، التي تتوسط بين الفرد والدولة كحل لمعضلة المجتمع الحديث, أي أنه يرفض الاشتراكية اليوتوبية، في صالح أوتوبيا الاشتراكية، التي تعمم الرابطة الحرة إلى رابطة كونية، أي أن ديمقراطية ماركس لا تقوده إلى الدولة الديمقراطية، بل إلى الأوتوبيا حسب المفكر عزمي بشارة.
وقد طور أنطونيو غرامشي (1891-1937) مفهوم ماركس عن المجتمع المدني باعتباره مجموعة التنظيمات الخاصة، التي ترتبط بوظيفة الهيمنة وكجزء من البنية الفوقية عن طريق الثقافة والأيديولوجيا والسيطرة والإكراه، في حين أن ماركس كان يراه جزءا من البنية التحتية. واستناداً إلى هذه الرؤية غير الكلاسيكية للماركسية، فلم يعد المجتمع المدني فضاء للتنافس الاقتصادي أي للصراع الطبقي، بل هو فضاء للتنافس الأيديولوجي، منبهاً إلى ظاهرة الهيمنة.
إذن أخذ أنطونيو غرامشي بمفهوم جديد للمجتمع المدني باعتباره الفضاء للتنافس الأيديولوجي من أجل الهيمنة، وهو يميل إلى التوسط بين الدولة والمواطن. إن العودة الثانية لمفهوم المجتمع المدني مع نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالمية الثانية، وعلى لسان المفكر الماركسي الإيطالي غرامشي، قد جعلته واسع الدلالة ويحتل هذه المكانة المتزايدة بحكم توصيفه، فهو مجموعة التنظيمات الخاصة، وجزء من البنية الفوقية، التي يميز فيها بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي.
ويعتبر غرامشي أن وظيفة المجتمع المدني هي الهيمنة عن طريق الثقافة والأيديولوجيا، أما وظيفة المجتمع السياسي فهي السيطرة والإكراه, ويعني غرامشي بالمجتمع المدني: كل المؤسسات التي تتيح للأفراد الحصول على الخيرات والمنافع العامة، دون تدخل أو توسط الحكومة، وهو النسق السياسي المتطور، الذي تتيح صيرورة تمأسسه مراقبة المشاركة السياسية.
وإذا كانت الصورة الأولى لمفهوم المجتمع المدني قد تبلورت في إطار نظرية العقد الاجتماعي، وتستهدف التحلل من الهيمنة الدينية على المجتمع, وبالضد من نظرية الحق الإلهي، فهي أقرب إلى فكرة اتفاق في إطار المجتمع وبين أفراده لتأسيس السلطة، بمعيار دنيوي مدني، أي أرضي وليس إلهيا.
إذن, دخلت فكرة المجتمع المدني إلى الفلسفة السياسية، كتعبير عن وجود علاقة بين المجتمع والسياسة، وذلك من خلال الصراع بين فكرة «الحق الطبيعي» وبعدها فكرة «العقد الاجتماعي», وفي اللحظة التي اعتُبرت فيه الدولة قائمة على العقد، وأن المجتمع سابق عليها وقادر على تنظيم نفسه بمعزل عنها، بل هو يشكل شرعيتها، كان نهاية لنظرية «الملكية المطلقة».
ثم تعمق المفهوم ليتخذ بُعداً جديداً في إطار نمو المجتمع الرأسمالي وتطور مؤسساته، انطلاقاً من إمكانية أن تلعب مؤسسات المجتمع المدني، التي ينشئها الأفراد، دور إعادة صياغة المجتمع، أي قيام علاقة توسطية لتنظيمات المجتمع المدني غير مباشرة بينها وبين الدولة.
أما العودة الجديدة لفكرة المجتمع المدني فكانت بعد تمرده ضد الدولة الاشتراكية، وخاصة «حركة تضامن» العمالية في بولونيا (عمال ومثقفون) في نهاية السبعينيات، ثم أحداث أوروبا الشرقية وانهيار جدار برلين عام 1989، أي تمرد المجتمع ضد وحدانية الحزب والدولة.
• باحث ومفكر عربي

1113

كيف نقرأ إستراتيجية أوباما عربيا?
      

عبد الحسين شعبان


أقدم الرئيس الأميركي باراك أوباما على خطوة جريئة بإلغاء الدروع الصاروخية التي كان مقرراً إنشاؤها في جمهوريتي التشيك وبولونيا بسبب ممانعة روسيا وتهديدها بإجراءات "ردع" مناسبة بدأت إشاراتها في جورجيا وكادت أوكرانيا تكون قاب قوسين أو أدنى من تحركات الدب الروسي، فهل سيتمكن أوباما من اتخاذ خطوة جريئة بخصوص الانسحاب الكامل والشامل من العراق والضغط على إسرائيل لوقف المستوطنات والقبول بخيار الدولتين؟
لم تعد قضية العراق تستحوذ على مكان الأولوية الأساسية في الإستراتيجية الأميركية بعد وصول أوباما إلى البيت الأبيض، الأمر الذي يمكن تلمّسه بمراقبة واجهات وعناوين الصحف ووسائل الإعلام ومركز الأبحاث، ولعل الأمر لا يعود إلى ثانوية المسألة العراقية، بل إلى انهيار مؤشر داو جونز وطغيان أعراض الأزمة المالية التي ضاعفها استمرار المأزق العراقي بوجود 150 ألف جندي أميركي في العراق وتكلفة أكثر من ثلاثة تريليونات من الدولارات.
"
تراجعت قضية العراق في نظر الرأي العام الأميركي والرئيس أوباما لأن الذي حلّ محلها لم يكن شبح الأزمة المالية الخانقة بل كابوسها المرعب، إضافة إلى قضايا الرعاية الصحية والاجتماعية
"
ولعل إحدى مفارقات المشهد الأميركي تكمن في فوز حزب معارض على حزب حاكم في ظل استمرار الحرب وهذا يحصل لأول مرة، خصوصاً أن واشنطن ما زالت مستغرقة في حروب منذ احتلال أفغانستان عام 2001 واحتلال العراق عام 2003 وقبلها إعلان الحرب على الإرهاب عام 2001. كما أنها المرة الأولى التي ينتخب فيها الشعب الأميركي رئيساً بعد جيلين من الحرب العالمية الثانية وهو مولود بعدها، فكيف حصل ذلك؟
تراجعت قضية العراق في نظر الرأي العام الأميركي والرئيس أوباما لأن الذي حلّ محلها لم يكن شبح الأزمة المالية الخانقة بل كابوسها المرعب، إضافة إلى قضايا الرعاية الصحية والاجتماعية، لدرجة أن الكثير من الأميركيين في ظل تلك الدوامة لم "يلتفتوا" إلى الجنود العائدين من العراق وأفغانستان ومعاناتهم الفائقة، رغم حساسية مثل هذا الموقف، خصوصاً للعسكرية و"الوطنية" الأميركية، ولسيل الدعاية الصاخب.
ويعود السبب الأول في هذا "النسيان" إذا جاز القول، هو تحوّل انتباه الرأي العام والكثير من الأميركيين إلى المشاكل الداخلية وليس إلى مأزق العراق. أما السبب الثاني فيعود إلى الأزمة الاقتصادية وانهيار الأسواق، في حين أن السبب الثالث هو أن الدعاية الأميركية ضجّت بشأن انخفاض موجة العنف في العراق، لاسيما إزاء الجنود الأميركيين الذين بلغت خسائرهم 4320 قتيلا وأكثر من 26 ألف جريح حسب الإحصاءات الرسمية، وهي إحدى مفارقات الوضع العراقي الذي ما زال مشوشاً وقلقاً رغم التحسن النسبي في الميدان الأمني، لكنه تحسنٌ هش وغير ثابت.
وإذا كان هناك سبب رابع فإن المعركة الانتخابية ذاتها لم توضح الفرق الكبير في الموقف من العراق بين أوباما وماكين، وقد عكست ذلك استطلاعات الرأي العام التي كانت تؤكد أن حرب العراق لا تلقى تأييد الأميركيين بسبب الأزمة الاقتصادية وصعوبات الطاقة والرعاية الصحية ومشاكل وعقبات اجتماعية، وتلك كانت في صلب الاهتمامات التنافسية للمرشحين وتصدّرت أولوياتهم، بما فيها بعض القضايا المثيرة مثل حق الإجهاض وزواج المثليين وغيرها.
وإذا اعتقدَ المرشح الجمهوري ماكين (72 عاماً) المشارك في حرب فيتنام أن الأمن القومي هو الورقة "الرابحة"، فإن المرشح الديمقراطي الشاب أوباما كانت ورقته الفائزة بامتياز هي قضايا الاقتصاد والرعاية الصحية والخدمات ومسائل اجتماعية تهم المواطن الأميركي، وبخاصة جمهرة الفقراء أو من هم دون خط الفقر البالغ عددهم أكثر من 40 مليون نسمة، ولعل هذا الاصطفاف هو الذي حسم الأمر وحدد الأولويات على نحو واضح ودون لبس أو غموض.
لقد عكس التحول غير المتوقع في الأحداث السياسية كفة الرجحان إلى أوباما وبرنامجه الاجتماعي والاقتصادي وليس إلى السياسة الخارجية فحسب، بعدما كانت الانتخابات النصفية في الكونغرس الأميركي عام 2006 ترفع شعار الانسحاب من العراق عالياً، وهي المسألة التي لعبها الديمقراطيون على أحسن وجه آنذاك.
وقد ظنّ ماكين أن سياسة زيادة القوات قد نجحت، لذلك تمسّك بها، في حين أنها أصبحت ورقة محروقة كما يقال، وأن النجاح كان يعني صرف الأنظار إلى مسائل أخرى، وهو ما سعى أوباما للعزف عليه بإيقاع مؤثر، وهكذا تماهى الموقف بين الفريقين في مسألة الانسحاب التدريجي من العراق، في حين ظلاّ يختلفان في المدة الزمنية مثلما يختلفان حول التاريخ والماضي.
وكان أوباما قد أعلن أن القوات الأميركية ستنسحب من العراق، بينما قال منافسه الجمهوري الذي انهزم شرّ هزيمة أن وعود الانسحاب تتسم بالتهور، لكنه رأى فرصة لخفض حجم القوات، وهذه الأرضية المشتركة للانسحاب رجّحت كفة أوباما، خصوصاً بإيلاء اهتمام أكبر للقضايا الاقتصادية والاجتماعية.
"
الجنود الأميركان الذين ما زالوا حتى الآن يستقبلون في مطار دالاس بعبارات: بارك الرب أميركا، كانوا يقابلون عند عودتهم من فيتنام بالازدراء والإهانة، الأمر الذي لم يتحقق في حرب العراق حتى الآن
"
إن الجنود الأميركان الذين ما زالوا حتى الآن يستقبلون في مطار دالاس بعبارات "بارك الرب أميركا" و"شكراً للرب"، كانوا يقابلون عند عودتهم من فيتنام بالازدراء والإهانة، خصوصاً عندما أصبح الرأي العام ينظر إلى استمرار حرب فيتنام بمثابة "كارثة وطنية"، الأمر الذي لم يتحقق في حرب العراق حتى الآن. فهل ستزيد الأزمة الاقتصادية من شعور النسيان أم ستساعد على إعادة النظر في الأولويات وتمهّد لتنفيذ أوباما لوعوده بالانسحاب التدريجي؟ ذلك السؤال سيتحدد في ضوء تنفيذ خطة أوباما الإستراتيجية، خصوصاً عند استحقاق الاتفاقية العراقية الأميركية نهاية العام 2011!
هل كانت تكاليف غزو العراق التي وصلت إلى ثلاثة تريليونات دولار وفقاً لتقديرات جوزيف ستيكليتز ولندا بيلمنس، "خطة محكمة" لاستنزاف الولايات المتحدة حسب نظرية المؤامرة المعروفة، أم أن واشنطن تورطت لدرجة وقوعها في المستنقع الذي يريد أوباما الخروج منه بأي ثمن، لاسيما في ظل الأزمة المالية؟ الجواب هذه المرة جاء من أسامة بن لادن وهو جالس في كهفه حين قال في نوفمبر/تشرين الثاني 2004 وهو يفخر بنجاح إستراتيجيته في جعل أميركا تنزف إلى حد الإفلاس: إن كل دولار أنفقته القاعدة في حملتها كلّف الأميركان بالمقابل مليون دولار.
وإذا كان أوباما بذكائه وحضوره قد استطاع تحسس جزء مهم من نبض الشارع الأميركي عندما لامس قضاياه الحياتية مباشرة، ودعا إلى تنظيم الأسواق وأن على الحكومة أن تلعب دوراً لا غنى عنه في مسار الاقتصاد، فلأنه استشعر خطر الانهيار العاصف، خصوصاً بعد الأزمة المالية التي يريد احتواءها وتصريفها، الأمر الذي جعل ماكين يهاجمه باعتباره "اشتراكيا"، وهي تهمة نفعته بالقدر التي أضرّت ماكين.
فهل سيدرك أوباما أن السياسة الداخلية ليست بمعزل عن السياسة الخارجية، وأن هذه الأخيرة انعكاس للسياسة الداخلية ووجه آخر من وجوهها، ولا يمكن تحقيق نجاح في إحداهما والإخفاق في الأخرى لأن الفشل سيمسح النجاح؟ وما عليه إذا أراد إنجاز برنامجه الاجتماعي الاقتصادي وامتصاص الأزمة المالية الطاحنة، إلا إعادة النظر في سياسة واشنطن الخارجية، والإسراع في تنفيذ وعوده بالانسحاب من العراق مثلما أعلن ذلك، وقبل فوات الأوان. وكما يقال ليس المهم تحقيق الفوز، بل المحافظة عليه والسعي لمواصلته وتوسيع دائرته، فهل سيستطيع أوباما أن يفعل ذلك؟ وكم سيحتاج من الوقت؟ ومن أين سيبدأ؟
هذه أسئلة واجهت الرئيس أوباما منذ أن وطئت قدماه عتبة البيت الأبيض قبل تسعة شهور، وستظل تلح عليه وتضغط بشدة إن لم يجد أجوبة مناسبة لها، خصوصاً على صعيد الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي وصفها الرئيس الأميركي الأسبق إيزنهاور في مذكراته عام 1957 بأنها "أغلى قطعة عقار في العالم". ورغم وجود النفط عصب الحياة الحديثة ومصدر الصراع الدولي، فإن سياسة الرئيس بوش والجمهوريين خلال السنوات الثمان كانت الأسوأ، لاسيما بخصوص المسألة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، حيث أدخلت الولايات المتحدة في نفق مظلم زاد منه قتامة المشهد السياسي، خصوصاً بعد احتلال العراق.
"
سياسة الرئيس بوش والجمهوريين خلال السنوات الثمان كانت هي الأسوأ، بخصوص المسألة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، حيث أدخلت الولايات المتحدة في نفق مظلم زاد منه قتامة المشهد السياسي، خصوصاً بعد احتلال العراق
"
ولهذا استبشر الكثير من العرب بالهزيمة التي مني بها الجمهوريون، وعبّروا عن ارتياحهم للفوز الساحق الذي حققه الديمقراطيون بفوز باراك أوباما، ويأتي نجاحه بعد فترة قاسية بالنسبة للعرب والفلسطينيين، حيث زادت من صورة الولايات المتحدة سلبية وتدهوراً في العالم العربي، فإضافة إلى احتلال العراق عام 2003، بررت واشنطن لإسرائيل عدوانها على لبنان عام 2006 معتبرة ذلك ولادة جديدة للشرق الأوسط، على حد تعبير وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس خلال العدوان، وحاولت واشنطن ثني مجلس الأمن الدولي عن إصدار أي قرار يدعو إلى وقف القتال، ناهيكم عن إدانة إسرائيل، متنصلة عن موقعها الدولي باعتبارها عضواً دائم العضوية في مجلس الأمن، إضافة إلى كونها معنية بشكل خاص بالملف العربي الإسرائيلي، وهو الموقف الذي واصلته عند الحرب المفتوحة على غزة والتي دامت 22 يوماً (أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009) عشية تسلّم أوباما إدارة البيت الأبيض.
وقد وصلت القضية الفلسطينية في فترة رئاسة بوش إلى طريق مغلق بسبب التعنّت الإسرائيلي والعنف والإرهاب الذي مارسته إسرائيل خلال الفترة المنصرمة، خصوصاً بعد تعثر اتفاقيات أوسلو، ومسار خريطة الطريق الفلسطينية الإسرائيلية، وبالأخص الآفاق المضببة التي واجهتها قبل نهاية العام 1999 وحتى الآن، بما فيها بعد ذلك بناء جدار الفصل العنصري وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتطبيق عقوبات اقتصادية مشددة ضد قطاع غزة، خلافاً للشرعية الدولية ولمبادئ حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني.
لعل بعض العرب يتوقع أن يقدم الرئيس أوباما شيئاً جديداً مختلفاً عن إدارة بوش، وهذا ممكن، إلا أنه ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار ثبات أهداف السياسة الأميركية في الشرق الأوسط مع تغيير الرؤساء، إضافة إلى تغلغل النفوذ الصهيوني واللوبي المساند لإسرائيل مالياً واقتصادياً وإعلاميا وحكومياً، ولهذا فالأمر يحتاج إلى جهود ومثابرة ونضال على مختلف الجبهات وبجميع الأسلحة، وذلك ما ينبغي على العرب أن يأخذوه بالحسبان عند التصدي والمعالجة للقضية الفلسطينية وللصراع العربي الإسرائيلي، سواءً من خلال تفعيل المبادرة العربية لعام 2002 أو ما بعدها، باتجاه حل يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية على أساس حق تقرير المصير، وإن كان لا يلبّي كامل طموحات الشعب العربي الفلسطيني.
وإذا كانت الأزمة المالية التي لم يشهد لها العالم مثيلاً بعد الكساد العالمي والانكماش الاقتصادي للفترة 1929-1933، فإن الأولويات ستتجه بلا أدنى شك إلى معالجة هذه الأزمة، بما فيها النفقات الباهظة للحربين المفتوحتين منذ عام 2001 و2003 وأعني بذلك الحرب في أفغانستان والحرب في العراق.
لكن الرئيس أوباما الذي أبدى اهتماماً خاصاً بالشرق الأوسط عشية انتخابه بما في ذلك زيارة فلسطين ولقاء الرئيس محمود عباس، ليس في وسعه التقدم بتحركات واسعة ونشيطة على هذا الصعيد إن لم يتبين أن هناك رغبة شديدة وقدرة على التأثير لفتح هذا الملف المعقد الذي توقف منذ عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون عند تأييد قيام دولة فلسطينية، لاسيما في أشهره الأخيرة، لكنه لم يمضِ قدماً، حيث بهتت الدعوة وبردت همّة الداعين إليها في ظل تصاعد الإرهاب الإسرائيلي، فازدادت الصورة سوءًا وقتامة، خصوصاً بعد قمع الانتفاضة السلمية الفلسطينية منذ 28 سبتمبر/أيلول 2000 وحتى الآن، وقد تدهور الأمر على نحو مريع بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 "الإرهابية الإجرامية" التي حصلت في الولايات المتحدة والتي استغلتها إسرائيل أبشع استغلال، فشنّت حملات متتالية لقمع الفلسطينيين وملاحقتهم واتهامهم بالإرهاب. ولعل فترة ولاية الرئيس بوش (ثماني سنوات) كانت من أشد الفترات قسوة بالنسبة للشعب العربي الفلسطيني بشكل خاص والأمة العربية بشكل عام، لاسيما بعد احتلال العراق.
كيف للرئيس أوباما أن يبدأ سياسة نشطة في الشرق الأوسط بعدما راوحت الولايات المتحدة في مكانها طيلة السنوات الثماني؟ هل بتعيين رام بنيامين مانوئيل كبيراً لموظفي البيت الأبيض (الأمين العام) وهو من أصل يهودي (إسرائيلي) وأدى الخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي عام 1997، وتطوّع في مكتب تجنيد تابع للجيش الإسرائيلي في فترة سبقت حرب الخليج الأولى ضد العراق عام 1991؟!
جدير بالذكر أن بنيامين والد رام مانوئيل كان عضواً في منظمة الأرغون السرية الصهيونية التي مارست أعمالاً إرهابية في فلسطين منذ العام 1931 ولغاية العام 1948، أي حتى قيام إسرائيل يوم 15 مايو/أيار 1948، وقد هاجر هو وأسرته إلى شيكاغو في ستينيات القرن الماضي، وقد صرح بعد تعيين ولده مانوئيل بأن اختيار ابنه سيكون عاملاً مساعداً للتأثير على الرئيس أوباما ليكون صديقاً لإسرائيل، ولم يكن هو عكس ذلك، لكن والد مانوئيل يريده أكثر صداقة وحميمية مع إسرائيل، وهذا يعني فيما يعنيه إدارة الظهر للعرب والفلسطينيين، والتخلي عن دور الرعاية أو الضامن لاتفاق خريطة الطريق، أو وضعها ومعها فكرة الدولة الفلسطينية في الأدراج، وذلك سعي ثابت من جانب إسرائيل مع جميع الرؤساء الأميركان جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين!!؟ فهل ستفلح إسرائيل في ذلك أم أن الأمر سيكلّف واشنطن خسائر جديدة فادحة، وهي الخسائر التي كانت سبباً في تدهور شعبية الرئيس بوش وحزبه الجمهوري؟!
"
إذا أراد الرئيس أوباما أن يعيد جزءًا من صدقية الولايات المتحدة لاسيما في الشرق الأوسط تلك التي نزلت إلى الحضيض، فما عليه إلا اتخاذ سياسة نشيطة ومتوازنة وضاغطة على إسرائيل لتنفيذ المقررات الدولية
"
إذا أراد الرئيس أوباما أن يعيد جزءًا من "صدقية" الولايات المتحدة لاسيما في الشرق الأوسط، تلك التي نزلت إلى الحضيض، فما عليه إلا اتخاذ سياسة نشيطة ومتوازنة بحيث تضغط على حليفتها إسرائيل لتنفيذ مقررات ما يسمى الشرعية الدولية رغم انتقاصها من مبادئ القانون الدولي المعاصر أحياناً.
ومن نقاط هذه السياسة، التخلص من هيمنة "الصقور" الذين أمسكوا بمقاليد البيت الأبيض طيلة ثماني سنوات وسياسات التصعيد التي عرفتها واشنطن منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، والضغط على حكومة إسرائيل ولاسيما بعد وصول نتنياهو إلى سدة الحكم، للامتثال لخيار الدولتين رغم أنه لا يمثل سوى طموح الحد الأدنى عربياً، خصوصاً أن إسرائيل أخذت تشدد على أطروحة تطالب فيها العرب والمسلمين "بالاعتراف بإسرائيل دولة نقية لليهود".
ولعل أحد التحديات التي تواجه الرئيس أوباما عربياً هو مدى نجاح أو فشل مهمة جورج ميتشل المكوكية المستمرة منذ نحو تسعة أشهر دون أن تزحزح من موقف إسرائيل قيد أنملة، ناهيكم عن إقناعها بوقف المستوطنات لفترة محددة إلى بداية مفاوضات مع الجانب الفلسطيني، الأمر الذي يجعل الأفق غائماً ويزيد من احتمالات استمرار الحال على ما هو عليه، وهذا سيعني -فيما يعنيه- فشلا في واحد من الملفات المهمة والساخنة التي ستلقي بظلالها على العرب والفلسطينيين من جهة، وإذا ما أضفنا إليها تعقيد وتعثر الملف العراقي لاسيما مسألة الانسحاب الكامل والشامل، فإنه سينعكس على مجمل إستراتيجية أوباما من جهة أخرى، وعلى السلم والأمن الدوليين من جهة ثالثة!!
   

الجزيرة نت 6/10/2009

1114
تجارة الأعضاء البشرية: أين المسؤولية؟!
عبدالحسين شعبان
2009-10-06
بعد الضجة الكبرى التي أقامتها إسرائيل ولم تقعد حتى الآن بخصوص الصحافي دونالد بوستروم، لاسيما تقريره المنشور في صحيفة «أفتون بلاديت» عن تجارة الأعضاء البشرية واتهامه إسرائيل بذلك، قمتُ بتدقيق المسألة قانونياً عبر بعض المقارنات والدراسات القانونية المقارنة، بقوانين بلدان أخرى، ولعل الهدف أيضاً هو إمكانية اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية لإصدار حكم قضائي بهذه القضية الجنائية أو اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لإصدار حكم أو رأي استشاري ذي طبيعة مدنية، وطلب التعويض.
اكتشفت وأنا أتابع تدقيقاتي أن إسرائيل هي البلد الوحيد (المحسوب على الغرب) التي لا تحرّم سرقة الأعضاء البشرية، وأن القانون الإسرائيلي لا يحرّم اتخاذ إجراءات قانونية عقابية ضد الأطباء المشاركين في ذلك (أي إزاء الفعل الجنائي)، بل بالعكس فإن كبار أطباء إسرائيل وفي المستشفيات الكبرى، هم من يقومون بزرع الأعضاء البشرية في معظم العمليات غير القانونية.
ورغم ممالأة البلدان الغربية لإسرائيل، فإن رد فعل غربي- أوروبي كان قد نشأ إزاء انتهاكات إسرائيل الصارخة لحقوق الإنسان، لاسيما غير الأخلاقية، المتعلقة بأسلوب التعامل مع الضحايا وسرقة الأعضاء أو الاتجار بها، الأمر الذي دفع فرنسا إلى قطع التعاون الطبي مع إسرائيل منذ التسعينيات. ويقول تقرير دونالد بوستروم إن نصف الكلي الجديدة المزروعة منذ العام 2000 تم شراؤها بصورة غير شرعية وغير قانونية من تركيا ودول شرق أوروبا وأميركا اللاتينية، وأن السلطات الإسرائيلية لم تفعل شيئاً لإيقاف ذلك.
وقد سعى إيهود أولمرت، الذي كان وزيراً للصحة العام 1992 للترويج لحملة التبرع بالأعضاء بتشجيع الإسرائيليين على ذلك، وحسبما جاء في صحيفة جيروزاليم بوست فإن الحملة أسفرت عن نتائج إيجابية، لكن الفجوة ظلّت قائمة بين العرض والطلب، بل إنها في ارتفاع، الأمر الذي دفع بعض الجهات الرسمية وغير الرسمية إلى سرقة الأعضاء البشرية، وهو ما حصل للشاب الفلسطيني بلال أحمد غانم (19 عاماً) حين استشهد خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 13 مايو 1992، حيث أطلقت النار عليه قوة إسرائيلية فأصابته في صدره ومن ثم أصيب برصاصة في قدمه وأخرى في بطنه، وقامت القوات الإسرائيلية بسحبه مسافة 20 مترا تقريباً، قبل أن تحمله سيارة جيب باتجاه مشارف قرية أماتين شمال الضفة الغربية (وهي قريته) لتقوم إحدى المروحيات الإسرائيلية بنقله إلى مكان مجهول، لكن جثته أعيدت بعد مرور 5 أيام، ملفوفة بقماش أخضر يستخدم عادة في المستشفيات، حيث وضعت في كيس أسود.
وفي جنح الظلام طلبت القوات الإسرائيلية من عدد محدود من أقاربه دفنه بعد إطفاء الكهرباء، وكانت المفاجأة عندما اكتشف أقاربه ومعه الصحافي بوستروم، أنه جرى شق جثة بلال غانم من رقبته إلى أسفل بطنه، وقد ساد حينها اعتقاد تكرّس لاحقاً، وهو ما يؤكده بوستروم، أنه تم اعتبار بلال غانم كمتبرع بالأعضاء رغماً عنه، دون علمه وإرادته، لأنه كان قد فارق الحياة، وهو ما أكدته عدد من العائلات الفلسطينية بخصوص أبنائها، وهو ما وثقه الصحافي السويدي بأكثر من 69 حالة في نابلس وجنين وغزة وجميعهم تمت إعادة جثثهم بعد تشريحها.
إن نشر قصة بلال غانم أعادت للأذهان الحاجة إلى الأعضاء البشرية والتجارة غير القانونية التي انتعشت، بمباركة أو غضّ النظر من جانب السلطات الإسرائيلية، ولعل ما يلفت النظر على هذا الصعيد أن أحد الحاخامات واسمه ليفي إسحق روزنباوم كان قد اعتقل في شهر يوليو 2009 في بروكلين في الولايات المتحدة بعد اكتشاف علاقته بتجارة الأعضاء البشرية وتبييض العملة. وكان تبريره أنه وسيط أو «صانع الملاءمة»، وهو ما سجله له أحد عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI)، باستدراجه لشراء بعض الأعضاء البشرية، ولاعتقاده أنه أحد الزبائن.
وأثارت قصة اعتقال الحاخام روزنباوم في ولاية نيوجرسي قضية فساد كبرى، في إطار شبكة عُرفت باسم شبكة سوبرانو. وكشف تقرير بوستروم أن روزنباوم له صلة بعملية بيع الكلى من إسرائيل في السوق السوداء، حيث كان يشتري الجثث من المحتاجين في إسرائيل بسعر عشرة آلاف دولار ويبيعها للمرضى اليائسين في الولايات المتحدة بسعر 160 ألف دولار.
وهذه المستندات الموثقة عن الاتجار بالأعضاء البشرية، لم تأتِ هذه المرة من صحافي مناصر للعرب أو ضد الصهيونية، رغم أن إسرائيل تتهمه بمعاداة السامية، وتعتبر كل من يعادي إجراءاتها العنصرية معادياً للسامية، بل جاءت من الولايات المتحدة حليف إسرائيل الأول، حيث كان قد اعتقل الحاخام روزنباوم وتم اكتشاف واعتراف بوجود هذه التجارة المحرّمة دولياً، والتي تمارسها إسرائيل أو تغضّ الطرف عنها.
وهناك اعتقاد لدى العديد من الأوساط الحقوقية والإعلامية بأنه يتم أخذ الأعضاء من الأشخاص الذي ينفّذ حكم الإعدام بحقهم، ويكاد هذا الاعتقاد لدى الفلسطينيين يصبح راسخاً، الأمر الذي بحاجة إلى فتح تحقيق دولي بذلك.
وعلى الأمم المتحدة، (لاسيما مجلس الأمن الدولي) ومجلس حقوق الإنسان أن يشكّلا لجنة للتحقيق في هذه المسألة، والتوجه لإحالة المتهمين إلى القضاء الدولي، وعلى المحكمة الجنائية الدولية ومدعيها العام أوكامبو أو الدول المنضمة إليها، لاسيما العربية والإسلامية، والأوروبية والغربية عموماً، التي تعلن ليل نهار التزامها بالشِرعة الدولية لحقوق الإنسان، أن تطالب المجتمع الدولي بإحالة المرتكبين إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل، كما أن من واجب المدعي العام أوكامبو أن يتوجه بعد هذه الفضيحة الدولية إلى جمع الوثائق والأسانيد والاستماع إلى شهادات والاستناد إلى معلومات وقرائن، بالطلب من إسرائيل تسليم المتهمين إلى القضاء وإلا فإن مسؤوليات قانونية ستترتب عليها، لاسيما إذا ما اتخذ مجلس الأمن قراراً يقضي بامتثالها إلى معايير العدالة الدولية، وإلا ستكون خاضعة للفصل السابع الخاص بالعقوبات، طبقاً للمواد 39-42 من ميثاق الأمم المتحدة.
وعلى إسرائيل إزاء هذه المسألة الإنسانية الانصياع إلى إرادة المجتمع الدولي وتسليم المتهمين إلى القضاء الدولي، وإلا فإن العقوبات من أنعمها إلى أغلظها ستكون بانتظارها، ولكن مثل هذا الأمر لا يتم أوتوماتيكياً بالطبع، بل يحتاج إلى جهود مضنية وخبرات كبيرة وقرار سياسي أولاً وقبل كل شيء، بحيث توّظف كل الطاقات بالاتجاه الصحيح، ناهيكم عن ضرورة توفّر إرادة دولية، لوضع حد لهذه الظاهرة المشينة، اللاإنسانية، واللاأخلاقية، في عالمنا المعاصر. ولا بدّ هنا من تعبئة المجتمع المدني الدولي ليقوم بدوره إزاء ملاحقة المرتكبين.
إن ما كتبه الصحافي دونالد بوستروم، يكفي لكي يكون سبباً في اتهام إسرائيل، وفي الوقت نفسه مبرراً للأمم المتحدة ومجلس الأمن تحديداً وللمحكمة الجنائية الدولية للقيام بواجباتها بتحقيق عاجل إزاء الاتهامات الخطيرة والجسيمة التي وجهها.
وننقل هنا ما قاله الصحافي السويدي الذي رفضت الحكومة السويدية الاعتذار إلى إسرائيل بسبب ما نشره رغم ضغوطها، متمسكةً باعتبار ذلك يدخل في نطاق حرية التعبير، المكفولة في الدستور السويدي، وبخاصة في المواثيق الدولية والأوروبية التي وقعت عليها السويد لاحترام حقوق الإنسان. يقول بوستروم: «كنت عام 1992 في المنطقة أعمل على تأليف كتاب، وتلقيت اتصالات من موظفين في الأمم المتحدة عدة مرات، يعربون فيها عن قلقهم من أن سرقة الأعضاء تحصل فعلاً، ولكنهم غير قادرين على فعل شيء».
إن لهذا الكلام أكثر من مغزى وأستطيع أن أقدّر لماذا ثارت ضجة إسرائيل التي لا تكترث بالقانون الدولي وتستخف باللوائح الدولية لحقوق الإنسان، إزاء تقرير الصحافي السويدي، الذي سبق له أن نشر كتاباً قبل بضع سنوات، تضمن معلومات عن سرقة الأعضاء البشرية، لكنها اليوم أكثر ضيقاً وتبرّماً، لاسيما بعد ما حصل من ارتكابات في حربها المفتوحة ضد لبنان العام 2006، وحربها المفتوحة أيضاً على غزة (أواخر 2008 – أوائل 2009) بعد حصارها المستمر منذ أكثر من سنتين والتحوّل النسبي الذي ظهر لدى الرأي العام العالمي باتهام إسرائيل بتهديد السلم العالمي، وهو ما حصل لدى استبيان للرأي العام في بروكسل قبل سنوات حين اعتبر %59 منه أن سبب التوتر في المنطقة يعود إلى إسرائيل.
ولأن الأمر يتعلق بمستقبلها وبشرعية وجودها ككيان عنصري فقد شمّرت إسرائيل عن ساعدها، وستستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة للنيل من الصحافي السويدي، ولعل هذا هو سبب إصرارها على إعدام قرار الأمم المتحدة 3379 الصادر في العام 1975 وهجومها الشرس ضد قرارات مؤتمر ديربن العام 2001، لأنها تدمغ الصهيونية وممارسات إسرائيل بالعنصرية والتمييز العنصري!!
إن تجارة الأعضاء البشرية بقدر ما فيها من هدر لحقوق الإنسان، فإنها عندما تستخدم ضد شعب محتل بهدف إفنائه أو تعريضه لتجارب طبية أو التلاعب بحرمة الجسد، أمرٌ يحرمه القانون الدولي ولا شك أنه إجراء عنصري بامتياز.
 

• باحث ومفكر عربي




7786 العدد - صحيفة العرب القطرية ، الثلاثاء 6 أكتوبر 2009 م - الموافق 17 شوال 1430 هـ

1115
عبد الحسين شعبان... ماركس ليس عربياً؟



 إشكالات الماركسية العربيّة، وأسئلة النسوية والحب والجنس والمتعة والدين والهوية، يتناولها كتاب «تحطيم المرايا... في الماركسية والاختلاف». يجلس خضير ميري في مواجهة ماركسي عتيق، بحثاً عن خطاب عربي جديد يواكب هذه الحقبة العاصفة
خليل صويلح
هل هناك إمكان لإنتاج ماركسية جديدة تواكب متطلبات القرن الـ21؟ ماركسية غير معلّبة ونسخة منقحة؟ وما مصير المشاريع الحداثية العربية؟ هذه بعض الأسئلة التي طرحها خضير ميري على ماركسي عتيق هو عبد الحسين شعبان، وكانت الحصيلة «تحطيم المرايا... في الماركسية والاختلاف» (الدار العربية للعلوم ناشرون ـــــ منشورات الاختلاف، الجزائر).
يتطلّع المفكر العراقي في إجاباته إلى ماركسية القرن التاسع عشر بوصفها نموذجاً حرّاً يتحرّك في فضاء شاسع، يمكن استعادته في هذا القرن بإضافة بعض التوابل والمشهّيات، «لأنّ الماركسية بحكم طبيعتها الحيوية الديناميكية كمنهج وأداة للتحليل، كان بإمكانها تجاوز أخطاء التطبيق أو إخفاقات الممارسة». الماركسية كنظرية إذاً ليست متحفيّة، بل نسق فكري ومنهج جدلي «لا يمثّّل ماركس فيها إلّا حلقة من سلسلة حلقاتها المتصلة والمستمرة بلا نهايات».
لكن لماذا استقال شعبان من العمل الشيوعي؟ يجيب بأنّ واقع عمل الأحزاب الشيوعية في العالم العربي «غارق في التذبذب بين فهم أيديولوجي جاهز ورثته هذه الأحزاب، ومستجدات إنسانوية ديموقراطية غير قادرة على مجاراتها». ويضيف بما يشبه النقد الذاتي «كان بعضهم كلما واجه مسألة مستعصية يفتش في الدفاتر المدرسية، لعلّه يجد نصاً يعود للينين يقتبس منه، بمعنى أنه يقدّم النص على الحياة ذاتها. الحزب ليس إلهاً». هكذا اتجه الباحث لدراسة القانون الدولي، فأسس «الشبكة العراقية لثقافة حقوق الإنسان»، وعمل ممثلاً لاتحاد الحقوقيين العرب في «الأونيسكو»، مؤكداً قيم التسامح باعتباره غائباً عن حياتنا العربية.
كنّا نتغنى بالأممية ونغض النظر عن الاستبداد
لا تتوقف حوارات خضير ميري عند إشكالات الماركسية العربية، بل تتعداها إلى مفاهيم أخرى مثل الحداثة والدين والقومية ودور المثقف العربي في مواجهة استبداد السلطة، أو الانزلاق إلى سجادتها الحريرية. ويجمل شعبان مأساة المثقف العربي بأنه يواجه ثلاث سلطات معاً: «القمع الفكري والأيديولوجي، والقمع البوليسي الذي تمارسه السلطة الرسمية، والثيوقراطية الدينية، وقوة العادات والتقاليد وسكونية المجتمع». كذلك يواجه تحدي الحرية. ولعل هذه التطورات وفقاً لصاحب «الاختفاء القسري في القانون الدولي» أثّرت على عمل المثقف، ما أدى إلى فشل المشاريع اليسارية ووصول المشروع الإسلامي إلى طريقٍ مسدود، مما زاد في يأسه وإطفاء روحه»، أو ما يسميه أدونيس «اعتقال العقل». ويعدد شعبان عشرات الضحايا من المثقفين العرب نتيجة «التباس المعادلة الثقافية ـــــ السياسية وتداخلها». هذا الواقع المضطرب قاد بعض ضحايا حرية التعبير عن الرأي إلى ممارسة استبداد مضاد بـ«إقامة الحد» تحت بند مخالفة تعاليم الدين «الفكر لا يقابل بالعنف أو الاغتيال أو إخفاء الصوت الآخر، بل بالمواجهة الفكرية».
يعترف عبد الحسين شعبان بوجود فجوات في الفكر الماركسي، وخصوصاً في ما يتعلق بالمسألة الدينية، وعبارة ماركس المقدّسة «الدين أفيون الشعوب». العبارة «فسّرها الشيوعيون خطأً». وينكر أن يكون موقفه هذا ارتداداً عن اقتناعات قديمة، بل إعادة فحص بعض المقولات التي كان بالإمكان أن يتخلى عنها ماركس نفسه. ويلفت الباحث العراقي إلى أنّ فهم التاريخ العربي بمعزل عن «المكوّن الغيبي أو الجوهر الروحي، هو نوع حالم أو مستعار من أشكال الحداثة الغربية». ويستدرك قائلاً: «هذا لا يعني بالطبع أن نستسلم لفهم التاريخ كما هو، بل أن نسعى إلى تقديم نقد شمولي له، يضع في الاعتبار فهم المكوّن العقلي والروحي للشعوب، لا تقديم النظرية على التاريخ الوضعي». ضعف الوعي النقدي العربي في الأحزاب الشيوعية، قاد شعبان إلى الاشتغال بالمسألة القومية التي طالما تعاملت الأدبيات الماركسية معها باستخفاف «كنّا غالباً ما نتندّر على القومجية من دون أن نميّز الفارق بين العروبة التي هي انتماء، والقومية التي هي أيديولوجيا أو عقيدة، وكنّا نتغنى بالأممية وفضائلها متجاهلين استبدادية حكامها». هكذا سيعالج المأساة الفلسطينية من موقع استعادة الحق الضائع، والانهماك في فضح التمييز العنصري تجاه السكان الأصليين، بعيداً عن الشعارات الرنّانة لبعض «المتمركسين الذين رأوا في المسألة القومية شططاً فكرياً»، كأن الماركسية «ماركة مسجّلة باسم بعض المتمركسين، هؤلاء الذين حوّلوها إلى تعاليم محنّطة».
بالنسبة إلى شعبان، ماركس هو بداية الماركسية وليس منتهاها. وتالياً ينبغي اختبارها نقدياً من الداخل. إذ لا توجد «ماركسية نقية» على غرار الهيغلية المطلقة، وينبغي الالتفات إلى مقترحات المدارس الأخرى في قراءة الماركسية وإعادة روحها إليها من موقعٍ مغاير، وردّ الاعتبار إلى الجدل الماركسي كي لا يتحوّل إلى لاهوت وأحكام منزّلة وقوانين ثابتة، كما أرادها بعضهم، مكرراً مقولة ماركس نفسه «كل ما أعرفه إنني لست ماركسياً». ويتوقف هذا الحوار الجدلي عند محطات أخرى لإعادة تكوين الذاكرة بشكلها الصحيح، مثل المسألة الكردية والفدرالية، ومستقبل الماركسية والتحديات التي تواجهها. كذلك سنتعرف إلى آراء شعبان في النسوية، والحب والجنس والمتعة، وما بعد الحداثة، والوشائج بين الدين والهوية، وكيفية تأصيل خطاب عربي جديد يواكب هذه الحقبة العاصفة والمضطربة.


جريدة الاخبار اللبنانية عدد الجمعة ٢ تشرين الأول ٢٠٠٩


1116
حلقة دراسية اكاديمية لكتاب تحطيم المرايا في بغداد
أكاديميون ومفكرون عراقيون يناقشون الدكتور شعبان

بغداد – خاص – محمد رشيد

في جامعة النهرين وبدعوةٍ من رابطة التدريسيين الجامعيين وبالتعاون مع مركز الدراسات القانونية والسياسية ، انعقدت حلقة نقاشية أكاديمية لمناقشة كتاب المفكّر الأكاديمي العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان ، وهو الكتاب الذي أثار جدلاً واسعاً ونقاشاً متواصلاً ، وسبق أن إلتأمت له حلقة نقاشية في بيروت في قصر الأونيسكو ، وأخرى في حزب التجمّع في القاهرة وثالثة في مقر آفاق للدراسات الاشتراكية في القاهرة ايضاً .
افتتح الدكتور عماد الشيخ داود حلقة النقاش بالتعريف بالكتاب وفصوله وأهم محطاته ، وأشار الى أن مفكّرنا د.شعبان هو ماركسي التوجّه ، عروبي الهوى ، إسلامي الإنحدار ، مشيداً بإسهاماته في إغناء الفكر العربي من خلال دراساته وأبحاثه . ثم دعا رئيس الجلسة لتولّي مكانه   وقد أدار الحلقة النقاشية الدكتور غانم محمد صالح ، الذي اعتبر إقامة مثل هذه الحلقة لمفكّر عراقي هو احتفاء بالفكر ودعوة لتكريم المبدعين العراقيين ، وأشاد بإسهامات د.شعبان وتأريخه الطويل المفعم بالإبداع والإجتهاد .
وكان أول المتحدثين المفكّر الإسلامي الدكتور ضياء الشكرجي ، الذي حيّا المفكّر المبدع د.شعبان وقال رغم إنه ليس ماركسياً ، إلا إنه نظر الى الكتاب من خلال مؤلّفه ودوره الفكري والنضالي وهو يعدّ هذه الحلقة الدراسية بمثابة ردّ اعتبار للفكر .
وكانت مداخلة الدكتور عامر حسن فياض تفصيليّة ، حيث اعتبر الكتاب بمثابة " وليمة للعقل " وقسم المفكّرين الى مفكرين للذاكرة ومفكرين للإبداع ، واعتبر الدكتور شعبان من مفكري الإبداع المتميّزين ، وأشار الى عدد من الإضاءات المهمة التي قدّمها المؤلف من خلال محاوره الاستاذ خضير ميري ، كما طلب استيضاحات حول بعض الاستنتاجات وأبدى ملاحظات حول بعضها الآخر ، لا سيّما فيما يتعلّق بالهوية والفرق بين الماركسية والأنظمة الشيوعية وغيرها .
واعتبر الدكتور عبد السلام البغدادي في مداخلته الموسّعة كتاب الدكتور شعبان متميّزاً لمفكّر متميّز ومعروف بدوره وإسهاماته وعلينا التوقّف لدراسته ، مشيراً الى منهجه وأكاديميّته ، كما أبدى ملاحظاته بخصوص فكرة حق تقرير المصير التي جاءت كمبدأ عام ، ومع تأييده لها فلا بد من أخذ الظروف الملموسة بنظر الإعتبار ، خصوصاً بما له علاقة بتفكّك الدول ووحدتها .
وناقش الدكتور علي عباس مراد الكتاب ، باعتباره فرصة ً جديدةً لفتح فسحةٍٍ من الفكر ، لا سيّما وإن مؤلفه ما زال يتمسّك بالمنهج الماركسي ، وذكر كما أشار الدكتور البغدادي إن ذلك أعادنا للزمن الجميل حيث المناقشات الفكرية والسجال الثقافي والجدل المعرفي ، وناقش المؤلف حول بعض جوانب النقص في الماركسية وعند ماركس التي وردت في الكتاب ، مشيداً بالعمل الإبداعي المتميّز للكتاب وللمفكّر شعبان .
واختتم حلقة النقاش الفكرية الأكاديمية المفكر العروبي الدكتور وميض عمر نظمي ، فأشار الى أن كتاب المفكّر شعبان تأخر رغم أهميّته الكبيرة ، وهو برحابته واستقلاليّته طرح أفكاراً جديدةً ولو كنا في اوربا لتلقّفها أولاً وقبل أي جهةٍ أخرى الحزب الشيوعي واستفاد منها وساهم في مناقشتها ، ولكان هو أول من طرحها عليه ، لكن أوضاعنا ليست طبيعية ، فلا شعبان يقبل أن يخوض معتركه الفكري ونشاطه الإبداعي المتنوّع ضمن أطر وسياقات تقليدية ضيّقة تحرّر منها ، ولا الحزب الشيوعي يقبل أي نقدٍ لأفكاره وممارساته ، ناهيكم عن الاعتراف بأخطائه . وأكد المفكّر نظمي أن كتاب شعبان مهم ويفتح آفاقاً جديدةً للحوار رغم تأخره ولكنه سيسهم في إثارة جدلٍ بحاجةٍ الى تراكمٍ وتطوير .
وجاء دور مؤلف الكتاب المحتفى به د.شعبان ، فأشار الى أن مهمّة الكتاب هي المعرفة والبحث عن الحقيقة ، من خلال قراءةٍ انتقادية إرتجاعيةٍ للماضي ، على صعيد الفكر والممارسة . وأشار الى أنه كلّما ابتعد عن العمل الحزبي – السياسي المباشر ، كلّما شعر أكثر فأكثر إنه قريبُ من النظرية – المنهج . وأشار الى فضل ماركس على البشرية في مسألة منهج التحليل وأداة العمل ، خصوصاً بقراءة التاريخ الاجتماعي واكتشاف قانون فائض القيمة .
وقال شعبان انه ما يزال متمسّكاً بالمنهج الماركسي ، ولكن ليس بقشور الماركسية الرثّة ذات النزعة البدوية والمسحة الريفية ، تلك التي تحوّلت الى مجرّد تعاويذَ وأدعيةٍ واعتبر أن ماركس هو بداية الماركسية وليس نهايتها وأن الماركسية هي ليست تمامية وهي بحاجة الى نقدٍ وتطوير فقوانين ماركس تصلح له ولعصره وعلينا اكتشاف قوانيننا من خلال المنهج . وبهذا المعنى أشار الى أن عمر ماركس البيولوجي لم يساعده في إطار علوم عصره من معرفة دور علم النفس وتأثير الدين ودراسته وعدم التعمّق في حقول انسانية مثل الأسطورة ( الميثولوجيا ) والجماليات والنقد الأدبي وغيرها ، إضافةً الى موضوع الموقف من الدولة ، لا سيّما الفكرة الخاطئة التي تقول بذبولها أو انحلالها وتلاشيها . وقال أن هناك ماركسلوجيا مثلما هناك لدى الإسلاميين إسلاملوجيا ولدى القوميين قومولوجيا ، أي استخدام التعاليم الماركسية والاسلامية والقومية بالضد منها وبالتعارض مع منطلقاتها . وأشار شعبان الى أنه تعامل مع الماركسية كقاريء وكاتبٍ وناقد ، وأنه لا يستطيع أن يفصل الفكر عن الواقع والتطبيق ، وإن الماركسية المستقبلية ينبغي ولا بد أن تكون مختلفة عن ماركسية القرن التاسع عشر وماركسية القرن العشرين ، خصوصاً في ظل الحداثة وما بعدها وثورة الاتصالات والمعلومات . واقتبس حواراً بين ميشيل فوكو مع لوي التوسير حين كان الأول في زيارة الثاني في مصحّة الأمراض العقلية قبل انتحاره أو موته الغامض في ضاحية سانت آلان ، فسأله : وهل ما زلت ماركسياً ، فأجابه ألتوسير : ومن تكون بدونها ، وذلك في معرض حديثه عن تمسّكه بالمنهج الماركسي للوضعية النقدية .
وتحدّث عن سؤال الهوية والموقف من القومية والدين ، ونقده للماركسية التي وصلتنا بصورة معلّبة وغير طازجة وأحياناً مستهلكة أو غير صالحة للاستعمال .
وشكر المفكّر شعبان الزملاء على ملاحظاتهم ، لا سيّما الإنتقادية ورحّب بوجهات النظر المختلفة ، من ذات الموقع أو من خلال مخالفته ، واعتبر ما أثاره الكتاب بحاجةٍ الى إعادة قراءته والتوقّف عند فصولٍ أخرى ، وربما إن ذلك كما أشار سيشجّعه على المضي في استكماله عند شرح وتفسير الوضعية النقدية للماركسية في مؤلّفٍ مستقل ، مشيدا ًبدور محاوره الناقد خضير ميري والجهود المضنية التي بذلها لاستكمال الحوار معه من عاصمةٍ الى أخرى وعبر الايميل .
بعد انتهاء الحلقة النقاشية بادر الدكتور عدنان الجنابي رئيس جامعة النهرين بإلقاء كلمة رحّب فيها بالحوار وبالاحتفاء بالمفكّر العراقي الدكتور شعبان وضرورة أن يأخذ المفكّر العراقي مكانه ، واعتبر زيارته للجامعة فرصةً إيجابية ً للمزيد من التعاون المثمر واستعداد الجامعة من موقعها المستقل لاحتضان ذلك ، وقام بتقديم درع ووسام جامعة النهرين الى المفكّر شعبان اعتزازاً بدوره الفكري الإبداعي الريادي .

للمعلومات : كتاب تحطيم المرايا صدر عن الدار العربية للعلوم " ناشرون " بالتعاون مع منشورات الاختلاف ، بيروت – الجزائر ، 2009 .

1117
السجون السرية وجدار الصمت
   
عبدالحسين شعبان
حتى الآن لم يصدر أي تعليق من مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أو من وزارة خارجيتها أو وزارة داخليتها، بخصوص المعلومات التي تسربت عن وجود سجون سرية في مدينة فرانكفورت. والتزمت الصمت أيضاً دائرة المخابرات الاتحادية الألمانية “BND”.

كانت صحيفة “نيويورك تايمز” الواسعة الانتشار قد نشرت تقريراً مفصلاً يوم 13 أغسطس/آب ،2009 يُفصح عن دور مريب لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية “CIA”  في إنشاء وإدارة عدد من السجون السرية، منها 4 في مدينة فرانكفورت الألمانية، وأن 3 من هذه السجون تُدار من قبل مكتب فرعي تابع لل “CIA” في فرانكفورت منذ العام 2003.

وقد أسهمت أحداث 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية في تدهور حال الحريات المدنية وحقوق الإنسان في العالم أجمع، بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا، لاسيما التضييق على الأجانب وبخاصة من أصول عربية أو من أتباع الديانة الإسلامية، واستخدام إجراءات وإصدار قوانين قيل إنها “احترازية” أو “تحوّطية”، لكنها شكلت انتقاصاً من الحقوق والحريات، بل انتهاكاً سافراً لها.

ليس من المبالغة القول، إن الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب، جعلت العالم يعيش حالة طوارئ وأنظمة “عرفية” على المستوى الدولي، وفي ظل قوانين استثنائية، تتعارض في الكثير من الأحيان مع قواعد القانون الدولي ومع الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بما فيها قرارات مجلس الأمن الدولي التي صدرت عقب 11 سبتمبر/أيلول ،2001 لاسيما القرار 1368 الصادر في 12 سبتمبر والقرار 1373 الصادر في 28 سبتمبر ،2001 والقرار 1390 الصادر في 16 يناير/كانون الثاني ،2002 والتي تتناقض في الكثير من بنودها مع قواعد القانون الدولي، خصوصاً عندما أعطت الترخيص بشن ما يُسمى الحرب الاستباقية أو الحرب الوقائية لمواجهة الإرهاب فيما إذا كان هناك خطر وشيك الوقوع ومحتمل.

ولعل هذه التخريجات ليست سوى مفاهيم لا يجمعها جامع مع التطور الدولي المعاصر، بل تنتمي إلى القانون الدولي التقليدي الذي مضى عهده، والذي كان يعطي “الحق في الحرب” و”الفتح”، متى شاءت مصلحة الدولة القومية ومآربها السياسية والاقتصادية، في حين حرّم القانون الدولي المعاصر الحرب، لاسيما العدوانية واللجوء إلى القوة أو التهديد بها للحصول على مكاسب سياسية أو عسكرية، وحددها على نحو ضيق بالتحرر الوطني والدفاع عن النفس.

ورغم الصورة الضبابية عن السجون السرية ونفي أجهزة مخابرات الدول الكبرى وجودها، الاّ أن الرئيس السابق للولايات المتحدة جورج دبليو بوش، كان قد اعترف بها في سبتمبر/أيلول العام ،2006 كونها سجوناً تستخدم لإيواء المشتبه فيهم كإرهابيين، واستعمال أساليب خاصة معهم لانتزاع اعترافاتهم والحصول على معلومات عن التجمعات الإرهابية. وكان بوش قد برر ذلك بأنهم “قتلة محترفون” وأن سجنهم في مواقع سرية أمر ضروري لإخضاع المشتبه فيهم إلى “طرق فعّالة وضرورية وصعبة للاستجواب”.

والسؤال الآن لماذا تبني الولايات المتحدة سجوناً خارجها؟ والجواب يتعلق بالقوانين الأمريكية والدولية التي لا تسمح بوجود مثل هذه السجون، ناهيكم عن استخدام الأساليب الغليظة التي تستخدم فيها. أما فكرة بناء هذه السجون غير الشرعية، فتعود إلى إحدى الشركات العالمية التي تدعى “المواقع السوداء” Black sites، وهي التي تعاونت مع ال “CIA” لإنشاء هذه السجون ونقل المشتبه فيهم إليها من الإرهابيين الخطرين، كما جرى تبرير ذلك.

وإضافة إلى السجون الأربعة في فرانكفورت التي تعتبر مركزاً مهماً، فهناك سجن في بوخارست (رومانيا)، وآخر في مدينة كيكوتي البولونية، وثالث في ليتوانيا، ولكن لا يوجد تأكيد أو اعتراف من أي من حكومات هذه البلدان، بما فيها ألمانيا بوجود هذه السجون السرية.

وكان مدير المكتب الفرعي لل “CIA” في فرانكفورت كايل دي فوغو قد صرّح لصحيفة “نيويورك تايمز”: من الحساسية جداً أن يتم التعامل مع هذه الأمور من داخل مقر ال “CIA”، لأن الإدارة الأمريكية تدرك مخالفة ذلك للقوانين الأمريكية والقانون الدولي الإنساني، والمواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، ولذلك سعت الولايات المتحدة إلى إخفاء هذه السجون وإقامتها خارج حدودها، وفي مناطق معزولة، وتم تصميمها بحيث تمنع الإصابات الخطرة أثناء الاستجواب، وكسيت الأرض بمادة مضادة للانزلاق، وكذلك الجدران غلّفت بطبقة من الخشب (المعاكس) لتخفيف آثار الاصطدامات بها.

التقرير الذي نشرته ال”نيويورك تايمز” (13 أغسطس/آب 2009) جرت تلميحات إليه في شهر نوفمبر/تشرين الثاني العام 2005 في صحيفة ال”واشنطن بوست”، عندما كشفت عن وجود سجون غير شرعية تديرها ال”CIA”  وأنها مارست أعمالاً غير قانونية في اختطاف من أسمتهم “إرهابيين” أو مشتبهاً فيهم استناداً إلى تقارير بعض منظمات حقوق الإنسان. وكان أمين عام الاتحاد الأوروبي قد فتح تحقيقاً أولياً بمساعدة المدعي العام السابق ديك مارتي رئيس لجنة حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي، حيث جاء تقريره بخصوص تلك السجون التي تتمتع بسرية كاملة “عدم إمكانية إثبات وجود تلك السجون بشكل حاسم” إلاّ أنه قدّم دليلاً مهماً وهو استخدام بعض الوسائل غير المشروعة في أجهزة الأمن، لكن تقريره الثاني كشف فيه عن تعاون بعض الأجهزة الأوروبية السرية مع ال “CIA”، لكن الحكومات الأوروبية التزمت الصمت أيضاً.

 

وبالعودة إلى تقرير ال”نيويورك تايمز”، فإن على منظمات حقوق الإنسان والمجلس الدولي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، أن يطالب السلطات الأمريكية والأوروبية، بفتح تحقيق بخصوص السجون السرية، إضافة إلى السجون الطائرة والعائمة التي سبق لنا أن تحدثنا عنها والتي تدل على تواطؤ أكثر القوى صخباً وضجيجاً عن حقوق الإنسان، على قضية حقوق الإنسان. وتلك إحدى المفارقات الصارخة في المشهد الدولي.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج الاماراتية 30/9/2009

1118
استراتيجية أوباما والإرث الثقيل
عبدالحسين شعبان
2009-09-28
أصبح الرئيس الأميركي باراك أوباما سيداً على البيت الأبيض بعد فوزه الساحق على منافسه الجمهوري جون ماكين، ولعله وهو الرئيس رقم 44 سيكون أول رئيس أسود يحكم الولايات المتحدة، حيث ظلّ العالم كلّه يتطلع إلى سياسة جديدة للحزب الديمقراطي، بعد دورتين متتاليتين (ثماني سنوات) حكم خلالهما الرئيس جورج دبليو بوش من الحزب الجمهوري.
وقد شهدت الولايات المتحدة أطول وأقسى حملة انتخابات في تاريخها، انتصر فيها أوباما ذو الأصول الإفريقية المتواضعة على ماكين ابن قائد الأسطول البحري الأميركي في المحيط الهادي.
إن صورة الولايات المتحدة قبل بداية حكم الرئيس بوش كانت تمثّل لوناًً قاتماً بالنسبة لكثير من الشعوب والبلدان، لكنها أصبحت بعد ثماني سنوات أكثر قتامة، لا سيما مشاهد الرعب التي اختفت وراءها، من أحداث 11 سبتمبر الإرهابية العام 2001 وردود أفعالها بإعلان «الحرب على الإرهاب» إلى غزو أفغانستان العام 2002، إلى الحرب على العراق واحتلاله، العام 2003، ثم الحرب الإسرائيلية المفتوحة على لبنان العام 2006 وبعدها الحرب على غزة نهاية العام 2008 ومطلع العام 2009 بعد حصارها الذي زاد عن سنتين، يضاف إلى ذلك أوضاع سجناء أبوغريب وغوانتنامو والسجون السرية الطائرة والعائمة، وقبل الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي انفجرت عشية توّلي أوباما الرئاسة وتحوّلها إلى أزمة مالية شاملة انعكست على العالم كلّه، كانت هناك أعاصير وكوارث طبيعية مثل إعصار كاترينا وغيرها، ولعل هذه تركة ثقيلة انتقلت إلى أوباما، على الصعيد الداخلي وعلى الصعيد الخارجي.
قبل مجيء الرئيس بوش إلى الحكم، كان العالم في حالة شبه سلام واستقرار نسبياً، وأسعار النفط لم ترتفع عن 32 دولاراً، والجيش الأميركي لم تكن لديه مهمات خارج بلاده، باستثناء القواعد العسكرية المعروفة، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية العام 1991، والاقتصاد الأميركي في حالة نمو زاد عن %3، وسعر الدولار كان «معقولاً» وديون واشنطن أقل من 6 تريليونات دولار رغم العجز المستمر. وبعد أن ترك بوش البيت الأبيض، تحوّلت كل هذه التركة الثقيلة، وهذا الحمل القاسي إلى ظهر أوباما، الأمر الذي قد لا يكون بمقدوره تحمله ومواجهة التحديات بحكمة وبُعد نظر.
لقد ورث أوباما، حربين مفتوحتين في أفغانستان والعراق، وقوات مسلحة منهكة ومبعثرة على أكثر من جبهة، وحروباً على الإرهاب بدأت بعد أحداث 11 سبتمبر، لكنها لم تنتهِ ويبدو أنها ستستمر حسب تقديرات واشنطن الأولية إلى أكثر من 10 سنوات، وقد تطال بلداناً أخرى حتى وإن اختلفت اللهجة والتسمية، وإن خفّت حدة النبرة أو حتى خفتت! وهذه المشكلات المتعاظمة أوقعت المواطن الأميركي في ورطة كبيرة لدرجة مؤرقة، خصوصاً وهو ما زال يتساءل كيف سيتم وضع حد لهاتين الحربين؟ وهل سينفذ أوباما وعوده بشأن الانسحاب من العراق في أقرب وقت ممكن؟ وعلى الأقل تخفيف مشاعر السخط والعدائية إزاء الولايات المتحدة؟ وما السبيل لإيجاد حلول ناجعة وسريعة للأزمة الاقتصادية؟
كما ورث أوباما صعوداً في أسعار النفط وصلت إلى نحو 150 دولاراً، رغم عودتها إلى الانخفاض إلى أقل من النصف قليلاً، وعجزاً بلغ أكثر من تريليون دولار ودَيناً زاد عن 10 تريليون دولار، ناهيكم عن تدنٍ في النمو الاقتصادي، وأخيراً انفجار الأزمة المالية والاقتصادية، التي أدت إلى انهيارات كبرى لشركات التأمين العملاقة مثل شركة ليمان براذرز وبنوك عالمية كبرى، لا سيما بعد أزمة الرهن العقاري وانخفاض سعر الدولار وارتفاع أسعار النفط.
وورث أوباما ملفاً ساخناً جديداً، وهو العلاقة المتوترة مع روسيا، فبعد انتهاء الحرب الباردة وتقلّص النفوذ الروسي، وانحلال المنظومة السوفييتية، عادت روسيا بقوة إلى منطقة القوقاز والبلقان وأوروبا الشرقية، لا سيما بسبب سياسة واشنطن الاستفزازية، الأمر الذي دفعها إلى معارضتها الشديدة، خصوصاً بعد نصْبِ واشنطن دروعاً صاروخية مضادة للصواريخ، وتوسيع دائرة حلف الناتو في دول الجوار الروسي، وبخاصة في جمهوريتي بولونيا والتشيك.
وإذا كان أوباما يتولى رئاسة الولايات المتحدة بعد مضي أكثر من عقدين على انتهاء الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل آخر، لا سيما بعد انهيار الشيوعية الدولية، وصعود الإسلام السياسي كعدو شرس ضد واشنطن وسياساتها، فكيف ستتعامل واشنطن مع هذا الملف الساخن، وقد شاع خلال الحملة الإعلامية والأيديولوجية في حينها أن «التهديد» إن لم يكن موجوداً، فلا بد من «تلفيقه»، بالتنظير لصدام الحضارات، ولإبقاء الاحتراس الدائم والتسلح المستمر والصراع المتواصل على المستوى العالمي، حتى وإن اتخذ صفة صراع الثقافات، بعد ذبول صراع الأيديولوجيات الذي طبع القرن الـ 20 كله، وصراع القوميات الذي طبع القرن الـ 19 حسب الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.
وقد حاولت واشنطن تطبيق ذلك على الملف التسليحي وهذا له علاقة بالمسألة الإيرانية بالدرجة الأساسية، خصوصاً البرنامج النووي الذي يعتبر أحد مجالات الاحتكاك الأميركية-الإيرانية، إضافة إلى نفوذ طهران في المنطقة باعتبارها رأس حربة ضد السياسة الأميركية (العراق ولبنان وفلسطين)، رغم أن أوباما أبدى استعداده لسلوك سبيل مفاوضات أطلق عليها «حازمة»، وهو أمر لا بد من أخذه بنظر الاعتبار بعد ما حصل من تجاذبات في الانتخابات الإيرانية الأخيرة.
وإذا كانت الحروب تُصنع في العقول، فإن السلام هو الآخر يصنع في العقول أيضاً، حسبما جاء في دستور اليونسكو، ومثل هذا الأمر سيواجه الرئيس أوباما على نحو راهن، لا سيما في الشرق الأوسط، وهو أمر سيكون أحد المجسات الأساسية لسياسته الاستراتيجية إزاء المنطقة.
إن الرئيس أوباما واجه تركة الرئيس بوش وإشكالياته جميعها، وعليه الخوض في المشكلات العويصة الخاصة، لا سيما بشأن مشكلة الشرق الأوسط، التي شكلت نقطة تجاذب شديدة منذ عهد الرئيس جيمي كارتر واتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد. وإذا كانت واشنطن تسعى إلى دور نشيط في الشرق الأوسط وتحريك خارطة الطريق الفلسطينية-الإسرائيلية، خصوصاً تجاوز الصعوبات التي جابهت العديد من الرؤساء الأميركيين قبله، فإن الأمر يحتاج إلى تأكيد إقامة دولة فلسطينية، تلك الأطروحة التي اعتمدت منذ عهد الرئيس بيل كلينتون، لكنها ظلّت باردة وباهتة، خصوصاً في ظل التصعيد العدواني الإسرائيلي ضد الشعب العربي الفلسطيني منذ العام 2000، لمواجهة الانتفاضة الفلسطينية السلمية التي اندلعت بعد أن وصلت اتفاقات أوسلو إلى طريق مسدود.
وزاد الأمر تعقيداً حصار غزة، وبعدها الحرب المفتوحة عليها والتي دامت 22 يوماً، وقبلها حصار الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومن ثم بناء جدار الفصل العنصري الذي قالت محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً في عدم شرعيته، الأمر الذي اقتضى إزالته وتعويض السكان المدنيين المتضررين، وهو ما كان ينبغي على واشنطن أن تضغط على حليفتها إسرائيل للعدول عنه والعودة إلى خيار المفاوضات ضمن خارطة الطريق المقترحة، رغم عدم تلبية هذه الأخيرة للحد الأدنى من حقوق الشعب العربي الفلسطيني، لا سيما حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين.
وإذا تردد الرئيس أوباما في تعيين السيناتور الجمهوري تشاك هيغل وزيراً للخارجية وهو شخصية متوازنة نسبياً واختار هيلاري كلينتون بدلاً عنه، فإن واحداً من الأسباب تعود إلى مواقف إسرائيل ورؤيتها إزاء الحل، وكان هيغل قد زار الأرض المحتلة مع أوباما والتقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، يضاف إلى ذلك تعيين عدد من المستشارين، معظمهم من اليهود، وبعضهم من العناصر المعروفة بموالاتها لإسرائيل، بمن فيهم أمين عام البيت الأبيض رام بنيامين مانوئيل الذي سبق له أن أدى الخدمة العسكرية في جيش الدفاع الإسرائيلي عام 1997 كما تطوّع في الحرب على العراق 1991 في مكتب التجنيد التابع لإسرائيل، إضافة إلى كبير المخططين الاستراتيجيين لحملته الانتخابية وهو ديفيد أكسل رود، الأمر الذي قد لا يساعد في حلحلة الأمور باتجاه إيجاد حل ولو بمعيار الحد الأدنى، ولعل الاستثناء في هذا الشأن هو تعيين مستشار لأوباما للشؤون الخارجية وهو دنيس روس منسق عمليات السلام في الشرق الأوسط.
حقاً إنها تركة ثقيلة وسيتوقف حملها بجدارة على ما سينتهجه أوباما من سياسة ومراجعة وإعادة نظر بأخطاء وخطايا السياسات السابقة خلال الثماني سنوات الماضية وما قبلها!



7778 العدد - صحيفة العرب القطرية ، الاثنين 28 سبتمبر 2009 م - الموافق 9 شوال 1430 هـ

1119
البيان الختامي الصادر عن المؤتمر الثاني العام
للشبكة العراقية لثقافة حقوق الإنسان والتنمية



 
    في جو من الحماسة والثقة والشعور بالمسؤولية ، التأم في بغداد يوم السبت 26/9/2009 وعلى قاعة اتحاد الحقوقيين العراقيين شمل المؤتمر الثاني العام للشبكة العراقية لثقافة حقوق الانسان والتنمية تحت شعار(من اجل تعزيز ثقافة حقوق الانسان في العراق)
    واشتمل جدول عمل المؤتمر على جلسة افتتاحية قدمت فيها اللجنة التحضيرية خلاصة لعملها خلال الاشهر السبعة الاخيرة من تاسيسها وما انجزته من اعداد للمؤتمر ,كما عرضت اللجنة التنفيذية السابقة التحديات التي واجهتها، لا سيما منذ انعقاد المؤتمر العام الاول في 5 تشرين الثاني(نوفمبر)2004، والنجاحات والاخفاقات التي واجهتها مسيرة السنوات الاربعة,وقدرتها على تجاوز الصعوبات وتذليل العقبات التي اعترضت طريقها ، وبالتالي اصرارها والجمهرة الواسعة من اعضاء الشبكة على المضي قدما لمواصلة مهماتهم بجدية بدأب وحيوية، وهي السمة التي غلبت على اعمال الشبكة منذ تأسيسها عام 2000 وانطلاقها في المحافل العربية والدولية ، وفيما بعد في ارجاء العراق كافة.
    ولعل التحديات التي واجهت الشبكة هي جزء من التحديات العامة المتمثلة بالاحتلال من جهة وتفشي ظاهرة الارهاب والعنف والميليشيات والفساد المالي والاداري والاستقطابات والاصطفافات المذهبية والطائفية من جهة اخرى,الامر الذي اسهم في تخفيض الكثير من الانشطة والفعاليات المدنية في ظل تردي الوضع الامني ، وهو الامر الذي تم تجاوزه عند ظهور بوادر ايجابية لانخفاض اعمال العنف والارهاب.
    وقد ألقى في المؤتمر الاستاذ ضياء السعدي نقيب المحامين العراقيين كلمة حياّ فيها نشاط الشبكة وعملها الابداعي ومهنيتها خلال السنوات الماضية.كما ثمن الاستاذ عدنان السعد رئيس اتحاد الحقوقيين العراقيين الدور الايجابي المهم الذي قامت به الشبكة واعتبرها مظلة عامة تجتمع تحتها الكثير من الفاعليات والانشطة الحقوقية ، واعتبر السعد اتحاد الحقوقيين العراقيين يشترك معها في مهمتها الانسانية والمهنية,والقى الاستاذ مؤيد اللامي نقيب الصحفيين العراقيين كلمة اشاد فيها بدور الشبكة وابدى استعداد الصحفيين العراقيين التعاون معها لنشر ثقافة حقوق الانسان.ثم جاء دور ادباء وكتاب العراق يمثلهم الشاعر الفريد سمعان الامين العام لاتحاد الادباء والكتاب في العراق فألقى كلمة تناول اهمية ثقافة حقوق الانسان ودور المثقفين والحقوقيين في نشر وتعزيز هذه الثقافة التي تسهم الشبكة فيها بدور فاعل.ثم القى الدكتور عبد الحسين شعبان مؤسس الشبكة واول رئيس لها كلمة تطرق فيها الى اهمية نشر ثقافة حقوق الانسان بوسائل التربية والتعليم والاعلام والتشريعات القانونية وتعاون مؤسسات المجتمع المدني واستذكر مسيرة الشبكة منذ انطلاقتها عام 2000 وحتى الان ، والمصاعب والتحديات التي واجهتها وتمكنها من المواصلة رغم ظروف واوضاع حالة حقوق الانسان خارجيا وداخليا وتمنى لقيادتها الجديدة النجاح والتقدم.
     ووصلت الى الشبكة رسائل تحية منها رسالة الاستاذ محسن عوض الامين العام للمنظمة العربية لحقوق الانسان التي تعتز الشبكة للعضوية فيها.ورسالة تحية من الدكتور اياد البرغوثي المنسق العام للشبكة العربية للتسامح التي تتشرف الشبكة بعضويتها التأسيسية ورسالة تهنئة من مركز رام الله لدراسات حقوق الانسان, ووجه المحامي حجاج نائل المدير التنفيذي للبرنامج العربي لنشطاء حقوق الانسان رسالة تحية وتقدير للشبكة ودورها على الصعيد العربي,كما ارسل الأستاذ فادي ابي علام رئيس حركة السلام الان رسالة تحية للمؤتمر الثاني للشبكة ووصلت رسالة من الدكتور صالح بكر الطيار مدير عام مركز الدراسات العربي – الاوربي في باريس ، ورسالة تحية من الرابطة العربية الديمقراطية في صنعاء ومن الجمعية العراقية لحقوق الانسان ومن سندريلا الشكرجي رئيسة برلمان الطفل العراقي ومن دار القصة العراقية والمحامي سعد حيدر مدير نادي ثقافة وحقوق الاطفال الايتام في العراق وعدد من منظمات المجتمع المدني.
    بعد جلسة الافتتاح قدمت اللجنة التنفيذية السابقة استقالتها وتولى ادارة المؤتمر هيئة رئاسة تم انتخابها من المؤتمرين، وتم انتخاب لجنة اعتماد ولجنة لصياغة البيان الختامي والقرارات والتوصيات,بعدها قدمت اللجنة التحضيرية والتنفيذية تقريرا" مشتركا" تمت مناقشته بروح النقد الذاتي,كما توقف المؤتمر عند مناقشته فقرة خاصة حول النظام الاساسي وتعديلاته ، حيث تم الاتفاق على تأجيل البت به خلال الأربعة أشهر القادمة ، وخوّل المؤتمر اللجنة التنفيذية المنتخبة لإعداده بصورته النهائية وعرضه على الاعضاء وتخصيص اجتماع عام استثنائي لمناقشته وإقراره, وبعد مناقشة التقارير الادارية والتنظيمية والمالية والاعلامية وابداء الملاحظات بشانها تم اقرارها من جانب المؤتمر، وتوجيه الشكر الى اللجنة التنفيدية والتحضيرية السابقتين على دورهما ، اخذين بنظر الاعتبار بعض النواقص والثغرات, مقدرّين المصاعب والعقبات والتحديات التي واجهت الشبكة والعراق عموما.
    ثم انتخب المؤتمر في اجواء احتفائية رئيسا فخريا للشبكة هو الاستاذ ضياء السعدي نقيب المحامين العراقيين لدوره المهني والنقابي ودفاعه عن قضايا حقوق الإنسان وحرياته الاساسية ,وقد قام الدكتور عبد الحسين شعبان بترشيحه معددا" مزاياه الايجابية التي تتلائم واهداف الشبكة والمكانة الاعتبارية التي يشغلها,ثم انتخب المؤتمر 17 عضوا للجنة التنفيذية من اصل 28مترشحا في ظل اجواء من المنافسة الديمقراطية المشروعة وهم (باسم البياتي- يحيى العتابي- نعيم البدري- معد الخرسان((النجف-الفرات الاوسط))- صبا جميل- الدكتور رياض العاني- خليل ابراهيم- فاتنة بابان- عبد الحسين الحسناوي((الحلة-الفرات الاوسط))- احمد النعيمي((الموصل-المنطقة الشمالية))- الدكتور كريم العبودي- حكمت الدراجي- محمد رشيد((العمارة-المنطقة الجنوبية))- هادي علي مثنى- ابتسام العزاوي- نضال العبودي- عبير الهنداوي).
    وقرر المؤتمر ضم ثمانية أعضاء جدد الى اللجنة التنفيذية مع الأخذ بنظر الاعتبار التوزيع الجغرافي للمناطق غير الممثلة وعنصري المرأة والشباب والتكوينات الثقافية المختلفة.وخول اللجنة التنفيذية اختيار الاسماء من الاعضاء الاحتياط ومن غيرهم.
     واختتم المؤتمر إعماله بالمصادقة على البيان الختامي وعدد من التوصيات والقرارات منها ما يتعلق بالنظام الاساسي وتعزيز دور المحافظات والفروع في ادارة الشبكة وضرورة الاهتمام بدور المرأة والطفل والسعي لاشراكهما في انشطة وفعاليات الشبكة مع ايلاء اهتمام كبير بدور الشباب وتأهيله وتدريبه ليتولى المراكز القيادية في الشبكة،واتخذ المؤتمر قرارا" بضرورة التعاون مع وزارات التربية والتعليم العالي ووزراة حقوق الانسان ووزراة الثقافة ووزراة المجمتع المدني ووزارة المرأة ، للتوعية بحقوق الانسان في جميع المراحل الدراسية وتخصيص مادة اساسية ضمن المقررات الدراسية والمنهاجية بهذه القطاعات المختلفة.وكلف اللجنة التنفيذية العمل الجاد لإيجاد مثل هكذا قنوات وتقديم مشاريع وقوانين ومقترحات لتنفيذ ذلك.
    وقرر المؤتمر الاهتمام بنشر ثقافة حقوق الإنسان من خلال الإعلام والتعاون على هذا الصعيد مع نقابة الصحفيين العراقيين ، والإعلاميين بشكل عام لا سيما القنوات الفضائية والصحف والمؤسسات بهدف نشر ثقافة حقوق الانسان،خصوصا" عبر برامج خاصة .
     واتخذ المؤتمر قرارا" بدراسة القوانين والأنظمة التي تتعارض مع المواثيق والاتفاقيات الدولية الخاصة لاحترام حقوق الانسان وتقديم مشاريع ولوائح وتعديلات بشانها، ودعا المؤتمر بقرار خاص السلطات المسؤلة  التوقيع على جميع اتفاقيات حقوق الانسان والسعي لوضعها موضع التطبيق.كما قرر المؤتمر بذل اقصى الجهود للتعاون مع جميع مؤسسات المجتمع المدني لنشر وتعزيز ثقافة وحقوق الانسان، مؤكدا على استقلالية حركة حقوق الانسان والمجتمع المدني ومهنيتها وتمسكها بمعايير الوطنية العليا في اداء مهماتها المهنية والانسانية لتحقيق اهدافها المنشودة .
وكان المؤتمر قد افتتح اعماله بالنشيد الوطني(موطني) ونشيد خاص عن حقوق الانسان ، وشارك فيه وغطت اعماله اكثر من ثلاثة عشر فضائية عراقية وعربية ، إضافة الى عدد من الصحف ووكالات الانباء
                                                بغداد       
                                          26/9/ 2009




1120
أول اختبار لأوباما في الأمم المتحدة
عبدالحسين شعبان
2009-09-21
في 23 سبتمبر 2009، تبدأ الدورة الرابعة والستون للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهي مناسبة للقاء دولي في محفل مهم يمثل أكبر منتدى تحضره هذا العام 194 دولة، وفي الغالب بملوكها ورؤسائها ووزراء خارجيتها.
الجديد في هذه الدورة أن الرئيس الأميركي باراك أوباما سيحضر لأول مرّة، وهو حدث جدير بالاهتمام، خصوصاً ما سيلقيه من خطاب تاريخي، لاسيما بعد مرور 9 أشهر على وجوده في البيت الأبيض، وسيحاول أن يقدم كشف حساب على استراتيجيته التي رفع شعار «التغيير» عنواناً لها ولحملته الانتخابية قبل ذلك.
يضاف إلى ذلك التحديات والمعوّقات التي اعترضت طريقه، رغم أنه ما زال في بداياته سواءً على الصعيد الداخلي، فيما يتعلق بالرعاية الصحية أو مواجهة ضغوط شديدة، من جانب كبريات الشركات والبنوك بسبب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، فضلاً عن المشكلات الدولية سواءً سياساته الأميركية اللاتينية بعد سعيه لإغلاق سجن غوانتانامو في كوبا أو إلغاء بعض القيود التي فرضها سلفه بوش بخصوص التعامل معها فيما يتعلق بسفر الأميركيين من أصل كوبي إليها أو المقيمين الكوبيين في الولايات المتحدة، أو بشأن تحويلات بعض المبالغ إليها، وكذلك الموقف من تحديات دول أميركا اللاتينية التي وصلت فيها القوى اليسارية والاشتراكية إلى الحكم تحت شعار «الثورة في صندوق الاقتراع»، وتلك إحدى مفارقات الصراع الدولي.
وهناك مشكلة الشرق الأوسط التي لم تجد لها حلاً حتى الآن، فالتصلب الإسرائيلي، لاسيما من جانب حكومة نتنياهو ورفضها تجميد بناء المستوطنات والاعتراف بدولة فلسطينية ذات سيادة، قد يدفع الرئيس أوباما الذي سبق أن قال إنه سيعطي جزءاً مهماً من جهوده لحل الدولتين، بالضغط على إسرائيل إلى الانكفاء، وحتى الآن لم تفلح زيارات جورج ميتشيل المكوكية إلى المنطقة في حلحلة الموقف الإسرائيلي أو التوصل إلى خارطة طريق جديدة بعد فشل الخرائط السابقة، بما فيها اتفاقيات أوسلو عام 1993.
وهناك ورطة العراق التي لا تزال قائمة رغم وجود اتفاقية أمنية بشأن جداول الانسحاب التي تنتهي في أواخر عام 2011، لكن هناك شكوكاً حول المواعيد فضلاً عن بقاء بعض القوات الأميركية ما بين 30-50 ألفاً في العراق في عدد من القواعد العسكرية، الأمر الذي سيزيد المسألة تعقيداً، خصوصاً في ظل الخسائر البشرية والمادية وضغط الرأي العام الأميركي والدولي وتحديات الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية.
من جهة أخرى فإن مشكلة أفغانستان لا تزال تتفاقم ولن تحلّها زيادة عدد القوات، إذ إن قوات طالبان وتنظيمات القاعدة ما تزال تملك الكثير من الأوراق حتى الآن، وأن العملية السياسية ما تزال معزولة وهشة ومهددة، الأمر الذي قد يفتح باب التفاوض مع قوى متهمة بالإرهاب إذا ما عدلت من بعض «مناهجها» وأبدت استعداداً لذلك، وهو ما صدرت بشأنه تلميحات، وقد كانت نتائج الانتخابات الأخيرة والإعلان الأولي عن فوز كرزاي مصدر عدم ارتياح أميركي.
لم يصادف أن انعقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلال نصف القرن ونيّف الماضي، في ظل رئيس أميركي يحظى بشعبية كبيرة مثلما هو أوباما الذي فاز على منافسه ماكين بفارق كبير، ربما الاستثناء خلال العقود الماضية هو حضور الرئيس كنيدي في مطلع الستينيات اجتماعات الجمعية العامة، لكن الفارق كبير جداً في حضور الزعيمين، ففي عهد كنيدي كانت الولايات المتحدة صاعدة، اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً، ولكن بالمقابل كان العالم منقسماً إلى معسكرين، وكان يقابل صعود الولايات المتحدة صعود آخر للاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية المنافسة وانعتاق العديد من دول أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا وحصولها على الاستقلال، وسعيها لاختيار طريق للتنمية في الكثير من الأحيان مخالفٍ لتوجهات واشنطن، وبدعم من موسكو، كما أن هذه البلدان شكلت تكتلاً ظهيراً عُرف باسم عدم الانحياز ومجموعة الـ 77، أما الآن فالوضع مختلف تماماً.
ورغم التحديات التي تواجه واشنطن فإنها من جهة أخرى لا تزال تتسيّد على العالم حيث انهارت الكتلة الاشتراكية منذ أكثر من عقدين من الزمان، لعدم قدرتها على منافسة واشنطن في سباق التسلح، يوم خصصت لحرب النجوم تريليوني دولار، ناهيكم عن الاختناقات الاقتصادية والأزمات السياسية وشح الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، التي ساهمت جميعها في هزيمة الاشتراكية المطبّقة أمام الرأسمالية، وكان سقوط جدار برلين بمثابة تشييع نهائي لأنظمة أوروبا الشرقية، وكأنه إعلان عن رثائها حتى دون كلمات وداع أخيرة وهي تذهب إلى مثواها التاريخي.
وساد اعتقاد خلال العقدين الماضيين بأن واشنطن المتحكّمة في العالم ستفرض نمط حياتها وسلوكها ونظامها وأيديولوجيتها على العالم الذي ظفرت به سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعلى المستوى الدولي، الأمر الذي ولّد اعتقاداً لدى مفكرين من أمثال فوكوياما وهنتنغتون وأضرابهما، بأن لا طريق للتقدم إلا عبر النظام الليبرالي، وما عدا ذلك ينبغي إلقاؤه في البحر لأنه أصبح من تراث الماضي، وهو ما عُرف بتنظيرات حول نزع الإيديولوجيا، وذبولها وانتهائها، ولعلها تنظيرات استندت إلى أفكار سابقة كانت قد روّجت لها جماعات الخبراء والمستشارين في «مجمع العقول والأدمغة»، الذي كان له دور كبير منذ عهد الرئيس كنيدي والرئيس جونسون. ولعل نظريات الستينيات وظلالها اليوم استندت إلى فكرة الصراع الإيديولوجي لدحر الكتلة الاشتراكية عبر ما سُمي «نظرية بناء الجسور» التي ستعبرها البضائع والسلع والأفكار والسياح لتطيح بالخصوم في عقر دارهم، وبسبب شعور واشنطن بالتفرد والتميّز فقد أصيبت بنوع من الغرور حين اعتبرت الإسلام عدواً وسعت للقضاء على ما أسمته «الفاشية الإسلامية» في حرب صليبية كونية تحت باب مكافحة الإرهاب الدولي، ولعل ذلك كان أيضاً من أسباب شنّها الحروب واستخدام العصا الغليظة في كل مكان، خصوصاً إزاء البلدان العربية والإسلامية، في حين تصرّفت على نحو مختلف إزاء كوريا والملف النووي.
بهذه الأجندة سيدخل أوباما إلى أروقة الأمم المتحدة وسيدلي بكشف شامل، خصوصاً بعد موجة الأمل التي رافقت قدومه والتعقيدات والمشكلات التي صادفته واعترضت طريقه داخلياً وإقليمياً ودولياً، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، الأمر الذي قد يطيح بشعبيته ويقلّص من نفوذه وبالتالي رغبته في تحقيق التغيير المنشود، خصوصاً أنه يواجه هجمة شديدة من خصومه المحافظين وقسم من الليبراليين واليساريين، وقد يتعاظم الأمر خلال السنوات القادمة إلى نهاية ولايته.
تبقى مشكلة الإرهاب الدولي ساخنة، وبخاصة اتساعه، وهي مسألة لا يمكن لأية إدارة أميركية تجاهلها، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية، وتتفاقم وتستشري مشكلة الإرهاب في الصومال وباكستان، خصوصاً بفشل الاستراتيجية الأميركية في العراق وأفغانستان، ولعل هذا ما دفع الرئيس الأسبق جيمي كارتر للتعبير عن قلقه العميق بالقول: إن لم تخرج أميركا بسرعة من أفغانستان، فإنها تعرّض نفسها لحرب متصاعدة تنتهي بغرقها، ولعل مصير واشنطن قد لا يكون أحسن حالاً من مصير الاتحاد السوفيتي السابق خلال تدخله في أفغانستان.
إنها إشكالات لا يمكن للرئيس أوباما تجاوزها، لاسيما وهو يواجه أول اختبار له في الأمم المتحدة!
 


صحيفة العرب القطرية، العدد 7771- الإثنين 21 سبتمبر 2009 م - الموافق 2 شوال 1430 هـ

1121
صورة الأمم المتحدة
   

عبدالحسين شعبان

هل دخلت الأمم المتحدة وهي في دورتها الرابعة والستين مرحلة التقاعد بعد أن أقعدتها شيخوختها المبكّرة من القيام بواجباتها المنصوص عليها في الميثاق؟ أم أنها رغم فشلها في حل المنازعات الدولية ومنع قيام الحروب واستمرار ممارسة العدوان واستخدام القوة في العلاقات الدولية، الاّ أنها نجحت في جوانب أخرى، وحققت ما عجز عنه المُنتظم الدولي قبل تأسيسها، ولعل من الواقعية اعتبار تلك المنجزات على محدوديتها وفي ظل احتدام الصراع الدولي، مهمة يمكن تطويرها وتعميقها لحين توفّر ظروف أكثر توازناً لاتخاذ سياسات عادلة، وبالتالي تنفيذ ما ورد في ميثاقها، من مقاصد، لاسيما حفظ السلم والأمن الدوليين وإنماء العلاقات الودية بين الأمم، وتحقيق التعاون الدولي، تحديداً في المسائل ذات الصبغة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والانسانية، وعلى أساس احترام حقوق الانسان دون تمييز بسبب الجنس أو اللغة أو الدين أو تفريق بين الرجال والنساء.

لقد جاء ميثاق الأمم المتحدة انعكاساً لواقع ما بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية والنازية، وصعود نجم الافكار الديمقراطية والاشتراكية، الأمر الذي ترك بصماته على صياغات الميثاق، لاسيما في ما يتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها والحقوق المتساوية للدول والشعوب كبيرها وصغيرها، وكذلك تأكيد احترام السيادة وعدم استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، واللجوء الى الوسائل السلمية وتنفيذ التزامات الأعضاء بحسن نية، إضافة الى عدم التدخل في الشؤون الداخلية وكل ما له علاقة بصميم السلطان الداخلي، وغيرها من المبادئ التي سطّرها ميثاق الأمم المتحدة والتي اعتبرت قواعد أساسية للقانون الدولي المعاصر في ظل توازن القوى الدولي، وبخاصة في مرحلة التعايش السلمي بين الشرق والغرب.

وقد أضيفت الى هذه المبادئ المهمة ثلاثة مبادئ جديدة مستقلة، وهي وإنْ جاءت في إطار بعض المبادئ، الآّ أنها أصبحت ذات صفة آمرة Jus Cogens أي ملزمة، أسوة بغيرها من مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لاسيما بعد إقرارها باتفاقيات دولية شارعة، أي منشئة لقواعد قانونية جديدة أو مثبتة لها، وهذه المبادئ أقرّت في وثيقة هلسنكي الختامية العام 1975 في مؤتمر الأمن والتعاون الاوروبي الذي حضرته 33 دولة أوروبية، إضافة الى الولايات المتحدة وكندا، والمبادئ الثلاثة هي: احترام حرمة الحدود وعدم خرقها وكذلك احترام الاستقلال السياسي ووحدة البلدان، إضافة الى احترام حقوق الانسان وحرياته الاساسية.

ولعل هذا الإقرار أعطى لقضية حقوق الانسان منزلة علوية، إذ أصبحت قاعدة آمرة ومُلزمة تقاس درجة تقدم البلدان والشعوب بمدى الالتزام بها وتطبيقها، خصوصاً وأن جميع المبادئ والقواعد الدولية ترتبط بها بشكل وثيق، فهي الناظم لعلاقات وحقوق الأفراد مع الدولة وعلاقة الدول مع بعضها البعض، وبالتالي فإن سجل حقوق الانسان، يمكن مراقبته وكشف انتهاكاته، بالتجاوز مجازاً على مبدأ السيادة، ولا يمكن والحالة هذه ترك شعب أو جماعة انسانية تستفرد بها حكومتها، لأسباب اثنية أو دينية أو لغوية أو لأي سبب آخر، بحجة عدم التدخل بالشؤون الداخلية واحترام السيادة، الأمر الذي قد يخلق تعارضاً بين مبدأ إلزامية احترام حقوق الانسان، وبالتالي إلزامية التدخل الانساني أو لأغراض انسانية، وبين مبادئ السيادة وعدم التدخل.
وإذا كان هذا رصيد الأمم المتحدة النظري، وهو ايجابي، فإن بعض رصيدها في حل المشاكل الدولية سلمياً كان سلبياً، من حيث الاداء والمهمات وعدم التوازن احياناً بحكم ضغوط وممارسات للقوى المتنفذة عليها، إذ لا يعقل أن يطبق حصار دولي قارب من 13 عاماً على العراق، يتبعه احتلال غير شرعي ومن دون ترخيص قانوني من الأمم المتحدة وفي تعارض مع قواعد القانون الدولي، دون تحريك ساكن من جانبها، لاسيما باحتلال بلد عضو في الأمم المتحدة بحجج أثبت أنها واهية.
كما أنه ليس من الجائز أن تسكت الأمم المتحدة على الولايات المتحدة وهي تمارس حصاراً جائراً ضد كوبا منذ خمسة عقود من الزمان رغم صدور أكثر من 14 قراراً من الجمعية العامة تندد بالحصار، كما لا يمكن تفهم إدمان “إسرائيل” منذ تأسيسها على الاستخفاف بالأمم المتحدة ووضع قراراتها في الادراج أو ضربها عرض الحائط، مثل القرار 181 (القاضي بالتقسيم حيث قامت “إسرائيل” بالتجاوز عليه واحتلال أراضٍ جديدة) أو القرار 194 (الخاص بحق العودة الذي ترفضه “إسرائيل” بالكامل) أو القرارين 242 و338 الخاصين بالانسحاب الى حدود 4 يونيو/ حزيران العام ،1967 أو القرار 425 الخاص بالجنوب اللبناني والذي تمتنع “إسرائيل” عن تنفيذه، في حين تستقتل “إسرائيل” لإلغاء القرار 3379 الخاص بمساواة  الصهيونية بالعنصرية الذي صدر في العام ،1975 والمفارقة أن تتمكن من ذلك في العام ،1991 علماً بأنها تدير ظهرها لجميع قرارات الأمم المتحدة، لاسيما الخاصة باحتلال الاراضي العربية وضم القدس والجولان وهدر حقوق الانسان.

ومثلما أخفقت الأمم المتحدة في حل النزاعات، لم تنجح في وضع برنامج نزع السلاح أو حظر أسلحة الدمار الشامل، وكذلك فشلت في إيجاد نظام دولي عادل في ميدان التنمية والتجارة الدولية والعدالة والفقر والتخلف والتفاوت الاجتماعي والتقني والعلمي وغيرها.

لكن هل يستوجب فشل الأمم المتحدة بشكل عام في حل النزاعات الدولية إلغاءها أو حلّها أو الخروج منها كما يطرح البعض، وهل هذا سيحل المشكلة أم أن مشكلة الضعيف هي التمسك بالقانون الدولي وقواعد ومبادئ الأمم المتحدة، وهي حجة بيده لا عليه كما يقال، خصوصاً ضد القوى المتنفذة والمتسيّدة، حيث يمكن أيضاً استخدام هذا المنبر الدولي للتعبير عن رأيه في خضم هيمنة القوى الكبرى، واستخفافها بدور القوى والبلدان الصغيرة.
ومع كل نواقص وثغرات وعيوب الأمم المتحدة، الاّ أنها من جهة أخرى قد حققت بعض النجاحات، لاسيما في ميدان الصحة والتعليم والثقافة والاقتصاد والبيئة وحماية الطفولة واللاجئين وبعض جوانب حقوق الانسان، وهو أمر لا يمكن التقليل من شأنه أو النظر إليه باستخفاف.
باحث ومفكر عربي
صحيفة الخيلج الاماراتية الاربعاء 23/9/2009

1122
العرب وثقافة ما قبل الدولة
عبدالحسين شعبان
2009-09-14
ظل الفكر السياسي العربي بجميع مدارسه القومية والإسلامية والماركسية والليبرالية، يعاني من شح الثقافة الديمقراطية وضعف الوعي الحقوقي، لاسيما بمسألة التنوع والتعددية والاعتراف بالآخر وتداول السلطة سلمياً وسيادة مبادئ القانون والمساواة واحترام حقوق الإنسان وغيرها. ولم تكن البيئة الثقافية العربية قد أفرزت مطالب وشعارات تربط بين الدولة ككيان قائم ومستمر وليست السلطة كحالة متغيرة، وبين الإصلاح الديمقراطي الداخلي والتخلص من الهيمنة الأجنبية والسيطرة الاستعمارية، ولعل الجانب السياسي كان طاغياً وأحياناً غطّى على الجانب الاجتماعي، الأمر الذي لم يكن معه التحليق سهلاً بجناح واحد، خصوصاً أن المسألة السياسية لها بُعد اجتماعي، مثلما لا يمكن فصل المسألة الاجتماعية عن بُعدها السياسي.
وتعود الأسباب الأساسية لغياب الثقافة الديمقراطية إلى ضيق هوامش الحرية، وبخاصة حرية التعبير وإلى سيادة نمط الثقافة المركزية وهيمنتها، لاسيما أنها تجد جذورها في الثقافة التقليدية والموروث الاجتماعي، وهذه تجلّت بمرجعيات التيارات الأساسية السائدة في الوطن العربي، منذ مرحلة ما قبل الاستقلالات وما بعدها، حيث كانت بالنسبة للتيار القومي العربي، الذي أسس الدولة العربية على اختلاف مفاهيمها وأسسها، تستند إلى الجانب العرقي- السياسي والجامع العربي- القومي، في حين كانت مرجعية التيار الإسلامي، تقوم على الجامعة الإسلامية استناد إلى المعيار العقائدي- الروحاني- الديني، في حين تعكّز التيار الماركسي والاشتراكي على الجانب الاجتماعي، الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية وأعلى من شأن الصراع الطبقي- الاجتماعي، وكانت مرجعيته الجامعة الأممية-الكونية.
وإذا كان التيار الليبرالي قد استند على جامع الحرية ودولة القانون وحرية السوق، فإنه في خضم صراع التيارات الكبرى ضاع وتبدد، لاسيما في ظل الانقلابات العسكرية، التي رفعت عدداً من المسائل الكبرى مثل تحرير فلسطين أو تحقيق الاشتراكية جاعلة منها شعارات يومية ظلّ صداها يتردد على الأسماع بمناسبة وبغير مناسبة، الأمر الذي قلّص من الهوامش الديمقراطية، بل ازدراها أحياناً بحجة المعارك المصيرية والأهداف الكبرى، وهكذا واجه بناء الدولة عقبات جدية ما قبل بنائها والتوغل فيه: دينياً وإثنياً ومذهبياً وعشائرياً وجهوياً وسلالياً ولغوياً وجنسياً (الموقف من المرأة) وغير ذلك.
وفي إطار غلبة تيار واحد واندفاع تيارات، أخرى إلى المعارضة التي لم يكن مرخّصاً لها أو معارضة غير شرعية وغير قانونية بلغة السلطات الرسمية، لاسيما في ظل نزعات الانفراد والاستئثار وادعاء الأفضليات، والنطق باسم الشعب كل الشعب، وبزعم أن لا حرية لأعدائه، أقصيت بقية التيارات واعتبر الحديث عن التعددية والتنوع وإشاعة الحريات، إنما يراد له تخفيض سقف المعركة مع العدو الذي يدقّ على الأبواب، وإثارة البلبلة، والتشكيك بالوحدة الوطنية، التي من حيث التبرير لن تكون سوى الواحدية وليست الكثرة المتنوعة، المختلفة، التي يمكن لها أن تأتلف في إطار المشترك الوطني والجماعة الوطنية والمنتظم الديمقراطي- القانوني- الشرعي في إطار الدولة العصرية والفضاء الإنساني.
وقد انعكس الانقسام الدولي على الوضع العربي والمحلي، الأمر الذي زاده انقساماً وتشظياً إقليمياً وداخلياً، ناهيكم عن انقسامات بسبب الموقف من حقوق المرأة وحقوق الأقليات والتقدم الاجتماعي، وحقوق الإنسان بشكل عام ومبادئ المواطنة والمساواة في الدولة العصرية.
وظلت الثقافة السائدة تعاني من التباس علاقة الدولة بالأمة: هل تهدف إلى إقامة دولة قُطرية أم دولة قومية؟ هل هي دولة حماية أم دولة رعاية؟ هل هي دولة ريعية أم دولة تنمية ورفاه؟ هل هي دولة بهَرَم عشائري وراثي وجهوي أم هي دولة مؤسسات وانتخابات وسلطات رقابة متوازنة؟ هل هي دولة مستبدة حتى إن كانت باسم العدل أم هي دولة الحقوق والحريات؟ هل هي دولة أحادية قومياً أو دينياً أم دولة تعددية، متنوعة، ومتعايشة؟ هل هي دولة أغلبيات مهيمنة أم دولة مساواة ومواطنة كاملة وبلا تمييز؟
ولعل الإجابة على هذه الأسئلة تطرح عدداً من الإشكاليات. الإشكال الأول يتعلق بتجديد الفكر ونقد الواقع، وكيف السبيل إلى ذلك وأي الخطوات يمكن اتباعها وصولاً للإصلاح المنشود؟ فالأمر بحاجة إلى تجديد الفكر وتجديد المؤسسات من خلال النظرية ومن خلال التطبيق «البراكسيس» أيضاًَ، وهذا يتطلب وقفة جدية للمراجعة في ضوء مبادئ الحداثة والعلاقة بين التراث والمعاصرة وبين العلمانية والإسلامية، وهذا الأمر يتعلق أيضاً بالتناقض داخل المجتمع ذاته، سواءً كان بين التيار الإسلامي والعلماني، أو بين التيارات الشمولية وفي داخلها، خصوصاً في ظل موجة الإصلاح والدمقرطة التي انتشرت بعد انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية.
أما الإشكال الثاني فيتعلق بالانتماءات الفرعية والهوية العامة الجامعة، والتوازن بين سلطة الدولة من جهة والتكوينات الخاصة والهويات الفرعية، من جهة أخرى، خصوصاً باحترام حقوق الأقليات وخصوصيتها دينياً وقومياً ولغوياً وسلالياً...
ويتعلق الإشكال الثالث في بناء الدولة العصرية، بالتوازن بين الوطني والاجتماعي، الأمر الذي يحتاج إلى التكامل والتواصل وليس الانفصال أو التنافر، والأساس في ذلك يعتمد على موازنة الاستقلال الوطني والتحرر الاجتماعي إذ إن النقص في أحد الجانبين يؤدي إلى اختلالات بنيوية، فالتلاقح بين الوطنية والعدالة الاجتماعية إنما يحتاج إلى أجواء من الحرية واعتماد مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان، الخيط الناظم للعلاقات بين الجوانب المختلفة.
ولا شك أن المواطنة هي حلقة وصل في الدول العصرية، حيث يتم من خلالها تأكيد وظيفة الدولة بحراسة الجماعة الوطنية والسهر على مصالحها الكلية وتأمينها في مواجهة أخطار الخارج وتحقيق الاستقرار والتنمية في الداخل وضمان حقوق التكوينات المختلفة.
أما الإشكال الرابع فيتحدد بطريقة التمثيل من خلال علاقة التوازن بين القوى السياسية والفكرية والاجتماعية التي لا يمكن ضمانها إلا في إطار الدولة الديمقراطية، لاسيما بين الأساسي والجوهري من خلال المشاركة والتداولية وضمان حقوق المعارضة وشراكة المجتمع المدني. ويقوم البناء المؤسسي الديمقراطي على مبدأ التمثيل الانتخابي والحرية في الاختيار والمشاركة والشرعية في التمثيل والتعددية واللامركزية والمساواة واستقلال القضاء وسيادة القانون والتداول السلمي للسلطة، فضلاً عن حرية التعبير.
ويرتبط الإشكال الخامس بعلاقة بالمجتمع المدني وقدرته على المشاركة في اتخاذ القرار، فالتذرر الاجتماعي والمكوّنات المختلفة يمكن أن تأتلف في إطار الوحدة المتعددة المتنوعة وليس الواحدية، وبذلك يمكن للمجتمع المدني أن يتحوّل إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج حسب، وقوة اشتراك وليس قوة اعتراض فقط.
أما الإشكال السادس فله علاقة تفاعلية إيجابية أو سلبية بين العام والخاص، وبين الخصوصية والشمولية والحضارة والثقافة المحليتين من جهة، وبين الحضارة الكونية والثقافة العالمية، المتعددة من جهة أخرى ولعل حل هذه الإشكالية والإشكاليات الأخرى، يمكن أن يضع الدولة العربية المعاصرة في الطريق الصحيح ويجعلها تلحق بالركب العالمي، بتخطّي مرحلة ما قبل الدولة ولوجاً لمرحلة الدولة.



صحيفة العرب القطرية العدد 7764، الإثنين 14 سبتمبر 2009 م - الموافق 24 رمضان 1430 هـ

1123
النفط وألغام الصراع في العراق
      

عبد الحسين شعبان






 
يعتبر قانون النفط والغاز أحد الألغام التي ظلّت تهدد الوضع بالانفجار، سواءً في إقليم كردستان أو مع السلطة الاتحادية (المركزية) في بغداد، ولعل الخلل الأساسي يكمن في الدستور فيما يتعلق بالصياغات العامة والملتبسة حين اعتبر النفط والغاز ملكاً للشعب، ثم عاد وأعطى حق الإشراف على الحقول غير المستخرجة للأقاليم، وبالتالي أثار إشكالاً ما زال مستمراً بين وزارة النفط وسلطات إقليم كردستان، حول صلاحية إبرام عقود مع شركات أجنبية، خارج إشراف أو موافقة وزارة النفط، وهذه الأخيرة هددت بعدم التعامل مع الشركات الأجنبية، إذا وقعت مثل هذه العقود، ناهيكم عن عدم الاعتراف بالعقود الموقعة أساساً.
 
وانفجر الخلاف في أبريل/نيسان 2007 عندما اختلف الطرفان (الاتحادي لا سيما وزارة النفط، وسلطات الإقليم) حول الصلاحيات، ناهيكم عن صدور تلميحات وتصريحات من جانب رئيس الوزراء نوري المالكي بخصوص تعديل الدستور، فيما يتعلق بالقوات المسلحة والانتخابات والديمقراطية التوافقية وغيرها، والتي يعني الاقتراب منها إخلالا باتفاقيات مسبقة لصيغة الحكم الجديد لبعض المواد الجامدة في الدستور بما فيها الفدرالية التي ليس من السهل تغييرها أو تعديلها. في هذه الظروف بدأت جولة التراخيص الأولى في الحقول المنتجة وكانت تلك إحدى مفاجآت الوضع الراهن.
 
"
بنود التحكيم الواردة في عقود النفط ستكون مع المؤسسات الدولية، وشروط العقد عند النزاع معقدة وطويلة، وستكون بين طرفين أحدهما قوي ومتماسك وموحد وله خبرة واسعة وآخر ضعيف ومفكك ومُنهك وليس له خبرة الشركات العملاقة
"
إن إعطاء شروط ميّسرة ومجزية للشركات، لا سيما في الحقول المنتجة التي تنتج نحو 80% من النفط العراقي المنتج حالياً (2.4 مليون برميل بمعزل عن الشركات الأجنبية) و55% من الاحتياطي العراقي (الرميلة لوحدها تشكل بشمالها وجنوبها 18% من المخزون العراقي) سيلحق ضرراً بالنفط والاقتصاد والإرادة السياسية العراقية التي ستكون مكبّلة، خصوصاً وأن جولة التراخيص ستربط النفط لمدة تزيد عن عشرين عاماً، وإن بنود التحكيم الواردة في العقود ستكون مع المؤسسات الدولية، وشروط العقد عند النزاع معقدة وطويلة، وستكون بين طرفين أحدهما قوي ومتماسك وموحد وله خبرة واسعة وآخر ضعيف ومفكك ومُنهك وليس له خبرة الشركات العملاقة، فما بالك إذا كانت عقوده تجزيئية وليست في إطار مركزي.
 
وعندما تنشب أزمة فيمكن لهذه الشركات أن توقف إنتاج النفط، وتتذرع بالشروط القاهرة، التي تحول دون تنفيذ العقود، الأمر الذي بالإمكان استغلاله سياسياً لإلحاق ضرر بالعراق وتنميته ومستقبله.
 
إن يوم 30 يونيو/حزيران 2009 يُعدّ محطة مفصلية في تاريخ النفط العراقي، فقد شهد جولات تراخيص كما جاء في قرار وزارة النفط لتطوير حقول النفط والغاز في العراق. وشملت الجولة الأولى من التراخيص اثنين من حقول الغاز وستة من حقول النفط العملاقة، وذلك بتوفير المزيد من الإنتاج بقدرة 1.5 مليون برميل يومياً في الفترة بين 3-4 سنوات وباستثمارات تقدر بـ15 مليار دولار.
وحقول النفط المعروضة هي:
1- حقلا شمال الرميلة وجنوبها.
2- الزبير والقرنة (حقول نفط البصرة).
3- حقول نفط العمارة (ميسان).
4- حقول نفط كركوك (كركوك وباي حسن- نفط الشمال).
 
ودعيت 35 شركة للمناقصة من شركات النفط العالمية وتم إقامة مزاد علني في بغداد نظمته وزارة النفط بحضور الشركات، في إطار ما سمي "عقود خدمة" أي العقود التقنية لتقديم الخدمة وهذه نافذة لمدة عشرين عاماً، وتم الاتفاق مع الشركة البريطانية بريتش بتروليوم (BP) وشركة البترول الصينية (CNCP) لزيادة الإنتاج الحالي. ويعتبر حقلا الرميلة الشمالي والجنوبي من أكبر الحقول وتعادل أكثر من نصف الاحتياط الكامل للولايات المتحدة.
 
لكن جولة التراخيص الأولى واجهت معارضة شديدة من جهتين مختلفتين، الأولى من التحالف الكردستاني وحكومة إقليم كردستان ووزارة نفط الإقليم، ومعهما بعض قيادات المجلس الأعلى الإسلامي مثل عادل عبد المهدي نائب رئيس الجمهورية وبيان جبر صولاغ الزبيدي وزير المالية، فهناك حساسية سياسية إزاء الدكتور حسين الشهرستاني وزير النفط، وموقفه المتشدد بخصوص مركزية العقود وتحت إشراف وزارة النفط.

وهناك معارضة من الجهة الثانية لجولة التراخيص من قوى وتيارات أخرى، لا سيما من خارج العملية السياسية، والتي تعتبرها عودة لما قبل التأميم أو تعويضا لفترة التأميم "المهدورة"، واتجاه نحو الخصخصة الذي ما زال الشهرستاني متردداً بشأنها رغم حماسته لجولة التراخيص.
 
"
جولة التراخيص الأولى واجهت معارضة شديدة من جهتين مختلفتين، الأولى من التحالف الكردستاني وحكومة إقليم كردستان ووزارة نفط الإقليم، والثانية من قوى وتيارات أخرى، لا سيما من خارج العملية السياسية
"
من جهة أخرى فإن معارضة العديد من النقابات العمالية، لا سيما عمال النفط والغاز لجولة التراخيص الأولى، جعلت الشهرستاني يتشبث بقرار قديم لمجلس قيادة الثورة ما زال نافذاً وكان قد أصدره الرئيس السابق صدام حسين في العام 1987 بإلغاء نقابات العمال وصفة العامل، لا سيما عن القطاع العام "الاشتراكي" كما كان يسمى في حينها، وبالتالي صم الآذان لمطالبهم ومواقفهم.
 
وموضوعياً يمكن تقويم بعض توجهات الشهرستاني وسياسته النفطية، التي تتلخص في جعل وزارة النفط مركز الثقل الأساسي، بل والوحيد المسؤول إستراتيجيا عن تطوير موارد النفط والغاز، وهي التي تتخذ القرارات وتنفذها على صعيد السلطة الاتحادية النفطية، ولكن بمشاركة الأقاليم والمحافظات.
 
وهذا الاتجاه يعني وحدانية اتخاذ القرار وهو ما تعارضه حكومة الإقليم في كردستان، والغريب أن الطرفين استندا على الدستور ولكن لكل منهما تفسيره الخاص وقد يكون "مقنعاً" طالما ظل الدستور فضفاضاً وغير محدد على نحو واضح وحاسم بشأن الإدارة النفطية، لكنه في الوقت نفسه سيكون مصدر صراع جديد.
 
ووقف الشهرستاني ضد توجهات حكومة الإقليم للتوقيع على عقود المشاركة في الإنتاج، وذلك لأن هذه العقود تتجاوز على صلاحيات وزارة النفط من جهة، فضلاً عن كونها تصب في صالح الشركات الاحتكارية، وتربط العراق أو بعض حقوله بسياساتها ومصالحها، وستكون مفاوضات بقية الحقول ضعيفة في ظل عقود سخية في إقليم كردستان، وهو ما تفضله الشركات لتجزئة مفاوضاتها وعلاقاتها. ولكن إدارة الإقليم تشبثت بصلاحياتها بالاستناد إلى دستور يعطيها حق الإشراف على حقول غير مستخرجة أو مكتشفة.
 
وحتى لو حسمت المحكمة الدستورية الأمر، فإن الاستقطاب سيكون أكثر حدة وربما يؤدي إلى انفجار الوضع، خصوصاً ببقاء المادة 140 بخصوص كركوك معلقة ودون أفق للحل، وكان نيشروان مصطفى قائد قائمة التغيير والإصلاح التي حصلت على 23% من المقاعد في انتخابات برلمان الإقليم، قد نوّه إلى أن السكوت عن تطبيق المادة 140 قد يعود إلى تطمينات بشأن النفط لسلطات الأقاليم عقب زيارة المالكي إلى دوكان واجتماعه بالطالباني والبارزاني.
 
بتقديري أن الموافقة على مسوّدة قانون النفط والغاز التي ما تزال معروضة على البرلمان منذ فبراير/شباط العام 2007 ستشكل تحولاً نحو الخصخصة على المدى الطويل، وهذا يعني فتح الباب لعودة الشركات الاحتكارية إلى العراق، لا سيما بتوقيع عقود طويلة معها وهو ما يشير إليه د.منير الجلبي الخبير الاقتصادي والنفطي في تعليقه على مشروع قانون النفط والغاز في 15 (مارس/آذار ) 2007.
 
وسبق للحكومة العراقية ووزارة النفط أن وقعت على عقدين، الأول خاص بحقل الأحدب (وهو حقل عملاق) مع شركة النفط الوطنية الصينية CNOC، أما العقد الثاني فهو مع شركة شل في 22 أيلول/سبتمبر 2008، حيث أعطي للشركة الحق لمدة 25 عاماً لمجمل صناعة الغاز في جنوب العراق، وهو لا يعدو أن يكون خصخصة إنتاجية لموارد الغاز في الجنوب.
 
ولعل من غير المفهوم أو المبرر عدم وجود أجوبة لسؤال كبير ومحيّر: لماذا أعطيت التراخيص لحقول منتجة؟ ورغم كل الظروف والأوضاع الأمنية، فإنها ما تزال تنتج بأياد وخبرات عراقية، والحقول المشمولة هي حقول شركة نفط الجنوب وشركة نفط الشمال وشركة النفط الوطنية، وسيتم إنشاء مؤسسات بعد دخول عقود التراخيص حيّز التنفيذ بوصفها كيانات قانونية لتجنب تشكيل شركة عامة مشتركة، حيث سيكون للشركات العالمية مشاركة فعالة في صنع القرار والرقابة والإدارة وعمليات التطوير والتشغيل والسيطرة على هذه الحقول.
 
وهناك خسارة أخرى تتعلق بالموظفين العاملين في الشركات الحالية الذين سيتم إلحاقهم كموظفين لفترة 20 أو 25 عاماً بحسب شروط العقد بأماكن عمل جديدة وبشروط مختلفة، وسيكون من الصعب بمكان أن يعودوا إلى مواقعهم الأصلية، لأن ذلك غير ممكن عملياً، كما أن خبراتهم التقنية ستضيع وتتبدد إلى الأبد، وسيخسر العراق خبرات وكفاءات عمِلَ على تنميتها سنوات طويلة.
 
"
ستسهم عقود النفط في إفراغ شركة النفط الوطنية من محتواها بعد تخفيض صلاحيات شركتي نفط الشمال والجنوب، وستكون شركة النفط الوطنية أقرب إلى هيكل فارغ، كشركة مشرفة، في حين ستكون الشركات الأجنبية هي المتحكم الفعلي في الحقول النفطية
"
وستسهم هذه العقود في إفراغ شركة النفط الوطنية من محتواها بعد تخفيض صلاحيات شركتي نفط الشمال والجنوب، وستكون شركة النفط الوطنية أقرب إلى هيكل فارغ، كشركة مشرفة، في حين ستكون الشركات الأجنبية هي المتحكم الفعلي في الحقول النفطية.
 
لعل الأمر يتطلب إعادة التأهيل لما هو موجود من حقول وضمن حدود الشركات الوطنية (شركة النفط الوطنية وشركة نفط الجنوب وشركة نفط الشمال) وإذا ما كان هناك اضطرار فيمكن اللجوء على نحو محدود لعقود الخدمة التقنية، ولمناقصة واحدة أو اثنتين، وهذا يعطي فرصة للتعلّم وتطوير القدرات العراقية.
 
إن عقود التراخيص بجولتها الأولى وانتظار الثانية ومع شركات احتكارية ولعقود طويلة وعلى حقول تحتوي على ثمانين مليار برميل (بحدود 75% من احتياطي العراق) وبشكل سريع ومتعجل، سيكون خسارة فادحة للجيل الحالي وللأجيال القادمة ورغم الضغوط التي تعرّضت لها بلدان كثيرة، لكنها امتنعت عن الارتباط بمثل هذه العقود ، مع أنها تعاني من نقص في الخبرة أو التخصيصات وتحتاج إلى زيادة الإنتاج.
 
إن تاريخ النفط في المنطقة العربية هو تاريخ حروب ودماء ومحاولات لفرض الهيمنة على شعوبها وتكبيلها، حيث استحكمت الشركات الاحتكارية ومن ورائها القوى المتنفذة لوضع اليد عليه عبر عقود واتفاقيات مجحفة، ويكشف تاريخ القرن الماضي كله أنه كان سبباً أساسياً للصراع السياسي والاجتماعي الدائر في المنطقة وعلى النطاق الدولي، وهو صراع بين الحداثة والتخلف، وبين الهيمنة والتحرر، وإن لم يتم استغلال موارده على نحو صحيح وعقلاني ومتوازن للدول المنتجة والمصدرة والمستهلكة فإن المزيد من الدماء سيسيل في المنطقة ومعها يتبدد النفط وتضيع فرص التنمية والديمقراطية، ومقابل كل قطرة نفط سيكون هناك ضحايا ودم نازف.

الجزيرة نت ، الاحد 13/9/2009
   


1124
تذبذب أوباما إزاء العدالة الدولية
   

عبدالحسين شعبان
هل تستطيع إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما الاستدارة بسياسة الولايات المتحدة واستراتيجيتها إزاء الموقف من القانون الدولي المعاصر والقانون الدولي الإنساني، لاسيما اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام ،1977 خصوصاً وقد مرّت ذكراها الستين قبل أيام وكانت الإدارة الأمريكية قد وقفت مع “اسرائيل” في فضّ اجتماع دعت له الحكومة السويسرية لأنها الدول المؤتمنة على اتفاقيات جنيف العام 1999 بعد عشر دقائق من انعقاده لأن “اسرائيل” لا تريد تطبيق أحكام اتفاقيات جنيف على الأراضي العربية المحتلة بما فيها القدس والجولان، اللتان قامت بضمّهما العام 1980 و1981 خلافاً للقانون الدولي الذي لا يجيز الضم والإلحاق والحصول على مكاسب سياسية بسبب الحرب والعدوان.

والأمر الأكثر التباساً وتناقضاً وتذبذباً هو الموقف الذي يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية وما سمي ميثاق روما لعام 1998 والذي دخل حيّز التنفيذ العام ،2002 وهو الميثاق الذي يتعلق بإنفاذ العدالة الدولية على المستوى العالمي وملاحقة المرتكبين لجرائم الحرب وجرائم الإبادة وللجرائم ضد الإنسانية.

لكن الولايات المتحدة ليست عضواً في ميثاق روما رغم اشتراكها بتأسيسه بعد فشل محاولاتها ثني بلدان الاتحاد الأوروبي عن تبنّيه، واضطرت الى الانضمام اليه لأنها آثرت توجيه نظام المحكمة بما يخدم أهدافها، ومع ذلك عادت وانسحبت منه بعد دخوله حيّز التنفيذ، الأمر الذي لا يعكس تذبذباً فحسب، بل سابقة خطيرة على صعيد السياسة الأمريكية ومواقفها المعلنة من إنفاذ مبادئ العدالة والقضاء الدولي، ناهيكم عن خطورته على المستوى الدولي، إذ لم يكن مناسباً لدولة عظمى، وعضو دائم العضوية في مجلس الأمن، أن تشارك كعضو مؤسس رغم تحفظاتها- لنظام روما ثم تقوم بالانسحاب منه بعد دخوله حيّز التنفيذ بحصول العدد المناسب وهو 60 دولة للتصديق، وهو ما فعلته “اسرائيل” خصوصاً اعتراضاتها لاعتبار “الاستيطان” وفقاً لنظام روما إحدى الجرائم ضد الإنسانية التي يلاحقها القانون الدولي.

كيف يمكن للولايات المتحدة أن تدّعي أنها تريد تحقيق العدالة الدولية على النطاق العالمي وهي ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، بل إنها وهذه مفارقة حقيقية، تقف مثل هذا الموقف السلبي من المحكمة، لكنها في الوقت نفسه تنحاز إليها عند الحديث عن الاتهامات الموجهة الى الرئيس السوداني عمر حسن البشير عبر المدعي العام لويس أوكامبو، رغم أنها لا تعترف بالمحكمة.

ان مناسبة فتح هذا الملف هو ما عبّرت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون في تصريح لها في كينيا حين أبدت أسفها العميق، لأن الولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت في لاهاي لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي أعمال الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

ولعل كلينتون عبّرت عن شعور المجتمع الدولي الذي وجّه انتقادات حادة الى إدارة الرئيس بوش عندما اتخذت موقفاً عدائياً من المحكمة الجنائية الدولية، وهذا الموقف يعود الى قبل ذلك، حينما واجهت إدارة بيل كلينتون المجتمع الدولي بالموقف المتحفظ من المحكمة، ثم واصلته إدارة بوش بعدائية ملحوظة، لاسيما محاولة الضغط على الدول الأعضاء لعدم دخوله حيّز التنفيذ، وفيما بعد انسحابها من نظام

روما عند تصديق العدد المطلوب عليه، بهدف إضعافه.

والسؤال الآن، هل ستعيد إدارة أوباما موقفها من المحكمة الجنائية الدولية وتنضم اليها بعد عرقلة جهودها وإضعاف نظامها في ملاحقة المرتكبين لكي لا يُصار الى ملاحقة جنودها، أم أن إدارة أوباما ستبقى على مواقف سلفها مع بذل جهود أكبر للتعاطي مع المحكمة دون الانضمام اليها، لاسيما في القريب العاجل أو في المدى المنظور كما يقال؟

لقد أخفقت إدارة الرئيس كلينتون في إقناع الدول الأخرى بضرورة تطمين المؤسسة العسكرية الأمريكية التي شعرت بالقلق وأبدت مخاوف شديدة تتعلق باحتمال تعريض الجنود الأمريكان لمحاكمات مسيسة بواسطة المحكمة، ورغم التوقيع على النظام الاساسي قبل سويعات من إغلاق باب التوقيع (31/12/2000) وهو الموعد النهائي للتوقيع على الاتفاقية، غير انه ما لبث أن عبّر عن قلقه بشأن احتواء اتفاقية روما على “عيوب كبيرة” كما أسماها، ولعل هذا التراجع وضعه بصيغة تعهد بأنه لن يقوم، كما لا ينصح أي رئيس يأتي بعده بأن يقوم بتسليم هذه الاتفاقية لمجلس الشيوخ لإبداء النصح والموافقة عليها، ما لم تتم إزالة جميع دواعي القلق بخصوصها.

وتطورت المسألة عندما قررت إدارة بوش في مايو/ أيار 2002 إلغاء موافقة ادارة كلينتون على قرارها القاضي بالتوقيع على قانون روما الأساسي، في محاولة للتملص من حد صلاحية المحكمة للمواطنين الأمريكان وباعتبار ولايتها عالمية، ثم وقع بوش على قانون حماية الأفراد العسكريين الأمريكيين” الذي تضمن انتقاداً للمحكمة الجنائية الدولية، وقرر قطع المساعدات الأجنبية عن أعضائها. وقد وجد القانون تأييداً من أعضاء مجلس النواب، لاسيما من “الجمهوريين” و”الديمقراطيين” أيضاً، بمن فيهم السيدة هيلاري كلينتون عضو مجلس الشيوخ آنذاك الاّ انه لقي لوماً في الوقت نفسه من جانب مؤيدي نظام محكمة روما.

وفي فترة رئاسته الثانية اتبع الرئيس بوش نهجاً أكثر برغماتية لموافقته على إحالة موضوع التحقيق في الفظائع التي تم ارتكابها في إقليم دارفور للتحقيق من قبل المحكمة، ثم قام بعد ذلك بتقديم الدعم لمدعيها العام والتنازل عن تحفظاته القانونية بشأن تقديم المساعدة للدول الأعضاء في المحكمة.

وفي حينها هددت وزيرة خارجية بوش، كوندوليزا رايس باستخدام حق الفيتو ضد جهود بعض الأعضاء في مجلس الأمن، بما في ذلك الصين وفرنسا، لإعاقة إصدار أمر بإلقاء القبض من المحكمة الجنائية الدولية ضد الرئيس السوداني عمر البشير، ورغم تأييد بعض جماعات حقوق الإنسان مثل هذا التوجه، الاّ أن الكثير من المنظمات والشخصيات الحقوقية المستقلة تحدثت عن ازدواجية المعايير وانتقائية الممارسات، لاسيما السياسة ذات الوجهين التي تتبعها واشنطن، خصوصاً بتمكين الجناة والمرتكبين “الاسرائيليين” للإفلات من العقاب في عدوان “إسرائيل” المفتوح على لبنان، والذي دام 33 يوماً والذي بدأ في 12 يوليو/ تموز ،2006 وفيما بعد عدوانها المفتوح على غزة والذي دام 22 يوماً (أواخر العام 2008 أوائل العام 2009)، وذلك بعد حصار زاد على سنتين ولا يزال مستمراً، وما زال الجناة “الاسرائيليون” بعيدين عن يد العدلة الدولية.

فهل ستقدم اطروحات الرئيس أوباما بشأن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة مراجعة موقفها من نظام محكمة روما أم أنها سوف لا تحرّك ساكناً على هذا الصعيد؟ ولعل الخوف من احتمال مقاضاة الجنود الأمريكان في زمن الحرب سيكون أحد كوابح أوباما إزاء محكمة روما، الأمر الذي سيضعه في تعارض مع موقف المؤسسة العسكرية الأمريكية التي ستكون حجر عثرة أمام مراجعة الرئيس أوباما لقرارات سلفه، بخصوص الانضمام الى المحكمة، ما لم تأخذ المحكمة بشروط واشنطن وتحفظاتها، وهو الموقف الذي ما زال مجلس الشيوخ متحفظاً بشأنه حتى الآن.

لكن أوباما الذي يريد إثبات نهجه الجديد في السياسة الدولية وبخاصة ما يتعلق بالعدالة، قد يلجأ الى خيارات أخرى غير الانضمام، منها المشاركة في بعض أجهزتها، وتقديم الدعم الدبلوماسي والاستخباري واللوجستي للمحاكمات التي تجريها لجرائم الحرب في دارفور وشمال أوغندا والكونغو وجمهورية افريقيا الوسطى، خصوصاً أنه من غير المتوقع أن توافق المحكمة على إجراء تعديلات وفقاً لمقترحات واشنطن رغم أن المحكمة الجنائية الدولية بحاجة الى وجود الولايات المتحدة فيها كدولة لها ثقل كوني ومسألة رمزية واعتبارية تتعلق بهيبة المحكمة، وكذلك لشمول ولايتها العالم كله.

باحث ومفكر عربي


صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 9/9/2009

1125
معسكر أشرف: مقاربة غير سياسية
عبدالحسين شعبان
2009-09-07
تزداد أوضاع اللاجئين الإيرانيين في العراق سوءاً منذ الاحتلال الأميركي في 9 أبريل 2003 وحتى الآن، مثلهم مثل جميع اللاجئين السابقين في العراق وبخاصة اللاجئين الفلسطينيين الذين كانت مأساتهم عظيمة ومضاعفة. والحجة أنهم كانوا مع النظام الدكتاتوري السابق، وقسم منهم مجندٌ في أجهزته الأمنية، وقد يكونون في الوقت الحاضر مرتعاً للمقاومة أو لقوى الإرهاب وبخاصة تنظيمات القاعدة، كما تبرر بعض الأطروحات الحكومية أو القريبة منها.
وبعيداً عن الاتهامات الجاهزة والمزاعم السياسية المسبقة، فإن اللاجئين الإيرانيين تنطبق عليهم الاتفاقيات الدولية بخصوص حقوق اللاجئين، لاسيَّما اتفاقية عام 1951 وملحقها لعام 1967، وهي التي تكفل لهم حق العيش بسلام ودون خوف وتقضي بعدم تعريضهم للتعذيب أو سوء المعاملة الحاطّة بالكرامة وعدم تسليمهم إلى حكوماتهم أو إلى أي جهة يشعرون معها أن حياتهم في خطر أو أنهم سيتعرضون إلى الملاحقة والاضطهاد سياسياً أو قومياً أو دينياً أو لأي سبب كان، إضافة إلى الحقوق التي تكفلها اتفاقيات جنيف لعام 1949، لاسيَّما الاتفاقية الخاصة بحماية المدنيين وقت السلم ووقت الحرب، وملحقيها لعام 1977.
وبعد عمليات عزل واتهام وتهديد دامت طيلة الفترة الماضية، منذ عام 2003 تعرّض معسكر أشرف (محافظة ديالى- بعقوبة)، الذي يعيش فيه نحو ثلاثة آلاف و400 لاجئ، إلى هجوم استمر لثلاثة أيام (28-30 يوليو 2008) حيث قتل 11 لاجئاً وأصيب بضع مئات بجروح، واعتقل 36 لاجئاً، وكانت القوات الأميركية قد أكدت على وضع هؤلاء تحت حمايتها لحين النظر في أوضاعهم، غير أنها عندما اضطرت إلى الانسحاب من المدن، قامت بتسليم عدد من المعتقلات إلى الحكومة العراقية، الأمر الذي عظم من المخاطر التي قد يتعرّض لها اللاجئون الإيرانيون الذين أصبحوا تحت إمرة الحكومة العراقية، خصوصاً وقد ترافق ذلك مع تصريحات لعدد من المسؤولين العراقيين تلقي باللوم عليهم وتتهمهم بالجملة بالتعاون مع القوى الأمنية العراقية سابقاً، فضلاً عن إصدار تصريحات بخصوص بعض المطلوبين الذين يمكن تسليمهم، أو الادعاء ألاّ خطورة عليهم دون تقديم أية ضمانات أو تأكيدات حول سلامتهم، ناهيكم عن رغبتهم في العودة، في حين أنها هي التي قررت إعادتهم ضد إرادتهم، وهو الأمر الذي قد يعرّض حياتهم إلى خطر جدي، ستكون الحكومة العراقية بحكم مسؤولياتها، مشاركة فيه ومسؤولة عنه أمام المجتمع الدولي.
إن محاولة تسليم هؤلاء اللاجئين المعتقلين في مدينة الخالص (مركز الشرطة) منذ ما يزيد على عام واحد لا سند أو مسوّغ قانونياً لها، وسيكون الأمر خلافاً للاتفاقية الدولية الرابعة من اتفاقيات جنيف، خصوصاً أن تسليمهم سيعرّض حياتهم للخطر أو للتعذيب أو المعاملة القاسية، وهو ما يرتّب مسؤوليات على الحكومة العراقية وفقا لاتفاقية حقوق اللاجئين وملحقها، إضافة إلى قواعد القانون الدولي الإنساني.
إن الإجراء القانوني السليم يقضي بإطلاق سراح المعتقلين وتأمين حمايتهم وسلامتهم واحترام رغبتهم فيما إذا أرادوا ترك العراق والتوجه إلى أي بلد آمن ويضمن حقوقهم طبقاً للمعايير الدولية لحقوق اللاجئين وللقواعد الدولية لحقوق الإنسان، ولذلك فإن السعي لتسليم 36 لاجئاً إيرانياً بطريقة قسرية وبالإكراه أو إجبارهم على تسليم أنفسهم بعد يأسهم من تحسّن المعاملة، سيضعهم في خطر، وهو ما أشارت إليه منظمة العفو الدولية في بيان لها يوم 14 أغسطس 2009، الأمر الذي يثير قلقاً إنسانياً مشروعاً إزاء الالتزام بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية.
إن اللاجئين الإيرانيين المعتقلين حاليا مضربون عن الطعام منذ نحو شهر لأنهم محتجزون بلا جريمة وتتردى أوضاعهم الصحية، فضلاً عن أن خمسة منهم في حال صحية سيئة ويعانون من أمراض خطيرة، ولعل هذه الحالة تتطلب علاجاً خاصاً لوضع خاص واستثنائي، الأمر يحتاج إلى أن تدرك الجهات الرسمية العراقية، لاسيَّما الحكومة ووزارة الخارجية، مسؤولياتها إزاء هذا الانتهاك السافر والصارخ لحقوق الإنسان وحقوق اللاجئين، فيما إذا تم تسليمهم عنوة ودون رغباتهم وإراداتهم.
ويتطلب الأمر من المجتمع المدني الدولي التدخل السريع لمنع وقوع ما لا تُحمَد عقباه والضغط على الحكومة العراقية لتحسين أوضاعهم الإنسانية وضمان حمايتهم والالتزام بالمعايير والقيم الدولية إزاء اللاجئين، وبالتقاليد العربية والإسلامية إزاء اللاجئ أو «الدخيل»، خصوصاً وهم يستغيثون إنسانياً لتقديم العون لهم وأن بعضهم يعاني من أمراض تتطلب توفير المستلزمات الصحية والنفسية لعلاجهم.
وبسبب الخرق المتواصل والمستمر للمعاهدات والاتفاقيات الدولية فيمكن أن تتقدم جهة ما بموجبه إلى مجلس الأمن أو إلى القضاء الدولي، «المحكمة الجنائية الدولية» في لاهاي لإقامة الدعوى وتوجيه لائحة اتهام، خصوصاً إذا لم تستجب الحكومة العراقية لمتطلبات اتفاقيات جنيف الرابعة والاتفاقية الخاصة بحقوق اللاجئين.
وبغض النظر عن المواقف السياسية، لاسيَّما اتهام منظمة مجاهدي خلق الإيرانية بالإرهاب، أو رفع صفة الإرهاب عنها وهو أمر سعت الولايات المتحدة للّعب به في علاقتها مع إيران والعراق في السابق والحاضر ضمن توافقات دولية وتقاطعات إقليمية، فإن الموقف من النظام العراقي السابق أو النظام الإيراني الحالي، وبغض النظر عن مواقف الولايات المتحدة، ليس هو المعيار في التعامل مع مشكلة اللاجئين وأعني به الحالة الإنسانية والقانونية، التي تتطلب التحرك السريع لإنقاذ حياة المعتقلين ومنع تسليمهم وتحسين حال المعسكر وتأمين خيار اللاجئين الإيرانيين بالبقاء مع ضمان حمايتهم أو الرحيل إلى بلد آمن ويقبل لجوءهم طبقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني وليس لأي اعتبار آخر سياسي أو غير سياسي.

7757 العدد - صحيفة العرب القطرية -الإثنين 7 سبتمبر 2009 م - الموافق 17 رمضان 1430 هـ

1126
جرائم تحتاج إلى تحقيق
   


عبدالحسين شعبان

اعتقل الحاخام الأمريكي اسحاق روزنيوم (من ولاية نيوجرسي) في شهر يوليو/ تموز 2009 في الولايات المتحدة، على خلفية معلومات وردت إلى مكتب التحقيق الفيدرالي FBI تقول إنه مشترك في شراء كلية من “إسرائيلي” وبيعها لمريض أمريكي. الخبر لم يأخذ الاهتمام الكافي، إلا عندما اندلعت الأزمة بين صحيفة “افتونبلاديت” السويدية والحكومة “الإسرائيلية”، وذلك حين نشرت الصحيفة الواسعة الانتشار والتي تعدّ من كبريات الصحف السويدية، خبراً مرفقاً بصورة لجثة شاب فلسطيني تظهر عليها آثار جراحة على طول الصدر، اتخذت حسبما تفيد الصحيفة بعد عملية تشريح جرت على الجثة.

ولم تكتف الصحيفة بذلك بل أوردت شهادات لبعض ذوي الضحايا من الفلسطينيين أكدوا فيها سرقة الأعضاء البشرية والاتجار بها، وأشارت الصحيفة إلى أن اثنين من صحافييها قاما بالتحقيق في بلدة ايماتين (بالضفة الغربية) وحصلا على معلومات عن سرقة قوات الاحتلال لأعضاء شهداء فلسطينيين والمتاجرة بها.

ولعل مثل هذا الخبر كان قد تردد منذ العام 1992 إلا أنه لم يكن هناك ما يثبت ذلك، واستقى الصحافيان معلوماتهما من والدة وشقيق بلال غانم الشاب الفلسطيني الذي كان عمره 19 عاماً عندما قتل من قبل الجنود “الإسرائيليين” ظنّاً منهم، أنه أحد قيادات الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في أواخر العام 1987 واستمرت لبضع سنوات، وهي التي عُرفت باسم “انتفاضة الحجارة”.

وقالت والدة الشهيد، إن ابنها الذي قتل في 13 مايو/ أيار 1992 نقلته مروحية “إسرائيلية” إلى الأراضي المحتلة، وأعيدت جثته إلى ذويه بعد أيام، داخل كيس أسود وقد اقتلعت جميع أسنانه، وكانت الجثة تحمل جرحاً في الحلق وحتى البطن وأعيدت خياطتها بشكل رديء، ويعتقد شقيق المغدور أن أعضاء شقيقه سُرقت.

ورغم القلق المشروع إزاء هذه الأخبار المُفزعة والحال اللاإنسانية التي تتعامل بها الشبكات الخاصة أو عبر مسؤولين “إسرائيليين” إزاء الضحايا، إلا أن مسارعة السلطات “الإسرائيلية” إلى نفي الخبر وتفنيده باعتباره مزاعم عارية عن الصحة، بل وشن هجوم ضد الصحيفة، هو الذي يلفت الانتباه، فبدلاً من إجراء تحقيق مستقل وواسع لمعرفة مدى صدقية هذه المعلومات من عدمها لجأت “إسرائيل” إلى كيل الاتهامات للصحيفة والصحافي بمعاداة السامية.

إن سرقة الأعضاء البشرية تعدّ انتهاكاً سافراً وصارخاً لحرمة البشر، دينياً وإنسانياً وقانونياً ولقواعد القانون الدولي الإنساني، فالتصرف بجسد الإنسان واستغلاله تحت أي مبررات إنما يتعارض مع القيم والمعايير الإنسانية والقانونية الدولية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لاسيما اتفاقات جنيف الأربعة الصادرة في 12 أغسطس/ آب 1949 وملحقيها البروتوكولين الصادرين في العام 1977 عن المؤتمر الدبلوماسي في جنيف (1974-1977).

وكانت السلطات “الإسرائيلية” قد طلبت من الحكومة السويدية تقديم اعتذار والتنديد بالتقرير الذي نشرته صحيفة “افتونبلاديت” والصحافي الشجاع دونالد بوستروم الذي لم يعبأ بالاتهامات ضده أو بالتهديدات، وسبق له أن نشر كتاباً في العام 2001 أورد فيه بعض المعلومات عن الاتجار بالأعضاء البشرية ولقي الكتاب اهتماماً كبيراً، إلا أنه لم يتعرّض حينها إلى النقد من جانب “إسرائيل”، كما تعرّضت له مقالته المنشورة مؤخراً، حيث اتهمته “إسرائيل” بمعاداة السامية وقامت بتهديده.

وعندما رفضت السويد طلب السلطات “الإسرائيلية” تقديم الاعتذار قررت وزارة الداخلية “الإسرائيلية” وقف إصدار تأشيرات دخول للصحافيين السويديين إلى الأراضي المحتلة، ورفض مكتب الإعلام الحكومي “الإسرائيلي” منح مراسل ومصوّر الصحيفة ترخيصاً معتمداً، (البطاقة الصحافية) والأكثر من ذلك فقد أبدى رئيس حكومة “إسرائيل” بنيامين نتنياهو انزعاجه من مقالات الصحيفة السويدية وطالب استوكهولم بإدانتها.

إن الإنكار المتشنج للسلطات “الإسرائيلية” للمعلومات من دون الركون إلى تحقيق جاد ومسؤول، يدعو إلى توجيه الاتهام بعد الشك في أنها تريد التستر على الموضوع بعد الفضيحة التي ذاع صيتها، لاسيما من صحافي حر ومحايد ومن دولة محايدة، إن لم تكن تلك السلطات على علم به أو ضالعة فيه. ولعل مسؤولية أية حكومة بغض النظر عن طابعها هي أن تكون مؤتمنة على التحقيق في ما لو وردت إليها معلومات من هذا القبيل، وهو الأمر

الذي لا يمكن إهماله أو التقاعس فيه لأنه

يرتب مسؤوليات قانونية دولية على عاتق

الدولة، لا يمكنها التنصّل عنها أو إعفاء نفسها منها.

ولعل مثل هذا الانتهاك يتطلب من السلطة الوطنية الفلسطينية وحكومات البلدان العربية، مطالبة المجتمع الدولي، ولاسيما مجلس الأمن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، والتحقيق في ما ورد من معلومات والاستماع إلى الشهود، لأن هذه الانتهاكات تُشكل جريمة دولية تستحق الملاحقة والمساءلة وإنزال العقاب بمرتكبيها وفقاً لمعايير العدالة الدولية.

إن الهجوم الذي قام به بعض الساسة والإعلاميين “الإسرائيليين” ضد صحيفة “افتونبلاديت” هو هجوم قديم جديد، فذريعة العداء للسامية لاحقت كل من يقف ضد انتهاكات “إسرائيل” وممارستها العنصرية، وليس أدل على ذلك فإن الأمين العام الأسبق للأمم كورت فالدهايم، اتهم “بماضيه” النازي بعد أن غادر الأمم المتحدة بانتهاء ولايته وللترشيح للرئاسة في النمسا، وذلك لصدور القرار 3379 في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 وعدداً من القرارات الدولية المناصرة للقضية الفلسطينية في عهده، ولأن هذا القرار دمغ الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، فقد شنّت “إسرائيل” ضده حملة لم تهدأ إلا بإعدام القرار في شهر ديسمبر/ كانون الأول 1991 وذلك بعد اختلال موازين القوى دولياً وعربياً، وكانت مبررات “إسرائيل” أن هذا القرار معاد للسامية لأنه يتعلق بجوهر عقيدتها فضلاً عن أنه يشكك بشرعية وجودها واستمرارها.

ولعل هذه هي التهمة ذاتها التي وجهت إلى “المفكر السوفييتي” المعادي للصهيونية يفسييف في أواسط الثمانينات، إلى أن وجد مقتولاً في ضواحي موسكو العام 1990 في ظروف غامضة، الأمر الذي يوجه إصبع الاتهام إلى المستفيد من هذه الجريمة.

إن تهمة العداء للسامية أو إذكاء نار العداء لها هي تهمة جاهزة لكل قرار أو رأي يتعلق بممارسات “إسرائيل” العدوانية، ولعل هذا الاتهام الجاهز كانت “إسرائيل” قد واجهت به المجتمع المدني العالمي، عندما اتخذ قراراً في مؤتمر ديربن ضد العنصرية العام 2001 يدين الممارسات “الإسرائيلية” ويتهمها بالعنصرية. وقد ارتفعت وتيرة اتهامات “إسرائيل” بعد حربها المفتوحة ضد لبنان في 12 يوليو/ تموز 2006 والتي دامت 33 يوماً أو حربها المفتوحة ضد غزة بعد حصار ما زال مستمراً في أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009.

وهكذا فإن “إسرائيل” التي تقوم بارتكابات وحروب وعدوان، تلتجئ في الوقت نفسه إلى ممارسة إرهاب فكري باتهام كل رأي حر وأي شكل من أشكال التعبير بممارستها ونظامها السياسي وعدوانها بأنه معاد للسامية، باستخدام هذه المسألة والتوسع بها وتوظيفها سياسياً بما يخدم مشروع “إسرائيل” الحربي والسياسي والدعائي.

الأمر الجديد في الأزمة السويدية  “الإسرائيلية”، أن “إسرائيل” وإن شنّت هجوماً على الصحيفة السويدية إلا أنها كانت أقرب للدفاع عن النفس وإنكار التهمة، وأن الصحيفة السويدية والحكومة السويدية والصحافي السويدي الشجاع كانت ردودهم ضد السفيرة “الإسرائيلية” في استوكهولم والحكومة “الإسرائيلية” أكثر ثقة بالنفس وبعدالة القضية التي تم نشرها لاستنهاض الرأي العام العالمي ضد “إسرائيل” وممارساتها، ومن منطلق حرية التعبير والحق في نقل المعلومات ونشرها وإذاعتها بكل الوسائل الممكنة ومن دون قيود طبقاً للوائح الدولية لحقوق الإنسان.

ولعل هذا الهجوم الكثير الثقة بالنفس وبقيم العدالة قد قلب المعادلة، حيث إن “إسرائيل” هي التي تأخذ زمام المبادرة بالاتهام عادة ويتخذ الآخرون موقع الدفاع، كما في كل مرّة، فإنه هو الذي وجه الاتهام وظلّت “إسرائيل” في موقع الدفاع الضعيف عن النفس، لاسيما أنها لم تشرع بإجراء تحقيق سريع، الأمر الذي يتطلب من المجتمع الدولي القيام بهذه المهمة وإرغام “إسرائيل” على قبولها.

قد تكون إحدى مفارقات المشهد الراهن هو أن البلدان العربية والسلطة الوطنية الفلسطينية لم يحركوا ساكناً، وحتى المجتمع المدني العربي والمنظمات الحقوقية الدولية لم تكن حركتها بالمستوى المطلوب، الأمر الذي يتطلب شحذ الهمم ووضع الجميع عند مسؤولياتهم.

باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية ، الاربعاء 2/9/2009

1127
جرائم تحتاج إلى تحقيق
   

آخر تحديث:الأربعاء ,02/09/2009


عبدالحسين شعبان

اعتقل الحاخام الأمريكي اسحاق روزنيوم (من ولاية نيوجرسي) في شهر يوليو/ تموز 2009 في الولايات المتحدة، على خلفية معلومات وردت إلى مكتب التحقيق الفيدرالي FBI تقول إنه مشترك في شراء كلية من “إسرائيلي” وبيعها لمريض أمريكي. الخبر لم يأخذ الاهتمام الكافي، إلا عندما اندلعت الأزمة بين صحيفة “افتونبلاديت” السويدية والحكومة “الإسرائيلية”، وذلك حين نشرت الصحيفة الواسعة الانتشار والتي تعدّ من كبريات الصحف السويدية، خبراً مرفقاً بصورة لجثة شاب فلسطيني تظهر عليها آثار جراحة على طول الصدر، اتخذت حسبما تفيد الصحيفة بعد عملية تشريح جرت على الجثة.

ولم تكتف الصحيفة بذلك بل أوردت شهادات لبعض ذوي الضحايا من الفلسطينيين أكدوا فيها سرقة الأعضاء البشرية والاتجار بها، وأشارت الصحيفة إلى أن اثنين من صحافييها قاما بالتحقيق في بلدة ايماتين (بالضفة الغربية) وحصلا على معلومات عن سرقة قوات الاحتلال لأعضاء شهداء فلسطينيين والمتاجرة بها.

ولعل مثل هذا الخبر كان قد تردد منذ العام 1992 إلا أنه لم يكن هناك ما يثبت ذلك، واستقى الصحافيان معلوماتهما من والدة وشقيق بلال غانم الشاب الفلسطيني الذي كان عمره 19 عاماً عندما قتل من قبل الجنود “الإسرائيليين” ظنّاً منهم، أنه أحد قيادات الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في أواخر العام 1987 واستمرت لبضع سنوات، وهي التي عُرفت باسم “انتفاضة الحجارة”.

وقالت والدة الشهيد، إن ابنها الذي قتل في 13 مايو/ أيار 1992 نقلته مروحية “إسرائيلية” إلى الأراضي المحتلة، وأعيدت جثته إلى ذويه بعد أيام، داخل كيس أسود وقد اقتلعت جميع أسنانه، وكانت الجثة تحمل جرحاً في الحلق وحتى البطن وأعيدت خياطتها بشكل رديء، ويعتقد شقيق المغدور أن أعضاء شقيقه سُرقت.

ورغم القلق المشروع إزاء هذه الأخبار المُفزعة والحال اللاإنسانية التي تتعامل بها الشبكات الخاصة أو عبر مسؤولين “إسرائيليين” إزاء الضحايا، إلا أن مسارعة السلطات “الإسرائيلية” إلى نفي الخبر وتفنيده باعتباره مزاعم عارية عن الصحة، بل وشن هجوم ضد الصحيفة، هو الذي يلفت الانتباه، فبدلاً من إجراء تحقيق مستقل وواسع لمعرفة مدى صدقية هذه المعلومات من عدمها لجأت “إسرائيل” إلى كيل الاتهامات للصحيفة والصحافي بمعاداة السامية.

إن سرقة الأعضاء البشرية تعدّ انتهاكاً سافراً وصارخاً لحرمة البشر، دينياً وإنسانياً وقانونياً ولقواعد القانون الدولي الإنساني، فالتصرف بجسد الإنسان واستغلاله تحت أي مبررات إنما يتعارض مع القيم والمعايير الإنسانية والقانونية الدولية والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، لاسيما اتفاقات جنيف الأربعة الصادرة في 12 أغسطس/ آب 1949 وملحقيها البروتوكولين الصادرين في العام 1977 عن المؤتمر الدبلوماسي في جنيف (1974-1977).

وكانت السلطات “الإسرائيلية” قد طلبت من الحكومة السويدية تقديم اعتذار والتنديد بالتقرير الذي نشرته صحيفة “افتونبلاديت” والصحافي الشجاع دونالد بوستروم الذي لم يعبأ بالاتهامات ضده أو بالتهديدات، وسبق له أن نشر كتاباً في العام 2001 أورد فيه بعض المعلومات عن الاتجار بالأعضاء البشرية ولقي الكتاب اهتماماً كبيراً، إلا أنه لم يتعرّض حينها إلى النقد من جانب “إسرائيل”، كما تعرّضت له مقالته المنشورة مؤخراً، حيث اتهمته “إسرائيل” بمعاداة السامية وقامت بتهديده.

وعندما رفضت السويد طلب السلطات “الإسرائيلية” تقديم الاعتذار قررت وزارة الداخلية “الإسرائيلية” وقف إصدار تأشيرات دخول للصحافيين السويديين إلى الأراضي المحتلة، ورفض مكتب الإعلام الحكومي “الإسرائيلي” منح مراسل ومصوّر الصحيفة ترخيصاً معتمداً، (البطاقة الصحافية) والأكثر من ذلك فقد أبدى رئيس حكومة “إسرائيل” بنيامين نتنياهو انزعاجه من مقالات الصحيفة السويدية وطالب استوكهولم بإدانتها.

إن الإنكار المتشنج للسلطات “الإسرائيلية” للمعلومات من دون الركون إلى تحقيق جاد ومسؤول، يدعو إلى توجيه الاتهام بعد الشك في أنها تريد التستر على الموضوع بعد الفضيحة التي ذاع صيتها، لاسيما من صحافي حر ومحايد ومن دولة محايدة، إن لم تكن تلك السلطات على علم به أو ضالعة فيه. ولعل مسؤولية أية حكومة بغض النظر عن طابعها هي أن تكون مؤتمنة على التحقيق في ما لو وردت إليها معلومات من هذا القبيل، وهو الأمر

الذي لا يمكن إهماله أو التقاعس فيه لأنه

يرتب مسؤوليات قانونية دولية على عاتق

الدولة، لا يمكنها التنصّل عنها أو إعفاء نفسها منها.

ولعل مثل هذا الانتهاك يتطلب من السلطة الوطنية الفلسطينية وحكومات البلدان العربية، مطالبة المجتمع الدولي، ولاسيما مجلس الأمن تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، والتحقيق في ما ورد من معلومات والاستماع إلى الشهود، لأن هذه الانتهاكات تُشكل جريمة دولية تستحق الملاحقة والمساءلة وإنزال العقاب بمرتكبيها وفقاً لمعايير العدالة الدولية.

إن الهجوم الذي قام به بعض الساسة والإعلاميين “الإسرائيليين” ضد صحيفة “افتونبلاديت” هو هجوم قديم جديد، فذريعة العداء للسامية لاحقت كل من يقف ضد انتهاكات “إسرائيل” وممارستها العنصرية، وليس أدل على ذلك فإن الأمين العام الأسبق للأمم كورت فالدهايم، اتهم “بماضيه” النازي بعد أن غادر الأمم المتحدة بانتهاء ولايته وللترشيح للرئاسة في النمسا، وذلك لصدور القرار 3379 في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 وعدداً من القرارات الدولية المناصرة للقضية الفلسطينية في عهده، ولأن هذا القرار دمغ الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، فقد شنّت “إسرائيل” ضده حملة لم تهدأ إلا بإعدام القرار في شهر ديسمبر/ كانون الأول 1991 وذلك بعد اختلال موازين القوى دولياً وعربياً، وكانت مبررات “إسرائيل” أن هذا القرار معاد للسامية لأنه يتعلق بجوهر عقيدتها فضلاً عن أنه يشكك بشرعية وجودها واستمرارها.

ولعل هذه هي التهمة ذاتها التي وجهت إلى “المفكر السوفييتي” المعادي للصهيونية يفسييف في أواسط الثمانينات، إلى أن وجد مقتولاً في ضواحي موسكو العام 1990 في ظروف غامضة، الأمر الذي يوجه إصبع الاتهام إلى المستفيد من هذه الجريمة.

إن تهمة العداء للسامية أو إذكاء نار العداء لها هي تهمة جاهزة لكل قرار أو رأي يتعلق بممارسات “إسرائيل” العدوانية، ولعل هذا الاتهام الجاهز كانت “إسرائيل” قد واجهت به المجتمع المدني العالمي، عندما اتخذ قراراً في مؤتمر ديربن ضد العنصرية العام 2001 يدين الممارسات “الإسرائيلية” ويتهمها بالعنصرية. وقد ارتفعت وتيرة اتهامات “إسرائيل” بعد حربها المفتوحة ضد لبنان في 12 يوليو/ تموز 2006 والتي دامت 33 يوماً أو حربها المفتوحة ضد غزة بعد حصار ما زال مستمراً في أواخر العام 2008 ومطلع العام 2009.

وهكذا فإن “إسرائيل” التي تقوم بارتكابات وحروب وعدوان، تلتجئ في الوقت نفسه إلى ممارسة إرهاب فكري باتهام كل رأي حر وأي شكل من أشكال التعبير بممارستها ونظامها السياسي وعدوانها بأنه معاد للسامية، باستخدام هذه المسألة والتوسع بها وتوظيفها سياسياً بما يخدم مشروع “إسرائيل” الحربي والسياسي والدعائي.

الأمر الجديد في الأزمة السويدية  “الإسرائيلية”، أن “إسرائيل” وإن شنّت هجوماً على الصحيفة السويدية إلا أنها كانت أقرب للدفاع عن النفس وإنكار التهمة، وأن الصحيفة السويدية والحكومة السويدية والصحافي السويدي الشجاع كانت ردودهم ضد السفيرة “الإسرائيلية” في استوكهولم والحكومة “الإسرائيلية” أكثر ثقة بالنفس وبعدالة القضية التي تم نشرها لاستنهاض الرأي العام العالمي ضد “إسرائيل” وممارساتها، ومن منطلق حرية التعبير والحق في نقل المعلومات ونشرها وإذاعتها بكل الوسائل الممكنة ومن دون قيود طبقاً للوائح الدولية لحقوق الإنسان.

ولعل هذا الهجوم الكثير الثقة بالنفس وبقيم العدالة قد قلب المعادلة، حيث إن “إسرائيل” هي التي تأخذ زمام المبادرة بالاتهام عادة ويتخذ الآخرون موقع الدفاع، كما في كل مرّة، فإنه هو الذي وجه الاتهام وظلّت “إسرائيل” في موقع الدفاع الضعيف عن النفس، لاسيما أنها لم تشرع بإجراء تحقيق سريع، الأمر الذي يتطلب من المجتمع الدولي القيام بهذه المهمة وإرغام “إسرائيل” على قبولها.

قد تكون إحدى مفارقات المشهد الراهن هو أن البلدان العربية والسلطة الوطنية الفلسطينية لم يحركوا ساكناً، وحتى المجتمع المدني العربي والمنظمات الحقوقية الدولية لم تكن حركتها بالمستوى المطلوب، الأمر الذي يتطلب شحذ الهمم ووضع الجميع عند مسؤولياتهم.

باحث ومفكر عربي

1128
عبد الحسين شعبان يكتب عن استاذه وصديقه الجواهري:
الجواهري هو الحلقة الذهبية الأخيرة في الشعر الكلاسيكي

أسماء وهبة  
مجلة تحولات العدد الثالث والاربعون – تموز(يوليو)
الاحد 19 تموز (يوليو) 2009.
 
 
من المثير أن نقرأ كتابا عن "الجواهري" أو "شاعر العرب الأكبر" الذي كانت قصائده استمراراً لتراث الشعر العربي مع اعتماد التجديد الفني الرفيع من وزن و قافية ولغة واسلوب وموسيقى وجمال واداء. ولد محمد مهدي الجواهري عام 1900 في العراق (النجف). ألبسه والده عباءة علماء النجف وعمامتهم وهو في سن العاشرة رغبة منه في أن يصبح من الشيوخ. إلا أن الجواهري نظم الشعر في سن مبكرة‏ وحينها عرف أن موهبته ستأخذه إلى عالم الشعر. ومن هنا كانت بداية إصداراته الشعرية حتى اشتغل مدة قصيرة في بلاط الملك فيصل الأول ثم انتقل إلى الصحافة بعد أن غادر النجف إلى بغداد حيث توالت نجاحاته حتى توفي عام 1997 في دمشق عن عمر يناهز السابعة و التسعين.
وبسبب ثراء شخصية الجواهري ومسيرته الشعرية الطويلة وجد الكاتب والباحث العراقي د. عبد الحسين شعبان نفسه مدفوعا إلى الكتابة عن صديقه وأستاذه الجواهري. كتب ما عرفه عن الجواهري دون أن يؤرخه، بل دوّن آراءه عن هذا الشاعر الكبير وما كان يرويه له من حوادث. فجاء ثمرة هذا كلّه كتاب "الجواهري: جدل الشعر والحياة"، الصادر عن دار الآداب، 2009 (طبعة ثانية)  وقد صدرت الطبعة الاولى عن دار الكنوز الادبية، بيروت، 1997.
* ماذا أردت أن تقول من خلال كتاب "الجواهري: جدل الشعر والحياة" ؟
أردت تقديم الجواهري الكبير من خلال ملامح صورته الأولى التي انطبعت في ذهني وأنا طفل صغير، لأن الجواهري عاش معنا في البيت بمعنى من المعاني، حيث كانت قصائده ودواوينه تملأ مكتبتنا، فنشأت على قراءة أشعاره حتى اكتحلت عيني برؤيته وجها لوجه في عام 1959 ببغداد، عندما صعد بقامته المديدة ليلقي أحدى قصائده. ومن هنا كانت بداية صداقة دامت ثلاثين عاما رافقت خلالها الجواهري في محطات مختلفة من براغ إلى دمشق فلندن.
* تقول أن الكتاب ليس قراءة نقدية وليس سيرة ذاتية للجواهري. فكيف تصنّفه؟
الكتاب قراءة سيسيو ثقافية لمسيرة الجواهري الشعرية في إطار الأدب العراقي. ومن خلال حياة الجواهري حاولت رصد التاريخ العراقي المشحون بالتوتر والتحدي والتناقض في رؤية شاملة للدولة العراقية منذ تأسيسها. وبالمناسبة لقد عاش الجواهري عقدين من الزمان قبل ولادة الدولة العراقية عام 1921 . وكتب أول قصائده وعرف كشاعر قبل كتابة الدستور العراقي الأول (القانون الاساسي) عام 1925 . لذلك عندما نتحدث عن الجواهري فنحن نؤرخ لقرن من الأدب والثقافة والتاريخ السياسي والدراماتيكي والسوسيولوجي العراقي المقرون بالإبداع والتوترات.
* هل لهذا السبب أٍسميت الكتاب "جدل الشعر والحياة"؟
الجواهري شخصية مثيرة للجدل على المستوى الشخصي والعام. فهو الشاعر المُقبل على الحياة وفي الوقت نفسه يبدو قادما من أعماق التاريخ، كأنه المتنبي الذي جاء ليلوّن أطياف الحداثة بقصيدة كلاسيكية. وهذا بحد ذاته يخلق نوعاً من الجدل والإشكالية! فمثلا كان الجواهري يرتدي الطاقية الكردية المكتوب عليها "كردستان" رغم افتخاره بعروبته. وهو ابن البيئة النجفية المحافظة، لكنه تمرّد على زيّه ونزع العمامة ورماها في "الكُناسة" على حد تعبيره، وأخذ يرتاد الملاهي الليلية، وكتب قصائد من الأدب المكشوف مثل "جربيني" و"ليلة معها" و"هزّي بنصفك واتركي النصفا"..الخ...  كان يكتب تلك "القصائد الفاضحة" وهو في بلاط الملك مما أثار ضجة حوله والملك، فعاتبه الأخير قائلا: "ابني محمد ادرك أين أنت!؟" وقبل أن يكمّل كلامه قال له الجواهري: "سأنسحب". فقال له الملك فيصل: "لا تذهب". وهكذا عاش الجواهري ثلاث سنوات من شبابه بين البلاط الملكي صباحا وفي الحانات ليلا، يسهر ويغنّي ويرقص طربا بكل جديد، ويتشهى "الأثنى" التي لم يتذوقها رغم زواجه(كما يقول)!
* اعتبرت الجواهري أرضأ شعرية بحد ذاتها. كيف ذلك وكل قصائده كلاسيكية الطابع؟
هذا صحيح. ولعل هناك من أسماه "الحلقة الذهبية الأخيرة في الشعر الكلاسيكي". ولكني أستطيع القول أن قصيدة الجواهري الكلاسيكية تختلف عن القصيدة العمودية الكلاسيكية التي نعرفها بسبب اعتماده على صور شعرية حديثة، وإن بقيت من ناحية الشكل على كلاسيكيتها وعموديتها وتمكسها بمنظومة التفعيلة. لذلك فالجواهري ليس شاعراً فحسب، بل هو أمواج شعرية طاغية. وكل ما فيه يدلّ على الشعر، لأن الشعر يسكن الجواهري. وعندما كانت تأتيه اللحظة الشعرية يترك العالم كلّه ويبقى وحيدا لأنه يطرب مع القصيدة (لاسيما بعدما يقوم بتلحينها مردداً لها بصوت عال). وكانت تنزل عليه القصيدة كاملة على هيئة وحي مستمر متدفق، يبدأ مثل الينبوع فينفجر ويتصاعد. ولا تهدأ روحه إلا مع إكتمال القصيدة، حتى أننا لا نميّز أحيانا بين الجواهري وقصيدته من شدة التماهي بينهما إلى حد الإندماج!
لقد استطاع الجواهري أن يخضع القصيدة الكلاسيكية لسياق تطورها التاريخي، ولم يبقيها على شكل القصيدة الجاهلية أو العباسية، حيث كانت القصيدة ملئية باللغة المفخمة المحشوة بالكثير من الصور، كما اعتمد على روح الشعر وموسيقاه مازجا بين الرسم واللغة الشيء الذي جعل منه حالة شعرية نادرة.
* يتهم الشعر العراقي بعدم التعبير عن المعاناة العراقية. هل هذا صحيح؟
هذا الكلام غير صحيح لأن الشعر العراقي كان ومازال وسيلة للتعبير عن درجة تطور المجتمع وانعكاس له. فهو يرى المستقبل ويبشر بأحداثه لأن نصف عقل الشاعر يعيش في المستقبل. أي أن الشعر مسكون بالهم العراقي فيعبر عن المعاناة والمأساة اليومية التي يعيشها المواطن العراقي. وإذا ركّز بعض الشعراء على الغزل فهو أيضا وسيلة للتعبير عن الهم العام وإن كان بأسلوب مختلف! فبعض الشعراء حاولوا من خلال قصائد الغزل أن يبثوا للقارىء أحاسيسهم المضطربة وبحثهم المستمر عن الأمان والطمأنينة الداخلية! لذلك  فإن المدرسة الشعرية الحديثة في العراق التي بدأت ببلند الحيدري ونازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي كانت تعبّر عن شعور النخبة والمجتمع العراقي الصاعد آنذاك المتطلع إلى الحداثة، فبدأت عملية التنوير التي كانت تعبيرا عن حاجة النخبة لإستشراف المستقبل وإنشاء حركة شعرية وأدبية وثقافية تتماهى مع سوسيولوجيا الواقع العراقي وتعبر عنه.
* معروف عنك محاربة التطرف الديني ودفاعك عن حقوق الإنسان. ولكن هناك عدة مصطلحات أطلقت على الإسلام منها "الإسلام فوبيا". ماذا يعني ذلك؟
يوجد نوع من "الإسلامفوبيا" في الغرب ضد الإسلام السياسي من جهة وضد الإسلام بشكل عام. وللأسف هناك من لا يميز بين الإسلام كدين وبين الإسلام السياسي، وبين المسلمين والإسلاميين، وبين الإسلاميين والإسلامويين. كما اقترنت "الإسلامفوبيا" في نظر الغرب بصعود تيارات متطرفة وعنصرية في أوروبا، والتي انتعشت بعد أحداث 11 أيلول 2001 في الولايات المتحدة الأميركية، حتى أصبح هناك من يعتقد في الغرب أن الدين الإسلامي يشجع على العنف والإرهاب! ومن جهة ثانية يعاني بعض العرب من "الغربفوبيا" وتحديدا المتأسلمين الذين يستخدمون الدين كإيديولجيا، فيعملون على إلغاء الآخر وتهميشه وربما القضاء عليه، فيضيع أحيانا الإسلام الحقيقي بصورته السمحة والرحيمة وسط إرهاصات وسلوكيات تلك الجماعات المتعصبة!
* هل نحن أمام ظاهرة "الإسلام ضد الإٍسلام"؟
نحن أمام جزء منها كما نواجه تحديان، الأول خارجي يحاول تطويعنا وترويضنا واحتلال أراضينا. أما التحدي الثاني فيكمن في قوى متعصبة ومتطرفة بعضها "إرهابي"، تميل لإستخدام العنف، وترفض الإنفتاح على العالم، بل تريد جرّنا إلى الماضي. وأمام هذا (الواقع) تبدو مهمة قوى التنوير والحداثة والديموقراطية صعبة، خصوصا أنها هشة ومحدودة وقليلة التأثير ولم تتشبع بعد بمفاهيم الحداثة.
* تتحدث دائما عن ثقافة "الإستقالة" في العالم العربي. ماذا تعني بذلك؟
أعني أن الكثيرين يتشبثون بمواقعهم دون تداول السلطة أو المسؤولية مع غيرهم. ولاحظي أن بعض حكامنا حتى بعد موتهم مازالوا يحكموننا من القبور! فكنت أقرأ في مذكرات أحد الأصدقاء الذي يقول: "عندما أتحدث عن رئيس ميت أشعر أن سيفه موضوع على رقبتي وكأنه على قيد الحياة!" فكيف سيتحدث عن ديكتاتور حي إذا كان يخاف الحديث عن ديكتاتور ميت!
وأنا لا أطلب الكثير من المثقف، لأنه ليس سوبرمان، بل ينتمي إلى ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه وإن كان يختلف عنه من ناحية درجة حساسيته وقدرته على التأثير ودوره في مخاطبة الرأي العام.(لذلك تكون مسؤوليته أكبر) ولو أخذنا الحالة العراقية كمثال سنجد نوعاً من الإستقطابات حيث انقسم المثقفون إلى فريقين بعد الإحتلال الأميركي للعراق. الفريق الأول دافع عن النظام العراقي بإستماتة لأن معركته الأساسية مع الإمبريالية والغرب المحتل (كما يبرر). أما الفريق الثاني اعتبر أن معركته مع النظام العراقي فأصبحا ضحية تعاون "بالإكراه" مع قوى متربصة وطامعة بمنطقتنا، ووقّع تعاقدات مع البنتاغون للعمل لحسابه في مشاريع بحثية مما جعله بضاعة كاسدة ورخيصة.
وبالنسبة لي فإن كليهما ليس نموذج المثقف الذي نريده، نحن نريد المثقف الذي يضع مسافة بين المستبّد والمحتل، حتى لا يتلوث بأوساخهما!
* هل ما نحتاج إليه اليوم هو المثقف العضوي؟
المثقف العضوي حسب غرامشي هو الذي يتماهى مع هموم شعبه أو الفئة الإجتماعية التي يمثلها. وعلى المثقف أن يكون ناقدا إجتماعيا وضعيا حسب النقد الماركسي وللسلطة ولنفسه، لأنه من يتطلع إلى اللانهايات والآفاق اللامنظورة، ويتحالف أحيانا مع المجهول الجميل الذي يرسمه بذهنه أو قلمه أو موسيقاه أو ريشته. وهو الذي يسعى لكي يلون الأحلام بألوان وردية حتى يشكل حالة من اليوتوبيا التي تعتبر جزء من سيروة المثقف وأحلامه غير المتحققة.

1129
المنبر السياسي / مأزق الإصلاح
« في: 11:06 26/08/2009  »
مأزق الإصلاح
عبد الحسين شعبان

تراجعت دعوات الإصلاح في العالم العربي- الإسلامي، فبعد أن شعرت بعض الحكومات العربية والإسلامية بالضيق جرّاء الضغوط التي تعرّضت لها لإنجاز إصلاحات قانونية وسياسية داخلية جاءها “الفرج”، لاسيما بعد أن تخلّت القوى الدولية الكبرى عن مشروعها الداعي للإصلاح، حتى وإن لم يكن إصلاحاً لما تريده شعوب المنطقة، وإنما “إصلاح” يضمن بعض مصالحها و”يلبي” بعض أطماعها، ويضمن نفوذها الحاضر والمستقبلي، لكنه مع ذلك فقد كان لتلك الضغوط انعكاسات داخلية لقوى الإصلاح الحقيقية في المجتمعات العربية.

ولعل تراجع دعوات الإصلاح والاستعاضة عنها بدعوات تحقيق الاستقرار، كانت بسبب فشل المشروع الأمريكي في العراق بعد احتلاله العام ،2003 فلم تستطع التجربة العراقية أن تقدم نموذجاً يُحتذى به، كما وعدت إدارة الرئيس بوش الابن، وصارت بالتدريج همّاً ومأزقاً حتى غدت كابوساً، الأمر الذي جعل حظوظ الإصلاح المنتظرة أقرب الى “الوهم” منها الى الحقيقة، حتى وإن كانت بعض التطورات الجنينية قد حصلت في بعض البلدان العربية، لكنها واجهت عقبات جدّية.

المأزق داخلياً يتعلق بالوعي بأهمية وضرورة الإصلاح والحاجة الماسة اليه، قبل أن يعصف الإرهاب والعنف بالمجتمعات العربية والإسلامية في حين أنه يتعلق خارجياً، بقراءة خاطئة لتاريخ المنطقة وحضارتها وثقافتها، وطبيعة القوى المكوّنة لمجتمعاتها، ولهذا فقد ساد انطباع لدى أوساط واسعة أن “الإصلاح” نبتة غير قابلة للحياة، خصوصاً عندما تنتقل من بيئة وتزرع في بيئة أخرى، قد لا تكون صالحة لنموّها، فما بالك عندما تأتي من الخارج وبالقوة المسلحة ومحمولة على ظهر دبابات وحاملات طائرات، وترفع شعارات أقل ما يقال عنها، أنها تعتبر الإسلام “عدواً”، وهو دين يحض على الارهاب، ولا بدّ من شن “حرب صليبية” ضده للقضاء على “الفاشية الإسلامية”، كما صرّح الرئيس الأمريكي السابق بوش بعد أن اعتذر عن مصطلح الحرب الصليبية، باعتباره زلة لسان، في حين أن شعارات الحرية والديمقراطية ظلت في الخط الخلفي.

وحتى نظام طالبان أو الأنظمة الاستبدادية العربية، كان لديها مبررات أحياناً رغم “استعصاء” التبرير في التصدي “للمحتل”، لاسيما عدم وجود مبرر لها على الإطلاق في حكم شعوبها بالحديد والنار والواحدية والإطلاقية وادعاء احتكار الحقيقة، بالاستناد الى أفضليات آيديولوجية أو عقائدية، دينية أو عرقية أو اجتماعية.

وفي كل مرة يتم فيها الحديث عن الإصلاح نصطدم بعدد من المفاهيم، هل يمكن استخدام القوة لتحقيق الإصلاح الديمقراطي، بما فيه احتلال بلدان؟ وهل الإصلاح العنفي أو بالعنف سيقود الى السلام، أم أنه سيفرض عنفاً مقابلاً؟ وكيف السبيل ليكون الإصلاح تحتياً، أي من القاعدة، يبدأ منها ويعود اليها، أي إصلاحاً شعبياً، عبر إقناع الناس، وإصلاحاً سلمياً تراكمياً وتدرجياً وليس فوقياً انقلابياً، وإصلاحاً جذرياً، وليس موديلاً كوزماتيكياً تجميلياً وترقيعياً، وإصلاحاً تتحدد أهدافه بالمطالب الشعبية وليس منفلتاً بحيث يؤدي الى نتائج عكسية أحياناً تضر بالعملية الإصلاحية، ولا بدّ للإصلاح الحقيقي أن يكون شاملاً سياسياً وقانونياً واقتصادياً واجتماعياً ودينيا، وإصلاحاً لنظم الإدارة من خلال الشفافية والرقابة والمحاسبة، إصلاحاً مضموناً من الناحية القانونية، بحيث يؤدي الى سيادة القانون ومبادئ المساواة والعدالة.

والمهم ليس التنظير للإصلاح، أو إكثار الحديث عنه، فحتى القوى غير الإصلاحية، الكابحة، أخذت تتحدث عن الإصلاح، ولكن المهم البدء بالإصلاح، خصوصاً أن أكثر من ثلاثة أجيال من الإصلاحيين في مرحلة ما بعد الاستقلالات قد انتهت الى نتائج غير مرضية رغم تضحياتها الجسام، لكن اختلالاً مفاهيمياً إزاء زاوية النظر رافق دعواتها، وبخاصة في ظل سيادة الفكر الشمولي، وهذا بحاجة الى وقفة جدية للنقد والنقد الذاتي لجميع التيارات الاشتراكية- الماركسية والقومية - العربية والإسلامية- المذهبية والطائفية في الكثير من الأحيان، وحتى بعض التيارات الليبرالية الجديدة وهي تدعو للإصلاح، فقد وضعت عينها على الخارج بتعويلية كاملة أحياناً، بسبب عدم ثقتها بإمكان تحقيق الإصلاح حالياً أو عدم قدرتها على تحمل مسؤولية صراع طويل الأمد لإنجاز ذلك داخلياً!

لقد انكسرت الموجة الأولى التي حملت تباشير الإصلاح عند شواطئ البحر المتوسط قبيل انتهاء عهد الحرب الباردة، وهي الموجة التي شملت أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات، لاسيما بالإعلاء من قيم التعددية وإجراء الانتخابات وتداولية السلطة واحترام حقوق الإنسان، وإنهاء نموذج الاستبداد.

ولعل سبب فشل مشروع التغيير والتحوّل الديمقراطي آنذاك قد يعود الى عدم رغبات القوى الكبرى وحفاظاً على مصالحها من تحقيق ذلك، الأمر الذي عطّل الدمقرطة والتنمية، وقاد لاحقاً لمواصلة عدوان “إسرائيل” على الأمة العربية والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فضلاً عن الاحتلال الأمريكي للعراق  وقبله أفغانستان وانتشار ظاهرة العنف والإرهاب على المستوى الدولي.

ولعل هذا الوضع فاقم الحاجة الى الإصلاح، الذي ارتفع رصيده بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية، وفي الوقت نفسه كشف ضعف القوى الإصلاحية بما فيها المجتمع المدني وعدم وجود إرادة دولية حقيقية لتحقيق إصلاح يستجيب لمطلب شعوب البلدان العربية والإسلامية. وهكذا فقد وُضعت المشاريع الدولية للإصلاح على الرف، مثل مشروع الشرق الاوسط الكبير ومشروع الشرق الأوسط الجديد والمشروع البريطاني والمشروع الالماني -  الفرنسي وغيرها، رغم أنها مشاريع لا تستجيب لمصالح شعوب المنطقة من حيث جوهرها الحقيقي وأهدافها الخاصة، لكنها من جهة أخرى أسهمت بتهيئة ظروف موضوعية دولية، استفادت منها قوى الإصلاح الداخلي بتعزيز قدراتها الذاتية.

وإذا كان الإصلاح مساراً كونياً فهو مسار متواصل وليس مجموعة إجراءات تتخذ سريعاً وكفى الله المؤمنين شر القتال، كما يقال، وذلك لأن منطقتنا ظلّت الأقل تأثراً بهذا المسار عالمياً، لاسيما عدم توفر إرادة سياسية لدى النخب الحاكمة وغير الحاكمة، واستمرار القوانين والأنظمة المقيّدة للحريات، وضعف المشاركة السياسية وشحة الثقافة الديمقراطية وتهميش دور المجتمع المدني، والنقص الفادح في الموقف من حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، وكذلك الموقف السلبي من حقوق الأقليات والتكوينات القومية والدينية والمجموعات الثقافية.

هكذا إذاً وصل الإصلاح الى مأزق حقيقي، وإن لم تستطع القوى الحية في المجتمعات العربية وبمشاركة فاعلة من المجتمع المدني ومن خلال تضامن دولي فعّال للقوى المؤمنة بالديمقراطية، فإن أنظمة الاستبداد والأنظمة الثيوقراطية ستكون قادرة على إدامة تسلّطها وفرض هيمنتها، بل والقدرة في “تجديد” إدارتها ونزع فتيل أزمتها بما يضمن استمرارها وتخفيف عبء الضغوط عليها. وأعتقد أن النموذج الإيراني سيكون بإيجابياته وسلبياته، مؤشراً أو مجسّاً، لمدى قدرة قوى الإصلاح أو القوى المحافظة في حسم الصراع لصالحها، رغم الحراك الاجتماعي والسياسي الذي أحدثه.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج (الاماراتية) الثلاثاء 25/8/2009

1130
ما الذي يجري في إيران؟
عبدالحسين شعبان
2009-08-24
أخرجت الانتخابات الرئاسية الإيرانية الخلاف السياسي بين فريقي المحافظين والإصلاحيين إلى العلن، وأصبحت حديث الشارع بعد أن اقتصرت سابقاً على النخب السياسية والدينية وبعض الفاعلين السياسيين. ورغم أن الجميع يحتمي بمظلة ولاية الفقيه ويرفع راية الجمهورية الإسلامية، فإن قواعد الخلاف اتسعت لدرجة أخذت تضغط على الجميع، الموالاة والممانعة، وربما سيكون لها تأثيرات وتداعيات كبيرة قد تصل إلى تحلل البعض من الضوابط القاسية بعد ضيقهم ذرعاً بولاية الفقيه أو بالأسس التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية، لاسيَّما إزاء بعض الهوامش الديمقراطية المقننة، وإن كان لا يعلن ذلك الآن، لكن ضغط الاصطفافات والتحالفات الداخلية والخارجية سيكون كبيراً ومؤثراً، وبخاصة بعد الاستقطاب الذي أحدثته الانتخابات، فإيران قبل الانتخابات لا تشبه إيران بعدها.
ما الذي نعنيه بالولي الفقيه أو ولاية الفقيه، وهما مصطلحان شاعا في السنوات الثلاثين الأخيرة، ودار جدال ونقاش حولهما كثيراً لا في الأوساط الشيعية فحسب بين مؤيد ومعارض، بل في الأوساط الإسلامية بشكل عام، كما شمل النقاش التيار العلماني أيضاً.
فالولي الفقيه في اجتهاد بعض الفقهاء الشيعة، هو الإمام المجتهد العادل الجامع للشرائط من نصوص دينية، وإن اختلف الفقهاء حولها وحول صحتها وصلاحيات الولي الفقيه، والأمر ينسحب على مبدأ ولاية الفقيه التي حاول الإمام الخميني استنباطها من بطون الكتب وبلورتها في كتابه «الحكومة الإسلامية»، لكن الكثير من فقهاء الشيعة لا يؤيدون مثل هذا التوجّه، بل يعارضونه صراحة.
وعلى العموم تتنازع الرأي بشأن ولاية الفقيه، ومن موقعها وليس بالضد منها، مدرستان مختلفتان في هذا الشأن، الأولى تعتبر الولي الفقيه حتى وإن جمع الشروط والمواصفات المطلوبة، فإنه ينبغي أن يحظى بقبول الناس ورضاهم. أما المدرسة الثانية فتعتبره «مختاراً» وتعطيه صلاحيات تكاد تكون مطلقة بزعم أنه نائب الإمام الغائب.
وسواءً كانت المشروعية مستمدة من الله إلى النبي إلى المعصوم إلى نائبه الولي الفقيه أو تجد أساسها من قبول الناس والأمة، فإن الولي الفقيه حسب الدستور الإيراني محكوم هو الآخر بشروط أخرى، وإذا ما أخلّ بها أو حاد عنها فيمكن تنحيته، رغم أن الذي يقوم بذلك هو الآخر معيّن، فمجلس الخبراء يتألف من فقهاء مجتهدين، وهو الذي عيّن الولي الفقيه بالانتخاب وهو يشرف على أدائه لعزله إذا فقد شرطاً من شروط القيادة أو أحد أركان أهليتها.
وقد ابتدع الإمام الخميني الذي حكم إيران عشر سنوات (1979-1989) طريقة للحكم تمنحه الصلاحيات التي كادت أن تكون مطلقة طبقا لنظرية ولاية الفقيه بامتداد عمودي أقرب إلى التقديس، وبحكم كارزميته فضلاً عن ظروف الثورة التي قادها، فقد استثمرها أحسن استثمار، نظراً للمنزلة شبه المقدسة التي حازها، وقد تكون ظروف الحرب العراقية-الإيرانية قد ساعدته بذلك، عندما ظل يضرب على وتر الخطر الخارجي، وتمكن من إزاحة كل من يعتقد أنه معارض لسياساته.
وعندما اندلعت الخلافات مع شابور بختيار، لاسيَّما مع أقطاب أساسيين في النظام، قال يومها الخميني قولته «أنا الذي أعيّن الحكومة بدعم وتأييد من الشعب... وأنا الذي أضرب بدعم منه بقبضتي هذه حكومة بختيار».. هكذا أطاح به وبحكومته بضربة واحدة، يوم كان تلتف حوله مئات الآلاف وتتطلع إليه مئات الملايين وهو يخطب أمام جمهور متعطش لسماع كلمة من فمه في مقبرة جنّة الزهراء.
لكن الخميني بحكم حسّه الثوري وخبرته السياسية أدرك المأزق، فسعى لتقنين تلك القواعد قانونياً، خصوصاً عندما اندلع الخلاف بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور، فاخترع إنشاء «مجلس تشخيص مصلحة النظام»، ليكون بيده القدح المعلّى، وهو أقرب إلى مجلس قيادة الثورة أو المكتب السياسي للأحزاب الثورية، لكن معادلة الدستور والولي الفقيه ظلّت ملتبسة ومتناقضة أحياناً، وهو ما حصل خلال الانتخابات الأخيرة.
ولعل مسارعة الولي الفقيه علي خامنئي بالإعلان عن فوز محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية من وجهة نظر الإصلاحيين هو خطأ فاضح وفادح قام الولي الفقيه بارتكابه، الأمر الذي جعله في نظر البعض منحازاً وغير محايد وبالتالي أخذ يشكك في صدقية أدائه ونزاهته ضمناً أو صراحة، وهو ما قد يدفع للاعتقاد بأن هذه المسألة قد تتطور إلى المطالبة بسحب الثقة عنه، طالما أنها تتعلق بالمنافسات السياسية، وليس المكانة الفقهية والأعلمية والزهد وغيرها.
وينص الدستور الإيراني في المادة 110 (الفقرة التاسعة) على أن الولي الفقيه هو الذي يؤيد صحة انتخاب الشعب للرئيس بعد حصوله على أغلبية الأصوات، وبعد تأييد مجلس صيانة الدستور صحة الانتخابات، وهو الأمر الذي لم يحدث حين بادر خامنئي إلى الإشادة بنجاد والتنديد بخصومه وفريق المشككين، في انحياز واضح إلى طرف ضد آخر وعدم التمسك بلعبة الحياد التي حاول الخميني التشبث بها في إجراءاته بوضع مسافة بين الجهاز التنفيذي (الحكومة) وبينه.
ولعل هذا الأمر أعطى حجة للمعارضين لاسيَّما الإصلاحيين في اعتبار خطوة خامنئي ليست دستورية بل مخالفة للدستور، لاسيَّما استباقه آليات الدستور في تنصيب الرئيس، بالإعلان عن فوزه حتى قبل أن يبت مجلس صيانة الدستور بذلك.
وهناك اعتراض آخر يشكك بموجبه الإصلاحيون بإجراء الولي الفقيه، وهو عدم النظر بشكواهم، حيث أعطاهم الدستور حق تقديم شكاوى إلى ديوان التفتيش وبعدها إلى رئيس مجلس القضاء، الذي تتركز صلاحياته بإقامة العدل ورد الحقوق، حيث تم تجاهل حقوقهم وطعوناتهم بالانتهاكات والتزوير، وذلك بالاستناد إلى دعم ولاية الفقيه، حيث كان خامنئي قد أعلن تأييده لصحة الانتخابات، التي تمنح نجاد والمؤسسات الأخرى الشرعية.
الخلاف اتسع وقد يصل إلى فحوى ومضمون ولاية الفقيه رغم عدم التصريح، حيث شملت الاعتراضات بعض كبار الآيات مثل آية الله حسين علي منتظري وأسد بيات زنجاني ويوسف صانعي، الذين اعتبروا تنصيب نجاد غير شرعي، بل إن بعضهم اعتبر الحكومة غاصبة.
وشملت دائرة الاعتراض رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام ورئيس مجلس الخبراء، اللذين لم يحضرا مراسم التنصيب ولم يحضر هاشمي رفسنجاني ود.محمد خاتمي رئيس الحكومة السابق، ومهدي كروبي رئيس البرلمان السابق.
ولعل الإجراءات القمعية التي شملت أوساطا واسعة من الإصلاحيين واضطرار بعضهم إلى تقديم تنازلات مثلما هو حال أبطحي الذي سحب جميع اعتراضاته في أثناء اعتقاله، بل ذهب أكثر من ذلك عندما اعتبر أن الحديث عن تزوير الانتخابات إنما هو كذبة اخترعها الإصلاحيون.
ولعل الخروج الأول على ولاية الفقيه وعدم الانصياع إلى رأي المرجع الأعلى، مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، كان قد حصل بمقاطعة رئيس مجلس الخبراء حفل التنصيب، حيث لم يحضر هاشمي رفسنجاني الرجل القوي في إيران، ولم يشارك كذلك محمد خاتمي رئيس الجمهورية السابق، بل إن الأخير اعتبر نجاد سارقاً لأصوات الشعب في إشارة إلى تزوير الانتخابات، ولم يحضر مهدي كروبي رئيس البرلمان الأسبق، الذي أعلن أن حكومة نجاد غير شرعية وغير دستورية، وهو الأمر الذي يفترض أن لا يحصل في ظل خضوع الجميع لولاية الفقيه.
وإن حاول رفسنجاني وخاتمي وحسين موسوي التمسك بشعارات الجمهورية الإسلامية وولاية الفقيه، فإنهم في الجانب الآخر شددوا على أن مشروعية النظام ومؤسساته تنبع من الشعب، وهو الرأي الذي كان يروّج له الخميني، لاسيَّما بعد أن أصبح الزعيم الأوحد وبلا منازع، في حين يذهب التيار المحافظ لإضفاء نوع من القدسية على ولاية الفقيه التي يعتبرها امتداداً عمودياً من الله إلى النبي إلى الإمام المعصوم إلى نائبه في عصر الغيبة الكبرى، الأمر الذي يجعل المشروعية تتعلق بشخصه حتى وإن تعارضت مع الدستور، وبهذا المعنى فإن وظيفة مجلس الخبراء، لاسيَّما في التنصيب والعزل والإشراف، ستكون معطلة طالما سيكون الحكم بإشراف الولي الفقيه الذي هو فوق السلطات، لكن هذه المسألة ستكون محط صراع قادم، خصوصاً أن الانتخابات الأخيرة، أبرزت حيوية المجتمع الإيراني وحراكه السياسي والاجتماعي، الأمر الذي سيجعل جميع الاحتمالات مفتوحة، بما فيها إعادة النظر في الموقف من ولاية الفقيه أو ببعض الهوامش الديمقراطية المقننة!!


7743 العدد - صحيفة العرب القطرية - الإثنين 24 أغسطس 2009 م - الموافق 3 رمضان 1430 هـ

1131
موسيقى الدانوب الأزرق
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

صادف عودتي من المصح المرور بمدينة فيينا الجميلة، التي كنت قد تعرفت عليها لأول مرّة صيف عام 1972، عندما جئتها من بودابست التي مكثت فيها عدة أيام وصولاً من بوخارست متوجهاً إلى براغ. قررت حينها زيارة النمسا في طريق العودة. في القطار تعرفت على شخص من بيرو يدعى خورخي ونزلنا في بنسيون (فندق صغير) مخصص لسكن الطلاب، ودعوته حينها بكل بساطة لزيارة براغ حيث كانت الحياة أقل عُقداً والشباب أكثر ميلاً إلى الانفتاح، وهكذا انعقدت بيني وبينه صداقة، وبقيت أتراسل مع خورخي الذي فقدت عنوانه عند عودتي إلى العراق بعد إنهاء دراستي عام 1977.
خورخي هو الذي حرّك فيّ بعض الاهتمام بالموسيقى لاسيما الكلاسيكية، فقد شعرت معه بفقر ثقافتي الفنية، أتذكّر وأنا أرافقه أننا بحثنا عن كونسيرت في فيينا، إلى أن اهتدينا في اللحظة الأخيرة قبل العرض إلى مسرح، قطعنا التذاكر سريعاً ودخلنا دون أن نعرف البرنامج، أو نقرأ ما كان من إعلان عند صندوق التذاكر، لأن المهم بالنسبة لنا هو حضور الكونسيرت. لا أقول إنني أصبحت أتردد على المسارح والكونسيرتات، لكنني حضرت العديد منها في براغ وموسكو ولندن والقاهرة وبيروت، ولكن لكونسيرتات فيينا نكهة أخرى.
في كل زيارة إلى فيينا أحاول أن أجد الوقت للذهاب إلى أحد الكونسيرتات التي تكاد تكون أحد شواهد فيينا، مأخوذاً بأغنية أسمهان «ليالي الأنس في فيينا»، حيث عاش كبار الموسيقيين مثل موزارت وبتهوفن وجوزيف هايدن وآخرين. ودار الأوبرا لوحدها تمثل صرحاً معمارياً وأثرياً يدلّ على مدنية وحضارة المدينة وتاريخها العريق وانشغالها بالفن والموسيقى على نحو متميز جداً. في زيارتي الأخيرة وأنا أحضر في «الامبريال كلاسيك كونسيرت» استذكرت الصديق الشاعر صلاح نيازي الذي حدثني عن اهتمامات نجيب المانع بالموسيقى الكلاسيكية، الأمر الذي حفزني على قراءة كتاب المانع «ذكريات عمر أكلته الحروف» والذي صدر بعد وفاته، شعرت وأنا أتوغل في قراءة الكتاب أنني أمام قصيدة طويلة أو نص أقرب إلى قصيدة النثر، جميل وآسر، بل هو أقرب إلى سمفونية بأصواتها المتناغمة المتوائمة الصاعدة والنازلة. الفرقة الكلاسيكية عزفت سمفونيات لجوهان شتراوس وأماديوس موزارت وبتهوفن وجوزيف هايدن وفرانس شوبرت وآخرين، إضافة إلى باليه وأوبرا ورقصة البولكا.
ليس البشر هم من يتأثر بالموسيقى وحدهم فالحوت الأزرق له حسٌ إيقاعي، وهو يطلق ترنيمة موسيقية غنائية متتالية يمكن أن تتواصل عدّة أيام، في كل 128 ثانية تماماً أو في كل 258 دقيقة عندما يتخذ وضع الراحة، وهو ما ينقله الشاعر أدونيس عن كريستوفر كلارك في كتاب شيق وعميق، قرأته عند صدوره العام 2002، وعدت إليه قبل بضعة أشهر وهو يحمل عنوان «موسيقى الحوت الأزرق: الهوية، الكتابة، العنف».
وتشير المعلومات المقتبسة إلى أن النغم الثابت لهذه الحيتان الزرق يتأسس على خمس علامات موسيقية، وهي أقرب إلى النوتات كما يطلق عليها الموسيقيون، تصدر عنه ولكن لا تسمعها أذن الانسان، إلاّ بوتيرة منخفضة، وبالمناسبة فالحوت الأزرق هو من أكبر أنواع الحيتان في العالم، حيث تتيح لها هذه الموسيقى التعرف على ما يحيط بها على مسافة قطرها عشرة كيلومترات. لا أعرف لماذا استذكرت موسيقى الحوت الأزرق عندما كنت أستمع إلى موسيقى الدانوب الأزرق فقد يكون اسم سمفونية الدانوب الأزرق قد تقاربت لفظياً مع موسيقى الحوت الأزرق، ربما هي إشارات غامضة، مثل تلك التي جاءتني من الموسيقى والحرف في آن، استماعاً أو قراءة أو كليهما، لهذا العالم الغامض، الشفاف، المجهول بالنسبة لي، وسرعان ما تحرك خيالي وذاكرتي وبتطلع بهيج واستشراق مستقبلي، استعدت ما كتبه توفيق الحكيم عن السمفونية التاسعة لبتهوفن، حيث كان يملؤني شعور غامر حتى قبل أن أستمع إليها، وهو ما بدأته في الستينيات وازداد شغفي فيه في السبعينيات رغم شحة ثقافتي الموسيقية، حين استمعت إلى الموسيقار التشيكي دفورجاك، لكن ما جعلني أشعر بالتقصير والنقص في هذا المجال هو نجيب المانع، حين يصف موسيقى شوبان، الذي كان يردد «القلب في باريس والعقل في وارشو» لاسيما في ليلياته حيث كان يعالج ببلاغة بيانوية هائلة الدقة والبراعة التقنية مشاعر الحب، ففيها لهفة وحنين وحنان ووجد نابض وأنفاس مشتعلة، فقد ظل هذا الفتى دون الأربعين، الذي غادر عالمنا سريعاً (مات مسلولاً) مثل ومض، مفتوناً بالحب والوطنية البولونية، اللذين أعطاهما كل إبداعه، بلوعته وبكائه وعذابه ورومانسيته وبليغ جملته الموسيقية المكثف، ويقول عنه المانع «في موسيقاه متانة التركيب من غير تخشّب كما أن اشتعاله مضيء لا محرق»، ولعل هذا الوصف يبقي الجذوة الشوبانية تومض في النفس، لكأنك تستمع إليها في كل مرة وكأنها لأول مرة. وإذا كان شوبان قد رحل سريعاً فقد رحل موزارت سريعاً هو الآخر، (لم يتجاوز عمره 35 عاماً) وقد تمكن مخرج فيلم أماديوس أن يعطي نكهة خاصة لحياة موزارت، وقد تسنى لي مشاهدته قبل نحو عقدين من الزمان، وموزارت وهو المولود في سالبورغ شهد مجده في فيينا، مثلما ولد بتهوفن في بون وجاء إلى فيينا ليتتلمذ على يد موزارت (طلب منه إعطاءه دروساً)، ولكن بعد 10 سنوات أصبح هو الآخر نجماً ساطعاً، وهو الآخر مات وهو في عمر الشباب، وكان لفشله في الحب أحد الأسباب المضاعفة لقبول التحدي واختيار طريق التميّز والعبقرية، وكذلك جوزيف هايدن لم يكن «فيناوياً»، بل كان من سكان جنوب فيينا، واشتهر في فيينا، التي قدم فيها أعمالاً خالدة.
الأعمال الخالدة تتجدد ولا تنتهي أو يبطل مفعولها، فهي تولد من جديد، لأنها تظل تعطي إشعاعات مستمرة لكل العصور والأزمان، سواءً كانت قصائد شعر، أو رواية أو لوحة تشكيلية أو سمفونية أو مقطوعة موسيقية أو فيلم أو منحوتة أو نص فكري، لكن هذه الأعمال لا تُقرأ مرة واحدة، إنها بحاجة إلى إعادة قراءة وتأمل ودراسة، وبذلك تتحقق متعة الاستمتاع بالجمال ومتعة الاكتشاف والتعرّف على التفاصيل المرئية واللامرئية، وأعمال الموسيقيين مثل موزارت وبتهوفن وشتراوس وهايدن وباخ وشوبان مثل أعمال سلفادور دالي وبيكاسو وجواد سليم وفايق حسن ومثل كتابات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وطه حسين والعقاد وعلي الوردي وتولستوي ودستوفسكي وشعر الجواهري ومحمود درويش وأدونيس ومظفر النواب ومسرحيين مثل يوسف وهبي ويوسف العاني وسينمائيين مثل فلييني وبازوليني ويوسف شاهين وآخرين. أتذكر أن الشاعر بلند الحيدري أخذني من يدي في ديوان الكوفة كاليري في لندن، في مطلع التسعينيات حين كنا نحضر حفل توقيع كتاب أمين معلوف، وقال لي قبل عشر سنوات جاء معلوف ليتعرّف عليّ، علينا أن نتعرف عليه، ونأخذ صورة تذكارية معه، لأن عمله سيكون خالداً ومتميزاً، وهو ما أبلغه لمعلوف الذي احمّر وجهه بتواضع وأدب جم.
استعدت ذلك وأنا أدقق فيما كتب المانع عن المتنبي وشكسبير وشوبان وبيتهوفن الذي رسمه توفيق الحكيم إنساناً بحجم البحر، حيث تصدر من بين يديه أصوات يتعرف بواسطتها البشر على أنفسهم، ولن تتحقق مثل هذه الرؤية بالاستماع أو القراءة لمرة واحدة، ففي كل قراءة وفي كل قصيدة وفي كل نص ولوحة تصدر حركة تغلغل فيك مثل شهاب، ولعل ذلك إحدى عبقريات شتراوس في الدانوب الأزرق! أو صوت الربيع أو سمفونية القدر (الخامسة) لبتهوفن أو سمفونيته التاسعة النشيد الناقص «الأمل». يظلّ نصير شمّة من بين من تعرفت عليهم من الموسيقيين الأكثر تميّزاً وإبداعاً، وفي كل لقاء معه كنت أراقب حركة أصابعه وصوته وإشاراته وابتسامته وطريقة اختيار مفرداته وهندامه، فأرى فيها مقطوعة موسيقية مكملة وكأنه حالة موسيقية، كل ما فيه تغضّن فيها حتى تماهى معها وأصبحت هي جزء منه، من قلقه وإبداعه وكينونته!
ولكل مبدع دانوبه الأزرق!!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية  العدد 703 الاربعاء 19 اغسطس 2009 ,28 شعبان 1430

1132
المجتمع المدني: محاولة جديدة للفهم!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

تحاول الحكومات، خصوصاً في العالم الثالث ومنها بلداننا العربية، التذرّع بالمعايير 'الوطنية' وإعلاء شأنها على حساب المعايير الدولية، بتأكيد أسبقية وأولوية القانون الداخلي على القانون الدولي، وذلك في محاولة للتحلل أحياناً من الالتزامات الدولية التي تمليها مواثيق حقوق الانسان من جهة وقواعد القانون الدولي من جهة أخرى.
هذه محاولة لفهم موقع المجتمع المدني في ضوء القانونين الوطني والداخلي من جهة، إذ غالباً ما تثار مسألة العلاقة بين القانون الوطني (الداخلي أو المحلي) والقانون الدولي من جهة أخرى، ويكون الأمر كذلك وعلى وجه الخصوص عندما يتعلق الموضوع بقضايا حقوق الإنسان، فالحكومات تشـدد على «أحقيّتها» في تشريع قوانينها الداخلية متعكّزة على قواعد قانونية دولية كاحترام مبدأ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وغيرها من قواعد القانون الدولي، التي يقرّها ميثاق الأمم المتحدة ووثائقها الأساسية، حيث تعتبر هذه المبادئ قواعد آمرة، أي ملزمة في القانون الدولي Jus Cogens. في حين أن مؤسسات المجتمع المدني تشدد هي أيضا على ضرورة مراعاة الحكومات والتزاماتها الدولية وبشكل خاص احترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والحريات والحقوق الأساسية، وعدم التجاوز عليها بحجة الخصوصية الثقافية والدينية وغيرها.
ولعل الجزء المثير للجدل في هذا الميدان هو «قانون المعاهدات» الصادر وفقاً لاتفاقية فيينا لعام 1969، حيث يتجاوز هذا القانون، في الكثير من الأحيان، نطاق القانون الوطني، ليحدّد معايير دولية تتطلب احترامها ومراعاتها في ما يتعلق بالتشريعات الوطنية.
وتثور مسألة التوافق أو تكييف القوانين الوطنية وفقاً للمعايير والقواعد الدولية، على نحو واسع في قضايا حقوق الإنسان وبشكل خاص عند الحديث عن الحريات والحقوق الأساسية، ومنها حق التعبير وحق الاعتقاد والحق في التنظيم الحزبي والنقابي والمهني والحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة ، وكذلك في موضوع فصل السلطات وتغوّل السلطة التنفيذية على تبعية السلطات والانتقاص من استقلال القضاء .
أما في ميدان التشريع الوطني، وبشكل خاص في نطاق حق تكوين الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني بما فيها منظمات حقوق الإنسان، فإن الحكومات تحاول خصوصا في العالم الثالث ومنها بلداننا العربية، التذرّع بالمعايير «الوطنية» وإعلاء شأنها على حساب المعايير الدولية، بتأكيد أسبقية وأولوية القانون الداخلي على القانون الدولي ، وذلك في محاولة للتحلل أحياناً من الالتزامات الدولية بهذا الخصوص ، تلك التي تمليها مواثيق حقوق الانسان من جهة وقواعد القانون الدولي من جهة أخرى.
هناك اتجاهات ومدارس فقهية وقانونية متعارضة بخصوص العلاقة بين القانونين الداخلي والدولي:
الاتجاه الأول- الداخلي: أسبقية القانون الوطني على القانون الدولي، وهو الذي يذهب الى القول إن القانون الوطني (الداخلي) يتقدم على القانون الدولي، وبالتالي يمكن الأخذ من القانون الدولي ما يتناسب مع القوانين الوطنية وتكييفه ليصبح منسجماً مع الدستور الوطني.
الاتجاه الثاني- الدولي: أسبقية القانون الدولي على القانون الداخلي (الوطني)، وهذا الاتجاه يعاكس الاتجاه الأول، وهو الذي يحدد أسبقية وأولوية قواعد القانون الدولي، على القوانين الداخلية في كل من الأحكام الدولية والوطنية. وهذا الاتجاه يدعو لتكييف القوانين الوطنية لتصبح منسجمة مع القانون الدولي.
ويضع الفقيه البريطاني كلسن القانون الدولي في المنزلة الأولى، وبالتالي فإنه لايضع حدوداً من السلطة الوطنية على القانون الدولي ، ذلك أن صلاحيات الدول مستمدّة من فكرة القانون، وهذا الأخير هو الذي يمنحها ولاية ممارسة هذه الصلاحيات، الأمر الذي يجعل القانون الدولي والوطني متلازمين في اطار نظام واحد هو « القانون».
الاتجاه الثالث - وهو ما يمكن أن نطلق عليه « المدرسة الثنوية « وهو ما ذهب اليه الفيلسوف الألماني هيغل، فالقانون الدولي والقانون الداخلي (الوطني) مجالان مختلفان للاجراءات القانونية، ولا ينبغي أن يكون هناك تنازع بينهما، فهما مختلفان بسبب الاختلاف في:
1- مصادرهما: في القانون الداخلي يشكّل العرف، الذي نشأ داخل حدود الدولة والقوانين التي سنّتها سلطة إصدار القانون (التشريع الداخلي) المصدر الأساسي، أما في القانون الدولي فإن العرف بين الدول، إضافة إلى المعاهدات (التشريع الدولي)، الأساس في مصادر القانون الدولي.
2- علاقة تنظيمهما: القانون الداخلي ينظم العلاقة بين الأفراد في ذات الدولة والعلاقة بين الدولة والفرد، أما في القانون الدولي فإن المجال الأساسي هو تنظيم العلاقات بين الدول، إضافة إلى المنظمات الدولية وبشكل محدود الأفراد.
3- جوهر القانون: القانون الداخلي هو قانون الدولة ذات السيادة على الأفراد الخاضعين لها، أما القانون الدولي فتشكّل فكرة وقاعدة العلاقة بين الدول ذات السيادة على أساس التوافق والتعايش، جوهر حيثياته وليس الخضوع أو التبعية.
الاتجاه الرابع- التوفيقي: فالمدرسة التوفيقية ترفض الاتجاه الواحدي (الداخلي) أو الواحدي (المعاكس) أي «الدولي» ولاتتفق مع الاتجاه « الثنوي» ، وتفترض هذه المدرسة عدم وجود تنازع بين القوانين الداخلية والدولية، إذ إن نقطة البدء هي الإنسان وعلاقته بالدولة والقانون، ويقع الفرد في نطاقهما، ويذهب أصحاب هذا الاتجاه للقول: إن القانون الدولي والداخلي (الوطني): هما مجموعتان منسجمتان من المبادئ، وكل منهما مستقل عن الآخر، لأنه موجّه الى مجال محدد للسلوك الإنساني ومنفرد إلى حد ما، لكنهما متفقتان في أن القواعد العامة في مجملها تهدف الى تحقيق رفاهية أساسية للإنسان.
واستناداً إلى هذه الاتجاهات، فإن بعض الدول تضع الاعتبار الداخلي أولاً وقبل كل شيء، والأخرى تضع القانون الدولي في المقدمة، أما الاتجاه الثالث فإنه يفترض «ثنوية» وعدم تنازع لاختلاف المصادر والعلاقات التي ينظّمها، وجوهر ومحتوى القاعدة القانونية، أما البعض الآخر فيحاول ايجاد نقطة توافق بين القانونين بافتراض عدم وجود تناقض، واذا كانت اتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات لعام 1969، قد دعت لايجاد توافق وانسجام وتكييف للقوانين الوطنية مع المعايير والالتزامات الدولية، فإن العديد من دولنا العربية، قد غضّت الطرف عن هذه القضية الملزمة، التي ترتبها اتفاقية فيينا رغم توقيعها عليها، خصوصاً المواءمة بين التشريع الوطني والتشريع الدولي بما فيها قانون المعاهدات.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 710، الجمعة 21 اغسطس 2009 ,01 رمضان 1430

1133
انشغالات "المواطنة"
   


عبدالحسين شعبان
لم تبلغ فكرة المواطنة في الوطن العربي المكانة التي تستحقها لا على الصعيد النظري- الفكري، القانوني والتشريعي، ولا على الصعيد العملي- الممارساتي، لاسيما وقد أصبحت الفكرة “حقاً غير قابل للمساومة” في الدول المتقدمة، واتسعت قاعدتها باحترام حقوق الانسان التي أصبح لها مكانة علوية، الأمر الذي نجم عنه بناء مواطن من خلال حركة مواطنة فاعلة، استناداً الى فقه المشاركة ومبادئ الحرية والمساواة والعدالة.

هكذا تهيأت الفرص الضرورية لتحقيق مواطنة حيوية فاعلة بتحوّل “فكرة الرعيّة” أو التابعية التي كانت سائدة الى “فكرة المواطنة” لحقوق وواجبات مثلما هي في الدولة العصرية، ولعل ذلك كان وراء تحوّل “الأفراد” التابعين والمأمورين والمطيعين لأُولي الأمر أو لولي الفقيه، الى مواطنين متساوين أمام القانون الذي يخضع له الحاكم والمحكوم، ولهم حقوق مثلما عليهم واجبات، مكفولة في الدستور ويحميهم قانون من خلال مؤسسات، ناهيكم عن قضاء يلجأون اليه لانصافهم وإحقاق العدالة، وقد يكون هذا الاستحقاق أكثر إلحاحاً في البلدان النامية والعالم العربي- الاسلامي جزءًا منها، إذا ما أرادت السير في طريق التنمية والتقدم.

هكذا أخذت تتبلور تدريجياً حقوق للمواطنين في إطار شعب أو “أمة” متكافلة بالمعروف وليس بالاكراه ومن خلال اختيار المحكومين من يمثلهم على نحو دوري ومن حقهم استبدالهم فيما إذا أخلّوا بشروط التعاقد. ولم تعد “للرعية” والمحكومين حقوقاً “يتيمة” ممنوحة من طرف الحاكم على شكل هبة أو منّة أو مكرمة بل مواطنة بعلاقة تعاقدية بين الفرد والدولة، تقوم على أساس الحق في المشاركة في إطار العقد الاجتماعي، وهي حقوق أصيلة غير قابلة للتنازل.

وإذا كانت فكرة الدولة حديثة عربياً، ففكرة المواطنة لا تزال جنينية، بل هي أقرب الى الارهاص منها الى الحضور، وقد طرحت تقارير التنمية الإنسانية العربية طيلة العقد الماضي بما فيها تقرير التنمية للعام 2009 الذي صدر بعنوان “تحديات أمن الانسان في البلدان العربية” عن برنامج الامم المتحدة الانمائي، أسئلة في غاية الأهمية تتعلق بضعف المواطنة، خصوصاً شحة فرص المعرفة والحريات وتهميش دور المرأة وانتهاك حقوق الأقليات، الأمر الذي ينتقص انتقاصاً شديداً من مفهوم المواطنة بمعناها الحديث في الدولة العصرية.

نحن إذاً أمام انشغالات لفكرة المواطنة على صعيد البحث والواقع النظري والعملي بما يتعلق بأساسات الدولة والهوية ومسألة العلاقة بين المكوّنات المختلفة، وخصوصاً علاقة الفرد بالدولة، والحق في الحصول والتمتع بالحقوق كافة وبصورة عادلة ومتساوية للجميع، أفراداً وجماعات.

ولا يزال العالم العربي يعاني من شحة وضعف في ثقافة المواطنة وفي الوعي بأهميتها، لاسيما بسيادة آيديولوجيات وفلسفات شمولية، خصوصاً في مرحلة ما بعد الاستقلالات، ومنذ أواسط الخمسينات وما بعدها، حين استُبدِلَت الشرعية الدستورية بالشرعية الثورية، واستعيض بالعنف الثوري عن مبدأ سيادة القانون بمزاعم مختلفة، تارة باسم الطبقات الكادحة، وأخرى بحجة الصراع العربي  “الاسرائيلي”، وثالثة باسم الدين، وفي جميع الأحوال أعطت القوى التي تصدّرت السلطة السياسية، أو كانت من معارضتها، الحق لنفسها بالتجاوز على القانون وفرض ارادتها بادعاء انها تمثّل الجمهور وتعبّر عن تطلعاته وتنطق باسم الشعب أو الأمة، مبررةً لنفسها دور القاضي والمشرّع ورجل الشرطة في الآن ذاته، مُنزِلةً “عقاباً” بخصومها، بتبرير أنهم أعداء الشعب أو أعداء الحرية أو أعداء الثورة أو غير ذلك من الحجج.

وإذا كانت بعض البلدان العربية في مرحلة ما قبل الاستقلالات وما قبل المرحلة الثورية قد بدأت فيها ملامح أولى وإن كانت مبسترة وناقصة لمواطنة دستورية، مثلما هي مصر وسوريا والعراق وغيرها، إلاّ أنها انتكست وتراجعت في الكثير من الأحيان لأسباب تتعلق ببعض الكوابح والعقبات الداخلية والخارجية.

وإذا ما تركنا جانباً العوامل الموضوعية التي تسببت في تراجع فكرة المواطنة والتنمية والديمقراطية، مثل الصراع العربي  “الاسرائيلي” والحروب التي شنّتها “اسرائيل” ضد البلدان العربية، ناهيكم عن نزاعات حدودية ومحاولات دولية لفرض الهيمنة والاستتباع وتحويل العالم العربي الى سوق للحصول على المواد الأولية واستهلاك البضائع والسلع التي تنتجها البلدان المنفذة ووضع اليد على النفط، فإن الكوابح الداخلية لا تقل عن العقبات الخارجية ان لم تزد عليها، ولولا ضغف العالم العربي لما تمكّنت القوى الخارجية من فرض الهيمنة عليه، فكيف لمجتمعات تُعاني من استبداد وتمييز وعدم مساواة وتغييب للحريات ونقص في العدالة وتشظّي الاوطان بالصراعات الدينية والطائفية والقبلية من أن تواجه استحقاقاً مثل استحقاق المواطنةّ!

لعل جانباً قيّمياً يتعلق بنشر وتعزيز فكرة المواطنة من خلال تعميم الوعي بالاحساس المشترك بأن الجميع متساوون في وطن واحد ويشتركون في صنع مستقبلهم، ويختلفون في تكوينهم وخصوصياتهم وفاعلياتهم، أي يتنوعون في أولوياتهم مع جامع واحد أساس بينهم وهو شراكتهم في الوطن وحقهم في الاختلاف، بهذا المعنى لم يعد بإمكان أحد ادعاء احتكار الله وتكفير الآخرين أو احتكار العقل وتسفيه الآخرين أو احتكار التاريخ وتجهيل الآخرين، مثلما لا يحق لأحد احتكار الثروة والسلاح والاعلام، لاسيما إذا ترسخت فكرة مواطنة متساوية.

إن آلية الحوار تنضج في ظروف سلمية وتطور تدريجي وتراكم ضروري، يشكّل أساساً على فهم أكثر قدرة لمقتضيات الواقع والتحديات التي تواجه الهويات المؤتلفة المتعددة في إطار جامع فضلاً عن المعرفة بالخصائص والتمايزات بين أطرافه ولعل ذلك يمكن أن يكون أساساً في بناء مواطنة متعددة، متساوية من خلال جوانب اجرائية وقانونية، أساسها التعايش والشفافية والتعددية والتنافس المشروع وصولاً “للمجمعن” من خلال “المفردن” حسب أدونيس، أي أن الجماعة البشرية يمكنها أن تصل الى ذلك من خلال الكيانات الفردية الحرة المؤتلفة في إطار الاختلاف، والمختلفة في إطار الائتلاف.

باحث ومفكر عربي


صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 19/8/2009

1134
هذه النجف التي توشوشني!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

كنت أحرّض السيد هاني فحص باستمرار على كتابة النجف التي في داخله، ولعلّي كنت وأنا أستمع إليه، كأنني أطالب نفسي لإخراج النجف التي في داخلي، بصورتها المرئية وصورتها اللامرئية، إلى حيث المعنى والدلالة. هكذا كنت أشعر أن النجف متغلغلة في داخلي، لكأنني عاشق لا يروي ظمأه إلى معشوقته شيء، في فضاء من الحب واللانهايات الأبدية.
العلاقة بيني وبين النجف يتعذّر تفسيرها، هي علاقة أبعد مما تراه العين أو تتخيّله، هي علاقة ترتبط بالذكرى والذاكرة والرغبة المستمرة والصيرورة والحلم المتصاعد، لذلك ظلّت النجف تسكن مخيلتي، كنص شامل أقرب إلى سبيكة ذهبية وقصيدة متواصلة الابداع ولغة غير قابلة للانقطاع.
الحوار بيني وبين النجف يتواصل منذ عقود من الزمان، بوتيرة مستمرة تارة، ومنقطعة تارة اخرى، لكن هذا الحوار العفوي لم يكن بلا نظام، أنه يأتي أحياناً مكثفاً بصور متناسقة، وأحياناً أخرى مفاجئاً بصور متنافرة، لكنها منسجمة فكراً ولوناً، متجانسة حتى باختلافها وتنوّع طيفها الأدبي والفني والاجتماعي.
كنت باستمرار أتحدث مع النجف التي أعرفها، أتحدث معها بصفة الحضور رغم الغياب، كنت أريدها دائماً حاضرة، حتى لو كانت على صورة برقٍ أو شعاعٍ، بإيحاء وإيقاع سرعان ما أدرك كنهه، بإشاراتها الغامضة المحببة، اللذيذة.
ألتجئ إلى النجف كنص أدبي وقراءة جدلية، لقبابها الذهبية، للحكمة والفلسفة المزدانة، لصوت المواكب الهادرة، والنساء الجميلات، والمناشير السرّية والجنائز المستوردة والعمائم المصدّرة، حسب الشاعر أحمد الصافي النجفي. بسرعة أستطيع أن أعرف الباطن من الظاهر والخفي من المكشوف والغامض من الواضح، حين تلتبس فيها بعض الأمور ويستشكل الفكر والدين والجمال والأمل.
متعتان للجمال في النجف، متعة العقل ومتعة الشعر، حيث الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق، حسب تعبير السيد مصطفى جمال الدين، والانغلاق الظاهري، يحمل تحت ثيابه انفتاحاً وتطلعاً للتغيير والتجديد وحركة تمرد وانعتاق وتوق للحرية بلا حدود، ولعل هذا التجلّي ليس سوى ما تختزنه النجف من طاقة إبداعية عقلية خلاّقة، ووهج شعري متدفق مثل شلال!!
لا يمكنني أن أغلق باب النجف في رأسي فقد ظلّت مشرعة تدخلها الريح من كل الاتجاهات، عند كل قراءة نقدية وضعية، تتجاوز الآني إلى المستقبلي، والماضي إلى
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 704 الجمعة 14 اغسطس 2009 ,23 شعبان 1430

1135
خصوصية المجتمع المدني العربي
   


عبدالحسين شعبان


إذا كان هناك من لا يعترف أساساً بفكرة المجتمع المدني العربي، بل يثير علامات استفهام حول أهدافها و”أجندتها” وتمويلها وتداخلاتها الخارجية، فهناك من يشكّك بفكرة وجود مجتمع مدني عربي فعلي، وإن بتعاطف مع وجوده، لكنه يقول: إن وجِدَ (مثل هذا المجتمع) فهو غير قادر على فرض إرادته أو رغباته أو تأثيراته في قرارات الدولة، كما هي حالة أوروبا الغربية والشرقية، أو حالة بعض أقطار شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية. بمعنى آخر، حسب قول الدكتور باقر النجار، “من الصعب أن تجد مجتمعاً مدنياً في المنطقة العربية مستقلاً عن الدولة وقادراً على التأثير فيها”، ولكنه يقبل بفكرة وجود منظمات غير حكومية أهلية مستقلة عن الدولة في بعض البلدان العربية مثل: مصر، المغرب، لبنان، الكويت والبحرين، في حين أن الأقطار الأخرى لا تبدو فيها هذه المنظمات موجودة وإن كان الأمر بدرجات متفاوتة.

الهدف من هذه المقدمة الانتقادية لفكرة المجتمع المدني هو السعي لإخراج المصطلح من التأييد والرضى واليقينية حد التقديس عند البعض، ومن السخط والتنديد والاتهام حد التدنيس عند البعض الآخر، وتحويله إلى أمر تاريخي- اجتماعي ديناميكي ومتحرك، يمثل الطاقة الكامنة لدى فئات اجتماعية ومهنية واسعة للإسهام في صنع المستقبل السياسي والمشاركة في رسم السياسات من خلال نقد الخطاب السائد بين السلطة والمعارضة أحياناً، عبر حقل ثالث، يمثل خياراً مجتمعياً لتفعيل المشاركة وضمان الحقوق الإنسانية وتأمين الحريات العامة والخاصة.

إن الأصوات العربية التي نددت بأطروحة المجتمع المدني الجديدة، لم تنطلق جميعها من رؤية واحدة، فمعظم الحكومات المحافظة أو الثوروية اعتبرتها تقليعة مستوردة أو مشبوهة، وفعلت ذلك أيضاً الجماعات التقليدية المتشددة حتى وإن كانت في المعارضة، ونظر إليها البعض الآخر من زاوية اقترابها أو ابتعادها من الصراع مع القوى المهيمنة على المستوى الدولي، خصوصاً محاولات “توظيف” بعض مؤسسات المجتمع المدني أو بعض إداراتها ل”أجندات” خارجية، واستغلالها أحياناً بالضد من المصالح الوطنية العليا، أو هكذا يتم تفسير بعض النشاطات المطالبة بالحريات وحقوق الإنسان باعتبارها ممالأة للغرب واسترضاءً له كما يعتقد أصحاب هذا الاتجاه، أو للحصول على التمويل أو لمكاسب سياسية.

وهناك اتجاه نقدي للمجتمع المدني من داخله أحياناً من زاوية ديمقراطية وتنويرية وليس بهدف الإساءة أو التشهير، وهذا الاتجاه يرى أن المجتمع المدني ضرورة لا غنى عنها وحاجة ماسّة، لا يمكن إحداث التحول والإصلاح الديمقراطي من دونها، بما يستوجب دعم مؤسساته والترخيص لها قانونياً، الاّ أنه ينتقد بعض ممارساتها وتوجّهاتها وتشبّث بعض قياداتها بمواقعها، ناهيكم عن بعض أساليبها البيروقراطية واللاديمقراطية.

يمكنني القول إن المجتمع المدني العربي ما زال ناشئاً وهو حديث التكوين، وفي بعض البلدان جنينياً أو أن هناك انقطاعاً قسرياً قد حدث فيه وعطّل من دوره كما هي التجربة العراقية، سواءً قبل الاحتلال أو بعده، وهناك تداخلات كثيرة عليه، بل واتهامات جاهزة ضده، لكنه أخذ تدريجياً يتطور ويؤثر، خصوصاً أن طائفة من الاحتجاجات حتى في البلدان المغلقة والمحافظة أخذت طريقها إلى التبلور، ولقيت اهتماماً دولياً حتى وإن كان ذلك له علاقة ب”أجندة” بعض القوى الكبرى الخاصة، لكن الأمر ينمّ عن إرهاصات بدأت تتأسس وتترك تأثيراتها، وإنْ كانت محدودة على مسار نقد الدولة والممارسات الحكومية، ومطالباتها بالإصلاح الدستوري والقانوني والاجتماعي وحق المشاركة وتأسيس الجمعيات والنقابات والأحزاب وحقوق المرأة وغير ذلك.

ولعلّ هذا الأمر هو جزء من مسار كوني ومن تطور أممي لا يمكن للبلدان العربية أن تعزل نفسها عنه، كأنها جزر نائية غير معنية بالتطور الدولي، الأمر الذي يفرض على الحكومات مواكبة هذا التطور والسماح لمؤسسات المجتمع المدني، من العمل، وإن كان الأمر قد حصل في بعض البلدان العربية مثل المغرب والأردن ولبنان واليمن والبحرين والكويت ومصر والجزائر وقطر (بدايات محدودة) والعراق وفلسطين (رغم ظروف الاحتلال والإرهاب) وغيرها، وذلك في سياق قراءة تستجيب لبعض متطلبات التطور الدولي.

إن الوقوف بوجه التيار، يعني أن رياح التغيير ستكون عاصفة وربما مدمّرة وستصيب الجميع، ولن يقف أمامها التشبث بالسيادة أو عدم التدخل بالشؤون الداخلية، تلك الحجج التي تتذرع بها الحكومات للاستفراد بشعوبها، في حين أن ضرورات التطور تقتضي إطلاق الحريات وإجراء إصلاحات واحترام حقوق الإنسان، كضمانات لحماية السيادة ومنع التدخلات الأجنبية والحيلولة من دون تعرض بلداننا وشعوبنا للاحتلال والعدوان والانتهاكات الخارجية.

لقد وقفت غالبية الدول العربية ضد تطور المجتمع المدني، وذلك بسنّ وتشريع قوانين واتخاذ إجراءات إدارية تحول دون اتساع الظاهرة أو تسعى للحد منها ومن حصول المنظمات المدنية على حق وحرية العمل الشرعي. ولا شك في أن هذه الظاهرة نمت وانتشرت في نهاية عهد الحرب الباردة وانتهاء سياسة الوفاق الدولي، وقد أخضعت هذه المنظمات لإجراءات تسجيل معقدة ومكلفة أحياناً، وفي الكثير من المرّات كانت إجراءات التسويف والمماحكة تنتهي بالرفض أو عدم الترخيص، ناهيكم عن أن سيف سحب الاعتراف يبقى مسلّطاً عليها، واعتمدت بعض الحكومات سياسة الجرعات المسكّنة لاحتواء الاحتقانات الناجمة عن الرغبة في انطلاقة مؤسسات المجتمع المدني.

وللأسف، فإن الكثير من الحكومات والقوى السياسية العربية خارجها، ومن معارضتها أحياناً، لا تزال لا تدرك أهمية وحيوية المجتمع المدني وضرورته، باعتباره أحد أهم روافد الإصلاح والتغيير وتعزيز وتمكين الديمقراطية التي تنشدها، لكونه يمثل القوة الثالثة، التي لا غنى عنها لضمان السلم المجتمعي، فضلاً عن أن وجوده يمثل هو الآخر انتماءً إلى العالم المعاصر، عالم الحداثة والتقدم، ولعل التنكر له أو تهميش دوره أو محاولة احتوائه، إنما هو تشبث بالماضي وهروب من المستقبل.

لهذا فان البلدان العربية تغدو أكثر حاجة من غيرها إلى تنمية وتعزيز دور المجتمع المدني وتمكينه من القيام بواجباته من خلال كيانات مستقلة غير حكومية، غير ربحية، حرة وغير إرثية وقائمة على الانتماء الطوعي والتعددي وتتعامل مع منتسبيها على نحو شفاف وديمقراطي، وذلك لحاقاً بالتطور الدولي.

يكفي أن نشير إلى أن المنظمة العربية لحقوق الإنسان وهي المنظمة الأم كما يشار إليها، ظل البعض ينظر إليها بارتياب لفترة غير قصيرة، رغم أنها كانت تعمل في مصر بصورة واقعية De Facto، ولكنها لم تحصل على الترخيص القانوني والتسهيلات كمنظمة إقليمية DE Jure، إلاّ بعد مرور أكثر من 15 عاماً (أي في العام 2000)، حيث وقّعت على مذكرة تفاهم واتفاقية مقر مع وزارة الخارجية المصرية، في حين تأسست المنظمة في قبرص (ليماسول) نهاية العام ،1983 واتخذت من القاهرة مقراً لها بعد ذلك، واستمرت في إصدار تقاريرها منذ العام 1985.

للأسف الشديد، لم تستطع السلطات في بلادنا العربية، التعامل الصحيح مع منظمات المجتمع المدني، سواءً كانت نظماً “ثورية” أو “محافظة”، ولربما كانت الأخيرة أكثر رحمة من غيرها، فقد كان الارتياب هو السائد حيث تضعها في خانة المعارضات السياسية، ويتم التعامل معها باعتبارها خصماً أو عدواً، مستغلة أن بعض هذه المنظمات يتجاوز حدوده سواءً في تساوقه مع بعض “الأجندات” الخارجية أو اندغامه مع بعض المعارضات السياسية أحياناً.

باحث ومفكر عربي

1136
تخوم ولاية الفقيه!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

طرحت الانتخابات الإيرانية ونتائجها وذيولها موضوع ولاية الفقيه مجدداً على بساط البحث، ورغم خصوصية الحدث الإيراني، لاسيما أن «الديمقراطية المقننة» كانت نتاجاً توليفياً حاول الجمع بين مرجعية ولاية الفقيه الذي بيده القدح المعلاّ كما يقال، وإجراء انتخابات لرئاسة الجمهورية، فضلاً عن ذلك فثمة مرجعيات أخرى غير منتخبة بين ولاية الفقيه ورئاسة الجمهورية، ونعني بها مجلس صيانة الدستور وهيئة تشخيص مصلحة النظام، وعلى رأس الجميع يجلس متربعاً ولي الفقيه غير المنازع، وهو اصطلاح ديني «شيعي» لكنه في المعنى السياسي أقرب إلى رئيس مجلس قيادة الثورة أو الأمين العام للحزب في أوضاع الأنظمة الاستبدادية، حين تكون صلاحياته أقرب إلى الصلاحيات المطلقة.
لعل الذي جاء بولاية الفقيه في إيران إلى مواقع السلطة هو ثورة عام 1979 التي قادها السيد روح الله الخميني، وكان قد نظّر لها في كتابه «الحكومة الإسلامية» منذ عقد ونصف من الزمان قبل هذا التاريخ، حيث كانت المرجعية الدينية الإيرانية تعقد حلفاً مع السلطات السياسية منذ العهد الصفوي أقرب إلى صفقة تاريخية متبادلة، فيضفي الأخير على السلطات الدينية نوعاً من القدسية، مقابل أن تقوم هي بمنحه تأييداً يكاد يكون مطلقاً.
ولهذا فإن التحدي الذي ترافق مع الحدث الإيراني، حيث كان المشهد السائد يوحي بالاستقرار، هو اهتزاز صورة ولاية الفقيه، الذي أصبح محطّ جدل ونقاش بين انحيازاته لمحمود أحمدي نجاد وتصدّيه للمحتجين، وبين الإصلاحيين لاسيما من جماعة حسين الموسوي، حتى إن كان الطرفان تحت السقف الإسلامي. وهو أمر جدير بالتوقف عنده، خصوصاً أنه يكاد يكون التحدي الأكبر، فلأول مرة منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمان تواجه ولاية الفقيه أسئلة حتى إن لم تكن حارقة حتى الآن، لكن فيها الكثير من المعاني والدلالات المستقبلية.
لقد استندت فكرة ولاية الفقيه إلى حل ديني لحيرة بشرية بعد انقطاع الإمامة الاثني عشرية حسب الفقه الشيعي، وذلك منذ «الغيبة الكبرى» للإمام المهدي المنتظر «صاحب الزمان»، لكن هذا الحل أصبح قيداً شديداً، لاسيما بعد الدعوة للإصلاحات الدستورية واندلاع المعركة بين المشروطة التي تدعو إلى تقييد الحاكم بدستور، والمستبدة التي روّجت لنظرية المستبد العادل.
وقد كان كاظم الخراساني في إيران أحد أهم دعاة المشروطة التي انقسم علماء الشيعة حولها، بين مؤيد ومعارض، ومن أصحاب هذا الاتجاه الميرزا محمد حسين النائيني مؤلف كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة» الذي استبدل بفكرة ولاية الفقيه ولاية الأمة، وهو الأمر الذي ترافق مع بعض دعوات الإصلاح الذي كان لأوروبا فيها تأثير غير قليل، خصوصاً للتيار الإسلامي الإصلاحي الذي تجسد بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي والتونسي وغيرهم.
ويمكن السؤال: هل يعني الحدث الإيراني توقف الثورة عند تخوم ولاية الفقيه أم هناك رغبة في تجاوزها، ولكن إلى أين؟ لاشك أن هناك كوابح وعقبات لكي تتحلل التيارات السياسية تحت المظلة الخمينية من ولاية الفقيه، لكن الصراع السياسي، ولاسيما بين المحافظين والمجددين أو الإصلاحيين قد أسهم في ابتعاد الأخيرين عن المظلّة الخمينية حتى دون إعلان، خصوصاً بعد انحياز ولي الفقيه إلى جانب أحد طرفي الصراع.
ورغم خصوصية الحالة الإيرانية، من حيث هي شكل من أشكال النظام الشمولي ولكن بتعددية خاصة وانتخابات وتداولية للسلطة ومجتمع مدني فيه حيوية أكثر من غيره من الأنظمة المشابهة، لكن التعايش الهش والقلق بين التيارين بات وشيك الانحلال أو التمزق، الأمر الذي سيطرح إن آجلاً أو عاجلاً مسألة ولاية الفقيه على بساط البحث، ففي حين سيتمسك بها المحافظون، سيسعى التيار الإصلاحي للتحلل منها تدريجياً، طالما أصبحت تشكل قيداً سميكاً عليه، خصوصاً انحيازاتها المسبقة لمصلحة خصومه، كما بيّنت ذلك الانتخابات الأخيرة.
لقد أخرجت الانتخابات الأخيرة ما كان خافياً تحت عمامة ولي الفقيه، لاسيما مرجعيته ومستقبل هذه المرجعية في ظل ولاية الأمة على نفسها، فهل سيحسم الصراع بين حكم ينتمي إلى الماضي «الغيبة» وحكم ينتمي إلى الحاضر والمستقبل، خصوصاً إرادة الناخب، التي تمنح الشرعية وليس إرادة ولي الفقيه، الذي هو بشر قد يخطئ وقد يصيب، وإذا ما تدخّل بالشأن العام وانحاز إلى طرف على حساب آخر، فسيدخل لعبة السياسة، الأمر الذي قد يفقده مرجعيته وحياديته ونزاهته، حيث لم تعد هذه المرجعية مستمدة من إمام غائب أو نائبه، خصوصاً إذا كان فيها شيء من الافتئات على المجتمع وتطلعاته، فالانتخابات شأن دنيوي وبشري وليس شأناً دينياً، يخصّ الإمام لوحده بقدر علاقته بالناس ومصالحهم.
إن أهم وأكبر كوابح تطور الحالة الإيرانية هو وجود مجلس صيانة الدستور وهيئة تشخيص مصلحة النظام، وهذه التي يتربع فوقها ولي الفقيه، تتقدم على مصلحة الأمة، أي مصلحة مجموع الناخبين، الأمر الذي تقترب فيه فكرة ولي الفقيه من المستبد العادل، طالما كان ضمن تراتبية دينية، ولربما تفوق ذلك بكثير، خصوصاً إضفاء طابع القدسية عليه.
لم يعد الناخب الإيراني في ظل خصوصية الحالة الإيرانية، ملزماً بفتوى السيد علي خامنئي «مرشد الجمهورية الإسلامية» أو غيره من المراجع الكبار، وهو أمر أفرزته الانتخابات الأخيرة، حين جعلت الشك بصدقية وجدوى مثل هذه الفتاوى في ظل الانحيازات المسبقة، ولعل ذلك سيتم تفسيره باعتباره شكلاً من أشكال الاستبداد باسم الدين، الذي لا يمكن لإيران التخلص منه دون التحلل من استبداد ولاية الفقيه، وهو ما سيفرزه الصراع بين التيار المتشدد-الأصولي، وبين التيار الاصلاحي-المجدد، حتى إن كان جنينياً، ولعل ذلك لن يحدد مسار التيارين فحسب، بل مسار إيران كلّها لاحقاً، في القريب العاجل أو في الاستحقاق الآجل.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد 738 ، الجمعة 07 اغسطس 2009 ,16 شعبان 1430

1137
هل تخالف "الشرعية الدولية" القانون الدولي؟
   


عبدالحسين شعبان


أثار العدوان على غزة أواخر عام 2008 ومطلع عام 2009 من جديد موضوع تعارض أو تناقض “الشرعية الدولية” مع قواعد القانون الدولي أحياناً، لا سيما في ما يتعلق باختصاصات وسلوك مجلس الأمن الدولي.

فماذا لو خرج مجلس الأمن الدولي على قواعد القانون الدولي؟ وما هي الجهة الدولية (صاحبة الاختصاص) التي ستحدد ذلك؟ وهل هناك دور للعلماء والأكاديميين القانونيين، أو لمرجعية دولية لفضّ مثل هذا الاشتباك لو حصل؟ وفي مراقبة مدى انطباق مبادئ الشرعية الدولية مع قواعد القانون الدولي؟

ولعل نكوص مجلس الأمن الدولي في إدانة العدوان على غزة وحماية السلم والأمن الدوليين ومنع انتهاك قواعد القانون الدولي، كان وراء سؤال كبير بحاجة الى تدقيق جديد عن علاقة “الشرعية الدولية” بالقانون الدولي.

الشرعية الدولية، كمصطلح، ما زال غير محدد، فهل تعني توافق أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين أو ارادة ما يسمى المجتمع الدولي؟ أم توافق إجراءات مجلس الأمن الدولي مع قواعد القانون الدولي؟ وماذا لو حصل الافتراق؟ الأمر الذي بحاجة الى معالجة جدية هو ابتعاد ما نطلق عليه “الشرعية الدولية” أحياناً، عن مبادئ العدالة وقواعد القانون الدولي، لا سيما وظيفة حماية السلم والأمن الدوليين، التي هي هدف سام للمنتظم الدولي، فكيف يمكن التصرف والحالة هذه عندما تتعارض الشرعية الدولية مع قواعد العدالة القانونية الدولية أو قواعد القانون الدولي الانساني أو المعاصر، لا سيما المعتمدة منها؟

إذا كان مبدأ السيادة هو أحد أهم مبادئ ميثاق الأمم المتحدة الأساسية، فإن الاخلال بها، من جانب القوى المتنفذة، وبخاصة الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، يعد المؤشر الأول لسوء استخدام ما يسمى الشرعية الدولية لأغراض قد تتعارض مع أهداف ومبادئ المنظمة الدولية، ولعل بعض القوى الدولية تضع نفسها خارج نطاق القانون الدولي، لاسيما عندما يتعلق الأمر بمصالحها، وهو ما تحاول أن تضغط فيه على مجلس الأمن، لكي يستجيب “لطموحاتها” لا سيما تهديدها باستخدام حقها في الفيتو.

ولعل هذا ما يفسر وقوف بعض قرارات مجلس الأمن في مخالفة صريحة  للقانون الدولي، حتى وإن حملت اسم “الشرعية الدولية”، وهو أمر يثير القلق لدى الدول الصغيرة، التي لا تشعر بالمساواة والاطمئنان إزاء سلوك الدول المتسيّدة في العلاقات الدولية، بحكم هيمنة الأخيرة على القرار الدولي، وثانياً بحكم الصلاحيات الممنوحة لها بموجب ميثاق الأمم المتحدة.

ان التعارض الفعلي الحاصل بين القانون الدولي والشرعية الدولية لم يحظ أحياناً باهتمام فقهي ونظري، لذلك ترى البعض لا يفرّق بين الشرعية الدولية، التي هي قرارات وتوافقات صدرت عن مجلس الأمن في ظل توازنات سياسية للقوى الدولية محكومة بزمانها وبناءً على اعتبارات ومصالح خاصة، وبين قواعد القانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة التي هي مبادئ تعاقدية وعرفية استقر عليها المجتمع الدولي، باعتبارها قواعد ملزمة.

وإذا كانت وظيفة مجلس الأمن هي حفظ السلم والأمن الدوليين مثلما أناط به الميثاق، وكانت سبباً في اختيار 5 دول كبرى لاحتلال عضويته الدائمة، فإن  المصدر الاساسي لشرعية قرارات المجلس هو توافقها مع مبادئ القانون الدولي وليس مخالفتها، لاسيما في حالة العدوان وجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وغيرها.

لقد تطور القانون الدولي الانساني كثيراً، خصوصاً بإلزام المتحاربين بقواعد وضوابط للحد من مآسي الحروب. ولعبت اللجنة الدولية للصليب الأحمر منذ تأسيسها عام 1864 دوراً مهماً في تقديم المساعدات الانسانية للضحايا، لا سيما بتطور الموقف من شن الحرب أو شرعيتها أو استخدام أنواع الأسلحة فيها أو سلوك المتحاربين وقواعد القتال أو غير ذلك، وشهد هذا التطور  تعزيز القواعد القانونية المنظمة لعلاقات الدول بالدرجة الاساسية، وقت السلم ووقت الحرب في ما يتعلق بالأسرى والجرحى والغرقى والمفقودين والمدنيين وغير ذلك.

لقد كان القانون الدولي التقليدي يجيز باسم “الشرعية الدولية” السائدة آنذاك الحق للدول في شن الحرب، أو الحق في الفتح، طبقاً لمصالحها القومية أو مآربها السياسية، وهو ما كان أقرب لدعاوى الحرب الاستباقية أو الوقائية، أو ما سمّي “بالمجالات الحيوية” لاحقاً. لكن القانون الدولي المعاصر تطور كثيراً منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى فلم يعد اللجوء الى الحرب مشروعاً ومباحاً بعد أن تم تقييده، لا سيما في عهد عصبة الأمم، بل إن المجتمع الدولي حرّم الحرب العدوانية في ميثاق بريان  كيلوك (ميثاق باريس عام 1928)، وكان ميثاق الأمم المتحدة الأكثر جذرية حين حرّم استخدام القوة أو اللجوء اليها في العلاقات الدولية، باستثناء الدفاع عن النفس طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة أو لأغراض التحرر الوطني وحق تقرير المصير باستعادة السيادة والاستقلال، مؤكداً على الحل السلمي للمنازعات الدولية.

ولم يجز الميثاق الحصول على مكاسب سياسية جراء الحرب أو الاحتفاظ بالاراضي داعياً الى وحدة الاراضي والحفاظ على الاستقلال السياسي في إطار حق تقرير المصير واحترام السيادة والمساواة في الحقوق وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، فضلاً عن هدف حماية السلم والأمن الدوليين، وبإضافة احترام حقوق الانسان الذي أصبح قاعدة آمرة ملزمة في القانون الدولي منذ مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الأوروبي عام ،1975 فإن هذه القواعد تعد أساساً في قانونية وشرعية أي إجراء يتخذه مجلس الأمن الدولي أو أية هيئة من هيئات الأمم المتحدة.

بمعنى أن قرارات مجلس الأمن إنْ انسجمت وتوافقت مع هذه القواعد، يمكن أن نطلق عليها اسم “الشرعية الدولية”، أما إذا تعارضت أو لم تتوافق فإنها ستكون بعيدة عن الشرعية الدولية “القانونية” حتى وإن صدرت بتوافق القوى الكبرى في مجلس الأمن، أي أن اكتساب الشرعية لا يتم من خلال التوافق، بقدر توافقه مع القواعد الشرعية القانونية الدولية، باعتبارها قواعد آمرة واجبة الأداء في الحال وفي المستقبل، أي أنها قواعد ملزمة Jus Cogens.

 ولعل الفظائع التي ارتكبت خلال الحربين العالميتين هي التي دفعت لتطوير نظام الأمن الجماعي الدولي، القائم على تحريم القوة، ووقفت خلف هدف إقامة محاكم دولية خاصة لمحاكمة المرتكبين مثل نورنمبرغ وطوكيو، وظل هاجس البشرية في البحث عن العدالة لتأكيد انسجام القانون الدولي الانساني معها لانتاج ما نسمّيه “الشرعية الدولية” التي تستند الى أساسين هما: قواعد القانون الدولي من جهة وقواعد العدالة من جهة أخرى.

ولعل هذا هو الذي دفع الى انشاء محاكم خاصة أخرى في يوغسلافيا ورواندا وسيراليون، لكن الأهم من كل ذلك هو انشاء المحكمة الجنائية الدولية في روما عام 1998 ودخولها حيّز التنفيذ عام ،2002 ووضع نظامها ليلعب فيه مجلس الأمن بحكم وظيفته دوراً مهماً في توجيه التهمة الى المرتكبين والسعي لتطبيق مبادئ العدالة الدولية، ولكن للأسف تم تسييس أو توظيف هذه المسألة باسم “الشرعية الدولية” لتخدم القوى المتنفذة، بتفليت مرتكبين من أن تنالهم يد العدالة، كما هي حالة غزة، حين ظلّ المرتكبون “الاسرائيليون” بعيداً عن الادانة وتوجيه الاتهام، ناهيكم عن مقاضاتهم.

وإذا كان مجلس الأمن لديه صلاحيات استخدام القوة لإعادة الحق الى نصابه أو اتخاذ اجراءات وتدابير رادعة، فإنه من الطبيعي أن يكون له الحق في إنفاذ العدالة وردع من يقوم بالاخلال بالسلم والأمن الدوليين، طبقاً للقانون الدولي الذي ينبغي أن تكون الشرعية الدولية فيه منسجمة مع قواعده لا في تعارض معها.

باحث ومفكرعربي
صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 5/8/2009

1138
إرهاصات الدولة والمجتمع المدني في العراق
عبدالحسين شعبان
2009-08-03
يعاني المجتمع العراقي من نقص فادح في ثقافة الحوار والرأي الآخر والتسامح، وقد سادت لسنوات طويلة ثقافة الإقصاء والإلغاء والعزل، حيث جرت تصفية الهوامش القليلة لمؤسسات المجتمع المدني، التي تحولت إلى صوت واحد ورأي واحد، لا تقبل الجدل والحوار أحيانا، ناهيكم من الاختلاف والرأي الآخر، بل تعتبر ذلك بحكم الثقافة الشمولية السائدة من قبيل «الانشقاق» أو «الانحراف»، الذي يستحق «النبذ» وربما التجريم والعقاب؛ لكونه خروجا على «الإجماع»، حتى وإن كان مصطنعا وملفقا، ولكن كيف يمكن أن تستقيم الأشياء وتنبجس الحقيقة دون النظر إليها من وجوه مختلفة؟! إن الاختلاف والتنوع من طبيعة الأشياء، ولا يوجد مجتمع دون اختلاف أو معارضة.
يمكن القول إن طابع الحياة السياسية بعد قيام الدولة العراقية 1921 اتسم بالتقليدية، حيث مثلت خليطا من أسر الأعيان بشكل غالب والعشائر وبعض الجماعات الدينية، إلا أن النشاط السياسي والمدني المجتمعي ظهر على الساحة بشكل أكثر وضوحا فيما بعد، عبر النقابات والاتحادات والجمعيات والأحزاب، لكن التصنيف النمطي للإثنيات والأديان والمذاهب في العراق ظل يرى الصورة على نحو آخر، فالعراق حسب وجهة نظره منقسم إلى سنّة في وسط البلاد وغربها وشمالها الغربي وشيعة في جنوبها، أي ما تحت بغداد حتى البصرة، وكرد في شمالها وشمالها الشرقي.
ولعل هذا الوصف الذي شاع في السنوات العشرين الأخيرة، أريد له تكوين صورة العراق «الجديدة»، التي ترسم ملامح خارطته السياسية وتضاريسه المتنوعة، بل صورة العراقي الذي يؤلف الانتماء المذهبي والإثني الأساس في تحديد هويته، ويتقدم على شكل كيانه وإدارته، في نظرة تبسيطية سطحية لصورة العراق «الخارجية»!
يمكن القول إن الدولة العراقية -رغم بعض مظاهر التمييز وبخاصة في قوانين الجنسية وبعض الممارسات السلبية، التي تعكزت عليها الحكومات السابقة، والتي أضعفت من مبادئ المساواة والمواطنة الكاملة- لم تؤثر عموديا في المجتمع، الذي ظل متماسكا إلى حدود معينة، ولعل الصورة النمطية التي يراد رسمها للعراق ظلت حتى الآن باهتة الألوان، رغم وجود مصالح وامتيازات ترتبت لبعض الفئات. ومع وجود الخطوط والألوان، فإنها لا يمكن لها طمس حقيقة وجود مجتمع مدني حديث ومعاصر وميدان سياسي وحقل ثقافي ومهني واجتماعي نما منذ تأسيس الدولة العراقية، واتخذ شكلا موحدا شارك فيه أفراد من الانتماءات القومية والدينية والمذهبية والاتجاهات السياسية والفكرية والثقافية والدينية المختلفة كنسيج مجتمعي، ولم يكن ذلك على أساس الانحيازات والتعصبات الدينية أو المذهبية أو حتى الإثنية، بل كان أساسه التوجه السياسي والالتزام الحزبي والقناعة الفكرية والإيديولوجية والانتماء الطوعي لمنظمات ومؤسسات مدنية عابرة للطوائف والإثنيات.
هكذا انخرط عشرات بل مئات الآلاف ولعدة أجيال، في جمعيات واتحادات ونقابات العمال والمعلمين والمهندسين والأطباء والمحامين والصحافيين والحقوقيين والأدباء والفنانين وغيرهم. وكان التنافس سياسيا وبرنامجيا وفكريا، وليس على أساس الانقسام الديني أو الطائفي أو الإثني أو العشائري، حتى وإن كان صراع الحركة الكردية يتسم بالطابع القومي مع الحكومات المركزية، إلا أن انخراط الجميع في إطار المجتمع المدني والميدان السياسي والحقل الثقافي والفني والمهني، كان على أساس العراق الموحد والهوية الجامعة.
كان المجتمع المدني العراقي يتطلع إلى نمط جديد لمفهوم المواطنة والدولة العصرية والحداثة، وشهدت فترة ما بعد تأسيس الدولة سجالات حول قضايا كثيرة، منها السفور والحجاب وقضايا التحرر والاستعمار وغير ذلك. وقد برزت هذه القضايا إلى المقدمة بعد ثورة 14 يوليو 1958، التي أقامت النظام الجمهوري، لتنهي عهد الملكية والهيمنة البريطانية.
إذاً لم يكن العمل المشترك والهوية الوطنية والانتماءات الفكرية والسياسية ملفقا أو ظرفيا أو طارئا، بل كان تطورا طبيعيا ومجتمعيا لنسيج دولة بدأت خطواتها الأولى الجنينية نحو الحداثة بثوب مدني وبطور عصري، متخطية العصبيات الدينية والمذهبية والعشائرية، رغم عوامل الكبح التي ظلت تشدها إلى الخلف، لكن نكوص الدولة وضيق قاعدتها الاجتماعية وتراجع وظيفتها بحكم «أقلوي» شمولي وبهدر سافر لحقوق الإنسان، فضلا عن حروب لربع قرن من الزمان، وحصار دولي لنحو 13 عاما، تبعه احتلال وغياب للدولة ومؤسساتها ومرجعياتها، دفع الأمور باتجاه الهويات التجزيئية المصغرة.
يرفض البعض الحديث عن مجتمع عراقي موحد واهتمامات وانشغالات فكرية وسياسية وثقافية مشتركة، ويستدل على ذلك من مذكرة كتبها الملك فيصل الأول عام 1932، شكا فيها من غياب الوطنية العراقية وتوزع المجتمع العراقي إلى عصبيات وتجمعات بقوله: «إن البلاد العربية من جملة البلاد التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، ذلك هو الوحدة الفكرية والملية والدينية، فهي والحال هذه مبعثرة القوى، منقسمة على بعضها». ويضيف الملك فيصل الأول: «إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية». ويدعو لمعالجة هذه الحالة بقوة مادية وحكيمة معا ردحا من الزمان، حتى تزول هذه الفوارق وتتكون الوطنية الصادقة وتحل محل التعصب المذهبي والديني.. وإلا فالموقف خطر. لعل ما حذر منه الملك فيصل الأول قد حصل بفعل سياسات العزل الأقلوية وبفعل الاحتلال وحل مؤسسات الدولة العراقية، ولهذا فإن من الطبيعي العودة إلى المرجعيات التقليدية الدينية والمذهبية والعشائرية والجهوية وغيرها، وهو ما فعله المواطن بعد حل مؤسسات الدولة وبخاصة المؤسسة العسكرية، لكن هذا الرأي يغفل وربما بقصد عوامل الضعف في تأسيسها من حيث عدم اعترافها بحقوق الكرد أو عبر قوانين الجنسية التي ميزت بين المواطنين، أو بهشاشة التراكيب والبنى، التي أنشأتها والتي لم ترسخ التجربة الديمقراطية الوليدة، التي ضمنها دستور العام 1925.
وإذا كانت بعض القضايا الإيجابية قد حصلت في العهد الجمهوري بما فيه بعد العام 1968، من قبيل زيادة نسبة الإناث في التعليم وتوسيع مشاركتهن في سوق العمل والوظائف المهنية، وتقليص نفوذ العشائر والعلاقات التقليدية البطريركية والدينية، وتشريع قانون الأحوال الشخصية، إلا أنها منذ أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات وبخاصة بعد الحروب والحصار، شهدت تراجعات خطيرة، لاسيما اشتداد موجة القمع وتمركز السلطة بيد أقلية محدودة دون رقابة أو مساءلة.
وخلال الحرب العراقية-الإيرانية وما بعدها، وبخاصة في فترة الحصار، شهدت الدولة العراقية نكوصا عن طابعها «العلماني» المدني، حيث سعت الفئة الحاكمة إلى ركوب الموجة الإسلامية والعشائرية.
وكان البعض يتصور أن مجرد الإطاحة بالنظام السابق ستؤدي إلى العودة إلى الدولة المدنية «العلمانية» التعددية، غير أن هذا الحكم بعد مرور أكثر من ست سنوات من الاحتلال بدا طوباوياً، فالقوى التي خرجت إلى العلن هي المؤسسات التقليدية كالمؤسسة المذهبية والعشائرية، وهما اللتان ظلتا قائمتين حتى وإن كانتا ضعيفتين، ولهما نوع من الاستقلالية والموارد، فضلا عن عدم تدخلهما في السياسة إلا بحدود تقديم الولاء التقليدي للحكم، وقد نهضت هذه المؤسسات في محاولة لملء الفراغ. وقد حاولت قوى الاحتلال التعامل مع رؤساء العشائر والشيوخ المؤثرين ومع بعض المرجعيات المذهبية، وكان ذلك هو الأقرب لها من المجتمع المدني، الذي كان في حال شبه غياب.
لقد تعاملت بريطانيا بعد احتلالها للعراق 1914-1918 بالشيء ذاته، لاسيما بعد اضطرارها إلى اللجوء لصيغة الانتداب (أبريل 1920) بعد الحكم المباشر، وبخاصة بعد ثورة العشرين، وفقا لقواعد برسي كوكس-مس بيل، التي أنشئت على أساسها الدولة العراقية الحديثة، التي كانت تعاني من ضعف روابط المجتمع المدني، أي التنظيمات المدنية النامية عابرة الإثنيات والمذاهب والأديان، وذلك لأن الدولة لم تترسخ في الحواشي الخلفية من الإمبراطورية العثمانية، فقد وجدت بريطانيا مجتمعا هشا واستعدادا من جانب بعض القوى للتعاون مع المحتل، ورفضا من أوساط أخرى، فحاولت تقريب بعض رؤساء العشائر، وقدمت لهم بعض الامتيازات، ومنحتهم الأراضي والمناصب؛ ليشكلوا قاعدة داعمة لها.
وحاولت القوات الأميركية والبريطانية تكرار ما حصل في سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى عند احتلال العراق، وذلك خلال احتلاله العام 2003 وبعده، فإضافة إلى القوى التي تعاونت مع الاحتلال، سعت القوات المحتلة إلى توسيع قاعدة الحكم عبر القسمة الإثنية-الطائفية، التي عرفت باسم المحاصصة في مجلس الحكم الانتقالي، وفقا لصيغة بول بريمر-نيغروبونتي-زلماي خليل زاد، وفيما بعد رايان كروكر.
ولعل التبرير هو ذاته، أن الاحتلال وجد مجتمعا يعيش في عزلة بسبب الحصار الدولي وإنهاك سياسي وتمزق وتشظٍّ بسبب الاستبداد الطويل الأمد، وتوزع قبلي ومذهبي وإثني تقليدي، وفوضى اجتماعية وغموض وضبابية لأي رؤية مستقبلية!! بما فيها للقوى السياسية التي كانت في المنافي، بل إنها أسهمت في تكريس ما هو قائم وسائد.


• باحث ومفكر عربي


صحيفة العرب القطرية  العدد 7722 - الاثنين 3 أغسطس 2009 م - الموافق 12 شعبان 1430 هـ


1139
لائحة اتهام وحلم العدالة الممكن والمستحيل!
      

عبد الحسين شعبان



لم أشعر في يوم من الأيام أن مقاضاة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين أمر يسير، كما لم أشعر أنها أمر مستحيل، والحلم البعيد الذي ما نكاد نمسك به حتى يتبدد وينزلق، يبدو ممكنا حتى وإن ظهر بصورة المستحيل!
ولكي لا يهدأ العقل الأكاديمي من الركض وراء الحلم، أو يسترخي أو ييأس، فعليه أن يبقيه مستمرا، حتى وإن وصل إلى ضفافه أو اقترب منه، سواء كان ذلك حقيقة أو سرابا أو هكذا يتراءى للناظر والمراقب.
"
المريب في الأمر أن الحكومات العربية تبدو حتى الآن كأنها غير مكترثة بلائحة الاتهام التي يمكن توجيهها لقادة إسرائيل أو كأنها غير معنية بها، في حين أن بعض المنظمات الحقوقية الدولية مثل منظمة العفو الدولية وجهات ومؤسسات أوروبية تدعو لملاحقة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين قضائيا
"
ذلك ما يمنح العقل والحلم معا، معنى جديدا للحياة، فما بالك إذا كانت مسألة العدالة شاغله الذي لا يستكين بدون التوجه صوبه، وقد تكون مستحيلة وقد تكون ممكنة في آن، لكن ما يعطيها بعدا إنسانيا هو السعي لتحقيقها وإنصاف الضحايا وجبر الضرر ووضع حد للتجاوز عليها، عبر إقامة نظام يتسم بالعدل والإنسانية على نحو حقيقي وصادق، على المستويين الوطني والدولي.
وحسب الكاتب والروائي البرازيلي باولو كويلو صاحب رواية "الخيميائي" و"ساحرة بورتبيلو" هناك شيئان يبقيانك بعيدا عن حلمك: الأول أن تعتقد بأنه مستحيل وأن تدرك في الوقت نفسه أنه ممكن. وأما الثاني فهو إذا شعرت أنك بدون حلم فستفقد معنى حياتك. وهكذا فإن إبقاء الحلم مشرئبا يعني تحالفك مع المستحيل، وهو تحالف ممكن طالما بقي الحلم واعدا وهدفا.
وإذا كانت مشاعر العالم قد اهتزت عند مشاهدة المجازر وأشلاء الأطفال في الحرب على غزة، فإن الكثير من البشر الأسوياء وربما عشرات الملايين تصوروا أن بالإمكان محاكمة قادة الصهيونية المتسببين في ارتكاب تلك الجرائم أمام محكمة جنائية دولية، وذلك تشبثاً بمبادئ العدالة والإنصاف، بسبب ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة ضد الشعب العربي الفلسطيني.
ولكن ما إن خبت الحرب حتى خمد معها الكثير من الأصوات، ولعل البعض برر ذلك بالتعويل على إعادة إعمار غزة وكأنه الهدف، في حين اندفع البعض باتجاه مطالب فتح المعابر وإرسال البواخر، وهي وإن كانت ضرورية وبديهية للحياة الإنسانية فإنها ليست هي الهدف، حتى وإن كانت النوايا حسنة، خصوصاً تحت ضغط الحاجة الماسة لسكان أبرياء يكابدون صنوف المعاناة الإنسانية.
وبالمقابل فإن السؤال الذي ظل ملتبساً ومبهماً دون إجابات وظل يشغلني منذ ربع قرن، وحاولت الإجابة عليه في كتاب أصدرته بعنوان "سيناريو محكمة القدس الدولية العليا" هو: هل سيفلت الجناة من العقاب على ما فعلوه في اجتياح لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت عام 1982؟ ولكن من سيجلبهم إلى قفص الاتهام؟ ومن هي الجهة التي ستحاكمهم؟ ومتى سيحصل ذلك؟
هذا السؤال الكبير عدت وطرحته بعد سنوات في كتب وأبحاث ودراسات، وإن كان جوابي في كل مرّة: لا بدّ من إبقاء الحلم مستمراً.
اليوم، نفس السؤال الكبير يواجهني وجمهرة الفقهاء القانونيين الدوليين، كيف ومتى وأين سيمثل الجناة أمام القضاء، لاسيما في ظل العقبات والتحديات الكثيرة؟ هل يعقل أن ترفع دعاوى ضد قادة إسرائيل؟ ومن سيقدم على ذلك عربيا؟ ويمكن صياغة السؤال كالتالي: من سيتجرأ على اتخاذ مثل هذا الموقف، خصوصاً في ظل الدعم الأميركي لإسرائيل؟
وإذا كانت مؤسسات المجتمع المدني هي من أقدم على المبادرة، وربما منذ ملاحقة شارون أمام المحاكم البلجيكية، ولكن السؤال يثور مجدداً: كيف لمؤسسات المجتمع المدني لو حاولت وسعت ووجدت بعض الثغرات أن تغطي النفقات، فالأمر يحتاج إلى عمل طويل ودعم مادي مستمر؟
وكيف السبيل إلى إقناع المدعي العام مورينو أوكامبو الذي وجه مذكرة توقيف ضد الرئيس السوداني البشير، بأن هناك جرائم ارتكبت في غزة؟
والمريب في الأمر أن الحكومات العربية تبدو حتى الآن كأنها غير مكترثة بلائحة الاتهام التي يمكن توجيهها لقادة إسرائيل أو المرتكبين الإسرائيليين، أو حتى كأنها غير معنية، في حين أن بعض المنظمات الحقوقية الدولية مثل منظمة العفو الدولية وجهات ومؤسسات أوروبية تدعو لملاحقة مرتكبي الجرائم الإسرائيليين قضائيا.
"
مع أن الجهود ما تزال في إطار تنظيم لائحة الاتهام، فإنها قد لا تصل إلى هدفها بحكم عدم وجود دعم مادي لوجستي، خاصة أن العمل التطوعي بالجهد والفكر لا يكفي، بل هناك حاجة ماسة لتغطية نفقات ضرورية
"
وكان المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة دودو ديين قد دعا إلى فتح تحقيق خاص حول ارتكاب إسرائيل لجرائم الحرب، وما زال هناك من يضغط على الدول والحكومات ومؤسسات المجتمع المدني بعدم حضور مؤتمر دوربان (مؤتمر جنيف في أبريل/نيسان 2009) حول العنصرية، حيث أدان المؤتمر الذي انعقد في ديربن عام 2001 الممارسات الإسرائيلية ودمغها بالعنصرية، وهو ما يذكر بانفضاض مؤتمر جنيف عام 1999 بمناسبة الذكرى الخمسين لإبرام اتفاقيات جنيف لعام 1949 بعد 10 دقائق من انعقاده بضغط من واشنطن وتل أبيب، وقد كانت تلك فضيحة دولية وسابقة قانونية ودبلوماسية.
وإذا كان الملف الأكبر اليوم هو الدعوى حول الجرائم بحق سكان غزة، حيث تم اتهام نحو 100 شخصية سياسية وعسكرية إسرائيلية وأميركية وبريطانية كلها بصورة مشتركة وفردية، بارتكاب جرائم حرب مباشرة أو بتواطؤ متعمد، فإن الأمر يتطلب جهوداً مضنية للوصول إلى تقديم لائحة اتهام بحق المتهمين.
ومن أهم هذه الشخصيات المتهمة إيهود أولمرت وإيهود باراك وتسيبي ليفني وغابي أشكنازي ويوفال ديسكن، ونحو 70 ضابطاً عسكرياً بمن فيهم بعض قادة الوحدات البرية والجوية والبحرية والاستخبارات وغيرها.
ومن الولايات المتحدة فقد كان اسم الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ووزير الدفاع روبرت غيتس ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. ومن بريطانيا رئيس الوزراء غوردون براون، ووزير الخارجية ديفد ميليباند، ووزير الدفاع جون هيوتن.
وقد شملت الدعوى بريطانيا لأنها موقعة على نظام محكمة روما الجنائية الدولية، وهي داعمة لإسرائيل سياسياً وعسكرياً، وهناك أجزاء من طائرات الأباتشي تصنع لديها، مثلما هي قاذفات وقنابل أف-15 وأف-16، وهذه كلها استخدمت في الحرب على غزة وساهمت في قتل المدنيين وتدمير المنازل والمدارس والمستشفيات والمعابد والكنائس وغيرها.
ما الذي يمكن أن تتضمنه لائحة الدعوى؟ يمكن أن تتضمن شهادات للعديد من الضحايا لاسيما الجرحى، كما تشمل تفاصيل الدمار وأنواع الأسلحة المحرمة دوليا التي تم استخدامها مثل الفوسفور الأبيض والقنابل الإبرية المخترقة للملاجئ التي يقول عنها بعض الخبراء إنها تحتوي على اليورانيوم المنضب لزيادة الاختراق، إضافة إلى قنابل "الدايم" التي تحتوي على مادة التانغستن التي تسبب شظاياها المجهرية تقطيع الضحايا إلى أشلاء.
وقد قدمت منظمة التحالف الدولي لمنع الإفلات من العقاب (حقوق) ملفا مفصلاً لتقطع شوطا لا بأس به في حيثيات الدعوى، الأمر الذي دفع المحكمة للتدقيق في الملف المعروض أمامها، لاسيما في جوانبه المهنية والقانونية، وفي التهم المرفوعة والأدلة والأسانيد المتوافرة.
ولكي يقتنع المدعي العام أوكامبو بالأدلة وبوجود جرائم حرب لجأ بعض المحامين إلى رفع دعاوى أمام المحاكم الوطنية الأوروبية في حال تمتع أحد الضباط الإسرائيليين المتهمين بجنسية أخرى أوروبية مثلاً، وهو ما قامت به المحامية مي الخنساء التي ترأس "منظمة التحالف" في كل من إسبانيا وبلجيكا.
ومع أن هذه الجهود ما تزال في إطار تنظيم لائحة الاتهام، فإنها قد لا تصل إلى هدفها بحكم عدم وجود دعم مادي لوجستي له، وهو أمر في غاية الصعوبة والتعقيد في أوروبا، إذ لا يكفي العمل التطوعي بالجهد والفكر، بل هناك حاجة ماسة لتغطية نفقات ضرورية ليس بالإمكانات المعنوية والمعرفية فحسب، بل بالامكانات المادية، إذ لا يكفي قيام إسرائيل بالانتقام الجماعي والقتل العشوائي حسب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، لتوجيه لائحة اتهام وملاحقة مرتكبي الجرائم، حتى وإن كانت قوة احتلال وعليها احترام قواعد القانون الدولي الإنساني.
لكن الأمر يتعلق من جهة أخرى بموازين القوى وطريقة تحريك الدعوى وتوجيه لائحة الاتهام وبالتالي السير بالقضية حتى نهايتها لتحقيق العدالة، الأمر الذي يقتضي سلسلة من الإجراءات المعقدة وتوفير المستلزمات والإمكانات الضرورية.
وحسب الإحصاءات التي ترشحت من وسائل إعلام نزيهة فإن عدد الضحايا بلغ أكثر من 1300 شهيد و5000 جريح بمن فيهم نحو 1600 معوق، إضافة إلى دمار شامل أو جزئي لمنازل نحو 21 ألف شخص.
وفي تلك الحرب غير العادلة وغير الإنسانية أسقطت على غزة قرابة 1.5 مليون طن من الذخائر والصواريخ، وتعرض 1.5 مليون إنسان للترويع والقصف.
وقد نقل أحد القياديين الإسرائيليين الذين تعرضوا لوخز الضمير مؤخرا فخاطبوا الجنود بالقول "أناشد جنود الجيش وضباطه أن يمتنعوا عن تأدية الخدمة العسكرية لأن جيش إسرائيل تحول إلى منظمة إرهابية..".
ومثل هذا الكلام لا يعود إلى المقاومة أو تنظيم حماس، بل إلى طيار سابق رفض الخدمة واسمه يوناثان شابيرا (انظر: البني، عبد الله نزيه- ملاحقة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية) (جريدة الأخبار اللبنانية، العدد 776، 21 مارس/آذار 2009).
"
بغض النظر عن قبول ورفض لائحة الاتهام من جانب الجهات القضائية الدولية والوطنية، فإن ما يجب القيام به هو التقدم بأدلة وبراهين وتدعيمها باستمرار إلى المحاكم المختصة في الدول التي يقبل قضاؤها الوطني مثل هذه الدعوى
"
وإذا كانت المعطيات الجديدة بعد الحرب على غزة كفيلة بتوجيه لائحة اتهام ضد المتهمين بارتكاب جرائم من القادة الإسرائيليين، فإن السبيل لتحقيق ذلك واختيار الآليات والوسائل أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، ولعل ذلك ما جعل البحث يستهدف تسليط الضوء عليه، وهو سبب جديد أيضاًً في تجديد رؤية الباحث وتنشيط ذاكرة الرأي العام العربي، إلى ضرورة إعداد سيناريو للمحاكمة ومتابعة تنفيذه.
وهذا ما دعا إليه الكاتب منذ ربع قرن، خصوصاً بصدور كتابه "سيناريو محكمة القدس الدولية العليا"، ولاسيما بتوافر إرادة سياسية أولا والعمل على وضع تصور للعقل الأكاديمي والحقوقي والقانوني موضع التطبيق ثانياً، وثالثاً اقتفاء أثر الضمير والوجدان في تحقيق مبادئ العدالة.
أما الهدف الآخر للبحث فيتعلق بالجانب الإستراتيجي والسياسي، خاصة أن العرب جربوا معظم الوسائل كل على حدة أحيانا، من الوسائل العسكرية إلى السياسية إلى الإعلامية، لكن الوسيلة الأنجع هي جمع هذه الوسائل كلها ومعها الوسيلة القانونية والدبلوماسية استعداداً لخوض معركة متعددة الجوانب والاتجاهات والأركان من الكفاح المسلح إلى التفاوض السياسي، ومن الحلول السلمية والسياسية إلى الحلول العسكرية والعنفية، دون إهمال جوانب المعركة القانونية والدبلوماسية والإعلامية والنفسية على الصعيدين الرسمي والمدني.
وإن كانت المحاكمة وحدها لا تنجز استعادة الحق الفلسطيني، إنْ لم ترافقها تغييرات في موازين القوى على المستوى العالمي، لاسيما حصول استقطاب جديد من جهة، واستعداد الداخل الفلسطيني لمواصلة كفاحه بالوسائل جميعها في إطار وحدة وطنية وسقف نضالي واضح من جهة أخرى.. عند ذلك ستكون وسيلة المحكمة إحدى الرافعات المهمة التي تصيب الهدف وتكشف المستور، لتواصل الوسائل الأخرى دورها وفعلها على الصعيد الدولي.
وقد نجحت منظمة التحرير الفلسطينية في سبعينيات القرن الماضي في الحصول على اعترافات مهمة بالحقوق الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرف، والتي جاءت تتويجاً لعمل طويل ومتعدد الجوانب، فقد تم قبولها في الأمم المتحدة كعضو مراقب، إضافة إلى تأكيد الشرعية الدولية في القرارين 242 و338 على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي العربية المحتلة بما فيها القرارات الخاصة بعدم الاعتراف بضم القدس عام 1980 وعدم الاعتراف بضم الجولان عام 1981، فضلاً عن دمغ الصهيونية بالعنصرية بالقرار 3379 الصادر يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني 1975 رغم التراجع عنه عام 1991.
ولو تمت اليوم الاستفادة من خبرة السبعينيات وفي إطار الظروف والتحالفات الجديدة، يمكن أن يسهم ذلك في دعم ملاحقة الجناة والمرتكبين ومن ثم تحقيق حلم العدالة الذي سيظل هاجساً مستمرا ما استمر اغتصاب الحق.
وبغض النظر عن قبول ورفض لائحة الاتهام من جانب الجهات القضائية الدولية والوطنية، فإن ما يجب القيام به هو التقدم بأدلة وبراهين وتدعيمها باستمرار إلى المحاكم المختصة في الدول التي يقبل قضاؤها الوطني مثل هذه الدعوى لارتكاب جرائم الحرب، وذلك طبقاً للمادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 التي تقضي على الدول الموقعة بملاحقة مجرمي الحرب أياً كانوا.
وسيكون مثل هذا الاتهام بحد ذاته عقبة أمام تحرك أي مسؤول إسرائيلي في دول الاتحاد الأوروبي لوجود معاهدة تبادل المجرمين.
   


1140
العودة الثانية للمجتمع المدني
   

عبدالحسين شعبان
 
دخلت فكرة المجتمع المدني إلى الفلسفة السياسية كتعبير عن وجود علاقة بين المجتمع والسياسة، وذلك من خلال الصراع بين فكرة “الحق الطبيعي” وبعدها فكرة “العقد الاجتماعي”. وفي اللحظة التي اعتبرت الدولة قائمة على العقد، وأن المجتمع سابق عليها وقادر على تنظيم نفسه بمعزل عنها، بل هو يشكل شرعيتها، كان نهاية لنظرية “الملكية المطلقة”.

ثم تعمّق المفهوم ليتخذ بُعداً جديداً في اطار نمو المجتمع الرأسمالي وتطور مؤسساته، انطلاقاً من امكان أن تلعب مؤسسات المجتمع المدني التي ينشئها الافراد، إعادة صياغة المجتمع، أي قيام علاقة توسطية لتنظيمات المجتمع المدني غير مباشرة بينها وبين الدولة.

أمّا العودة الجديدة لفكرة المجتمع المدني فقد كانت بعد تمرده ضد الدولة الاشتراكية، وبخاصة “حركة تضامن” العمالية في بولونيا (عمال ومثقفون) في نهاية السبعينات، ثم أحداث  أوروبا الشرقية وانهيار جدار برلين ،1989 أي تمرد المجتمع ضد وحدانية الحزب والدولة.

يمكن القول انه ساد الفكر الاشتراكي تذبذب بشأن مفهوم المجتمع المدني، بحيث اعتبر قائماً ما دامت الدولة قائمة. ولمّا كان المشروع الماركسي يهدف إلى ذوبان الدولة في المجتمع، فإن الأمر سيؤدي إلى اندثار المجتمع المدني التوأم السياسي للدولة. ولكن الأمر التطبيقي أدى إلى دمج وإلحاق المجتمع المدني بالدولة الاشتراكية الشرق أوروبية والآسيوية، ذات الطبعة الاستبدادية وفرعها دولة التحرر الوطني.

جعل الفكر الليبرالي ثلاثية: الدولة، المواطن والسوق متلازمة، فالمواطن والسوق حيّز عام وليس الدولة، وكل ما هو ليس حيّزاً عاماً هو حيّز خاص. والمجتمع المدني خارج الدولة قائم على اقتصاد السوق، ثم أصبح يرتبط بتوسيع حقوق المواطنة خارج الدولة.

إذن، لا يمكن تصوّر دولة من دون مجتمع، كما لا يمكن تصور مجتمع من دون دولة، أي قوانين وانظمة ومؤسسات لحفظ النظام والأمن وحماية أرواح وممتلكات المواطنين، ناهيكم عما أصبحنا نتحدث عنه عن دولة حماية إلى دولة رعاية إلى دولة رفاه.

من خصائص المجتمع المدني أنه مجتمع متعدد وتعددي، وهو يعني التنوع والاختلاف، بل والصراع أحياناً، رغم قيامه على تضامنات جزئية، ولعل ذلك أحد مصادر نمو السياسة ومبرر وجودها. والتعدد والاختلاف هما مصدر حركة واغناء وتطوير، وعكسه هو السكون والثبات وعدم التطور.

يقصر البعض تعريف المجتمع المدني على التنظيمات والتجمّعات المتنوعة للفاعليات والانشطة المهنية، مثل: (النقابات، المؤسسات الثقافية، الجمعيات المهنية، منظمات حقوق الانسان، المرأة، الطفل، البيئة، الصحة...الخ)، والبعض الآخر يمدّه ليصل إلى الاحزاب السياسية وتنظيماتها (مدرسة فرانكفورت)، في حين أن بعضاً آخر يعتبر هذه الاحزاب تستهدف الوصول إلى السلطة، وتالياً كيف ستكون أحزاباً حاكمة ضمن إطار المجتمع المدني؟

ولهذا فهو يستبعدها، لأن وظيفة المجتمع المدني رقابية، رصدية، اقتراحية، اجتماعية، وليست الوصول إلى السلطة في حين يحاول البعض الآخر التوفيق بين قبول ورفض الاحزاب، فهو يستبعدها من دائرة المجتمع المدني، فيما إذا وصلت إلى السلطة، ويقبلها حين تكون خارج السلطة. ولعل في ذلك عودة للفكرة التي تحدث عنها فلاسفة القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، بخصوص التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، لاسيما جون لوك وجان جاك روسو، وهيغل وماركس، وفي ما بعد غرامشي في فترة متأخرة.

إن سبب التمييز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، هو أن الاخير يسعى للهيمنة على المجتمع المدني سواء لعناصره الفردية أم الجماعية، محاولاً التأثير على واقعه ومستقبله أكانت سلطات حاكمة أم احزاباً معارضة، ولهذا السبب فإن غالبية دعاة المجتمع المدني لا يعتبرون المفهوم يشمل الأحزاب السياسية، لأنهم معنّيون بالأهالي وبتعديل التوازن الاجتماعي بين الطبقات والفئات الاجتماعية، ومن خلال التراكم السلمي التدرجي، في حين أن الأحزاب معنية بالسلطة.

ومثلما يميّز البعض بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، يميّز أيضاً بين المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، فالأخير مصطلح سبق انتشار مصطلح المجتمع المدني، وهو حسب المطران غريغور حداد “كان ولا يزال يشتمل على الأسر والعائلات والعشائر والقبائل والأعراف، التي تستند اليها أو تنبع منها، وكان غالباً ما تستوحيها في المذاهب الدينية وعاداتها.. أما المجتمع المدني فيشتمل على المؤسسات الطوعية التي تعبّر عن إرادة الناس ومصالحهم وهي مؤسسات غير وراثية وغير ربحية ومدنية وديمقراطية والانتساب اليها اختيارياً”.

المجتمع المدني، إذاً، هو تعبير طوعي عن إرادة الناس الحرة (قطاعات متعددة)، أما المجتمع الاهلي فهو عفوي وطبيعي وتلقائي بحكم الانتماء العائلي أو العشائري أو القبلي أو الجهوي أو الديني أو الطائفي أو غير ذلك.

ومثلما هناك فروق بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي والمجتمع الاهلي، فهناك فروق بينه وبين المجتمع الديني، فالأول هو جهد طوعي في الفضاء العام من جانب مجموعة متفاعلة لديها مصالح مشتركة، أما المجتمع الديني ففيه تراتبية سلطوية أبعد من حدود الاختيار أحياناً.

* باحث ومفكر عربي

1141
في شجون القضاء الوطني والدولي
عبدالحسين شعبان
2009-07-20
طرحت قضية دارفور والانتهاكات الجسيمة التي تعرّض لها السكان الأبرياء العزّل مسألة ملاحقة المرتكبين، لاسيَّما بشأن توصيف الجرائم، موضوع القانون الدولي الإنساني والعلاقة بين القضاء الوطني والقضاء الدولي على بساط البحث، خصوصاً بعد دخول نظام محكمة روما الأساس «المحكمة الجنائية الدولية» حيّز التنفيذ العام 2002، وما تركته من ردود فعل متباينة، لاسيَّما للنظر إلى وسائل وآليات تحقيق العدالة الدولية.
فما الذي يستهدف القانون الدولي الإنساني؟ وما السبيل لتطبيقه؟ سؤال طالما يُطرح حين يواجه المجتمع الدولي انتهاكات سافرة وصارخة لحقوق الإنسان، لاسيَّما خلال النزاعات الدولية المسلحة، وإذا افترضنا النقص أو القصور في القوانين الوطنية، فإن الرغبة انصبّت على استكمال ذلك عبر القانون الدولي الإنساني، وبشكل خاص عبر القضاء الدولي.
والجواب عن السؤال يتطلب البحث في دائرة ونطاق اختصاصات القانون الدولي الإنساني، فهو يستهدف أولاً وقبل كل شيء حماية الضحايا، الأمر الذي تكرّس دولياً بإقرار اتفاقيات جنيف في 12 أغسطس 1949، أي بعد 4 سنوات من التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في 25 يونيو 1945، وقد استكملت اتفاقيات جنيف عام 1977 بإبرام بروتوكولين إضافيين ملحقين بها، وهما البروتوكول الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة والبروتوكول الثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية غير المسلحة.
جدير بالذكر أن اتفاقيات جنيف وملحقيها تعتبر محور القانون الدولي الإنساني وبخاصة إزاء حماية الضحايا، ولربما هذا هو الذي أكسبها الصفة الرمزية والاعتبارية؛ حيث صادقت عليها جميع دول العالم البالغة 194 دولة، وسيحتفل العالم بالذكرى الـ60 للتوقيع عليها خلال الأيام القريبة المقبلة، علماً بأن إسرائيل كانت قد عارضت بشدّة عقد اجتماع للأمم المتحدة «المقر الأوروبي» في جنيف بمناسبة الذكرى الـ50 لإبرامها وتذرَّعت بأن هذه الاتفاقيات لا تنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ناهيكم عمَّا ذهب إليه البروتوكول الأول من منح الحق في مقاومة المحتل، واعتبار الاستيطان جريمة ضد السلم والأمن الدوليين، وهو ما ذهبت إليه اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية.
ولم يكن للحكومة السويسرية (المودعة لديها الوثائق) إلا الاعتذار من الضيوف المدعوين بمن فيهم بعض خبراء المجتمع المدني، بعد 10 دقائق من إعلان افتتاح الاجتماع الاحتفالي، ولم يكن ذلك بالطبع بمعزل عن ضغوط الولايات المتحدة ومساعيها لإلغاء الاجتماع، الذي كان كاتب السطور يحضره بصفته الحقوقية، ولعمري تلك إحدى السوابق الدبلوماسية الدولية الخطيرة التي لم يكن للأمم المتحدة عهدٌ بها؛ إذ لم يصادف أن تدعو إلى اجتماع وتحضّر له بضعة أشهر، ثم تقوم بإلغائه بعد وصول المدعوين وبعد إعلان افتتاحه بـ10 دقائق.
أما العنصر الثاني فيتعلق بقانون الحرب، أي تنظيم وسائل وأساليب القتال وبالتالي حقوق وواجبات الدول في هذا الميدان، في حين ذهب العنصر الثالث للاختصاص بالجزاء والإجراءات والوسائل التي يمكن اعتمادها لمساءلة ومقاضاة المرتكبين، لاسيَّما للانتهاكات الجسيمة، وهو ما ذهبت إليه اتفاقيات جنيف حين تحدثت عن الضحايا والمعاهدات والاتفاقيات الدولية عن سير العمليات الحربية، إضافة إلى القواعد القانونية التي يمكن بواسطتها إنزال الجزاء بالمرتكبين. وكان ذلك موضوع بحث معمق من جانب الخبير الدولي في اللجنة الدولية للصليب الدكتور عامر الزمالي، في ندوة نظمها اتحاد الحقوقيين العرب في صنعاء بالتعاون مع اللجنة الدولية، وحضرها خبراء عرب ودوليون.
وقد حددت اتفاقيات جنيف نوعين من الانتهاكات: الأولى حين تركتها من دون وصف، وجاءت على نحو عمومي وغير محدَّد. أما النوع الثاني فهو يتعلق بالانتهاكات الموصوفة تحديداً، والتي تستوجب منعها ووضع حدٍّ لها وتجريم مرتكبيها وفقاً للمعايير القانونية والقضائية الدولية والوطنية. وقد حددت اتفاقيات جنيف هذه الانتهاكات حصرياً وذلك بإعادة تكرار مادة مشتركة بالاتفاقيات الأربع (المادة 50 بالاتفاقية الأولى والمادة 51 بالاتفاقية الثانية، والمادة 130 بالاتفاقية الثالثة، والمادة 147 بالاتفاقية الرابعة).
وإذا كانت الانتهاكات الجسيمة تتعلق بالجرائم ضد السلم والأمن الدوليين وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مثل جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم العدوان، فإن الانتهاكات غير الجسيمة أو غير الموصوفة، تتعلق ببعض التصرفات التي تنال من حقوق أسرى الحرب، ورغم أن هذه الانتهاكات مُدانة فإن حجيتها القانونية لا ترتقي إلى الانتهاكات الجسيمة الموصوفة.
وقد كان أمام المشرّع الدولي الذي وضع اتفاقيات جنيف، كخلفية فقهية النظامين الأساسيين لمحكمتي نورنبيرغ وطوكيو، وبعض أعمال المؤتمر الدبلوماسي للجنة الدولية للقانون الدولي، والأمر يتعلق بتحديد وتوصيف الجرائم، فضلاً عن البحث في آليات الجزاء، وقد حددت اتفاقيات جنيف قائمة بالأعمال التي تعتبر جرائم حرب وهو ما ذهب لتوسيعه وتعميقه في البروتوكول الأول الملحق بها الخاص بالنزاعات الدولية المسلحة، وهو ما حددته المادة 85 بوصف الانتهاكات الجسيمة، وقد استكملت المادة 11 من البروتوكول الأول قائمة إضافية لكي تندرج ضمن الانتهاكات الجسيمة، وقد انعقدت محكمتا يوغسلافيا ورواندا 1993 و1994 وفقاً لنظام خاص وقرار من مجلس الأمن الدولي بملاحقة المرتكبين للانتهاكات الجسيمة وتقديمهم للمحاكمة، علماً بأن المحكمتين ستنتهيان خلال العامين المقبلين.
والفرق بين الانتهاكات الجسيمة وغير الجسيمة كما ذهب إليه البروتوكول الثاني الخاص بالنزاعات المسلحة غير الدولية هو أن الانتهاكات الجسيمة تتطلب إنزال العقاب بالمرتكبين، في حين أن الانتهاكات غير الجسيمة تذهب إلى تأكيد التحريم دون التجريم. وإذا كان الوضع الدولي، لاسيَّما فيما يتعلق بالجانب التعاقدي قد طرأ عليه تحسن نسبي منذ 60 عاماً، فإن هوة سحيقة لا تزال تفصل القانون عن الواقع، والواقع عن العدالة، الأمر الذي يتطلب تكييف القوانين الداخلية «الوطنية» لكي تنسجم مع القوانين الدولية، وسن تشريعات بهذا الخصوص، لاسيَّما الالتزام بمساءلة المرتكبين بالملاحقة والتسليم، فضلاً عن التعاون مع القضاء الدولي في حال عدم تمكّن القضاء الوطني من متابعة إجراء إنفاذ العدالة.

1142
المنبر السياسي / جدار برلين!
« في: 17:07 28/07/2009  »
جدار برلين!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

كان الزعيم الألماني الشرقي إريك هونيكر لا يتصور أن جدار برلين سينهدم في يوم قريب، فقد تصور بقاءه 100 عام كما قال، بل إن 'الألمان الديمقراطيين' أسسوا دستورهم الجديد في السبعينيات على أن هناك أمتين ألمانيتين تتسمان بنمط تطور مختلف ومتفاوت اجتماعياً- اقتصادياً، فضلا عن تباين شديد في نظامهما السياسي المتعارض الذي ظل يفصل بينهما على مدار 40 عاماً خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وروّج بعض المنظرين القانونيين والباحثين الاجتماعيين على نحو احتفالي بوجود نظامين ومجتمعين وقواعد قيمية وسلوكية مختلفة بين ألمانيا الغربية وألمانيا الديمقراطية، ولذلك اعتبروا ثمة متغيّر ما حدث، وهو ما تم تكريسه دستورياً يقضي بوجود 'أمتين' حتى إن كانت لغتهما مشتركة وتاريخهما مشتركا، وإن تم فصلهما بدولتين مختلفتين!
لم يدر بخلد هونيكر في عام 1989، وهو يستعرض في عيد العمال العالمي (أول مايو) كتلاً بشرية متراصة، كلها تهتف له والنصر لحزبه وللاشتراكية الظافرة، في زهو لقدرات عسكرية ونجاحات اجتماعية وإمكانات إدارية وتنظيمية، وبتباهٍ بحلف مع الاتحاد السوفييتي، أن المجتمع الألماني الديمقراطي كان يخفي في الوقت نفسه هشاشة تراكيب اجتماعية وقيمية، ونقصاً فادحاً في الحريات، وتعطّلاً لعملية التنمية وانحسارا للثقة بين الحاكم وجمهوره، ولعل الجدار الذي قسَّم برلين أو ألمانيا، بل أوروبا ظلّ شاخصاً، جامداً دون حراك، رغم محاولات عبوره والهروب من هذا الجانب إلى ذلك، الأمر الذي أصبح ثمناً للحرية المفقودة، شملت نحو 13500 حالة، لم ينجح منها أكثر من 300 عملية هروب.
كنت كلما أعبر من برلين الشرقية متجهاً إلى برلين الغربية، من محطة فريدريش راسه أو ساحة ألكسندر بلاس، أستعيد وأستذكر ثمن الهروب، عندما تضيق فسح الحرية، وقد بنى الألمان الغربيون على الجانب الآخر، 'متحفاً' يعرض بالصور والشواهد والوسائل هروب ألمان شرقيين إلى ألمانيا الغربية معظمهم يلقى حتفه بجدار مكهرب، أو تكتشف سيارته، أو يطلق عليه الرصاص، أو يلقى القبض عليه من جراء وشاية أو غيرها. وكنت أعرف قصصاً استمعنا إليها أنا وصديقة ألمانية وأخرى تشيكية والراحل أبو كاطع (الروائي شمران الياسري) في برلين في جلسة ثقة واطمئنان (في أواسط السبعينيات).
لقد انهار الجدار قبل انهياره الفعلي في ضمائر وعقول وأفئدة الناس، وهذا ديدن كل الأنظمة الاستبدادية، ابتدأ الأمر في بولونيا بنجاح نقابة 'تضامن' بقيادة ليخ فاليسيا، ثم امتدت الموجة إلى المجر ووصلت إلى برلين، وفي طريقها كانت براغ تستعيد ربيعها المفقود. وقد احتفظت بذاكرتي بمشاعر متناقضة، يوم صادف وجودي في براغ، اندلاع الثورة المخملية، حين اصطفت الجماهير وكأنها في عرس تريد الحرية والتعددية والحوار، وهو الأمر الذي تطوّر إلى أن طوى النظام الاشتراكي صفحته المؤلمة، بعد وصول الأمور إلى طريق مسدود واختناقات لم يكن من السهل تجاوزها.
ورغم أن الاشتراكية المطبقة على جميع أخطائها ونواقصها، وأهمها تعارضها مع جوهرها ومحتوها الإنساني، وسلوكها سبيل الاستبداد والانفراد بالحكم، فإنها بقياسات تلك الأيام حققت بعض النجاحات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، التي لايزال الكثير من الناس يفتقدونها، لاسيما في مجالات التعليم والصحة والعمل وغيرها، لكن غياب الحريات وسيادة نمط استبدادي شمولي 'توتاليتاري' وهيمنة أقلية على الحكم ووصول التنمية إلى طريق مسدود، باستنفاذ أغراضها دفعت الأوضاع إلى تلك النتيجة التي لم يكن هناك فرار منها، وهي أقرب إلى استحقاق حين أصبحت 'الايديولوجيا' أقرب إلى الكابوس وأحد أسباب الاختناق، لاسيما بتطبيقاتها الاقتصادية البيروقراطية والسياسية التسلطية، خصوصاً في منافسات وضغوط إمبريالية عالية، في موضوع التسلح وحرب النجوم وتخصيص أكثر من تريليوني دولار أميركي لها، وميزانيات ضخمة للعلوم والأغراض العسكرية، الأمر الذي لم يكن ممكناً مجاراته في ظروف سياسية واقتصادية معقدة، وسباق تسلح لم يستطع الاتحاد السوفييتي الفوز فيه، رغم محاولاته المتأخرة للانفتاح وما سمي بـ'البريسترويكا' و'الغلاسنوست' (إعادة البناء والشفافية)، ولكن بعد فوات الأوان.
أتذكر أيضاً في عام 1989 أن المجر قررت في خطوة غير مسبوقة دعوة الصحافيين والإعلاميين إلى حدث مهم، لم يكن أحد يتصور ماذا ستقدم عليه، وإذا بها وتحت ضوء الكاميرات تلتقط الصور لإلغاء السياج الكهربائي الذي يفصلها عن النمسا، وأصبح الطريق سالكاً بين بودابست وفيينا، وهو الذي شجّع مئات الأشخاص من المجر والتشيك والألمان الشرقيين على العبور إلى النمسا يومياً، مثلما فعلوا أيام ربيع براغ الأول عام 1968.
لقد كان إلغاء السياج المكهرب أول خطوة كبرى لتعويم النظام الاشتراكي البيروقراطي، وطوال أربعة عقود أو ما يزيد على ذلك كانت القبضة الحديدية مستمرة وخانقة إزاء اختراقات الحدود، واضعة شعوباً 'خلف الستار الحديدي' الذي ظلّ قلعة كبرى لا يمكن اقتحامها من الخارج على حد تعبير سارتر، لكنها كانت هشة وخاوية من الداخل، وهو الأمر الذي شهدناه بانهيار السياج المكهرب وتظاهرات العمال في بولونيا واحتجاج التشيك وفيما بعد انهيار جدار برلين.
وخلال بضعة أشهر شهدت برلين وألمانيا الديمقراطية هروباً شبه جماعي إلى النمسا عبر المجر، حيث بلغت أعداد الفارين أكثر من 50 ألفاً، وهو ما أطلقت عليه مجلة 'نيوزويك' الأميركية في حينها 'الهروب الكبير'، ولعل هذا كان أحد أسباب انهيار 'جدار برلين' وتمهيداً له.
إن مناسبة هذا الحديث هو مرور 20 عاماً على ذكرى تفكيك الستار الحديدي سواء السياج المكهرب، الذي كان تمهيداً لهدم 'جدار برلين' حين كرّت المسبحة دولة بعد أخرى، مما أدى إلى انحلال النظام الاشتراكي العالمي، لاسيما بانهيار الاتحاد السوفييتي وتفكيكه عام 1991، وهو التفكيك الذي شهدته بعض دول أوروبا الشرقية، حيث تفككت يوغسلافيا إلى دويلات وعاشت حروباً واقتتالاً وإبادات، لاسيما بصعود نزعات قومية واثنية ودينية عبّرت فيها عن هويات فرعية، بالضد من الهوية الجامعة، خصوصاً لشعورها بالإجحاف والكبت، وانفصلت تشيكوسلوفاكيا إلى التشيك والسلوفاك، رغم أن انقسامها كان هو الآخر مخملياً، في حين اتجهت الأمة الألمانية نحن وحدتها، ولم ينفع معها دساتير أو قيود أو حدود أو جدار، فإرادة الوحدة الألمانية كانت هي الأقوى.
'جدار برلين' لم يعد سوى ذكرى مؤلمة- تعكس حقبة وطريقة تفكير سادت في فترة من الفترات على صعيد الدول الاشتراكية الداخلية، أو على صعيد العلاقات الدولية، لكن طيف الاشتراكية سيبقى يداعب عيون الحالمين في نومهم وفي يقظتهم، خصوصاً في ظل أزمة الرأسمالية العالمية الحالية وانهياراتها الاقتصادية والمالية المدوّية.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد 719 الخميس 16 يوليو 2009 ,24 رجب 1430

1143
في شجون القضاء الوطني والدولي
عبدالحسين شعبان
2009-07-20
طرحت قضية دارفور والانتهاكات الجسيمة التي تعرّض لها السكان الأبرياء العزّل مسألة ملاحقة المرتكبين، لاسيَّما بشأن توصيف الجرائم، موضوع القانون الدولي الإنساني والعلاقة بين القضاء الوطني والقضاء الدولي على بساط البحث، خصوصاً بعد دخول نظام محكمة روما الأساس «المحكمة الجنائية الدولية» حيّز التنفيذ العام 2002، وما تركته من ردود فعل متباينة، لاسيَّما للنظر إلى وسائل وآليات تحقيق العدالة الدولية.
فما الذي يستهدف القانون الدولي الإنساني؟ وما السبيل لتطبيقه؟ سؤال طالما يُطرح حين يواجه المجتمع الدولي انتهاكات سافرة وصارخة لحقوق الإنسان، لاسيَّما خلال النزاعات الدولية المسلحة، وإذا افترضنا النقص أو القصور في القوانين الوطنية، فإن الرغبة انصبّت على استكمال ذلك عبر القانون الدولي الإنساني، وبشكل خاص عبر القضاء الدولي.
والجواب عن السؤال يتطلب البحث في دائرة ونطاق اختصاصات القانون الدولي الإنساني، فهو يستهدف أولاً وقبل كل شيء حماية الضحايا، الأمر الذي تكرّس دولياً بإقرار اتفاقيات جنيف في 12 أغسطس 1949، أي بعد 4 سنوات من التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في 25 يونيو 1945، وقد استكملت اتفاقيات جنيف عام 1977 بإبرام بروتوكولين إضافيين ملحقين بها، وهما البروتوكول الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة والبروتوكول الثاني الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية غير المسلحة.
جدير بالذكر أن اتفاقيات جنيف وملحقيها تعتبر محور القانون الدولي الإنساني وبخاصة إزاء حماية الضحايا، ولربما هذا هو الذي أكسبها الصفة الرمزية والاعتبارية؛ حيث صادقت عليها جميع دول العالم البالغة 194 دولة، وسيحتفل العالم بالذكرى الـ60 للتوقيع عليها خلال الأيام القريبة المقبلة، علماً بأن إسرائيل كانت قد عارضت بشدّة عقد اجتماع للأمم المتحدة «المقر الأوروبي» في جنيف بمناسبة الذكرى الـ50 لإبرامها وتذرَّعت بأن هذه الاتفاقيات لا تنطبق على الأراضي الفلسطينية المحتلة، ناهيكم عمَّا ذهب إليه البروتوكول الأول من منح الحق في مقاومة المحتل، واعتبار الاستيطان جريمة ضد السلم والأمن الدوليين، وهو ما ذهبت إليه اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية.
ولم يكن للحكومة السويسرية (المودعة لديها الوثائق) إلا الاعتذار من الضيوف المدعوين بمن فيهم بعض خبراء المجتمع المدني، بعد 10 دقائق من إعلان افتتاح الاجتماع الاحتفالي، ولم يكن ذلك بالطبع بمعزل عن ضغوط الولايات المتحدة ومساعيها لإلغاء الاجتماع، الذي كان كاتب السطور يحضره بصفته الحقوقية، ولعمري تلك إحدى السوابق الدبلوماسية الدولية الخطيرة التي لم يكن للأمم المتحدة عهدٌ بها؛ إذ لم يصادف أن تدعو إلى اجتماع وتحضّر له بضعة أشهر، ثم تقوم بإلغائه بعد وصول المدعوين وبعد إعلان افتتاحه بـ10 دقائق.
أما العنصر الثاني فيتعلق بقانون الحرب، أي تنظيم وسائل وأساليب القتال وبالتالي حقوق وواجبات الدول في هذا الميدان، في حين ذهب العنصر الثالث للاختصاص بالجزاء والإجراءات والوسائل التي يمكن اعتمادها لمساءلة ومقاضاة المرتكبين، لاسيَّما للانتهاكات الجسيمة، وهو ما ذهبت إليه اتفاقيات جنيف حين تحدثت عن الضحايا والمعاهدات والاتفاقيات الدولية عن سير العمليات الحربية، إضافة إلى القواعد القانونية التي يمكن بواسطتها إنزال الجزاء بالمرتكبين. وكان ذلك موضوع بحث معمق من جانب الخبير الدولي في اللجنة الدولية للصليب الدكتور عامر الزمالي، في ندوة نظمها اتحاد الحقوقيين العرب في صنعاء بالتعاون مع اللجنة الدولية، وحضرها خبراء عرب ودوليون.
وقد حددت اتفاقيات جنيف نوعين من الانتهاكات: الأولى حين تركتها من دون وصف، وجاءت على نحو عمومي وغير محدَّد. أما النوع الثاني فهو يتعلق بالانتهاكات الموصوفة تحديداً، والتي تستوجب منعها ووضع حدٍّ لها وتجريم مرتكبيها وفقاً للمعايير القانونية والقضائية الدولية والوطنية. وقد حددت اتفاقيات جنيف هذه الانتهاكات حصرياً وذلك بإعادة تكرار مادة مشتركة بالاتفاقيات الأربع (المادة 50 بالاتفاقية الأولى والمادة 51 بالاتفاقية الثانية، والمادة 130 بالاتفاقية الثالثة، والمادة 147 بالاتفاقية الرابعة).
وإذا كانت الانتهاكات الجسيمة تتعلق بالجرائم ضد السلم والأمن الدوليين وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مثل جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم العدوان، فإن الانتهاكات غير الجسيمة أو غير الموصوفة، تتعلق ببعض التصرفات التي تنال من حقوق أسرى الحرب، ورغم أن هذه الانتهاكات مُدانة فإن حجيتها القانونية لا ترتقي إلى الانتهاكات الجسيمة الموصوفة.
وقد كان أمام المشرّع الدولي الذي وضع اتفاقيات جنيف، كخلفية فقهية النظامين الأساسيين لمحكمتي نورنبيرغ وطوكيو، وبعض أعمال المؤتمر الدبلوماسي للجنة الدولية للقانون الدولي، والأمر يتعلق بتحديد وتوصيف الجرائم، فضلاً عن البحث في آليات الجزاء، وقد حددت اتفاقيات جنيف قائمة بالأعمال التي تعتبر جرائم حرب وهو ما ذهب لتوسيعه وتعميقه في البروتوكول الأول الملحق بها الخاص بالنزاعات الدولية المسلحة، وهو ما حددته المادة 85 بوصف الانتهاكات الجسيمة، وقد استكملت المادة 11 من البروتوكول الأول قائمة إضافية لكي تندرج ضمن الانتهاكات الجسيمة، وقد انعقدت محكمتا يوغسلافيا ورواندا 1993 و1994 وفقاً لنظام خاص وقرار من مجلس الأمن الدولي بملاحقة المرتكبين للانتهاكات الجسيمة وتقديمهم للمحاكمة، علماً بأن المحكمتين ستنتهيان خلال العامين المقبلين.
والفرق بين الانتهاكات الجسيمة وغير الجسيمة كما ذهب إليه البروتوكول الثاني الخاص بالنزاعات المسلحة غير الدولية هو أن الانتهاكات الجسيمة تتطلب إنزال العقاب بالمرتكبين، في حين أن الانتهاكات غير الجسيمة تذهب إلى تأكيد التحريم دون التجريم. وإذا كان الوضع الدولي، لاسيَّما فيما يتعلق بالجانب التعاقدي قد طرأ عليه تحسن نسبي منذ 60 عاماً، فإن هوة سحيقة لا تزال تفصل القانون عن الواقع، والواقع عن العدالة، الأمر الذي يتطلب تكييف القوانين الداخلية «الوطنية» لكي تنسجم مع القوانين الدولية، وسن تشريعات بهذا الخصوص، لاسيَّما الالتزام بمساءلة المرتكبين بالملاحقة والتسليم، فضلاً عن التعاون مع القضاء الدولي في حال عدم تمكّن القضاء الوطني من متابعة إجراء إنفاذ العدالة.

1144
الحكمة يمنية والوحدة يمنية
   

عبدالحسين شعبان
 

ظلّت مطبوعة في ذاكرتي صورة اليمن “السعيد” منذ أول زيارة لجزء منه قبل ثلاثة عقود ونصف العقد من الزمان، حين شاركت في عدن في ندوة لإلقاء محاضرة عن “ديمقراطية التعليم والإصلاح الجامعي” في مارس/ آذار 1974. وبقيت منذ ذلك التاريخ أتابع باهتمام كبير شؤون وشجون اليمن بشطريها.

قلت مع نفسي قد يعود الأمر إلى رمزية تتعلق بأصولي اليمانية، حيث تنتسب العائلة إلى بني الأشعوب وهم بطن من حمير القحطانية من جبل النبي شُعيب ومنها انتقلت إلى بلاد الشام، فاستقر قسم فيها، والآخر توزّع باتجاهين، الأول صوب فلسطين ومصر والمغرب وتونس، والثاني اتجه مع الفرات صوب العراق، حيث استقر قسم منه في الأنبار، والقسم الآخر وصل إلى النجف وعاش فيها وأصبح من سدنة الروضة الحيدرية لاحقاً، بفرامين سلطانية موغلة القدم.

ولعل حملي جوازات سفر يمنية خاصة وعادية طيلة أكثر من عقد من الزمان، جعلني أكثر تعلّقاً بهذا البلد الأمين بعد زيارات ثلاث سبقت الوحدة إلى عدن، وكنت بعد الوحدة العتيدة وعبر الصديق السفير شايع محسن الذي استقبلني في لندن، مثلما استقبلني قبل ذلك في عدن، قد استبدلت جوازات سفري، حيث أخطرني بضرورة ختم جواز سفري بختم الوحدة حسب التعليمات. وما زلت احتفظ بهذا الجواز العزيز الذي حماني فترة من الزمن ومكّنني من زيارة عدد من البلدان، وحافظت عليه مثل أي شيء عزيز، خصوصاً للثقة الممنوحة لي، وهو ما لن أنساه ما حييت.

قديماً قيل الحكمة يمنية، وحكمة اليمن وأهلها مستمرة، فلم تجد ثورة 14 أكتوبر/ تشرين الأول التي فجرتها الجبهة القومية في ردفان العام ،1963 والتي انتصرت العام 1967 باضطرار البريطانيين إلى الانسحاب، ضالتها ألا بالالتحام بثورة 26 سبتمبر/ أيلول العام ،1961 ولعل الشطرين الشقيقين وهما ابنان شرعيان لليمن لم يشعرا بالانسجام والتواؤم حد الالتئام ليكونا واحداً، إلا بمقاربة حرية واستقلال الوطن بوحدته، التي تحققت في يوم 22 مايو/ أيار ،1990 حين تم انهاء التشطير الجغرافي والسياسي لنظامين ودولتين وحدودين ولكن بشعب واحد، الأمر الذي وضع استحقاقات جديدة أمام الوطن اليمني، لاسيما في ما يتعلق بالديمقراطية والتنمية وتوسيع دائرة الحريات والإقرار بالتعددية وإجراء انتخابات وغير ذلك.

وقد اقترن ذلك بخطوات بدأت إرهاصاتها الجنينية الأولى تنهض وتتقدم وتتعثر أحياناً، لكنها اكتسبت اعترافاً جديداً في ظل التوافق الوطني، خصوصاً بتطويق الانقسام السياسي بعد أحداث العام 1994 وإنهاء الاقتتال الداخلي، وإعلاء شأن الوحدة باعتبارها أحد الخطوط الحمر التي لا يمكن عبورها تحت أية مبررات أو مسوّغات.

لقد دخلت الوحدة في التفاصيل اليومية والبرامج السياسية لحركات وتيارات يمنية وعروبية، وأصبحت جزءاً من الهوية اليمنية المعاصرة، التي كانت ناقصة ومبتورة، فارتقت الوحدة بما فيها من رمزية إلى مصاف شعارات الاستقلال وحق تقرير المصير، لاسيما في ظل الموجة العروبية التي دفع عبدالناصر العالم العربي باتجاهها.

إن التاريخ اليمني المعاصر يسجل علامتين أساسيتين هما: العلامة الأولى النضال ضد الاستعمار البريطاني من أجل الاستقلال، والعلامة الثانية هو النضال من أجل الوحدة واستعادة واستكمال الهوية. وقد أدرك الاستعمار البريطاني هذا الترابط فحاول ربط عدن بالكومنولث وتوطين بعض مسلمي الكومنولث في عدن في أواخر الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي، بهدف تعويم هوية الشطر الجنوبي العربية وصولاً إلى مشروع إمارات للجنوب العربي، في محاولة لإبقاء سلطنة حضرموت والمهرة وسقطرى خارج اتحاد الإمارات اليمنية، ولعل الهدف المحدد والواضح لذلك، لو تحقق، سيعني قطع الطريق أمام الحركة الوطنية اليمنية لتحقيق الاستقلال والوحدة.

وإذا كانت اليمن الجنوبية قد تشكلت فإنها ظلّت ترنو إلى الشمال، مثلما ظلّت ثورة 26 سبتمبر/ أيلول تتطلع إلى يوم الاتحاد العظيم الذي لقي مباركة الغالبية الساحقة من الجماهير العربية وقواها الوطنية في كل مكان.

ولأن الوحدة التي أنجزت على هامش مشكلات وتحديات كثيرة، فقد واجهتها عقبات كثيرة أيضاً، لعل أبرزها هو “عدول” بعض “أطرافها” أو من خرج عليهم عنها بعد اندفاعهم إليها. وإذا كانت ثمة أخطاء ونواقص ومحاولات تهميش سياسي أو إداري أو غير ذلك، فالحل يكمن في توسيع دائرة المشاركة وقاعدة الشراكة وقاعدة الحقوق، وقاعدة المواطنة المتساوية والكاملة، وليس التفتيش عن حلول أخرى خارج نطاق الوحدة، وإذا كان ثمة مبررات لتحرك جماهيري، للمطالبة في تعزيز المساواة ومنع التمييز لأي سبب كان وإشباع صلاحيات المحافظات وإشراك أهاليها في إدارتها عبر الحكم المحلي “الذاتي” أو الفيدرالي “الاتحادي”، فقد لعب الفقر وسوء الأوضاع المعاشية وانتشار الفساد واستفحال ظاهرة الإرهاب واستغلال بعض الأخطاء والنواقص في محاولة دفع الأمور باتجاه العودة إلى الوراء، في ظل رغبة البعض في تقديم الأوضاع الخاصة على حساب الأوضاع العامة وما هو حزبي ضيّق على ما هو وطني واسع، لكن المعتدلين من جميع الأطراف سعوا ويسعون لإيجاد حلول وتفاهمات للحراك الجنوبي، بعيداً عن التداخلات الخارجية.

إن التحديات التي تواجه اليمن تتطلب المزيد من التسامح لحل الإشكالات القائمة وتلبية المطالب والحقوق الشعبية والاستجابة إليها بروح الانفتاح والتفهّم، وحل الخلافات بالطرق السلمية في إطار الوحدة الوطنية، وبعيداً عن دائرة العنف، وهو ما أكده الرئيس علي عبدالله صالح لدى لقائه برئيس وأعضاء المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب في صنعاء مؤخراً، الأمر الذي يستوجب المزيد من الصبر وطول النفس والحرص على الوحدة الوطنية وإزالة العقبات أمام توسيع دائرة المشاركة واختيار الأشكال والصيغ الإدارية المناسبة لتوزيع الصلاحيات في إطار الوحدة التي ستكون متينة وراسخة وعميقة، بالمزيد من الخطوات والإجراءات الديمقراطية على طريق التنمية الشاملة والمستدامة واحترام حقوق الإنسان.

وإذا كان الأمر من مسؤولية الجميع، فإن دور ومسؤولية الحكومة كبيرة وفرصها واسعة لمبادرة وطنية لتلبية المطالب والحقوق وسد ثغرة خطيرة يحاول المتربصون النفاذ منها لوضع العصي أمام عجلة الوحدة، فالوحدة يمنية وصدق من قال: والحكمة يمنية.

باحث ومفكر عربي


صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 15/7/2009

1145
نفط العراق.. وجوهر الخلاف
عبدالحسين شعبان
2009-07-13
لم يصدر قانون النفط والغاز في العراق حتى الآن، رغم مرور عامين على عرض مشروعه على البرلمان بسبب الخلافات التي واجهته رغم الضغوط الأميركية في عهد الرئيس بوش لإمراره، ومع ذلك فقد أقدمت وزارة النفط العراقية على بدء جولة التراخيص لعرض عقود لشركات فيما يتعلق بإنتاج النفط، قيل إنها بشروط نموذجية، وقد فازت مؤخراً شركة بريطانية وأخرى صينية، واعتبر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن جولة التراخيص النفطية هي لتطوير حقول النفط التي تنافست عليها 120 شركة عالمية استقرت المواصفات على 35 منها، ثم رست المناقصة على شركتين، ستفتح الباب على مصراعيه لاستثمارات أخرى، وأن هذه العقود لن تكون الأخيرة، وذلك خلال مؤتمر دولي خاص انعقد في بغداد بالتزامن مع انسحاب القوات الأميركية إلى خارج المدن، وهو ما يمكن تفسيره بأنه انحياز لجانب وزير النفط، رغم التحفظات التي قادها برلمانيون وخبراء نفطيون وقادة عماليون نقابيون على مشروع تراخيص العقود، فضلاً عن أوساط من الرأي العام العراقي.
ولعل المبررات التي روجت لجولة التراخيص، التي قيل إنها بدأت منذ أكثر من عام، هي مساعدة عقود الخدمة في زيادة الاستثمار بحيث يستطيع العراق خلال 5 سنوات على زيادة إنتاجه إلى حدود 6 ملايين برميل يومياً، وأن هذه العطاءات تمت بشفافية وتنافس حر بعيداً عن الانحياز ووفقاً للمصلحة الوطنية، رغم أن الاعتراض الجوهري ليس على الآليات التي قد تكون سليمة، لكنه على محتوى ومضمون هذه العقود، وبخاصة على مداها الزمني، خصوصاً أن هذه التراخيص هي عقود خدمة لحقول منتجه مثل حقل شمالي الرميلة، وهو الذي رست عليه المناقصة.
أما المتحفظون على عقود التراخيص فقد استندوا إلى عدم صدور قانون النفط والغاز الذي لم يشرّع حتى الآن، الأمر الذي يمكن معه اعتبار مثل هذه التراخيص، لاسيما دون إقرار البرلمان، مخالفةً للدستور، وهو ما اعتبرته الحكومة من اختصاصات مجلس الوزراء، في حين اعتبره عدد من البرلمانيين، لاسيما المتحفظين، من اختصاص البرلمان، ولعل حجة المتحفظين أن هذه التراخيص لعقود الخدمة سوف ترهن إنتاج النفط، وبالتالي صناعته لآجال طويلة، وهو ما يلحق ضرراً بليغاً بالسيادة الوطنية العراقية، ولاسيما سيادة العراق على موارده الاقتصادية.
وإذا كان هناك من أسباب موضوعية لتدهور هذا القطاع، فإن التخصيصات لوزارة النفط كانت لا تزيد عن 8 مليارات دولار في السنوات الماضية، في حين إنها تحتاج إلى نحو 50 مليار دولار لإصلاح وتأهيل الإدارة النفطية والمنشآت والأنابيب والأجهزة والمعدّات فضلاً عن استقرار أمني وسياسي، وقد يعود تبرير اللجوء من جانب وزارة النفط إلى عقود وتراخيص الشراكة إلى عدم توفر موارد كافية للاستثمار.
لقد نص الدستور العراقي النافذ في المادة (111) على أن النفط ملك الشعب، وهو الأمر الذي دفع خبراء نفطيين وقادة نقابيين إلى اعتبار خطوة التراخيص معارضة للدستور من جهة، فضلاً عن تأثيراتها السلبية على الاقتصاد العراقي الريعي من جهة أخرى، والذي سيبقى أسيراً لريعيته طالما سيخضع لمصالح الشركات، التي لن يكون من مصلحتها تصنيعه، بقدر تحكّمها فيه وفي إنتاجه وكذلك في تصديره.
لقد استعادت المنشآت والمحطات النفطية عملها في وقت قياسي بعد ضرب العراق عام 1991 من جانب قوات التحالف الدولي إثر غزو قواته للكويت عام 1990، وكذلك بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003 رغم حفاظه على كيانه بحماية قوى الاحتلال من بين جميع المنشآت الحيوية، بما فيها المتحف العراقي الذي تعرض للنهب والسلب وأعمال التخريب والعنف والإرهاب، لكن القطاع النفطي تعرض لابتزازات وسرقات لاحقاً، لاسيما في ظل نظام المحاصصات ودور الميليشيات، ومع كل ذلك فقد وصل الإنتاج حالياً إلى نحو مليونين ونصف المليون برميل يومياً.
ثمة التباسات وغموض في إصرار وزارة النفط على طرح جولة التراخيص لتطوير القطاع النفطي، الأمر الذي يعتبره البعض إعادة النفط إلى سابق عهده قبل التأميم العام 1972، وإذا كان الهدف إحداث تطوير بالاستعانة بالخبرات الأجنبية، إلا أن الأمر يمكن تجاوزه بالخبرات الوطنية مع عقود مقاولات محدودة تشرّع بقانون لكل حالة كما تنص عليه القوانين السابقة والتي ما تزال نافذة حتى الآن بسبب عدم تشريع قانون النفط والغاز، لاسيما إذا توفرت عناصر الاستقرار الضرورية، وبخاصة في الوضع الأمني والسياسي، بالقضاء على الإرهاب وحل الميليشيات وإنهاء التقاسم الطائفي والمذهبي، وهذه العوامل هي التي وقفت حجر عثرة أمام تطوير الصناعة النفطية، إضافة إلى الجوانب الفنية المهمة.
وإذا رجعنا إلى بعض الوثائق القانونية، بما فيها ما قبل التأميم، فالفقرة (2) من المادة (3) من قانون مناطق الاستثمار رقم 97 لسنة 1967 فإن لشركة النفط «الوطنية» الحق في استثمار أية منطقة من المناطق المخصصة لها عن طريق الاشتراك مع الغير، وفي هذه الحالة لا يتم التعاقد إلا بقانون، أما المادة السادسة من القانون رقم 84 لعام 1985 الذي لا يزال نافذاً أيضاً، فإنها لا تعطي جواز إنشاء أو تأسيس أي مرافق إنتاجية قبل توفر التقرير الفني الاقتصادي.
جدير بالذكر أن التقارير الفنية أشارت إلى عدم الدخول في جولة التراخيص الأولى والاعتماد على الكادر الوطني في تطوير الحقول النفطية باعتباره السياسة الأكثر جدوى والأكثر فائدة للعراق، كما هو تقرير فني صادر عن اللجنة المؤلفة بأمر رئيس الوزراء وتقارير دائرة العقود والتراخيص، وكذلك مطالعة نائب رئيس الوزراء وعدد من المذكرات من الفنيين والنقابيين والخبراء النفطيين والاقتصاديين والقانونيين، وكذلك لعدد منهم في مؤتمر متخصص انعقد في عمان، يضاف إلى ذلك مذكرة لـ 23 خبيراً نفطياً موجهة إلى رئيس الوزراء وبيان صادر من اتحاد نقابات النفط، وهو الأمر الذي يثير تساؤلاً مشروعاً حول إصرار وزارة النفط على المضي بهذا المشروع.
إن منح تراخيص للشركات الأجنبية بما تملكه من خبرات ومفاوضين ووسائل نفوذ، سوف يسهم في ربط العراق أكثر فأكثر بمصالح الشركات العملاقة بحيث يصبح العراق عرضة لسياساتها وتقلباتها ومضارباتها في السوق الدولية، بما يلحق ضرراً بمصالح الشعب العراقي ومستقبله، حيث سيكون بإمكان الشركات إحداث تغييرات حسب ما تريد على الحياة السياسية والاقتصادية العراقية بما تملكه من نفوذ وسطوة وقيود، وهو الدور الذي مارسته على صعيد العالم الثالث، حتى قيل إنها دولة داخل دولة.
لقد كان النفط وما زال مصدر الصراع الاجتماعي والسياسي في العراق منذ أن تدفق أول حقل في بابا كركر وحتى اليوم، فباسمه وعلى ذمته ووفقاً لانسيابه ترسم الاستراتيجيات وتقام عروش وتنصّب حكومات وتستباح شعوبٌ، ولعل واحداً من أهداف وسياسات الحرب على العراق كان النفط، الذي أسهمت القوات المحتلة في حمايته تاركة ما عداه للنهب والسلب، فهل ستكون خطوة التراخيص إشكالاً جديداً يضاف إلى الإشكاليات العراقية المستعصية، حتى وإن غادرت القوات الأميركية المدن حالياً، وإن رحلت جزئياً أو كلياً من العراق في عام 2011؟ وهو ما يوجد شك كبير بشأنه طالما يبقى موضوع النفط بدون حسم!



صحيفة العرب القطرية العدد 7701 الاثنين 13 يوليو 2009 م - الموافق 20 رجب 1430 هـ

1146
النفط والاقتصاد الريعي
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

لعل إدراك عامل الزمن للاستفادة القصوى من أسعار النفط مسألة لا تتعلق بتوفير الموارد المالية حالياً، بل إن لها بُعداً مستقبلياً اقتصادياً واجتماعياً، يتعلق بإعادة إعمار الاقتصاد المخرَّب وتطوير الصناعة التحويلية المحلية، التي يدخل النفط فيها عنصراً مهماً مثل الصناعات الكيمياوية وغيرها، ومثل هذا الأمر يتطلب وضع خطة لتصنيع النفط لا تصديره فحسب، وهو ما كان مصدر نقاش مطولاً على الصعيد العربي والإقليمي منذ عقود من الزمان. وإذا كان هذا الأمر مطروحاً للجدال والسجال في العراق حالياً، فلأنه يتعلق بعقود تراخيص قررت وزارة النفط العراقية عرضها للشركات العالمية في مناقصة قيل إنها بشروط نموذجية.
وقد انضم أخيراً رئيس الوزراء العراقي للدكتور حسين الشهرستاني بتأييد جولة التراخيص النفطية لتطوير حقول النفط التي تنافست عليها أكثر من 120 شركة، واستقر الأمر على 35 منها وفازت بالمناقصة شركتان الأولى بريطانية 'BP' والأخرى صينية 'CNPC'.
وكان المالكي قد اعتبر في مؤتمر دولي عقد في بغداد خاص بجولة التراخيص، أن عقود الخدمة ستسهم في زيادة الإنتاج خلال السنوات الخمس القادمة إلى حدود 6 ملايين برميل يومياً (علماً بأن إنتاج النفط حالياً 2.5 مليون برميل) وأنها ستفتح باب الاستثمار العالمي في المجالات المختلفة.
وإذا كانت مشكلات مثل استشراء الطائفية، وتفشي الميليشيات، واستفحال ظاهرة الإرهاب وشيوع العنف في المجتمع، في ظل التقاسمات الوظيفية المذهبية والطائفية، قد وقفت حائلاً أمام تطوير الصناعة النفطية ما بعد الاحتلال، فالمفروض الآن وبعد مرور 6 سنوات ونيّف أن يحظى القطاع النفطي بما يستحقه من أولوية وأن تسخّر الجهود لحمايته واستخدام العقول ذات الخبرة للاستفادة منها في مجالات اختصاصاتها، وفي ضوء ما اختزنته من تجارب.
لقد خصصت الحكومات الماضية للقطاع النفطي ما بعد الاحتلال ثمانية مليارات دولار خلال السنوات المنصرمة، في حين أنه كان في حاجة إلى 50 مليار دولار، وحتى المليارات الثمانية، فهناك من يقول إن وزارة النفط لم تستطع استثمارها بحكم نقص الخبرة المحلية، وهو الأمر المبرر الآخر في لجوء الوزارة الى شركات النفط العالمية، ليس فقط لتقديم خدمات فنية تأهيلية، وإنما لجلب استثمارات مالية لزيادة الإنتاج، لكن هذا الأمر يثير إشكالات ومشكلات أخرى، في ما يتعلق بإدامة أمد سيطرة هذه الشركات على الإنتاج وتحكّمها بالتصدير أيضاً، بمعنى إخضاع النفط إنتاجاً وتصديراً لهيمنة الشركات الاحتكارية العملاقة، بما لديها من خبرات ومفاوضين وأساليب ماكرة!
ولعلّ هذا أمر يعرّض المصلحة الوطنية العراقية على الأجلين المنظور والبعيد إلى مخاطر شتى، في حين كان يفترض وضع تصور لشركة النفط الوطنية ولنفط العراق كلّه بما فيه التصرف بالإنتاج من النفط الخام والغاز، مثلما فعلت الصين وغيرها من الدول التي خرجت من قيود الاقتصادات الريعية.
ولهذا السبب لم تلق مسودة قانون النفط والغاز منذ طرحها قبل عامين التأييد لا من خبراء النفط الفنيين أو القانونيين أو الاقتصاديين، ناهيكم عن القيادات العمالية النقابية لقطاع النفط، فضلاً عن تعثر تمريرها في البرلمان أيضاَ، لأنها كانت تشترع لتعاقدات تقوم على نظام المشاركة في الإنتاج، وهو نظام يلحق الضرر بمصلحة العراق وسيادته على ثرواته النفطية والغازية، وسيكون بمقدور الشركات الهيمنة على الاحتياطيات النفطية عدة عقود من السنين، وستتبع متطلبات مصالحها لتصدير النفط الخام، لا تصنيعه مما سيُبقي الاقتصاد العراقي ريعياً، فتضيع الفرصة في الإفلات من أسعار خاماته أو تتعرض هذه السلعة الناضبة للانتهاء، وعندئذٍ ستضيع فرصة النهوض بالاقتصاد العراقي لتحقيق التنمية الإنسانية المستدامة، وستخسر الأجيال القادمة حقها في الاستفادة من الثروة النفطية على نحو عقلاني، إذ سيتبدد من بين يديها، الذهب الأسود دون أي فائدة تعود عليها، وهو الأمر الذي عاناه العراق سابقاً، ولكن على نحو مختلف، حين بددت الحكومات المتعاقبة لاسيما في الثمانينيات واردات النفط على مغامرات وحروب لم يكن لها مبرر على الإطلاق، فعطّلت الأوضاع الاستثنائية التنميةَ، وأدت إلى عسكرة المجتمع وأفقدته حيويته وديناميته وتطوره التدريجي- التراكمي، وهكذا ضاعت أموال النفط، في حين أن نهضة عمرانية وتعليمية وصحية بدأها العراق في أواسط السبعينيات، كان يمكن أن تثمر وأن تقود العراق إلى موقع متقدم لو تحققت له تنمية مستدامة وعقلانية سياسية وابتعاد عن المغامرات والحروب. وقد تسببت الحروب في تدمير المنشآت النفطية أو تعطيلها وتخريب الأنابيب، وزاد الأمر بلّة الحصار الاقتصادي الجائر الذي فرض على العراق نحو 13 عاماً، ولعل هذه الأسباب جميعها جعلت الصناعة النفطية في العراق متدنية واستمرار اقتصاده ريعياً. إن التوقيع مع شركات عملاقة على تعاقدات ومنحها تراخيص خدمة يكون مفعولها لآجال طويلة الأمد سيؤدي إلى وقوع العراق في فخاخ لا مخرج منها، إلا بتفريغه من النفط ومنعه من ولوج طريق تصنيعه، ووضع العقبات أمامه للوصول إلى التنمية المستدامة المنشودة.
أما الحديث عن عقد نموذجي لتراخيص الشركات المتنافسة طبقاً لمناقصات، حتى وإن جرت بشفافية، فيصعب قبوله لأن المسألة لا تتعلق بالآليات، بقدر ارتباطها بالمضمون والجوهر، الذي سيعني ارتهاناً للنفط العراقي لدى الشركات والاحتكارات العالمية، كما أن هذه العقود الفنية، وهي مسألة خطيرة بكل معنى الكلمة، تتطلب دراسة ومناقشة الشروط والالتزامات والعوائد والتكاليف الاقتصادية والمجتمعية في الراهن والمستقبل، فالقضية لا تتعلق بتقديم خدمات لزيادة الإنتاج واستثمارات في هذا الميدان فحسب، بقدر ارتباطها بانعكاساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ككل.
وقد عمل بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق 2003-2004 بعد الاحتلال مع فريق من الذين تم التعاقد معهم 'مديرين فنيين' من العراقيين، والأميركيين، لكي تكون مهمتهم الترويج لعقود مشاركة الإنتاج، كما جرت محاولات للتفاوض مع الشركات خارج الإطار القانوني وعدم عرض ذلك على الرأي العام، لكن جولة التراخيص التي أعلنها وزير النفط الدكتور حسين الشهرستاني، مدعوماً من رئيس الوزراء في إطار خارج إجراءات المعيارية المعمول بها في القطاع النفطي والصناعة العالمية، لاسيما أن العلاقة بين طرف قوي وهو الشركات ودورها، وبلد منهك وضعيف يعاني آثار الاحتلال والانقسام المجتمعي.
لم تكن الشركات تحلم بتعويض معادل لعملية التأميم في عام 1972 حتى عام 2003 مثل حصولها على عقود تراخيص مجزية، ولعلها مفارقة حين تكون عقود التراخيص تشمل مدة مقاربة لمدة التأميم.
إن السياسة النفطية هي جوهر السياسة الاقتصادية، وهي جوهر سيادة العراق على موارده، ومثل هذه التراخيص أثارت القلق على مستقبل العراق وتنميته، وهو الأمر الذي أشارت إليه مذكرة لـ23 خبيراً نفطياً واقتصادياً، إضافة إلى بيان لاتحاد نقابات النفط.
* باحث ومفكر عربي
 
جريدة الجريدة الكويتية العدد 741 ، الجمعة 10 يوليو 2009 ,18 رجب 1430

1147
يوم السيادة "العراقي" وشيء من المصارحة
   


عبدالحسين شعبان
 

في خطوة مهمة أقدمت القوات الأمريكية على الانسحاب من المدن العراقية، تنفيذاً للاتفاقية العراقية  الأمريكية التي تم التوقيع عليها عشية مغادرة الرئيس جورج دبليو بوش البيت الأبيض، في نوفمبر/ تشرين الثاني ،2008 ولعل هذه الخطوة هي المرحلة الأولى من الانسحاب الأمريكي من الأراضي العراقية في نهاية العام ،2011 وهو ما كان قد وعد به الرئيس أوباما في حملته الانتخابية وما أكدّه بعد وصوله إلى البيت الأبيض، مطلع العام ،2009 مع بعض التعديلات المتعلقة بالجوانب الميدانية وآراء العسكريين، حين ربط ذلك ببدء الانسحاب بعد 18 شهراً واستكماله حسب التاريخ الذي حددته الاتفاقية، بالارتباط مع بناء القدرات العسكرية العراقية وتأهيلها لمواجهة التحديات الخارجية وبخاصة الإقليمية.

يوجد الآن في العراق 136 ألف جندي أمريكي انسحبوا إلى قواعد عسكرية خارج المدن بحدود 36 قاعدة، وقد سلّمت القوات الأمريكية، القوات العراقية 86 موقعاً في بغداد ونحو 150 موقعاً خارجها، وقد تم تشكيل لجنة تنسيق مشتركة للقوات العراقية  الأمريكية، للتحرك المشترك في حالة وجود ضرورة لذلك.

ولعل إعادة انتشار القوات الأمريكية وخروجها من المدن، هو ثمرة جهد متنوع ومتعدد للاتجاهات المختلفة، وجاء استجابة لضغوط كثيرة، منها ما له علاقة بالولايات المتحدة وبخاصة لمشروع الحزب الديمقراطي بعد فشل الحزب الجمهوري وإدارة الرئيس بوش، الذي اعترف عشية انتهاء ولايته بأن المعلومات التي استند إليها لغزو العراق كانت خاطئة ومضللة، وهو الأمر المتعلق بادعاء وجود أسلحة الدمار الشامل لدى العراق وعلاقة النظام السابق بالإرهاب الدولي، وبغض النظر عن هذا الاعتراف الذي هو سيّد الأدلة كما يقال، فإن مسؤوليات جزائية ومدنية يمكن أن تترتب عليه لو توفرت إرادة عراقية، ولو بقيت هذه القضية مفتوحة ولم تغلق في الاتفاقية العراقية  الأمريكية التي أنهت مطالبة العراق للولايات المتحدة بالتعويضات، فضلاً عن تحديد المسؤولية الجنائية فيما حصل للعراق من احتلال وتدمير للدولة العراقية وتمزيق للنسيج المجتمعي.

أما عراقياً فلم يكن بمقدور أية جهة سواء شاركت في العملية السياسية أو عارضتها، أو جاءت مع الاحتلال أو وقفت ضده إلا أن يُعبّر عن رأيها بدولة الانسحاب باستثناءات محدودة، الأمر الذي عزز من المطالبة بإنهاء الاحتلال بجميع الوسائل السلمية والعنفية. وتساوقت هذه الرغبة مع الفشل الأمريكي، لينسجم مع وعود الرئيس أوباما وخطابه الشهير الذي دعا فيه لاعتبار العراق للعراقيين.

يضاف إلى ذلك الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها الولايات المتحدة مادياً ومعنوياً، ولاسيما بشرياً كان وراء ملاحقة الرأي العام الأمريكي والدولي ومطالبته بالانسحاب من العراق، الذي لم يعد أولوية أولى بالنسبة لسياسة واشنطن، لاسيما بعد الأزمة العالمية المالية والاقتصادية التي عصفت بالولايات المتحدة، الأمر الذي دفع الرئيس أوباما للتأكيد أن الانسحاب من العراق سيتم وفقاً للجداول المقترحة.

ولعل وجود ممانعة ومقاومة شرسة كانت قد أوقعت المشروع الامبراطوري الأمريكي في حرج كبير، لاسيما بعد أن صوّر لها البعض أن احتلال العراق هو أقرب إلى “نزهة” أو مهرجان احتفالي، توزّع فيه الحلوى وتنثر الورود، لاسيما وأن العراقيين ذاقوا ذرعاً بنظام دكتاتوري ويريدون من يخلصهم منه، لكن هذا شيء وبقاء قوات احتلال أمريكية دون معرفة ودون رغبة من العراقيين وغالبيتهم الساحقة شيء آخر، وهو ما عبّر عنه بتبرم بول بريمر في كتابه “عام قضيته في العراق”.

وإذا كانت خطوة انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية مسألة إيجابية وانجازاً عراقياً، إلا أن بينها وبين السيادة مسافة طويلة ومضنية، ولعل هذا يذكرنا بمن احتفل في العام 2004 في أواخر يونيو/ حزيران باستعادة السيادة بصدور القرار 1546 في 8 يونيو/ حزيران بعد كتابة “قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية” في 8 مارس/ آذار 2004.

رغم مرور خمس سنوات على الحديث عن استعادة السيادة العام ،2004 فالسيادة العراقية لا تزال منقوصة وغير كاملة، بل هي سيادة معوّمة ومجروحة، فحتى العام 2009 ورغم توقيع العراق على الاتفاقية العراقية  الأمريكية، فلم يستطع الانفكاك من شرنقة الفصل السابع، وما زال سيف العقوبات يهدده رغم أنه لم يخرق القانون الدولي، لاسيما بعد تغيير الأوضاع (وسقوط النظام السابق) ولا تزال القوات الأمريكية موجودة على الأراضي العراقية، وهي المتحكم الاساسي بسياساته على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو علاقاته الدولية، وهذا الأمر يحتاج إلى مكاشفة ومصارحة ومعرفة خارج نطاق الشعارات العاطفية السياسية أو التعبوية، فالسيادة لن تتحقق إلا باستعادة القرار السياسي  السيادي العراقي بعيداً عن الاملاءات أو التدخلات أو الجيوش الأجنبية، سواءً بحجة مكافحة الإرهاب الدولي أو تأمين سيادة العراق من التهديدات الإقليمية أو للحفاظ على العملية السياسية “الديمقراطية” أو لمبررات وذرائع أخرى.

ومع كل ذلك فالعبرة لا بدّ من أخذها في ما إذا انسحبت القوات الأمريكية من العراق بمواعيد الاتفاقية العراقية  الأمريكية، بحيث لا يضطر العراق إلى التوقيع على اتفاقيات أخرى مماثلة، عند ذلك سيكون يوم السيادة العراقي، يوماً وطنياً وعربياً ودولياً.

باحث ومفكر عربي

صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 8/7/2009

1148
هل هي هموم «شيوعية» أم وطنية؟!
عبدالحسين شعبان
2009-07-06
يحفظ الكثيرون من العراقيين عرباً وكرداً وتركماناً وأشوريين وغيرهم، ومن مختلف الأديان والطوائف، في وجدانهم تقديراً مميزاً للحزب الشيوعي العراقي ونضالاته، وبخاصة في فترة العهد الملكي وضد الاستعمار والمعاهدات المذلّة والمجحفة التي جرت محاولات لفرضها على الشعب العراقي، وقد نشأ الحزب في كنف الوطنية رغم أمميته، الأمر الذي صار بفعله عابراً للطوائف والإثنيات ومدافعاً عن الحقوق والحريات، وقد وجدت الأقليات فيه معبّراً عنها، وإن كان ذلك عنصر قوته لكونه ملتقى للمواطنة والوحدة العراقية المتنوعة، إلا أنه أصبح أحد نقاط ضعفه أيضاً، لمحاولات البعض التأثير على توجهاته.
لا يوجد حزب يضم الفسيفساء العراقية بكل أطيافها السياسية والقومية والسلالية واللغوية والاجتماعية والدينية والمذهبية مثل الحزب الشيوعي، ولعله الحزب الوحيد الذي كان عراقياً بامتياز، حسب ما عبّر عنه وضاح شرارة في التسعينيات، فقد كانت بعض الأحزاب تتأسس على أساس قومي (أحادية القومية) أو ديني أو طائفي أو فئوي.
أما الحزب الشيوعي فقد نشأ وترعرع عراقياً ببُعد عربي وأفق أممي، وعلى ضفافه نشأت أحزاب يسارية أو ديمقراطية- ليبرالية عراقية، لكنها لم تعمّر طويلاً سواءً الحزب الوطني الذي ترأسه محمد جعفر أبوالتمن أو «جماعة الأهالي» التي أسسها عبدالفتاح إبراهيم وحسين جميل وعبدالقادر إسماعيل ومحمد حديد، وانضم إليها لاحقاً كامل الجادرجي، الذي أسس فيما بعد «الحزب الوطني الديمقراطي»، حيث نشط منذ الأربعينيات يوم أجاز وزير الداخلية سعد صالح العام 1946 خمسة أحزاب سياسية، واستمر حتى أواسط الستينيات، حيث تدهورت الحياة السياسية، وسادت الشمولية وادعاء احتكار الحقيقة على نحو واسع.
ونهضت بعض الأحزاب اليسارية مثل حزب الاتحاد الوطني (الحزب الجمهوري بعد الثورة) الذي قاده عبدالفتاح إبراهيم وشارك فيه الجواهري الكبير، وحزب الشعب برئاسة عزيز شريف، وحزب الاستقلال ذو التوجه العروبي بقيادة محمد مهدي كبه وصدّيق شنشل وفائق السامرائي وآخرين، كما نشأ في مطلع الخمسينيات في العراق حزب البعث الذي استحوذ على قسم كبير من التيار القومي العربي (لاحقاً)، في حين ظلّ القسم الآخر مع التوجهات الناصرية، مثلما نشأ الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) كحزب قومي كردي.
ويعتبر الحزب الشيوعي هو الحزب المعمّر الأكبر، حيث مضى على تأسيسه أكثر من ثلاثة أرباع قرن من الزمان، وبدأ مشواره في 31 مارس 1934 وعاش كغيره من الأحزاب مرحلة صعود وهبوط، لكنه رغم جميع أخطائه بما فيها موقفه من قرار التقسيم العام 1947 ومن قيام دولة إسرائيل العام 1948 وفيما بعد محاولاته الاستيلاء على الشارع بعد ثورة 14 يوليو 1958 وعزل القوى الوطنية الأخرى، لا سيما خلال فترة «المد الأحمر» وما ارتكبه من عسف وإرهاب في الموصل وكركوك، وغيرها، إلاّ أنه ظلّ يحظى بثقة الجماهير وحبّها، لا سيما لتضحياته الكبيرة ووطنيته وتفانيه ونزاهة قياداته وكوادره بشكل عام، لكن مثل هذا الميل الشعبي بدأ ينصرف عنه، ليصبّ في اتجاهات أخرى.
وإذا كان للقمع الذي تعرّض له وبخاصة العام 1963 بعد انقلاب 8 فبراير وإعدام الكثير من قياداته وتصفية الكثير من كوادره، وكذلك بعد انفضاض الجبهة الوطنية مع حزب البعث العام 1978-1979 وما تبعها من حملات إرهابية لقمعه وتحديد العام 1980 موعداً لاجتثاثه وهو الذي اضطر أعداداً غفيرة من مناضليه إلى الهجرة إلى الخارج، الأمر الذي قد يكون سبباً في تقليص نفوذه وإضعاف مكانته وتحجيم دوره، إلا أن ثمة أسباب أخرى تتعلق بنهجه وممارساته.
لعل مناسبة الحديث هذا هو المفارقة التي حصلت عند انتخابات مجالس المحافظات، حيث لم يحصل الحزب على مقعد واحد، الأمر الذي يحتاج إلى وقفة جدية للمراجعة وإعادة النظر في الكثير من مواقفه وسياساته، ففي الثمانينيات اتخذ الحزب مواقف مائعة في الحرب العراقية- الإيرانية، تم تفسيرها باعتبارها ممالأة للإيرانيين وليس بمعزل عن مواقف الحركة الكردية آنذاك، لا سيما بتأخير شعار وقف الحرب وتقديم شعار الإطاحة بالدكتاتورية، وهو ما أثار صراعاً حاداً داخل أوساطه، وكذلك ما بعد ضرب العراق بسبب غزو قوات النظام السابق للكويت وما ترتب عليه من استحقاقات، بما فيها فرض نظام العقوبات الدولي والحصار الجائر الذي استمر 13 عاماً، ولم تكن مواقف «إدارة» الحزب من هذه القضية حاسمة فقد ظلّت تراوح بين تقديم شعار الإطاحة على شعار إنهاء الحصار، الأمر الذي أثار التباسات وتشوشات حول جوانب فكرية وإنسانية تتعلق بمنهجه وسياساته، وإن كان قد عاد لرفع شعارات تندد بالحصار وتدعو إلى إنهائه، لكن بعض دعواته كانت خافتة ونبرتها واطئة.
ولأنني منذ نحو ربع قرن كنت قد ابتعدت عن العمل الحزبي ووضعت مسافة من التيارات والكتل الشيوعية الأخرى لاحقاً، حيث اعتبرت نفسي ماركسياً مستقلاً وخارج نطاق الصراع بين الفرقاء، وهو ما جعلني أتصرف بحرية إزاء أصدقاء ورفاق ما زالوا يعملون مع الحزب والفرق المنشقة عنه، وهو الذي دفعني إلى كتابة رسالة قبيل احتلال العراق، وما زلت أحتفظ بها حرصاً على كيانية الحزب ومستقبله موجهة إلى الرفيق الأمين العام حميد مجيد موسى واللجنة المركزية «القيادية»، تطلب منه عدم الانخراط في مشروع احتلال العراق وتشجّعه وقيادة الحزب على اتخاذ موقف واضح وحازم، وهو ما كان قد ذهب إليه من أن الحرب حتى لو أدت إلى تغيير النظام والإطاحة بصدام حسين، فنحن سنكون ضدها، وهو موقف استحسنته في حينها بغض النظر عن مسؤولية النظام الدكتاتوري فيما وصلت أوضاع البلاد، ووضعت عدداً من النقاط أقرب إلى برنامج كامل لاعتماده، تساوقاً مع ذلك التوجّه الذي ورد عبر تصريح للأمين العام.
وبعيداً عن تداعيات الصراع الداخلي وتصفية حسابات وكيديات وانتقام وردود فعل خاطئة، بعضها ذهب إلى حد المصالحة مع النظام وتخفيف ساحته، ولكنه في الوقت نفسه استمر بهجومه ضد قيادة الحزب ورفاق الأمس، الذين لم يدخروا وسعاً بطرد وفصل واتهام كل من له رأي لا يروق لهم، لا سيما في ظل مراكز قوى واستقواء بجهات خارجية ووضع أموال وإمكانات تحت تصرفات محددة، مع استمرار النهج الخاطئ بشأن ما سمّي بالكفاح المسلح والتحالفات والتخبط في الحرب العراقية- الإيرانية والحصار الدولي، الأمر الذي أضعف من روح «الوطنية العراقية» التي كانت إحدى أبرز سمات الحركة الشيوعية العراقية، وهو ما دفع الكثير من الجهات إلى استصغار شأنه والتعامل معه من موقع أدنى وكقوة هامشية.
ولعل الأمر الأكثر من ذلك، هو قبول صيغة بول بريمر للتقاسم المذهبي والطائفي والانخراط للعمل فيها وتبرير قيامها، بما يتعارض مع منهجه، ولا سيما النظرية الماركسية- الوضعية النقدية، وكان دخول العملية السياسية واحداً من الاجتهادات الخاطئة التي توازي حسب تقديري جميع أخطاء الحزب السابقة، بل وتتفوق عليها، ولا أريد هنا المزايدة على أحد، فثمة طرق أخرى غير قبول منطق الاحتلال والحماسة لتوقيع الاتفاقية العراقية- الأميركية.
ولعلي في حوارات مع أصدقاء من الحزب الشيوعي، كنت أتفهم بواقعية الضغوط التي يتعرض لها، لكنني لم أستطع أن أهضم أو أبرر مهما كانت المزاعم موضوع التعاون مع الاحتلال، وفي أحد الحوارات مع رفيق وصديق شيوعي قيادي من موقع آخر، قلت له: أنا لا أدعو الحزب الشيوعي ليحمل السلاح بوجه الاحتلال، فذلك في الوقت الحاضر فوق طاقاته وإمكاناته، ولكن يكفيه أن ينسحب من العملية السياسية بعد تجربة فاشلة ومريرة وتحالفات خاطئة مريبة، وأن يعلن أنه مع مقاومة الاحتلال سلمياً ويرفض الاتفاقية المجحفة والمذلّة، مثلما رفض جميع الاتفاقيات الاسترقاقية، كما كان يسميها أيام العهد الملكي، فضلاً عن رفضه ومقاومته لحلف بغداد. كما أن موافقته على دستور يحتوي الكثير من الألغام، فضلاً عن نكهة طائفية ودينية، فيها خطأ كبير، مع أني من الذين نظروا بواقعية إلى الدستور، لا سيما القضايا الإيجابية التي دوّنها في باب الحقوق والحريات والمواطنة ومبادئ المساواة واحترام حقوق الإنسان، لكنه من جهة أخرى احتوى على نواقص وثغرات لدرجة أنها تشطب بعض المبادئ الإيجابية التي سطّرها، والتي سيكون لا معنى لها بعد تعويمها.
أستطيع أن أقول إن هذه الأسباب الفكرية والسياسية هي التي وقفت أمام اختيار الناخب لمرشحي حزب وطني عراقي عريق وذي تاريخ مشرّف رغم جميع الأخطاء والنواقص، ومثلها هناك أسباب تنظيمية، هي علاقاته الداخلية وتعامله مع قياداته السابقة ورموزه الوطنية، فبمجرد الاختلاف نزلت على رؤوسهم التهم والشتائم والنعوت، وكأنهم لم يكونوا حتى وقت قريب «قادة تاريخيين» كما تتم تسميتهم، مع أنني أعتبرهم ومعهم الآخرون إدارات حزبية ليس إلا.
أعتقد أن رسالة الانتخابات لا ينبغي أن تمرّ دون مراجعة جدية وجريئة، وأتحدث هنا من موقع الصديق والحريص بعيداً عن الاتهام والتخوين، وليس لدي أية أغراض خاصة أو علاقة بالماضي، رغم اعتزازي به، فلا بدّ من الاعتراف بالتقصير حتى وإن جاء متأخراً، كما لا بدّ من الاعتراف بالأزمة التي يعاني منها الحزب منذ سنوات طويلة، ولعل بعضها أزمة قراءة للماركسية في السابق والحاضر، وهي أزمة موضوعية وذاتية شاملة، لا سيما بوصول التجارب جميعها إلى طريق مسدود، فضلاً عن عدم دراسة الوضع العربي الاجتماعي والتاريخي والديني والنفسي، بما فيه من مكوّنات، على نحو مفتوح وبعيداً عن الكليشيهات المسطّحة التي ترد أحياناً في غير سياقها.
كما ينبغي الاعتراف أنها أزمة سلوك وضعف في التأهيل القيادي والشخصي، لا سيما إزاء الآخر، وهي تتعلق بالموقف من السلطة، وبخاصة القرب والبعد منها، وهذه مسألة معقدة بحاجة إلى دراسة مستقلة منذ 14 يوليو 1958 وحتى الآن، ثم لماذا انفضت عنه كتلة فاعلة من المثقفين والفنانين والإعلاميين والأدباء، وكأنهم فائض عن الحاجة؟!
أنا أسأل شخصياً الرفيق حميد مجيد موسى وقيادة الحزب، لماذا لم ينل أي مرشح نسبة أصوات تؤهله للوصول إلى مجالس المحافظات؟! وإذا أمكن الجواب باقتناع فسيكون الحزب قد بلغ طريقه إلى دراسة الأزمة بجميع أبعادها، وإن لم يحصل ذلك، فقد يتطلب الأمر جرأة بالمبادرة إلى تقديم استقالتهم فردياً أو جماعياً والرجوع إلى قاعدة الحزب، عسى أن تجد من هو أجدر بالمهمة!! أقول ذلك دون غمط حق أحد أو التجاوز عن دوره النضالي أو التدخل في شأن داخلي، فذلك واحد من الهموم الوطنية العامة!!


• باحث ومفكر عربي

 7694 العدد -    صحيفة العرب القطرية ، الإثنين 6 يوليو 2009 م ـ الموافق 13 رجب 1430 هـ


1149
خصوصية الحالة الإيرانية!

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

أُعلنت نتائج الانتخابات الإيرانية بفوز الرئيس السابق أحمدي محمود نجاد بنسبة 62% وخسارة المرشح الثاني الأقوى حسين مير موسوي، الذي احتج أنصاره ونزلوا إلى الشوارع وعبّروا بالوسائل الممكنة والمتاحة عن حقهم في التعبير، موجهين طعوناً لها ومتهمين سلطة نجاد وأجهزته وإعلامه بتزويرها ونقلت أوساط المعارضة عن وجود زيادة في عدد الناخبين وصلت إلى ثلاثة ملايين صوت في 50 موقعاً انتخابياً في عدد من المحافظات. وكان مجلس تشخيص مصلحة النظام قد قرر، كما أن مرشد الجمهورية الإسلامية، السيد علي خامنئي حدد مدة لسماع الاعتراضات والطعون، رغم أنه أعلن تأييده لنجاد، لكنه أبقى الباب مفتوحاً من الناحية النظرية على أقل تقدير لسماع الشكاوى، وعاد واعتبر الانتخابات شرعية ونزيهة ولم يحصل فيها شيء كبير ما يعكّر صفوها أو يدعوها لإلغاء نتائجها.
وانقسم الشارع الإيراني بين مؤيد للنظام لاسيما اتجاهه المحافظ والمتشدد وبالطبع لسياساته الداخلية ودوره الإقليمي وملفه النووي، وبين اتجاه إصلاحي، يريد انفتاحاً وانفراجاً في الحياة السياسية ومزيداً من الحريات والحقوق، ناهيكم عن مرونة وحسن تعامل في إطار العلاقات الدولية، بما فيها بعض الملفات الساخنة عراقياً وعربياً، ورغم أن كلا الفريقين يلعب في ملعب الجمهورية الإسلامية ويضع مظلة خمينية فوق رأسه، فإن التباعد والافتراق كان حاداً بين الاتجاهين والكتلتين، وفي حين تستمر التظاهرات والاحتجاجات، تشدد السلطات من قبضتها الحديدية رغم سقوط عدد من القتلى والجرحى.
الانقسام انتقل إلى الوضع الدولي، لاسيما هناك أكثر من خارطة طريق، فبعض العرب كان متحمساً لموسوي ويعتبر ما حصل انتفاضة لا بدّ أن تنتصر ولا بدّ من إعادة الانتخابات، وكأن ذلك من المسلمات، والبعض الآخر انحاز كلياً إلى إيران نجاد بحجة السيادة والأمن الإقليمي ومنع الاختراق، الأميركي والغربي، إلى غير ذلك من القضايا الكبيرة، التي ترتبط بقضايا أكبر من جانبنا فيما يتعلق بالأمن القومي العربي والصراع العربي-الإسرائيلي والأوضاع الجيوستراتيجية في المنطقة، بما فيها النفط. وبغض النظر عن المستبشرين أو القنوطين، والمتفائلين والمتشائمين، فإن الأمر ينبغي النظر إليه من زوايا وخرائط مختلفة ومتعددة، منها مصلحة الشعب الإيراني، وقضية الديمقراطية وحق اختيار الحكام واستبدالهم واحترام حقوق الإنسان، ومن جهة أخرى ماذا لو انكفأت إيران إلى الداخل؟ هل سيكون ذلك لمصلحة العرب أم أن ممانعتها يمكن أن تشكل مشاغلة للولايات المتحدة، وبالتالي لإسرائيل لمنع فرض مشروعها بالشروط التي تريدها، طالما يغيب لاعبون أساسيون إقليميون؟!. وهنا لا بدّ من وضع خارطة لكل طريق وليس خارطة واحدة لكل الطرق، فانتصار الديمقراطية في إيران سيعني انتصاراً وتشجيعاً للديمقراطية في الوطن العربي، وفشلها سيؤدي إلى زيادة قبضة الأنظمة على شعوبها، ولكن إذا كان انكفاء إيران لمصلحة تنمية بلادها شيء، وأما انكفاؤها عن تأييد ومساندة حركات المقاومة فسيعني شيئاً آخر، خصوصاً إذا كان الانكفاء شرطاً خارجياً مفروضاً.
وانكفاء إيران إلى الداخل قد يكون لمصلحة العراق واستقراره وأمنه، ولكن إذا كان نكوصاً عن دور المشاغل لواشطن وتواطؤا معها، فقد يلحق ضرراً بالعراق رغم أنه من جهة أخرى يستجيب لمصالح شعبها بالامتناع عن التدخل بالشؤون الداخلية العراقية، لكنه سيضعف دور القوى الممانعة، إلاّ إذا كان انكفاءً دون تواطؤ، بحيث يتقلص النفوذ الإيراني في العراق ويتوجه النضال بشكل أكبر لإجلاء المحتلين الأميركيين. ومثل هذا الانكفاء سيكون مفيداً خليجياً: سعودياً وكويتياً وبحرينياً وإماراتياً، حيث ترغب إيران في أن تكون ذراعها طويلة، وهناك من يعتبر أن ذراعها امتدت بعد أفغانستان والعراق إلى باكستان ومصر والمغرب واليمن، لكنه من جهة أخرى قد يكون مضرّاً لبنانياً وفلسطينياً وسورياً، لأن حليفاً على المستوى الدولي سيغيب عن الملعب، الأمر قد يضعف قوى المقاومة، ضد إسرائيل حليفة واشنطن.
علينا إذن أن نتعرف على خصوصية الحالة الإيرانية، فإيران فيها نظام شمولي، ولكن بتعددية مقننة، وضمنها انتخابات في إطار القوى الإسلامية، وليس خارجها، كما أن تداولية السلطة مسموح بها داخل النظام وليس خارجه، والنظام الشمولي بشكل عام، لاسيما الذي عرفته الأنظمة الاشتراكية أو الفاشية أو أنظمة «التحرر الوطني» أقرب إلى العلمانية، في حين أن النظام الشمولي في إيران ديني ومذهبي، وذلك يمثل شكلاً جديداً من أشكال النظام الشمولي.
وعادة ما تكون الأنظمة الشمولية خاملة ولا يوجد فيها حراك أو دينامية وتداولية سلطة، لكن إيران تداول السلطة فيها 4 رؤساء خلال 30 عاماً، رغم وجود مرشد أعلى ومجلس تشخيص مصلحة النظام (فوق الانتخابات وتداول السلطة)، ومع القبضة الحديدية للنظام الشمولي، إلاّ أن هناك مجتمعاً مدنياً، حتى إن كان إرهاصات، مع وجود شيء من حرية التعبير، مثّل اختراقات معينة استطاع أن يحققها ضمن إطار النظام الإسلامي.
بعيداً عن مشاعر الفرح أو الإحباط، ما يهمنا كعرب وجزء من نضال المنطقة أن يحقق الشعب الإيراني طموحه، وأن تتقلص قبضة النظام الثيوقراطي، وتتوسع دائرة الحريات والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ولا يبرر التجاوز عليها أي حجج سواءً كانت السيادة أو الملف النووي أو خطط تنمية مستقبلية أو غيرها، إذ إن الإنسان هو الأصل، ولا وجود لكيان وطني من دون مواطنين أحرار لهم الحق في اختيار مصيرهم. كما لا يجوز بحجة الإصلاح والديمقراطية، فتح الأبواب للتسرب وفرض حلول بالضد من مصلحة الشعب الإيراني ومستقبله، أو استغلال هذه القضية التي هي «كلمات حق يُراد بها باطل»، فالديمقراطية لا يمكنها أن تكون في تعارض مع الوطنية والسيادة والاستقلال، ولا يمكن تحت حجة الإصلاح والديمقراطية فرض الاستتباع، مثلما لا يمكن بحجة الوطنية، التجاوز على حق الشعب في اختيار الحاكم واستبداله، وبالتالي تقليص أو تهميش الخيار الإصلاحي الديمقراطي، مثلما لا يمكن بحجة السيادة فرض نمط حكم بالضد من الشعب وحرياته الأساسية، ولعل هذه معادلات دقيقة ينبغي حسابها. علينا أن نفهم خصوصية الحالة الإيرانية، ونتعاطى معها انطلاقاً من مصالحنا العليا أولاً ومن المصالح المشتركة ثانياً، إضافة الى البعد الإنساني ثالثاً، لاسيما أن توجه العالم وإيقاعه نحو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، أصبح مسألة كونية، ولا يمكن لأي مجتمع أن يعزل نفسه عنها.
ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى نتائج الانتخابات دون إرادوية أو إسقاط لرغبات مكبوتة بالسلب أو الإيجاب، وهو ما تفعله بعض القوى الدولية والإقليمية، بل بالاعتماد على ضوابط ومعايير تقوم على أساس الشفافية والمساءلة، فضلاً عن حكم القانون ومصلحة وإرادة الأغلبية في مجتمع يعيش شكلاً من أشكال التعددية والديمقراطية حتى إن كانت مقننة، ولكنها ستبقى بحاجة إلى انفتاح وتغيير بما يستجيب ويستوعب خصوصية الحالة الإيرانية!
* باحث ومفكر عربي



1150
هل القدس عاصمة للثقافة العربية؟

عبد الحسين شعبان
2009/06/23

 

هاجسان تنازعاني حين سمعت أن جامعة الدول العربية اتخذت قراراً بتسمية القدس عاصمة للثقافة العربية للعام الجاري 2009.
الهاجس الأول- أقرب إلى التشاؤم وعدم الواقعية حين تساءلت مع نفسي كيف سيتم تنفيذ هذا القرار، إذا كان سكان فلسطين 'المحتلة' ممن يعيشون داخل 'دولة إسرائيل' وفي ضواحي القدس لا يستطيعون الوصول إليها، فكيف سيستطيع المثقفون العرب والجهات الرسمية العربية عبور الحواجز الإسرائيلية 'النفسية' والتفتيشية وصولا إلى القدس، للاحتفال مع أهل هذه المدينة المقدسة باعتبارها عاصمة للثقافة العربية لهذا العام؟
الهاجس الثاني- أقرب إلى التفاؤل حين فكرت لاحقاً على نحو آخر، بأن قرار جامعة الدول العربية، حتى وإن كان يوتوبيا أو غير واقعي، إلا أنه استهدف على ما أعتقد إبقاء القدس والقضية الفلسطينية ككل في دائرة الضوء من خلال الثقافة ولفت نظر العرب والعالم إلى معاناة سكان القدس وفلسطين من الاحتلال 'الإسرائيلي'، لاسيما عملية تهويد المدينة وتزييف تاريخها وتشويه معالمها.
وبغض النظر عن الهاجسين فقد ظلت قضية القدس محط 'تنازع' وأطماع حتى قبل قيام 'إسرائيل'، وكانت الصهيونية منذ أكثر من قرن من الزمان قد وضعت عينها عليها منذ مؤتمر بال (بازل) الأول العام 1897 أي بعد عام واحد على صدور كتاب 'دولة اليهود' لعرّاب ومفكّر الحركة الصهيونية الهنغاري تيودور هيرتزل.
وإذا كانت خطة الحركة الصهيونية للإستعمار الإستيطاني، الإجلائي، الإحتلالي، تقوم على تفريغ الأرض من السكان واستعمارها بالاستيطان فيها، وذلك بالتمهيد مع احتلال العمل وإحتلال السوق واحتلال الإنتاج، فإن انتقال وهجرة اليهود إلى القدس بدأت منذ وقت مبكر وقبل قيام 'إسرائيل'.
وعندما صدر قرار التقسيم من الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 في العام 1947 أي قبل قيام 'إسرائيل' في العام التالي 1948 في 15 أيار (مايو) ظلت القدس 'تتبع' نظاماً دولياً خاصاً، وقد أكد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول بن غوريون استناد 'دولته' على قرار التقسيم دون تحفظ، واعتبر أن اعتراف الأمم المتحدة بدولة يهودية في فلسطين أمر غير قابل للتراجع، وهو ما تم التنكر له فيما يتعلق اليوم بخيار الدولتين، لاسيما في إطار مهمة ميشيل الأخيرة بتكليف من الإدارة الأمريكية بعد وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض.
ولا شك أن الأمر له علاقة أيضاً بموضوع القدس الشرقية، التي تم ضمها إلى 'إسرائيل' خلافاً لقرار التقسيم وتعارضا مع قواعد القانون الدولي المعاصر، وذلك بعد الاستيلاء عليها خلال عدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967، حيث اتخذ 'الكنيسيت الإسرائيلي' قرارا العام 1980 بضم القدس إلى 'إسرائيل' معتبراً إياها عاصمة أبدية موحدة لها. وهو ما استبعده رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو من دائرة المفاوضات في خطابه مؤخراً، وقد حاول الرئيس الراحل ياسر عرفات 'رد الاعتبار' إلى قرار التقسيم في العام 1988 عندما أعلن خيار الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس في المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر.
ورغم التطورات المأسوية التي مرّت على فلسطين والقدس، فإن وضع القرار 181 كإطار دولي سيكون واحداً من الضغوط التي يمكن ممارستها بشأن القدس بشكل خاص وفلسطين بشكل عام، لاسيما وأن الكيان الصهيوني نفسه اعترف به عند تأسيس 'إسرائيل' وهو اعتراف بالحدود المقررة في القرار، وبعدم المساس بالأماكن المقدسة وبنظام دولي خاص بالقدس، وهو الأمر الذي يمكن الضغط بواسطته دوليا، رغم أن اتفاقيات أوسلو العام 1993 أجلت بحث قضية القدس ومسألة الحدود والمياه وإشكالية حق العودة غير القابل للتصرف وموضوع تفكيك المستوطنات، وهو ما استغلته 'إسرائيل' بعد انتهاء المرحلة الأولى في العام 1999.
ومنذ عشر سنوات تتنكر إسرائيل وتناور بشأن ما ورد في اتفاقيات لم تستجب لطموح الحد الأدنى، وهو ما فعله رؤساء الوزارات الإسرائيلية، شارون ومن بعده أولمرت وما مثله نتنياهو وحكومته عند فوزه في الانتخابات الأخيرة، حيث ارتفع خط التشدد وازداد وتعمق التطرف، لاسيما فيما يتعلق بالقدس بشكل خاص، وفلسطين بشكل عام.
وقد أفصح نتنياهو في خطابه الأخير عن ذلك حين أقفل الباب أمام حق عودة اللاجئين، مشددا على يهودية 'إسرائيل ' وعاصمتها الأبدية الموحدة 'القدس'. أما الحديث عن دولة منزوعة السلاح فستكون حسب المواصفات الإسرائيلية، أقل من حكم ذاتي حيث لا سيادة وطنية لها، بما فيها في الفضاء والمياه وعلى الأرض.
وكانت 'الحكومة الإسرائيلية' وهي توقع اتفاقيات أوسلو تعد العدة وتخطط لتغيير طابع مدينة القدس الديموغرافي محددة العام 2020 لذلك، وهو ما كان قد بدأ العمل به إيهود أولمرت عندما كان رئيسا لبلدية القدس آنذاك، وهذا ما ينبغي عدم نسيانه، والمسألة ببساطة كانت تتلخص بزيادة عدد سكان اليهود ليصلوا إلى مليون نسمة وطرد العرب تدريجيا منها وإخراجها كلية من دائرة المفاوضات، وهو ما شدد عليه نتنياهو.
ولهذا فإن الاحتفال بالقدس عاصمة للثقافة العربية له مدلولاته، لاسيما بإستعادة المفاعيل القانونية بمسألة خصوصية القدس، بما له علاقة بالقرار 181 والقرار 194 بخصوص حق العودة الصادر العام 1948، وقرارات الأمم المتحدة بعدم الإعتراف بشرعية ضم القدس إلى 'إسرائيل'، وهذا يتطلب عربياً حشد الجهود والطاقات لمنع المخطط الصهيوني الرامي إلى هدم 1700 منزل جديد في القدس (حتى نهاية العام 2009) حيث رصدت حكومة نتنياهو مبلغ 150 مليون دولار إضافية لمشروع التهويد ولعل استذكار القدس، سيكون بإعادة نشر تاريخ المدينة وتاريخ فلسطين، لاسيما الأماكن المقدسة والأثرية المهمة وفضح عمليات التزييف والتشويه، وتشجيع مهمة تضامن دولية دعما للقدس وفلسطين، والسعي لتقديم الدعم المادي والمعنوي لسكانها للإستمرار في جهودهم بوجه الضغوط الصهيونية.
وبغض النظر عن قرار جامعة الدول العربية، فإن جعل القدس في دائرة الضوء مسألة في غاية الأهمية، خصوصا بعد عدوان الكيان الصهيوني على غزة ومحاولاته تمزيق الوحدة الفلسطينية والتعكز عليها للإستمرار في عملية التهويد وإلغاء الوجود العربي تدريجيا في المدينة. كما أنه سيكتسب أهمية خاصة لاسيما بعد خطاب نتنياهو، والإحباط الذي سببه لدى أوساط كثيرة بما فيها بعض من كان يعول على إمكانية تطبيق خيار الدولتين، الذي تحدث عنه الرئيس الأمريكي أوباما.
لهذه الأسباب لا بد من الإحتفال بكون القدس عاصمة للثقافة العربيةَ!!!

' باحث ومفكر عربي
صحيفة القدس العربي (لندن) 23/6/2009

1151
سوسيولوجية المدينة وسايكولوجية الجماهير!!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

وقفت حائراً حين كنت أراقب المجموعات البشرية الهائلة التي كانت تتوجه مشياً على الأقدام لمناسبة دينية يتم توظيفها سياسياً: وكنتُ أتساءل مع نفسي بعيداً عن الوازع الديني والروحاني الذي أعرفه جيداً: هل أن دورة جديدة من دورات عصر الجماهير قد بدأت، أم أن هذا العصر قد انتهى، حتى إن كان ما نلحظه ليس إلا تعبيراً مؤقتاً وطارئاً ومحكوماً بظرفه؟!
واستعدت، وأنا أقلب بعض الصفحات حواراً بين شارل ديغول وبعض المسؤولين الفرنسيين بُعيد تحرير فرنسا: القصة تبدأ قبل ثلاثة أسابيع من هزيمة النازية في فرنسا وسقوط حكومة فيشي الذي تعاون مع الألمان، حيث انعقدت احتفالات جماهيرية حاشدة في مدينة نانسي الفرنسية، وهي المدينة الأكبر في مقاطعة اللورين، التي استمر التنازع عليها وعلى الإلزاس بين فرنسا وألمانيا وشهد حروباً واستيلاءً وضمّاً ونفوذاً، حوالي قرنين من الزمان.
حضر الاحتفالات حينها نحو مليون ونصف المليون إنسان هتفوا بحياة الفهرور ووقفوا إلى جانب حكومة فيشي التي لقيت مقاومة متنوعة في فرنسا، شاركت فيها العديد من القوى السياسية: الشيوعية والاشتراكية والليبرالية، وبعد تداعيات في الجبهة العسكرية دخل الجنرال شارل ديغول ليقود فرنسا الحرة، وقرر أن يجري احتفالاً «بالنصر» في المدينة نفسها التي احتفلت قبل ثلاثة أسابيع بالنازية. تمنّع المسؤولون وأبدوا مخاوفهم من إشكالات قد تحصل، لا سيما أن نفوذ النازيين في مدينة نانسي قوياً، ولتوّها شهدت الاحتفالات المهيبة، لكن ديغول لأسباب سوسيولوجية المكان وسايكولوجية الجماهير أصرّ على تنظيم الاحتفال بالنصر في الموقع ذاته الذي احتفل فيه النازيون.
وتوافدت على المدينة كما حصل في المرة الأولى جماهير غفيرة وكتل بشرية مهتاجة، يومها ارتفعت الحناجر بالهتاف ضد النازية والنصر لفرنسا الحرة، وقد حضر الاحتفال أكثر من مليوني شخص، أي بما يزيد عن المرة الأولى، وعندما سُئل ديغول لاحقاً، كيف حصل الأمر؟ أجاب الجماهير هي..هي، فكما باركت لهتلر والنازية يوم كانت مهيمنة، تراها جاءت اليوم لتبارك القضاء عليها ولتحيي فرنسا الحرة!!
ولعل شيئاً من هذا قد ينطبق على ما نسميه طاعة أولي الأمر في الفقه الإسلامي، فأياً كان الحاكم أحياناً سيجد الجماهير تعظّم من شأنه وتتأثر به وتقلّد خطاه: حباً أو اعتياداً أو تملقاً أو خوفاً، لاسيما عندما تغيب الحريات وتنحسر سلطة القانون وتضعف الشفافية والمساءلة وتتعثر مبادئ المساواة والمواطنة.
استحضرت ذلك وأنا أستذكر قراءاتي عن عصر الجماهير في الثورة الصناعية والكتل البشرية الهائلة حيث المداخن والرفض وتحطيم المكائن والآلات، يوم ارتابت الجماهير من التطور التكنولوجي والعلمي الذي قد يفضي الى التخلي عن العمال والاستغناء عنهم، في حين كانت مطالبهم وحقوقهم تتلخص في يوم عمل لثماني ساعات وظروف عمل مناسبة وضمانات أولية، ولعل تطوراً كبيراً وهائلاً حصل في مفهوم الطبقة العاملة، لاسيما ما بعد العولمة وفي ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وطرأت عليها تغييرات جعلت احتساب المهندسين الجيولوجيين والنفطيين والعاملين في حقول التعدين والمشاريع البنائية الكبرى عليهم، ناهيكم عن بعض الامتيازات للأرستقراطية العمالية، التي استطاعت الرأسمالية أن توظفها، يضاف الى ذلك فئة المديرين وحزمة الخبراء والمستشارين، الأمر الذي أحدث مفارقة كبيرة بين ما ندعوه بالطبقة العاملة في السابق وبين واقعها الحالي، وهو ما كشفته على نحو ساطع الأزمة المالية والاقتصادية للرأسمالية العالمية أخيراً.
عندما حدثت الهجرة من الريف إلى المدينة في العراق، لاسيما إلى العاصمة بغداد في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، وسكن المهاجرون المحرومون في بيوت الصفيح، على هوامش العاصمة وشكّلوا مدناً عشوائية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى من نقل العادات والتقاليد الى قيم الريف والعشيرة، إلى طريقة العمران والحياة، رغم أن ثورة 14 تموز (يوليو) عام 1958 سهلت مهمة انخراط أعداد غير قليلة منهم لتنتقل من العمل الزراعي والعلاقة بالأرض إلى العمل في المدينة، فاندفعوا في إطار النقابات والجمعيات المهنية، وتحوّلوا تدريجياً إلى عمال مؤقتين أو دائمين، وعملت بعض نخبهم في الأحزاب والحركات السياسية، لاسيما في الحزب الشيوعي الذي استفاد من الكتل الجماهيرية وطاقاتها وقبضاتها في الصراع السياسي حول وجهة الثورة ومصيرها، في حين اعتمد خصوم التيارات الماركسية واليسارية، على الوسط التقليدي، العشائري والديني في الصراع السياسي ضد عبد الكريم قاسم وضد الحركة الشيوعية.
وعندما أرادت الثورة كسب هذه الفئة الواسعة إلى جانبها قدمت لها بعض المنجزات، منها بناء مدينة بملامح شبه عصرية في منظور تلك الأيام قياساً لبيوت الصفيح لتكون لصيقة ببغداد، وأطلق عليها اسم «مدينة الثورة»، وكانت المدينة منبعاً مهماً لدعم الثورة، وخرّجت أجيالاً من الأدباء والشعراء والفنانين.
وبعد العودة الثانية لنظام البعث في العام 1968، وضع في سلم أولوياته كسب هذه المدينة، وكانت الندوات الأولى التي عقدها فيها تحت عنوان «أنت تسأل والحزب يجيب» واستطاع الرئيس العراقي السابق صدام حسين الاستحواذ على كفاءات وطاقات مهمة منها، بأساليب مختلفة بالوعد والوعيد، وبالترغيب والترهيب، ولم يكن الأمر بعيداً عن تحقيق بعض المكاسب، حتى أصبح يوم زيارته للمدينة مناسبة للاحتفال حين شرّف فيه «القائد» المدينة التي أطلق عليها اسم «مدينة صدام» ولكن وضع المدينة تدهور تدريجياً لعدم وجود بُنية تحتية ومجالات للصرف الصحي للمياه، وكانت التبريرات آنذاك، وربما لايزال بعضها الى اليوم تقول: إنها تطفو على بحر من النفط، الأمر الذي لا يمكن معه إصلاح بنيتها التحتية بعد الاكتشافات المهمة هذه.
ودفعت مدينة الثورة، صدام لاحقاً، أثماناً باهظة لإثبات الولاء للنظام، لاسيما في الحرب العراقية-الايرانية، وانتشرت في شوارعها وأزقتها لافتات نعي للشهداء وللقتلى في الحرب، وهو في أحد معانيه دليل على الوفاء والولاء، ولصرف النظر عن المدينة وما تموج به من هواجس وتمردات وشعر.
لكن دوام الحال من المحال كما يقال، فالحصار أضعف قبضة السلطة على المدينة والجماهير والامتيازات ولّت الى غير رجعة، ومعها أرواح الكثيرين، حيث بدأت ملامح التمرد والرفض تتسع، لاسيما بعد مقتل السيد محمد صادق الصدر (والد السيد مقتدى) عام 1999 يوم كان عائداً من الصلاة في الكوفة، فحصلت احتجاجات وتمردات تم قمعها بسرعة وبشدة.
بعد الاحتلال، برز جيش المهدي وجماعة السيد مقتدى الصدر، الذي بادر الى تغيير اسم المدينة إلى «مدينة الصدر» وليس باستعادة اسمها الأصلي «مدينة الثورة» مثلما تم استعادة أسماء محافظات العراق، فبابل عادت لتسمّى الحلة والأنبار استعادت تسميتها إلى الرمادي وكركوك المتنازع عليها نسي الناس اسمها «التأميم» وهكذا. لعل لغة الحاكم هي هي دائماً، حين يحاول بسط نفوذه وسلطانه، والجماهير ظلّت هي هي أيضاً فمدينة الثورة- صدام- الصدر، تحكمت بها النخب الشيوعية البعثية الإسلامية، اضطرت إلى مجاراتها وكانت الجماهير تهتف وتنشد الشعر وتضحي وتقدم القرابين... لا أدري: ما الذي سيحصل لو انحسر التيار الديني- الإسلامي- والإسلاموي، فلمن ستمنح المدينة وجماهيرها ولاءها؟
لعل الأمر بحاجة إلى المزيد من التفكير والتفكّر ففي ذلك عبرة أولاً، وفيه دلالة ثانياً، وفيه مراجعة للتجربة ثالثاً، فالجماهير إذا لم تُترك لتقرر مستقبلها وخيارها بحرية، فإنها قد تتجه بما لا يُحمد عقباه، سواءً لمن يقودها أو يركب على أكتافها أو يستغل اسمها، بزعم الدفاع عن الكادحين أو العروبة أو الاسلام أو العشيرة، «بالعودة» إلى «نظام دعاوى العشائر» والتشجيع للحصول على ولائها بالدم أو بغيره قبل وبعد الاحتلال، وبدلاً من تمدين الريف وتقليص الفوارق بينه وبين المدينة، فقد تم ترييف حاضرة مثل بغداد ومدن أخرى، ودُفعت الجماهير في فورات غضب وعنف بعد معاناة نصف قرن من الزمان.
لقد أصغت الجماهير للنخب السياسية، لكن لم يصغ أحد إليها وإلى معاناتها واحتياجاتها الحياتية، فهل ستكون النخب قد تعلمت الدرس أم سيكون للمدينة وجماهيرها دروسها إذا ما قررت استعادة عصرها... حينها سيصغي الجميع إليها ولكن بعد فوات الأوان؟!
* باحث ومفكر عربي

جريدة الجريدة الكويتية العدد 702، الجمعة 26 يونيو 2009 ,04 رجب 1430

1152
هل عادت أطياف ماركس أم أن نجمه قد أفل؟
عبدالحسين شعبان
2009-06-22
في حوار نظمه «حزب التجمع الوطني» في القاهرة الذي أسسه خالد محيي الدين ومجلة أدب ونقد، التي ترأس تحريرها الأديبة فريدة النقاش، التأمت ندوة حوارية حول الماركسية والاختلاف، ولعل المناسبة كانت صدور كتابنا «تحطيم المرايا» الذي ناقشه الكاتب والمفكر حلمي شعراوي والباحث صلاح عدلي والناقد علي الديب والاكاديمي الدكتور أحمد كامل والناقد خضير ميري، إضافة إلى مدير الندوة الشاعر حلمي سالم الذي أدار الندوة ونظم الحوار، وكان السؤال الذي ظل معلقاً: هل عادت أطياف ماركس أم أن نجم الماركسية قد أفل وشعاعها قد انطفأ!؟ وإذا كان البعض يستشكل هذا السؤال، سابقاً فإنه بعد الأزمة العالمية المالية والاقتصادية للرأسمالية أصبح مطروحاً من لدن أطراف كثيرة!!
يمكن القول إن: الماركسية التي وصلت إلى السلطة لا تشبه ماركسية ماركس، كما أن الماركسية المطبّقة لا تشبه ماركسية ما قبلها وما بعدها، وكذلك فإن ماركسية القرن العشرين لا تشبه ماركسية القرن التاسع عشر، وبالطبع فهي لا تشبه ماركسية القرن الحادي والعشرين، خصوصاً في ظل ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتي فجرتها العولمة، إضافة إلى الموجة الجديدة الأولى من الحداثة، التي أطلق عليها البعض ما بعد «الحداثة».
كما أن ماركسية ما بعد هدم جدار برلين وانتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي إلى شكل جديد، ستكون مختلفة عن ماركسية القرن الحادي والعشرين، وماركسية السلطة تختلف عن ماركسية المعارضة، مثلما ماركسية الثقافة تختلف عن ماركسية السياسة، وماركسية أكسفورد ستختلف عن ماركسية عدن أو مقديشو أو أديس أبابا أو غيرها في الأرياف الشامية أو في العراق.
لعل ماركس هو الذي قال «كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً» ولم يكن ذلك خروجاً على «الماركسية» أو على منهجها الجدلي أو تخلياً عنها كما يعتقد البعض، إذا ما رددنا ذلك، بل هو خروج على الأطر والأنساق المُحكمة والصارمة التي أراد البعض أن يصهر الجميع في بوتقتها، بإقفال باب العلم والاجتهاد والادعاء بتمامية ماركس واكتمال تعاليمه.
وأتصور أن ماركسية القرن الحادي والعشرين ستكون أقرب إلى ماركسية القرن التاسع عشر، لا بمعنى تعليماتها، بل من حيث كونها حرّة وطليقة -وتتحرك في فضاء واسع- وسوف لا تحجز نفسها بقوالب جامدة!
وإذا كانت ماركسية القرن التاسع عشر، أي ماركسية ماركس قد عممت معارف القرن التاسع عشر، وسعت إلى استنباط الحلول والمعالجات للتنمية والتطور والتغيير الذي حلم به ماركس، انسجاماً مع ما توصل إليه وما عرفه من معلومات، فذلك لأن الماركسية -كنظرية جدلية نقدية وضعية- كانت في صراع بينها وبين ذاتها من جهة، وبينها وبين حركة التطور التاريخي من جهة أخرى.
لم تكن الماركسية فلسفة خالصة أو منهجاً للتحليل أو رؤية للتاريخ حسب، أو مشروعاً سياسياً أو حركة ثورية للتحرر والتغيير فقط، إنها كل ذلك، وبذلك اختلفت وتمايزت عن سواها من النظريات الفكرية التي سبقتها أو عايشتها، من الديكارتية إلى الكانطية وصولاً إلى الهيغلية.
نظر بعض الماركسيين إلى الماركسية باعتبارها نهاية مطاف أو حلقة ذهبية أخيرة في الفكر الإنساني، يمكن اقتناؤها أو الاحتفاظ بها كما هي، أي «متحفيتها» في حين أن الماركسية منهج جدلي، لا يشكل ماركس إلا حلقة من سلسلة حلقاته المتصلة والمستمرة وهي بلا نهايات. وبهذا المعنى لا يمكن اختصار الماركسية بماركس، وينبغي قراءة الماركسية بمنهج جدلي أي بمنهج ماركس لا بقوانينه، فتعاليمه تصلح له، وعلينا اكتشاف قوانيننا وبلورة رؤيتنا.
كان ألتوسير يردد: إن فهم التاريخ هو في قراءة الوعي بضده، وتلك أزمة المنهج التي يمكن بواسطتها قراءة الواقع بضده، كما أن الفكر يُعرف بضده، وفيما إذا كان نجم ماركس قد أفل فيمكن استعارة حوار بين فوكو وألتوسير، ففي زيارة ميشيل فوكو لألتوسير في مصحته العقلية بسانت آن سأله: هل ما زلت ماركسياً؟ أجابه ألتوسير ومن تكون أنت بغيرها؟ لكن ماركس هو الذي نبذ فكرة التأطير برده هذا على برودون.
الماركسية فلسفة حضور، والحضور يعني اختلاف عن الغياب، وكان جاك ديريدا في كتابه «أطياف ماركس» قد توقف عند نصيّة ماركس، التي اعتقد أن بالإمكان تجاوزها، بكتابة تؤمن بأن الاختلاف أعلى من الواقع.
ولكن ما هي «الوضعية النقدية» إن لم تكن هي نقداً للوضعيات باعتبار الماركسية مرحلة من مراحل الوضعيات. قد تبدو هذه «مغالطة» إذا ما قرأنا الماركسية من الخارج، ولكن إذا ما قرأنا من الداخل فسنجدها هكذا، وقد كان فضل ماركس على البشرية كبيراً بحكم اكتشافه مبدأ فائض القيمة، وكذلك الصراع الطبقي، الأمر الذي ينبغي قراءته في ضوء المتغيرات اليوم، لاسيما الحداثة وما بعدها والعولمة ووجهها المتوحش، إذ إن الحلقات المكوّنة للفهم الوضعي النقدي تقوم على أن كل نص هو مشروع قراءة، وكل قراءة هي مراجعة للنص، وبالتالي لحجم النقد في النص.
هناك تخالق بين القراءة من وجهة نظر نقدية وبين نقدية النص نفسه: ومن الأمثلة قراءة أنتي دوهرينغ وبؤس الفلسفة لبرودون ورد ماركس عليه بكتاب فلسفة البؤس وقلب الجدل الهيغلي ونقد فيورباخ ونقد برنامج غوتا.
لا بدّ من الفصل على المستوى المنهجي بين الماركسية والتطبيقات الشيوعية، وهذا يعني تخطي القوالب التي حصرت نفسها فيها الموديلات الشيوعية، وهذا يعني أن فشل التجارب الاشتراكية لا يعني نهاية الماركسية، إلا إذا افترضنا الماركسية الرثة، التي اتسمت بنكهة بدوية وملامح قروية، لاسيما في بلداننا العربية.
إن قراءتي الوضعية النقدية هي في إطار المنهج الماركسي وبمعيته، وهو الأمر الذي يدفعني إلى القول بأن هناك نقصاً قرائياً فيما يتعلق بالدين وتصويره باعتباره مضاداً للفكر، ومع أن الدين أبرز أيديولوجية دينية «الأصول- السلف»، تلك التي لم يعرها الفكر الماركسي ما تستحقه من الدراسة والنقد، لاسيما بفهم الدين كتراكم إنساني، لا تهميشه ولا تقديسه، لأن كلاهما يؤدي إلى نتائج كارثية، خصوصاً إذا ما عرفنا حجم التأويل فيه ودور رجال الدين في التأويل والتفسير وإخضاع ذلك لمصالح دنيوية وليست «إلهية» أو ربانية!
ولعل ماركس لم يتحدث عن الدين باستثناء الكراس الذي كتبه عن «المسألة اليهودية»، في حين أن فيورباخ كان قد قدّم قراءة نقدية للدين. أما استخدام مقولة «الدين أفيون الشعوب»، فقد كان خاطئاً بالاتجاهين، في التفسير والتأويل من جهة بعض المتمركسين، ومن جهة من هاجم الماركسية وحاول تصويرها باعتباره أيديولوجيا العداء للدين، تلك التي استغلت في منطقتنا لإصدار فتاوى التحريم والتأثيم وربما التجريم.
بتواضع أقول إن هناك نقصاً ماركسياً في تناول الجماليات لحساب الجانب الأيديولوجي لاسيما في الأصول النظرية، وهذه مسألة لا بدّ من التوقف عندها مثلما قرأ ماركس خطأً دور العامل النفسي، وقد ظلّت المدارس الماركسية والجامعات بما فيها في الدول الاشتراكية تحجم عن تدريس علم النفس أو حتى لا تعترف به لغاية أواسط الستينيات.
وهناك نقص في فهم دور الميثولوجيا والإنثروبولوجيا في إطار دراسة التاريخ والمجتمع، كما أن هناك فهماً خاطئاً لدى ماركس لجانب من المسألة القومية عندما اعتبر شعباً، مثل الشعب التشيكي رجعياً (بالمطلق)، رغم أن أفق الحل الماركسي للمسألة القومية نظرياً كان صحيحاً عندما قرر ماركس: أن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حراً، وهو ما بنى عليه لينين مبدأً صحيحاً وهو «حق الأمم والشعوب في تقرير مصيرها»، وبغض النظر عن ذلك فقد جرت محاولة روسية لـ «ليننة» الماركسية من موقع الدولة الاشتراكية البيروقراطية وهذه أدت إلى تصنيمها وجمودها، لاسيما باستخدام مصطلح «الماركسية اللينينية» وكأنها الحدود الفلسفية التي لا يمكن تجاوزها، وبذلك تم إهمال الدفاتر الفلسفية للينين والمادية والنقد التجريبي، وهما من أهم ما كتبه.
أستطيع القول إن ماركس هو بداية الماركسية لا منتهاها، وقد آمن ماركس بحرية النقد لا دوغمائيته، ولعل هذا يدفعنا للقول إن المنهج الجدلي بحاجة إلى بنيوية جديدة تحليلية من داخل الماركسية، كما هو بحاجة إلى رفد وإضافة من خارجها.
الماركسية نقدية جدلية وهي نظرية مضادة للمفهوم الميتافيزيقي للمعرفة، إذ إن الماركسية بلا نقيض هي مجرد أحلام نظرية، والوضعية النقدية تعني نقد الوضعيات، وهي المنظار الذي من خلاله أراد البعض رؤية الرأسمالية بتداعياتها وأفقها ومستقبلها، فضلاً عن قدرتها على تجاوز بعض معضلاتها البنيوية، لكن طيف ماركس وربما شبحه يظلّ يطل علينا، طالما ظلّت قضية العدالة الاجتماعية غائبة!!


صحيفة العرب القطرية  العدد 7660 الإثنين 22 يونيو 2009 م ـ الموافق 29 جمادى الآخرة 1430 هـ

1153
المجتمع المدني العراقي: هواجس ومطارحات!

د.عبد الحسين شعبان

info@aljarida.com
 

دخل مصطلح المجتمع المدني ومشكلاته معه إلى العراق، ولعل إنشاء الكم الهائل من المنظمات بعد احتلال العراق جعل الارتياب في الكثير من الأحيان سبباً «مبرراً»، لاسيما أن المصطلح والتحرك حملا إشكاليات بعضها نظرية وأخرى عملية، ويعود بعضها إلى نقص المهارات وشحة المختصين وضعف نظام الحصول على المعلومات والآليات المعتمدة، فضلاً عن استخدام بعض الجهات والجماعات السياسية والطائفية لمؤسسات المجتمع المدني على نحو يتعارض مع جوهرها ومحتواها من حيث التمتع بالاستقلالية وعدم الانخراط في الصراع الآيديولوجي والسياسي، ووضع مسافة واضحة ومحددة بين السلطة والمعارضة، لاسيما قوات الاحتلال، والانتماء الطوعي-الاختياري لأعضائها، والطابع غير الوراثي وغير الربحي أو الانتفاعي لوجودها، فضلاً عن ذلك فإن تشكيلاتها وهيئاتها وأنظمتها الأساسية ينبغي أن تكون حداثية وغير تقليدية طائفية أو عشائرية أو غير ذلك.
لكن ذلك شيء ووجود واقع جديد تم التحرك في إطاره لتأسيس منظمات للمجتمع المدني شيء آخر، خصوصاً بعدم وجود ضوابط أو معايير أو حتى قوانين ناظمة، باستثناء بعض القرارات، التي صدرت عن «سلطة الائتلاف» والتشكيلات التي أقامتها، ولعل الرأي العام انشق إلى عدة اتجاهات في تقييمها منها:
الأول: يرى في مؤسسات المجتمع المدني مجرد بدعة وهو وسيلة من وسائل الغرب لاختراق المجتمع العراقي وإبعاده عن مهماته الأساسية، لاسيما في مقاومة الاحتلال، وقد ازداد هذا الفريق يقينية بعد الأموال التي وزعها بول بريمر على بعض المنظمات، والتي بلغت خلال 11 شهراً أكثر من 780 مليون دولار، دون أن تفعل هذه شيئاً ودون أن يعرف أحد لمن صُرفت وكيف استخدمت وما هي المشاريع التي أنجزت!؟
ويقابل هذا الفريق جماعة أخرى ترى في المجتمع المدني وسيلة من وسائل التأثير الخارجي لإشغال المجتمع العراقي بمهمات ثانوية وليست أساسية، مثل حقوق المرأة وحقوق الطفل وموضوع الأقليات وغيرها. وهذه ليست سوى مسائل فرعية في حين أن المسألة الأساسية، هي مسألة الحكم وهي الجوهر، وهي التي ينبغي التركيز عليها وليس الانشغال بمؤسسات إصلاحية لا تقدّم ولا تؤخر كثيراً.
الاتجاه الثاني: وهو الذي حاول أن يركب سفينة المجتمع المدني ويقودها لكي يستغلّه سياسياً أو مذهبياً أو إثنياً ويجعله واجهة لأطروحاته، ولعل هذا يذكّر بفترة الحرب الباردة عندما كان ما يسمى بالمنظمات الديمقراطية واجهة للأحزاب الشيوعية واليسارية، مثل اتحادات الشبيبة والطلبة والمرأة وأنصار السلام وغيرها، كما أن النقابات والاتحادات والجمعيات كانت تخضع لمحاولات الهيمنة عليها ودفعها بالاتجاه الذي تريده هذه الأحزاب السياسية، وحذت بعض الأحزاب القومية في السلطة وخارجها حذو الأحزاب والتيارات الماركسية في الاستحواذ على المجتمع المدني، وفي بعض الأحيان تمت تقاسمات بين القوى الحاكمة وغير الحاكمة، بخصوص المجتمع المدني، كنقابات المحامين والمعلمين والصحافيين والمهندسين واتحاد الأدباء وغيرها، بمبررات الجبهة الوطنية أو التعاون بين القوى والأحزاب السياسية.
الاتجاه الثالث: وجد في تأسيس منظمات للمجتمع المدني فرصة لمزاولة العمل السياسي من خلالها، طالما انغلقت الآفاق وانسدّت الطرق بوجه اللاعبين غير التقليديين الذين انضووا تحت لواء الطوائف والإثنيات والعشائر والجهويات وغيرها، ولعل البعض الآخر وجدها فرصة للتكسّب والارتزاق المادي، وقد انتفخت جيوب البعض من خلال موارد غير معروفة المصادر ومن دون مساءلات سواءً منظمات أو مراكز أبحاث ودراسات، ستراتيجية وغير استراتيجية، بحيث أصبحت مجالاً للتندر وللطعن في المجتمع المدني واستوى فيها الذين يعلمون والذين لا يعلمون، والغث والسمين أحياناً، لاسيما في ظل غياب الرقابة والشفافية والمساءلة. أما الاتجاه الرابع فمازال جنينياً ومحدوداً ومحصوراً على بعض الشخصيات وعدد محدود من المنظمات، التي حملت رغبات صميمية للرقابة والرصد والمشاركة، بهدف تمكين المجتمع المدني ومؤسساته لكي تتحول إلى قوة اقتراح واشتراك، بوجه تغوّل الحكومات والجهات المتسيّدة باسم الطائفة أو الدين أو القومية، ولكن هذا الاتجاه مازال ضعيفاً وقاصراً، فضلاً عن شحة موارده أو انعدامها أحياناً، خصوصاً أن جهات التمويل بما فيها الرصينة تبحث في الكثير من الأحيان عن شركاء سهلين، وفقاً لبعض الأجندات التي لا يرتضيها أصحاب هذا الاتجاه.
ولعل بعض الجهات الدولية تساوقت رغباتها مع استعداد بعض الجهات المحلية في إلحاق ضرر بجوهر رسالة المجتمع المدني، وقد برعت هذه الجهات في عقد الندوات الكبيرة وورش العمل الضخمة وأرسلت الوفود والممثلين ونظمت زيارات وأجرت اتصالات وتواصلات تحت باب التأهيل والتدريب والتربية على ثقافة المجتمع المدني، بزعم أن العراق لم يعرف المجتمع المدني من قبل وأن هذا أمر لا سابق عهد له فيه. وإذا كان المجتمع المدني العراقي بحاجة جدية وماسة إلى ذلك، فإن الكثير من المنظمات لم تكن سوى تجمعات عائلية أو مذهبية أو فئوية أو واجهات حزبية أو غيرها، بمعنى عدم انطباق مفهوم المجتمع المدني عليها.
وقد يتفاجأ البعض مثلما حصل في ندوة انعقدت بعد الاحتلال في أثينا وحضرها إعلاميون ومثقفون وأخرى في عمان لناشطين وخبراء عن المجتمع المدني عندما علموا أن المجتمع المدني العراقي كان ظاهرة تاريخية قديمة، لكنه تبلور بمفهومه الحديث والمعـاصر كإرهاص جنيني منـذ تأسيس الدولة العراقية العام 1921. وكانت البدايات قد اتخذت شكل إنشاء وتأليف جمعيات وروابط ومؤسسات دينية وثقافية وتعليمية واجتماعية ورياضية أهلية وغيرها، ثم تشكلّت النقابات والاتحادات المهنية والجمعيات والمؤسسات غير الحكومية!
وإذا كانت العشرينيات من القرن الماضي، قد شهدت حوارات ساخنة وجدلاً مثيراً حول قضايا الاستقلال وقضايا اجتماعية وثقافية وسياسية، مثل السفور والحجاب والموقف من حقوق المرأة والتحرر والحداثة، فإن تلك الفترة الغنيّة مهدّت لنقاشات أوسع وحوارات أشمل وآراء أعمق، تبلورت فيما بعد باتجاهات فكرية وسياسية وثقافية داخل المجتمع العراقي، لعبت فيه بعض مؤسسات المجتمع المدني دوراً إيجابياً رغم بداية عهدها وقلّة تجاربها. يمكن القول إن بدايات انتعاش المجتمع المدني في العراق كانت في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات حتى الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي العام 1936، حيث أقيمت «جمعية أصحاب الصنايع»، التي تزعّمها النقابي العمالي المعروف محمد صالح القزاز (وكان ميكانيكياً)، لكن هذه النقابة تم حلّها عام 1931 بعد أن قادت إضراباً عمالياً دام 14 يوماً، ثم أسس القزاز «جمعية عمال الميكانيك» عام 1932 و«نقابة اتحاد عمال العراق». وحسبما يذكره حنّا بطاطو فقد تأسست نقابات ومنظمات: لعمال الصحف والمطابع والسكك الحديدية، والحرفيين، وتجار السمن والفواكه والخضر وسوّاق السيارات ومهندسي الميكانيك، والحلاّقين والخيّاطين، وأصحاب المقاهي وجمعية تشجيع المنتجات الوطنية، إضافة إلى 3 فرق مسرحية وناد للموسيقى وجمعيات مكافحة الأمية وجمعيات خيرية إسلامية ويهودية ومسيحية إضافة إلى تأسيس جميعة للمحامين عام 1930 وجمعية للأطباء 1934.
وإذا كان الموقف من حقوق المرأة قد شقّ النخبة الفكرية والثقافية، فإن القضايا الشعبية والعدالة الاجتماعية والموقف من الاستعمار، قد شكل همّاً كبيراً لجمهرة واسعة من المثقفين. وقد ساهم تأسيس النقابات العمالية والاتحادات المهنية فيما بعد في قطاعات المحامين والمعلمين والأدباء والصحافيين والفنانين المسرحيين والتشكيليين والمهندسين والاقتصاديين والأطباء، والجمعيات الفلاحية في تعميق وجهة المجتمع المدني في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
بعد ثورة 14 تموز (يوليو) عام 1958 تأسست قانونياً و«شرعياً» بعض مؤسسات المجتمع المدني، مستفيدة من أجواء الحرية، التي انتشرت في السنة الأولى من عمر الثورة، فإضافة إلى النقابات والاتحادات المهنية، تأسست أيضاً جمعيات خيرية وجمعيات إسكان وجمعيات تموين ونواد رياضية ومنظمات للمثقفين والأدباء والكتاب والخريجين وغيرها. ورغم الصراع والتنافس السياسي الحاد في الاستحواذ على هذه المنظمات، وبخاصة هيئاتها الإدارية وتدخلات الدولة، فإنها ضمنت حدّاً لابأس به من الحرية، وفازت هيئات إدارية ولجان تنفيذية بالضد من إرادة الحكومة.
ولكن منذ أواخر الستينيات اتجهت السلطات الحاكمة لوضع اليد على هذه المنظمات لقضمها بالتدريج تمهيداً لابتلاعها بالكامل أو «تأميمها»، واتّخذ «الاحتواء» أشكالاً مختلفة من حل مجالس الإدارة، إلى التقاسم السياسي وتوزيع المناصب بين قوى حكومية وقوى أخرى تدور في فلكها أو متحالفة معها، ليتّم تدريجياً فرض الهيمنة الكاملة على هذه المؤسسات وجعلها تابعةً للحكومة، بل أحد أعمدتها في الترويج لسياستها إيديولوجياً.
هكذا «غاب» المجتمع تدريجياً وتعّرض نموّه عنوةً للإجهاض والانقطاع والتشوّيه، بحيث أكلت الدولة المجتمع المدني، وتغّولت السلطة على الدولة وتحكّم بالسلطة أقلّية بصلاحيات تكاد تكون مطلقة وغير محددة تكبر كل يوم مثل كرة الثلج، ولعل تجربة ما بعد الاحتلال بحاجة إلى وقفة نقدية جدية فضلاً عن مساءلات ضرورية خصوصاً تعرضها لمحاولات التشويه والتزييف والخداع، وذلك بفصل الخيط الأبيض عن الخيط الأسود.
* باحث ومفكر عربي
 
جريدة الجريدة الكويتية العدد 656، الجمعة 19 يونيو 2009 ,26 جمادى الثانية 1430

1154
استراتيجيات المجتمع المدني
   

عبدالحسين شعبان
 

منذ سنوات والتفكير يستغرق في إطار المجتمع المدني بعض نشاطات وفاعليات مؤسساته، دون التوقف أحياناً عند المصطلح ودلالاته ومضمونه والنوافذ المهمة التي فتحها، وبخاصة منذ أكثر من عقدين ونيّف من الزمان، رغم بعض الألغام التي احتوى عليها، لكنه في كل الأحوال كان جزءًا من مسار كوني لا يمكن تجاهله أو إغفاله أو عزل مجتمعاتنا عن التأثر به، ولا سيما بالمشترك الانساني الذي يحمله، ناهيكم عن أبعاده الإيجابية، لاسيما لقضية الاصلاح والديمقراطية والتنمية.

ولعل قلّة من الباحثين والمفكرين والمنشغلين في إطار المجتمع المدني حاولوا التفكير بصوت عال حول استراتيجيات المجتمع المدني ودور مؤسساته في عملية التغيير والتحوّل الديمقراطي وما يتعلق بالعدالة الانتقالية والتطور السلمي التراكمي وفي نقد السياسات والممارسات القائمة وفق رؤية حقوقية مهنية ثقافية وليست سياسية أو دينية.

وقد تأسست في القاهرة مجموعة عمل اشتغلت على ملف أساسي يتعلق بالتصورات حول عمل الجمعيات وعقدت مؤتمراً في أثينا ناقشت فيه الاسس المشتركة الدولية الحقوقية من جهة، وواقع مجتمعاتنا العربية من جهة أخرى، كما تكوّنت نواة لمجموعة استراتيجيات في بيروت حاولت بحث بعض الأفكار العامة، لكن العمل المجتمعي المدني ظل بعيداً في وجود استراتيجيات معترف بها، ثابتة ومتحركة، في إطار فهم نظري وتجربة عملية ميدانية، من خلال مرجعية يمكن الركون اليها للاسهام في ايجاد إجابات عن الاسئلة الكبيرة التي تطرحها الحياة ولتدارس سبل العمل المشترك بين المجاميع المتوزعة والمتناقضة أحياناً.

كما أن تلك التحركات لم يقدّر لها الديمومة والاستمرارية لعدم توفر جهات راعية، في وقت تنصرف النشاطات لبعض الفعاليات والمؤتمرات والندوات من دون وقفة تأمل أحياناً، لبعض القضايا الجزئية والفرعية على أهميتها، لكنها من دون وجود خيط رابط وإطار جامع.

لعل الحاجة تظل مستمرة الى وجود استراتيجيات ومرجعيات للمجتمع المدني مع احترام التنوع والتعددية في هذا الاطار، لكن الأمر يحتاج أيضاً الى رؤية مهنية وحقوقية لفهم المجتمع المدني وفلسفته بدراسة الواقع وفحصه فكرياً ومهنياً، وبالتالي التحرك بما يصب في رفده وخدمة أهدافه عبر أساليب مناسبة، وحسب ظروف كل بلد وكل كيان، لاسيما بتحريك قطاعاته المختلفة، في علاقات وشبكات وفاعليات ذات أبعاد مشتركة.

مؤخراً التأمت ندوة مهمة لعدد محدود من خبراء عرب ودوليين في عمان للبحث في استراتيجيات وتبادل تجارب، على أساس فكري وعملي، فيما يخص المجتمع المدني، وكانت الدعوة من “مؤسسة المستقبل” برعاية رئيستها القديرة نبيلة حمزة، وطرح السؤال مجدداً ما الفرق بين المجتمع الاهلي والمجتمع المدني، وبين هذا الاخير وبين المجتمع الوطني- القومي وبينه وبين القطاع الثالث وبينه وبين الجمعيات الخيرية غير الهادفة للربح وبينه وبين القطاع المستقل والقطاع غير الخاضع للضريبة والمنظمات غير الحكومية والمنظمات التطوعية والمنظمات غير الربحية؟

ولعل ذلك كله يثير بعض الاشكالات، لاسيما في العالم العربي ويعود الأمر لحداثة الموضوع ولعدم وجود خبراء ومختصين كافين، فضلاً عن قلة الخبرة واستغراق أعداد واسعة من المنظمات والنشطاء في عقد ورش عمل وندوات وفاعليات، يضاف الى ذلك شحّة الموارد، وهشاشة البُنية السياسية والقانونية (التشريعية) والاجتماعية الحاضنة وضعف الأجواء الثقافية المساعدة والمشجعة.

ولعل من سمات وشروط تأسيس منظمات المجتمع المدني أن تكون ذا طابع حداثي غير تقليدي وديمقراطي على مستوى علاقات هيئاته أو أفراده بالهيئات ومع محيطه الخارجي، وأن تكون منظماته تعددية وتقبل الاختلاف والتنوّع.

ومن السمات الأخرى للمجتمع المدني لا بدّ أن تكون منظمات سلمية لا تؤمن بالعنف ولا بدّ لها أن تضع مسافة واضحة بين الحكومات والمعارضات، وهي لا تستهدف الوصول الى السلطة أو لعب أي دور سياسي أو الانخراط في الصراع الآيديولوجي، لأن ذلك سيجعلها منحازة سلفاً، ولكن هذا المفهوم لا يعني حيادية مؤسسات المجتمع المدني لأنها تعبّر عن حقوق وفئات ومصالح المجتمع بشكل عام ومنتسبيها بشكل خاص.

ومن صلب أهداف المجتمع المدني ومؤسساته تهيئة الأجواء لبناء مواطنة متساوية وكاملة دون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو العرق أو الجنس أو اللون أو المنحدر الاجتماعي أو غير ذلك، وتستهدف منظمات المجتمع المدني تشجيع الجهود التطوعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزز التضامن والتكافل والتعاون والمساندة بين جميع الفاعليات الاجتماعية، وتستند مؤسساته بذلك الى أسس قانونية وبنية سياسية (نظام سياسي) تقبل التعددية وعلاقات اجتماعية متوازنة وأجواء ثقافية مشجعة.

ولعل المجتمع المدني العربي وهو ما كان مدار بحث مقارنة مع المجتمعات البلقانية (بحضور خبيرين دوليين من هنغاريا) التي تحوّلت باتجاه الديمقراطية وخطت خطوات نحو الاصلاح، ظل يعاني من ضعف في الثقافة الحقوقية- القانونية والمجتمعية، إضافة الى كوابح سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية وخارجية، بعضها يتعلق بالتقاليد والموروث والطائفية والعشائرية والموقف من الاقليات والمرأة وغيرها، وبعضها يتعلق بالعامل الخارجي الذي يتمثل ببعض مظاهر الاستتباع وفرض الهيمنة، ناهيكم عن الاحتلالات والحصارات والحروب التي عطّلت الديمقراطية واضرّت بالتنمية وأخرت تقدم بلدان المنطقة.

وتكمن أهمية اللقاء الاستشاري الدولي لعدد من الخبراء بمن فيهم من الامم المتحدة في مناقشة السبل الكفيلة بتكوين تصوّرات مشتركة إزاء مستقبل المجتمع المدني، لاسيما بعض نواقصه المتعلقة باداراته وتأهيله وتمويله وتوصيفاته السلبية أحياناً، لكن ذلك لا يبرر ولا يعفي الحكومات من مسؤولياتها التي تتعلق بالترخيص له والاعتراف بدوره والتعامل معه شريكاً مطلوباً وأساسياً في عملية التنمية، بل انه عنصر إغناء ورفد، لا غنى عنه لتحقيق التنمية المنشودة.

ولعل ذلك نقطة أساسية اتفق فريق الخبراء على الحرث فيها لوضع أسس يمكن رفدها بالفكر والمعرفة والخبرة والتجربة العملية، لوضع استراتيجيات عمل واقعية ومناسبة تنطلق من الحاجة الماسة والأكيدة لشراكة حقيقية، على المستوى الوطني والدولي، ناهيكم عن دائرة بحث وتفكير مستمرتين، بحيث يتم التواصل والتفاعل بالاستفادة من الخبرة المتوفرة داخلياً ودولياً وتطويرها وهو ما يمكن مناقشته وتبادل الرأي بشأنه لاحقاً مع العديد من المنظمات والفاعلين في إطار المجتمع المدني.

باحث ومفكر عربي


صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 17/6/2009

1155
في حوار مع المفكر والحقوقي العراقي

د. عبد الحسين شعبان: الانسحاب الأمريكي الشامل من العراق أمر مشكوك فيه

الانتخابات العراقية المقبلة... لعبة مكررة في ذات الملعب ومع نفس اللاعبين


 
العراق غير قادر على استقبال لاجئيه والضغط عليهم لإعادتهم بالقوة خطأ كبير
13/6/2009
حاوره: اسعد العزوني
        وصف المفكر والخبير في حقوق الإنسان العراقي د.عبد الحسين شعبان الرئيس الأمريكي اوباما بأنه اضعف رئيس دخل البيت الأبيض لكنه سيكون أفضل ناطق باسم الإدارة الأمريكية.
        وقال في حوار مع  العرب اليوم أن  الدلائل كافة تشير إلى عدم إقدام الاحتلال الأمريكي على الانسحاب الشامل من العراق وان ما سيحدث انسحاب جزئي فقط.
       وأوضح أن العراق غير قادر على استقبال لاجئيه في الخارج وان الضغط عليهم لإعادتهم بالقوة خطأ كبير.
      وفيما يلي نص الحوار:

* إلى أين وصلت فكرة الانسحاب الأمريكي من العراق علما أن هناك من يقول أن الاحتلال باق لأكثر من عشر سنوات؟

- اعتقد أن الانسحاب أصبح مطروحا على الصعيد النظري على اقل تقدير خصوصا بإعلان الرئيس الأمريكي أن الانسحاب من العراق سيكون خلال 18 شهرا وهذا ما وعد به قبل وصوله إلى البيت الأبيض ثم تعهد به بعد نجاحه في الانتخابات, ولكنه وضع بعض الشروط التي قد تعطل عملية الانسحاب الكامل ولذلك اعتقد أن انسحابا جزئيا سيحدث خلال الفترة التي حددتها الاتفاقية الأمنية بين العراق وأمريكا أي إلى نهاية العام 2011 وقال الرئيس اوباما وبعض المسؤولين العسكريين الأمريكيين أن هناك بين 30-50 ألف جندي أمريكي سيبقون في قواعد ثابتة ومستقرة لفترة طويلة وان مصير الانسحاب سيتحدد وفقا للمعطيات الميدانية ولما يقرره القادة العسكريون الأمريكيون أي أن يكون انسحابا منضبطا ولكن إذا كان الانسحاب سيؤدي إلى كارثة  لاسيما عدم القدرة على مواجهة التهديدات الخارجية أو الداخلية بالنسبة للعملية السياسية أو للكيان العراقي ككل، فإننا سنقرأ أن الانسحاب الكلي أو الشامل بعيد المنال وهذا ما هو متوقع.

* ما قراءتك لدعوة نوري المالكي لتغيير الدستور؟
- المالكي ومعه القوى السياسية المتنفذة حاليا وافقوا على الدستور لتمرير شكل من أشكال الصفقة التاريخية كما اعتقدوا ولكن بعد أن وصل المالكي إلى السلطة وتمتع بالصلاحيات الممنوحة له وحقق بعض النجاحات لا سيما في الوضع الأمني في التصدي لبعض المليشيات والنجاح في انتخابات المحافظات عندها شعر بقيود يفرضها الدستور عليه الأمر الذي دعاه إلى محاولة تغيير الدستور وحدد بذلك موضوع صلاحيات السلطة الاتحادية التي شعر أنها قليلة وهناك دعوة لتعديل آخر عندما طرح النظام الرئاسي بمعنى انه لم يكتف بتعديلات الدستور وصلاحيات السلطة الاتحادية وإنما دعا إلى تغيير النظام البرلماني إلى نظام رئاسي أي انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب رغم انه في كلا الحالتين لم يفصح عن التعديلات التي ينوي وضعها بل اكتفى بوضعها كعناوين ربما تكون جزء من التكتيك السياسي ومجسا لمدى استعداد القوى الأخرى لتقديم بعض التنازلات وللاعتراف بسلطته باعتباره القائد الفعلي للبلاد دون منازع وان لا وجود لسلطات أخرى منافسة سواء أكانت رئاسة الجمهورية أو غيرها من القوى التي أرادات أن ( تتعكز ) على التوافق لتأكل من بعض صلاحيات رئيس الوزراء ضمن ما يقرره الدستور حاليا وربما يعد هذا الأمر براعة سياسية من المالكي في أنه طرح الموضوع بطريقة أشبه بالطرق السياسي لمعرفة رد فعل القوى الأخرى وفي مقدمتها كتلة التحالف الكردستاني ممثلة برئيس الجمهورية جلال طالباني وكتلة التوافق ممثلة بنائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي للاعتراض على تصريحات المالكي واعتبرا ذلك إخلالا بالعملية السياسية التي قامت على التوافق وعلى الديمقراطية التوافقية التي أراها شخصيا بأنها  الديمقراطية التواقفية  أي أنها أوقفت تطور العملية السياسية بأن أخضعت كل شيء إلى التوافقية رغم مرور ست سنوات الأمر الذي أصبح بحاجة إلى تعديل وإعادة النظر بمجمل العملية السياسية لا سيما مبدأ  الديمقراطية التوافقية  التي أوقفت التطور الدستوري والسياسي في العراق وأخضعته إلى الصفقة السياسية ليس بمعناها التاريخي وإنما بمعناها الحصول على مكاسب وامتيازات لصالح الكتلة التي ارتضت القبول بالعملية السياسية المرجعية الحاكمة للعراق.

* ماذا يعني قيام حكومة كردستان العراق بتصدير النفط مباشرة من دون المرور على الحكومة المركزية؟
- اعتقد أن هناك التباسا في الأمر وهو في جزء منه لصالح حكومة كردستان والجزء الآخر لصالح القوى الأخرى المعارضة لذلك, هذه الصلاحية مستمدة من الدستور العراقي النافذ والذي قال انه بالنسبة للحقول غير المستخرجة فانها ستكون من حصة الأقاليم التي يمكن أن تديرها هي وتشرف عليها بالاتفاق مع السلطة الاتحادية أما الحقول المستخرجة فإنها ستكون من صلاحيات السلطة الاتحادية ويمكن للأقاليم المساعدة في إدارتها هنا نستطيع القول أن حكومة كردستان وضمن الصلاحيات التي منحها إياها الدستور فإنها تتصرف وفق الدستور ولكن العيب هو الدستور نفسه حيث وضع ألغاما وقنابل موقوتة ربما تنفجر في أي لحظة ومنها القنبلة النفطية التي انفجرت, ومن جهة ثانية قال الدستور بوضوح أن النفط والغاز والموارد الطبيعية كافة هي ملك للشعب لكنه وضع استثناءات في الحقول المستخرجة وغير المستخرجة الأمر الذي أدى إلى الالتباس الحاصل حيث قام كل طرف بتفسيره كما يريد والأمر بحاجة لفض اشتباك في موضوع الثروة والموارد الطبيعية التي يجب أن تخضع كلها إلى السلطة الاتحادية التي ربما توزعها على الأقاليم بطرق متفق عليها دستوريا وان يتم تحديد صلاحيات الإقليم خاصة وان هناك إقليما واحدا في العراق هو إقليم كردستان الذي يتمتع بصلاحيات كبيرة بموجب الدستور وقد تكون فاقت الصلاحيات التي نصت عليها الدساتير الاتحادية واعتبر خصوصية فظه الان مسألة راهنية وينبغي أن تكون سلمية وإلا انفجرت العملية السياسية بمحاولة هذا الطرف أو ذاك فض الاشتباك بطريقته الخاصة.

* ما هوية العراق الحالية؟
- أنت تقصد كما ترآى لي انه لا وجود لهوية غالبة للعراق وربما أراد الدستور القول إن العراق مكون من مجموعة أقليات ولا صفة غالبة للهوية العراقية وقد دخلت الأطراف والقوى المشاركة في العملية السياسية وخارجها في نقاش حولها: هل هوية العراق عربية؟ وقد غيبت هوية العراق العربية وابتكرت حلول ناقصة باعتبار أن عرب العراق هم جزء من الأمة العربية وليس العراق ككيان سياسي وحتى لو افترضنا أن العراق ككيان سياسي جزء من الأمة العربية لا يمنع القول أن الشعب العراقي مؤلف من قوميتين رئيسيتين هما العربية والكردية اضافة إلى قوميات أخرى مثل التركمانية والأشورية وغيرها من الهويات الفرعية التي لا بد من احترامها في إطار الهوية الغالبة والمانعة الجامعة, هذا الأمر احدث نوعا من الالتباس والشروخ النفسية منها التنازع على كركوك على سبيل المثال فالطرف الكردي يرى في هذه المدينة أنها قدس الأقداس بالنسبة إليه وبعض الأطراف العربية التركمانية تقول أن كركوك جزء من الإقليم العربي أو لها هوية خاصة متعايشة فيها العرب والتركمان والأكراد والأشوريين وفيها المسلمون والمسيحيون وسنة وشيعة بمعنى أنها قوس قزح العراق ولذلك يمكن أن تكون كيانا أو فيدرالية خاصة وبالنسبة لي كحقوقي فانه لا يهمني أين تكون كركوك؟ بل جل ما يهمني أن تبقى في الإطار العراقي أولا وأن تكون متعايشة باحترام كافة الهويات وكذلك احترام حقوق الإنسان للجميع فيها.

* كحقوقي كيف تنظر إلى قيام نواب عراقيين بمطالبة الكويت بالتعويض بسبب سماحها للجنود الأمريكيين الانطلاق منها لغزو العراق؟

- ينبغي على جميع الأطراف التحلي بالحكمة وبعد النظر وأن تتصرف من موقع العقل والمصلحة الوطنية في الوقت الحاضر والمستقبل, لا شك أن هناك جروحا عراقية وكويتية يحملها كل طرف على الطرف الآخر واعتقد أن ذاكرة الكويتيين لن تنسى ما حصل في 2 آب 1990 كما أن ذاكرة العراقيين في الوقت نفسه لن تنسى أن حصارا دوليا فرض على العراق مدة 13 عاما لم يكن بمعزل عن دعم إقليمي بما فيه الكويت, العراق سيبقى جارا للكويتيين والكويت ستبقى الجارة الجنوبية للعراقيين ولا يمكن نقل العراقيين واستبدالهم بسويديين على سبيل المثال ولذلك لا بد من اخذ هذه المسائل بالمصالح المشتركة فالعراق تحمل ودفع الكثير ولسنوات طوال حتى أن العراقيين وابان شهر العسل الكويتي العراقي دفعوا ثمن حروب لا مبرر لها, وعلينا أن نقرأ المستقبل بعيون مفتوحة والاعتراف بان كافة المآسي التي حلت بالإقليم بأسره وخاصة وقوع العراق تحت الاحتلال وما أعقب ذلك من تشظي وانقسام في المجتمع العراقي كان بسبب ما جرى بين الكويت والعراق ولكن إذا كان بعض العراقيين يرغبون بمساءلة البعض الآخر حول تسهيل مهمة غزو العراق فعليهم مساءلة الغزاة أولا الذين قالوا أن العراق لديه أسلحة دما ر شامل وانه مرتبط بالإرهاب الدولي لكنه اتضح أن كل هذه الادعاءات كاذبة وقد اعترف بوش بان المعلومات التي تلقاها كانت مغلوطة وهذا يشكل بحد ذاته مسؤولية قانونية جنائية ومدنية من حق العراقيين المطالبة بها ليس فقط بالتعويض بل بالمسؤولية الجنائية إزاء كل الإضرار والدمار في البنية التحتية العراقية وكذلك نهب ثرواته وآثاره وكذلك الانقسام المجتمعي كما أنه يتوجب مساءلة من سهل الاحتلال من العراقيين أنفسهم ولكن فيما يتعلق بالموضوع العربي علينا حل الإشكال وديا واخويا بروح الحكمة والروابط المشتركة واعتقد أن بعض التصرفات تذكر بالماضي علما أن الأمر يتطلب إسدال صفحة على الماضي وعلى السياسة العراقية أن تتصرف بروح ودية وسلمية إزاء الجوار حتى وان بدت هناك أخطاء من هذا الطرف أو ذاك وعلينا التعاون لإنهاء الاحتلال وإزالة التبعات التي ترتبت عليها بما فيها الفصل السابع وكذلك استعادة العراق لسيادته واستقلاله وموارده وان يفهم الجميع أن استقرار الكويت من استقرار العراق وكذلك فان استقرار الخليج بشكل عام على يعتمد على استقرار العراق.

* ما قراءتك لملف الفساد في العراق؟
- الفساد هو التمرد الثاني في العراق بعد الإرهاب وقد قال محلل أمريكي ذلك والسؤال: من الذي جاء بالفساد? أليس هم الأمريكيون? من خلال المحاصصة واستبعاد الكفاءات والطاقات العراقية واعتبار الولاء السياسي هو الأساس في المنصب السياسي والإداري الذي امتد من الوزير حتى الخفير بهذا المعنى وإذا كان هناك شكل من أشكال الفساد السياسي والإداري خلال فترة الحصار الدولي الجائر فان الذي جعل الفساد ينفلت من عقاله هو المحاصصة السياسية التي كرسها الأمريكان وانعكست على المناصب الحكومية والإدارية, وبحسب ملفات هيئة النزاهة فان هناك أكثر من ألف قضية فساد كبرى و 93 مسؤولا بينهم 15 وزيرا متهمين بقضايا فساد ورشا وهنا عدد من أعضاء البرلمان متهمون بقضايا فساد ورشا أيضا ناهيك عن القضايا المسكوت عنها والأخرى التي جرى إغلاقها وكذلك الفساد الذي ساد في إطار المعارضة العراقية السابقة وهو بحاجة إلى مساءلة الجهات التي تسببت في ذلك الفساد وللأمريكيين الذين أعطوا مالا بدون حدود وعلى سبيل المثال فان بريمر وحده بدد 8.8 مليار دولار وكذلك الحكومات العراقية التي أعقبته بددت ما يزيد عن 20 مليار دولار وربما كان وزير التجارة الحالي هو كبش الفداء الذي توجب عليه دفع الثمن وتم اتهامه بقضايا فساد كبيرة وهناك وزراء فروا وكذلك متهمون بسبب حصولهم على جنسيات أخرى والمطلوب إطلاق يد القضاء لإصدار إحكام واجبة التنفيذ بعد مصادقة جهات دستورية عليا عليها.

* المفوضية العليا لشؤون اللاجئين تقول أن العراق عاجز عن استقبال لاجئيه من الخارج ما قولك بذلك؟
- هذا صحيح وبالتالي فان أي ضغوط يتعرض لها اللاجئون العراقيون لإعادتهم بالقوة ستتحمل نتائجها جهتان رئيسيتان هما الجهة التي تطلب إعادتهم سواء الحكومة العراقية أو غيرها وكذلك الجهة التي تعيدهم كان تكون تلك الجهة الدول المضيفة الأمر الذي يعد تجاوزا على الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وعلى الاتفاقية الخاصة باللاجئين لعام 1951 وملحقها لعام 1967 حيث لا تجيز هذه الاتفاقيات ولا تطلق يد الدول المضيفة للاجئين بإعادتهم كما أنها لا تعطي الحق أو لأي جهة أخرى لتطلب أعادة هؤلاء اللاجئين الذين فروا من بلادهم طلبا للنجاة وهربا من الفتنة الطائفية والتمييز بأشكاله والعراق بلد غير آمن حتى هذه اللحظة وما يزال بحاجة إلى من يساعده لحفظ الأمن.

* ما قراءتكم للانتخابات العراقية المقبلة؟
- هذه الانتخابات ستجري في ذات الملعب ومع نفس اللاجئين وسيتم تقسيم الحصص والنسب بين نفس المجموعة السياسية التي تظهر في المشهد السياسي وربما تنتقل حصة هذا الفريق إلى ذاك ولكن في نفس الإطار ومثال ذلك مجموعة المالكي وحزب الدعوة كإطار شيعي ستأخذ من حصة عبد العزيز الحكيم والمجلس الإسلامي الأعلى ومن حصة مقتدى الصدر وحزب الفضيلة ومن حصص أخرى مقاربة في نفس الإطار, وربما أخذت مجموعة الصحوات من حصة التوافق ومن حصص مجلس الحوار وغيرها كما أن المجموعة الكردية التي تعد الأكثر تماسكا فتشهد منافسات داخلية وربما يؤدي ذلك إلى تصدع بعض اطرافها أي أن الأطراف الأخرى ستأخذ من حصة التحالف الكردستاني, ولو نظرنا إلى قانون الانتخابات نفسه لوجدنا أن الصيغة التي وضع فيها لا تهيئ الإمكانية لإحداث شرخ كبير في إطار الانتخابات العامة وقد جاءت انتخابات المحافظات بنفس النتائج حيث حصلت كتلة المالكي على حصة الأسد وتلاها عبد العزيز الحكيم من المجلس الإسلامي الأعلى الذي كان منافسا للمالكي لكن المالكي طرح شعار دولة القانون وحاول الابتعاد قليلا عن الشعارات الطائفية ولذلك حصل على أصوات أكثر من الحكيم ولكن في نفس الدائرة كما أن الإطراف الأخرى حصلت على نفس المقاعد من الدائرة أيضا وهذا ما يدعوني للقول أن الانتخابات ستكون في نفس الإطار مع تحسن نسبي إزاء بعض الأطروحات التي كانت تتشبث بالطائفية بالابتعاد عنها قليلا إلى أطروحات اشمل وأكثر وطنية وان ظلت تدور في نفس الفلك, ما يدعوني إلى القول أن الانتخابات المقبلة لن تشهد تطورا كبيرا لعدم وجود قوى حية داخل المجتمع تنافس القوى المهيمنة حاليا.

* كيف تنظرون كعراقيين إلى الإدارة الأمريكية الجديدة؟
- سجل هذا الكلام عني وتابعه بعد أربع سنوات, اوباما سيكون اضعف رئيس أمريكي وصل إلى إدارة البيت الأبيض ولكنه أفضل ناطق باسم الإدارة الأمريكية لتحسين صورتها وخطابها على المستوى الأمريكي والدولي والعربي والإسلامي خاصة بعد الخطاب الرث والركيك الذي كان يتشبث به سلفه جورج بوش الابن وقد تميز خطاب اوباما الجديد بكونه أكثر نصاعة وأكثر تماسكا وقدم ما هو ايجابي ولكنه سوف لن يفعل شيئا يذكر لأنه مرتهن للتوازنات السياسية المالية للمجمع الصناعي الحربي والاتجاهات الأكثر يمينية التي شنت هجوماً ضده، وكذلك للوبي الصهيوني الذي لن يسمح له بالتصرف ابعد مما يريد. وقد كشر عن أنيابه وطالب العالمين العربي والإسلامي بالاعتراف بإسرائيل دون مقابل وسيضع المبادرة العربية - السعودية جانبا رغم أنها ظلت في الأدراج طيلة السنوات السبع الماضية دون أن تتقدم خطوة إلى الإمام لان إسرائيل ازدرتها وأدارت ظهرها لها ولذلك فان اوباما سيطلب من العرب والمسلمين عربونا أوليا لحل سوف لن يأتي ولكن على العرب والمسلمين أن يطيعوا الرئيس اوباما ويعترفوا بإسرائيل بالمجان!

1156
التنمية والمجتمع المدني العربي ..
عبدالحسين شعبان
2009-06-15
بمبادرة من إدارة المجتمع المدني العربي التابعة لجامعة الدول العربية ومفوضية المجتمع المدني العربي في عمان، ناقش فريق من الخبراء والممارسين العرب بمن فيهم بعض ممثلي المجتمع المدني مسألة في غاية الأهمية والراهنية، ونعني بها علاقة المجتمع المدني بعملية التنمية والدور الذي يمكن أن يقوم به في إطار التكامل الاقتصادي العربي.
وكانت مبادرة قمة الكويت الاقتصادية (مطلع العام 2009) قد أولت اهتماما بالمجتمع المدني، لاسيما بدعوة مؤسساته لحضور جانب من اجتماعاتها، وهو اعتراف بدور جديد للمجتمع المدني، يمكن أن يضطلع به، لاسيما إذا استطاع أن يتحول من قوة احتجاج واعتراض حسب إلى قوة اقتراح واشتراك، وهو الأمر الذي سيعني استكمال مهماته ووظيفته باعتباره شريكا للحكومات ومكملا لوظيفة الدولة، لاسيما المعاصرة، التي تفترض مساهمته لإنجاز وتحقيق مستلزماتها، باعتباره قوة لا غنى عنها، رصدا ومراقبة وشراكة، تتوسع كلما اتسعت دائرة المشاركة في اتخاذ القرار وبخاصة في الدول الديمقراطية أو التي تسير باتجاهها، والقائمة على قاعدتين أساسيتين هما: المواطنة الكاملة والمساواة التامة.
وإذا كان مثل هذا الدور لم يتبلور بعد في عالمنا العربي لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية، فإن مبادرة جامعة الدول العربية تكتسب أهمية خاصة أولا لتساوقها مع التطور الدولي على هذا الصعيد، ونظرا لما يمتلكه المجتمع المدني العربي من حيوية وقدرة على التجاوب، وثانيا لتمهيدها لتطور لاحق لا مندوحة عنه، وهو إشراك وتوسيع دائرة التفاعل بين الحكومات والمجتمع المدني العربي، ولعل في ذلك ثالثا خطوة أولى لا بد منها لإعادة النظر بميثاق جامعة الدول العربية، الذي تم إبرامه العام 1945 وقبل قيام الأمم المتحدة والذي لم يتحدث ولو بإشارة واحدة عن حقوق الإنسان أو يعط دورا للمجتمع المدني، الأمر الذي هو بحاجة إلى قراءة جديدة وتحديث، ورابعا لأن الخطوة التجديدية التي اتخذها الأمين العام عمرو موسى بإنشاء مفوضية المجتمع المدني العربي وإيكال أمر توليها إلى شخصية جديرة هو طاهر المصري رئيس الوزراء الأردني الأسبق، لا بد من البناء عليها تمهيدا لكي تكون المفوضية كيانا مستقلا ومظلة يمكن أن تجتمع تحتها، وفي ظلها مؤسسات المجتمع المدني العربي، وتكون أقرب إلى المرجعية في إطار جامعة الدول العربية وبالتعاون الوثيق معها.
التنمية التي تعني "عملية توسيع خيرات الناس" تتطلب تحقيق المساواة وعدم التمييز لأي سبب كان، سواء كان تمييزا قوميا أو دينيا أو لغويا أو اجتماعيا أو جنسيا أو لأي سبب آخر يتعلق بالمعتقد الفكري أو السياسي، مثلما تتطلب تحقيق عدد من الجوانب المعنوية وبخاصة فضاء الحرية وحق الحصول على المعرفة والتمتع بالجمال والفن والأدب ومنجزات الثقافة.
وبهذا المعنى لم تعد التنمية بمعناها الحديث تتعلق بالنمو الاقتصادي أو الحكم الرشيد أو الصالح كما يحاول البنك الدولي تضييق مفهومها، بل هي بمعناها الواسع تتعلق بصميم السياسة العامة، وعلاقة المحكومين بالحكام والأفراد بالإدارة الحاكمة، بما لذلك من شرعية ومشاركة وتمثيل ومساءلة، ولاسيما في ظل الحريات العامة وبخاصة حرية التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي والحق في المشاركة في إدارة الشؤون العامة وتولي الوظائف العليا، وتلك الحقوق تأتي بالطبع بعد حق الحياة الذي هو حق مقدس وفوق جميع الحقوق، بل إنه جوهر ومحتوى حقوق الإنسان. وإذا كان الحق في التنمية جزءا من حقوق الإنسان، لاسيما في إطار الجيل الثالث من الحقوق الذي تضمن إضافة إليه الحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الحصول على العلم والتكنولوجيا والاستفادة من منجزاتها البشرية، فإن الجيل الأول تضمن الحقوق السياسية المدنية التي تكرست في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948، في حين أن الجيل الثاني ركز على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي توج بالعهد الدولي الصادر العام 1966 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي دخل حيز التنفيذ في العام 1976، وفي تقديري فإن هذه الحقوق جميعا، مضافا إليها حقوق الجيل الرابع التي يمكن تبويبها أكاديميا بالحق في الديمقراطية والحق في التعددية والتنوع الثقافي واختيار المحكومين للحكام، لا يمكن تجزئتها أو اقتطاع أو مفاضلة بعضها بالبعض الآخر.
لقد ذهبت تقارير التنمية البشرية العربية منذ أواخر القرن الماضي ومطلع قرننا الحالي لتأكيد النقص الفادح في عالمنا العربي، لاسيما فيما يتعلق بالحريات ونقص المعرفة وعدم تمكين المرأة ومساواتها مع الرجل، واستمرار الموقف السلبي من الأقليات الدينية والقومية واللغوية والسلالية، إضافة إلى قضايا التقدم الاجتماعي، حيث يقف الفقر غولا في وجه التنمية مثلما تقف البطالة، الأمر الذي يستلزم لتحقيق التنمية تخطي هذه العوامل الكابحة، ولعل ذلك هو ما ذهب إليه "إعلان الحق في التنمية" الصادر العام 1986 حين أكد أن التنمية حق للإنسان (الفرد) وللشعوب محددا هذا الحق والمسؤولية على أساس فردي وجماعي، ومتناولا اتساق ذلك مع احترام القانون الدولي، ومتعهدا بتعزيز التنمية في البلدان النامية من جانب الدول الصناعية المتقدمة ودول العالم كافة. ولعل مبادئ الإعلان ركزت أيضا على السلام والاستقرار ودوره في إنجاز مهمات التنمية البشرية، وتمكين المرأة، وضرورة اتخاذ تدابير سياسية وتشريعية لتأمين هذا الحق بربطه مع حقوق أخرى غير قابلة للتجزئة. وإذا كان بإمكان المجتمع المدني أن يلعب دورا إيجابيا في عملية التنمية، فلا بد أن تكون منظماته طوعية وغير ربحية، والانتماء إليها لا يتم على أساس ديني أو طائفي أو عشائري أو وراثي، بمعنى أن تكون عضوية مؤسساته مفتوحة باعتبارها اتحادا طوعيا بين أفراد تجمعهم أهداف مشتركة، ويعتمدون الأسلوب الديمقراطي في التوجه والأداء، بالأهداف والوسائل والأساليب في تعاملهم مع بعضهم البعض ومع الآخر.
وهنا ينبغي التنويه على أن مؤسسات المجتمع المدني بقدر حفاظها على استقلاليتها وعدم انخراطها في الصراع الإيديولوجي الدائر في مجتمعاتنا ووضع مسافة واضحة بين الحكومات والمعارضات، يمكنها أن تلعب هذا الدور، لأنها لا تستهدف الوصول إلى السلطة، وترفض العنف، وتعمل تحت الشمس، ولا تلجأ إلى العمل السري، وإنما تمارس نشاطها بالطرق والأساليب القانونية "الشرعية" ذات الطبيعة السلمية، وهذا يحتاج إلى معالجة بعض إشكالياتها ومشكلاتها من حيث جاهزيتها الفكرية وقراءتها العملية للمستجدات والمتغيرات الدولية، وكذلك فيما يتعلق بإدارتها وأجنداتها وتمويلها وتداولية المسؤوليات فيها وديمقراطية العلاقة في داخلها، وبالتالي مواجهتها للتحديات الداخلية (من السلطات والمجتمع أحيانا بحكم الموروث والتقاليد البالية) والخارجية المتجسدة في مشاريع الهيمنة وفرض الاستتباع، بما فيها التي تريد تجنيدها أو احتواء بعض عناصرها أو استغلالها تحت ضغوط التمويل أو الرغبة في التغيير أو غيرها، الأمر الذي ينبغي الانتباه إليه جيدا، لاسيما من النشطاء والعاملين في هذا الإطار.
إن عناصر النجاح لمبادرات العمل العربي التكاملي المشترك يمكن أن تتلخص بتوفر عدد من المستلزمات، وبعكسها ستكون هناك أسباب للفشل والنكوص والتشتت، وهذه تستند إلى وجود إرادة سياسية فاعلة ومبادرة وأجواء من الحريات وبيئات تشريعية على صعيد كل بلد عربي وعلى المستوى القومي، ودراسة الاحتياجات والجدوى الاقتصادية، وبناء مؤسسات وإدارات سليمة وتقديم تسهيلات لتجاوز القيود والعقبات تتعلق بانتقال الأفراد والعمالة والإقامة والأموال والحقوق المتساوية، إضافة إلى اعتماد مبادئ الشفافية والرقابة والمساءلة.
ويمكننا إضافة عنصر من عناصر القوة ألا وهو وجود النفط كسلعة نافذة حاليا رغم أنها ناضبة، بحيث يمكن استخدامه وسيلة ضغط اقتصادي وسياسي، وحتى عسكري فيما إذا ربطنا ذلك بالصراع العربي-الإسرائيلي، الذي أسهم في تعطيل التنمية والإصلاح والديمقراطية في العالم العربي، موضوعيا بالانصراف إلى شراء السلاح والتضييق على الحريات بحجة الحرب والخطر الخارجي، أو ذاتيا باستثمار ذلك من جانب بعض الحكام لفرض نمط استبدادي-تسلطي، سواء من جانب الأنظمة الثورية أو المحافظة.
التنمية ليست ترفا، بل هي حاجة ماسة وضرورية وصولا للتكامل العربي المنشود، أسوة بما وصلت إليه أوروبا من بناء اتحادها المتين، لاسيما في ظل عملة وبرلمان ومواطنة موحدة وحقوق إنسانية متقدمة ومتساوية، في حين أن الكثير يجمع العرب الذين بدؤوا طريقهم للعمل المشترك قبل أوروبا في تأسيس جامعة الدول العربية، لكنهم ما زالوا يراوحون وتتعثر الكثير من خطواتهم، فهل سيستطيع المجتمع المدني أن يلعب الدور الموعود ويسهم إسهاما جديا في تذليل بعض العقبات ومواجهة بعض التحديات!؟
الإنسان هو هدف التنمية وهو الأصل في كل سياسة أو استراتيجية، وهو "المقياس لكل شيء" على حد تعبير الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس.

*باحث ومفكر عربي


صحيفة العرب القطرية  العدد 7673 - الإثنين 15 يونيو 2009 م ـ الموافق 22 جمادى الآخرة 1430 هـ

1157
الانتخابات النيابية اللبنانية:
حيثيات وتوقعات!
القسم الأول

اعداد
المكتب الاستشاري
باشراف
الدكتور عبد الحسين شعبان
 





بداية أشارت معلومات وردت في صحيفة الأنوار اللبنانية بتاريخ 19/12/2008 نقلاً عن مصادر قوى 14 آذار(مارس)، بأن هناك مساع تقوم حالياً للتوصل الى تفاهم ضمني تتشكل على أساسه لوائح معينة لقوى 8 و14 آذار(مارس) وفق توزع مراكز القوى على الساحة اللبنانية وتؤدي عملياً الى اختيار أو انتخاب 60 نائباً من مرشحي قوى 14 آذار(مارس)، و60 نائباً من مرشحي قوى  8 آذار (مارس) و8 نواب مستقلين، يشكلون امتداداً لموقع رئاسة الجمهورية بحيث لا تكون هناك أكثرية لأي من الطرفين تجاه أية قضية من دون الحصول على دعم من فخامة الرئيس العماد ميشال سليمان، بما يحول دون أي صدام أو اعتراض أو انفجار للأوضاع مجدداً بين طرفي المعادلة اللبنانية القائمة حالياً بانتظار التطورات الدولية التي ستظهر مع الادارة الاميركية الجديدة ومعادلاتها ومشاريعها بالنسبة للسلام العربي الاسرائيلي. الاّ أن هناك من لا يتوقع تحقيق مثل هذه النتيجة لأسباب متعددة ومنها:

اولاً- ان كلاً من الفريقين، عاش خلال الفترة الماضية على حالة من الشحن الطائفي والمذهبي لفريقه، وهو بالتالي لا يستطيع ان يتوجه للقاعدة التي يمثلها بمثل هذا الطرح مباشرة أو بصورة غير مباشرة، لأن ذلك يعني التراجع عن مواقفه المتقدمة (المسبقة) التي أعلنها والتي أكد فيها انه سيحقق الاكثرية لفريقه في انتخابات 2009، فكل منهما يعتقد انه الأقدر على تحقيق الفوز بالأكثرية انطلاقاً من الاستفتاءات والدراسات والمشاريع التي يقوم بها لاستقطاب شارعه الانتخابي في الداخل والخارج على حد سواء.

ثانيا-
ان فريقي 8 و14 آذار(مارس) غير مستعدين لوضع بيضة القبان بيد رئاسة الجمهورية ففريق 14  آذار(مارس) يعتبر على الأقل في شقه الاسلامي أنه حقق من خلال اتفاق الطائف نقل صلاحيات رئاسة الجمهورية الى مجلس الوزراء مجتمعاً وتحت سلطة (الفريق السني) رئيس مجلس الوزراء، وتراجعه عن ذلك يعني اعادة الصلاحيات بصورة غير معلنة الى المارونية السياسية، وبالتالي الى موقع الرئاسة الاولى وهو يعني التخلي عن انجازات اتفاق الطائف.
أما الفريق الثاني أي قوى 8 آذار(مارس) فهو يسعى، لاسيما القوى الفاعلة فيه، وبالتحديد في الشق الاسلامي (حزب الله)  الى دور أوسع لها في السياسة اللبنانية، وتراجعها عن السعي الى الأكثرية يعني تأخير مشروعها السياسي العقائدي والمذهبي للامساك بالسلطة بصورة غير معلنة لمصلحة إعادة الدور الى الرئاسة الأولى، وهذا يعني خضوعها لخيارات الرئاسة الاولى في الحرب والسلم، وهو ترفضه على نحو شديد.

ثالثاً- ان الرئاسة الاولى، بما تمثل على صعيد الطوائف اللبنانية، لا تستطيع القبول أو الرضى بدور يحملها عبء اتخاذ القرار الوطني، وهي لا تمتلك القرار المسيحي بأكمله في يدها في ظل انقسام المسيحيين بين القوتين 8 و14  آذار (مارس) ووقوف بكركي عملياً الى جانب أحداهما نتيجة تخوّفها من الدور السوري في المنطقة، وخوفها من أن تنتهي مفاوضات السلام السورية- الاسرائيلية الى نتائج تأتي على حساب لبنان من حيث توطين الوجود الفلسطيني فيه.

رابعاً- ان المشروع الاميركي للادارة الجديدة لأوباما أثبت بداية، من خلال تقديم مظلة نووية لاسرائيل بحيث تمنع أو تعترض عملياً أي تحرك إيراني ضد اسرائيل بدون ردة فعل نووية اميركية مدعومة من الحلف الأطلسي ضد ايران، وهذا يعني ان الادارة الجديدة ليست أقل ولاءًا او تساوقاً مع مصلحة اسرائيل، واعتبارها كأولوية لها من أي ادارة اميركية سابقة.
وهذا يعني أيضاً ان النظرة الاميركية الى ضرورة تفتيت المنطقة فيدرالياً او كونفدرالياً الى مناطقيات ودوقيات وكانتونات لا تزال قائمة، وبالتالي تسعى الى الحفاظ على موقفها من الفوضى الخلاقة، وهذا الموقف الذي ستزداد الحاجة اليه كلما وجدت نفسها معرّضة بصورة أكبر لنتائج الأزمة المالية العالمية الطاحنة، وخصوصاً مع بروز السعي الروسي للعودة الى المنطقة من بوابات سوريا وايران ولبنان.

ماذا تعني هذه القراءة؟

انها تؤكد على ان المطلوب في الفترة المقبلة زيادة الشروخ الداخلية لدى جميع الدول العربية والاسلامية، وبخاصة في لبنان الى الدرجة التي تحول فيها دون قيام أي تكتل عربي او اسلامي قوي ومعتدل وساع الى السلام في المنطقة على أساس عادل وكامل ودائم (المبادرة السعودية التي تبنتها جامعة الدول العربية ومؤتمر القمة العربي)، بل إن ازدياد دور الأصوليين والسلفيين والقوى الراديكالية الاسلامية والمسيحية وحتى اليهودية، هو المسعى الاميركي  الاساسي في هذه المرحلة.
   ويدل على ذلك في هذه المرحلة:
1-    عدم تمكين تسيبي ليفني في اسرائيل من تشكيل أي حكومة اسرائيلية جديدة لها يكون فيها صقور اليمين المتطرف الاسرائيلي، سواء في الاحزاب الدينية  او داخل حزب الليكود وحزب كاديما هم الاكثرية، وتثبت ذلك الدراسات والتحليلات السياسية التي نشرت في الصحافة الاسرائيلية خلال الاشهر الاخيرة من العام 2008.
2-    وبما ان الفعل لا بد من أن تقابله ردّات فعل موازية له على الصعيد العربي، فإن المرجّح تنامي دور الاسلام المتطرف في المنطقة كلها تمهيدا لما تسميه دراسة صدرت خلال العام الماضي عن مؤسسة راند الاميركية (وهي مؤسسة معروفة بتوجهاتها اليمينية وعلاقاتها الاستخبارية) حول ضرورة الاستعداد لمواجهة الاسلام الفاشيستي في الشرق الاوسط، العدو الجديد للادارة الاميركية الذي يبرر لها القيام بكل الخطوات اللازمة للسيطرة الكاملة على مصادر الطاقة في المنطقة العربية والاسلامية، وهذا يعني ان الاميركيين سيسعون الى تهيئة الأجواء اللازمة لقيام مثل هذا الانقسام، وأفضل هذه الاجواء إظهار الساحة الاسلامية في كل البلاد العربية والاسلامية، وكأنها في حالة انكفاء أمام اتساع الدور الاميركي من جهة والايراني من جهة أخرى في المنطقة. (وللاستذكار فان مصطلح الفاشية الاسلامية كان قد ورد على لسان الرئيس جورج دبليو بوش ابان الغزو الاسرائيلي للبنان عام 2006 كما ورد مصطلح الشرق الاوسط الجديد على لسان كونداليزا رايس في الفترة ذاتها).
3-    تنامي دور التيارات السلفية غير المتحدة (المتناثرة) في مختلف المناطق اللبنانية والمخيمات الفلسطينية وشعورها بأنها محاصرة من جهة، ودور حزب التحرير الاسلامي العلني المتزايد في أوساط الطرفين السنيين اللبناني والفلسطيني، واستعداد الجماعة الاسلامية التي هي البنت البكر للاخوان المسلمين في لبنان لترشيح ممثلين عنها للانتخابات النيابية في جميع المناطق، وهو ما صرح عنه رئيس مكتبها السياسي يوم 18/12/2008 لوكالة الانباء اللبنانية والذي أبدى فيه استعداد الجماعة لاقامة تحالفات مع أي قوة اسلامية اخرى تتوافق معها في الخط السياسي.
4-    تنامي التكتلات الاسلامية السنية في مختلف المناطق، وسعى حزب الله الى التفاهم معها بصورة علنية أو ضمنية، كما حصل مع القوى السلفية في شمال لبنان، واللقاء الاسلامي  الوحدوي في بيروت، وتجمع العلماء المسلمين السنة والشيعة، والقوى السياسية العلمانية والشخصيات المعارضة لتيار المستقبل في أوساط السنة من خلال اللقاءات المتواصلة معها، وربما الدعم غير المعلن لها، وبروز مطبوعات جديدة داعمة له في أوساطها كما رأينا في صحيفة "الثبات" مؤخراً.
كما يظهر ذلك من خلال سعي قوى 14  آذار (مارس) الى التواصل مع القوى الشيعية المعارضة لحزب الله كما مع التيار الشيعي الحر، والمجلس الشيعي العربي، والعلامة علي الأمين، والسيد هاني فحص، وجماعة أحمد الأسعد وغيرهم من القوى والشخصيات الباحثة عن دور نتيجة شعورها بحالة الحصار الناتجة عن ديكتاتورية السيطرة الشيعية لحزب الله وحركة أمل على ساحتهم وعدم افساح المجال لأي دور لهم.

قانون الانتخابات

لكل ما تقدّم، تبدو صورة الانتخابات النيابية اللبنانية المقبلة، والتي سوف تتم وفق قانون 1960 (مرفق) أكثر حدة مما سبق نتيجة اعتماده على الدوائر الانتخابية الصغيرة (الأقضية) بعكس قانون انتخابات العام 2000 (مرفق) لأن هذا القانون يدفع الى :

أولا- رفع وتيرة الخطاب الطائفي للحصول على أعلى نسبة من الدعم من الناس داخل المجموعات الطائفية لتحقيق النسبة الأفضل في التمثيل حيث لا يضطر المرشح الى كسب رضى الطوائف الاخرى لأنه لا يحظى بالفوز الا إذا كسب الفريق الذي يمثله طائفياً ومذهبياً.

ثانيا- ان حصول الصراع او التنافس في الدوائر الصغرى يعتمد على الولاء الكامل للقوى الحزبية المسيطرة التي تشكل قوى الامر الواقع العسكري فيما الدوائر الكبرى تبرز وجود عدة قوى حزبية في الدائرة الواحدة فتصبح الحاجة ماسة أكثر الى كسب القوى الحزبية الأخرى اما بالتحالف معها أو بتحييدها.

ثالثاً- ان الدوائر الصغرى تشكل وجود حالة " صفاء" مذهبي لكل قوة في كل دائرة وهذا يعني الحاجة الى كسب رضى العائلات والعشائر والشخصيات التي تشكل مفاتيح انتخابية ضمن كل فئة ولا تحتاج الى برامج سياسية أو انمائية أو اجتماعية.

رابعاً- ان الانتخابات ستجري في ظل أوضاع اقتصادية صعبة داخلياً نتيجة الضغوط المعيشية الخانقة، وإضافة الى ذلك وجود حالة بطالة بدأت بالظهور مع بدء عودة مجموعات من اليد العاملة اللبنانية من دول الخليج العربي نتيجة الأزمة المالية العالمية وهذا يعني عودة قوى ناقمة على الواقع القائم ومتطلعة الى الحسم املاً بالحلول، وهذا يعني ان كل فريق سيسعى الى ايصال جماعته الى الاكثرية وقد بدأت تروج معلومات عن عودة العديد من المغتربين من أوروبا وأميركا اللاتينية لقضاء فترة الانتخابات ايضاً في لبنان لدعم جماعاتها وهذا سيعطي دوراً أوسع للمال السياسي في العملية الانتخابية سواء في استقدام المغتربين الى الوطن أو في دعم عائلاتهم في الوطن.

خامساً-   ان الهيئة المشرفة على الانتخابات لا تستطيع عمليا ضبط العملية الاعلامية لدعم المرشحين نظراً لوجود مؤسسات اعلامية بكاملها تعمل لمصلحة المرشحين لدى كل فريق وهذا سيلغي عملياً أي فرصة لفوز المستقلين مهما كانت قوتهم لأنه إذا كان قانون الانتخابات للعام 2000 لم يفسح المجال لفوز المرشحين المستقلين بحيث يتبين لنا من خلال الجدول (المرفق) الموضوع للتكتلات السياسية انهم لم يتجاوزوا أصابع اليد الواحدة من أصل 128 نائباً فإن المرحلة الحاضرة على أساس الدوائر الصغرى في ظل المال السياسي والعلاقات الحزبية والشحن الكائفي والمذهبي والمؤسسات الاعلامية لن تفسح في المجال امامهم لتحقيق أي فوز.

سادساً- لم تتضح حتى الآن ان كان هناك اشرافاً دولياً على الانتخابات، سواءًا من جانب هيئات دولية معتمدة ومعتبرة أو من خلال  مشاركة مؤسسات المجتمع المدني، وقد لعبت الفرانكوفونية دوراً اشرافياً محدوداً جداً في الانتخابات الماضية وكذلك كان الدور الذي ساهمت به مؤسسات المجتمع المدني.

المخاوف والقلق

   وتتحكم بالانتخابات النيابية المقبلة مجموعة من المخاوف التي زرعت خلال السنتين الماضيتين، التي ستحول دون اتخاذ أي قرار حر للمواطن انطلاقاً من ولائه الوطني للاسباب التالية:
1-  يبدو الشارع المسيحي أكثر تخوفاً على وضعه السياسي والديمغرافي والاجتماعي في لبنان نتيجة:
= الهجرة الواسعة للمسيحيين العراقيين الى البلاد المحيطة بالعراق وبخاصة الى لبنان والتي اعادت الى الذاكرة محاولة الاميركيين لتهجير المسيحيين من لبنان الى كندا واميركا من خلال السفن الاميركية التي وضعت قبالة الشاطئ اللبناني بعد وصول قوات الفلسطينيين والقوى الوطنية اللبنانية الى عيون السيمان خلال سنوات الحرب اللبنانية الصعبة (حرب السنتين) والتي صارت قاب قوسين من جونيه وكسروان.
= عودة التنافس السياسي ما بين جماعة العماد ميشال عون – التيار الوطني الحر- والقوات اللبنانية والتي تدفع للتخوف من اندلاع صراع مسيحي-مسيحي لوجود دعم لكل طرف من الطرفين من المسلمين، فإذا كان العماد عون والدكتور سمير جعجع قد دمرا بصراعهما المناطق المسيحية في ظل غياب أي دعم اسلامي عملي لأي من الطرفين عام 1989-1990، فإن العماد عون يحظى حالياً بدعم حزب الله ذي القوة العسكرية الكبيرة اما سمير جعجع فيحظى بالدعم السني السياسي والمالي حالياً، والذي يمكن له ان يتحول الى دعم عسكري لو حصل أي صراع، وبالتالي يدفع ذلك الى تهجير المسيحيين والكل يعرف انه مشروع مطلوب اميركياً واسرائيلياً وربما من جانب بعض القوى العربية والاسلامية، حيث تزداد المخاوف لدى الاطراف جميعاً، قلقاً من كون أحدهما يحظى بدعم سوري معلن والثاني يحظى بدعم سعودي غير معلن أو حذر أو محسوب هكذا من خلال دعم قوى 14 آذار(مارس).
= عدم بروز قيادات مسيحية جديدة شابة وحتى لو برزت ستكون غير ذات فعالية على الارض نتيجة لضعفها المالي وعدم وجود تأييد واسع لها خارج إطار الشباب الذين لا دور عملي لهم حالياً بسبب عدم اقرار تصويت أبناء سن 18 سنة والابقاء على سن 21 سنة كحد أدنى للاقتراع وضياع الجامعيين بين 21-25 سنة وهم النسبة الأعلى من المقترعين بين القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر والهجرة الى الخارج.
- خضوع المقترعين في الدوائر الصغرة للاعتبارات العائلية والعشائرية والمصالح الوظيفية الضيقة للافراد بسبب الولاءات والمكاسب والمال السياسي والأوضاع الاقتصادية الصعبة.
- بروز مناطق ديمغرافية مستجدة خلال 30 سنة من الحرب اللبنانية لا يوجد أي ارتباط بين سكانها كمجموعات متآلفة كما كانت الحال عليه قبل الحرب بحيث ان سكان البناية الواحدة قد لا يعرفون بعضهم البعض أو لا يرتبطون بالعلاقات الحميمية التي كانت قائمة في الأحياء والقى والمدن اللبنانية قبل الحرب (عرمون- بشامون- الدبية- جل الديب- انطلياس-الخ).
هذا كله ، يدفع للسعي الى الالتفاف حول التكتلات القوية للشعور بالحماية خوفاً من التهجير ومن حصد نتائج الاختلاف بدون الحصول على أي مكاسب وهذا يحول دون بروز أي قوة جديدة سياسية تغييرية ما لم تظهر نفسها بمظهر القوة المدعومة من السلطة او المعارضة او الرئاسة الاولى وهذه لا تطرح نفسها الا كقوة حيادية.
2- أما على الصعيد الاسلامي فالأمر يكاد يكون مشابهاً لولا بعض الاختلافات البسيطة والمخاوف تنطلق من الاسباب التالية:
شعور الشيعة بأنهم مستهدفون لأنهم حققوا الانتصار على اسرائيل في أول مواجهة من نوعها في الشرق الأوسط، واحساسهم بأن التفوق الذي حققوه ينبغي ان يتصاعد للحصول على المكاسب التي توازي ذلك التفوق مهما كان الثمن على صعيد الوحدة الوطنية، فقد استيقظت دفعة واحدة كل مشاعر الحرمان التاريخي من السلطة وهذا الشعور بقدر ما هو مهم لبناء الوطن القوي القادر، فهو خطر لأنه لا يهتم للمخاطر التي ستندفع البلاد اليها نتيجة التخوف من ممارسة هذا التفوق العسكري الذي لا يرتبط بتفوق سياسي دامع بل بتفوق مذهبي عملياً.
شعور السنة بالتخوف من الدور الشيعي المتنامي الذي لم يتوان عن اجتياح بيروت عملياً عندما شعر هذا الدور انه مهدد، دون ان يهتم لكون هذا التهديد يأتي من فريق واحد هو فريق السلطة بل اعتبار التهديد يأتي من المجموعة السنية بكاملها، وحتى لو كانت هذه المشاعر خاطئة فإن الاعلام استطاع أن يصورها كحقيقة واقعة تهدد الدور السني السياسي في لبنان كله، خاصة وأن هذا الدور المتنامي جاء بعد الضربات التي تعرضت لها القوى الاسلامية السنية خلال سنوات الحرب ما بعد خروج الفلسطينيين المقاتلين من لبنان بدءًا من تصفية حركة الناصريين المستقلين (المرابطون) وضرب طرابلس بقوة من القوات السورية بعد عودة أبو عمار اليها، وانكفاء القوى القومية العربية واليسارية في لبنان وانحسار وجودها مع نشوء تيار المستقبل، واغتيال القيادات السنية المتتالي من الشيخ صبحي الصالح الى حسن خالد وناظم القادري وصولاً الى الرئيس رفيق الحريري، وشعور الانسان السني العادي انه بلا سند إذا تحرك او حاول الحصول على أي دور أو حق له لوجود السلاح في أيدجي الآخرين وغيابه من بين يديه.
3-  اما على الصعيد الدرزي فالمخاوف تكبر نتيجة شعور فريق من الدروز بالتهديد الخارجي الذي يطال زعامته السياسية التاريخية نتيجة خلاف الوزير وليد جنبلاط مع سوريا من جهة وبالتهديد الداخلي بعد أحداث 7 أيار (مايو) التي دفعت تلك الزعامة للجوء الى الزعامة الارسلانية لحماية الجبل من العدوان عليه وبروز قيادات جديدة متطرفة ضد الزعامة التاريخية مودعومة من حزب الله ( وئام وهاب وفيصل الداوود) وهذا يعني ان الاقلية الدرزية مهددة في وجودها وليس في دورها فقط.
4-  وفي المقابل فإن الوجود العلوي في لبنان أيضاً وبخاصة في الشمال بات يشعر بأنه مهدد في وجوده بعد خروج القوات السورية من لبنان من جهة، وبروز القوى السلفية في الشمال التي تحمّل مسؤولية كل ما كان يحصل من ممارسات على يد القوى العسكرية العلوية من جماعة الحزب الديمقراطي العربي ( جماعة علي عيدو شقيقه السنيو) خلال ذلك الوجود وخاصة خلال قصف طرابلس عام 1983، ثم في أحداث طرابلس عام 2008 (لدى معارك فتح الاسلام وشاكر العبسي) التي أدت الى زيادة مخاوف العلويين على وجودهم وليس فقط على دورهم السياسي وهو شعور الاقليات في كل زمان ومكان عندما تستشعر بالخطر.

بعد ذلك كله ماذا يمكن لهذه المخاوف ان تنتج؟

في اعتقادنا ان كل ما تقدّم وسبقت الاشارة اليه، يدل دلالة واضحة على :
أ-ان الانتخابات النيابية اللبنانية تتحكم بها مشاعر الخوف والقلق لدى الجميع، وهذا يعني إلتفاف كل جماعة طائفية ومذهبية في لبنان حول القيادات التي تطرح نفسها بصفة الحامي والمنقذ.
ب‌-   انها ستحتاج لدى كل جهة من هذه القيادات الى رفع حجم ومستوى المخاطر اعلامياً وربما فعلياً لزيادة الالتفاف حولها، وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة عودة الحديث عن امكانية عودة الاغتيالات والتفجيرات والصراعات، كلما اقترت وقت الانتخابات.
ج‌-   ان المال السياسي سيلعب دوره في زيادة ارتباط هذه الجماعات بالجهات الطائفية والمذهبية التي تمثلها لإشعارها بالدعم والامان في ظل وجود هذه الجهات ودعمها.
د‌-   انه لا يمكن الاّ ان تحقق هذه الانتخابات على الأقل من وجهة نظر قيادات قوى الطرفين الاكثرية لطرف من الأطراف، وان من سيحقق الأكثرية سيسعى الى السلطة المطلقة على القرار السياسي اللبناني، وقد بدا ذلك واضحاً من خلال المواقف التي اعلنت في الجلسة العامة للمجلس النيابي لمناقشة الحكومة فالفريق الشيعي أكد أنه سيفوز في الأكثرية (علي حسين خليل من المجموعة الشيعية) والفريق الموالي قال انه لن يشارك في مثل هذه الحكومة، أي حكومة الوحدة الوطنية إذا حققت الأكثرية في الانتخابات أو حققها سواه (المستقبل).
خاتمــة

في الختام يمكن القول إن هذا كله يدفعنا للنظر الى الانتخابات النيابية المقبلة بعين الحذر من النتائج التي ستسفر عنها، إذ أن فوز أي فريق بالأكثرية لن يرضى بأي دور للآخرين غير دور المعارضة، الامر الذي سيضع شكوكاً جدية حول موضوع حكومة وحدة وطنية، وهو ما يؤشر الى احتمال استمرار دوامة الصراع. ان الحذر من المقدمات التي ستسبق الانتخابات ناجم عن السعي الى جذب الجماعة التي تخص كل فريق للالتفاف حوله، ومن الاختلاف حول قانون الانتخابات واحتمال انتهاء مدة المجلس النيابي، الأمر الذي سيؤدي الى تمترس الوضع ولا يوحي باحتمالات انفراج حقيقي ما لم تضع قوى اقليمية ودولية ثقلها في هذا الميدان.
من جهة هناك بعض الأوساط تشكك في امكانية اجراء الانتخابات في وقتها، خصوصاً بالاستنفارات والاستقطابات التي قد تؤدي الى احداث صدع في الوضع السياسي، لاسيما إذا ما استغلته بعض الأطراف باستفزازات أو اعمال شغب او اغتيالات.

















[
size=18pt]الانتخابات النيابية اللبنانية:[/size]
حيثيات وتوقعات
إضمامة

القسم الثاني










تمهيد

إلحاقاً بدراستنا حول الانتخابات اللبنانية( حيثيات وتوقعات) واستكمالاً لتوجهاتها وانطلاقاً من عدد من التطورات والمتغيرات الأساسية التي ستؤثر على العملية الانتخابية النيابية المقبلة في لبنان  نضم هذا الملحق الى الدراسة السابقة بقراءة الوضع اللبناني وآفاقه الانتخابية ما بعد معركة غزة من خلال :

•   المعركة الدائرة في غزة بين الاسرائيليين وحماس والجهاد الاسلامي وانعكاساتها في حالتي " الانتصار" و" الانكسار" عربياً ولبنانياً بشكل خاص، لاسيما على القوى الاسلامية وبالتالي على الانتخابات اللبنانية.
•   انعكاسات تلك المعركة على صعيد الانتخابات الاسرائيلية ونتائجها وشخصية المنتصر فيها ومن سيتحمل نتائج الهزيمة إذا حصلت.
•   إصرار الرئيس الأمريكي الجديد باراك أوباما على تحقيق حل ما لأزمة الشرق الأوسط المستعصية على الحل منذ عقود حسب قوله. وهو الأمر الذي سيعني توجهاً مختلفاً عن توجه الرئيس بوش، وربما استمراراً لتوجه الرئيس كلينتون حول مشروع دولتين، لاسيما في الفترة الأخيرة من ولايته.

وهنا يتوقع البعض أنه في حال تمكنت حماس من الصمود فترة ممكنة وإجبار اسرائيل بالتالي على الانسحاب بدون توقيع أي اتفاق لتقديم تنازلات لها وتحقيق هدنة طويلة معها، فإن ذلك سيعدّ انتصاراً رغم المآسي والآلام، يفترض أن يستتبع بتغيير في المزاج الشعبي في لبنان لصالح قوى 8 آذار(مارس)، حيث سيسهم في تعزيز دورها الانتخابي ونتائج تلك الانتخابات ليجعل منها الاكثرية.
كما يمكن للخسارة والهزيمة أن تحقق حسب رأي هذا البعض، قوة دفع للقوى الداعية الى الاعتدال العربي بحيث تحافظ الاكثرية على اكثريتها في المجلس النيابي تسهيلاً لادخال لبنان في مشروع التسوية الكبير الذي تعمل له الولايات المتحدة في المنطقة، وبالتالي تجنب اندلاع حرب جديدة، وتهيئة الاجواء لقبول المبادرة العربية( السعودية) التي تبنّاها مؤتمر القمة العربية في بيروت العام 2001، وليس بالضرورة قبول المبادرة ككل ولكنها ستكون أساساً صالحاً وقوياً للحل المنشود.
وهذه هي على الاقل وجهة نظر بعض شخصيات قوى 14 آذار المسيحية التي تعتبر أن الخسارة والهزيمة كما الصمود والانتصار، لا بدّ وأن ينعكسا تراجعاً في الدور المسيحي ضمن طرفي الصراع، لأن القرار في الحالتين يبقى للقوى الاسلامية الرئيسية.
في حين ترى القوى السنّية داخل قوى 8 آذار من القوميين العرب والناصريين أن مزاج الشارع اللبناني لا تتحكم به هذه المعطيات إذ أنه قابل للانقلاب 360 درجة أحياناً في ردّات فعله، خصوصاً إذا كان ثمن الانتصار ضخما في حجم الشهداء والجرحى والدمار الناجم عن المعركة والتخوف من " فشة خلق" اسرائيلية في لبنان، والأمر نفسه في موضوع  الهزيمة.

استنتاجات أولية
إن ذلك يعني برأينا:

1-   ان نتائج معركة غزة لن تؤثر على لبنان الاّ بمقدار ما يريد المشروع الذي يقف خلف حصول المعركة أن تؤثر، فإذا كان الهدف من تدمير القدرة القتالية لحماس والجهاد الاسلامي هو تمرير مشروع ما، من قبل الولايات المتحدة أو إيران في المنطقة، كلٌ لمصلحته، فإن كل فريق سيسعى الى الافادة الى المدى الأقصى من تلك النتائج.
2-   إن ما هو قائم في لبنان هو توافق اقليمي/دولي على مراوحة الوضع اللبناني مكانه بحيث " لا يموت الذئب ولا تفنى الاغنام"، وهذا ما شكله اتفاق الطائف أولا ثم اتفاق الدوحة ثانياً لأن هذه التوافق لا يريد إنهاء دور لبنان في المنطقة طالما توجد قوى ممانعة ولا يريد تعزيز هذا الدور في ظل وجود دول الممانعة.
3-   هناك تجربتان سبق ان تعرضت لهما المنطقة وتشكلان صورة عنها يمكن أن يؤول اليه الوضع اللبناني وهما:
أ‌-   تجربة الجزائر حيث وصلت " جبهة الانقاذ الاسلامية" الى السلطة ولتكوّن الاكثرية، وكان الثمن حرباً داخلية دامت لسنوات فلا السلطة عادت الى قوتها ولا المعارضة الاسلامية انتهى دورها.
ب‌-   تجربة فلسطين حيث وصلت حركة حماس الاسلامية الى السلطة ولتكوّن الاكثرية وكان الثمن انقساماً فلسطينياً وحرباً اسرائيلية مع حماس لم تحدد نتائجها بعد، خصوصاً بعد حصار غزة اللاانساني وحرب الابادة التي مارستها اسرائيل، وصولاً الى العدوان الوحشي المستمر منذ أكثر من 3 أسابيع.

وقفة أولى
إذا كان المشروع الامريكي يريد الوصول بأسرع وقت الى حل لمشلكة الشرق الأوسط لا يمكن أن يوافق على تكرار التجربتين، وإذا كان هناك مشروع آخر في المقابل وضمنياً يريد الوصول الى تحويل المنطقة الى دويلات لأقليات ترتبط باتفاقيات سلام مع اسرائيل، فلا بد من أن تمتلك اسرائيل القوة لإفشال المشروع الاول، وهذا يرتبط بنتائج حرب غزة، والأمر نفسه لدى قوى الممانعة وموقفها من المشروعين.

وقفة ثانية
هناك أيضاً لا بد من دراسة الموقف الاسرائيلي حيث تتوزع المواقف الى ثلاثة:
1-   موقف إيهود أولمرت (رئيس الوزراء) ومن خلفه اليمين المتطرف الذي لا يريد الابقاء على أي قوة ممانعة فلسطينية أو غير فلسطينية مهما كان الثمن عسكريا.
2-   موقف تسيبي ليفني (وزيرة الخارجية) ومن خلفها القوى التقليدية في المؤسسة الاسرائيلية السياسية والعسكرية التي لا تريد حلاً ولا تريد حرباً، بل تريد إيقاف القتال بعد التوصل الى هدنة طويلة (15 عاماً مثلاً) تتعزز من خلالها امكانيات اسرائيل العسكرية والديمغرافية بهدوء، وتحافظ على تسلل بطيء الى الساحة العربية بتحطيمها اقتصاديا ونفسيا تحت شعارات التواصل والتطبيع.
3-   موقف إيهود باراك ( وزير الدفاع الحالي ورئيس وزراء أسبق وهو قائد حملة غزة حالياً)، الذي يريد، ومن خلفه على ما يبدو المشروع الامريكي تحطيم قوة الفلسطينيين والسعي الى مشروع ضم غزة لمصر والضفة للأردن، ودفع الفلسطينيين من الداخل الى هاتين المنطقتين والتوصل الى حل يؤدي الى إبقاء الفلسطينيين حيث هم وتوطينهم. وبذلك فهو يسعى الى تكرار سيناريو العام 1948، خصوصاً عمليات الترانسفير (الترحيل).
وقد كان آرييل شارون (رئيس الوزراء الاسرائيلي الذي ما زال في غيبوبته) هو الذي رسم خطة اجتياح غزة منذ العام 2001 لاسيما وقد شرع في تفكيك المستوطنات الاسرائيلية، ونقل المستوطنين الى مناطق أخرى، تمهيداً لوضع سكان غزة جميعاً في سجن كبير  أو في قفص يتم اصطياد " الاسماك الخبيثة" بالوقت المناسب، وصولاً الى تدمير القطاع.
وقضت خطة الحرب على غزة التي تم التحضير لها فعلياً منذ حزيران (يونيو) 2008 والشروع بتنفيذها 27 كانون الأول "ديسمبر"  2008 ، إلحاق أكبر قدر ممكن من الأذى  والدمار بالسكان المدنيين وحملهم على الرحيل لاسيما إذا أصبحت الحياة الاعتيادية مستعصية .
 
الراهنية اللبنانية
في مقابل هذه المواقف يمكن ملاحظة راهنية لبنانية مجمع عليها، على الأقل علنياً وهي:
1-   رفض التوطين الفلسطينيين من قبل قوى 8 و14 آذار ورئاسة الجمهورية.
2-   الاصرار على أن لبنان يجب ان يكون آخر من يوقع سلاماً مع اسرائيل.
3-   السعي الى تعزيز الأدوار الداخلية من خلال اللعبة الديمقراطية بعد انكشاف حقيقة أن أي محاولة أخرى عسكريا  ستؤدي الى سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.
4-   التعامل مع القوى الاقليمية والدولية ضمن إطار المصالح الفئوية لكل الفرقاء.

قراءة من منظار غزة وما بعدها

إذن، ونتيجة لهذه الرؤية التي تحققها عملياً معركة غزة نرى:
اولاً:   ان الخلافات الداخلية لم تصل بعد الى درجة يحاول فيها أي فريق عرقلة الانتخابات أو التهرب منها ومن نتائجها أياً كانت.
ثانياً:    ان هذه الانتخابات محكومة بسقف اقليمي ايراني- سوري/مصري-سعودي، وسقف دولي هو اتفاقي الطائف والدوحة ونفوذ أمريكي – فرنسي، بحيث تتحقق الانتخابات مع افساح المجال لجميع القوى فيها للمناورة للعمل على تحسين أوضاعها من خلال الإفادة من التطورات في المنطقة.
ثالثاً:   ان الاكثرية التي تمثلها قوى 14 آذار تراهن على بقائها كأكثرية بانتظار المتغيرات في المنطقة والمعارضة تراهن على قدرتها على التغيير والتحول الى أكثرية بنتيجة المتغيرات الجارية في المنطقة.
رابعاً:    ان الموقف الشعبي حتى الآن يميل الى تعزيز وضع رئاسة الجمهورية بحيث يتم تقاسم السلطة بين 8 و14 آذار ويكون الحكم هو الحكم سواء من خلال صيغة 60/60/8 أو 50/50/28 لكي يتم الرجوع الى رئيس الجمهورية المدعوم من قيادة الجيش عملياً في اتخاذ القرارات المصيرية، لأن الشارع لدى فريقي 8 و14 يتخوّف من تجربتي الجزائر وغزة، ولذا يمكن ملاحظة تراجع مزاج الشارع لدى الفريقين من خلال مساندة الجيش والرئيس في كل المواقف، وفي ذلك نلحظ وجود خسائر لدى طرفي الاكثرية والمعارضة.
خامساً:   لا بدّ من ملاحظة بروز تيارات وشخصيات شيعية تتخوف من تنامي دور حزب الله، وأخرى سنية تسعى لتغيير الموقف الحاد لدى حزب الله بالوقوف الى جانبه، وثالثة سنية محايدة مثل كرامي وميقاتي والصفدي ومشايخ دار الفتوى، الذين بدأوا يتخوّفون من دور المفتي، بدأت تتراجع وتنتقد موقف تيار المستقبل دون ان تضم قوتها الى المعارضة.

      وفي هذا السياق يمكن القول إن:

1-   ما يمكن أن تكسبه المعارضة في بيروت وطرابلس نتيجة الانشقاقات التي بدأت تظهر، وإنْ لم تتبلور بعد لدى فريق 14 آذار، ستخسره في الجبل وجبيل، حيث الالتفاف سيكون أقوى حول جنبلاط ولوائحه في الجبل في إطار التفاهم مع الارسلانيين، وحيث سيكون الالتفاف في جبيل حول المستقلين الذين يدعمون رئيس الجمهورية.
2-   ان معركة المتن الشمالي بين القوى التي تمثل الرئيس أمين الجميل (الكتائب) والرئيس ميشال المر (المستقلين تقريباً) والعماد ميشال عون (المعارضة) ستكون لصالح تقاسم النفوذ بين الأطراف الثلاثة دون حسمها لصالح أكثرية لأي منهم.
3-   اما معركة كسروان فيتوّقع لها أن تشهد تراجعاً في دور القوات لصالح التيار الوطني الحر (ميشال عون)، وإذا تعدّدت اللوائح فستكون هناك اختراقات كثيرة للمستقلين.
4-   وفي قضاء زغرتا ستكون " أم المعارك" الانتخابية بين قوى 8 و14، آذار وقد تكون النتائج لصالح فريق المعارضة من خلال سليمان فرنجية مع نجاح محدود للقوات بسبب فصل زغرتا عن طرابلس.
5-   وخارج هذه الأقضية ستكون اللوائح محسومة النتائج حسب نتائج 2005 الى حد كبير، وهذا يعني أن المعارضة لن تحقق الاكثرية، كما أن الاكثرية لن تكون بالحجم التي هي عليه حالياً، أي انها ستكون أغلبية ضئيلة وليس كبيرة.

توقعات أخرى
ولا بد من ذكر بعض التوقعات في هذا السياق ومنها:
•   ثمة اجماع على أن لبنان لم يعد ورقة مساومة أميركية مع سوريا، ولذا سيكون الاعتماد انتخابياً على اللعب على نتائج معركة غزة للفصل في الموقف الشعبي وهذا غير مضمون الانعكاسات، لأن المزاج الشعبي مهما كان مسانداً للمعارضة فثمة قوى فيه ستكون متخوّفة من حرب جديدة مع اسرائيل في المنطقة.
•   ان الاسماء التي بدأ تداولها، وإن لم تحدد بصورة واضحة، لدى قوى الاكثرية، ليست ذات وزن شعبي مرجّح وستكون أضعف إذا لجأت المعارضة الى ترشيح عدة لوائح بحيث تتوزع الأصوات بينها، منها ما هو معلن الى جانب المعارضة، ومنها ما ستطرحه المعارضة على أساس أنه مستقل، وخصوصاً في بيروت واقليم الخروب وصيدا وطرابلس.
•   ان فصل صيدا عن الجنوب، كما فصل النبطية سيؤثر كثيراً على نتائج المعارضة إذا تعددت لوائح الأكثرية غير المعلنة.

وبذلك يمكن القول ان وجهة النظر هذه قد تكون صائبة واستنتاجاتها بشكل عام، لكن هناك عوائق قد تحول الى الضد منها وقد تحتمل العكس، بحسب نتائج معركة غزة والاستعداد أو عدم الاستعداد للخروج من تحت سقف التوافق الاقليمي والدولي لدى قوى الاكثرية والمعارضة، على ان القوى التي ستؤيد طرفاً ثالثاً بالتأكيد سيكون لها دور أوسع مما كان عليه في انتخابات 2005، والاّ فإن ذلك يعني ان لبنان مقبل على حرب جديدة داخلية أو خارجية مع اسرائيل، قد تلجأ اليها اسرائيل لقلب المعادلات، وهذا غير مرجح حتى الآن لأن اللبنانيين عموماً تتحكم بهم هواجس التوطين، والانهيار الاقتصادي، والحلم بدور أفضل للبنان في المنطقة بدل القضاء على هذا الدور.







الانتخابات اللبنانية- 7 حزيران (يونيو) 2009

خارطــة القــوى والمقاعـــد !
القسم الثالث













تعتبر الانتخابات النيابية القادمة محطة فاصلة عند اللبنانيين، معارضة وموالاة فالاولى كانت ولا تزال تراهن عليها لإعادة تكوين السلطة أما الثانية فتريد الاحتفاظ بالأغلبية، ويبدو ان المعركة الانتخابية ستكون طاحنة بامتياز ويمكن أن تقلب المعادلة السياسية في لبنان رأساً على عقب وذلك بتغيّر التحالفات.
تنقسم المناطق الانتخابية الى عدد من الدوائر، وحسب قانون 1960 النافذ، فقد أقر اعتماد القضاء دائرة انتخابية باستثناء محافظة بيروت التي يتم تقسيمها الى ثلاث دوائر انتخابية وهي:
1- محافظة بيروت 
بيروت الاولى: الاشرفية- الرميل- المدور- الصيفي- المرفأ- ميناء الحصن. عدد المقاعد 5. طوائف: أرثوذكس (1) أرمن ارثوذكس(1) ارمن كاثوليك (1) كاثوليك (1) موارنة(1)  . عدد الناخبين : 165 الفا  وتضم اغلبية مسيحية وفيها حضور للتيار الوطني الحر والكتائب والقوات اللبنانية، ومن المتوقع عودة الـ14 آذار، لاسيما بعد ترشيح نايلة التويني عن مقعد الروم الارثوذكس ومشاركة الارمن.
بيروت الثانية الباشورة – زقاق البلاط – دار المريسة . عدد المقاعد 4: طوائف: سنة (1) شيعة (1) ارمن ارثوذكس (2) عدد الناخبين (107) الاف اغلبية شعية وفيها تقل لحزب الله وحركة امل وأقلية مسيحية، وهناك اشارة لتحالفات بين قوى 14 و8 آذار في هذه الدائرة.
بيروت الثالثة: رأس بيروت – المزرعة – المصيطبة. عدد المقاعد10. طوائف : الشيعة (1) ارثوذكس (1) دروز (1) سنّة (5) الانجيليون (1) وأقليات مسيحية (1). عدد الناخبين: 192 الفا.
ملاحظة : يبرز في الدائرة الأولى ارتفاع عدد المقاعد قياساً على عدد الناخبين بسبب وجود ناخبين لطوائف لها ثقل مميّز كالأرمن الارثوذكس (3مقاعد) أو غير ممثلة بدوائر أخرى كالانجيليين والأقليات، مع وجود مقعد سنيّ بسبب ارتفاع عدد النواب من 99 عام 1960 الى 128 نائباً.  معظم الترجيحات تصب في خانة فوز لائحة سعد الحريري في هذه الدائرة.

2- محافظة جبل لبنان: تضم المناطق التالية:
-   بعبدا: المقاعد (6) الطوائف: موارنة (3) دروز (1) شيعة (2) عدد الناخبين 160 الف ناخب . حزب الله والتيار الوطني الحر وجنبلاط .
-   عاليه : المقاعد 5. الطوائف: موارنة(2) ارثوذكس(1) دروز (2) الناخبين 125 الف. تنافس بين جنبلاط وارسلان وكان باسم السبع انطوان اندراوس.
-   الشوف: المقاعد (8) الطوائف: موارنة (3) دروز (2) سنة (2) كاثوليك (1) الناخبين 189 الفا، القوات اللبنانية وجنبلاط وتواجد كبير للتيار الوطني الحر ومنافسة دوري شمعون.
-   جبيل :  المقاعد 3. الطوائف : موارنة (2) شيعة (1) الناخبين 80 الفا. من المرجح نجاح المعارضة.
-   كسروان: المقاعد 5 .الطوائف : موارنة (5) الناخبين 96 الفا. منافسة بين القواتيين والعونيين.

التيار الوطني الحر هو المستفيد الاول من القانون الجديد خصوصاً وانه ينطلق في حساباته من أقضية جبيل وكسروان وبعبدا وجزين التي تعتبر بمثابة "القلاع العونية" التي تشكل انقاط ارتكازه.
كما ان اكبر المتضررين من هذا القانون هو القوات اللبنانية التي لا تستطيع باستثناء قضاء بشري ان تفوز بمقاعد نيابية  أو أن تنافس في شكل جدي لا في الجبل ولا في الجنوب أو حتى في البقاع.
-   المتن الشمالي: المقاعد 8 الطوائف: ارثوذكس (2) ارمن ارثوذكس (1) كاثوليك (1) موارنة (4). الناخبين 180 الفا. منافسة بين التيار الوطني الحر والكتائب وستكون المعركة بأوجها بعد تحالف الرئيس ميشال المر مع الرئيس أمين الجميل والذي يرجح كفة الميزان في هذه المنطقة هو الصوت الارمني. من المرجح ان تكون الانتخابات في المتن لصالح التيار الوطني الحر.

3- محافظة الجنوب
صيدا: المقاعد 2 . الطوائف سنة (2) الناخبين 55 الفاً. من المرجح فوز لائحة الحريري.
الزهراني : المقاعد 3 الطوائف: كاثوليك (1) شيعة (2) الناخبين 98 الفا . ترجيح لفوز المعارضة.
جزين:  المقاعد 3 . الطوائف: كاثوليك (1) موارنة (2) الناخبين 59 الفا . ترجيح فوز للتيار الوطني الحر
صور:  المقاعد 4. الطوائف : شيعة (4) الناخبين 170 الفا. ترجيح فوز المعارضة .
النبطية : المقاعد 3 . الطوائف: شيعة (3) الناخبين 130 الفاً . ترجيح فوز المعارضة.
بنت جبيل: المقاعد 3. الطوائف" شيعة (3) عدد الناخبين 129 الفا . ترجيح فوز المعارضة
مرجعيون- حاصبيا: المقاعد 5. الطوائف: ارثوذكس(1) دروز (1) سنة (1) شيعة (2). الناخبين 145 الفا.

4- محافظة الشمال
زغرتا:  موارنة  (3) الناخبين  75 الفا ، ترجيح فوز المردة
بشري: موارنة 2    الناخبين  48 الفا ترجيح تساوي بين المردة والقوات
الكورة : ارثوذكس (3)  الناخبين 62 الفا  ترجيح فوز السوريون القوميون)
البترون: موارنة (2) الناخبين 62 الفا    ترجيح فوز 14 آذار عبر بطرس حرب
عكار: 7 مقاعد . ارثوذكس (2) موارنة (1) سنة (3) علويون (1) الناخبين 250
      الفا. من المرجح فوز لائحة الحريري.
المنية – الضنية:  3 مقاعد – سنة (3) 110 الاف ناخبا.
طرابلس:  8 مقاعد . ارثوذكس (1) موارنة (1) سنة (5) علويون (1) 205
           الاف ناخب. هناك بشائر تحالف كرامي- ميقاتي- الصفدي  وهناك دراسات تقول بأنه لن تكون النتائج في طرائبل كما كانت عليه في السابق وكل ذلك يقوم على التحالفات التي ستبنى ، خصوصاً أن الاستطلاعات الاخيرة كشفت ان مناصري الرئيس نجيب ميقاتي صوتوا عام 2005 لصالح لائحة تيار المستقبل، وترى بعض المصادر الطرابلسية المطلعة والمواكبة لحركة التحالفات ان لائحة ثانية بدأت تظهر ملامحها وتتركز بشكل رئيس على تحالف الرئيسين عمر كرامي عبر ابنه فيصل ونجيب ميقاتي. وإذا استطاع الرئيسان كرامي وميقاتي أن يتفقا مع التكتل الطرابلسي وتحديدا الوزير محمد الصفدي على تشكيل لائحة موحدة ستصبح الامور صعبة جداً على تيار المستقبل، وفي الفترة الاخيرة ومع ظهور الوسطية في الاجواء السياسية فقد اتخذ الوزير الصفدي منحى الوسطية القريبة الى تيار المستقبل وهكذا من الارجح ان تتغير المعادلات في اللحظات الاخيرة.

5- محافظة البقاع
البقاع الاوسط
زحلة:  7 مقاعد  . ارثوذكس (1) ارمن ارثوذكس (1) كاثوليك (2) موارنة (1)
 سنة (1) شيعة (1). الناخبين 162 الفا. تنافس مجموعة الكتلة الشعبية
بقيادة الياس سكاف والتيار الوطني الحر بوجه القوات اللبنانية والكتائب
والوزير السابق نقولا فتوش .
البقاع الغربي:
راشيا: 6 مقاعد ارثوذكس (1) موارنة(1) دروز (1)سنة(2) شيعة (1)  الناخبين
        130 الفا. من المحتمل فوز المعارضة (عبد الرحيم مراد)
البقاع الشمالي:
بعلبك- الهرمل : 10 مقاعد : كاثوليك (1) موارنة (1) سنة (2) شيعة (6). عدد
              الناخبين 283(الفا).   فوز المعارضة حزب الله وحركة أمل.

   ملاحظات يمكن للاعلام الانتخابي أن يلعب دوراً كبيراً من خلال:   
1-   يستطيع الحريري دعم النواب بـ100 الف دولار لكل نائب، وبامكان الحريري أن يرشح 10 ولكن 9 منهم ينسحبون قبل الانتخابات وتتوجه الدعاية لواحد منهم والذي سيحصل على ما يخصص للنواب الآخرين، الذين يمكن للحريري تعويضهم)
2-   تقديم المساعدات للطلاب + المرضى+مواد غذائية
3-   تقديم دعم مادي الى رؤوساء بعض الجماعات (المفاتيح)
4-   إثارة بعض المشاكل المشاكل التي يمكن أن تؤلب الرأي العام ضد الطرف الآخر.
5-   افتتاح أعمال المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري يمكن أن يؤثر إيجابياً لصالح سعد الحريري.
ويمكن استثمار ما حصل في 14 شباط (فبراير) 2009 (سقوط القتلى لحشد نفسي) ضد حزب الله وأمل، لاسيما وأن القتلى بينهم سني و درزي.
   أما اللغة الانتخابية فهي ما تزال لغة حشد طائفي ومذهبي مباشر .
   إن تحالف جماعة 8 آذار (مارس) مع ميشيل عون رغم قوته الاّ أنه يخسر الناس بسهولة مع بعض المواقف المتطرفة، وهم يستطيعون أن يقدموا دعماً مادياً للآخرين للتأثير عليهم واستغلال بعض الحوادث والتحالف مع ايران وسوريا الذي هو بقدر كونه نقطة قوة لهم فهو نقطة ضعف أيضاًً.
6-10 مرشحون في كل موقع
لقد وعد سعد الحريري الجماعة الاسلامية بـ 6 نواب  ولذلك الكتائب  يطالبون بـ 6 نواب أيضاً كما تطالب القوات بـ 6 نواب أيضاً.

التوقعات
-   أجواء حزب الله تقول بتفاؤل وإن كان بحذر أنهم سيحصلون على 72-84 (معارضة) ويتحول الحريري الى أقلية
-   جماعة الحريري تقول بأنهم سيبقون الاكثرية ، لكنهم قد يخسرون 3 في بيروت و4 في طرابلس.
-   حالياً لديهم الآن 78- وقد يتحولون الى 71 مقعداً
القوى المحايدة ترجح أن يحصل الحريري على 60 مقعداً وأن يحصل حزب الله و8 آذار على  62 أو 61 و 6 لرئيس الجمهورية والمجموع 128 نائباً.

المخاوف لدى جماعة الحريري كبيرة جداً من خلال :

1-   الانفتاح السوري- السعودي (اطلاق سراح الموقوفين المتهمين بمقتل الحريري) قد يؤثر على النتائج.
2-   وقوف رئيس الجمهورية الى جانب 8 آذار الى حد ما نتيجة انفتاحه على سوريا قد يؤثر على النتائج .
3-   تحالف المقاومة مع الجيش قد يؤثر على النتائج. 
4-   مع انطلاق أعمال المحكمة الجنائية الدولية وإثارة موضوع الضباط الاربعة فيمكن أن تؤثر سلباً وأيجاباً على الفريقين الموالاة والمعارضة وذلك حسب نتائج المحكمة.


مخاوف حزب الله والمقاومة ناجمة من :
1-   المال الانتخابي
2-   استقدام المغتربين (جماعة الحريري حيث تدفع تذاكر سفر+ إقامة لمدة اسبوع)
3-   خطيئة 7 أيار 2008 (يستحضرها الناس) وهي ليست لصالح حزب الله
   هذا دليل أولي على خارطة التصويت والتوّقعات، علماً بأن الانتخابات ستجري لمدة يوم واحد.


أعدّت قبل نحو شهرين من الانتخابات وأرسلت للنشر قبيل الانتخابات باسبوع واحد

1158
الجواهري نهر العراق الثالث!

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

احتفلت جامعة فورنش الروسية بافتتاح نصب تذكاري نصفي لشاعر العرب الأكبر الجواهري، وكان مركز الدراسات الروسية-العراقية قد تلقى هدية من رئيس جمهورية العراق جلال الطالباني لنصب تمثال للجواهري هو الأول من نوعه خارج العراق، وحضر الاحتفال عدد من الأدباء ومتذوقي الشعر، ومسؤولين وأكاديميين روس وعراقيين، وطلب القائمون على الاحتفال كتابة نصوص ورسائل تليت بالروسية والعربية لأدباء عراقيين، بينهم الشاعر سعدي يوسف ومحمد عارف، وكاتب هذه السطور وقامت محطة تلفزيون روسيا اليوم بتغطية الفعالية.
قدّر لي أن أكون قريباً من الجواهري، رغم أن الاقتراب منه مغامرة مليئة بالاحتمالات وربما يصعب التكهن بنتائجها، ليس فقط على المستوى الشعري والإبداع الأدبي، بصفته «عالَماً شعرياً» خاصاً ومتشابكاً، ولكن على المستوى الشخصي أيضاً، فالجواهري شخصية حساسة، بل بالغة الحساسية وله مزاج خاص، ولذلك فالاقتراب من شاعر مبدع ومأزوم وحده سيكون امتيازاً، لاسيما إذا استمرت الصحبة متواصلة نحو ثلاثة عقود من الزمان ازدادت عمقاً وشمولاً، وعلى المستويات الخاصة والعامة، الثقافية والاجتماعية في الآن، خصوصاً حين يسمح لك بدخول المناطق المحرّمة في غابته والإصغاء إليه، وهو يتحدث عن معشوقاته أو يخبرك كيف كتب أشهر قصائده، وكيف دخل معاركه السحرية وحين اختصم وتحدى، وتصارع وانقلب، وتواصل وتناقض، ثم كيف غضب وكيف أصفح وما همومه وأحزانه وأفراحه، ثم تبدأ بعد ذلك بدراسته النقدية.
فالمتتبع لحياته وشعره كأنه يتحرك في منطقة شائكة وعلى أرض مزدحمة بالشعر والهمّ العام. كنت أشعر أنني أمام حالة شعر بكل ما تعنيه هذه الكلمة الواسعة بطقوسها وفضاءاتها وعبق شذاها، فالقصيدة لدى الجواهري هي التي تدلّك على مملكة الشعر أو صومعة الشاعر، حيث يمارس الخلق بجو أقرب الى التبجيل والاحتفاء، وبمعاناة فائقة، فتراه غير عابئ باليومي والطارئ أحياناً وفي أحيان أخرى تراه مستغرقاً لدرجة الانفعال بكل ما حوله، وفي أحيان أخرى منشغلاً بالحسّي والملموس، ومثلما يكون الآني جزءًا من المستقبلي متواصلاً معه أو منفصلاً عنه، يكون المستقبل والمستحيل جزءًا من الحاضر والراهن، لكنه في كل الأحوال لا يرغب إلاّ أن يراه ويتفحصه وكأنه يعيش فيه.
لم يكن الجواهري يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه، كان يريد أن يعيش كل لحظة، أي لم يرغب أن يُبدّد ثانية فكان يريد الدنيوي والأخروي، الحياة والخلود، الحاضر والمستقبل، وإذا ما استعرت تعبيراً لمكسيم غوركي فقد كان نصف عقل الجواهري، وربما إبداعه يعيش في المستقبل، للقادم الجميل، الذي كان يريده شفيفاً ومعافى وأزرقاً مثل لون البحر الذي يحبّه!
في حالة الجواهري لم نكن نحن أمام الشاعر، بل كنّا أمام غابة شعرية تحفل بكل الألوان والأصناف، قوامها نحو عشرين ألف بيتٍ من الشعر، ومتوزعة على أكثر من سبعة عقود ونصف من الإبداع، وكان كل ما فيه متغضّناً بأنفاس الشعر، حركته وأصابعه الممدودة وصوته، عندما يبدأ في مطلع القصيدة تشعر وكأن عناقيد من المعاني والمباني تنهمر عليك مثل شلال أحياناً، ثم تبدأ بعدها بالتأمل لتسير مياه أنهاره وسواقيه وجداوله بعذوبة ورقّة لتصل نهري دجلة والفرات، رمزا بلاد ما بين النهرين «الميزوبوتاميا» ولعل هناك من أطلق على الجواهري باستحقاق «النهر الثالث» باعتباره رمزاً آخر للعراق.
الشعر لدى الجواهري ساهم في رسم أو إعادة تصوير حياتنا، بتفاصيلها وشخوصها وتاريخها ومعالمها، لا بنكهتها الواقعية وحسب، ولكن بإطارها المتخيّل والواهم أحياناً، مشتملاً على نكهة حبٍ ومذاق تحدٍّ وجوار تناقض، تلك التي شكلت سمة عنيفة للقصيدة الجواهرية.
كان يتراءى لي وأنا بصحبة الجواهري أنني لست أمام شاعر فريدٍ فحسب، أو حقبة كاملة، فقد كنت أحياناً أشردُ بخيالاتي لأتصور أنني أمام حزمة لقرون من الشعراء المبدعين أو حقبة شعرية تاريخية كاملة، متجسدة في شاعر اختزن من التاريخ نحو ألف عام ما بعد المتنبي، لكأن جذوره ممتدة من الفترة الأموية-العباسية على حد تعبير الشاعر سعدي يوسف، التي شغلت القرن العشرين كله في مغامرة ممتدة بهرمونية جمعت التناقض المحبب والأضداد المتجاورة بتناسق باهر وليس له نظير.
لم يكن بإمكان الجواهري ألا يستجيب لإغراء المغامرة والتحدي بما جمعه من متناقضات، بصعوده ونزوله، بقوته ونقاط ضعفه الإنسانية، بشبابه وشيخوخته، فلم يرغب الجواهري الجلوس على مقاعد مطلية بالذهب، لأن خياره كان الشعر والمغامرة، فهذا الهاجس الأول والأخير له، ذهناً ومزاجاً وفناً، فقد كان يكفيه أنه جالس على قمة الشعر، ماسكا بحلقته الذهبية الأخيرة، ناظراً بطريقته البانورامية ومن خلال مشغله الشعري لمشهد الجمال والخلق.
عرفت الجواهري عندما كنت طفلاً وكانت دواوينه تملأ مكتبة الأعمام والأخوال، وكنت كلما أذهب إلى مدرستي «السلام» الابتدائية أمرّ من أمام جامع الجواهري في «منطقة القباب الزرق» المدفون فيها جدّه الأقدم صاحب كتاب «جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام» والمتوفى عام 1850، وهذه المنطقة معروفة بمحلة العمارة في النجف في الفرات الأوسط، والنجف حاضنة شعرية وأدبية ومنارة علمية مضى على تأسيس جامعتها أكثر من ألف عام، وحين وصلها الإمام الطوسي عام 449 هـ كانت صرحاً شامخاً، أسهم هو في ترسيخه وتأطيره حتى توفي عام 460 هـ، وظلّت تحمل من بعده مشعل التنوير رغم محافظتها الشكلية، لكنها ضمّت «الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق» على حد تعبير الشاعر مصطفى جمال الدين. قابلتُ الجواهري لأول مرة في مطلع عام 1959 في ساحة الكشافة ببغداد واجتمعت به بعد عودته من براغ، حيث قضى سبع سنوات عجاف هناك، لكن علاقتي به توطدت وتوثقت خلال السبعينيات في براغ، المدينة الأليفة ذات القباب الذهبية، كما تعززت وتعمقت علاقتي به خلال الثمانينيات في دمشق، وكنت قد سألت الجواهري في إحدى المرات وماذا كان هناك في الغربة يا أبا فرات: أهو زمهرير المنفى أم فردوس الحرية؟ فأجاب بعد أن سحب نفساً عميقاً من سيكارته التي لم تكن تفارقه: الاثنان معاً... أي والله!
وكنت قد أصدرت عنه كتاباً بالتعاون معه عام 1986 عن دار طلاس والموسوم بـ«الجواهري في العيون من أشعاره» وهو عبارة عن ذائقة لسبعة عقود من الزمان، وتضمن الكتاب نحو سبعمئة صفحة مع مقدمة كتبها له وبيبلوغرافيا، ومن المفارقة أن أذكر أنني نشرت قصيدة كان قد كتبها لجلال الطالباني، لأول مرة في هذا الكتاب، جواباً على رسالته التي يستثيره فيها على أن «يُغنّي» بعد صمت غير قصير، فما كان من الجواهري إلاّ أن يجيبه بعنوان مضاد قابلاً التحدي، وهو «ماذا أغني؟» وهذه القصيدة أرسلها الجواهري في 10/12/1980 إلى صديقه الطالباني الذي ظل يحتفظ بصداقته منذ الخمسينيات كما أعرف وضمتني معهما أكثر من جلسة. ثم عدتُ ونشرت هذه القصيدة مرة أخرى في كتابي عن الجواهري، الذي صدر بطبعته الأولى وهو مازال على قيد الحياة، في عام 1996- 1997، وكان بعنوان «الجواهري جدل الشعر والحياة» أما طبعته الثانية المزيّدة والمنقّحة فقد صدرت في مطلع عام 2009 عن دار الآداب في بيروت. ولديّ حوارات مطولة نشرت قسماً منها وأستعد لنشر القسم الآخر الأهم والأوسع.
سعى الجواهري إلى تجاوز المألوف والعادي من الأشياء إلى ما هو خارق أو مستحيل في السلوك والتمرّد والتدفّق الشعري والنفي والترحال بموهبة باهرة، حيث ظلّ مبحراً بسفينته ضد التيار، ولم يكن ذلك بمعزل عن تفجر ذاتي ومعاناة مذهلة وأزمة شعر وشاعر، كانت القصيدة معه تأتي غيمة فضية قبل أن تنقدح عن شرارة البرق التي تخطف البصر، كما قالت الدكتورة نجاح العطار.
أنا العراق لساني قلبه ودمي فراته وكياني منه أشطار
وهو القائل:
حييت سفحك عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين
ظلّ الجواهري خارج حدود التصنيف التقليدية، لكونه شاعراً تجاوز مكانه وزمانه بنزعته الإنسانية وإبداعه المتميّز والعبقري، وبمناسبة اقتراب ذكرى رحيله الثانية عشرة فألف تحية له، وتحية لمن بادر في نصب تمثال له، فهو بحق نهر العراق الثالث!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 649  الجمعة 12 يونيو 2009 ,19 جمادى الثانية 1430


1159
عن الاستفتاء والإصلاح في العراق
   

عبدالحسين شعبان
 

في أعقاب الجدل والأخذ والرد حول توقيع الاتفاقية العراقية- الامريكية ، توافقت الأطراف الحاكمة على مسألتين أساسيتين وإن كانت لهما علاقة بامرار الاتفاقية، ولكنهما ليسا من صلبها، الأولى تتعلق بخطة للاصلاح السياسي والثانية اجراء استفتاء يُفترض أن يكون في تموز/يوليو 2009 بعد التوقيع والتصديق على الاتفاقية المذكورة في نهاية عهد الرئيس بوش وعشيّة تسلّم الرئيس أوباما للسلطة.

أما وثيقة الاصلاح، فحتى الآن لم يردْ لها ذكرٌ في الواقع العملي، بل إن الاحتدامات والاحتكاكات زادت بين القوى السياسية بعد الاتفاق عليها، لدرجة أن رئيس الوزراء نوري المالكي طرح ثلاث مسائل جديدة وجديرة بالمناقشة والتوقف عندها فيما إذا أصرّ على المضي فيها من الناحية السياسية والدستورية، الأولى ضرورة تعديل الدستور، لاسيما  ما يتعلق بصلاحيات الاقاليم ودور الحكومة الاتحادية المركزية، والثانية دعوته الى النظام الرئاسي، والثالثة تتعلق بإلغاء ما سمّي بالديمقراطية التوافقية، وهو ما ثارت حوله الدوائر، إذ شعرت بعض الفرق والتكتلات السياسية ان مواقعها يمكن أن تتصدّع، منتقدة تصريحات رئيس الوزراء، الذي قد يكون شعر بالقوة بعد بعض النجاحات التي حققها، فيما يتعلق بتصديه للميليشيات وتحسّن الوضع الأمني خلال العام المنصرم، ونجاحه في انتخابات المحافظات، ودعوته لدولة القانون ومحاولة تقديم أطروحة أقل تشبثاً بالطائفية قياساً لمجايليه من الحاكمين، لا سيما من كتلة الائتلاف الوطني العراقي (الشيعي). ولعل أكثر المنتقدين كان رئيس الجمهورية جلال الطالباني (كتلة التحالف الكردستاني) ونائبه طارق الهاشمي من كتلة التوافق (السنيّة).

أما موضوع الاستفتاء على الاتفاقية العراقية-الامريكية فهل سيجرى في وقته المحدد، كما أخبرتنا التوافقات السياسية في حينها، أم أنها ستكون تحصيل حاصل بعد إمرارها، مثلما حصل بشأن تعديل الدستور خلال اقراره عام 2005؟ ونحن الآن في عام 2009 ولم يتم تعديله رغم أن الاتفاق كان يقتضي انجاز ذلك بعد أربعة أشهر من مباشرة البرلمان لعمله. ورغم تشكيل لجنة للنظر في التعديلات الدستورية لذلك، الاّ أنها لم تستطع حصر نقاط الخلاف التي لا تزال مستمرة، بل متفاقمة.

وبغض النظر فيما إذا أجري أو لم يجر الاستفتاء، فإنه لا يعني شيئاً فالاتفاقية تم التوقيع عليها ودخلت حيّز التنفيذ، ولا يوجد ما ينص على اجراء الاستفتاء في متنها، وهو أمر لا يعني الطرف الثاني (الولايات المتحدة) بل يهم الطرف الأضعف “العراق” الذي لن يكون بامكانه بسهولة التنصل من اتفاقية مفروضة، وتتعارض مع قواعد القانون الدولي المعاصر واتفاقية فيينا حول قانون المعاهدات عام ،1969 والاّ لماذا تم التوقيع لكي يتم الاستفتاء عليها إذا كانت تتضمن عنصر الاكراه، وهو أحد عيوب الرضا، ناهيكم عن كونها بين طرفين غير متكافئين، وكان الأجدر القيام بالاستفتاء كاجراء قانوني وشرعي، قبل التصديق عليها، حسبما تذهب الى ذلك اتفاقية فيينا، وليس بعد دخولها حيّز التنفيذ.

ولكن إذا تجاوزنا هذا الأمر واعتبرنا الاتفاقية حسبما نص عليه “تنسجم” مع قواعد القانون الدولي، فما قيمة الاستفتاء اللاحق وما هي الاجراءات العملية، لو افترضنا ان الشعب العراقي سيرفض الاتفاقية؟

حسب الاتفاقية سيكون للطرف المبادر بإلغائها، ابلاغ الطرف الثاني تحلله من الالتزامات الواردة فيها، طالما رفضها، وعلى الطرف الثاني بعد مرور سنة واحدة، الشروع بالغاء الترتيبات القانونية المستحقة بموجب الاتفاقية، وحتى الآن مرّت أكثر من ثمانية أشهر على التوقيع، وإذا احتسبنا عاماً جديداً، فكل ما يتبقى من الاتفاقية هو عام وأربعة أشهر، سيكون حسب الجداول المفترضة للانسحاب، استكمال ما جاءت به الاتفاقية، إذا افترضنا أن الاجراءات تمت في حينها، وإلاّ فإن المتبقي من الاتفاقية قد تأكله الاجراءات والمراسلات البيروقراطية والأوضاع الامنية والفراغ الذي يمكن أن يحدث!

ولا شك ان الاتفاقية التي نقلت الاحتلال العسكري الى احتلال تعاقدي، ومن الخشونة والقوة الى اللين والسياسة، ستترك تأثيراتها الجيوسياسية المستقبلية على عموم دول وشعوب المنطقة، حتى لو تم الانسحاب لأنها ستكون في إطار وجود قواعد لنحو 30-50 ألف من الجنود الامريكان للتدريب والتأهيل ومواجهة التحديات، كما صرّح المسؤولون العسكريون الامريكان، وكما افترض الرئيس اوباما من دراسة واقع الانسحاب المنظم على الارض!

ولعل الاتفاقية كافأت الاحتلال بإطفاء المطالبة بالتعويض عما لحق بالعراق من غبن واضرار طيلة السنوات الماضية، عندما وقعت معه اتفاقية سياسية وأمنية ومنحته صفة الدولة الاكثر رعاية، رغم الكارثة التي حلّت به وهو ما اعترف به الرئيس جورج دبليو بوش عشية مغادرته البيت الأبيض، حين صرّح ان معلوماته كانت مضللة ومخطوءة عند غزوه للعراق، وبعكس ذلك ما كان سيقدم على الأمر، والاعتراف سيّد الأدلة كما يقال، وهو ما يرتّب مسؤوليات قانونية، جنائية ومدنية، على الادارة الامريكية والجهات التي ساهمت في احتلال العراق وتبديد ثرواته وموارده ونهب ممتلكاته لاسيما آثاره التاريخية  التي لا تقدّر بثمن.

لعل مناسبة الحديث هذا كانت محور نقاش ثقافي ومعرفي- حقوقي وسياسي لنخبة من الباحثين العراقيين والعرب في بيروت، أداره مركز العراق للدراسات بالتعاون مع مركز “باحث” الفلسطيني ومركز الدراسات السياسية (جامعة بغداد)، وهو حلقة أولى يتم استكمالها بحوار حول الاستفتاء وسيناريوهات الانسحاب ونتائجه.

باحث ومفكر عربي

1160
الديمقراطية التوافقية والديمقراطية «التواقفية»!!
عبدالحسين شعبان
2009-06-08
أخذ رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يطرح بين فترة وأخرى فكرة جديدة، سرعان ما يبدأ الحوار والجدل فيها، حتى ينتقل إلى فكرة ثانية، ولم تكن الأحزاب والتكتلات السياسية قد استنفذت النقاش بشأنها سواءً من محازبيه أو المتحالفين أو المشاركين معه أو من منافسيه وخصومه أو أعدائه من داخل أو خارج العملية السياسية.
ولعل في ذلك براعة سياسية يبديها المالكي على مجايليه من السياسيين، لاسيما الذين في السلطة، لم يكن يبزّه فيها سوى جلال الطالباني رئيس الجمهورية، لكن اختلاف مواقع القوة والتأثير، جعل الكفة تميل إلى صالح المالكي، في حين أن الطالباني هو الأكثر براغماتية ودهاءً في السياسة، بل إنه أحد أبرز المخضرمين من الجيل الثاني للسياسيين العراقيين، خبرة وتجربة. في أول عهده طرح المالكي فكرة المصالحة الوطنية وما زالت تنام وتستيقظ، ثم طرح خطة أمن بغداد الأولى والثانية والثالثة، ثم بدأ الحديث عن فرض دولة القانون، لكن هذه المراحل وإن بقيت ظلالها حتى الآن، إلا أنها أصبحت باهتة، رغم أن المشاريع التي كان يطرحها كان له من يشاركه فيها من القوى المؤتلفة- المختلفة في العملية السياسية، أي أنها كانت أقرب إلى القبول وربما الإجماع من لدن المشاركين في العملية السياسية، لكن المرحلة التي تلتها شهدت تعارضات واحتدامات كثيرة بين المالكي وشركائه.
ثم توّغل المالكي بعد إحرازه نجاحات في الميدان الأمني ومناورته بشأن الاتفاقية العراقية- الأميركية، حين أبدى ممانعة لا تتعلق بالجوهر، بقدر تحسين الصورة أمام الرأي العام، والتقدم الذي حققه في انتخابات مجالس المحافظات، بطرح ثلاث قضايا في فترة زمنية قصيرة، وهي قضايا جديدة وجديرة بالمناقشة والتوقف عندها، فيما إذا أصرّ على المضي فيها من الناحيتين السياسية والدستورية، الأولى تتعلق بضرورة تعديل الدستور، لاسيما ما يتعلق بصلاحيات الأقاليم ودور الحكومة الاتحادية المركزية، والثانية دعوته إلى النظام الرئاسي، والثالثة تتعلق بإلغاء ما سمّي بالديمقراطية التوافقية، وهو ما ثارت حوله الدوائر، إذ شعرت بعض الفرق والتكتلات السياسية بأن مواقعها يمكن أن تتصدّع، منتقدة تصريحات رئيس الوزراء، الذي قد يكون شعر بالقوة، لاسيما بعد بعض النجاحات التي حققها، بما فيها تصديه للميليشيات، ودعوته لدولة القانون ومحاولة تقديم أطروحة أقل تشبثاً بالطائفية قياساً لمجايليه من الحاكمين، لاسيما من كتلة الائتلاف الوطني العراقي (الشيعي).
ولعل أكثر المنتقدين كان رئيس الجمهورية جلال الطالباني (كتلة التحالف الكردستاني) ونائبه طارق الهاشمي من كتلة التوافق (السنيّة). وبغض النظر عمّا طرح المالكي من آراء فإن التعديلات المطلوبة على الدستور والتي تم الاتفاق عليها عشية إجراء الاستفتاء عليه لم تُنجز، ويبدو أنها لن تنجز في المدى المنظور، رغم أنه كان من المفترض إنجازها عقب مباشرة مجلس النواب أعماله بعد أربعة أشهر من إجراء الانتخابات، ورغم مرور أربع سنوات، فالاحتدامات ازدادت والعقبات تعاظمت.
وهناك إشكالات موضوعية وأخرى ذاتية تقف عقبة أمام التعديلات، ولعل اللجنة الخاصة بتعديل الدستور التي تم تشكيلها لم تستطع إنجاز مهمتها حتى الآن، فضلاً عن ذلك، فهناك حوالي 50 مادة من الدستور تتطلب إصدار قانون خاص لكي يصبح الدستور نافذاً.
وإذا أضفنا إلى هذه المشكلات مسألة صلاحيات الأقاليم كما طرحها رئيس الوزراء المالكي ودعوته لتعزيز سلطات الحكومة الاتحادية (المركزية)، فإننا سنكون أمام لغم كبير يكاد يهدد العملية السياسية برمتها، إضافة إلى الاشتباك بين إقليم كردستان والسلطة الاتحادية (المركزية) حول موضوع النفط، فضلاً عن مشكلة كركوك المتفاقمة، حيث تعتبر بعض القوى المدعومة من المالكي أن المادة 140 من الدستور، التي تم تأسيسها على المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، قد استنفذت ولا يمكن السماح بأي شكل من الأشكال بضم كركوك إلى إقليم كردستان، بل والتشكيك في مهمة الأمم المتحدة، رغم أنها حاولت تأجيل المسألة باقتراح 4 حلول توافقية تدرجية، لكنها لم ترضِ الأكراد مثلما لم يقبل بها العرب والتركمان. ويمتد الأمر إلى دور وصلاحيات البشمركة وبخاصة في بعض المناطق التي شهدت احتكاكات وسمّيت «متنازعاً عليها».
ولعل هذه اللوحة هي التي دفعت المالكي لأن يطرح حزمة جديدة من بالونات جسّ النبض بعد الرغبة في تعديل الدستور، بما يتعلق بالنظام الرئاسي وكذلك بإلغاء الديمقراطية التواقفية.
وإذا كانت المحاصصة على حد تعبير بعض أقطاب العملية السياسية قد فشلت فشلاً ذريعاً لدرجة أن الكثيرين منهم غسل يديه منها، إلا أن البعض الآخر ما زال يتشبث بها لأنه في حالة إلغائها سيتم تهديد مواقعه وامتيازاته التي حصل عليها وربما بدون جدارة واستحقاق.
وإذا افترضنا أن الاحتلال سينتهي (رغم أنه أمر مشكوك فيه) وفقاً للاتفاقية العراقية- الأميركية بانسحاب كلي أو جزئي، خصوصاً بسبب عدم تأهيل الجيش فضلاً عن أن الولايات المتحدة لم تحصل على النتائج التي تريدها والتي غامرت من أجلها بغزو العراق، فإن هذا سيطرح بإلحاح وجدّية، الخارطة السياسية العراقية على بساط البحث، وهو ما أراد المالكي أن يسبق الزمن بطرحه، والتلويح به للآخرين من موقع القوة وباستخدام عنصر المفاجأة من جهة أخرى.
إن موضوع النظام الرئاسي وما سمّي بالديمقراطية التوافقية، سيكون مطروحاً على نحو جديد إنْ آجلاً أم عاجلاً، وبخاصة إذا ما تحررت الإرادة السياسية العراقية، حتى إن تضمن تخطياً لبعض المعايير الطائفية والإثنية (التي ما تزال جهات الحكم في العراق تتمسك بها)، حين ينتخب العراق رئيساً بصورة مباشرة على أساس انتخابات عابرة للطوائف والإثنيات، مع برلمان بصلاحيات واسعة بحيث تمثل نوعاً من التوازن، وهذا سيعني أن الديمقراطية التوافقية قد انتهى مفعولها، خصوصاً بعد أن أخضعت كل شيء للتوافق، الأمر الذي أوقف العمل فعلياً بمعايير الديمقراطية ونتائج الانتخابات، مستبدلاً إياها بصفقات للتقاسم الوظيفي المذهبي والإثني في غرف مغلقة أحياناً، وبتوافقات خارج الإرادة الشعبية التي رفضت المحاصصة، حتى إن كانت صناديق الاقتراع لا تأتي بالنتائج التي تريدها.
وهنا لا بد من العودة إلى خيار حقيقي للديمقراطية، لاسيما بانتهاء الصيغة التي جاء بها الاحتلال وحواشيه وما تضمنته من اتفاقيات وقواعد، واعتماد الهوية الوطنية العراقية الجامعة، مع احترام حقوق وخصوصيات الهويات الفرعية، أساساً للتداول السلمي للسلطة، وعلى الأغلبية مراعاة مصالح وحقوق تمثيل الأقلية والمكوّنات المتنوّعة، مثلما على هذه الأخيرة احترام ومراعاة حقوق الأغلبية، وفقاً للتوازن الاجتماعي والسياسي والقومي والديني، وبخاصة باعتماد معايير الكفاءة والنزاهة والوطنية، خارج نطاق المحاصصة وانعكاساتها السلبية الخطيرة على النسيج المجتمعي.


صحيفة العرب القطرية  العدد 7666 الإثنين 8 يونيو 2009 م ـ الموافق 15 جمادى الآخرة 1430 هـ

1161
التنمية والمجتمع المدني: الشراكة والتجربة العالمية!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

شهد مقر جامعة الدول العربية في القاهرة اجتماعاً لعدد من الخبراء بدعوة من المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات IDEA، وهي مؤسسة سويدية- دولية تعنى بإرساء الديمقراطية المستدامة على النطاق العالمي وتقديم الخبرة ودعم المؤسسات والتجارب الديمقراطية والمساعدة في تنفيذ برامج الإصلاح الديمقراطي عبر مصادر المعرفة ونشر الثقافة والديمقراطية.
ولعل أهمية هذا الاجتماع تأتي من كونه بدعم وإسهام مباشر من جامعة الدول العربية، خصوصاً بدعوة شخصيات فكرية وثقافية من العاملين في ميدان البحث العلمي ومراكز الدراسات والمشتغلين في إطار المجتمع المدني، فضلاً عن ذلك فهو اجتماع مفتوح في ما يتعلق بالتحول والإصلاح الديمقراطي، ولاسيما في موضوع الانتخابات، خصوصا لتقديم رؤى وتصورات حول سبل التعاون الأوروبي-العربي على الصعيدين الحكومي وغير الحكومي.
وإذا ظل الإصلاح يراوح في عالمنا العربي، لاسيما إزاء تحديث وتمدين الدولة وأساليب عملها وإشاعة الحريات الديمقراطية، خصوصا حريات التعبير والاعتقاد والتنظيم الحزبي والنقابي فضلاً عن الحق في المشاركة، باعتبارها حقوقا أساسية بعد حق الحياة، فإنه رغم كثرة الحديث عنه، إلاّ أن البدء الجدي للسير فيه مازال بطيئاً أو حتى متعثراً مع وجود بعض الاستثناءات الجنينية والتطورات التراكمية على محدوديتها.
تقاذفت الإصلاح توصيفات مختلفة يحمل بعضها شيئاً من الريبة أو التشكيك، فهو تارة إصلاح محمود وأخرى إصلاح مذموم، وإصلاح مفروض وإصلاح مطلوب، وإصلاح من الداخل وإصلاح من الخارج، وإصلاح فوقي وإصلاح تحتي وإصلاح سلمي وإصلاح عنفي وإصلاح جذري وإصلاح شكلي، وإصلاح منضبط وإصلاح منفلت.
وإذا كان الهدف من التوصيف هو تحديد المعاني والمباني والدلالات للبدء بالإصلاح، إلاّ أن هذا الأمر استغرق زمناً طويلاً ومازلنا ندور في نفس الدائرة دون إحراز تقدم كبير وملموس على هذا الصعيد، وحتى بعض التطورات التي حدثت في عدد من البلدان، جرى الالتفاف عليها أو التراجع عنها أو ظلّت بأحسن الأحوال محدودة، ولعل ظروفاً موضوعية وأخرى ذاتية ساهمت في ذلك منها ما حدث في 11 أيلول (سبتمبر) من عمل ارهابي أودى بحياة أكثر من 3 آلاف بريء في الولايات المتحدة، ثم استخدام مكافحة الارهاب عربياً وإقليمياً، بل على المستوى الدولي، ذريعة للتجاوز على الحريات المدنية والسياسية واتخاذ بعض الإجراءات بزعم مكافحة الظاهرة المستفحلة.
وإذا أضفنا إلى ذلك أن منطقتنا شهدت حروباً وحصارات مدمّرة عطلت من عملية التنمية، لاسيما بعد احتلال أفغانستان وغزو واحتلال العراق والحرب الإسرائيلية ضد لبنان وتجويع غزة والعدوان عليها وغيرها، وهذه موضوعياً سببت في نكوص الحريات والحقوق، ناهيكم عن استمرار السياسة الغربية في الكيل بمكيالين وتبدد الكثير من صدقية بعض الطروحات التي دعت إلى احترام حقوق الإنسان وإنجاز القول الديمقراطي، يضاف إليه ضعف المجتمع المدني العربي وعدم تمكّنه حتى الآن من أن يلعب دوراً اقتراحياً مؤثراً وشريكاً للحكومات، خصوصا من خلال أدائه المهني واستقلاليته، وهلع الكثير من الحكام من أن إرخاء قبضتهم أو تقديم تنازلات بإجراء إصلاحات، قد يؤدي الى هلاكهم أو يحدث نوعاً من الشرعية للمعارضات السياسية للانقضاض على السلطة لاسيما بعض الاتجاهات الإسلامية الراديكالية. هذه الأمور كانت موضوع نقاش ساخن ومعرفي في جامعة الدول العربية، وشارك الأمين العام عمرو موسى جانباً منها وأدارها السفير هشام يوسف.
لا بدّ من التأكيد أن الإصلاح ليس وصفة جاهزة ليتم أخذها مرة واحدة لشفاء أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل هو مسار طويل الأمد وعملية تغيير وتحوّل باتجاه الديمقراطية والحكم الصالح بتراكم وتدرّج وبناء للمؤسسات الدولية وتراكيبها وفقاً لقوانين وحقوق، هذا على صعيد الدولة، أما على الصعيد العالمي فالأمر يحتاج إلى بناء طويل الأمد يتم فيه إصلاح نظام العلاقات الدولية لتكون أكثر ديمقراطية، في ظل ظروف أخرى أكثر مساواة وعدلاً لاسيما إذا اتسمت بتعديل لموازين القوى على المستوى الدولي.
ثمة مقوّمات أمام الإصلاح في عالمنا العربي، سواءً على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي، لعل أهمها خارجياً ممارسة القوى المتنفذة ضغوطاً مختلفة لفرض سياسات الاستتباع والهيمنة ونهب ثروات شعوب وأمم، وفرض حصار وممارسة سياسات القوة والتهديد واحتلال بلدان وارتكاب أعمال عدوان.
أما على الصعيد الداخلي فإضافة إلى عدم توافّر الإرادة السياسية، فهناك نقص في الثقافة الديمقراطية والحقوقية، وهيمنة خطاب متطرف إسلاموي في الكثير من البلدان، لاسيما في ظل تفشي الفقر والتفاوت الطبقي والاجتماعي وضعف أنظمة التعليم والتربية وتعارض الكثير من مناهجها لحقوق الإنسان وحقوق المرأة وازدراء حقوق الأقليات.
وتتذرع الكثير من التيارات الفكرية والسياسية في السلطة وخارجها وأحياناً من معارضاتها، بالدين وبالخصوصية الثقافية، وبالطبع بالموروث والعادات والتقاليد وتعبّر مجرد الحديث عن الديمقراطية، إنما هو «بدعة وضلال»، خصوصاً عندما تطرح الإسلام هو الحل وترفض التفاعل مع التطور الدولي، واضعة حجاباً وسوراً منيعاً مثل سور الصين لعزل بلداننا وشعوبنا عن ركب التطور العالمي، لاسيما إزاء المشترك الإنساني الذي هو جامع لبني البشر بغض النظر عن دينهم وقوميتهم وجنسيتهم ولونهم وجنسهم ولغتهم وغير ذلك.
يمكن القول إنه مهما جرت من محاولات للعيش خارج التاريخ، فلا يمكن عزل بلداننا عن العالم ونحن جزء منه لا نعيش في جزيرة نائية، خصوصاً أن العالم أصبح قرية كونية في ظل ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، وإنْ لم يأتِ التغيير تطورياً تدريجياً في إطار سلمي وتراكمي، فإنه سيأتي عاصفاً ومدوّياً، ولعل مثل هذا التغيير سوف يعطّل ويعرقل عملية الإصلاح موضوعياً وذاتياً وتاريخياً ومستقبلياً، وسيكون كابحاً لعملية التطور، وحتى لو راهن الحكام أو بعض القوى المتطرفة على ادعاء «السيادة» و«عدم التدخل بالشؤون الداخلية» للانفراد بشعوبهم، فإن هذه الذريعة ستكون حجة عليهم وليس لهم، فالسيادة هي للشعب والوطن والمواطن، والمشترك الإنساني بين بني البشر يمكن أن ينتصر للإنسان وحقوقه وحرياته، ولا شك أن القوى المتنفذة ستنفذ من هذه الثغرات، يفرض هيمنتها بحجة الإصلاح حتى إن تطلب الأمر تدخلات عسكرية تقود الى نتائج كارثية وذميمة سواءً على الإنسان أو على صعيد الإصلاح المستقبلي، وهو ما ينبغي لبعض المعارضات أن تدركه فالتعويل على الخارجي قد يجلب معه الكوارث والمآسي.
إن دخول جامعة الدول العربية على خط الإصلاح وربط ذلك بالتنمية يمكن أن يشكل شراكة مع مؤسسات وقوى دولية لها أجندة خاصة مثل العديد من المؤسسات السويدية والدولية، وذلك بهدف نشر الثقافة الديمقراطية وثقافة المواطنة وقيم التسامح والمساواة على المستوى الوطني أو الدولي، إضافة الى أن هناك مجالات تعاون يمكن للمجتمع المدني وبالتعاون مع جامعة الدول العربية والمؤسسات الدولية ذات الصدقية أن يلعب دوره الإيجابي-الاقتراحي مثلما حصل في مؤتمر ديربن العام 2001، الذي حقق نجاحاً ملموساً، وهناك مجالات كثيرة مثل حقوق المرأة والأقليات والتربية والصحة والبيئة، وكل ما له علاقة بالمشترك الإنساني، خصوصاً التأهيل والتدريب والإعداد لبرامج ثقافية وحقوقية طويلة الأمد والتوجه إلى الجهات المستفيدة، لاسيما من النخب والجمهور، في ما يتعلق بالديمقراطية والانتخابات فضلاً عن حوار الثقافات والحضارات.
وأظن أن تجربة الحوار في إطار جامعة الدول العربية وبمشاركة خبراء ومفكرين من المجتمع المدني مع المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات (السويدية) كانت ناجحة ومفيدة ومثمرة، لاسيما لتعزيز الشراكة وتدقيق شروطها وأسسها، والبحث في آفاقها المستقبلية!!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية  العدد رقم 642، الجمعة 05 يونيو 2009 ,12 جمادى الثانية 1430

1162
المجتمع المدني العراقي.. من أين نبدأ؟
عبدالحسين شعبان
2009-06-01
إذا ما أردنا معرفة مواقف الدساتير العراقية من موضوع الحق في تشكيل الجمعيات، فيمكن اقتفاء أثر بعض المحطات المهمة، منها القانون الأساس «الدستور الملكي» الدائم العام 1925، الذي حكم العراق 33 عاماً والدستور الجمهوري المؤقت الأول 1958، ودستور عام 1970 الذي حكم العراق 33 عاماً أيضاً، وقانون إدارة الدولة العراقية المؤقت العام 2004، والدستور العراقي النافذ (الدائم)، الذي تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر 2005، وعلى أساسه أجريت الانتخابات البرلمانية في 15 ديسمبر من العام ذاته لقيام حكومة دائمة (4 سنوات).
وقبل تناول مواقف الدساتير العراقية من الحق في تشكيل الجمعيات فيمكن القول إن الدستور «الدائم» ما زال معوّماً؛ إذ اشترط مشاركة بعض الأطراف السياسية وبالتحديد «جبهة التوافق»، لإجراء تعديلات حول قضايا عقدية في الدستور، لم يتم التوصل إلى إيجاد حلول لها ضمن لجنة صياغة الدستور، على أن تتم التعديلات خلال 4 أشهر من مباشرة البرلمان العراقي عمله. ورغم مرور نحو 4 سنوات على الاستفتاء، فإنه لم تتم مناقشة التعديلات المقترحة، والتي هي عبارة عن ألغامٍ، يمكن أن تنفجر في أية لحظة، وقد تؤدي إلى الإطاحة بالعملية السياسية برمتها.
ولعل أهم تلك العقد أو الألغام تتعلق بموضوع: إنهاء الاحتلال ووضع جدول زمني للانسحاب رغم التوقيع على معاهدة مع الولايات المتحدة (أواخر عهد الرئيس بوش 2008) تقضي بانسحاب القوات الأميركية من العراق (أواخر العام 2011) ووعود الرئيس الأميركي باراك أوباما بتحقيق ذلك خلال مدة 18 شهراً والاختلاف حول موضوع هوية العراق أو «الوجه العربي» للعراق الذي لا يزال البعض يتشبث به تأييداً أو تنديداً، وكذلك موضوع الفيدرالية وبخاصة الجنوبية أو الفيدراليات الأخرى وصلاحياتها.
وإذا كانت «الفيدرالية الكردية» أمراً واقعاً بحكم خصوصية القضية الكردية القومية، والإقرار بفكرة الحكم الذاتي لمنطقة كردستان منذ العام 1970 (بيان 11 مارس 1970)، وتشريع قانون الحكم الذاتي العام 1974 ووجود مجلس تشريعي وآخر تنفيذي، إلا أن هناك من يتشكك بالفيدراليات الأخرى المقترحة، ويعتبرها دعوة صريحة لتقسيم العراق، خصوصاً في ظل الاحتلال ومن خلال دعم إقليمي لبعض الأوساط!! ناهيكم عن أن الجدل أخذ يزداد بشأن حدود الفيدرالية واختصاصاتها وأبعادها (بما فيها الفيدرالية الكردية)، وأن مثل هذا الجدل احتدم خلال مناقشة مشروع الدستور، وكذلك عند طرح مشروع دستور كردستان، وخطوة إنزال «العلم العراقي» في المؤسسات الحكومية في إقليم كردستان، وما أثارته من ردود فعل شملت رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ناهيكم عن أوساط مشاركة في العملية السياسية وأخرى واسعة خارجها.
ورغم الاستفتاء على الدستور (15 أكتوبر 2005) فإن المسألة سيعاد بحثها عند تعديل الدستور، إضافة إلى قضايا أخرى حسبما تمّ الاتفاق عليه.
كما تثير مسألة كركوك، التي تعتبرها الحركة القومية الكردية «قدس الأقداس»، تداعيات كثيرة ومخاوف عدَّة لأوساط واسعة من التركمان ومن عرب العراق وقوى سياسية متنوعة، خصوصاً أنها سبّبت نوعاً من الاحتقان الإثني وشهدت موجة من العنف، ناهيكم عن محاولة الفرقاء استخدام القوة أو التلويح بها وادعاء الأفضليات والحقوق والاختلاف حول المادة 58 الواردة في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية وتطبيقها والمادة 140 من الدستور الدائم، التي تطالب الحركة الكردية بها، بل وتتهم بعض الأطراف بتسويفها، وهو ما كان مثار خلاف حاد بين حكومة الدكتور إبراهيم الجعفري ومن بعده حكومة نوري المالكي؛ حيث ما زالت المسألة تراوح في مكانها وبين الحركة الكردية، في حين ترى قوى أخرى رافضة أو متحفظة أو حتى مسايرة، إن الحركة الكردية تحاول استغلال الظروف والاستقواء بها لضم كركوك عنوة إليها!!
وهناك مشكلة اجتثاث البعث وحلّ الميليشيات وكيفية التعاطي مع المقاومة والتفريق بينها وبين الإرهاب وموضوع إعادة الجيش السابق أو تأهيل قسم كبير منه، والأهم من ذلك المشكلات العملية التي تتعلق بوضع حد للأعمال الإرهابية والقتل على الهوية ووقف عمليات التطهير والتهجير المذهبي والإثني رغم تحسن الوضع الأمني خلال العام المنصرم.
وبالعودة إلى موضوع الحق في تشكيل الجمعيات فقد نصّ القانون الأساس «الدستور الملكي» الدائم في المادة 12 على ما يلي: «للعراقيين حرية إبداء الرأي والنشر والاجتماع، وتأليف الجمعيات والانضمام إليها ضمن حدود القانون».
أما الدستور العراقي الجمهوري الأول الصادر في 27 يوليو 1958، فإن مواده الثلاثين لم تتضمن أية إشارة إلى الحق في تشكيل الجمعيات.
وعندما سُئل رئيس لجنة صياغة الدستور الفقيه القانوني حسين جميل قال إنه دستور مؤقت. وفي الواقع فإنه كان أقرب إلى إعلان دستوري منه إلى دستور، وربما هذا هو الذي قصده حسين جميل في رده على اقتضاب الدستور وأحكامه.
وكان دستور العام 1970 قد تضمن في المادة 26 نصاً ننقله في هذا الاقتباس بالقول: «يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والاجتماع والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق أغراض الدستور وفي حدود القانون. وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي». لكن هذا النص كان معوّماً وحتى الهوامش القليلة تم احتسابها على نحو دقيق لمصلحة الحزب الحاكم.
ونصّ قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية في باب الحقوق الأساسية (المادة 13، الفقرة ج) على أن «الحق بحرية الاجتماع السلمي وبحرية الانتماء في جمعيات هو حق مضمون، كما أن الحق بحرية تشكيل النقابات والأحزاب والانضمام إليها وفقاً للقانون هو حق مضمون».

أما الدستور العراقي الدائم فقد نص في (المادة 36) على كفالة:
أولاً: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثاً: حرية الاجتماع والتظاهر السلمي.
كما ذهبت (المادة 37) إلى تأكيد حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب السياسية.. وعدم جواز إجبار أحد على الانضمام إلى أي حزب أو جمعية أو جهة سياسية. وذهبت (المادة 40) إلى تأكيد حرية الفكر والضمير والعقيدة (لكل فرد) وتناولت (المادة 43) حرص الدولة على «تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني ودعمها وتطويرها واستقلاليتها، بما ينسجم مع الوسائل السلمية لتحقيق الأهداف المشروعة لها».
وتبقى مسألة وجود مجتمع مدني عراقي طوعي واختياري وغير ربحي وغير إرثي ويمارس عمله في إطار توجه وممارسة ديمقراطية في علاقاته الداخلية ومع محيطه، وعلى نحو مستقل بعيداً عن الهيمنة السياسية الحكومية أو من قِبَل قوى المعارضة، دينياً أو مذهبياً أو غير ذلك، مسألة ضرورية وأساسية، بحيث يشكل قوة اقتراح واشتراك ورصد ورقابة، غير منخرطة في الصراع الأيديولوجي أو التطييف المذهبي الدائر في المجتمع والمدعوم من قوى وأحزاب سياسية.
إن وجود مؤسسات مدنية حرّة وفاعلة مسألة جوهرية لتعزيز وتطوير دور المجتمع المدني في تطويق العنف وفي التراكم السلمي التدرجي وفي عملية التنمية المستدامة.



صحيفة العرب القطرية العدد 7659 الإثنين 1 يونيو 2009 م ـ الموافق 8 جمادى الآخرة 1430 هـ

1163
المجتمع المدني بين الفهمين الماركسي والليبرالي
   


عبدالحسين شعبان
 

يمكن القول إن المجتمع المدني مرّ بأربع مراحل:

الأولى، بدأت من القرن الثامن عشر والتاسع عشر: أي مرحلة التأسيس والانطلاق.

الثانية، ويمكن وصفها بمرحلة الذبول، وشملت نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين، حتى الثلث الأخير منه، مع مرحلة وسيطة ما بين الحربين العالميتين.

الثالثة، وتشمل مرحلة أواسط القرن العشرين وبخاصة بعد تطويرات وإضاءات المفكر الإيطالي انطونيو غرامشي: وتمثل هذه الفترة مرحلة الانتعاش والعودة الجديدة، خصوصاً باتساع وتعمق المفهوم، والدور الذي لعبته الأمم المتحدة على صعيد تشجيع مؤسسات المجتمع المدني منذ تأسيسها عام 1945 في مؤتمر سان فرانسيسكو.

الرابعة، هي المرحلة التي بدأت قبيل نهاية الحرب الباردة وخصوصاً في فترة الوفاق الدولي في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات، والتي توّجت في أواسط الثمانينات وما بعدها وبخاصة في التسعينات، وذلك بعد انتهاء نظام القطبية الثنائية وتحوّل الصراع الإيديولوجي العالمي من شكل إلى شكل آخر، مع بروز قوة دولية مؤثرة ومهيمنة على العلاقات الدولية، ومؤشر صعود فكرة المجتمع المدني هو تمرد نقابة تضامن البولونية وبعض الأنشطة والتحركات ضد وحدانية الحزب والدولة البيروقراطية الاشتراكية.

في سياق الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي العالمي وسباق التسلح، غالت الدول بأهمية الأمن القومي، وازدادت سلطاتها واتّسع مجالها على حساب المجتمع المدني، سواء في الشرق أو في الغرب، إضافة إلى البلدان النامية أو ما يطلق عليها “العالم الثالث”. وقد برز خطاب المجتمع المدني في مطلع الثمانينات وبخاصة في دول أمريكا اللاتينية وفي أوروبا الشرقية فيما بعد، حيث شهدت بعض المؤسسات نمواً كبيراً.

لعل مفهوم المجتمع المدني يستمد أصوله من فلسفتين مختلفتين هما: الليبرالية والماركسية، لكن هناك مشتركات للمنظورين، فكلاهما يعتقد بوجود تمايز بين الدولة والمجتمع، فالليبرالية تعتقد أنه ينبغي على الدولة أن تبقى حيادية، إزاء الجماعات الاجتماعية المختلفة، وهي تتجاوب مع الإرادة العامة من خلال الانتخابات، وبالتالي فهي حَكَمٌ يفصل بين المصالح المتضاربة والمتنافسة للجماعات المختلفة.

مثل هذا المفهوم لقي رفضاً في البلدان النامية، ومنها عالمنا العربي، وبخاصة خلال “مرحلة التحرر الوطني” في الستينات، تأثراً بالنموذج الاشتراكي “الماركسي”، لكنه عاد كخيار للتحول من مجتمع تقليدي استبدادي “اشتراكي” شمولي، إلى مجتمع يتجه نحو الديمقراطية والتعددية في إطار اقتصاد السوق، خصوصاً في البلدان التي حاولت تقليد النموذج “الأصل” بنماذج “فرعية” ترافقت فيها القسوة والتسلط مع التخلّف.

إن الاقتراب أو الابتعاد من الحرية، هو الذي يعطي صفة الحركية أو الركود للمجتمع، فحيث تتمتع المجتمعات بالحرية، نجد منظمات مدنية طوعية حرة، نقابية أو حزبية ضاغطة. والعكس صحيح فالابتعاد عن الحرية يجعل المجتمعات المدنية سكونية أو راكدة.

وتعتبر الحرية من القيم الأساسية بالنسبة للمجتمع المدني مثلما هي استقلاليته عن السلطات، والأكثر من ذلك، فهي ضمانة لفاعليته، وتبقى العلاقة جدلية بين المجتمع المدني والحكومة، فكلّما كان المجتمع المدني قوياً ومؤثراً ازدادت إمكانيته للاحتجاج والاقتراح والدعوة إلى الإصلاح والتغيير. والمسألة طردية أي أن استجابة الحكومة ستكون أكبر والعكس صحيح. وحسب روسو، فالحرية هي تأمين الإمكانية لكل إنسان في أن يحصل على سعادته بطريقته الخاصة، وبحماية من الإرادة العامة وقوانينها.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن فكرة المجتمع المدني ولدت ومشكلتها معها، خصوصاً علاقته بالسياسة، ولعل أهمية ذلك تكمن في أن حل التناقضات بين الجماعات يأتي من خلال الضغط السلمي، التراكمي، التدرّجي، وليس بالسعي للاستحواذ على السلطة وقهر الآخر، مثلما هي وظيفة كل حزب سياسي يسعى للوصول إلى السلطة باستخدام وسائل شتى.

إن شرعية وجود المجتمع المدني مهمة من حيث وظيفتها الاعتراضية السلمية، ذلك أن توسّع فكرة المجتمع المدني، فتح باباً لدخول شركاء جدد في الحياة العامة لا يشكّلون خطراً على الأنظمة القائمة، لكنهم يرصدون ويراقبون ويحتجون ويعترضون ويقترحون بدائل عما هو قائم، لدرجة أن بعض أطراف الحكومات أو أقطابها أحياناً تراه يصفق لهم بحرارة في فنادق الدرجة الأولى، لأن الأمر بتراكمه أنشأ فهماً مشتركاً وإن لم يتبلور بعد، من أن المجتمع المدني هو موّجه في إطار ما هو قائم، ولا يريد التدخل في السياسة أو إحداث تغييرات بالقوة، لكنه لا يلين بالدعوة إلى الإصلاح والتغيير، ويعتقد البعض أن دوره أقرب إلى دور الهيئات الأهلية في المجالات التطوعية، من أعمال خيرية وتربوية ومهنية ونقابية وغير ذلك.

أما بخصوص فكرة وجود مجتمع مدني عربي، فهناك من يشكّك في وجوده، وإن وجِدَ فهو غير قادر على فرض إرادته أو رغباته أو تأثيراته على قرارات الدولة، كما هي حالة أوروبا الغربية والشرقية، أو حالة بعض أقطار شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية. بمعنى آخر حسب قول الدكتور باقر النجار “من الصعب أن تجد مجتمعاً مدنياً في المنطقة العربية مستقلاً عن الدولة وقادراً على التأثير فيها”، ولكنه يقبل بفكرة وجود منظمات غير حكومية أهلية مستقلة عن الدولة في بعض البلدان العربية مثل: مصر، المغرب، لبنان، الكويت والبحرين، في حين أن الأقطار الأخرى لا تبدو فيها هذه المنظمات موجودة وإن كان الأمر بدرجات متفاوتة.

إن الهدف من مناقشة مفهوم المجتمع المدني هو إخراج المصطلح من التأييد والرضا واليقينية حد التقديس عند البعض، ومن السخط والتنديد والاتهام حد التدنيس عند البعض الآخر، وتحويله إلى أمر تاريخي  اجتماعي ديناميكي ومتحرك، يمثل الطاقة الكامنة لدى فئات اجتماعية ومهنية واسعة للإسهام في صنع المستقبل السياسي والمشاركة في رسم السياسات من خلال نقد الخطاب السائد بين السلطة والمعارضة أحياناً، عبر حقل ثالث، يمثل خياراً مجتمعياً لتفعيل المشاركة وضمان الحقوق الإنسانية وتأمين الحريات العامة والخاصة.

باحث ومفكر عربي


صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 3/6/2009

1164
المجتمع المدني والعقد الاجتماعي
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

تبلور مفهوم المجتمع المدني في سياق نظرية العقد الاجتماعي بما يقابل المجتمع السياسي، أي المجتمع المؤسس على التعاقد الاجتماعي، فالغاية من اتحاد الناس في المجتمع المدني، إضافة إلى تحقيق الأمن والسلام، هي المحافظة على ممتلكات الأفراد مثلما يقول جون لوك. وهكذا فحيث يؤلف عدد من الناس جماعة واحدة، ويتخلى كلٌ منهم عن سلطة تنفيذ السنّة الطبيعية التي تخصّه، ويتنازل عنها للمجتمع، ينشأ عندنا حينذاك فقط مجتمع سياسي أو مدني.
وقد برزت نظرية العقد الاجتماعي، التي ساهم روسو في ترسيخها ضد نظرية الحق الإلهي. من هنا اقترنت فكرة المجتمع المدني بالميدان الليبرالي السياسي، نقيضاً للفكر القروسطي، وهي جزء من مفهوم الدولة الحديثة، والدولة هي آلة تتجه لضبط سلوك الأفراد وحماية أمنهم وسلامتهم وملكيتهم حسب توماس هوبز، الذي كان يعطي لمفهوم الدولة بُعداً أرضياً بإنزال مفاهيم السماء إلى الواقع، عبر الحق الإلهي.
أما جان جاك روسو 1713- 1788 فقد دعا إلى عقد اجتماعي بين الأفراد داخل المجتمع، لتنظيم حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، في حين أن جون لوك 1632- 1704، اعتبر الغرض من العقد الاجتماعي هو الحفاظ على حق الأفراد في الملكية بوجود سلطة تنظم «الحق» في استخدام «العنف» لمعاقبة من ينحرف عن ذلك، لكنه اعتبر «الملكية المطلقة» لا تتفق مع طبيعة المجتمع المدني.
وكان توماس هوبز 1588- 1679 قد جاء بفكرة القانون الطبيعي، معتبراً لكل إنسان كامل الحق في ممارسة قدراته الشخصية، وأن حياة الإنسان لا تستقيم من دون تشريعات وتنظيم لممارسة حريته.
أمّا جون لوك فقد اعتبر المجتمع المدني كأفراد طبيعيين دون دولة، أي مجتمع مدني بانفصال عن الدولة، وهو ما ذهب إليه جان جاك روسو، وقد انتقد هيغل 1770- 1831 في كتابه «فلسفة الحق» الصادر عام 1821، نظرية العقد الاجتماعي، واعتبر أن المجتمع المدني قاصرٌ في صيغته التعاقدية عن تحقيق الأمن، والدولة وحدها حسب وجهة نظره هي «نظام» العقل القادر على حماية الحرية.
ويعتقد هيغل أن هناك علاقة مركّبة بين الدولة والمجتمع المدني، وهي علاقة تعارضية وتكاملية، فالمجتمع المدني هو مجال لتقسيم العمل وإشباع الحاجات المادية، وهو مجال تنافس الحاجات الخاصة والمتعارضة. أمّا الدولة فهي النظام السياسي القادر على صيانة مصالح المجتمع المدني، الذي هو حسب وجهة نظره لحظة من لحظات الحياة الروحية، وهي تقع بين العالم البسيط للأسرة الأبوية والدولة المتحكِّمة في ذاتها. لاحظ هيغل ميلاً في المجتمع المدني إلى التذرر والفردية، واعتقد خلافاً لليبراليين الكلاسيكيين على أنواعهم، أنه في سياق نظام الحاجات أو علاقات التذرر والاعتماد المتبادل المتوازنة، لا بدّ من أن تعلو حسابات السوق من ربح وخسارة على الاعتبارات الأخلاقية. أما هيغل فإنه يفرّق بين المجتمع السياسي (الدولة) والمجتمع المدني، الأول يمثل الإرادة العامة، في حين أن الثاني يمثل الإرادة الخاصة، حيث يعبّر عن مصالح الأفراد. ويعتبر هيغل «العائلة» أحد أسس المجتمع المدني، فالدولة لا يمكن أن توجد بدون الأساس الطبيعي «العائلة»، التي يستند إليها «المجتمع المدني».
وفي نقد كارل ماركس 1818- 1883 لأفكار هيغل يتعرض إلى المجتمع المدني، خصوصاً في كتابه المثير والغني «الثامن عشر من برومير- لويس بونابرت»، حيث ينتقد الدولة البونابرتية، التي تلغي المجتمع المدني وتهيمن عليه، وهكذا اعتبر ماركس المجتمع المدني ركيزة واقعية للدولة، لكونه يمثّل العلاقات المادية للأفراد، وهو مجال للصراع الطبقي، خصوصاً أن المجتمع المدني بالنسبة له هو مجتمع الإنتاج والاقتصاد والطبقات الاجتماعية، أي أنه الواقع الملموس، ذلك أن تدخّل الدولة فيه يعني تجريداً له واستلاباً لفاعليته، أي أنه بهذا المعنى ركيزة للدولة ونقيض لها في الآن ذاته.
وقد نظّرت الماركسية لفكرة اعتبار المجتمع المدني، يشكل قاعدة مادية مؤسسة للدولة، وقد استخدم كارل ماركس الشاب مفهوم المجتمع المدني بمعانٍ قريبة الدلالة من مفهوم هيغل، لكنه تخلّى عن وجهة نظره هذه في إطار نقده الوضعي للمثالية الهيغلية، حين اعتبر المجتمع المدني الأساس الواقعي للدولة، وأنه يعبّر عن مجموع العلاقات المادية للأفراد في مرحلة محددة من مراحل تطور الإنتاج، وكاستنتاج يمكن القول إن المجتمع المدني عند ماركس هو مجال للصراع الطبقي.
من جهته اعتبر ماركس التذرر الفردي نوعاً من الاغتراب Alianation عن الجوهر الاجتماعي، وكذلك تعبيراً عن الصراع الطبقي. وكان رفض ماركس لفكرة مؤسسات وسيطة بين الفرد والدولة، يستهدف استبدال الدولة نفسها بمؤسسات طوعية بين الأفراد بعد ذبول الدولة، أي اضمحلالها، وعند ذلك يزول الفرق بين الفردي والاجتماعي والسياسي، أي أنّ الدولة تنحل في المجتمع وتذوب فيه. ولعل مفهوم الدولة ومستقبلها ظلاّ جزءًا من اليوتوبيا الماركسية ذاتها.
وبهذا المعنى فإن نقده لفلسفة الحق عند هيغل يقوم على أساس، أن المجتمع المدني هو الواقع المتميّز، المتبدّل والمتنوّع، وهو الذات المتطورة في التاريخ، والتي تفعل فعلها وتؤثر في شكل الدولة ونظامها.
إذن يرفض ماركس الجماعات الطوعية، التي تتوسط بين الفرد والدولة كحل لمعضلة المجتمع الحديث. إنه يرفض الاشتراكية اليوتوبية، في مصلحة أوتوبيا الاشتراكية، التي تعمم الرابطة الحرة إلى رابطة كونية، أي أن «ديمقراطية» ماركس لا تقوده إلى الدولة الديمقراطية، بل إلى الأوتوبيا من دون دولة... كما يقول عزمي بشارة.
وقد طوّر أنطونيو غرامشي 1891- 1937 مفهوم ماركس عن المجتمع المدني باعتباره مجموعة التنظيمات الخاصة، التي ترتبط بوظيفة الهيمنة وكجزء من البنية الفوقية عن طريق الثقافة والآيديولوجيا والسيطرة والإكراه، في حين أن ماركس كان يراه جزءًا من البنية التحتية. واستناداً إلى هذه الرؤية الوضعية النقدية وغير الكلاسيكية للماركسية، فلم يعد المجتمع المدني فضاءً للتنافس الاقتصادي أي للصراع الطبقي، بل هو فضاء للتنافس الآيديولوجي، منبهاً إلى ظاهرة الهيمنة.
لقد أخذ غرامشي بمفهوم جديد للمجتمع المدني باعتباره الفضاء للتنافس الآيديولوجي من أجل الهيمنة، وهو يميل إلى التوسط بين الدولة والمواطن. إن العودة الثانية لمفهوم المجتمع المدني مع نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالمية الثانية، وعلى لسان المفكر الماركسي الإيطالي غرامشي، قد جعلته واسع الدلالة ويحتل هذه المكانة المتزايدة بحكم توصيفه، فهو مجموعة التنظيمات الخاصة، وجزء من البنية الفوقية، التي يتمّيز بها المجتمع المدني عن المجتمع السياسي.
ويعتبر غرامشي أن وظيفة المجتمع المدني هي الهيمنة عن طريق الثقافة والآيديولوجيا، أما وظيفة المجتمع السياسي فهي السيطرة والإكراه ويعني غرامشي بـ«المجتمع المدني هو: كل المؤسسات التي تتيح للأفراد الحصول على الخيرات والمنافع العامة، دون تدخل أو توّّسط الحكومة، وهو النسق السياسي المتطور، التي تتيح، صيرورة تمأسسه، مراقبة المشاركة السياسية».
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 635 الجمعة 29 مايو 2009 ,05 جمادى الثانية 1430

1165
الالتباس في مفهوم المجتمع المدني
   

عبدالحسين شعبان
 

لا يزال مصطلح “المجتمع المدني”، غير محدد على نحو دقيق، بل يثير التباسات نظرية وعملية، فأحياناً نحن نتحدث عنه ونستخدمه، ولكن كل منّا يقصد أمراً مختلفاً. وعلى النطاق العربي فإن المصطلح يثير إبهاماً كبيراً وتعارضاً شديداً بين التوقير والتحقير، أو التأييد والتنديد بين فريقي التنوير والتشهير أو التقديس والتدنيس.

فأحياناً يُطلق عليه اسم “المجتمع الأهلي” وأحياناً اسم القطاع الثالث (بين القطاع العام والقطاع الخاص) وفي أحيان أخرى: القطاع الخيري، أو القطاع المستقل، أو القطاع المعفي من الضرائب، أو نسمّيه المنظمات غير الحكومية، أو المنظمات التطوعية، أو القطاع غير الهادف إلى الربح، وهذه التسميات جميعها تصف شيئاً واحداً وإن كان هناك بعض التعارضات وهو وجود مؤسسات غير حكومية، غير إرثية، تطوعية، مستقلة عن الجهاز الحكومي، وتشكل قطاعاً ثالثاً بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، وهو ما نسمّيه بالمجتمع المدني.

وسبب صعوبة تحديد المعنى يعود إلى حداثة استخدام المصطلح لدينا وشحّة المختصين، فضلاً عن أنه بحاجة إلى سياقات فكرية وثقافية وإلى بيئة سياسية واجتماعية، لكي يكون “مقبولاً” على نحو ما نشهده في الغرب. والسبب الآخر يعود إلى الاختلاف، الذي يتضمنه الموضوع كإطار نظري ناجم عن تجارب محددة سرعان ما تتغيّر. ولعل السجالات السياسية والايديولوجية تأخذ بُعدها في هذا الموضوع، ناهيكم عن الاختلافات في الممارسة والتطبيق.

ويمكن تحديد شروط تكوين مؤسسات المجتمع المدني بما يلي:

أن تكون منظمات مدنية مستقلة وغير حكومية. أن تكون منظمات غير إرثية، أي أن العضوية فيها لا تتوارث عبر العائلة أو العشيرة أو الطائفة أو المذهب أو الدين. أن تكون منظمات طوعية، أي أن الانتساب اليها يتم وفقاً لاختيار واعٍ وحر. أن تكون منظمات غير ربحية، أي لا تستهدف تحقيق الربح، وهو ما يميّزها عن مؤسسات القطاع الخاص الهادف إلى الربح. أن تكون منظمات حداثية، وذلك ما يميزها عن المؤسسات التقليدية. أن تكون منظمات ديمقراطية وهو ما يميزها عن المؤسسات التقليدية وتمارس الديمقراطية في جميع أعمالها وعلاقاتها الداخلية، بين هيئاتها وأفرادها وبينها وبين محيطها الخارجي. أن تكون منظمات تعددية أي تقبل بالاختلاف والتنوّع.

ومن أهم أهداف مؤسسات المجتمع المدني:

1 دعم مشاريع وخطط التنمية الشاملة والمستدامة، بحيث تكون شريكاً للدولة في تنفيذها ومراقبة حسن إدائها ورصد الانتهاكات والخروقات التي تعترضها.

2 اقتراح قوانين وأنظمة ولوائح وتقديمها إلى البرلمانات والجهات التشريعية والحكومات.

3 السعي من أجل بناء مواطنة متساوية وكاملة ومن دون تمييز بسبب الدين أو اللغة أو العرق أو المذهب أو الجنس أو المنحدر الاجتماعي أو غير ذلك.

4 العمل على بناء قدرات الافراد وتنمية مهاراتهم وتدريبهم، ليسهموا في مجتمعاتهم وفي مؤسساتهم المهنية والنقابية للدفاع عن مصالح منتسبيها وعن مصالح المجتمع ككل.

5 تشجيع الجهود التطوعية والمبادرات الفردية والجماعية، بما يعزز التضامن والتكافل والتعاون والمساندة بين جميع الفعاليات الاجتماعية.

أما الأسس التي ترتكز عليها مؤسسات المجتمع المدني فهي:

* أولاً: الأساس القانوني والمقصود بذلك الدساتير والتشريعات وقوانين الجمعيات والاتحادات والنقابات التي تنظم علاقة هذه المؤسسات بالدولة.

* ثانياً: الأساس السياسي، والمقصود به إقرار النظام السياسي بالتعددية وحق تشكيل الجمعيات والمنظمات المدنية.

* ثالثاً: الأساس الاقتصادي، والمقصود به تحقيق درجة من التطور الاقتصادي الاجتماعي بإشباع حاجات الأفراد الأساسية بعيداً عن مؤسسات الدولة (الدعم الرسمي للمشروع الخاص والمبادرات الفردية).

* رابعاً: الأساس الثقافي، ويقصد به مجموعة الأفكار والتصورات التي يؤمن بها الأفراد وتشكّل محددات لسلوكهم وعلاقاتهم، وتعبّر في مجموعها عن الإطار المعرفي والثقافي للمجتمع المدني الحديث.

يمكن القول إن نشأة مفهوم المجتمع المدني تعود إلى أوروبا، وهو لم يُنجز دفعة واحدة ولا على يد مفكرٍ واحد أو فيلسوف واحد، ولم يكن ذلك في بلد واحد من بلدان أوروبا، بل اقتضى ذلك زماناً ومكاناً متنوّعين، خصوصاً في القرنين السابع عشر والثامن عشر وما بعدهما، فقد كان هناك فقهاء “الحق الطبيعي” من أمثال غروشيوس، كما لا بدّ من ذكر جون لوك وتوماس هوبز وباروخ سبينوزا ومونتسكيو وجان جاك روسو، وهؤلاء ينتمون إلى بلدان مثل هولندا بريطانيا فرنسا وسويسرا، وكل من هؤلاء المفكرين أسهم بقسطه في تكوين مفهوم المجتمع المدني، خصوصاً بأساساته الكلاسيكية، وغالباً ما كان هؤلاء في خصومة فكرية بين بعضهم البعض، رغم وجود المشتركات بينهم في مسألة المواطنة والملكية والديمقراطية، انطلاقاً من حالة المجتمع والتعاقد الاجتماعي والقول بمبادئ السيادة.

وكذا الحال لمعرفة واستكمال فكرة المجتمع المدني، لا بد من الاطلاع على ما كتبه كانتْ وهيغل وماركس وانجلز ولينين وغرامشي، ومفكرون اجتماعيون مثل أوغست كونت وسان سيمون وألتوكفيل وماكس فايبر وعلماء اقتصاد مثل آدم سميث وكينز وروزا لوكسمبورغ وغيرهم.

باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 27/5/2009

1166
المجتمع المدني بين نارين
عبدالحسين شعبان
2009-05-25
جوبهت دعوات منظمات المجتمع المدني العربي للإقرار بالتعددية وإشاعة الحريات واحترام حقوق المرأة وإجراء انتخابات وتأكيد مبادئ المواطنة والمساواة الكاملة واحترام حقوق الإنسان، كلها بالرفض والتشكيك، بل إن قياداتها تعرضت للملاحقة والسجن والتشويه، كما أن بعض الأحزاب السياسية بما فيها «المعارضة» اتسمت علاقاتها بالمجتمع المدني، بالتوجّس والالتباس، خصوصاً أن هناك من بين مؤسسات المجتمع المدني من كان يعتقد، وهو على خطأ، أن بإمكانه أن يكون بديلاً عن هذه الأحزاب، التي استنفد البعض منها أغراضه وأن مرحلة صلاحيته وقياداته قد انقضت وانتهت بالفشل المتكرر والذريع، لكن هذا شيء، وأن تعتقد بعض منظمات المجتمع المدني أنها بديل عن الأحزاب، شيء آخر.
ووقفت بعض الأحزاب «القومية» و»اليسارية» و»الإسلامية» فيما بعد موقفاً فيه نوع من العدائية أو الخصومة مع مؤسسات المجتمع المدني، واعتبرت أن توّسعها وعضويتها قد انحسرتا بسبب توجه بعض قياداتها السابقة وعدد من النشطاء، وبخاصة من وسط المثقفين إلى مؤسسات المجتمع المدني بدلاً من التوجه إليها، وأن كثيرين من قيادات الأحزاب فضلوا العمل في مؤسسات المجتمع المدني، فشروطه تختلف عن العمل الحزبي، من حيث التوجه والأداء من وجهة نظره، حتى يصبح تياراً واسعاً يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تتعاون معه.
يمكننا القول إن ما نقصده بالمجتمع المدني، هو: الأفراد والمجموعات الناشطون في الحقل العام، والمنخرطون في عمل الجمعيات والنقابات والاتحادات والقوى المهنية والسياسية، والمتحدّرون من فئات وطبقات مختلفة، والذين استطاعوا تنظيم أنفسهم على نحو مشترك مقيمين أشكالاً من التضامن بينهم، في ظل ما وفرّته الدولة المدنية، باعتبار أن نشاطهم عابر للطوائف والإثنيات والأديان والمذاهب والأيديولوجيات والاتجاهات السياسية والانحدارات والعشائرية والقبلية والعائلية والمناطقية.
بهذا المعنى يمكن القول إن المجتمع المدني هو تجمّع طوعي لموازاة سلطة الدولة رقيباً وراصداً لها، وتكون نشأته طبيعية في أجواء الحرية والديمقراطية وحق تشكيل الجمعيات، وضمانة الدستور، كما أنه يرتبط بمستوى تقدم أو تخلّف الوعي العام والوعي الحقوقي بشكل خاص.
إن الشروط التاريخية لنشوء فكرة المجتمع المدني بمفهومها الحديث والمتميّز، أي الذي يميّزها من غيرها من الأفكار السياسية في عصرنا تعتمد على عدد من المبادئ هي:
1-   الفصل بين الدولة والمجتمع، أي بين مؤسسات الدولة والمؤسسات المجتمعية.
2-   التمييز بين آليات عمل الدولة وآليات عمل الاقتصاد.
3-   تمييز الفرد كمواطن، أي ككيان حقوقي قائم بذاته في الدولة، بغض النظر عن انتماءاته المختلفة.
4-   التفريق بين آليات عمل المؤسسات الاجتماعية وأهدافها ووظائفها وآليات عمل السوق والاقتصاد وأهدافهما ووظائفهما من جهة أخرى.
5-   التفريق بين الانتماء الطوعي المجتمعي لمواطنين أحرار تآلفوا على العمل المشترك، وبين البيئة التي يولد فيها الإنسان كبنى جمعية مثل العشيرة والدين والطائفة وغير ذلك.
6-   التفريق بين الديمقراطية وبين المشاركة المباشرة في اتخاذ القرار في الجمعيات الطوعية والمؤسسات المجتمعية الحديثة (مؤتمرات، اجتماعات، استطلاع رأي..) الخ. 
الحق في تأسيس الجمعيات بين القانونين الداخلي والدولي

يعتبر الحق في تأسيس الجمعيات والمؤسسات المدنية، من الحقوق والحريات الأساسية، وتؤكد معظم الدساتير، بما فيها الدساتير العربية والإسلامية، كفالة هذا الحق ولو أن العديد من الدساتير والقوانين يضع الكثير من العقبات والعراقيل أمامها، وإنْ جاءت بصيغة عامة في الدستور، فإنه يتم إثقالها بعبارة «ينظمها القانون لاحقاً»، وغالباً ما تكون مثل هذه العبارة شرطاً تقييدياً لتأسيس هذه الجمعيات، بل وللحد من حرية التنظيم بشكل عام.

وفي دساتير البلدان العربية أو قوانينها، فإن جذر تقييد هذا الحق يعود إلى القانون العثماني لعام 1909، الذي اشترط التقدم بعلم وخبر إلى وزارة الداخلية، يرفق معه النظام الأساسي أو قواعد العمل الداخلية للجمعية أو المنظمة المنوي تأسيسها، وشروط عضويتها وهيئتها الإدارية وجمعيتها العمومية أو مؤتمرها.
واشترطت قوانين بعض البلدان العربية الحصول على ترخيص حكومي «قبل» مزاولة عملها، أي الحصول على «إذن» من الوزارة لتصبح قائمة وتمارس حقوقها.
وتحت باب التفريق بين هذه الجمعيات المدنية والتنظيمات والأحزاب السياسية، حاولت بعض الحكومات رفض طلبات التأسيس تحت حجة أنها «سياسية»، لدرجة أن جمعية عربية غير حكومية تقدمت مؤخراً للحصول على الترخيص للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني، رُفض طلبها باعتبارها جمعية ذات أهداف سياسية، وإن نصّت على أنها جمعية غير سياسية، كما أشار إلى ذلك بعض الناشطين.
وكانت بعض التيارات السياسية والحزبية قد توجهت إلى تأسيس جمعيات، طالما لم يتضمن دستور بلدها الحق في تأسيس الأحزاب مستعيضة عن ذلك بتأسيس جمعيات أقرب إلى مؤسسات العمل المدني، لكنها تمارس دوراً سياسياً، وهو محاولة توفيقية بين الحكومة والمعارضة كما حصل في البحرين بعد الإصلاحات، بهدف إيجاد مخرج يرخص للعمل السياسي العام وإنْ لم يتضمن الدستور حقاً أساسياً ونعني به حق تشكيل الأحزاب.
ومن منطلق الديمقراطية وقاعدة حقوق الإنسان، يمكن اعتبار قوة الدولة الحديثة بقوة تنظيماتها المدنية وجمعياتها غير الحكومية، ففي ذلك مؤشر للديناميكية السياسية وضمان الحقوق والحريات.
وإذا تصوّرنا وجود دولة قوّية وجمعيات مدنية ضعيفة أو تابعة وغير مستقلة أو محظورة، فإننا سنكون في وضع أبعد عن مسألة الرقابة والمساءلة والشفافية، وبالتالي تضييق هامش الحريات، ففي حين أن وجود دولة قوية ومؤسسات مجتمع مدني وجمعيات أهلية قوّية في الآن ذاته، يؤدي إلى توسيع فضاء الديمقراطية والشفافية والمساءلة وحقوق الإنسان، فثمة علاقة تزداد طردياً أو عكسياً بالارتباط بين الدولة والمجتمع المدني، وإذا تحدثنا عن الوجهين، فهناك وجه ثالث: منظمات مدنية وجمعيات أهلية قوية جداً ودولة ضعيفة، فإن بروز النزعة الفئوية سيكون شديداً، وسينعكس ذلك على آلية وأجهزة الدولة ومؤسساتها ويغذّي الاتجاهات التقسيمية والتجزيئية سواءً كانت دينية أو مذهبية أو إثنية أو عشائرية أو جهوية أو غير ذلك.
إن ذلك ينطلق من فكرة جان جاك روسو حول علاقة الحرية بالسلطة التي تحدث عنها في «العقد الاجتماعي»، وهي التي جسدت فضاء المجتمع المدني، وهو الذي يمكن أن يبلور مبدأ التعددية وفصل السلطات وفكرة التناوب.

صحيفة العرب القطرية العدد 7652 - الإثنين 25 مايو 2009 م ـ الموافق 1 جمادى الآخرة 1430 هـ

1167
هل هناك من مستقبل للقضية الفلسطينية؟
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

في جلسة حوار مكثف لمركز الخليج للدراسات، ناقش عدد من المفكرين والمختصين العرب مستقبل القضية الفلسطينية في رؤية أكاديمية قدّمها الباحث الدكتور علي الجرباوي، ورؤية سياسية قدّمها الباحث والناشط السياسي الدكتور مصطفى البرغوثي، ورؤية فكرية قدّمها الباحث الدكتور عزمي بشارة، (قُرئت عنه بالنيابة)، وهي وإن كانت مقاربات لرؤية شاملة للقضية الفلسطينية، لكنها بحثت الموضوع من زوايا مختلفة، بتعدد الأجوبة رغم وحدة السؤال.
ففي حين تناول علي الغرباوي المأزق الفلسطيني– العربي في المفاوضات، معتبرا إياه أقرب إلى بناء قصور على الرمال، ذهب عزمي بشارة إلى إعلان عنوان مداخلته باسم: كل معوّل على إسرائيل لا يعوّل عليه، أما مصطفى البرغوثي فكان قد بحث الراهن والمستقبلي، في ما يتعلق بالرؤية الفلسطينية وما هو مطروح من حلول ومعالجات بعد فشل المفاوضات.
ولعل الباحثين والمفكرين الفلسطينيين الثلاثة، وإن بدؤوا في أبحاثهم من زوايا مختلفة، إلاّ أنهم التقوا في نهاية المطاف عند تصورات مشتركة، أساسها هو أن طريق المفاوضات لوحده وصل إلى طريق مسدود، ولا بدّ من تفعيل أدوات أخرى على المستوى الحكومي العربي أو الجماهيري، بما فيها خيار المقاومة ودعم الصمود وإعادة الوحدة الفلسطينية واستثمار المشاعر الإيجابية لحركة التضامن الدولية، لاسيما بعد العدوان على غزة وهو ما أكدته مداخلات باحثين ومفكرين عرب مشاركين.
وإذا كانت شروط التفاوض نظرياً تتطلب معرفة ودراية وحنكة، لأنه عمل جدي ومعقد ويحتاج إلى خبرة وقدرة، فضلاً عن دقة في التفاصيل وحدود للفريق المفاوض، فإنه يعني، لاسيما للفريق المدافع عن عدالة وشرعية قضية، تقديم تنازلات مسبقة، ولهذا اقتضى الأمر رفع المطالب الابتدائية إلى أعلى سقف. والتفاوض يعني نهاية المطاف قبول بعض الحلول الوسط، الأمر الذي يتطلب الإبقاء على خيارات أخرى غير التفاوض، ولعل عدم التفاوض هو جزء من التفاوض ذاته، وقد يتطلب الأمر تجميد الوضع التفاوضي لحين أو التهديد بخيارات أخرى بما فيها الانتقال من الخيار السياسي والمدني، إلى الخيار العسكري والمسلح!
وإذا كانت المفاوضات السرية وسيلة من وسائل الصراع، فإن القوى الضعيفة لا ينبغي أن تلجأ إليها لأنها ليست في مصلحتها، وذلك بالإشارة إلى مفاوضات مدريد-أوسلو، وبالطبع فإن العكس هو الصحيح فإن القوى القوية والمتنفذة سيكون من مصلحتها أن تلجأ إلى المفاوضات السرية، لكسب الوقت وعدم إعطاء أي تعهدات علنية، وهو الأمر الذي ينبغي إدراكه عند التعاطي مع موضوع المفاوضات.
وإذا طبّقنا ذلك على الوضع الفلسطيني فإن المفاوضات السرية وما تمخض عنها أدت إلى انهيار وحدة الموقف الفلسطيني، والإطاحة بموازين القوى لمصلحة إسرائيل، لاسيما باستبعاد الخيار العسكري كلياً، وفقدان زمام المبادرة، خصوصاً بعد التشطير والتفتيت، وهذه الظروف الشديدة الوطأة انعكست سلباً على منظمة التحرير الفلسطينية، وأسهمت في تجميدها كإطار مرجعي للشعب العربي الفلسطيني منذ نحو عقدين من الزمان.
كما أدى الرهان على خيار المفاوضات لوحدها إلى فصل المسارات عن بعضها بعضا، وهو ما كانت إسرائيل تصرّ عليه منذ اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد مع مصر العام 1978- 1979، وفيما بعد مع الأردن، وهو ما كانت تطمح إليه لفصل المسار السوري عن المسار اللبناني منذ السعي للتوقيع على اتفاق 17 أيار (مايو) العام 1983، الذي تم إلغاؤه، وحالياً فهي تتشبث بشروط أقسى وأشد عندما تعترض على قيادة «حماس» إلى قطاع غزة بهدف تكريس المزيد من الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني، وهذا الموقف يلقى دعماً أميركياً وأوروبياً وإلى حدود معينة ليس بعيداً عن تعاطي رئيس الوزراء البريطاني السابق طوني بلير واللجنة الرباعية، بصورة معلنة أو مضمرة.
هل كان اتفاق أوسلو نهاية أم بداية لمشروع الحل؟ يمكن القول إن إسرائيل اعتبرته نهاية لزمن ما تبقى من القضية الفلسطينية، في حين اعتبره الفلسطينيون وبعض البلدان العربية بداية للحل، وهو ما طرح معالجات من دون تكافؤ، فضلاً عن الاعتراف بشرعية إسرائيل مقابل سلطة فلسطينية لا تزيد على حكم ذاتي، وهذه السلطة تتعرض للقضم عبر جدار الفصل العنصري والعدوان المستمر منذ وصول اتفاقيات أوسلو إلى طريق مسدود عام 1999، الأمر الذي دفع الفلسطينيين لإعلان الانتفاضة الثانية منذ 28 أيلول (سبتمبر) عام 2000، رغم أن «إسرائيل» ظلت هي المبادرة والمتحكمة والمتنفذة بالمعابر والحدود والمطار وغيرها، وتستطيع خنق الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع متى ما تريد، في حين ازداد الانقسام الفلسطيني والعربي، كما أن المبادرة العربية التي عرضها الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز خادم الحرمين، ظلّت تراوح في مكانها ولم تتحرك بسبب إهمال وعدم اكتراث «إسرائيل»، بل استخفافها الكامل بها.
لا بدّ لأي مفاوض من وضوح الهدف ووجود خطة لديه وبرنامج، ولا بدّ من كفاءة وإلمام بالتفاصيل، فوراء أي مفاوض ناجح هناك سياسي ناجح، ووراء كل قضية قانونية وفقهية، قضية سياسية، فما بالك إذا كانت عادلة ومشروعة!!
وبعد نحو عقدين من التفاوض ما الذي ينتظر القضية الفلسطينية مستقبلاً؟ وما السيناريوهات المحتملة؟ السيناريو الأول: الاستمرار بالعملية التفاوضية مع سعي إلى تعديلها من جانب الطرفين، ولكنه لا يخرج عن إطار أوسلو، حيث ستبقى مشكلة القدس واللاجئين (حق العودة) والمستوطنات والحدود وإقامة الدولة الفلسطينية، كلّها معوّمة ومن دون حلول موعودة، وسيزيد الأمر من قوى التطرف الإسرائيلي خصوصا بعد وصول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى السلطة بالانتخابات التي جرت قبل أسابيع والكتلة اليمينة المتحالفة معه، وقد أظهرت نتائج الحرب على غزة، أن الأغلبية الساحقة من المجتمع الإسرائيلي المغلق والمتعصب، كانت إلى جانبها، كما سيزيد هذا التوجه من نشاط بعض قوى التطرف العربي، بما فيها تنظيم «القاعدة».
أما السيناريو الثاني فيتعلق بخيار آخر، لكنه يتطلب وحدة الموقف عربياً، سواءً كان خياراً عسكرياً أو مقاوماً أو ممانعاً، إذ لا مفاوضات ناجحة من دون سياسة ناجحة، وهذا يتطلب إرادة سياسية، وهي غير متوافرة حالياً، فالدبلوماسية والتفاوض هما شكلان من أشكال الصراع، والسياسة هي تعبير عن الصراع بوسائل ناعمة، في حين أن الحرب هي سياسة ولكن بوسائل عنفية ومسلحة، فالأمر بحاجة إلى تراكم وتواصل وتحضير وإلاّ فإن العدوانية والعنصرية الإسرائيلية سوف لا تترك وسيلة إلاّ وتستخدمها مثلما عملت منذ 61 عاماً على القضم التدريجي والعدوان المستمر والحرب الدائمة، كجزء من عقلية الاستعمار الاستيطاني الإجلائي.
* باحث ومفكر عربي
 
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 628 الجمعة 22 مايو 2009 ,28 جمادى الأولى 1430

1168
مغزى علاقة التنمية بالمجتمع المدني
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

في اجتماع فريق من الخبراء العرب، بدعوة من الاسكوا (اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا) التابعة للأمم المتحدة ناقش دليلاً لتعزيز المشاركة بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، واستهدف اجتماع الخبراء الذي انعقد في بيروت عدداً من القضايا التي تندرج في إطار التنمية، منها كيفية مشاركة المجتمع المدني، أي التدخل بالمشاركة كمنهج من خلال التصميم وأساليب التنفيذ، فضلاً عن الجوانب الميدانية، وتهيئة الظروف لمشاركة المجتمع المدني ورسم استراتيجيات لبناء وتطوير القدرات المؤسسية والفردية، من خلال الأطر القانونية الضرورية للإسهام في صنع القرار، واستخدام المراصد الاجتماعية كأداة لتعزيز المشاركة بين الحكومات ومنظمات المجتمع المدني في السياسات العامة، مع التأكيد على دور الإعلام وفاعليته للوصول إلى ذلك.
ولعل الإطار المرجعي لاجتماع الخبراء استند إلى عدد من المؤتمرات الدولية، منها مؤتمر القمة العالمي للتنمية المنعقد في كوبنهاغن العام 1995 ومؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة المنعقد في جوهانسبورغ العام 2002 ومؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية العام 2005 الذي أكده قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1/60، وهذه المرجعيات جميعها أكدت دور المجتمع المدني وبناء الخبرات وتطويرها وتعزيز التنمية المستدامة بالقضاء على الفقر وتحقيق المساواة بين الجنسين وغيرها.
وكانت قمة كوبنهاغن منعطفاً في الفكر التنموي، لاسيما بعد اعتبار الحق في التنمية أحد الحقوق الأساسية الفردية والجماعية، التي لا تستقيم مسألة حقوق الإنسان من دونها لضمّها إلى حزمة الحقوق التي لا يمكن تجزئتها أو إهمال عناصر منها.
وهكذا يمكن تصنيف الحق في التنمية باعتباره من الجيل الثالث لحقوق الإنسان، التي تعززت بالحق في السلام والحق في بيئة نظيفة والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية-التقنية، وهذه كلها تعميق وتعزيز لحقوق الإنسان المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتطوير لها في منظومة من الحقوق الفردية والجماعية تلك التي كان الصراع حولها مستمراً منذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948 واحتدم خلال صدور العهدين الدوليين العام 1966، حيث كان المعسكر الغربي يميل إلى الحقوق الفردية والسياسية والمدنية، ويهمل إلى حدود غير قليلة الحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في حين أن المعسكر الشرقي كان يدعو للحقوق الجماعية، ويتشبث بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي يعطيها الأولوية على حساب الحقوق الأخرى التي يعتمدها الغرب.
ولكن بعد صدور إعلان الحق في التنمية في الثمانينيات وتكريس ذلك دولياً وانعقاد مؤتمر قمة كوبنهاغن التزام 117 رئيس دولة «بخلق تنمية اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وقانونية، تتيح لكل المجموعات البشرية بلوغ النمو الاقتصادي» وهو الأمر الذي لا يتحقق بصورة سليمة من دون شراكة المجتمع المدني وهو ما أخذت الامم المتحدة تؤكد عليه وتدعو الدول والبلدان لاعتماده بدعوة منظمات المجتمع المدني لحضور اجتماعات موازية.
وإذا كانت منظمات المجتمع المدني هي جمعيات ومؤسسات غير حكومية متنوعة الاهتمامات ومتعددة الاختصاصات، فهي طوعية وحرّة وسلمية ومستقلة كما أنها غير وراثية ولا تهدف إلى الربح، ولعل من أهم أهدافها هو تحقيق التنمية بجميع جوانبها في المجتمع، الأمر الذي يمكن اعتبارها شريكاً ومكملاً للحكومات في رسم وتنفيذ السياسات العامة وفي اتخاذ القرار من جهة، ومن جهة أخرى رصد ومراقبة الانتهاكات والتجاوزات وقضايا الفساد التي تشكل معوّقاً من معوّقات التنمية، ولعل طموح المجتمع المدني يزداد اتساعاً حين يسعى لكي يكون قوة اقتراح واشتراك وتفاعل، وليس قوة احتجاج أو اعتراض أو تنافر فحسب.
وإذا كانت ثمة معوّقات تحول دون وصول المجتمع المدني فيما يطمح إليه، فإن حداثة التجربة لاسيما في عالمنا العربي وتدنّي مستوى القدرات وضعف التكوين وغلاظة بعض التشريعات وشحة الحريات، خصوصاً حرية التعبير وحق التنظيم الحزبي والنقابي والاجتماعي وحق الاعتقاد، كلها عوامل تعرقل في تحقيق شراكة المجتمع المدني مع الحكومات.
ولعل مثل هذه القضايا تتشابك مع المعوّقات التي تحول دون تحقيق التنمية المستدامة، ومنها عقبات خارجية مثل الاحتلال والحصار والعدوان ومحاولات فرض الاستتباع، ومنها عقبات داخلية مثل الموروث والعادات والتقاليد واستخدام الدين وتعاليمه السمحاء على نحو خاطئ وضار وباسم الإسلام أحياناً، وهو ما نطلق عليه مصطلح الإسلاملوجيا، كما أن تفشي الفقر ونقص الثقافة ونقص المعرفة بما فيها استشراء الأمية، ناهيكم عن وجود عدد من الأنظمة الانغلاقية والاستبدادية، التي بطبيعة الحال تقف أمام مبادرات المجتمع المدني بصورة سلبية.
وإذا كانت تلك العوامل عقبة أمام التنمية الموعودة، فإن ضعف المواطنة وتصارع الهويات، بين هوية كبرى أحياناً وهويات فرعية لا يتم الاعتراف بها، سواءً كانت قومية أو دينية أو لغوية أو سلالية، وعدم توافر عنصر المساواة كأساس للدولة العصرية، يحول دون الوصول إلى شاطئ التنمية المنشود، مضافاً إليه استمرار ظاهرة التمزق المجتمعي مذهبياً وطائفياً وعشائرياً وجهوياً، بما يؤدي إلى عرقلة عمليات التنمية، بوضع الكوابح أمام مشاركة المجتمع المدني للحكومات باتخاذ القرار، كما أن عدم تلبية حقوق الأقليات وعدم تمكين المرأة ومساواتها مع الرجل وعدم الإقرار بالتعددية والتنوّع عوامل أخرى تؤدي إلى عدم تحقيق التنمية الموعودة.
من هنا تأتي دراسة العديد من المنظمات الدولية بما فيها الأمم المتحدة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي واليونسكو والاسكوا، لدور المجتمع المدني ومدى إمكاناته بالمساهمة في التنمية، بحيث تصبح التنمية الغائبة قائمة والمستحيلة ممكنة والمفقودة موعودة، ولا شك أن ذلك يتطلب أيضاً ومن خلال الضغط موافقة الحكومات وقبولها بهذا الدور وكذلك الجماعات السياسية والتنظيمات القائمة في المجتمع دينية أو سياسية، وعلى المجتمع المدني أن يكون هو الآخر جاهزاً ويسعى إلى معالجة مشكلاته وثغراته من خلال جاهزية فكرية وأجندات وطنية تلبي احتياجات الجمهور، ومن خلال عمل ديمقراطي طويل الأمد ومتراكم وسلمي، فالمجتمع المدني لا يسعى للوصول إلى السلطة وليس لديه ميليشيات ولا ينبغي أن يقتصر على طائفة أو طبقة أو دين كما أن الانتماء إليه طوعي، وعليه ألا ينخرط في الصراع الآيديولوجي والعقائدي الدائر في مجتمعاتنا ويعمل وفقاً للقوانين والأنظمة السائدة ولا يلجأ إلى العمل السري، وإذا كانت الحركات والأحزاب السياسية تريد التغيير عبر الوصول إلى السلطة فإن المجتمع المدني يريد تغيير المعادلات السياسية لتكون أكثر توازناً.
إن ذلك ما يجعله شريكاً حقيقياً في التنمية، وهو ما تنبهت له الأمم المتحدة ومنظماتها التي أخذت تدعوه إلى القمم العالمية كشريك، وهو ما فعلته جامعة الدول العربية أخيراً في مؤتمر قمة الكويت، والذي يحتاج إلى اعتماده دورياً في جميع القمم العربية بصورة دائمة.
 
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد 614 الجمعة 08 مايو 2009 ,14 جمادى الأولى 1430

1169
المستقبل العراقي: الأسئلة الأكاديمية الحارقة!!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

كثيراً ما تردد على ألسنة السياسيين المنخرطين بالعملية السياسية أو المعارضين لها شعارات ظلّت غامضة ومثيرة وغير محددة في الكثير من الأحيان، أو لم تتحول إلى برامج عمل عملية، مثل «المصالحة» و«إعادة الأعمار» و«المستقبل»، لكن هذه العناوين المثيرة للجدل وذات الإشكالية النظرية والعملية، لاسيما من زوايا النظر المختلفة، تحوّلت في مدينة واترلو في كندا وبمشاركة نخبة متميّزة من الأكاديميين والممارسين، إلى مدارات بحث جدّية، تمّ فيها عرض أفكار وتصوّرات أكاديمية من خلال دراسة معمّقة للواقع بهدف استشراف رؤية مستقبلية.
الملتقى الفكري-الأكاديمي التأم بدعوة من المركز الدولي للحاكمية «الحوكمة» أو «الحكم الصالح»، وهو مركز مضى على تأسيسه 7 سنوات ونظم فاعليات وأنشطة مهمة، كما شارك في التحضير والتنظيم جامعة واترلو، وحضره مختصون في قضايا الشرق الأوسط وسفراء سابقون وخبراء وباحثون في قضايا التنمية والسياسة والاقتصاد والقانون.
جدير بالذكر أن المركز الدولي سبق له أن نظم في صيف العام الماضي 2008 ملتقى فكريا مهما حول قضايا الإسلام والعلاقة مع الآخر، وذلك في مقر البرلمان الكندي في مدينة أوتاوا، ولقي الملتقى اهتماماً كبيراً من خبراء وباحثين ومشتغلين على قضايا حوار الحضارات وتفاعل الثقافات، والمشترك الانساني، إضافة إلى السفراء العرب والأجانب وأنشطة إعلامية كندية وعربية.
ولكن ما الذي يدفع كندا تحضير هذه الفعالية الفكرية-الثقافية حول العراق؟ أوليست هي جزء من المنظومة الغربية بشكل عام؟ وإذا كان الجواب بالايجاب بشكل عام، فإن هناك بعض الخصوصيات، التي تحاول كندا تمييز نفسها عن تلك المنظومة، فهي لم تشارك أساساً في إرسال قواتها إلى العراق وامتنعت عن تأييد قرار الغزو، طالما لم يحصل على موافقة الأمم المتحدة، كما أنها بعيدة عن مشروع سياسي خاص بها في العراق أو في الشرق الأوسط، ولعل هذا الموقف يذّكر بموقفها المتحفظ في الستينيات من فرض الحصار على كوبا خارج نطاق الأمم المتحدة في نطاق ما أطلق عليه لاحقاً «أزمة خليج الخنازير».
وإذا كان نشاط الجماعات الموالية لإسرائيل واسعاً ومتشعباً في كندا، فإن تحركاً جنينياً عربياً ومسلماً لايزال بحاجة إلى كثير من الدعم والمساندة في كندا، لاسيما من الجهات العربية الرسمية، الأمر الذي ينبغي أخذه بنظر الاعتبار عند الحديث عن قضايا الشرق الأوسط، بما فيها مستقبل العراق، وهنا لا بدّ من ذكر بعض الحقائق التي تناولها الملتقى وتوقف عندها بجدية، وهي:
1- التحسن الملحوظ في الوضع الأمني في العام ونيّف الأخير، وهو وإنْ كان بحاجة إلى تعزيز وترسيخ، فإن هناك بعض الثغرات والمثالب والهشاشة التي تعرّضه إلى الاختراقات.
2- توقيع الاتفاقية العراقية-الاميركية، الأمر الذي نقل الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي منظم في اتفاقية دولية مودعة لدى الامم المتحدة.
3- وصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض مؤكداً وعوده عشية حملته الانتخابية بالانسحاب من العراق خلال 18 شهراً (مضى منها 3 أشهر)، الأمر الذي يرتب استحقاقات جديدة، وقد تنشأ معه اصطفافات جديدة على مستوى السلطة ومعارضتها.
4- إجراء انتخابات المحافظات والأقضية والنواحي، التي عكست هدوءاً كبيراً، وكانت نتائجها إيجابية للقوى التي لم ترفع الشعارات الطائفية أو التي رفعت شعارات وطنية عامة.
5- استمرار جدل الهويات حتى إن اتخذ أحياناً طابعاً صراعياً بين هوية جامعة عامة، وهويات فرعية، بين شمولية وخصوصية، بين احترام الهوية الخاصة في إطار الهوية الوطنية، مع تأكيد وجود روافد بين هويات متفاعلة ومتخالقة لهوية عليا.
لكن هذه الحقائق في الوضع العراقي تستدعي فحص وتدقيق اتجاهاته ومشكلاته الاساسية، لاسيما استمرار وجود العديد من القوى السياسية خارج العملية السياسية، بل في تعارض شديد معها. وفي الوقت نفسه استمرار الجدل والصراع حول الدستور الدائم وتعديلاته وعقده وألغامه، وهي مشكلات لاتزال حتى الآن مؤجلة وقد تنفجر في أي لحظة.
كما أن مشكلة العقود النفطية ومستقبل الثروة النفطية الذي كان مثيراً للالتباس في الدستور ومن الناحية العملية، خصوصاً بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية (المركزية) لايزال مستمراً، وتبقى مشكلة كركوك قائمة وبدون أفق للحل، لاسيما التعاكس والتدافع بشأن صلاحية أم انتهاء مفعول المادة 140 من الدستور، ولعل الجميع يتحفظ على مقترحات دي مستورا ممثل الأمم المتحدة في العراق، ثم هناك إشكالات حول صلاحيات الأقاليم التي طالب رئيس الوزراء نوري المالكي بتعديل الدستور ليضمن سلطات «مركزية» أهملها الدستور الحالي حين وضعها بيد السلطات الاقليمية على حساب سلطات الدولة الاتحادية المركزية، وهو ما تعارضه الكتلة الكردية.
ولعل انتخابات نهاية العام الجاري 2009 ستكون مجسّاً حقيقياً لمدى قوة ونفوذ الكتل والائتلافات السياسية، التي تبدو قلقة لاسيما من انتخابات المحافظات، التي كانت بعض نتائجها ومؤشراتها مختلفة عن الانتخابات النيابية العام 2005.
وإذا كان الاحتلال هو أبرز وأهم التحديات التي جاء على ذكرها بأبحاث ودراسات عدد من المشاركين في الملتقى، فإن الموضوع الطائفي والمسألة الفدرالية وقضية الإرهاب الدولي وانفلات العنف وضعف وعدم تأهيل المؤسسة العسكرية حتى الآن، ومخاطر التفكك بسبب وجود الميليشيات التي انضم بعض عناصرها إلى الجيش والقوى الأمنية، فإنها شكّلت مرتكزات للنقاش باعتبارها تحديات كبرى يتوقف على حلها استقرار الوضع العراقي، ثم هناك مسألة الفساد الإداري والمالي ونهب وتبديد المال العام واستمرار مشكلة الخدمات دون حل جذري حتى الآن، مثل انقطاع التيار الكهربائي ومشكلة الماء الصافي وشحة الوقود واستمرار تفشي البطالة التي تبلغ أكثر من 50% حسب إحصاءات الأمم المتحدة ومشكلة اللاجئين والنازحين خارج وداخل العراق، والذين زاد عددهم على 4 ملايين، رغم عودة البعض منهم إلى مناطقه بعد تحسن الوضع الأمني إلاّ أن المشاكل الأساسية التي يعانونها لاتزال مستمرة.
واستحوذ النقاش على حيّز غير قليل من مشكلة الأقليات ومعناها ومفاهيمها في إطار التعددية والمساواة وحقوق الإنسان، خصوصا الأقليات القومية والدينية، الأمر الذي طرح إعادة النظر بالخارطة السياسية العراقية وتركيباتها الحالية، لاسيما التي تم الترويج لها عبر العقدين الماضيين، خصوصاً بعد الاحتلال، والتي اعتمدت إما على مفهوم خاطئ للأغلبية والأقلية وإما على تعويم الأغلبيات ليصبح الجميع أقليات، وذلك بالتأكيد إن الأغلبية التي عليها حماية حقوق الأقلية تأتي من صندوق الاقتراع وليس عبر افتراضات مسبقة تذهب إلى تطييف المجتمع، وهو ما دعا لطرح مفهوم المواطنة في الدولة العصرية واعتماده معياراً أساسياً لمستقبل العراق، وهذا يتطلب إجراء مصالحة سياسية على أساس المشترك والولاء الوطني في إطار الدائرة العربية والبعد الإسلامي والفضاء الإنساني، وهو ما يضع مسألة إشكالية العلاقة مع دول الجوار على بساط البحث كجزء من حل شامل للمسألة العراقية يقوم على انسحاب دولي وتعهد إقليمي بعدم التدخل وخطة عالمية لإعادة الاعمار.
لا بدّ من الاعتراف أن الملتقى ما كان له أن يحقق هذا القدر من التنوّع والحيوية لولا معرفة وخبرة السفير مختار لماني والجهد المضني الذي بذله لتأمين نجاحه ومساعدة الدكتورة بسمة موماني من جامعة واترلو. وكان أبرز المتدخلين بيتر سلوغلت (جامعة أوتا) وديفيد كامرون (جامعة تورنتو) وماك لميسكي (من الفيدرالية) وديفيد رومانو (كلية روديس) وميتو لكرنزي (جامعة أوتاوا) وجوزيف ساسون (جامعة جورج تاون) والسفير مايكل بيل (جامعة ويندزور) وجون باكر (جامعة اسسكس) وريكس برنين (جامعة ميغيل) وماريا جولي زهر (جامعة مونتريال) وكاتب السطور عبد الحسين شعبان (المركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني) الذي كانت مداخلته: العراق بعد 6 سنوات من الاحتلال «جدل أم صراع الهويات: إشكاليات المواطنة والدولة في العراق».
ونظم الملتقى في الختام مائدة مستديرة بعنوان: مستقبل العراق: كانت أبرز حلقاتها تتعلق بالعلاقة مع دول الجوار، وتأثير مجيء الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض على مستقبل العراق وما الحاجات الاساسية لتعزيز الأوضاع الأمنية داخلياً؟ وما الالتزامات الحكومية إزاء اللاجئين والنازحين والعواقب التي قد تنتج من عدم حل مشكلاتهم؟ وأخيراً ماذا على كندا أن تفعل للمستقبل العراقي؟!
ولعل أسئلة بهذا المستوى لا ينبغي أن تكون محصورة في الجانب الأكاديمي والبحثي فحسب، وفي كندا بالذات، بل هي بحاجة إلى تلاقح عروبي ومسلم يشارك فيه كل من موقعه نخب من شتى الاختصاصات تقدم خبراتها وتصوراتها، عسى أن تكون عوناً لحلول سلمية وناجعة للأوضاع العراقية وللتخفيف من معاناة المجتمع العراقي ونزيف الدم الذي ظل مستمراً لسنوات طويلة، بتأمين مستلزمات حل عراقي وبإرادة عراقية وبمساعدة المجتمع الدولي والعربي والإقليمي.
* كاتب ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية  العدد رقم 607 الجمعة 01 مايو 2009 ,07 جمادى الأولى 1430

1170
في ثقافة المواطنة
عبدالحسين شعبان
2009-05-04
كان موضوع «جدل أم صراع الهويات في العراق» أحد محاور الندوة الأكاديمية التي التأمت في كندا (واترلو) بمبادرة من المركز الدولي للحاكمية الصالحة (الحوكمة) وبمساعدة من جامعة واترلو، وحضرها 15 باحثاً وأستاذاً جامعياً ومختصاً في قضايا الشرق الأوسط، بمن فيهم بعض السفراء السابقين.
هناك فارق كبير بين جدل الهوية وصراعها، فالجدل يعني وجود اختلافات وخصوصيات وتمايزات، يمكن أن تتعايش وتتفاعل مع تأكيد احترامها لبعضها البعض وفي إطار المشترك الإنساني، الذي يمكن أن يشكل الهوية الجامعة، مع احترام الهويات الفرعية والخاصة، وتأكيد كيانيتها في إطار الهوية العامة، لا باعتبارها فوقها أو متسيّدة عليها، كما ليس بمقدور الهوية العامة أن تحتوي الهوية الخاصة أو الفرعية، لكونها تمثل إطاراً أكبر أو أعلى على النطاق الوطني، ليس في العراق وحده بل ربما في عموم دول المنطقة، فهناك نقص فادح في ثقافة المواطنة وعلاقته بالهوية والدولة.
بعض الشوفينيين والمتشبثين بالأغلبيات يستنكرون على أصحاب الهويات الفرعية والخاصة التمسك بهوياتهم، بل إنهم يعتبرون أي هوية خارج الهوية العامة انفصالية أو إضعافاً للهوية الوطنية الجامعة، أو تفكيكاً لصورة الدولة الموحدة، ومن جهة أخرى يبالغ بعض أصحاب الهويات الخاصة الفرعية لإعلاء هويتهم فوق الهوية العامة والمشترك الإنساني، الأمر الذي يؤدي إلى الانعزالية وضيق الأفق، سواء كان قومياً أو دينياً أو مذهبياً أحياناً، وبالمقابل فإن من يريد تذويب الهويات الفرعية، يقود إلى الاستعلائية والشوفينية والتمييزية.
إن ضعف ثقافة المواطنة لاسيما من الناحية القانونية وعدم وجود قوانين ناظمة ترسم العلاقة الصحيحة بين الهوية العامة والهويات الفرعية، ناهيكم عن الممارسة التمييزية، أدى إلى حدوث اختلالات وتجاوزات على حقوق الإنسان، وهو الذي طبع مسيرة الدولة العراقية منذ تأسيسها وبخاصة في ظل النظام السابق الذي شهد احتدامات كثيرة، لاسيما خلال الحرب العراقية الإيرانية وما بعدها، خصوصاً بنزع جنسية عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين، وهو الأمر الذي تكرس على نحو شديد ما بعد الاحتلال.
وحسب التقسيمات التي جاء بها الاحتلال، فإنه لا توجد أغلبية في العراق، سواء عربية أو مسلمة أو غيرها، والجميع هم أقليات، العرب والكرد والتركمان والكلدانيون والآشوريون والمسلمون والمسيحيون والأيزيديون والصابئة وغيرهم.
ولعل مشكلة من هذا النوع جعلت الأمر أقرب إلى الصراع في إطار الدستور الحالي، لاسيما عندما تحدث من صلاحيات الأقاليم على حساب الدولة الاتحادية، الأمر الذي عوّم اختصاصاتها ومنحها للأقاليم، ولعل هذه تجربة غير مسبوقة للفيدراليات العالمية التي تزيد عن 25 فيدرالية، بحيث أعطى حق استثمار الثروة الطبيعية (النفط والغاز) في الحقول غير المستخرجة للأقاليم، مثلما منحها صلاحيات فاقت صلاحيات الدولة الاتحادية (الفيدرالية) فيما يتعلق بالإشراف على القوات المسلحة وقوى الأمن التابعة لها، رغم أنها من الناحية الشكلية تتبع تشكيلات الدولة الاتحادية، لكنها غير قادرة على تحريكها إلا بأمر وموافقة سلطات الأقاليم، فضلاً عن بعض الالتباسات فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية الدولية وتنظيم العقود والاتفاقيات مع بعض الشركات الأجنبية، وهو ما دعا رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى الدعوة إلى تعديل الدستور لإعادة التوازن بين صلاحيات السلطة الاتحادية (المحدودة) وسلطات الأقاليم الواسعة (وغير المحدودة) وهو ما تعارضه الكتلة الكردية، التي تعتبر المساس بصلاحيات إقليم كردستان مساساً بثوابت الدستور التي لا ينبغي التعرّض لها لأنها ستؤدي إلى الإخلال بالعملية السياسية برمتها وبالتوافق الوطني.
إن المواطنة في الدولة العصرية لا تعني مجرد حرية التعبير أو إجراء انتخابات، رغم أنها من أساسات النظام الديمقراطي، إلا أنها لا تعني الديمقراطية، رغم إيجابياتها بغض النظر عن نتائجها وبعض النواقص والثغرات في قانون الانتخابات ومسألة المحاصصة وغيرها، لكنها مهمة وضرورة لا غنى عنها، خصوصاً بما له علاقة بسيادة القانون والمساواة التامة بين المواطنين واحترام حقوق الأقليات وتثبيتها دستورياً وعدم التمييز وتأكيد احترام حقوق الإنسان، فذلكم هو السبيل للطريق الديمقراطي.
الانتخابات وحرية التعبير التي كانت مؤشرات جديدة لفترة ما بعد النظام السابق، لا تعني الديمقراطية بأي شكل من الأشكال رغم أنها من صلب العملية الديمقراطية ومقدمات أساسية لها، وهي وإنْ شابها الكثير من الأخطاء والثغرات والنواقص، إلا أن تصحيح الديمقراطية وتعميق السير في طريقها لن يتحقق بإلغاء نتائجها، بل بالمزيد من الديمقراطية ذاتها.
ورغم التحفظات حول القانون الانتخابي والعملية السياسية والمعاهدة الأميركية العراقية، فإن نتائج انتخابات المحافظات كانت أفضل حظاً من نتائج الانتخابات النيابية العام 2005، وقد تكون نتائج انتخابات العام الجاري (نهاية العام 2009) أحسن من سابقتها، وهو ما يدفع الكثير من القوى والتكتلات لإبداء القلق إزاء المستقبل، بإعادة النظر بتحالفاتها وربما بمشروعها السياسي، الأمر الذي يمكن أن يضفي على المسار نحو الديمقراطية بعداً آخر جديداً عابراً للطوائف والإثنيات.
وإذا كان الحديث عن المواطنة لا يستقيم مع وجود الميليشيات ومع المحاصصة الطائفية والإثنية ومع استمرار الإرهاب والعنف، فإن تثبيت أركان وهيبة الدولة هو مقدمة ضرورية لهوية مشتركة أساسها الوطنية والمواطنة والبعد الإنساني، لاسيما في احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية واحترام الخيار الديمقراطي باعتباره خياراً لا عودة عنه ولا رجعة فيه، وهو ما يمكن استكماله وتعميقه بعد إنهاء الاحتلال وإجلاء قواته من العراق حسب وعود الرئيس الأميركي أوباما.


صحيفة العرب القطرية  العدد 7631 الإثنين 4 مايو 2009 م ـ الموافق 9 جمادى الأولى 1430 هـ


1171
إشكالية الهوية والمواطنة في العراق
   


عبدالحسين شعبان
 

على بعد آلاف الأميال من العراق التأمت ندوة أكاديمية لمدة يومين في مدينة واترلو (كندا) لتناقش مواضيع راهنية عراقية غاية في الالتباس والإشكال، ونعني بها مسألة المصالحة وإعادة الإعمار ومستقبل العراق، وخلال ما يقارب 18 ساعة عمل وخمس جلسات أساسية، بضمنها مائدة مستديرة كان الموضوع العراقي مطروحاً على بساط البحث، وعلى طاولة اجتمع حولها 15 باحثاً واستاذاً جامعياً وممارساً مختصاً ممن لهم خبرة في قضايا الشرق الأوسط، وقدّر لي أن أكون واحداً منهم.

ولعل من اللافت للنظر أن قضية الهوية استحوذت على نقاشات المشاركين، لاسيما علاقة الهوية بالمواطنة، خصوصاً ما بعد الاحتلال وعلاقتهما بالدولة، ثم علاقة الهوية بالطائفية والفيدرالية، وكان السؤال غالباً ما يتردد: هل يمكن تقسيم العراق؟ وإذا افترضنا ذلك “ممكناً” فوفقاً لأية اعتبارات؟ كما توقف أحد الأبحاث عند علاقة الهوية بالجنسية العراقية منذ تأسيس الدولة (المملكة العراقية) العام 1921 وما بعدها، خصوصاً تأثيرات ذلك في كيانية التكوينات العراقية، لا سيما بعض الغبن والإجحاف الذي شمل فئات عراقية، اقترنت باحتدامات سياسية، وأدت أحياناً الى بعض التشجنات والاصطفافات، خصوصاً بتهجير آلاف المواطنين العراقيين عشية الحرب العراقية - الإيرانية وما بعدها.

وهنا نوقشت مسألة تدخل دول الجوار وتأثيراتها وانعكاساتها على وجود عراق قوي أو ضعيف، ولعل الرأي الذي يقول إنه كلما كان العراق قوياً  تقلص التمدد الفارسي داخل المنطقة العربية، وعلى العكس كلما كان العراق ضعيفاً نشط النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة، الأمر الذي يمكن اعتباره معادلة تاريخية صعبة أساسها الجغرافيا ومنبعها التاريخ وفضاؤها العلاقات الدولية والمجتمعية، والمصالح والمنافع، مهما اتخذت من ذرائع طائفية أو مذهبية أو عقائدية، وحتى إن تعكزت على اعتبارات تاريخية أو جغرافية، الاّ أنها تظل محكومة بأساس توازن القوى بين البلدين.

وإذا كان ما حدث بعد الاحتلال أمراً طبيعياً بحكم انحلال الدولة العراقية وحل مؤسساتها وتعريضها للفوضى، فإن الحضور الايراني كان فرصة تاريخية، ليس فقط لإعادة تغيير معادلة التوازن وبخاصة بعد الحرب العراقية - الإيرانية، وإنما لاستثمار ذلك بما يذكّر بعدد من التوترات والعلاقات والمعاهدات المعقودة بين البلدين ابتداء من معاهدات كردن وزهاب وارضروم الاولى والثانية ومروراً ببروتوكولي طهران والقسطنطينة ومعاهدة العام 1937 وحتى معاهدة العام 1975 وصولاً للحرب العراقية - الإيرانية 1980- ،1988 ومن ثم العودة الى معاهدة الجزائر لعام 1975 بعد غزو القوات العراقية للكويت في 2 آب/أغسطس العام 1990.

وقد تم التوقف عند الهوية وعلاقتها بالفيدرالية لاسيما من خلال الجدل أو الصراع بين الهويات الفرعية في إطار الهوية العراقية العامة، وفي حين يركز البعض على الهوية الفرعية ويعتبرها الهوية الأساس، بما يضعف علاقته بالمشترك العراقي، فإن البعض يريد احتواء الهوية الفرعية بحجة الهوية العامة المانعة الجامعة العليا، لكن وجود هويات فرعية وقد تكون أكثر من واحدة، لا يلغي جوارها وجدلها في إطار المشترك الإنساني العراقي، الذي أساسه المواطنة والمساواة بين الجميع، واحترام الهوية الكبرى - الأساسية - للهويات الصغرى الفرعية، باعتباره شرطاً لا غنى عنه للتفاعل والتعايش والتواصل.

وإذا كان الموضوع الفيدرالي قد أخذ حيّزاً من الجدل فلأن دستور العام 2005 الذي تم الاستفتاء عليه قام على أساس النظام الاتحادي (الفيدرالي) وأعطى الحق لمحافظة واحدة لكي تؤسس اقليماً ويصبح لها دستوراً وحكومة اقليمية، وقد أثار الدستور التباسات وألغاماً كثيرة فيما يتعلق بصلاحيات الاقاليم، لا سيما علاقته بالقوات المسلحة وقوى الأمن، واستثمار الثروة الطبيعية وبخاصة النفط والغاز للحقول غير المستخرجة، وكذلك الالتباس فيما يتعلق بالعلاقات الخارجية والدولية، فضلاً عن بعض الجوانب الرقابية والمالية، وهو ما دعا رئيس الوزراء نوري المالكي للمطالبة بإعادة النظر فيه، رغم اعتراض الكتلة الكردية، التي وقفت بشدة مع بقاء صلاحيات الاقاليم معترضة على المساس بها، باعتبارها من ثوابت الدستور والتوافق الوطني، وهو ما ينسحب أيضاً على مسألة الاحتكاك بشأن كركوك وتطبيقات المادة 140 التي يصر الكرد على أنها لا تزال صالحة، في حين أن التكوينات الأخرى تقول إنها استنفدت أغراضها وتاريخها.

المسألة التي ظلّت بحاجة الى معالجة في إطار الوضع العراقي، هي السؤال الذي سبق لنا أن طرحناه في كتابنا: من هو العراقي؟ (العام 2002) وما هويته وما المشترك الانساني الذي يجمع عرب العراق مع كرده وتركمانه وآشورييه وكلدانه من حيث التكوين الإثني، ومسلمي العراق مع مسيحييه مع صائبته وايزيدييه، وهو السؤال الذي يلح رغم بعض التصدعات: ما الذي يجمع عرب العراق السنة مع عرب العراق الشيعة؟

وبغض النظر عن الاختلاف المذهبي أو القومي أو الديني، فثمة هوية عراقية لها ملامحها تشكل قاسماً مشتركاً للفسيفساء العراقية وللموزاييك المجتمعي العراقي، الذي يمكن أن يتعزز ويتعمق بالمواطنة الكاملة والمساواة التامة واحترام حقوق الانسان، وجعل الولاء الاول والأخير للوطن والشعب، عبوراً على الطوائف والأديان والإثنيات، مع تأكيد احترامها وخصوصيتها، كهويات فرعية، في إطار الهوية الوطنية.

وجدل الهويات قاد الى الحديث عن المنفى، لا سيما الأعداد الواسعة من المهجرين الذين بلغ عددهم أكثر من 4 ملايين، قسم منها سبق الاحتلال بثلاثة عقود من الزمان ويعاني من مشكلة الهوية بالاشتباك مع هويات جديدة دخلت على المنفيين، لا سيما للجيل الثاني وبالطبع للجيل الثالث على نحو أشد، بحيث أن مثل هذا البحث كان بحاجة الى ندوة أو ملتقى خاص، مثلما هو الموضوع الطائفي والفيدرالي، وعلاقة دول الجوار وكيفية تحقيق المصالحة الوطنية.

باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 6/5/2009

1172
المستقبل العراقي: الأسئلة الأكاديمية الحارقة!!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

كثيراً ما تردد على ألسنة السياسيين المنخرطين بالعملية السياسية أو المعارضين لها شعارات ظلّت غامضة ومثيرة وغير محددة في الكثير من الأحيان، أو لم تتحول إلى برامج عمل عملية، مثل «المصالحة» و«إعادة الأعمار» و«المستقبل»، لكن هذه العناوين المثيرة للجدل وذات الإشكالية النظرية والعملية، لاسيما من زوايا النظر المختلفة، تحوّلت في مدينة واترلو في كندا وبمشاركة نخبة متميّزة من الأكاديميين والممارسين، إلى مدارات بحث جدّية، تمّ فيها عرض أفكار وتصوّرات أكاديمية من خلال دراسة معمّقة للواقع بهدف استشراف رؤية مستقبلية.
الملتقى الفكري-الأكاديمي التأم بدعوة من المركز الدولي للحاكمية «الحوكمة» أو «الحكم الصالح»، وهو مركز مضى على تأسيسه 7 سنوات ونظم فاعليات وأنشطة مهمة، كما شارك في التحضير والتنظيم جامعة واترلو، وحضره مختصون في قضايا الشرق الأوسط وسفراء سابقون وخبراء وباحثون في قضايا التنمية والسياسة والاقتصاد والقانون.
جدير بالذكر أن المركز الدولي سبق له أن نظم في صيف العام الماضي 2008 ملتقى فكريا مهما حول قضايا الإسلام والعلاقة مع الآخر، وذلك في مقر البرلمان الكندي في مدينة أوتاوا، ولقي الملتقى اهتماماً كبيراً من خبراء وباحثين ومشتغلين على قضايا حوار الحضارات وتفاعل الثقافات، والمشترك الانساني، إضافة إلى السفراء العرب والأجانب وأنشطة إعلامية كندية وعربية.
ولكن ما الذي يدفع كندا تحضير هذه الفعالية الفكرية-الثقافية حول العراق؟ أوليست هي جزء من المنظومة الغربية بشكل عام؟ وإذا كان الجواب بالايجاب بشكل عام، فإن هناك بعض الخصوصيات، التي تحاول كندا تمييز نفسها عن تلك المنظومة، فهي لم تشارك أساساً في إرسال قواتها إلى العراق وامتنعت عن تأييد قرار الغزو، طالما لم يحصل على موافقة الأمم المتحدة، كما أنها بعيدة عن مشروع سياسي خاص بها في العراق أو في الشرق الأوسط، ولعل هذا الموقف يذّكر بموقفها المتحفظ في الستينيات من فرض الحصار على كوبا خارج نطاق الأمم المتحدة في نطاق ما أطلق عليه لاحقاً «أزمة خليج الخنازير».
وإذا كان نشاط الجماعات الموالية لإسرائيل واسعاً ومتشعباً في كندا، فإن تحركاً جنينياً عربياً ومسلماً لايزال بحاجة إلى كثير من الدعم والمساندة في كندا، لاسيما من الجهات العربية الرسمية، الأمر الذي ينبغي أخذه بنظر الاعتبار عند الحديث عن قضايا الشرق الأوسط، بما فيها مستقبل العراق، وهنا لا بدّ من ذكر بعض الحقائق التي تناولها الملتقى وتوقف عندها بجدية، وهي:
1- التحسن الملحوظ في الوضع الأمني في العام ونيّف الأخير، وهو وإنْ كان بحاجة إلى تعزيز وترسيخ، فإن هناك بعض الثغرات والمثالب والهشاشة التي تعرّضه إلى الاختراقات.
2- توقيع الاتفاقية العراقية-الاميركية، الأمر الذي نقل الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي منظم في اتفاقية دولية مودعة لدى الامم المتحدة.
3- وصول الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض مؤكداً وعوده عشية حملته الانتخابية بالانسحاب من العراق خلال 18 شهراً (مضى منها 3 أشهر)، الأمر الذي يرتب استحقاقات جديدة، وقد تنشأ معه اصطفافات جديدة على مستوى السلطة ومعارضتها.
4- إجراء انتخابات المحافظات والأقضية والنواحي، التي عكست هدوءاً كبيراً، وكانت نتائجها إيجابية للقوى التي لم ترفع الشعارات الطائفية أو التي رفعت شعارات وطنية عامة.
5- استمرار جدل الهويات حتى إن اتخذ أحياناً طابعاً صراعياً بين هوية جامعة عامة، وهويات فرعية، بين شمولية وخصوصية، بين احترام الهوية الخاصة في إطار الهوية الوطنية، مع تأكيد وجود روافد بين هويات متفاعلة ومتخالقة لهوية عليا.
لكن هذه الحقائق في الوضع العراقي تستدعي فحص وتدقيق اتجاهاته ومشكلاته الاساسية، لاسيما استمرار وجود العديد من القوى السياسية خارج العملية السياسية، بل في تعارض شديد معها. وفي الوقت نفسه استمرار الجدل والصراع حول الدستور الدائم وتعديلاته وعقده وألغامه، وهي مشكلات لاتزال حتى الآن مؤجلة وقد تنفجر في أي لحظة.
كما أن مشكلة العقود النفطية ومستقبل الثروة النفطية الذي كان مثيراً للالتباس في الدستور ومن الناحية العملية، خصوصاً بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية (المركزية) لايزال مستمراً، وتبقى مشكلة كركوك قائمة وبدون أفق للحل، لاسيما التعاكس والتدافع بشأن صلاحية أم انتهاء مفعول المادة 140 من الدستور، ولعل الجميع يتحفظ على مقترحات دي مستورا ممثل الأمم المتحدة في العراق، ثم هناك إشكالات حول صلاحيات الأقاليم التي طالب رئيس الوزراء نوري المالكي بتعديل الدستور ليضمن سلطات «مركزية» أهملها الدستور الحالي حين وضعها بيد السلطات الاقليمية على حساب سلطات الدولة الاتحادية المركزية، وهو ما تعارضه الكتلة الكردية.
ولعل انتخابات نهاية العام الجاري 2009 ستكون مجسّاً حقيقياً لمدى قوة ونفوذ الكتل والائتلافات السياسية، التي تبدو قلقة لاسيما من انتخابات المحافظات، التي كانت بعض نتائجها ومؤشراتها مختلفة عن الانتخابات النيابية العام 2005.
وإذا كان الاحتلال هو أبرز وأهم التحديات التي جاء على ذكرها بأبحاث ودراسات عدد من المشاركين في الملتقى، فإن الموضوع الطائفي والمسألة الفدرالية وقضية الإرهاب الدولي وانفلات العنف وضعف وعدم تأهيل المؤسسة العسكرية حتى الآن، ومخاطر التفكك بسبب وجود الميليشيات التي انضم بعض عناصرها إلى الجيش والقوى الأمنية، فإنها شكّلت مرتكزات للنقاش باعتبارها تحديات كبرى يتوقف على حلها استقرار الوضع العراقي، ثم هناك مسألة الفساد الإداري والمالي ونهب وتبديد المال العام واستمرار مشكلة الخدمات دون حل جذري حتى الآن، مثل انقطاع التيار الكهربائي ومشكلة الماء الصافي وشحة الوقود واستمرار تفشي البطالة التي تبلغ أكثر من 50% حسب إحصاءات الأمم المتحدة ومشكلة اللاجئين والنازحين خارج وداخل العراق، والذين زاد عددهم على 4 ملايين، رغم عودة البعض منهم إلى مناطقه بعد تحسن الوضع الأمني إلاّ أن المشاكل الأساسية التي يعانونها لاتزال مستمرة.
واستحوذ النقاش على حيّز غير قليل من مشكلة الأقليات ومعناها ومفاهيمها في إطار التعددية والمساواة وحقوق الإنسان، خصوصا الأقليات القومية والدينية، الأمر الذي طرح إعادة النظر بالخارطة السياسية العراقية وتركيباتها الحالية، لاسيما التي تم الترويج لها عبر العقدين الماضيين، خصوصاً بعد الاحتلال، والتي اعتمدت إما على مفهوم خاطئ للأغلبية والأقلية وإما على تعويم الأغلبيات ليصبح الجميع أقليات، وذلك بالتأكيد إن الأغلبية التي عليها حماية حقوق الأقلية تأتي من صندوق الاقتراع وليس عبر افتراضات مسبقة تذهب إلى تطييف المجتمع، وهو ما دعا لطرح مفهوم المواطنة في الدولة العصرية واعتماده معياراً أساسياً لمستقبل العراق، وهذا يتطلب إجراء مصالحة سياسية على أساس المشترك والولاء الوطني في إطار الدائرة العربية والبعد الإسلامي والفضاء الإنساني، وهو ما يضع مسألة إشكالية العلاقة مع دول الجوار على بساط البحث كجزء من حل شامل للمسألة العراقية يقوم على انسحاب دولي وتعهد إقليمي بعدم التدخل وخطة عالمية لإعادة الاعمار.
لا بدّ من الاعتراف أن الملتقى ما كان له أن يحقق هذا القدر من التنوّع والحيوية لولا معرفة وخبرة السفير مختار لماني والجهد المضني الذي بذله لتأمين نجاحه ومساعدة الدكتورة بسمة موماني من جامعة واترلو. وكان أبرز المتدخلين بيتر سلوغلت (جامعة أوتا) وديفيد كامرون (جامعة تورنتو) وماك لميسكي (من الفيدرالية) وديفيد رومانو (كلية روديس) وميتو لكرنزي (جامعة أوتاوا) وجوزيف ساسون (جامعة جورج تاون) والسفير مايكل بيل (جامعة ويندزور) وجون باكر (جامعة اسسكس) وريكس برنين (جامعة ميغيل) وماريا جولي زهر (جامعة مونتريال) وكاتب السطور عبد الحسين شعبان (المركز الوثائقي للقانون الدولي الإنساني) الذي كانت مداخلته: العراق بعد 6 سنوات من الاحتلال «جدل أم صراع الهويات: إشكاليات المواطنة والدولة في العراق».
ونظم الملتقى في الختام مائدة مستديرة بعنوان: مستقبل العراق: كانت أبرز حلقاتها تتعلق بالعلاقة مع دول الجوار، وتأثير مجيء الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض على مستقبل العراق وما الحاجات الاساسية لتعزيز الأوضاع الأمنية داخلياً؟ وما الالتزامات الحكومية إزاء اللاجئين والنازحين والعواقب التي قد تنتج من عدم حل مشكلاتهم؟ وأخيراً ماذا على كندا أن تفعل للمستقبل العراقي؟!
ولعل أسئلة بهذا المستوى لا ينبغي أن تكون محصورة في الجانب الأكاديمي والبحثي فحسب، وفي كندا بالذات، بل هي بحاجة إلى تلاقح عروبي ومسلم يشارك فيه كل من موقعه نخب من شتى الاختصاصات تقدم خبراتها وتصوراتها، عسى أن تكون عوناً لحلول سلمية وناجعة للأوضاع العراقية وللتخفيف من معاناة المجتمع العراقي ونزيف الدم الذي ظل مستمراً لسنوات طويلة، بتأمين مستلزمات حل عراقي وبإرادة عراقية وبمساعدة المجتمع الدولي والعربي والإقليمي.
* كاتب ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية  العدد رقم 607 الجمعة 01 مايو 2009 ,07 جمادى الأولى 1430

1173
من المسؤول عن تشويه صورة الاسلام؟
   

عبدالحسين شعبان
 

شاعت في الغرب منذ سنوات، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) ما سمّي “بالاسلامفوبيا” أي الرهاب من الاسلام، مثلما انتشر في الفترة الأخيرة ما يمكن اصطلاحه ب”العربفوبيا” أي كراهية العرب والعداء لهم، ولعل ذلك ليس بمعزل عمّا يمكن نحته من “الزينوفوبيا” Xenophobia أي الرهاب من الأجانب، بمعنى كراهيتهم وعدائهم، وقد اتسعت هذه المسألة على نطاق كبير بصعود وانتشار بعض التيارات والاتجاهات العنصرية والفاشية في أوروبا. وقد تلمسنا حجم الهجوم الشديد على مؤتمر جنيف (ديربن-2)حول العنصرية وانسحاب الولايات المتحدة واسرائيل وعدد من دول الاتحاد الاوروبي منه، وتأييد مواقفها من لدن جهات وجماعات ودول غربية كثيرة، لمجرد استنكار ما ذهب اليه مؤتمر ديربن الاول العام 2001 من دمغ الممارسات الاسرائيلية بالعنصرية.

ولعل حدثاً مثل مؤتمر ديربن يمكن استحضاره دليلاً على أن هناك اكثر من جهة هي التي تقف مسؤولة أمام تشويه صورة الاسلام في أعين العالم، فإضافة الى سيل الدعاية الصهيونية، التي سعت الى تصوير الصراع العربي- “الاسرائيلي”، باعتباره صراعاً بين أديان، أي بين الاسلام واليهودية، وبين قوى متخلفة عربية لا تؤمن بحق الوجود والديمقراطية و”دولة” يهودية تسير في طريق الممارسة الديمقراطية، في حين ان الصراع بين حقوق مغتصبة وأرض محتلة وشعب مشرد في غالبيته الساحقة، وبين مغتصب اجلائي استيطاني، رغم أنه يتعكز على حقوق “سماوية” بأرض الميعاد المقدسة لشعب الله المختار، في حين أن الصراع دنيوي لتحرير الأرض والوطن، وليس حول تعاليم الدين الاسلامي وتشريعه وبين اليهودية وتلمودها.

أما في الغرب بشكل عام فتندفع بعض الاطروحات الرسمية وغير الرسمية لتساوي بين الاسلام كدين للتسامح والرحمة والمغفرة والجدل والتنوّع والحوار والسلام، وبين بعض الاتجاهات المتطرفة والمتعصبة الاسلاموية والتي تستخدم تعاليم الدين أحياناً على نحو مشوّه ضد الدين ذاته، وهو ما نطلق عليه إسم “الاسلاملوجيا” أي توظيف التعاليم الاسلامية بالضد منها رغم أنها ترفع راية الاسلام. ولعل العرب والمسلمين دفعوا ثمن هذه الاتجاهات قبل غيرهم، ورغم أن هذه الاتجاهات حتى وقت قريب وقبل حدوث زلزال 11 سبتمبر (ايلول) لقيت تشجيعاً علنياً ومستتراً من بعض القوى والجماعات والدول الغربية مباشرة أو بصورة غير مباشرة. وأستطيع القول إن الكثير من النخب الفكرية والسياسية والثقافية الحاكمة وغير الحاكمة في الغرب، لم تتفهم حتى الآن وربما بصعوبة طبيعة العلاقة مع العرب، طالما يتم تصوير الصراع العربي- الاسرائيلي على نحو مشوّه، لاسيما من خلال ممارسات خاطئة وضارة يقوم بها بعض المتطرفين بهدف اثبات افضليات الاسلام على المسيحية وعلى اليهودية، وجعل مسألة النصوص الواردة في القرآن الكريم مبرراً لمواصلة هذا الصراع بطريقة لا تخلو من عبثية، بحيث يمتد من أقصى المعمورة وحتى أقصاها، وكأن لا علاقة للمصالح الدولية بذلك، بما فيها مصالح المسلمين أنفسهم، والسياسة منذ بدء الخليقة وحتى تنتهي ستبقى تحكمها الصراعات واتفاقات المصالح.

لا شك في أن هناك نظرة ارتيابية مسبقة لدى الغرب والشرق بما فيه الاسلامي إزاء الآخر، والغرب ليس وحده المسؤول عن ذلك، فثمة مساهمات نحن مسؤولون عنها، لاسيما وقد انتشرت لدينا تيارات “أصولية” متعصبة ومتطرفة ومعادية للغرب، وهو ما نطلق عليه اصطلاحاً “الغربفوبيا “ أي كراهية الغرب، والعداء لكل ما هو غربي بما فيه الحضارة الغربية وانجازاتها العلمية والتكنولوجية والفنية والجمالية والعمرانية الهائلة، بكل ما لها وما عليها.

الغرب ليس كله غرباً، فإلى جانب الغرب الامبريالي- العنصري في الماضي والحاضر، هناك الغرب التقدمي المؤيد لحقوق الانسان وحقوق الشعوب في تقرير المصير، وهو ما حاول مفكر بريطاني مرموق مثل الفريد هاليداي أن يضع اصبعه عليه في كتابه الموسوم “ ساعتان هزتا العالم” وقبله كتابه “الاسلام والغرب”. وكان عرفان نظام الدين قد تناول العلاقة بين العرب والاسلام في الغرب بوجهيها وذلك في كتابه “العرب والغرب” مثلما، أطلّ اعلامياً على ذلك في كتاب “الاسلام والاعلام” مؤشراً الى التقصير لدى الجانبين، خصوصاً في فهم العلاقة المتميزة والمتناقضة والمتداولة، إضافة الى التعقيدات والاوهام والتشويهات التي صاحبتها ورافقتها وهو ما أسماه الدكتور غازي القصيبي الأساطير الاربعة التي حكمت نظرة الغرب الى الاسلام ما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر).

ما زالت بعض تفسيراتنا قاصرة عن فهم ما نطلق عليه “الصراع التاريخي” الذي يستمر بين الغرب المسيحي والشرق المسلم، وهو ما ندعوه الحروب الصليبية والمقصود “حروب الفرنجة” التي حدثت في القرن الحادي عشر الميلادي، ومن ثم الصراع مع الدولة العثمانية، وذلك لتأكيد حتمية الصراع باعتباره صراعاً تناحرياً غير قابل للحل أو التوافق، رغم أن الصراع يمكن أن يؤدي الى اتفاق مصالح حسب منطوق السياسة الدولية تاريخياً.

ان الابقاء على صورة العدو حاضرة في الأذهان، رغم اختلاف المواقف، حملت معها خرافات وأوهام كل طرف إزاء الآخر، فالاسلام حسب بعض الاطروحات الغربية يشجع على الارهاب ويحض على العنف، ويستند بعض هذه التصورات على عدد من غلاة الاسلامويين، الرافضين لكل تقدم أو حضارة باعتبار الغرب كلّه “شر مطلق”، وهكذا تستكمل صورة العدو، وإن لم يوجد بالفعل، فقد تم صناعته مثلما حصل بعد انهيار الشيوعية الدولية، فوجدت بعض التيارات في الغرب، اختراع الاسلام عدواً بديلاً، وحسب أحد المعلقين البريطانيين جورج مونبيت Georges Monbiot ، فلو لم يكن ابن لادن موجوداً، لكان على امريكا أن تخترعه، فقد اخترعته ال CIA العام 1979 واليوم تبحث عنه ال FBI، وهكذا تم استبدال مصطلح المجاهدين الافغان أيام الغزو السوفيتي الى أبالسة وشياطين بسبب مواجهتهم للسياسة الامريكية لاحقاً.

ان صورة العدو الذي تتم صناعته في الغرب ليست بعيدة عن الخرافات والاختلاقات بمجابهة مزعومة مع الاسلام، وهي الصورة التي يقابلها لدى الاسلامويين والتيارات المتشددة، بوضع الغرب في صورة العدو المستمر والمواجهة الحتمية الأبدية، ويميل هاليداي الى اعتبار نموذج صموئيل هنتنغتون بشأن الصدام الحتمي للحضارات هو الأكثر رواجاً لدى الفريقين، ولذلك لقي كتابه “صدام الحضارات” اهتماماً منقطع النظير مثل كتاب فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ”.

وهذه الصورة التي تمت صناعتها لم تكن كلها من جانب الدعاية الصهيونية والتيارات الغربية المتعصبة والعنصرية التي هي المسؤولة الأساسية عن اعتبار الاسلام عدواً على الدوام، بل كان بعضها من صنع بعض الاتجاهات المتطرفة والمنغلقة والتي اعتبرت الغرب خطراً على الاسلام لأنه يمثل الجاهلية والفساد والالحاد، وعندها يكون التعارض والصراع أمراً حتمياً.

كاتب ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 29/4/2009

1174
الدكتور شعبان يحطم مراياه
د. يوسف مكي
أكاديمي ومفكر سعودي


تحطيم المرايا في الماركسية والإختلاف، عمل استثننائي ومثير. عمل استثنائي من حيث جرأته، ومن حيث القضايا التي تناوله برؤية مختلفة لعدد من القضايا الملحة التي تأتي في المقدمة من اهتمامات مجتمعنا العربي.

ومثير، من حيث اكتظاطه بزخم هائل من الأفكار، بما يعكس خصوبة التراكم المعرفي ومهارة التحليل والتفكيك لدى المفكر المبدع الدكتور شعبان.

إغواء الكتابه وإغراؤه، جعلني أمسك به دفعة واحدة من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة، دفعة واحدة. كان عبر سطوره ومحطاته، يشدني بسحر الأسلوب وعمق التحليل والقدرة على التفكيك. وحضر لي في الحال منذ بداية الرحلة الفيلسوف هيجل وهو يؤكد أنه لا بد من كسر الجوزة لمعرفة ما في باطنها.

وكان البديل الذي اختاره الدكتور شعبان عن كسر الجوزة هي تحطيم المرايا.

تناول الدكتور عبدالحسين شعبان قضايا كثيرة، يصعب تغطيتها في الوقت المتاح. تحدث عن الحوار وتمثلاته والدلالات الكامنة فيه، ورفض أن يتم بأبعاد ضيقة ونادى بالفضاءات المفتوحة.

استخدم مشرطه، كجراح بارع في تصديه لأزمة الماركسيين العرب، رافضا بقوة قولبة الفكر وتعليبه، مستعينا بتطور الفكر الماركسي وتجلياته، منذ بدايته ليقرر أن الفكر هو نتاج لواقع تاريخي وموضوعي في آن معا. إن غياب الموازنة بين التاريخي والموضوعي، وبين النص وما يستدعيه ويعبر عنه، قد أوجد متمركسين وغيب الروح العلمية والنقدية التي هو جوهر عبقرية ماركس، ومبرر استمرارية الماركسية كمنهج وأدات من أدوات القراءة والتحليل.

إن الدكتور شعبان يشخصيته الحالمة والمتمردة على الواقع الرافضة للقيود والمؤمنة بالحرية يميل بقوة إلى ماركسية ما بعد البيان الشيوعي، ويرى في نتائج ثورة أكتوبر تقنين وقولبة للماركسية أحالها إلى شيء أقرب للاهوت، بما جعلها تنفصل في الممارسة عن رحابتها.

لكن السؤال الذي يواجهنا ونحن نستحضر التاريخي والموضوعي، في أطروحة الدكتور شعبان هو هل بالإمكان فعلا في ظل هيمنة الدولة على الفكر، وتفاقم دور أجهزتها القمعية والبيروقراطية.. وأيضا في السياق التاريخي الذي أخذت فيه التجربة مكانها، والحصار الذي ووجهت به أن يظل الفكر رحبا، وأن تبقى فضاءاته مفتوحة كما يتمنى المفكر الكبير الدكتور شعبان؟!

الدكتور شعبان يجيب على هذا السؤال بأن الماركسية ثابتة لكن ليس بمعناها السكوني بالأداة والوسيلة. وهنا ربما يصدمنا سؤال منهجي آخر. أوليست الأدوات والوسائل هي نتاج مخاضات عملية. وماركس يشير إلى مصادر ومنابع كان لها الدور الأساس في صياغة نظريته. والعلم شأنه شأن الأمور الأخرى، يرفض الثبات والسكون أيضا.

لقد تطور فهمنا لقانون الجاذبية وتبدل جذريا منذ إسحق نيوتن إلى كوبرنيكوس ومن ثم أينشتاين. بمنعى أن ما هو متاح أمنامنا من حقائق علمية قد لا يمكنها أن تصمد في المستقبل.

وفي مجال البحث العلمي أسهمت الإنجازلات العلمية والإختراعات في خلق حقائق جديدة منها تطور أدوات ووسائل البحث ذاتها.

هناك محاور كثيرة في الفكر الماركسي بحاجة إلى مناقشة، في سياق مراجعة الفكر وتحديثه، كنت أتمنى لو أن الوقت يكفي لتناولها هنا، وهي جديرة بالمتابعة مستقبلا، والإضافة فيها تتجاذب مع رأي الدكتور شعبان ولا تتناقض معه. ولعل أهم تلك المحاور: المادية الجدلية، والمادية التاريخية، والحتمية، والإغتراب الإنساني، وفائض القيمة وعلاقة هذه المحاور فرادى ومجتمعة في سياق توطين الفكر التقدمي الماركسي بالعالم الثالث، وفي القرن الواحد والعشرين.

في كل الأحوال، فإن ما يهمنا في الماركسية حسب الدكتور شعبان، هو روحها المتوثبة والمؤمنة بأن الغاية أولا وأخيرا هي الإنسان، وحقه في تقرير مصائره وأقداره.

وهنا بحضر بجلاء دور المثقف العضوي الذي تحدث عنه غرامشي، وهو النموذج الذي يتمثله الدكتور شعبان في رحلته النضالية ومختلف أنشطته: إنسانا وكاتبا ومفكرا ومبدعا.

في رحلتي مع الكتاب وجدت من الصعوبة الفصل بين الفكر والموضوع، بين الدكتور شعبان، وبين أطروحاته. فالتماهي واضح إلى حد كاريكاتوري بين شخصية الإنسان شعبان، وبين ما يطرحه من أفكار بدت لي في بعض الأحيان حالمة ومغرقة في نزعتها الإنسانية، جاء ذلك عند الحديث عن الموقف السوفييتي من فلسطين، وأيضا عن القضية الكردية. وحتى الموقف من الدين والهوية، لم يخرج عن دائرة النزعة الإنسانية الراسخة في شخصية الكاتب معايشة وفكرا وممارسة.

وكما يتسلل الدكتور شعبان إلى العقل والقلب دون وعي، ويصبح توأم روح دون قرار، يتسلل إليك علمه وفكره وعمق تحليله.

أشاطر الدكتور شعبان كثيرا في الموقف من الدولة، فهذه الدولة لا يكفي وصفها باعتبارها جهاز قمع طبقي، لأن الموضوع أعقد من ذلك بكثير. وهو موضوع خلافي على كل حال. وحتى ضمن دائرة الفكر الرأسمالي هناك مواقف متباينة من فكرة الدولة بعكسها بشكل واضح الصراع بين الأحزاب الليبرالية القائمة على تعظيم دور الدولة: رفع الضرائب وزيادة الخدمات الإجتماعية، والأجهزة البيروقراطية وتحقيق دولة الرفاه، وبين المحافظين الذين يرون تقليص مهام الدولة لصالح صلاحيات أكبر للاحتكارات الكبرى.

هناك من كتب عن عودة قوية للدولة كـ ثيدا سكوكبول، ومن ناقش أدوارها كجندر فرانك وإيمانويل وليريشتاين. وفي الأدبيات السياسية العربية التقدمية أنور عبد الملك في مصر مجتمع يبنيه العسكريون، وغالي شكري في الثورة والثورة المضادة وصلاح عيسي عن الثورة العرابية، وكلها تؤكد على مركزية دور الدولة. لكن ذلك لا يعني التسليم بتغول دور الدولة، ومنحها صكا مفتوحا، بل لا بل من ضوابط تحد من مركزيتها، وتسهم في جعل أبواب الإجتهاد والفضاءات مفتوحة ومتوازنة.

تحدث الدكتور شعبان كثيرا عن المرأة والحب والجنس بما لا تتيحه هذه المساحة، ولعلي في هذا السياق أختتم ببعض من أجمل ما في الكتاب عاطفة وشاعرية:

إن قلب الإنسان هو الذي يقاوم  الزمن ناثرا عليه زهر المودة والتواصل، وحديقة الحب التي تتسع لأنواع الزهور والورود والرياحين... بدون الحب تزحف الصحراء على الروح ويتعطل العقل ويتعفن الفكر...


مداخلة تقييمية نقدية لكتاب تحطيم المرايا ألقيت في قصر الاونسكو في بيروت 10/2/2009 والتي شارك فيها إضافة الى الدكتور يوسف مكي الباحث الفلسطيني سلامة كيلة والامين العام المساعد للحزب الشيوعي اللبناني سعدالله المزرعاني والناقد والفنان العراقي الدكتور عمران القيسي
     
 

1175
كتاب تحطيم المرايا:
في ضرورة منهاجية نقدية لتجاوز الانغلاق للذات وعن العالم

   
أحمد محمد ثابت
مدير مركز ابن رشد للتنمية 
استاذ الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

 
   نحن نعيش بالطبع زمن تتقدم فيه الأسئلة وينهزم الجواب علي حد ما يذهب أدونيس، وربما يرجع ذلك إلي سمة أساسية في زمن معولم تخترق فيه تدفقات وآليات العولمة الرأسمالية في قمة توحشها اليميني واصطفافاتها الغريبة بين قلة من المحتكرين ممن انتعشوا بفضل أنشطة مالية مضاربة تجري أساسا خارج مجري المنظومة المعروفة لعناصر الإنتاج، وكثرة تزداد انسحاقا. والسمة الأساسية هذه هي حالة الواقع الموغل في التركيب والتداخل والتعقد ما يستدعي لا فقط جهازا مفاهيميا متقدما للغاية بل منهجية مركبة ذات قدرة تفسيرية أعلي. وأي مجتمعو/ أو حضارة وضع نفسه علي خطى التقدم العلمي والعقلي حدد لنفسه وعبر مراحل تطوره التاريخي حزمة اسئلة كبرى تتماس فقط مع الحالة العقلية الثقافية والاجتماعية السياسية ويتدولها علماء ومفكرو هذا المجتمع/ أو هذه المدنية. تتماشي وبحسب شروط التقدم هذه الحزمة المسماة "باراديم" بالتأكيد مع مسار التطور الإنساني العالمي لا خارجه، وهناك حالات إبداع متجاوزة كانت عاندت منظومة هذا المسار وعاشت خارج التاريخ لكن هذا المسار وحتى تبقي في إطاره هذه الحالة اقتدت بل اندمجت في منظومة هذا المسار، فإن كانت ألمانيا ما بعد النازية رغبت في ذلك النوع واستعادت حيويتها العقلية والإبداعية التقانية فلأنها هجرت وإلي الأبد أفكارا بل علوما وظفت زمن النازية لبعث التفوق العرقي الألماني والمجد والفخار الذي يسوغ استعمال العنف ضد الآخر.
   من اجهة أخرى ورغم ما يبدو من طغيان المضمونات السياسية الاجتماعية علي ثورة التغيير الديمقراطي في أمريكا اللاتينية التي جاءت باليسار وأحزابه وتكتلاته في الحركات الاجتماعية الجديدة، لكن حزمة الأسئلة أو نموذج التفكير هناك يؤكد دوما علي إعادة تخليق الذات المبدعة بدلا من الذات المتلقية.
   في كل هذه الأمور تظل مسألة تبني منهاجية للتفكير والتفسير و مسألة مقدرة ذات قيمة عالية، مهما كان المعتقد الإيديولوجي والميل السياسي والتحيز الحزبي لصاحب هذه المنهاجية، فما الذي يجعل الليبرالية تتمرد علي قوالبها فتخرج ليبرالية نقدية منفتحة ومعها رأسمالية تكاد تستعير بعض سياسات وأدوات الاشتراكية حتى تتغلب علي عنف وشراسة ما صنعته الليبرالية المحافظة الجديدة والذي تفجر وانفجر مع الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية؟ إنها منهاجية النقد العلمي والتفكير الحر والتراكم المعرفي. وما الذي جدّ بالضبط من أدوات النقد والتغلغل الجماهيري وطلاق القولبة التى اشتهرت بها اليسارية الماركسية رسمية أو غير رسمية في حقول السجال الثقافي والتطبيق السياسي الاجتماعي والوجود في السلطة، حتى يتم البناء بمنهجية منفتحة علي أفكار وتجليات جرامشي وتولياتي ثم ألتوسير وبولانتزاس، واليسار الجديد في أمريكا اللاتينية السبعينات من القرن الفائت، لتصل الأمور إلي عودة "اشتراكية بوجه إنساني" ليست نسخة مشابهة البتة لاشتراكية سلطوية قمعية علي غرار ستالين وغيره والاشتراكيات التي سميت هكذا علي غير معناها الفعلي في بلدان عربية وإفريقية، أو اشتراكية القرن الحادي والعرشين كما يسميها شافيز وموراليس وكوريا في فنزيلا وبيرو والإكوادور.
      إن ذلك يستوجب الانعتاق من القيد الثقيل للمؤسسة حتى لو لم تكن هكذا بالمعنى المهرفي العضوى المركب، حزبا أم جماعة أم سلطة اجتماعية أم سياسية، وهذا ما يقوله عبد الحسين شعبان  عن تجربته الحزبية في الشيوعي العراقي، في حواراته مع خضير ميري في القاهرة وبيروت وخرجت في عمل معرفي فلسفي هو كتاب صدر بعنوان دال فعل :"تحطيم المرايا: في الماركسية والاختلاف" في شباط 2009 عن الدار العربية للعلوم، بيروت ومنشورات الاختلاف، الجزائر. وقد يمكن استنتاج قيد مؤسسي آخر مسكوت عنه وإن لم يتأطر في هيكل تنظيمي ولكن في ذهنية ما أو حزمة سلوكيات تحركها ثقافة ما، قد تكون ثقافة الارتياح لليقين والخوف من التفكير المنظم بل ربما من إثارة الأسئلة، وقد تكون ثقافة الحنين فالالتزام فالتمترس خلف ولاء طائفي أو اثني يصل عنفه لحد اجترار الثارات القديمة والانقلاب علي مفردات شكلت طويلا جوهر هموم كوارث عربية في فلسطين والعراق والجزائر والسودان والصومال، ليفرض عليها فريق من أهل القولبة بين استقطابين أو ازدواجين إما هذا أو ذاك.
هناك سؤالا أنطولوجي يفرض نفسه وهو هل لا بد أن تفرض نوعية الجدل أو السجال الخاص بمسار الفكر والمجتمع المعاصر في الشرق العربي نفسها على المنهجية والأسئلة؟ إن الحالة الثقافية والذهنية والنفسية المحاصرة من قبل قوى عديدة والخانقة هي نفسها للإبداع ولمنهجية التجاوز إلى آفاق أرحب تقدم سلة أفكار وأسئلة تطرح الحداثة وضرورة الإندماج في العالم لا مخاصمته وطلاق الحالة الإنغلاقية التي في الغالب تتستر على الضعف الشامل بمقولة الخصوصية ما يمثل أوهام الوعي وليس الوعي ذاته وهذا ما يفعله عبد الحسين وهو يتجاوز الماركسية المقولبة إلى يسار إنساني مفتوح وهو يستعير مقولة إسبانوزا عن أن تبديد أوهام الوعي هو شرط كل إستعادة لذات حقيقية عند نفسها في البدء أي إنطلاق من الذات وعبورا من التاريخ وإليه في فضاء الحياة ذاتها وربما تحل منهاجية التجاوز االنقدي كثير من غموض مسألة التأويل الذي إستشاط فيه الكثيرون وتغولوا برأيهم أو تفسيرهم على أنه الجيل نفسه وكان الفقهاء قديما يقولون تأييدا لذلك (من قال في الدين برأيه فهو مخطأ وإن أصاب). ففي مواجهة الجميع الذين يمنحون أنفسهم العصمة ومصادرة أي رأي آخر مخالف ونكران إحترام التعدد والتنوع هي حالة مشتركة فالوافد مثل الماركسية والليبرالية وصل إلينا معلبا ضمن قوالب وأنساق ومن نبعوا من التراث التاريخي ودولتهم الدينية يمنحون أنفسهم أيضا العصمة ويعتبرون كلام الفرد وخصوصياته في إطار الجماعة مرضا أو وباءا. حيث تصير الأنا والذات المستقلة غير مسموح لها بأن تخالف رأي الأمة والجماعة أو التنظيم الذي يملك الحقيقة وحدها وفي حال الطائفة والجماعة الدينية لا يبنغي للفرد عن أناهه بل ينطق بدينه كما تنقله الجماعه أو الطائفة ومن ثم فإن أهمية الحوار تأتي لدى عبد الحسين شعبان خروجا عن النص بل هو حوار خارج النص، أو نص خارج السائد المألوف أو خروج عليه ولعل تفكيك الخطاب سيسهم في معرفة المتعدد النصوصي أو التناص بجهد تحليلي وصفي
وفي حين إعتبر بعض الماركسيين الماركسية نهاية مطاف أو حلقة ذهبية أخيرة للفكر الإنساني يمكن إعتناقها أو الإحتفاظ بها كما هي أي حفظها في موقع متحفي فإن شعبان يعتبر الماركسية بالنسبة له نسقا فكريا ومنهجا جدليا لا يشكل فيها ماركس سوى حلقة من سلسلة حلقاتها المتصلة والمستمرة وبلا نهايات أي تنطلق في فضاء رحب.
ما تزال قضايا محرمة أو بقرات مقدسة مسكوت عنها في الماركسية التقليدية العربية والرسمية السلطوية ومن أهمها علم النفس والمدرسة النفسية كما لم تعطي إهتماما كبيرا بالدين وخصوصا من الناحيتين النظرية والتطبيقية في بلد مثل فلسطين التي إغتصبتها الصهيونية وخصوصا بعد خطأ ستالين الجسيم بتأييد قرار تقسيم فلسطين كما أغفلت الماركسية حقولا إنسانية أخرى مهمة مثل الرمز والرمزية والميثولوجيا (الأسطورة) والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) والنقد الأدبي والجماليات
يعطي عبد الحسين شعبان أهمية كبرى لحوارات وسجالات إدوارد سعيد مع الفلسطينيين والإسرائيليين، فحوار إدوارد سعيد هو حوار الذات مع التاريخ في عمق المأساة والألم فقد كان يدرك أن أطنان الخطابات العربية لن تحل القضية الفلسطينية، بل ستبقيها بدون حل، وقد يكون في تلك الخسارة ربحا للسياسي العربي لا سيما في السلطة، إذ سيكون مبررا وضمانا لوجوده ولانشغاله بحقوق مهدرة ومغتصبة دون البحث في استعادتها، لكن المهم هو أن يكون موجودا ويستمر في رفع شعارات الدفاع عن أصحاب الحق والمظلومين الفلسطينيين، في حين أن المسألة الأساسية تظل غائبة وهي إستعادة الحقوق.
   ويرى المفكر جان جينيه، الذي هو كاتب حلافي، ومتمرد وفوضوي، لكن عندما عايش تجربة "الأرض الفلسطينية" لاحظ على نحو عميق ما وراء السرد السياسي للقضية الفلسطينية، حيث شاهد بأم عينيه، وهو يقول كلمته ويتقنها جيدا بشأن مآل وصورة فلسطين، الواقعية، الحقيقية، وليس صورة الوعي السياسي المؤطر أيديولوجيا في أحيان كثيرة.
 ويتساءل شعبان قائلا هل يمكن معاينة الأدلة والقرائن الجرمية ـ الجنائية على جثة مشوهة وغير واضحة المعالم؟ فلا يكفي الموقف السياسي بإعتباره دليلا على فهمنا للقضية الفلسطينية، الذي بتقديره ينقصها الكثير من التدويل رغم تدويلها، لا سيما لرؤية مؤسسات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان الدولية، وهنا ذهب للتحدث عن تدويل ثقافة المقاومة ورفض السائد واليومي، بتعميم ثقافة الحق، ولعل مثل هذه الثقافة، تساهم في إستمالة الرأي العام العالمي، الذي لا يمكن مخاطبته بروح التهديد والوعيد أو الإنتقام أو المعاملة بالمثل، وهي عناوين طالما تصدرت الدعاية العربية بشكل عام والدعاية الفلسطينية بشكل خاص، رغم التحسن الذي طرأ عليها إلا أنها ما تزال تعمل في إطار رد  الفعل في الغالب.
  وحاول أن يذكر تجربة عملية، وهو ما تحقق في مؤتمر ديربن ضد العنصرية والتمييز العنصري والعداء للأجانب عام 2001، فقد كان ذلك الإنتصار بخطاب عميق لكنه مبسط، يقوم على دمغ الممارسات الإسرائيلية بالعنصرية، الأمر الذي أحرج منظمات دولية كبرى لم تستطع أن تتخذ موقفا مناوئا لنحو 3000 منظمة إنحازت إلى جانب إدانة ممارسات إسرائيل لحقوق العرب الفلسطينيين، فأصدرت بيانا خاصا عبر عن وجهة نظرها "المستقلة محاولة الوقوف على مسافة وسط بين الحق والوقوف إلى جانبه من جهة، وبين بعض الأعمال العنفية ـ الإرهابية، لا سيما ضد المدنيين كردود فعل من جهة أخرى.                   


1176
عبد الحسين شعبان في ندوة خاصة بمجلة ادب ونقد في القاهرة

القاهرة – خاص
3/4/2009
أقامت أسرة مجلة أدب ونقد المجلة العريقة في مصر والتي ترأس تحريرها الناقدة والأديبة فريدة النقاش ندوة ثقافية بمناسبة صدور كتاب " تحطيم المرايا- في الماركسية والإختلاف" للمفكر الدكتور عبد الحسين شعبان والذي قام بإعداد وإجراء متنه الحواري الطويل الكاتب والناقد خضير ميري، وصدر عن الدار العربية للعلوم "ناشرون" في بيروت بالتعاون مع منشورات الإختلاف بالجزائر، وضم حواراً طويلاً أجمل فيه معدّ الكتاب فصولاً ومحطات وتحولات طويلة للدكتور عبد الحسين شعبان بوصفه مفكراً يسارياً نقدياً ومؤلفاً متعدد المجالات والإهتمامات طوال مايقارب نصف قرن.
استهل الشاعر حلمي سالم الذي قدّم الندوة وأشرف عليها كلامه قائلا:( عبد الحسين شعبان هو بإجمال سريع ينبوع مهم في تفاعلاته مع المؤثرات والمتغيرات العالمية، وجدل الفكر في العالم وقدرته الحيوية على متابعة خطاب العقل  وحركيته. ومن ناحية أخرى، إهتماماته الإستثنائية بحقوق الإنسان التي أعطته مثل هذا الإتساع الفكري الذي مارسه في إيديولوجيته الأولى، والتي أتسع فيها لكي تصبح فكرا منقودا وناقدا في نفس الوقت، ربما أخذت منحى متوازياً مع كونه قانوني كبير وحقوقي كبير عربي وعالمي، وله في هذا الشأن انتاج غزير يضيق الوقت عن سرده كما إنه محب كبير للأدب وله كتاب معروف عن الجواهري شاعر العراق والعربية الأكبر. وواصل حلمي تقديمه: وأخمن أن الدكتور شعبان في بداية حياته كان يكتب الشعر ليصبح فكره متسعاً وحراً وشفافاً إلى هذا الحد، "ثم أشار الشاعر حلمي سالم إلى طبيعة الكتاب المطروح هنا على طاولة النقاش ثم ارتأى أن يوزع أدوار هذه الندوة في ضوء التسلسل المنطقي المطلوب طالبا أن يقدم الكاتب خضير ميري عرضاً سريعاً وموجزاً للكتاب ثم يتاح الوقت للباحث والمفكر المصري حلمي الشعراوي "مدير مركز البحوث العربية والافريقية في القاهرة" لإلقاء الضوء على جوانب نقدية للكتاب المتاح أمامنا.
وهكذا راح الكاتب خضير ميري يستعرض  كتاب تحطيم المرايا في الماركسية والإختلاف قائلا (أن هذا الكتاب هو تقديم المفكر عبد الحسين شعبان في ضوء منطق الحوار الجدلي المنقود من خلاله هو الماركسية، وإن المتن الحواري المشغول عليه هنا، إنما يتضمن أولا مناقشة فكرة الحوار ذاته كونه مكملا لعمل الثنائية المعروفة بالقراءة والكتابة، ومن المفروض أن نضيف لها بعداً ثالثاً هو القراءة والحوار، وأن الثقافة ليست عملية ثبوتية أو علاقة ثنائية متلازمة بين الكاتب والقارئ فحسب، ولكنها انفتاح على نص آخر غير مقروء بعد أو سائد عندنا هو الكتاب الحواري وهو أشد صعوبة من التأليف الكتابي الجاهز، وأنا من هنا أرتأيت أن أبحث في الحوار المدوّن في هذا الكتاب عن المنطق الجدلي في فكر عبد الحسين شعبان والذي وجدته في مقولة أو مصطلح ثبتنا عليه في حوارنا المشترك وهو "الوضعية النقدية ".
ثم يضيف ميري تعريفاً مقتضباً للوضعية النقدية قائلاً: الوضعية النقدية عند عبد الحسين شعبان تتمثل في كونها نظرية القراءة النقدية على المتن الماركسي والبحث عن امكانيات القراءة النقدية من داخله، ولعل الوضعية النقديةهي نوع من التفكيك الذاتي لعمل الأفكار داخل المتن الماركسي باعتبار أن ماركس كان ناقدا أكثر منه مؤلفاً ذاتياً وأن نقده على النقد أو قراءته على المنقود من الافكار في عصره هي الميزة الأهم لوضعية ماركس النقدية التي أهملناها وتجردنا منها بالوقوف على الماركسية وحدها كونها كل ما لدى ماركس لكي يقوله ولم نقرأه هو بدوره قراءة ماركسية نقدية.
الأستاذ حلمي الشعراوي المفكر اليساري المعروف آثر أن يبدأ مداخلته من الجانب الجدلي لماركس معيباً عليه ضعف قراءاته التاريخية قائلا: أن ماركس لم يكن قارئاً جيداً لتاريخ الشعوب وهذا سر أهماله للكثير من بنيات وتراكيب الشعوب الأخرى وأكتفى بما بين يديه وأننا تعاملنا مع الماركسية على ضوء المادية التاريخية ومن الناحية السيوسيولوجية والإنثريولوجيا كانت ضعيفة، كما أن ماركس كان اقتصادوي بالدرجة الأولى وأن هذه النظرة هي التي دفعت خروشوف الى إعلان نهاية التاريخ بالماركسية قبل فوكوياما بسنوات طويلة وأننا لو كنا جدليين كفاية لاكتشفنا جدليتنا نحن دون أن نكون ماديين تاريخيانين خالصين.

ومن هنا فان في كتاب عبد الحسين شعبان تكون الوضعية النقدية هي العامل الأهم في فهم الماركسية بوصفها وجهة نظر جدلية عقلية، وأننا عبر هذه القراءة الوضعية النقدية نكون قد أعدنا الإعتبار للقراءة الماركسية المتجددة للماركسية من داخلها.
بانتهاء مداخلة الباحث والمفكر المصري حلمي الشعراوي أصبح الحضور بحاجة إلى الإطلاع على تعليق الدكتور عبد الحسين شعبان والذي ابتدأ كلامه  بتقديم الشكر لأسرة مجلة أدب ونقد والقائمين على هذه الندوة، مذكّرا بأن هذا الكتاب لم يصدر إلا منذ شهر ونصف الشهر وأن أول ندوة أقيمت له في بيروت في قصر اليونسكو وبحضور المفكر السعودي يوسف مكي والمفكر الفلسطيني سلامة كيلة والأمين العام المساعد للحزب الشيوعي اللبناني سعد الله مزرعاني والفنان والناقد د.عمران القيسي الذي أدار الندوة ونظّم الحوار.
استهل المفكر شعبان حواره بالقول كما قال ماركس :كل الذي أعرفه بأنني لست ماركسياً وهو ليس براءة أو استقالة من الماركسية أو التنكر لتاريخ كما يعتقد البعض، بل إعادة القراءة بالتخلي عن ماركسيتنا الرثة الصنمية، ولغتها الخشبية، وإعادة الروح والحياة لها. وقلت في حينها أن هذا القول الذي قاله ماركس في حوار له مع برودون هو قول ربما يذكّرنا بحوار جرى بين التوسير وفوكو عندما زاره هذا الأخير في المصحة العقلية، عندما سأله فوكو هل مازلت ماركسياً فأجابه التوسير وماذا تكون أنت بدونها؟
من هنا أنطلق إلى أهمية مراجعة ماركسيتنا الريفية والبدوية والقائمة على الإعتناق المباشر لماهو سائد دون مراجعته بينما يتطلب الأمر أن نتطلع إلى الماركسية النقدية، والمنهج بنقده لا بدوغمائيته وفي كل نص هناك قراءات متعددة، والمهم هو حجم النقد في كل قراءة. فماركسية القرن العشرين انتهت والماركسية السائدة نفسها تحجرت وتحولت إلى ماركسية لاهوتية معلبة، بينما تتجلى قيمة ماركس بقضيتين أساسيتين هما الجدل الماركسي أولاً ونظرية صراع الطبقات وفائض القيمة ثانياً، ونحن تمسكنا بنظرية صراع الطبقات بالشعارات وتخليّنا عن المنهج الجدلي نفسه لأن هذا الأخير هو الذي يساعدنا على فهم التخالقات والتراكبات، وعلينا أن ننظر لماركس كونه قارئاً لخطاب عصره وما توفر له شخصياً من معرفة أعانته في حدود تجربته العمرية على التوصل الى ماتوصل إليه، بينما كان علينا أن نهتم ونعنى وننشغل بكمية النقد المبذولة في الماركسية وليس أن نقف عند حدود هذا الجدل، كما كان يفعل لينين في استدعاء ماركس من القبر لكي يدعم "تحزبه" او تصوراته الايدولوجية.
إذا أردنا أن نتحدث عن ماركسية القرن الواحد والعشرين يجب أن تكون ماركسية من نوع آخر وأن ابرز مقولة للماركسية هي الحرية وأن الحرية حسب غرامشي وماركس من قبل هي فهم الضروة، والحرية اليوم تتطلب من الناحية الفكرية أن نقرأ ماركس بحرية كبيرة وأن نلتفت الى ما أهملته الماركسية أو صادره المتمركسون الكبار والصغار.
وقال شعبان: إن ماركس لم يقرأ الجماليات ولم يولِ علم النفس اهتماماً ولم يقرأ الدين جيداً ولم يخوض به كما يجب، وهكذا فإن قراءة ماركسية اليوم تتطلب إعادة النظر بالقراءة النقدية لها، وهذا القصور ظل ملازماً للماركسية بموديلها السائد، وقد تطرق عبد الحسين شعبان الى جوانب مختلفة في القصور الماركسي في التطبيق الشيوعي مشيراً الى انصراف الماركسين للعمل الحزبي وعدم قراءتهم للمتن الماركسي جيداً أو العودة إلى المصادر الماركسية نفسها لإعادة قراءتها بروح نقدية وماركسية جديدة، الأمر الذي سبب مثل هذه الاختلالات البنيوية على صعيد الفكر والممارسة وقد ختم كلامه مشيراً الى تساؤلات جاك دريدا في كتابه الشهير "أطياف ماركس " بخصوص سؤال الماركسيات لا الماركسية الواحدة وهي أطياف خرجت من ماركس وأندست فيه .
شخصيات فكرية ذات تاريخ ماركسي معروف قدمت مداخلات مهمة بعضها مؤيدة لمتن المحاضرة وفحوى الكتاب المثير للجدل لاسيما مداخلات الباحثين عبد المشكور حسين وصلاح عدلي رئيس مركز الدراسات الإشتراكية، الذي أثنى على مفهوم الوضعية النقدية وذهب الى تساؤلات حيوية حولها وقدم الباحث خالد يوسف مداخلة قصيرة وبعض التساؤلات كما اختتم الباحث احمد كامل التعقيبات بالثناء على تقنيات المنهج وقد طالب بعض المداخلين باجراء أمسية ثقافية أخرى لإستيفاء الكتاب حقه من الحوار والنقاش بالمستقبل القريب.

بقلم اسراء خليفة
صحافية عراقية في جريدة الصباح



1177
د شعبان يتحدث عن المرأة والسياسة في حياة الجواهري
 
 


الجمهور يحاور
المفكر والأديب الدكتور عبد الحسين شعبان
حول
المرأة والسياسة والإبداع في حياة الجواهري


•   الدكتور شعبان مفكر وأديب عراقي له مؤلفات كثيرة بينها كتابان عن الجواهري، الاول بعنوان: " الجواهري في العيون من أشعاره " (1986)، والثاني بعنوان: " الجواهري: جدل الشعر والحياة" (1996)، وهو من أبرز المختصين والمهتمين بالجواهري وقد القى محاضرة في 12 تموز (يوليو) 2008 في أتيليه القاهرة تحت عنوان: " الجواهري الكبير: رؤية شخصية وذائقة أدبية !"، كما ألقى محاضرة في اتحاد كتاب مصر في 30 آب (اغسطس) 2008، وتمكنت شبكة الوليد من الدخول في حوار معه حول الجواهري شاعر العرب الاكبر،وبامكان الجمهور المشاركة في هذا الحوار سواءا باضافة معلومات ارى تخص المبدع الراحل او نقاشات مع د شعبان.
•   وأسئلة المدخل موجهة من شبكة الوليد



• كيف بدأت علاقتك بالجواهري ؟
    يمكن القول أنها مرت بثلاث مراحل:
الأولى: هي مرحلة الطفولة  وهي المرحلة التخيلية، فعندما كنت أذهب الى مدرستي الابتدائية (مدرسة السلام) كنت أمرُّ يومياً تقريباً من أمام جامع الجواهري، الذي مضى على بنائه أكثر من مئتي عام وذلك في منطقة (القباب الزرق) في محلة العمارة في النجف، ومنطقة القباب الزرق تضم قبور آل كاشف الغطاء وآل بحر العلوم وآل الجواهري. وقد ارتبط اسم الجواهري بذهنيتي الطفلية باعتباره شاعر التحدي، وهو ما كنت اقرأه وأسمعه ويقع نظري عليه، في مكتبات الأخوال والأعمام العامرة، والتي تحوي لا على قصائد الجواهري ودواوينه، بل قصاصات وأخبار وحكايات عن حياته وطرائفه ومعاركه. وما زال خالي جليل شعبان، المحامي والشاعر يحفظ الكثير منها، ويمكنني القول انه من القلائل حالياً الذين يعتبرون من رواة شعر الجواهري ومريديه الكبار!
الثانية: مرحلة المشاهدة، وكان ذلك عند مشاهدتي الجواهري لأول مرة، حدثاً كبيراً في حياتي، لاسيما وأن الشعر كان أحد الروافد الروحية، والثقافية الذي ساهم في تكوينه، وحاولت أن أقارن بين المرحلة الأولى المتخيّلة بشخصية الجواهري وبين المرحلة الحسّية المباشرة، حيث كنت أمامه وجهاً لوجه، وهو ما دفعني لمقارنة المتخَيَّل بالواقع، ومدى انطباق الصورة عليه.


الثالثة: المعرفة المباشرة والصداقة، وهي مرحلة جاءت بعد انتظار غير قصير، واتسمت بعلاقة تعمّقت مع مرّ الأيام، لاسيما في براغ في السبعينات، وفي دمشق في الثمانينات، وما بعدها. وقد رويتُ  بتلقائية وعفوية حدود تلك العلاقة في كتابي " الجواهري : جدل الشعر والحياة".
ورغم رحيله فما زلت أعيش لا على ذكراه حسب، بل معه، أستعين به ليردّ عني كربتي وليخفف أحزاني، بشعره أستطيع الدفاع عن النفس أيضاً، فهو سلاح ماضٍ تحتاج اليه في كل الأوقات.

• كيف يكتب قصائده ؟

                              حين تولد القصيدة يشعر الجواهري انه يولد من جديد، وقد تكون ولادة عسيرة في كل قصيدة، لدرجة انه بعد الانتهاء منها يشعر وكأنه يكتب الشعر لأول مرة (أي والله كما يقول) ويتعجب الجواهري من ذلك، مثلما هو البطل المسرحي حين يواجه الجمهور. ففي كل مرة يشعر بالرهبة، وعندما تكتمل القصيدة يشعر بالنشوة. وتكتمل قصيدة الجواهري عندما يلحنها ويغنيها. يقول الجواهري: إعتدت على ذلك في النجف منذ البدايات، فحين كانت تداهمني القصيدة، أنزل الى السرداب، أحدو ثم أطرب وأدخل بعدها في ملكوت الشعر، في عالمه السحري وعندها يكتمل البناء متجمّلاً بالشكل أعود الى نفسي وأضحك معها أحياناً.. أحقاً إنني كنت هنا!!؟
ويضيف الجواهري في حوار مع الكاتب منشور في كتابنا: الجواهري- جدل الشعر والحياة، 1997: يخيّل لي وأنا أرقص في باحة القصيدة ان شيئاً من الجنون قد مسّني أو أن نوعاً من الخبل قد اعتراني. إن شيئاً ما يحدث لا أعرف كنهه حين تنتابني الحالة وأدخل مملكة الشعر، أحياناً تراودني حالة هيجان وصراخ حتى تهدأ روحي باكتمال الولادة.
في بغداد كان جارنا السيد محمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة العراقي بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، يتعجّب هو وأهله على الذي يجري في بيتنا أحياناً، إذا ما صادف وهبطت عليّ القصيدة. وعندما كانت شياطين الشعر أو ملائكة الفن تنزل عليّ فلا اريد لأحد أن يقطع سلسلة أفكاري والاّ أنفجر... اريد عالمي الخاص، لا أريد لأي كان أن يشاركني فيه، حتى العائلة أدعوها لتذهب الى أي مكان.
ويقول الجواهري: الشاعرية تولد في الارحام فمذ كنت جنيناً، كنت أسكن في حضرة الشعر. لقد كان البيت الجواهري يحمل صولجان الشعر، حيث يمسك بقيثارته أكثر من رمز، ويكاد الشعر يتملّكه منذ الصغر، ورغم أن العائلة كانت تريده أن يدرس الفقه الاّ أن الشعر تمكّن منه. وكان يحفظ دواوين كبار الشعراء، حيث كان برنامجه اليومي هو " حفظ الشعر" وحفظ ديوان أبو العلاء المعرّي وكان شديد الاعجاب بالبحتري وقرأ البيان والتبييّن وكذلك كتب ابن المقفع وغيرها. ولم يكن عمره يزيد على 12 عاماً، كان شعوره مذ كان طفلاً انه يحلّق في فضاءات أخرى ويطير الى عوالم بعيدة!!

متى تحل اللحظة الشعرية على الجواهري؟ وهو سؤال لا يمكن أن نتصوره بمعزل عن الشاعر، فربما ان الامر مختلف حسب المكان والزمان. لكن الاستلهام الذاتي مهم جداً، كما يفعل الرسام حين يستخدم الألوان ويطوّع الريشة، أو كما يفعل الروائي حين يصف المكان ويتابع تفاصيل شخصياته وحبكته الدرامية... الأمر كان يلاحقه حتى يكاد يهبط عليه بدون إرادة. فتراه يغني بحرقة وحرارة، وحين تأتيه إشارة غامضة يتفجّر غضباً ويملأ المكان جنونه، وكنت أسأله عن اللحظة الشعرية، فإذا به يجيبني إن الملكوت يناديه فيستجيب وتخرج بمعاناة فائقة.
وعدت لسؤاله حول اللحظة الشعرية فأجاب: أتريدني أن أقول لك يأتيني الوحي !؟ لا أدري ماذا أسمّيه؟ فقد تفجّرت "دجلة الخير" بملحميتها المعروفة، كلّها في ليلة واحدة في براغ، تصوّر ليلة واحدة تفجّر في داخلي ينبوع لا يرضى بالتوقف، حتى اكتملت... فماذا تسمي ذلك!؟

•        ما أجمل قصيدة قالها الجواهري؟

              قصائد الجواهري مثل السبائك الذهبية، لكن الجزء الأكثر شاعرية وإبداعاً، هو فترة الاربعينات، فقد مثّلتْ تلك، مرحلة  العنفوان والريادة، فقصائد مثل " بنت بيروت" و" ستالينغراد" و" أبو العلاء المعري" و" ذكرى أبو التمن"  و"المقصورة" و"آمنت بالحسين" و"هاشم الوتري" تمثّل ذروة مرحلة الاربعينات، لكنني في الوقت نفسه لا يمكن أن أهمل قصيدته الرائعة التي لو كتبها لوحدها، فقد استحق لقب الشاعر الأكبر هي " يا دجلة الخير" في مطلع الستينات، وكذلك قصيدة " لبنان يا خمري وطيبي"، و"كردستان" و"أرح ركابك" وهي كلها  قصائد ستينية، أو قصائد السبعينات، مثل " لُمي لهاتيك لما" و"أزح عن صدرك الزبدا" و"ذكرى عبد الناصر" وقصيدته العصماء "يا ابن الثمانين" و"ماذا أغني"، وهي قصائد ثمانينية.

•        ما هي أهم سمات الجواهري الشخصية، وهل تنطبق عليه القصيدة الجواهرية؟

              عاش الجواهري في صلب المتناقضات الاجتماعية حيث، البيئة النجفية الشديدة الصرامة، والتقاليد القاسية.. وقد انعكست عليه وهو يتخطى الحواجز والمحرّمات ولكن بأثمان باهظة أحياناً
وتركت القيود الثقيلة تأثيراتها  الكبيرة عليه، لكنه في الوقت نفسه استفاد من الخيال القرآني الذي يفرضه الوسط الديني، وتستطيع أن تلحظ دون عناء كيف أن قصائده مرصعة به باستمرار، بل إنه لا يستطيع الفكاك منه. وبالتأكيد فالتراث القرآني، خصباً وجميلاً ومغرياً، انه في الوقت ذاته يوحي بخيال  متفجر " جنة تجري من تحتها الأنهار" ! ، " الحور الحسان"" و" طور السنين وهذا البلد الأمين"، الزيتون والعنب وما تشتهي، كان هذا هو الأفق الذي يصبو اليه الجواهري، حيث وجده مرة واحدة في سفرته العتيدة الى مصايف إيران التي كتب فيها قصيدته الشهيرة، والتي جاءت بالبلاء عليه، بسبب تفسيرات مغرضة.
يقول الجواهري: حتى إذا ما ذهبت الى إيران للاصطياف لأول مرة في العشرينات كانت الجبال الشاهقة تهزّني، أما البيئة النجفية فكانت وراء قصائدي، فالحرمانات والتزمّت ولّدت لديّ مفهوماً إنسانياً نقيضاً ورغبة في التغيير، وهو ما رافق قصائدي، ولا بدّ هنا من الإشارة الى الفسيفساء الحضارية والثقافية لمدينة النجف، بحكم الاختلاط لأقوام وشعوب وآداب متنوعة.
التأزم كان خاصية الشاعر فما بالك بشاعر مثل الجواهري المبدع والمتميّز، وكان هذا ديدن دعبل الخزاعي وابن الرومي والمعري، والمتنبي. يشعر الجواهري انه في غضب خلاّق، نتيجة التأزم العارم والجارف والمضيء، فهو حتى في الغزل تكاد تتلمس حرارته حين يقول القصيدة، فتراه عاشقاً مولهاً بكل معنى الكلمة.
أعود الى التناقض، فهل هي سمة ملازمة للجواهري وللقصيدة الجواهرية؟ فمن قصائد الاقتحام الثورية الى قصائد المديح، أم أن " حب الحياة بحب الموت يغريني" على حد قوله.. كيف يجعل حب الحياة متلازم بحب الموت!؟ هل هو ديالكتيك الطبيعة، كما نسميه أم ماذا؟ ولعل هذا الهارموني الجواهري هو من سمات قصائده بامتياز.
يا نديمي وصبَّ لي قدحاً

      ألمِسُ الحزن فيه والفرحا



كان الجواهري ابن المتناقضات والتعارضات على كل المستويات وبالمناسبة فهو يرغب في أن يقرأه الناس ويعرفونه بذلك، أي باعتباره وليد التناقض والتعارض، حيث ولد في بيئة متناقضة، ولذلك ترى الصعود والنزول لديه وهي حالة انسانية، ولكنه رغم ذلك لم يكتب يوماً بهدف الانتفاع، أو المديح لغرض الحصول على الكسب، ولو فعل ذلك لكان هو غير ما أصبح.
ولعل الجواهري في حوارات مع الكاتب كان قد قال لقد اغتصبت ضميري مرة واحدة في إشارة الى قصيدة " ته يا ربيع" في تتويج الملك فيصل الثاني وعاد وعالج الموضوع بعد أيام بكتابة قصيدة كفارة وندم، انه اعتراف صريح دون وجل أو خوف من أحد، بل تلك إحدى سجاياه، حيث كان شجاعاً في نقد الذات.
إذا كان " الجواهري " يُعرف بالشاعر الناري، الثوري، الاقتحامي، المتوثب، لكنه هو من كتب سبع قصائد بحق الملك فيصل الأول. وفعل ذلك بإرادته ودون رغبة في الحصول على طمع أو جاه أو مال. قام بذلك لأنه كان يعتقد لحظة ذاك بأن موقفه سليماً، وشعر أنه يوفي دينأ بعنقه، خصوصاً وانه وقف مع الجواهري، ضد النعرات العصبية والطائفية، التي حاولت النيل منه ومن انتمائه الوطني. ولهذا رداً للجميل، قال ما قال في " الملك الجليل"، كما يسميه انتصاراً للحق بعد حادثة ساطع الحصري الشهيرة، وهذا الشعور ظل يصاحبه لاسيما الاحساس بالجميل وعمل الخير ورد المعروف، واستمر حتى آخر أيام حياته.
وفي الوقت نفسه ضاق ذرعاً بالبلاط الملكي، الذي لم يتسع له وترك النيابة وفرّط بالوزارة، التي كانت الاشارات تأتيه لدخولها كمرحلة لاحقة، فقد قرر الوقوف في صف الناس مرة واحدة والى الأبد. وقرر أن يكون شاعراً لا وزيراً أو حتى رئيساً للوزراء. وكان بعض من لبس العمامة قد وصل الى الوزراة، في حين أنه نزع العمامة بقناعة ورفض عوامل الرخاء والاغراء والسلطة والأبهة والمنافع واختار ان يكون " الجواهري" والجواهري فقط وذلك يكفيه. لقد اختار الشعر وكسب نفسه والعالم، وهكذا سار شلال حياته اللاحقة.
كان الخروج من الدائرة الصعبة (البلاط) يسبب احراجاً كبيراً لكن بقاءه كان يعني اندثاره او تدجينه، لاسيما وقد بدأ بالتمرد بقصائد نارية وغزلية. وفي خروجه وجد عوالم فسيحة، ضاجّة بالحياة والحركة والتناقض أيضاً تنتظره!!
عجيبٌ أمرك الرجرا
تضيقُ بعيشةٍ رغدٍ
ولا تقوى مصامدةً           

ج لا جنفاً ولا صددا
وتهوى العيشةَ الرغدا
وتعبُدُ.. كلَّ من صَمَدا           



أليس عجيباً هذا التناقض. دخل البلاط ثم ضاق به ذرعاً، وسعى للنيابة ودخلها ثم استقال وانضم الى صف الناس بعد معاهدة بورتسموث عام 1948 مع بريطانيا ومقتل أخيه جعفر، وتعرض خلال حياته لحملات شتم لاذع، ودناءات واراجيف، لكن ذلك ظل ديدنه في الحياة، حيث كان متحدياً معتدّاً بنفسه، يطلب الأشياء  ويضجر منها ويتركها بعد أن يسعى اليها:
أزِحْ عن صدرِكَ الزْبَدا              ودعْهُ يبثُّ ما وَجَدا              
الى أن يقول :
أأنت تخافُ من أحدٍ
أتخشى الناسَ، أشجعهمْ
ولا يعلوكَ خيرُهمُ

أأنت مصانعٌ أحدا
يخافُك، مغضباً حَرِدا
ولستَ بخيرِهم أبدا


 تعرّض الجواهري خلال حياته الى حملتين كبيرتين الأولى ترافقت مع الأيام الاولى لبدء تدفق النفط للتصدير في بئر باباكركر (كركوك) 1927 حين كان شاباً، متمرداً، بهدف نزع هويته الوطنية والقومية كما يذهب الى ذلك الكاتب حسن العلوي، والثانية بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، حين اعتبر في مقدمة معسكر اليسار العراقي، لكن التحدي كان ملازماً لأبي فرات ولكنه كان هو الذي يختار خصومه ويحدد المعركة وشروطها.
وشاعر مبدع كالجواهري كان يعيش في صميم الاحداث  يتأثر بها ويؤثر فيها، وحتى، وإن لم يكن سياسياً فقد كان مع عامة الناس وما كانوا يتأثرون به، ويتفاعل معهم، ويحاول أن يعبّر عن تأثرهم بطريقته الخاصة. عندما حدثت وثبة كانون الثاني (يناير) 1948، ضد معاهدة بورتسموث، ووقعت معركة الجسر الشهيرة، وسقط أخوه جعفر، الذي استشهد كان يجد نفسه بعد سبعة أيام وفي جامع الحيدر خانة (14 شباط/فبراير) ينشد:
أتعلم أم أنت لا تعلمُ
فمٌ ليس كالمدعي قولةً
يصيحُ على المدقعين الجياع
ويهتفُ بالنفر المهطعين

بأن جراح الضحايا فمُ
وليس كآخر يسترحم
أريقوا دماءكمُ تُطعموا
أهينوا لئامكم تُكرموا

الفترة التي سبقت ثورة 14 تموز (يوليو) كانت حامية، حيث فُرضت الاحكام العرفية وأعدمت بعض القيادات الشيوعية لأول مرة (فهد وزكي بسيم وحسين الشبيبي) في 14 شباط(فبراير) 1949 وتم تأسيس الحلف التركي- الباكستاني ومركزه بغداد 1955، والذي عُرف باسم " حلف بغداد"  بدعم من الغرب. كان التوتر والمواجهة ملازمات لتلك الفترة، وتقلصت بعض الهوامش التي كانت موجودة قياساً للعهود التي تلت ذلك، واصبحت شحيحة لدرجةالاختناق.
وقد اثارت قصيدة هاشم الوتري " ايه عميد الدار" في حزيران (يونيو) 1949 ضجة كبرى ولها قصة خاصة، فقد ألقيت بمناسبة انتخاب الدكتور هاشم الوتري (وهو عميد الكلية الطبية العراقية) عضواً للشرف في الجمعية الطبية البريطانية. وكان الجو السياسي محتدماً وجاءته الدعوة للمشاركة، لكنه تظاهر بعدم القبول، ولكنه كما يقول في حوارات مع الكاتب: كنت أرقص وراء التلفون وكنت أقول جاءت " يا هلا بيها"، فقد كنت قد عزمت على المواجهة. ويضيف الجواهري: صعدت الى سطح الدار وكنت مستلقياً على فراشي، لكنني كنت محتدماً وكانت الاشارات الغامضة تأتيني لتزيدني اشتعالاً، فوجدت نفسي منبطحاً أحدو، كما هي عادتي، وعندما وصلت المورد الذي يبدأ بـ
" إيه عميد الدار شكوى صاحب     طفحت لواعجه فناجى صاحبا"
حتى هتفت زوجتي " أم نجاح" (عوافي أبو فرات ..أ"كله) وهي عادة ما تقال لعدم الاكتراث بالنتائج وتعني باللهجة العراقية.. ليكن ما يكن وانت تدخل المعركة وتقبل التحدي، ثم يتسلق الجواهري قمة التحدي:
حشدوا عليّ المغرياتِ مسيلةًَ
بالكأس يقرعها نديمٌ مالئاً
وبتلكم الخلواتِ تمسخُ عندها
وبأنْ أروحَ ضُحىً "وزيرا" مثلما
ظنا بأن يدي تمدُّ لتشتري               صغراً لعابَ الأرذلين رغائبا
بالوعد منها الحافتين وقاطبا
تُلْعُ الرقابِ من الضباء ثعالبا
أصبحتُ عن أمرِ بليل "نائبا"
سقط المتاعِ، وأن أبيعَ مواهبا



 أو قصيدته في القاهرة 1951

خلّــي الدم الغالي يسيلُ         هذا الدم المطلول يختــ      إن المُسيــل هو القتيـــلُ              ـــتصر الطريق به الطويــلُ

أو قصيدته في مؤتمر المحامين العرب، الذي انعقد في بغداد في العام ذاته، التي أثارت ردود فعل حادة من جانب الحكومة العراقية، حيث أقامت الدعوى على مدير الجريدة المسؤول المحامي عبد الرزاق الشيخلي، كما أقامتها على الجواهري، لكنه تم الافراج عنهما. ومنها :
سلامٌ على جاعلين الحتو
سلامٌ على مثقل بالحديد
كأنَّ القيودَ على معصَميه

فَ جسراً إلى الموكب العابرِ
ويشمخُ كالقائد الظافرِ
مفاتيحُ مستقبلٍ زاهرِ



أو القصيدة التي ألقاها في دمشق بمناسبة الاحتفال التأبيني للشهيد عدنان المالكي عام 1956، واضطر بعدها البقاء في دمشق، لما أثارته من اشكالات والتي يقول فيها:
خلّفتُ غاشية الخنوع ورائي

      وأتيتُ أقبسُ جمرةَ الشهداء



الى أن يقول :
أضحية الحلف الهجين بشارة
أسطورة"الأحلاف" سوف يمجّها التا

لكَ في تكشفِ سوءة الهجناءِ
ريخ مثل خرافة "الحلفاء"



لعل العدّة الفكرية والسياسية مثلت عناصر التحدي المستمرة التي كان الجواهري ينزل بها الى الميدان دون حساب للعواقب. صحيح ان لكل قصيدة ظروفها ونشأتها لكنه بطبعه الحاد والمتأزم والمتوتر كان يقود رد الفعل تبعاً لحالته النفسية. فأحياناً يلتقي توتره الشخصي مع التوتر السياسي، فتراه يهلل في داخله، يقول قصيدته وليكن من بعده الطوفان. ورغم الاساءات ومحاولات النيل منه، فهو القائل عن نفسه أو مخاطباً نفسه متحدياً:
تسامي فإنك خير النفوس
وأحسن ما فيك أن الضمير

      إذا قيس كل على ما انطوى
يصيح من القلب: إني هنا!




حوار مع الدكتور شعبان أجراه الصحافي وليد الزبيدي ونشر في شبكة الوليد للاعلام نيسان /ابريل 2009

1178
في حوار مع مفكر استراتيجي عراقي

حسين شعبان : فشل المشروع الأمريكي سياسيا في العراق دعا أوباما الى الانسحاب

عملية الانسحاب خاضعة لتقديرات العسكريين وربما تأجلت العملية


 
هناك تقديرات استراتيجية تقول ان الاحتلال سيترك أربع قواعد عسكرية في العراق
تكلفة اعادة اعمار العراق اكثر من 9 تريليونات دولار لا نملك منها سوى 79 مليارا فقط
المعاهدة الأمنية مع أمريكا وضعت العراقيين في خانة الارهاب
حاوره - أسعد العزوني
(18/4/2009)
قال المفكر الاستراتيجي العراقي د. حسين شعبان أن  فشل المشروع السياسي الأمريكي في العراق هو الذي دعا الرئيس أوباما الى الانسحاب من العراق لكنه أضاف مستدركا أن عملية الانسحاب مرهونة لتقديرات العسكريين في الميدان وربما تتأجل العملية.
وأوضح د. شعبان أن الاحتلال في حالة مغادرته سيترك أربع قواعد عسكرية واحدة في كردستان للتجسس على ايران وتركيا وسورية والثانية قرب بلد, والثالثة في الجنوب والرابعة هي السفارة الأمريكية في بغداد.
وبين المفكر العراقي أن تكلفة اعادة اعمار العراق تبلغ  أكثر من تسعة تريليونات دولار لا تملك الحكومة منها سوى 79 مليونا فقط.
 
وفيما يلي نص الحوار:
* بعد المستجدات الأخيرة المتمثلة بالادارة الأمريكية الجديدة..العراق الى أين?
- هناك ثلاثة أسباب دفعت الادارة الأمريكية لاعلان انسحابها من العراق وهي: فشل المشروع الأمريكي سياسيا في العراق وهو السبب الأساسي والرئيسي رغم نجاحه عسكريا في الفترة الأولى بالاطاحة بالنظام السابق, لكنه سجل فشلا سياسيا ذريعا.
أما السب الثاني فهو الخسائر الكبيرة  المادية والمعنوية التى  تكبدتها أمريكا في العراق ناهيك عن خسارة سمعتها في حين أن السبب الثالث وهو مهم جدا, ويتمثل بالازمة المالية والاقتصادية الطاحنة وهي التى دفعت الرئيس اوباما للتخلص من التركة الثقيلة وقناعته أن العراق لم يعد أولوية استراتيجية كبرى لأمريكا.وأن الاستراتيجية الكبرى هي تطويق الأزمة الاقتصادية والمالية, وخصوصا أزمة الرهن العقاري والشركات الكبرى وفي مقدمتها شركات التأمين والمصارف والبنوك.
أما على صعيد المنطقة فان مكافحة الارهاب والتصدي لتنظيمات القاعدة في أفغانستان تقدمت على الوضع العراقي في الوقت الحاضر.
ما يزال هناك نوع من الارهاص والقلق والالتباس في الوضع العراقي, والسؤال هنا: كيف ستستطيع النخب السياسية العراقية التخلص من المأزق الحالي?رغم أن العملية السياسية تسير الى أمام, ولكن ببطء شديد وبعثرات غير قليلة.
لقد نجحت انتخابات المحافظات, والأقضية والنواحي, وأفرزت واقعا الى حد ما فيه تغييرات نسبية بتقلص الأحزاب, والقوى الدينية والطائفية ولكن هذا الوضع ما يزال يبعث على القلق.
وبخصوص الأطراف من خارج العملية السياسية فانها  تعاني أيضا, وكذلك الحكومة, والاحتلال, وحتى المقاومة نفسها, وهناك قسم من قوات المقاومة التحق بالصحوات وتعاطى مع المشروع السياسي الأمريكي بهذا القدر أو ذاك, الأمر الذي أضعف - بهذا القدر أو ذاك - من عمليات المقاومة مؤخرا, وعرضها لضربات وانكشافات بسبب تسرب قسم منها الى الطرف الآخر, ولكن الضمير العراقي والصميمية العراقية, ما تزال مقاومة, اذ أن الرفض وعدم القبول بالأمر الواقع, هو من متطلبات الوضع العراقي الذي يريد شيئا آخر غير الذي هو عليه حاليا.
* ما الاستعدادات العراقية لمرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي?
- حتى الآن لم تتضح الأمور, كما أن الانسحاب ليس واضحا بعد ,رغم أن الرئيس أوباما أعلن أن ذلك سيتم خلال 18 شهرا, بمعنى أن عملية الانسحاب ستستمر حتى شهر آب ,2010 لكن ذلك ما يزال خاضعا لتقديرات العسكريين على الأرض ميدانيا. وسيتم تأجيل العملية برمتها في حالة حدوث نكوص أو انتكاس ما.
وحتى الاتفاقية العراقية - الأمريكية التى ستنتهي عام 2011 لم تؤهل جيشا عراقيا قادرا على التصدي للتحديات الخارجية والداخلية فيمكن استبدالها باتفاقية أخرى, أو ببروتوكل آخر أمر ملحق لها, الأمر الذي يضع كل هذه العملية أمام تساؤلات وتحديات جديدة.
وما اعتقده أن القوى العراقية رغم التقدم الذي أحرزته العملية السياسية والتحسن النسبي الذي نلمسه في الوضع الأمني, الا أنها ما تزال غير متأكدة من قدرتها على حماية البلد من التحديات الخارجية والداخلية.ولذلك فان بعضا من هذه القوى تطالب القوات الأمريكية بالبقاء.
* هل من برنامج او مشروع عراقي محدد لعراق المستقبل?
- حتى الان لا يوجد مثل هذا المشروع سواء في المجالات المدنية والسلمية أو الحضارية أو حتى ديمقراطي لعراق المستقبل, هناك مشروع الأمر الواقع الذي يريد بقاء الحالة كما هي عليه في الوقت الحاضر أي أن  العملية السياسية بتقسيماتها المذهبية والأثنية والطائفية تبقى وتتحصن تدريجيا من داخلها. وهناك مشروع نقيض لهذا يريد اعادة القديم الى قدمه, ويمثله  أتباع النظام السابق والمتضررون السابقون.
وبالنسبة لي على أقل تقدير, فان الماضي احتضر وأن المستقبل  لم يولد بعد, وما نحن عليه مرحلة انتقالية لم تتبين ملامحها بعد, لكن هناك صراعات واحتدامات سياسية وفكرية وطائفية ودينية وإثنية داخل هذه المرحلة, وبالتالي فان استقرار الأمور يعتمد على الاستقطابات وتوازن القوى, وتعاون الأطراف السياسية مع بعضها بعضا, علما أن قناعتي ما أن سيرحل الاحتلال حتى تسبقه ان لم ترحل معه بعض الأطراف والقوى السياسية التى سجلت جزءا من المشهد السياسي العراقي.
* ما مصير القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في العراق بعد رحيل الاحتلال?
- يعتمد ذلك على وضع الوجود العسكري الأمريكي وهل سينتهي كليا من العراق أم لا? وتفيد التقديرات الاستراتيجية أن هناك أربع قواعد عسكرية ستبقى في العراق, وأبرزها قاعدة كردستان التى ستناط بها مهمة  مراقبة ايران وتركيا وسورية, والقاعدة الثانية قرب بلد وأخرى هي السفارة الأمريكية في بغداد, والقاعدة الرابعة في جنوب العراق.
هذه القواعد قد تبقى, وقد يتم اجلاؤها لا سيما بحصول نوع من الاستقطاب الداخلي ضد الاحتلال ومشروعه, اذا ما شعر الأمريكان أن وجودهم في العراق سيكون مكلفا, ماديا ومعنويا, بشريا وماليا, ربما سيفكرون في مغادرة العراق ويكتفون بحسابات سياسية واقتصادية.
* ما وجه العلاقة المستقبلية بين العراق وأمريكا?
- يعتمد ذلك على العديد من العوامل, وبالنسبة لي شخصيا, فان موقفي من أمريكا يتحدد ليس فقط بما فعله الاحتلال في العراق وانما بالموقف الأمريكي من اسرائيل, ومن الحقوق العربية الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني, وستبقى الحقوق الفلسطينية مشروعا قائما, ومستمرا ان لم يتحقق موضوع تقرير المصير وتقام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وسيبقى هناك نوع من الاحتدام والصراع والريبة والشك والتصادم أحيانا بين مشروعين, الأول مشروع تحرري ديمقراطي حقيقي ومشروع عولمي رأسمالي امبريالي يريد فرض الهيمنة والاستتباع على المنطقة برمتها وليس على العراق فقط.
* هل هناك خطة وطنية لاعادة اعمار العراق وما التكلفة المتوقعة?
- أستطيع القول أن أي خطة وطنية لاعادة الاعمار تتطلب استتباب الوضع الأمني بالدرجة الأولى, وكما هو معروف فان رأس المال جبان, وهو على استعداد للهرب عند  أي خلل امني وبديهي أن استتباب الأمن في العراق, يتحقق برحيل الاحتلال.
الأمر كذلك يتطلب حل المليشيات واعادة هيبة الدولة, وضبط النظام والأمن العام, وان لم يتحقق ذلك فلا يمكن الحديث عن خطط طويلة الأمد لاعادة الاعمار.
هناك دراسات أولية تفيد أن عملية اعادة الاعمار تتطلب نحو تسعة ترليونات دولار وعلى مدى عشر سنوات, وما يتوفر لدى العراق  حاليا سوى 79 مليار دولار فقط.
ويتطلب الأمر دعما عربيا ودوليا واقليميا على حد سواء, لأن استقرار العراق, سيؤدي الى استقرار المنطقة العربية وسينعكس اعمار العراق ايجابا على عموم دول المنطقة.
* ما تبعات المعاهدة الأمنية مع أمريكا?
- هناك ثلاث تبعات رئيسية الأولى تتعلق بان كل العراقيين مستهدفون, وقد ورد في المادة  الرابعة: أنه يمكن ملاحقة الارهابيين, ولا تعرف من هو الارهابي.وكذلك الخارجين على القانون ولا تعرفهم وفلول تنظيم القاعدة وأنصار النظام السابق.وبهذا المعنى, فان كل العراقيين مشمولون بالملاحقة.
وهناك امر آخر مهم وهو أن الولاية القضائية العراقية لن يتم تطبيقها على الجنود الأمريكيين وهذا يعني أن الأمريكي القاتل والمجرم بعيد عن المحاسبة القانونية العراقية, وهذا نقص فادح في السيادة العراقية. وفي المستقبل العراقي.
صحيح أن المعاهدة تقول انه لا يمكن تمديدها لكن اذا لم تتم اعادة تأهيل الجيش العراقي فما الذي يمكن منع الحكومة العراقية باستبدالها بمعاهدة اخرى? وكما هو معروف فانه لم يتم بناء سوى 10% من الجيش العراقي, وهذه النسبة هي اتحاد ميليشيات بينها جيش المهدي, ولواء بدر, والبيشمركة وتنظيمات الصحوات, وجماعة الحزب الاسلامي, وحزب الدعوة.فما بالك والمعاهدة مدتها  ثلاث سنوات, وهذا يعني استحالة اعادة تأهيل الجيش العراقي في هذه المدة باعتراف القيادات العسكرية الأمريكية.
* كيف تنظرون الى التسلل الاسرائيلي الى العراق ولماذا?
- مجرد حل الجيش العراقي, فان فرصة كبيرة سنحت ليس لاسرائيل المتحفزة, بل لاجهزة الاستخبارات في العالم كافة وذلك لأهمية وتأثير العراق الذي لديه ثروات كبيرة, ولذلك فان من الطبيعي تسلل اسرائيل الى العراق.خاصة وأن العراق حتى الآن - رغم وجود حكومات ممالئة للاحتلال - لم يوقع معاهدة هدنة مع اسرائيل علما أن دولا عربية وقعت اتفاقيات هدنة معها منذ العام 1949 في رودس, كما انه لم يوقع معاهدة صلح أو يقيم علاقات مع اسرائيل, وهذا الأمر بحد ذاته مقلق بالنسبة لاسرائيل, خاصة وأن القدرات العراقية كبيرة جدا وهناك احساس عراقي كبير بالظلم الاسرائيلي الواقع على الفلسطينيين والعراقيين بغالبية تياراتهم.
* ما دام الأمر كذلك, لماذا تم التنكيل باللاجئين الفلسطينيين في العراق?
- ما جرى ضد الفلسطينيين في العراق أمر معيب ومخجل وأظن ان هناك جهات خفية ليست بعيدة عن أذرع مشبوهة اسرائيلية وغير اسرائيلية للعبث بأمن اخوتنا الفلسطينيين والذين يتوجب حمايتهم ومنحهم حقوقا شانهم شأن العراقيين.
* كيف تنظرون الى العلاقات العربية - العراقية بعد الانسحاب الأمريكي?
- ما أن يتعافى العراق من محنته سيعيد علاقاته مع أشقائه العرب, والتردد العربي ازاء العراق سينتهي لأن العراق مكون رئيسي من المكونات العربية ولا يمكن للعرب أن يتخلوا عن العراق  ولكن العرب حاليا لا يريدون المغامرة بارسال بعثاتهم الدبلوماسية الى العراق, أو اقامة مشاريع اقتصادية, لعدم استتباب الأمن.وقد سبق أن حصلت بعض الأعمال منها استهداف السفارة الأردنية.
* ما واقع اللاجئين العراقيين في الخارج?
- الحالة مأساوية, وهناك نحو أربعة ملايين لاجىء عراقي في الخارج والداخل, معا اضافة الى مليون ونصف المليون لاجىء منذ أيام الحصار, وهناك تقديرات تقول أن ما بين 15- 20 % من الشعب العراقي لاجئون ومنهم نازحون في الداخل ويتركز اللاجئون العراقيون في الأردن وسورية. مع أن الوضع في كل من سورية والأردن صعب بسبب شح الامكانيات وقلة الموارد.وهناك صعوبة في التسهيلات الممنوحة للعراقيين للوصول الى بلدان اللجوء بسبب القوانين المشددة.
* هل هناك امكانية لالغاء الطائفية في العراق?
- اذا ما توفرت الارادة السياسية نستطيع ذلك ويقول الفاعلون السياسيون حاليا انهم ضد الطائفية وأنهم نفضوا أيديهم من قرار بول بريمر الذي قسم العراقيين الى شيعة وسنة وكرد. واذا كان الأمر هكذا فلماذا لا يتبنون قانونا لتحريم الطائفية, وقد سبق لي أن عرضت في ندوة قانونا لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة وكان هناك عدد من البرلمانيين الذين رحب بعضهم بالفكرة ولكني لا أدري مدى استجابة مرجعياتهم السياسية لهذا الطرح الذي يتطلب تشريعا برلمانيا يحرم الطائفية ويحاسب مقترفيها.
* لماذا بقي العراق تحت البند السابع بعد توقيع المعاهدة الأمنية مع أمريكا?
- ظاهريا, فان العراق خرج  من الفصل السابع, الخاص بباب العقوبات من المادة 39 الى المادة .42
ولكنه في  اليوم الثاني طالب بعودته الى الفصل السابع بمعنى طلب العودة الى هيئة تنمية العراق وهذه الهيئة كانت قد صدرت ضمن الفصل السابع, وبرر وزير الخارجية هوشيار زيباري ذلك واعتقد ان تبريره صحيحا, لأنه لو لم يتم طلب تجديد هذه الهيئة لمدة عام لكانت أمريكا قد وضعت يدها على الأموال العراقية المجمدة لديها لأن هناك مطالبات بالتعويض من جانب افراد وهيئات ادعت انها تضررت ولذلك فان هذه المبادرة تعد التفافا على القرار الذي دعا الى الانسحاب من الفصل السابع.ومعروف ان هناك مليارات من الدولارات محجوزة في امريكا.
ولعله من باب النكتة لكنها حقيقية وهي أن طيارا أمريكا سقط في العراق والقي القبض عليه لمدة 45 يوما, ادعى أنه تضرر معنويا وماديا وطالب بتعويض مقداره مليار دولار وحكمت له احدى المحاكم الأمريكية بذلك.
* ما قراءتكم للفساد المستشري في العراق وهل من ارقام?
- اذا فتحت باب الفساد في العراق فستفتح باب جهنم, لأن هذه قضية بمنتهى الخطورة وليس سرا القول أن بريمر وحده بدد 8.8 مليار دولار ووزع في غضون أحد عشر شهرا على مؤسسات مجتمع مدني 780 مليون دولار ولم نعرف حتى اليوم لمن صرفت وآلية  صرفها. كما أن الحكومات الثلاث الأولى قبل حكومة المالكي بددت نحو 20 مليار دولار.
هناك 93 مسؤولا حكوميا, رفيعي المستوى مهتمين بالفساد, ومن ضمنهم 15 وزيرا والبقية وكلاء وزارات ومدراء عامون ومدراء. ناهيك عن القضايا التى لم  تعد منظورة مثل تفكيك المعامل والأسلحة ومصادرة الأموال والمعدات والثروة الثقافية والمكتبات والآثار والمحظورات والمتاحف  التى تم تهريبها وهي لا تقدر بثمن.
وقد اشترك بذلك الأمريكان وبعض العراقيين علما أن الفساد كان ينخر صفوف المعارضة العراقية قبل الاحتلال, وبعضهم قبض من الأمريكيين  مبالغ طائلة وبددها بطريقة توافقية مع الأمريكيين والأدهى من ذلك انهم كشفوا بعضهم بعضا في هذا المجال.
* العراق فيدرالي أم كونفدرالي?
- حاليا هو أكثر من فيدرالي وأنا مع النظام الفيدرالي لأنه نظام متطور اداريا, وهناك 43% من سكان العالم باتجاه النظام الفيدرالي و25 بلدا يحكمهم هذا النظام.
ولكن ذلك لا يعني أن كل نظام فيدرالي هو نظام ديمقراطي لكن كل نظام ديمقراطي يصلح أن يكون فيدراليا.
وما لدينا هو أبعد من النظام الفيدرالي لأن إخضاع القانون الاتحادي الى قوانين الأقاليم والدستور الاتحادي لدساتير الأقليم. هذا امر في غاية الخطورة, ولذلك فان رئيس الوزراء لا يستطيع تحريك جندي واحد من الجنود التابعين للأقاليم الا بموافقة الاقليم ذاته, كما ان الأقاليم لها الحق في العبث بثروات العراق.وارسال ممثلين لها في السفارات العراقية والسؤال هنا ألا يعني ذلك سفارة داخل سفارة?.

حوار مع الدكتور شعبان لصحيفة القبس أجراه الصحافي أسعد العزوني 18/4/2009


1179
في الطريق إلى ديربن: ماذا تعلمت إسرائيل وماذا تعلّم العرب؟
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

لم يبق سوى أيام على انعقاد مؤتمر جنيف ضد العنصرية وهو مؤتمر خاص بمراجعة قرارات ديربن الذي انعقد العام 2001، إلاّ أن الاستعدادات العربية والإسلامية ليست بالمستوى المطلوب، في حين أن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وقوى الصهيونية العالمية كلها، مستنفرة لكي تتجنب ما وقع في ديربن من إدانة للممارسات الإسرائيلية العنصرية.
وكان الرئيس أوباما قد اعتذر عن حضور مؤتمر جنيف ونددت منظمات صهيونية ودولية كثيرة بالمؤتمر، لاسيما بوجود عضوين من دولتين مسلمتين هما ليبيا وإيران في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الحكومي، وللأسف الشديد فإن بعض المنظمات الحقوقية الدولية، بما فيها الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان التي لديها عضوية عربية تشمل أمانتها العامة، سايرت مثل هذه الموجة مندفعة بالاتجاه الخاطئ والضار والمجانب للوظيفة الحقوقية التي تأسست من أجلها، وهو ما يذّكر بموقفها في مؤتمر ديربن حين حاولت «الموازنة» بين الضحية والجلاد، في سعي حثيث لمنع صدور قرار من المنتدى غير الحكومي لإدانة الممارسات الصهيونية ودمغها بالعنصرية.
وإذا كان العالم يشهد في شهر نيسان (أبريل) الجاري في جنيف تظاهرة حقوقية كبرى، وهو ما اصطلح على تسميته المؤتمر الدولي ضد العنصرية، فإن هذا المؤتمر هو مراجعة جديدة لمؤتمر ديربن ضد العنصرية. ومثلما كانت المنظمة العربية لحقوق الإنسان قد أسهمت بجدية في التحضير لمؤتمر ديربن، فقد عقدت اجتماعاً أخيراً بالتعاون مع المجلس المصري لحقوق الإنسان في القاهرة بحضور خبراء وناشطين، إلاّ أن الاستعداد العربي بشكل عام ليس بالمستوى المطلوب.
ومن حيث الترتيب الزمني فإن مؤتمر جنيف هو المؤتمر الدولي الرابع ضد العنصرية، حيث انعقد المؤتمر الأول في العام 1978، أما المؤتمر الثاني فقد انعقد في العام 1983، وانعقد المؤتمر الثالث عام 2001 بعد انتهاء النظام العنصري في جنوب أفريقيا في مطلع التسعينيات، وكان قد تقرر في التسعينيات تخصيص عقد لمناهضة العنصرية على المستوى العالمي بما فيها كره الأجانب والتمييز العنصري بأشكاله وصوره، وطالبت شعوب إفريقيا تعويضها عمّا لحق بها من غبن وأضرار بسبب استعمارها الطويل، وعلى الأقل تقديم اعتذار رسمي لها كما فعلت حكومة بلجيكا.
وإذا كان مؤتمر ديربن لاسيما منتدى المنظمات غير الحكومية قد اتخذ قراراً تاريخياً ولكن في ظرف تاريخي دقيق وحساس بإدانة العنصرية واعتبارها شكلاً من أشكال التمييز العنصري بتأكيد نحو 3500 منظمة دولية حقوقية، فإن هذا الظرف قد تغيّر، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية الإجرامية واحتلال أفغانستان والعراق وإعلان الحرب العولمية ضد الإرهاب، وتصاعد موجة الإسلاموفوبيا «أي العداء للإسلام» وهو ما اندفعت فيه بعض الجماعات العنصرية في أوروبا ضد العرب والمسلمين.
وإذا كانت إسرائيل قد صُدمت في مؤتمر ديربن وفوجئت بحجم التنديد والإدانة الدولية بها وبممارساتها، الأمر الذي دفعها والولايات المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي للتهديد بالانسحاب من مؤتمر جنيف (ديربن/ 2) بهدف إفشال المؤتمر فيما إذا تجرأ وأدان الصهيونية، فإنها احتاطت للأمر وعملت منذ ثماني سنوات وحتى الآن على تطويق آثار ديربن مستذكرة ما حققته من نجاحات بإعدام القرار 3379 الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، والذي ساوى الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.
كما سعت إسرائيل إلى عقد تحالفات وأسست منظمات غير حكومية جديدة، لكنها من حيث الجوهر منظمات صهيونية في عقيدتها وموالاتها لإسرائيل وتمويلها ودعمها، وعملت جاهدة للضغط على بعض المنظمات الدولية للتأثير على مواقفها، وللأسف فإن بعض العاملين من العرب في بعض هذه المنظمات، إمّا أنهم لم يحركوا ساكناً أو ساهموا بالتواطؤ حتى عن طريق الصمت حفاظاً على مواقعهم، وهذه قضية بحاجة إلى وقفة جدية للمراجعة والنقد.
لقد فشلت جهود إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وبعض المنظمات الدولية في ديربن في منع صدور بيان يندد بإسرائيل وبأعمالها العدوانية العنصرية، باعتبارها آخر محطة من محطات «الأبرتايد» على المستوى الدولي، الأمر الذي يجعلها تحتاط هذه المرة أكثر لكي لا تلدغ من نفس الجحر مرتين.
إن الاستعدادات الصهيونية التي استفادت من الحرب على الإرهاب وانشقاق الصف العربي والفلسطيني بما فيه المقاوم والرافض للاحتلال، وبالمقابل ضعف الاستعداد العربي على مستوى منتدى المنظمات الحكومية قياساً بتحضيرات «ديربن» الأولى فضلاً عن نكوص المواقف الرسمية، لاسيما أن الانشغال بنتائج العدوان على غزة مازال يستأثر بالكثير من الجهود الإدارية والفنية، والأكثر من ذلك، فإن إسرائيل والمنظمات الممالئة لها أو بعض الشخصيات التي تؤيدها شنّت هجوماً على الأمم المتحدة ومؤسساتها، خصوصاً بعد اتخاذ قرار بإدانة إسرائيل، «فجريمة ديربن الأولى» لم تغتفر ولن تنسى، وإذا لم يتم إعدام قرارات ديربن مثلما تم إعدام القرار 3379، فإن إسرائيل لن تهدأ ولن تستريح، وإن «ديربن» الذي وصف بكل الشرور والمساوئ، مازال ماثلاً، وهي تدرك جيداً أنه تهديد خطير «لشرعيتها» وبالتالي لوجودها!.
أما العرب فقد حصلوا على نصر سهل تحقق في «ديربن» وناموا بعدها، في حين أن إسرائيل استنفرت بكل ما لديها من قوة وحشدت لهذه المعركة الفاصلة في جنيف طاقات وكفاءات غير مسبوقة، حيث كلّفت مكتب محاماة مختص بتوجيه رسائل بأسماء المسؤولين الأوروبيين الذين شاركوا في «ديربن» أو الذين يمكن أن يشاركوا في مؤتمر جنيف القادم لشرح «المؤامرة المزعومة» على إسرائيل، بالضد من الدول العربية والإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمات العربية والإسلامية التي تعتبرها متطرفة، وقد قام مكتب محاماة شانسي فيلموت في بروكسل بتكليف خاص في الحديث عن خطر جسيم سيترك آثاره على القوانين الجنائية الأوروبية، ويقصد بذلك فيما إذا أدينت الصهيونية بالعنصرية. ودعت بعض المنظمات اليهودية في واشنطن إلى مقاطعة مؤتمر جنيف، لأنها ترفض تلطيخ اسم أميركا بقرارات معادية للصهيونية، ونددت منظمة ايباك بالمؤتمر قائلة إن منظمة الأمم المتحدة تفتقد الموضوعية عندما يتعلق الأمر بدولة إسرائيل.
وإذا كان هذا هو موقف إسرائيل واستعداداتها، فهل علينا أن ندرك أهمية هذا الحدث لتكوين تحالف مضاد لا فيما يتعلق الأمر بمؤتمر جنيف فحسب، بل بالكفاح ضد العنصرية، التي تعتبر إحدى تجليّاتها العملية الممارسات العنصرية الإسرائيلية!؟ وهل ستدرك الحكومات العربية أهمية المجتمع المدني ولا تنظر اليه باعتباره خصماً أو عدواً، لاسيما وهو اليوم وربما منذ سنوات يقود معركة ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة أمام بعض المحاكم الأوروبية!! مثلما قاد المعركة في ديربن وانتصر فيه حتى إن كان أعزل، وبلا أي إمكانات تُذكر، لكنه استطاع حشد طاقات مئات من المنظمات الحقوقية الصديقة، التي تضامنت معه على نحو غير مسبوق، ليعلن المجتمع المدني العالمي بصوت يكاد يكون موحداً إدانته لإسرائيل وممارستها العنصرية؟!
لكن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة، كانت قد سرقت الأضواء من الحدث المهم والمدوّي ونعني به إدانة الممارسات الإسرائيلية ودمغها بالعنصرية، الأمر الذي تحوّل من انتصار إلى نصف هزيمة، خصوصاً بتقاعس العرب، لاسيما الجهد وقد تم استغلال ما حصل ضد العرب والمسلمين وتصاعدت موجة العنصرية ضدهم في أوروبا والغرب عموماً، وكذلك موجة الإسلامفوبيا، التي صورت العرب والمسلمين باعتبارهم إرهابيين وأن دينهم يحض على العنف وأنهم مجبولون على ممارسته، واتخذت هذه الموجة من تنظيرات استراتيجيات ما بعد الحرب الباردة، لاسيما التي قادها فرانسيس فوكوياما ونظريته «نهاية التاريخ» أو صموئيل هنتنغتون ونظرية «صدام الحضارات» بوضع الإسلام في خانة العدو وتصنيف بعض البلدان باعتبارها دولاً مارقة، الأمر الذي اقتضى تطويعها وترويضها، واستخدام جميع الاسلحة للقضاء على الفاشية الاسلامية حسب تعبير الرئيس الاميركي السابق جورج بوش.
لقد تعلمت إسرائيل من درس ديربن فهل تعلّم العرب؟! وسيكون جواب ذلك من جنيف، رغم أن بوادر الصدمة بدأت منذ الآن!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 593 ،الجمعة 17 ابريل 2009 ,22 ربيع الثاني 1430

1180
الطريق إلى ديربن: ماذا تعلمت إسرائيل وماذا تعلّم العرب؟
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 
لم يبق سوى أيام على انعقاد مؤتمر جنيف ضد العنصرية وهو مؤتمر خاص بمراجعة قرارات ديربن الذي انعقد العام 2001، إلاّ أن الاستعدادات العربية والإسلامية ليست بالمستوى المطلوب، في حين أن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وقوى الصهيونية العالمية كلها، مستنفرة لكي تتجنب ما وقع في ديربن من إدانة للممارسات الإسرائيلية العنصرية.
وكان الرئيس أوباما قد اعتذر عن حضور مؤتمر جنيف ونددت منظمات صهيونية ودولية كثيرة بالمؤتمر، لاسيما بوجود عضوين من دولتين مسلمتين هما ليبيا وإيران في اللجنة التحضيرية للمؤتمر الحكومي، وللأسف الشديد فإن بعض المنظمات الحقوقية الدولية، بما فيها الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان التي لديها عضوية عربية تشمل أمانتها العامة، سايرت مثل هذه الموجة مندفعة بالاتجاه الخاطئ والضار والمجانب للوظيفة الحقوقية التي تأسست من أجلها، وهو ما يذّكر بموقفها في مؤتمر ديربن حين حاولت «الموازنة» بين الضحية والجلاد، في سعي حثيث لمنع صدور قرار من المنتدى غير الحكومي لإدانة الممارسات الصهيونية ودمغها بالعنصرية.
وإذا كان العالم يشهد في شهر نيسان (أبريل) الجاري في جنيف تظاهرة حقوقية كبرى، وهو ما اصطلح على تسميته المؤتمر الدولي ضد العنصرية، فإن هذا المؤتمر هو مراجعة جديدة لمؤتمر ديربن ضد العنصرية. ومثلما كانت المنظمة العربية لحقوق الإنسان قد أسهمت بجدية في التحضير لمؤتمر ديربن، فقد عقدت اجتماعاً أخيراً بالتعاون مع المجلس المصري لحقوق الإنسان في القاهرة بحضور خبراء وناشطين، إلاّ أن الاستعداد العربي بشكل عام ليس بالمستوى المطلوب.
ومن حيث الترتيب الزمني فإن مؤتمر جنيف هو المؤتمر الدولي الرابع ضد العنصرية، حيث انعقد المؤتمر الأول في العام 1978، أما المؤتمر الثاني فقد انعقد في العام 1983، وانعقد المؤتمر الثالث عام 2001 بعد انتهاء النظام العنصري في جنوب أفريقيا في مطلع التسعينيات، وكان قد تقرر في التسعينيات تخصيص عقد لمناهضة العنصرية على المستوى العالمي بما فيها كره الأجانب والتمييز العنصري بأشكاله وصوره، وطالبت شعوب إفريقيا تعويضها عمّا لحق بها من غبن وأضرار بسبب استعمارها الطويل، وعلى الأقل تقديم اعتذار رسمي لها كما فعلت حكومة بلجيكا.
وإذا كان مؤتمر ديربن لاسيما منتدى المنظمات غير الحكومية قد اتخذ قراراً تاريخياً ولكن في ظرف تاريخي دقيق وحساس بإدانة العنصرية واعتبارها شكلاً من أشكال التمييز العنصري بتأكيد نحو 3500 منظمة دولية حقوقية، فإن هذا الظرف قد تغيّر، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الإرهابية الإجرامية واحتلال أفغانستان والعراق وإعلان الحرب العولمية ضد الإرهاب، وتصاعد موجة الإسلاموفوبيا «أي العداء للإسلام» وهو ما اندفعت فيه بعض الجماعات العنصرية في أوروبا ضد العرب والمسلمين.
وإذا كانت إسرائيل قد صُدمت في مؤتمر ديربن وفوجئت بحجم التنديد والإدانة الدولية بها وبممارساتها، الأمر الذي دفعها والولايات المتحدة وعدد من دول الاتحاد الأوروبي للتهديد بالانسحاب من مؤتمر جنيف (ديربن/ 2) بهدف إفشال المؤتمر فيما إذا تجرأ وأدان الصهيونية، فإنها احتاطت للأمر وعملت منذ ثماني سنوات وحتى الآن على تطويق آثار ديربن مستذكرة ما حققته من نجاحات بإعدام القرار 3379 الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، والذي ساوى الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري.
كما سعت إسرائيل إلى عقد تحالفات وأسست منظمات غير حكومية جديدة، لكنها من حيث الجوهر منظمات صهيونية في عقيدتها وموالاتها لإسرائيل وتمويلها ودعمها، وعملت جاهدة للضغط على بعض المنظمات الدولية للتأثير على مواقفها، وللأسف فإن بعض العاملين من العرب في بعض هذه المنظمات، إمّا أنهم لم يحركوا ساكناً أو ساهموا بالتواطؤ حتى عن طريق الصمت حفاظاً على مواقعهم، وهذه قضية بحاجة إلى وقفة جدية للمراجعة والنقد.
لقد فشلت جهود إسرائيل ومعها الولايات المتحدة وبعض المنظمات الدولية في ديربن في منع صدور بيان يندد بإسرائيل وبأعمالها العدوانية العنصرية، باعتبارها آخر محطة من محطات «الأبرتايد» على المستوى الدولي، الأمر الذي يجعلها تحتاط هذه المرة أكثر لكي لا تلدغ من نفس الجحر مرتين.
إن الاستعدادات الصهيونية التي استفادت من الحرب على الإرهاب وانشقاق الصف العربي والفلسطيني بما فيه المقاوم والرافض للاحتلال، وبالمقابل ضعف الاستعداد العربي على مستوى منتدى المنظمات الحكومية قياساً بتحضيرات «ديربن» الأولى فضلاً عن نكوص المواقف الرسمية، لاسيما أن الانشغال بنتائج العدوان على غزة مازال يستأثر بالكثير من الجهود الإدارية والفنية، والأكثر من ذلك، فإن إسرائيل والمنظمات الممالئة لها أو بعض الشخصيات التي تؤيدها شنّت هجوماً على الأمم المتحدة ومؤسساتها، خصوصاً بعد اتخاذ قرار بإدانة إسرائيل، «فجريمة ديربن الأولى» لم تغتفر ولن تنسى، وإذا لم يتم إعدام قرارات ديربن مثلما تم إعدام القرار 3379، فإن إسرائيل لن تهدأ ولن تستريح، وإن «ديربن» الذي وصف بكل الشرور والمساوئ، مازال ماثلاً، وهي تدرك جيداً أنه تهديد خطير «لشرعيتها» وبالتالي لوجودها!.
أما العرب فقد حصلوا على نصر سهل تحقق في «ديربن» وناموا بعدها، في حين أن إسرائيل استنفرت بكل ما لديها من قوة وحشدت لهذه المعركة الفاصلة في جنيف طاقات وكفاءات غير مسبوقة، حيث كلّفت مكتب محاماة مختص بتوجيه رسائل بأسماء المسؤولين الأوروبيين الذين شاركوا في «ديربن» أو الذين يمكن أن يشاركوا في مؤتمر جنيف القادم لشرح «المؤامرة المزعومة» على إسرائيل، بالضد من الدول العربية والإسلامية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمات العربية والإسلامية التي تعتبرها متطرفة، وقد قام مكتب محاماة شانسي فيلموت في بروكسل بتكليف خاص في الحديث عن خطر جسيم سيترك آثاره على القوانين الجنائية الأوروبية، ويقصد بذلك فيما إذا أدينت الصهيونية بالعنصرية. ودعت بعض المنظمات اليهودية في واشنطن إلى مقاطعة مؤتمر جنيف، لأنها ترفض تلطيخ اسم أميركا بقرارات معادية للصهيونية، ونددت منظمة ايباك بالمؤتمر قائلة إن منظمة الأمم المتحدة تفتقد الموضوعية عندما يتعلق الأمر بدولة إسرائيل.
وإذا كان هذا هو موقف إسرائيل واستعداداتها، فهل علينا أن ندرك أهمية هذا الحدث لتكوين تحالف مضاد لا فيما يتعلق الأمر بمؤتمر جنيف فحسب، بل بالكفاح ضد العنصرية، التي تعتبر إحدى تجليّاتها العملية الممارسات العنصرية الإسرائيلية!؟ وهل ستدرك الحكومات العربية أهمية المجتمع المدني ولا تنظر اليه باعتباره خصماً أو عدواً، لاسيما وهو اليوم وربما منذ سنوات يقود معركة ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة أمام بعض المحاكم الأوروبية!! مثلما قاد المعركة في ديربن وانتصر فيه حتى إن كان أعزل، وبلا أي إمكانات تُذكر، لكنه استطاع حشد طاقات مئات من المنظمات الحقوقية الصديقة، التي تضامنت معه على نحو غير مسبوق، ليعلن المجتمع المدني العالمي بصوت يكاد يكون موحداً إدانته لإسرائيل وممارستها العنصرية؟!
لكن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة، كانت قد سرقت الأضواء من الحدث المهم والمدوّي ونعني به إدانة الممارسات الإسرائيلية ودمغها بالعنصرية، الأمر الذي تحوّل من انتصار إلى نصف هزيمة، خصوصاً بتقاعس العرب، لاسيما الجهد وقد تم استغلال ما حصل ضد العرب والمسلمين وتصاعدت موجة العنصرية ضدهم في أوروبا والغرب عموماً، وكذلك موجة الإسلامفوبيا، التي صورت العرب والمسلمين باعتبارهم إرهابيين وأن دينهم يحض على العنف وأنهم مجبولون على ممارسته، واتخذت هذه الموجة من تنظيرات استراتيجيات ما بعد الحرب الباردة، لاسيما التي قادها فرانسيس فوكوياما ونظريته «نهاية التاريخ» أو صموئيل هنتنغتون ونظرية «صدام الحضارات» بوضع الإسلام في خانة العدو وتصنيف بعض البلدان باعتبارها دولاً مارقة، الأمر الذي اقتضى تطويعها وترويضها، واستخدام جميع الاسلحة للقضاء على الفاشية الاسلامية حسب تعبير الرئيس الاميركي السابق جورج بوش.
لقد تعلمت إسرائيل من درس ديربن فهل تعلّم العرب؟! وسيكون جواب ذلك من جنيف، رغم أن بوادر الصدمة بدأت منذ الآن!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد 593  الجمعة 17 ابريل 2009 ,22 ربيع الثاني 1430

1181
المجتمع المدني الوجه الآخر للسياسة
المستقبل - السبت 11 نيسان 2009 - العدد 3274 - ثقافة و فنون - صفحة 20


عمر كوش
يعتبر د. عبد الحسين شعبان، في كتابه "نوافذ وألغام"، أن أهمية دراسة المجتمع المدني تأتي من زاوية علم الاجتماع السياسي، نظراً لأن تداول المفهوم على المستوى الفكري أو السياسي أو الاجتماعي وفي إطار مقاربة عربية، قد بدأ منذ نحو ثلاثة عقود من الزمن، وبخاصة في بلدان المغرب العربي وفيما بعد في بلدان المشرق العربي، في محاولة لتناول مستجدات الفكر العالمي الحديث والمعاصر، الأمر الذي يحتاج إلى تجاوز بعض العوائق، التي تصاحب عادة نقل وتبيئة المفاهيم وتوطينها من خلال دراسة الواقع وتطوره في سياقه التاريخي الدولي والمحلي. كما أن أهمية الموضوع، تبرز من التحولات الديموقراطية التي شهدها العالم منذ أواخر الثمانينات، وخصوصاً في دول أوروبا الشرقية، وانعكاس ذلك على البلدان النامية ذات الأنظمة الشمولية أو المستبدة أو المنغلقة والمحافظة، ومنها بلداننا العربية. ولعل شيوع فكرة الإصلاح وما رافقه من مشاريع دولية، فضلاً عن حراك سياسي واجتماعي في إطار العديد من البلدان العربية وعلى المستوى العالمي، قد جعل موضوع المجتمع المدني يستحق اهتماماً متزايداً، لإحداث نوع من الانتقال أو للشروع بشكل من أشكال التغيير، توسيعاً وتعميقاً لدائرة المشاركة وحق تأسيس الجمعيات والاتحادات والمنظمات المدنية، المهنية والنقابية.
جدلية
غير أن دراسة المجتمع المدني لا يمكن أن تتم بمعزل عن الدولة وتطورها ودستورها وقوانينها، نظراً لما تمثله من علاقة جدلية مع المجتمع، فكلاهما يرتبط بدرجة التحديث السياسي الاقتصادي الاجتماعي، وعليه يرى د.عبد الحسين شعبان أن ظهور الدولة ونشأتها، بالمعنى الحديث، وتضخم أجهزتها الإدارية وتعدد مسؤولياتها وتنوع بيروقراطيتها، قد ترك تأثيره على المجتمع المدني، إذ في العديد من البلدان النامية ومنها البلدان العربية تقلص دور المجتمع المدني طردياً مع اتساع الأجهزة الأمنية ومع ازدياد مركزية الدولة وعسكرتها، خصوصاً في ظل محاولات الاحتواء أو الإغراء أو الإفساد أو توظيف مؤسسات المجتمع المدني لأغراض سياسية أو حزبية أو دينية أو طائفية ضيقة. وعليه يسعى من خلال كتابه إلى كشف بعض المحددات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لنشأة وتطور المجتمع المدني في إطار الدولة الحديثة، حيث ينتقل من العام إلى الخاص، كي يعود إلى العام، ثم يطبق ذلك على الخصوصيات، لفهم السياق التاريخي ولتدعيم فهم دراسة المجتمع والدولة، خاصة وأن مفهوم المجتمع المدني يشتبك مع تخصصات عديدة من علم السياسة إلى علم الاجتماع إلى علم القانون إلى علم الفلسفة إلى علم الاقتصاد وإلى علم الإدارة وسواه، وذلك بالحديث عن وظيفة الدولة والمجتمع وخصائصها وطبيعتهما. لكن ذلك لا يتم وفق منطق نظري فقط، بل يطبق ذلك على المجتمع المدني العراقي، من خلال تناول صورة المجتمع المدني العراقي، والإشكالات الفكرية، والمشكلات العملية والمؤسسية، وذلك في إطار علاقة العام بالخاص، وأفق تطور مؤسسات المجتمع المدني بحيث تتحول من قوة احتجاج إلى قوة اقتراح، إضافة إلى علاقته بالدولة وواقع حقوق الإنسان من خلال تحديات الداخل وطغيان الخارج.
المعاناة
ويعرض د. عبد الحسين شعبان معاناة المجتمع العراقي من وجود الاحتلال وجرح الكرامة الوطنية وتعويم السيادة واستفحال ظاهرة المليشيات واستمرار أعمال الإرهاب والعنف والانفلات الأمني وحالات الفساد المالي والإداري، والنقص الفادح في الخدمات كالكهرباء والبنزين والماء الصافي في بعض المناطق، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها أوضاع النساء وحقوقهن على المستوى الاجتماعي، وسيادة مظاهر التوتر والتقسيم الطائفي والإثني.
وترجع بدايات انتعاش المجتمع المدني في العراق إلى أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات حتى الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي عام 1936، حيث نشطت العديد من النقابات والاتحادات، التي شملت نقابات عمال الصحف وعمال المطابع وعمال السكك الحديثة، والحرفيين، وتجار السمن والفواكه والخضر وسواق السيارات ومهندسي الميكانيك، والحلاقين والخياطين، وأصحاب المقاهي وجمعية تشجيع المنتجات الوطنية مع فروعها في عدد من المدن العراقية. لكن المجتمع "غاب" تدريجياً، وتعرض نموه عنوة للإجهاض والانقطاع والتشوه لفترة دامت نحو 35 عاماً، بحيث أكلت الدولة المجتمع المدني، وتغولت السلطة على الدولة وتحكم في السلطة أقلية تربع على رأسها "قائد" بصلاحيات تكاد تكون مطلقة وغير محددة تكبر كل يوم مثل كرة الثلج، وهو ما تجاوز كثيرا ما تم تثبته دستوريا في العام 1970.
الشمولي
ويشير د. عبد الحسين شعبان إلى أن النهج الشمولي، الإقصائي، الواحدي، حرم فرص التعبير و"ألغى" الاختلاف بحجة تحقيق "الإجماع" حتى وإن كان مصطنعاً، واعتمد على مساعدات السلطات الحاكمة لإظهار المجتمع المدني ومؤسساته باعتباره الوجه الآخر للسلطة وتوجهها السياسي، ولم تستطع مؤسسات المجتمع المدني مثل بقية الفاعليات والأنشطة المدنية والثقافية والفكرية، من أن تلعب أي دور في ظل سياسة قائمة على "عسكرة" المجتمع ودق طبول الحرب، بل الدخول في حروب لا طائل لها امتدت لنحو ربع قرن من الزمان. وزاد الأمر تعقيداً تعرض المجتمع العراقي إلى حصار دولي جائر دام نحو 13 عاماً، طحن عظام العراقيين في محاولة للإمعان في تحطيم كرامتهم وإذلالهم، تمهيداً لاحتلال بلدهم. وعليه أصبح الحديث عن دور المجتمع المدني أقرب إلى الكماليات والترف الكري منه إلى الحاجة اليومية الماسة في ظل حروب وحصارات طويلة الأمد واستبداد وسياسة الحزب الواحد والزعيم الواحد، وحصل ذلك في ظل تراجع الطبقة الوسطى وتحالفات جديدة بين العسكر وفئات متحدّرة من أوساط ريفية، ابتدأت منذ أواخر الخمسينات وتعاظمت في الستينات، وبدلاً من أن تمدن المدينة الريف، تم ترييف المدن سلوكاً وقيماً بما في ذلك اختلال معايير العمران والجمال، والتي صاحبها تدمير للطبقة الوسطى وجعل الدولة تتغول على المجتمع بأكمله أو على كل فرد من أفراده بالتجاوز على الحقوق والحريات العامة والخاصة.
أما في الفترة بعد غزو "قوات التحالف" ضد العراق "بحجة" امتلاكه أسلحة دمار شامل وعلاقة نظامه بالإرهاب الدولي، واجتياحها للأراضي العراقية وصولاً إلى بغداد، التي وقعت تحت الاحتلال، فقد بدأت مرحلة جديدة من تطور العراق السياسي، شهدت منذ الأيام الأولى انبثاق وتأسيس وتفعيل دور المؤسسات المجتمع المدني، حيث ساهمت منذ اللحظات الأولى بدور إغاثي وخيري محود، وبمبادرات تكاد تكون فردية، توسعت بعد أسابيع وأشهر، واتخذت شكلاً تنظيمياً أولياً أو حتى جنينياً، فتأسست منظمات كثيرة جداً. وبالرغم من أن العديد من هذه المنظمات ظلت شكلية أو شخصية، وغاب عدد غير قليل منها أو ظلت تنقصه الخبرة والمؤسسية والتخصص والإعداد، ويعاني ضعف المهنية، فضلاً عن تعرضه لضغوط وتحديات كثيرة، لعل أبرزها استمرار الاحتلال وانفلات العنف والإرهاب واستشراء الطائفية وتفشي الفساد والرشوة، إضافة إلى البطالة ونقص الخدمات الضرورية.
[ الكتاب: نوافذ وألغام - المجتمع المدني الوجه الآخر للسياسة
[ تأليف: د. عبد الحسين شعبان
[ الناشر: دار ورد الأردنية، عمان، 2009


1182
"تحطيم المرايا، في الماركسية والإختلاف" لعبد الحسين شعبان

النقد الذاتي  بداية الطريق إلى النقد الكلّي


في حوارات أجراها خضر ميري مع عبد الحسين شعبان، وجمعها في كتاب "تحطيم المرايا، في الماركسية والإختلاف"، عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت، و"منشورات الإختلاف" في الجزائر، يقدم الكاتب العراقي حزمة كبيرة من الآراء حول مختلف القضايا النظرية والفكرية والسياسية، انطلاقا من تجربته السياسية في الحزب الشيوعي العراقي. يعرض لآرائه ومراجعاته في الماركسية، ويتناول مسائل إصلاح الفكر الماركسي، والنظرة الى الدين، ويعرج على قراءة الماركسية والقضية الفلسطينية، والمسألة الكردية، وصولاً الى تعيين إشكاليات النقد الماركسي للماركسية.
يمثل الكتاب تجربة ذاتية للكاتب مليئة بمعاناة عاشها على امتداد عقود مع ذاته أولاً ثم مع تجربته الحزبية وخصوصا مع النظرية الماركسية التي التزمها نصّاً وممارسة.
يصف شعبان الماركسية التي وصلت الى العالم العربي ومنه الى الحزب الشيوعي العراقي بأنها "كانت معلّبة ضمن قوالب وأنساق ولا سيما طريقتها المدرسية التي تستبطن الإصطفافات الجاهزة حيث تذوب كيانية الفرد وخصوصياته في اطار جماعة، تعبر عن الرأي الواحد المركزي، الذي ينبغي ان يخضع له الجميع وفق تراتبية نمطية مفروضة عموديا، فالحقيقة معها وما عداها ليست سوى بطلان وشرور". هذه الماركسية المشبعة بالإصطفائية واحتكار الحقيقة المطلقة والإدعاء بتفسير كل شيء في العالم، جعل الماركسية ايديولوجيا ميتافيزيقية ولاهوتاً جديداً بوصفه يحمل خلاصاً للبشرية من طريق سيطرة طبقة البروليتاريا المنقذة للمجتمع، وهي ايديولوجيا اقتربت كثيرا من التحول ديناً. هذه الماركسية كما وصلت الى الأحزاب الشيوعية العالمية والعربية، وكما جرت ممارستها على يد نخبها، تسببت بكوارث على الصعد السياسية والفكرية والبشرية ايضا. أنجبت "الثقافة الواحدية الإطلاقية" للماركسية حقوقا مكتسبة للقيادة الحزبية تجلت في احتكار الحقيقة والمعرفة والمعلومة. ونجم عنها ما هو أسوأ، حيث هيمنت عبادة الفرد على كل مفاصل الدولة والمجتمع، ولم تقتصر هذه العبادة على الدول الشيوعية بل امتد التقليد الى الأحزاب الشيوعية الاخرى. وتحولت الماركسية الى جملة تعليمات قائمة على البيروقراطية وعلى أوامر يصدرها الحزب باعتباره ممثلاً عن الطبقة العاملة، وفوق الحزب ثمة اللجنة المركزية، وعلى رأس اللجنة يسود المكتب السياسي، وفوق كل هذه الهيئات يتربّع الامين العام بصفته الفيلسوف والقائد الملهم الذي لا يخطئ. وسط هذا العالم شاعت في اطار الحركة الشيوعية، سواء ما كان منها في السلطة او خارجها، نظرية التآمر والشك التي تسببت بالكثير من التصفيات للكادرات الحزبية بحجة تطهير صفوف الحزب من الاعداء الطبقيين الذين يعملون على حرف الحزب عن جادة الافكار الماركسية اللينينية
يتناول شعبان في نقده للماركسية الثغر والنواقص التي لم تولها النظرية الإهتمام اللازم، فيشير الى النقص تجاه فهم علم النفس الذي بات خلال القرن العشرين يحتل موقعاً مهماً في التحليل الإجتماعي والسياسي، حيث ساد مفهوم التزمته الأحزاب الشيوعية يرى في علم النفس والتحليل النفسي نظرية بورجوازية تلجأ اليها البورجوازية بديلا من نظرية الصراع الطبقي. كما قصّرت الماركسية عن رؤية الدين والموقع الذي يحتله في حياة الشعوب، فتعاطت معه انطلاقا من كيفية استخدام المؤسسات الدينية له وخصوصاً في اوروبا وسعيها الى الهيمنة على السلطة، فاستخفّت بالدين واطلقت نظريتها الشهيرة ضمن مصطلح "الدين أفيون الشعوب"، بل حولت الإلحاد الى دين وفرضت تعليمه والتزامه حيث وصلت الى السلطة. في السياق نفسه، قصّرت الماركسية عن فهم المسألة القومية في العالمين الرأسمالي والسائر في طريق النمو، واعتبرت القومية نظرية بورجوازية صافية، ورفعت شعارها الشهير "ليس للعمال وطن" وقرنته بشعار مركزي "يا عمال العالم اتحدوا"، وهي نظرة بان تهافتها عند اندلاع الحروب بين المعسكر الرأسمالي نفسه وانخراط طبقاته العاملة في جيوش كل دولة منها.
تتجلى إحدى اكبر المعضلات في الماركسية نصاً وممارسة من خلال النظرة الى الديموقراطية والدولة والحزب. فنظرية الماركسية في شأن الديموقراطية التي رأت فيها حيلة بورجوازية تستخدمها الطبقات الحاكمة لخداع الشعب وضمان السيطرة عليه، استبدلتها الماركسية بمقولة "ديكتاتورية البروليتاريا" المعبرة عن الديموقراطية الشعبية الحقيقية، وهي مقولة مسؤولة الى حد كبير عن الديكتاتورية التي اتسمت بها جميع الأنظمة الشيوعية والإشتراكية، والتي أخضعت بموجبها الفردانية الى حكم المجموع، والى سيادة الإستبداد ومنع الحريات السياسية والفكرية. لكن أكبر الاخطاء في النظرية الماركسية قد تكون في نظرتها الى الدولة والتي بشّرت بزوالها مع تقدم المجتمع نحو الشيوعية. لكن التجارب أظهرت أنه تحت لافتة اضمحلال الدولة كما اشار ماركس ولينين، جرى بناء أضخم دولة بيروقراطية واستبدادية سلّطت أدوات القمع على الشعوب التي حكمتها وتسببت بأضخم المجازر البشرية عبر التصفيات التي قامت بها هذه الاجهزة. اما الحزب الشيوعي بصفته اداة التغيير، فقد تحول منذ لينين الى سائر الانظمة التي حكمت باسم الماركسية، الى جهاز بيروقراطي تحكمه مركزية صارمة وتقاليد غير ديموقراطية، بحيث أصبح الولاء للحزب هو اولا ولاء للقيادة وتالياً للأمين العام، وتحولت المخالفات والإعتراضات على سياسة الحزب والأمين العام الى تهم بالخيانة للوطن والشعب والحزب، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج وخيمة.
يصنف شعبان الماركسيين اليوم ضمن خمسة أصناف، فهناك أولاً "الماركسيون الطقوسيون" الذين لا يفقهون شيئا في الماركسية، وتقوم مهمتهم في المشاركة في الإحتفالات وإحياء بعض المناسبات. وهناك ثانيا "الماركسيون المدرسيون" الذين يحفظون عن ظهر قلب بعض عناوين حول الاشتراكية، مستقاة من المدرسة السوفياتية ويرددونها ببغائياً. وهناك ثالثا "الماركسيون المسلكيون" الذين هم جزء لا يتجزأ من الماكينة الحزبية والمنفذين لسياستها من دون أي نقاش. أما الصنف الرابع فهم "الماركسيون الذرائعيون" أصحاب الدوغما والجمود العقائدي والذين يبررون كل خطوة يتخذها الحزب ويعتبرون ان النظرية الماركسية لا تخطئ حتى ولو تناقض النص مع الواقع في النظرية. وهناك اخيرا "الماركسيون العولميون" الذين روّجوا في السنوات الأخيرة للمشروع الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتظروا منه الخلاص وخصوصا في مواجهتهم للديكتاتوريات العربية، والذين هلل قسم كبير منهم للإحتلال الاميركي للعراق. يخلص شعبان من هذا التصنيف ليرى أنّ "الماركسيين النقديين المجتهدين" الذين يصنّف نفسه من ضمنهم، لا يزالون قلة في العالم العربي، ويعيشون على الهامش قياساً على سائر الحركات الحزبية.
يشير شعبان في نهاية مراجعته الى الموقف الآتي: "أجريت النقد الذاتي على تجربتي الخاصة الفكرية منها والسياسية والتنظيمية، راجعت بعض أطروحاتي، وقضية وجودي ضمن الحزب الشيوعي دون اقتناعي لفترة غير قصيرة... أجد نفسي قريباً الى حد كبير من الماركسية النقدية والوضعية النقدية الماركسية". صحيح أنّ قراءة شعبان للماركسية تندرج ضمن النقد الموضوعي والمراجعة المطلوبة، لكن شعبان ظل يحاذر الدخول من الباب العريض في نقد الماركسية، بوصفه نقداً يطال النظرية وأزمتها في النص والممارسة على السواء. ليس صحيحا أنّ الإنحراف في تطبيق النص الماركسي هو الذي تسبب بالديكتاتورية والاستبداد. فما جرى تطبيقه على يد لينين ومعه سائر القادة الشيوعيين في كل مكان اتى أمينا للنص الماركسي، من الحتمية التاريخية في التطور، الى اعتبار الماركسية علماً يحمل الحقائق المطلقة، الى النظر في الديموقراطية ورفضها، الى نظرية زوال الدولة، الى التنظير لديكتاتورية البروليتاريا ورفض التعددية الحزبية...، كلها امور في جوهر النص الماركسي. لذا تكتسب مناقشة أزمة الماركسية أهميتها بعيدا عن الفصل بين المنهج والنظرية والتطبيق، بل برؤية العناصر الثلاثة معاً، بما يسمح بتعيين ما الذي يبقى من هذه النظرية صالحاً وضرورياً للتطور الإجتماعي والسياسي، ورؤية ما تقادمه الزمن وبات خارج التاريخ.
خالد غزال
صحيفة النهار اللبنانية العدد 23668، الثلثاء 14 نيسان 2009

1183
أوباما في بغداد: ما الجديد؟
   

عبدالحسين شعبان
 

مرة أخرى يصل الرئيس الأمريكي باراك أوباما الى بغداد على نحو مفاجئ، وليس كما زار لندن وبراغ وأنقرة، ولكن زيارته هذه لم يعلن عنها إلا حينما وصل والتقى بعض المسؤولين العراقيين بمن فيهم رئيس الوزراء نوري المالكي.

لا شك في أن هناك تحسناً ملحوظاً في الوضع الأمني في العراق، خصوصاً خلال الأشهر الأخيرة حيث شهد النصف الثاني من العام 2008  وقبيل وبُعيد اجراء الانتخابات المحلية للمحافظات والأقضية والنواحي، مثل هذا التحسن، رغم ان القلق لا يزال يخيم على الكثير من الفاعليات والأنشطة، الأمر الذي يجعل من عناصر عدم الثبات والاستقرار مستمرة. وقد شهدت الأيام القليلة الماضية اختراقات أمنية وصدامات بين القوات الحكومية وقوات الصحوات في منطقة الفضل في بغداد وغيرها، فضلاً عن تفجيرات عديدة.

لقد ساهم التحسن النسبي في الوضع الأمني في تعزيز هيبة الدولة نسبياً، تلك التي انهارت بعد الاحتلال، خصوصاً عند حل المؤسسات العسكرية والأمنية بما فيها الجيش وقوى الأمن والشرطة وشرطة النجدة وشرطة المرور وحرس الحدود وغيرها.

وقد كانت نتائج الانتخابات الأخيرة أحد المؤشرات الأولية في هذا التوجه لدرجة ان انحساراً ملموساً شمل قوى كانت مهيمنة إلى حدود كبيرة على مجالس المحافظات وعلى البرلمان وعلى الشارع، حيث تقلّص نفوذها لمصلحة القوى الأقل تشدداً، خصوصاً إذا كانت من موقع الدولة، ويمكن القول إن انعطافاً “إيجابياً” محدوداً كان قد حصل لمصلحة القوى الأقل تطرفاً والتي عملت على استبعاد الشعارات الطائفية من خطابها المعلن على أقل تقدير. وإذا كانت النتائج لا تعكس الصورة الحقيقية للمجتمع العراقي بعد ست سنوات من الاحتلال الا انها تعتبر تغييراً أولياً في بعض التوجّهات، من داخل مواقع السلطة وليس خارجها بالدرجة الأساسية.

لقد طرح المالكي مسألة استعادة قوة ومركزية الدولة، خصوصاً بمواجهته  لجماعة السيد مقتدى الصدر في البصرة ومدينة الثورة (الصدر) في بغداد ومواصلة ملاحقة تنظيمات القاعدة والجماعات المسلحة في الموصل وديالى التي تشكل عقداً عراقية تكاد تكون مزمنة، ولاسيما أن ثلاثة مكونات تتفاعل وتتداخل وتتعايش وتتصارع فيها، وهي: العرب والكرد والتركمان، فضلاً عن تعدد الأديان وتشعّب الطوائف فيها.

كما أن إصراره وتشجيعه المعلن والخفي لوزير النفط حسين الشهرستاني بشأن عدم الاعتراف أو اعادة النظر بعقود النفط التي ابرمتها حكومة اقليم كردستان ، جعله في نظر البعض يتخذ مواقف رجل دولة، وإن كان الأمر يثير اشكالات فيما يتعلق بصلاحيات وسلطات الأقاليم على حساب السلطة الاتحادية (الفيدرالية) طبقاً لما جاء في الدستور الذي هو مصدر الخلل والارتباك إزاء الكثير من القضايا العُقدية سواء المادة 140 المتعلقة بكركوك أو عقود النفط او صلاحيات الأقاليم وتنازع القوانين أو غيرها، تلك الأمور التي تثير تعارضات وتفسيرات واجتهادات ومصالح متضاربة.

أما جماعة “الوفاق الوطني” التي يرأسها رئيس الوزراء الأسبق الدكتور إياد علاوي والمقربة من الولايات المتحدة فقد ضعفت مواقعها، لاسيما بانسحاب البعض منها أو اعلانه مواقف مستقلة، حتى إن حزباً عريقاً مثل الحزب الشيوعي الذي هو طرف في كتلة الوفاق، لم يستطع الحصول على مقعد واحد من المقاعد ال 440 المتنافس عليها في انتخابات مجالس المحافظات.

وبقيت الكتلة الكردية “التحالف الكردستاني” الأكثر تماسكاً حتى الآن من بقية الجبهات والكتل البرلمانية والسياسية، ولديها أجندة أكثر وضوحاً من الكتل والجماعات الأخرى، رغم ما حصل من تصدع في حزب رئيس الجمهورية جلال الطالباني “الاتحاد الوطني الكردستاني” وبروز أصوات معارضة داخل كردستان منددة بالتجاوزات والانتهاكات والفساد، لكن الكتلة الكردية تعرف ما تريد.

ومن المؤشرات المهمة الأخرى هو التغيير في الاستراتيجية الأمريكية ما بعد عهد الرئيس بوش، ففي ظل ولاية الرئيس أوباما وفوز الديمقراطيين وتراجع الجمهوريين، يجري الحديث ليس وعوداً هذه المرة، بل واقعاً عن انسحاب امريكي خلال ال 18 شهراً القادمة، والتي بقي منها حالياً نحو سنة وأربعة أشهر وهو ما أكدته زيارة الرئيس أوباما الى بغداد مؤخراً. وإذا كان الانسحاب مقرراً، فالاختلاف كيف سيتم ومتى وهل سيترك العراق دون تأهيل قواته لتستطيع حمايته من التهديدات الخارجية والداخلية؟

ولعل هناك خلافات بين البنتاغون الذي وإن كان يقر بالانسحاب، الا انه يريده منظماً ويريد وجوداً أمريكياً ليتم اكمال المهمة من دون فشل أو خسائر أو فوضى، وبين ال CIA ووزارة الخارجية، اللتين تدركان حجم الخسائر من الناحية السياسية والمستقبلية، لكن الكل، لاسيما بعد قرار الرئيس أوباما يقرّ بالانسحاب، والانسحاب ليس لفشل المشروع الأمريكي في العراق حسب، بل للتبعات المالية الهائلة التي كلفها وللخسائر في الأرواح، ولاسيما بعد انسداد الآفاق، وهذه المسألة ناجمة عن الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تلفّ الولايات المتحدة والعالم خلال الأشهر الستة الماضية، والتي قد تستمر لسنتين حسب بعض التقديرات الاقتصادية، ولعل هذه هي أولوية الاولويات بالنسبة لواشنطن، فلم يعد العراق أو أفغانستان أولوية ضمن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة.

وتريد الولايات المتحدة إكمال مهمتها بالابقاء على قواعد عسكرية تساعد القوات العراقية وللتدريب والتأهيل كما تقول، ومن جهة ثانية ضمان تدفق النفط واتفاقياته طبقاً للشروط الأمريكية، وإبقاء العراق خارج دائرة الصراع العربي- “الإسرائيلي”، وتلك إحدى القواعد الاساسية في الاستراتيجيات الأمريكية خلال العقود الستة ونيّف الماضية، فرغم التغييرات والتطورات التي تحدث، الا أن تلك الأهداف تكاد تكون “ثابتة” ومدّورة في خطط جميع الرؤساء الأمريكيين جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين!

لقد أكد أوباما خلال زيارته المفاجئة الى العراق (مطلع نيسان/ابريل الجاري) أن الاستراتيجية الجديدة لا تريد البقاء في العراق، وتحمّل تبعات وأوزار ما حصل منذ غزوها العام 2003 والى أجل غير معلوم، وهو أمر لا طاقة لواشنطن عليه حالياً، خصوصاً أن البقاء مكلف ومستنزف وربما يجعل هزيمتها غير المعلنة شاملة، لاسيما انعكاساتها على سياسات واشنطن في الشرق الاوسط وربما على المستوى العالمي، بما فيها تأثيراتها في السياسة الداخلية.

الفرق بين بوش وأوباما، ان الأول هو المسؤول عن تبعات احتلال العراق وكان يصرّ على ان النصر قاب قوسين أو أدنى، وكان جدوله الزمني هو تراكم النجاحات حتى وإن كانت على الورق، أما بالنسبة لأوباما فإنه يريد التسريع في إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، مع الابقاء على الحضور السياسي والنفوذ الاستخباري، مستفيداً من الأمر الواقع ووجود اتفاقية امريكية - عراقية.

ولعل هذا يعتمد بدرجة كبيرة على مدى قدرة الولايات المتحدة على سحب قواتها بصورة منضبطة ودون حدوث فوضى او فراغ أمني أو عسكري، ناهيكم عن اقرار دولي، لاسيما من دول الجوار وبخاصة ايران على عدم التدخل بالشؤون الداخلية العراقية.

باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية، الأربعاء ,15/04/2009

1184
استراتيجية أوباما والتركة الثقيلة
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

عادت القضايا الدولية مرّة أخرى إلى الواجهة في استراتيجية الولايات المتحدة التي احتلت لنحو ثماني سنوات المكانة الأولى، ولكن هذه المرّة جاءت في إطار إدارة جديدة ديمقراطية وليست جمهورية، فبعد أن تصدّرت جهود إنقاذ الاقتصاد الأميركي الحيّز الأكبر، سواءً في برنامج الرئيس باراك أوباما الانتخابي أو خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة منذ توليه مسؤولية البيت الأبيض، عادت السياسة الخارجية من جديد لتأخذ موقعها المتقدم.
ولكن كيف سيتعامل أوباما مع التركة الثقيلة للرئيس بوش بخصوص أوروبا، التي أطلق عليها اسم 'العجوز' عشية غزو العراق العام 2003 وممانعة فرنسا وألمانيا وبلجيكا؟ لا شك أن العودة إلى المسرح الدولي وتحديداً الخشبة الأوروبية مسألة ليست بالسهولة رغم ما حظيت به توجهات الرئيس الجديد أوروبياً وما استقطبه شعبياً، لكن الكثير من العقبات والتحديّات تعترض طريقها وتقف حجة عثرة أمامها.
ما الذي ينوي فعله الرئيس أوباما؟ إنه يعتزم حسبما تشير مفردات بعض عناوينه الاستراتيجية إلى:
أولاً: دفع الأمور باتجاه مقاربة جديدة للحرب في أفغانستان بعد إعلان الانسحاب من العراق خلال 18 شهراً (بقي منها 16 شهراً حتى شهر أب/ أغسطس 2010).
ثانياً: تكثيف الجهود لوقف انتشار الأسلحة، لاسيما بعد إعادة بعض عناوين وتهديدات الحرب الباردة مع روسيا بشأن الصواريخ الأميركية في بولونيا والتشيك.
ثالثاً: ضم الجهود إلى بعضها لاتخاذ مواقف موحدة إزاء محاربة الركود الاقتصادي على الصعيد العالمي، وهو ما تنتظر أوروبا موقفاً بشأنه يخفف عنها العبء.
ومع أن هذه الرافعات تحظى بدعم أوروبي وربما دولي، لكن ثمة اعتراضات في ما يتعلق بإرسال المزيد من الجنود إلى أفغانستان، من جانب ألمانيا، في حين تعترض روسيا بشدّة على إقامة نظام درع صاروخي لحلف الناتو في جمهورية التشيك وجمهورية بولونيا.
ومع أن واشنطن أكدت أنها لا تريد أن تملي على العواصم الأوروبية، كيفية الإنفاق لإنعاش الاقتصاد العالمي، إلاّ أن الأمر ظل ملتبساً، لا سيما باعتراضات فرنسا وألمانيا ودول أخرى، وهذا سيضع موضوع وحدة الموقف الأميركي-الأوروبي أمام امتحان جديد، فقد لا تستطيع واشنطن والإدارة الجديدة لأوباما أن تسحب أوروبا خلفها، مثلما أخفق الرئيس بوش في ذلك، تاركاً ندوباً وتصدّعات على العلاقات الأوروبية-الأميركية، وإذا كان ثمة ترحيب كبير بمجيء أوباما ورحيل بوش، إلاّ أن القضايا العالقة والساخنة كثيرة وستثير نقاشاً وجدلاً حاداً في الأشهر القادمة، ما لم تتضح الرؤية والمسار للسياسة الخارجية الأميركية، لا سيما بالتوافق مع أوروبا وأخذ مصالحها بنظر الاعتبار، خصوصا الاتحاد الأوروبي كمنظمة إقليمية فاعلة ومهمة.
ومن جانبه حاول أوباما الظهور بأن عهده يشكل قطيعة من سلفه محاولاً فتح صفحة جديدة، وفي إطار دبلوماسية عالية ورفيعة المستوى، رغم أن أوروبا ظلّت متحفظة مع أنها استبشرت بفوزه وهزيمة الجمهوريين، حيث شعر الأوروبيون أنه تم التقليل من شأنهم خلال إدارة الرئيس بوش، الذين كانوا ينظرون إليه كصاحب قرار حاسم في الوضع الدولي، إلآّ أنه يتخذ قرارات انفرادية ويمضي في تطبيقها ويضعهم أمام الأمر الواقع، ولا يراعي مصالح أوروبا بنظر الاعتبار.
لقد كانت زيارة أوباما إلى أوروبا بمنزلة جس النبض إزاء الموروث وإزاء المستقبل، إذ إن مشاركاته في القمم الثلاث قد تجعله يقدم مقاربات جديدة بشأن إنعاش الاقتصاد العالمي ومحاربة الإرهاب والسعي إلى الوصول إلى تأمين السلام في بعض مناطق العالم، لا سيما غير المستقرة، وإنْ ستظل القضية الفلسطينية إحدى القضايا المستعصية والمعقدة، خصوصاً في ظل صعود إدارة إسرائيلية متطرفة بقيادة نتنياهو!
لقد كانت لندن أول محطة للرئيس الأميركي أوباما لحضور قمة الـ20 زعيماً وبعدها شارك في قمة حلف شمال الأطلسي بمناسبة الذكرى الستين لتأسيسه، حيث تم الاحتفال في ستراسبورغ، وقام بعبور الحدود الألمانية-الفرنسية، ولعل هذا الحدث مهم، خصوصاً بعودة فرنسا إلى أحضان الحلف بعد غياب استمر نحو أربعة عقود من الزمان. وبعدها زار جمهورية التشيك وتركيا، كما اجتمع بزعماء روسيا والصين وهو جدول أعمال حافل وثقيل، وسيكون أول اختبار دولي لإدارته واستراتيجيته وعلاقاته الدولية.
فهل ستظل صورة أميركا كما رسمها الرئيس بوش؟ أم ثمة إصلاحات وتعديلات تقضي تحسينها في ظل الإدارة الجديدة؟ وهل ستكفي نجومية أوباما العابرة للقارات والمحيطات، في إيجاد حلول ومعالجات للأوضاع القائمة، خصوصاً إذا استطاع الحفاظ عليها، علماً بأن الكثير من القادة الأوروبيين يميلون إلى مصاحبة أوباما ولعلها وسيلة لكي يدعموا شعبيتهم؟ أم أن ذلك سيكون عبئاً جديداً على واشنطن بعد تركة ثقيلة قد تجعل كل ما يفكر به هو الخروج منها؟! في حين أن المطلوب تبني استراتيجية جديدة تكون بواسطتها الولايات المتحدة قادرة على أن تلعب دوراً أكثر إيجابية على المستوى العالمي، بحيث تستعيد جزءًا من هيبتها وصدقيتها اللتين بددهما الرئيس بوش.
إذن هل نحن أمام أوهام في أن استبدال بوش بأوباما سيمحو الصورة السيئة أو يغيّرها إلى هذه الدرجة، أم أنها أوقات عصيبة ومعقدة لا بدّ من عمل مضنٍ لتجاوزها؟ ولعل ذلك سيتوقف على مدى وفائه بالتزاماته ووعوده سواءً التي أطلقها في حملته الانتخابية أو بعدها، وقد حاول أوباما حسب مساعديه الاتصال بالعديد من رؤساء العالم بعد وصوله إلى البيت الأبيض، بهدف تهيئة الظروف المناسبة للإعلان عن استراتيجيته الجديدة.
وإذا كان إغلاق سجن غوانتانامو السيئ الصيت في كوبا خطوة إيجابية، فإن الخطوة الأساسية التي ستتوقف عليها استراتيجية واشنطن وصدقية الإدارة الأميركية تتعلق بالانسحاب الأميركي من العراق تنفيذاً لوعد أطلقه وعمل على وضع برنامج له بعد وصوله إلى البيت الأبيض، رغم بعض التعديلات، وربما الضغوط، لا سيما من جهة العسكريين.
من جهة أخرى إن إعلان الاستمرار في ملاحقة تنظيم 'القاعدة' والشروع بالتحرك باتجاه أفغانستان وباكستان يقتضي التركيز على نجاحات محددة، وليس إطلاق حملة دون تحديد مدى زمني لها.
إن الاستراتيجية الأميركية، لا سيما سياسة الإدارة الجديدة الخارجية وتحركاتها الدولية، ترافقت إضافة إلى حضور القمة اللندنية مع إجراءات مهمة على الصعيد الداخلي، لا سيما عمليات التحفيز الاقتصادي والإصلاح الإداري في مجالات الرهن العقاري والسكن والاستقرار المالي وغيرها، ولكن السبيل للخروج من المأزق يبقى صعب المنال إن لم تتخلص الإدارة الجديدة من التركة الثقيلة، لا سيما على الصعيد الخارجي.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 586 الجمعة 10 ابريل 2009 ,15 ربيع الثاني 1430

1185
مؤتمر ديربان: لعلها أكثر من صدمة
   

عبدالحسين شعبان


يعتبر مؤتمر ديربان أهم وأكبر مؤتمر دولي حول العنصرية، وهو أول مؤتمر دولي كبير ينعقد في الالفية الثالثة في إطار الأمم المتحدة، وجاء انعقاده عشية انقضاء العقد الثالث ضد العنصرية 1993  ،2002 وكان المؤتمر الاول حول العنصرية قد انعقد في العام ،1978 اما المؤتمر الثاني فقد انعقد في العام ،1983 ولعل مؤتمر ديربان كان المحطة الثالثة الأكثر أهمية، حين أدان سياسات “إسرائيل” ووصمها بالعنصرية.

وينعقد في شهر نيسان (ابريل) 2009 في جنيف المؤتمر الرابع حول العنصرية، وهو المؤتمر الذي جنّدت “إسرائيل” جميع طاقاتها للحيلولة دون اقتفائه إثر ديربان، رغم ما ارتكبته من أعمال منافية للقانون الدولي الانساني واتفاقيات جنيف الاربعة وملحقيها، لاسيما في حربها التدميرية ضد غزة.

وعلينا الاعتراف بأن “إسرائيل” من الدول التي تتعلّم من دروسها، فهي لا تترك شاردة وواردة تخصّها الاّ وتدقق فيها وتعيد النظر بحساباتها، ولعل الاقرار بهذا الواقع الاليم، هو الخطوة الاولى التي قد تجعلنا نواجه جزءاً من أزمتنا المستفحلة والتي باستمرارها أصبحت “معتّقة” وشبه مستديمة.

لقد تعرّضت “إسرائيل” لهزيمة منكرة في حرب أكتوبر/تشرين الاول العام ،1973 لاسيما باستخدام سلاح النفط، واضطرت إلى الاعتراف بذلك، وكان صعود منظمة التحرير الفلسطينية وازديارد رصيدها على الصعيد العالمي هو الذي دفع الامم المتحدة إلى منحها عضوية مراقب دائم، وبخاصة عندما طرحت مشروع دولة فلسطينية كهدف من أهدافها، رغم أنها لا تمثّل دولة بالمعنى المتعارف عليه، وكان من نتائج البيئة الدولية الايجابية أن صدر القرار 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري في 10 نوفمبر/تشرين الثاني ،1975 لكن “إسرائيل” لم تستكن أو تستسلم وعملت جاهدة لاحداث شرخ في الصف العربي بالتوقيع على اتفاقيات منفردة للصلح مع بعض البلدان العربية، وكان هدفها الاول اضعاف التضامن العربي وتعديل الميزان الدولي المختل لمصلحتها، بعد أن لاحت بوادر تحوله إلى ضدها.

اما الهدف الثاني، فقد كان يتمثل بإلغاء القرار ،3379 وأعلن ممثلها السابق في الامم المتحدة هيرتسوغ، الذي أصبح رئيساً ل”إسرائيل” العام 1985 بأنه لن يمرّ العام 1990 الاّ ويكون القرار قد أعدم، رغم عدم اعترافها به وبالقانون الدولي وبالقرارات الصادرة عن الشرعية الدولية، وبخاصة القرار 242 (1967) والقرار 338 (1973) وغيرهما، لكنها تدرك ان وجود هذا القرار يعتبر تشكيكاً بشرعيتها واستمراريتها.

وتحقيقاً لهذا الهدف سعت “إسرائيل” إلى استعادة المبادرة في علاقتها مع اكثر من 30 دولة افريقية قطعت علاقاتها معها بين العام 1967 والعام 1973 وما بعدهما، مستغلة  توقيعها على اتفاقيات كامب ديفيد. ولكل هذه الأسباب قامت “إسرائيل” بشن هجومها ضد القرار 3379 وأفلحت في التخلص منه في 16 ديسمبر/كانون الاول العام 1991 في سابقة خطيرة في الامم المتحدة التي لم يسبق لها ان أصدرت قراراً وقامت بنقضه لاحقاً، مستفيدة من التمزق في الصف العربي جرّاء الغزو العراقي للكويت وما تبعه من حرب قوات التحالف ضد العراق (1990  1991) واختلال موازين القوى على المستوى العالمي، لاسيما بهيمنة لاعب واحد أساسي على السياسة الدولية وهو الولايات المتحدة حليفة “إسرائيل”، حيث كانت هذه المتغيرات مشجعة لمفاوضات واتفاقيات مدريد  أوسلو والتوقيع عليها العام 1993.

ولم تترك “إسرائيل” وسيلة الاّ وأغلقتها أمام العرب والفلسطينيين، وحتى اتفاقيات أوسلو التي لا تلبّي مطامح الحد الأدنى للشعب العربي الفلسطيني المتطلع إلى الانعتاق وحق تقرير المصير وحق عودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس (طبقاً للشرعية الدولية) فقد تنكّرت لها “إسرائيل” حيث وصلت الاتفاقيات إلى طريق مسدود منذ العام ،1999 الأمر الذي سبّب اندلاع الانتفاضة في  28 سبتمبر/أيلول العام 2000 والتي استمرّت عدة أعوام استكمالاً لانتفاضة الحجارة في أواخر العام 1987 وما بعده. وعندما قرر المجتمع الدولي الاحتفال بالذكرى الخمسين لاتفاقيات جنيف العام 1999 في جنيف، ولدى الحكومة السويسرية المؤتمنة على وثائق جنيف، عملت “إسرائيل” بكل جهدها على فضّ الاجتماع خلال عشر دقائق بدعم من الولايات المتحدة، واضطرت الحكومة السويسرية مرغمة على الاعتذار إلى ضيوفها (الحكومات أو المجتمع المدني)، في سابقة دبلوماسية لم يكن لها مثيل في تاريخ الدبلوماسية العالمية. والسبب يعود في مناهضة “إسرائيل” لبروتوكول جنيف الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة الصادر في العام ،1977 الذي تضمن حق المقاومة في استخدام الوسائل المشروعة المسلحة و غير المسلحة من أجل حق تقرير المصير، فضلاً عما تفرضه اتفاقيات جنيف لعام 1949 من احترام ارادة سكان الاراضي المحتلة، وهو ما تخالفه “إسرائيل” نهاراً جهاراً في علاقاتها مع الاراضي العربية المحتلة.

اليوم ونحن نقترب من موعد انعقاد مؤتمر جنيف الدولي ضد العنصرية وهو المؤتمر الرابع، فإن “إسرائيل” تهدد بعدم حضور المؤتمر الاّ إذا كفّر عن ذنب مؤتمر ديربان الذي أدان ممارساتها بالعنصرية، مثلما تفعل ذلك الولايات المتحدة، وكلاهما انسحب من ميثاق محكمة روما لعام 1998 “ المحكمة الجنائية الدولية” الذي دخل حيّز التنفيذ العام ،2002 لاشارته إلى موضوع الاستيطان من جانب “إسرائيل”، وإلى عدم رغبة الولايات المتحدة تعريض جنودها للمساءلة الدولية وللولاية القضائية خارج نطاق القوانين الامريكية، كما ان الاتحاد الاوروبي هو الآخر، هدد بالانسحاب فيما إذا تم التعرّض إلى عنصرية الممارسات “الإسرائيلية”.

كل ذلك يحصل بعد العدوان على غزة الذي أثار ردود فعل واسعة ولم يسبق لها مثيل لدى الرأي العام الدولي وكل المدافعين عن حقوق الانسان، وإذا كانت القوى الدولية المتنفّذة تبرر ل”إسرائيل” ما قامت به من ارتكابات بحجة الدفاع عن النفس وتسعى لتحميل الضحايا مسؤولية الحرب بحجة صواريخ حماس والمقاومة الفلسطينية لكنها لم تستطع تبرير ما قام به الجناة والمرتكبون “الإسرائيليون”، بما فيه استخدام الاسلحة المحرمة دولياً باعتراف من الامم المتحدة وعدد من المنظمات الدولية، خصوصاً وأن التهم تتعلق بجرائم حرب وأعمال إبادة جماعية وجرائم ضد الانسانية، ناهيكم عن جريمة العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين.وهو السؤال الذي يظل يُطرح بإلحاح أمام المجتمع الدولي: أين يتوجه من تغتصب حقوقه؟ وكيف يمكن الثقة بمعايير العدالة الدولية مع أحكام القوة والهيمنة!؟ إذ إن تبرير مناهضة الارهاب يتعارض مع ما قامت به “إسرائيل” من ارتكابات سافرة وصارخة لحقوق الانسان.

وتمهيداً إلى مؤتمر ديربان الثاني  أو مؤتمر العنصرية الرابع الذي سينعقد في جنيف، فقد حضرت مؤتمراً تحضيرياً في دمشق وآخر في القاهرة، واشتركت في مؤتمرات ولقاءات وكتبت دراسات وأبحاث وأعطيت مقابلات وتصريحات تلفزيونية وصحافية وإذاعية، الأمر الذي يجعلني بقراءة ومعرفة لتوازن القوى، أشعر أنه ثمة اختلالات جديدة، لاسيما في ظل تقاعسنا واستعداد “إسرائيل” التي لم تهدأ أو تنم الاّ وعينها على جنيف، لتصحيح ما اعتقدت انه اجحاف بحقها، ولكي تقول ان ما حدث في غزة كان “ضرورة” وليس رغبة في الابادة كما اعترف جنودها وكما نشرت صحيفة “هآرتس” مؤخراً. ومع انني لست يائساً أو محبطاً، الاّ أنني أكثر تشاؤماً من السابق، فالوقائع مرّة والحقيقة صادمة، أما الخدر والاسترخاء فإنه لمن يريد أن يعيش واهماً.. وبكل الاحوال فهي أكثر من صدمة.

صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 1/4/2009

1186

يرى أن الماركسية الجديدة تنزع إلى الانفتاح والحرية

عبدالحسين شعبان: وظيفة المثقف الأساسية.. النقد

 
اجرى الحوار: محمد النبهان
الحديث معه يجرك إلى أكثر من منطقة، ولأننا تحدثنا كثيرا قبل أن نفكر في أن نلتقط جزءا من هذه الأحاديث في حوار مسجل، كانت البداية من حيث انتهينا.
الدكتور عبدالحسين شعبان.. مفكر وباحث عراقي في القضايا الاستراتيجية العربية والدولية، متعدد الميول والاهتمامات، له أبحاثة وكتاباته في القانون الدولي والنقد السياسي وحقول الإنسانيات والمجتمع المدني، ولا سيما في منهجه الماركسي النقدي، حيث صدر عنه مؤخرا كتاب «عبدالحسين شعبان: تحطيم المرايا في الماركسية الجديدة» من خلال حوار أجراه معه وقدمه الكاتب خضير ميري.
صاحب شعبان الجواهري، وله قراءاته ونقده الأدبي، وله آراؤه المتعددة في كل تلك الجوانب الفكرية والسياسية والقانونية والأدبية التي لا تخلو من الآخر واتهاماته.
التقينا به في «القبس» وكان هذا الحوار:

• ما الرابط الذي يجمع الأدب بكل هذه الاهتمامات والميول التي توزع نفسك فيها؟
- سبق لي أن قلت مرة: إذا كان القانون والسياسة وقضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان زوجتي، فالأدب عشيقتي، وهي عشيقة دائمة بامتياز، ومستمرة ومتجددة مثل الحب. الرابط هو وجود هذه الحاجة الإنسانية، وهذا الهاجس الذي يدفعني باستمرار للتفكير وللكتابة، وبالتالي للتعبير بوسائل ثقافية.

الأدب هو الواحة التي استفيء بظلها في كل ما أكتب وما أسلك، هو النبع الذي يفيض في الداخل ويبقى متدفقا ومستمرا، وعملية إيقافه هي وقف لشريان الحياة وإنهاء علاقتي بالحياة والمجتمع والمستقبل والأمل!
• من هذه النظرة، ما مفهومك للمثقف الكوني الواسع المعرفة؟

- ثمة نوع من الكيمياء بين مختلف أنواع الأدب والثقافة والعلوم، ولا يمكن أن أقصر العلوم على جانب دون الآخر. هناك نوع من الهارموني في التناسب والتداخل والتشابك، بمعنى أنه لا يمكن الآن للمثقف القانوني أو لرجل القانون إلا أن يكون ملما بعلم الاجتماع وعلم الإدارة وعلم السياسة وعلم النفس، كما ينبغي أن يكون لديه إطلاع بالعلاقات الدولية، ولديه بالطبع معرفة بجماليات مجتمعه، بآدابه وثقافته وعلومه وتاريخه وفنونه لكي يكون مثقفا ورجل قانون يؤدي وظيفته على أحسن وجه. وهكذا؛ هناك التداخل والتواصل بحيث إن هذه العلوم نوافذ مفتوحة بعضها على بعض.

النقد أساسي

• بهذا المعنى، ما هي وظيفة المثقف من وجهة نظرك؟

وظيفة المثقف الأساسية النقد، المثقف بلا نقد يتحول إلى شيء آخر. إذا تخلى المثقف عن وظيفته النقدية سيتحول إلى: إما يحرق البخور للسلطان، أو يطوع وسيلته الإبداعية لخدمة جهة أو مجموعة أو طائفة أو مذهب أو حزب. لهذا لا يجب عليه أن يفرط بهذه الوسيلة ولا أن يطوعها لحساب الآخر، مهما كان هذا الآخر.. رجل دين، رجل سلطة، صاحب مشغل، تاجرا، أو مثقفا آخر يشغّل المثقفين لحسابه كمقاول.
على المثقف أن يعي أن وظيفته الإبداعية كذلك لا يمكن لها إلا أن تتعطر في أجواء الحرية وفي أجواء الاستقلالية والاجتهاد تعبيرا عن وجدانيته وضميريته.. وهذه وظيفة مهمة للمثقف.

• وأنت تتحدث عن الوظيفة النقدية للمثقف، وكما تحدثنا سابقا عن هادي العلوي، لديك وجهة نظر إزاء مشروعه الفكري.. كيف تراه الآن؟

- هادي العلوي مثقف كبير، ومشروع فيلسوف كبير، خصوصا في تنقيبه في التراث، وهو بالمقابل فوضوي كبير. في فكرته عن المثقف الكوني اعتبر أن المثقف الكوني منزه عن الخساسات الثلاث: المال والسلطة والجنس.. حتى موقفه من الملكية موقف فيه نوع من الفوضوية. بهذا المعنى كان هادي العلوي (وهو مثقف نزيه للغاية) وربما هذه الصفات لا تنطبق إلا على نفسه كمثقف كوني، وقد ناقشته من خلال إطار منظومة حقوق الإنسان بما يتعلق بالملكية، وأن جميع الأديان والفلسفات قدست حق الملكية، حق التملك على الأقل، وبالطبع نختلف بمفهوم ما هي الملكية الاستقلالية؟ وما هي الملكية غير الاستقلالية، الملكية الشخصية. أو في الموقف من موضوع الجنس، واعتقد أن هذا موضوع بحاجة إلى وقفة جدية، لأن كل الفلسفات والأديان السماوية لديها إشكالية اسمها علاقة الإنسان بالآخر، علاقة المرأة بالرجل؛ كيف تصيغ هذه العلاقة؟ وكيف تؤطرها؟ وما هي الضوابط والمشروعيات؟ هذه علاقة إشكالية كونية لأنه حتى علوم النفس رغم تقدمها لم تتوصل بعد إلى حلول ومعالجات لمعرفة كوامن النفس البشرية، وما يدفعها إلى الصلة أو إلى التواصل مع الآخر، خصوصا في موضوع الاشتباك فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية، إذ لا يمكن تأطيرها أو حجرها في مكان تحت ضوابط معينة، لأنك ستجد من يتمرد على هذه الضوابط ويتحرر منها.

هادي العلوي في مشروعه أقرب إلى صوفية معرفية، جاهد جهادا خاصا ضد النفس، واعتقد أنه توحد مع اللانهايات، فنحى هذا المنحى الذي رجل منه في الأرض وأخرى ربما في الأعالي، ولذلك عاش حياته وهو يبحث عن كينونة أخرى، وعن مثل آخر.

مشاريع ريادية

• – بعد مشروع هادي العلوي في التراث، ومشروع علي الوردي في علم الاجتماع، هل ثمة مشاريع تابعت هذا المسار النقدي التحليلي في العراق مثلا؟

- لاشك أن هذه مشاريع ريادية، والريادة في العراق أخذت مناحي مختلفة، خصوصا التي ابتدأت في أواخر الثلاثينات وفي فترة الأربعينات وما بعدها مثل الريادة الشعرية والريادة المسرحية والريادة في الفن التشكيلي والريادة الفكرية.
مشروع هادي العلوي بدأ مرحلته في الخمسينات واستكملت في الستينات والسبعينات بشكل خاص، وكان نتاجه بدأ على نحو متدفق في الثمانينات، خصوصا عندما قدم قراءات في موضوع التعذيب في الإسلام والشخصيات غير القلقة في الإسلام وغيرها من الأبحاث والدراسات الكثيرة التي ظلت مفتوحة ولم يسعفه الوقت وهو في أوج عطائه أن يستكملها؛ ظلت كومضات على طريق البحث العلمي بحاجة إلى تحقيقات وتطويرات وإضافات لمن سيأتي ويبحث فيها فيما يتعلق بالمنهج الذي اختاره العلوي في التراث، وإن كان هذا المنهج يتضمن بعض الملاحظات.
علي الوردي، بالمقابل، تعرض في حياته إلى هجومين شديدين؛ هجوم من السلطة وهجوم من المعارضة. السلطة لم تكن تريد أن يظهر منهج علي الوردي، لاسيما في نقد المجتمع العراقي وتاريخه وتاريخ الحركة الدينية وغيرها، مما يشير إلى عيوبها ومسالبها ونواقصها وثغراتها وأوهامها أيضا! كذلك محاولته ضعضعة هيبة المؤسسة الدينية وإلغاء المقدس عنها. كذلك تعرض الوردي إلى هجوم من جانب اليسار الماركسي، الحركة الشيوعية كانت تعتبر أفكار علي الوردي أفكارا مثالية ومغالية لا تستند الى مبدأ الصراع الطبقي.
لكن علي الوردي ركز في منهجيته على ثلاث أو أربع أفكار رئيسية اشتغل عليها طوال حياته، وكان يمكن له أن يطور نظرية لعلم الاجتماع انطلاقا من توسيع القاعدة الاجتماعية الرئيسية من حيث الجوهر ومن حيث المعنى والمضمون تشكل علامة مهمة في دراسة المجتمع العراقي، لولا أنه ظل محصورا بهذه الأفكار.

فترة سبات

• هذا طبيعي جدا أن تتشكل نواة لمشاريع يأتي من يطورها، ما قصدته أين الجيل اللاحق؟ هل تلمس وجودا حقيقيا لأسماء جديدة تحمل مشاريع حقيقية في هذا الجانب الفكري؟

- أعتقد أن هناك فترة سبات حصلت في الفكر السياسي والفكر الاجتماعي والثقافي العراقي رغم كل الإبداعات المهمة والنتاج الغزير الذي شهده العراق لأسباب موضوعية وأسباب ذاتية.

الأسباب الموضوعية هي أن العراق تعرض خلال العقود الثلاثة الماضية إلى حالة من الانكفاء. هناك حروب، حصار اقتصادي، تباعد بين الداخل والخارج بسبب الهجرات الكبيرة، تمزق للنسيج الاجتماعي العراقي، حالة الخوف والشعور باللاطمأنينة التي سادت الوسط العراقي، فضلا عن ذلك انحسار البحث العلمي والأكاديمي، وعدم وجود المغريات والامتيازات، والتهديدات الخارجية التي سقطت على رأسه مع القنابل؛ كل ذلك أثر إلى حدود غير قليلة، ولكن شفيعي هنا أن أعدادا من العراقيين بدأت الآن تكتشف هذه المدارس، وبدأت تقرأها، وبدأت تعيد النظر فيها، وتتعرف على العراق مجددا، سواء كاصنوا يعيشون في العراق أو خارجه، وأن هناك تيارات واتجاهات ستتبلور لكي تكون استمرارية وإضافة لكل المشاريع التي لم تستكمل.

• في الحديث عن إعادة وجهة النظر بالأفكار والمشاريع، تتبنى فكرة الماركسية الجديدة، ماذا تقول عنها، وهل هناك وجود حقيقي لهكذا فكرة بعد أن انتهى عصر الماركسية؟

- منذ فترة، يجري الحديث أن الماركسية أصبحت متحفية، وأنه علينا أن نتعامل مع ماركس كعالم اجتماع كبير واقتصادي كبير، في حين إن الماركسية التي شغلت العالم على مدى 150 سنة لاتزال قائمة


1187
المنبر الحر / فلك المواطنة!
« في: 18:21 06/04/2009  »
فلك المواطنة!
عبدالحسين شعبان
2009-04-06
في الرباط انطلقت مؤخراً مبادرة عبّرت عن نفسها بأنها تيار اجتماعي لبناء حركة للمواطنة في المنطقة العربية، وجاءت المبادرة من مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية وبدعم من المؤسسة العربية للديمقراطية (الدوحة) وبمشاركة من مركز دراسات حقوق الإنسان والديمقراطية (المغرب) والمعهد العربي لحقوق الإنسان (تونس).
وكان منتدى الفكر العربي (عمّان) قد خصص ندوته السنوية في عام 2008 لفكرة المواطنة, ودعا إلى تعاون واسع مع مؤسسات المجتمع المدني لخلق تيار عربي يروّج ويدعو لفكرة المواطنة. ولا شك أن ما توصلت إليه ندوة الرباط الحالية هو شيء مهم وربما طموح، خصوصاً أنها سعت لتأسيس تحالف عريض للدعوة لفكرة المواطنة وجمع مليون توقيع وتعزيز مرتكزات وطنية وصولاً لحركة اجتماعية واسعة على الصعيد العربي، وأصدرت نداءً وبادرت بالتوقيع عليه من جانب المؤسسين.
وتكمن دلالات الدعوة في كون مسألة المواطنة تعتبر موضوعاً راهناً وأصبح مطروحاً على بساط البحث، لاسيما أن هناك تجاذبات كثيرة حوله داخلياً وخارجياً، بما فيها بعض الجهات التي تريد استثماره سواء لفرض الهيمنة أو لتبرير تجاوزها على حقوق الإنسان.
كما أن المفهوم يثير التباساً نظرياً وعملياً بشأنه، لاسيما في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية والدينية المختلفة، بل إن هناك نظرات متباعدة بشأنه قطرياً وعربياً وكونياً، فهناك من يدعو لتأكيد المواطنة قطرياً والاكتفاء بذلك، بل والانكفاء عليه، والثاني يريد ويسعى لتوسيعه جزئياً أو كلياً، مناطقياً أو جغرافياً أو قومياً أو إسلامياً (دينياً) بالدعوة إلى مواطنة خليجية أو مغاربية أو مواطنة عربية أو مواطنة إسلامية، وقد يبقى الأمر في إطار الطموح إذا ما أخذنا المعوّقات التي تحول دون تحقيقه، سواء كانت هذه العقبات داخلية أم خارجية، إقليمية أم دولية، موضوعية أم ذاتية، لكنها لا تزال تفعل فعلها الكبير في الحيلولة دون توسيع دائرة المواطنة التي هي في الأساس مواطنة منقوصة أو مبتورة أو مثلومة في العديد من جوانبها، فما بالك بمواطنة دون تحقيق شروطها الموضوعية.
وإذا كانت الدعوة لتأسيس حركة مواطنة مسألة راهنة، فلأنها بدأت تحفر في أساسات الدولة المعاصرة لاسيما، في عالمنا العربي والإسلامي وبخاصة في مسألة الهوية، الأمر الذي بحاجة إلى حوار فكري ومعرفي، مسؤول وعميق، بين السلطات الحاكمة والأحزاب والقوى والمؤسسات السياسية من جهة، وبين المجتمع المدني بجمعياته ونقاباته واتحاداته من جهة أخرى.
ولعل هذا الحوار وهذه الدعوة ستكون على درجة من الاشتباك بقضية احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، فالمواطنة التي هي علاقة الفرد بالدولة قانونياً وحقوقياً، من حيث حقوقه وواجباته وجنسيته وهويته، تقوم على ركن أساسي لا غنى عنه يعتمد على درجة المشاركة في إدارة الشؤون العامة وتولّي المناصب العليا دون تمييز بسبب الدين أو العنصر أو الجنس أو اللغة أو الانحدار الاجتماعي أو الاتجاه السياسي والأيديولوجي، إذ إنها تعتمد على مبدأ المساواة وتستند إلى الحرية التي من دونها ستكون المواطنة قاصرة وغير مكتملة، مثلما لا تكتمل المواطنة دون حد أدنى من العدالة الاجتماعية التي تضمن الحق في العمل والتعليم والصحة والتمتع بمنجزات الثقافة والفن.
المواطنة تكتمل بالحق في الحصول على جنسية وعدم نزعها أو حجبها تعسفاً، الأمر الذي يثير إشكالات للعديد من مواطني البلدان العربية الذين هم دون جنسية لأسباب واهية، وإذا ما اعتمدنا على القوانين الدستورية وفي جميع قوانين الجنسية في الدولة المعاصرة، لاسيما التي تحترم حقوق الإنسان، فإننا سنكون أمام مبدأين أساسيين للحصول على الجنسية، الأول: على أساس البنوّة، أي أن يكون من أب أو أم تحمل جنسية البلد المعيّن، وهذه تسمى رابطة الدم، ولعل الغالبية الساحقة من البلدان العربية والإسلامية تقصرها على جنسية الأب، الأمر الذي يعتبر مخالفاً للوائح الدولية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل. الثاني: على أساس الأرض، وهذه «رابطة الولادة»، أي أن يولد على أرض معينة فيحمل جنسيتها، ويمكن لمن يقيم إقامة طويلة حسب قوانين البلدان المختلفة وبشروط تضعها كل دولة، الحصول على جنسية البلد المعني (بالتجنّس).
لكن هذا الأمر لا ينطبق على العديد من مواطني الدول العربية، فهناك أعداد كبيرة من الذين هم بدون جنسية، في الكويت ودول الخليج وهناك فلسطينيون من دون جنسية (لغياب الدولة) وهناك عدد من الكرد السوريين من دون جنسية ويسمون بالمكتومين، وكان عدد من كرد العراق، لاسيما الفيلية من دون جنسية، وقد تم تسفير عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين إلى إيران بحجة التبعية الإيرانية، وهم حاليا في إيران من دون جنسية، وهناك الآلاف من الأطفال العرب من دون جنسية، إما لأن أمهاتهم تزوّجن من أجانب وانفصلن أو طلقن لاحقاً أو من مواطنين من دون جنسية، فظلّ هؤلاء غرباء في وطنهم، في حين أن قوانين الجنسية بفرعيها (الدم والأرض) تنطبق عليهم, ويمكن إضافة قوانين التجنّس إلى ذلك، وهم محرومون من الحصول على حقوقهم العادلة والمشروعة، الأمر الذي يضع مسألة المواطنة في الصدارة.
المسألة هنا لا تتعلق بمواقف السلطات الحاكمة فحسب، بل إن بعض التيارات الفكرية والسياسية والدينية ما زالت قاصرة النظر في مسألة المواطنة، وتتخذ مواقف سلبية لاعتبارات قومية متعصبة أو دينية متشددة أو مذهبية متطرفة أو لأغراض سياسية ضيقة، ولا شك أن هناك نقصاً فادحاً في الفكر العربي بشكل عام في ثقافة المواطنة وموقفاً سلبياً على أقل تقدير، إن لم يكن بالضد من مبادئ المساواة، خصوصاً إزاء الأقليات القومية والدينية واللغوية والسلالية، كما أن هناك نقصاً وقصوراً بائنين في الموقف من المرأة والحداثة والتقدم الاجتماعي لدى أوساط واسعة ولدى مختلف التيارات الاجتماعية والسياسية والفكرية.
ولعل هذا كان موضوع نقاش وأسئلة حارقة مثلما أسماها المفكر التونسي صلاح الدين الجورشي، لاسيما في موضوع الحوار والتشدد بين الإسلاميين والعلمانيين، فالعلمانيون لا يريدون الحوار مع الإسلاميين، وهم قوة أساسية في نحو عشرة بلدان، سواء كانوا في قمة السلطة أو قوة مؤثرة في البرلمان والشارع والإعلام والمجتمع المدني، أو أنهم يطرحون الحوار بشروط. أما الإسلاميون فهم يشعرون أنهم قوة كبرى فلا ينظرون بمحمل الجد إلى العلمانيين أو اليساريين الذين يعتقدون أن نجومهم قد أفلت، في حين أن عدم الاعتراف بالتعددية والتنوع وحقوق الآخر، ستؤثر على مبادئ المساواة والحرية والمشاركة، الأساس في مواطنة فاعلة ويمكن أن تغتني بالعدل.
كيف يمكن إذا خلق تيار فكري لإقناع القوى والأحزاب والجماعات السياسية والدينية بمسار المواطنة؟ الأمر يحتاج إلى توسيع دائرة الحوار ليشمل الجميع بهدف تعزيز ثقافة المواطنة، وهي تكاد تشكّل النقص الأكبر في هذا الميدان، وإذا تحوّلت المواطنة إلى فكرة مشتركة وقناعة جماعية، فستتحول من ترف فكري أو رغبة لدى بعض النخب إلى قوة مادية بحيث يصبح من الصعب -بل من المستحيل أحياناً- اقتلاعها أو تجاوزها أو إلغاؤها أو حجب بعض شروطها وحقوقها مثل حق الجنسية.
إن نشر ثقافة المواطنة يعني التمسك بأهداب ثقافة المساواة والحق في المشاركة، وهما ركنان أساسيان يسعى فضاء الحرية لتحقيقهما وصولاً لمواطنة فاعلة تقوم على أساس العدل.
وإذا ما انتشرت ثقافة المواطنة، لاسيما بتعزيز دور المجتمع المدني، فيمكن للأخير تقديم مشاريع اللوائح والقوانين للبرلمانات ومراجعة قوانين الجنسية، وكل ما له علاقة بانتهاك حقوق الإنسان، لتأمين مستلزمات مواطنة فاعلة وعضوية، خصوصاً أن نشر ثقافة المواطنة يحتاج إلى تربية واعية وطويلة الأمد، ويمكن للمدرسة والجامعة أن تسهم فيها، وتخلق المستلزمات لحوار بناء وهو ما تقع مسؤوليته على عاتق النخب العربية، التي ينبغي عليها أن تدور في فلك المواطنة قبل أي اعتبار أيديولوجي أو سياسي أو ديني أو مذهبي أو إثني أو أي إطار آخر!


صحيفة العرب القطرية العدد 7603 - الإثنين 6 ابريل 2009 م ـ الموافق 10 ربيع الآخر 1430 هـ

1188
أي عروبة تصحّ للقرن الحادي والعشرين!؟
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
الأزمة المعتقة وسبل تجاوزها!!

ثمت خلاصات أولية  لما بعد المراجعة يمكن بلورتها كسبيل لتجاوز الازمة وذلك على النحو الآتي:
أولاً: الإقرار والإعتراف بوجود أزمة يعاني منها العمل العربي المشترك والنظام الإقليمي العربي وجامعة الدول العربية تحديداً، وهذه تتطلب معالجات وحلولاً جذرية خصوصاً وإنها مستفحلة وليست صعوبات عابرة أو طارئة، لأن إستمرارها سيؤدي إلى ضياع جهد غير قليل وتجربة رغم الانتقادات الجديّة لها حول نوعية ومستوى الإداء ، الاّ انها تجربة لا تخلو من الغنى. والأزمة لا تشمل الأوساط الرسمية، بل انها تمتد الى الأوساط الشعبية، وعلينا الإقرار أنها أزمة طالت الحركات والتيارات القومية العربية واليسارية والماركسية والاسلامية بما أفرزته من أفكار وممارسات، كانت غالبيتها ذات بعد شمولي، ناهيكم عن ضعف حساسيتها إزاء أنظمة الاستبداد.
ثانياً: الإقرار بالأزمة يتطلب تشخيص أهم مظاهرها التي تتخلص في:
1.   ميثاق "الجامعة" الذي يحتاج إلى مراجعة جذرية، إذ أنه يُعتبر متخّلفاً قياساً للتطور الدولي، وذلك لكي يتم تكييفه بحيث يصبح صالحاً للانسجام مع المتغيرات الدولية وبخاصة قواعد القانون الدولي المعاصر.

2.   تكييف ميثاق "الجامعة" لينسجم مع مبادئ حقوق الإنسان. ولعل فكرة "التدخل لأغراض إنسانية" عند وقوع انتهاكات جسيمة وخطيرة لحقوق الإنسان أو تطهير عرقي أو إثني أو ديني أو مذهبي او ابادات جماعية كفيلة بتحمّل المجتمع الدولي والعربي لمسؤولياته. وعلى الميثاق أن يراعي هذا التطوّر الفقهي بشكل حازم ومبدأي ودقيق بعيداً عن ازدواجية المعايير وانتقائيتها، فالمسألة لا تتعلق بالعنصر الخارجي حسب، بل تنشأ من خلال الاستئثار بالسلطة ومحاولات العزل السياسي ومصادرة الديمقراطية والتمييز ضد الأقليات والمرأة وقضايا التقدم الاجتماعي. وهنا لا بد من التصديق على الميثاق العربي لحقوق الانسان الذي أقرّته القمة العربية (2004) والسعي لتفعيل فكرة محكمة عدل عربية لمواكبة سير تحقيق العدالة.
ثالثاً: لا بد من إصلاحات هيكلية على المستوى الاقليمي في أجهزة الجامعة، على الصعيد القانوني والإداري وتعديل دور الموظف العمومي الإقليمي، بحيث يكون مُمثلاً للمؤسسة (الجامعة) وليس لبلده، أي الفصل بين القرار الحكومي أو الدولي وبين القرار الجامعي والمؤسسي. والاصلاح يتطلب أيضاً البعد الداخلي في كل بلد عربي وعلى جميع المستويات، مثلما ينبغي امتداده الى مؤسسات المجتمع المدني خصوصاً وان استحقاق التغيير اصبح دولياً ايضاً وليس حاجة داخلية حسب .
رابعاً: لا بد من الاهتمام بدور مؤسسات المجتمع المدني، لكي تكون عنصر رقابة ورصد ومساءلة ومساعدة "الجامعة"، لإنجاز مهماتها وبخاصة ما يتعلق بالحريات وحقوق المرأة وإحترام حقوق الإنسان وحقوق العمل والثقافة والأدب والفن والإتصالات والرياضة والصحة والتعليم والبيئة والسياحة وغير ذلك. ولعلّ تأسيس مفوضية للمجتمع المدني بمبادرة من الامين العام عمرو موسى، هي خطوة في الطريق الصحيح بحاجة إلى مستلزمات تكميلية.
خامساً: معالجة مشكلة صنع القرار وتنفيذه، وذلك لتجاوز الوضع البيروقراطي المؤسسي والعقبات التنفيذية الفعلية، فحتى القرارات الإيجابية غالباً ما تنتهي إلى الأرشيف لعدم القدرة على التنفيذ، وإذا كان في مجلس الأمن 5 فيتوات ، ففي " الجامعة " 22 فيتو، أي إن القرارات تتطلب الإجماع ، سواء كانت أساسية أو إجرائية . 
سادساً : معالجة النقص الفادح في موضوع النزاعات العربية – العربية فلا بدّ من "عصرنة" الميثاق بما يستجيب للتطور الدولي، خصوصاً للفصل في النزاعات واتخاذ الاجراءات الكفيلة بحلّه، وبخاصة بالوسائل السلمية او من خلال تعزيز العدالة عبر قضاء عربي مشترك وله صلاحيات محددة . (مثال غزو القوات العراقية للكويت) وما آل اليه هذا النزاع من حروب وكوارث واحتلال، والوجود السوري في لبنان وتبعاته وآثاره وسبل لحمة العلاقات بين البلدين والشعبين، إضافة الى النزاعات الحدودية العربية- العربية وغيرها.
سابعاً: - معالجة مشكلة التصويت وذلك باعتماد ثلاث درجات له ، فبدلاً من الإجماع الذي يمكن حصره على قضايا محددة كالامن العربي والتكامل وبعض القضايا الجوهرية، فهناك قضايا أقل أهمية يمكن ان تكون بـ "أغلبية موصوفة" (محددة) ( الثلثان أو ثلاثة أرباع) ، وهناك ثالثاً مسائل إجرائية يمكن التصويت عليها بالاغلبية (بنصف +1) او 51% .
   واذا كانت "العقدة" العراقية المزمنة والمشكلة السورية – اللبنانية واليوم الموقف من التسوية لاسيما بعد العدوان على غزة أسباباً جوهرية في تدهور النظام العربي الاقليمي منذ نحو ثلاثة عقود، فلعل استحقاق التغيير يبدأ من الحالة الراهنة، بالسعي لوقف التدهور والانشطار والتشظي، وهذا يتطلب الاصلاح والدمقرطة على نطاق كل بلد عربي وعلى المستوى الجماعي، وذلك بما يتناسب مع التطور الدولي في هذا الميدان.
ولعل تجربة الاتحاد الاوروبي والدور المرموق الذي يضطلع به على المستوى الكوني، تظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن دور الكيانات الكبرى والكتل الاقتصادية الكبيرة مهم ومؤثر لاسيما في ظل العولمة حيث يتجه العالم نحوها، في حين أن جامعة الدول العربية والنظام الاقليمي العربي، كان سابقاً عليها، لكن نكوصه وتراجعه جعل العالم العربي كلّه والنظام الاقليمي العربي برمته يتعرض الى التصدع، الأمر الذي يجعل من مهمة مراجعته ضرورة تمليها الحياة ذاتها ومتطلبات التطور وذلك قبل فوات الأوان!!
نشرت في جريدة الجريدة الكويتية ، الخميس 2/4/2009

1189
مؤتمر ديربان: لعلها أكثر من صدمة
   

عبدالحسين شعبان


يعتبر مؤتمر ديربان أهم وأكبر مؤتمر دولي حول العنصرية، وهو أول مؤتمر دولي كبير ينعقد في الالفية الثالثة في إطار الأمم المتحدة، وجاء انعقاده عشية انقضاء العقد الثالث ضد العنصرية 1993  ،2002 وكان المؤتمر الاول حول العنصرية قد انعقد في العام ،1978 اما المؤتمر الثاني فقد انعقد في العام ،1983 ولعل مؤتمر ديربان كان المحطة الثالثة الأكثر أهمية، حين أدان سياسات “إسرائيل” ووصمها بالعنصرية.

وينعقد في شهر نيسان (ابريل) 2009 في جنيف المؤتمر الرابع حول العنصرية، وهو المؤتمر الذي جنّدت “إسرائيل” جميع طاقاتها للحيلولة دون اقتفائه إثر ديربان، رغم ما ارتكبته من أعمال منافية للقانون الدولي الانساني واتفاقيات جنيف الاربعة وملحقيها، لاسيما في حربها التدميرية ضد غزة.

وعلينا الاعتراف بأن “إسرائيل” من الدول التي تتعلّم من دروسها، فهي لا تترك شاردة وواردة تخصّها الاّ وتدقق فيها وتعيد النظر بحساباتها، ولعل الاقرار بهذا الواقع الاليم، هو الخطوة الاولى التي قد تجعلنا نواجه جزءاً من أزمتنا المستفحلة والتي باستمرارها أصبحت “معتّقة” وشبه مستديمة.

لقد تعرّضت “إسرائيل” لهزيمة منكرة في حرب أكتوبر/تشرين الاول العام ،1973 لاسيما باستخدام سلاح النفط، واضطرت إلى الاعتراف بذلك، وكان صعود منظمة التحرير الفلسطينية وازديارد رصيدها على الصعيد العالمي هو الذي دفع الامم المتحدة إلى منحها عضوية مراقب دائم، وبخاصة عندما طرحت مشروع دولة فلسطينية كهدف من أهدافها، رغم أنها لا تمثّل دولة بالمعنى المتعارف عليه، وكان من نتائج البيئة الدولية الايجابية أن صدر القرار 3379 الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري في 10 نوفمبر/تشرين الثاني ،1975 لكن “إسرائيل” لم تستكن أو تستسلم وعملت جاهدة لاحداث شرخ في الصف العربي بالتوقيع على اتفاقيات منفردة للصلح مع بعض البلدان العربية، وكان هدفها الاول اضعاف التضامن العربي وتعديل الميزان الدولي المختل لمصلحتها، بعد أن لاحت بوادر تحوله إلى ضدها.

اما الهدف الثاني، فقد كان يتمثل بإلغاء القرار ،3379 وأعلن ممثلها السابق في الامم المتحدة هيرتسوغ، الذي أصبح رئيساً ل”إسرائيل” العام 1985 بأنه لن يمرّ العام 1990 الاّ ويكون القرار قد أعدم، رغم عدم اعترافها به وبالقانون الدولي وبالقرارات الصادرة عن الشرعية الدولية، وبخاصة القرار 242 (1967) والقرار 338 (1973) وغيرهما، لكنها تدرك ان وجود هذا القرار يعتبر تشكيكاً بشرعيتها واستمراريتها.

وتحقيقاً لهذا الهدف سعت “إسرائيل” إلى استعادة المبادرة في علاقتها مع اكثر من 30 دولة افريقية قطعت علاقاتها معها بين العام 1967 والعام 1973 وما بعدهما، مستغلة  توقيعها على اتفاقيات كامب ديفيد. ولكل هذه الأسباب قامت “إسرائيل” بشن هجومها ضد القرار 3379 وأفلحت في التخلص منه في 16 ديسمبر/كانون الاول العام 1991 في سابقة خطيرة في الامم المتحدة التي لم يسبق لها ان أصدرت قراراً وقامت بنقضه لاحقاً، مستفيدة من التمزق في الصف العربي جرّاء الغزو العراقي للكويت وما تبعه من حرب قوات التحالف ضد العراق (1990  1991) واختلال موازين القوى على المستوى العالمي، لاسيما بهيمنة لاعب واحد أساسي على السياسة الدولية وهو الولايات المتحدة حليفة “إسرائيل”، حيث كانت هذه المتغيرات مشجعة لمفاوضات واتفاقيات مدريد  أوسلو والتوقيع عليها العام 1993.

ولم تترك “إسرائيل” وسيلة الاّ وأغلقتها أمام العرب والفلسطينيين، وحتى اتفاقيات أوسلو التي لا تلبّي مطامح الحد الأدنى للشعب العربي الفلسطيني المتطلع إلى الانعتاق وحق تقرير المصير وحق عودة اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس (طبقاً للشرعية الدولية) فقد تنكّرت لها “إسرائيل” حيث وصلت الاتفاقيات إلى طريق مسدود منذ العام ،1999 الأمر الذي سبّب اندلاع الانتفاضة في  28 سبتمبر/أيلول العام 2000 والتي استمرّت عدة أعوام استكمالاً لانتفاضة الحجارة في أواخر العام 1987 وما بعده. وعندما قرر المجتمع الدولي الاحتفال بالذكرى الخمسين لاتفاقيات جنيف العام 1999 في جنيف، ولدى الحكومة السويسرية المؤتمنة على وثائق جنيف، عملت “إسرائيل” بكل جهدها على فضّ الاجتماع خلال عشر دقائق بدعم من الولايات المتحدة، واضطرت الحكومة السويسرية مرغمة على الاعتذار إلى ضيوفها (الحكومات أو المجتمع المدني)، في سابقة دبلوماسية لم يكن لها مثيل في تاريخ الدبلوماسية العالمية. والسبب يعود في مناهضة “إسرائيل” لبروتوكول جنيف الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة الصادر في العام ،1977 الذي تضمن حق المقاومة في استخدام الوسائل المشروعة المسلحة و غير المسلحة من أجل حق تقرير المصير، فضلاً عما تفرضه اتفاقيات جنيف لعام 1949 من احترام ارادة سكان الاراضي المحتلة، وهو ما تخالفه “إسرائيل” نهاراً جهاراً في علاقاتها مع الاراضي العربية المحتلة.

اليوم ونحن نقترب من موعد انعقاد مؤتمر جنيف الدولي ضد العنصرية وهو المؤتمر الرابع، فإن “إسرائيل” تهدد بعدم حضور المؤتمر الاّ إذا كفّر عن ذنب مؤتمر ديربان الذي أدان ممارساتها بالعنصرية، مثلما تفعل ذلك الولايات المتحدة، وكلاهما انسحب من ميثاق محكمة روما لعام 1998 “ المحكمة الجنائية الدولية” الذي دخل حيّز التنفيذ العام ،2002 لاشارته إلى موضوع الاستيطان من جانب “إسرائيل”، وإلى عدم رغبة الولايات المتحدة تعريض جنودها للمساءلة الدولية وللولاية القضائية خارج نطاق القوانين الامريكية، كما ان الاتحاد الاوروبي هو الآخر، هدد بالانسحاب فيما إذا تم التعرّض إلى عنصرية الممارسات “الإسرائيلية”.

كل ذلك يحصل بعد العدوان على غزة الذي أثار ردود فعل واسعة ولم يسبق لها مثيل لدى الرأي العام الدولي وكل المدافعين عن حقوق الانسان، وإذا كانت القوى الدولية المتنفّذة تبرر ل”إسرائيل” ما قامت به من ارتكابات بحجة الدفاع عن النفس وتسعى لتحميل الضحايا مسؤولية الحرب بحجة صواريخ حماس والمقاومة الفلسطينية لكنها لم تستطع تبرير ما قام به الجناة والمرتكبون “الإسرائيليون”، بما فيه استخدام الاسلحة المحرمة دولياً باعتراف من الامم المتحدة وعدد من المنظمات الدولية، خصوصاً وأن التهم تتعلق بجرائم حرب وأعمال إبادة جماعية وجرائم ضد الانسانية، ناهيكم عن جريمة العدوان وتهديد السلم والأمن الدوليين.وهو السؤال الذي يظل يُطرح بإلحاح أمام المجتمع الدولي: أين يتوجه من تغتصب حقوقه؟ وكيف يمكن الثقة بمعايير العدالة الدولية مع أحكام القوة والهيمنة!؟ إذ إن تبرير مناهضة الارهاب يتعارض مع ما قامت به “إسرائيل” من ارتكابات سافرة وصارخة لحقوق الانسان.

وتمهيداً إلى مؤتمر ديربان الثاني  أو مؤتمر العنصرية الرابع الذي سينعقد في جنيف، فقد حضرت مؤتمراً تحضيرياً في دمشق وآخر في القاهرة، واشتركت في مؤتمرات ولقاءات وكتبت دراسات وأبحاث وأعطيت مقابلات وتصريحات تلفزيونية وصحافية وإذاعية، الأمر الذي يجعلني بقراءة ومعرفة لتوازن القوى، أشعر أنه ثمة اختلالات جديدة، لاسيما في ظل تقاعسنا واستعداد “إسرائيل” التي لم تهدأ أو تنم الاّ وعينها على جنيف، لتصحيح ما اعتقدت انه اجحاف بحقها، ولكي تقول ان ما حدث في غزة كان “ضرورة” وليس رغبة في الابادة كما اعترف جنودها وكما نشرت صحيفة “هآرتس” مؤخراً. ومع انني لست يائساً أو محبطاً، الاّ أنني أكثر تشاؤماً من السابق، فالوقائع مرّة والحقيقة صادمة، أما الخدر والاسترخاء فإنه لمن يريد أن يعيش واهماً.. وبكل الاحوال فهي أكثر من صدمة.

صحيفة الخليج الاماراتية الاربعاء 1/4/2009

1190
شهادات إسرائيلية: لائحة اتهام!
عبدالحسين شعبان
2009-03-30
قالت منظمة مراقبة حقوق الإنسان الأميركية إن إسرائيل استخدمت الفسفور الأبيض على نحو واسع، لاسيما في المناطق الكثيفة السكان، الأمر الذي يرتب عليها مسؤوليات دولية، بما يعتبر جريمة حرب ضد قواعد القانون الدولي الإنساني، وجاءت هذه المعلومات بعد إشارات وردت على لسان العديد من ممثلي المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، اللتان دعتا إلى فتح تحقيق عاجل إزاء الانتهاكات لقوانين الحرب، ولعل ما زاد من قيمة هذه المعلومات وأكسبها أهمية خاصة شهادات عدد من الجنود والضباط الإسرائيليين.
وبعد نحو شهر من انتهاء عملية «الرصاص المنصهر» التي شنتها القوات الإسرائيلية على غزة والتي دامت 22 يوماً (أواخر عام 2008 وأوائل عام 2009) أدلى ضباط وجنود إسرائيليون باعترافات صريحة نشرتها صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، ثم نشرت الصحيفة مقالاً بقلم مراسلها الحربي عاموس هرئيل يوم 20 مارس 2009، أكد على ارتكاب جرائم حرب وبأوامر مباشرة من القيادات العسكرية، وقد وصف الجنود والضباط الإسرائيليون حقيقة ما حصل، لاسيما وهم يجرون مراجعة تقييمية أمام مرؤوسيهم، وقد اتسمت هذه الشهادات بشيء من الصراحة والمكاشفة والبوح حتى بما هو محظور إن جاز التعبير!
وتقدم هذه الشهادات صورة مغايرة عن رواية الجيش الإسرائيلي الرسمية التي تحاول تزيين صورة «الحرب المقدسة» و»الأخلاقية»، ناهيكم عن إبراز القيم «الإيجابية» للعسكرية الإسرائيلية والتعليمات للجنود والضباط في ساحات المعارك ومواقع القتال، وهو الأمر الذي يحتاج إلى فحص وتدقيق، علماً بأنه لا يتعلق بالفلسطينيين أو العرب، وهم الضحايا المستمرون لما يزيد على 6 عقود ونيّف من الزمان، بل لمواجهة الدعاية الصهيونية -لاسيما في الغرب- التي ما تزال تحاول تصوير إسرائيل باعتبارها الحمل الوديع والواحة الديمقراطية المحاطة بالذئاب الكاسرة والمتوحشة من كل مكان، وإذا بهذه الصورة تهتز وتتصدع أمام الكثير من مفاصل الرأي العام العالمي، بما فيه البلدان التي وقفت إلى جانب إسرائيل.
وجدير بالذكر وقبل تسليط الضوء على بعض الشهادات، أن إسرائيل تعتبر من «الدول» القليلة في العالم، التي ليس لها دستور مكتوب، لأنها لا تريد أن تؤكد مبدأ المساواة بين المواطنين، وهي الحالة التمييزية التي يعاني منها «عرب إسرائيل» وهم سكان البلاد الأصليون، وهو ما جرى الاطلاع عليه خلال السنوات العشر الأخيرة الماضية على نحو أوسع من السابق بكثير!
وكان لاختيار القدس عاصمة للثقافة العربية 2009 ومنع إسرائيل عربَ فلسطين من الاحتفال بذلك، واعتقال البعض، خير رسالة إلى العالم عن الجوانب التي ظلّت خفية وبعيدة عن دائرة الضوء، كما أن إسرائيل تمتنع -رغم تأسيسها في 15/5/1948- بقرار من الأمم المتحدة رقم181 في 29/11/1947، عن تحديد حدودها الجغرافية، وما زالت حدودها غير محددة حتى الآن، وهي تتوسع باستمرار وتضم الأراضي إليها غير مكترثة بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.
ورغم قراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 (1967) ورقم 338 (1973) وقراري عدم الاعتراف بشرعية ضم القدس وعدم شرعية ضم الجولان، فقد استمرت إسرائيل في الاستخفاف بالقانون الدولي الإنساني وبميثاق الأمم المتحدة وبجميع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي لا تقرّ بالحصول على مكاسب سياسية أو جغرافية جرّاء شن الحرب ولا تجيز الاستيلاء على الأراضي أو ضمها أو استخدام القوة بالضد من ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي، بل على العكس من ذلك فإن ميثاق الأمم المتحدة يدعو إلى الحل السلمي للمنازعات الدولية وعدم اللجوء إلى القوة أو التهديد بها، ناهيكم عن إقراره بحق الشعوب والأمم في تقرير مصيرها، باعتبار ذلك أحد المبادئ الآمرة والملزمة في القانون الدولي، وكما يقال في اللاتينية «Jus Cogens».
ولا أظن أن في الشهادات التي تم الإدلاء بها من جانب الجنود والضباط الإسرائيليين في معهد حمل اسم إسحاق رابين ما يدعو إلى تكذيبها من جانب الإسرائيليين، فهي شهادات إسرائيلية وليست عربية ولا يوجد ما يدعو إلى الكذب، ولعل تلك الشهادات تتيح لمن يريد تقديم لائحة اتهام، إطلالة على ما حدث في صفوف الوحدات القتالية الإسرائيلية خلال الحرب على غزة. لقد سجل العسكريون الإسرائيليون ما رؤوه، الأمر الذي يتطلّب من القضاء الدولي عند تقديم لوائح الاتهام أخذه على محمل الجد، فالشهادات لم تؤخذ من أفواه الضحايا الفلسطينيين أو من ذويهم، بل جاءت من الجانب الإسرائيلي بمن فيهم بعض الذين شاركوا في الارتكابات، ولذلك لا يمكن القول إنها دعاية لصالح الفلسطينيين، أو افتراء على «جيش الدفاع الإسرائيلي» أو المتهمين الإسرائيليين، لقد كانت الأطروحات الإسرائيلية السياسية والعسكرية المعلنة تبرر ضرورة تلقين حماس درساً في حرب مقدسة وبخسائر «صفر» وضمن قيم الجيش الإسرائيلي وقوانينه حسبما رددت أوساط الدعاية الإسرائيلية، لكن الشهادات الإسرائيلية المنشورة في صحيفة «هآرتس» تفضح هذه الدعوى، وتنقل قصص الإحباط والقنوط للجنود والضباط المشاركين بالحرب على غزة، خصوصاً ما شاهدوه وما اطّلعوا عليه من مآسٍ دفعت البعض منهم إلى كشفها على الملأ، وأهم وثيقة صدرت هي بعنوان «غزة من الداخل كما رآها المقاتلون»، وإن كانت الوثيقة قد تعرضت للحذف والتكييف، لكنها ظلّت شهادة دامغة على طرد السكان المدنيين وتدمير منازلهم، كما قال أفيف ضابط الصف الإسرائيلي من سريّة لواء جيفعاتي، وتشبث العسكري رام من السرية الميدانية في جيفعاتي بأن التعليمات نصت على إجلاء السكان المدنيين، كما وصف جدعون الحالة الصحية المتردية والقصف العشوائي للسكان المدنيين الفلسطينيين. وقد اعترف قائد وحدة في سلاح المشاة بقتل امرأة فلسطينية مع وليدها بمدفع رشاش قتلاً عمداً، وآخر بقتل امرأة فلسطينية مسنّة كانت تسير في الشارع وحدها، وتعمّد القياديون استهداف المدنيين بدون تحذير سابق، ولعل التعليمات كانت تقضي بعدم الاكتراث بما سيحصل، باعتبار الفلسطينيين لا يستحقون معاملة البشر.
وقد اعترف أحد الجنود بالقول إن «الجميل في غزة أنك ترى شخصاً في أحد الطرقات، ولا يجب أن يكون معه سلاح، ولكن يمكنك أن تطلق عليه النار بكل بساطة، والغريب أن بعض المنشورات كتبها حاخامات يهود تصف الحرب بالمقدسة وتثير الكراهية إزاء الآخر، وتحدث أحد المنشورات أن اليهود وصلوا إلى البلاد بمعجزة، وعليهم القتال لاجتثاث غير اليهود. ولعل كلمة اجتثاث في القانون الدولي تحمل تهمة خطيرة، وهي تندرج تحت تهمة جريمة الإبادة وفقاً للمادة السادسة من نظام محكمة روما (المحكمة الجنائية الدولية)، ومثل هذه التعليمات أو الإيحاءات هي التي كانت وراء اعتراف لأحد الجنود بقوله «إن ذلك هو ما أشعرني بالكثير من العطش للدم».
وإذا قام الجيش الإسرائيلي بتوزيع المنشورات فعلاً على جنوده مثلما تقول الشهادات، فإن تهمة جريمة الإبادة الجماعية -وهي من أخطر الجرائم في القانون الدولي الإنساني- ستلاحق المسؤولين الإسرائيليين، لاسيما أن الجيش كمؤسسة رسمية يمثل الدولة وهو المسؤول، إن مثل هذه التهم في القانون الجنائي بما فيه الدولي تثبت من خلال: الاعتراف من جانب المرتكبين بالفعل الذي قاموا به، والبيّنات بالشهادات والشهود، والقرائن، ولعل جمع وتصنيف الاعترافات والبيّنات والقرائن، يشكّل جوهر لائحة الاتهام، التي يمكنها تقديمها إلى المحكمة لإقامة الدعوى، وهو ما حصل في محاكمتي نورنبرغ وطوكيو العسكريتين، وكذلك ما حصل في محاكمات يوغسلافيا ورواندا وسيراليون، لكن الأمر يحتاج إلى جهود كبيرة ودعم مادي ومعنوي وإرادة سياسية وحشد للطاقات والإمكانات لتحقيق ذلك، ولا يكفي القول إن ثمة ارتكابات شاهدها العالم كلّه أمام شاشات التلفاز، ليكون هناك الدليل الكافي على ضرورة إنزال العقاب بالجناة، بل لا بدّ من اتباع الطرق والإجراءات القانونية، والتي لا يخلو بعضها من تعقيدات غير قليلة، ناهيكم عن ضغوط ومحاولات لحرف العديد من القضايا والإجراءات عن مسارها، وبهذا المعنى فلابد من اختيار المحكمة المختصة بذلك ومعرفة القوانين التي تستند إليها وكيفية توجيه لائحة الاتهام وضد أي القيادات والأشخاص، وتحضير الشهود والشهادات وغيرها من البيّنات وكيفية الاستفادة من اعترافات الجناة أو شهادات من شارك أو لديه معلومات بخصوص الارتكابات وجميع الأدلة والأسانيد والقرائن التي تدفع المحكمة في حالة انعقادها لاتخاذ القرار المناسب، ليس هذا فحسب، بل إن إبقاء القضية قائمة سيضطر الكثير من الذين سترد أسماؤهم كمتهمين إلى عدم السفر إلى الدول التي تسمح قوانينها في حالة إقامة الدعوى بالتحقيق معهم.
ويمكن لشهادات الجنود والضباط الإسرائيليين ومعها تقارير المنظمات الدولية، أن تشكل مواد وثائقية مهمة في لائحة الاتهام، سواء أمام المحاكم الوطنية لأحد البلدان الأوروبية التي تسمح قوانينها بالنظر في مثل هذه القضايا وملاحقة المتهمين، أو لوضعها أمام المحكمة الجنائية الدولية، وإقناع المدعي العام لتوجيه الاتهام إلى القيادات الإسرائيلية المتهمة بالارتكاب، ومع أن هناك محظوراً يتعلق باحتمال استخدام الفيتو من جانب واشنطن لصالح إسرائيل، إلا أن جمع الوثائق وتصنيف الجرائم أمرٌ مهم لإبقاء القضية حيّة وفي دائرة الضوء، كما يمكن إحالة القضية إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة اقتفاء لأثر القرار377 «الاتحاد من أجل السلام» بشأن القضية الكورية في الخمسينيات، لاسيما إذا تعذّر تأسيس محكمة خاصة عبر مجلس الأمن، مع أن المسألة لا تخلو من محاذير هي الأخرى، خصوصاً إذا لم تتمكن البلدان العربية من الحصول على أغلبية في الجمعية العامة، ويبقى خيار إقامة دعوى أمام محكمة العدل الدولية للحصول على تعويض مادي من خلال قرار بالمسؤولية المدنية، أحد الوسائل التمهيدية لتجريم المتهمين.
الشهادات الإسرائيلية جزء مهم ولا غنى عنها لتعزيز لائحة الاتهام بحق المرتكبين، لاسيما أن جبر الضرر وتعويض الضحايا وإنصاف المظلومين وإصلاح النظام القانوني هو أهم ما تتطلع إليه العدالة الدولية تمهيداً لاستعادة الحقوق العادلة والمشروعة.

صحيفة العرب القطرية العدد 7596- الإثنين 30 مارس 2009 م ـ الموافق 3 ربيع الآخر 1430 هـ


1191
النظام الإقليمي العربي: وقفة مراجعة للأزمة المعتقة!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

إذا كانت الخبرة العربية عند تأسيس جامعة الدول العربية محدودة وضعيفة، فإنها بدأت تتوسع بإنشاء: مجلس الوحدة الاقتصادية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك «عام 1950»، خصوصاً بعد تطوّر الصراع العربي–الإسرائيلي بفعل عدوان إسرائيل المتكرر. ولعل خبرة نحو 64 عاماً من العمل المشترك بما له من سلبيات كثيرة وبعض الإيجابيات، تجعلنا نتوقف عند مراجعتها من خلال القراءة الانتقادية لنؤكد:
1- إخفاق الجامعة في حل النزاعات العربية–العربية، رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها، لكنها لم تتمكن من الحيلولة دون اندلاع الحروب والغزو واستمرار النزاعات، ولعّل كارثة غزو الكويت وما تبعها خير دليل على ذلك، وكما أن الاستقطاب الأخير بخصوص غزة وقبله لبنان دليل آخر على أن الأزمة ضربت أطنابها في العمق العربي، لدرجة أن فاصلاً زمنياً بين قمة الدوحة وقمة الكويت لا يتجاوز يومين فقط، وهو ما يعكس التباعد في المواقف والتعاكس في الاستقطابات.
2- إخفاقها في التوصل إلى حلّ عادل ومقبول للقضية الفلسطينية سواءً بتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية أو إعمال حق العودة أو استعادة الحقوق العربية في القدس أو معالجة موضوع المستوطنات أو غيرها. ورغم النجاح الذي تحقق للعرب والفلسطينيين في السبعينيات في الأمم المتحدة وعلى المستوى الدولي، إلاّ أن توقيع بعض البلدان العربية على معاهدات للصلح المنفرد خارج نطاق الجامعة قد أضعف من مواقفها، فلم يتوصل العمل العربي المشترك إلى أي معالجات جدية يستطيع أن يلوّح بها بما يتوافر لديه من إمكانات، وإذا ما تجاوزنا المبادرة العربية التي عرضها الأمير (الملك) عبدالله في مؤتمر قمة بيروت، فإنه طيلة ستة عقود من الزمان، لم يكن هناك خطة عربية مجمع عليها بشأن القضية الفلسطينية.
3- إخفاقها في تجنيب العديد من البلدان العربية نتائج الحصارات الدولية، كما حصل إزاء العراق وليبيا والسودان وغيرها.
4- إخفاقها في تجنيب البلدان العربية الحروب التي عانتها سواءً العدوان الإسرائيلي المتكرر أو حربي الخليج الأولى والثانية وما تبعها من حروب واجتياحات.
5- إخفاقها في تجنيب الشعوب العربية من انفراد حكوماتها بها والتغوّل عليها وانتهاك حقوق الإنسان وإلحاق ضرر بالتنمية والديمقراطية.
ومع أن «الجامعة» أحرزت بعض النجاحات في ميادين متعددة اقتصادية واجتماعية وقانونية وتربوية وثقافية ورياضية وغيرها فإن تعثرها السياسي في المجالات المشار إليها جعل صورتها تبهت أمام الرأي العام الذي لم ينظر إلى مبادراتها بشكل جدي أحياناً واستناداً إلى تلك المعطيات تكوّن حولها رأيان:
الأول: يقول إن «الجامعة» شاخت وانتهى دورها، ولم يعد بالإمكان إصلاحها، والأجدر عدم الرهان على كيان يتدهور باستمرار وينحدر نحو الحافة، وحتى لو َصلحُ هذا الكيان في منتصف القرن الماضي، فإنه لا يصلح للقرن الحادي والعشرين.
ومثل هذا الرأي سائد لدى أوساط شعبية واسعة بسبب حالة الإحباط التي أصابت الأمة العربية ونكوص القضية الفلسطينية، وأخيراً احتلال العراق واستمرار المشكلة اللبنانية–السورية التي توّجت بمقتل الرئيس رفيق الحريري التي زادها العدوان الإسرائيلي عام 2006 التهاباً، يضاف إليها مشكلة دارفور والانقسام الذي حصل ما بعد العدوان على غزة. وكذلك بسبب النقمة على مواقف «الجامعة» التي يريدها البعض أن تنتصر له وللمواطن العربي في كل مكان، حيث يتعرض للاستلاب والحرمان والإذلال، لكنها غير قادرة على إنقاذه أولاً بسبب ميثاقها وآليات عملها المتخلّفة وثانياً بسبب الأزمة العامة التي تعانيها الدول الأعضاء والنظام الإقليمي العربي، وأسباب أخرى.
وهذا الرأي وإن كان له ما يبرّره إلاّ أنه لا يأخذ بنظر الاعتبار، أن غياب كيان أو إطار مؤسسي عربي جامع، رغم نواقصه وعيوبه وثغراته سيؤدي إلى نوع من الفراغ، ناهيكم عن عدم وجود بديل يصلح لتبادل الرأي والحوار والتعاون في بعض الأنشطة المشتركة وإن كانت بحدّها الأدنى، ليس على صعيد السياسة التي قلنا: إن «الجامعة» فشلت فيها، ولكن على صعيد الاقتصاد والاجتماع والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والصحة والمواصلات وغيرها، إذ إن عدم وجـود أطـر ومـؤسسات لعمـل عربي مشترك، سيشكل نقصاً كبيراً وفادحاً لا يمكن سدّه بإلغاء كيان الجامعة، بل يمكن بإصلاحه ومعالجة أسباب الخلل، ناهيكم عن معالجة الوضع العربي الرسمي على مستوى كل بلد عربي. ولعل هذه المعالجة التي تحتاج إلى مراجعة حقيقية للتجربة على مدى ستة عقود ونيف من الزمان وتجديد جذري وإن كان على مراحل باتخاذ خطوات بالاتجاه الصحيح.
الثاني: يقول بدلاً من إلغاء «الجامعة» أو حلّها وتصفية مؤسساتها، فإن على قوى المجتمع المدني العربي «الموازي» ومؤسساته والقوى والأحزاب السياسية الشعبية ممارسة دورها وتحمل مسؤوليتها، من خلال ضغوط متنوعة تمارسها على «الجامعة». ولا يكفي في هذا المجال أن تكون هذه المنظمات قوة احتجاج واعتراض فحسب، بل هذا هو المهم أن تتحول إلى قوة اقتراح وشراكة، فلعل ذلك ما يجعل النظام العربي الرسمي يتحمّل هو الآخر مسؤولياته، بل يعرّضه بهذا المعنى للمساءلة من خلال الرقابة والشفافية ومشاريع الاقتراحات، خصوصاً بعد أن وصلت الاوضاع الرسمية العربية إلى طريق مسدود، فقد قادت سنوات اللامبالاة والتنصل عن المسؤولية والانكفاء القطري إلى الفشل وتعطيل وإجهاض العمل العربي المشترك وكانت النتائج وخيمة على الجميع.
لقد علّقت الكثير من البلدان العربية قضايا التنمية والديمقراطية والإصلاح واحترام حقوق الإنسان على الصراع العربي-الإسرائيلي، ومعها دحرجت الجماهير التي ذاقت الأمرّين إلى القاع، وإذا بها تكتشف بعد ما يزيد على ستة عقود ونيّف من الزمان، أن التنمية والديمقراطية التي تمت التضحية بهما أو الاستعاضة عنهما بالعسكرة وشد الأحزمة على البطون، بحجة الخطر الخارجي الذي يدّق على الأبواب، لم تستطع تحرير الأرض والإنسان، من جهة ومن جهة أخرى لم تستطع مواكبة التطور العالمي في ميدان التنمية والديمقراطية، والأمر سواء في بلدان اليُسر وفي بلدان العُسر.
لكن الرهان على المجتمع المدني العربي والحركة الشعبية، هو الآخر رهان غير مضمون في ظل الأوضاع السائدة، فهي تعاني بشكل أو بآخر ما تعانيه الأنظمة، من هشاشة الهياكل والتراكيب والبُنى، ناهيكم عن ضعف الشفافية والديمقراطية داخل صفوفها، وتشبت بعض قياداتها أحياناً بمواقعها لعقود من الزمان بتقديمها الخاص على العام، ويحدث أحياناً التضحية بالكيانات التي تمثلها بدلاً من التخلي عن مواقعها التاريخية «المعتقة»، إضافة إلى شخصنتها وتحويلها إلى «ممتلكات» خاصة مما يجعلها غير مؤهلة على تبنّي مشروع قادر على إجراء هذه المراجعة من جهة، ومن جهة أخرى التقّدم ببدائل ومقترحات للإصلاح على الصعد السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في ظل أوضاع تثير الكثير من التشاؤم والقنوط. قد يكون تعزيز وتطوير المجتمع المدني الموازي ومن ثم إقرار «الجامعة» بدوره وأهميته أحد المخارج الأولية لمعالجة أزمة «الجامعة» الشاملة والبنيوية وبحث مستقبلها سواءً ضمن استراتيجيات بعيدة المدى أو ضمن خطط قريبة للإصلاح، وبالتعاون بين الحكومات والمجتمع المدني وجامعة الدول العربية، ولعل دعوة مؤتمر القمة الاقتصادية الاول في الكويت للمجتمع المدني ومؤسساته (يناير 2009) هو خطوة أولى على طريق الاعتراف بدوره، الأمر الذي يتوقف على مدى تقدم العلاقة لاحقاً وفهم كل منهما (الحكومات والمجتمع المدني) لواجباته، لاسيما باعتراف الحكومات بشراكة فعالة مع المجتمع المدني.
إن حدثاً كبيراً ومفصلياً مثل 11 سبتمبر الإجرامي الإرهابي الذي حصل في الولايات المتحدة وهزّ العالم لفت الانتباه إلى أن الحكومات لم تكن مستثناة من «الاتهام» بتشجيع أو بالضلوع في الإرهاب الدولي تحت حجة الخطر الإسلامي المزعوم، الأمر الذي وضع الجميع بلا استثناء في العالمين العربي والإسلامي في قارب واحد، حكومات ومعارضات، سلطات ومؤسسات مجتمع مدني، دولاً وأفرادا، لاسيما وقد أعقبه احتلال أفغانستان والعراق وعدوان على لبنان وغزة وانفلات عنف لم يشهد له العالم مثيلاً، بما يقتضي بحثا جادا ومسؤولا إزاء ما يمكن تصوره بعد 64 عاماً على تأسيس جامعة الدول العربية وإزاء النظام الإقليمي العربي ارتباطاً مع الأزمة المعتقة.
•   باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد 572 الجمعة 27 مارس 2009 ,01 ربيع الثاني 1430

1192
تأبــط " ديمقراطيـــة "!!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
يقول الكثير من القوى والأحزاب السياسية على ان الديمقراطية أصبحت بالنسبة لها خياراً لا رجعة فيه، ولعل ذلك أمر سليم وجيد، ولكن السؤال منذ متى أصبحت الديمقراطية مرجعية مشتركة يمكن الاستناد اليها من جانب التيارات والفاعليات السياسية والفكرية والمدنية، كأساس يمكن التعويل عليها لفك الاشتباك في التدافع والنزاع بين الفرقاء، ولتحديد المسار والمآل، لمن يقبضون على السلطة السياسية ومن ينافسونهم من معارضيهم!؟
   لقد كان مثل هذا الحديث قبل ثلاثة عقود من الزمان، أقرب الى "التهمة" بالارتداد حد الخيانة أحياناً، أو " الحلم" السري المستتر الذي لا يمكن البوح به دفعاً للشبهات، وعلى أقل تقدير فقد كان يُعاب على أصحابه بمجافاة الواقعية السياسية، خصوصاً وان القوى والانشطة المتنفذة والمتسيّدة في السلطة والمعارضة، كانت تنأى بنفسها عن الانخراط فيه، أو أنها لم تتدخر وسعاً الاّ في دمغ الداعين اليه على أحسن ظن بالمثالية أو " بالتأورب" نسبة الى (أوروبا) أو التغرب نسبة الى الغرب، فلم تكن تلك القوى والأحزاب تخفي خياراتها للنموذج الشمولي القوموي- البعثي أو الماركسيوي- الشيوعي أو الاسلاموي الايراني أو السوداني لاحقاً.
وليس هناك فروقاً كبيرة بين التيار العلماني أو التيار الديني، فثمة مشتركات في ادعاء امتلاك الحقيقة والأفضلية على الآخرين، تارة بحجة الوحدة العربية وتحرير فلسطين، وأخرى باسم الدفاع عن الثورة ضد الاعداء الظاهرين أو المختفين، الداخليين والخارجيين، وثالثة باسم حماية مصالح الكادحين والطبقات المسحوقة، ورابعة باسم مصلحة الاسلام الذي هو الحل الشافي لجميع مشاكل العرب والمسلمين، بل والعالم أجمع، ولعل تلك السمة كانت سائدة لدى مختلف الاوساط بما فيها جماعات المجتمع المدني والاتحادات والنقابات والجمعيات، التي كانت في واقع الحال امتداداً وواجهات تنظيمات حزبية وسياسية ودينية أحياناً، كل على انفراد أو باجتماعها أحياناً، في جبهات أو كيانات موحدة.
ولعل قضية الديمقراطية وإن وجدت لها تخريجات باسم الديمقراطية الشعبية أو العربية أو الاسلامية لاحقاً أو الرشيدة أو الحكيمة، كانت بعيدة عن "المفهمة"، أي خالية من مقاربة لمفهومها السائد في الفكر السياسي مثل الاقرار بالحق في المساواة التامة وبالحق في المواطنة الكاملة والاعتراف بسيادة القانون وفصل السلطات، ولاسيما استقلال القضاء، واعتماد التعددية واجراء انتخابات دورية والمساءلة، وتأكيد مبادئ المشاركة في ادارة الشؤون العامة وحق تولي المناصب العليا، والالتزام باشاعة الحريات العامة والخاصة، وبالأخص حرية التعبير وحق التنظيم وحق الاعتقاد، وتلكم أساسات في احترام حقوق الانسان.
   والمفهمة تستوجب "مقدرة" في بلورة الحقوق واعتمادها في قوانين وأنظمة، من خلال "المعرفة"، وهذه الأخيرة تستوجب "مأسسة" أي وجود مؤسسات لحمايتها وتطويرها ومراقبة تنفيذها، ولعل هذه تحتاج الى دور للرأي العام ومؤسساته وبخاصة الاعلامية.
وإذا كانت الثمانينات قد شهدت تحوّل الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي من شكل الى شكل آخر، لاسيما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، وهيمنة قطب آحادي على العلاقات الدولية، فإن مسألة الديمقراطية وجدت ضالتها بتحوّل موضوعي لدى تيارات واتجاهات فكرية وسياسية، او بحكم الأمر الواقع أحياناً وإن لم تستقر أو تهتدي بقناعات راسخة، لاسيما في ضعف التكوين النظري، ناهيكم عن شحة وهشاشة التجربة وتراكماتها.
ومع ذلك يمكن القول ان الديمقراطية أضحت حاجة ماسة سواءًا كانت اختياراً أو اضطراراً وإنْ كانت الثقافة الديمقراطية وجانبها الحقوقي ما زالا ضعيفين الى حدود كبيرة، وتعاني شعوب وبلدان المنطقة العربية من شحة في مصادر الثقافة الديمقراطية، ولعلها من أكثر بلدان العالم تأخراً في مقاربة هذه المسألة بالذات وفي الاصلاح والتحول الديمقراطي.
كما ان اختيار القوى المتنفذة في العلاقات الدولية وبخاصة الولايات المتحدة، "الاسلام" عدواً وشحذ جميع الاسلحة لمواجهته، جعل الصراع الدولي يتجه مرة أخرى نحو حرب باردة من نوع جديد، بل الى حروب ساخنة أحياناً، بدأت منذ حرب تحرير الكويت، التي تجاوزتها الى تدمير البنية التحتية العراقية وفرض الحصار على الشعب العراقي الذي دام ثلاثة عشر عاماً، ومن ثم شن حروب واحتلال بلدان، خصوصاً بعد أحداث 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية الاجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة العام 2001، الأمر الذي عزّز النزعة العسكرية الانتقامية وقاد فعلياً الى غزو أفغانستان واحتلالها، بحجة القضاء على الارهاب الدولي وملاحقة تنظيمات القاعدة واسقاط حكومة طالبان الارهابية، ومن ثم غزو واحتلال العراق ودفع المنطقة الى خيارات أشدّ عسفاً وعنفاً، الأمر الذي دفع جميع الدعاوى بالاصلاح والديمقراطية، بما فيها الارهاصات الاولية الى الهاوية، وأدى الى تراجع الديمقراطية في المنطقة، خصوصاً بعد سلسلة منفلتة من عقالها من أعمال العنف التي طالت العديد من البلدان والشعوب دون استثناء بين الشرق والغرب.
ووجد الذين تأبطوا الديمقراطية، أنفسهم أمام خيارات صعبة وقاسية، فالحكام لا يتنازلون عن سعيهم لتكريس المزيد من سلطاتهم، وهذه المرة باسم مكافحة الارهاب والانخراط في الحملة الدولية المدعومة أمريكياً وغربياً والمسنودة من الامم المتحدة حسب قرارتها الشهيرة الصادرة عن مجلس الأمن وبخاصة القرار 1368 الصادر في 12 ايلول (سبتمبر) العام 2001 والقرار 1373 الصادر في 28 أيلول (سبتمبر) العام 2001 ومن ثم القرار 1390 الصادر في 16 كانون الثاني (يناير) العام 2002، وهذه القرارات تفرض على الدول الانخراط بالحملة الدولية لمكافحة الارهاب، كما أنها ترتب مسؤوليات عليها في حالة عدم تعاونها لتحقيق ذلك، لاسيما وهي أعطت الضوء الأخضر لما سمّي " بالحرب الاستباقية"  أو " الوقائية " في حال " الشعور" بأن خطراً وشيك الوقوع يمكن أن يحدث أو يحتمل أن يقع.
ومن الجهة الأخرى فإن الغرب والولايات المتحدة صعدّا من دعواتهما الى اصلاح ديمقراطي وتحوّلات سياسية في المنطقة العربية وطرحت مشاريع باسم "الشرق الاوسط الكبير" أو "الجديد"، لكن تلك الموجة انكسرت مرتين عند شواطئ البحر المتوسط، في المرة الاولى عندما انحرفت رياح التغيير التي هبّت على أوروبا الشرقية في الثمانينات، لاسيما بعد سقوط جدار برلين، حين اعتبرت منطقة الشرق الاوسط بفعل المصالح الدولية الانانية الضيقة، خارج فعل التغيير والاصلاح والتحوّل الديمقراطي الحقيقي، والمرة الثانية عندما فشل المشروع الامريكي في العراق، فأخذ يبحث عن طوق نجاة لا في الديمقراطية الموعودة، والتي ظلت مفقودة لسنوات طويلة، بل في مساومات  سياسية والبحث عن سبل الاستقرار الذي تعكّر صفوه.
وازدادت المنطقة اضطراباً وعبثاً بفعل الحصارات والحروب والاحتلال والعنف والارهاب، خصوصاً باستمرار احتلال اسرائيل للاراضي العربية، وشنها خلال سنتين ونيف فقط، حربين ضد لبنان العام 2006 وضد غزة أواخر العام 2008 وبداية العام الجاري 2009، ناهيكم عن حصارها الذي زاد على عامين ونصف.
ما زالت الهوة سحيقة حتى لدى دعاة الاصلاح ودعاة الديمقراطية بين الرغبة والواقع وبين الاصلاح الفكري والاصلاح المؤسسي، كما ان الهوة عميقة والتناقض كبير بين التيار الاسلامي وبين الحداثة، وما زالت الاغلبية المهيمنة عليه خارج دائرة الحاضر، بل أن قسمها الأكبر يعيش في قرون سحيقة من الماضي "التليد"، الذي تتم قراءته بانتقائية كبيرة وبما يخدم اوضاع الحاضر الذي ما زال يعيش حالة كسل فكري وخدر نظري.
كذلك فإن الفجوة شاسعة بين التيار الاسلامي والتيار العلماني، وبخاصة جانبيه القومي واليساري والماركسي، فما تزال النزعة الشمولية مثل السابق مهيمنة عليه وما زالت بعض قواه تقف حجر عثرة أمام الانتماءات والهويات الفرعية، ناهيكم عن الموقف من الاقليات الدينية والاثنية والسلالية واللغوية. وحتى التيار الذي اطلق عليه التيار الليبرالي الذي كانت مقدماته الاولى من العشرينات والثلاثينات والتي تجمّدت أو تقهقرت في الستينات بسبب هيمنة العسكر والأنظمة الشمولية، بدى متململاً، فقد اتجه قسم من دعاته الى التعويل على الغرب، بحجة عدم امكانية التغيير، الأمر الذي جعل قضية الديمقراطية مؤجلة، ناهيكم عن أنه تبشيع صورتها أمام الجمهور .
الديمقراطية مسار وعملية تراكم طويلة الامد وتطور تدريجي يأخذ الخصائص الوطنية والثقافية بنظر الاعتبار في إطار المبادئ العامة، التي تشكل المشترك الانساني للتطور الدولي، وبهذا المعنى فهي ليست قرارات فوقية، وهي لا تحتاج الى من يتأبطها لأهداف ضيقة وأنانية، سياسية أو دينية أو مذهبية أو آيديولوجية، بقدر حاجتها الى ثقافة تعمّ وتنتشر لدى المجتمع والى مؤسسات ضامنة والى علاقة توازن بين الفرد والدولة والمجتمع وبين السلطات، والى مراعاة الخصوصية في إطار الهوية الجامعة، والى مجتمع مدني حي ومستقل ومؤثر بحيث يكون شريكاً للدولة وقوة اقتراح مؤثرة.
والديمقراطية رغم عيوبها ونواقصها وثغراتها، لكنها ما تزال هي الحل الانسب والأفضل والأقل خسارة بالنسبة للفرد والمجتمع والدولة، خصوصاً وأنها تحمل آليات تعديل وتصحيح مسارها وتأمين انتقال الشرعية والسلطة الى خيارات جديدة، لأنها مرتبطة بمنظومة قيم، مع انه ليس من الضرورة بمكان أن تأتي بالأصلح والأصوب والأعدل. ولعل ذلك كان موضوع ندوة مهمة إلتأمت في الرباط بدعوة المؤسسة العربية للديمقراطية وبمشاركة نخبة متميزة من مفكرين وباحثين ومثقفين عرب!!

1193
كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً !
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
أعادت الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية طيف ماركس الذي غاب لسنوات زادت على عقدين من الزمان، لاسيما في ظل انهيار مؤسسات مالية وتأمينية ومصرفية عملاقة، لدرجة اعتبرها البعض تحقق لنبوءة ماركس الذي كان يُنظر اليه في السنوات الماضية باعتباره جزءًا من المتحفية التراثية للقرن التاسع عشر، خصوصاً بعد ان انصرف عنه الكثير من مريديه بل وغلاّته المتطرفين وولوا وجوهم صوب "الليبرالية الجديدة"، الأمر الذي بحاجة الى وقفة مراجعة وجردة حساب بخصوص الماركسية واتجاهاتها، من زاويتها الفلسفية الفكرية، ومن زاويتها التطبيقية العملية.
غالباً ما يتم الحديث عن الماركسية بلحاظ سلبية المعنى التاريخي للممارسة، سواءًا ممارسة ماركس نفسه وتجاوز الزمن للكثير من أطروحاته أو الممارسة الماركسية بعده، أما المنهج الماركسي وهو الأساس، فلعلّه الجزء المنسي من الماركسية،. ونسيان أو تجاوز هذا الجزء من الماركسية يجعلها عند البعض شرٌ مطلق وعند البعض الآخر خيرٌ تام، فالأول يقيس على بعض التطبيقات والممارسات الخاطئة المحكومة بزمنها وبظرفها، أما الثاني فهو ينطلق من الكمال والعصمة والثبات، فبدلاً من استخدام المنهج الجدلي على نفسه أولاً، تراه ينغلق ويضيق بل يتشرنق على ذاته، بحكم ادعاء امتلاك الحقيقة وبطلان ما سواها.
لعل الاتجاه الاول ينطلق من رؤية مغالية في التبديد، في حين أن الاتجاه الثاني يأخذ بالتأييد، وبين المدّنس والمقدّس يضيع المنهج الجدلي، كما ارتآه وكشف عنه ماركس بعد جهد ومعاناة، باعتباره بداية وليس نهاية، منهجاً ديالكتيكياً وليست أحكاماً جاهزة.
ان اعتبار الماركسية علماً كاملاً ونظرية تامة مخالفة لجوهر منهج ماركس الجدلي، فهو أول من قال بعدم القطع بتمامية وكمال كل شيء، الأمر الذي جعل اعتبار كل شيء نسبي، وهو ما ذهب اليه عالم الفيزياء باسكال الذي تحدث عن النقص في العلم والفكر والفلسفة. وكان ماركس نفسه يردد:" لا علم كامل الاّ في مملكة النحل"، وإنّ كل علم ناقص، وفي نقصه سرّ تقدمه التاريخي، ولعل ذلك يذكرنا بالفيلسوف العربي الكبير الصوفي الاتجاه العلاّمة النفري الذي قصد من قول " كل علم مستقر" يعني " جهلاَ مستمراً " وذلك لأن كل شيء متغيّر وغير كامل ولا تحتسب الاشياء الاّ بنسبيتها.
ولا يمكن اعتماد قانون : وحدة وصراع الاضداد دون الحديث عن قانون نفي النفي، فالجدلية الماركسية دون القانون الثاني تتحول الى ثنوية ومثنويات: خيرٌ وشرٌ، جمالٌُ وقبحٌ، نهارٌ وليلٌ، حياةٌ وموتٌ وهكذا. وإن الجدل منهجياً يعني الحفاظ على الجدلية، لا تصنيمها أو تحنيطها، وبقدر كون الماركسية احترام وتقدير لجهد ماركس الكبير والخلاّق، فينبغي اعتبارها أولاً وقبل كل شيء مثالاً لحرية النقد لا دوغمائيته، فالجدل المنهجي الماركسي، بحاجة الى نقدية من داخله، إضافة الى من خارجه.
وبهذا المعنى تكون ماركسية ماركس هو بداية الماركسية لا منتهاها، الأمر الذي نحتاج فيه الى نقد الماركسية السائدة بمنهج ماركس، ونقد ماركس وتطبيق منهجه الجدلي عليه وعلى أحكامه، لاكتشاف قوانيننا، لا تطبيق قوانينه، لأن الكثير من قوانينه وتعاليمه واستنتاجاته وأطروحاته لا تصلح لعصرنا، لاسيما وبيننا وبينه نحو 150 عاماً، وإذا كانت قوانينه تعميماً لمعرفة القرن التاسع عشر وعلومه، فالماركسية اليوم، وبخاصة المستقبلية تجاوزت علوم القرن العشرين، لاسيما ما بعد العولمة والحداثة، وهي تسير الخطى حثيثاً في القرن الحادي والعشرين، وهي تختلف عن ماركسية القرن التاسع عشر وعن ماركسية القرن العشرين. كما ان ماركسية ما بعد سقوط جدار برلين تختلف عن ماركسية ما قبل سقوطه، وماركسية الماضي ستختلف عن ماركسية المستقبل.
   هناك نوعين من الماركسية، الاولى بانسابها الى ماركس " الاصلي" وانجازاته الكبرى، ولعلها في الكثير منها ماركسية نصيّة، لاسيما إذا أخضعت للقراءة المنهجية في إطار حقبتها التاريخية ، ماركس الشاب الهيغلي، وماركس ومخطوطات 1844، وماركس ما قبل رأس المال، وماركس والثلاثية الأثيرة 1848-1852، وماركس ورأس المال، ولا ينبغي أن يؤخذ ماركس كلّه مأخذ الجد، وبهذا المعنى لا ينبغي أخذ " الماركسية الممكنة" عند ماركس كلّها باعتبارها اكتمالاً أو تماماً، فلم يكن ماركس كلياً في عمله النقدي، بل كان نقدياً في عمله الكلي، وهو ما ينبغي أن نفهمه أولاً في نقد هيغل أو تعديله نقدياً.
   أما الماركسية الثانية فهي ما بعد ماركس فيمكنني أن أقسمها الى قسمين:
القسم الأول – ماركسية النموذج الاشتراكي الاستبدادي في الانظمة التي حكمت الاتحاد السوفيتي منذ العام 1917 حتى انهياره العام 1991 والبلدان الاشتراكية الاخرى، التي اعتمدت الموديل ذاته، وان اختلفت في التفاصيل في شرق اوروبا أو آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية. والقسم الثاني الماركسية المستقبلية "ماركسية ما بعد الحداثة" وكانت ارهاصاتها الاولى مدرسة فرانكفورت وإعادة قراءة تأثيرات هيغل على ماركس.
ان الماركسية وضعية نقدية جدلية، وهي مضادة للمفهوم الميتافيزيقي عن المعرفة والعالم، وهي تكوين يناقض الواقع، وعندما تصبح الماركسية بلا نقيض ستكون مجرد أحلام، وبإعمالها يتأكد ويتأتى النقيض. لقد جرت محاولات لاختزال ماركس والماركسية الى تبسيطية، بحيث أصبح فهم التاريخ كلّه ماركسياً بحذف نقيضه الضروري وجدله الخلاّق، وذلك دون مراعاة باحتمال تقديم الضد لضدية أخرى جديدة ، ولعل ماركسية ماركس نفسه كانت وحياً من النقيض، فكيف يتم إلغاء النقيض في الخطاب الماركسي الذي ساد بضعة عقود وما يزال بعضه يصارع على البقاء رغم نقوصه وتقهقره!؟
لا اعتقد بوجود ماركسية نقية أو كاملة على غرار هيغيلية مطلقة أو كليّانية نسقية، ولعلي أميل الى اعتبار كل عمل ماركسي صرف هو عمل هيغلي بشكل عام، وقد سعى ماركس الى احتواء نقدي للمتناقضات، وكان هو أكثر من يكره إضافة المزدوجتين اللاحقتين اللغويتين " Marxist " و" Marxisizm"، وكان يرفض اعتبار بعض استنتاجاته وقوانين الكشف التي قام بها مثل منهجه الجدلي في دراسة تاريخ تطور البشرية واستغلال الانسان للانسان عبر فائض القيمة، نظرية كاملة أو نهاية لمعرفة نظرية خالصة، وكان يردد عندما كان أحدهم يخاطبه " أنتم الماركسيون" بالقول: كل ما أعرفه أنني لست ماركسياً!!
   وبهذا المعنى لا بدّ من وضع مسافة بين نقد البديل الآيديولوجي ماركسياً، وبين البديل الماركسي للآيديولوجية، أي عدم الاكتفاء بماركس وماركسيته، باعتبارها كل ما لدينا من الماركسية، وذلك باعتماد منهجه النقدي الوضعي المفتوح.
ان اقتصار قراءة الماركسية على ماركس ذاته دون المدارس الاخرى سيكون مأخذاً على الماركسيين، فالمتمركسون بألوانهم وحدهم هم الذين قفلوا خزانتهم على الكتب المدرسية الماركسية التاريخية، ووضعوا مسافة بينهم وبين تجديد الفكرة الماركسية ذاتها، ولعل رد الاعتبار للجدل والمنهج الماركسي النقدي الوضعي قبل تحويله الى لاهوت وأحكام وقوانين ثابتة ومنزّلة، سيكون مساهمة في إحياء الماركسية بعد أن تصحّرت روحها وتم سلب جوهرها من خلال تطبيقات مشوّهة.
الماركسية هي جزء من التاريخ وليس التاريخ كله، ولعل فهم التاريخ ماركسياً لن يكون فهماً تاريخياً نقياً الاّ إذا أرادت الماركسية السائدة التعالي عليه، فلا يمكن ان يكون هناك وعي بالتاريخ دون تاريخ للوعي، والوعي في الغالب موقف من التاريخ، فبأي وعي ماركسي أصبح التاريخ كله خاضعاً لفهمه الماركسي؟
كان ماركس في إطار عمره البيولوجي ومعارف عصره مهرجاناً لقوة الفكر والسطوع واحتدام العاطفة والجرأة والقراءة النقدية بانتاج فكر جديد نقيض، ولذلك لا ينبغي اختزال ما قام به بمقولات " فوق بشرية "، والماركسية التي سادت في الانظمة الاشتراكية، أو حتى التي وصلتنا مسكوبة بإناء بدوي وبمذاق ريفي، هي غير الماركسية الحداثية، المدنية، المنفتحة، وكانت عبارة عن جمل وشعارات عفا عليها الزمن من كثر التكرار، لهذا السبب أصيبت بالشيخوخة وأحياناً بالعقم، ولم تكن سوى ما تحت أو ما دون الماركسية الحيّة، وغالباً ما كانت تقدّم، من خلال لغة شحيحة وباردة أحياناً  وإذا أريد تسخينها فمن خلال حرارتها الثلجية، وكانت في الكثير من الأحيان متكلّفة، مليئة بالاستشهادات المقحمة.
الماركسية المستقبلية الحداثية، الحيّة، القادرة على العيش والقراءة والاستنباط، ستكون متحررة  من زمانها، وهي تجسيد للواقع وانعكاس له، أي: ماركسية لا تتثاءب في الصباح، لتغطّ في كسل عميق في المساء، لأنها ماركسية غير فائضة أو مرتشية أو خشبية أو ماركسية الديجيتل. ولعل ثمة كوابح وتعقيدات لا تعدّ ولا تحصى تقف أمام هذه االنظرة الانتقادية فهي لا تريد الاستيقاظ ولا نفض غبار الزمن، بعد استرخاء في نوم عميق يقترب من السبات.
تلك هي الحقيقة التي نبحث عنها أحياناً لدرجة الجنون على حد تعبير أندريه مارلو.

1194
" أحــنُّ الى خبـز أمــي "...!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي
هذا العنوان هو استعارة من مطلع قصيدة للشاعر الراحل محمود درويش الذي التقيته لآخر مرّة في حفل تأبين الشاعر السوري ممدوح عدوان في دمشق، والقصيدة وأجوائها وصورها من السهل الممتنع، ومنذ قراءتها  كانت تأتيني بين الحين والآخر، وأجد نفسي أردد بعض مقاطعها، بل أدندن فيها في خلوتي أحيانا، وها آنذا اقتبس العنوان بمناسبة يوم الأم وقبله عيد المرأة العالمي.
رغم غيابها فما تزال تزرع لديّ حقولاً من الدهشة، وتظل اسئلتها الاولى تسكن أعماقي، منذ جئت حاملاً كتبي وأقلامي من المدرسة، في تلك المدينة ذات القباب الذهبية الوهاجة، وستبقى معي ما حييت ومهما تقادم الزمن وتعتّق العمر.
كنت لسنوات أحسّ بها قادمة مع أسراب الطيور المهاجرة، والعصافير المزقزقة والهواء الذي يداعب الاشجار العالية، رافضة قفص الوحدة والعزلة الاجبارية، والخوف الذي ظلّت مسكونة وساكنة فيه، وكانت رغم عالمها المتفرد والبعيد، تأخذني الى ضفة الانبهار، واستحضر كلماتها وعباراتها البسيطة والعميقة فتتحوّل لديّ الى سمفونيات رائعة وألحان تسحر ألبابي. كان لديها معجمها "الشعري" الخاص على بساطته، لكنها كانت تعتني بكلماتها وتركب مفرداتها وتطوّع ذلك لقراءاتها القرآنية وحكمتها الحياتية، فتخرج " القصيدة " من تنورها طازجة شهية، مثل امرأة لذيذة مستحمة مكللة بزهرة النوار، أو مثل حورية تخرج من البحر وهي تقطر بندى السوسن ومزهوة بالسنا.
انها تجيد اقتناص اللحظة وتبرع في تصوير ذكرياتها وأيام فرحها وتتذكر أحياناً أيام عرسها، فنزيد في أسئلتها عن الشبقية والعشق، وتتنهد لتروي بعض ما يمكن روايته بالحشمة، وإن كانت تطعّمها أحيانا ببعض المفاجأت.
تراها ترقص أحياناً لسماع خبر جميل، وتنكفئ وتتراجع وتكتئب لخبر حزين أو غير مسرّ، وكانت في السنوات الأخيرة مصدر اخباري، حيث تقابل الشاشة الزرقاء وكل طموحها أن تنقل لي بعض الأخبار، وعندما كانت تشعر أنني لم اسمعها رغم أنني أكون قد سمعتها، وأدّعي ذلك لأزيد من أهميتها وأهمية ما تقوم به، كانت تزداد فرحاً وتنقل تفاصيل الاخبار، وأحياناً تضيف اليها ما تريد أن يتحقق أو ما تتمنى، ناسبة ذلك الى انها سمعت الخبر هكذا، أو هكذا فهمته.. وكنت أمازحها حين أقول لها هذه وكالة أنباء " كَالو" أي " قالوا" أو وكالة أنباء نجاة، اسمها البهي!
أحس بها مثل راقصة باليه تنتقل في زوايا الأمكنة وتملأ الباحة والصالون بحضورها البهي ولفرط براعتها في الحركة، لم أكن أشعر بها حتى تفاجئني وتضع يدها على كتفي أو تلمس رأسي وأحياناً تطبع قبلة حارة على خدي.
شعرت ان الوطن منقوش في قلبها مثل حب أبدي مبارك وهو يجوب الافلاك والمرافئ والفضاءات، تدخل الالفة رغم الحزن، والثقة رغم الانكسار والتواصل رغم الغربة. انها صورة نابضة وحيّة للجرح العراقي والرفض العراقي والاذلال العراقي والاشكال العراقي والتناقض العراقي.
يا لها من نكهة خاصة، لا تشبه أحداً ولم ينافسها أحد، كنت أريد تصويرها بالفيديو وهو تروي بعض الحكايا والقصص القديمة، وكانت تنتصب مثل نخلة حين تعرف ذلك. كنت أرى فيها لوحة تشكيلية هائلة، شعرها الفضي وعيناها الواسعتان وجبهتها العريضة، وثمة نقطة زرقاء فوق أنفها الجميل، لعلها مكملة لتقاسيم وجهها وكأنها رسمت في الأصل.
حين ينهمر المطر تقابل الشباك وتخرج الى الشرفة  أحياناً وكأنها تريد ان تغرف من الحياة ما تبقى، لم ترغب ان تفلت لحظة من بين أصابعها، كنت أمازحها حين أطلب لها كأساً من النبيذ في أحد المطاعم، فتنظرني بشزر أحياناً، مثلما كانت تفعل عندما كنّا صغاراً وهي ظلّت تشعر بأننا صغار، ولعلي باستمرار كنت صغيراً أمامها ومستجيباً الى حد ما رغم تمرداتي المبكرة، ، ولم أشعر بالشيخوخة لأول مرة الاّ عندما غادرتني في ذلك الربيع الحزين.
أحنّ الى خبز أمي
وقهوة أمي
ولمسة أمي
وتكبر فيّ الطفولة
يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري
لأني إذا متُّ أخجل من دمع امي

هو الحنين الخفي والاسم المهاب " نجاة"، فالاشياء العادية والبسيطة، تصبح غالية وكبيرة كلما ابتعدت عنّا، وأتذكر كم كتمت دموعها لكي لا تشعرني بألمها، مرات ومرات.
تحلم مثل كل أم عراقية بالزنابق البيضاء وبعثق رطب برحي عراقي، تحلم بالنازينج الذي كانت تستأنس حين تعصره بيدها وتقدمه الى الناصر والرؤوف والجليل، اخوانها الذين تضع الألف واللام امام اسمائهم، وكأنها أجنبية تتعلم كيف تلفظ أسماءهم، لاسيما بالألف واللام، وفي الفترة الأخيرة لم ترغب في ذكر اسمي الاّ بالحرف واللام مع اللقب، فتردد " بنت من وبعل من وأم من؟ " وكانت تلك الثلاثية ملاذها في آخر أيامها وكأنها تعويضاً عن الحرمانات والعذابات الطويلة، والتي كانت أصعبها فراق الأحبة والحزن على الوطن.
هكذا غاب النورس الازرق، ذلك الغياب السماوي، مختصراً تاريخاً طويلاً وعويصاً من الألم والحسرة والفداحات، رحل الكوكب الدري حين باغتنا بابتسامة وداع، يبدو أنها أجلّت لحظة الرحيل لتموت في فرح غامر بعد رؤية الغائبين، غابت دون أن تستأذن أحداً وكأنها انجزت مهمتها.. قلت مع نفسي لا أرى مبرراً لغيابها أو مسوّغاً لرحيلها، فلتوّها ملأت المكان فرحاً وحبوراً، ولأول مرة تذكر العزيز بملء الفم والحسين والحيدر والسلمى وأبو الشوق. قلت لها لماذا تتركينا، لماذا بهذه السرعة تغادرين عالمنا أثمة من أزعجك أو لم يرضيك ... ضحكت من وراء الملاءات البيضاء، وكأني اسمع ضحكتها... عشت ربع القرن الماضي وحيدة وبعيدة وغريبة حتى وإن كنت في وطني، دعوني أرحل وأنا بينكم لأني أخاف أن أرحل وأنا وحيدة... أكره الوحدة ولو في الجنّة.
حين جاء يوم 8 آذار(مارس) الذي كنت أسعى رغم فراق زاد عن 20 عاماً أن أتواصل معها ولو بعد بضعة أشهر، فقد كان مجرد مكتوب من أمي يتأخر في أروقة الدولة شهرين قمريين حسب الشاعر مظفر النواب، لاني كنت حريصاً على وصول تهنئتي وظلت حريصة على هذا التواصل وتتذكر المناسبة وتميّزها عن عيد الأم، الذي يصادف عيد ميلادي.
قررت هذا العام وبعد سنتين من رحيلها أن أحرر قلمي وأكتب عنها، مثلما كتبت عن جورج حبش وعبد العزيز التويجري والطيب صالح، ولدي قصاصات عن محمود درويش ومحمود أمين العالم وممدوح عدوان، ورغم أني لا أرغب في أن أحشرها بين الكبار، لكن الام تظل كبيرة عند أبنائها، وكنت كلما هممت بالكتابة عن أحد الكبار الذين غادرونا واجهت وجه أمي وصوت أمي وخبز أمي، التي انطفأت سريعاً مثل شهاب.


1195
حيثيات تأسيس جامعة الدول العربية
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

على نحو أكثر راهنية وإلحاحاً يعاد طرح مسألة أزمة النظام الإقليمي العربي ومستقبله، لاسيما بعد العدوان الإسرائيلي على غزة (أواخر 2008 وأوائل 2009) وقبله العدوان الإسرائيلي على لبنان 2006، خصوصاً في ظل الاصطفافات في المواقف والاستقطابات السياسية بين مؤتمر قمة الدوحة ومؤتمر قمة الكويت، وهو الأمر الذي كان مثار بحث طيلة العقود الثلاثة الماضية على نحو واسع، ابتداءً من الموقف من الحرب العراقية-الإيرانية 1980- 1988، وفيما بعد غزو القوات العراقية للكويت عام 1990، وما تبعه من حصار دولي وحروب مستمرة واحتلال، فضلاً عن الأزمة السورية-اللبنانية، ولاحقاً مقتل الرئيس الحريري في 14 فبراير (شباط) عام 2005، والموقف من المحكمة الجنائية الدولية، إضافة إلى أزمة دارفور وما ترتّب عليها من مساءلات دولية في ما يتعلق بنظام العدالة الجنائي، وبين هذا وذاك كانت مسألة الإرهاب الدولي، وما نجم عن أحداث 11 سبتمبر من تداعيات، حاضرة في إطار المشهد العربي الرسمي بكل ثقلها وتفرعاتها.
هذه الإشكاليات والتعقيدات تواجه العمل العربي المشترك بجوانبه المختلفة، لاسيما النظام الإقليمي العربي وجامعة الدول العربية، خصوصاً أن العالم بعد انتهاء الحرب الباردة شهد تطورات سريعة نظرياً وعملياً وفي الفقه والممارسة، الأمر الذي يستوجب إجراء مراجعة لتدقيق فكرة العروبة «السائدة» ومسار النظام الإقليمي العربي ومآل جامعة الدول العربية في ضوء هذه التطورات، وسواء فشلت الجامعة في مسعاها أو تعثرت، فإنه سيكون مناسبة مهمة لوقفة مراجعة جديدة للنظام الإقليمي العربي بعد نحو 64 عاماً على تأسيسها!!
وظلّت المحاولات الإصلاحية للنظام العربي الإقليمي مجرد إرهاصات لا ترتقي إلى الفعل، ناهيكم عن التطور الذي حصل في ميدان العمل المشترك على النطاق العالمي، وذلك بحكم التجاذب في المواقف العربية، بل التباعد حد الاحتراب أحياناً، لكنها في الوقت نفسه تبقى تعبّر عن حاجة تمس صميم العمل العربي المشترك بكل مشكلاته وعقده التاريخية وما له علاقة بأبعاده المستقبلية، فشلاً أو نجاحاً، حتى إن كان جزئياً ومحدوداً، خصوصاً أن فرص النجاح ضئيلة في ظل الاحتقان والتوتر والتباعد في الرؤى والمصالح، الأمر الذي يضع الجامعة ومستقبلها على بساط البحث.
تأسست جامعة الدول العربية قبل ستة عقود ونيف من الزمان كمنظمة إقليمية دولية (وستحل ذكراها الرابعة والستين في 22 مارس 1945) وحدث ذلك قبل تأسسيس الأمم المتحدة ببضعة أسابيع في سان فرانسيسكو من العام نفسه.
والدول العربية المؤسسة هي 7 دول (الأردن، العراق، سورية، المملكة العربية السعودية، مصر، لبنان، اليمن).
جاء ميثاق «الجامعة» الذي يتألف من 20 مادة، بمبادئ عامة لم ترتقِ إلى ما تضمنه ميثاق الأمم المتحدة من تقنين لتطوّر الفقه الدولي، الذي أخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات التي حدثت قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، منذ عهد عصبة الأمم عام 1919 حتى قيام الأمم المتحدة عام 1945.
فقد حدد مثياق الأمم المتحدة القواعد الأساسية للقانون الدولي المعاصر، التي وضعت نصب عينيها حماية السلم والأمن الدوليين كهدف سام، وكذلك إنماء علاقات التعاون الاقتصادي والاجتماعي بين الدول والشعوب، فضلاً عن احترام السيادة والمساواة في الحقوق وحق تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وغيرها من المبادئ التي أصبحت ناظماً للعلاقات الدولية في فترة الحرب الباردة ولنحو 50 عاماً تقريباً.
وإذا كان إنشاء «الجامعة» حدثاً بالغ الأهمية للنظام العربي الإقليمي إلاّ أن تلك الخطوة لم تستجب إلى الطموح القومي العربي الذي كان سائداً خصوصاً خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث كانت التوّجهات العروبية والوحدوية، هي مركز الثقل والاهتمام، في حين نحا ميثاق الجامعة منحىً آخر، واعتبر تأسيسها نوعاً من الائتلاف أو التنسيق بين دول عربية «مستقلة» كانت مؤهلة لقيام شكل أرقى من أشكال الاتحاد والعمل المشترك، لكن تشكيل «الجامعة» من جهة أخرى لم يكن حدثاً عابراً، فلأول مرة يُنشئ العرب إطاراً مؤسسياً وآليات عمل تعاقدية واضحة، ولعل مثل تلك الخطوة كانت في حينها متقدمة أو واعدة ضمن مواصفات تلك الأيام.
من جهة أخرى اتّسم ميثاق الجامعة بالبساطة الشديدة وبصياغات عامة، لم تستطع أن تغلّب ما هو عربي مشترك، على ما هو قطري ومحلي، فقد ظلّ هذا الأمر منذ التأسيس حتى اليوم موضوع نقاش بدا وكأنه عقيماً في ظل عالم يتغير ويتجدد، لاسيما إيجاد حلول ومعالجات للنزاعات والاحترابات العربية-العربية، وتجلّى هذا الأمر على نحو شديد في العقدة العراقية المزمنة والمشكلة السورية–اللبنانية العويصة، والافتراق الحاد بين «حماس» و«فتح» في إطار السلطة الفلسطينية. وبقراءة ارتجاعية للماضي فقد حرص الآباء المؤسسون للجامعة على تأكيد ما يأتي:
1- إبراز مفهوم السيادة على حساب العمل العربي المشترك.
2- تقديم فكرة «الدولة» على حساب فكرة «الأمة».
3- إعلاء مبدأ التنسيق بين وحدات كيانية «مستقلة» وليس اندماجية أو موحدة.
4- رفض أي إشارة إلى موضوع احتمال تدخل «الجامعة» بالشؤون الداخلية للدول الأعضاء. وهو الأمر الذي ظل مصدر التباس وإشكال وغضب أحياناً من جانب الهيئات والمنظمات الشعبية والمدنية والجمهور بشكل عام، إزاء موقف ودور الجامعة «الرسمي» بخصوص التطورات الداخلية بما فيها انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأعضاء.
وكان مجلس «الجامعة» يتألف من لجان فرعية لمعالجة القضايا الاقتصادية والمالية والاجتماعية وشؤون المواصلات والثقافة والجنسية وجوازات السفر والتأشيرات (الفيزا) وتسليم المجرمين والصحة وغيرها، إضافة إلى جهاز الأمانة العامة.
ويمكن الآن وبعد أكثر من ستة عقود من الزمان التوقف لقراءة ظروف تأسيس النظام العربي الإقليمي من خلال إنشاء جامعة الدول العربية، ويمكن القول:
1- إن خبرة العمل المشترك كانت معدومة تقريباً على المستوى العربي.
2- إن الخبرة الدولية في هذا الميدان كانت ضعيفة أيضاً، خصوصاً الإطارات المؤسسية، ولعل ثمت تجارب مثل عصبة الأمم وبعض المنظمات والاتحادات الدولية كانت ذات طبيعة أو اختصاص محدود وليس شاملا، ولم تنعكس هذه الخبرة على النظام الإقليمي العربي.
3- إن الدول الوطنية العربية «السبع» المؤسسة كانت في طور النشوء، وكان معظمها مقيّداً بمعاهدات واتفاقيات تقلل من سيادتها وتحدّ من استقلالها، الأمر الذي أخرج جامعة الدول العربية بالصيغة التي خرجت فيها، بحيث حملت حيثيات التأسيس إشكاليات تعمقت وتعتقت مع مرور الأيام، وظهرت على نحو صارخ خلال العقود الثلاثة ونيّف الماضية.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتبة  العدد 565 الجمعة 20 مارس 2009 ,24 ربيع الأول 1430

1196
حيثيات ومفارقات العدالة الدولية
   
عبدالحسين شعبان
هل يمكن الاستعانة بنظام محكمة روما لرفع دعوى ضد الجناة “الإسرائيليين” لما ارتكبوه في غزة من جرائم؟ وما السبيل الى ذلك؟ وما الآليات التي يمكن اعتمادها؟ وقد سعت منظمات حقوقية وسياسية مؤخراً لإعلان انضمامها الى حملة مقاضاة المرتكبين “الإسرائيليين”. ولعل أسئلة كثيرة أثيرت حول حيثيات نظام محكمة روما، ولماذا لم توقع أو تصدق عليه سوى ثلاثة بلدان عربية هي الأردن وجيبوتي وجزر القمر؟

وقبل الإجابة عن العديد من الاسئلة المهمة، لاسيما وقد شغلت الإعلام منذ العدوان على غزة وحتى الآن، وكانت منذ زمن ليس بالقصير، ولعله يزيد على 60 عاماً من دون إجابات عملية، بحيث تستطيع العدالة الدولية جلب المتهمين الى قفص الاتهام، وهنا لا بدّ من معرفة نظام المحكمة وفحص أسلوب عملها واختصاصاتها.

في يوليو/ تموز 2002 بدأ العمل بنظام المحكمة الجنائية الدولية، بعد مصادقة 60 دولة، مثلما جرى إعلان ذلك في نيويورك في مقر الأمم المتحدة. والمحكمة التي تأسست في روما في العام ،1998 اتخذت من لاهاي مقراً لها.

وتعتبر المحكمة الجنائية الدولية International Criminal Court (ICC)  أول هيئة قضائية دولية، تحظى بولاية عالمية وبزمن غير محدد، لمحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الفظائع بحق الإنسانية وجرائم إبادة الجنس البشري. فلأول مرة في التاريخ يتم تكليف هيئة قضائية دولية دائمة لحماية حقوق الإنسان، بما توفّره من إقرار الدول الموقعة عليها وبالتالي المجتمع الدولي، مبدأ العدالة الشاملة وعدم الإفلات من العقاب عن تلك الجرائم الخطرة بحق الضمير الإنساني على المستوى الدولي.

إن وجود قضاء جنائي دولي مستقل ومحايد يمارس اختصاصاته على جميع الاشخاص من دون تمييز لتحقيق العدالة الدولية، أمر في غاية الأهمية في تطور الفقه والقضاء الدوليين على الصعيدين النظري والعملي. لكن وجود مثل هذا القضاء لا ينفي ولا يلغي مسؤولية القضاء الوطني، بل يعني التعاون بينه وبين القضاء الدولي، خصوصاً بشأن الجرائم التي ورد ذكرها، بالتوقيع والمصادقة على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بما يتطلب تعزيز كفاءة القضاء الوطني من جهة، وتفعيل وتنشيط فكرة السيادة القضائية بأبعادها الدولية من جهة أخرى، ليس كنقيض للسيادة القضائية الوطنية، بل كحقل واحد للعدالة.

ويمكن القول إن العلاقة بين النظام القضائي الدولي والنظام القضائي الوطني “هي علاقة تعاون وتكامل وليس علاقة تنافر أو تعارض”. وهي الدعوة التي يمكن توجيهها الى الأنظمة القضائية العربية للتعاون مع الأنظمة القضائية الدولية المنبثقة من نظام محكمة روما والتسريع بالتوقيع والمصادقة، وهو ما يقتضي الأمر مواءمة وتكييفاً للتشريعات الوطنية مع التشريعات الدولية، خصوصاً عندما تنضم الدولة أو تصبح طرفاً في اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية.

إن جعل ولاية هذا القضاء دائمة سيعطيها فرصة الملاحقة عن الجرائم وإنزال العقاب بمرتكبيها، علماً بأن تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم. ومع أن العديد من الدول الكبرى، بما فيها بعض أعضاء مجلس الأمن الدولي الدائمين، عارضوا إنشاء نظام المحكمة الجنائية الدولية أو تحفظوا عليه أو لم يصادقوا حين وقّعوا، إلاّ أن إنشاء المحكمة ودخولها حيز التنفيذ، رغم المعارضات الشديدة وبعض النواقص المهمة في نظامها الأساسي، يعتبر بحد ذاته أحد التطورات المهمة في بداية هذا القرن وأحد تحدياته المستقبلية الكبرى.

لقد سعت الولايات المتحدة الى معارضة تأسيس محكمة دولية جنائية دائمة إلاّ أنها فشلت في ثني المجتمع الدولي عن المضي في هذا الطريق، فاضطرت الى التوقيع في اللحظات الاخيرة قبيل إغلاق باب التوقيع في يوم 31/12/2000 لكنها بعد ذلك امتنعت عن التصديق، وأعلنت أن من غير المطروح أن يتم صرف “دولار واحد” من موازنة الأمم المتحدة لتمويل المحكمة.

وقد عبّر السفير الأمريكي لشؤون جرائم الحرب ريتشارد بروسبر عن معارضته الشديدة تلك امام لجنة من الكونجرس وذلك حين قال “إن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تدعم محكمة لا تملك الضمانات الضرورية لمنع تسييس العدالة”، ثم قامت الولايات المتحدة بخطوة غريبة، حين أعلنت انسحابها من معاهدة روما في رد فعل غاضب يعكس حراجة الموقف الأمريكي (12 ابريل/ نيسان 2002)، خصوصاً أن دول الاتحاد الأوروبي كانت داعمة لتأسيس محكمة روما.

وتعتقد واشنطن أن من الأفضل في كل الحالات اعتماد الهيئات القضائية الوطنية لمحاكمة جرائم الحرب ومساعدتها إنْ اقتضت الضرورة للقيام بمهماتها، وإن لم يتسن ذلك فمحاكمة مثل محاكمات يوغسلافيا ورواندا تصبح ممكنة وولايتها محدودة وزمنها مرتبط بحدث محدد وبقرار محدد.

والأنكى من ذلك أن الولايات المتحدة بعد احتفالية الأمم المتحدة بدخول معاهدة روما للمحكمة الجنائية الدولية حيز التنفيذ بتصديق 60 دولة عليها (ابريل/ نيسان)،2002 أقدمت على خطوة انفعالية بسحب توقيعها من المعاهدة في محاولة لإضعاف دور المحكمة الجنائية الدولية بعد أن سعت في البداية لعدم انشائها، ثم وقعت عليها لكي تساهم في وضع قيود وعراقيل في نظامها الاساسي تمنع انسحاب صلاحياتها واختصاصاتها على الحاضر ووضع سبع سنوات لإمكانية الملاحقة وغيرها، ثم عادت وأعلنت سحب توقيعها.

ورغم مرور أكثر من عشرة أعوام على إنشاء نظام المحكمة، فإن روسيا هي الأخرى لم تصدق عليها، في حين أن الصين لم توقع عليها أصلاً. ويعود أحد الأسباب لهذه المواقف الى الانتهاكات الصارخة التي حدثت في الشيشان وكذلك في التيبت، اضافة الى سجل حقوق الإنسان في كلا البلدين. وكانت “إسرائيل” من الدول التي عارضت إنشاء المحكمة ولكنها اضطرت للتوقيع عليها عشية إغلاق باب التوقيع ولم تصدق عليها، خصوصاً في ظل الدعوات الدولية التي تصاعدت لمحاكمة شارون واعتباره “مجرم حرب”، ليس لأعمال ارتكبت في الماضي، بما فيها صبرا وشاتيلا، بل نظراً للجرائم المستمرة بحق السكان المدنيين العزّل في جنين ونابلس ورام الله وغزة والعديد من المناطق الفلسطينية المحتلة، بما فيها محاصرة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حتى رحيله وعدد من المقاومين الفلسطينيين في كنيسة المهد، فضلاً عن تدمير البنية التحتية وهدم المنازل والقتل العشوائي بما في ذلك للأسرى، والإصرار على بناء جدار الفصل العنصري وبالضد من اتفاقيات جنيف عام ،1949 وبخاصة الاتفاقية الرابعة وملحقها البروتوكول الأول لعام 1977 حول “حماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة”، وحتى بعد صدور رأي استشاري من محكمة العدل الدولية يقضي بعدم شرعية بناء الجدار، فإن “إسرائيل” لم تكترث لأي رأي قانوني دولي، كما أنها لا تحترم قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة أو قراراتها.

ولعل عدوانها على غزة واستخدامها الأسلحة المحرمة دولياً بما فيها الفوسفور الأبيض، باعتراف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، يعيد الى الأذهان الارتكابات السافرة لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، الأمر الذي يجدد مرة أخرى موضوع الملاحقة القانونية للمرتكبين “الإسرائيليين” والآليات المتاحة لذلك ويجعلها أكثر راهنية وإلحاحاً.

وإذا كان موقف “إسرائيل” مفهوماً، ولكن غير المفهوم هو مواقف الدول العربية، باستثناء الأردن وجيبوتي وجزر القمر التي لم تصدّق على نظام المحكمة الجنائية الدولية، كما لا تزال ثماني دول عربية خارج نظام التوقيع، أليس في الأمر غرابة أو مفارقة أو التباس، بل وعدم قدرة على فهم طبيعة الصراع الدولي، وبالتالي إيجاد مواقف متوازنة، منسجمة مع التطور الدولي من جهة ومن جهة أخرى، حماية مصالح دولنا وشعوبنا والاستعداد للتعاطي مع المتغيرات والمستجدات، وتوظيفها بشكل مناسب خدمة للمصالح العربية والإسلامية العليا؟

وتظل هذه المسألة تثير تساؤلات كبيرة حول جدية الحديث عن العدالة الدولية بالنسبة للعديد من البلدان العربية، وهو الأمر الذي أعيد طرحه ما بعد العدوان على غزة. ولذلك ظل التفكير في إقامة نظام قضائي دولي يؤمن محاكمة مرتكبي الجرائم على نحو قانوني أمر في غاية الأهمية، مع أنه مسألة صعبة المنال في الوقت الحاضر، لاسيما في ظل هيمنة الولايات المتحدة على القرار الدولي، رغم أنها ليست مستحيلة، لكن حلم العدالة الدولية يبقى قائماً طالما هناك انتهاك للحقوق وتجاوز على الحريات، من منظور العدالة الدولية، وهو ما كان موضوع حديث معمّق ومهني في إطار ندوة أقامها مركز الدراسات القانونية والقضائية في الدوحة مؤخراً، لبحث آليات وسبل ملاحقة مرتكبي الجرائم “الإسرائيليين”، والذي هو بحاجة الى جهد جماعي ومعرفي متخصص وباحثين متفرغين ودعم مادي ومعنوي وإشراك منظمات المجتمع المدني، واستراتيجية طويلة المدى على جميع المستويات السياسية والقانونية والدبلوماسية والإعلامية وغيرها.


* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية 18/3/2009

1197
البحرين و الوطن الأم !
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

لا يستطيع المرء إلاّ أن يقف حائراً أمام الدعوات المتكررة، المعلنة والمستترة، التي تظهر حيناً وتختفي حيناً آخر، والتي تصدر من أعلى القيادات الرسمية الإيرانية، بادعاء « عائدية» البحرين إلى إيران. وهذه الدعوات وإنْ وجدت اعترضاً من وزارة الخارجية ومن قيادات إيرانية، إلآّ أن التكذيب في كل مرة يأتي وكأنه تأكيد أكثر منه نفيا، بل إبقاء على استمرار الإشكالية وتعقيداتها، لاسيما في ظل تجددها رغم تقادمها زمنياً، الأمر الذي ينبغي التعاطي معه لا باعتباره شطحات لبعض المسؤولين الإيرانيين أو مجرد أطماع في مخيلة البعض، بل بوصفه جزءاً من العقل الباطني «الجمعي»، إذا أردنا الاستعانة بعلم النفس الذي يتم التعبير عنه بوسائل لا تتفق مع مبادئ العلاقات الدولية وبما يتعارض مع قواعد القانون الدولي المعاصر، وقد يُراد منها معرفة ردود الفعل البحرينية والعربية والدولية، بخصوص استمرار هذه الدعاوى وصدور بعض التصريحات بين حين وآخر.
وكان داريوش قنبري قد ادعى أمام مجلس الشورى الإيراني ووسائل الإعلام العالمية بأن البحرين كانت قبل 40 عاماً جزءاً من الأراضي الإيرانية وانفصلت عنها عن طريق استفتاء «مشبوه»، وإذا ما أجري استفتاء نزيه فإن شعبها سيصوّت للانضمام إلى الوطن الأم «إيران». ولعل مثل هذه التصريحات كان يمكن إهمالها لولا أن علي أكبر ناطق نوري المفتش العام في مكتب مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، كان قد اعتبر أن ضمان الأمم المتحدة سيادتها غير قائم، الأمر الذي يقترب في لغة السياسة الدولية إلى اللعب بالنار، وفي لغة القانون الدولي تجاوزاً على السيادة أو انتقاصاً منها، لاسيما بإعلان نوايا بأطماع قائمة أو مستمرة قد تتحول إلى فعل إذا ما أتيحت لها الفرصة.
ورغم أن السفير حسين أمير عبد اللهيان (سفير إيران في المنامة) بادر إلى التصريح أن بلاده تريد تطوير العلاقات مع البحرين ولا تقبل تصريحات نوري، فإن مثل هذه التصريحات لم تكن الأولى وليست الأخيرة، وكان هناك من يصرّح من داخل المؤسسة الحاكمة بأن البحرين هي المحافظة الرابعة عشرة، وقد سبق لحسين شريعتمداري مستشار مرشد الثورة الإسلامية قد ادعى في عدد من المقالات والتصريحات في صحيفة كيهان الإيرانية في وقت سابق أن البحرين جزء من إيران وأنها اقتطعت من الجسد الإيراني، وأن الشعب البحريني يطالب بإعادة البحرين لتكون جزءًا من إيران.
وإذا كان مفهوماً ادعاء نظام شاه إيران بعائدية البحرين وأطماعه التوسعية المعروفة بشأن الخليج وإصراره على تسميته بالخليج الفارسي وقضمه الجزر العربية الثلاث منذ العام 1971 العائدة لدولة الإمارات العربية (أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى) وتكرار محاولات «اختراق» الخليج العربي والتدخل بالشؤون الداخلية العراقية، والاستمرار في ادعاء «أحقيته» في البحرين إلاّ أنه من غير المفهوم بل المستغرب أن تستمر إيران بعد الثورة الإسلامية في ذات المطالبات والسياسات، التي زادها تطرفاً الوجهة الآيديولوجية المذهبية.
ورغم أن العالم اعترف بدولة البحرين «المستقلة» وأصبح لها دستور منذ العام 1973، وتحوّلت لاحقاً إلى مملكة في ظل ملكها حمد بن عيس آل خليفة وأجرت إصلاحات إيجابية وانفتاح على حرية التعبير، لاسيما في العقد الأخير، إلاّ أن مطامع إيران ومطالبة بعض ساستها كانت تنفلت بين الفينة والفينة حتى بعد الثورة الإسلامية، الأمر الذي يضع علامات استفهام كبيرة حول مجمل سياسة طهران رغم عدائها للإمبريالية وقطع علاقاتها مع إسرائيل، لكن استراتيجيتها القومية والعقائدية من جهة أخرى ازدادت تشدداً، وارتفع منسوب إملاءاتها ومحدداتها، لاسيما من خلال سعيها لتصدير الثورة ومدّ نفوذها إلى دول الجوار، وذلك بانفلات مطامحها الآيديولوجية القومية والمذهبية دون ضوابط أو موانع تحول دون التعبير عن رغباتها الاستعلائية.
هكذا جاءت التصريحات الإيرانية الاستفزازية، بشأن البحرين، خارج نطاق الدبلوماسية والعلاقات الدولية والبروتوكولية، ولعل قراءتها من هذه الزاوية الاستراتيجية يندرج في إطار السياسة الإقليمية النافذة التي حاولت طهران فرضها بالأمر الواقع على دول الجوار خصوصا دول الخليج، رغم كوابح الوضع الدولي، لاسيما علاقات بعض دول الخليج الوطيدة ومنها البحرين مع الولايات المتحدة.
ولعل التصريحات الإيرانية هي إعلان صريح وواضح، بل صارخ عن أطماع ولّى زمانها، الأمر الذي لقي ردود فعل شديدة على المستويين الدولي والعربي، ورغم الإدانة العربية الرسمية خصوصاً من جانب مصر والمملكة العربية السعودية والكويت وجامعة الدول العربية، إلآّ أن الإدانة لوحدها غير كافية، لاسيما إذا لم تتبعها إجراءات عربية جماعية ومؤثرة بحيث تتخذ أولا وقبل كل شيء خطة طويلة الأمد سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، لا تتعلق بردود الفعل وبأوضاع الحاضر، بل بأوضاع المستقبل وبمصالح شعوب ودول المنطقة، تبدأ من تقديم طلب رسمي عربي إلى إيران بإصدار إعلان صريح باحترام سيادة واستقلال البحرين كعضو في الأمم المتحدة، وفي جامعة الدول العربية وجزء من الأسرة العربية.
والثانية تتعلق بدور المجتمع الدولي، لاسيما الأمم المتحدة، التي عليها مطالبة إيران بالتعهد باحترام سيادة البحرين، مثلما تتعهد هي بحماية استقلال البحرين وسيادتها إزاء أي انتهاكات تتعرض لها.
أما الثالثة فتتعلق بمواقف بعض البلدان والقوى العربية الحليفة لإيران، التي عليها أن تمارس ضغطاً مستقلاً لحمل إيران على تقديم تعهدات بعدم تكرار ذلك، لأنه سيؤدي إلى تعكير صفو العلاقات ويوتّر الأجواء ويُبعد الأهداف المشتركة لشعوب ودول المنطقة الهادفة إلى التحرر من ربقة الهيمنة الأجنبية واعتماد التنمية طريقاً مستقلاً وإجراء إصلاحات ديمقراطية من شأنها تعزيز رفاه وسلم المنطقة وضمان مستقبلها وإقامة علاقات حسن جوار بين شعوبها ودولها بما فيه مصلحتها المشتركة.
وللأسف الشديد فإن بعض المسؤولين الإيرانيين كانوا يرددون أن البحرين هي المحافظة الرابعة عشرة لإيران دون أن يتعظوا بمحاولات مدّ النفوذ السياسي والعسكري أو لجم مظاهر الشعور بالقوة، وهي المظاهر ذاتها التي سادت سوءاً أيام الشاه أو في ظل النظام العراقي السابق، الذي اعتبر دولة الكويت المستقلة هي «محافظة كاظمة» وهي المحافظة التاسعة عشرة العراقية، التي كانت تتويجاً لاجتياح الكويت، وما تبعه من غزو وحصار واحتلال وهدر لأموال وطاقات شعوب المنطقة سواءً للعراق أو الكويت أو لعموم دول المنطقة، كما ساهمت في تعميق وتعزيز النفوذ الأجنبي العسكري والسياسي، وفرض الهيمنة عليها وإخضاع مواردها وطاقاتها للمصالح الدولية الكبرى.
ولا شك أن هذه التصريحات وما يقف خلفها من خطط استراتيجية راهنة ومستقبلية تلحق ضرراً بليغاً بحاضر ومستقبل العلاقات العربية-الإيرانية وتضعف إلى حدود كبيرة مصالح النضال المشترك، وتؤجج مشاعر الريبة والكراهية، التي زادتها الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) من جهة، ومحاولات تصدير الثورة الإيرانية من جهة أخرى، وإذا كان النظام العراقي السابق هو «المبادر» في شن الحرب، فإن إيران واصلتها وأصرّت على استمرارها، ورفضت جميع المحاولات الدولية لوقفها، ولعل الشروط التي وضعتها لوقف الحرب كانت أقرب إلى الإملاءات السياسية والحصول على المكاسب منها إلى علاقات سلمية وطبيعية بين بلدين جارين، ونتذكر تصريحات السفير الإيراني في موسكو موكري (رغم كونها غير رسمية) بشأن وضع مدينة البصرة تحت السيادة الإيرانية المؤقتة واستفتاء أكراد العراق بالانفصال أو الانضمام إلى إيران والمطالبة بدفع تعويضات وصلت في حينها إلى 150 مليار دولار، فضلاً عن إقامة نظام إسلامي في العراق، ولعله كان يقصد نظاماً على الطريقة الإيرانية.
يخطئ بعض المسؤولين الإيرانيين مرتين: الأولى عندما يبررون بأن الشيعة يشكلون 70% من السكان الأصليين في البحرين وتُنسب أصولهم إلى الأمة الفارسية، والثانية عندما يقولون إن ولاءهم لإيران، ولعل في ذلك إجحافاً مرتين أيضاً: الأولى لأن الطائفة الشيعية كطائفة مثل سائر الطوائف والمذاهب الإسلامية نشأت وتطورت في الحضن العربي، ولغة القرآن عربية والنبي محمد وأئمته من العرب، ناهيكم عن أن الإسلام لا يفرق بين العربي والأعجمي إلا بالتّقوى... والثانية لأن شيعة البحرين مثل شيعة العراق ومثل شيعة لبنان، بل سائر الشيعة في العالمين العربي والإسلامي، فإن ولاءهم الأول والأخير لأوطانهم وبلدانهم وأمتهم العربية وليس لأي جهة أخرى، وهم مثلهم مثل غيرهم ينقسمون لاعتبارات سياسية واجتماعية وفكرية، ويتوزّعون على قوى سياسية متنوعة ومختلفة. وبهذه المناسبة يمكن أن نتذكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين وكتابه «الوصايا» حين دعا الشيعة للتمسك بمبادئ المواطنة والمساواة والاندماج بمجتمعاتهم وبلدانهم وشعوبهم، فذلك هو الانتماء الحقيقي لآل البيت.
إن الأطروحات والتصريحات الإيرانية حتى إن تم نفيها من جانب وزارة الخارجية الإيرانية، فإنها تثير هواجس وشكوكاً بشأن مستقبل العلاقات العربية-الإيرانية، خصوصاً تكرارها، فإيران كدولة إقليمية كبرى في المنطقة وترتبط مع العالمين العربي والإسلامي بوشائج كثيرة وأهداف مشتركة، يمكنها أن تكون صديقاً محتملاً للأمة العربية، وليس عدواً قائماً مثلما كانت أيام الشاه أو بؤرة توتر تتدخل بالشؤون الداخلية للعالم العربي بمبررات واهية، فاحترام سياسة حسن الجوار والمصالح المشتركة وقواعد القانون الدولي كلّها يمكن أن تسهم في تعزيز وتطوير المشترك الإنساني وعوامل التقارب الديني والمجتمعي والتاريخي!!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 559 الجمعة 13 مارس 2009 ,17 ربيع الأول 1430

1198
النظام الإقليمي العربي و22 فيتو
عبدالحسين شعبان
2009-03-16

أعادت الاصطفافات والاستقطابات في المواقف السياسية -ما بعد العدوان على غزة- أزمة النظام الإقليمي العربي إلى الواجهة، لا سيما بالتجاذبات التي حدثت بانعقاد مؤتمر قمة الدوحة ومؤتمر قمة الكويت (الاقتصادي)، وهو الأمر الذي كان مثار بحث طيلة العقود الثلاثة الماضية.
ولعل ذلك كان محور حديث لندوة مهمة التأمت في بيروت، وكانت بعنوان «مستقبل العروبة - أي عروبة تصحّ في القرن الحادي والعشرين»؟ دعا إليها تيار المستقبل (البرنامج الثقافي - قطاع التربية والتعليم)، حين تم بحث الأساسات والتحديات التي واجهها ميدان العمل العربي المشترك، لا سيما أن ذكرى تأسيس جامعة الدول العربية في 22 مارس 1945 تمر هذه الأيام.
وكانت «الجامعة» قد تأسست قبل تأسيس الأمم المتحدة، وبالطبع فقد كانت من أوائل المنظمات الإقليمية التي تأسست قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية، وسبقت مشاريع الاتحاد الأوروبي، لكن هذا الأخير خطا خطوات سريعة وحثيثة للتقارب والتعاون وصولاً إلى برلمان مشترك ومواطنة موحدة وسوق أوروبية مشتركة وعملة موحدة، في حين نكصت جامعة الدول العربية عن المهمات الأساسية التي وضعتها لنفسها، لا على الصعيد السياسي فحسب، بل على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والقانوني والتربوي والصحي والرياضي والبيئي وغيرها.
وإذا كانت «الجامعة» قد حققت بعض النجاحات المحدودة على الصعد غير السياسية، إلا أنها لا تزال متعثرة أو لم تصل إلى مستوى الطموح، لا سيما في ظل التطور الدولي باتجاه تشكيل كيانات وكتل اقتصادية وسياسية كبيرة.
وظلّت المحاولات الإصلاحية للنظام العربي الإقليمي مجرد إرهاصات لا ترتقي إلى الفعل، ناهيكم عن التطور الذي حصل في ميدان العمل المشترك على النطاق العالمي، وذلك بحكم التجاذب في المواقف العربية، بل والتباعد لحد الاحتراب أحياناً، لكنها في الوقت نفسه تبقى تعبّر عن حاجة تمس صميم العمل العربي المشترك بكل مشكلاته وعقده التاريخية، وما له علاقة بأبعاده المستقبلية، فشلاً أو نجاحاً، حتى وإن كان جزئياً ومحدوداً، خصوصاً أن فرص النجاح ضئيلة في ظل الاحتقان والتوتر والتباعد في الرؤى والمصالح، الأمر الذي يضع الجامعة ومستقبلها على بساط البحث.
وإذا كان إنشاء «الجامعة» حدثاً بالغ الأهمية للنظام العربي الإقليمي رغم أنه لم يستجب للطموح القومي العربي الذي كان سائداً، وبخاصة خلال فترة الحرب العالمية الثانية، فإنه خطوة مهمة من حيث التوجه العروبي للعمل المشترك، وهو مركز الثقل والاهتمام. هناك من اعتبر تأسيس «الجامعة» نوعاً من الائتلاف أو التنسيق بين دول عربية «مستقلة»، في حين كانت الأمة العربية مؤهلة لقيام شكل أرقى من أشكال الاتحاد والعمل المشترك، لكن تشكيل «الجامعة» من جهة أخرى لم يكن حدثاً عابراً، فلأول مرة يُنشئ العرب إطاراًَ مؤسسياً وآليات عمل تعاقدية واضحة، ولعل مثل تلك الخطوة كانت في حينها متقدمة أو واعدة ضمن مواصفات تلك الأيام.
اتسم ميثاق الجامعة بالبساطة الشديدة وبصياغات عامة، لم تستطع أن تغلّب أو تقدّم ما هو عربي مشترك على ما هو قُطري ومحلي، فقد ظلّ هذا الموضوع محل نقاش، وبدا وكأنه عقيم في ظل عالم يتغير ويتجدد، في حين استمر النظام الإقليمي العربي بحالة سكون أقرب إلى التراجع والتقهقر، وقد حرص الآباء المؤسسون للجامعة على تأكيد التمايز من خلال إبراز مفهوم السيادة على حساب العمل العربي المشترك وتقديم فكرة «الدولة» على حساب فكرة «الأمة» وإعلاء مبدأ «التنسيق» بين وحدات كيانية «مستقلة» وليس اندماجية أو موحدة أو اتحادية، كما لم يشر الميثاق لا من بعيد ولا من قريب إلى احتمال تدخل «الجامعة» في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، وكان هذا الموضوع خطاً أحمر باستمرار، وهو الأمر الذي ظل مصدر التباس وإشكال وغضب أحياناً من جانب الهيئات والمنظمات الشعبية والمدنية والجمهور بشكل عام، إزاء موقف ودور الجامعة «الرسمي» بخصوص التطورات الداخلية، بما فيها انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأعضاء. لكن الخبرة العربية بدأت تتوسع على محدوديتها بإنشاء مجلس الوحدة الاقتصادية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك (عام 1950)، خصوصاً بعد تطوّر الصراع العربي-الإسرائيلي.

ولذلك فإن مراجعة نحو 64 عاماً من العمل المشترك تعكس حالياً إخفاق الجامعة في حل النزاعات العربية-العربية وعدم تمكنها من حل النزاعات الحدودية وإخفاقها في التوصل إلى حل عادل ومقبول للقضية الفلسطينية، وإخفاقها كذلك في الحيلولة دون وقوع المنطقة تحت طائلة الحروب والعدوان والاحتلال وإخفاقها في تجنيب العديد من البلدان العربية نتائج الحصارات الدولية وإخفاقها في نجدة الشعوب العربية فيما إذا انفردت حكوماتها بها وتغوّلت عليها.
ولهذه الأسباب تبلور رأيان متعارضان متضادان بشأن مستقبل الجامعة والنظام الإقليمي العربي:
الأول: يقول إن «الجامعة» شاخت وانتهى دورها ولم يعد بالإمكان إصلاحها، والأجدر عدم الرهان على كيان يتدهور باستمرار.
والثاني: يقول بدلاً من إلغاء «الجامعة» أو حلّها وتصفية مؤسساتها، فإن على قوى المجتمع المدني العربي الموازي والقوى والأحزاب السياسية الشعبية ممارسة دورها وتحمل مسؤوليتها، من خلال ضغوطات متنوعة تمارسها على «الجامعة». ولا يكفي في هذا المجال أن تكون هذه المنظمات قوة احتجاج واعتراض حسب، بل وهذا هو المهم أن تتحول إلى قوة اقتراح وشراكة، فلعل ذلك ما يجعل النظام العربي الرسمي يتحمّل هو الآخر مسؤولياته، بل يعرّضه بهذا المعنى للمساءلة من خلال الرقابة والشفافية ومشاريع الاقتراحات، خصوصاً بعد أن وصلت الأوضاع الرسمية العربية إلى طريق مسدود.
إن دراسة واقع النظام الإقليمي العربي من أجل معالجة نواقصه وثغراته تتطلب أولاً وقبل كل شيء الإقرار والاعتراف بوجود أزمة يعاني منها العمل العربي المشترك والنظام الإقليمي العربي وجامعة الدول العربية تحديداً، وهذه تتطلب معالجات وحلولاً جذرية، خصوصاً أنها مستفحلة، وليست صعوبات عابرة أو طارئة، كما أنها ليست بنت اليوم، بل تمتد إلى عقود من الزمان، ولعل الإقرار بالأزمة يتطلب تشخيص أهم مظاهرها التي تتلخص في ميثاق «الجامعة» الذي يحتاج إلى مراجعة جذرية، إذ إنه يُعتبر متخّلفاً قياساً للتطور الدولي، وذلك لكي يتم تكييفه بحيث يصبح صالحاً للانسجام مع المتغيرات الدولية، وبخاصة قواعد القانون الدولي المعاصر، ومبادئ حقوق الإنسان. وهنا لا بد من التصديق على الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي أقرّته القمة العربية (2004) والسعي لتفعيل فكرة محكمة عدل عربية لمواكبة سير تحقيق العدالة، والانضمام إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
كما يتطلب الأمر إجراء إصلاحات هيكلية على المستوى الإقليمي في أجهزة الجامعة، على الصعيد القانوني والإداري وتعديل دور الموظف العمومي الإقليمي، بحيث يكون مُمثلاً للمؤسسة (الجامعة) وليس لبلده. والإصلاح يتطلب أيضاً البعد الداخلي في كل بلد عربي وعلى جميع المستويات، مثلما ينبغي امتداده إلى مؤسسات المجتمع المدني، خصوصاً أن استحقاق التغيير أصبح دولياً أيضاً، وليس حاجة داخلية حسب.
ولذلك لا بد من الاهتمام بدور مؤسسات المجتمع المدني، لكي تكون عنصر رقابة ورصد ومساءلة ومساعدة «الجامعة»، لإنجاز مهماتها، وبخاصة ما يتعلق بالحريات وحقوق المرأة واحترام حقوق الإنسان وحقوق العمل والثقافة والأدب والفن والاتصالات والرياضة والصحة والتعليم والبيئة والسياحة وغير ذلك.
من جهة أخرى لا بد من معالجة مشكلة صنع القرار وتنفيذه داخل أجهزة الجامعة، وذلك لتجاوز الوضع البيروقراطي المؤسسي والعقبات التنفيذية الفعلية، فحتى القرارات الإيجابية غالباً ما تنتهي إلى الأرشيف لعدم القدرة على التنفيذ، وإذا كان في مجلس الأمن 5 فيتوات، ففي «الجامعة» 22 فيتو، أي أن القرارات تتطلب الإجماع، سواء كانت أساسية أو إجرائية.
كما ينبغي إيلاء موضوع النزاعات العربية-العربية ما يستحقه من أهمية، وذلك بالسعي لـ «عصرنة» الميثاق بما يستجيب للتطور الدولي، خصوصاً للفصل في النزاعات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بحلها، وبخاصة بالوسائل السلمية أو من خلال تعزيز العدالة عبر قضاء عربي مشترك وله صلاحيات محددة.
ولعل مراجعة الميثاق تتطلب أيضاً معالجة مشكلة التصويت وذلك باعتماد ثلاث درجات له، فبدلاً من الإجماع الذي يمكن حصره على قضايا محددة كالأمن العربي والتكامل وبعض القضايا الجوهرية، فهناك قضايا أقل أهمية يمكن أن تكون بـ «أغلبية موصوفة» (محددة) (الثلثان أو ثلاثة أرباع)، وهناك ثالثاً مسائل إجرائية يمكن التصويت عليها بالأغلبية (بنصف +1) أو %51.
ولعل تجربة قيام الاتحاد الأوروبي والدور المرموق الذي يضطلع به على المستوى الكوني، فضلاً عن أن العولمة أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك أن دور الكيانات الكبرى والكتل الاقتصادية الكبيرة مهم ومؤثر جداً، وينبغي أن تكون ماثلة أمام العين، وذلك لأنها ضرورة تمليها الحياة ذاتها ومتطلبات التطور قبل فوات الأوان!


-    صحيفة العرب القطرية  العدد 7582  الإثنين 16 مارس 2009 م ـ الموافق 19 ربيع الأول 1430 هـ

1199
لماذا لا تلجأ “إسرائيل” إلى القضاء الدولي؟
   


عبدالحسين شعبان
 

تدّعي “إسرائيل” باستمرار وعلى مدى تاريخها الذي تجاوز ستين عاماً، أنها ضحية للهجمات الفلسطينية والعربية، وأن مدنييها يتعرضون للانتهاك، وأن السبب في ذلك هو أعمال “الارهاب” التي ترتكبها “المقاومة” حسب لغتها وبالضد من القانون الدولي. ولعل مناسبة الحديث هذا هو التقرير الذي صدر عن منظمة العفو الدولية أواخر فبراير/ شباط ،2009 حيث قالت دوناتيلا روفيرا، التي ترأست بعثة المنظمة إلى غزة لتقصي الحقائق “إن “إسرائيل” وحماس خرقتا القوانين الدولية لحقوق الإنسان” رغم أنها أضافت أن “إسرائيل” استخدمت الفسفور الأبيض وأسلحة أخرى زودتها بها الولايات المتحدة في ارتكاب انتهاكات للقانون الدولي الإنساني بما في ذلك جرائم حرب”. وأردفت المنظمة: أن حماس والجماعات الفلسطينية الأخرى باطلاقها الصواريخ ارتكبت أيضاً جريمة حرب.

وإذا كانت “إسرائيل” تلقي بالتهمة على المقاومة وتبرر “ردود أفعالها” بالدفاع عن نفسها، ولاسيما التشبث بحق الدفاع “المشروع” عن النفس حسب القانون الدولي والذي يقرّره ميثاق الأمم المتحدة في المادة ،51 رغم عدم انطباقه على حالة “إسرائيل”، فلماذا لم تتقدم طيلة العقود الستة الماضية إلى القضاء الدولي؟ علماً بأنها الدولة الوحيدة في العالم التي أنشئت بموجب قرار من الأمم المتحدة رقم 181 لعام ،1947 وتعهدت التزامها بميثاقها، الأمر الذي تصرفت بالضد منه منذ اللحظة الأولى.

ولعل سبب عدم لجوء “إسرائيل” إلى القضاء الدولي يعود أولاً، إلى أنها تعرف حقيقة عدوانها المتعارض مع القانون الدولي، والذي يرتّب مسؤوليات دولية على مسؤوليها الذين يقومون بخرق قواعده، وثانياً، أنها تقوم بنفسها بالانتقام من الأشخاص أو الجهات التي تتجرأ على مقاومتها، سواء من الفلسطينيين أو من البلدان العربية أو تقوم بملاحقة البعض خارجها بمن فيها  أوروبا وعلى أراضي دول صديقة لها، وثالثاً، يعود إلى إيمانها بقانون القوة الذي ظلّت تستخدمه طيلة وجودها، وليس بقوة القانون الدولي الإنساني.

ورابعاً، إنها غير معنيّة بالقانون الدولي المعاصر والقانون الدولي الإنساني بشكل خاص، لا إزاء المدنيين أو الأسرى أو الجرحى أو المنكوبين، زمن السلم أو زمن الحرب، بما فيها اتفاقيات جنيف العام 1949 وخصوصاً محقيها لعام ،1977 الأول الخاص “بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة” والثاني “الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية”، لاسيما وقواعدها تعتبر الاستيطان جريمة دولية، وهو ما ذهبت إليه المحكمة الجنائية الدولية العام 1998 (نظام محكمة روما الأساسي) الذي وقعت عليه قبل إغلاق باب التوقيع بسويعات العام 2000 ثم انسحبت منه عندما دخل حيّز التنفيذ العام 2002.

وخامساً، أنها تدرك أن القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، بما تضمناه من مبادئ وقواعد قانونية رادعة للعدوان من جهة، وحامية من جهة أخرى لحق الشعوب والأفراد في حقوق الإنسان، ومنظمة للعلاقات الدولية وفقاً لقواعد السلم وعدم استخدام القوة وحق الشعوب في تقرير مصيرها في إطار التكافؤ والمساواة من جهة ثالثة، إلا أنهما يحتاجان إلى إرادة دولية وتوازن قوى، ما زال مختلاً لصالحها، وبالضد من المصالح العربية، فالقانون يحتاج إلى قوى نافذة لفرضه ووضعه موضع التطبيق، وهو ما تدركه “إسرائيل”، الأمر الذي يجعلها تستخف به وبسلطاته غير الممكنة التطبيق، إلا بوسائل غير قانونية في الوقت الحاضر، سياسية وعسكرية واقتصادية، وهذه تعمل لصالحها، طالما هي حليفة للولايات المتحدة.

وإذا كان القانون الدولي التقليدي يعطي الحق في الفتح والحق في الغزو والضم، حسبما تقتضيه مصالح الدولة القومية، التي يمكنها أن تشن الحرب أنا شاءت، فإن القانون الدولي المعاصر يحرّم استخدام القوة ويعمد إلى الوسائل السلمية لحل المنازعات ولا يعترف بنتائج الغزو والضم (القدس والجولان مثلاً) ويقرّ بحق تقرير المصير، لكن نقص هذا القانون هو في إمكانات فرضه، لا سيما إذا كانت القوى المتنفّذة تقف إلى جانب القوي وتخذل الضعيف والمهضوم الحقوق.

إن الذي يدعم القانون الدولي ويسهم في فرضه، لا سيما من جانب الشعوب المهزومة والتوّاقة إلى الحرية والانعتاق، هو استمرار تأكيد وممارسة الحق في المقاومة، وذلك لحين التغيير في موازين القوى، وهو ما يلقي اللوم على منظمة العفو الدولية، ذات المهنية العالية والصدقية الكبيرة، حين لم تأخذ هذا الحق وتضعه في اعتبارها عندما تتحدث عن القانون الدولي الإنساني، لاسيما في حالة العدوان على غزة. وإذا افترضنا أن حماس وهي ليست دولة، بل جزء من حركة التحرر الوطني، وهي تمارس حقها في المقاومة “عن بعد” وفي ظل اختلال موازين القوى، تلحق بعض الأضرار بالمدنيين “الإسرائيليين” وبالمستوطنات غير الشرعية، فإنها لا ينبغي أن تكون في كفة ميزان واحدة مع “إسرائيل”، التي هي “دولة” حسب اعتراف الأمم المتحدة ومتعهدة بصون ميثاقها وتقوم بارتكابات ضد القانونين الدولي والإنساني منذ قيامها إلى حد هذا اليوم.

ولعل من المفارقة ان “إسرائيل” المعتدية منذ تأسيسها والمدموغة عقيدتها منذ العام 1975 من الأمم المتحدة بالعنصرية، بكون الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، ارتكبت جرائم زادت بشاعتها بعد قيام مؤسسات قضائية دولية مثل المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم الخاصة، لاسيما بعد انفراد واشنطن وهيمنتها في العلاقات الدولية منذ انتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الايديولوجي من مواجهة الشيوعية الدولية إلى مواجهة الاسلام. وهو ما جرى التعبير عنه بشكل صارخ خلال عدوانها على لبنان العام 2006 وعدوانها على غزة 2008 - 2009 بعد حصار دام أكثر من سنتين وستة أشهر.

إن “إسرائيل” لا تريد اللجوء إلى القانون الدولي، لأن هذا الأخير يسائل عن هذه الجرائم أولاً، ولأنه يعطي الحق للمقاومة في استخدام جميع الوسائل السلمية والعنفية، من أجل حقها في تقرير المصير، وهو الأمر الذي ترفضه “إسرائيل”، وهذا ثانياً، أما ثالثاً أن القانون الدولي لا يعطيها الحق للاحتفاظ بالأراضي أو الحصول على المكاسب السياسية، ورابعاً أن القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة 242 العام 1967 و338 العام 1973 وما يسمى ب”الشرعية الدولية” تلزمها بالانسحاب من الأراضي العربية إلى حدود الرابع من يونيو/ حزيران العام ،1967 فضلاً عن تجاوزاتها على القرار 181 (الخاص بالتقسيم العام 1947 والقرار 194 الخاص بحق العودة) وهذا خامساً.

من جهة أخرى يمكن تفّهم الهبّة الشعبية العربية لمساءلة “إسرائيل”، ولاسيما اتهام مسؤولين بارتكاب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم إبادة أو جريمة تهديد السلم والأمن الدوليين وممارسة العدوان، فهي لها ما يبررها، ولعلها مطلوبة حسب قواعد العدالة الدولية ومتطلبات المعاهدات والاتفاقيات الدولية الشارعة (الاشتراعية)، أي المنشئة لقواعد قانونية جديدة أو مثبتة لها، مثل اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و1907 أو اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 أو قواعد القانون الدولي، إلا أن هناك عقبات جدية تعترض طريقها، الأمر الذي ينبغي تفهمه أيضاً ووضعه في الحسبان.

إن الخيارات التي يمكن الركون إليها واعتمادها تعترضها بعض الكوابح سواء الطلب من مجلس الأمن تشكيل محكمة خاصة أو مختلطة مثلما حصل في يوغسلافيا ورواندا وسيراليون، أو التوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على قرارها في حالة استخدام الولايات المتحدة حق الفيتو في مجلس الأمن، لتشكيل محكمة خاصة بموجب القرار 377 “الاتحاد من أجل السلام” بخصوص المشكلة الكورية في الخمسينات، أو الطلب من المحكمة الجنائية الدولية ملاحقة المرتكبين، مع أن هذه الخيارات كلّها تتعلق بتوازن القوى وبالضغوط التي ستمارسها “إسرائيل” من خلال الولايات المتحدة لمنع امكانية تحقيق ذلك.

وحتى في إطار الممكن والمتاح حالياً وهو تقديم دعاوى أمام بعض المحاكم الخاصة، لاسيما في اسبانيا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا وكندا وغيرها، لمقاضاة المتهمين “الإسرائيليين”، أو التوجه إلى محكمة العدل الدولية لإصدار رأي استشاري، بالتعويض المدني تمهيداً للحكم الجنائي، حسب توفّر الامكانات والظروف لاحقاً، لكن هذه الخيارات أيضاً لا تزال ليست في المتناول بيسر وسهولة كما يتصوّر البعض، وتحتاج إلى حشد للطاقات والامكانات والكفاءات ولفترة طويلة زمنياً وتغييرات في موازين القوى، ولعل الإبقاء عليها وعلى حلم تحقيق العدالة الدولية أمر مفيد ومستقبلي بشأن حيثيات وآليات الملاحقة القانونية، إلا أن معرفة الواقع والتصرف في ضوئه مسألة مهمة، لتوفير المستلزمات الضرورية، وليس الغرق في الافتراضات والرغبات التي قد تكون محبطة لوحدها.

صحيح أن “إسرائيل” لا تكترث كثيراً بالقانون الدولي، لكن رئيس الوزراء “الإسرائيلي” مناحيم بيغن في مفاوضاته مع الرئيس المصري محمد أنور السادات، عشية التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد والصلح المنفرد، كان قد جادل بامكانية الاحتفاظ بالاراضي استناداً إلى قواعد القانون الدولي التقليدي، وذلك ضمن كتاب كان قد أخرجه من حقيبته، الأمر الذي أوقع الرئيس السادات في حرج، لم يكن معه ما يدافع به إزاء أطروحات بيغن، لكن “إسرائيل” في الوقت نفسه ظلّت تدير ظهرها للقانون الدولي باستمرار، حتى وإن اضطر شارون رئيس وزرائها الاسبق لتغيير مساره والامتناع من التوجه إلى بروكسل التي كان ينوي زيارتها بسبب تقدم بعض الحقوقيين والضحايا بشكوى إلى محاكمها لملاحقته، وهو ما يحجم عنه مسؤولون “إسرائيليون” حالياً تجنباً لاحتمال مساءلتهم، وهو الأمر الذي ينبغي مواصلته باعتباره جزءاً من الواقع، في حين أن الجزء الأكبر والأهم، هو المتمثل في استمرار الحلم بجلب المرتكبين “الإسرائيليين” إلى القضاء الدولي.

وإذا كان حقوقيو وناشطو اليوم يتوجهون إلى القضاء الدولي لشعورهم بأن عليهم تقع واجبات لم تنهض بها حكوماتهم، لاسيما إزاء النظر لازدواجية المعايير في القانون الدولي زمن السلم أو زمن الحرب، سواءً القانون الدولي لحقوق الإنسان أو القانون الدولي الجنائي، فإن في القانون بقدر وجود نقاط قوة لصالح العرب، ففيه أحياناً، لاسيما بتعطيله بالقوة، نقاط ضعف أساسها اختلال موازين القوى، الذي ينبغي أخذه بالحسبان دائماً وعدم الغرق في وهم أو النوم على حلم يتحوّل في اليقظة إلى كابوس مرعب.

ولا بدّ هنا من التفريق بين المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال، الأمر الذي لا ينبغي التعامل معه بصورة شكلية وبموجب منطق سطحي لا سيما المساواة بين جريمة قائمة ومستمرة وتتمثل بانتهاك كامل منظومة حقوق الإنسان ولاسيما بالاحتلال، وبين ردود فعل متقطعة واستثنائية هي جزء من سياقات أي عمل عنفي حتى وإن كان مشروعاً كمقاومة للاحتلال قد ينجم عنه تعريض بعض المدنيين للانتهاك أو للعنف والأمر ليس تبريراً، فأي انتهاك لحقوق المدنيين خارج دائرة الصراع امر غير مقبول وينبغي قوله علناً وإدانته، لا سيما إذا كان متعمداً، ولكن لا ينبغي نسيان أو التخفيف من مسؤولية الفاعل الحقيقي الذي قام بالاحتلال وشرّد شعباً تاريخياً عريقاً من أرضه واستمر في العدوان عليه طيلة ما يزيد على ستة عقود من الزمان، خلافاً للقانون الدولي، وهو ما يصرّ عليه الفلسطينيون والعرب، وتتهرب منه “إسرائيل”، لأنها تدرك أن اللجوء إلى القضاء الدولي سيكون فيه مقتلها.

* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية 11/3/2009

1200
كلمات عتب مملح إلى منظمة العفو الدولية
عبدالحسين شعبان
2009-03-09
لأن منظمة العفو الدولية مهنية ورصينة، وعلى قدر كبير من الصدقية، ولأنها من أكثر المنظمات انتشاراً وتأثيراً، ولأنها دافعت بأمانة عن حقوق الإنسان منذ تأسيسها في العام 1961 وحتى الآن، فإن تدقيق وتمحيص ونقد بعض مواقفها يكتسب أهمية خاصة، لاسيما إذا كان عبر حوار معرفي ومن المواقع ذاتها، خصوصاً إزاء حساسية الضحايا وما يصيبهم وما يلحق بهم من أذى وانتهاك لحقوقهم. ولعل «الكلمة» هنا لا تقل ثقلاً عن مدفعية تقصف أو قنابل تسقط على رؤوسهم، فما بالكم إذا جاءت من جهة انتدبت نفسها للدفاع عن حقوق الإنسان.
المسألة تتعلق بتقرير صدر عن منظمة العفو الدولية التي قالت دوتيلا روفيرا التي ترأست بعثة المنظمة إلى غزة لتقصي الحقائق «إن إسرائيل وحماس خرقتا القوانين الدولية لحقوق الإنسان»، رغم أنها أضافت أن إسرائيل استخدمت الفسفور الأبيض وأسلحة أخرى زودتها بها الولايات المتحدة في ارتكاب انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك جرائم حرب». وأردفت المنظمة أن حماس والجماعات الفلسطينية الأخرى بإطلاقها الصواريخ ارتكبت أيضاً جريمة حرب.
ثم قام مالكولم سمارت، مدير منظمة العفو الدولية، بنشر تقرير دعا فيه إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى تعليق واشنطن مساعدتها العسكرية إلى إسرائيل، باعتبارها تقوم بارتكاب جرائم حرب، وأشار التقرير إلى أن أكثر من 20 دولة باعت إسرائيل أسلحة وذخائر استخدمت أثناء عمليات «الرصاص المسكوب» بما يشكل جرائم حرب، وبما يحقق انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي، وأن الولايات المتحدة تتربع على قمة قائمة موردي السلاح إلى إسرائيل، ومعها فرنسا ورومانيا والبوسنة وصربيا أيضاً.
ويتضمن التقرير الذي هو تحت عنوان «إشعال النزاع: إمدادات السلاح الأجنبية إلى إسرائيل وغزة»، تفصيلات عن مبيعات السلاح بين العامين 2004-2007 واستخداماته ضد المدنيين، لاسيما خلال اجتياحها غزة، ووصلت قيمتها إلى 8.3 بليون دولار أميركي، ناهيكم عن مساعدات ومعونات بلغت 21 مليون دولار، وأن 10 بلايين دولار كانت للأعمال العسكرية والأمنية. وأوصت المنظمة بتجميد بيع السلاح، لما يشكّل استخدامه من انتهاك خطير للقانون الدولي الإنساني والاعتداء على حقوق الإنسان.
قد يكون الأمر إلى هذا الحد هو تحصيل حاصل لكشف أبعاد انتهاك القانون الدولي الإنساني من جانب الطرف المعتدي، المحتل، الدولة العبرية، ضد شعب أعزل وإمكانات مقاومة بسيطة، لكن التقرير لا يتوقّف عند إسرائيل، بل يمتد ليتّهم حماس والمجموعات الفلسطينية الأخرى باستخدام الأسلحة دون تمييز ضد المدنيين. ويذهب التقرير إلى ما هو أبعد من ذلك، بتأكيد أن إمدادات السلاح مصنوعة في إيران وروسيا، ويطالب بوقفها أيضاً.
ورغم النقاط الإيجابية المهمة في تقرير منظمة العفو الدولية، لاسيما بإدانة إسرائيل، إلاّ أن المنظمة في الوقت نفسه وضعت الجلاد والضحية في كفة ميزان واحدة، فالطرف الأول دولة محتلة ومعتدية وتتنكر لقواعد القانون الدولي منذ تأسيسها قبل ستة عقود ونيف وحتى الآن، والطرف الثاني شعب أعزل مهضوم الحقوق ويعاني من انتهاك لكامل حقوقه الإنسانية، لاسيما حقه في تقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس، طبقا للشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن الدولي، خصوصاً القرار 242 العام 1967 و338 العام 1973. فهل المنظمة لا تفرّق بين ممارسة العدوان وانتهاك حقوق الإنسان الجماعية والفردية وارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، وبين الحق في المقاومة الذي يكفله القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية لحقوق الإنسان ذاتها، واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977؟!
إن الحق في المقاومة يعطي للشعب المحتل استخدام جميع الوسائل المشروعة، السلمية والعنفية، للتصدي للعدوان، الأمر الذي قد يحدث معه سياقات قد تلحق بعض الأضرار بالمدنيين، وهي ناجمة عن أي صدام مسلح، لاسيما إذا لم يكن متعمّداً ومقصوداً مثلما تقوم به إسرائيل بما فيه قصفها للسكان المدنيين ولمقرات المنظمات الدولية والإعلامية والمستشفيات والمدارس ودور العبادة وغيرها، المحرمة دولياً، علماً أنها دولة، وتمتلك سلاحاً جوياً وبحرياً وأسلحة ثقيلة، في حين لا تمتلك المقاومة سوى أسلحة بسيطة تدافع بها عن نفسها، الأمر الذي سيكون بدونها يعني الاستسلام في كلا الحالين: فإما للموت الإسرائيلي المحتم، أو رفع راية الاستسلام السياسي طبقاً للمشروع الإسرائيلي.
لقد لاحظت منذ سنوات أن الكثير من المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، لاسيما في الموضوع الفلسطيني، حتى وإن اتخذت موقفاً إيجابياً ضد عدوان إسرائيل، يعود ويلقي بعض اللائمة على الفلسطينيين والعرب، ويتناسى السبب الحقيقي لنشوب الصراع، ألا وهو الاحتلال واستمرار العدوان والتنكر لمبادئ القانون الدولي والعدالة الدولية، ولعل في ذلك سعيا للتوازن في مسألة غير متوازنة، بين ضحية وجلاد، أو مجاملة في غير محلّها بين مرتكب ومجني عليه، وليس من باب نظرية المؤامرة، فهناك ضغوطاً من داخلها وخارجها، منظورة وغير منظورة، ولهذا تريد أن تتوازن، الأمر الذي يدفعها إلى موقف غير متوازن. ولعل الخشية التي تضعها بعض المنظمات لنفسها هي، كي لا تُتهم بالانحياز أو معاداة السامية، فتتخذ مثل هذه المواقف التي تضعف من صدقيتها أو تقلل من دورها وثقلها، لاسيما في العالم العربي المظنون بانتهاكاته السافرة لحقوق الإنسان، ويدافع حكّامه عن ذلك بردّهم باتهامات المنظمات الدولية بالانحياز إلى أعدائها، وهو كلام «حق» يراد به باطل أحياناً. ولا أريد هنا أن أتخذ موقفاً يقوم على ازدواجية المعايير، كما تفعل الحكومات التي تبتهج حين يتهم خصومها بانتهاك حقوق الإنسان من جانب منظمة العفو الدولية، وتقوم بنشر تقاريرها، وتحجم وتتبرم وتزبد وترعد حين يتم اتهامها هي بانتهاك حقوق الإنسان.
وأعترف هنا من خلال عملي الطويل وخبرتي في هذا الميدان، أن منظمة العفو الدولية كانت الأكثر استقلالية ونزاهة وصدقية، رغم بعض النواقص والثغرات المتعلقة بالقضية الفلسطينية للأسباب التي أجملتها، وأتذكر أن موقفها كان أكثر اعتدالاً من الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان ومنظمات مراقبة الشرق الأوسط في مؤتمر ديربن (جنوب إفريقيا)، الذي أدان الممارسات الإسرائيلية واتهمها بالعنصرية العام 2001، وذلك بحشد جماعي لنحو 3000 منظمة عالمية، لكن منظمة العفو الدولية انساقت مع المنظمتين المذكورتين باتخاذ موقف خاص، حاول أن يلقي بعض اللوم على الفلسطينيين، وهو الأمر الذي أصبح ظاهرة متميزة في العمل الدولي، لاسيما في الموقف من إدانة إسرائيل ومن الذين يدعون إلى ذلك، وللأسف فإن بعض النشطاء ولأسباب مصلحية وذاتية يغضّون الطرف عن ذلك، الأمر الذي تستغلّه الحكومات وبعض الحركات المتطرفة للنيل من حركة حقوق الإنسان والتشكيك بأجندتها عن عمد أو جهل أو بسبب أخطاء ومواقف البعض!
ولا بدّ هنا من التفريق بين المحتل والشعب الواقع تحت الاحتلال، الأمر الذي لا ينبغي التعامل معه بصورة شكلية وبموجب منطق سطحي، لاسيما المساواة بين جريمة قائمة ومستمرة وتتمثل بانتهاك كامل منظومة حقوق الإنسان ولاسيما بالاحتلال، وبين ردود فعل متقطعة واستثنائية هي جزء من سياقات أي عمل عنفي، حتى وإن كان مشروعاً كمقاومة للاحتلال قد ينجم عنه تعريض بعض المدنيين للانتهاك أو للعنف. والأمر ليس تبريراً، فأي انتهاك لحقوق المدنيين خارج دائرة الصراع أمر غير مقبول وينبغي قوله علناً وإدانته، لاسيما إذا كان متعمداً، ولكن لا ينبغي نسيان أو التخفيف من مسؤولية الفاعل الحقيقي الذي قام بالاحتلال وشرّد شعباً تاريخياً عريقاً من أرضه واستمر في العدوان عليه طيلة ما يزيد عن ستة عقود من الزمان، خلافاً للقانون الدولي.
لعلها كلمات عتب مملح من صديق وعضو قديم في منظمة العفو الدولية، عسى أن تدرك خطورة ذلك على مستقبلها وعلاقتها مع العالم العربي.

1201
الطيب صالح.. شرق غرب
عبدالحسين شعبان
2009-03-02
سمعت لأول مرة باسم الطيب صالح من صديق سوداني جمعتني به زمالة دامت ثلاث سنوات اسمه حيدر الأبجر، وذلك عام 1972 حينما كنت أعد أطروحتي للحصول على الدكتوراه. وعندما قرأت روايته التي ذاع صيتها «موسم الهجرة إلى الشمال» هتفت مع نفسي إنه روائي استثنائي، بلغته الشفافة وأسلوبه المبسط والعميق في الآن وصوره المتنوعة وشخصياته ذات الوجوه المتعددة والمركبة أحيانا وبموضوعاته ذات الحس الإنساني.
في الكومنسكي كولي (سكن طلبة الدكتوراه في مدينة براغ الذهبية) كنا نشترك أنا وزميلي في شقة صغيرة أو ما يشبه ذلك بغرفتين متجاورتين، اجتمع فيها عدد من الشخصيات السودانية، أذكر منها: قاسم أمين (القائد العمالي- عمك كاسم كما كنا نطلق عليه)، وإبراهيم زكريا (العضو القيادي في الحركة الشيوعية السودانية)، وحسن أبا سعيد المترجم والإعلامي في الإذاعة التشيكية، وفتحي الفضل سكرتير اتحاد الطلاب العالمي، وفتحية نقد (زوجة إبراهيم نقد الأمين العام للحزب الشيوعي)، والدكتور عبدالوهاب سنادة، وشيرين ميرزو المخرجة التلفزيونية السورية لاحقا، وأنا العراقي، وكان الطيب صالح هو محور حديثنا، ولعله الحاضر دائما لدى كل حديث عن الأدب بين السودانيين، جادل البعض في «عرس الزين» والآخرون في «دومة ود حامد»، لكن غالبيتهم الساحقة كانت مع رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» التي بدأت ألتهمها وأخذتني طيلة تلك الليلة الثلجية العاصفة، إذ لم يكن بإمكاني أن أفارقها، فقد كانت لصيقة بالروح وحميمة لدرجة التعلق!
ورغم أن رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» هي روايته الثانية، فإنه تم اختيارها كإحدى أفضل الروايات العربية، وإحدى أفضل الروايات من بين 100 رواية عالمية، وترجمت إلى اللغات المختلفة، وذاع صيتها، وكتبت العديد من الدراسات والأطروحات حولها. وقد يحق لمن يقول لو لم يكتب الطيب صالح سوى هذه الرواية فإنه يستحق أن يخاطب باعتباره عبقري الرواية العربية، ولعل هذا الأمر يذكرني بالجواهري الكبير الذي قيل عنه لو لم يكتب سوى قصيدة «يا دجلة الخير» لاستحق أيضا لقب شاعر العرب الأكبر، فما بالك ولديه 20 ألف بيت من الشعر مثلما للطيب صالح روايات لا تقل عن «موسم الهجرة إلى الشمال»؟
لقد كشف الطيب صالح من خلال منجزه الروائي -لا في موسم الهجرة إلى الشمال فحسب بل في عالمه السردي- عن خصوصية تركت آثارها على الرواية العربية، وقد فتحت روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» طورا جديدا من العلاقة بين الشرق والغرب، من خلال رؤية مغايرة للاستشراق الغربي، ومن خلال تجربة عملية وخبرة عميقة في الحياة وفي الحالة السردية. ولعل هذه الرواية بشكلها الفني يمكن أن تكون مادة أولية لدراسة الاستشراق من منظور مختلف، وهو ما فعله إدوارد سعيد عندما فكك الرؤية الغربية للاستشراق من خلال كتابه «الاستشراق» الذي صدر عام 1978.
لم يضع الطيب صالح نفسه في خندق مُعاد للغرب بسبب الحقبة الكولونيالية كرد فعل، بل كان فنانا عرف بساطة القرية السودانية وأحبها مثلما عرف المدن الكبرى وتعقيداتها، وبين هذه وتلك حمل ثقافة متنوعة مزيجا بين الثقافة التقليدية والعربية-الإسلامية والثقافة الحديثة، بما فيها المدارس الغربية.
وكان أسلوب الطيب صالح مزيجا من البلاغة واللغة الفخمة والسرد الحديث، بحيث تشربت بساطته بعمق بنائه الكلاسيكي. وقد حاول دراسة الجوانب النفسية «السيكولوجية» للفرد والمجتمع واستخدامها في أعماله السردية، بحيث حفر بمعول جيولوجي ماهر للتنقيب في آثار الشخصية البشرية والنفسية الإنسانية، وهي جوانب استخدمها العديد من الروائيين أمثال ألبير كامو وصنع الله إبراهيم ومحمد خضير وآخرين. وقد كانت أعمال الطيب صالح خلاصة لثقافة أمة، ولثقافة شعوب وقارات مهمشة، بكل تقاليدها وفولكلورها وأحلامها وانكساراتها. وهو ما أثارته رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» من أسئلة نوعية أكثر من إشكاليات قائمة.
لقد جسدت شخصية «مصطفى سعيد» موضوع التوتر الثقافي بين الشرق والغرب، بحيث جاءت تراكما لما سبق بعمق أكثر، لاسيما إزاء نظرته للاستشراق الغربي. وفي رحلته الممتعة «موسم الهجرة إلى الشمال» تلك التي كتبها عام 1966، تعرفنا على بنت مجذوب المرأة المزواجة وود البشير «الزوج الأخير» الذي وصفه بأنه «الكحيان..التعبان»، لكن بنت مجذوب حلفت بالطلاق -وهي مجالسة الرجال- بأنه أفضل أزواجها.
ولعل بعض شخصياته موجودة في روايته الأولى «عرس الزين» التي كتبها عام 1964 أي قبل عامين من روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال»، فشخصياته القروية ظلت تتمتع بهذه القدرة على الظهور، ولعل محجوب لم يترك موقعه في الروايتين، كما أن ابن ود الريس يأخذ مكان والده، وظلت بنت مجذوب نموذجا فريدا للأدب المكشوف، وكانت مناخات قرية كرفكول في شمالي السودان حيث ولد عام 1929 تعبق برائحتها وصورها وذكرياتها التي ظلت تلاحق الروائي الكبير.
لقد انتقل بطل الطيب صالح «مصطفى سعيد» في «موسم الهجرة إلى الشمال» إلى لندن وعاش فيها سبع سنوات تعرف فيها على الأدب الإنجليزي قبل أن يعود إلى قريته السودانية المستكينة الخاملة، وقد تكون حكاياته وسردياته تلك تعويضا عن حالة الكسل والخمول التي عاشها في القرية المسترخية، ومع الضجيج الإيديولوجي والتباعد الحضاري بين قيم الشرق وقيم الغرب، ظل الطيب صالح مسكونا لدرجة المبشر والداعية أحيانا بالمشترك الإنساني، ويكاد يجد نفسه موزعا بين قيم القرية وحداثة المدنية؛ ولذلك سعى لمصالحة بين الشرق والغرب من خلال رواية موسم الهجرة، لاسيما ونحن نتحدث عن حالة إنسانية ومشترك بشري يجمع بين الشرق والغرب.
كانت قراءاتي الأولى للطيب صالح قد بدأت قبل أن أتعرف عليه، وكنت مفتونا بأسلوبه الأخاذ، وعندما تعرفت عليه مع الشاعر بلند الحيدري في عام 1991 في لندن اكتشفت أي شفافية وحساسية إنسانية وحب للناس وتسامح وقدرة عجيبة على الصبر يحملها هذا السوداني الجميل.
وبقيت ألتقي الطيب صالح بين الحين والآخر ونتبادل بعض الإصدارات، ولكن علاقتي تعززت به من خلال مجلس الشيخ عبدالعزيز التويجري الذي كان يجمعنا، سواء في لندن عندما يزورها، ومرة كما أتذكر في جنيف، ومرات في الرياض عند تلبيتنا دعوات مهرجان الجنادرية الثقافي، وفي كل دعوة على العشاء كنت أكتفي بالتمر البرحي مع اللبن أحيانا، وسألني مرة: أهي الأكلة المفضلة لديكم أم من كثرة اغترابك تحن إليها؟ قلت له: ربما الاثنان معا، فقد تكتشف العراقي إذا وضعت التمر أمامه، فستندلق يده دون إرادة أحيانا ليتذوقه قبل جميع المأكولات، حتى وإن كان يتغدى ويتعشى به!
كان المجلس يضم نخبة من المثقفين من مختلف المشارب والاتجاهات الفكرية والثقافية والسياسية، ومن مدارس فنية وأدبية مختلفة ومتنوعة، فإضافة إلى الطيب صالح، كان شفيق الحوت ونجم عبدالكريم ويحيى السماوي وبلال الحسن وعرفان نظام الدين وسعد البزاز والهاشمي الحامدي والأرناؤوط وحسن صبرا وآخرون.
في العام الماضي كان الحزن مخيما على الجميع، حضرنا في بيت الشيخ عبدالعزيز التويجري، وكان الرجل قد غاب، رحل عن دنيانا. كنت أفكر مع نفسي ربما يكون بعضنا مرشحا، وجاءني صوت الطيب صالح: «البركة في الشيخ عبدالمحسن وإخوته وإلا كاد الجمع يتبخر».. قلت مع نفسي: سيطير بعضنا، يتلاشى من شهاب، أجابني وكأنه كان يقرأ أفكاري وقال بحزن وكأنه يودع المهرجان أو يودعنا وبحسرة كان يردد:
ما أخطأتك النائبا ت إذا أصابت من تحب
فأية خسارة تلك عصفت بنا؟ كأنه كان يتحدث عن بطل في روايته الأولى «عرس الزين»: «وكانت الدائرة تتسع وتضيق، والأصوات تغطس وتطفو، والطبول ترعد وتزمجر، والزين واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة، وجسمه النحيل، فكأنه صاري المركب».
الطيب صالح «عبقري الرواية العربية» كما أطلق عليه، غادرنا بعد رحلة طويلة من العمل الأدبي والثقافي والإعلامي، حيث مارس العمل التربوي (حين عمل مدرسا)، والثقافي (الوظيفي) حين كان ممثلا لليونسكو في قطر 1984-1989، والإعلامي في هيئة الإذاعة البريطانية، إضافة إلى مقالاته في مجلة «المجلة» وروايات من أشهرها: عرس الزين، وموسم الهجرة إلى الشمال، ودومة ود حامد، وضو البيت، ومريود، وغيرها.

صحيفة العرب القطرية  العدد 7568 الإثنين 2 مارس 2009 م ـ الموافق 5 ربيع الأول 1430 هـ


1202
انهاء الاحتلال عسكرياً او تعاقدياً يتطلب تعهداً من الدول دائمة العضوية في الأمم المتحدة..

الباحث القانوني عبد الحسين شعبان
حوار: محمد خضير سلطان
لاحد للاسئلة في العراق.. غير ان عملية بحثها وطرحها لا تعني التوصل الى اجوبة محددة، تفيد في النواحي التطبيقية والفعلية، وتكفل خروجا من المشاكل، فالجانب العملي والتطبيقي في العراق، و في اطار البناء السياسي الاني للقوى المتحركة وتجذرها الثقافي -التاريخي الاثني والمذهبي والايديولوجي

هو المنتج الاوحد للحلول النسبية الممكنة اكثر ما تحتاجه من استعادات فكرية وايديولوجية بل ان التجربة العراقية بظروفها الموضوعية العامة..
الجارية في مسار التداعي والتشكل، عبر العناءات السيزيفية وتراجيديا الصراع، هي التي تطرح الاسئلة والاجوبة معا بوصفها مخاضات تكشف عن آفاق العقل السياسي العراقي، ولم يأخذ الاخير دوره بعد في التشكل والتأثير في التجربة بالرغم من وجود مفكرين عراقيين ، استطاعوا الوصول عبر وسائل التعبير، ومع ذلك فان البعد الثقافي والفكري في الافق السياسي العراقي لا ينعدم في الكتابة والقول واستخدام الوسيلة الثقافية المحايدة من اجل الوصول الى الفهم وتحويله الى متغير في الواقع السياسي، ومن هؤلاء المفكرين الدكتور عبد الحسين شعبان الذي اجرينا معه هذا اللقاء بوصفه ممثلا لنشوء تقاليد ثقافية وفكرية عراقية مستقلة عن المؤسسة السياسية وتعمل على تحليلها ونقدها ومن ثم توجيهها في مسار الخطأ الاقل وبيان مقاربة بين الوسائل والاهداف.
استقرار ام هدوء
تدل المؤشرات الاحصائية على ان العنف في العراق، يسجل انخفاضا بينا وتنسحب هذه المؤشرات البيانية على دعم تحسن اداء الحكومة في حفظ الأمن والتقليل الكبير من عدد العمليات المسلحة علما ان الحكومة العراقية، بذلت جهدا حقيقيا لايمكن لمنصف انكاره في الاسهام بانخفاض مستوى العنف الا ان مراقبين سياسيين للوضع السياسي العراقي، يرون ان هدوءا ما يسبق عاصفة حقيقية فدول الجوار وبعض جوار الجوار العربي والاقليمي، هي في موقف سكون واستعادة ازاء تطبيق الاتفاقية الاميركية العراقية لسحب القوات وانتظار ما ترتب عليه الامور بعد انسحاب القوات المتعددة من البلاد او ما تسفر عنه مواقف الادارة الجديدة للولايات المتحدة، فهل تجري هذه الدول تعديلا على خططها الامنية الوقائية في هذا الوقت ما يستدعيها ان تشترك بصورة غير منظورة الى حين في استتباب السلام ام انها اوقفت دعمها اللوجستي للمنظمات المسلحة الى ان تتضح المواقف الاميركية الجديدة من تنفيذ الاتقاقية؟
*المهم أن تترسخ حالة الأمن وأن يتوقف العنف كظاهرة نهائياً، فذلك هو السبيل لصراع سلمي ومدني وحضاري، ولعل مهمة أية حكومة في الدنيا هي حفظ أرواح وممتلكات الناس، وضبط الأمن والنظام العام، كما أن وظيفة الدولة الديمقراطية العصرية تتطلب توسّعاً فيما يتعلق بالمساواة بين المواطنين وتحقيق المواطنة الكاملة ومنع التمييز لأي سبب كان قومياً أو دينياً أو طائفياً أو جنسياً أو اجتماعياً أو لغوياً أو بسبب اللون أو الاتجاه السياسي أو الاعتقاد الآيديولوجي، كما تقتضي تحقيق نوع من أنواع الضمان الاجتماعي والرفاه الاقتصادي وحماية حقوق الانسان السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لا تستقيم الدولة الديمقراطية، مع استمرار ظاهرة العنف والارهاب، أو وجود الميليشيات ولا يعلو شيء في الدولة الديمقراطية على سيادة القانون وحق احتكار فرضه من قبل سلطة عليا لها هيبة ومكانة وقضاء مستقل وجهة تشريعية معتبرة.
أما فيما يتعلق بالاتفاقية العراقية- الاميركية  فهي وأن تحدثت عن انسحاب في نهاية العام 2011 ولا يوجد نص خاص بتمديدها، لكن انتهاء مدة نفاذها ليست بالضرورة نهاية لحيثياتها، التي يمكن أن تستمر في ظل تعاقد جديد، خصوصاً إذا لم يتم تأهيل القوات المسلحة العراقية بحيث تستطيع مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، وهو أمرٌ كبير الاحتمال في إطار القراءة السياسية والستراتيجية، فحتى الآن ورغم مرور نحو ستة أعوام لم يتم تأهيل سوى 10% من القوات المسلحة العراقية، علماً بأن الكثير من النواقص والثغرات الجوهرية ما تزال تعترضها، لاسيما ولاؤها، فهي أقرب الى اتحاد ميليشيات، باعتراف القوات الاميركية وفي إطار الاختراقات المتكررة التي يفصح المسؤولون عن بعضها بين الحين والآخر.
وإذا أردنا إضافة أحد الأسباب الجوهرية للنقص الكبير في الاتفاقية هي عدم اخضاع أفراد الجيش الاميركي والعنصر المدني كما جاء في النص الى الولاية القضائية العراقية، ناهيكم عن وجود نصوص انشائية غير قانونية من قبل "الارهابيين" و"الخارجين عن القانون" وتعميمات أخرى، الأمر الذي يجعل الحكومة التي حاولت تقليص مساحة الاحتلال العسكري، لكنها وجدت نفسها أمام صيغة جديدة للاحتلال التعاقدي، بسبب اختلال موازين القوى بين طرفين أحدهما قوي ومحتل ، وآخر ضعيف ومحتلة أراضيه، وهكذا وتحت باب " الواقعية السياسية" اختارت خيار التعاقد.
والشيء بالشيء يُذكر كما يقال فإذا كانت صيغة الاتفاقية تعني التحلل من آثار الفصل السابع الذي كبّل العراق منذ غزو النظام السابق، دولة الكويت في العام 1990، فإنه شبيه من يخرج من الباب ليدخل من الشباك، وهو ما عبّر وزير الخارجية هوشيار زيباري عندما قال طلبنا الابقاء على صندوق تنمية العراق (الذي انشىء بموجب الفصل السابع) لأن الولايات المتحدة بامكانها وضع اليد على الأموال العراقية المجمّدة لديها طلباً للتعويضات التي قدرت بعدة مليارات.
أعتقد ان انهاء الاحتلال عسكرياً أو تعاقدياً، وضمان استقلال وسيادة العراق كاملة وغير منقوصة، يتطلب تعهداً دولياً من جانب الامم المتحدة تشارك فيها الدول الدائمة العضوية، لاسيما الولايات المتحدة، إنْ كانت فعلا تريد الانسحاب من العراق، مع ضمان اقليمي وتعهد عربي واقليمي بحماية العراق وإعادة اعماره، وعند ذلك سيكون تدخل أي طرف خارجي اقليمي او عربي أو دولي امرا غير مسموح، وكما أشرت فإن الأمر يتعلق بقدرة العراقيين على تجاوز الاوضاع القاسية والمعقدة التي يعيشونها.
الارث المدني
سجلت الانتخابات المحلية الاخيرة في  31/ 1/ 2009 ، ان المجتمع العراقي، ليس صعبا على التكيف المنتج مع المشاركة الديمقراطية،ولم يكن مبكرا في تفهم دوره السياسي امام الاقتراع، واثبتت الوقائع ان خزينا مكبوتا من الثقافة المدنية المتصلة بعمق الاصلاحات العثمانية وظروف ما بعد الحربين والعهد الملكي الهاشمي، تجعل المشاركة المجتمعية لاتخلو من قاعدة تاريخية ومدنية ،لها فعل مؤثر في تسريع التنمية الديمقراطية الا ان النظام الانتخابي (قوانين، ادارة انتخابية، توزيع مقاعد)  لم يكن المشرع فيه بمستوى الوعي النسبي للفرد العراقي وهي انظمة ترجح توازنات الكتل السياسية وتغض نظرها عن الافراد ودورهم في ادارة الدولة، مارأيك في ان طاقة الوعي المختزنة للمجتمع العراقي لاتتناسب مع التشريعات اي ان المشرع متخلف عن الينابيع المدنية للفرد العراقي بعد ان اصبحت تتفجر هنا وهناك؟
*ان حرية التعبير واجراء انتخابات لا تعني الديمقراطية، بل هي خطوات مهمة على طريق الديمقراطية التي تحتاج الى تراكم وتواصل وثقافة للفرد والمجتمع من خلال قوانين ومؤسسات وتطبيقات، لاسيما في ظل دور شريك وفاعل ومؤثر للمجتمع المدني، باعتباره قوة اقتراح وليس قوة احتجاج حسب، وقوة تأثير وليس ديكوراً مكملاً للبيت الديمقراطي الموعود.
السياسية الدستورية
في كل بلدان العالم الديمقراطي ، الحديثة منها والعريقة ، لاتتجاور العمليتان السياسية والدستورية معا في سياق التحكم بالادارة، واذ تبدأ الاولى ، تنتهي الى الثانية، وتبدأ الاولى قبل كتابة الدستور وتكون بعده غير الذي كانته.
في العراق ، العمليتان تسيران معا  بطريقة لاتجعل الدستور هو الارادة العليا وتؤثر على الحياة النيابية كونها ساحة سياسية في جوهرها وليست تشريعية اي ان السياسة في العراق لم تعط الفرصة للتشريع بقيادتها ولم يأخذ الدستور مكانته في استيعاب النمو السياسي في الاطار الدستور.
هل يستمر هذا التشابك ام تجد السياسة في العراق حلا داخل اللعبة؟
*إذا كان مبرراً " توافقات" حول صيغة  ظرفية أو طارئة للقوى التي تعاطت مع خطة بول بريمر وإن كان الجميع ينفض يده منها حالياً، لاسيما وقد اعتمد التصنيف المذهبي- الاثني، فإنه لم يعد مبرراً للقوى جميعها، التي تدعي مناهضتها للطائفية، بل وتتبرأ منها، الركون الى تلك الصيغة المنبوذة، ولعل انجاز دستور دائم للبلاد أمر مهم، لكن العملية شابها الكثير من الاستعجال والارادوية والمواعيد التي حددتها الادارة الاميركية، بحيث وضعت جداول لكي تقول أنها حققت نجاحات في العراق، لكن هذا انعكس سلباً على التطور الداخلي بحيث انفرط العنف على نحو لا مثيل له وعاد الرئيس بوش نفسه ليعترف عشية مغادرته البيت الأبيض بذلك وبالاخطاء التي ارتكبها بما فيها استناده الى المعلومات المضللة، وكانت وزيرة الخارجية كونداليزا رايس قد صرحت بأن بلادها ارتكبت آلاف الأخطاء في العراق.
الدستور ما زال معطلاً في الكثير من جوانبه، وإن كانت فيه إيجابيات تتعلق بقضايا الحقوق والحريات، الاّ أنها مقيّدة بمواد أخرى وأحياناً في المادة نفسها، وبعد كل ذلك، هناك 55 مادة من الدستور بحاجة الى إصدار قانون ولم تصدر مثل هذه القوانين بحكم التجاذبات داخل مجلس النواب، كما أن التعديلات لم تنجز حتى الآن رغم أن وعداً كان قد سبق الانتخابات بانجازها بعد 4 أشهر، لكنه رغم اقتراب مدة البرلمان من الانتهاء(اواخرالعام 2009) أي بمرور ثلاث سنوات ونيّف والتعديلات لم تنجز، وقد تكون مصدر خوف كبير يؤدي الى انقسام البرلمان.
تصوّر أن انتخاب رئيس للبرلمان، كم أحدث من جلبة وصراعات، الأمر الذي جعل العملية السياسية بصيغتها الراهنة تعطل التشريع والدستور أو تقيّده وبالتالي تُبطل آلياته المتاحة رغــــم نواقصها وثغراتها، ولا بدّ من فك ارتباط بين العملة الدستورية (التشريعية) والعملية السياسية وعدم اخضاع الأولى للثانية.
ولاء القضاء للكتلة
في اتجاه آخر ذي صلة بالسؤال السابق : هل من الممكن  للمحكمة الدستورية العليا  لو تشكلت على ضوء الدستور (والفكرة افتراضية)،  ان تضمن ولاء القضاة الى كتلهم السياسية او التي  رشحتهم بنسبة 30 او 40% و 70 او60% الى الفقه الدستوري والقضائي، والسؤال تبعا لهذا الافتراض، هل ان ولاء القضاة مع مرور الوقت سيقلل من نسبة ولائهم للكتل السياسية ويزيد من نسبة ولائهم للقانون والدستور ام ان العكس سيحصل؟
*القضاء ينبغي أن يكون مستقلا ولا سلطان عليه كما يقال، والأمر أكثر ضرورة بالنسبة للمحكمة الدستورية العليا، وإذا كان تسييس القضاء، لا سيما في القضايا ذات الصلة بالقضايا السياسية، قد حصل في ظل النظام السابق (محكمة الثورة والمحاكم الخاصة)، فإن مجزرة القضاء التي حدثت باقصاء أكثر من 250 قاضياً مرة واحدة، وأحدثت نوعاً من الفراغ  والارتباك وانعكس هذا على الاداء والولاء. الولاء ينبغي ان يكون للمهنة والوظيفة والوطن، الذي هو فوق الاعتبارات والكتل والطوائف، ولذلك ينبغي الاحتراز والتشدد إزاء تعيين القضاة وعلى أساس مهني ووطني، وإبعاد الحزبية والطائفية والعشائرية، لأنها ستضعف من آدائهم ومن إنجاز وظيفتهم بتحقيق العـدالة على احسن وجه.
دعني استذكر معك حكمة عمر بن عبد العزيز، عندما طلب منه أحد الولاة ارسال تعزيزات له لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، فأجابه سوّر مدينتك بالعدل، والعدل يعني التجرد والاستقامة والمصلحة العليا، فوق الاعتبارات الحزبية والمذهبية والاثنية، وذلك هو سبيل استعادة القضاء العراقي لعافيته. لاسيما في ظل المساواة والمواطنة التامة وعدم التمييز وهي شروط أساسية للديمقراطية، ومعها حكم القانون والتعددية وإجراء انتخابات وحق التعبير.
الزمن المضاف
لم تستطع الادارة السياسية في العراق من ايجاد حل للقضايا الاساسية طوال الفترة المنصرمة بعد التغيير واعتمدت طريقة الارجاء والترحيل او الهروب الى امام حسب القول الشائع، هذا يعني ان اللحظة العراقية متوقفة منذ التغيير ولم تنتج زمنا مضافا الا في حدود التطلع الاجرائي او المبدئي، على سبيل المثال، قضية واحدة مثل قضية كركوك، لا نجد اطارا تفاوضيا يفضي الى الحل واقصد تغيير النظر الى المشكلة فما زالت الاطراف العربية والكردية والتركمانية، تنظر الى مطالبها بنفس القيمة الايديولوجية والعرقية المألوفة لديها منذ السبعينيات من القرن الماضي ، هل ان الادارة السياسية لاتستطيع ان تغير ما في العراق من مشاكل حتى تغير ما في نفسها؟
*هناك اشكالات ومشكلات تواجه العملية السياسية، يعتمد مستقبلها على حلّها، نجاحها أو فشلها، ولعل أولها كيفية استعادة السيادة الوطنية كاملة وانهاء الاحتلال وجميع مظاهره وتبعاته، وثانيها القضاء على الطائفية ووضع حد لظاهرة التقاسم الوظيفي الطائفي والاثني وثالثها، استعادة  هيبة الدولة وفرض حكم القانون بحل الميليشيات ورابعها القضاء على الفساد الاداري والمالي والرشى وتبديد المال العام وخامسها استعادة الخدمات، مثل الماء الصافي والكهرباء ووضع حد للبطالة، وسادسها حل مشكلة الصلاحيات بين سلطات اقليم كردستان والسلطة الاتحادية (المركز)، لاسيما فيما يتعلق بالقوات المسلحة والموارد وبخاصة النفط في الحقول غير المستخرجة والعقود، ومشكلة كركوك وسابعها، وضع التعديلات الدستورية وإعادة قراءة الدستور، وهل يمكن إجراء تعديلات جديدة عليه؟!  ويمكن ارجاء ما هو غير قابل للحل من وقت لآخر، والاتفاق على نتائج انتخابات شفافة جديدة.
الطريق الاني
لاحد للاسئلة في العراق غير ان سؤال علم السياسة، يبحث عن حل آني للقضايا العراقية فيما تكشف مشكلة البلاد عن وضعها التاريخي اكثر من الاني، كيف نختار طريقا آنيا بعد ان اثبت التوافق والارضاء فشله في العمل السياسي؟
*أقول لا بدّ من رد الاعتبار الى علم السياسة، الذي وضع على الرف، في ظلّ احترابات ونزاعات واصطفافات بعضها حكمتها الظروف غير العقلانية، منها رد فعل لسياسات النظام السابق الاستبدادية الطويلة الأمد، ومنها وعود من جانب بعض القوى لم تتحقق، حتى أن بعض القوى السياسية وهي عريقة لم تستطع أن تحصل على مقعد واحد في مجالس المحافظات، لأسباب وتداخلات مختلفة، في حين هيمنت على المشهد قوى أخرى بفعل عوامل مختلفة تتعلق بنتائج ما بعد الاحـتلال، ناهيكم عن قانون الانتخابات.إن قبول قواعد اللعبة الديمقراطية يقتضي قبول نتائجها بعيداً عن التوافقات "العقيمة" أحياناً، فالسياسة " صراع واتفاق مصالح" على مرّ التاريخ، الأمر الذي يتوجب قراءة الواقع على نحو جديد لتحديد التحالفات والاصطفافات والبرامج خارج نطاق الدائرة الطائفية والاثنية.

صحيفة الصباح العراقية 3/3/2009

1203
ما الذي تبقّى من “اليسار الإسرائيلي”؟
   

عبدالحسين شعبان
 

تعتبر نتيجة الانتخابات “الإسرائيلية” الأخيرة والتي فاز فيها اليمين فوزاً ساحقاً هي الأسوأ في تاريخ “إسرائيل”، لاسيما لجهة اليسار “الإسرائيلي” الذي تراجع على نحو شديد، بل تدحرج إلى القاع. ويبدو أن الناخب “الإسرائيلي” رغم اختلافاته، ظلّ متفقاً على شيء أساسي ألا وهو أن على “إسرائيل” استخدام المزيد من القوة ضد الفلسطينيين، خصوصاً أن هذه الانتخابات جرت بُعيد العدوان على غزة، حيث “توحدت” القوى “الإسرائيلية” خلف حكومة تصريف الأعمال برئاسة إيهود أولمرت، الأمر الذي يعكس طبيعة المجتمع “الإسرائيلي” المغلقة ذات النزعة العدوانية.

وتكاد الأحزاب الصهيونية الكبرى وهي “الليكود” و”كاديما” و”العمل” تجمع رسمياً كما تعلن، على “لاءات” تقليدية بخصوص حقوق عرب فلسطين، وهي عدم الاعتراف بحق العودة وعدم الانسحاب من القدس الشرقية ومن الضفة الغربية إلى حدود الرابع من يونيو/حزيران ،1967 وكانت تجربة كاديما وحزب العمل قد كشفت هذه الحقيقة رغم انهما ظلا يطرحان استعدادهما للتفاوض ولكن من أجل التفاوض مع الجانب الفلسطيني، وليس من أجل التوصل إلى حل يلبي طموح الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير، وكان هدفهما باستمرار يدور في إطار مشروع أمني سياسي لا يصل إلى حدود دولة فلسطينية، ولعل المتغيّر المهم الآن هو أن صعود أحد أحزاب غلاة اليمين “إسرائيل بيتنا” قد زاد الموقف تشدداً، لاسيما وهو يطالب بطرد الفلسطينيين، وقد نجح هذا الحزب الفاشي اليميني المتطرف في الحصول على مقاعد تجاوزت حزب العمل التاريخي في انتخابات الكنيست الاخيرة.

لقد اكتسحت كتلة اليمين المتطرف يسار الوسط الصهيوني ووفرت نحو 65 مقعداً من أصل ،120 لدرجة إذا ما استطاعت التحالف مع أحزاب صغيرة، فيمكنها سواء وزيرة الخارجية ليفني أو رئيس وزراء “إسرائيل” الاسبق نتنياهو توجيه الامور وفقا لما تريده كتلة اليمين الاساسية.

وكانت “إسرائيل” قد دأبت منذ تأسيسها في 15 مايو/أيار 1948 على تناسي خلافاتها، خصوصاً عندما تخطط طغمتها العسكرية على ارتكاب العدوان أو عندما كانت تبرر بأن شبح الحرب بدأ يلوح، متذرعة بأن مصيرها كله “مهدد”. وقد حصل الأمر إبان العدوان الثلاثي في العام 1956 وعدوان حزيران (يونيو) العام 1967 وحرب يوم الغفران أكتوبر/تشرين الثاني العام 1973وفيما بعد خلال اجتياحها لبيروت العام 1982 وعقابها الجماعي لسكان مخيمي صبرا وشاتيلا والذي راح ضحيته نحو 1000 فلسطيني مدني جلّهم من الاطفال والنساء والشيوخ.

وإذا كان أمر اليمين محسوماً منذ البداية في تماهيه مع العقيدة الصهيونية وسياسات “إسرائيل” العدوانية، فإن أمر اليسار بشقيه التقليدي الصهيوني والمناوئ للصهيونية ظل ملتبساً و”متهماً” من الأوساط اليمينية “بلا وطنيته” رغم الاختلاف بين مواقف اليسار الصهيوني واليسار غير الصهيوني، وقد تراجع هذا الأخير أكثر بكثير من تراجع اليسار التقليدي، لاسيما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الآيديولوجي من شكل إلى شكل آخر، واعتبار “الاسلام السياسي” عدواً للغرب بما فيه “إسرائيل” ومنظومتيهما الفكرية والسياسية، اللتين ظلّتا تروِّجان، وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول الاجرامية إلى الحملة الدولية لمكافحة الارهاب، وتدعوان للانضمام اليها وتبرران الاعمال العدوانية ل”إسرائيل” بحجة انخراطها فيها والتصدي “للارهابيين”.

لقد برع ايهود باراك وزير الحرب “الإسرائيلي” في نشر كذبة “اللاشريك” والتي حصل بفعلها على نتائج مثيرة في الانتخابات التي جرت في الأيام القريبة الماضية، وهو نفسه الذي كان قد وجه ضربة موجعة إلى ما يسمى باليسار “الإسرائيلي” في العام 2000. اليسار “الإسرائيلي” الذي حمل اسم “معسكر السلام” كان مثار التباس ووهم أحياناً، بحيث بدأ يخسر مواقعه، لاسيما حزب العمل  وميرتس وأجزاء من كاديما، بل إنه ذاب في تجمعات وأحزاب حصدت أصواتاً منه.

أما الناخب “الإسرائيلي” فقد ضُلل مرتين، في الاولى عندما تم تصوير الفلسطيني والعربي باعتباره “وحشاً” يهدد  الديمقراطية الواعدة و”عدواً” لا بدّ من القضاء عليه، والثانية أن الحل ليس في السلام وإنما في العنف والحرب وبناء المستوطنات والترحيل للفلسطينيين. وبهذا المعنى فإن الناخب “الإسرائيلي” بوعي زائف وتحت الضغوط والتضليلات اختار أكثر القوى تطرفاً وتعصباً ويمينية. ومع ان اتفاقيات اوسلو لم تكن تلبي طموح الشعب الفلسطيني إلا أن السلطة الفلسطينية ظلّت متمسكة بها رغم انها وصلت إلى طريق مسدود وتراجع عنها “الإسرائيليون” منذ العام ،1999 علماً بأنها لم تتضمن أي حلول لمشكلة اللاجئين وحق العودة وتفكيك المستوطنات وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها “القدس”.

بعد سنوات طويلة اختفى صوت اليسار ولم تسمع احتجاجاته، ومنذ مجازر صبرا وشاتيلا العام 1982 تدهورت مكانته رويدا رويداً، الأمر الذي انعكس على نتائج الانتخابات، لاسيما بعد عدوان العام 2006 على لبنان والعدوان على غزة 2008  2009 وقتل المدنيين من الاطفال والنساء والشيوخ واستخدام القنابل العنقودية والفسفور الابيض وقصف المستشفيات والمدارس ودور العلم والعبادة والمراكز الاعلامية والانسانية ومقرّات المنظمات الدولية. كل تلك الأعمال البشعة لم تدفع اليسار إلى النزول إلى الشارع مثلما كان يفعل سابقاً ومثلما نزل في مختلف بقاع الارض احتجاجاً على الوحشية “الإسرائيلية”.

وإذا كان اليسار التقليدي قد ضَعُفَ، فقد تضاءل اليسار الهامشي إلى حدود كبيرة، ولعل ما يفصل اليسار الهامشي عن اليسار التقليدي هو الصهيونية، فحركة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة (حداش) ظلّت خارج معسكر اليسار التقليدي الرسمي، لأنها ضد الصهيونية، ولكن صوتها بدا يخفت بالتدريج وتعرضت إلى اختراقات عديدة، في حين احتكر اليمين الصراخ بأعلى صوته بتمجيد العقيدة الصهيونية، تلك التي يمالئها اليسار التقليدي.

ومن المفارقة أن يكون اليسار التقليدي  الصهيوني يقول تلقائياً: نعم لدولة يهودية ولكن ديمقراطية، في سعي لمواءمة الفكرتين المتناقضتين، فالصهيونية لا تجتمع مع الديمقراطية، طالما هي فكرة عنصرية وسبق للأمم المتحدة أن دمغتها باعتبارها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري في 10 نوفمبر/تشرين الثاني ،1975 لكنها عدلت عن قرارها وقامت بإلغائه في ديسمبر/كانون الاول العام ،1991 اما الديمقراطية فتعني المساواة وعدم التمييز وحقوق المواطنة كاملة واعترافاً بحق تقرير المصير.

ولعل هناك تناقضاً بنيوياً بين حقوق الانسان كقيمة عليا وبين الصهيونية وهو الأمر الذي لم يجرؤ اليسار على مواجهته، وظل اليسار الصهيوني مشلولاً إزاء مشكلة اللاجئين وحق العودة والاعتراف بالظلم التاريخي الذي لحق بالشعب العربي الفلسطيني، والذي أدى إلى طرده من دياره العام 1948.

اليسار لا يجتمع مع الصهيونية، مثلما لا تجتمع قيم العدالة الاجتماعية مع الصهيونية، وإذا أراد أن يبقى يساراً حقيقياً فعليه أن يقف في خندق آخر غير الخندق الصهيوني، ولذلك فهو يضيع الهدف مرتين الاولى عندما يحاول جمع النقيضين، والثانية لأنه يريد أن يبقى يساراً رغم صهيونيته.

هكذا تدهور منسوب اليسار، فإذا كان حضوره في الكنيست العام 1992 (44 نائباً من حزب العمل+ 12 عضواً من ميرتس) ويكون المجموع 56 عضواً، إلا أن هذه النسبة تراجعت لدرجة ان مجموعها انخفض العام 2006 إلى 24 نائباً، أما في الوقت الحاضر فقد وصل إلى 16 عضواً، وهو في الأنظمة الانتخابية النسبية يعتبر انخفاضاً حاداً.

ويعكس هذا الأمر تراجع فكرة الدولتين لشعبين، التي اقترب منها اليسار “الإسرائيلي”، لكن ما رافق حرب غزة أدى إلى هذه النتائج المرعبة، ولعلّه بعد كل عدوان تنخفض شعبية اليسار وكأن المعادلة تتجه طردياً، وإذا كانت العدوانية مسألة صميمية من طبيعة الدولة “الإسرائيلية” المتصاعدة فهذا يعني ان اليسار في الطريق إلى الهاوية، بارتفاع منسوب العدوانية الصهيونية! وهكذا ستسير المعادلة طردياً، ويكون السؤال أكثر إلحاحاً: ما الذي سيبقى من اليسار؟

* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية 25/2/2009

1204
لا بدّ من بغداد ولو طال السفر
عبدالحسين شعبان
2009-02-23
في زيارتي السادسة للعراق منذ العام 2003 كنت أشعر في ذلك الصباح البغدادي الجميل أن طيف بغداد يلوح لي كلما فكرت في العراق، ويتحرك في داخلي ذلك الشوق البغدادي المعتّق مثل خمورها التي كان أبو نواس يصفها وهي مندلقة من دنانها بألوانها الزاهية ومذاقها اللذيذ.
صادفت احتفالية «اتحاد الحقوقيين العراقيين» بتكريمي وتسليمي وسام الاتحاد وشهادته التقديرية في يوم 14 فبراير، يومَ الحب ولقاء العشاق، وكنت أشعر أن الكلمات والتحايا أقرب إلى باقات ورد وحرية وحب، متدليات مثل رطب برحي عراقي ذهبي محبب، رغم المرارات والعذابات الكثيرة، القديمة منها والجديدة، وليالي النوء والحسرة.
هكذا ظلّت بغداد تدور في رأسي: حلماً وواقعاً وأملاً، بالاقتراب منها والعيش فيها، أو بالابتعاد عنها على الكراهة حيناً وطوعاً حيناً آخر، وكأني أطبق ما يقول الجواهري الكبير مخاطباً بغداد:

         ما درّ درك في ربوعِ ديارِ                         قربُ المزارِ بها كبعدِ مزار
         يهفو الدّوارُ برأسِ من يشتاقها                   ويصابُ -وهو يخافها- بدوارِ
         لكأنّ طيفكِ إذ يطوف بروضةٍ                    غنّاءَ يمسخها بسوحِ قفارِ
        أفأنتِ دارُ شبيبةٍ وفتوةٍ                           يُصبى بها أم أنتِ دارُ بوارِ؟
وكان مطلع قصيدة «بغداد» يتغلغل فيّ إلى درجة أني لا أستطيع الفكاك منه أحياناً، فأردده على جلاّسي أو أدندن به، بيني وبين نفسي، كلما شعرت بالحاجة إلى بغداد.. كلما افتقدتها أو اشتقت إليها، سواءً كنت فيها أو بعيداً عنها، وعندما سنحت أول فرصة للقاء الجمهور بعد دقائق من وصولي إلى بغداد العام 2003، رددت بيت الجواهري.
بقينا نحلم ببغداد لعقود من الزمان، «ثلاثون حولاً والهوى شرق» كما يقول الأديب العراقي جمعة اللامي، بملاقاة الحبيبة بعد غياب طويل، وكان الحلم وحده هو الذي منحنا هذه القدرة العجيبة على المقاومة والاستمرارية وتحمّل الغربة التي فيها يطول الزمهرير على حد تعبير الشاعر مظفر النواب.
وكنت قد سألت الجواهري مرّة، حيث وصف سنوات الغربة بالسبع العجاف، وماذا كان هناك في الغربة يا أبا فرات: زمهرير المنفى أم فردوس الحرية!؟ فأجابني محركاً أصابعه الممدودة وهو ينفث دخان سيجارته ويلاحق دوائرها وهي تتسابق مع بعضها وتتصاعد في حلزونية حتى تختفي: الاثنان معاً.. أي والله!!
إن قلب الإنسان هو الذي يستطيع أن يقاوم الزمن، لا سيما إذا اتسع بالحب، إذ بدونه تزحف الصحراء على الروح ويتعطل العقل ويتعفن الفكر ويصاب الإنسان بالجدب والخواء، فالحب هو الحالة الأبدية المباركة ضد اليومي والساكن والرتيب. ومن يقرأ رواية «خريف البطريرك» للروائي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز يعرف أي تعويض يمنحه الحب عن الفداحات والعذابات والحرمانات الكثيرة!!
ومثلما يمنح قلب الإنسان القدرة على الحب، فإن عقله يمنحه القدرة على التفكير، وتمنحه الإرادة القدرة على العمل، وأخيراً فإن وجدانه يمنحه الإحساس بالعدالة والجمال. ولعل ما مرّ بنا من آلام وأحزان وعذابات وحصار وحروب كان أقرب إلى الكوميديا السوداء أو التراجيديا الساخرة، حيث انتقلنا من التدمير المبرمج إلى التدمير المبدد، ومن التدمير المنهجي إلى التدمير العشوائي، وتصدعت الكثير من القيم والمبادئ، ناهيكم عن الخراب المادي والمعنوي الذي أصاب الإنسان والمجتمع، وأُغرق كل شيء بالبلاهة والرداءة والخوف، هكذا «حشرنا» رويداً رويداً من الطغاة إلى الغزاة، وظل الغلاة يتصدّرون المشهد، في حين أن مجتمعنا يحتاج إلى دعاة حقيقيين لنشر ثقافة حقوق الإنسان واحترام حق الاختلاف والرأي والرأي الآخر والتعايش السلمي، ومنع تغوّل الدولة على المواطن تحت أي أسباب مذهبية أو طائفية أو دينية أو إثنية أو لغوية أو سلالية أو سياسية أو اجتماعية، أو لأي سبب كان.
ظلّ العراقي، رغم كل الخسائر والعذابات، يحلم باستعادة التوازن واستمرارية الحياة، لدرجة أنه أحياناً يتساوى عنده الموت مع الحياة، لا سيما إذا تعلق الأمر بالكرامة، وكأنه يتمثل قول الجواهري الكبير:

          وأركبُ الهول في ريعانِ مأمنةٍ                     حُبّ الحياة بحب الموت يغريني
فرغم عوامل الانقسام والتمذهب والتشظي والإرهاب والعنف، فإن كل شيء في العراق يشي بالتكامل والتوحّد والتفاعل، رغم الخصوصيات، فالثقافة تعددية، واتجاهات الفكر والفلسفة تاريخياً أميل إلى التعددية، والأديان والقوميات والإثنيات والجماعات البشرية متعددة ومتنوعة ومتعايشة، والمجتمع العراقي تاريخياً رغم تنوعه وتعدديته الفكرية والسياسية والدينية والقومية والسلالية كان أقرب إلى التجانس والتفاعل في إطار «موزاييك» موحد وفسيفساء جميلة، مثل الموارد والأنهار والجغرافيا والتاريخ والبشر والحضارات السومرية والآشورية والبابلية، الأمر الذي يحتاج إلى التفكّر وأخذ الدروس والعبر، فيما يتعلق بالوحدة الوطنية الجامعة المانعة، مع احترام التعدد والتنوع والخصوصية!
لا يمكن الحديث اليوم عن ديمقراطية حقيقية دون احترام التنوع والتعددية وحقوق جميع المكوّنات، بما فيها الأقليات الدينية والإثنية، ودون احترام حقوق المرأة كاملة ومساواتها مع الرجل، ودون احترام حقوق المواطنة كاملة في إطار احترام حقوق الإنسان وحرياته، وفي إطار المساواة وعدم التمييز.
وسيكون الشرط الأول لذلك هو فضاء الحرية والانعتاق والاستقلال والسيادة وإنهاء الاحتلال وكل ما له علاقة بآثاره وتبعاته، مثل كل ما له علاقة بآثار الحِقَب الاستبدادية السابقة، أما الشرط الثاني فيتعلق بإعمال مبدأ سيادة القانون وإنهاء مظاهر العنف والميليشيات، والشرط الثالث يتعلق بالمساواة وعدم التمييز لأي سبب كان، سواء كان دينياً أم عرقياً أم سياسياً أم جنسياً أم اجتماعياً أو لأي سبب كان، أما الشرط الرابع فهو قبول مبادئ التعددية والحق في الاختلاف وقواعد اللعبة الديمقراطية، وهذه بحاجة إلى قضاء مستقل ومهني ونزيه وفصل للسلطات ومنع هيمنة إحداها على الأخرى، والديمقراطية لوحدها دون الوطنية تؤدي إلى الاستتباع وقبول الهيمنة، والتشدّق بالوطنية لوحدها دون الديمقراطية يؤدي إلى الدكتاتورية، ولذلك فالتلاقح بين الديمقراطية والوطنية أمر ضروري ولا غنى عنه، وتلك مهمة سيكون لبّها وجوهرها البعد الإنساني للحقوقيين الذين أعادونا إلى بغداد واستعدناها معهم ورددنا: لا بدّ من بغداد ولو طال السفر!!


صحيفة العرب  القطرية العدد 7561 الإثنين 23 فبراير 2009 م ـ الموافق 28 صفر 1430 هـ

1205
في حفل تكريم الدكتور شعبان
كلمة رئيس اتحاد الحقوقيين العراقيين العام
المحامي جاسم البهادلي



بسم الله الرحمن الرحيم
الاستاذ الدكتور الفاضل عبد الحسين شعبان المحترم
السيدات والسادة الحضور الكرام
السلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته

إنها لمن الأيام المباركة التي نجتمع فيها هذا اليوم متوحّدين ومجمعين على أن نكرّم ونحتفي ونحتفل بالتميّز الثرّ والمؤثر في آن واحد  للعقل العراقي المبدع الذي حفظ للعراق هيبته ومكانته العلمية والثقافية والأدبية والفنية وفي كل مجالات الحياة الأخرى بين كافة دول العالم وشعوبها، لكوننا حملة راية المجد المؤثل لسومر وبابل وأور وسليلو أمجاد نبوخذنصّر وحمورابي والأرض التي انطلقت منها كل العلوم والثقافات والإبداعات والاختراعات التي لم تزل لحد يومنا هذا الأساس المتين لكل ما بني بعدها من تطور وحضارة ورقي.
نقف اليوم بكل الاحترام والتقدير والاعتزاز لنحتفي برجل أعطى العراق ما أعطى من نموذج في الحس الوطني العالي وفي الابداع الفكري الثقافي والقانوني والمعرفي والنضالي الذي جعل منه أنموذجاً عراقياً حقيقياً في التميز والعطاء والإبداء والتفاني في خدمة المنظومة الفكرية والعقائدية الوطنية ونشر الحس الإنساني الحقيقي الذي يدافع عن مظلومية الانسان أينما وجد لكونه القيمة الأعلى في الحياة.
إننا إذ نتشرف اليوم بقبول الأستاذ عبد الحسين شعبان بإقامة هذه الاحتفالية المتواضعة أمام شموخ هذا الرجل المعطاء لتكريمه.. فإننا لا نؤسس لفكرة الاحتفاء بالمبدعين الأحياء فقط بل نحاول أن نكون بمستوى هذا العراقي المبدع المفكر المعطاء الذي أشادت بعطائه الفكري النيّر الكثير الكثير من الألسن والأقلام والعقول السياسية والقانونية والاجتماعية والثقافية والصحفية .. فهو فارس من فرسان الحرية والديمقراطية كما قال عنه الاستاذ محمد فائق وزير الاعلام المصري السابق وهو رجل لم يفقد بوصلته يوماً على حسب قول محسن العيني رئيس وزراء اليمن الأسبق.. وذلك ما يعني لنا أيضا بأن عطاء الدكتور شعبان لم يكن يقتصر على حدود العراق فقط بل تعداه لكي يؤثر في العقل العربي وغير العربي من الشعوب التي تعيش في منطقتنا.
   إن ما قدمه الأستاذ الدكتور  عبد الحسين في كافة مراحل حياته المليئة بالعطاء والإبداع والتميز لا يمكننا أن نختصره بكلمات معدودات أو باحتفالية واحدة يمكن أن ترتقي الى مستوى عطاءه.. لكننا وجدنا أنفسنا قادرين بعون الله تعالى أن نحتفي بالرجل وبعطائه وبإبداعه وبحضوره الفكري والانساني المتميز بوجود هذه النخبة المتميزة من السيدات والسادة المبدعين والمتميزين والحاملين لراية العراق الخفاقة في كل المحافل العربية والدولية التي لا يمكن تخلوا أبدا من عقل عراقي مبدع لكون الابداع قد ارتبط بالعراق وبالعراقيين النجباء.
فأهلاً وسهلاً بأستاذنا الدكتور عبد الحسين شعبان متمنين له العمر المديد من أجل المزيد من العطاء والنضال والإبداع في كل ساحات الشرف التي خاض غمارها ورفع فيها راية العراق.
وأهلا وسهلا بكل الحضور الأكارم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
المحامي جاسم البهادلي
رئيس اتحاد الحقوقيين العراقيين العام
14/2/2009



__________________________________________________________________________


في حفل تكريم الدكتورشعبان

كلمة الاستاذ ضياء السعدي/ نقيب المحامين العراقيين
أيها الاخوة والاخوات
السادة الحضور،
السلام عليكم جميعاً ،
باسمي وباسم نقابة المحامين العراقيين أحيي الأخ الفاضل والصديق العزيز الدكتور عبد الحسين شعبان، متمنياً له دوام الصحة والتوفيق والعطاء الدائم.
لا يسعى الدكتور شعبان الى التكريم، وإنما التكريم يسعى اليه، وقد حصل على تكريم جماعي من النخبة والمجتمع:
" لكل امرئ من دهره ما تعوَّدا "     وعادة ضيفي أنْ يذود عن الحق فله منا فيضٌ من الودِّ المشوب بالاحترام والتقدير

ولد الأستاذ عبد الحسين شعبان في مدينة العلم والفصاحة والجهاد، مدينة النجف التاريخية عام 1945، وفي حيٍّ يسمى " عكَد السلام" ودرس الابتدائية في مدرسة اسمها " السلام" التي استبدل اسمها لاحقاً الى "وادي السلام" وسلك الطريق لاحقاً عبر قضية الدفاع عن حقوق الانسان في السلم والسلام. فهو من أسرة لها باعها الطويل في الكفاح.
ومنذ أن كان في المرحلة الثانوية انشغل بهموم الناس، ووضع خطاه على طريق الانسانية والتفاني فيها واستيعاب مُهماتها. وقد درس في النجف وبغداد، واستكمل دراسته العليا في براغ، وحصل على شهادة الدكتوراه في فلسفة العلوم القانونية واختص في القانون الدولي.
لقد اتسم الاستاذ شعبان بالتواضع والتسامح والوفاء، وكان مقداماً في مواقفه، وسلاحه القانون، فهو الرمز والقضية. وقد ظلّ حنينه يتدفق دون انقطاع الى وطنه العراق الذي انتهى الى احتلاله بالقوة العسكرية الغاشمة، وقهر شعبه وما حلّ به من ويلات وانتهاك لحقوقه، ولسان حاله يقول:
أنا العراق لساني قلبه ودمي       فراته وكياني منه أشطارُ
ان الاستاذ شعبان ظاهرةٌ انسانية، وسفير دائم للحق يخاطب كافة الثقافات العالمية، وهو لا يعرف مقاطعة الآخرين بل منفتح ومتواصل بالكلمة الصادقة والموقف الامين، وسط عالمٍ يسكنه النفاق السياسي، عالم الجور واللامساواة ، عالم القهر ومصادرة الحقوق والعدوان على الحريات.
لقد انطلق الاستاذ شعبان مؤمناً بالانسان وحقوقه ليصل الى محافل الدفاع عن حقوق الانسان حيثما كانت، فهو رجل يتمتع بموهبة نادرة وطاقة ابداعية متدفقة، إذ على مدى اربعين عاماً وهو يعمل لاعلاء كلمة الحق بدون كلل أو ملل كقابض الجمر براحته.
وللاستاذ الدكتور عبد الحسين شعبان إسهامات ثرة من الجوانب الفكرية والثقافية والحقوقية. وله دورٌ محوري طيلة ثلاثة عقود من الزمان في الحركة العربية والعالمية لحقوق الانسان، من أجل ترسيخ قيم ومبادئ حقوق الانسان، وتعزيز أهمية الوعي بثقافة هذه الحقوق، فهو صاحب موقف شجاع جاهر به في لسانه وقلمه.
ان للاستاذ شعبان نشاطاً ابداعياً وعملاً تنويرياً، فقد دافع عن حقوق المظلومين الضعفاء أفراداً وجماعات، وقدم استشارات الى عشرات المنظمات والجمعيات الدولية والاقليمية بقضايا حقوق الانسان والمجتمع المدني، وربط بين النظرية والتطبيق، والقول والفعل، داعياً الى التداولية والتناوبية في مواقع المسؤوليات وترجم ذلك عملياً. وهو يُعد وبجدارة من أبرز رموز وشخصيات الحركة العربية لحقوق الانسان.
وإذا كان للحرية ميدان فهو فارسها، وللديمقراطية مشارب هو خابرها، ولحقوق الانسان قيمٌ ومبادئ وقوانين هو حجتها. فقد كان في طليعة الديمقراطيين والحقوقيين الذين تشبثوا ببناء موقف يقوم على أسس أخلاقية للدفاع عن حقوق شعب العراق متيقناً أن إعمال حقوق المواطنة وضمان حقوق الجماعات المختلفة دون تمييز هو المدخل الأساسي لضمان تعزيز وحدة العراق أرضاً وشعباً وسيادة.
ومنذ بداية وعيه الثقافي كان مؤمناً بضرورة التعامل الاجتماعي مع الآخر والانفتاح على جميع الأفكار والآيديولوجيات رغم تعارضها وتضادها .
ان حياة الاستاذ عبد الحسين شعبان حافلة بأبرز المعاني، وأسمى المواقف الكفاحية، فقد عمل في صفوف الكثير من المنظمات ذات الصلة بحقوق الانسان، وهو الشخصية العراقية العربية العالمية، الناشطة والداعية لحقوق الانسان في العالم وإن احتفاءنا اليوم به هو انتصارٌ للقيم الانسانية النبيلة التي وجدت من أجلها رسالة السلام والمواثيق والأعراف والاتفاقيات الدولية.
بالاضافة الى ذلك فشعبان كاتب وباحث ومفكر، ومثقف مجدد في إطار الحركة الثقافية العربية، رفد المكتبة العربية بعشرات المؤلفات والدراسات والمقالات النقدية في مجالات الفكر والسياسة والقانون، وحقوق الانسان، والأدب، ففي عصرٍ طغت عليه موجة التخصص والاختصاص، يبرز الدكتور شعبان في التنوع بين البحث والتحليل والترجمة، وغزارة الانتاج وعمقه وأصالته.
أيها الاخوة والاخوات ،
إن احتفاءنا هذا اليوم بشخص الاستاذ عبد الحسين شعبان لهو رسالة الى المجتمع الدولي بالتضامن مع الشعب العراقي في كل قضاياه لأنه العراقي والعربي والعالمي، وقد حظي عن جدارة بهذه المكانة التي يستحقها.
وهو والجواهري على موجات الفرات، ينشد بألم قول الجواهري:
نامي جياع الشعب نامي       حرستك آلهة الطعام
ويعزي نفسه بقوله:
أنا حتفهم ألجُ البيوت عليهمُ       أُغري الوليد بشتمهم والحاجبا
وقد أحب شعبان الشعر وصار سميره وسلاحه ،حتى كتب عن الجواهري كتاب "الجواهري جدل الشعر والحياة" .
أتوجه الى الصديق العزيز الدكتور عبد الحسين شعبان بأسمى آيات الاعتزاز به، وبدوره الريادي في منظمات حقوق الانسان.
وألف تحية نُزجيها له، تحية السلام والانسانية وتبارك دوره المتميز في الدفاع عن حقوق الانسان في العراق والوطن العربي والعالم.
وأنا أعرف أن فؤاده يردد قول الجواهري:
حييتُ سفحك عن بعدٍ فحييني       يا دجلة الخير يا أم البساتين
لعل يوماً عصوفاً جارفاً عرماً       آتٍ فترضيك عقباه وترضيني

ونحن معه نتمنى اليوم القريب الذي تخلو فيه أرض العراق وسماؤه من التواجد العسكري الامريكي الاحتلالي، ويعود الصفاء والوئام لشعبه بكل أطيافه وبلحمته الوطنية لينعم شعب العراق بنعمة السيادة وشرف الاستقلال الوطني.
والسلام عليكم.


__________________________________________________________________________


في حفل تكريم الدكتور شعبان
كلمة الاستاذ مؤيد اللامي – نقيب الصحافيين العراقيين- بغداد
إن أريجا معطراً كبيراً كان يتدفق ليس للثقافة القانونية أو حقوق الانسان، بل للأعلام كل الاعلام.الدكتور شعبان كان بعيداً عنّا هو والكثر من علماء ومبدعي وكبار العراق، هؤلاء الذين يشعرون دائماً إن غصّة في قلوبهم وفي دواخلهم ونحن نعلم ذلك، كانوا يجدّون ويعملون كثيراً وينظرون للمستقبل كثيراً، إنه سيأتي اليوم لينطلقوا في بلدهم وليترجموا ما في أذهانهم في الواقع العراقي، لكن للأسف بقوا عن بعد يجترحون القهر بعضاً والضيم بعضاً آخر والحسرة أيضاً ومنهم الدكتور عبد الحسين شعبان.
أقول للدكتور شعبان
بلادي وإن جارت علي عزيزة    أهلي وإن شحّوا عليّ كرامُ
ما قدمت أنت وما قدمته الكواكب التي راحت ربما منا الآن بين التراب، لكن نقول الحمدلله انت والبعض المهم قد بقي، ما قُدم من قبلكم كان كبيراً ونحن نُسعد دائماً عندما نرى كلماتكم، لا نسمعها حسب، وعندما نرى تلك الصور البهية من خلال قنوات فضائية، ربما هي الزاد الكبير لنا الآن بعد أن افتقدنا أصدقاء وزملاء وأساتذة كُثر نسعد كثيراً.
أيها الاخوة ايتها الاخوات انتم تعلمون جيداً إن صحفيي العراق قدموا لبلدهم الكثير الكثير، لكن أقول للأسف لم يحصلوا على حقوقهم القانونية والرسمية في هذا البلد، ومع هذا نقول أننا لن نتوقف عن خطٍ وضعناه أمامنا على الأقل منذ 6 سنوات. هذا الخط هو المهنية والوطنية والاستقلالية، لا نقبل لصحفيين عراقيين أو للصحفيين العراقيين ان ينحازوا لجهة على حساب جهة، أو لطرف على حساب طرف، فقط ينحازوا الى العراق وهذا الذي عملنا من خلاله على الأقل في السنوات الستة الأخيرة ودفعنا ثمناً باهظاً وغالياً وكبيراً حتى وصل عدد شهداء الصحافة الى 293 شهيداً من خيرة صحفيي واعلاميي العراق.
وأنا أستغل وجود عضو مجلس النواب السيد وثاب الدليمي ووجود الدكتور عبد الحسين شعبان، الكاتب والاستاذ والمفكر الكبير، وأقول أن قانون حماية الصحفيين، هناك من يريد ان يعطّله في مجلس النواب العراقي، أنا أحمّل مجلس النواب العراقي مسؤولية تأخير هذا القانون، وأحمّله المسؤولية القانونية والاخلاقية والانسانية، وأطلب من السيد وثاب الدليمي، أن ينقل هذه الرسالة واضحة الى رئاسة مجلس النواب والى أعضاء مجلس النواب، وأحمّل الدكتور الاستاذ الكبير عبد الحسين شعبان مسؤولية التكلم ومخاطبة كل من له رأي أو أي جهة لها مسؤولية، بأن تُسرع في هذا القانون، أو من خلال القنوات الفضائية، أو اللقاءات الاخرى.
ان وجود الدكتور شعبان أيها الاخوة في هذه القاعة يُعطينا أملاً متدفقاً جديداً، بأن منهجاً سرنا عليه خلال السنوات الأخيرة، هو الصحيح وهو المتقدّم وهو الذي سيتقدم انشاءلله خلال الاشهر والأسابيع والسنوات القادمة.
نحن في نقابة الصحفيين العراقيين سنستقبل أكثر من 500 صحفي عراقي الآن هم في المهجر في مؤتمر كبير سيعقد في بغداد الشهر القادم من جميع أنحاء البلدان الذين يتواجدون فيها، الآن للأسف هُجروا وبعضهم ذهب عن خوف ومن ضيم أو من خطر كان محدقاً به وبأطفاله، كذلك هناك مؤتمراً كبيراً سيكون في العراق للتضامن مع الصحفيين العراقيين أيضا سيحضره أكثر من 500 شخصية اعلامية كبيرة من جميع دول العالم، يمثلون جميع النقابات والاتحادات والجمعيات الصحفية في العالم إضافة الى كبار رؤساء المؤسسات الاعلامية في أوروبا وامريكا وآسيا وأفريقيا والبلدان العربية.
هذا كله وبمجمله هو عمل من أجل التضامن مع الصحفيين العراقيين بعد أن شعرنا الآن رغم أننا لن نتوقف ولن نضعف ولا يمكن أن نضعف وسنستمر في مسيرتنا وسترون انشاءالله خلال قادمات الاسابيع والأشهر كيف سيكون نشاط اخوانكم في الاسرة الصحافية العراقية، لانهم الآن هم السلطة الرابعة حقيقة وليس تعبيراً مجازياً، لن نُضعف رغم كل الضيم الذي يلحق بنا وهي حقوق رسمية وقانونية مشروعة للصحفيين العراقيين.
ولكن للأسف أقول هناك من يريد أن يعطّل هذه الحقوق ونحن في نقابة الصحفيين لا أريد أن أطيل عليكم أو أريد أن اتكلم بمأساة، أريد أن نحتفي ونحتفل بكبير يحضر بيننا، أقول في نقابة الصحفيين، سنتكلم خلال الاسابيع القادمة بأسماء المسؤولين الذين يعطّلون مكاسب الصحفيين العراقيين ولا نقبل أو نتساهل مع أي شخص خصوصاً مع قانون حماية الصحفيين.
شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 

__________________________________________________________________________



اتحاد الحقوقيين العراقيين
في حفل تكريم الدكتور شعبان في بغداد
كلمة الاستاذ المستشار طارق حرب


ابدأ كلامي بتحية لاتحاد الحقوقيين ولهذا الجمع الخيّر وللدكتور عبد الحسين شعبان، وكنّا دائماً مقصّرين مع شيوخنا وأئمتنا وفقهائنا وأساتذتنا وجهابذتنا، أما يا د. عبد الحسين شعبان فخير ما ابتدء به أقول قولاً يناسب مقامك ويوافق دستك، فاستهل بقول سمعته وحفظته: الحمدلله الذي فضّل ذويّ العقول وميّز العالم عن الجهول، وقدم الفاضل على المفضول والدكتور عبد الحسين شعبان إن كنتم لا تعرفون هو تعريف ومُعرّف، وقديماً قيل " المعرّف لا يُعرّف" و د. عبد الحسين شعبان بالاضافة الى ذلك صفةٍ وموصوف و"الموصوف لا يوصف"، أين أنا منه البكي اللسان الكليل البيان القاصر الحجة المهزوم البرهان، هو من المشهورين وأنا من المغمورين، هو من الأكابر وأنا من الصغائر، نسبتي اليه كنسبة المتعلّم الى العالم، ونسبة الغيض الى الفيض، ونسبة " المأموم الى الامام".
لا أخاله في دراساته يخرج عن مبدأين قانونيين اثنين، أولهما أن من يجهل القانون يبقى طفلاً بالقانون، وفي حقوق الانسان كأنه يقول أن الايمان بحقوق الانسان جزءًا من الايمان بالله سبحانه وتعالى.
حسبك فضيلة، عقلك الوطني وقلبك العراقي، وكفاك منقبةً أنك أوقدت شموعاً لبلاد الرافدين وأسرجت مصابيحاً في أرض الفراتين، ومداك مأثرة أنك تكلمت في كل ما هو لصالح البلاد وقلت في كل ما هو لفالح العباد، تجسدّ به القانون رجلاً، كان الأمثل والأفضل والأجمل، الأوفق والأنطق والأصدق، الأجمع والأبرع والأبدع.
ما قرأت كتاباً مثله، بعد قراءتي لكتبه، أقول آمنت بما قال فلان من الناس، إن الله لم يقصر العلم على نصر دون نصر ولا خص به عصر دون عصر، بل جعله مقسماً في جميع البلاد وموزعاً على جميع العباد.
الدكتور شعبان صاحب ابتكار وليس تكرار، وصاحب قول وليس نقل، صاحب ابداع وليس إتباع، القائل فيك مُقصّر والمتكلم عنك مُقتصر وما أقوله لا يخرج كما تفضل سيدي وزميلي نقيب المحامين الاستاذ ضياء السعدي، عن قول الشاعر ما أرانا نقول الا معارى أو معاداً، من لفظنا بعلمائنا وأساتذتنا ومفكرينا وجهابذتنا.
العجيب أن د. عبد الحسين شعبان يفارق ويتبياين ويتغاير مع كل من كتب القانون، يجمع بين القانون والتأريخ والفلسفة وعلم المنطق وعلم الكلام والاجتماع والحكمة والمثل، يجمع سبيكة تدل على البلاغة، تدلّ على طول باع وسعة اطلاع، فطوبى لك وطوبى للبلاد التي ولدتّك، ونسأل الله أن تلد العراقية مثيلاً لك وختاماً أقول بقول الشاعر كل جسور بغداد معلقة    الا المعلّق أمره أمرُ
والسلام عليكم  فأتيت أهلاً ووطئت سهلاً!ّ


__________________________________________________________________________





احتفال اتحاد الحقوقيين العراقيين
بتكريم د.شعبان
كلمة الدكتور عبد الحسين شعبان
14/2/2009-بغداد
   أيتها السيدات والسادة،
   أيتها الزميلات والزملاء  أيها الحفل الكريم ،
أود أن أتقدم في البداية بالشكر الجزيل لاتحاد الحقوقيين العراقيين ولجميع الذين تحدّثوا في جلسة هذا الصباح وما قالوه بحقي بما أستحقه ولا أستحقه، وأرجو أن أكون تلميذاً يستمر على مقاعد الدرس، وقد تعلمت الكثير مما قيل في هذه الصباحية الجميلة، وأنا مدين للكثير من الآراء ووجهات النظر والكلمات التي تطرق اليها الزملاء.
أشعر أن ما قيل هو أقرب الى قصائد حب وحرية، وعتوق  رُطبٍ برحي ذهبي عراقي لذيذ، وسأبقى مديناً بكل ما أكتبه وأفكّر فيه وأقدمه، لهذا التقييم والاحتفال التكريمي لي من جمهرة الحقوقيين في هذا الصباح البغدادي الجميل.
ولعلها مفارقة أن زيارتي هذه هي السادسة الى العراق منذ عام 2003 وكلما قدمت الى بغداد أو كلما لاح في ذهني طيف بغداد كنت أقول "لا بد من بغداد ولو طال السفر"!
بقينا نحلم ببغداد لعقود من الزمان، " ثلاثون حولاً والهوى شرقاً" كما يقول الأديب العراقي جمعة اللامي، بملاقاة الحبيبة بعد غياب طويل، وكان الحلم وحده هو الذي منحنا هذه القدرة العجيبة على المقاومة والاستمرارية وتحمّل الغربة التي فيها يطول الزمهرير على حد تعبير الشاعر مظفر النواب. وكنت قد سألت الجواهري مرّة، حيث وصف سنوات الغربة بالسبع العجاف، وماذا كان هناك في الغربة يا أبا فرات: زمهرير المنفى أم فردوس الحرية!؟ فأجابني محركاً أصابعه الممدودة وهو ينفث دخان سيكارته ويلاحق دوائره وهي تتسابق مع بعضها وتتصاعد في حلزونية حتى تختفي: الاثنان معاً.. أي والله!!
ان قلب الانسان هو الذي يستطيع أن يقاوم الزمن، لاسيما إذا اتسع بالحب، إذ بدونه تزحف الصحراء على الروح ويتعطل العقل ويتعفن الفكر ويصاب الانسان بالجدب والخواء، فالحب هو الحالة الأبدية المباركة ضد اليومي والساكن والرتيب. ومن يقرأ رواية " خريف البطريك" للروائي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز يعرف أي تعويض يمنحه الحب عن الفداحات والعذابات والحرمانات الكثيرة!!.
ومثلما يمنح قلب الانسان القدرة على الحب، فإن عقله يمنحه القدرة على التفكير، وتمنحه الارادة القدرة على العمل، وأخيراً فإن وجدانه يمنحه الاحساس بالعدالة والجمال. ولعل ما مرّ بنا من آلام وأحزان وعذابات وحصار وحروب كان أقرب الى الكوميديا السوداء أو التراجيديا الساخرة، حيث انتقلنا من التدمير المبرمج الى التدمير المبدد، ومن التدمير المنهجي الى التدمير العشوائي، وتصدعت الكثير من القيم والمبادئ، ناهيكم عن الخراب المادي والمعنوي الذي أصاب الانسان والمجتمع، وأُغرق كل شيء بالبلاهة والرداءة والخوف، هكذا "حشرنا" رويداً رويداً من الطغاة الى الغزاة، وظل الغلاة يتصدّرون المشهد، في حين ان مجتمعنا يحتاج الى دعاة  حقيقيين لنشر ثقافة حقوق الانسان واحترام حق الاختلاف والرأي والرأي الآخر والتعايش السلمي، ومنع تغوّل الدولة على المواطن تحت أية أسباب مذهبية أو طائفية أو دينية أو اثنية أو لغوية أو سلالية أو سياسية أو اجتماعية أو لأي سبب كان.
ظلّ العراقي، رغم كل الخسائر والعذابات، يحلم باستعادة التوازن واستمرارية الحياة، لدرجة أحياناً يتساوى عنده الموت مع الحياة، لاسيما إذا تعلق الأمر بالكرامة وكأنه يتمثل قول الجواهري الكبير:

   وأركبُ الهول في ريعان مأمنةٍ      حبّ الحياة بحب الموت يغريني

   فرغم عوامل الانقسام والتمذهب والتشظي والارهاب والعنف، فإن كل شيء في العراق يشي بالتكامل والتوحّد والتفاعل، رغم الخصوصيات، فالثقافة تعددية واتجاهات الفكر والفلسفة تاريخياً أميل الى التعددية، والأديان والقوميات والاثنيات والجماعات البشرية متعددة ومتنوعة ومتعايشة والمجتمع العراقي تاريخياً رغم تنوعه وتعدديته الفكرية والسياسية والدينية والقومية والسلالية كان أقرب الى التجانس والتفاعل في إطار موزائيك موحد وفسيفساء جميلة، مثل الموارد والانهار والجغرافيا والتاريخ والبشر والحضارات السومرية والآشورية والبابلية، الأمر الذي يحتاج الى التفكّر وأخذ الدروس والعبر، فيما يتعلق بالوحدة الوطنية الجامعة المانعة، مع احترام التعدد والتنوع والخصوصية!
لا يمكن الحديث اليوم عن ديمقراطية حقيقية دون احترام التنوع والتعددية وحقوق جميع المكوّنات، بما فيها الاقليات الدينية والاثنية، ودون احترام حقوق المرأة كاملة ومساواتها مع الرجل، ودون احترام حقوق المواطنة كاملة في إطار احترام حقوق الانسان وحرياته وفي إطار المساواة وعدم التمييز.
   وسيكون الشرط الأول لذلك هو فضاء الحرية والانعتاق والاستقلال والسيادة وانهاء الاحتلال وكل ما له علاقة بآثاره وتبعاته، مثلما كل ما له علاقة بآثار الحِقَب الاستبدادية السابقة، أما الشرط الثاني فيتعلق بإعمال مبدأ سيادة القانون وإنهاء مظاهر العنف والميليشيات، ولعل الشرط الثالث فإنه يتعلق بالمساواة وعدم التمييز لأي سبب كان سواءًا كان دينياً أم عرقياً أم سياسياً أم جنسياً أم اجتماعياً أو لأي سبب كان، أما الشرط الرابع فهو قبول مبادئ التعددية والحق في الاختلاف وقواعد اللعبة الديمقراطية، وهذه بحاجة الى قضاء مستقل ومهني ونزيه وفصل للسلطات ومنع هيمنة إحداها على الأخرى.
والديمقراطية لوحدها دون الوطنية تؤدي الى الاستتباع وقبول الهيمنة، والتشدّق بالوطنية لوحدها دون الديمقراطية تؤدي الى الدكتاتورية، ولذلك فالتلاقح بين الديمقراطية والوطنية أمر ضروري ولا غنى عنه، وتلك مهمة سيكون لبّها وجوهرها البعد الانساني  والاحساس بالعدالة للحقوقيين الذين أعادونا الى بغداد واستعدناها معهم ورددنا: لا بدّ من بغداد ولو طال السفر!!
أيها الحفل الكريم،
أنا محرج وخجل للكلمات التي قيلت بحقي، ولذلك ودّدت أن أقتصر هذا الكلام باعتبار التكريم هو تكريم لكم ، تكريم لجمهرة الحقوقيين، تكريم للوحدة الوطنية العراقية، وللتآخي العراقي وللمستقبل العراقي الوضاء، شكراً جزيلاً والسلام عليكم!!





1206
أطياف روزا الحمراء : ماركسية واغتراب!
د.عبد الحسين شعبانinfo@aljarida.com
 

لم يتوقف الجدل الماركسي في القرن التاسع عشر، لاسيما في أواخره، والعقدين الأول والثاني من القرن العشرين، في البحث عن سبل جديدة لتطوير الماركسية أو إعادة النظر ببعض أحكامها التي عفا عليها الزمن، ولم يكن المقصود منهج ماركس الجدلي، إنما بعض الاستنتاجات والأطروحات التي تجاوزتها الحياة، وكان إنجلز أول الداعين إلى ذلك، بقوله إن علينا أن نغيّر استراتيجيتنا عند كل اكتشاف في العلوم الحربية وفي ميدان السلاح تحديداً.
وقد احتدم الجدل الفكري والنقاش النظري والعملي حول الماركسية وآفاقها بين لينين وبليخانوف ومارتوف وتروتسكي وبوخارين وزينوفيف وكامينيف وكاوتسكي وكارل ليبكنخت وروزا لكسمبورغ وبرينشتاين وغيرهم، وتوّزعت الاجتهادات يميناً ويساراً بينهم في إطار معرفي وأجواء فكرية رحبة تتّسع للاختلاف وقرع الحجة بالحجة، الأمر الذي يصعب تفهمه على الكثير من «أصحابنا» والذي لو حدث اليوم لاعتبر أقرب إلى الكفر والخيانة.
كانت روزا التي عرفت بالحمراء إحدى المنظّرات الماركسيات القليلات، وأكثر نساء عصرها جاذبية وجمالاً وعلماً، وقد انحدرت من أسرة بولونية ميسورة من الملاكين وأصحاب المصانع، حيث ولدت في مدينة صغيرة تدعى زاموسك في(15 مارس 1871) وهي أصغر من فلاديمير إيليش لينين بعام واحد، حيث ولد في 22 إبريل 1870، وارتبطت بصداقة فكرية معه أنجبت حوارات وسجالات ذات قيمة كبيرة على صعيد الفكر الاشتراكي.
وكانت مع كارل ليبكنخت القائد الماركسي الألماني الأكثر تعبيراً عن المواقف الأممية المناهضة للنزعة العسكرتارية، وقبل ذلك كانت قد أعدّت مع لينين ومارتوف العام 1907 البرنامج الاشتراكي ضد الحرب، رغم تشاؤمها، لاسيما عند عودتها من روسيا، بعد فشل ثورة 1905.
وقد أنجزت بحثاً لاحقاً باسم مستعار وعُرف البحث باسم كرّاسة «جانيوس» عام 1915 بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، واعتقلت على أثرها في برلين بين عامي 1916-1918. ورغم تأييدها من السجن لثورتي شباط (فبراير) البرجوازية وأكتوبر البلشفية عام 1917، فإنها حذّرت من دكتاتورية البلاشفة، حيث دعت إلى إجراء الانتخابات العامة وإطلاق حرية الصحافة والحريات العامة وحق التجمع والحق في صراع الأفكار الحر، لأن الحياة ستصبح من دون ذلك زائفة بل ميتة حسب ما كتبت، لأنها أدركت بحسّها الإنساني وتفكيرها الحر والمستقل وتمسكها بالحرية كقيمة عليا، ماذا سيعني دعمها بلا ثمن لنظام اكتشفت منذ البداية، وعورة الطريق الذي سار فيه؟!
ورغم أنها لاقت عند انتقالها إلى ألمانيا حيث المركز الأممي الكبير الكثير من العقبات والاعتراضات، لكونها امرأة أولاً وثانياً لكونها «ضيفاً ثقيلاً» كما كان البعض يغمزها من هذه القناة، وثالثاً لأن جرأتها وشجاعتها حسب البعض «تجاوزت الحدود»، لكنها لم تعبأ بمثل هذه التحديات، التي زادتها إصراراً على التميّز والإبداع.
ورغم تقدير روزا للينين، لكنها دخلت معه في سجالات حامية، شملت قضايا نظرية تتعلق بالثورة والتنظيم، وقبل ذلك في الحب والجنس والمرأة، وقد اكتسب نقدها للينين أهمية كبيرة، لاسيما معارضتها لكتاب ما العمل؟ الذي أصدره عام 1903، منددة بالمركزية البيروقراطية المفرطة والصارمة، معتبرة أن تطبيق منهج لينين المركزي سيقود إلى تقييد المبادرات ويمنع أو يحول دون التفكير الديمقراطي المستقل، والممارسة العفوية المستقلة، الأمر الذي سيضع الانتهازية تتسلق لمواجهة الديمقراطية، وانتقدت لينين بالقول: إن مكافحة الانتهازية لا يقتضي تكرار مناهجها أو أساليبها التنظيمية!!
وأدخلت روزا تطويراً لفكرة النخبة أو الطليعة الحزبية، التي نوّهت إلى احتمال انحرافها طالما أن المعرفة حكراً على المثقفين في الحزب، الأمر الذي يحتاج إلى إشراك أوسع قدر ممكن من القطاعات في اتخاذ القرار، وفي دراسات حديثة نشرت عن روزا كشفت لنا عن معارضتها الشديدة للينين في محاولاته تطهير الحزب من غير البلاشفة، ورغم قربها منه ومن البلاشفة، لكنها انتقدت بشدّة الأعمال الثورية الفظّة لليسار اللينيني، وقد كانت تقف فيه على أرضية مغايرة لفكرة الواحدية والإطلاقية وادعاء امتلاك الحقيقة، إذ كانت بحكم تكوينها أقرب إلى التنوع والتعددية في إطار الكيانية التنظيمية.
وكانت روزا كثيرة التشديد على كون الاشتراكية متلازمة مع الديمقراطية على نحو جدلي ولا انفصام فيه، إذ لا يمكن إنجاز واحدة دون الأخرى أو إهمال جانب والتمسك بالآخر، ولعل هذا هو ما كان لينين يردده عشية الثورة، ووردت إشارات إليه في كتاب «الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي» حين اعتبر من يريد الوصول إلى الاشتراكية بطريق آخر غير طريق الديمقراطية، فإنه سيتوصل إلى استنتاجات رجعية وخرقاء لا بمعناها السياسي فحسب، بل بمعناها الاقتصادي أيضاً، لكن السلطة البلشفية اتجهت نحو ضفة أخرى وبررت لنفسها تحجيم وقمع الديمقراطية تدريجيا، بالتحديات الداخلية والخارجية، التي ظلّت شمّاعة تعلّق عليها القمع البوليسي والفكري كلما انتُقِدت.
لقد ابتدأت الثورة البلشفية بإلغاء الاتجاهات غير البلشفية أولاً، ثم قامت بالتصفيات للمعارضة وللرأي الآخر داخل الحزب البلشفي، حتى طالت قيادات تاريخية مثل تروتسكي وبوخارين وغيرهما، وتسلّط على عرش الكرملين ستالين، ليحكم الاتحاد السوفييتي، وفيما بعد البلدان الاشتراكية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفقاً لموديل واحد للاشتراكية ونموذج واحد للحكم، لاغياً التنوع والخصائص الوطنية والقومية ومُفرِطاً في استبداد لا نظير له!
ولو وافق لينين على مناقشة فكرة روزا بصوت عال وبمشترك إنساني، فلربما كان أمام الاشتراكية حلول وخيارات أخرى، وقد لا تصل بالضرورة إلى الصيغة المغلقة التي وصلتها. وكانت هواجس روزا تنصبُّ على ضرورة مناقشة ما الذي يحدث بعد الثورة؟ وما العمل لضمان أن طبقة جديدة (بما فيها البروليتاريا) لا تصبح بيروقراطية؟ وما هو السبيل لتجاوز الاغتراب؟
ولعل تلك الأسئلة هي التي واجهت المنظومة الاستبدادية-الاشتراكية طيلة القرن العشرين، دون أن تجد إجابات شافية، لاسيما في الاشتراكية المطبّقة. وكانت روزا قد تنبأت بأن احتكار السلطة من قبل حزب واحد (البلاشفة) سيكون مغامرة لتدمير أساس التطور الثوري لروسيا، وهو الأمر الذي أثبت صوابه لا في الاتحاد السوفييتي فحسب، بل في البلدان الاشتراكية كلها وبلدان ما أطلقنا عليها «التحرر الوطني» أيضاً، حيث انحدرت التجربة إلى مزالق ضيقة، وهيمنت بالتدريج فئة قليلة ومحدودة بامتيازات لا حدود لها على الحزب والشعب، ووضعت جميع مقدراته بيدها.
أسهمت روزا في ثورة سباتاكوس الألمانية في عامي 1918-1919 ولكنها راحت ضحيتها أيضاً، يوم اغتيلت مع كارل ليبكنخت بطريقة غادرة، فبعد أن ألقت خطاباً ثورياً في الرايخشتاغ وغادرت من الباب الخلفي، كان هناك من يتربصها وقام باغتيالها وقيّدت ورميت في نهر الراين بالقرب من حديقة الحيوانات (ZOO). وقد حاولتُ اقتفاء هذا الأثر بصحبة الصديق الشاعر بلند الحيدري، وكنت قد فعلت ذلك لأول مرة منذ عام 1972.
كانت روزا تعتقد أن التخلص من الديمقراطية البرجوازية يقتضي بناء بديل عنها أي الديمقراطية الاشتراكية، وليس التخلص من الديمقراطية، وكانت تعتبر الممارسة الاشتراكية تعني التحول الروحي الكامل للجماهير للتخلص من الذل التاريخي وليس عكسه.
ورغم محدودية المعرفة في عهد روزا (معرفة القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين) فإن روزا تمكّنت من تقديم فهم متطور لقضايا الحرية والثورة لاتزال الكثير من جوانبه صالحة إلى يومنا هذا، رغم تغيّر الظروف والأوضاع.
وكانت روزا حالمة بالتحرر الإنساني والمشترك المجتمعي متطلعة إلى دور ريادي للمرأة ينتشلها من وضعها اللامساواتي، إضافة إلى الاستغلال الطبقي. ولم تمنعها مكانتها الفكرية والثقافية من ارتداء أجمل ثيابها والنزول إلى الشارع مرتين في مدينة كولون الألمانية بجانب النساء المومسات دفاعاً عن حقوقهن، حيث كانت تعتبرهن ضحايا مرتين للمجتمع الاستغلالي، بتعرضهن إلى اضطهاد مزدوج جنسي واجتماعي، ناهيكم عن عدم المساواة.
وقد عرفت روزا حباً كبيراً تشهد به رسائلها إلى «هانز» (ليو جوغيشنز) حبيبها ورفيقها الحميم، وهي الرسائل المتسمة بعاطفة ومزاج إنساني متقد، وكانت قد تعرّفت عليه في سويسرا، حيث درست في جامعة زيوريخ العلوم الطبيعية والقانون والاقتصاد.
وعندما اغتيلت روزا نعاها لينين بكلمته المشهورة قائلاً إنه رغم أخطائها فقد كانت وستظل بالنسبة لنا نسراً محلقاً. رحلت روزا وهي لم تبلغ الخمسين وتركت لنا ثروة كبيرة سواءً بسيرة حياتها المفعمة بالحيوية أم بمؤلفاتها وسجالاتها الغنية، كاشفة على نحو ساطع الاغتراب الإنساني في ظل نظام الاستغلال، الأمر الذي ستكون استعادته لا غنى عنها في ظل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي نعيشها حالياً!!
* باحث ومفكر عربي

جردية الجريدة الكويتية العدد رقم 542 الجمعة 20 فبراير 2009 ,25 صفر 1430

1207
محاكمة منتظر الزيدي ولحظة الحسم
عبدالحسين شعبان
2009-02-16
بعد إعلان يوم 19 فبراير الجاري موعداً لمحاكمة منتظر الزيدي بدأ الكثيرون بتمجيده والإشادة بموقفه، واعتبروا ما قام به عملاً شجاعاً يضع حدّاً فاصلاً بين مرحلتين، لا سيما وقد واجه رجل أقوى دولة في العالم، خصوصاً بعد أن اعترف الرئيس بوش بأن غزو العراق كان بناء على معلومات مضللة، حيث إن رد الفعل الغريزي للاحتلال هو مقاومته. من جهة أخرى، كثيرون من اعتبروا تصرف الزيدي إساءة للمهنة ما بعدها من إساءة، وأن سلوكه كان غير حضاري، وكان الأجدر به محاصرة الرئيس بوش بأسئلته وتوجيه الاتهامات إليه، فضلاً عن أن تصرفه كان همجياً!
وبعيداً عن الانحياز المسبق أو لغة التمجيد والتأييد أو التنديد والتفنيد، دعونا نفحص الحدث بمقاربة مختلفة، ثم ندقق في كل الأطروحات المنحازة أو المناوئة.
ولا بد هنا من التمييز بين الرأي الشخصي والرأي المهني وبين الرأي السياسي والرأي الحقوقي، فثمة من يقول إن ما قام به الزيدي كان الطريقة الوحيدة التي يمتلكها للتعبير عما يجيش في قلوب غالبية العراقيين والعرب إزاء السياسة الأميركية، لا سيما بعد كل الآلام والمآسي التي حلّت ببلدهم، وبالطبع لا أحد يريد أن يقارن ماذا كان سيحل بالصحافي الزيدي لو تجرأ وخاطب رئيس النظام السابق باللغة ذاتها أو حتى بأقل منها!؟
إذا كان ما قام به الزيدي «مبرراً» من الناحية السياسية، فالأمر يعود إلى ما خلفته الإدارة الأميركية في العراق من آثام وجرائم، وهي أفعال تستحق الإدانة والمحاكمة القانونية، خصوصاً أن العراق لم يعرف الحرية وحق التعبير، لا في العهد السابق الذي كرّس الأحادية والإطلاقية والإجماعية على نحو مصطنع، ولا بعد الاحتلال الذي انتهك كامل منظومة حقوق الإنسان، عبر عمليات محق وإذلال وهدر للكرامة الوطنية العراقية.
ولم يكن الحذاء في يوم من الأيام وسيلة مثلى لاستعادة الكرامة أو تحقيق الحقوق، ولم يحصل أن نظر الناس إليه بهذه النظرة السريالية التي جعلها الرئيس بوش إحدى الوسائل المتبقية في بلد يعاني ويتألم بصمت منذ سنوات طويلة وبدأ ينزف ويئن، بصخب وبدونه، في سنوات الاحتلال، حيث التشظي المجتمعي بعد القسمة الإثنية- الطائفية، وانتشار الميليشيات وانفلات الأمن وأعمال العنف والإرهاب، إضافة إلى الفساد والرشوة ونهب المال العام.
يضاف إلى ذلك أن شاباً يسارياً حالماً ومجروحاً على المستويين الشخصي والعام، أراد أن يصنع أسطورته بعد إجهاض أسطورة التغيير الذي ظل منتظر ينتظره، وهكذا ضاع حلمه وتبدد الأمل من بين أصابعه، وهنا امتزج العام بالخاص، فأنتج ردة فعل أرادها على طريقته الخاصة، باستقبال ضيف ثقيل لم يحترم أصول الضيافة، وهنا اعتملت في نفسه ازدواجية مشاعر الوطني والمهني، فحاول أن يؤرخ اللحظة حسب ألبير كامو!! ولكن بطريقة سياسية، لكنها غير مهنية!
لقد استمر الوعي العراقي في حالة من الشحن ومحاولات التزييف، لا سيما في ظل حشود مليونية مسخّرة، وانتخابات استقطابية حاشدة، وانقسامات تمزيقية حادة، وغياب الدولة وهيبتها، وشعور عام باليأس والهزيمة، وضعف الشعور بالمواطنة، لدرجة أن فعلاً غير متوقع كالذي حصل أعاد صدم المشاعر سلباً أو إيجاباً من جانب جميع الأطراف!!
لا يطيح الحذاء بالاحتلال ولن يعيد الكرامة، ولا رمي الحذاء دليل عمل جبان أو عدم احترام للضيف أو تعبيراً عن عدم التحضر. فالتحضّر بالمدنية واحترام المرأة ومساواتها مع الرجل واحترام حقوق الأقليات والسير في درب الحداثة وتحقيق التحرر الوطني والاجتماعي وبالتخلص من الاحتلال والهيمنة!
لعل هناك من جرحت كرامته حين طار الحذاء السريالي بغض النظر عن مقاصده ونواياه ومهنيته، وهناك من تجرح كرامتهم مهنياً ووطنياً كل دقيقة عندما يشاهدون الجنود الأميركان وهم يذلّون العراقيين ويرسلون الجثث المقطوعة الرؤوس المجهولة الهوية إلى المقبرة، ويمارسون الاغتصاب والتعذيب ضد النساء والرجال على حد سواء.
جاء الرئيس بوش بزيارة غير رسمية إلى العراق، خارج ما تقتضيه الأعراف الدبلوماسية والقوانين الدولية، فهو لم يتلق دعوة من الحكومة العراقية، كما لم يطلب هو بدء زيارة علنية محددة بزمن، بل جاء بزيارة مفاجئة دون أن يبلغ أحداً، ليؤكد أن الأمن مستتب وأن مشروعه الإمبراطوري نجح في العراق بتوقيع المعاهدة الأمنية العراقية- الأميركية، ولكن من جهة أخرى فإنه قام بخرق السيادة العراقية المزعومة، تلك التي يتم التشبث بها صباح مساء، حيث كانت زيارته أقرب إلى التسلل وللقاء القوات الأميركية الموجودة في العراق بما يتعارض مع اتفاقية فيينا حول العلاقات الدبلوماسية العام 1963، وعندما وصل إلى العراق طلب من رئيس وزراء العراق مقابلته ليحتفلا بالمنجزات المتحققة.
إذا كان خيار الزيدي سياسياً وليس إعلامياً أو مهنياً برمي الرئيس بوش بفردتي حذائه، فهل كان تصرف الحماية الخاصة وعدد من زملائه مهنياً؟ كان يمكن إخراجه من القاعة واتباع الإجراءات الأصولية بحقه، على افتراض أنه قام بعمل يخالف قواعد القانون، الأمر يقتضي مساءلة، لكن الهمجية التي استخدمت ضده وألحقت أضراراً بدنية ومعنوية به، بما فيها كسر إحدى أسنانه والتقرحات في عينه والضرب المبرح والكدمات التي لا تزال على وجهه وأطرافه كما أفاد فريق المحامين الذي زاره واطلع على تقارير الطبيب، تضع أكثر من علامة استفهام على هذا التصرف اللاحضاري من جانب جهات رسمية تمتلك سلطة القانون التي يمكنها أن تكون فيصلاً في إدانة أو تبرئة المتهم الزيدي، وإذا كان رجال السلطة يتصرفون هكذا، فمن سيحمي المواطن من التجاوز إذا كان من يعمل على إنفاذ القانون يتعامل معه بهذه الطريقة؟
لعل هذه الصورة ستبقى راسخة في الأذهان مثل صورة رمي الحذاء، والصورة خبر، وبهذا المعنى تُغني عن أدلة وأسانيد وشهود ودوافع وقرائن طالما شاهد العالم أجمع أن اعتداء سافراً وصارخاً حدث لمنتظر الزيدي، وهو الأمر الذي يخرج قضية رمية الحذاء على الرئيس بوش من نطاقها السياسي إلى إطارها القانوني.
وإذا كان العراق رغم توقيع الاتفاقية الأمنية مع واشنطن، لا يزال يعتبر تحت الاحتلال وأن السيادة لم تسترجع كاملة، وأن القوات الأميركية لا تزال تتصرف بعيداً عن أي ضوابط تخضعها للولاية القضائية العراقية، فبهذا المعنى يمكن التفريق بين عمل منتظر الزيدي المهني والصحافي من جهة وبين رأيه السياسي اليساري الوطني من جهة أخرى، وهو ما عبّرتُ عنه بوضوح كأول متحدث عن قضية الزيدي في تلفزيون «الجزيرة»، فقد كان ما قام به جزءاً من احتجاج ضد الاحتلال، بطريقة هو اختارها سياسية وليست مهنية، طالما هي محكومة بقواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977، تلك التي تقضي بالحق في مقاومة المحتل.
وإذا أحلنا المسألة للمعيار القانوني العراقي، فيمكن الرجوع إلى قانون العقوبات البغدادي، رقم 111، لعام 1969، وهو القانون الذي جمّد الكثير من نصوصه بول بريمر الحاكم المدني الأميركي للعراق (مايو 2003- يونيو 2004) وظلّت دون تعديل، ولا سيما المواد من 156 وإلى 225، حيث اعتبرت معطلة، وإذا استبعدنا المادة 223 الخاصة بالقتل أو الاعتداء السافر الذي لا يصل إلى درجة القتل أو الشروع فيه بخصوص رئيس دولة أجنبية أثناء وجوده في العراق، وهي تقرر أحكاماً غليظة لكنها لا تنطبق على حالة الزيدي، فإن المادة 227 تقضي بعقوبة لا تزيد عن سنتين وبغرامة لا تزيد عن 200 دينار، على كل من أهان بإحدى طرق العلانية دولة أجنبية أو منظمة دولية لها مقر في العراق أو أهان رئيسها أو ممثلها أو علمها أو شعارها الوطني.
ومثل هذه الدعوى حسب منطوق المادة لا تقوم إلا بإذن تحريري من وزير العدل، والأمر سيكون مردوداً، ما دام الرئيس بوش هو من نظم فعل العدوان على العراق، وقام بغزوه، وقتل مئات الآلاف بسبب معلومات مضللة كما اعترف بذلك، والاعتراف سيد الأدلة كما يُقال في القانون، كما دمّر البنية التحتية والمرافق الحيوية وحل العديد من مؤسسات الدولة، لا سيما العسكرية والأمنية وترك البلاد عرضة للعنف والإرهاب والطائفية، الأمر الذي يحمّله مسؤولية دولية جنائية.
نقل السيد رئيس الوزراء نوري المالكي إلى عدد من الصحافيين الذين التقاهم بعد أقل من أسبوع على الحادث أن الزيدي اعترف بأن هناك من دفعه للقيام بمثل هذا الفعل، ورددت بعض الأوساط أخباراً عن اعتذاره، لكن أخباراً وردت عن طريق محاميه أشارت إلى أنه يرفض الاعتذار ويريد الحصول على حقوقه إزاء الأضرار التي تعرض لها بالاعتداء عليه.
وعلى افتراض حصول الاعتراف، فإذا كان تحت الإكراه والتعذيب فسيكون باطلاً ولا يعتد به، ولا بد من حضور محاميه أمام قاضي التحقيق، ومن المحتمل أن يكون قد تعرض للتعذيب النفسي أو الجسدي، والمهم الآن بغض النظر عن تهمة «ارتكاب» رمي الحذاء، تأمين الحقوق القانونية والحماية الكاملة للزيدي وحقه في محاكمة عادلة واحترام حقوقه كإنسان في إطار اللوائح والمواثيق الدولية، ناهيكم عن حقوقه في مقاضاة من قاموا بالاعتداء عليه وتعويضه تعويضاً مادياً ومعنوياً.
جدير بالذكر أن الدستور العراقي النافذ لا يتضمن إشارة إلى ما يفيد النظر في قضية مثل قضية الزيدي، مع أنه أكد على استقلال القضاء، وهذا يعني عدم جواز تدخل السلطة التنفيذية (الحكومة) بمساره، كما لا يحق لها إطلاق التصريحات، وربما الإشاعات التي قد تؤثر عليه، وحسب شروط المحاكمة العدالة، لا يحق للقضاء تسريب معلومات للسلطة التنفيذية، أو للإعلام أو لأي جهة من شأنها تشويه موقف المتهم، أو خلق رأي عام ضده، وفي حالة منتظر الزيدي، خلق رأي عام مضاد للرأي العام المؤيد له، لأن مثل هذه الأمور قد تؤدي إلى تشويه صورته، وفي ذلك مقاربة غير سياسية، ولكنها تستمد كينونتها من الحيثيات القانونية!!

صحيفة العرب القطرية العدد 7554  الإثنين 16 فبراير 2009 م ـ الموافق 21 صفر 1430 هـ


1208
بروموثيوس و متحفية الماركسية!!

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

قبل أكثر من ربع قرن كتبت مقالة بعنوان: بروموثيوس الزمان، وهو استعارة عن حامل شعلة الفكر الربّانية، أشرت فيه إلى فضل ماركس، من خلال اكتشافه قوانين الصراع الطبقي، وفائض القيمة، وقلت ولاأزال إن فضله الأساسي يكمن في منهجه، وهو المنهج الذي استخدمناه بطريقة خاطئة، لاسيما في العالم العربي والإسلامي بشكل خاص، وأستطيع القول على المستوى العالمي بشكل عام، وتعاطينا معه على نحو لاهوتي وحوّلنا تعاليمه إلى مجرد تعاويذ أو أدعية، مضفين عليها قدسية كهنوتية لا تقبل النقد أو حتى النقاش، وجلسنا نتعبّد في محرابها ونردّد « آياتها» على نحو تلقيني لا علاقة له بروحها وبجوهر العصر، وأحياناً تعاملنا مع الماركسية، وهي فلسفة حداثية مدنية، انطلاقاً من موروثات ريفية أو بدوية أو دينية وبطريقة انتقائية سمجة، وبمحاولات توليف غير ممكنة.
أعادت الأزمة الاقتصادية والمالية الطاحنة طيف ماركس إلى الواجهة، بعد أن أصبح شبحه «أثراً بعد عين» كما يقال، الأمر الذي اعتبره البعض جزءًا من المتحفية إذا جاز التعبير. وإذا كانت عودة ماركس قد أخذت تتصدر المانشيتات الصحفية والدراسات والأبحاث وشاشات التلفاز، فإنها في الوقت نفسه استحضرت التجربة الشيوعية الدولية، خصوصاً نماذج الماركسية السوفييتية المطبقة.
صحيح أن ماركسية القرن الحادي والعشرين لا تشبه ماركسية القرن العشرين وإن كانت تلتقي مع ماركسية ماركس في القرن التاسع عشر، لكنها قد تتجاوزها إلى آفاق أكثر رحابة في ظل مرحلة ما بعد الحداثة والثورة العلمية-التقنية والعولمة وتأثيرها، ومعارفها وعلومها.
ولعل الماركسية السوفييتية تختلف اختلافاً كبيراً عن ماركسية ماركس وطبعتها الكلاسيكية، مثلما تختلف هذه الأخيرة التي كشف ماركس قوانينها في القرن التاسع عشر، عن ماركسية ما بعد سقوط جدار برلين العام 1989، ولا شك أن ماركسية القرن الحادي والعشرين ستكون شيئاً آخر، حيث لم يعد التاريخ كما كان المتخيّل منكشفاً في ثنائيات وتبسيطات في ماضيه وحاضره ومستقبله، وعن تشكيلات ومراحل وأدوار يحكمها الصراع الطبقي بكليّاته، ويطرح أشكالاً تتواءم مع التفسيرات اليقينية والحتميات السائدة آنذاك.
وكانت إنجازات ماركس قد ساهمت في تعميم معارف عصره، واستنباط حلول تتواءم مع التطور السائد حينئذ، وهو ما أسماه الانتقال إلى عالم الحرية، الذي لم يكن سوى فهم الضرورة، وظلّت الماركسية الكلاسيكية تدور في وحول الحتميات التاريخية على نحو سرمدي، وإن لم تعر اهتماماً بدور الفرد، معتبرة إيّاه عرضة للتوّهمات والكبوات، وعندما حلّت لحظة تطبيق الماركسية من خلال نظام حاكم، هيمنت عليها الهرمية الكيانية البيروقراطية الحزبية، حيث ارتفع دور الفرد القائد الزعيم، وإن اعتبر الأفراد بفرديتهم وبجمعهم ليسوا سوى جزء صغير وربما مجهري من حركة التاريخ ومساره، الذي تصنعه الطبقة العاملة وطليعتها ويتربع على عرشه القائد الذي تُنسب إليه جميع الصفات الخيّرة فكرياً وإنسانياً وأخلاقياً لدرجة التماهي بينه وبين الطبقة.
وقد عممت الستالينية نموذجاً احتذى به القادة الآخرون وساروا على هداه، ولعل بعض زعماء ما أطلق عليه حركة التحرر الوطني، قد قلّد هذا النموذج بحذافيره، بل زاد عليه في ظروف العالم الثالث المتخلفة، ممارسات أكثر بؤساً على صعيد الإدارة والاقتصاد والسياسة والثقافة وحقوق الإنسان، وبشيء من موروثه وعاداته وتقاليده قد لا تنسجم مع الفكرة الماركسية.
لقد شغلت الماركسية، لاسيما منذ البيان الشيوعي العام 1848، العالم أجمع والعلاقات الدولية خلال 170 عاماً ولاتزال، وعندما وصلت إلى السلطة لأول مرة بعد سقوط كمونة باريس العام 1871، بنجاح ثورة أكتوبر العام 1917 شقت العالم إلى قسمين، وشهد التاريخ أولى تجارب الحكم «الاشتراكي» وتوسّع الأمر بقيام الجمهوريات الديمقراطية الشعبية بعد الحرب العالمية الثانية العام 1945، ومن ثم نجاح ثورة الصين العام 1949 وتأثر بعض حركات وزعامات العالم الثالث، بالحركة الشيوعية والاشتراكية الدولية، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، خصوصاً بعد نجاح الثورة الكوبية العام 1959.
بهذا المعنى لم تكن الماركسية نظرية اجتماعية للتغيير، فقد سبق ماركس وجايله الكثير من المفكرين والباحثين، مثل كانط وديكارت وهيغل وفيورباخ وغيرهم، لكنه كان الوحيد بينهم الذي ترك مثل هذا التأثير على العالم أجمع، فلم يكن مفكرا كبيرا، أو باحثا متعمقا أو فيلسوفا حالما أو منظما وداعية حسب، بل كان كل ذلك، ولعل في ذلك مصدر قوته وربما مصدر ضعفه في آن، فالمشروع الماركسي الفلسفي قدم رؤية للتاريخ من جهة، مثلما قدّم منهجاً للتحليل، وهما الأساسان اللذان تعتز الماركسية (ماركس وانجلز) بإضافتهما إلى علم الاجتماع الإنساني، مثلما كانت هي مشروعاً لتحرير الإنسانية، وحركة ثورية ذات أهداف محددة لكنها لم تنجح في الاختبار في تجارب دامت نحو 70 عاماً، ولعل الجزء المهم منها ظلّ يوتوبياً ففي كل فلسفة جزء من اليوتوبيا.
لم تحبس الماركسية نفسها في إطار الجدل الفكري الأوروبي، بل كانت الساحات العالمية كلّها مجال حركتها، الأمر الذي وضعها في مواجهة الرأسمالية في كل مكان، وهذا الأمر أخذ طابعاً تعبوياً وسياسياً بعد التجارب الاشتراكية الأولى، خصوصاً بعد ثورة أكتوبر وتأسيس الأممية الثالثة بقيادة لينين العام 1919 التي استمرت حتى العام 1943، حيث تم حل الكومنترن.
احتفى البعض بموت الماركسية، بل إنه أهال عليها التراب بعد دفنها، وما تبقى منها وضعه في إطار الذكريات أو الكتب المتحفية، وكان بعض الماركسيين قد حاول تدوير تاريخه وإنكار احتسابه على هذا التيار الذي ظن أنه تم توديعه إلى الأبد ولم يعد أحد يتذكره، وإذا بالأزمة المالية العالمية تعيده إلى الصدارة ويصبح طيف ماركس وليس شبحه في كل مكان.
وكما أصبح الحديث عن موت الماركسية باعتبارها فكرة شمولية توتاليتارية، ومدخلاً للحديث عن ولادة الليبرالية الجديدة، فقد أصبح الحديث عن فضائل الأخيرة وسيادتها وظفرها مسألة موازية، وهو ما بشّرنا بها فرانسيس فوكوياما حين تحدث عن نهاية التاريخ وتلقفها بعض زملائنا من الماركسيين القدامى «الليبراليين الجدد»، منتشين باكتساح العولمة للقارات والدول والأمم والشعوب واللغات والنظم والحدود.
وإذا كان هناك في الغرب من أخذ يتحدث عن عودة ماركس ولكن ليست الماركسية الوضعية النقدية، حيث يريد ماركس لا بسترته المتّسخة، بل كعالم إنثربولوجي وسسيولوجي واقتصادي، ويسير خلفه لا جوقة الرعاع والبروليتاريا، بل مجموعة من البروفسيرات والأدباء والفنانين والمثقفين وأجمل النساء، وهؤلاء يريدون من الماركسية ومن ماركس فكرته الفلسفية ضمن طائفة الأفكار الفلسفية التي تغتني بها اللوحة الفكرية الأوروبية-الغربية، أما هدف تغيير العالم وليس تفسيره، كما دعا إليه ماركس، فهذا أمر تاريخي ومتحفي ليس إلاّ حسب وجهة نظرهم، بحيث لا يتم جمع النظرية إلى جانب التطبيق، وهو ضرورة، انفصلت عنها التجارب الاشتراكية بالكامل وفي جميع الحقول والمجالات.
لاشك أن الذي مات هو النموذج أو الموديل السوفييتي، وقد أثبت فشله وعدم صلاحه وبالتالي انهياره، لأنه لم يكن ماركسياً أو اشتراكياً، بقدر كونه نموذجا توتاليتاريا-استبدادياً حيث شكلت قاعدته القسرية الإكراهية، الأساس في تطبيقه، الأمر الذي جعله صورة مشوّهة للماركسية الكلاسيكية، رغم بعض نقاط ضعف الأخيرة، وكانت صورة لينين وبالدرجة الأساس ستالين الشاهد الحقيقي للتشويه القيمي والفكري للماركسية، لاسيما بغياب وجهها الإنساني.
ولذلك فإن تبديد أو حتى موت النموذج القسري سيكون متوائماً ومنسجماً مع جوهر الماركسية وذاتها لا خلافاً معها، خصوصاً أن أفكار ماركس المستقبلية لم تكن محط اقتناع، بل هي الأخرى حملت إشكاليات زمانها، فضلاً عن إشكاليات زماننا.
وإذا كانت تقديرات ماركس وقراءة بعض أطروحاته، لاسيما التي تم تطبيقها لم تزكها الحياة، مثل نظريته عن الدولة، التي قال إنها ستذبل وإشكالية دور الفرد في التاريخ، ودور العامل النفسي ووصمه شعوباً بالرجعية بالكامل في معرض حديثه عن الشعب التشيكي، فإن جوهر منهجه ظل حيوياً وقادراً على تحليل واستنباط الأحكام والحلول، رغم أن البعض أرادها أحكامه وحلوله، في حين يقتضي المنهج الماركسي أن نكتشف قوانينا وحلولنا وأحكامنا، لا قوانين وأحكام ماركس، التي كانت تصلح لزمانه وليس لزماننا.
هل يحق لنا أن نقول إن الماركسية كفلسفة تستطيع أن تجدد نفسها رغم شيخوخة بعض جوانبها، حتى إن استبقت بعضاً منها في المكتبات أو اليوتوبيات أو الأحلام أو المتحفيات، فتلك مأثرة الفكر الحي ورائدة بروموثيوس الذي يستحق كما الماركسية القراءة الارتجاعية، بمنهج نقدي وضعي، لا بمسلّمات عفى عليها الزمن!!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد 530 الجمعة 06 فبراير 2009 ,11 صفر 1430
   

1209
السفير مختار لماني والمواطنة العراقية!

عبدالحسين شعبان
2009-02-02
يمتاز الدبلوماسي المغربي مختار لماني، الذي عمل سفيراً لمنظمة المؤتمر الإسلامي لسبع سنوات في الأمم المتحدة بحذاقة عالية وخبرة كبيرة وحساسية شديدة إزاء استخدامه المصطلحات، فطيلة العام الذي قضاه في العراق، وضع مسافة محددة وواضحة بينه وبين جميع الأطراف في الحكومة ومعارضتها، بين القوى المنخرطة في العملية السياسية أو ممن يتحفظ عليها أو يرفضها، لذلك لقي احترام وتقدير جميع الأوساط لصدقيته وتنزّهه عن الغرض وحرصه على إيجاد توأمات ضمن حدود الممكن للخروج من النفق المظلم الذي وصلت إليه أوضاع البلاد، لاسيما التطهير المذهبي والعرقي واستشراء مظاهر العنف والإرهاب والقتل على الهوية، إضافة إلى مشكلات الاحتلال ذاته والوجود العسكري الأميركي، وما تركته السياسات الخاطئة والضارة ليس على صعيد أوضاع الحاضر، بل على صعيد أوضاع المستقبل.
لقد حمل الدبلوماسي «المغامر» قلبه معه وجاء إلى بلاد الرافدين غير آبه بالمفخخات والمتفجرات والعبوات الناسفة والعدائية لدى البعض إزاء العرب والعروبة، مجرداً من أية رغبات ذاتية أو خاصة، سوى حبّه للعراق وأهله وانتمائه إلى هذه المنطقة، فقبل منصب سفير جامعة الدول العربية، وجرّب حظّه بالعمل المتفاني (باعتراف الجميع) عسى أن يفلح في الوصول إلى مساهمةٍ في وصل ما انقطع أو لحم ما تمزق، أو إيجاد حلول تسهم في تعزيز المواطنة وتتعامل معها أساساً في عراق المستقبل.
ولعل فكرة المواطنة التي كانت عنواناً لتحرك لماني في العراق لها أكثر من دلالة: الأولى، أنها موضوع راهني، وأصبح مطروحاً على بساط البحث، لاسيما في ظل التجاذبات الكثيرة التي حوله داخلياً وخارجياً، وبحكم الاصطفاف والاستقطاب الذي كرسه بول بريمر في صيغة مجلس الحكم الانتقالي العام 2003 وما أعقبه من تقسيمات طائفية ومذهبية وإثنية؛ والثانية لأن هناك التباساً نظرياً وعملياً بشأن فكرة المواطنة، لاسيما في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والدينية والقومية المختلفة، الأمر الذي يحتاج إلى تكريسها والدعوة لها بديلاً عن مبدأ المحاصصة والتقاسم الوظيفي؛ والثالثة، أن إشكالية المواطنة بدأت تحفر في أساسات الدولة والهوية، خصوصاً بعد الاحتلال، الأمر الذي يجعل من الضروري إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، وطالما حاول لماني باتصاله مع الجماعات والتنظيمات والزعامات المختلفة من العرب والأكراد والتركمان والكلدوآشوريين، والمسلمين والمسيحيين والصابئة واليزيديين وغيرهم، إضافة إلى رؤساء العشائر والقبائل، أن يشركها في صلب القضايا ذات الاهتمام وصولاً للمشترك الإنساني القائم على أساس اعتماد الهوية العراقية؛ أما الرابعة، فعلاقة المواطنة بفكرة حقوق الإنسان، خصوصاً بمبدأ المساواة وحق المشاركة وقضايا العدالة، وبشكل خاص عندما وصلت مهمة لماني إلى طريق مسدود في العراق، قرر على مضض تقديم استقالته لعدم وجود إمكانية ولو بحدها الأدنى لمواصلة مشواره المغامر.
لكن لماني الذي عشق المغامرة والحرية قرر أن يعود إلى العراق من بوابة أخرى هذه المرة، وهي بوابة المجتمع المدني ليواصل التحدي الذي قرر اختياره رفيقاً له، لاسيما وأن هناك قضايا إشكالية يعتقد أن دوره ما زال قائماً ليسهم في إيجاد حلول ومعالجات ومصالحات حقيقية بشأنها وعلى أساس مبدأ المواطنة، خصوصاً أن العراق عانى طويلاً، وما زال، من سياسات خاطئة واستبدادية وحصار دولي جائر وحروب وقوانين غليظة وغياب دور المجتمع المدني.
هكذا بدأ نشاطه مجدداً بصياغة تقرير عن «الأقليات في العراق» بدعم من إحدى المنظمات الكندية ذات الصدقية العالية وفي بلد لم يكن شريكاً في الحرب، خصوصاً بعد لقائه بالأحزاب والقوى السياسية وبعشرات من الشخصيات السياسية ذات الوزن المؤثر وعدد من الملَكات الثقافية والفكرية والقومية والدينية، سواء خلال وجوده في العراق طيلة عام تقريباً (2006–2007) ثم زياراته إلى كردستان العراق ولقاءاته بعدد من العراقيين بمن فيهم مسؤولون حكوميون رفيعو المستوى، إضافة إلى شخصيات في عمان ودمشق وبيروت والقاهرة وغيرها. وخلال اللقاءات العديدة مع لماني، وللأمانة التاريخية، لمست منه ثلاث قضايا:
الأولى: موضوعيته وعدم انحيازه لصالح طرف ضد طرف آخر، حتى وإن كان لديه وجهات نظر أخرى أو لا تتفق مع بعض الأطروحات بلا أدنى شك، مثل الأطروحات الطائفية أو العشائرية أو الجهوية أو الدينية المتعصبة أو غيرها، إلا أنه ظل يستمع ويحترم الجميع ويقدر دورهم.
الثانية: احترامه لجميع القوى والتيارات السياسية والفكرية والدينية والقومية ووضعه مسافة مناسبة من الجميع، دليل حياديته ورغبته في أن يكون وسيطاً مستقيماً ونزيهاً وأن يصل إلى النتائج المرجوة لتعزيز الوحدة الوطنية العراقية القائمة على مبدأ المواطنة.
الثالثة: انحيازه للعراق وحبه لشعبه وصداقاته مع جميع أطرافه وشعوره أن العراق الواحد الموحد، يمكن أن يعزز ويعمق التداخل والتفاعل الفسيفسائي الموزاييكي بين أغلبياته وأقلياته، بين أديانه وطوائفه، وبين تياراته الفكرية والسياسية، لاسيما إذا اتسم بالتعايش بين جميع المكونات، وعدم الرغبة في التحكم أو تقديم ما هو خاص على ما هو عام، وقد سبق له أن أكد ذلك في لقاءات تلفزيونية وصحافية، سمعتها وقرأتها على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، فلماني لم ينسَ أن هناك حقوقاً لتكوينات عراقية كانت مهضومة أو تعرضت إلى الانتهاك، الأمر يدفعها بل يلح عليها أحياناً، للحصول على ضمانات لاحترامها، مع وجود رغبات لدى البعض في تجاوزها، للحصول على مكاسب أو مزايا في ظل الأوضاع المنفلتة.
إن سعة أفق الدبلوماسي وتمرسه في العمل الفكري والحقوقي، وقراءاته للمستجدات والمتغيّرات، وانسجاماً مع المعطيات الكثيرة، هي التي تقف وراء تقديمه تقريره الأثير «الأقليات في العراق»، الذي ينبغي أن يُنظر إليه في إطار فكرة المواطنة، التي يسعى إلى تفعيلها وتعزيزها، بحيث تكون مواطنة عضوية، تستوعب الأقليات باحترامها وتأمين حقوقها ودورها المتفاعل مع الأغلبيات التي ينبغي عليها أن تؤمن من جهتها العلاقة المتساوية والمتكافئة مع الأقليات، على أساس المواطنة، وهذا الأمر يحتاج هو الآخر إلى حوار جاد ومسؤول من أطراف عراقية أولاً وأخرى عربية ودولية أكاديمية وفكرية وثقافية وسياسية.
وإذا كان لماني قد استقال من وظيفته كممثل وسفير لجامعة الدول العربية بسبب عدم توفر المستلزمات الأولية لنجاح مهمته كما قال في حينه، فإنه لم يستقل من مهمته الإنسانية، تلك التي جعل عنوانها رغبته في تعزيز وتفعيل المواطنة العراقية من خلال بحث معمق في قضايا وحقوق الأقليات وهو ما تذهب إليه الأمم المتحدة في إعلان حقوق الأقليات الصادر عام 1992.
فحسب لماني هناك نحو 15 أقلية لبلاد ما بين النهرين، لاسيما بتعاقب الحضارات، ويشير إلى معاناتها، خصوصاً حملة النزوح والتهجير، حيث اضطر نحو %90 من الصابئة إلى ترك منازلهم ونحو %60 من المسيحيين، الأمر الذي يسهم في تدمير النسيج المجتمعي، فضلاً عن حياة المنافي القاسية لأوساط عراقية واسعة، لاسيما من الطبقة الوسطى والكفاءات العلمية.
وقد سبق للسفير لماني أن حذر من الاختراقات الإقليمية، وكان يرى ضرورة عقد مؤتمر دولي تحت إشراف دول كبرى لم تشترك في الحرب على العراق، حيث سيكون له إيجابيات عديدة، مع الأخذ بنظر الاعتبار دور الأمم المتحدة وبمشاركة من جميع المنظمات الدولية المعنية، خصوصاً بتوفر فرصة جادة للحوار بين جميع العراقيين دون إقصاء أو تهميش أو عزل سياسي وتحت أي أسباب، خصوصاً وقد تكون الفرصة سانحة بمجيء رئيس أميركي جديد، سبق أن أعلن في برنامجه الانتخابي استعداده للانسحاب من العراق خلال فترة 16 شهراً، الأمر الذي لو توفرت إرادة عراقية ودولية، لأمكن معه ضمان استقلال وسيادة العراق وإعادة بنائه ضمن مسؤولية المجتمع الدولي، وقد يكون مثل هذا المؤتمر مقدمة لمعرفة لتبادل الآراء واستمزاج وجهات النظر وصولاً إلى ما هو مشترك وعلى أساس مبادئ المواطنة واحترام حقوق الإنسان.


جريدة العرب القطرية  العدد 7540 الإثنين 2 فبراير 2009 م ـ الموافق 7 صفر 1430 هـ

1210
ثلاثة مخاطر أساسية تهدد الإعلاميين! (2-2)
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

إن حمل السلاح يسقط الحصانة القانونية عن الصحافي باعتباره مدنياً، وإذا كان هذا الأمر يتعلق بالنزاعات الدولية، فإن النزاعات الداخلية تنظمها المبادئ العامة، لاسيما المادة الثالثة «المشتركة»! أما في أوقات السلم فإن فضاء المادة 19 الخاص بحرية التعبير وهو ما جرى تقنينه في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 1966، والذي دخل حيز التنفيذ العام 1976، هو الذي يحكم علاقة الإعلامي بمسألة حق التعبير، وذلك بتأكيد حقه في تلقي ونشر وإذاعة المعلومات بحرية.
إن وجود تشريع شامل وملزم كاتفاقية دولية لحماية الإعلاميين، ويمكّنهم من أداء دورهم المهني والإنساني على أحسن وجه، أصبح أمراً مهماً جداً بل ضرورة عاجلة، لاسيما في إطار العمل الإنساني والإغاثي، الذي تقوم به اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
إن حماية الإعلاميين هي حق أصيل مثل حماية المدنيين وهم، وإنْ كانوا جزءًا منهم، فإن لديهم امتيازاً آخر لكونهم إعلاميين، أي أن واجب حمايتهم يكون مضاعفاً، ولابدّ من توفير ضمانات لذلك، وعكسه سيكون العالم مستمراً في «غفوته» حسب تعبير الأمين العام للأمم المتحدة، نظراً لخطورة الأعمال التي يقوم بها الإعلاميون، ودورهم في تحريك الرأي العام، وبالتالي مسؤولية المجتمع الدولي في الدور الإعلامي في الحرب والسلم، لاسيما من خلال ملاقحة الإعلامي بالحقوقي كجزء من منظومة حقوق الإنسان!
إن هذه المعطيات القانونية نعرضها كمقدمة لما هو مفزع من أرقام، فقد خسر العالم خلال السنوات العشر الماضية 1200 إعلامياً، وفي العراق وحده قتل أكثر من 170 إعلامياً خلال السنوات الخمس ونيف الماضية، يضاف إليهم أعداد من الصحافيين والإعلاميين الأجانب وبعض العاملين في المنظمات الدولية.
إن أعظم الأخطار التي تهدد حرية الصحافة هي ثلاثة: الخطر الأول، الارتفاع المرعب في معدل الإفلات من العقاب، أي أن قتلة الصحافيين في جميع أنحاء العالم يفلتون من العقاب، ومن أصل ثلاثة من أربعة صحافيين، يلقون مصرعهم أثناء أداء وظيفتهم المهنية ويقتلون بنيران غامضة، ويفلت القتلة من العقاب فيما يقارب تسعة من عشرة من الحالات، كما أشار إلى ذلك بول ستيجر رئيس لجنة حماية الصحافيين الذي وجه رسالة إلى الرئيس الأميركي المنتخب باراك أوباما (12/1/2009).
أما الخطر الثاني فهو اعتقال الصحافيين بسبب ممارسة عملهم، وحسب بعض الإحصاءات، فإنه يوجد أكثر من 125 إعلامياً خلف القضبان في مختلف أنحاء العالم (حتى نهاية العام 2008) وأن نصف هؤلاء هم من الصحافيين على الإنترنت، الذين أودعوا السجن جرّاء الرقابة المشددة.
الخطر الثالث هو القيود المفروضة على حرية التعبير والقوانين ذات العقوبات الغليظة التي تلاحق الإعلاميين، لاسيما ما يتعلق بنقد بعض القيادات العليا ومقام رجل الدولة الأول وعائلته وأقاربه وكبار المسؤولين، إضافة إلى قضايا الفساد والرشى وغيرها.
إن الإعلاميين الذين يعرضون حياتهم للخطر وتتعرض حرياتهم للانتهاك في الكثير من البلدان، يتطلعون إلى اتخاذ المجتمع الدولي الذي لايزال صباح مساء يكرر التزامه بحرية التعبير وحرصه على ضمان حماية للإعلاميين، معاهدة دولية لحمايتهم وتمكينهم من أداء دورهم أوقات السلم والحرب، انسجاماً مع القواعد الدولية لمواثيق حقوق الإنسان التي وقعت عليها الكثير من الدول وأصبحت نافذة، الأمر الذي يتطلب إلغاء إجراءات احتجاز الصحافيين لفترات طويلة تحت أي حجة أو مبرر أو ذريعة واتباع الإجراءات القانونية المناسبة والاعتيادية.
ولعل وجود أعداد كبيرة من الصحافيين معتقلين هو خلاف لهذه القواعد سواءً بسبب النزاعات الحربية أو من جانب الحكومات، فقد احتجزت القوات الأميركية في العراق وأفغانستان وغوانتانامو أعداداً منهم وبقوا لسنوات أو أشهر أو لأسابيع رهن الاعتقال دون مبرر قانوني في الكثير من الحالات، ومن ثم أطلق سراحهم دون توجيه تهم لهم، كما أن السلطات الحاكمة في الكثير من الحالات اعتقلت إعلاميين بسبب يتعلق بما نشروه من معلومات تخص مقامات عليا أو قضايا الفساد الإداري والمالي، أو ما تم اعتباره قذفاً أو تشهيراً.
في العراق لقي 16 صحافياً مصرعهم على يد القوات الأميركية وأصيب آخرون بجروح خطيرة جراء إطلاق النار عليهم، وفي معظم الحالات التي أجرت فيها القوات الأميركية تحقيقاتها لأنها غير خاضعة للولاية القضائية العراقية، فإن نتائجها كانت تبرئة الجنود المتورطين في جميعها. كما أخفقت بعض التحقيقات في التوصل إلى إجابات عن أسئلة تتعلق بإصدار أوامر العمليات والسيطرة عليها، مع وجود تناقض في أقوال الشهود، ولعل من المناسب الإشارة إلى أن القوات الأميركية والمتعاونين معها من الشركات الأمنية والمقاولين والمترجمين وغيرهم كانوا خارج نطاق الولاية القضائية العراقية، الأمر الذي لم يتغيّر بعد توقيع المعاهدة العراقية-الأميركية أواخر العام الماضي 2008.
إن صدور تشريعات دولية واتخاذ إجراءات موازية لزيادة الوعي بأهمية القوانين والأنظمة التي تكفل حماية الإعلاميين، إضافة إلى التدريب والتأهيل للجنود والضباط وجميع المعنيين بحماية الصحافيين في وقت السلم والحرب لقبول وجود الإعلاميين، وحقهم المشروع في تغطية الأخبار والنزاعات، واحترام وجودهم الطبيعي لنقل الحقيقة وإيصالها إلى العالم، سيكون للقضاء دور مهم فيه!
*باحث ومفكر عربي

1211
قمة الكويت والمجتمع المدني
   

عبدالحسين شعبان
 

إذا كان الاقتصاد هو التعبير المكثف للسياسة كما يُقال، فقد استطاع بفعل الشعور بثقل الأزمة توحيد المواقف السياسية، لاسيما في قمة الكويت التي شهدت مصالحة مفاجئة وغير مسبوقة.

وكانت غزة قد رمت بثقلها على الأحداث، الأمر الذي انعكس على العلاقات العربية - العربية، التي شهدت تجميداً للخلافات على أقل تقدير ومرونة في التعاطي مع أطروحات دعت لنسيان الماضي والتوّجه للتوافق وبخاصة في القضايا الاقتصادية والاجتماعية والتنموية. ولعبت المملكة العربية السعودية والملك عبدالله تحديداً دوراً إيجابياً في توفير أجواء مناسبة لتحقيق ذلك، كما أن شعور القادة العرب بثقل الأزمة الاقتصادية والمالية الدولية كان “عاملاً إيجابياً” (ربّ ضارة نافعة) لدفع الأمور باتجاه تحقيق المصالحة الضرورية، أو التمهيد لها، فالأمر لا يزال بحاجة إلى مستلزمات وآليات لوضع أسس مصالحة دائمة ومستقرة. وكان مجرد انعقاد قمة الكويت الاقتصادية والتنموية والاجتماعية (الأولى) حدثاً مهماً على صعيد العلاقات العربية  العربية، خصوصاً وقد نحى العالم منحى قيام التجمعات الاقتصادية الكبيرة، المصحوبة بكيانية ذات إطار سياسي يتعلق بمواطنة أوسع وحقوق أشمل.

ورغم أن حدثين هيمنا على القمة وربما سرقا الأضواء منها، وأعني بهما: مجازر “إسرائيل” في غزة، والأزمة المالية والاقتصادية الطاحنة التي شهدها العالم، إلاّ أن مجرّد انعقاد قمة اقتصادية ومناقشة قضايا ذات أبعاد وانعكاسات تهم وتشغل الرأي العام العربي، خصوصاً حياته ومستقبله، لاسيما فيما يتعلق بالتعليم والبيئة والصحة والنقل والأمن الغذائي والمجتمع المدني وغيرها، يعتبر مرحلة جديدة في العلاقات العربية  العربية التي طبعتها السياسة وأثرت فيها أكثر بكثير من الاقتصاد والتنمية والعلاقات الاجتماعية.

وكان انعقاد القمة مناسبة للتفكير في سبل العمل المشترك، ولعله فرصة لتبادل وجهات النظر والشروع بما هو ممكن في قطاع الصناعة والزراعة والاستثمار، فالشعوب العربية لا تزال تعاني من عدم الاستقرار الأمني والسياسي وتتعثر خطط الإصلاح والتنمية، لاسيما بفعل الحروب الخارجية والسياسات الداخلية الخاطئة، والثانية بفعل كبت الحريات وسياسات التفرد وعدم المشاركة.

من جهة أخرى، يعاني القطاع الخاص من ضعف شديد وفي الغالب يفتقر إلى الدينامية والتطور وعدم القدرة على المبادرة، ناهيكم عن تدخلات الدولة البيروقراطية فيما يتعلق بتوزيع الموارد وتوجيه الخطط والبرامج الاقتصادية وانصراف اقتصاديات معظم البلدان العربية إلى قطاعات محددة على حساب قطاعات إنتاجية مثل الصناعة والزراعة. وظلّت حركة انتقال رأس المال والأشخاص تعاني الكثير من القيود، إضافة إلى السياسات المالية والنقدية غير المنتظمة، واستمرت الحواجز الجمركية والعقبات الكبيرة لحرية التجارة.

وظل العالم العربي يعاني من وجود 100 مليون أمي، أي نحو ثلثه، ومن البطالة الفاحشة، الأمر الذي بحاجة إلى 100 مليون فرصة عمل جديدة، ولن يكون ذلك ممكناً دون مشاركة المرأة وتحقيق المواطنة الكاملة والمساواة التامة، لاسيما بمشاركة الأقليات القومية والدينية واللغوية ووضع برنامج تأهيل متكامل للعاملين، يأخذ بنظر الاعتبار ربط التعليم بالمجتمع وبحاجة السوق.

ولعل المسألة المهمة على هذا الصعيد تتعلق بالاستثمار المشترك في التعليم وتطوير البرامج مع أخذ حاجات السوق وأسواق العمل والمجتمع بنظر الاعتبار، وكذلك الاستثمار المشترك في الصحة، والاستثمار المشترك في الاقتصاد المنتج (أي في الصناعة والزراعة).

وتبقى كل تلك المهمات التنموية والاقتصادية والاجتماعية قاصرة وغير مكتملة، إن لم تتم إزالة العوائق القانونية والإدارية، التي تحول دون تحقيق مستلزمات العمل العربي المشترك.

في قمة الكويت حضر المجتمع المدني لأول مرة باعتباره مع القطاع الخاص ورجال الأعمال شريكاً في تحقيق خطط التنمية وتعزيز العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، وقد تطورت نظرة جامعة الدول العربية إلى دور المجتمع المدني العربي، خصوصاً بعد تأسيس مفوضية المجتمع المدني. وقد أدرك بعض قيادات المجتمع المدني الحاضرة في القمة ضعف حضورها وربما “ديكوريته”، فبادرت إلى صياغة بيان يدعو الحكومات إلى شراكتها باعتبارها قوة اقتراح واشتراك وليس قوة احتجاج واعتراض فحسب.

وتركّز خطاب المجتمع المدني الذي حضرت منه قطاعات مختلفة، نقابات واتحادات وجمعيات وخبراء على ما يحصل في غزة، فطرحت شراكة على الحكومات من موقعها المسؤول، وذلك بقبول العمل المشترك “لتحميل “إسرائيل” المسؤولية الجنائية واتخاذ الاجراءات لمحاكمة مرتكبي جرائم العدوان على قطاع غزة.. أفراداً ومؤسسات، خصوصاً جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، إضافة إلى جريمة العدوان”.

ودعت مذكرة المجتمع المدني (التي صدرت عبر بيان) وكان لكاتب السطور شرف عرضه باسم المجتمع المدني العربي على قمة الكويت إلى “العمل على توفير اجراءات ملاحقتهم على المستويين العربي والدولي، من خلال إحالتهم إلى القضاء المحلي والدولي، سواء إلى المحكمة الجنائية الدولية أو غيرها”. وبقدر ما تتحمله “إسرائيل” من مسؤوليات جنائية فإنها تتحمل أيضاً المسؤوليات المدنية التي تقضي بدفع التعويضات عما لحق بسكان قطاع غزة من أضرار جراء العدوان وما ألحقه من دمار وخسائر في الأرواح والممتلكات.

جدير بالذكر أن المجتمع المدني كان مبادراً للتنويه بمخاطر الاتفاقية الأمريكية  “الإسرائيلية” بشأن ما سمي “مكافحة تهريب الأسلحة”، التي ليست سوى محاولة لفرض نوع من الرقابة والتدخل تحت يافطة “مكافحة الإرهاب الدولي” وخارج نطاق الشرعية الدولية والقانون الدولي الإنساني على الأجواء والبحار والطرق، والأمر لا يتعلق بغزة فحسب، بل بعموم دول المنطقة، وهي مسألة غريبة على القانون الدولي الإنساني، ناهيكم عن تجاوزه على حقوق الشعب العربي الفلسطيني وحقه في مقاومة المحتل بجميع الطرق المشروعة، وهو حق تكفله الشرائع الدولية وميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي الإنساني، لاسيما الخاصة بحق الدفاع عن النفس إزاء عدوان ماثل واحتلال قائم، ناهيكم عن الحق في التحرر الوطني بالنسبة للشعوب التي ما زالت ترزح تحت الاحتلال، الأمر الذي يتطلب دعم حقوق الشعب العربي الفلسطيني.

وإذا كان اتخاذ موقف مشترك وموحد إزاء غزة أمراً ضرورياً، فإن القضاء على جميع أشكال التخلف والأمية والفقر وتأمين الرفاه الاجتماعي والاقتصادي للمواطن العربي، هو الوجه الآخر لشراكة المجتمع المدني للحكومات، لاسيما في أجواء الحرية والمعرفة، وهو ما ينبغي متابعته ما بعد قمة الكويت خصوصاً من جانب المجتمع المدني، ولاسيما من المفوضية التابعة لجامعة الدول العربية.

* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية تاريخ 28/1/2009

1212
الأكاديميون العراقيون: أليس في الصمت شيء من التواطؤ؟
عبدالحسين شعبان
2009-01-26
في اللحظة التي كانت تدور فيها الكاميرات وتنقل خبر المؤتمر الصحافي العتيد الذي كان مقدّراً له أن يشهد احتفالاً بروتوكولياً تحت الأضواء وأمام أنظار الجمهور وكاميرات الصحافيين، فاجأنا الصحافي منتظر الزيدي بأن رشق رئيس أكبر دولة في العالم بحذائه، فتحوّل الاحتفال إلى فوضى عارمة وأصبح الحادث الخبر الأول في كل مكان، وضاعت معه وتبددت صورة فريق الحماية وبعض زملاء الزيدي الذين انهالوا عليه بالضرب المبرح وأمام أنظار العالم كلّه.
ولعل اللحظة نفسها مرّت بصمت حين رشق مجهولون عميد كلية طب الموصل الأستاذ الدكتور مزاحم الخيّاط بزخّات من الرصاص وأردوه قتيلاً، وفرّ الجناة كما هي العادة عندما يتعلق الأمر بالأكاديميين والإعلاميين والأطباء والمثقفين بشكل عام وبعض كبار الضباط والعسكريين بشكل خاص.
ورغم أني كنت أول من تحدث عن الصحافي منتظر الزيدي، مراسل قناة البغدادية التي كنت مديرها العام سابقاً، وذلك عبر حوار تلفزيوني مباشر مع قناة الجزيرة، حيث حددّتُ هويته وفسرّت ما قام به من رد فعل لأسباب شخصية ووطنية، بتغليبه هذا الجانب على الجوانب المهنية، وباختيار أسلوبه الخاص للاحتجاج، لكنني أحجمت وأنا القريب من منتظر الزيدي عن الكتابة عنه لعدة أيام، رغم أن الخبر هزّني من الأعماق وحرّك فيّ مشاعر متناقضة ما بين المهني والوطني وبين السياسي والقانوني.
وللحادثتين أكثر من دلالة، في الأولى تحوّلت الأنظار من الاحتفال إلى السخط، ومن الفرح الذي أراده الرئيس بوش والحكومة العراقية إلى الحزن، ومن المباهاة بالديمقراطية إلى الضرب المبرح، وفي الثانية فرّ القتلة ولم يسمع العالم بما حصل، لاسيما وقد أصبح قتل المتميّزين في العراق أمراً روتينياً، ولم تكشف الحكومة ولا قوات الاحتلال بحكم مسؤولياتهما عن أية نتائج تحقيق، في حين لم يمض سوى بضعة أيام وحتى قبل استكمال التحقيق تم تسريب معلومات إلى الإعلام، ومن جانب جهات لا علاقة لها بالقضاء، ولاسيما من رئيس مجلس الوزراء، عن اعترافات لمنتظر الزيدي، رغم أنه قام بتكذيبها على الفور عبر فريق محامي الدفاع عنه، مؤكداً عدم اعتذاره.
وإذا كان الطبيب الخياط قد انضم إلى قافلة طويلة من الضحايا تعدّ بالمئات من الأطباء، فإن أكثر من نصف عدد الأطباء اضطر إلى مغادرة العراق، حيث كان يبلغ عددهم حسب إحصاءات نقابة الأطباء أكثر من 34 ألفاً، وإذا كان هذا العدد يتقلص بعد الاحتلال حيث بلغت حسب الإحصاءات نسبة المهاجرين أو الذين تركوا المهنة بحدود 20 ألفاً، وقد اطلعت على إحصاء مثير لا أدري إن توفرت الدقة فيه، حيث ورد في بيان لجهة تُدعى مجلس الاستشاريين العراقيين أن نسبة الأطباء الذين قتلوا بعد الاحتلال بلغت %14، وهي نسبة تمثل طبيباً واحداً لكل سبعة أطباء، ورغم أن هذا العدد يبدو كبيراً حتى لو كان نصفه أو ربعه أو عشره، والعهدة على الراوي كما يقال، لكن عدد الذين قتلوا بلغ المئات، وهي أرقام فلكية بلا أدنى شك.
وقبل أربع سنوات (أي مطلع عام 2005) ألقيتُ محاضرة في بيروت ضمنتها معلومات جمعتها خلال زياراتي الأربع في حينها إلى العراق، كما استقيت بعضها من مصادر عراقية (رئيس رابطة التدريسيين العراقيين الدكتور عصام الراوي الذي التحق هو الآخر بقافلة الضحايا لاحقاً وكذلك الدكتور وميض نظمي) إضافة إلى مصادر بريطانية نقلتها صحيفة الإندبندنت، التي ذكرت أن نحو 200 أستاذ أكاديمي وعالم عراقي قتلوا، ولعل هذا العدد قد تضاعف لاسيما بعد الذي حصل من تطهير طائفي ومذهبي إثر تفجيرات مرقدي الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في فبراير 2006 وما بعدها.
وإذا كان بإمكان كبار المسؤولين تلقي العناية الطبيّة في الخارج مثلما ذكرت الأخبار، فإنه ليس بإمكان أطفال العراق ونسائه وشيوخه والفقراء والكادحين بشكل خاص، تلقي مثل هذه العناية لا على حساب الدولة ولا على حسابهم الخاص، خصوصاً في ظروف العراق الاقتصادية والأمنية السيئة، بسبب عدم وجود مراكز طبية أو شحها أو عدم تمكنهم من دفع الأجور أو لعدم وجود الأطباء الذين اضطروا إلى الهجرة، وبغداد التي كانت تزخر بالأطباء الأكفاء وبالمستشفيات والمراكز الطبية المتقدمة أخذت بالتراجع بسبب الحروب، ثم خلال فترة الحصار الدولي، وأخيراً في ظروف الاحتلال وفيما بعد الهجرة.
إن الوضع الصحي في العراق ينذر بكارثة حقيقية، وذلك جراء التلوّث البيئي وعجز النظام الطبي، ناهيكم عن الجهل والمرض والفساد المالي والإداري والمحاصصات الطائفية والإثنية التي شملت حتى أجهزة وزارة الصحة أيضاً على حساب الكفاءة والحاجة، ولهذا عادت بعض الأمراض مثل الكوليرا (الهيضة) والرمد وأمراض البلهارسيا والسل كما تفيد تقارير لمنظمات طبية معتمدة، إضافة إلى أمراض جديدة مثل الإيدز وأمراض سرطانية زادت على نحو شديد، لاسيما بين الأطفال.
إن تدمير الكفاءة الأكاديمية والعلمية العراقية عن سابق إصرار، وبخاصة العقول والأدمغة التي اضطرت إلى الهجرة والتي هي أيضاً بحد ذاتها ثروة حقيقية تضاهي ثروات الموارد الطبيعية خصوصاً النفط والغاز وغيرها لاسيما إذا أخذنا جانبها الإنساني، يزيد من إدراك مدى الخسارة الفادحة التي شهدها العراق، ولعل تدمير الكفاءات العلمية والأكاديمية العراقية، إضافة إلى الأهداف السياسية والاقتصادية المباشرة، كان واحداً من أسباب ونتائج الغزو الأميركي للعراق، إذ لا يمكن ضمان ديمومة التقدم العلمي في العراق ورفاهية شعبه، في غياب هذه النخب اللامعة والكوادر المتقدمة، وإفراغ العراق من مخزونه الإبداعي والقيمي.
وقد اضطر المبدعون والأكاديميون والعلماء العراقيون إلى الهجرة أو النزوح تحت ضغط التهديدات المباشرة، وهكذا فإن عشرات الاختصاصات والكفاءات العلمية النادرة تركت مكانها الطبيعي واتجهت إلى المنافي البعيدة وابتعدت في أغلب الأحيان عن مجالات اختصاصاتها، ولا بدّ من التنويه هنا إلى أن محكمة «برتراند رسل» قامت بتوثيق أسماء العلماء والأكاديميين العراقيين الذين اغتيلوا في السنوات الخمس ونيف الماضية، وبمجرد قراءة الأسماء والاختصاصات وأماكن الميلاد، يمكن التوصل إلى استنتاج مثير وحاسم، أن العراق كان هو المستهدف وليس الدكتاتورية، فهؤلاء يمثلون الطيف السياسي والقومي والديني والمذهبي والإثني العراقي، وهم بحكم تنوّعهم يجسدّون نموذجاً للوحدة الوطنية العراقية، التي كانت مستهدفة، لاسيما بحكم المحاصصة الإثنية الطائفية، التي كرست انشقاقاً عمودياً في المجتمع العراقي، ما زال يعاني منه، بل ينزف بسببه.
كما أن هذا التنوّع والفسيفساء العراقية التي كانت مستهدفة تجعل المرء يفكر بأن هناك خطة استراتيجية واضحة يتم تنفيذها في جميع الحقول والقطاعات والميادين لإفراغ العراق من ثروته العلمية وعقوله وأدمغته وسعي محموم لإطفاء شعلة ما تبقى من مجتمعه الأكاديمي الذي عانى من حصار دولي جائر لمدة 13 عاماً ومن حروب عبثية ومغامرات داخلية وخارجية مدة زادت على ربع قرن من الزمان.
إن العلم غير محصور بطائفة أو قومية أو فئة، ولا يمكن تعويض الكفاءات العلمية بالشعارات والقرارات، ناهيكم عن أن هؤلاء العلماء يعبّرون بحكم انتمائهم للمجتمع العلمي العراقي عن هوية العراق وإرادته ووحدته، غير عابئين بالطائفة والجماعة أو المذهب الذي ينحدرون منه، بقدر إيمانهم بعلمهم وبالإنسان.
ألا تستحق هذه المعاناة التفاتاً من جانب من يعنيه استعادة العراق عافيته وسيادته وعقوله؟

1213
ثلاثة مخاطر أساسية تهدد الإعلاميين! (1- 2)
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
كان اتحاد الحقوقيين العرب وبالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر قد عقدا ندوة مهمة في عمان شارك فيها خبراء ومختصون وحقوقيون وإعلاميون عرب وأجانب، تحت عنوان «الإعلام وعلاقته بالقانون الدولي الإنساني»، وذلك لإدراك أهمية العلاقة ووثوقها بين العمل الحقوقي والإنساني من جهة، والوظيفة والمهمة الإعلامية المهنية والإنسانية من جهة أخرى.
وعلى الرغم من التطور الذي حصل في ميدان حماية الإعلاميين، باعتبارهم جزءاً من المدنيين أيضاً، فإن المجتمع الدولي مازال لا يولي اهتمامه الكافي بالإعلاميين، لاسيما في أوقات الحرب وفي مناطق النزاع، إذ لا يتمتعون بالحماية الكافية واللازمة التي تمكّنهم من أداء واجباتهم المهنية والإنسانية والأخلاقية، ولعل أحداث غزة ومحاصرة الإعلاميين وعدم السماح لهم بتغطية الانتهاكات السافرة والصارخة للقوات الإسرائيلية التي اجتاحت غزة، وقامت آلتها العسكرية بقتل المدنيين بوحشية وقسوة، لاسيما قصف مواقع لمنظمات دولية ومدارس وأماكن دينية وأثرية وجوامع وغيرها، هو أحد النماذج الصارخة للانتهاكات ضد الإعلاميين، حيث حاولت إسرائيل منعهم من القيام بواجباتهم المهنية والإنسانية لنقل الحقيقة.
وقد كان إطلاق سراح الزميل سامي الحاج (المصور في قناة الجزيرة) بعد احتجاز دام نحو 6 سنوات في سجن غوانتانامو دون توجيه تهمة محددة إليه، فرصة ثمينة رغم أنها قاسية ومأساوية، لإعادة البحث بشأن المسألة القانونية والأخلاقية، إزاء المخاطر الجسيمة التي تهدد الإعلاميين وتنتهك حقوقهم الإنسانية والمهنية. فقد ظلّت التشريعات الدولية حتى الآن قاصرة بشأن حماية الإعلاميين بما فيها قواعد القانون الدولي الإنساني، وإذا ما تتبعنا ذلك سنلحظ أن إعلان بروكسل لعام 1874 أشار إلى اعتماد مراسلي الحرب كأسرى عند وقوعهم في الأسر، ولم تحرز المسألة تطوراً كبيراً رغم تقدم تكنولوجيا الحروب والأسلحة.
وقد أخذ دليل أكسفورد الصادر عن المعهد القانوني الدولي 1880 هذا التوجه معتمداً اعتبار الإعلامي (الصحافي- المراسل) الذي يقع في قبضة المتحاربين باعتباره أسير حرب، ومع أهمية هذين النصين، إلاّ أنهما لا يرتقيان إلى النصوص التشريعية الملزمة، وظلّت صيغتهما فضفاضة وأقرب إلى التوصية منها إلى النص القانوني الملزم.
وجاءت قوانين لاهاي وهي المعاهدات الصادرة عامي 1899 و1907، لاسيما المادة 23 و42 على التوالي لتؤكد واجبات المتحاربين وحقوقهم، لكن الأمر ظل يشكل نقصاً واضحاً في القانون الدولي الإنساني، الذي لم يضع آليات ملزمة لتطبيق أحكامه بشأن حماية الصحافيين. وإذا ما توقفنا عند المادة 79 من بروتوكول جنيف الأول الصادر عام 1977 عن المؤتمر الدبلوماسي (وهو البروتوكول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة) فإنها جاءت مرنة وأقرب إلى التوصية كذلك، ولم ترتقِ إلى مصاف المادة التشريعية القانونية التي تلزم وتوجب إيجاباً شرطياً، وإن كانت قد حددت بعض المواصفات الخاصة بالصحافي كأن يحمل هوية ولديه ترخيص معين، لكن هذه قواعد للتخيير والجواز وليس للإلزام والالتزام التي تتطلب نصاً صريحاً بالحماية اللازمة.
وذهبت معاهدة جنيف الثالثة، لتأكيد نظام أسير الحرب (المادة الرابعة) وأكدت على صفة أسير الحرب، بمن فيهم المراسلون الذين يرافقون القوات المسلحة دون أن يكونوا جزءاً منها، وهؤلاء يمكن أن تنطبق عليهم صفة أسرى الحرب، وكانت اتفاقية جنيف لعام 1949 قد أكدت الصفة القانونية لمن يحمل تصريحاً من القوات المسلحة.
وإذا كان لا بد من تطوير القانون الدولي الإنساني مع التطور الإعلامي، فإن المادة 79 من بروتوكول جنيف الأول، الصادر عن المؤتمر الدبلوماسي 1977، فتحت الطريق لذلك وإن كانت بصيغة عمومية، الأمر الذي يستوجب دعم وتطوير الاتفاقيات الدولية لحماية الصحافيين في إطار حماية حقوق الإنسان، تمهيداً لمشروع معاهدة دولية لحماية الصحافيين تلك التي لم يسعفها النجاح بسبب الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، لاسيما خلال احتدام الصراع الإيديولوجي.
وإذا كانت المادة 48 من بروتوكول جنيف الأول قد فرّقت بين المدنيين والمقاتلين، لاسيما في الأماكن العامة والمناطق العسكرية، خصوصاً أن الإعلاميين يشكلون فئة خاصة من المدنيين، لهذا تنطبق عليهم صفة أسرى حرب، وينبغي معاملتهم معاملة أسرى الحرب دون تأويل أو تفسير، وبما أن المدني لا يحق له المشاركة في القتال، وبالتالي ستتبدل صفته، فالإعلامي لا يحق له أن يكون جزءًا من القوات المتحاربة، وبالتالي سيفقد صفته كمدني.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 518 الجمعة 23 يناير 2009 ,26 محرم 1430

1214
الانتخابات العراقية: الدستور والطائفية!!
عبد الحسين شعبان
باحث ومفكر عربي

حددت المفوضية العليا للانتخابات يوم 31 كانون الثاني (يناير) 2009 موعداً لإجراء انتخابات المحافظات، واحتدم النقاش والجدل مجدداً في العراق، حول آفاق التجربة الانتخابية ومخرجاتها، لاسيما وقد شهدت البلاد ثلاث حملات انتخابية، اثنتان منها للانتخابات العامة وواحدة للاستفتاء على الدستور الدائم، وذلك في غضون سنة واحدة فقط (ومن 30 كانون الثاني /يناير 2005 ولغاية 15 كانون الاول /ديسمبر من العام ذاته، في حين تم الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الاول /اكتوبر من العام ذاته أيضاً).
وكان قد تم تشكيل " المفوضية العليا للانتخابات" بموجب الأمر الاداري المرقم 92 الصادر من الحاكم المدني الامريكي للعراق (المدير الاداري لسلطة الائتلاف المؤقتة) بول بريمر في 31 أيار (مايو) 2004، أي قبيل مغادرته العراق بنحو شهر واحد، واعتبرت المفوضية هيئة مستقلة.
وبموجب قانون الانتخابات اعتبر كل فرد مرشح أو تكتل بالقائمة كياناً وتضم القائمة كحد أدنى 12 فرداً وكحد أقصى 275، وكان التصويت بموجب القائمة المغلقة، اذ ليس هناك من مجال لتغيير تركيب الاسماء أو مسحها من الناخبين، حيث تنتخب القائمة بالكامل، حتى وإن لم يتعرّف الناخبون على أسماء المرشحين، وإنما يتم الاختيار على أساس الرمز.
   وشملت الانتخابات البرلمان العراقي، إضافة انتخابات تخص اقليم كردستان، حيث تم انتخاب 105 عضواً، مثلماً صاحب الانتخابات بشكل عام  انتخابات لمجالس المحافظات في بغداد والمحافظات الأخرى.
   لم يشهد العراق منذ العام 1958 على أقل تقدير أية انتخابات تمثل الحد الأدنى من المعايير الانتخابية المعروفة أو حتى دونها بكثير، وظل المشهد السائد اطلاقياً وتسلطياً، حيث تتحكم فيه قوى حاكمة دون منافسة تُذكر، فيما لو قدر أن يتم الاضطرار الى اجراء الانتخابات، وظلّت الثقافة الانتخابية محدودة وشحيحة وما تزال حتى الآن، وتتحكم فيها قوى مذهبية واثنية حصلت على امتيازات منذ اليوم الأول للاحتلال، خصوصاً من بعد تعيينها في مجلس الحكم الانتقالي، الذي كان البذرة الأساس التي كرّست الطائفية السياسية.
ولذلك فإن الانتخابات التي جرت في العام 2005 لم تخرج عن هذه المقدمات، حيث لم تشهد فرصة كافية لنشر الثقافة الانتخابية، كما لم تكن الفترة كافية للمنافسة الانتخابية، خصوصاً في ظل بيئة أمنية غير سليمة، حيث ينتشر العنف والارهاب على نحو منفلت من عقاله، وفي ظل احتدام اجتماعي وسياسي ومذهبي واثني وعشائري شديد ومعقد.
وقد شهدت انتخابات العام 2005 (بغض النظر عن طبيعتها الشرعية والقانونية) اشكالات تتعلق بدقة المعلومات عن عدد السكان ونسب المكوّنات العراقية وحصة كل محافظة- ( في الانتخابات الثانية)، الأمر الذي أثار شكوكاً كثيرة بخصوصها. وكان قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية قد حدد 100 ألف نسمة لكل مقعد من مقاعد مجلس النواب، ليصبح عددها 275، لكن صدور قانون جديد للانتخابات أفضى الى توزيع المقاعد على المحافظات، بحسب نسبة الناخبين المسجلين وليس على أساس عدد السكان، الأمر الذي سبب فجوة كبيرة، مما أشاع حالات من التهميش او الاقصاء، فضلاً عن الاسباب السياسية المعروفة.
وكان تشريع القانون رقم 61 لعام 2005 قد حدد عدد أعضاء مجلس النواب ووزعهم على الشكل الآتي: 230 موزعون على الدوائر الانتخابية، و45 مقعداً تعويضياً، وإن المقاعد توزّع على الناخبين المسجلين في المحافظة بحسب الانتخابات الاولى (المعتمدة على البطاقة التموينية) وهو أمر يختلف عما ورد في الدستور الذي نص في مادته رقم 49 على ما يلي " يتكون مجلس النواب من عدد من الاعضاء بنسبة مقعد واحد لكل 100 الف نسمة من نفوس العراق يمثلون الشعب العراقي بأكمله، ويتم انتخابهم بطريق الاقتراع العام السري المباشر، ويراعى تمثيل سائر مكوّنات الشعب فيه ".
وكان بول بريمر قد برر تشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أساس المحاصصة الطائفية والاثنية بمنح حصة للشيعة 13 مقعداً و5 للسنة و5 للأكراد  وواحد للتركمان وواحد للكلدو أشوريين، بأنه لا توجد وسيلة أخرى لتشكيل المجلس، وإن البديل عنه هو الانتخابات التي ستلغي المحاصصة " التوافقية"، الاّ أن خارطة الطريق تلك استمرت حتى بعد الانتخابات، وكانت ما سميّ بالديمقراطية التوافقية- المحاصصاتية، هي التي تحكم بغض النظر عن النتائج أحياناً، فرئيس الجمهورية كردياً ورئيس الوزراء شيعياً ورئيس مجلس النواب سنياً، وهكذا انشق المجتمع عمودياً على أساس المحاصصة المحكومة بالاصطفافات المذهبية والطائفية والاثنية " من الوزير الى الخفير كما يقال"، وقد مهدت الانتخابات الاولى الى ذلك باعتمادها على القوائم المغلقة، الأمر الذي انعكس على تركيبة مجلس النواب، وكان في ذلك اضعافاً لمبدأ المواطنة، الاساس في الدولة الديمقراطية العصرية.
وإذا رجعنا للدستور العراقي الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 2005 والتي، وأجريت الانتخابات على اساسه لحكومة يفترض فيها أن تستمر لأربعة سنوات في 15 كانون الاول (ديسمبر) من العام ذاته، فقد أقرّ مبادئ التعددية، لاسيما في المادة الثالثة منه. وذهبت المادة الرابعة الى إقرار التعددية في اللغات أيضاً، بما فيها حق التعلّم بها، خصوصاً في المناطق التي فيها أغلبية سكانية ورغبة بذلك. وأقرت المادة 15 المساواة في الحقوق والحريات، إضافة الى مواد أخرى.
ولعل الدستور من حيث التوجه العام اعترف بمبادئ المواطنة والمساواة أمام القانون والعديد من مبادئ حقوق الانسان، رغم احتوائه على ألغام كثيرة تنسف أحياناً الحقوق والحريات الممنوحة، التي تعطيها بيد وتسحبها باليد الأخرى، حين تعلّقها على قضايا تتعارض معها نصاً أو تفسيراً أو تأويلاً.
ومن الاشكالات التي ستثير الكثير من الجدل هي نوع النظام الفيدرالي (الاتحادي) الذي تبنّاه الدستور، لاسيما وأنه أعطى الحق لكل محافظة أن تكون إقليماً ولها دستورها الخاص، وفي حال تعارض النصوص الدستورية والقانونية بين دستور الاتحاد ودستور الاقليم، فإن الغلبة لدستور وقوانين الاقليم بدلاً من دستور وقوانين الاتحاد، كما هو في جميع الأنظمة الفيدرالية في العالم.
ومنح الدستور الفيدرالي حقوقاً للأقاليم تقترب من الجزء المعطل مقارنة بالدستور اللبناني وتجاربه المريرة، مبرراً ذلك بحماية حقوق الاقلية، والمقصود بذلك المكوّن الثاني (الكردي) بعد المكوّن العربي، كما تشير الى ذلك الأوراق التفسيرية لمناقشات الدستور وما نشر عنه، ولعل مبررات ذلك هو الخوف من تغوّل الاغلبية عليها وفرض ارادتها، لاسيما ما عانى منه الأكراد تاريخياً.
   إن الكثير من نقاط الاحتكاك التي صادفت المتحاورين بخصوص قانون المحافظات والأقضية والنواحي، يعود مرجعها الى الدستور ذاته، وقسم منها الى شكل النظام الفيدرالي الذي تم تبنّيه، فكما نعلم في القانون الدستوري، هناك قواعد عامة تحكم علاقة السلطات الاتحادية بالسلطات الاقليمية، تتسع أو تتقلص تبعاً للعلاقة التي يتم تنظيمها دستورياً منها: وحدانية القوات المسلحة ووحدانية العلاقات الدبلوماسية الدولية ووحدانية العملة والخطط المالية والاقتصادية الكبرى، ووحدانية التصرف بالموارد الاساسية مثلما هو النفط والغاز وما سواهما وتنظيم طرق استفادة الاقاليم منهما، إضافة الى توزيع الثروة، أما قضايا التعليم والصحة والبيئة والسياحة والرياضة والبلديات وما سواهما فهي من صلاحيات السلطات الاقليمية.
   ولعل هذه الامور هي مصدر خلاف لا في النصوص الدستورية حسب، وبين الكتل والمكونات الاساسية، بل في التفسير والتأويل، الذي يمتد من الدستور نفسه، ليشمل قانون النفط والغاز وعلاقة البيشمركة بالقوات المسلحة، إضافة الى قانون المحافظات ومشكلة كركوك وغيرها.
فالبيشمركة تشكيل خاص أصبح نظامياً وهو سابق على تأسيس القوات المسلحة (الجديدة) بعد الاحتلال، ولا يراد له أن يخضع لها إلا شكلياً، إذ لا تستطيع السلطة الاتحادية تحريك جندي واحد دون موافقة السلطة الاقليمية. أما الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، فقد كان النص الدستوري بشأنها ملتبساً حين اعتبرها ملكاً للشعب، لكنه منح حق إدارة الحقول المستخرجة الى السلطات الفيدرالية بالتعاون مع سلطات الأقاليم، أما في الحقول غير المستخرجة، فقد وضع إدارتها بيد الأقاليم بالتعاون مع السلطات الاتحادية، وحصل الاحتدام في الموقف حين وقعت سلطات اقليم كردستان على عقود لاستخراج النفط مع شركات أجنبية، فاعترضت وزارة النفط، بل وهددت بعدم التعامل مع الشركات المذكورة أو تسهيل مهماتها في العراق، وهو الذي عطّل إمرار هذه الاتفاقيات من جهة، إضافة الى قانون النفط والغاز نفسه من جهة أخرى.
وانفجرت مشكلة العلم العراقي الواحد الموّحد، حين اعترضت السلطات الاقليمية في كردستان عن رفعه، وأصرّت على رفع علمها الخاص، لحين تغيير العلم العراقي، مثلما ظلّت مشكلة كركوك مستعصية على الحل، بل أحد ألغام الوضع العراقي، منذ وقت طويل، ولم ينفع ادراج حلول مقترحة لها في المادة 58 من قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية، أو ترحيلها الى المادة 140 من الدستور الدائم، وهدد مجلس محافظة كركوك الذي يضم أغلبية كردية، يعترض عليه العرب والتركمان، بالانضمام الى اقليم كردستان.
   وتثور حالياً مسألة الأقليات فقد كان تصويت البرلمان العراقي على قانون المحافظات والأقضية والنواحي، الذي ستجرى انتخابات على أساسه، محيّراً، فالدستور نصّ على حقوق الأقليات، وهو أمر لم ترفضه القوى والكتل الممثلة بالبرلمان، لاسيما الكبيرة منها، في حين أن إلغاء المادة 50 اعتبر إقصاءًا للمكوّنات القومية والدينية، الأمر الذي دفع المسيحيين (الآشوريين والكلدانيين والسريان) للاحتجاج والخروج بتظاهرات استنكارية، مثلما احتج الصابئة والأيزيديون والشبك والأكراد الفيليون.
ولعل مشكلة كركوك المؤجلة، لاسيما بعد اقتراح ممثل الأمم المتحدة دي ميسورا، وهي مشكلة معتقة ومزمنة، إضافة الى إلغاء المادة 50 رغم اعتراض ممثل الأمم المتحدة قد أعاد الكرة الى المربع الأول، وأعقب ذلك استهداف المسيحيين في الموصل وقتل أحد عشر منهم، واضطرار نحو ألف (1000) عائلة الى الهجرة طبقاً لتصريحات محافظ الموصل دريد محمد كشمولة، وهو ما يضع العملية السياسية برمتها أمام مخاطر جديدة وجدّية، خصوصاً بعد اتساع دائرة العنف خلال الاربعين يوماً الماضية، بما فيها التفجيرات والعبوات الناسفة والانتحاريات وعمليات القتل.
وحسب نسب تمثيل الاقليات فإن بغداد ستضم 3 مسيحيين و3 آخرين في نينوى، إضافة الى يزيدي واحد وآخر من الشبك في محافظة الموصل. أما مسيحيو كركوك فسيكون لهم اثنان وكذلك اثنان في دهوك وواحد في اربيل وواحد في البصرة، لكن التفجيرات والاغتيالات الأخيرة أعادت الى الأذهان ما تعرض له المسيحيون بشكل خاص، والاقليات بشكل عام، فقد تعرضت الكنائس والأديرة في الموصل وكركوك وبغداد والبصرة الى تفجيرات، إضافة الى الملاحقة والقتل، بل ارغامهم على تبني مواقف لا يرتضونها وأحياناً تتعارض مع تعاليم دينهم مثل فرض الحجاب على المسيحيات واغلاق محلات بيع الخمور أو قتل  أصحابها من المسيحيين أو قتل أصحاب صالونات الحلاقة لاسيما النسائية، تحت حجج وأسباب واهية، وهو الأمر الذي جعل أعداداً كبيرة منهم تفكّر بالرحيل، إضافة الى العديد من أبناء الاقليات الأخرى.
فما الفائدة في نصوص دستورية صمّاء وحقوق على الورق وخرساء، في حين تجري عملية تصفية حقيقية لكياناتهم، الأمر الذي يضع المسؤولية في تفتيت الوحدة الوطنية العراقية على عاتق قوات الاحتلال، خصوصاً انفجار موجة العنف، إضافة الى تمزيق النسيج العراقي، الذي يحفل بألوان فسيفسائية وموزائيكية، كان مصدر قوة للعراق المتنوع المتعدد، وهو ما يضع المسؤولية أيضاً على عاتق الحكومة العراقية، التي لم تستطع حتى الآن من تأمين مستلزمات أولية لأية حكومة، تتلخص في حماية أرواح وممتلكات المواطنين وفرض النظام والأمن العام  عي الجميع.
وإذا كان هناك من مسؤولية تقع على عاتق الارهابيين، لاسيما تنظيمات القاعدة، فإن الحكومة ومعها القوات المتعددة الجنسيات قالت انها تقوم منذ أشهر بحملة تنظيف لوجودها، الأمر الذي أثار شكوكاً كبيرة، وبخاصة اندلاع حالة من الرعب والهلع بعد عمليات الاغتيال المنظمة التي طالت المسيحيين.
ليس بإمكان المسيحيين أو سواهم من الاقليات تأسيس ميليشيات مسلحة أو صحوات وليس لديهم عشائر أو قبائل لتحميهم أو تدافع عنهم، وإذا لم تتمكن الدولة تأمين ذلك، فمن سيفعل ذلك، لاسيما في ظل الفلتان الأمني والإرهاب وأعمال العنف.
إن حماية المواطنين وتأمين سلامتهم وحياتهم وممتلكاتهم أولى من مناقشة درجة تمثيلهم في مجالس المحافظات أو الأقضية أو النواحي، وهي وإن كانت مهمة الاّ أن الأمر ينبغي أن ينصرف للحماية أولاً ولإزالة الألغام من الدستور ثانياً وتأمين الوحدة الوطنية ثالثاً، وفيما بعد تهيئة مستلزمات سليمة لاجراء انتخابات شفافة، الأمر الذي يتطلب اعادة النظر بكل المقدمات، لاسيما بقانون الانتخابات وبالتوافقات القلقة، التي ستكون حجر عثرة أمام تقدم العملية السياسية ذاتها قبل غيرها. وإذا كان الاعتقاد بأن توقيع المعاهدة الامنية مع واشنطن سيساعد في تعزيز الوضع السياسي، الاّ ان استمرار حالة الاحتدام والتمترس الطائفي تؤشر الى أن النتائج الانتخابية، سوف لا تكون أحسن حالاً من النتائج التي سبقتها.
صحيح ان الكتل السياسية الاساسية لم تبقَ على حالها وإنما تعرضت الى الانشقاق والانقسام، باستثناء كتلة التحالف الكردستاني، الا أن المشهد العام ظلّ يحمل ملامح الاصطفافات الطائفية والاثنية، بل إن الجو العام مشبع برائحتها. انقسمت كتلة الائتلاف الوطني (الشيعية)، بخروج جماعة السيد مقتدى الصدر وحزب الفضيلة، اللذان صوّتا ضد الاتفاقية الأمنية، وكذلك بعض المستقلين، وتأسيس الدكتور ابراهيم الجعفري رئيس الوزراء السابق حزباً جديداً باسم الاصلاح الوطني، معلناً انهاء علاقته بحزب الدعوة الذي لم يبقى منه سوى الاسم حيث يتوزع على مجموعة كتل بالاسم ذاته. وبقي التحالف بين حزب الدعوة (الأساسي) بقيادة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي والمجلس الاسلامي الأعلى بقيادة السيد عبد العزيز الحكيم مهلهلاً وينذر بالتشظي والمنافسة الحادة، خصوصاً بعد تشكيل حزب الدعوة مجالس الانقاذ، ودعوة بعض الاطراف الى فيدرالية البصرة.
اما جبهة التوافق الوطني(السنية)، فقد كان اجبار رئيس البرلمان العراقي محمود الهاشمي على الاستقالة، الشعرة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، فانسحب من الجبهة متهماً إياها بالتآمر عليه،  وقد انسحب مجلس الحوار بقيادة خلف العليان ومعه بعض المستقلين، كما ان جبهة الحوار بقيادة صالح المطلق قد انقسمت بخروج بعض اعضائها وتصويتهم ضد الاتفاقية الامنية، وتدهورت كتلة علاوي وتضعضعت الى حدود كبيرة، أما جماعة مشعان الجبوري (كتلة المصالحة والتحرير) فقد ضعفت بسبب مغادرة الجبوري العراق، وكذا الحال بالنسبة للكتلة العربية، أما النواب من المسيحيين أو التركمان او المجموعات الأخرى فلا تأثير لها.
اعتقد أن نتائج انتخابات المحافظات سوف لا تكون أحسن حالاً من الانتخابات النيابية، وستكون هذه بروفا للانتخابات القادمة نهاية العام 2009، لكنها ستتميز عن انتخابات العام 2005 بتوزعها على عدد من الكتل إذ من المفترض أن تكون كتلة الائتلاف قد توزعت على ثلاث أو أربع مجموعات وكذلك كتلة التوافق على مجموعتين أو ثلاث مجموعات، الأمر الذي سيعزز الورقة الكردية ويضعف بقية الاوراق إن لم تجرِ هناك تحالفات واصطفافات بين الكتل المختلفة. قد تكون  ثمة إيجابيات لتفتت القوى الكبرى، لكن غياب كتل سياسية وعلى أساس غير طائفي أو اثني نقطة الضعف الكبيرة التي ستصاحب هذه الانتخابات والانتخابات النيابية طالما بقي الدستور على حاله ودون تعديلات أو تغييرات جوهرية.





نشرت في صحيفة الشروق الاماراتية العدد 875-887 تاريخ 12-18/1/2009

1215
عملية «الرصاص المنصهر»: غزة و«الثأر المبرر»!
عبدالحسين شعبان
2009-01-19
حسب المصادر الإسرائيلية فإن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك أمر قوات من جيش الدفاع الإسرائيلي بتحضير عملية الاجتياح منذ ستة أشهر، رغم أن إسرائيل كانت بصدد مفاوضات جديدة للاتفاق على وقف إطلاق النار مع حماس (بعد عملية التهدئة).
جدير بالذكر أن إسرائيل قامت بخرق الهدنة ليلة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت يوم 4 نوفمبر 2008، وقد استغلت إسرائيل هذا الظرف لتقوم بقصف غزة، مدعية أن حماس تباشر حفر أنفاق داخل الأراضي الإسرائيلية، فأقدمت على حصار مُحكم وشامل لغزة بمنع الطعام والطاقة والإمدادات الطبية الضرورية بهدف إجبار الفلسطينيين على الاستسلام، لاسيما بالتلويح بالاجتياح الشامل بعد قيامها بتوغل عسكري جزئي. وقد شملت عملية الحصار إغلاق المعابر وإقفال الحدود وقطع صلة قطاع غزة بالعالم الخارجي، الأمر الذي جعل نحو مليون ونصف مليون فلسطيني في حالة اختناق كامل، كأنهم يعيشون في سجن كبير أو قفص، يمكن اصطيادهم في أية لحظة!
ثم شرعت إسرائيل بعد يومين من عيد ميلاد السيد المسيح وبالتحديد يوم 27/12/2008 بحملة عسكرية شاملة مصحوبة بسلسلة منظمة من وسائل الدعاية والعلاقات الدولية، وتحت إدارة وزيرة الخارجية تسيبي ليفني التي قدّمت فيضاً من المزاعم والمبررات لاجتياح غزة وإلقاء اللوم على حماس وصواريخها، أما الهدف الحقيقي لهذه الحملة فقد كان يتجلى في الإبادة الجماعية بحيث تنعدم سبل الحياة الطبيعية، خصوصاً بتدمير البنية التحتية وتخريب الآثار الثقافية والجوامع والمستشفيات ودور العلم.
إن هدف عملية «الرصاص المنصهر» هو إحداث أكبر ضرر في صفوف السكان المدنيين عن سبق إصرار لدرجة تصبح معها الحياة في غزة مستعصية، الأمر الذي قد يمهّد، بنظر الإسرائيليين بعد حصول الكارثة الإنسانية، إلى تمردات ضد حماس والانقلاب عليها وتحميلها مسؤولية ما حدث من جانب السكان المدنيين، لاسيما بعد انتهاء المعارك، أما الهدف الأبعد فهو إجبار الفلسطينيين على ترك الأراضي الفلسطينية والرحيل إلى المنافي البعيدة بعد استعصاء وجودهم جراء الهجوم العسكري المستمر عليهم.
وتعتقد إسرائيل أن تخريب الممتلكات والأماكن الثقافية ودور العبادة والعلم والحياة المدنية اليومية بشكل عام، سيمهّد لها لتحقيق مآربها.
لاسيما بعد حصار المدن والقرى وجعل ممارسة الحياة الاقتصادية العادية أمراً غير ممكن، بحيث يصبح الوصول إلى أماكن العمل والمدارس والمستشفيات من الأمور المضنية، مما سيشجع الهجرة ويضعف نزعات مقاومة الذهاب إلى المنافي في المستقبل.
إن عملية «الرصاص المنصهر» نضجت هذه الأيام، وكانت إسرائيل قد تعكّزت عليها لانطلاق ما أطلقت عليه اسم «الثأر المبرر»، الذي هو ردّ فعل لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي بدأت في 28 سبتمبر عام 2000 بعد وصول اتفاقيات أوسلو عام 1993 إلى طريق مسدود، خصوصاً ببقاء القضايا الأساسية دون أي أفق للحل، وهي تتعلق بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وحق العودة للاجئين وتفكيك المستوطنات ومسألة الحدود وغيرها.
وكان وصول أرييل شارون إلى سدة الحكم عام 2001 قد حرك هذا الملف العسكري المخابراتي واستعمل الموساد الإسرائيلي لأول مرة في عهده خطة «الثأر المبرر» بقصف طائرات «أف 16» المدن الفلسطينية، كما أن رئيس الأركان شاؤول موفاز قد تقدّم في شهر يوليو 2001 بخطة إلى حكومة شارون لتحطيم السلطة الفلسطينية ونزع سلاح كل التنظيمات المسلحة، وكان الاسم الرمزي لها «الثأر المبرر»، وكانت الخطة في حينها تعني إعادة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد كانت «واشنطن تايمز» قد نشرت خبراً عنها في مارس 2002، لكن سبب تأجيلها هو الخوف من سقوط مئات من الإسرائيليين.
هكذا بدأت الخطة للتحطيم الشامل وسارت عبر مراحل، الأولى محاصرة عرفات وصولاً إلى إنهائه، أما الثانية فتتعلق بدق الأسافين بين فتح وحماس وتغذية الخلافات بينهما وفصل المجموعات عن بعضها البعض، والثالثة إبقاء قيادات المقاومة لاسيما مروان البرغوثي في السجن وعزله عن التأثير المباشر، والرابعة محاصرة غزة بعد قيام سلطتين في الضفة والقطاع تحت باب التطرف الإسلامي وصواريخ حماس، أما الخامسة فقد استندت إلى تبرير سفك الدماء وقتل المدنيين طالما هم تحت سلطة حماس.
وقد سُميّت عملية الثأر المبرر بـ «خطة مائير دوغان» على اسم الجنرال مائير دوغان رئيس الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، وهو حسب المصادر الإسرائيلية استهدف تحطيم السلطة الفلسطينية ووضع ياسر عرفات خارج اللعبة، وعمل دوغان على تقسيم السلطة الفلسطينية إلى كانتونات ومناطق عزل وتفتيت الأراضي الفلسطينية مبتدئاً ببناء جدار الفصل العنصري وعزل الضفة عن القطاع وقيام حكومتين.
بحيث تتذرع إسرائيل أنها تتفاوض مع الطرف المعتدل، لاسيما في القضايا الأمنية والمخابراتية ولا تعترف بالطرف المتطرف والحكومة المُقالة، رغم أنها جاءت عن طريق الانتخابات الشرعية.
وقد صمم مائير دوغان خطته تلك بالتنسيق مع بعض الأميركيين، والجدير بالذكر أن دوغان عمل مع شارون جنباً إلى جنب عام 1982 عند غزو لبنان وصولاً إلى العاصمة بيروت، واجتياح المخيمات الفلسطينية، ولعل عملية «الثأر المبرر» تشبه في بعض جوانبها غزو بيروت برياً، الأمر الذي وضع سياقاً لتنفيذ الخطة القديمة الجديدة، فقد كانت العمليات البرية مسبوقة بقصف مدفعي ثقيل، مشعلة النار مع تصاعد اللهب في السماء، وهو ما سمي بالقنابل الفسفورية، تمهيداً للقيام بمجازر كبيرة بحق السكان المدنيين وقتل أكبر عدد منهم، لاسيما باستخدام أسلحة غير معروفة تجرّب لأول مرة، الأمر الذي أحدث ردود فعل عالمية شديدة ضد الممارسات الإسرائيلية في غزة، لم يضاهها رد الفعل العربي في حجمه وكثافته وتأثيره.
ومع تقدم الآلة العسكرية الإسرائيلية فإن صمود أهالي غزة ومقاومتهم للاحتلال، رغم انقضاء ثلاثة أسابيع على عملية الرصاص المنصهر، قد أحبط الأهداف التي أعلنتها إسرائيل واستهدفتها من وراء هذه العملية.
لقد كانت خطة دوغان عام 2001 تقوم على ما يلي: غزو أراضي السلطة الفلسطينية بـ 30 ألف جندي إسرائيلي والهدف هو تحطيم البنية التحتية ومصادرة السلاح من جميع القوى الفلسطينية وقتل أو طرد القيادات العسكرية، وفي خطوة لاحقة سيتم تهجير مكثف لسكان القطاع، لاسيما بعد اتساع الغزو البري وفتح الحدود لنزوح السكان، استرشاداً بنموذج الترانسفير الفلسطيني الذي نفذته إسرائيل عام 1948 وقد كان شارون يردد أنه من الضروري إيجاد دولة أخرى للفلسطينيين بإشارة إلى أن الأردن هو فلسطين!


صحيفة العرب القطرية العدد رقم 7526 الإثنين 19 يناير 2009 م ـ الموافق 22 محرم 1430 هـ

1216
غوانتانامو والعدّ العكسي!

عبدالحسين شعبان
2009-01-12
يتساءل العالم أجمع: هل سيفي الرئيس أوباما بوعوده الانتخابية بعد وصوله إلى سدّة الرئاسة، لاسيما بعد أن فاحت الرائحة الكريهة لسجن غوانتانامو؟ وهذا السؤال يطرح الإشكالية على نحو محدود: هل بدأ العدّ التنازلي فعلاً لإغلاق هذا السجن؟ ومتى سيقدم الرئيس أوباما على هذه الخطوة، إنْ كان قد اتخذ قراراً بشأنها؟
كل هذه الأسئلة المثيرة والحائرة تطرح على بساط البحث، خصوصاً بعد الاتهامات الخطيرة التي تم توجيهها للإدارة الأميركية بشأن انتهاكات حقوق الإنسان ومخالفة اللوائح الدولية بخصوص معاملة السجناء، ومن ضمنها اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 وقواعد القانون الدولي الإنساني، والتي تم وضعها على الرف بشأن موضوع الأسرى في «تخريج» غير قانوني بأن بعض السجناء لا تنطبق عليهم صفة الأسير، وبالتالي فهم غير خاضعين لقواعد القانون الدولي، خصوصاً ما أطلق عليهم «الأعداء المقاتلون»!
وبغض النظر عن هذه المبررات أو المسوّغات والجدل القانوني بشأن أوضاع السجناء والقوانين التي تحكمهم، فإن تعاملاً لا إنسانياً قد حصل وما يزال مستمراً مع السجناء، وهناك تجاوزات خطيرة على حقوقهم، خصوصاً عزلهم بالطريقة التي يظهرون فيها، وتعرضهم للتعذيب كما أفاد أكثر من شاهد، فضلاً عن أن بعضهم مضى على وجوده أكثر من 6 سنوات دون محاكمة أو حتى دون تهمة محددة، الأمر الذي يتعارض مع القواعد القانونية وأصول المحاكمات والإجراءات الجزائية، فهل بإمكان أوباما، وبخاصة بعد الاحتفالات العالمية بالذكرى الـ 60 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إغلاق السجن المذكور؟ وكيف سيتم ذلك؟ إذ إن الطريقة التي سيتم فيها إغلاق السجن لا تقل أهمية عن موضوع إغلاق السجن ذاته، فالسجن ليس مكان احتجاز عادي لسلب الحرية فحسب، بل أصبح رمزاً للظلم والتعسف ومجافاة العدالة، وهو يعني أن الولايات المتحدة ستعترف بأنها خالفت القيم والمبادئ الدولية لحقوق الإنسان التي كانت، ليل نهار، تمطر العالم بزخّات كثيفة عنها باعتبارها بلد العسل والحليب والحرية، فكيف ستقرّ بانتهاكاتها تلك، وإذا بها ستكون المرتكب؟ وكيف سيتلقى المجتمع الأميركي والدولي مخالفة من هذا النوع للدستور الأميركي والقوانين الأميركية أيضاً؟!
ولكن ماذا سيكون مصير السجناء أو المعتقلين فيما إذا قرر الرئيس أوباما إغلاق السجن؟ فإذا نُقلوا إلى الولايات المتحدة دون تغيير السياسات، فهذا سيعني نقل السجن وليس إغلاقه، وبذلك ستبقى المسألة مستمرة والمعاناة قائمة والاحتجاج الدولي سيتصاعد، وبالتالي ستواجه إدارة أوباما مشكلة مستعصية ومريبة، والأمر ينسحب أيضاً على ما حصل في سجن أبوغريب أو السجون الأميركية الأخرى في العراق، وكذلك على السجون السرية الطائرة والسجون البحرية العائمة.
ولعل إغلاق السجن يتطلب أولاً وقبل كل شيء تحضيرات كافية لدراسة ملفات السجناء، حيث استقبل سجن غوانتانامو في بداية الأمر نحو 800 سجين في العام 2002 نقل معظمهم إليه من أفغانستان، ثم أطلق سراح عدد منهم دون توجيه تهم محددة إليهم. ويبدو أن ما تبقى في سجن غوانتانامو يقارب 255 سجينا ينقسمون إلى ثلاث فئات:
-   الفئة الأولى: سجناء متهمون بارتكاب جرائم ضد الولايات المتحدة.
-   الفئة الثانية: سجناء متهمون بارتكاب جرائم في دول أخرى.
-   الفئة الثالثة: سجناء غير متهمين بارتكاب جرائم ولكن تم الاحتفاظ بهم احترازاً. وهذه المجموعة لا توجد أدلة تدينها، وبالتالي يمكن إطلاق سراحها وتعويضها. وليس من العدالة والإنصاف الاحتفاظ بها لمجرد الشبهات أو للانتقام، كما أن إطلاق سراحهم أي (المتهمون) لا يشكل خطراً على أمن الولايات المتحدة، بل على العكس فإن مثل هذه الاعتقالات ألحقت ضرراً كبيراً بسمعة الولايات المتحدة، كما أن تكاليفها ستكون باهظة عليها مادياً ومعنوياً.
أما المجموعة المتهمة بارتكاب أعمال جرمية في بلدان أخرى فيمكن محاكمتها (على الأقل) وفقاً لمعايير العدالة الدولية وشروط المحاكمات العادلة، وذلك بالتعاون مع الدول الأخرى، لاسيما إذا تم تسليم المتهمين إليها، مع الأدلة والمستمسكات الضرورية واستدعاء الشهود وتحضير التحقيقات الخاصة في تقارير مناسبة.
وتبقى المجموعة المشتبه بارتكابها جرائم ضد الولايات المتحدة، فقد تصر الولايات المتحدة على نقل المتهمين إليها ليمثلوا أمام المحاكم الفيدرالية، وليحاكموا بتهمة ارتكاب جرائم الإرهاب الدولي.
ولعل من المناسب التذكير أن ست سنوات انقضت على فتح معتقل غوانتانامو الرهيب، ولم يكن هذا السجن فزّاعة للسجناء فحسب، بل كان عاملاً مؤرقاً للإدارة الأميركية وللأخلاق الدولية بشأن احترام حقوق السجناء، ناهيكم عن التجاوز السافر والصارخ لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وقد أدانت المنظمات الحقوقية الكبرى ما حصل في سجن غوانتانامو مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان، والفيدرالية الدولية، والمنظمة العربية لحقوق الإنسان وغيرها.
وإذا كانت إدارة بوش قد تعاملت مع السجناء على أنهم الأسوأ، بل إنهم أسوأ سجناء العالم وأخطرهم، فهل ستتعامل إدارة أوباما معهم كذلك؟ أم أنها ستعيد النظر في الملفّات، وتسعى لإرسال رسالة جديدة للعالم بأن واشنطن تنوي تغيير بعض سياساتها وتوجهاتها بمراعاة اللوائح والقوانين الدولية التي قامت واشنطن بانتهاكها على نحو سافر منذ تسيّدها في العلاقات الدولية، خصوصاً بعد انتهاء عهد الحرب الباردة وانحلال الكتلة الاشتراكية، وتحوّل الصراع الأيديولوجي من طور إلى طور، لاسيما بعد اعتبار الإسلام والأصولية الإسلامية الخطر الجديد الذي ينبغي وضع حد له، خصوصاً وأنه دين يحض على العنف والإرهاب والتعصب!
وعلى أية حال فإن مفاتيح الحل بيد أوباما وسيظل العالم ينتظر ماذا سيتمخض عنه خياره الحالي ووعوده التي قطعها في الحملة الانتخابية! ولكن من المهم أيضاً هل ستتوفر الضمانات القانونية لمحاكمة المتهمين؟ ثم ما هي القوانين التي سيتم محاكمتهم استنادا لها؟ وأي المحاكم ستنظر في قضاياهم؟


صحيفة العرب القطرية العدد 7519 الإثنين 12 يناير 2009 م ـ الموافق 15 محرم 1430 هـ

1217
غزة: أمتان بل عالمان

عبدالحسين شعبان

 

هتف لينين وهو يتجوّل في أحياء الفقراء في لندن، بعد أن شاهد أحياء الأغنياء: أمتان... بمعنى الاختلاف والتناقض والصراع، فعالم المتخمين والكسالى، يختلف عن عالم المحرومين والمكدودين، إنهما بالفعل يمثلان نموذجين مختلفين من العيش والتفكير والهموم والأحلام.

كنت أستعيد ذلك خلال تجوالي في شوارع وأحياء ساوباولو وريو دي جانيرو قبل أن يداهمني زلزال غزة، ليقطع عليّ متعة الاستذكار والتأمل، ففي غزة التي تعيش محنة الاحتلال والحصار والعدوان والقتل، ينعم إلى جانبها المحتل بكل ما تيسّر من سبل العيش الحديث والرفاهية، في حين تغرق هي في ظلام دامس محرومة من قرص الرغيف وحبّة الدواء وقطرة الماء وحليب الأطفال، لاسيما عشية رأس السنة.

وفي ظل العولمة، ولاسيما وجهها المتوحش، يستشري الاستغلال والقهر على نحو مريع، ويتجاور التعساء والمحظوظون، كما الفقراء والأغنياء، المالكون و”المملوكون”، تفصل بينهم أسلاك شائكة ومياه آسنة وسياجات عالية، تخفي وراءها، عالمين وواقعين وطموحين لا يجتمعان أحياناً، إلاّ خضوعاً أو مجابهة، سلماً أو عنفاً، ما دامت العدالة معدومة أو شحيحة في هذا العالم الغريب، مثلما يتجاور اليوم في غزة المحتل والغاصب الى جانب المُستلب والمغصوب.

وقبل أن تحضر غزّة بكل ثقلها الذي لا ينازعه شيء هذه الأيام، وبكل بهائها ومقاومتها وجمالها، استحضرت الجواهري الشاعر الكبير، الذي كان يردد دائماً في جلساته الخاصة وعلى مسامع بعض زواره، أنه عاش في مدينتين من أجمل أربع مدن في العالم، هما باريس وبراغ، أما المدينتان الأخريان فهما: فيينا وريو دي جانيرو، حيث عاش في باريس أواخر الاربعينات وخلّد “أنيتا” فيها بخمس قصائد بعد قصائده النارية إثر وثبة كانون الثاني/يناير العام 1948 وقصيدته الشهيرة بعد معركة الجسر وقصيدته الى أخيه جعفر وقصيدته أتعلم أم أنت لا تعلم وقصيدته في ساحة السباع حيث تأسس أول اتحاد طلابي في العراق في 14 نيسان/ابريل ،1948 تلك التواريخ التي لها صدى في نفسي وذكريات عشتها طفلاً حتى تصلّب عودي كما يقال!

أما المدينة الثانية التي عاش فيها الجواهري فكانت براغ التي جاءها العام 1961 بعد خلافه الشهير مع الزعيم عبدالكريم قاسم وبقي فيها سبعاً عجافاً حتى العام 1968 وخلّدها بعدد من القصائد، لعل أبلغها وأكثرها خلوداً هي قصيدته “يا دجلة الخير”، وكنت قد سألته: ماذا كان في المنفى يا أبا فرات: زمهرير الغربة أم فردوس الحرية؟ فأجابني: “الاثنان معاً.. أي والله”، وكان قد تردد على المدينة الجميلة الثالثة فيينا عدة مرّات، ولعل قربها من براغ خلق لديه الاحساس بأنه قريب من العيش فيها.

كانت المدينة الرابعة ريو دي جانيرو التي ظل يحلم بها، والتي كثيراً ما ذكرها كأجمل مدن الدنيا: من جمال الطبيعة الى جمال الخلق والعمران البشري وسحر أهلها وطعامها وثرواتها وجبالها ونسائها: يا الله كان يحلم بذلك..! كل تلك الحكايا والنقاشات استعدتها على نحو تفصيلي، ولم أكن أدري أنها ستنقطع على حين غرّة، ومعها تتشظى متعتي وتأملي ورغبتي في الاكتشاف والاستذكار والمعرفة، لاسيما بعد وصول أخبار غزة التي أضافت الى همومي العراقية واللبنانية والفلسطينية بشكل عام هماّ جديداً، ولعلها أبت أن تتركني الاّ وأنا مشدود أمام شاشة تلفزيون الCNN  منكسراً وحزيناً، لاسيما لما يحصل للسكان المدنيين من كارثة إنسانية حقيقية باعتراف ليس اللجنة الدولية للصليب الأحمر وحسب، بل حتى من الذين لا يريدون إدانة “إسرائيل” على فعلتها النكراء من أصدقائها.

ولعل ما زاد حزني هو الانكفاء العربي والبحث عن حلول لا ترتقي إلى معالجة ما حصل، ناهيكم عن أسبابه، بل البحث في تسوية دون الحد الأدنى من الأمر الواقع احياناً، لدرجة أن مطلب وقف القتال وهو مطلب إنساني بلا أدنى شك، يصبح أكبر انتصار يتحقق، فما بالك بإدانة العدوان ومساءلة المعتدي.

لقد ساهمت أحداث غزة في تعميق الانشطار العمودي على المستوى الدولي، لاسيما بين من يدعم العدوان ويبرئ ساحته ويلقي اللوم على الضحية، وبين المنتصرين للضحية ولعدالة قضيتها ولحق الشعب العربي الفلسطيني في الانعتاق وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.

لقد تم بناء جدار الفصل العنصري رغم اصدار محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً باعتباره يخالف قواعد القانون الدولي المعاصر والقانون الدولي الانساني واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام ،1977 الأمر الذي لا يتطلب تفكيكه حسب، بل تجريم “إسرائيل” باعتبارها قامت بعمل عدواني يتعارض مع قواعد القانون الدولي، وهو الأمر الذي لا بدّ من مقاضاتها بشأنه، لاسيما عدوانها الأخير على غزة فضلاً عن حصارها المستمر وهو بمثابة عمل إبادة جماعي موجه ضد الإنسانية وعمل عنصري يستهدف استئصال جماعات بشرية وسلالية، وهو ما سبق “إسرائيل” أن مارسته بعمليات الإجلاء السكاني والطرد الجماعي لسكان فلسطين. إن ما يحصل في غزة ولاسيما ردود الفعل العالمية التي لم تكن بالمستوى المطلوب تؤكد أن العالم يزداد انقساماً وربما سيكون انقساماً حاداً إلى عالمين متناحرين، فالعالم “المتحضر” والذي يدعو لاحترام حقوق الإنسان، يسكت ويتواطأ أو يشجع العدوان بحجة صواريخ حماس ضد “إسرائيل”، من دون أن يكون معنياً بهضم حقوق شعب فلسطين وممارسة العدوان عليه وعلى الأمة العربية طيلة ما يزيد على ستة عقود من الزمان، والعالم الآخر ما زال مستلباً بفعل الهيمنة والاستتباع الخارجي، إضافة الى الاستبداد وقمع الحريات  وعدم التوزيع العادل للثروة على المستوى الداخلي، بحيث أن تعساء العالم يصبحون محكومين من جانب سفهائه بالاستغلال والطغيان الخارجي والاستبداد والكبت الداخلي.

ولعل حشد جهود المظلومين في كل مكان، سيكون المدماك الأساسي لوقف الاستلاب المزمن والمستمر لشعب فلسطين، الذي كان استغلاله وتشتيته عنواناً أساسياً و”أممياً” من عناوين الاستغلال البشع للعالم المتوحش، الذي لا يضع أي اعتبار للرحمة أو العدالة أو الحقوق الانسانية، وهذا الأمر سيزيد العالم شرخاً ويخطئ من يظن أنه سيتوقف عند حدود غزة، أو العراق أو أفغانستان أو لبنان أو غيره، بل سيسهم في إيجاد أرضية أكثر ملاءمة لمواجهة الإرهاب الرسمي الحكومي المنظم، بإرهاب غير رسمي وغير حكومي وغير منظم، حيث سيجد مرتعاً خصباً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأيديولوجياً لنموه وانتشاره واستفحاله.

فهل كان صحيحاً قول شيخ الاشتراكيين قبل نحو قرن من الزمان “أمتان” أم أنه “عالمان” بالفعل؟

* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية 14/1/2009

1218
صداقة في الشعر والحياة والمنفى
                            الجواهري ومظفر النواب   


عبد الحسين شعبان*
 

استوقفني ما نشره الكاتب والصحافي العراقي خالد القشطيني في زاويته الأثيرة في صحيفة “الشرق الأوسط”، حين استعاد قصة طريفة قال انها حصلت معه، واستكمل روايته بالقول: بعد بضعة أيام وصلته بالبريد أبيات من الشعر، أرسلها اليه أحد الحاضرين في جلسة ضمّت بعض الأصدقاء، ولشاعر غير معروف، ونشرها من دون أن يحدد نسبها، والحكاية وما فيها كنت قد دوّنتها في كتابي “الجواهري- جدل الشعر والحياة” الصادر عن دار الكنوز الأدبية في بيروت في طبعته الاولى، أوائل العام ،1997 والذي أعيد طبعه ثانية عن دار الآداب البيروتية حالياً.

الأبيات المشار اليها نظمها الجواهري وشاعت وقتها “اخوانياً” قبل نشرها، وهي تحت عنوان “فاتنة ورسّام” وأهداها الى “محمد المصباح” وفي الحال عُرف المقصود، إنه مظفر النواب، وكنت قد نشرت المقطوعة في كتاب صدر لي العام 1986 بالتعاون مع الجواهري الكبير في دمشق، عن دار طلاس وهو بعنوان “الجواهري في العيون من أشعاره”.

ولعل هذه الحكاية الطريفة تعكس الأريحية الشخصية لكل من الجواهري والنواب، وعلاقاتهما الانسانية الحميمة. وإذا ما عدت الى علاقة الشاعرين ببعضهما، فقد كانت لقاءات الجواهري بمظفر النواب “محدودة” وتقتصر على بعض المناسبات في اتحاد الأدباء العراقيين بعد العام ،1958 حيث كان الجواهري رئيساً له مثلما هو نقيب للصحافيين، أي رئيساً للسلطتين الثقافية والاعلامية، الأمر الذي دفع زعيم الثورة والسلطتين السياسية والعسكرية عبد الكريم قاسم الى الاصطدام بالجواهري بعد حادثة قرية الميمونة في جنوب العراق، حين كتب الجواهري في جريدته “الرأي العام”: ماذا جرى في الميمونة؟ يوم اعتدت شرطة قاسم على فلاّحات في محافظة العمارة “ميسان”، وقد نشب الاحتكاك المباشر بين قاسم والجواهري اثر مشادة دارت في وزارة الدفاع حين كان الجواهري يترأس وفداً لزيارة قاسم باسم اتحاد الادباء، الأمر الذي اضطره الى مغادرة العراق الى لبنان، ومنه الى المنفى بعد مشاركته في حفل تكريمي للأخطل الصغير (بشارة الخوري) ومن بيروت توجّه الى أوروبا، واستمر سبع سنوات عجاف على حد تعبيره في منفاه الذهبي في براغ، وعاد في أواخر العام 1968 إلى بغداد واستقبل استقبالاً شعبياً ورسمياً حافلاً.

في تلك الفترة اضطر مظفر النواب الى الهروب من العراق بعد العام 1963 الى ايران، ومكث فيها بضعة أشهر قبل أن يلقى القبض عليه ويسلّم الى السلطات العراقية، ولعل قصة هروبه هي التي دوّنها في ملحمته الرائعة “وتريات ليلية”، وقد أصدرت عليه احدى المحاكم العراقية حكماً بالسجن ل 20 عاماً قضاها بالدرجة الاساسية في سجن نقرة السلمان الصحراوي، ثم في سجن الحلّة، حيث تمكّن من الهرب منه في قصة النفق الشهيرة في خريف العام ،1967 وبعد 17 تموز/يوليو ،1968 أعيد إلى وظيفته حيث كان قد فُصل منها بعد 8 شباط/فبراير ،1963 لكنه اضطر للهجرة إلى خارج العراق إثر تجدد عمليات الاعتقال والإرهاب.

وبحكم صداقتي للجواهري والنواب، كنت ألحظ أن العلاقة تمتاز بالمودة والاعجاب، فالنّواب يكنّ احتراماً كبيراً وخاصاً للجواهري ولمنزلته الإبداعية والثقافية ولموهبته الشعرية الريادية، والجواهري يعتبر النواب أبرز الشعراء الشعبيين المجددين، كما ينظر بإعجاب إلى مواقفه النضالية وشخصيته الدمثة والمحببة، وظل حبل الود بين الطرفين متيناً حتى وفاة الجواهري في 27 تموز/يوليو ،1997 وإنْ اقتصرت اللقاءات على المناسبات أحياناً في براغ وطرابلس ودمشق.

وفي العام 1970 زار مظفر النواب براغ لبضعة أيام وخلال وجوده ضمتنا حفلة في مطعم “أوفليكو” محل البيرة السوداء الذي احتسى فيه نابليون البيرة عندما احتل براغ في أوائل القرن التاسع عشر، والطريف أن الساعة التي تزيّن واجهة المطعم قد أوقفت عقاربها وظلت واقفة لحد الآن لتحمل توقيت احتلال نابليون للعاصمة التشيكية وهو تاريخ مشوب بالمرارة، وألقى النّواب بعضاً من قصائده في جلسات خاصة رافقه خلالها الصديق جعفر ياسين، الذي غنّى بعض قصائده، بصوته الجميل.

التقى مظفر النواب بالجواهري، في مقهى “سلوفانسكي دوم” الشهير الذي كان بمثابة مقر للجواهري، يرتاده كل يوم تقريباً، حيث تزدان مدينة براها “براغ” وكأنها “حلم العذراء في يقظتها” جامعة كل الفصول والجمال والحُسن والفتنة، وهي التي يقول فيها الجواهري:

أعلى الحسن ازدهاءً وقعت

                                      أم عليها الحسنُ زهواً واقعا؟

يا لصيف مُمتع لو لم يكن

                                    غيره كان الفصول الأربعا

ممطر آناً.. وريان الضحى

مزهرٌ آناً.. وذاوٍ سَرِعا

ثم يضيف الجواهري الى فاتنات براغ في قصيدة آهات، بقوله:

مرتِ الأسرابُ تترى .. مقطعٌ

                                               من نشيد الصيف يتلو المقطعا

وتفتحن على رأد الضُحى

                                               حُلماً أشهى، وصحواً أمتعا

وتقاسمن الصبا ميعَتَه

                                             وشذاهُ والهوى والمتعا

وتخففنَ فما زدن على

                                           ما ارتدتْ “حواء” إلا إصبعا

رحمتا “لابن زُريق” لو رأى

فلكَ الأزرار ماذا اطلعا
ويقصد الجواهري هنا “ابن زريق” الشاعر العباسي والإشارة الواردة هنا إلى البيت التالي:

استودع الله في بغداد لي قمراً

                                           بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه


وقد التقى الجواهري، النواب مرة أخرى بعد سنوات طويلة، وكان ذلك في ليبيا أواخر الثمانينات، حيث زارها الجواهري، بدعوة وجهت له إثر نظم قصيدته “يا أمتي”.. يا عصبة الأمم! لمناسبة العدوان الأمريكي ضد الجماهيرية الليبية التي ألقاها في قاعة المحاضرات الكبرى في مكتبة الأسد يوم 16/4/،1986 وفي “أسبوع الثقافة العراقية”. وقد نشرت القصيدة للمرة الأولى في كتابنا “الجواهري: في العيون من أشعاره” وهي مؤلفة من 15 بيتاً. يقول فيها:

إني لأسأل “قادة” أذنا؟

                                      يتخارسون بحجة الصمم

فيم الحياة  ترى  إذا عريت

                                 من أخذ ثار عن دم بدم؟

يتفرجون على مقابحهم!

                              إذ يدعون محاسن الشيم

فلئن تعابثت الجيوش بهم

                             فلديهم جيش من الكلمِ

برحيل الجواهري شعر الكثير من المثقفين العراقيين لاسيما في المنافي ومنهم مظفر النواب، بأن عموداً من أعمدة الشعر العربي قد هوى وأن نجماً من نجوم الثقافة العراقية قد انطفأ.

* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية 20/12/2008
دار الخليج- الخليج  الثقافي

1219
المنبر الحر / سريالية عراقية!
« في: 13:40 07/01/2009  »
سريالية عراقية!
عبدالحسين شعبان
29/12/2009
هل يستطيع أحد في العالم المتحضر -أو غير المتحضر- أن يتصور أن حوالي نصف الحكومة والبرلمان في العراق غادروا بغداد لأداء مناسك الحج، وتعطلت الأعمال والأشغال وأصبح كل شيء في الانتظار؟ وتكرر مثل هذا الأمر خلال السنوات الخمس الماضية. وبكل الأحوال، لا يمكن تبرير ذلك بمبررات دينية، لاسيما إذا تعلق الموضوع بحساب الوقت المقطوع من العمل، يضاف إليه أسفار المسؤولين والبرلمانيين المتواصلة، متناسين أن الرسول الأعظم هو من اعتبر العمل عبادة وحيّاه، لاسيما «خير العمل».
والذي يتابع جلسات البرلمان العراقي يُصَاب بالدوار والحيرة، وإن كان هناك من يعتبرها الظاهرة المسلّية الوحيدة في عراق أخذت الأحزان منه مأخذاً، ولعلّي حزين أنا الآخر لسبب مختلف، هو أنني أرثي لبعض أصدقائنا: كيف يستطيعون تحمّل هذا الجو المليء بالشتائم والحزازات والاتهامات والصراخ واللغة الرثة!
أما من يراقب الوضع الأمني، فيستطيع أن يلحظ أنه رغم التحسن النسبي، فإن عدد الضحايا لا يزال كبيراً والمفخخات مستمرة والعبوات لم يتم وضع حد لها، وقتل العلماء الأكاديميين يرتفع، والميليشيات والصحوات ومجالس الإنقاذ، ما تزال تسمن وتزداد خيلاءً وزهواً رغم المآسي.

ومشهد الوزارات الأمنية وهي تكدس موظفيها وتتنافس مع الوزارات الأخرى بدلاً من حفظ الأمن والنظام العام، ويصل الأمر لدرجة التآمر على بعضها بعضا وكيد الواحدة ضد الأخرى، وحدوث الاستقطابات والتجاذبات والاتهامات المعلنة والخفية، وتسريح ضباط باعتبارهم أكباش فداء، ليحلّ محلهم آخرون ينتظرون دورهم، وبعد أشهر يكتشف المسؤولون أن ولاءهم لجهات أخرى!
وتضيع هوية الجيش بين الولاء للوطن والكفاءة وبين الولاء للجماعات السياسية والطائفية والإثنية، فالذين انتسبوا إليه كان بعضهم امتداداً لفيلق بدر التابع للمجلس الإسلامي الأعلى، والبعض الآخر لحزب الدعوة، وفريق ثالث ينتسب إلى جيش المهدي وجماعة السيد مقتدى الصدر، أما الذين انتسبوا إلى الجيش من الأكراد، فكانوا ضمن تشكيلات البيشمركة وموزعين على الحزبين الكرديين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني (أربيل والسليمانية)، في حين أن الذي جاء إلى الجيش من الصحوات، قسمٌ منه له علاقة بالحزب الإسلامي وبعض الجماعات المسلحة، بما فيها أطراف كانت محسوبة على المقاومة.
هكذا هي حالة الجيش، وكذا حالة الأجهزة الأمنية، فكيف يمكن الحديث عن تأهيل وطني وعسكري للجيش رغم مرور خمس سنوات وثمانية أشهر؟ والأمر يشمل منتسبي وزارة الداخلية ووزارة الدفاع ووزارة الأمن الوطني ورئاسة الأركان ومكتب القائد العام للقوات المسلحة، أما حواشي المسؤولين في هذه الوزارات فهي كثيرة، بل إن أجهزة الدولة انتفخت بأعداد المستشارين وكبار الموظفين والحمايات ولكل من هؤلاء ذيوله من المسلحين والتجار والباحثين عن الفرص.
والذي يتوقف عند أرقام وتقارير التزوير يُصاب بالغثيان، فحسب ما نقل لي أحد الأصدقاء من المسؤولين الأكراد، فإن هناك في وزارة التعليم العالي تدقيقات بخصوص 904 من الشهادات المزورة ومعظمها شهادات للدكتوراه أو الماجستير أو البكالوريوس، الأمر الذي أصبح إحدى قضايا التندر المثيرة.
أما الفساد والرشوة فما تزال شكوى مفوضية النزاهة تثير الشفقة، فهذا البلد الذي خرج لتوّه من نظام استبدادي حكمه 35 عاماً ومن حروب ومغامرات عبثية دامت ربع قرن ومن حصار استمر ثلاثة عشر عاماً، يقع اليوم فريسة الفساد المالي والإداري والسياسي، لاسيما بعد حلّ مؤسسات الدولة، خصوصا المؤسسة العسكرية والأمنية واعتماد مبدأ المحاصصة الطائفية والإثنية، الذي جاء على حساب الكفاءة والاختصاص والذي كرسه بول بريمر الحاكم المدني الأميركي في مجلس الحكم الانتقالي، وانتقلت عدواه إلى جميع الحكومات التي أعقبته، الأمر الذي انعكس في ظل شيوع التقسيمات الوظيفية على المال العام، حيث تم هدره وتبديده أو سرقته. فالنفط استمر لسنوات بدون عدادات فكأن العدادات مسألة مستعصية، وهي مسألة تعني باختصار عدم القدرة على معرفة الكمية التي يتم بيعها منه، وقد أشارت بعض الإحصاءات إلى أن 400 ألف برميل شهرياً تُهرّب إلى الداخل ومثلها يُهرّب إلى الخارج، وقد اعتبرت منظمة الشفافية الدولية العراق أكثر بلد للفساد في العالم، وكانت مفوضية النزاهة قد وجّهت مذكرات تتهم فيها 93 مسؤولاً رفيعاً، بينهم 15 بدرجة وزير، لكنها عبرت عن خيبتها حين تعطلت مسألة ملاحقتهم وتقديمهم إلى القضاء، طبقاً لقرارات منعت ذلك من السلطة التنفيذية.
ولعل كل طرف من أطراف الحكومة يتهم بعضها بعضا بالطائفية أو التمترس الإثني والمذهبي، لكنه لم يتقدم أحد بمشروع قانون إلى البرلمان مثلاً، لتحريم الطائفية وإنزال العقاب بمن يدعو أو يروّج لها أو يتستر عليها، وكذلك مشروع قانون لتعزيز المواطنة على أساس المساواة التامة وعدم التمييز لأي سبب كان واحترام حقوق الإنسان، بعيداً عن المحاصصات الطائفية والمذهبية، وحماية حقوق الأقليات الدينية والقومية والسلالية واللغوية وغيرها.
ويدّعي كل فريق أنه يخالف الفريق الآخر، ولكن جميع الأطراف بغالبيتها الساحقة حتى وإن كانت فرحة بما عندها حيث يلقي سهام كل فريق ضد الفريق الآخر باعتباره يتحمل المسؤولية، إلاّ أنهم في نهاية المطاف، ورغم جميع المزاعم وافقوا على المعاهدة الأمنية مع الولايات المتحدة، وإن اختلفوا في التبريرات والتفاصيل والادعاءات.
ولعل ما زاد المشهد كوماتراجيدية وسريالية هو الموقف من قضية الصحافي منتظر الزيدي الذي أقدم على رشق الرئيس بوش بفردتي حذائه، فبعض الذين وقعوا على المعاهدة استبشروا بما حصل وكأنه رد اعتبار لهم، وهو دليل عجز وبؤس، والبعض الآخر استنكر وهاج وماج، معتبراً ذلك إهانة له واعتداءً على هيبته، في حين أن المسألة كان يمكن أن تؤخذ ببعدها المهني والسياسي، الشخصي والعام إضافة إلى بعدها القانوني.
ولعل موضوع الانتخابات الجديدة لمجالس المحافظات يعتبر محطة جديدة من محطات السريالية الكومتراجيدية، فالكل لا يزال يقف خلف الستار وإن رفع قائمته إلى الأعلى، لكنه ينتظر لاسيما الكتل الصغيرة، قدرة قادر لرفعه إلى منصات المجالس في المحافظات، وستكون تلك بروفة جديدة للانتخابات النيابية القادمة أواخر العام 2009.
ويبقى تعديل الدستور وقانون النفط ومشكلة كركوك عقدة العقد، التي قد تؤدي إلى تفجير الوضع، فهي قنابل عنقودية يمكنها أن تنفجر في أية لحظة لتدفع الأوضاع إلى التذرر والتشظي، وقد ينقلب السحر على الساحر ويتداخل الأخضر باليابس ويصبح الوجود العسكري الأميركي بمعاهدة أو بدونها ورطة حقيقية، والخروج من غلوائها مجرد إفلات من يد القدر.
أليست هذه مشاهد كوماتراجيدية سيريالية لفيلم كابوسي طويل يعيشه العراق؟

الإثنين 5 يناير 2009 م ـ الموافق 8 محرم 1430 هـ
صحيفة العرب القطرية  العدد رقم 7512

1220
ماذا يريد سانتا كلوز من أوباما؟

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

يقول العالم كله وداعاً للعام 2008 وأهلاً بالعام 2009، ويتمنى الناس في أصقاع المعمورة من أقصاها إلى أقصاها لبعضهم بعضا عاماً سعيداً أو على أقل تقدير أحسن من سابقه، مصحوباً بالسلام والطمأنينة، ومع أن أطفال فلسطين، ولاسيما غزة المحاصرة وأطفال العراق وأطفال أفغانستان والصومال وأطفال جياع العالم والمضطهدين في كل مكان ينتظرون حلول العام الجديد مثلهم مثل غيرهم، وعيونهم تتطلع إلى سانتا كلوز، عسى أن يجلب لهم قطعة حلوى بدلاً من صاروخ وعلبة حليب بدلاً من قنبلة ورغيف خبز عوضاً عن مفخخة وشيء من الفاكهة أقرب إلى الحلم أحياناً، وتعويضاً عن عذابات وحرمانات قاسية لا حدود لها.
هل سيكون في جعبة سانتا كلوز حيث يجوب مناطق المعمورة ما يكفي لحمل الهدايا لمليار و300 مليون من البشر يعيشون دون خط الفقر، ودخلهم اليومي لا يزيد على دولار واحد وإلى جوارهم متخومون لحد الانفجار؟ إن سانتا كلوز المسكون بالعدالة يقف مكتوف اليدين أمام غول الاستغلال والاستعمار والاحتلال والحصار والجوع وهدر حقوق الإنسان، فماذا عساه أن يفعل، لاسيما في ظل الأزمة المالية الدولية الطاحنة، خصوصاً في الولايات المتحدة وانهيار مؤسسات تأمينية وبنكية كبرى وفوق قومية، وانعكاس ذلك، لاسيما على شعوب بلدان العالم الثالث، خصوصاً في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية؟
وإذا كانت أحلام البشرية وأمانيها تتفاوت خلال احتفالات رأس السنة الجديدة باختلاف الشعوب وطبائعها والبلدان وتاريخها والسلالات والأقوام واللغات بتنوعاتها وتفرعاتها وهويتها، فإن الاحتفالات بهذه المناسبة تمرّ هذا العام، وشعوب البلدان الجائعة والفقيرة يطحنها الجوع ويهيمن عليها الخوف ويلوح حولها شبح المستقبل وصورته الكالحة على نحو لم يحصل في تاريخها المعاصر، وحتى شعوب البلدان الغنية، فإن كابوس الإرهاب وفيروس العنف ومتاريس رجال الأمن وأسلحتهم تهيمن على كل الاتجاهات، لدرجة أن العالم سار نحو العسكرة وودع إلى حدود غير قليلة حياته المدنية المسترخية، في المطارات والساحات العامة وعند مداخل البنوك والمؤسسات والمرافق الحيوية، وأمام الجامعات والكنائس والجوامع وغيرها، وأخذ القلق حد الهلع والرعب يسيطر على العالم أجمع، ولعل الأزمة الاقتصادية والمالية، زادت من غلوائه على نحو كبير جداً.
وإذا كان الاحتفال بليلة رأس السنة قديما، يتخذ مظاهر مختلفة فإنه اليوم يكتسب بُعداً دراماتيكياً ومصحوباً بهواجس إنسانية، وانكسارات قيمية وتراجعات أخلاقية وفوضى عارمة.
كان أجدادنا البابليون قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، أول من احتفل برأس السنة، وكان الاحتفال يستمر سبعة أيام، حيث يبدأ مع بداية الربيع، وكان كل فرد يتعهد بتحقيق ما لم يستطع تحقيقه في السابق بتعهدات خاصة، وهو ما انعكس على اليونانيين قبل نحو ثلاثة آلاف سنة، واكتسب العيد بعد ميلاد السيد المسيح بُعداً ميثيولوجياً، خصوصاً بعد مأساته التاريخية. فبماذا سيتعهد أوباما؟ أو بالأحرى ماذا يريد سانتا كلوز من أوباما؟ وإذا كان لكل سانتا كلوزه، فإن سانتا كلوزنا العربي الشرق أوسطي يريد منه:
1- اتخاذ سياسة معتدلة في الشرق الأوسط، لاسيما بين العرب والإسرائيليين، الأمر الذي يتطلب أولاً وقبل كل شيء كإجراء عاجل وإنساني، إنهاء حصار غزة وفتح جميع المعابر وتيسير حركة السكان المدنيين بانسيابية على نحو يضمن حقوق الإنسان الجماعية والفردية، وتهيئة المستلزمات لتمكين الشعب العربي الفلسطيني من تقرير مصيره بنفسه وإقامة دولته الوطنية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين الفلسطينيين ووقف المستوطنات، طبقا للشرعية الدولية والقرارات الدولية 181 و194 و 242 و338. وهذا يعني مواصلة الجهود التي بذلها الرئيس كلينتون بشأن «الدولة الفلسطينية»، لاسيما في آخر عهده، والتي بردت أو تكاد تكون تلاشت في عهد الرئيس بوش.
2- تنفيذ الوعود التي أطلقها الرئيس أوباما بالانسحاب من العراق و«إنهاء الاحتلال» خلال فترة لا تزيد على 16 شهراً، والشروع بتخفيض القوات ابتداءً من منتصف عام 2009، ولعل هذا الأمر لا يتعلق بالعراقيين فحسب، إنما يتعلق أيضا بمأزق السياسة الأميركية وأزمتها الاقتصادية الطاحنة، التي انعكست على العالم أجمع، خصوصاً تحمّل أعباء وتكاليف حربين مفتوحتين منذ عامي 2002 و2003 ومعها «الحرب على الإرهاب الدولي» منذ العام 2001، وهي حروب حقيقية وبلا حدود، وهذا يتطلب من الرئيس أوباما مراجعة جدية وخطوات عاجلة وسريعة، بدلاً من الاستمرار في التوغّل بالمزيد من الأخطاء والخطايا.
وإذا كان الأمر يقتضي عدم حصول فراغ سياسي وأمني وعسكري، وهو مسألة مشروعة ومهمة، فلا بدّ من نقل المسؤولية مؤقتا إلى الأمم المتحدة بصورة تزامنية تبدأ مع الانسحاب، وهذا يحتاج إلى تعهدات من المجتمع الدولي بحماية سيادة العراق لدى تعرّضها للانتهاك من أي طرف خارجي، وتعهد عربي وإقليمي بمساعدة العراق، على إعادة الإعمار، وذلك في إطار خطة استراتيجية دولية، لمعافاة العراق، الأمر الذي يمهّد لإجراء انتخابات ديمقراطية بإشراف دولي وفي إطار التعددية واحترام حقوق الإنسان وفي ظل الخيار الديمقراطي، الذي ينبغي أن يكون حاسماً ولا عودة فيه.
ولعل هذه الخطوة تتطلب إسقاط جميع الديون عن العراق وتعويضه عمّا لحق به من غبن وأضرار طيلة السنوات الماضية، بل الأكثر من ذلك بسبب الخسارة البشرية، لاسيما في العقول والأدمغة ونهب الآثار والممتلكات التاريخية، وتتطلب العدالة الدولية مساءلة المتهمين بممارسة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان والمُفسدين ومن قاموا بهدر المال العام في فترة الحاكم المدني بول بريمر أو ما بعده. وسيكون هذا المطلب أكثر مشروعية لاسيما بعد اعتراف الرئيس بوش بأنه خاض الحرب على العراق بناء على معلومات مضللة من المخابرات المركزية الأميركية، و«الاعتراف سيد الأدلة» كما يُقال في القانون.
3- اتخاذ علاقة متوازنة تقوم على أساس الحوار والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة مع سورية، والسعي إلى إحداث نوع من الانفراج لتنقية الأجواء بدلا من توتيرها مع لبنان، والضغط على إسرائيل للامتناع عن العدوان مجدداً على لبنان واحترام سيادته وإعادة مزارع شبعا إليه، وإعادة الجولان إلى سورية في إطار تسوية سلمية شاملة، الأمر الذي يقتضي أيضاً فتح حوار مع إيران، طبقاً لخطة بيكر-هاملتون (أواخر العام 2006) وإشراكها وسورية في بحث حلول إيجابية في المنطقة.
4- أما ما يخص موضوع الملف النووي الإيراني الشائك والمعقد، فهو يحتاج إلى الصبر والمزيد من الحوار والتفاهم والضغط الدولي السلمي لتقديم ضمانات حول الوجهة السلمية للمفاعلات النووية الإيرانية، وطبقاً للمتطلبات والمعايير الدولية لمنظمة الطاقة وللمعاهدات والاتفاقية الدولية بهذا الخصوص، وعدم الاستخدام للأغراض الحربية، وسيكون الأمر ممكناً إذا ما توافرت فرصة السلام الحقيقي، خصوصاً بإقامة الدولة الفلسطينية والانسحاب الأميركي من العراق، إذ إن مثل هذه الأجواء ستنعكس على ملف العلاقات الإيرانية-الأميركية إيجاباً.
5- دمقرطة المنطقة، ولعلها المسألة الملحّة الأخرى بحكم مسؤولية الولايات المتحدة دولياً، خصوصاً في ظل موقعها كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وهذه المسألة هي الوجه الثاني للسلام والتقدم والتنمية، ولعل تشجيع خطط الإصلاح والتحديث والدمقرطة في المنطقة يقتضي فتح حوارات على المستوى الدولي لتنشيط ثقافة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، لدى الجميع، الأمر الذي يتطلب احترام المعايير الدولية، لاسيما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 4 ديسمبر العام 2000، القاضي بالتنوع الثقافي وعدم وجود موديل واحد للديمقراطية مع تأكيد احترام خصوصيات الشعوب والأمم وتراثها الإنساني، إضافة إلى المشترك الإنساني الدولي. ولعل هذا الأمر يتطلب إشراك المجتمع المدني ومؤسساته في القرار وتطويق الإرهاب، خصوصا ببحث أسبابه وجذوره الاجتماعية والاقتصادية ومعالجة آثاره بهدف القضاء عليه واستئصال شأفته ووضع حد لهذه الظاهرة المشينة.
باختصار فإن سانتا كلوز العربي الشرق أوسطي إذ يهنئ الشعب الأميركي بهذه المناسبة، فإنه يتمنّى من الرئيس الجديد اتخاذ خطوات شجاعة وجريئة وتأمين فرص حقيقية وعادلة للسلام والديمقراطية والتخلص من أخطبوط الإرهاب، فذلك سيكون لمصلحة العرب والمسلمين من جهة، ولمصلحة الولايات المتحدة وشعبها من جهة أخرى.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 501- الاحد 04 يناير 2009 ,09 محرم 1430

1221
المنبر السياسي / مغزى كلام بوش
« في: 16:01 24/12/2008  »
مغزى كلام بوش
   
عبدالحسين شعبان
 رغم مكابرته التي استمرت سنوات بخصوص الحرب على العراق أطلق الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش تصريحات مفاجئة ومثيرة قبيل مغادرته البيت الأبيض في 20 يناير/ كانون الثاني ،2009 حيث بدأت بعض الأسئلة المستجدة تُطرح على بساط البحث، فهل وصلت الاستراتيجية الأمريكية في العراق الى طريق مسدود، لدرجة أن عرّابها الذي كان مزهوّاً بانتصاراته المزعومة يقرّ بالفشل والخداع؟

ومع أن توقيع المعاهدة العراقية - الأمريكية حُسم مؤخراً، لكن الأمور أخذت تزداد صعوبة لدرجة أن المشروع الإمبراطوري الكبير الذي بشّر به الرئيس بوش وصل إلى نقطة حرجة يبدو فيها التراجع أمراً لا مفرّ منه، وإنْ كان هذا الأمر يحتاج الى بعض الوقت.

المؤشر المهم للتراجع هو اعتراف الرئيس بوش بأنه لم يكن مستعداً للحرب، وهذا يعني بلغة السياسة، أن النجاح العسكري “الميسور” باحتلال العراق وصل الى طريق مسدود كان ينذر بفشل عسكري، ولهذا اقتضى التبرير بالحديث عن معلومات مضللة كانت تقف وراء شن الحرب على العراق، رغم أن تلك المعلومات الاستخبارية لم تكن مفاجئة للإدارة الأمريكية، التي سبق لها أن “اعترفت” بعد الحرب وقبل سنوات بأن العراق ليست لديه أسلحة دمار شامل ولا علاقة له بتنظيمات القاعدة، أما الديمقراطية الموعودة فقد تم السكوت عنها، وأخذ هاجس الأمن والبحث عن الاستقرار يعلو فوق جميع الخطط والبرامج لدرجة تم نسيانه تماماً، إلا عند مقارنته بالنظام الدكتاتوري السابق، فلماذا تأخرت إدارة بوش الى هذا الوقت لتعترف بخطيئتها التي حاولت إلقاءها على عاتق الآخرين؟

إن اعتراف الرئيس بوش تزامن مع حالة الضيق والتبرّم التي شعر بها عند تأخير موعد إقرار المعاهدة الأمنية بين بغداد وواشنطن، وحتى قبل قذفه بالحذاء من جانب الصحافي منتظر الزيدي، ولعل في ذلك شعوراً بالخيبة والمرارة ناجم عن ثلاثة أسباب أساسية:

الأول، هو محاولة إخضاع الشخصيات والمؤسسات السياسية العراقية الرسمية للإذعان، لاسيما أن بعضها فكّر بأن الرئيس بوش راحل، وبالتالي يمكن تأجيل توقيع المعاهدة إلى حين استلام إدارة أوباما مقاليد الأمور في البيت الأبيض، وكي يكون الاتفاق معها، وليس مع إدارة حلّت عليها النقمة لا في العراق والعالم العربي فحسب، بل في الولايات المتحدة، وفي العالم أجمع.

أما الثاني، فهو لإفساح المجال أمام الإدارة الجديدة الأمريكية لإعادة تقييم الوضع في العراق، سواء قرر أوباما الاستمرار في السياسة الحالية مع بعض التعديلات أو سحباً جزئياً وعلى مراحل للقوات العسكرية الأمريكية، ولكن هذه العملية ستبدأ على هامش أن وجودها العسكري، لم يكن له مبرر أو استنفد مبرراته، وتتحمل مسؤوليته ال(CIA)  بسبب المعلومات المضللة.

وكان السبب الثالث الذي أصرّت إدارة بوش على التمسك به، يتعلق بتبرئة ساحة الحزب الجمهوري والجمهوريين من خطيئة الاحتلال، بحيث تتحول قضية غزو العراق من مسألة سياسية إلى مسألة فنية - استخبارية، سداها ولحمتها “معلومات مضللة”.

ولعل هذا هو المغزى الحقيقي لكلام الرئيس بوش: إنه لم يكن مستعداً للحرب، وفي ذلك دفاع عن النفس أمام اتهامات كونية، بخصوص الاحتلال، بتبرير أن المخابرات المركزية الأمريكية، هي التي تتحمل المسؤولية لأنها ورّطته، وشملت الورطة البيت الأبيض، ناهيكم عن دور البنتاغون المشجع لشن الحرب على العراق، وفي ذلك إشارة إلى المعركة الخفية التي بدأت منذ وقت مبكر، سبق غزو العراق بين البنتاغون وال (CIA)، وكذلك بين وزير الدفاع السابق رونالد رامسفيلد وجورج تينيت مدير المخابرات المركزية الأمريكية السابق، وقد عرض الأخير جزءاً من تلك الإشكاليات في مذكراته التي صدرت مؤخراً بعد تنحّيه عن منصبه.

وكان كولن باول وزير الخارجية السابق، قد اعترف هو الآخر بأنه ضحية تضليل عندما وقف عشية غزو العراق ليتحدث في مجلس الأمن عن وجود أسلحة دمار شامل، وقد عاد واعترف بزيف معلوماته، وأبدى أسفه بعد مغادرته وزارة الخارجية، وهو ما دوّنه لاحقاً، وأعلنه على الملأ، الأمر الذي عكس الصراعات المستترة والمثيرة بين وزارة الخارجية الأمريكية ووزارة الدفاع، ففي حين كانت الأولى مترددة ومتروية بشأن تبعات غزو العراق، كانت الثانية مندفعة وغير مكترثة، وهو ما أرادت أن تدفع به الإدارة الأمريكية، كما أنها ضغطت على ال (CIA)  لتكيّف موقفها بحيث يكون منسجماً مع مغامرة شن الحرب على العراق.

لقد كانت الحرب على العراق تتويجاً لهستيرية الصقور اليمينيين المتشددين، فإضافة الى الرئيس بوش، كان يحمل صولجانها وزير الدفاع رامسفيلد، إضافة إلى كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي ثم وزيرة الخارجية لاحقاً، وديك تشيني وبول وولفويتز وآخرين، ولهذا السبب فإن اعتذار الرئيس بوش وتبريره للمعلومات المضلّلة جاء في إطار تسوية الحسابات الداخلية وإبعاد المسؤولية عن الإدارة والجمهوريين وابقائها على عاتق المخابرات المركزية.

إن اعتراف الرئيس بوش لم يكن خطأ عابراً أو تقديراً سياسياً قاصراً، لاسيما بعد ما حصل في العراق من تدمير بنيانه التحتي ومرافقه الحيوية ونهب ممتلكاته وآثاره الثقافية وتبديد ثرواته وحل مؤسساته ودفع البلاد باتجاه التشظي الطائفي والإثني، خصوصاً في ظل تدفق العنف والإرهاب، بل هو فعل عدواني منظّم وعن سابق إصرار وترصّد، كما يقال في القانون الجنائي، ألحق الدمار والخراب ببلد عانى من الحروب طويلاً ومن حصار دولي جائر ومن استبداد منفلت من عقاله، وتوّج ذلك بغزوه واحتلاله، الأمر الذي يجعل من حق الطرف العراقي المتضرر أن يطالب بالتعويض المادي والمعنوي بما فيه تقديم اعتذار رسمي، إضافة الى مساءلة قانونية طبقاً للتقاليد الدبلوماسية الدولية واتفاقية فيينا لعام 1963 حول العلاقات الدبلوماسية، وهو ما أسقطته المعاهدة الأمريكية - العراقية للأسف الشديد، حين اعترفت بشرعية الاحتلال العسكري وحاولت أن تستبدله باحتلال تعاقدي، لا سيما بإسقاط حق العراق بالتعويض.

وإذا كان الرئيس المنتخب أوباما قد اعترف هو الآخر بأن الولايات المتحدة في سياساتها، والمقصود في عهد الرئيس بوش، قد أفرطت في الاعتماد على القوة، فإنه سعى الى تبرئة سمعتها مما لحق بها، خصوصاً بعد احتلال أفغانستان والعراق، وما حصل في سجن غوانتانامو وسجن أبو غريب والسجون السرية الطائرة والعائمة، الأمر الذي سيكون له أكثر من مسوّغ فيما إذا قرر الرئيس أوباما اعتماد سياسة جديدة لتطويق آثار سياسة سلفه الرئيس بوش الذي سيتذكّره العالم وسيدوّنه التاريخ، باعتباره أسوأ رئيس للولايات المتحدة في تاريخها، كما سيتذكره العرب والمسلمون باعتبار  فترة حكمه التي دامت ثماني سنوات، كانت الأسوأ في علاقتهم مع واشنطن وما لحقهم من إذلال وحروب واحتلال، فضلاً عن كونه كان رأس حربة في ما سُمي بصدام الحضارات وصدام الثقافات، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة العام 2001. وبتبريرها وذريعتها، شهدت منطقة الشرق الأوسط خداعاً وتضليلاً واستهدافاً بحروب مباشرة أو بالوكالة لتطويعها ونهب مواردها وهضم حقوقها، وهي السياسة التي دأبت عليها واشنطن منذ تأسيس “إسرائيل” في 15 أيار/مايو 1948 وإلى حدّ الآن.

إذا كان مغزى اعتراف الرئيس بوش يدل على الفشل السياسي والعسكري، فإنه يستهدف تدوير المسؤولية لإلقائها على عاتق ال (CIA)  وغسل يديه من آثام الخطيئة التي حصلت في العراق، لكن “الاعتراف هو سيد الأدلة” كما نقول في القانون، الأمر الذي يرتّب مساءلات قانونية وأخلاقية لا بدّ من متابعتها من جهات قانونية وحقوقية، أمريكية وعربية ودولية، وطلب التعويض المادي والمعنوي. وسيكون في ذلك مغزى العدالة التي كانت مفقودة في ظل الضخ الإعلامي الهائل وأصوات المدافع والقنابل والمفخخات.

* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية الأربعاء ,24/12/2008

1222
حكم القانون ... من أين نبدأ؟!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

غالباً ما نردد عبارة «حكم القانون»، ولكننا نختلف كثيراً حول تحديد معناها ومبناها ومبتغاها، فالبعض يستخف بالقانون طالما يستخف به الحاكم، وبالمقابل فإن من هم في السلطة أو قريبون منها يقومون بتمجيده، وأحياناً بتجميده إذا كان يتعارض مع مصالحهم في اللحظة المعينة، الأمر الذي يثير اشتباكاً وتعارضاً ويضعف ثقة المواطن بالدولة.
ولعل موضوع الحديث هذا له علاقة مباشرة بندوة انعقدت في عمان تحت عنوان «... إرساء حكم القانون في المنطقة العربية» كان قد نظمها «المركز العربي لتطوير حكم القانون والنزاهة»، وهو مركز إقليمي دولي متخصص، وله مساهمات متميزة في نشر الثقافة القانونية والوعي الحقوقي، لاسيما في إطار المجتمع المدني، فضلاً عن تدريب أعداد كبيرة من العاملين في المؤسسات الحكومية العربية وخارجها. وتميّزت ندوة عمان بالمشاركة الحكومية والرسمية إضافة إلى المشاركة الفاعلة لمؤسسات المجتمع المدني وهيئات نقابية وإعلامية وجمعيات حقوقية.
وإذا كان القانون هو مجموعة القواعد القانونية السلوكية التي تسنّها سلطة لها حق التشريع لتنظيم علاقة الأفراد بالدولة وبين بعضهم بعضا، وتكفل تطبيقها سلطة تنفيذية «حكومة»، ويفرض الجزاء على من يخالفها أو يمتنع عن تنفيذها، قضاء مستقل، فإن الدعوة الى حكم القانون تعني حصراً علاقة الفرد، المواطن بسلطة بلده، وعلاقة السلطة به، وهو ما يمكن أن نطلق عليه صفة المواطنة بمعناها الحديث، المكفول من جانب سيادة القانون، لاسيما بعلو أحكامه باعتباره خاصة من خصائص الدولة العصرية.
وحكم القانون هو شكل من أشكال إدارة الحكم، خصوصاً إذا اعتمد على مبدأ المساواة وعدم التمييز، بإخضاع الجميع بمن فيهم الحكام وجميع المؤسسات والهيئات العامة والخاصة لحكم القانون والمساءلة والمساواة أمامه بهدف تحقيق العدالة وإنصاف المظلومين عبر قضاء نزيه وفعّال ومستقل، بحيث يمكن حماية الإنسان وحقوقه، فضلاً عن مشاركة الجميع وحقهم في صنع القرار وتوّلي الوظائف العامة من دون تمييز.
ولكن من الذي يحدد حكم القانون؟ هل هي سلطة إلهية أو موروثة أو انقلابية بحجة دينية أو قومية أو طبقية؟ وكل ذلك كان سبباً من أسباب تعطيل حكم القانون في أحيان كثيرة، بإخضاعه لمصالح خاصة وضيقة، وتحت ذرائع أو مسوّغات غالباً ما تكون «غير قانونية»!
أما في الدولة العصرية فتوجد دساتير تحدد سيادة القانون من خلال اعتماد مبادئ قانونية وتوجهات دستورية، لرسم الحدود الفاصلة بين صلاحيات سلطات الدولة الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتنظيم التعاون فيما بينها بما يؤدي إلى تحقيق العدالة من خلال المساءلة والمسؤولية في تطبيق القانون.
ويعتبر العدل من أهم أركان حكم القانون لاسيما بالمساواة وبعدم التمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة أو المنشأ الاجتماعي أو الاتجاه السياسي، الأمر الذي يقتضي وضع مسافة واحدة بين الأفراد والقانون وسلطة الدولة، بحيث تضمن الحقوق المتساوية للجميع.
وحكم القانون يقتضي توافر عنصر الإرادة الشعبية للتعبير عنه وذلك عبر إجراء انتخابات دورية وديمقراطية حرة ونزيهة، لاختيار الحكام واستبدالهم نزولاً عند رأي الشعب صاحب السلطة والسيادة، الأمر الذي يستوجب الامتثال لإرادته، خصوصاً بتوسيع دائرة المشاركة، ولاسيما من جانب مؤسسات المجتمع المدني، التي تعتبر شريكاً ورقيباً وقوة اقتراح يمكن أن تسهم في تعزيز حكم القانون. ولعل هذا هو الركن الثاني لحكم القانون.
أما الركن الثالث فيتعلق بخضوع الحكام مثلهم مثل غيرهم لمبدأ حكم القانون، الذي يقيّد سلطتهم ويجعل المواطنين متساوين، لاسيما أمام القانون، الذي تسنّه سلطة يفترض فيها التمثيل الشعبي عبر الانتخابات الحرة النزيهة، والتي يتوّلى السهر على تنفيذ أحكام القانون قضاء مستقل ونزيه ومحايد، بحيث يصون الشرعية ويؤمن مستلزمات تحقيق العدالة.
وهكذا فإن دولة القانون لا تقوم إلاّ في ظل دولة تنبثق فيها السلطة من حكم القانون، وتعود لتنضبط بالقانون الذي هو تعبير عن إرادة المواطنين، الأفراد، الأحرار، المتساوين ويكون القانون حامياً لحقوقهم، وهو فوقهم مثلما هو فوق الحكام!
إن حكم القانون هو وحده الذي يؤمن حماية متساوية لحقوق الإنسان التي لا يمكن أن تكون مكفولة ومضمونة، إلاّ في حمى القانون، حتى إن تضمنتها معاهدات واتفاقيات دولية ووردت في نصوص دستورية، وهكذا يشكّل احترام هذه الحقوق معياراً أساسياً للحكم الصالح وتأكيداً على دولة القانون التي تتولى حماية حقوق الإنسان كافة.
وقد وصل الفقه الدولي المعاصر إلى تأكيد عدد من المعايير والمؤشرات لحكم القانون، باعتبار الحكم الصالح بما فيه حكم القانون مدخلاً مهماً لتحقيق التنمية البشرية، وقد عبر الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان عن ذلك، حين قال «الحكم الصالح هو الوسيلة الأهم لتحقيق التنمية والقضاء على الفقر».
وحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن حكم القانون هو أحد المقاييس التي يقاس بها مدى اقتراب الحكم من الصلاح أو عدمه، خصوصاً وهو ضمانة لتحقيق الشفافية والمساءلة، إضافة إلى المشاركة الفاعلة، لاسيما لمؤسسات المجتمع المدني.
إن حكم القانون هو الضمانة الحقيقية للأفراد والمجتمع في حماية حقوقهم وحرياتهم، على أساس المساواة وعدم التمييز، فضلاً عن ذلك فهو وسيلة رادعة ضد الفساد الإداري والمالي والسياسي، وضد سوء الاستخدام أو التبديد للمال العام.
ولعل حكم القانون يعتبر الأساس في الأمن الاجتماعي والتطامن السياسي والتعايش المجتمعي، لأنه يشكل أحد مقوّمات الأمن الإنساني، ومن دون حكم القانون، لا يمكن تأمين احترام حقوق الإنسان ولا محاسبة الحكومة أو مراقبتها، ولا إجراء الانتخابات الحرة النزيهة، ولا تطوير المجتمع المدني ولا احترام دور الإعلام في التنمية وتعزيز المشاركة، وهذه المبادئ كانت قد ذهبت إليها الوثيقة المفتاحية التي عرضتها الجهة المنظمة لندوة عمان المهمة حول حكم القانون.
وإذا كانت الهوة سحيقة بين التطور الدولي ومجتمعاتنا بشأن مسألة حكم القانون، فإن القضية المركزية التي ستظل تشغل العالمين العربي والإسلامي بشكل خاص و«العالمثالثي» بشكل عام، هي كيف السبيل لإنفاذ حكم القانون، خصوصاً أن القناعة بدأت تتعزز بأننا لا يمكن الخروج من غلواء التخلف والتعصب وعدم المساواة واللحاق بركب العالم المتقدم، دون تحقيق حكم القانون، الأمر الذي يتطلب أولاً وقبل كل شيء وضع القانون فوق الجميع، وهذا يقتضي رصداً دقيقاً لتطوير منظومة القوانين والمؤسسات والممارسات في العالم العربي بما تستجيب إليه ظروف وحاجات المجتمعات العربية ودرجة تطورها، والسعي لمواءمة ذلك مع المعايير الدولية بما يؤدي إلى تفاعل الخصوصية الثقافية والقومية مع التطور الكوني.
وإذا كانت قضية تأمين حكم القانون في الدول العربية مسألة أساسية، فهي تقتضي بداية تحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وقانونية من شأنها أن تزيد من فاعلية مشاركة مؤسسات المجتمع المدني، فلا يمكن تأمين حكم القانون دون تعاون طرفي المعادلة (الحكومات والمجتمعات)، بما يساعد في تحقيق التنمية البشرية بجميع أركانها.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 483 الجمعة 12 ديسمبر 2008 ,15 ذو الحجة 1429

1223
في ذكراه الحادية عشرة

الجواهري الكبير: محطات عنه ...ومعه


عبد الحسين شعبان *
* حقوقي وكاتب من العراق

   هل حقاً غادرنا الجواهري، والى الأبد؟ فطائر العاصفة على حد تعبير الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي ظل محمولاً على خطر لأجيالٍ غير عابئٍ أو مكترث بالنهايات مقتحماً منافحاً ومكافحاً، أرخى جناحيه ليستسلم أخيراً بهدوء للموت الذي ظل يزوغ عنه ويخادعه ويجابهه ويساومه لسنوات.
لم يدر بخلدنا يوما أن نتحدث عن الجواهري الغائب، فرغم مرور أحد عشر عاماً على رحيله، فإننا نستذكره باعتباره حاضراً بيننا، فلا يكاد الشعور يفارقك حين تكون بحضرته، وكأنك تدخل بجلال وهيبة في مملكة الشعر وفي صومعته، فكل شيء ينبض بالشعر، الجواهري بقامته المديدة وفصاحته وأصابعه الطويلة الممدودة، يدهشك حين يستحضر التاريخ بقصيدته العمودية الموروثة والملوّنة بأطياف الحداثة. لقد تمكن منه سلطان الشعر حتى لكأنك لا تستطيع أن تميّز بينه وبين القصيدة.
لعلها ضريبة المنفى أن نخسر في ظل سنوات قليلة جداً خمسة شعراء فإضافة الى الجواهري الكبير غادرنا الشاعر بلند الحيدري وهو من رواد الحداثة الأولى وتبعه الشاعر الكلاسيكي سيد مصطفى جمال الدين المعروف بغزلياته الجميلة، وقرر الرحيل أيضاً عبد الوهاب البياتي الذي هو عمود من أعمدة الريادة في الشعر الحديث وهنا المفارقة أن ينضم ثلاثة من هؤلاء (الجواهري وجمال الدين والبياتي) الى جوار بعضهم في مقبرة الغرباء في دمشق، في حين غادرتنا الشاعرة نازك الملائكة بعد غربة طويلة حيث تم دفنها في أرض الكنانة.
هذا القدر المحتوم، هو الذي اختطف هؤلاء المبدعين مثلما اختطف قبلهم الروائي غائب طعمه فرمان والروائي شمران الياسري (أبو كاطع) والباحثين والكتّاب عبد اللطيف الراوي ومصطفى عبود وهادي العلوي والشاعر والصحافي  شريف الربيعي والشاعر سركون بولص وعشرات وغيرهم، على نحو سريع وموارب، ولهذا نشعر جميعاً على ما أعتقد، بالفراغ الذي تركوه وبمكانهم الشاغر في الأماسي الثقافية العراقية والعربية وفي ليالي المنافي البعيدة حيث يطول فيها الزمهرير على حد تعبير الشاعر مظفر النواب!
من نبرته الاولى يُعرف الشاعر فما بالك بسبعة عقود ونصف من عملية الخلق والابداع والتكوين! يقف الشعر لدى الجواهري، وراء كل شيء، شاخصاً بأدواته المطواعة، التي يستخدمها الشاعر بدقة وانسيابية، وخلف لهجته الجميلة ووجهه الحاد الملامح، المتغضن بأنفاس الشعر، وأصابعه الممدودة يستحضر عملاق الشعر في داخله.
أنا العراق لساني قلبه ودمي    فراته وكياني منه أشطار

الشعر عند الجواهري كالمدينة والقصائد كالبيوت. ورغم التواصل الحضاري في المدن والبيوت، فإن لكل مدينة خصوصيتها وشخصيتها وتفرّدها ونمط حياتها ومزاجها، مثلما لكل بيت حرمته وخباياه وفسيفساؤه وألوانه ورائحته ونساؤه وبخوره وعطره.
والشعر عند الجواهري كالنهر، والقصيدة مثل النساء بجدائل أو بدونها، فهي تستحم في نهر الجواهري، متشابهة أو مختلفة، مثل الشواطئ والجزر ومياه السواحل.
لكل قصيدة، مثلما لكل إمرأة، مذاقها وجمالها وغنجها ورائحتها ، فلكل بحر سفنه ومراسيه وعواصفه ونكهته ولونه.
في مختبر الشاعر تنضج القصيدة ومن صومعته تخرج طازجة شهيّة لتُدِلُّك عليه حيث يمارس عملية الخلق بجو أقرب الى التبجيل والاحتفاء بالمولود، ولكن بمعاناة فائقة.
يروي لنا الجواهري، كيف تهبط عليه القصيدة، فيقول: كنت أنزل الى السرداب، وأبدأ أحدو بها بصوت عال، حتى تنضج فأحفظها عن ظهر قلب ثم أجري تعديلات عليها قبل أن أدونها، وغالباً ما يدّون قصيدته على قصاصة ورق أو ظهر علبة سكاير. ثلاثة سمات حملها الجواهري معه، الأولى هي سمة التناقض والثانية التحدي والثالثة الابداع.

التناقــض

جمع الجواهري التناقض المحبب، فتجاورت عنده الأضداد بهرمونية وتنسيق باهرين، بصعوده ونزوله، بجوانبه المشرقة والمضيئة وبنقاط قوته وضعفه الانسانية، هكذا يجمع الجواهري الأضداد:
يا نديمي وصبّ لي قدحاً       ألمسُ الحزن فيه والفرحا
يجمع الحزن والفرح في كأس واحدة، وهو جدل الحياة المقترن بالموت.
يقول الجواهري " أنا ابن المتناقضات والتعارضات على جميع المستويات وأرغب أن يقرأني الناس ويعرفوني بذلك، لأنني ولدت في بيئة متناقضة..."
ولم أرَ في الضدائد من نقيض       الى ضدٍ نقيضٍ من ضريب
وهو في هذا يعرض بوضوح وصراحة بعضاً من شخصيته بتلقائيتها وعفويتها وبكل تركيباتها وتعقيداتها، في حين يحاول الكثيرون تلميع شخصياتهم وادعاء ما ليس لديهم وتصنّع الفضيلة. ولعل الجواهري خير من عبّر عن نفسه في شعره ودواوينه، حين جمع المتناقضات الانسانية الباهرة . يقول:
      
عجيـــب أمـرك الرجرا      تضيـــق بعيشـــة رغـد        وترفـض منّـــةً رفهـــاً    وتخشــى الزهــد تعشقــه   ولا   تقــــوى   مصامـــدةً      جُ لا جنفـــاً ولا صـــددا  وتهوى العيشــة الرغـــدا     وتبغــض بُلغــةً صــرِدا    وتعشق كلّ مــن زهـــدا       وتعبـــد كــلّ  من صمـدا

   ويرِدُ ذلك الترابط العضوي للمتناقضات في قصيدته المهداة الى القائد جمال عبد الناصر (بعد وفاته) إذ جمع فيها " المجد والأخطاء" قائلاً:
أكبــرت يومـك أن يكون رثاء      لا يعصم المجـد الرجـال وانمـا تُحصـى عليه العاثـرات وحسبه      الخالــدون عهدتهــم احيــاء           كان العظيم المجــد والأخطــاء       مــا كــان من وثباته الاحصاء


التحـدي
   في التحدي يتجلى صوت الجواهري ضاجّاً بمفردات ذات صور لاهبة، شديدة الايحاء، كثيرة التموّجات، خصبة الأحاسيس، مشحونة ومتوترة، مملوءة بكل معاني الحياة. وتكاد قصيدة مثل " هاشم الوتري" عام 1949 تعبّر عن  مرحلة كاملة، شكّلت المشهد الأكثر حضوراً في الصراع والتحدي، تلك المرحلة التي يطلق عليها الكاتب حسن العلوي " السدس العبقري".
أنــا حتفهم ألـجُ البيوت عليهـمُ مستأجريــن يخربـون ديارهم    متنمرين يُنصّبــون صدورهــم      حتى إذا جدت وغـى وتضرمـت لزمـوا جحورهــم وطار حليمهم      أغـري الوليـد بشتمهم والحاجبــا ويكافئون على الخــراب رواتبــا      مثــل السبـاع ضراوة وتكالبــا       نــارٌ تلــف أباعداً وأقاربـــا           ذعــراً وبُدّلت الأسـود أرانبـــا


أما في السبعينات والثمانينات فقد شهد قاموس الجواهري، نوعاً جديداً من التحدي والكبرياء والاعتداد بالنفس، وقد برز ذلك على نحو واضح في رائعته "أزح عن صدرك الزبدا " التي ألقاها بعد حصوله على جائزة " لوتس" في جمعية الرابطة الادبية في النجف في تشرين الثاني (نوفمبر) 1975.
أزح عـن صـدرك الزبــدا      أأنــت تخـــاف من أحـدٍ        أتخشـى النــاس أشجعهــم        ولا يعلـــوك خيرُهــــم      وقــل تُعدِ العصــور صــدى          أأنــت مصانــــع أحـــدا               يخافـــك مغضبـــاً حَــرِدا            ولســـت بخيرهــــم أبــدا


أما في قصيدة " المتنبي" المنشورة في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 فيصوّر الجواهري شموخ المتنبي وكأنه يتحدث عن نفسه المتحدّية:
تحدّى الموت واختزل الزمانا    فتىً لوّى من الزمن العنانا
فتىً خبط الدنا والناس طُرًّا       وآلى أن يكونهما فكانــا

   وتمثل قصيدته " حسب الثمانين" التي نشرها في صحيفة الشرق الأوسط 19/2/1982 قمّة الاعتداد والتحدي:
حسبُ " الثمانين" من فخرٍ ومن جذَل    يا "ابن الثمانين " كم عولجت من غَصص كم هزَّ دوحك من قزم يطاوله          وكم سعت " إمعات" أن يكون لها       يا " صاحبي" وحتوف القوم طوع يـدي      غشيانها بجنان يافع خضل بالمغريات فلم تشرق ولم تملِ    فلم ينله ولم تقصر ولم يطل       ما ثار حولك من لغو ومن جدل وكم أتتهم " رياح الموت" من قبلي

وراح الجواهري لا ينتقد الحكام حسب ويتحداهم وإنما يلوم المحكومين أيضاً، الذين لا يتمردون ولا يثورون، ففي قصيدته المنشورة في مجلة المجلة 22 كانون الثاني (يناير) 1985، يقول منتقداً بحرقة الأوضاع العربية المزرية، التي جلبت النكبات والهزائم القومية:
   
أفأمــة هــذي التــي هُزلت         يسطـــو على صنم بها صنــمُ      وتناثـرت فكأنهـــا أمــم      ويغـــار من علمٍ بهـا علــمُ

ثم يصعّد ازدراءه فيقول:
أأبا مهند شرّ من حكموا       ماذا على الراعي إذا إغتصبت   يا أيها " الطاعون" حلّ بنــــا      ما كان لولا ذل من حُكموا      عنزُ ولم تتمرد الغنم          وبمثــل وجهــك  تكشف الغمم

الجواهري سياسياً

الجواهري مع كونه عراقياً صميمياً ورائداً من رواد الوطنية الأولى، فهو عربي العقل والهوى والمشاعر.
   ومع أنه كان عربياً أصيلاً، فإن طاقية رأسه كانت مطرزة بكلمة "كردستان" وكانت دواوينه تملأ مكتبات الأكراد أيضاً. وإذا كان قد عانى من التمييز الطائفي بشأن موضوع الجنسية، لكن الطائفية وشرورها لم تعرف طريقاً الى قلبه.
   لقد هجر الجواهري زيّه التقليدي الأول، لكنه ظلّ محافظاً على لغته وبناء قصيدته. ومع أنه اقترب من اليسار الاّ أنه تمايز عنهم، فحمل عبق التاريخ وزهو الثقافة العربية- الاسلامية، وإن مال الى التجديد وتحرر المرأة ومساواتها ونشر التعليم.
   وإذا كان الجواهري مع ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 روحاً وإبداعاً، فإنه  كان مع الملك فيصل الاول ورجاله. ولئن كان مع الزعيم عبد الكريم قاسم في أول أيام الثورة، فمن الطبيعي أن لا يكون معه وهو يستدير بالبلاد بعيداً عن الحكم الديمقراطي، حيث اختار المنفى ومكث فيه سبعاً عجافاً متصلة (على حد تعبيره) منذ العام 1961.

علاقتي بالجواهري
   كان اسم الجواهري، منذ طفولتي، يملأ الأجواء، لدرجة أنه كان يسكن مخيلتي، وأنا ذاهب إلى مدرستي "السلام" الابتدائية في محلة العمارة، بالنجف الأشرف ماراً في الذهاب والإياب أحياناً، أمام جامع الجواهري الشهير. ةهذا الجامع مضى على إنشائه أكثر من مئتي عام. وكان راعي الأسرة الجواهرية وباني مجدها الأول الشيخ محمد حسن، صاحب كتاب "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام"، قد ذاع صيته العلمي في ذلك الزمان. وغدا كتابه مرجعاً رئيسياً للمنهج الدراسي، في جامعة النجف الفقهية.
كانت قصائد الجواهري ودواوينه، تزيّن مكتبة العائلة، إذ كان أعمامي من مريديه والمتغنين بشعره. وتحوي مكتبة الأخوال الكثير من القصاصات والصحف التي تتابع أخباره ونشاطاته الإبداعية، مثلما كانت دواوينه تتصدرها. وكانوا مع مجموعة من المثقفين والأدباء، لا ينفكّون يتجادلون بما نظّمه الجواهري وما كتبه!.
هكذا نشأ الجواهري، معنا في المنزل، إذا جاز التعبير، أو بالأحرى، نشأنا ونحن نتطلّع إليه، فجامع الجواهري للعلوم الدينية والفقهية، كانت قريبة من دارنا في "عكَد السلام" وآل الجواهري، يتوزعون بالقرب من بيوتنا المتراصة والمتكاتفة والملتفة، حول صحن الإمام علي ومرقده الذي تعلوه القبة الذهبية المتوهجة.
في تلك البيئة النجفية ومن أسرة عربية، تهتم - كباقي الأسر الكبيرة في النجف- بالشعر والأدب والمجالس الحسينية، ولدتُ وترعرعتُ، لتغدو تلك الروافد الروحية إحدى أهم ركائز حياتي المستقبلية.
وكان الشعر بخاصة، والأدب بعامة، يشكلان الأساس، الذي لا غنى عنه في المجالس والمناسبات الأدبية والدينية والاجتماعية، التي هي أقرب إلى الأندية الثقافية والفكرية. فقول الشعر في النجف ـ وكما تعارف عليه الناس ـ طبيعي، أي غير مصطنع أو يهدف إلى الكسب، أي إنه وجداني نابع من الشعور وليس أمراً تعليمياً. وفي هذا الصدد يقول الجواهري أن الظاهرتين الدينية والأدبية كانتا تلتقيان وتصب كل منهما في مجرى الأخرى، وذلك بحكم فصاحة القرآن الكريم وبلاغته دينياً.
وكانت المعارك الأدبية والثقافية في ليالي الجمعة أو أماسي الأربعاء  قد حظيت بشهرة كبيرة، كما يورد الشيخ جعفر باقر محبوبة في كتابه "ماضي النجف وحاضرها". فقد كان الشعر متعة تلك المجالس الأثيرة، تجري فيه المطاردات الشعرية وفي المقدمة منها مسابقات "التقفية" الصعبة، حيث يقرأ المتسامرون هذا البيت وذاك ويتركون للآخرين الرد عليهم بأبيات تبدأ بحرف القافية ويواصلون هم أيضاً استنباط القافية.
وإذا كان الشعر علامة فارقة للنجف، فإن جو المدينة كان عاطراً بالعلم والمعرفة والفقه واللغة أيضاً. وقد وصف الأديب اللبناني أمين الريحاني عند زيارته النجف عام 1922 بأنها "أعظم مدينة في العالم" لا في زخارفها أو جمال قصورها، بل في رجالها!! وكان الجواهري قد كتب قصيدته النونية التي أجابه بها ومطلعها:
    أرض العراق سعت لها لبنان
      فتصافح الإنجيل والقرآن
ولكن الريحاني انحاز إلى ساطع الحصري في الخلاف مع الجواهري الأمر الذي ظل يتذكره الجواهري باستمرار، لاسيما وأن الريحاني حاول أن يعرض في كتابه الموسوم "قلب العراق" صورة ذلك الخلاف بطريقة بدت وكأنها ضد الجواهري. فانتهز الجواهري قدومه إلى العراق لتغطية أخبار انقلاب بكر صدقي عام 1936، فنشر مقالة انفعالية مدوية بعنوان "جاسوس في أوتيل تايكرس بالاس" وكانت بمثابة رد فعل لما كتبه الريحاني. ويقول الجواهري: فما كان منه إلاّ أن يطوي أوراقه ويرزم حقائبه ويرحل.

دخل الجواهري ذاكرتي الطفولية الأولى مصحوباً بالتقدير حدَّ التقديس، والافتتان حدَّ الوَله، وبقصائد تحدٍّ، زادت جذوة الفتوة اشتعالاً. وكان هذا يكبر معي بمرور الأيام، خصوصاً التأثر بقدرته العالية في التعبير عن أحاسيس وإرهاصات كان هو وحده خير من يُحسن التعبير عنها، حتى ليقودنا إلى طريق مليئة بالمفاجآت والأحلام، مفضية إلى عوالم أخرى موشاة بالذهب تارة، وبالألغام تارة أخرى.
لازمتني تلك الصحبة على امتداد تلك السنوات. فقد كنت، وما زلتُ حتى بعد رحيله، أجدُ في الجواهري معيناً لا ينضب لينبوع الشعر، المندفع بغزارة والملون بكل ألوان الحياة، فكنت ألتجئ إليه في الحزن والفرح، في الهمِّ والكدر، مثلما في الانشراح والانبساط، في لحظات الضعف، وعند الشعور بالقوة، كنت أجد الجواهري خير مَن يرشدني، فطريق الشعر وإن كان يرميك في أتونه أحياناً وفي محرقة قصائده، فإنه في الوقت نفسه يجعلك تشعر بالدفء، موقداً في روحك التأمل وربما الحكمة أحياناً.
الذاكرة الأولى بدأت تُختزن بقصائد وأبيات لها دلالات ومعان مرتبطة مع تلك الأيام، وبأسماء وبطولات وصور كانت تؤلف المشهد الأكثر حضوراً في الصراع. وينبع بعضها من إشكاليات الجواهري ذاته، إذ باستطاعته تحويل أية مناسبة، إلى فرصة لتقريع الحكام. والحال إن هذه القدرة العجيبة على التحدي، كانت الجانب الأكثر تأثيراً في الشباب التوّاق إلى التغيير والتجديد. وتكاد قصيدة مثل "هاشم الوتري" تعبّر عن مرحلة كاملة، حيث يقول في مطلعها:
إيه "عميد الدار" شكوى صاحبٍ
      طفحتْ لواعجهُ فناجى صاحبا

وقد حدثني كريم مرّوة  أنه حضر تلك الاحتفالية، بصحبة عزيز ابو التمن وناجي جواد الساعاتي، حيث كان طالباً في الإعدادية المركزية ببغداد. وعندما ألقى الجواهري رائعته تلك نزلت كالصاعقة على رؤوس أركان العهد الملكي، إذ كان حاضراً الوصي عبد الاله ونوري السعيد وآخرون، وكانت أصابع الجواهري تشير اليهم متوعدة. وبعد الإنتهاء من إلقاء القصيدة قام الجواهري بتمزيقها كما يذكر في حوارات مطوّلة مع كاتب السطور، ثم رماها تحت الطاولة. يقول كريم مرّوة: فما كان منيّ الاّ أن لملمت المِزق ووضعتها في جيبي وحملتها معي الى لبنان في رحلة العودة مع عائلة حسين مرّوة ، الذي سبقهم اليها، حيث أمرت السلطات باسقاط الجنسية العراقية "المكتسبة" عنه لأسباب سياسية، وكان قد حصل عليها خلال فترة إقامته في العراق الممتدة ما بين عام 1924 ولغاية العام 1949.
ويذكر كريم مرّوة  أنه زار الجواهري في سجنه بصحبة عزيز أبو التمن والساعاتي بعد حصوله على ترخيص من مدير التحقيقات الجنائية بهجت العطية، وقد أطلق سراح  الجواهري بعد ذلك بأيام بسبب فقدان الأدلة الثبوتية، إذ مزّق القصيدة  وضاعت آثار "الجريمة".
ولكن القصيدة ظهرت الى الوجود فجأة في لبنان. فكما يقول كريم مرّوة  قمنا أنا وحسين مرّوة  وولده نزار مرّوة  بترتيب القصاصات الممزقة، لتولد القصيدة مجدداً وترى النور، حيث أرسلناها لتنشر في صحيفة " التلغراف".
وما إن وصلت القصيدة المنشورة الى العراق، حتى استُدعي الجواهري الى التحقيق من جديد وأودع السجن، لكن الجواهري ومرّوة يؤكدان أن معاملة السجانين كانت أكثر رفقاً في ذلك العهد منها في أزمان لاحقة وبخاصة في العهود الجمهورية بعد اسقاط النظام الملكي عام 1958، ولعل مقارنة بين حجم الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان تؤيد ذلك.
*   *   *
رحلتي مع الجواهري امتدت من المنزل الى المدرسة فالمدينة، ومثلما اكتحلت عيناي برؤيته في بغداد، فقد اكتحلت بصحبته المديدة في براغ ودمشق ولندن.
سلاماً أيها الجواهري الكبير.. اشتياقاً لعراق الجواهري!!






مجلة الآداب اللبنانية العدد 12 كانون الأول (ديسمبر) 2008

1224
حقوق الإنسان بين التقديس والتدنيس!!
د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

مرّت الذكرى الـ60 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكتب عنها الكثيرون هذا العام، ولا يتعلق الأمر بزيادة الوعي بأهمية احترام حقوق الإنسان حسب، بل أحياناً لانتقاد الظاهرة، وكأنها هي المسؤولة عن مآسي مجتمعاتنا، دون الالتفات إلى حجم التحديات الخارجية التي تهدد بلداننا وشعوبنا وحجم التحديات الداخلية، التي لاتزال تشكل عائقاً أمام التقدم الحقيقي الذي تطمح إليه، لاسيما باحترام حقوق الإنسان.
وبين الرغبة في التقديس لدى البعض، ويقابلها الرغبة في التدنيس لدى البعض الآخر، لاسيما من الناقمين على مؤسسات وهيئات حقوق الإنسان، يتخذ الحديث عن حقوق الإنسان منحىً سياسياً وآيديولوجياً أحياناً وفي أحيان أخرى يغلّف بإطار ديني، في حين أن هذه الحقوق هي حقوق طبيعية ولصيقة بالإنسان، وهي حقوق أصيلة في الوقت نفسه: مثل الحق في الحياة والعيش بسلام ودون خوف والحق في الحرية والحق في المساواة والحق في المشاركة وعدم التمييز لأي سبب كان، والحق في أن يكون للإنسان جنسية لا يمكن نزعها تعسفاً، وعدم إخضاعه للتعذيب وحقه في محاكمة عادلة، مثل حقه في السلام وفي بيئة نظيفة وحقه في التنمية وحقه في الصحة والتعليم والعمل وحقه في الاستفادة من الثورة العلمية- التقنية، وحقه في التمتع بالثقافة وحقه في التعددية والاعتراف بشخصه الاعتباري والقانوني وحماية كرامته وحقه في اختيار الحاكم واستبداله وغيرها من طائفة الحقوق والحريات، الخاصة والعامة، الفردية والجماعية.
ولعل حقوق الإنسان لا تتوقف عند حد أو تنتهي عند زمن، فهي مستمرة ومتصاعدة ومتواصلة، وما كان حقاً قبل قرن من الزمان، فقد تطور هذا الحق وأضيفت إليه حقوق جديدة، كما تجذّرت هذه الحقوق واكتسبت بُعداً أكثر عمقاً وشمولاً، وبالتأكيد ستكون حقوق ما بعد قرنين من الزمان هي غير حقوق الحاضر أو حقوق الماضي، وهكذا هي السيرورة الإنسانية.
وإذا كانت البلدان الأوروبية قد شهدت احتفالات كبرى بهذه المناسبة وربما مبالغ فيها أحياناً، لاسيما مطالبتها البلدان النامية باحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، إلاّ أنها بكل أسف كشفت على نحو سافر وصارخ مدى التواطؤ في هذه المسألة النبيلة، والسعي إلى توظيفها لأهداف سياسية ومصالح أنانية ضيقة، وكان لاعتراف الرئيس بوش بأن معلوماته عشية غزو العراق كانت مضللة، فضيحة أخلاقية وقانونية وسياسية خطيرة، وهي ترتب مسؤوليات قانونية عن كل ما حصل في العراق من تدمير وقتل وتبديد للأرواح والموارد.
واليوم تشهد غزة حصاراً شاملاً لمنع وصول الغذاء والدواء والوقود إليها، وهذا الحصار المستمر منذ عدة أشهر هو شكل من أشكال جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية ويهدف إلى خنق شعب تعداده مليون ونصف المليون نسمة، كما تستمر جماعات الاستيطان بمهاجمة منازل ومحال الفلسطينيين في الضفة الغربية، مثلما حدث في مدينة الخليل، حيث هاجم نحو 500 مستوطن منازل الفلسطينيين وأحرقوها تحت حماية السلطات الإسرائيلية، الأمر الذي يستحضر ما حصل لفلسطين طيلة ستة عقود من الزمان من الهادر السافر والصارخ لمنظومة حقوق الإنسان الجماعية والفردية، الخاصة والعامة، المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن اغلاق الحدود وإقفال المعابر لا يعني سوى محق تدريجي منظم لسكان قطاع غزة، وذلك عشية وبُعيد الذكرى الـ60 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو العام نفسه الذي تأسست فيه إسرائيل 1948، وتعهدت بالالتزام بميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص في سبعة مواضع فيه على احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
وكان يوم صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عدد أعضاء الأمم المتحدة 56 دولة حيث وافقت على الإعلان 48 دولة، ولم تعترض عليه أي دولة، في حين تحفظت عليه 8 دول هي 6 من الدول الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق وجنوب إفريقيا العنصرية، والمملكة العربية السعودية آنذاك.
وإذا كان هناك 60 عاماً بين العام 1948 و2008 فإن الكثير من التطورات والتغييرات قد حصلت، ولا شك أن بعضها كان إيجابياً، خصوصاً بعد صدور العهدين الدوليين لحقوق الإنسان من الجمعية العامة للأمم المتحدة، الأول الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والثاني الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وذلك في العام 1966، وهذان العهدان هما اتفاقيتان دوليتان «اشتراعيتان» أي منشئتان لقواعد قانونية جديدة أو مثبتتان لها، وقد دخلا حيّز التنفيذ العام 1976، ومن أهم موادهما مادة متميزة نصت على حق الشعوب في تقرير مصيرها، ومثل هذا الحق خلا منه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يعتبر نقصاً خطيراً في حينها، حيث عارضت الدول الاستعمارية إدراج مثل هذا النص، لكن صدور إعلان تصفية الاستعمار العام 1960 ساعد وساهم في إقرار هذا الحق كقاعدة أساسية مستقلة، خصوصاً أنه يعتبر ركناً أساسياً من أركان القانون الدولي المعاصر. وبهذه المناسبة يجدر بنا نحن العرب أن نتذكر دور العلاّمة اللبناني شارل مالك الذي كان له الفضل الأكبر في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لاسيما جانبه الفلسفي، الذي أعطاه نكهة وتميّزاً ليكون لاحقاً فضاءً لاتفاقيات ومعاهدات وتصريحات دولية زادت على 130 في إطار المنتظم الدولي، وكلّها تقنن و«تشرعن» حقوق الإنسان، حيث كان الإعلان العالمي الشجرة الوارفة التي تفرعت عنها هذه الغصون المثمرة، وبدلاً من الانتقادات والتحفظات الكبيرة والكثيرة التي لاتزال العديد من البلدان العربية تتخذها سياسة رسمية إزاء حقوق الإنسان، رغم بعض التطورات في هذا الميدان، فإنه يحق لنا اليوم أن نستحضر مساهماتنا تاريخياً، لاسيما في حضارتنا العربية الإسلامية بما فيها من نماذج إيجابية.
إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يعتبر أهم وثيقة دولية صدرت في القرن العشرين، حيث احتوى على ديباجة و30 مادة تحدثت عن المساواة في الكرامة وحظر التمييز لأي سبب كان، وتناول الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كإطار عام جاء تقنينها في العهدين الدوليين لاحقاً.
وعندما نتحدث عن حقوق الإنسان فإننا نقصد بذلك رزمة الاحتياجات والمتطلبات التي يتطلب توافرها لجميع الأشخاص في كل المجتمعات، وبهذا المعنى فإننا نقصد أن حقوق الإنسان هي واحدة في كل بلدان العالم، ويتمتع بها كل البشر لكونهم بشر ليس إلاّ، وعلى نحو متساوٍ، بغض النظر عن المجتمع أو الدولة أو الجماعة التي ينتمي إليها الإنسان، أو اللغة التي يتكلمها أو جنسه أو منشئه الاجتماعي أو العرقي أو لونه أو دينه.
وهكذا فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تضمن قيماً ذات طبيعة شمولية، فالحق في الحياة والحق في الحرية وفي الكرامة وعدم التعرض للتعذيب أو المعاملة الحاطة بالكرامة والحق في المساواة وفي التعبير وفي محاكمة عادلة وغيرها، هي حقوق تعني البشر جميعاً مثلما هو الحق في الصحة والتعليم والعمل والضمان الاجتماعي وغيرها، وهذه جميعها حقوق تُعنى بالبشر جميعاً، بصرف النظر عن عرقهم ودينهم ولغتهم ولونهم وجنسهم وانحدارهم الاجتماعي.
إن هذه القيم التي وردت في الإعلان تحوّلت إلى نصوص قانونية ملزمة تضمنها العهدان الدوليان، وهي بإضافتها إلى الإعلان تشكل «الشرعة الدولية لحقوق الإنسان» ويضيف البعض البروتوكولين الملحقين بها، وإذا كان العالم قد سار بخطوات حثيثة لتأمين مستلزمات تطبيق القواعد الدولية لحقوق الإنسان، لاسيما بدمجها بالتشريعات الوطنية والالتزام بها ومساءلة الذين يقومون بانتهاكها وتطبيق ذلك لا على المحكومين فحسب، بل على الحكام أيضاً، فإننا في العالم العربي مازلنا في بداية الطريق، وهذه محفوفة بالكثير من التحديات الداخلية والخارجية، فإضافة إلى محاولات فرض الهيمنة والاستتباع وتعطيل التنمية والعدوان المتكرر والاحتلال والحصار، فإن هناك تحديات داخلية تحول دون تأمين تطبيق القواعد الدولية لحقوق الإنسان، تارة بحجة الخصوصية وأخرى بزعم أن حقوق الإنسان اختراع مشبوه وبدعة غربية وثالثة لتعارضها مع تقاليد وموروث مجتمعاتنا، وليست في ذلك سوى رغبة في التحلل من الالتزام الدولي بشأن احترام حقوق الإنسان، الذي أصبح قاعدة ملزمة وآمرة.
وإذا كان لنا رافدنا الثقافي والتاريخي الذي نعتزّ به من حلف الفضول ودستور المدينة وصلح الحديبية، وبالأساس القرآن الكريم فإنه إسهام في الماضي، ولعله سيسهم في الحاضر، خصوصاً بتوافر إرادة التغيير والإصلاح واحترام حقوق الإنسان في إغناء وتطوير الفهم المتجدد لحقوق الإنسان، وليس العكس، لاسيما للقيم الكونية الشاملة.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 489الجمعة 19 ديسمبر 2008 ,22 ذو الحجة 1429

1225
المنبر الحر / جائزة التسامح
« في: 17:28 08/12/2008  »
جائزة التسامح
عبدالحسين شعبان
2008-12-08
في ختام اجتماعها في لبنان (برمانا) أقرت الشبكة العربية للتسامح، وهي منظمة إقليمية غير حكومية تأسست من شخصيات ثقافية وأكاديمية وحقوقية، وثيقة برنامجية اعتبرت بمثابة مرجعية فكرية استندت إلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والعديد من الوثائق والمعاهدات الدولية ذات الصلة. كما أقرت منح جائزة سنوية تقديرية، وهي عبارة عن وسام ومكافأة مالية رمزية لإحدى الشخصيات العربية، ممن لها حضور اجتماعي أو إبداعي أو أكاديمي أو إعلامي أو مساهمات ونشاطات فكرية وعملية، بما يخدم قيم التسامح ويعزز رصيدها المعنوي والأخلاقي من جهة، والحقوقي والقانوني من جهة أخرى.
ولعل هذه هي المرة الأولى التي تؤسس فيها شبكة عربية تهتم بالتسامح، لاسيما بعد أن طفح كيل مجتمعاتنا من التمييز والتعصب والتطرف والعنف والغلو، وإلغاء وإقصاء الآخر ومنع حقه في الوجود والتطور أحياناً.
وإذا كانت قضية التسامح حديثة في مجتمعاتنا العربية وهي ما تفتقر له وما تحتاج إليه، فإنها ما تزال محدودة على الصعيد العالمي، وإن كانت بعض المجتمعات قد وصلت إليها بعد معاناة طويلة.
ولعل إعلان منظمة اليونسكو بشأن التسامح كان قد حثّ المجتمع الدولي على الاحتفال بيوم التسامح من كل عام، وذلك بتحديد يوم 16 نوفمبر باعتباره اليوم العالمي للتسامح ودعا إلى اعتماد أساليب منهجية وعقلانية لتعليم التسامح، وذلك بعد تشخيص أسباب عدم التسامح أو اللاتسامح، الثقافية والاجتماعية والدينية والسياسية وغيرها، أي أنه دعا إلى فحص وتدقيق الجذور الرئيسية للتمييز والعنف والاستبداد في المجتمعات، لاسيما مع الآخر المختلف، دون تأثيم أو تحريم أو تجريم.
ومنذ عام 1996 والأمم المتحدة، استناداً إلى إعلان اليونسكو 1995، تحتفل باليوم العالمي للتسامح، الذي يعني فيما يعنيه أن المجتمع البشري بحاجة إلى نشر وتأصيل قيم التسامح كمنظور إنساني وأخلاقي، لا يمكن تقدّم المجتمع الدولي والإنساني من دونه، إذ لا يمكنه الخروج من غلواء التطرف والتعصب واللاتسامح، إلاّ بتعميم فكرة قبول الآخر، حتى وإن تناقض مع رأي «الجماعة»! وحسب إعلان اليونسكو فالتسامح يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، وهو يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال مع الآخر وحرية الفكر والضمير والمعتقد.
التسامح لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو فريضة سياسية وقانونية في الوقت نفسه، وقد أصبح حاجة ماسّة وليس ترفاً فكريا، فنقيضه هو اللاتسامح والتعصب والاستئثار ورفض الآخر. والتسامح يعني اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخر في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية. وبهذا المعنى فهو مسؤولية قيمية وواقعية للإقرار بالحقوق والتعددية والديمقراطية وحكم القانون، وهو أمر ينطوي على نبذ الدوغمائية والاستبدادية، خصوصاً بالإقرار بحق الإنسان في التمسك بمعتقداته، وهو إقرار ناجم عن أن البشر المختلفين في طباعهم ومظاهرهم وأوضاعهم وسلوكهم وقيمهم وقومياتهم ودياناتهم ولغاتهم وأصولهم، لهم الحق والمساواة في العيش بسلام، ولعل الخطوة الأولى لتعميم مبدأ التسامح حسب إعلان اليونسكو هي «تعليم الناس الحقوق والحريات التي يتشاركون فيها»، وذلك كي تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين.
وإذا ما استعرضنا العوامل الكابحة لنشر قيم التسامح، فعلى الصعيد الفكري ستعني حجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير لدى الآخر، بفرض قيود وضوابط تمنع أو تحول دون ممارسة هذه الحقوق، وأحياناً تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد أو مألوف سواءً عبر قوانين مقيّدة أو ممارسات قمعية تحت مبررات شتى.
أما على الصعيد السياسي فإن اللاتسامح يعني احتكار الحكم والسعي للحفاظ عليه وتبرير مصادرة الرأي الآخر، تحت مبررات مختلفة، تارة قومية أو بحجة الصراع العربي-الإسرائيلي، وأخرى طبقية بحجة الدفاع عن مصالح الكادحين، وثالثة دينية بحجة الحفاظ على الدين وإعلاء كلمته، وفي كل الأحوال فإن الأمر لا يعني سوى إسكات الصوت الآخر أو تسويغ فكرة الاستئثار وادعاء الحقيقة.
وعلى الصعيد الديني فإن عدم التسامح يعني التمييز بحجة الأفضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أي رأي حر، بحجة المروق في ظل تبريرات ديماغوجية وضبابية، تمنع الحق في إعطاء تفسيرات مختلفة، خصوصاً ضد ما هو سائد، وأحياناً تزداد اللوحة قتامة في ظل الدين الواحد عبر التمترس الطائفي أو المذهبي في محاولة لإلغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الفقهية الأخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة.
واجتماعياً فإن عدم التسامح يعني فرض نمط حياة معينة بغض النظر عن التطورات العاصفة التي شهدها العالم، لأنماط متنوعة، مختلفة، متداخلة، متفاعلة، وأحياناً يتم التخندق بسلوك وممارسات عفا عليها الزمن وأصبحت من تراث الماضي.
وثقافياً، فإن اللاتسامح يعني التمسك بالقيم والمفاهيم القديمة والتقليدية ومحاربة أي رغبة في التجديد، أو أي شكل أو نمط للتغير، حتى إن الشعر الحديث يصبح «بدعة وضلالاً»، بل ضد التراث والتاريخ، وربما مؤامرة كبرى تستحق رجم ومعاقبة القائمين عليه، وتنسحب مثل هذه النظرة على الكثير من الآداب والفنون وبخاصة الموسيقى والرقص والغناء والمسرح والنحت وغيرها، ناهيك عن الحب!
وإزاء الانغلاق وعدم التسامح الذي يسود عالمنا العربي والإسلامي، ورغم بعض الإرهاصات الجديدة، نرى العالم يسعى لتوسيع التسامح حقوقياً بعد أن جرى تعميمه أخلاقياً، بحيث تشتمل الدعوة للدفاع عن أولئك اللامتسامحين أو الذين ينشرون ويروجون لأيديولوجيات اللاتسامح التوتاليتارية. ورغم أن هذه الفكرة تثير نوعاً من النقد وربما الفزع في الغرب حالياً، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة لأن هناك من يعتبرها خطراً على فكرة التسامح ذاتها، بل وتدميرها للحرية، لكن كارل بوبر، يجيب بأن علينا عدم الانخداع بذلك الشعور الغريزي بأننا على صواب دائماً.
وتطور مفهوم التسامح من الفرد إلى المجتمع ومنه إلى الدولة، ثم إلى المجموعة الدولية، ولم يعد المفهوم اصطلاحياً أو لغوياً يرتبط بالتكرم والسخاء والجود والعفو والصفح والغفران والتساهل وغيرها، بل وصل إلى الاعتراف بالحق واحترام الحق، مثلما له علاقة بالعمران والتنمية.
إن نشر مبادئ التسامح وسيادة روح الحق في الاختلاف، تتطلب إعادة التفكير في الموروث الثقافي وأخذ التراث في سياقه التاريخي وإعادة بناء العلاقة بين الثقافة والدولة وبين المجتمع والسلطة وبين الحكومة والمعارضة، التي هي مسؤولية جماعية وفردية في آن، فلا يوجد مجتمع بمعزل عن إغراء الإقصاء أو اللاتسامح، إلاّ إذا أثبت هذا المجتمع قوة عزيمة ويقظة دائمة.
التسامح واللاتسامح ليس لصيقاً بتراث أو مجتمع، إنه يمتد عبر العصور فلا هو غربي ولا هو شرقي. ورغم أن الأديان جميعها تعلن تمسكها بالتسامح، فإن الحروب والإبادات استمرت عبر التاريخ وتمت في الكثير من الأحيان باسمها وتحت لوائها.
يمكن القول إن كل المجتمعات البشرية تحمل قدراً من اللاتسامح سلبياً أو إيجابياً، لكن الفرق بين مجتمع وآخر هو في مدى اعتبار التسامح قيمة أخلاقية وقانونية ينبغي إقرارها والالتزام بها حتى وإن كان البعض لا يحبّها، فعلى حد تعبير غاندي «لا أحب التسامح ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده». واعتبر غاندي التسامح هو القاعدة الذهنية في التعامل مع الآخر، لأننا لا نفكر جميعاً بنفس الطريقة ولا ندرك إلاّ جزءاً من الحقيقة ومن زوايا مختلفة.
أما الفرق الثاني بين المجتمعات المفتوحة التي توافق على التسامح وبين المجتمعات المغلقة التي ما تزال تتمسك باللاتسامح وبتهميش أو إلغاء الآخر، فإن بعض المجتمعات تستطيع إدارة التنوّع والتعددية الثقافية والدينية واللغوية والسلالية والاجتماعية وغيرها، في حين تخفق أو تعجز فيها مجتمعات أخرى، ويوجد في العالم اليوم أكثر من عشرة آلاف تعددية، الأمر الذي يستوجب أن تكون الدولة هي الحاضن الأكبر للتسامح، وهو يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الأنا والآخر على أساس المواطنة والمساواة الكاملة، ومن خلال التربية والاستفادة من المخزون القيمي للأديان وللفطرة الإنسانية، وهو ما ينبغي أن ينعكس على الصعيد الدولي أيضاً.
بقي أن نقول إن التسامح ليس أيديولوجيا مثل الأيديولوجيات الأخرى الاشتراكية أو القومية أو الدينية، بل هو جزء من منظومة ثقافية، وعلينا أن نتعاطى معه على هذا الأساس الذي يسهم في تنمية المجتمع من خلال سنّ منظومة قانونية لا تعترف بالتمييز أو التعصب أو التطرف أو العنف، وهو ما تبنته الشبكة العربية للتسامح عندما وضعت شرطاً لمنح الجائزة على أن يكون «من الداعين لفكرة المساواة وحق البشر في العيش بسلام ودون خوف على المستوى الفردي والجماعي، دون تعصب أو انغلاق أو إقصاء أو إلغاء».

1226
المنبر الحر / زمان الطائفية
« في: 12:56 08/12/2008  »
زمان الطائفية

عبدالحسين شعبان
 

رغم أن الجميع يبرئ نفسه من تهمة الطائفية، أو يحاول إلصاقها بالآخرين، أو نسبتها الى سلوك وتصرف فردي أحياناً، أو إيجاد ذرائع ومبررات تاريخية على المظلومية أو الحق في التسيّد وسعى لإحقاق الحق وتعويض الاجحاف والغبن، بادعاء تمثيل الطائفة أو النطق باسمها، مع تأكيدات بملء الفم بنبذ الطائفية أو استنكارها وفي أحيان أخرى اعتبارها “جريمة بحق الشعب والوطن”، لكن هذه الدعاوى وان اقترنت احياناً برغبات صادقة، الاّ أنها تعود وتصطدم بوقائع مريرة وقيود ثقيلة، تكاد تشدّ حتى أصحاب الدعوات المخلصة الى الخلف، إن لم تتهمهم، أحياناً بالمروق والخروج على التكوينات والاصطفافات المتوارثة.

ولعل بعض العلمانيين والحداثيين، انساقوا وراء مبررات أو تسويغات تحت شعار الواقعية السياسية والاجتماعية التي تقضي انخراطهم في اطار الحشد الضخم من كتل بشرية هائلة تذكّر بعصر المداخن، تحركها زعامات مستفيدة بإثارة نزعاتها البدائية إزاء الغير أو رغبة في الهيمنة.

ومثل هذا الأمر لمسته في العراق بشكل خاص ما بعد الاحتلال، وربما الى حدود معينة في لبنان، وإن لم يقتصر الأمر على هذين البلدين فحسب، بل ان اتجاهاً نحو التشظي الطائفي والمذهبي والاثني والتمترس الديني أصبح جزءًا من خصوصيات المرحلة، وقد تجلى ذلك بما تعرّض له المسيحيون في العراق مؤخراً وكذلك اليزيديون والصابئة وغيرهم.

وإذا كان الانخراط جزءاً من تبرير الواقعية وعدم العزلة، فهناك من استطاب بعض الامتيازات التي حصل عليها باسم الطائفة أو بزعم تمثيلها، أو التنظير لكيانيتها تحت أسماء مختلفة، سواء كانت أقاليم أو فيدراليات أو كانتونات لا فرق في ذلك.

وبودي أن أشير الى أن الطائفية تختلف اختلافاً جذرياً عن الطائفة، ذلك أن الأخيرة هي تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وإرث طقوسي تواصل عبر اجتهادات فقهية ومواقف نظرية وعملية، اختلط فيها ما هو صحيح ومنفتح، بما هو خاطئ وانعزالي أحياناً، لكنها تكوين أصيل وموجود وتطور طبيعي، وليس أمراً ملفقاً أو مصنوعاً، في حين أن الطائفية، هي توجّه سياسي يسعى للحصول على امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة أو ادعاء تمثيلها أو اثبات تمايزات عن الطوائف الأخرى، حتى وإن كان بعضها فقهياً أو شكلياً، وأحياناً مفتعلاً واغراضياً بهدف الحصول على المكاسب، حتى وإنْ أدّى الأمر الى التباعد والافتراق والاحتراب، ناهيكم عن زرع الأوهام حول “الآخر”، بصورة العدو او الخصم، وبالتالي خلق حالة من الكراهية والعداء، في رغبة للاقصاء والالغاء، بعد التهميش والعزل، مروراً بالتحريم والتأثيم، وإنْ تطلب الأمر التجريم أيضاً، فتراه لا يتورع من التوّغل حيث تتحقق المصالح الذاتية الانانية الضيقة، وإن تعارضت مع مصلحة الوطن والأمة.

وبعض هؤلاء المنخرطين في البغضاء الطائفية أو الحقد والكراهية لا علاقة لهم بالدين، فهم غير متدينين، فكيف يتعصبون للطائفة إنْ كانوا غير متدينين أو حتى مؤمنين أصلاً، وهو ما أطلق عليه عالم الاجتماع العراقي علي الوردي “طائفيون بلا دين”.

وعانت بلادنا العربية من هذه الظاهرة الطائفية الانقسامية، بسبب ضعف الثقافة الاسلامية من جهة وضعف الثقافة المدنية الحقوقية من جهة أخرى، وبسبب موروث تاريخي، وقراءة مغلوطة للتراث الاسلامي بفرقه وفقهه وجماعاته المجتهدة، بل إن هناك أوهاماً تاريخية تم إلصاقها ببعض مفاصل التاريخ  بما فيها تاريخ الخلفاء الراشدين الاربعة وما بعدهم. وينسى هؤلاء أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (الفاروق) كان يردد: لولا علي لهلك عمر، لاسيما استشاراته في الكثير من القضايا القضائية وما يتعلق بالحُكم والسياسة ودلالاتهما وأبعادهما في ظرف ملموس.

ولعل المذاهب الفقهية الاسلامية نشأت متقاربة وانتقلت بعض الأحكام من هذا المذهب الى ذاك، تبعاً للظروف من جهة، ومن جهة أخرى للتأثيرات التي قد تقع عليها، فقد كان الفقيه والعالم الكبير أبو حنيفة النعمان تلميذاً نجيباً للفقيه الضليع الامام جعفر الصادق، وهما قطبان لمذهبين أساسيين في العالم الاسلامي، المذهب الحنفي (السني) والمذهب الجعفري (الشيعي الاثني عشري) حيث يشكل الاول أغلبية ساحقة، في حين يشكل الثاني أقلية متميزة، لاسيما في بعض البلدان التي يكون فيها أكثرية، أما المذهب الشافعي والمالكي فلهما حضور في شمال إفريقيا وبلدان أخرى، في حين أن المذهب الحنبلي هو خامس هذه المذاهب الاساسية.

وإذا كان الاصطفاف عقلياً واجتهادياً، فإن العلاقة التي ينبغي أن تسود بين المذاهب والطوائف ينبغي أن تكون هي الأخرى عقلية وسلمية وعلى أساس المشترك الانساني والوطني والعروبي والاسلامي، وليس وفقاً لمصالح سياسية أنانية ضيقة، تريد دفع الأمور باتجاه الافتراق الذي لا عودة فيه ولا امكانية لاعادة لحمته، ولعل بعض امراء الطوائف سيكونون المستفيدين من هذا الانقسام والتناحر، طالما يؤمن لهم زعاماتهم وامتيازاتهم، وحتى تفاهماتهم مع أمراء الطوائف في الأطراف الأخرى.

بين الطائفية والمواطنة فرق كبير وشاسع، والمواطنة ليست طائفية حتى وان انتمى المواطن الى طائفة، الاّ ان الاساس الذي يربطه بالمواطن الآخر هو الوطن والمواطنة والحقوق المتساوية، المتكافئة، والمشترك الانساني، وإذا ما أقرّ الجميع ذلك وفق دستور ينظم علاقة المواطن بالدولة، فالأمر يقتضي أن تكون هي المرجعية وليس غيرها، وهو ما يتطلب انزال أشد العقوبات بمرتكبي الطائفية (حسب قانون لتحريمها وتعزيز المواطنة) سواء بالدعوة اليها أو الترويج والتستر عليها او التهاون في مكافحتها أو اخفاء معلومات عنها.

إن الطائفية والتمذهب، يمكن أن يرتقيا الى مصاف جرائم الخيانة العظمى، لاسيما إذا اقترنتا بأفعال وأنشطة من شأنها أن تؤدي الى انقسام في المجتمع ونشر الفوضى والاضطراب، واستخدام العنف والقوة والتمرد، وقد تقود الى حرب أهلية، خصوصاً في ظل استفزاز المشاعر الخاصة، ودفعها باتجاه عدواني ضد الآخر، الأمر الذي قد يصل الى ما لا تُحمد عقباه.

وإذا كان الانتساب الى الطائفة أمر طبيعي، مثل الانتساب الى الدين وهي فرع منه، أو الانتساب الى الوطن، أو الأمة، لاسيما وان الانسان غير مخيّر فيها، فقد يولد الانسان مسلماً أو مسيحياً وعربياً او غير عربي ومن منطقة معينة ومن طائفة معينة حسب الآباء والأجداد، ولم يسأله أحد عن رغبته وقد لا يجوز له تغيير ذلك لو أراد بحكم قيود وضوابط قد تؤدي الى هلاكه، لاسيما في ظل النزعات المتطرفة والمتعصبة السائدة، لكن التمترس وراء طائفته ومذهبه ضد الآخر وبهدف الحصول على امتيازات فهذا شيء آخر، خصوصاً إذا كان على حساب المواطنة والمساواة، بما يؤدي الى التمييز لأسباب طائفية، الأمر يلحق ضرراً بحقوق الطائفة ذاتها وأفرادها وبالوطن والأمة ككل، جماعات وأفراداً وبقضية حقوق الانسان ككل.

ولتعزيز قيم المساواة والمواطنة وتطويق الطائفية سياسياً واجتماعياً بعد تحريمها قانونياً، ينبغي حظر العمل والنشاط السياسي، وتحت أية واجهات حزبية أو اجتماعية أو مهنية أو نقابية أو ما شابه ذلك، إذا كانت تسعى لنشر الطائفية أو المذهبية (التمييز الطائفي أو المذهبي)، بصورة علنية أو مستترة، خصوصاً بحصر الانتساب الى ذلك الحزب أو المنظمة أو الجمعية أو تلك، بفئة معينة، بادعاء تمثيلها أو النطق باسمها أو التعبير عنها.

كما لا بدّ من منع استغلال المناسبات الدينية للترويج للطائفية أو المذهبية، بغية إثارة النعرات والعنعنات بين الطوائف وإضعاف مبادئ الوحدة الوطنية والهوية الجامعة المانعة، التي أساسها الوطن والانسان، ويقتضي ذلك أيضاً منع استخدام الطقوس والشعائر والرموز الدينية بما يسيء الى الطوائف الأخرى، خصوصاً من خلال الاعلام المكتوب والمسموع والمرئي والالكتروني، الأمر الذي يتطلب على نحو ملح إبعاد الجيش والمؤسسات الأمنية ومرافق الدولة العامة عن أية انحيازات أو تخندقات طائفية بشكل خاص وسياسية بشكل عام.

وإذا أردنا وضع اليد على الجرح فلا بدّ من حظر استخدام الفتوى الدينية لأغراض سياسية، لاسيما انخراط رجال الدين فيها، خصوصاً إذا كانت تتعلق بالشأن العام السياسي، وهذا الامر ينطبق أيضا على الجامعات والمراكز المهنية والاجتماعية والدينية والاندية الرياضية والادبية والثقافية، التي ينبغي أن تكون بعيدة عن أية اصطفافات طائفية أو مذهبية.

ان بناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية واحترام حقوق الانسان وحقوق المواطنة كاملة، يقتضي وضع حد للطائفية السياسية تمهيداً لتحريمها ومعاقبة القائمين عليها أو الداعين لها أو المتسترين عليها، وهي الطريق الأمثل للوحدة الوطنية والهوية الجامعة- المانعة وحسب زياد الرحباني “يا زمان الطائفية.. خليّ إيدك على الهوية”!!.

* مفكر وباحث عربي
جريدة الخليج الاماراتية الأربعاء ,26/11/2008


1227
أوباما الشرق أوسطي!!


د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

لاشك أن سياسة الرئيس بوش والجمهوريين خلال السنوات الثماني كانت هي الأسوأ، لا سيما بخصوص المسألة الفلسطينية والصراع العربي-الإسرائيلي، حيث أدخلت الولايات المتحدة في نفق مظلم زاد منه قتامة المشهد السياسي، خصوصاً بعد احتلال العراق.
ولهذا استبشر الكثير من العرب بالهزيمة التي مني بها الجمهوريون، وعبّروا عن ارتياحهم للفوز الساحق الذي حققه الديمقراطيون بفوز باراك أوباما، وهو أول رئيس أسود يدخل البيت الأبيض، ويأتي نجاحه بعد فترة قاسية بالنسبة للعرب والفلسطينيين، حيث زادت من صورة الولايات المتحدة سلبية وتدهوراً في العالم العربي، فإضافة إلى احتلال العراق العام 2003، فقد بررت واشنطن لإسرائيل عدوانها على لبنان العام 2006 معتبرة ذلك ولادة جديدة للشرق الأوسط، على حد تعبير وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس خلال العدوان، وحاولت واشنطن ثني مجلس الأمن الدولي من إصدار أي قرار يدعو إلى وقف القتال، ناهيكم عن إدانة إسرائيل، متنصلة عن موقعها الدولي باعتبارها عضوا في مجلس الأمن الدولي الدائم، إضافة إلى كونها معنية بشكل خاص بالملف العربي-الإسرائيلي.
وقد وصلت القضية الفلسطينية في فترة رئاسة بوش إلى طريق مغلق بسبب التعنت الإسرائيلي والعنف والإرهاب الذي مارسته إسرائيل خلال الفترة المنصرمة، خصوصاً بعد تعثر اتفاقيات أوسلو، ومسار خارطة الطريق الفلسطينية-الإسرائيلية، وبالأخص الآفاق المضببة التي واجهتها قبل نهاية العام 1999 حتى الآن، بما فيها بعد ذلك بناء جدار الفصل العنصري وتقطيع أوصال الأرض الفلسطينية ومحاصرة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وتطبيق عقوبات اقتصادية مشددة ضد قطاع غزة خلافاً للشرعية الدولية ولمبادئ حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي الإنساني.
لعل بعض العرب يتوقعون أن يقدّم الرئيس الجديد شيئاً جديداً مختلفاً عن إدارة بوش، وهو وإن كان ممكناً، إلاّ أنه ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار ثبات أهداف السياسة الأميركية في الشرق الأوسط مع تغيير الرؤساء، إضافة إلى تغلغل النفوذ الصهيوني واللوبي المساند لإسرائيل مالياً واقتصادياً وإعلامياً وحكومياً، لكن الأمر يحتاج إلى جهود ومثابرة ونضال على مختلف الجبهات وبجميع الأسلحة، وذلك ما ينبغي على العرب أن يأخذوه بالحسبان عند التصدي والمعالجة للقضية الفلسطينية وللصراع العربي-الإسرائيلي، سواء من خلال تفعيل المبادرة العربية لعام 2001 أو ما بعدها، باتجاه حل يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية على أساس حق تقرير المصير، وإن كان لا يلبّي كامل طموحات الشعب العربي الفلسطيني.
وإذا كانت الأزمة المالية التي تحوّلت إلى أزمة اقتصادية طاحنة لم يشهد لها العالم مثيلاً بعد الكساد العالمي والانكماش الاقتصادي للفترة -1929 1933، فإن الأولويات ستتجه بلا أدنى شك لمعالجة هذه الأزمة، بما فيها النفقات الباهظة للحربين المفتوحتين منذ عام 2002 و2003 وأعني بذلك الحرب في أفغانستان والحرب في العراق.
لكن الرئيس المنتخب أوباما الذي كان قد أبدى اهتماماً خاصاً بالشرق الأوسط، عشية انتخابه بما في ذلك زيارة فلسطين ولقاء الرئيس محمود عباس، ليس بوسعه التقدم بتحركات واسعة ونشيطة على هذا الصعيد، إن لم يتبين هناك رغبة شديدة وقدرة على التأثير لفتح هذا الملف المعقد، الذي كان منذ عهد كلينتون قد توقف عند تأييد قيام دولة فلسطينية، لاسيما في أشهره الأخيرة، لكنه لم يمضِ قدماً، حيث بهتت الدعوة وبردت همّة الداعين إليها في ظل تصاعد الإرهاب الإسرائيلي، فازدادت الصورة سوءًا وقتامة، خصوصاً بعد قمع الانتفاضة السلمية الفلسطينية منذ 28 سبتمبر 2000 حتى الآن، وقد تدهور الأمر على نحو مريع بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية-الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة والتي استغلتها إسرائيل أبشع استغلال، فشنّت حملات متتالية لقمع الفلسطينيين وملاحقتهم واتهامهم بالإرهاب.
كيف للرئيس أوباما أن يبدأ سياسة نشطة في الشرق الأوسط، بعد أن راوحت الولايات المتحدة في مكانها طيلة السنوات الثماني، هل بتعيين رام بنيامين مانوئيل كبيراً لموظفي البيت الأبيض (الأمين العام )!؟ وهو من أصل يهودي (إسرائيلي)، وأدّى الخدمة في جيش الدفاع الإسرائيلي عام 1997، كما تطوّع في مكتب تجنيد تابع للجيش الإسرائيلي في فترة سبقت حرب الخليج الأولى ضد العراق عام 1991.
جدير بالذكر أن بنيامين والد رام مانوئيل كان عضواً في منظمة الآرغون السرية الصهيونية، التي مارست أعمالاً إرهابية في فلسطين منذ عام 1931 لغاية العام 1948، أي حتى قيام إسرائيل في 15 مايو 1948، وقد هاجر هو وأسرته إلى شيكاغو في الستينيات، كان قد صرح بعد تعيين ولده مانوئيل بأن اختيار ابنه سيكون عاملاً مساعداً للتأثير على الرئيس أوباما ليكون صديقاً لإسرائيل، ولم يكن هو عكس ذلك، لكن والد مانوئيل يريده أكثر صداقة وحميمية مع إسرائيل، وهذا يعني فيما يعنيه إدارة الظهر عن العرب والفلسطينيين، والتخلي عن دور الرعاية أو الضامن لاتفاق خارطة الطريق، أو وضعها ومعها فكرة الدولة الفلسطينية في الأدراج، ولعل ذلك سعي ثابت من جانب إسرائيل مع جميع الرؤساء الأميركيين، جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين!!؟ فهل ستفلح إسرائيل في ذلك أم أن الأمر سيكلّف واشنطن خسائر جديدة فادحة، وهي الخسائر التي كانت سبباً في تدهور شعبية الرئيس بوش وحزبه الجمهوري؟!
إذا أراد الرئيس أوباما أن يعيد جزءًا من « صدقية» الولايات المتحدة لاسيما في الشرق الأوسط، تلك التي نزلت إلى الحضيض، فما عليه إلاّ اتخاذ سياسة نشيطة ومتوازنة بحيث تضغط على حليفتها إسرائيل لتنفيذ مقررات الشرعية الدولية. ولعل التخلص من هيمنة «الصقور» الذين مسكوا بمقاليد البيت الأبيض طيلة ثماني سنوات وسياسات التصعيد التي عرفتها واشنطن منذ أحداث 11 سبتمبر، يقتضي الإتيان ببعض الشخصيات المعتدلة والمتوازنة وقد لقيت بعض الأوساط العربية المطلعة أن ترشيح وزير خارجية جديد للولايات المتحدة هو شاك هيغل كما تردد سيعكس رغبة جدية من جانب واشنطن لانتهاج سياسة فاعلة، خصوصاً وأنه من الشخصيات المتوازنة التي زارت فلسطين والتقت مع الرئيس الفلسطيني بمرافقة أوباما خلال فترة الترشيح للانتخابات. وبالمقابل فإن وصول عدد من اليهود الأميركيين إلى البيت الأبيض بصفتهم مستشارين مقربين مثل كبير المخططين الاستراتيجيين لحملته الانتخابية الذي يدعى ديفيد آكسل رود، ومستشاره لشؤون السياسة الخارجية دنيس روس، المنسق لعملية السلام في الشرق الأوسط والمدير السابق لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط، يجعل الأفق غائما ويزيد من احتمالات استمرار الحال على ما هي عليه، وهذا سيعني فيما يعنيه فشلا في واحد من الملفات المهمة والساخنة التي ستلقي بظلالها على العرب والفلسطينيين!!
* باحث ومفكر عربي


1228
أولويات الرئيس أوباما!
عبدالحسين شعبان
2008-11-23
رغم الضغوط الشديدة التي سببتها الحرب في العراق على مجمل الماراثون الانتخابي الأميركي، والتي أسهمت إلى حدود كبيرة في فوز الرئيس الأسود باراك أوباما على منافسه جون ماكين، أي فوز الديمقراطيين على الجمهوريين بعد دورتين كان فيهما الجمهوريون يتصدّرون المشهد، إلاّ أن قضية العراق لم تعد تستحوذ على الاهتمام المطلوب خصوصاً واجهات وعناوين الصحف ووسائل الإعلام، ولعل الأمر لا يعود إلى ثانوية المسألة العراقية، بل بسبب انهيار مؤشر «داو جونز» وطغيان أعراض الأزمة المالية، والتي ضاعفها استمرار المأزق العراقي بوجود 150 ألف جندي أميركي في العراق وتكلفة أكثر من ثلاثة تريليونات من الدولارات.
ولعل هذه المرة الأولى التي يدخل فيها البيت الأبيض رئيس أسود، كما أنها المرة الأولى التي يفوز فيها حزب معارض على حزب حاكم في ظل استمرار الحرب منذ احتلال أفغانستان 2002 واحتلال العراق 2003 وقبلها الحرب على الإرهاب 2001، كما أنها المرة الأولى التي ينتخب فيها الشعب الأميركي رئيساً بعد جيلين من الحرب العالمية الثانية.
لقد تراجعت قضية العراق من أولويات الرأي العام الأميركي وحلّ محلها شبح الأزمة الاقتصادية الخانقة وقضايا الرعاية الصحية، لدرجة أن الكثير من الأميركيين في ظل تلك الدوامة لم «يلتفتوا» إلى الجنود العائدين من العراق وأفغانستان، رغم حساسية موقف مثل ذاك، خصوصاً للعسكرية والوطنية الأميركية ولسيل الدعاية الصاخب.
ويعود السبب في هذا «النسيان»، إذا جاز القول، إلى تحوّل انتباه الرأي العام والكثير من الأميركيين إلى الانتخابات وليس إلى مأزق العراق، أما السبب الثاني فيعود إلى الأزمة الاقتصادية وانهيار الاسواق، والسبب الثالث أن الدعاية الأميركية ضجت بشأن انخفاض موجة العنف في العراق، لاسيما إزاء الجنود الأميركيين الذين ارتفع عدد قتلاهم إلى 4220 قتيلاً وأكثر من 26 ألف جريح حسب الإحصاءات الرسمية.
وإذا كان هناك سبب رابع، فهو كون المعركة الانتخابية ذاتها لم توضح الفرق الكبير في الموقف من العراق بين أوباما وماكين، وقد عكست ذلك استطلاعات الرأي العام التي كانت تؤكد أن حرب العراق لا تلقى تأييد الأميركيين بسبب الأزمة الاقتصادية وصعوبات الطاقة والرعاية الصحية ومشاكل وعقبات اجتماعية، وتلك كانت في صلب الاهتمامات التنافسية للمرشحين وتصدّرت أولوياتهم، بما فيها بعض القضايا المثيرة مثل حق الاجهاض وزواج المثليين وغيرها.
وإذا كان الأمن القومي هو الورقة «الرابحة» لدى المرشح الجمهوري ماكين البالغ من العمر 72 عاماً والمشارك في حرب فيتنام، فإن المرشح الديمقراطي الشاب كانت ورقته الفائزة بامتياز هي قضايا الاقتصاد والرعاية الصحية والخدمات ومسائل اجتماعية تهم المواطن الأميركي وبخاصة جمهرة الفقراء أو من هم دون خط الفقر البالغ عددهم أكثر من 40 مليون نسمة.
لقد عكس التحول غير المتوقع في الأحداث السياسية كفة الرجحان إلى أوباما وبرنامجه الاجتماعي والاقتصادي وليس للسياسة الخارجية فحسب، بعد أن كانت الانتخابات النصفية في الكونغرس الأميركي عام 2006 ترفع شعار الانسحاب من العراق عالياً، وهي المسألة التي لعبها الديمقراطيون على أحسن وجه آنذاك، وقد ظن ماكين أن سياسة زيادة القوات قد نجحت، ولذلك تمسّك بها، في حين أنها أصبحت ورقة محروقة كما يقال، وأن النجاح كان يعني صرف الأنظار إلى مسائل أخرى، وهو ما سعى أوباما للعزف عليه بايقاع مؤثر، وهكذا تماهى الموقف بين الفريقين في مسألة الانسحاب التدريجي من العراق، في حين ظلاّ يختلفان في المدة الزمنية، مثلما يختلفان حول التاريخ والماضي.
وكان أوباما قد أعلن أن القوات الأميركية ستنسحب من العراق خلال 16 شهراً من توليه الرئاسة (يناير 2009) في حالة فوزه، بينما قال منافسه الجمهوري الذي انهزم شر هزيمة إن وعود الانسحاب تتسم بالتهور، لكنه رأى فرصة لخفض حجم القوات، وهذه الأرضية المشتركة للانسحاب، رجحت كفة أوباما، خصوصاً بإيلاء اهتمام أكبر للقضايا الاقتصادية والاجتماعية.
إن الجنود الأميركيين الذين ما زالوا حتى الآن يستقبلون في مطار دالاس بعبارات «بارك الرب أميركا» و «شكراً للرب»، كانوا يقابلون عند عودتهم من فيتنام بالازدراء والإهانة، خصوصاً عندما أصبح الرأي العام ينظر إلى استمرار حرب فيتنام كأنه بمثابة كارثة وطنية، الأمر الذي لم يتحقق في حرب العراق حتى الآن، فهل ستزيد الأزمة الاقتصادية من شعور النسيان أم ستساعد على إعادة النظر بالأولويات وتمهّد لتنفيذ باراك أوباما لوعوده بالانسحاب التدريجي، ذلك السؤال سيتحدد في ضوء رسم استراتيجية ما بعد الفوز وليس ما قبله!
إن تكاليف غزو العراق وصلت إلى 3 تريليونات دولار وفقاً لتقديرات جوزيف ستيغليتز وليندا بيلمنس، فهل كانت هذه خطة محكمة لاستنزاف الولايات المتحدة؟ الجواب هذه المرّة جاء من أسامة بن لادن وهو جالس في كهفه الذي قال في نوفمبر 2004 وهو يفخر بنجاح استراتيجيته في جعل أميركا تنزف إلى حد الإفلاس، حين ردد ساخراً: إن كل دولار أنفقته القاعدة في حملتها كلّف الأميركيين بالمقابل مليون دولار.
وإذا كان أوباما بذكائه وحضوره قد استطاع تحسس جزء مهم من نبض الشارع الأميركي عندما لامس قضاياهم الحياتية مباشرة ودعا إلى تنظيم الأسواق، وأن على الحكومة أن تلعب دوراً لا غنى عنه في مسار الاقتصاد، الأمر الذي جعل ماكين يهاجمه باعتباره « اشتراكيا»، وهي تهمة نفعته بالقدر التي أضرّت ماكين، فهل سيدرك أوباما أن السياسة الداخلية ليست بمعزل عن السياسة الخارجية، وهذه الأخيرة التي هي انعكاس للسياسة الداخلية ووجه آخر من وجوهها، ولا يمكن تحقيق نجاح في إحداهما والإخفاق في الأخرى، لأن الفشل سيمسح النجاح، وما عليه إذا أراد إنجاز برنامجه الاجتماعي-الاقتصادي وامتصاص الأزمة المالية الطاحنة، إلاّ إعادة النظر بسياسة واشنطن الخارجية، والإسراع بتنفيذ وعوده بالانسحاب من العراق مثلما أعلن ذلك، وقبل فوات الأوان، وكما يقال، فليس المهم تحقيق الفوز، بل المحافظة عليه والسعي لمواصلته وتوسيع دائرته، فهل سيستطيع أوباما أن يفعل ذلك وكم سيحتاج من الوقت؟ ومن أين سيبدأ؟
هذه أسئلة ستواجه الرئيس الأسود حين تطأ قدماه عتبة البيت الأبيض، وقبل أن يتربع على كرسي أعظم دولة في العالم!


جريدة العرب القطرية العدد 7470 الإثنين 24 نوفمبر 2008 م ـ الموافق 26 ذو القعدة 1429 هـ

1229
الدكتور عبد الحسين شعبان
 في ندوة مركز »كارنيغي للشرق الأوسط«:
 الاتفاقية العراقية ـ الأميركية قبول بالإكراه

   

   
   

نظم »مركز كارنيغي للشرق الاوسط« حلقة نقاش حول »الاتفاقية الامنية العراقية ـ الاميركية: دلالات ومعان«، تحدث فيها المفكر العراقي الدكتور عبد الحسين شعبان، بحضور رئيس المركز الدكتور بول سالم، القائم بالاعمال العراقي المنهل الصافي، ودبلوماسيين عرب وأجانب، ومفكرين عراقيين، وإعلاميين وباحثين لبنانيين وعرب
واعتبر شعبان ان الولايات المتحدة الاميركية ارادت من خلال هذه المعاهدة، الانتقال من الاحتلال العسكري للعراق، الى الاحتلال التعاقدي والتعاهدي، الذي يكرس هذا الاحتلال من الناحية العملية. وقد استعملت اسلوب التحذير والاكراه على المسؤولين العراقيين، لحثهم على توقيع الاتفاقية، محملة الحكومة العراقية عواقب عدم التوقيع والنتائج التي ستترتب عليه، معتبرا انه قبول بالاكراه والترهيب.
ولفت الى ان عدم توقيع الاتفاقية يعني بالنسبة الى واشنطن الانسحاب من العراق وانهيار استراتيجيتها في المنطقة برمتها، وبالتالي انتصار أعدائها، وهذا يعني اخفاق اميركا ليس فقط في العراق، بل في المنطقة ككل
 
وتحدث شعبان عن الميزان القانوني للمعاهدة العراقية ـ الاميركية، مؤكدا انه على الرغم من تباين وجهات النظر بين الديموقراطيين والجمهوريين بشأن الحرب والانسحاب الا انهما يتفقان على ضرورة عدم هزيمة الولايات المتحدة. مشيرا الى ان الموقف العراقي من الاتفاقية محكوم بثلاثة اتجاهات: الاول هو الرفض المطلق، والثاني هو قوى الممانعة تكتيكيا، والثالث يتمثل بموقف القيادات المؤيدة. معتبرا ان الاتفاقية احدثت شرخا كبيرا في الوضع العراقي. وأن كتلة المعارضة اتخذت طابعا جماهيريا حاشدا، في حين اكتنف الغموض عرض الاتفاقية على مجلس النواب.
ورأى ان الورقة العراقية كانت عاملا مساعدا، ان لم يكن اساسيا في فوز اوباما في الانتخابات الرئاسية الاميركية. معتبرا ان نجاح او فشل السياسة الاميركية في الشرق الاوسط، قد يتوقف على حل العقدة العراقية، علما ان الاتفاقية لقيت معارضة من بعض دول الجوار لا سيما ايران، على الرغم من كونها حليفة للحكم العراقي، الامر الذي يرتب اصطفافات جديدة واعادة النظر في بعض التحالفات.
واكد شعبان في نهاية الندوة ان الانسحاب الاميركي لن يتم من العراق في العام ٢٠١١ بحجة ان الجيش العراقي غير مؤهل لتسلم مقاليد الامن. متوقعا ان يتوسع الاعتراض والتحرك الشعبي الرافض للاتفاقية بعد التوقيع عليها.


جريدة السفير اللبنانية العدد رقم 11161 تاريخ 27/11/2008

1230
المنبر الحر / أنغولا غيت!
« في: 02:45 23/11/2008  »
أنغولا غيت!

عبدالحسين شعبان
2008-11-02
هل يمكن لمتغيّرات السياسة أن تصادر صلاحيات القضاء في البلدان المتقدمة؟ لقد واجه مثل هذا السؤال المحرج القضاء الفرنسي مؤخراً بشأن ما أطلق عليه «أنغولا غيت»، لاسيما وقد تعرّض لضغوط سياسية لإلغاء محاكمة المتهمين في قضية «أنغولا غيت»، الأمر الذي لو حصل فسيؤدي إلى توجيه ضربة لاستقلاله الذي ظل يحرص على المحافظة عليه، رغم بعض محاولات تطويعه، وكانت قضية «أنغولا غيت» قد استدعت توجيه اتهامات مباشرة إلى عدد من المسؤولين الأنغوليين، لاسيما المحالين إلى محكمة باريس.
ففي 16 أكتوبر 2008 انطلقت في قصر العدالة بباريس جلسات المحاكمة في قضية الاتجار غير المشروع في الأسلحة الحربية، وبيع صفقات سلاح غير مشروعة إلى حكام جمهورية أنغولا بين عامي 1993 و1998، وقد شملت قائمة الأسماء عدداً من الشخصيات السياسية، إضافة إلى بعض رجال الأعمال، بمن فيهم أركادي غايدا مايك «الإسرائيلي» من أصول روسية، وهو ما زال مطارداً ولم يلق القبض عليه، رغم صدور مذكرة اعتقال دولية بحقه، والمدعو بيير فالكون الفرنسي الذي حصل على الجنسية الأنغولية.
وتضم لائحة الشخصيات المتهمة يساريين ويمينين فرنسيين، ومن بينهم نجل ميتران المعروف باسم جان كريستوفر وجاك أتالي ووزير الداخلية الأسبق شارل باسكوا.
وتتضمن الصفقات العسكرية موضوع المحاكمة خصوصا تزويد أنغولا بـ 420 دبابة و150 ألف قذيفة و12 طائرة عمودية، وتقدّر الأموال التي أنفقت على سبيل شراء السلاح، والتي وزعت كرشا وإكراميات وعلاوات، بحوالي 790 مليون يورو، وارتبطت تلك الصفقات بالحرب الأهلية التي عاشتها أنغولا منذ استقلالها عن البرتغال عام 1975.
وخلال الحرب التي دامت 28 عاماً، كان الأنغوليون ينقسمون إلى معسكرين: أحدهما يميل إلى الشرق والآخر إلى الغرب، فقد كانت الجبهة الشعبية لتحرير أنغولا التي استولت على الحكم بعد إحراز الاستقلال تميل إلى المعسكر الاشتراكي، أما الاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا فكان يميل إلى الغرب، وحاول حكام أنغولا التكيّف مع النظام العالمي الجديد، لاسيما بعد انتهاء الحرب الباردة، حين أخذوا يبحثون عن شركاء غربيين، كانت فرنسا من بينهم، لاسيما بتقديم إغراءات الاحتياطات النفطية التي تتمتع بها بلادهم، فضلاً عن إغراء الثروات الماسية الهائلة.

وفي مطلع التسعينيات -وبفعل الوضع العسكري المتدهور للحكم في أنغولا- اضطر المسؤولون فيها رغم ولاءاتهم للمعسكر الشرقي السابق، إلى اللجوء إلى فرنسا للحصول على السلاح، يومها كان ميتران الاشتراكي رئيساً للجمهورية في حين أن حكومته كانت يمينية، ولكن كليهما سهّلا مهمة حصول أنغولا على السلاح عبر طريق ثالث غير رسمي، وهو الذي يقف اليوم المتهمون بسببه أمام القضاء.
رفضت باريس تزويد أنغولا بالسلاح وبيعه إلى الرئيس الأنغولي دوس سانتوس، الأمر الذي دفع أنغولا إلى الاتصال بجهات غير رسمية لتأمين ما تريده من السلاح، وقيل إن سياسيين يساريين ويمينيين هم الذين سهّلوا لها صفقة السلاح، الأمر الذي أثار اتهامات بشأن صفقة بيع الأسلحة السرية ودور المسؤولين فيها.
لقد شكّكت حكومة أنغولا الحالية بما يسمى «أنغولا غيت»، وسعت إلى رفضها لاسيما بمنحها كبار المتهمين الجنسية الأنغولية، كما عبّرت صراحة عن اعتراضاتها على تحريك الدعوى، وعيّنت نقيب المحامين الفرنسيين السابق محامياً لها في القضية، وطالب محامي الدفاع بسحب الوثائق الأنغولية الرسمية التي تم تقديمها الى القضاء كوثائق ثبوتية، معتبراً ذلك أمر يخصّ سيادة أنغولا وأنه انتهاك ومساس بأسرارها العسكرية وسيادتها.
وتسعى أنغولا لثني القضاء الفرنسي عن السير في الدعوى، ملوّحة بالنفط الذي تسهم في استخراجه شركة توتال الفرنسية، إضافة الى ثرواتها الماسية ومشاريع البناء الضخمة التي أبرمت بشأنها عقوداً هائلة لإنجازها مع شركات فرنسية.
إن قضية «أنغولا غيت» تُظهر حجم الفساد والرشوة والعمولات التي تعتبر إحدى الوسائل غير المشروعة في تعامل المسؤولين في البلدان المتقدمة مع البلدان النامية، وذلك عبر تقاسم بين مسؤولين في السلطة وامتدادات المسؤولين في الدول المتقدمة، ولعل حادثة «أنغولا غيت» تذكر بما حصل في نيكاراغوا وإيران غيت وغيرها.
ويعوّل المتهمون الفرنسيون كثيرا على الموقف الأنغولي لإنقاذهم من الورطة التي هم فيها، خصوصاً وأن الأضواء أصبحت مسلّطة عليهم بعد تقديمهم إلى القضاء! كما يراهنون على العلاقات بين باريس ولواندا، خصوصاً بعد زيارة الرئيس الفرنسي ساركوزي للمستعمرة البرتغالية السابقة في مايو 2008، وتأكيد عزمه على طي صفحة الماضي.
وقد حاولت وزارة الدفاع الفرنسية الدخول على الخط في يوليو 2008 بإرسال رسالة مفادها أن السلاح
الذي تم بيعه لم يعبر الحدود الفرنسية بما يسحب مبررات تقديم المتهمين في قضية «أنغولا غيت» إلى المحاكمة.
وإذا كانت وزارة الدفاع الفرنسية هي التي حرّكت الدعوى في قضية صفقات الأسلحة عام 2001، فإن مبرراتها قد اختلفت اليوم، والأمر لا يتعلق بوزارة الدفاع فحسب، بل بالإعلام الفرنسي أيضاً، الذي كان يقف مع الحركة الشعبية لتحرير أنغولا لكنه يعتبر اليوم أن صفقات الأسلحة هي التي حسمت الموقف لصالحها حيث ما تزال تتربع على سدة الحكم حتى الآن.
إن العلاقة بين السياسة والقانون وبين المصلحة والقضاء لا تسمح لباريس بالتغوّل على السلطات القضائية، كما أن ليس بامكانها إلغاء محاكمة المتهمين وإلا فإنها ستُحدث انقلاباً في القضاء الفرنسي لا يمكن القبول به من جانب الجمعية الوطنية الفرنسية والرأي العام والمجتمع المدني، فاستقلال القضاء ونزاهته أمرٌ لا يمكن التفريط به، خصوصاً وهو مُنجزٌ تراكم عبر عشرات السنين.
ولعل فرنسا في هذا المضمار هي أول من دعا إلى فصل السلطات وإلى احترام السلطة القضائية وعدم التدخل في شؤونها.
ولعل حنكة وحصافة القضاء الفرنسي ستجدُ مخرجاً قانونياً يحافظ به على استقلاليته ويراعي في الوقت نفسه المصالح الوطنية الفرنسية العليا، ولعل ذلك أحد اختبارات القضاء الفرنسي الذي يواجه «أنغولا غيت» حالياً.


صحيفة العرب القطرية العدد رقم 7449 رقم 3/11/2008

1231
بغداد - واشنطن بين التبرير والتحذير   

عبدالحسين شعبان
رغم بعض الممانعات الرسمية أو شبه الرسمية لإبرام المعاهدة الأمنية العراقية - الأمريكية، خصوصاً في ظل المعارضة الشعبية المتسعة، الاّ أن الحكومة العراقية لاسيما أركانها الاساسية تريد استثمار الوقت والمناورة تحت تبريرات مختلفة، فتارة تقول إن المعاهدة ستخرج العراق من مظلّة الفصل السابع ووصاية الأمم المتحدة، وتارة أخرى خرجت علينا بتبرير حول امكانية اطلاق الأموال العراقية المجمّدة في البنوك الأمريكية. وتقول بعض الأطراف لاسيما الكردية، إن المعاهدة لا تتعارض مع مبادئ السيادة وتضمن مصالح البلاد.

أما الولايات المتحدة فقد حذّرت الحكومة العراقية من أن عدم التوقيع على المعاهدة سيؤدي الى عواقب كارثية، كما جاء على لسان مايكل مول رئيس هيئة الاركان الامريكية، وأخيراً فإن الولايات المتحدة حذّرت من أنها قد تضطر الى سحب قواتها، وعندها سيتعرض الوضع في العراق الى انهيار محمّلة اياها مسؤولية ذلك، والنتائج التي سترتب عليه.

وأياً كان الأخذ والرد والشد والحل فإن الاتفاق سيبرم آجلاً أم عاجلاً مهما كانت العوائق، وأن واشنطن ستفرضه باللين أو بالقوة، وستضطر الحكومة العراقية الموافقة عليه، سواء جرى تعديله شكلياً أم لم يجر كما تريد الولايات المتحدة وكما تهدد حتى الآن، لأن البديل عن الاتفاق سيكون إما بقاء الحكومة العراقية أو رحيلها. والحكومة العراقية ذاتها تقول إن القوات العراقية غير مؤهلة لحماية الوضع الداخلي (ضد الارهاب) أو الوضع الخارجي (إزاء اختراقات القوى الاقليمية).

سيكون الخيار إذاً إما بقاء القوات الامريكية بمعاهدة تريدها واشنطن تنفيذية، كي لا تعرضها على الكونجرس ولا يتطلب ابرامها حصول الرئيس بوش على تفويض جديد، مثل تفويض العام 2002 عشية غزو العراق، وهو الأمر غير الممكن حالياً لاسيما بعد ورطة الولايات المتحدة في العراق. لكن واشنطن لا يمكنها وليس مسموحاً لها إبقاء قواتها دون غطاء قانوني في العراق، الأمر الذي سيعرّض المسؤولين الى مساءلات قانونية، وهو الأمر الذي لا يمكن لأية ادارة أن تقدم عليه.

أما العودة الى خيار الفصل السابع بتمديد قرارات مجلس الأمن، فالأمر محطّ جدل فقهي قانوني وسياسي، فلماذا يخضع العراق كدولة للفصل السابع حالياً، بعد أن تمت الإطاحة بالنظام السابق، المتهم بخرق السلم والأمن الدوليين وتهديده لهما، ولدول الجوار لاسيما بوجود اسلحة دمار شامل وعلاقته بتنظيم القاعدة وبالارهاب الدولي، الأمر الذي انكشف زيفه، ولم يعد العراق مصدر تهديد لجيرانه ولا للسلم والأمن الدوليين، فلماذا إذاً سيبقى خاضعاً لسوط الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالعقوبات؟ علماً بأنه تم “حل” الدولة العراقية ومؤسساتها وتنصيب حاكم مدني امريكي على العراق، حيث حكم بول بريمر منذ مايو/ أيار 2003 ولغاية يونيو/ حزيران ،2004 وهذا يعني أن صلاحيات الدولة حسب اتفاقيات جنيف انتقلت للقوات المحتلة، التي هي ستكون خاضعة للفصل السابع حسب المنطق، وليس بقايا الدولة العراقية المنحلّة.

وإذا كان هناك من يجادل بأن بعض المظاهر السيادية قد عادت الى الدولة العراقية، التي أخذت تمارس صلاحياتها، لاسيما بإجراء انتخابات وسن دستور دائم للبلاد باستفتاء شعبي، فإن الأمر لا يلغي مسؤولية قوات الاحتلال (القوات المتعددة الجنسية) حسب قواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام ،1977 الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، والثاني لحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.

إن عدم توقيع المعاهدة سيجبر الحكومة العراقية على الطلب من مجلس الأمن لتمديد بقاء القوات المتعددة الجنسية، التي ستنتهي مهماتها في 31 ديسمبر/ كانون الأول ،2008 ومثل هذا التمديد سوف لا يكون لأكثر من 6 أشهر أو حتى عام واحد، وبعض القوى تعتقد أن مجيء إدارة أمريكية جديدة قد يحسّن شروط التفاوض، علماً بأنه يتهيّب من سرعة رحيل القوات الأمريكية، رغم أنه أمر مستبعد سياسياً، فتوازن القوى لا يميل الى ذلك، خصوصاً وأنه سيعني خروج الولايات المتحدة منهزمة من العراق، وسيكون ذلك نجاحاً أو انتصاراً للارهاب وتنظيمات القاعدة، لاسيما إذا انهارت العملية السياسية التي جرى تسمينها لخمس سنوات ونيف، فكيف ستترك “للذئب” المتربّص بالوضع العراقي، وفي مثل هذا الاندحار ستكون الاستراتيجية الامريكية قد أخفقت لا في العراق فحسب، بل في عموم المنطقة، وسيكون ذلك اقراراً بواقع أليم قد لا يقل تأثيره عن هزيمة واشنطن أمام هانوي في فيتنام، علماً بأن عدوّها كان آنذاك، دولة عظمى هي الاتحاد السوفييتي، وليس تنظيمات القاعدة وبعض قوى المقاومة التي لا تحظى بدعم دولي.

إن توازن القوى مختل بين طرفين أحدهما محتل وقوي ويستطيع فرض ارادته وهو الولايات المتحدة، والآخر محتلة أراضيه وضعيف ولا يملك أوراقاً كثيرة للعب أو للضغط، فالوحدة الوطنية مفككة والانقسام والتشظي المذهبي والاثني يهدد كيانية الدولة، والارهاب والفساد مستشريان على نحو لا مثيل له، والميليشيات والصحوات تتصرفان بمعزل عن الدولة وأحياناً بالضد منها، وهيبة هذه الأخيرة لا تزال مصدر شك وتصدّع.

إن هذه اللوحة تفرض على الحكومة العراقية مرغمة القبول بشروط الولايات المتحدة، سواء تحت باب الواقعية السياسية، أو رغبة بعض القوى من البقاء في دست الحكم والحفاظ على نتائج انتخابات الادارة الامريكية، لاسيما إذا فاز أوباما الذي وعد بانسحاب سريع، وليس كما تقول الاتفاقية المرتقبة الى نهاية العام ،2011 فيما إذا لم تطلب الحكومة العراقية تمديدها، حيث تعهد بتخفيض القوات الأمريكية خلال النصف الثاني من العام القادم 2009.

وأيا كانت التبريرات والتحذيرات، ناهيكم عن التقديرات، فالمعاهدة حسب قواعد القانون الدولي واتفاقية فيينا لعام 1969 حول “قانون المعاهدات” ستكون غير متكافئة، لاسيما عنصر الاكراه فيها الذي يعدّ أحد عيوب الرضا الطوعية الأساسية التي تفتقر اليها المعاهدة.

ان الولايات المتحدة حين تحذّر من مغبّة التردد والممانعة في ابرام الاتفاقية، لأنها لا تريد تراجعاً عن خطتها لغزو العراق وملاحقة ما سمّي الإرهاب الدولي، الذي كلّفها الكثير مادياً ومعنوياً، وبالتالي لا يمكن لها أن تترك الحبل على الغارب كما يقال، حتى وإن تطلب الأمر إجراء تغييرات للإتيان بطاقم عراقي جديد يستطيع قبول شروط الولايات المتحدة كما هي ومن دون تغيير، وهي تريد تحويل الاحتلال العسكري الى احتلال تعاقدي، بصيغة اتفاقية تنظم العلاقات والوجود العسكري الامريكي.

إن التبريرات أو التحذيرات تنصب ليس على رفض أو عدم التوقيع على المعاهدة، بل على تحسين شروط التفاوض لكل طرف لاعتبارات داخلية وخارجية، أما الجوهر الاساسي للاتفاقية لاسيما ضرورتها والحاجة اليها، فهي ليست موضوع نقاش لا من جانب الحكومة العراقية ولا من جانب الادارة الامريكية، فكلا الطرفين يقر بذلك.

يبقى هناك من يقول، هل التبرير أو التحذير سيكون بديلاً عن الواقع، لاسيما وصول واشنطن الى طريق مسدود، وكذلك الترتيبات التي اتخذتها طيلة السنوات الخمس ونيّف الماضية؟ هذا ما يمكن أن تجيب عنه إدارة جديدة في واشنطن لاسيما إذا فاز الديمقراطيون على الجمهوريين ووصل الى سدة الرئاسة أوباما وهو ما ستقرره الايام القليلة القادمة.

صحيفة الخليج الاماراتية 5/11/2008

1232
ست حقائق أفرزتها الانتخابات الأميركية


د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

أخيراً انتهى موسم الماراثون الانتخابي الطويل بفوز باراك حسين أوباما الرئيس الـ 44 للولايات المتحدة، لكن فوزه ليس نهاية للسجال بينه وبين منافسه جون ماكين، أو وضع حد للصراع والمنافسة بين الحزب الجمهوري (المغلوب) والحزب الديمقراطي (الغالب).
ولهذا يمكن القول أن موسماً جديداً من الجدل والسجال سيبدأ مع كل خطوة يتقدم بها أوباما، لاسيما وهو أول رئيس أسود في تاريخ الولايات المتحدة ، خصوصاً بعد نحو أربعة عقود على طي صفحة التمييز العنصري، التي ما تزال تأثيراتها وثقافتها موجودة لدى أوساط غير قليلة من المجتمع الامريكي، كما أنه أول رئيس من الجيل الثاني الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية، وهو في الوقت نفسه أول رئيس ديمقراطي بعد أن حكم الحزب الجمهوري لمدة 8 سنوات (دورتان).
وإذا كان أوباما قد نجح في عرض برنامجه الانتخابي وأظهر براعة كبيرة في التقدم على منافسه ماكين، جاذبية وأداءًا وتأثيراً، فهل سينجح في سياساته العملية، على صعيد الداخل الامريكي حيث هناك مشكلات كبيرة تتعلق بأكثر من 40 مليون إنساناً يعيشون تحت خط الفقر، إضافة الى تحقيق دولة الرفاه، لاسيما تحسين مجالات الصحة والتعليم والضمان والأجور وغيرها؟ أو على الصعيد الخارجي حيث تواجه الستراتيجية الامريكية اخفاقات كبرى ابتداءًا من موضوع مكافحة الارهاب الدولي ومروراً بتحالفاتها القلقة، خصوصاً بعد بوادر عودة الحرب الباردة بتحرك الدب الروسي فضلا عن تباين بعض سياساتها مع الاتحاد الاوروبي، ناهيكم عن الورطة الكبيرة في العراق وأفغانستان،  وانتهاءًا بالأزمة المالية الطاحنة.
وهناك أسئلة كبرى ستواجه أوباما: هل سيتمكن من رفع مؤشرات البورصة وكيف؟ وهل يستطيع وضع حد للركود والكساد الاقتصادي بسياسات عاجلة ومؤثرة؟ وما هي خططه لتقليل سوء توزيع الثروة، لاسيما اتساع ظاهرة الفقر المدقع لحوالي ربع السكان؟ وهل سيتمكن من إنهاء الحرب في العراق ووقف القتال في افغانستان؟ وكيف سيتعامل مع الملف الايراني والسوري والكوري؟ وكيف سيواجه القطب الروسي وهو يحاول بسط نفوذه على جيرانه من الجمهوريات السابقة التي كانت جزءًا من امبراطويته المنحلّة، في حين تريد واشنطن نصب دروع صاروخية فوق أراضيها (جمهورية التشيك وجمهورية بولونيا) وأخيراً مشاكل جورجيا وأوكرانيا وغيرها.
كل هذه الأسئلة  ستواجه الرئيس الجديد الذي سيتربع على القمة في البيت الابيض، ولعلها مفارقة حقيقية حين يكون الرئيس الأسود في البيت الابيض، الأمر الذي قد يضاعف المشكلات ويثير الكثير من الاشكالات الجديدة، وقد لا يكون بعضها في الحسبان.
لعل فوز أوباما يفرز عدداً من الحقائق، لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار، وهي حقائق ستكون مؤثرة لا في الولايات المتحدة حسب، بل على النطاق العالمي، لما للولايات المتحدة من تأثير ونفوذ سياسي واقتصادي وعسكري وثقافي وعلمي:
الحقيقة الاولى- ان استطلاعات الرأي العام كانت قريبة من الواقع، ورغم محاولات التشكيك فيها باعتبارها مضللة وضرورة عدم اتخاذ موقف متسرّع يتم بناؤه عليها، الاّ أنها كانت وكما هي المؤشرات أقرب الى نبض الناخب الامريكي وعكست توجهاته ومزاجه، لاسيما بعد مرحلة من التراجع والنكوص التي شهدتها رئاسة بوش، وتردي سمعة الولايات المتحدة.
الحقيقة الثانية- ان الحزب الجمهوري سيكون خارج الحكم بعد أن حكم ثمان سنوات متتالية (دورتان) ولعل أخطاء الرئيس بوش تجعله يعيد النظر ببرامجه وسياساته الخاطئة، التي لن تعيده الى السلطة بسرعة مثلما حصل مع حزب المحافظين البريطاني الذي خسر السلطة عام 1997 وظل قعيد حسرات على استعادتها ولكن دون جدوى.
الحقيقة الثالثة- ان الحزب الديمقراطي الذي فاز بالسلطة، لا بدّ له أن يكون أكثر واقعية واحساساً بالمسؤولية، لاسيما بعد توليه الادارة، أي أن عليه أن ينتقل من فكر "المعارضة" الى فكر السلطة، ولا بدّ أن يكون أكثر تعقلاً إزاء الممكن وليس الطموح، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والسياسة الاقتصادية والسياسية الخدمية والسياسة الاصلاحية . وهذه مسؤوليات ليست امريكية فحسب، بل مسؤوليات كونية، بعضها قانوني حسب ميثاق الامم المتحدة وعضويتها الدائمة في مجلس الأمن، مثلما هي مسؤوليات واقعية وفعلية بحكم تاثيرها وانعكاسها العالمي.
الحقيقة الرابعة – لا بدّ من عقد مساومات واتفاقات بين الحزبين، والاّ فان الانفراد بالحكم قد يؤدي الى استمرار الكارثة، خصوصاً الخلافات بين الرئاسة والكونغرس. وقد شهدت فترة بوش صراعات كادت ان تعطل الاستحقاقات الضرورية الأمر الذي بحاجة الى توافقات للخروج من المأزق ووضع حد للسياسات المغامرة والخاطئة التي أضرّت بالولايات المتحدة مادياً ومعنوياً.
الحقيقة الخامسة- ان اوباما لا يملك عصا سحرية يحل بها المشاكل جميعاً، ورغم القدر الكبير من الابتهاج والتفاؤل لرحيل إدارة بوش، فإن الحقائق تفرض نفسها بسرعة، فالرئيس الجديد لا يمكنه وليس باستطاعته أن يغيّر الامور دفعة واحدة، لأنه لا يملك القوة والنفوذ دون دعم الشركات المتعددة الجنسيات أو ما فوق القومية، ودون دعم المجتمع الصناعي- الحربي الذي جاء به الى الحكم ودفع بتكاليف حملته الانتخابية الباهظة التي تعتبر أضخم حملة في تاريخ الانتخابات الامريكية والدولية، حيث شملت بضعة مليارات من الدولارات.
الحقيقة السادسة- ان السياسة الخارجية التي هي امتداد للسياسة الداخلية وانعكاساتها وتعبيراً عن المصالح الاقتصادية، تلعب دوراً كبيراً بخصوص المستقبل السياسي للحزب أو المرشح، ولهذا فإن فيروس العراق ترك تأثيراته على عموم السياسة الاقتصادية والانفاقية والمالية والمصرفية في الولايات المتحدة، سياسياً وعسكرياً واجتماعياً ونفسياً، الأمر الذي ينبغي أخذه بالحسبان دائما، لاسيما بعد انخفاض سعر الدولار وصعود ومن ثم انخفاض اسعار النفط وقبل ذلك ازمة الرهن العقاري وأخيراً الازمة الاقتصادية والمالية الطاحنة التي عاشتها الولايات المتحدة وانعكست على الصعيد العالمي، والتي تعتبر اكبر أزمة اقتصادية عالمية منذ أزمة 1923-1933 حيث شهد العالم كساداً وركوداً اقتصادياً هائلاً، فاق أزمة السبعينات بكثير.
ان الحرب هي امتداد للسياسة على حد تعبير المفكر النمساوي كلاوزفيتز، بمعنى أن الحرب هي سياسة بوسائل عنفية، ولذلك فإن النجاح العسكري، سيكون وراءه نجاح سياسي، والعكس صحيح أيضاً، ولذلك فإن إعادة النظر بالسياسة الحربية انطلاقاً من الفشل الذي أصاب الولايات المتحدة، أمر قد لا يستطيع أوباما التخلّص من تأثيراته، لكنه قد لا يستطيع تحمّل أعباءه؟
فهل سيتمكن أوباما من الايفاء بوعده  ببدء انسحاب امريكي من العراق في أواسط العام القادم 2009، لينهي الوجود العسكري الامريكي خلال 18 شهراً كما قال، أن توقيع الاتفاقية العراقية- الامريكية سيضع أمامه حقائق جديدة، وهذا هو ما يريده الرئيس بوش كي يجعل الأمر الواقع واقعاً، ومن جهة أخرى هل تستطيع القوى العراقية أن تحسم أمرها لتنتظر ما سيتمخّض عن الرئاسة الجديدة، قبل اضطرار من يريد التوقيع على الاتفاقية!؟

*باحث ومفكر عربي
 جريدة الجريدة الكويتية رقم العدد: 455 الجمعة 07 نوفمبر 2008 ,10 ذو القعدة 1429

1233

هل المجتمع المدني شريك للحكومات؟

عبدالحسين شعبان
2008-10-26
يظّل الحديث عن الإصلاح ذا شجون مؤرقة، لاسيما في العالم العربي، رغم أن الجميع، حكومات وحركات سياسية ودينية ومجتمعا مدنيا وقطاعا خاصا، أخذ يقرّ بأنه أصبح حاجة ماسّة وضرورة لا غنى عنها، بل إنه «فرض عين وليس فرض كفاية» كما يُقال.
ومع أن رياح التغيير التي هبّت على العالم في الثمانينيات من القرن الماضي، لاسيما على أوروبا الشرقية وبعض دول أميركا اللاتينية، انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط بفعل مصالح ومساومات القوى الدولية المتنفذة، إلاّ أن الحديث عن الإصلاح كخيار استمر وتصاعد منذ انتهاء عهد الحرب الباردة، وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكله القديم إلى شكل جديد أساسه: وحدانية الهيمنة على العلاقات الدولية عبر قطبية متنفذة ومتسيّدة، وارتفاع شعارات التعددية والانتخابات وحقوق الإنسان وحرية السوق.
لقد ظل العالم العربي في أسفل سلّم التطور الدولي في ميدان الإصلاح، ولم تستجب الحكومات لاستحقاقاته الملّحة، رغم بعض الإرهاصات والتطورات المحدودة، إلاّ أن أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية قد أثرّت على نحو سلبي على مسار الإصلاح في جميع دول العالم، وبخاصة في البلدان العربية، إذ تم استغلالها على نحو مبالغ فيه للتضييق على الحقوق والحريات بحجة مكافحة الإرهاب الدولي، خصوصاً في ظل تصاعد نشاط بعض القوى المتطرفة والمتعصبة التي تستخدم العنف وسيلة لتحقيق أهدافها، وترفع اسم الإسلام للتغطية أو للتبرير على أعمالها العدوانية.
إن الإصلاح المُمتحن والمشكوك فيه، بل والمتهم أحياناً بالتخريب، لم يعد رغبة لنخبة فكرية أو سياسية أو مجرد تصوّرات أقرب إلى الترف منها إلى الحاجة الضرورية، وهو، بهذا المعنى، مسارٌ كوني، واستحقاق واجب الأداء. والعالم العربي لا يمكن بأي شكل من الأشكال عزل نفسه أو «الزوغان» عنه، إذ إن امتداداته تشمل العالم كله، لاسيما بفضل العولمة. والإصلاح إنْ لم يأتِ سلمياً وتراكمياً، سيكون عاصفاً ومدوياً، وقد يلحق ضرراً بقضية الإصلاح ذاتها كما بيّنت التجربة في أفغانستان والعراق، رغم الإطاحة بنظامين استبداديين معاديين للديمقراطية.
كما أن الإصلاح هو عملية متواصلة وغير منقطعة عن ظروفها وبيئتها، وبالتالي لا يمكنه أن يتوقف أو ينتهي أو يُختزل بفترة زمنية أو ببعض الإجراءات والقرارات والقوانين، أي أن الإصلاح هو عملية شاملة بحيث لا يمكن الحديث عن إصلاح في جانب وتركه في جانب آخر، لأن هناك ترابطاً عضوياً بين الإصلاح السياسي والبيئة القانونية والدستورية والتشريعية وبين حرية التعبير والتعددية والانتخابات والتنمية المستدامة وتمكين المرأة وتعزيز دور التعليم وتعميق دور القطاع الخاص.
لقد حاول البعض وضع تقسيمات بين ما سمّي بالإصلاح الداخلي وما أطلق عليه الإصلاح الخارجي أو من الخارج، وبين الإصلاح العنفي والإصلاح السلمي (أي الإصلاح بالقوة أو باللين)، وبين الإصلاح الفوقي والإصلاح التحتي، لكن الإصلاح في نهاية المطاف هو عملية متداخلة ومتفاعلة ومعقدة، وهو عملية تراكمية وطويلة الأمد لا يمكن حصرها عند حدود أو وقفها أو إنهاؤها إلاّ إذا أريد الارتداد عنها. ولعل هذا معناه التخلي عن نهج الإصلاح، الأمر الذي سيرتّب استحقاقات واصطفافات جديدة بين قوى الإصلاح والقوى التي تريد الوقوف حجر عثرة في طريقه أو كبح محاولات النهوض به باتجاه التغيير والتحوّل الديمقراطي.
الإصلاح هو عملية بناء سلمي ومراجعة وتقييم ونقد وشراكة بين المجتمع المدني والقطاع الخاص من جهة، وبين الحكومات من جهة أخرى، في إطار حراك اجتماعي وسياسي واقتصادي، ووفقاً لدرجة التقدم والاستعداد لإنجاز عملية الإصلاح طبقاً للأولويات والضرورات في كل مجتمع أو دولة، آخذاً بعين الاعتبار الظروف الموضوعية الدولية أيضاً.
إن شراكة المجتمع المدني مع الحكومات تحتاج باستمرار إلى مراجعة وتدقيق وإعادة نظر ببعض جوانب العلاقة، وما اعتراها في السابق من سلبيات ومن إهمال أحياناً أو محاولة للتدجين أو لامتصاص النقمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما يُراد لها في الحاضر والمستقبل خصوصاً إذا وضع المجتمع المدني أهدافاً محددة وأولويات واضحة: ماذا يريد من الحكومات؟، وهذا الأمر لا يتعلق بتقييم العلاقة الحكومية مع المنظمات غير الحكومية، بل تقييم المجتمع المدني لنفسه وأدائه والتخلص من الجوانب السلبية في عمله، تلك التي تشكل نقاط ضعف تستفيد منها الحكومات، بل وتنفذ منها لتشويه صورة المجتمع المدني، مثلما هي قضايا تشبث الإدارات بمواقعها بالضد من التداولية للمسؤوليات، والنقص الحاصل في ميدان الشفافية والديمقراطية، بما فيها في الأنظمة الأساسية والداخلية والتمويل والأجندات الخارجية التي دفعت ببعض المنظمات إلى تقديمها على حساب مهنيتها وحرفيتها، الأمر الذي أضعف من استقلاليتها وجعلها عرضة للطعون من جانب الحكومات، باستغلال بعض الحالات الفردية والمحدودة لتعميمها على الكيانية الواسعة والعريضة للمجتمع المدني.
إن مناسبة الحديث هذا هو انعقاد الدورة الخامسة لمنتدى المستقبل (دبي- أبوظبي)، حيث استضافت دولة الإمارات العربية المتحدة المؤتمر الوزاري والمؤتمر الموازي (لمنظمات المجتمع المدني) وذلك بمشاركة اليابان، وحضرت فيه وفود على مستوى وزراء الخارجية وكبار المسؤولين بالدول الصناعية الثماني (G-8) ودول منطقة الشرق الوسط وشمال إفريقيا، وشركاء عالميين من أوروبا وكندا وتركيا، ومؤسسات دولية وعدد من منظمات المجتمع المدني وبعض ممثلي القطاع الخاص. وناقش المنتدى قضايا الإصلاح السياسي وحرية التعبير وتطوير البيئة التشريعية (القانونية والدستورية) للإصلاح والتنمية المستدامة وتمكين المرأة والتعليم ودور الشباب، في إطار الشراكة بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص. وإذا كان من قلق قد لاحظه نشطاء المجتمع المدني بشأن جمود أو تراجع أو تعثر خطط الإصلاح واتساع وتنامي النزعات الطائفية والمذهبية والإثنية، لاسيما في ظل ظاهرة الإرهاب ووجود عقبات وقيود كثيرة تقف أمامه بما فيها تدني مستويات الشفافية وحجم الفساد المستشري، فإنهم دعوا إلى أن تتحمل الحكومات مسؤوليتها، فضلاً عن المسؤولية الدولية لاسيما للدول الصناعية الثماني والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إزاء خطط الإصلاح، الأمر الذي هو بحاجة إلى مراجعة وتدقيق وإعادة نظر في إطار الشراكة التي ينبغي العمل على تحويلها إلى شيء قائم ومستمر وليس مجرد «سويعات» شكلية للقاءات العامة لا تخلو من المجاملات، بل إلى تبادل رأي مستمر، لسد النواقص والثغرات التي اعترت العلاقة بين المجتمع المدني والحكومات، عبر آليات مناسبة وتراكم ضروري ومتابعة لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، خصوصاً إذا تم وضع أجندة مشتركة ومواعيد زمنية محددة، ستتخذ طابع المسؤولية الأدبية أولاً ومن ثم طابع المسؤولية القانونية لاحقاً.
إن منتدى المستقبل الذي أثار تأسيسه ارتياحاً في أوساط غير قليلة من النشطاء، مثلما أثار استياءً في أوساط أخرى، أمام امتحان جديد وعسير، خصوصاً بعد خمس دورات في كل من المغرب 2004 والبحرين 2005 والأردن 2006 واليمن بالتعاون مع ألمانيا 2007 وأخيراً الإمارات العربية المتحدة بالاشتراك مع اليابان، إذ سيتوقف وجوده على مدى استطاعته تعزيز الدور المستقل لمنظمات المجتمع المدني من جهة، ومن جهة أخرى في دعمها كشريك مع الحكومات، إضافة إلى القطاع الخاص، في مسؤولية اتخاذ القرارات ورسم السياسات وسن التشريعات، بما يؤدي إلى تعزيز مبادئ المساواة وسيادة القانون واستقلال القضاء وإقرار التعددية والحق التعبير وفي انتخابات نزيهة في إطار احترام حقوق الإنسان!
وبذلك يمكن الحديث عن شراكة حقيقية بين المجتمع المدني والحكومات!


جريدة العرب القطرية العدد 7442، الإثنين 27 أكتوبر 2008 م ـ الموافق 28 شوال 1429 هـ

1234
هل المجتمع المدني شريك للحكومات؟
عبدالحسين شعبان
2008-10-26
يظّل الحديث عن الإصلاح ذا شجون مؤرقة، لاسيما في العالم العربي، رغم أن الجميع، حكومات وحركات سياسية ودينية ومجتمعا مدنيا وقطاعا خاصا، أخذ يقرّ بأنه أصبح حاجة ماسّة وضرورة لا غنى عنها، بل إنه «فرض عين وليس فرض كفاية» كما يُقال.
ومع أن رياح التغيير التي هبّت على العالم في الثمانينيات من القرن الماضي، لاسيما على أوروبا الشرقية وبعض دول أميركا اللاتينية، انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط بفعل مصالح ومساومات القوى الدولية المتنفذة، إلاّ أن الحديث عن الإصلاح كخيار استمر وتصاعد منذ انتهاء عهد الحرب الباردة، وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكله القديم إلى شكل جديد أساسه: وحدانية الهيمنة على العلاقات الدولية عبر قطبية متنفذة ومتسيّدة، وارتفاع شعارات التعددية والانتخابات وحقوق الإنسان وحرية السوق.
لقد ظل العالم العربي في أسفل سلّم التطور الدولي في ميدان الإصلاح، ولم تستجب الحكومات لاستحقاقاته الملّحة، رغم بعض الإرهاصات والتطورات المحدودة، إلاّ أن أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية قد أثرّت على نحو سلبي على مسار الإصلاح في جميع دول العالم، وبخاصة في البلدان العربية، إذ تم استغلالها على نحو مبالغ فيه للتضييق على الحقوق والحريات بحجة مكافحة الإرهاب الدولي، خصوصاً في ظل تصاعد نشاط بعض القوى المتطرفة والمتعصبة التي تستخدم العنف وسيلة لتحقيق أهدافها، وترفع اسم الإسلام للتغطية أو للتبرير على أعمالها العدوانية.
إن الإصلاح المُمتحن والمشكوك فيه، بل والمتهم أحياناً بالتخريب، لم يعد رغبة لنخبة فكرية أو سياسية أو مجرد تصوّرات أقرب إلى الترف منها إلى الحاجة الضرورية، وهو، بهذا المعنى، مسارٌ كوني، واستحقاق واجب الأداء. والعالم العربي لا يمكن بأي شكل من الأشكال عزل نفسه أو «الزوغان» عنه، إذ إن امتداداته تشمل العالم كله، لاسيما بفضل العولمة. والإصلاح إنْ لم يأتِ سلمياً وتراكمياً، سيكون عاصفاً ومدوياً، وقد يلحق ضرراً بقضية الإصلاح ذاتها كما بيّنت التجربة في أفغانستان والعراق، رغم الإطاحة بنظامين استبداديين معاديين للديمقراطية.
كما أن الإصلاح هو عملية متواصلة وغير منقطعة عن ظروفها وبيئتها، وبالتالي لا يمكنه أن يتوقف أو ينتهي أو يُختزل بفترة زمنية أو ببعض الإجراءات والقرارات والقوانين، أي أن الإصلاح هو عملية شاملة بحيث لا يمكن الحديث عن إصلاح في جانب وتركه في جانب آخر، لأن هناك ترابطاً عضوياً بين الإصلاح السياسي والبيئة القانونية والدستورية والتشريعية وبين حرية التعبير والتعددية والانتخابات والتنمية المستدامة وتمكين المرأة وتعزيز دور التعليم وتعميق دور القطاع الخاص.
لقد حاول البعض وضع تقسيمات بين ما سمّي بالإصلاح الداخلي وما أطلق عليه الإصلاح الخارجي أو من الخارج، وبين الإصلاح العنفي والإصلاح السلمي (أي الإصلاح بالقوة أو باللين)، وبين الإصلاح الفوقي والإصلاح التحتي، لكن الإصلاح في نهاية المطاف هو عملية متداخلة ومتفاعلة ومعقدة، وهو عملية تراكمية وطويلة الأمد لا يمكن حصرها عند حدود أو وقفها أو إنهاؤها إلاّ إذا أريد الارتداد عنها. ولعل هذا معناه التخلي عن نهج الإصلاح، الأمر الذي سيرتّب استحقاقات واصطفافات جديدة بين قوى الإصلاح والقوى التي تريد الوقوف حجر عثرة في طريقه أو كبح محاولات النهوض به باتجاه التغيير والتحوّل الديمقراطي.
الإصلاح هو عملية بناء سلمي ومراجعة وتقييم ونقد وشراكة بين المجتمع المدني والقطاع الخاص من جهة، وبين الحكومات من جهة أخرى، في إطار حراك اجتماعي وسياسي واقتصادي، ووفقاً لدرجة التقدم والاستعداد لإنجاز عملية الإصلاح طبقاً للأولويات والضرورات في كل مجتمع أو دولة، آخذاً بعين الاعتبار الظروف الموضوعية الدولية أيضاً.
إن شراكة المجتمع المدني مع الحكومات تحتاج باستمرار إلى مراجعة وتدقيق وإعادة نظر ببعض جوانب العلاقة، وما اعتراها في السابق من سلبيات ومن إهمال أحياناً أو محاولة للتدجين أو لامتصاص النقمة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ما يُراد لها في الحاضر والمستقبل خصوصاً إذا وضع المجتمع المدني أهدافاً محددة وأولويات واضحة: ماذا يريد من الحكومات؟، وهذا الأمر لا يتعلق بتقييم العلاقة الحكومية مع المنظمات غير الحكومية، بل تقييم المجتمع المدني لنفسه وأدائه والتخلص من الجوانب السلبية في عمله، تلك التي تشكل نقاط ضعف تستفيد منها الحكومات، بل وتنفذ منها لتشويه صورة المجتمع المدني، مثلما هي قضايا تشبث الإدارات بمواقعها بالضد من التداولية للمسؤوليات، والنقص الحاصل في ميدان الشفافية والديمقراطية، بما فيها في الأنظمة الأساسية والداخلية والتمويل والأجندات الخارجية التي دفعت ببعض المنظمات إلى تقديمها على حساب مهنيتها وحرفيتها، الأمر الذي أضعف من استقلاليتها وجعلها عرضة للطعون من جانب الحكومات، باستغلال بعض الحالات الفردية والمحدودة لتعميمها على الكيانية الواسعة والعريضة للمجتمع المدني.
إن مناسبة الحديث هذا هو انعقاد الدورة الخامسة لمنتدى المستقبل (دبي- أبوظبي)، حيث استضافت دولة الإمارات العربية المتحدة المؤتمر الوزاري والمؤتمر الموازي (لمنظمات المجتمع المدني) وذلك بمشاركة اليابان، وحضرت فيه وفود على مستوى وزراء الخارجية وكبار المسؤولين بالدول الصناعية الثماني (G-8) ودول منطقة الشرق الوسط وشمال إفريقيا، وشركاء عالميين من أوروبا وكندا وتركيا، ومؤسسات دولية وعدد من منظمات المجتمع المدني وبعض ممثلي القطاع الخاص. وناقش المنتدى قضايا الإصلاح السياسي وحرية التعبير وتطوير البيئة التشريعية (القانونية والدستورية) للإصلاح والتنمية المستدامة وتمكين المرأة والتعليم ودور الشباب، في إطار الشراكة بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص. وإذا كان من قلق قد لاحظه نشطاء المجتمع المدني بشأن جمود أو تراجع أو تعثر خطط الإصلاح واتساع وتنامي النزعات الطائفية والمذهبية والإثنية، لاسيما في ظل ظاهرة الإرهاب ووجود عقبات وقيود كثيرة تقف أمامه بما فيها تدني مستويات الشفافية وحجم الفساد المستشري، فإنهم دعوا إلى أن تتحمل الحكومات مسؤوليتها، فضلاً عن المسؤولية الدولية لاسيما للدول الصناعية الثماني والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إزاء خطط الإصلاح، الأمر الذي هو بحاجة إلى مراجعة وتدقيق وإعادة نظر في إطار الشراكة التي ينبغي العمل على تحويلها إلى شيء قائم ومستمر وليس مجرد «سويعات» شكلية للقاءات العامة لا تخلو من المجاملات، بل إلى تبادل رأي مستمر، لسد النواقص والثغرات التي اعترت العلاقة بين المجتمع المدني والحكومات، عبر آليات مناسبة وتراكم ضروري ومتابعة لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، خصوصاً إذا تم وضع أجندة مشتركة ومواعيد زمنية محددة، ستتخذ طابع المسؤولية الأدبية أولاً ومن ثم طابع المسؤولية القانونية لاحقاً.
إن منتدى المستقبل الذي أثار تأسيسه ارتياحاً في أوساط غير قليلة من النشطاء، مثلما أثار استياءً في أوساط أخرى، أمام امتحان جديد وعسير، خصوصاً بعد خمس دورات في كل من المغرب 2004 والبحرين 2005 والأردن 2006 واليمن بالتعاون مع ألمانيا 2007 وأخيراً الإمارات العربية المتحدة بالاشتراك مع اليابان، إذ سيتوقف وجوده على مدى استطاعته تعزيز الدور المستقل لمنظمات المجتمع المدني من جهة، ومن جهة أخرى في دعمها كشريك مع الحكومات، إضافة إلى القطاع الخاص، في مسؤولية اتخاذ القرارات ورسم السياسات وسن التشريعات، بما يؤدي إلى تعزيز مبادئ المساواة وسيادة القانون واستقلال القضاء وإقرار التعددية والحق التعبير وفي انتخابات نزيهة في إطار احترام حقوق الإنسان!
وبذلك يمكن الحديث عن شراكة حقيقية بين المجتمع المدني والحكومات!

 جريدة العرب القطرية العدد 7442، الإثنين 27 أكتوبر 2008 م ـ الموافق 28 شوال 1429 هـ

1235
قانون المحافظات وألغام الدستور العراقي

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

أقرّ الدستور العراقي الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15 أكتوبر 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه لحكومة يفترض فيها أن تستمر أربع سنوات في 15 ديسمبر من العام نفسه، مبادئ التعددية، لاسيما في المادة الثالثة منه. وذهبت المادة الرابعة إلى إقرار التعددية في اللغات أيضاً، بما فيها حق التعلّم بها، خصوصاً في المناطق التي فيها أغلبية سكانية ورغبة بذلك. وأقرت المادة 15 المساواة في الحقوق والحريات، إضافة إلى مواد أخرى.
ولعل الدستور من حيث التوجه العام اعترف بمبادئ المواطنة والمساواة أما القانون والعديد من مبادئ حقوق الإنسان، رغم احتوائه على ألغام كثيرة تنسف أحياناً الحقوق والحريات الممنوحة، التي تعطيها بيد وتسحبها باليد الأخرى، حين تعلّقها على قضايا تتعارض معها نصاً أو تفسيراً أو تأويلاً.
ومن الإشكالات التي ستثير الكثير من الجدل هي نوع النظام الفدرالي «الاتحادي» الذي تبنّاه الدستور، لاسيما أنه أعطى الحق لكل محافظة أن تكون إقليماً ولها دستورها الخاص، وفي حال تعارض النصوص الدستورية والقانونية بين دستور الاتحاد ودستور الإقليم، فإن الغلبة لدستور وقوانين الإقليم بدلاً من دستور وقوانين الاتحاد، كما هو في جميع الأنظمة الفيدرالية في العالم.
ومنح الدستور الفيدرالي حقوقاً للأقاليم تقترب من الجزء المعطل مقارنة بالدستور اللبناني وتجاربه المريرة، مبرراً ذلك بحماية حقوق الأقلية، والمقصود بذلك المكوّن الثاني «الكردي» بعد المكوّن العربي، كما تشير إلى ذلك الأوراق التفسيرية لمناقشات الدستور وما نشر عنه، ولعل مبررات ذلك هو الخوف من تغوّل الأغلبية عليها وفرض إرادتها، لاسيما ما عاناه الأكراد تاريخياً.
إن الكثير من نقاط الاحتكاك التي صادفت المتحاورين بخصوص قانون المحافظات والأقضية والنواحي، يعود مرجعها إلى الدستور نفسه، وقسم منها إلى شكل النظام الفيدرالي الذي تم تبنّيه، فكما نعلم في القانون الدستوري، هناك قواعد عامة تحكم علاقة السلطات الاتحادية بالسلطات الإقليمية، تتسع أو تتقلص تبعاً للعلاقة التي يتم تنظيمها دستورياً منها: وحدانية القوات المسلحة ووحدانية العلاقات الدبلوماسية الدولية ووحدانية العملة والخطط المالية والاقتصادية الكبرى، ووحدانية التصرف بالموارد الأساسية مثلما هو النفط والغاز وما سواهما وتنظيم طرق استفادة الأقاليم منهما، إضافة إلى توزيع الثروة، أما قضايا التعليم والصحة والبيئة والسياحة والرياضة والبلديات وما سواهما فهي من صلاحيات السلطات الإقليمية.
ولعل هذه الأمور هي مصدر خلاف لا في النصوص الدستورية فحسب، وبين الكتل والمكونات الأساسية، بل في التفسير والتأويل، الذي يمتد من الدستور نفسه، ليشمل قانون النفط والغاز وعلاقة البيشمركة بالقوات المسلحة، إضافة إلى قانون المحافظات ومشكلة كركوك وغيرها.
فالبيشمركة تشكيل خاص أصبح نظامياً وهو سابق على تأسيس القوات المسلحة «الجديدة» بعد الاحتلال، ولا يراد له أن يخضع لها إلا شكلياً، إذ لا تستطيع السلطة الاتحادية تحريك جندي واحد من دون موافقة السلطة الإقليمية. أما الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، فقد كان النص الدستوري بشأنها ملتبساً حين اعتبرها ملكاً للشعب، لكنه منح حق إدارة الحقول المستخرجة إلى السلطات الفدرالية بالتعاون مع سلطات الأقاليم، أما في الحقول غير المستخرجة، فقد وضع إدارتها بيد الأقاليم بالتعاون مع السلطات الاتحادية، وحصل الاحتدام في الموقف حين وقعت سلطات إقليم كردستان على عقود لاستخراج النفط مع شركات أجنبية، فاعترضت وزارة النفط، بل هددت بعدم التعامل مع الشركات المذكورة أو تسهيل مهماتها في العراق، وهو الذي عطّل إمرار هذه الاتفاقيات من جهة، إضافة إلى قانون النفط والغاز نفسه من جهة أخرى.
وانفجرت مشكلة العلم العراقي الواحد الموّحد، حين اعترضت السلطات الإقليمية في كردستان من رفعه، وأصرّت على رفع علمها الخاص، إلى حين تغيير العلم العراقي، مثلما ظلّت مشكلة كركوك مستعصية على الحل، بل أحد ألغام الوضع العراقي، منذ وقت طويل، ولم ينفع إدراج حلول مقترحة لها في المادة 58 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، أو ترحيلها إلى المادة 140 من الدستور الدائم، وهدد مجلس محافظة كركوك الذي يضم أغلبية كردية، يعترض عليه العرب والتركمان، بالانضمام إلى إقليم كردستان.
لقد كان تصويت البرلمان العراقي على قانون المحافظات والأقضية والنواحي، الذي ستجرى انتخابات على أساسه، محيّراً، فالدستور نصّ على حقوق الأقليات، وهو أمر لم ترفضه القوى والكتل الممثلة بالبرلمان، لاسيما الكبيرة منها، في حين أن إلغاء المادة 50 اعتبر إقصاءً للمكوّنات القومية والدينية، الأمر الذي دفع المسيحيين (الآشوريين والكلدانيين والسريان) للاحتجاج والخروج بتظاهرات استنكارية، مثلما احتج الصابئة والأيزيديون والشبك والأكراد الفيليون.
ولعل مشكلة كركوك المؤجلة، لاسيما بعد اقتراح ممثل الأمم المتحدة دي ميسورا، وهي مشكلة معتقة ومزمنة، إضافة إلى إلغاء المادة 50 رغم اعتراض ممثل الأمم المتحدة قد أعاد الكرة إلى المربع الأول، وأعقب ذلك استهداف المسيحيين في الموصل وقتل أحد عشر منهم، واضطرار نحو ألف (1500) عائلة إلى الهجرة طبقاً لتصريحات محافظ الموصل دريد محمد كشمولة، وهو ما يضع العملية السياسية برمتها أمام مخاطر جديدة وجدّية، خصوصاً بعد اتساع دائرة العنف خلال الأربعين يوماً الماضية، بما فيها التفجيرات والعبوات الناسفة والانتحاريات وعمليات القتل.
وحسب نسب تمثيل الأقليات فإن بغداد ستضم 3 مسيحيين و3 آخرين في نينوى، إضافة إلى يزيدي واحد وآخر من الشبك في محافظة الموصل، أما مسيحيو كركوك فسيكون لهم اثنان وكذلك اثنان في دهوك وواحد في أربيل وواحد في البصرة، لكن التفجيرات والاغتيالات الأخيرة أعادت إلى الأذهان ما تعرض له المسيحيون بشكل خاص، والأقليات بشكل عام، فقد تعرضت الكنائس والأديرة في الموصل وكركوك وبغداد والبصرة إلى تفجيرات، إضافة إلى الملاحقة والقتل، بل إرغامهم على تبني مواقف لا يرتضونها وأحياناً تتعارض مع تعاليم دينهم مثل فرض الحجاب على المسيحيات وإغلاق محلات بيع الخمور أو قتل أصحابها من المسيحيين أو قتل أصحاب صالونات الحلاقة لاسيما النسائية، تحت حجج وأسباب واهية، وهو الأمر الذي جعل أعداداً كبيرة منهم تفكّر بالرحيل، إضافة إلى العديد من أبناء الأقليات الأخرى.
فما الفائدة في نصوص دستورية صمّاء وحقوق على الورق وخرساء، في حين تجري عملية تصفية حقيقية لكياناتهم، الأمر الذي يضع المسؤولية في تفتيت الوحدة الوطنية العراقية على عاتق قوات الاحتلال، خصوصاً انفجار موجة العنف، إضافة إلى تمزيق النسيج العراقي، الذي يحفل بألوان فسيفسائية و«موزاييكية»، كان مصدر قوة للعراق المتنوع المتعدد، وهو ما يضع المسؤولية أيضاً على عاتق الحكومة العراقية، التي لم تستطع حتى الآن تأمين مستلزمات أولية لأي حكومة، تتلخص في حماية أرواح وممتلكات المواطنين وفرض النظام والأمن العام على الجميع.
وإذا كان هناك من مسؤولية تقع على عاتق الإرهابيين، لاسيما تنظيم «القاعدة»، فإن الحكومة ومعها القوات المتعددة الجنسيات قالت إنها تقوم منذ أشهر بحملة تنظيف لوجودها، الأمر الذي أثار شكوكاً كبيرة خصوصا اندلاع حالة من الرعب والهلع بعد عمليات الاغتيال المنظمة التي طالت المسيحيين.
ليس بإمكان المسيحيين أو سواهم من الأقليات تأسيس ميليشيات مسلحة أو صحوات وليس لديهم عشائر أو قبائل لتحميهم أو تدافع عنهم، وإذا لم تتمكن الدولة من تأمين ذلك، فمن سيفعل ذلك، لاسيما في ظل الفلتان الأمني والإرهاب وأعمال العنف. إن حماية المواطنين وتأمين سلامتهم وحياتهم وممتلكاتهم أولى من مناقشة درجة تمثيلهم في مجالس المحافظات أو الأقضية أو النواحي، وهي وإن كانت مهمة إلاّ أن الأمر ينبغي أن ينصرف للحماية أولاً ولإزالة الألغام من الدستور ثانياً وتأمين الوحدة الوطنية ثالثاً.
* كاتب ومفكر عراقي
جريدة الجريدة الكويتية العدد رقم 449  الجمعة 31 اكتوبر 2008 ,03 ذو القعدة 1429 



      


1236
المستوطنات الإسرائيلية: الصقور والحمائم!!


د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

إن المستوطنات هي صنيعة الكيان الاستيطاني، قامت وتوسعت وتستمر بدعمه وحمايته، ولا فارق في ذلك بين الصقور والحمائم، فالكل لاسيما في موضوع المستوطنات هم أقرب إلى الصقور!!
ظلّت مسألة المستوطنات إحدى المسائل العقدية في الصراع العربي-الإسرائيلي، مثلها مثل مسألة القدس ومسألة اللاجئين وحق العودة ومسألة الحدود، إضافة إلى التفريق بين المقاومة والإرهاب، ولعل هذه المسائل ظلّت عالقة منذ وصول اتفاق أوسلو إلى طريق مسدود، خصوصاً أن المرحلة النهائية له كانت قد تحددت في العام 1999، وهو ما حاولت إسرائيل المماطلة به، بل الضغط على القيادة الفلسطينية لإجبارها على قبول تسويف هذه المسائل التي تم الاتفاق على بحثها بعد خمس سنوات على اتفاق أوسلو.
وبسبب التعنت الإسرائيلي ورفض بحث ما بعد أوسلو، لاسيما المسائل العقدية، التي تشكل كلّ واحدة منها مشكلة عويصة ومعقدة، ويتوقف على حلّها التوصل كل على حدة وبالتداخل مع المسائل الأخرى، الوصول إلى تسوية سلمية ولو بحدها الأدنى للصراع العربي-الإسرائيلي في إطار ما سمّي بالشرعية الدولية، وقرارات مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، نقول وبسبب ذلك اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في 28 سبتمبر عام 2000، والتي قمعتها إسرائيل بوحشية وقسوة لا مثيل لهما، بما فيها محاصرة الرئيس الراحل ياسر عرفات واقتحام المدن والقرى الفلسطينية وقتل السكان المدنيين الأبرياء وبناء جدار للفصل العنصري، لتقطيع أوصال ما تبقى من فلسطين، بحجة منع التسلل وكبح جماح الإرهاب والإرهابيين، وهو المصطلح الذي تستخدمه إسرائيل عندما تصف المقاومة والمقاومين.
ويكاد يكون موقف القيادات الإسرائيلية بشكل عام من موضوع المستوطنات موحداً، فهي حسب بعض التبريرات الإسرائيلية الصهيونية تحقق فوائد كبيرة لدولة إسرائيل، لاسيما بسيطرتها على الموارد الفلسطينية، وتأمين منطقة عازلة بين الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر وكذلك لعزل المناطق الفلسطينية عن بعضها بعضا، وبالتالي فإن وجود المستوطنات سيكون لغماً حقيقياً يواجه تأسيس دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للعيش والحياة.
وتصبح المستوطنات مع مرور الأيام أراضي لدولة إسرائيل ومصدرا دائما للتهديد يتوسع ويكبر باستمرار، فحتى عام 1948 (أي حتى قيام دولة إسرائيل في 15 مايو 1948) لم تكن سوى 7 مستوطنات يهودية في الأراضي التي احتلتها إسرائيل بعد عدوان 5 يونيو عام 1967. وكانت نسبة اليهود لا تزيد على 1% في تلك المناطق، ولكن عددهم ارتفع على نحو سريع، فحتى مطلع التسعينيات كان نحو 97 ألف يهودي يعيشون في 180 مستوطنة في الضفة الغربية ويهيمنون على نصف أراضيها، ويستوطن في القدس الشرقية 155 ألف يهودي، كما سيطرت إسرائيل على جميع الموارد الحيوية في الضفة الغربية، وبلغ سكان القدس عام 1992، نحو 555 ألف نسمة، منهم 400 ألف يهودي، وقبل العام 1967 لم يكن العدد يزيد على 196 ألف يهودي، وقامت السلطات الإسرائيلية بإلغاء إقامات عدد غير قليل من العرب الفلسطينيين في القدس بحجج «قانونية» واهية، إما بسبب السفر أو التأخر في طلب التمديد، في حين أن القوانين الإسرائيلية تمنح اليهود، بغض النظر عن سكناهم وبلدانهم، الحق في الحصول على الجنسية الإسرائيلية، بينما سكان البلاد الأصليين يحرمون منها.
وإذا كان تصريح أولمرت أخيراً قد أثار الدهشة عندما قال: إن المستوطنين يشكلّون تهديداً للديمقراطية في إسرائيل، فلم يسبقه في مثل هذا التصريح أحد من الزعماء الإسرائيليين، فهو كان يريد إنهاء فترة حكمه الملتبسة بمثل هذا التصريح الملتبس والمفاجئ لاسيما أن مستقبله السياسي كلّه كان على كف عفريت، خصوصاً اتهامه بالفساد! أو أنه جاء «يائساً» لإرضاء سادة البيت الأبيض، خصوصاً بعد ضغوط المجتمع الدولي!
كان شارون سلفه قد صرح بعد الاستيلاء على أول شقة في الحي الإسلامي في القدس «لقد وضعنا لأنفسنا هدفاً يقضي بألا يبقى مكان في القدس الشرقية بلا يهود» واعتبر شامير المستوطنات ضمانة وحيدة ضد السيادة العربية غربي نهر الأردن، وكان رابين قد اعتبر مسألة المستوطنات حقا لا يقبل الجدل، وهو ما كان بيغن يردده أيضاً «للشعب اليهودي الحق في استيطان الأراضي المحتلة».
ولعل كل هذه التصريحات للقيادات والزعامات الإسرائيلية تعتبر مخالفة لقواعد القانون الدولي واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها بروتوكولي جنيف لعام 1977، الأول الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة والثاني الخاص بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية، إضافة إلى قواعد القانون الدولي التعاقدية والاتفاقية من جهة والعرفية من جهة أخرى، وقواعد القانون الدولي لاسيما الآمرة Jus Gogens التي لا تجيز احتلال الأراضي والاستيلاء عليها أو ضمّها وإلحاقها بالقوة أو الحصول على مكاسب سياسية بسبب الاحتلال.
يبدو أن تصريح أولمرت لا قيمة له لاسيما توقيته، خصوصاً بعد الفضيحة التي لحقته وانتهاء مدة ولايته، فلا فرق حتى الآن واضحا بين الصقور والحمائم إزاء المستوطنات، وقد عبّر بن عايزر وزير الإسكان في حكومة شمعون بيريز بالقول: الفارق بين حزب العمل وكتلة الليكود في بناء المستوطنات، هو أنني أبني بصمت وهدفي أن أبني وأبني، والمهم هو البناء ثم البناء... وهكذا. ولعل هذا هو موقف كاديما بما فيها السيدة ليفني المكلّفة بالوزارة الإسرائيلية بعد انتهاء ولاية أولمرت.
إن تبريرات الحركة الصهيونية بشأن المستوطنين تقول إنهم بشر مؤمنون جاؤوا إلى أرض إسرائيل «المقدسة» لأسباب دينية وعاطفية، وتسعى جاهدة لنفي الأسباب الاقتصادية لمجيئهم إضافة إلى الجانب العقائدي المتعصب والمتطرف لدى الكثيرين منهم، وهم يحصلون على معونات ضخمة جداً، بما فيها المنازل.
وإذا أردنا وضع كلام أولمرت في سياقه السياسي فقد جاء إرضاءً للولايات المتحدة، حتى لو كان لفظياً، لاسيما بعد ضغوط المجتمع الدولي الذي يسعى لإيجاد حل للخروج بسلام حتى إن كان دون الحد الأدنى.
وإذا كان أولمرت يؤمن بأن المستوطنين يشكلون خطراً على الديمقراطية وبالتالي على السلام، فلماذا لم يبدأ في فترة حكمه بتفكيك المستوطنات وإعادة المستوطنين من حيث أتوا، وإذا كان أولمرت أو غيره يبررون بألا طاقة للدولة العبرية بمنع بناء المستوطنات أو التوسع فيها لا سيما بالضد من القانون، إلاّ أن الحقيقة أن المستوطنات هي صنيعة الكيان الاستيطاني، قامت وتوسعت وتستمر بدعمه وحمايته، ولا فارق في ذلك بين الصقور والحمائم، فالكل لا سيما في موضوع المستوطنات هم أقرب إلى الصقور!!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية رقم 443 الجمعة 24 اكتوبر 2008 ,25 شوال 1429

1237
المنبر الحر / العراق منجم الخطر
« في: 12:42 25/10/2008  »
العراق منجم الخطر
   



عبدالحسين شعبان
 
مضت خمس سنوات ونيف على غزو العراق واحتلاله والاطاحة بنظام الحكم فيه بحجة وجود أسلحة دمار شامل وعلاقته بالإرهاب الدولي، ورغم ما تردد عن استبداد حكامه ودكتاتورية سلطاته المطلقة، فإن هذه الذريعة لم تكن بمستوى الذريعتين الأخريتين، وسرعان ما اختفت من أجندة القوات المحتلة لاسيما من سياسات الولايات المتحدة الواعدة بإحلال ربيع الديمقراطية ونشر نعيم الحرية.

سقط نظام صدام حسين في 9 ابريل/ نيسان 2003 وهو النظام الذي اعتبر خطراً على السلم العالمي وعلى جيرانه، لاسيما وقد عُرف ببطشه على الصعيد الداخلي وبحروبه الإقليمية، لكنه وبسبب الحصار الدولي الجائر الذي دام 13 عاماً وضعف وهزال هياكله وتركيباته، لم يعد يشكل أي خطر مزعوم، ومع ذلك فالعراق

حالياً إحدى أكثر الدول في العالم فساداً وخطراً.

يلقى المئات شهرياً مصرعهم رغم تحسن نسبي قلق، لكنه سرعان ما ينهار أمام أي مواجهة تنتقل من مكان إلى آخر ومن طرف إلى طرف، ولعل ما لحق بالمسيحيين حالياً في الموصل خير دليل على ذلك، حيث يستشري العنف على نحو مروّع وتتعرض حياة عدد لا يحصى من السكان للخطر، خصوصاً مع استمرار وتفاقم حالات الفقر وانقطاع الكهرباء والماء ونقص المواد الطبية واتساع دائرة العنف ضد النساء وتشظي المجتمع وتمزيقه بإثارة النزعات الطائفية والمذهبية، التي كرستها محاصصات سياسية ابتدعها الحاكم المدني الأمريكي بريمر وحاول فرضها، لحساب جهات متعاونة مع الولايات المتحدة ومستفيدة من الاحتلال، ناهيكم عن استنفار مشاعر الكراهية والحقد والانتقام على نحو شديد ومرعب.

وإذا كانت القوات المحتلة قد نجحت سريعاً في الاطاحة بالنظام السابق، فإنها رغم مرور أكثر من خمس سنوات أخفقت في فرض وإرساء سيادة القانون وفي قضايا حقوق الإنسان وإنهاء الإرهاب وإحلال السلام ووقف العنف أو وضع حد للقتل على الهوية الذي يجري يومياً في البلاد، وكذلك في منع ممارسة التعذيب في السجون، وكانت فضيحة سجن أبو غريب وسجون وزارة الداخلية فضائح صارخة هزّت الرأي العام في الغرب أكثر من تأثيراتها في العالم العربي الذي تتفشى فيه ظاهرة التعذيب في السجون على نحو روتيني.

ورغم وعود واشنطن بإعادة بناء العراق وتحقيق الرفاه الاقتصادي، إلا أن مثل هذا الأمر أصبح من الكماليات، لاسيما في ظل الانقسام الطائفي ووجود الميليشيات واستمرار الإرهاب والعنف واستشراء الفساد والرشوة وتبديد المال العام. كل تلك الوعود صارت اليوم من “أحلام” الماضي، بل إنها أضغاث أحلام، بل تحوّلت إلى كوابيس لاسيما للقوات الأمريكية الموجودة في العراق.

ولا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن إعادة البناء أو مشاريع اقتصادية حيوية من دون وقف العنف والإرهاب ومن دون تحقيق مصالحة سياسية حقيقية، والكف عن الثأر والانتقام، لاسيما على أساس طائفي أو مذهبي أو إثني ومن دون وضع حد لظاهرة الفساد والرشوة، وأولاً وقبل كل شيء من دون إعادة هيبة الدولة وبناء مؤسساتها، خصوصاً الجيش والقوات المسلحة وقوى الأمن وفرض سيادة القانون والنظام العام.

ولعل هذه المهمة رغم مرور أكثر من خمس سنوات ما تزال متعثرة وتتعرض بين حين وآخر إلى النكوص، جراء إغراق الجيش الجديد بعناصر الميليشيات وقوى تابعة للاحزاب الطائفية أو الإثنية، ومؤخراً بقوات الصحوات التي تم تشكيلها للتصدي لجماعات القاعدة وتنظيماتها، لكن هذه القوى جميعها لديها ازدواجيات في الولاء، وآخر ولاءاتها هو الجيش الذي ما زال باعتراف القائمين عليه من القوات المتعددة الجنسيات، غير مؤهل ولا يتمتع بالكفاءة المطلوبة، ناهيكم عن افتقاره للمعايير المهنية والوطنية الجامعة بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو القومية أو التوجه

السياسي والأيديولوجي أو الانحدار الاجتماعي.

لقد أنفق جزء كبير من المال العراقي على أجهزة الأمن بما فيها المؤسسات الأمنية الخاصة، من دون إحراز نجاحات تُذكر على هذا الصعيد بما يتناسب مع ما أنفق عليها، ولو افترضنا إنفاق مثل هذه الأموال على ملايين الأطفال والنساء والسكان بشكل عام، خصوصاً من يعيش تحت خط الفقر لأمكن تحقيق الكثير من النجاح، ولعل ما هو مثير للمفارقة أن الحكومة العراقية خفضت منذ نهاية العام 2007 عدد المواد التي يشملها نظام الحصص الغذائية الذي بدأ العمل به منذ عام 1996 بموجب برنامج “النفط مقابل الغذاء”.

إن ثلثي سكان العراق تقريباً لا يحصلون على ماء الشرب النظيف ويعيش حوالي نصف السكان (أربعة من عشرة) بأقل من دولار واحد في اليوم وهم عاطلون عن العمل، ويحتاج ثمانية ملايين نسمة إلى مساعدات طارئة لسد الرمق حسب تقرير منظمة العفو الدولية “بين المجازر واليأس  العراق بعد خمس سنوات” في حين تتضخم خزينة العراق التي كان فائضاً منها العام الماضي 48 مليار دولار وارتفعت هذا العام بسبب ارتفاع أسعار النفط، رغم أن تلك الأموال مهددة حالياً بالأزمة المالية التي تعرضت لها الولايات المتحدة بشكل خاص والعالم بشكل عام.

وبدلاً من إنفاق المال الضروري على الخدمات الأساسية والضرورية لاسيما في ميادين الصحة والتعليم، فإن هذين القطاعين يكادان ينهاران ويموت الناس بسبب نقص الرعاية الصحية وتنتشر الأمية ويزداد التسرّب من المدارس وينخفض مستوى التعليم ليس في أوساط الأطفال حسب، بل بكامل مراحل التعليم من الابتدائي ومروراً بالثانوي ووصولاً إلى التعليم الجامعي.

إن أوضاع حقوق الإنسان تشكل كارثة حقيقية، حيث تواصل المجموعات الميليشياوية المسلحة، خطف المدنيين وتعذيبهم وقتلهم، تحت حجج وذرائع مختلفة، وبعضها ليس بعيداً عن السلطة أو بعض ذيولها ووردت مثل هذه الاتهامات مؤخراً بشأن ما حصل للمسيحيين في الموصل.

وقد ارتكبت جميع الأطراف وإن بمسؤوليات متفاوتة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي دفع أعداداً واسعة من السكان إلى النزوح والهجرة حيث يشكل عدد المهاجرين والنازحين حالياً نحو 15% من مجموع سكان العراق وذلك طبقاً لتقديرات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، ووصل عددهم إلى أكثر من أربعة ملايين و600 ألف لاجئ ونازح، ورغم ما قيل عن عودة البعض إلى مناطق سكناهم، فإن النسبة لا تزيد على 1% حتى الآن، لاسيما للذين اضطروا إلى النزوح والهجرة بعد تفجير مرقدي الإمام الحسن وعلي الهادي في سامراء (شباط/ فبراير) 2006.

ورغم كل ما قيل عن مساعدة العراقيين، فإن المجتمع الدولي بقضّه وقضيضه تقاعس عن القيام بدوره، وتتحمل دول مجلس الأمن الدولي (الدائمة العضوية) مسؤولية مضاعفة على هذا الصعيد، لاسيما إزاء ما يتعرض له العراقيون من انتهاكات على يد القوات المتعددة الجنسية والقوات الحكومية، وليس بسبب العنف الطائفي والاثني حسب.

إن تعرض المسيحيين إلى القتل الجماعي والهجرة وانتهاك حقوق الإنسان يعيد إلى الأذهان وإلى الواجهة تقاعس المجتمع الدولي ومسؤوليته الأساسية، إضافة إلى مسؤولية الجهات الرسمية، لاتخاذ التدابير الضرورية والعملية إزاء الانتهاكات الخطيرة والصارخة لحقوق الإنسان لاسيما قتل المدنيين وتعذيبهم واغتصابهم، الأمر الذي يتطلب استنهاض الجهود لتقديم المسؤولين عن الارتكابات إلى القضاء وتحقيق العدالة وكبح جماح الميليشيات وفرق الموت.

إذا كان هناك بعض البلدان تعاني من انتهاكات في هذا المجال أو ذاك، فإن العراق يعتبر منجماً خطيراً للانتهاكات السافرة لكامل منظومة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

1238
من المستفيد من استئصال المسيحيين في العراق؟
عبدالحسين شعبان
2008-10-19
قال محافظ الموصل (نينوى)، دريد كشمولة، إن أعمال العنف ضد المسيحيين أدت إلى ترك نحو ألف عائلة منازلها خلال الأيام القليلة الماضية. وقد توّجهت أعداد من المسيحيين بلغت نحو ثلاثة آلاف شخص إلى كنائس وأديرة ومنازل أقارب لهم في مدن وقرى مجاورة. جاء ذلك في أعقاب مقتل 11 مسيحياً، بينهم طبيب ومهندس وصيدلاني وعمال بناء وأحد المعوّقين. وسبق للشرطة العراقية أن أفادت عن العثور على سبع جثث لمسيحيين قتل أصحابها بالرصاص في هجمات متفرقة في الموصل التي تقع على مسافة 360 كيلومتراً شمال غرب بغداد.
جدير بالذكر أن عدد المسيحيين في العراق بدأ يتناقص حتى بلغ نحو %3، بسبب ازدياد الهجرة منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي، وخلال الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، وفيما بعد ارتفعت خلال أعوام الحصار الدولي ضد العراق (1991-2003)، إذ تقلّص عدد المسيحيين بشكل ملحوظ. وبعد احتلال العراق وتعرّض المسيحيين لأعمال عنف وقتل وتفجير للكنائس والأديرة، لاسيما في البصرة وكركوك والموصل وبغداد، غادر نحو ربع مليون مسيحي من مجموع المسيحيين الذي يتراوح بين 800-900 ألف إنسان إلى خارج العراق، وقسم كبير منهم ظل ينتظر الهجرة في عمان أو في اللاذقية أو دمشق أو بيروت أو غيرها.
إن أعمال القتل الغامضة التي استهدفت المسيحيين نشرت حالة من الهلع والرعب بين صفوفهم في جميع أنحاء العراق، خصوصاً وأن أنباءً ترددت عن صلة أشخاص لهم علاقة بجهاز الأمن، يحملون شارات رسمية ويتصرفون باطمئنان وثقة، ويقومون بطرق أبواب المسيحيين! في حين وجهت الحكومة اتهاماتها لتنظيمات القاعدة التي بدورها ادعت أن القوات العراقية والمتعددة الجنسيات هي التي تقوم بذلك منذ أشهر.
لعل هذه إحدى مظاهر أزمة الحكم في العراق. فالحملة منظمة ولديها أهداف محددة، ولا شك أن جهات معينّة هي التي تقوم بها، وثمة جهات مستفيدة منها، فضلاً عن وجود أدوات تقوم بتنفيذها، وهو ما دفع رئيس أساقفة الكلدان، الأسقف لويس ساكا، إلى تذكير المسلمين بوصية النبي محمد «حق الجار على الجار».
ولعل الأمر اللافت للنظر أن الحملة ترافقت مع إلغاء المادة 50 التي تعنى بتمثيل الأقليات في مجالس المحافظات والأقضية والنواحي، وقيام المسيحيين بتنظيم تظاهرات احتجاجية تطالب بإعادتها، الأمر الذي يجعل هناك رابطاً سياسياً قد يكون خلفها. وبإقرار القانون الجديد واستبعاد المادة 50، حصل نوع من التشويه وربما النقص والهضم لحقوق الأقليات في حدّها الأدنى التي تناولها الدستور الدائم، بغض النظر على الملاحظات التي عليه والألغام الكثيرة التي احتواها، والتي تمنح الحق بيد وتسحبه باليد الأخرى.
يسعى الاستهداف السياسي، من خلال البطش والإرهاب والقتل، إلى تهجير المسيحيين، ووراء ذلك الحصول على مكاسب سياسية تقف خلفه، أو إجبارهم على الرضوخ والتعامل مع كيانات ومشاريع لم يرغبوا فيها. ومثل هذا الأمر يثير تداخلات إثنية ودينية، لاسيما الاحتدامات القومية بين عرب الموصل وبعض مراكز التجمع الكردي، وهو تداخل معقّد، خصوصاً وأن هناك سعيا لكسب المسيحيين إلى جانب هذا الفريق أو ذاك بالوعد أو الوعيد. كما أن وجود القاعدة ورؤيتها وأساليبها قد لا تكون بعيدة عن ذلك، الأمر الذي يضع استهدافاتها في إطار ضرب بعض الكيانات الصغيرة لإحداث المزيد من الفتنة والانقسام في إطار المجتمع العراقي بشكل عام والمجتمع الموصلي بشكل خاص، حيث عاش المسيحيون في كنفه دون حدوث مشاكل تذكر أو استهدافات منظمة وجماعية.
وإذا كان المجتمع العراقي، لاسيما منذ تأسيس الدولة العراقية في عام 1921 وحتى انهيارها بفعل الاحتلال 2003، قد شهد نوعاً من التعايش السلمي بين الكيانات والتكوينات المتنوعة، فإنه كان مصدر غنى وإثراء وقوة للمجتمع المتعدد المتنوّع، فلماذا يصبح الآن مصدر نزاع أو صراع أو عنف؟ الأمر الذي يدعو إلى التأمل والتفكير إزاء الجهات المستفيدة.
لقد لعبت المسيحية العراقية في إطار المسيحية العربية (الشرقية) دوراً مهماً في بناء الدولة العراقية وتعزيز مسيرتها على جميع الصُّعد، كما ساهم المسيحيون بنشاط وحيوية في الحركة الوطنية العراقية، وبرز منهم مثقفون وباحثون ورياضيون ومؤرخون وفنانون.
ما الذي يفعله المسيحيون الآن بعد عمليات القتل والتفجير والاستهداف المنظم والتقليل من كيانيتهم؟ هناك من يريد دفعهم للعزلة، بالمطالبة بجعلهم ضمن «غيتو» تحت مسميات الحكم الذاتي وفي ظرف غير اعتيادي، بحيث يكون خيارهم مرهوناً بالطوارئ، وتتنازع على انضمامه الكيانية الكردية أو العربية الموصلية، أو دفعهم إلى التقاتل بتشكيل ميليشيات مسلحة بحجة الدفاع عن أنفسهم، وبالتالي جعلهم في إطار عمليات الاحتراب، فالمسيحيون ليس لديهم سلاح أو ميليشيات أو قبائل أو قوة خاصة، فهل سيحل تشكيل الميليشيات والتلويح بالسلاح مشكلة المسيحيين في العراق والأقليات بشكل عام؟ أم أنهم سيكونون عبئاً جديداً، مثلما هي الصحوات الآن، التي شكلتها القوات المتعددة الجنسية بقيادة الولايات المتحدة وقامت بتمويلها، ويُراد الآن ضمّها إلى الجيش، الأمر الذي يثير ازدواجية الولاء والانتماء، لاسيما في مقابل الولاءات والانتماءات الأخرى؟ وحتى لو شكل المسيحيون ميليشيات أو صحوات، فإنها لن تكون قادرة على منافسة الآخرين.
إن استهداف المسيحيين يراد به الإخلال بالتركيبة السكانية الديموغرافية الدينية في العراق، وهذا لا يعني سوى التفتيت، وإلاّ بماذا يمكن تفسير نحو 200 تفجير، واغتيال نحو 200 شخص من أبناء الديانة المسيحية؟!
إن استعادة هيبة الدولة العراقية وسيادتها والسعي لإنهاء الاحتلال وفرض سيادة القانون وحماية أرواح وممتلكات جميع المواطنين، لاسيما بحلّ الميليشيات، كفيل بالحفاظ على حقوق المسيحيين وجميع الأقليات والتكوينات في إطار الدستور العراقي، رغم نواقصه وألغامه الكثيرة، وبالأساس في ظل مرجعية حقوق الإنسان المدنية والسياسية، خصوصاً العهد الدولي الأول الصادر عام 1966 والذي دخل حيز التنفيذ عام 1976، إضافة إلى إعلان حقوق الأقليات الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1992، والذي تضمّن الحقوق الثقافية والإدارية واللغوية، وهو ما ورد ذكره في الدستور العراقي، لكنه ظل في كثير من الأحيان حبراً على ورق، إذ شكت الطائفة المسيحية من حرمانها من التصويت خلال الانتخابات السابقة، لاسيما في سهل نينوى (الموصل).
إن محاولة استئصال المسيحيين تعني فيما تعنيه إضعاف الكيان العراقي، ودفعه لابتلاع المجموعات الصغيرة، لاسيما بالتطهير الديني وإجبارهم على الهجرة، وبالتالي حرمان المجتمع العراقي من طاقات وكفاءات وخبرات وطنية يمكنها أن تسهم في إحداث نوع من التوازن، إضافة إلى التنوع والتعددية في إطار الوحدة الوطنية. ولعل في إجراءات مثل تلك ستكون خسارة كبيرة للعراق ومستقبله، إذ سيكون لا معنى لإقرار التعددية في الدستور، وممارسة الاستئصال فعلياً على الأرض، خصوصاً في ظل انعدام الثقة وتهديم جسور العلاقة التاريخية الإسلامية-المسيحية.
إن المستفيد من استئصال المسيحيين هم الذين لا يهمّهم ولا يعنيهم إنهاء الاحتلال، لاسيما قوى التطرف والتعصب والغلو التي تقوم بتأثيم الآخر وتجريمه وتحريمه، وبالتالي لفرض «سيادتها» بالقوة مهما كانت حججها ومزاعمها، ومهما رفعت من شعارات أو ادعت من مسوّغات، والعبرة دائماً ليست بالنصوص، بل بالممارسة والتجربة، فمن يستطيع في نهاية المطاف أن يتجاهل أو يهمل تكوينات عراقية تعتبر من أقدم السلالات في تاريخ العراق، كالصابئة المندائيين أو الكلدان والآشوريين أو الآيزيديين، إضافة إلى المسيحيين؟!
         


1239
المنبر الحر / ثرثرة الديمقراطية
« في: 16:26 19/10/2008  »
ثرثرة الديمقراطية

عبدالحسين شعبان
 

لم تخف كوندوليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة انبهارها ب”النجاح الملحوظ” الذي حققه الحصار “الاسرائيلي” لقطاع غزة والعقوبات الجماعية وترويع السكان المدنيين، الذي تقوم به السلطات “الاسرائيلية” منذ ثماني سنوات (سبتمبر /أيلول 2000-2008)، أي منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية السلمية وحتى الآن، وقد عبّرت عن ارتياحها لنجاعة السياسة “الاسرائيلية” ضد الفلسطينيين، في رسالة وجهتها الى نظيرتها وزيرة الخارجية “الاسرائيلية” ليفني، قالت فيها: إن الحصار أخذ يؤثر بشكل فعّال، ونحن سعداء بهذه النتيجة.

ولعل هذه الرسالة ذات المغزى اللاإنساني واللا أخلاقي إزاء شعب أعزل وأطفال يموتون وحصار أخذ يسحق الآدمية والكرامة معاً، تذكّر بما قالته مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية في عهد الرئيس كلينتون لدى سؤال وجهته اليها ستانلي في برنامج “ستون دقيقة” المشهور، فيما إذا كان موت مئات الآلاف من الأطفال العراقيين يستحق هذا الثمن، فأجابت بنعم: إنه استحقاق مقبول.

وقد دفع الشعب العراقي جراء الحصار بعد مغامرة غزو الكويت (1990-2003) أثماناً باهظة لاسيما بعد “حرب تحرير الكويت”، التي انتهت بتدمير البنية التحتية والهياكل الارتكازية والمرافق الحيوية العراقية، وتخريب المجتمع العراقي ودفعه للتآكل التدريجي والنفسي، لاسيما بموت أكثر من مليون و650 ألف عراقي، واضطرار مئات الآلاف الى الهجرة بحثاً عن لقمة العيش واعتلال صحي شامل وتدنٍ في مستوى التعليم وتشظيات وانقسامات مذهبية واثنية وجهوية برزت بعد الاحتلال على نحو تفتيتي، الامر الذي ساهم في سقوط التفاحة الناضجة بالأحضان، لاسيما في ظل سياسات استبدادية تسلطية لأكثر من ثلاثة عقود من الزمان.

وقد دفع هذا الأمر، فضلاً عما حصل في أفغانستان والبوسنة والهرسك والصومال وحصار ليبيا والسودان وغيرها، الى ان الكثير من الأوساط التي كانت تأمل ان يكون النظام الدولي الجديد، الذي جاء في أعقاب انتهاء الحرب الباردة في نهاية الثمانينات، وبشر بالديمقراطية والحرية والتعددية، أقل قسوة وأكثر عدلاً من سابقه نظام القطبية الثنائية، لكن الرياح سارت عكس ذلك، مما وضع الكثيرين في حال من الإحباط والحيرة وانعدام الثقة، ولعل تلك إحدى مفارقات “الديمقراطية” التي وعد بها الرئيس بوش طيلة فترة حكمه وعند تسلمه مقاليد البيت الابيض.

وكشفت الاحداث ان تلك الادعاءات لم تكن بعيدة عن الفضيلة المزعومة حسب، بل انها كانت منافية للمبادئ الانسانية وحقوق الانسان وقواعد العدل والانصاف، إضافة الى تعارضها مع القيم والمبادئ القانونية الوضعية والدينية، التي يتم التشبث بها أحياناً.

قبل سنوات قليلة، كان كثيرون في العالم العربي بسبب سوء تعامل حكامهم معهم وسياسات القمع والتسلط، يعتقدون أن دخول الولايات المتحدة على الخط، لاسيما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، يمكن أن يعدّل الميزان وقد يساعد موضوعياً على إحداث تغيير لصالح الديمقراطية والحداثة وحقوق المرأة، لا سيما في ظل صعود تيارات اسلاموية متشددة ومتعصبة وإلغائية، لكن هؤلاء سرعان ما اكتشفوا، لا خديعتهم من جانب الولايات المتحدة حسب، بل سذاجتهم، خصوصاً وأن قيادات وتيارات سياسية، استمرأت - وربما بسبب عجزها- الدور الامريكي وعوّلت عليه، الأمر الذي زاد من عوامل إحباط الجمهور، باكتشاف هشاشة قوى ومنظمات وأحزاب سياسية ودينية، حين فضلت رحيلها الى الطرف الامريكي بعد ان كانت تعوّل سابقاً على الاتحاد السوفييتي (بالنسبة لليسار)، أو سوريا والعراق ومصر (بالنسبة للقوميين) أو إيران (بالنسبة لبعض القوى الاسلامية).

ولعل واحدة من تبريرات بعض القوى التي استدارت 180 درجة، كما يقال هو تفسيرها القاصر من أن المعركة هي مع التيار المتشدد والإرهاب الدولي، الأمر الذي يبرر مهادنة القوى الكبرى حتى وان كانت “امبريالية” أو لديها مصالح، لحين القضاء على القوى المتعصبة والمتطرفة.

ماذا سيقول الرئيس بوش بعد خطابه التدشيني بمناسبة تجديد ولايته وهو يغادر البيت الأبيض بعد أشهر قليلة؟ فأين أصبحت الأهمية المركزية للديمقراطية التي وضعها في مقدمة مهمات سياسته الخارجية، بدعم المؤسسات والحركات الديمقراطية في كل دولة وفي كل ثقافة؟ فقد ازدادت العلاقات الدولية توتراً لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإجرامية، وتوسعت عمليات الارهاب الدولي بدلاً من القضاء عليه أو تجفيف منابعه في حملة دولية تستمر منذ بضع سنوات، وتحوّل العالم بفعل القيود والاجراءات الامنية الى نظام أشبه بالطوارئ أو نظام الأحكام العرفية، كما لجأت حكومات كانت الى غاية الأمس القريب ترفع خطاب حقوق الانسان ضد خصومها، الى الإقدام على عمليات تعذيب بشعة، كما حصل في سجن أبو غريب العراق وأفغانستان وغوانتانامو على يد القوات الامريكية، والسجون السرية الطائرة والسجون العائمة وغيرها، وتذرعت حكومات عالمثالثية، بالانتهاكات السافرة والصارخة لحقوق الانسان بحجة الأمن القومي والاسهام في الحملة الدولية ضد الارهاب، وبررت بانتهاكات دول متقدمة لها كما هي الولايات المتحدة وبريطانيا.

لعل مراجعة وكشف حساب سريع سيعطيانا كم خسرت الولايات المتحدة من صدقيتها وهي نظام ديمقراطي عريق، تراكم عبر أكثر من 200 عام، رغم ان السياسات الخارجية، كانت باستمرار تسير بخط معاكس للديمقراطية، سواء بتشجيع بعض الأنظمة الصديقة لها، حتى وإن كانت نظماً دكتاتورية أو استبدادية وتحضير انقلابات عسكرية لوأد الديمقراطية الوليدة أو الواعدة، أو إسقاط انظمة وطنية، كما حصل في إيران 1953 بالإطاحة بحكومة الدكتور مصدق أو بانقلاب عام 1963 في العراق ضد الزعيم عبد الكريم قاسم أو بانقلاب عام 1973 في تشيلي للإطاحة بالحكومة المنتخبة بقيادة اليندي، أو باحتلال العراق بزعم وجود اسلحة دمار شامل وعلاقته بالارهاب الدولي عام 2003.

كيف للافغانيين أن يفكروا في تلك الثرثرة الديمقراطية بعد حرب العقوبات الجماعية العشوائية والقصف الوحشي، وكيف يفكر العراقيون بديمقراطية أرادت إعادتهم الى القرون الوسطى وعلى أقل تقدير 50 عاماً الى الوراء حسب وعد جيمس بيكر، وكيف يفكر الفلسطينيون اذا كانت الديمقراطية ستجلب لهم الدواء والغذاء والأمن بعد حرب تجويع وإبادة لاسيما خلال السنوات الثماني الأخيرة؟

ان الصورة الزاهية للديمقراطية لا يمكن أن تكتمل الاّ بعلاقة جدلية بين السياستين الداخلية والخارجية، فلا يمكن للديمقراطية أن تكون حقيقية، في حين يصاحبها سعي لفرض الهيمنة على بلدان أخرى أو احتلالها، وبلا أدنى شك ستكون هذه الديمقراطية ناقصة أو مبتورة أو مشوهة، وستنظر اليها شعوب هذه البلدان باعتبارها ثرثرة فارغة ولغواً سفيهاً.


صحيفة الخليج الاماراتية :الأربعاء ,15/10/2008

1240
حين يكتب رجل الدين قصائد الغزل!

عبدالحسين شعبان
2008-10-12
فجأة تحوّل السيد مصطفى جمال الدين إلى كتلة من الانفعال.. فلم يكن يتحدث بلسانه ويديه وعينيه وحسب، بل بقلبه وكلّ كيانه، وذلك عندما بدأ ينشد قصائد الغزل.
في ديوان الكوفة بلندن، التأمت في أوائل التسعينيات أمسية أدبية، وبدا ذلك الوجه السمح متعباً قليلاً، حزيناً كثيراً، لكنه تغيّر إلى حضور مشرق ومتألق حين اختار قصائد غزل وحب، كانت الأقرب إلى نفسه، بعد ذلك قرأ علينا قصيدة «يقظان» بتأثر كبير. وملخصها أن الشاعر كان قد ترك ابنته في العراق يوم مغادرته في أواخر السبعينيات، وكانت حينها طالبة ثم أكملت دراستها الجامعية وتزوجت وحملت، لكن أحداث حرب الخليج المروّعة داهمتها كما داهمت العراقيين والكويتيين، وتبعها تدمير العراق واستمرار فرض الحصار عليه وتكبيله بقرارات مجحفة ومذلة.

وسرعان ما اندلعت هبّة شعبية أغرقتها القوات الحكومية بالدم، فاضطرت ابنة الشاعر إلى مغادرة العراق، ومعها ثلاثة وستون من أهلها إلى منطقة الأهوار ثم إلى الجزيرة، فصحراء نجد، وهناك جاءها المخاض حيث وضعت وليدها البكر، وأطلقت عليه اسم يقظان لأنه من صفات الذئب، وليذكّرها أنها ولدت في الصحراء في تلك الرحلة العجيبة.
نبئوني يا من بـ «رفحاء» باتــوا
كيف يغفو بليلها اليقظان
كيف هزّت عواصف الرمل مهداً
ضجرت من بكائه الأوطان
ضاق فيه حضن الفراتين ذرعـاً
فتلقّته هذه الكثبان

اندهش بعض حضور تلك الأمسية: كيف أجرؤ على أن أطلب من «السيد» و»رجل الدين» قراءة قصائد غزل بعد أن كانوا ينتظرون ما يشفي غليلهم، خصوصاً تعقيد أوضاعهم السياسية وظروف المنافي الجديدة، ولأن الشاعر لا يكتب تقريراً سياسياً ولا يعلن بياناً، فقد انفرجت أسارير «السيد» وعالج الموقف بدهائه المعهود، خصوصاً وهو يدرك مدى «الرتابة» لجمهور ليس كله معنيّاً بالشعر والأدب، لكن حضوره لاعتبارات أخرى، وبعد قراءة نماذج من شعره، انتقل إلى قصائد الغزل، تلك التي نشرها في ديوان «عيناك واللحن القديم»، وبالمناسبة، فإن هذا الديوان احتوى على اثنتي عشرة قصيدة، ونشرته وزارة الثقافة والإعلام في بغداد عام 1972، وتصدرته قصيدة «بغداد» التي اشتهرت كثيراً ويقول فيها:

بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ
إلاّ ذوت ووريق عمرك أخضرُ
مرّت بك الدنيا وصبحك مشمس
ودجت عليك ووجه ليلك مقمر
وقست عليك الحادثات فراعها
أن احتمالك في أذاها أكبــر
وحينما عالج السيد الموقف، بدأ يقرأ قصائد الغزل فقال: «نكحلها أبو ياسر.. شوية وطنيات.. وشوية غزل»، وهنا بدأ جو القاعة بالتغيّر، وانزاح الطابع الرسمي المتوتر الذي غالباً ما يطبع علاقة المتحدث أو المحاضر بجمهوره، فكثير من الحاضرين لا يعرفون آراء جمال الدين، والأكثر منهم لم يقرؤوا أشعاره، ولم يتعرفوا عليه سوى كونه يعتمر العمامة وينتسب إلى «الحوزة العلمية»، وكان يعمل أستاذاً جامعياً.
لم تكن سوى القلة القليلة جداً التي تدرك أن وراء هذه القامة الفارعة الباسقة كنخلة عراقية شامخة، قصائد غزل وآراء في الحب وشعراً رقيقاً وحواراً مع الذات والآخر على نحو إنساني جميل.
في استعادة تلك الواقعة توقفنا مرة في لندن في شارع «Edgware Road»، وكان المطر يهطل علينا رقيقا، شفيفاً.. وهو يتحدث عن آرائه في الحب وقصائد الغزل التي كتبها في فترات مختلفة، ولفت انتباهي إلى قصائده في أواسط الستينيات، إذ كان يعيش فترة «حلم حقيقي» على حد تعبيره! ومع قصائد الحب، كانت النجف تشاركنا ذلك الحضور الأنيس، حيث كان شذاها يملأ الأجواء، وتفوح رائحتها باستعادة الأمكنة والذكريات البعيدة، وهو ما استعدناه في دمشق في نوفمبر1993، إذ كان يقود سيارته، فقد اصطحبنا لرؤية بيته الجديد في «قرية الأسد العصرية» في ضواحي دمشق، ثم قصدنا المصايف السورية الشهيرة في الزبداني وبلودان، واستمعنا في السيارة إلى تسجيل صوتي لتلك الأمسية الأدبية المتميزة التي نظّمها غاليري الكوفة، وما زالت بحوزتي نسخة منه أهداني إياها الشاعر.
في بيتنا في لندن استعدنا أيضاً «رملة النجف»، ووقائع وأحداث الرابطة الأدبية، وذلك بحضور السيد محمد بحر العلوم الذي كانت تربطه بالشاعر صحبة مميزة وصداقة عميقة وذكريات طرية.
كنت أرى في قصائد الغزل التي نظمها وكذلك في بعض «إخوانياته» الأكثر جمالاً ورقة، وحسب معرفتي المتواضعة، فإنها كانت الأكثر قرباً إلى قلبه، رغم أنه لم ينشر جميع القصائد الإخوانية التي حفلت بها المناسبات النجفية وغير النجفية، تلك التي كنّا نسمعها منه في النجف، وفيما بعد في بغداد، وكان يرددها صديقا العائلة طيّبا الذكر المرحومان صادق القاموسي وعبدالغني الخليلي، بما فيها بعض قصائد الغزل التي نشرها في ديوان «عيناك واللحن القديم».
لم أكن متيقناً أن أجد بعد زمن قصير ما كان «السيد» عازماً على إبرازه في أحاديثه المتنوعة، وقد احتواه «الديوان»! هل كان الحديث حافزاً؟ هل هو حديث العمر وعصارة التجربة؟ هل شعر «الطائر الغريد» أن «الذئب» بدأ يترصده «على حد تعبير الجواهري الذي اجتمعنا أكثر من مرّة في حضرته وحضرة الشعر في الثمانينيات الدمشقية»؟ هل حدس جمال الدين أن استحقاق الزمن لا مردّ له، وأن الرحيل قد أزف، فسارع لتدوين سيرته الشعرية العذبة، وحياته المتنوعة، ومسيرة الشقاء والكدح والعوز، وبخاصة في سنوات الأربعينيات والخمسينيات وتقديمها في نوع من المتعة والشفافية، خصوصاً باكتساب المعرفة والغنى الثقافي والروحي؟
«الديوان» بقدر ما يتناول السيرة الذاتية والشعرية لجمال الدين، فإنه يتحدث عن الطفولة والنشأة، هكذا يغدو الطفل «رجلاً» مرة واحدة، فابن الأحد عشر عاماً، وهو ينتقل من قرية «المؤمنين» إلى أطراف «ريف» قضاء سوق الشيوخ، ومن ريفه حيث تتربع قريته الصغيرة على ضفتي نهر «الحميدي» حيث ولد الشاعر في عام 1927، إلى النجف حيث التكوين والنضج والروافد الأدبية والروحية، مرة أخرى، المكان شديد الحضور وقوي منذ البداية وحتى النهاية في رحلة حياة الشاعر الخصبة.
وإذا كانت القرية نقطة تماس بين سكان سوق الشيوخ في لواء الناصرية «محافظة ذي قار» فقد كان ذلك على نحو محدود بين القرويين والفلاحين وبعض التجار والكسبة، ومن جهة أخرى، كانت الأسرة تشكل «مرجعية دينية» لأبناء الريف القريب والمحاذي حيث كان جد الشاعر «السيد ميرزا عناية الله جمال الدين» من آل حِسَن قد أقام علاقات عبر بعض ممثليه أو من تتلمذوا على يديه.
ثم ينتقل الشاعر إلى النجف، حيث نقطة التماس الكبرى في حياته، ويظهر عليه تأثير المكان كبير ومؤثر، فالنجف بحد ذاتها مدينة مفتوحة وإن بدت «منغلقة» أو «مغلقة»، إنها مدينة الوافدين، ففيها إضافة إلى العرب -وهم أكثرية السكان من أبناء العشائر والعائلات الدينية الكبيرة والوجهاء- فيها الإيراني والتركي والهندي والأفغاني والتبتي، إضافة إلى السوري واللبناني والإحسائي والقطيفي والبحريني والخليجي عموماً، النجف مدينة أممية تتلاقى فيها أمم وشعوب وحضارات وثقافات وذلك بحكم الحوزة العلمية وجامعتها الشهيرة التي مضى على تأسيسها ألف عام، ومرقد الإمام علي والمركز الفكري والثقافي الإسلامي العريق.
يقول الشاعر في علاقته بالمكان، حين يتحدث عن «صاحبنا» في الديوان، وهو كناية عن نفسه: «عاش في كنف جده طفولته الغضه، حتى إذا قويت النبتة ساقها، وتمكنت في التربة جذورها، اختار لها أهلها حقلاً آخر أقرب إلى طبيعتها، وليس غير النجف يومئذ، مزدرع يمكن لمثلها أن تنمو فيه وتعطي ثمارها في ظلاله». هكذا تتداخل الصور في ذهنه، وتتوالى المشاهد. فقد ترك الشاعر المدرسة الحكومية في القرية عام 1938، وهو في الصف الرابع الابتدائي، لينتقل إلى المدرسة الدينية في «جامع الهندي» في المدينة الأممية الجديدة والمفتوحة للزوار والوافدين، وهو طفل صغير، وبدلاً من قضاء الوقت مع الأطفال في اللعب، كان الطفل يستظهر «متن الأجرومية» ويطوي تحت عباءته الخفيفة «قطر الندى» لابن هشام وهو يتطلع بلهفة إلى «عالم الرجال» حيث يطمح إلى حفظ «رجز الألفية» لمحمد بن مالك.
وفي عنوان فرعي «النجف منبتنا الحقيقي»، يعود الشاعر بعد حوالي ستة عقود ليؤكد هذه الحقيقة، فتشعر وكأن الديوان كان مكرساً لتخليد المكان، للنجف وخدّ العذراء كما تكنّى أحياناً، للغري و»المشهد»، لعالمها الروحي وحياتها الثقافية الأدبية ومناسباتها التاريخية وغير التاريخية.
عندما يذكر الشاعر النجف، فهو يراهن على شفاء روحه ويحاول تطهير النفس والأجواء مما علق بها. استذكرنا «شط الكوفة» والنخل العراقي وخبز التنور والرطب البرحي ذا المسحة الذهبية، تلك القضايا الصغيرة التي تعطي نكهة للمكان، ولعل كل منّا كان يتخيّل أنه يمدد قدميه وربما جسده المتعب على ضفاف الفرات العظيم وتحت تلك «التكية» (شجرة التوت) التي نعرفها قرب «قصر الملك» في الكوفة، بعد زيارات لجامعها الشهير وضريح مسلم بن عقيل!
والأكثر من ذلك أن تلك الذكريات التي تعصف بالشاعر تزداد قرباً منه كلما ابتعد عنها.. وكلما عشنا الأيام التوالي ببلادتها وخوائها ولاعفويتها، كلما كانت الأجواء الثقيلة هي المخيمة، في موجة ضبابية ملتبسة.
يقول الروائي حليم بركات في روايته الرائعة «طائر الحوم»: «إن شجرة الصفصاف تنحني نحو جذورها كلما تقدمت بالعمر»، ذلك ما يفسر الحنين إلى الطفولة.. إلى الأمكنة الأولى، لدرجة تصبح ملحّة أكثر من أي وقت مضى، بحيث تطغى على ما عداها.


صحيفة العرب القطرية العدد 7428 تاريخ 13/10/2008

1241
كيسنجر وموعد الانسحاب من العراق!

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

يقول وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر إن الانسحاب ليس هدفاً إنما وسيلة لعالم أكثر سلاماً وأملاً، ولكنه لا يحبذ وضع جدول زمني للانسحاب أو تحديد موعد نهائي له، ولعله متفائل إزاء الفرصة العظيمة للرئيس القادم لتحقيق الاستقرار في العراق ووضع أساس لتحوّل حاسم في مسار الحرب لاسيما ضد تنظيم «القاعدة» والمتطرفين على حسب تعبيره، ولا ينسى ذكر سلام الشرق الأوسط، لكنه بخبرته الدبلوماسية والأمنية العريقة يضع ذلك في ميزان الأمر الواقع، أي بالتقدم الذي سيتم إحرازه على الأرض قبل وضع استراتيجية للرئيس المقبل.
وحسب كيسنجر لا ينبغي أن يظهر الوجود الأميركي في العراق (الاحتلال) على أنه لا نهاية له، لأن هذا لن يؤيده أي من الرأي العام المحلي العراقي والأميركي، وذلك في إشارة للمفاوضات الجارية بين حكومتي رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وإدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، لاسيما بشأن وضع القوات الأميركية في العراق واقتراب موعد إجراء انتخابات المحافظات، الأمر الذي لا ينبغي أن يظهر وكأن الوجود العسكري الأميركي من دون سقف زمني، بحيث يبدو وكأنه احتلال دائم، وهو ما كان قد لوّح به رئيس الوزراء العراقي لدى زيارة مرشح الرئاسة أوباما إلى العراق.
ويرد كيسنجر على المطالبين بتحديد جدول زمني وموعد نهائي للانسحاب، لكنه لا يهمل آراء بعض المؤيدين للانسحاب، بحيث يقدمها كجزء من حل كامل بأن يكون الانسحاب مرهوناً ببقاء القوة بشروط (غير متوافرة في الوقت الحاضر)، ولهذا يتساءل: لماذا نحدد الموعد النهائي؟ ولكن الأمر الذي ينبغي التركيز عليه هو الحوار حول شروط الانسحاب وليس الموعد النهائي.
تنطلق تبريرات هنري كيسنجر من أن الموعد النهائي للانسحاب سيقوّض الجهود التصالحية في المنطقة، ويشجع الجماعات المتطرفة على العمل فوق السطح، بحيث يصبح الوضع ملائماً لها للعودة مجدداً مع رحيل القوات الأميركية، إذ سيصبح لدى تنظيم «القاعدة» موعد نهائي يخطط من أجله لعودة عملياته على مستوى واسع. ويذهب أكثر من ذلك عندما يعتبر أن مجرد الاعلان النهائي للانسحاب، سيؤدي إلى تعزيز نفوذ إيران ومؤيديها من الجماعات الشيعية خلال فترة من الوقت بعد الانسحاب، ولذلك فإن وضع جدول للانسحاب وتحديد موعد نهائي ثابت، سيبدد الجهود التي تحتاجها المرحلة الدبلوماسية الأخيرة، ويزيد من حدة التناقضات الموجودة أصلاً لاسيما الموقف من الانسحاب، ناهيكم عن الصعوبات العملية التي تكتنفه والمتأصلة في الانسحاب المقترح مع الصعوبات.
أما الجهود الدبلوماسية على المستوى الدولي فيجملها بمبادرات إقليمية لتحقيق السلام والاستقرار، منها الوساطة التركية في المفاوضات السورية-الإسرئيلية ونجاح الوساطة القطرية في المسألة اللبنانية، الأمر الذي يحتاج إلى قوات قتالية كافية في العراق حتى لو تم الانسحاب الجزئي (المحدود) بعد حين، لحماية السفارة الأميركية، ولمحاربة تنظيم «القاعدة» الذي سيعود للدفاع عن العراق ضد التدخلات الخارجية، وهكذا سيكون الوجود العسكري الأميركي ضرورياً، وليس وجود قوات مساعدة أو مساندة أو سحب بعض القوات لإرسالها إلى أفغانستان، إذ سيكون ذلك مغامرة وتبديداً للجهود المبذولة في العراق، من أجل إرسال فرقتين أو ثلاث إلى أفغانستان.
يبني كيسنجر وجهة نظره على عدد من المعطيات، لكنه يتجاهل وجود معطيات أخرى أكثر أهمية، ليتوصل إلى استنتاج مهم بحاجة إلى وقفة جدية، فيحدد تراجع العنف في العراق، لاسيما بعد إنشاء «جماعة الصحوات»، وهذا أدى إلى تخفيف العنف في الوسط السني على حد تعبيره، وقلّص من وجود تنظيم «القاعدة»، ناهيكم عن أن هذا الوسط أقلع عن فكرة استعادة دوره، ويضيف أن الإقليم الكردي طوّر من دفاعاته الخاصة، والنفوذ الشيعي ولا سيما في الحكومة، حسم العديد من المعارك لاسيما مع بعض المتمردين والميليشيات الشيعية (يقصد صولة الفرسان في البصرة ومن ثم حملة التمشيط في العمارة ومدينة الثورة «الصدر» في بغداد ومناطق أخرى)، وحسب وجهة نظره فإن هذه التطورات تساعد في تحقيق المصالحة الوطنية المنشودة بمقتضى الضرورة والإجراءات العسكرية والتوازن السياسي، وكلما تضاءلت الحاجة إلى تعامل القوات الأميركية مع قوات كبيرة من الجماعات المسلحة، أمكن تركيز الجهود على مساعدة الحكومة العراقية للوقوف ضد ضغوط دول الجوار، كما أمكن أن تساعد انتخابات المحافظات التي ينص عليها الدستور من تشكيل مؤسسات عراقية جديدة.
ولعل انفجار الصراع بين الكتل السياسية داخل البرلمان العراقي بشأن قانون المحافظات ومن ثم اندلاع موجة جديدة من العنف والتفجيرات والتباعد إلى حل بين الأطراف والقوى السياسية داخل العملية السياسية وخارجها بشأن كركوك، لاسيما مطالبة مجلس محافظة كركوك بضمها إلى كردستان، ومواقف القوى والجماعات الأخرى، لا سيما العرب والتركمان من سكان المحافظة الرافض لذلك، وبقاء قانون النفط والغاز على الرف إلى أن يبدو ما ذهب اليه كيسنجر خصوصاً الوضع على الأرض.
يضاف إلى ذلك إذا كان تصويت البرلمان العراقي لإمرار قانون المحافظات الذي رفضته الكتلة الكردية ما لم يتضمن إجراء الانتخابات في كركوك وحسم أمرها حسب المادة 140 من الدستور، التي تقرر تأجيلها، قد فجر هذا القدر من التجاذبات والاختلافات ودفع موجة العنف ومناسيبه إلى الارتفاع لاسيما في كركوك، فإن مناقشة أو عرض مشروع المعاهدة أو مذكرة التفاهم على البرلمان سيؤدي إلى انشقاق أكبر، خصوصاً أن الشارع العراقي بدأ يتلمس بعد خمس سنوات من الاحتلال وجودا أميركيا سيتم تنظيمه في تعاقد، ليتحول الاحتلال العسكري إلى احتلال تعاقدي، خصوصاً بعدم تحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال، وهو الأمر الذي يفسر تصريحات المالكي ومساعديه من أركان الحكومة العراقية، بعدم التوقيع ما لم يتم تحديد جدول زمني للانسحاب، ثم سكوتهم عن ذلك.
إن تفاؤل كيسنجر لا يأخذ بنظر الاعتبار هذه الحقائق، فهو مثل الرئيس الأميركي جورج بوش أو المرشح الجديد ماكين من الحزب الجمهوري، يضع النجاحات المتحققة التي لا يستطيع أحد إنكارها، على الرغم من أنها محدودة وغير حاسمة، في إطار وطني سياسي، الأمر الذي يحتاج إلى جهود مضنية وحلول سياسية واقعية وتنقية الوضع السياسي وتحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال، وإعادة النظر بعدد من القوانين والأنظمة التي تم اعتمادها منذ الاحتلال حتى الآن، بما يخل بالسيادة الوطنية ويرتهن العراق لمصالح قوى خارجية.
وإذا كانت فكرة المؤتمر الدولي التي يطرحها كيسنجر جديرة بالمناقشة، باعتبارها بديلاً أو استكمالاً لما هو حاصل، كإطار دبلوماسي يتم فيه التوصل إلى تسوية حقيقية، فالأمر لا بدّ له من خطوات جريئة على هذا الصعيد، ولعل ذلك يذكّر بمؤتمر وزراء خارجية دول جوار العراق من ضمنها إيران وسورية ومصر والأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، لكنه يستدرك فيما إذا كانت تلك التطورات دائمة ليتم انعقاد مثل هذا المؤتمر بما يساعد في تقديم ضمانات مستقبلية دولية للعراق.
وكانت خطة بيكر-هاملتون قد اقترحت آليات، كجزء من إطار حل شامل من ضمنه إشراك دول الجوار مع تحديد إطار زمني للانسحاب، لكن الرئيس بوش وضعها على الرف باستثناء عقد المؤتمر!
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية  العدد رقم 437 الجمعة 17 اكتوبر 2008 ,18 شوال 1429

1242
الجواهري الكبير: رؤية شخصية وذائقة أدبية !
عبد الحسين شعبان *
   هل حقاً غادرنا الجواهري، والى الأبد؟ فطائر العاصفة على حد تعبير الشاعر عبد الوهاب البياتي، الذي ظل محمولاً على خطر لأجيالٍ غير عابئٍ أو مكترث بالنهايات مقتحماً منافحاً ومكافحاً، أرخى جناحيه ليستسلم أخيراً بهدوء للموت الذي ظل يزوغ عنه ويخادعه ويجابهه ويساومه لسنوات.
لم يدر بخلدنا يوما أن نتحدث عن الجواهري الغائب، فرغم مرور أحد عشر عاماً على رحيله، فإننا نستذكره باعتباره حاضراً بيننا، فلا يكاد الشعور يفارقك حين تكون بحضرته، وكأنك تدخل بجلال وهيبة في مملكة الشعر وفي صومعته، فكل شيء ينبض بالشعر، الجواهري بقامته المديدة وفصاحته وأصابعه الطويلة الممدودة، يدهشك حين يستحضر التاريخ بقصيدته العمودية الموروثة والملوّنة بأطياف الحداثة. لقد تمكن منه سلطان الشعر حتى لكأنك لا تستطيع أن تميّز بينه وبين القصيدة.
لعلها ضريبة المنفى أن نخسر في ظل سنوات قليلة جداً خمسة شعراء فإضافة الى الجواهري الكبير غادرنا الشاعر بلند الحيدري وهو من رواد الحداثة الأولى وتبعه الشاعر الكلاسيكي سيد مصطفى جمال الدين المعروف بغزلياته الجميلة، وقرر الرحيل أيضاً عبد الوهاب البياتي الذي هو عمود من أعمدة الريادة في الشعر الحديث وهنا المفارقة أن ينضم ثلاثة من هؤلاء (الجواهري وجمال الدين والبياتي) الى جوار بعضهم في مقبرة الغرباء في دمشق، في حين غادرتنا الشاعرة نازك الملائكة بعد غربة طويلة حيث تم دفنها في أرض الكنانة.
هذا القدر المحتوم، هو الذي اختطف هؤلاء المبدعين مثلما اختطف قبلهم الروائي غائب طعمه فرمان والروائي شمران الياسري (أبو كاطع) والباحثين
ـــــــــــــــــــــــــــــ
*محاضرة القيت في أتليه القاهرة-  مصر بتاريخ 12/7/2008
والكتّاب عبد اللطيف الراوي ومصطفى عبود وهادي العلوي والشاعر والصحافي 
شريف الربيعي والشاعر سركون بولص وعشرات وغيرهم، على نحو سريع وموارب، ولهذا نشعر جميعاً على ما أعتقد، بالفراغ الذي تركوه وبمكانهم الشاغر في الأماسي الثقافية العراقية والعربية وفي ليالي المنافي البعيدة حيث يطول فيها الزمهرير على حد تعبير الشاعر مظفر النواب!
*   *   *
من أين أبدأ الحديث عن الجواهري!؟ فعُمره البيولوجي يزيد عن عمر الدولة العراقية! اما عمره الابداعي فيكاد يكون موازياً لها فقد بدأ بكتابة الشعر قبل ولادة الدولة وقبل كتابة دستورها الأول، لاسيما قصيدته عن ثورة العشرين. وقامته الشعرية ترتفع الى نحو عشرين ألف طابق اي (بيت شعر). أأبدأ من الوطن الذي عاش فيه مغترباً؟ من مدينته النجف؟ من تحدياته ومعاركه الأولى؟  من جنون الشاعر ومملكة الشعر؟ من قصائد الغزل؟ من المنفى الذي أكل نصف عمره الابداعي وقرابة ثلث عمره البيولوجي!؟
كل هذه الأسئلة الحارة تعتمل في داخلي حيث عشت برفقة الشاعر وصحبته نحو ثلاثة عقود من الزمان، كما كان الشاعر يعيش في وجداني لسنوات قبل ذلك، وما يزال! فالمتتبع لحياة الجواهري يشعر وكأنه يتحرك في منطقة شائكة وعلى أرض مزدحمة بالشعر والهمّ العام، وكأنهما متلازمين لا ينفصمان.
من نبرته الاولى يُعرف الشاعر فما بالك بسبعة عقود ونصف من عملية الخلق والابداع والتكوين! يقف الشعر لدى الجواهري، وراء كل شيء، شاخصاً بأدواته المطواعة، التي يستخدمها الشاعر بدقة وانسيابية، وخلف لهجته الجميلة ووجهه الحاد الملامح، المتغضن بأنفاس الشعر، وأصابعه الممدودة يستحضر عملاق الشعر في داخله.
أنا العراق لساني قلبه ودمي    فراته وكياني منه أشطار
الشعر عند الجواهري كالمدينة والقصائد كالبيوت. ورغم التواصل الحضاري في المدن والبيوت، فإن لكل مدينة خصوصيتها وشخصيتها وتفرّدها ونمط حياتها ومزاجها، مثلما لكل بيت حرمته وخباياه وفسيفساؤه وألوانه ورائحته ونساؤه وبخوره وعطره.
والشعر عند الجواهري كالنهر، والقصيدة مثل النساء بجدائل أو بدونها، فهي تستحم في نهر الجواهري، متشابهة أو مختلفة، مثل الشواطئ والجزر ومياه السواحل.
لكل قصيدة، مثلما لكل إمرأة، مذاقها وجمالها وغنجها ورائحتها ، فلكل بحر سفنه ومراسيه وعواصفه ونكهته ولونه.
في مختبر الشاعر تنضج القصيدة ومن صومعته تخرج طازجة شهيّة لتُدِلُّك عليه حيث يمارس عملية الخلق بجو أقرب الى التبجيل والاحتفاء بالمولود، ولكن بمعاناة فائقة.
يروي لنا الجواهري، كيف تهبط عليه القصيدة، فيقول: كنت أنزل الى السرداب، وأبدأ أحدو بها بصوت عال، حتى تنضج فأحفظها عن ظهر قلب ثم أجري تعديلات عليها قبل أن أدونها، وغالباً ما يدّون قصيدته على قصاصة ورق أو ظهر علبة سكاير. ثلاثة سمات حملها الجواهري معه، الأولى هي سمة التناقض والثانية التحدي والثالثة الابداع.
التناقــض
لقد جمع الجواهري التناقض المحبب، فتجاورت عنده الأضداد بهرمونية وتنسيق باهرين، بصعوده ونزوله، بجوانبه المشرقة والمضيئة وبنقاط قوته وضعفه الانسانية، هكذا يجمع الجواهري الأضداد:
يا نديمي وصبّ لي قدحاً       ألمسُ الحزن فيه والفرحا
هكذا جمع الحزن والفرح في كأس واحدة، تلك التي يريدها من النديم وهو جدل الحياة المقترن بالموت، فالجواهري الذي عشق الحياة وتعلّق بها، بكل جنونها لا يصمد أمام إغراء التحدّي:
وأركب الهول في ريعان مأمنةٍ          حب الحياة بحب الموت يغريني
يقول الجواهري " أنا ابن المتناقضات والتعارضات على جميع المستويات وأرغب أن يقرأني الناس ويعرفوني بذلك، لأنني ولدت في بيئة متناقضة..."
ولم أرَ في الضدائد من نقيض       الى ضدٍ نقيضٍ من ضريب
إن الجواهري يعرض بوضوح وصراحة بعضاً من شخصيته بتلقائيتها وعفويتها وبكل تركيباتها وتعقيداتها، في حين يحاول الكثيرون تلميع شخصياتهم وادعاء ما ليس لديهم وتصنّع الفضيلة. ولعل الجواهري خير من عبّر عن نفسه في شعره ودواوينه، حين جمع المتناقضات الانسانية الباهرة وبشجاعة كبيرة يقول:
      
عجيـــب أمـرك الرجرا      تضيـــق بعيشـــة رغـد        وترفـض منّـــةً رفهـــاً    وتخشــى الزهــد تعشقــه   ولا   تقــــوى   مصامـــدةً      ج لا جنفـــاً ولا صـــددا  وتهوى العيشــة الرغـــدا     وتبغــض بُلغــةً صــرِدا    وتعشق كلّ مــن زهـــدا       وتعبـــد كــلّ  من صمـدا

   ويرد ذلك الترابط العضوي للمتناقضات في قصيدته المهداة الى القائد جمال عبد الناصر (بعد وفاته) إذ جمع فيها " المجد والأخطاء" فيقول:
أكبــرت يومـك أن يكون رثاء      لا يعصم المجـد الرجـال وانمـا تُحصـى عليه العاثـرات وحسبه      الخالــدون عهدتهــم احيــاء           كان العظيم المجــد والأخطــاء       مــا كــان من وثباته الاحصاء

*   *   *
التحـدي
   في التحدي يتجلى صوت الجواهري ضاجّاً بمفردات ذات صور لاهبة، شديدة الايحاء، كثيرة التموّجات، خصبة الأحاسيس، مشحونة ومتوترة، مملوءة بكل معاني الحياة. وتكاد قصيدة مثل " هاشم الوتري" عام 1949 تعبّر عن  مرحلة كاملة، شكّلت المشهد الأكثر حضوراً في الصراع والتحدي، تلك المرحلة التي يطلق عليها الكاتب حسن العلوي " السدس العبقري".
أنــا حتفهم ألـجُ البيوت عليهـمُ مستأجريــن يخربـون ديارهم    متنمرين يُنصّبــون صدورهــم      حتى إذا جدت وغـى وتضرمـت لزمـوا جحورهــم وطار حليمهم      أغـري الوليـد بشتمهم والحاجبــا ويكافئون على الخــراب رواتبــا      مثــل السبـاع ضراوة وتكالبــا       نــارٌ تلــف أباعداً وأقاربـــا           ذعــراً وبُدّلت الأسـود أرانبـــا


أما في السبعينات والثمانينات فقد شهد قاموس الجواهري، نوعاً جديداً من التحدي والكبرياء والاعتداد بالنفس، وقد برز ذلك على نحو واضح في رائعته "أزح عن صدرك الزبدا " التي ألقاها بعد حصوله على جائزة " لوتس" في جمعية الرابطة الادبية في النجف في تشرين الثاني (نوفمبر) 1975.
أزح عــن صدرك الزبــدا      وخـــلّ حطـــام موجدة      ودعــه يبــث مــا وجـــدا              تناثــــر فوقـــه قِصـــدا

ويواصل التصعيد :
أزح عـن صـدرك الزبــدا      أأنــت تخـــاف من أحـدٍ        أتخشـى النــاس أشجعهــم        ولا يعلـــوك خيرُهــــم      وقــل تُعدِ العصــور صــدى          أأنــت مصانــــع أحـــدا               يخافـــك مغضبـــاً حَــرِدا            ولســـت بخيرهــــم أبــدا


أما في قصيدة " المتنبي" المنشورة في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 فيصوّر الجواهري شموخ المتنبي وكأنه يتحدث عن نفسه:
تحدّى الموت واختزل الزمانا    فتىً لوّى من الزمن العنانا
فتىً خبط الدنا والناس طُرًّا       وآلى أن يكونهما فكانا

   إن قصيدة الجواهري رغم كلاسيكيتها حيث تمتد الى أعماق التاريخ بناءًا وشكلاً الاّ انه لوّنها بفكرة الحداثة لتتناسب مع ظروف الحاضر، بل تنعجن فيه بشكل يؤهلها للعيش في كنفه فلا تبدو غريبة وإن كانت تتصل بالماضي السحيق. والجواهري كما يقول الشاعر صلاح عبد الصبور، يمثل المرحلة الذهبية الاخيرة من الشعر الكلاسيكي. وقد سبق للشاعر سعدي يوسف ان قال انه الحلقة الذهبية في سلسلة الشعر العمودي، وهو الرأي الذي قال به الشاعر عبد الوهاب البياتي أيضاً.
   وتمثل قصيدته " حسب الثمانين" التي نشرها في صحيفة الشرق الأوسط 19/2/1982 قمّة الاعتداد والتحدي:
حسبُ " الثمانين" من فخرٍ ومن جذَل    يا "ابن الثمانين " كم عولجت من غَصص كم هزَّ دوحك من قزم يطاوله          وكم سعت " إمعات" أن يكون لها       يا " صاحبي" وحتوف القوم طوع يـدي      غشيانها بجنان يافع خضل بالمغريات فلم تشرق ولم تملِ    فلم ينله ولم تقصر ولم يطل       ما ثار حولك من لغو ومن جدل وكم أتتهم " رياح الموت" من قبلي

وراح الجواهري لا ينتقد الحكام حسب ويتحداهم وإنما يلوم المحكومين أيضاً، الذين لا يتمردون ولا يثورون، ففي قصيدته المنشورة في مجلة المجلة 22 كانون الثاني (يناير) 1985، يقول منتقداً بحرقة الأوضاع العربية المزرية، التي جلبت النكبات والهزائم القومية:
   
أفأمــة هــذي التــي هُزلت         يسطـــو على صنم بها صنــمُ      وتناثـرت فكأنهـــا أمــم      ويغـــار من علمٍ بهـا علــمُ


ثم يصعّد ازدراءه فيقول:
أأبا مهند شرّ من حكموا       ماذا على الراعي إذا إغتصبت   يا أيها " الطاعون" حلّ بنــــا      ما كان لولا ذل من حُكموا      عنزُ ولم تتمرد الغنم          وبمثــل وجهــك  تكشف الغمم
*   *   *
الجواهري مع كونه عراقياً صميمياً ورائداً من رواد الوطنية الأولى، فهو عربي العقل والهوى والمشاعر، عاش متمرداً لكنه مع ذلك وجد طريقه الى أكثر الناس وأشدّهم محافظة وتقليدية. ومع أنه من فحول الشعر الكلاسيكي، فإن دعاة "الحداثة" التي هي وليدة حاجة فعلية، يقدّرون مكانته. هذا المرتدي حلّة المتنبي والراكب مهرة امرئ القيس والمستنير بفكر أبي العلاء المعرّي والذي ظلّ البحتري يعيش معه، تراه يتفجر بحب مدن مثل براغ وأثينا ويافا ودمشق وبيروت وطنجة وستلينغراد وفارنا، وبملاحم عشق لافروديت وأنيتا وبارينا وماروشكا، يغني للجديد ويرقص للتغيير.
   ومع أنه كان عربياً أصيلاً، لكن طاقية رأسه كانت مطرزة بكلمة "كردستان" وكانت دواوينه تملأ مكتبات الأكراد أيضاً. وإذا كان قد عانى من التمييز الطائفي بشأن موضوع الجنسية، لكن الطائفية وشرورها لم تعرف طريقاً الى قلبه.
   لقد هجر الجواهري زيّه التقليدي الأول، لكنه ظلّ محافظاً على لغته وبناء قصيدته. ومع أنه اقترب من اليسار الاّ أنه تمايز عنهم، فحمل عبق التاريخ وزهو الثقافة العربية- الاسلامية، وإن مال الى التجديد وتحرر المرأة ومساواتها ونشر التعليم.
   وإذا كان الجواهري مع ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 روحاً وإبداعاً، لكنه كان مع الملك فيصل الاول ورجاله. وإذا كان مع الزعيم عبد الكريم قاسم في أول أيام الثورة، فمن الطبيعي أن لا يكون معه وهو يستدير بالبلاد بعيداً عن الحكم الديمقراطي، حيث اختار المنفى ومكث فيه سبع عجاف متصلة على حد تعبيره منذ العام 1961.
*   *   *
   الجواهري شاعر تجاوز زمانه ومكانه.. وتلك ميزته الاولى. فالشاعر يضيق ذرعاً بالمكان والزمان، فتراه يتحالف مع الغائب " المنتظر" ويصبو الى المحال أحياناً الى اليوتوبيا، وإذ يؤول الشاعر ويعيد تركيب مفردات حياته على غير سنّة أهلها والقائمين عليها، فإنه يلقي بكلماته، بل بصواعقه أو درره الى الأرض، تاركاً للغير تأويلها ثانية، بينما يمضي هو غير معني كثيراً بشرّاح المقاصد ومفسري المعاني، حيث أن التحقق الوحيد له هو قصيدته، كما ذهب المتنبي بالقول:
   أنام ملء جفوني عن شواردها       ويسهرُ الخلق جرّاها ويختصم

أما الجواهري فيقول في بدايات شبابه:

هو الدهر قارعه يصاحبك صفوه       فما صاحب الأيام الاّ المقارعُ

بمثل هذا النمط من التفكير بدا الجواهري خطواته الأولى في عالم التحدي المثير، وظلّ حتى وفاته في 27 تموز (يوليو )1997، وهو يدلف نحو عامه المائة، لا يستطيع مقاومة إغراء التحدي والمغامرة!!
*   *   *

   لقد رثى الجواهري نفسه كثيراً وكان يردد آخر أيام حياته الا من قبر يباع فأشتريه، وفعلاً اشترى الجواهري قبره في دمشق الشام، قرب ضريح السيدة زينب حيث ترقد قرينته أمونة وأخته نبيهة وابنها لواء، وظل ينتظر هذا القدر المحتوم، ولعل أجمل رثاء لنفسه حين تمنّى أن يحاك كفنه من شراع قارب تدفعه نسمات الريح في "دجلة الخير" حين تأتيه المنيّة
   وأنت يا قارباً تلوي الرياح به       ليّ النسائم أطراف الأفانين
   وددت ذاك الشراع الغضّ لو كفني      يُحاك منه غداة البين يطويني

مدرستي: "السلام"!

كيف نشأت علاقتي مع الجواهري؟
   كان اسم الجواهري، منذ طفولتي، يملأ الأجواء، لدرجة أنه كان يسكن مخيلتي، وأنا ذاهب إلى مدرستي "السلام" الابتدائية في محلة العمارة، بالنجف الأشرف ماراً في الذهاب والإياب أحياناً، أمام جامع الجواهري الشهير، الذي مضى على إنشائه أكثر من مئتي عام، حيث كان راعي الأسرة الجواهرية وباني مجدها الأول الشيخ محمد حسن، صاحب كتاب "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام" قد ذاع صيته العلمي وشاع اسمه في ذلك الزمان. وغدى كتابه مرجعاً رئيسياً للمنهج الدراسي، في جامعة النجف الفقهية، التي شُيّد صرحها منذ نحو ألف عام، حيث ينبغي على المتطلّع، لنيل درجة الاجتهاد في علوم الفقه واللغة، أن يكون ملّماً بكتاب صاحب "الجواهر" الجد الأقدم للشاعر.
والكتاب عبارة عن موسوعة للدورة الفقهية الاستدلالية الكاملة وتتألف من عشرين ألف صفحة وضعها المرجع الديني الأعلى في مطلع القرن الثالث عشر الهجري، أي النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد توفي جد الشاعر عام 1850، وظل قبره مميّزاً في النجف بقبته الزرقاء كعلامة بارزة في المحلة.
وتضم القباب الزرق في النجف مقابر العوائل الثلاث الشهيرة، وهم : آل بحر العلوم وآل الجواهري ومسجدهما، وجامع آل كاشف الغطاء.
   وإذا كان الجواهري، قد أخذ من أسرته الشهرة الأولى، وهو يخطو أولى خطواته في سلّم المجد، فإنه أعطى للأسرة اسمه، الذي طغى فيما بعد على مشاهيرها.
والنجف هي المدينة التي تقع على طرف الصحراء بالقرب من نهر الفرات المار بالكوفة، وتسمّى في أحيان كثيرة، بالنجف الأشرف، تأكيداً على قدسيتها ومن أسمائها الأكثر شهرة: الغري ووادي السلام والمشهد أي المشهد الذي تلتقي الأطراف فيه من حضر وبدو، قبائل ووافدين، ملل ونحل، ويقال عن النجفي أحياناً أنه "المشهدي". ومن أسمائها أيضاً النجف السعيد وتكنى بـ خدّ العذراء.
وفي كتاب "تاج العروس" ورد اسم النجف، باعتبارها مسنّاة بظاهر الكوفة، تمنع ماء السيل أن يعلو منازلها ومقابرها. ويذهب العلامة الدكتور مصطفى جواد، إلى القول، أن النجف: أرض عالية معلومة تصد الماء الذي ينجفها (يحيطها) أيام السيول. ويصفها ياقوت الحموي في "معجم البلدان" بأنها: أعدل أرض الله هواء وأصحّها مزاجاً وماء. وذكرها ابن جبير أيضاً. وورد في تاريخ الطبري: أن النعمان بن المنذر جلس في قصره "الخورنق" المطل على النجف (في الحيرة) فأعجبه ما رأى من البساتين والنخيل والأنهار. والواقع فإن النجف كانت الحد الفاصل للصحراء أو البادية الشاسعة الممتدة إلى المملكة العربية السعودية.
تعتبر النجف رابع المدن الإسلامية المقدسة، بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف، فإضافة إلى احتضانها قبر "الإمام علي بن أبي طالب" هي موطن الأولياء ودار هجرة الأنبياء وبها منزل النبي إبراهيم الخليل ودفن فيها النبي هود والنبي صالح. وتضاهي جامعتها التاريخية، جامعات الزيتونة والأزهر والقرويين، وتعتبر امتداداً لمدرسة الكوفة الشهيرة، وقد بلغت أوجها أيام الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، المتوفي عام 460 هجرية.
•   الجواهري في بيتنا
كانت قصائد الجواهري ودواوينه، تزيّن مكتبة العائلة، حيث كان أعمامي، من مريديه والمتغنين بشعره، وتحوي مكتبة الأخوال الكثير من القصاصات والصحف التي تتابع أخباره ونشاطاته الإبداعية مثلما كانت دواوينه تتصدرها، وكانوا مع مجموعة من المثقفين والأدباء، لا ينفكّون يتجادلون بما نظّمه الجواهري وما كتبه!.
هكذا نشأ الجواهري، معنا في المنزل، إذا جاز التعبير، أو بالأحرى، نشأنا ونحن نتطلّع إليه، فجامع الجواهري للعلوم الدينية والفقهية، كانت قريبة من دارنا في "عكَد السلام" وآل الجواهري، يتوزعون بالقرب من بيوتنا المتراصة والمتكاتفة والملتفة، حول صحن الإمام علي ومرقده الذي تعلوه القبة الذهبية المتوهجة، والباعثة على الجلال والهيبة.
في تلك البيئة النجفية ولأسرة عربية، تهتم كباقي الأسر الكبيرة في النجف، بالشعر والأدب والمجالس الحسينية، إضافة إلى مكانتها الدينية، ولدتُ وترعرعتُ لتغدو تلك الروافد الروحية إحدى أهم ركائز حياتي المستقبلية.
وكان الشعر بخاصة والأدب بعامة، يشكلان الأساس، الذي لا غنى عنه في المجالس والمناسبات الأدبية والدينية والاجتماعية، التي هي أقرب إلى الأندية الثقافية والفكرية، تطورت على مر العصور، فقول الشعر في النجف ـ وكما تعارف عليه الناس ـ طبيعي، بمعنى آخر، أنه غير مصطنع أو يهدف إلى الكسب، أي إنه وجداني (ضميري) نابع من الشعور وليس أمراً تعليمياً.
يقول الجواهري أن الظاهرتين الدينية والأدبية كانتا تلتقيان وتصب كل منهما في مجرى الأخرى، وذلك بحكم فصاحة القرآن الكريم وبلاغته دينياً. أما أدبياً، فمن منطلق الكتب الأدبية مثل نهج البلاغة وأمالي القالي والمرتضى وكتاب الأغاني للأصفهاني وما ترك الجاحظ من روائع وما خلف الشعراء من تحف ونوادر.. ثم كتب النحو والبيان وبما فيها من تقويم الكلمة والبحث عن أسرار بلاغتها.
وكانت المعارك الأدبية والثقافية في ليالي الجمعة أو أيام الأربعاء (أماسي الأربعاء) قد حظيت بشهرة كبيرة، كما يورد الشيخ جعفر باقر محبوبة في كتابه "ماضي النجف وحاضرها" حيث كان الشعر متعة تلك المجالس الأثيرة، تجري فيه المطاردات الشعرية وفي المقدمة منها مسابقات "التقفية" الصعبة، حيث يقرأ المتسامرون هذا البيت وذاك ويتركون للآخرين الرد عليهم بأبيات تبدأ بحرف القافية ويواصلون هم أيضاً استنباط القافية.
وإذا كان الشعر علامة فارقة للنجف، فإن جو المدينة كان عاطراً بالعلم والمعرفة والفقه واللغة أيضاً.
ويمكن القول، أنه لا يمكن التعرف على هوية أي مجتمع أو أمة دون التعرف على فنونها وآدابها وبالأخص شعرها ولا يمكن التعرف على الفنون والآداب ناهيكم عن الشعر، ما لم يتم التعرف على بيئتها الأولى، إذ هي سلسلة متواصلة متماسكة حتى وإن بدت بعيدة وواهنة. فهل نستطيع أن نفهم وبالتالي نلمّ بالأدب الإنكليزي والشعر منه بخاصة دون أن نعرف مدى ارتباطه بالبحر والقرصنة والتجارة وتعلقه بالرموز والتأثيرات الدينية والفولكلورية والتجارية والاجتماعية والبيئية وغيرها؟ هكذا أيضاً لا يمكن الإلمام بالشعر العربي القديم ما لم نفهم الصحراء وطبيعتها والقيم الاجتماعية السائدة التي ما يزال تأثير بعضها موجوداً حتى الآن.. رغم انتشار قيم الحضارة والمدنية وثورة التكنولوجيا والاتصالات.
وقد وصف الأديب اللبناني أمين الريحاني عند زيارته النجف عام 1922 بأنها "أعظم مدينة في العالم" لا في زخارفها أو جمال قصورها، بل في رجالها!! وكان الجواهري قد كتب قصيدته النونية التي أجابه بها ومطلعها:
    أرض العراق سعت لها لبنان
      فتصافح الإنجيل والقرآن
ولكن أمين الريحاني انحاز إلى ساطع الحصري في الخلاف مع الجواهري الأمر الذي ظل يتذكره الجواهري باستمرار لاسيما وقد حاول الريحاني أن يعرض في كتابه الموسوم "قلب العراق" صورة ذلك الخلاف بطريقة بدت وكأنها ضد الجواهري، فانتهز الجواهري قدومه إلى العراق لتغطية أخبار انقلاب بكر صدقي عام 1936، فنشر مقالة انفعالية مدوية بعنوان "جاسوس في أوتيل تايكرس بالاس" وكانت بمثابة رد فعل لما كتبه الريحانين ويقول الجواهري: فما كان منه إلاّ أن يطوي أوراقه ويرزم حقائبه ويرحل.

•   فتوّة وإرهاص!
دخل الجواهري ذاكرتي الطفولية الأولى مصحوباً بالتقدير حدَّ التقديس، والافتتان حدَّ الوَله، وبقصائد تحدٍّ، زادت جذوة الفتوة اشتعالاً. وكان هذا يكبر معي بمرور الأيام، خصوصاً التأثر بقدرته العالية في التعبير عن أحاسيس وإرهاصات، كان هو وحده خير من يستطيع ويُحسن التعبير عنها، حتى ليقودنا إلى طريق مليئة بالمفاجآت والأحلام، مفضية إلى عوالم أخرى موشاة بالذهب تارة، وبالألغام تارة أخرى، بروعة وإبداع بالغين، وأخيراً تصويره لعنصر التحدي والإقدام الذي امتاز به الجواهري على نحو لا يضاهيه فيه أحد، وقصيدته العمودية التجديدية، ذات البناء اللغوي الخاص والإيقاع الموسيقي المتميز والمعاني الإنسانية التي تنضح بها، وكأنها تريد أن تحلّق بك في أجواء علوية سامية، في حين تتجذر في الأرض وتمد عروقها عميقاً في التربة العراقية، شامخة مثل نخيل العراق، مشرئّبة نحو أفق واسع مديد، يتجاوز فضاء العراق نحو أمة العرب جميعاً، حاملة معها صدق المشاعر الإنسانية الشفيفة.
لم تكتمل صورة الجواهري في مخيلتي الصغيرة، لكنها أخذت تحفر مكانها في الذاكرة لتستقرَّ تدريجياً، متنقلة من المخيلة إلى الواقع.
كانت أجنحة الروح تخفق معه حين ينشد قصيدة التحدي ذات الألق الخاص والتأثير المتميز المرصّع بصور لاهبة شديدة الإيحاء كثيرة التموجات خصبة الأحاسيس مشحونة بمعاني الحياة المملوءة بالتقلب والتعرج والتناقض،فهو كالبحر لا يستقيم على مدّ دون جزر أو على جزر دون مدّ.. إنه هما معاً!
لازمتني تلك الصحبة على امتداد تلك السنوات، فقد كنت، وما زلتُ حتى بعد رحيله، أجدُ في الجواهري معيناً لا ينضب لينبوع الشعر، المندفع بغزارة والملون بكل ألوان الحياة، فكنت ألتجئ إليه في الحزن والفرح، في الهمِّ والكدر، مثلما في الانشراح والانبساط، في لحظات الضعف، وعند الشعور بالقوة، في الانكسار والخيبة، وفي الشموخ والاعتداد.. باختصار، في حلو الحياة ومرِّها، كنت أجد الجواهري خير مَن يهديني أو يرشدني، فطريق الشعر وإن كان يرميك في أتونه أحياناً وفي محرقة قصائده، لكنه في الوقت نفسه يجعلك تشعر بالدفء، موقداً في روحك التأمل وربما الحكمة أحياناً، ناقلاً إياك من عالم سفلي إلى عالم علوي، حتى ليكاد يطهّرك مما علق بك من أدران أو يمنحك قدرة أكبر على تذوّق الجمال والإحساس بقيمة الحياة وعمل الخير.
الذاكرة الأولى بدأت تُختزن بقصائد وأبيات لها دلالات ومعان مرتبطة مع تلك الأيام، وبأسماء وبطولات وصور وتشكيلات كانت تؤلف المشهد الأكثر حضوراً في الصراع. وينبع بعضها من إشكاليات الجواهري ذاته، إذ باستطاعته تحويل أية مناسبة، إلى فرصة لتقريع الحكام، بل جرهم على المكشوف إلى حلبة الصراع ليعلن تحديه المباشر.
إن هذه القدرة العجيبة على التحدي، كانت السمة الأكثر تميّزاً في شخصية الجواهري وشعره، وكانت الجانب الأكثر تأثيراً في الشباب التوّاق إلى التغيير والتجديد. وتكاد قصيدة مثل "هاشم الوتري" تعبّر عن مرحلة كاملة، حيث يقول
في مطلعها:
إيه "عميد الدار" شكوى صاحبٍ
      طفحتْ لواعجهُ فناجى صاحبا

وقد حدثني القيادي الشيوعي اللبناني كريم مرّوة  بأنه حضر تلك الاحتفالية، بصحبة عزيز ابو التمن وناجي جواد الساعاتي، حيث كان طالباً في الإعدادية المركزية ببغداد. وعندما ألقى الجواهري رائعته تلك نزلت كالصاعقة على رؤوس أركان العهد الملكي، حيث كان حاضراً الوصي عبد الاله ونوري السعيد وآخرون، وكانت أصابع الجواهري تشير اليهم متوعدة.
وبعد الإنتهاء من إلقاء القصيدة قام الجواهري بتمزيقها كما يذكره في حوارات مطوّلة مع كاتب السطور، ثم قام برميها تحت الطاولة. يقول كريم مرّوة: فما كان منيّ الاّ أن لممت المِزق ووضعتها في جيبي وحملتها معي الى لبنان في رحلة العودة مع عائلة حسين مرّوة ، الذي سبقهم اليها، حيث أمرت السلطات باسقاط الجنسية العراقية "المكتسبة" عنه لأسباب سياسية، وكان قد حصل عليها خلال فترة إقامته في العراق الممتدة ما بين عام 1924 ولغاية العام 1949.
ويذكر كريم مرّوة  أنه زار الجواهري في سجنه بصحبة عزيز أبو التمن وناجي جواد الساعاتي بعد حصوله على ترخيص من مدير التحقيقات الجنائية بهجت العطية، وقد أطلق سراح  الجواهري بعد ذلك بأيام بسبب فقدان الأدلة الثبوتية، حيث مزّق القصيدة " المستمسك الجرم" وضاعت آثار "الجريمة".
ولكن القصيدة ظهرت الى الوجود فجأة في لبنان فكما يقول كريم مرّوة  قمنا أنا وحسين مرّوة  وولده نزار مرّوة  بترتيب القصاصات الممزقة، لتولد القصيدة مجدداً وترى النور، حيث أرسلناها لتنشر في صحيفة " التلغراف".
وما إن وصلت القصيدة المنشورة الى العراق، حتى استُدعي الجواهري الى التحقيق من جديد وأودع السجن، لكن الجواهري ومرّوة يؤكدان أن معاملة السجانين كانت أكثر رفقاً في ذلك العهد منها في أزمان لاحقة وبخاصة في العهود الجمهورية بعد اسقاط النظام الملكي عام 1958، ولعل متابعة ومقارنة لحجم الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان تؤيد ذلك.
ثم يرد الجواهري على السياسة السائدة ذات المكر الخاص فيقول:
حشدوا عليّ المغرياتِ مسيلةًَ
بالكأس يقرعها نديمٌ مالئاً
وبتلكم الخلواتِ تمسخُ عندها
وبأنْ أروحَ ضُحىً "وزيرا" مثلما
ظنا بأن يدي تمدُّ لتشتري
      صغراً لعابَ الأرذلين رغائبا
بالوعد منها الحافتين وقاطبا
تُلْعُ الرقابِ من الضباء ثعالبا
أصبحتُ عن أمرِ بليل "نائبا"
سقط المتاعِ، وأن أبيعَ مواهبا

ويهاجم الجواهري ويتحدى:
أنا حتفهم ألجُ البيوتَ عليهمُ
خسئوا: فلم تزل الرجولةُ حُرةً
أعرفتَ مملكة يباحُ "شهيدُها"
مستأجَرين يخرّبون ديارهُمْ
مُتَنمِّرينَ يُنصِّبون صدورَهم
حتى إذا جدَّتْ وغىً وتضرَّمت
لزموا "جحورُهم" وطار حليمُهمْ      أغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا
تأبى لها غيرَ الأماثلِ خاطبا
للخائبينَ الخادمينَ أجانبا؟
ويكافأون على الخراب رواتبا
مثلَ السباعِ ضراوةً وتكالبا
نارٌ تلفُّ أَباعداً وأقاربا
ذعراً وبُدِّلت الأسودُ أرانبا

   
•   صور من فرز الألوان
إذا كانت الصورة الأولى التي بدأت تتشكل مع مرور الأيام، مأخوذة بطابع الإعجاب والتحدي، فإن الصورة أخذت تفرز ألوانها، مع بداية الوعي بالحياة وتمييزي للأشياء، وقد أصبحت قصائد الجواهري، علامات مضيئة في الطريق التي تلمستها لاحقاً.
   إن الشعر هو عالم الجواهري وجدل حياته وهو عالم صاخب، متمرد، طموح، مليء بالتناقض، حاد المنعطفات بالصعود والنزول على حد تعبيره. وعالم الجواهري علنيّ ولا يعرف التخفي ولا يمارس العمل السري، فهو مكشوف للجمهور، بل ملاحق منه أيضاً وواقع تحت مجهره: شخصيته، معاركه، صوره، انفعالاته، غضبه، ظروف إبداعه، تأثره بالمحيط وتأثيره فيه خصوصاً محيطه العربي والإسلامي. فللجواهري صداقاته وخصوماته وأعداؤه، تراه يثور أحياناً لأبسط الأشياء كما هي في الظاهر، لكن ثمت أمورٌ كثيرة تعتمل في نفسه لتختمر بعدها ظروف ولادة القصيدة، لتأتي حارة، حيوية، مفاجئة ومدهشة.
   ويرقُّ الجواهري، ويتألق بل يرقص مثل طير يخفق بجناحيه، حين "يصفو مثل ندى على وردة الصباح" على حد تعبير الروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان وديعاً مثل طفل بريء، يضحك من القلب وهو يردد بتحبب أبياتاً معروفة:
بكلٍّ تداوينا فلمْ يشفَ ما بنا
على إن قربَ الدار ليس بنافعٍ
      على إن قرب الدار خيرٌ من البعدِ
إذا كان من تهواهُ ليس بذي ودِّ

   ورغم أن الجواهري عاش في الغربة نحو ثلاثة عقود ونصف العقد، إلا أنَّ البيئة الخارجية (الأجنبية) لم تؤثر فيه كثيراً، ربما بسبب اكتفائه الذاتي أو مخزونه التأريخي وتعلقّه الشديد بالتراث وقد يعود إلى أنه عاش في الغربة وهو في الستين من عمره حيث لم تتح له الظروف إتقان لغة أجنبية (أوروبية) مع أنه عايش الحياة الأدبية والثقافية في أوروبا وفي تشيكوسلوفاكيا بالتحديد، مطّلعاً على مسرحها وأدبها وشعرها وحضارتها وطبيعتها، إلا أنه ظل مشدوداً إلى تلك الجذور، بل مستغرقاً بالبيئة الأولى، ومتحرقاً إليها مملوءاً بالحيرة والشك والأسئلة والضعف الإنساني الباهر، موظّفاً كل ذلك في إبداعه وكأنه يعيش في صميم الوطن، رغم أنه كان مغترباً وهو في وطنه، رحالة يجوب الحواضر والبوادي والأرياف، متنقلاً من مدينة إلى مدينة، ومن حي إلى حي، ومن دار إلى دار، لا تعرفُ روحه الاستقرار ولم يعرف الاستكانة.
والمتتبع لسيرة الجواهري يلاحظ أنه تنقّل في أكثر من عشرين منزلاً خلال خمسة عشر عاماً في النجف وبغداد والكاظمية والأعظمية والحلة والناصرية والبصرة.



•   محظورات أبي
إن عملية استرجاع هادئة ومتأملة لشعر الجواهري وحضوره، تمنحنا مؤشراً للحياة السياسية والاجتماعية العراقية والعربية. ورغم مضايقات الحكم الملكي، فقد ظل الجواهري "نجماً ساطعاً" "ملءَ العيون" لم يستطع أحد تغييبه، مع أن بعض دواوينه كانت تشكل مستمسكات ثبوتية لـ"جرم" لم يرتكب!. إلا أن هامش الحرية النسبية وقتئذاك، أتاح للجواهري، إصدار أكثر من صحيفة، رغم احتجابها عن الصدور مرات عديدة، وتغيير أسمائها مرات أخرى، ونشر قصائده وطبع دواوينه، وهو ما أصبح محروماً منه بالكامل في أوقات لاحقة، مع استثناءات قليلة.
في تلك الفترة، أذكر أن ثلاثة محظورات عكّرت صفو العائلة، وكدّرت مزاجها، فيوم اختفى عمّي شوقي (قبل اعتقاله) في أعقاب انتفاضة عام 1956، إبان العدوان الثلاثي الأنكلو-فرنسي الإسرائيلي على الشقيقة مصر وانتصاراً لها وتضامناً معها، احتار والدي الحاج عزيز شعبان، بتلك المحظورات، لأن كلاً منها كانت مصدر تهمة حسب اعتقاده، فما بالك إذا وُجدت مجتمعة.
   المحظورات الثلاثة هي النظارة السوداء التي اكتشفها والدي مخبّأة في غرفة عمي شوقي مع حاجياته وأوراقه الخاصة. وكانت هذه دليلاً مقنعاً على المشاركة في التظاهرات. والثانية كانت الكوفية البيضاء (الغُترة في العامية العراقية) التي كان يلبسها الشيوعيون مع النظارة السوداء، لإخفاء معالمهم عن شرطة التحقيقات الجنائية، التي كانت تترصد المتظاهرين لتشخيصهم من قبل "الشرطة السرية" كما كانت تُدعى. وكانت النظارة السوداء مع الكوفية البيضاء دليلاً لا يخطئ خصوصاً إذا تم كبسهما في دور "المشبوهين". أما الثالثة فكانت "القصيدة الحمراء" وأعني بها قصيدة "عالم الغد" للجواهري، التي كان الشيوعيون يتغنون بها، وكانت هذه بمثابة بطاقة انتساب "أولية" للحزب الشيوعي، حيث وضع والدي يده على عشرات من النسخ في غرفة عمي البعيدة عن جناح الضيوف، الذي كنا نطلق عليه اسم "البرّاني" في اللهجة العراقية والنجفية بشكل خاص (يقابله استخدام الديوانية في جنوب العراق وبلدان الخليج العربي).
   أخذ والدي يُداري حيرته وقلقه بتقديم التبريرات التالية" فالنظارة السوداء قال إنه سيبرر استخدامها في فصل الصيف الحار، وفي فترة الظهيرة حيث الشمس المحرقة، أما الكوفية البيضاء بدلاً من الكشيدة (وهي عبارة عن فينة حمراء أي طربوش أحمر ملفوفة من وسطها حتى حافتها السفلى برباط أصفر اللون). التي ظل يرتديها على طريقة الأجداد، فيما اقترحت والدتي استخدام الكوفية كصرّة لحفظ الملابس (بُقجة بالعامية العراقية) وتوضع في الخزانة مع الملابس والحاجيات الأخرى.
   وازداد قلق والدي بخصوص "القصيدة الحمراء" فلم يشأ إتلاف النسخ التي عثر عليها وهي تعود لشيخ الشعراء على حد تعبيره، وقال: إنني سآخذها معي إلى المحل وأضعها بين الأقمشة بعيداً عن الأعين، حيث كان يعمل تاجراً لبيع الأقمشة، وكان هذا اقتراح عمي ضياء أيضاً، الذي كان شديد الإعجاب بالجواهري ورغم أنه لم يُعلّق على المقترحات الأخرى، كما لم يبدُ عليه القلق والحيرة التي انتابت الآخرين، لكنه قد يكون أكثرهم احتراساً وإن كان أكثر تماسكاً ورباطة جأش. ثم اقترح والدي إخفاء القصيدة الحمراء ومعها بضع قصائد أخرى في السرداب (القبو) في مكان موحش يصعب الوصول إليه.
   وحسمَ الوالد الأمر بقراءة آية قرآنية وأخذ يردد لثلاث مرات "بسم الله الرحمن الرحيم: وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً، فأغشيناهم فهم لا يبصرون!.. صدق الله العظيم" ثم قرأ "آية الكرسي" وقال: لنترك أمرنا إلى الله، وعلى طريقته "شيريد يصير خلّي يصير" أي "ليكن ما يكون" مضيفاً "الله يعمي أبصار الظالمين".
   وبدّدت حيرة الوالد وتردده زيارة رجال الأمن "التحقيقات الجنائية" وكبسهم المنزل في اليوم التالي، وكانت العادة المتبعة "قانوناً" اصطحاب مختار المحلة معهم، لكن الحاج كاظم الشكري، مختار محلّة العمارة في النجف، رفض مرافقتهم لاعتبارات اجتماعية وصداقية، فأجبروا حلاق المحلة "رسول المزيّن" في سوق العمارة على مرافقتهم أثناء تفتيش المنزل، لكنهم مع وجود "المحرمات" الثلاثة: النظارة السوداء والكوفية البيضاء والقصيدة الحمراء، لم يعثروا على أي "دليل جرمي" أو "مستمسك ثبوتي".
   ظل قلق القصيدة الحمراء ونظرة الإعجاب والتقدير للجواهري هاجساً يراودني بين الحين والآخر، وكلما اختلطت علي الأمور أو تشوّشت الرؤية أو بعدت المسافات، أو اتّسعت الهوّة بين الواقع والحلم أو استشرى اليأس والقنوط، أهرع إلى "ارتكابات" القصيدة، مستحضراً الصلة المعقدة وغير العقلانية بين المثقف ورجل الشرطة، والعلاقة بين الثقافة والقانون وبينها وبين السياسة، حتى أجد نفسي وجهاً لوجه أمام تلك الفترة، وبمواجهة الجواهري وهو ينشد قصيدة التحدي.
      
عالمَ الغدِ: يا رهين ضَبابِ      مــن  دُخــانٍ ونفثةٍ وتـُراب

•   تكريم وسبع عجاف!
شعرت مع بدايات الوعي والخطوات الأولى نحو الاهتمامات الأدبية والسياسية، بأن الثورة، في أهم ركن من أركانها الثقافية ردّت الاعتبار، أو لنقل بشكل أدق، كرّمت المبدعين والمثقفين، وفي الطليعة منهم الجواهري شاعر العرب الأكبر، كما صار يكنّى، وما كنت أدري أن هذه المقدمات التي حسبنا فيها أملاً لحياة جديدة، رغم ما رافقها من عنف غير مبرر وغير مشروع، ستنتهي إلى فواجع جديدة، ربما أشد فظاظة، بحيث يضطر المبدع الكبير والرمز العراقي والعربي، الجواهري، إلى الرحيل بعد أن تم وضع القيد في يديه في مديرية الأمن العامة عام 1961، وتلك إحدى المفارقات الخطيرة والمؤشرات الدالة على وصول الأوضاع إلى القاع تماماً.
   انتقل الجواهري إلى منفاه الأول في براغ، بسبع عجاف على حدِّ تعبيره، زادتها الأيام مرارة وقسوة.
   هكذا عاد الجواهري إلى دائرة المنع والعزل في العراق، فلم يكن ساطع الحصري وحده من فتح النار على الجواهري محاولاً نزع انتمائه العروبي والتشكيك بمواطنيته وطرده من الوظيفة، بل يتدخل رأس الدولة (رئيس الوزراء) هذه المرة عبد الكريم قاسم "الزعيم الأوحد" ليحاول إذلاله وإهانته، ليس هذا فحسب، بل إن الانقلاب الدموي الذي حدث بعد ذلك على الزعيم عبد الكريم قاسم، أدخل الشاعر وشعره في دائرة الممنوعات بقرار أصدره رئيس الجمهورية عبد السلام عارف باسم السلطة الجديدة.
   ورغم وجوده في المنفى، فإن شبح الشاعر كان يجول في أروقة الدولة، ويتوزع طيفه على أزقة بغداد وحاراتها وعلى جميع المدن العراقية، مثلما في السجون والمعتقلات، وفي سوح الأدب والثقافة، ورغم تكرر زياراته إلى بغداد 68-1979، إلا أن تلك الزيارات لم تُنْهِ منفاه، حتى استقرَّ في المنفى بصورة نهائية منذ عام 1979 واستمر منفاه حتى رحيله بعيداً عن الوطن، ودفنه في مقبرة الغرباء في "السيدة زينب" في ضواحي العاصمة السورية دمشق في 27/تموز(يوليو) 1997، وربما هذا اليوم يصادف يوم عيد ميلاده أو قريباً منه.
وقد حاولت سلطات بغداد في مرات عديدة، استمالته وتوجيه الدعوات المتواصلة إليه، لحضور مهرجان المربد الشعري أو في مناسبات مختلفة إلا أنه لم يستجب وكان يعتذر في كل مرة، مع أن تلك الدعوات كانت تأتيه من أعلى المراجع، مستغلة بعض الظروف المحيطة به كوفاة زوجته وشريكة حياته "أمونة" في لندن عام 1992، لكنه اعتذر هذه المرة أيضاً مستنداً إلى وصية زوجته، بأن تدفن في الشام، بالقرب من مرقد السيدة زينب، وبجوار أخته السيدة نبيهة، المدفونة مع ابنها لواء في الشام أيضاً، حيث أرسل الجثمان إلى الشام بمبادرة سورية وإرسال طائرة خاصة وإجراء تشييع رسمي. وقام الرئيس حافظ الأسد بزيارة له في بيته (بمنطقة الروضة بالشام) لتقديم التعازي إليه.

•   الجواهري في الخورنق
بعد أسابيع من ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، جاء مدرّس مادة اللغة العربية السيد جواد كاظم الرفيعي في "متوسطة الخورنق" وهو يحمل صحيفة "البلاد" أو "صوت الأحرار" (لا أذكر بالضبط)، ليقرأ علينا قصيدة الجواهري "جيش العراق" ويطلب منا أن نُعرب الأبيات، التي كان يقرأها على مهل وبدقة مصحوبة بنبرة محببة، ثم كلّفنا بحفظ ستة أبيات من القصيدة على الأقل، وبذلك دخل الجواهري حياتنا المدرسية وليس العائلية فحسب، مثلما شغل حياتنا السياسية والثقافية بكل معانيها، وبالمناسبة، فإن الأستاذ الرفيعي، اعتُقل معنا بعد أربع سنوات ونصف، في موقف "خان الهنود" الشهير (الذي كان المبنى الحكومي في النجف) قبل نقلنا إلى المعتقل (تحت الأرض) وكنا مع محبين آخرين لشعر الجواهري نتبادل الأحاديث ونجري مطاردات شعرية، حيث كان قسم غير قليل من المعتقلين ممن يحفظون شعر الجواهري، الذي كان يخرجنا من عتمة السجن ووحشته إلى آفاق شاسعة وعالم فسيح.
   المدرسة التي كانت تستقبل قصائد الجواهري وتفتح نوافذها للجديد أخذت تشجع المواهب الشابة الواعدة فتشكلت الفرق الموسيقية وأخرى للإنشاد والتمثيل وكانت أيام الاثنين من كل أسبوع، مناسبة يتبارى فيها "الواعدون الجدد" فتلقى الكلمات والخطب وتقرا الأشعار (في الساعة الأخيرة قبل نهاية الدوام).
   وفي مدرسة الخورنق بالذات، حيث عاد بعض المفصولين إلى الدراسة بعد ثورة 14 تموز (يوليو) وكانوا أكبر سناً منا مثل زهير شكر ومحمد موسى (الذي قُتل تحت التعذيب عام 1963) وقد جمع كاتب هذه السطور بعض الشهادات ممن عملوا مع محمد موسى من أمثال صاحب الحكيم وعبد النبي حسن الدلال وعارف خوجة نعمة وعدنان عباس وشوقي شعبان وآخرين وهو بصدد اعداد مادة توثيقية عنه)، جرى تنظيم لقاءات أسبوعية ذات طابع ثقافي ولأهداف سياسية، وأتذكر من أوائل الذين تم تقديمهم وربما "اكتشافهم" إلى تلك اللقاءات الشاعر عبد الأمير الحصيري (الذي كان طالباً معنا في المرحلة المتوسطة) وبدأ الحصيري خطواته الأولى بقراءة بعض قصائد الجواهري في الاجتماعات العامة "بلثغته المعروفة"، ثم بدأ ينظّم بعض القصائد ونشرت له بعض الصحف مقطوعات منها.
   كان الحصيري شاباً خجولاً، متفوقاً في الدراسة، لكن هاجس الشعر كان يسكنه، فترك دراسته بعد أن ضاقت به المدينة.. أتذكره بسترته الطويلة وقلقه وبدواوين الشعر والكتب التي كان يحملها وبديوان المتنبي الذي كان يتأبطه بل لا يكاد يفارقه بدلاً من كتب الدرس التي كان يضجر منها، لقد سئم العيش في ذلك "الجو الكئيب" فودّع زملاءه متنقلاً بين بغداد "الجنة التي كان يحلم بها"، وفي بغداد ظل الحصيري حيث كنت ألتقيه طوال الستينيات، يتنقل من مقهى إلى أخرى، فيبدأ نهاره في "البرلمان" أو "البلدية" لينتقل إلى "عارف آغا" وأحياناً إلى "شط العرب" ومن حانة إلى أخرى يتذوق خمور حانات "آسيا" و"كاردينيا" و"الجندول" و"سرجون" وغيرها، حيث كان "زبوناً" دائماً هناك!.
   كانت قصائد الحصيري تحذو حذو شيوخ الشعر في مدينته وبخاصة الجواهري "رمزه الكبير" وقد إلتهم نهر دجلة الكثير من قصائده، حينما كان ثملاً يترنح في الكثير من الأحيان، وضاع قسم منها وهو في تنقل دائم بين غرف الحيدرخانة وأزقتها، حيث وافته المنية في أواسط عام 1978 هناك وحيداً ومنكفئاً على ذاته حدَّ الاختناق.
   الجواهري الكبير في إحدى تجلياته وأنا أتسامر معه، أبدى حسرة لفقدانه، فقد كان يتوسم فيه شاعراً مهماً منذ أواخر الخمسينيات أو ربما منذ أوائل الستينيات، وعند عودة الجواهري من منفاه الأول في أواخر الستينيات روى لي كيف اقتحم الحصيري خلوته ذات يوم، لكنه عامله برقة، وظل على هذه الشاكلة رغم انفلاتاته غير المحسوبة.
   كتب الشاعر الحصيري الكثير، لكن الذي ظل أو حفظ من شعره كان قليلاً. وقد أعجبني ملفٌّ عنه نشرته "مجلة الأقلام" البغدادية قبل سنوات، ساهم به الشاعر عبد الرحمن طهمازي، الذي كنت ألتقيه مع الحصيري في أواخر الستينات، أما الشاعر شاكر السماوي، فقد كان كثير اللقاءات به منذ أواخر الستينيات وخلال سنوات السبعينات وبخاصة في مقهى "عارف آغا" وكذلك الصيدلي عزيز حسون عذاب والكاتب عزيز السيد جاسم ووليد جمعة وسواهم.
   عند عودتي الأولى إلى بغداد من الدراسة في الخارج، إلتقيت الحصيري مرات عدة، وكنت قد أدركت أي عذاب تركته السنين عليه فضلاً عن الحرمان المزمن والوحدة الدائمة.. وأي قلب رقيق كان يملك هذا الإنسان، الذي كان الشعر عالمه الوحيد، لا يعرف الكثير عن المرأة أو المال أو السفر (باستثناء سفرة فاشلة إلى الكويت) أو الحمّام، ولا يعرف كيف يتصرف إزاء الكثير من الأشياء، بدون الخمرة التي كانت سميره الوحيد في عالمه الموحش والبارد وتشرده وحزنه المرير.
   ومن المفارقات أنني التقيت الحصيري مرة وإذ به يرتدي بدلة وربطة عنق وعلى غير العادة بدا حليقاً ونظيفاً.. فحيّاني مبتسماً مستبقاً سؤالي عن "السر" في هذا التبدل المفاجئ، بالقول أن الحكاية باختصار أن السيد وزير الإعلام "صلاح عمر العلي" استدعاني وأحرجني بتعييني بوظيفة استشارية في الوزارة براتب قدره ثمانون ديناراً (كي لا تذهبوا بالتفسيرات!!)، وكان أول راتب استلمه الحصيري، فجاء بهندامه الجديد الى حانة الجندول على ما أتذكر واغلق الباب وأمر النادل اعتبار جميع من في الحانة ضيوفه، لكنه جاء بحال وخرج بحال آخر،ولكن بعد أسابيع صادفته وقد عاد إلى هيئته القديمة، فبادرني بالقول "عادت حليمة إلى عادتها القديمة".
ومن أشعار الحصيري المعروفة والمعبرة عن سيرته الأبيات التي يقول فيها:
أنا الإلهُ ونُدماني ملائكةٌ
أنا الشريدُ!! فما للناسِ تذعرُ من
وكنتُ أفزعُ للحانات تشربني
قد بتُّ أمضغ أعراقي وأوردتي

      والحانةُ الكونُ والجُلاسُ من خلقوا
وجهي وتهربُ من أقداميَ الطرقُ
واليوم لو لمحتْ عينيَّ تختنق
و

1243
اتحاد كتاب مصر
احتفالية عن شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري
المسرح الصغير بالأوبرا
القاهرة 28-8-2008


الشعر في حضرة الجواهري

عبد الحسين شعبان *
* أكاديمي وأديب عراقي



•توطئة
في حضرة الجواهري، لا يكاد الشعور يفارقك، وكأنك تدخل بجلال وهيبة، مملكة الشعر. فكل شيء في تلك الحضرة ينبض بالشعر: الجواهري بقامته المديدة، وفصاحته، وأصابعه الممدودة، يدهشك حين يستحضر التاريخ، بقصيدته العمودية الموروثة والملّونة بأطياف الحداثة، بتحديه وتناقضه، بانفعالاته وردود أفعاله، بمعاركه الادبية وخصوماته السياسية والشخصية، يظهر الجواهري واضحاً كالحقيقة، لا يعرف الأقنعة وقد امتهن الشعر فناً وذهناً ومزاجاً.
لم يستطع الزمن رغم عادياته أن يروّضه أو يطوّعه أو يحتويه، فقد تمكّن سلطان الشعر منه وامتلكه بكل معنى الكلمة، هكذا ظل صعباً بل عصيّاً، غير قابل للتدجين، رافضاً، ومقاتلاًً في الكثير من الأحايين في دروب الأدب والفكر والتجديد. سلاحه الشعر في الهجوم والتراجع، وهو درع وقايته من تقلبات الزمن وغدر الأيام وهجومات الأعادي.
برحلته الشعرية الطويلة، إخترق سيرة رجال ومبدعين وتاريخ كفاح، "صاعداً ونازلاً على حد تعبيره". كان شاهداً وحاضراً في ذاكرة أجيال، فهو جدّ المثقفين العراقيين ومرجعهم ومرجعيتهم.
جاء من النجف ملفّحاً بالعباءة ومعتمراً بالعمامة الصغيرة البيضاء، وبجسم ضئيل، لكنه منتصب مثل نخيل العراق. ومن البيئة النجفية الدواوينية- التلقينية، ذات الموروث والتقاليد العريقة والقاسية، حيث عايش فقهاء النجف، الذين زاملوا وتتلمذوا على يد جمال الدين الأفغاني بدأ التمرد الأول، فانطلق ليحلّق في الأفق الشاسع، مثل نسر رفرف بجناحيه فوق بغداد، وهو يتطلّع نحو دمشق والقاهرة وبيروت، ثم ليستريح في باريس قليلاً، وليبدأ رحلة المنفى والحنين التي قاربت ثلاثة عقود ونيف كانت محطتها الرئيسية براغ الذهبية.
رحيل متقطع لكنه متواصل، ظل مصحوباً بحنينه الى الوطن الذي حمله في قلبه، حتى صارا متلازمين لبعضهما. فقد كان يُبحر في ثنايا الاحداث ولا يعرف المرسى الاّ على شاطئ الشعر. وهو المسافر الذي تفيض منه الألوان، كقوس قزح، في سماء شرقية تتراقص كواكبها بعذوبة ورّقة متميزة، مدوّرة مثل خبز  تنور عراقي طازج، ومتدفقة مثل دجلة والفرات وشط العرب.
إن عمر الجواهري هو عمر العراق الحديث، حيث اكتملت بداياته الشعرية مع نشوء وتأسيس الدولة العراقية في العام 1921. وكان قد نشر قصائده الاولى عشية تأسيسها حيث تدفقت مثل ثورة العشرين.
ظل الجواهري عنيداً أمام السؤال، ضعيفاً أمام إغواء الشعر وإغراء القصيدة. معمّراً مثل لبيد العامري، منفياً مثل المتنبي، فقد عاش أكثر من ثلث عمره في الغربة، التي أرخها في سنواته الأولى " ببريد الغربة" و"يا دجلة الخير"، مفكراً مثل المعرّي، حيث رصع قصائده بالحكمة والمعرفة.

•الجواهري والحصري
في سفره " المجيد" واجه الجواهري خصومات كثيرة، وأثيرت حوله وجهات نظر متضاربة. والواقع فقد كان شخصية إشكالية، بمعنى تفرّدها الفني والشخصي وتمايزها الابداعي وخصائصها المتنوعة. ولعل أبرز الخصومات التي واجهها هي معركته مع المفكر القومي ساطع الحصري، بسبب موضوع الجنسية، فقد أمر الاخير حينما كان مديراً عاماً في وزارة المعارف بفصله من وظيفة معلم ابتدائي، بعد ان رفض تعيينه بوظيفة مدرس ثانوي، لكن الملك فيصل الأول، سارع لتعيينه أميناً لتشريفات البلاط الملكي، لحفظ التوازن المختل بسبب نهج "العزل" وإشكالية الجنسية العراقية التي أوجدها قانون الجنسية الأول في العام 1924، والذي تم سنّه قبل كتابة الدستور العراقي الأول (1925) بتشجيع وإشراف من بريطانيا، وواصلت القوانين والتعديلات المختلفة النهج التمييزي ذاته.
وقد أفصح الحصري، أن سبب فصل الجواهري، هو قصيدة كان قد نشرها الشاعر، يتغزل فيها بمصايف ايران الجميلة، قبل تعيينه، مما اعتبر تشكيكاً بالهوية العربية وبالمواطنية العراقية، خصوصاً وأن بعض أبناء الفرات الأوسط ولاسيما في المدن الدينية وجنوب العراق كانوا غير معنيين بالحصول على الجنسية، التي لم يكن لها معنى آنذاك بل أن بعضهم وافق على اكتساب الجنسية الايرانية تهرباً من الجندية وربما للحصول على بعض الإمتيازات، لكن انحلال الدولة العثمانية وتأسيس المملكة العراقية، افترض أن يكون جميع سكانها مواطنون بالتأسيس حسب معاهدة لوزان لعام 1923، لكن لجوء البريطانيين الى تشريع قانون للجنسية ووضع درجات (أ) و(ب) واشترط الحصول على شهادة للجنسية، طال بعض الفئات بالتمييز، الأمر الذي انعكس على بنية الدولة العراقية لاحقاً، وهو الأمر الذي دفع الجواهري ثمنه باهظاً منذ وقت مبكر!
   أما معاركه الأخرى فهي احتسابه على معسكر اليسار العراقي بحكم دفاعه عن المظلومين والفقراء، رغم أن قصائده كانت قصائد تلبسها الغيد الحسان وأناشيد يتغنى بها الوطنيون لمواجهة الظلم الخارجي والاستبداد الداخلي.
وأخيراً فإن كيد بعض خصومه ومنهم في الوسط الأدبي ذاته، كان أحد أسباب خصوماته، وذلك بسبب اتجاهاته التجديدية في القصيدة العربية الكلاسيكية حسب تعبير الاستاذ هادي العلوي، رغم أن موقفه ظل متحفظاً إزاء القصيدة الحديثة ومدرسة التجديد الشعري الحديث.
كان الحديث مع الجواهري ذو شجون وله متعة خاصة، خصوصاً عندما يكشف لك عن خباياه بطريقة طفولية لذيذة. فيبدأ بالتدفق مثل ينبوع .

* ولادة القصيدة
حين تولد القصيدة يشعر الجواهري انه يولد من جديد، وقد تكون ولادة عسيرة في كل قصيدة، لدرجة انه بعد الانتهاء منها يشعر وكأنه يكتب الشعر لأول مرة (أي والله كما يقول) ويتعجب الجواهري من ذلك، مثلما هو البطل المسرحي حين يواجه الجمهور. ففي كل مرة يشعر بالرهبة، وعندما تكتمل القصيدة يشعر بالنشوة. وتكتمل قصيدة الجواهري عندما يلحنها ويغنيها. يقول الجواهري: إعتدت على ذلك في النجف منذ البدايات، فحين كانت تداهمني القصيدة، أنزل الى السرداب، أحدو ثم أطرب وأدخل بعدها في ملكوت الشعر، في عالمه السحري وعندها يكتمل البناء متجمّلاً بالشكل أعود الى نفسي وأضحك معها أحياناً.. أحقاً إنني كنت هنا!!
ويضيف الجواهري في حوار مع الكاتب منشور في كتابنا: الجواهري- جدل الشعر والحياة، 1997: يخيّل لي وأنا أرقص في باحة القصيدة ان شيئاً من الجنون قد مسّني أو أن نوعاً من الخبل قد اعتراني. إن شيئاً ما يحدث لا أعرف كنهه حين تنتابني الحالة وأدخل مملكة الشعر، أحياناً تراودني حالة هيجان وصراخ حتى تهدأ روحي باكتمال الولادة.
في بغداد كان جارنا السيد محمد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة العراقي بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، يتعجّب هو وأهله على الذي يجري في بيتنا أحياناً، إذا ما صادف وهبطت عليّ القصيدة. وعندما كانت شياطين الشعر أو ملائكة الفن تنزل عليّ فلا اريد لأحد أن يقطع سلسلة أفكاري والاّ أنفجر... اريد عالمي الخاص، لا أريد لأي كان أن يشاركني فيه، حتى العائلة أدعوها لتذهب الى أي مكان.
•   وبصدد شاعريته وكيف صقلت يقول الجواهري:
الشاعرية تولد في الارحام فمذ كنت جنيناً، كنت أسكن في حضرة الشعر. لقد كان البيت الجواهري يحمل صولجان الشعر، حيث يمسك بقيثارته أكثر من رمز، ويكاد الشعر يتملّكه منذ الصغر، ورغم أن العائلة كانت تريده أن يدرس الفقه الاّ أن الشعر تمكّن منه. وكان يحفظ دواوين كبار الشعراء، حيث كان برنامجه اليومي هو " حفظ الشعر" وحفظ ديوان أبو العلاء المعرّي وكان شديد الاعجاب بالبحتري وقرأ البيان والتبييّن وكذلك كتب ابن المقفع وغيرها. ولم يكن عمره يزيد على 12 عاماً، كان شعوره مذ كان طفلاً انه يحلّق في فضاءات أخرى ويطير الى عوالم بعيدة!!

•اللحظة الشعرية
متى تحل اللحظة الشعرية على الجواهري؟ وهو سؤال لا يمكن أن نتصوره بمعزل عن الشاعر، فربما ان الامر مختلف حسب المكان والزمان. لكن الاستلهام الذاتي مهم جداً، كما يفعل الرسام حين يستخدم الألوان ويطوّع الريشة، أو كما يفعل الروائي حين يصف المكان ويتابع تفاصيل شخصياته وحبكته الدرامية... الأمر كان يلاحقه حتى يكاد يهبط عليه بدون إرادة. فتراه يغني بحرقة وحرارة، وحين تأتيه إشارة غامضة يتفجّر غضباً ويملأ المكان جنونه، وكنت أسأله عن اللحظة الشعرية، فإذا به يجيبني إن الملكوت يناديه فيستجيب وتخرج بمعاناة فائقة.
وعدت لسؤاله حول اللحظة الشعرية فأجاب: اتريدني أن أقول لك يأتيني الوحي !؟ لا أدري ماذا أسمّيه؟ فقد تفجّرت "دجلة الخير" بملحميتها المعروفة، كلّها في ليلة واحدة في براغ، تصوّر ليلة واحدة تفجّر في داخلي ينبوع لا يرضى بالتوقف، حتى اكتملت... فماذا تسمي ذلك!؟

•الجواهري والتناقض الاجتماعي
عاش الجواهري في صلب المتناقضات الاجتماعية حيث، البيئة النجفية الشديدة الصرامة، والتقاليد القاسية.. وقد انعكست عليه وهو يتخطى الحواجز والمحرّمات ولكن بأثمان باهظة أحياناً
وتركت القيود الثقيلة تأثيراتها  الكبيرة عليه، لكنه في الوقت نفسه استفاد من الخيال القرآني الذي يفرضه الوسط الديني، وتستطيع أن تلحظ دون عناء كيف أن قصائده مرصعة به باستمرار، بل إنه لا يستطيع الفكاك منه. وبالتأكيد فالتراث القرآني، خصباً وجميلاً ومغرياً، انه في الوقت ذاته يوحي بخيال  متفجر " جنة تجري من تحتها الأنهار" ! ، " الحور الحسان"" و" طور السنين وهذا البلد الأمين"، الزيتون والعنب وما تشتهي، كان هذا هو الأفق الذي يصبو اليه الجواهري، حيث وجده مرة واحدة في سفرته العتيدة الى مصايف إيران التي كتب فيها قصيدته الشهيرة، والتي جاءت بالبلاء عليه، بسبب تفسيرات مغرضة.
يقول الجواهري: حتى إذا ما ذهبت الى إيران للاصطياف لأول مرة في العشرينات كانت الجبال الشاهقة تهزّني، أما البيئة النجفية فكانت وراء قصائدي، فالحرمانات والتزمّت ولّدت لديّ مفهوماً إنسانياً نقيضاً ورغبة في التغيير، وهو ما رافق قصائدي، ولا بدّ هنا من الإشارة الى الفسيفساء الحضارية والثقافية لمدينة النجف، بحكم الاختلاط لأقوام وشعوب وآداب متنوعة.
التأزم كان خاصية الشاعر فما بالك بشاعر مثل الجواهري المبدع والمتميّز، وكان هذا ديدن دعبل الخزاعي وابن الرومي والمعري، والمتنبي والرصافي. يشعر الجواهري انه في غضب خلاّق، نتيجة التأزم العارم والجارف والمضيء، فهو حتى في الغزل تكاد تتلمس حرارته حين يقول القصيدة، فتراه عاشقاً مولهاً بكل معنى الكلمة.

•التناقض والتحدي
أعود الى التناقض، فهل هي سمة ملازمة للجواهري؟ فمن قصائد الاقتحام الثورية الى قصائد المديح، أم أن " حب الحياة بحب الموت يغريني" على حد قوله.. كيف يجعل حب الحياة متلازم بحب الموت!؟ هل هو ديالكتيك الطبيعة، كما نسميه أم ماذا؟ ولعل هذا الهارموني الجواهري هو من سمات قصائده بامتياز.
يا نديمي وصبَّ لي قدحاً
      ألمِسُ الحزن فيه والفرحا

كان الجواهري ابن المتناقضات والتعارضات على كل المستويات وبالمناسبة فهو يرغب في أن يقرأه الناس ويعرفونه بذلك، أي باعتباره وليد التناقض والتعارض، حيث ولد في بيئة متناقضة، ولذلك ترى الصعود والنزول لديه وهي حالة انسانية، ولكنه رغم ذلك لم يكتب يوماً بهدف الانتفاع، أو المديح لغرض الحصول على الكسب، ولو فعل ذلك لكان هو غير ما أصبح.
ولعل الجواهري في حوارات مع الكاتب كان قد قال لقد اغتصبت ضميري مرة واحدة في إشارة الى قصيدة " ته يا ربيع" في تتويج الملك فيصل الثاني وعاد وعالج الموضوع بعد أيام بكتابة قصيدة كفارة وندم، انه اعتراف صريح دون وجل أو خوف من أحد، بل تلك إحدى سجاياه، حيث كان شجاعاً في نقد الذات.
إذا كان " الجواهري " يُعرف بالشاعر الناري، الثوري، الاقتحامي، المتوثب، لكنه هو من كتب سبع قصائد بحق الملك فيصل الأول. وفعل ذلك بإرادته ودون رغبة في الحصول على طمع أو جاه أو مال. قام بذلك لأنه كان يعتقد لحظة ذاك بأن موقفه سليماً، وشعر أنه يوفي دينأ بعنقه، خصوصاً وانه وقف مع الجواهري، ضد النعرات العصبية والطائفية، التي حاولت النيل منه ومن انتمائه الوطني. ولهذا رداً للجميل، قال ما قال في " الملك الجليل"، كما يسميه انتصاراً للحق بعد حادثة ساطع الحصري الشهيرة، وهذا الشعور ظل يصاحبه لاسيما الاحساس بالجميل وعمل الخير ورد المعروف، واستمر حتى آخر أيام حياته.
وفي الوقت نفسه ضاق ذرعاً بالبلاط الملكي، الذي لم يتسع له وترك النيابة وفرّط بالوزارة، التي كانت الاشارات تأتيه لدخولها كمرحلة لاحقة، فقد قرر الوقوف في صف الناس مرة واحدة والى الأبد. وقرر أن يكون شاعراً لا وزيراً أو حتى رئيساً للوزراء. وكان بعض من لبس العمامة قد وصل الى الوزراة، في حين أنه نزع العمامة بقناعة ورفض عوامل الرخاء والاغراء والسلطة والأبهة والمنافع واختار ان يكون " الجواهري" والجواهري فقط وذلك يكفيه. لقد اختار الشعر وكسب نفسه والعالم، وهكذا سار شلال حياته اللاحقة.
كان الخروج من الدائرة الصعبة (البلاط) يسبب احراجاً كبيراً لكن بقاءه كان يعني اندثاره او تدجينه، لاسيما وقد بدأ بالتمرد بقصائد نارية وغزلية. وفي خروجه وجد عوالم فسيحة، ضاجّة بالحياة والحركة والتناقض أيضاً تنتظره!!
عجيبٌ أمرك الرجرا
تضيقُ بعيشةٍ رغدٍ
ولا تقوى مصامدةً           
ج لا جنفاً ولا صددا
وتهوى العيشةَ الرغدا
وتعبُدُ.. كلَّ من صَمَدا           

أليس عجيباً هذا التناقض. دخل البلاط ثم ضاق به ذرعاً، وسعى للنيابة ودخلها ثم استقال وانضم الى صف الناس بعد معاهدة بورتسموث عام 1948 مع بريطانيا ومقتل أخيه جعفر، وتعرض خلال حياته لحملات شتم لاذع، ودناءات واراجيف، لكن ذلك ظل ديدنه في الحياة، حيث كان متحدياً معتدّاً بنفسه، يطلب الأشياء  ويضجر منها ويتركها بعد أن يسعى اليها:
أزِحْ عن صدرِكَ الزْبَدا              ودعْهُ يبثُّ ما وَجَدا             
الى أن يقول :
أأنت تخافُ من أحدٍ
أتخشى الناسَ، أشجعهمْ
ولا يعلوكَ خيرُهمُ
أأنت مصانعٌ أحدا
يخافُك، مغضباً حَرِدا
ولستَ بخيرِهم أبدا

 تعرّض الجواهري خلال حياته الى حملتين كبيرتين الأولى ترافقت مع الأيام الاولى لبدء تدفق النفط للتصدير في بئر باباكركر (كركوك) 1927 حين كان شاباً، متمرداً، بهدف نزع هويته الوطنية والقومية كما يذهب الى ذلك الكاتب حسن العلوي، والثانية بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958، حين اعتبر في مقدمة معسكر اليسار العراقي، لكن التحدي كان ملازماً لأبي فرات ولكنه كان هو الذي يختار خصومه ويحدد المعركة وشروطها.
وشاعر مبدع كالجواهري كان يعيش في صميم الاحداث  يتأثر بها ويؤثر فيها، وحتى، وإن لم يكن سياسياً فقد كان مع عامة الناس وما كانوا يتأثرون به، ويتفاعل معهم، ويحاول أن يعبّر عن تأثرهم بطريقته الخاصة. عندما حدثت وثبة كانون الثاني (يناير) 1948، ضد معاهدة بورتسموث، ووقعت معركة الجسر الشهيرة، وسقط أخوه جعفر، الذي استشهد كان يجد نفسه بعد سبعة أيام وفي جامع الحيدر خانة (14 شباط/فبراير) ينشد:
أتعلم أم أنت لا تعلمُ
فمٌ ليس كالمدعي قولةً
يصيحُ على المدقعين الجياع
ويهتفُ بالنفر المهطعين
بأن جراح الضحايا فمُ
وليس كآخر يسترحم
أريقوا دماءكمُ تُطعموا
أهينوا لئامكم تُكرموا

الفترة التي سبقت ثورة 14 تموز (يوليو) كانت حامية، حيث فُرضت الاحكام العرفية وأعدمت بعض القيادات الشيوعية لأول مرة (فهد وصحبه) 14 شباط(فبراير) 1949 وتم تأسيس الحلف التركي- الباكستاني ومركزه بغداد 1955، والذي عُرف باسم " حلف بغداد"  بدعم من الغرب. كان التوتر والمواجهة ملازمات لتلك الفترة، وتقلصت بعض الهوامش التي كانت موجودة قياساً للعهود التي تلت ذلك، واصبحت شحيحة لدرجةالاختناق.
وقد اثارت قصيدة هاشم الوتري " ايه عميد الدار" في حزيران (يونيو) 1949 ضجة كبرى ولها قصة خاصة، فقد ألقيت بمناسبة انتخاب الدكتور هاشم الوتري (وهو عميد الكلية الطبية العراقية) عضواً للشرف في الجمعية الطبية البريطانية. وكان الجو السياسي محتدماً وجاءته الدعوة للمشاركة، لكنه تظاهر بعدم القبول، ولكنه كما يقول في حوارات مع الكاتب: كنت أرقص وراء التلفون وكنت أقول جاءت " يا هلا بيها"، فقد كنت قد عزمت على المواجهة. ويضيف الجواهري: صعدت الى سطح الدار وكنت مستلقياً على فراشي، لكنني كنت محتدماً وكانت الاشارات الغامضة تأتيني لتزيدني اشتعالاً، فوجدت نفسي منبطحاً أحدو، كما هي عادتي، وعندما وصلت المورد الذي يبدأ بـ" إيه عميد الدار شكوى صاحب     طفحت لواعجه فناجى صاحبا" حتى هتفت زوجتي " أم نجاح" (عوافي أبو فرات ..أ"كله) وهي عادة ما تقال لعدم الاكتراث بالنتائج وتعني باللهجة العراقية.. ليكن ما يكن وانت تدخل المعركة وتقبل التحدي، ثم يتسلق الجواهري قمة التحدي:
حشدوا عليّ المغرياتِ مسيلةًَ
بالكأس يقرعها نديمٌ مالئاً
وبتلكم الخلواتِ تمسخُ عندها
وبأنْ أروحَ ضُحىً "وزيرا" مثلما
ظنا بأن يدي تمدُّ لتشتري               صغراً لعابَ الأرذلين رغائبا
بالوعد منها الحافتين وقاطبا
تُلْعُ الرقابِ من الضباء ثعالبا
أصبحتُ عن أمرِ بليل "نائبا"
سقط المتاعِ، وأن أبيعَ مواهبا

 أو قصيدته في القاهرة 1951

خلّــي الدم الغالي يسيلُ         هذا الدم المطلول يختــ      إن المُسيــل هو القتيـــلُ              ـــتصر الطريق به الطويــلُ

أو قصيدته في مؤتمر المحامين العرب، الذي انعقد في بغداد في العام ذاته، التي أثارت ردود فعل حادة من جانب الحكومة العراقية، حيث أقامت الدعوى على مدير الجريدة المسؤول المحامي عبد الرزاق الشيخلي، كما أقامتها على الجواهري، لكنه تم الافراج عنهما. ومنها :
سلامٌ على جاعلين الحتو
سلامٌ على مثقل بالحديد
كأنَّ القيودَ على معصَميه
فَ جسراً إلى الموكب العابرِ
ويشمخُ كالقائد الظافرِ
مفاتيحُ مستقبلٍ زاهرِ

أو القصيدة التي ألقاها في دمشق بمناسبة الاحتفال التأبيني للشهيد عدنان المالكي عام 1956، واضطر بعدها البقاء في دمشق، لما أثارته من اشكالات والتي يقول فيها:
خلّفتُ غاشية الخنوع ورائي
وأتيتُ أقبسُ جمرةَ الشهداء

الى أن يقول :
أضحية الحلف الهجين بشارة
أسطورة"الأحلاف" سوف يمجّها التا
لكَ في تكشفِ سوءة الهجناءِ
ريخ مثل خرافة "الحلفاء"

لعل العدّة الفكرية والسياسية مثلت عناصر التحدي المستمرة التي كان الجواهري ينزل بها الى الميدان دون حساب للعواقب. صحيح ان لكل قصيدة ظروفها ونشأتها لكنه بطبعه الحاد والمتأزم والمتوتر كان يقود رد الفعل تبعاً لحالته النفسية. فأحياناً يلتقي توتره الشخصي مع التوتر السياسي، فتراه يهلل في داخله، يقول قصيدته وليكن من بعده الطوفان. ورغم الاساءات ومحاولات النيل منه، فهو القائل عن نفسه أو مخاطباً نفسه متحدياً:
تسامي فإنك خير النفوس
وأحسن ما فيك أن الضمير
إذا قيس كل على ما انطوى
يصيح من القلب: إني هنا!

كان الجواهري هو الذي يبدأ المعركة، بل يفرضها على "الآخرين"، ولم يكن سهلاً أن يقبل خصومه أو أعداءه بسهولة إن لم يكونوا من العيار الثقيل، فمن لا يستحق أن يكون خصماً له يهمله حتى وإن حاول النيل منه أو التعرض له. كان اعتداده الجميل بنفسه أقرب الى الغرور المتسامي والمتعالٍ ... انه يرفض أن ينزل الى ساحة معركة لا يتمتع بها الخصم أو العدو، بالمؤهلات، التي تجعله خصماً أو عدواً له، كان يريد التكافؤ عند المواجهة أيضاً، ألقى الجواهري قصيدته في حفل تكريم الدكتور هاشم الوتري وبحضور كبار مسؤولي الدولة، خاطب الجواهري الجميع وأصابعه تؤشر الى المقاعد الأمامية:
أنا حتفَهم ألج البيوتَ عليهمُ
خسئوا: فلم تزلِ الرجولةُ حُرةً
والأمثلون همُ السوادُ: فديتهمْ
بمملكين الأجنبي نفوسَهُمْ
أغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا
تأبى لها غير الأماثلِ خاطبا
بالأرذلين من الشُراةِ مناصبا
ومصعدين على الجموعِ مناكبا

وكانت هذه القصيدة إيذاناً لمعركة كبرى، خصوصاً وأنه كان يشعر بأزمة نفسية، فالتقط الأزمة السياسية، لكي يعبّر عن الأزمتين.
وقد سأله الكاتب عن الأزمة النفسية التي كان يعاني منها فأجاب:
كنت قد وصلت الى حافة الفقر الحقيقي، ولم أكن أجد ما يسدّ الرمق مع العائلة، وكنّا نستدين، لنأكل، بسبب الحصار، الذي فرضه الحكام عليّ نظراً لمواقفي، فقررت أن أرفع صوتي، لأقرّعهم وأدعو للإجهاز عليهم والثورة ضدهم. ولا أخفيك سراً إذا قلت لك أن زوجتي " أم نجاح" قالت ربما مسّه شيء من الجنون، وهي تعرف أنني قررت الاقتحام، وكنت قد حضّرت نفسي للاعتقال بعد إلقاء تلك القصيدة.
ولكنني عندما وصلت بهدف استجوابي استقبلني حاكم التحقيق، وهنا كانت الدهشة، أو المفاجأة، عندما أخبرني أنه معجب بشعري. ليس هذا حسب، بل إنه يحفظ بعض أشعاري. وهنا فتح أدراج مكتبه، وأطلعني على بعض القصائد المحفوظة في ملف خاص، كان قد تم "كبسها" أي وضع اليد عليها، عند مداهمة بيوت الشيوعيين واليساريين، باعتبارها أحد المستمسكات الجرمية. وأتذكر قصيدة " عالم الغد" التي كانوا يتغنّون بها، كانت ضمن الملف.
ورغم الضجة التي أحدثتها قصيدة هاشم الوتري " إيه عميد الدار"، فقد تم استبقاء الجواهري في التوقيف " فقط" وذلك من باب " الاحتراز" وبكل احترام وأدب. ومع الجواهري يمكن أن نقول:  إن وزراء ذلك الزمان وسياسيوه ، لم يكونوا من النوع الذي يستمرئ كتابة التقارير أو الظهور بمظهر القبح، الذي نصادفه هذه الأيام، حيث أصبح الأمر ظاهرة بشعة، على رغم من أن التعامل معه قد يكون لذر الرماد في العيون بصورة مفتعلة أو ملفقة، لكنها في الوقت نفسه تعرف أنها تتعامل مع شاعر كبير. فرغم مناصبته العداء للحكام الاّ أنهم كانوا رحومين به باستثناء "الزعيم" عبد الكريم قاسم، الوحيد الذي وضع القيد في يديه كما يقول بمرارة، وذلك بعد المماحكة التي دارت بينه وبين الزعيم عبد الكريم قاسم.
ولكن قبل ذلك، فقد حدث ما يشبه الفجوة أو الفراغ بين الجواهري وبين الشارع سرعان ما تم استعادته وذلك بعد قصيدة " التتويج" أيار 1953 التي كانت خارج السياق، وهو ما حاول البعض النفاذ منه، لاسيما بالاساءة للجواهري.

•خيار الشعر هو الوحيد!!

وإذا كان  الجواهري قد ترك " المناصب" واختار الشعر والكلمة الحرة، فقد كان فيما كل ما قال وما كتب لم يغتصب ضميره، ولم يشعر أنه عكس قناعاته كما عبّر عن ذلك في حوارات مع الكاتب وما أورده في مذكراته لاحقاً. مع أن هذه القناعات تتغير بالطبع، يستثني من ذلك مرة واحدة عوّضها بملحمية شعرية ذاتية، وكأنه يريد اعلان براءته بعد مراجعة قاسية للنفس في الخمسينات، وأعني بها قصيدة التتويج التي لحقها مستدركا في قصيدة كفارة وندم.
ستبقىـ ويَفنى نيزكٌ وشهابُ ـ      عروقٌ أبيّات الدماء غضابُ

وبعد نحو عام كتب :
خبت للشعر أنفاسُ
أم اشتطَّ بك الياسُ

كهذا كان خياره مع الناس، ضد الحاكمين ولم يشأ أن تؤثر تلك الكبوة على مساره المعروف وبجرأة وشجاعة واجه الموقف، في حين كان الكثيرون لا يتوقفون لمراجعة مواقفهم وليسوا معنيين بتقديم نقد ذاتي الى الجمهور.
وإذا كان البعض يلومه أو ينتقده لأنه كان قد كتب قصيدة لهذا الزعيم أو ذلك الملك أو القائد، فإنه كان ينطلق من قناعة ومن رد للجميل بما فيها  قصيدته لإبن البكر محمد حيث يقول الجواهري في حوار مع الكاتب:
   " الجماعة" ويعني " حزب البعث الحاكم" آنذاك كرّموني في حينها، وعوملت بشكل خاص، وقد كتبت بدافع "الوحدة الوطنية" وإلتئام الشمل، بل إن ظروف المرحلة والواقع السياسي، كانت تفرض بعض التوجهات. ولم أكن في حينها خارج مزاجي وطموحي. أما حول الشاب "محمد" نجل الرئيس البكر، فقد قتل في حادث سيارة، وقد ربطتني به علاقة خاصة، ولم أقل كلمة واحدة يشمّ منها رائحة التملق وكتبت رثائية له عام 1978.
تعجَّلَ بشرَ طلعتكَ الأفولُ
وغالَ شبابَكَ الموعودَ غولُ

   ومثل هذا حدث عند كتابة قصيدة الى الملك محمد السادس أو الرئيس حافظ الأسد أو الملك حسين وغيرهم، وذلك تعبيراً عن اعتزازهم به وتقديراً لمواقفهم منه ورداً للجميل الذي أسدوه له.
لقد كانت هجائيات الجواهري نارية، كما هو في حبه أيضاً، ففي قصيدة هاشم الوتري، نرى كيف يضع الخصوم في زاوية، ويوجّه السهام عليهم، وكان أقطاب الحكم قد أُخذوا أخذَ الذين كفروا. وقد مضى في إلقاء القصيدة حتى النهاية، أما لو كنا في هذه الأيام كما يقول الجواهري (حوار مع الكاتب 1985 في دمشق غير منشور)، فقد يكون من البيتين الأولين، يُنزل الشاعر أو الخطيب وقد يغيب. بعد أن أكمل القصيدة، مزق أوراقها ورماها في الهواء، وغادر، وإذا به في معتقله، في مديرية التحقيقات الجنائية، يفاجأ بوفد من الشباب المتنور ومعه "قصاصات من القصيدة الممزقة، مجموعة من حديقة المسبح الذي شهد الاحتفال". ويقول كريم مروة انه كان قد جمعها وزار الجواهري في معتقله وسلّمه إياها مع ناجي جواد الساعاتي ثم نشر القصيدة في جريدة التلغراف التي تصدر في بيروت بمعاونة حسين مروة وابنه نزار .
أما قصيدة "كما يستكلب الذيبُ" فبعد أن أغرى فريق من الحاكمين بعض طلاب المجد الكاذب من المأجورين والحاسدين لشتم الجواهري كتب هذه القصيدة، التي يقول فيها:
عدا عليَّ كما يستكلبُ الذيبُ
خلقٌ ببغدادَ أنماطٌ أعاجيب

وبعد هذا المطلع يقول:
تسعون كلباً عوى خلفي وفوقهم
وقبل ألف عوى ألفٌ فما انتقصتْ
ضوء من القمر المنبوح مسكوبُ
"أبا محسّد" بالشتمِ الأعاريبُ

أو كما يقول في قصيدة يا ابن الثمانين:
يا"ابن الثمانين"كم عولجت من غَصصٍ
كم هزَّ دوحك من "قزم" يطاولهُ
وكم سعت "إمّعاتٌ" أن يكون لها
ثبّتْ جَنانك للبلوى، فقد نُصِبتْ
بالمغريات فلم تشرق، ولم تمِلِ
فلم ينلهُ، ولم تقصرْ، ولم يطلِ
ما ثار حولك من لغوٍ، ومن جدلِ
لك الكمائنُ من غدرٍ، ومن ختَلِ

•جنرال وشاعر
لقد أخذ المنفى قسطه من الجواهري لاسيما بسبب تعكّر العلاقة مع "الزعيم" عبد الكريم قاسم حيث بدأت رحلته الشهيرة التي امتدت الى سبع عجاف على حد تعبيره.
من أكثر القضايا إثارة، هي علاقة شاعر بجنرال قائد ثورة أو انقلاب. فقد تعرّف الجواهري على عبد الكريم قاسم في لندن، وقد رافقه إلى طبيب الأسنان، لمعالجة أسنانه، عندما كان هو في دورة عسكرية، حيث التقاه في السفارة العراقية آنذاك، ومرت الأيام وسمع بنبأ "الثورة" وإذا به يفاجأ بصورة رجل كان قد نسي ملامحه، فإذا به "الزعيم" الذي أطلق عليه "الأوحد" فيما بعد، وركبه الغرور حتى التعسف.
يقول الجواهري في حواراته مع الكاتب : يمكن أن تتعجب إذا قلت لك أن "الزعيم" كان كثير التهيب في علاقته مع الأدباء وكان أول بيت زاره في العراق، بعد الثورة، هو بيتي، وقد تكررت الزيارات.
وعندما بدأت الأمور تسوء وبدأ الزعيم يركب رأسه وينفرد بكل شيء، كتب الجواهري مقالة في الصحيفة التي كان يصدرها "الرأي العام" بعنوان: ماذا يجري في الميمونة؟ والميمونة قرية في جنوب العراق تعرضت لهجوم بوليسي، انتهكت فيه الأعراض، وصادف أن قابل الجواهري الزعيم عبد الكريم قاسم في وزارة الدفاع، باسم الهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء، وكان يحضر معه السيد الحبوبي، والدكتور صالح خالص، والفنان يوسف العاني، والدكتور المخزومي والدكتور علي جواد الطاهر، وإذا بالزعيم يخاطب الجواهري ".. أستاذ الجواهري: ماذا يجري في الميمونة؟.." ويقول الجواهري  كنت أخشى مثل هذه المواجهة، لأنني كنت أتحاشاها، ولم أحدد المعركة بعد. فأجبت بأدب وقلت له "سيدي الزعيم أنا لا أستطيع أن أدافع عن نفسي كثيراً في هذا الموضوع". أسألك فقط سؤالاً واحداً، هنّ بناتك وأظنهن جئن إليك وعرضن ما تعرّضن له.. "بمعنى أنه لم يكتب ذلك عبثاً، وقد أحرج "الزعيم" فهو لا يستطيع أن يقول له نعم ولا يرغب أن يقول لا. ثم أخذ يتهرب من المواجهة.
أما الغلطة الكبرى التي ارتكبها الجواهري كما يقول: هي إنه خاطب الزعيم: "أثورة وبشرطة نوري السعيد؟" فخرج الزعيم عن حلمه لأول مرة، وبدون تفكير منه رد قائلاً: أنت من بقايا نوري السعيد! كان يفترض بالجواهري أن يقول له، أنا فلان، أول من كنت تحاول مصاحبته في لندن، وأول من زرته في البيت، وحينها يكون الزعيم خاسراً والجواهري هو الغالب في هذه المعركة، لكنه كما يقول لم يقل له ذلك، بل قال له هل تأذن لي بالخروج يا سيادة الزعيم؟ وأردف بالقول بما نصَّه: "أتحداك وأمام الجالسين.. أتحداك وأشرت له بإصبعي.. نعم أتحداك مرة أخرى.." وأعتقد أنني أرفقتها بيا سيادة الزعيم عبد الكريم، إن كان لديك الوثائق؟!
   ولعل هذه الحادثة، كانت هي السبب في مغادرة الجواهري العراق.. إلى المنفى وكما يقول الجواهري: ربَّ ضارة نافعة، مثلما يقولون. رحم الله عبد الكريم قاسم، فلو لم تكن له معنا هذه القصة، فقد كنا قبعنا في العراق، والله العالم ما كان سيحدث لنا في السنوات السوداء. لكنه اضطرنا إلى "التشرد" عن الوطن في خريف 1961، وربما للتشرد الموعود وهي حسنة وربما كفّّارة عن كل ما فعله معنا، قبل التشرد أنا وزوجتي "أم نجاح" وبنتينا خيال وظلال، وكنت بحكم علاقاتي مع اتحادات الأدباء، ونقابات الصحفيين في الدول الاشتراكية، فقد أمّنت مقاعد دراسة لأبنائي في صوفيا وموسكو وباكو وبراغ، جزاهم الله ألف خير، وكهذا كان مصير فرات وفلاح ونجاح وكفاح. رحم الله عبد الكريم قاسم، حين رمانا خلف الحدود وكأننا "بُردٌ إلى الأمصار عجلى تُرزم".
إذا كان قاسم زعيم السلطة السياسية والعسكرية، فالجواهري زعيم السلطة الثقافية والأدبية في العراق، فهو رئيس اتحاد الأدباء ورئيساً لنقابة الصحفيين وشاعر العرب الأكبر كما يكنّى! ولكن كيف لشاعر مثل الجواهري أن يرمى  خلف الحدود؟ وقد سألته ماذا كان هناك؟ زمهرير الغربة أم فردوس الحرية؟ وأجاب الجواهري مع حسرة وألم: الإثنان معاً.. وباللهجة العراقية أردف (أي والله) أي بلى والله : كان هناك الفردوس المفقود والموعود معاً. كانت براغ الذهبية مدينة الأبراج والجمال. صحيح أننا دفعنا أثماناً باهظة من كراماتنا المهانة، ومن شماتة الشامتين، وتشفّي المتشفين، ولكننا مع جفاف الغربة، كسبنا حريتنا وحلاوة الحياة!




•معشوقات الجواهري

وفي براغ كتب قطعة شعرية أسماها زوربا، وهي مستوحاة من رواية "زوربا". كان ذلك عام 1969، ومما قاله:
وارتمت من شفق دامٍ
على الأرض جِراحٌ..
وجراحْ
وتهاوت فوقه..
من مِزَقِ الغيم..
صبيّاتٌ ملاحْ
كان الجواهري يطمح الى ما تحت السطح، وهو الأعمق والأغزر والأبهى.. يبحث النشوة الروحية التي يريدها من المرأة، ويفتش عن حالة الحب الحقيقي الذي لم يتذوقه الاّ وهو شيخ يدلف نحو الخمسين مع أنيتا، وكانت حالة الحب المفقود تسكن الروح والعقل، وتفتقد الجسد الذي يعطي ملمحاً آخر للنشوة والسعادة والحب، وإذا كان زوربا يحب الحياة، ويريد الاستمتاع بكل دقيقة فيها. فالجواهري يريد أن يتنفس بملء رئتيّه كل لحظة وليس كل دقيقة. يريدها لحظة جنونية بكل محتوياتها، والمرأة عنده صورة الفرح الذي يتذهب مثل وهج الشمس. كان هكذا يحلم وقد أعطته براغ الكثير وهو القائل فيها:
أطلتِ الشوطَ من عُمُري
ولا بُلغتُ بالشرِّ
أطالَ الله من عُمرك
ولا بالسوء من خبرك

أما قصة نساء الجواهري ومعشوقاته.. أنيتا الباريسية وبارينا البوهيمية وماروشكا التشيكية؟! فهذا شأن له علاقة بتفكير الجواهري.
كانت أنيتا من بنات السين من باريس لها عينان زرقاوان، كزرقة السماء أو البحر، في وجهها شحوب خفيف، وعندما كانت تحتسي كأس الكونياك، كانت خدودها تتورد كما يقول الجواهري، ثم يضيف: استهوتني وأنا جالس في مقهى، فأخبرني أحد الطلاب العرب، بأنها كانت تتابعني، وأنها سمعت عني الكثير، وهي معجبة، وكانت نظرتي تنم عن ارتياح لا يخفيه شيء، لقد أبدت رغبة في التعرف بي، وصاحبتها مدة من الزمن، وكانت هي سبباً في محاولة تعلّمي الفرنسية، وكان ذلك مدخلاً لما سيأتي. وصل حبي معها إلى الجنون، وكانت هذه المرأة غريبة الأطوار وتحمل المتناقضات.. لكنها لا  تماثلني في المتناقضات، بل في الاختلاف والتكامل، الذي يصل حد الشذوذ والغرابة.
كانت امرأة كورسيكية (من مقاطعة بين إيطاليا وفرنسا) فيها بعض العادات القديمة، كانت صادقة، وكعادة الأوروبيين في ذلك الزمان، تحاول الإيحاء، فإذا لم تستطع تلبية الموعد أو الطلب، تقول "ربما" وعليك أن تفهم، أنها لا ترغب في الكذب. كنا نتفاهم ببعض الكلمات الفرنسية، إضافة إلى الانكليزية، التي كان إلمامها بها مثل إلمامي وهو ما ساعدنا على الانطلاق، ومحاولة إفهام كل طرف للطرف الآخر، واستمرت العلاقة ثم انقطعت وتواصلت، ورغم أنني كنت من جانبي مستمراً في حبي، إلاّ أنها بدأت تخفت تدريجياً، وعندها عرفت أن النسخة الأصلية ضاعت وبمعنى عليك البحث عن بدل ضائع!
أنيتا تلك خلّدها الجواهري بخمسة قصائد في مقدمتها ملحمة أنيتا.
إني وجدت "انيتَ" لاحَ يهزُني
ألقُ "الجبين" أكاد أمسحُ سطحَه!
طيفٌ لوجهكِ رائعُ القسمات
بفمي، وأنشِقُ عطرَه بشذاتي

   إلى أن يقول:
حسبي وحسبك شقوةٌ!وعبادةٌ!
      أن ليس تَفرغُ منك كأسُ حياتي

وبالمناسبة، فقد نشر شاعرنا الجواهري هذه القصيدة التي كتبت في أواخر عام 1948 وأوائل عام 1949 بالمقدمة التالية "كان حباً عارماً لا يريد ـ ولا يقدر لو أراد ـ أن يقف عند حد، وكان كأنه يتفجر عن "ينبوع" خفي ثجّاج.. وكان سر الخفاء في هذا الينبوع.. رغبات! وآلام! ومطامح!.. ظلت طوال ثلاثين عاماً، هي عصارة العمر الزاحف! يسحق بعضها بعضاً! حتى لو وجد هذا الينبوع المختنق منفذاً بديلاً عنه لما اختلف الأمر بكثير. لقد كان هذا الحب من "الفورة" و"السورة" لدرجة أن صاحبه كان لا يرى في ملامح المرأة التي أحب، إلا ما يراه العازف المتجرد في أنغام قيثارته من أنها طريق للتعبير وشعار للانطلاق.. على هذا الضوء تلتقط الصورة الصادقة لقصيدة .. "أنيتا".
   ثم أتبع هذه الملحمة بقصيدة أخرى بعنوان شهرزاد وهو مرقص باريسي مستوحى من الخيال الشرقي وحكايات "ألف ليلة وليلة". ويقول فيها بخصوص أنيتا:
إن وجه الدجى "أنيتا" تجلـى    عن صباح من مُقلتيــك أطــلا
   أما المقطوعة الثالثة من قصيدة انيتا "ذكريات" فقد نظمت بعد فترة القطيعة، ويقول فيها:
لا تمرّي "أنيتُ" طيفاً ببالي
      ما لِطيفٍ يسمُّ لحمي ومالي؟

   وكانت المقطوعة الرابعة بعنوان "فراق". وحملت المقطوعة الخامسة اسم "وداع" وقد كتبتها في باريس في 13 شباط (فبراير) 1949:
"أنيتُ" نزلنا بوادي السباعْ
يُعيَّرُ فيه الجبانُ الشُّجاع
بوادٍ يُذيبُ حديدَ الصِّراع
"أنيتُ" لقد حان يومُ الوداع

وقد سألت الجواهري: أبا فرات، ومن كان بدرجة حب "أنيتا".. هل كانت بارينا أم ماريا "ماروشكا" اسم الدلع والتحبب؟. وبعد أن اعتدل الجواهري في جلسته وبنشوة استذكر تلك الأيام الحلوة على حد تعبيره فقال:
   كانت بارينا.. تحلّق في عالم خاص، ساحر ومثير، عشقتها فترة تقارب الثلاث سنوات، كانت "بنتاً عجيبة مثل أسطورة. وجه مضيء وجسد أفعواني رغم الأحزان".. أقرب إلى الخيال.. تجعلك تصدّق ما تقرأه في الأساطير. كان إحساسي نحوها، أنني أمام شيء مختلف من النساء، تعارفنا في براغ، وهي بوهيمية، وأقرب إلى الحياة البوهيمية (التي تقول إن غرفة كان يتقاسمها عدة أشخاص يعيشون فيها، يأكلون ويجوعون ويحبون بطريقتهم الخاصة).
   والدة بارينا، كانت يابانية وجدّتها على ما أعتقد إنكليزية، من أصل ياباني، ولم أكن أعرف أي شيء عن والدها.. لم تحدثني عنه، ومن خلال الأحاديث المتأخرة، عرفت أنه قضى نحبه، إما منتحراً أو مقتولاً، بظروف غامضة، وصادف أن تعرّفت عليه قبل يومين من انتحاره أو موته.
ويتابع الجواهري بتأمل القول: عند موته، ذهبت لتقديم العزاء إلى بارينا، واكتشفت أن الشقة ممتلئة بالتحف الصينية والساعات الذهبية، وقلت مع نفسي، كيف احتفظ الرجل بما لديه مع علمي بأنه مات معوزاً! وفهمت من بارينا أنه لم يمس هذه الأشياء لأنها من أم بارينا، حفاظاً على ذكراها، لكن بارينا بددت ذلك بسرعة على حياتها البوهيمية، وعلى أصحابها، دون ندم أو أي أسف.
   شعرت فيما بعد أن بارينا، تبددت، طارت، تلاشت.. لا أدري إلى أين؟
وهل عوّضت ماريا "ماروشكا" مكان بارينا؟ يقول الجواهري : كان في "ماريا" شيئاً كهربائياً اجتذبتني نحوها، من أول نظرة، كما يقولون. كنا "أسرى" الحب. جاءت مع صاحبتها، التي ربطتني بها علاقة حب عابرة، وفجأة بعد أن دخلت إلى الشقة، أخذتها بالأحضان، حتى ان المسكينة، التي جاءت لتعرّفها بي، وكانت قد تأخرت لدفع أجرة التاكسي، فوجئت بحالة الانسجام التي بيننا. حيث رأت ماروشكا وكأنها حمامة تعود إلى عشها، ويزقزق معها، ذلك الطائر الشريد، الذي ظل يغني حتى عادت معشوقته!
•وسألته وماذا فعلت الأولى؟
اكتفت بنظرة حزن وربما سقطت دمعة هادئة، لكنها حارّة، على خدها، لا أدري الآن، كيف أُخذت، رغم أن علاقتي مع صديقة ماروشكا كانت بسيطة.. لكنها أصيبت بالدهشة، حين رأت هذا الغرام والانسجام، صحيح أنها لم تكن مثالية، لكنها أُخذت على حين غرّة، كما يقال.
   عندما تعرفت على ماروشكا، لم تكن تتصور هي ومن معها، أنني اكتشفت الآن النموذج، "الموديل"، الذي كنت أبحث عنه لسنوات طويلة. كانت تتصور نزوة شاعر، أو هكذا تصور البعض. ماروشكا إنسان مختلف، فهي لا تشبه بارينا وليست مثل أنيتا، هي ببساطة امرأة طبيعية، غير متكلفة، حلوة المعشر، وديعة ودافئة، فيها الكثير من مزاج الشباب وحماسته وعنفوانه ومرحه، ومع ذلك لم تكن صريحة دائماً، كانت مراوغة، إنها عالم مختلف، تضحك حين تراوغ وتندم، ثم تمطرك بحب لا مثيل له وتعود وتكرر المراوغة.
وقد كانت قصيدة لمّي لهاتيك لمّا، لفترة ماروشكا، وهي توحي بالفترة الذهبية من حب الشاعر، فقد نظمها في براغ، عام 1972، ونشرت في عام 1973:
لمي لهاتيك لمّا
لمّاً على جمرتين
يا حلوة المشربين
من صنعِ كذبٍ ومَيْن ِ
وقرّبي الشَّفتين
بالموت ملمومتين
من أين كان.. وأين
سَمُّوهما زهرتين

   ولعل هذه القصائد تذكّر، بقصائد "جربيني" و"النزغة" عندما كان ما يزال الجواهري في البلاط الملكي، خصوصاً وأنها شكلت عاصفة من الانتقادات والإحراجات للجواهري لدى الملك فيصل الأول، وكانت بحق، جرأة لا مثيل لها وعنصر تحدٍّ لا نظير له؟
   وقبل قصيدة "جربيني" كانت قصيدة "الرجعيون" التي كتبها بعد معارضة بعض " علماء الدين" لفتح مدرسة للبنات في النجف، بدعاوى "دينية"، وقد نشرت القصيدة في صحيفة "العراق" 26 آب (أغسطس) 1929، والتي يقول في مطلعها:
ستبقى طويلاً هذه الأزماتُ
إذا لم ينلها مصلحون بواسلٌ
إذا لم تقصّرْ عمرَها الصدماتُ
جريئون فيما يدَّعون كفاةُ

   وقد أحدثت تلك القصيدة ضجة كبرى، واستدعاه الملك فيصل الأول، الذي سبب له إحراجاً كبيراً. حيث كان بعض رجال الدين مقرّبين من الملك فيصل الأول،  وكان الجواهري عنده من الموظفين المقربين أيضاً، وقد شعر الجواهري بالغضب الشديد لمنع تأسيس مدرسة للبنات في النجف، فسرعان ما تفجّر فوجد نفسه في صميم المواجهة مع القوى الرجعية والفعاليات التقليدية، حيث نظم القصيدة في ليلة واحدة وقد نشرتها صحيفة العراق، باسمه الصريح، بينما نشرت "جربيني" باسم مستعار، ولكنه لا يختلف بشيء عن اسمه الصريح، لأن بغداد ومثقفيها صاحوا "هذا الجواهري"، وحتى الملك فيصل الأول، عارف باسمه المستعار.
وقد كان الجواهري يومها يستخدم اسم "ابن سهل الأندلسي" أو " طرفة بن العبد"، أما البقية فكانت باسمه الصريح وربما كان ذلك لسوء الحظ أو لحسن الظن، خصوصاً وانه من العوائل الدينية الأولى في العراق، ومن يصل إلى درجة الإفتاء والاجتهاد، فعليه أن يدرس كتاب "جواهر الكلام" حيث كان الشاعر ينتمي الى كتاب لجده الأقدم محمد حسن الجواهري .
   ومن المفارقات أن صاحب جريدة العراق، كان صديقه رزوق غنام، وهو من محبي نوري السعيد والمقربين إليه، لكنه كان جريئاً ونظيفاً، وتعرّض إلى المضايقة بسبب نشر قصائد الجواهري، لقد اشتعل الشعر في رأسي كما يقول الجواهري، ولم أبالِ بأنني كنت في البلاط. قال لي الملك فيصل الأول بعد أن دخلت عليه كَرُّب (باللهجة الحجازية) أي اقترب: ابني محمد، فقلت له أنا فاهم منذ أن طلبتني. قال: ما هذا؟ قلت والله سيدي هذا الذي حصل. قال الملك، لا تنس ابني محمد (الجواهري) أنني مسؤول، فهل تعلم أنني تلقيت برقيات من النجف تقول لي، كيف يحصل ذلك، وهو عندك (أي الجواهري). هل تعلم أن ذلك غير محتمل، قلت له نعم. وأدركت وعبَّرت عن ذلك بالحرف الواحد، سيدي اسمح لي ألاّ أثقل عليك بعد الآن. فزّ الملك وقال ماذا تقصد؟ قلت له: أن لا أسيء إليك بعد هذا. فقال لي: ارجع مكانك.
   لكن الجواهري عاد ونشر بعدها قصيدة جربيني.كيف لنا أن نستعيد تلك الصور وتلك الأزمان بعد كل الذي رأيناه فهل يأنس الإنسان بعد هذه العقود الثقيلة من السنين، وقبل قصيدة جربيني كانت "النزغة" أو ليلة من ليالي الشباب، التي نشرت في صحيفة العراق، هي الأخرى في 18 تشرين الأول (اكتوبر) 1929. وكانت ثورة على التقاليد، حيث قال فيها:
كم نفوس شريفة حسّاسه
وطباع رقيقة قابلتهنَّ
سحقوهنَّ عن طريق الخساسه
الليالي بغلظةٍ وشراسه

إلى أن يصل إلى ما يلي:
قال لي صاحبي الظريف وفي
أين غادرتَ "عِمّةً" واحتفاظاً
الكفِّ ارتعاش وفي اللسان انحباسه
قلتُ: إني طرحتُها في الكُناسه

   وبعد أيام نشر الجواهري قصيدة جربيني في صحيفة العراق 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1929، وكانت خروجاً على كل ما هو مألوف:
جربيني من قبلِ أن تزدريني
ويقيناَ ستندمين على أنك
وإذا ما ذممتني فاهجريني
من قبلُ كنتِ لم تعرفيني

   ثم يقول:
أنا ضدُّ الجمهور في العيش
كل ما في الحياة من مُتعِ العيش
التقاليدُ والمداجاة في الناس
والتفكير طرَّاً، وضدُّهُ في الدين
ومن لذةٍ بها يزدهيني
عدوٌ لكل حُر فطين

   ويواصل القول:
"إلطميني" إذا مَجُنتُ فعمداً
وإذا ما يدي استطالتْ فمن شَعركِ
ما أشدَّ احتياجة الشاعر الحسّاس
أتحرّى المجونَ كي تلطميني
لطفاً بخصلةٍ قيديني
يوماً لساعةٍ من جنون

   ولم تكن الثورة ضد قصيدة "عريانة" التي نظمها عام 1932، أقل من الثورة ضد جربيني. لكن الفرق، هو أنه كان قد غادر البلاط في الثانية بعد أن كان في القصيدة الأولى ما يزال فيه.

   يقول في عريانة:
أنتِ تدرين أنني ذو لَبانَة
وقوافي مثل حُسنك لما
وإذا الحبُّ ثارَ فيَّ فلا تمـ
الهوى يستثير فيّ المَجانة
تتعرَّين حرةً عُريانة
ـنعُ أيَّ احتشامة ثورانهْ

   إلى أن يقول:
والثديين كل رمانة فر
عارياً ظهرك الرشيق تحب الـ
عاءَ تهزأ بأختها الرُمانة
ـعين منه اتساقه واتزانهْ

*الجواهري والسياسة
كان الجواهري كان شديد الالتصاق بالسياسة وربما كان الكثيرون  يعتبرونه سياسياً " مسؤولاً" ، وأحياناً يحاكمونه على هذا الاساس، لا على إبداعه وعبقريته الشعرية، كما ان الكثيرين لا يأخذون بنظر الاعتبار الظروف والتوازنات السياسية، ويسقطون تقييماتهم على الماضي بعين الحاضر دون حساب للسياق التاريخي، لكن الكثير من آراء الجواهري ببساطة متناهية كانت عميقة وصائبة ومستشرفة المستقبل، ولكنه في الوقت نفسه مثل جميع المعنيين بالشأن العام، لم تكن كل تقديراته صحيحة أو متكاملة وهو مثل كل المبدعين، البشر، معر

1244
هل جاء دور أوكرانيا بعد جورجيا؟
عبدالحسين شعبان
2008-10-07
هل ثمة مواجهة روسية جديدة بعد الساحة الجورجية؟ وكيف ستكون هذه المواجهة، عسكرية أم مناورات تلوّح فيها موسكو بنفاد صبرها أم ضغوط سياسية واقتصادية؟ ولكن أين ستكون هذه المواجهة الجديدة؟
لعل الاحتمال الأغلب أن المواجهة ستكون في أوكرانيا هذه المرة، والتي تشكل تهديداً لروسياً لاسيما لمصير أسطول البحر الأسود، وكذلك لنفوذ روسيا في أوروبا الشرقية. فقد ظلت موسكو تتضايق إلى حدود كبيرة من مسعى بعض الدول التي تشكلت حديثاً وكانت تدور في فلكها، من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، فبعد أن كانت حدائق خلفية لها، وإذا بها تصبح بين ليلة وضحاها، مصدر قلق لها بتعاظم النفوذ الأميركي فيها!
ولكن هل ستكون هذه الجولة بإراقة الدماء أيضاً بعد حرب الأيام الخمسة في جورجيا؟ وهو الأمر الذي قد يكون محتملاً لو لجأت أوكرانيا إلى طرد القوة العسكرية والأسطول الروسي من البحر الأسود في شبه جزيرة القرم.
ولكن أياً كانت المواجهة، إلاّ أن ما سيصاحبها سيطرح أسئلة سياسية وإعلامية كبرى حول علاقة روسيا بالناتو، وهل أصبحت العودة إلى الحرب الباردة أمراً واقعاً، أم ثمة حدود لهذه المسألة؟ وإذا كانت عودة القديم إلى قدمه مسألة لا تبدو ممكنة، وإنْ استبشر بها البعض لأغراض مختلفة، ولأسباب قد تتعلق بالنظام الدولي الجديد الذي جاء في أعقاب انتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وانحلال المنظومة الاشتراكية وتفككها فيما بعد، فإن بقاء الوضع على ما هو عليه أمرٌ هو الآخر غير ممكن، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية عام 2001 وتورط الولايات المتحدة باحتلال العراق عام 2003 ووصولها إلى مأزق حقيقي، وسعي روسيا التي فقدت مواقعها السياسية والاستراتيجية إلى فتح ثغرات سواء في علاقتها مع البلدان التي كانت تدور في فلكها وأصبحت من حصة الإدارة الأميركية، كما حصل مع جورجيا، أو في اندماجها بالاقتصاد العالمي وبالتالي تأثيرها وتأثرها فيه، الأمر الذي شكل نقاط ضعفها وقوتها في آن.
كل ذلك جعل هيمنة الولايات المتحدة التي تكرست خلال سنوات التسعينيات من القرن الماضي وبدت وكأنها مطلقة تتبدد تدريجياً، وهو الأمر الذي استغلته روسيا في لحظتها الجورجية. وقد اضطرت واشنطن لأول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق إلى المساومة من أجل ضمان ولاء حلفائها، خصوصاً بالتوجهات الجديدة لروسيا التي تعزز نظامها سياسياً واقتصادياً.
ورغم الثورات الملونة في أطراف الإمبراطورية الروسية، إلاّ أنها لم تتخل عن محاولاتها الرامية إلى التوصل إلى تفاهم مع الحكومات الموالية لواشنطن، إلى أن جاءت مسألة سعي واشنطن إلى نصب الدرع الصاروخية في جمهوريتي بولونيا والتشيك، ومن ثم قضية كوسوفو، إذ بدأت استعدادات روسيا لمواقف أكثر تشدداً في ظل رئاسة بوتن يقابله وصول ميخائيل ساكاشفيلي إلى السلطة في جورجيا، حتى بدت لحظة الانفجار أكثر احتمالاً وهو ما حصل في أغسطس الماضي، إذ تحوّلت جورجيا إلى ساحة صدام مع روسيا.
وهكذا بدت رغبة تبليسي في إخضاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية (المتمردتان) عنصر تفجير للصراع الخفي بين روسيا وجورجيا، وما يهمنا هنا هو هل ستعود المواجهة في حرب باردة جديدة بين موسكو وواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، تلك التي دفع العالم أجمع ثمنها باهظاً خلال أكثر من أربعة عقود من الزمان؟
لقد كانت نتائج حرب الأيام الخمسة هي إعلان استقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، لكنها في الوقت نفسه فتحت صفحة جديدة من علاقة روسيا بالناتو الذي سيحسب لها أكثر من حساب. والسؤال الآن: إلى أين ستتجه هذه العلاقة بعد أحداث جورجيا واحتمال المواجهة في أوكرانيا؟ وهل سيكون التوتر الدولي والإقليمي بين روسيا والغرب عاملاً في زيادة حدته وتصعيده وصولاً إلى الحرب الباردة أو شكل جديد منها رغم تكلفتها الباهظة ونتائجها الكارثية؟
إن اندماج روسيا في الاقتصاد العالمي خلال ما يقارب العقدين لا يعطي للغرب مجالا في إلحاق ضرر جسيم بها، لأن مثل هذا الضرر سيلحق بالغرب أيضاً بالقدر نفسه الذي سيلحق بروسيا، وروسيا اليوم هي غير الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان له مشروع سياسي وأيديولوجي على النطاق العالمي، يستطيع بموجبه استقطاب حركات وتيارات ودول، في حين أن روسيا اليوم بلا مشروع، ناهيكم عن تفكك تعرضت له منظومتها وكيانها. كما أنها لا تعيش في عزلة وداخل ستار حديدي، بل هي اليوم جزء من النظام الاقتصادي العالمي، ولذلك اشتغلت مجموعات الضغط السياسية والاقتصادية والشركات الكبرى للحد من انفلات الصراع، وسعت إلى تطويقه كي لا يتوسع، لأنها تنظر بواقعية إلى أن أي نزاع مع روسيا، لاسيما إذا كان عسكرياً، سيكون مدمراً لها من الناحية المالية.
وهذا الأمر لا ينطبق على النفط والغاز فحسب، بل يمكن الإشارة إلى توريدات قطع غيار التيتانيوم لأكبر منتجي الطائرات في العالم، والسوق الروسية للسيارات والأجهزة والمعدات المختلفة، والتي يمكن أن يتسبب وقف التعاون فيها أضراراً هائلة للدول الغربية. ويمكن اعتبار التعاون الفضائي، لاسيما بين روسيا والولايات المتحدة، إضافة إلى الممر الجوي الذي منحته روسيا للناتو في رحلاته الجوية إلى أفغانستان وبعض البرامج الأخرى، مهم جداً، ولا يمكن لأي مغامرة أن تكون مقبولة عند تعريض هذه المصالح للخطر.
لعل الأمر الذي ينبغي على الغرب أن يدركه هو أن روسيا في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة هي غيرها في بداية العقد الأخير من القرن العشرين، فهي غير مستعدة للتخلي عن مواقعها ومواقفها كما فعلت في التسعينيات، وتلك حقيقة لا بدّ للغرب أن يفهمها ويتعامل معها كمعطى جديد في العلاقات الدولية، لاسيما الروسية-الأميركية، لأن أي مخاطرة ستكون باهظة الكلفة. كما أن على روسيا أن تدرك أنها غير الاتحاد السوفيتي، وإذا كان هذا الأخير لم يستطع الصمود أمام تحديات الحرب الباردة، بما فيها سباق التسلح، بكل جبروته وطاقاته، فكيف يمكنها بإمكانات أقل وبدون مشروع سياسي أو أيديولوجي جاذب، الصمود في حرب باردة جديدة؟!
ولكن من جهة أخرى، فإن اختيار روسيا للحظة الجورجية هو رسالة ذكية إلى مواقع كثيرة. فهي رسالة فصيحة إلى الغرب، وهي تلويح لدول أوروبا الشرقية، وهي ضغط مباشر على الدول التي كانت منضوية تحت اسم الاتحاد السوفيتي السابق، وهذه الرسالة المتعددة الأغراض والجهات، تشير إلى أن مواقف بعض اللاعبين في الساحة الدولية ينبغي أن تتغيّر أو يعاد النظر فيها وبدورها، وهو الأمر الذي تريد روسيا أن يكون لها فيه قدر معلوم من الترتيبات الإقليمية التي على حدودها لاسيما لضمان مصالحها الحيوية، وأوكرانيا ستكون هي أول اختبار جديد إذا ما سلكت الطريق الجورجية!


صحيفة العرب القطرية العدد 7423 الأربعاء 8 أكتوبر 2008 م ـ الموافق 9 شوال 1429 هـ

1245
انها الرأسمالية.. يا صديقي


 

 

عبدالحسين شعبان
 

كان لتعبير الرئيس السابق للولايات المتحدة بيل كلينتون “إنه الاقتصاد يا غبي” وقع قوي ومؤثر في حملته الانتخابية التي انتصر فيها على الرئيس جورج بوش (الأب) “المنتصر” في حرب قوات التحالف على العراق عام 1991 وتحرير الكويت، فقد أدرك أن رؤية ما بعد الحرب الباردة لا بدّ أن تقوم على الاقتصاد، وساهمت توجهات كلينتون في تخفيض ملموس للنفقات العسكرية وتقليص عدد القوات العسكرية في الخارج، وحصول فوائض في الميزانية وانخفاض نسبي في مستوى البطالة، لكن اتجاه الرئيس بوش (الابن) قاد الى تفضيل استخدام القوة باستغلال التفوق العسكري واحتلال أفغانستان 2002 والعراق ،2003 بحجة مكافحة الإرهاب الدولي بشن “حرب استباقية ووقائية” ضده، وضاعف من حجم مشكلات الولايات المتحدة الاقتصادية والمالية وهو ما انعكس مؤخراً على أزمتها المستفحلة.

رحم الله من قال: “لو وضعت المال في جرّة لحرّكت أذنيها”، وكان ماركس يستشهد باستمرار بمقطع من شكسبير يقول فيه “أيها الذهب! أيها الذهب الثمين، البرّاق، إنك تصيّر الأبيض أسود، والقبيح جميلاً، والشرّ خيراً، والعجوز فتياً، والجبان باسلاً..” فالمال يضع مستلزمات العبودية، التي تبارك الملعون وتشرّف السارق، وتضمن له الجاه والإجلال والنفوذ.

استعدت ذلك وأنا أقرأ بعض المعلومات والمعطيات عن الأزمة المالية الطاحنة التي تجتاح الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي بشكل عام، ومعها تعليق والدة ماركس الذي عرف بدراسته ونقده للاقتصاد السياسي وعمله العبقري “رأس المال”، بالقول، كان الأجدر به ألاّ يكتب كتاباً عن رأس المال، بل يعرف كيف يجمعه.

جدير بالذكر أن حديث الرأسمالية ذو شجون، فقد كانت بعض القوى اليسارية تزاود وترفع أكثر الشعارات رنيناً وراديكالية ضد الرأسمالية العالمية وحروبها وجشعها ومحاولاتها إخضاع العالم، لكنها منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي، صار الكثيرون يترددون، بل يتلكأون أو يتلعثمون حين يجري الحديث عن الرأسمالية أو يرد ذكرها، ويحاولون تجميل مساوئها وشرورها، بل أصبحت بنظر البعض، النموذج “المثالي” الذي يحترم إنسانية الإنسان ويوفر فرصاً مناسبة له ونموذجاً للتنمية، قيس عليه أو نحاول مقاربته ومقارنته بتجارب أخرى.

وإذا كان صحيحاً أن الاشتراكية “المطبقة” في ما سمي ببلدان المنظومة الاشتراكية فشلت وأخفقت وانهارت، عبر حرب باردة طويلة وقاسية وسباق تسلح مدّمر، وعبر أخطاء وخطايا عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية، نظرية وعملية، لكن الصحيح أيضاً أن الرأسمالية ليست هي النموذج الموعود لخلاص الإنسانية، التي تبقى توّاقة لنظام أكثر عدالة وأقل قسوة وأكثر رحمة وأوفر إنسانية، حيث يتطلع الإنسان الى إلغاء الاستغلال بكل أشكاله.

ولعل موضوع الحديث يتعلق بالأزمة التي عصفت بالنظام الرأسمالي العالمي، بقيادة الولايات المتحدة، التي تراكمت عبر أزمة الرهن العقاري ومن ثم انخفاض سعر الدولار وزيادة أسعار النفط، وأخيراً انهيار بنوك عملاقة وشركات تأمين جبارة، وهذه تهدد باختلالات كبيرة على الصعيد العالمي، ولعلها ليست حالة طارئة أو مؤقتة ولكنها تحفر في الأساس، ليس على صعيد الواقع فحسب، بل على صعيد المستقبل أيضاً!

إن هذا الفريق أصيب بالحيرة لأنه لا يريد التصديق بأن “الرأسمالية” العملاقة التي اعتبرها جبروتاً لا يمكنه التصدع، وإذا بها تصاب بالوهن والضعف جرّاء أزمة عاصفة لاسيما وقد انتصرت في المعركة الكبرى ضد الاشتراكية.

من جهة أخرى، فإن نقيض هذا الفريق، يذهب فيه الوهم مثلما هو وهم الفريق الأول، ولكن بالمقلوب، الى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستسقط أو ستنهار جرّاء الأزمة المالية، وأن الرأسمالية ستتفكك وتنتهي، ليقوم على أعقابها نظام أكثر عدلاً من دون أن يعي أن الرأسمالية حسب منهج ماركس الجدلي، لديها القدرة على تجديد نفسها واستيعاب أزماتها وتطوير أدائها، لأنها تملك أيضاً مقومات ذلك، لكن هذه الأزمة ستكون مؤثرة وستترك بصماتها على الحراك السياسي والاجتماعي في الغرب الرأسمالي، لاسيما بعد “الحرب على الإرهاب”، وهي حرب مكلفة بكل المعايير مادياً ومعنوياً. ولعله سيتوقف عليها المشروع الإمبراطوري الأمريكي بالكامل.

إن الاقتصاد الامريكي الذي يقوم على المضاربة بالأسهم والبورصة ومضاعفة أسعار العقارات من دون وجود زبائن حقيقيين يستطيعون امتلاكها، أدى الى إفقار شديد للموارد العالمية، انعكس ذلك على السلع الغذائية والمعادن واستهلاك الطاقة وتدمير البيئة، في الأرض والبحر والفضاء.

وبهذا المعنى فإن ما تتعرض له شعوب البلدان النامية (المستضعفة) يصطدم مباشرة بالهيمنة الرأسمالية- الكولونيالية الجديدة، ليس نظرياً فحسب، بل هو واقع عملي شديد الوطأة، خصوصاً وأن سلوكها اللاإنساني يتضح في ظل البيئة الدولية المهيمنة، وذلك دون استحضارات أيديولوجية أو إسقاطات نظرية، فالنظام الرأسمالي وطبعته الإمبريالية لم يعد يسهم في تمدين الشعوب ورفع درجة انسانيتها حسب المسوّغات العقائدية التي حاول ترويجها في السابق، مع أن هناك من يقول بذلك، رغم تجربة العراق المريرة حالياً.

إن الهزة الزلزالية التي تعرض لها مصرف ليمان أخوان (ليمان براذرز) الذي مضى على تأسيسه أكثر من 150 عاماً قد أصابت النظام المصرفي والمالي والاقتصادي في الولايات المتحدة بالصميم، وقد عصفت هذه الهزة بميرل لانش كبرى المؤسسات المالية والمصرفية، الأمر الذي سارع فيه الرئيس بوش الى تقديم خطة الى الكونجرس واضطر الى تعديلها لاحقاً وحصل على موافقة مجلس الشيوخ، على أمل في إقرارها إنقاذ الوضع المتردي والمنهار، وقد سارعت العديد من البنوك الدولية الى التشارك لرفد تدابير واشنطن لاسيما في اليابان وكندا إضافة الى أوروبا. وتقضي الخطة بتقديم مبلغ 700 مليار دولار لدعم واحتواء الأزمة، التي قال عنها الرئيس بوش نفسه، إنها تحتاج الى وقت لتؤدي مفعولها.

لقد ساد شيء من التفاؤل الساذج بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة الاشتراكية وأهملت وسائل الرقابة والحد من نزعة المغامرة، لاسيما على القطاع المالي والمصرفي، وهو ما ظهرت نتائجه الآن، خصوصاً أن الحلول المطروحة حالياً لا تستطيع تأمين المستلزمات الكافية لإعادة الصحة والعافية فضلاً عن الثقة الى القطاع المالي والمصرفي الأمريكي خصوصاً أن الفئات الضعيفة. كانت الأكثر تضرراً وانسحاقاً كما هي في كل مرّة.

ولذلك فإن هذه الأزمة أدت الى حالة من الهلع الشديد لدى سكان المعمورة كلها، إذ لا أحد يستطيع أن يتصور الى ماذا ستقود هذه الأزمة؟ وماذا ستترك من تأثيرات خطيرة؟ لاسيما في شعوب البلدان النامية، ولكن في الوقت نفسه يخطئ من يعتقد أن الولايات المتحدة حالياً عملاق كسيح أو نمر من ورق، لأن مثل هذا التصور يؤدي الى تقليل الرغبة في فهم حقيقة ما حصل في وول ستريت.

إن الاقتصاد الأمريكي دخل مرحلة الركود كما هو متوقع حالياً، لكن ذلك لا يعني أنه ليس لديه القدرة على الخروج من ذلك والعودة الى عافيته كما حدث في مرات سابقة، ولعل مثال أزمة السبعينات وزيادة أسعار النفط من القرن الماضي، ومشكلة المخدرات والقروض والعجز المتصاعد في الميزانية العامة وفي الميزان التجاري في الثمانينات وانفجار فقاعة الدوت كوم والهجمات الإرهابية في عام 2001 خير دليل على قدرته الفائقة، ولكن الثمن الباهظ هو ما ستدفعه الشعوب وبشكل خاص الفقراء! أليس كذلك..؟ إنها الرأسمالية.. يا صديقي.

صحيفلة الخليج الاماراتية الأربعاء ,08/10/2008

1246
الحرب من الداخل والبرنامج السري!

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

يكشف كتاب بوب وود وورد Bob Wood Ward «الحرب من الداخل: تاريخ البيت الأبيض السري- 2006/2008» كيف أن الرئيس الأميركي جورج بوش كان وراء هندسة الحرب على العراق، ويتحدث عن برنامج أميركي في غاية السرية لمواجهة الجماعات «المتمردة»، وهو ما أطلق عليه «الحرب من الداخل»، وكان مؤلف الكتاب قد كشف أخيراً لـ«لاري كينغ Larry King» مقدّم برنامج حواري في فضائية الـ«CNN» عن معلومات قال إنها بحوزته تخص أنشطة وفاعليات عسكرية أميركية قامت بتنفيذها في العراق للحد من ظاهرة العنف.
ويكشف الكتاب أيضاً أن واشنطن كانت تتجسس على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحكومته، رغم تأكيدات عن متانة علاقته مع الرئيس الأميركي بوش، الأمر الذي يضع مسألة انعدام الثقة قائمة، لاسيما من الجانب الأميركي، خصوصاً بشأن ما يثار من علاقات متميزة مع إيران عدوهم الأساسي في المنطقة من بعض الأوساط المتنفذة في الحكومة العراقية!!
وقد أثارت المعلومات التي وردت في الكتاب، لاسيما بعض الخطط السرية وعمليات التجسس، قلقاً واسعاً ليس على صعيد الواقع العراقي والإقليمي فحسب، بل على صعيد كبار المسؤولين الأميركيين، فقد نقل وود وورد عن مصدر مسؤول قوله: إننا على علم بكل ما يقوله المالكي، معلقاً على عمليات التجسس التي طالت مقربين من رئيس الوزراء العراق وأعضاء في الحكومة العراقية. وللأسف لم يكن رد الفعل الرسمي العراقي بالمستوى المطلوب، حتى على الصعيد الشخصي، ناهيكم عن صعيد علاقات البلدين!
جدير بالذكر أن دخول النظام السابق في حرب مع إيران دامت 8 أعوام ومن ثم تورطه في مغامرة احتلال الكويت، دفع بالعديد من الأجهزة والقوى الدولية إلى فتح ملفاتها العراقية، وسعيها لاستقطاب عراقيين معارضين أو من داخل النظام السابق، من أجل الحصول على معلومات من جهة، ومن جهة أخرى السعي لتوظيف بعضهم بصفتهم «أصدقاء» أو «وكلاء» أو «متعاونين» معها لأهداف مشتركة كما برر « البعض» في حينها، رغم تورط العديد منهم، بل غرقهم في هذا المغطس الخطر.
وبسبب أوضاع القمع المستمرة وضعف وهزال التركيبات السياسية وتعويلها على القوى الخارجية الإقليمية والدولية، نشأت حالة من «التهادن» إزاء التعامل مع القوى الخارجية، بل إن البعض اندفع في هذا الخيار، خصوصاً وهو لم يكن يمتلك أي رصيد على صعيد الداخل، فوجد أن مجرد إقامة نوع من العلاقة مع القوى الخارجية سيكون بمنزلة التعويض عن وجود قوة شعبية تقف معه، ولهذا برر «عدم قدرة القوى المعارضة من الإطاحة بالنظام»، يستوجب «التعاون المصلحي» المؤقت مع قوى دولية تشترك في نفس الأهداف، في حين أن البعض الآخر لجأ إلى التعامل بحكم ارتباطات مذهبية أو مصالح سياسية مع قوى إقليمية، لكن عينه كانت ترنو إلى التعاون مع قوى كبرى لأن بيدها مفاتيح الحل كما أعتقد. وتحقق الأمر على نحو علني وليس سرياً، لاسيما بعد احتلال العراق، تحت باب «الواقعية السياسية» و«الأمر الواقع» والسعي للتخلص من آثار الاحتلال، بإقناع المحتلين بأن مهمتهم قد انتهت، وكأنهم هم الذين يحددون ذلك، وابتلع البعض لسانه وكل ما قاله عن الامبريالية العالمية والاستكبار العالمي والصراع الدولي وغير ذلك، وأصبح جزءًا من المشهد السياسي السائد، لدرجة أن كل ما عداه أصبح أقرب إلى الإرهاب والنظام السابق والقوى المتخلفة، وانقلبت المعادلة فأصبح الاحتلال ومن معه يمثل قوى التنوير والتغيير والدمقرطة، معتبراً صراعه الأساسي هو ضد الإرهاب، وما عدا ذلك فيمكن تأجيله،إلى ما بعد حسم المعركة الأساسية!!
وذكر وود وورد أن إدارة بوش كانت تشهد انقسامات كبيرة لدرجة أن ضباطاً كباراً احتجوا على خطط الرئيس بوش لإرسال المزيد من القوات إلى العراق (2006) بمن فيهم الجنرال كايسي قائد القوات الأميركية في العراق، والجنرال جون أبي زيد مسؤول القيادة الوسطى الأميركية.
ويذكر الكتاب أن بوش خلال المناقشات قرر إقالة دونالد رامسفيلد وزير الدفاع واختار غيتس خلفاً له من دون استشارة نائب الرئيس ديك تشيني الذي عرف الخبر من الرئيس في 6 نوفمبر 2006، أي قبل يوم واحد من الانتخابات التي خسر فيها الجمهوريون الأغلبية في الكونغرس. ورغم أن تشيني لم يكن يوافق على ذلك، ولكنه أبلغ الرئيس أن القرار قرارك.
ويعزو الكتاب أن زيادة القوات العسكرية ليست هي السبب الرئيس في تراجع أعمال العنف، لكن الأمر يعود إلى عوامل أخرى سرية ومعلومات استخبارية. وكانت القوات الأميركية منذ العام 2003 تستخدم تكتيكات هي من اختراع جيش الدفاع الإسرائيلي، وقيل إن هناك مستشارين لتدريبها على هذا الغرض وتقديم الاستشارات لها لمواجهة أي مقاومة لها في العراق. وكانت صحيفة الغارديان منذ عام 2003 قد نشرت مقالة بعنوان: إسرائيل تدرّب فرق اغتيالات أميركية في العراق assassination squads.
جدير بالذكر أن إسرائيل برعت في هذا الصنف من الحروب في تصديها للمقاومة الفلسطينية لاسيما في عمليات الاغتيال خلال أكثر من ستة عقود من الزمان، في داخل الأراضي المحتلة وخارجها، ومن خلال وحدات مستعربة تقوم بالعمل وسط الناس بشكل عادي، لكن مهمتها البحث عن المقاومين والقياديين الفلسطينيين.
ورغم أن مثل هذه الأعمال تعتبر منافية للقانون الدولي، لكن الاحتلال وهو الأساس يعتبر مخالفاً للشرعية الدولية وللقواعد والأعراف القانونية الدولية والإنسانية، فإن إسرائيل استخدمت شبكة واسعة من المخبرين والجواسيس لتحديد النشطاء من المنظمات الفلسطينية ممن تطلق عليهم إسرائيل اصطلاح «إرهابي». وقد ترددت معلومات تقول: إن إسرائيل أسست مركزاً لتشغيل شبكاتها المخابراتية بالعلاقة مع قادة عراقيين بينهم أكراد للتجسس على إيران والحكومة العراقية. وقد نشر مراسل صحيفة «نيويوركر» سيمور هيرش معلومات واسعة عن ذلك (ديسمبر /2003)، لكن الأمر كان يتم نفيه من جانب القيادات الكردية كلما تردد ذكره، رغم أن الساحة هشة ويمكن اختراقها من جميع الأجهزة المخابراتية الدولية. وتعتبر استراتيجية فرق الاغتيالات نسخة مشابهة أو مطابقة لحملات الاغتيالات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وقد تم تصنيفها في عهد دونالد رامسفيلد، وقد نجح هذا البرنامج في تحجيم العنف في العراق، وذلك لأسباب تتعلق بتجميد مقتدى الصدر نشاطات ميليشيا جيش المهدي ضد القوات الأميركية والعراقية بشكل عام، وقرارات تشكيل الصحوات في الأنبار وغيرها من المناطق الساخنة التي اصطدمت مع «القاعدة»، لاسيما أن الأخيرة لجأت إلى استخدام تكتيكات قاسية وأسهمت في إشعال الفتنة الطائفية، خصوصا أعمال التفجيرات الانتحارية التي شملت كلا الطائفتين، الأمر الذي يضع علامات استفهام حول الأهداف الحقيقية لـ«القاعدة»، طالما أن هدف القوات الأميركية إضعاف مقاومة الاحتلال، فهي الأخرى تنحو نفس المنحى. ويعتبر كتاب الحرب من الداخل «تاريخ البيت الأبيض السري» هو الكتاب الرابع الذي يؤلفه وود وورد في إطار معالجة بوش للحرب على العراق وأفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. واشتهر وود وورد في السبعينيات مع زميله كارل برنشتاين لمقالات حصرية عن فضيحة ووتر غيت التي أدت إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون. وبغض النظر عن صحة ما ورد في الكتاب، فإنه يثير أسئلة شائكة وصارخة، بخصوص العلاقات السرّية داخل البيت الأبيض وفي التعامل مع «الحلفاء» و«الأصدقاء»!
الحرب من الداخل ستبقى مستمرة سواء فاز أوباما الديمقراطي أو ماكين الجمهوري، طالما بقيت القوات الأميركية في العراق، وسواء تم توقيع معاهدة مع العراق أم تم تمديد التفويض الأممي، لكن الأمر لن يغيّر من ضرورة وجود غطاء قانوني لحماية القوات الأميركية في العراق، وسواء حصلت على مثل هذا الغطاء وهو ما سيحدث فعلياً بحكم اختلال توازن القوى لمصلحتها واضطرار الجانب العراقي على توقيع معاهدة غير متكافئة معها، أم لم تحصل رغم استبعاد ذلك، فإن حرب الداخل السرية في البيت الأبيض ستبقى قائمة، ولن يضع حداً لها إلاّ الانسحاب وتحديد جدول زمني، وذلك سيعني تقهقر المشرع الامبراطوري الأميركي ليس في العراق فحسب، إنما على الصعيد الإقليمي، وربما العالمي.
فهل ستضع واشنطن ذلك في اعتبارها خصوصاً في ظل أزمة الرهن العقاري وانخفاض سعر الدولار والأزمة المالية الطاحنة التي شهدتها البنوك ومؤسسات التأمين الكبرى!!
* باحث ومفكر عربي
صحيفة الجريدة الكويتية العدد 425 تاريخ 3/10/2008

1247
هل ثمة يوم للديمقراطية؟!

عبدالحسين شعبان
2008-09-28
ضمن سلسلة المحاضرات عن الديمقراطية، دعتني المؤسسة العربية للديمقراطية، ومقرّها في قطر وأمينها العام التنفيذي الصديق محسن مرزوق، لإلقاء محاضرة عن «الديمقراطية والثقافة» مع إشارة خاصة للحالة العراقية، وذلك بمناسبة اليوم العالمي للديمقراطية المصادف 15 سبتمبر.
وكانت الأمم المتحدة قد أصدرت قراراً رقم 62/7 بتاريخ 8 نوفمبر 2007 اعتبرت فيه 15 سبتمبر من كل عام، يوماً عالمياً للديمقراطية. ودعت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى الاحتفال بهذا اليوم ابتداءً من العام 2008، كما ورد في نص المادة السادسة. كما دعت جميع الدول الأعضاء ومؤسسات ومنظمات الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية والحكومية الدولية، والمنظمات غير الحكومية والأفراد إلى الاحتفال بهذا اليوم.
والواقع أن دولة قطر التي توّلت رئاسة مؤتمر حركة الديمقراطيات الجديدة أو المستعادة منذ مؤتمرها السادس الذي انعقد في الدوحة خلال الفترة بين 30 أكتوبر و1 نوفمبر 2006، قد أسهمت بشكل فعّال في بلورة اقتراح تقدمت به إلى الجمعية العامة في دورتها الـ 62 (2007) بتبنّي اليوم العالمي للديمقراطية. وقد دشنت المؤسسة العربية للديمقراطية احتفالات السنة الأولى ببرنامج موسع، شارك فيه نخبة من المفكرين والباحثين، واستهدف إبراز الجانب القيمي والجمالي من المسألة الديمقراطية، إضافة إلى إظهار الجوانب العملية المفيدة الآنية والمستقبلية، فيما يتعلق بالخيار الديمقراطي. وانصرف النقاش والجدل من حالة التشخيص الضرورية لواقع الحال والمعوّقات والعقبات التي تعترض طريق الديمقراطية، داخلياً وخارجياً، إلى الآليات الضرورية التي ينبغي اعتمادها وصولاً إلى تحقيق الهدف أو الاقتراب من الطموح الذي نتوق إليه.
ولعل الدراسات التطبيقية والعملية العربية ما تزال قاصرة حول الآليات والوسائل والخيارات المتاحة للانتقال والتحوّل الديمقراطي، وذلك قياساً إلى تجارب دولية مهمة، لاسيما أميركا اللاتينية. وأذكر أن أحد المؤتمرات المهمة الذي انعقد في كوريا (سيؤول) عام 2002 ركز على هذه الجوانب. وكنّا قد زرنا تشيلي (ساندياغو) العام 2005 ضمن وفد مصغّر واطلعنا بعدد من الفاعليات والأنشطة لدراسة تجربة ما بعد انقلاب بينوشيه عام 1973، لاسيما ما يتعلق بالضحايا وتدوين الذاكرة، والحلول المقترحة، والخيارات المتاحة والصفقة التاريخية لمنع تكرار العنف، والسنوات العشر (الضمانات) التي أخذها بينوشيه بعد تخليه عن الرئاسة ليبقى في رئاسة الجيش والقوات المسلحة. ثم ما ثار حول ذلك من إشكالات قانونية وسياسية فيما يتعلق بتوجه الاتهام إلى بينوشيه في إسبانيا وبريطانيا، وانعكاس ذلك على صعيد العملية السياسية الديمقراطية في تشيلي، وبخاصة لجهة التوافق الاجتماعي والسياسي والسلام الأهلي والمجتمعي ومفارقات وتحديات مبادئ التسامح على هذا الصعيد وعلاقة ذلك بمبادئ العدالة الدولية، لاسيما التي دوّنها النظام الأساسي لميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998 ودخل حيز التنفيذ عام 2002.
إذا كان خريف الحكم الشمولي والنظام الاستبدادي قد بدأ، خصوصاً في أوروبا الشرقية والعديد من بلدان أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، إلاّ أن رياح التغيير وموجات التحول الديمقراطي انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط، وضاعت فرصة تاريخية نادرة للتغيير السلمي في العالم العربي بسبب مواقف القوى الكبرى المتنفذة وسياسات الولايات المتحدة الازدواجية والانتقائية، وربما بسبب وجود إسرائيل والصراع العربي-الصهيوني، وكذلك ضعف وهشاشة البدائل المطروحة في المعارضات العربية وعدم استعدادها لتحمل المسؤولية ونكوصها عن برنامج التغيير والإصلاح الديمقراطي، الأمر الذي فوّت الفرصة في أواخر الثمانينيات، ودفع العالم العربي ثمنه باهظاً، خصوصاً أن الديمقراطية أصبحت مساراً كونياً وليس رغبة لنخبة أو مجموعة من المثقفين، وإنما حاجة ماسة وضرورة ملحة، وليس ترفاً فكرياً.
وإذا كان خريف الاستبداد قد بدأ، فإن ربيع الديمقراطية لن يحلّ بعد، كما أنه لن يحل أتوماتيكياً دون وجود قوى حاملة للمشروع وواعدة ببديل، ناهيكم عن ظروف دولية وإقليمية وداخلية مؤاتية. وإذا كانت الإدارة الأميركية قد طرحت مسألة التحولات الديمقراطية لتجفيف بؤرة الإرهاب، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية، إلاّ أن سير الأحداث أجهض هذه المشاريع منذ البداية، خصوصاً وقد اتسمت باستخدام القسوة، لاسيما بفرض حصار على العراق دام 13 عاماً ومن ثم احتلاله بالضد من الشرعية الدولية، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لأعمال الإرهاب والعنف التي عمّت العراق والمنطقة. وظل الجميع لا يعرف السبيل للخروج من غلوائها حتى الآن.
إذا كان «القديم يحتضر» حسب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، «فالجديد لم يولد بعد». صحيح أن عراق ما قبل 9 أبريل 2003 لا يشبه عراق ما بعده، لكن أطروحة الخلاص الديمقراطية ونعيم الحرية لم يحلا بعد، ولكي لا تصبح هذه التعويذة خشبة خلاص وقارب نجاة حسب المفكر العربي جورج طرابيشي، فلا بدّ من استحضار أطروحات الخلاص التي سادت بشأن الاشتراكية، والوحدة، والإسلام هو الحل، والتي طبعت عقولنا وأحلامنا وسيطرت على توجهات حركات سياسية وخاضت صراعات من أجلها وتعطلت التنمية وأجهضت الديمقراطيات الناشئة.
لقد ظلّت الديمقراطية في عالمنا العربي تراوح بين المحظور والمنظور، والعراق لم يكن استثناءً، وإن كان حالة صارخة لاسيما بدرجة العنف والقمع. فالهوامش الديمقراطية التي ابتدأت مع تأسيس الدولة العراقية، بدت ناقصة ومبتورة، وبخاصة بشأن حقوق الأكراد وقانون الجنسية التي ميّز بين المواطنين بوضع درجتين (أ) و(ب)، وكان نواة لتقنين الطائفية السياسية التي تفجّرت ما بعد الاحتلال على نحو مريع، فضلاً عن هشاشة البنى والتراكيب الحكومية والسياسية، فوصلت البلاد إلى طريق مسدودة بسبب ضيق فسحة الحريات وتزوير الانتخابات وربط البلاد بعجلة الأجنبي، لاسيما بعد حلف بغداد عام 1955.
وعاش العراق فترة العهد الجمهوري، خصوصاً بعد العام 1968 ولغاية احتلاله 2003، نظاماً شمولياً استبدادياً، ضاقت فيه الهوامش المتبقية وأسدل الستار على الرأي الآخر وانفرد بالحكم لا حزب واحد فحسب، بل مجموعة صغيرة منه وصولاً إلى العشيرة والعائلة وتربع «الزعيم» على عرش السلطة جامعاً بيده جميع السلطات والصلاحيات الحزبية والحكومية التنفيذية والتشريعية، العسكرية والمدنية، خصوصاً بتعاظم وانتفاخ عبادة الفرد إلى درجة «التقديس» أحياناً. وأصبح النظر إلى الديمقراطية أقرب إلى التدنيس أو التأثيم أو التشهير أو حتى إلى التدليس، وأصبح دعاتها متهمين، في حين اكتظت الترسانة الأيديولوجية، تتحدث عن المؤجل بعد المعجل الذي ظلّ المسألة المركزية وهي أمن الحاكم، ويمكن تأجيل أي مسألة سواه، خصوصاً في ظل حروب وحصار «أكلت الأخضر واليابس» كما يقال.
ولعل النقص الفادح في الثقافة الديمقراطية لا يعود إلى الرغبة من مصادرتها فحسب، بل يمتد إلى القصور الشديد والعدائي أحياناً، إلى المناهج السياسية والتربوية والممارسات النقابية والدينية والعائلية، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة النظر بكامل منظومة التفكير لوضع التطور الديمقراطي في سلم الأولويات.
لقد تم تأجيل الديمقراطية لحساب ما سمّي بالقضية الوطنية، فوصلنا إلى ديكتاتوريات منفلتة من عقالها، وتم مقايضة القضية الوطنية أحياناً بحجة التحولات الاجتماعية، فضاعت الديمقراطية والتنمية معاً. ويجري حالياً، لاسيما ما بعد الاحتلال، ضياع المسألة الوطنية في ظل صخب حول الديمقراطية لا يغني ولا يسمن من جوع، خصوصاً أن العنف والإرهاب ما زالا مستمرين وإنْ انحسرا، فالظاهرة ما تزال قائمة وتتجدد وتتوالد بين الحين والآخر، والطائفية مكرسة بحكم توزيعات ومحاصصات بول بريمر، حاكم العراق 2003-2004، والميليشيات والصحوات تتحكم وتنذر بحروب أهلية، والفساد والرشوة متفشية، إذ يعتبر العراق حسب منظمة الشفافية الدولية ثالث بلد في العالم في الفساد، ونقص الخدمات الفادح كالماء والكهرباء والبنزين أصبح هو مؤشر آخر على الفساد الإداري والمالي وعدم الشعور بالمسؤولية، ناهيكم عن وجود أربعة ملايين وستمائة ألف لاجئ ونازح، والسجون ممتلئة رغم إطلاق سراح عشرات الآلاف من الذين قضوا فترة طويلة دون محاكمة ودون تهمة محددة.
لا يكفي أن يكون هناك دستور ونصوص قانونية تفيد، وإن كان بصورة غامضة وملتبسة أحياناً، تدوين مبادئ الحرية والانتخابات وقواعد اللعبة الديمقراطية ومبادئ فصل السلطات وسيادة القانون واستقلال القضاء وغيرها، لكن العبرة دائماً بالتنفيذ، لا سيما بإقرار وتطبيق مبادئ المساواة والمواطنة الكاملة، فعلاً لا قولاً، ومن ثم إقرار وتنفيذ مبادئ التعددية الثقافية، لاسيما وأن إنكارها أو التنكر لها وعدم الاعتراف بها لم يؤدِ إلى الوحدة المنشودة، بل ازدادت المجتمعات العربية انقساماً وتباعداً، في حين أن إقرارها سيسهم في تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، مع احترام وتقدير الهويّات الجزئية المصغّرة، خصوصاً للأقليات القومية والدينية واللغوية وغيرها.
إن التحوّل الديمقراطي هو مجموعة خيارات وآليات عملية، وهو يستوجب تعزيز الثقافة الديمقراطية التعددية وإشاعة الحريات وتمكين المرأة وإصلاح المناهج التربوية والدينية، والإقرار بالرأي والرأي الآخر، ومن خلال قوانين ومؤسسات وممارسات، تستند إلى سيادة القانون وتنبذ العنف والإرهاب وتشيع روح التسامح واحترام حقوق الإنسان! ولعل هذا يحتاج إلى تراكم وتطور موضوعي لجميع مفاصل المجتمع، ونقد من جانب الرأي العام وعبر الإعلام ودور فاعل لمؤسسات المجتمع المدني، وليتحول اليوم العالمي للديمقراطية إلى مناسبة احتفالية عربية رسمية وشعبية يسود خلالها النقد والنقد الذاتي والمراجعة للتجربة، تمهيداً للإقرار بالتعددية وحق الاختلاف والتنوع والحق في اختيار الحاكم وتغييره!


صحيفة العرب القطرية  العدد 7414 - الإثنين 29 سبتمبر 2008 م ـ الموافق 29 رمضان 1429 هـ

1248
أربعة خيارات في حل مسألة كركوك!

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

لا تعتبر مسألة كركوك جديدة في التاريخ السياسي العراقي، وبقدر كونها نقطة احتكاك حساسة بين التوجهات القومية العربية والكردية والتركمانية، فقد كانت منطقة تعايش وتسامح ومشترك إنساني، عكست روح التآخي الحقيقية العفوية والبعيدة عن «السياسات» الضيقة والإغراضية التي أرادت توظيفها لاحقاً.
وكان نموذج كركوك كمدينة ومحافظة فيما بعد مغرياً ومصدر غنى، فهو يميل إلى التنوع العراقي: القومي والديني واللغوي والسياسي والفكري والاجتماعي، كما أنه يمتاز بالتفاعل والتواصل الحضاري والتعددية، لاسيما في ظل تعاون المكوّنات المختلفة التي تتشكل منها اللوحة الفسيفسائية الملوّنة التي تمثل وجه العراق المتحد الموحد. فسكان كركوك مؤلفون من العرب والكرد والتركمان والآشوريين، وإن أخذ كل فريق يدّعي اليوم بأنه يمثل الأغلبية، كما تتعايش الأديان والمذاهب فيها، فالمسلمون يشكلون أغلبية السكان وبينهم سنة وشيعة، والمسيحيون يؤلفون أقلية مؤثرة اجتماعياً وثقافياً، ويوجد في المدينة منذ عقود من الزمان منتديات وتجمعات ثقافية واجتماعية تمثلهم بغض النظر عن الانحدار القومي أو الديني.
ولعل أفضل من صوّر مدينة كركوك قبل اندلاع نار التعصب الاثني ومحاولات التسييس هو الكاتب والروائي المبدع فاضل العزاوي في كتابه: جيل الستينات-الروح الحيّة، وبهذا القدر أو ذاك فقد كان ما أطلق عليهم جماعة كركوك لاحقاً: مؤيد الراوي، سركون بولس، أنور الغساني وغيرهم، يعبّرون عن هذه النزعة التعايشية الموحدة.
لكن السياسة قلبت الكثير من مظاهر التعايش والتآخي إلى بؤر للتوتر والشك، حيث أضحت كركوك محط احتدام وتعارض سياسي وقومي وهو ما حصل إبان أحداث كركوك المأسوية عام 1959، وفي ما بعد يوم تم الاتفاق على بيان 11مارس عام 1970 بين الحكومة العراقية والحركة الكردية بقيادة البارزاني مصطفى، فقد ظلت كركوك خارج دائرة الاتفاق ومصدر قلق، وهكذا لم تحسم، بل ظلّت مؤجلة في جميع الاتفاقات الحكومية-الكردية، حتى مجيء الاحتلال عام 2003 وسقوط النظام السابق.
وإذا كانت الفترة الفاصلة بين عام 1970 و2003 قد شهدت محاولات لتغيير الواقع الديموغرافي والتركيب السكاني لمحافظة كركوك، التي أطلق عليها اسم «محافظة التأميم»، عبر إجراءات وقرارات حكومية، بل قوانين شملت منح سكان المحافظة دون غيرهم، «الحق» في تغيير قوميتهم إلى العربية بافتراض وجود أخطاء يرغبون في تصحيحها، وهو الأمر الذي انحصر بذلك دون سواه، فلم يعط مثل هذا الحق لتغيير القومية إلى الكردية أو التركمانية، كما شهدت تلك الفترة عمليات إجلاء سكاني من جهة، وتشجيع بعض عرب العراق على الانتقال والعيش والسكن في كركوك مقابل امتيازات معروفة، مالية ووظيفية.
ولذلك عندما نوقشت مسألة كركوك في قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية 2004، جرى تثبيت نص في المادة 58 لحلها أو للاعتقاد بإمكان حلّها، وهي المادة التي تم ترحيلها إلى الدستور الدائم الذي تم الاستفتاء عليه في 15أكتوبر عام 2005، وأجريت الانتخابات على أساسه، وذلك في نص المادة 140 التي يجري الصراع والجدل بشأنها، بل يحتدم الخلاف والتناحر في ما يتعلق بتطبيقها، وتكثر التفسيرات والتأويلات بخصوصها، حتى أن ممثل الأمم المتحدة والمقترحات التي تقدّم بها كان موضع شك وريبة، وربما من جميع الأطراف، التي يريد كل طرف الإقرار له بالسيادة على كركوك لدرجة اعتبر المبعوث الدولي غير «محايد» تصريحاً أو تلميحاً!
فالفريق الكردي يتشبث بالمادة 140 وبكردستانية كركوك، التي قال عنها الرئيس الطالباني في إحدى تصريحاته إنها «قدس الأقداس» في إشارة إلى قدسية مدينة «القدس» لدى العرب، ويتمسك بها البارزاني رئيس إقليم كردستان، حين يصرّ على أنه في حال عدم حل القضية طبقاً للمادة 140، فسيكون لنا خيار آخر، وهو لا يستبعد الحسم العسكري.
وحسب المادة 140 فلا بدّ من تطبيع الأوضاع وتعويض المتضررين وإعادتهم إلى مناطقهم وتشجيع من يريد العودة إلى منطقته الأصلية من الذين تم نقلهم من وسط وجنوب العراق إلى كركوك في السبعينيات وما بعدها، ومن ثم استفتاء سكان كركوك في ما بعد. وفي خطوة تلويحية صوّت مجلس محافظة كركوك، الذي يطعن به عربها وتركمانها، على قرار انضمام كركوك إلى الإقليم الكردستاني، في حين يعتبر الكثير منهم أن تشكيل مجلس المحافظة كان إكراهياً وعملاً أدى إلى اختلال موازين القوى، فضلاً عن نقل بعض الأكراد إلى السكن في كركوك بهدف تغيير معالمها وطبيعتها الديموغرافية، في خطوة مضادة للخطوة التي اتخذتها الحكومة العراقية سابقاً، لاسيما بالقانون الصادر عن مجلس قيادة الثورة في 6 سبتمبر 2001 بشأن تغيير القومية إلى العربية.
ويتخوّف التركمان ومن ورائهم تركيا ليس من محاولة ضم كركوك إلى الإقليم الكردستاني فحسب، بل من التجربة الفيدرالية الكردية بشكل عام، لاسيما أنهم يعاملون باعتبارهم أقلية الأقلية كما يقولون، كما يبدي عرب كركوك تحديداً مخاوف شديدة من ضم كركوك إلى إقليم كردستان، لاسيما الوافدين منهم، ويعتبرون خطوة مثل هذه ستؤدي إلى الانفصال عن الوطن العراقي، وهي محاولة لاقتطاع أراضي كركوك تمهيداً لانضمامها إلى الدولة الكردية القادمة، وذلك بقضم تدريجي، وهو ما أثير بشأن مناطق خانقين وزرباطية وبدرة وجصان وسنجار وقرى في مناطق سهل نينوى وغيرها.
وبغض النظر عن مخاوف البعض فإن الوضع في كركوك أصبح لا يطاق، حيث الاستقطاب القومي والديني على أشده، وحيث التفجيرات والاتهامات المتبادلة، وحيث الاستمرار في ظاهرة الميليشيات، فضلاً عن التداخل الخارجي، سواء الأميركي أو الإيراني أو التركي، الأمر الذي لا يمكن حلّه بالسهولة التي يعتقدها البعض، سلمياً أو عنفياً، سواء العودة إلى المادة 140 أو من دونها، في حين يعتبر البعض أن هذه المادة انتهى مفعولها ولم يتم تمديد العمل بموجبها، فهي مرهونة بزمن، وهذا الأمر قد وصل إلى طريق مسدود، وهو بحاجة إلى جهود مكثفة سياسية وبمساعدة الأمم المتحدة، وهنا تبرز أربعة خيارات، كلّها تستوجب استبعاد الحل العسكري والاتفاق على الحوار السلمي وتوفير إرادة سياسية وثقة متبادلة وتنازلات متقابلة، تأخذ إرادة السكان بنظر الاعتبار واحترام حقوق الإنسان وتحرص على التعايش والتآخي أياً كانت نتائج هذه الحلول:
الخيار الأول: «إدارة مشتركة» للمدينة من العرب والكرد والتركمان ومجلس متكافئ وحقوق متساوية، مع تأكيد على احترام حقوق الإنسان كاملة وغير منقوصة، ويمكن إعادة المتضررين وتشجيع النازحين على العودة إلى أماكنهم، ولكن دون إكراه أحد، إلاّ إذا كان قد انتهك حقوق الغير، وهذا الخيار لا بد أن يأخذ بنظر الاعتبار موقع الآشوريين ومستقبل وجودهم في كركوك.
الخيار الثاني: أن تكون المحافظة إقليماً مستقلاً، وبالتالي يمكن إجراء انتخابات فيها على أساس كونها «إقليما» ويمكن أن تكون الانتخابات على أساس سياسي لاقومي أو ديني أو غير ذلك، وقد يُصار استثناءً إلى رفض الطابع الآحادي للقوائم، كي يتم تعويم الانقسام الحاصل بافتراض قوائم مشتركة، وبالتالي تعزيز الصبغة الوطنية الغالبة الجامعة، على حساب الهويات الجزئية، المصغرة: الإثنية أو الدينية أو الطائفية.
الخيار الثالث: اعتبارها جزءًا من إقليم كردستان (لاسيما إذا صوت البرلمان على ذلك- كتلة الائتلاف «الشيعي» وكتلة التحالف الكردستاني) مع وضع خاص تتمتع به بحكم ذاتي وبإدارة مشتركة، وتعهد في إطار النظام الفيدرالي باحترام مكوناتها وعدم تغيير واقعها الديموغرافي والحفاظ على تعايشها وتنوّعها وتعدديتها، وإعطائها لاحقاً حق الانسحاب من الإقليم إذا رغبت بذلك وعلى أساس إرادتها الحرة.
الخيار الرابع: أن تتحد كركوك مع محافظة صلاح الدين لتشكيل إقليم واحد، وبذلك يمكن تطويق طابق الانقسام الحاد في كركوك، لاسيما بضمها إلى مناطق أخرى، وتأكيد احترام حقوق الإنسان. ومثل هذا الخيار قد يكون رد فعل على الخيار الثالث لاسيما الإصرار الكردي، وهو يتطلب أغلبية في مجلس المحافظة من العرب والتركمان.
ليس المهم أن تكون كركوك كردستانية أو أن تكون قومية عربية أو أغلبية تركمانية، لكن المهم هو ألا يجبر سكانها مرّة أخرى على تغيير هوياتهم لأي سبب كان، أو أن يكره الناس على إخفاء انتماءاتهم القومية أو الدينية أو السياسية، وألا يجبر أحد على الرحيل القسري ممن استجابت عائلته للانتقال إلى كركوك للحصول على امتيازات، لم يكن له علاقة بها، حين ولد ودرس وترعرع وعمل وتزوج وأنجب في كركوك، أو أن يمنع أحد من الحصول على حقوقه المفقودة في كركوك عندما تم ترحيله قسرياً، بل لا بدّ من تعويضه عن الغبن والإجحاف الذي لحقه!
والمهم هو تأمين عيش مشترك وحقوق إنسانية متساوية والحق في التعددية والاختلاف، وأن تكون كركوك أياً كانت إدارتها في هذا الإقليم أو ذاك، جزءا من الوطن العراقي، المتعدد المشارب والمنابع والقوميات والأديان والطوائف، والاتجاهات والسياسات والمناهج، لاسيما باحترام حقوق الإنسان.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية رقم العدد: 420 تاريخ 26/9/2008

1249
الأبعاد الأخلاقية في حقوق اللاجئين!
عبدالحسين شعبان
2008-09-21
في معرض حديثه عن ألبان كوسوفو، وفي تفسيره للتدفق البشري الهائل والمفاجئ للاجئين، قال آرنولد كولر، وزير العدل والشرطة السويسرية: إنهم يهربون من تدمير وصراع مسلح ووحشي، ولو كنّا مكانهم لكنّا فررنا أيضاً. ثم ناشد الشعب السويسري (المضيف) أن يبدي تفهماً لحالة الأشخاص الذين يتلمسون الحماية. ومثل هذا القول ينطبق اليوم على اللاجئين العراقيين والصوماليين والسودانيين وغيرهم، مثلما ينطبق على اللاجئين الفلسطينيين وجميع الذين فرّوا من أوطانهم لأسباب الاضطهاد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أو بسبب الحروب والنزاعات المسلحة أو التطهير القومي أو الديني أو غير ذلك.
كم كانت أوضاع اللاجئين الأكراد مأساوية يوم فرّوا جماعياً العام 1991، الأمر الذي اضطر المجتمع الدولي، في سابقة خطيرة، إلى إصدار قرار من مجلس الأمن برقم 688 في 5 أبريل 1991 قضى بوقف القمع الذي يتعرض له سكان المنطقة الكردية وبقية مناطق العراق، واحترام الحقوق السياسية لجميع المواطنين، واعتبر ذلك تهديداً خطيراً للسلم والأمن الدوليين.
ولعل أوضاع اللاجئين والنازحين العراقيين حالياً -إذ يبلغ العدد حسب إحصاءات الأمم المتحدة نحو 4 ملايين و600 ألف لاجئ ونازح في الداخل والخارج، أي بنسبة تزيد عن %15 من المجتمع العراقي- تلقي مسؤوليات كبيرة على عاتق المجتمع الدولي لا بدّ له من الاضطلاع بها، خصوصاً بعدم التصرف بازدواجية وانتقائية في المعايير، بل على أساس الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، لا سيما الاتفاقيات الدولية بشأن حقوق اللاجئين، علماً أن أوضاع هؤلاء اللاجئين شكّلت وتشكّل خطراً على سِلم وأمن المنطقة ومستقبلها وتنميتها، خصوصاً أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية والصحية والتربوية وغيرها.
وقد انعكست أوضاع اللاجئين المأساوية على دول الجوار على نحو شديد، ما زاد من مشكلاتها بالأساس، وفاقم أوضاعها القاسية، الأمر الذي يمكن استخدامه وتوظيفه على نحو سلبي، بخاصة في ظل الفقر والأمية والتخلف وانعدام الأمل، بحيث يمكن استغلال بعض هذه الأوساط وتوريطها في أعمال إرهابية أو غيرها.
لقد عبّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرار لها صدر العام 1998 بخصوص معاناة اللاجئين عن دور النزاعات في تفاقم ظاهرة الهجرة، فقد أشار القرار إلى أن: الصراعات الدولية المحتدمة (بما فيها النزاعات الداخلية) هي السبب وراء التحركات القسرية للسكان لا سيما من طالبي اللجوء الذين يضطرون إلى مغادرة أوطانهم قسراً. ولعل ذلك خير عبرة لأوروبا وأميركا ودول الشمال عموماً التي عليها الاضطلاع بمسؤولياتها بشأن إطفاء بؤر التوتر، ومساعدة بلدان الجنوب في القضاء على الأمية والتخلف وتحقيق التنمية الإنسانية المستدامة، إذ إن حل المشاكل بالطرق السلمية، فضلاً عن مساعدة دول الجنوب الفقير، يساعد في تقليل أعداد اللاجئين، ويخفف من موجة العنف والإرهاب على المستوى الدولي، ويوفر أرضية صالحة لتحقيق خطوات وإجراءات إصلاحية مناسبة.
إن محنة اللاجئين المتفاقمة على المستوى الدولي تطرح مسؤولية المجتمع الدولي، لاسيما في زاويتها القانونية والأخلاقية، إذ تترتب مسؤوليات جسيمة على عاتق الدول الكبرى خصوصا الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي يعتبر من واجباتها الأساسية حفظ السلم والأمن الدوليين، وتحقيق التعاون والإنماء الدولي، الأمر الذي يطرح تساؤلات مشروعة بشأن مستقبل العلاقات الدولية في ظل ازدواجية المعايير، واستشراء ظاهرة الفقر، وغياب العدالة الدولية على المستوى العالمي لاسيما بازدياد أعداد اللاجئين على نحو غير مسبوق.
لقد أنشأت عصبة الأمم هيئة خاصة باللاجئين في العام 1921 باسم «المفوضية العليا لقضايا اللاجئين»، وقد وسّعت مهماتها لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية فتشكّلت «المنظمة الدولية للاجئين» العام 1946، أي بعد تأسيس الأمم المتحدة، خصوصاً وقد أفرزت الحرب ذاتها نحو 20 مليون لاجئ. وعندما صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العام 1948، ومن ثم اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 اعتبر الأمر تطوراً مهماً في قواعد القانون الدولي الإنساني (في الحرب والسلم)، وذلك لكونه امتداداً طبيعياً لاتفاقيات لاهاي لعام 1899 و1907. ثم تأسست المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وذلك بعد صدور اتفاقية جنيف حول حقوق اللاجئين العام 1951، وملحقها العام 1967.
وحسب النظام الأساسي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين: يتم تقديم العون لكل شخص يشعر بالفعل أو يتعرض للاضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو رأيه السياسي، موجود خارج الدولة التي يحمل جنسيتها، والذي لا يستطيع أو لا يريد، سواء بسبب المخاطر أو لأسباب شخصية أخرى، أن يطالب بحماية دولية له عند وجوده فيها.
إن القوانين المقيّدة لحق اللجوء التي سعت بواسطتها بعض دول الشمال إلى التضييق على اللاجئين أو التملّص من بعض الالتزامات التي ترتبها الاتفاقيات الدولية، تعكس (القوانين) تراجعاً في فسحة الحقوق والحريات المدنية والسياسية في دول أوروبا وأميركا، وتأثرها لأسباب سياسية، لا سيما كردود أفعال لما حصل بعد 11 سبتمبر 2001 بشكل خاص.
ولا بد من الإشارة إلى أن هناك علاقة عضوية بين ما جرى في بلدان الأصل «الطاردة» وبين ما يجري في البلدان المضيفة «المستقبلة»، خصوصاً ويلات الحروب وأعمال العنف والإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان، وبين الاستلاب والاستتباع ونهب الثروات التي تعرضت لها شعوب البلدان الفقيرة والمنهكة. ولذلك، فإن المعيار القانوني والأخلاقي لدول الشمال والمؤسسات الدولية يقضي باحترام الاتفاقيات الدولية وإعمال نصوصها وتفعيل دور المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لتوفير أفضل أنواع الحماية للاجئين بغض النظر عن دينهم أو عرقهم أو معتقداتهم السياسية أو جنسهم أو لأي سبب آخر. كما تقضي المسؤولية القانونية والأخلاقية لبلدان الجنوب توفير المستلزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها، بما فيها الإصلاحات الضرورية وتأمين فرص العمل والحياة الكريمة، وكذلك متابعة أوضاع مواطنيها في بلدان المنافي واللجوء والدفاع عن حقوقهم في البلدان المضيفة، وإقامة علاقات إيجابية معهم للاستفادة من إمكاناتهم وطاقاتهم وشدّهم إلى الوطن الأصلي.
وهنا لا بد من إيلاء اهتمام خاص لأوضاع النساء والأطفال، لا سيما في البلدان الوسيطة التي بسببها لا يستطيع اللاجئ الوصول إلى بلدان اللجوء، الأمر الذي يزيد من أوضاعه التباساً وبؤساً.


صحيفة العرب القطرية  العدد 7407 - الإثنين 22 سبتمبر 2008 م ـ الموافق 22 رمضان 1429 هـ

1250
بين الواقعية السياسية والاستهلاك الشعبي   


 
عبدالحسين شعبان


ما يريد الامريكيون تبريره هو أنهم لا يستطيعون البقاء في العراق من دون تفويض، طالما أن العراق بنفسه وعلى لسان رئيس وزرائه نوري المالكي، أعلن أن تمديد قرارت مجلس الأمن الدولي، لاسيما الخاصة ببقاء قوات التحالف المتعددة الجنسيات سيكون الأخير في نهاية العام الجاري، الأمر الذي يحتاج، حسب وجهة نظر واشنطن، الى توقيع معاهدة أو اتفاقية تنظم العلاقات الثنائية، خصوصاً في الجوانب الأمنية والعسكرية، إضافة الى الجوانب السياسية والاقتصادية، والتي تشمل: إعادة انتشار القوات الأمريكية والقواعد العسكرية و”الولاية القضائية” و”الشركات الأمنية” واتفاقيات النفط والغاز والتوجهات الاستراتيجية لاسيما في ميدان ما يسمى مكافحة الارهاب، وهي أمور قد تنشأ خلافات بشأنها في الحاضر أو في المستقبل، لاسيما في موضوع تحديد جدول زمني للانسحاب الأمريكي من العراق.

وإذا كان الحديث قد اندرج، وحسب تصريحات عمومية للرئيس جلال الطالباني ورئيس الوزراء نوري المالكي، في أن يكون العام 2011 موعداً للانسحاب، الاّ أن الجانب الامريكي لم يؤكد ذلك وظلّ إطار الحديث عن أفق زمني للانسحاب وليس تحديد سقف زمني. ورغم الحديث عن استبدال مفاوضين، لاسيما رئيس الوفد المفاوض محمد الحاج حمود بموفق الربيعي المقرّب من رئيس الوزراء، وإشراف الأخير مباشرة على تفاصيل المفاوضات، وذهاب الوفد الامريكي لاستشارة مرجعه في واشنطن، الآّ أن المفاوضات وما ستتمخض عنه لا تخرج عن كون المعاهدة هي رغبة امريكية بالأساس، للاستعاضة عن وجود عسكري سينتهي قانونياً وشرعياً في نهاية العام الجاري 2008 ليتحول الى احتلال تعاقدي حسبما تريده واشنطن.

ولا يمكن بأي شكل من الاشكال أن تسمح الولايات المتحدة ببقاء قواتها في العراق من دون الغطاء القانوني، ولذلك فهي تقترح صيغة بروتوكول، كما قالت، أو معاهدة تنفيذية وليست تشريعية، كي لا تضطر الى عرضها على الكونجرس واستحصال موافقة مجلس الشيوخ، وإنما من خلال قرار رئاسي استناداً الى قرار تفويضي سابق باستخدام القوات المسلحة حصلت عليه ادارة الرئيس بوش عام 2002 عشية غزو العراق، وبعد ممانعة مجلس الأمن الدولي من اعطاء هذا الترخيص القانوني.

أما الرغبة العراقية فهي ناجمة عن خشية الحكومة العراقية وقلقها من انسحاب امريكي فيما إذا افترضنا ان واشنطن ستمتثل لقرار من هذا النوع، طالما لم يتم توقيع معاهدة معها أو تمديد قرار التفويض الأممي، فإنه قد يؤدي الى انهيار الوضع والاطاحة بالعملية السياسية بكاملها، وبالطبع فإن واشنطن لا تريد ذلك، كما لا تريده الحكومة العراقية المرهون وجودها حالياً على أقل تقدير، ببقاء القوات الامريكية، لذلك فهي تتشبث بها لحين حصول تغييرات جيوسياسية وأمنية وتأهيل لقواتها لتصبح ذات جاهزية، حيث كشف تقرير أمريكي أخير صدر عن مكتب المحاسبة الأمريكي عن أن 10% فقط من هذه القوات العراقية مستعدة للعمل منفردة من دون اسناد القوات المتعددة الجنسيات، لاسيما الامريكية في النقل والامداد والدعم والتدريب والقيادة.

إن افتراض انسحاب امريكي فيما إذا لم يتم توقيع معاهدة هو أمر مصحوب بالكثير من الشكوك، لاسيما وان الولايات المتحدة يمكنها وضع الكثير من العقبات امام الحكومة الحالية والحكومات القادمة، فيما إذا تجرأت على عدم توقيع معاهدة مع واشنطن، فما بالك لو أقدمت على طلب انهاء الوجود العسكري الامريكي في العراق؟

ولذلك فإن المعاهدة الثنائية العراقية- الامريكية، ستكون تحصيل حاصل ولن يغيّر شيء في مضمونها الاساسي، حتى وإن جرى تحسين بعض شروطها أو مفرداتها، لكنها ستبقى من حيث الجوهر ومن الوجهة القانونية، معاهدة غير متكافئة وبين طرفين أحدهما قوي ومحتل ويوجد لديه 170 الف جندي ونحو 100 الف مرتزق يعملون معه تحت عنوان شركات أمنية، والآخر ضعيف ومُحتلة أراضيه وقواته غير قادرة للدفاع عنه، بل وعن الحكومة التابعة لها.

وهذا الجانب القانوني تقرره معاهدة فيينا حول “قانون المعاهدات” لعام ،1969 التي تشترط الاتفاق بين طرفين متكافئين، الأمر غير المتحقق في هذه المعاهدة موضوعياً، خصوصاً وأن ليس بمقدور العراق في وضعه الحالي، أن يطلب شروطاً متكافئة تحفظ استقلاله وسيادته بسبب اختلال توازن القوى، وهكذا سيكون عنصر الاكراه وعدم التكافؤ قائماً، بل والأكثر من ذلك فإن موضوع المعاهدة بحد ذاته يعتبر اخلالاً بقواعد القانون الدولي، لاسيما مبادئ السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والحق في تقرير المصير والتكافؤ والمساواة في الحقوق، وغيرها من المبادئ التي وردت في ميثاق الأمم المتحدة أو اعلان الامم المتحدة حول العلاقات الدولية والذي أطلق عليه “اعلان التعايش السلمي” لعام ،1970 إضافة الى معاهدة فيينا حول قانون المعاهدات المشار اليها.

ولكن من الناحية السياسية، فهناك ثلاثة خيارات للحكومة العراقية، الاول، هو أن تقرّ بأن هذه المعاهدة هي اتفاق غير متكافئ وبين طرفين غير متساويين، وأن ميزان القوى مختل لصالح المحتل، وأنها لا تستطيع أن تطلب من القوات الامريكية جدولة الانسحاب الاّ تدريجياً، وضمن فترة زمنية تراها هي مقبولة لغاية العام 2011 وقد تكون هي مناسبة للطرف الامريكي.

ولعل هذا الإقرار على فداحته قد يدخل في باب “الواقعية السياسية”، طالما أن الحكومة تقر بأنها توقع اتفاقاً مذلاً وغير متكافئ، وعندها لا داعي للمزاودة والتبجح بأن الجانب العراقي يمانع ولا يرضى الاّ باتفاق لا يتعارض مع مبادئ السيادة والقانون الدولي، فذلك سيكون مجرد “استهلاك سياسي” ولكنه سيكون سمجاً، وعسيراً على الهضم.

الخيار الثاني هو الاستمرار في محاولة تزييف الوعي، وإظهار قوة الفريق العراقي المفاوض، علماً بأنه ليس لديه أية أوراق يلعب فيها، وسيضطر في نهاية المطاف على الاستمرار في تعويم السيادة والانتقاص منها سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، وهو أمر خارج قدراته وامكاناته الواقعية، وستكون نتائجه وخيمة أكثر من الخيار الأول، رغم انه لا يختلف عنه سوى بالتضليل السياسي.

أما الخيار الثالث فهو الطلب من الولايات المتحدة تنظيم جدول للانسحاب الفعلي في فترة زمنية تترافق مع انتهاء التفويض الأممي، إذا افترضنا عدم الرغبة في تمديده لستة أشهر مثلاً لكسب الوقت أو أكثر، وهو الأمر الذي سيؤدي الى تفجير العلاقات العراقية- الامريكية، ولا اعتقد أن الولايات المتحدة ستوافق على ذلك، وقد تضطر للإطاحة بالفريق الحاكم والإتيان بفريق آخر، يكون مستعداً للتوقيع على ما تريده واشنطن من شروط في المعاهدة، بافتراض ممانعة الفريق الحالي.

لقد حكمت واشنطن العراق عبر اربع ستراتيجيات، الاستراتيجية الاولى اطلقت عليها “استراتيجية نقل المسؤوليات الامنية الى القوات العراقية” بعد 30 حزيران/ يونيو 2004 وبصدور القرار 1546 بتاريخ 8/6/،2004 أما الاستراتيجية الثانية فقد اطلقت عليها اسم “استراتيجية النصر” وهي مرحلة ما بعد التصويت على الدستور الدائم، اما الاستراتيجية الثالثة فقد سميت الاستراتيجية المشتركة، والتي شملت العام 2006 كله، وبدأت الاستراتيجية الرابعة في مطلع العام 2007 وكان يفترض أن تنتهي بعد 18 شهراً أي في 31  تموز/ يوليو 2008 بالتوقيع على المعاهدة وسميت باستراتيجية الطريق الجديد -الى الأمام، لكن هذه الاستراتيجيات جميعها لم تحقق ما كانت تريده واشنطن، بما فيها المعاهدة “اللغم”، الذي قد ينفجر في أية لحظة.

جريدة الخليلج الاماراتية تاريخ 17/9/2008

1251
التحدي الإيراني بين المناورة والمغامرة
عبدالحسين شعبان
2008-09-14
هل أصبح توجيه ضربة عسكرية لإيران وشيك الوقوع، أم أن الأمر أصبح بعيد الاحتمال، وربّما مستحيلاً؟ وكيف يمكن التكهّن بذلك في ظل التصعيد الحالي من جانب واشنطن وتل أبيب؟
الفريق الذي يؤيّد احتمال توجيه ضربة عسكرية لإيران، لاسيّما إذا لم تتنازل عن تخصيب اليورانيوم «الخط الأحمر»، يرى أن الضربة حتمية، لأن إيران سادرة في غيّها، ليس على الصعيد العسكري فحسب، بل على الصعيد السياسي أيضا، خصوصا امتداداتها في العراق ولبنان وفلسطين والخليج. فلا بدّ والحالة هذه من تطويعها وترويضها والإطاحة بها. ويعتقد هذا الفريق أن سيناريو الهجوم المباغت هو أنجح السُبل، ولم يبق منه سوى تحديد الموعد والاتفاق على حجم وتفاصيل المباغتة المسلحة، لأنها في النهاية ستكون لصالح واشنطن وحليفتها إسرائيل في المنطقة. ولعلّ هذا الهدف الاستراتيجي قد يبرّر بعض الخسائر، لاسيّما إذا كان العمل العسكري الخاطف ناجحاً ويؤدي الهدف المنشود.

ويزعم هذا الفريق توفّر معلوماتٍ عن البرنامج النووي الإيراني والمواقع الاستراتيجية التي يمكن أن تطالها الضربة العسكرية، فضلاً عن معرفة واشنطن وتل أبيب بالقدرات العسكرية الإيرانية، الأمر الذي يساعد على نجاح العملية القيصرية ضد إيران، مقارنةً بالحرب الناعمة وسياسة الاحتواء والضغط السياسي والحملة الدعائية السياسية والأيديولوجية ضدّ إيران وتوجّهاتها، إضافة إلى اختراق الجبهة الداخلية، الأمر الذي يحتاج إلى سنواتٍ طويلةٍ أخرى.

أما الفريق الذي يرى، لأسباب مختلفة وربّما متباينة، صعوبة وربما استحالة العمل العسكري، فهو ينطلق من منطق الربح والخسارة أيضاً، خصوصاً أن ردّ الفعل الإيراني سيكون شديداً وربّما مفاجئاً هو الآخر، لاسيما ضد إسرائيل وحلفاء واشنطن في المنطقة، إضافة إلى عدم قناعة الكثير من أوساط الرأي العام العالمي، بما فيه الأوروبي والأميركي، بضربة عسكرية لإيران، خصوصاً أن الخيار الدبلوماسي لم يستنفد بعد. يُضاف إلى ذلك أن بعض أنصار هذا الفريق يعتقد أن عملاً عسكرياً ضد إيران سيعزز تماسك جبهتها الداخلية، وسيُذكي روح الوطنية الإيرانية، وهو ما حصل خلال الحرب العراقية-الإيرانية طيلة السنوات الثماني 1980-1988، الأمر الذي كان الرهان عليه خاسراً، وبشكل خاص الاعتقاد باحتمال تفكّك إيران.

وإذا ما أضفنا العلاقة الإيرانية مع الاتحاد الأوروبي، لاسيما المباحثات الجارية بشأن الملف النووي الإيراني، فإن الأمر سيباعد احتمالات الضربة العسكرية، خصوصاً الخسائر الفادحة التي قد تترتّب عليها. وقد أعرب كل من علي أكبر ولايتي، مستشار العلاقات الخارجية، وعلي لاريجاني ومحسن رضائي، وهؤلاء جميعهم منافسون لرئيس جمهورية إيران محمود أحمدي نجاد، عن تأييدهم لقبول مقترحات الاتحاد الأوروبي، علماً أن تحدّيات الولايات المتحدة وصلت إلى أعلى مستوى لها، واحتمالات الضربة العسكرية أخذت ترجح أكثر من السابق.
ويعتقد هؤلاء «الأطراف» الثلاثة في إيران بضرورة تجاوبها مع المجتمع الدولي وقبول العرض الأوروبي، وذلك باعتباره سبيلاً للوصول إلى تحقيق الأهداف المشروعة، خصوصاً أن البرنامج النووي الإيراني بذاته ولذاته ليس هدفاً، بقدر ما هو وسيلة لتحقيق أهدافٍ أخرى، الأمر الذي يتطلّب سياسة مناسبة وتدابير معقولة لمواجهة الأزمة.
أما السبيل لتحقيق ذلك فهو قبول إيران المقترحات الأوروبية لمفاجأة العالم من جهة، ومن جهة أخرى سحب البساط من تحت القوى المنضوية في إطار الحلف المعادي لإيران، أي تشتيت الإجماع الحالي ضدّ إيران، الأمر الذي سيبطل حجّة توجيه ضربة عسكرية ضدّها.
ومن الناحية التكتيكية، فيمكن لإيران أن تقدّم تفسيراً أو تبريراً لتعليق تخصيب اليورانيوم، بحيث يتسنّى لها الاحتفاظ بالنشاط البحثي، على ألاّ يكون هذا التعليق طويل الأمد، أي أن يكون تعليق التخصيب محدوداً، ويمكن أن يشمل فترة زمنية حتى نهاية رئاسة بوش (أي نهاية العام)، لكن شريطة تعهّداتٍ مقابلة بتلبية حاجات إيران الاقتصادية والأمنية، لاسيّما من المفاعلات التي تعمل بالماء الخفيف. وفي حال ظهور أي بوادر للإخلال بأمنها القومي، يمكن لإيران نقض الاتفاق والبدء بالتخصيب الواسع والسريع. ويميل بعض أصحاب هذا التوجّه داخل مؤسسة الحكم في إيران إلى اعتبار أنه يمثّل نجاحاً لجميع الأطراف وليس خسارة لأحد، الأمر الذي قد يرضي الغرب كما يرضي إيران أيضاً.
لكن مثل هذا الاتجاه يلاقي معارضة من أوساط الاتجاه المتشدّد الذي يميل إلى المواجهة التي يعتبرها حتميّة، وربّما ستكون أقل الخسائر، وهو يسعى إلى شدّ الأحزمة على البطون وترشيد الاستهلاك، لاسيّما للبنزين، وتقليص الإنفاق والاستعداد لأسوأ الاحتمالات بما فيها الحرب. ومن أصحاب هذا التوجّه بعض العسكريين البارزين من أمثال اللواء جعفري، قائد قوات الحرس الثوري، الذي يؤكد وجود طاقاتٍ هائلةٍ لدى إيران بحيث تستطيع الردع: إذ بإمكانها إغلاق مضيق هرمز ومنع تصدير النفط من الخليج، كما أن الصواريخ الإيرانية يمكن أن تستهدف إسرائيل كلّها والقواعد العسكرية الأميركية في دول المنطقة إذا تعرّضت للهجوم العسكري.
لكن الفريق الثاني، وخصوصاً من الإصلاحيين، يعتبر مثل هذه التصريحات غير واقعية، ناهيكم عن كونها استفزازية. فواشنطن لن تسكت عند إغلاق مضيق هرمز، فضلاً عن أن إيران هي الأخرى ستتضرّر في الوقت الحاضر وفي المستقبل أيضاً، إضافةً إلى المبالغة في تصوير إمكانات إيران العسكرية واللوجستية.
إن إيران والاتحاد الأوروبي يمكنهما تحديد بعض المشتركات كإطار للبحث خارج نطاق الملف النووي، خصوصاً مجموعة 5+1، لاسيّما بما له علاقة بموضوع مكافحة المخدّرات والهجرة غير المشروعة، ومكافحة الإرهاب الدولي، والتعاون في ميدان الطاقة (الإنتاج والتسويق والنقل والاستهلاك)، والتعاون التجاري والاستثمار وقضايا البيئة.
أما في قضايا النشاط النووي، فإن التعاون سينطلق من الحرص على عدم ضمان انحرافه، فضلاً عن التعاون في مجال التقنية النووية والعمل على نزع أسلحة الدمار الشامل. وقد يكون الأمر بقبول تعليق إيران تخصيب اليورانيوم لمدّةٍ محدودة، وبخاصة خلال فترة المباحثات، الأمر الذي سيشكّل جدول عمل مشترك، بل يعكس نجاحاً مشتركاً للقوى المعتدلة داخل إيران وفي الغرب، لاسيّما في الاتحاد الأوروبي. وسيكون الأمر، أيضاً، من مسؤولية الدول الكبرى الثماني، علماً أن لإيران خطاً أحمر مثلما للغرب خط أحمر كذلك.

...


صحيفة العرب القطرية العدد رقم 7400 الاثنين 15/9/2008

1252
المنبر الحر / حالة تسامح!!
« في: 12:41 13/09/2008  »
حالة تسامح!!

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

في أواسط التسعينيات من القرن الماضي، بادرت المنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن، التي كنت أتشرف برئاستها، إلى تنظيم ملتقى فكري بعنوان «التسامح والنخب العربية» حضره نحو 50 باحثاً ومثقفاً وحقوقياً من بلدان عربية مختلفة، ومن تيارات فكرية وسياسية متنوعة. وقد انعقد الملتقى بمناسبة اعتبار يوم 16 نوفمبر من كل عام يوم التسامح العالمي، بصدور قرار من الدورة الـ28 للمؤتمر العام لليونسكو 1995.
وقد بادر البروفسور خليل الهندي في الجلسة الأولى لطرح سؤال في غاية الأهمية: هل يوجد تسامح لننظم له ملتقانا الفكري الخامس أم أن غيابه يدعونا لتنظيم فعاليات للتذكير بجوهر مبادئ التسامح بمناسبة إقرار اليونسكو الاحتفال السنوي باليوم العالمي للتسامح؟ ولعل هذا السؤال المزدوج والمركب ظل يتردد بأشكال مختلفة على ألسنة أكثر الباحثين والمتداخلين نفياً أو إيجاباً، إقراراً بواقع أليم أو أملاً وهدفاً في واقع جديد يتسم بالتسامح.
لكن خاتمة الملتقى لم تكن تشبه بداياته، فقد استمرت أعمال الملتقى ثماني ساعات متصلة من الحوار والجدل، وصدرت في كتاب بعنوان: ثقافة حقوق الإنسان، عن «البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان» في القاهرة عام 2000، حيث عبّر أغلب المتداخلين عن تأييدهم ودعمهم لنشر ثقافة التسامح على المستوى العربي، بينهم أديب الجادر ورغيد الصلح وراشد الغنوشي ومحمد بحر العلوم وأبونا بولص ملحم وخليل الهندي ومحمد الهاشمي الحامدي وعبد السلام نور الدين وليث كبه وصلاح نيازي وبهجت الراهب ومصطفى عبد العال وآدم بقادي وعلي زيدان وعبد الحسن الأمين ومختار بدري وعبد الرحمن النعيمي وعلي الربيعي وسناء الجبوري وعبد السلام حسن وجاسم معروف ومبدر الويس وكاتب السطور، ودعوا إلى تأكيد قيم التسامح مع بعضنا البعض أولاًً، دون تخوين أو تكفير أو تأثيم أو تحريم أو تجريم أو غير ذلك من عوامل الاقصاء والإلغاء والاستئصال وعدم الاعتراف بالاختلاف والتنوع والتعددية.
وثانياً التسامح مع الآخر، فلا ينبغي النظر اليه باعتباره خصماً متربصاً أو عدواً مارقاً لمجرد الاختلاف، وفي الوقت نفسه لا بد من تنزيه مبادئ التسامح من الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ العدالة وتصويرها وكأنها دعوة للاستسلام، أو نسيان ما تم ارتكابه من جرائم لاسيما في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها، كما لا تعني غض الطرف عن الارتكابات والانتهاكات لحقوق الانسان، بممارسة التعذيب او الاغتصاب او القتل الجماعي أو غيرها، ولعل تلك الجرائم لا تسقط حتى بالتقادم.
التسامح يعني اتخاذ موقف ايجابي، فيه اقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الاساسية. وحسب اعلان مبادئ التسامح الذي صدر عن اليونسكو « إن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الانسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد...» وهكذا فالتسامح تأسيساً على ذلك: يعني الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، انما هو واجب سياسي وقانوني، الأمر الذي يعني قبول وتأكيد فكرة التعددية وحكم القانون والديمقراطية ونبذ الدوغماتية والتعصب.
إن التسامح يعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، وكما أن الاختلاف من طبيعة الأشياء، فلا بدّ من الإقرار باختلاف البشر بطبعهم ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، وهذا يقود إلى الإقرار بحقهم بالعيش بسلام ودون عنف أو تمييز لأي سبب كان: دينياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو جنسياً أو ثقافياً أو سياسياً...الخ.
وإذا كان تراثنا العربي والاسلامي ليس ببعيد عن فكرة التسامح، فإن المصطلح لم يرد في القرآن الكريم وإن كان هناك ما يدل عليه مثل: العفو والصفح والمغفرة والتعارف والتواصي والتآزر وعدم الاكراه.
ولعل مناسبة هذا الحديث هو وجود سببين مهمين: السبب الاول- هو صدور تقرير نصف سنوي عن حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية من مركز رام الله لدراسات حقوق الانسان، ولعله حسب معلوماتي هو التقرير الاول في العالم العربي، حيث رصد الفترة من 1/1/2008 ولغاية 30/6/2008، واشتمل على مقدمة وجزءين، وكان الجزء الأول قد تضمن تعريف المصطلح ومحدداته والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما توقف عند حرية المعتقد والحق في الاختلاف، ولعل هذا المبحث الأخير يعتبر جديداً في تناول من يتصدّون لفكرة التسامح التي تعتبر منظومة سامية لحقوق الانسان.
اما الجزء الثاني: فقد تناول حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية تطبيقياً، لاسيما بعد الانقسام الحاصل في الصف الفلسطيني بين «حماس وفتح» والذي تمخض عن سلطتين ولكن مع استمرار بقاء الاحتلال، في حين ان الهدف هو دولة فلسطينية تستند إلى مبادئ التسامح. وتناول هذا المبحث محاولات توظيف الدين ومظاهر التعصب ونفي الآخر والصراع على السلطة القضائية ومحاولات التمييز وظيفياً، كما تناول في مبحث خاص التسامح الاجتماعي، فتوقف عند مسألة المرأة والقتل العائلي والخلافات الشخصية والاعتداء على الممتلكات.
ولعله حسناً فعل حين خصص مبحثاً خاصاً لحرية الاعتقاد والحق في التعبير، كما ختم هذا الجزء بخاتمة وخلاصات: بالشروع بالعمل الجاد للقضاء على مظاهر العنف واللاتسامح على المستويين الرسمي والشعبي وتأكيد الحق في الاختلاف واحترام تطبيقه والدفاع عنه، الأمر الذي يستوجب توسيع هوامش الحريات العامة وفي مقدمتها حرية المعتقد، وهي اشارة متميزة عندما توضع في مقدمة الحريات التي يراد تأمينها والحق في الرأي والتعبير والتنظيم النقابي والتجمع السلمي والتعددية السياسية، ويتطلب الأمر تنشئة اجتماعية ونظاما تعليميا يستجيب لذلك وتربية وتثقيفا على الصعد الحزبية والسياسية والدينية، وتوظيف خطاب ديني ينبذ التحريض ضد المُختَلِف، ويرفض التطرف والتشدد، كما توجهت التوصيات إلى الجهات الاعلامية ومؤسسات المجتمع المدني ودعتها إلى أن تؤدي دورها في نشر ثقافة التسامح.
أما السبب الثاني فهو يتعلق بالاعلان عن «تأسيس الشبكة العربية للتسامح»، حيث تم تنظيم مؤتمر صحفي في نقابة الصحافة في بيروت بحضور أربعة من الأعضاء المؤسسين من فلسطين ولبنان والجزائر والعراق، ولعل في ذلك رمزية مهمة، فهذه البلدان الاربعة تعاني العنف والارهاب وحالات اللاتسامح والتعصب والتطرف، إضافة إلى ما تعانيه فلسطين والعراق في ظل الاحتلال.
وافتتح المؤتمر الدكتور اياد البرغوثي منسق الشبكة العربية للتسامح وبمشاركة من فادي ابي علام «رئيس حركة السلام الآن»، وعضو مؤسس في الشبكة، بالاعلان عن ان هذا اللقاء هو جزء من لقاءات اخرى لتعضيد الاعلان تتم في 15 بلداً عربياً، وكانت مشاورات ولقاءات قد تمت بين شخصيات فكرية وثقافية وحقوقية وعدد من منظمات المجتمع المدني طيلة اكثر من عام، إلى ان تمخضت عن تأسيس الشبكة، التي قال عنها إياد البرغوثي «انها تجمع عربي مستقل يضم عدداً من المدافعين عن حقوق الانسان من أكاديميين ومفكرين وكتاب وصحافيين ومحامين، هدفه نشر ثقافة التسامح والدفاع عن القيم الديمقراطية وترسيخها في الثقافة المجتمعية»، مؤكداً على أن مرجعية الشبكة هي « الشرعة الدولية لحقوق الانسان بكل منظوماتها، بما فيها اعلان اليونسكو، فضلاً عن الفكر الانساني التقدمي الحضاري في التراث العربي والعالمي».
لقد عبر المهاتما غاندي عن فكرة التسامح في رسالة من السجن بالقول: لا أحب التسامح ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده، وهو الفكرة التي آمن بها نيلسون مانديلا بعد سجنه 27 عاماً، وهو ما عبّر عنه المطران جورج خضر في تقديمه لكتابنا حول « فقه التسامح في الفكر العربي-الاسلامي» بالقول: لست هنا مبرئاً ساحة الغرب وأعرف كل البؤس الذي أحلّه ليس فقط في الاسلام ولكن في الكنيسة الشرقية أيضاً... ولكن أن تردّ «العدوانية» بهجوم معاكس (أي بعدوانية معاكسة) فذلك يضعف مواقعك، ولعله كما نضيف ليس هو الحل الأمثل!
* باحث ومفكر عربي

جريدة الجريدة الكويتية رقم العدد: 408 الجمعة 12 سبتمبر 2008 ,12 رمضان 1429

1253
اتحاد كتاب مصر يقيم احتفالية كبرى للجواهري

القاهرة - خضير ميري


اقام اتحاد  الكتاب المصريين امسية ثقافية لمناسبة الذكرى الـ 108 لولادة شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري  والذكرى الحادية عشر لوفاته في مقر الاتحاد في الزمالك وقدم الامسية الناقد المصري الدكتور  مدحت الجيار  وشارك فيها العديد من الادباء والمثقفيين العراقيين والعرب وكان المتحدثين بالامسية كل من الكاتب محمد السلماوي رئيس الاتحاد العام للادباء والكتاب العرب ورئيس اتحاد الكتاب  المصريين والدكتور عبد الحسين شعبان المفكر والاديب العراقي المعروف والشاعر احمد سويلم  الامين العام لاتحاد الادباء العرب  والناقد العراقي خضير ميري والناقد  الدكتور شريف الجيار مع موسيقى وغناء للعازف العراقي  الشاب يوسف عباس .
 وقال الدكتور الجيار  في بداية الامسية اننا اليوم نحتفل بشاعر كبير ذو قامة عالية جدا وان هذه الامسية هي بداية لاحتفالية كبرى سوف يقيمها الاتحاد العام للادباء العرب في مقره بقلعة صلاح الدين الايوبي ورحب الجيار بالضيوف العراقيين المشاركيين بالامسية وقال عنهم  ان الدكتور عبد الحسين شعبان هو حد الكتاب المجددين  والمؤرخيين للشاعر محمد مهدي الجواهري وهو ليس باحث وكاتب واديب كبير فقط، بل هو  رئيس الجمعية الدولية لحقوق الانسان ويسانده في هذه الامسية  الروائي والناقد العراقي خضير ميري هو الدينمو المحرك لكل الحركة الثقافية  العراقية في مصر والذي يعرفنا باستمرار  بكل المثقفيين العراقيين في داخل العراق  وخارجه ويقيم الاماسي الثقافية لهم اضافة الى الموسقي الشاب يوسف عباس الذي يلحن ويغني للجواهري .
بعدها تقدم الدكتورمجمد السلماوي بكلمة رحب ايضا بها بالضيوف العراقيين قائلا اننا سعداء بضيوفنا الابرار حيث اننا نسعد بلقاء الاستاذ الدكتور عبد الحسين شعبان وهو مثقف عربي من نوعية خاصة، ففي عصر التخصص  الذي نحياه الان نجده رجل متعدد المواهب والمعارف  ومتعدد الممارسات وله مايربوا على الاربعين كتابا متنوعا في مجالاتها وتخصصاتها  فهو يكتب  في السياسة والادب وينقد الشعر ويكتب في المعارف والثقافات الخاصة وله باع طويل في كل هذه المعارف والتخصصات، وهو حضر خصيصا من بيروت  حيث يقيم لمصر لهذه المناسبة، اما الاستاذ خضير ميري وهو كاتب عراقي متميز جدا نسعد انه يقيم معنا  في مصر بلده الثاني ويتسع له صدر مصر واخوانه فيها ولم نكد نشعر انه قادم من خارج مصر وانما ولد في مصر وهو احد ابنائها الابرار.
كما شكر السلماوي الفنان الموهوب يوسف عباس قائلا ان هذه ارحب  بالموهبة الفذة لاحد ابنائنا من العراق الذي برع في سن  ابن الثانية عشر يعزف على آلة العود وينشد بصوته ويلحن بعض القصائد لشاعرنا الكبير الجواهري  وينشد بصوته ويلحن ايضا لشاعرنا الكبير الجواهري.
وقال عن الجواهري المحتفى به بالامسية انني  اكتفي فقط ان أردد ما قاله الدكتور طه حسين عام 1951 وكان وزيراً للمعارف  حينها للجواهري حيث شكر طه حسين الشاعر الجواهري عن قصيدته التي ألقاها عن مصر حيث قال ليت لي موهبة شاعر العراق بل شاعر الامة العربية جميعا  محمد مهدي الجواهري، حيث انني لا أتمكن من ايفاء شكري وشكر مصر له ولكنني عاجز  لا املك بيان اخي وصديقي الجواهري وليس كل واحد قادر على ان يكون مثله فهو  الذي جمع بين فئة تفكير الغرب وجمال وبهاء الشرق.
واضاف رئيس اتحاد الادباء والكتاب العرب قائلا ان  هذه الامسية على اهميتها الاّ انها لاتفي  العراق بحق ولاتفي شعورنا نحو العراق ومكانته في قلوب العرب  والكثير من كتاب والمصريين خاصة الذين لديهم كتابات متنوعة وكثيرة عن العراق وادبه وشعره  واهله لذلك قررنا ان نحتفل اولا بالذكرى المئوية  ثم نقوم لاعداد لاحتفالية كبيرة مبنى الاتحاد في قلعة صلاح الدين الايوبي بعنوان( العراق في القلب) ستكون اكثل شمولية وتقدم محنة الاديب العراقي  في ظل الظروف الصعبة التي يحياها
 وبعدها القى  الشاعر أحمد سويلم   امين عام الاتحاد بعض الابيات  للجواهري وهي قصيدة يا مصر.
ثم القى بعدها الدكتور عبد الحسين شعبان محاضرة بعنوان (في حضرة الجواهري) قال فيها  لا يكاد الشعور يفارقك، وكأنك تدخل بجلال وهيبة، مملكة الشعر. فكل شيء في تلك الحضرة ينبض بالشعر: الجواهري بقامته المديدة، وفصاحته، وأصابعه الممدودة، يدهشك حين يستحضر التاريخ، بقصيدته العمودية الموروثة والملّونة بأطياف الحداثة، بتحديه وتناقضه، بانفعالاته وردود أفعاله، بمعاركه الادبية وخصوماته السياسية والشخصية، يظهر الجواهري واضحاً كالحقيقة، لا يعرف الأقنعة وقد امتهن الشعر فناً وذهناً ومزاجاً.
لم يستطع الزمن رغم عادياته أن يروّضه أو يطوّعه أو يحتويه، فقد تمكّن سلطان الشعر منه وامتلكه بكل معنى الكلمة، هكذا ظل صعباً بل عصيّاً، غير قابل للتدجين، رافضاً، ومقاتلاًً في الكثير من الأحايين في دروب الأدب والفكر والتجديد. سلاحه الشعر في الهجوم والتراجع، وهو درع وقايته من تقلبات الزمن وغدر الأيام وهجومات الأعادي.
برحلته الشعرية الطويلة، إخترق سيرة رجال ومبدعين وتاريخ كفاح، "صاعداً ونازلاً على حد تعبيره". كان شاهداً وحاضراً في ذاكرة أجيال، فهو جدّ المثقفين العراقيين ومرجعهم ومرجعيتهم.
جاء من النجف ملفّحاً بالعباءة ومعتمراً بالعمامة الصغيرة البيضاء، وبجسم ضئيل، لكنه منتصب مثل نخيل العراق. ومن البيئة النجفية الدواوينية- التلقينية، ذات الموروث والتقاليد العريقة والقاسية، حيث عايش فقهاء النجف، الذين زاملوا وتتلمذوا على يد جمال الدين الأفغاني بدأ التمرد الأول، فانطلق ليحلّق في الأفق الشاسع، مثل نسر رفرف بجناحيه فوق بغداد، وهو يتطلّع نحو دمشق والقاهرة وبيروت، ثم ليستريح في باريس قليلاً، وليبدأ رحلة المنفى والحنين التي قاربت ثلاثة عقود ونيف كانت محطتها الرئيسية براغ الذهبية.
رحيل متقطع لكنه متواصل، ظل مصحوباً بحنينه الى الوطن الذي حمله في قلبه، حتى صارا متلازمين لبعضهما. فقد كان يُبحر في ثنايا الاحداث ولا يعرف المرسى الاّ على شاطئ الشعر. وهو المسافر الذي تفيض منه الألوان، كقوس قزح، في سماء شرقية تتراقص كواكبها بعذوبة ورّقة متميزة، مدوّرة مثل خبز  تنور عراقي طازج، ومتدفقة مثل دجلة والفرات وشط العرب.
إن عمر الجواهري هو عمر العراق الحديث، حيث اكتملت بداياته الشعرية مع نشوء وتأسيس الدولة العراقية في العام 1921. وكان قد نشر قصائده الاولى عشية تأسيسها حيث تدفقت مثل ثورة العشرين.
ظل الجواهري عنيداً أمام السؤال، ضعيفاً أمام إغواء الشعر وإغراء القصيدة. معمّراً مثل لبيد العامري، منفياً مثل المتنبي، فقد عاش أكثر من ثلث عمره في الغربة، التي أرخها في سنواته الأولى " ببريد الغربة" و"يا دجلة الخير"، مفكراً مثل المعرّي، حيث رصع قصائده بالحكمة والمعرفة.
وتطرق شعبان  في المحاضرة عن علاقة الجواهري بالحصري وكيف بنيت بينهما خصومات كبيرة بسبب موضوع الجنسية، فقد أمر  ساطع الحصري والذي كان مديراً عاماً في وزارة المعارف بفصل الجواهري  من وظيفة معلم ابتدائي، بعد ان رفض تعيينه بوظيفة مدرس ثانوي، لكن الملك فيصل الأول، سارع لتعيينه أميناً لتشريفات البلاط الملكي، لحفظ التوازن المختل بسبب نهج "العزل" وإشكالية الجنسية العراقية التي أوجدها قانون الجنسية الأول في العام 1924، والذي تم سنّه قبل كتابة الدستور العراقي الأول (1925) بتشجيع وإشراف من بريطانيا،
واشار شعبان الى ولادة القصيدة عند الجواهري واللحظة الشعرية التي كانت تاتيه  وكيف عاش الجواهري متناقضا اجتماعيا  وكان متحديا كبيرا لكل شيء وعن معشوقات الجواهري الثلاث اما  علاقة الجواهري بالسياسة  فقال شعبان كان الجواهري شديد الالتصاق بالسياسة وربما كان الكثيرون  يعتبرونه سياسياً "مسؤولاً" ، وأحياناً يحاكمونه على هذا الاساس، لا على إبداعه وعبقريته الشعرية، كما ان الكثيرين لا يأخذون بنظر الاعتبار الظروف والتوازنات السياسية، ويسقطون تقييماتهم على الماضي بعين الحاضر دون حساب للسياق التاريخي، لكن الكثير من آراء الجواهري ببساطة متناهية كانت عميقة وصائبة ومستشرفة المستقبل، ولكنه في الوقت نفسه مثل جميع المعنيين بالشأن العام، لم تكن كل تقديراته صحيحة أو متكاملة وهو مثل كل المبدعين، البشر، معرّض للوقوع في الخطأ.
وإذا حسبنا ذلك موضوعياً، فإن الجواهري كان أكثرهم جرأة  في تدقيق مواقفه واعادة النظر فيها وتقديم نقد ذاتي شجاع، خصوصاً وأنه يعمل في العلن وتحت ضوء الشمس وكل كلمة قالها مدونة ومكتوبة تشهد عليها قصائده لنحو ثمانية عقود من الزمان.
أما بعض السياسيين المحترفين، فإنهم كانوا يستبدلون مواقفهم دون إشارة الى خطأ أو نقد أو حتى مبرر لتغييرها لدرجة أقرب الى النفاق والمراوغة.
لم يعرف الجواهري العمل السري أو الحزبي رغم انه كان عضواً في حزبين هما " حزب الاتحاد الوطني" 1946 و"الحزب الجمهوري" 1959(برئاسة عبد الفتاح ابراهيم) الاّ أنه لم يكن سياسياً ولم يكترث بالتكتيكات السياسية وكان قريباً من السياسيين ويحسبون له ألف حساب ويختلفون عليه ويسعون لاستمالته أو محاربته واختلفوا حتى في مماته، الاّ انه لم يكن سياسياً بالمعنى المألوف (الاحترافي)، فهو لا يعرف  المناورة أو حتى " الدبلوماسية"، كان يقول قصيدته ويمشي، وليكن ما يكن، غير عابئ أحياناً بالتفسير أو بالتأويل.
بعدها دعا الدكتور مدحت  الجيار الكتاب والنقاد والباحثيين في جميع الامة العربية الى الانتباه الى ظاهرة الجواهري وتقديم الكثير من البحوث والدراسات عنه حيث ان   الكتابات القليلة للجواهري لم تكن بقامته ولم يكن يذكر الجواهري في تاريح الشعر العربي الاقليلا  واستعان الشعر العربي باسماء كبيرة  اخرى مثل نازك  الملائكة والبياتي وسعدي يوسف.
ثم تقدم الناقد خضير ميري بورقة عن الجواهري قائلا لايمكن ان نختصر الحديث عن الجواهري في امسية واحدة على اهميتها وهو  رجل عاش قرن من الزمان وهو  شاعر واحد استطاع وبدا من طفولته الغريبة والاستثنائية كما حدثنا عنها الدكتور عبد الحسين شعبان  وهو زميل له وقرينه بالمنفى ومحاور ودارس وباحث وله كتب مهمة ولكن الشيء الذي اضيفه  ان الحيرة التي نواجهها عندما نتكلم الجواهري داخل  وسط ثقافي عامر بالتيارات الثقافية  التي تلعب  بالاشكال والابتكارات والاساليب ذات القصيدة النثيرة ونحن نرى ان الجواهري  استطاع  ان ياتي  بالعمود وحده بقصيدة التفعيلة  ليكون كل هذا الحضور والتاثير لعل مايصادفنا انه لاشبيه له بالساحة الثقافية  العراقية والعربية فهو شاعر نتج من مصادر تراثية وفقيهة ولغوية عريقة وهو من بين اساتذة اهل البلاغة والحكمة والعلم ثم جاء بهذه الانماط وحدثها داخل صموعته وصنع لنا شعر كان لصيق لنا ومكابلاتنا السياسية سواء في العهود الملكية او ماتلاها من حكومات  جائرة مضيفا الى ان الجواهري فريد وفرادته تاتي من كونه اصر على الشكل العمودي المتعارف عليه وانا كنت افرق لفترات قريبة عندما كنت اكتب النقد في العراق بين الشعر العمودي والعمود الشعري فالكثير  من الشعراء في العراق كتبوا العمود الشعري ولكنهم لم يكتبوا الشعر العمودي فهم قلائل في العراق والشعر العمودي هو الذي يكتب روح الشعر في القصيدة العظيمة والعريقة ويستطيعون ان يسجلوا تجديداً وحداثة داخل بنيتها ودلالاتها وليس البقاء والمراوحة والمكوث بالمنظور العمودي نفسه او بضبط  القوافي وخلق تكرار موسقي وايقاعي لها الجواهري كان خالقا وساحرا للقصيدة، وكان في نفس الوقت  هناك تواشج بين حياته التفصيلية الصغيرة حيث وعندما نسمع القصيدة  له نقول  انها تجريدية لكن عندما نسمع القصيدة لكل مقطوعة مناسبة لها ولها دلاللتها  ودعا كذلك الناقد خضير ميري الى الكثير من البحث والدراسات الحديثة عنه معتبرا انه مطلب مشروع  لمعرفة اسلوبية الجواهري و قدراته في خلق الصورة. وقدم الناقد شريف الجيار مداخلة أشاد بها بتنظيم الأمسية للاحتفاء بشاعر كبير لم يأخذ حقه حتى الآن رغم ما تركه من تراث كبير.
بعدها اطربنا الموسيقى العراقي الشاب  يوسف عباس  بغناء قصيدة يادجلة الخير وقصائد اخرى للجواهري.



1254
آثار العراق ذاكرة العالم   


 

 

عبدالحسين شعبان
“حماية الآثار الثقافية في ضوء أحكام القانون الدولي الانساني” كان موضوع ندوة حقوقية مهمة تم تنظيمها بمبادرة من اتحاد الحقوقيين العرب واللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي وبمشاركة من خبراء دوليين واختصاصيين وحقوقيين في عمان (5  6 يوليو/تموز 2008)، ولعل أهمية هذه المبادرة تكمن في تسليط الضوء على سرقة وتدمير الآثار الثقافية لاسيما في العراق في العام 1991 وبعد الاحتلال عام 2003. وقد شغل الموضوع العراقي معظم أعمال الندوة وأبحاثها خصوصاً لجهة تحديد المسؤولية الدولية، كما انشغلت الندوة بسرقة وتدمير الآثار الثقافية في فلسطين لاسيما محاولات تدمير المسجد الأقصى منذ العام ،1969 كما توقفت عند الدور “الاسرائيلي” في سرقة وتدمير الآثار الثقافية في لبنان لاسيما بعد الغزو “الاسرائيلي” العام 1982 وخلال عدوان العام ،2006 وقد سبق لليونسكو أن أصدرت نداءات بهذا الخصوص شددت فيها على وجوب إعادة المسروقات الأثرية والحفاظ عليها.

وبخصوص الحالة العراقية فإن اليونسكو أكدت على إعادة الآثار العراقية المسروقة سواءً بعد غزو الكويت وحرب قوات التحالف ضد العراق واندلاع انتفاضة في جنوب العراق في شهر مارس/آذار 1991 أو خلال وبعد الاحتلال الامريكي  البريطاني للعراق وسقوط بغداد في 9 ابريل/نيسان 2003.

ورغم أن تحرك اليونسكو لم يكن بالمستوى المطلوب مقارنة بحملتها ضد تدمير تماثيل بوذا من قبل حكومة طالبان الأفغانية، والأمر ذاته تشترك فيه، عدد غير قليل من المنظمات الدولية  ذات العلاقة التي تباطأت أو تلكأت في التحرك لانقاذ الآثار الثقافية العراقية ومطالبة المجتمع الدولي بالحفاظ عليها وإعادتها وملاحقة المتهمين وتقديمهم للقضاء.

ورغم اتفاقية اليونسكو لعام 1970 التي تناولت التدابير الواجب اتخاذها لحظر منع استيراد وتصدير ونقل الممتلكات الثقافية بوسائل غير مشروعة، مشددة على دول المنشأ اتخاذ الاجراءات المناسبة لحجز وإعادة تلك الممتلكات الثقافية بالطرق الدبلوماسية، وفرض العقوبات والجزاءات الادارية على كل من يتسبب في فرض تلك القوانين، وعلى الدول التي تتعرض آثارها للسرقة أن تستعين بالدول الأخرى، وأن تشترك في الأعمال الدولية لوضع الخطوات الضرورية لمراقبة الصادرات والواردات والتجارة الدولية، إلاّ أن الأمر لم يكن بمستوى المسؤولية التي تقع على عاتقها، فضلاً عن ذلك فقد نقلت آلاف القطع الأثرية النادرة بوسائل مختلفة ووجدت طريقها سوق التداول السوداء.

وجاء في الاتفاقية، أن نقل الممتلكات الثقافية وتصديرها من قبل دولة الاحتلال الأجنبي يعتبر عملاً غير مشروع وعلى الدول الموقعة على هذه الاتفاقية قبول دعاوى لاسترداد المسروقات والمفقودات الثقافية  وتسليمها إلى أصحابها الشرعيين.

وقد ذهبت الكثير من الاتفاقيات الدولية الخاصة بحماية الممتلكات الثقافية لاسيما في العقود الاربعة الماضية إلى تأكيد ذلك ومنها:

 اتفاقية لاهاي لعام 1954 (دخلت حيز التنفيذ عام 1956) والبروتوكول الاول عام 1954.

 اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي لعام 1972.

 النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998 والتي دخلت حيّز التنفيذ في العام 2002.

 البروتوكول الثاني لاتفاقية لاهاي 1999 والذي يتضمن احكاما جنائية دولية، حيث دخل حيز التنفيذ العام 2004.

 اتفاقية حماية التراث الثقافي المطمور بالمياه عام 2001.

 اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي لعام 2003.

 اتفاقية حماية وتعزيز وتنوّع أشكال التعبير الثقافي عام 2005.

ولعل هذه الاتفاقيات الدولية إضافة إلى اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملحقيها لعام 1977 فضلاً عن قواعد القانون الدولي الانساني تشكل مرجعية قانونية دولية لا بدّ من إعمالها بخصوص الحالة العراقية الصارخة، ذلك إن خسارة العراق ليس في الاحتلال فحسب رغم مسؤولياته عن كل ما حدث في العراق لاسيما حل مؤسساته العسكرية والأمنية وتعريض أمنه للفلتان وكذلك استشراء ظاهرة الارهاب والميليشيات والفساد والرشوة، بل في التدمير المنهجي للعقول والأدمغة العراقية وللذاكرة العراقية بنهب وتخريب التراث، وهذا العمل يتطلب جهداً انسانياً وجماعياً دولياً من جانب المؤسسات والمنظمات الحقوقية لمقاضاة المسؤولين واستعادة الآثار المنهوبة، لاسيما وأن قسماً منها وبخاصة ما يتعلق ببابل وما له علاقة باليهود قد تم تهريبه إلى”إسرائيل” كما ذكرت بعض المصادر، الأمر الذي على المجتمع الدولي أن يتخذ اجراءات تحقيقية وعقابية لاستعادته وجميع المسروقات.

ولا يمكن اليوم الاكتفاء بالتشديد على ضرورة احترام تراث العراق، بل إن الأمر يتطلب اتخاذ اجراءات حازمة وملاحقة المتهمين وتقديمهم إلى القضاء الدولي، ناهيكم عن تعويض العراق جبراً للضرر وجزءاً من المسؤولية والعقوبة.

إن مواقف القوات المحتلة اللامبالية إزاء نهب التراث الثقافي، فضلاً عن تخريبه بإقامة معسكرات قريبة منه، يوجّه إصبع الاتهام إلى القيادة العسكرية، إضافة إلى المسؤولية الفردية وعلى أقل تقدير اتهامها بالتواطؤ أو بالتقصير للقيام بمهماتها المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية، إن لم يكن عن عمد وسابق إصرار.

وإذا كانت اتفاقية لاهاي والبروتوكول الأول الملحق بها قد خلا من مبدأ التعويض، فان بروتوكول لاهاي الثاني 1999 قد أكّد على التعويض وتحديد المسؤولية الجنائية الفردية ووجوب مقاضاة المسؤولين وانزال العقاب بهم.

وكسابقة قضائية حديثة، فقد كان من بين التهم الموجهة إلى المتهمين في يوغسلافيا بارتكابات ضد الانسانية وجرائم الابادة الجماعية وجرائم الحرب، تهمة تدمير الممتلكات الثقافية، الأمر الذي يمكن اقتفاؤه وتوجيه تهم إلى قوات الاحتلال بحكم مسؤولياتها الاولى، إضافة إلى ضرورة مطالبتها باخلاء الاماكن الأثرية وتعويض العراق عن الأضرار التي لحقت به جراء ذلك، وهذا من مسؤولية الحكومة العراقية التي عليها المطالبة باعادة المنهوبات وتقديم المسؤولين عنها من القوات المحتلة إلى القضاء بمن فيهم بعض المتورطين من العراقيين، خصوصاً وان مفوضية النزاهة سبق لها أن تناولت مسألة الفساد المالي والاداري حيث وجهت الاتهام إلى 93 مسؤولاً كبيراً، بينهم 15 وزيراً.

* باحث ومفكر عربي
صحيفة الخليج الاماراتية ،الأربعاء ,10/09/2008

1255
سجون عائمة.. يا لها من رومانسية   


عبدالحسين شعبان
هل ضاقت الأرض بالسجناء، ليتحول الفضاء والبحر مؤخراً إلى سجون طائرة وأخرى عائمة؟ فبعد الكشف عن فضيحة السجون السرية الطائرة التي استخدمتها وكالة الاستخبارات الأمريكية لاحتجاز عدد من المتهمين بالإرهاب، قامت بنقلهم عبر طائرات ومطارات في أوروبا، لاسيما في كل من بولونيا ورومانيا، واتجهت النية حسبما يبدو هذه المرة إلى البحر، لإخفاء أماكن اعتقال المتهمين بالإرهاب وذلك في سجون سرية عائمة بعد تحويل عدد من السفن إلى سجون وسط البحر.

صحيفة “الغارديان” البريطانية (مطلع يونيو/ حزيران) الجاري ذكرت أن منظمة حقوقية بريطانية تُدعى “ربريف” أقدمت على نشر تقرير، عن السجون العائمة تلك، يتضمن معلومات عن نحو 200 سجين قام الأمريكان بتسليمهم إلى جهة ثالثة عن طريق ما يُعرف بالرحلات الاستثنائية، وذلك منذ إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش وقف مثل هذه الممارسات (العام 2006 ). وقد أثار خبر “الغارديان” قلقاً لدى أوساط واسعة من الرأي العام، لاسيما المدافعون عن حقوق الإنسان في الغرب، أما عالمنا العربي والإسلامي فللأسف الشديد كان رد الفعل إزاءها خافتاً، إن لم يلتزم الصمت.

ولعل مثل تلك الأخبار والمعلومات تستلزم إجراء تحقيق واسع مع جميع الجهات التي تحوم حولها الشبهات بشأن مشاركتها في تلك الارتكابات ولمعرفة حقيقة الضرر الواقع على المتهمين، ناهيكم عن الانتهاك السافر والصارخ لحقوق الإنسان وللشرعية الدولية، فضلاً عن المعاهدات والاتفاقيات التي وقعت عليها الولايات المتحدة، إضافة إلى القواعد الدستورية والقانونية بخصوص المعتقلين والأسرى.

وحسب المعلومات التي تم تسريبها ونقلتها صحيفة “الغارديان” فقد استخدمت واشنطن أكثر من 17 سفينة لتحولها إلى سجون عائمة منذ الحرب على أفغانستان في العام ،2001 وكانت أغلبية هذه السفن قريبة من سواحل جزيرة دييغوا غارسيا في المحيط الهادي، حيث توجد أكبر القواعد العسكرية الأمريكية.

إن السرية المحكمة لإخفاء أعداد المعتقلين وأماكن اعتقالهم تثير علامات استفهام كبيرة بشأن انتهاك الولايات المتحدة للقواعد واللوائح والمدونات القانونية الدولية والدستورية الداخلية، بخصوص معاملة السجناء أو المحتجزين، لا سيما إذا كانوا يُحتسبون على ملاك الأسرى الذين تحكمهم قواعد القانون الدولي الإنساني، وبخاصة اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 والبروتوكولين الملحقين بها لعام ،1977 إضافة إلى توفر عنصر سوء النية المبيتة إزاء هؤلاء الأسرى، حيث تتوجه الأنظار إلى تعرضهم للتعذيب، خصوصاً بإخفاء عددهم وأماكن أسرهم ومنع عوائلهم من الاتصال بهم وقطع علاقتهم بالعالم الخارجي.

لقد استخدمت السفن بمثابة معتقلات سرية عائمة يُستجوب فيها المتهمون لكي يتم إرسالهم إلى جهات مجهولة، ويعتبر مثل هذا الإجراء بحد ذاته انتهاكاً سافراً لحقوق المتهم الذي ينبغي أن يعرف تهمته وأن يُفسح له في المجال لتوكيل محام، وأن تُحسم قضيته بأسرع وقت ممكن وألا يتعرض للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية الحاطة بالكرامة، وأن يحظى بحقه في محاكمة عادلة بغض النظر عن التهمة الموجهة إليه. وحتى إذا افترضنا تورط بعض المتهمين بالإرهاب، فإن اللوائح القانونية الدولية لحقوق الإنسان واتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، إضافة إلى الدساتير والقوانين والأعراف والشرائع الدينية كلها لا تجيز إخفاء أماكن الاعتقال ومنع أهلهم وذويهم من الاتصال بهم وحرمانهم من حق توكيل محام، ناهيكم عن الامتناع عن تعريضهم للتعذيب الجسدي أو النفسي أو إجراء تجارب عليهم أو تشغيلهم في أعمال سخرة أو غير ذلك.

لقد أمضت سفينة “يو إس إس اشلاند” الأمريكية فترة قرب السواحل الصومالية في أوائل العام 2007 وقامت بعمليات أمنية استهدفت، حسب صحيفة “الغارديان” نقلاً عن تقرير المنظمة الحقوقية الخيرية ريبريف، عناصر من تنظيمات “القاعدة”، حيث تزامن اختفاء كثيرين في عمليات منظمة وتعرض بعضهم إلى استجواب وتحقيق من قبل أشخاص حامت الشبهات حولهم باعتبارهم من جهاز ال CIA وFBI، وذلك بتداخل مع قوات أثيوبية وصومالية وكينية، حيث اختفى قسرياً نحو 100 معتقل، وجرى الاعتقاد ولا يزال، أنهم أرسلوا إلى سجون في كينيا والصومال وأثيوبيا وجيبوتي وجوانتانامو.

يقول مدير منظمة “ربريف” المحامي البريطاني كليف ستافورد إن الولايات المتحدة اختارت السفن في محاولة لإخفاء انتهاكاتها لحقوق الانسان، لا سيما المعتقلون، حيث جرى إبعادهم عن نظر جمعيات حقوق الإنسان والمحامين والإعلاميين. ودعا ستافورد واشنطن إلى إظهار التزامها بحقوق الإنسان عبر الكشف الفوري عن أسماء المعتقلين وما تعرضوا له.

وإذا كانت المطالبة بالكشف عن المعتقلين والأسرى وإجلاء مصيرهم أمراً تدعو إليه الأمم المتحدة، لاسيما عندما أقرت الإعلان العالمي للدفاع عن المختفين قسرياً، فإن ما يتبعه هو نشر الأسماء وكشف أماكن الاعتقال، وبالتالي محاسبة المسؤولين عن إصدار الأوامر والذين قاموا بتنفيذها، خصوصاً وهم يدركون مخالفة تلك الأعمال للقانون الدولي الإنساني.

ولعل الأمر لا يتعلق بحالة واحدة من الحالات وإن كان الأمر سيان فهو يشكل خرقاً سافراً وصارخاً للشرعية الدولية لحقوق الإنسان، فما بالكم إذا كان الأمر يتعلق بحالة نحو 80000 (ثمانين ألفاً) مروا عبر هذا النظام من عام 2001 حتى الآن، فالمسألة ستكون في غاية الخطورة، وتعترف واشنطن بأنها تحتجز نحو 26000 (ستة وعشرين ألف معتقل) من دون محاكمة وفي سجون سرية.

لقد ظلت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” تنفي وجود انتهاكات لحقوق الإنسان في سجن جوانتانامو وسجن أبو غريب والسجون السرية الطائرة، الأمر الذي أثاره العديد من الإعلاميين وشهادات عدد من المعتقلين وبعض أعضاء البرلمانات بما فيها الأوروبية، لكنها عادت واعترفت بأن ثمة خروقات قد حصلت حيث قدمت بعض المرتكبين إلى محاكمات اعتبرت ضمن حجم الأضرار والجرائم الواقعة، محاكمات شكلية أو صورية، وحتى هذه اللحظة فإن وزارة الدفاع الأمريكية وحسب وكالة فرانس بريس نفت وجود سفن للاعتقال، وبررت ذلك بأنه ثمة عمليات نقل أو انتقال قد تمت ولا توجد منشأت سرية للاعتقال، وكان تبرير واشنطن ان عملية النقل اعتبرت “ترتيباً مؤقتاً للاحتجاز” إلى حين نقلهم إلى مناطق مخصصة لهم.

ومن الأسماء الشهيرة التي يتم تداولها ضمن المحتجزين في السجون العائمة هو جون ووكر ليند الملقب ب”طالبان الأمريكي” الذي احتجز على ظهر سفينة “يو إس إس بيليوم” في أواخر العام ،2001 ثم تم نقله إلى سفينة “يو إس إس باتان” حتى نهاية يناير/ كانون الثاني 2002.

يبدو ان عدوى “السجون المتراصة”، حسب قول الشاعر الكبير مظفر النواب انتقلت إلى الغرب ووجدت ضالتها في حملة للأحكام العرفية على المستوى العالمي والحروب الاستباقية وحجة مكافحة الإرهاب الدولي، لكن لم يدر بخلد أحد أن الفضاء والبحر سيتحولان إلى سجون طائرة وعائمة على يد بلد الحريات والرخاء. وإن كانت نظرته وممارسته إلى العالم الثالث وعالمنا العربي والإسلامي مختلفة، فإن يده تمتد هذه المرة إلى الداخل الأمريكي حيث تعرضت الحريات والحقوق المدنية إلى المضايقة.

أيكون للعسف والاستلاب رومانسية أيضاً؟ فماذا نسمي السجون السرية العائمة بعد السجون السرية الطائرة؟

* باحث ومفكر عراقي
جريدة الخليج الاماراتية -الأربعاء ,20/08/2008

1256
من إرهاصات ربيع براغ!


د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

لم تُشغل الذكرى الأربعون لربيع براغ «الغرب»، مثلما شغلته ذكرى مرورها على مدى يزيد على عقدين من الزمان (1968-1989)، فالحدث الذي كان مناسبة للهجوم الإيديولوجي والدعائي، أصبح بعد انهيار الشيوعية الدولية شيئاً عابراً، مثلما تلقى «الغرب» أخيراً نبأ وفاة المثقف الروسي المعارض سولجنستين، حيث أقام الدنيا ولم يقعدها، حتى غادر الجحيم المشهود إلى «الفردوس الموعود» في السبعينيات من القرن الماضي.
استذكرت بعض إرهاصات ربيع براغ وتأثيراتها على جيلنا، خصوصاً وأنها أثارت نقاشات حادة حول «الوجه الإنساني للاشتراكية» الذي نادت به حركة التغيير بقيادة دوبشيك. وكانت وكالة أنباء «شينخوا» الصينية قد ضجّت بالتنديد والسخرية من خطاب ألقاه نيكيتا خروشوف قبل ذلك بسنوات ردد فيه بدعابته المعهودة «الكولاج» (وهي أكلة مجرية مشهورة) الأمر الذي جدد الحوار بشأن «اشتراكية الرفاه أم اشتراكية البؤس!؟» أو على الطريقة الصينية «اشتراكية الكولاج»! كانت الغالبية الساحقة من التيار الماركسي واليساري مع «التدخل السوفبيتي» بدعوى «النجدة الأممية» باستثناء تململات واعتراضات لا تخلو من مشاغبة، تلك التي تركتها الهزائم والانشقاقات من جهة، والحركة الجيفارية الصاعدة في أواسط الستينيات من جهة أخرى، إضافة إلى المواقف المتميّزة للحركة الشيوعية واليسارية الأوروبية، لاسيما الفرنسية والإيطالية والإسبانية، التي نددت بالغزو السوفييتي. وقد جاء الحدث بعد عدوان 5 يونيو (حزيران) 1967 الذي شنته إسرائيل ضد الأمة العربية، الأمر الذي كان حاضراً بقوة في المساجلات والنقاشات الدائرة بشأن ربيع براغ والتدخل السوفييتي.
والسؤال الذي كان يُطرح بإلحاح: هل عبور نصف مليون جندي سوفييتي الحدود التشيكوسلوفاكية صبيحة يوم 21 أغسطس (آب) 1968 وقمع التظاهرات الاحتجاجية، التي اندلعت في براغ والمدن الأخرى كفيل بالقضاء على «الردّة» حسب التعبير السائد آنذاك؟ وإذا تجاوزنا على القانون الدولي باجتياح بلد مستقل بتبرير معاهدة حلف وارسو وحجة وجود طلب للنجدة، فلماذا يتم نقل القيادة التشيكوسلوفاكية إلى موسكو لتوّقع اتفاقاً هو بالمعايير كلها يشوبه الكثير من عيوب الرضا والإذعان؟ ثم مَن الذي سيحافظ على الاشتراكية ومكتسباتها... أليس الشعب التشيكوسلوفاكي وقناعته الحرة؟
لم يكن دوبشيك هو أول من تصدى لمسألة الإصلاح، فقد سبق جوزيف تيتو الزعيم اليوغسلافي الذي اتهم بالتحريفية، وبعدها أعقبه انتفاضة المجر عام 1956، والتي تم قمعها بوحشية إثر الاحتلال السوفييتي للمجر.
لم يكن خروشوف بعيداً عن النقد الشديد للستالينية ولعبادة الفرد في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1956، لكن محاولته «الإصلاحية» ظلت محدودة وفوقية ولم تتهيأ القناعات الكافية لانطلاقتها، وانغمرت هي الأخرى في الإدارة البيروقراطية. ولعل من المفارقة ذكر أن محاولات الإصلاح والتجديد بما فيها التي حدثت في الثمانينيات، وكانت أكثرها تأثيراً، رغم انكسارها ونكوصها، ترافقت مع اتساع النشاط الصهيوني الذي كان يستفيد من أجواء الانفتاح، وقد انتهت التجربة الأخيرة التي قادها غورباتشوف إلى تفكيك المنظومة الاشتراكية وتقسيم دولها بدلاً من إصلاحها وتجديدها، ناهيكم عن اتفاق بهجرة مليون يهودي سوفييتي إلى إسرائيل. عند وقوع الغزو السوفييتي استثيرت الشجون، خصوصاً أن مرحلة الستينيات شهدت حركة تجديدية ذات نبرة صاخبة، وهو ما عبّر عن الروائي والشاعر فاضل العزاوي، وكان العراق قد شهد حراكاً واسعاً ثقافياً وسياسياً، فقد حدث الإضراب الطلابي الشامل، الذي دام أسابيع (نهاية عام 1967 وبداية عام 1968) إضافة إلى اتساع التطوع للعمل الفدائي الفلسطيني، وقد راقب كثيرون نقاط الائتلاف والاختلاف مع التجربة الفرنسية الجماهيرية (الطلبة والمثقفون) التي شهدها شهر مايو (أيار) 1968. كان التيار السائد لا يناقش في «اليقين الأممي» باستثناء الموجة الجيفارية الصاعدة وانعكاساتها على العراق والعالم العربي، لاسيما في الوسط الثقافي، وقد تم تنظيم الوفود لشرح وجهة النظر الأممية إلى جهات مختلفة. ومن الطريف أن تكون السفارة التشيكوسلوفاكية في بغداد ضمن دائرة الاهتمام، فقد زارهم وفد لإقناعهم بأهمية وضرورة التضامن الأممي، وإذا به يكتشف إدانة شديدة للغزو واحتجاجاً ضد السوفييت والمطالبة بالجلاء من بلادهم. يومها علق الصديق لؤي أبو التمن الشخصية الوطنية العراقية المرموقة: «لقد ذهبنا لإقناعهم، لكنهم أقنعونا حسبما يبدو»!! وقد أثار هذا الأمر تساؤلات جديدة لدينا حول أممية الموقف السوفييتي أم تسلطيته؟ وهي مواقف سبق أن ناقشناها مراراً لاسيما بعد عدوان 5 يونيو (حزيران)، مستذكرين بتذمر شديد واحتجاج لا يخلو من انفعال أحيانا موقف الاتحاد السوفييتي من قرار التقسيم. وتساءلنا عن مدى تأييد الشعب التشيكوسلوفاكي للنجدة «المزعومة»، وذلك بناءً على أخبار نقلتها الصحافة عن مواجهة الدبابات السوفييتية الغازية بالصدور العارية. وكان العراق كدولة قد اتخذ موقفاً مؤيداً للغزو السوفييتي، وهو ما جاء على لسان الرئيس أحمد حسن البكر الذي قال «المهم أن تبقى تشيكوسلوفاكيا اشتراكية»، ولعل بعضهم اعتبر أي اعتراض أو تشكيك هو موقف أقرب إلى» العدمية الأممية» في حين أن البرجوازية الصغيرة وجناحها الحاكم، حسب توصيفات تلك الأيام، قد حسمت موقفها بالوقوف مع التضامن الأممي.
بعد نحو عام (خريف عام 1969) زرت براغ قادماً من بغداد في طريقي إلى مدينة كراكوف (بولونيا) لحضور ندوة تحضيرية للاحتفاء بالذكرى المئوية لميلاد لينين(22 نيسان/ ابريل/1970)، وحاولت أن استفسر لاسيما من أصحاب الشأن، خصوصاً وقد مكثت فيها عند عودتي من كراكوف نحو أسبوعين، عن طبيعة الأوضاع، لاسيما أن مظاهر الرفض والاستنكار للوجود السوفييتي تجدها في كل مكان، وقلت مع نفسي إذا كان كل هؤلاء ليسوا مع الغزو وليسوا مع النظام الذي جيء به، فمَن يا تُرى معه؟ وكان الجواب أكثر إثارة للشك من إلى الإقناع:
«إن العمال في المعامل والفلاحين في التعاونيات هم الذين رحبّوا بالنجدة الأممية وإنهم يؤيدون النظام القائم!، وتلك حجة طالما كررتها الأنظمة القمعية والاستبدادية جميعها دليلاً على شعبيتها المزعومة»! بعد عقدين من هذا الحدث كنت أيضا بمحض الصدفة في براغ (1989) يوم اصطف مئات الآلاف من التشيكوسلوفاكيين، وكأنهم يجيبون على سؤالي المؤجل، والذي ظل يكبر معي... كانوا يطالبون بالحوار والحرية والتعددية، وهي شعارات تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها كسرت حاجز الخوف، فانهار النظام سريعاً، وقد كان سارتر قد وصف الأنظمة الاشتراكية البيروقراطية، بأنها قلاعٌ محصنة كما يبدو وأنت تنظر إليها من الخارج، لكنها هشّة و منخورة من الداخل.
يومها احتار صديقنا السفير الفلسطيني النابه سميح عبد الفتاح (أبو هشام) بين متطلبات الوفاء للأصدقاء القدامى، لاسيما من الذين دعموا القضية الفلسطينية وبين استحقاقات التغيير القادمة، تلك التي كانت قراءتها عصيّة على الفهم أو التقدير قبل انهيار جدار برلين وبدء مرحلة جديدة! كانت كلمة مثقف تعادل شتيمة خالصة في ظل الرطانة السياسية السائدة آنذاك، على حد تعبير الروائي التشيكوسلوفاكي الأصل ميلان كونديرا فهي تعني عدم إدراك كنه الحياة والعزلة عن الشعب، ولعل جميع الذين تم شنقهم من رفاق لهم نعموا بتلك الشتيمة، دليلاً على ضعفهم وهشاشتهم وسرعة تعرضهم للعطب، فالشك والارتياب والمؤامرات والدسائس الداخلية، ناهيكم عن السعي للانفراد بالسلطة والسرية والاتهام بالخيانة أو التعامل مع العدو كانت وراء الصراعات الدراماتيكية الانقلابية في قيادة الأحزاب الشمولية، لاسيما الحاكمة منها. لقد أطاح ستالين بأركان قيادته الواحد تلو الآخر، وحمل نعوشهم إلى المقبرة، رغم أنهم كانوا يهتفون بحياته حتى لحظة إعدامهم، وبكى صدام حسين بعد أن أرسل إلى الموت بضربة واحدة ثلث قيادته القطرية وعشرات من الكوادر القيادية البعثية، وخَلَفَ تصارع « القبائل الماركسية» في اليمن الجنوبية 13 ألف جثة، وحين اقتتلت «أخوياً» بيشمركة الحزبين الكرديين تركت وراءها أكثر من ثلاثة آلاف ضحية! لكن ماكينة الدعاية مثلما هي ماكينة القمع كانت تدور سواء بالتمجيد أو التنديد، أم بالتقديس أو التدنيس، وتارة تنقل من التعظيم إلى التقزيم، وحين خلع كليمانتس وزير خارجية تشيكوسلوفاكيا الأسبق قبعته ووضعها على رأس زعيم الحزب غودوالد الذي كان منهمكاً في إلقاء خطاب في ساحة ستاراميستكا ناميستي (ساحة المدينة القديمة)، انشغلت أجهزة الدعاية والإعلام بنقل الصورة الحميمة والرفاقية، لكن بعد أربع سنوات لم تشفع له تلك اللفتة الإنسانية لحماية رأس الزعيم من هطول الثلج، ففقد رأسه، ومرة أخرى حشدت أجهزة الدعاية والإعلام جهودها كلها لتثبت تهمة الخيانة بحق كليمانتس، وشطب اسمه وصوره من الأرشيف، في حين ظلت قبعته وحيدة!لعل ماحصل خلال العقود الأربعة الماضية كان أحد إرهاصات ربيع براغ، التي كانت تعبيراً عن أزمة حقيقية فكرية وسياسية واقتصادية بعد أن وصلت التجارب الاشتراكية إلى طريق مسدود، الأمر الذي يستوجب مراجعة شاملة وإعادة نظر في الكثير من الجوانب النظرية والعملية، لاسيما التي عفا عليها الزمن، فهذه مسألة ضرورية لاغنى عنها، خصوصاً بعد الاخفاقات المريرة، وبهدف الإبقاء على جوهرها الإنساني حياً واسترشاداً بالمنهج وأداة التحليل، وليس بكونها مجموعة قوالب أو صيغا جامدة أو مقولات مقدّسة، لدرجة تحوّلت إلى لاهوت أو تعاليم أقرب إلى التعاويذ والأدعية، وهو مايتناقض مع فكر رواد الاشتراكية الأوائل!
* كاتب ومفكر عراقي
جريدة الجريدة الكويتية رقم العدد: 402 الجمعة 05 سبتمبر 2008 ,05 رمضان 1429

1257
إمبراطورية الذهب الأسود: هل من خيار!؟

المستقبل - الاربعاء 6 آب 2008 - العدد 3039 - رأي و فكر - صفحة 19


عبد الحسين شعبان (*)
مرّت الذكرى المئوية الأولى لاكتشاف النفط في الشرق الأوسط، وهو الذي سمي بالذهب الأسود كناية عن قيمته والحاجة إليه، تلك التي اتسعت وتعاظمت بمرور الأيام والأعوام، حتى غدا هو الذي يحدد مصائر الأمم والشعوب ويصوغ حياتها اليومية على مستوى الجماعة (الدولة) أو المجتمع الدولي أو على المستوى الفردي.
وإذا كانت هذه النعمة التي يتهافت الجميع للحصول عليها والتحكم بها، بل وشن الحروب وإشعال النزاعات والفتن من أجلها، فإنها أضحت على الشعوب والأمم الشرق أوسطية أقرب إلى النقمة حسب التعبير الشائع، لا سيما وقد فرضت عليهم أنماطاً من التسلّط والاستبداد، إضافة إلى تكالب القوى الدولية لإكراه بلدانها على التوقيع على اتفاقيات جائرة، بل انها وضعت العصي أمام أي تقارب أو اتفاق بين دولها لا سيما العربية، خصوصاً بعد إنشاء ركيزة مضادة وتشريد الشعب العربي الفلسطيني وشن حروب ضد البلدان العربية، وعرقلة ولوجها طريق التنمية والاصلاح والديمقراطية.
وحتى التجارب الجنينية والارهاصات الديمقراطية الأولى في الثلاثينات والأربعينات تعثرت وأجهضت لا سيما في ظل احتدام الصراع مع اسرائيل وانقطاع خط التطور التدريجي بثورات وانقلابات عسكرية وتبديد الأموال لا سيما العوائد النفطية على شراء الأسلحة وتسمين أجهزة الأمن والمخابرات، على حساب التنمية والديمقراطية اللتين تمت مقايضتهما بالعسكرة والانفراد بالحكم و"مواجهة" الخطر الخارجي!.
وإذا كانت أسعار النفط قد سجّلت ارتفاعاً هائلاً وصل إلى نحو 140 دولاراً للبرميل الواحد، فإن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وأسعار الطاقة الأخرى كان معادلة طردية، في حين كان انخفاض قيمة الدولار معادلة عكسية، ولعل هذا الارتفاع وقلق المجتمع الدولي هو الذي دفع المملكة العربية السعودية إلى الدعوة لزيادة الإنتاج لتخفيض أسعار النفط وامتصاص ردود الأفعال.
تدفق أول بئر من جوف الأرض حيث يكمن الذهب الأسود في بلاد فارس الأمر الذي لم يكن حدثاً عادياً، بل كان اكتشافاً سيسهم لاحقاً في تغيير معالم العالم فقد جلب معه الثروة التي سيتم تكديسها، فضلاً عن إسهامه في تغذية الاقتصاديات الأخرى للبلدان المتقدمة على نحو هائل، ناهيكم عن إشعاله الحروب والنزاعات.
وعشية الحرب العالمية الأولى هناك من قال: من يسيطر على النفط سيسيطر على العالم، إذ سيضع يده على بنزين ووقود السيارات والناقلات والغواصات والبواخر والسفن والطائرات، وهكذا سيغدو المتحكّم بالعالم من خلال السلاح والمال.
وكان أول من استثمر أمواله لاستخراج النفط رجل الأعمال دارسي الذي كوّن ثروته من استخراج الذهب في استراليا، حيث وقّع عقداً مع مظفر أحمد نظام الدين شاه (حاكم بلاد فارس) للحصول على حق حصري للتنقيب عن النفط عام 1901، وخاض دارسي تلك المغامرة دون أن يصيبه اليأس، وبعد 7 سنوات وفي العام 1908 استيقظ العالم على انبعاث رائحة كريهة من باطن الأرض مع قذفها دخاناً كثيفاً ساخناً، لكنه سرعان ما تحوّل إلى ذهب أسود أصبحت قيمته غالية مثل غلاء الدم بل تتفوق عليه أحياناً.
وكانت بريطانيا قد أسست شركة لاستغلال هذا المورد المكتشف عرفت لاحقاً باسم (بي بي البريطانية للنفط) حيث غذت الطموحات الاستعمارية للبحرية الملكية لنفط رخيص في الشرق الأوسط وعقود مجزية.
أما في العراق فقد تدفق النفط من حقل بابا كَركَر في كركوك عام 1927، ومنذ ذلك الحين أصبح النفط مركز الثقل في الصراع السياسي والاجتماعي في العراق والمنطقة لا سيما في الفترة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، حيث دخلت الولايات المتحدة الساحة مضيفة عليها طابعاً جديداً، خصوصاً في ظل الصراع البريطاني ـ الاميركي على مناطق النفوذ والذي احتدم في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث سلّمت بريطانيا بالدور الريادي لواشنطن منذ أواخر الستينات وخصوصاً في منطقة الخليج العربي بل والمنطقة العربية بشكل عام.
لقد أصبح التزاحم على النفط بأسعار زهيدة هدفاً أميركياً ساهم في ازدهار الاقتصاد الاميركي الاستهلاكي، مثلما كان هدف حماية أمن اسرائيل هدفاً آخر في ظل مثلث كان ضلعه الثالث هو تطويق الاتحاد السوفييتي للحد من خطر انتشار الشيوعية.
وحملت الاهمية الاستراتيجية للمثلث الجيوبوليتيكي المتساوي الأضلاع بريطانيا والولايات المتحدة، على التدخل بالعمق في ما يتعلق بطريق التنمية التي ستختاره دول المنطقة، ولا سيما لتأمين الامدادات الضرورية لها من النفط، وإنشاء أحلاف عسكرية لتسهيل التدخل سواء من خلال مشروع النقطة الرابعة وقيادة الشرق الأوسط مروراً بحلف بغداد ومشروع أيزنهاور وصولاً إلى إقامة قواعد عسكرية وتأسيسه قوات التدخل السريع، ولعل الغرض الاساسي هو وضع نفوط ايران والعراق والخليج تحت هيمنتها وإغلاق الامدادات على "العدو" السوفييتي.
وإذا كان هذا العدو هو المخطط لوضع اليد على النفط، فقد كانت بعض الاعاقات لمنع مروره، الأولى حين أمّم الدكتور مصدق النفط في ايران فتحركت المخابرات المركزية الأميركية لإطاحته عام 1953، والثانية حين تأميم قناة السويس عام 1956 بعد محاولة الرئيس الراحل عبدالناصر كسر احتكار السلاح، والثالثة حين اندلعت ثورة 14 تموز عام 1958 في العراق فانسحب العراق من حلف بغداد وألغى الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية والأمنية والسياسية مع بريطانيا والولايات المتحدة، والرابعة حين أمّم العراق نفطه عام 1972، الأمر الذي ساعد لاحقاً في تحرك عربي جماعي لاستخدام النفط كسلاح في المعركة وذلك في حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973 وهذه هي الإعاقة الخامسة، أما السادسة فيمكن اعتبار نجاح الثورة الايرانية عام 1979 وإطاحة حكم الشاه مفاجأة لواشنطن، الأمر الذي عاظم من أهمية نفط الشرق الأوسط لا سيما بعد أحداث 11 أيلول الإرهابية الإجرامية.
وإذا كان عهد الفحم الحجري كمادة أساسية في الوقود والطاقة قد استمر نحو قرن من الزمان وما يزال، فإن عهد النفط الذي مرّت مئويته قد لا يستمر أكثر من بضعة عقود قليلة رغم وجود احتياطيات كبيرة لا سيما لدى العراق.
لقد وصلت الذروة النفطية إلى مديات كبيرة وقد تصل إلى أعلى طاقاتها ولا سيما أن قدرة شركات النفط على اكتشاف مصادر جديدة ما تزال محدودة، ما سيؤدي إلى استنزاف الاحتياطات واستمرار ارتفاع الأسعار رغم زيادة الإنتاج وكثرة العرض، ولكن مع تزايد الطلب.
ومن المحتمل أن تساهم زيادة الإنتاج حالياً على تهدئة الأسعار، لكن هذه التهدئة ستبقى محفوفة بالمخاطر لا سيما ادخال المشروع النووي الايراني واحتمالات توجيه ضربة إلى ايران في أجندة الولايات المتحدة، الأمر الذي سيقود إلى زيادة الأسعار خصوصاً إذا عرفنا أن ايران هي المنتج الثاني للنفط في دول الاوبك.

(*) كاتب وحقوقي عربي


1258
مقطوعة الشرق الأوسط.. العازف التركي واللحن الأوروبي   

 

 

عبدالحسين شعبان

في 15 سبتمبر/أيلول عام 1961 أعدم رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس، على يد الجيش بتهمة العمل على تقويض العلمانية وإقامة دولة إسلامية. ورغم أن تورغوت أوزال حاول رد الاعتبار إليه، لكن توفي عام 1993 دون أن يحقق أحلامه في أن تلعب تركيا دوراً متميزاً بحكم موقعها التاريخي والجغرافي، ناهيكم عن مركزها الحالي وعلاقاتها مع دول الشرق الأوسط، باعتبارها دولة إقليمية في إطار ما أطلق عليه “العثمانية الجديدة”.

ورغم أن التناقض الظاهر بين التطلع إلى الأوروبية والتمسك بالعثمانية، أو بين العلمانية والإسلامية، إلا أن هناك نوعاً جديداً من الانسجام  الحالي بين هوية تركيا الراهنة، يتوزع بين علمانية مصطفى كمال أتاتورك واسلامية مندريس ورجب طيب أردوغان وعبد الله غول، ذلك بأن تركيا بعد الفوز الثاني لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية، حافظت على علمانيتها حسب الدستور وتوجهها الإسلامي في إطار الحريات التي يمنحها الدستور بما فيها مسألة الحجاب، وهكذا دخلت تركيا مرحلة جديدة ليس على الصعيد الداخلي حسب، بل على الصعيد الخارجي أيضا، وأصبحت لاعباً مهماً في الملعب الإقليمي، لاسيما عبر دبلوماسيتها الناشطة والمتحركة في معظم دول الشرق الأوسط، بما فيها مشكلة الصراع العربي  “الإسرائيلي”.
وإذا كان دور تركيا فرعياً وتكميلياً للقوى الغربية الكبرى في الثمانينات، لاسيما بعد انقلاب كنعان ايفرين (12 سبتمبر/أيلول 1980) والذي حدث عشية الحرب العراقية  الإيرانية (1980  1988)، خصوصاً إزاء بعض دول البلقان، وتحديداً اليونان وقبرص (التي أعلنت تأييد قيام جمهوريتها التركية عام 1974)، وبلغاريا التي شنت حملة أيديولوجية ودعائية ضدها بحجة محاولة أحد عملائها المدعو “محمد علي أغجا” اغتيال الباب يوحنا بولس الثاني، وهو الأمر الذي شغل الإعلام لسنوات، لكنه طوي وأودع في دائرة النسيان بعد التغيرات العاصفة التي حصلت في أوروبا الشرقية، فإن دورها خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة ولاسيما في الألفية الثانية اختلف كثيراً.
لقد احتفلت تركيا مؤخراً بمرور 555 عاماً على فتح مدينة القسطنطينية البيزنطية على يد محمد الثاني الملقب بالفاتح، والذي أعطى عهداً للمسيحيين بحماية أرواحهم وممتلكاتهم وشعائرهم، وكأنها تريد التذكير بالدور العثماني، لاسيما في علاقتها المزدوجة والمركبة مع أوروبا.
في ظل هذه المتغيّرات يمكن قراءة خطط الدبلوماسية التركية الجديدة، لاسيما سعيها لوضع الشرق الأوسط في الحضن الأوروبي، مع تأمين مصالحها كمستفيد بل شريك هذه المرّة في العلاقة المتناقضة والمشبّكة بين أوروبا والشرق الأوسط. وفي ضوء هذه الأطروحة حضرت تركيا مؤتمر الرؤساء الذي دعا إليه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تحت عنوان “الاتحاد من اجل المتوسط”، والذي شارك فيه 43 زعيماً، وهو المشروع الذي جاء في أعقاب تلكؤ مشروع ميثاق برشلونة الذي تم التوقيع عليه عام 1995 بين دول ضفتي المتوسط، والذي شمل 27 دولة.
وإذا كانت تركيا قد نشطت في مشروع الاتحاد من اجل المتوسط، فإنها لم تكن بعيدة عن مشاريع الشرق الأوسط التي أعقبت الحرب الباردة، لاسيما مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي جاء بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001 وبلورته واشنطن كجزء من خطتها إزاء الشرق الأوسط عام ،2003 ثم كانت هناك مشاريع الإصلاح الألمانية  الفرنسية التي استهدفت الشرق الأوسط والمشروع البريطاني، وفي ما بعد مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أعلنته وزيرة خارجية الولايات المتحدة كوندوليزا رايس عام 2006 بعد العدوان “الاسرائيلي” على لبنان، لكن الدور التركي اكتسب بُعداً أكثر شمولاً ودبلوماسية وأكثر حذاقة وحصانة، لاسيما بعد فوز حزب العدالة والتنمية.
لقد ظلت ثروة الشرق الأوسط المغرية محطّ اهتمام الدول الكبرى، لاسيما الاحتياطات الاستراتيجية العالمية من النفط، وخصوصاً بعد احتلال العراق وغزو أفغانستان والضغط على إيران للتخلي عن مشروعها النووي وتطويقها لتسقط مثل التفاحة الناضجة بالأحضان، وكذلك الضغط على سوريا لقبول التسوية مع “إسرائيل” وفقاً لمنطق الأخيرة.
كل هذه الأسباب دفعت الرئيس ساركوزي للتقدم بمشروعه الجديد، بهدف احتواء الشرق الأوسط والحد من ظاهرة الإرهاب والعمل على تطبيع العلاقات “الإسرائيلية”  العربية وتطويق إيران، لكنه في الوقت نفسه قدّم مشروعاً سياسياً اقتصادياً اجتماعياً وثقافياً ليكون مسوّغاً للاتحاد من اجل المتوسط.
ولعل مفردات مشروع ساركوزي الذي تضطلع تركيا بدور كبير فيه يسعى إلى تنظيف مياه البحر الملوثة واستخدام الطاقة الشمسية وإدارة الموارد المائية، وإنشاء خطوط بحرية كبرى لنقل البضائع، وتعزيز فرص التعليم أمام الشباب، وزيادة حجم الاستثمار، وتوسيع فرص القطاع الخاص، وصد موجات الهجرة غير الشرعية، وبالتالي الحد من العمليات الإرهابية.
إن مشروع ساركوزي سهّل انطلاقة تركيا في إطار مشروع أوروبي لكي تقوم بدور نشيط مثلما يريد الرئيس الفرنسي أن يلعب دوراً أساسياً، كأنه يتسابق لاحتلال دور توني بلير رئيس الوزراء البريطاني السابق في إلحاق فرنسا بالمشروع الأمريكي، الأمر الذي يكون نقطة جذب إضافية إلى تركيا.
انصبّ الدور التركي على تحريك الحوار العربي  “الإسرائيلي” بوساطة معلنة بين سوريا و”إسرائيل” (أربع جولات للمفاوضات حتى الآن) وتحريك الحوار الإيراني  الأمريكي بوساطة غير معلنة، لاسيما في ما يتعلق بالملف النووي وبتشجيع من بعض دول الخليج العربي، حيث كان رجب طيب اردوغان ينسّق مع الفرنسيين والأمريكيين بشأن الخطوات  الضرورية لضبط هذا التحرك، وجعل مرحلة الانتخابات الأمريكية اقرب إلى التهدئة الشاملة أو الهدنة الممتدة.
إن باريس وواشنطن يهمّهما أن تقوم تركيا المسلمة بتشجيع الدعوة إلى الديمقراطية والحكم الصالح لدول الشرق الأوسط الذي لا يزال الكثير من دوله مغرقة، إما في حكم شمولي أو محافظ، لا تستطيع السير في طريق التقدم الحقيقي وبناء المجتمع المعرفي وتوسيع فرص التعاون الاقتصادي، وهذا هو المهم، إضافة إلى الانخراط في الحملة الدولية لمناهضة الإرهاب.
ويقع الخيار على تركيا لأنها من جهة عضو في حلف شمالي الأطلسي وصديقة للغرب، وهي متوازنة بين شرق أوسط مسلم وبحر متوسطي بيزنطي، وتعمل جاهدة للانتماء إلى الاتحاد الأوروبي منذ العام 1999. ورغم تاريخها العثماني  الإسلامي، إلاّ أنها تتطلع إلى الأوروبية بشكل عام، وقد عكست الدراما التركية مؤخراً هذا الاهتمام لاسيما في مسلسلي “سنوات الضياع” و”نور” حيث التطّلع إلى تقديم صورة المجتمع الجديد.
كما أن حركة تركيا بين العرب و”إسرائيل” ليست إلاّ طريقاً للوصول إلى أوروبا، فقد كانت تركيا أول دولة إسلامية اعترفت ب”إسرائيل” عام 1949 وأقامت علاقات دبلوماسية معها، ولديها اتفاقيات استراتيجية أمنية واقتصادية، بما فيها اتفاقية ترايدنت العام 1960 ولا تزال علاقتهما متنامية، وجلبت تركيا استثمارات أجنبية بسبب استقرارها ونموها الاقتصادي قُدّرت ب60 مليار دولار خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، كل ذلك يجعلها عازفاً مثيراً للحن الأوروبي الجديد لاحتواء الشرق الأوسط.

صحيح أن ثمة عقبات تواجهها تركيا منها الصراع بين حزب العدالة والتنمية وبين العلمانية واليساريين والقوميين لاسيما الجيش، كما لا تزال القضية الكردية من دون حل إنساني، فضلاً عن استمرار ملاحقتها للحركة الكردية لاسيما حزب العمال الكردستاني PKK، وقصف الأراضي العراقية واجتياح الحدود الدولية، حيث أقدمت تركيا منذ العام 1984 على أكثر من 30 عملية عسكرية ضد سيادة العراق. ورغم الاتفاقات الأخيرة الاستراتيجية مع حكومة المالكي والاتفاق مع الرئيس جلال الطالباني، إلا أن العلاقات التركية  الكردية لا تزال متوترة لاسيما بسبب كركوك  وحساسية تركيا من الفيدرالية الكردية، لكن كل المعوّقات تدفع تركيا للتعويض عنها بلعب دور أكبر على المستوى الإقليمي، سواء دعمها للحوار اللبناني  اللبناني من خلال وساطة قطر، وقد سبق لها أن أرسلت قواتها للانضمام إلى “اليونيفيل” التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، كما سعت إلى تحسين علاقتها مع موسكو وتسعى إلى تعزيز الشراكة من أجل البحر الأسود، ويبدو دورها المؤثر واضحاً في القوقاز، وتسعى إلى تحسين علاقتها مع أرمينيا رغم الحساسيات التاريخية، حيث زار عبدالله غول يريفان مؤخراً.
ولعل لقاء اردوغان برئيس الوزراء “الإسرائيلي” أولمرت ومع الرئيس السوري بشار الاسد  استهدف إيجاد أجواء ايجابية لإنجاح المفاوضات، وساهمت تركيا في انجاح اجتماعات دول الجوار العراقي وهي تدعو إلى تحويلها إلى آليات إقليمية للأمن والتعاون، لاسيما بعد رحيل القوات الأمريكية.
مثل هذا الدور التركي يلقى رضىً عربياً بشكل عام،  في حين ان الهواجس تكتنف الدور الإيراني. وحين تسعى تركيا إلى جني الثمار، فإنها تريد عراقاً مستقراً. في حين ان الدور الإيراني انتعش في العراق المضطرب وقد ينحسر بعد استقراره.
ان تركيا الحالية تتصرف بواقعية سياسية وبرجماتية عملية ولكن بثوب إسلامي، منتهزة الفرص حتى وإن كانت على حساب الآخرين.
جريدة الخليج الاماراتية- الأربعاء ,27/08/2008

1259
الخداع.. قبل العاصفة وبعدها!
عبدالحسين شعبان
2008-07-27
من يقرأ كتاب جورج تينيت «قلب العاصفة» الصادر في عام 2007 يتوصل الى الحقيقة المرّة دون عناء كبير، ذلك أن الخراب الذي حلّ بالعراق كان عن سابق إصرار وبطريقة منهجية استخدمت فيها آلة التضليل الإيديولوجي لتحقيق الأهداف السياسية، لاسيما المعلومات التي صيغت بطريقة مخادعة والتي تم الاستناد إليها باعتبارها حقائق لا يرقى اليها الشك، خصوصاً بشأن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وعلاقة الحكومة العراقية بالارهاب الدولي وتنظيم القاعدة.
ولعل مثل هذا التضليل شمل معظم مفاصل الإدارة الأميركية، حتى إن مدير وكالة المخابرات المركزية CIA (جورج تينيت) يعترف بتقديم معلومات مضللة عن وجود أسلحة دمار شامل إلى البيت الأبيض، رغم أنه خالف نائب الرئيس ديك تشيني الذي كان يصرّ منذ البداية على وجودها ليمضي باستنتاج جاهز: الذهاب فوراً إلى الحرب باعتبارها الوسيلة الوحيدة للردع وإملاء إرادة الولايات المتحدة التي أصبحت المتسيّدة في نظام العلاقات الدولية منذ انهيار نظام القطبية الثنائية. وإذا كانت الحروب تصنع في الرؤوس والأدمغة مثلما يصنع السلام، كما ورد في دستور اليونسكو، فإن هذه الحرب ربما لم تكن كغيرها من الحروب لاسيما في مبرراتها وأهدافها، وعلى افتراض أن جميع الحروب -رغم كل ما يقال عنها وعن مبرراتها وأسبابها ومسوّغاتها- تسبب ويلات وآلاما ومآسي لا حصر لها، الا أن الحرب على العراق قد تكون هي الأكثر انحطاطاً في تاريخ الحروب، لا سيما حجم الزيف والخداع والكذب الذي رافقها، فقد استند كولن باول وزير الخارجية الأميركي آنذاك إلى معلومات وصلت من جهاز المخابرات البريطاني، وهذا الأخير اقتبس معلومات عن أطروحة طالب دراسات عليا اسمه إبراهيم المرعشي، حتى دون الإشارة إليه وذلك من أطروحته المعنونة «العراق: شبكة الاستخبارات - دليل وتحليل»، وتزعم المعلومات التي تم تكييفها بوجود أسلحة دمار شامل.
وكان المرعشي قد أعرب عن أسفه في حوار مع الكاتب لاستخدام أطروحته العلمية دون علم منه ودون إرادته في شن الحرب على بلده الأصلي، والغريب أن خطاب كولن باول الشهير في الأمم المتحدة 2002 استند فيه إلى «معلومات استخبارية بريطانية» لم تكن تلك المعلومات سوى أطروحة المرعشي، ثم عاد وندم عليها فيما بعد ولكن بعد خراب البصرة كما يقال!
أما فضيحة شراء العراق اليورانيوم من النيجر، فقد باتت معروفة لاسيما بعد احتلال العراق وانكشاف زيفها، ويقول تينيت إنه حذر تشيني نائب الرئيس من ذلك، وكتب إلى الرئيس بوش يبلغه بعدم توفر معلومات، لكن ماكينة الدعاية ظلّت تدور وتدور لتضخ على نحو لا يتوقف، تلك المعلومات المضللة باعتبارها حقائق.
وقد يختار صانعو القرار أحياناً من يريد أن يضللهم، خصوصاً إذا كانوا لاعتبارات إيديولوجية أو سياسية قد قرروا اختيار الحرب طريقاً أوحد لفض النزاع، وفي حالة العراق فقد كانت الحرب بالنسبة لديك تشيني «ضرورة حيوية» لاسيما لفرض المشروع الإمبراطوري ودعماً لإسرائيل الحليفة الأكثر ثباتاً ووثوقاًُ بالنسبة لواشنطن، أما بالنسبة لرامسفيلد فهي نظرية عمل واستراتيجية قائمة، لاسيما مشروع الحرب الخاطفة، الخفيفة الحركة، العالية التسليح، باستخدام التكنولوجيا المتطورة، والأكثر من ذلك فهي بالنسبة له هدف شخصي أيضاً لإثبات براعته وإظهار نجاحاته.
بهذا المعنى، فقد لاقت الحرب على العراق -رغم قلة المعرفة والتقييمات العامة غير الدقيقة والساذجة أحياناً، بل والسطحية- الكثير من الأهواء في نفس الرئيس بوش، حيث كان مصمماً على خوض الحرب مهما كلّف الثمن ومعه كبار مساعديه مثل: ديك تشيني ورونالد رامسفيلد وكونداليزا رايس وبول وولفتيز وغيرهم.
ويوم حصلت أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية عام 2001، سارع الرئيس بوش ومعه طاقم القيادة لاسيما المعروفين باسم «الصقور» بإعلان أن على العراق أن يدفع الثمن، دون وجود أدلة أو مستمسكات أو حتى تحقيق، أو حكم قضائي على اتهام العراق، وهو الأمر الذي عبّر عنه برنامج تلفزيوني مثير بعنوان «العراق في قلب العاصفة» بثته قناة البغدادية الفضائية، وأدار حواراته الاعلامي المعروف عبد الحميد الصائح، خصوصاً مقابلاته مع بعض «المعارضين» العراقيين لاسيما الدكتور أحمد الجلبي والدكتور إياد علاوي واللواء وفيق السامرائي والعقيد سليم الإمامي وعدد من الذين ساهموا في التحضير لمؤتمر لندن عشية غزو العراق المنعقد في 14 ديسمبر 2002.

وفي سعي للكاتب والإعلامي العراقي صلاح النصراوي لإلقاء ضوء على تلك الفترة التي لم تُكتب بعد ولم تكشف فيها أسرار الحرب على العراق وخفاياها وخباياها، لاسيما من ناحية المتعاونين وسير القتال والعمليات العسكرية، فضلاً عن التحضيرات التنفيذية، يلقي اللوم على المجموعات العراقية التي أسهمت، ولو كان ذلك بحسن نيّة، في منح الإدارة الأميركية «شرعية» الحرب على العراق. ففي كتابه «فوق الأنقاض: نهاية المشروع الأميركي في العراق» الصادر في القاهرة عن دار المحروسة 2008، يعرض الصورة المزدوجة والمركّبة للحرب التي، حسبما يقول «رحّب بها غالبية العراقيين» وهو منهم، ورغم استدراكه أن الترحيب كان فطرياً وإنسانياً لأنه دفاع عن الذات ضد الاستلاب (ص 15) ولعله يقصد أن غالبية العراقيين رحبوا بالإطاحة بالنظام السابق، لكنهم وكما أثبتت سنوات الاحتلال الخمس لم يرحبوا بالاحتلال، حيث تحوّل الحلم إلى كابوس، وهو ما اعترف به بول بريمر الحاكم المدني الأميركي في العراق في كتابه «عام قضيته في العراق» الصادر عام 2006. ويشير النصراوي بمرارة إلى عملية الخداع الكبرى، حيث انخدع مثقفون ليوقعوا عقوداً مع البنتاغون، ويسرد وقائع مؤتمر لندن، الذي حضره كصحافي كيف قال زلماي خليل زاد، السفير الأميركي الحالي لدى الأمم المتحدة والمنسق مع المعارضة العراقية الموالية لواشنطن قبل الاحتلال: «من يقاطع المؤتمر لن يجد لنفسه مكاناً في عراق ما بعد صدام..» (ص17)، رغم أن بعض الأطراف لم تحضر أو أبدت تحفظاً على المؤتمر، لكنها كما اتضح فيما بعد كانت على درجة من التنسيق وربما التفاهم، لاسيما بعد الاحتلال مباشرة، حيث أسهمت في الاجتماعات التحضيرية ووافقت على الاشتراك في مجلس الحكم الانتقالي الذي أسسه بول بريمر، والذي كان بداية المحاصصة الطائفية- الإثنية.
وقد مهّد ذلك لقاء جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية مع كل من البارزاني والطالباني، ولقاءات أخرى مع بعض أطراف المعارضة عام 2002، وقد نظمت وزارة الخارجية الأميركية أوراق عمل شملت 17 مجموعة منذ أبريل 2002 تمهيدا للحرب. ولعل وجود السيد عبد العزيز الحكيم ممثلاً للمجلس الإسلامي الأعلى وتأكيده وجود أسلحة دمار شامل من داخل البنتاغون، كان له أكثر من دلالة لاسيما بالعدّ التنازلي للنظام القائم آنذاك.
والخداع الأكبر الآخر هو كذبة الديمقراطية، المحمولة جواً، والذي ترافق مع كثرة الحديث عنها، رغم وجود مؤسسات وتسميات ناطقة باسمها، هو استشراء ظاهرة التشظي المجتمعي والانقسام الطائفي، وانتشار الميليشيات، وتفشي الإرهاب المنفلت من عقاله، وشيوع ظاهرة الفساد والرشوة على نحو لم يسبق له مثيل، الأمر الذي دفع بعض السياسيين إلى طلب وضع العراق تحت وصاية الأمم المتحدة، في إشارة إلى المذكرة التي وقّعها عدد من الشخصيات بينهم الوزيران السابقان أحمد الحبوبي وأديب الجادر، وهي الفكرة التى يؤيدها صلاح النصراوي (ص 229) ويضع لها عنواناً باسم «الوصاية المؤقتة».
ولعل فكرة الخداع والتدليس بحاجة الى التوثيق والمعلومات المدققة، الأمر الذي يستوجب معه إحالتها إلى مصادر ومراجع ضرورية، بهدف المساءلة الدولية، خصوصاً وقد نجم عنها احتلال بلد وحل مؤسساته العسكرية والأمنية وسرقة آثاره التاريخية وصروحه الثقافية وتبديد ثروته، وقتل علمائه وأكاديمييه، وتهجير ونزوح نحو أربعة ملايين و800 ألفا من مواطنيه، بما يعادل أكثر من %15 من سكان العراق تقريباً، ذلك هو الثمن الفادح لحد الآن جراء عاصفة الخداع التي ما تزال مستمرة.


• كاتب ومفكر عربي

           جريدة العرب القطرية العدد رقم 7351 -الإثنين 28 يوليو 2008 م ـ الموافق 25 رجب 1429 هـ  

1260
الخداع.. قبل العاصفة وبعدها!
عبدالحسين شعبان
2008-07-27
من يقرأ كتاب جورج تينيت «قلب العاصفة» الصادر في عام 2007 يتوصل الى الحقيقة المرّة دون عناء كبير، ذلك أن الخراب الذي حلّ بالعراق كان عن سابق إصرار وبطريقة منهجية استخدمت فيها آلة التضليل الإيديولوجي لتحقيق الأهداف السياسية، لاسيما المعلومات التي صيغت بطريقة مخادعة والتي تم الاستناد إليها باعتبارها حقائق لا يرقى اليها الشك، خصوصاً بشأن امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وعلاقة الحكومة العراقية بالارهاب الدولي وتنظيم القاعدة.
ولعل مثل هذا التضليل شمل معظم مفاصل الإدارة الأميركية، حتى إن مدير وكالة المخابرات المركزية CIA (جورج تينيت) يعترف بتقديم معلومات مضللة عن وجود أسلحة دمار شامل إلى البيت الأبيض، رغم أنه خالف نائب الرئيس ديك تشيني الذي كان يصرّ منذ البداية على وجودها ليمضي باستنتاج جاهز: الذهاب فوراً إلى الحرب باعتبارها الوسيلة الوحيدة للردع وإملاء إرادة الولايات المتحدة التي أصبحت المتسيّدة في نظام العلاقات الدولية منذ انهيار نظام القطبية الثنائية. وإذا كانت الحروب تصنع في الرؤوس والأدمغة مثلما يصنع السلام، كما ورد في دستور اليونسكو، فإن هذه الحرب ربما لم تكن كغيرها من الحروب لاسيما في مبرراتها وأهدافها، وعلى افتراض أن جميع الحروب -رغم كل ما يقال عنها وعن مبرراتها وأسبابها ومسوّغاتها- تسبب ويلات وآلاما ومآسي لا حصر لها، الا أن الحرب على العراق قد تكون هي الأكثر انحطاطاً في تاريخ الحروب، لا سيما حجم الزيف والخداع والكذب الذي رافقها، فقد استند كولن باول وزير الخارجية الأميركي آنذاك إلى معلومات وصلت من جهاز المخابرات البريطاني، وهذا الأخير اقتبس معلومات عن أطروحة طالب دراسات عليا اسمه إبراهيم المرعشي، حتى دون الإشارة إليه وذلك من أطروحته المعنونة «العراق: شبكة الاستخبارات - دليل وتحليل»، وتزعم المعلومات التي تم تكييفها بوجود أسلحة دمار شامل.
وكان المرعشي قد أعرب عن أسفه في حوار مع الكاتب لاستخدام أطروحته العلمية دون علم منه ودون إرادته في شن الحرب على بلده الأصلي، والغريب أن خطاب كولن باول الشهير في الأمم المتحدة 2002 استند فيه إلى «معلومات استخبارية بريطانية» لم تكن تلك المعلومات سوى أطروحة المرعشي، ثم عاد وندم عليها فيما بعد ولكن بعد خراب البصرة كما يقال!
أما فضيحة شراء العراق اليورانيوم من النيجر، فقد باتت معروفة لاسيما بعد احتلال العراق وانكشاف زيفها، ويقول تينيت إنه حذر تشيني نائب الرئيس من ذلك، وكتب إلى الرئيس بوش يبلغه بعدم توفر معلومات، لكن ماكينة الدعاية ظلّت تدور وتدور لتضخ على نحو لا يتوقف، تلك المعلومات المضللة باعتبارها حقائق.
وقد يختار صانعو القرار أحياناً من يريد أن يضللهم، خصوصاً إذا كانوا لاعتبارات إيديولوجية أو سياسية قد قرروا اختيار الحرب طريقاً أوحد لفض النزاع، وفي حالة العراق فقد كانت الحرب بالنسبة لديك تشيني «ضرورة حيوية» لاسيما لفرض المشروع الإمبراطوري ودعماً لإسرائيل الحليفة الأكثر ثباتاً ووثوقاًُ بالنسبة لواشنطن، أما بالنسبة لرامسفيلد فهي نظرية عمل واستراتيجية قائمة، لاسيما مشروع الحرب الخاطفة، الخفيفة الحركة، العالية التسليح، باستخدام التكنولوجيا المتطورة، والأكثر من ذلك فهي بالنسبة له هدف شخصي أيضاً لإثبات براعته وإظهار نجاحاته.
بهذا المعنى، فقد لاقت الحرب على العراق -رغم قلة المعرفة والتقييمات العامة غير الدقيقة والساذجة أحياناً، بل والسطحية- الكثير من الأهواء في نفس الرئيس بوش، حيث كان مصمماً على خوض الحرب مهما كلّف الثمن ومعه كبار مساعديه مثل: ديك تشيني ورونالد رامسفيلد وكونداليزا رايس وبول وولفتيز وغيرهم.
ويوم حصلت أحداث 11 سبتمبر الإرهابية الإجرامية عام 2001، سارع الرئيس بوش ومعه طاقم القيادة لاسيما المعروفين باسم «الصقور» بإعلان أن على العراق أن يدفع الثمن، دون وجود أدلة أو مستمسكات أو حتى تحقيق، أو حكم قضائي على اتهام العراق، وهو الأمر الذي عبّر عنه برنامج تلفزيوني مثير بعنوان «العراق في قلب العاصفة» بثته قناة البغدادية الفضائية، وأدار حواراته الاعلامي المعروف عبد الحميد الصائح، خصوصاً مقابلاته مع بعض «المعارضين» العراقيين لاسيما الدكتور أحمد الجلبي والدكتور إياد علاوي واللواء وفيق السامرائي والعقيد سليم الإمامي وعدد من الذين ساهموا في التحضير لمؤتمر لندن عشية غزو العراق المنعقد في 14 ديسمبر 2002.

وفي سعي للكاتب والإعلامي العراقي صلاح النصراوي لإلقاء ضوء على تلك الفترة التي لم تُكتب بعد ولم تكشف فيها أسرار الحرب على العراق وخفاياها وخباياها، لاسيما من ناحية المتعاونين وسير القتال والعمليات العسكرية، فضلاً عن التحضيرات التنفيذية، يلقي اللوم على المجموعات العراقية التي أسهمت، ولو كان ذلك بحسن نيّة، في منح الإدارة الأميركية «شرعية» الحرب على العراق. ففي كتابه «فوق الأنقاض: نهاية المشروع الأميركي في العراق» الصادر في القاهرة عن دار المحروسة 2008، يعرض الصورة المزدوجة والمركّبة للحرب التي، حسبما يقول «رحّب بها غالبية العراقيين» وهو منهم، ورغم استدراكه أن الترحيب كان فطرياً وإنسانياً لأنه دفاع عن الذات ضد الاستلاب (ص 15) ولعله يقصد أن غالبية العراقيين رحبوا بالإطاحة بالنظام السابق، لكنهم وكما أثبتت سنوات الاحتلال الخمس لم يرحبوا بالاحتلال، حيث تحوّل الحلم إلى كابوس، وهو ما اعترف به بول بريمر الحاكم المدني الأميركي في العراق في كتابه «عام قضيته في العراق» الصادر عام 2006. ويشير النصراوي بمرارة إلى عملية الخداع الكبرى، حيث انخدع مثقفون ليوقعوا عقوداً مع البنتاغون، ويسرد وقائع مؤتمر لندن، الذي حضره كصحافي كيف قال زلماي خليل زاد، السفير الأميركي الحالي لدى الأمم المتحدة والمنسق مع المعارضة العراقية الموالية لواشنطن قبل الاحتلال: «من يقاطع المؤتمر لن يجد لنفسه مكاناً في عراق ما بعد صدام..» (ص17)، رغم أن بعض الأطراف لم تحضر أو أبدت تحفظاً على المؤتمر، لكنها كما اتضح فيما بعد كانت على درجة من التنسيق وربما التفاهم، لاسيما بعد الاحتلال مباشرة، حيث أسهمت في الاجتماعات التحضيرية ووافقت على الاشتراك في مجلس الحكم الانتقالي الذي أسسه بول بريمر، والذي كان بداية المحاصصة الطائفية- الإثنية.
وقد مهّد ذلك لقاء جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية مع كل من البارزاني والطالباني، ولقاءات أخرى مع بعض أطراف المعارضة عام 2002، وقد نظمت وزارة الخارجية الأميركية أوراق عمل شملت 17 مجموعة منذ أبريل 2002 تمهيدا للحرب. ولعل وجود السيد عبد العزيز الحكيم ممثلاً للمجلس الإسلامي الأعلى وتأكيده وجود أسلحة دمار شامل من داخل البنتاغون، كان له أكثر من دلالة لاسيما بالعدّ التنازلي للنظام القائم آنذاك.
والخداع الأكبر الآخر هو كذبة الديمقراطية، المحمولة جواً، والذي ترافق مع كثرة الحديث عنها، رغم وجود مؤسسات وتسميات ناطقة باسمها، هو استشراء ظاهرة التشظي المجتمعي والانقسام الطائفي، وانتشار الميليشيات، وتفشي الإرهاب المنفلت من عقاله، وشيوع ظاهرة الفساد والرشوة على نحو لم يسبق له مثيل، الأمر الذي دفع بعض السياسيين إلى طلب وضع العراق تحت وصاية الأمم المتحدة، في إشارة إلى المذكرة التي وقّعها عدد من الشخصيات بينهم الوزيران السابقان أحمد الحبوبي وأديب الجادر، وهي الفكرة التى يؤيدها صلاح النصراوي (ص 229) ويضع لها عنواناً باسم «الوصاية المؤقتة».
ولعل فكرة الخداع والتدليس بحاجة الى التوثيق والمعلومات المدققة، الأمر الذي يستوجب معه إحالتها إلى مصادر ومراجع ضرورية، بهدف المساءلة الدولية، خصوصاً وقد نجم عنها احتلال بلد وحل مؤسساته العسكرية والأمنية وسرقة آثاره التاريخية وصروحه الثقافية وتبديد ثروته، وقتل علمائه وأكاديمييه، وتهجير ونزوح نحو أربعة ملايين و800 ألفا من مواطنيه، بما يعادل أكثر من %15 من سكان العراق تقريباً، ذلك هو الثمن الفادح لحد الآن جراء عاصفة الخداع التي ما تزال مستمرة.


• كاتب ومفكر عربي
            
جريدة العرب القطرية العدد رقم 7351 -الإثنين 28 يوليو 2008 م ـ الموافق 25 رجب 1429 هـ  

1261
اللاجئون والحقوق الدولية   


عبدالحسين شعبان
تزداد نسبة اللاجئين في العالم على نحو مريع ويبلغ عددهم حسب بعض الاحصاءات الدولية أكثر من 26 مليون لاجئ، غالبيتهم الساحقة من دول الجنوب الفقير المتوجهة الى دول الشمال الغني، وبينهم نسبة كبيرة من العرب والمسلمين لاسيما في السنوات الأخيرة.


وإذا كان هناك أكثر من 10 ملايين مسلم وعربي قد استقروا في أوروبا وعدد أقل في أمريكا وكندا واستراليا ونيوزيلاندا وغيرها، فإن القسم الأكبر منهم كانوا لاجئين، ولعل هذا العدد المتعاظم يطرح موضوع حقوق اللاجئين على المستوى الدولي ومدى التزام الدول المضيفة والمستقبلة بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية بهذا الخصوص، لاسيما بعد الكثير من الحوادث والانتهاكات سواء على المستوى الجماعي أو الفردي، ثم لماذا لم توقع غالبية الدول العربية والاسلامية على هذه المعاهدات، وبالتالي تقف حجر عثرة أمام أحد تجليات القانون الدولي الانساني، على المستوى الكوني؟

ولعل مناسبة هذا الحديث هو اليوم العالمي للاجئين 20 حزيران/يونيو، وكانت ندوة متخصصة في وقت سابق قد تم تنظيمها في بيروت مطلع هذا العام 26/27 يناير/كانون الثاني 2008 أقامها اتحاد الحقوقيين العرب قد طرحت مسألة حماية اللاجئين والنازحين في ضوء أحكام القانون الدولي الانساني وبالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي.

ورغم اقترابنا من الذكرى ال 60 للاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر في 10 ديسمبر/كانون الاول 1948 وكذلك اقترابنا من الذكرى ال 57 على صدور اتفاقية جنيف بخصوص حقوق اللاجئين الدولية لعام 1951 وملحقها لعام ،1967 فإن مشكلة اللاجئين لا تزال تثير الكثير من الاسئلة ذات البعد الانساني والقانوني ليس في دول الجنوب فحسب، بل في دول الشمال أيضاً، لدرجة أصبحت تقلق الرأي العالم مثلما تقلق الحكومات والمنظمات الدولية، التي وقفت أحياناً عاجزة أو مقصّرة إزاء تقديم العون الضروري للضحايا وذويهم، ناهيكم عن تأمين الحقوق الأساسية للاجئين.

ورغم توقيع دول الشمال على الاتفاقية الخاصة بحقوق اللاجئين وملحقها، فإنها بدأت منذ فترة تتلكأ في الالتزام بها، بل تسعى الى وضع العراقيل أمام انتقال اللاجئين اليها من دول الجنوب وتحاول التملّص من التزاماتها بشأنهم، وإذا كان من واجبها العمل للحد من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، فالأمر يقتضي مساعدة بلدان الجنوب على تحسين أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسير في طريق التنمية وتطويق ظاهرة الفقر، ناهيكم عن إحداث تطور سياسي باتجاه الاصلاح والديمقراطية، وليس بوضع الكوابح والعقبات أمام اللاجئين وحقوقهم، كأن هؤلاء الضحايا هم المسؤولون عما حصل ويحصل من اشكالات ومشكلات، لدرجة تحميلهم عبئاً جديداً فوق أعبائهم الانسانية ومعاناتهم المركبة والمزدوجة.

وللأسف الشديد، فإن بعض بلدان الشمال بدأت تسنّ قوانين وتشريعات وأنظمة تحد من ظاهرة اللجوء أو تحول دون الحصول عليه بسهولة، متذرعة بالاختراقات والاحترازات الأمنية، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول الارهابية الاجرامية، وبخاصة بوجه العرب والمسلمين الذين تعتقد أنهم بيئة صالحة لتفقيس بيوض الارهاب، الأمر الذي يؤثر كثيراً على الحقوق والحريات المدنية والسياسية، تلك التي تراكمت بالتدريج وأصبحت جزءًا عضوياً من حقوق الانسان في الغرب، ولا يمكن التجاوز عليها أو تهميشها تحت أية ذريعة أو حجة، بما فيها مزاعم الحملة الدولية لمكافحة الارهاب الدولي التي شملت التضييق على اللاجئين والمهاجرين لاسيما من أصول عربية ومسلمة.

وإذا كان ساركوزي الرئيس الفرنسي يسعى الى إقامة اتحاد من أجل المتوسط بتطوير الشراكة الأورومتوسطية، فإن الاتحاد مثلما هي الشراكة يتطلبان حرية انتقال البضائع والاشخاص (أي السلع والبشر) وبالتالي لا بد من النظر بجدية الى مسألة الشراكة والاندماج والمواطنة، وقبل كل شيء الى احترام حقوق الانسان بما فيها حقوق اللاجئين في ضوء ميثاق برشلونة لعام ،1995 لاسيما من الطرف الشمالي، خصوصاً إزاء طالبي اللجوء والعمال الاجانب، وذلك بعدم التمييز ضدهم، حيث تميل السياسة العملية الاوروبية بالنسبة للمهاجرين الى انتقائية غير مبررة فتقوم بتصنيف اللاجئين إلى أوروبي وغير أوروبي (جنسيات أخرى)، وتضع الفوارق بينهم أحياناً باعتبار أن الأوروبيين ينتمون في الغالب الى الدين المسيحي (أوروبا الشرقية) مع خصوصية بولندا التي غالبية سكانها من الكاثوليك وهم أكثر قدرة على الاندماج، في حين أن مسألة الاندماج بالنسبة للعرب والمسلمين تشكّل معضلة لا يمكن تجاوزها بسهولة.

التمييز لهذه الأسباب لاسيما إذا انعكس اقتصادياً يدفع المهاجرين العرب والمسلمين الى الشعور بالعزلة، وقد يؤدي الى التطرف في ظل تصاعد النزعات العنصرية والتعصبية والفاشية الجديدة وكره الاجانب في أوروبا، ويزداد الأمر سوءاً في ظل فقر الجاليات العربية والمسلمة وضعف المستوى التعليمي، مما يؤدي الى خيبات أمل ومرارات تنجم عن ردود فعل وأعمال عنف، وأعتقد أن دراسة خاصة لأوضاع الجاليات العربية والمسلمة في أوروبا وأمريكا تعكس حقيقة ذلك، لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
وهنا لا بد للبلدان العربية والمسلمة أن تتخذ الاجراءات الكفيلة للتوقيع على الاتفاقيات الدولية بشأن حماية اللاجئين، لاسيما اتفاقية العام 1951 وملحقها لعام ،1967 إضافة الى المعاهدات والمواثيق الدولية بشأن حماية حقوق الانسان وأن تلتزم بها، وتسعى لتوثيق علاقاتها بجالياتها في أوروبا وأمريكا بشدّها الى الوطن الأصلي والاستفادة من امكاناتها وكفاءاتها، سواء داخل الوطن أو حيث تعيش، لاسيما في الدفاع عن قضاياها العادلة في الغرب، بحيث يمكن أن تؤسس للوبي وجماعات ضغط (عربية ومسلمة) على الدول المضيفة لصالح المشترك الانساني ولتقديم الصورة الحقيقية لبلدان الأصل التي غالباً ما يتم تشويهها لأسباب سياسية أو استعلائية.
إن حقوق اللاجئين ليست منّة أو هبة أو هدية من أحد، بل هي جزء من تطور القانون الدولي الانساني، فرضه التطور الدولي واحترام حقوق الانسان، وبالتالي لا يمكن تبرير انتهاكها أو التجاوز عليها، لأن ذلك يرتّب مسؤوليات على الحكومات والجهات التي تقوم بذلك.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الخليج الاماراتية الأربعاء   ,30/07/2008

1262
في كيانية حركة المواطنة ودلالاتها!

د.عبد الحسين شعبان
info@aljarida.com
 

يُعد موضوع المواطنة موضوعاً جديداً في الفكر العربي المعاصر، وبهذا المعنى فإن ما يمكن أن نطلق عليه حركة مواطنة في العالم العربي يكاد يكون جنينيا، أو هو أقرب إلى الإرهاص منه إلى تأسيس «كيانية حقوقية» ذات أهداف محددة وواضحة في إطار آليات معلومة، بحيث تتحول المفاهيم إلى حقوق، وهذه الأخيرة إلى تشريعات وقوانين في إطار مؤسسات وبرلمانات، مثلما يتطلب الأمر وجود قضاء عادل ومستقل يحميها من التجاوز والانتهاك، في ظل تطبيقات وممارسات بحاجة إلى نقد وتطوير مستمرين، لاسيما في إطار دور متميز للمجتمع المدني!!
ولعل في فكرة انبثاق أو تأسيس حركة للمواطنة في العالم العربي دلالات كثيرة، فالدلالة الأولى، أن عالمنا العربي مازال في أول السلم على الصعيد العالمي إزاء المفهوم السليم للمواطنة وحقوقها، حيث تزداد الحاجة إلى إثارة حوار وجدل حول الفكرة وأبعادها وغاياتها وسياقاتها، وحشد قوى وطاقات حكومية وغير حكومية، سياسية وفكرية وثقافية ودينية واجتماعية، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني لمقاربة المفهوم الذي ارتبط بفكرة الدول العصرية الحديثة، وبالتقدم الذي حصل في هذا الميدان، لاسيما في الدول الغربية المتقدمة، حيث هناك تصالح بين الدولة والمواطن سواء في نظرة الدولة الى المواطن أم في نظرة الأخير إلى الدولة. ومسؤولية الدولة لم تعد الحماية فحسب، بل أصبحت الدولة «دولة رعاية» واجبها ووظيفتها الأساسية خدمة المواطن وتحسين ظروف عيشه وتوفير مستلزمات حريته ورفاهه، وفي المقابل فإن نظرة المواطن للدولة أصبحت إيجابية هي الأخرى، من حيث احترامه للقوانين والأنظمة وعلاقته بالمرافق العامة وحفاظه على البيئة وواجبه في دفع الضرائب وغير ذلك.
أما في البلاد العربية، فإن نظرتها إلى المواطن ظلّت نظرة تشكيكية ارتيابية في الغالب، إن لم تكن عدائية، وفي المقابل فإن نظرة الفرد للدولة استمرت نظرة سلبية، متربصة، تعارضية، بما فيها إزاء الخدمات والمرافق العامة، خصوصاً في ظل ضعف الحرية والتمييز وعدم المساواة وعدم تكافؤ الفرص والحق في المشاركة.
أما الدلالة الثانية، فتكمن في انشغال بعض المهتمين على صعيد الفكر، وحقوقيين وناشطين بفكرة حركة للمواطنة، باعتبارها فكرة راهنية ومطروحة على صعيد البحث من جهة، وعلى صعيد الواقع العملي من جهة أخرى، خصوصاً الأسئلة الشائكة التي تواجهها، والتطبيقات المختلفة التي تقف أمامها في مفترق طرق عديدة وخيارات بين مرحلتين: الأولى، تكاد تكون انتهت أو تلاشت على الصعيد العالمي، لاسيما الأنظمة الشمولية التي تحتكر الحقيقة والدين والسلطة والمال والإعلام، لكنها ماتزال قوية ومؤثرة في مجتمعاتنا بأنظمته المختلفة، ومثلما أوردت تقارير التنمية البشرية، فالمنطقة العربية تعاني نقصا فادحاً في الحريات، وشحّاً في المعرفة، ونظرة قاصرة في الموقف من حقوق الاقليات وحقوق المرأة وغيرها. أما المرحلة الثانية، فنحن مازلنا على أعتابها، خصوصاً أن حركة الإصلاح والدمقرطة في العالم العربي ماتزال في بداياتها، لاسيما أن هناك كثيراً من الكوابح تعترض طريقها، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية.
وما تزال فكرة المواطنة في عالمنا العربي تتعرض إلى تجاذبات داخلية وخارجية، خصوصاً ارتباطها على نحو وثيق بمسألة الهوية ومستقبلها، لذلك فإن الحوار والجدل بقدر إجلائهما بعض التشوش والغموض إزاء مستقبل بلداننا، فهما يساعدان في الوقت نفسه في نشر ثقافة المواطنة ويعمقان الوعي الحقوقي بأهميتها وضرورتها وفداحة نكرانها أو الانتقاص منها أو تعطيلها أو تعليقها تحت أي حجة أو ذريعة.
الدلالة الثالثة، تتعلق بالالتباس النظري والعملي بشأن فكرة المواطنة، ولاسيما في مواقف الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية والقومية المختلفة، الأمر الذي يضع تكوين تصور مشترك حولها، خصوصاً في إطار المبادئ الدستورية للدولة العصرية التي تستند إلى سيادة القانون ومبدأ المساواة، بوصفه مسألة ملّحة وضرورة حيوية، لا يمكن اليوم إحراز التقدم والتنمية المنشودين من دونه، وهو الأمر الذي يزخر بمساحة الحرية والمشاركة والعدالة، باعتبارها متلازمة ضرورية للمواطنة.
أما الدلالة الرابعة، فترتبط بإشكالات المواطنة، لاسيما التحديات التي تواجهها، فقد بدأت تحفر في أساسات الدولة والهوية، بحيث يجعل من الواجب إدارة حوار فكري ومعرفي حولها، مادامت تدخل في صلب المشكلات التي تواجه المصير العربي، ومعها يصبح جدل الهويات أساساً للتعايش والتكامل والتطور السلمي للمكوّنات المختلفة، بدلاً من أن يكون مادة للتناحر والانغلاق والتعصب، وهذه المسألة تتطلب الإقرار بالتنوع والتعددية والمشترك الإنساني كشرط لا غنى عنه للهوية الجامعة، مع تأكيد الحق في الاحتفاظ بالهويات المصغرة الجزئية، الدينية أو القومية أو الثقافية وغيرها!
الدلالة الخامسة، تتعلق بالعلاقة الجدلية بين فكرة المواطنة وحقوق الإنسان، خصوصاً بمبدأ المساواة في الحقوق، وبالأخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة، وحق تقلّد الوظائف العليا من دون تمييز لأي سبب كان، سواء التمييز الديني أو القومي أو المذهبي أو الاجتماعي أو اللغوي أو الجنسي أو بسبب اللون، أو غير ذلك. ويأتي حق المشاركة، في إطار الحقوق الأساسية ونعني بها حق التعبير وحق الاعتقاد وحق التنظيم. ولعل هذه الإشكالية هي التي تشكل جوهر فكرة المواطنة، خصوصاً إذا ما اقترنت بالعدل، إذ إن غيابه سيؤول إلى الانتقاص من حقوق المواطنة، ولا تستقيم مواطنة كاملة مع الفقر، ومع الأمية والتخلف وعدم التمتع بمنجزات الثقافة والعلم والتكنولوجيا وغيرها.
ليس تجنّياً إذا قلنا إن الفكر العربي ما يزال يعاني نقصاً كبيراً في ما يتعلق بثقافة المواطنة، وتستمر النظرة الخاطئة أو القاصرة إلى مبدأ المساواة قائمة، إضافة إلى الموقف السلبي من حقوق الأقليات وحقوق المرأة، وما يزال الكثير من التيارات والاتجاهات السائدة في السلطة والمجتمع يتمسك بالنظرة التسلطية لعلاقة الدولة بالمواطن، الفرد، الإنسان، الذي هو شخص وكيان له أهلية قانونية، ففي كثير من الأحيان يُنظر الى حقوق المواطنة، إما باعتبارها هبة وإما منّة وإما مكرمة من الحاكم، يكون الأفراد عنده «رعايا لا مواطنين» متساوين في الحقوق والواجبات.
ومثل هذه المسألة ترتبط بأفكار ماضوية لعلاقة الحاكم بالمحكوم، تلك التي تم تبريرها تارة على أساس «نظرية التفويض الإلهي» وأخرى على «أساس وراثي» كما هي الأنظمة الملكية، لاسيما المطلقة، وثالثة باسم «الشرعية الثورية» المستندة الى الدين أو الطبقة أو القومية والدفاع عن مصالح الثورة والأمة في وجه أعدائهما، على حساب الشرعية الدستورية وسيادة القانون ومبدأ المساواة.
إن نقل الحوار والجدل حول فكرة المواطنة إلى منابر متنوعة، لاسيما الجامعات ومراكز الأبحاث وإقامة منتديات فكرية وثقافية وإشراك أوساط من النخب والمختصين، إضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني والبرلمانات والحكومات في الآن ذاته، ناهيكم عن قطاعات شعبية، وخصوصاً من النساء ومن الأقليات، وبمساهمة حيوية من جانب الإعلام، لاسيما الفضائيات في ظل ثورة الاتصالات والمعلومات وبفضل الإنترنت والكمبيوتر، يمكن أن يلعب دوراً كبيراً في زيادة الاهتمام بفكرة المواطنة وتعزيز أركانها وصولاً الى ما نطلق عليه مفهوم «المواطنة العضوية» الذي يقوم على خمسة أركان أساسية هي: المساواة، والحرية، والمشاركة، والعدالة والهوية، في إطار تفاعل ديناميكي لا انفكاك بين عناصره ومكوناته ولا انتقاص من أحدها.
ولعل مناسبة هذا الحديث هي ندوة مهمة انعقدت في تونس (الحمامات) 25-27 يوليو 2008 بمبادرة من «مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية» و«المعهد العربي لحقوق الإنسان»، إذ تمت بلورة نداء، يعلن مبادئ عامة لحركة مواطنة تدعو الحكومات والقوى والأحزاب السياسية والمرجعيات الدينية والثقافية والاتحادات والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني إلى الالتزام بالمعايير الدولية للمواطنة في الدولة العصرية، التي تقوم على أساس علاقة تعاقدية بين الفرد والدولة، لاسيما في ظل نظام ديمقراطي، باعتبار المواطنة حقاً لا يمكن المساس به أو المساومة عليه أو الانتقاص منه، الأمر الذي هو بحاجة إلى تفعيل وتأطير وتطوير.
وكان منتدى الفكر العربي الذي يرأسه الأمير الحسن بن طلال قد أطلق وثيقة عربية بعنوان «الإعلان العربي للمواطنة» خلال اجتماعه بالرباط في أبريل 2008، الأمر الذي يجعل حملة المواطنة التي انطلقت من تونس، تمثل بلورة عملية لقيام حركة فاعلة للدفاع عن الفرد وحقوقه وعن المبادئ والقيم الإنسانية.
* باحث ومفكر عربي
جريدة الجريدة الكويتية رقم العدد: 373 -الاحد 03 اغسطس 2008 ,30 رجب 1429

1263
المواطنة الإلكترونية!
   عبدالحسين شعبان

في إطار الحديث عن المواطنة الكاملة والمواطنة العضوية والمواطنة الفاعلة، والمواطنة الحيوية علّق محسن مرزوق -المدير التنفيذي لمركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية- قائلا: «أليس جديراً بنا أن نتحدث عن المواطنة الإلكترونية»؟ ولم يكن ذلك بمعزل عن نقاشات محتدمة حول مفهوم المواطنة ومكوناتها لاسيما في العالم العربي.
وكان مركز الكواكبي والمعهد العربي لحقوق الإنسان قد نظّما ندوة مهمة في تونس (25-27 يوليو 2008) حول حركة المواطنة، ودار نقاش حيوي بخصوص أهمية كيانية مؤسسية لحركة المواطنة تطلق حملة فكرية وثقافية تستهدف تعزيز الوعي بحقوق المواطنة ومخاطبة الحكومات والأحزاب السياسية والتيارات الدينية والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، إلى تأمين الاحترام الكامل لحقوق المواطنة في ظل علاقة تعاقدية بين الفرد والدولة قوامها نظام ديمقراطي وقوانين ومؤسسات حامية وقضاء مستقل وعادل ومجتمع مدني ناشط.
ولعل السؤال يتردد: وهل لدينا مواطنة لنتحدث عن مرحلة أشمل للمواطنة؟ قد تكون فكرة المواطنة في بدايات تشكلّها لدينا، مما يستوجب تعميق الوعي بأهميتها ودلالاتها، وبالتالي بحث مكوناتها ومقوّماتها وأركانها، لاسيما أن فكرة الدولة الحديثة ما تزال جديدة علينا أيضاً، اللهم إلاّ إذا اعتبرنا أنفسنا قد تخطّينا مرحلة ما قبل الدولة، لندخل في مرحلة تكوّن الدولة بقوانينها ومؤسساتها خصوصاً عند تحديد الحقوق والواجبات، تلك التي ما تزال أمام أسئلة شائكة كبيرة حتى الآن.
والسؤال ما زال كبيراً. فحتى النخب الفكرية والسياسية ما تزال تفصلها عن فكرة المواطنة مسافات شاسعة، مقابل الفئوية والمحازبة والطائفية والمذهبية والعشائرية والجهوية، الأمر الذي يحتاج إلى حوارات شاملة عن الآخر والتعايش معه على أساس المشترك الإنساني. ويتطلب ذلك نوعاً من الشرعية التي يحددها إطار قانوني، يمكن من خلاله التنافس المشروع على أساس سلمي وتراكمي وبشكل علني، لاسيما بعد الإقرار بالتعددية والتنوّع في إطار هوية جامعة واحترام الهويات المصغرة الدينية أو القومية أو الثقافية للجماعات المختلفة.
إن أركان ومقوّمات المواطنة تفترض وجود دولة قبل كل شيء، ثم وجود مواطن، ووجود وطن نشعر بالانتماء إليه، وأن يكون هناك نوع من العقد الاجتماعي والسياسي بين الدولة والمواطن، أي أن العلاقة بينهما تعاقدية في إطار نظام ديمقراطي أو يسير حثيثاً باتجاه الديمقراطية، وإلاّ ستكون الحقوق ناقصة.
تقوم المواطنة على عدد من المبادئ منها: مبدأ المساواة والحرية والحق في المشاركة والعدالة الاجتماعية.
أما الانتقاص منها أو إهمالها أو إقصاء جوانب منها فإن الفرد المنتظم في جماعة، المواطن، الإنسان سيشعر بالغبن والحيف وقد يضعف لديه الشعور الوطني، وقد «يكفر» بالوطن أحياناً لاسيما إذا تعرّض للاضطهاد والقمع، فكيف تستقيم المواطنة مع الفقر أو الأمية أو التخلف أو التمييز أو القهر السياسي أو الاجتماعي أو القومي أو الديني أو منع المواطن من المشاركة ومصادرة الرأي أو الظلم وعدم التوزيع العادل للثروة وانعدام تكافؤ الفرص والتمييز وعدم المساواة، ناهيكم عن حرمان المواطن من حقه في المشاركة في إدارة الشأن العام.
إن غياب المواطنة والانتقاص من حقوق المواطن أو الاعتداء عليها جعلت الكثير من المواطنين ينكفئون أو يعيشون في عزلة، وأحياناً يعبّرون عن تبرمهم واحتجاجهم بطرق سلبية بما فيها استخدام العنف أو الانخراط في حركات إرهابية، وبسبب ذلك الواقع المرير، تكون علاقة المواطن بالدولة تشكيكية وارتيابية، بما فيها علاقته بالمرفق العام والبيئة والخدمات.
وفي أحيان أخرى ترى بعض «المواطنين» يستعيضون عن المواطنة عبر التخيّل، أي مواطنة متخيلة أو حالمة وربما واهمة، لاسيما أن الجنوح إلى استخدام العنف وربما الإرهاب له جذوره الاجتماعية والاقتصادية إضافة إلى جذوره السياسية والقومية والدينية والثقافية والنفسية وغير ذلك.
هكذا يلتجأ المواطن إلى بدائل قد تكون سلبية أو إيجابية، فإما الانكفاء والقنوط أو التمرد والعنف، وقد وجد البعض طريقه إلى المواطنة الكونية عبر الإنترنيت، خصوصاً الإحساس الذي يولدّه بالحرية وعدم وجود رقابة مباشرة أو آنية، بدرجة يشعر أحياناً أنه مواطن كوني، فوق وطني وما بعد قومي، يتجاوز حدود المكان والقوانين والحدود، وقد يشطّ به الأمر فيتصور نفسه سوبرمان جديد يستطيع أن ينتقل من أقاصي الدنيا إلى أقاصيها في لحظات، فيخاطب من يشاء عبر شاشة صغيرة في مقهى أو من المنزل أو في المكتب أو أي مكان عام أو خاص آخر.
المواطن الإلكتروني ما فوق الوطني وما بعد القومي، هو مواطن افتراضي لديه إحساس واهم أنه حرٌ وأن حريته تتجاوز كل المحظورات، وإذا ما واجه الواقع فستكون هناك حدود ومطارات وجوازات سفر وحقوق وواجبات وقوانين وأنظمة وسجون ومصالح وقوى دولية متنفذة لا يستطيع تجاوزها، وقد يصطدم بنوع من الرقابة غير المنتظرة التي تأتي لاحقاً، ولعل بعض البلدان النامية ما تزال تخضع الإنترنت لديها لرقابات مشددة، والغريب في الأمر أن بعض الدول المتقدمة حذت هذه المرة حذو الدول المتخلفة بوضع أسماء وقوائم الكثير من «المشبوهين» لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر على قائمة المراقبة بما فيهم المعادين لسياساتها وإن لم يكونوا إرهابيين أو لهم علاقة بالإرهاب من قريب أو بعيد.
وإذا كانت العولمة وثورة الاتصالات قد عممت فكرة المراقبة على المستوى الدولي فإنها زادت كذلك من انسحاق الشعوب واستتباعها، خصوصاً الشعوب المُستضعفة، وهذا هو الوجه المتوحش للعولمة، فإن الوجه الآخر المشرق لها يقتضي عولمة حقوق الإنسان والثقافة ومنجزات العلم والتكنولوجيا، وما استخدام الإنترنيت وفضاء الحرية الذي أوجده إلا أحد إيجابيات العولمة رغم شراستها وهمجيتها، الأمر يستوجب توظيفه على نحو إيجابي وواقعي، وليس افتراضياً أو توهمياً. إذ إن افتراض أو تخيّل المواطن كونه مواطناً إلكترونياً بلا قيود سرعان ما يصطدم بصخرة الواقع الصلدة، ومعها تبدد أوهامه ليعود حيث كان يرزح تحت نير فقدان الحقوق المدنية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الانتقاص منها أو تعليقها بحجج واهية.
العالم يحتاج إلى مواطنة تحترم الحقوق والحريات كما أفادت الشرائع الدولية لاسيما المرجعية العالمية لحقوق الإنسان، وخصوصاً احترام حق الشعوب والأمم واحترام حقوق الأفراد في المساواة والحرية والمشاركة والعدل في إطار المشترك الإنساني والهوية الجامعة.

وكما يقول النفّري: إني أحدثك لترى فإن رأيت فلا حديث!!
 


• باحث ومفكر عربي


1264
مسيحيو العراق... قرابين على مذابح عيد الفصح!


لاشك في أن وقف مأساة المسيحيين العراقيين وتمكينهم من نيل حقوقهم كاملة وغير منقوصة، يتطلّب استعادة هيبة الدولة عبر بناء مؤسساتها، لاسيما قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية على أسس وطنية وغير مذهبية سداها ولحمتها الولاء للوطن في إطار مرجعية الدولة والمواطنة الكاملة وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.
أثار مقتل رئيس الأساقفة بولس فرج رحو، موجة جديدة من القلق الشديد إزاء مصير المسيحيين ومستقبلهم في العراق، لاسيما أن انفلات العنف وغياب سلطة القانون واستشراء دور المليشيات ضاعف من تقليص فرص الحماية بالنسبة لهم، خصوصاً أنه ليس لديهم ميليشيات أو عشائر تحميهم وتدافع عنهم، وحيث يستقبل المسيحيون هذه الأيام أعياد الفصح، فهم يستذكرون أيضاً ومعهم جميع المدافعين عن قضايا الحقوق والحريات والمواطنة والمساواة والدولة المدنية، ما تعرّضوا له خلال العام الماضي، لاسيما أن مقتل عدد من رجال الدين وتفجير عشر كنائس وتعاظم نسبة المهجرين، كان المشهد الأكثر بروزاً في عام 2007، حتى الآن!
كانت نسبة المسيحيين في العراق قبل الاحتلال تبلغ نحو 3%، أي بما يراوح بين 750 و900 ألف. أما اليوم وبسبب ارتفاع منسوب الهجرة ومعدلاتها، فقد انخفض عددهم إلى 500 ألف أو ما يزيد عليها قليلاً، وهم يعيشون في هلع دائم وخوف مستمر، خصوصاً أنهم أصبحوا هدفاً مباشراً لأعمال الانتقام والتطهير والابتزاز، لدرجة تدفع إلى الاعتقاد بأن أعمال التنكيل والاستهداف المنهجي، تقترب من الإبادة والاستئصال لأسباب تتعلق بالعقيدة والدين والنظرة التعصبية اللامتسامحة.
ولأنه لا يوجد مَن يحمي المسيحيين، فقد التجؤوا إلى قوات التحالف الدولي «المحتلة» وإلى القوات العراقية لحمايتهم، الأمر الذي جعلهم هدفاً «مشتركاً» لأكثر من جهة، رغم خذلان الجهات التي التجؤوا إليها لحمايتهم.
منذ شهر أغسطس 2004، اتهم تنظيم «القاعدة» بتفجير خمس كنائس في بغداد، كما تم تفجير عدد من الكنائس في كركوك، ولوحق المسيحيون في البصرة والموصل وكركوك إضافة إلى بغداد، لاسيما في منطقة الدورة، حيث أجبرت حوالي 200 عائلة مسيحية على ترك منازلها بعد أن تم تخييرها بين دفع الجزية (250 ألف دينار عراقي بما يعادل 200 دولار شهرياً) أو اعتناق الإسلام بإشهار إسلامهم (يونيو 2007)، خصوصاً بعد أن شهدت بعض أحياء بغداد المسيحية ملصقات ومنشورات تدعو النساء المسيحيات إلى ارتداء الحجاب، وهو ما حصل في الموصل والبصرة أيضاً، حيث اضطرت مئات العوائل إلى النزوح والهجرة.
وكانت مدينة البصرة المشهود لها تاريخياً بالتعايش والتسامح بين الأديان والطوائف، حيث يعيش المسيحيون بسلام وأمان كجزء من النسيج البصري النابض بالحيوية، فقد شهدت منذ مطلع العام 2004، حملة شديدة من جانب الميليشيات المسلحة ضد المسيحيين وتفجير محالهم الخاصة ببيع الخمور وصالونات الحلاقة ومحال تسجيلات الأغاني والأفلام (كاسيت وسي دي). وتواصلت هذه الحملة في مايو 2007 مقترنة بمطالبة «أهل الذمة» المسيحيين بدفع الجزية والنساء بارتداء الحجاب، وإلاّ ستكون العواقب وخيمة.
لقد عانى المجتمع المسيحي العراقي اغتيالات طالت مئات المسيحيين وعمليات اختطاف بهدف الحصول على الأموال «الفدية» سواءً من جانب عصابات الجريمة المنظمة، أو من الجماعات المسلحة، الأمر الذي اضطر عشرات الآلاف منهم إلى ترك مناطق سكناهم والنزوح إلى إقليم كردستان العراق، أما القسم الأكبر فقد هاجر إلى دول الجوار «سورية والأردن وتركيا ولبنان» على أمل الحصول على فرصة للهجرة إلى أوروبا.
لقد تعرّض المسيحيون لحملة شديدة من الترويع، حيث تم وضع اليد على ممتلكات عشرات ومئات العوائل التي أجبرت على الهروب من مناطق سكناها أو مغادرة العراق، وحتى من اضطر إلى الهرب فلم يكن ذلك بمعزل عن دفع رشوة للمسلحين للسماح لهم بالمغادرة، ويبرر بعض المتطرفين الإسلامويين حملة ملاحقة المسيحيين بأنهم جماعة مشكوك بولائها وأنها جزء من الطابور الخامس وقسم من المسيحيين عمل مع قوات الاحتلال وتم استغلالهم من الجماعات المسيحية التبشيرية الأجنبية المعادية للإسلام، الأمر الذي حمّل المسيحيين بالجملة وزر الاحتلال والجماعات التي تعاونت معه، وهو ما يتناقض وجوهر الإسلام وكتابه الكريم: «ولا تزر وازرة وزر أخرى»!
وإذا كانت بعض بلدان أوروبا قد عرضت على بعض اللاجئين المسيحيين حق اللجوء كما أكّد ذلك كوشنير وزير خارجية فرنسا وشوبل وزير خارجية ألمانيا، فإن هذا ليس الحل المطلوب، لاسيما أن هدفه سياسي واضح ولا يشمل سوى بضع مئات من المسيحيين، في حين أن مشكلتهم هي أكبر من ذلك وتتعلق بوجود الاحتلال، وانفلات الأمن، والتقاسم الوظيفي والمذهبي والطائفي، وغياب مبادئ المواطنة والمساواة التامة، ناهيكم عن ضعف روح التسامح والمشترك الإنساني، ولعل تلك المشكلة السياسية-الحقوقية والإنسانية، لا يمكن حلّها إلاّ في إطار عراقي وديموقراطي وفي ظروف سلمية وطبيعية وعلى أساس دستوري.
ولا شك في أن وقف مأساة المسيحيين وتمكينهم من نيل حقوقهم كاملة وغير منقوصة (مواطنين لا ذميّين) يتطلّب استعادة هيبة الدولة عبر بناء مؤسساتها، لاسيما قواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية على أسس وطنية وغير مذهبية سداها ولحمتها الولاء للوطن في إطار مرجعية الدولة والمواطنة الكاملة وسيادة القانون والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان.
إن استهداف المسيحيين وإكراههم على الهجرة يشكّل خسارة جسيمة للنسيج المجتمعي العراقي وللثقافة العراقية، حيث شارك المسيحيون بحيوية متميّزة في إثراء وإغناء الفكر والثقافة في العالم العربي في حقول العلم والأدب والفن وغيرها، ليس في العراق فحسب، بل إن المسيحية الشرقية كان دورها مشرّفاً منذ حروب الفرنجة (ولا نقول الحروب الصليبية) إلى حركة التنوير والإصلاح ومن ثم في مرحلة الاستقلال وبناء الدولة الوطنية والدفاع عن مصالح الأمة العربية ومستقبلها، إضافة إلى الأقوام والملل الأخرى، كجزء أصيل من الموزاييك العراقي والعربي ومن المشترك الإنساني والسلام المجتمعي.
ولعل مفارقة نسب المسيحيين إلى الغرب والتشكيك في وطنيتهم، هي إساءة إلى عمق انتمائهم إلى هذه المنطقة وحضاراتها التي كانوا مكوّناً أساسياً من مكوّناتها!!
إن المساواة والحرية والهوية المتفاعلة مع العدل هي جوهر المواطنة العضوية اللاذميّة وغير التمييزية!


صفحات: 1 2 [3]